سید المرسلین صلی الله علیه و آله : دراسه موضوعیه لحیاه الرسول الاکرم... المجلد 2

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

Sobhani Tabrizi, Jafar

عنوان و نام پديدآور:سیدالمرسلین صلی الله علیه و آله: دراسه موضوعیه لحیاه الرسول الاکرم.../ جعفر السبحانی؛ بقلم جعفر الهادی.

مشخصات نشر:قم: موسسه الامام صادق (ع)، 1441ق.= 1399.

مشخصات ظاهری:2ج.

شابک:دوره:978-964-357646-2 ؛ ج.1:978-964-357647-9 ؛ ج.2:978-964-357648-6

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

موضوع:محمد(ص)، پیامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11ق.

موضوع:Muhammad, Prophet, d. 632

موضوع:غزوات

موضوع:Ghazavat

موضوع:سنت نبوی

موضوع:*Wonts of the Prophet

موضوع:اسلام -- تاریخ -- از آغاز تا 11ق

موضوع:Islam -- History -- To 632

شناسه افزوده:هادی، جعفر، 1325 - 1399.

شناسه افزوده:Hadi, Ja’far

رده بندی کنگره:BP22/9

رده بندی دیویی:297/93

شماره کتابشناسی ملی:6181606

وضعيت ركورد:فیپا

ص :1

اشارة

سیدالمرسلین صلی الله علیه و آله: دراسه موضوعیه لحیاه الرسول الاکرم...

جعفر السبحانی؛ بقلم جعفر الهادی

ص:2

هويّة الكتاب

سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم

دراسة موضوعية لحياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وما رافقها من أحداث تاريخية ودينية وسياسية وعسكرية واجتماعية

محاضرات

العلّامة المحقّق

الشيخ جعفر السبحاني

بقلم

جعفر الهادي

الجزء الثاني

نشر

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:3

سبحانى تبريزى، جعفر 1308 -

سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم / تأليف جعفر السبحاني؛ تعريب جعفر الهادي. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1399.

2 ج. (VOL.2) 6-648-357-964-978 ISBN

(2VOL.SET) 2-646-357-964-978 ISBN

فهرست نويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه به صورت زير نويس.

1. محمد صلى الله عليه و آله و سلم، پيامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11 ق -- سرگذشت نامه. الف. هادى، جعفر، 1325 - مترجم. ب. مؤسسه امام صادق عليه السلام. ج. عنوان.

9 س 2 س/ 22/9 BP 93/297

1399

اسم الكتاب:... سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم / ج 2

المؤلف:... العلّامة المحقّق الشيخ جعفر السبحاني

بقلم:... الأُستاذ الشيخ جعفر الهادي

الموضوع:... السيرة النبوية

الطبعة:... الأُولى

تاريخ الطبع:... 1399 ه. ش / 1441 ه ق/ 2020 م

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

القطع:... وزيري

عدد النسخ:... 1000

التنضيد والإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 1073 تسلسل الطبعة الأُولى: 508

حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة، فلا يجوز شرعاً استنساخ أو نشر اصدارات

المؤسسة إلّابعد التنسيق مع المؤسسة واستحصال الموافقة الرسمية

توزيع: مكتبة التوحيد

ايران - قم؛ ساحة الشهداء

? 37745457؛ 09121519271

www.shia.ir

www.tohid.ir

http://www.imamsadiq.org

ص:4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

ص:5

ص:6

مقدمة المؤلّف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

مُميّزات النهضة الإلهية وخصائصها

خصيصة «الخلود» والعمق في شخصية رسول الإسلام

تُشبّهُ نهضة «الأنبياء» الإلهية الّتي قام بها رسلُ اللّه وسفراؤه لتخليص البشرية من براثن الأوهام، والخرافات، ولإنقاذها من جور المستكبرين وظلم الظالمين أكثرَ شيء، بأمواج البحر الّتي تبدأ بدوائر صغيرة محدودة، ولكنّها كلّما ابتعدت عن مركز الدائرة ازدادت اتّساعاً واتّساعاً، واشتدّت قوّتها أكثر فأكثر.

إنّ الإنقلاب المعنويّ العريض والتحوّل الروحيّ العظيم الّذي وُضِعت أُسُسُه في أرض مكّة على يدي رسول الإسلام العظيم، أضاء بشعاعه و نوره الباهر في اليوم الأوّل غار حراء ثم منزل خديجة وبعض البيوت المتواضعة في مكّة فقط، ولكنّه اتّسع نطاقه بمرور الزمان، حتّى عمَّ في مدّة ليست بالطويلة شرق الأرض وغربها، ودوّى نداءُ التوحيد في منطقة واسعة جدّاً من العالم (ابتداء من

ص:7

فرنسا وانتهاءً بجدار الصين وما وراءه)(1).

إن مُؤسّسي هذا النوع من النهضات الدينية(2) يتمتعون - من حيث الأخلاق والفضائل الإنسانية - بخصيصة الخلود واللانهاية فإنّ الزمن يكشف

ص:8


1- . كتبت هذه المقدّمة وما بعده خلال تواجدي في الصين عام 1408 ه، وقد جئت إليها في مهمّة استطلاعية وتبليغية إسلامية، وقد زرت في نفس الفترة الّتي كنت فيها مشتغلاً بكتابة هذه المقدّمة المسجد الجامع في (بكين) العاصمة، والتقيت بإمام ذلك المسجد الّذي رحَب بي وبمَن كان معي أشدّ ترحيب، وأتحفني بنسخة من ترجمة القرآن الكريم باللغة الصينية، وزرت خلال وجودي في ذلك المسجد قبر رجلين مسلمين من إيران أحدهما تاجر، والآخر عالم جاءا إلى الصين في القرن السادس الهجري، ونشرا الإسلام في بكين وما حولها، وقد نصبت عند قبرهما لوحتان من المرمر نقش عليهما اسمهما، وخصوصياتهما بالأحرف العربية. وهناك تذكرت حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «اطلبوا العلم ولو بالصين». قلت في نفسي: لعلّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يقصد فيما يقصد في هذا الحديث دفع المسلمين إلى نشر مبادئ الإسلام في تلك البلاد العريضة الّتي تضم خمس سكان العالم. وقد قام المسلمون الغيارى على دينهم، الحريصون على نشره وبثّه بهذه المهمّة فيما سبق وأدوا ما كان عليهم. فماذا فعلنا نحن؟ وهل ترى يجوز أن يجهل خمس سكان العالم دين اللّه، ولا ينعموا بخيراته؟! أم هل ترى يجوز في شريعة الانصاف أنّ يعاني ذلك الشعب الكبير من الأباطرة الطغاة في الماضي، ومن الأنظمة والآيديولوجيات الجائرة الملحدة في الحاضر، هذا والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يحرص على هداية فرد واحد، والقرآن يقول: «وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً»؟؟ هل خُصّصت نهضة الأنبياء الإلهية برقعة صغيرة من الأرض هي الجزيرة العربية، وما حولها؟ أمّ أنّها رحمة للعالمين جميعاً؟ سؤال نطرحه على أبناء الإسلام دعاةً ورعايا، حكومات و شعوباً لعلّهم يتفكّرون؟ (جعفر الهادي).
2- . المقصود من الدين هو المنهاج الواسع الشامل الّذي يتكفّل سعادة البشرية في الحياتين الدنياوالأُخرى وليس مجرّد سلسلة من الطقوس الفارغة الخاوية كما هو الحال في المسيحية الحاضرة.

باستمرار عن أبعاد أوسع و آفاق جديدة من شخصياتهم فهي تتّسع كلّما تقادم بها العهد تماماً كأمواج البحر، وكأنّ الأنبياء نسخة ثانية من الطبيعة، فكما أنّنا كلّما أمعنا النظر أكثر في الطبيعة ظهرت لنا منها حقائق أكثر، وانكشفت لنا رموز وأسرار جديدة لم نعهدها من قبل فهكذا شخصيات الأنبياء والمرسلين، وسفراء اللّه إلى البشرية.

وتتجلّى هذه الحقيقة أكثر فأكثر كلّما تعاظمت شخصية من تلك الشخصيات.

وخلاصة القول: إنّنا كلّما ازددنا تعمّقاً وإمعاناً فيهم، اكتشفنا أسراراً كثيرة، وحقائق جديدة عن حياتهم.

ويدلّ على كلامنا هذا تلك المؤلّفات الكثيرة الوافرة الّتي كتبها علماء التاريخ وأصحاب السير، قديماً وحديثاً، حول رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله و سلم ولكن مع ذلك كلّه كلّما تقادم العهد به، و كلما اتسعت النظرات وازدادت عمقاً، اكتشف المحققون مزيداً من الآفاق، وجديداً من الابعاد في هذه الشخصية الإلهية.

ولقد كان تعاطي السيرة النبوية والحديث حولها في البداية منحصراً (أو بالأحرى مقتصراً) على مشاهدات أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ومسموعاتهم.

ومع ظهور جيل جديد يُدعى بالتابعين بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم اتّخذت الأحاديث والسنن الإسلاميّة، وتفاصيل الحياة النبويّة، وقصص غزواته وحروبه رونقاً جديداً، وأحسّ الجيل الجديد برغبة شديدة في أخذ الأحاديث الإسلامية، والتعرّف على الحوادث الّتي وقعت في عصر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وأيّام حياته من مولده إلى وفاته.

وكلّما ازدادت حالات الوفاة، في أوساط الصحابة والتابعين الذين كانوا

ص:9

يشكّلون المنبع الأوّل والمصدر الأصيل لهذا النوع من العلوم الإسلامية، اتّسع الاهتمام بالسيرة وما شابهها وتعاظمت الرغبة فيها وتزايد عطش المسلمين إلى أخذ ومعرفة الأحاديث الّتي تتضمّن بيان خصوصيات حياة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم، وجزئيات سيرته الطاهرة. هذا من جانب.

ومن جانب آخر كان تشدّد الخليفة الثاني(1)، ومنعه عن كتابة أحاديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد أوجب أن يندثر كثير من الأحاديث الإسلامية، الّتي سمعها بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وتدفن تحت التراب بموتهم.

ولقد استمر منع الخليفة عن كتابة الحديث النبوي وبقيّ ساري المفعول لمدة طويلة بعد وفاته(2)، حتّى أتى إلى الحكم خليفة معتدل السيرة من الأمويين هو: «عمر بن عبدالعزيز» فأمر - في رسالةٍ وجّهها إلى أبي بكر بن حزم حاكم المدينة وقاضيها - بكتابة أحاديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خوفاً من اندراس العلم وزواله(3).

المصادر الأُولى والأصيلة للكتابة عن سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

ومن حسن الحظ أنّ الخليفة الثاني لم يمنع إلّامن تدوين وكتابة الأحاديث النبويّة، فلم يشمل هذا المنع كتابة الحوادث والوقائع الّتي وقعت في عصر الرسالة.

ولهذا أُلِّفت في تلك الفترة كتبٌ كثيرة عن حياة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم، وأوّل مَن كتب حول وقائع عصر الرسالة، وأرّخ حوادث الصدر الأوّل من الإسلام هو:

ص:10


1- . لاحظ: تقييد العلم للخطيب البغدادي: 48-53.
2- . لم يترك نهي الخليفة أي أثر على علماء الشيعة الذين كانوا يتبعون عليّاً عليه السلام، فقد عمدوا في فترة محدودة إلى تدوين وضبط الأحاديث، وحفظوا كنوزاً عظيمة من علوم أهل البيت النبوي. للتوسّع في هذا المجال راجع كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام».
3- . لاحظ: إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: 1/195 و 196.

«عروة بن الزبير بن العَوّام» الصحابي المعروف الّذي توفّي عام 92 أو 96 من الهجرة(1).

ثمّ عمد بعده جماعة في المدينة وآخرون في البصرة إلى جمع وتدوين تفاصيل السيرة، وحروب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وغزواته، وبيان هذا الأمر على نحو التفصيل خارج عن نطاق هذه الدراسة.

ولقد كانت هذه الكتب والمؤلّفات هي المنبع والأساس للكتب الّتي دوّنت فيما بعد في صورة كتب السيرة النبويّة، أو تاريخ الإسلام.

وقد بدأ تدوين سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بشكل جميل وبصورة بديعة منذ أوائل المنتصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وكان من بين مَنْ قام بجهد مشرّف ومشكور في هذا المجال العالمُ الشيعيُ الكبير محمد بن إسحاق (المتوفّى عام 151 ه) فهو أوّل مَن استخرج تفاصيل الوقائع الإسلامية من كتب الماضين، ومن ثنايا رواياتهم و منقولاتهم وألّفها وأخرج شيئاً جامعاً حول السيرة النبويّة إلى عالم الكتب والمؤلّفات.

كما أنّ أوّل مَن ضبط ودوَّن غزوات رسول الإسلام بشكل مفصّل هو الواقدي صاحب «المغازي» و «فتوح الشام» (المتوفّى عام 207 ه)(2).

ص:11


1- . تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 233. اختلفت الأقوال في مَن هو أوّل مَن صنّف في علم المغازي والسير في الإسلام. فقال السيوطي في كتاب الأوّليات بأنّه عروة بن الزبير. وقال الأفندي في «كشف الظنون» إنّه محمد بن إسحاق. والحقّ إنّه لا الأوّل ولا الثاني بل عبيد اللّه بن أبي رافع فإنّه تقدّمهما في التصنيف في السير والمغازي.
2- . عدّ الشيخ الطوسي في رجاله ابن إسحاق من تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وتوجد نسخة

وقد لُخّصت سيرة ابن اسحاق على يد ابن هشام أبي محمد عبدالملك (المتوفّى عام 218 ه) و عرفت فيما بعد بسيرة ابن هشام (أو السيرة الهشامية) وهو الآن معدود من مصادر التاريخ الإسلامي و سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم الموثّقة.

ولو أنّنا تجاوزنا هذه الشخصيات لكان لشخصيّتين أُخريين سهمٌ كبيرٌ في تدوين وتسجيل تاريخ حياة رسول الإسلام وهما:

1. محمد بن سعد الكاتب الواقدي (المتوفّى عام 230 ه) مؤلّف «الطبقات الكبرى» الّذي أورد فيه سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه على نحو التفصيل.

وقد طبع هذا الكتاب في لندن مؤخراً، كما أعيد طبعه في لبنان في 9 مجلدات.

2. محمد بن جرير الطبري (المتوفّى عام 310 ه) مؤلّف كتاب «تاريخ الأُمم والملوك».

على أنّ تثمين جهود هذه الثلّة من الكتّاب والمؤلّفين لا يعني بالضرورة أنّ كلّ ما أدرجوه في مؤلّفاتهم هو الثابت الصحيح، بل تحتاج مؤلّفاتهم - كغيرها من المؤلّفات، والكتب - إلى التحقيق الواسع والتمحيص الدقيق.

ثم إنّ حركة التأليف حول شخصية رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم وسيرته استمرت بعد ذلك طيلة القرون الإسلامية اللاحقة. ونحن اليوم أمام مكتبة زاخرة من الكتب، والدراسات، المختلفة في أحجامها ومستوياتها، والمتنوعة في طرائقها و أساليبها، الّتي أُلفت حول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وهذا إنّما يدلّ على خصيصة العمق واللانهاية الّتي اتّسمت بها شخصية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الخالدة العظيمة.

ص:12

وقد أراد صاحب هذه الدراسة أن يقدم للجيل الحاضر شرحاً ناطقاً عن حياة رسول الإسلام العظيم، في حدود ما تسمح به إمكاناته المحدودة، ولم يأل جهداً - لتحقيق هذا الهدف على وجه أفضل - في مراجعة كتب الفريقين المعتبرة، وإن اكتفى بذكر عددٍ قليل من المصادر عند التأليف، وقد بيّنا عذرنا من هذا في الجزء الأوّل من هذه الدراسة.

ولقد تناول الجزءُ الأول من هذا الكتاب حوادث مكّة من بدء نشأتها إلى نهاية السنوات الثلاث عشرة الأُولى من عصر الرسالة أي ما قبل الهجرة، وها هو الجزء الثاني وهو يتناول حوادث العشر سنوات للهجرة الشريفة، ومن اللّه التوفيق.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة - الحوزة العلمية

21 شعبان 1392 ه

ص:13

حوادث السنةِ الأُولى من الهجرة

اشارة

حوادث السنةِ الأُولى من الهجرة(1)

27 أوَّل عمل إيجابي للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة

عقد ميثاق تعايش بين المسلمين وغيرهم

حملت وجوه فتية الأنصار المستبشرة، المبتهجة، بمقدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والاستقبال العظيم الّذي قام به أغلبية الأوسيّين والخزرجيّين له حملته صلى الله عليه و آله و سلم، على أن يعمد قبل أي شيء إلى تأسيس مركزٍ عامٍ لتجمّع المسلمين فيه في الأوقات المختلفة، وللقيام بالأعمال التربوية والتثقيفية، والسياسية والعسكرية في رحابه.

كما أنّ عبادة اللّه الواحد تقع في طليعة البرامج الّتي جاء بها رسول الإسلام، ولذا رأى من اللازم أن يعمد قبل أي عمل آخر إلى بناء مسجد للمسلمين حتّى يتسنّى لهم أن يعبدوا اللّه ويذكروه فيه في أوقات الصلوات.

أجل كانت الحاجة إلى مثل هذا المركز شديدة فلابد من مكان ليجتمع

ص:14


1- . لابدّ أنّك أيّها القارئ الكريم تتذكّر جيداً أنّنا قصدنا من السنة الأُولى للهجرة الأشهر العشرة المتبقية الّتي قضى رسول اللّه شهرين منها في مكّة وحط في الباقي من شهرها الثالث (أي ربيع الأوّل) على أرض يثرب، بناء على هذا تكون السنة الأُولى من الهجرة تسعة أشهر تقريباً، وتبدأ السنة الهجرية الثانية من شهر محرّم الحرام (وليس من الثاني عشر من ربيع الأوّل).

أعضاء حزب الإسلام (حزب اللّه) كلّ أُسبوع في يومٍ معيّنٍ فيه، ويتشاوروا في شؤون الإسلام والمسلمين ومصالحهم، وليجتمع فيه عامّة المسلمين مضافاً إلى هذا اللقاء الأُسبوعيّ مرّتين كلّ عام لأداء صلاة العيد، فكان المسجد الّذي بناه كأوّل عمل قام به بعد قدومه المدينة.

فلم يكن المسجد على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للعبادة فقط بل كانت تلقى فيه كلّ أنواع العلوم والمعارف الإسلامية الشاملة للأُمور التربوية وغيرها.

لقد كان يعلّم فيه كلّ التعاليم والمواد الدينية والعلمية، حتّى الأُمور المرتبطة بالقراءة والكتابة.

وقد بقيت أغلب المساجد على هذا المنوال حتّى مطلع القرن الرابع الهجريّ الإسلاميّ، فقد كانت في غير أوقات الصلاة تتحوّل إلى مراكز لتدريس العلوم المتنوّعة(1).

وربما اتّخذ مسجد المدينة صورة المركز الأدبيّ، عندما كان يُلقي فيه كبار فصحاء العرب وبلغاؤهم قصائدهم المنسجمة مع التعاليم الأخلاقية والمعايير الإسلامية بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما فعل «كعب بن زهير» إذ ألقى قصيدته المعروفة ب «البردة» عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد، وأعطاه النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم صلة جيّدة، وخلع عليه بخلعة عظيمة(2).

ص:15


1- . راجع صحيح البخاري: ج 1 كتاب العلم، بل حتّى عند فصل المراكز العلمية عن المساجد في ما بعد، بقيت المدارس تبنى وتشيَّد إلى جانب المساجد فكان هذا العمل يجسد الصلة الوثيقة بين العلم والدين.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 939/4 قال: أنشد كعب بن زهير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد: بانت سعاد.

أو كما كان يفعل «حسّان بن ثابت» الّذي كان يدافع بشِعره عن حوزة الإسلام والمسلمين إذ كان يلقي بعض قصائده في المسجد عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد كانت مجالس الدرس والتعليم في مسجد المدينة على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تتسم بروعة كبيرة بحيث عندما شاهد وفد ثقيف مشهداً من مشاهدها انبهروا به، وعجبوا بشدة لاهتمام المسلمين بتعلّم الأحكام واكتساب المعارف والعلوم(1).

كما أنّه كانت تمارَس الأُمور القضائية والفصل بن الخصومات، وإصدار الحكم على المجرمين في المسجد، فكان المسجد يومذاك بمنزلة محكمة (بكلّ معنى الكلمة) أي أنّها تقوم بكلّ ما تقوم به المحاكم اليوم.

هذا مضافاً إلى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يلقي خطبه الحماسية والجهادية لتعبئة المسلمين من أجل مجاهدة الكفّار والمشركين في المسجد.

ولعلّ من حكمة الاجتماع في المسجد لأجل تحصيل المعارف وتعلّم العلوم هو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أراد بذلك أن يثبت عملياً أن العلم والدين توأمان لا ينفكان، فكلّما كان هناك مركز للإيمان وجب أن يكون محلّاً للعلم أيضاً.

وأما ممارسة القضاء والقيام بالخدمات الاجتماعية، واتّخاذ القرارات العسكرية في المسجد فقد كان لأجل أن يعلن للجميع بأنّ دينه ليس مجرّد أمرٍ معنوي لا يتّصل بالأُمور الدنيوية ولا تهمه قضايا الحياة وشؤون المعيشة المادّية، بل هو دينٌ شاملٌ كاملٌ لا يحضّ الناس على التقوى، ولا يدعوهم إلى الإيمان إلّاويهتم أيضاً بشؤونهم المعيشية وإصلاح أوضاعهم الاجتماعية.

فليس هو بالتالي يهتمُّ بجانب ويُغفِلُ جانباً، بل هو دين شامل جامع يتكفّل الأُمور

ص:16


1- . تاريخ الخميس: 136/2.

المادّية والمعنوية معاً.

ولقد كان هذا التلاقي والانسجام (بين العلم والإيمان) محطَّ اهتمام المسلمين ونصب أعينهم دائماً حتّى بعدما اتّخذت المراكزُ التعليمية والمؤسساتُ العلمية البحتة شكلاً مستقلّاً وصار لها محلٌ خاص تُدرّس فيه، فإنّهم ظلّوا يبنون الجامعات إلى جانب الجوامع ويشيّدون المعاهد إلى جانب المساجد، ليثبتوا للعالم أنّ هذين الأمرين اللّذين يكفلان إسعاد الحياة والإنسان لا يمكن أن ينفصلا، ويبتعد بعضهما عن بعض.

مع عمّار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ

لقد ابتاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأرضَ الّتي بركت فيها ناقته يوم قدومه المدينة، من أصحابها بعشرة دنانير لإقامة مسجد فيها. واشترك كافّة المسلمين في تهيئة موادّه الإنشائية وبنائه، وعمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسُه في تشييده أيضاً، فكان صلى الله عليه و آله و سلم ينقل معهم اللبن، والحجارة، وبينما هو صلى الله عليه و آله و سلم ذات مرة ينقل حجراً على بطنه استقبله «أُسيدُ بن حضير» فقال: يا رسول اللّه إعطني أحمله عنك.

قال صلى الله عليه و آله و سلم: لا، إذهَب فاحمِل غيرَه(1).

وبهذا الأُسلوب العملي كشف رسول الإسلام العظيم عن جانب من برنامجه الرفيع، إذ بيّن بعمله أنّه رجل عمل وليس رجل قول، رجل فعل وليس رجل كلام، وكان لهذا الأُسلوب الأثر الفعّال في نفوس أتباعه.

فقد أنشد أحد المسلمين بهذه المناسبة يقول:

ص:17


1- . بحار الأنوار: 112/19.

لَئِن قَعَدنا وَالنبيّ يعمَلُ فذاكَ مِنّا العمل المضَلّل(1)

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يردّد وهو يبني ويعمل: لا عيش إلّاعيش الآخرة، اللهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة.

وقد كان «عثمان بن عفان» ممّن يهتمّ بنظافة ثيابه، ويحرص على أن يمنع عنها الغبار والتراب، فلم يعمل في بناء المسجد لهذا السبب، فأخذ عمّار ينشد أبياتاً تعلّمها من أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام، وفيها تعريض بمَن لا يعمل ويحرص على ثيابه أن لا تتّسخ بالغبار:

لا يستوي مَن يَعمرُ المساجدا يَدأبُ فيها قائماً وقاعِدا

ومن يُرى عنِ الغُبارِ حائدا(2) وقد أغضب مفادُ هذه الأبيات عثمان بن عفان، فقال لعمّار مهدّداً: قد سمعتُ ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية، واللّه إنّي لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك، أي أضربك بها، وفي يده عصا!!

فلمّا عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكلام عثمان غضب وقال:

«ما لَهُم وَ لِعَمّار، يَدعوهُم إلى الجنّة، وَيَدعُونَه إلى النار.

إنَّ عماراً جلدةُ ما بين عينيّ وأنفي...»(3).

ص:18


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 344/2، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، مصر - 1383 ه.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 344/2؛ تاريخ الخميس: 345/1؛ والسيرة الحلبية: 76/2. ومع أنّ ابن إسحاق صرّح باسم عثمان بن عفان ولكن ابن هشام الّذي لخّص سيرة ابن إسحاق امتنع عن تسمية عثمان. وقال صاحب المواهب اللدنية: المراد في هذه الأبيات عثمان بن مظعون، راجع هامش سيرة ابن هشام أيضاً.
3- . تاريخ الخميس: 345/1.

وكان «عمّار» فتى الإسلام القوي، يحمل قدراً كبيراً من اللبن والأحجار في بناء المسجد ولا يكتفي بحمل شيء قليل منها.

فكان البعض يستغل طيب قلبه وإخلاصه فيثقله باللبن والأحجار.

ويروى أنّ أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم جعل يحمل كلّ واحد لبنة لبنة وعمّار يحمل لبنتين لبنتين لبنة عنه ولبنة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم محبة منه لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(1).

وذات مرّة رآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد حمّلوه ثلاث لبنات أو أحجار ثقيلة، فشكا إليه عملهم وقال: يا رسول اللّه قتلوني يحملون عليّ ما لا يحملون فنفض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفرته(2) وكان رجلاً جعداً وهو يقول قولته التاريخية:

«ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، إنّما تقتلك الفئة الباغية»(3).

وقد كان هذا الخبرُ الغيبي من الدلائل القوية على نبوّة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم وصدق دعواه، وصحّة إخباراته، فقد وقع ما أخبره كما أخبر، فقد قتل «عمّار» وهو في التسعين من عمره في معركة صفّين عندما كان يقاتل جيش الشام بين يدي علي عليه السلام، فقتله حزب معاوية، وقد أحدث هذا الخبر الغيبي أثراً عجيباً في حياة المسلمين، ققد جعله المسلمون معياراً لمعرفة الحقّ، أي كانوا يعرفون حقّانية أي جهة من الجهات وأي طرف من الأطراف في الصراعات والنزاعات بانضمام عمّار إليه.

وعند ما قُتِلَ عمّار في ساحة القتال بصفّين، دبّ في أهل الشام اضطراب عجيب.

ص:19


1- . السيرة الحلبية: 71/2، البداية والنهاية: 217/2.
2- . أي شعر رأسه.
3- . المصدران السابقان.

فالذين كانوا في شكّ في حقّانية عليّ عليه السلام وموقفه في هذه الحرب بفعل الدعاية المضادّة الّتي كان يقوم بها معاوية ومساعده عمرو بن العاص ضد الإمام قد انتبهوا إلى خطائهم وعرفوا بمقتل «عمّار» على أيدي أنصار معاوية بأنّ علياً على حقّ وأنّ معاوية وجماعته هي الفئة الباغية الّتي أخبر عنها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ومن هؤلاء «خزيمة بن ثابت» الأنصاريّ الّذي خرج مع الإمام عليّ عليه السلام لقتال معاوية، ولكنّه كان متردّداً في مقاتلته، بيد أنّه جرّد سيفه بعد مقتل «عمّار» على أيدي أهل الشام، وحمل عليهم(1).

ومنهم «ذوالكلاع» الحميري الّذي خرج على رأس عشرين ألف مقاتل وهم تمام رجال قبيلته، مع معاوية لمحاربة الإمام عليّ عليه السلام، وكان معاوية يعتمد على نصرته اعتماداً كبيراً، حتّى أنّه لم يقدم على اتّخاذ قرار الحرب إلّابعدَ أن اطمأنَّ إلى تأييده له، ومشاركته في قتال علي عليه السلام.

فقد صُدِمَ القائد المخدوع بشدّة عندما سمع بوجود «عمّار» في معسكر الإمام «علي».

فأرادَ رجالُ معاوية أن يموِّهُوا الأمر، ويشوشوه عليه فقالوا: ما لعمّار ولصفّين؟ فذلك ما يقوله أهل العراق وما يبالون من الكذب.

ولكن ذا الكلاع لم يقتنع بهذا فقال لعمرو بن العاص: يا أبا عبداللّه أما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ عمّاراً تقتله الفئة الباغية»؟

فقال عمرو: أجل، ولكن ليس عمّار في رجال علي.

فقال ذوالكلاع: فلابدّ إذن أن أعرف ذلك بنفسي.

ص:20


1- . المستدرك على الصحيحين: 3/385؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: 259/3.

ثم أمر رجالاً بأن يتحقّقوا من الأمر. وفي هذه اللحظة الحسّاسة أدرك معاوية وعمرو خطورة الموقف، إذ لو تحقّق ذوالكلاع من وجود عمّار في معسكر «علي» أو عرف بمقتله بين يديه عليه السلام إذن لأحدث ذلك شرخاً كبيراً وتمزّقاً فضيعاً في جيش الشام، من هنا تمّت تصفية ذوالكلاع فوراً إذ قُتل بصورة غامضة(1).

إنّ اشتهار هذا الحديث لدى محدّثي السنّة والشيعة ليغنينا عن استعراض مصادره، واسناده.

فقد روى أحمد بن حنبل أنّه لمّا قُتِلَ عمّار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال قُتل عمّار وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: تقتله الفئة الباغية؟ فقام عمرو بن العاص فزعاً يرجع (أي يقول: إنا للّه وإنا إليه راجعون) حتّى دخل على معاوية، فقال معاوية: ما شأنك؟ قال: قُتِل عمّار فقال معاوية: قد قُتِل عمّار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: تقتله الفئة الباغية، فقال له معاوية:

أو نحن قتلناه إنّما قتله عليٌّ وأصحابه جاءُوا به حتّى ألقوه بين رماحنا (وسيوفنا)(2).

ولكن لا يخفى أنّ هذا التأويل الباطل الّذي لجأ إليه ابن أبي سفيان لتهدئة جنود الشام، ليس مقبولاً عند اللّه تعالى قط، كما لا يقبل به أيُّ عاقلٍ لبيبٍ.

فإنَّ هذا هو الاجتهاد في مقابل النص، وهو ممّا لا قيمة له أبداً، فإنّ هذا النوع من الاجتهاد في مقابل الآيات والروايات الصريحة هو الّذي سبّب في أن يعمد فريقٌ من المجرمين والجناة إلى تبرير جرائمهم وفضائعهم بحجّة «الاجتهاد»، وتحت غطائه.

ص:21


1- . وقعة صفين: 377.
2- . مسند أحمد بن حنبل: 198/4.

وإليك نموذجاً من هذا الأمر:

ضئرٌ أرأف من والدة!!

لا يجد المرءُ عبارةً أفضلَ من هذه تعرّف حقيقةَ مؤرّخ القرن الثامن الهجري (ابن كثير الشامي مؤلّف البداية والنهاية).

فقد انبرى هذا الرجل إلى الدفاع عن معاوية في كتابه إذ قال: لا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاةً تكفيرهم...، لأنّهم وإن كانوا بغاةً في نفس الأمر فإنّهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كلّ مجتهدٍ مصيباً، بل المصيب له أجران، والمخطئ له أجر - ثم يقول: - وأمّا قوله: يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار، فإنّ عمّاراً وأصحابهُ يدعون أهل الشام إلى الأُلفة واجتماع الكلمة، وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون مَن هو أحقّ به، وأن يكون الناس أوزاعاً على كلّ قطر إمامٌ برأسه، وهذا يؤدّي إلى افتراق الكلمة واختلاف الاُمّة فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم وإن كانوا لا يقصدونه!!(1).

ونحن لم نجد اسماً يناسب هذا العمل إلّاالتحريف للحقائق.

فإنّ مؤيّدي الفئة الباغية مع كلّ ما أُوتوا من قدرة على إخفاء الحقائق وطمسها لم يستطيعوا إنكار هذه الحقيقة، ولكن مؤرّخاً مثل ابن كثير عمد - رغم ورود هذا الحكم الغيبي في شأن تلك الفئة - إلى تحريف بارد قد غفلت تلك الفئة هي ذاتها عنه!! روى أحمد بن حنبل في مسنده عن حنظلة بن خويلد العنبري قال: بينما أنا عند معاوية إذ جاء رجلان على معاوية يختصمان في رأس عمّار يقول كلّ واحد

ص:22


1- . البداية والنهاية: 265/3.

منهما أنا قتلته، فقال عبداللّه بن عمرو: وليطب به أحدكما نفساً لصاحبه فإنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: تقتله الفئة الباغية، قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال:

إنّ أبي شكاني إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: أطع أباك مادام حيّاً، ولا تعصه، فأنا معكم ولستُ أُقاتل(1).

إنّ اعتذار «عبداللّه بن عمرو بن العاص» يشبه تأويل ابن كثير الشامي الّذي يقول: إنّ معاوية قاتل «عليّاً» في صفين اجتهاداً وإيماناً، وإن أخطأ في اجتهاده؛ وذلك لأنّ إطاعة الوالد واجبة مالم تجر إلى مخالفة الشرع، فهذا هو القرآن الكريم يقول:

«وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» .(2)

كما أنّ الاجتهاد إنّما يصحّ إذا لم يكن في المقام نصٌّ صريح ورد عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، ولهذا كان اجتهاد معاوية وعمرو بن العاص وأمثالهما باطلاً مرفوضاً، لكونه في مقابل النصّ النبوي.

ولو أنّنا فتحنا باب الاجتهاد هكذا بدون أيّة ضوابط لكان جميع المشركين والمنافقين معذورين في معارضتهم، ومحاربتهم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، كما لابدّ - حينئذ - أن نقول: إنّ يزيد والحجاج وأشباههما كانوا معذورين في سفكهم لدماء الأئمّة المعصومين، والصالحين من المسلمين، بل ومأجورين في عملهم هذا.

***

انتهى النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمون من بناء المسجد، وظل يوسّع فيه كلّ عام شيئاً فشيئاً.

ص:23


1- . مسند أحمد بن حنبل: 164/2-165.
2- . العنكبوت: 8.

وقد بُني إلى جانب المسجد صفة ليسكن فيها الفقراء والمهاجرون المحرومون. وكلّف «عبادة بن الصامت» بأن يعلّمهم الكتابة، وقراءة القرآن.

التآخي أعظم معطيات الإيمان

لقد فتح تمركز المسلمين في المدينة فصلاً جديداً في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم .

فقد كان صلى الله عليه و آله و سلم قبل دخوله المدينة لا يهمّه إلّاجذب القلوب والدعوة إلى دينه، ولكنّه اليومَ عليه أن يعمل - كصاحب دولة محنَّك - على حفظ كيانه وكيان جماعته، ولا يسمح للأعداء الداخليّين والخارجيّين بالتسلّل والنفوذ في صفوفهم، ولكنّه كان يواجه في هذا السبيل ثلاث مشاكل كبرى:

1. خطر قريش وعامة الوثنيّين في شبه الجزيرة العربية.

2. خطر يهود يثرب الذين كانوا يقطنون داخل أو خارج المدينة ويمتلكون ثروة كبيرة.

3. الاختلاف الّذي كان بين أتباعه من المهاجرين وبين الأوس والخزرج.

وحيث إنّ المهاجرين والأنصار قد نشأوا في بيئتين مختلفتين، لهذا كان من الطبيعي أن يختلفوا في طريقة المعاشرة، وآداب السلوك، وأُسلوب التفكير اختلافاً كبيراً.

هذا مضافاً إلى أنّ الأوس والخزرج الذين كانوا يشكّلون جماعة الأنصار كانوا هم يعانون من رواسب عداءٍ قديمٍ وبقايا ضغائن نشأت خلال حروب دموية طويلة استغرقت مائة وعشرين سنة بلا انقطاع.

ومع وجود مثل هذه التناقضات والأخطار المحتملة لم تكن مواصلة الحياة الدينية، والسياسية المستقرّة أمراً ممكناً قط.

ص:24

ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تغلّب على كلّ هذه المشكلات بطريقة حكيمة، غاية في الحنكة والإبداع.

فبالنسبة إلى المشكلتين الأُوليين فقد عالجهما بالقيام بأعمال سيأتي ذكرها في المستقبل.

وأمّا بالنسبة إلى مشكلة التناقضات بين فئات وأصناف جماعته فقد عالج تلك المشكلة بحذقٍ كبير، وتدبير رائع جداً.

فقد أُمر من جانب اللّه تعالى بأن يؤاخي بين المهاجرين والأنصار.

فجمعهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم وقال لهم:

«تآخوا في اللّه أخوَينِ أَخَوَينِ».(1)

وقد ذكرت المصادرُ التاريخية الإسلامية، مثل «السيرة النبوية» لابن هشام(2)أسماء كل متآخيين من المهاجرين والأنصار.

وبهذا الأُسلوب عزّز رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الوحدةَ السياسية والمعنوية بين المسلمين وقوّى أُسسَها ودعائمها.

وقد سببت هذه الوحدة وهذا التآخي الواسع في حلّ المشكلتين الأُوليين بسرعة وسهولة.

منقبتان عظيمتان

ولقد ذكر أكثر مؤرّخي السنّة والشيعة ومحدّثيهم في هذا الموضع منقبتين عظيمتين، نذكرهما نحن هنا أيضاً: لقد آخى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين ثلاثمائة من

ص:25


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 351/2. نشر مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، مصر - 1383 ه.
2- . السيرة النبوية: 351/2-353.

أصحابه من المهاجرين والأنصار وهو يقول: يا فلان أنت أخ لفلان.

ولمّا فرغ من المؤاخاة، جاء عليّ عليه السلام، تدمع عيناه فقال:

«يا رسول اللّه آخيتَ بين أصحابكَ ولم تؤاخِ بيني وبين أحد»؟

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد أخذ بيده:

«يا عليّ أنت أخي في الدنيا والآخرة»(1).

وقد ذكر القندوزي الحنفي هذه القضية بنحو أكثر تفصيلاً إذ قال:

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ:

«والّذي بعثني بالحقّ نبيّاً ما أخّرتُكَ إلّالنفسي، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبيّ بعدي، فأنتَ أخي ووارثي»(2). غير أنّ ابن كثير شكّك في صحّة هذه الرواية(3)، وحيث إنّ هذا التشكيك نابع من نفسيّته الخاصّة، ولا يقلّ تفاهةً وبطلاناً من اعتذاره ودفاعه عن معاوية وزمرته الباغية عن قتل الصحابي العظيم عمّار بن ياسر، لهذا نرجّح أن نصرف النظر عن النقاش فيه، ونترك القضاء والحكم عليه للقارئ المنصف، والمتتبّع العدل.

منقبةٌ أُخرى لعليّ عليه السلام

فرغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من بناء المسجد، وقد بُنِيَت منازلُه ومنازل أصحابه حولَ المسجد، وكلٌ شرع منه باباً إلى المسجد، وخطّ لحمزة خطاً فبنى منزلَه فيه،

ص:26


1- . المستدرك على الصحيحين: 14/13.
2- . ينابيع المودة: 159/1، الباب الخامس.
3- . البداية والنهاية: 371/7، حديث المؤاخاة.

وشرع بابَه إلى المسجد، وخطّ لعليّ بن أبي طالب مثل ما خطّ لهم فبنى منزله فيه وشرع بابه إلى المسجد، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد من تلك الأبواب.

وفجأة نزل جبرئيل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال:

«يا محمّد إنَّ اللّه يأمُركَ أن تأمر كلّ مَن كان له بابٌ إلى المسجدِ أنْ يَسدَّهُ ولا يكون لِأَحَدٍ بابٌ إلى المسجد إلّالكَ ولعليّ عليه السلام».

يقول ابن الجوزي: فأوجدَ هذا الأمرُ ضجّة عند البعض، وظنُّوا أنّ هذا الاستثناء قد نشأ عن سبب عاطفي، فخطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الناس وقال فيما قال:

«واللّه ما أنا أمرتُ بذلك، ولكنّ اللّه أمَر بسدّ أبوابِكم وَتركِ بابِ عليٍّ»(1).

وخلاصة القول: إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قضى عن طريق المؤاخاة الإسلاميّة بين أصحابه من الأنصار والمهاجرين على الاختلافات القديمة الّتي كانت رواسبها باقية بين المسلمين إلى ذلك اليوم، وبذلك حلّ مشكلة من المشاكل الثلاث الّتي مرّ ذكرها.

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب

كانت المشكلة الثانيةُ الّتي يواجهها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة هي مشكلة يهود يثرب الذين كانوا يقطنون المدينة وخارجها وكانوا يمسكون بأزمّة التجارة والاقتصاد في تلك المنطقة.

لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يدرك جيداً إنّه ما لم تصلح الأوضاع الداخلية في

ص:27


1- . تذكرة الخواص: 46، بتصرف بسيط. ولاحظ: بحار الأنوار: 112/19.

المدينة وما لم يضمَّ إلى صفوفه يهود يثرب، وبالتالي ما لم يقم وحدةً سياسيةً عريضةً في مركز حكومته، لم تتهيأ لشجرة الإسلام أن تنمو، ولن يتهيّأ له صلى الله عليه و آله و سلم أن يفكّر في أمر الوثنيّين والوثنيّة في شبه الجزيرة العربيّة، ولا يستطيع معالجة المشكلة الثالثة، أعني: قريش خاصّة.

والمشكلة واحدةٍ ما لم يستتبّ الأمن والاستقرار في مقرّ القيادة لن يمكن الدفاع ضدّ العدوّ الخارجي.

ولقد قام بين يهود المدينة والمسلمين في بداية هجرتهم إليها نوعٌ من التفاهم لأسباب خاصّة، لأنّ كلا الجانبين كانا موحّدَين يعبدان اللّه، ويرفضان الأوثان، وكان اليهود يتصوّرون أنّهم يستطيعون - إذا اشتدّ ساعد المسلمين، وقويت شوكتهم - أن يأمنوا حملات المسيحيّين الروم، هذا من جانب، ومن جانب كان بينهم وبين الأوس والخزرج علاقات عريقة ومواثيق قديمة.

من هنا حاولَ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يكرّس هذا التفاهم، ويبلوره بعقد معاهدة تعايش، ودفاعٍ مشترك بين الأنصار والمهاجرين وقَّع عليها يهود المدينة أيضاً(1).

وقد احترمَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك المعاهدة دين اليهود وثروتهم في إطار شرائط معيّنة.

وقد أدرج كُتّاب السيرة والمؤرّخون النصَّ الكامل لهذه المعاهدة في كتبهم(2).

ص:28


1- . المقصود منهم يهود الأوس والخزرج، وأمّا يهود بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة فقد عقد النبي صلى الله عليه و آله و سلم معهم معاهدةً مستقلةً سنذكرها.
2- . مثل: السيرة النبوية لابن هشام: 348/2.

ونظراً لأهميّتها الخاصّة، ولأنها تُعتبر مستنداً تاريخياً حيّاً، قويَّ الدلالة، ولكونها تكشف عن مدى التزام رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله و سلم بمبادئ الحرية والنظم والعدالة، ومبلغ مراعاته واحترامه لها في الحياة، ولأنّها تكشف لنا كيف أنّها أوجدت جبهةً متحدةً قويةً في وجه الحملات الخارجية، نذكرها هنا ونسجّلها كواحدٍ من أكبر الانتصارات السياسية الّتي أحرزتها الحكومة الإسلامية الناشئة في العالم ذلك اليوم.

أعظم معاهدة تاريخية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذا كتابٌ من محمّد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم.

«البند الاوّل»

1. إنّهم أُمّةٌ واحدةٌ من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم (أي على الحال الّتي جاء الإسلام وهم عليها) يتعاقلون بينهم (أي يدفعون دية الدم) وهم يفدون عانيهم (أسيرهم) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

2. وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأُولى، وكلُّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وهكذا بنو ساعدة، وبنو الحارث، وبنو جشم، وبنو النجار، وبنو عمرو بن عوف، وبنو النبيت، وبنو الأوس كلّ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأُولى (والحال الّتي جاء الإسلام وهم عليها من حيث التعاون على الديات إلى أولياء المقتول، ودفع الفدية معاً لفكِ الأسير).

ص:29

3. وإنَّ المؤمنين لا يتركون مفرحاً (أي مثقلاً بالدَّين وكثير العيال) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداءٍ أو عقل (أي دفع ديةٍ أو فداء أسير).

4. وإنَّ المؤمنين المتّقين (يدٌ واحدة) على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة (عظيمة) ظلمٍ، أو إثمٍ، أو عُدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإنّ أيديهم عليه جميعاً ولو كان وَلدَ احدهم.

5. وأَن لا يحالف مؤمنٌ مولى (أي عبد) مؤمنٍ دونه (أي دون إذنه).

6. وأن لا يقتل مؤمنٌ مؤمناً في كافر (أي قصاصاً لمقتل كافر على يَدَي ذلك المؤمن) ولا ينصر كافراً على مؤمنٍ.

7. وإنَّ ذمةَ اللّه واحدة (تشمل جميع المسلمين بلا استثناء) يجيرُ عليهم أدناهم (فاذا أجار عبدٌ مسلمٌ كافراً قُبِلَت إجارته واحترِمَ أمانه).

8. وإنّ المؤمنين بعضَهُم مواليَ بعض دون الناس.

9. وإنّه مَن تبعنا من يهود فإنَّ له النصرَ والأُسوةَ غيرَ مظلومِين، ولا متناصر عليهم.

10. وإنَّ سلمَ المؤمنين واحدة لا يُسالَمُ مؤمنٌ دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلّاعلى سواءٍ وعَدل بينهم (فلا يجوز لأحد أن ينفرد بعقدِ معاهَدةِ صلحٍ مع أحدٍ من غير المسلمين إلّابموافقة المسلمين).

11. و إنَّ كلّ غازيةٍ غزت معنا يعقّب بعضها بعضاً (أي يتناوب المسلمون في المشاركة في الجهاد)، وانّ المؤمنين يبئ بعضهُم على بعض بما نالَ دماءَهم في سبيل اللّه (أي يراقُ منهم الدمُ على السواء لا أن يتعرّض للقتل بعضٌ دون بعض).

12. وإنّ المؤمنين المتّقين على أحسنِ هدى وأقومه.

13. وأن لا يجيرَ مشركٌ (من مشركي المدينة) مالاً لقريش، ولا نفساً، ولا

ص:30

يحولَ دونه على مؤمنٍ (أي لا يمنعه من مؤمن).

14. وإنّه من اعتبط مؤمناً (أي قتل من المؤمنين مؤمناً بلا جناية منه توجب قتله) قتلاً عن بيّنة فإنّه قِوَدٌ به (أي يُقتَل بقتله قصاصاً) إلّاأن يرضى وليُّ المقتول.

وإنّ المؤمنين عليه كافّة، ولا يحلُّ لهم إلّاقيامٌ عليه.

15. وإنه لا يحلُّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمنَ باللّهِ واليومِ الآخر، أن يَنصُرَ مُحدِثاً (صاحب بدعة) ولا يؤويه؛ وإنّه من نصرَهُ، وآواه فعليهِ لعنةُ اللّهِ وغضبُه يوم القيامة، ولا يُؤخذُ منه صرفٌ ولا عدلٌ.

16. وإنّكم مهما اختلفتم فيه من شيءٍ فإنّ مردَّهُ إلى اللّه عزّوجلّ وَ إلى محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.

«البندُ الثاني»

17. وإنّ اليهودَ ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين (ودفاعاً عن المدينة).

18. وإنّ يهود بني عوف أُمّةٌ مع المؤمنين (وبنو عوف قبيلة من قبائل الأنصار) لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلّا من ظلم وأثم، فإنّه لا يوتغ (لا يهلك) إلّانفسه وأهل بيته (والسبب في هذا هو أنّ أهل بيت الرجل يتبعونه ويؤيّدونه في فعله غالباً وعادةً).

(والمراد من هذا الاستثناء هو أنّ العلاقات والاتّحاد يبقى قائماً بين تلك الطائفة من اليهود وبين المسلمين مادام لم يكن ثمّة ظالِمٌ ومعتدٍ).

19. وإنّ ليهود بني النجار، وبني الحارث وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس وبني ثعلبة، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، (من الحقوق والامتيازات) إلّامَن ظلم وأثم، فإنّه لا يوتغ إلّانفسه وأهل بيته.

ص:31

وإن جفنة بطن من ثعلبة (أي تلك القبيلة فرعٌ من هذه) كأنفسهم، وإنّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

20. وإنَّ البرَّ دونَ الإثم (أي أن تغلب حسناتُهم على سيّئاتِهم).

21. وإنَّ موالي ثعلبة (أي المتحالفين معهم) كأنفسهم.

22. وإنّ بطانة يهود (أي خاصّتهم) كأنفسهم.

23. وأنّه لا يخرج منهم أحدٌ (من هذه المعاهدة) إلّابإذن محمد صلى الله عليه و آله و سلم.

24. وإنّه لا ينحجر على ثأر جرح (أي لا يضيع دمٌ حتّى الجرح)، وإنّ مَن فتك (بأحد) فبنفسه فتك، وأهل بيته إلّامَن ظلم (أي إلّاإذا كان المفتوك به ظالماً).

25. وإنّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإنّ بينهم النصرَ على مَن حارب أهلَ هذه الصحيفة (أي أنّ على كلّ جماعةٍ من المسلمين واليهود أن يقوم بنصيبه من نفقات الحرب).

26. وإنّ بينهم النصحَ والنصيحة (أي أن تكون العلاقات على هذا الأساس) والبر دون الإثم.

27. وإنّه لم يأثم امرؤٌ بحليفه (أي لا يحقُّ لأحدٍ أن يظلم حليفَه) وأن النصرَ للمظلوم (لو فعل أحد ذلك).

28. وإنّ يثرب حرامٌ جوفُها لأهل هذه الصحيفة (أي أنّ داخل المدينة حرمٌ ومأمنٌ لجميع مَن وقَّعَ على هذه الصحيفة).

29. وإنَّ الجار (وهو مَن يدخل في أمانِ أحد) كالنفس غير مضارٍّ ولا آثم، (فلا يجوز إلحاق ضرر به).

30. وإنّه لا تُجار حرمةٌ إلّابإذن أهلها.

ص:32

31. وإنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حَدَث أو اشتجار يُخاف فسادُه فإنّ مردَّهُ إلى اللّهِ عزّوجلّ، وإلى محمّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وإنَّ اللّه على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرهُ (أي أنّه تعالى ناصر وولي لمَن التزم بهذه المعاهدة).

32. وإنّه لا تجارُ قريشٌ ولا مَن نَصَرَها.

«البند الثالث»

33. وإنّ بينهم (أي بين اليهود والمسلمين) النصر على من دهم يثربَ (فعليهم معاً أن يدافعوا عن المدينة ضدَّ المعتدين).

34. وإذا دُعوا (أي دعا المسلمون اليهود) إلى صلح يصالحونه، ويلبسونه، فإنّهم يصالحونهُ ويَلبسونه.

وإنّهم إذا دُعوا (أي إذا دعا اليهودُ المسلمين) إلى مثل ذلك (الصلح) فإنّه لهم على المؤمنين إلّامَن حاربَ في الدين.

(فعلى اليهود أن يوافقوا على كلّ صلح يعقِدُه المسلمون مع الأعداء وهكذا على المسلمين أن يقبَلوا بكلِّ صلح يعقده اليهود مع الأعداء إلّاإذا كان ذلك العدوّ ممّن يخالفُ الإسلام ويعاديه ويتآمر عليه).

35. وإنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة.

«البندُ الرابع»

36. وإنّهُ لا يحول هذا الكتاب دون ظالمٍ وآثم. (فلا يمكن لأحد أن يتسير وراءه ليتخلّص من العقاب إذا ارتكبَ خطيئةً وجنايةً).

37. وإنّه مَن خرج (من المدينة) آمنٌ، ومَن قعد آمن بالمدينة إلّامن ظلم أو

ص:33

أثم.

ثم خُتِمَت هذه المعاهدة بالعبارة التالية:

«وإنّ اللّه جارٍ لِمَن بَرَّ واتّقى ومحمَّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم»(1).

إنَّ هذه المعاهدة السياسية التاريخية الّتي أدرجناها هنا تعدُّ نموذجاً كاملاً لرعاية الإسلام وحرصِه على مبدأ حرّية الفكر والاعتقاد، ومبدأ الرفاه الاجتماعي العام، وضرورة التعاون في الأُمور العامّة؛ بل وتوضّح هذه المعاهدةُ - فوق كلّ ذلك - حدودَ صلاحيّات واختيارات القائد، ومسؤوليّة كلّ الموقّعينَ عليها، وعلى أمثالها.

على أنّه وإن لم يشترك يهودُ «بني قريظة» و «بني النضير» و «بني قينقاع» في إبرام هذه المعاهدة والتوقيع عليها، بل شارك فيها يهودُ الأوس والخزرج فقط، إلّا أنّ تلك الطوائف اليهودية (الثلاث) قد وقّعت فيما بعد مع قائد المسلمين وزعيمهم على معاهدات مماثلة أهم بنودها هي: أن لا يُعينوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولا على أحدٍ من أصحابه بلسان ولايدٍ ولا بسلاح ولا بكراع (أي الخيل وغيرها من المراكب) في السر والعلانية لا بليلٍ ولا بنهارٍ، اللّه بذلك عليهم شهيد، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلٍّ من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم، ونسائهم، وأخذ أموالهم.

وقد كتبَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لكلِّ قبيلة منهم كتاباً على حدة على هذا الغرار، ثم وقّع عليها «حييُ بن أخطب» عن قبيلة بني النضير، و «كعب بن أسد» عن بني

ص:34


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 348/2-351 بتفاوت يسير؛ البداية والنهاية: 273/3-275.

قريظة، و «المخيريق» عن قبيلة بني قينقاع(1).

وبهذا سادَ الأمنُ يثرب وضواحيها بعد أن اعتبرت المنطقة حرماً آمناً.

والآن جاء دور أن يعالج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المشكلة الأُولى، يعني قريش؛ لأنّه مادام هذا العدوُّ يعرقل حركة الدعوة ويقف سدّاً أمام تبليغ الإسلام، فلن يُوَفَّقَ لنشر هذا الدين وتطبيق أحكامه وتعاليمه المباركة.

ممارسات اليهود الإجهاضية

لقد تسبّبت تعاليمُ الإسلام الرفيعة وأخلاق الرسول العظيم في أن يتزايد عددُ المنتمين إلى الإسلام يوماً بعد يوم، وتزداد بذلك قوّةُ الإسلام العسكرية والاقتصادية والسياسية.

وقد أحدث هذا التقدمُ المتزايد الباهر قلقاً وضجّةً عجيبةً في الأوساط اليهودية الدينية، لأنّهم كانوا يتصوَّرون أنّهم يستطيعون بدعمهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتقويته وتأييده جرَّه إلى صفوفهم، ولم يكونوا يتصوّرون قط أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم سيحصل بذاته على قوةٍ تفوق قوة اليهود والنصارى، من هنا بَدَأوا بممارسة الأعمال الإجهاضية مثل طرح الأسئلة الدينية العويصة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بغية زعزعة إيمان المسلمين بنبيّهم، ولكن جميع هذه المخططات باءت بالفشل ولم تترك أي أثر في صفوف المسلمين المتراصّة وإيمانهم العميق برسول الإسلام.

وقد جاء ذكر بعض هذه المناظرات والمجادلات في سورتي البقرة والنساء.

ويستطيع القارئ العزيزُ من خلال قراءة آياتِ هاتين السورتين والتمعّن

ص:35


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 110/19 و 111. احتفظ في ذاكرتك أيّها القارئ الكريم بهذا القسم من المعاهدة الثانية؛ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عاقب اليهود بسبب نقضهم لهذه المعاهدة.

فيهما أن يقف على مدى العناد واللجاج الّذي كان يُبديه اليهودُ.

فمع أنّهم كانوا يتلقّون من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أجوبة واضحة لكلِّ واحد من أسئلتهم كانوا يتهرّبون من الانضواء تحت راية الإسلام ويحجمون عن الاعتراف به، وكانوا يقولون في مقام الردّ على دعوة النبيّ إيّاهم إلى اعتناق الإسلام:

«قُلُوبُنا غُلْفٌ» : أي لانفهم ما تقول!!!(1).

إسلام عبداللّه بن سلّام

هذه المناظرات والمجادلات وإن كانت لا تزيد غالبية اليهود إلّاتعنّتاً وعناداً، ولكنّها كانت تسبّب أحياناً يقظة البعض وإقبالهم على الإسلام مثل «عبداللّه بن سلّام». فقد أسلم ابن سلام الّذي كان من علماء اليهود وأحبارهم، برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد سلسلة من المناظرات والمجادلات المطوّلة.

ولم يمض وقتٌ كبيرٌ على إسلام ابن سلام إلّاوالتحق به عالمٌ آخر من علماء اليهود هو «المخيريق».(2)

وكان عبداللّه بن سلّام يعلم بأنه سيذمُّه قومُه من اليهود إذا عرفوا بإسلامه وترك دينهم، من هنا طلب من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يكتم عن الناس إسلامه، ريثما يحصل أوّلاً على اعتراف من قومه بعلمه وتقواه، وبمعرفته وصلاحِه قائلاً: «يا رسول اللّه إن يهود قومٌ بُهُت، وإنّي أُحبُّ أن تُدخلني في بعضِ بيوتك، وتغيّبني

ص:36


1- . للوقوف على نصّ هذه المناظرات راجع: السيرة النبوية لابن هشام: 2/358-409، بحار الأنوار: 303/9 وما بعدها.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 362/2.

عنهم ثم تسألهم عنّي حتّى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنّهم إن علموا به بهتوني وعابوني».

فأدخله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في بعض بيوته وأخفاه عن الأنظار ثم قال لليهود الداخلين عليه:

«أيُّ رجلٍ الحصينُ بنُ سلام فيكم؟»

قالوا: سيدُنا وابنُ سيدنا، وحَبرُنا وعالمُنا، فخرجَ عليهم «عبدُ اللّه بنُ سلام» من مخبئه وقال لهم: يا معشر يهود اتّقوا اللّهَ واقبَلوا ما جاءكم به، فواللّه إنّكم لتعلمون إنّه لرسول اللّه تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإنّي أشهدُ أنّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأُؤمن به وأُصدّقه وأعرِفُه.

فغضب اليهودُ من مقالته، وقالوا له: كذبتَ، ووقعوا فيه، وعابوه، وبهتوه(1).

خطةٌ يهودية أُخرى للقضاءِ على الحكومة الإسلامية

لم تُضعف مجادلاتُ اليهود وأسئلتهم العويصة عقيدةَ المسلمين وإيمانَهم برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فحسب، بل تسبَّبَت في أن تتضح مكانته العلمية، وقيمة معارفه الغيبية للجميع أكثر من ذي قبل.

ففي ظلّ هذه المجادلات والمحاورات رغب جماعات كبيرة من الوثنيّين واليهود في الإسلام فآمنوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصدَّقوه.

من هنا دبَّر اليهودُ مؤامرة أُخرى وهي التذرُّع بأُسلوب «فرِّقْ تسُدْ»، لإلقاء الفرقة في صفوف المسلمين.

فقد رأى دهاة اليهود وساستهم أن يستغلّوا رواسب الاختلافات، ويؤجّجوا

ص:37


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 360/2-361.

نيران العداء القديم بين الأوس والخرج الّذي زال بفضل الإسلام وبفضل ما أرساه من قواعد الأُخوّة والمساواة والمواساة والمحبّة، بعد أن كانت مشتعلةً طوال مائة وعشرين عاماً متوالية، ليستطيعوا بهذه الطريقة تمزيق صفوف المسلمين بإثارة الحروب الداخلية بينهم، والّتي من شأنها ابتلاع الأخضر واليابس والقضاء على الجميع دونما استثناء.

ففيما كان نفرٌ من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدّثون فيه إذ مرّ عليهم «شاس بن قيس» وهو يهوديٌ شديد العداء للإسلام، عظيمُ الكفر، شديدُ الضغن على المسلمين، فغاظه ما رأى من أُلفةِ الأوس والخزرج، واجتماعهم وتوادُدِهم، وصلاح ذاتَ بينهم على الإسلام بعد الّذي كان بينهم من العداوةِ الطويلةِ في الجاهلية، فأمر فتى من يهود كان معه فقال له: إعْمِدْ إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يومَ بعاث(1) وما كان قبله وأنشدهم بعضَ ما كانوا تقاولوا وتبادلوا فيه من الأشعار!! إيقاعاً بين هاتين الطائفتين من الأنصار، وإثارة لنيران الأحقاد الدفينة، والعداوات الغابرة.

ففعل ذلك الغلامُ اليهوديُ ما أمره به «شاس» فتكلّمَ القومُ عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا، حتى تواثبَ رجلان من القبيلتين على الرُّكَب وأخذ كلّ منهما يهدّدُ الآخر، وتفاقم النزاعُ، وغضب الفريقان وتصايحا، وقاما إلى السلاح وكاد أن يقع قتالٌ ودمٌ بعد أن ارتفعت النداءات القبلية بالاستغاثة والاستنجاد على عادة الجاهلية، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعرف بمكيدة اليهود، ومؤامرتهم الخبيثة هذه، فخرج إلى تلك الجماعة المتصايحة من الأوس والخزرج في جمع من

ص:38


1- . قد مرّ ذكر هذه الوقعة في الجزء الأوّل وقلنا: هو يوم اقتتلت فيه الأوسُ والخزرج وكان الظفريومئذ للأوس على الخزرج.

أصحابه المهاجرين فقال:

«يا معشر المسلمين، اللّهَ اللّهَ أَبِدَعوى الجاهليةِ وأنا بينَ أظهُرِكُم بَعدَ أن هَداكُم اللّه للإسلام، وأكرَمَكُم به، وقطع به عنكم أمرَ الجاهِليّة، واستنقذكُم به من الكُفر، وألَّف به بينَ قُلُوبِكُم».

فعرف القومُ أنّها مؤامرة مبيَّتة من اليهود أعداءِ الإسلام والمسلمين، وكيدٌ خبيثٌ منهم، فندموا على ما حدث، وبكَوا وعانَق الرجال من الأوس والخزرج بعضهُم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سامعين مطيعين، قد أطفأ اللّهُ عنهم كيدَ أعدائهم(1).

إلّا أنّ مؤامرات اليهود لم تتوقّف عند هذا الحدّ، ولم تنته بهذا، فقد اتّسعت دائرة خيانتهم وجنايتهم، ونقضهم للعهد وأقاموا علاقات سرية وخاصة مع مشركي الأوس والخزرج، ومع المنافقين والمتردّدين في إسلامهم واعتقادهم، واشتركوا بصورةٍ صريحةٍ في اعتداءات قريش على المسلمين، وفي الحروب الّتي وقعت بين الطرفين، وكانوا يُقدّمون كلّ ما أمكنهم من الدعم والمساعدة للوثنيّين، ويعملون لصالحهم!!

وقد جَرّت هذه النشاطاتُ السرّية والعلنيةُ المضادَّةُ المعاديةُ للإسلام والمسلمين، وهذا التعاون المشؤوم مع مشركي قريش، جرّت إلى وقوع مصادمات وحروب دامية بين المسلمين والطوائف اليهودية أدت في المآل إلى القضاء على الوجود اليهودي في المدينة.

وسيأتي ذكر هذه الحوادث في وقائع السنة الثالثة والرابعة من الهجرة، وسيتضح هناك كيف أن الجماعة اليهودية ردت على الجميل الّذي تعكسه كلتا

ص:39


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/396-397.

المعاهدتين من أوّلهما إلى آخرهما، بنقض العهد، ومعاداة الإسلام والمسلمين، والتآمر ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة، وبنصرة أعدائه، ودعم خصومِه، الأمرُ الّذي أجبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على تجاهل تلك المعاهدات الودية والإنسانية ومن ثم محاربتهم، وإخراجهم من المدينة وما حولها والقضاء على ما تبقى مِن كياناتهم الشريرة. لقد أقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة من ربيع الأول من السنة الأُولى للهجرة إلى شهر صفر من السنة الثانية حتّى بنى المسجد والبيوت والمنازل المحيطة به، وقد أسلم في هذه الفترة من تبقّى من الأوس والخزرج، ولم تبق دارٌ من دور الانصار إلّاأسلم أهلُها، ما عدا بعض العوائل والفروع ممّن بقوا على شركهم، ولكنّهم أسلموا بعد معركة بدر(1).

ص:40


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 344/2.

حوادث السنة الثانية من الهجرة

28 مناوراتٌ عسكرية واستعراضاتٌ حربية

اشارة

الهدفُ من هذا الفصل هو شرحُ وبيان الأسرار الكامنة وراء سلسلة الاستعراضات الحربية، والمناورات العسكرية، الّتي قام وأمر بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد بدأت هذه المناورات منذ الشهر الثامن من الهجرة واستمرت حتّى شهر رمضان من السنة الثانية، وتعد في الحقيقة أوّل مناورات عسكرية، وعروض حربيّة قام بها المسلمون.

إنّ التفسير الصحيح لهذه الوقائع، وبيان رموزها وأسرارها إنّما يتيسَّر إذا طالعنا نصّ ما كُتِبَ حول هذه الوقائع في المصادر التاريخية من دون زيادة أو نقصان ثم نعرض على القارئ الكريم رأي المحقّقين من المؤرّخين فيها.

وإليك فيما يأتي خلاصة هذه الحوادث:

ص:41

1. لم يكن يمضي على إقامة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة أكثر من ثمانية أشهر عندما عقد النبيّ أوّل لواءٍ لقائدٍ عسكريّ شجاع هو «حمزة بن عبدالمطلب» وقد أمّره على ثلاثين رجلاً من المهاجرين بعثهم إلى سواحل البحر الأحمر حيث الطرق التجارية الّتي تمر فيها قافلة قريش التجارية، فالتقوا قافلة قريش في «العيص» فيها أبوجهل في ثلاثمائة رجل من أهل مكّة، فاصطفّوا للقتال، ولكنّهما تفرّقا ولم يقع قتال لوساطة قام بها «مجديّ بن عمرو» الّذي كان حليفاً للفريقين، فانصرف حمزة راجعاً إلى المدينة، وتوجّه أبوجهل في عيره وأصحابه إلى مكة(1).

تهديد خطوط قريش التجارية

إنقضت السنة الأُولى من الهجرة بكلّ حوادثها الحلوة والمرّة، والمسرّة والمحزنة، ودخل النبيّ وأصحابهُ العامَ الثاني من الهجرة.

والسنة الثانية من الهجرة تتضمّن حوادث عظيمة وباهرة، ومن أبرزها حادثتان تحظيان بمزيد من الأهمية: إحداهما: تغيير القبلة، والأُخرى وقعة بدر الكبرى. ولكي تتّضح أسباب وعلل معركة بدر نذكر سلسلةً من الوقائع الّتي وقعت قبلها، إذ بتحليلها ودراستها تتّضح أسباب معركة بدر.

لقد كان من بين الحوادث الّتي وقعت في أواخر السنة الأُولى وبدايات السنة الثانية من الهجرة: بعث «الدوريات العسكرية» إلى خطوط قريش

ص:42


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 431/2؛ بحار الأنوار: 186/19؛ إمتاع الأسماع: 71/1؛ الكامل في التاريخ: 77/2 و 78؛ المغازي للواقدي: 9/1-19.

التجارية(1) والآن يجب أن نرى ما هو هدف الحكومة الإسلامية من هذه التحرّكات العسكرية؟

هناك مصطلحان رائجان في كتابات المؤرّخين وكُتّاب السيرة أكثر من أي مصطلح آخر، وهما لفظة: «الغزوة» و «السريّة»(2).

والمقصود من «الغزوة» تلك العمليات العسكرية الّتي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يشارك فيها بنفسه، ويتولّى قيادتها بشخصه.

على حين يكون المقصود من «السريّة» إرسال مجموعات عسكرية وفرق وكتائب نظاميّة لا يشترك فيها رسول اللّه بنفسه بل يؤمِّرُ عليها أحدَ قادته العسكريّين ويوجّهها إلى الوجهة الّتي يريدُها.

وقد أُحصيت غزواتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فكانت (27) أو (26) غزوة.

ويعود الاختلاف في العدد إلى أنّ بعض المؤرّخين يعتبر غزوة «خيبر» و غزوة «وادي القرى» اللّتين حدثتا تباعاً ومن دون فاصلة، غزوتين والبعض الآخر عدَّهما غزوةً واحدةً (3).

وقد وقع نظير هذا الخلاف في تعداد سرايا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً فأحصى

ص:43


1- . لقد بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دوريات عسكرية عديدة إلى ضواحي المدينة وأطرافها لتهديدقوافل قريش التجارية. وقد كان ينبغي - طبقاً للترتيب الموضوعي والتسلسل التاريخي - أن نذكر بعض السرايا مثل سرية حمزة وسرية عبيدة بن الحارث في فصل وقائع السنة الأُولى للهجرة، بيد أنّه لوجود مناسبة بينها وبين حوادث السنة الثانية ذكرناها في أحداث السنة الثانية. هذا مضافاً إلى أنّ ابن هشام - تبعاً لابن إسحاق - يرى وقوع هذه الحوادث في السنة الثانية من الهجرة وإن كان الواقدي يعتبر بعضها من حوادث السنة الأُولى.
2- . راجع المحبَّر: 110-116.
3- . مروج الذهب: 287/2 و 288.

المؤرّخون (35)، (36)، (48)، و حتّى (66) سرية.

ويعود هذا الاختلاف إلى أن بعض السرايا لم يُحسب لها حساب لقلّة أفرادها، ولهذا حدث هذا الاختلاف في العدد.

من هنا كلّما ذكرنا لفظَ السريّة قصدنا منه مالم يشارك فيه النبيّ، وكلّما ذكرنا لفظَ الغزوة قصدنا منه ما شارك فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه.

وقد أحجمنا عن ذكر السرايا إلّاسرايا السنوات الأُولى من الهجرة؛ لأنّ في بيان هذه الطائفة من السرايا أثراً مهماً في تفسير بعض الغزوات مثل غزوة «بدر».

وإليك بيان هذه السرايا والغزوات وشرح تفاصيلها.

2. في نفس الوقت الّذي بعث فيه رسولُ اللّه سريّة حمزة، عقد لواءً آخر لعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب، وبعثه في ستين راكباً من المهاجرين بهدف التعرّض لقافلة قريش التجارية، فسار حتّى بلغ ماءً بالحجاز بأسفل «ثنية المُرة»(1). فلقي بها جمعاً عظيماً من قريش يبلغ مائتين بقيادة أبي سفيان، ولكن لم يكن بينهم قتال إلّاأنّ «سعد بن أبي وقاص» رُميَ يومئذٍ بسهم، كما أنّه التحق رجلان مسلمان كانا في صفوف أبي سفيان بالمسلمين وقد خرجا مع الكفّار وجعلا ذلك وسيلة للوصول إلى المسلمين والالتحاق بهم(2).

3. بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شهر ذي القعدة في السنة الأُولى من الهجرة سريّة أُخرى بقيادة «سعد بن أبي وقاص» على رأس ثمانية

ص:44


1- . لاحظ: المحبّر: 116.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 2/428.

أشخاص آخرين من المهاجرين للتحقيق في تنقلات قريش ورصد تحرّكاتها خارج المدينة، فخرجوا حتّى بلغوا منطقة «الخرّار» ولكنّهم لم يجدوا أحداً فعادوا إلى المدينة(1).

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يلاحق قريشاً بنفسه

4. في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة استعمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على المدينة «سعد بن عبادة» وأناط إليه إدارة أُمورها الدينية وخرج بنفسه مع جماعة من المهاجرين والأنصار، لملاحقة ركب قريش التجاري واعتراضه، وعقد معاهدةَ موادعة مع «بني ضمرة» حتّى بلغ الأبواء، ولكنّه لم يلق أحداً من قريش، فرجع صلى الله عليه و آله و سلم هو ومن معه إلى المدينة(2).

5. وفي شهر ربيع الأوّل من السنة الثانية للهجرة استعمل صلى الله عليه و آله و سلم مرة أُخرى على المدينة: «السائب بن عثمان» أو «سعد بن معاذ» وخرج هو على رأس مائتين من الرجال يريد قريشاً حتّى بلغ بَواط (وهو جبلٌ من جبال بقرب ينبع على بُعد 90 كيلومتراً من المدينة تقريباً) ولكنّه لم يظفر بقافلة قريش الّتي كان يقودُها «أُميّة بن خلف» وعلى رأس مائة رجل من قريش، فرجع إلى المدينة.

6. وفي منتصف شهر جمادى الأُولى من السنة الثانية للهجرة جاءَ الخبر أنّ قافلة قريش التجارية تخرج من مكّة بقيادة أبي سفيان تريد الشام للتجارة، وقد جمعت قريش كلّ أموالها في تلك القافلة، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جمع من أصحابه لاعتراضها حتّى بلغ «ذات العشيرة» وقد استعمل على المدينة هذه المرة

ص:45


1- . المحبّر: 116.
2- . تاريخ الخميس: 363/1 نقلاً عن ابن اسحاق.

«أبا سلمة بن عبد الأسد»، وبقي صلى الله عليه و آله و سلم في ذات العشيرة إلى أوائل شهر جمادى الآخرة ينتظر قافلة قريش، ولكنّه لم يظفر بها، ثم وادَعَ فيها بني مدلج وعقد معاهدةَ عدم اعتداء ذكرتها المصادر التاريخية بالنص(1).

وفي هذه الغزوة (والمكان) نزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجماعته في بواط عند عين فنام علي وعمّار فوجدهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نائمين في رقعاء من التراب فأيقظهما، وحرّك عليّاً فقال: قم يا أبا تراب ألا أُخبرك بأشقى الناس: أُحيمر ثمود عاقر الناقة، والّذي يضربك على هذه [يعني قرنه] فيخضِّب هذه منها [يعني لحيته](2).

7. بعد أن رجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة بعد اليأس من قافلة قريش لم يقم بالمدينة إلّاليالي قلائل لا تبلغ العشر حتّى هاجم «كرز بن جابر الفهري» على إبل أهل المدينة ومواشيهم الّتي كانت قد سرحت للرعي بالغداة.

فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في طلبه وقد استعمل على المدينة «زيد بن حارثة» حتّى بلغ وادياً من ناحية بدر وفاته كرز بن جابر فلم يدركه ثم رجع صلى الله عليه و آله و سلم ومن معه إلى المدينة فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجباً وشعبان(3).

8. وفي شهر رجب من السنة الثانية للهجرة بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «عبداللّه بن جحش» على رأس ثمانية رهط من المهاجرين لملاحقة قافلة قريش التجارية، وقد كتب له كتاباً بالمهمة الّتي يجب ان ينفّذها، وأمره أن لا ينظر

ص:46


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 433/2؛ تاريخ الخميس: 363/1.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 123/2.
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 2/435؛ الطبقات الكبرى: 9/2. وقد عدّ بعض المؤرّخين هذه الحادثة ضمن الغزوة الّتي عُرفت في التاريخ باسم غزوة صفوان أو غزوة بدر الأُولى.

فيه(1) قائلاً له:

«قد استَعمَلتُكَ على هؤلاء النَفَر فامضِ حتّى إذا سرتَ ليلتين فانشُر (أي افتح) كتابي ثم امض (أي نفّذ) لما فيه».

ثم عيّن له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الوجهة الّتي يجب أن يتوجّه إليها.

فانطلق عبدُاللّه ورفقاؤه وساروا يومين كاملين كما أمرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم فتح عبداللّه كتاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقرأ ما فيه، فاذا فيه:

«إذا نَظَرتَ في كتأبي هذا فامض حتّى تنزلَ نَخلَة بينَ مكّة والطائِفَ على اسم اللّه وبركته فترصَّد بها قريشاً، وتعلّم (أي حصّل) لنا من أخبارهم ولاتُكرهنّ أحداً من أصحابكَ وامضِ لأمري فيمن تبعك».

فلمّا قرأ الكتاب قال لأصحابه: قد أمرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن أمضيَ إلى نخلة أرصد بها قافلة قريش حتّى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن استكره أحَداً منكم، فمَن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فَلينطلق، ومَن كره ذلك فليرجع، فأمّا أنا فماضٍ لأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومن أرادَ الرجعة فمن الآن.

فقال أصحابه أجمعون: نحن سامعون مطيعون للّه ولِرسوله ولكَ فسِر على بَرَكة اللّه حيث شئتَ؛ فسارَ هو ومَن معه لم يتخلَّف منهم أحدٌ حتّى جاء نخلة فوجد قافلةً لقريش يرأسها «عمرو بن الحضرمي» وهي عائدة من الطائف إلى مكّة، فنزل المسلمون بالقرب منهم، ولكي لا يكتشفهم العدوّ، ولا يعرف بأمرهم

ص:47


1- . يقال إنّه كان الجنود - إلى حين الحرب العالمية الثانية - إذ انتهوا من خدمتهم العسكرية تُسَلَّم إليهم مع وثيقة الانتهاء من الخدمة العسكرية رسالة مغلقة مختومة يؤمر الجندي فيها بالمحافظة عليها كأمانة عسكرية لا يجوز له فتحها إلّاعند حالات النفير العام، والعمل بمضمونها وقد سبق النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى هذا التكتيك العسكريّ في أعماله النظامية.

ومهمّتهم حلقوا رؤوسهم ليتصوّر العدو أنّهم عمّار يعتزمون الذهاب إلى مكّة للعمرة، فلمّا رآهم رجالُ قريش على هذه الحال اطمأنّوا وأمنوا جانبهم وقالوا:

عُمّارٌ لا بأس عليكم منهم.

ثم تشاور المسلمون فيما بينهم في جلسة عسكرية للنظر فيما يجب عمله فتبيّن لهم: أنّهم إذا تركوا القوم (أي قريشاً) في تلك الليلة (وكانت آخر ليلة من شهر رجب) لدخلوا الحَرَم، ولم يمكن قتالهم فيه، وان خرج الشهر الحرام.

فأجمعوا على قتل مَن قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، من هنا باغتوا تلك القافلة، ورمى «واقدُ بن عبداللّه» قائدها «عمرو بن الحضرمي» بسهم فقتله، وفرَّ رجالُه إلّانفرين هما: «عثمان بن عبداللّه» و «الحكم بن كيسان» حيث أسرهما المسلمون، وعاد عبداللّه بن جحش وأصحابه بالقافلة مع ما فيها من أموال قريش والأسيرين إلى المدينة.

ولمّا قدموا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة وأخبروه بأنّهم قاتلوا القومَ في الشهر الحرام (رجب) انزعج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من تصرّف قائد المجموعة وعدم استفساره لما يجب أن يفعله بشدَّة وقال:

«ما أمرتُكُم بِقتال في الشهرِ الحرام».

وقد استخدَمت قريش هذه القضية كسلاحٍ دعائيٍّ ضدَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واشاعت بأنَّ «محمَّداً» وأصحابه قد استحلّوا الشهرَ الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا الاموال، كما أنّه تشاءم اليهود بهذه القضية وأرادوا أن يثيروا فتنةً، وعاب المسلمون على «عبداللّه بن جحش وأصحابه» فعلتهم هذه، هذا من جانب ومن جانب آخر وقَف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الأموالَ والأسيرين وأبى أن يأخذ من كلّ ذلك شيئاً وبقي ينتظر الوحي، وفجأة نزلَ جبرئيل بهذه الآية:

ص:48

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» .(1)

أي إِن كُنتم قَتلْتُم في الشهر الحرام، فقد صَدّوكم عن سبيل اللّه مع الكفر به وصدّوكم عن المسجد الحرام، وإخراجُكم منه وأنتم أهله أكبر عند اللّهِ مِن قتل من قُتِلَ منهم «وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» أي ما كانوا يرتكبونه من فتنة المسلم في دينِه حتّى يردُّونَه إلى الكفر بعد إيمانه أكبر عند اللّه من القتل.

ولمّا نزل القرآنُ بهذا الأمر، وفرّج اللّه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف والحيرة قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأموالَ، والأسيرين وقسّمها بين المسلمين، وكانت أوّل غنيمة غنمها المسلمون.

وبعثت قريشٌ إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في فداء أصحابهم فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

«لَن نفديهما حتّى يَقدمَ صاحبانا».

يعني رجلين من المسلمين كانا قد أُسِرا من قِبَل قريش، قد اشتركا في هذه العمليّة ولكنّهما أضلّا طريقهما في الصحراء فأسرتهما رجال من قريش.

وهكذا أبى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يطلق سراح أسيرَي قريش لقاء فدية إلّاإذا أطلق المشركون أسيرَي المسلمين، قائلاً لموفدي قريش:

«إنّي أخافُ على صاحِبَيَّ فَإن قَتَلتُم صاحِبيَّ قَتلتُ صاحِبَيكُم».

فاضطرت قريشٌ إلى الإفراج عن المسلمَين الأسيرَين، ومع وُصولهما إلى المدينة أفرجَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن أسيرَي قريش.

ومن حُسن الحَظ أنَّ أحد الأسيرَين أسلمَ ورَجَعَ الآخر إلى مكة(2).

ص:49


1- . البقرة: 217.
2- . لاحظ: المغازي: 13/1-18، السيرة النبوية لابن هشام: 435/2-438.

ما هو الهدف من المناورات العسكرية؟

لقد كان الهدفُ الأساسي من بعث وتوجيه السرايا، وعقد الاتّفاقيات والمعاهدات العسكرية مع القبائل القاطنة على خطوط التجارة المكّيّة هو إيقاف قريش على قوة المسلمين العسكرية، واشتداد ساعِدِهم، وخاصّة عندما كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يشترك بنفسه في العمليات، ويترصّد مع مجموعات كبيرة من أنصاره تحرّكات قريش الاقتصادية، ويعترض قوافلها التجارية.

لقد كان رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم يريد بذلك إفهام حكومة مكّة الوثنيّة بأنّ جميع طرق التجارة المكّيّة هي في متناول يده، وأنّه يستطيع - متى شاء - أن يُشلّ اقتصاد المكيّين بتعريض خطوطهم وطرقهم التجارية، للتهديد الجدّي.

ولقد كانت التجارة أمراً حَيَويّاً وحسّاساً جدّاً بالنسبة إلى أهل مكّة، وكانت البضائع الّتي تنقل منها إلى الطائف والشام تشكّل أساسَ الاقتصاد المكّي، فإذا كانت هذه الخطوط تتعرّض للتهديد من قِبَل العدوّ وحلفائه مثل «بني ضمرة» و «بني مدلج» فإن ذلك كان يعني انهدام وانهيار حياتهم. لقد كان الهدف من بعث تلك الدوريات العسكرية هو: أن تعرف قريش بأنّ طريق تجارتها الرئيسية هي الآن تحت رحمة المسلمين، فإذا استمرُّوا في معاداتهم للإسلام وللمسلمين وحالوا دون انتشار الإسلام والدعوة إليه واستمروا في إيذاء مَن تبقّى من المسلمين المستضعفين والعجزة في مكّة واضطهادهم، قطع المسلمون شريان اقتصادهم.

وخلاصة القول: إنّ الهدف كان هو أن تعيد قريشٌ النظر في مواقفها في ضوء الحالة الجديدة، والتهديد العسكريّ الإسلامي الجدّي، وتترك للمسلمين الحرية في الدّعوة إلى عقيدتهم، وتفتح الطريقَ لزيارة بيت اللّه الحرام، ونشر التوحيد

ص:50

ليستطيع الإسلام بمنطقه القويّ، والمحكم أن ينفذ في القلوب، ويتجلّى نورُ الإسلام ويشعَّ على جميع نقاط شبه الجزيرة العربية، وربوعها، وبخاصّة منطقة الحجاز مركز الجزيرة، وقلبها النابض.

فإنّ المتكلّم مهما كان قويَّ المنطق، سديد البرهان، وأنَّ المربّي والمرشد مهما كان مخلصاً مجداً فإنّه لا يستطيع أن يحرز أي نجاح في تنوير العقول، وتهذيب النفوس، وبثّ الفكر الصحيح إذا لم تتوفّر له حرية العمل، ولم تتهيّأ له البيئةُ المطمئِنّة وأجواءُ الحرّية والديمقراطية.

ولقد كان الاضطهادُ والكبتُ وسلبُ الحريات الّتي كانت تمارسها قريش هي الموانع الكبرى أمام تقدُّم الإسلام وسرعةِ انتشارِ نفوذه، وكان الطريق إلى كسر هذا السدّ، وإزالة هذا المانع ينحصر في تهديد اقتصادها وتعريض خطوطِها التجارية، للخطر، وكانت هذه الخطّة تتحقّق فقط عن طريق القيام بتلك المناورات العسكرية والاستعراضات الحربية، والعمليات الاعتراضية.

نظرية المستشرقين

ولقد وقع المستشرقون عند تحليلهم لهذه العمليّات في خطأ كبير، وتفوّهوا نتيجة ذلك بكلامٍ يخالف القرائن والشواهد الموجودة في التاريخ.

فهم يقولون: لقد كان هدف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من مصادرة أموال قريش، والسيطرة عليها هو تقوية نفسه.

في حين أنَّ هذا الرأي لا يلائم نفسيّة أهل يثرب؛ لأنَّ الغارَة، وقطع الطريق، واستلاب الأموال، من شيم الأعراب أهل البوادي، البعيدين عن روح الحضارة، وقيم المدنية وأخلاقها، بينما كان مسلمو يثرب عامّة، أهل زرع، وفلاحة، ولم يُعهَد

ص:51

منهم أن قطعوا الطرق على القوافل، أو سلبوا أموال القبائل الّتي كانت تعيش خارج حدودها.

وأمّا حروب الأوس والخزرج فقد كان لها أسبابٌ وعلل محلّيّة، وقد كان اليهودُ هم الذين يؤجّجون نيرانها، بغية إضعاف القوى والصفوف العربية وتقوية أنفسهم ومواقعهم.

ومن جانب آخر لم يكن المسلمون المهاجرون الذين كانوا حول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ينوون تلافي ما خسروه، رغم أنَّ ثرواتِهم وممتلكاتهم كانت قد صودِرت من قِبَل المكيّين، ويدلّ على ذلك أنّهم لم يتعرّضوا بعد معركة «بدر» لأيّة قافلة تجارية لقريش.

كيف لا وقد كان الهدف وراء أكثر هذه الإستطلاعات العسكرية هو تحصيل وجمع المعلومات، عن العدوّ وتحرّكاته وخططه، والمجموعات الّتي لم يكن يتجاوز عدد أفرادها غالباً الثمانية أو الستين أو الثمانين رجلاً لا يمكنها قطع الطريق، واستلاب الأموال، ومصادرة القوافل التجارية الكبرى الّتي كان يقوم بحراستها رجال أكثر عدداً وأقوى عُدّة من تلك السرايا، بأضعاف المرّات غالباً. فإذا كان الهدف هو الحصول على المال والثروة من هذا الطريق فلماذا خُصَّت قريش بذلك، ولم يعترض المسلمون تجارة غيرهم من القبائل المشركة؟

ولماذا لم يمسّ المسلمون شيئاً من أموال غير قريش؟

وإذا كان الهدف هو الغارة، وقطع الطريق واستلاب الأموال، فلماذا كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يبعث المهاجرين فقط، ولا يستعين بأحد من الأنصار في هذا المجال غالباً؟

وربما قال هؤلاء المستشرقون: إنّ المقصود من هذه العمليات الاعتراضية

ص:52

كان هو الانتقام من قريش، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه تعرّضوا على أيدي المكيّين لألوان التعذيب والاضطهاد والأذى، فدفعتهم غريزة الانتقام والثأر - بعد أن حصلوا على القوة - إلى تجريد سيوفهم، للانتقام من الذين طالما اضطهدوهم، وليسفكوا منهم دماً!!

ولكن هذا الرأي لا يقل في الضعف والوَهن والسخافة عن سابقه، لأنّ الشواهد والقرائن التاريخية الحيّة العديدة، تكذّبه وتفنّده، وتوضّح - بجلاء - أنّ الهدف من بعث تلك السرايا والدوريات العسكرية لم يكن أبداً القتال والحرب، والانتقام وسفك الدماء.

وإليك مايدلُّ على بطلان هذه النظرية:

أوّلاً: إذا كان هدف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من بعث تلك المجموعات العسكرية هو القتال واستلاب الأموال وأخذ المغانم، وجب أن يزيد في عدد أفراد تلك المجموعات، ويبعث كتائب عسكرية مسلَّحة، ومجهزة تجهيزاً قوياً، إلى سيف البحر، وشواطئه، في حين نجد أنّه صلى الله عليه و آله و سلم بعث مع «حمزة بن عبد المطلب» ثلاثين شخصاً، ومع «عُبيدة بن الحارث» ستين شخصاً، ومع «سعد بن أبي وقاص» أفراداً معدودين لا يتجاوزون العشرة، بينما كانت قريش قد أناطت حراسة قوافلها إلى أعداد كبيرة جداً من الفرسان، تفوق عدد أفراد المجموعات العسكرية الإسلامية.

فقد واجه «حمزة» ثلاثمائة، و «عبيدة» مائتي رجل من قريش، وقد ضاعفت قريش من عدد المحافظين والحرس على قوافلها خاصّة بعد أن عرفت بالمعاهدات والتحالفات الّتي عقدها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع القبائل القاطنة على الشريط التجاريّ؟!

ص:53

هذا مضافاً إلى أنّه لو كان قادة هذه البعوث والدوريات مكلَّفين بمقاتلة العدوّ فلماذا لم يسفك من أحد قطرة دم في أكثر تلك العمليات؟! ولماذا انصرف بعضهم لوساطةٍ قامَ بها «مجدي بن عمرو» بين الطرفين؟!

ثانياً: أنّ كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي كتبه لعبداللّه بن جحش شاهدٌ حيٌّ على أنّ الهدف لم يكن هو القتال، والحرب.

فقد جاء في ذلك الكتاب: «إنزِل نَخلَة بين مكّة والطائف فترصَّد بها قريشاً وتعلم (أي حصّل) لنا من أخبارهم».

إنّ هذه الرسالة توضّح بجلاء أنَّ مهمة عبداللّه وجماعته لم تكن القتال قط، بل كانت جمع المعلومات حول العدوّ وتنقّلاته وتحرّكاته، أي مهمة استطلاعية حسب.

وأمّا سبب الصدِام في «نخلة» ومصرع عمرو الحضرمي فقد كان هذا القرار من الشورى العسكرية الّتي عقدتها نفس المجموعة، وليس بقرار وأمر من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ومن هنا انزعج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمجرّد سماعه بنبأ هذا الصِدام الدموي ولامهم على فعلتهم وقال: «ما أمَرتُكُم بِقتال».

ويؤيّد هذا ما ورد في مغازي الواقدي عن سليمان بن سحيم أنّه قال: ما أمرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالقتال في الشهر الحرام، ولا غير الشهر الحرام، إنّما أمرهم أن يتحسّسوا أخبار قريش(1).

والعلّة في أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يختار لهذه الدوريات والاستطلاعات رجالاً

ص:54


1- . المغازي: 16/1.

من المهاجرين دون الأنصار هي أنّ الأنصار قد بايعوا في العقبة على الدفاع، أي أنّ معاهدتهم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت معاهدة دفاعية تعهّدوا بموجبها بأن يمنعوه من أعدائه ويدافعوا عنه إِذا قصدَهُ عدوٌّ.

من هنا ما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يريد أن يفرضَ عليهم مثل هذه المهمات، ويبقى هو في المدينة، ولكنّه عند ما خرج - فيما بعد - بنفسه أخذ معه جماعةً من رجال الأنصار تقوية لروابط الأُخوّة والوحدة بين المهاجرين والأنصار، ولهذا كان رجاله في غزوة «بواط» أو «ذات العشيرة» يتكوّنون من الأنصار والمهاجرين.

وعلى هذا الأساس يتّضح بطلان نظرية المستشرقين حول الهدف من بعث الدوريات العسكرية.

كما أنَّ بالتأمّل والإمعان في ما قلناه يتّضح أيضاً بطلان ما قالوه في هذا المجال في تلك العمليات الّتي شارك فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه، إذ أنّ الذين خرجوا معه ما كانوا ينحصرون في المهاجرين خاصّة، بل كانوا خليطاً من المهاجرين والأنصار، والحال أنّ الأنصار لم يبايعوا النبيّ على القيام بأيّة عملية هجوميّة ابتدائية، بل كلّ ما بايعوا عليه النبيّ كما قلنا هو: العمل الدفاعي، فكيف يصح أن يدعوهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى عمليات قتالية ابتدائية هجوميّة؟!

وتشهد بما نقول حادثةُ وقعة بدر الّتي سنشرحها في ما بعد، فما لم يعلن الأنصار عن موافقتهم على قتال قريش لم يقرّر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الحرب، في تلك الواقعة.

هذا والسبب في تسمية أصحاب السير والتواريخ هذا النوع من العمليات الّتي خرج فيها النبيّ بنفسه (غزوة) وإن لم يقع فيها قتالٌ وغزوٌ، هو أنّهم أرادوا أن يجمعوا كلّ الحوادث تحت عنوانٍ واحدٍ، وإلّا فلم يكن الهدف الأساسي من هذه العمليات هو الحربُ والقتال، أو السيطرة على الأموال وسلبها.

ص:55

29 تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

اشارة

لم يكن قد مضى على هجرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة عدة أشهر إلّاوبدأت نغمة معارضة اليهود للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تظهر شيئاً فشيئاً!!

وفي الشهر السابع عشر من الهجرة بالضبط(1) أمر اللّه تعالى نبيَّه صلى الله عليه و آله و سلم بالأمر المؤكَّد القاطع بأن يتحول إلى الكعبة ويتّخذها من الآن فصاعداً قبلةً له وللمسلمين كافّة، فيتوجّهون إلى المسجد الحرام في أوقات الصلوات.

هذا هو مجمل القصّة، وإليك بيانها على وجه التفصيل.

صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثلاثةَ عَشَر عاماً كاملة في مكّة نحو بيت المقدس.

وبعد الهجرة إلى المدينة كان الأمر الإلهيّ له هو أن يبقى على الحالة من حيث القبلة، أي أن يصلّي إلى بيت المقدس، كما كان يفعل في مكّة.

وقد كان هذا الإجراء نوعاً من المحاولة لإقامة التعاون والتقارب بين الدينين القديم والجديد، ولكن تنامي قوة المسلمين واشتداد ساعدهم أحدث رعباً كبيراً،

ص:56


1- . الطبقات الكبرى: 1/241 و 242؛ إعلام الورى بأعلام الهدى: 71 و 72. ويقول ابن هشام في السيرة النبوية لابن هشام: 391/2: ولمّا صرف القبلة عن الشام إلى الكعبة وصرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة... ويرى ابن الأثير أنّ ذلك حدث في منتصف شهر شعبان (الكامل في التاريخ: 2/80).

وأوجد قلقاً واسعاً في أوساط اليهود القاطنين في المدينة؛ لأنّ تقدّم الإسلام والمسلمين المطرّد كان يدلّ على أنّ الدين الإسلامي سيعمّ في أقرب وقت كلّ أنحاء شبه الجزيرة العربية، وستتقلّص (بل تزول) في المقابل قوة اليهود وسلطانهم، ومكانتهم، من هنا نصب أحبارُ اليهود العداوة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وعمدوا إلى ممارسة سلسلةٍ من الأعمال الإجهاضية والإيذائية.

لقد أخذوا يؤذون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين بمختلف الطرق وبشتّى الوسائل والسبل، والمعاذير والحجج ومن جملتها التذرّع بقضيّة صلاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين إلى بيت المقدس.

فكانوا يقولون معيّرين إيّاه: أنتَ تابعٌ لنا تصلّي إلى قبلتنا!!

أو كانوا يقولون: يخالفنا محمَّد في ديننا ويتّبع قبلتنا(1).

فشقّ هذا الكلام على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واغتمّ لذلك غمّاً شديداً فكان يخرج من بيته في منتصف الليل ويتطلّع في آفاق السماء ينتظر من اللّه أمراً ووحياً في هذا المجال كما يفيد قوله تعالى: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» .(2)

ويُستفاد من الآيات القرآنية في هذا المجال إنّه كان لتغيير القبلة مضافاً إلى الردّ على دعوى اليهود سببٌ آخر أيضاً، وهو: إنّ هذه المسألة كانت من المسائل الاختبارية الّتي أراد اللّه تعالى بها أن يمتحن المسلمين، ويميّز المؤمن الواقعي الحقيقي عن أدعياء الإيمان، المنتحلين له كذباً ونفاقاً، وأن يعرف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم به من حوله معرفةً جيدةً؛ لأنّ اتّباع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في الأمر الثاني الّذي نزل على رسول

ص:57


1- . مجمع البيان: 1/255 أو: ما درى محمَّد وأصحابه أين قبلتهم حتّى هديناهم.
2- . البقرة: 144.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أثناء الصلاة (وهو التوجه إلى المسجد الحرام) كان علامة قوية من علامات الإيمان والتسليم، والإخلاص والوفاء للدين الجديد.

بينما كانت مخالفته علامةً قويةً من علامات النفاق والتردّد كما يصرّح القرآن الكريم بنفسه بذلك إذ يقول:

«وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ» (1).

ومن المسلَّم أنّه يمكن الوقوف على حِكَم أُخرى لهذا الأمر (أي صرف القبلة من الشام إلى الكعبة) إذا تتبّعنا تاريخ الإسلام بشكل أوسع، وطالعنا أوضاع شبه الجزيرة العربية.

ويمكن الإشارة إلى بعض هذه الحِكَم مضافاً إلى ما ذكرناه:

أوّلاً: أنّ الكعبة الّتي رفعت قواعدها على يَدَي بطل التوحيد وناشر لوائه النبيّ العظيم «إبراهيم الخليل» عليه السلام كانت موضع احترام وتقديس من المجتمع العربي، فقد كان العرب يحبّون الكعبة ويعظمونها غاية التعظيم على ماهم عليه من الشرك والفساد، فكان اتّخاذها قبلة من شأنه كسب رضا العرب، واستمالة قلوبهم، وترغيبهم في الإسلام تمهيداً لاعتناق دين التوحيد ونبذ الأوثان والأصنام.

وأيّ هدفٍ، وأيّة غاية ترى أسمى وأجلُّ من أن يؤمن المشركون المعاندون المتخلّفون عن ركب الحضارة والمدنية، وينتشر الإسلام بسببهم في كلّ أنحاء العالم.

ص:58


1- . البقرة: 143. ويمكن بيان هذه العلّة بصورة أُخرى وهي إنّما أُمروا بالصلاة إلى بيت المقدس لأنّ مكّة وبيت اللّه الحرام كانت العرب آلفة بحجّها، فأراد اللّه أن يمتحنهم بغير ما ألفوه ليظهر مَن يتبع الرسول ممّن لا يتبعه. (راجع: مجمع البيان: 222/1 و 223).

ثانياً: أنّ الابتعاد عن اليهود - الذين لم يكن يؤمَل في إذعانهم للإسلام، وإيمانهم برسالة (محمّد) - كان يبدو أمراً ضرورياً، لأنّهم كانوا يقومون بأعمال إيذائية ضد الإسلام والمسلمين ويطلعون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين الفينة والأُخرى بأسئلة عويصة يشغلونه بها، يظهرون بها - حسب تصوّرهم - أنّهم يعرفون أُموراً كثيرة وأنّهم علماء، وبذلك يضيّعون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الوقتَ، ويشغلونه عن مهامّه الكبرى.

فكان تغيير القبلة واحداً من مظاهر الابتعاد عن اليهود واجتنابهم، تماماً مثل نسخ صوم يوم عاشوراء الّذي تمّ لنفس هذا الغرض.

فقد كانت اليهود تصوم يوم عاشوراء قبل الإسلام فأمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين بأن يصوموا هذا اليوم أيضاً، ثم نسخ الأمر بصوم عاشوراء وفرض مكانه صوم شهر رمضان(1).

وعلى كلّ حال فإنّ الإسلام الّذي يتفوّق على جميع الأديان، يجب أن تتجلّى فيه هذه الحقيقة بحيث يغدو أمرُ تكامله وتفوّقه بادياً للعيان، واضحاً للجميع.

وفي هذه الحالة تصوَّر بعض المسلمين أنّ ما أتوا به من صلاة وعبادة وهم متّجهين إلى بيت المقدس كان باطلاً إذ قالوا: كيف بأعمالنا الّتي كنّا نعمل في قبلتنا الأُولى، أو حال مَن مضى من أمواتنا وهم كانوا يصلّون إلى بيت المقدس؟!

فنزل الوحيُ الإلهيُ يقول:

«وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» (2).

ومع ملاحظة هذه الاعتبارات وبينما كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد انتهى من الركعة

ص:59


1- . مجمع البيان: 273/1.
2- . البقرة: 143. والمراد من الإيمان هنا هو العمل وهو من الموارد الّتي استعمل فيها لفظ الإيمان وأُريد به العمل.

الثانية من صلاة الظهر، نزل عليه جبرئيل، وأمره بأن يتوجّه بالمصلِّينِ معه صوب المسجد الحرام.

وجاء في بعض الأخبار أنَّ جبرئيل أخذ بيد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأداره نحو المسجد الحرام، فتبعه الرجال والنساء الذين كانوا يأتمّون به في المسجد(1).

فتحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس، وآخرها إلى الكعبة.

ومنذ ذلك الحين جعلت الكعبة المعظمة - زاد اللّه من شرفها - قبلة مستقلّة للمسلمين يتوجّهون إليها في كثير من واجباتهم وشعائرهم الدينية(2).

هذا والغريب أنّ اليهود الذين كانوا قبل نزول الأمر بالتحوّل من بيت المقدس إلى الكعبة المعظّمة يفتخرون على المسلمين بأنّهم يصلّون على قبلة اليهود، لما حُوّل المسلمون إلى الكعبة المعظمة، وأُمروا بالصلاة إليها دون بيت المقدس أخذوا يعيبون على المسلمين التوجّه إلى نقطة مّا في الأرض فردّ اللّه عليهم بقوله:

«سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (3).

أي أنّ اللّه فوق الزمان والمكان، والتوجّه إلى نقطة خاصّة في حالة العبادة إنّما هو لمصالح اجتماعية خاصّة فالصلاة إلى الكعبة توجّه إلى اللّه كالصلاة إلى بيت المقدس سواء.

ص:60


1- . بحار الأنوار: 201/19 عن «من لا يحضره الفقيه».
2- . كالصلاة والذبح ودفن الموتى، والدعاء وغير ذلك.
3- . البقرة: 142.

كرامةٌ علمية لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

وما ينبغي الإشارة إليه هنا هو: أنّ العرض الجغرافي للمدينة - طبقاً لمحاسبات علماء الفلك القدامى - هو 25 درجة، وطولها 75 درجة و 20 دقيقة، ولهذا كانت قبلة المدينة لا توافق محراب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الباقي على حالته السابقة إلى الآن في مسجده الشريف، وقد سبّب هذا الاختلاف حيرةً لدى بعض المتخصّصين في هذا العلم، وربما دفعهم إلى ارتكاب توجيهات وتبريرات لرفع هذا الاختلاف.

ولكن القائد المعروف بسردار الكابلي أثبت في الآونة الأخيرة - طبقاً للمقاييس المعروفة اليوم - أن خط المدينة الجغرافي على عرض 24 درجة و 57 دقيقة وطول 39 درجة و 59 دقيقة(1).

وتكون نتيجة هذه المحاسبة هي أن قبلة المدينة تكون في نقطة الجنوب تماماً وتنحرف عن نقطة الجنوب ب 45 دقيقة فقط.

وهذا الاستخراج الفلكي للقبلة ينطبق على محراب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أفضل تطبيق، ويُعَدُّ هذا من كرامات النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم حيث توجّه في حالة الصلاة(2) من بيت المقدس إلى الكعبة بصورة دقيقة ومن دون أي انحراف ولا جزئي مغتفر وذلك من دون أية محاسبةٍ فلكيّة، وعلميّة.

وقد أخذ جبرئيل بيده وحوّل وجهه نحو الكعبة المعظمة كما أسلفنا(3).

ص:61


1- . تحفة الأجلّة في معرفة القبلة: 71، طبعة 1359 ه.
2- . لاحظ: من لا يحضره الفقيه للصدوق: 178/1.
3- . وقد نقل الحرّ العاملي في وسائل الشيعة: في أبواب القبلة: 215/3 و 216 حادثة تحوّل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في الصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، فراجع.

30 معركة بدر الكبرى

اشارة

معركة «بدر» من معارك الإسلام الكبرى ومن حروبه البارزة، وقد اكتسب الذين شاركوا في هذه المعركة منزلة خاصّة بين المسلمين فيما بعد.

فالواقعة الّتي كان يشارك فيها فردٌ أو عدةُ أفراد من المجاهدين في «بدر» أو اذا كانوا يشهدون على أمر قال المسلمون: ووافقنا عليه البدريون.

أجل إنّ الذين شاركوا في معركة بدر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يدعون بالبدريّين، ولم يكن هذا إلّالأهميّة تلكم الوقعة التاريخية.

وتتّضح علّة هذه الأهميّة إذا نحن استعرضنا تفاصيل هذه الوقعة.

لقد قلنا في ما سبق أنّه بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في منتصف جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة، أنّ قافلة قريش التجارية خرجت من مكّة إلى الشام بقيادة «أبي سفيان بن حرب».

فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لملاحقتها إلى «ذات العشيرة» وتوقّف هناك إلى مطلع الشهر التالي، ولم يعثر على تلك القافلة، وقد كان وقت عودة القافلة معلوماً تقريباً، فقد كانت قافلة قريش تعود من الشام إلى مكّة في أوائل الخريف.

ومن المعلوم أنّ أوّل خطوة على طريق الانتصار في مثل هذه المجالات هو تحصيل أكبر قدر من المعلومات حول العدوّ؛ لأنّ قائد الجيش مالم يعرف شيئاً عن

ص:62

استعدادات العدوّ، ونقطة تمركزه وتواجده، ومعنويات أفراده، فإنّه ربما ينهزم وينكسر في أوّل مواجهة.

ولقد كان من أساليب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الرائعة في جميع الحروب والمعارك الّتي ستقرأ تفاصيلها هو جمع المعلومات حول مدى استعداد العدوّ، ومبلغ تهيُّئِه و مكان تواجده، وتمركزه، وهذه مسألة تحظى وإلى اليوم بأهميّة خاصّة في الحروب العالمية والمحلّية، بل وترصد لها ميزانيّات كبرى، وتستخدم أجهزة عريضة في عالمنا الحاضر، كما هو معلوم للجميع، وكما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.

وقد بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عَيناً له على قافلة قريش اسمه «عدي» - حسب رواية المجلسي(1) - أو «طلحة بن عبيداللّه» و «سعيد بن زيد» حسب ما قال صاحب «حياة محمّد» نقلاً عن المصادر التاريخية(2)، لإخباره عن مسير تلك القافلة، وعدد حرّاسها ورجالها ونوعية البضائع المحمّلة.

فلمّا عاد العين أخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

1. بأنّ قافلة قريش قافلةٌ كبرى شارك فيها كلّ أهل مكّة، حتّى أنّه ما من قرشيّ أو قرشية بمكّة له مثقال فصاعداً إلّابعث به في تلك القافلة.

2. أنّ البضائع يحملُها ألفُ بعير وأنّ قيمتها تبلغ خمسين ألف دينار.

3. وأنّه يقودها «أبوسفيان بن حرب» في أربعين رجلاً.

وحيث إنّ أموال المسلمين المهاجرين إلى المدينة كانت قد صُودرت في مكّة على أيدي قريش، من هنا كان الوقت مناسباً جداً لأن يأخذَ المسلمون أموال

ص:63


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 217/19.
2- . المغازي: 19/1.

قريش في تلك القافلة، ويحتفظوا بها ريثما تفرج قريش عن أموال المسلمين المهاجرين المصادرة بمكّة، فإذا لجّوا وأصرّوا في مصادرة أموالِ المسلمين قسَّم المسلمون في المقابل أموال قريش المأخوذة فيما بينهم وتصرّفوا فيها كغنائم حرب، من هنا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهم:

«هذا عِيرُ قريش (أي قافلتهم) فيها أموالهم، فاخرجوا اليها لعَلّ اللّه ينفلْكُمُوها»(1).

من هنا استخلفَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة «عبداللّه بن أُمّ مكتوم» للصلاة بالناس، والقيام بالشؤون الدينية، و «أبا لبابة» للقيام بالشؤون السياسية. ثم خرج من المدينة في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً لمصادرة أموال قريش أو بالأحرى توقيفها وحبسها.

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يتوجّه إلى منطقة ذَفران

(2)

لقد ترك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة بعد أن أتاه الخبر عن تحرّك قافلة قريش، قاصداً وادي ذفران حيث طريق القافلة، في يوم الاثنين، الثامن من شهر رمضان، وقد عقد رايتين: سلّمْ إحداهما إلى مصعب بن عمير، والأُخرى (وتُسمّى العقاب)

ص:64


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 440/2؛ المغازي: 20/1.
2- . وادي ذفران الّذي كان تمرّ به قافلة قريش التجارية يقع على مرحلتين من بدر. وقد ذكر ابن هشام في سيرته جميع المراحل الّتي طواها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من المدينة إلى وادي ذفران ومنه إلى بدر الّذي ارتحل إليه رسول اللّه بعد أن بلغه نبأ تحرك قافلة قريش. وبدر كان موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم به سوقٌ كلّ عام يتبايعون فيه ويتفاخرون على غرار سوق عكاظ، وكان يقع على طريق مكّة والمدينة والشام. (راجع: السيرة النبوية لابن هشام: 2/446-447).

إلى علي بن أبي طالب عليه السلام.

ولقد كانت المجموعة الّتي خرج بها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تتألّف من اثنين وثمانين من المهاجرين، ومائة وسبعين من الخزرج، وواحد وستين من الأوس، وكان عندهم ثلاثة أفراس فقط.

ولقد بلغ حبُّ الشهادة عند المسلمين يومئذ مبلغاً عجيباً حتّى أنّ فتياناً دون الحلم اشتركوا في هذه المعركة، وردّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعضهم إلى المدينة لمّا استصغرهم(1).

إن كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يفيد بأنّه صلى الله عليه و آله و سلم قد وعدهم بالرخاء والانفراج في المعيشة وذلك عن طريق السيطرة على أموال قريش، وأخذِ بضائعها، وكان المسوّغ لهذا العمل هوما سبق أن ذكرناه، وهو أنّ قريشاً كانت قد صادرت كلّ أموال المهاجرين المسلمين في مكّة، منقولها وغير منقولها، ومنعت من دخولهم مكّة، وخروجهم منها.

ومن الواضح أن يسمح العاقل لنفسه - أيّاً كان - بأن يعامِلَ عدوه بمثل هذه المعاملة الّتي عامَلَهُ بها العدوُّ.

وأساساً يجب أن نعلم أنّ سبب هجوم المسلمين على قافلة قريش هو أنّهم

ص:65


1- . لاحظ: المغازي: 21/1. وروى أنّه كان الرجل يساهم أباه في الخروج مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رغبةً في الجهاد في سبيل اللّه والشهادة، فكان ممّن ساهم «سعد بن خيثمة» وأبوه في الخروج إلى بدر، فقال سعد لأبيه: إنّه لو كان غير الجنة آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا. فقال خيثمة: آثِرني، وقرّ مع نسائك! فأبى سعد. فقال خيثمة: إنه لابدَّ لأحدنا من أن يقيم، فاسْتَهما (أي اقترعا) فخرج سهم سعد فقتل ببدر (المغازي: 20/1).

قد ظُلِمُوا وقُهِروا، الأمرُ الّذي يذكره القرآن الكريم أيضاً، ولذلك يسمح للمسلمين بأن يقاتلوا عدوَّهم ويعترضوا تجارتهم إذ يقول:

«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» (1).

ولقد كان أبوسفيان قد عرف - عند توجّهه بالقافلة إلى الشام - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يترصّد القافلة، ولهذا اتّخذ كافّة الاحتياطات عند قفوله ورجوعه من الشام، فكان يسأل القوافلَ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكان إذا رأى أحداً منهم سأله: هل أحسستَ أحداً؟!

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد خرج مع أصحابه من المدينة، يلاحق قافلة قريش، وقد نزل في وادي ذفران.

ولمّا أحسّ أبوسفيان بذلك أحجم عن الاقتراب إلى منطقة بدر ولم يرَ بُدّاً من أن يخبر قريشاً بالخطر الّذي يحدق بتجارتهم، وأموالهم، ويطلب مساعدتهم، فاستأجر رجلاً يُدعى «ضمضم بن عمرو الغفاري» وأمرهُ بأن يجدع بعيره (يقطع أنفه) ويحوِّل رَحْله، ويشقَّ قميصَه من قُبُله وَ دُبُرِه ويصيح الغوث! الغوث، ويخبر قريشاً أنّ محمّداً تعرّض لتجارتهم!!

فخرج ضمضم سريعاً إلى مكّة، ولمّا قدِمها وقف ببطن الوادي يصيح بأعلى الصَوت: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة(2)، أموالكم مع أبي سفيان قد تعرّض لها محمّد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث(3).

فأثار هذا المنظرُ المثيرُ، واستغاثات ضمضم المتتابعة أهل مكّة، فتجهّزوا

ص:66


1- . الحج: 39.
2- . اللطيمة: الإبل الّتي تحمل الأقمشة والعطور، والنداء يعني: أدركوا اللطيمة أدركوها.
3- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 2/116؛ المغازي: 28/1؛ بحار الأنوار: 215/19-216.

سراعاً، وتهيّأوا للخروج، وأعدَّ كلّ صناديد قريش ورجالها المقاتلون أنفسهم للتحرّك نحو المدينة إلّاأبو لهب الّذي لم يشترك في هذا الخروج، وأرسل مكانه «العاصي بن هشام» لقاء أجرٍ قدرُه أربعةَ آلاف درهم.

وأراد «أُميّة بن خلف» هو الآخر أن يتخلّف لأسباب خاصّة، فقد قيل له: أنّ محمّداً يقول: لأقتلنّ أُميّة بن خلف.(1)

فرأى أشراف قريش وسادات مكّة أنّ تخلّف رجل مثله يضرّ بقريش ويوهن من عزيمة الجيش، فقرّروا إثارته وتحريكه فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل ومع عقبة مجمرة فيها بخور، ومع أبي جهل مكحلة ومرود فأدخلها عقبة تحته وقال: تبخّر فإنّما أنت امرأة! وقال أبو جهل: اكتحل فإنّما أنت امرأة!!

فغضب أُميّة، وهاجت به الحمية، فتجهّز من فوره، وخرج مع الناس.(2)

وخلاصة القول: إنّه أُرعبت قريش لمّا سمعت بتعرّض قافلتها وأموالها للخطر من قبل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه، فكانوا بين رجلين إمّا خارج أو باعث مكانه رجلاً، وما بقي أحدٌ من عظماء قريش إلّاأخرج مالاً لتجهيز الجيش، وأخرجوا معهم المغنّيات يضربن بالدفوف ويهيّجن الرجال للقتال.

المشكلة الّتي كانت تواجهها قريش

ولمّا أُعلن عن موعد الرحيل تذكرت قريش بأنّ بينهم وبين قبيلة «بني بكر» عداءً قديماً، فخافوا أن يوجّهوا إليهم ضربةً من الخلف، أو يحملوا على نسائهم وذراريهم في مكّة في غياب منهم، فكاد ذلك يثنيهم عن الخروج.

ص:67


1- . المغازي: 35/1.
2- . المغازي: 36/1. ولاحظ: البداية والنهاية: 315/3، شرح نهج البلاغة: 100/14.

وقد كان العداء بين قريش وبني بكر يعود إلى دمٍ سُفك بينهم في قصّة ذكرها ابن هشام وغيره من كتّاب السيرة(1).

ولكن سراقة بن جعشم المدلجي - وكان من أشراف بني كنانة وهم من بني بكر - طمأنهم ووعدهم بأن لا تأتيهم بنو بكر من خلفهم بشيء يكرهونه، ولمّا اطمأنّوا خرجوا صوب المدينة سراعاً.

وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابُه قد خرجوا من المدينة لاعتراض قافلةِ قريش التجارية، وهبطوا في وادي ذفران، وبقوا هناك ينتظرون مرورها، ولكنّه فجأة بلغه خبرٌ جديدٌ غيّر أفكار قادة الجيش الإسلامي، وفتح - في الحقيقة - فصلاً جديداً في حياتهم.

فقد أتاه الخبر عن مسير قريش باتّجاه المدينة لحماية قافلتها التجارية، وأنّ جيشها قد وَصَل إلى مشارف المنطقة الّتي تواجد فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه، وأنّ طوائف متعدّدة قد ساهمت وشاركت في تكوين هذا الجيش.

فوجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والقائد الأعلى للمسلمين نفسَه أمام خيارين:

إمّا أن يقاتل، ولكنّه لم يخرج هو أو أصحابه الذين مرّ ذكرهم إلّالمصادرة أموال قريش، فلم يكونوا متهيّئين لمقاتلة الجيش المكّي الكبير، لامن حيث العدد، ولا من حيث العُدّة. وإمّا أن يرجع إلى المدينة من حيث أتى، وهذا يعني أن ينهار كلّ ما كسبوه من الهيبة والمهابة، بفضل المناورات العسكرية، والعروض النظامية السابقة.

وبخاصّة إذا تقدّم العدوّ نحو المدينة في ظلّ هذا الانسحاب واجتاح مركز

ص:68


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 443/3-445؛ المغازي: 37/1-38.

الإسلام «المدينة المنورة».

فرأى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن لا ينسحب، بل يقاتل العدوّ بما عنده من العدّة القليلة والعدد القليل ويقاوم حتّى اللحظة الأخيرة والنفس الأخير.

والجدير بالذكر أنّ أكثر الذين كانوا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانوا من شبّان الأنصار وكان عدد المهاجرين لا يتجاوز 82 شخصاً.

وكانت بيعة العقبة الّتي بايع فيها الأنصار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيعةً على الدفاع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحمايته لا القتال والحرب.

أي أنّهم بايعوه صلى الله عليه و آله و سلم على أن يمنعونه في المدينة فلا يصل إليه أحد من أعدائه وهو بينهم.

أَمّا أن يخرجوا معه إلى خارج المدينة لقتال العدوّ فلم يبايعوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على مثل ذلك، فماذا يفعل القائدُ الأعلى للمسلمين؟

إنه لم يرَ مناصاً من استشارة الناس الذين معه، ومعرفة رأيهم في ما يجب اتّخاذه من طريقةِ حلٍّ لهذه المشكلة.

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعقد شورى عسكرية

وهنا وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك الجماعة وقال: أشيروا عليَّ أيّها الناس.

فقام أبو بكر وقال: يا رسول اللّه إنّها قريش، وخيلاؤُها ما آمَنَت منذ كَفَرَت، ولا ذَلَّت مُنذ عزّت، ولم نخرج على أهبة الحرب!!

وهذا يعني أنّه رأى من الصالح أن ينسحبوا إلى المدينة، ولا يواجهوا قريشاً.

فقال له رسول اللّه: إجلس.

ثم قام عمر بن الخطاب، وكرّر نفس مقالة أبي بكر، فأمره النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

ص:69

بالجلوس أيضاً.

ثم قام «المقدادُ بن عمرو» وقال: يا رسولَ اللّه إمض لِما أراك اللّهُ فنحنُ معك، واللّهِ لا نقولُ لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ» .(1)

ولكن إذهَب أنتَ وربُّك فقاتِلا، وإنّا مَعَكُما مُقاتِلون.

فَوَ الَّذي بعثكَ بالحقِّ لو سِرتَ بنا إلى برك الغماد (وهو موضع بناحية اليمن) لجالَدنا معك مِن دونه، حتّى تبلغَه، ولو أمرتنا أن نخوضَ جَمر الغضا (أي النار المتقدة) وشوكَ الهراس (وهو شجرٌ كبير الشوك) لخضناه معك.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خيراً ودعا له.

إخفاء الحقائق وكتمانها

إذا كان إخفاء الحقائق، والتعتيم عليها وسترها، والتعصب الباطل أمراً مشيناً مِن كلّ من ألَّفَ وكَتَبَ، فإنّه ولا شك أقبحُ من المؤرّخ، المؤتَمنَ على التاريخ وحقائقه.

فإنّ على المؤرّخ أن يكون مرآةً صادقة للأجيال القادمة لا يكدرها غبار التعصّب، وغشاوة التحريف والتبديل والكتمان للحقائق.

ولقد ذكر ابن هشام(2) والحلبي(3) والطبري(4) ما وقع في الشورى العسكرية الّتي عقدها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأدرج فيها ما قاله المقداد، وقاله سعد بن

ص:70


1- . المائدة: 24.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/447.
3- . السيرة الحلبية: 385/2.
4- . تاريخ الطبري: 140/2.

معاذ في كتبهم على وجه التفصيل، ولكنّهم أحجموا عن إدراج ما قاله أبوبكر وعمر وإنّما قالوا: وقال فلانٌ وأحسَنَ، وقال فلانٌ وأحسنَ!!

وهنا نسأل أُولئك المؤرّخين إذا كان ما قاله فلان وفلان حسناً أرضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلماذا تركوا ذكره على نحو التفصيل كما فعلوا بالنسبة إلى كلام المقداد وسعد؟!

بلى؛ إنّهما لم يقولا إلّاما ذكرناه قبل قليل، ليس غير. وإذا كان أُولئك المؤرّخون يكتمون الحقائق، فقد أظهرها الآخرون وسجّلوا نصَ ما قاله الرجلان(1)، ولم يكن قولاً حسناً ولا كلاماً طيباً، بل كان كلامهما مثبّطاً، ينمّ عن خوف، ووحشة، فهما صوّرا قريشاً قوةً لا تُقهر، وجيشاً لا يُدحَر، غير آبهين بما تترك كلماتهم من الأثر السيئ في نفوس المسلمين في ذلك الظرف الدقيق، واللحظة الخطيرة!!

وإنّك أيّها القارئ لتستطيع أن تعرفَ مدى إنزعاج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من مقالتهما، ممّا ذكره الطبري نفسُه في الصفحة ذاتها، فإنّ الشيخين كما تلاحظ، كانا أوّل مَن نطقا في تلك الشورى، ثم تكلّم بعدهما المقداد، وسعد بن معاذ.

فإنّ الطبري يروي عن ابن مسعود أنّه قال: لقد شهدت من المقداد مشهداً لئن أكون أنا صاحبه أحبُّ إليَّ ممّا في الأرض من شيء، كان رجلاً فارساً وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا غضب احمرّت وجنتاه؛ فأتاه المقداد على تلك الحال(2) فقال:

أبشر يا رسول اللّه فواللّه لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ» ، ولكن والذي بعثك بالحقّ لنكوننّ من بين يديك

ص:71


1- . المغازي: 48/1؛ إمتاع الأسماع: 93/1؛ بحار الأنوار: 217/19.
2- . أي وهو غاضب من مقالة وتثبيط من تقدّماه.

ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك أو يفتح اللّه لك.(1)

ولقد كان ذلك المجلسُ مجلسَ استشارة وتبادل للرأي وكان لكلّ أحدٍ الحقُّ في أن يُدلي برأيه، ويطرح نظره على القائد الأعلى، ولكنَّ مجريات الأحداث أثبتت أنّ المقداد كان أقرب إلى الصواب، وأكثر توفيقاً في إصابة الحقّ من ذينك الرجلين.

وقد أشار القرآن الكريم إلى تخوّف بعض المسلمين من مواجهة العدوّ في هذه الموقعة إذ قال سبحانه:

«كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ» (2).

وقال تعالى:

«يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ» (3).

قرار الشورى الحاسِم أو رأي زعيم الأنصار

كانت الآراء الّتي طُرِحت آراء شخصيّة وفردية على العموم، والحالَ أنّ الهدف الأساسي من عقد تلك الشورى كان هو الحصول على رأي الأنصار، فلمّا لم يدلِ الأنصارُ برأيهم لم يمكن لتلك الشورى أن تتّخذ رأياً حاسماً، وتبتّ في الأمر.

من هنا أعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قوله: «أشيروا عليّ أيّها الناس» وهو يريد الأنصار.

فقام سعد بن معاذ الأنصاري وقال: واللّه لكأنّك تريدنا يا رسول اللّه؟

فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: أجل.

ص:72


1- . تاريخ الطبري: 140/2.
2- . الأنفال: 5.
3- . الأنفال: 6.

فقال سعد: بأبي أنتَ وأُمّي يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنا قد آمنّا بكَ، وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئتَ به هو الحقّ، وأعطيناك على ذلك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول اللّهِ لما أردتَ فنحنُ معك، فوالّذي بعثك بالحقّ، لو استعرضت بنا هذا البحر(1) فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منّا رجلٌ واحدٌ، وما نكرهُ أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبّرٌ في الحرب، صدُق في اللقاء، لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسِر بنا على بركة اللّه، وصِل مَن شئتَ، واقطعْ من شئتَ، وخذْ مِن أموالنا ما شئتَ، و ما أخذت من أموالنا أحبُّ إلينا ممّا تركتَ.

فسرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقول سعد ونشّطه ذلك، وأزال سحابة اليأس من النفوس، وأشعل ضياء الأمل في القلوب.

ولهذا لم يفرغ ذلك الأنصاريُ البطل والقائد المؤمن الشجاع من مشورته الشجاعة إلّاوأصدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمره بالرحيل قائلاً: «سيروا على بركة اللّه وأبشروا فإنّ اللّه تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه وعده.

واللّه لكأنّي الآنَ أنظُر إلى مصارع القوم».

وتحرك الجيشُ الإسلامي بقيادة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ونَزَل عند آبار «بدر»(2).

جمع المعلومات حول العدوّ

مع أنّ المبادئ العسكريّة والتكتيكات الحربية في الوقت الحاضر تختلف عمّا كان عليه في العصور الغابرة اختلافاً كبيراً، إلّاأنّ مسألة جمع المعلومات حول

ص:73


1- . يقصد البحر الأحمر.
2- . لاحظ: المغازي للواقدي: 48/1-49؛ السيرة النبوية لابن هشام: 447/2-448.

العدوّ ومعرفة أسراره العسكرية، ومدى استعداداته ومبلغ قواه الّتي يستخدمها، ودرجة معنويات أفراده كانت على أهمّيتها وقيمتها، لم تتغيّر، بل ازدادت أهمّيتها في العصر الحاضر - كما أسلفنا -.

فهي تشكّل الآن أيضاً مفتاحاً في الحروب، ومنطلقاً للانتصارات العسكرية.

على أنّ هذه المسألة قد اتّخذت اليوم صبغة التعليم والتمرين، فقد أصبح لها اليومَ كتبٌ ومعاهدُ تتولّى تعليم طرائق التجسّس العسكري وأساليبه، كما ويعزي قادة المعسكر الغربي والشرقي الكثير من نجاحاتهم إلى نجاحهم في توسعة دوائر التجسس ومنظماته الّتي تستطيع إطلاع أصحابها على معلومات دقيقةٍ ومفصّلة عن خطط العدو وقواه، وأماكن تمركزه وتواجده، وخطوط إمداده، وتموينه تمهيداً لإفشالِ تحركاته أو إجهاضها فوراً. من هنا استقر الجيشُ الإسلامي في منطقةٍ تلائم مبادئ التستر بشكل كامل، ومنع عن أي عمل من شأنه انكشاف أسراره، كما أنّ فرقاً مختلفةً و متعدّدة كُلّفت بجمع المعلومات عن قريش وقافلتها وجيشها.

فكانت المعلومات الّتي توفرت لدى القيادة الإسلامية هي كالتالي:

1. أنّ النبيّ نفسه ركب هو ورجل من قادة جيشه حتّى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمّد وأصحابه وما بلغه عنهم؟ فأخبرهم بأنّ محمّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، وإنّه إن كان صدق الّذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا (وكذا للمكان الّذي كان به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم)، وإنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، وإنّه إن كان الّذي أخبره صدقه فهم اليوم بمكان كذا (وكذا: للمكان الّذي فيه قريش).

وهكذا عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نقطة تواجد قريش، واستقرار قواتهم.

ص:74

2. بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جماعة «الزبير بين العوام» و «سعد بن أبي وقاص» بقيادة علي عليه السلام إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر، فأصابوا إبلاً يستقى عليها الماء لقريش فيها غلامان أحدهما لبني الحجاج والآخر لبني العاص فأتوا بهما إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فسألهما النبيّ عن قريش فقالا: هم واللّه وراء هذا الكثيب الّذي ترى بالعدوة القصوى.

فقال لهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: كم القوم وما عدّتهم؟ فقالا: لا ندري، كثير. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: كم ينحرون (من الإبل) كلّ يوم؟ قالا: يوماًتسعاً ويوماً عشراً.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: القوم فيما بين التسعمائة والألف.

ثم سألهما: فمَن فيهم من أشراف قريش؟

قالا: عتبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأُمية بن خلف، و... و...

فأقبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أصحابه وقال:

«هذه مكّة قد ألقَت إليكم أفلاذ كبدها»(1).

3. كُلِّف شخصان بالدخول إلى قرية بدر وتقصّي الحقائق حول قافلة قريش فيها فمضيا حتّى نزلا بدراً فأناخا إبلهما إلى تلّ قريب من الماء، ثم تظاهرا بأنّهما يريدان أن يستسقيا، فسمعا جاريتين من جواري الحاضر وهما تتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنّما تأتي القافلة غداً أو بعد غدٍ فأعملُ لهم ثم أقضيك الّذي لك.

فقال لها «مجدي بن عمرو الجهني»، وكان على مقربة منهما: صدقت، ثم

ص:75


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 449/2.

خلص بينهما.

فسرّ صاحبا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لما سمعا، فعادا في سرّية كاملة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبراه بما سمعا(1).

والآن وبعد أن أصبح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عارفاً بوقتِ ورود القافلة، ومكان تواجد قريش، معرفةً دقيقةً عمد إلى ترتيب المقدّمات اللازمة.

كيف هربَ أبو سفيان؟

لقد تعرّض أبوسفيان قائد قافلة قريش لدى توجّهه بها إلى الشام للملاحقة من قبل مجموعة من المسلمين، وإنّه كان يعلم جيداً بأنّهم سوف يتعرّضون له عند قفوله من الشام أيضاً. ولهذا عندما وصل بقافلة قريش إلى المنطقة الخاضعة للمراقبة الإسلامية أراحَها في منطقة بعيدة عن متناول أيدي المسلمين ودخل هو قرية «بدر» يتجسّس، ويسأل عن أخبار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فالتقى «مجدي بن عمرو» على ماء بدر فسأله: هل أحسستَ أحداً؟ (ويقصد هل رأيتَ أحداً من عيون محمَّد ورجاله؟).

فأجابه مجدي قائلاً: ما رأيتُ أحداً أنكرُهُ، إلّاأنّي قد رأيتُ راكبين قد أناخا إلى هذا التلّ ثم استقيا في شنٍّ لهم، ثم انطلقا.

فأتى أبو سفيان مُناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما، ففتّه، فإذا فيه النوى فقال:

هذه - واللّه - علائف يثرب.

ص:76


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/449-450.

فرجع إلى أصحابه سريعاً وحرّك القافلة عن الطريق، فساحل بها (أي أخذ بها جهة ساحل البحر الأحمر) وترك بدراً بيسار، وانطلق حتى أسرع. كما أنّه كلّف أحداً بإخبار قريش فوراً، بأنّ قافلتهم أفلتت من يد محمّد وأصحابه، وأنّ أموالهم نجت فليرجعوا وليتركوا محمّداً تكفيه العرب.(1)

علم المسلمين بإفلات قافلة قريش

عرف المسلمون بإفلات قافلة قريش، وانتشر هذا النبأ بينهم بسرعة، فاغتمّ مَن خرجَ مع المسلمين يريد الحصولَ على شيء من تلك الأموال، فقال اللّه تعالى تثبيتاً لهم وتسكيناً لقلوبهم:

«وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» (2).

إختلاف قريش في القتال

عندما وافى رسول أبي سفيان قريشاً وهم بالجحفة، وأبلغهم رسالة أبي سفيان وطلب منهم الرجوعَ إلى مكّة، حدث بين رجال قريش اختلاف عجيب.

أمّا أبوجهل فقد أصرّ على مواصلة التقدّم نحو المدينة، وعدم الرجوع إلى مكّة خلافاً لطلب أبي سفيان، قائلاً:

واللّه لا نرجع حتّى نرد بدراً - وكان بدر موسماً من مواسم العرب، يجتمع

ص:77


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 450/2.
2- . الأنفال: 7-8.

لهم به سوق كلُّ عام - فنقيمَ عليه ثلاثاً، فننحر الجزر (الأباعر)، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان والمغنيّات، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلايزالون يهابوننا أبداً بعدها، فامضوا!!

وقال الأخنس بن شريق بن عمرو الثقفي، وكان حليفاً لبني زهرة، وهم بالجحفة: يا بني زهرة، قد نجّا اللّه لكم أموالكم، وخلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنّما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جبنها وارجعوا، فإنّه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هذا، يعني أبا جهل... فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق فلم يشهد بدراً من هاتين القبيلتين أحد.

ومضى القوم، وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: واللّه لقد عرفنا يا بني هاشم، وإن خرجتم معنا، إن هواكم لمع محمد. فرجع طالب إلى مكّة مع مَن رجع.(1) حملت كلماتُ أبي جهل المغرية قريشاً على مواصلة التقدّم نحو المدينة، ونزلت في مكان مرتفع(2) خلف كثيب.

وأمطرت السماء مطراً غزيراً فأصاب قريشاً منه ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، ومنعهم من مزيد التقدّم.

بينما لم يُحدِث المطرُ أي مشكلة في العدوة الدنيا للمسلمين ولم يمنع من تحركهم بل كان بحيث لبّد الأرض حتّى ثبتت أقدامهم(3).

ص:78


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 450/2-451.
2- . وهو ما يُسمّى بالعدوة القصوى.
3- . ويقال كان المطر ينزل على قريش كأفواه القرب وعلى أصحاب رسول اللّه رذاذاً بقدر ما لبّد الأرض.

و «بدر» منطقة واسعة يتكون جنوبها من مكان مرتفع (العدوة القصوى) وشمالها من مكان منخفض منحدر (العدوة الدنيا) وكانت في هذا الوادي الواسع بضع آبار وعيون ماء، فكان منزلاً للقوافل ينزلون فيه ويستقون، ويستريحون ردحاً من الزمن.

وهنا تقدّم «الحباب بن المنذر بن الجموح» وكان فارساً مجرّباً وعسكرياً محنّكاً باقتراح إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذ قال: يا رسول اللّه أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكهُ اللّه ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه، أُمّ هو الرأي والحرب والمكيدة؟

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «بَل هو الرأيُ والحربُ والمكيدة».

فقال: يا رسول اللّه فإنّ هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتّى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ثمّ نغوّر (أي ندفن العين) ماوراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشربَ ولا يشربون.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لقد أشرتَ بالرأي.

فنهض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومَن مَعه من الناس، فسار حتّى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب (الآبار) فغوّرت، وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه، فمُلئ ماءً ثم قذفوا فيه الآنية.(1)

إن هذه الحادثة تكشف جيّداً عن إهتمام رسول الإسلام بالمشاورة، واحترامه لآراء الآخرين واتّساع صدره لاقتراحاتهم، والأخذ بما يفيد منها دون تكبّر أو انزعاج.

ص:79


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 452/2؛ تاريخ الطبري: 144/2.

«العريش» أو غرفة القيادة

وقيل إن «سعد بن معاذ» تقدّم هو الآخر بمقترح عسكري وهو بناء وإقامة برج لرسول اللّه يقود منه العمليات ويشرف على سيرها ويكون مأمناً له من كيد الأعداء فقال: يا نبي اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدوّنا، فإن أعزّنا اللّه وأظهرَنا على عدوّنا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأُخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام يا نبيّ اللّه ما نحن بأشدّ لك حبّاً منهم، ولو ظنّوا أنّك تلقى حرباً ما تخلّفوا عنك، يمنعك اللّه بهم، يناصحونك ويجاهدون معك.

فأثنى عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودعا له بخير. ثم بُني له صلى الله عليه و آله و سلم عريش فوق مكان مرتفع مشرف على ساحة القتال والحرب، وكان سعد و جماعة من فتيان الأنصار يحرسونه في بعض حالات القتال!!(1).

نظرة إلى مسألة «العريش»

إنّ مسألة بناء العريش لرسول اللّه، وحراسة «سعد بن معاذ» وجماعة من فتيان الأنصار له هو ممّا ذكره ورواه الطبري في تاريخه نقلاً عن ابن إسحاق وتبعه الآخرون في ذلك، ولكن هذه القصّة لا يمكن القبول بها لأسباب هي:

أوّلاً: أنّ هذا العمل يفتُّ في عَضُد الجنود، ويضعف من معنوياتهم القتالية؛ لأنّ معناه أنّ القائد يفكّر في وسيلة لنجاة نفسه دون أن يفكّر في نجاة جنوده، ومثل هذه القيادة لا يمكنها أن تستحوذ على قلوب جنودها، وتجعلها مطيعة

ص:80


1- . تاريخ الطبري: 145/2، السيرة النبوية لابن هشام: 452/2-453.

لأوامرها.

ثانياً: أنّ هذه القصّة تتنافى مع الأخبار القطعية الّتي بشّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بها المسلمين في ضوء ما نزل عليه من آيات.

فهو صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يواجه المسلمون قريشاً وعد أصحابه الذين خرجوا معه من المدينة إحدى الطائفتين، أي إمّا الظفر بقافلة قريش التجارية قطعاً، أو الانتصار على الجيش المكّيّ حتماً ويقيناً إذ قال اللّه تعالى:

«وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» (1).

وإنّما أُقدم على بناء العريش لرسول اللّه - بناءً على رواية الطبري - في الوقتِ الّذي كانت قافلة قريش قد أفلتت وهربت من أيدي المسلمين، ولم يبق الّا الجماعة المسلحة الّتي خرجت لحماية القافلة، وكان المسلمون يعلمون - طبقاً لذلك الوَعد الإلهي القاطع - أنّهم سينتصرون على تلك الجماعة الكافرة: «وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» فلم يكن المجال مجال تردّد وشك.

وبهذا يكون حديث هزيمة المسلمين في هذه المواجهة ولزوم بناء عريش لحماية النبيّ، وإعداد إبل سريعة السير عند العريش لينجو صلى الله عليه و آله و سلم عليها بنفسه حديثاً باطلاً لا مبرّر له، ولا مسوّغ.

يقول ابن سعد نقلاً عن عمر بن الخطاب قال: لمّا نزلت «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ» (2) قلت: وأيُّ جمع يُهزَم ومَن يُغلَب؟ فلمّا كان يوم بدر نظرت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يثب في الدرع وثباً وهو يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ»

ص:81


1- . الأنفال: 7.
2- . القمر: 45.

فعلمتُ أنّ اللّه تبارك وتعالى سيُهزمهم(1).

ومع هذا هل يحتمل أن يدور في خلد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه شيء حول الهزيمة أو يحدّثوا أنفسهم بالفرار؟

ثالثاً: أنّ النبيّ الّذي يصف الإمام علي عليه السلام موقفه وحالته عند اشتداد ضراوة القتال لا تنسجم أبداً ولا تلائم هذا التكتيك الّذي لا يتّسم بالشجاعة والثبات.

يقول عليّ عليه السلام:

«كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ»(2). فهل يفكّر مثل هذه الشخصية الّتي يصفها أوّل تلامذة مدرسته، وأقرب صحابته إليه بمثل هذا الوصف، في الفرار، أو اتّخاذ الاحتياطات اللازمة لذلك؟!

نحن نعتقد أنّ بناء العريش لم يكن إلّامن باب إعداد غرفة للعمليّات ولمراقبة سير القتال من مكان مشرف على ساحة القتال، لأنّ القيادة ما لم تكن مشرفة على ساحة القتال لا يمكنها أن تتصرّف بواقعية وإتقان، ولا يمكنها أن تقود الجنود والحشود من منطلق الواقع القتالي والعسكري.

من هنا لم يكن الهدف من العريش إن صحّ أصل القصّة هو الإعداد والتحسّب للفرار وما شاكل ذلك.

ص:82


1- . الطبقات الكبرى: 25/2.
2- . نهج البلاغة: 520، فصل في غريب كلامه برقم 9. ويقول السيد الرضي رضى الله عنه: معنى ذلك: إنّه إذا عظم الخوف من العدوّ، واشتدّ عضاض الحرب فزع المسلمون إلى قتال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه فينزل اللّه عليهم النصر به ويأمنون ممّا كانوا يخافونه بمكانه.

تحرّك قريش باتّجاه بدر

في صبيحة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، ارتحلت قريش من وراء الكثيب وانحدرت إلى وادي بدر، فلمّا رآها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:

«اللّهم هذهِ قريشٌ قد أقبَلت بُخيَلائِها، وفَخرِها تحادُّك وَ تكذّبُ رسُولَك.

اللّهمَّ فَنَصرُكَ الّذي وَعَدتني بِهِ، اللّهمَّ أحِنهم(1) الغداة».(2)

قريش تتشاور في القتال

استقرّت قوى قريش في منطقة من أرض بدر استعداداً للمواجهة، وحيث إنّهم لم يكونوا يعرفون شيئاً عن عدد أفراد المسلمين ومبلغ استعداداتهم، لذلك كلّفوا «عمير بن وهب الجمحيّ» - وكان فارساً ماهراً في الإحصاء والتخمين - بأن يحرز (ويقدّر بالحدس) عدد أصحاب محمّد.

فاستجال بفرسه حول عسكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم رجع إلى قريش وقال:

ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتّى انظرَ ألِلْقومِ كمينٌ، أو مددٌ.

فضرب في الوادي حتّى أبعد ولكنّه لم يرَ شيئاً.

فرجع إلى قريش ثانيةً وهو يحمل لهم خبراً مرعباً إذ قال: ما وجدت شيئاً (أي كميناً أو مدداً وراء المسلمين) ولكنّي قد رأيتُ يا معشر قريش البلايا(3)

ص:83


1- . أي أهلكهم.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 453/2؛ المغازي: 59/1؛ تاريخ الطبري: 145/2.
3- . البلايا: جمع بلية وهي الناقة أو الدابة.

تحمل المنايا، نواضح(1) يثرب تحمل الموتَ الناقعَ (2)، قومٌ ليسَ مَعَهُم مَنعةٌ ولا مَلجأ إلّاسيوفهم.

واللّه ما أرى أن يُقتلَ رَجلٌ منهم حتّى يَقتلَ رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فَرَوا رأيكم!!!(3)

وروى الواقدي عبارات عمير بنحو آخر إذ قال: قال عمير: واللّه ما رأيت جلداً ولا عدداً ولا حلقة ولا كراعاً، ولكنّي رأيت قوماً لا يريدون أن يؤبوا إلى أهليهم، قوماً مستميتين ليست لهم مَنَعَة ولا ملجأ إلّاسيوفهم، زرق العيون كأنّهم الحصى تحت الحجَفَ (4).(5)

وروى المجلسي ما قاله عمير بنحو ثالث إذ قال: قال عمير: ما لهم كمينٌ ولا مددٌ، ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقَع، أما ترونهم خُرساً لا يتكلّمون، يتلمّظون تلمّظ الأفاعي، ما لهم ملجأ إلّاسيوفهم، وما أراهم يولّون حتّى يقتلوا، ولا يُقتلون حتّى يقتُلوا بعددهم فارتاؤا رأيكم(6).

اختلاف قادة قريش في أمر القتال

أوجدت كلمات عمير الفارس الشجاع ضجّة كبرى بين رجال قريش وسادتها وزعمائها، وانتاب الجميعَ خوفٌ بالغ ورعبٌ شديدٌ من المسلمين.

ص:84


1- . الإبل يستقى عليها الماء.
2- . الموت الثابت البالغ في الإفناء.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 453/2-454.
4- . الحجف جمع الحجفة وهي التُّرس.
5- . المغازي: 62/1.
6- . بحار الأنوار: 224/19.

فمشى حكيم بن حزام إلى عتبة بن ربيعة ليقنعه بالعدول عن مقاتلة المسلمين، فقال له: يا أبا الوليد إنّك كبير قريش وسيّدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ فقال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمرَ (دم) حليفك عمرو بن الحضرمي، وما أصاب محمّد من ماله ببطن نخلة(1) إنّكم لا تطلبون من محمّد شيئاً غير هذا الدم والمال؟!

فاقتنع عتبة برأي حكيم، فجلس من فوره على جمله، ووقف يخطب في المشركين من قريش بنطق جميل وبليغ يقول: يا معشر قريش، إنّكم واللّه ما تصنعون بأن تلقوا محمّداً وأصحابه شيئاً، واللّه لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته، فارجعوا وخلّوا بين محمّد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الّذي أردتم وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون(2).

وفي «مجمع البيان» قال: وخطب عتبة فقال في خطبته: يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر، إنّ محمّداً له إل(3) وذمّة، وهو ابن عمّكم، فخلّوه والعرب، فإن يك صادقاً، فأنتم أعلى عيناً به؛ وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره....(4)

وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل وأخبره برأي عتبة ومقالته، هذا وأبو جهل يهيِّئُ درعه، فانزعج أبوجهل من مقالة عتبة وموقفه انزعاجاً شديداً، وثارت

ص:85


1- . إشارة إلى ما جرى في سرية عبداللّه بن جحش.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 454/2.
3- . الإل: العهد.
4- . مجمع البيان: 440/4؛ بحار الأنوار: 224/19.

ثائرته حسداً على عتبة، وتعنتاً عن الحقّ (1)، وبعث من فوره رجلاً إلى عامر بن الحضرمي أخي عمرو الّذي قُتل في غزوة عبداللّه بن جحش بنخلة وقال له: هذا حليفك (عتبة) يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثارك بعينك، فقم وأنشد خفرتك(2) ومقتل (أو دم) أخيك.

فقام عامر وكشف عن رأسه، وأخذ يحثو التراب على رأسه، وصاح مستغيثاً واعَمراه واعَمراه، فحميت الحرب، وحقب أمر الناس، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة.(3)

ولكن عتبة هذا الّذي كان يميل إلى اعتزال الجيش وترك الحرب، هاجت مشاعره هو الآخر فقام من فوره ولبس لامة حربه واستعدّ لقتال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه. وهكذا نجد كيف يتضاءل نور العقل عند هبوب رياح العاطفة الملتهبة، والمشاعر الثائرة الباطلة وتنطفئ شعلة الفكر، ولا يعود يضيء لصاحبه درب المستقبل حتّى أنّ الرجل الّذي كان قبل قليل داعية السلام، والتعايش الأخوي يتحوّل تحت تأثير ذلك الهياج العاطفي، العابر، الأحمق إلى أوّل مبادر إلى القتال وسفك الدماء وإزهاق الأرواح!!!

ص:86


1- . قال الواقدي في المغازي: 1/63-64: فحسده أبو جهل حين سمع خطبته وقال: إن يرجع الناس من خطبة عتبة يكن سيد الجماعة، وعتبة أنطق الناس!!!
2- . أي اطلب من قريش الوفاء بخفرتهم وعهدهم لك؛ لأنّه كان حليفاً لهم.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 454/2-455.

ما هو الأمر الّذي حتّم القتال؟

لمّا أبصر الأسود بن عبدالأسد المخزومي وكان رجلاً شرساً سيِّئ الخلق، الحوضَ الّذي بناه المسلمون عند البئر لشربهم قال: أُعاهد اللّه لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنّه، أو لأموتنّ دونه!!

فلمّا خرج، خرج له حمزة بن عبد المطلب، فلمّا التقيا ضربه حمزة فأطنّ قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد زعم أن يبر يمينه، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.(1)

فتسبّبت هذه الحادثة في أن يصبح القتال امراً مسلّماً وحتمياً، لأنّه ليس ثمّة شيء يقدر على تحريك المشاعر، وإثارة العواطف ودفع الناس للقتال كسفك الدم.

فالذين كان الغيظ والحنق على المسلمين يكاد يقتلهم، وكانوا يبحثون عن ذريعة يشعلون بها نيران الحرب ويفجّرون فتيلها، قد حصلوا الآن على ما يريدون.

المبارزات الفردية أوّلاً

كان التقليد المتبَّع عند العرب في الحروب أن يبدأ القتال بالمبارزات الفرديّة ثم تقع بعدها الحملاتُ الجماعية.

فلمّا قُتِلَ الأسودُ المخزومي خرج ثلاثة فرسان من صناديد قريش

ص:87


1- . تاريخ الطبري: 147/2.

المعروفين من صفوف الجيش المكّيّ ودعوا إلى المبارزة.

وهؤلاء الصناديد الثلاثة هم:

1. عتبة(1).

2. شيبة.

وهما ابنا ربيعة بن عبد شمس.

3. الوليد بن عتبة بن ربيعة.

فأخذوا يجولون في ميدان القتال ويدعون إلى المبارزة، فخرج إليهم من المسلمين فتية من الأنصار ثلاثة وهم: «عوف» و «معوذ» ابنا الحارث و «عبداللّه بن رواحة».

ولمّا عرف عتبة أنّهم من رجال المدينة قال: مالنا بكم من حاجة.

ثم نادى مناديهم: يا محمَّد، أخرج الينا أكفاءنا من قومنا.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «قم يا عبيدَةَ بن الحارث وقم يا حمزة، وقم يا عليّ».

فقاموا، وخرجوا للمبارزة، ولمّا دَنَوا منهم، سألهم عتبة عن أسمائهم فعرّفَ أبطال الإسلام أنفسهم وذكروا أسماءهم.

فقال رجال المشركين الثلاثة: نعم أكفّاء كرام.

ويرى البعض أنّه بارز كلّ من هؤلاء الثلاثة مَن كان على سنّه من الكفّار فبارز عليٌّ عليه السلام الوليدَ (خال معاوية بن أبي سفيان)، و بارز حمزة (وهو أوسطهم) عتبة

ص:88


1- . وعتبة هذا هو الّذي اقترح الانسحاب وعدم القتال كما عرفت. ويروى أنّه لمّا خرج قال له حكيم بن حزام: أبا الوليد مهلاً، مهلاً تنهى عن شيء وتكون أوّله!! (المغازي: 67/1).

(جدّ معاوية لأُمّه)، وبارز عبيدة (وهو أسنّ الثلاثة) شيبة وهو أسنّ الكفّار الثلاثة.

غير أنّ ابن هشام يقول: بارز «حمزة» شيبة، وبارز «عبيدة» عتبة، وبارز «عليٌّ» الوليد بن عتبة(1).

وهذا يعني أنّ حمزة (الأوسط في السن) قاتل الأسنّ من الكفّار.

أيّ القولين هو الأصحّ؟

إنّ ملاحظة أمرين توضح الحقيقة في هذا المجال:

الأوّل: أنّ المؤرّخين كتبوا: أنّ علياً وحمزة قتلا خصميهما في الحال، ثمّ ساعدا عبيدة على قتل خصمه(2).

الثاني: أنّ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام كتب في كتاب له إلى معاوية:

«وَعِنْدِيَ السَّيْفُ الَّذِي أَعْضَضْتُهُ بِجَدِّكَ وَخَالِكَ وَأَخِيكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ»(3).

فمن هذا الكتاب يتّضح بجلاء أنّ الإمام عليه السلام شارك في قتل جدّ معاوية (أي عتبة) هذا من جانب.

كما أنّنا نعلم من جانب آخر أنّ كلّاً من حمزة وعلياً قد قتل خصمه في اللحظة الأُولى من المبارزة. فإذا كان خصم حمزة هو عتبة (جدّ معاوية) لم يكن - حينئذ - أي معنى لقول الإمام عليه السلام «أنا قتلت جدَك».

فلا مناص من أن نقول: إنّ الّذي بارز حمزة هو شيبة، وأن الّذي بارز عبيدة

ص:89


1- . راجع لمعرفة كلا الرأيين: سنن البيهقي: 276/3.
2- . تاريخ الطبري: 148/2، السيرة النبوية لابن هشام: 456/2 قال: وكرّ حمزة وعليٌّ بأسيافهما على عتبة.
3- . نهج البلاغة: 454، قسم الكتب الرقم 64. واعضضته به جعلته يعضّه.

هو عتبة، ليصح حينئذ أن يقال إن علياً وحمزة، ذهبا - بعد الفراغ من قتل خصميهما - إلى عتبة وكرّا بأسيافهما عليه وقتلاه، ثم احتملا صاحبَهما «عبيدة» وأتيا به إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(1).

وبهذا تترّجح النظرية الثانية، والقاضية بعدم التكافؤ بين أسنان كلّ من المتبارزين.

الهجومُ العامُّ

إثر مقتل صناديد قريش الثلاثة في المبارزة الفردية بدأ الهجومُ العامُ.

ثمّ تزاحفَ الناسُ ودنا بعضهم من بعض، وقد أمرَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصحابَه أن لا يحملوا حتّى يأمرَهم، فقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل.

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عدّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده سهمٌ يعدّل به القوم. فمر بسوّاد بن غزية، وهو متقدّم من الصف، فطعن في بطنه بالسهم الّذي معه وقال له: استو يا سَوّاد.

فقال: يا رسول اللّه أوجَعتني، وقد بَعَثَكَ اللّه بالحقّ والعدل فأقِدني (أي اقتصَّ لي من نفسك). فكشف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن بطنه وقال: استقد (أي أنت اقتصَّ) فاعتنقه سوّاد وقبَّل بطنه صلى الله عليه و آله و سلم فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ما حملك على هذا يا سوّاد؟

قال: يا رسولَ اللّه حضر ماترى (من القتال) فأردتُ أن يكون آخرَ العهد بك

ص:90


1- . ثم إنّ المقصود من أخ معاوية الّذي أشار الإمام علي في كلمته إلى قتله هو حنظلة بن أبي سفيان بن حرب. راجع: السيرة النبوية لابن هشام: 525/2؛ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 19/18.

أن يمس جلدي جلدَك.

فدعا له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخير(1).

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن عدّل الصفوف رجع إلى غرفة العمليّات (العريش) فدخله وتوجّه إلى ربه بقلبٍ مفعم بالإيمان يناشده ما وعده من النصر وقال في مناجاته لربه في تلك اللحظات:

«اللّهمَّ إنْ تَهْلَك هذه العِصابة من أهل الإسلام لاَ تُعبدَ في الأرضِ أبداً».

ثمّ خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الناس فحرضّهم ونفل كلّ امرئ منهم ما أصاب وقال: «وَالَّذي نَفْسُ محمّدٍ بِيَدهِ لا يُقاتِلُهُم اليُومَ رَجُلٌ فَيُقتَلُ صابراً مُحتسباً مُقبلاً غيرَ مُدْبِرٍ، إلّاأدْخَلَهُ اللّهُ الجنَّةَ».(2)

ولقد كانت كلمات القائد الأعلى هذه تفعل فعلتها في النفوس، فتثير الهمم، وتوجد شوقاً عجيباً إلى الشهادة في المقاتلين المسلمين، حتّى أن أحدهم ويُدعى «عُمَير بن الحمام» أخو بني سلمة قال للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وفي يده تَمرات يأكلُهُنَّ يا رسول اللّه: بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخلَ الجنَّةَ إلّاأن يقتلني هؤلاء.

ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتّى قُتِلَ (3).

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذَ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشاً ثم قال:

«شاهَتِ الوُجُوه».

ثم نفحهم بها، وأمر أصحابه، فقال: شدُّوا(4).

ص:91


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 456/2-457.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 457/2؛ تاريخ الطبري: 149/2-150.
3- . السيرة ا النبوية لابن هشام: 458/2.
4- . السيرة النبوية لابن هشام: 458/2؛ تاريخ الطبري: 150/2؛ البداية والنهاية: 347/3.

ولم يمض وقتٌ طويل حتّى ظهرت بوادر انتصار المسلمين على أعدائهم المشركين فقد انتابَ المشركين خوفٌ ورعبٌ شديدان، وأخذوا ينهزمون أمام زحف المسلمين.

فقد كان المسلمون يقاتلون عن إيمان، وإخلاص ويعلمون بأنّهم ينالون السعادة قَتَلُوا أو قُتِلُوا، فلم يرهَبُوا شيئاً، وما كان يمنعهم شيء عن التقدّم والإقبال.

رعاية الحقوق

لقد كان لابدّ من رعاية الحقوق بالنسبة إلى طائفتين في معسكر المشركين:

الأُولى: أُولئك الذين أحسنوا إلى المسلمين في مكّة، ودافعوا عنهم كأبي البختري الذي كان ممن قام في نقض الصحيفة الظالمة الّتي سبق الحديث عنها.

الثانية: أُولئك الذين أُكرهوا على الخروج من المشركين إلى بدر، وكانوا يرغبون في قرارة أنفسهم في الإسلام مثل معظم رجال بني هاشم كالعباس بن عبدالمطلب عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

مصرع أُميّة بن خلف

ولقد أُسِّر «أُميّة بن خلف» وابنه على يد عبدالرحمن بن عوف، وكان بينه وبين أُميّة صداقة بمكّة طلب أُميّة من عبدالرحمن أن يخرجه من أرض المعركة لكي لا يُقتَلَ هو وولدُه، أو ليُعدّا من الأسرى.

فرضى عبدالرحمن بذلك، وبينما هو يقودهما إذ رآه بلال، وكان أُميّة هو الّذي يعذب بلالاً بمكّة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكّة إذا حميت فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضعُ على صدره ثم يقول: لا تزال هكذا حتّى تفارقَ دين محمَّد، فيقولُ بلال: أحد، أحد.

ص:92

فلمّا رآه بلال في الأسر وقد أقدم عبدالرحمن على حمايته والذبّ عنه وهو يريد نجاته وولده، صاح مستصرخاً المسلمين: يا أنصار اللّه رأسُ الكفر أُميّة بن خلف، لا نجوتُ إن نجا.

فأحاط المسلمون بأُميّة وولده من كلّ جانب وقطّعوهما بسيوفهم حتّى فرغوا منهما(1).

وقد نَهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن قتل أبي البختري الّذي كان له دورٌ مشرّفٌ في نقض الحصار الاقتصادي الّذي ضربَتهُ قريش على المسلمين في مكّة، وكان لا يؤذي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلقيه رجلٌ من المسلمين يُدعى «المجذّر بن زياد البلوي» حليف الأنصار، فأراد أسره واستبقاءه ريثما يأخذه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليرى فيه رأيه، ولكنّه نازل «المجذّر» وأبى إلّاالقتال، فاقتتلا فقتله المجذّر.

ثم إنّ المجذّر أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: والّذي بعثك بالحقّ لقد جهدتُ عليه أن يُستأسَر فآتيك به فأبى إلّاأن يقاتلني فقاتلته فقتلته(2).

خسائر بدر في الأرواح والأموال

لقد قُتِلَ في معركة «بدر» من المسلمين أربعة عشر رجلاً، وقُتِلَ من المشركين سبعون وأُسِرَ سَبعُون من أبرزهم: النضر بن الحارث، وعقبة ابن أبي معيط، وأبو غرة، وسهيل بن عمرو، والعباس، وأبو العاص بن الربيع (صهر النبيّ)(3).

ص:93


1- . لاحظ: سيرة ابن هشام: / 461.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 459/2؛ الطبقات الكبرى: 23/2.
3- . المغازي: 138/1-173؛ السيرة النبوية لابن هشام: 524/2-532.

ثم دُفِنَ شهداء بدر في جانب من أرض المعركة، وقبورهم باقية إلى الآن.

ثم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يُلقى بقتلى المشركين في البئر.

قال ابن إسحاق: ولمّا أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهم (أي المشركين) أن يلقوا في القليب(1)، أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب فنظر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في وجه «أبي حذيفة» ابن عتبة فاذا هو كئيب، قد تغيّر لونه، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: يا أبا حذيفة لعلّك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟! فقال: لا واللّه يا رسول اللّه، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكنّني كنتُ أعرف من أبي رأياً وحِلماً وفَضلاً فكنتُ أرجو أن يهديَه ذلك إلى الإسلام، فلمّا رأيتُ ما أصابَه وذكرتُ ما ماتَ عليه مِنَ الكفر بعدَ الّذي كُنتُ أرجو له، أحزنني ذلك!!.

فدعا له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخير(2).

إن هذه القصّة لتكشف عن مدى حبّ المسلمين لدينهم، ورغبتهم الصادقة في أن يهتدي إليه الناس كما تكشفُ أيضاً عن أنّهم كانوا يقدّمون المعيار الديني على المعيار العائلي إذا تَعارضا.

«ما أنتم بأسمع منهم»

لقد انتهت معركة بدر بانتصار عظيم في جانب المسلمين وهزيمة نكراء في جانب المشركين.

فقد غادر المشركون ساحة القتال هاربين صوب مكّة مخلّفين وراءَهم

ص:94


1- . القليب: البئر.
2- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 468/2.

سبعين قتيلاً من صناديدهم وساداتهم وفتيانهم الشجعان وسبعين أسيراً.

ولمّا أمر النبيّ بألقاء قتلى المشركين في القليب، وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند القليب وأخذ يخاطب القتلى واحداً واحداً ويقول:

«يا أهل القليب، يا عُتبة بنَ ربيعة، ويا شيبةَ بنَ ربيعة، ويا أُميّة بنَ خلف، ويا أبا جهل (وهكذا عدّد من كان منهم في القليب) هَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقاً، فَإِنّي قَدْ وجَدْتُ ما وَعَدَني رَبّي حَقّاً».

فقال له بعض أصحابه: يا رسول اللّه أتنادي قوماً قد جيفوا؟

فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«ما أنْتُمْ بَأسْمَعَ لِما أقُولُ مِنْهُمْ ولكنّهمْ لا يَسْتَطيعُونَ أنْ يُجيْبُوني».

وكتب ابن هشام يقول: إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال يوم قال هذه المقالة:

«يا أَهْلَ القليب بِئسَ عشيرة النبيّ كُنْتُم لِنَبيّكُمْ! كَذَّبْتُموني وصَدَّقنيَ الناسُ، وَأخْرجْتُموني وآوانيَ الناسُ، وقاتلتموني ونصرنيَ الناسُ، (ثم قال:) هَلْ وَجَدتُمْ ما وَعَدَكُمْ ربّي حَقّاً؟»(1).

الشعر يخلّد هذه القصة

يُعتبر هذا الموضوع من القضايا الثابتة والمسلَّمة في التاريخ الاسلاميّ، فقد ذكرهُ جميعُ المحدّثين والمؤرّخين من الشيعة والسنّة، وقد ذكرنا طائفة من مصادره في الهامش.

وقد كان من دأب حسّان بن ثابت شاعر عصر الرسالة أن ينشد أبياتاً في كلّ

ص:95


1- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 466/2-467؛ السيرة الحلبية: 431/2، و غيرهما.

واقعة من وقائع الإسلام البارزة، وبذلك يقوّي من عزيمة المسلمين ويشدّ من أزرهم؛ لأنّ الشعر يجلي البطولات ويكرّم المواقف ويخلّد الأمجاد ويحافظ على المفاخر ويكسبها طابعاً أبدياً، ولهذا يُعد وسيلة جيّدة لتقوية المعنويات، وإبطال مفعول الحرب الباردة والنفسية الّتي يقوم بها العدوّ.

وقد طبع ديوان «حسّان» لحسن الحظ، ويمكن لنا أن نقف على الكثير من أيام الإسلام وأمجاده من خلال قصائده، وأبياته المدرجة فيه.

وقد أنشد حسّان قصيدة بائية رائعة حول وقعة بدر الكبرى يشير في بعض أبياتها إلى هذه الحقيقة، أعني قصّة القليب إذ يقول:

يُناديهُمْ رسولُ اللّه لمّا قَذَفْناهُمْ كباكبَ في القليبِ

ألَمْ تَجِدُوا كلامي كانَ حَقّاً وَأمْر اللّهِ يَأخُذُ بالقُلُوبِ؟

فما نَطَقُوا وَلَو نَطقُوا لقالُوا صَدقتَ وكنتَ ذا رأي مصيب!

على أنّه لا توجد عبارة أشدّ صراحة من ما قاله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المقام حيث قال: «ما أنتم بأسمع منهم».

وليس ثمّة بيانٌ أكثر إيضاحاً وأشدّ تقريراً لهذه الحقيقة من مخاطبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لواحدٍ واحدٍ من أهل القليب، ومناداتهم بأسمائهم وتكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة.

فلا يحقّ لأيّمسلمٍ مؤمنٍ بالرسالة والرسول أن يسارع إلى إنكار هذه القضية التاريخية الإسلامية المسلّمة، ويبادر قبل التحقيق ويقول: إنّ هذه القضية غير صحيحة؛ لأنّها لا تنطبق على موازين عقلي المادّي المحدود.

وقد نقلنا هنا نصّ هذا الحوار، لكي يرى المسلمون الناطقون باللغة العربية كيف أنّ حديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يصرّح بهذه الحقيقة بحيث لا توجد فوقه عبارةٌ في

ص:96

الصراحة، والدلالة على هذه الحقيقة.

ومَن أراد الوقوف على مصادر هذه القصّة فعليه أن يراجع ما ذكرناه في الهامش أدناه(1).

بعد معركة بدر

يعتقد كثير من المؤرّخين المسلمين أنّ المبارزات الفردية ومن بعدها القتال الجمعي في غزوة بدر استمر حتّى زالت الشمس وانتهت المعركة بفرار المشركين وأسر جماعة منهم. ثم بعد أن فرغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه من دفن شهداء المسلمين صلّى بالناس العصر في بدر ثم غادر أرض بدر قبل غروب الشمس من ذلك اليوم، هذا وقد كلّفَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أشخاصاً بجمع الغنائم من أيدي الناس.

وهنا واجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أوّل اختلاف بين أصحابه في كيفية تقسيم الغنائم، فقد كان كلّ فريق يرى نفسه أولى من غيره بها، نظراً لدوره في تلكم المعركة.

فالذين كانوا يحرسون عريش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مخافة أن يكرّ عليه العدو كانوا يرون أن عملهم لا يدانيه في الأهمية أيّ عمل آخر، لأنّهم كانوا يحرسون القائد، ويحافظون على مقرّ القيادة.

وبينما كان الذين جمعوا الغنائم يرون أنّهم الأحقّ؛ لأنّهم جمعوها، فيما كان

ص:97


1- . إن تكلم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع رؤوس الشرك الموتى الذين أُلقيت أجسادهم في البئر من مسلّمات التاريخ والحديث، وقد أشار إلى هذا من بين المحدّثين والمؤرّخين: صحيح البخاري: 21/5، باب قصّة غزوة بدر، صحيح مسلم: 163/8، كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنّة؛ مسند أحمد: 31/2 و 38 و 131 و ج 104/3 و 145 و 220 و 263 و 287 و ج 29/4؛ المغازي: 112/1، غزوة بدر؛ بحار الأنوار: 346/19.

الذين قد قاتلوا العدو ولاحقوه وطاردوه يقولون: واللّه لولا نحن ما أصبتموه، إنّا لنحن الذين شغلنا عنكم القومَ حتّى أصبتم ما أصبتم(1).

ولا ريب أنّ أسوأ ما يصيب أيّ جيش هو أن يدبّ الخلافُ بين قطعاته وأفراده، فينفرط عقده وتتلاشى وحدته.

من هنا بادر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، للقضاء على هذه الآمال والمطامع المادّية، وبغية إسكات كلّ تلك الأصوات، إلى إيكال جمع الغنائم وحملها، والمحافظة عليها إلى «عبداللّه بن كعب المازني» وأمر جماعة من أصحابه أن يعينوه ريثما يفكّر في طريقة تقسيمها. لقد كان قانون العدل والإنصاف يقضي بأن يشترك جميع أفراد ذلك الجيش في تلك الغنائم، لأنّهم ساهموا بأجمعهم في تلك المعركة، وكان لكلٍّ منهم دورٌ ومسؤولية فيها، فما كان لفريق أن يحرز نجاحاً من دون أن يقوم الآخرون بأدوارهم.

من هنا قسّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الغنائم بينهم - في أثناء الطريق - على قدم المساواة، وفرز لذوي الشهداء أسهماً منها.

ولقد أثارت طريقة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تقسيم الغنائم (وذلك بقسمتها على جميع المشاركين معه في معركة بدر بالتساوي) سخط «سعد بن أبي وقاص» فقال: يا رسول اللّه أيعطى فارسُ القوم الّذي يحميهم مثل ما يعطى الضعيف؟ فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «ثكلتك أُمُّك، وهل تُنْصَرونَ إلّابضعفائكم»(2).

وهو صلى الله عليه و آله و سلم يقصد أنّ هذه الحرب لم تكن إلّالأجل الدفاع عن الضعفاء، ورفع الحيف عنهم، وأنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يُبعَث إلّالإزالة هذه الفوارق والامتيازات

ص:98


1- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 469/2.
2- . المغازي: 99/1.

الظالمة، وإلّا لأجل إقرار المساواة في الحقوق بين الناس.

هذا ورغم أنّ خمس الغنيمة هي بنصّ آية الخمس(1) للّه ولرسوله ولذي القربى واليتامى وابن السبيل من أهل بيته صلى الله عليه و آله و سلم إلّاأنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يخمِّس غنائم «بدر» بل وزّع الخمس على المشاركين في بدر أيضاً.

على أنّه يمكن أن تكون آية الخمس لم تنزل آنذاك بعد، أو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يتمتّع باختيارات خاصّة، فصرف النظر عن أخذ الخمس لنفسه وقرباه، تكثيراً لأسهم المجاهدين، وذلك ولا ريب خطوة حكيمة جداً وخاصّة في أوّل مواجهة عسكرية مع العدوّ(2).

قتل أسيرين في أثناء الطريق

ولمّا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في «الصفراء» وهي أحد المنازل على طريق (بدر - المدينة) عرض عليه الأسرى، فأمر بقتل النضر بن الحارث وكان من أعداء المسلمين الألدّاء.

وأمر بأن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط إذ كان بعرق الظبية.(3)

وهنا ينطرح سؤال وهو: إنّ حكم الإسلام في أسرى الحرب هو أنّهم عبيدٌ للمسلمين والمجاهدين، يُباعون ويشترون بأثمان مناسبة، فلماذا حكم رسول

ص:99


1- . الأنفال: 1.
2- . وجاء في بعض المصادر التاريخية أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ضرب من الغنائم أسهماً لأشخاص لم يحضروا بدر ولم يشتركوا في القتال مع رغبتهم في ذلك، وذلك إمّا لأُمور أصابتهم عند الخروج إلى بدر، أو لقيامهم بمهمّات، تتعلّق بأُمور مراقبة العدو في الطرق أو للقيام بمهمات إدارية داخل المدينة.
3- . لاحظ: البداية والنهاية: 372/3.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شأن هذين الأسيرين بحكم آخر؟.

ثم إنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الّذي خاطب المسلمين في «بدر» في الأسرى الذين بأيديهم وأوصاهم بهم خيراً قائلاً:

«اسْتَوْصوا بالأُسارى خيراً».

كيف اتّخذ مثل هذا القرار في حقّ بعضهم؟

يقول أبو عزيز بن عمير أخو مصعب لأبيه وأُمّه، وكان صاحب لواء في جيش قريش: كنت (أسيراً) في أيدي رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز، وأكلوا التمر (والخبز عندهم قليل والتمر زادهم) لوصية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إيّاهم بنا، ما تقع في يد رجلٍ منهم كسرة خبز إلّانفحني بها فأستحي فاردُّها على أحدهم فيردُّها عليّ، وكانوا يحملوننا ويمشون(1)!! مع ملاحظة هذه الأُمور لابدّ من الإذعان بأنّ قتل هذين الأسيرين كان ممّا تقتضيه المصالحُ الإسلامية العامّة، لا أنّه كان بدافع الانتقام، فقد كان ذانك الأسيران من رؤوس الكفر، ومن مخطّطي الخطط الجهنَّمِية ضد الإسلام والمسلمين، وضدّ الرسالة والرسول، وكانا ممّن يؤلّبون القبائل ضدّ رسول الإسلام، فلعلّه لو كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يفرج عنهم ويطلق سراحهم عادوا إلى تدبير المؤمرات ضدّ الإسلام والمسلمين، وعملا على تخطيط الخطط، وتأليب القبائل، فلم يكن بدٌ من تصفيتهم والقضاء عليهم.

ص:100


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 473/2، المغازي: 119/1.

بشائر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة

كلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «عبد اللّه بن رواحة»، و «زيد بن حارثة» بأن يسبقاه إلى المدينة، ليبشّرا المسلمين بما حقّقه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه في بدر من الانتصار الكاسح والفتح المبين، ويخبرا أهلها بمصرع رؤوس الكفر والشرك كعتبة وشيبة وأبي جهل وأبي البختري وأُميّة، ونبيه ومنبه و... و...

فما قدم المبعوثان إلى المدينة إلّاوالمسلمون عائدون من دفن ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم زوجة عثمان بن عفان فامتزجت الأفراح بالأحزان، واختلط السرور بانتصار النبيّ وأصحابه بالحزن على موت ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وقد أُرعب المشركون واليهودُ والمنافقون بخبر انتصار المسلمين الساحق على قريش، وراحوا يحاولون تكذيبه، وتفنيده حتّى إذا دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة ودخل بعده أسرى قريش أصبح الخبر قطعياً مسلّماً، فباءت محاولات المنافقين بالفشل.

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم

كان «الحيسمان الخزاعي» أوّل مَن قدم مكّة وأخبر الناس بأحداث «بدر» الدامية وبمصرع طائفة كبيرة من سادة قريش على أيدي المسلمين.

يقول أبو رافع، الّذي كان غلاماً للعباس بن عبدالمطلب آنذاك ثم أصبح من أصحاب النبيّ وعليّ فيما بعد: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهلَ البيت، فأسلم العباس وأسلَمَت أُمّ الفضل و أسلمتُ، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرّق في قومه، وكان أبو لهب قَد تخلّف عن بدر،... فلمّا جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من

ص:101

قريش كبته اللّه وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوّةً وعزاً.

وكنت رجلاً ضعيفاً وكنتُ أعمل الأقداح (السهام والنبال) أنحتها في حجرة زمزم، فواللّه بينما أنا جالسٌ فيها أنحت أقداحي، وعندي أُمّ الفضل جالسة، وقد سرَّنا ما جاءَنا من الخبر عن هزيمة قريش، إذ أقبل أبولهب يجرّ رجليه بشرٍّ حتّى جلس عند طنب(1) الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناسُ: هذا أبوسفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقال أبولهب: هلمَّ إليَّ فعندكَ لعمري الخبر.

فجلس إليه والناس قيامٌ عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمرُ الناس؟

قال أبوسفيان: واللّه ما هو إلّاأن لقينا القومَ فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءُوا، ويأسروننا كيف شاءُوا، وأيمُ اللّه مع ذلك مالمتُ الناسَ، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بُلق بين السماء والأرض، واللّه ما تُبقي شيئاً ولا يقومُ لها شيء.

يقول أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلتُ: تلك واللّهِ الملائكة.

فرفعَ أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربةً شديدة(2).

اشتراك العباس عمّ النبيّ في بدر

يبقى أن نعرف أنّ مسألة اشتراك العباس عمّ النبيّ في غزوة بدر من مشكلات التاريخ وغوامضه، فهو من الذين أَسَرَهُمُ المسلمون في بدر فهو من جانب يشارك في الحرب، ومن جانب آخر يحضر في بيعة العقبة، ويدعو أهل المدينة إلى حماية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ونصرته.

ص:102


1- . الطنب: الطرف.
2- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 473/2-474.

فكيف يكون هذا؟

إنّ الحل يكمن في ما قاله أبو رافع غلام العباس نفسه: كان العباس قد أسلم ولكنّه كان يهاب قومه ويكره خلافهم ويكتم إسلامه، مثل أخيه أبي طالب لاقتضاء المصالح الإسلامية ذلك، ومن هذا الطريق كان يساعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويخبره بمخططات العدو ونواياه وتحرّكاته واستعداداته كما فعل ذلك في معركة «أُحد» أيضاً(1). فقد كان أوّل مَن أخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بتحرّك قريش وخططهم واستعداداتهم.

المنع من النَوح والبكاء في مكة

وقد أفجع مقتل سبعين رجلاً من رجال مكّة وفتيان قريش أكثر البيوت والعوائل في مكّة، وسلبهم البهجة والفرح، والنشاط والحركة، وتحوّلت مكّة برمّتها إلى مأتم كبير، قال الواقدي: فناحت قريش على قتلاها شهراً، ولم تبق دار بمكّة إلّا فيها نوح، وجزّ النساء شعر الرؤوس...(2).

غير أنّ أبا سفيان عمد - لإبقاء أهل مكّة على حالة الحنق والغضب - إلى منع النوح والبكاء على القتلى وحثّ الناس باستمرار على الاستعداد للثأر والانتقام من محمَّد وأصحابه فقال: يامعشر قريش لا تبكوا على قتلاكم، ولاتنح عليهم نائحة ولا يبكهم شاعر، وأظهروا الجلد والعزاء، فإنّكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم، فأكلّكم ذلك عن عداوة محمّد وأصحابه. ولعلّكم تدركون ثأركم.

ص:103


1- . السيرة الحلبية: 217/2.
2- . المغازي: 122/1.

ولكي يلهب أبوسفيان مشاعر الناس أكثر فأكثر أو يبقي على سخونتها على الأقل، قال: والدهن والنساء عليّ حرامٌ حتّى أغزو محمّداً.

وكان «الأسود بن المطلب» قد أُصيب له ثلاثة من ولده: زمعة وعقيل والحارث، وكان يحب أن يبكي على بنيه، ولكنّه ما كان ليستطيع ذلك لمنع أبي سفيان من النواح والبكاء على القتلى.

فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له - وقد ذهب بصرُه -:

هل أُحلّ النحب، هل بكت قريشُ على قتلاها لعلّي أبكي على زمعة، فإن جوفي قد احترق؟

فلمّا رجع إليه الغلام قال: إنّما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلّته، فأنشد الأسود بن المطلب حينها:

أتبكي أن يضلَّ لها بعيرُ ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر(1) ولكن على بدر تقاصرت الجدودُ

على بدر سراةِ بني هصيص ومخزومٍ ورهطِ أبي الوليدِ

وبكّي إن بكيتِ على عقيل وبكّي حارثا أسد الأسود(2)

رسول الإسلام ومكافحة الأُميّة

أعلن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن قرار تاريخي عظيم وهو: إن كان في الأسرى مَن يكتب ولا مال له للفداء، فيقبل منه أن يعلّم عشرة من غلمان الأنصار الكتابة ويخلّى

ص:104


1- . البكر: الفتى من الإبل.
2- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 475/2.

سبيله.(1)

وروى أحمد بإسناده عن ابن عباس قال: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فداءهم أن يعلّموا أولاد الأنصار الكتابة.(2)

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على مدى اهتمام الإسلام بالثقافة والتثقيف، والوعي والتوعية، فإنّ معرفة القراءة والكتابة بداية التثقيف والتوعية.

ولابدّ أن نقول هنا أيضاً: إنّ إطلاق الأُسارى العارفين بالقراءة والكتابة لقاء تعليم صبيان المسلمين تعدّ أوّل عملية لمكافحة الأُمّية الّتي اهتمّ بها العالم الحاضر.

ففي الوقت الّذي كانت الكثير من الدول في عصرالإسلام الأوّل تمانع من تثقيف أبنائها ورعاياها - كما مرّ عليك في دراسة أوضاع الامبراطوريتين الفارسية والرومية - أعلن رسول الإسلام أنّ من لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة من غلمان المدينة (أي صبيانها) يعلّمهم الكتابة فإذا تعلّموا كان ذلك فداءه... وما أعظمها من خطوة ثقافية وحضارية.

ما ورد في السيرة حول مصير الأسرى

ذكر ابن هشام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أعلن عن أنّ مَن علّم من الأسرى عشرة من الغلمان والصبيان من أولاد الأنصار الكتابة والقراءة، كان ذلك فداؤه وخلّي عن سبيله من غير أن يؤخذ منه مال.

وإن مَن دفع فدية قدرها أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم خلّي سبيله، وإنّ

ص:105


1- . لاحظ: الروض الأنف لعبد الرحمن الخثعمي السهيلي: 84/3؛ إمتاع الأسماع: 119/1.
2- . مسند أحمد: 247/1.

من كان فقيراً لامال له أُفرِجَ عنه دون فداء.

فأحدث هذا النبأ في مكّة لدى عوائل الأسرى حركة عجيبة ودفعهم إلى التفكير في تقديم الفداء إلى المسلمين، وإطلاق أسراهم.

فهيّأ كلّ واحدٍ منهم ما استطاع وقدم المدينة يفدي أسيره.

وعندما أُفرج عن سهيل بن عمرو لقاء فدية قال عمر بن الخطاب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول اللّه دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو (أي أسنانه الأمامية) ويدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا أُمثّل به فيمثّل اللّه بي وإن كنتُ نبيّاً»(1).

وتلك لفتة انسانية أُخرى من لفتات النبيّ العظيم الكثيرة في المعارك.

وقد كان في الأُسارى أبوالعاص بن الربيع زوج ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: زينب.

وكان أبو العاص من رجال مكّة المعدودين مالاً وأمانة وتجارة، وقد تزوّج بزينب ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الجاهلية.

ولمّا جاء الإسلام آمنت خديجة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وآمنت بناته، (ومنهن زينب) كذلك وشهدن أنّ ما جاء به الحقّ، ودِنّ بدينه، وثبت أبو العاص على شركه، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يقدر على أن يفرّق بينهما.

وقد اشترك أبو العاص هذا في معركة بدر مع قريش، وأُسر بأيدي المسلمين.

فلمّا بَعث أهل مكّة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في فداء زوجها أبي العاص بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت لخديجة (قد

ص:106


1- . سيرة ابن هشام: 476/2؛ المغازي: 107/1. يقول صاحب المغازي في الصفحة 105 من نفس الجزء: كان عمر يحض على قتل الأسرى لا يرى أحداً في يديه أسير إلّاأمر بقتله!!

أهدتها إليها ليلة دخول أبي العاص بها ليلة زفافها).

فلمّا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم القلادة عرفها ورقّ لها وذكر خديجة عليها السلام وترحّم عليها (وما أسدته إلى الإسلام من خدمات وقدّمته من تضحيات، وبكى بكاء شديداً). وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردّوا إليها متاعها فعلتم.

فقالوا: نعم يا رسول اللّه، نفديك بأنفسنا وأموالنا.

فأطلقوا أبا العاص بن الربيع، وردّوا على زينب متاعها.(1) وبذلك احترم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حقوق المسلمين وما يرجع إليهم من أموال؛ بل أنّها واللّه أعظم مظهر من مظاهر الديمقراطية، (إن صحّ التعبير) فالنبيّ مع أنّ له ماله من الولاية على المسلمين يقترح عليهم الإفراج عن زوج زينب ويترك الأمر لاختيارهم.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذ على أبي العاص الميثاق بأن يخلّي سبيل زينب، ويبعثها إلى المدينة.

ففعل أبو العاص ما تعهّد به، وبعث زينب إلى المدينة.(2)

ثم إنّ أبا العاص نفسه أسلم أيضاً وقدم المدينة، وردّ عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم زينباً بالنكاح الأوّل أو بنكاح جديد(3).

كلام لابن أبي الحديد في المقام

يقول العلّامة ابن أبي الحديد: قرأت على (أُستاذي) النقيب أبي جعفر يحيى بن أبي زيد البصري العلوي هذا الخبر، فقال: أترى أبابكر وعمر لم يشهدا

ص:107


1- . المغازي: 130/1-131.
2- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 479/2.
3- . سيرة ابن هشام: 482/2-483.

هذا المشهد؟ أما كان يقتضي التكريمُ والاحسانُ أن يُطيِّبا قلبَ فاطمة عليها السلام بفدك، ويستوهب لها من المسلمين (أي يستوهب فدكاً من المسلمين ويردّه عليها).

أتقصُر منزلتُها عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن منزلة زينب أُختِها وهي سيدةُ نساء العالمين؟!

هذا إذا لم يثبت لها حقٌ، لا بالنحلة ولا بالإرث؟

فقلت له: فدك بموجب الخبر الّذي رواه أبوبكر قد صار حقّاً من حقوق المسلمين، فلم يجز له أن يأخذه منهم.

فقال: وفداء أبي العاص قد صار حقّاً من حقوق المسلمين، وقد أخذه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منهم.

فقلت: رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صاحب الشريعة، والحكمُ حكمُهُ، وليس أبوبكر كذلك.

فقال: ما قلتُ هلّا أخذه أبوبكر من المسلمين قهراً فدفعه إلى فاطمة عليها السلام وإنّما قلت: هلّا استنزلَ المسلمين عنه، واستوهبه منهم لها، كما استوهب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فداءَ أبي العاص؟ أتراه لوقال: هذه بنت نبيكم صلى الله عليه و آله و سلم قد حضرت تطلب هذه النخلات أفتطيبون عنها نفساً؟ أكانوا منعُوها ذلك؟!

فقلت له: قد قال قاضي القضاة أبوالحسن عبدالجبّار بن أحمد نحو ذلك.

قال: إنّهما لم يأتيا بحَسَنٍ في شرع التكريم، وإن كان ما أتياه حسناً في الدين!!(1)

ص:108


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 190/14-191، ولابن أبي الحديد كلام آخر يشبه هذا في إهدار دم من أسقط جنين زينب، فراجع.

أي أنّ ما فعلاه وإن كان يوافق موازين الدين - حسب تصوّر القاضي - ولكنّه لا يناسب شأن فاطمة وتكريمها لمقامها ولمكانتها من أبيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

هذا وقد أمر اللّه نبيّه الكريم بأن يعلن للأسرى بأنّ الباب مفتوح أمامهم لينضمّوا إلى صفوف المسلمين، فينعموا بالإسلام فيعيد اللّه عليهم أفضل ممّا أخذ منهم ويغفر لهم ذنوبهم، إذ يقول تعالى:

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (1).

وبذلك فتح الإسلام باب الأمل أمام الأُسارى، وكشف عن نزعته الإنسانية وأيضاً عن رغبته الصادقة في هداية البشرية، ونجاتها.

كما ضرب بذلك مثلاً في الحكمة وحسن السياسة لم يسبق له مثيل.

على أنّه هدّد الأسرى من ناحية أُخرى إذا أساءُوا، وعادوا بعد الخلاص من الأسر إلى التآمر ضد الإسلام.

إذ قال:

«وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (2).

وبذلك جمع بين الحزم والحكمة، واللين الحكيم والشدّة المعقولة.

القرآن يتحدّث عن معركة بدر

ولقد ذكَّرَ القرآن الكريم المسلمين، ولا يزال يذكِّرهم بالانتصار الكبير الّذي

ص:109


1- الأنفال: 70.
2- . الأنفال: 71.

تحقّق للمؤمنين في بدر بفضل ثبات المقاتلين ونصر اللّه وتأييده الغيبي إذ قال:

«إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ لكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ * وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (1).

وقال تعالى:

«قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (2).

وقال تعالى أيضاً:

«إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» (3).

وقوله تعالى:

«إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» (4).

وقال سبحانه أيضاً:

ص:110


1- . الأنفال: 42-44.
2- . آل عمران: 13.
3- . الأنفال: 9.
4- . الأنفال: 11-12.

«وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَ ما جَعَلَهُ اللّهُ إِلاّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ» (1).

وفي هذه الآيات تصريحات واضحة بما كان عليه المسلمون في معركة بدر من حيث قلّة العدّة والعدد، وبأبرز الإمدادات الغيبية الإلهية الّتي ساعدت المسلمين على الانتصار على أعدائهم المشركين، الذين كانوا يفوقونهم في العدة والعدد والسلاح والرجال مع التأكيد على أنّ ذلك الانتصار العظيم جاء نتيجة ثبات المسلمين واستقامتهم، وصبرهم وإخلاصهم.

وأبرز تلك الإمدادات الغيبية هي:

1. مع أنّ الأعداء كانوا متمركزين في العدوة العليا وهي أعلى الوادي، والمسلمين في أسفل الوادي، وكان ذلك من شأنه أن يعزّز موقع الكفّار لإمكان مراقبة المسلمين من مكان مرتفع، كما كان من شأنه أن يجعل هجوم المسلمين على الكفّار أمراً صعباً، ولكن كفّة الحرب رجحت مع ذلك لصالح المسلمين.

2. إنّهمْ لو كانوا على ميعاد مع العدو، ومع العلم التفصيلي بحجم إمكانيته البشرية والقتالية لامتنع عامّة المسلمين عن مقابلة المشركين، ولكن شاء اللّه أن لا يعرف المسلمون شيئاً مفصّلاً عن المشركين، مسبقاً، بل يواجه المسلمون الأمر الواقع، فيتحقّق ما أراد اللّه من الانتصار على قريش. وإلى هذا أشار سبحانه بقوله:

«وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ» .

ص:111


1- . آل عمران: 123-127.

3. تقليل عدد المسلمين في أعين المشركين وتقليل عدد المشركين في أعين المسلمين في أول القتال، لكي يستقل الأعداء قوة المسلمين، ولكي لا يهاب المسلمون الأعداء ويستعظموا عددهم، وإليه يشير تعالى بقوله:

«وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ» .

4. تكبير عدد المسلمين في أعين الكفّار في أثناء القتال وإليه يشير تعالى بقوله: «يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ» .

5. الإمداد بالملائكة المردفين المسوّمين.

6. النعاس الّذي ألقاه اللّه على المسلمين فجدّد نشاطهم، وضاعف من قوتهم.

7. نزول المطر عليهم والّذي طهّرهم من الأقذار ومكّنهم من الاغتسال عمّا أصاب بعضهم من حدث، وثبّت الأرض الرمليّة تحت أقدامهم، وقد أشار سبحانه إلى كلّ ذلك في الآية 11 من سورة الأنفال.

8. تثبيت قلوب المؤمنين بواسطة الملائكة.

9. إلقاء الرعب في قلوب الكفّار. وإلى هذين النوعين من الإمداد الغيبي أشار بقوله: «فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» .

كما ويشير القرآن الكريم في هذا السياق إلى دور الشيطان في هزيمة الكفّار فهو الّذي يغري وهو الّذي يخذل عند اللقاء يقول سبحانه:

«وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا

ص:112

تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللّهَ وَ اللّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» (1).

كما أنّ القرآن يتحدّث أيضاً عن حالة المشركين عندما أتوا إلى بدر لمواجهة المسلمين وما كانت تنطوي عليه نفوسهم فيقول:

«وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ اللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» (2).

كما ويعزي هزيمتهم إلى سبب رئيسي وحقيقي وهو مشاققة اللّه ورسوله إذ يقول:

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» (3).

ص:113


1- . الأنفال: 48.
2- . الأنفال: 47.
3- . الأنفال: 13.

31 زواج سيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه

اشارة

31 زواج سيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه(1)

إنّ الرغبة الجنسيّة حالة تظهر عند البلوغ لدى كلّ انسان، وربما تنحرف بالشاب وتهوي به في أحضان الفساد والسقوط الأخلاقي إذا لم تتوفّر له أجواء التربية الصحيحة ولم تتح له الفرصة المناسبة، والمسير الصحيح لتنفيذ تلك الرغبة، والاستجابة لها بصورة صحيحة.

وإنّ خير وسيلة للحفاظ على العفّة الفردية والحياء العام، وتجنيب الفرد والمجتمع مفاسد وأخطار الإنحراف الجنسيّ هو الزواج.

فإنّ الإسلام يحتمّ على الرجل والمرأة - تأكيداً لحكم الفطرة وتمشّياً مع ناموس الطبيعة البشرية - أن يتزوّجا طبقاً لضوابط خاصّة تضمن سلامة الزيجة ودوامها.

وقد جاء هذا التأكيد، والحديث في الكتاب العزيز، والسنّة الشريفة بمختلف الصور، وتحت مختلف العناوين.

ص:114


1- . كان زواج فاطمة بعد وقعة بدر، راجع: بحار الأنوار: 79/43 و 111.

فقد جاء في الكتاب العزيز:

«وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (1).

وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذا الصدد:

«تزوّجوا فإنّي مكاثرٌ بكمُ الأُممَ غداً في القيامة»(2).

وقال أيضاً:

«مَن أحب أن يلقى اللّه طاهراً مطهَّراً فلْيلقه بزوجة»(3).

مشاكل الزواج في العصر الحاضر

إنّ مشاكل الزواج في عصرنا الحاضر لا تنحصر - وللأسف - في مشكلة واحدة أو مشكلتين.

فالرجال والنساء اليوم يقدمون على الزواج - غالباً - في ظروف صعبة، وأوضاع رديئة، وتنتهي أكثر الزيجات بسبب تلك الظروف والأوضاع، وبسبب ما يلابسها من مستلزمات قاسية وثقيلة بالطلاق والافتراق بعد سلسلة من الخلافات والمنازعات.

فتلك هي صحف البلاد تحمل في أبوابها الاجتماعية كلّ يوم عشرات الأنباء والأخبار عن الجرائم الزوجية، وتعالج عشرات المشاكل في مجال العائلة.

ولكن أكثر هذه المشاكل والمصائب تدور حول قضية واحدة، وهي أنّ

ص:115


1- . النور: 32.
2- - وسائل الشيعة: 14، الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح، الحديث 2.
3- - وسائل الشيعة: 14، الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح، الحديث 15.

الفتيان والفتيات في مجتمعاتنا الحاضرة ليسوا بصدد تشكيل عائلة تضمن سعادتهم الواقعية.

فالبعض يهمّه من الزواج أن يصل عن طريقه إلى المناصب الراقية الحسّاسة .

والبعض الآخر يهمّه من الزواج الحصول على الثروة والمال.

وقلّما يفكر المقدمون على الزواج، وتأسيس العائلة في أُمور هامّة وجوهرية كالعفة والطهر، وإذا لوحظ هذا الجانب فإنّما يلاحظ بصورة هامشية، لا أساسية.

ويدلّ على ذلك أنّ الشباب يتنافسون غالباً على التزوّج بفتيات من العوائل المعروفة ذات المكانة والشهرة الاجتماعية والمالية، والحال أنّه يمكن أن تكون تلك الفتيات غير متّصفات بالأخلاق النبيلة، ولا يكنَّ من حيث الجانب المعنوي بالنوع الجيد، الجدير بالاهتمام، الصالح للاقتران به.

فما أكثر الفتيات الفاضلات، الطيّبات هنا وهناك في زوايا المجتمع اللائي لايهتم بهن الشباب، لفقرهنّ، وقلة ذات أيديهنّ، أو لعدم شهرة عوائلهن.

على أنّ الأسوأ من ذلك كلّه ما أصبح يكلِّفُهُ الزواج في عصرنا الحاضر من نفقات باهضة نتيجة تزايد التقاليد المبتدعة في مجال إقامة الأعراس وحفلات القران والزواج، الأمر الّذي أصبح يرهق كاهل الزوجين، ويتعب عائلتيهما، مثل مشكلة المهور الباهضة، وما شابه ذلك ممّا هو في تصاعد مستمر في بلادنا، الأمر الّذي دفع بالبعض إلى ترك الزواج، وإشباع غرائزهم الجنسيّة بالوسائل غير المشروعة، ومن ثم شيوع اللا أُبالية، والإباحية في المجتمعات.

رسول الإسلام يكافح هذه المشاكل عمليّاً

تلك طائفة من المشاكل الاجتماعية الّتي كانت ولا تزال موجودة في كلّ

ص:116

مجتمع بنسب خاصّة.

ولم تكن الفترة الّتي عاصَرَها رسولُ الإسلام بمستثناةٍ من هذا الأمر، فقد كانت هناك في المجتمع في عصر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مشاكل مماثلة في الزواج.

فقد كان أشراف العرب لا يزوّجون بناتهم إلّالمن كان من قبيلة ذات مال وشوكة، ومكانة وقوّة، ويردّون كلّ خاطب لبناتهم يكون على غير هذه الصفة.

وقد كان الأشراف، يصرّون - تبعاً لتلك العادة - على أن يتزوّجوا بابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم السيدة فاطمة؛ لأنّهم كانوا يتصوّرون أنّ النبيّ لن يتشدّد في هذا الأمر، بل يكفيه أنّهم ذو ثروة ومكانة اجتماعية مرموقة.

وكانوا يتصوّرون أنّهم يمتلكون كلّ ما يهمّ الفتاة وأباها من الإمكانيات المادّية، كيف لا والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يتشدد في زواج ابنتيه الأُوليين: زينب ورقية.

ولكنّهم غفلوا عن أنّ هذه الفتاة (أي فاطمة الزهراء عليها السلام) تختلف عن أُختيها السابقتين.

إنّها - كما تدل عليه آية المباهلة(1) - ذات مقام رفيع، وشأن كبير.

لقد أخطأ خُطّاب فاطمة عليها السلام في هذا التصوّر، وما كانوا يعلمون أنّ زوج فاطمة وقرينها لا يمكن أنّ يكون إلّاكفؤها في التقوى والفضل، والإيمان والإخلاص، فإذا كانت فاطمة - بحكم آية التطهير - معصومة من الذنب وَجَبَ أن يكون زوجُها هوالآخر معصوماً، وإلّا لم يكن كفؤها المناسب.

وليس المال وليست الثروة ملاك هذا التكافؤ.

ص:117


1- . آل عمران: 61. في قضية المباهلة اصطحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً والحسن والحسين وفاطمة دون غيرها من النساء، وسيأتي تفصيل هذه القصّة.

لقد قال الإسلام: إذا خطبَ إليكُم كفو فزوّجوه.

ويفسر هذا التكافؤ بالمماثلة والتكافؤ في الإيمان والتقوى، والطهارة والعفاف، لا في المال والثروة(1).

ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مأموراً من جانب اللّه تعالى أن يقول لكلّ من خطبَ إليه «فاطمة» من أُولئك الرجال: «أمرها بيد اللّه» وهو بهذه الإجابة يكشف القناع عن الحقيقة إلى درجة مّا.

ولقد أدرك أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ زواج «فاطمة» ليس أمراً سهلاً وبسيطاً، وأنّه ليس لمن كان من الرجال وإن بلغ من الثراء، والمكانة الاجتماعيّة أن يحظى بالزواج منها، فإنّ زوج «فاطمة» ليس إلّامن يشابهها من حيث الأخلاق والفضائل، والصدق والإيمان، والطهر، والإخلاص، بل ويلي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السجايا الكريمة والصفات الرفيعة، والخلق العظيم.

ولا تجتمع هذه الصفات والمواصفات إلّافي «علي» عليه السلام لا سواه.

وللتأكد من هذه الحقيقة اقترح بعض الصحابة على (عليّ) عليه السلام أن يخطب إلى النبيّ فاطمة صلوات اللّه عليهما(2).

وكان علي عليه السلام يريد ذلك في نفسه، ويرغب إليه من كلّ قلبه إلّاأنّه كان ينتظر الفرصة المناسبة ليقدم على هذا الأمر.

فأتى عليّ عليه السلام بنفسه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولمّا رآه رسول اللّه قال: ما جاء بك يا أبا الحسن، حاجتك؟

ص:118


1- . راجع: وسائل الشيعة: 14، الباب 25 و 28 من أبواب مقدّمات النكاح.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 93/43.

فمنع الخجل عليّاً من البوح بمطلبه وسكت، وأطرق برأسه إلى الأرض، حياء من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لعلك جئت تخطب فاطمة؟ فأجاب عليٌّ عليه السلام بكلمات ضمّنها رغبته في الزواج من فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد كان هذا النمط من الخطبة علامة واضحة لما كان بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبين علي عليه السلام، من الاخوة والصفاء، ولما تحلّى به الجانبان من إخلاص وودّ. وما أروعها من ظاهرة. حقاً أنّ المبادئ والأنظمة التربوية لم تستطع أن تعلّم الشباب الذين يقدمون على الخطبة إلى أحد مثل هذه الحرية، المقرونة بالتقوى، والإيمان والإخلاص.

لقد وافق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على طلب علي عليه السلام وقال:

«يا عليّ أنّه لقد ذكرها قبلك رجال فذكرتُ ذلك لها فرأيتُ الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتّى أخرجَ إليك».

ثم دخل صلى الله عليه و آله و سلم على فاطمة، فذكر لها الأمر، وأنّ علياً عليه السلام خطبها إليه قائلاً: «إنّ علي بن أبي طالب مَن قد عرفتِ قرابته، وفضله وإسلامه، وإنّي قد سألت ربّي أن يزوّجك خير خلقه، وأحبهم إليه، وقد ذكر من أمرك شيئاً فما ترين؟».

فسكتت فاطمة سلام اللّه عليها، ولم ير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في وجهها كراهة، فقام وهو يقول:

«اللّهُ أكبر، سكوتُها إقرارها»(1).

ولكن عليّاً عليه السلام لم يكن يملك آنذاك إلّاسيفاً، ودرعاً فقط.

ص:119


1- . لاحظ: أمالي الطوسي: 40 برقم 13 (44)، المجلس الثاني؛ بحار الأنوار: 93/43، الحديث 4.

قال علي: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: قم فبع الدرع، فقمت فبعته وأخذت الثمن، ودخلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فسكبت الدراهم في حجره، فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته.

ثم قبض صلى الله عليه و آله و سلم قبضة (من الدراهم)، ودعا بلالاً فأعطاه فقال:

«ابتع لفاطمة طيباً».

ثم قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الدراهم بكلتا يديه فأعطاه أبا بكر وقال: ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت، وأردفه بعمار بن ياسر وبعدّة من أصحابه.

ففعلا ذلك واشتريا ما أمرهما به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فكان جهاز فاطمة كالتالي:

جهاز فاطمة

1. قميص بسبعة دراهم.

2. خِمار(1) بأربعة دراهم.

3. قطيفة سوداء خيبرية لاتكفي لتغطية كلّ البدن.

4. سرير مزمل بشريط (أي مصنوع من جريد النخل وأليافه).

5. فراشان من خيش(2) مصر، حشو أحدهما ليف، وحشو الآخر من صوف الغنم.

6. أربع مرافق(3) اثنان من الصوف واثنان من الليف.

ص:120


1- . الخمار: مقنعة.
2- . الخيش: نسيج خشن من الكتان.
3- . المرفقة: الوسادة.

7. ستر من صوف.

8. حصير هجري.(1)

9. رحى لليد.

10. مخضب(2) من نحاس.

11. سقاء من أُدم.

12. قعب للّبن.

13. شنّ (3) للماء.

14. مطهرة مزفّتة(4).

15. جرّة خضراء.

16. كيزان خزف.

فلمّا عرضوا المتاع على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جعل يقلّبه بيده ويقول: «بارك اللّه لأهل البيت»(5).

إنّ في مهر فاطمة أُموراً تدعو إلى التأمّل حقّاً، أبرزها مقدار ذلك المهر.

ص:121


1- . قال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: 158/2، مادة «هجر»: هجر - محرّكة - بلد باليمن بينه وبين عثر يوم وليلة، والنسبة: هجري وهاجري، وقيل: اسم لجميع أرض البحرين، وقيل: قرية كانت قرب المدينة.
2- . المخضب: اناء للمسك والطيب.
3- . الشنّ: القربة.
4- . أي مطلية بالزفت.
5- . أمالي الطوسي: 40 برقم 14 (45)، المجلس الثاني؛ بحار الأنوار: 94/43. ولاحظ: كشف الغمة: 369/1.

فمهرها هو مهر السنّة وهو خمسمائة درهم(1).

إن هذه الزيجة - في الحقيقة - خير درس للآخرين، للفتيان والفتيات الذين يئنّون من ثقل المهر وبهاضته وربما يئنّون من قيود الزواج وشروطه.

إنّ البيئة الزوجية يجب أن تكون - أساساً - بيئة دفء وحنان، بيئة اخلاص ومودّة، بيئة سلام ووفاق، فهذا هو ما يسعد الحياة الزوجية ويوفّر للزوجين عيشاً هانئاً محبّباً.

أمّا المهور الثقيلة، والنفقات الباهضة والجهاز المُكلِف فلا تؤدّي إلّاإلى تعكير صفو الحياة الزوجية، والتقليل من بريق الرابطة العائلية، وبالتالي لا تضمن مستقبل الزواج ودوامه، والمحافظة عليه من الهزّات.

إنّ أولياء الفتيات - في عصرنا الحاضر - يعمدون بغية دعم مكانة فتياتهم وتقوية مركزهنّ وضمان مستقبلهنّ إلى فرض سلسلة طويلة وثقيلة من الشروط والقيود ومنها المهر الباهض على العريس حتّى لا يستطيع أن يقوم بطلاق زوجته تحت دوافع الهوى والشهوة، أو كلّما سوّلت له نفسه ذلك، على حين أنّ هذا الإجراء لا يضمن بقاء الرابطة الزوجية، ودوامها بل العلاج الحقيقي والناجح هو إصلاح الوضع الأخلاقي للشباب، ورفع مستواهم المعنوي. يجب أن تكون بيئتنا الثقافية والاجتماعية من الطهر والنقاوة بحيث لا يوجد في رحابها أمثال هذه النوازع الشّريرة عند شبابنا، وإلّا لبلغ الأمر إلى نقطة تستعد فيه الفتاة إلى بذل مهرها للنجاة بنفسها من البيت الزوجي.

ص:122


1- . لاحظ: وسائل الشيعة: 15، الباب 4 من أبواب المهور.

مراسم الزواج تقام ببساطة

ثم بعد أن عقد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام على فاطمة عليها السلام في رحاب مسجده على مرأى ومسمع من المسلمين وفي جو يسوده الفرح والابتهاج والسرور قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام: «هيّئ منزلاً حتّى تحوَّل فاطمة إليه» فأخذوا منزل أحد الصحابة بصورة مؤقّتة، وحوّلت فاطمة إلى علي عليه السلام في منزل ذلك الصحابي الجليل(1)، في زفاف جميل مبارك وقد صنع عليٌّ طعاماً من لحم وتمر وسمن وأطعم المسلمين جميعاً تقريباً، وساد الناس فرح عظيم لم يشهد له نظير.

عن ابن بابويه: أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بنات عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة عليها السلام وأن يفرحن، ويرجزن ويكبرن ويحمدن ولا يقلن ما لا يرضي اللّه.

قال جابر: فأركبها على ناقته - وفي رواية على بغلته الشهباء - وأخذ سلمان زمامها والنبيّ وحمزة وعقيل وجعفر وأهل البيت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم ونساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قدامها يرجزن، فأنشأت أُمّ سلمة تقول:

سرن بعون اللّه جاراتي واشكرنه في كلّ حالات

واذكرنَ ما أنعم رب العُلى من كشف مكروه وآفات

فقد هدانا بعد كفر وقد أنعشنا رب السماوات

وسرن مع خير نساء الورى تفدى بعمّات وخالات(2)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا دخلوا الدار أنفد إلى علي عليه السلام ثم دعا فاطمة عليها السلام

ص:123


1- . لاحظ: إعلام الورى: 161/1؛ بحار الأنوار: 113/19.
2- . بحار الأنوار: 115/43.

فأتت وهي تسحب أذيالها، وقد تصبّبت عرقاً حياءً من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فعثرت فقال لها رسول اللّه: «أقالك اللّه العثرة في الدنيا والآخرة». فلمّا وقفت بين يديه كشف الرداء عن وجهها حتى رآها علي عليه السلام، ثم أخذ يدها فوضعها في يد علي عليه السلام وقال:

«باركَ اللّهُ لك في ابنة رسول اللّه، يا علي نعم الزوجة فاطمة، ويا فاطمة نعم الزوج علي».(1)

ثم أخذ بيده إناء فيه ماء وصب منه على رأس فاطمة وبدنها ودعا لهما قائلاً:

«اللّهم اجمع شملهما، وألّف بين قلوبهما، واجعلهما وذريتهما من ورثةِ جنّةِ النعيمِ وارزقهما ذريةً طاهرةً طيبةً مباركةً، واجعل في ذريتهما البركة، واجعلهم أئمةً يهدون بأمرك إلى طاعتِك، ويأمرون بما يرضيك».

وروي أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «اللّهم إنّهما أحبّ خلقك إليّ، فأحبهما وبارك في ذريتهما واجعل عليهما منك حافظاً، وإنّي أعيذهُما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم»(2).

وبذلك أبدى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من نفسه في تلك الليلة صفاء وإخلاصاً لم يعرف له نظير حتّى في مجتمعاتنا الحاضرة رغم ما حقّقته من تكامل ورشد.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عدد لفاطمة فضائل عليّ كما ذكر لعليّ فضائل فاطمة وإنّها «لولم يخلق عليّ ما كان لفاطمة كفؤ»(3). ثم ذكر لهما وظائفهما وواجباتهما

ص:124


1- . بحار الأنوار: 96/43.
2- . بحار الأنوار: 117/43.
3- . ينابيع المودّة للقندوزي: 67/2 برقم 56، وص 80 برقم 98، وص 286 برقم 819؛ بحارالأنوار: 77/40.

العائلية فأوكل إلى فاطمة ما هو في داخل البيت من شؤون وأوكل إلى عليّ ما هو من شؤون الخارج.

ولابدّ أن نذكر هنا قصّة هامّة أداء لحقّ فاطمة، وبياناً لمقامها.

يقول أنس بن مالك: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى الفجر فيقول:

«الصلاة يا أهل البيت، إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً»(1).

هذا وقد كانت هذه الزيجة أفضل زيجة في الإسلام وأكثرها بركة وخيراً، فقد عاش هذان القرينان الطاهران جنباً إلى جنب في وئام ووداد، في حياة زوجية طاهرة يسودها الاحترام المتقابل، والإخلاص الكامل من بدايتها إلى نهايتها.

وقد أنجبا أفضل الأولاد والبنات، أبرزهم: الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام سبطا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأثيران لديه، والمقرّبان إليه، وزينب بنت علي الّتي رافقت أخاها في وقعة كربلاء الدامية وكان لها مواقف عظيمة ومشرّفة في الرعاية للحقّ والعدل، ونصرة الإسلام، وغيرهم من الأولاد ذكوراً وإناثاً.

وقد بقي كلا الزوجين (علي وفاطمة) حتّى آخر اللحظات عارفين بمكانة الآخر، فكلاهما من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وكلاهما من القربى الذين أمر بمودّتهم، ولهذا لم يتزوّج علي عليه السلام على الزهراء امرأة أُخرى إلّابعد وفاتها، كما فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالنسبة إلى خديجة، وفاء لحقّها، واحتراماً لمقامها.

ص:125


1- . مسند أحمد: 259/3؛ المصنّف لابن أبي شيبة: 527/7 برقم 4؛ تفسير الطبري: 9/22 برقم 21729.

محاولات يائسة للنيل من علي وفاطمة عليهما السلام

لكن بعض الأيادي دسّت - مع الأسف - في التاريخ أباطيل للتقليل من شأن هذين الزوجين الطاهرين، والحطّ من مكانتهما، فنسبت إليهما التنازع، والتشاجر، أو نسبت إلى فاطمة شكاية عليّ عليه السلام إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأوردت في هذا المجال روايات مختلقة، لا أساس لها من الصحّة، تفندها أخلاق علي وفاطمة وتقواهما وزهدهما، وتكذّبُها ما جاء في شأنهما وجلالة قدرهما من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

وقد استند أعداء الإسلام التقليديون إلى أمثال هذه الروايات لمسخ صورة الإسلام الحنيف وتشويه سمعة رجاله العظماء ونسائه الخالدات الطيبات.

فهذا هو المستشرق النصراني الحاقد الأُستاذ إميل در منغم في كتابه المليء بالأباطيل: «حياة محمّد» ترجمة الأُستاذ محمّد عادل زعيتر بعد أن يلصق برسول الإسلام تهماً عجيبة ويصفه بالبدويّ الحمس، يقع في علي وفاطمة عليهما السلام!!

فتارة يقول: كانت فاطمة عابسة دون رقية جمالاً، ودون زينب ذكاءً، وإنّها لم تكن ترغب في عليّ لأنّها كانت تعدّ علياً دميماً محدوداً مع عظيم شجاعته!! وإنّ علياً كان غير بهيّ الوجه.. و... و.. مع أنّه كان تقياً شجاعاً صادقاً وفياً مخلصاً صالحاً مع توانٍ وتردد!!

وكان إذا عاد إلى منزله من العمل بشيء من القوت قال لزوجته فاطمة عابساً:

كلي واطعمي الأولاد!! وكان علي يحرد(1) بعد كلّ منافرة ويذهب لينام في المسجد، وكان حموه يربّته على كتفه ويعظه ويوفّق بينه وبين فاطمة إلى حين،

ص:126


1- . حرد يحرد حروداً: إذا ترك أهله وقومه وتحوّل عنهم. صحاح الجوهري: 464/2، مادة «حرد».

وممّا حدث أن رأى النبيّ ابنته في بيته ذات مرة وهي تبكي من لكم عليّ لها!!

ثم يقول: إنّ محمّداً - مع امتداحه قدمَ علي في الإسلام إرضاءً لابنته - كان قليل الالتفات إليه وكان صهرا النبيّ الأمويان: عثمان الكريم وأبو العاص أكثر مداراةً للنبيّ من عليّ، وكان عليٌ يألم من عدم عمل النبيّ على سعادة ابنته، ومن عدّ النبيّ له غير قوّامٍ بجليل الأعمال، فالنبيّ وإن كان يفوّض إليه ضرب الرقاب كان يتجنّب تسليم قيادة إليه!!(1)

إلى غير ذلك من الترّهات والسخافات الّتي ألصقها تارة برسول اللّه الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، وأُخرى بحبيبه وابن عمه ووصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

العلّامة الأميني يرد على افتراءات المستشرق النصراني الحاقد

إنّ أفضل إجابة عن هذه الافتعالات هو ما كتبه العلّامة الأميني حيث يقول:

كلّ ما في الكتاب من تلكم الأقوال المختلقة، والنسب المفتعلة إن هي إلّا كلم الطائش، تخالف التاريخ الصحيح، وتضادّ ما أصفقت عليه الأُمَّة الإسلاميَّة، وما أخبر به نبيّها الأقدس.

هل تناسب تقوّلاته في فاطمة مع قول أبيها صلى الله عليه و آله و سلم: «فاطمة حوراء إنسيّة كلّما اشتقتُ إلى الجنَّة قبَّلتها؟!»(2).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ابنتي فاطمة حوراء آدميَّة؟!»(3).

ص:127


1- . هذه المقتطفات أُخذت من كتاب حياة محمّد: 197-199. ولاحظ الغدير: 16/3-17.
2- . تاريخ الخطيب البغدادي: 293/5؛ كشف الغمة: 87/2.
3- . الصواعق المحرقة: 160، الباب الحادي عشر؛ كنز العمال: 109/2 برقم 34226؛ ينابيع المودة: 121/2 برقم 354، وص 450 برقم 243.

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «فاطمة هي الزهرة؟»(1).

أو قول أُمّ أنس بن مالك: كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر، أو الشمس كفّر غماماً، إذا خرج من السحاب، بيضاء مشربة حمرة، لها شعر أسود، من أشدِّ الناس برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شبهاً، واللّه كما قال الشاعر:

بيضاء تسحب من قيام شعرها وتغيب فيه وهو جثلٌ أسحمٌ (2)

فكأنَّها فيه نهارٌ مشرقٌ وكأنَّه ليلٌ عليها مظلم(3)

ولقبها الزهراء المتسالم عليه يكشف عن جليَّة الحال.

وهل يساعد تلك التحكّمات في ذكاء فاطمة وخلقها قول أُمّ المؤمنين خديجة (رضي اللّه عنها): كانت فاطمة تحدِّث في بطن أُمِّها، ولمّا ولدت فوقعت حين وقعت على الأرض ساجدةً رافعةً إصبعها؟!(4). أو يلائمها قول عائشة: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً وحديثاً برسول اللّه في قيامه وقعوده من فاطمة، وكانت إذا دخلت على رسول اللّه قام إليها فقبّلها ورحَّب بها، وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه؟!(5).

وفي لفظ البيهقي في السنن: ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً من

ص:128


1- . نزهة المجالس لعبد الرحمن الصفوري الشافعي (المتوفّى 658 ه): 222/2؛ أمالي الطوسي: 517 برقم 38 (1131)، المجلس الثامن عشر.
2- . جثل الشعر: كثر والتف واسودّ فهو جثل، سحم فهو اسحم: اسود.
3- . مستدرك الحاكم: 161/3؛ مقتل الحسين: 70، ط الغري؛ تاريخ جرجان لحمزة بن يوسف السهمي (المتوفّى 427 ه): 171.
4- . ذخائر العقبى للطبري: 45؛ نزهة المجالس: 227/2؛ ينابيع المودّة للقندوزي: 135/2.
5- . سنن الترمذي: 361/5 برقم 3964، باب ما جاء في فضل فاطمة عليها السلام؛ مستدرك الحاكم: 272/4؛ مطالب السؤول لابن طلحة: 36؛ ذخائر العقبى: 40-41.

فاطمة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. الحديث.(1)

وهل توافق مخاريقه في الإمام عليّ صلوات اللّه عليه، وعدم بهاء وجهه، وعدّ فاطمة له دميماً وكونه عابساً مع ماجاء في جماله البهيِّ: إنّه كان حسن الوجه كأنَّه قمر ليلة البدر، وكأنَّ عنقه إبريق فضَّة(2) ضحوك السنِّ (3) فإن تبسَّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم؟!(4)

وأين هي من قول أبي الأسود الدؤلي من أبيات له؟!:

إذا استقبلتَ وجه أبي تراب رأيتَ البدر حار الناظرينا(5)

نعم:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله فالناس أعداءٌ له وخصومُ

كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغضاً: إنّه لدميمُ

أو يَخبرك ضميرك الحرّ في علي ما سلقه الرجل به من (التواني والتردُّد)؟!

وعليُّ ذلك المتقحم في الأهوال، والضارب في الأوساط والأعراض في المغازي والحروب؛ وهو الّذي كشف الكرب عن وجه رسول اللّه في كلّ نازلة وكارثة منذ صدع بالدين الحنيف، إلى أن بات على فراشه وفداه بنفسه، إلى أن سكن مقرَّه الأخير.

ص:129


1- . سنن البيهقي: 101/7؛ مستدرك الحاكم: 154/3؛ صحيح ابن حبّان: 403/15.
2- . كتاب صفّين: 233؛ الاستيعاب: 1123/3؛ الرياض النضرة: 107/3؛ كشف الغمة: 76/1؛ الفصول المهمة: 598/1؛ ذخائر العقبى: 57.
3- . تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 349/1؛ أُسد الغابة: 39/4؛ ينابيع المودّة: 146/3.
4- . حلية الأولياء: 84/1؛ تاريخ ابن عساكر: 401/24-402، المحاسن والمساوئ: 32/1؛ نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: 135؛ مطالب السؤول: 180.
5- . تذكرة السبط: ص 104؛ الوافي بالوفيات للصفدي: 182/21.

أليس عليٌّ هو ذلك المجاهد الوحيد الّذي نزل فيه قوله تعالى: «أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ» (1). وقوله تعالى: «وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ» (2).(3)

فمتى خلا عليٌّ عن مقارعة الرجال والذبِّ عن قدس صاحب الرّسالة حتّى يصحّ أن يُعزى إليه توان أو تردّد في أمر من الأُمور؟! غير أنّ القول الباطل لا حدَّ له ولا أمد.

وهل يتصوَّر في أميرالمؤمنين تلك العشرة السيّئة مع حليلته الطاهرة؟! والنبيُّ يقول له: «أشبهت خَلقي وخُلقي وأنت من شجرتي الّتي أنا منها»(4).

وكيف يراه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أفضل أُمَّته وأعظمهم حلماً، وأحسنهم خلقاً، ويقول:

«عليٌّ خير أُمَّتي أعلمهم علماً وأفضلهم حلماً»؟!(5).

ويقول لفاطمة: «إنّي زوَّجتكِ أقدم أُمَّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً»؟!(6).

ويقول لها: «زوّجتكِ أقدمهم سلماً، وأحسنهم خُلقاً»؟!(7).

يقول هذه كلّها وعشرته تلك كانت بمرأى منه ومسمع؟! أفك الدجّالون، لقد

ص:130


1- . التوبة: 19.
2- . البقرة: 207.
3- . راجع: «الغدير»: 16/3-19.
4- . الغدير: 20/3 نقلاً عن تاريخ بغداد للخطيب: 171/11، برقم 5870.
5- . الغدير: 20/3.
6- . مسند أحمد: 26/5، الرياض النضرة: 160/3؛ ذخائر العقبى: 78؛ مجمع الزوائد: 114/9، وصحّحه ووثّق رجاله؛ كشف الغمة: 84/1 و 114 و 148؛ تاريخ مدينة دمشق: 126/42.
7- . أخرجه أبو الخير الحاكمي كما في الرياض النضرة: 144/3، وفيه: أقدمهم إسلاماً.

كان عليٌّ عليه السلام كما أخبر به النبيُّ الصادق الأمين.

وهل يقبل شعورك ما قذف به الرجل (فضَّ اللّه فاه) عليّاً بلكم فاطمة بضعة المصطفى؟! وعليٌّ هو ذاك المقتص أثر الرسول وملأ مسامعه قوله صلى الله عليه و آله و سلم لفاطمة:

«إنّ اللّه يغضب لغضبكِ، ويرضى لرضاكِ»(1).

وقوله صلى الله عليه و آله و سلم وهو آخذ بيدها: «مَن عرف هذه فقد عرفها، ومَن لم يعرفها فهي بضعةٌ منّي، هي قلبي وروحي الّتي بين جنبيَّ، فمَن آذاها فقد آذاني»(2).

وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «فاطمة بضعةٌ منّي، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها»(3).

وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «فاطمة بضعةٌ مني، فمن أغضبها فقد أغضبني»(4).

وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «فاطمة بضعةٌ منّي، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها»(5).

وهل يقصر امتداح النبيّ عليّاً بقدم إسلامه؟! حتّى يتفلسف في سرِّه ويكون

ص:131


1- . مستدرك الحاكم: 154/3 و صحّحه؛ مجمع الزوائد: 203/9؛ ذخائر العقبى: 39؛ تذكرة السبط: 175، مقتل الخوارزمي: 52/1، كفاية الطالب: 219؛ كنز العمال: 674/13 برقم 37725، عن الحاكم وابن النجار؛ ميزان الاعتدال: 492/2 برقم 4560؛ الإصابة: 266/8؛ الصواعق المحرقة: 175؛ الإسعاف: 171 عن الطبراني؛ ينابيع المودة: 57/2 برقم 33، و ص 132 برقم 375، و ص 464 برقم 293.
2- . الفصول المهمة: 664/1؛ كشف الغمة: 94/2؛ نور الابصار: 45.
3- . صحيح مسلم: 141/7، باب فضائل فاطمة؛ سنن ابن ماجة: 644/1 برقم 1998.
4- . صحيح البخاري: 219/4، باب مناقب فاطمة عليها السلام؛ ينابيع المودة: 52/2.
5- . مستدرك الحاكم: 158/3؛ ينابيع المودّة: 98/2 برقم 244؛ الصواعق المحرقة: 188.

ذلك إرضاءً لابنته، على أنّ امتداحه بذلك لو كان لتلك المزعمة لكان يقتصر صلى الله عليه و آله و سلم على قوله لفاطمة في ذلك وكان يتأتّى الغرض به، فلماذا كان يأخذ صلى الله عليه و آله و سلم بيد عليٍّ في الملأ الصحابي تارةً ويقول: «إنَّ هذا أوَّل مَن آمن بي، وهذا أوّل مَن يصافحني يوم القيامة؟» ولماذا كان يخاطب أصحابه أُخرى بقوله: «أوّلكم وارداً عليَّ الحوض أوّلكم إسلاماً عليّ بن أبي طالب»؟!

وكيف خفي هذا السرّ المختلق على الصحابة الحضور والتابعين لهم بإحسان فطفقوا يمدحونه عليه السلام بهذه الإثارة كما يروى عن: سلمان الفارسي، أنس بن مالك، زيد بن أرقم، عبداللّه بن عبّاس، عبداللّه بن حجل، هاشم بن عتبة، مالك الأشتر، عبداللّه بن هاشم، محمد بن أبي بكر، عمرو بن الحمق، أبوعمرة عديّ بن حاتم، أبي رافع، بريدة، جندب بن زهير، أُمّ الخير بنت الحريش.

وهل القول بقلّة إلتفات النبيّ إلى عليّ يساعده القرآن الناطق بأنَّه نفس النبيِّ الطاهر؟! أو جعل مودَّته أجر رسالته؟!

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم في حديث الطير المشويِّ الصحيح المرويّ في الصحاح والمسانيد: اللّهم أئتني بأحبِّ خلقك إليك ليأكل معي؟!(1)

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم لعائشة: «إنّ عليّاً أحبّ الرجال إليَّ، وأكرمهم عليّ، فاعرفي له حقّه وأكرمي مثواه؟!»(2).

ص:132


1- . لاحظ: السنن الكبرى للنسائي: 107/5 برقم 8398؛ سنن الترمذي: 300/5 برقم 3805؛ مستدرك الحاكم: 130/3 وصحّحه وقال: وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زيادة على ثلاثين نفساً ثم صحّت الرواية عن علي وأبي سعيد الخدري وسفينة؛ مجمع الزوائد: 126/9؛ الرياض النضرة: 114/3؛ مطالب السؤول: 89،...
2- . أخرجه الحافظ الخجندي كما في الرياض: 116/3، وذخائر العقبى: 62؛ أُسد الغابة: 548/5؛ ينابيع المودّة: 245/1 برقم 24.

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أحبّ الناس إليّ من الرجال عليٌّ؟!».

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليٌّ خير من أتركه بعدي؟!»(1).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «خير رجالكم عليُّ بن أبي طالب، وخير نسائكم فاطمة بنت محمّد»؟!(2).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليٌّ خير البشر فمن أبى فقد كفر»(3).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن لم يقل عليٌّ خير الناس فقد كفر؟!»(4).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: في حديث الراية المتّفق عليه: «لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّه اللّه ورسوله ويحبّ اللّه ورسوله»؟(5)

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليٌّ منّي بمنزلة الرأس (رأسي) من بدني أو جسدي»؟(6).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليٌّ منّي بمنزلتي من ربّي؟»(7).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليٌّ أحبّهم إليَّ وأحبّهم إلى اللّه»(8).

ص:133


1- . لاحظ: مجمع الزوائد: 113/9؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 228/13؛ كنز العمال: 610/11 برقم 32952؛ شواهد التنزيل للحسكاني: 98/1 برقم 115؛ كشف الغمة: 156/1 و 157.
2- . تاريخ بغداد للخطيب: 157/5 برقم 2595؛ تاريخ مدينة دمشق: 167/14؛ ينابيع المودّة: 275/2 برقم 788؛ مناقب ابن شهر آشوب: 268/2.
3- . تاريخ مدينة دمشق: 372/42 و 373؛ مناقب علي لابن مردويه الاصفهاني: 109 برقم 122؛ كشف الغمّة: 155/1؛ ينابيع المودة: 78/2 برقم 80 و 81 و ص 273 برقم 779 و 784.
4- . تاريخ الخطيب البغدادي: 409/3، عن ابن مسعود؛ كنزالعمال: 625/11 برقم 33046؛ تاريخ مدينة دمشق: 372/42.
5- . صحيح البخاري: 207/4، باب مناقب علي.
6- . الجامع الصغير للسيوطي: 177/2 برقم 5596؛ كنز العمال: 603/11 برقم 32914؛ فيض القدير للمناوي: 471/4؛ كشف الغمة: 300/1؛ ينابيع المودّة: 167/1 برقم 6 و ج 77/2 برقم 72.
7- . الرياض النضرة: 119/3؛ ذخائر العقبى: 64.
8- . تاريخ الخطيب البغدادي: 172/1.

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ: «أنا منك وأنت مني. أو: أنت منّي وأنا منك»؟(1).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليٌّ منّي وأنا منه(2)، وهو وليُّ كلّ مؤمن بعدي»؟(3).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم في حديث البعث بسورة البراءة المجمع على صحّته: «لا يذهب بها إلّارجلٌ منّي وأنا منه»(4).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لحمك لحمي ودمك دمي والحقُّ معك»؟(5).

أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ما من نبيّ إلّاوله نظير في أُمَّته وعليٌّ نظيري»؟(6).

أو ما صحَّحه الحاكم وأخرجه الطبراني عن أُمّ سلمة قالت: كان رسول اللّه

ص:134


1- . صحيح البخاري: 168/3، كتاب الصلح، باب كيف يكتب. و ج 207/4، باب مناقب علي، و ج 85/5، باب عمرة القضاء.
2- . مسند أحمد: 164/4 و 165؛ سنن ابن ماجة: 44/1 برقم 119؛ فضائل الصحابة للنسائي: 15.
3- . مسند أحمد: 438/4؛ مستدرك الحاكم: 134/3؛ مجمع الزوائد: 120/9؛ مسند أبي داود الطيالسي: 111 و 360؛ المصنّف لابن أبي شيبة: 504/7 برقم 58؛ السنن الكبرى للنسائي: 132/5 برقم 8473؛ خصائص النسائي: 98؛ مسند أبي يعلى الموصلي: 293/1؛ صحيح ابن حبّان: 374/15؛ الرياض النضرة: 129/3؛ تاريخ مدينة دمشق: 198/42 و 199؛ ميزان الاعتدال: 410/1؛ تاريخ الإسلام للذهبي: 631/3 و ج 71/11؛ كشف الغمة: 177/1 و 295؛ ينابيع المودّة: 171/1 برقم 16 و ص 172 برقم 20؛ دخائر العقبى: 68 و 87. وقد أفتى ابن تيمية بتضعيف هذا الحديث وتكذيبه في منهاج السنّة: 35/5-36 و ج 391/7 وللمؤلّف بحث مفصّل في الرد على ابن تيمية. راجع ابن تيمية فكراً ومنهجاً: 299-302.
4- . مسند أحمد: 331/1؛ مجمع الزوائد: 119/9؛ خصائص أمير المؤمنين عليه السلام للنسائي: 63؛ الرياض النضرة: 174/3؛ ينابيع المودّة: 111/1.
5- . الغدير: 23/3؛ إحقاق الحق: 356/22؛ توضيح الدلائل للشافعي الشيرازي: 176؛ آل محمد لحسام الدين المردي الحنفي: 370 نقلاً عن إحقاق الحق: 356/22-358.
6- . الرياض النضرة: 120/3؛ جواهر المطالب في مناقب الإمام علي: 61/1؛ ينابيع المودّة: 154/2 برقم 430.

إذا أغضب لم يجترئ أحدٌ أن يكلّمه غير عليّ؟(1).

أو قول عائشة: واللّه ما رأيت أحداً أحبَّ إلى رسول اللّه من عليّ ولا في الأرض امرأة كانت أحبُّ إليه من امرأته؟(2).

أو قول بريدة وأُبيّ: أحبُّ الناس إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من النساء فاطمة، ومن الرجال عليٌّ؟!(3).

أو حديث جُميع بن عمير قال: دخلت مع عمَّتي على عائشة فسألت أيَّ الناس أحبّ إلى رسول اللّه؟! قالت: فاطمة. فقيل: مِن الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علمت صوّاماً قوّاماً(4).

وكيف كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يُقدِّم الغير على عليّ في الإلتفات إليه؟! وهو أوَّل رجل إختاره اللّه بعده من أهل الأرض لمّا اطّلع عليهم كما أخبر به صلى الله عليه و آله و سلم فاطمة بقوله: «إنّ اللّه اطَّلع على أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبيّاً، ثمّ اطَّلع الثانية فاختار بعلكِ فأوحى إليَّ فأنكحته واتّخذته وصيّاً»(5).

وبقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ اللّه اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوكِ والآخر

ص:135


1- . مستدرك الحاكم: 130/3؛ أنساب الأشراف: 107/2.
2- . مستدرك الحاكم: 154/3 وصحّحه؛ مسند أبي يعلى الموصلي: 270/8؛ خصائص النسائي: 109، الرياض النضرة: 116/3.
3- . خصائص النسائي: 110؛ مستدرك الحاكم: 155/3، صحّحه هو والذهبي.
4- . سنن الترمذي: 362/5 برقم 3965؛ مستدرك الحاكم: 157/3؛ الرياض النضرة: 115/3؛ تاريخ مدينة دمشق: 263/42.
5- . أخرجه الطبراني عن أبي أيوب الأنصاري: 171/4؛ كنز العمال: 604/11 برقم 32923؛ وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد: 165/9 عن علي الهلالي.

زوجكِ»(1).

وإنّي لا يسعني المجال لتحليل كلمة الرجل: وكان صهرا النبيّ الأمويّان...

إلخ، وحسبك في مداراة عثمان الكريم حديث أنس عن رسول اللّه لمّا شهد دفن رقيّة ابنته العزيزة وقعد على قبرها ودمعت عيناه فقال: أيّكم لما يُقارف الليلة أهله؟! فقال أبو طلحة: أنا فأمره أن ينزل في قبرها.

قال ابن بطّال: أراد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يحرم عثمان النزول في قبرها وقد كان أحقّ الناس بذلك لأنّه كان بعلها وفقد منها علقاً لا عوض منه، لأنّه حين قال عليه السلام أيّكم لم يُقارف الليلة أهله؟! سكت عثمان ولم يقل: أنا. لأنَّه قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه، ولم يشغله الهمُّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن المقارفة، فحرم بذلك ما كان حقّاً له وكان أولى به من أبي طلحة وغيره. وهذا بيّنٌ في معنى الحديث ولعلّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئاً، لأنّه فعل فعلاً حلالاً، غير أنَّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغاً يشغله حتّى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير صريح(2). وما عساني أن أقول في أبي العاص الّذي كان على شركه إلى عام الحديبيّة، وأُسر مع المشركين مرّتين، وفرّق الإسلام بينه وبين زوجته زينب بنت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ستَّ سنين، وهاجرت مسلمة وتركته لشركه، ولم ترد قطّ بعد إسلامه كلمة تُعرب عن صلته مع النبيّ ومداراته له فضلاً عن مقايسته بعليٍّ أبي ذُرِّيَّته وسيّد عترته.

وقد اتّهم الرجل نبيّ الإسلام بعدم العمل على سعادة ابنته الطاهرة المطهّرة

ص:136


1- . المعجم الكبير للطبراني: 77/11؛ كنز العمال: 108/13 برقم 36355؛ تاريخ بغداد: 418/4؛ تاريخ مدينة دمشق: 135/42.
2- . الروض الأنف: 127/3-128.

بنصَّ الكتاب العزيز، ويقذف عليّاً بالتألّم من ذلك، وكان صلى الله عليه و آله و سلم إذا أصبح أتى باب عليٍّ وفاطمة وهو يقول: «يرحمكم اللّه إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً». وكان لم يزل يقول: «فاطمة أحبّ الناس إليّ».

ويقول: «أحبّ الناس إليَّ من النساء فاطمة».

ويقول: «أحبُّ أهلي إليَّ فاطمة».

وكان عمر يقول لفاطمة: واللّه ما رأيت أحداً أحبَّ إلى رسول اللّه منكِ (1).

وما أقبح الرجل في تقوّله على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعدّه لعليٍّ غير قوّام بجليل الأعمال. وقد وازره وناصره وعاضده بتمام معنى الكلمة بكلِّ حول وطول من بدء دعوته إلى آخر نفس لفظه، فصار بذلك له نفساً وأخاً ووزيراً ووصيّاً وخليفةً ووارثاً ووليّاً بعده، وكان قائده الوحيد في حروبه ومغازيه، وهو ذلك الملقَّب بقائد الغُرّ المحجّلين وحياً من اللّه العزيز في ليلة أسرى بنبيّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى(2).(3)

العقّاد والنيل من فاطمة عليها السلام

ممّا يُعجب بل ويؤسف أن نجد العقاد كاتب النيل الكبير يذهب هذا المذهب، وينحو هذا المنحى ذاته من سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأُمّ الإمامين الهمامين الحسن والحسين عليهما السلام، فيسطر في كتابه «فاطمة

ص:137


1- . مستدرك الحاكم: 155/3 وصحّحه؛ كنز العمال: 674/13 برقم 37724.
2- . مستدرك الحاكم: 138/3 وصحّحه؛ الرياض النضرة: 137/3؛ كشف الغمة: 18/2؛ الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: 573.
3- . لاحظ: الغدير: 19/3-25.

الزهراء والفاطميّون»(1) شيئاً من هذه العبارات والمقالات التافهة الّتي لا يليق بكاتب مثله عرف بالتحقيق والفهم، أن يدرجها في مؤلّفه.

ولا يجاب على ما كتبه العقّاد ومن حذا حذوه إلّابما مرّ في كلام العلّامة والمحقّق الخبير الأميني رحمه الله. ففيه كفاية لمن تحرّى الحقيقة عن أهل البيت عليهم السلام.

هذا وينبغي أن نذكّر القارئ الكريم بنفس ما كتبه العقّاد في كتابه وممّا يعتبر شهادة دامغة تفنّد ما بدر منه من قول غير لائق في شأن عليّ والزهراء، فهو يقول:

في كلّ دين صورة للأُنوثة الكاملة المقدّسة يتخشّع بتقديسها المؤمنون كأنّما هي آية اللّه فيما خلق من ذكر وأُنثى.

فإذا تقدّست في المسيحية مريم العذراء، ففي الإسلام لاجرم تتقدّس صورة فاطمة البتول.

ثم يقول: من الواضح البيّن أنّ الزهراء أخذت مكانها الرفيع بين أعلام النساء في التاريخ؛ لأنّها بنت نبي وزوجة إمام وأُمّ شهداء(2).

فإذا كانت هذه هي صورة الزهراء البتول، فكيف يصدّق العقل ما حاكته أيدي الدسّ في تاريخ هاتين القمّتين الطاهرتين من قمم الإسلام الشامخة؟!

ص:138


1- . راجع: فاطمة الزهراء والفاطميّون: 32 و 33.
2- . راجع: فاطمة الزهراء والفاطميّون: 51 و 52.

32 جرائم «بني قينقاع»

اشارة

كانت معركة «بدر» بمثابة طوفان شديد ضدّ الوثنية في قلب شبه الجزيرة العربية.

طوفان اقتلع بعض جذور الوثنية العريقة، فقد قُتِلَ طائفة من صناديد قريش، وأُسرت أُخرى وهرب الباقون بمنتهى الذل والصغار، وانتشر خبر هزيمة جيش قريش المتغطرس في جميع أنحاء وربوع الجزيرة العربية.

ولكن ساد بعد هذا الطوفان المرعب، شيء من الهدوء المقرون بالاضطراب والقلق، هدوء كان منشؤه التفكير في مستقبل شبه الجزيرة العام وما تخبّئه الأيام القادمة لسكانّها على أثر التحوّل الجديد.

وكانت مخاوف القبائل الوثنية، ويهود يثرب الأثرياء ويهود خيبر ووادي القرى تزداد يوماً بعد يوم من تقدّم الإسلام المطرّد، وتعاظم شوكته، واشتداد أمر حكومته الفتية، وكان جميع هؤلاء يجدون مستقبلهم مهدّداً بخطر جديّ، فإنّهم لم يتوقّعوا أن يكسب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المهاجر من مكّة كلّ هذه النجاحات الباهرة، وأن يبلغ من القوّة ذلك المبلغ، بحيث يقهر بقواه المحدودة قوّة قريش الكبرى

ص:139

ويكسر شوكتها العريقة!!

وكان يهود بني قينقاع الذين يقطنون داخل المدينة، ويمسكون بخيوط اقتصادها، أشدَّ خوفاً من غيرهم، وأكثر قلقاً على مستقبل أمرهم، لأنّهم كانوا يخالطون المسلمين مخالطة كاملة، وكان وضعهم يختلف عن وضع يهود خيبر ووادي القرى الذين كانوا يعيشون خارج المدينة بعيداً عن مركز قوة المسلمين ومنطقة حاكميتهم!!

من هنا بدأ يهود بني قينقاع قبل غيرهم من طوائف اليهود العائشة في تلك الديار بتدبير المؤامرات، وممارسة الأعمال الإيذائية ضدّ المسلمين والقيام بالحرب الباردة (الإعلامية) ضدّهم، وذلك بنشر الأكاذيب وبثّ المعلومات الكاذبة، وإطلاق الشعارات القبيحة، وإنشاد القصائد الّتي من شأنها الإساءة إلى المسلمين وتحقيرهم، وتخريب معنوياتهم.

وبهذا يكون اليهود قد بدأوا عمليّاً بنقض معاهدة التعايش السلمي الّتي ذكرناها سلفاً، والّتي عقدها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معهم في إبّان قدومه المدينة.

ولم تكن هذه الحرب الباردة الشّريرة لتبرّر تصدّي القوى الإسلامية لها بالحرب الساخنة، واستعمال السلاح، لأنّ ما يمكن حلّه بسلاحِ المنطق لا يحبذ أن يعالَج بمنطق السلاح، وخاصّة أنّ الرد الساخن والمسلّح يؤدّي إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المدينة، والحال أنّ المحافظة على الوحدة السياسية، واستتباب الأمن والاستقرار في المدينة كان ممّا يهمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم جدّاً وهو يواجه أعداءً أشدّاء من الخارج.

فلم يكن من مصلحة الإسلام والمسلمين تفجير الموقف في عاصمة الإسلام يومئذ.

ص:140

ولهذا - وبغية إتمام الحجّة على يهود بني قينقاع - وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم في سوقهم بعد أن جمعهم فيه ثم قال لهم:

«يا معشر يهود احذروا من اللّه مِثل ما نزلَ بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنّكم قد عرفتُم أنّي نبيٌ مرسَلٌ، تجدون ذلكَ في كتابكم وعهد اللّه إليكم».

وهنا نزل قول اللّه تعالى:

«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ * قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (1).

ولكن اليهود المغرورين المتكبّرين لم يشكروا نصيحة النبي هذه أو يسكتوا حسب، بل ردّوا عليه بعناد ولجاج وصلافة قائلين: يا محمّد إنّك ترى أنّا قومك! لا يغرنّك أنّك لقيتَ قوماً لا عِلمَ لهم بالحرب، فأصبتَ منهم فرصة، إِنّا واللّه لئن حاربناك لتعلمنَّ أنّا نحن الناس (أو إنّا واللّه أصحاب الحرب، ولئِن قاتلتنا لتعلمنَّ أنّك لم تقاتل مثلنا)!!(2).

فلم تترك كلمات يهود «بني قينقاع» الجوفاء، وتشدّقهم الفارغ بقوّتهم وقدرتهم على القتال والمواجهه أدنى أثر في نفوس المسلمين.

ولكن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد أتمّ عليهم الحجّة، فلم يعودوا معذورين حسب السياسة الإسلامية وقد أصبح ساعتئذ من اللازم الاحتكام إلى منطق السلاح بعد أن لم ينجع سلاح المنطق، ولم يقنع اليهود بضرورة تغيير مواقفهم، والتخلّي عن مؤامراتهم وخططهم الإيذائية ضد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين.

ص:141


1- . آل عمران: 12 و 13.
2- . سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 561/2؛ المغازي: 176/1.

أجل لابد من استخدام القوة مع هؤلاء اليهود الصلفين المتعنّتين وإلّا ازدادوا صلافة، وكثرت اعتداءاتهم.

ولهذا أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينتظر الفرصة المناسبة لتأديب تلك الجماعة المتعنّتة الوقحة.

لهيب الحرب يبدأ من شرارة

قد تؤدّي بعض الحوادث الصغيرة إلى سلسلة من التحوّلات والأحداث في المجتمعات الكبرى. يعني أن تتسبّب حادثة جزئية في انفجار الحوادث الكبرى، فيصفّي كلّ من طرفي النزاع حسابه مع الطرف الآخر، انطلاقاً من علل وأسباب أُخرى، وليست من تلك الحادثة الجزئية؟

فللمثال نشبت الحرب العالمية الأُولى - وهي إحدى أكبر الحوادث التاريخية في حياة البشر - من حادثة صغيرة تذرّعت بها الدول الكبرى، وتلك الحادثة الصغيرة الّتي أشعلت فتيل الحرب العالمية الأُولى هي اغتيال «الأرشيدوق فرانسيز فريديناند» ولي عهد النمسا في سراييفو.

فقد وقعت هذه الحادثة في 28 من شهر يونيو عام 1914 م وبعد شهر وعدّة أيام بدأت الحرب العالمية الأُولى بهجوم الألمان على بلجيكا، وأسفرت هذه الحرب المدمّرة الشاملة عن مقتل عشرة ملايين وجرح عشرين مليون من البشر(1).

ولقد انزعج المسلمون من صلافة يهود بني قينقاع، وردّهم الوقح على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يخاطبهم بأدب وينصحهم، وكانوا يتوقّعون أن يقوم اليهود

ص:142


1- . الموسوعة العربية الميسّرة: ص 700.

بعمل عدائي ليثوروا ضدهم، ويؤدّبوهم.

وبينا هم على هذه الحال إذ تعرّضت امرأة من العرب لاعتداء من اليهود، فأشعل هذا الحادث الموقف.

وإليك مفصّل تلك الحادثة:

جاءت امرأة من العرب إلى سوق بني قينقاع فجلست عند صائغ تبيع حليّاً لها أو تشتري، وكانت تبالغ في ستر وجهها عن اليهود، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد رجلٌ من يهود بني قينقاع إليها وجلس من ورائها، وهي لا تشعر فعقد أسفل ثوبها إلى ظهرها، فلمّا قامت المرأة بدت عورتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين إلى ذلك الرجل اليهودي فقتله، فاجتمعت بنو قينقاع، وشدّوا على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهلُ المسلم القتيل المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون غضباً شديداً.

ولقد كان من الطبيعي أن يثب الرجل المسلم على ذلك اليهودي الوقح الشرير الّذي فعل بالمرأة العربية ذلك الصنع القبيح، فإنّ قضية «الأعراض» قضية حياتية وحسّاسة في أي مجتمع، فهي قضية شرف، وقد كان هذا الأمر يحظى في المجتمع العربيّ خاصّة بأهمّية كبرى، وخاصّة عند البدو الرحّل منهم، فكم من دماء جرت لعدوان على عرض ديس، أو تعرّض للتحرّش.

من هنا أزعج وضع تلك المرأة الغريبة وحالها المؤلم واضطرابها الرجل المسلم، وأشعل غيرته فوثب على اليهودي المعتدي وقتله.

وكان من الطبيعي أيضاً أن لا يمرّ هذا العمل دون رد من اليهود فيثب اليهود بأجمعهم على ذلك المسلم الغيور ويقتلوه، ويريقوا دمه بأجمعهم.

نحن هنا لا يهمّنا أن نعرف أنّ قتل ذلك الرجل اليهودي لازدرائه بامرأة كان

ص:143

أمراً صحيحاً منطقياً يتّفق مع الموازين أم لا ينطبق.

ولكنّه ما من شك في أن وثوب مئات من الرجال واجتماعهم على قتل رجل مسلم واحد، وإراقة دمه، عملٌ بالغ الشناعة والقبح.

من هنا تسبّب انتشارُ هذا الخبر (أي مقتل رجل مسلم واحد على أيدي مجموعة كبيرة من الرجال بصورة مفجعة) في إثارة المسلمين ونفاد صبرهم، ودفعهم إلى العزم على حسم الموقف حسماً كاملاً وبالتالي هدم قلعة الفساد على رؤوس أصحابها القتلة.

فأحس «بنو قينقاع» بخطر الموقف، وأدركوا أنّه لم يعد من الصالح أن يبقوا في أسواقهم، ويواصلوا البيع والشراء، وقد تلبّد الجوّ بالغيوم الداكنة على أثر العمل الفضيع والجناية الكبرى الّتي ارتكبوها.

من هنا تركوا أسواقهم بسرعة، وعادوا إلى قلاعهم المحصّنة، وتحصّنوا فيها، وكان ذلك منهم انسحاباً خانعاً بعد ذلك التشدّق الصلف!!

ولقد أخطاؤا هذه المرة أيضاً، إذ ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم، من انتقام اللّه.

ولو أنّهم اعتذروا لخطئهم، وأظهروا الندامة لكانوا يجلبون رضا المسلمين، ويحصلون على عفو النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهم يعرفون خلقه العظيم؛ وصفحه الكريم.

إلّا أنّ تحصّنهم كان آية عنادهم، واعلانهم الحرب، ونصبهم العداء الصريح للإسلام والنبيّ والمسلمين.

فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمحاصرتهم، ومنع من دخول أيّ إمداد إليهم، كما منع من اتّصالهم بأي أحد خارج حصونهم.

فحصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة أشدّ الحصار، حتّى قذف اللّه في قلوبهم الرعب، وفقدوا القدرة على المقاومة، ورضوا بأن ينزلوا عند حكم

ص:144

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فيهم!!

وأراد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يؤدّب تلك الجماعة الّتي كانت أوّل مَن نقض العهد ونبذ الميثاق تأديباً قاسياً، يكون عقاباً لهم وعبرة لغيرهم.

ولكن «عبداللّه بن أُبي بن سلول» الّذي كان من منافقي المدينة ويتظاهر بالإسلام، أصرّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يحسن معاملتهم، ولا يأخذهم بما فعلوا لحلف ومودّة كانت بينه وبين يهود من السابق، فانصرف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن ما كان يريد من تأديبهم الشديد، وعقوبتهم على كره منه(1)، ولكن أمر بأن يُجلوا من المدينة، ولا يبقوا فيها شريطة أن يتركوا أسلحتهم، وأموالهم، ودروعهم.

فنزلوا على حكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أحد المسلمين بقبض أموالهم وأسلحتهم، وكلّف «عبادة بن الصامت» بإجلائهم من حصونهم، فعجّل عبادة في ترحيلهم وإجلائهم.

فخرجوا من المدينة ولحقوا بمنطقة تُدعى «أذرعات» وهي بلد في أطراف الشام.

وبإجلاء «بني قينقاع» عادت الوحدة السياسية إلى المجتمع في المدينة.

ص:145


1- . هذا مع العلم أنّ القرآن الكريم ندّد بمثل هذه الوساطة التي قام بها ذلك الرجل المنافق رغم تخفيف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم معاقبة اليهود، ورسم للمسلمين منهجاً في التعامل مع اليهود والنصارى إذ قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ * وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ» (المائدة: 51-53).

وكانت الوحدة السياسية هذه المرة مقرونة بالوحدة الدينية، إذ كان المسلمون يشكّلون الأغلبية الساحقة في المدينة، فلم يكن لغيرهم فيها شأن يذكر(1).

تقارير جديدة تصل إلى المدينة

من المعلوم أنّ الاخبار تنتشر بين الناس بسرعة في المناطق الصغيرة، على العادة.

من هنا فإنّ أنباء أكثر المؤامرات والتحركات المعادية للإسلام الّتي كانت تقع في المناطق المختلفة من شبه الجزيرة كانت تصل بسرعة - وعبر المسافرين المحايدين أو الاصدقاء المترصّدين - إلى مركز القيادة الإسلامية في المدينة. هذا مضافاً إلى أنّ هذا النوع من المعلومات كان يحظى لدى رسول الإسلام بأهمية كبرى، فيرصد لها من يأتي بها أوّلاً بأوّل، ولهذا كانت أكثر التحرّكات والمؤامرات يقضى عليها في مهدها بفضل الردّ السريع والمناسب الّذي كانت القيادة الإسلامية تقوم به في ضوء المعلومات الواردة إليها، أو الّتي حصلت عليها.

فبمجرّد أن تتضمّن هذه المعلومات، إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خبراً مفاده أنّ إحدى القبائل تعدّ قوة، وتستعدّ للهجوم على المدينة، كان صلى الله عليه و آله و سلم يبادر إلى بعث سرية أو يقود هو بنفسه مجموعة مناسبة لمحاصرة تلك القبيلة، وإفشال مؤامرتها، وإبطال تدبيرها قبل أن تستطيع فعل شيء، وكان هذا هو أُسلوب المباغتة الّذي استطاع به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يقضي على كثير من التحرّكات المعادية في مهدها.

وإليك مختصراً عن بعض تلك الغزوات الّتي وقعت في السنة الثانية من

ص:146


1- . لاحظ: المغازي: 177/1؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: 28/2 و 29؛ سيرة ابن هشام: 561/2-563.

الهجرة:

1. غزوة قرقرة الكُدْر(1):

كانت المنطقة الّتي تتمركز فيها قبيلة «بني سلم» تدعى «الكُدْر».

وقد بلغ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّ القبيلة المذكورة تهيِّئ، وتعدّ العدّة للهجوم على مركز الإسلام وعاصمته (المدينة). فخرج رسول اللّه بنفسه من المدينة بعد أن استخلف عليها أحد أصحابه وأوكل إليه إدارة المدينة في غيابه، وكان الّذي استخلفه هذه المرّة «ابن أُمّ مكتوم»، وخرج على رأس قوةٍ عسكريةٍ إلى مركز تلك القبيلة، فلمّا سمعوا بمسير القوى الإسلامية إليهم تفرّقوا، وعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة من غير قتال.

ثم بعث سرية بقيادة فارس من فرسانه يُدعى «غالب بن عبداللّه» إلى نفس تلك المنطقة، فوقع بينه وبينهم قتال محدود، وعاد «غالب» إلى المدينة ظافراً بعد أن استشهد ثلاثة من رجاله.

2. غزوة السويق:

كان عرب الجاهلية إذا نذروا ينذرون نذوراً غريبة.

فقد نذر أبوسفيان بعد معركة بدر أن لا يقارب زوجته ما لم يثأر من المسلمين لقتلى بدر، فكان عليه أن يقوم بهجوم على المدينة، ويقاتل النبيّ وأصحابه ليفي بنذره!!

فخرج من مكّة في مائتي راكب فجاء بني النضير ليلاً، يطلب مشورة من أحبار اليهود.

ص:147


1- . قرقرة الكدر: ناحية بين المعدن وبين المدينة، (الطبقات الكبرى لابن سعد: 31/2).

فلمّا كان في وقت السحر خرج فمر بالعريض فوجد رجلاً من الأنصار مع أجيرِ له، فقتل الأنصاريّ، وقتل أجيره، وحرّق بيتاً وحرثاً لهم بإرشاد من كبير اليهود «سلام بن مشكم»، ورأى أن يمينه قد حلّت، ثم ذهب هارباً، وخاف ملاحقة المسلمين له.

فعرف به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فندب أصحابه فخرجوا في أثره، وجعل أبوسفيان وأصحابه يتخفّفون فيلقون أكياس السويق (وهو القمح المقلّى المطحون الملتوت بالسمن أو العسل)، وهي عامّة زادهم، فجعل المسلمون يمرّون بها فيأخذونها.

فسُمّيت تلك الغزوة بغزوة السويق لهذا الشأن.(1)

3. غزوة ذي أمرّ

بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ قبيلة غطفان تجمع أفرادها، وتتأهب للعدوان على المدينة المنورة، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على رأس أربعمائة وخمسين رجلاً.

فلمّا سمع العدو بمسير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خافوا خوفاً شديداً فهربوا إلى رؤوس الجبال، فراراً من النبيّ والمسلمين.

فخرج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إليهم يبحث عنهم فلم يلاق أحداً منهم، وقد غيّبوا سرحهم وذراريهم في ذرى الجبال خوفاً وفرقاً.

فنزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «ذا أمرّ»(2) و عسكر معسكره هناك، فأصابهم مطرٌ كثير، فذهب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لحاجته، فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه، وقد جعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وادي «ذي أمرّ» بينه وبين أصحابه، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف،

ص:148


1- . لاحظ: المغازي: 182/1؛ الطبقات الكبرى: 30/2.
2- . واد بطريق فيد إلى المدينة (وفاء الوفا: 249/2).

وألقاها على شجرة، ثم اضطجع تحتها، والأعراب ينظرون إلى كلّ ما يفعل.

فقالت الأعراب لدعثور وكان سيّدها وأشجعها: قد أمكنك محمّد، وقد انفرد من أصحابه، حيث إن غَوَّث بأصحابه لم يُغَث حتّى تقتله.

فاختار سيفاً من سيوفهم صارماً ثم أقبل مشتملاً على السيف حتّى قام على رأس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالسيف مشهوراً، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مستلق على قفاه.

فقال بنبرة خشنة مهدّدة: يا محمّد من يمنعك منيّ اليوم؟ قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

اللّه.

فكان لهذه الكلمة أثر عجيب في نفس دعثور بحيث أُرعب، ووقع السيف من يده، فأخذه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقام به على رأسه، فقال: ومن يمنعُك منّي اليوم.

فقال: لا أحد.

ثم قال: فأنا أشهد أن لا إله إلّااللّه، وأنّ محمّداً رسول اللّه، واللّه لا أكثر عليك جمعاً أبداً.

فأعطاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سيفه ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقال:

أما واللّه لأنتَ خيرٌ منّي.

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أنا أحقّ بذلك منك.

فأتى قومه، وقصَّ عليهم ما جرى له مع النبيّ، وأنّه أسلم، ودعا قومه إلى الإسلام.(1)

أجل يكتب المؤرّخون في هذا المقام أنّ الرجل أسلم من فوره، ويجب أن نعلم أنّه لم يسلم خوفاً وفرقاً وتحت بارقة السيف؛ لأنّه بقي ثابتاً ومستمراً في

ص:149


1- . لاحظ: المغازي: 194/1-196.

إسلامه بعد ذلك وأخذ يدعو قومه كما أسلفنا، وهذا يدلّ على أنّه أسلم عن طواعية ورغبة، وأنّ إسلامه كان لتنبّه فطرته، ويقظة وجدانه، فإنّ فشله غير المتوقع، ونجاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّتي تمّت بطريقة خارقة للعادة جعلته ينتبه إلى عالمٍ آخر، وعرف بأنّ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ارتباطاً بعالم آخر، وأنّه مؤيّد بالتالي بقوةٍ عليا، وراء هذا العالم المادّي.

ولهذا السبب - وليس لسواه - أسلم، وقبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إسلامه، وبعد أن مشى خطوات ردّ إلى النبيّ سيفه الّذي أعاده إليه النبيّ قبل ذلك واعتذر إليه.

وقال: أنت أولى بهذا السيف؛ لأنّك قائد هذه السرية المصلحة.

قريش تغيّر مسير تجارتها

تعرّضت سواحل البحر الأحمر للخطر من قبل عناصر الجيش الإسلامي وحلفائهم، ولم يعد من الممكن مواصلة التجارة وإرسال القوافل التجارية عبرها.

من هنا تشاورت قريش فيما بينها، ودرست أوضاعها في ظلّ هذه المستجدات، واتّفقت على أنّه لو تركت التجارة لهلكت رؤوس أموالها وفنيت، وكان عليها أن تسلّم للمسلمين.

وإن واصلت التجارة لم تحرز في هذا المجال نجاحاً مادامت الطريق غير آمنة، ومادام يمكن أن تتعرض أموالها للمصادرة على أيدي المسلمين كلّما عثروا عليها.

فاقترح أحدهم التجارة إلى الشام عن طريق العراق فاستحسنوا رأيه جميعاً، وتهيّأت القافلة للحركة في الخط الجديد، وتولّى أبو سفيان وصفوان بنفسيهما مهمة الإشراف على تلك القافلة وإدارتها، واستخدما رجلاً من بني بكر يُدعى

ص:150

«فرات بن حيّان» ليدلّهما على الطريق.

قال المقريزي في «إمتاع الأسماع»: سمع رجل من المدينة (وهو سليط بن النعمان) بخبر خروج صفوان بن أُميّة في عيره وما معهم من الأموال فخرج من ساعته وأخبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب فأصابوا العير، وأفلت أعيان القوم، فقدموا بالعير فخمّسها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فبلغ الخمس عشرين ألف درهم، وقسّم مابقي على أهل السريّة، وكان فيمن أُسِرَ فرات بن حيّان فأسلم(1).

ص:151


1- . إمتاع الأسماع: 129/1-130.

حوادث السنة الثالثة من الهجرة

33 الدفاع عن الحريّة

غزوة أحد أو الدفاع عن الحريّة عند جبل أُحُد

لم تكن السنة الهجرية الثالثة بأقلّ من السنة الثانية من حيث وقوع الحوادث والوقائع الملفتة للنظر فيها.

فإذا وقعت في السنة الثانية من الهجرة غزوة «بدر»، فقد وقعت في السنة الثالثة منها غزوة «أُحد» وهما من أعظم معارك الإسلام وغزواته.

على أنّ غزوة «أُحد» لم تكن الغزوة الوحيدة الّتي وقعت في السنة الثالثة، بل وقعت أيضاً غزواتٌ أُخرى(1) إلى جنب طائفة من السرايا، الّتي اخترنا منها سرية واحدة وغزوتين فقط.

1. سرية محمّد بن مسلمة لقد وَصَل نبأ انتصار المسلمين في معركة «بدر» عن طريق رجلين من المسلمين.

ص:152


1- . مثل غزوة بحران وغزوة حمراء الأسد.

ولم يكن الجيش الإسلامي الظافر قد وصل إلى المدينة بعد، قال «كعب بن الأشرف» - وكان رجلاً من طي، ثم أحد بني نبهان وكانت أُمّه من يهود «بني النضير» وكان شاعراً قوياً، وخطيباً بارعاً - وهو منزعج من الفتح الّذي أصابه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمون في «بدر» فقال: واللّه لئِن كان محمّدٌ أصاب أشراف العرب وملوك الناس (ويعني سادة قريش وصناديدهم الذين قتلوا في بدر على أيدي المسلمين) لبطنُ الأرض خيرٌ من ظهرها!! وبدأ يبث الأكاذيب والشائعات في المدينة ومضى يشكّك في انتصارات المسلمين في بدر.

وقد كان يسيء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قصائده حتّى قبل معركة «بدر» ويحرّض الناس على المسلمين.

ثم إنّه لمّا تيقّن الخبر خرج حتّى قدم مكّة وجعل يحرّض قريشاً على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقد أنشد في هذا المجال أشعاراً يبكي فيها أصحاب القليب من قريش وقد ذكرتها المصادر التاريخية(1).

ثم رجع كعب هذا إلى المدينة فشبّب(2) بنساء المسلمين حتّى آذاهم!!

ولا شكّ أنّه بهذه المواقف المعادية كان من أظهر مصاديق المفسد في الأرض، الأمر الّذي آل إلى أن يقرّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم التخلّص منه، وكفاية المسلمين شرّه، وقد أوكل هذه المهمة الصعبة إلى «محمد بن مسلمة».

وقد خطّط «ابن مسلمة» للتخلّص من «كعب» خطةً رائعةً، وألّف لتنفيذها فريقاً كان من بينهم «أبو نائلة» الأخ الرضاعي لكعب بن الأشرف، ليمكن من هذا الطريق التموية على كعب وتنفيذ الخطة المذكورة.

ص:153


1- . لاحظ: المغازي: 121/2-122؛ سيرة ابن هشام: 564/2-565.
2- . لاحظ: سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 566/2.

فخرج أبو نائلة إلى كعب وجلسا يتحادثان، ويتبادلان الشعر.

ثم إنّ أبا نائلة قال لكعب - بعد أن طلب منه أن يُخرج كلّ مَن كان هناك من ذويه وأهله -: ويحك يابن الأشرف إنّي قد جئتك لحاجة أُريد ذكرها لك فاكتم عنّي، وإنّي كرهت أن يسمع القوم كلامنا، فيظنون! قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل (يعني رسول اللّه) علينا بلاء من البلاء، وعادتنا به العرب، ورمتْنا عن قوسٍ واحدةٍ، وقطّعت عنّا السبل حتّى جهدت الأنفس، وضاع العيال، وأصبحنا، قد جهدنا وجهد عيالنا.

فقال كعب: أما واللّه لقد كنتُ أُخبرك يا ابن سلامة إنّ الأمر سيصير إلى ما أقول.

فقال أبو نائلة: إنّي قد أردت أن تبيعنا طعاماً ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك، فقال: أترهنوني أبناءكم؟

فقال أبو نائلة: لقد أردت أن تفضحنا إنّ معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء.

فرضي كعب بن الأشرف بذلك.

وإنّما قال أبو نائلة هذا القول لابن الأشرف حتّى لا يستغرب إذا رأى السلاح بيد الرجال الذين سيأتون معه.

ثم خرج أبو نائلة من عند ابن الاشرف على ميعاد، فأتى أصحابه، فأخبرهم بما دار بينه وبين كعب، فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده، ثم أتوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عشاءً وأخبروه، فمشى معهم حتّى أتى البقيع، ثم وجّههم، ثم قال:

«انطلقوا على اسم اللّه، اللّهم أعِنهم».

ص:154

فَمضوا حتّى أتوا ابنَ الاشرف، فلمّا انتهوا إلى حصنِه هتف به أبو نائلة، وكان ابنُ الأشرف حديث عهدٍ بُعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: إنّك امرؤٌ محارب، وإنّ أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة؟

فقال ابن الأشرف: ميعادٌ، إنّه أبو نائلة.

ثم نزل إليهم فحيّاهم، ثم جَلَسوا فتحدّثوا ساعة حتّى اطمأنّ إليهم.

ثم قالوا له: هل لك يابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز (وهو موضع قرب المدينة) فنتحدّث به بقيّة ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم.

فخرجوا يتماشون حتّى ابتعدوا عن حصنه، وبينما هم كذلك إذ أدخلَ أبو نائلة يده في رأس كعب ثم شمّ يده فقال: ويحك ما أطيبَ عطرك هذا يابن الأشرف، ثم مشى ساعة، ثم كرّر هذا العمل ثانية حتّى اطمأنّ، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها فأخذ بفود رأسه وقال: اضربوا عدوّ اللّه، فضربوه بسيوفهم، وطعنه أبو نائلة بخنجر في بطنه، وصاح صيحة ثم وقع على الأرض ولم تنفعه استغاثاته.

ثم عاد هذا الفريق الفدائي إلى المدينة من فورهم ولمّا بلغوا «بقيع الغَرقد» كبّروا، وقد قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تلك الليلة يصلّي، فلمّا سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تكبيرهم بالبقيع كبّر، وعرف أنّهم قد قتلوه.

وبهذا أعلنوا عن نجاح عمليّتهم الفدائية الجريئة الّتي أراحت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه من شرّ ذلك المفسد الخطير الّذي لم يفتأ عن إيذاء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وتناول أعراض المسلمين في أشعاره..(1).

ص:155


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 566/2-568؛ المغازي: 184/1-190.

إغتيال مفسد آخر

وكان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي يظاهر كعب بن الأشرف على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويقوم بنفس الدور الخبيث الّذي كان يقوم به ابن الأشرف من الإيذاء والإزعاج للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين. فقام فريق فدائي آخر من المسلمين باغتياله على غرار اغتيال صاحبه في عمليةٍ فدائيةٍ جسورةٍ على نحو ما رواه ابن الأثير في كتابه: الكامل في التاريخ بصورة مفصّلة(1).

وقد كانت هاتان العمليتان وأُمور أُخرى من أسباب اندلاع معركة «أُحد».

وقد حان الأوان الآن أن نستعرض تفاصيل هذه الواقعة الكبرى!

قريش تتكفّل نفقات الحرب

كانت بذور الرغبة في الانتقام والثأر من المسلمين قد بُذِرَت في مكّة من زمان وَقد ساعدت خطة المنع من البكاء والنياحة على القتلى على إذكاء روح الانتقام هذه لدى قريش.

كما أنّ تعذّر مرور قافلتها التجارية عبر طريق مكّة - المدينة - الشام، واضطرارها إلى سلوك طريق العراق للسفر إلى الشام زاد هو الآخر من سخطها وانزعاجها.

ولقد أجّج مقتل «كعب بن الأشرف» من أوار هذا الحقد، وأوقد لهيبه في النفوس.

من هنا اقترح «صفوان بن أُميّة» و «عكرمة بن أبي جهل» على أبي سفيان

ص:156


1- . الكامل في التاريخ: 146/2-147.

ومَن كانت له في قافلة قريش التجارية مشاركة، أن يدفع كلّ واحد منهم مبلغاً من المال لتسديد نفقات الحرب قائلين: يا معشر قريش إنّ محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا.

ولقد لقي هذا الاقتراح قبولاً من أبي سفيان وتقرّر الإعداد للحرب فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى هيّأ أبوسفيان ذلك.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الموضوع، كما ذكر كيف أنّ قريشاً لم تحصد من هذا الإنفاق إلّاالخيبة والخسران إذ قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» .(1)

وحيث إنّ زعماء قريش كانوا يعرفون بقوّة المسلمين وقد رأوا عن كثب استقامتهم وثباتهم في معركة «بدر» لهذا قرّروا أن يتألّف جيشهم هذه المرّة من صناديد أكثر القبائل العربية وشجعانها البارزين وأبطالها المعروفين.

فكلّف «عمرو بن العاص» وعدّة أشخاص آخرين بأن يؤلّبوا العرب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويجمعوا أبطالها وصناديدها، للمشاركة في الجيش الكثيف والمنظّم الّذي اعتزمت قريش على تسييره لقتال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين، وغزوهم، وبأنّ يخبروهم بأن قريشاً قد تكفّلت نفقات هذه المعركة.

وقد أثمرت نشاطات «عمرو» ورفاقه في هذا السبيل.

فقد استطاعوا بعد محاولات واسعةٍ أن يضمّوا إلى جيش قريش أبطالاً وصناديد من بني كنانة وتهامة، فخرجت قريش وهم أربعة آلاف بمن انضم إلى

ص:157


1- . الأنفال: 36، وراجع: السيرة النبوية لابن هشام: 581/2؛ مجمع البيان: 464/4.

صفوفهم من تلك القبائل(1).

وقد كان هذا هو عدد الرجال الذين شاركوا في هذه المعركة، ولو أضفنا إليهم عدد النساء اللواتي شاركن فيها لتجاوز العدد ما ذكرناه.

على أنّه لم يكن من عادة العرب أن يشركوا نساءهم في الغزو ويخرجوهن معهم إلى القتال، ولكن نساء مكّة الوثنيات شاركن مع رجالهنّ في هذه المعركة على خلاف عادة العرب، وكان الهدف من أخذهنّ هو أن يحرّضن الرجال على القتال والصمود، ويمنعن المقاتلين من الفرار، ويذكّرن بقتلى بدر، ويشعلن الحماس في النفوس بدقّ الدفوف، وإنشاد الأشعار المثيرة للهمم والداعية إلى الثأر؛ ولأنّ فرار الرجال كان يعني أن تقع النسوة في الأسر، وهو ما كان يأباه العربي آنذاك. فتكون الغيرة والحميّة على العرض سبباً للمقاومة والصمود.

كما أنّه اشترك في هذه المعركة طائفة من العبيد والرقيق طمعاً في العتق الّذي وعدوا به إن نصروا أسيادهم وقاتلوا بين أيديهم، وذلك مثل «وحشي» وكان غلاماً حبشياً لمطعم بن جبير يقذف بالحربة قذف الحبشة قلّما يخطئ بها، فقال له سيده: إنّ عليّاً قتل عمّي يوم بدر - يعني: طعيمة - فإن قتلت محمداً فأنت حرّ، وإن قتلت عمّ محمد فأنت حرّ.(2)

وعلى أيّة حال استطاعت قريشٌ أن تجهّز بعد جهد كبير جيشاً كبيراً قوياً يتألّف من سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف فارس، ومشاة كثيرين، وقد خرجوا بعدّة وسلاح كثير.

ص:158


1- . اختلف علماء التفسير والتاريخ كعلي بن إبراهيم والشيخ الطبرسي في إعلام الورى، وابن هشام والواقدي في عدد المشركين والكفّار في هذه المعركة، وما ذكرناه هو الأقرب إلى الحقيقة.
2- . بحار الأنوار: 97/20.

الاستخبارات ترفع تقريراً إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

لمّا أجمعت قريش على المسير كتب العباس بن عبدالمطلب(1) كتاباً (يضمّ تقريراً مفصّلاً عن نوايا واستعدادات قريش)، وختمه واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم....

فقدم الغفاري فلم يجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمدينة ووجده بقباء فخرج حتى يجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على باب مسجد قباء يركب حماره فدفع إليه الكتاب فقرأه عليه أُبيّ بن كعب واستكتم أبيّاً ما فيه.(2)

روى العلّامة المجلسي عن الإمام أبي عبداللّه الصادق عليه السلام إنّه قال: كان ممّا منّ اللّه عزّوجلّ على رسوله صلى الله عليه و آله و سلم أنّه كان يقرأ ولا يكتب، فلمّا توجّه أبوسفيان إلى «أُحد» كتب العباس إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة فقرأه ولم يخبر أصحابه، وأمرهم أن يدخلوا المدينة، فلمّا دخلوا المدينة أخبرهم(3).

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة

تحرَّك جيش قريش باتّجاه المدينة، وبعد قطع مسافة معيّنة وصلت طلائعه

ص:159


1- . وكان العباس كما أسلفنا ممّن أسلم وآمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مكّة ولكنّه ظلّ يكتم إيمانه ليتمكن من البقاء بين قريش ورصد تحرّكاتهم وإخبار النبي صلى الله عليه و آله و سلم بنواياهم. راجع السيرة الحلبية: 198/10.
2- . المغازي: 203/1-204. ويرى بعض المؤرّخين أنّ مبعوث العباس قدم بالرسالة المدينة وكان النبي ساعتها في المسجد فأعطى النبيّ الرسالة إلى أُبي بن كعب فقرأها عليه.
3- . بحار الأنوار: 111/20 برقم 36. والخبر عن البزنطي عن بعض أصحابه فهو مرسل، علاوة على أنّه خلاف المشهور بأنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن يقرأ ولا يكتب.

إلى الأبواء، وهي المنطقة الّتي دفنت فيها والدة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم السيدة «آمنة بنت وهب» فقال فتية من قريش: إنّكم قد خرجتم بالضعن معكم ونحن نخاف على نسائنا، فتعالوا ننبش قبر أُمّ محمّد، فإنّ النساء عورة، فإن يصب من نسائكم أحداً قلتم هذه رمة أُمّك، فإن كان برّاً بأُمّه كما يزعم فلعمري ليفاديّنكم برمة أُمّه، وإن لم يظفر بأحد من نسائكم فلعمري ليفدين رمة أُمّه بمال كثير إن كان بها برّاً.

واستشار أبوسفيان أهل الرأي من قريش في ذلك فاستقبحوه وشجبوه بشدة وقالوا:

لا تذكر من هذا شيئاً فلو فعلنا (ذلك) نبشت بنوبكر وخزاعة (وهم أعداء قريش) موتانا(1).

وبعث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ليلة الخميس الخامس من شهر شوال، السنة الثالثة من الهجرة، «أنساً» و «مونساً» ابني «فضالة» للتجسّس على قريش خارج المدينة، وإخباره صلى الله عليه و آله و سلم بتحرّكاتهم، فأخبرا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم باقتراب جيش المشركين إلى المدينة، وأنّهم قد سرحوا إبلهم وخيولهم ترعى في مراعي المدينة.(2)

كما أخبر «الحُباب بن المنذر» هو الآخر باقتراب جيش المشركين إلى المدينة، وأنّ طلائع ذلك الجيش قد استقرّت على مقربة من جبل أُحد، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد بعث الحباب سرّاً وقال له: لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلّا أن ترى قلّة.(3)

وبخبر الحُباب تأكّد ما أخبر به ابنا فضالة.

ص:160


1- . المغازي: 206/1.
2- . لاحظ: المغازي: 206/1-207.
3- . لاحظ: المغازي: 207/1-208.

وحيث إنّ المسلمين كانوا يخافون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من العدو، أن يهاجموه ليلاً، لذلك باتت وجوه الأوس والخزرج (الأنصار) ليلة الجمعة وعليهم السلاح في المسجد بباب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يحرسونه، وحرست المدينة تلك الليلة حتّى أصبحوا.

منطقة «أُحد»

كان الوادي الطويل الكبير الّذي يصل طريق الشام التجارية باليمن يُسمّى آنذاك ب «وادي القرى»، وكانت القبائل العربية من اليهود وغير اليهود تقطن في كلّ منطقة تتوفر فيها ظروف المعيشة ومستلزمات الحياة، ولهذا نشأت على طول هذا الخط «قرى» بسبب وجود مناطق خصبة فيه وقد سُوِّرَت بأسوار من الحجارة، وكانت يثرب مركز هذه القرى وأُمّها وهي الّتي سُمّيت في ما بعد بمدينة الرسول، ومن ثم «المدينة» تخفيفاً واختصاراً.

وكان على كلّ قادم من مكّة إلى المدينة، أن يدخل من جنوب يثرب وحيث إنّ أرض هذه المنطقة ذات طبيعة صخرية، لذلك يكون عبور الجيش من خلالها أمراً عسيراً وفي غاية الصعوبة.

من هنا تحاشت قريش - عندما وصل جيشها إلى مشارف المدينة - هذه المنطقة، ودخلت من شمال المدينة، واستقرت في وادي العقيق في سفوح جبل «أُحد»، وقد كانت هذه المنطقة لعدم وجود نخيل فيها، ولسهولة أرضها، أفضل مكان للعمليات العسكرية، وخير ميدان للقتال والحرب.

وقد كانت المدينة عرضة للخطر من هذه الناحية؛ لأنّه قلّما كان المرءُ يرى فيها موانع طبيعية.

ص:161

نزلت قوى المشركين عصر يوم الخميس في الخامس من شوال من السنة الثالثة من الهجرة عند جبل «أُحد».

وبقي النبي ذلك اليوم وليلته في المدينة، وفي يوم الجمعة أقدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على عقد شورى عسكرية، واستشار قادة جيشه وأهل الخبرة والرأي من أصحابه في كيفية مواجهة العدو، والتكتيك الّذي يجب أن يتّبعه المسلمون(1).

المشاورة في كيفية الدفاع

كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد أُمِرَ من جانب اللّه تعالى أن يشاور أصحابه في الأُمور العسكرية وما يشابهها ويشركهم في قراراته وخططه الّتي يتّخذها في المجالات المذكورة، ليعطي بذلك درساً كبيراً للمسلمين، ويبعث بين أصحابه وأتباعه روح الديمقراطية (الصحيحة) وتحرّي الحقّ، والموضوعية.

ولكن هل كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسه يستفيد من هذه المشاورة؟ وينتفع بآرائهم ونظرياتهم، ومقترحاتهم، أُمّ لا؟.

لقد أجاب علماء العقيدة وروّاد علم الكلام الإسلامي من مختلف الطوائف على هذا السؤال في مؤلّفاتهم ودراساتهم، وللقارئ الكريم، إذا أراد الوقوف على الجواب، أن يراجع تلكم المصنّفات.

لكن الّذي لا يمكن إنكاره في المقام هو: أنّ هذه المشاورات سيرة حيّة تركها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من بعده، ولقد كانت هذه السيرة مؤثّرة جدّاً بحيث استخدم

ص:162


1- . لم تكن هذه هي المرّة الأُولى ولا الأخيرة الّتي شاور النبيّ فيها أصحابه، وقد ذكرنا عدّة موارد من هذا النوع من التشاور والهدف منه في كتابنا: مفاهيم القرآن (الجزء الثاني): معالم الحكومة الإسلامية.

الخلفاء والأُمراء من بعده أُسلوب التشاور والشورى، وكانوا يستفيدون على هذا الأساس من آراء الإمام علي عليه السلام ونظرياته السامية في الأُمور العسكرية، والمشكلات الاجتماعية الّتي كانت تطرأ على حياة المسلمين.(1)

المشاورات العسكرية

لما سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم باقتراب قريش إلى المدينة وقف في تلك الشورى الّتي كانت تضم جمعاً كبيراً من صناديد أصحابه، وقادة جيشه وجنوده وقال بصوتٍ عالٍ: «أشيروا عليّ».

وهو يطلب بذلك من أُولئك الجنود والقادة أن يُدلوا بآرائهم في كيفية مواجهة العدو، وطريقة الدفاع عن حوزة الإسلام وصرح التوحيد المهدّدة من قبل قريش والمتحالفين معهم من أحزاب الشرك، وأتباع الوثنية.

فقام «عبداللّه بن أُبي بن سلول» وكان من منافقي المدينة، وطرح فكرة التحصّن في داخل المدينة، والقتال فيها على غرار حرب الشوارع. وذلك بأن لايخرج المسلمون من المدينة، بل يبقوا داخلها، ويستخدموا أبراجها وسطوحها لمقاتلة العدوّ ودفعه، فترمي النساء العدوَّ بالأحجار من السطوح، ويقاتل الرجال أفراده في الشوارع والأزقة قائلاً: يا رسول اللّه كنّا نقاتل في الجاهلية فيها، ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة...، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كلّ ناحية وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام، ونقاتل بأسيافنا في السكك (أي الطرقات).

ص:163


1- . راجع: نهج البلاغة: الخطبة 134.

يا رسول اللّه إنّ مدينتنا عذراء ما فُضّت علينا قط، وما خرجنا إلى عدوّ قط إلّا أصاب منّا، وما دخل علينا قط إلّاأصبناه فدعهم يا رسول اللّه. فإنّهم إن أقاموا أقاموا بشرّ محبس، وإن رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين لم ينالوا خيراً.

وكان هذا رأي الأكابر من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من المهاجرين والأنصار، إلّاأنّ الفتيان من المسلمين وبخاصّة مَن لم يشهد منهم بدراً وكانوا يشكّلون الأغلبية شجبوا هذا الرأي بشدّة، ورفضوه بقوّة، وطلبوا من رسول اللّه الخروج إلى العدو، ورغبوا في الشهادة، وأحبّوا لقاء العدو.

وقالوا: إنّا نخشى يا رسول اللّه أن يظن عدوُّنا أنّا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنتَ يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفّرك اللّه عليهم، ونحن اليوم بشرٌ كثيرٌ، قد كنّا نتمنّى هذا اليوم وندعو اللّه به فقد ساقه اللّه إلينا في ساحتنا.

وقال «حمزة» بطل الإسلام العظيم: لا أطعم اليوم طعاماً حتّى أُجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة(1).

الاقتراع من أجل الشهادة!!

وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة - وهو شيخ يقظ البصيرة - وقال: يا رسول اللّه إنّ قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع، وتستجلب العرب في بواديها، ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاءُونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل، حتّى نزلوا بساحتنا

ص:164


1- . المغازي: 209/1-211. ومن المعلوم أنّ نظرية عبداللّه بن أُبي لم تخلو من الخطر، إذ لم يكن من البعيد أن يستفيد العدوّ بعد دخوله في المدينة من بيوت المنافقين. وأن يتعاون معهم يهود المدينة أيضاً فتكون حينئذٍ الضربة القاضية للإسلام والمسلمين.

فيحصرونا في بيوتنا، وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يُكلموا، فيجرّئهم ذلك علينا حتّى يشنّوا الغارات علينا، ويصيبوا أطرافنا، ويضعوا العيون والأرصاد علينا، مع ما قد صنعوا بحروثنا، ويجترئ علينا العرب حولنا، حتّى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم، فنذبهم عن جوارنا، وعسى اللّه أن يظفّرنا بهم، فتلك عادة اللّه عندنا، أو تكون الأُخرى: فهي الشهادة.

لقد أخطأتني وقعة بدر، وقد كنتُ عليها حريصاً، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت(1) ابني على الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد كنتُ حريصاً على الشهادة، وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، وهو يقول: ألحق بنا ترافقنا في الجنّة، فقد وجدتُ ما وعدني ربّي حقّاً.

وقد واللّه يا رسول اللّه أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني ورقّ عظمي، وأحببتُ لقاء ربّي فادْعُ اللّه يا رسول اللّه أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة!!!(2).

إنّ هذا الّذي ذكرناه ليس سوى نموذج واحد من مواقف كثيرة تجدها أيّها القارئ الكريم في صفحات التاريخ الإسلامي المشرقة، فهناك الكثير من هؤلاء الفدائيّين المخلصين الذين آلوا على أنفسهم أن يدافعوا عن حياض العقيدة وشرف الدين، ورُزقوا الشهادة في نهاية المطاف.

إنّ الآيديولوجية الّتي لا تعتمد على أُسس الإيمان باللّه واليوم الآخر قلّما تنتج جندياً فدائياً مخلصاً مثل خيثمة، ومَن شاكله.

ص:165


1- . أي أجريت القرعة بيني وبين ولدي.
2- . المغازي: 212/1-213.

إنّ روح الفداء والتفاني والإيثار بالنفس والتضحية بالغالي والرخيص، الّتي تدفع بالجندي إلى أن يطلب الشهادة في سبيل إعلاء كلمة الحقّ، وإعزاز التوحيد بإصرار وشوق لا توجد إلّافي مدرسة الأنبياء والمرسلين، ولاتحصل إلّافي ضوء تربيتهم.

وأمّا في المجتمعات المادية كالمجتمعات الحاضرة الّتي تهتم أكبر اهتمام بتحسين أحوال العسكريين حيث إنّ الهدف من الحروب والمعارك لم يكن قط إلّا الحصول على وضع معيشيّ أفضل، فإنّه لايهم الجنود فيها إلّاالحفاظ على أرواحهم وحياتهم، فذلك هو أكبر هدف لديهم، ومن هنا تندر عندهم روح التفاني والتضحية.

وأمّا في مدرسة الأنبياء فإنّ المعارك والحروب لا يهدف منها إلّاابتغاء رضا اللّه سبحانه، فلو انحصر ذلك في الشهادة أقدم عليها الجندي المسلم من دون خوف أو وجل، وعرّض نفسه لجميع الأخطار من دون تلكّؤ أو إبطاء.

حصيلة الشورى

لقد أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم برأي الأكثرية الّتي كانت ترجّح الخروج من المدينة لمقاتلة العدوّ، إذ لم يكن من الصالح - بعد ما اقترحه قادة جيشه البارزين مثل حمزة وسعد بن عبادة ونظرائهم، وأصرّوا عليه - أن يأخذ برأي عبداللّه بن أُبي بن سلول المنافق.

هذا مضافاً إلى أنّ حرب الشوارع والمدن غير المنظم في داخل سكك المدينة وأزقّتها الضيّقة، واشتراك النسوة في الأُمور الدفاعية، والجلوس في البيت، والسماح للعدو بأن يفعل ما يريد آية العجز، والوهن، وهو أمر لا يليق بالمسلمين، ولا يتلاءم مع الانتصار العظيم الّذي كسبوه في معركة «بدر»، وهزموا به عدوهم

ص:166

الغاشم القويّ.

إنّ محاصرة المدينة وسيطرة العدوّ على مداخلها وطرقاتها، وسكوت جنود الإسلام على ذلك من شأنه أن يقتل الروح القتالية، والفروسية في أبناء الإسلام المجاهدين.

ويمكن أن يكون «عبداللّه بن أُبي بن سلول» قد أضمر في نفسه نيّة سيّئة ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأنّه بهذا الاقتراح (أي البقاء في المدينة وعدم الخروج لمجابهة العدوّ، ومواجهته بشجاعة) كان يريد - في الحقيقة - أن يوجّه ضربة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم!!

النبيُّ يلبس لامة الحرب

بعد أن تعيّنت كيفية مواجهة العدو والدفاع، دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيته ولبس لامته، وقد لبس الدرع فأظهرها وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أُدم واعتم وتقلّد السيف، وخرج من بيته.

فأثار هذا المشهدُ المسلمين وهزّهم بشدّة وتصوّر بعضهم بأنّ إصرارهم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالخروج من المدينة لم يكن فيه للنبيّ رضا، وخشوا أنّهم قد استكرهوه على هذا الأمر، فندموا على ذلك، وقالوا معتذرين: يا رسول اللّه ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك (و: ما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى اللّه ثم إليك).

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

ص:167

«ما يَنْبَغي لِنَبيٍّ إذا لَبِسَ لامَتَهُ أن يَضَعَها حَتّى يُقاتِلَ»(1).

النبيّ يخرجُ مِنَ المَدينة

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صلّى بالناس الجمعة وخرج على رأس ما يزيد على ألف مقاتل قاصداً أُحُد، وذلك بعد أن قال لهم:

«اُنْظُرُوا إلى ما أمَرْتُكُمْ بِهِ فاتّبعُوهُ إمضُوا عَلى اسم اللّه فلكُم النصرُ ما صَبَرتُمْ»(2).

وقد أجاز رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يومئذٍ لمن لم يبلغوا الحلم بأن يخرجوا معه كسمرة ورافع وكان رامياً جيداً، ورد أُسامة بن زيد وعبداللّه بن عمر بن الخطّاب(3).

ثم إنّ جماعة من اليهود كانوا متحالفين مع عبداللّه بن أُبي بن سلول قرّروا أن يشتركوا في هذه المعركة ويخرجوا مع المسلمين، ولكنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يسمح بذلك لأسباب خاصّة.

وسار النبيّ وأصحابُه حتّى إذا كانوا بمنطقةٍ بين المدينة وأُحُد تُسمّى «الشوط» انعزل عنه «عبداللّه بن أُبي بن سلول» وعاد بثلث الناس كلّهم من الأوس المتحالفين معه إلى المدينة بحجّة أنَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذ برأي الفتية والشباب، ورفض اقتراحه وهو البقاء في المدينة.

ومن هنا لم يشترك في هذه المعركة لا اليهودُ ولا حزبُ النفاق.

ص:168


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 584/3؛ المغازي: 214/1، الطبقات الكبرى: 38/2.
2- . المغازي: 214/1.
3- . لاحظ: المغازي: 216/1.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه كانوا يرغبون في أن يسلكوا أقرب الطرق إلى معسكرهم، من هنا اضطروا إلى أن يمروا عبر بستان لمنافق من منافقي المدينة يدعى «مربع بن قيظي» وكان ضريراً، فامتنع من ذلك، وأساء بالقول إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فابتدره أصحاب النبيّ ليقتلوه فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا تَقْتُلُوهُ، فَهذا الأعْمى أعمى القلب، أعمى البصر»(1).

جنديان فدائيان

استعرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جيشه في منطقة تُدعى بالشيخين(2)، وكانت الوجوه المشتاقة إلى الجهاد تلمع كما تلمع صفحات السيوف، وتعكس إصراراً كبيراً على قتال الكفّار ومجاهدة المشركين.

ولقد كان جيش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي خرج بهم لمجابهة قريش عند جبل أُحد يتألّف من مقاتلين يتفاوتون في الأعمار تفاوتاً كبيراً.

ففيهم الشيخ الكبير الطاعن في السن وفيهم الشاب الفدائيّ الّذي لم يتجاوز الخامسة عشرة.

ولقد كان الدافع الّذي يحرّك الجميع إلى ذلك هو عشق الكمال الّذي ما كان ليتوفّر إلّافي ظلّ الدفاع عن صرح التوحيد المقدّس، ليس إلّا.

ولإثبات هذه الحقيقة نشير هنا إلى قصّة شيخ كبير السن، وشاب لم يمض من عرسه إلّاليلة واحدة!!

ص:169


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 585/3؛ المغازي: 218/2.
2- . ولقد كان من عادة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأُسلوبه في جميع المعارك استعراض جيشه على الدوام، وعدّهم، وتسريح بعض العناصر الضعيفة أحياناً.

1. إنّ «عمرو بن الجموح» كان رجلاً شيخاً أعرج شديد العرج - وقد أُصيب في رجله في حادثة - وكان له بنونٌ أربعةٌ مثل الأُسود، يشهدون مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المشاهد، فلمّا كان يوم «أُحد» أراد أن يخرج مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقد أبت نفسه أن تفوته الشهادة، وأن يجلس في بيته ولا يشترك مع رسول اللّه في تلك المعركة، وإن اشترك بنوه الأربعة فيها.

فأراد أهله وبنوه حبسَهُ وقالوا له: إنَّ اللّه عزّوجل قد عذَرَك، ولم يقتنع بمقالتهم، وأتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: إنّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فواللّه إنّي لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنّة.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أمّا أنتَ فَقَدْ عَذَرَك اللّهُ فَلا جهادَ عَلَيْكَ»(1).

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم لبنيه وقومه:

«ما عَلَيْكُمْ أن لا تَمْنَعُوه، لعلَّ اللّه يَرْزقَهُ الشهادَة».

فخلّوا عنه، وخرج وهو يقول: اللهمّ ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي.

وقد كان موقف هذا المجاهد الأعرج من مشاهد معركة «أُحد» العظيمة، ومن قصصها الرائعة، فقد كان يحمل - وهو على ما هو عليه من العرج - على الأعداء ويقول: «أنا واللّه مشتاقٌ إلى الجنّة» وابنه يعدو في أثره حتّى قُتِلا جميعاً(2).

2. «حنظلة» وهو شاب لم يكن قد جاوز الرابعة والعشرين من عمره آنذاك.

ص:170


1- . لقول اللّه تعالى: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ» (الفتح: 17).
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 607/3؛ المغازي: 264/1-265.

وهو ابن «أبي عامر» عدوّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والّذي كان مصداقاً لقول اللّه تعالى:

«يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» .(1)

فقد اشترك والده أبو عامر الفاسق في معركة «أُحد» إلى جانب قريش ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكان ممّن يكيدون للإسلام وممّن حرّض قريشاً ضدّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، واستمرّ في معاداة الإسلام حتّى النفس الأخير، ولم يألُ جهداً في هذا السبيل.

وقد كان أبو عامر هذا هو السبب الرئيسيّ وراء حادثة مسجد «ضرار» الّتي سيأتي تفصيلها في حوادث السنة التاسعة من الهجرة.

غير أن علاقة الأُبوّة والبنوّة وما يتبعها من أحاسيس لم تصرف حنظلة عن الاشتراك في حرب ضد أبيه، مادام أبوه على باطل وهو (أي حنظلة) على الحقّ، فيوم خرج النبيّ مع أصحابه إلى «أُحد» لمواجهة قريش كان حنظلة يريد البناء بزوجته ليلته، فقد تزوّج بابنة «عبداللّه بن أبي بن سلول» وكان عليه أن يقيم مراسيم الزفاف والعرس في الليلة الّتي خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى «أُحد» في صبيحتها المنصرمة.

ولكنّه عندما سمع مؤذن الجهاد، ودوّى نداؤه في أُذنه تحيّر في ما يجب أن يفعله، فلم يجد مناصاً من أن يستأذن من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يتوقّف في المدينة ليلة واحدة لإجراء مراسيم العرس ويقيم عند عروسته ثم يلتحق بالمعسكر الإسلامي صبيحة الغد من تلك الليلة.

وقد نزل في هذا الشأن - على رواية العلّامة المجلسي - قوله تعالى:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ

ص:171


1- . الأنعام: 95.

يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» .(1)

فأذن له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(2).

فبات حنظلة عند عروسته تلك الليلة ودخل بها، ولمّا أصبح خرج من فوره وتوجّه إلى «أُحد» وهو جنب.

ولكنّه حينما أراد أن يخرج من منزله بعثت امرأته إلى أربعة نفر من الأنصار، وأشهدت عليه أنّه قد واقعها.

فقيل لها: لِمَ فعلتِ ذلك؟

قالت: رأيت هذه الليلة في نومي كأنّ السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة، ثم انضمت، فعلمت أنّها الشهادة، فكرهت أن لا أُشهدَ عليه.

ولمّا حضر حنظلة القتال نظر إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكر، فحمل عليه، فضرب عرقوب فرسه، فاكتسعت الفرس وسقط أبوسفيان إلى الأرض، وصاح: يا معشر قريش أنا أبوسفيان، وهذا حنظلة يريد قتلي، وعدا أبو سفيان، وجرى حنظلة في طلبه، فعرض له رجلٌ من المشركين فطعنه، فمشى إلى ذلك المشرك فطعنه فضربه وقتله، وسقط حنظلة إلى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبداللّه بن حزام وجماعة من الأنصار، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«رَأيتُ المَلائكَة تغسِّل حنظلةَ بينَ السَماءِ والأَرْض بماء المزن في صحائفَ من ذهَب»(3).

ص:172


1- . النور: 62.
2- . بحار الأنوار: 57/20.
3- . لاحظ: أُسد الغابة: 59/2 و 60؛ بحار الأنوار: 57/20-58 و غيرهما.

فكان يُسمّى غسيل الملائكة أو حنظلة الغسيل.

وكانت الأوس تعدّ حنظلة من مفاخرها فكانت تقول: «ومنّا حنظلة غسيل الملائكة».

وكان أبوسفيان يقول: حنظلة بحنظلة، ويقصد بالأوّل حنظلة غسيل الملائكة وبالثاني ابنه حنظلة الّذي قتل يوم بدر(1).

إنّه حقّاً عجيب أمر هذين العروسين (الزوجين) فبينما كانا هما في أعلى درجات التفاني في سبيل الحقّ كان والداهما، من أعداء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخصومه الألدّاء.

فعبداللّه بن أُبي بن سلول (والد العروس) كان رأس المنافقين في المدينة، وكان أبو عامر الفاسق والد العرّيس الّذي كان يُسمّى في الجاهلية بالراهب معادياً أشد العداء لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد التحق بالمشركين في مكّة، كما حرّض «هرقل» لضرب الحكومة الإسلامية الفتية في المدينة، ثم اشترك في معركة أُحد ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقاتل المسلمين قتالاً شديداً(2).

العسكران يصطفّان

في صبيحة اليوم السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة اصطفّت قوى الإسلام أمام قوى الشرك المعتدية، وكان جيش التوحيد قد جعل ظهره إلى أُحد كمانِع طبيعيّ يحفظ الجيش من الخلف. وقد كان في جبل أُحد ثغرة كان من الممكن أن يتسلّل منها العدوّ ويباغت المسلمين من الخلف، ويوجّه إليهم ضربة

ص:173


1- . أُسد الغابة: 60/2.
2- . أُسد الغابة: 59/2.

قاضية.

ولهذا عمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى وضع جماعةٍ من الرماة عند تلك الثغرة، وأمّر عليهم «عبداللّه بن جبير» وقال:

«إنضَح الخيْلَ عنّا بالنبل، واحموا لنا ظُهورَنا، لا يأتونا من خلفِنا، والْزموا مكانكم لا تبرحوا منه، إن كانت لنا أو علينا، فلا تفارقوا مكانكم».

ولقد أثبتت حوادث «أُحد» الّتي وقعت في ما بعد أهمية هذه الثغرة عسكرياً، فقد كانت هزيمة المسلمين بعد انتصارهم في بداية المعركة نتيجة تجاهل الرماة لأمر النبيّ وإخلاء ذلك الموقع الاستراتيجي، الأمر الّذي سمح للعدوّ بأن يباغت المسلمين في حركة التفافية سريعة، ويحمل عليهم، ويوجه إليهم ضربة قوية!!

إنّ أمر النبيّ المؤكّد والمشدّد للرماة بأن لا يخلوا أماكنهم في الجبل حيث الثغرة المذكورة، يكشف عن معرفته الكاملة بقواعد القتال وقوانين الحرب، وبما يصطلح عليه اليوم بالتكتيك العسكري.

بيد أنّ نبوغ القائد العسكري لا يكفي وحده لإحراز الانتصار إذا كان الجنود يعانون من عدم الانضباط، وعدم التقيّد بأوامر القائد.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى الترتيبات الميدانية، الّتي قام بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند استقرار جنود الإسلام في أرض المعركة بأحد، وتعيينه لمكان كلّ قطعة من قطعات الجيش الإسلامي إذ قال:

«وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (1).

ص:174


1- . لاحظ: مجمع البيان: 495/4؛ تفسير الكشاف: 346/1-347. والآية 121 من سورة آل عمران.

رفع معنويات الجنود وتقوية عزائمهم

لم يكن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ليغفل في المعارك والحروب عن تقوية العنصر الروحي لدى الجنود، وما يصطلَح عليه الآن بالروح المعنوية، أو المعنويات العسكرية.

ففي هذه المرة أيضاً لمّا اصطفّ سبعمائة مقاتل مسلم أمام ثلاثة آلاف من المقاتلين المشركين المدجّجين بالسلاح، خطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المسلمين خطبة رفع بها من معنويات المسلمين، وذلك بعد أن نظم صفوفهم وسوّاها.

فلقد كتب «الواقدي» المؤرّخ الإسلامي الكبير في هذا الصدد ما يلي:

جعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الرماة خمسين رجلاً على «عَينين» عليهم «عبداللّه بن جبير»، وجعل «أُحُداً» خلف ظهره، واستقبل المدينة، ثم جعل صلى الله عليه و آله و سلم يمشي على رجليه يسوّي تلك الصفوف، ويبوّئ أصحابه مقاعد للقتال يقول تقدّم يا فلان، وتأخّر يا فلان، حتّى أنّه ليرى منكب الرجل خارجاً فيؤخّره، فهو يقوّمهم كأنّما يقوّم بهم القداح.

ثم قام صلى الله عليه و آله و سلم فخطب الناس فقال:

«يا أيّها الناسُ، أُوصيكم بما أوصانيَ اللّهُ في كتابه من العمل بطاعته، والتناهي عن محارِمه، ثم إنكم اليومَ بمنزل أجر وذُخرٍ. لمن ذكر الّذي عليه، ثم وطن نفسَهُ له عَلى الصبر واليقين والجدّ والنشاطِ فإنّ جهادَ العدوّ شديدٌ، شديدٌ كَربهٌ، قليلٌ مَن يصبر عليه، إلّامَن عَزَم اللّهُ رشدَه، فإنّ اللّه مَعَ من أطاعهُ، وإنَّ الشيطانَ مع مَن عصاهُ، فافْتتحُوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسُوا بذلكَ ما وَعَدَكُم اللّه، وعليكمْ بالذي أمركم بهِ، فَإنّي حَريصٌ عَلى رشدِكُمْ، فإنَ الاخْتِلافَ والتنازعَ والتثبيطَ مِنْ أمرِ العَجز والضعف مِمّا لا يحبُّ اللّهُ، ولا يعطي عليه النصرَ ولا الظفرَ....

ص:175

وإِنَّهُ قدْ نفث في رُوعي الروحُ الأمينُ أنّه لن تَموتَ نفسٌ حتّى تَسْتوفي أقصى رزقها، ولا ينْقص منه شيء وَ أن أبطأ عنها... والمؤمن مِن المؤمنين كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسد والسلام عليكم»(1).

العدوّ ينظّم صفوفه

نظم أبوسفيان قائدُ المشركين صفوف جنوده وقسّمهم إلى ثلاثة أقسام:

الرماة وجعلهم في الوسط، والميمنة واستعمل عليهم خالد بن الوليد، والميسرة واستعمل عليهم عكرمة بن أبي جهل. وقدّم جماعة فيهم حملة الألوية والرايات.

ثم قال لأصحاب الرايات وكانوا جميعاً من بني عبدالدار: إنا إنّما أُتينا يوم بدر من اللواء، وإنّما يؤتى القوم من قِبَل لوائهم، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه، أو خلوا بيننا وبينه فإنّا قوم مستميتون موتورون، نطلب ثأراً حديث العهد.

فشقَّ هذا الكلام على «طلحة بن أبي طلحة» وكان شجاعاً، وهو أوّلُ مَن حمل راية لقريش، فاندفع من فوره إلى ساحة القتال، وطلب المبارزة، متحدياً بذلك أبا سفيان.(2)

الإثارة النفسيّة وإلهاب الحماس

قبل أن يبدأ القتال أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سيفاً بيده وقال: - وهو يثير بذلك همم جنوده -.

«من يأخذ هذا السيفَ بحقّه»؟ فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم حتّى قام إليه

ص:176


1- . المغازي: 221/1-223.
2- . لاحظ: المغازي: 220/1-221.

أبو دجانة الأنصاري، فقال: وما حقّه يا رسول اللّه؟

قال: «أن تضرب به العدوّ حتّى ينحني».

قال: أنا آخذه يا رسول اللّه بحقّه.

فأعطاه إيّاه، وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً، يختال عند الحرب إذا كانت، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء فاعتصب بها عُلِمَ أنّه سيقاتل، فلمّا أخذ السيفَ من يد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخرج عصابته تلك فعصّب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصفّين. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّها لمشية يبغضها اللّه إلّافي هذا الموطن»(1).

حقّاً إنّ مثل هذه الإثارة النفسية، وهذا التحريك القويّ للهمم أمرٌ ضروريٌ لجيش يقاتل دفاعاً عن الحقّ والقِيم، ولا يدفعه إلى ذلك سوى العقيدة، وحب الكمال.

إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يهدف بعمله إثارة أبي دجانة وحده، بل كان صلى الله عليه و آله و سلم يهدف بذلك إثارة الآخرين، وإفهامهم بأنّ عليهم أن يبلغوا في الشجاعة والبطولة، والجرأة والإقدام هذا المبلغ.

يقول «الزبير بن العوّام» وهو كذلك رجلٌ شجاع: وَجدت في نفسي حين سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة وقلت: أنا ابن صفيّة عمّته، ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إيّاه قبله، فأعطاه إيّاه وتركني!

واللّه لأنظرنّ ما يصنع. فأتبعته فأخرج عصابة له حمراء، فعصّب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول له إذا تعصّبَ بها.

ص:177


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 587/3.

فخرج وهو يقول:

أنا الّذي عاهَدَني خليلي ونحن بالسفحِ لدى النخيل

ألّا أقوم الدهر في الكيّول(1) أضْرِب بسيف اللّه والرَّسول

فجعل لا يلقى أحداً إلّاقتله، وكان في المشركين رجلٌ لا يدع لنا جريحاً إلّا ذفّف عليه، فجعل كلّ واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوتُ اللّه أن يجمع بينهما، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة، فاتّقاه بدرقته، فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة، فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس «هند بنت عتبة» ثم عدل السيف عنها، قال الزبير: فقلت: اللّه ورسوله أعلم.

ثم إنّ أبا دجانة أوضح عمله هذا فقال: رأيت إنساناً يخمش الناس خمشاً شديداً فصمدت له، فلمّا حملت عليه السيف وَلول فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن أضرب به امرأة(2).

بداية القتال

بدأ القتال بما فَعَله أبو عامر الفاسق الّذي كان قد هرب من المدينة مباعداً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما أسلفنا، وكان من الأوس، وقد فرّ معه خمسة عشر رجلاً من الأوس بسبب معارضته للإسلام.

وقد تصوّر أبو عامر هذا أنّ الأوس إذا رأوا يوم أُحُد تركوا نصرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا التقى العسكران يومئذ نادى أبو عامر: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر.

ص:178


1- . الكيّول: آخر الصفوف في الحرب.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 588/3-589.

قالوا: فلا أنعم اللّه بك عيناً يا فاسق. فلمّا سمع ردّ الأوس قاتلهم قتالاً شديداً...(1).

ثم إنّ هناك مواقف وتضحيات عظيمة قام بها رجال معدودون في معركة أُحُد معروفة بين المؤرخين، أبرزها، وأجدرها بالإجلال تضحيات علي عليه السلام ومواقفه الكبرى في ذلك اليوم.

فهو صاحب اللواء والراية في هذه الموقعة الكبرى.

قال الشيخ المفيد في «الإرشاد»: تلت بدراً غزاةُ أُحد فكانت راية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيد أميرالمؤمنين عليه السلام فيها... فمن ذلك ما رواه يحيى بن عمارة قال:

حدّثني الحسن بن موسى بن رباح مولى الانصار قال: حدّثني أبو البختري القريشي، قال: كانت راية قريش ولواؤها جميعاً بيد قصي بن كلاب، ثم لم تزل الراية في يد ولد عبدالمطلب يحملها منهم من حضر الحرب حتّى بعث اللّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فصارت راية قريش وغيرها إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فأقرّها في بني هاشم، وأعطاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى علي بن أبي طالب عليه السلام في غزاة ودان(2)، وهي أوّل غزاة حمل فيها راية في الإسلام مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ثم لم تزل معه في المشاهد ببدر وهي البطشة الكبرى، وفي يوم أُحد وكان اللواء يومئذ في بني عبد الدار، فأعطاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مصعب بن عمير فاستشهد ووقع اللواء من يده فتشوفته القبائل، فأخذه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدفعه إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجمع له يومئذ الراية واللواء(3).

ص:179


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 587/3.
2- . ودان: موضع بين مكة والمدينة سُمّيت الغزوة به.
3- . الارشاد: 78-79؛ بحار الأنوار: 80/20.

وقد ورد عن ابن عباس ما يؤيّد ذلك فقد روى أنّه قال: لعلي أربع خصال (ليس لأحد من العرب غيره) هو أوّل عربي وعجمي صلّى مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وهو الّذي كان لواؤه معه في كل زحف...(1).

كما عن قتادة: أنّ علي بن أبي طالب كان صاحب لواء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم بدر وفي كلّ مشهد(2). ثم إنّه كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري (وكان يُدعى كبش الكتيبة) فبرز ونادى: يا محمّد تزعمون أنّكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار، ونجهزكم بأسيافنا إلى الجنّة، فمَن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليّ فبرز إليه عليّ عليه السلام وهو يقول:

يا طلح إن كنتم كما تقول لكم خيول ولنا نصول

فاثبت لننظر أيّنا المقتول وأيّنا أولى بما تقول

فقد أتاك الأسد الصؤول

بصارمٍ ليس به الفلول ينصره القاهر والرسول

ثم تصاولا بعض الوقت قُتل بعده طلحة بضربة علي عليه السلام القاضية.

فأخذ الراية أخوان آخران لطلحة فخرجا لقتال علي عليه السلام على التناوب فقتلا جميعاً على يديه عليه السلام.

هذا ويستفاد من كلام لعلي عليه السلام قاله في أيام الشورى الّتي انعقدت بعد موت الخليفة الثاني.

ص:180


1- . تاريخ مدينة دمشق: 72/42.
2- . تاريخ مدينة دمشق: 74/42.

فقد قال الإمام عليه السلام في مجلس ضم كبار الصحابة في تلك المناسبة:

«نشدتكم باللّه هل فيكم أحدٌ قتل من بني عبد الدار تسعة مبارزة غيري، كلُّهم يأخذ اللواء، ثم جاء صوأب الحبشي مولاهم وهو يقول لا أقتل بسادتي إلّا محمداً، قد أزبد شدقاه، واحمرّتا عيناه، فاْتّقيتموه، وحُدتم عنه، وخرجت إليه، فلمّا أقبل كأنّه قبّة مبنيّة فاختلفت أنا وهو ضربتين، فقطعته بنصفين وبقيت رجلاه وعجزه وفخذه قائمة على الأرض ينظر إليه المسلمون ويضحكون منه».

قالوا: اللهم لا(1).

أجل إنّ قريشاً كانت قد ادّخرت لحمل الراية تسعة رجال من شجعان بني عبد الدار وقد قتلوا جميعاً على يد الإمام علي عليه السلام على التوالي فبرز غلامهم وقتل هو أيضاً(2).

المقاتلون بدافع الشهوة!!

من الأبيات الّتي كانت تتغنّى بها «هند بنت عتبة» زوجة أبي سفيان ومن كان معها من النساء في تحريض رجال قريش وحثّهم على القتال وإراقة الدماء والمقاومة، ويضربن معها الدفوف والطبول، يتبيّن أنّ تلك الفئة لم تكن تقاتل من أجل القيم الرفيعة كالطهر والحرية، والخلق الإنساني، بل كانت تقاتل بدافع الشهوة الجنسية ومن أجل الوصول إلى المآرب الرخيصة.

فقد كانت الأغاني والأبيات الّتي تردّدها تلك النساء اللائي كنَّ يضربن بالدفوف خلف الرجال على نحو خاص هي:

ص:181


1- . الخصال: 560.
2- . وقد ذكر المجلسي قصّة مصرع هؤلاء في البحار: 50/20-51.

نحن بناتُ طارقْ نمشي على النمارق

إن تقبلوا نُعانِقْ أو تدبروا نفارقْ

ولا شكّ أنّ الفئة الّتي تقاتل من أجل الشهوات، ويكون دافعها إلى الحرب والقتال هو الجنس واللذة، وبالتالي لا تهدف سوى الوصول إلى المآرب الرخيصة فإنّ حالها تختلف إختلافاً بيِّناً وكبيراً عن حال الفئة الّتي تقاتل من أجل هدف مقدّس كإقرار الحرية، ورفع مستوى الفكر، وتحرير البشرية من براثن الجهل وأسر الخضوع للأوثان.

ولا شكّ أنّ لكلّ واحدة من تلك الدوافع آثارها المناسبة في روح المقاتل وسلوكه.

ولهذا لم يمض زمان طويل إلّاووضعت قريش أَسلحتها على الأرض وولّت هاربة من أرض المعركة بعد أن أُصيبت بإصابات قوية بفضل صمود وتضحيات رجال مؤمنين شجعان كعليّ وحمزة وأبي دجانة والزبير و... مخلِّفة وراءها غنائم وأموالاً كثيرة، وأحرز المسلمون بذلك انتصاراً عظيماً على عدوهم القوي في تجهيزاته، الكثير في أفراده(1).

الهزيمة بعد الانتصار

قد يتساءل سائل: لماذا انتصر المسلمون أوّلاً؟

لقد انتصروا لأنّهم كانوا يقاتلون، ولا يحدوهم في ذلك شيء حتّى لحظة الانتصار إلّاالرغبة في مرضاة اللّه، ونشر عقيدة التوحيد، وإزالة الموانع عن طريقها، فلم يكن لهم أي دافع ماديّ يشدّهم إلى نفسه.

ص:182


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 588/3؛ تاريخ الطبري: 194/2.

وقد يتساءل سائل: لماذا انهزموا أخيراً؟

لقد انهزموا لأنّ أهداف أكثر المسلمين ونواياهم قد تغيّرت بعد تحقيق الانتصار، فقد توجّهت أنظارهم إلى الغنائم الّتي تركتها قريش في أرض المعركة، وفرّوا منهزمين. لقد خولط إخلاص عدد كبير من المسلمين، ونسوا على أثره أوامر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وتعاليمه، فغفلوا عن ظروف الحرب.

وإليك فيما يأتي تفصيل الحادث:

لقد ذكرنا عند بيان الأوضاع الجغرافية لمنطقة أُحد أنّه كان في «جبل أُحد» شِعب «ثغرة» وقد كلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خمسين رجلاً من الرماة بمراقبة ذلك الشِّعب، وحماية ظهر الجيش الإسلامي، وأمّر عليهم «عبداللّه بن جبير»، وكان قد أمر قائدهم بأن ينضحوا الخيل ويدفعوها عن المسلمين بالنبل ويمنعوا عناصر العدوّ من التسلّل من خلالها ولا يغادروا ذلك المكان انتصر المسلمون أو انهزموا، غَلَبوا أو غُلِبُوا.

وفعل الرماة ذلك فقد كانوا في أثناء المعركة يحمون ظهور المسلمين، ويرشقون خيل المشركين بالنبل فتولّي هاربة، حتّى إذا ظفر النبيّ وأصحابُه، وانكشف المشركون منهزمين، لا يلوون على شيء وقد تركوا على أرض المعركة غنائم وأموالاً كثيرة، وقد تبعهم بعض رجال المسلمين ممّن بايع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على بذل النفس في سبيل اللّه ومضوا يضعون السلاح فيهم حتّى أجهضوهم عن العسكر، أمّا أكثر المسلمين فقد وقعوا ينتهبون العسكر ويجمعون الغنائم تاركين ملاحقة العدوّ وقد أغمدوا السيوف، ونزلوا عن الخيول ظنّاً بأنّ الأمر قد انتهى.

فلمّا رأى الرماة المسؤولون عن مراقبة الشِّعب ذلك قالوا لأنفسهم: وَ لِمَ نقيمُ هنا من غير شيء وقد هزَم اللّه العدوّ فلْنذهَبْ ونغنم مع إخواننا.

ص:183

فقال لهم أميرهم (عبداللّه بن جبير): ألم تعلموا أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لكم:

إحموا ظهورَنا فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنِمنا فلا تشركونا إحموا ظهورنا؟

ولكنّ أكثر الرماة خالفوا أمر قائدهم هذا وقالوا: لم يرد رسول اللّه هذا، وقد أذلّ اللّه المشركين وهزَمهم، فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم.(1)

ولهذا نزل أربعون رجلاً من الرماة من الجبل ودخلوا في عسكر المشركين ينتهبون مع غيرهم من المسلمين الأموال وقد تركوا موضعهم الاستراتيجي في الجبل، ولم يبق مع عبداللّه بن جبير إلّاعشرة رجال!!

وهنا استغل «خالد بن الوليد» الّذي كان مقاتلاً شجاعاً، قلّة الرماة في ثغرة الجبل، وكان قد حاول مراراً أن يتسلّل منها ولكنّه كان يقابلُ في كلّ مرة نبال الرماة، فحمل بمن معه من الرجال على الرماة في حملة التفافيّة، وبعد أن قاتل من بقي عند الثغرة وقتلهم بأجمعهم انحدر من الجبل وهاجم المسلمين الذين كانوا منشغلين بجمع الغنائم، وغافلين عمّا جرى فوق الجبل، ووقعوا في المسلمين ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، ورمياً بالنبال، ورضخاً بالحجار، وهم يصيحون تقويةً لجنود المشركين. فتفرّقت جموع المسلمين، وعادت فلولُ قريش تساعد خالداً وجماعته، وأحاطوا جميعاً بالمسلمين من الإمام والخلف، وجعل المسلمون يقاتلون حتّى قُتِل منهم سبعون رجلاً.

إنّ هذه النكسة تعود إلى مخالفة الرماة لأوامر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تحت تأثير المطامع المادية وتركهم ذلك المكان الاستراتيجي عسكرياً والّذي اهتم به القائد

ص:184


1- . المغازي: 229/1.

الأعلى صلى الله عليه و آله و سلم، وأكد بشدّة على المحافظة عليه، ودفع أيّ هجوم من قِبَلِ العدوّ عليه.

وبذلك فتحوا الطريق - من حيث لا يشعرون - للعدوّ بحيث هاجمتهم الخيل بقيادة خالد بن الوليد، فدخل إلى أرض المعركة من ظهر الجيش الإسلامي، ووجه إلى المسلمين تلك الضربة النكراء!!

ولقد ساعد خالداً في هذا «عكرمةُ بن أبي جهل» الّذي حمل هو الآخر بمن كان معه من الرجال على المسلمين، وساد على صفوف المسلمين في هذا الحال الهرج والمرج، وعمّت فوضى لا نظير لها ساحة المعركة، ولم ير المسلمون مناصاً من أن يدافعوا عن أنفسهم متفرّقين ولكن عِقد القيادة لمّا قد انفرط بسبب هذه المباغتة العسكرية لم يستطع المسلمون إحراز أي نجاح في الدفاع، بل تحمّلوا - كما أسلفنا - خسائر كبرى في الأرواح، وقُتِلَ عدد من المسلمين على أيدي إخوانهم من المسلمين خطأ ومن دون قصد.

ولقد صعّدت حملات خالد وعكرمة من معنويات المشركين، ونفخت فيهم روحاً جديدة فعادت قواتهم الهاربة المنهزمة قبل قليل، ودخلت ساحة المعركة ثانية، وساعدت جماعة منهم خالداً وعكرمة وحاصروا المسلمين من كلّ ناحية وقُتِلَ جمع كبير من المسلمين بسبب ذلك!!(1)

شائعة مقتل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

وفي هذا الوقت حمل «الليثي»(2) وكان من صناديد قريش وأبطالها على مصعب بن عمير حامل لواء الإسلام في تلك المعركة وهو يظن أنّه رسول

ص:185


1- . لاحظ: المغازي: 232/1-233.
2- . هو عبداللّه بن قمئة الليثي.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتبودلت بينهما طعنات وضربات حتّى قُتل «مصعب» بضربة من الليثي، وكان المسلمون يومئذ ملثَّمون، ثم صاح: قتلت محمّداً، أو قال: ألا قد قُتِلَ محمد، ألا قد قُتِلَ محمد.(1) فانتشر هذا الخبر في جموع المسلمين كالنار في الهشيم وعلمت قريش بذلك فسرّوا بذلك سروراً عظيماً، وارتفعت الأصوات في ساحة القتال تنادي: ألا قد قُتِلَ محمّد، ألا قد قُتِلَ محمّد.

ولقد زاد هذا الخبر الكاذب من جرأة العدوّ فتحرّكت جحافله وأفراده نحو المسلمين يسعى كلّ واحد منهم أن يقتطع من جسم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عضواً، وبذلك ينال فخراً في أوساط المشركين!! وبقدر ما ترك هذا الخبر الكاذب من أثر إيجابي في نفوس المشركين، تركَ أثراً سيئاً جداً في نفوس المسلمين، وأضعف معنوياتهم بشدّة بحيث تخلّى عددٌ كبير من المسلمين عن القتال، ولجأوا إلى الجبل فراراً بأنفسهم، ولم يثبت إلّاعددٌ قليل لا يتجاوز أصابع اليد من الرجال.(2)

هل يمكن إنكار فرار بعض الصحابة من أرض المعركة؟

لا يمكن أبداً أن ينكر أحدٌ فرار أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلّامن يعدّون بالأصابع في تلك المعركة، ولا يمنع كونهم صحابة، أو كونهم أصبحوا ذوي مكانَة أو مناصب في المجتمع الإسلامي في ما بعد، من القبول بهذه الحقيقة التاريخية المرّة.

ص:186


1- . لاحظ: سيرة ابن هشام (السيرة النبوية): 592/3.
2- . لاحظ: سيرة ابن هشام: 596/3-597.

فهذا هو ابن هشام المؤرّخ الإسلامي الكبير يكتب في هذا الصدد قائلاً:

انتهى أنس بن النضر عمُّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيداللّه في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم(1) فقال: ما يجلسكم؟ (أي ما يقعدكم عن القتال والمقاومة).

قالوا: قُتِلَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على مامات عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ثم عاد إلى المشركين فقاتلهم حتّى قُتِلَ.(2)

أو قال - حسب رواية كثير من المؤرّخين -: إن كان محمد قد قُتِلَ فإنّ ربَ محمَّد لم يُقتَل، فقاتِلُوا على ما قاتل عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومُوتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللّهم إنّي أعتذر إليك ممّا يقوله هؤلاء، وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء، ثم شدّ بسيفه على الكفّار فقاتل حتّى قُتِلَ.(3)

ويروي ابن هشام عن أنَس بن مالك (ابن أخ أنس بن النضر) لقد وجدنا بأنس ابن النضر يومئذ سبعين جراحة فما عرفه إلّاأُختُه عرفته ببنانه(4).

وكتب الواقدي في مغازيه يقول:

حدّثني ابن أبي سبرة عن أبي بكر بن عبداللّه بن أبي جهم، واسم أبي جهم عبيد قال: كان خالد بن الوليد يُحدّث وهو بالشام يقول: الحمدللّه الّذي هداني

ص:187


1- . اي استسلموا.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 600/3.
3- . تاريخ الطبري: 201/2.
4- . السيرة النبوية لابن هشام: 600/3، راجع تفسير المنار: 102/4.

للإسلام، لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطاب حين جالوا وانهزموا يوم أُحد وما معه أحد وإنّي لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري فنكبتُ عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له، فنظرتُ إليه موجِّهاً إلى الشعب(1).

وقد بلغ الانهزام والضعف النفسي ببعض الصحابة في هذه المعركة بحيث أخذ يفكّر في التبرّي من الإسلام لينجو بنفسه فقال: ليت لنا رسولاً إلى عبداللّه بن أُبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان!!(2).

القرآن يكشف عن بعض الحقائق

إنّ الآيات القرآنية تمزق كلّ حجب الجهل والتعصّب الّتي أُسدلت على هذه المسألة، وتفيد بوضوح أنّ طائفة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم اعتقدوا بأنّ ما أخبر به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الظفر، والنصر لا أساس له من الصحّة، فإنّ اللّه تعالى يقول في هذا الصدد:

«وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ» .(3)

وفي إمكانك أيّها القارئ الكريم أن تحصل على الحقائق المكتومة في هذا المجال بالتمعن في آيات من سورة آل عمران(4).

فهذه الآيات تكشف بصورة كاملة عن عقيدة الشيعة حول أصحاب رسول

ص:188


1- . المغازي: 237/1.
2- . بحار الأنوار: 27/20؛ تاريخ الطبري: 201/2؛ البداية والنهاية: 26/4.
3- . آل عمران: 154.
4- . الآيات: 121-180.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فإنّ الشيعة تعتقد بأنّه لم يكن جميع صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أوفياء، لعقيدة التوحيد، متفانين في سبيله، بل كان منهم الضعيف في إيمانهم والمنافق، والمتردّد، ومع ذلك لم يكن المؤمنون الأتقياء والصالحون الأبرار قلّة أيضاً.

ومن العجيب والمؤسف أن يسعى بعض الكُتّاب من أهل السنّة اليوم إلى التغطية على كثيرٍ من المواقف والأعمال المشينة الّتي بدرت من بعض الصحابة كالذي مرّ عليك في معركة أُحد، ويحاول تجاوزها بنوع من التبرير البعيد عن روح الحقيقة كمحاولة للمحافظة على شأن جميع الصحابة، و مكانتهم على حين أن هذه التبريرات الفجّة، وهذا التعصّب اللامنطقي لا يمكنهما أن تمنع من رؤية الحقيقة كما هي.

فأي كاتب يستطيع إنكار مفاد هذه الآية الّتي تصرّح قائلة:

«إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» (1).

إنّ هذه الآية تقصدُ أُولئك الّذينَ رآهم أنس بن النضر، ومَن شابَهَهُم من الذين تركوا ساحة المعركة، ولجأوا إلى الجبل، وجلسوا يفكّرون في نجاة أنفسهم!!

والأوضح من الآية السابقة قولُ اللّه تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» (2).

إن اللّه تعالى يعاتب ويوبّخ الّذين تذرّعوا - لفرارهم من المعركة - بنبأ مقتل

ص:189


1- . آل عمران: 153.
2- . آل عمران: 155.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على يد العدوّ، وراحوا يفكّرون في الحصول على أمان من أبي سفيان بواسطة عبداللّه بن أُبي إذ يقول:

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ» .(1)

التجارب المرّة

إنّ في أحداثِ معركة «أُحد» ووقائعها تجارب مرّة وأُخرى حلوة، فهذه الحوادث والوقائع تثبت بجلاء صمود واستقامة جماعة، وضعف وهزيمة آخرين.

كما أنّه يستفاد من ملاحظة الحوادث التاريخية أنّه لا يمكن اعتبار جميع المسلمين الذين عاصروا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أتقياء عدولاً بحجّة أنّهم صحبوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّ الذين أخلَوا مراكزهم على الجبل، يوم أُحد وعَصَوا أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تلك اللحظات الخطيرة، وجَرُّوا بفعلهم على المسلمين تلك المحنة الكبرى، كانوا أيضاً ممّن صحبوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

يقول المؤرّخ الإسلامي الكبير الواقدي في هذا الصدد: «بايع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم أُحد ثمانية على الموت: ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار:

علي وطلحة والزبير، وأبودجانة والحارث بن الصمّة وحباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل بن حنيف، فلم يقتل منهم أحد.(2)

وكتب العلّامة ابن أبي الحديد المعتزلي أيضاً: حضرت عند محمد بن معد

ص:190


1- . آل عمران: 144.
2- . المغازي: 240/2.

العلوي الموسوي الفقيه على رأي الشيعة الإمامية رحمه الله في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة 608 هجرية، وقارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي، فقرأ: حدّثنا الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن خالد بن رياح، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، عن محمد بن مسلمة يقول: سمعت أُذناي، وأبصرت عيناي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول يوم أُحد، وقد انكشف الناس إلى الجبل، وهو يدعوهم وهم لا يلوون عليه، سمعته يقول:

«إليَّ يا فلان، إليّ يا فلان أنا رسول اللّه».

فما عرّج عليه واحد منهما، ومضيا!! فأشار ابن معد إليّ أن إسمع.

فقلت: وما في هذا؟ قال: هذه كناية عنهما (أي اللّذين تسنّما مسند الخلافة بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم).

فقلت: ويجوز أن لا يكون عنهما لعلّه عن غيرهما.

قال: ليس في الصحابة من يُحتشَم ويستحيا من ذكره بالفرار، وما شابهه من العيب، فيضطرّ القائلُ إلى الكناية إلّاهما.

قلت له: هذا وَهْمٌ.

فقال: دعنا من جَدَلك ومَنعكَ، ثم حَلَفَ أنّه ما عنى الواقديُ غيرهما، وأنّه لوكان غيرُهما لذكرهما صريحاً(1).

كما أنّ العلّامة ابن أبي الحديد ذكر في شرحه لنهج البلاغة أيضاً اتّفاقَ الرواة كافّة على أنّ عثمان لم يثبت في تلك اللحظات الحساسة يوم أُحُد(2).

وستقرأ في الصفحات القادمة ما قاله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن امرأةٍ مجاهدةٍ

ص:191


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 23/15-24.
2- . شرح نهج البلاغة: 20/15. ولاحظ: المغازي: 278/1 و 279.

متفانية في سبيل الرسالة الإسلامية تدعى «نسيبة المازنية» دافعت عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم أُحُد.

فقد لمّح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في كلامه عنها وعن موقفها العظيم يومذاك، إلى ما يقلّل من شأن الذين فرّوا من المعركة.

نحن لا نريد هنا الإساءة إلى أيّ واحد من صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، بل غاية ما نتوخّاه هو الكشف عن الحقيقة، وإماطة اللثام عن الواقع، فبقدر ما نستنكر، ونقبّح فرار من فرّ، نكبر صمود من صمد وثبات من ثبت ممّن سنأتي على ذكرهم في الصفحات القادمة، وهذا هو ما تمليه علينا روح التحليل الصادق أو تقتضيه أمانة النقل، وما يُسمّى بالأمانة التاريخية على الأقل.

خمسة يتحالفون على قتل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

في تلك اللحظات الّتي تشتت فيها جيش المسلمين، وانفرط عقده، وفي الوقت الّذي تركّزت فيه حملات المشركين من كلّ ناحية على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تعاهد خمسة أنفارٍ من صناديد قريش المعروفين أن يضعوا نهايةً لحياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ويقضوا عليها مهما كلّفهم من الثمن.

وهؤلاء هم:

1. عبداللّه بن شهاب الّذي جرح جبهة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

2. عتبة بن أبي وقّاص الّذي رمى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأربعة أحجار فكسر رُباعيته صلى الله عليه و آله و سلم، وأشظى باطنها، من الجهة اليمنى.

3. ابن قميئة الليثي الّذي رمى وجنتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجرحهما بحيث غاب حلق المغفر في وجنته صلى الله عليه و آله و سلم، فأخرجها أبو عبيدة الجراح بأسنانه فكسرت

ص:192

ثنيتاه العليا والسفلى.

4. عبد اللّه بن حميد الّذي قُتِلَ على يد بطل الإسلام أبي دجانة وهو يحمل على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

5. أُبي بن خلف وكان من الذين قُتلوا بيد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسه.(1)

فهو واجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عندما وصل صلى الله عليه و آله و سلم إلى الشِّعب، وقد عرفه بعض أصحابه وأحاطوا به، فجعل يصيح بأعلى صوته: يا محمّد لا نجوتُ إن نجوتَ، وحمل على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ولمّا دنا تناولَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الحربة من «الحارث بن الصمّة»، ثم انتفض انتفاضةً شديدةً وطعن «أُبيّاً» بالحربة في عنقه، وهو على فرسه، فجعل أُبيُّ يخور كما يخور الثور!

ومع أنّ ما أصاب أُبيّاً من جراحة كان يبدو بسيطاً، إلّاأنّه تملّكه رعبٌ وخوفٌ شديدان، إذ لم ينفعه معهما تطمينات رفاقه، ولم يذهب عنه الروع بكلامهم، وكان يقول: واللات والعزى لو كان الّذي بي بأهل ذي المجاز(2) لماتوا أجمعون.

أليس قال: (أي النبيّ يومَ كان بمكة) أنا أقتلُكَ إن شاء اللّه، قتلني واللّه محمّدٌ!!

وقد فعلت الطعنة، وكذا خوفه فعلتهما فمات في منطقة تدعى سرف (وهو موضع على ستة أميال من مكة) فيما كانت قريش قافلةً من أُحد إلى مكة(3).

ص:193


1- . لاحظ: المغازي: 243/1.
2- . كان ذوالمجاز سوقاً من أسواق العرب وهو عن يمين الموقف بعرفة قريباً من كبكب (معجم ما استعجم على ما في حواشي المغازي: 508).
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 602/3-603؛ المغازي: 251/1.

حقاً إنّ هذا ينمُّ عن منتهى الدناءة والخسة في خُلُق قريش وموقفها، فمع أنّها كانت تعرف صدق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتعترف به، وتنكرُ أن يكون قد صَدَرَ منه كِذبٌ في قول، أو خُلف في وعد، كانت تعاديه أشدّ العِداء، وتمدّ نحوه يَدَ العدوان، وتبغي مصرعه، وتسعى إلى إراقة دمه!!

كما أنّه من جهة أُخرى يدلّ على شجاعة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم وبطولته ومقدرته الروحية الكبرى، من ناحية أُخرى، وثباته في عمله من ناحية ثالثة.

أجل لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يدافع عن رسالته السماوية، وعن حياض عقيدته التوحيدية العظمى، ويصمد لأعدائه صمودَ الجبال الرواسخ مع أنّه ربما دنا من الموت وكان منه قاب قوسين أو أدنى.

ومع أنّه كان صلى الله عليه و آله و سلم يرى أنّ كلّ همّ المشركين وكلّ حملاتهم موجّهة نحوه بشخصه، إلّاأنّه لم يشهد أحد منه أي قول أو فعل يشعر بتوجّسه واضطرابه، ولقد صرّح المؤرّخون بهذا الأمر فقد كتب المقريزي: ونادى المشركون بشعارهم [يا للعزى، يالهُبَل] فأوقعوا في المسلمين قتلاً ذريعاً، ونالوا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما نالوا. ولم يَزِلّ [يتراجع] صلى الله عليه و آله و سلم شبراً واحداً بل وقف في وجه العدوّ، وأصحابه تثوب إليه مرّة منهم طائفة وتتفرّق عنه مرّة، وهو يرمي عن قوسه أو بحجر حتّى تحاجزوا(1).

نعم غاية ما سمع منه صلى الله عليه و آله و سلم هو ما قاله عندما كان يمسح الدم عن وجهه المبارك إذ قال:

«كيفَ يفلحُ قومٌ فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى اللّه؟!»(2).

ص:194


1- . إمتاع الأسماع: 148/1.
2- . بحار الأنوار: 102/20.

إنّ هذه العبارة الخالدة تكشف عن عمق رحمة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعاطفته حتّى بالنسبة إلى أعدائه الألدّاء.

بينما تكشف كلمة قالها علي عليه السلام عن شجاعته صلى الله عليه و آله و سلم الفائقة إذ قال:

«كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ»(1).

من هنا فإنّ سلامة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في الحروب تعود في أكثر أسبابها إلى حسن دفاعه عن دينه، وعن نفسه، وإلى شجاعته في المعارك.

ولقد كانت ثمّة علل وأسباب صانت هي الأُخرى حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من أن يلحقها خطر أو ضرر، ألا وهو تضحية وتفاني تلك القلّة القليلة من أصحابه الأوفياء الذين بذلوا غاية جهدهم للحفاظ على حياة رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله و سلم، وبذلك أبقوا على هذا المشعل الوقّاد، وهذا السراج المنير.

لقد قاتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم أُحُد قتالاً شديداً، فرمى بالنبل حتّى فني نبله، وانكسرت سية قوسه، وانقطع وتره(2).

على أنّ الّذين دافعوا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد(3)، وحتّى هذه القلّة القليلة المدافعة فإنّ ثباتهم معه جميعاً غير مقطوع به من منظار علم التاريخ، ومن زاوية التحقيق التاريخي.

نعم ما هو متّفق عليه بين المؤرّخين، وأرباب السير هو ثبات أفراد قلائل نعمد هنا إلى ذكر أسمائهم ومواقفهم بشيء من التفصيل.

ص:195


1- . نهج البلاغة: 520، فصل في غريب كلامه برقم 9.
2- . الكامل في التاريخ: 157/2.
3- . لاحظ: شرح نهج البلاغة: 19/15-21.

الدفاع الموفق أو النصر المجدّد

لو أنّنا أسمينا هذه المرحلة من تاريخ الإسلام بمرحلة النصر المجدّد لما قلنا جزافاً، فإنّ المقصود من هذا الانتصار هو أنّ المسلمين استطاعوا - وخلافاً لتوقّعات العدو الحاقد - أن يصونوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من خطر الموت الّذي كاد أن يكون محقّقاً، وهذا هو انتصار مجدّد أصابه جند الإسلام.

أمّا إذا عزونا هذا الانتصار إلى جيش الإسلام برمّته فإنّ ذلك إنّما هو لأجل تعظيم مقام المجاهدين المسلمين، وإلّا فإنّ ثقل هذا الانتصار العظيم وقع على عاتقِ عدد محدودٍ جدّاً من رجال الإسلام الذين صانوا حياة الرسول الأكرم عن طريق المخاطرة بحياتهم، وتعريضها للخطر الجدّي.

وفي الحقيقة فإنّ بقاء الدولة الإسلامية وبقاء جذوة هذا الدين المبارك مشتعلةً إنّما هو نتيجة تضحيات تلكم القلّة القليلة المتفانية في سبيل اللّه ورسوله.

وإليك فيمايلي استعراضاً إجمالياً لتضحيات أُولئك الرجال المتفانين في سبيل العقيدة والدين:

1. إنّ أوّل وأبرز الرجال الصامدين الثابتين على طريق الجهاد والتضحية في هذه الواقعة هو شاب بطل لم يتجاوز ربيعه السادس والعشرين من عمره...، هو الّذي رافق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من سني صغره وبدايات حياته وحتّى لحظة وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

إنّ بطل الإسلام الأكبر وإنّ ذلك الفدائي الواقعي هو الإمام «عليّ بن أبي طالب» عليه السلام الّذي تحفظ ذاكرة التاريخ الإسلامي عنه الكثير الكثير من مواقف التضيحة والفداء في سبيل نشر الإسلام والدفاع عن حوزة التوحيد، وإرساء

ص:196

دعائمه.

وفي الأساس أنّ هذا الانتصار المجدَّد - على غرار الانتصار الأوّل - إنّما جاء نتيجةً لبسالة وبطولة هذا المجاهد المتفاني في سبيل الإسلام؛ ذلك لأنّ السبب الجوهري في هزيمة قريش وفرارها في بداية المعركة كان هو سقوط لوائها بعد مقتل كلّ حَمَلَة اللواء على يد الإمام علي عليه السلام، وبالتالي نتيجة للرعب الّذي أُلقي في قلوبهم لمّا رأوا من تساقط صناديدهم الواحد تلو الآخر، الأمر الّذي سلبهم القدرة على المقاومة.

إنّ الكُتّاب المصريين المعاصرين الذين تناولوا حوادث التاريخ الإسلامي بالتحليل والدراسة، لم يعطوا علياً عليه السلام - وللأسف - حقّه في هذه الموقعة، أو على الأقل لم يذكروا ما اتفق عليه المؤرّخون، وتطابقت في إثباته التواريخ، بل جعلوا تضحيات الإمام عليّ عليه السلام ومواقفه الشجاعة والعملاقة في عداد مواقف الآخرين، وفي مستواها.

من هنا ينبغي أن نسلّط بعض الضوء على تضحيات ذلك الفدائيّ الواقعيّ، وذلك البطل الشجاع الّذي شهدت له ساحات الوغى مواقف لا نظير لها في العظمة، والسمو.

أ. يقول ابنُ الأثير في تاريخه(1): كان الّذي قتل أصحاب اللواء عليّ - قاله أبو رافع -، (قال:) فلمّا قتلهم أبصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جماعةً من المشركين فقال لعليّ:

إحمل عليهم، (فحمل عليهم) ففرّقهم، وقتل فيهم، ثم أبصر جماعة أُخرى فقال له:

احمل عليهم، فحمل عليهم وفرّقهم وقتل فيهم، فقال جبرئيل: يا رسول اللّه هذه المواساة، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّه منّي وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما قال:

ص:197


1- . الكامل في التاريخ: 154/2.

فسمعوا صوتاً: «لا سَيْفَ إلّاذوالفقار ولا فتى إلّاعلي»(1).

وقد شرح ابن أبي الحديد هذه القضية بتفصيل أكثر إذ كتب في شرحه لنهج البلاغة يقول: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا فرّ معظم أصحابه عنه يومَ أُحُد كثرت عليه كتائبُ المشركين، وقصدته كتيبة من بني كنانة، ثم من بني عبد مناة بن كنانة، فيها بنو سفيان بن عويف، وهم: خالد بن ثعلب وأبو الشعثاء بن سفيان وأبو الحمراء بن سفيان وغراب بن سفيان، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يا علي اكفني هذه الكتيبة، فحمل عليها وإنّها لتقارب خمسين فارساً وهو (أي علي عليه السلام) راجلٌ، فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرّق عنه، ثم تجتمع عليه هكذا مراراً حتّى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة منها ممّن لا تعرف أسماؤهم.

ثم نقل ما قاله جبرئيل، ثم كتب يقول: قلت وقد روى هذا الخبر جماعةٌ من المحدّثين وهو من الأخبار المشهورة ووقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد ابن إسحاق ورأيت بعضها خالياً عنه، وسألت شيخي عبدالوهاب بن سكينة عن هذا الخبر، فقال: خبرٌ صحيحٌ.

فقلت: فما بال الصحاح (أي مثل صحيح البخاري ومسلم وما شاكلهما) لم تشتمل عليه؟

قال: أوَ كلّ ما كان صحيحاً تشتمل عليه كتب الصحاح؟ كم قد أهمل جامعو الصحاح من الأخبار الصحيحة؟!(2).

ب. ولقد أشار الإمام علي عليه السلام نفسُه في كلام مفصّل له مع رأس اليهود إلى

ص:198


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 197/2؛ ميزان الاعتدال: 324/3؛ لسان الميزان: 406/4.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 250/14-251.

هذا الموقف إذ قال:

«ذَهَب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعسكرَ بأصحابه في سد أُحد وأقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجلٍ واحدٍ واستشهد من المسلمين من استشهد، وكان ممّن بقي من الهزيمة، وبقيت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومضى المهاجرون والأنصار إلى منازلهم من المدينة كلّ يقول: قتل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقتل أصحابه، ثم ضرب اللّه عزّوجلّ وجوه المشركين، وقد جرحت بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نيفاً وسبعين جراحة، منها هذه، وهذه».

ثم إنّه عليه السلام ألقى رداءه، وأمرَّ يده على جراحاته، وقال:

«وكان منّي في ذلك ما على اللّه عزّوجلّ ثوابُه إن شاء اللّه»(1).

وقد بلغ عليٌ عليه السلام - حسب رواية علل الشرائع - من كثرة ضربه لطوائف المشركين الذين كانوا يحملون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم أُحد، ان انكسر سيفُهُ، فجاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا رسول اللّه إنّ الرجل يقاتِل بسلاحه وقد انكسر سيفي، فأعطاه عليه السلام سيفَه ذا الفقار، فما زال يدفع به عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال جبرئيل في حقّه وفي سيفه ما مرّ(2).

وقد أشار ابن هشام في سيرته إلى العبارة الّتي نادى بها جبرئيل إذ قال:

وحدّثني بعض أهل العلم إنّ ابن أبي نجيح قال: نادى مناد يوم أُحد: لا سيفَ إلّا ذوالفقار ولا فتى إلّاعليٌّ (3).

ص:199


1- . الخصال: 368.
2- . علل الشرائع: 7/1؛ بحار الأنوار: 71/20.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 615/3.

كما عد ابن هشام في سيرته(1) القتلى من المشركين في أُحد (22) رجلاً، وقد ذكر أسماءهم واحداً واحداً وذكر قبائلهم، وغير ذلك من خصوصياتهم، وقد قُتلَ منهم (12) رجلاً بيد علي عليه السلام، وقتل البقية بأيدي المسلمين، ونحن نعرض هنا عن ذكر أسماء أُولئك المقتولين رعاية للاختصار. هذا ونحن نعترف بأنّنا لم نستطع بيان كلّ ما قام به علي عليه السلام من خدمات كبرى في هذه الصفحات القلائل على نحو ما جاء في كتب الفريقين السنّة والشيعة وبخاصّة في موسوعة بحار الأنوار.

إنّ ما نستفيده من مطالعة الروايات والأخبار الثابتة والمتعدّدة في هذا المجال هو أنّه لم يثبت أحد في معركة «أُحد» كما ثبت علي عليه السلام(2).

2. أبو دُجانة، وهو البطلُ المسلم الثاني بعد الإمام علي عليه السلام في الصمود، والتضحية، والبسالة والفداء دفاعاً عن حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد بلغ من حرصه على حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ودفاعه عنه أن جعل من نفسه ترساً يقي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من سيوف الكفّار ورماحهم، وسهامهم وأحجارهم، وقد وقعت سهام كثيرة في ظهره ولكنّه ظلّ مترساً بجسمه دون النبيّ، وبذلك حافظ على حياته الشريفة(3). وقد جاء أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال له يوم «أُحد» بعد أن فرّ وانهزم أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحاصره الكفّار من كلّ جانب: «يا أبا دجانة انصرف وأنتَ في حلٍّ من بيعتك، أمّا عليٌّ فهو أنا وأنا هو».

ص:200


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 639/3.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 84/20.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 600/3.

فتحول وجلس بين يدي النبي صلى الله عليه و آله و سلم وبكى وقال: لا واللّه، ورفع رأسه إلى السماء وقال:

لا واللّه، لاجعلت نفسي في حلٍّ من بيعتي إنّي بايعتك، فإلى مَن أنصرفُ يا رسول اللّه إلى زوجة تموتُ، أو ولد يموتُ، أو دارٍ تخربُ، و مالٍ يفنى، و أجل قد اقتربَ؟

فرقّ له النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فلم يزل يقاتلُ حتّى أثخنتهُ الجراحة وهو في وجه و «عليٌّ» في وجه، فلمّا سقط احتمله عليُّ عليه السلام فجاء به إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فوضعه عنده، فقال: يا رسول اللّه أوفيت ببيعتي؟ قال: نعم(1).

وقد ذُكر في كتب التاريخ أشخاصٌ آخرون كعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، وطلحة بن عبيداللّه، وغيرهم ممّن يبلغ - حسب بعض الكتب - 36 شخصاً ادّعى أنّهم ثبتوا ولم يفروا، إلّاأنّ ما هو مسلم به تاريخياً هو ثبات علي عليه السلام وأبي دجانة، وحمزة وامرأة تُدعى أُمّ عامر، وأمّا ثبات غير هؤلاء الأربعة فأمرٌ مظنونٌ، بل ومشكوكٌ في بعضهم.

3. حمزةُ بن عبدالمطلب، عمُّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكان من شجعان العرب ومن المعروفين ببطولاته في الإسلام، وهو الّذي أصرّ على أن يخرج المسلمون من المدينة ويقاتلوا قريشاً خارجها.

ولقد دأب حمزة على حماية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من أذى المشركين والوثنيّين في اللحظات الخطيرة، والظروف القاسية من بدء الدعوة المحمدية بمكّة.

وقد ردّ على أبي جهل الّذي كان قد آذى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بشدّة، وضربه

ص:201


1- . بحار الأنوار: 107/20-108، عن روضة الكافي: 318/8-322.

ضربة شجّ بها رأسه في جمع من قادة قريش ولم يجرأ أحد على مقابلته.

لقد كان حمزة مسلماً مجاهداً وبطلاً فدائياً متفانياً في سبيل الإسلام، فهو الّذي قتل «شيبة» وشيبة من كبار صناديد قريش وأبطالها، في بدر كما قتل آخرين، ولم يهدف إلّانصرة الحقّ، والفضيلة، وإقرار الحرية في حياة الشعوب والأُمم.

ولقد كانت هندُ بنتُ عتبة زوجة أبي سفيان تحقد عليه أشدّ الحِقد، وقد عزمت على أن تنتقم من المسلمين لأبيها مهما كلّف الثمن.

فأمرت «وحشياً» وهو غلامٌ حبشي لجبير بن مطعم الّذي قُتل هو الآخر عمُّه في بدر بأن يحقّق غرضها، وأملها كيفما استطاع، وقالت له: لئن قتلتَ محمداً أو عليّاً أو حمزة لأُعطينّك رضاك.

فقال وحشي لها: أمّا محمد فلا أقدرُ عليه، وأمّا عليٌّ فرأيته رجلاً حذراً كثير الالتفات فلم أطمع فيه، فكمنت لحمزة فرأيته يهدّ الناس هدّاً....(1)

يقول وحشي: فلمّا التقى الناس (يوم أُحد) خرجت أنظر حمزة وأتبصّره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق، يهدّ الناس بسيفه هدّاً ما يقوم له شيء،... وهززتُ حربتي - وكان ماهراً في رمي الحراب - حتّى إذا رضيتُ منها، دفعتها عليه، فوقعتْ في ثنته (وهي أسفل البطن) حتّى خرجَت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي، فغُلِبَ، وتركتُه وإيّاها حتّى مات، ثم أتيتُه فأخذت حربتي ثم رجعتُ إلى العسكر، فقعدتُ فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، وإنّما قتلتُه لأُعتقَ.

فلمّا قدمتُ إلى مكّة أُعتقت، ثم أقمتُ حتّى إذا فتح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكّة

ص:202


1- . بحار الأنوار: 55/20. وفي رواية أُخرى: وأمّا حمزة فإنّي أطمع فيه، لأنّه إذا غضب لم يبصر بين يديه. لاحظ بحار الأنوار: 83/20.

هربت إلى الطائف فمكثتُ بها. فلمّا خرج وفدُ الطائف إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليُسلِمُوا تعيّت عليّ المذاهب، فقلتُ: ألحق بالشام أو باليمن، أو ببعض البلاد، فواللّه إنّي لفي ذلك من همّي إذ قال لي رجُلٌ: ويحَكَ إنّه واللّه ما يقتل أحداً من الناس دَخَلَ في دينه، وتشهَّد شهادته.

فلمّا قال لي ذلك، خرجتُ حتّى قدمتُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينةَ، فلم يَرُعْهُ إلّابي قائماً على رأسه أتشهّد بشهادة الحقّ، فلمّا رآني قال: أوحشي؟! قلت:

نعم يا رسول اللّه.

قال: اقعد فحدّثني كيفَ قتلت حمزةَ؟ فحدّثتُه...، فلمّا فرغتُ من حديثي قال: ويحك! غَيّب عنّي وجهَكَ فلا أرَيَنَّكَ.(1)

أجل هذه هي الروحُ النبويّة الكبرى، وتلك هي سعة الصدر الّتي وهبها اللّه تعالى لنبيه صلى الله عليه و آله و سلم قائد الإسلام الأعلى، ومعلم البشرية الأكبر، تراه عفا عن قاتل عمّه، مع أنّه كان في مقدوره أن يعدمه بمائة حجّة وحجة!!

يقول وحشي: فكنتُ أتنكَّبُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حيث كان لئلّا يراني، حتّى قبضه اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فلمّا خرج المسلمون إلى قتال مسيلمة الكذّاب صاحب اليمامة خرجتُ معهم، وأخذتُ حربتي الّتي قتلتُ بها حمزةَ، فلمّا التقى الناسُ رأيتُ مسيلمةَ الكذاب قائماً في يده السيفُ، وما أعرفُه، فتهيّأتُ له، وتهيّأ له رجل من الأنصار من الناحيةِ الأُخرى، كلانا يريدُه، فَهززتُ حربتي حتّى إذا رضيتُ منها دفعتها عليه، فوقعت فيه، وشدّ عليه الأنصاريُ فضربَهُ بالسيف.(2)

ص:203


1- . سيرة ابن هشام: 591/3-592.
2- . سيرة ابن هشام: 592/3.

هذا هو ما ادّعاه وحشي، بيد أنَّ هشاماً قال في سيرته: فبلغني أنّ وحشياً لم يزل يُحدّ في الخمر حتّى خُلِعَ من الديوان فكان عمر بن الخطاب يقول: قد علمتُ أنَّ اللّه تعالى لم يكن ليدعَ قاتل حمزة.(1)

4. أُمّ عمارة لا ريب أنّ الجهاد الابتدائي مرفوع عن المرأة ساقط عنها في نظر الإسلام، ولهذا عندما أوفدت نساءُ المدينة امرأة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لتتحدّث معه حولَ الحِرمان من هذه العبادة الكبرى، فجاءت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالت: يا رسول اللّه نحن نقوم بكلّ ما يحتاج إليه الرجال في حياتهم، ليجاهدوا ببال فارغ، فلِمَ حُرِمنا نحن من هذه الفضيلة؟!

فأجابها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائلاً: «افهمي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أنّ حسن تبعّل المرأة لزوجها، وطلبها مرضاته، واتّباعه موافقته يعدل ذلك كلّه»(2)، وهو صلى الله عليه و آله و سلم يشير إلى أنّ لهذا المنع أسبابه الطبيعية والوظيفية في طبيعة المرأة وخلقتها، وليس هو بالتالي يعني حرمانها من شيء فإنّ قيامها على الوجه الصحيح بخدمة زوجها وتربية أولادها تعدل الجهاد في سبيل اللّه.

بيد أنّ بعض النسوة المجرّبات ربما كنّ يخرجن من المدينة لمساعدة جنود الإسلام كسقي العطاشى، وغسل ثياب المقاتلين، وتضميد الجرحى. وبذلك كنَّ يقدّمن خدمة مؤثّرة في نصرة المسلمين ودعمهم.

تقولُ أُمّ عمارة (نسيبة المازنية): خرجت أوّل النهار إلى «أُحد» وأنا أنظرُ ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو في الصحابة،

ص:204


1- . سيرة ابن هشام: 592/3.
2- . لاحظ: أُسد الغابة: 398/5-399 في ترجمة أسماء بنت يزيد الأنصارية..

والدولة والريح للمسلمين.

فلمّا انهزم المسلمون انحزتُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فجعلت أباشرُ القتال وأذبّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالسيف، وأرمي بالقوس حتّى خلصت اليّ الجراح.

(تقول راوية هذا الكلام أُمّ سعد بنت سعد بن الربيع) فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور، فقلت: يا أُمّ عمارة من أصابك بهذا؟.

قالت: أقبل ابن قميئة وقد ولّى الناس عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، يصيح: دلّوني على محمد، لا نجوتُ إن نجا. فاعترض له مصعبٌ بن عمير وناس معه، فكنت فيهم فضربني هذه الضربة، ولقد ضربتُه على ذلك ضربات، ولكنَّ عدوَّ اللّه كان عليه درعان.(1)

وقال عبد اللّه بن زيد المازني: جرحت جرحاً في عضدي اليسرى، ضربني رجل كأنّه الرقل ولم يعرّج علي، ومضى عنّي، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أعصب جرحك، فتقبل أُمّي إليّ، ومعها عصائب في حقويها قد أعدّتها للجراح، فربطت جرحي والنبي صلى الله عليه و آله و سلم واقف ينظر، ثم قالت: إنهض يا بني فضارب القوم، فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:

«ومن يطيق ما تطيقين يا أُمّ عمارة».

قالت: وأقبل الرجل الذي ضربني، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: هذا ضارب ابنك، فاعترضت أُمّي له، فضربت ساقه، فبرك، فرأيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم تبسّم حتّى بدت نواجذه، ثم قال: «استقدت يا أُمّ عمارة». ثمّ أقبلنا نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «الحمد للّه الذي ظفرك وأقرّ عينك من عدوك وأراك ثأرك

ص:205


1- . شرح نهج البلاغة: 265/14؛ المغازي: 269/1؛ بحار الأنوار: 133/20.

بعينك».(1)

وعندما نادى منادي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى حمراء الأسد، بعد معركة أُحُد، وطلب من الجرحى أن يخرجوا لملاحقة جيش المشركين، شدّت عليها ثيابها وقد كان بها جراح عديدة أعظمها الجرح الّذي على عاتقها فما استطاعت بسبب نزف الدم، فأرادت أن تخرج مع العسكر منعتها جراحها الباهضة من ذلك، فلمّا رجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من غزوة حمراء الأسد ما وصل إلى بيته حتّى أرسل إليها عبدَاللّه بن كعب المازني يسأل عنها فرجع إليه يخبره بسلامتها، فسُرّ النبيّ بذلك.(2)

ولقد أثار موقف هذه المرأة البطلة الثابتة على درب الإيمان سرور النبيّ وإعجابه فقال في حقّها مشيّداً بموقفها البطولي ومعرِّضاً بفرار مَن فرّ وهروب مَن هرب في معركة أُحد: «لمقامُ نسيبَة بنتِ كعب اليومَ خيرٌ من مقام فلان وفلان».

وقال ابنُ أبي الحديد معلّقاً على عبارة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لمقام نسبية اليومَ خيرٌ من مقام فلان وفلان» قلت: ليت الراوي لم يُكَنِّ هذا الكناية، وكان يذكر مَن هما بأسمائهما حتّى لا تترامى الظنون إلى أُمور مشتبهة، ومن أمانة المحدّث أن يذكر الحديث على وجهه ولا يكتم منه شيئاً، فما باله كتم اسمَ هذين الرجلين(3).

ولكنّنا نعتقد أنّ الرجلين هما من الشخصيات الّتي تسنّمت مراكز القيادة العليا بعد وفاة رسول اللّه عليه السلام، وقد أحجم الراوي عن التصريح باسميهما إمّا احتراماً أو تقيةً وخوفاً.

ص:206


1- . شرح نهج البلاغة: 267/14؛ المغازي: 270/1-271.
2- . المغازي: 270/1.
3- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 266/14.

وكانت نسيبة قد طلبت من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يوم أُحُد بعد أن أشاد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بصلابتها ومواقفها أن يدعو لها بمرافقته في الجنة فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم داعياً لها ولأهل بيتها:

اللّهم اجعَلْهُم رفقائي في الجنّة».(1)

بقية أحداث واقعة «أُحد»

لقد آلت تضحيات ثلّة قليلة ومعدودةٍ من رجال الإسلام المتفانين وبسالتهم إلى الإبقاء على حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحفظها من الخطر القطعي الحتمي.

ومن حسن الحظ أن أكثر أفراد العدوّ قد تصوّروا يومئذ أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد قُتِل، ومضوا يفتشون عن جسده بين القتلى، ودفعت الحملات الّتي كان يقوم بها أقليةٌ من المشركين على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد رُدّت على أعقابها بفضل ثبات علي عليه السلام وأبي دجانة وأنفارٍ آخرين (احتمالاً) وقد رأى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّ من الصالح في تلك اللحظات أن لا ينتشر تكذيبُ شائعة مقتل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لكي لا يصرّ العدوُ على البقاء في أرض المعركة مع ما كان عليه المسلمون من التشتّت والتفرّق، والمحنة، ومن هنا صعد هو وبعض أصحابه إلى الشعب في جبل أُحُد.

وفي خلال ذلك سقط رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حفيرة في الجبل حفرها أبو عمّار الفاسق للمسلمين، فأخذ علي عليه السلام بيد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأخرجه منها، وكان أوّل مَن عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من المسلمين - بعد الهزيمة، وقول الناس: قتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم -، «كعب بن مالك» وقال: عرفت عينيه صلى الله عليه و آله و سلم تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، أبشروا هذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأشار إليه

ص:207


1- . شرح نهج البلاغة: 269/14؛ المغازي: 273/1.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن أنصت.(1)

وذلك لأنّ انتشار خبر سلامة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان من شأنه أن يدفع المشركين - كما قلنا - إلى مواصلة حملاتهم على المسلمين، بهدف استئصال شأفتهم، ولهذا أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كعباً بالسكوت، فسكت كعب.

وأخيراً وصل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى فم الشِّعب، ولمّا عرف المسلمون بحياته صلى الله عليه و آله و سلم سرّوا بذلك وأخذوا يتجمّعون عنده، وهم يُظهرون الندامة من تركه بين الأعداء والفرار بأنفسهم إلى الجبل، وأخرج أبو عبيدة الجرّاح حلقتي المغفر من وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجاء علي عليه السلام بماء في درقته فغسل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم به الدمَ عن وجهه وصبّ منه على رأسه وقال:

«اشْتدَّ غضَبُ اللّه على مَنْ دَمّى وجهَ نَبيّهِ».(2)

العدوُّ يحاول استغلال الفرصة

في الوقت الّذي واجه المسلمون فيه هزيمة كبرى انهارت بها الكثير من المعنويات، اغتنم العدوّ الفرصة للترويج عن معتقداته، فأطلق شعارات متعدّدة ضد عقيدة التوحيد، كان من شأنها أن تغري البسطاء، والضعفاء في الإيمان وتؤثّر فيهم، وتزلزلَ إيمانهم. فليست هناك حالة لبثّ العقائد وتسريبها إلى النفوس أفضل من حالة الانهزام والنكسة، والبلاء والمصيبة، ففي حالة كهذه يبلغ الضعفُ النفسيُ لدى المصاب والمنكوب حدّاً يفقد معه العقلُ سيطرته على الإنسان بحيث يفقد على أثر ذلك قدرة التمييز بين الحقّ والباطل، وفي هذه الصورة

ص:208


1- . سيرة ابن هشام: 601/3.
2- . لاحظ: سيرة ابن هشام: 602/3-603.

تصبح مسألة بثّ الدعايات السيّئة وزرعها في النفوس واستثمارها مسألة بسيطة، إذ يكون الإنسان في هذه الحالة أكثر تقبّلاً وأيسر قبولاً.

من هنا عمد أبو سفيان وعكرمة فرفعا أصناماً كبيرة على الأيدي بعد إلحاق الهزيمة بالمسلمين، وأظهروا الفرح والسرور وأخذوا ينادون بأعلى أصواتهم - مستغلين هذه الفرصة -: «اُعلُ هُبَل، اعلُ هُبَل»!!

ويعنون بذلك الشعار أنّ الانتصار الّذي أحرزه المشركون إنّما هو بفضل الصنم: هُبل، وبالتالي بفضل الوثنية الّتي يدين بها أهلُ مكّة. ولو كان ثمة إله سواه، وكانت عقيدة التوحيد على حقّ لانتصر المسلمون، ولما خلص إليهم من المحنة ما خلص، فأدرك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عمقَ الخطر الّذي يكمن في الأُسلوب الّذي أخذ العدوّ يمارسه في مثل هذه اللحظة الحسّاسة، وما سيتركه ذلك من أثر سيِّئ في النفوس، وبخاصّة الضعيفة منها، ولهذا تناسى كلّ أوجاعه ومصاعبه وأمر عليّاً والمسلمين فوراً بأن يجيبوا منادي الشرك بشعارٍ مضادٍ قوي، فقال: قولوا:

«اللّهُ أعْلى و أَجَلّ، اللّهُ أَعْلى و أَجلّ».

أي إنَّ هذه الهزيمة ليست نابعة من عقيدة التوحيد، بل هي ناشئة من انحراف بعض الجنود عن أوامر القائد وتعليماته العسكرية الحكيمة.

بيد أنّ أبا سفيان لم يكف عن إطلاق شعاراته، والمضيّ في الدعاية لمعتقده الباطل فقال: نحن لنا العزّى ولا عُزى لكم!!

فأمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأن ينادي المسلمون بشعار مضاد لشعار أبي سفيان، مشابه له في الوزن والسجع فقال: قولوا:

«اللّه مولانا ولا مولى لكم».

أي إذا كنتم تعتمدون على صنم مصنوع من الحجر والخشب، فإنّنا نعتمد

ص:209

على اللّه الخالق، القادر والعليّ الأعلى.

فنادى منادي الشرك ثالثاً: يَومٌ بيومِ بدر. فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يجيبه المسلمون:

«لا سَواء قتلانا في الجنة، وقتلاكُم في النار».

فكان لشعارات المسلمين القوية الرادعة الّتي كان يردّدها المئات، أثرها العجيب في نفس رأس الشرك أبي سفيان الّذي بدأ هذه الحملة النفسية والحرب الباردة بغية تحطيم إيمان المسلمين، ورأى كيف ارتدّ كيده إلى نحره، ولهذا انزعج بشدة وقال: ألا إن موعدَكم بدر للعام القابل.

ثم انصرف إلى أصحابه، وغادروا جميعاً أرض المعركة راجعين إلى مكّة(1).

وكان على المسلمين الآن - وفيهم مئات الجرحى والمصابين وسبعون قتيلاً - أن يُصَلّوا الظهرَ والعصر فصلّى بهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جلوساً، وصلّوا معه جلوساً، لما أصابهم من الضعف، ثم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بدفن الشهداء، ومواراتهم الثرى عند جبل أُحد.

نهاية المعركة

وَضَعت الحرب أوزارها، وتباعد الجانبان، وقد تحمّل المسلمون من الخسائر في الأرواح ثلاثة أضعاف ماتحمّله المشركون. وكان عليهم أن يبادروا إلى دفن الشهداء على النحو الّذي أمرهم به الدين.

ولكنّهم فُوجئوا بأمر فضيع، فقد اغتنمت نسوة من قريش وفي طليعتهنّ هند زوجة أبي سفيان فرصة انشغال المقاتلين المسلمين وارتكبن بحقّ الشهداء

ص:210


1- . لاحظ: المغازي: 297/1؛ سيرة ابن هشام: 609/3.

الأبرار، جناية فظيعة لم يعرف لها تاريخ البشرية مثيلاً، فهن لم يكتفين بالانتصار الظاهري بل عمدن إلى التمثيل بشهداء المسلمين، تمثيلاً مروعاً فخمشن وجوههم، وقطّعن الأُنوف، وجدعنَ الآذان، وسملنَ العيون، وقطعنَ أصابع الأيدي والأرجل، والمذاكير، وصنعن منها القلائد والأساور، نكايةً بالمسلمين، وإطفاءً للحقد الدفين، وبذلك ألحقنَ بهنّ وبأوليائهنّ عاراً لا ينسى.

فإنّ جميع الأُمم والشعوب متّفقة على أنّ الميّت الّذي لا يستطيع دفاعاً عن نفسه، ولا يتوقع منه ضررٌ يجب احترامه، وتحرم إهانته وإن كان عدواً. ولكنّ هنداً زوجة أبي سفيان ومَن كان برفقتها من نساء المشركين مثّلن بأجساد القتلى شرّ تمثيل، وصنعن ممّا قطّعن منها الأساور والقلائد، وبقرت «هند» بالذات صدر حمزة بطل الإسلام الفدائيّ، وأخرجت كبده، ولاكته بين أسنانها ولكنّها لفظته ولم تستطع أكله.(1)

وقد بلغ هذا العمل من القبح، والسوء أن تبرّأ منه أبو سفيان وقال: «في قتلاكم مُثلة لم آمر بها»(2).

وقد عرفت هندٌ بسبب فعلتها الشنيعة هذه بآكلة الأكباد، ودُعي أبناؤها في ما بعد ببني آكلة الأكباد.

ولمّا أبصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حمزة بن عبدالمطلب، ببطن الوادي وقد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه، حزن حزناً شديداً وغاضه تمثيلهم به فقال:

ص:211


1- . لاحظ: سيرة ابن هشام: 607/3؛ تاريخ الطبري: 204/2؛ الكامل في التاريخ: 159/2.
2- . السيرة الحلبية: 530/2.

«ما وَقَفتُ موقفاً قطّ أغيظ إليّ مِن هذا!».

ثم إنّ المؤرّخين يتّفقون على أنّ المسلمين تعاهدوا في ذلك الموقف (وربما نَسِبَ هذا إلى النبيّ نفسه) لئِن أظفرهمُ اللّه بالمشركين يوماً أن يمثّلوا بهم مُثلة لم يمثّلها أحدٌ من العرب أو يمثّلوا بدلَ الواحد ثلاثين.

ولم يمض زمان حتّى نزل جبرئيل بقوله تعالى:

«وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ» .(1)

ولقد كشف الإسلام مرة أُخرى ومن خلال هذه الآية - الّتي تتضمّن أصلاً إسلامياً في مجال القضاء مسلّماً به - عن وجهه الإنسانيّ العاطفيّ، وأظهر للجميع بأنّ الدين الإسلامي ليس شريعة انتقام، وثأر، فهو يعلّم أتباعه بأن لا يغفلوا في أشدّ اللحظات والحالات النفسية هياجاً وغضباً، عن قانون العدالة، والحق، وبهذا يكون الإسلام قد راعى مبادئ العدالة والإنصاف على الدوام، وصانها من الانهيار، والسقوط.

ولقد أقبلت صفيّة بنت عبد المطلب لتنظر إلى حمزة، وكان أخاها لأبيها وأُمّها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لابنها الزبير بن العوّام: إلقها فارجعها، لاترى ما بأخيها، فقال: لها يا أُمّه إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يأمرك أن ترجعي.

فقالت صفيّة: قد بلغني أن قد مثّل بأخي، وذلك في اللّه، فما أرضانا بما كان من ذلك! لاحتسبنَّ ولأصبرنَّ إن شاء اللّه.

فلمّا جاء الزبيرُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره بذلك، قال صلى الله عليه و آله و سلم: خلّ سبيلَها، فأتته، فنظرت إليه، فصلّت عليه، واسترجَعت، واستغفرت له، ثم أمر به رسول

ص:212


1- . النحل: 126.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدفن(1).

حقاً أن قوّة الإيمان أعظم القوى، فهي تحبس الانسانَ وتحفظه في أصعب الحالات، وتفيض على صاحبه حالة من السكينة والوقار.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صلّى على شهداء أُحد الأبرار، وأمر بدفنهم واحداً واحداً أو اثنين اثنين، وأمر بأن يُدفن «عمرو بن الجموح» و «عبداللّه بن عمرو» في قبر واحد.

قائلاً:

«إدفنُوا هذين المتحابّين في الدنيا في قَبرٍ واحد»(2).

آخر ما نطق به سعدُ بن الربيع

كان سعد بن الربيع من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأوفياء، وكان رجلاً مؤمناً مخلصاً، عظيم الوفاء والحبّ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد أُصيب في «أُحد» اثنتا عشرة إصابة قاضية فسقط على الأرض.

فمرّ عليه رجلٌ يدعى مالك بن الدخشم فقال له: أما علمتَ أنّ محمّداً قد قُتِلَ؟ فقال سعد: أشهد أنّ محمّداً قد بلّغ رسالة ربّه، فقاتل أنت عن دينك فإنّ اللّه حيّ لا يموت(3).

ثم إنّه قد مرّ عليه رجل من الأنصار وهو في هذه الحال وبعد أن وَضعَت الحرب أوزارها فقال لسعد: إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمرني أن أنظر أفي الإحياءِ أنتَ أُمّ

ص:213


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 612/3.
2- . المغازي: 266/1؛ بحار الأنوار: 131/20.
3- . شرح نهج البلاغة: 276/14؛ بحار الأنوار: 136/20.

في الأموات؟ فقال سعد: أنا في الأموات فأبلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منّي السلام، وقل له:

إنّ سعد بن الربيع يقول: جزاك اللّه خيراً عنّا ما جزى نبيّاً عن أُمّته، وأبلغ قومك عنّي السلام، وقل لهم: إنّ سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند اللّه، إن يخلص إلى نبيكم صلى الله عليه و آله و سلم ومنكم عين تطرف.

قال: فلم أبرح عنده حتى مات، ثم جئت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبرته فقال: «اللّهم ارض عن سعد بن الربيع».(1)

إنَّ حبَّ الإنسان لنفسه، أو ما يصطلح عليه العلماء بحبّ الذات من الغرائز القوية المتأصلة في كيان الإنسان بحيث لا يمكن لأي أحد أن يغفل عنها مهما كانت الظروف، وهي بالتالي من القوّة والهيمنة على وجود الإنسان بحيث يضحّي في سبيلها بكل شيء.

ولكن قوّة الإيمان وحبّ الإنسان للعقيدة، وتعشقه للمعنويات أقوى وأشدّ تأثيراً من ذلك، فهذا الجنديّ الشجاع لم يكن بينه - حسب ما تفيده النصوص التاريخية - وبين الموت في ذلك الوقت سوى لحظات، ومع ذلك نجده ينسى نفسه، ويفكّر في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي كان يعتبره أقوى سبب لبقاء الدين، ودوام الشريعة، وهذا هو الهدف المقدّس الّذي قاتل من أجله سعد البطل، ولهذا لا يحمل ذلك الرجل الأنصاري سوى رسالة واحدة إلى أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحثّهم فيها على السهر على حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والعمل معه على تحقيق أهدافه، في إرساء دعائم التوحيد.

ص:214


1- . شرح نهج البلاغة: 277/14؛ بحار الأنوار: 136/20.

النبيّ يعود إلى المدينة

كانت الشمس تميل نحو المغرب وكانت تستعد للملمة أشعتها الذهبية من صفحة الأرض، وكان السكون والصمت يخيّم على كلّ مكان من الأرض.

في مثل هذه اللحظات كان على المسلمين المقاتلين أن يعودوا بجرحاهم إلى منازلهم في المدينة ليستعيدوا قواهم، ويجدّدوا نشاطهم، ويضمّدوا جرحاهم.

ولهذا صدرت أوامر من جانب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالتوجّه نحو المدينة.

فلمّا كانوا بأصل الحرّة قال صلى الله عليه و آله و سلم: «اصطفوا فنثني على اللّه»، فاصطف الرجال صفين خلفهم النساء ثم دعا فقال:

«اللّهم لكَ الحمدُ كلّه، اللّهم لا قابضَ لما بَسطتَ، ولا باسطَ لما قبضتَ، ولا مانِعَ لما أعطيتَ، ولا معطي لما منعتَ، ولا هادي لمن أضللتَ، ولا مضلّ لمن هديتَ، ولا مقرّبَ لما باعدتَ، ولا مباعِدَ لما قرّبتَ.

اللّهم إنّي أسألك من بركتك ورحمتك وفضلك وعافيتك.

اللّهم إنّي أسألك النعيمَ المقيمَ الّذي لا يحولُ ولا يزول.

اللّهم إنّي أسألكَ الأمنَ يوم الخوف والغنى يوم الفاقة.

عائذاً بك اللّهم من شرّ ما أعطيتنا وشرّ ما منعتَ منّا.

اللّهم توفَّنا مسلمين.

اللّهم حبّب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

اللّهم عذّب كَفَرة أهل الكتاب الذين يكذّبون رسولك، ويصدّون عن سبيلك.

ص:215

اللّهم أنزل عليهم رجسَكَ وعذابك إله الحقّ. آمين»(1).

وقد كان هذا العمل خطوةً مهمةً جداً من الناحية النفسية فقد أمدّ هذا الدعاء نفوسَ المسلمين المصابين بطاقة روحية ضخمة، ممّا كان من شأنه تخفيف وطأة الهزيمة وتقوية عزائم المسلمين، كما علّمهم أن يلجأوا إلى اللّه تعالى في كلّ حال.

فدخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومعه أصحابه - من الأنصار والمهاجرين الذين شاركوا في تلك المعركة - المدينة.

وكانت أكثر بيوت المدينة قد تحوّلت إلى مناحات ومآتم، يرتفع منها أصوات بكاء الأُمّهات والأزواج والبنات اللائي أصبن في رجالهنّ وأوليائهنّ، وآبائهنّ.

ومرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وظفر، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فبكى، ثم قال:

«لكنَّ حمزةَ لابَواكيَ لهُ»(2).

فلمّا رجع سعد بن معاذ وأُسيد بن حضير إلى دار بني عبد الأشهل أمرا نساءهم بأن يتحزّمن، ثمّ يذهبن فيبكين على عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فلمّا سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكاءَهنّ على حمزة خرج عليهن وهنّ على باب مسجده يبكين عليه فقال:

«ارجعن يرحمكنّ اللّه، فقد آسيتنّ بأنفسكنّ».

وقيل لما سمع صلى الله عليه و آله و سلم بكاءهنّ قال:

ص:216


1- . إمتاع الأسماع: 175/1؛ المغازي: 314/1-315.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 613/3.

«رَحِمَ اللّه الأنصارَ، فإنَّ المواساةَ منهم ما علمت لقديمة.. مُروهُنَّ فَلينصرِفنَ»(1).

ذكريات مثيرة عن امرأة مؤمنة

إنّ للنسوة المؤمنات صفحات مشرقة، وعجيبة في تاريخ الإسلام، لأنّنا قلّما نجد لها نظيراً في عالم المرأة اليوم.

ومن تلك النسوة المؤمنات ذوات المواقف الرائعة والعجيبة في صدر الإسلام امرأة من بني دينار، أُصيب زوجُها وأخوها وأبوها مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأُحد.

فإنّها لما نعوا لها مصرعَ رجالها قالت: فما فعلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟

قالوا: خيراً يا أُمّ فلان، هو بحمد اللّهِ كما تحبّين.

قالت: أرونيه حتّى أنظر إليه؟

فأُشير لها إليه حتّى إذا رأته قالت: كلّ مصيبة بعدك جلل (أي صغيرة)(2).

ما أعظم تلك الاستقامة، وما أعظم ذلك الإيمان الّذي يجعل من الإنسان طوداً راسخاً ثابتاً في وجه العواصف والأعاصير.

نموذج آخرٌ من النسوة المجاهدات

لقد أشرنا في الصفحات الماضية بصورة إجمالية إلى قضية «عمرو بن الجموح» الّذي آلى على نفسه أن يشارك في الجهاد مع ما كان به من العرج

ص:217


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 613/3-614؛ ولاحظ إمتاع الأسماع: 175/1-176.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 614/3.

الموجب لسقوط الجهاد، كما عرفت.

فقد شارك هذا المسلم الصادقُ والمؤمن المجاهدُ في معركة أُحد، ومضى يقاتل في الصف الأوّل من المجاهدين، وشارك ابنه «خلّاد بن عمرو بن الجموح» و أخو زوجته «عبداللّه بن عمرو»(1) في هذا الجهاد المقدّس، واستشهدوا جميعاً في تلك المعركة أيضاً.

فخرجت «هند» زوجته وهي بنت عمرو بن حزام، عمة جابر بن عبداللّه الأنصاري إلى «أُحد» وحملت أجسادهم على بعير وتوجّهت بها نحو المدينة، بمنتهى الجلادة، ورباطة الجأش.

وعندما فشى في المدينة أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قُتِل بأُحد، خرجت النسوة، يتأكّدن من هذا النبأ، فالتقت هندٌ ببعض نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم - وهي عائدة من أُحد - فسألنها عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقالت: خيراً، أمّا رسول اللّه فصالحٌ، وكلُّ مصيبة بعده جلل، واتّخذ اللّهُ من المؤمنين شهداء، وقَرَأت قولَ اللّه تعالى:

«وَ رَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً...» !!

فسألوا: مَن هؤلاء؟

قالت: أخي، وابني خلّاد، وزوجي عمرو بن الجموح!!

فقلنَ لها: فأين تذهبين بهم؟

قالت: إلى المدينة اقبرهُم بها... ثم زجرت بعيرها تحثه على السير قائلة:

«حَل.. حَل» في نبرة صامدة.(2)

ص:218


1- . وهو عبداللّه بن عمرو بن حزام بن ثعلبة بن حزام الأنصاري.
2- . لاحظ: المغازي: 265/1؛ إمتاع الأسماع: 161/1.

ومرةً أُخرى يظهر في هذه الصفحة الناصعة من تاريخ الإسلام نموذجٌ حيٌّ آخر من مشاهد الثبات والصمود، والاستقامة، وتجاوز المصائب، وتحمّل الآلام والشدائد في سبيل الهدف المقدّس، وكلُّ ذلك من فِعل الإيمان، ونتائجه.

إنّ المذاهب المادية لاولن تستطيع تربية أمثال هذه النسوة والرجال المتفانين في سبيل العقيدة، بمثل هذا التفاني العظيم.

على أنّ هؤلاء لم يقاتلوا من أجل المآرب المادّية، وإنّما قاتلوا من أجل الهدف، وهو إعلاء كلمةِ الدين وإقامة صرح التوحيد، ومحو الوثنية والشرك.

هذا وفي بقية هذه القصّة ما هو أعجب من أوّلها، وهو أمر، لا يمكن أن يدرَك بالمقاييس المادّية، والأُسس الّتي ينطلق منها أصحاب الاتّجاه المادّي في تحليل القضايا التاريخية، وانما يهضمها - فقط - من يؤمن بعالم آخر وراءَ العالم المادّي الصِرف، ويصدّق بتأثيره في هذا العالم، وبالتالي لا يقبل بها إلّامن يصدّق بقضية الإعجاز والمعجزة، ويذعن لها ويعترف بصحّتها من غير تلكّؤ وإبطاء.

واليك هذه البقية:

لمّا زجرت هند بعيرها لتدخل به المدينة بَرَكَ البعير في مكانه.

فقالت النسوة الّتي كنَّ هناك: لعلّه بَرَكَ لما عليه.

فقالت هند: ما ذاكَ به، لربما حمل ما يحمل البعيران، ولكنّي أراه لغير ذلك.

فزجرته ثانية، فقام، فلمّا وجّهت به إلى المدينة بَركَ، فوجهته راجعة إلى أُحد فأسرع.

فرجعت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فأخبرته بذلك، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فإنَّ الجَمَلَ مأمور. هل قال (يعني: عمرو بن الجموح) شيئاً؟

قالت: إنَّ عمراً لمّا وجّهه إلى أُحُد استقبل القبلةَ، وقال: اللّهم لا تردّني إلى

ص:219

أهلي خزياً، وارزُقني الشهادة!!

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «فلذلك الجملُ لا يمضي. إنَّ منكم يا معشر الأنصار من لوأقسم على اللّه لأبرَّهُ، منهم عمرو بن الجموح، يا هند ما زالتِ الملائكة مظلّلةً على أخيكِ مِن لدن قُتِلَ إلى الساعة ينظرون أين يُدفَن»، ثم مكث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى قبرهم، ثم قال: يا هند قد ترافقوا في الجنة جميعاً، عمرُو بن الجموح، وابنُك خلّاد، وأخوك عبداللّه».

قالت هند: يا رسول اللّه فادعُ لي عسى أن يجعلَني معهم(1).

ثمّ إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دخل بيته فلمّا أبصرت به بنتُه العزيزةُ «فاطمةُ» ورأت ما أصابه من الجراح ذرفت عيناها بالدموع، فأعطى رسول اللّه سيفه لابنته (الزهراء) حتّى تغسله.

وقال الإربلي المؤرّخ المعروف الّذي كان يعيش في القرن السابع الهجري:

كان عليّ يجيء بالماء في ترسه، وفاطمة تغسل الدم، وأخذ حصيراً فأحرقه وحشا به جرحه(2).

وفي «الإمتاع»: لمّا رأت فاطمة الدمَ لا يرقأ - وهي تغسله وعلي يصب الماء عليها بالمجنَّ - أخذت قطعة حصير فأحرقته حتّى صار رماداً، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم، ويقال: داوته بصوفة محترقة(3).

ص:220


1- . إمتاع الأسماع: 161/1-162.
2- . كشف الغمة: 188/1-189.
3- . إمتاع الأسماع: 154/1.

لابدّ من ملاحقة العدو

لقد كانت الليلة الّتي استقرّ فيها المسلمون في منازلهم بالمدينة بعد يوم أُحد ليلة جدّاً خطيرةً وحسّاسةً.

فالمنافقون واليهودُ وأتباع عبداللّه بن أُبي قد سُرّوا لما أصاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه سروراً كبيراً، وأظهروا القول السيّئ وقالوا: ما أُصيب نبيٌ هكذا قط.

وكان أنين الجرحى والمكلومين وبكاء الموتورين في رجالهم ونياحهم يُسمع من أكثر بيوت المدينة.

والأخطر من كلّ هذا هو التخوّف من أن يقوم المنافقون واليهود بعملية خيانية ضد الإسلام والمسلمين في تلك الظروف.

أو أن يعرّضوا وضعَ العاصمة الإسلامية الثابت، والوحدة السياسية القائمة في المدينة للخطر بإيجاد الاختلاف والتشتّت على الأقل.

إنّ ضرر الاختلافات الداخليّة أشدُّ بكثير من حملات العدوّ الخارجي، وإنّ انهيار الوحدة والانسجام في الجبهة الداخلية أخطر بكثير من تعرّض البلاد لهجوم من الخارج.

من هنا كان يتعيّن على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يُرهب العدو الداخلي، ويفهمه بأنّ قوى التوحيد لم تفقد انسجامها وتماسكها، وأنّ أيّة خطوة أونشاط مُعاد يهدّد أساس الإسلام للخطر سيُسحَق بشدّة في اللحظة الأُولى.

ولهذا أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يخرج في نفس الليلة لملاحقة العدوّ (أي مشركي مكّة).

فكلّف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رجلاً بأن ينادي في كلّ مناطق المدينة:

ص:221

«ألا عِصابَةٌ تشدّدُ لأمر اللّه تَطْلُبُ عدوّها، فإنّها أنكأ للعدوّ وأبعد للسمع. ألا لا يخرجن أحدٌ إلّامَن حضر يومنا بالأمس».(1)

أو قال: «يا معشر المهاجرين والأنصار مَن كانت به جِراحة فليخرج، ومَن لم يكن به جراحة فليقم».(2)

وإنّما خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - كما أسلفنا - لِيُرهب العدوّ، وليبلغهم أنّه خارج في طلبهم، فيظنّوا به قوّة، وأنّ الّذي أصابهم لم يوهنهم من عدوّهم(3).

على أنّ لهذا التقييد، ولهذا النهي عن خروج غير الجرحى، أو مَن لم يشترك في أُحدُ، عللاً أو حكماً لا تخفى على العارفين بالسياسة، والأسرار العسكرية.

ويمكن الإشارة إلى بعضها:

أوّلاً: أنّ هذا التحديد، وبالتالي الاقتصار على مَن شارك في معركة أُحُد هو نوع من التعريض بمَن امتنع عن المشاركة في تلك المعركة، وفي الحقيقة هو نوعٌ من تجريدهم من صلاحية المشاركة في الدفاع المقدّس.

ثانياً: أنّ هذا التحديد هو نوع من عقاب المشاركين في معركة أُحُد، لأنّهم بتجاهلهم لتعاليم القيادة، وانصرافهم بسرعة إلى المطامع المادّية، والغفلة عن ملاحقة العَدوّ في حينه تسبّبوا في توجيه تلكم الضربة النكراء إلى الإسلام، ولذلك يجب عليهم أنفسهم ملافاة تلك الخسارة، وترميم ذلك العطب، لكيلا يعودوا إلى مثل ذلك، ولا يتجاهلوا أوامر القيادة، ونحن نعلم أنّ الانضباطية والتقيّد الكامل بالأوامر هو أهم عنصر في نجاح الأُمور

ص:222


1- . مجمع البيان للطبرسي: 447/2.
2- . تفسير القميّ: 125/1؛ بحار الأنوار: 64/20.
3- . مجمع البيان للطبرسي: 447/2.

العسكرية(1).

إنّ رجلاً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من بني الأشهل كان شهد أُحُداً مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، قال: شهدت أحد مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلمّا أذّن مؤذّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ واللّه مالنا من دابة نركبها، وما منّا إلّا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكنت أيسر جرحاً منه، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتّى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون(2).

حمراءُ الأسد

(3)

خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد (وهي من المدينة على ثمانية أميال) واستعمل على المدينة «ابن أُمّ مكتوم».

وقد مرّ به «معبد بن أبي معبد الخزاعي» - رئيس بني خزاعة - وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم يومذاك ذات علاقات طيّبة جدّاً مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين، وكانوا لا يخفون عن النبيّ شيئاً.

فتقدّم معبد رئيسهم وعزّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما أصابه، وهو يومئذ مشرك قائلاً: يا محمّد أما واللّه لقد عزّ علينا ما أصابك (في أصحابك)، ولوددنا أنّ اللّه عافاك فيهم.

ص:223


1- . كلا هذين الوجهين يستقيمان إذا قلنا بأنّ النبيّ خرج بكل مَن شارك في أُحُد لا أنّه اقتصر على الجرحى، كما تصرّح به بعض النصوص التاريخية.
2- . سيرة ابن هشام: 615/3-616؛ تاريخ الطبري: 212/2.
3- . لقد عدّ البعض خروج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى حمراء الأسد لملاحقة العدوّ غزوة مستقلّة، وذكرها البعض الآخر في ذيل معركة أُحد.

ثم خرج معبد ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحمراء الأسد، حتّى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه للكرّة عليهم، واستئصالهم، والقضاء عليهم.

فلمّا رأى أبوسفيان معبداً (وكان معبد قد استهدف من خروجه إلى أبي سفيان وجماعة المشركين القيام بخدمة لصالح النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه) قال: ما وراءك يا معبد؟

فقال معبد: - وهو يريد إرعاب قريش وصرفهم عن الرجوع إلى المدينة - محمّدٌ قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أرَ مثله قط، يتحرّقون عليكم تحرّقاً، قد اجتمع معه مَن كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحَنَقِ عليكم شيء لم أرَ مثله قط!!

فقال أبو سفيان: - وقد أُرعب بشدة من هذا النبأ - ويحك ما تقول؟

قال معبد: واللّه ما أرى أن ترتحل حتّى ترى نواصيَ الخيل.

قال أبو سفيان: فواللّه لقد أجمعنا الكرّة عليهم لنستأصل بقيّتهم!

قال معبد: فإنّي أَنهاك عن ذلك.(1)

وقد تركت كلمات معبد، ووصفُه لقوّة المسلمين وعزمهم الشديد على توجيه ضربة إلى الكفّار أثرها في نفس أبي سفيان الّذي تملّكهُ خوفٌ شديدٌ، دعاهُ إلى الانصراف عن الرجوع إلى المدينة ثانيةً، و العزم على القفول إلى مكّة.

ومضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأصحابه حتّى عسكروا ليلاً بحمراء الأسد، فأمر بأن يوقد المسلمون النيران فأوقدوا خمسائة نار حتّى تُرى من المكان البعيد،

ص:224


1- . سيرة ابن هشام: 616/3؛ تاريخ الطبري: 212/2.

وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كلّ وجه، وتصوّر العدو أنّ النبيّ جاءهم في جيش عظيم، فتشاوروا حول الرجوع إلى المدينة فنهاهم صفوان عن ذلك، فانصرفوا(1).

لا يُخدَعُ مؤمن مرّتين

هذا هو معنى قول النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم:

«المؤمن لا يلدغ من جُحرٍ مَرّتين».

ولقد قاله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عندما أسّر المسلمون أبو عزّة الجمحي في طريق عودتهم من حمراء الأسد على نحو الصدفة، وأراد النبيّ ضرب عنقه فاستقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وطلب منه العفو وكان قد أسِر ببدر قبل ذلك، ثم مَنّ عليه النبيُّ وأطلق سراحه مشترطاً عليه أن يكفّ عن المؤامرة ضد النبيّ والمشاركة في قتاله، ولكنّه عاد إلى مكّة، وشارك في قتال النبي مرة أُخرى في أُحُد.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، لمّا طلب العفو ثانيةً:

«واللّهِ لا تمسح عارضَيكَ بمكّة بعدها وتقول: خَدَعتُ محمّداً مرّتين،...

وقيل: قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إِنّ المؤمن لا يُلدغ من جحرٍ مرّتين».

ثم أمر بضرب عنقه، وضرب عنقه(2).

ص:225


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 49/2؛ إمتاع الأسماع: 180/1.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 618/3. نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّنا قد ذكرنا في الهوامش مصادر أهم الحوادث في معركة أُحُد وفي إمكان القارئ الكريم لو أراد التوسّع أن يراجع المصادر التالية الّتي اعتمد عليها المؤلّف: وهي: الطبقات الكبرى لابن سعد: 36/2-49؛ المغازي: 199/1-340؛ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 14/14-218 و ج 5، ص 60،

وأخيراً انتهت معركة أُحُد وقد قدّم المسلمون فيها سبعين، أو أربعة وسبعين، أو واحداً وثمانين شهيداً على روايات مختلفة، بينما لم يتجاوز عدد قتلى قريش اثنين وعشرين.

وقد نشأت هذه النكسة المرّة بسبب تجاهل الرماة لتعليمات الرسول القائد على النحو الّذي قرأت.

وقد وقعت معركة أُحد يومَ السبت السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة، هذا مضافاً إلى غزوة حمراء الأسد الّتي استمرت إلى يوم الجمعة من ذلك الأُسبوع نفسه، فتكون قضايا ووقائع هذه الغزوة في الرابع عشر من شهر شوال من نفس السنة.

ميلاد الإمام الحسن السبط

هذا وقد ولد في هذه السنة (أي السنة الثالثة من الهجرة) سبط رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأكبر الإمام الحسن بن علي عليه السلام في منتصف شهر رمضان من تلك السنة، وأجرى له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مراسيمَ ولادة خاصّة ذكرها أصحاب الحديث وتجد تفصيلها في سيرة الأئمة من أهل البيت النبوي الطاهرين.

ص:226

حوادث السنة الرابعة من الهجرة

34 فاجعة فريق المبلّغين

اشارة

34 فاجعة فريق المبلّغين(1)

لقد ظهرت الآثار السياسية لنكسة المسلمين في معركة «أُحد» بصورة واضحة بعد الحرب.

فمع أنّ المسلمين أظهروا مقاومة رائعة أمام العدوّ المنتصر ومنعوا من رجعته إلى المدينة وتحقيق أهدافه الخطيرة في استئصال المسلمين إلّاأنّ التحرّكات الداخليّة والخارجية ضدّ الإسلام بهدف القضاء على هذا الدين، ورجاله قد تصاعد مدّها في أعقاب حادثة «أُحد». وقد تجرّأ منافقو المدينة، ويهودها والمشركون المتواجدون في شتّى النقاط البعيدة خارج المدينة على إثر ذلك، وبدأوا يحيكون المؤامرات ضدّ الإسلام والمسلمين ويجمعون الأسلحة والرجال لشنّ الحروب والغارات على المدينة.

وقد استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبمهارة كبيرة إطفاء كلّ تلك التحرّكات، كما

ص:227


1- . وقعت حادثة قتل المبلّغين في الشهر السادس.

واستطاع قمع تحرّكات القبائل القاطنة خارج المدينة الّتي كانت تنوي الهجوم على المدينة وذلك بإرسال السرايا والمجموعات القوية من المجاهدين.

وفي هذه الأثناء بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نبأ مفاده أنّ قبيلة بني أسد تنوي الهجومَ على المدينة واحتلالها، وقتل المسلمين، ونهب أموالهم، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من فوره جماعة من المقاتلين يبلغ عددهم (150) رجلاً بقيادة «أبي سلمة» إلى منطقة تجمّع المتآمرين.

ثم إنّه صلى الله عليه و آله و سلم أوصاهم بأن يخفوا مقصدهم الأصلي، ويسلكوا طريقاً آخر غير الطريق المتعارف، ويقيموا نهاراً ويسيروا ليلاً، ليعمّوا على القوم.

وقد فعل «أبو سلمة» وجماعته ما أوصاهم به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فكانوا يسيرون الليل، ويكمنون النهار، حتّى وردوا المنطقة فأحاطوا ببني أسد في عماية الصبح، وقضوا على المؤامرة في مهدها، وعادوا غانمين موفورين إلى المدينة، وقد وقعت هذه الحادثة في شهر المحرّم على رأس خمسة وثلاثين شهراً من الهجرة(1).

خطّة ماكرة للفتك بالمبلّغين

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يُرسل السرايا والمجموعات العسكرية لإفشال جميع مؤامرات المتآمرين ضد الإسلام، كما أنّه كان يقوم إلى جانب ذلك ببعث المجموعات التبليغية إلى القبائل، والجماعات وبذلك يكسب قلوب المحايدين منهم نحو العقائد الإسلامية.

وكان المبلّغون والدعاة الذين كانوا من قرّاء القرآن الكريم، ومن الملمِّين

ص:228


1- . لاحظ: المغازي: 340/1، وإمتاع الأسماع: 181/1.

بالأحكام الإسلامية والتعاليم النبوية يبدون استعداداً عجيباً للقيام بهذه المهمّة الصعبة ولو كلَّفتهم حياتهم، فكانوا ينقلون تعاليم الإسلام إلى الناس في المناطق النائية، والأماكن البعيدة بأوضح بيان وأوضح أُسلوب.

ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ببعثه للمجموعات العسكرية من جانب، وإرساله للفرق التبليغية من جانب آخر يقوم - في الحقيقة - بوظيفتين هامّتين من وظائف المنصب النبويّ.

فهو ببعثه للسرايا والمجموعات العسكرية كان يقصد في الحقيقة القضاء على محاولات التمرّد، والتآمر الّتي كانت في مرحلة التحقّق والتكوّن لكي يتسنّى للمجموعات التبليغية في ظل الأمن والحرية الدعوة إلى الإسلام، والقيام بوظيفتها الأساسية ألا وهي إرساء دعائم الحكومة الإسلامية في القلوب، وتنوير الأفكار، وإيقاظ العقول.

ولكن بعض القبائل المتوحّشة، والمنحطّة أخلاقياً وفكريّاً كانت تتحايل على المجموعات التبليغية الّتي كانت تمثّل القوى المعنوية للإسلام، والّتي لم يكن لها هدفٌ سوى نشر التوحيد، واقتلاع جذور الكفر والوثنية، وكانوا يقتلونهم بصورة فضيعة ومفجعة.

وفيما يلي نلفت نظر القارئ الكريم إلى قصّة مجموعة من الدعاة والمبلّغين الذين لقوا هذا المصير وكان عددهم يبلغ ستة أشخاص حسب رواية ابن هشام(1)، أو عشرة أشخاص حسب رواية ابن سعد(2).

ص:229


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 667/3، وقال في إمتاع الأسماع: 274/13: إنّهم سبعة أشخاص.
2- . الطبقات الكبرى: 55/2.

الغدر بالدعاة إلى الإسلام وقتلهم

لقد مشت جماعة من قبيلتي «عضل» و «القارة» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالوا - وهم يضمرون المكر -: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّ فينا إسلاماً فاشياً فابعث مَعَنا نفراً من أصحابك يقرِّئوننا القرآن، ويفقّهوننا في الإسلام.

فرأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ من واجبه الاستجابة لمطلب تلك الجماعة الّتي كانت تمثّل قبائل كبرى، وكما رأى المسلمون أيضاً أنّ من واجبهم أن يستفيدوا من هذه الفرصة مهما كلّف الثمن.

من هنا بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جماعة بقيادة «مرثد بن أبي مرثد الغَنَويّ» مع تلك الجماعة إلى القبائل المذكورة.

فخرج هؤلاء المبلغون ووفد القبيلتين من المدينة متوجّهين إلى حيث تتواجد «عضل» و «القارة»، ولمّا كانوا بماء يُسمّى: الرجيع تقطن عنده قبيلة تُدعى:

«هذيل» كشف مندوبو القبيلتين عن نواياهم الشرّيرة، واستصرخوا هذيلاً وكميناً من رجالهم، وكانوا مائة رام وبأيديهم السيوف فأحاطوا بالدعاة يريدون أسرهم ثم قتلهم وإبادتهم!!

فلم ير المبلّغون بدّاً - وهم محاطون بتلك الجماعات المسلّحة - من اللجوء إلى سيوفهم والدفاع عن أنفسهم.

ولكنّ العدوّ قال: ما نريد قتالكم، وما نريد إلّاأن نصيب منكم من أهل مكّة ثمناً، ولكم عهد اللّه وميثاقه لانقتلكم!!

فنظر الدعاة بعضهم إلى بعض، وقرّر أكثرهم المقاومة وعدم الرضوخ لهذا العرض الغادر، والخطّة الماكرة، وقال أحدهم: إنّي نذرت أن لا أقبل جوارَ

ص:230

مشرك(1) ثم جعلوا يقاتلون القوم قتال الرجال الأبطال، حتّى قتلوا إلّاثلاث هم:

«زيد بن دثنّة»، و «خبيب بن عديّ»، و «عبداللّه بن طارق البلويّ» فقد أغمد هؤلاء سيوفهم وسلّموا، فأُخِذوا ووثّقوا بأوتار قسيّهم، ولكن «عبداللّه» ندم على فعله، فنزع يده من رباطه ثم أخذ سيفه، وراح يقاتلهم حتى قتلوه رمياً بالحجارة، وقد انحازوا عنه وهو يشدّ فيهم وينفرجون عنه، ودفن في مر الظهران.

ثم أخذوا الأسيرين الآخرين «خبيب» و «زيد» وقدموا بهما مكّة فباعوهما لأهل مكة!!

فأمّا زيد بن الدثنَّة فقد اشتراه «صفوان بن أُمية» وقتله ثأراً لأبيه، ولقتله قصّة عجيبة سطّر فيها أروع آيات المقاومة والوفاء والإخلاص.

فقد اشتراه «صفوان بن أُمية» كما أسلفنا ليقتله بأبيه، وقد حبسه صفوان في الحديد، وكان يتهجّد بالليل ويصوم بالنهار، ولا يأكل شيئاً ممّا أُتي به من الذبائح، وهو في الأسر والحبس.

ثم إنّه أُخرِجَ إلى «التنعيم»(2) ليُصلَب على مرأى حشد كبير من الناس.

فرفعوا له جذعاً، فقال: دعوني أُصلّي ركعتين، فصلّى ركعتين، ثم حملوه على الخشبة ثم جعلوا يقولون له: يا زيد إرجع عن دينك المُحدَث، واتّبع ديننا، ونرسلك، فيقول: واللّه لا أُفارق ديني أبداً.

فقال له أبو سفيان فرعون مكّة وأشدّ المتآمرين على الإسلام ومدبّر أغلب الحروب ضد رسول اللّه، والمسلمين: أنشدك باللّه يا زيد أيسرّك أنّ محمّداً في أيدينا مكانَكَ وأنت في بيتك؟. فقال زيد بشجاعة ووفاء عظيمين: ما يسرّني أنّ

ص:231


1- . أو قالوا: واللّه لا نقبل من مشرك عهداً ولا عقداً أبداً (السيرة النبوية لابن هشام: 668/3).
2- . التنعيم ابتداء الحرم، ومنها يحرم المعتمرون للعمرة المفردة.

محمّداً أُشِيك بشوكة وإنّي في بيتي، وجالس في أهلي!!!

وقد كان لهذه الكلمة أثر الصاعقة في نفس طاغية مكّة أبي سفيان فقال: ما رأينا أصحاب رجلٍ قطّ أشدّ حبّاً من أصحاب محمّد بمحمّد!!

ولم تمض لحظات إلّاوصار «زيد» على خشبة الإعدام ورفرفت روحه إلى خالقها، ومضى ذلك المسلم الوفيّ، والمؤمن الشجاع شهيدَ الثبات في طريق العقيدة، والدفاع عن حياض الدين.

وأمّا «خُبيب» فقد حُبس مدّةً من الزمان حتّى قرّر رجال ندوة مكّة قتله، فخرجوا به إلى التنعيم ليصلبوه وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكّة، فقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتّى أركع ركعتين فافعلوا، فقالوا دونك فاركع.

فركع ركعتين أتمّهما وأحسنهما ثم أقبل على القوم وقال: أما واللّه لولا أن تظنّوا أنّي طوّلتُ جَزَعاً من القتل لاستكثرتُ من الصلاة!!

ثم رفعوه على خشبة ثم وجّهوه إلى المدينة، وأوثقوه رباطاً، ثم قالوا له:

إرجع عن الإسلام نخلّ سبيلك.

قال: لا واللّه ما أحَبُّ أنّي رجعتُ عن الإسلام وأنّ لي ما في الأرض جميعاً.

فقالوا: أما واللات والعزّى لئن لم تفعل لَنقتلنّك!

فقال: إنّ قتلي في اللّه لقليل، فلمّا أبى عليهم وقد جعلوا وجهه من حيث جاء (أي نحو المدينة)، قال: أمّا صرفكم وجهي عن القبلة، فإن اللّه يقول: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ» ثم قال: اللّهم إنّي لا أرى إلّاوجه عدوّ، اللّهم أنّه ليس هاهنا أحدٌ يبلّغ رسولَك السلامَ عنيّ فبلّغه أنتَ عنّي السلام.

ثم دعا على القوم وقال: اللّهم أحصهِم عَدَداً، واقتُلهُم بَدَداً، ولا تغادر منهم

ص:232

أحداً.

ثم دعوا أبناء من أبناء مَن قُتِلَ ببدر فوجدوهم أربعين غلاماً، فأعطوا كلّ غلامٍ رمحاً، ثمّ قالوا هذا الّذي قتل آباءكم، فطعنوه برماحهم طعناً خفيفاً فاضطرب على الخشبة فانقلب، فصار وجهه إلى الكعبة، فقال: الحمدللّه الّذي جعل وجهي نحو قبلته الّتي رضي لنفسه ولنبيّه وللمؤمنين!!

فأثارت روحانيّته الكبرى، وطمأنينته العظيمة غيض أحد المشركين الحاضرين، وهو «عقبة بن الحارث» وتملّكه غضب شديدٌ من إخلاصه للإسلام فأخذ حربته وطعن بها خبيباً طعنة قاضية، قتلته، وهو يوحّد اللّه ويشهد أن محمّداً رسول اللّه.

ويروي ابن هشام أنّ خبيباً أنشد قبل مقتله أبياتاً عظيمة نذكر هنا بعضها:

إلى اللّهِ أشْكُو غُرْبَتي ثمّ كُربَتي وما أرصدَ الأحزاب لي عند مَصْرعي

فذا العرش صبّرني عَلى ما يُرادُ بي فقد بضّعوا لحمي وقد يأسَ مَطْمَعي

وذلكَ في ذات الاله وأن يشأ يبارك على أوصالِ شلوٍ مُمزَّع

وقَد خيّروني الكفر والموتَ دونَه وقَد هَمَلَتْ عيناي من غير مجزع

وما بي حِذارُ الموت إنّي لميّت ولكن حِذاري جحم نار ملفَّع

ص:233

فواللّه ما أرجو إذا متّ مسلماً على أي جنب كان في اللّه مَصْرَعي

فلستُ بمُبدٍ للعدوّ تخشعاً ولا جزعاً إنّي إلى اللّهِ مرجعي

وقد أحزَنت هذه الحادثة الأليمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكذا جميع المسلمين.

وأنشد فيهم «حسانُ بن ثابت» أبياتاً ذكرها ابن هشام في سيرته، كما أنّه هجا هذيلاً في أبيات أُخرى لارتكابهم هذه الجريمة النكراء(1).

ولقد خشي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن تتكرّر مثل هذه الجريمة النكراء، وبذلك يواجه رجال التبليغ والدعوة الذين كان يعدهم بصعوبة بالغة مصاعب في سبيلهم، ويتعرّضوا لخسائر لا تجبر، وعمليات غدر واغتيال أُخرى.

وقد بقي جثمان هذا المسلم المجاهد على الخشبة مدة من الزمن، يحرسه جماعة من المشركين حتّى قام رجلان قويّان شجاعان من المسلمين بإنزاله من فوق الصليب ليلاً، ومن ثم دفنه بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(2).

جريمة بئر معونة

وفي شهر صفر من السنة الرابعة وقبل أن يصل نبأ مصرع الدعاة المذكورين واستشهادهم على أيدي المشركين في منطقة الرجيع إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، قدم أبو براء عامر بن مالك العامري ملاعب الأسنّة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة فعرض عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الإسلام ودعاه إليه، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام وقال: يا محمّد لو بعثتَ رجالاً من أصحابك إلى أهل «نجد» فدعوهم إلى أمرك، رجوتُ أن يستجيبوا لك.

ص:234


1- . لاحظ: المغازي: 354/1-362، السيرة النبوية لابن هشام: 667/3-673.
2- . سفينة البحار: 372/1.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّي أخشى عليهم أهل نجد.

قال أبو براء: أنا لهم جارٌ، فابْعَثْهُمْ فليَدعوا الناس إلى أمرك.

فبَعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة الملقّب ب: (المعنق ليموت)(1) في أربعين رجلاً من خيار المسلمين من أصحابه ممّن حفظوا القرآن وعرفوا أحكام الإسلام...»، فساروا حتّى نزلوا ببئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم، وهم يحملون من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كتاباً إلى عامر بن الطفيل أحد زعماء «نجد»، وكلّف أحد المسلمين بإيصال ذلك الكتاب إلى عامر، فلمّا أتاه لم ينظر في كتابه حتّى عدا على الرجل (حامل الكتاب) فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقداً وجواراً.

فاستصرخ عليهم قبائل بني سُليم فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتّى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلمّا رأوهم أخذوا سيوفهم، ثم قاتلوهم حتّى قتلوا عن آخرهم.(2) بعد أن أبدوا مقاومة كبرى، وبسالة عظيمة، ولم يكن يتوقّع منهم غير ذلك.

فإنّ مبعوثي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يكونوا مجرّد رجال فكر وعلم فقط، بل كانوا رجال حروب، وأبطال معارك ولذا رفضوا الاستسلام للمعتدين، واعتبروا ذلك عاراً لا يليق بالمسلم الحرّ الأبيّ، فقاتلوهم حتّى استشهدوا جميعاً، إلّاكعب بن زيد، فإنّه جرح فعاد بجراحه إلى المدينة، وأخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما جرى

ص:235


1- . المعنق: بضم الميم وسكون العين المهملة وكسر النون وبالقاف: أي المتقدّم أو المسرع، وإنّمالقّب بذلك لتقدّمه أو لإسراعه إلى الشهادة. (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 68/6).
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 678/3-679.

لأصحابه على أيدي قبائل بني سليم المشركة الغَدَرة.

فحزن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمون جميعاً لهاتين الحادثتين، المفجعتين أشد الحزن؛ بل ولم يجد على قتلى مثل ما وجد عليهم، وبقي رسول اللّه يذكر شهداء بئر معونة ردحاً من الزمان(1).

هذا ولقد كانت هاتان الحادثتان المؤسفتان المؤلمتان جميعاً من نتائج النكسة الّتي أصابت المسلمين في «أُحد» والّتي جرّأت القبائل خارج المدينة على قتل رجال المسلمين ودعاتهم غدراً ومكراً.

كيدُ المستشرقين وجفاؤهم

إنّ المستشرقين الذين دأبوا على نقد أبسط سوء يتعرّض له مشرك على أيدي المسلمين فينالون من الإسلام والمسلمين أشدّ نيل، ويصرّون على أن يؤكّدوا على أن الإسلام لم ينتشر إلّابالسيف والقهر، التزموا صمتاً عجيباً تجاه هاتين الحادثتين المؤلمتين المفجعتين، ولم ينبسُوا في هذا المقام ببنت شفة أبداً، وكأنّ شيئاً من هذا لم يقع، وكأنّ ما وقع لا يستحقّ اهتماماً وحديثاً.

ترى أيّ نظام من أنظمة العالم القديم والجديد يجيز أن يُقتَل الدعاة والمبشّرون ورجالُ العلم والفكر، والتعليم والتثقيف.

إذا كان الإسلام قد تقدّم بالسيف - كما يدّعي رجالُ الاستشراق - فلماذا تخاطر جماعات التبليغ والدعوة هذه بأنفسها وتزهق أرواحها في سبيل نشر الإسلام والدعوة السلمية الفكرية إليه.

إنَّ هاتين الحادثتين تنطويان على نقاط حيوية، وعبر مفيدة جداً، فإنّ قوة

ص:236


1- . لاحظ: المغازي: 346/1؛ إمتاع الأسماع: 181/1-183.

الإيمان لدى تلك الجماعات، وعمق تفانيها، وتضحيتها، وبسالتها تستحقّ إعجاب المسلمين، وإكبارهم. كما وتعتبر من أفضل الدروس وأبلغها لهم.

المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين

لقد أثارت حادثتا «الرجيع» و «بئر معونة» المفجعتان اللّتان جرّتا إلى مصرع مجموعة كبيرة من خيرة الدعاة والمبلّغين موجة من الحزن والأسى في المسلمين وتركت أثراً مؤلماً في أوساطهم.

وهنا يتساءل القارئ: لماذا أقدم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على إرسال المجموعة الثانية من المبلّغين إلى «نجد» مع أنّه حصل على تجربة مرّة؟! ألم يقل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين»؟!

إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتّضح من خلال مراجعة النصوص التاريخية؛ لأنّ المجموعة الثانية قد بُعثت في جوارِ من أبي براء (عامر بن مالك بن جعفر) والّذي كان رئيساً لقبيلة بني عامر، ولم تفعل قبيلته ما خالف جوار رئيسهم ولم يشتركوا في تلك الجريمة، وقد بقي أبو براء نفسه في المدينة تأكيداً لجواره، ريثما يرجع فريق التبليغ إلى المدينة.

لقد كانت خطّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خطّة مدروسة وصحيحة؛ لأنّ جماعة المبلّغين الثانية لم تقتل على يد قبيلة أبي براء، ومع أنّ ابن أخيه عامر بن الطفيل قد استصرخ قبيلة أبي براء الّتي كانت قبيلته أيضاً، ضدّ جماعة المبلّغين إلّاأنّ قبيلة أبي براء أبت أن تنفر معه، ولم يستجب لندائه أحدٌ منهم بل قالوا: لن يُخفَرَ جوار أبي براء. ولمّا أيس منهم استصرخ قبيلةً أُخرى لا تمتُّ إلى قبيلة أبي براء بصلة، فأقدمت تلك القبائل على محاصرة الدعاة الأربعين ومقاتلتهم.

ص:237

ثم إنّ جماعة المبلّغين المذكورة كانت قد بعثت عند مغادرتها المدينة وتوجّهها إلى منطقة أبي براء رجلين من رجالها هما: «عمرو بن أُميّة» و «حارث بن الصمة»(1) ليرعيا إبل الجماعة ويحافظا عليها، وبينما كان الرجلان يقومان بواجبهما إذ أغار عليهما «عامر بن الطفيل». فقتل حارث بن الصمة، وأطلق سراح عمرو بن أُميّة.

فعاد عمرو إلى المدينة، في أثناء الطريق التقى رجلين من العامريين فرافقهما وأمهلهما حتّى إذا ناما وثب عليهما فقتلهما، وهو يرى بأنّه انتقم لزملائه من المسلمين من بني عامر، وقد أخطأ في تصوّره هذا لأنّ بني عامر لم تخفر جوار سيدها أبي براء ولم تنقض أمانه كما أسلفنا، ولم يشترك في جريمة قتل الدعاة الأربعين.

فلمّا قدم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره الخبر، حزن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لذلك وقال لعمرو:

«بئس ما صنعت، قتلت رجلين كان لهما منّي أمان وجوار، لأدفعن ديتهما».(2)

ولكن الإجابة الأكثر وضوحاً على هذا الاعتراض (أو السؤال) هو ما يذكره ابن سعد صاحب الطبقات إذ يقول: وجاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خبر أهل بئر معونة، وجاءه تلك الليلة أيضاً مصاب خبيب بن عديّ ومرثد بن أُبي مرثد(3).

ص:238


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 679/3 و صاحب السيرة يرى أنّه المنذر بن محمد بن عقبة الجلاح.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 680/3.
3- . الطبقات الكبرى: 53/2.

35 غزوة «بني النضير»

اشارة

لقد فرح منافقو المدينة ويهودها بانتكاسة المسلمين في معركة «أُحد» كما فرحوا أيضاً بمصرع رجال التبليغ والدعوة، فرحاً بالغاً وباتوا يتحيّنون الفرصة لإثارة القلاقل والفتن في المدينة لإفهام القبائل خارجها بأنّه لا توجد أيّة وحدة سياسيّةٍ وانسجام اجتماعيّ في مركز الإسلام وعاصمة الحكومة الإسلامية، وأنّ في مقدور الأعداء الخارجيّين أن يُجهزوا على حكومة الإسلام الفتية، ويقضوا عليها بسهولة!!

ولكي يقفَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على نوايا ودخائل يهود بني النضير مشى في جماعة من أصحابه إلى حصنهم.

على أنّ الهدف الظاهري المعلَن عنه كان هو الاستعانة بهم في دية العامريّين اللذين قتلا خطأ على يد «عمرو بن أُميّة» كما أسلفنا، وذلك بموجب الاتفاقيّة المعقودة بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبين اليهود، وكذا بني عامر وغيرهم والقاضية بالتعاون معاً في تسديد الدية في مثل هذه الموارد.

فلمّا وصل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى حيث يسكن بنو النضير(1)، وكلّمهم في أن يعينوه في تلك الدية، رحبوا به ظاهراً، ووعدوا بأن يلبّوا مطلبه، ثم إنّهم خاطبوه

ص:239


1- . ذكر الواقدي في المغازي: 364/1 بأنّ النبيّ جاء بني النضير في ناديهم.

قائلين: نفعل يا أبا القاسم ما أحببتَ. ثم دعوه إلى أن يدخل في بيوتهم، ويقضي يومه فيها، قائلين: قد آن لك أن تزورنا، وأن تأتيَنا، إجلس حتّى نطعمك، فلم يقبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بتلبية مطلبهم، بل جلس مستنداً إلى جدار بيت من بيوتهم وأخذ يكلّمهم.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أحسَّ بشرٍّ من ذلك الترحيب الحارّ الّذي قابلته به رجال بني النضير، والّذي رافق حركات مشبوهة منهم!!

هذا مضافاً إلى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم شاهدهم وقد خلا بعضهم إلى بعض يتناجون ويتهامسون، الأمر الّذي يدعو إلى الشكّ، ويورث سوء الظن!!

وقد كان سوء الظن هذا في محلّه، فقد قرّر سادة يهود - لمّا أتاهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في رهط قليل من أصحابه - أن يتخلّصوا منه باغتياله والغدر به على حين غفلة منه صلى الله عليه و آله و سلم، فانتدبوا أحدهم وهو «عمرو بن جحاش» لتنفيذ هذه الجريمة، وذلك بأن يعلو على البيت الّذي استند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى جداره فيُلقي عليه صخرة تقتله.

إلّا أنّ هذه المؤامرة انكشفت - ولحسن الحظ - قبل تنفيذها، إمّا من خلال حركات أُولئك اليهود الخبثاء، المشبوهة، أو بخبر أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من السماء، كما يروي ابنُ هشام والواقدي في مؤلّفيهما.

فنهض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سريعاً، كأنّه يريد حاجة، وتوجّه من توّه إلى المدينة دون أن يخبر أصحابه الذين أتوا معه، بقصده.

وبقي أصحابه هناك ينتظرون عودته من حاجته دون جدوى.

وندمت يهود على ما صنعت، واضطربت لذلك اضطراباً شديداً، وأصابتها حيرة شديدة فيما يجب أن تقوم به.

ص:240

فمن جهة خشيت أن يكون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد عَلِمَ بمؤامرتهم وتواطئهم، فيقدم على تأديبهم لنقضهم ميثاق التعايش السلميّ، ولتواطئهم القبيح، ومكرهم السيِّئ.

ومن ناحية أُخرى أخذت تفكّر في أن تنتقم من أصحابه الموجودين هنا إن هو فاتهم، ولكنّها خشيت أن يؤدّي ذلك إلى مزيد من تأزّم الموقف، وأن ينتقم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حينئذ منهم قطعاً ويقيناً.

وفيما هم في هذه الحالة من الاضطراب والتحيّر قرّر أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم العودة إلى المدينة بعد أن يئسوا من رجعته إليهم من حاجته، فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: رأيته داخلاً المدينة، فأقبلوا حتّى انتهوا إليه صلى الله عليه و آله و سلم وعرفوا بمؤامرة اليهود، إذ قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهم لمّا قالوا: يا رسول اللّه قمت ولم نشعر:

«همّت اليهودُ بالغدر بي، فأخبرني اللّهُ بذلك فقمتُ»(1).

بماذا يجب أن تقابل هذه الجريمة؟

والآن ماذا يجب أن يقوم به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تجاه هذه الزمرة الخائنة المتآمرة؟ تلك الزمرة الّتي تنعم بما وفّرتها لهم الحكومة الإسلامية من أمن وحرية، ويحافظ جنودُ الإسلام على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، كما يفعلون الفعل ذاته بالنسبة إلى أنفسهم وأموالهم وأعراضهم على حد سواء.

تلك الزمرة الّتي كانت ترى كلّ آثار النبوة ودلائلها في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأعماله، وأقواله تماماً على نحو ما قرأت عنه في كتبها وأسفارها، ولكنّها بدل أن

ص:241


1- . المغازي: 366/1؛ الطبقات الكبرى: 57/2.

تردّ الجميل بالجميل وتقابل الإحسانَ بالإحسان، وبدل أن تحسن ضيافته وقد نَزَل عليهم ضيفاً، تتآمر لقتله غيلة وغدراً دونما خجل ولا حياء!!

ما هو يا تُرى ما تقتضيه العدالة في هذا الصعيد وفي هذه الحال؟

وماذا يجب أن يفعل المرء حتّى يمنع من تكرار مثل هذه الحوادث، ويستأصل جذور مثل هذه الجرائم؟

إنّ الطريق المنطقي هو ما أختاره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفعله.

فقد أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين بالتهيّؤ لحربهم، والسير إليهم، ثم دعا محمد بن مسلمة وأمره بأن يذهب إلى بني النضير، ويبلغ سادتهم، من قِبَلهِ رسالة.

فخرج محمد بن مسلمة الأنصاري الأوسي إلى بني النضير وقال لسادتهم:

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أرسلني إليكم يقول:

«قد نَقَضتُم العهدَ الّذي جَعلتُ لكم بما هَمَمتُمْ به من الغدر بي». وأخبرهم بما كانوا ارتأوا من الرأي وظهور عمرو بن جحاش على البيت يطرح الصخرة فأسكتوا فلم يقولوا حرفاً. ويقول:

«اُخرجُوا مِن بلدي فقد أجلّتكُم عشراً فمن رُئي بعدَ ذلك ضربتُ عنقه».(1)

فأحدثت هذه الرسالة الشديدة اللهجة والساخنة المضمون انكساراً عجيباً في يهود بني النضير، وأخذوا يتلاومون، وأخذ يحمّل كلّ واحد منهم الآخر مسؤولية هذه القضية.

فاقترح عليهم أحد سادتهم أن يعتنقوا الإسلام ويؤمنوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولكن عنادهم منعهم من القبول بهذا الاقتراح. وعمّتهم حالة يرثى لها من الحيرة،

ص:242


1- . المغازي: 366/1-367.

والانقطاع، فقالوا لمبعوث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: يا محمّد ما كنّا نرى أن يأتي بهذا رجلٌ من الأوس.

ويقصدون أنّه كان بيننا وبين الأوس حلفٌ فما بالك تريد حربنا الآن.

فقال محمد بن مسلمة: تغيّرت القلوب.

وقد كان هذا الإجراء متطابقاً مع ما جاء في ميثاق التعايش الّذي عقده رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع يهود يثرب إبّان دخوله المدينة، وقد وقّع عليه عن يهود بني النضير حيي بن أخطب، وقد نقلنا في ما سبق النصَّ الكامل لهذا الميثاق وها نحن ندرج هنا قسماً منه ليتّضح ما ذكرناه.

جاء في أحد بنود الميثاق (العهد):

«ألّا يعينوا (أي بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع) على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولا على أحد من أصحابه بلسانٍ و لايدٍ ولا بسلاحٍ ولا بكراعٍ في السرّ والعلانية لا بليلٍ ولا بنهارٍ، واللّه بذلك عليهم شهيدٌ، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلٍّ من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم، ونسائهم، وأخذِ أموالهم»(1).

المستشرقون و دموع التماسيح

لقد أبدى المستشرقون حزنهم وأسفهم لما جرى في هذه القضية، وذرفوا دموع التماسيح، وأبدوا رقّة وشفقةً أكثر ممّا تبديه والدة تجاه وليدها، على اليهود الخونة الناقضين العهد، الناكثين للإيمان، واعتبروا الإجراء الّذي اتّخذه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بحقّهم بعيداً عن روح الإنصاف وسنن العدل!!

والحقّ أنّ هذه الاعتراضات والانتقادات لا تنبع من منطق السعي لمعرفة

ص:243


1- . بحار الأنوار: 111/19.

الحقيقة، لأنّنا عند مراجعتنا لنصّ الميثاق الّذي أدرجناه للقارئ الكريم نرى الحقيقة على غير ما يتصوّرون ويصوّرون، فإنّنا نعرف أنّ الجزاء الّذي جازى به رسول اللّه يهود بني النضير هو في الحقيقة أقلّ من الجزاء المنصوص عليه في ذلك الميثاق بدرجات.

إنّ هناك اليوم مئات الجرائم والمظالم الّتي يرتكبها أسياد هؤلاء المستشرقين في الشرق والغرب دون أن يعترض عليها أي واحد من هؤلاء المستشرقين (الرحماء)، أدعياء الدفاع عن حقوق الإنسان!!!

أمّا عندما يقوم رسول الإسلام بتنفيذ عقوبة - هي في الحقيقة - أقلّ بكثير من ما هو منصوص عليه في الميثاق بحقّ زمرة خائنة متآمرةٍ ناقضةٍ للعهد، تتعالى أصواتُ حفنة من الكتّاب المدفوعين بأغراض معينة ودوافع خاصّة، بالاعتراض والانتقاد.

دور حزب النفاق أيضاً

كان خطر المنافقين - وكما أسلفنا - أكبر من خطر اليهود لأنّ المنافق يطعن من الخلف وتحت غطاء من الصداقة، ويتستّر وراء قناع الصحبة والزمالة.

وقد كان رأس هذا الحزب هو «عبداللّه بن أُبي» و «مالك بن أُبي» و.. و..

ولمّا سمع هؤلاء المنافقون بما يلقاه بنو النضير من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أرسل عبد اللّه بن أُبي إليهم سويد وداعس فقالا: يقول عبد اللّه بن أُبي: لا تخرجوا من دياركم وأموالكم، وأقيموا في حصونكم، فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب، يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل أن يوصل إليكم

ص:244

وتمدكم قريظة فإنّهم لن يخذلوكم، ويمدّكم حلفاؤكم من غطفان؟!(1)

ولقد جرّأت هذه الوعود بني النضير، فانصرفوا عن فكرة الرضوخ لمطلب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فأغلقوا أبواب حصونهم، وأعدُّوا عدّة الحرب، وعزموا على أن يقاوموا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مهما كلّف الثمن، ولا يسمحوا للمسلمين بأن يسيطروا على بساتينهم وممتلكاتهم دون عوض.

فَنَصَحَهم أحدُ كبرائهم وهو «سلام بن مشكم» وشكّك في وعود عبداللّه بن أُبي، واعتبرها وعوداً جوفاء، وقال: ليس قول ابن أُبي بشيء، إنّما يريد ابن أُبي أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمّداً ثمّ يجلس في بيته ويتركك...

قال حيي: تأبى نفسي إلّاعدواة محمد وإلّا قتاله.

قال سلام: فهو واللّه جلاؤُنا من أرضنا، وذهاب أموالنا، وذهاب شرفنا، أو سباء ذرارينا مع قتل مقاتلينا.

فأبى «حيي بن أخطب» إلّامحاربة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم (وحثّ الناس على المقاومة والصمود)، وأرسل أخاه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخبره: إنّا لا نبرح من دارنا وأموالنا فاصنع ما أنت صانع!!(2)

فعرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم برسالة «عبداللّه بن أُبي» إلى بني النضير، ووعوده لهم، فاستخلف ابن أُمّ مكتوم على المدينة، وسار صلى الله عليه و آله و سلم في أصحابه مكبّراً لمحاصرة بني النضير فصلّى صلاة العصر بفضائهم واستقر في الطريق بين «بني النضير» وبين «بني قريظة» ليقطع بذلك سبيل الاتّصال بين هذين الفريقين، وحاصر

ص:245


1- . المغازي: 368/1.
2- . المغازي: 369/1-370.

بني النضير ست ليال - حسب رواية ابن هشام -(1) أو خمسة عشر يوماً حسب روايات آخرين، ولكن اليهود تحصّنوا منه في الحصون، وأظهروا المقاومة، والإصرار على الامتناع، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقطع النخيل المحيطة بتلك الحصون، وإلقاء النار لييأس اليهود من البقاء في تلك المنطقة مادامت بساتينهم أُعدمت، وأُفنيت.

فتعالت نداءاتُ اليهود تقول: يا محمّد، قد كنتَ تنهى عن الفساد، وتعيبه على من صنعَهُ، فما بالُ قطعِ النخل وتحريقها؟!

فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله:

«ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللّهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ» .(2)

هذا من جهة ومن جهة أُخرى خذلهم عبداللّه بن أُبيّ، فلم يأتوهم، كما اعتزلتهم قريظة فلم تعنهم بسلاح ولا رجال.

وقد ذكر القرآن الكريم هذا الخذلان إذ قال تعالى:

«أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ

ص:246


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 683/3. وهذا من التكتيكات العسكرية الّتي كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يستعملها ليقطع خطوط الارتباط بين الجماعات المتعاونة.
2- . الحشر: 5.

بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» .(1)

وقد كشفت الآيات الحاضرة - إلى جانب ما ذكر - عن نفسية اليهود الجبانة، والّتي انهارت أيضاً بسبب معنويات المسلمين القوية حتّى أنّهم رغم اجتماعهم وعددهم الكبير يخافون من مواجهة المسلمين فلا يقاتلونهم إلّامن وراء أسوار الحصون، وجدران القلاع القوية خائفين مذعورين، ومرعوبين، وهم إلى جانب كلّ ذلك يعانون من اضطراب وقلق وتفرّق كلمة في الواقع.

وأخيراً رضخ اليهودُ لمطلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وسألوه أن يجليهم، ويكفَّ عن دمائهم على أن يكون لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلّاالسلاح والدروع، فرضي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك.

فاحتملوا من أموالهم أكبر قدرٍ ممكنٍ، حتّى أنّ الرجل منهم يقلع باب بيته فيضعه على ظهر بعيره، ثم يخرب بيته بيديه!!

فخرج جماعة منهم إلى خيبر، وسارت جماعة أُخرى منهم إلى الشام.

وقد خرجت تلك الزمرة الذليلة الخاسئة وهم يضربون بالدفوف، ويزمّرون بالمزامير، وقد ألبسوا نساءهم الثياب الراقية، وحليّ الذهب، مظهرين بذلك تجلّداً ليغطوا على هزيمتهم، ويروا المسلمين أنّهم غير منزعجين من مغادرتهم تلك الديار!!(2)

مزارع بني النضير تقسَّم بين المهاجرين فقط

إنّ ما يغنمه جنود الإسلام دون قتال وهو ما يُسمّى بالفيء يعود أمره إلى

ص:247


1- . الحشر: 11-14.
2- . لاحظ: المغازي للواقدي: 374/1-375.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة، يضعه حيث يشاء ويصرفه فيما يرى من مصالح الإسلام لقوله تعالى:

«ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ» .(1)

وقد رأى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّ من الصالح أن يقسّم المزارع والممتلكات الّتي غنمها من بني النضير على المهاجرين دون الأنصار، لحرمانهم من ممتلكاتهم وثروتهم في مكّة بسبب الهجرة منها إلى المدينة، وكانوا في الحقيقة ضيوفاً على الأنصار طوال هذه المدة، وقد أيّد «سعد بن معاذ» و «سعد بن عبادة» هذا الرأي، ومن هنا قسَّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جميع تلك المزارع والممتلكات على المهاجرين خاصّة، ولم يحصل أحد من الأنصار منها على شيءٍ إلّارجلين كانا محتاجين هما:

«سهل بن حنيف»، و «أبو دجانة»، الأنصاريان، وحصل بذلك انفراج في أحوال المسلمين عامّة، وأعطى «سعد بن معاذ» سيف رجلٍ من زعماء بني النضير وكان سيفاً معروفاً.

يقول المقريزي:

فلمّا غنم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بني النضير بعث ثابت بن قيس بن شماس فدعا الأنصار كلّها - الأوس والخزرج - فحمد اللّه وأثنى عليه، وذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إيّاهم في منازلهم، وأثرتهم على أنفسهم ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«إن أحببتم قسّمتُ بينكم وبين المهاجرين ما أفاء اللّه عليّ من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم»؟

ص:248


1- . الحشر: 7.

فقال سعد بن عبادة وسعد بن مُعاذ: بل تقسّمه للمهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار: رضينا وسلّمنا يا رسول اللّه.

فقسّم رسول اللّه ما أفاء اللّه عليه، على المهاجرين دون الأنصار إلّارجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف بن واهب وأبو دجانة سمّاك بن خرشة(1).

وقد وقعت هذه الحادثة في شهر ربيع الأوّل في السنة الرابعة من الهجرة ونزلت سورة الحشر في هذا الشأن، والّتي جاء في مطلعها قوله تعالى:

«هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّهِ فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» .(2)

هذا ويعتقد أكثر المؤرّخين المسلمين أنّه لم يُسفَك في هذه الحادثة، أي دم، ولكن ذكر الشيخ المفيد في إرشاده أنّه وقع ليلة فتح حصون بني النضير قتالٌ محدودٌ قتل فيه عشرة من اليهود وكان ذلك هو السبب في فتح تلكم الحصون(3).

وقال المقريزي: وفُقِدَ عليٌّ رضى الله عنه في بعض الليالي، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: إنه في بعض شأنكم، فعن قليل جاء برأس «عزوك» وقد كمن له حتّى خرج في نفر من اليهود يطلب غرّة من المسلمين، وكان شجاعاً رامياً، فشدّ عليه علي رضى الله عنه، فقتله وفرّ اليهود(4).

ص:249


1- . إمتاع الأسماع: 191/1 و 192.
2- . الحشر: 2.
3- . لاحظ: الإرشاد: 92/1-93.
4- . إمتاع الأسماع: 189/1.

36 تحريم الخمر ذات الرقاع، بدر الصغرى

تحريم الخمر

كانت الخمور، وعلى العموم جميع المسكرات ولا تزال من أشدّ الأوبئة الاجتماعية الّتي تهدّد أمن وسلامة المجتمعات البشرية وتجرّ إليها أكبر الأخطار، ويكفي في خطورة هذا السمّ القاتل أنّه يعادي أكبر ما يميّز البشر عن ما سواه من الأحياء، ذلكم هو العقل، فإنّ الخمرة هي العدوّ الأوّل لهذه الموهبة الإلهية الّتي في سلامتها ضمان لسعادة الإنسان.

إنّ الفارق بين الإنسان وبين سائر الأحياء هو القوة العاقلة الّتي يمتلكها الإنسان دون غيره، وتكون المسكرات من أعدى أعداء هذه القوة، من هنا كان المنع من تعاطي الخمور والمسكرات من أبرز البرامج الّتي جاء بها الأنبياء، وكانت الخمور محرّمة في جميع الشرائع السماوية(1).

ص:250


1- . في عام 1339 ه، زار الدكتور آرشه تونك رئيس منظمة مكافحة الخمور إيران، وقد سرّ لمّا

ولقد كانت معاقرة الخمور من الآفات المتفشية والمتجذّرة في المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربيّة بحيث كانت معالجتها تحتاج إلى وقت طويل، وأُسلوب مدروس، ولم تكن الظروف والأحوال في ذلك العهد لتسمح بأن يعلن رسولُ الإسلام عن تحريم الخمر دفعةً واحدةً ومن دون أيّة مقدّمات، وممهّدات لذلك، بل كان يتحتّم عليه أن يعالج هذا الوباء الاجتماعيّ من خلال إعداد الناس لمرحلة التحريم النهائي والقطعي تماماً كما يفعل الطبيب بالنسبة إلى المرضى الذين طال بهم المرض، وتجذّر.

من هنا حرّمت الخمر في أربع مراحل تدريجية ضمن آيات أربع أظهرت الاستياء من الخمر لكن لا على نمطٍ واحدٍ، بل بدأت من مرحلةٍ مخفّفة حتّى انتهت إلى مرحلة الإعلان عن التحريم القطعي.

إنّ التمعّن في هذه الآيات يكشف لنا عن كيفيّة الأُسلوب النبويّ في التبليغ والإرشاد، والدعوة والهداية، وينبغي للخطباء، والكتاب أن يتبعوا هذا الأُسلوب المؤثّر والمفيد في معالجة الأدواء الاجتماعية المزمنة، ويكافحوها بهذا الشكل حتّى يحصلوا على أفضل النتائج.

ص:251

إنّ الشرط الأساسي لمكافحة ناجحة لأيّخلق وسلوك فاسد هو إيقاظ المجتمع وإيقافه أوّلاً على أضرار ذلك السلوك، ومفاسده، وتذكيره بآثاره السيّئة ليحصل لدى المجتمع - بذلك - الاستعداد الروحي بل والدافع الداخلي إلى خوض معركة أساسية وجذرية ضدّ ذلك السلوك الفاسد، والخلق الذميم، ويكون الناس هم الضمانة لإنجاح هذه المهمة. وذلك لأنّ ردّ المعتاد عن عادته كالمعجز كما في الحديث الشريف عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام(1).

كيف والعرب كانوا يعشقون الخمرة حتّى أنّ الرجل منهم ربما كان يوصي بأن يدفن إلى جنب كرمة لتسقى عظامه بالخمر.

يقول أحدهم:

إذا مِت فادفني إلى جنب كرمة تروّي عظامي بعد موتي عروقُها(2)

من هنا اعتبر القرآن الكريم اتّخاذ الخمر من التمور والأعناب - في مجتمع كان تعاطي الخمر جزءاً أساسياً من حياته - مخالفاً للرزق الحسن، وبذلك أيقظ العقول الغافية، إذ قال:

«وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً» .(3)

إنّ القرآن أعلن - في المرحلة الأُولى من مراحل النهي عن تعاطي الخمر - أنّ اتّخاذ المسكر من التمر والعنب لا يُعد من الارتزاق الحسن، بل الارتزاق الحسن هو تناول التمر والعنب على حالتهما الطبيعية.

إنّ هذه الآية: أعطت هزةً ذكيّةً للعقول، وهيّأت الطبائع المنحرّفة لمرحلة

ص:252


1- . لاحظ: تحف العقول: 489؛ بحار الأنوار: 374/75 برقم 30.
2- . تفسير الرازي: 107/6.
3- . النحل: 67.

أقوى في مسيرة تحريم الخمر، حتّى يتسنّى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يشدّد من نبرته، ويعلن عن طريق آية أُخرى أنّ النفع المادّي القليل، الّذي تعود به الخمر ويأتي به القمار، ليس بشيء بالقياس إلى أضرارهما الكبرى وأخطارهما العظيمة، وقد تمّ الكشف عن هذه الحقيقة في قوله تعالى:

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» .(1)

ولا ريب أنّ مجرّد المقارنة بين النفع والضرر، وكذا الوقوف على زيادة الضرر على النفع كافٍ لإيجاد النفور والاشمئزار لدى العقلاء، والواعين، من الخمر وما شاكلها، وشابهها.

إلّا أنّ جماهير الناس وعامّتهم لن يقلعوا عن هذه العادة الشريرة المتجذّرة ما لم يسمعوا نهياً صريحاً وقاطعاً عنها.

فها هو عبدالرحمن بن عوف رغم نزول هذه الآية قد استضاف جماعة من الصحابة وأحضر على المائدة خمراً، فأكلوا، وشربوا الخمر، ثم قاموا إلى الصلاة، فأخطأ أحدهم في القراءة وهو سكران خطأ غيَّر من مراد اللّه تعالى في ما قرأ من الآية، فقد تلا سورة «الكافرون»، وبدل أن يقول: «لا أعبُدُ ما تعبدون» قرأ: «أعْبُدُ ما تعبدون». فاضطربت تلك الجماعة لهذا الأمر، وخشيت أن تكون ارتكبت بذلك أمراً عظيماً!!

وقد هيّأ هذا الحادث الناس ليحرّم تعاطي الخمر في ظروف وحالات خاصّة على الأقل.

ص:253


1- . البقرة: 219.

من هنا جاء الإعلان عن حرمة تعاطي الخمر قبل الصلاة، وأعلن القرآن الكريم بصراحة أنّه لا يجوز لمسلم أن يصلّي في حالة السكر، وقد أعلن عن هذا التشريع الإلهيّ في قول اللّه تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» .(1)

ولقد بلغ من تأثير هذه الآية، وفاعليتها أن هجر جماعة من المسلمين تعاطي الخمر بالمرّة بحجّة أنّ ما يضرّ بالصلاة يجب أن يُطرَد من حياة المسلم نهائياً.

ولكن البعض بقي يتعاطاها حتّى أنّ رجلاً من الأنصار دعا جماعة إلى مائدة أحضر فيها الخمر - رغم نزول الآية الحاضرة - فلمّا شربوا وأسكروا حمل بعضهم على بعض، وجرح بعضهم بعضاً فشكوا أمرهم إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وكان الخليفة الثاني لم يزل يشرب الخمر إلى ذلك معتقداً عدم كفاية الآية الحاضرة في التحريم القطعيّ لها، ولهذا رفع يديه إلى السماء وقال: اللّهم بيّن لنا في الخمر بياناً شفاءً.(2)

ولا يخفى أنّ هذه الحوادث والوقائع المؤسفة قد هيّأت الارضية بشكل رائع لتقبّل مسألة تحريم الخمر تحريماً كاملاً وقاطعاً، من هنا نزل قولُه تعالى يعلن عن هذه الحرمة القطعية: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .(3)

وقد دفع هذا البيان البليغ القاطعُ أن يقلع عن الخمر نهائياً من كان يشربها حتّى تلك الساعة بحجّة عدم وجود نهي صريح وقاطع عنها.

ص:254


1- . النساء: 43.
2- . لاحظ: سنن أبي داود: 182/2 برقم 3670؛ سنن الترمذي: 320/4 برقم 5042.
3- . المائدة: 90.

وقد جاء في كتب السنّة والشيعة أنّ الخليفة الثاني قال بعد سماع هذه الآية:

انتهَينا يا ربّ (1)!!

وقفة عند «البيان الشافي»

قلنا إنّ الخليفة الثاني لم يقتنع بعد سماع الآيات الثلاث بحرمة الخمر، بل بقي ينتظر بياناً شافياً يكشف عن التحريم القطعي، حتّى أقنعته الآية الرابعة بحرمة الخمور والمسكرات، وقد كان حكم اللّه تعالى في هذه الآية هو: أنّ الخمر «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ولكنّ المتغرّبين، وهواة المادّية الغربية في عصرنا لم تقنعهم كلّ هذه الآيات بحرمة الخمر، حتّى الآية الرابعة الصريحة في هذا الأمر، فيقولون لابدّ أن يُعلَنَ عن هذا التحريم بلفظة:

حرام أو حرّمت، والّا لم يمكن القطع بحرمة الخمر!!

إنّ هذه الزمرة التابعة لأهوائها، الأسيرة لشهواتها الحرام، لا تريد في الحقيقة إلّا أن تظل عاكفة على الخمر أبداً، ومن هنا تطرح مثل هذه المعاذير وتتوسّل بمثل هذه الحجج الجوفاء.

على أنّ القرآن الكريم قد استعمل لفظ الحرام بشكلٍ مّا في شأن الخمر إذ قال:

«وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» .(2)

وقد حرّم تعالى جميع أنواع الإثم في آية أُخرى إذ قال:

«قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ» .(3)

ص:255


1- . مستدرك الحاكم: 143/4؛ روح المعاني: 17/7.
2- . البقرة: 219.
3- . الأعراف: 33.

وبعبارة أُخرى: لقد بيّن اللّه تعالى في آية أُخرى الموضوع، وهو أنّ الخمر (الّتي تُسمّى إثماً أيضاً) قد حُرّمت.

فهل ينتظر هواة الغرب بعد هذا البيان الواضح والتحريم الصريح بياناً كافياً شافياً؟!

وفي الحقيقة نحن لا نحتاج إلى مثل هذا الاستدلال أبداً فالآيات الأربع المتقدمة الّتي وصفت الخمر بأنّها «رجس» وأنّها نظير «الميسر»، وأنّها «عمل شيطاني»، مناقض للفلاح، وسببٌ «للعداوة» و «البغضاء»، قد أعلنت عن حرمتها بصورة واضحة لا إبهام فيها، ولا غموض، وهي بالتالي أقوى بيان لمن تدبّر وأنصف، وتجرّد عن الأهواء والأغراض المريضة. وهنا لابدّ أن نذكّر بنقطةٍ هامّةٍ وهي أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم استطاع أن يطهّر في هدي هذه الآيات الأربع، بيئته ومجتمعهُ من أدران هذه العادة الشريرة، ويقوم المؤمنون أنفسهم بتنفيذ هذا الحكم من دون قهر أو إجبار، بينما لم يستطع العالمُ الغربي رغم كلّ ما يملك من الإمكانات الماديّة العريضة، وأجهزة الدعاية الواسعة أن يخطو خطوةً ناجحةً في هذا الطريق، فقد أخفقت كلّ خططه، أمامَ هذا السمّ القاتل، والفشل الّذي أصاب الولايات المتحدة في مكافحة المشروبات الروحية في أعوام 1933-1935 أمر معروف للجميع، وله قصّة عجيبة يمكن أن يقف عليها القارئ الكريم في مصادرها(1).

رواية مختلَقَة

ومن عجيب الأمر أن يروي بعض المفسّرين عند تفسير قوله تعالى: «لا

ص:256


1- . راجع: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 80 وغيره.

تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» (1) رواية جاء فيها أنّ إمام المتّقين علي بن أبي طالب عليه السلام كان ضمن جماعة شربوا الخمر ثم قاموا إلى الصلاة فقرأ إمامهم غلطاً: «أعبد ما تعبدون»!! فأنزل اللّه تعالى هذه الآية: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» .

نقول: إنّ من العجيب أن تنسب إلى الإمام علي عليه السلام مثل هذه النسبة وهو الطاهر المطهّر بحكم آية التطهير(2)، وهو الّذي نشأ وترعرع في أحضان سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم الّذي كان يتجنّب الخمر، حتّى قبل نزول النهي الصريح عنها، هذا وعلي عليه السلام المعروف بحكمته وفهمه وعلمه عارف بما للمسكر من تبعات خطيرة.

نعم من العجيب أن نصدّق بأنّ علياً عليه السلام شرب الخمر، وهناك في الجاهلية (وقبل الإسلام) مَنْ حرّم الخمر على نفسه لكونها تذهب بالعقل، وتؤول بالمرء إلى ما لا يُحمَد.

ففي «السيرة الحلبية» كان عبداللّه بن جدعان من جملة من حرّمَ الخمر على نفسه في الجاهلية، أي بعد أن كان بها مغرماً، وسبب ذلك أنّه سكر ليلة فصار يمدّ يده على ضوء القمر ليمسكه، فضحك منه جلساؤه ثم أخبروه بذلك حين صحا، فحلف أن لا يشربها أبداً.

وكان عثمان بن مظعون ممّن حرّمَ الخمرَ على نفسه في الجاهلية أيضاً وقال:

لا أشرب شيئاً يذهِبُ عقلي، ويضحَكُ بي من هو أدنى منّي، ويحملُني على أن

ص:257


1- . النساء: 43.
2- . الأحزاب: 33، راجع تفاسير الفريقين ومجاميعهم الحديثية.

أُنكِحَ كريمتي مَن لا أُريد(1).

وورد عن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال: «أوحى اللّه تعالى إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّي أشكر لجعفر بن أبي طالب عليه السلام أربع خصال.

فدعاه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره فقال: لولا أنّ اللّه تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك:

ما شربتُ خمراً قط، لأنّي علمت أنّي إن شربتها زال عقلي.

وما كذبتُ قط، لأنّ الكذب ينقص المروّة.

وما زنيت قط، لأنّي خفت أنّي إذا عملتُ عُمِلَ بي.

وما عبدت صنماً قط، لأنّي علمت أنّه لا يضر ولا ينفع.

فضرب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يده على عاتقه وقال: حقّ على اللّه عزّ وجل أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة»(2).

نعم هذا هو موقف مَن هو أقلّ مرتبة ومنزلة من الإمام علي عليه السلام من الخمر، ولو في العهد الجاهلي، وقبل تحريمها في الإسلام.

لكن يد الوضع والدسّ أبت إلّاأن تختلق رواية في المقام، فقد جاءت في «جامع البيان» للطبري روايتان نذكرهما سنداً ومتناً ليقف القارئ على ما تعانيان من مآخذ:

1. حدّثنا محمد بن بشار قال: حدّثنا عبدالرحمن قال: حدّثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبدالرحمن، عن علي أنّه كان هو وعبدالرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلّى بهم عبدالرحمن فقرأ: يا أيّها الكافرون فخلط فيها

ص:258


1- . السيرة الحلبية: 211/1.
2- . من لا يحضره الفقيه: 397/4 برقم 5847.

فنزلت: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى» .(1)

2. حدثني المثنى قال حدّثنا الحجاج بن المنهال قال: حدّثنا حمّاد، عن عطاء ابن السائب، عن عبداللّه بن حبيب، أنّ عبدالرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً فدعا نفراً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فأكلوا وشربوا حتّى ثملوا، فقدّموا عليّاً يصلّي بهم المغرب فقرأ: قل يا أيّها الكافرون أعبُد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين؛ فأنزل اللّه تبارك وتعالى هذه الآية: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» (2).

والروايتان - مضافاً إلى ما يرد عليهما من الإشكال - تعانيان من مؤاخذات متعدّدة أبرزها الإشكال في سندهما، فكلتا الروايتين تنتهي إلى عطاء بن السائب، وهو مطعون في وثاقته وديانته، وفي حفظه وحديثه، وإليك ما قال عنه أئمة علم الرجال:

قال عنه الذهبي: عطاء بن السائب أحد علماء التابعين، تغيّر بأخرة وساء حفظه.

وقال عنه أحمد: مَن سمع منه قديماً فهو صحيح، ومن سَمع منه حديثاً لم يكن بشيء.

وقال عنه يحيى بن معين: لا يحتجّ به.

وقال أحمد بن أبي خيثمة عن يحيى: حديثه ضعيف.

وقال عنه أبو حاتم: محلّه الصدق قبل أن يخلّط.

وقال النسائي: ثقة في حديثه القديم لكنّه تغيّر.

ص:259


1- . جامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري): 133/5.
2- . جامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري): 134/5.

وقال ابن عليّة: قدم علينا عطاء بن السائب البصرة، فكنّا نسأله، فكان يتوهّم، فنقول له: مَن؟ فيقول: أشياخنا ميسرة، وزاذان، وفلان.

وقال الحميدي، حدّثنا سفيان، قال: كنتُ سمعتُ من عطاء بن السائب قديماً، ثم قدم علينا قِدمةً فسمعته يحدّثُ ببعض ما كنتُ سمعتُ، فخلّط فيه، فاتقيته واعتزلته.

وأضاف الذهبي: «ومن مناكير عطاء...»(1).

أجل هذا هو عطاء في منظار علماء الرجال، إنّه سيِّئ الحفظ، ضعيف مخلّط له مناكير، يتوهّم، تغيّر بآخرة، وقد ظهرت آثار الوهم وسوء الحفظ والتخليط هذا في روايتيه هاتين. فهو تارة يقول أنّ عليّاً عليه السلام كان مأموماً في هذه القصّة (كما في الرواية الأُولى) وتارة يقول كان عليه السلام إماماً للجماعة.

وهذه الرواية من مناكيره، وأوهامه بلا ريب، إذ كيف يصحّ أن يُنسب إلى رجلٍ لازم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الطيّبَ الطاهر منذ نعومة أظفاره، شرب الخمر، والائتمام برجل دونه في الفضل، أو إمامته للجماعة وتخليطه في قراءة سورة عظيمة من سور القرآن الكريم؟!

ولنستمع معاً إلى ما يقوله إمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام عن فترة صباه في كنف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه أفضل ردّ على هذه الرواية ونظائرها: قال عليه السلام:

«وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ. وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ (وليدٌ) يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ.

ص:260


1- . ميزان الاعتدال: 70/3-73.

وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ. وَلَقَدْ قَرَنَ اللّهُ بِهِ صلى الله عليه و آله و سلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ. وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً، وَيَأْمُرُنِي بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ»(1).

هذا وأغلب الظن أنّ الذين اختلقوا هذه الرواية لما وجدوا أمثال هذه القبائح في حياة بعض الصحابة أرادوا أن يساووا بين الإمام علي عليه السلام وغيره، فاختلقوا هذه الفرية الوقحة.

وممّا يثير الاستغراب أن يقع بعض الكتّاب والمفكّرين المعاصرين في نفس ما وقع القدامى من الخطأ في هذا المجال، ويذكر هاتين الروايتين في تفسيره للقرآن الكريم، مع كلّ هذه المؤاخذات عليهما حتّى في صورة النقل، كما فعل سيد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن»(2)، إذ ليس كلّ ما هو مذكور في كتب الأقدمين يصحّ نقله، ويجوز تكراره. وبخاصّة من دون تعليق وتكذيب!!

غزوةُ ذات الرقاع

قيل إنّما سُمّيت هذه الغزوة، وهذا الجهاد المقدس بالرقاع، لأنّ المسلمين مرّوا بجبل فيه بقعٌ حمرة وسواد وبياض كأنّها مرقّعة برقاع مختلفة.

وربما قيل: لأنّ أقدامهم نقبت فيها فكانوا يلفّون على أرجلهم الخرق، والرقاع فسُمِّيت هذه الغزوة بذات الرقاع(3).

ص:261


1- . نهج البلاغة: 300، الخطبة رقم 192.
2- . عند تفسير قوله تعالى: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى».
3- . بحار الأنوار: 177/20؛ إمتاع الأسماع: 196/1.

وعلى كلّ حال فإنّ هذه الغزوة لم تكن ابتدائية تماماً مثل بقية الغزوات، بل كانت لإطفاء شرارة كانت على شرف الاشتعال، والانفجار، وبالضبط جاءَت لتقضي على تحرّكات واستعدادات عدائية كان يقوم بها بنو محارب وبنو ثعلبة وكلاهما من قبائل غطفان.

وقد كان من دأب النبيّ وسياسته أن يَبُثَّ أشخاصاً أذكياء إلى المناطق المختلفة ليأتوا له بالأخبار عن كلّ ما يستجدّ على ساحة الجزيرة العربية، وفي أوساط القبائل.

فأتاه الخبر ذات مرّة أن القبيلتين المذكورتين تنويان جمع الأسلحة والرجال لاجتياح المدينة وغزوها، فسار إليهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على رأس مجموعة من رجاله وأصحابه حتّى نزل نخلاً بنجد قريبة من مكان العدو(1).

فدفعت سوابق المسلمين الجهادية، وما سطّروه في المعارك والمواقف من قصص المقاومة والصمود والبسالة والاستقامة، وما حقّقوه من انتصارات ساحقة حيّرت سكّان الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها. لقد دفع كلّ هذا العدوّ إلى الانسحاب، واللجوء إلى رؤوس الجبال، وقد خافوا ألّا يبرح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى يستأصلهم.

وقد صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمسلمين في هذه الغزوة صلاة الخوف، الّتي بيّن اللّه تعالى كيفيتها في سورة النساء الآية 102.(2)

وأغلب الظن أنّ العدوّ كان في هذه الغزوة قوياً في تجهيزاته وقواه، وأنّ الأوضاع العسكرية قد وصلت إلى مرحلة خطيرة مما سبّب الخوف، ولكن

ص:262


1- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 197/1.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 693/3.

الانتصار كان في المآل من نصيب المسلمين.

مواقف خالدة في هذه الغزوة

يروي المؤرّخون والمفسّرون المسلمون كابن هشام(1) وأمين الإسلام الطبرسي(2) قصصاً عجيبة، وحوادث مثيرة للإعجاب وقعت في هذه الغزوة تكشف عن عمق مروءة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مع أعدائه، وقد نقلنا نظير هذا في غزوة ذي أمر(3)، من هنا نحجم عن ذكر ذلك في هذه الدراسة رعاية للاختصار، ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى القصّة التالية الّتي تكشف عن صمود المسلمين وإخلاصهم لدينهم.

الحُرّاس الصامدون

مع أنّ جيش الإسلام قد عاد إلى المدينة من هذه الغزوة من دون قِتال ولكنّه أصاب مع ذلك بعض الغنائم، واستراح في شِعبٍ في أثناء الطريق، وبات ليلته هناك ثم كلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رجلين بحراسة الجيش ليلاً يدعيان: «عباد» و «عمار»، فقسم الرجلان الليل بينهما، فنام أحدهما وسهر الآخر يحرس الجيش، وكان الّذي سهر أوّل الليل هو «عباد».

ثم إنّ رجلاً من العدوّ خرج في أثر المسلمين، وكان يقصد أن يريق دماً أو يصيب شيئاً ويعود إلى محلّه.

وقام «عباد» يصلّي، وأقبل ذلك الرجل يطلب غِرّةً فلمّا رأى «عباد» سوادَه من

ص:263


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 693/3-695.
2- . مجمع البيان: 103/3.
3- . راجع: ص 148 من هذا الكتاب.

قريب قال ذلك الرجل في نفسه: يعلم اللّه أنّ هذا لطليعة القوم، وحرسهم ففوّق له سهماً ورماه به فأصاب عباداً ولكن عبّاداً نزع السهمَ ووضعه، وثبت قائماً يصلّي فرماه العدوّ بسهم آخر، فأصابه فانتزعه وثبت قائماً فرماه بثالثٍ فنزعه، فلمّا غلب عليه الدم ركع وسجد، ثم قالَ لصاحبه: اجلِس فقد أُصبتُ، فجلسَ عمّار، فلمّا رأى الأعرابي أنّ عمّاراً قد قام علم أنّهما قد علما به، فقالَ عمّار: أي أخي ما منعك أن توقظَني به في أوّلِ سهم رمى به؟!

قال: كنتُ في سورة أقرأُها وهي سورة الكهف، فكرهتُ أن أقطعَها حتّى أفرغ منها، ولولا أنّي خشيتُ أن أُضيّعَ ثغراً أمرني به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما انصرفت ولو أتى على نفسي(1).

وهكذا صمد هذا المسلم واستمر في صلاته غير مبال بما أصابته من السهام.

غزوة بدرٌ الصغرى

لمّا أراد أبوسفيان أن ينصرف يوم «أُحد» نادى: موعد بيننا وبينكم بدرُ الصفراء رأس الحول نلتقي فيه فنقتتل.(2)

ولهذا أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين بأن يتهيّأوا للدفاع عن أنفسهم، وقد مرّ على وقعة «أُحد» عامٌ واحدٌ.

وكان أبو سفيان الّذي كان يرأس قريش آنذاك يواجه في ذلك الوقت مشاكل داخلية مختلفة، فكره الخروج إلى رسول اللّه في الموعد الّذي ضربه لمقاتلة المسلمين، واتّفق أن قدم مكّة في تلك الأيام «نعيم بن مسعود» الّذي كانت بينه

ص:264


1- . لاحظ: المغازي: 397/1.
2- . المغازي: 384/1.

وبين أبي سفيان علاقات صداقة خاصّة، فجاءه أبوسفيان وقال له: يا نعيم إِنّي وعدتُ محمّداً وأصحابه يومَ «أُحد» أن نلتقي نحن وهو ببدر الصفراء على رأس الحَول، وقد جاء ذلك.

فقال نعيم: ما أقدمني إلّاما رأيتُ محمّداً وأصحابَه يصنعون من إعداد السلاح والكراع، وقد تجلّب إليه حلفاءُ الأوس من بلى وجهينة وغيرهم، فتركتُ المدينة أمس وهي كالرمّانة.(1)

فزاد ذلك من مخاوف أبي سفيان، وضاعف من كراهته للخروج إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. وتقرّر بالتالي أن يعود نعيم إلى المدينة ويحذّر المسلمين من الخروج للموعد، ويخذّلهم.

وعاد «نعيم» إلى المدينة، وراح يرعّب أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويخوّفهم من الخروج إلى أبي سفيان إلّاأن كلامَه لم يترك أي أثر في نفس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فخرج صلى الله عليه و آله و سلم في ألفٍ وخمسمائة مقاتل من أصحابه، وقد خرجوا ببضائع لهم، وتجارات حتّى انتهوا إلى «بدر» وقام السوق السنوي هناك فباعوا واشتروا في موسم بدر وربحوا كثيراً ثم تفرّق الناس، ولكن النبيّ وأصحابه بقوا هناك ثمانية أيام ينتظرون أبا سفيان وجيشه.

وقد كان هذا الإجراء إجراء عسكرياً حكيماً ورائعاً، إذ أظهر قوّة النبيّ وعزيمته وقوة أصحابه وعزيمتهم، ولهذا كان له أثرٌ قوي في نفوس الأعداء.

فلمّا بلغت أنباء خروج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه إلى بدر، لم ير حكّام مكّة المشركون بدّاً من الخروج إلى بدر حفاظاً على ماء الوجه، فخرج أبوسفيان والمشركون بتجهيزات كافية إلى مرّ الظهران، ولكنّهم عادوا من منتصف الطريق إلى

ص:265


1- . المغازي: 385/1.

مكّة بحجّة الغلاء والقحط، فاعترض صفوان بن أُميّة على أبي سفيان وقال: قد واللّه نهيتُك يومئذ أن تعد القومَ، وقد اجترأوا علينا، ورأوا أن قد أخلفناهم، وإنّما خلفنا الضعف عنهم(1).

ولادةُ السِبط الأصغر لرسول اللّه

وفي الثالث من شهر شعبان من هذه السنة (الرابعة من الهجرة) وُلِدَ السبط الثاني لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الإمام الحسين بن عليّ (2)، كما توفّيت «فاطمة بن أسد» والدة الإمام علي عليه السلام(3).

وفي هذا العام بالذات أمرَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم زيد بن حارثة أن يتعلّم السريانية من اليهود(4).

ص:266


1- . لاحظ: المغازي: 385/1-390. وقد وقعت هذه الحادثة في الشهر الخامس والأربعين بعد الهجرة. وتُسمّى هذه الغزوة «بدر الموعد».
2- - تاريخ الخميس: 467/1.
3- . تاريخ الخميس: 467/1.
4- . إمتاع الأسماع: 196/1، تاريخ الخميس: 464/1.

حوادث السنة الخامسة من الهجرة

37 من أجل تحطيم التقاليد الخاطئة

اشارة

تعتبر معركة «الأحزاب»، وقصّة بني قريظة، وزواج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بزينب بنت جحش(1) من أهمّ الحوادث التاريخية الّتي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة.

وأوّل هذه الحوادث - كما عليه المؤرّخون المسلمون - هو زواج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمرأة المذكورة.

وقد ذكر القرآن الكريم تفاصيل هذه القضية ضمن الآيات (4، 6، 36 إلى 40) من سورة «الأحزاب»، ولا يبقى - حينئذ - مجال لأكاذيب المستشرقين

ص:267


1- . يرى مؤلّف كتاب «تاريخ الخميس» أنّ هذه الحادثة وقعت في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة، ولكن هذا الرأي يبدو غير صحيح من وجهة نظر الحسابات الاجتماعية، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، كان منشغلاً بغزوة «الأحزاب»، و «بني قريظة» من 24 شهر شوال من السنة الخامسة إلى 19 من شهر ذي الحجّة من نفس السنة فيكون تحقّق مثل هذا الزواج في مثل هذه الظروف أمراً مستبعداً جدّاً، وإذا كان الزواج من زينب يُعدّ من حوادث السنة الخامسة لزم أن يكون قد تحقق قبل الحادثتين المذكورتين، ولهذا عمدنا إلى ذكر هذه الحادثة قبل تينيك الواقعتين.

ودسائسهم ومختلقاتهم الواهية.

ونحن هنا ندرُسُ هذه القضية على ضوء أصحّ المصادر التاريخية الإسلامية الّتي لم تطلها أيدي العبث والتحريف، والمسخ، والتشويه، ألا وهو القرآن الكريم، ثم بعد ذلك نتحدّث حول ما قاله المستشرقون ومَن لفّ لفّهم، ونحا منحاهم في التعامل مع تاريخ السيرة النبوية.

مَن هو زيد بن حارثة؟

كان زيد شاباً سرقه قُطّاع الطرق من الأعراب وهو صغير من قافلة، وباعوه عبداً في سوق عكاظ، وقد اشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد، وقد أهدته خديجة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد زواجها منه.

ولقد دفعت سيرةُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الحسنة، وأخلاقه الفاضلة وسجاياه النبيلة زيداً هذا إلى أن يحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حباً شديداً، حتّى أنّه عندما جاء أبوه إلى مكّة يبحث عنه، وعلم بوجوده عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مشى إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وطلب منه أن يعتقه، ويعيده إليه ليعيده بدوره إلى أُمّه ويُلحقه بأقربائه، فأبى زيد إلّاالبقاء عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفضَّل ذلك على المضي مع أبيه، والعودة إلى وطنه، وعشيرته، وقد خيّره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المكث عنده أو الرحيل مع أبيه إلى وطنه.

على أنّ ذلك الانجذاب والحب كان متبادلاً بين زيد ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فكما أنّ زيداً كان يحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويحب أخلاقه وخصاله، كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحب زيداً كذلك لنباهته وأدبه حتّى أنّه أعتقه وتبنّاه، فكان الناس يدعونه زيد بن محمد بدل زيد بن حارثة، ولكي يتأكّد ذلك وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات

ص:268

يوم وقال لقريش: «يا من حَضَر إشهَدُوا أن زيداً هذا ابني»(1).

وقد بقي هذا الحبُ المتبادل بين زيد، وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أن استشهد هذا المسلم الصادق والمؤمن المجاهد في معركة مؤتة، فحزن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمصرعه كما حزن لولد من أولاده.

زيدٌ يتزوّج بابنة عمّة النبيّ

لقد كان من أهداف رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله و سلم هو أن يخفّف من الفواصل بين طبقات المجتمع وفئاته، ويقارب بينها قدر الإمكان، ليعيش البشر جميعاً تحت لواء الإنسانية والتقوى إخوةً متحابّين لاتبعد بعضهم عن بعض مقاييس الثروة والنسب، بل يكون الملاك في التفاضل هو الأخلاق الفاضلة والسجايا الإنسانية.

من هنا كان يجب التعجيل في إزالة التقاليد العربية البالية الّتي كانت تقضي بأن لا يتزوّج بنات السادة والأشراف بأبناء الطبقات الضعيفة والفقيرة.

وأي وسيلة لضرب هذا التقليد القبيح الظالم وتحقيق المساواة الكاملة أفضل من أن يبدأ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تحطيم هذا التقليد بأقربائه وذويه ليقدّم بذلك درساً عملياً للأُمّة في هذا المجال، فقام بتزويج عتيقه «زيد بن حارثة» من شريفة من بني هاشم وهي ابنة عمّته زينب بنت جحش حفيدة عبدالمطلب، ليعلم الناس أنّه يجب عليهم الإقلاع عن تلك التقاليد الجاهلية الظالمة بسرعة، ويعرفوا أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو أوّل من نفّذَ في حقّ ذويه ما كان يردّده من قوله: «لافضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى» و «إنّ المؤمن كفؤ المؤمن».

ص:269


1- . لاحظ: أُسد الغابة: 235/2. وكذا الاستيعاب والإصابة مادة: زيد.

ولأجل تحطيم ذلك التقليد الجاهليّ الخاطئ ذهب رسول اللّه بنفسه إلى منزل زينب، وخطبها لزيد، فلم تبد زينب وأخوها رغبةً في هذا الأمر في الوهلة الأُولى؛ لأنّ الأفكار الجاهلية كانت لا تزال مترسّبة في قلوبهم، ومن ناحية أُخرى كان الرد على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أمراً صعباً، ولهذا تذرّعا بعبودية «زيد» السابقة وحاولا بذلك التخلّص من مطلب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

فلم يلبثا حتى نزل قوله تعالى يشجب ردّ زينب وأخيها لطلب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

«وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً» .(1)

فتلاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليهم فوراً فدفع إيمان زينب وأخيها الصادق برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأهدافه المقدّسة إلى أن تبادر زينب إلى الإعلان عن رضاها وقالت: رضيت يا رسول اللّه، وجعلت أمرها بيد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكذلك أخوها رضي بهذا الزواج، فتزوّجت ابنة شريف قوم «زينب» بعتيق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم زيد، وبذلك طبّق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واحداً من أعظم مناهج الإسلام الحيّة، وآدابه الإنسانية الرفيعة، وحطّم عملياً واحدة من أقبح السنن الجاهلية، وأكثرها تخلّفاً وإجحافاً.(2)

زيد يطلّق زوجته

إلّا أنّ هذا الزواج لم يدم طويلاً، فقد آل إلى الطلاق، والافتراق ويعزي البعضُ ذلك إلى نفسيّة «زينب» وسلوكها الحاد حيث كانت ربما تذكر لزيد دنوّ

ص:270


1- . الأحزاب: 36.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 161/8.

حسبه، وعلوّ حسبها، ممّا يؤدّي إلى انزعاجه.

ولكن يحتمل أنّ السبب وراء هذا الطلاق كان هو زيد نفسه، فإنّ تاريخ حياته يشهد بأنّه كان يعاني من روح العزلة، وعدم الأُلفة، فقد اتّخذ أزواجاً متعدّدة وطلقهنّ (إلّا الاخيرة منهن حيث استشهد عنها وهي في حبالته) فتكون هذه الطلقات المتعدّدة دليلاً على عدم القدرة على الانسجام مع زوجاته، لحالة نفسيّة كان يعاني منها.

ويشهد بذلك أيضاً خطاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الحادّ، فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا عرف بأنّ زيداً يبغي طلاق زوجته زينب غضب وقال:

«أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللّهَ» .(1)

ولو كان الذنب كلّه ذنب زوجته زينب لما كان يُعَدُّ تطليقها عملاً مخالفاً للتقوى.

ومهما يكن فقد طلّق زيد زينباً وافترقا، ثم تزوّج بها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد ذلك.(2)

زواج النبيّ بمطلقة متبنّاه لإبطال سنة جاهلية أُخرى

ولكن قبل أن ندرس العلّة الأساسية لهذا الزواج لابد أن نلقي نظرة فاحصة إلى مسألة النسب الّذي يعدّ مقوماً مهماً من مقومات المجتمع السليم.

وبعبارة أُخرى وأكثر تحديداً لابد أن ندرس الفرق الجوهري بين الوالد الحقيقي، وبين المتبنّي.

وتوضيحاً لهذا الأمر نقول:

ص:271


1- . الأحزاب: 37.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 162/8.

كان يوجد في المجتمع العربي الجاهلي أبناءٌ لا يعرفُ لهم آباء، أو لهم آباء معروفون، وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبنّاه ويدعوه ابنه، ويُلحقُه بنسبه وتصير له حقوق البنوّة وملحقاتها.

ولمّا كان هذا شذوذاً عن الأساس الطبيعي للأُسرة أبطله الإسلام؛ وذلك لأنّ الوَلَد الحقيقي ينتمي إلى أبيه بجذور تكوينية، فالوالد هو - في الحقيقة - المنشأ المادّي لوجود ابنه، ويرث الولد من والده ووالدته الكثير من صفاتهما الجسمية والروحية، وبذلك يكون امتداداً طبيعياً لوالديه.

وعلى أساس هذه الوحدة الطبيعية، ووحدة الدّم يتوارث الآباء والأبناء، وتترتّب أحكامٌ خاصّة في مجال الزواج والطلاق، والتحليل والتحريم.

وبناءً على هذا فإنّ مثل هذا الموضوع الّذي ينشأ من جذور تكوينية واقعية، لا يُوجد أبداً باللفظ واللسان.

ولهذا قال اللّه سبحانه في الكتاب العزيز في معرض الردّ على مَن يتصوّر المتبنّى ولداً حقيقياً لمجرّد ادّعاء البنوّة:

«ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اللّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .(1)

فلا يكون الابن المتبنّى والولد الحقيقي على صعيد الموضوع سيّان أبداً،

ص:272


1- . الأحزاب: 4-5، راجع الميزان في تفسير القرآن: 290/16-291.

فكيف على صعيد الأحكام كالتوراث، والزواج والطلاق وما شابه ذلك؟

فإذا ورث الولد الحقيقي من أبيه أو بالعكس أو حُرّمت زوجة الولد الحقيقي على أبيه بعد طلاقها من زوجها لا يمكن أن نقول: إنّ الابن المتبنّى يشبهه ويشترك معه في هذه الأحكام أبداً.

ومن المسلّم به أنَّ مثل هذا التشريك في الحقوق والشؤون مضافاً إلى كونه لا يستند إلى أساس معقول وصحيح هو نوع من العبث بعامل النسب، وهو العنصر المهم في المجتمع السليم.

وعلى هذا الأساس إذا كان التبنّي بدافع العاطفة أمراً مستحسناً ومقبولاً، إلّا أنّه إذا كان بهدف إشراكه في سلسلة من الأحكام الاجتماعية الّتي هي من شؤون الولد الحقيقي وحقوقه يعدّ أمراً بعيداً وغريباً جدّاً عن المحاسبات العلمية، والأُسس الموضوعية.

ولقد كان المجتمع العربي - كما أسلفنا - يعدّ الابن بالتبنّي كالولد الحقيقي دون فرق، وقد كُلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من جانب اللّه تعالى بأن يقضي على هذا التقليد الجاهلي والسنّة الخاطئة بإجراءٍ عملي صارخ، وذلك بالتزوّج بزينب مطلَّقة متبنّاه «زيد»، ويمحي من حياة المجتمع العربي هذا التقليد القبيح بالعمل الّذي يفوق القول، ووضع القانون، في التأثير، والفاعلية. ولم يكن لهذه الزيجة غير هذا السبب.

لقد كان هذا التقليد أمراً مقدّساً في المجتمع العربي بشكلٍ كبير جدّاً بحيث لم يكن أحدٌ ليجرأ على نقضه ومخالفته والتزوّج بمطلّقة دعيّه(1) لقبحه في نظر العرب، لذلك دعا اللّه سبحانه نبيّه إلى القيام بهذا العمل الخطير، إذ قال:

ص:273


1- . الدعيّ هو الابن المتبنّى وجمعه أدعياء.

«وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النّاسَ وَ اللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً» .(1)

إنّ هذا الزواج مضافاً إلى كونه استهدِف منه تحطيم سنّة جاهليّة مقيتة (سنّة عدم الزواج بمطلّقة المتبنّى) وإعادة العلاقات العائلية إلى وضعها الصحيح، يعتبر من أقوى مظاهر المساواة في الإسلام، لأنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم تزوّج بمطلّقة عتيقه، وقد كان مثل هذا العمل مخالفاً لشؤون المجتمع يومذاك.

ولقد أثار هذا الإقدام الشجاع موجةً من الاعتراض والنقد من جانب المنافقين، وأصحاب العقول الضيّقة، فقد طُرِحَت هذه المسألة في الأوساط والنوادي وأخذوا يشنعون بها على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويقولون: لقد تزوّج محمّد بمطلّقة دعيّه.

فأنزل اللّه تعالى في الردّ على تلكم الأفكار والأقوال الباطلة قوله:

«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً» .(2)

على أنّ القرآنَ لم يكتف بهذا البيان بل امتدحَ نبيَّه الّذي نفّذ حكم اللّه بشجاعة كاملة بقوله:

«ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً * اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ

ص:274


1- . الأحزاب: 37.
2- . الأحزاب: 40.

أَحَداً إِلاَّ اللّهَ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً» .(1)

وخلاصة المفاد لهاتين الآيتين هي: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كغيره من الأنبياء يُبلّغ رسالات اللّه ولا يخالف لومَ اللائِمين، وكيد المنافقين، وإرجاف المرجفين.

هذه هي فلسفة تزوّج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بزينب بنت جحش مطلّقة دعيّه ومتبنّاه وعتيقه زيد بن حارثة في ضوء القرآن الكريم.

المستشرقون وقضية زواج النبيّ بزينب

إنّ زواج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بزينب مطلّقة زيد بن حارثة - كما لاحظت - قضيةٌ بسيطةٌ خالية عن أي إبهام أو غموض.

ولكنَّ جماعةً من المستشرقين تذرّعوا بها لإغراء البسطاء ومن شاكلهم غير الملمّين بالتاريخ الإسلامي وأرادوا بذلك إضعاف إيمان الذين لا يعرفون السيرة النبويّة حقّ المعرفة، فإنّنا يجب أن ندرس ما قالوه في هذا المجال، ونكشف للقارئ الكريم عن مواطن الدسّ والتحريف فيه.

ولا يخفى أنّ الاستعمار البغيض لم يكتف للسيطرة على بلادنا باستخدام القوّة العسكرية، والسلاح الاقتصادي؛ بل ربما دخلها متستراً بقناع العلم والتحقيق، فقد سعى - ولم يزل - لفرض أسوأ هيمنةٍ فكريةٍ شاملةٍ وتبعيّة ثقافيّة مقيتة على شعوبنا وفق تخطيط دقيق ومدروس، وهذا هو ما يُسمّى بالاستعمار الفكري، والثقافي.

وفي الحقيقة فإنّ المستشرق هو طليعة ذلك الاستعمار، بل وجيشه المتقنّع بقناع العلم والمعرفة الّذي ينفذ إلى أعماق المجتمع، ويتسلل إلى أوساط المفكّرين

ص:275


1- . الأحزاب: 38-39.

والمثقفين وينفث سمومه القاتلة، ويخدّر العقول، ويمهّد النفوس للاستعمار السافر، والمكشوف.

ويمكن أن لا يرتضي كثير من الكتّاب وعشّاق القلم والثقافة في الغرب منطقنا هذا فيعمدوا إلى رمينا بالتحجّر، والعصبيّة والتخلّف ويتصوّروا بأنّنا نقول مانقوله بدافع العصبيّة القومية أو الدينية، ولكنَّ كتاباتِ المستشرقين وإخفاءَهم المتعمَّد والكثير للحقائق، وتحريفهم ودسّهم المكشوف في تاريخ الإسلام حيناً والخفيّ حيناً آخر يشهد بوضوح أنّ دافعهم في كثير ممّا كتبوا ليس حبَّ العلم وتحرّي المعرفة، فإنّ أكثر ما كتبوه ممزوجٌ بطائفةٍ من أفكارهم المعادية للإسلام، ولرسول اللّه والمسلمين.(1)

ويشهد على هذه النزعة - بجلاءٍ ووضوحٍ - موقِفُهُم من زواج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بزينب بنت جحش وما نسجوه من قضايا خياليّة حول هذه القضية، الّتي وقعت بهدف إبطال سنةٍ باطلةٍ، فأعطوها صبغة قصص الحب وأساطير الغرام على طريقة القصّاصين والروائيّين وديدنهم، وعمدوا إلى حكاية تاريخية مختلقة وضخّموها ونفخوا فيها ونسبوها إلى أطهر إنسان عرفه العالم البشري.

وعلى كلّ حال فإنّ أساس هذه الاُسطورة عباراتٌ نَقَلَها ابنُ الأثير(2) ومن قبله الطبري(3) وبعضُ المفسِّرين، وهي أنّه: خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يريد زيداً وعلى الباب سترٌ من شعر فرفعته الريح فرآها وهي حاسرة فأعجبته!!!

ولكن المستشرقين بدل أن يتحقّقوا من سند هذه الأقوال، لم يكتفوا بنص ما

ص:276


1- . للتأكّد الأكثر مِنْ هذا الأمر، راجع: كتاب «المستشرقون».
2- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 177/2.
3- . لاحظ: جامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري): 18/22؛ إمتاع الأسماع: 209/10.

ذكره أُولئك المؤرّخون والمفسّرون، بل ألصقوا به الكثير الكثير حتّى تحوّلت تلك الجُمَل العابرة إلى قصّة تشبَهُ أقاصيص ألف ليلة وليلة.

إنّ من المؤكّد أنّ الذين يعرفون سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الطاهرة يدركون أنّ هذا التاريخ إنّما هو في أصله وفرعه من نسج الخيال، وصنع الأوهام، وإنّها تخالف ما في صفحات التاريخ النبويّ الوضّاءة النقيّة مخالفةً كاملةً، إلى درجة أنّ علماء معروفين كالفخر الرازي والآلوسي كذّبوا هذه القصّة بشكلها الّذي ذكرها ابن الأثير والطبري بصراحة كاملة وقالوا: إنّ هذه الرواية رواية باطلة زوّرها واختلقها أعداء الإسلام وراجت في كتب المؤلّفين المسلمين(1).

فكيف يمكن القول بأنّ هذه القصّة وبهذه الكيفية كانت ممّا يعتقد بصحّته ابن الأثير، والطبريّ في حين أنّ هناك العشرات ممّن نقلوا خلافها وبرّأوا ساحة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من هذه المساوئ.

وعلى أيّة حال فإنّنا نشير في الصفحات التالية إلى دلائل اختلاقِ هذا القسم من التاريخ، ونعتقد أنّ القضية في واقعها وحقيقتها واضحة جداً، وأغنى من أن ندافع عنها.

وإليك أدِلّتنا

أوّلاً: أنّ التاريخ المذكور يخالف المصدر الإسلامي الأصيل وهو (القرآن الكريم)؛ لأنّ القرآن بشهادة الآية (37) من سورة الأحزاب تصرّح بأنّ زواج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من زينب كان لأجل إبطال سنّة جاهلية باطلة، وهي السنَّة القاضية بأنّه لا يحقّ لأحد أن يتزوّج مطلّقة دعيّه، خاصّة وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فعل ذلك بأمر اللّه

ص:277


1- . لاحظ: تفسير الرازي: 212/25؛ روح المعاني: 24/22-25.

سبحانه وليس بدافع من الرغبة الشخصية، والحب الشخصي، ولم يكذّب ذلك أحدٌ في صدر الإسلام.

فإذا كان ما قاله القرآن الكريم مخالفاً للحقيقة لسارع اليهود والنصارى والمنافقون إلى نقده وتفنيده، ولأحدثوا ضجّة بسبب ذلك، في حين أنّ مثل هذا لم يُؤثَر من أعداء الإسلام الّذين كانوا يتحيّنون الفرص للإيقاع برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وتلويث سمعته.

ثانياً: أنّ «زينب بنت جحش» هي تلك المرأة الّتي اقترحت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الزواج بها قبلَ أن يتزوّج بها «زيد» ولكنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصرّ على أن تتزوّج غلامَه المعتق زيداً رغم رغبتها في الزواج من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فلو كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحبّ الزواج بها - وهو يعرفها طبعاً - لما وجد مانعاً من ذلك عندما طلبت منه الزواج بها، فلماذا لم يتزوّج بها؟ ولِمَ رفض طلبها؟

أجل، إنّه لم يتزوّج بها ولم يُجب مطلبها، بل ألحّ عليها أن تتزوّج بشخص آخر رغم إنّه أحسَّ برغبةٍ شديدة لدى زينب في الزواج منه لا من غيره.

وبعد تكذيب هذا القِسم المحرّف من التاريخ الإسلامي لا يبقى مجال لتعليقات وأوهام جنود الاستعمار وطلائعه المغرضين.

إنّنا نبرّئ ساحة رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله و سلم من أمثال هذه الترّهات والنسَب الرخيصة، ونرى أنّ ساحته المقدّسة أجلّ من أن ننقل كلمات هذا الفريق من الكتّاب المغرضين الحاقدين في حقّ نبيٍّ بقي مكتفياً بزوجة تكبره بثمانية عشر عاماً، إلى أن بلغ سن الخمسين.

من هنا نعرض عن ذكر أقوالهم.

ولا بأس بأن نذكر هنا ما كتبه جماعة من المحقّقين المصريّين الذين أشرفوا

ص:278

على طباعة «الكامل في التاريخ» لابن الأثير تعليقاً على ما أدرجه في هذا المجال:

هذه رواية باطلة زوّرها الملاحدة، واختلقها أذهان أعداء الدين الإسلامي ليطعنوا في نبي الإسلام عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وهل يُعقل: أنّه لا يعرف ابنة عمّته الّتي كان ولي زواجها إلى مولاه زيد؟ وإنّما دسائس الزنادقة، ومبشّري المسيحية قد تغلغلت في نفوس العلماء من حيث لا يعلمون، فافتكروا في رواية الخبر، فاتّخذوه أساساً، وأعرضوا عن كتاب اللّه وعن قول اللّه تعالى من أنّ اللّه أعلمه بأنّها صارت زوجه قبل أن استشاره زيدٌ في طلاقها.

والعجيب أنّ ابن الأثير مع جلالة قدره ينقل هذه الرواية المزيَّفة الّتي هي طعن صريح في رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقد قلّد في روايته هذه ابن جريرٍ قبلَهُ، وكلاهما وقع في هوّة الضلالة من حيث لا يشعر، ولو عُرضت كلُّ رواية على كتاب اللّه تعالى لما أقدم أحدٌ على مثل هذا الإفك العظيم!!

إنّ زينباً هي التي وهبت نفسها لرسول اللّه فزوّجها من مولاه، ثم تزوّجها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً» ، فإذن كان الزواجُ لأجل التشريع، وكان عمليّاً، لشدّة نفرة أهل الجاهلية من هذا الزواج من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّهم يعدّون المتبنّى ولداً صريحاً أو في مرتبته.

قال الفخر الرازي: وفيه إشارة إلى أنّ التزويج من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن لقضاء شهوة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بل لبيان الشريعة بفعله، انتهى.

ونحن نعتب عليه أيضاً إذ جعله إشارة ولم يجعله صريحاً وبما أنّ روح التقليد الأعمى قد اشتدّ بين المسلمين منذ زمن بعيد، فالحكاية الّتي أوردها المؤلّف نقلها كثير من المفسّرين غير مفكّرين بما فيها من طعن في الدين، لإفادتها

ص:279

أنّ الشريعة الإسلامية عبارة عن اتّباع أهواء أو تنفيذ شهوات تنزّهت عن ذلك كله، ويرحم اللّه السيّد الآلوسي حيث قال في تفسيره: وحاصل العتاب: لِمَ قلتَ «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» ، وقد أعلمتك أنّها ستكونُ من أزواجك وهو مطابق للتلاوة، لأن اللّه أعلم أنّه مبدئ ما أخفاه عليه الصلاة والسلام ولم يظهر غير تزويجها منه فقال: «زَوَّجْناكَها» فلو كان الضمير محبتها وإرادة طلاقها، ونحو ذلك لأظهره جلّ وعلا، وللقصّاص في هذه القصّة كلامٌ لا ينبغي أن يُجعل في حيّز القبول، انتهى.

ثم أورد الروايات المزيّفة الّتي تشبه ما أورده المؤلّف (أي ابن الأثير) محذّراً الناس منها ومن أمثالها الّتي لا تروّج إلّاعلى الحمقى والمغفلين. انتهى.(1)

توضيح عبارتين

هذا واستكمالاً للبحث، وإتماماً للفائدة ندرج نصّ الآية الّتي نزلت في هذا المجال، والّتي تسبّبت جملتان منها في إثارة الشكوك لدى بعض الجاهلين بحقائق السيرة النبويّة الزكيّة، ونعطي بعض التوضيحات اللازمة حولهما، واليك نص الآية أوّلاً: «وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللّهَ» .

وفيما يلي الجملتان اللتان تحتاجان إلى التوضيح:

«وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ» .

فماذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يُخْفي في نَفْسِهِ وقد أظهرهُ اللّهُ وأبداه بعد كلّ تلك النصيحة الّتي نصحَ بها صلى الله عليه و آله و سلم زيداً؟

ص:280


1- . راجع هامش الكامل في التاريخ: 121/2، طبعة القاهرة إدارة الطباعة المنيرية عام 1349 ه.

ربما يتصوَّر أحدٌ أنّ الأمرَ الّذي كان يخفيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو رغبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تطليق زيد زوجته زينب، أي أنّه وإن كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينهى زيداً في الظاهر عن تطليق زينب، إلّاأنّه كان في سرّه يرضى بذلك؛ بل يرغب فيه ليتسنّى له بعد ذلك أن يتزوّجها هو.

ولا شكّ أنّ هذا الاحتمال غير صحيح مطلقاً؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذا كان يبطن مثلَ هذا الأمر، فلماذا لم يبد اللّه سبحانَه نيّته هذه بآيات أُخرى، في حين أنّه سبحانه وَعَد في هذه الجملة بأن يظهرَ ما كان يخفيه رسولُ اللّه في نفسه إذ قال تعالى: «اَللّهُ مُبْدِيهِ» ؟!

ولهذا قال المفسّرون: إنّ المقصود ممّا كانَ يخفيه هو الوحيُ الإلهيُّ الّذي أنزلهُ اللّهُ عليه، وتوضيح ذلك هو: أنّ اللّه تعالى أوحى إليه بأنّ زيداً سيطلّق زوجته رغم نصيحة النبيّ، وأنّه صلى الله عليه و آله و سلم سيتزوّج بها من بعده لإبطال سنّةٍ جاهليةٍ مقيتةٍ (وهي حرمة الزواج بمطلّقة الدعيّ).

ومن هنا كانَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين نصيحته لزيد ونهيه عن تطليق زينب زوجته مُلتفتاً ومنتبهاً إلى هذا الوحي الإلهيّ أيضاً، ولكنّه أخفى هذا الوحيَ عن زيد وغيره، ولكنّ اللّه تعالى أخبر النبيَّ في نفس تلك الجملة بأنّه تعالى سيبدي للناس ما يخفيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قلبه، وأنّ الأمر لن يبقى خافياً على أحد بإخفائه صلى الله عليه و آله و سلم له.

ويشهد بهذا المعنى أنّ القرآن الكريم أظهر الأمر في ذيل نفس هذه الآية إذ قال:

«فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي

ص:281

أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً» .(1)

فمن هذا التعقيب يستفاد أنّ ما كان يُخفيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو الوحيُ الإلهيُ، بأنّه عليه أن يتزوّج بزوجة دعيّه بعد طلاقها لإبطال سنّة جاهليّة خاطئة.

وأمّا الجملة الثانية الّتي هي بحاجة إلى التوضيح فهي قوله تعالى: «وَ تَخْشَى النّاسَ وَ اللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» . غير أنّ هذا القسم من الآية هي الجملة الثانية الأقل أيّهاماً وغموضاً من الجملة السابقه بدرجات؛ لأنّ تجاهل سنّة عريقة متجذّرة في بيئة منحرفة (وهي الزواج بمطلّقة الدعيّ) يقترن - بطبيعة الحال وحتماً - بحرج نفسيّ يزول ويرتفع لدى الأنبياء بتوجّههم إلى الأمر الإلهي. وإذا كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعاني من حرج نفسيٍّ شديد من هذه القضيّة فإنّما هو لأجل أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يتصوّر أنّ جماعة العرب الذين لم يكن عهدهم بالإسلام طويلاً، لم يمرّ على انقطاعهم عن عاداتهم وتقاليدهم الجاهلية سوى زمن قصير سيقولون: إنّ النبي ارتكب عملاً سيّئاً، والحال أنّ الأمر ليس كما يعتقدون.

قال العلّامة الطباطبائي في هذا الصدد: قوله: «لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً» تعليل للتزويج وبيان مصلحة للحكم. وقوله: «وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً» مشيرٌ إلى تحقّق الوقوع وتأكيد للحكم.

ومن ذلك يظهر أن الّذي كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يخفيه في نفسه هو ما فرض اللّه له أن يتزوّجها لا هواها، وحبّه الشديد لها وهي بعدُ مزوَّجة كما ذكره جمع من المفسّرين، واعتذروا عنه بأنّها حالة جبليّة لا يكاد يسلم منها البشر، فإنّ فيه أوّلاً:

منع أن يكون بحيث لا يقوى عليه التربية الإلهية. وثانياً: أنّه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه وإخفائه في نفسه فلا مجوّز في الإسلام لذكر حلائل الناس والتشبّب

ص:282


1- . الأحزاب: 37.

بهن(1).

ولما كانت المسألة مسألة وضع قانون جديد لهذا مضى القرآن الكريم يؤكّدها ويزيل عنصر الغرابة عنها فقال تعالى:

«ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً * اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً * ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً * يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً * وَ داعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً * وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللّهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً» .(2)

ففي هذه الآيات إشارة إلى:

1. أنّ ما قام به النبي من التزوّج بزينب كان بأمر اللّه، وكان على سبيل سنّ قانون وتشريع سنّة ولكن بصورة عملية، وإنّ ذلك القانون علم اللّه ضرورته وقدره وزمانه ومكانه.

2. أنّ زيداً ليس ابن محمّد صلى الله عليه و آله و سلم إنّما هو متبنّاه ودعيّه، بل هو ابن والده حارثة واقعاً وحقيقة، وليس ذلك إلّاتقريراً وتأكيداً للحقيقة الّتي سبقت الإشارة إليها في قوله تعالى: «وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» .

ص:283


1- . الميزان في تفسير القرآن: 323/16.
2- . الأحزاب: 38-48.

3. أنّ ما قام به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من التزوّج بمطلّقة متبنّاه هو جزء من تشريعه الّذي يشرّعه بأمر اللّه وإذنه تعالى لتسير عليه البشرية، وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض، لا أنّه أمر واقع بدافع شخصي.

4. إنّ اللّه هو الّذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية وما يصلحها، وهو الّذي فرض على النبيّ ما فرض ليحلّ للناس أزواج أدعيائهم إذا ما قضوا منهن وطراً وانتهت حاجتهم منهن وأطلقوا سراحهن. قضى اللّه هذا وفق علمه بكلّ شيء، ومعرفته بالأصلح والأوفق من النظم والشرائع. 5. أنّ ما سنّه اللّه للمسلمين وما اختارهُ تعالى للأُمّة الإسلامية في مجال العلاقات العائلية يريد بها الخير والخروج من الظلمات إلى النور، فعليهم أن يذكروه ويشكروه أبداً ودائماً، فإنّه سيكون لهم - لو أطاعوه وسبّحوه وذكروه - شأنٌ في الملأ الأعلى فهو يصلّي عليهم وملائكته، ويذكرهم هناك، بالخير، وإنّما يفعل كلّ هذا من منطلق الرحمة والعناية بهم.

6. أنّ وظيفة النبي صلى الله عليه و آله و سلم في المسلمين هي (الشهادة) عليهم، فليحسنوا العمل، وهي (التبشير) لهم بما ينتظر العاملين من رحمة وغفران، و (الإنذار) للغافلين المسيئين بما ينتظرهم من عذاب ونكال، و (الدعوة إلى اللّه) لا إلى دنيا أو مجد أو عزة قومية أو عصبيّة جاهلية، وذلك بإذن اللّه فما هو بمبتدع، ولا بقائل من عنده شيئاً.

7. أنّ على النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يبشّر المؤمنين المطيعين لأوامر اللّه بأنّ لهم فضلاً كبيراً، ولا يطيع الكافرين، والمنافقين، وألّا يحفل بأذاهم له وللمؤمنين، وأن يتوكّل على اللّه وحده وهو بنصره كفيل، وهو يوحي بأنّ المنافقين أرجفوا بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم في هذه القضية، إرجافاً عظيماً.

ص:284

وكلّ هذه الأُمور توحي بأنّ تغيير تلك السنّة الجاهلية (عدم الزواج بمطلّقة المتبنّى) كانت عملية صعبة فاحتاجت إلى كلّ هذا التعقيب، وبالتالي تثبيت اللّه للنفوس فيه، كي تتلقّى ذلك الأمر بالرضى والقبول والتسليم، وهذا هو الحال عند سنّ القوانين المهمّة والخطيرة.

ص:285

38 غزوة الأحزاب

اشارة

38 غزوة الأحزاب(1)

لقد قاد رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السنة الخامسة مجموعة من الغزوات، كما وبعث سلسلة من السرايا لإفشال المؤامرات الّتي كانت في طور الانعقاد أو التكوين أو الّتي كانت محتملة من جانب العدو.

واليك فيما يأتي بعض غزوات السنة الخامسة:

1. غَزوة دُومة الجندل

(2)

بلغ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ بدومة الجندل جمعاً كثيراً وأنّهم يظلمون من مرّ بهم من المسافرين والتجّار، وأنّهم يريدون أن يدنوا من المدينة، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار أخذاً بعنصر الاستتار والسِّرّية على عادته.

ص:286


1- . ذكر ابن هشام في سيرته: 699/3 أنّ هذه الغزوة وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة، وحيث إنّ غزوة الأحزاب انتهت في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة، وطالت محاصرة المدينة شهراً واحداً لذلك يجب أن نقول إنّ هذه المعركة بدأت منذ الرابع والعشرين من شهر شوال تقريباً.
2- . المغازي: 402/1؛ السيرة النبوية لابن هشام: 699/3. ودومة الجندل منطقة بين دمشق والمدينة (الطبقات الكبرى: 44/2).

ولمّا دنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من دومة الجندل وعرفت به تلك الجماعة تفرّقوا من فورهم فلم يجد صلى الله عليه و آله و سلم بها أحداً، فأقام بها أيّاماً وبثّ السرايا والدوريّات وفرّقها حتّى غابوا عنه يوماً ثم رجعوا إليه ولم يصادفوا من تلك الجماعة أحداً.

ثم إن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عاد إلى المدينة في العشرين من شهر ربيع الثاني، من دون أن يقاتل(1).

***

2. غزوة الخندق (الأحزاب)

اشارة

أجلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يهود بني النضير في السنة الرابعة من الهجرة كما قلنا بسبب نقضهم للميثاق، وسيطر على قسم من أموالهم وممتلكاتهم، واضطرّت بنو النضير إلى أن تذهب إلى «خيبر» وتسكن هناك، أو تسير إلى الشام.

وقد كان إجراء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هذا متطابقاً مع ما جاء في الميثاق المعقود بينه وبين يهود يثرب.

وقد دفع هذا الإجراء بسادة بني النضير وزعمائهم إلى التآمر ضدّ الإسلام، فقدموا مكّة، وحرّضوا قريشاً على حرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وإليك مفصّل هذه الغزوة:

عَبّأ المشركون العربُ، واليهودُ قواهم في هذه المعركة ضدّ الإسلام.

فقد شكّلوا اتّحاداً عسكريّاً قوياً وحاصرّوا المدينة مدّة شهر واحد، وبما أنّ أحزاباً مختلفة اشتركت في هذه المعركة سُمّيت هذه المعركة بمعركة الأحزاب، وربما سُمّيت بمعركة «الخندق»؛ لأنّ المسلمين حفروا حول المدينة خندقاً عظيماً،

ص:287


1- . لاحظ: المغازي: 402/1؛ إمتاع الأسماع: 201/1-202.

دفاعاً عنها، ومنعاً للكفّار عن اجتياحها.

ولقد كان زعماء بني النضير وبني وائل - كما أسلفنا - هم المحرّكون الأصليّون لهذه الحرب، والمشعلون الرئيسيون لفتيلها.

فإنّ الضربة القوية الّتي تلقّاها يهود بني النضير من المسلمين، والّتي اضطرّوا على أثرها إلى مغادرة المدينة، فسكن بعضهم خيبر، دفعهم إلى أن يخطّطوا بصورة جهنّمية ودقيقة لاستئصال شأفة الإسلام والقضاء عليه. وإنّها لخُطّة عجيبة حقّاً، فقد جعلوا المسلمين يواجهون طوائف متعدّدة وأحزاباً مختلفة لم يعرف لها تاريخ العرب مثيلاً!!

كما أنّ في هذه الخطّة كان اليهود هم أنفسهم المموّلون الأساسيّون لطوائف العرب العديدة، فقد أمدّوهم بأموال كثيرة، وهيّأوا كلّ ما يحتاجون إليه من حاجات ومعدّات!!

وكانت الخطة كالتالي: قدم جماعة من سادة بني النضير مثل «سلام بن أبي الحقيق» و «حيي بن أخطب» في نفر من بني النضير على قريش مكّة، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالوا: نحن معكم حتى نستأصل محمداً. قال أبو سفيان:

هذا الذي أقدمكم ونزعكم؟ قال: نعم جئنا لنحالفكم على عداوة محمَّد وقتاله.(1)

وقال حيي بن أخطب: إنّ محمَّداً قد وتركم ووترنا وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا، وأجلى بني عمّنا بني قينقاع، فسيروا في الأرض، وأجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتّى نسير إليهم، فإنّه قد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة، وبينهم وبين محمّد عهد وميثاق، وأنا أحملهم على نقض العهد بينهم وبين

ص:288


1- . المغازي: 441/1-442.

محمّد ويكونون معَنا عليهم، فتأتونه أنتم من فوق وهم من أسفل.(1)

فأثّرت كلماتُ اليهود وما قاله «حييُ بن أخطب» في نفوس المشركين الحانقين على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأصحابه، واستحسنوا خطّتهم، وأبدوا استعدادهم للخروج إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقتاله. ولكنّهم قبل أن يوافقوا اليهود على ذلك الرأي سألوهم قائلين: يا معشر اليهود إنّكم أهلُ الكتاب الأوّل، والعلم، أخبرونا عمّا أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمّد، أفديننا خير أُمّ دين محمَّد؟

ويجب أن نرى الآن بما أجابت هذه الطائفة (الّتي كانت ولا تزال تعدّ نفسها حاملة لواء التوحيد، الوحيدة في العالم) أُولئك المشركين الجهلة الذين وصفوا اليهود بالعلم والمعرفة، وطلبوا منهم حلّ مشكلتهم؟! أجل لقد قال اليهود بوقاحة كبيرة: بل دينكم خيرٌ من دينه، وأنتم أولى بالحقّ، إنّكم لتعظّمون هذا البيت، وتقومون على السقاية، وتنحرون البُدن، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم، فأنتم أولى بالحقّ منه!!!(2).

ولقد أضافت اليهود بهذه الإجابة الوقحة وصمة عار أُخرى إلى سجلّهم الأسود، وزادوا تاريخهم المشؤوم سواداً، وسوءاً.

ولقد كانت هذه الغلطة فضيعة، وقبيحة إلى درجة أنّ الكتّاب اليهود تأسّفوا لوقوعها، في ما بعد.

فهذا هو الدكتور إسرائيل ولفنسون يكتب في كتابه: (تاريخ اليهود في بلاد العرب) حول هذا الموقف المشين جداً قائلاً: «كان من واجب هؤلاء ألّا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وألّا يصرّحوا أمام زعماء قريش بأنّ عبادة الأصنام

ص:289


1- . بحار الأنوار: 217/20.
2- . لاحظ: السيرة الحلبية: 629/2.

أفضل من التوحيد الإسلامي ولو أدّى بهم الأمر إلى عدم اجابة مطالبهم، لأنّ بني إسرائيل الذين كانوا لمدّة قرون حاملي راية التوحيد في العالم... كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكلّ عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين، هذا فضلاً عن أنّهم بالتجائهم إلى عبدة الأوثان إنّما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة»(1).

وفي الحقيقة أنّ هذا المنطق هو الّذي يتوسَّل به الساسة المادّيّون اليوم لإنجاح مقاصدهم، وتحقيق مآربهم. فهم يعتقدون - بكلّ جدّ - أنّ عليهم - لتحقيق أهدافهم - التوسّل بكلّ وسيلة ممكنة، مشروعة كانت أو غير مشروعة، وهذه هي مقولة «الغاية تبرر الوسيلة» الّتي طرحها ميكافيلي، وبالتالي فإنّ «الأخلاق» في منظور هذه الجماعة هو ما يخدم مصالحهم ويحقّق أغراضهم ليس إلّا.

إنّ القرآن الكريم يتحدّث عن هذه الواقعة المرّة فيقول:

«أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» .(2)

ولقد ترك كلام أدعياء العلم والدين هؤلاء، أثراً عجيباً في نفوس المشركين وعبدة الأوثان، فأظهروا موافقتهم على خطّة اليهود الجهنّمية وهو تأليف جيش من قبائل متعدّدة لمقاتلة المسلمين وحدّدوا معهم موعداً للتوجّه إلى المدينة، لتحقيق ذلك الغرض المشؤوم.

فخرج مثيرو الفتنة ومشعلو الحرب (اليهود) من مكّة بقلوب مملوءة سروراً،

ص:290


1- . حياة محمّد: 329؛ التفسير الوسيط للسيد طنطاوي: 182/3.
2- . النساء: 51-52.

وغبطة، وساروا إلى نجد، ليتّصلوا بقبيلة غطفان - وكانت من أعدى أعداء الإسلام - فاستجلبوا موافقة قبائل غطفان: بني فزار، وبني مرّة، وبني اشجع، شريطة أن يعطونهم تمر خيبر، لمدة سنة، بعد الانتصار على المسلمين، ولكن تحرّكات قريش في مجال ضمّ القبائل إلى ذلك الجيش لم تنته إلى هذا الحدّ، فقد راسلت قريشٌ حُلفاءها من بني سليم، وراسلت غطفان حلفاءها من بني أسد، ودعوهم إلى المشاركة في هذه الحرب، فاستجابت لهم تلك القبائل، وتحرّكت جميع هذه الفئات والأحزاب في جيش كبير هائل قدمت عناصره من مختلف نقاط الجزيرة، نحو المدينة في يوم معيّن وهي تبغي اجتياح مركز الإسلام واستئصال شأفته!!(1)

استخبارات المسلمين ترفع تقريراً للقيادة

منذ أن سكن رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة كان يبعث بجواسيسه وعيونه النشطين الأذكياء إلى مختلف مناطق الجزيرة، لتقصّي الأخبار ومراقبة الأوضاع، وإخبار النبي صلى الله عليه و آله و سلم بكلّ ما يحصلون عليه في هذا المجال أوّلاً بأوّل.

فقدم أحدهم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره بخروج تلك القوة الكبيرة ومسيرها إلى المدينة، وبهدفها، وتاريخ خروجها، ووصولها إلى مشارف يثرب.

فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصحابه فوراً وأخبرهم خبر عدوّهم، وشاورهم في الأمر، ليستفيدوا من تجارب «أُحد»، فاقترح جماعة منهم أُسلوب التحصّن، والقيام بالدفاع من داخل القلاع والحصون، ولكن هذا العمل لم يكن كافياً لأن جيش العدوّ كان كثيفاً وكبيراً جدّاً وكان من المحتمل بقوَّة أن تقوم عناصره الكثيرة، الكبيرة في عددها بهدم الحصون والقلاع، والقضاء على المسلمين، فلابد إذن من

ص:291


1- . لاحظ: المغازي: 442/2-443.

اتّخاذ وسيلة تمنع العدوّ من الاقتراب إلى المدينة أصلاً.

فقال سلمان الفارسي الّذي كان عارفاً بفنون القتال عند الفرس معرفة كاملة:

يا رسول اللّه إنّا إذ كُنّا بأرض فارس، وتخوّفْنا الخيل، خَنْدَقْنا علينا، فهَلْ لك يا رسول اللّه أَنْ نخندقَ؟(1)

وفي رواية أُخرى أنّه قال: يا رسول اللّه نَحفر خندقاً يكون بيننا وبينهم حجاباً، فيمكنك منعهم في المطاولة، فلا يمكنهم أن يأتونا من كلّ وجه، فإنّا كنّا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق فيكون الحرب من مواضع معروفة، (أي محدودة).(2)

فأعجب رأي سلمان المسلمين جميعاً، وكان لهذا التكتيك أثرٌ جوهري وبارز جدّاً في حفظ الإسلام وصيانة المسلمين.

ومن الجدير بالذكر أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم خرج بنفسه يدرس المنطقة ميدانياً ولكي يحدّد المنطقة الّتي يمكن أن ينفذ من خلالها العدو فقرّر أن يحفروا الخندق من ناحية «أُحد» إلى «راتج» وكان سائر المدينة مشبك بالبنيان والنخيل لا يتمكّن العدو منها، وعلّم الموضع الّذي يجب أن يحفر بخط خطّه على الأَرض.

ولكي يتمّ هذا الأمر بنظام وسرعة جعل على كلّ عشرين خطوة، وثلاثين خطوة جماعة من المهاجرين والأنصار يحفرونه، فحملت المساحي والمعاول، وبدأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين بنفسه، وعلي عليه السلام ينقل التراب من الحفرة حتّى عرق رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعيي(3) وهو يقول:

ص:292


1- . المغازي: 445/1، تاريخ الطبري: 234/2.
2- . بحار الأنوار: 218/20.
3- . وجاء في تاريخ الخميس: 489/1 أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان ينقل التراب حتّى اغبرَّ بطنه.

«لا عَيشَ إلّاعيش الآخرة، اللَّهم اغفر للأنصار والمهاجرة».(1)

وقد كشف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعمله هذا عن جانب من نهج الإسلام وأُسلوبه، وفي ذلك تنشيط الأُمّة وتقوية لعزائمهم في مجال القيادة وأخلاق القائد، وأفهم المجتمع الإسلامي أنّ على القائد الإسلاميّ، وعلى إمام الأُمّة أن يشارك الناس في آلامهم كما يشاركهم في آمالهم ويسعى أبداً إلى التخفيف عن كاهلهم بمشاركته العملية في الأعمال، ولهذا لمّا نظر الناس إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحفر نشطوا واجتهدوا في الحفر، ونقلوا التراب، ولمّا كان اليوم الثاني بكّروا في العمل، وكان ذلك النشاط العظيم عاملاً في أن يندفع يهود بني قريظة أيضاً إلى مساعدتهم فأعاروهم المساحي والفؤوس والأوعية الكبيرة لنقل التراب(2).

وكان المسلمون يومئذ يعانون من نقص وضيق شديدين في المواد الغذائية، ومع ذلك كان أصحاب المكنة والثراء من المسلمين يمدُّونهم بالطعام وغيره(3).

وربّما عرضت للمسلمين وهم يحفرون في الخندق صخرة عظيمة عجزوا عن كسرها وإزالتها، فأخبروا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك فأخذ معولاً فكسرها وأزالها.

أمّا طول الخندق فكان بالنظر إلى عدد العاملين في حفرها - وقد كان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف حسب المشهور، وكان كلّ عشرة يحفرون (40) ذراعاً - هو (12000) ذراع أي ما يقارب خمس كيلومترات ونصف الكيلومتر، وأمّا

ص:293


1- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 268/2.
2- . السيرة الحلبية: 311/1.
3- . السيرة الحلبية: 312/1.

العرض فكان بحيث لا يقدر الفرسان الماهرون من عبوره بالقفز بأفراسهم، فيكون عرضه بطبيعة الحال ما يقارب خمسة أمتار وعمقه خمسة أمتار أيضاً.

القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان

عندما قسَّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المهاجرين والأنصار جماعات جماعات، وأوكل إلى كلّ جماعة حفر موضع من الخندق، تنافس الناس يومئذ في سلمان الفارسي وأراد كلٌّ أن يضمّه إلى صفّه، فقال المهاجرون: سلمان منّا، وقالت الأنصار: سلمان منّا ونحن أحقّ به!!

فبلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قولهم فقال قولته الخالدة في شأن سلمان يومذاك:

«سلمانُ منّا أهل البيت»(1).

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقي إلى جانب الخندق ستة ليال بأيّامها حتّى فرغ المسلمون من عمل الخندق، غير أنّ المنافقين تخاذلوا في هذه القضيّة وكانوا يتذرّعون بأعذار مختلفة ليتملّصوا من العمل في الخندق، وربما كانوا يَذهبون إلى منازلهم من دون أن يستأذنوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

أمّا المؤمنون الصادقون فكانوا يعملون باستمرار، وإذا ما احتاجوا إلى الذهاب إلى منازلهم أحياناً، أو جدَّ لهم عذرٌ استأذنوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأذن لهم ثم عادوا إلى الخندق فوَر أن يرتفع عذرهم، وقد ذكر القرآن الكريم هذه القضية في سورة النور، إذ يقول تعالى:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا

ص:294


1- . المغازي: 446/1؛ الكامل في التاريخ: 179/2.

اِسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .(1)

مقاتلو العرب واليهود يحاصرون المدينة

وتتابعت أرتال الجيش المشرك على منطقة «أُحد» وعلى مقربة من الخندق الّذي كان قد تمّ إنجازه قبل ستة أيام وقد كان الكفّار ومَن لفّ لفَّهم يتوقّعون أن يلتقوا جنود الإسلام عند جبل «أُحد»، ولكنّهم لم يلقوا أحداً منهم هناك فتقدّموا نحو المدينة حتّى وصلوا إلى الخندق، فلما نظروا إلى الخندق الّذي كان أشبه بحصن منيع يحفظ المدينة من الخطر، فوجئوا به وقالوا: هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك إنّ هذا من تدبير الفارسي الّذي معه.

العدد الدقيق لقوّات الطرفين

كان جيش العرب لا يتجاوز في عدده عشرة آلاف، وقد استقروا خلف الخندق وسيوفهم تلمع وهي تخطف بلمعانها الأبصار!

وكان عدد المشاركين في هذا الجيش من قريش وحدها - على رواية المقريزي في الإمتاع - (4 آلاف) مقاتل، معهم (300) فرس و (1500) بعير.

وقد التحق بهم بنوسليم - وهم من حلفاء قريش - في (700) رجل في مرّ الظهران، وكان من قبيلة بني فزارة (1000) مقاتل، ومن قبائل أُخرى، مثل اشجع

ص:295


1- . النور: 62-63.

وبني مرّة كلّ واحد منهما (400) مقاتل، والباقي وهم ما يقارب (3500) مقاتل من بقية القبائل، وعلى هذا الأساس لم يكن المجموع ليتجاوز عشرة آلاف، وقد استقرّوا جميعاً في مكان واحد.

وأمّا عدد المسلمين فكان لا يتجاوز ثلاثة آلاف، وقد نزلوا في سفح جبل سلع وهو موضع مرتفع، مشرف على الخندق وخارجه، إشرافاً كاملاً بحيث يمكن معه مراقبة جميع تحرّكات العدوّ ونشاطاته منه.

وقد وكّل النبي صلى الله عليه و آله و سلم جماعة من أصحابه بحفظ الممرّات ونقاط العبور على الخندق ومراقبة تحرّكات العدوّ، ورصد عناصره. وبذلك كان المسلمون يملكون متراساً قوياً طبيعياً، وغير طبيعي، إذ أنّ سائر المدينة كان مشبكاً بالبنيان، والنخيل كما أسلفنا.

لقد حاصر الكفّار «المدينة» ما يقرب من شهر واحد، ومكثوا خلف الخندق متحيّرين، ولم يستطع أن يعبر منهم الخندق إلّاأفراد معدودون، فمَن كان يفكّر في العبور رماه المسلمون بالحجارة، فولّى هارباً!!

وللمسلمين في هذه الفترة قصص جميلة ومواقف رائعة مع عناصر الجيش العربي المعتدي ذكرتها صحائف التاريخ الإسلامي في مواضعها(1).

خطر البرد، وتناقص الغذاء والعلف

صادفت غزوة الخندق فصل الشتاء وكانت المدينة قد أُصيبت في تلك السنة بقلّة الغيث، ولذلك كانت تعاني من نقص في الطعام.

كما أنّ طعام المشركين لم يكن هو الآخر يكفي لمدة طويلة، ولم يكن أحد

ص:296


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 702/3-704.

منهم يتصوّر أنّ عليه أن يمكث خلفَ الخندق مدة شهر واحد، بل كان المشركون - جميعاً - يرون - بادئ الأمر - أنّهم سيقضون بهجوم واحد واسع، على جنود الإسلام ويجتاحون المدينة، ويستأصلون المسلمين!!

ولقد أدرك مثيرو هذه الحرب العدوانية (اليهود) هذه المشكلة بعد أيام، فقد عرفوا بأن مضيّ الزمان سيقلّل من مقدرة سادة الجيش العربي وقادته على مقاومة القرّ، وقلّة العلف وتناقص الطعام، ومن هنا فكّروا في الاستعانة بيهود بني قريظة داخل المدينة، ليشعلوا فتيل الحرب من داخل المدينة، وبذلك يمهِّدوا السبيل لجيش العرب لِغزو المدينة، واجتياحها من الخارج!!

حيي بن أخطب يدخل حصن بني قريظة

كان بنو قريظة الطائفة اليهودية الوحيدة الّتي بقيت في المدينة تعايش المسلمين في سلام وأمن، وكانوا يحترمون الميثاق الّذي عقدوه مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم، احتراماً كاملاً.

فرأى «حُييُّ بن أخطب» أنّ طريق الانتصار يتوقّف على الاستعانة بمَن في داخل المدينة لصالح المعتدين العرب، وذلك بأن يدعو يهود بني قريظة إلى نقض العهد الّذي عاهدوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم به، ليشعل بذلك حرباً بين المسلمين ويهود بني قريظة ويشغل المسلمين بفتنة داخلية، وبذلك يمهّد لانتصار المشركين الذين يحاصرون المسلمين خلف الخندق.

وانطلاقاً من هذه الفكرة أتى «حُييُّ» إلى حصن بني قريظة ودقّ عليهم الباب وعرّف نفسه، فأمر رئيس بني قريظة «كعب بن الأسد» بأن لا يفتحوا له الباب ولكنّه أصرّ، وقال: ما يمنعك من فتح الباب إلّاجشيشتك (أي خبزك) الّذي في التنور تخاف أن أُشاركك فيها فافتح فإنَّك آمِنٌ من ذلك. فأثارت تلك الكلمات الجارحة

ص:297

حميّة كعب فأمر بأن يفتحوا له باب الحصن، ففتحوا له، فدخل مثير الحرب المشؤوم «حييّ» وقال لكعب: يا كعب لقد جئتك بعزّ الدهر، هذه قريش في قادتها وسادتها مع حلفائهم من كنانة، وهذه فزارة مع قادتها وسادتها، وهذه سليم وغيرهم، ولا يفلت محمَّد وأصحابُه من هذا الجمع أبداً وقد تعاقدوا وتعاهدوا ألّا يرجعوا حتّى يستأصلوا محمَّداً ومن معه، فانقض العهد بينك وبين محمَّد، ولا تردَّ رأيي.

فأجابه كعب قائلاً: لقد جئتني - واللّه - بذلّ الدهر، وبسحاب يبرق ويرعد وليس فيه شيء، وأنا في بحر لجي لا أقدر على أن أريم داري ومالي معي، والصبيان والنساء، إنّي لم أرَ مِن محمَّد إلّاصدقاً ووفاء فارجع عنّي، فإنّه لا حاجة لي فيما جئتني به.

ولكن حيّي بن أخطب لم يزل يراوض كعباً ويخاتله ويلحّ عليه كما يفعل صاحب الجمل الجامح الّذي يستصعب عليه، حتّى أقنعه بنقض عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهيّأه لذلك، فقال: أنا أخشى أن لا يقتل محمَّد وتنصرفَ قريشٌ إلى بلادها، فماذا نفعلُ حينذاك؟ فوعده حيي أن يدخل معه حصنهُ ليصيبه ما أصابه إن لم يُقتل محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم.

فقال كعب: دَعني أُشاور رؤساء اليهود، فدعا رؤساء اليهود وشيوخهم، وخبرهم الخبر، وحيي حاضرٌ، وقال لهم كعبٌ: ما ترون؟ فقالوا: أنت سيدنا، والمطاع فينا، وصاحب عهدنا وعقدنا، فإن نقضت نقضنا معك وإن أقمت أقمنا معك، وإن خرجت خرجنا معك.

فقال «الزبير بن باطا» وكان شيخاً كبيراً مجرّباً قد ذهب بصره: قد قرأت في التوراة الّتي أنزلها اللّه في سفرنا يبعث نبيّاً في آخر الزمان، يكون مخرجُه بمكّة،

ص:298

ومهاجرُه في هذه البحيرة... يبلغ سلطانه منقطع الخفِّ والحافر، فإن كان هذا (أي محمَّد) هو فلا يهولنّه هؤلاء ولا جمعهم، ولو ناوى على هذه الجبال الرواسي لغلبها.

فقال أخطب من فوره: ليس هذا ذاك، ذلك النبيُ من بني إسرائيل، وهذا من العرب من ولد إسماعيل، ولايكونوا بنو إسرائيل أتباعاً لولد إسماعيل أبداً، لأنّ اللّه فضّلهم على الناس جميعاً وجعل فيهم النبوة والملك، وليس مع محمَّد آية، وإنّما جمعهم جمعاً وسحرهم!!

ولم يزل يقنّع بهم، ويقلِّبهم عن رأيهم، ويلحُّ عليهم حتّى أجابوه، ورضوا بأن ينقضوا العهد الّذي بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فقال: أخرجوا الكتاب الّذي بينكم وبين محمَّد، فأخرجوه، فأخذه و مزقه، وقال: قد وقع الأمر، فتجهَّزوا وتهيّأوا للقتال، وبذلك جعلهم أمام الأمر الواقع الّذي ظنوا أنّه لا مفرَّ منه!!(1)

النبي يعرف بنقض بني قريظة للعهد

بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق جواسيسه الأذكياء نقضُ بني قريظة للعهد، في مثل ذلك الظرف الحسّاس، فغمّه غمّاً شديداً. فأمر مِن فوره «سعد بن معاذ» و «سعد بن عبادة» - وكانا من خيرة رجاله الشجعان ومن قادة جيشه الممتازين، كما أنّهما كانا رئيسي الأوس والخزرج - بأن يحصلا له على معلومات دقيقة عن هذا الحادث، وأسبابه وملابساته، وأنّه إذا كان هناك خيانة ونقض للعهد فعلاً أن يخبّراه وحده فقط ولا يخبّرا أحداً به ويقولا: عضل والقارة، لكيلا يفتَّ ذلك أعضادَ

ص:299


1- . لاحظ: المغازي: 456/1؛ سيرة ابن هشام: 705/3-706؛ بحار الأنوار: 221/20-223.

المسلمين ولا يضعف من معنوياتهم، وأمّا إذا لم تكن هناك خيانة، فيكذّبا الأمر بصراحة.

فذهب الرجلان، واقتربا إلى حِصن بني قريظة، فأشرف عليهما كعبٌ من داخل الحصن، فشتم سعداً وشتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وبذلك أظهر نقضه للعهد والميثاق فأجابه سعد - بإلهام غيبي -: إنّما أنت ثعلب في جحر، لتولَّيَنَّ قريشٌ، وليحاصرنَّك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولَيُنزلنك على الصغر والقمأ (أي الذلّ) وليضربنَّ عنقك.

ثم رجعا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالا له: عضل والقارة. فكبّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال برفيع صوته: «أبشروا يا معشر المسلمين بنصر اللّه وعونه»(1).

وهذه العبارات تكشف عن مبلغ شجاعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعمق سياسته، فقد قالها لكي لا تضعف معنوية المسلمين، ولا يتملّكهم الخوف إذا سمعوا بنقض بني قريظة للعهد، وهم في تلك الظروف الحرجة الشديدة أحوج ما يكونون إلى المعنويات العالية، والإحساس بروح النصر.

تجاوزات بني قريظة الأوّلية

كانت الخطّة المبدئية لبني قريظة تقضي بأن يبدأوا عملهم الخياني بالإغارة على المدينة، وإرعاب النساء و الأطفال الموجودين في البيوت و المنازل، وقد نفذت مراحل من هذه الخطّة تدريجاً!!

فقد أخذ بعض صناديد بني قريظة يحومون حول بيوت المسلمين الّتي فيها أطفالهم ونساؤهم بصورة مشبوهة!!

ص:300


1- . لاحظ: المغازي: 459/1؛ بحار الأنوار: 223/20.

كانت «صفية بنت عبدالمطلب» عمّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في فارع، حصن حسان بن ثابت قالت: وكان حسان بن ثابت معنا فيه، مع النساء والصبيان، فمرّ بنا رجل من يهود. فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول صلى الله عليه و آله و سلم، وليس بيننا وبينهم أحدٌ يدفع عنّا، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمون في نحور عدوّهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت، فقلت: يا حسّان: إنّ هذا اليهوديّ كماترى يُطيف بالحصن، وإنّي واللّه ما آمنه أن يدلّ على عورتنا مَن وراءه مِن يهود، وقد شُغل عنّا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأصحابه، فأنزل إليه فاقتله، قال: يغفراللّه لك يا بنة عبدالمطلب واللّه لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت: فلمّا قال لي ذلك، ولم أر عنده شيئاً، احتجزت(1) (أي شددت وسطي) ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتّى قتلته، فلمّا فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسّان أنزل إليه فاسلبه فإنّه لم يمنعني من سلبه، إلّاأنّه رجلٌ، فقال حسّان:

مالي بسلبه حاجة يابنة عبدالمطلب!!(2).

ولمّا بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق عيونه على اليهود أنّهم نقضوا ما بينه وبينهم من العهد وأنّهم طلبوا من قريش ألف رجل ومن غطفان ألف رجل ليغيروا على المدينة عبر حصن اليهود، وكان ذلك في ما كان المسلمون منشغلين بحراسة الخندق، فعظم بهذا الخبر البلاء وصار الخوف على الذراري أشد من الخوف على أهل الخندق، بعث النبي صلى الله عليه و آله و سلم مسلمة بن أسلم وزيد بن حارثة في خمسمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير تحفظاً على الجواري، من بني قريظة(3).

ص:301


1- . وفي رواية: اعتجرت.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 711/3.
3- . لاحظ: المغازي: 460/1.
الإيمانُ في مواجهة الكفر

لقد خاض المشركون حروباً عديدة ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل معركة الأحزاب، ولكن العدوّ في جميع تلك المعارك والحروب كان من طائفة أو قبيلة واحدة، ولم يكن من عموم الجزيرة العربية، ومن عموم القبائل، أي الإسلام لم يواجه في تلك الحروب والوقائع عدواناً شاملاً من سكان الجزيرة.

وحيث إنّ أعداء الإسلام رغم الجهود الكبيرة لم ينجحوا في القضاء على الحكومة الإسلامية الفتيّة، قرّروا هذه المرّة أن يستأصلوا الإسلام عن طريق اتّحاد عسكري عريض، يضم كلّ قبائل الجزيرة العربية المشركة، ويرموا المسلمين بآخر سهم في جعبتهم، من هنا عمدوا إلى تعبئة أكبر قدر من المقاتلين، واستصرخوا أكبر قدر من القبائل وتحرّكوا في جمع لم يعرف له تاريخ العرب والجزيرة من نظير نحو المدينة لتحقيق ذلك الهدف المشؤوم. ولولا تدبير المسلمين للدفاع عن المدينة لحقق العدوّ الحاقد أهدافه.

ولهذا جلب أعداء الإسلام معهم أكبر صنديد من صناديد العرب، وأشهر بطل من أبطالهم ورأسوه عليهم، وهو عمرو بن عبد ود العامري ليشدُّوا به أزرهم، ويحقّقوا بسببه ما كانوا يأملونه من الظفر.

وعلى هذا الأساس كانت معركةُ الأحزاب مواجهة كاملة بين كلّ الكفر وكلِّ الإيمان، وخاصّة عندما تبارز بطل الإسلام وبطل الكفر وتواجها في ساحة القتال.

ولقد كان الخندق الّذي احتفره المسلمون سلفاً من عوامل إخفاق المشركين، وكان العدوُّ يحاول أن يعبر هذا الخندق فتطيف فرسانهم به ليل نهار ولكن دون جدوى، لأنّهم كانوا يواجهون في كلّ مرة سهام الحرس الّذين وكلهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحراسة الخندق، ورصد محاولات العدو لاجتيازه وإفشالها فوراً،

ص:302

وأيضاً بفضل تدابير النبي القائد نفسه.

ثمّ إنّ طائفة من الأنصار خرجوا ليدفنوا ميّتاً منهم بالمدينة فصادفوا عشرين بعيراً لقريش محمّلة شعيراً وتمراً وتبناً حملها ذلك حيي بن أخطب شداداً لقريش فأتوا بها إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فتوسّع بها أهل الخندق(1).

وذات يوم من أيام الانتظار وراء الخندق كتب أبوسفيان إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كتاباً يقول فيه: فإنّي أحلف باللّات والعزّى لقد سرت إليك في جمعنا وإنّا نريد ألّا نعود إليك أبداً حتّى نستأصلك فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري مَن علّمك هذا؟ فان نرجع عنكم فلكم مِنّا يومٌ كيوم أُحد تُبقَر فيه النساء(2).

فكتب إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «من محمَّد رسول اللّه إلى أبي سفيان بن حرب... أمّا بعد فقديماً غرّك باللّه الغرور، أمّا ما ذكرت أنّك سرت إلينا في جمعكم، وإنّك لا تريد أن تعود حتّى تستأصلَنا فذلك أمرُ اللّه يحولُ بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة حتى لا تذكر اللّات و العزّى. وأمّا قولك: مَن علّمك الذي صنعنا من الخندق فإنّ اللّه ألهمني ذلك لما أراد من غيظك به وغيظ أصحابك، وليأتينَّ عليك يومٌ تدافعني بالراح، ولياتينّ عليك يوم أكسرُ فيه اللّات والعزّى وأساف، ونائلة، وهبل حتّى أُذكّرك ذلك»(3).

ولقد وقعت إجابة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم - الّتي كانت تنبئ عن قوة إرادته وشدّة عزيمته، وتصميمه القاطع - موقع السهم في قلب زعيم المشركين، وحيث

ص:303


1- . السيرة الحلبية: 647/2.
2- . المغازي: 492/1.
3- . المغازي: 492/1-493؛ إمتاع الأسماع: 242/1 و 243.

إنّ قريشاً كانت تعتقد بصدق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإنّها أُصيبت بهذا الرد الحاسم في عزيمتها ونفسيتها، ولكنّها مع ذلك لم تكفَّ عن مواصلة عدوانها.

وذات ليلة عزم «خالد بن الوليد» على أن يعبر بجماعته الخندق ولكنّه اضطرّ إلى التراجع عندما واجه مقاومة شجاعة من مائتين من المسلمين بإمرة «أُسيد بن حضير» وقد كلّفهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالقيام على شفير الخندق، ودفع المشركين ومنعهم من العبور!!

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن ليغفل عن تقوية عزائم المقاتلين المسلمين ورفع معنوياتهم، ولهذا كان يهيّئهم بخطبه الحماسية، وكلماته المشجّعة، الحاثّة على الجهاد والاستقامة والدفاع عن حياض العقيدة والإيمان، والذود عن صرح الحرية، والعدل.

فقد وقف ذات يوم خطيباً في اجتماع كبير من المسلمين وقال - بعد أن حَمِد اللّه وأثنى عليه -.

«أيّها النّاسُ إذا لَقْيتُمُ الْعدُوَّ فاْصبِرُوا وَاْعَلمُوا أَنَّ الجَنَّة تَحْتَ ظِلال السيوف»(1).

أبطالٌ من العرب يَعبُرونَ الخندق

لبس خمسةٌ من شجعان المشركين هم: «عمرو بن عبد ود العامري»، «عكرمة ابن أبي جهل»، «هبيرة بن وهب»، «نوفل بن عبداللّه»، و «ضرار بن الخطاب» لامة الحرب، ووقفوا أمام بني كنانة في غرور عجيب، وقالوا: تهيّأوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون مَن الفرسان اليوم؟

ص:304


1- . السيرة الحلبية: 648/2.

ثم ضربوا خيولهم فعبرت بهم الخندق من مكان ضيق قد أغفله المسلمون، ولكنّهم بادروا إلى محاصرة تلك الثغرة ومنع غيرهم من العبور.

وكان الموضع الّذي وقف فيه أُولئك الشجعان الخمسة الّذين عبروا الخندق للمبارزة يقع بين الخندق وجبل سلع حيث تمركز جنود الإسلام(1).

ثم أخذوا يدعون المسلمين إلى البراز، في كبرياء وغرور كبيرين، وهم يقطعون ذلك الموضع جيئة وذهاباً بخيولهم!!

بيد أنّ أشجع أُولئك الخمسة وأجرأهم وأعرفهم بفنون القتال وهو: «عمرو بن عبد ود العامري» تقدّم، وأخذ يرتجز داعياً المسلمين إلى النزال والبراز قائلاً:

ولَقَدْ بُحِحْتُ من النداء بجمعكم هَلْ مِنْ مُبارزْ

وَوَقفْتُ إذ جَبنَ المُشَجَّعُ مَوقفَ القرن المناجِزْ

وكذلك إنّي لم أزلْ متسرّعاً قبل الهزاهز

إن والشجاعة في الفتى والجود من خيْرُ الغرائز(2)

فأحدثت نداءات عمرو الرهيبة حالة من الرعب، والوجل الشديدين في معسكر المسلمين، وسكت الجميع، ولم ينبسوا ببنت شفة رهبة وخوفاً منه.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أيكمْ يبرز إلى عمرو أضمنُ له الجنة»؟

وقد قالها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثلاث مرات، وفي كلّ مرة يقوم عليّ عليه السلام ويقول:

أنا له يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، والقوم ناكسوا رؤوسهم(3) أو كأنَّ المسلمين يومئذ على

ص:305


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 239/2؛ الطبقات الكبرى: 28/2.
2- . تاريخ مدينة دمشق: 79/42.
3- . تاريخ الخميس: 486/1.

رؤوسهم الطير، لمكان عمرو وشجاعته، كما يقول الواقدي(1).

ولابدّ أن تحلَّ هذه المشكلة بيد علي عليه السلام فارس ميادين الحرب المقدام، وكان كذلك، فلمّا أبدى عليٌّ عليه السلام استعداده الكامل لمقاتلة عمرو أعطاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سيفه وعمّمه بيده، ووجّهه صوب عمرو وقد دعا له قائلاً: اللّهم أعِنهُ عَليه.

وقال أيضاً: «اللَّهم إنَّكَ أخذتَ مِنِّي عُبيدة بنَ الحارث يَومَ بَدر، وَ حَمزة بن عبدالمطلب يومَ أُحُد، وهذا أخي عليّ بن أبي طالب، ربِّ لا تَذَرني فرداً وأنت خيرُ الوارثين»(2).

فبرز عليّ عليه السلام إلى عمرو يهرول في مشيته، مبادراً إليه دون إبطاء، وهنا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلمته الخالدة في تلك المواجهة:

«بَرزَ الإيمان كلُّه إلى الشرك كلِّه»(3) وارتجز عليه السلام قائلاً:

لا تعجلنَّ فقد أتاك مجيبُ صوتكَ غير عاجزْ

ذُو نيّة وَبصيرة والصدقُ مُنجي كلّ فائز

إني لأرجو أن أُقيمَ عليكَ نائحة الجنائزْ

مِنْ ضَرْبَةٍ نَجلاء يَبقى ذكرُها عِندَ الهَزاهِزْ

وقد كان عليٌّ عليه السلام مسربلاً بالحديد لا يرى منه إلّاعيناه من تحت المغفر، فأراد عمرو أن يعرف مَن برز إليه فقال: من أنت؟

ص:306


1- . المغازي: 470/1.
2- . كنز الفوائد: 137؛ بحار الأنوار: 215/20 ح 1.
3- . تاريخ الخميس: 486/1 و 487؛ بحار الأنوار: 215/20.

قال: أنا عليُّ بن أبي طالب.

فقال عمرو: إنّي أكره أن أُريق دمك، واللّه إنّ أباك كان لي صديقاً ونديماً، ما أمِنَ ابن عمك حين بعثك إليَّ أن اختطِفَكَ برمحي هذا فأتركك شائلاً بين السماء والأَرض لاحيُّ ولا ميت.

فقال عليٌّ عليه السلام: لكنّني ما أكرهُ واللّه أن أهريق دمَك، وقدعلم ابنُ عمي أنّك إن قتلتني دخلتُ الجنة، وأنت في النّار، وإن قتلتك فأنتَ في النّار وأنا في الجنة.

فضحك عمرو وقال مستهزئاً: كلتاهما لك يا عليّ، تلك إذاً قسمةٌ ضِيزى.

(أيْ ناقصّة جائرة).

يقول ابن أبي الحديد: كان شيخنا أبو الخير يقول إذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع: واللّه ما أمره (أي ما أمر عمرو بن عبد ودّ علياً عليه السلام) بالرجوع إبقاءً عليه، بل خوفاً منه، فقد عرف قتلاه ببدر وأُحُد، وعلم أنّه إن ناهضهُ قتله، فاستحيا أن يُظهرَ الفشل، فأظهر الإبقاء والإرعاء، وإنّه لكاذب فيهما(1).

ثم إنّ عليّاً عليه السلام ذكّر عمراً بعهد قطعه على نفسه فقال له:

يا عمرو إنّي سمعت منك وأنت متعلّق بأستار الكعبة تقول: لا يعرض عليّ أحد في الحرب ثلاث خصال إلّاأجبتُه إلى واحدة منها، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة.

قال عمرو: هات يا عليّ.

قال: تشهد أن لا اله الّا اللّه، وأنَّ محمَّداً رسول اللّه.

فقال عمرو: نحِّ عني هذا.

ص:307


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 64/19.

قال علي عليه السلام: فالثانية أن ترجع وترد هذا الجيش عن رسول اللّه، فإن يك محمَّدٌ صادقاً فأنتم أعلى به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره.

فقال عمرو في غرور عجيب: اذاً تتحدّث نساء قريش بذلك، وينشد الشعراء فيَّ أشعارها أنّي جبنت، ورجعت على عقبي من الحرب، وخذلتُ قوماً رأسوني عليهم.

فقال له علي عليه السلام: فالثالثة أن تنزل إليّ فإنّك راكبٌ وأنا راجلٌ، حتّى أُنابذَك.

فقال عمرو: هذه خصلة ما ظننت أنّ أحداً من العرب يسومني عليها، ثم وثب عن فرسه وعرقبه.(1)

تصاول البطلين

وهنا بدأ تصاولٌ شديدٌ بين البطلين، وارتفعت بينهما عجاجة حجبت الرؤية، وإنّما كان الناس يسمعون فقط صوت إصطكاك السيوف والدروع الحديدية وغيرها، وبعد فترة من التصاول بين ذينك البطلين العملاقين ضرب «عمرو» «أميرالمؤمنين علياً» عليه السلام بالسيف على رأسه، فاتّقاه علي عليه السلام بالدرقة فقطعها، وشجّت الضربة رأسه ففاجأه عليٌّ عليه السلام بضربة قوية على ساقيه فقطعهما، جميعاً، ثم انكشفت العجاجة فنظر المسلمون فإذا عليٌّ عليه السلام على صدر عدوّ اللّه يريد أن يذبحه. وارتفع صوت علي بالتكبير من بين العجاجة يعلن عن انتصاره، ومقتل عمرو.

فألقى هلاك فارس العرب الأكبر «عمرو بن عبد ود» رعباً عجيباً في نفوس بقية الأبطال والشجعان الذين عبروا معه الخندق، فهربوا راجعين إلى معسكرهم،

ص:308


1- . بحار الأنوار: 227/20. ولاحظ: المغازي: 470/2-471.

إلّا «نوفل» الّذي سقط فرسه في الخندق، وهوى هو إلى الأرض بشدة، فرماه حرس الخندق بالحجارة فقال: قتلةً أجمل من هذه، ينزلُ إليّ بعضكم أقاتله، فنزل إليه عليٌّ عليه السلام فضربه حتّى قتله في الخندق(1).

فهيمن الخوفُ والرعب على كلّ أرجاء المعسكر العربي المشرك، وبهت أبوسفيان أكثر من غيره.

ثم إنّه كان يتصوّر أنّ المسلمين سيمثّلون بجسد «نوفل» انتقاماً لحمزة الذي مُثِّل به في أُحد، فبعث إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مَن يشتري جثته بعشرة آلاف فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

«هو لكم، لا نأكلُ ثمن الموتى»(2).

قيمة هذه الضربة

لقد قتل عليٌّ عليه السلام - حسب الظاهر - رجلاً شجاعاً لا أكثر، بيد أنّه بضربته لعمرو وبقتله إيّاه أحيا - في الحقيقة - كلّ مَن أرعبته نداءات عمرو المهدّدة، من المسلمين، وألقى رعباً كبيراً في نفوس جيش قوامه (10/000) رجل تعاهدوا وتعاقدوا على محو الإسلام واستئصال الحكومة الإسلامية الفتية. ولو أنّ الانتصار كان يحالف عمراً لعرفنا حينئذ قيمة هذه التضحية الكبرى الّتي قام بها عليُّ عليه السلام.

وعندما عاد عليٌّ عليه السلام ظافراً منتصراً قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«ضربةُ عليّ يومَ الخندق أفضلُ مِن أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة».(3) وفي

ص:309


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 205/20؛ تاريخ الطبري: 240/2.
2- . بحار الأنوار: 205/20؛ البداية والنهاية: 122/4.
3- . ينابيع المودّة: 412/1.

رواية أُخرى قال صلى الله عليه و آله و سلم: «لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة».(1)

وقيل أنّه قال:

«لو وُزنَ اليومَ عملُك بعمل جميع أُمّة محمّد لرجح عملك على عملهم، وذاك إنّه لم يبق بيت مِن المشركين إلّاوقد دخله ذلٌ بقتل عمرو، ولم يبق بيتٌ من المسلمين إلّاوقد دخله عزّ بقتل عمرو»(2).

وبذلك كشف عن أهمية الضربة الّتي أوقعها علي عليه السلام بعمرو في تلك الواقعة.

لماذا التنكّر لهذا الموقف؟

ويحقّ لنا هنا أن نستغرب تنكّر بعض المؤرّخين أو تجاهلهم لهذا الموقف العظيم الّذي أدى إلى هزيمة المشركين، والأحزاب في معركة الخندق هزيمة نكراء، كلّ واحد بشكل من الأشكال وصورة من الصور: فهذا ابن هشام رغم إسهابه في بعض الأُمور التاريخية ممّا لا قيمة له بعد أن يذكر مقتل «عمرو» على يد بطل الإسلام الخالد عليّ عليه السلام من دون أن يذكر ما قاله النبي صلى الله عليه و آله و سلم عند مطالبة عمرو بالمُنازل والمبارز، ذكر أبياتاً قالها عليّ عليه السلام في المقام ثم يشكّك في نسبتها إليه عليه السلام(3).

وهكذا ابن الأثير رغم اهتمامه بالدقائق التاريخية ووصفه لكتابه بالكامل، نجده يحاول التقليل من أهمية هذا الموقف بصورة أُخرى، وهو أن عليّاً خرج

ص:310


1- . مستدرك الحاكم: 32/3.
2- . كنز الفوائد: 137؛ شواهد التنزيل: 12/2؛ ينابيع المودة: 284/1 برقم 7؛ بحار الأنوار: 216/20.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 709/3.

ضمن مجموعة لمقاتلة عمرو وليس وحده.

ولكنّ المعلِّقين على الطبعة المنيرية للكامل والّتي أشرف عليها فضيلة الأُستاذ عبدالوهاب النجّار لم يرق لهم هذا الصنيع، وأبت عليهم ضمائرهم الحرّة أن يتركوا الرواية على حالها فقالوا في الهامش: وروى السهيلي عن ابن إسحاق أنّ عمراً دعا المسلمين للمبارزة، وعرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأمر ثلاث مرّات، ولا يقوم إلّاعليٌّكرم اللّه وجهه، وفي الثالثة قال له: إنّه عمرو قال: وإن كان عمراً، فنزل إليه وقتله وكبّر فكبّر المسلمون فرحاً بقتله(1).

وهذا ابن تيمية يحاول التنقيص من هذه الفضيلة ولكن بالضرب على وتر آخر حيث قال: إنّ قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في شأن عليّ عليه السلام لما قتل عمراً: «قتل علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عبادة الثقلين» من الأحاديث الموضوعة الّتي لم ترد في شيء من الكتب الّتي يعتمد عليها بسند ضعيف، وكيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثقلين... ثم قال: بل إنّ عمرو بن عبد ود لم يعرف له ذكرٌ إلّافي هذه الغزوة.

فهو يحاول التقليل من شأن عمرو، والإيحاء بأنّه لم يكن شيئاً، فلا يكون لقتله أهمية.

ولكن صاحب السيرة الحلبية الّذي ينقل كلّ هذه العبارات عن ابن تيمية يردّ عليه قائلاً: ويرد قوله: «إنّ عمرو بن عبد ود هذا لم يعرف له ذكرٌ إلّافي هذه الغزوة» قول الأصل: وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتّى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أُحُد فلمّا كان يوم الخندق خرج مُعلِماً، أي جعل له علامة يعرف بها ليرى مكانه.

ص:311


1- . الكامل في التاريخ: 124/2، الطبعة المنيرية، إشراف الأُستاذ عبد الوهاب النجّار.

ويرده أيضاً ما تقدّم من أنّه نذر أن لا يُمسَّ رأسه دهناً حتّى يقتل محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم.

واستدلاله بقوله: وكيف يكون إلى آخره، فيه نظر؛ لأنّ قتل هذا كان فيه نصرة للدين وخذلان الكافرين(1).

وما قاله صاحب السيرة الحلبية عن مشاركة عمرو في معركة بدر يوافق ما جاء في الكامل لابن الأثير الجزء 2 الصفحة 124 ويوافق أيضاً ما جاء في السيرة النبوّية الجزء 3 الصفحة 709.

مروءة عليّ عليه السلام وشهامته

ولقد أحجم عليّ عليه السلام عن سلب «عمرو بن عبد ود» درعه، وكان درعاً غالية الثمن ليس للعرب، درعٌ خيرٌ منها، وقد فعل ذلك مروءة، وترفّعاً، فاعترض عليه بعضٌ، حتّى أنّ عمر بن الخطاب قال له: هلا سلبته درعه فإنّه ليس في العرب درع خير منها(2). ولما عرفت أُختُ عمرو بمقتله سألت عمّن قتله؟ فأخبروها بأنّ علياً عليه السلام هو الّذي قتله، فقالت لم يَعْدُ موته إلّاعلى يد كفؤ كريم، لارقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قتلَ الأبطال، وبارز الأقران، وكانت منيتُه على يد كفؤ كريم من قومه ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر.

ثم أنشأت تقول:

لو كانَ قاتِلُ عمرو غير قاتِلِه بكيته ما أقام الروح في جسدي

ص:312


1- . السيرة الحلبية: 643/2. ولاحظ أيضاً رد الأمين على ابن تيمية في أعيان الشيعة: 264/1.
2- . السيرة الحلبية: 643/2.

لكنَّ قاتله مَن لا يُعابُ بِه وكانَ يُدعى قديماً بيضة البلد(1)

وقد ذكر علي عليه السلام صنيعه هذا في أبيات أنشأها يوم الخندق إذ قال:

أَعَليَّ تقتحمُ الفوارسُ هكذا؟ عَنّي وَ عنها خبّروا أصحابي

أَردَيْتُ عمراً إذ طغى بمهنَّدٍ صافي الحديد مجرَّب قضاب

فصددتُ حين تركتُه متجدّلاً كالجذع بين دكادك وروابي

وعففتُ عن أثوابه وَ لَو أنَّني كنتُ المقطَّر بَزّني أثوابي(2)

والآن حان أن نرى إلى أيّ مصير آل أمر معسكر المشركين بعد مقتل فارس العرب وشجاعها البارز.

جيش العرب يتفرّق في موقفه

لم يكن دافع جيش العرب ومَن عاوَنهم ومالأهم من اليهود إلى محاربة الإسلام واحداً، فاليهود كانوا يخشون من اتّساع رقعة الحكومة الإسلامية الفتيّة، المتزايد، وأمّا دافع قريش فكان هو العداء القديم للإسلام والمسلمين. وأمّا قبائل «غطفان» و «فزارة» وغيرها من القبائل فلم يحرّكها إلّاالطمع في محاصيل «خيبر» الّتي وعدهم بها اليهود.

فعلى هذا الأساس لم يكن محرّك «الأحزاب» المشاركة في جيش الشرك أمراً واحداً، فقد كان محرّك الطوائف الأخيرة أمراً مادياً، ولو أنّ هذا الهدف تحقّق عن طريق المسلمين لعادت هذه القبائل إلى أوطانها مسرورة راضية، وخاصّة أنّ البرد، وقلّة الطعام، والعلف، طوال مدّة المحاصرة قد أوجدت في نفوسهم كللاً

ص:313


1- . مستدرك الحاكم: 33/3.
2- . بحار الأنوار: 257/20؛ المستدرك على الصحيحين: 32/3 باختلاف يسير.

ومللاً، من جهة، وعرَّضت أنعامهم لخطر الهلاك والفناء من ناحية أُخرى.

من هنا كلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جماعة بأن يتّصلوا بهذه القبائل (الأخيرة) ويذكروا لهم بأنَّ المسلمين مستعدّون لإعطائهم ثلث تمر المدينة إن هم تركوا قريشاً وعادوا إلى ديارهم، فأعدّوا عهداً وجاءُوا به إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليمضيه، ولكنّه شاور فيه سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة قبل أن يمضيه، فقالا له: يا رسول اللّه، أمراً تحبّه فنصنعه، أم شيئاً أمرك اللّه به، لابدّ لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: «بل شيء أصنعه لكم، واللّه ما أصنع ذلك إلّالأنّني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ ما» فقال له سعد بن معاذ: يا رسول اللّه قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللّه وعبادة الأوثان، لا نعبد اللّه ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلّاقرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا اللّه بالإسلام وهدانا له وأعزّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! واللّه ما لنا بهذا من حاجة، واللّه لا نعطيهم إلّاالسيف حتى يحكم اللّه بيننا وبينهم، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فأنت وذاك.

فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا.(1)

وبهذا كشف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن صفحة أُخرى من سياسته الحكيمة، فقد كان إقدامه على ثني القبائل المتحالفة مع قريش في جيش الأحزاب بإعطاء بعض التنازلات المادية (لا المعنوية) وتحييدها خطوة سياسية وعسكرية صحيحة، ورائعة، وكانت مشورته مع أصحابه من الأنصار (خاصّة) عملاً حكيماً أيضاً؛ لأنّه استثار بذلك هممهم، وشدّ على عزائمهم، فوعدوا بالصمود والمقاومة في ذلك

ص:314


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 707/3-708.

الظرف العصيب وعدم تقديم أيّة تنازلات، ولهذا انصرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عمّا أراد أوّلاً، فكان مجموع هذه الخطوات عملاً حكيماً جداً، يكشف عن حنكة سياسية عظيمة، ودراية عسكرية عميقة.

العوامل الّتي فرّقت كلمة «الأحزاب»

هناك عوامل عديدة تسبّبت في تفرّق الجيش العربي الّذي زحف إلى المدينة لاجتياحها، وانقسام الأحزاب على أنفسهم، وإليك أبرزها:

1. إنّ أوّل عامل من تلك العوامل هو تكلّم مبعوثي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع سادة غطفان وفزارة، لأنّ هذه المعاهدة وإن لم توقّع إلّاأنّها لم تُنقضْ، فتسبَّب ذلك في أن يختلفوا مع قريش في الرأي، أي اجتياح المدينة وبأي شكل من الأشكال وأن لا يقدموا على أي إجراء عسكريّ مع غيرهم انتظاراً للتوقيع على تلك المعاهدة، ولهذا كلّما طلبت القيادة القرشية منهم الهجوم الشامل اعتذروا ببعض الأعذار تملّصاً من ذلك الطلب.

2. مصرع «عمرو بن عبد ود» فارس العرب الأكبر الّذي كان الأغلبية في ذلك الجيش يعلّقون عليه آمالهم في الانتصار على المسلمين. فلمّا قتل تملّك الجميع رعبٌ غريبٌ وانهارت آمالهم، وبخاصّة عندما هرب زملاؤه الشجعان من وجه عليّ عليه السلام خوفاً، ورهبة.

3. ما لعبه «نُعيم بن مسعود» الّذي أسلم حديثاً، من دور في إلقاء روح الشك والفرقة بين يهود بني قريظة وجيش «الأحزاب»، فقد قام بهذا الدور بشكل رائع، تماماً كما يفعله الجواسيس المنظّمون في عصرنا الحاضر، بل كان ما فعله أفضل وأكبر تأثيراً وعطاء.

ص:315

فقد أتى «نُعيم» هذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا رسول اللّه؛ إنّي قد أسلمتُ، وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «إنما أنت فينا رجلٌ واحدٌ، فخذّل عنّا إن استطعت (أي أُدخُل بين القوم حتّى يخذّل بعضهم بعضاً)، فإنّ الحرب خدعة».

فخرج نعيم بن مسعود حتّى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهليّة، فقال: يا بني قريظة قد عرفتم وُدّي، وخاصّة ما بيني وبينكم.

قالوا: صدقتَ، لست عندنا بمتَّهم.

فقال لهم: إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البَلدُ بلدُكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإنّ قريشاً وغطفان قد جاءُوا لحرب محمَّد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدُهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نُهزَة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلُّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به، إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتّى تأخذوا منهم رهناً من أشرافِهم يكونون بأيديكم ثقة لكم، على أن تقاتلوا معهم محمَّداً حتّى تناجزوه.

فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.

ثم خرج حتّى أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودّي لكم، وفراقي محمّداً، وإنّه قد بلغني أمرٌ قد رأيت عليَّ حقّاً أن أبلّغكموه، نصحاً لكم فاكتموا عني. فقالوا: نفعل.

قال: تعلموا أنَّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمَّد، وقد أرسلوا إليه إنّا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك

ص:316

على مَن بقي منهم حتّى نستأصلَهم؟ فأرسلَ إليهم: أن نعم، فإن بعثت إليكم يهودُ يلتمسون منكم رهناً من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.

ثم خرج حتّى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان، إنّكم أصلي وعشيرتي، وأحبُّ الناس إليّ، ولا أراكم تتّهموني، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتّهم، قال فاكتموا عنّي، قالوا: نفعل فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم.(1)

وهكذا أدّى «نعيم» وظيفته بأحسن صورة ثم دخل سرّاً في جيش المسلمين، وأشاع بين المسلمين أنَّ بني قريظة تنوي أخذ رجال من المشركين لتسليمهم إلى النبيّ والمسلمين.

وقد كان يقصدُ من إشاعة هذا النبأ أن يبلغ مسامع رؤساء العرب وقادتهم.

مبعوثو قريش يمشون إلى بني قريظة

ولمّا كانت ليلة السبت قرّر أبوسفيان أن يحسم الموقف بأيّ شكل من الأشكال، فأرسل إلى بني قريظة جماعة من سادة قريش وغطفان فقالوا لهم: إنّا لسنا بدار مقام قد هلك الخفُ والحافر، فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمَّداً، ونفرغ ممّا بيننا وبينه.

فأرسلوا (بنو قريظة) إليهم: إنّ اليوم يوم السبت، وهو يومٌ لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضُنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمَّداً حتّى تعطونا رُهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتّى نناجز محمَّداً، فإنّنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتدّ عليكم القتالُ أن تتشمّروا

ص:317


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 712/3-713.

إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك منه.

فلمّا رجعت إليهم الرسلُ بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: واللّه إن الَّذي حدَّثكم نعيم بن مسعود لحقّ.

فأرسلوا إلى بني قريظة من يقول لهم: إنّا واللّه لا ندفع إليكم رجلاً واحداً، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.

فقالت بنو قريظة - حين انتهت الرسُلُ إليهم بهذا -: إنّ الّذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلّاأن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلّوا بيننا وبين الرجل في بلدكم(1).

وهكذا انسحبت بنو قريظة من الأحزاب وأوقع اللّه التخاذل بينهم وتفرّقوا، وتمزق شملهم، وكان ذلك من عوامل فشل الأحزاب، وتقهقرهم ورجوعهم خائبين.

آخر العوامل لهزيمة الكفّار

لقد انضمت العوامل المذكورة إلى عامل مهم آخر يمكن تسميته - في الحقيقة - بالإمداد الغيبيّ أدّت إلى هزيمة الكفّار وتفرّق جماعة الأحزاب، وتشتّت جماعتهم، وذلك العامل هو أنّ اللّه بعث عليهم فجأة الريح والعاصفة، واشتد البرد، وكان اشتداد الريح كبيراً بحيث أكفأ قدورَهُم، واقتلع خيامهم ومضاربهم، وأطفأ أضواءهم، وأوجد حريقاً في الصحراء.

وهنا أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حذيفة أن يعبر الخندق، ويأتيه بخبر عن أحوال المشركين ومن مالأهم من الأحزاب.

ص:318


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 713/3؛ تاريخ الطبري: 242/2-243.

يقول حذيفة: فذهبتُ فدخلتُ في القوم والريح وجنود اللّه تفعل بهم، ما تفعل، لا تقرُّ لهم قدراً، ولا ناراً ولا بناءً،... ثمّ قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنّكم واللّه ما أصبَحتم بدار مقام، لقد هلك الكُراعُ والخفُّ، وأخلفَتنا بنوقريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح ما ترون، ما تطمئنُّ لنا قدر، ولا تقوم لنا نارٌ، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإنّي مرتحل.

ثم قام إلى جمله - وهو معقول - فجلس عليه، ثم ضربه، فوثب به على ثلاث، فواللّه ما أطلق عقاله إلّاوهو قائم... وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم.(1)

ولم يسفر الصبح إلّاوأسرعت قريشٌ وغطفانٌ عائدين إلى بلادهم يجرّون أذيال الخيبة، ولم يبق منهم أحدٌ هناك.

وهكذا انتهت معركة الأحزاب في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة.

القرآن الكريم و معركة الأحزاب

ولقد أشار القرآن الكريم إلى أبرز النقاط في معركة الأحزاب (الخندق) ضمن سبع عشرة آية وها نحن ندرجها برمّتها ونشير باختصار إلى ما تضمّنته من حقائق، قال تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا

ص:319


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 714/3-715؛ تاريخ الطبري: 244/2.

هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً * وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً * وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِراراً * وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلاّ يَسِيراً * وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُلاً * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاّ قَلِيلاً * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً * قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً * يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاّ قَلِيلاً * لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً * وَ لَمّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَ رَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» .(1)

ص:320


1- . الأحزاب: 9-25.

ويمكن تقسيم هذه الآيات إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: وهي الآيات الّتي ترسم الوضع العام للمسلمين عندما أتتهم عساكر الأحزاب.

القسم الثاني: وهي الآيات الّتي تتعرّض لذكر موقف المنافقين وضعّاف الإيمان.

القسم الثالث: وهي الآيات الّتي تتعرّض لذكر موقف المؤمنين الصادقين.

وإليك بياناً لمفاد هذه الآيات على وجه الاختصار.

1. تبدأ هذه المجموعة من الآيات بتذكير المؤمنين - في الآية الأُولى - بنعمة اللّه عليهم أن ردّ عنهم الجيش الّذي قصد استئصالهم لولا عناية اللّه ومدده العظيم، وفي هذا إشعار قوي بأنّ اللّه هو الّذي يحمي القائمين على دعوته ومنهجه من عدوان الكافرين والمتآمرين.

2. ثم تشرح الآية الثانية الحالة العسكرية الخطيرة الّتي كان يواجهها المسلمون، فهم محاصرون من قبل الأعداء والمتواطئين معهم من كلّ جهة محاصرة ألقت الرعب في قلوب الكثيرين من أهل المدينة فزاغت الأبصار هولاً، وبلغت القلوب الحناجر خوفاً، وظنّ البعض أنّ ما أعطاهم اللّه ورسوله من الوعد بالتأييد والنصرة لم يكن صحيحاً.

3. ثم تحدّثت الآية الثالثة عن الابتلاء والاختبار الّذي أفرزه هذا الوضع الخطير، فقد ابتلي المسلمون في هذه الواقعة، وتملّكهم خوفٌ شديدٌ.

4. ولكنّ المنافقين، والذين في قلوبهم مرض كانوا أشدّ هولاً وخوفاً حتّى أنّ ذلك الكرب والهول أخرج خبيئة نفوسهم، فشكّكوا في وعود اللّه الصادقة، وقالوا: ما وعدنا اللّه إلّاغروراً، فهو خدعنا إذ وعدنا بالغلبة على أعدائنا.

ص:321

5. ولم يكتف المنافقون بإشاعة هذه التشكيكات بين المسلمين بل دعوا أهل المدينة إلى الانسحاب من الميدان إلى داخل المدينة، وبالتالي حرّضوهم على ترك الصفوف. واحتجّوا لذلك بالخوف على النساء والصبيان من كيد الأعداء قائلين: «بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» وهم لا يريدون إلّاالفرار جبناً وخوفاً.

6. ثم تكشف الآيتان السادسة والسابعة عن حقيقة ما في نفوس أُولئك المنافقين، فهم لا يريدون الانسحاب إلى داخل المدينة للمحافظة على الذراري والصبيان، إنّما هو نقض العهد، وخلف الوعد، وفقدان الإيمان القلبي، فهم إذا دخل عليهم العدوّ المدينة وطلبوا منهم الرجوع عن الإسلام لرجعوا إلى الكفر دون تأخير. ولكن اللّه سيسألهم عن العهد الّذي أعطوه من قبل بأن يثبتوا أمام العدو، «وَ كانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُلاً» .

7. ثم إنّ اللّه تعالى يوبّخهم - في الآيات اللاحقة - على موقفهم المتخاذل هذا، ويقول لهم: بأنّ الفرار والانسحاب لن ينجيهم من الموت إن كان مقدّراً عليهم، وحتّى لو عاشوا أيّاماً فلن يعيشوها في خير وأمان.

كما ويقول لهم: بأنّ اللّه لا يخفى عليه ما يقومون به من تخذيل وعرقلة لمسيرة الإسلام الصاعدة، ولا تخفى عليه سبحانه مواقفهم في أوقات المحنة، من كف الأيدي عن مساعدة المؤمنين، أو سلقهم بألسنتهم وتحميلهم عوامل المحنة والشدّة، حتّى بعد الانتصار.

وهنا يبدو و يبرز دور المنافقين، وتظهر حالاتهم العجيبة في الحرب والسلم.

فهم يخافون خوفاً شديداً، وهم يظنّون باللّه ظنّ السوء، وهم يشيعون الخوف وروح الهزيمة في الناس، وهم ينسحبون ويدعون إلى الانسحاب من الصفوف وهم مستعدون في كلّ وقت للارتداد والرجوع عن الإسلام إلى الكفر،

ص:322

وهم بالتالي أشحّة بخلاء، في نفوسهم كزازة على المسلمين، كزازة بالجهد، وكزازة بالمال، وكزازة بالعواطف والمشاعر على السواء.

8. إنّهم لكونهم لم تخالط قلوبهم بشاشة الإيمان ولم يهتدوا بنوره يفقدون الشجاعة والقوة حتّى بعد ذهاب عوامل الخوف والهول.

فهم ما يزالون يرتعشون، ويتخاذلون، ويأبون أن يصدقوا أنّ الأحزاب قد ذهبت وولّت مهزومة. ويودّون لو أنّ الأحزاب دخلت المدينة أن لا يكونوا فيها مبالغة في النجاة من الأهوال!!

9. ولكن في مقابلة هذا الفريق المتخاذل الجبان يرسم القرآن الكريم في الآيات 21 إلى 25 صورة المؤمنين الصادقين وفي مقدّمتهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم القدوة الحسنة لجميع المسلمين في جميع الحالات والظروف.

فإنّ هذه الجماعة المؤمنة الصادقة لمّا رأت الأحزاب قالت: هذا ما وعدنا اللّه ورسوله، هذا الهول لابدّ أن يجيء فيه النصر فهو وعد اللّه الصادق المحقّق.

فصمدوا وصدقوا ما عاهدوا اللّه عليه، فجزاهم اللّه بصدقهم «وَ رَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» خلافاً لما ظنّه المنافقون، وتوهموه.

وقد كانت هذه الواقعة في منظور القرآن الكريم امتحاناً عظيماً، واختباراً دقيقاً للنفوس والقلوب وهو امتحان لابدّ منه حتّى يتميّز الصادق عن المنافق، والموفون بعهدهم والناقضون له.

كما أنّ هذه الواقعة و ما جاء حولها من الآيات كشفت عن أنّ وعود اللّه صادقة ومحقّقة إذا توفّرت شرائطها، ومقدّماتها، ومنها استخدام الوسائل الطبيعية المناسبة، والاتّكال على اللّه واستمداد العون منه.

ص:323

وفي هذه الآيات إشارة إلى دور ما يُسمّى الآن بالطابور الخامس وإلى خطورة الشائعات السيّئة في المجتمع، وبخاصّة في ظروف الحرب.

كما أنّ فيها إشارة إلى كيفية مواجهة هذه الشائعات والتعامل مع فعّاليات هذا الفريق الخطر.

ولقد لاحظنا خلال ما مضى من السيرة كيف أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يبطل بتكتيكاته العسكرية مفعول تلك النشاطات التخريبية والمضرّة.

فقد كان يعتمد أُسلوب الدعاء، والذكر، والتشجيع، والتكبير، وإرسال الدوريات العسكرية، والعمل المباشر، والمشاركة الفعلية في عمليات الدفاع والحراسة، وما شاكل ذلك ممّا ذكرناه، وممّا لم تسع هذه الدراسة لذكره.

ص:324

حوادث السنة الخامسة من الهجرة

39 سقوط آخر أَوكار الفساد والمؤامرة

اشارة

أقدم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السنة الأُولى من هجرته إلى المدينة، على تنظيم وعقد ميثاق تعايش بين سكان المدينة وما حولها، بغية إنهاء جميع أشكال الاختلاف، والتنازع، والصراع الداخليّ.

وقد تعهَّد الأوسيّون والخزرجيُّون عامّة، واليهود من تينك القبيلتين أن يدافعوا عن المدينة وما حولها، وقد مرّ النصُّ الكامل لهذا الميثاق على القارئ الكريم فيما سبق(1).

هذا من ناحية.

ومن ناحية أُخرى عقد رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بينه وبين يهود المدينة ميثاقاً آخر ينصُّ على أنّ مختلف الطوائف اليهودية تتعهّد بأن لا تلحق أيَّ ضرر وأذى برسول اللّه وأصحابه، ولا تمدَّ أعداءهم بالخيل والسلاح، وأنّها لو فعلت شيئاً من ذلك يكون لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الحقُّ في أن يقتلهم، ويسبي نساءهم وأبناءهم.

ص:325


1- . راجع صفحة 27 من هذا الجزء.

إلّا أنَّ جميع الطوائف اليهودية الثلاث نقضت الميثاق المذكور بشتّى العناوين والصور، وتجاهلت بنوده، وموادّه!

فقد قتل «بنو قينقاع» مُسلماً، وخطّطت «بنوالنضير» لاغتيال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ، وأجبرهم على الجلاء من المدينة وأخرجهم من البيئة الإسلامية.

وتعاونت «بنو قريظة» مع جيش المشركين لضرب المسلمين، وطعنهم من الخلف، والآن يجب أن نرى كيف يوبّخ رسولُ اللّه بني قريظة على نقضهم للميثاق .

قوات الإسلام تحاصر بني قريظة

لم يكن الصبح قد أسفر بعد عندما غادرت آخر مجموعة من جنود «الأحزاب» أرض المدينة قافلة إلى بلادها مرعوبة فزعة للغاية.

كما أنّ آثار التعب والإرهاق لم تكن قد فارقت بعد ملامح المسلمين، ومع ذلك فقد أمر اللّه نبيه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يعالج قضيّة «بني قريظة» بصورة نهائية، فَأذَّن مؤذَّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصلّى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالمسلمين صلاة الظهر، ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الناس:

مَن كان سامعاً مطيعاً فلا يصلّينّ العصر إلّاببني قريظة!

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قدّم «عليَّ بن أبي طالب» برايته، وخرج معه جنودُ الإسلام الشجعان، فحاصروا حصون «بني قريظة»، فأخبرهم ديرانيهم بنشاط المسلمين، فبادروا إلى إغلاق أبواب الحصون، والتحصّن في داخلها، ونشبت الحرب بين بني قريظة والمسلمين من اللحظات الأُولى، فقد أخذ اليهود يشتمون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالوا فيه مقالة قبيحة، فرجع علي عليه السلام بالمسلمين فالتقى رسول

ص:326

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الطريق وقد كره أن يسمع النبي صلى الله عليه و آله و سلم أذاهم وشتمهم، وحاول أن يثني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الاقتراب إلى حصن بني قريظة قائلاً: لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث.

فلمّا عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سبب ذلك قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً، فلمّا دنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من حصونهم قال لهم:

«يا إخوان القردة هل أخزاكم اللّهُ وأنزل بكم نقمته»؟

وقد كانت ردةُ فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الشديدة غير متوقعة لليهود، ومن هنا قالوا: يا أبا القاسم ما كنتَ جهولاً... وهم يريدون بذلك إطفاء مشاعره الملتهبة ضدّهم(1).

فأثارت كلمتهم هذه عاطفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحيث رجع من غير اختيار، وسقط رداؤه من كتفه.

اليهودُ يتشاورون حول الموقف

تشاور يهود بني قريظة وهم معتصمون بحصونهم في الموقف، وقد شارك فيه «حُيي بن أخطب» مثير معركة الأحزاب، فإنّه لم يذهب إلى خيبر بعد أن وضعت الحرب - في معركة الأحزاب - أوزارها وولّى العرب المشركون، بل دخل في حصون بني قريظة.

هذا وقد طرح زعيمُ بني قريظة ثلاثة اقتراحات وطلب من الجميع أن يتّفقوا على واحدة منها لمعالجة الموقف:

1. أن يؤمنوا برسول اللّه، ويصدّقونه لأنّه قد تبيّن لهم أنّه نبي مرسل، وأنّه

ص:327


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 716/3؛ تاريخ الطبري: 245/2؛ إمتاع الأسماع: 376/8.

الّذي يجدونه في كتابهم، وبذلك يأمنون على دمائهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم.

2. أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يخرجوا إلى محمَّد وأصحابه يقاتلونهم، فإذا هلكوا، هلكوا ولم يتركوا وراءهم نسلاً يُخشى عليه، وإن انتصروا تزوّجوا من جديد، ووجدوا أبناء.

3. أنّ الليلة هي ليلة السبت، وأنّه عسى أن يكون محمَّد وأصحابه قد امنوهم فيها، لعلمهم بأنّ اليهود لا يقاتلون في السبت، فلينزلوا من الحصون لعلّهم يصيبون من محمَّد وأصحابه على حين غفلة.

ولكنّ المشاورين رفضوا جميع هذه الطروحات وقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً، ولا نستبدل به غيره، وقالوا: إن نقتل أبناءنا ونساءنا فما خير العيش بعدهم، وقالوا: لا نقاتلُ ليلة السبت، محمَّداً وأصحابه نفسد سبتنا علينا، ونحدث فيه ما لم يُحدث من كان قبلنا إلّامن قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ(1).

إنّ هذا الحوار يساعدنا على فهم نفسية تلك الجماعة (نعني اليهود)، وخصالهم وأخلاقهم الفاسدة.

فإنّ رفض الاقتراح يكشف عن أنّهم كانوا جماعة معاندة، لجوجة، لأنّهم إذا كانوا حقّاً يعرفون صدق نبوّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - كما قال زعيمهم - لم يكن لوقوفهم سبب إلّاالعناد والعتوّ، واللجاج.

وأما الاقتراح الثاني وما دار حوله من كلام فيشهد - بجلاء - على أن تلك الطائفة كانت جماعة قاسية، لا تعرف للرحمة والحنان معنى، لأنّ قتل الأطفال والنساء الأبرياء لا يمكن من دون قسوة شديدة.

ص:328


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 717/3.

هذا مضافاً إلى أنّ المشاورين آنذاك رفضوا هذا المقترح لا بدافع الرحمة والشفقة على الأطفال والنساء، بل لأنّ الحياة لا تعود لذيذة بعد فقدهم، هذا هو ما قالوه.

وأمّا الاقتراح الثالث فيكشف عن أنّهم لم يكونوا يعرفون جيداً مدى علم رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم بفنون القتال والدفاع، وكانوا يتصوّرون أنّ القائد الأعلى للإسلام لا يراعي قواعد الحذر والاحتياط ليلة السبت ويومه، وخاصّة في مواجهة أعداء خونة، أخوان غدر و مكر، أمثال اليهود الناقضين للعهود، الناكثين للمواثيق.

إنّ دراسة وتقييم معركة «الأحزاب» تثبت ندرة وجود الأذكياء والفطنين بين هذه الجماعة، وإلّا لكانوا يتمكّنون من حفظ كيانهم حتّى من الناحية السياسية في تلك الظروف من دون أن ينحازوا إلى أيّ واحد من طرفي الصراع (الإسلام والشرك).

أي أنّه كان من الممكن أن يتّخذوا جانب الحياد الكامل، ويبقوا متفرّجين لما يدور بين محمَّد، وجيش المشركين، وبهذا يبقوا محافظين على كيانهم ووجودهم، انتصر من انتصر وغلب من غلب.

ولكنّهم خُدعوا بتسويلات «حيي بن أخطب» ووسوساته وانحازوا إلى جيش العرب المشركين فتورّطوا في مثل تلك الورطة، وهي أن يتخلّوا - في النهاية - عن مساعدة قريش بعد شهر كامل من التعاون معهم، والرضوخ لخطّة «نعيم بن مسعود»، وإخبار قريش بأنّهم لن يتعاونوا معهم ضدّ رسول الإسلام ما لم تسلّم قريش بعض شخصياتها إليهم، لغرض الاحتفاظ بهم في حصونهم كوثيقة!!

لقد غاب عن تلك الزمرة المعاندة اللجوجة أنهم قد تعاونوا ضدّ رسول

ص:329

الإسلام في بداية الأَمر، فإذا قطعوا علاقاتهم مع قريش، وترك جيش المشركين ساحة المعركة إذا أحس بالعجز عن تحقيق أي انتصار، وعاد إلى بلاده، فإنّ بني قريظة بأجمعهم سيكونون حينئذٍ في قبضة المسلمين.

فلو كانوا يملكون شيئاً من الرؤية السياسية الصحيحة لكان عليهم أن يعلنوا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - فور قطع العلاقات مع قريش - عن ندامتهم على نقض الميثاق الّذي عقدوه من قبل مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويعتذروا إليه ممّا بدر منهم لينجوا من الخطر - في صورة انتصار المسلمين على الكفّار - ولكنّ الشقاء أصابهم عندما قطعوا العلاقات مع جيش قريش، ولم يلتحقوا بالمسلمين، ولم يعتذروا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

على أنّه لم يكن في مقدور النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يترك بني قريظة - بعد هزيمة جيش العرب - على حالهم، ويغض النظر عن موقفهم إذ لم يكن من المستبعد، أن يفكّر العرب في مناسبة أُخرى في تسيير جيش ضخم ومنظّم آخر لاجتياح المدينة، ويتمكّنوا بمساعدة بني قريظة من استئصال الإسلام.

فكان يهود بني قريظة يُعتبرون - في الحقيقة - العدوّ الداخلي الّذي يهدّد كيان الإسلام من الداخل، وعلى هذا كان من الواجب معالجة الأمر مع بني قريظة، وحلّ هذه المسألة الخطيرة بالنسبة إلى المسلمين من الأساس.

خيانةُ أبي لبابة

لقد طلب يهودُ بني قريظة بعد محاصرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يبعث إليهم «أبا لبابة» الأوسي ليتشاوروا معه في الموقف، وقد كان أبو لبابة حليفاً لليهود قبل دخول الإسلام إلى المدينة، فأرسله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إليهم، فلمّا رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على

ص:330

حكم محمَّد؟

قال: نعم - وأشار بيده إلى حلقه - إنّه الذبح؛ يريد أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم سوف يقتلهم ولم يحقن دماءهم، لو سلّموا.

لقد كان أبولبابة يعلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لن يوافق على بقاء هذه الزمرة الشريرة الخائنة الخطرة على دين التوحيد، إلّاأنّ أبا لبابة قد خان بفعله هذا المسلمين، ومصالح الإسلام العليا، وأفشى سرّاً كان عليه أن يكتمه قبل وقوعه، ولهذا ندم على فعله ندماً شديداً، وقال: فواللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أنّي قد خنت اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم، ثمّ انطلق على وجهه، ولم يأت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وربط نفسه في المسجد بعمود من أعمدته، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتّى يتوب اللّه عليّ ممّا صنعت!!

ويقول المفسّرون: فنزل في خيانة أبي لبابة قول اللّه تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .(1)

فلمّا بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خبر أبي لبابة، وكان قد استبطأه قال: «أما إنّه لوجاءني لاستغفرت له، فأمّا إذ قد فعلَ ما فعلَ فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتّى يتوب اللّه عليه».(2)

وبقي أبو لبابة مرتبطاً بالاسطوانة، وكانت زوجته تأتيه في مواعيد الصلاة، وتحلّ رباطه، فيصلّي ثم تعيد الرباط.(3)

فلمّا كان السحرُ من اليوم السابع نزلت توبة أبي لبابة بواسطة ملك الوحي

ص:331


1- . الأنفال: 27.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 718/3.
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 719/3.

على رسول اللّه وهو في بيت أُمّ سلمة، والآية الّتي نزلت في توبته هي قوله تعالى:

«وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .(1)

فقالت أُمّ سلمة: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من السحر وهو يضحك فقلت:

ممّ تضحك يا رسول اللّه أضحك اللّه سنّك؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم: «لقد تيب على أبي لبابة» قلت: أفلا أُبشره يا رسول اللّه؟ قال: بلى إن شئت.

فقامت إليه وهو مرتبط بالجذع في المسجد وقالت له: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب اللّه عليك.

فثار الناس ليطلقوه فقال: لا واللّه حتّى يكون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو الّذي يطلقني بيده.

فلمّا مرّ عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه(2).

ولا شكّ أنّ زلّة أبي لبابة كانت بسبب عواطفه تجاه يهود بني قريظة، فقد سلبه بكاء نسائهم وصبيانهم واستغاثتهم العاطفية القدرة على ضبط النفس، فكشف سرّاً من أسرار المسلمين كان عليه أن يكتمه، ولكنّ قوة الايمان باللّه والخشية من عذابه أكبر وأعلى من كلّ شيء إلى درجة أنّها دفعت بأبي لبابة إلى أن يندم على فعله ذلك الندم العجيب، ويعمد - لجبران تلك الخيانة - إلى ما فعل من الإنابة، والاستغفار، الأمر الّذي تكون نتيجته أن لا تراود مثل هذه الفكرة نفسه مرّة أُخرى قط.

ص:332


1- . التوبة: 102.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 718/3-719.

إلى أيّ مدى ذهب الطابورُ الخامس في مشاغبته؟

خرج «شأسُ بن قيس» اليهودي من الحصن ليتحادث مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نيابة عن بني قريظة، فطلب من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يسمح ليهود بني قريظة بأن يحملوا معهم أموالهم ويخرجوا من المدينة كما فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع بني النضير، فأبى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: «لا، إلّاأن تنزلوا على حكمي».

فقال شأس: لك الاموالُ والسلاح وتحقن دماءنا، فأبى النبي صلى الله عليه و آله و سلم ورفض هذا الاقتراح أيضاً.(1)

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه وهو: لماذا رفض رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم مقترحات مندوب بني قريظة؟!

إنّ السبب واضح، فإنّه لم يكن من المستبعد أن تقدم هذه الزمرة - بعد خروجها من قبضة المسلمين - على تحريك العرب المشركين الوثنيّين ضدّ الإسلام والمسلمين على نحو ما فعلت بنو النضير، وتعرّض المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية الفتية لأخطار كبرى جدّاً، وتسبّب في سفك دماء كثيرة.

ولهذا لم يوافق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على اقتراحات مندوب بني قريظة، وعاد شأس إلى الحصن، وأخبر قومه بمقالة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ورفضه لمقترحاته.

فقرّر بنو قريظة التسليم للمسلمين من دون أي قيد أو شرط.

أو الرضا بما يحكم به سعد بن معاذ الأوسي - وكان حليفاً لهم - في حقّهم.

ولهذا عمدوا إلى فتح باب الحصن، ودخل علي عليه السلام على رأس كتيبة خاصّة من المسلمين الحصن، وجرّدوا بني قريظة من السلاح، وحبسوهم في منازل «بني

ص:333


1- . لاحظ: المغازي: 501/1.

النجار» ليتقرّر مصيرهم فيما بعد.

وحيث إنّ يهود بني قينقاع قد أُسروا على أيدي جنود الإسلام ثم عفي عنهم بوساطة من الخزرج وبخاصة «عبداللّه بن أُبي»، وانصرف النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن إهراق دمهم فيما مضى، لذا ضغط الأوسيّون المتحالفون مع بني قريظة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصرّوا عليه إصراراً شديداً بأن يعفو عن بني قريظة الذين كانوا متحالفين مع الأوس من قبل أن يقدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة، وذلك منافسة للخزرج، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قاوم هذا الطلب، وقال لهم:

«ألا ترضَون يا معشرَ الأوس أن يحكم فيهم رجلٌ منكم»؟

قالوا: بلى.

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فذاك إلى «سعد بن معاذ» فهو يحكم فيهم.

والطريف أنّ اليهود قد قبلوا هم أيضاً بما يحكم به سعد بن معاذ فقد بعث بنو قريظة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - كما يروي ابن هشام(1) والشيخ المفيد(2) -: يا محمَّد ننزل على حكم سعد بن معاذ.

وكان سعدٌ آنذاك يتداوى فى خيمة لامرأة تدعى «رفيدة» من سهم أصابه في معركة الخندق، وكانت رفيدة تداوي الجرحى في سبيل اللّه، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعود سعداً بين الحين والآخر، فلمّا حكّمه في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطّئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً جميلاً، ثم أقبلوا معه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا طلع سعد على رسول اللّه والناس حوله صلى الله عليه و آله و سلم جلوس، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «قوموا إلى سيّدكم».

ص:334


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 721/3.
2- . الإرشاد: 111/1. وأيضاً راجع: زاد المعاد: 73/2؛ إمتاع الأسماع: 377/8.

فقام الناس على أرجلهم صفين احتراماً لسعد، وحيّاه كلّ واحد منهم، حتّى انتهى إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقد طلب منه رجالُ قومه مراراً أن يحسن الحكم في حُلفائهم: يهود بني قريظة، ويخلّصهم من خطر الموت والقتل قائلين: يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما ولّاك ذلك لتحسن فيهم.

ولكن سعداً حكم في ذلك المجلس - رغم كلّ ذلك الإلحاح، والضغط - بأن يُقتل رجال اليهود، وتقسَّم أموالهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم(1).

تقييم ما استند إليه سعد في حكمه

ليس من شكّ في أنّه إذا غلبت عواطف القاضي وأحاسيسه على عقله، تعرّض جهاز القضاء للفوضى والاختلال، وانتهى إلى تمزّق المجتمع وسقوطه، وانهيار كلّ شيء، لارتباط كلّ شيء بالعدالة وارتباط العدالة بالقضاء والمؤسسة القضائية.

إنّ العواطف تشبه إلى حد بعيد الشهوة الكاذبة الّتي تزيّن في نظر صاحبها كلّ مضر مهلك في حين إذا غلبت هذه العواطف والمشاعر العقل سحقت مصالح الفرد والمجتمع، أو أضرت به أشدَّ وأبلغ أضرار.

إنّ عواطف سعد وأحاسيسه ومشاعره، ومنظر صبيان ونساء بني قريظة المحزن، وأوضاع رجالهم الّتي كانت تثير الإشفاق وهم في الحبس، وملاحظة الرأي العام في قبيلة الأوسيّين الذين كانوا يلحّون على سعد أن يُحسِن الحكم والرأي في بني قريظة، كلّ هذه الاعتبارات كان من شأنها أن تجعل القاضي فريسة العاطفة، فيصدر حكمه على أساس من تقديم مصالح أقلية خائنة مشاغبة

ص:335


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 720/3-721؛ المغازي: 510/2، زاد المعاد: 73/2 و 74.

على مصالح الأكثرية (أي عامّة المسلمين) ويبرّئ بني قريظة الجناة الخونة، أو يخفف من عقوبتهم أكبر قدر ممكن، على الأقل أو يسلّم لإحدى المقترحات السابقة.

إلّا أنّ منطق العقل، وحرية القاضي واستقلاله في الحكم والقضاء ومراعاة المصالح العامّة كلّ ذلك قاد سعداً إلى ناحية أُخرى، فحكم بأن يقتل رجال تلك الزمرة المتآمرة الخائنة، وتصادر أموالهم، وتسبى نساؤهم وأطفالهم.

وقد استند ذلك الحاكم في حكمه هذا إلى الأُمور التالية:

1. أنّ يهود بني قريظة قد تعهّدوا للنبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل مدّة بأنّهم لو تآمروا ضدّ الإسلام والمسلمين وناصروا أعداء التوحيد، وأثاروا الفتن والقلاقل، وألّبوا على المسلمين، كان للمسلمين الحقّ في قتلهم ومصادرة أموالهم وسبي نسائهم(1).

وقد رأى بأنّه لو حكم بمعاقبة اليهود حسب هذا الميثاق لم يصدر حكماً مخالفاً للعدالة، ولم يرتكب ظلماً.

2. إنّ هذه الزمرة الناقضة للميثاق أخلّت بأمن المدينة في ظلّ حرب القوى المشركة، فترة من الزمن، وهاجمت منازل المسلمين، ولولا مراقبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم للاوضاع وحراسة من عيّنهم من جنود الإسلام للحفاظ على أمن المدينة، لفعلت تلك الزمرة الأفاعيل ولارتكبت أسوأ الفضائع والفجائع، ولو أُتيح لهم أن يسيطروا على المدينة لقتلوا رجال المسلمين وصادروا أموالهم، وسبوا نساءهم وأطفالهم.

ومن هنا رأى سعد بن معاذ في نفسه بأنّه لو قضى فيهم بمثل هذا القضاء لما

ص:336


1- . ولقد مرّ عليك نص هذا الميثاق الّذي وقّع عليه كعب بن الاسد رئيس بني قريظة.

خالف الحقّ.

3. من المحتمل جدّاً أنّ سعد بن معاذ رئيس الأوس الحلفاء ليهود بني قريظة، والذين كانت بينهم علاقات ودّ ومحبَّة كان مطّلعاً على قوانين اليهود، الجزائية في هذا المجال، فإنّ التوراة تنصُ بما يلي: «حين تقربُ من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكلُّ الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك. وإن لم تُسالِمك بل عملت معك حرباً فحاصرها. وإذا دفعها الربُّ إلهُك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف. وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كلّ غنيمتها فتغتنمها لنفسك...»(1).

ولعلّ سعداً فكّر في نفسه بأن القاضي المرضيّ والمقبول لدى الجانبين لو عاقب المعتدين حسب شريعتهم ما فعل إلّاما يقتضيه العدل والانصاف.

4. والّذي نتصوّره هو أنّ أكبر أسباب هذا الحكم هو أنّ «سعد بن معاذ» رأى بأُمّ عينيه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عفا عن بني قينقاع المعتدين بناء على طلب من الخزرجيّين، واكتفى - من عقابهم - بإخراجهم من المدينة، وإجلائهم عنها ولكنّ تلك الزمرة الّتي شملها عفو النبيّ لم تكن تغادر أراضي الإسلام حتّى بدأت بالمشاغبة والمؤامرة الدنيئة ضدّ الإسلام، فذهب كعب بن الأشرف إلى مكّة، وأخذ يتباكى - دجلاً وخداعاً - على قتلى بدر، ويذرف عليهم دموع التماسيح، ولم يفتأ عن تأليب قريش ضد رسول الإسلام وأصحابه حتّى عزمت قريش على تسيير جيشها نحو المدينة، وكانت واقعة، «أُحد» الّتي استشهد فيها اثنان وسبعون من خيرة أبناء الإسلام، ورجاله.

ص:337


1- . التوراة: سفر التثنية، الإصحاح العشرون: 10-14.

وهكذا فعلت بنو النضير المتآمرون الخونة، الذين عفا عنهم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واكتفى من عقابهم بمجرّد إجلائهم عن المدينة، ولكنّهم قابلوا هذا الموقف الإنساني، بتأليب القبائل العربية المشركة ضدّ الإسلام والمسلمين، وكوّنوا اتّحاداً عسكريّاً بينها، وألّفوا منها جيشاً قوياً ساروا به إلى عاصمة الإسلام (المدينة)، فكانت وقعة (الأحزاب) الّتي لولا حنكة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وخطّة حفر الخندق، لقضي على الإسلام بسببها منذ الأيام الأُولى، ولما بقي من ذلك الدين خبر ولا أثر ولقتل آلاف الناس.

لقد لاحظ (سعد بن معاذ) كلّ هذه الاعتبارات، فلم تسمح له التجارب الماضية بأن يستسلم لعواطفه، ويضحّي بمصالح الآلاف في سبيل الحفاظ على مصالح أقلّية، لأنّه كان من المسلّم به أنّ هذا الفريق سيقوم في المستقبل بايجاد تحالف عسكري أوسع، وسيثير ويؤلّب قوى العرب ضد الإسلام ويعرّض مركز الإسلام، ومحوره الأساسي للخطر من خلال تدبير مؤامرات أُخرى.

وعلى هذا الأساس رأى بأنّ وجود هذه الزمرة يضرّ المجتمع الإسلامي مائة بالمائة وأيقين بأنّ هذه الزمرة لو أُتيح لها أن تخرج من قبضة المسلمين لما فتأت لحظة عن المؤامرة ولواجه المسلمون بسببها أخطاراً كبرى.

ومن المحقّق أنّه إذا لم تكن في المقام هذه الجهات والاعتبارات لكان إرضاء الرغبة العامّة في الإبقاء على بني قريظة أو التخفيف في عقابهم أمراً في غاية الأهمية بالنسبة إلى سعد بن معاذ، فإن رئيس أي قوم، أو جماعة أحوج ما يكون إلى تأييد قومه و جماعته وكسب رضاهم ودعمهم، ولا ريب أنّ عدم الاستجابة لمطلبهم، وتجاهل توصياتهم يوجّه أكبر ضربة لسيد القوم ورئيسهم، ولكنّ سعداً (رئيس الأوس) أدرك أنّ جميع هذه التوصيات والوساطات تخالف مصالح الآلاف

ص:338

من المسلمين، من هنا آثر عدم الحياد عن حكم العقل، والمنطق، على رضا قومه عنه.

هذا وإن الَّذي يشهد بدقّة نظر سعد، وصواب رأيه، وصحّة تشخيصه وتقديره للأمر، أنّه عندما أُتي بحيي بن أخطب ليضرب عنقه فوقعت عينه على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: ما لمتُ نفسي في عداوتك، ولكنّه مَن يخذل اللّه يُخذل (أي لولا خذلان اللّه لليهود لاستمرّوا في معاداة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتدبير المؤامرات ضده).

ثم أقبل على الناس فقال: يا أيّها الناس إنّه لا بأس بأمر اللّه وقدره وملحمةٌ كتبها اللّه على بني إسرائيل. ثمّ جلس فضربت عنقه.(1)

ثم إنّه قُتِل في هذه الواقعة من النساء امرأة واحدة؛ لأنّها ألقت برحّى من فوق الحصن فقتلت به أحد المسلمين، فقتلت قصاصاً.(2)

وكان بين المحكوم عليهم بالقتل رجلٌ اسمه «الزبير بن باطا» شفع له رجل من المسلمين يدعى ثابت بن قيس، فلم يُقتل، وأُخلي سبيل زوجته وأولاده، وأُعيدت إليه أمواله(3)، وأسلم أربعةٌ من بني قريظة، وقسّمت غنائم العدوّ بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها، وإخراج ما يرتبط بالأُمور الإدارية الإسلامية العامّة.

وقد أُعطي للفارس سهمان، وللراجل سهمٌ واحدٌ، وسلّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أموال «الخُمس» إلى زيد بن حارثة ليذهب بها إلى نجد ويشتري بها السلاح،

ص:339


1- . تاريخ الطبري: 250/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 722/3؛ إمتاع الأسماع: 377/8.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 722/3.
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 722/3-723.

والخيل، وغيرها من أدوات الحرب(1).

وهكذا انتهت مشكلة بني قريظة في التاسع عشر من شهر ذي الحجّة من السنة الخامسة للهجرة، وقد نزلت في شأن هذه الواقعة الآيات 26 و 27 من سورة الأحزاب إذ يقول سبحانه:

«وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَ كانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً» .

وقد استشهد «سعد بن معاذ» الّذي سبق أن جرح في معركة الخندق بعد حادثة بني قريظة هذه(2).

ص:340


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 724/3-725.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 730/3.

حوادث السنة السادسة من الهجرة

40 أعداء الإسلام تحت المراقبة المشدّدة

اشارة

40 أعداء الإسلام تحت المراقبة المشدّدة(1)

لم تنقض السنة الهجرية الخامسة إلّاوقد انتهت فتنة «الأحزاب» و «بني قريظة»، وقضي عليهما بالكامل، وأصبحت المدينة وضواحيها برمّتها في قبضة المسلمين وتحت سيطرتهم، وازدادت قواعد الحكومة الإسلامية الفتية رسوخاً وثباتاً، وساد هدوء نسبي في المنطقة الّتي تخضع للحكومة الإسلاميّة، غير أنّ هذا الهدوء كان هدوءاً مؤقتاً، وكان على قائد المسلمين الأعلى أن يراقب أحوال العدو وأوضاعه، وتحرّكاته ليقضي في المهد على كلّ مؤامرة ضدّ الإسلام بما أُوتي من قوى وإمكانيات.

ولقد سَمَح الهدوء الّذي ساد المنطقة للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأن يقمع بعض مشعلي

ص:341


1- . يستفاد من السيرة النبوية لابن هشام: 291/3 ط 1355 ه، أن خطة اغتيال «سلّام» كانت قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة، ولكن بالنظر إلى أنّ قضية بني قريظة حدثت في التاسع عشر من شهر ذي الحجّة يستبعد هذا الرأي.

فتنة «الأحزاب» الذين هربوا من قبضة المسلمين بعد رحيل «الأحزاب».

فلقد قُتِل «حيي بن أخطب» الّذي كان من مشعلي معركة الأحزاب، في غزوة بني قريظة، ولكن رفيقه «سلّام بن أبي الحقيق» كان لا يزال يعيش في خيبر، ولا شكّ في أنّ هذا العنصر الخطر لم يكن ليفتأ لحظة واحدة عن إثارة وتأليب «الأحزاب» مرّة أُخرى ضدّ الإسلام، وخاصّة أنّ العرب الوثنيّين كانوا مستعدّين لشن حرب على الإسلام وكان من المحتمل إذا توفّرت هناك جهة تتكفّل نفقات الحرب، أن تتكرّر قضية الأحزاب مرة أُخرى.

على أساس هذه المحاسبات كلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(1) مجموعة من شجعان الخزرج وفوارسهم بأن يصفّوا هذا العنصر الخطر، الجريء والحاقد، بشرط أن لا يتعرّضوا لأحد من أبنائه وزوجاته.

فخرجوا حتّى إذا قدموا خيبر، أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلاً، فلم يدعوا بيتاً في الدار إلّاأغلقوه على أهله حتّى لا يحسّ بهم أحد إذا صاح واستغاث بأحد، ثم تسلّلوا إلى غرفته وكانت في الطابق الأعلى، فطرقوا باب حجرته، فخرجت إليهم امرأته فقالت: مَن أنتم؟ قالوا: ناسٌ من العرب نلتمس الميرة، ففتحت الباب وسمحت لهم بالدخول عليه من دون التحقّق من أمرهم، فدخلوا في غرفته وابتدروه وهو على فراشه بأسيافهم بعد أن أغلقوا باب الغرفة على أنفسهم، وقضوا على ذلك المفسد الشرير الّذي طالما أزعج المسلمين بفتنه ومؤامراته، ثم خرجوا،

ص:342


1- . إنّ السبب أو الحكمة في تكليف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الخزرج بهذه المهمة هو أنّ الأوس قاموابعملية مشابهة في حقّ «كعب بن الأشرف» اليهودي الخطر، فأراد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إقامة توازن في كسب المفاخر بين تينك القبيلتين، ولذلك أوكل مهمة تصفية هذا اليهودي المفسد إلى رجال الخزرج.

وانحدروا من الدرج واختبأوا في ممّر مائي من خارج الحصن إلى داخله، فصاحت زوجته، واستغاثت بالجيران، فأوقد اليهود النيران، واشتدوا في طلب تلك الجماعة الفدائية المسلمة، ولكن من دون جدوى، وعندما يئسوا من القبض عليهم رجعوا إلى صاحبهم المقتول، وقد بلغ من جرأة المسلمين أن بعثوا أحدهم ليدخل بين اليهود في خيبر ويأتي لهم بخبر ابن أبي الحقيق، لأنّهم كانوا يظنّون بأنّه لا يزال على قيد الحياة.

فدخل ذلك الرجل بين اليهود فوجدهم وامرأته حول ابن أبي الحقيق، وفي يدها المصباح تنظر في وجهه، وتحدّثهم، وتقصُّ عليهم ما جرى، ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه ثم قالت: فاظ (أي مات) واله يهود.

فعاد إلى رفاقه وأخبرهم بنجاح عمليّتهم وهلاك عدوّ اللّه: «سلّام بن أبي الحقيق» على أيديهم، فخرجوا في تلك الليلة من مخبأهم وعادوا إلى المدينة وأخبروا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما جرى.(1).

أهل الرأي من قريش يهاجرون إلى الحبشة

توجه جماعة من أهل الرأي في قريش الذين أخافهم تقدّم الإسلام وانتشارُه المطّرد بشدّة، إلى البلاط الحبشي ليقطنوا ويقيموا في الحبشة فقد قالوا: الرأي أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر «محمّد» على قومنا كنّا عند النجاشي، فإنّا أن نكون تحت يديه أحبُ إلينا من أن نكون تحت يدي محمَّد، وإن ظهر قومنا فنحن مَن قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلّاخير.

وخرجت هذه الجماعة وفيهم «عمرو بن العاص» بهدايا كثيرة من الحجاز

ص:343


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 747/3-748.

قاصدة أرض الحبشة، وبلاط النجاشيّ بالذات.

وصادف دخولُهم على «النجاشي» ورود «عمرو بن أُميّة الضمري» مبعوث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحامل كتابه إلى النجاشي يوصيه فيه بجعفر بن أبي طالب، والمهاجرين الآخرين من رفقائه.

فقال «عمرو بن العاص»: هذا عمرو بن أُمية الضمري لو قد دخلتُ على «النجاشيّ» وسألته إيّاه فأعطانيه، فضربت عنقه.

قال عمرو بن العاص: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال:...

أهديت إليَّ من بلادك شيئاً؟

قال ابن العاص: نعم أيّها الملك، قد أهديت إليك أُدما كثيراً، قال: ثمّ قرّبته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيّها الملك إنّي قد رأيت رجلاً خرج من عندك (ويقصد مبعوث رسول اللّه) وهو رسولُ رجل عدوّ لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنّه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.

فغضب النجاشيّ لمقالة ابن العاص غضباً شديداً فصفعه صفعة كادت أن تكسرَ أنفه، ثم قال: أتسألني أن أُعطيك رسول رجلٍ يأتيه الناموس الأكبر الّذي كان يأتي موسى لتقتله؟! قلت: أيّها الملك أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتّبعه فإنّه واللّه لعلى الحقّ، وليظهرنَّ على مَن خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟

قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام ثم خرجتُ إلى أصحابي، وقد حال رأيي عمّا كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي(1).

ص:344


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 748/3 و 749.

الوقاية من تكرار التجارب المرّة

تركت حادثة «الرجيع» المرّة الّتي قتل فيها جماعة من قبائل «عضل» و «القارة» من بني لحيان ثلة من دعاة الإسلام غدراً ومن دون رحمة، بل وسلّمت رجلين منهم بقيا على قيد الحياة إلى قريش فصلبَتهما قريشٌ صبراً إنتقاماً من رسول اللّه والمسلمين.

لقد تركت هذه الفاجعة المأساوية المؤلمة ألماً شديداً في نفوس المسلمين، وأحدثت جرحاً عميقاً في ضمائرهم وأدّت إلى توقّف حركة الإرشاد والتبليغ والدعوة.

ولكن في الظروف المستجدة الّتي استطاع الإسلامُ أن يزيل - بعد الأحزاب وبني قريظة - كلّ العراقيل والعقبات عن سبيل المسلمين، رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الضروري تأديب بني لحيان لتعتبر بقية القبائل، فلا يؤذوا بعد ذلك فرق الدعوة وبعثات التبليغ الإسلامي.

فاستخلف مكانه لإدارة شؤون المدينة «ابن أُمّ مكتوم» في الشهر الخامس من السنة الهجرية السادسة ولم يُظهر لأحد ما يقصده، بل خرج يظهر أنّه يريد الشام ليصيب «بني لحيان» على غفلة منهم، فلمّا وصل إلى طريق مكّة عرّج حتّى نزل بمنطقة تُدعى «غراب» وهي منازل بني لحيان، وقد كان بنو لحيان قد عرفوا بمسير النبي إليهم فحذروه، وتمنّعوا في رؤوس الجبال.

وكان غزو المسلمين هذا، وجبن العدو قد تركا أثراً نفسياً قوياً، فأحدث رعباً في قلوب أعداء الإسلام.

واستكمالاً لهذا الهَدف العسكريّ الهامّ عَمدَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى القيام بسلسلة من المناورات العسكرية، واستعراض القوة القتالية في جنوده ليرهب

ص:345

أعداء اللّه القريب منهم والبعيد ولتسمَع بهم قريش خاصّة فيذعرهم، فنزل في مائتي راكب من أصحابه حتّى نزل عسفان على مقربة من مكّة وقد قال من قبل:

«لوهبطنا عسفان لرأى أهلُ مكّة أنّا قد جئنا مكّة». فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان ثمّ بعث فارسين من أصحابه حتّى بلغا كراع الغميم (وهو موضعٌ بناحية الحجاز بين مكّة والمدينة وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال).

ثمّ كرّ وراح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قافلاً.(1)

فكان جابر بن عبداللّه الأنصاري يقول: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول حين وجه راجعاً من هذه الغزوة:

«... أعوذ باللّه مِن وَعثاء السَفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال»(2).

غزوةُ ذي قَرد

لَم يُقم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة بعد عودته من الغزوة السابقة إلّاليالي قلائل حتّى أغار «عيينة بن حصن الفزاري» بمساعدة بني غطفان، على إبل لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت ترعى في منطقة تُدعى الغابة (وهي موضعٌ قرب المدينة من ناحية الشام) كانت مرعى أهل المدينة، وكان فيها آنذاك رجلٌ من بني غفار، وامرأة مسلمة له، فقتلوا الرجل، وأخذوا معهم المرأة والإبل. وكان أوّل مَن أخبر الناس بذلك رجلٌ يُدعى سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي وكان قد غدا يريد الغابة متوشحاً سيفه وقوسه ونبله، يريد الصيد، حتّى إذا

ص:346


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 751/3.
2- . تاريخ الطبري: 254/2-255؛ المغازي: 537/1؛ إمتاع الأسماع: 379/8.

علا «ثنية الوداع» نظر إلى بعض خيول المغيرين، فصعد على تلّة سلع وصرخ مستغيثاً ومستنجداً: واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم (المغيرين) فجعل يردّهم بالنبل، ولكن المعتدين لاذوا بالفرار.

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أوّل مَن سمع صراخ ابن الأكوع واستغاثاته، فصرخ صلى الله عليه و آله و سلم هو مستغيثاً: الفزع، الفزع. فأسرع جماعة من الفرسان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا اجتمعوا عنده أمّر عليهم «سعد بن زيد الأشهليّ» وقال له:

«أُخرج في طلب القوم، حتّى ألحقكَ في الناس».

فخرج الفرسان المسلمون في طلب القوم، وخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من ورائهم، حتّى أدركوا القوم في ذي قرد، فوقع بين المسلمين، وبين المغيرين قتال قليلٌ قتلَ فيه من المسلمين رجلان، ومن المعتدين ثلاثة، واستنقذت المرأة، وبعض الإبل المسروقة، ولكن العدوّ لجأ إلى غطفان، فأقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك المنطقة يوماً وليلة، تخويفاً للعدوّ، ولم يَرَ من الصالح ملاحقة العدوّ رغم إصرار بعض المسلمين على ملاحقتهم، واستنقاذ بقية السرح (الإبل).

ثم رجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قافلاً حتّى قدم المدينة(1)، وكانت هذه الغزوة في الثالث من ربيع الأوّل من السنة السادسة من الهجرة(2).

النذر غير المشروع

وأقبلت المرأة الغفارية المسلمة الّتي استنقُذت من أيدي المغيرين على ناقة من إبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى قدمت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبرته بما جرى ثم

ص:347


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 255/2، المغازي: 537/1 و 549.
2- . إمتاع الأسماع: 380/8.

قالت: يا رسول اللّه إنّي قد نذرتُ للّه أن أنحرها إن نجّاني اللّه عليها فآكلُ كَبدَها وسنامها.

فتبسّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال:

«بئس ما جَزيتيها أن حمَلَك اللّه عليها ونجّاك بها ثم تنحريها، إنّه لا نَذر في معصية اللّه، ولا فيما لا تَملِكين إنّما هيَ ناقةٌ مِن إبلي، فارجعي إلى أهلك على بركة اللّه»(1).

وبذلك بَيّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حكماً في مجال النَذر، وهو أن النذر لا يصحّ في مال الغير، فلا نذر إلّافي ملك.

والقصّة إلى جانب ذلك تكشف عن الخلق العظيم الّذي كان يتحلّى به قائد الإسلام الأعلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولطفه بأصحابه واتباعه، حيث جابه المرأة المذكورة برفق ولطف، وبصّرها بما لها وما عليها في منتهى التواضع والشفقة.

ص:348


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 755/3؛ المغازي: 548/1؛ الطبقات الكبرى: 133/2؛ إمتاع الأسماع: 264/1، قال صاحب الإمتاع: و كانت الناقة هي القصواء، والقصواء اسم ناقة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

41 تمرّد بني المُصطَلِق

اشارة

لقد بلغَت قوةُ المسلمين العسكرية في السنة الهجرية السادسة حدّاً ملفتاً للنظر، بحيث تمكّن جماعة خاصّة منهم أن يتردّدوا على المناطق القريبة من مكّة بمنتهى الحرية، ومن دون خوف، بيد أنّ هذه القوة العسكرية لم تكن كافية للسيطرة على المناطق الّتي كان تتواجد فيها القبائل المشركة، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم.

وإذا كان المشركون لا ينتزعون المسلمين حريتهم، وكانوا يسمحون لأن تجري النشاطات التبليغية من دون منع أو معارضة لما كان رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم يقدم على شراء الأسلحة، وبعث السرايا، والمجموعات العسكرية، ولكن حيث إنّ نشاطات المسلمين التبليغية، ومجموعات الإرشاد والدعوة كانت تتعرّض باستمرار للمضايقة، والأذى؛ بل والاغتيال من قِبَل العدو، لذلك كان رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم مضطرّاً بحكم العقل والفطرة أن يقوّي من قدرات الإسلام الدفاعية.

لقد كانت العلل والأسباب الواقعيّة لأكثر الحروب الّتي وقعت إلى السنة الهجرية السادسة؛ بل حتّى آخر لحظة من حياة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم تتلخّص في

ص:349

إحدى الأُمور التالية:

1. الردّ على اعتداءات المشركين الغادرة، مثل معركة «بدر» و «أُحد» و «الخندق».

2. تأديب وعقاب الظالمين الذين قتلوا رجالاً أبرياء من المسلمين، أو قتلوا جماعات الدعوة والتبليغ في البراري والقفار النائية، أو عرّضوا كيان الإسلام للخطر بنقضهم عهودهم، وتتمثّل هذه الحروب في الغزوات الثلاثة ضدّ الطوائف اليهودية الثلاث (بني قينقاع، بني النضير، بني قريظة) وبني لحيان.

3. إفشال وإحباط المؤامرات، أو محاولات التمرّدُ الّتي كانت على شرف الانعقاد في القبائل الّتي كانت تنوي بجمع الرجال والأسلحة غزو المدينة، واكتساح عاصمة الإسلام واستئصال المسلمين، وكانت أكثر الحروب الصغيرة والمناوشات العابرة ناشئة من هذا العامل الأخير.

غزوة بني المُصطلِق

كان بنو المصطلق من قبائل «خزاعة» المتحالفة مع قريش.

وقد بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ الحارث بن أبي ضرار زعيمها يعدّ العدّة، ويجمع الرجال المقاتلين لمحاصرة المدينة وغزوها، فقرّر رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يقضي على هذه المؤامرة في مهدها كما كان يفعل دائماً.

ولهذا أرسل أحد أصحابه وهو: «بريدة» إلى أرض بني المصطلق ليأتي بأخبارهم، فذهب بريدة، ودخل فيهم وتحادث - في هيئة متنكّرة - مع رئيسهم وعرف بنيّته، ثم عاد إلى المدينة وأخبر رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم بما رآه وسمعه، وأنّ بني المصطلق عازمون على المسير إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمحاصرة المدينة.

ص:350

فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جمع من أصحابه حتّى لقيهم عند ماء يُدعى «المُريسيع»، ونشبت الحرب بينهم وبين المسلمين، ولكن صمود المسلمين وبسالتهم الّتي كانت قد أرعبت قلوب قبائل العرب تسبّب في أن لا يطول القتال بين المسلمين وبين «بني المصطلق» فتفرّق جيش العدو بعد أن قتل منهم عشرة رجال، كما وقتل رجل مسلم خطأ، فأصاب المسلمون غنائم كثيرة وسبوا جماعة كبيرة من نساء بني المصطلق(1).

هذا وإنّ النقاط والدروس المفيدة في هذه الواقعة تتمثّل في السياسة الحكيمة الّتي مارسها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حوادث هذه الغزوة، ممّا سنذكر بعضها عمّا قريب.

أوّل خلاف بين المهاجرين والأنصار

وقد شبّ في هذه المنطقة ولأوّل مرّة خلافٌ بين المهاجرين والأنصار، كاد أن يأتي بنتائج مروّعة أبسطها أن توجّه ضربة قوية إلى الاتّحاد الحاصل بين المسلمين نتيجة هوى البعض وهوسهم لولا تدبير النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وحكمته الرشيدة الّتي أنهت كلّ شيء، وأبقت على روح التآخي بين المسلمين.

وتعودُ جذور هذه الحادثة إلى تزاحم رجلين من المسلمين على البئر بعد أن وضعت الحرب أوزارها.

فقد ازدحم «جهجاه بن مسعود» وهو من المهاجرين و «سنان بن وبر الجهني» وهو من الأنصار على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني - مستغيثاً بقبيلته على عادة الجاهليّين -: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، وكاد أن

ص:351


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 758/3، تاريخ الطبري: 260/2، إمتاع الأسماع: 369/8.

يتقاتل المسلمون من الفريقين فيما بينهم في هذه الحادثة، وفي هذا المكان البعيد عن عاصمة الإسلام ومركزه، ويتعرّض بذلك كيانهم للسقوط والانهيار، لأنّهم تواعدوا على القتال، كلّ فريق انتصاراً لصريخه.

فلمّا عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك قال:

«دَعُوها فإنها منتنة».(1)

أي أنّ هذا النوع من الاستغاثة ولمثل هذا الدافع ما هو إلّامن دعوى الجاهلية، وقد جعل اللّه المؤمنين إخوة وحزباً واحداً، فإنّما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين، وإلّا كانت جاهلية، لاقيمة لها في الإسلام.

وبذلك قضى النبي الحكيم على الفتنة في مهدها، وجنّب المسلمين أخطارها.

منافق حاول إشعال الموقف

أجل لقد استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهذا الاستنكار الشديد أن يطفئ نار الاختلاف والتنازع فيكفّ الفريقان (القبيلتان) عن استئناف التنازع والتقاتل.

إلّا أنّ «عبدَ اللّه بن أُبي» رئيس حزب المنافقين بالمدينة، والّذي كان يكنُّ حقداً كبيراً على الإسلام وقد شارك في تلك الغزوة طمعاً في الغنيمة، أظهر - في هذه الحادثة - حقده، وضغينته على الإسلام، وقال لرهط من أهل المدينة كانوا عنده آنذاك: أوقد فعلوها، قد نافرونا (أي المهاجرين) وكاثرونا في بلادنا، واللّه ما أعدّنا وجلابيب قريش إلّاكما قال الأوّل: سمّن كلبَك يأكلك، أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُ منها الأذل (ويقصد بالأذلّ المهاجرين)!!!

ص:352


1- . لاحظ: صحيح البخاري: 65/6، كتاب التفسير، سورة المنافقين؛ صحيح مسلم: 19/8، باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً.

ثمّ أقبل على مَن حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما واللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم.(1)

فتركت كلمات «ابن أُبي» أمام تلك الجماعة الّتي كانت لا تزال تعاني من بقايا عصبية جاهلية، أثرها في نفوسهم، وكادت توجه ضربة قاضية إلى صرح الوحدة الإسلاميّة، والإخوة الإيمانية الّتي كانت تشدّ المسلمين - أنصاراً ومهاجرين - بعضهم ببعض كالبنيان المرصوص.

ومن حسن الحظ أنّ فتى غيوراً من فتيان المسلمين هو زيد بن الأرقم لمّا سمع بهذه الكلمات المثيرة للشغب والفتنة ردّ على «ابن أُبي» بكلمات قوية شجاعة إذ قال: أنت واللّه الذليلُ القليلُ المبغَضُ في قومك، ومحمَّد في عزّ من الرحمن، ومودّة من المسلمين، واللّه لا أُحبُّك بعد هذا أبداً.(2)

ثم نهض ومشى إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره الخبر، فردّه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثلاث مرات حفظاً للظاهر، قائلاً: لعلّك وهمت يا غلام؟ قال: لا واللّه ما وهمت، فقال: فلعلك غضبت عليه؟ قال: لا واللّه ما غضبت عليه، قال: فلعلّه سفّه عليك؟ قال: لا واللّه.(3)

إنّ زيداً كان يؤكّد على صحّة ما أخبر به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من مقالة المنافق الخبيث «عبداللّه بن أُبي»، وتحريكه للناس ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وهنا طلب عمر بن الخطاب من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يُقتَلَ «ابن أُبي» قائلاً: مر

ص:353


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 758/3؛ تاريخ الطبري: 261/2.
2- . بحار الأنوار: 282/20.
3- . بحار الأنوار: 286/20.

به عبّادَ بن بشر فليقتله(1).

ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أجاب عمر بقوله:

«فكيف يا عُمَر إذا تحدّثَ الناسُ أنّ محمَّداً يقتُل أصحابه، لا»(2).

ولقد مشى «عبداللّه بن أُبي» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين بلغه أنّ «زيد بن الأرقم» قد بلَّغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما سمع منه، فحلف باللّه: ما قُلتُ ما قال، وقال بعض مَن حضر من أهل الرأي من أصحابه دفاعاً عن ابن أُبي: يا رسول اللّه عسى أن يكون الغلامُ قد أُوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل.

ولكن الأمر لم ينته إلى هذا، فقد كان هذا نوعاً من الهدوء المؤقّت تماماً كالهدوء الّذي يسبق العاصفة، الّذي لا يمكن الاطمئنان إليه.

فقد كان يتوجّب على قائد المسلمين الأعلى أن يقوم فوراً بما يؤدّي إلى أن ينسى الطرفان هذه القصّة نهائياً، ولهذا أمر بالرحيل في ساعة من النهار لم يكن صلى الله عليه و آله و سلم يرتحل فيها عادة.(3)

فجاءه «أُسيد بن حضير»، وقال: يا نبي اللّه، واللّه لقد رحت في ساعة منكرة

ص:354


1- . تثبت دراسة حياة الخليفة الثاني أنّه لم يبد في أيّة معركة من معارك الإسلام قوة وبسالة، بل كان في صفّ المتقاعدين دائماً. ولكن كلّما أسّر المسلمون أحداً كان هو أوّل مَن يقترح على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقتله ونذكر للمثال ما يلي: أ. هذا المورد الّذي طلب فيه من رسول اللّه أن يُقَتَلَ ابن أُبي. ب. طلبه من النبي بأن يُقتَل حاطب بن أبي بلتعة الّذي تجسّس لصالح المشركين من أهل مكّة في فتح مكّة. ج. طلبه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقتل أبي سفيان الّذي جاء به العباس عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى خيمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبيل فتح مكّة، وغير ذلك من الموارد الّتي سبقت أو الّتي تأتي.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 759/3؛ إمتاع الأسماع: 208/1.
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 759/3.

ما كنت تروح في مثلها؟

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أو ما بلغك ما قال صاحبُكم؟ قال: وأي صاحب يا رسول اللّه؟ قال: «عبد اللّه بن أُبي». قال: وما قال؟ قال: «زعم أنّه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزُّ منها الأذل»؟

فقال أُسيد: فأنت يا رسول اللّه واللّه تخرجهُ منها إن شئت، هو واللّه الذليلُ، وأنت العزيز، ثمّ قال: إرفق به يا رسول اللّه، فَواللّه لقد جاء اللّه بكَ وأنّ قومه لينظِمُون لَهُ الخِرَز ليتوِّجوهُ، فإنّه ليرى أنّك قد استلبته مُلكاً.

ثم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالرحيل فارتحلَ الناسُ، وسار بهمُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يومَهُم ذاك حتّى أمسى، وليلتهم تلك حتّى أصبحَ، من دون أن يسمحَ لهم بالنزول والاستراحة، إلّاللصلاة، وسار بهم في اليوم هكذا حتّى آذتهم الشمسُ وسُلبوا القدرة على مواصلة السير فأذن لهم بالاستراحة، فنزل الناس، ولم يلبثُوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً من شدة التعب، وقد نسوا كلّ شيء من تلك الذكريات المرّة، وكان هذا هو ما يريده النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد سار بهم ليل نهار من دون توقّف ليشغِلَهم عن الحديث الّذي كان من «عبداللّه بن أُبي» المنافق المفتِّن(1).

صراعٌ بين الإيمان والعاطفة

كان عبداللّه بن «عبداللّه بن أُبي» من فتيان الإسلام الشجعان، ومن فرسانه البواسل، وكان - كما تقتضيه تعاليم الإسلام - يبرّ بأبيه المنافق أكثر من غيره، ولكنّه

ص:355


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 759/3-760، تاريخ الطبري: 261/2 و 262، مجمع البيان: 21/10-22.

عندما عرف بما تفوّه به أبوه في شأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وظنّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سيقتل أباه، جاء إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا رسول اللّه إنّه بلغني أنّك تريد قتل «عبداللّه بن أُبي»، فيما بلغك عنه، فإن كنت لابدّ فاعلاً فمرني به فأنا أحمل اليك رأسه، فواللّه لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي، وإنّي أخشى أن تأمر به غيري، فيقتله فلا تدعني نفسي أنظرُ إلى قاتل عبداللّه بن أُبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل (رجلاً) مؤمناً بكافر فأدخلَ النار!!(1)

إنّ حديث هذا الفتى يعكس - في الحقيقة - أعظم تجلّيات الإيمان وآثاره في النفس، والروح الإنسانية.

لماذا لم يطلب من النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يعفو عن أبيه؟! لأنّه كان يعلم أنّ ما يفعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما هو بأمر اللّه تعالى، ولكنّ ابنَ عبداللّه كان يرى نفسه في صراع روحيّ حادّ.

فمن جانب كانت تدعوه عواطف البنوّة والأخلاق العربيّة أن ينتقم ممّن يقتل أباه، ويسفك بالتالي دم مسلم.

ومن جانب آخر توجب عوامل أُخرى مثل ضرورة استتباب الأمن والطمأنينة في البيئة الإسلامية أن يُقتَلَ رأسُ المنافقين «ابن أُبي»، إنّه صورة من صورة الصراع بين مقتضى الايمان، ومقتضى العاطفة.

ولقد اختار عبداللّه بن عبداللّه بن أُبي طريقاً ثالثاً في هذا الصراع، يضمن مصالح الإسلام من جهة، ويحافظ على مشاعره من أن تُجرَح على أيدي الآخرين من جهة أُخرى، وذلك بأن يكون هو الّذي ينفّذ حكم الإعدام في أبيه المنافق المشاغب.

ص:356


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 760/3.

وهذا العمل وإن كان شاقّاً مؤلماً إلّاأنّ قوة الإيمان باللّه والتسليم لأمره سبحانه كانت تفيض عليه قدراً كبيراً من الطمأنينة والسكون.

ولكنّ النبيّ الرحيم صلى الله عليه و آله و سلم ردّ على سؤال واقتراح عبداللّه بن عبداللّه بن أُبي قائلاً:

«بل نترفّق به ونحسن صحبتَهُ ما بقي معنا»!!!

وهذا الكلام الّذي يكشف عن سمو أخلاق النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ومبلغ رحمته، أدهش المسلمين جميعاً فتوجّهوا باللوم والعتاب الحادّ إلى المنافق «عبداللّه بن أُبي»، ولحقه بسبب ذلك ذلٌ شديدٌ بين الناس ما وراءه ذلٌ، وهوانٌ ما وراءه هوانٌ، واحتقره الناس حتّى أنّه لم يعد أحدٌ يعبأ به، ويقيم له وزناً.

لقد عَلَّم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين في هذه الحوادث دُرُوساً مفيدة جدّاً، وأظهر جانباً من سياسة الإسلام الحكيمة، والرشيدة.

فقد تحطم «عبداللّه بن أُبي» رئيس المنافقين بعد هذه الحادثة، ولم يعد له أي دور، بل عاش بقية حياته مهاناً محتقراً بين الناس بعد أن رأى الناس إيذاءه المستمر لرسول اللّه، وعفو النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عنه، وإغضاءه عن مساوئه.

وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعمر بن الخطاب ذات يوم حين بلغه احتقار الناس لابن أُبي ذلك الاحتقار، وسقوط محلّه في القلوب:

«كَيفَ ترى يا عُمَر، أما واللّه لَو قتلتُه يوم قلت لي: اقْتُلْه، لأُرعدت له أُنفٌ، لو أمرتُها اليوم بقتله لقتلتهُ».

فقال عمر: قد واللّه علمتُ لأمرُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أعظم بركة من أمري(1).

ص:357


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 760/3-761، وفي السيرة الحلبية: 603/2: لأُرعدت له أنوف.

الزَواجُ المبارك

كانت «جويرية» بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق من جملة السبايا الّتي وقعت في أيدي المسلمين في غزوة بني المصطلق، فأقبل أبوها الحارث بفداء ابنته إلى المدينة فلمّا كان في وادي العقيق نظر إلى الإبل الّتي جاء بها لفداء ابنته فرغبَ في بعيرين منها، فغيَّبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا محمّد أصبتم ابنتي وهذا فداؤها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «فأينَ البعيران اللّذان غيبّتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا»؟!

فلمّا سمع الحارث بهذا الخبر الغيبي على لسان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم آمنَ هو وولداه به، وأسلم أُناس آخرون من قومه كانوا معه، وأرسل إلى البعيرين فجاء بهما، فدفع الإبل إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودُفعَت إليه ابنته «جويرية» فأسلمت هي أيضاً وحسن إسلامها.

ثم خطبها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أبيها، فزوّجه إيّاها، وأصدقها أربعمائة درهم.(1)

فلمّا بلغ الناس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تزوّج جويرية بنت الحارث وكان بأيديهم بعض الأسرى من بني المصطلق قالوا: أصهارُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأطلقوا ما كان بأيديهم من أُولئك الأسرى وكانوا مائة عائلة، فما عُلِمَ امرأة اعظم بركة على قومها منها، فقد اعتق بتزويجه إيّاها مائة من بني المصطلق.

ص:358


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 762/3-763؛ إمتاع الأسماع: 315/13.

وهكذا أُطلِق جميعُ أسرى بني المصطلق الذين كانوا بأيدي المسلمين رجالاً ونساء بفضل ذلك الزواج المبارك، أو قل بفضل هذه السياسة الاجتماعية الحكيمة، وعادوا إلى قبيلتهم(1).

الفاسق يفتضح

كان إسلام بني المصطلق إسلاماً نابعاً من قناعة ورغبة؛ لأنّهم لم يجدوا من المسلمين خلال مدّة الأسر إلّاحسن المعاملة والإحسان والعفو حتّى أنّه تمّ إطلاق جميع الأسرى ببعض الذرائع وعادوا إلى قبيلتهم وأهليهم.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أرسل إليهم «وليد بن عقبة بن أبي معيط» لجباية زكاتهم، فلمّا سمعوا بقدومه خرجوا إليه راكبين ليكرموه وليؤدّوا إليه ما عليهم من الزكاة، فلمّا سمع بهم هابهم، فرجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره بأنّ القوم قد همّوا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتى همّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يغزوهم، فبينما هم على ذلك قدم وفدهم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالوا: يا رسول اللّه سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة فانشمر راجعاً؛ فبلغَنا أنّه زعم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّا خرَجنا إليه لنقتلهُ، وواللّه ماجئنا لذلك. فنزلت في هذا الشأن الآية السادسة من سورة الحجرات تؤيّد مقالة بني المصطلق وتصف الوليد بالفسق، إذ يقول تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» .(2)

ص:359


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 762/3؛ إمتاع الأسماع: 314/13-315.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 763/3.

42 قصّة الإفك

اشارة

بقي رئيس حزب النفاق عبداللّه بن أُبي يواصل تجارته بالجواري، والإماء ويضعهن تحت تصرّف الرجال للزنا بهن، ليجني من هذا الطريق أرباحاً طائلة.

حتّى بعد دخول الإسلام في المدينة.

فعندما نزلت آيات تحريم الزنا كان ذلك الفاسق يمارس حرفته القذرة، حتّى أنّ إماءه ضقن بهذا العمل الفاجر ذرعاً، فشكينَ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالت إحداهن: إنّ سيّدي يكرهني على البغاء.

فنزلَ قوله تعالى في شجب هذا العمل الدنيء:

«وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» (1).(2)

ولقد أراد رجل يعبث بعفاف النساء كهذا، أن يسيء إلى امرأة ذات مكانة وشخصية في المجتمع الاسلامي(3)، ويتهمها بالزنا نكاية بالمؤمنين، والمؤمنات،

ص:360


1- . النور: 33.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 246/7، تفسير الدر المنثور: 46/5.
3- . اخترنا هذا التعبير لورود نوعين من شأن النزول في المقام بحيث لم يتأكّد للمؤلّف مَن هي

وبغياً وحسداً.

حقّاً إنّ معاداة النفاق للإيمان من أشدّ أنواع المعاداة، فإنّ العدوّ المشرك والكافر يعمد دائماً إلى إشفاء غيظه وإطفاء غضبه وحنقه باستخدام عدائه في جميع الموارد والأوقات.

ولكنّ المنافق الّذي يتظاهر بالإيمان، ويتستّر بالإسلام حيث إنّه لا يمكنه التظاهر بعدائه، فإنّ عداءه الباطني يتراكم ويتصاعد حتّى يصل أحياناً إلى حدّ الإنفجار، لهذا ينطلق المنافق في كيل التهم من دون حساب أو ميزان تماماً كما يفعل المجانين.

ونرى مثل هذه الحالة في عبداللّه بن أُبي.

ولقد ظهرت ذلّةُ «عبداللّه بن أُبي» رئيس حزب النفاق في واقعة بني المصطلق، وقد منعه ابنه من دخول المدينة، ولم يسمح له بدخولها إلّابوساطة من النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وهكذا آل مصير رجل كان يحلم بالملوكية والسلطان إلى أن يمنعه أخصّ أقربائه عن الدخول إلى مسقط رأسه، فيما كان يطلب هو من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يكفّ عنه ولده.

إنّ من الطبيعي أن يعمد رجلٌ مثل هذا إلى فعل كلّ ما يشفي غليله ويذهب غيظه، ومن ذلك ترويج الشائعات الكاذبة انتقاماً من المجتمع الإسلامي.

فعندما يعجز العدوّ عن المواجهة المباشرة يعمد إلى حبك الشائعات،

ص:361

وترويجها وإشاعتها ليستطيع من خلال ذلك، توجيه ضربة نفسيّة إلى المجتمع، وكذا بلبلة الرأي العام، وإشغاله بالتوافه وصرفه عن القضايا المهمة والمصيرية.

إنّ سلاح الشائعات من الأسلحة المدمّرة الّتي يمكن أن تستخدم في تشويه سمعة الأفراد الصالحين، وإبعاد الناس عنهم.

المنافقون يتّهمون شخصاً نقيّ الجيب

يستفاد من الآيات النازلة في قضيّة «الإفك» أنّ المنافقين اتّهموا شخصاً بريئاً بتهمة الزنا، تحقيقاً لمآربهم الدنيئة، وإضراراً بالمجتمع الإسلاميّ، وقد ردّهم القرآن وشجب عملهم بشدّة قلّ نظيرها، وأبطل خطّتهم.

فمَن هو - يا ترى - ذلك البريء؟ إنّ في ذلك خلافاً بين المفسّرين، فالأكثرون على أنّها «عائشة» زوجة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ويرى الآخرون أنّها «مارية» القبطية أُمّ إبراهيم وزوجة رسول اللّه أيضاً، ولقد ذكروا أسباباً مختلفة لنزول هذه الآيات لا تخلو عن إشكال. وها نحن ندرس القول الّذي يذهب إلى أنّ المراد في هذه الآيات هو: «عائشة»، وتوضيح ما يصحّ وما لا يصح في هذا المجال:

دراسة القول الأوّل

يرى المحدّثون والمفسّرون من أهل السنّة أنّ نزول آيات «الإفك» يرتبط بعائشة، ويذكرون في هذا المجال رواية مفصّلة لا يتلاءم بعضها مع عصمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومن هنا لا يمكن القبول بهذا القول على إطلاقه.

وها نحن نذكر ما يتلاءم من هذه القصّة مع عصمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم نستعرض آيات الإفك، ثم نشير إلى القسم الّذي يخالف عصمته صلى الله عليه و آله و سلم في هذا القول.

ص:362

إنّ إسناد هذه الرواية تنتهي برمّتها إلى «عائشة»(1) نفسها، فهي تقول: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتّهنّ خرج سهمها خرج بها معه، فلمّا كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه، كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهن معه فخرج بي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم...، فلمّا فرغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من سفره ذلك وجّه قافلاً، حتّى إذا كان قريباً من المدينة نزل منزلاً، فبات به بعض الليل، ثم أذّن في الناس بالرحيل، فارتحل الناسُ وخرجتُ لبعض حاجتي، وفي عنقي عقد لي، فيه جزع ظفار (أي خرز يمني)، فلمّا فرغت انسلّ من عنقي ولا أدري، فلمّا رجعت إلى الرَّحل ذهبت التمسُه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل، فرجعت إلى مكاني الّذي ذهبتُ إليه، فالتمستُه حتّى وجدته، وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحّلون لي البعير، وقد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج، وهم يظنون أنّي فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه، فشدّوه على البعير ولم يشكُّوا أنّي فيه، ثم أخذوا رأس البعير، فانطلقوا به، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب، قد انطلق الناس .

قالت: فتلفّفت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو قد افتقدتُ لرجع إليّ. قالت: فواللّه إنّي لمضطجعة إذ مرّ بي صفوان بن المعطل السلمي (وهو من فرسان الإسلام) وقد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي، فأقبل حتّى وقف عليّ، وقد كان يراني قبل أن يُضرب علينا الحجاب، فلمّا رآني قال: إنا للّه وإنا إليه راجعون ظعينة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأنا متلفّفة في ثيابي. قال: ما خلّفكِ يرحمك اللّه. قالت: فما كلّمتُه، ثم قرّب البعير فقال:

إركبي، واستأخرَ عنّي فركبتُ، وأخذ برأس البعير، فانطلق سريعاً يطلبُ الناس،

ص:363


1- . راجع: تفسير الدر المنثور: 24/5-34.

فواللّه ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتّى أصبحت، ونزل الناسُ فلمّا اطمأنوا طلَع الرجلُ يقودني، فقال أهل الإفك ما قالوا؛ فارتعج العسكر (أي شكوا فيّ) وواللّه ما أعلم بشيء من ذلك.(1) حتّى نزلت آيات «الإفك» تبرّئني ممّا اتّهمني به المنافقون .

هذا القسم من شأن النزول الّذي لخّصناه لك من قصّة مفصّلة يمكن تطبيقها مع آيات «الإفك»، وليس فيه ما ينافي عصمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

واليك الآيات الّتي نَزلَتْ في هذا المجال:

«إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ * لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ * وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيمٌ * وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» .(2)

أبرز النقاط في آيات «الإفك»

يستفاد من القرائن أنّ هذه التهمة كانت نابعة أساساً من المنافقين، أي أنّه من

ص:364


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 764/3-765. ولاحظ: صحيح البخاري: 55/5-57، حديث الإفك؛ وج 5/6-7، تفسير سورة النور.
2- . النور: 11-16.

كيدهم، وإليك هذه القرائن:

1. يقال: أنّ المراد من قوله سبحانه: «وَ الَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ» هو «عبداللّه بن أُبي» رئيس المنافقين، وكبيرهم.

2. لقد عبّر تعالى في الآية الحادية عشرة عن الذين اتّهموا المرأة بلفظ:

«عصبة» وهذه العبارة تستعمل في الجماعة المنظّمة، الّتي يربطها هدفٌ واحدٌ وتحدوها غايةٌ واحدةٌ، وتفيد أنّهم كانوا متعاونين ومتعاضدين في المؤامرة، ولم يكن مثل هذه الجماعة بين المسلمين إلّاالمنافقون.

3. أنّ «عبداللّه بن أُبي» بسبب منعه من الدخول إلى المدينة، بقي عند مدخل المدينة، وعندما شاهَد عائشة وهي راكبة بعير صفوان استغل الفرصة للإيقاع برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إشفاءً لغيظه، فبادر إلى استعمال سلاح التُّهمة والبهتان، وقال:

إنّ زوجة النبي صلى الله عليه و آله و سلم باتت مع أجنبي في تلك الليلة وواللّه ما نجا منهما مِن الإثم أحدٌ.

4. إنّه تعالى يقول في نفس الآية (أي الحادية عشرة): «لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» .

والآن يجب أن نرى كيف لا يكون اتّهام مؤمن طاهر الجيب، شرّاً للمؤمنين؛ بل يكون خيراً لهم؟

إنّ سبب ذلك هو أنّ هذه القصّة كشفت القناع عن نوايا المنافقين ومقاصدهم الشرّيرة وافتضحوا برمّتهم، هذا مضافاً إلى أنّ المسلمين أخذوا من هذه القضية دُرُوساً مفيدة، مذكورة في محلّها.

ص:365

الزيادات في هذه القصّة

اشارة

هذا القدر من القصّة يمكن تطبيقه مع القرآن الكريم، ولا يتنافى مع عصمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولكنّ البخاري روى بين ثنايا هذه القصّة أُموراً - نقلها عنه الآخرون في الأغلب - تعاني من إشكالين أساسيين هما:

1. منافاتها لمقام النبوّة والعصمة

فقد روى البخاري عن عائشة نفسها قولها:

فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أنّي لا أعرف من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكي، إنّما يدخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيسلّم ثم يقول: كيف تيكم، ثم ينصرف، فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر... فأخبرتني (أُمّ مسطح) بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي، قالت:

فما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي قالت: وأنا حينئذٍ أُريد أن استيقن الخبر من قبلهما، فإذن لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فجئت أبوي، فقلت لأُمّي: يا أمتاه ما يتحدّث الناس؟ قالت: يا بنيّة هونّي عليك فواللّه لقلّما كانت امرأة قط وظيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلّاكثرن عليها.... ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شاور «أُسامة بن زيد» في الأمر، فأثنى عليَّ خيراً وقال: يا رسول اللّه أهلَك وما نعلم إلّاخيراً.

وشاور عليّاً فقال: يا رسول اللّه لم يضيّق اللّه عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية ستُصَدّقك (إي جارية عائشة) فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بريرة فقال: أي

ص:366

بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحقّ إن رأيت عليها أمر أغمضه عليها...(1)

إنّ هذا القسم من الرواية يتنافى بقوة مع عصمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّه يكشف عن أنّ النبي وقع فريسة بأيدي الشائعات الكاذبة إلى درجة أنّه غيّر سلوكه مع عائشة، وشاور أصحابه فيها!!

إنّ مثل هذا الموقف مع شخص بريء لا يوجدُ على تهمته أي دليل، ليس فقط يتنافى مع مقام العصمة النبوية، بل يتنافى حتّى مع مقام مؤمن عادي؛ لأنّه بين المؤمنين ليس من الجائز أبداً أن تغيَّر الشائعات سلوك مسلم عاديٍّ تجاه شخص منهم، وحتّى لو تركت تلك الشائعات تأثيراً في نفس المسلم، فليس من الجائز أن تُحدث مثل ذلك التغيير والانقلاب في نظرته وسلوكه.

إنّ القرآن الكريم يوبّخ في الآية 12 و 16 من سورة النور أُولئك الذين وقعوا فريسة الشائعات وظنّوا الظنّ السوء إذ يقول تعالى:

«لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ» ؟

«وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» ؟!(2).

فإذا صحَّ هذا القِسمُ من الرواية المذكورة في شأن النزول لزم أن نقول: إنّ

ص:367


1- . لاحظ: صحيح البخاري: 6/6-7، تفسير سورة النور، و ج 56/5-57، حديث الإفك، السيرة النبوية لابن هشام: 766/3.
2- . أي لماذا - عندما سمعتم بهذا الافتراء - لم تظنّوا بأنفسكم خيراً؟! وقلتم: هذا إفك، ولماذا - عندما سمعتم بهذا الكلام - لم تقولوا هذا بهتان لا يجوز ان نتكلم به؟!

هذا العتاب الشديد وهذا التوبيخ الصارخ كان يعمُّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً، والحال أنّ مقام النبوة الّذي يلازم العصمة لا يسمح لنا بأن نقول بأنّ هذا الخطاب والتوبيخ موجَّهين إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

من هنا لا مناص من رفض كلّ هذه الرواية المذكورة في شأن النزول الّذي يتنافى مع عصمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أو القبول بالقسم الّذي لا يتنافى منها مع عصمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ورفض ما يتنافى معها.

2. سعدُ بن معاذ توفّي قبل حادثة «الإفك»

ويروي البخاري في صحيحه في ذيل شأن النزول عن عائشة نفسها: بعد أن سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بريرة عن أمري، فقالت فيّ خيراً، وصعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المنبر فحمدَ اللّه وأثنى عليه وقال: يا معشر المسلمين مَن يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي واللّه ما علمت على أهلي إلّاخيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّاخيراً، وما يدخل على أهلي إلّامعي.

فقام «سعدُ بن معاذ» وقال: يا رسول اللّه أنا أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.

فقام «سعد بن عبادة» وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبتَ لعمراللّه، لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل(1).

ص:368


1- . كان «سعد بن معاذ» رئيس الأوس و «سعد بن عبادة» رئيس الخزرج، وكانت بين هاتين القبيلتين منافسة قديمة، وكان «عبداللّه بن أُبي» خزرجياً، فاعتبر «سعد بن عبادة» كلام «سعد بن معاذ» تعريضاً بالخزرج وحطّاً من شأنهم.

فقام أُسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عبادة:

كذبت لعمر اللّه لنقتلنَّه، فإنّك منافقٌ تجادلُ عن المنافقين.

فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت.(1)

هذا القسم من القصّة المذكورة في رواية البخاري غير صحيح، ولا يتلاءم مع التاريخ الثابت الصحيح لأنّ «سعد بن معاذ» كان قد مات بعد إصدار حكمه في بني قريظة متأثراً بجرح أصابه في معركة «الأحزاب»، وقد وقعت حادثة «الإفك» بعد واقعة بني قريظة، وقد صرّح البخاري نفسه بهذا في صحيحه (ج 5 ص 51) في باب «معركة الأحزاب وبني قريظة»، فكيف يمكن والحال هذه أن يحضر مجلس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويجادل «سعد بن عبادة» في قصّة الإفك الّتي وقعت بعد واقعة بني قريظة بعدّة شهور؟!(2)

لقد ذهب المؤرّخون إلى أنّ معركة الخندق ثم واقعة بني قريظة وقعتا في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة، فتكون النتيجة أنّ قضية بني قريظة انتهت في التاسع عشر من شهر ذي الحجّة، وقد توفّي سعد بن معاذ في أعقاب هذه الحادثة مباشرة لمّا انفجر به جرحه(3) في حين وقعت غزوة بني المصطلق في

ص:369


1- . صحيح البخاري: 58/5، حديث الإفك؛ وج 7/6، تفسير سورة النور.
2- . والجدير بالذكر أنّ ابن هشام لم يذكر في سيرته «سعد بن معاذ»، ولكنّه روى جدال أُسيد مع سعد بن عبادة، راجع: السيرة النبوية لابن هشام: 767/3، وهكذا فعل ابن الاثير في الكامل في التاريخ: 197/2، ولكنّ صاحب المغازي ذكر القصّة كاملة، وأتى باسم سعد بن معاذ راجع المغازي: 431/1.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 730/3.

شهر شوال من السنة السادسة(1).

أجل إنّ ما هو مهمٌّ في المقام هو أن نعرف أنَّ حزب النفاق حاول أن يزلزل النفوس، ويبلبلها ببهت امرأة صالحة ذات مكانة في المجتمع الإسلامي يومذاك.

وقد فُسّر قوله: «وَ الَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ» : أي الّذي تحمّل القسط الأكبر من هذه العملية الخبيثة هو عبداللّه بن أُبي، فهو الّذي قاد هذه العملية الرخيصة والخطرة كما صرّحت بذلك عائشة نفسُها أيضاً.

الرواية الأُخرى في سبب النزول

وتقول هذه الرواية: إنّ الآيات الحاضرة نزلت في «مارية القبطيّة» زوجة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ووالدة إبراهيم.

فإنّ هذه الرواية تقول: لمّا مات إبراهيم بن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حزن عليه حزناً شديداً، فقالت عائشة: ما الّذي يُحزنك عليه؟ ما هو إلّاابن جريح، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً صلوات اللّه عليه وأمره بقتله، فذهب عليٌّ صلوات اللّه عليه ومعه السيف، وكان جريح القبطي في حائط (أي بستان)، فضرب «عليٌ» باب البستان، فأقبل جريح ليفتح له الباب، فلمّا رأى عليّاً صلوات اللّه عليه، عرف في وجهه الغضب، فأدبر راجعاً ولم يفتح باب البستان، فوثب علي عليه السلام على الحائط ونزل إلى البستان، وأتبعه، وولّى جريح مدبراً، فلمّا خشي أن يرهقهُ (أي يدركه) صعد على نخلة وصعد «عليٌ» في أثره، فلمّا دنا منه رمى جريح بنفسه من فوق النخلة،

ص:370


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 757/3. ولعلّه فطن ابن هشام لهذه الناحية فترك ذكر سعد بن معاذ، بينما غفل عنها البخاري في صحيحه، راجع شروح البخاري منها: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر: 471/8 و 472 للوقوف على اضطراب الشرّاح في معالجة هذا التناقض.

فبدت عورته، فإذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء، فانصرف عليٌّ عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال له: يا رسول اللّه إذا بعثتني في الأمر أكونُ فيه كالمسمار المحمى في الوبر أم أتثبّت؟

قال: لا؛ بل تثبت.

قال: والّذي بعثك بالحقّ ما له ما للرجال ولا ما للنساء.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: الحمدللّه الّذي صرَف عنّا السُّوء أهل البيت.(1)

وهذه الرواية الّتي نقلها «المحدّث البحراني» في «تفسير البرهان»، و «الحويزي» في تفسير «نور الثقلين» ضعيفة وغير مستقيمة من حيث المفاد، وهو ضعف ظاهر لا يحتاج إلى البيان.

ومن هنا لا يمكن القبول بها في شأن نزول هذه الآيات.

فالمهم هو وقوع أصل هذه الحادثة، كان مَن كان المتَّهم فيها.

ص:371


1- . البرهان في تفسير القرآن: 53/4 برقم 7573؛ نور الثقلين: 581/3-582.

43 رحلةٌ سياسيّةٌ دينيّةٌ

اشارة

كانت السنة الهجرية السادسة بكلّ حوادثها المرّة والحلوة تقترب من نهايتها عندما رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المنام أنّه دخل البيت (الكعبة) وحلق رأسه، وأخذ مفتاح البيت، وعرّف مع المعرّفين، فقصّ صلى الله عليه و آله و سلم هذه الرؤيا على أصحابه وتفاءل بها خيراً(1).

ولم يلبث أن أمر أصحابه بالتهيّؤ للعمرة، ودعا القبائل المجاورة الّتي كانت لا تزال على شركها وكفرها إلى مرافقة المسلمين في هذه السفرة، ولهذا شاع في جميع أنحاء الجزيرة العربية أنّ المسلمين سيتّجهون في شهر ذي القعدة صوب مكّة يريدون العمرة.

ولقد كانت هذه السفرة الروحانية تنطوي - مضافاً إلى العطاء الروحي والمعنوي - على مصالح إجتماعية وأهداف سياسية، فقد عزّزت مكانة المسلمين في شبه الجزيرة العربية، وتسبّبت في انتشار دين التوحيد في أوساط المجتمع العربي آنذاك، وذلك:

ص:372


1- . المغازي: 572/1؛ إمتاع الأسماع: 274/1.

أوّلاً: لأنّ القبائل العربية المشركة كانت تتصوّر أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يخالف كلّ عقائد العرب، وتقاليدهم الشعبية، والدينية حتّى فريضة الحج، والعمرة الّتي كانت تعدّ من ذكريات الاسلاف ومواريثهم.

من هنا كانوا يخافون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويتوجّسون خيفة من دينه، وعقيدته، ولكنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم استطاع في هذه المناسبة باشتراكه، واشتراك أصحابه في مراسيم العمرة أن يخفّف هذا الخوف لدى القبائل المشركة إلى حدٍّ كبير، وأن يوضح بعَمله أنَّ رسولَ الإسلام لا يعارضُ زيارة بيت اللّه الحرام، والفريضة المذكورة الّتي تعد من طقوسهم الدينية، وتقاليدهم المذهبية، بل يعتبرها فريضة مقدّسة، فهو مثل والد العرب الأكبر «إسماعيل بن إبراهيم الخليل» عليهما السلام يعمل على المحافظة على هذه التقاليد الدينية، وبهذا استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يستقطب قلوب من كان يتوهّم أنّ رسالة «محمَّد» ودعوته، ودينه يعارض جميع شؤونهم وتقاليدهم وأعرافهم الدينية، والشعبية، ويخالفها مخالفة مطلقة، ويقلّل من خوفهم، واستيحاشهم.

ثانياً: إذا استطاع المسلمون أن يحرزوا في هذا السبيل نجاحاً، ويؤدّوا مناسك العمرة في المسجد الحرام بحرية، أمام أعين الآلاف من المشركين، فإنّ عملهم هذا بنفسه سيكون تبليغاً ناجحاً للإسلام، لأنّ أخبار المسلمين ستنتشر بواسطة المشركين الذين قدموا مكّة من جميع المناطق لأداء مناسك العمرة، فسيحملون أنباء ما رأوه وشاهدوه من أفعال المسلمين الرشيدة، وأخلاقهم الفاضلة، إلى أوطانهم لدى عودتهم من مكّة إلى بلادهم، وبهذا ينتشر نداء الإسلام في تلكم المناطق الّتي لم يستطع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يبعث إليها الدعاة والمبلغين حتّى ذلك الحين، ويترك هذا الأمر أثره المطلوب.

ص:373

ثالثاً: أنّ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكّر الناس في المدينة بحرمة الأشهر الحرم ثم أمر المسلمين بأن لا يحملوا معهم من الأسلحة شيئاً إلّاالسيف الّذي يحمله كلّ مسافر معه.

ولقد جلب هذا الأمر عواطف كثير من الغرباء عن الإسلام نحو هذا الدين، وغيّر من نظرتهم السلبية تجاه دعوة الإسلام، لأنّهم شاهدوا بأُمّ أعينهم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحرّم القتال في هذه الأشهر، ويدافع بنفسه عن هذه السنّة الدينية القديمة ويدعو إلى رعايتها خلافاً لكلّ الدعايات الّتي كانت تبثّها قريش عن أنّ الإسلام لا يحترم هذه الأشهر، ويجيز الاقتتال وسفك الدماء فيها.

لقد فكّر القائد الإسلامي مع نفسه بأنّه لو أصاب المسلمون في هذا السبيل أيّ نجاح، فإنهم يكونون قد حقّقوا أملاً قديماً من آمالهم الّتي طالما تشوّقوا إلى تحقيقها.

كما أنّه سوف يستطيع المهاجرون الّذين طال بعدهم عن وطنهم، وأهليهم، أن يزوروا ذويهم وأقرباءهم. هذا إذا سمحت قريش لهم بدخول مكّة.

وأمّا إذا منعتهم قريش عن الدُّخول في الحرم فإنّ مكانة قريش ستتعرّض - حينئذ - لخطر السقوط في العالم العربي، وسيلومهم العرب على ذلك، لأنّ جميع ممثلي القبائل العربية المحايدة سترى كيف عاملت قريشٌ جماعة مسالمة أرادت دخول مكّة لأداء مراسيم العمرة، وزيارة الكعبة المعظمة، ولا تحمل معها أيَّ سلاح إلّاما يحمله المسافر في سفره عادة، في حين يرتبط المسجد الحرام بالعرب كافّة، وإنّما تقوم قريش بمجرّد سدانته، وإدارة شؤونه.

وهنا تتجلّى حقّانية المسلمين بشكل واضح، ويتّضح عدوان قريش، وينكشف للجميع بطلان مواقفها، فلا تستطيع قريش بعد ذلك أن تواصل تأليبها

ص:374

للقبائل العربية ضدّ الإسلام، وعقد تحالفات عسكرية واتّحاد عسكري مع قواها لمحاربة المسلمين لأنّها قد منعت الزوّار المسلمين أمام أعين الآلاف من الحجيج والزائرين من حقّهم المشروع.

لقد لاحظ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّ هذه الجوانب وغيرها فأمر المسلمين بالتوجّه نحو مكّة، وأحرم ألف وأربعمائة(1)، أو الف وستمائة(2)، أو ألف وثمانمائة(3) في «ذي الحليفة» و قلّد سبعين بدنة (بعيراً) وبهذا أعلن عن هدفه من تلك الرحلة.

ولقد أرسل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عيناً له ليخبره عن قريش إذا وجدهم في أثناء الطريق.

ولمّا كان رسول اللّه بعسفان (وهي منطقة بين الجحفة ومكة) أتاه رجلٌ خزاعيّ كان يتقصّى الأخبار لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا رسول اللّه هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون اللّه أن لاتدخلها عليهم أبداً، وهذا «خالد بن الوليد» في خيلهم (وكانوا مائتين) قد قدّموها إلى كراع الغميم. (وهي موضع بين مكّة والمدينة أمام عُسفان بثمانية أميال).

فلمّا سمع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعزم قريش على منعه ومنع أصحابه من العمرة قال:

«يا ويحَ قريش، لقد أكَلتهُم الحربُ، ماذا عليهم لوخلّوا بيني وبين سائر

ص:375


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 774/3.
2- . مجمع البيان: 288/2.
3- . روضة الكافي: 322/8.

العرب، فإن هم أصابوني كان الّذي أرادوا، وإن أظهرني اللّه عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظُنُّ قريش، فواللّه لا أزال أُجاهد على الّذي بعثني اللّه به حتّى يظهره اللّه، أو تنفردُ هذه السالفة(1) (أي أُقتل أو أموت).

ثم قال: مَن رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ قال رجل من أسلم: أنا يا رسول اللّه، فسلك بهم طريقاً وعراً أجرل(2) بين شعاب، فلمّا خرجوا منه، وقد شق ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي....

وخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته، فقال الناس: خلأت(3) الناقة، قال: ما خلأت وما هولها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكّة.(4)

ثم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الناس أن ينزلوا في ذلك المكان فنزلوا.

ولمّا علمت طليعة قريش بمسير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، لحقت به، حتّى اقتربت منه وحاصرت موكبه ورجاله فكان على النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد أن يواصل سيره باتّجاه مكّة أن يخترق صفوف رجال قريش، فيسفك دماءهم ويعبر على أجسادهم، وحينئذ كان الجميع يرى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يهدف العمرة والزيارة بل يريد الحرب والقتال، فكان مثل هذا العمل يسيء إلى سمعة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويضر بهدفه

ص:376


1- . السالفة: صفحة العنق، وكنى بهذه الجملة عن الموت لأنّها لا تنفرد عمّا يليها الّا بالموت.
2- . أجرل - بفتح الهمزة وسكون الجيم وفتح الراء -: أي كثير الحجارة. والجرل: الحجارة. سبيل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 83/5، لسان العرب: 107/11، مادة «جرل».
3- . خلأت الناقة: أي بركت ولم تبرح من مكانها.
4- . السيرة النبوية لابن هشام: 775/3. وقد أشار بهذا الكلام إلى واقعة الفيل.

السلميّ.

ثم إنّ قتل هؤلاء النفر من طليعة قريش لا يزيل جميع الموانع من طريقه، لأنّ قريشاً كانت تبعث بإمدادات مستمرة، ولم يكن لينته إلى هذا الحدّ.

هذا مضافاً إلى أنّ المسلمين ما كانوا يحملون معهم - حينذاك - إلّاما يحمله المسافر العاديّ من السلاح، ومع هذه الحال لم يكن القتال أمراً صحيحاً، وحكيماً، بل كان يجب أن تحلَّ المشكلة عن طريق التفاوض.

ولهذا عندما نزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك المنطقة قال:

«لا تَدْعُوني قريشٌ اليوم إلى خُطّة يَسألونَنِي فيها صلةُ الرحم إلّاأعطيتُهُمْ إيّاها»(1).

ولقد بلغ كلامُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذا مسامع الناس، وكان من الطبيعي أن يسمَعَ به العدُو أيضاً، ولهذا بعثوا برجال من شخصيّاتهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليتعرّفوا على هدفه الأصلي من هذا السفر.

مندوبُو قريش عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم

بعثت قريش بعدّة مندوبين إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليتعرّفوا على مقصده وهدفه من هذا السفر.

وكان أوّل أُولئك المبعوثون هو: «بديل بن ورقاء الخزاعي» الّذي أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في رجال من خزاعة فكلّموه - نيابة عن قريش - وسألوه: ما الّذي جاء به؟ فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّا لَمْ نجئ لِقتال أحدٍ، ولكنّا جئنا معتمرين».

فرجعوا إلى قريش وأخبروهم بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يأت لِقتال وإنّما جاء

ص:377


1- . تاريخ الطبري: 273/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 775/3-776.

معتمراً زائراً لبيت اللّه، ولكنّ قريشاً لم يصدّقوهم وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالاً فواللّه لا يدخُلها علينا عنوة أبداً، ولا تحدّثُ بذلك عنّا العربُ.

ثم بعثوا «مكرز بن حفص» فسمع من النبي صلى الله عليه و آله و سلم ما سمعه سابقه، فعاد وصدّق ما أخبر بديل قريشاً به، ولكنّ قريشاً لم تصدّق مكرزاً أيضاً كما لم تصدّق سابقه.

فبعثت في المرة الثالثة الحليس بن علقمة(1) وكبير رماة العرب، لحسم الموقف، فلمّا رآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مقبلاً قال:

«إنّ هذا من قوم يتألَّهُون (أي يعظّمون أمر اللّه) فابعثوا الهديَ في وجهه حتّى يراهُ».

فلمّا رأى الحليس، الهديَ يسيل عليه من غير عُرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محلّه، رجعَ إلى قريش، ولم يصل إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إعظاماً لما رأى، فقال لهم: يا معشر قريش واللّه ما على هذا حالفْناكُمْ، ولا على هذا عاقَدْناكم، أيُصدّ عن بيت اللّه من جاء معظّماً له؟! والّذي نفسُ الحليس بيده لتخلّنَّ بين محمَّد وما جاء له، أو لأنفِّرنَّ بالأحابيش نفرة رجل واحد.(2)

وهكذا امتنع الحليس من مواجهة رسول اللّه بالقوّة واستخدام العنف معه لصدّه، وقد لاحظ بأُمّ عينيه أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين لا يريدون إلّاالعمرة والزيارة لا القتال والحرب، بل عاد يهدّد قريشاً إذا هي أرادت صدّه عن ذلك.

فشقّ هذا الكلام وهذا التهديد على قريش وخافوا من مخالفته، فقالوا: مَهْ، كفَّ عنا يا حُلَيْس حتّى نأخذ لأنفسَنا ما نرضى به.

ص:378


1- . لقد جاء الحليس إلى النبي بعد عروة الثقفي حسب رواية الطبري في تاريخه: 276/2.
2- . تاريخ الطبري: 276/2.

ثمّ بعثوا أخيراً «عروة بن مسعود الثقفي» وكان رجلاً لبيباً تطمئن قريشٌ إلى درايته وحكمته، وكان لا يحبُّ أن يمثّل قريشاً في هذه المفاوضات لما رآه مِن معاملتهم مع المبعوثين السابقين، ولكنّ قريشاً تعهدت له بأن تقبل بما يقول، وأعلنت له عن ثقتها الكاملة به، وبما سيخبر به، وبأنّه غير متّهم عندهم.

فخرج من عندهم حتّى أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فجلس بين يديه ثم قال: يا محمَّد جمعتَ أوْشابَ الناس (أي أخلاطهم) ثم جئتَ بهم إلى أهلك وقبيلتك، إنّها قريشٌ قد خرجت معها العُوذُ المطافيلُ، وقد لبسوا جلود النمُور، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وأيمُ اللّه لَكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً، (أو قال: أن يَفرُّوا عنك ويدعوك).

وعندما بلغ ابن مسعود في كلامه إلى هذا قال له أبوبكر وكان جالساً خلف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أنحنُ ننكشفُ عنه؟

لقد كان «عروة» كأيّ دبلوماسيّ ماكر، يحاول إضعاف معنويات أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكلامه، وروغانه.

وأخيراً انتهت المباحثات دون جدوى. وهنا جعل «عروة» يتناول لحية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ازدراء به صلى الله عليه و آله و سلم، والمغيرة بن شعبة - وكان واقفاً على رأس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - يقرعُ يَدَه إذا تناول لحية النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويقول: اكفُف يَدكَ عن وَجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن لا تصِلَ إليك.

فسأل عروة: من هذا يا محمَّد؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة (ويبدو أنّ جميع من كان حول النبي آنذاك أو بعضهم كانوا مقنّعين رعاية للظروف الأمنية).

فغضب عروة وقال: «أي غُدَر، وهل غَسلْتُ سوأتك إلّابالأمس» وكان

ص:379

المغيرة قد قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك من ثقيف فودى عروة المقتولين وأصلح الأمر.

فقطع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الكلام على عروة وقال له مثل ما قال لبُديل ورفيقيه، وأنّه لم يأت يريدُ حرباً، بل جاء يريد العمرة، ولأجل أن يُري عروة مكانته بين أصحابه وأتباعه، قام صلى الله عليه و آله و سلم وتوضّأ أمامه، فرأى عروة بأُمّ عينيه كيف أنّه لا يتوضّأ إلّا وتسابق أصحابُه على التقاط القطرات المتناثرة من وضوئه، فرجع إلى قريش وقال لهم: يا معشر قريش إنّي قد جئت كسرى في مُلكه، وقيصر في مُلكه، والنجاشيَّ في مُلكه، وإنّي واللّه ما رأيتُ مَلِكاً في قوم قطّ مَثلَ محمَّد في أصحابه، ولقد رأيتُ قوماً لا يُسْلِمُونَهُ لشيء قط، فَروا رأيَكُمْ (1).

رسول اللّه يبعث مندوباً إلى قريش

لم تثمر الاتّصالات الّتي جرت بين مبعوثي قريش، وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فكان من الطبيعي أن يتصوّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنَّ مبعوثي قريش لم يستطيعوا نقل هدفه إلى قريش، وإسماعهم الحقيقة، وأنّ اتّهامهم لهم بالجبن والكذب منعهم من قبول ما قد أخبروا به، ولهذا قرّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يبعث هو مندوباً عنه إلى رؤوس الشرك ليوضّح لهم هدف رسول الإسلام من هذا السفر، وأنّه ليس إلّازيارة بيت اللّه وأداء مناسك العمرة لا غير.

فاختار رجلاً لبيباً حازماً من بني خزاعة يدعى «خراش بن أُميّة» فبعثه إلى قريش بمكّة وحمله على بعير يقال له «الثعلب». ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له من الزيارة والعمرة، فدخل مكّة، وبلّغ سادة قريش رسالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ولكنّ قريشاً -

ص:380


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 778/3-779؛ المغازي: 598/2؛ إمتاع الأسماع: 287/1.

خلافاً لكلّ الأعراف الدولية والاجتماعية قديماً وحديثاً، والقاضية بحصانة السفراء وضرورة احترام كلّ ما يمتّ إليهم بصلة من ممتلكاتهم - عمدت إلى جمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي امتطاه سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة فعقروه عدواناً، وكادوا أن يقتلوا سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم نفسه، ولكن وساطة جماعة من قادة العرب أدّت إلى أن تخلّي قريش سبيله حتّى أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

إنّ هذا العمل الدنيء أثبت - بوضوح - أن قريشاً لم تكن تريد السلام بل كانت دائماً في صدد إشعال فتيل الحرب.

ولم تلبث قريش أن كلَّفت خمسين رجلاً من فتيانها بالطواف بعسكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بُغية أخذ شيء من أمواله، أو أسر بعض أصحابه لو أتيح لهم ذلك، إرعاباً للمسلمين وتخويفاً لهم. ولكن هذه الخطّة فشلت فشلاً ذريعاً، فإنّ هؤلاء لم يصيبوا شيئاً بل أسرهم المسلمون جميعاً، وأتي بهم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم مع أنّهم كانوا قد رَموا عسكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالحجارة والنبل.

وبهذا أثبت رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم مرّة أُخرى، أنّه يحب السلام ويسعى إليه، وأنّه جاء معتمراً لا معتدياً ولا محارباً(2).

النبيُ يبعث سفيراً آخر إلى قريش

رغم كلّ هذه الأُمور ورغم كلّ التصلّب والتعصّب الّذي أبدته القيادةُ القرشيةُ المشركةُ ضدّ الإسلام والمسلمين وضدّ محاولات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم السلميّة لم ييأس رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من تحقيق السلام فقد كان يريد - واقعاً - أن يعالج المشكلة

ص:381


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 779/3.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 278/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 779/3.

عن طريق المفاوضات، ومن طريق تغيير التصوّرات الّتي كان يحملها أشراف قريش وسادتها المتعنّتون المتصلّبون عن رسول اللّه و دعوته.

ومن هنا كان يجب هذه المرّة أن يختار صلى الله عليه و آله و سلم رجلاً لم تخض يده في دماء قريش، ولهذا لم يصلح «علي بن أبي طالب» ولا «الزبير» ولا غيرهم من فرسان الإسلام وشجعانه الذين جالدوا صناديد قريش في ميادين القتال وأردوا فريقاً منهم صرعى، لمثل هذه السفارة، وهذه المهمة.

ولهذا تقرر - بعد التأمّل - انتداب «عمر بن الخطاب» لهذه المهمة، أي الذهاب إلى مكّة، والتحدّث إلى سادة قريش، ورؤسائها، لأنّه لم يكن قد أراق من المشركين حتّى ذلك اليوم ولا قطرة دم، ولكن «عمر» اعتذر عن تحمّل هذه المسؤولية، والقيام بهذه المهمة المحفوفة بالمخاطر قائلاً: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؛ إنّي أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكّة من بني عديّ بن كعب (وهم عشيرته) أحد يمنعني،... ولكنّي أدُلّك على رجل أعزّ بها منّي، «عثمان بن عفان». (لكونه أموياً بينه وبين أبي سفيان زعيم قريش قرابة)(1).

فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «عثمان بن عفان» فبعثه إلى «أبي سفيان» وأشراف قريش، يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، وأنّه إنّما جاء زائراً لهذا البيت ومعظِّماً لحرمته.

فخرج عثمان إلى مكّة، فلقيه «أبان بن سعيد بن العاص» حين دخل مكّة، أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه، ثم أجاره حتّى بلّغ رسالة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فانطلق «عثمان» حتّى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطُف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:382


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 780/3.

واحتبسته قريش عندها، (ولعلّهم فعلوا ذلك ريثما يتوصلوا إلى حلّ ثم يطلقوه ليبلّغ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رأيهم).(1)

بيعةُ الرضوان

إلّا أنّ إبطاء مبعوث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن العودة من مكّة أوجد قلقاً شديداً في نفوس المسلمين، خاصّة وأنّه شاع أنّ عثمان قد قتل، فثارت ثائرة المسلمين، واستعدّوا للانتقام من قريش، وعمد النبي صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً إلى مخاطبتهم قائلاً:

«لا نبرح حتّى نناجِزَ القوم».

وذلك تقوية لإرادة المسلمين، وتحريكاً لمشاعرهم الطاهرة.

وفي هذه اللحظات الخطيرة، وفي ما كان الخطر على الأبواب، وبينما لم يكن المسلمون متهيّئين للقتال قرّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يجدّد بيعته مع المسلمين.

فجلس رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تحت شجرة، وأخذ أصحابُه يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحداً واحداً، ويحلفون له أن لا يتخلّوا عنه أبداً، وأن يدافعُوا عن حياض الإسلام حتّى النفس الأخير، وقد سمّيت هذه البيعة ببيعة «الرضوان» الّتي جاء ذكرها في قوله تعالى:

«لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» .(2)

فَاتّضحَ موقفُ المسلمين بعد هذه البيعة، فإمّا أن تسمح لهم قريش بدخول مكّة لزيارة بيت اللّه المعظّم، وإمّا أن تتصلّب في موقفها الرافض فيكون بينهم القتال

ص:383


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 780/3.
2- . الفتح: 18.

والحرب(1).

وبينما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الحال إذ طلع عليهم «عثمان بن عفان»، وكان ذلك بنفسه طليعة سلام كان يريده رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فأخبر عثمان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ الّذي يمنع قريشاً من السماح لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بدخول مكّة هو اليمين الّتي ألزموا بها أنفسهم أن لا يدعوه يدخل مكّة هذا العام، وأنهم سيبعثون إليه من يتفاوض معه بهذا الشأن.

سهيلُ بن عمرو يفاوضُ رسولَ اللّه

بعثت قريش - في المرّة الخامسة - «سهيلَ بن عمرو» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد كلّفته بانهاء المشكلة ضمنَ شروط خاصّة سنقرؤها في ما يأتي.

فأقبل «سهيل بن عمرو» على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولمّا رآه النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: قد أراد القومُ الصلح حين بعثوا هذا الرجل.

فلمّا انتهى «سهيل» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تكلّم في المسألة كما يتكلّم أي دبلوماسيّ بارع، فقال وهو يحاول إثارة عواطف النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأحاسيسه:

يا أبا القاسم إن مكّة حرمُنا وعِزُّنا، وقد تسامعت العربُ بك إنّك قد غزوتنا ومتى ما تدخلُ علينا مكّة عنوة تطمعُ فينا فنُتخَطّف، وإنا نذكِّرك الرحم، فإنّ مكّة بيضتك الّتي تفلَّقت عَن رأسك.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «فما تريد»؟

ص:384


1- . ولقد كان لهذه البيعة في نفسها أثرٌ سياسي مهم في نفس العدو، يقول الواقدي: فلمّا نظرت قريش إلى ما رأت من سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب اشتدّ رعبُهم وخوفهم وأسرعوا إلى القضية (المغازي: 1/604). وراجع: إمتاع الأسماع: 290/1 أيضاً.

قال: أُريد أن أكتب بيني وبينك هُدنة على أن أُخلّيها لك في قابل(1)فتدخلها، ولا تدخلها بخوف ولا فزع، ولا سلاح إلّاسلاح الراكب، السيف في القراب.(2)

فقبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعقد مثل هذا الصلح.

وهكذا أدّت مفاوضات «سهيل» مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى عقد صلح شامل وواسع بين قريش وبين المسلمين.

ولقد تشدّد «سهيل» في شروط هذا الصلح كثيراً، حتّى كاد أن ينتهي هذا التشدُّد إلى قطع المفاوضات أحياناً، ولكن حيث إنّ الطرفين كانا يرغبان في الصلح والموادعة، لهذا كانا يستأنفان التحاور والتفاوض مرة أُخرى، بعد كلّ أزمة تطرأ على المباحثات.

وأخيراً انتهت مفاوضات الجانبين - رغم كلّ ما أبداه مندوب قريش من التصلّب - إلى عقد وثيقة موادعة وهدنة نُظّمت في نسختين ووقع عليها الجانبان.

ويروي كافّة المؤرّخين وأرباب السيَر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دعا عليّاً عليه السلام، وأمره أن يكتب تلك الوثيقة قائلاً له: اكتب «بسم اللّه الرحمن الرحيم» فكتب «عليّ» ذلك، فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن أكتب: باسمك اللَّهم!!

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: اكتب: باسمك اللَّهم وامحُ ما كتبتَ. ففعل «عليٌّ» ذلك.

ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: اكتب «هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه سهيل بن عمرو».

ص:385


1- . أي افرغ لك مكّة في العام القادم لتدخلها.
2- . بحار الأنوار: 361/20-362.

فقال سهيل: لو أجبتُك في الكتاب إلى هذا لأقررت لك بالنبوّة، فامحُ هذا الاسمَ واكتب: محمَّد بن عبداللّه (أو قال: لو شهدتُ أنّك رسولُ اللّه لم أُقاتلك، ولكن اكتب اسمَك واسم ابيك).

ولم يرض بعض مَن حضر من المسلمين في هذه النقطة بأن يرضخ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمطالب «سهيل» إلى هذه الدرجة، ولكنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - الّذي كان يلاحظ مصالح عُليا غفل عنها ذلك البعض كما سنذكرها فيما بعد - رضي بمطلب «سهيل»، وقال لعليّ عليه السلام: امحها يا عليّ.

فقال عليُّ عليه السلام بأدب بالغ: يا رسول اللّه إن يَديَّ لا تنطلِقُ لمحو اسمك من النبوّة.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فضع يدِي عليها، فمحا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيده كلمة:

«رسول اللّه» نزولاً عند رغبة «سهيل» مفاوض قريش(1).

إنّ التسامح الّذي أَبداه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تنظيم وثيقة الصلح هذه لا يعرف له نظير في تاريخ العالم كلّه، لأنّه أظهر بجلاء أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يقع فريسة بيد الأهواء والأغراض الشخصية والعواطف والأحاسيس العابرة، وكان يعلم أنّ الحقائق لا تتبدَّل ولا تتغيّر بالكتابة والمحو، من هنا تسامحَ مع مفاوض قريش «سهيل» الّذي تصلَّب في مطاليبه غير المشروعة كثيراً، حفاظاً على أصل الصلح.

ص:386


1- . الإرشاد: 120/1-121؛ إعلام الورى: 371/1-372؛ بحار الأنوار: 361/20-362 وقد أخطأ الطبري في تاريخه: 282/2 في هذا المقام إذ قال في إحدى رواياته لهذه الحادثة: قال لعلي عليه السلام: امحُ «رسولَ اللّه»، قال: لا واللّه لا أمحاك أبداً، فأخذه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وليس يحسن يكتب فكتب مكان «رسول اللّه»: محمَّد. وهكذا نسب الكتابة إلى شخص رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ونحن نعلم أنّه أُمّيّ، لا يحسن الكتابة، وقد حقّقنا هذه المسألة في كتابنا مفاهيم القرآن: 319/3-374.

وحرصاً على السلام.

التاريخ يعيد نفسه

ولقد ابتُليَ عليٌّ عليه السلام، تلميذ النبيّ الأوّل بمثل هذه التجربة المرّة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فيومَ امتنع عليٌّ عليه السلام عن محو كلمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن اسم النبيّ قال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«يا عَليّ إنَّك أبيتَ أن تمحوَ اسمِي من النبوّة، فوَالَّذي بعثني بالحقّ نبيّاً لتجيبنَّ أبناءهم إلى مِثلِها وأنتَ مَضيضٌ مضطهَدٌ»(1).

ولقد بقيت هذه القضية في ذاكرة عليّ عليه السلام، حتّى إذا كان يوم «صفين» وخدع بعض أصحاب الإمام عليّ عليه السلام بالأُسلوب الماكر الّذي اتبعه جيش الشّام الّذي قاتل عليّاً عليه السلام بقيادة معاوية بن أبي سفيان ومساعدة عمرو بن العاص، وأجبروا الإمام عليه السلام على عقد الصلح مع معاوية فشكّل الجانبان لجنة لتنظيم وثيقة ذلك الصلح، كُلِّفَ «عبيداللّه بن رافع» كاتب الإمام، من جانب الإمام عليّ عليه السلام بأن يكتب وثيقة الصلح، فكتب:

«هذا ما تقاضى عليه أميرُالمؤمنين عليٌّ» قال عمرو بن العاص ممثل معاوية في تلك المفاوضات: لو علمنا أنّك أميرُالمؤمنين لم ننازعك!!

وهكذا طالب عمرو بن العاص بحذف عبارة أميرالمؤمنين.

وطال الكلام والتشاجر في هذا الموضوع، ولم يكن الإمام عليٌّ يريد أن يعطي حجّة للبسطاء من أصحابه، ولهذا لم يرضخ لهذا المطلب، ولكنّه بعد إلحاح

ص:387


1- . بحار الأنوار: 353/20.

من أحد قادة جيشه سمح بأن يُمحى لقب «أميرالمؤمنين» من اسمه ثم قال: «اللّه أكبر سُنةٌ بسنّة».

وهو بذلك يشير إلى حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم له يوم الحديبية(1).

نَصُّ صُلح الحديبية

وأخيراً عُقِدَت اتّفاقية صُلح وهُدنة بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقريش تضمّنت المواد والشروط التالية:

1. تعهّد المسلمون، وقريش بترك الحرب عشر سنين يأمنُ فيهن الناسُ، ويكف بعضهم عن بعض.

2. مَن أتى محمَّداً من قريش بغير إذن وليّه رَدّهُ عليهم، ومن جاء قريشاً ممّن مع محمَّدٍ لم يردّوه عليه.

3. مَن أَحبّ أن يدخل في عقد محمَّد وعهده (أي يتحالف معه) دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

4. أنّ محمَّداً يرجع بأصحابه إلى المدينة عامَهُ هذا ولا يدخل مكّة، وإنّما يدخل مكّة في العام القابل في أصحابه فيقيم فيها ثلاثة أيام، لا يدخل فيها بسلاح إلّا سلاح المسافر، السيوف في القُرب.

5. أن لا يُستكرَه أحدٌ على ترك دينه ويعبُد المسلمون اللّه بمكّة علانية وبحرية، وأن يكون الإسلام ظاهراً بمكّة، وأن لا يؤذى أحد ولا يعيَّر(2).

ص:388


1- . الكامل في التاريخ: 320/3، راجع المصدر لتقف على القصّة بكاملها ولتقف على مادار بين الإمام وابن العاص.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 352/20.

6. لا إسلال (سِرقَة) ولا إغلال (خيانة) بل يحترم الطرفان أموالَ الطرف الآخر، فلا يخونه ولا يسرق منه(1).

7. أن لا تعين قريش على محمَّد وأصحابه أحداً بنفس ولا سلاح(2).

هذا هو نصُ وثيقة «صلح الحديبية»، وقد جمعنا بنوده من المصادر المتنوّعة(3) الّتي أشرنا إلى بعضها في الهامش، وقد كتبت هذه الوثيقة في نسختين، ثم وقع عليها جماعة من شخصيات قريش، والمسلمين وشهدوا عليها وأُعطيت نسخة إلى «سهيل بن عمرو» ممثّل قريش، وتُركَت نسخة عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

نشيد الحرية

لقد كان كلّ عاقل لبيب يحسن تقدير الأُمور يسمع نشيد الحريّة من ثنايا هذا الصلح التاريخيّ، ومع أنّ كلّ بنود هذه المعاهدة جديرة بالاهتمام والإكبار، إلّاأنّ النقطة الّتي تستحقّ الاهتمام والتقدير أكثر من سواها هي المادّة الثانية في هذا الصلح، وهي المادّة الّتي أزعجت بعض الصحابة يوم انعقاد تلك المعاهدة.

فقد انزَعج صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم من هذا التمييز الصارخ، وقالوا حول قرار القيادة الحكيمة المتمثّلة في قائد محنّك كرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما كان ينبغي أن لا يقولوه، في حين تعتبر هذه المادة من أعظم بنود الوثيقة إذ تعكس نظرة رسول

ص:389


1- . مجمع البيان: 197/9-198. أو: «مَن قدم مكّة من أصحاب محمَّد حاجّاً أو معتمراً أو يبتغي من فضل اللّه فهو آمن على دمه وماله، ومَن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو الشام فهو آمن على دمه وماله».
2- . بحار الأنوار: 352/20.
3- . لاحظ: المغازي: 611/1-612؛ تاريخ الطبري: 281/2؛ إمتاع الأسماع: 295/1؛ السيرة النبوية لابن هشام: 782/3؛ السيرة الحلبية: 708/2-709.

الإسلام وتفكيره حول كيفيّة تبليغ الإسلام وإشاعته ونشره، فإنّه يظهر منها - وبجلاء - مدى احترام رسول الإسلام لمبدأ الحرية.

ولقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في معرض الإجابة على مَن اعترض من صحابته على البند القاضي بتسليم كلّ مسلم فرّ من قريش إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين إلى قريش، دون العكس قائلاً:

«مَن جاءهُم مِنّا فأبعَدَهُ اللّه وَمَن جاءنا مِنهُم رَددناه إليهم، فلو علمَ اللّه الإسلامَ مِن قَلبه جَعلَ له مخرجاً».(1)

وأراد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ الّذي يهرب من جماعة المسلمين ويلجأ إلى المشركين فلا قيمة لإيمانه وإسلامه، إذ أنّ ذلك يدلُّ على أنّه لم يؤمن بهذا الدين حقّ الإيمان فلا داعي لأن يعاد إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ لا إكراه في الدين، وأما من هرب من المشركين إلى المسلمين فلو علمَ اللّه منه الصدق لنجّاه حتماً.

ولقد كانت نظرية النبي صلى الله عليه و آله و سلم ورأيه متطابقاً كلّ التطابق مع موازين العقل والمنطق السليم، وقد تجلّت صوابيته وحقّانيته مع مضيّ الزمن في ما بعد، لأنّه لم يمض زمن طويل إلّاوقريش - وبعد سلسلة من الحوادث المؤسفة - طلبت بنفسها إلغاء هذه المادّة كما سيأتي بيانه في ما بعد.

إنّ هذه المادة تعدّ ردّاً قاطعاً على تقوّلات وتخرّصات المستشرقين المغرضين الذين يصرّون على القول بأنّ الإسلام انتشر بالسيف.

إنّهم حيث لا يتحمّلون رؤية هذا الامتياز العظيم الّذي كسبه الإسلام الحنيف، حيث انتشر في مدّة قصيرة جداً في شتّى نقاط العالم وبقاعه، حتّى كاد أن

ص:390


1- . بحار الأنوار: 334/20؛ مجمع البيان: 198/9.

يَعمَّ المعمورة كلّها، ولهذا اضطروا إلى إعزاء انتشار الإسلام إلى عامل استخدام القوة، وقالوا: إنّ الإسلام انتشر بالقوة، ليشوّهوا بذلك ملامح الإسلام ويخفوا الحقيقة خلف غطاء من الأراجيف، في حين أنّ هذا الميثاق الّذي عقد في الجزيرة العربية أمام أعين المئات من المسلمين وغير المسلمين، يعكس بجلاء روح الإسلام وحقيقة تعاليمه السامية، ومع هذا يكون من مجانبة الواقع القول بأنّ الإسلام انتشر بقوة السيف، لا بالدعوة الحرّة، والتبليغ والارشاد.

هذا ولقد تحالفت قبيلة خزاعة مع المسلمين في ضوء المادة الثالثة من الميثاق، بينما تحالفت قبيلة بني كنانة - وكانوا أعداء تقليديّين لخزاعة - مع قريش.

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح

كانت مقدّمات الميثاق المذكور، وبنوده توحي بصورة جليّة وكاملة بأنّ أكثرها قد فرضت فرضاً على المسلمين، فلو أنّ رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم قبل بإمحاء كلمة «رسول اللّه» من اسمه، وبدأ الميثاق بعبارة «باسمك اللَّهم» على عادة الجاهلين بدل البسملة الكاملة، فإنّ غايته من ذلك كانت هي الحفاظ على الصلح، وإقرار الأمن في الجزيرة العربية.

ولو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رضي بأن يسلّم المسلمين الهاربين من قبضة المشركين إلى جماعة المسلمين، ويعيدهم إلى القيادة الوثنية في مكّة فإنّ بعض ذلك كان بسبب تصلّب سهيل ممثّل قريش وتعنّته، ولو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ماكان يرضخ لهذا الشرط (استجابة لرغبة الرأي العام الإسلامي الّذي كان مخالفاً لمثل هذا الشرط ومعارضاً لإعادة المسلمين الهاربين من مكّة إلى قريش، وحفاظاً على حقوق أُولئك الأشخاص الهاربين) لتعطّلت عملية السلام، ولما تحقّق الصلح،

ص:391

ولفاتت المسلمين هذه النعمة الكبرى الّتي انطوت على آثار عظيمة في المستقبل كما أثبتت الوقائع في ما بعد.

من هنا قاوم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّ الضغوط من جهة، وتحمّل عملية فرض هذا الشرط من جهة أُخرى، ليصل إلى المقصد الأعلى والهدف الأكبر الّذي تتضاءل تجاهه هذه المتاعب.

ولو كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يراعي الرأي العام ويلاحظ حقوق هذه الجماعة، لكان «سهيل» يتسبّب - بسبب تصلّبه الأرعن - في اشعال نائرة الحرب، والقصّة التالية تشهد بما نقول:

حينما انتهت مفاوضات السلام، وبينما كان الإمام علي عليه السلام يكتب وثيقة الموادعة والصلح دخل أبو جندل بن سهيل في مجلس النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو يرسف في قيوده.

فتعجّب الجميع من حضوره هناك، إذ كان محبوساً في سجن أبيه سهيل (المفاوض) مدّة طويلة.

ولم يكن لأبي جندل من ذنب إلّاأنّه اختار التوحيد عقيدة، والإسلام ديناً، ورفض الوثنية والشرك وكان يحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حباً شديداً فحبسه أبوه.

وكان أبو جندل قد بلغه أمرُ المفاوضات هذه، فهرب من محبسه وانفلت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سالكاً إليه طرقاً وعرة في الشعاب، والوديان.

فلمّا رأى «سهيل» ابنه أبا جندل وقد هرب من سجنه، ولجأ إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بتلابيبه ثم قال: هذا يا محمَّد أوّل من أقاضيك عليه أن تردّه.

ص:392

ولا شكّ أنّ كلام «سهيل» كان باطلاً، ولامبرّر لطلبه، لأنّ الميثاق لم تتمّ كتابته على الورق، ولم يوقع عليه الطرفان، ولم ينته - بالتالي - من مراحله النهائية والأخيرة بعد، فكيف يمكن الاستناد إليه، ولهذا أجابه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائلاً:

«إنا لم نرضَ (نقض) بالكتاب بعد»(1).

فقال سهيل: إذاً واللّه لا أُصالحك على شيء أبداً، حتّى ترده اليّ، ولم يزل يصرّ على كلامه ورفضه هذا حتّى انزعج اثنان ممّن رافقه من شخصيات قريش، هما: مكرز وحويطب، من تصلّب سهيل وتشدّده.

ثم قاما وأخذا أبا جندل من أبيه وأدخلاه خيمة وقالا: نحن نجيره.

ولقد فعلا ذلك حتّى يُنهيا ذلك التنازع، والجدال، ولكن إصرار سهيل على موقفه، أبطل تدبيرهما إذ قال: يا محمَّد لقد لجّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا(2).

فاضطُرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أن يقوم بآخر سعي في طريق الحفاظ على الهدنة والصلح الّذي كان له أثر عظيم في انتشار الإسلام، ولهذا رضي بردّ أبي جندل إلى والده، لإعادته إلى مكّة، ثم قال لذلك المسلم الأسير تطييباً لخاطره:

«يا أبا جَندَل، إصبر واحتسب، فإنّ اللّه جاعلٌ لك ولمَن معك مِن المستضعفين فَرجاً ومَخرجاً، إنّا قد عقدنا بَيننا وبينَ القوم صُلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهدَ اللّه، وإنا لا نغدِرُ بهم».

وانتهت جلسة المفاوضات، وتمَّ التوقيع على نسختي الميثاق، وعاد سهيلٌ ورفاقه إلى مكّة، ومعهم «أبو جندل» ابن سهيل في جوار مكرز وحويطب، ونحر

ص:393


1- . بحار الأنوار: 334/20.
2- . السيرة الحلبية: 710/2. لجّت: وجبت وتمت.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما كان معه من الهدي(1) في نفس ذلك المكان وحلق فنحر جماعة من المسلمين وحلقوا(2).

تقييم عاجل لصلح الحديبية

بعد أن فَرغَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من عقد صلح الحديبية بينه وبين رؤوس الشرك، وبعد أن توقّف في أرض الحديبية مدة 19 يوماً عاد هو وأصحابه إلى المدينة، وعاد المشركون إلى مكّة.

هذا وقد نشبت مشاجرات ومشادّات كلامية حين تنظيم ذلك الميثاق وكتابته، بين أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فمنهم من كان يعتبر ذلك الصلح في صالح الإسلام، وقليل منهم كان يعدّه مضرّاً بمصلحة الإسلام والمسلمين.

ولقد انقضى الآن أكثر من أربعة عشر قرناً على عقد ذلك الصلح التاريخي العظيم فلندرس معاً تلك المعاهدة بموضوعية وتجرّد، ونستعرض طرفاً من تلك الاعتراضات والمجادلات لنقف على معطيات تلك العملية، ونتائجها.

إنّ الّذي نراه هو: أنّ هذا الصلح كان في صالح الإسلام مائة بالمائة، وأنّه هو الّذي جعل أمر انتصار الإسلام قطعيّاً، لا شك فيه، وإليك أدلّة هذا الرأي:

1. أن حملات قريش المتتابعة على المسلمين، والتحريكات الداخلية والخارجية الّتي أشرنا إليها في حوادث «أُحد» و «الأحزاب» على نحو الاختصار، لم تترك للنبي صلى الله عليه و آله و سلم فرصة لنشر الإسلام بين القبائل، وفي المناطق المختلفة خارج

ص:394


1- . أي الإبل الّتي ساقها معه.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 281/2، بحار الأنوار: 353/20؛ السيرة النبوية لابن هشام: 783/3؛ إمتاع الأسماع: 11/9-12.

شبه الجزيرة العربية.

من هنا كان صلى الله عليه و آله و سلم يصرف أكثر أوقاته الثمينة في الدفاع والعمل على إفشال المؤامرات الخطرة الّتي كان العدوّ الداخلي والخارجيّ يحيكها باستمرار.

ولكنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم فرغ باله بعد عقد صلح الحديبية مع قريش من ناحية الجنوب، فتهيّأت الأرضية لانتشار الإسلام في المناطق الأُخرى.

وقد ظهر أثر هذا الهدوء والاستقرار بعد سنتين من عقد تلك المعاهدة، فقد كان مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الحديبية ألف و أربعمائة، ولكنّه عندما توجّه إلى مكّة لفتحها بعد عامين خرج معه عشرة آلاف، وكان هذا التفاوت من نتائج صلح الحديبية مباشرة، لأنّ بعض الناس كانوا يخشون قريشاً فلا يلتحقون بالمسلمين لذلك السبب، ولكن بعد أن اعترفت قريش بالكيان الإسلامي بصورة رسمية، وأُعطيت للقبائل الحرية الكاملة للانضمام إلى المسلمين زال الخوف المذكور عن كثير من القبائل، فاستطاع المسلمون أن يستغلوا تلك الفرصة ويقوموا بنشاط تبليغي ودعوة واسعة إلى الإسلام.

2. أن النتيجة الثانية الّتي حصَل عليها المسلمون من هذه المعاهدة هي زوال الستار الحديدي الّذي كان قد ضربه المشركون بين الناس وبين الإسلام، فقد سمح ذلك الصلح بالسفر إلى المدينة فكان الناس في سفرهم إلى المدينة يحتكون بالمسلمين ويلتقون بهم، فيتعرّفون على تعاليم الإسلام السامية.

ولقد أثار نَظمُ المسلمين، وإخلاصُهم، وطاعة المؤمنين الكاملة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إعجاب المشركين كما أثارت نظافة المسلمين، في أوقات الصلاة خاصّة، وصفوفهم المتلاحمة أثناء هذه العبادة المباركة، وخُطبُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الرائعة، وآيات القرآن الكريم البليغة، والسهلة في نفس الوقت، رغبة قوية في نفوس الكفّار

ص:395

في الالتحاق بالإسلام.

هذا مضافاً إلى أنّ المسلمين استطاعوا بعد عقد ذلك الميثاق السفر إلى مكّة وشتّى نقاط الجزيرة بحجج مختلفة، والاتّصال بذويهم وأقاربهم، والتحدّث معهم في أمر الإسلام وتعاليمه المقدّسة المحبّبة، وقوانينه وآدابه الرائعة، وما جاء به من حلال و حرام.

وقد تسبّبت كلّ هذه الأُمور في أن يلتحق كثير من رؤوس الشرك والكفر كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص بالمسلمين، ويعتنقوا ذلك الدين قبل فتح مكّة، وأن تساعد هذه المعرفةُ بحقائق الإسلام والاطّلاع على مزاياه وفضائله على تسهيل عملية فتح مكّة، وانهيار صرح الوثنية فيها من دون أيّة مقاومة من أهل مكّة، بحيث سيطر المسلمون عليها بسهولة وأقبلت أفواج الناس تدخل في دين اللّه راغبة، كما ستعرف تفاصيل ذلك في حوادث السنة الثامنة.

إنّ هذا الانتصار العظيم كان نتيجة الاتّصالات الّتي أجراها المسلمون مع ذويهم وأصدقائهم في مكّة خلال تردّدهم المتكرّر بعد زوال الخوف والحصول على الحرية في الدعوة بفضل صلح الحديبية.

3. أنّ الاتصال برؤوس الشرك أثناء عقد اتّفاقية السلام مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الحديبية، ساعد على إزالة كثير من العقد النفسية الّتي كانوا يعانون منها تجاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّ أخلاق النبي الرفيعة، وحلمه وصبره أمام تعنّت قادة المشركين وتصلّبهم وعتوهم، وسعيه الحثيث وحرصه الصادق على تحقيق السلام، أثبت لهم بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معدنٌ نفيس من معادن الخلق الانساني الكريم.

فبالرغم من أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قد أُصيب على أيدي قريش بخسائر فادحة، وناله

ص:396

منهم أذى كثير، إلّاأنّ فؤاده كان طافحاً بمشاعر اللطف، والحب والحنان على الناس.

لقد رأت قريش بأُمّ عينيها كيف أنّه صلى الله عليه و آله و سلم خالف في عقد ميثاق الصلح آراء جماعة من أصحابه، المعارضة لبعض بنود الاتّفاقية رغبة منه في تحقيق السلام، وكيف آثر الحفاظ على حرمة المسجد الحرام، على هواه، ورغبته الشخصية.

إنّ هذا النوع من السلوك أبطل مفعول جميع الدعايات السيّئة الّتي كانت تُرَوّجُ ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومواقفه وخُلقه، وأفكاره وأثبتت للجميع أنّه حقاً رجلُ سلام، وداعية خير للبشرية، وأنّه حتّى لوسيطر على مقاليد الجزيرة العربية، لما عامَل أعداءهُ إلّابالحسنى واللطف، لأنّه لم يكن مشكوكاً فيه بأنّه لو كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخوض حرباً ضد قريش في ذلك اليوم لغلبها وهزمها شر هزيمة كما يصرح بذلك القرآن الكريم أيضاً إذ يقول:

«وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً» .(1)

ومع ذلك أبدى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تسامحاً كبيراً، وأعلن عن عطفه، وحنانه للمجتمع العربيّ، وبذلك أبطل كلّ الدعايات الّتي كانت تُروّجُ ضدّه، وضدّ دعوته العظيمة المباركة.

من هنا نهتدي إلى مغزى ما قاله الإمام الصادق جعفر بن محمَّد عليهما السلام عن أهمية هذا الصلح حيث قال:

«وما كان قضية أعظم بركة منها».(2)

إنّ الحوادث اللاحقة أثبتت أنّ اعتراض عدد ضئيل من صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم

ص:397


1- . الفتح: 22.
2- . بحار الأنوار: 368/20.

وفي مقدّمتهم عمر بن الخطاب على هذا الصلح كان باطلاً ولا مبرر له.

وقد أدرج أرباب السير والتاريخ جميع هذه الاعتراضات، كما تنقل ردّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عليها، ويمكن للوقوف عليها مراجعة «السيرة النبوية» لابن هشام، و «إمتاع الأسماع» وغيرهما(1) أنّ قيمة هذه المعاهدة تتجلّى من أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يصل إلى المدينة حتّى نزلت سورة الفتح الّتي وعدَت المسلمين وبشّرتهم بالانتصار ويمكن اعتبار هذا العمل مقدّمة لفتح مكّة كما يقول تعالى: «إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» .(2)

قريش تصرُّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة

لم يمض زمان طويل حتّى أجبرت الحوادثُ المُرّة قريشاً على أن تبعث إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من يطلب منه إلغاء المادة الثانية من معاهدة صلح الحديبية، وهي المادة الّتي أغضبت بعض صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأثارت سخطهم، وقبل بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تحت إصرار من «سهيل» ممثّل قريش في مفاوضات الحديبية.

تلك المادة الّتي تقول: على الحكومة الإسلامية أن تعيد كلّ مسلم هارب من مكّة إلى حكومة مكّة، ولكن لا يجب على قريش أن تعيد كلّ هارب من المسلمين إلى مكّة، إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وقد أثارت هذه المادة - المجحفة في الظاهر - سخط البعض واعتراضهم، ولكنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال لأبي جندل في وقته:

ص:398


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 781/3؛ إمتاع الأسماع: 291/1؛ المغازي: 606/1؛ تاريخ الطبري: 280/2.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 263/20 نقلاً عن إعلام الورى، وزاد المعاد في هدى خير العباد: 126/2.

«فإنَّ اللّه جاعلٌ لك وَ لِمَن معَك مِنَ المستضعفين فَرجاً وَ مَخرجاً».

ثم إنّ مسلماً آخر يدعى «أبوبصير» كان قد حبسه المشركون ردحاً طويلاً من الزمن استطاع أن يفرّ من محبسه ويصل إلى المدينة، وقد وصلها سعياً على قدميه، فكتب شخصيتان من شخصيات قريش هما: «أزهر» و «الأخنس» كتاباً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يطلبان منه إعادة أبي بصير إلى قريش ويذكّرانه بالمعاهدة وأرسلاه مع رجل من بني عامر يرافقه غلامُه، فدفع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «أبا بصير» إلى الرجلين عملاً بالمعاهدة قائلاً:

«يّا أبابصير إنّا قَد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمتَ (أي مِن العهد) ولا يَصلح لنا في ديننا الغدرُ، وإنّ اللّه جاعلٌ لكَ وَ لِمَن معَكَ مِنَ المسلمين فَرَجاً وَ مخرجاً»(1).

فقال أبوبصير: يا رسول اللّه تردَّني إلى المشركين؟!

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثانية:

«إنطلِق يا أبا بصير، فإنّ اللّه سيَجعَل لَكَ مخرجاً».

ثم دفعه إلى العامريّ وصاحبه فخرج معهما باتّجاه مكّة.

فلمّا كانوا بذي الحليفة (وهي قرية تبعد عن المدينة بستة أميال يحجّ منها بعض أهل المدينة) صلّى أبوبصير ركعتين صلاة المسافر ثم مالَ إلى أصل جدار فاتّكأ عليه، ووضع زاده الّذي كان يحمله وجعل يتغدّى وقال لصاحبيه في لهجة الصّديق: ادنُوا فكُلا؟ فأكَلا معه ثم آنسَهُم ثم قالَ للعامري: يا أبا جابر أصارم سيفك هذا؟ قال: نعم. قال: ناولنيه انظُر إليه إن شئت؟ فناولهُ العامري سيفهُ وكان أقرب إلى

ص:399


1- . المغازي: 625/1.

السيف مِن أبي بصير، فجَّردَ أبُوبصير السيفَ وقتلَ به العامريّ في اللحظة، فهربَ الغلامُ يعدُو نحوَ المدينة خوفاً، وسبق أبا بصير إلى المدينة، وأخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما جرى لسيّده العامريّ، فبينا رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جالسٌ في أصحابه والغلام عنده يقصّ عليه ما جرى إذ طلع أبوبصير، فدخل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد وقال: وَفَت ذِمّتُك، وأدّى اللّه عنكَ، وقد أسلَمتني بيد العدوّ، وقد امتنعتُ بديني من أن أُفتَن.

ثم إنّ أبا بصير بعد أن قال هذا الكلام خرج من عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وغادَر المدينة، ونزل ناحية على ساحل البحر، على طريق قافلة قريش إلى الشام، تُسمّى «العيص».

وعرف المسلمون الذين حُبسوا بمكة بهذا التطّور، ففرّ منهم سبعون رجلاً، وانضمُّوا إلى أبي بصير وكانوا ممّن نالهم على يد قريش أشدُّ العذاب والعنت، فلا حياة ولا حرية لهم.

من هنا قرّروا أن يتعرّضوا لقافلة قريش التجارية ويغيروا عليها، أو يقتلوا كلّ مَن وقعت يدُهم عليه من قريش.

وقد لعبت هذه الجماعة دورها بصورة رائعة جداً بحيث أقلقت بال قريش، وسلبت منها الرقاد إلى درجة أنّهم كتبوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يطلبون منه إلغاء هذه المادة (أي المادة الثانية)، بموافقة الطرفين وقد أعلنوا موافقتهم على إلغائها، وإعادة أبي بصير وجماعته إلى المدينة والكف عن التعرّض لتجارة قريش.

فوافق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على إلغاء تلك المادة، وطلب من المسلمين في منطقة «العيص» القدوم إلى المدينة.

وبهذا توفّرت فرصةٌ طيبةٌ لجميع المسلمين، كما عرفت قريش أنّها لا

ص:400

تستطيع سجن المؤمن، وحبسه في القيد، وأنّ تقييده وحبسه أخطر بكثير من إطلاق سراحه، لأنه سيفرُّ ذات يوم وهو يحملُ روح الانتقام على سجّانه.(1)

النساءُ المسلمات لا يُسلَّمن إلى قريش

بعد أن تمّ الاتّفاق والتوقيع على معاهدة صلح الحديبية هاجرت «أُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط» في تلك المدّة، فخرج أخواها «عمارة» و «الوليد» ابنا عقبة حتّى قدما على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يسألانه أن يردّ أُختهما عليهما بالعهد الّذي بينه وبين قريش في الحديبية، فلم يفعل ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال لهما:

«إن اللّه نَقضَ العَهدَ في النساء»(2).

وقد نزل قولهُ تعالى يوضح حكم هذا الأمر:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» .(3)

كانت هذه قصّة «الحديبية»، وقد استطاع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ظلّ الهُدُوء والأمن اللّذين تحقّقا بسبب معاهدة الحديبية أن يراسل قادة العالم وزعماءه، وأن يبلّغ نبأ دعوته إلى مسامع شعوبهم، وستقف على مفصل هذا القسم من تاريخ الإسلام المشرق في الفصل القادم.

ص:401


1- . لاحظ: المغازي: 625/1-629.
2- . المغازي: 631/1.
3- . الممتحنة: 10.

حوادث السنة السابعة من الهجرة

44 النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعلن عن رسالته العالمية

اشارة

لقد أراحت معاهدةُ الحديبية بالَ رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم من ناحية الجنوب (أي مكة)، وقد آمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولبّى دعوته في ظلّ الهدوء والأمن والاستقرار الحاصل بسبب هذا الصلح جماعة من زعماء العرب ورجالها البارزين.

واغتنم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذه الفرصة ففتح على ملوك العالم وزعماء القبائل، ورجال الدين المسيحي يومذاك باب المراسلة، فكاتبهم ووجّه إليهم رسائل كثيرة عبر رسله وسفرائه، وقد عرض فيها عليهم رسالته ودعوته الّتي كانت يومذاك لا تخرج عن صورة العقيدة البسيطة وكان في مقدورها أن تضم تحت لواء التوحيد، وفي إطار التعاليم الأخلاقية والإنسانية كلّ البشرية.

وقد كانت هذه هي الخطوة الأُولى الّتي خطاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد 19 عاماً من الصراع مع قريش العاتية.

ولو أنّ الأعداء الداخليّين لم يشغلوه بالصراعات والحروب لاستطاع رسول الإسلام أن يقوم بتوجيه دعوته إلى شعوب العالم آنذاك قبل هذا الوقت، ولكن

ص:402

الحملات الظالمة والمضايقات الشديدة الّتي قام بها العربُ الوثنيون الجهلة طوال ما يقرب من عقدين من عمر الرسالة أجبرت رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم على أن يصرف قسماً عظيماً من أوقاته الغالية في ترتيب شؤون الدفاع عن حياض الإسلام وكيان المسلمين.

إنّ الرسائل الّتي وجّهها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الأُمراء والسلاطين، وإلى رؤساء القبائل، والشخصيات الدينية والسياسية البارزة داخل الجزيرة العربية وخارجها لدعوتهم إلى الإسلام تكشف عن طريقته في الدعوة والتبليغ، والإرشاد والهداية.

وبين أيدينا الآن نصوص 185(1) رسالة وكتاب من مكاتيب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورسائله الّتي دعا فيها من أرسلها إليهم، إلى الإسلام، أو كتبه الّتي تشكّل معاهداته ومواثيقه صلى الله عليه و آله و سلم الّتي أعطاها أو عقدها مع الأطراف المختلفة وقد جمعها، وضبطها أرباب السير وكتّاب التاريخ وهي تكشف برمّتها عن أنّ أُسلوب الإسلام في الدعوة والتبليغ يعتمد على المنطق والبرهان، لا على السيف والقهر، وعلى الإقناع لا الإكراه.

فيوم اطمأنّ بالُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأمن جانب قريش وحلفائها، وجّه نداءه الالهي إلى مسامع البشرية في العالم وذلك عن طريق إرسال الرسائل، أو بعث

ص:403


1- . لقد اجتهد علماء الإسلام في جمع وإحصاء رسائل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وكتبه قدرَ المستطاع، وإنّ أكملَ المصادر الحاضرة من حيث الاستقصاء وسعة التتبّع كتابان يتّسمان بأهمية كبرى في هذا المجال وهما: أ. الوثائق السياسية تأليف البروفيسور محمَّد حميد اللّه حيدرآبادي، الأُستاذ بجامعة باريس. ب. مكاتيب الرسول تأليف العلّامة المحقّق الشيخ علي الأحمدي. والكتاب الأخير يمتاز بتحقيقات وتحليلات أدبية، وتاريخية وسياسية إسلامية في غاية الأهمية.

المبلّغين والدعاة إلى شتّى أنحاء العالم.

إنّ نُصوص هذه الرسائل، والإشارات الموجودة في خلالها، ونصائحه الّتي كان يوجّهها صلى الله عليه و آله و سلم إلى الناس، والتسامح الّذي كان يبديه من نفسه خلال عقد الاتّفاقيات وإبرام المعاهدات مع الأجانب، تشكّلُ برمّتها شواهد قاطعة، ودامغة ضدّ نظرية المستشرقين الذين أرادوا مسخَ وجه الإسلام المشرق، بكيل الاتّهامات الباطلة له، والزعم بأنّ تقدّم الإسلام وانتشاره كان بفعل القهر، وبقوة السيف، وتحت عامل الفرض والإجبار وإنّنا لنأمل أن نوفّق ذات يوم لدراسة وتقييم تلك الرسائل والكتب واستجلاء هذه النقاط المذكورة واستخراج خطوط السياسة النبوية ومعالم الدعوة المحمدية، من ثنايا تلكم الرسائل والكتب التاريخية الخالدة لنستطيع من خلال هذا العمل بيان أُسلوب الإسلام في نشر دينه في شتّى نقاط العالم.

الرسالةُ المحمَّدية كانت عالمية

ينظر بعض الجهلة إلى مسألة عالمية الرسالة المحمَّدية بنظر الشكّ والترديد، وهم يتبعون في مثل هذه النظرة الجاهلة ما يروّجه بعض الكتاب العملاء، وفي مقدّمة هؤلاء المغرضين مستشرقٌ معاد للإسلام هو «السير ويليم موير» الّذي يقول:

إنّ موضوع عالمية الرسالة المحمَّدية قد ظهر وتبلور في ما بعد، وأنّ محمَّداً اقتصر في دعوته من بدء رسالته إلى لحظة وفاته على العرب، ولم يكن «محمَّد» يعرف أي مكان غير الجزيرة العربية.

ولقد اتّبع هذا المستشرق نهج أسلافه الإنجليز، وحاول التعتيم على الحقيقة في مقابلة الآيات الكثيرة الّتي تشهد - بجلاء - بأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يدعو البشر عامّة إلى التوحيد والاعتقاد برسالته وقال: إنّ محمَّداً كان يقتصر في دعوته على

ص:404

العرب خاصّة.(1)

ونحن هنا ندرج بعض الآيات الّتي تشهد بأنّ رسالة الإسلام وأنّ الدعوة المحمَّدية كانت منذ بداية ظهورها دعوة عالمية، ويمكن مراجعة كتب التفسير والعقائد للوقوف على المزيد من التوضيح في هذا المجال.

آيات تدلّ على عالمية الرسالة المحمَّدية

1. «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً» .(2)

2. «وَ ما هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» .(3)

3. «لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا» .(4)

4. «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» .(5)

والآن نسأل هذا الكاتب الإنجليزي: كيفَ تقول - مع هذه الدعوة العالمية -

ص:405


1- . هاهنا مسألتان يجب التمييز بينهما: أ. عالميّة الرسالة المحمَّدية. ب. خاتمية الرسالة المحمّدية. وفي الأُولى تعالج مسألة عالميّة رسالة النبيّ محمّد وعدم عالميتها، وأنّه صلى الله عليه و آله و سلم هل كان مبعوثاً لخصوص سكان الجزيرة العربية أم لعموم البشر، وللنّاس كافّة؛ في حين أنّ المحور في المسألة الثانية هو أنّه صلى الله عليه و آله و سلم هل هو آخر نبي أو لا؟ على أنّه يمكن أن يقول البعض: إنّ دينه كان عالمياً إلّاأنّ نبوّته لم تكن خاتمة النبوات؛ بل سيأتي بعده نبي آخر وشريعة اخرى. من هنا لابدّ من البحث في النبوة الخاصّة حول كلا المسألتين بصورة مستقلة، وقد بحثنا المسألتين في الجزء الثالث من مفاهيم القرآن بصورة موسّعة.
2- . سبأ: 28.
3- . القلم: 52.
4- . يس: 70.
5- . التوبة: 33.

أنّ موضوع عالمية الرسالة الإسلامية قد ظهر وتبلور فيما بعد.

فهَل مع وجود هذه الآيات ونظائرها ومع وجود سفراء رسول اللّه ومبعوثيه إلى المناطق النائية، والبلاد البعيدة، وإلى نصوص الرسائل الّتي بقيت مسجّلة في صفحات التاريخ عن رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم وخاصّة مابقي منها محفوظاً بعينه إلى الآن في المتاحف العالمية الكبرى يبقى مجال لأن يشكّ أحدٌ في عالمية رسالته؟

والعجيب أنّ الكاتب المذكور يكتب بكلّ وقاحة قائلاً: إنّ محمَّداً لم يكن يعرف غير الحجاز، في حين أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سافر يوم كان في ربيعه السادس عشر مع عمّه أبي طالب إلى الشام، كما سافر إلى الشام في تجارة خديجة في سنّ الخامسة والعشرين، مع قافلة قريش التجارية.

حقّاً إنّ من العجب العجاب أنّنا كلّما قرأنا في التاريخ أنّ شاباً يونانياً (هو الاسكندر المقدوني) كان يريد أن يسيطر على العالم، أو نسمع أنّ (نابليون بونابرت) كان يفكّر في أن يكون امبراطور العالم الوحيد، لم يبعثنا كلُّ ذلك على الاستغراب والدهشة، ولكن كلما يسمع فريق من المستشرقين بأنّ قائد المسلمين الأعلى وجّه دعوة الإسلام - وبأمر اللّه - إلى زعماء عصره العالميّين الذين كان بينهم وبين قومه علاقات تجارية عريقة، أنكروا ذلك وبوقاحة، واعتبروه أمراً محالاً.

رُسُل الإسلام إلى المناطق النائية

طرح رسول الإسلام قضية دعوة الملوك والأُمراء إلى الإسلام على شورى كبيرة من أصحابه كغيرها من المسائل المهمة فقال:

«أيّها الناس إنّ اللّه قد بعثني رحمة وكافَّة فلا تختلفوا عليَّ كما اختلف

ص:406

الحواريون على عيسى بن مريم».

فقال أصحابه: وكيف اختلف الحواريّون يا رسول اللّه؟ قال:

«دعاهم إلى الّذي دعوتكم إليه، فأمّا مَن بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلم، وأمّا مَن بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل».(1)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اختار ستة أشخاص من خيرة أصحابه وكتب معهم كتباً إلى الملوك تضمّنت دعوته العالمية، وبعثهم إلى مختلف نقاط الأَرض.

وهكذا توجّه سفراء الهداية ورسل الدعوة المحمَّدية في يوم واحد إلى إيران، والروم، والحبشة، ومصر، واليمامة، والبحرين، والحيرة، و (الأردن) وسوف نقرأ معاً مفصّل ما احتوته رسائله صلى الله عليه و آله و سلم(2).

وعندما فرغ من كتابة الرسائل المذكورة قال بعض ذوي الاطّلاع والعلم بأحوال بلاطات الملوك آنذاك لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يا رسول اللّه: إنّ الملوك لا يقرأون كتاباً إلّامختوماً، فاتّخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يومئذ خاتماً من فضة، فصّه منه، نقشه ثلاثة أسطر: محمَّد رسول اللّه، في الأعلى لفظة الجلالة وتليه كلمة رسول ثم يليه اسمه الشريف، وختم به الكتب.

ولم يكتف بهذا بل ختم تلك الرسائل بالشمع أو الطين إمعاناً في السرية، والحفاظ عليها من التزوير(3).

ص:407


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1025/4.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1025/4-1026؛ الطبقات الكبرى: 258/1؛ السيرة الحلبية: 283/3؛ بحار الأنوار: 382/20.
3- . لاحظ: السيرة الحلبية: 281/3.

أوضاع العالم أيام إبلاغ الرسالة العالمية

كانت الامبراطوريتان (الرومية والفارسية) تقتسمان آنذاك قيادة العالم، وكانت الحروب قائمة بين ذينك المعسكرين على قدم وساق، ومنذ زمن بعيد.

فلقد بدأ الصراع على النفوذ بين إيران والروم منذ عهد الهخامنشيين، واستمرّ حتّى عصر الساسانيّين ملوك ايران.

فكان الشرق تحت النفوذ الإيراني، كما كانت العراق واليمن وشيء من آسيا الصغرى تعدّ من توابع الامبراطورية الإيرانية ومستعمراتها.

وأمّا الامبراطورية الرومية فقد كانت منقسمة يومذاك إلى معسكرين شرقي وغربي، لأنّ «تئودوز الكبير» امبراطور الروم قسّم بلاده في سنة (395) ميلادية بين ولديه، ومن هنا ظهرت الروم الشرقية والروم الغربية.

وقد انقرضت الروم الغربية على أيدي متوحّشي وبرابرة شمال أُوربا، ولكن الروم الشرقية الّتي كان مركزها يومذاك «القسطنطينية» وكانت تسيطر على الشام ومصر، فكانت تسيطر أبان ظهور الإسلام على قدر كبير من مقاليد السياسة العالمية إلى أن فتحت القسطنطينية عام (1453 م) على يد السلطان محمَّد الثاني «محمّد الفاتح»، وبذلك غربت شمس دولة الروم الشرقية، واضمحلّت نهائياً. وقد كانت أرضُ الحجاز محاصرة بين هذين القطبين ومحاطة بهاتين القوّتين العظيمتين، ولكن حيث إنّ أراضي الحجاز لم تكن أراض خصبة، وكان أهلها في الأغلب من الرحَّل المتفرّقين في البراري والقفار، لذلك لم تُبد كلتا الامبراطوريتين رغبتهما في الاستيلاء على تلك الأَراضي، فقد كان الفساد والظلم، والحروب الّتي اتّسمت بها طبيعة وحياة تينك الدولتين تمنعهما من الاطّلاع على أي تغيير اجتماعي أو تحوّل سياسي يقع في هذه المنطقة من العالم.

ص:408

فهم لم يكونوا يتصوّرون قط أن يتمكّن شعبٌ - كان بعيداً عن روح الحضارة والمدنية - من وضع نهاية لإمبراطوريّتهم، بفضل ما أُتوا من إيمان، وإنارة النقاط - الّتي كانت ترزح في ظلام جور السلطات الرومية وظلمها - بنور الإسلام المشرق، ولو كانوا يعرفون شيئاً عن هذه النهضة المشرقة وهذا الانفجار المعنوي العظيم في بدء حدوثه لقضوا عليه في أوّل الأمر، ولم يتركوه يمتد إلى ملكهم، ويقلبُ كلّ شيء رأساً على عقب.

رسولُ النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أرض الروم

كان قيصر الرُّوم قد عاهَدَ اللّه إذا غلب الفرس أن يسير إلى بيت المقدس من عاصمته: «القسطنطينية» مشياً على قدميه للزيارة، شكراً للّه، وقد وفى بنذره هذا بعد انتصاره على إيران.

فكُلِّفَ «دحية الكلبي» بإيصال كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى قيصر، وكان دحية قد سافر مراراً إلى الشام، وكان عارفاً بمناطقها وعاداتها معرفة كاملة، وكان إلى ذلك جميل الصورة حسن السيرة، ولهذا كان جديراً بتحمّل هذه المسؤولية الخطيرة لائقاً لها.

وقد توجَّه إلى «القسطنطينية» رأساً بعد أن كلّفه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإيصال كتابه إلى قيصر، ولكنّه ما أن وصل إلى بصرى (من مدن الشام) إلّاوبلغه أنّ قيصراً قد فارقها قاصداً بيت المقدس ولهذا بادر إلى الاتّصال بحاكم بصرى(1): «الحارث بن أبي شمر» وأخبره بالمهمّة الخطيرة الّتي جاء من أجلها.

ص:409


1- . كانت بصرى مركز محافظة حوران الّتي كانت تعدُّ من مستعمرات قيصر. وكان الحارث بن أبي شمر - بصورة عامّة - وجميع ملوك بني غسان، من ولاة قيصر على تلك المناطق.

يقول مؤلّفُ الطبقات الكبرى: بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتاباً، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بُصرى ليدفعه إلى قيصر، (ولعلّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يعرف بمغادرة قيصر لعاصمة ملكه، أو لعلّ ذلك الأمر كان مراعاة لإمكانيات دحية المحدودة، وكون السفر إلى القسطنطينية كان يتطلّب جهداً كبيراً أو لا يخلومن محاذير).

فدفعه عظيم بصرى إليه وهو يومئذٍ بحمص.(1) ولمّا انتهى دحية إلى الحارث بن أبي شمر (عظيم بصرى) أرسل معه عدي بن حاتم ليوصله إلى قيصر فذهب به، فقال قومه لدحية: إذا رأيت الملك فاسجد له، ثم لا ترفع رأسك حتّى يأذن لك.

قال دحية: لا أفعل هذا أبداً، ولا أسجد لغير اللّه! (أي إنّني قد جئت لتحطيم هذه السنن الجاهلية المقيتة فكيف أخضع لها، إنّما جئتكم من قبل نبي لأُبلّغ ملككم بأنّ عهد عبادة البشر قد انقضى وانتهى، وأنّه لا يحقّ السجود إلّاللّه وحده، فكيف يمكنني ذلك وأنا أحمل هذه الرسالة التوحيدية إليكم؟!). قالوا:

إذن لا يؤخذ كتابك، فقال له رجل منهم: أنا أدلّك على أمر يؤخذ فيه كتابك، ولا تسجد له، فقال دحية: وما هو؟ فقال: إنّ له على كل عتبة منبراً يجلس عليه فضع صحيفتك تجاه المنبر فإنّ أحداً لا يحرّكها حتّى يأخذها هو، ثم يدعو صاحبها، ففعل.(2) فلمّا أخذ قيصر الكتاب وجد عليه عنوان كتاب العرب فدعا الترجمان الّذي يقرأ بالعربية فإذا فيه:

ص:410


1- . الطبقات الكبرى: 259/1.
2- . السيرة الحلبية: 284/3.

«بسم اللّه الرحمن الرحيم. مِن محمَّد بن عَبداللّه إلى هرقل عظيم الرّوم سلامٌ على مَن اتّبع الهدى.

أمّا بعدُ فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلَم، وأسلم يؤتكَ اللّه أجرَك مرَّتين. وإن تولّيت فعليك إثمُ الأريسيّين(1)، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألّا نعبُد إلّااللّه ولا نشرك به شيئاً وَلا يَتّخذَ بعضُنا بَعضاً أرباباً مِن دون اللّه، فإن تَوَلَّوا فَقُولوا اشهَدوا بأنّا مُسلِمُونَ. محمَّد رسولُ اللّه».(2)

قيصر يحقّق حولَ النبي صلى الله عليه و آله و سلم

احتمل حاكم الروم اللبيب أن يكون كاتب هذه الرسالة هو: «أحمد الموعود» الّذي بشّر به الإنجيلُ والتوراة، ولهذا قرّر أن يحقّق حول شخصيّته، ويتعرّف على خصوصيات حياته، الدقيقة.

فبعث أحداً إلى الشام فوراً ليأتي له بقريب لمحمَّد، أو من يعرف شيئاً عنه.

حتّى يسأله عن شخصية رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم فاتّفق أن كان أبوسفيان بن حرب يومذاك بالشام للتجارة في ركب من قريش، فأخذهم صاحب شرطة «قيصر» إلى بيت المقدس، فأدخلهم على «قيصر» في مجلسه وحوله عظماء الروم.

فقال قيصر: أيّكم أقرب نسباً بهذا الرجل الّذي يزعم أنّه نبي؟

ص:411


1- . بين العلماء في تفسير هذه اللفظة خلاف، فيقول ابن الأثير: قيل هُم الخدم والخول، وقال بعض: هم الأكّارون (أي الفلاحون) لأنّ أكثر الناس يومذاك كانوا من الفلاحين، وهم أطوع الناس للحاكم. ويؤيّد الرأي الأخير أنّه جاء في بعض النسخ (الكامل: 213/2) كلمة الأكّارين بدل الأريسيين، والأكّار هو المزارع، واحتمل البعض أن يكون الأريسيون طائفة كانت تعيش في الروم.
2- . تاريخ الإسلام للذهبي: 505/2؛ البداية والنهاية: 302/4.

فقال أبوسفيان: أنا أقربهم نسباً.

فقال قيصر: أدنوه منّي، وقرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إنّي سائلٌ هذا عن هذا الرجل، فإن كذّبني فكذّبوه.(1)

ثم طرح قيصر على أبي سفيان الأسئلة التالية:

قال أبو سفيان: ثمّ كان أوّل ما سألني عنه أنّه قال:

1. كيف نسبه فيكم؟

قلت: هو فينا ذو نسب.

2. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قبله قط؟

قلت: لا.

3. قال: فهل كان في آبائه من مَلِك؟

قلت: لا.

4. قال: فأشرافُ الناس اتّبعوه أُمّ ضعفاؤهم؟

قلت: بل ضعفاؤهم.

5. قال: أيزيدون أُمّ ينقصون؟

قلت: بل يزيدون.

6. قال: فهل يرتدّ منهم أحد سُخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟

قلت: لا.

7. قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

ص:412


1- . بحار الأنوار: 385/20؛ البداية والنهاية: 301/4.

قلت: لا.

8. قال: فهل يغدر؟

قلت: لا.

9. قال: فهل قاتلتموه؟

قلت: نعم.

10. قال: فكيف كان قتالُكم إيّاه؟

قلت: الحربُ بيننا وبينه سجال، ينالُ منّا وننالُ منه.

11. قال: ماذا يأمركم؟

قلت: يقول: اعبدوا اللّه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمُرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة....

فقال قيصر للترجمان قل لأبي سفيان ومن معه:... فإن كان ما تقول حقّاً فسيملكُ موضعَ قدميّ هاتين فهذه صفة نبيّ، وقد كنت أعلم أنّه خارج لم أكن أظنّ أنّه منكم، فلو أنّي أعلمُ أنّي أخلصُ إليه لتجشمتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ قدميه!!(1)

فاعترض ابن أخي قيصر على كتاب رسول اللّه وأظهر الغيظ الشديد وقال لعمّه: قد ابتدأ بنفسه وسمّاك صاحب الروم ألق به، يعني الكتاب.

فقال قيصر: واللّه إنّك لضعيف الرأي. أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر، وهو أحقُّ أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق أنا صاحب الروم، واللّه

ص:413


1- . بحار الأنوار: 384/20-386؛ البداية والنهاية: 301/4-302.

مالكي، مالكه.(1)

قال أبوسفيان: فلمّا قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصواتُ وأُخرجنا، فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمرَ أمرُ ابن أبي كبشة، أنّه يخافه ملك بني الأصفر.(2)

وروي أيضاً أنّ أباسفيان قال: لمّا سألني قيصر عن رسول اللّه جعلتُ أُزهّدُ له شأنه، وأُصغّر له أمره وأقول له: أيّها الملك، ما يهمّك من أمره، إنّ شأنه دون ما يبلغك، وجعل قيصر لا يلتفت إلى ذلك، ثم قال: أنبئني عمّا أسألك من شأنه(3).

أثر رسالة النبي إلى قيصر

لم يكتف قيصر بالمعلومات الّتي حصّلها من أبي سفيان حول رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم بل كتب إلى أحد علماء الروم وأساقفتهم يسألهم عن هذا الأمر.

فأجابه ذلك الأُسقف: هذا النبيُ الّذي كنّا ننتظره، بشّرنا به عيسى بن مريم.

فعمد قيصر إلى خطّة ليجسّ بها نبض قومه، ويختبرهم ويعرف ما إذا كانوا يرضون بإسلامه أو لا؟ فجمع عظماءهم في صومعة له بحمص فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت لكم ملككم وتتّبعون ما قال عيسى ابن مريم؟

فقالت الروم: وما ذاك أيّها الملك؟

قال: تتّبعون هذا النبي العربي.

ص:414


1- . السيرة الحلبية: 288/3-289.
2- . بحار الأنوار: 386/20؛ البداية والنهاية: 302/4.
3- . تاريخ الطبري: 290/2.

فثاروا في وجهه، ورفعوا الصليب، فلمّا رأى منهم ذلك يئس من إسلامهم وخافهم على نفسه وملكه، فسكّنهم، ثم قال: إنّما قلتُ لكم ما قلتُ اختبركم لأنظر كيف صلابتكم في دينكم، فقد رأيتُ منكم الّذي أحبّ. فسكنوا ورضوا عنه. ثم أمر بإكرام دحية، وكتب جواباً على رسالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأرسله مع دحية وأرسل بهدية إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم(1).

سَفير النبيّ في البلاط الإيراني

يوم توجّه سفير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكتابه إلى البلاط الإيراني كان الملك الّذي يحكم هذه الأرض الواسعة هو «خسرو پرويز» ثاني ملك بعد أنوشيروان، الّذي جلس على العرش الملكي الإيراني مدة 32 عاماً قبل الهجرة النبوية المباركة.

وقد واجهت حكومة هذا الملك خلال مدة سلطانه أنواعاً عديدة من الحوادث المرّة والحلوة، وكانت مكانة ايران في عهده تعاني من الاضطراب، وعدم الاستقرار بشكل ملحوظ.

وقد امتدّ النفوذ الإيرانيُ ذات يوم حتّى شملَ آسيا الصغرى، وامتدّ إلى مشارف القسطنطينية، وأتى بصليب عيسى الّذي كان أقدس شيء عند النصارى إلى طيسفون (المدائن)، فطلب سلطان الروم الصلح وبعث سفيراً من قبله إلى البلاط الإيراني لعقد معاهدة الصلح.

بيد أنّ سوء تدبير الملوك في تلك الدولة العظمى، وانغماسهم في اللّذة والمجون أكثر من المتعارف، تسبب في أن تصبح إيران على حافة السقوط والانهيار في أواخر العهد الساساني، فقد خرجت المستعمرات من تحت النفوذ

ص:415


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 259/1؛ الكامل في التاريخ: 211/2؛ بحار الأنوار: 379/20.

الإيراني الواحدة تلو الأُخرى، واجتاح العدوُ الروميُّ الأراضي الإيرانية إلى الأعماق، ووصل الأمر بخسرو پرويز امبراطور ايران إلى أن يهرب من وجه الروم الغزاة، وقد أثار هذا الهروب الخانع وهذه الهزيمة المنكرة سخط الشعب يومذاك، فقُتِلَ بيد ابنه «شيرويه».

ويُعزي محلّلو التاريخ القديم تخلّف إيران وضياع قوتها إلى غرور قادتها وحكامها وميلهم إلى البذخ والترف، وهناء العيش ورغد الحياة، والزينة واللّذة. ولو كان ذلك الملك يتلقّى رسالة السلام الّتي عرضها الإسلام بالصورة اللائقة لبقيت عظمة إيران على حالها في ظلّ هذا السلام دون أن يصيبها ما أصابها.

ولو أنّ رسالة رسول الإسلام لم تترك أثراً حسناً في نفس «خسرو پرويز» يومذاك، فإنّ ذلك لم يكن لتقصير أو عيب في تلك الرسالة أو في سلوك حاملها إلى البلاط الإيراني، بل كان لنفسيّة ذلك الحاكم المغرور، المنحرّفة، وأنانيته الطاغية، الّتي لم تسمح له بالتفكير بعض اللحظات في كتاب رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم كما فعل «قيصر»، أو غيره. بل لم يمهل المترجم حتّى ينتهي من قراءة كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ، إنّما صاح به في تلك الأثناء، وأخذ منه رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومزّقها بوقاحة بالغة، وأُسلوب بالغ في الجفاف، وسوء الادب.

وإليك تفصيل الحادث:

في مطلع السنة الهجرية السابعة بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أحد فرسانه الشجعان وهو «عبداللّه بن حذافة السهمي»، إلى إيران وكتب معه كتاباً إلى «خسرو پرويز» ملك إيران يومذاك يدعوه فيه إلى الإسلام وأمره أن يدفع الكتاب إلى كسرى نفسه وإليك نصّ هذه الرسالة:

«بسم اللّه الرحمن الرّحيم من محمَّد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس.

ص:416

سلامٌ على من اتّبع الهُدى وآمن باللّه ورسوله، واشهدُ أن لااله الّا اللّه وحده لا شريك له، وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله. أدعوك بدعاية اللّه، فإنّي أنا رسول اللّه إلى الناس كافّة لأُنذرَ مَن كانَ حيّاً، ويحقَّ القولُ على الكافرين أسلِمْ تسلَمْ، فإن أبيتَ فعليك إثمُ المجوس».

إنّ كسرى لمّا أُعلم بكتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فأذن بحامل الكتاب أن يدخل عليه، فلمّا وصل أمر كسرى أن يقبض منه الكتاب، فقال (عبداللّه بن حذافة): لا حتّى أدفعه اليك كما أمرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال كسرى: أدنه، فدنا فناولته الكتاب، فدعا مَن يقرؤه، فقرأ، فإذا فيه: من محمَّد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس فأغضبه حين بدأ رسولُ اللّه بنفسه، وصاح، ومزّق الكتاب، قبل أن يعلم ما فيه وأمر بإخراج حامل ذلك الكتاب، فلمّا رأى ذلك قعد على راحلته وسار، فلمّا ذهب عن كسرى سورة غضبه بعث فطلب حامل الكتاب فلم يجده، فلمّا وصل إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره الخبر، قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: مزّق كسرى ملكه(1).

نظرية اليعقوبي

ويختلف ابن واضح الأخباري المعروف باليعقوبي في تاريخه - مع عامّة المؤرّخين -: قرأ كتاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم كتب كتاباً إليه جعله بين سرقتي حرير وجعل فيهما مسكاً، فلمّا دفعه الرسول إلى النبي فتحه فأخذ قبضة من المسك فشمّه، وناوله أصحابهُ، وقال: لا حاجة لنا في هذا الحرير، ليس من لباسنا، وقال: لتدخلنَّ في أمري أولآتينّك بنفسي ومن معي، وأمر اللّه أسرع من ذلك.(2)

ص:417


1- . السيرة الحلبية: 291/3.
2- . تاريخ اليعقوبي: 77/2، دار صادر، بيروت.

ولكن هذا رأي ينفرد به اليعقوبي ولا يوافقه عليه أحدٌ من أرباب السيَر إلّا أحمد بن حنبل الّذي يقول: أهدى كسرى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقبل منه(1).

أوامر «خسرو» إلى واليه على اليمن

تقع أرض اليمن الخصبة في جنوب مكّة، وكان ملوكها وحكّامها ولاة منصوبين من قبَل البلاط الإيراني بأجمعهم، وكان الّذي يحكم اليمن يوم مراسلة النبي لقادة العالم وملوكه رجلٌ يُدعى «باذان» فكتب طاغية إيران المغرور «خسرو» بعد أن مزّق رسالة النبيّ إلى عامله باليمن (باذان):

بلغني أنّ في أرضك رجلاً يتنبّأ فاستتبه، فإن تاب وإلّا فابعث به إليّ.

فبعث «باذان» رجلين من فرسانه يُدعى أحدهما: «فيروز» والآخر «خرخسره» وكتب معهما كتاباً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يأمره فيه أن ينصرف معهما إلى كسرى، أو أن يجبراه على الرجوع إلى دين آبائه وان أبى قتلوه وأرسلوا برأسه إلى الملك، حسب رواية ابن حجر في الإصابة.

إنّ رسالة كسرى إلى «باذان» تكشف عن جهل هذا الحاكم، وعدم معرفته بما كان يجري في بلاده ومستعمراته، فقد بلغ من جهله أنّه لم يكن يعلم أنّ هذا الرجل الّذي يدّعي النبوة(2) قد مضى على ادّعائه النبوة أكثر من 19 عاماً.

ثم إنّ الّذي ادّعى النبوة في منطقة نائية، وانتشر دينه، وأصبح من القوة والشوكة بحيث يجرأ على مراسلة الامبراطور، ودعوته إلى دينه لا يمكن أخذه وإحضاره إلى اليمن بواسطة رجلين. وأنّ الأمر - بالتالي - لن يتم بمثل هذه السهولة،

ص:418


1- . مسند احمد بن حنبل: 96/1.
2- . حسب تعبير كسرى.

والبساطة، الّتي تصوّرها.

وعلى كلّ حال لما قدم مبعوثا «باذان» المدينة ودخلا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قدّما رسالة «باذان» إليه صلى الله عليه و آله و سلم وقالا: لقد بعثنا «باذان» إليك لتنطلق معنا، فإن فعلت كتبَ فيك إلى مَلِك الملوك بكتاب ينفعك، ويكفّ عنك به، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.

وكانا قد دخلا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد حلقا لحاهما وأطلقا شواربهما، فاستمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى كلامهما، وقبل أن يجيب على مطلبهما دعاهما إلى الإسلام وقد كره النظر إليهم ا لما كانا عليه من الهيئة فقال لهما: من أمركما بهذا؟! قالا: أمرنا بهذا ربُّنا (يعنيان كسرى). فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لكِنّ رَبِّي أمرَني بإعفاء لِحيَتي وقصّ شاربي»(1).

فأرعبتهما، هيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجلال محضره، بحيث أخذا يرتجفان عندما عرض رسول اللّه الإسلام عليهما.

ثم قال لهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«إرجعا حَتّى تأتِياني غداً».

وفي هذه الأثناء أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الخبر من السماء أن اللّه عزّوجلّ قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا وكذا، لكذا وكذا من الليل.

فلمّا حضر الرجلان (مبعوثا باذان) عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من غد قال لهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«إنّ رَبِّي قد قَتل رَبَّكُما ليلةَ كذاوكذا مِن شهر كذاوكذا. بعد ما مضي من الليل

ص:419


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 296/2؛ بحار الأنوار: 390/20.

كذاوكذا سلّط عليه شيرويه فقتله».

وكانت الليلة الّتي ذكرها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هي ليلة الثلاثاء العاشر من شهر جمادى الأُولى سنة سبع من الهجرة.

فاستغرب الرجلان لخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالا: هل تدري ما تقول؟ إنّا قد نقمنا منكَ ما هو أيسر من هذا. فنكتب بها عنك ونخبر الملك (أي باذان).

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«نعم أخبراهُ ذلك عَنِّي وقولا لَهُ: إن دِيني وسُلطاني سَيبلغُ ما بلغ مَلكُ كسرى، وينتهي إلى منتهى الخُفّ والحافر، وقولا له: إن أسلَمتَ أعطيتُكَ ما تحتَ يديك، ومَلكّتك على قومك».

ثم أعطى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لخرخسرة منطقة (أي حزاماً) فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك، فخرجا من عنده حتّى قدما على باذان باليمن وأخبراه الخبر.

فقال باذان: واللّه ما هذا بكلام ملك وإنّي لأرى الرجل نبياً كما يقول، ولننظر ما قد قال، فلئن كان ما قد قال حقاً فإنّه لا ريب نبيٌ مرسلٌ، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.

فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتابُ شيرويه: أمّا بعد فإنّي قد قتلتُ كسرى، ولم أقتله إلّاغضباً لفارس، لما كان استحلّ من قتل أشرافهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممّن قبلك، وانظر الرجل الّذي كان كسرى كتب إليك فيه فلا تهجهُ حتّى يأتيك أمري فيه.

وقد تسبّب كتاب «شيرويه» هذا في أن يعتنق «باذان» الإسلام هو وجميع رجال دولته وكانوا من الفرس، وكتب إلى رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم يخبره بإسلامه

ص:420

وإسلام أعضاء حكومته(1).

سفيرُ النبيّ في أرض مصر

تُعتبر «مصر» مهد الحضارات والمدنيات العريقة، ومركز سلطان الفراعنة، وموضع سيادة الأقباط.

ويوم أشرقت شمس الإسلام على أرض الحجاز كانت «مصر» قد فقدت استقلالها، وقوّتها، وكان المقوقس قد فُوض إليه حكم «مصر» من قِبَل قيصر الروم لقاء 19 مليون دينار يدفعها إلى قيصر.

وكان «حاطب بن أبي بلتعة» - وكان فارساً بارعاً وله قصّة في تاريخ الإسلام سيأتي ذكرها في حوادث السنة الثامنة - أحد الستة الذين كلِّفوا بإبلاغ كتب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الملوك والرؤساء يومذاك وقد أمره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإيصال كتابه إلى المقوقس حاكم «مصر».

وإليك نصَ كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المقوقس:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم مِن محمَّد بن عَبداللّه إلى المقوقس عظيم القبط، سلامٌ على مَن اتّبَعَ الهُدى.

أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، وأسلم يؤتك اللّه أجرك مرَّتين، فإن تولّيتَ فإنّما عليكَ إثمُ القِبط - أي الذين هم رعاياك - «يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ» (2).(3) وختم

ص:421


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 296/2-297؛ بحار الأنوار: 390/20-391.
2- . آل عمران: 64.
3- . السيرة الحلبية: 295/3-296؛ أعيان الشيعة: 244/1.

الكتاب. وجاء به حاطب حتى دخل على المقوقس بالاسكندرية، أي بعد أن ذهب إلى مصر فلم يجده فذهب إلى الإسكندرية فأُخبر أنّه في مجلس مشرف على البحر، فركب حاطب سفينة وحاذى مجلسه، وأشار بالكتاب إليه، فلمّا رآه أمر بإحضاره بين يديه، فلمّا جيء به نظر إلى الكتاب وفضّه وقرأه وقال لحاطب: ما منعه إن كان نبيّاً أن يدعو على مَن خالفه (أي من قومه) وأخرجوه من بلده إلى غيرها أن يسلّط عليهم.

فقال حاطب (وكان حكيماً فهيماً): ألست تشهدُ أنّ عيسى ابن مريم رسول اللّه؟ فماله حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه أن لا يكون دعا عليهم أن يهلكهم اللّه تعالى حتّى رفعه اللّه إليه؟

(فأعجب المقوقس - الّذي لم يكن يتوقّع أن يجابه بهذا المنطق القوي المفحم - برد حاطب) وقال: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم.

ثمّ قال له حاطب: إنّه كان قبلك رجل يزعم أنّه الربُ الأعلى (يعني فرعون) «فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى» (1)، فانتقم به، ثمّ انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرُك بك، إنّ هذا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم دعا الناس فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام إلّاكبشارة عيسى بمحمَّد صلى الله عليه و آله و سلم، وما دعاؤنا إيّاك إلى القرآن إلّاكدعائك أهلَ التوراة إلى الإنجيل، وكلُّ نبي أدرك قوماً فهم أُمَّتُه، فالحقُّ عليهم أن يطيعوهُ، فأنت ممّن أدرك هذا النبيّ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح عليه السلام ولكنّا نأمرك به.(2)

وهو يقصد بكلامه الأخير أن الإسلام هو الصورة الأكمل لدين المسيح.

ص:422


1- . النازعات: 25.
2- . السيرة الحلبية: 295/3-296. ولاحظ: أعيان الشيعة: 244/1.

انتهى الحوار بين حاطب سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم والمقوقس حاكم مصر، إلّاأنّ المقوقس لم يعطه جواباً قاطعاً في ذلك المجلس، وقال: سأنظر، وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم وجعله في حقّ عاج وختم عليه ودفعه إلى جارية له. فكان على حاطب أن يلبث في مصر مدة حتّى يتلقّى جواب كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(1).

ثم طلب المقوقس حاطباً ذات يوم وانفرد به في قصره، وقال: أسألك عن ثلاث؟ فقال: لا تسألني عن شيء إلّاصدقتك. قال: إلى مَ يدعو محمد؟ فقال له حاطب: إلى أن نعبد اللّه وحده، ويأمر بالصلاة، خمس صلوات في اليوم والليلة، ويأمر بصيام رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة والدمّ....

فقال له المقوقس: صفه لي.

قال حاطب: فوصفتُ فَأَوجزتُ.

فقال المقوقس: قد بقيت أشياء لم تذكرها...، وكنتُ أعلمُ أن نبيّاً قد بقي، ولكنّني كنتُ أظنُ أنّ مخرجَهُ بالشام فهناك كانت تخرجُ الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب، في أرض جهد وبؤس، والقبط لا تطاوعني في اتّباعه، وسيظهر على البلاد، وينزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه، حتّى يظهروا على ما هاهنا.

(ثم طلب المقوقس من حاطب أن يكتم أمر هذا الحوار الّذي دار بينه وبين حاطب عن قومه قائلاً:) وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفاً واحداً، ولا أحب أن يعلم بمحادثتي (أو بمحاورتي) إيّاك(2).

ص:423


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 296/3.
2- . الإصابة: 296/6.

ثم إنّه أكرم حاطباً مدة اقامته بمصر إكراماً بالغاً، وأحسن قراه، وضيافته.

المقوقس يكتب كتاباً إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

ثم إنّ حاكم «مصر» المقوقس دعا كاتبه العربيّ، وأمره أن يكتب كتاباً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذا نصه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم. لمحمَّد بن عبداللّه من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أمّا بعد فقد قرأتُ كتابَك، وفهمتُ ما ذكرتَ فيه، وما تدعو إليه، وقد علمتُ أنّ نبياً قد بقي، وقد كنتُ أظنُ أنّه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك، وبعثتُ لك بجاريتين لهما مكانٌ في القبط عظيمٌ، وبثياب، وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام عليك(1).

إنّ الاحترام الّذي أبداه «المقوقس» في رسالته المذكورة، وتقديم اسم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على اسمه وكذا هداياه الّتي بعثها إلى رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم و تكريم سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم كلّها تحكي عن أنّ المقوقس قبل دعوة النبي صلى الله عليه و آله و سلم في سرّه ولكن حبّه في البقاء في السلطة منعه من التظاهر بإيمانه وإسلامه، ومن الإنقياد العمليّ والعلني للإسلام.

خرج «حاطب» من مصر بصحبة جماعة من الحرس وهو يحمل الهدايا الّتي بعثها المقوقس ولمّا وصل إلى الشام أذن للحرس بالانصراف ثم واصل هو سفره ضمن قافلة إلى المدينة، ولمّا قدم المدينة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سلّم إليه كتاب المقوقس وهداياه قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

ص:424


1- . السيرة الحلبية: 296/3-297.

«ضَنّ الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه»(1).

المغيرة بن شعبة في البلاط المصري

توجّه المغيرة بن شعبة الّذي كان معروفاً بحكمه وعقله ودهائه، والّذي أصبح في ما بعد من رجال السياسة العرب ودهاتها المعروفين.

توجّه في جمع من قبيلة ثقيف إلى البلاط المصري، فسألهم كبير المصريين (المقوقس):

كيف خلصتم إليَّ، ومحمَّد وأصحابه بيني وبينكم؟

قالوا: لصقنا بالبحر.

قال: فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟

قالوا: ما تبعه منّا رجلٌ واحد.

قال: فكيف صنع قومُه؟

قالوا: تبعه أحداثُهم، وقد لاقاه من خالفه في مواطن كثيرة.

قال: فإلى ماذا يدعو؟

قالوا: إلى أن نعبداللّه وحده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا، ويدعو إلى الصلاة، والزكاة، ويأمر بصلة الرحم، ووفاء العهد، وتحريم الزنا، والربا، والخمر.

فقاطعهم المقوقس قائلاً: هذا نبي مرسَلٌ إلى الناس كافّة، ولو أصاب القبط، والروم لاتّبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى، وهذا الّذي تصفون منه بُعث به الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة حتّى لا ينازعه أحد، ويظهر دينه إلى منتهى الخفّ

ص:425


1- . الطبقات الكبرى: 261/1؛ السيرة الحلبية: 299/3.

والحافر.

فاستاء رجال ثقيف من هذا الكلام وقالوا بكلّ صلافة ووقاحة: لو دخل الناسُ كلّهم معه ما دخلنا معه.

فأخفض المقوقس رأسه وقال: أنتم في اللعب(1). بيد أنّ هذه الرواية لا توافق بقية المصادر التاريخية؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كاتب ملوك العالم وقادته في السنة السابعة من الهجرة، على حين كان المغيرة في معركة الخندق قد آمن، وكان في الحديبية في صفوف المسلمين، حتّى أنّه كان بينه وبين مندوب قريش المفاوض عروة بن مسعود الثقفي مشاجرة مرّ ذكرها عند استعراض قصّة الصلح.

وعلى فرض صحّة هذه الرواية لابد من القول بأنّ المغيرة لم يكن في وفد ثقيف.

وفي الختام ينبغي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الواقدي نقل نصّ رسالة النبي إلى عظيم القبط بصورة أُخرى. ولكن أُسلوب الرسالة وعباراتها تدلّ على أنّ هذه الصورة لا أساس لها من الصحّة، لأنّها تتضمّن تهديداً من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعظيم القبط بالحرب والغزو إذ جاء فيها: «وأمرني (أي اللّه) بالإعذار والإنذار، ومقاتلة الكفّار حتّى يدينوا بديني»(2).

وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا غير صحيح؛ لأنّ امكانيات المسلمين في ذلك اليوم لم تكن لتسمح لهم بمقاتلة المكّيّين فكيف يغزو «مصر» وهي منطقة نائية جداً.

هذا مضافاً إلى أنّ صدور مثل هذا الكلام عن النبي في أوّل دعوة له إلى

ص:426


1- . الإصابة: 298/6؛ إمتاع الأسماع: 362/3-363.
2- . فتوح الشام: 39/2.

الإسلام لا يتلاءم ونفسية وخُلق ذلك الرجل العظيم الّذي كان يقدّر الظروف آنذاك أفضل من غيره.

***

سفير النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في أرض الذكريات «الحبشة»

تقع «الحبشة» في آخر أفريقيا الشرقية وتبلغ مساحتها 1800 كيلومتر مربع، وعاصمتها اليوم: أديس أبابا.

ولقد تعرّف الشرقيّون على هذه الأرض قبل ظهور الإسلام بقرن، وذلك على أثر هجوم الجيش الإيراني الّذي تمّ في عهد حكومة الملك الفارسي «انوشيروان»، وبلغ هذا التعرّف والتردّد ذروته في هجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة (الهجرة الأُولى والهجرة الثانية).

ويوم قرّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يبعث ستة من خيرة رجاله الشجعان إلى نقاط مختلفة، ونائية من العالم لإبلاغ نداء رسالته العالميّة كلّف: «عمرو بن أُمية الضمري» بأن يأخذ كتابه إلى الحبشة، ويسلِّمهُ إلى النجاشيّ ملكِها العادل الطيّب.

على أنّ الكتاب الّذي ستقرأ نصّه قريباً ليس هو الكتاب الوحيد الّذي بعثه رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم إلى النجاشي، بل سبق أن كتب صلى الله عليه و آله و سلم إليه قبل هذا يوصيه بالمهاجرين المسلمين، ويطلب منه فيه أن يلطف بهم، ويرعاهم، ولا يزال نصّ هذين الكتابين موجوداً في المصادر التاريخية الإسلامية.

وربما حصل اشتباه بين هذين الكتابين (الرسالة الّتي بعثها النبي لإبلاغ دعوته العالمية، والرسالة الّتي أوصى فيها النجاشي بالمهاجرين) فخلط بعض

ص:427

المؤرّخين بين عبارتيهما.(1)

ويوم قدم سفيرُ النبي بكتاب الدعوة إلى الإسلام، الحبشة على النجاشي كان بعض المهاجرين المسلمين لا يزالون في أرض الحبشة، يعيشون في كنف النجاشي وحمايته، بينما عاد بعضهم من قبل إلى المدينة، وهم يحملون أجمل الذكريات والخواطر عن عَدل حاكمها الطيّب «النجاشي»، ولطفه، وحسن وفادته.

من هنا كانت أرض الحبشة في نظر المسلمين تُعتبر أرض الذكريات الجميلة والخواطر الحلوة، وكانوا يمدحون حاكمها ويصفونه بالعدل والاستقامة.

ولو أنّنا لاحظنا في كتاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إليه نوعاً من اللطف، واللين في القول فإنّ ذلك مردّه إلى معرفة رسول اللّه بنفسية النجاشي وخلقه وحسن موقفه.

فإنّك لا تجد لتهديدات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في كتبه ورسائله الأُخرى إلى الملوك والزعماء بالعقاب الإلهي إن رفضوا القبول بدعوته، وحمّلهم مسؤولية شعوبهم في عبارات صريحة وقاطعة، أيَّ أثر في هذا الكتاب.

فقد كتب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى النجاشي مايلي:

«بسم الله الرحمن الرحيم. مِن مُحَمَّد رَسُول اللّه إلى النجاشي ملك الحبشة.

سلامٌ عليكَ، فإنّي أحمد إليك اللّه الّذي لا إله إلّاهو الملك القدّوس السلامُ المؤمنُ المهيمنُ، وأشهدُ أنّ عيسى بن مريم روحُ اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيّبة الحصينة فحملت بعيسى، حَملَتهُ من رُوحه، ونفخِه، كما خَلقَ آدمَ بيده، وإنّي أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأن تتّبعني وتوقن بالذي جاءني، فإنّي رسول اللّه، وإنّي أدعوك وجنودك إلى اللّه عزّ وجلّ وقد بلّغتُ

ص:428


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 294/2، البداية والنهاية: 104/3، إعلام الورى: 118/1.

ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتّبع الهدى»(1).

لقد بدأ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كتابه بالتسليم على حاكم الحبشة وأرسل إليه بتحياته الشخصية، ولكنّه لم يفعل هذا في كتاب غيره، فلم يرسل بتحيّاته الشخصية إلى «كسرى» و «قيصر» و «المقوقس» حكّام إيران والروم ومصر، بل بدأ كتبه إليهم بالسلام العام حيث قال: «السلامُ على مَن اتّبع الهدى».

ولكنّه صلى الله عليه و آله و سلم سلّم في كتابه هذا، على النجاشي نفسه، وقال: «سلام عليك»، وبهذا خصّه دون غيره من الزعماء والملوك باحترام وتكريم خاصّين.

وقد أشار صلى الله عليه و آله و سلم في هذا الكتاب إلى جملة من صفات اللّه البارزة الّتي تدلّ جميعُها على تنزهه سبحانه، وعظمته وجلاله.

ثم أشار إلى مسألة أُلوهية المسيح (الّتي هي من ولائد التفكير الكنسي المنحطّ) وردّ على ذلك باستدلال قويٍّ خاصّ مستلهَم من القرآن الكريم، حيث قايس ولادة المسيح عليه السلام بخلقة آدم، وأثبت أنّ ولادة شخص من دون أب لو كان دليلاً على أُلوهيّته، أو كونه ابناً للّه، لصحّ ذلك في حقّ آدم، الّذي خلق من غير أب ولا أُمّ، ولكن لا يرى أحدٌ فيه مثلَ هذا الرأي.

ثم ختم صلى الله عليه و آله و سلم كتابه هذا بإخراج دعوته في لباس النصح والموعظة، تجنّباً من إظهار نفسه بمظهر الآمر.

محاورة بين سفير النبيّ وحاكم الحبشة

لمّا مثلُ سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمام النجاشيّ، قال للنجاشي:

يا أصحمة إنَّ عليَّ القولُ، وعليك الاستماعُ، إنَّك كأنّك في الرقّة علينا منا،

ص:429


1- . السيرة الحلبية: 293/3.

وكأنّا في الثقة بك منك، لأنّا لم نظن بك خيراً قط إلّانِلناهُ، ولم نحفظك على شرّ قطّ إلّاأمنّاه، وقد أخذنا الحجّة عليك من قبل آدم، والإنجيلُ بيننا وبينك شاهدٌ لا يُرَدّ، وقاض لا يجور، وفي ذلك موقع الخير، وإصابة الفضل، وإلّا فأنت في هذا النبي الأُمّي كاليهود في عيسى ابن مريم، وقد فرّق النبي صلى الله عليه و آله و سلم رُسُلَه إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنَك على ما خافهم عليه لخير سالف، وأجر ينتظر.

فقال النجاشي: أشهد باللّه أنّه للنبيُ الّذي ينتظره أهل الكتاب، وإنّ بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، وإنّه ليس الخبر كالعيان، ولكنَّ أعواني من الحبشة قليل، فانظرني حتّى أُكثّر الأعوان، وأُليّن القلوب(1).

رسالة النجاشي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ثم كتب كتاباً إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هذا نصّه:

«بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم؛ إلى محمَّد رسول اللّه مِنَ النجاشي الأصحم ابن أبجر، سلامٌ عليك يا نبي اللّه ورحمة اللّه وبركاته، من اللّه الّذي لا إله إلّاهو، الّذي هداني إلى الإسلام. أمّا بعد، فقد بَلغني كتابُك يا رسول اللّه فيما ذكرت مِن أمر عيسى، فوربّ السماء والأَرض إنّ عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقاً(2) إنّه كما قلت وقد عرفنا ما بعثتَ به إلينا، وقد قرينا ابنَ عمّك وأصحابه، فأشهدُ أنّك رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صادقاً مصدّقاً وقد بايعتُك وبايعتُ ابن عمك وأسلمتُ على يدَيْه للّه ربِّ العالمين،

ص:430


1- . السيرة الحلبية: 294/3.
2- . الثفروق: الأقماع الّتي تلزق بالبسر والتمر، وقيل: هو علاقة ما بين النواة والقمع، وقيل: هوغلاف ما بين النواة والقمع. لسان العرب: 34/10، مادة «تفرق».

وقد بعثتُ إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر، فإنّي لا أملك إلّانفسي، وإن شئت أن آتيك فعلتُ يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإنّي أشهدُ أنّ ما تقولُ حقّ والسلام عليك يا رسول اللّه(1).

ثم إنَ النجاشي بعث بهدايا خاصّة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكتب إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد ذلك كتابين آخرين أيضاً، وكان في كلّ مرة يحترم كتابَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويقبّله ويضعُه على عينيه.

تقييم سريع لمراسلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم قادة العالم

ربما تصوّر بعض العارفين بأحوال الساسة في ذلك اليوم أنّ دعوة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لحكّام وشعوب العالم يومذاك كان أمراً خارج المألوف وعملاً غير متعارف، ولكنّ مضيّ الزمان أثبت أنّ ذلك العمل كان من وظائف النبيّ ومهامّه الأساسية.

أوّلاً: أنّ إرسال ستة سفراء في يوم واحد إلى أنحاء العالم، محمَّلين برسائل قوية مبرهنة أغلق كل باب للشكّ في وجه المخالفين في المستقبل، فلا مجال لأن يشك أحدٌ هذا اليوم وهو يرى هذا العمل العظيم في عالميّة الرساله المحمَّدية، فمضافاً إلى الآيات الواردة في هذا الصعيد يعدّ إرسال السفراء بنفسه دليلاً قاطعاً وكبيراً على عالمية الرسالة الإسلامية.

ثانياً: لقد تأثّر جميع الزعماء والمُلوك والقادة الذين راسلهم النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم - ما عدا «خسرو پرويز» ملك إيران الّذي كان طاغية مستبدّاً متكبّراً - برسائله صلى الله عليه و آله و سلم ودعوته، وأكرموا سفراءه.

ص:431


1- . تاريخ الطبري: 294/2؛ ولاحظ: بحار الأنوار: 392/20.

كما أنّ قضية ظهور النبيّ العربي قد أصبح حديث الأوساط والمحافل الدينية بسبب هذا العمل.

لقد أيقظت هذه الرسائل والكتب بمحتوياتها ومضامينها القوية المبرهنة العقول الغافية، وهزّت الغافلين بشدّة، وأثارت مشاعر الشعوب العالميّة المتحضّرة، ودفعتهم إلى البحث والتحقيق حول من بشّرت به التوراة والإنجيل، كما تسبّب في أن يجري العلماء والأساقفة والقساوسة غير المغرضين إتّصالات بمن ينتسب إلى هذا الدين، ويقيموا ارتباطاً مع هذه العقيدة بشكل وآخر.

ومن هنا ولأجل هذا تسابقت أفواج وفرق كبيرة من رجال الدين من الشرائع الدينية المختلفة الّتي كانت سائدة آنذاك في الأيام الأخيرة لحياة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم وبعدها إلى القدوم على المدينة لدراسة أوضاع الدين الجديد، والتعرّف على ماهيته ومنطقه.

ولقد شرحنا في الفصول الماضية وبشكل مفصَّل نوعَ ومدى التأثير الّذي تركته رسائل النبي وسفراؤه في نفوس حكّام الرّوم ومصر والحبشة، وها نحن نواصل بيان بقية التأثيرات الّتي تركتها مراسلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم لحاكم الحبشة العادل، وملكها البار: أصحمة النجاشي.

فقد عمد النجاشيّ بعد تقديم الهدايا إلى سفير النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، إلى إرسال ثلاثين رجلاً من القساوسة والأساقفة الأحباش إلى أرض المدينة للتحقيق في أمر الإسلام، ونبوة محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم وليروا عن كثب حياته الزاهدة البسيطة، ولا يتصوّروا أنّه يعيش كما كان يعيش الملوك والجبابرة في ذلك العصر.

ولمّا قدم مبعوثو النجاشي المدينة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سألوه عن نظريته حول السيّد المسيح عليه السلام فبيّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عقيدته حول ذلك النبيّ العظيم

ص:432

بقراءة الآية التالية:

«إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ» .(1)

وقد كان لهذه الآيات أثرٌ عجيبٌ في نفوس أُولئك القساوسة والأساقفة حتّى أنّهم بكوا عند سماعها من دون اختيار.

وبعد التحقيق الدقيق في دعوة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عاد هذا الفريق من علماء الدين المسيحي إلى الحبشة، وأخبروا النجاشيّ بما سمعوه وشاهدوه، فبكى هو أيضاً لما سمع من أُولئك الرجال(2).

وقد نقل ابن الأثير في «الكامل» و «أُسد الغابة» قصّة هذا الوفد بصورة أُخرى إذ كتب بعد ذكر ما مرّ من رسالة النجاشي بإضافة قوله: «وبعثت إليك بابني أرمى بن الأصحم»... فخرج ابن النجاشي في ستين نفساً من الحبشة (قاصدين المدينة) في سفينة في البحر، فلمّا توسطوا البحر غرقوا كلّهم.

ولكن وصول الرسالة الّتي أشار إليها ابن الأثير إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم

ص:433


1- . المائدة: 110.
2- . لاحظ: إعلام الورى: 119/1.

شاهد على أنّه لم تحدث مثل هذه الحادثة لمبعوثي النجاشي(1).

كتاب رسول اللّه إلى أمير الغساسنة (بالشام)

الغساسنة فرع من قبيلة «الأزد» القحطانيّين الذين سكنوا «اليمن» مدة طويلة، وكانت أراضيهم تسقى من سدّ مأرب، فلمّا انهدم ذلك السدّ اضطروا إلى الرحيل عن «اليمن» ونزلوا بالشام. فسيطروا على جزء من أراضيها وحكموا فيها، وانتهى بهم الأمر إلى تشكيل دولة الغساسنة. الّتي كانت تحكم تلك الديار تحت نفوذ قياصرة الروم وسيادتهم، فلمّا جاء الإسلام أزال نظامهم، وانتهت حكومتهم، بعد أن حكم منهم، اثنان وثلاثون ملكاً في مناطق «الجولان»، و «اليرموك»، و «دمشق»(2).

وقد بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «شجاع بن وهب» - وهو أحد السفراء الستة الذين بعثهم صلى الله عليه و آله و سلم لإبلاغ الرسالة الإسلامية إلى العالم - إلى أرض الغساسنة، وقد حمّله كتاباً إلى ملكها يومذاك «الحارث بن أبي شمّر الغساني»، فخرج «شجاع» بكتاب النبي إلى الشام لتسليمه إلى ملك الغساسنة فانتهى إليه وهو بغوطة دمشق وهو مشغول بإعداد المقدّمات لاستقبال «قيصر» الّذي كان في طريقه إلى زيارة بيت المقدس وفاء للنذر الّذي نذره للانتصار على إيران كما مر.

ولهذا لم يستطع «شجاع» من الوصول إلى الأمير الغساني إلّابعد انتظار دام ثلاثة أيام، فاستغلّ «شجاع» هذه الفرصة وصادق فيها حاجب الأمير الغساني فكان يحدّثه عن صفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخلاقه وما يدعو إليه من العقيدة الطاهرة،

ص:434


1- . أُسد الغابة: 62/1؛ الكامل في التاريخ: 213/2.
2- . راجع: معجم البلدان، ومروج الذهب، وغيرهما.

فأثّرت كلمات «شجاع» تأثيراً عجيباً في نفس ذلك الحاجب الّذي كان روميّا حتّى أنّه رقّ وغلبه البكاء وقال: إنّي قد قرأت الإنجيل وأجد صفة هذا النبي بعينه، وأنا أُؤمن به وأُصدّقه، وأخاف من «الحارث» أن يقتلني إذا عرف بإسلامي، وكان يكرم سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويحسن ضيافته طوال تلك المدة، ويقول إنّ «الحارث» يخاف «قيصر» أيضاً.

ثم لمّا خرج «الحارث» ذات يوم وجلس على عرشه أذنَ لسفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالدخول عليه، فلمّا مثل بين يديه دفع إليه كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقرأه وكان نصّه كالتالي:

«بسم اللّه الرحمن الرَّحيم مِن محمَّد رَسُول اللّه إلى الحارث بن أبي شمر، سلامٌ على من اتّبع الهُدى، وآمَن به وصدّق، وإنّي أدعوك أن تؤمن باللّه وحدَهُ لا شريكَ له يبقى مُلكُكَ».

فانزعج الحارث ممّا قرأ في آخر الكتاب ورمى به جانباً، وقال: مَن يَنتزع منّي مُلكي؟ أنا سائر إليه، ولو كان باليَمَن جِئته، عليّ بالناس.

وبهذا أمر بإعداد العسكر حالاً ليستعرض قوته العسكرية أمام سفير النبي إرعاباً وتخويفاً له. ولأجل أن يظهر نفسه بمظهر المدافع عن مُلك قيصر بادرَ إلى كتابة رسالة إلى «قيصر» يخبره فيها بما عزم عليه من غزو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم!!

واتّفق أن وصلت رسالة الأمير الغسّاني إلى «قيصر» في الوقت الّذي كان فيه «دحية الكلبي» سفيرُ النبي إلى الروم في مجلس قيصر، وكان «قيصر» يحاوره، ويسأله عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعن صفته ودينه، فانزعج «قيصر» من مبادرة الحاكم الغساني العجولة وكتب إليه يمنعه عن السير إلى رسول الإسلام طالباً منه أن يلتقي به في مدينة «ايليا».

ص:435

فغيّر موقف «قيصر» الإيجابي هذا موقف عميله: الحاكم الغسّاني السلبي تبعاً للمثل القائل «الناسُ على دين ملوكهم» فبادر من فوره إلى إكرام سفير النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ومنحه هدايا ثمينة، ووجَّهه نحو المدينة معززاً مكرّماً وقال له: «إقرأ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منّي السلام».

ولكن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يرض بهذا الموقف الدبلوماسي الّذي لم يكن ينمُّ عن واقع صادق فقال: بادَ ملكُهُ. أي سيزول ملكه عمّا قريب. فمات «الحارث» في السنة الهجرية الثامنة أي بعد عام واحد من هذه القضية(1).

سادس السفراء في أرض اليمن

سادس سفراء النبي هو المبعوث إلى أرض اليمامة (وهي من نجد)، وهو سليط بن عمرو.

فقد خرج سليط هذا بكتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى «هوذة بن علي» الحنفي ملك اليمامة يدعوه إلى الإسلام ولمّا قدم عليه سلّم الكتاب إليه وفيه.

«بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم. مِن محمَّد رسول اللّه إلى هَوذَة بن عَلي. سلامٌ على مَن اتَّبع الهُدى وَ اعلَم أنّ ديني سيظهَر إلى منتهى الخفِّ والحافِر (أي يعمُّ الشرق والغربَ) فأسلِم تَسلم وَأجعَلُ لكَ ما تحتَ يَديك».(2)

وحيث إنّ ملك اليمامة (هوذة) كان نصرانياً لذلك بعث إليه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سليطاً وكان ممّن عاش مدة من الزمن في أرض الحبشة عندما هاجر إليها فريقٌ من المسلمين فراراً من اضطهاد وفتنة قريش لهم، وعرف بتقاليد النصارى

ص:436


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 261/1؛ تاريخ الطبري: 293/2؛ السيرة الحلبية: 304/3-305.
2- . السيرة الحلبية: 303/3.

ومنطقهم، وكانت تعاليم الإسلام وكذا اختلاطه بمختلف الفئات في رحلاته وأسفاره قد صنعت منه رجلاً شجاعاً قوياً وذكياً، وقد استطاع بما أُوتي من قوة المنطق، والشجاعة أن يقنع بكلامه وحديثه ملك اليمامة عندما قال له: يا هوذة إنّه سوّدتك(1) أعظم حائلة (أي بالية) وأرواح في النار، وإنّما السيّد من متَّع بالإيمان ثم تزوّد بالتقوى. وإنّ قوماً سعدوا برأيك فلا تشقين به، وأنا آمركَ بخير مأمور به، وأنهاك عن شيء منهيٍّ عنه. آمرك بعبادة اللّه، وأنهاك عن عبادة الشيطان، فإنّ في عبادة اللّه الجنة، وفي عبادة الشيطان النار، فإن قبلتَ نلت ما رجوتُ وأمِنتُ ما خفتُ، وإن أبيتَ فبيننا وبينك كشف الغطاء وهول المطّلع.(2)

كانت ملامح ملك اليمامة المتغيّرة المتأثّرة توحي بحسن تأثير كلمات سليط سفير النبيّ في نفس ذلك الملك، ولهذا طلب من سليط أن يمهلهُ مدة حتّى يفكّر في أمر النبي ودعوته، وكان من الملوك العقلاء.

ويذكر أنّ هوذة كان عنده عظيم من عظماء النصارى حين قال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم ما قال فقال له: لم لا تجيبه.

قال هوذة: أنا أملِكُ قومي، ولئن اتّبعته لا أملك.

قال: بلى واللّه لئن اتّبعتَهُ لَيُملكنّك، وإنّ الخير لك في اتّباعه، وإنّه النبيّ العربي الّذي بشّر به عيسى بن مريم عليه السلام. وإنّه لمكتوب عندنا في الإنجيل: محمّد رسول اللّه.(3)

فتركت نصيحة الأُسقف وكلماته أثراً عميقاً وقوياً في نفس ملك اليمامة

ص:437


1- . يقصد إنّه سوده كسرى وهو في النار.
2- . السيرة الحلبية: 304/3.
3- . السيرة الحلبية: 304/3.

«هوذة» فاستدعى سفير النبي صلى الله عليه و آله و سلم وكتب إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم كتاباً هذا نصه: «ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني فاجعل إليّ بعض الأمر اتّبعكَ (أي أنّه كان يطلب أن يجعله النبيُ خليفة له من بعده). وأجاز سليطاً بجائزة وكساه أثواباً من نسج هجر.(1)

ولم يكتف «هوذة» بهذا بل بعث وفداً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بزعامة «مجاعة بن مرارة» ليبلّغ إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رسالته ويقول له: ان جعَلَ الأمر له من بعده أسلمَ وسار إليه ونصَره، وإلّا قصدَ حربَه.

فلمّا قدم الرسول على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره بما جرى وقرأ الكتاب على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لا ولا كرامة، لو سألني سيابة من الأرض ما فعلتُ اللّهم اكفنيه»(2).

رسائل أُخرى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

هذا وإنّ الرسائل والكتب الّتي بعثها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لغير من ذكرناه من القادة والزعماء والشخصيات الدينية والسياسية أكثر ممّا أدرجناه هنا، وقد استطاع العلماء المحقّقون أن يجمعوا ويثبتوا في كتب خاصّة نصّ 29 رسالة من رسائل الدعوة إلى الإسلام الّتي بعثها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تركنا إدراجها هنا رعاية للاختصار.(3)

ص:438


1- . السيرة الحلبية: 303/3.
2- . السيرة الحلبية: 303/3-304؛ الكامل في التاريخ: 215/2؛ الطبقات الكبرى: 262/1. و سيابة من الأرض أي قطعة من الأرض.
3- . راجع: مكاتيب الرسول للعلّامة الأحمدي، وغيره من المؤلّفات في هذا المجال.

45 قلعة خيبر أو بُؤرة الخطر

اشارة

يوم طلع نجمُ الإسلام في أَرض المدينة حقدت اليهود على رسول اللّه والمسلمين، أكثر من قريش، وعملت بمختلف الطرق والحيل من أجل القضاء على الإسلام والإيقاع برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه.

ولقد ابتلي يهود المدينة وما حولها بمصير سيّئ نتيجة أعمالهم وتصرّفاتهم السيّئة، فقُتِل فريق منهم، وأُجلي آخرون مثل قبيلة بني قينقاع وبني النضير من أَرض المدينة فسكنوا «خيبر» و «وادي القرى» أو نزلوا باذرعات الشام.

وكانت خيبر منطقة واسعة وخصبة تقع على بُعد اثنين وثلاثين فرسخاً من المدينة وكان قد سكنها اليهود قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وبنوا فيها سبع قلاع وحصون قوية لتحصنهم وتحفظهم.

وحيث إنّ التربة والمناخ في تلك المنطقة كانت قد جعلت منها مكاناً جيداً وصالحاً للزراعة جداً، لذلك كان سكانها اليهود قد حصلوا على مهارة كبرى في أُمور الزراعة وجمع الثروات، وتهيئة وسائل الدفاع والقتال، وإعداد السلاح

ص:439

والقوة.

وكان عدد نفوسها يقارب عشرين ألف نسمة بينهم عدد كبير من المقاتلين الشجعان(1).

إنّ أكبر ذنب اقترفه يهود «خيبر» هو أنّهم شجّعوا جميع القبائل العربية على محاربة الحكومة الإسلامية والقضاء عليها، واستطاع جيش الأحزاب المشرك بمساعدة يهود «خيبر» أن يتحرّكوا في يوم واحد من مختلف مناطق الجزيرة العربية لاجتياح المدينة واستئصال المسلمين في أكبر تحالف واتّحاد عسكري من نوعه في ذلك العصر، كما سبق وأن عرفت في قصّة «معركة الأحزاب». ولكن هذا الجيش المعتدي الظالم تفرّق بفعل تدابير رسول الإسلام الحكيمة وأصحابه بعد شهر من الانتظار خلف الخندق، وتقهقر وعادت أحزابه ومن جملتهم يهود خيبر متشتّتة متفرّقة إلى أوطانها تجرّ أذيال الخيبة والخسران، واستعادت عاصمة الإسلام استقرارها وأمنها.

إنّ خيانة، وخباثة ولؤم يهود خيبر حملت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أن يقضي على بؤرة المؤامرة ومركز الفساد والخطر هذا، وأن يجرّد سكانها جميعاً من السلاح، لأنه كان يخشى أن يعود هذا الشعب المعاند الخبيث - ببذل الأموال الطائلة - إلى تأليب العرب الوثنيّين مرّة أُخرى ضد المسلمين ويعيدوا قصّة الأحزاب مرة أُخرى. وخاصّة أنّ تعصّب اليهود لدينهم ومعتقدهم كان أشدّ من تعصّب قريش للوثنية، ولهذا التعصّب كان يسلم ألفُ مشرك وثنيّ ولا يدع يهوديٌ واحدٌ دينهُ، ومعتقده!!

ثم إنّ عاملاً آخر حمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على تحطيم قدرة الخيبريّين

ص:440


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 726/2.

وشوكتهم، وانتزاع السلاح منهم ورصد تحرّكاتهم بواسطة فرسانه ورجاله، أنّه راسل الملوك والسلاطين، ودعاهم جميعاً وبشكل قوي إلى الإسلام، فلم يكن من المستبعد أن يستغل «كسرى» و «قيصر» يهود خيبر فيتعاونوا جميعاً للقضاء على الإسلام والنهضة الإسلامية في مهدها، أو تحرك اليهود ذينك الملكين ضدّ الإسلام كما حرّكت من قبل المشركين ضدّ هذا الدين، وتسبّبت في وقوع مشاكل.

خاصة أنّ الشعب اليهودي كان ضليعاً في الحروب الّتي دارت بين الروم والفرس في تلك العصور، وكان اليهود يتعاونون مع أحد الطرفين.

من هنا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ من الحكمة بل ومن الضرورة بمكان أن يطفئ شرارة الخطر هذه إلى الأبد.

وكانت هذه الفرصة أفضل الفرص لهذا العمل؛ لأنّ بال النبيّ كان قد فرغ من ناحية الجنوب (أي قريش) بعد صلح الحديبية، وكان يعلم أنّه لو أقدم على عمل ضد اليهود لم تمتد يد من جانب قريش لمساعدتهم، ولكي يمنع من وصول أيّة مساعدات وإمدادات لهم من ناحية قبائل الشمال مثل «غطفان» الذين كانوا أصدقاء ليهود خيبر والمتعاونين معهم في معركة «الأحزاب» نفذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خطّة سيأتي تفصيلها مستقبلاً.

لهذه الأسباب والعوامل والاعتبارات أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين بالتهيّؤ لغزو خيبر آخر مركز من مراكز اليهود في الجزيرة العربية. وقال: «لا تخرجوا معي إلّا راغبين في الجهاد فأمّا الغنيمة فلا».(1)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم استخلف على المدينة «نميلة بن عبداللّه الليثي»،

ص:441


1- . المغازي: 634/2؛ إمتاع الأسماع: 306/1؛ السيرة الحلبية: 726/2.

ودفع راية بيضاء إلى «عليّ بن أبي طالب» عليه السلام وأمر بالتوجّه إلى خيبر، ولكي تسرع الإبل في سيرها أذن لعامر بن الأكوع أن يحدو بالإبل لأنّ الإبل تُستَحثُ بالحداء، فأخذ يرتجز قائلاً:

واللّه لولا اللّه ما اهتَدَينا ولا تصَدّقنا ولا صَلَّينا

إنّا إذا قومٌ بَغُوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا

فَأَنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا(1)

وقد عكست هذه الأبيات الجميلة جانباً من هدف هذه الغزوة، فهي تفيد أنّ اليهود ظلمونا، وأشعلوا نيران الفتنة وقد خرجنا لإطفائها، وتحملنا في سبيل ذلك عناء هذا السفر.

ولقد سُرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمضامين هذه الأبيات فدعا لابن الأكوع، وقال:

«يرحمك اللّه» وقد استشهد ابن الأكوع هذا في هذه الغزوة.

هذا وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يراعي مبدأ الاستتار في جميع تحرّكاته العسكرية، فقد كان يحب أن لا يعرف العدوُّ بمسيره ومقصده حتّى يفاجئ العدو ويباغته، ويحاصره قبل أن يستطيع فعل شيء، هذا مُضافاً إلى ناحية أُخرى وهي أن يظن حلفاء العدوّ الّذي يقصده بأنّه يقصدهم ويسير إليهم، فيغلقوا على أنفسهم أبواب منازلهم ولا ينضم بعضهم إلى بعض.

وربما تصوّر البعض في هذه الغزوة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقصد منطقة الشمال (شمال المدينة) لتأديب قبائل غطفان وفزارة الذين تعاونوا مع اليهود في معركة الأحزاب، لما وجدوه متوجّهاً نحو الشمال.

ص:442


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 791/3-792.

ولكنّه عندما وصل إلى منطقة «الرجيع» عرج بجيشه صوب «خيبر» وبهذا قطع الطريق على أيّة إمدادات عسكرية من ناحية الشمال إلى خيبر، بقطع خطّ الارتباط بين قبائل غطفان وفزارة ويهود خيبر، فمع أنّ حصار خيبر طال مدة شهر واحد تقريباً لم تستطع القبائل المذكورة أن تمدّ حلفاءها اليهود بأي شيء(1).

ولقد خرج مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى خيبر ما يقرب من ألف وستمائة مقاتل، بينهم مائتا فارس(2).

وعندما أشرف رسول ا للّه صلى الله عليه و آله و سلم على خيبر قرأ الدعاء التالي الّذي يكشف عن نيته الحسنة:

اللهمّ ربِّ السماوات وما أضللنَ

وربَّ الأرضين وما أقللنَ

وربَّ الشياطين وما أضللنَ

وربَّ الرياح وما أذرينَ

فإنّا نسألك خيرهذه القرية وخير أهلها، وخير ما فيها ونعوذ بك من شرّها

ص:443


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 793/3.
2- . الأمالي للطوسي: 164، يذهب ابن هشام في سيرته: 791/3 إلى أنّ خروج النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى خيبر كان في المحرّم، بينما ذهب ابن سعد في الطبقات الكبرى: 77/2 إلى أنّه كان في جمادى الثانية من السنة السابعة، وحيث إنّ إرسال الرسل إلى الملوك والأُمراء تمّ في شهر محرم من هذه السنة ذاتها لذلك يكون الرأي الثاني أقرب إلى الصحّة، وخاصّة أنّ مهاجري الحبشة التحقوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في خيبر بعد وصول رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى النجاشي بوساطة «عمرو بن أُمية الضمري» لأنّ ذهاب رسول النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى الحبشة وعودته مع المهاجرين إلى المدينة ثم خيبر بحاجة إلى زمان، وحيث إنّ توجّه الرسل والسفراء كان في شهر محرم، لذلك يجب أن يكون قتال الخيبريين في الأشهر التالية.

وشرّ أهلها وشرّ ما فيها».(1)

إنّ هذا الدعاء وما رافقه من حالة التضرّع، وذلك أمام أعين ألف وستمائة من الجنود الشجعان الّذين كان كلُّ واحد منهم شعلة متّقدة من الشوق إلى القتال في سبيل اللّه يكشف عن أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن يهدف من مسيره إلى هذه الأرض الاستعمار أو الانتقام بل جاء من أجل أن يقضي على بؤرة الخطر الّتي كان من المحتمل أن تتحوّل في كلّ لحظة إلى قاعدة انطلاق للمشركين الوثنيّين، حتّى لا تُهدَّد النهضة الإسلامية من هذه الناحية فيما بعد.

وسترى أنت أيّها القارئ الكريم كيف أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد فتح القلاع والحصون اليهودية، وانتزاع السلاح من سكانها المتآمرين المشاغبين فوّض إليهم أراضيهم، واكتفى منهم بأخذ الجزية في مقابل المحافظة على أموالهم وأنفسهم، وبعد أن ربطهم بمعاهدة قوية ملزمة.

إحتلالُ النقاط والطرق الحسّاسة ليلاً

كان لكلّ حصن من حصون خيبر السبعة اسم خاص يعرف به، فهي عبارة عن: «ناعم» و «القموص» و «الكتيبة» و «النطاة»، و «شقّ» و «سطح»، و «سلالم»، وربما سمّي بعض هذه الحصون باسم زعيم الحصن وسيّده، مثل «حصن مرحب».

كما أنّهم كانوا قد بنوا عند كلّ حصن من تلك الحصون برجاً للمراقبة، ولرصد كلّ التحرّكات خارج الحصن، ولأجل أن ينقل الحراس والمراقبون المستقرون في هذه الأبراج الأخبار إلى داخل الحصن.

وقد كانت تلك البروج والحصون قد شيِّدت بحيث يسيطرُ سكانُها على

ص:444


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 792/3؛ الكامل في التاريخ: 217/2؛ السيرة الحلبية: 729/2.

خارج الحصن سيطرة كاملة وكانوا يستطيعون - عن طريق المجانيق(1) وغيرها من آلات الرمي - إبعاد أي عدو، وإفشال أيّة محاولة للاقتراب إلى الحصن، وذلك برميه بالأحجار وما شابهها.

وقد كان بين سكان هذه الحصون البالغ عددهم عشرين ألفاً، ألفان من الفرسان الشجعان والصناديد الأبطال الذين توفّر لهم كلّ ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب، والذين أُعدّت لهم في المخازن كلّ ما يحتاجون إليه من الأسلحة والعتاد.

وكانت هذه الحصون من الإحكام والقوّة بحيث كان من المستحيل إحداث أيّة ثغرة في حيطانها أيضاً، ومن أراد الاقتراب إليها رمي بالأحجار فجرح بها أو قتل، فكانت تعدُّ هذه الحصون - في الحقيقة - متاريس قوية لمقاتلي اليهود.

لقد واجه المسلمون في هذه الغزوة مثل هذا العدوّ المسلح، الممتنع بمثل هذه المتاريس القوية، فكان لابدّ لفتح هذه القلاع من استخدام تكتيك عسكري دقيق.

ولهذا فإنّ أوّل عمل قام به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه في هذا السبيل هو احتلال كلّ النقاط والطرق الحسّاسة ليلاً.

وقد تمّ هذا العمل بسرية وسرعة بالغة جداً بحيث لم يعرف به حتّى مراقبو الأبراج اليقظون أيضاً.

ولمّا كان صبيحة تلك الليلة خرج عُمّال خيبر غادين إلى مزارعهم وبساتينهم وهم يحملون مساحيهم ومكاتلهم(2) وإذا بهم يفاجَأون بجنود الإسلام الأبطال

ص:445


1- . وهي أجهزة حديدية بدائية تقذف الحجر أو الحديد.
2- . المكاتل جمع مكتل. والمِكتَل كمِنبَر: زنبيل يحمل فيه التمر أو العنب إلى الجَرين، وقيل: هوشبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعاً. تاج العروس: 647/15، مادة «كتل».

وقد احتلّوا بقوة الإيمان جميع النقاط الحسّاسة وسدّوا جميع الطرق عليهم بحيث لو تقدّموا شبراً لقبضَ عليهم، فأفزعهم ذلك وخافوا خوفاً شديداً، فأدبروا هراباً وهم يقولون: محمَّد واللّه محمد والخميس معه، يعنون الجيش. وبادروا فوراً إلى إغلاق أبواب الحصون وإحكامها، وعقدوا شورى عسكرية في داخل حصنهم المركزي.

وعندما رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مساحي اليهود ومكاتلهم وغيرها من أدوات الهدم قال متفائلاً:

«اللّه أكبر خربت خيبرُ أنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المُنذرين».(1)

وكانت نتيجة الشورى العسكرية اليهودية في هذه الغزوة هي أن يجعلوا الأطفال والنساء في أحد الحصون، ويجعلوا الذخيرة من الطعام في حصن آخر، ويستقر المقاتلون الشجعان على الأبراج ويدافعوا عن كلّ قلعة وحصن بالأحجار، ويخرج الأبطال الصناديد من كلّ حصن ويقاتلوا المسلمين خارجه.

كانت هذه هي خطة اليهود لمواجهة جنود الإسلام وقد أصرّوا على تنفيذها حتّى آخر لحظة من القتال، ولهذا استطاعوا أن يقاوموا الجيش الإسلامي مدّة شهر واحد تقريباً بحيث كانت محاولة فتح كلّ حصن من تلك الحصون تستغرق عشرة أيام دون نتيجة.

متاريس اليهود تتهاوى

كانت هناك نقطة لا تحظى بأهمية تُذكر من الناحية العسكرية وكان مقاتلو

ص:446


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 217/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 793/3.

اليهود يسيطرون عليها سيطرة كاملة، ولم يكن فيها أي مانع من استهداف مواقع المسلمين ورميها من جانب العدو.

ولهذا جاء أحد المقاتلين المسلمين إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو «محمَّد بن مسلمة» وقال له:

يا رسول اللّه صلى اللّه عليك إنّك نزلت منزلك هذا فإن كان عن أمر (إلهي) أُمرت به فلا نتكلم فيه، وإن كان الرأي تكلّمنا؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: بل هو الرأي.

فقال: يا رسول اللّه دنوت من الحصن، وإنّ أهل النطاة مرتفعون علينا وهو أسرع لانحطاط نبلهم، فتحوّل يا رسول اللّه إلى موضع بريء من النخل والبناء حتّى لا ينالنا نبلهم.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يراعي واحداً من مبادئ الإسلام العظيمة (الشورى) واحترام الآخرين: «بل هو الرأيُ، انظر لنا منزلاً بعيداً من حصونهم، بريئاً من الوباء نأمن فيه بياتهم»، فطاف محمَّد حتّى انتهى إلى الرجيع (وهو واد بقرب خيبر) ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم ليلاً فقال: وجدت لك منزلاً، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فحولت خيمة القيادة عند المساء إلى ذلك المكان الأكثر أماناً من بيات اليهود وغدرهم فكان النبي يغدو كلّ يوم فيقاتل أهل النطاة يومه إلى الليل ثم إذا أمسى رجع إلى الرجيع حيث غرفة القيادة، وكان يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام(1).

على أنّه لا يمكن البتّ في تفاصيل واقعة خيبر ولكن المستفاد من المصادر التاريخية هو أنّ جنود الإسلام حاصروا القلاع والحصون حصناً تلو حصن، وحاولوا قطع ارتباط الحصن المحاصر ببقية الحصون ثم فتحه، ثم محاصرة

ص:447


1- . لاحظ: المغازي: 643/2-644؛ إمتاع الأسماع: 231/9.

حصن آخر.

ولقد تمّ فتح هذه الحصون ببطء لأنّها كانت مرتبطة مع بعضها بممرّات سرّيّة، أو كان المقاتلون يدافعون عنها دفاعاً مستميتاً، ولكن الحصون التي كان الرعب والخوف يسيطر على مقاتليها وحرّاسها، أو الّتي ينقطع ارتباطها بالخارج بصورة كاملة كان يتم السيطرة عليها بسهولة، وتسفكُ فيها دماء أقلّ، ويتقدم العمل فيها بسرعة أكبر.

وإنّ أوّل حصن فُتح على أيدي المسلمين بعد جهد كبير - كما يذهب إليه جمع من المؤرّخين - هو حصن «ناعم». ولقد استشهد في فتح هذا الحصن أحد المقاتلين المسلمين البارزين، يدعى «محمود بن مسلمة» الانصاري، وجرح خمسون رجلاً من مقاتلي الإسلام، فقد استشهد الفارسُ المذكور بعد أن رماه اليهود بصخرة كبيرة من فوق الحصن فقُتل من فوره، وقيل: إنّه توفي بعد ثلاثة أيام - حسب رواية ابن الأثير في أُسد الغابة(1) - ونقل الجرحى الخمسون إلى منطقة أُخرى من المعسكر خصّصت لغرض التضميد،(2) كما أنّه سمح لبعض نساء بني غفار بأن يأتين إلى «خيبر» لمساعدة المسلمين وتضميد الجرحى وتقديم غير ذلك من الخدمات الّتي يليق بهن في المعسكر، وقد أظهرت تلك النسوة من أنفسهن تفانياً، وتضحية عجيبة(3).

ولقد رأت الشورى العسكرية الإسلامية أن يعمد المقاتلون المسلمون - بعد فتح حِصن «ناعم» - إلى فتح حصن «القموص» الّذي كان يرأسه أبناء «أبي

ص:448


1- . أُسد الغابة: 334/4.
2- . لاحظ: المغازي: 646/2.
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 804/3.

الحقيق»، ولقد فُتح هذا الحصن بفضل تفاني جنود الإسلام وأُسرت منه «صفية بنت حيي بن أخطب» الّتي صارت فيما بعد من زوجات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد قوّى هذان الانتصاران العظيمان معنوية الجنود المسلمين وألقى رعباً شديداً في نفوس اليهود، ولكنّ المسلمين وقعوا في مخمصة شديدة بسبب قلّة المواد الغذائية بحيث اضطروا إلى أن يأكلوا من بعض الأنعام المكروهة اللحم، وقد كان هناك بين حصون اليهود حصن مملوء طعاماً إلّاأنّ المسلمين لم يظفروا به حتّى ذلك الحين.

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة

في مثل هذه الحالة الّتي كان قد استولى فيها جوعٌ شديدٌ على المسلمين، اضطروا معه إلى تناول لحوم ما كره أكلُه من الأنعام، أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم راع أجيرٌ لليهود وهو يسار الحبشي - عبد أسود لعامر اليهودي - في غنم مولاه فلمّا رأى أهل خيبر يتحصّنون ويقاتلون سألهم فقالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنّه نبي. قال: فوقعت تلك الكلمة في نفسه فأقبل بغنمه يسوقها إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا محمد ما تقول؟ ما تدعو إليه؟ قال: أدعوا إلى الإسلام فاشهد أن لا إله إلّااللّه وأنّي رسول اللّه.

قال: فما لي؟ قال: الجنّة إن ثبتّ على ذلك. قال: فأسلم. وقال: إنّ غنمي هذه وديعة.

فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

«أخرجها مِنَ العسكر ثم صِح بها وارمها بحصيات فإنّ اللّه عزّوجلّ سيؤدّي عنك أمانتَك».(1)

ففعل الراعي ما أمره به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخرجت الغنم إلى صاحبها حتّى

ص:449


1- . المغازي: 649/2.

دخلت الحصنَ كأنّ سائقاً يسوقها، وقد قاتل ذلك الرجل إلى جانب المسلمين حتّى استشهد(1).

أجل لم يكتسب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لقب «الأمين» من قومه في فترة شبابه فقط بل كان أميناً في جميع الحالات والظروف وهو القائل:

«ما من شيء كان في الجاهلية إلّاهو تحت قدمي، إلّاالأمانة فإنّها مؤدّاة إلى البر والفاجر»(2)، وقد بقي تردّد القطعان حرّاً طوال مدة الحصار ولم يفكّر ولا واحدٌ من المسلمين بأخذ غنم منها؛ لأنّهم تعلّموا الأمانة والتقوى والصدق والورع من معلّمهم الأكبر «محمَّد» الصادق الأمين صلى الله عليه و آله و سلم.

نعم غلب الجوع الشديد على العسكر ذات يوم حتّى كادوا أن يهلكوا فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن تؤخذ شاتان من غنم اليهود اضطراراً، واطلق البقية لتدخل الحصن بأمان، ولولا ذلك الاضطرار الّذي يباح معه المحذور بقدره لما سمح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك، ولمّا رأى جوع أصحابه وتضوّرهم من شدة السغب دعا قائلاً:

«اللَّهم إنَّك قد عرفت حالَهم وأن ليست بهم قوّة، وأن ليس بيدي شيء أُعطهم إيّاه، فافتح عليهم أعظم حُصونها عنهم غناء، وأكثرها طعاماً»(3).

ولم يكن يأذن لأحد من المسلمين بأن يأخذ شيئاً من أموال الناس أبداً.

في ضوء كلّ هذا تتّضح دسائس جماعة من المستشرقين في تاريخنا المعاصر فهم يصرُّون على القول بأنّ غزوات الإسلام ومعاركه كانت للإغارة

ص:450


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 806/3؛ السيرة الحلبية: 740/2.
2- . مجمع البيان: 327/2، عند تفسير قول اللّه تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ...».
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 795/3.

وجمع الغنائم ومصادرة الأموال والسيطرة عليها، وأنّ جنوده لم يكونوا يتقيّدون خلال تلك المعارك بمبادئ العدالة والأمانة، وذلك كيد منهم للإسلام، ومحاولة بغيضة للحطّ من قيمة الأهداف الإسلامية العليا، وتشويهها.

ولكن النموذج المذكور هنا، وأمثاله ممّا يعدُّ بالعشرات في صفحات التاريخ الإسلامي تشهد بكذبهم فإنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يأذن وهو في أشدّ الظروف وأصعبها وجنوده الأوفياء قد غلبهم الجوع ودنوا من الهلاك، بأن يخون راع في أغنام كان يرعاها ليهودي، بل أمره بردّها إلى صاحبها وهو في قتال مع اليهود على حين كان يمكنه مصادرتها جملة واحدة.

فتح الحصون الواحد تلو الآخر

بعد فتح القلاع المذكورة حمل جنود الإسلام على حصن الوطيح، وسلالم، ولكنّهم واجهوا مقاومة عنيفة من اليهود الذين كانوا يدافعون عنها خارجها، من هنا لم يستطع جنود الإسلام الأبطال رغم كلّ التضحيات الّتي ذكرها كاتب السيرة المعروف ابن هشام - في موضع خاص من سيرته - أن يحرزوا انتصاراً بل ظلّوا يجالدون مقاتلي اليهود أكثر من عشرة أيام، ولكنّهم كانوا يعودون في كلّ يوم إلى مقرّهم من دون نتيجة.

وذات يوم بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أبا بكر وأعطاه رايته البيضاء على رأس جماعة من المقاتلين المسلمين لفتح بعض حصون خيبر، ولكنّه رجع ولم يكن فتح، وكلّ من الأمير والجنود يلقي باللوم على الآخر، ويتّهمه بالجبن والفرار.

فبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في يوم آخر «عمر بن الخطاب» على رأس جماعة أُخرى فكان كرفيقه إذ رجع ولم يحقّق فتحاً، بل عاد فزعاً مرعوباً وهو يصف شجاعة مرحب وقوّته البالغة، فأغضب هذا العمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفرسان

ص:451

الإسلام الأبطال وقادة الجيش الاسلامي، فجمع رسول اللّه صناديد جيشه وقال:

«لأُعطِينَّ الرايةَ غداً رَجلاً يُحبُّ اللّهُ وَ رَسُولَه ويحبُّه اللّهُ ورسولُه يفتحُ عَلى يَدَيه لَيس بفرّار» أو: «كرّار غير فرّار» حسب نقل الحلبي(1).

وقد أثارت هذه الجملة الخالدة الحاكية عن فضيلة وشجاعة وتفوّق ذلك الفارس الّذي قدّر أن يكون الفتح على يديه وتميّزه المعنوي على غيره، موجة من الفرح الممزوج بالاضطراب بين أفراد الجيش وقادته الشجعان.

فقد بات كلّ واحد منهم يتمنّى أن يكون هو صاحب هذا النوط الخالد والعظيم، وأن تصيب القرعة اسمه.

ولمّا بلغ عليّاً عليه السلام مقالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذه وهو في خيمته قال: «اللّهم لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت»(2).

غطّى ظلامُ الليل كلّ مكان، وذهب جنود الإسلام إلى أماكن نومهم، وبينما بقي الحرّاس يتحارسون طوال الليل، ويرصدون أوضاع العدوّ الغادر وتحرّكاته.

وعند الصباح ومع طلوع الشمس الّتي شقّت بأشعتها رداء الظلام، وأضاءت

ص:452


1- . لاحظ: مجمع البيان: 201/9؛ السيرة الحلبية: 736/2-737، السيرة النبوية لابن هشام: 797/3؛ إمتاع الأسماع: 309/1؛ بحار الأنوار: 9/39. ولقد انزعج المؤرّخ الإسلامي المعروف ابن أبي الحديد من فرار هاتين الشخصيتين فقال في ضمن ما يعزى إليه من القصيدة العلوية: وما أنْسَ لا أنْسَ اللَّذين تَقدَّما وَفرَّهُما والفرُّ قَد علِما حُوبُ وللراية العظمى وقد ذهبا بها ملابس ذلّ فوقها وجلابيب يشلُّهما من آل موسى شمردَلٌ طويل نجاد السيف أجيد يعبوبُ (الروضة المختارة (شرح القصائد العلويات السبع) لابن أبي الحديد المعتزلي: 92، مؤسسة الأعلمي، بيروت).
2- . السيرة الحلبية: 545/2.

السهل والجبل، تجمع قادة الجيش الإسلامي وصناديده وأبطاله وغيرهم من الرجال وفيهم الأميران المنهزمان بالأمس حول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وهم يريدون بشوق بالغ أن يعرفوا من سيعطيه الراية اليوم، وقد (تطاول لها أبوبكر وعمر)(1).

ولم يطل هذا الانتظار، فقد كسر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جدار الصمت هذا عندما قال: «أين علي»؟!

فقيل: يا رسول اللّه هو رمد، معصوب العينين.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«هاتوه»(2).

إنّ هذه العبارة تكشف عن أنّ ما أصاب علياً عليه السلام من الرمد كان من الشدّة بحيث سلبه القدرة على المشي، وعاقه عن الحركة.

فأمرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يده الشريفة على عيني علي عليه السلام ودعا له بخير، فعوفي من ساعته، واستعادت عيناه عليه السلام سلامتها أفضل ممّا كانت بحيث لم يرمد عليه السلام حتّى آخر حياته بفضل تلك المسحة النبوية المباركة.

ثم دفع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اللواء إلى عليّ عليه السلام ودعا له بالنصر، كما أنّه أمره بأن يبعث إلى اليهود قبل قتالهم من يدعو رؤساء الحصون إلى الإسلام، فإن أبوا اعتناق الإسلام أخبرهم بوظائفهم في ظلّ الحكومة الإسلامية وأنّ عليهم أن يسلّموا أسلحتهم إلى الحكومة الإسلامية، ويعيشوا بحرية وأمان تحت ظلّ هذه الحكومة شريطة أن يدفعوا الجزية(3).

ص:453


1- . هذه هي عبارة الطبري: 300/2، كنز العمال: 463/10.
2- . بحار الأنوار: 28/21-29؛ تاريخ الخميس: 49/2.
3- . لاحظ: صحيح مسلم: 122/7، باب فضائل علي عليه السلام؛ صحيح البخاري: 77/5، باب غزوة خيبر.

وإذا رفضوا ذاك وهذا قاتلهم، ثم قال لعلي الّذي أوكل إليه قيادة تلك المجموعة:

«لئن يَهديَ اللّهُ بِكَ رَجُلاً واحِداً خَيرٌ لك مِنَ أن يكُونَ لكَ حُمرُ النعمَ»(1).

أجل إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يفكِّر في هداية الناس حتّى في أشدّ لحظات الحرب، وهذا يفيد بأنّ جميع حروب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت لهداية الناس لا غير.

الانتصار الكبير في خيبر

عندما كُلِّفَ عليٌّ عليه السلام من جانب النبي صلى الله عليه و آله و سلم بفتح قلعتي سلالم والوطيح (وهما الحصنان اللّذان عجز عن فتحهما الأميران السابقان ووجها بفرارهما ضربة لا تجبر إلى سمعة الجيش الإسلامي)، ارتدى درعاً قوياً وحمل معه سيفه الخاص ذو الفقار وراح يهرول بشجاعة منقطعة النظير نحو القلعتين المذكورتين، والجندُ خلفَه، حتّى ركز الراية الّتي أعطاها له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على الأَرض تحت الحصن. ولمّا رأى اليهود أنّه دنا من الحصن خرج إليه كبار صناديدهم.

وكان أوّل من خرج إليه أخو مرحب ويُدعى «الحارث» فتقدّم إلى عليّ وصوته يدوي في ساحة القتال بحيث تأخّر مَن كان خلف عليّ من شدة الفزع(2).

ولكن لم يمض زمان حتّى سقط الحارث على الأرض جثّة هامدة بضربة قاضية من علي عليه السلام.

ص:454


1- . السيرة الحلبية: 736/2.
2- . إمتاع الأسماع: 310/1. قال: فانكشف المسلمون وثبت عليٌ.

فغضب مرحب بطل خيبر المعروف لمقتل أخيه الحارث وخرج من الحصن وهو غارق في السلاح، فقد لبس درعاً يمانياً، ووضع على رأسه خوذة منحوتة من حجارة خاصّة، وتقدّم إلى عليّ عليه السلام كالفحل الصؤول يرتجز ويقول:

قَد عَلِمَت خيبرُ أنّي مرحبُ شاكي السلاح بطلٌ مجرّبُ

أطعن أحياناً وحيناً أضربُ إذا الليوث أقبلت تلهب(1)

فأجابه عليٌ عليه السلام مرتجزاً وقد أظهر للعدو شخصيته العسكرية في رجزه:

أنا الَّذي سَمَّتنِي أُمّي حَيدرَة ضرغامُ آجام وليَثٌ قَسورَة

عَبل الذِراعين شديد القصرة كليث غاباتْ كريهُ المنظرة(2)

وبعد أن انتهى الطرفان من إنشاد رجزهما تبادلا الضربات بالسيوف والرماح، فألقت قعقعة السيوف وصوت الرماح رعباً عجيباً في قلوب المشاهدين، وفجأة هبط سيف بطل الإسلام القاطع على المفرق من رأس «مرحب» بطل اليهود قدّت خوذته نصفين ونزلت على رأسه وشقته نصفين إلى أسنانه!!

ولقد كانت هذه الضربة من القوّة بحيث أفزعت أكثر مَن خرج مع «مرحب» من أبطال اليهود وصناديدهم ففرّوا من فورهم، ولجأوا إلى الحصن، وبقي جماعة فقاتلوا عليّاً منازلة فقاتلهم حتّى قتلهم جميعاً، ثم لاحق الفارين منهم حتّى باب الحصن، فضربه عند الحصن رجل من اليهود فطاح ترسُه من يده فتناول عليه السلام باباً كان على الحصن وانتزعه من مكانه، فترّس به عن نفسه فلم يزل ذلك البابُ في يده وهو يقاتل حتّى فتح اللّه على يديه ثم ألقاه من يده حين فرغ، وقد حاول ثمانية من أبطال الإسلام ومنهم أبو رافع مولى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن

ص:455


1- . يروي ابن هشام في سيرته أشعار مرحب بصورة أُخرى. لاحظ: ج 796/3.
2- . بحار الأنوار: 18/21؛ أعيان الشيعة: 551/1؛ ينابيع المودة: 155/1.

يقلبوا ذلك الباب أو يحرّكوه من مكانه فلم يقدروا على ذلك(1).

وهكذا فتحت القلعة الّتي عجز عن فتحها المسلمون عشرة أيام، في مدة قصيرة على يد بطل الإسلام الأوّل «علي بن أبي طالب» عليه السلام.

ويقول اليعقوبي في تاريخه:... واقتلع (علي عليه السلام) باب الحصن، وكان من حجارة طوله أربعة أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع(2).

ويقول الشيخ المفيد في إرشاده بسند خاصّ عن أميرالمؤمنين قصّة قلعه ذلك الباب: «لمّا عالجتُ باب خيبر جعلته مجنّاً لي وقاتلت القوم، فلمّا أخزاهمُ اللّه وضعتُ الباب على حصنهم طريقاً، ثم رميتُ به في خندقهم، فقال له رجل: لقد حملت منه ثقلاً! فقال عليه السلام: «ما كان إلّامثل جُنّتي الّتي في يدي في غير ذلك المقام»(3).

وقد نقل المؤرّخون قضايا عجيبة حول قلع باب خيبر هذا وخصوصياته ومواصفاته، وعن بطولات علي عليه السلام في فتح هذا الحصن، وجميعها لا تتماشى ولا تتساير مع القدرة البشرية المتعارفة، ولا يمكن أن تصدر منها.

ويقول الإمام علي عليه السلام نفسه في هذا الصدد ما يرفع كلّ شك وإبهام قد يعترض المرء في هذا المجال:

«ما قَلعْتُها بِقوّة بَشريّة، ولكنْ قَلعتها بقوة إلهية، ونفس بلقاء ربِّها مطمئنّة رضيّة»(4).

ص:456


1- . لاحظ: مجمع البيان: 201/9-202؛ الطبقات الكبرى: 111/2؛ تاريخ الطبري: 300/2-301؛ الكامل في التاريخ: 219/2-.220
2- . تاريخ اليعقوبي: 56/2، دار صادر، بيروت.
3- . الإرشاد: 128/1.
4- . بحار الأنوار: 40/21.

تحريف الحقائق

لو أنّنا أردنا أن نلتزم بحدود الحقّ والإنصاف لوجب أن نقول: إنّ «ابن هشام» في سيرته و «الطبري» في تاريخه ذكرا قصّة مبارزة عليّ عليه السلام في يوم خيبر بصورة مفصّلة، نقلا تفاصيلها بصورة دقيقة، ولكنّهما ذكرا في نهاية بحثهما التاريخي قصّة خيالية لا أساس لها وهي أنّ مرحباً قُتِل على يدي «محمّد بن مسلَمة» وقالوا: ويرى البعض أنّ مرحباً اليهودي قتله محمَّد بن مسلمة انتقاماً لأخيه الّذي قتل عند فتح حصن «ناعم» على أيدي اليهود، فقد كلّفه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقتال مرحب فبرز إليه فقتله.(1)

إنّ هذا الاحتمال من الوَهن والبطلان بحيث لا يقاوم التاريخ الإسلامي المسلّم والمتواتر، هذا مضافاً إلى أنّ هذه الأُسطورة التاريخية تعاني من إشكالات، ومؤاخذات نذكرها للقارئ الكريم:

1. أنّ محمَّد بن مسلمة لم يكن بذلك الرجل الشجاع، والبطل الصنديد الّذي تؤهّله شجاعته لأن يكن فاتح خيبر وقاتل بطلها الأكبر، فإنّ التاريخ لا يذكر عنه نموذجاً بارزاً من بطولته وشجاعته، إنّما كلّف في السنة الثالثة من جانب النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقط بأن يغتال «كعب بن الأشرف» الّذي حرّك المشركين وألّبهم ضد الإسلام والمسلمين بعد معركة بدر الكبرى، وقد بقي ثلاثة أيام بلياليها لا يطعم شيئاً خوفاً، فأنكر عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خوفه و سأله عن سبب ذلك فقال: يا رسول اللّه قلت لك قولاً لا أدري هل أفينّ به أم لا؟ فلمّا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منه ذلك أرسل معه أربعة رجال آخرين ليعينوه في هذه المهمّة، ويتخلّصوا من «كعب» الّذي كان

ص:457


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 299/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 797/3.

يريد إعادة القتال بين المسلمين والمشركين.

فخرجوا إليه في منتصف الليل وقتلوا عدوّ اللّه كعباً وفق خطّة خاصّة ولكن «محمّد بن مسلمة» جَرَحَ أحد رفاقه من شدة الخوف والوحشة الّتي أصابته(1)، ولا شكّ أنّ صاحب مثل هذه النفسية لا يمكنه أن يبارز صناديد «خيبر» المعروفين وينازلهم.

2. أنّ فاتح «خيبر» لم يقاتل مرحباً ويقتله وحده، بل قاتل بعد مصرع مرحب من كانوا قد جاءُوا معه إلى ساحة القتال من شجعان اليهود فلاحق الفارّين، ونازل الذين بقوا ولم يفرّوا.

وإليك أسماء مَن بقوا في ساحة القتال وقاتلوا علياً عليه السلام بعد قتله مرحباً:

1. داود بن قابوس.

2. ربيع ابن أبي الحقيق.

3. أبو البائت.

4. مرّة بن مروان.

5. ياسر الخيبري.

6. ضحيج الخيبري.

وكلّ هؤلاء كانوا من صناديد اليهود وأبطالهم، وكانوا يقاتلون خارج حصن خيبر ويمنعون من أية محاولة لفتح قلاع اليهود في هذه الوقعة.

إنّ هؤلاء الستة قتلوا على يد علي بن أبي طالب عليه السلام وهم يرتجزون في

ص:458


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 567/2.

ساحة القتال ويطلبون المبارز والمناجز(1).

فمَن يكون والحال هذه فاتح «خيبر» وقاتل مرحب؟

إذا كان «محمَّد بن مسلمة» فإنّه لا يمكن أن يعود بعد قتل مرحب إلى معسكر المسلمين ويتجاهل أُولئك الأبطال خلف مرحب بل لابد أن يقاتلهم، في حين اتّفقت كلّ السير والتواريخ على أنّ هؤلاء قتلوا جميعاً على يد علي بن أبي طالب عليه السلام.

3. أنّ هذه الأُسطورة التاريخية تتنافى مع الحديث المنقول عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال في حقّ علي عليه السلام: «يفتح اللّه على يديه» مع العلم بأنّ المانع الأكبر من فتح خيبر كان هو مرحب الّذي أجبرت شجاعته الأميرين السابقين على الفرار، فإذا كان قاتل مرحب هو «محمَّد بن مسلمة» لزم أن يقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جملته هذه في حقّ «محمّد بن مسلمة» لا في حقّ «علي» عليه السلام الّذي أعطاه الراية بعد أن قال تلك الجملة: «يفتح اللّه على يديه».

يقول الحلبي كاتب السيرة المعروف: قيل: القاتل له (أي لمرحب) عليّ (كرّم اللّه وجهه) وبه جزم مسلم رحمه الله في صحيحه. قال بعضهم: والأخبار متواترة به، وقال ابن الأثير: الصحيح الّذي عليه أهل السير والحديث أنّ عليّاً قاتله (كرم اللّه وجهه)...(2).

ولقد وقع الطبري في تاريخه، وابن هشام في سيرته في شيء من الاضطراب والفوضى وكتبا قصّة هزيمة ورجوع الرجلين اللّذين كُلّفا قبل علي عليه السلام بفتح قلاع اليهود بصورة لا تتّفق مع مفهوم الجملة الّتي قالها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في

ص:459


1- . ناسخ التواريخ: 282/2-286.
2- . السيرة الحلبية: 738/2. وراجع: زاد المعاد: 134/2 و 135.

حقّ علي عليه السلام.

فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حقّه: «ليس بفرّار»(1) يعني أنّ الّذي سوف يعطيه الراية لا يفرّ أبداً، ومفهوم هذه الجملة هو أنّ عليّاً عليه السلام لا يفرّ و لا يجبن أمام العدوّ كما فرّ القائدان السابقان، وهذا يعني أنّ القائدين السابقين فرّا أمام العدوّ، وأخليا الساحة، في حين أنّ الكاتبين المذكورين لا يذكران مسألة فرار القائدين المذكورين، وإنّما يكتبان رجوعهما كما لو أنّهما قد أدّيا وظيفتهما القتالية والعسكرية على الوجه الكامل، ولكنّهما لم يوفقا للفتح(2).

ثلاث نقاط مشرقة في حياة علي عليه السلام

ونختم هذا البحث بذكر ثلاث فضائل لفاتح خيبر ذكرها أحد خصومه لها ارتباط بموقفه عليه السلام في خيبر:

أمر معاوية سعد بن أبي وقاص يوماً سبّه فامتنع، فقال: ما منعك أن تسبَّ أبا التراب؟

فقال: أمّا ما ذكرتُ ثلاثاً قالهنَّ له رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلن أسبَّه لأن تكون لي واحدة منهنَّ أحبُّ إليَّ من حُمرِ النعم.

ثم أخذ سعد في عدّ تلك المناقب فقال:

1. سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه(3) فقال له عليٌ: يا رسول اللّه خلّفتني مع النساء والصبيان؟

ص:460


1- . المغازي: 653/2.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 797/3.
3- . وهي إشارة إلى واقعة تبوك.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلّاأنّه لا نبوّة بعدي».

2. وسمعته يقول يوم خيبر:

«لأُعطين الراية رجلاً يحبُّ اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله». قال: فتطاولنا لها فقال: «أُدعوا لي علياً». فأُتي به أرمد فبصق في عينه، ودفع الراية إليه ففتح اللّه عليه(1).

3. ولما نزلت هذه الآية: «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ...» (2) دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال:

«اللهم هؤلاء أهلي»(3)(4).

عوامل الانتصار

اشارة

فتحت حصون «خيبر»، واستسلم اليهودُ للمسلمين بشروط خاصّة، ولكن يجب أن نرى ماهي العوامل الّتي أدّت إلى هذا الانتصار، فهذه هي في الحقيقة النقاط الهامّة في هذا القسم.

إنّ انتصار المسلمين الساحق في هذه الغزوة يعودُ إلى عوامل يمكن الإشارة إليها على نحو الإجمال ثم شرحها بالتفصيل في ما بعد.

ص:461


1- . وهي إشارة إلى واقعة خيبر.
2- . آل عمران: 61.
3- . وهي إشارة إلى قصّة مباهلة النبي نصارى نجران.
4- . صحيح مسلم: 121/7، باب من فضائل علي عليه السلام.

1، التخطيط العسكري والتكتيك الحربي الدقيق.

2. تحصيل المعلومات ومعرفة أسرار العدو الداخلية.

3. تفاني الإمام علي بن أبي طالب، وبطولته النادرة. وهنا نحن ندرس هذه الأُمور الثلاثة على وجه التفصيل:

1. التخطيط والتكتيك العسكري الدقيق

لقد هبط الجيش الإسلامي في منطقة قطع بها المسلمون ارتباط اليهود بأصدقائهم القدامى (قبائل غطفان).

وقد كان بين قبائل غطفان فرسان كثيرون، ولو استطاعوا أن يعينوا اليهود في هذه الموقعة لما أمكن فتح حصون خيبر.

فإنّ «غطفان» لمّا سمعت بمسير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى خيبر خرجوا ليظاهروا اليهود عليه، ولكنّهم ما أن سمعوا الشائعة الّتي مفادها أنّ أصحاب محمَّد قد قصدوهم من طريق آخر ظنّوا أنّهم سيهاجمون أموالهم وأهليهم فرجعوا من منتصف الطريق على أعقابهم، وأقاموا في أهليهم وأموالهم وخلّوا بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبين «خيبر».

يقول المؤرّخون: إنّ هذه الشائعة كانت نتيجة نداء غيبيّ سمعه رجالُ غطفان فظنّوا أنّ المسلمين داهموا أهليهم(1)، ولكنّه ليس من المستبعد أن تكون هذه الشائعة من فعل المسلمين المتسترين من قبائل غطفان، والذين أُمروا بأن يتظاهروا بالكفر، ويبقوا في قبائلهم حتّى يعينوا إخوانهم المسلمين في اللحظات المناسبة.

ص:462


1- . لاحظ: المغازي: 651/2-653.

فخطّطوا لهذه الموقعة بمهارة كبيرة وكانوا في ذلك ناجحين جدّاً إلى درجة أنّه تسبب في أن تعدل إمدادات غطفان العسكرية لليهود من مواصلة مسيرها إلى «خيبر»، والعودة إلى أهليهم وترك اليهود وشأنهم.

وقد سبق لهذا نظيرٌ في معركة «الأحزاب» - كما مرّ عليك - يوم امتنعت قبائل غطفان عن نصرة اليهود بسبب شائعة بثّها بينهم رجلٌ من المسلمين من بني غطفان يُدعى «نعيم بن مسعود»، وتفرّق على أثره جماعة الأحزاب، وانفرط عقدهم.

2. تحصيلُ المعلومات حول العدوّ

لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما أسلفنا مراراً يُولي تحصيل المعلومات ومعرفة أسرار العدو، أهميّة كبيرة.

ولهذا بعث قبل محاصرة «خيبر» طليعة من المسلمين وأمّر عليهم «عبّاد بن بشر» ووجّههم إلى «خيبر»، فالتقوا بيهودي قرب حصون «خيبر»، و بعد التحقيق معه تبيّن أنّه عينٌ لليهود يتجسّس لهمُ الأخبار، فهدّدوه بالقتل، فقال: أفتؤمنني على أن أُصدقَك؟ فأمّنه عبّاد.

فقال اليهوديُ: القومُ مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود... فأتى به عبّاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره الخبر.(1)

ثم قال: خرجتُ من حصن «النطاة» من عند قوم ليس لهم نظامٌ تركتهم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فأين يذهبون؟ قال: إلى أذلّ ممّا كانوا فيه، إلى «الشق» وقد رُعبوا منّك حتّى أنَّ أفئدتهم لتخفق، وهذا

ص:463


1- . المغازي: 640/2-641.

حصن اليهود فيه السلاح والطعام والودك، وفيه آلة حصونهم التي كانوا يقاتلون بها بعضهم بعضاً، قد غيبوا ذلك في بيت من حصونهم تحت الأرض. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: وما هو؟ قال: منجنيق مفكّكة ودبابتان وسلاحٌ من دروع وبيضٌ وسيوف، فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إن شاء اللّه، قال اليهودي: إن شاء اللّه أوقفُك عليه فإنّه لا يعرفه أحد من اليهود غيري... ثمّ انصب المنجنيق على حصن الشق وتدخل الرجال تحت الدّبابتين فيحفرون الحصن فتفتحه من يومك(1).

إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم وإن لم يستخدم هذه الأدوات التخريبية إلّاأن المعلومات الّتي وقف عليها من ذلك اليهودي الأسير كانت مهمة؛ لأنّها أوضحت نقطة الهجوم غداً، وعرف النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم أن التغلّب على حصن «النطاة» لايحتاج إلى قوة كبيرة، وأنّه لابدّ من رعاية المزيد من الحيطة والحذر عند فتح حصن «الشق».

نموذجٌ آخر: عند فتح إحدى القلاع أتى يهوديٌ إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد ثلاثة أيام مضت على محاصرتها وقال - ولعلّه لتخليص نفسه - إنّك لو أقمت شهراً ما بالوا، لهم دبول (جدولٌ) تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربونَ بها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، وإن قطعت مشربهم عليهم ضجّهم.(2)

وفي رواية أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يوافق على قطع الماء عن العدو.

وفي أُخرى؛ قطع عليهم مشاربهم موقتاً فلم يطيقوا المقام على العطش(3).

ص:464


1- . المغازي: 647/2-648؛ إمتاع الأسماع: 232/9.
2- . المغازي: 666/2-667.
3- . ناسخ التواريخ: 299/2.
3. تفاني امير المؤمنين عليه السلام

ولقد ذكرنا تفاني علي بن أبي طالب، وبطولته في هذه الموقعة بصورة مجملة، وها نحن ننقل عبارة قالها هو عليه السلام عن هذه المسألة:

وَرَدنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح، وهم في أمنع دار وأكثر عدد، كلّ ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحدٌ إلّاقتلوه حتّى احمرّت الحدق، و دعيت إلى النزال، وأهمّت كلّ امرئ نفسه، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكلٌّ يقول: يا أبا الحسن انهض.

فأنهضني رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى دارهم فلم يبرز إليَّ منهم أحدٌ إلّاقتلتُه، ولا يثبتُ لي فارس إلّاطحنتُه، ثم شددتُ عليهم شدّة الليث على فريسته حتّى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدّداً عليهم فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتّى دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتلُ من يظهر فيها من رجالها، وأسبي من أجدُ من نسائها حتّى افتتحتها وحدي، ولم يكن لي فيها معاونٌ إلّااللّه وحده(1).

الرحمة في ساحة القتال

عندما افتتح حصن «القموص» سُبيت «صفيّة بنت حيي بن أخطب» وابنة عمّها، فمرّ بهما «بلال» على القتلى فصاحت ابنة عمّها صياحاً شديداً جزعة ممّا رأت، فكره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما صنع بلال وقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«أذَهَبَت مِنّكَ الرحمة؟ تمرّ بجارية حديثة السنّ على القتلى؟»

ص:465


1- . الخصال: 369، باب السبعة.

فقال بلال: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما ظننتُ أنّك تكره ذلك، وأحببت أن ترى مصارع قومها(1).

ولم يكتف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهذا القدر من تطييب خاطر «صفيّة» بل احترمها، وعيّن لها مكاناً خاصاً للاستراحة في المعسكر، واختارها زوجة لنفسه، وبهذا الطريق أزال آثار ذلك الصنيع السيّئ الّذي قام به بلال.

لقد تركت أخلاق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتعامله الإنساني الرفيع مع «صفية» أثراً حسناً في نفسها، فقد صارت في ما بعد من أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم الوفيّات المخلصات، وقد حزنت عند وفاته، وبكت له أكثر من بقية أزواجه(2).

مصرع كنانة بن الربيع

منذ أن أُجلي «بنو النضير» عن المدينة وسكنوا «خيبر» أحدثوا صُندوقاً لجمع الأموال لإدارة شؤونهم العامّة، ولسد نفقات الحروب، ولإعطاء دية كلّ مَن كان يُقتَل من بني النضير.

فبلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ هذا الكنز وهذه الأموال قد أُودعت عند «كنانة بن الربيع» زوج «صفية»، فلمّا افتتح صلى الله عليه و آله و سلم خيبر طلب ابن الربيع وسأله عن كنز اليهود، فأنكر ذلك فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحبسه، ثم عرف بعد التحقيق من اليهود، بمكان ذلك الكنز، وقد كان بخربة، إذ قال له يهودي: إنّي رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كلّ غداة، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك، أأقتلك؟ قال: نعم، فأمر رسول اللّه بالخربة فحفرت فاُخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي فأبى

ص:466


1- . المغازي: 673/2؛ إمتاع الأسماع: 316/1.
2- . لاحظ: سير أعلام النبلاء: 231/2 برقم 26؛ الإصابة: 210/8 برقم 11407.

أن يؤديه...، ثمّ دفعه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى محمَّد بن مسلمة فضرب عنقه قصاصاً لأخيه الّذي قُتل في وقعة خيبر «محمود بن مسلمَة» والّذي قتله اليهود بإلقاء رحى من حجر من فوق حصونهم على رأسه.(1) وإنّما قتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كنانة بضرب عنقه، لتواطؤه ضدّ الإسلام، وكتمانه مثل هذا الأمر، وتأديباً لغيره من اليهود حتّى يتورّعوا عن حبك المؤامرات ضد رسول الإسلام وضدّ أصحابه، وضدّ الحكومة الإسلامية، وكان «كنانة» آخر مَن قُتل من يهود خيبر.

تقسيم غنائم الحرب

بعد افتتاح حصون «خيبر»، وتجريد العدو من كلّ أسلحته، وجمع الغنائم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن تجمع الغنائم كلّها في مكان واحد، ثم أمر صلى الله عليه و آله و سلم رجلاً بأن ينادي في الناس:

«ردُّوا الخيط والمخيط، فإنّ الغُلولَ عارٌ وشنارٌ ونارٌ يوم القيامة»(2).

ولقد شدّد قادة الإسلام وأئمته الحقيقيّون على أهميّة الأمانة تشديداً بالغاً حتّى أنّهم اعتبروا ردَّ الأمانة - مهما صغرت ودقّت - من علائم الإيمان، والخيانة وعدم ردّها من علائم النفاق.

من هنا عندما عثر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في رحل مُسلم من المقاتلين شيئاً من أموال الغنيمة لم يردَّها إلى بيت المال، لم يصلّ على جنازة ذلك الرجل عندما استشهد، وإليك تفصيل هذه الحادثة.

لمّا انصرف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه من خيبر ومع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غلام

ص:467


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 799/3-800؛ بحار الأنوار: 33/21.
2- . مجمع البيان: 433/2؛ المغازي: 681/2، وفيه: «أدوا» بدل «ردّوا».

له، يقوم له بشؤونه، وفيما كان ذلك يضع رَحلَ النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذ أتاه سهمٌ لا يُعلمُ راميه فأصابه فقتله، فقال المسلمون: هنيئاً له الجنة.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«والَّذي نَفسُ محمَّد بيده إنَّ شملته(1) الآن لتحترق عليه في النار، كان قد غلَّها من فيء المسلمين يوم خيبر»!!

فسمع رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذا الكلام فأتاه وقال: يا رسول اللّه، أصبت شراكين لنعلين لي فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «يُقدُّ لك مثلهما من النار»(2).

وهذه القصّة تفضح أيضاً دسائس بعض المستشرقين، لأنّهم كانوا يصفون حروب الإسلام ومعاركه العادلة بأنّها كانت من أجل الإغارة على أموال الناس ومصادرتها كما يفعل قُطّاع الطرق، متجاهلين عمداً وكيداً الأهداف الإنسانية والإلهية العليا لهذه المعارك والغزوات، والحال أنّ مثل هذ الانضباطية والنظم والورع ممّا لا يمكن تصوّره في قوم همّهم الإغارة والنهب والسلب.

إنّ قائد شعب أو قوم هذا هو همّهم وهذه هي همّتهم لا يمكن أبداً أن يعتبر ردّ الأمانة من واجبات الدين ومن علائم الإيمان، كما لا يمكنه أن يربّي أتباعه وأصحابه بمثل هذه التربية الرفيعة، بحيث يجعله يجتنب عن سرقة صغيرة جداً مثل غلّ شراكي نعلين لاقيمة لهما.

قافلة من أرض الذكريات

قبل أن يتوجّه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمسلمين إلى «خيبر» بعث «عمرو بن أُمية»

ص:468


1- . الشملة كساء غليظ يُلتَحفُ به.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 802/3؛ تاريخ الطبري: 304/2؛ الكامل في التاريخ: 222/2.

إلى البلاط الحبشي لغرض إيصال رسالته إلى ملك الحبشة النجاشيّ، وليطلب منه أن يهيّئ المقدّمات اللازمة لترحيل المسلمين المهاجرين من الحبشة إلى المدينة.

فهيّأ النجاشي سفينتين لأُولئك المهاجرين بعد أن جهّزهم بجهاز حسن وأمر لهم بكسوة، فسارت بهم حتّى وصلت إلى السواحل القريبة من المدينة.

ولمّا علم المسلمون بمسير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى «خيبر» توجّهوا من فورهم إلى «خيبر» فقدموا مع «جعفر بن أبي طالب» على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم «خيبر» بعد أن افتتحت جميع حصون اليهود وقلاعهم.

فلمّا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جعفراً مشى في استقباله (12) خطوة ثم قبَّل ما بين عينيه والتزمهُ وقال:

«ما أدري بأيّهما أنا أسرُّ بفتح خيبر أُمّ بقدوم جعفر؟».(1)

وفي رواية أُخرى قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا أدري بأيّهما أنا أشدُّ سروراً، بقدومك يا جعفر أُمّ بفتح اللّه على أخيك خيبر».(2)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لجعفر:

«يا جعفر ألا أمنحك؟ ألا أُعطيك، ألا أحبوك؟».

فظنّ الناس أنّه يعطيه ذهباً أو فضة، فتشوّف - أي فتطلّع - الناس لذلك.

فقال له:

إنّي أُعطيك شيئاً إن أنت صنعته في كلّ يوم كان خيراً لك من الدنيا وما فيها».

ص:469


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 802/3.
2- . الخصال: 484؛ بحار الأنوار: 24/21 برقم 19.

ثم علّمه صلى الله عليه و آله و سلم الصلاة المعروفة بصلاة جعفر الطيار(1).

حجم الخسائر وعدد القتلى

لم يتجاوز عدد قتلى المسلمين في هذه الغزوة 20 شخصاً ولكن قتل من اليهود أكثر من هذا بكثير، وقد سجل التاريخ أسماء 93 رجلاً منهم(2).

العفو بعد الانتصار

المؤمنون باللّه وأصحاب المروءات من البشر يعاملون العدو المنهزم المقهور عند الغلبة عليه والظفر به باللطف والحب، ويعفون عنه ويتناسون روح الانتقام، أجل إنّهم يشملون العدو منذ استسلامه بعطفهم وحنانهم وتلك هي حقيقة أثبتتها وقائع التاريخ الحية.

وكذلك فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عندما تغلّب على يهود خيبر فقد عاملهم بعد الانتصار معاملة حسنة، وشملهم بعفوه، ولطفه رغم كلّ ما ارتكبوه في حقّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من ظلم وجناية وتأليب للعرب الوثنيّين ضدّ الإسلام وإشعال حروب كادت أن تودي بالحكومة الإسلامية وتستأصل المسلمين، وتقضي على جهود رسول الإسلام.

فقد قبل بطلب اليهود بأن يسكّنهم في خيبر كما كانوا، وأن يترك أراضيهم وبساتينهم بأيديهم، على أن يكون له نصف محاصيلها سنوياً.

بل إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم - كما يروي ابن هشام - هو الّذي اقترح هذا الأمر على

ص:470


1- . فروع الكافي: 465/3، الحديث 1، باب صلاة التسبيح؛ بحار الأنوار: 24/21.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 32/21.

اليهود، وترك لهم حرية التصرف في مزارعهم وأراضيهم ليغرسوا أو يزرعوا ما يريدون من الشجر(1).

لقد كان في مقدور النبي صلى الله عليه و آله و سلم، كأيّ فاتح آخر، أن يريق دمهم جميعاً، أو أن يجليهم برمّتهم من أراضيهم، أو يجبرهم على اعتناق الإسلام، ولكنّه - خلافاً لتصوّر زمرة مغرضة من المستشرقين، وطلائع الاستعمار الثقافي الذين يتصوّرون ويزعمون بأنّ الإسلام دين القهر والقوة، وأنّ المسلمين أجبروا الأُمم والأقوام المغلوبة على ترك عقائدها، واعتناق الإسلام - لم يفعل مثل هذا العمل قط، بل تركهم أحراراً في ممارسة شعائرهم، والبقاء على ما كانوا يعتقدونه من أُصول دينهم وفروعه.

ولم يحارب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه يهود «خيبر» إلّالأنّ «خيبر» قد تحوّلت إلى بؤرة خطرة للمؤامرة، والكيد بالإسلام والمسلمين، فقد كانوا يمدّون المشركين بكلّ ما يريدون للقضاء على الحكومة الإسلامية الحديثة التأسيس، ولهذا اضطرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى مقاتلتهم، وتجريدهم من أسلحتهم، حتّى يعيشوا تحت ظلّ الحكومة الإسلامية بمنتهى الحرية، ويشتغلوا بمشاغلهم في الزراعة، ويقيموا شعائرهم الدينية من دون أن يجدوا فرصة للمشاغبة والتآمر ضدّ رسالة التوحيد الكبرى، إذ كانوا يسبّبون مشاكل كبيرة للمسلمين - في غير هذه الصورة - ويمنعون من تقدّم الإسلام وانتشاره.

وأمّا الجزية(2) فقد كانت لقاء دفاع الحكومة الإسلامية عنهم، وحمايتهم من

ص:471


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 816/3.
2- . الجزية ما يؤخذ من أهل الذمّة.

الأعداء، وتوفير الأمن لهم، إذ كانت حماية أموالهم وأنفسهم من وظائف المسلمين.

ثم إنّ المحاسبة الدقيقة تقودنا إلى أنّ ما كان يدفعه المسلمون إلى الحكومة الإسلاميّة من الضرائب كان أكثر بكثير ممّا كان يدفعه اليهود، والنصارى إلى الحكومة الإسلامية بعنوان الجزية.

فقد كان يتوجّب على كلّ مسلم أن يدفع إلى الحكومة الإسلامية الخمس والزكاة وربما توجّب عليه أن يدفع شيئاً من أصل ماله لسدّ نفقات واحتياجات الحكومة الإسلامية، بينما كان اليهود والنصارى الذين كانوا يعيشون في ظلّ الحكومة الإسلامية في أمن وأمان ويتمتّعون بجميع الامتيازات والحقوق الاجتماعية والفردية يدفعون إلى الحكومة الإسلامية الجزية بدل ما كان يدفعه المسلمون، فالجزية شيء والأتاوة شيء آخر، على خلاف ما يروّجه بعض الكتّاب المغرضين.

ولقد كان عامل الجباية الّذي كان يزور خيبر بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لتقدير حجم المحاصيل فيها، ثم تنصيفها رجلاً عادلاً ورعاً إلى درجة أنّ اليهود أنفسهم أُعجبوا بعدله، واعترفوا بإنصافه، هو «عبداللّه بن رواحة» الّذي استشهد فيما بعد، في موقعة «مؤتة».

فقد كان «ابن رواحة» يخمّن نصيب المسلمين من محاصيل خيبر، وربما تصوّر اليهود أنّه أخطأ في التخمين والخرص، وخمّن أكثر ممّا هو الحقّ فقالوا له:

تعدّيت علينا!

فكان عبدُاللّه يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا.

فتقول اليهود - معجبة بهذا الإنصاف العظيم والعدل الكبير الّذي كان يتحلّى

ص:472

به مخرّص الحكومة الإسلامية -: بهذا قامت السماوات والأرض(1).

ولقد حصل المسلمون أثناء جمع غنائم «خيبر» على قطعة من التوراة، فطلبت اليهود من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يعيدها إليهم، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مسؤول بيت المال بإعادتها إليهم(2).

وهذا يكشف عن إحترام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للشرائع الأُخرى.

سلوك اليهود المتعجرف

في قبال كلّ هذه الألطاف لم تكف اليهود عن خيانتها وكيدها، بل ظلّت تخطّط - في الخفاء - للإيقاع برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه، وإلحاق الأذى بهم.

ولنقف فيما يأتي على نموذجين من هذا الأمر:

1. لمّا اطمأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم (قرّرت جماعة من اليهود في الخفاء أن تقضي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بدس سمّ إليه). فأهدت له «زينب بنت الحارث» زوجة «سلام بن مشكم اليهودي» شاة مصليّة، وقد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السمّ، ثم سمّت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلمّا وضعتها بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، تناول الذراع، فلاك منها مضغة، فلم يسغها، ومعه «بشر بن البراء بن معرور» قد أخذ منها كما أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فأمّا بشر فأساغها، وأمّا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلفظها، ثمّ قال: إنّ هذا العظم ليخبرني أنّه مسموم، ثمّ دعا بها، فاعترفت. فقال لها: ما حملك على ذلك؟ قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلتُ: إن كانَ ملكاً استرحت منه، وإن

ص:473


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 814/3.
2- . لاحظ: المغازي: 680/2؛ إمتاع الأسماع: 318/1.

كان نبيّاً فسيُخبر.

فتجاوز عنها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومات بشر من أكلته التي أكل.(1)

لاشكّ لو أنّ مثل هذه الحادثة حدثت لغير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من القادة والزعماء لصبغوا الأرض بدماء مَن ظنّوا أنّه قصد قتلهم، أو ملأوا السجون بهم وحبسوهم، أعواماً مديدة أو أخضعوهم لأشد أنواع التعذيب الجسدي والنفسي كما يحدِّثنا بذلك التاريخ القديم والحديث.

إنّ هذه المؤامرة الدنيئة الّتي قامت بها امرأة من اليهود جعلت الكثير من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يسيئون الظن بصفية اليهودية الّتي أصبحت في عداد أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد باتوا يتصوّرون أنّها ربما أقدمت في ليلة من الليالي على اغتيال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولهذا عندما أعرس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بها بخيبر أو في أثناء الطريق بات «أبو أيّوب الأنصاري» خالد بن زيد أخو بني النجار متوشحاً سيفه، يحرس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويطيف بالقبة حتّى أصبح رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلمّا رأى مكانه قال: مالكَ يا أبا أيوب؟

قال: يا رسول اللّه خِفتُ عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها

ص:474


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 801/3؛ ولاحظ: المغازي: 677/2 و 678؛ وإمتاع الأسماع: 349/13. هذا والمعروف أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال في مرضه الّذي مات فيه: إن هذا لأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة الّتي أكلتُ بخيبر. سيرة ابن هشام: 801/3؛ إمتاع الأسماع: 437/14. فإنّ النبيَّ، وان كان لفظ المضغة إلّاأنّ بقايا السمّ اختلط ببزاقه الشريف، وأثّر في جسمه المبارك حتّى أودى بحياته المقدّسة بعد حين.

وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر، فخفتُها عليك. فشكرهُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ودعا له بخير(1).

2. والنموذج الثاني من جفاء اليهود، وكيدهم حتّى بعد عفو النبي عنهم، ولطفه بهم أنّ «عبداللّه بن سهيل» الّذي كُلِّف من جانب النبي صلى الله عليه و آله و سلم في إحدى السنين بخرص محاصيل خيبر وتقديرها وحمل نصيب المسلمين منها إلى المدينة قتلته جماعة مجهولة من اليهود أثناء قيامه بواجبه في خيبر وقد كسروا عنقه وألقوه في بئر، ثم قدموا (جماعة من زعماء اليهود المدينة ودخلوا) على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فذكروا له شأنه، فتقدّم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخوه «عبدالرحمن» ومعه إبنا عمّه حويصة ومحيصة ابنا مسعود، وكان عبدالرحمن من أحدثهم سناً وكان صاحب الدّم، وكان ذا قدم في القوم، فلمّا تكلّم قبل ابني عمّه، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: الكُبْر الكُبْر (أي قدّموا الأكبر للكلام إرشاداً إلى الأدب في تقديم الأسنّ وهو خلق يدعو إليه الإسلام). فسكت فتكلّم حويصة ومحيصة، ثم تكلّم هو بعد، فذكروا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قتل صاحبهم وطلبوا القصاص فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أتسمُّون قاتلكم، ثم تحلفون عليه خمسين يميناً فنسلّمه إليكم؟».

قالوا: يا رسول اللّه ما كنّا لنحلف على ما لا نعلم.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «أفيَحلفونَ (أي يحلف اليهود) باللّه خمسين يميناً ما قتلوهُ، ولا يعلمون له قاتلاً، ثم يبرأون من دمه؟»

قالوا: يا رسول اللّه ما كنّا لنقبل أيمان اليهود، ما فيهم من الكفر أعظمُ من أن يحلفوا على إثم.

ص:475


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 802/3؛ السيرة الحلبية: 749/2.

فكتب رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى يهود خيبر حين كلّمته الأنصار: إنّه قد وُجدَ قتيل بين أبياتكم فدوه (أي أعطوا ديته).

فكتبوا إليه يحلفون باللّه ما قتلوه، ولا يعلمون له قاتلاً.

فوداه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من عنده مائة ناقة(1). وهكذا أثبت النبي صلى الله عليه و آله و سلم لليهود مرة أُخرى بأنّه ليس داعية حرب ولا طالب قتال وسفك دماء، ولو كان كغيره من الزعماء والسياسيين لاتّخذ من قصّة مقتل «عبد اللّه» ذريعة للقضاء على حياة تلك الزمرة المعتدية، المشاغبة المخلَّة بالأَمن(2).

إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما يصرّح بذلك القرآن الكريم ويصفه: نبيُ الرحمة، فهو لا يحتكم إلى السيف ما لم يبلغ الأمر مداه.

حيلة مُجازة

كان في خيبر تاجر يُدعى الحجّاج بن علاط السلمي له تجارة مع أهل مكّة، وكان ممّن حضر يوم خيبر، وشاهد لطف النبي ورحمته فأسلم طائعاً راغباً.

ولمّا فرغ المسلمون من أمر «خيبر» أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا رسول اللّه

ص:476


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 815/3-816.
2- . لم تنحصر تعديات اليهود وتجاوزاتهم على ما ذكرناه فلطالما خطّطوا ودبّروا الحيل لإلحاق الأذى والضرر بالمسلمين، ومن جملة ذلك حادث «عبد اللّه بن عمر» الّذي ذهب إلى خيبر في عهد الخليفة الثاني لعقد اتفاقية مع أهلها فاعتدوا عليه بالضرب، فلمّا عرف بذلك عمر رأى أن يجليهم من خيبر لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان» فقال لصحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم: مَن كان له مال بخيبر فليلحق به فإنّي مخرج يهود، ثم أجلاهم من خيبر جزاء كيدهم وتآمرهم المستمر. (لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 816/3-817).

إنّ لي بمكة مالاً عند صاحبتي أُمّ شيبة بنت أبي طلحة - وكانت عنده، له منها معرض ابن الحجاج - ومال متفرّق في تجّار مكّة فأذن لي يا رسول اللّه، فأذن له رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك ليستنقذ أمواله من المشركين وغيرهم في مكّة.

فقدم مكّة، فرآه رجالُ قريش اجتمعوا حوله وأخذوا يسألونه عن أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم يكونوا علموا بإسلامه فأجابهم قائلاً: لقد هُزم (محمَّد بخيبر) هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، (وقُتِلَ أصحابُه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط)، وأُسر محمَّد أسراً، وقالت اليهود: لا نقتله حتّى نبعث إلى أهل مكة فيقتلوه بين أظهرهم انتقاماً بمن كان أصاب من رجالهم.

ففرح سادة قريش لهذا الخبر الكاذب فرحاً شديداً، ثم قال الحجّاج لهم:

أعينوني على جمع مالي بمكّة وعلى غرمائي، فإنّي أُريد أن أقدم خيبر، فأُصيب من محمَّد وأصحابه قبل أن يسبقني التجّار إلى ما هنالك. فجمعوا له ماله كأسرع ما يكون.

فلمّا سمع «العباس بن عبدالمطلب» هذا الخبر جاء إلى الحجّاج وقال: يا حجاج ما هذا الخبر الّذي جئت به؟ فأشار الحجّاج إلى العباس بأنّه سيخبره بحقيقة الأمر، ثم التقى العباس خفية وأخبره بأنّه ماكر أهل مكّة، وأنّ النبي ظفر بيهود خيبر، وطلب من العباس قائلاً: احفظ عليّ حديثي يا أبا الفضل، فإنّي أخشى الطلب ثلاثاً، ثم قل ما شئت، قال: أفعل.

فلمّا فرغ من جمع ماله كلّه غادر مكّة بسرعة فائقة. فلمّا مضى على ذلك ثلاثة أيام واطمأنّ العباسُ من نجاة الحجّاج لبس حلّة جميلة، وتعطّر وأخذ عصاه، ثم خرج حتّى أتى الكعبة فطاف بها، فتعجبّت قريشٌ لذلك، وظنّت أنّه فعل ذلك تجلّداً، فقالت للعباس: يا أبا الفضل هذا واللّه التجلّد لحرّ المصيبة، قال: كلا، واللّه

ص:477

الّذي حلفتم به، لقد افتَتح «محمَّد» خيبر، وترك عروساً على بنت ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها، فأصبحت له ولأصحابه.

فقالوا: مَن جاءك بهذا الخبر؟

فقال: الّذي جاءكم بما جاءكم به (ويعني الحجّاج الّذي احتال عليهم). ولقد دخل عليكم مُسلماً، فأخذ ماله، وانطلق ليلحق بمحمَّد وأصحابه، فيكون معه.

فغضبت قريش لهذه المكيدة وانزعجت انزعاجاً شديداً، ولكن بعد فوات الأوان، ولم يلبثوا أن جاءهم خبر انتصارات المسلمين الساحقة على أعدائهم(1).

ص:478


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 34/21؛ والسيرة النبوية لابن هشام: 806/3-808.

46 قصّة فَدَك

اشارة

كانت «فَدك» منطقة خصبة، كثيرة الخير، قرب خيبر، وهي تبعد عن المدينة بما يقرب من (140) كيلومتراً، وكانت تعتبر بعد حصون خيبر النقطة الهامة الّتي يعتمد عليها يهود الحجاز(1).

وقد ملأت القيادة الإسلامية - بعد أن هُزم اليهود في خيبر ووادي القرى وتيماء - الفراغ الّذي حصل في شمال المدينة، بالقوة العسكرية الإسلامية.

ولأجل أن تنهي الوجود السياسي اليهودي في هذه المنطقة الّتي كانت بمثابة منبع خطر، وبؤرة شغب ضدَّ الإسلام، بعثت القيادة الإسلامية سفيراً إلى سادة فدك وزعمائها، لمعرفة موقفهم فآثر «يوشع بن نون» الّذي كان يرأس سكان تلك المنطقة، الصلح والسلام على الحرب والقتال، وتعهّد بأن يسلّم كلّ سنة نصف محاصيل فدك إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(2).

وأن يعيش هو وقومه من الآن تحت راية الحكومة الإسلامية، ولا يشاغب

ص:479


1- . راجع كتاب «مراصد الاطّلاع»: 3/1020، مادة «فدك»؛ معجم البلدان للحموي: 238/4، مادة «فدك».
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 813/3؛ إمتاع الأسماع: 325/1؛ فتوح البلدان: 33/1.

ولا يتآمر ضدّ المسلمين، على أن تتعهّد الحكومة الإسلامية - في مقابل هذا المبلغ - بتوفير الأمن في المنطقة.

حكم الأراضي المفتوحة بلا قتال

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الأراضي الّتي يسيطر عليها المسلمون بالحرب والقتال تعود ملكيتها إلى عامّة المسلمين وتكون إدارتها بيد القائد الأعلى للأُمّة.

أمّا الأراضي الّتي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولم يسيطر عليها المسلمون بالقتال فتكون لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والإمام من بعده خالصة، فهو يتصرّف فيها كما يشاء ويرى، فله أن يهبها، وله أن يؤجّرها، ومن جملة ما له أن يفعل فيها هو أن يهبها لأقربائه فيسدوا بها حاجتهم، ويديروا بها معيشتهم(1).

وعلى هذا الأساس وهب رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدكاً لابنته الطاهرة فاطمة الزهراء، وقد أُريد من أيّهاب هذه الأرض لها - كما تشهد بذلك القرائن - أمران:

1. أنّ قيادة الأُمّة كانت بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما صرّح النبي بذلك مراراً، ل:

«علي بن أبي طالب»، ومثل هذه المسؤولية الثقيلة تحتاج ولا شكّ إلى ميزانية كبيرة، فكان لعليّ عليه السلام أن يصرف من أموال فدك وعائداتها إذا صارت تحت تصرّفه أكبر قدر ممكن ليحفظ به ذلك المنصب، ويستطيع القيام بمتطلّباته.

وكأنّ جهاز الخلافة - بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - أدرك هذه الحقيقة، ولهذا عمد منذ الأيام الأُولى لوفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى انتزاع فدك من أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:480


1- . وقد طرحت هذه المسألة في الآية 6 و 7 من سورة الحشر وعولجت في الكتب الفقهية في باب الجهاد تحت عنوان «الفيء» و «الأنفال».

2. لقد كان من الواجب أن تعيش ذرية النبي صلى الله عليه و آله و سلم الّتي كان يتمثّل مصداقها الكامل في وحيدة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فاطمة الزهراء، وابنيها الحسن والحسين عليهما السلام بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بصورة تليق بمقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وشرفه، ومكانته السامية. ولهذا الهدف وهب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدكاً لابنته فاطمة الزهراء عليها السلام.

يقول المفسّرون والمحدّثون الشيعة وبعض علماء السنّة إنّه لمّا نزل قوله تعالى:

«وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ» .(1)

دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ابنته فاطمة وفوّض إليها فدكاً(2)، وقد روى هذا الأمر أبو سعيد الخدري وهو من كبار صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ويعترف جميع المفسّرين، سنّة وشيعة، بأنّ هذه الآية نزلت في حقّ أقرباء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وابنته الزهراء أظهر وأقوى مصاديق «ذي القربى»، حتّى أنّه كان علي بن الحسين السجّاد في الشام بعد واقعة كربلاء، وسأله بعض الشاميّين عن نسبه، فتلا عليه السلام الآية المذكورة للتعريف بنفسه، وحيث إنّ مفاد الآية والمراد بها كان معلوماً عند المسلمين كافّة قال الشامي متعجّباً: وإنّكم للقرابة الّذي أمر اللّه أن يؤتى حقّه(3).

وخلاصة القول: إنّ ثمة اتّفاقاً بين علماء السنّة والشيعة في أنّ هذه الآية قد نزلت في شأن الزهراء وابنيها، نعم هناك خلاف في أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهب -

ص:481


1- . الإسراء: 26.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 243/6، مؤسسة الأعلمي، بيروت؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 268/16؛ الدر المنثور: 177/4.
3- . الدّر المنثور: 176/4.

ساعة نزول هذه الآية - فدكاً لابنته فاطمة، أم لا؟ ولقد اتّفق علماء الشيعة على الشقّ الأوّل، وذهبوا إلى أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهب فدكاً عند نزول الآية لفاطمة ووافقهم على ذلك جمعٌ من علماء السنّة.

وقد أراد المأمون العباسي (لسبب ما) إعادة فدك إلى بني الزهراء فكتب إلى المحدّث المعروف «عبداللّه بن موسى» وطلب منه أن يرشده في هذا الأمر، فكتب إليه عبداللّه بن موسى الحديث المذكور الّذي يوضح شأن نزول هذه الآية، فأعاد المأمون فدكاً إلى أبناء الزهراء وذريتها(1)، فكتب الخليفة العباسي إلى واليه على المدينة يومذاك بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهب فدكاً لابنته فاطمة الزهراء وهذا أمرٌ مسلّم، ولا خلاف فيه حيث كانت قضية فدك وخطبة الزهراء عليها السلام ممّا يتوارثه العلويون وأحفاد فاطمة عليها السلام.

وقد جَلس المأمون ذات يوم على كرسي خاص للاستماع إلى مظالم الناس وشكاياتهم، فكانت أوّل ما أُعطي له، رسالة وصف صاحبها نفسه فيها بأنّه يدافع عن الزهراء، فقرأ المأمون الرسالة وبكى مدة، ثم قال: مَن هو المحامي عن الزهراء؟ فقام شيخٌ كبيرٌ، وقال: أنا هو ذا، فانقلب مجلس المأمون من مجلس القضاء إلى مجلس حوار ومناظرة بين المأمون وبين ذلك الشيخ، وأخيراً وجد المأمون نفسه مغلوباً محجوجاً، فأمر رئيس ديوانه بأن يكتب كتاب ردّ فدك إلى أبناء الزهراء، فكتب ذلك الكتاب، ووشّحه المأمون بتوقيعه، وفي هذه المناسبة قام دعبل الّذي حضر ذلك المجلس وأنشأ شعراً هذا مطلعه:

أصبح وجهُ الزمان قد ضحكا بردّ مأمون هاشم فدكاً(2)

ص:482


1- . لاحظ: مجمع البيان: 243/6 عند تفسير قوله تعالى: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» الإسراء: 27؛ فتوح البلدان: 37/1.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 217/16.

وليس الشيعة بحاجة - في إثبات أنّ فدكاً كان ملكاً طلقاً وخالصاً للزهراء فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - إلى الدلائل المذكورة، لأنّ الصدِّيق الأكبر أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قد صرَّح بمالكيته بفدك في إحدى رسائله إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف إذ قال:

«بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ، مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللّهُ»(1).

قصّة فدك بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

لقد حُرمت ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم العزيزة فاطمة من ملكها الخالص (فدك) بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لأغراض سياسية خاصّة، وأخرجوا عمّالها من تلك الأرض، فعمدت إلى إثبات حقّها واسترداد ملكها من جهاز الخلافة عن طريق القانون.

ففي الدرجة الأُولى كانت قرية فدك في يدها، واليدُ دليل الملك، ولكن جهاز الخلافة طلب منها مع ذلك دليلاً على كون فدك ملكها، خلافاً لكلّ الموازين القضائية الإسلامية.

إذ لا يُطلبُ من أيّ واحد له يد على شيء (أي يكون ذلك الشيء تحت تصرّفه) أن يقيم دليلاً على ملكّيته لذلك الشيء، ولكنّ جهاز الخلافة لم يُعر ليد الزهراء على «فدك» أهمية، بل طالبها بأن تأتي بشاهد على ملكيّتها.

ولهذا اضطرّت فاطمة الزهراء عليها السلام إلى أن تأتي للشهادة على ذلك بشخصيّة ذات مكانة هامّة كعليّ عليه السلام وامرأة تدعى أُمّ أيمن الّتي شهد لها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأنّها

ص:483


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 45.

من نساء الجنّة(1).

وبعتيق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «رباح» حسب رواية البلاذري(2)، ولكن جهاز الخلافة لم يعر اهتماماً لشهادة هؤلاء الشهود، وحرم ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من ملكها الّذي وهبه إيّاها والدها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد كانت «الزهراء» و «علي» وابناهما الحسن والحسين عليهم السلام مطهّرين من كلّ رجس كما صرّح بذلك قوله تعالى:

«إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .(3)

ولو أنّ هذه الآية شملت نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم لكانت فاطمة الزهراء من أوضح مصاديقها قطعاً ويقيناً، ولكن الخلافة تجاهلت - مع الأسف - حتّى هذا الدليل، واعتبر الخليفة ادّعاءها ادّعاءً غير مشروع.

وفي المقابل يرى علماء الشيعة أنّ الخليفة الأوّل أذعن في نهاية الأمر لصحّة رأي الزهراء وصحّة ادّعائها وشرعيّته، وكتب كتاباً يصرّح بأنّ فدكاً ملك خالصٌ للزهراء وأعطاها ذلك الكتاب، ولكن رفيق الخليفة وصاحبه لمّا صادف الزهراء في أثناء الطريق وعرف بأنّها حصلت على اعتراف صريح من الخليفة بملكيّتها لفدك أخذ منها ذلك الكتاب وأتى به إلى الخليفة الأوّل وقال معترضاً على شهادة علي عليه السلام وأُمّ أيمن لها: إنّ عليّاً يجرُّ إلى نفسه وأُمّ أيمن امرأة.

ثم عمد إلى الكتاب فمحاه وخرقه(4).

ص:484


1- . لاحظ: الاصابة: 359/8 برقم 11902؛ الطبقات الكبرى: 224/8.
2- . لاحظ: فتوح البلدان: 35/1 برقم 114.
3- . الأحزاب: 33، راجع كتاب: آية التطهير في أحاديث الفريقين: ج 1 و 2.
4- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 374/16.

هذا ويروي الحلبي في سيرته هذه الحادثة بصورة أُخرى إذ يكتب قائلاً: إنّ أبا بكر كتب لفاطمة بفدك، ودخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها، فقال: ممّاذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كماترى؟! ثم أخذ عمر الكتاب فشقّه(1).

وما ذكره ابن أبي الحديد عن أحد متكلمي الشيعة قال: قلتُ لمتكلّم من متكلّمي الإماميّة يُعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل: وهل كانت فدك إلّانخلاً يسيراً وعقاراً ليس بذلك الخطير! فقال لي: ليس الأمر كذلك، بل كانت جليلة جدّاً، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل، وما قصد أبوبكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلّاألّا يتقوّى عليٌّ بحاصلها وغلّتها على المنازعة في الخلافة، ولهذا اتّبعا ذلك بمنع فاطمة وعلي وسائر بني هاشم وبني المطّلب حقّهم في الخمس، فإنّ الفقير الّذي لا مال له تضعف همّته ويتصاغر عند نفسه، ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب المُلك والرئاسة(2).

ويكتب هذا الكاتب في موضع آخر من كتابه أيضاً: سألت علي بن الفارقيّ مدرّس المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلت:

فِلمَ لمْ يدفعْ إليها أبوبكر فدكاً وهي عنده صادقة؟ فتبسّم، ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحُرمته وقلّة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدكاً بمجرّد دعواها لجاءت إليه غداً، وادّعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء، لأنّه يكون قد سجّل على نفسه على أنّها صادقة فيما تدّعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ولا شهود. وهذا كلام صحيح، وإن كان

ص:485


1- . السيرة الحلبية: 391/3.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 236/16-237.

أخرجه مخرج الدُّعابة والهزل(1).

لقد بدأ منع بني الزهراء من فدك في عهد الخليفة الأوّل، وبعد أن قضى علي عليه السلام وتسلّم معاوية زمام الأمر، وزّع فدكاً بين ثلاثة هم: (مروان بن الحكم، وعمرو بن عثمان، وابنه يزيد).

ولمّا ولي الأمر «مروان» سيطر على فدك بصورة كاملة، ووهبها لابنه عبدالعزيز، وأعطاها عبدالعزيز لولده «عمر بن عبدالعزيز»(2).

وحيث إنّه كان حاكماً معتدل السيرة بين خلفاء بني أُمّية لهذا فإنّ أوّل بدعة أزاحها كان هو اعادة فدك إلى بني فاطمة، ثم انتزعها الخلفاء الذين توالوا بعده من أيدي بني هاشم، وكانت بأيديهم حتّى يوم انقرضت فيه حكومة الأُمويّين.

وقد اضطرب أمر فدك اضطراباً عجيباً أيام الخلافة العباسية، فلمّا ولي أبو العباس السفّاح ردّها على عبداللّه بن الحسن بن الحسن، ثم قبضها أبوجعفر من بني الحسن، ثم ردّها محمَّد المهدي ابنه، على وُلد فاطمة عليها السلام، ثم قبضها موسى الهادي بن المهدي وهارون أخوه، لأسباب سياسية خاصّة، حتّى وصل الدور إلى المأمون فردّها على الفاطميّين أصحابها الشرعيّين ضمن تشريفات خاصّة وبصورة رسمية.

ثم اضطرب أمر فدك من بعده أيضاً فربما سُلِبَت من أصحابها وربما رُدَّت إليهم. وهكذا تراوحت بين السلب والرد.

ولقد استغِلّت فدك في عهد الأُمويّين والعباسيّين في أغراض سياسية بحتة قبل أن تستغَلّ في أغراض اقتصادية.

ص:486


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 284/16.
2- . لاحظ: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 278/16.

فلقد كان الخلفاء في صدر الإسلام يحتاجون إلى عائدات فدك المالية، مضافاً إلى أنّهم انتزعوها من يد عليّ لغرض سياسي، ولكن في العصور المتأخّرة عن ذلك كثرت ثروة الخلفاء وزادت زيادة هائلة بحيث لم يكونوا بحاجة إلى عائدات فدك، ولهذا فإنّ عمر بن عبدالعزيز لمّا أعاد فدكاً إلى بني فاطمة احتجّ عليه بنو أُميّة واعترضوا قائلين: هجَّنت فعل الشيخين،... فإن أبيت إلّاهذا فأمسك الأصل وأقسم الغلَّة(1).

فدك في محكمة التاريخ

إنّ دراسة وتقييم ملَفّ «فدك» تثبت بوضوح أنّ منع ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من حقّها المشروع كان عملاً سياسياً بحتاً، أي أنّه ما كان يستند إلى أي مبرر شرعي مطلقاً، وإنّ المسألة كانت أوضح من أن تخفى على خليفة العصر.

وقد أوضحت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام هذه الحقيقة في خطابها الساخن البليغ إذ قالت:

هذا كتابُ اللّه حكماً عَدلاً وناطقاً فصلاً يقول: «يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» (2)، «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» (3) وبيّن عزّوجلّ في ما وزّع من الأقساط وشرع من الفرائض والميراث»(4).

إنّ البحث حول دلالة الآيتين على وراثة أبناء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عنه، والحديث الّذي رواه الخليفة وحده يوجب إطالة الكلام، وفي إمكان من يحبّ التوسّع أن

ص:487


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 278/16.
2- . مريم: 6.
3- . النمل: 16.
4- . الاحتجاج للطبرسي: 144/1.

يراجع كتب التفسير المفصّلة.

السيطرة على وادي القُرى

إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يضع نهاية لنشاط القوى المضادّة للإسلام في هذه المنطقة (خيبر) فقط، بل رأى أن يتوجّه إلى وادي القرى الّذي كان يشكّل مركزاً آخر من مراكز اليهود. فحاصر بنفسه حصونهم عدّة أيام، حتّى فتحها، ثم عقد بعد الفتح معاهدة مع أهلها على غرار معاهدة «خيبر».

وبهذا طهرت أرضُ الحجاز من فتنة اليهود الأوغاد، وقد جُرِّدوا من أسلحتهم ووضعوا تحت حماية المسلمين ومراقبتهم الدقيقة(1).

ص:488


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 150/2.

47 عمرة القضاء

اشارة

47 عمرة القضاء(1)

كان يحقّ للمسلمين بعد التوقيع على معاهدة صلح الحديبية أن يدخلوا بعد عام واحد من تاريخ يوم التوقيع، مكّة، ثم يغادروها بعد ثلاثة أيام يقيمون فيها شعائر العمرة، وكان عليهم بموجب الاتّفاق أن لا يحملوا معهم إلّاسلاح الراكب:

السيف في القرب، ليس غير.

والآن مضى عام واحد على يوم التوقيع على المعاهدة المذكورة، وآن الأوان ليستفيد المسلمون من هذه المادة في تلك الاتّفاقية، وأن يتوجّه المسلمون المهاجرون الذين مضى عليهم سبعة أعوام ابتعدوا فيها عن بيوتهم ووطنهم ومسقط رؤوسهم، ورجّحوا الحياة في الغربة، وتحمل متاعبها على العيش في الوطن للمحافظة على عقيدة التوحيد.

ص:489


1- . العمرة أعمال خاصّة ومناسك معيّنة يمكن للمرء الإتيان بها طوال أشهر السنة على العكس من أعمال الحج الّتي يجب أداؤها فقط في شهر ذي الحجّة، وقد توجّه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة في يوم الاثنين السادس من شهر ذي القعدة من السنة الهجرية السابعة. وسمّيت هذه العمرة عمرة القضاء لأنّها كانت بدلاً عن العمرة الّتي منع النبيّ والمسلمون عنها في عام الحديبية.

يتوجّه مثل هؤلاء مرّة أُخرى إلى زيارة بيت اللّه الحرام ولقاء الأحباب والأقرباء وتفقّد المنازل والبيوت الّتي ولدوا فيها وترعرعوا في رحابها.

ولهذا عندما أعلن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يستعد من حُرمَ من العمرة في العام الماضي للعمرة، دبّ شوق عجيب في نفوس المسلمين، واغرورقت عيونهم بدموع الفرح، فخرج مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ألفا شخص بدل ألف وثلاثمائة وهم عدد الذين خرجوا معه في السنة الماضية.

وكان بين الخارجين مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جمع كبير من شخصيات المهاجرين والأنصار البارزة الذين كانوا يلازمون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم طول سيره ملازمة الظل لصاحب الظل.

وساق رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه العمرة ستين بدنة وقد قلّدها(1)، وأحرم من مسجد المدينة واتبعه الآخرون، وخرج ألفان وهم يلبّون مرتدين أثواب الاحرام يقصدون مكّة.

ولقد كان هذا الموكب العظيم من الجلال والمغزى المعنوي بحيث لفت نظر الكثير من المشركين إلى حقيقة الإسلام ومعنويته الرائعة.

ولو قلنا: إنّ هذا السفر كان - في حقيقته - سفراً تبليغياً، وإنّ المشتركين فيه كانوا - في حقيقة الأمر - طلائع التبليغ والدعوة لما قلنا جزافاً، فان آثار هذا السفر المعنوي ظهرت للتو، فقد انبهر بمنظر سلوكهم وعبادتهم ونظامهم ألدُّ أعداء الإسلام أمثال «خالد بن الوليد» بطل معركة أُحد وعمرو بن العاص داهية العرب فرغبوا في الإسلام، وأسلموا بعد قليل.

ص:490


1- . البَدنة الناقة تنحر بمكة والجمع بُدْن، وتقليد البدنة أن يجعل في عنقها نعلاً فيُعلَم أنّها هديٌ.

وحيث إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن آمناً من غدر قريش فقد كان يحتمل أن يباغتوه ويباغتوا أصحابه في أرض مكّة، ويسفكوا دماء جماعة منهم وهم لا يحملون معهم إلّاسلاح الراكب، إذ لم يكن مسموحاً للمسلمين - حسب المعاهدة - أن يأخذوا معهم سلاحاً غير ذلك.

من هنا عمد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تحسّباً لأي طارئ إلى تكليف مائتي رجل من المسلمين بالتسلّح الكامل، وأمّر عليهم «محمَّد بن مسلمة» وحملهم على مائة فرس سريع، وأمرهم بالتوجّه صوب مكّة أمام القافلة الكبرى، والاستقرار في منطقة «مرّ الظهران» قرب الحرم، ينتظرون ورود رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومَن معه.

فعرف عيون قريش الذين كانوا يراقبون تحرّكات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقضية الفرسان المسلّحين المائتين، واستقرارهم في وادي «مرّ الظهران»، وأخبروا سادة قريش بالأمر.

فبعثت قريش «مكرز بن حفص» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليكلّموه في هذا الإجراء فأتى مكرز إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وسلّمه اعتراض قريش قائلاً: يا محمد واللّه ما عرفت صغيراً ولا كبيراً بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم على قومك وقد شرطت ألّا تدخل إلّابسلاح المسافر السيوف في القرب.

فأجابه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا نَدْخلُها إلّاكذلك».

وقد أفهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكرزاً بهذه العبارة بأنّ قريش لو استغلّت عدم حمل النبي وأصحابه للسلاح الثقيل فباغتتهم أدركتهم هذه القوة الاحتياطية المسلّحةُ القوية المستقرّة على مقربة من الحرم، ومدّوهم بالسلاح والعتاد.

ص:491

فعاد «مكرز» وأخبر قريشاً بما سمع من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأدركت قريش حنكة رسول الإسلام وبُعد نظره، وحسن تقديره للأُمور، ففتحت أبواب مكّة في وجه المسلمين، وخرج رؤوس المشركين وأهلوهم ومن تبعهم إلى رؤوس الجبال، وخلّوا مكّة، وقالوا: لا ننظر إلى محمَّد ولا إلى أصحابه، ولكنّهم كانوا يراقبون المشهد من بعيد!!(1).

النبي يدخل مكّة

دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو على راحلته القصواء وأصحابه متوشّحو السيوف محدقون به يلبّون وهم ألفان، فدوّى صوتهم الموحَّد بالتلبية في أرجاء مكّة، وكانت نغمة هذه التلبية الكبرى من الجلال والجمال بحيث بهرت كلّ سكّان مكّة، وسحرت قلوبهم وعطفها نحو المسلمين، وفي نفس الوقت أرعب اتّحاد المسلمين، ونظامهم، والتفافهم حول النبي قلوب المشركين، ولم يقطع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تلبيته حتّى استلم الركن.

فلمّا انتهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى البيت وهو على راحلته وابن رواحة آخذ بزمامها وقد صف له المسلمون حين دنا من الركن حتّى انتهى إليه استلم الركن بمحجنه...(2) أنشد عبداللّه بن رواحة يقول:

خَلُّوا بَني الكفّار عَن سبِيله إنّي شهدتُ أنّه رسولُه

حقّاً وكلُ الخير في سبيله نحن قتلناكم على تأويله

كما ضَربناكم على تنزيله ضرباً يُزيل الهام عن مقيله

ص:492


1- . لاحظ: المغازي: 734/2؛ إمتاع الأسماع: 331/1.
2- . المحجن: عصا معقفة الرأس كالصولجان. النهاية لابن الأثير: 347/1، مادة «حجن».

ويذهلُ الخليل عن خليله(1)

وطاف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالبيت المعظم على راحلته، وهنا أمر صلى الله عليه و آله و سلم ابن رواحة ان يردّد هذا الدعاء بلحن ونغم خاص؛ وأن يتبعه المسلمون:

«لا إله إلّااللّه وحدَه وَحدَه، صدَق وعدَه، ونصرَ عبدَه، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده».

كانت مكّة بجميع مشاعرها في ذلك اليوم تحت تصرّف المسلمين، المسجد، الكعبة، الصفا، المروة، وغيرها. وقد كانت هذه الشعارات التوحيدية الساخنة في مكان كان طوال سنين مديدة مركزاً للوثنية، والشرك توجّه ضربات روحية قوية إلى نفسيّة سادة المشركين، وأتباعهم، ممّا كان يُوحي بغلبة «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم على كلّ أرجاء الجزيرة العربية حتماً ويقيناً.

ولمّا قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نُسكه دخل البيت فلم يزل فيه حتّى حان الظهر، فصعد بلال الّذي طالما عُذِّب في هذا البلد بسبب إسلامه فوق ظهر الكعبة بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأذّن لصلاة الظهر.

ولقد كان لهذا المنظر مردود عجيب في نفوس المشركين، فبلال واقفٌ في نقطة طالما عُدّت فيها الشهادة بالتوحيد وبرسالة محمَّد، ذنباً لا يُغتفر، وجريمة لا ينجو صاحبها من العذاب، يردّد ويردّد معه المسلمون ما يردّد من فصول الأذان فصلاً فصلاً في خشوع وروحانية بالغة.

لقد أزعج أذان بلال المشركين وأعداء التوحيد، حتى قال «صفوان بن أُميّة»:

الحمدُ للّه الّذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا، وقال خالد بن أُسيد: الحمدُ للّه الّذي

ص:493


1- . المغازي: 736/2؛ زاد المعاد: 152/2.

أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم، حين يقوم بلال ابن أُم بلال ينهق فوق الكعبة!!

وأمّا «سهيل بن عمرو» ورجال معه فحين سمعوا ذلك غطّوا وجوههم.(1)

إنّهم لم ينزعجوا من صوت «بلال» بل أحرجتهم مضامين فصول الأذان الّتي كانت ضدَّ ما يحملونه من المعتقدات الباطلة الموروثة، وجعلتهم يعانون بسبب ذلك من عذاب روحي شديد.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين أراد السعي بين الصفا والمروة سمع بأنّ قريشاً تحدّثت بينها أنّ محمَّداً وأصحابه في عسرة وجهد وشدّة، وأنّ الذين هاجروا معه إلى المدينة مرضى، وأنّهم صفّوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فهرول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هرولة في المكان المعلّم الآن في المسعى، وتبعه المسلمون وقد قال لهم قبل ذلك: «رحم اللّه امرَأً أراهم اليوم من نفسه قوّة»(2).

وذلك ليبطل ما أشاعته قريش حول المسلمين المهاجرين من الضعف والهزال بسبب ظروف المهجر. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أمرين:

أوّلاً: جواز القيام بالأعمال السياسية في موسم الحج.

ثانياً: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان حذراً جدّاً فكان يبطل كلّ خطط العدو أوّلاً بأوّل.

يقول صاحب زاد المعاد: أمر النبيّ بذلك ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، وكان يكايدهم (أي يبطل كيدهم) بكلّ ما استطاع(3).

ص:494


1- . المغازي: 738/2؛ إمتاع الأسماع: 333/1؛ السيرة الحلبية: 784/2.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 309/2؛ زاد المعاد: 152/2.
3- . زاد المعاد: 152/2. ولنا رسالة في هذا المجال تحت عنوان: «الحجّ: موسم عبادي وملتقى

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن فرغ من السعي نحر البدن، ثم قصّر من شعره، ثم خرج من إحرامه، وتبعه المسلمون في كلّ ما فعل.

ثم أمر صلى الله عليه و آله و سلم مائتين من أصحابه بعد أن طافوا بالبيت وانتهوا من مناسك العمرة أن يذهبوا إلى أصحابه بمرّ الظهران فيقيموا على السلاح فيأتي الآخرون فيقضوا مناسكهم، ففعلوا.

انتهت أعمال العمرة ونسكها، وذهب المهاجرون إلى منازلهم الّتي هجروها قبل سبعة أعوام، ليجدّدوا اللقاء بذويهم وأقربائهم بعد طول فراق، واستضافوا جماعة من الأنصار في بيوتهم وفاء لجميلهم وتقديراً لخدماتهم حين قدموا عليهم المدينة بعد الهجرة، فأسكنوهم وأكرموهم في منازلهم وخدموهم سنيناً عديدة.

النبي صلى الله عليه و آله و سلم يغادر مكّة

تركت أحوالُ المسلمين وأوضاع الإسلام وجلال الموكب النبوي وعظمته أثراً بليغاً وعجيباً في نفوس سكان مكّة المشركين، فقد تعرّفوا على نفسية المسلمين النبيلة الطيبة في هذه الزيارة أكثر من أي وقت مضى، وكاد ذلك أن «يفعل» فعلته، ويحدث انقلاباً روحياً في تلك البيئة.

ولمّا رأى زعماء المشركين أن توقّف النبي وأصحابه في مكّة سيؤثر في عقائد أهل مكّة ويضعف تمسّكهم بوثنيّتهم، ويوجد علاقات المحبّة بينهم وبين المسلمين، لهذا بعثوا أحدهم وهو حويطب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - بعد انقضاء

ص:495

المدّة المقرّرة للإقامة في مكّة في المعاهدة - ليطْلب منه مغادرة مكّة قائلاً: إنّه قد انقضى أجلك فاخرج عنا.

فانزعج بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم من مقالة مبعوث قريش هذا، ولكنّ النبي لم يكن بالذي يخالف ما تعهّد به، ولهذا أمر بأن ينادى في المسلمين بالرحيل، فترك هو والمسلمون مكّة فوراً.

ولقد تأثرت «ميمونة» أُختُ أُمّ الفضل زوجة العباس، بما شهدت من مشاعر المسلمين وروحانيتهم فأرسلت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق عمّه العباس أنّها ترغب في الزواج برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فوافق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(1) وتزوّجها، وبهذا قوّى علاقاته مع قريش.

إنّ رغبة فتاة في الزواج بمَن يكبرها بسنين عديدة لدليلٌ واضح على مدى التأثير الروحي والمعنوي الّذي تركه النبي والمسلمون في النفوس حتّى أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لمّا طلب من مبعوث قريش بأن يمهلوه بعض الوقت ليعرس بين أظهرهم، ويصنع لهم طعاماً يحضروه، أبوا إمهاله خوفاً من تعاظم تأثيره في النفوس، وقالوا له: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنّا(2).

فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يخرج المسلمون من مكّة في منتصف النهار ولم يبق بمكّة إلى وقت الظهر، وخلّف أبا رافع ليحمل إليه زوجته «ميمونة» حين يمسي، فأقام أبو رافع حتّى أمسى، فخرج بميمونة ومن معها فلقوا عناء من سفهاء المشركين، ولاموا «ميمونة» على فعلها، ولكن كلامهم لم يؤثر قط في نفسها، فقد رغبت في الزواج برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بدافع الرغبة في خلقِه وسموّ أخلاقه.

ص:496


1- . حياة محمد: 401.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 829/3؛ تاريخ الخميس: 62/2-65.

وهكذا تحقّقت رؤيا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الصادقة الّتي رآها قبل سنة واحدة بأنّه دخل البيت، وحلق رأسه، ونزلت بعد هذه الوقائع الآية 27 من سورة الفتح تتحدّث عن تحقّق هذا الوعد حيث أخبرت ضمناً عن فتح قريب، - هو فتح مكّة - الّذي تحقّق في السنة الثامنة من الهجرة إذ يقول سبحانه:

«لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» .(1)

ص:497


1- . الفتح: 27.

احداث السنة الثامنة من الهجرة

48 معركة مؤتة

اشارة

انقضت السنة الهجرية السابعة، واستطاع المسلمون بفضل معاهدة صلح الحديبية أن يزوروا معاً بيت اللّه المعظم ويعتمروا في أمان، ويردّدوا في مركز حكومة الوثنيّين شعارات قوية لصالح عقيدتهم التوحيدية إلى درجة أنّهم استطاعوا أن يستميلوا نحو الإسلام قلوب جماعة من سراة قريش وزعماء المشركين أمثال: «خالد بن الوليد»، «وعمرو بن العاص»(1) و «عثمان بن طلحة»، فلم يلبثوا أن جاءُوا طائعين راغبين إلى المدينة، واعتنقوا الإسلام وقطعوا علاقاتهم بحكومة مكّة الوثنية المشركة الّتي لم يبق منها إلّاجسم من دون روح، وهيكل من دون حياة(2).

وذكر بعض المؤرّخين إسلام خالد أو ابن العاص في السنة الخامسة من الهجرة.(3)

ص:498


1- . لقد ذكر الواقدي في مغازيه: 743/2 علّة إسلام عمرو بصورة أُخرى.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى لابن سعد: 252/4-261.
3- . لاحظ: الإصابة: 215/2 برقم 2206؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 67/12.

ولكن هذا غير صحيح قطعاً لأنّ «خالداً» كان يقود في الحديبية مائتين من فرسان قريش، ونحن نعلم أنّ إسلام هذين الرجلين تمّ في وقت واحد.

كان ثمةُ أمنٍ نسبيٍّ يسود أكثر مناطق الحجاز في أوائل السنة الثامنة، وكان نداء الإسلام قد وصل إلى أكثر النقاط ولم يبق من نفوذ اليهود شيء، ولم تعد قريشٌ تهدّد المسلمين من ناحية الجنوب، ولهذا فكّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أن يركّز دعوته على سُكان المناطق الحدودية للشام، ويستميل إلى الإسلام قلوب أُولئك الأقوام الّتي كانت في تلك الأيام تعاني من ظلم السلطات الروميّة.

ولهذا الغرض وجّه «حارث بن عمير الأزدي» مع كتاب إلى «الحارث بن أبي شمر الغسّاني» ملك «بُصرى» الّذي كان حاكم الشامات المطلق يومذاك، وكان يحكم من جانب قيصر.

فلمّا نزل مبعوث النبي مؤتة، عرف به شرحبيل وكان حاكم المناطق الحدودية، فقبض عليه، وحقّق معه، فاعترف له بأنّه يحمل كتاباً من جانب رسول الإسلام إلى حاكم الشامات المطلق (الحارث الغسّاني)، فأمر بأن يُوثق وقدّمه وضرب عنقه صبراً مخالفاً بذلك كلّ الأعراف العالمية القاضية باحترام السفراء وحصانتهم.

فعرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك وغضب لمقتل رسوله بشدّة وندب الناس فأخبرهم بمقتل سفيره ومن قتله، ودعا المقاتلين المسلمين إلى الخروج للاقتصاص من قاتل «الحارث».(1)

ص:499


1- . لاحظ: المغازي: 755/2-756.

حادثة أفجع من السابقة

واتّفق أن وقعت في نفس الأيام حادثة أُخرى أفجع من الأُولى، أكّدت عزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على تأديب سكان المناطق الحدودية الشامية الذين سلبوا دعاة الإسلام حرية العمل والدعوة، وقتلوا دون رحمة، وغدراً سفير النبي، و جماعة الدعوة والتبليغ، وإليك مفصّل الحادثة الثانية:

بعث رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كعب بن عمير الغفاري في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان من الهجرة في خمسة عشر رجلاً إلى منطقة «ذات أطلاح» من أرض الشام، خلف وادي القرى لدعوة الناس إلى الإسلام، فخرجوا حتّى انتهوا إلى تلك المنطقة فوجدوا جمعاً من جمعهم كثيراً فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبل، فلمّا رأى أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم ذلك قاتلوهم أشدّ القتال، حتّى قتلوا (مؤثرين عزّ الشهادة على ذلّ الأسر) وأفلت منهم رجلٌ جريح في القتلى، فلمّا جنّ عليه الليل تحامل حتّى أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره الخبر، فشقّ ذلك على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

فتسبّب العدوانُ على دعاة الإسلام وقتلهم في أن يصدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمراً بالخروج إلى الجهاد في شهر جمادى، ووجّه جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل لتأديب المتمرّدين، و مزاحمي دعاة الإسلام.

فتجمع ثلاثة آلاف بعد الأذان بالجهاد في معسكر خارج المدينة يُدعى «الجرف» فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه إلى ذلك المعسكر، وخطب في المقاتلين خطاباً، هذا نصّه:

ص:500


1- . المغازي: 752/2-753.

«اغزوا بسم اللّه فقاتلوا عدوّ اللّه وعدوّكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين الناس، فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلُنَّ امرأة، ولا صغيراً ولا مرضعاً، ولا كبيراً فانياً، لا تغرقنَّ نخلاً، ولا تقطعنَّ شجراً، ولا تهدموا بيتاً»(1).

ثم قال: جعفر بن أبي طالب أميرُ الناس، فإن قُتِلَ فزيدُ بن حارثة، فإن أُصيب زيد فعبداللّه بن رواحة، فإن أُصيب عبداللّه بن رواحة فليرتضي المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم.

ثم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المقاتلين بالتحرّك نحو الهدف، وخرج فشيّعهم مع جماعة من اصحابه حتّى «ثنية الوداع» وهناك ودّعهم وكان المسلمون المشيّعون يقولون: دفع اللّه عنكم وردكم صالحين غانمين.

فأجابهم عبد اللّه بن رواحة قائلاً:

لكنّني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حرّان مجهزة بحربة تنفذُ الأحشاء والكبدا

حتّى يقال إذا مرّوا على جدثي أرشده اللّه من غاز وقد رشدا(2)

وأنت أيّها القارئ الكريم يمكنك أن تعرف من خلال هذه الأبيات عمق إيمان هذا الفارس القائد وحبه للشهادة في سبيل اللّه.

ثم إنّ الناس رأوا عبداللّه بن رواحة لمّا ودّع مَن ودّع بكى، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: أما واللّه مابي حبُّ الدنيا، ولا صبابةٌ بكم، ولكنّي سمعت

ص:501


1- . المغازي: 2/758.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 830/3؛ الطبقات الكبرى: 128/2.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقرأ آية من كتاب اللّه عزّوجلّ يذكر فيها النار:

«وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» .(1)

فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود(2).

خلافٌ حول مَن هو الأمير الأوّل؟

لقد كتب بعض المؤرّخين: إنّ الأمير الأوّل كان هو زيد بن حارثة ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالتبنّي، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبداللّه بن رواحة، ولكن محقّقي الشيعة يرون عكس هذا فهم يعتبرون جعفر بن أبي طالب قائد الجيش وزيداً وعبداللّه معاونين أو خليفتين له على الترتيب، فيجب أن نرى أي الرأي يوافق الحقيقة.

لتحصيل الحقيقة في هذا المجال هناك طريقان:

1. أنّ زيد بن حارثة لم يكن يعادل من ناحية التقوى والعلم والمكانة الاجتماعية جعفر بن أبي طالب (جعفر الطيّار).

يقول ابن الأثير عنه: جعفر بن أبي طالب كان أشبه الناس برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خَلقاً وخُلقاً، أسلم بعد إسلام أخيه عليّ بقليل. روي أنّ أبا طالب رأى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعليّاً رضى الله عنه يصلّيان وعليٌّ عن يمينه، فقال لجعفر: صِلْ جناح ابن عمك وصلِّ عن يساره(3).

وجعفر رأس المهاجرين إلى الحبشة الذين هاجروا اليها حفاظاً على دينهم وعقيدتهم من الفتنة، وهو الّذي استمال قلب النجاشي بما تكلّم به عنده من الحجّة،

ص:502


1- . مريم: 71.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 830/3.
3- . أُسد الغابة: 287/1.

وقرأ عليه آيات من القرآن عن المسيح عليه السلام وأُمه مريم، وأثبت كذب مبعوثي قريش لاستعادتهم إلى أرض الحجاز، و هو الّذي وُفّقَ لأن يخطب ودَّ النجاشي ويكسب حمايته للمهاجرين الملاحقين إلى درجة أنّه طرد مندوبي قريش(1).

إنّ جعفراً هو الشخصية البارزة الّتي لمّا رآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم خيبر وقد عاد من الحبشة مشى إليه (12) خطوة وعانقه وضمّه وقبّل مابين عينيه وبكى من فرط الشوق إليه وقال في حقّه:

«ما أدري بأيّ الأمرين أنا أسرّ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر».(2)

إنّه هو ذلك الرجل العظيم الّذي كان يذكره عليٌّ عليه السلام بعد استشهاده ويثني على شجاعته وبسالته، فعندما سمع عليّ عليه السلام بمبايعة عمرو بن العاص لمعاوية، وتقرّر أن يوكل معاوية حكومة مصر إلى عمرو إذا غلبا عليّاً، غضب عليّ عليه السلام من هذا الأمر وتذكر شجاعة عمّه حمزة وأخيه جعفر وقال:

لو أنّ عندي يابن حرب جعفرا أو حمزة القرم الهمام الأزهرا

رأت قريشٌ نجمَ ليل ظُهُرا(3)

فهل مع هذه المواصفات والجهات الّتي نقلنا قسماً منها هنا فقط يجيز العقل أن يفوّض رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قيادة القوات إلى زيد ويجعل جعفر معاونه أو خليفته الأوّل.

2. أنّ الأشعار الّتي أنشدها شعراء الإسلام الأفذاذ في رثاء هؤلاء القادة بعد استشهادهم حاكية عن أنّ القائد الأعلى في هذه المعركة الكبرى (مؤتة) كان

ص:503


1- . لاحظ: أُسد الغابة: 286/1، ترجمة جعفر بن أبي طالب، وغيره من المصادر في هذا المجال.
2- . المعارف لابن قتيبة الدينوري: 205؛ أُسد الغابة: 287/1؛ بحار الأنوار: 294/38.
3- . وقعة صفين: 44.

«جعفر» وكان أمر المعاونة والخلافة يرتبط بالرجلين الآخرين، فهذا «حسّان» شاعر عصر الرسالة أنشد شعراً بعد أن بلغهُ استشهاد أُولئك القادة بصورته المفجعة قال فيه:

فلا يبعدنَ اللّه قتلى تتابعوا بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيدٌ وعبداللّه حين تتابعوا جميعاً وأسباب المنية تخطر(1)

فكلمة تتابعوا تشهد بجلاء على أنّ مقتل هؤلاء القادة الذين ذكرهم تمّ على النحو الّذي جاء ذكرهم، يعني أنّ جعفراً كان أوّل الشهداء ثم تلاه في قيادة الجيش الإسلامي ثم الشهادة زيدٌ، ثم ابن رواحة.

وإنّ أوضح الأدلّة على ذلك قصيدة «كعب بن مالك» في رثاء شهداء مؤتة، التي يصرّح فيها بأنّ جعفراً كان هو القائد الأوّل، وقد كان صاحب هذه الأبيات ممّن شاهد تفويض أمر القيادة العليا للجيش من جانب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى جعفر.

يقول كعب في قصيدته:

إذ يهتدون بجعفر ولوائه قُدّام أوّلهم فنعم الأوّلُ (2)

إنّ هذه القصائد الرثائية الّتي أُنشدت في أعقاب استشهاد أُولئك القادة، وسلمت من يد التحريف، أقوى شاهد على أنّ ما كتبه مؤرّخو السنّة حول هذا المطلب يخالف الحقيقة، وأنّ الرواة اختلقوا هذا الترتيب لدوافع وأغراض سياسية لا مجال لذكرها، وبيانها هنا، وقد تبعهم في ذلك كُتّاب السيرة وأدرجوه في كتبهم من دون تمحيص وتحقيق.

ص:504


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 837/3.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 838/3.

والعجب أنّ ابن هشام الّذي نقل كلّ هذه الأبيات والقصائد قال: إن جعفراً كان المعاون الأوّل لزيد بن حارثة، وليس القائد الأعلى للجيش(1)، وهو كماترى تناقض مكشوف!!

جيشا الإسلام والروم يتواجهان

كانت «الروم» قد أُصيبت يومذاك - نتيجة الحروب العديدة والطويلة مع منافستها إيران - بالفوضى، والهرج والمرج الشديدين.

فمع أنّ قادة الروم كانوا سكارى من نشوة الانتصار على ايران إلّاأنّهم قد بلغهم شيء كثير عن شجاعة المسلمين وبسالتهم النابعة من إيمانهم والّتي كسبوا عن طريقها أمجاداً عظيمة، وكانوا يراقبون على الدوام تحرّك جنود الإسلام ونشاطاتهم العسكرية.

ولهذا لمّا بلغ هرقل قيصر الروم بموعد توجّه جنود الإسلام إلى ناحية الشام لتأديب عميله شرحبيل الغسّاني، أرسل جيشاً عظيماً وقوياً لمواجهة جنود الإسلام البالغ عددُهم ثلاثة آلاف.

وقد أعدّ «شرحبيل» حاكم أرض الشام وحده مائة ألف فارس من مختلف القبائل القاطنة في الأراضي الشامية ووجهه إلى حدود الشام لإيقاف تقدّم الجيش الإسلامي، وقد أعدّ قيصر قبل ذلك مائة ألف جندي رومي فنزل في منطقة تدعى «مآب» من مدن البلقاء، واستقرّ هناك كقوة احتياطيّة تتدخّل عند اللزوم(2).

ولقد كان تجميع هذا القدر الهائل من الجنود والمقاتلين لمواجهة جيش

ص:505


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 829/3.
2- . لاحظ: المغازي: 760/2، السيرة النبوية لابن هشام: 831/3.

يقلّ عدداً بكثير عن هذا القدر نابعاً من الأنباء الّتي بلغت قادة الروم والشام عن فتوحات المسلمين وانتصاراتهم الساحقة وعن الوقوف على شجاعتهم وبسالتهم الّتي ذاع صيتُها، وإلّا فإنّ عشر هذا العدد، (أي عشرون ألف) يكفي لمواجهة ثلاثة آلاف مقاتل مهما كانت شجاعة هؤلاء.

كما أنّه عند المقارنة بين العسكرين كان الجيش الإسلامي أضعف من جيش الروم بكثير، سواء من ناحية العتاد، أو من ناحية المعرفة بفنون القتال وتكتيكاته العسكرية، لأنّ القادة العسكريّين الروم كانوا قد كسبوا خبرة حربية واسعة نتيجة المشاركة في الحروب العديدة والطويلة الّتي دارت بين الروم وبين إيران، وعرفوا بالتالي مفاتيح الانتصار، بينما كانت معلومات الجيش الإسلامي الناشئ معلومات بدائية وبسيطة في هذا المجال.

هذا مضافاً إلى عدم وجود التكافؤ بين الجيش الإسلامي والجيش الروماني في نوعية المعدّات الحربية والأجهزة القتالية ووسائل النقل وماشابه ذلك.

وفوق هذا وذاك فإنّ القوّة الإسلامية كانت تحارب في أرض غريبة عليها، وتقوم بدور المهاجم، بينما كان الرومان يقاتلون في بلادهم دفاعاً وهم يتمتعون بجميع مستلزمات القتال ومتطلّبات الحرب.

وفي مثل هذه الحالة يجب أن تكون القوة المهاجمة قوية جداً، بحيث يمكنها تلافي سلبيات الظروف غير المساعدة.

ومع هذا فإنّنا سنرى عمّا قريب كيف أنّ قادة الجيش الإسلامي قاوموا وآثروا الصمود والقتال على الهروب والفرار مع أنّهم كانوا يرون الموت على بعد أقدام معدودة منهم، وبهذا أضافوا إلى أمجادهم أمجاداً أُخرى، وسطّروا أسطراً أُخرى في سجّل بطولاتهم.

ص:506

منذ أن ورد المسلمون المناطق الحدودية للشام عرفوا باستعدادات العدوّ العريضة، وحجم قدراته العسكرية الواسع فشكّلوا من فورهم شورى عسكرية فقال البعض: نكتب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فنخبره الخبر، فإمّا يردّنا وإمّا يزيدنا رجالاً. فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم ابن رواحة فشجّعهم ثم قال: «واللّه ما كنّا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول، إلّابهذا الدين الّذي أكرمنا اللّه به، انطلقوا، واللّه لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلّافرَسانُ، ويوم أُحد فرسٌ واحد، وإنّما هي إحدى الحسنيين: إما ظهورٌعليهم، فذلك ما وعدنا اللّه ووعدنا نبينا، وليس لوعده خُلف؛ وإمّا الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان».(1)

فقوّت هذه الخطبة الحماسية الصادقة معنويات المقاتلين المسلمين وبثّت فيهم روح البسالة والمقاومة.

ثم تواجه الجيشان في منطقة تُدعى «مشارف» ولكن جنود الإسلام تأخّروا وانسحبوا قليلاً لبعض العلل، ونزلوا في مؤتة. فقسّم جعفر بن أبي طالب قائد الجيش، جنود الإسلام إلى أقسام: مختلفة، وأمَّرَ على كلّ قسم أميراً، ثم بدأت المبارزة الفردية على نحو ما كان متعارفاً في حروب العرب، فكان على جعفر أن يأخذ اللواء بيده ويوجّه صفوف المقاتلين المسلمين، ويقاتل في نفس الوقت.

ثم إنّنا نكتشف مدى الشجاعة الروحية وثبات الإرادة لتحقيق الهدف من خلال الرجز الّذي أنشده «جعفر» خلال القتال فقد أخذ يرتجز ويقول:

يا حبّذا الجنة واقترابُها طيبة وبارداً شرابُها

ص:507


1- . المغازي: 760/2.

والروم رومٌ دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابُها

عليَّ إذ لاقيتُها ضِرابُها(1)

ولقد قاتل قائد الجيش الأعلى (جعفر) قتالاً عظيماً، فلمّا حاصره الأعداء في ساحة القتال وأيقن بالشهادة وثب إلى الأرض ثمّ عقر فرسه في الحال لكي لا ينتفع به العدوُّ وأخذ يقاتل، وهو آخذ باللواء بيمينه، فقطعت يمينهُ فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضُديه حتّى لا يسقط لواء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على الأَرض حتّى قتل وقد وُجِدَ به ثمانون جراحة أو تزيد!!(2).

فلمّا قتِل «جعفر» أخذ الراية «زيدُ بن حارثة» معاونه الأوّل فقاتل ببسالة عظيمة حتّى قتل برماح القوم.

فأخذ الراية «عبداللّه بن رواحة» معاونه الثاني، ثم تقدّم بها وهو على فرسه، فجعل يقاتل ويرتجز، فأحسّ بالجوع أثناء القتال، وألحّ عليه، فأتاه رجل بعرق من لحم ليزيل به جوعه ويشدُّ به صُلبَه، فلم يأكل منه شيئاً حتّى سمع صوت هجوم العدوّ، فألقى الطعام من يده، ثم أخذ سيفه فتقدّم فقاتل حتّى قُتِل.

حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة

وهنا بدأت حيرة المقاتلين المسلمين، فقد قُتِلَ القائد الأعلى للجيش ومعاوناه وعلى الترتيب الّذي ذكر.

ولكن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان قد تحسّب لهذه الحالة، وترك أمر اختيار القائد في

ص:508


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 833/3.
2- . لاحظ: المغازي: 761/2-762، وقد أثابه اللّه بذلك جناحين في الجنّة يطير بهما، وسُمّي في ما بعد بجعفر الطيار، راجع السيرة النبوية لابن هشام: 833/3.

مثل هذا الوضع إلى الجنود أنفسهم، فأخذ الراية «ثابت بن أرقم أخو بني العجلان» وقال: يامعشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطُلِحَ على «خالد بن الوليد»(1) الّذي كان حديث عهد بالإسلام آنذاك.

ولقد كانت الساعة الّتي أُنيط فيها القيادة إلى خالد ساعة خطيرة وحسّاسة جدّاً، حيث قد تغلّب الخوف والرعب على المسلمين كافّة.

فعمد القائد الجديد إلى استخدام تكتيك عسكري لم يعرف له مثيل، فقد أمر بالعسكر إذا جنّ الليل أن يحدث بعض التغييرات في صفوفه من دون ضجيج فتنتقل الميسرة إلى الميمنة، والميمنة إلى الميسرة، وتتأخّر المقدّمة إلى مكان القلب، ويتقدّم القلب إلى موضع المقدّمة. ففعل المسلمون ذلك، واستمرّت هذه التغييرات حتّى طلوع الفجر.

كما أنّه أمر جماعة من المسلمين المقاتلين أن يخرجوا من الجيش ليلاً، ويذهبوا إلى مكان بعيد فإذا أسفر الصبح التحقوا بالمسلمين سريعاً وهم يكبّرون حتّى يظن العدوّ وصول إمدادات عسكرية بشرية جديدة إلى المقاتلين المسلمين، وقد تسبّب هذا التكتيك بنفسه في أن يحجم الجيش الكافر عن مهاجمة المسلمين واستئصالهم، بعد أن قتل خيرة قادتهم.

فلمّا كان الصبح ورأى العدو وجوهاً جديدة، كما رأوا إمداد المسلمين بمجموعة عسكرية جديدة قالوا: قَد جاءهم مدد. فرعبوا وانهزموا فقاتلهم المسلمون، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقُتِل في هذه الأثناء أحدُ الجنود المسلمين.

ثم ساد الموقف صمتٌ رهيبٌ، فاستفاد من هذا الصمت والأمن الّذي كان

ص:509


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 834/3.

يخيم على الجيش فرجعوا من حيث أتوا.

إنّ أكبر انتصار للمسلمين هو أنّ قوة قليلة محدودة واجهت جيشاً عظيماً منظماً ثلاثة أيام، وبالتالي نجوا بأنفسهم، وكان تدبير القائد الجديد تدبيراً حكيماً خلّص المسلمين من موت محتم، فعادوا سالمين إلى المدينة، وكان هذا ممّا يشكَرون عليه، ويستحقون والثناء(1).

الجنود يعودون إلى المدينة

وقبل أن يقدم جنود الإسلام من «مؤتة» المدينة كانت قد وصلت إلى المسلمين أنباء انسحابهم وأنباء سيّئة عن وضع الجيش، من هنا ذهب المسلمون الى منطقة الجرف لاستقبالهم.

ومع أنّ عمل القائد الجديد كان تكتيكاً حكيماً، إلّاان مثل هذا الصنيع حيث إنّه كان يتنافى مع ما حقّقه المسلمون من أمجاد مشرقة وينافي مشاعرهم وبسالتهم الذاتية والأصيلة لذلك استقبلوهم بشعارات نابية وانتقادات جارحة، وألقوا بالتراب والحجارة في وجوه المقاتلين العائدين، وقالوا: يا فُرّار، أفررتم في سبيل اللّه؟(2)

وقد كانت ردة فعل بعض المسلمين قويّة جداً إلى درجة أنّه اضطر بعض الشخصيات الّتي شاركت في تلك المعركة إلى أن يقعد في بيته، ولا يظهر في الملأ، فكان الناس - إذا خرجوا - يشيرون إليهم بالأصابع ويقولون: ألا تقدّمت مع أصحابك؟(3).

ص:510


1- . لاحظ: المغازي: 763/2-764.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 836/3.
3- . لاحظ: المغازي: 765/2، إمتاع الأسماع: 341/1.

ولقد كانت ردّة فعل المسلمين تجاه عملية انسحاب جنود الإسلام الذكية، كاشفة عن روح الشهامة والجهاد الّتي أوجدها الإيمان باللّه والإيمان بيوم القيامة في نفوسهم بحيث صاروا يعدّون القتل والشهادة في سبيل اللّه، أفضل من الانسحاب والتأخّر.

أُسطورة بدل التاريخ الصحيح

حيث إنّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد اشتهر بين المسلمين بأسد اللّه، لذلك أراد البعض أن ينحتوا تجاه هذا القائد قائداً آخر، ويمنحونه لقب سيف اللّه، ولم يكن ذلك إلّاخالد بن الوليد من هنا قالوا: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لقّب خالد بن الوليد بعد رجوعه من معركة «مؤتة» بسيف اللّه(1). ولو أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منح مثل هذا اللقب لخالد في مناسبة أُخرى لما كان للبحث والنقاش مجال.

ولكنّ الأوضاع بعد معركة «مؤتة» ما كانت توجب بل ولا تسمح بأن يعطيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مثل هذا اللقب، فهل مَن يرأس فريقاً يُسمّيه المسلمون الفُرّار، ويحثون في وجوههم التراب يحسن أن يُعطى في مثل هذه المناسبة لقب سيف اللّه؟ أجل؛ لو أنّ خالداً كان مظهراً لسيف اللّه في غزوات ومعارك أُخرى أمكن القبول بذلك، أمّا في هذه المعركة فلم يكن مظهراً لسيف اللّه، ولم يصدر منه بعد تقليده إمارة الجيش إلّاتكتيك عسكري حكيم، ولما وصف هو ومن معه بالفراريين، خاصّة أنّ ابن سعد يكتب قائلاً: فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء، وانكشف الناسُ، فكانت الهزيمةُ فتبعهم المشركون فُقتِلَ من قُتِلَ من

ص:511


1- . لاحظ: صحيح البخاري: 218/4؛ باب مناقب خالد، و ج 87/5، باب غزوة مؤتة؛ السيرة الحلبية: 789/2.

المسلمين(1).

إنّ مختلقي هذه الأُسطورة أضافوا لتأكيد مطلبهم هذه الجملة أيضاً: قال خالد: لقد اندقّ يومئذ (أي يوم مؤتة) في يدي سبعة أسياف فما ثبت بيدي إلّا صفيحة يمانية(2).

إنّ مختلق هذه الكذبة غفل تماماً عن أنّ خالداً وجنوده لو كانوا أبدوا في هذه المعركة مثل هذه البسالة، ولو أنجزوا في هذه الحرب مثل هذا العمل العظيم فلماذا سمّاهم أهلُ المدينة بالفرّار؟! ولماذا حثوا التراب في وجوههم؟! ولماذا وقع الناس في خالد بعينه؟!(3) إذ كان من اللازم في هذه الصورة أن يزرعوا طريقهم بالورود، ويقربوا بين أيديهم القرابين إبتهاجاً بعودتهم الضافرة، وإعجاباً بعملهم الجبار!!

النبيّ يبكي بشدة لمقتل جعفر

لقد بكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على مقتل ابن عمه «جعفر» بشدّة، ولكي تعرف زوجته أسماء بنت عميس بمصرع زوجها دخل عليها، فقال لأسماء: إيتيني ببني جعفر.

فجاءت بهم إليه فضمّهم وشمّهم، ثم ذرفت عيناه ثم بكى، فعرفت أسماء بمصرع زوجها فصاحت وبكتْ ثم خرج رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أهله وقال:

«لا تغفلُوا آلَ جَعْفَر مِنْ أَن تَصْنَعوا لَهُمْ طَعاماً، فإنَّهُمْ قَد شُغِلوا بأمر صاحبهم» وكان كلّما تذكّر جعفراً وزيد بن حارثة بكى (4).

ص:512


1- . الطبقات الكبرى: 129/2، إمتاع الأسماع: 341/1.
2- . أُسد الغابة: 94/2.
3- . لاحظ: السيرة الحلبية: 793/2 وغيره.
4- . بحار الأنوار: 54/21؛ المغازي: 766/2، السيرة الحلبية: 790/2، إمتاع الأسماع: 365/13.

49 غَزوةُ ذات السَلاسِل

اشارة

منذُ أن هاجرَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة، وأصبحت «المدينة» مركز الإسلام وقاعدته، وموضع تمركز المسلمين وعاصمتهم، ظلّ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يراقب أوضاع أعداء الإسلام، ويرصد تحرّكاتهم، ومؤامراتهم، وكان يولي مسألة تحصيل المعلومات المفصَّلة عن المتآمرين من المشركين وغيرهم إهتماماً كبيراً، ويعمد دائماً إلى اختيار أفضل العناصر لإرسالهم - بمختلف الحجج - إلى نواحي مكّة، وبثّهم في القبائل المشركة المختلفة لتجسّس أخبارهم، والتعرّف على نواياهم، وتدابيرهم.

ولقد استطاع النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم بفضل الاطّلاع المبكِّر والدقيق على المؤامرات الّتي كانت تحاك ضدَّه أن يُفشِّل الكثير من خططهم.

فقد كان صلى الله عليه و آله و سلم يباغت العدوّ، ويحاصره قبل أن يتحرّك من مكانه، عن طريق المجموعات العسكرية الّتي كان يقودها بنفسه، أو الّتي كان يؤمِّر عليها أحد أركان جيشه ويوجّهها صوب مكان تجمع العدو، فيفرّقون جمعهم، ويشتّتون شملهم، ويقضون على المؤامرة في مهدها، وبهذا كان الكيان الإسلامي في أمن من خطر الأعداء، وكان هذا العمل وهذا التدبير يجنّبُ الطرفين المزيد من إراقة الدماء

ص:513

وإزهاق الأرواح.

إنَّ الاطّلاع المبكِّر على أسرار العدوّ العسكرية، ومعرفة حجم طاقاته، ومبلغ استعداداته، واكتشاف خططه، وتكتيكاته يُعدّ من العوامل الجوهرية، والمؤثّرة في الظفر والانتصار.

فلِلدّول الكبرى اليوم أجهزةٌ طويلةٌ وعريضةٌ، وتشكيلاتٌ واسعةٌ، ومعقَّدةٌ لإعداد وتخريج الجواسيس البارعين، وإرسالهم إلى النقاط والمراكز المطلوب اكتشاف أسرارها، والتعرّف على أوضاعها وخصوصياتها، وترصد هذه الدول ميزانيات ضخمة لهذا الغرض(1).

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أوّل مَن ابتكر في تاريخ الإسلام هذا العمل في صورته المنظَّمة، وتبعه في ذلك الخلفاء الذين جاءُوا من بعده، وبخاصّة الإمام أميرالمؤمنين علّي بن أبي طالب الّذي كان يستعين بجواسيس وعيون كثيرين في مجالات مختلفة، عسكرية، وإدارية.

فكان عليه السلام إذا نصبَ والياً على بلد، جعل عليه عيناً يراقب أعماله وتصرّفاته، ويخبر الإمام بها أوّلاً بأوّل، فكان الإمام يكتب إلى ذلك الوالي، ويوبّخه على تصرّفاته وانحرافاته إن بلغَهُ شيءٌ من ذلك(2).

ولقد كلّفَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السنة الثانية ثمانية رجال من المهاجرين، بالتوجّه تحت إمرة «عبداللّه بن جحش» إلى موضع معيّن، والنزول فيه، للتعرّف

ص:514


1- . راجع: كتاب: المخابرات والعالم وغيره.
2- . راجع: نهج البلاغه قسم الرسائل والكتب، رقم 33 و 45 وكتاب الغارات. هذا وقد بحثنا موضوع الاستخبارات والتجسّس في النظام الإسلامي بصورة مسهبة في موسوعتنا: مفاهيم القرآن: 540/2-558. ويبحث هذا الجزء عن: معالم الحكومة وأركانها وبرامجها، فراجع.

على نشاطات قريش، ومؤامراتهم.

وقد كان عدم مفاجأة قريش للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في معركة «أُحد» وخروجه المبكِّر من المدينة بقواه، وجنوده، والنزول في منطقة مناسبة عسكرياً خارجها، وحفره المبكِّر أيضاً للخندق المعروف في شمال المدينة، والّذي منع العدو (جيش الاحزاب) من اقتحام المدينة المنوَّرة، كلّ ذلك كان نابعاً من معرفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسبقة والدقيقة بأسرار العدوّ، ونواياه، وحجم قواته، وبالأَرض، وذلك عن طريق عيونه وجواسيسه الأذكياء اللبقين، اليقظين الذين كانوا يرصُدون - بدقّة وباستمرار - أوضاع العدوّ، وتحرّكاته، وينقلون معلوماتهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وبذلك كانوا يقومون بواجبهم الديني في مجال الحفاظ على عقيدة التوحيد، وصيانتها من خطر السقوط.

إنّ هذا التدبير الذكيّ، والطريقة الحكيمة الّتي ابتكرها وأخذ بها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تُعتبر أكبر درس للمسلمين اليومَ، ودائماً.

ولهذا يتوجبُ على قادة المسلمين المخلصين أن يعرفوا بكلّ ما يُحاك - في بلاد الإسلام أو في غيرها من بلاد العالم - من مؤامرات ضدّ المسلمين، وما يدبَّر من خُطَط لتقويض دعائم الإسلام ويبادروا إلى إطفاء شرارات الفتن في مهدها، وقبل اشتعالها، وأن يسلكوا نفس المسلك الّذي سلكه رسولُ الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم ليحصلوا على ذات النتيجة، ولا شكّ أنّ مثل هذا العمل لا يتيسَّر من دون أجهزة مناسبة، ومن دون تشكيلات خاصّة.

ولقد استطاع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة: «ذات السلاسِل» الّذي هو موضوع بحثنا الآن، أن يطفئ نار الفتنة عن طريق استخدام المعلومات الدقيقة الّتي حصل عليها عن العدوّ.

ص:515

ولو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أغلق على نفسه هذا الباب لتحمَّل خسائر لا تُجبَر، ولتعرّضت الكثير من جهوده المباركة في سبيل نشر الدعوة الإسلامية لخطر الفشل والإخفاق.

تفاصيل هذه الغزوة

لقد أبلغ العيون وعناصر المخابرات الإسلامية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأنّ آلافاً من الناس قد تحالفوا وتعاقدوا في ما بينهم في منطقة تُدعى ب: «وادي اليابس» على التوجّه إلى المدينة المنوَّرة للقضاء على الإسلام بكلّ ما لديهم من قوة، فإمّا أن يُقتَلوا في هذا السبيل، أو يقتلوا «محمّداً» أو فارسه البطل الفاتح «علي بن أبي طالب»!!

ويقول علي بن إبراهيم في تفسيره: «نزل جبرئيل على محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره بقصّتهم، وما تعاقدوا عليه وتواثقوا»(1).

غير أنَّ شيخَ الشيعة ومحقّقهم الكبير المرحوم «الشيخ المفيد» (المتوفّى عام 413 ه) ذكر: بأنّ أَعرابياً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وأخبره باجتماع قوم من العرب بوادي الرمل(2) للتآمر عليه، وعلى الإسلام، (وأضاف) بأنّهم يعملون على أن يبيّتوه بالمدينة(3).

ورأى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يُطلِعَ المسلمين على هذا الأمر، فأمر مؤذنه بأن ينادي: الصلاة جامعة، وهي جملة كان يراد منها اجتماع الناس للصلاة واستماع أمر

ص:516


1- . تفسير القمّي: 434/2، تفسير سورة العاديات.
2- . يحتمل أن يكون وادي الرمل هو وادي اليابس نفسه. وذلك للمناسبة بين الوصفين.
3- . الإرشاد للمفيد: 114/1.

مهمّ وذي بال.

فعلا مؤذّن النبي صلى الله عليه و آله و سلم مكاناً مرتفعاً ونادى: الصلاة جامعة، فسارع المسلمون إلى الاجتماع في مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم رقى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم المنبر وقال في ما قال:

«أيّها الناس، إنَّ هذا عَدوَّ اللّه وعدوّكم قد عمل على أن يبيِّتكم فمَنْ لهمْ؟».(1)

فانتدب جماعة أنفسهم لهذا الأمر، وأمّر عليهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أبابكر، فتوجّه أبوبكر بتلك المجموعة إلى قبيلة «بني سليم»، ولمّا سار بهم مسافة واجه أرضاً خشنة وكانت قبيلة «بني سليم» تسكن في شعب واسع، فلمّا أراد المقاتلون المسلمون أن ينحدروا إلى الشعب عارضهم بنوسليم وقاوموهم، فلم ير قائد المجموعة بُدّاً من الانسحاب بمجموعته والرجوع بهم من حيث أتى!!

يقول علي بن إبراهيم في تفسيره: قالوا (أي بني سليم لأبي بكر): ما أقدمك علينا؟

قال: أمرَني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن أعرض عليكم الإسلام فإن تدخُلوا فيما دخل فيه المسلمون لكمْ مالهمْ، وعليكمْ ما عليهمْ، وإلّا فالحربُ بيننا وبينكم.(2)

فهدّده زعماء تُلك القبيلة - وهم يباهون بكثرة رجالهم ومقاتليهم - بقتله وقتل مَن معه، فأُرعبَ لتهديدهم وعاد بجماعته إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رغم أنّ أفراده كانوا يصرّون على مقاتلة بني سليم تنفيذاً لأوامر النبي صلى الله عليه و آله و سلم!!

ولقد أزعجتْ عودةُ الجيش الإسلامي بهذه الصورة المهينة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،

ص:517


1- . بحار الأنوار: 77/21.
2- . تفسير القمي: 435/2.

فأمر عمر بن الخطاب أن يتولّى قيادة تلك المجموعة ويتوجّه بها إلى «وادي اليابس»، ففعل عمر ذلك.

ولكنّ العدوَّ كان قد ازداد - هذه المرة - يقظة وتحسّباً فكمن عناصره عند فم الوادي، واختبأوا وراء الأحجار والأشجار بحيث يرون المسلمين، ولا يراهم من المسلمين أحدٌ.

ولهذا خرجوا على المسلمين بغتةً عندما حلّ الجيش الإسلامي بذلك الوادي، وقابلوهم ببسالة وشجاعة، فأمر قائد المجموعة الإسلامية أفراده بالانسحاب، وعاد بهم إلى المدينة مهزوماً مذعوراً كسابقه، فلقي من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما لقيه صاحبه من قبل من الاستياء، والكراهية. وهنا قال عمرو بن العاص - وكان من دهاة العرب وساسته الماكرين، وقد كان يومئذ قريب عهد بالاسلام -: إبْعثني يا رسول اللّه إليهم، فإنّ الحرب خدعة، فلعلّي أخدعُهم!

فأنفذه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع جماعة ووصّاه فلمّا صار إلى الوادي خرج إليه بنو سليم فهزموه، وقتلوا من أصحابه جماعة!(1)

الإمام عليٌّ ينتدَب لقيادة العملية

هذه الهزائم المتلاحقة أزعجت المسلمين وأحزنتهم بشدّة، فعمد رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى تنظيم مجموعة جديدة واختار لقيادتها «عليَّ بن أبي طالب»، وأعطاه راية.

وطلب عليٌّ عليه السلام من زوجته «فاطمة» بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن تأتي له

ص:518


1- . بحار الأنوار: 78/21.

بالعصابة الّتي كان يشدّها على جبينه في اللحظات الصعبة، فتعصَّب بها، فحزنت «فاطمة» لمنظر زوجها وهو يتوجّه بمثل هذه الصورة إلى «وادي اليابس» للقيام بأمر خطير، وبكت إشفاقاً عليه، فسلّاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهدّأها، ومسح الدموع عن عينيها(1).

ثم إنّه صلى الله عليه و آله و سلم شيّع عليّاً حتّى بلغ معه مسجد الأحزاب، وعليّ راكب على فرسٍ أبلقٍ، وقد لبس بردين يمانيّين، وحمل رمحاً هندياً بيده.

ثم توجّه علي عليه السلام بأفراده نحو الهدف، إلّاأنّه سلك طريقاً غير الطريق المعروفة ليعمّي على العدوّ، حتّى أنّ الذين خرجوا معه تصوّروا أنّه يقصد العراق، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في علي عليه السلام حينما وجّهه لهذه المهمّة:

«أرسلتُه كراراً غير فرّار».(2)

إنّ تخصيص «عليّ» عليه السلام بهذه الجملة يكشف عن أنّ القادة الذين سبقوه في هذه الحادثة لم ينسحبوا فقط، بل كان انسحابهم مقروناً بالهزيمة القبيحة.

***

عوامل انتصار الإمام عليّ في هذه الموقعة

هذا ويمكن أن نلخّص عوامل انتصار الإمام عليّ عليه السلام في هذه الموقعة في ثلاثة أُمور أساسية هي:

1. أنّه عليه السلام أخفى مسيره ووجهته على العدوّ، فلم يشعر العدوّ بوجهته ومقصده، لأنّه غيّر مسيره حتّى لا يعرف العدو به بواسطة الأعراب من سكان

ص:519


1- . بحار الأنوار: 81/21؛ الإرشاد: 115/1.
2- . إرشاد المفيد: 163/1؛ بحار الأنوار: 78/21.

البادية.

2. أنّه عليه السلام اتّبع مَبدأً هامّاً من مبادئ العمل العسكري، واستخدم تكتيكاً مهمّاً من التكتيكات الحربية وهو: مبدأ الكتمان والتستّر، فقد كان عليه السلام يسير بأفراده ليلاً، ويكمن نهاراً، يستريح خلاله.

وهكذا حتّى دنا من أرض العدوّ، وقبل أن يصل فم الوادي أمر جنوده بالنزول والاستراحة لاستعادة نشاطهم من جهة، ولكي لا يحسّ العدوُ بمجيئهم من جهة أُخرى.

ولهذا السبب الأخير نفسه أمر عليه السلام جنوده بأن يكمُّوا أفواه خيولهم حتّى لا يشعر العدوُّ بوجودهم بصهيلها.

وعند الفجر صلّى «عليٌّ» عليه السلام بجنوده صلاة الصبح، ثم صعد بهم الجبَلَ حتّى وصل إلى القمّة، ثم انحدر بهم - بسرعة فائقة - إلى الوادي حيث يسكن «بنو سليم» فأحاطُوا بهم وهم نيام، فلم يستيقظوا إلّاوقد حاصرهم المسلمون، فأسَرُوا منهم فريقاً، وفرَّ آخرون.

3. شجاعة «عليّ» عليه السلام وبسالته النادرة فهو الّذي قتل الشجعان الأربعة المعروفين في تلك الموقعة فأُرعب العدو إرعاباً شديداً فقد معه القدرة على المقاومة في وجه عليّ عليه السلام، ففرّ تاركاً وراءه شيئاً كثيراً من الغنائم. ولقد عاد بطلُ الإسلام الضافر إلى المدينة بفتح لا سابق له، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جماعة من أصحابه لاستقباله، واستقبال مَن معه من جنود الإسلام.

وما أن وقعت عينا القائد الفاتح على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى ترجّل من فرسه فوراً، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يربت على كتفه:

«إركبْ فإنَّ اللّه ورسوله عنك راضيان».

ص:520

وفي هذه اللحظة بالذات اغرورقت عينا «عليّ» عليه السلام بالدموع استبشاراً فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شأن «عليّ» عليه السلام قولته المعروفة:

«يا عليّ لَولا أَنّي أُشفقُ أن تقولَ فيك طوائف مِنْ أُمّتي ما قالت النصارى في المسيح لقلتُ فيك اليوم مقالاً لا تمرُّ بملأ من الناس إلّاأخذوا التراب من تحت قدميك»(1).

ولقد بلغت تضحية «عليّ» عليه السلام وبسالته، وشجاعته في هذه الواقعة من الأهمية بحيث نزلت فيها سورة كاملة هي سورة العاديات الّتي يقول سبحانه فيها:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِياتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً».(2)

إنّ القَسم بخيول الغزاة المغيرين صبحاً، والمشعلين بحوافرها شرارات الفتح والانتصار، إنَّ هذا القسم الحماسيّ الجميل لهو تكريمٌ رائعٌ لبطولات جنود الإسلام في هذه العملية الضافرة، وإكبارٌ بروحهم القتالية العالية.

إعتراض وجواب

هذا ولقد اعترض بعض الملحدين ذات مرّة على هذا النوع من الأيمان والأقسام في القرآن الكريم وقال ساخراً: وماذا يعني القَسم بالخيول الضابحة، العادية، والشرارات المنقدحة من حوافرها؟!

ولقد غاب عن هذا الملحد أن القَسم بخيول الغزاة المجاهدين أو القسم بالشرارات المنقدحة من حوافرها بسبب احتكاكها بالصخور في أرض المعركة

ص:521


1- . الارشاد: 165/1.
2- . لاحظ: تفسير السورة في: تفسير فرات: 591-603؛ مجمع البيان: 253/10.

إنّما هو إشعارٌ بأهمية الجهاد ضدّ الظالمين أعداء البشرية.

إنّ مثل هؤلاء الجنود البواسل ليسوا وحدهم الذين يحظون - في نظر الإسلام - بمنزلة رفيعة ومكانة عالية، بل خيولُهم الّتي تحملهم في هذا الجهاد المقدَّس، وكذا الشرارات الّتي تنقدح من حوافرها تحظى بالقداسة والأهمية أيضاً.

وأية قيمة - ترى - أعلى من محاربة الظالمين الجائرين، وإنقاذ البشرية من براثن ظلمهم وجورهم، ومن حيفهم وعسفهم؟؟

إنّ مثل هؤلاء وما يمكّنهم من أهدافهم من الأدوات، والوسائل مقدَّسون جميعاً، لأنّهم يحرّرون - بجهادهم - الإنسانَ من قيود الطغاة، الظالمين، ويمهّدون لحاكمية اللّه في الأَرض، وأي هدف أعلى وأعظم قدسية من هذا الهدف؟

ولقد دعا القرآن الكريمُ المؤمنين - من خلال تقديس خيول المجاهدين وضبحها وعدوها وشرارات حوافرها - إلى العناية بالجهاد دائماً، وإلى تجميع قواهم، والاستعداد لكسر القيود الّتي ترزح على أيدي البشرية وأرجلها وعقولها، وإلى تحطيم القلاع الّتي ضربها الطغاة على الشعوب المغلوب على أمرها. أجل؛ إنّ فِرَقَ التحرير والجهاد الإسلامية لا تستحقّ وحدها التقديس والاكبار بل تستحقّ خيولها ومراكبها، وشرارات حوافرها التقديس كذلك.

ولقد استبدلت تلك الخيول هذا اليوم بالدبّابات والطائرات فهي مقدّسة أيضاً، كما كانت خيول الغزاة والمجاهدين في عصر الرسالة، كما وأنّ أزيز محرّكاتها، هو الآخر يحظى بالتقديس كما كانت أنفاسُ الخيول تحظى بالتقديس في عصر الرسالة؛ لأنّها تحقّق ذات الهدف، ونفس الغاية المقدّسة وهي: تحرير الإنسان من براثن الظلم والطغيان.

هذا هو ملخّص غزوة «ذات السلاسل» الّتي سَجَّلها وضبَطها مفسّرو الشيعة،

ص:522

ومؤرِّخوهم، ورَوَوها بأسناد صحيحة.

غير أنّ مؤرّخي أهل السنّة - كالطبري -(1) رووا هذه الواقعة بنحو آخر يختلف عمّا ذكرناه هنا، اختلافاً شاسعاً.

ولا يبعد أن يكون «ذات السلاسل» اسماً لغزوتين نقلَ كلّ واحد من الفريقين: «السنّة والشيعة» واحدة منها، وأعرض عن ذكر الأُخرى لأسباب خاصّة.

ص:523


1- . المغازي: 769/2-774؛ تاريخ الطبري: 315/2، السيرة الحلبية: 198/3 و 199.

50 فَتحُ مَكَّة

اشارة

قصّة «فتح مكّة» من قضايا التاريخ الإسلامي الجديرة بالمطالعة والتأمّل، لما تنطوي عليه هذه الحادثة من دروس وعبر، ولكونها تعكس - بصدق وجلاء - أهداف رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم المقدّسة، كما تكشفُ عن أخلاقه العالية، وسيرته الحسنة، وأُسلوبه الإنساني مع الصديق، والعدوّ.

ففي هذا الفصل من التاريخ يتجلّى ما كان يتحلّى به خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله و سلم من صدق ووفاء، كما يتبيّن صدقُ أصحابه، ووفاؤُهم، واحترامُهم لكلّ ماتعهّدوا، والتزموا به للخصم في معاهدة «صلح الحديبية»، بينما يتّضح من جانب آخر نفاقُ المشركين من قريش، وخيانتهم في تنفيذ بنود اتفاقية الصلح، وبالتالي نقضهُم للعهد، وبالتالي عدم احترامهم لأيّشيء من الالتزامات!!

إنّ دراسة هذا الفصل تثبتُ لنا حنكة النبي، وحُسن تدبيره، وسياسته الحكيمة في فتح أصعب وآخر قلعة من قلاع العدوّ الكافر، المتصلّب في شركه، وكفره، والمتمادي في عناده وتعسّفه، وكأنّ هذا الرجل الإلهيّ قد أمضى شطراً من حياته في إحدى المعاهد العسكرية العليا، فهو يخطّط أفضل من أي قائد محنَّك قدير، للفتح، ويكون تخطيطه من الدقّة والمتانة، والعمق والحكمة، بحيث يصيب

ص:524

المسلمون فتحاً عظيماً بأقلّ قدر من المتاعب والمشاكل.

وبالتالي يتجلّى في هذا القسم من التاريخ الإسلامي الوجهُ الإنسانيّ الرحيم الّذي كان يتّسمُ به رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي كان يحرصُ على دماء أعداء الرسالة الألدّاء، وأموالهم، ويسعى إلى حفظها وصيانتها، كما لو كانوا أصدقاءً لا أعداء.

فهو يعفو بمروءة كبيرة، وبُعد مدى واسع، ورؤية مستقبليّة عميقة عن قريش، ويغفر لهم جرائمهم وأذاهم ويُصدر عفواً عامّاً لم يعرف له تاريخ الفاتحين نظيراً في أسبابه، وعلله، وفي ظروفه وملابساته.

وإليك تفاصيل هذه الحادثة الكبرى من بدايتها إلى نهايتها.

تفاصيلُ فتح مكَّة

لقد قرأنا في ما مضى أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عقدَ في السنة السادسة معاهدة صُلح مع قريش، نصّت المادةُ الثالثة منها على: أنَّ لِكلّ من قريش والمسلمين أن يتحالفوا مع من شاءُوا من القبائل. فتحالفتْ «خُزاعة» مع المسلمين، وتعهّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لخزاعة في هذا التحالف بأن يدافع عن أرضهم وأموالهم وأنفسهم كلّما تعرّضوا لخطر، وطلبوا ذلك.

وتحالفت قبيلة «بني كنانة» - وكانوا من أعداء خزاعة التقليديين - مع قريش.

ولقد تمّ كلُّ هذا في ضوء عقد معاهدة صلح مدّتُها عشرُ سنوات تعهّد فيها الطرفان بالحفاظ على الأمن الاجتماعي، والسلام الشامل في كافّة أرجاء الجزيرة العربية.

ولقد تعهّد الطرفان - في هذه المعاهدة - بأن لا يقوم أيُّ واحد منهما بعمليات عسكرية وتحرّكات عدائية، لاضدّ الآخر، ولا ضدّ حليف الطرف الآخر،

ص:525

كما لا يحرّك حليفه ضد حليف الطرف الآخر.

ولقد انقضَتْ سنتان من تاريخ التوقيع على هذه المعاهدة، وعاش الجانبان في هذه الفترة في سلام ورفاه، وأمن واستقرار إلى درجة أنَّ المسلمين، استطاعوا بعد مضيّ سنة واحدة من التوقيع على تلك المعاهدة، أن يزوروا - بكامل حرّيتهم - بيت اللّه الحرام، في مكّة المكرّمة، ويؤدّوا مناسك العمرة أمام عُيون الآلاف من أعدائهم الوثنيّين، وهي العمرة الّتي سُميَت بعدئذ بعمرة القضاء كما عرفت.

***

ولقد بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شهر جمادى الأُولى من السنة الثامنة للهجرة كتيبة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة ثلاثة فرسان من أركان جيشه، إلى تخوم الشام وحدودها، لمعاقبة وتأديب المتمرّدين والجناة من ولاة الروم وعُمّالهم فيها، وبالضبط أُولئك الذين قتلوا دعاة الإسلام - الذين ابتعثهم صلى الله عليه و آله و سلم للدعوة والتبليغ - من دون ذنب أو جرم.

والجيشُ الإسلامي وإن استطاع أن ينجو بنفسه من هذه المعركة، ويخرج منها بسلام، من دون أن تكلِّفه تلك المواجهةُ خسائر كبرى في الأرواح سوى ثلاثة هم قادة الجيش - على ما مرّ في قصّة غزوة مؤتة - إلّاأنّه ما عاد بانتصار باهر كان يأمله جنودُ الإسلام المجاهدون، بل كانت العملية في هذا المعركة أشبه ما تكون بعملية الكرّ والفرّ.

وقد أوجب انتشار هذا النبأ جرأة سادة قريش وسراتها، فقد تصوّروا أنّ المسلمين تضاءلت فيهم (أو انعدمت) روحُ الفروسية والإقدام، وروح الشجاعة والبسالة.

من هنا قرّرت قريش أن تخلّ بالأمن والهدوء اللّذين استتبّا بعد اتّفاقية

ص:526

الحديبية، فبادرت - أوّلاً - إلى توزيع الأسلحة على قبيلة «بني بكر» من كنانة، وإلى تحريضهم على أن يبيّتوا «خزاعة» المتحالفين مع المسلمين، فيغيروا عليهم ليلاً، ويقتلوا فريقاً، ويأسروا آخرين!!

بل لم تكتف قريشٌ بهذا، إنّما اشترك جماعة من رجالها في هذا العمل الغادر بصورة مباشرة، وبذلك نقضوا عهدهم الّذي أعطوه في الحديبية، وأخلّوا عملياً بالأمن والسلام، وأحلُّوا الفوضى والقتال، مكان الاستقرار والهدوء اللَّذين سادا الجزيرة خلال عامين في أعقاب عقد معاهدة الحديبية! أجل، لقد حملت «بنوبكر» ومَن ساعدهم من رجال قريش بتحريك من زعامة مكّة على «خزاعة» ليلاً، وكان بعضهم نياماً، والبعض الآخر يتهجّد ويعبد اللّه ليلاً، فقتلوا من خزاعة جماعة، وأسروا آخرين، وغادر - منهم - فريقٌ منازلهم تحت جنح الظلام، ولجأوا إلى مكّة الّتي كانت للعرب يومئذ منطقة أمن لا يجيزون الاعتداء فيها على لاجئ إليها، ودخل الذين لجأوا إلى الحرم دار «بُديل بن ورقاء»(1) وشكوا إليه ما حلَّ بهم على أيدي رجال قريش، وحلفائهم من بني كنانة ليلاً، من قتل وأسر وتشريد!!

كما وَعَدَ المظلومون من خزاعة إبلاغ مظلمتهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأرسلوا رئيسهم: «عمرو بن سالم» فقدم المدينة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فوقف عليه وهو صلى الله عليه و آله و سلم جالسٌ في المسجد بين ظهرانيي الناس، وأخبره بما لحق بحلفائه من خزاعة على أيدي بني بكر من كنانة بتحريك وتحريض من قريش، وأنشد أبياتاً يستغيث فيها برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ قال:

ص:527


1- . كان بُديل من شخصيات «خزاعة» من ذوي السن والشرف فيهم، وكان يعيش في مكّة، وكان له من العمر آنذاك 97 عاماً (أمالي الطوسي: 239).

يا ربّ إنّي ناشدٌ محمَّداً حِلف أبينا وأبيه الاتلدا

فاْنُصْر هَداكَ اللّه نصراً أعتدا واْدعُ عبادَ اللّه يأتوا مَددا

فيهم رسولُ اللّه قد تجردا إنْ سيم خَسفاً وجهُهُ تربّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا

وَنَقَضُوا ميثاقَك المؤكَّدا وجعلوا لي في كداء رصدا

هم بيّتونا بالوتير هُجّدا وقتلونا ركّعاً وسُجّداً

وقد كان «ابن سالم» يعيد البيت الأخير ويكرّرُه إثارة لمشاعر المسلمين، ويكرّر عبارة: قُتِلْنا وقد أسلْمنا.

فانزعج رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من قريش لغدرها ونقضها للعهد، ووعد «خزاعة» بالنصرة، وقال:

«نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم».(1)

وقد أفاض هذا الوعد القاطع والقويُ حالة من الطمأنينة على قلب مبعوث خزاعة: «عمرو بن سالم» إذ قد تيقّن أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سينتقم لخزاعة ممّن غَدَروها بها وبيّتوها، وفتكوا بأبنائها، وبخاصة من قريش الّتي حرّضت بني بكر على خزاعة، وأشعلت شرارة هذه الفتنة، وبالتالي كانت السبب الحقيقي وراء هذه الجريمة النكراء، ولكن ابن سالم ما كان يظن أنّ هذه المسألة ستنتهي بفتح مكّة، وتقويض دعائم الحكومة الوثنية الجاهلية، والقضاء عليها إلى الأبد!!

ولم يلبث أن قدم المدينة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «بُديل بن ورقاء» في جماعة من «خزاعة»، وأخبروه بما فعلته قريش وبنوبكر من قتل فتيان خزاعة، ثم عادوا

ص:528


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 854/4-855.

قافلين إلى مكّة.(1)

قريشُ تتوجّس خيفة من ردّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

ندمت قريش بشدّة على ما صنعتْ من تأليب بني بكر على خزاعة ومساعدتهم العملية في العدوان على الأخيرة، وأدركت للتوّ، بأنَّ هذا الّذي صنعتهُ هو نقضٌ للعهد الّذي بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لن يدعَ هذه الجريمة النكراء تمرُّ دون ردّ قاطع وحاسم، ولهذا بادرت إلى إيفاد زعيمها «أبي سفيان بن حرب بن أُمية» إلى المدينة المنورة لتطييب خاطر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وتسكين غضبه وتأكيد إحترام قريش لمعاهدة الصلح.

فتوجّه أبو سفيان إلى المدينة، والتقى في «عسفان» بديل بن ورقاء الخزاعيّ وهو عائدٌ من المدينة، فسأله: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنّه قد أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قال: تسيّرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي.

قال: أو ما جئت محمداً؟

قال: لا. فلمّا راح بديل إلى مكّة، قال أبو سفيان: لئن كان جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففتّه، فرأى فيه النوى، فقال:

أحلف باللّه لقد جاء بديل محمّداً.(2)

ثمّ خرج أبوسفيان حتى قدم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، المدينة فدخل على ابنته «أُمّ حبيبة» زوجة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص:529


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 855/4.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 855/4.

طوته (أُمّ حبيبة) عنه، فقال: يا بنيّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عنّي؟!

قالت: بل هو فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأنت رجلٌ مشركٌ نجسٌ، ولم أُحبُّ أن تجلس على فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

وفي «إمتاع الأسماع»: ثم قام أبو سفيان فدخل على ابنته أُمّ حبيبة، فلمّا ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم طوته دونه وقالت: أنت امرُؤٌ نجس مشركٌ!

فقال: يا بنية! لقد أصابك بعدي شرٌّ.

قالت: هداني اللّه للإسلام، وأنت يا أبتي سيد قريش وكبيرُها، كيف يسقطُ عنك دخولُك للإسلام وأنت تعبد حجراً لا يسمعُ ولا يبصرُ!! قال: يا عجباه! وهذا منك أيضاً! أَأَتركُ ما كان يعبد آبائي، واتّبعُ دين محمّد؟!(2)

أجل هذا هو منطق ابنة رجل حاك مؤامرات عديدة وقاد جيوشاً ضد الإسلام طيلة عشرين عاماً تقريباً، وكانت تربطه بأُمّ حبيبة رابطة الأُبوّة والبنوة الوثيقة، ولكن حيث إنّ تلك المرأة ترعرعت في مهد الإسلام، ونشأت في مدرسة التوحيد، حصلت لها مشاعر دينية قوية جداً حتّى أنّها رجّحت المشاعر الدينية على المشاعر العاطفية الشخصية، مقاومة في هذا السبيل رغباتها الذاتية، وميولها الشخصية.

لقد أنزعج أبوسفيان من سلوك ابنته الّتي كان يتصوّر أنّها ملجأه وملاذُه الوحيد في المدينة، فخرج من منزلها فوراً، حتّى أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فكلّمه حول

ص:530


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 855/4-856.
2- . إمتاع الأسماع: 349/1.

تجديد العهد، واستمراره، فلم يردّ عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كناية عن عدم اعتنائه به.

فذهب إلى بعض أصحابه صلى الله عليه و آله و سلم يطلب منهم أن يشفعوا له عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأن يُقنعوه بتجديد ميثاق الصلح، ولكن دون جدوى.

وأخيراً دخل على «علي بن أبي طالب» وعنده فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وعندها الحسن غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي، أنّك أمسُّ القوم بي رَحماً، وإنّي جئتُ في حاجة فلا أرجعَنَّ كما جئتُ خائباً، فاشفعْ لي إلى رسول اللّه.

فقال عليّ عليه السلام: ويحكَ يا أبا سفيان، واللّه لقد عزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أمر ما نستطيع أن نكلّمَه فيه.

فالتفت إلى فاطمة - وهو يحاول إثارتها عاطفيّاً - فقال: يا بنت محمَّد هل لك أن تأمري بُنَيّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟

(ولمّا كانت فاطمة عليها السلام تعرف بنوايا أبي سفيان الشريرة لذلك) قالت: واللّه ما بلغ بُني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فقال أبو سفيان: يا أبا الحسن إنّي أرى الأُمور قد اشتدت عليَّ، فانصحني.

قال عليٌ عليه السلام: واللّه ما أعلم لك شيئاً يغني عنك شيئاً، ولكنّك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس (أي تعطي الأمان للمسلمين) ثم إلحق بأرضك.

فقال أبوسفيان: أوَترى ذلك مُغنياً عنّي شيئاً؟ قال: لا واللّه، ما أظنُّه، ولكنّي لا أجد لك غير ذلك.

فقام أبوسفيان في المسجد - وكان يثق بصدق عليّ في نصيحته - فقال: أيّها الناس؛ إنّي قد أجرتُ بين الناس.(1)

ص:531


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 856/4.

ثم ركب بعيره، وانْطلق راجعاً إلى مكّة، وأخبر سادة قريش بما صنع، وذكر نصيحة «عليّ» إيّاه، فقال: إنّ عليّاً نصحني أن أُجير الناس، فناديت بالجوار. قالوا:

فهل أجاز ذلك محمَّد؟

قال: لا.

قالوا: ويلكَ واللّه إن زاد الرجلُ (ويقصدون عليّاً) على أن لعبَ بك، فما يغني عنك ما قلت. لأنّ النبي لم يجز أمانه، وما لا يجيزه الطرفان لا قيمة له في ميزان العهود. ثم إنّ سادة قريش عقدوا مجلساً من فورهم للتشاور في ما يطفئ غضب المسلمين، ويثني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن عزمه(1).

جاسوسٌ يُكتَشف!

إنّ تاريخ رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم يكشف عن أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يسعى دائماً إلى أن يُقنِع العدوّ بالحقّ، ويجعله يستسلم لمنطق الدين، ولم يكن يهدف قط الانتقام من العدوّ وإبادته.

ففي الكثير من الغزوات والمعارك الّتي شارك فيها صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه أو السرايا الّتي بعثها كان الهدف الأساسي هو القضاء على مؤامرة العدو، وإفشالها، وتشتيت شمله، وتفريق اجتماعه قبل أن يقوم بعمل يضرّ بالإسلام والمسلمين، فقد كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يعرف جيداً أنّه لو أُزيلت الموانع ورُفعت عن طريق الدعوة الإسلامية لترك منطقُ الدين الحنيف أثره في المجتمع الحرّ، وكان يعلم بأنّ الذين يعقدون

ص:532


1- . لاحظ: المغازي: 780/2-794؛ السيرة النبوية لابن هشام: 854/4-857؛ بحار الأنوار: 102/21.

الاجتماعات، ويقيمون التحالفات العسكرية ليحولوا دون تقدّم الإسلام وانتشاره، لو جُرِّدوا من أسلحتهم، وأُنهيت حالة الحرب بينهم وبين الإسلام وتركوا فكرة التغلّب على الإسلام عن طريق القوة العسكرية، وسمعوا منطق الإسلام في جوّ بعيد عن صخب القتال، لانجذبوا إلى عقيدة التوحيد بدافع الفطرة وهدايتها، ولاستجابوا لنداء الضمير، وصاروا من أنصار الإسلام ومؤيّديه المخلصين الأوفياء.

ولهذا السبب كانت الجماعات والأقوام الّتي يتغلّب عليهم جنود الإسلام ثم يتسنّى لهم مناخ التفكير الحرّ في العقيدة والتعاليم الإسلامية السامية في جوّ بعيد عن الضوضاء والصخب، تنجذب إلى الإسلام وترغب فيه، وتعتنق بل تشمّر عن ساعد الجدّ لنشر العقيدة الإسلامية التوحيدية.

وقد تجلَّت هذه الحقيقة في موضوعنا الراهن وهو فتح مكّة بصورة أكمل وأقوى، فقد كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يدرك جيّداً لو أنّه فُتِحَت مكّة، وجُرّد العدوُّ من السلاح ووُفّرت أجواءٌ حرّة آمنة بعيدة عن الكبت والاضطهاد فإنّه لم يلبث أن يصبح هذا الفريق المعادي والمناهض للإسلام بشدّة، من أنصار هذا الدين، ومن المجاهدين الصادقين، الساعين في نشره.

ولهذا يجبُ التغلّب على هذا العدوّ، وكسر شوكته، ولكن يجب عدم إفنائه وإبادته، بل ينبغي تجنب إراقة الدماء، وإزهاق الأرواح ما أمكن.

ولأجل الوصول إلى هذه الغاية المقدّسة (الغلبة على العدوّ من دون إراقة الدماء) استخدم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أُسلوب مباغتة العدوّ.

فقَبْل أن يفكّر العدوّ في الدفاع عن نفسه، ويجمع قواه، ويستعدَّ للمواجهة، كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يحاصر العدوّ في أرضه، ويجرّده من سلاحه، ويجهض محاولته،

ص:533

ومؤامرته.

على أنَّ مبدأ «مباغتة العدو» إنّما يمكن الاستفادة منه إذا بقيت جميع الأسرار العسكرية للجانب المباغت طي الكتمان، وتمّت الترتيبات اللازمة في سرية كاملة، بحيث لم يعرف بها العدوُّ، بل لا يعرف العدو أساساً هل ينوي النبي صلى الله عليه و آله و سلم الهجوم عليه، أو لا، وعلى فرض أنّه ينوي ذلك لا يخبر أحداً شيئاً عن موعد تحرك الجيش الإسلامي، ووجهته، إذ في غير هذه الصورة لا يمكن الاستفادة من مبدأ «مباغتة العدو». ولقد أعلن رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن التعبئة العامّة لفتح مكّة، وتحطيم أقوى قلعة من قلاع الوثنية وإزالة حكومة قريش الظالمة الّتي كانت تمثّل أقوى مانع في طريق تقدّم الدعوة الإسلامية وانتشارها وتوسّعها، وقد طلب من اللّه سبحانه في دعائه أن يعمّي على عيون قريش وجواسيسهم فلا يعرفوا شيئاً عن حركة المسلمين ومقصدهم إذ قال: «اللَّهم خُذ العيون والأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها»(1).

أو قال: «اللَّهم خُذْ عَلى قريش أبصارهم، فلا يَروني إلّابغتة، ولا يسمَعون بي إلّا فجأة».(2)

فاجتمع في مطلع شهر رمضان ناسٌ كثيرون من مختلف المناطق خارج المدينة، وداخلها.

ويذكر المؤرّخون جدولاً تفصيلياً بالطوائف والقبائل الّتي شاركت في هذا الفتح العظيم، وإليك ما ذكروه:

ص:534


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 857/4.
2- . المغازي: 796/2.

المهاجرون: سبعمائة مع ثلاثمائة من الخيل.

الأنصار: أربعة آلاف مع خمسمائة من الخيل، وألوية كثيرة.

قبيلة مزينة: ألف مع مائة فرس، ومائة درع، وثلاثة ألوية.

قبيلة جهينة: ثمانمائة مع خمسين فرساً، وأربعة ألوية.

قبيلة بني كعب: خمسمائة مع ثلاثة ألوية.

وكانت بقية الجيش من قبائل غفار، وأشجع، وبني سليم(1).

ويقول ابن هشام: كان جميع مَن شهد فتح مكّة من المسلمين عشرة آلاف:

من بني سليم سبعمائة، ويقول بعضهم: ألف، ومن بني غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثمائة شخص، وسائرهم من قريش، والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من تميم، وقيس وأسد(2).

ولتحقيق مبدأ المباغتة والكتمان وضِعَت جميع الطرق المؤدّية إلى مكّة تحت المراقبة الشديدة من قِبَل عناصر الحكومة الإسلامية، كما روقب بشدّة تردّد المارة والمسافرين بواسطة الحرس(3).

وبينما كان جيش الإسلام يتهيّأ للتحرّك باتجاه مكّة، نزل جبرئيل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره بأنَّ أحدَ البسطاء من المسلمين أقدم على إرسال كتاب إلى قريش، يخبرهم فيه بتوجّه النبي وأصحابه إلى مكّة، وأنّه أعطى ذلك الكتاب إلى امرأة تُدعى «سارة» - وكانت مغنّية من مغنيّات مكّة - لتوصله إلى مكّة لقاء مال تقبضه.

ص:535


1- . المغازي: 800/2؛ شرح نهج البلاغة: 259/17.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 877/4.
3- . لاحظ: بحار الأنوار: 130/21، إمتاع الأسماع: 352/1.

ولقد كانت «سارة» - كما أسلفنا - مغنّية بمكّة، تغنّي لأهل مكّة، وربما شاركت في مجالس العزاء في قريش أيضاً، وقد تعطّل عملُها بعد معركة «بدر»، ومقتل جماعة من رجال قريش، ودخول الحزن في كلّ بيوت مكّة، فلم تعدْ تستطيع أن تغنّي وتطرب، من ناحية، ومن ناحية أُخرى كان أبوسفيان قد أمر الناس بأن لا يبكوا، ولا يقيموا المآتم والمناحات على قتلى بدر حتّى لا يذهب غيضهم على «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه الذين قَتلوا رجالاً من قريش في بدر.

من هنا تركت «سارة» مكّة بعد عامين وقدمت المدينة، وعندما عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمجيئها إلى المدينة سألها: هل أسلمت؟ فقالت: لا، فقال لها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ولِمَ أتيت إلى المدينة؟ فقالت: إنّي مولاتكم، وقد أصابني جهدٌ، وأتيتكم أتعرّضُ لمعروفكم(1). فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فكُسيَت وَ حُمِلَت وَ جُهّزَت.

ومع أنّ هذه المرأة قد شملها الإسلام بلطفه ورحمته ولكنّها خانت النبي والمسلمين عندما تطوّعت للقيام بعملية جاسوسية ضد الإسلام والمسلمين بأخذ كتاب «حاطب بن أبي بلتعة» وإخفائه في شعر رأسها لتبلغه إلى قريش لقاء عشرة دراهم، مفشية بذلك سِرّاً للمسلمين، تضيع - على أثره - جهود النبي صلى الله عليه و آله و سلم وتفشل خطّته!!

ولمّا عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهذا الأمر إثر خبر من السماء بعث ثلاث رجال من فرسانه الأشاوس، هم: عليّ والمقداد والزبير، ليدركوا المرأة الخائنة، على طريق مكّة ويأخذوا منها ذلك الكتاب الّذي يحذّر قريشاً ممّا أجمع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليه.

ص:536


1- . بحار الأنوار: 136/21.

فخرج الرجال الثلاثة في طلبها مجدّين حتّى أدركوها في منطقة تدعى «روضة خاخ»(1) فاستنزلوها، وفتّشوا عن الكتاب في رحلها فلم يجدوا شيئاً، فسألوها عنه فأنكرت، فقال لها عليٌ عليه السلام.

«إني أحْلِفُ باللّه ما كذِبَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولا كُذِبنا، ولتُخرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك»(2).

ولمّا رأت تلك المرأة هذا الجِدّ من علي عليه السلام وكانت تعرف أنّ عليّاً لا يتركها حتّى ينفّذ أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قالت: إعرضْ، فأعرضَ عليٌّ، فحلّتْ ضفائر شعرها فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه، فأتى به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فانزعج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لفعل «حاطب» وكان من المسلمين السابقين، فدعاه من فوره وقال له عاتباً ومستفهماً: يا حاطب ما حملك على هذا؟

فحلف حاطب باللّه وبرسوله أنّه لم يقصد شرّاً، وقال: يا رسول اللّه، أما واللّه إني لمؤمنٌ باللّه ورسوله، ما غيَّرتُ ولا بَدّلتُ، ولكنّي كنت امرءاً ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولدٌ وأهلٌ، فصانعتهم عليهم!!

ويستفاد من اعتذار حاطب هذا أنّ أسياد قريش كانوا يضغطون على مَن تخلّف في مكّة من أقارب المهاجرين وعوائلهم، ويؤذونهم، ولا يتركون أذاهم إلّا إذا حصلوا منهم على أسرار المسلمين بالمدينة.

وهذا الاعتذار وإن كان غير وجيه؛ لأنّ ذلك لا يبرّر إفشاء أسرار المسلمين لأعدائهم الحاقدين، غير أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عفا عنه، وخلّى سبيله لمصالح معيّنة

ص:537


1- . وقال ابن هشام في سيرته: فأدركوها بالخليقة (لاحظ: ج 4/858).
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 858/4، وذكر ابن هشام شخصين فقط هما: الإمام علي والزبير.

منها: سابقة «حاطب» في الإسلام(1).

ولكي لا يتكرّر مثل هذا العمل الخطر والأثيم أنزل اللّه سبحانه قرآناً بهذا الشأن في عدّة آيات إذ يقول: بسم الله الرحمن الرحيم

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ إِلاّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * عَسَى اللّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللّهُ قَدِيرٌ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ

ص:538


1- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 376/13 وغيره.

وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ» .(1)

النبي صلى الله عليه و آله و سلم يتحرّك باتجاه مكّة

أخذاً بمبدأ «المباغتة» كتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم موعد الحركة، ووجهتها، فلم يكن أحدٌ يعرف أين يريد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على وجه التحديد(2).

وفي اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة أصدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أوامره بالخروج، وكان قد أصدر أوامره للمسلمين كافّة من قبل بالاستعداد والتهيّؤ للخروج.

ثم إنّه استخلف على المدينة رجلاً من بني غفار يُدعى «أبارهم» ثم استعرض جيشه خارج المدينة على عادته.

ثم لمّا كان صلى الله عليه و آله و سلم بمكان يُدعى «الكديد» طلب شيئاً من الماء أمام المسلمين، وأفطر به في تلك الساعة من النهار، وأمر الجند بأن يفطروا اقتداء به أيضاً.

فأفطر أكثر المسلمين، وأمسك البعض ولم يفطر ظنّاً بأنّ الجهاد في حالة الصوم أفضل، وأكبر أجراً، ولم يعرف هؤلاء السذّج غير المفطرين، بأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم الّذي أمر بالإفطار في شهر رمضان في تلك الحال، هونفسه الّذي أمر بالصوم أيضاً.

فإذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائد حقّ ودليل سعادة فإنّه - في كلتا الحالتين - يريد

ص:539


1- . الممتحنة: 1-9، راجع السيرة النبوية لابن هشام: 858/4-859؛ مجمع البيان: 446/9.
2- . المغازي: 802/2، إمتاع الأسماع: 352/1، قال: وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الناس بالجهاز وطوى عنهم الوجه الّذي يريد،.. فظانّ يظنُّ أنه يريد الشام، وظان يظنُّ ثقيفاً، وظان يظن هوازن.

سعادة الناس، وينشد خيرهم، فلا معنى إذن لأن يطاع في أمره، ولا يطاع في نهيه.

ولهذا غضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لامتناع ثلّة من المسلمين عن الإفطار كما أمر وقال عنهم: «أُولئك العصاة»!!(1).

وأمرهم بأن يفطروا قائلاً: «إنّكم مُصبحو عدوّكم، والفطرُ أقوى لكم».

إنّ مِثل هذا التقدّم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتجاهل أمره ما هو في الحقيقة إلّا نوع من الانحراف عن الحقّ، وهو يكشف عن ضعف في إيمان الجماعة العاصية، المتمرّدة عن أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ولهذا نزل فيه قرآنٌ يلومهم، ويوبِّخهمْ على عصيانهم إذ قال سبحانه:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .(2)

هذا وقد كان «العباسُ بن عبدالمطلب» من المسلمين الذين بَقَوا، في مكّة بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليتجسّس له الأخبار، ويطلعَه على نوايا قريش، وخططهم أوّلاً بأوّل.

وقد تظاهر العباسُ - بعد فتح خيبر - بإسلامه، ولكنّه بقي محافظاً على علاقاته بسادة قريش وزعمائها، فقرّر أخيراً أن يكون آخر من يهاجر من بيوت المسلمين، فغادر مكّة متوجّهاً إلى المدينة، وصادف خروجُه مسير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة، فالتقى ببعض الطريق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد كان بقاء العباس بن عبدالمطلب في مكّة بعد هجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص:540


1- . المغازي: 802/2؛ إمتاع الأسماع: 355/1؛ السيرة الحلبية: 15/3.
2- . الحجرات: 1.

مفيداً للجانبين: (قريش والمسلمين) فلو لم يكن العباس، ونشاطاته السياسية الذكيّة، لما تيسّر فتح مكّة من دون مقاومة قريش، ومن دون إراقة دماء وإزهاق نفوس.

من هنا لا يبعد أن يكون خروج العباس من مكّة في تلك اللحظات والظروف الخطيرة قد كان هو الآخر بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لكي يستطيع القيام بدوره الإصلاحي، الّذي سنأتي على ذكره قريباً.

العفو عند المقدرة

لقد كانت سوابق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المشرّفة، وأخلاقه الحميدة، وصدقه وأمانته، طوال حياته من الأُمور الواضحة المعلومة عند أقربائه، وأبناء عشيرته.

فقد كان الجميع يعلم بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يرتكب طيلة حياته الشريفة إثماً، ولم يفكّر في ذنب، ولم ينو الاعتداء على أحد، ولم يقُلْ بلسانه سوءاً ولا قبيحاً، ولا خان في أمانة، ولا أفشى سرّاً ولا تخلّف عن فضيلة.

ولهذا استجاب لدعوته - في الأيّام الأُولى من دعوته العامّة - الأكثرية الساحقة من قبيلته (بني هاشم)، والتفُّوا حولَه، وتحمّلوا الدفاع عنه، ودعم مواقفه.

ولقد أشار أحد المستشرقين المنصفين إلى هذه الحقيقة، واعتبرها دليلاً على طهارة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصدقه ونزاهته، فهو يقول: مهما كان المرء متكتّماً متستراً على أعماله وأفكاره، فإنّه لا يستطيع بحال أن يخفي تفاصيل حياته عن ذويه وأقربائه، ولو كان لمحمد حالات نفسية أو أفعال سيّئة لما خفيت على أقربائه، ولما

ص:541

كانوا ينقادون إليه بمثل هذه السرعة(1).

نعم يُستثنى من بني هاشم عدّة أشخاص أحجموا عن الإيمان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والاستجابة لدعوته، ويمكن الإشارة - في هذا المجال - بعد أبي لهب المعروف بل والمصرّح بعداوته في القرآن، إلى «أبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب» و «عبداللّه بن أبي أُميّة بن المغيرة» اللّذين خاصما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعارضا دعوته بشدّة، ولم يكتفيا بعدم الإيمان برسالته، بل منعا من انتشار الحقّ، وآذيا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أشدّ الأذى وألّبا عليه أكثر من أيّ شخص آخر.

ولقد كان أبوسفيان هذا ابنَ عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أخاه من الرضاعة، وكان يألف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة، ولكنّه اختلف مع النبي بعد ابتعاثه بالرسالة، وبنى على مخالفته ومعاداته(2).

وأمّا عبداللّه بن أبي أُميّة فهو أخو أُمّ سلمة ابنة عاتكة عمّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وابنة عبدالمطلب.

ولقد حدا انتشار الإسلام في كلّ أنحاء الجزيرة العربية بهذين الرجلين إلى أن يخرجا من مكّة ويلتحقا بالمسلمين.

فقد خرجا قُبيل الفتح من مكّة، فلقيا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه في أثناء الطريق، وعلى وجه التحديد في نقطة تُدعى بثنيّة العقاب، والنبي قاصد مكّة، فاستأذنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليدخلا عليه، وأصرّا على ذلك، فأبى النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم أن يأذن لهما.

وقد وسّطا أُمّ سلمة، وطلبا منها بلهجة عاطفية أن تشفع لهما عند رسول

ص:542


1- . راجع كتاب: «الأبطال»: ل: توماس كارليل الانجليزي، وقد ترجمه إلى العربية محمد أفندي السباعي المصري.
2- . لاحظ: المغازي: 806/2 و 807.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى يرضى عنهما، فكلّمته، فيهما، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أبى وقال:

«لا حاجَة لي بهما، أمّا ابن عميّ فهتَك عِرضي، وأمّا ابنُ عمّتي وصهري فهُو الّذي قال بمكّة ما قال»(1).

ولمّا كان «عليّ» عليه السلام أعرف الناس بنفسيّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخلاقه، وبطريقة استعطافه، فقد كلّمه أبوسفيان في الأمر، فعلّمه علي بن أبي طالب عليه السلام أن يأتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من قِبَل وجهه فيقول:

«قالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنّا لَخاطِئِينَ» .(2)

فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سيجيبه بما قاله يوسف لإخوته إذ قال لهم:

«قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ» .(3)

لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يرضى بأن يتفوّق عليه أحدٌ في حسن القول.

ففعل أبوسفيان هذا ما أشار عليه الإمام علي عليه السلام ودخل من الطريق الّذي بيّنه له، فعفا عنه رسولُ اللّه كما فعل يوسف بإخوته، فأنشد أبوسفيان قصيدة أراد بها أن يُكفِّر عمّا سبق منه، قال فيها:

لعمركَ إنّي يومَ أحمل راية لِتَغْلِبَ خيلُ اللّات خيلَ محمَّد

فكالمُدلج الحيران أظلم ليلُه فهذا أواني حين أُهدى فأَهتدي(4)

ويكتب الواقدي في مغازيه قائلاً: قال أبوسفيان ومعه ابنه، لمّا أعرض رسول

ص:543


1- . فهو ممّن اقترح على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمكّة أُموراً غير معقولة، وقد جاء ذكر هذه المقترحات في الآيات: 90-93 من سورة الإسراء. راجع: مجمع البيان: 439/6؛ وأُسد الغابة: 213/5 و 214.
2- . يوسف: 91.
3- . يوسف: 92.
4- . الإصابة: 152/7؛ أُسد الغابة: 214/5؛ السيرة النبوية لابن هشام: 860/4.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنه وأبى أن يأذن له: واللّه لَيقبلُنّي، أو لأخذتُ بيد ابني هذا فلأذهبنَّ في الأرض حتّى أهلك عطَشاً وجوعاً وأنت أحلمُ وأكرم الناس مع رحمي بك(1).

وقد سبق أن قالت أُمّ سلمة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد كلّمته في أبي سفيان: بأبي أنت وَ أُمّي يا رسول اللّه ألَمْ تقلْ: إنَّ الإسلام يجبُّ ما كان قبله؟ فقبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إسلامه(2).

تكتيكٌ رائع لجيش الإسلام

تقع «مُرّ الظهران» على بُعد عدّة كيلومترات من مكّة المكرمة، وقد قاد رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جيشه العظيم (وقوامه عشرة آلاف) حتّى مشارف مكّة بمهارة بالغة.

ومع أنَّ عيون قريش وجواسيسها كانت تتجسَّسُ الأخبار وكان هناك من يعمل لصالح قريش، ولكنّهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يعرفوا شيئاً عن نوايا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهدفه.

ولمّا وَصل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى مشارف مكّة، عمد - لإرعاب أهل مكّة حتّى يتركوا مقاومة المسلمين عند دخول مكّة وفتحها، ويتسنّى لهم تحطيمُ صرح الوثنية من دون إراقة الدماء - إلى إصدار أمر لجنوده بإشعال النيران فوق الجبال والتلال، وللمزيد من تخويف سكان مكّة والإظهار بمظهر القوة أمر بأن يُشعِلَ كلُّ واحدٍ من الجنود النار وحده، في شريط طويل على الأَرض.

كانت قريش وحلفاؤها يغطّون في نوم عميق آنذاك من جهة، بينما كانت النيران من جهة أُخرى قد غطَّت كلّ المرتفعات المشرفة على مكّة، فلم تستيقظ إلّا

ص:544


1- . المغازي: 811/2.
2- . بحار الأنوار: 114/21 و 115.

على منظر أرعب قلوبهم، ولفت أنظارهم.

وفي هذه الأثناء كان بعض سادة قريش ك: «أبي سفيان بن حرب» و «حكيم بن حزام» وغيرهما قد خرجا من مكّة يتجسَّسون الأخبار.

ففكَّر «العباس بن عبدالمطلب» الّذي لازم رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من منطقة الجحفة، فكّر في نفسه بأنّه إذا ما اتّفق أن واجه جنودُ الإسلام مقاومة من قريش عند دخول مكّة لأدّى ذلك إلى أن يُقتَل جمعٌ كبيرٌ من قريش، ولهذا فإنّ من الأفضل أن يقوم بدور عمليٍّ لصالح الطرفين، ويقنع قريشاً بالتسليم، وعدم المقاومة.

فركب بغلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم البيضاء وتوَجّه صوب مكّة ليخبر قريشاً بمحاصرة مكّة من قِبَل جنود الإسلام، ويخبرهم بكثرة عددهم، وبمبلغ شجاعتهم وإصرارهم على تحقيق أهداف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويقنعهم بأنّه لا مناص من التسليم للأمر الواقع.

فبينما هو كذلك إذ سمع صوت أبي سفيان وبُديل بن ورقاء يتحادثان في جوف الليل فيقول أبو سفيان: ما رأيتُ كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً، فيقول بديل:

هذه واللّه خزاعة حمشتها الحرب.

فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلُّ وأقلُّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

فصاح العباسُ بأبي سفيان وقال: يا أبا حنظلة. فعرف صوتي فقال (أبو سفيان): أبوالفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك فداك أبي وأُمّي؟

فقال العباس: ويحك يا أبا سفيان هذا رسولُ اللّه في الناس، واصباح قريش واللّه.

فارتعد أبوسفيان لما سمعه من العباس حول عظمة القوة الإسلامية، فقال وهو يرتجفُ، وتصطكُّ أسنانه من الفزع، فما الحيلة فداك أبي وأُمّي؟!

ص:545

فقال العباس:... إركبْ في عَجُز هذه البغلة حتّى آتي بك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فاستأمنْهُ لك.

فركب أبوسفيان خلف العباس، ورجع صاحباه (حكيم وبديل) إلى مكّة.(1)

ولقد كان مسعى العباس - كماترى - في مصلحة الإسلام كلّه، فقد أرعب شيطان قريش، وزعيمها وعقلها المدبّر أبا سفيان، وكان موفقاً في هذه الخطوة جداً بحيث لم يعد يفكّر أبو سفيان إلّافي التسليم، وإلقاء السلاح والكفّ عن المقاومة، بل ومَنَعَه العباسُ من العودة إلى مكّة، في نفس الليلة (ليلة فتح مكّة) وأخذه معه إلى معسكر المسلمين بُغية تقييده، ومنعه من العودة إلى مكّة، إذ كان من المحتمل جداً أن يقع فريسة أفكار المتطرّفين في الزعامة المكّية فيدبّرون معاً خطة لمواجهة جيوش الإسلام فيقع - حينئذ - ما لا يُحمد عقباه، من سفك الدماء، وذهاب الأنفس والأرواح.

العباس يصطحب أبا سفيان إلى خيمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم

دخل العباسُ - وهو على بغلة بيضاء وقد أردف خلفه أباسفيان - في معسكر المسلمين، وهو يقصد خيمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من خلال نيران المسلمين الّتي أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بإشعالها، وكان كلّما مرَّ بنار من نيرانهم قالوا: عمُّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلا يمنعون من مروره، حتّى إذا لقيا عمر بن الخطاب في الأثناء ورأى عمر أبا سفيان خلف العباس على عجز البغلة همَّ بقتله في المكان، ولكن عمّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أجار أبا سفيان في الحال، ومنع بذلك عمر من إلحاق الأذى به، وهو في جواره.

وأخيراً وصل العباسُ برفقة أبي سفيان إلى خيمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فترجّلاً،

ص:546


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 861/4؛ السيرة الحلبية: 16/3.

فاستأذن العباسُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للدخول مع أبي سفيان عليه فأَذن لهما، فوقعت مشادةٌ كلاميةٌ شديدةٌ بين العباس وعمر بين يدى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حول أبي سفيان، وكان عمر يقول: أبوسفيان عدوُّ اللّه فلابد أن يُقتَل، ولكن العباس كان يقول:

يا رسول اللّه إنّي قد أجرته، فقطع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دابر هذه المناقشة عندما قال:

«إذهبْ به يا عَبّاس إلى رَحلك، فاذا أصبحتَ فَأْتِني به».

فذهب العباسُ بأبي سفيان إلى رحله، فبات عنده ليلتَه كما أمر، فلمّا أصبح غدا به إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

أبوسفيان بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

لمّا مثل أبوسفيان عند الصباح بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في خيمته قال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«ويحَك يا أبا سفيان؛ ألم يأن لكَ أن تعلم أنّه لا اله إلّااللّه؟».

قال أبوسفيان: بأبي أنت وأُمّي ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلَك، واللّه لقد ظننتُ أن لو كان مع اللّه آله غيره، لقد أغنى عنّي شيئاً بعد.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أنْ تعلمَ أنّي رسول اللّه»؟

قال: بأبي أنت وأُمّي ماأحلمك، وأكرمك، وأوصلك، أما هذه واللّه فإنَّ في النفس منها حتّى الآن شيئاً!!

ص:547


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 862/4؛ السيرة الحلبية: 17/3.

فقال له العباس: ويحك، أسلِمْ واشهْد أن لا إله الّا اللّه، وأنّ محمَّداً رسولُ اللّه قَبلَ أنْ تُضرَبَ عنقُك.

فشهد أبوسفيان شهادة الحقّ، فأسلَم.(1)

إنّ إسلام أبي سفيان الّذي حصل في جوٍّ من الرعب والتهديد وإن لم يكن بالإسلام الّذي كان يريده رسولُ الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم ويطلبُه دينُه الحنيفُ، ولكنَّ مصالح معيَّنة كانت توجب أن يدخل أبو سفيان في عداد المسلمين كيفما كان ليرتفع بذلك أكبر سدّ، وينزاح أكبر مانع من طريق الدعوة الإسلامية، لأنَّ رجالاً مثل «أبي سفيان» و «أبي جهل» و «عكرمة» و «صفوان بن أُميّة» وغيرهم، كانوا قد أوجدوا جوّاً من الرعب والخوف في مكّة استمرَّ أعواماً عديدة، فلم يكن يجرؤ أحدٌ من المكّيين في مثل هذا الجوّ المشحون بالخوف أن يفكّر في الإسلام، أو يظهر رغبته في اعتناقه، والانضواء تحت لوائه.

فإذا لم يكن إسلام أبي سفيان الظاهريّ والسطحيّ مفيداً من حيث الواقع، ولكنّه كان مفيداً جداً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وللّذين كانوا تحت سيطرة أبي سفيان ونفوذ زعامته من جماهير مكّة، وبالتالي لِمن كانت له علاقات قُربى معه.

ومع ذلك لم يسمحْ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإخلاء سبيل أبي سفيان؛ لأنّه لم يكن آمناً - وحتّى مع إظهاره الإسلام - من جانبه قبل أن يتمَّ فتح مكّة، ولهذا أمر صلى الله عليه و آله و سلم عمَّه العباس بأن يحبسه بمضيق الوادي عند ممرّ الجنود ليُبصر عظمة القوات الإسلامية وكثافتها قائلاً:

«يا عبّاس احبسه بمضيق الوادي عند خَطم الجبَل (أي انفه) حتّى تمرَّ به

ص:548


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 862/4؛ السيرة الحلبية: 18/3.

جنودُ اللّه فَيراها».(1)

ثم إنّ العباس. قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول اللّه إنَّ أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً.

واستجاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهذا الطلب، ومع أنّ أبا سفيان كان قد عادى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وألّب ضدَّه طيلة عشرين عاماً، وأثار في وجه دعوته الحروب والفتن الكثيرة، ووجّه بذلك ضربات كثيرة إلى الإسلام والمسلمين، فمنحه - رغم ذلك ولمصالح خاصّة - مقاماً، وقال كلمته التاريخية في حقّه... تلك الكلمةُ الّتي تكشف عن عظمة أخلاق رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم وسمو روحه، وعمق حكمته إذ قال:

«مَنْ دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمِن.

و مَنْ أغْلقَ عليه بابَه فهوَ آمِن.

ومَنْ دخل المسجد فهو آمن.

ومَنْ طرَحَ السلاح فهو آمن»(2).

***

مكّة تستسلم من دون إراقة دماء

تقدَّم جيشُ التوحيد العظيم نحو مكّة، حتّى أصبح على مقربة منها.

ص:549


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 863/4؛ البداية والنهاية: 332/4.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 864/4. ولاحظ الخبر عن فتح مكة في: مجمع البيان: 468/10-473؛ المغازي: 816/2-818، شرح نهج البلاغة الحديدي: 268/17؛ تاريخ الطبري 323/2؛ الكامل في التاريخ: 239/2؛ إمتاع الأسماع: 354/1.

وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عازماً على أن يفتح مكّة من دون إراقة دماء، وإزهاق أرواح، وأن يسلّم العدوّ من دون أيّة شروط.

وكان من العوامل الّتي ساعَدتْ على تحقيق هذه الغاية - مضافاً إلى عامل التكتم والتستُّر ومبدأ المباغتة - أنّ العباس عمّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم توجّه إلى مكّة كداعية صلح ووسيط سلام بن قريش والنبي صلى الله عليه و آله و سلم، فكان أن أتى بأبي سفيان إلى معسكر الإسلام كما أسلفنا، وبذلك توصّل إلى تحييد أبي سفيان، ولم يكن في مقدور سادة قريش أن يتّخذوا قراراً حاسماً من دون أبي سفيان.

وعندما خضع أبو سفيان أمام عظمة رسول الإسلام الفريدة وأظهر الإسلام رأى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يستفيد منه لإرعاب المشركين أكثر قدر ممكن، فأمر العباس بأن يحبسه عند مضيق الجبل ليرى بأُمّ عينيه حشود المجاهدين من المسلمين - كما أسلفنا - في وضح النهار مع كامل عدّتهم وأسلحتهم، ونظامهم وقوتهم، فيخبر قريشاً بذلك، فيزيدهم خوفاً ورهبة، فينصرفُوا عن فكرة مقاومة الجيش الإسلامي عند دخوله إلى مكّة.

وفعل العباس ما أمره الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم فحبس أبا سفيان حيث أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

فمرّت القبائل مع راياتها أمام أبي سفيان، وكانت بعض قطعات الجيش الإسلامي على النحو التالي:

1. كتيبةٌ قوامُها ألفُ مقاتل من بني سليم بقيادة خالد بن الوليد، وفيها لواءان، أحدُهما مع «عباس بن مرداس»، والآخر مع «المقداد».

2. فوجان قوامُهما خمسمائة مقاتل بقيادة «الزبير بن العوام» الّذي كان يحمل معه لواءً أسود، وكان أكثر أفراد هذا الفوج من المهاجرين.

ص:550

3. فوجٌ قوامُه ثلاثمائة مقاتل من بني غفار بقيادة «أبي ذر الغفاري» وكان لواؤُه معه.

4. فوجٌ قوامه أربعمائة مقاتل من بني سليم بقيادة «يزيد بن الخصيب» ومعه لواؤه.

5. فوجان قوامُهما خمسمائة مقاتل من بني كعب بقيادة «بشر بن سفيان» ورايته معه.

6. كتيبةٌ قوامُها ألف مقاتل من بني مزينة، فيها ثلاثة أُلوية، لواء مع النعمان بن مقرن، ولواء مع بلال بن الحارث، ولواء مع عبداللّه بن عمر.

7. كتيبةٌ قوامُها ثمانمائة مقاتل من جهينة، فيها أربعة ألوية، لواء مع «معبد بن خالد» و «سويد بن صخرة» و «رافع بن مكيث» و «عبداللّه بن بدر».

8. فوجان قوامُهما مائتا مقاتل من بني كنانة، وبني ليث وضمرة، بقيادة «أبي واقد الليثي»، وكان لواؤهما معه.

9. فوج قوامه ثلاثمائة مقاتل من بني أشجع، وفيها لواءان أحدهما بيد «معقل بن سنان» والآخر مع «نعيم بن مسعود»(1).

وعندما كانت هذه القبائل والقطعات تمرّ، سألَ أبوسفيان العباس عن اسمها، وخصوصياتها، فكان العباس يوضح له كلّ ذلك.

والّذي كان يزيد هذا الجيش المنظم جلالاً وعظمة أنّ قادة هذه الأفواج والكتائب كانوا إذا مروّا على العباس وأبي سفيان كبّروا ثلاثاً بأعلى أصواتهم

ص:551


1- . لقد سجّل المؤرّخ الإسلامي الشهير «الواقدي» عدد أفراد هذه القطعات في تاريخه «المغازي»: 800/2 و 801 و 819 بشكل دقيق، وقد نقلها عنه ابن أبي الحديد في ج 270/17 و 271.

وبشكل منظّم، وكبّر من ورائهم جنودهم بصوت واحد ومنظم أيضاً كأكبر شعار إسلامي.

ولقد كان لهذه التكبيرات الهادرة الّتي كانت تدوّي في وديان مكّة، وتردّدها الجبال والوديان، أكبر الأثر في نفوس الأصدقاء والأعداء، فكانت تزيد بهيبتها وجلالها من محبّة الأصدقاء للنظام الإسلامي العظيم، بينما ترهب أعداء اللّه، وتغرقهم في خوف ورعب شديدين.

هذا وكان أبو سفيان ينتظر بفارغ الصبر عبور الكتيبة الّتي فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولهذا كان يسأل العباس كلّما مرّت قطعةٌ من قطعات الجيش الإسلامي:

أفيها محمَّد؟ أو ما مضى بعدُ محمَّد؟!

فيقول العباسُ: لم يمض بعدُ، لو رأيت الكتيبة الّتي فيها محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم رأيت الحديد و الخيل والرجال وما ليس لأحد به طاقةٌ.

وبينما هما كذلك إذ طلعت كتيبةٌ عظيمةٌ قوامُها خمسةُ آلاف مقاتل، فيها ألفا دارع فقط، فيها الرايات والألوية الكثيرة، فيها المهاجرون والأنصار، مع كلّ بطن وقبيلة من قبائل الأنصار راية ولواء، وكانت تُسمّى كتيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الخضراء؛ لأنّ أفرادها كانوا في الحديد لا يُرى منهم إلا الحدُق، وقد ركبوا الخيول العربية الأصيلة، والحُمُر من الإبل، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في وسطها راكبٌ على ناقته القصواء، وقد أحدق به كبارُ الشخصيات من المهاجرين والأنصار، والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يحدّثهم.

فارعبتْ عظمةُ هذه الكتيبة أبا سفيان، بشدة، حتّى أنّه قال للعباس من دون اختيار: ما لأحَدٍ بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة يا أبا الفضل! واللّه يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيكَ الغداة عظيماً.

ص:552

فقال له العباس - بنبرة موبّخة -: ويحك يا أبا سفيان ليس بملك إنّها النبوّة.(1) فليست هذه العظمة والجلال من أثر المُلك المادّي الدنيوي إنّما هو فعلُ الرسالة الإلهية، إنّه جلال النبوة، وإنّه بالتالي من فضل اللّه عزّوجلّ الّذي أدخلَ الاسلامَ في قلوب هذه الجماهير المؤمنة، وهذه الجموع المجاهدة في سبيل اللّه.

أبو سفيان يرجع إلى مكّة

إلى هنا قام العباس بدوره على أفضل صورة، فقد أرعبَ أبو سفيان من قوة الإسلام العسكرية الكبرى، ولهذا رأى النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يخلّى سبيله ليذهب إلى مكّة قبل دخول جنود الإسلام فيها، فيخبر أهلها بعظمة وقوة الجيش الإسلامي القادم إليهم، ويحذّرهم من مغبة المقاومة والمواجهة، ويدلّهم على طريق الخلاص والنجاة، وهو التسليم للأمر الواقع، وإلقاء السلاح، والاستسلام من دون قتال ومقاومة، ومن دون قيد وشرط، لأنّ بمجرّد تخويف أهل مكّة من دون إرشادهم إلى طريق الخلاص ما كان ليحقّق هدف النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، وهو الفتح من دون دماء.

فدخل أبو سفيان مكّة، وقد بات الناسُ ليلتهم في رعب شديد، وترقّب رهيب حتّى أصبحوا، ولم يكن بإمكانهم أن يقرّروا شيئاً من دونه، فلمّا رأوه قادماً أحاطوا به، فأخذ يشير إلى ناحية المدينة، وقد اصفرَّ وجهه، وانهارت قواه وصرخ بأعلى صوته، يا معشر قريش، هذا محمَّد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، أو قال: هذا محمَّد في عشرة آلاف فمَن دخل دار أبي سفيان فهو آمِن. ومَن ألقى السلاح فهو آمِن، ومَن دخل المسجد فهو آمِن، ومَن أغلق بابه فهو آمِن.

ص:553


1- . لاحظ: المغازي: 822/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 863/4.

على أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكتف بهذا بل أضاف إلى الأماكن الثلاثة الّتي أعلنها للجوء الناس إليها حتّى يأمنوا من القتل، موضعاً آخر، حيث عقد لأبي رويحة «عبداللّه بن عبد الرحمن الخثعمي» لواء وأمره أن ينادي:

«من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن»(1).

وقد تسبّب أبو سفيان بندائه في إضعاف المعنويات عند أهل مكّة بشدة حتّى أنّهم انصرفوا عن فكرة المقاومة، لو كانت، وأثمرت جهود العباس ومساعيه في الليلة الفائتة، وأصبح فتحُ مكّة من دون مقاومة في نظر أهل الرأي وعند مَن ينظر إلى واقع الأُمور، أمراً مسلّماً وقطعياً.

ففزع الناس، وتفرّقوا، ولجأ بعضهم إلى دُورهم، والبعض الآخر إلى المسجد، وأسدى أعدى أعداء الرسالة، ونعني أبا سفيان، ونتيجة لتدبير رسول اللّه الحكيم، أكبر خدمة لجنود الإسلام حيث مهَّد لهم - بما أوجده في نفوس المكيّين وقلوبهم من هزيمة نفسية - طريق الفتح العظيم بسلام، ومن دون مشاكل تُذكر، اللَّهم إلّا «هند» زوجة أبي سفيان الّتي كانت تحرّض الناس على المقاومة، وراحت تشتم زوجها وتسبُّه بأقذع الشتائم والسباب، وتتهمه بالجبن والذلّ.(2)

بيد أنَّ الأمر كان قد قُدرِ، ولم تعد تنفع أيّة محاولة معاكسة، ولم تكن تلك الكلمات والأعمال المعارضة سوى هباء في شبك!

ونظير هذا الّذي فعلته هند، ما فعله وقام به بعض الزعماء المتطرّفين مثل «صفوان بن أُميّة» و «عكرمة بن أبي جهل» و «سهيل بن عمرو» ممثّل قريش في صلح الحديبية، الذين تحالفوا فيما بينهم على أن يعملوا على منع قوات الإسلام من

ص:554


1- . إمتاع الأسماع: 387/1.
2- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 383/1؛ السيرة النبوية لابن هشام: 864/4.

دخول مكّة، وانخدع بهم فريق من البسطاء والمغفّلين، فشهروا السلاح في وجه أوّل قطعة من قطعات الجيش الإسلامي، وسدّوا بذلك الطريق عليها في محاولة يائسة لتحقيق مآربهم.(1)

القواتُ الإسلامية تدخل مكّة

وقبل أن تدخل قوات الإسلام مكّة كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد دعا جميع قادة وأمراء جيشه وقال لهم بأنّه يريد أن يفتح مكّة من دون إراقة أيّة دماء، ولهذا أمرهم أن لا يقاتلوا إلّامن قاتلهم، إلّاأنّه أمر بقتل عشرة وإن وُجدوا تحت أستار الكعبة وهم: «عكرمة بن أبي جهل» و «هبار بن الأسود» و «عبداللّه بن أبي سرح» و «مقيس بن حبابة الكندي» و «الحويرث بن نقيذ» و «عبداللّه بن خطل» و «صفوان بن أُمية» و «وحشي بن حرب» قاتل حمزة. و «عبداللّه بن الزبعرى» و «حارث بن طلالة» وأربع نسوة، وكان كلّ واحد من هؤلاء قد قتل أحداً أو ارتكب جناية أو شارك في مؤامرة أو حرب ضدّ الإسلام والمسلمين.(2)

وقد بلّغ الأُمراء والقادة هذا الأمر إلى جنودهم كافّة، ومع أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يعرف مسبَّقاً بمعنويات المكّيّين المنهارة، وعدم قدرتهم على المقاومة، إلّاأنّه مع ذلك لم يترك جانب الاحتياط والحذر الّذي يفرضه العملُ العسكري، عند دخول مكّة، حيث رسم لدخولها خطة دقيقة.

ص:555


1- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 385/1؛ السيرة النبوية لابن هشام: 865/4-866.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 867/4-868؛ تاريخ الخميس: 90/2-94، وقد ذكر صاحب تاريخ الخميس تفاصيل ما ارتكبته هذه الجماعة المهدورة دماؤها وما آل إليه أمرهم بعد فتح مكّة.

قد وصل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بجيشه كلّه إلى «ذي طوى» (وهو موضع مرتفع كانت تُرى منه بيوت مكّة و منازلها) وهو في كتيبة قوامها خمسة آلاف، فلمّا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منازل مكّة اغرورقت عيناه بدموع الشوق والحنين، فانحنى تواضعاً للّه تعالى وشكراً، حتّى رأى ما رأى من فتح اللّه وكثرة المسلمين، حتّى مسّت لحيته الشريفة واسطة الرحل أو يقرب منه.

ومراعاة لجانب الحذر والاحتياط فرّق صلى الله عليه و آله و سلم جنوده فأمر البعض بأن يدخلوا مكّة من أسفلها، وأمر البعض بأن يدخلوها من أعلاها، ولم يكتف بهذا بل أمر وحدات من الجيش بأن تدخل من جميع المداخل والطرق المؤدّية إلى داخل مكّة.

فدخلت جميع وحدات الجيش الإسلامي وقطعاته وكتائبه وفرقه مكّة من دون قتال ومن دون أن تلقى من أهلها مقاومة، فقد كانت جميع الأبواب مفتحة في وجوههم إلّاالمدخل الّذي دخل منه «خالد بن الوليد» بفرقته، فقد عمد جماعة من المكّيّين بتحريض من «عكرمة» و «صفوان» و «سهيل» على شهر أسلحتهم في وجوه المسلمين، ورموهم بالنبل لمنعهم من دخول مكّة، ووقع قتال بين الجانبين، ولكن محرّضي هذه الجماعة اختفوا بعد شيء من القتال والمقاومة، وفرّ الآخرون بعد أن قتل منهم المسلمون اثنى عشر أو ثلاثة عشر شخصاً.(1)

ومرّة أُخرى قام أبوسفيان و من حيث لا يشعر بعمل آخر لصالح الإسلام في هذه الحادثة، فإنّه كان لا يزال مرعوباً ممّا رأى من كثرة الحشود العسكرية الإسلامية

ص:556


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 865/4-866. وحسب المغازي: 825/2-826 قُتِلَ ثمان وعشرون رجلاً.

وقوتها وكان يعلم أنّ المقاومة لا تجدي نفعاً ولا تجرُّ على أهل مكّة إلّاالضرر، ولهذا نادى بأعلى صوته - حقناً للدماء -: يا معشر قريش علام تقتلون أنفسكم؟ من دخَل داره فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن....(1)

فكان لنداء أبي سفيان هذا أثره في نفوس الناس فجعلوا يقتحمون الدور، ويغلقون عليهم، ويطرحون السلاح في الطرقات حتّى يأخذها المسلمون، بينما لجأ بعضهم إلى المسجد.

ولمّا ظهر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على «ثنية أذاخر» نظر إلى لمعان السيوف وهي تصعد وتهبط فقال: «ما هذه البارقة؟ ألم أنه عن القتال»؟

فقيل: يا رسول اللّه، خالد بن الوليد قوتل، ولو لم يُقاتل ما قاتلَ. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «قضى اللّه خيراً».(2)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دخل مكّة من ناحية أذاخر، وهي أعلى نقطة في مكّة في موكب عظيم جليل، فضربت له قبة من أُدم بالحجون (عند قبر عمّه العظيم أبي طالب) ليستريح فيها، وقد أصرّوا عليه صلى الله عليه و آله و سلم بأنْ ينزل في بعض بيوت مكّة فأبى صلى الله عليه و آله و سلم(3).

كسرُ الأصنام وغسل الكعبة

لقد استسلمت مكّة الّتي كانت مركزاً رئيسياً للشرك والوثنية طوال أعوام عديدة ومديدة، أمام قوات التوحيد الضافرة، وسيطر جنودُ الإسلام على جميع

ص:557


1- . المغازي: 826/2.
2- . المغازي: 826/2.
3- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 388/1.

نقاط تلك المدينة المقدّسة.

ولقد استراح رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الخيمة الّتي ضربوها له في الحجون بعض الوقت.

ثم إنّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن اطمأنَّ واغتسل ركب راحلته «القصواء» وتوجّه إلى المسجد الحرام لزيارة بيت اللّه المعظم والطواف به، بينما كان يحمل معه السلاح، والمغفر على رأسه، وتحيط به هالة من العظمة والجلال، ويحدق به المهاجرون والأنصار، وقد صفَّ له الناس من المسلمين والمشركين، بعضٌ يغمره الفرح والسرور، وآخرون يكادون ينفجرون من الغيظ.

ولمّا انتهى صلى الله عليه و آله و سلم إلى الكعبة فرآها ومعه المسلمون تقدّم على راحلته، ولم يترجّل منها لأسباب خاصّة فاستلم الركن بمحجنه بدل استلامه بيده، وكبّر فكبّر المسلمون لتكبيره، ورَجَّعوا التكبير حتّى ارتجّت مكّة لتكبيرهم ودوّى صوتهم في الجبال والوهاد، وسمعهم المشركون الذين كانوا قد تفرّقوا فوق الجبال ينظرون إلى ذلك المشهد وقد بلغ من هياج المسلمين، وهم يطوفون بالبيت من شدّة سرورهم حداً كاد أن يمنع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الطواف بالبيت بفكر هادئ، فأشار إليهم صلى الله عليه و آله و سلم أن اسكتوا، فسكت الجميع بأمره، وساد الصمت كلّ أرجاء المسجد الحرام، فطاف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالبيت على راحلته، وقد أخذ بزمامها «محمّد بن مسلَمة» وفيما احتبست الأصواتُ في الصدور، واتجهت الأبصار إليه صلى الله عليه و آله و سلم فوقعت عيناه الشريفتان - في الشوط الأوّل من طوافه - على الأصنام الكبرى «هبل» و «إساف» و «نائلة» منصوبة فوق الكعبة، فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّما مرّ بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول: «جاء الحقُ وزهقَ الباطلُ إنّ الباطلَ كانَ زهُوقا» فيقع الصنم

ص:558

لوجهه.(1)

وأمر صلى الله عليه و آله و سلم بهُبل أكبر أصنام المشركين فحطم وكسر في مرأى من المشركين، ولقد كان هذا الصنم الكبير يهيمن على عقول الجاهليين في الجزيرة العربية، ويسيطر على أفكارهم أعواماً عديدة.

ولمّا كسر المسلمون ذلك الصنم قال الزبير لأبي سفيان وكان ينظر إلى ذلك المشهد: يا أبا سفيان قد كُسِر هُبَل، أما إنّك قد كنت منه يوم «أُحد» في غرور، حين تزعم أنّه قد أنعمَ.

فقال أبو سفيان: دعْ هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى لو كان مع إله محمَّد غيرُه لكان غير ما كان.(2)

ولمّا انتهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من طوافه بالبيت انصرف فجلس ناحية من المسجد، والناس حوله، ثم أرسل بلالاً إلى «عثمان بن طلحة» يأتيه بمفتاح الكعبة، وكان عثمان يومذاك سادن الكعبة، وقد كانت السدانة تُتوراث جيلاً بعد جليل.

فجاء بلال إلى عثمان فقال: إن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يأمرك أن تأتي بمفتاح الكعبة، فاستجاب عثمان، إلّاأنّ أُمّه منعته عن ذلك، وكان المفتاح يومئذ عندها وقالت له: أُعيذك باللّه أن تكون الّذي تذهب مأثرةُ قومه على يديه.

فقال لها عثمانُ: فواللّه لتدفعنَّه إليَّ، أو ليأتينّك غيري فيأخذ منك، فسلَّمتْه إيّاه.(3)

ص:559


1- . المغازي: 832/2.
2- . المغازي: 832/2.
3- . المغازي: 833/2.

ففتح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم به باب الكعبة ودخل البيت، ودخل من بعده صلى الله عليه و آله و سلم أُسامة بن زيد وبلالُ وعثمانُ بن طلحة، ثم أمر النبيُّ بإغلاق باب الكعبة، ووقف خالد بن الوليد على الباب يذبُّ الناس عن الباب.

وكانت جدرانُ الكعبة من الداخل مغطّاة بصور الأنبياء والملائكة وغيرهم، فأمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بمحوها جميعاً، وغسلها بماء زمزم.

عليٌّ عليه السلام على كَتِف النبي صلى الله عليه و آله و سلم

روى المحدِّثون والمؤرّخون عن علي عليه السلام قال: انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه و آله و سلم حتى أتينا الكعبة فقال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: اجلس، وصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به فرأى منّى ضعفاً، فنزل وجلس لي نبي اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال:

«إصعدْ على مِنكبي». قال: فصعدت على منكبيه، قال: فنهض بي، قال: فإنّه يخيل إلي أنّي لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: اقذف به، فقذفت به فتكسّر كما تتكسّر القوارير....

وقد أنشد شاعر الحلّة الشهير بابن العرندس، وهو من شعراء القرن التاسع الهجريّ قصيدة ذكر فيها هذه الفضيلة بقوله:

وَ صُعودُ غارب أحمد فضلٌ لهُ دون القرابة والصحابة أفضلا(1)

ص:560


1- . مسند أحمد بن حنبل: 84/1 باسناد صحيح؛ السيرة الحلبية: 29/3؛ تاريخ الخميس: 86/2 و 87؛ مستدرك الحاكم: 367/2 و ج 5/3؛ مجمع الزوائد: 23/6. وراجع بقيه المصادر في موسوعة الغدير: 10/7-13.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر بأن يُفتح باب الكعبة فوقف على الباب، وأخذ بعضادتي الباب فأشرف على الناس بطلعته المنيرة ومحياه الجميل وقال:

«الحمدللّه الَّذي صدَق وعْدَهُ وَ نصَرَ عَبْدَهُ وَ هَزَمَ الأحزاب وَحْدَهُ».(1)

ولقد كان اللّه سبحانه قد وعد نبيّه الكريم في آية من آيات الكتاب العزيز بأن يعيده إلى مسقط رأسه إذ قال:

«إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .(2)

وقد أخبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بحمده هذا عن تحقّق وعد اللّه له، وبرهَن مرة أُخرى على صدقه، وصحّة دعواه.

وفي ما كان الصمتُ يخيّم على أرجاء المسجد الحرام، وفي ما كانت الأنفاسُ محتبسة في الصدور، وتجول في رؤوس الحاضرين وأنفسهم أفكارٌ مختلفة، وخواطرُ شتى، ويتذكر أهل مكّة المشركون ما ألحقوه برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأتباعه من الأذى والعذاب الشديد، فتذهب بهم تصوّراتهم مذاهب شتى!!

إنّ الّذين سبق لهم أن أشعلوا حروباً كثيرة ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقتلوا خيرة شبابه وأصحابه، بل وتمادوا في غيّهم وعدوانهم حتّى أنّهم تآمروا لاغتياله بالهجوم عليه في منزله ليلاً، وأرادوا تقطيعه بالسيوف إربا إرباً، هاهمُ الآن يرون أنفسهم أسرى في قبضته، وهو صلى الله عليه و آله و سلم قادر على أن ينتقم منهم كيفما شاء!!

إنّ من الطبيعي أن يتحدّث أهل مكّة في أنفسهم وهم يتذكّرون معاداتهم

ص:561


1- . المغازي: 835/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 870/4.
2- . القصص: 85.

الشديدة والطويلة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجرائمهم الكبرى بحقّه، وبحقّ دعوته ويقول بعضهم: إنّه سيقتلنا حتماً، أو يقتل فريقاً منّا، ويحبس آخرين، ويسبي ذريتنا ونساءنا، جزاءَ ما فعلنا.

وبينما كانوا - في تلك اللحظات - فريسة هذه الأفكار والتصوّرات الشيطانية، كسر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جدار الصمت الرهيب الّذي يخيّم على أرجاء المسجد الحرام وقال سائلاً:

«ماذا تقولونُ... وماذا تظنون؟!».

فقال أهل مكة: نقول خيراً، ونظن خيراً، أخٌ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم (وقد سمع هذه العبارات العاطفية):

«فإنّي أقولُ لكُمْ كما قال أخي يوسف: «قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ» (1).

وكان أهلُ مكّة قد أطمأنُّوا، إلى عفو النبي وصفحه قبل ذلك نوعاً مّا عندما رأوا ردّ فعله الشديد على أحد قادة جيشه عندما أخذ ينادي حين دخول مجموعته العسكرية مكّة من إحدى مداخلها:

اليومَ يومُ المَلحمة اليومَ تُسبى الحُرمَة

فغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهذا الشعار وقال رداً عليه:

«اليوم يوم المرحمة»(2)

كما أنّه أمر - لغرض تأديب مَن أطلق هذا الشعار - بأخذ اللواء منه، وأعطاه

ص:562


1- . المغازي: 835/2؛ بحار الأنوار: 107/21 و 132، والآية هي 92 من سورة يوسف.
2- . المغازي: 821/2 و 822.

إلى شخص آخر، وقيل إنّه صلى الله عليه و آله و سلم عزله عن قيادة المجموعة، وأمّر ابنه مكانه، وكان هذا الأمير هو سَعد بن عبادة رئيس الخزرج.

وقد دفع هذا النوع من اللُطف والموقف الإيجابي الّذي لاحظه أهل مكّة المشركون أن يأمل الناس المغلوبون في العفو العامّ إلى درجة كبيرة، خاصّة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد أمّن من دخل المسجد الحرام أو بيت أبي سفيان، أو ألقى السلاح، أو أغلق على نفسه باب منزله.

كلُّ هذه الأُمور كانت قد فَتحت على أهل مكّة بصيصاً من الأمل في العفو الشامل.

النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يعلنُ عن العفو العام

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أعلنَ عن العفو العام عن جميع أهل مكّة بقوله:

«ألا لبئسَ جيرانُ النبيّ كنتُمْ، لقد كذّبتُمْ، وطردتمْ، وأخرجتُمْ، وَ آذيتمْ، ثم ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلونني إذهبُوا فأنتمُ الطُلقاء»(1).

بلالُ يرفع الأذان على سطح الكعبة

ثم حان وقتُ صلاة الظهر، فعلا مؤذّن الإسلام «بلال» الحبشي سطح الكعبة المعظمة، ورفع في الحاضرين وبصوت عالٍ نداء التوحيد والرسالة (الأذان)، فكان كلُّ واحد من المشركين يقول كلاماً، غضباً وحنقاً على بلال. فمنهم من قال: الحمدُ للّه الّذي أكرم أبي فلم يسمعْ هذا اليوم...

ص:563


1- . بحار الأنوار: 106/21؛ مجمع البيان: 472/10؛ إعلام الورى: 226/1. ولاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 870/4.

وقال أبو سفيان: أما أنا فلا أقولُ شيئاً، لو قلتُ شيئاً لأخبرتْهُ هذه الحصباء!!(1).

إن هذا العجوز الخرف المعاند الّذي لم يشرق في قلبه نورُ الإسلام حتّى آخر لحظة من حياته، خلط بين مسألة الإطلاع على الغيب، وتلقّي الحقائق عن طريق الوحي، وبين مسألة التجسس الّذي يعتمده جبابرة العالم وطغاته.

إنّ مسألة اطّلاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على قضايا الغيب أمرٌ يحصل بطرق غير عادية ولا متعارفة، في حين تحصل معرفة جبابرة العالم بمجريات الأُمور في بلادهم عن طريق استخدام عناصر بشرية، أو من يسمّون برجال المخابرات والأمن. وعلى كلّ حال فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صلّى بالمسلمين صلاة الظهر ثم دعا «عثمانَ بن طلحة» وردَّ إليه مفتاح الكعبة، وقال له:

«هاكَ مفتاحُك يا عثمان، اليومُ يومُ بر ووفاء»(2).

ورُوي أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:

«خُذُوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم أحدٌ إلّاظالم»(3).

ولم يكنْ غير هذا بمتوقع من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فإنّ النبي الّذي بعثهُ اللّه سبحانه إلى الناس ليدعوهم إلى أداء الأمانة - فيما يدعوهم إليه - وليبلّغهم قوله تعالى: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» من المسلَّم أن يكون أوّل من يلتزم بهذا التعليم الإلهي، فيعيد مثل تلك الأمانة

ص:564


1- . المغازي: 846/2؛ إمتاع الأسماع: 396/1.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 870/4.
3- . المغازي: 838/2، الطبقات الكبرى لابن سعد: 137/2.

الكبرى إلى صاحبها.

إنه لم يكن بالذي يهضمُ حقوقَ الناس ويدوسُها، في ظلّ ما أُوتي من قوة، ويقول للناس بكلّ صراحة: «خُذوها يا بني أبي طلحة، تالدة خالدةً، لا ينزعها منكم أحدٌ إلّاظالم».

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ألغى جميع مناصب الكعبة الّتي كانت في الجاهلية إلّا ما كان نافعاً للناس كالسدانة والحجابة (وهي القيام بشؤون أستار الكعبة) وسقاية الحجيج(1).

النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يتحدّث إلى أقاربه

ولكي يعرف أقرباء النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّ وشيجة القربى الّتي تربطهم برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لاترفع عن كاهلهم أيّة مسؤولية من المسؤوليات، بل تزيد من مسؤوليتهم، ألقى فيهم خطاباً خاصّاً بيّن فيه أنّ رابطة القربى مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم لا تبرّر لأحد من أقربائه بأن يتجاهل قوانين الحكومة الإسلامية، ويتّخذ من انتسابه إلى زعيم هذه الحكومة ذريعة وغطاء لارتكاب ما لا يحلُّ للآخرين كما هو الحال في أنظمة الحكم البشرية.

ولقد شجب رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في خطابه هذا الّذي خطبه في اجتماع ضمّ رجال بني هاشم وبني عبدالمطلب، كلّ تمييز، وتفضيل غير صحيح، ودعا إلى لزوم العدل ومراعاة المساواة، بين جميع الطبقات إذ قال:

«يا بني هاشم، يا بني عبدالمطلب، إنّي رسولُ اللّه اليكُمْ، وإنّي شفيقٌ عليكم، لا تقولوا: إنّ محمَّداً منّا، فواللّه ما أوليائي منكُمْ ولا مِن غيركم إلّاالمتقون، فلا

ص:565


1- . بحار الأنوار: 132/21.

أعرفكم تأتوني يومَ القيامة تحملُون الدُنيا على رقابكم ويأتي الناسُ يحملون الآخرة.

ألا وإنّي قد أعذرت فيما بيني وبينكم، وفيما بين اللّه عزّوجلّ وبينكم وإنّ لي عَملي ولكم عملكم»(1).

خطابُ النبي التاريخي في المسجد الحرام

اشارة

كان الاجتماع الّذي شهده المسجد الحرام يوم فتح مكّة اجتماعاً عظيماً جداً.

المسلمون والمشركون، والصديق والعدو حضروا بأجمعهم في ذلك الاجتماع، وكانت تجللُ هالةٌ من عظمة الإسلام وعظمة نبيّه الكريم صلى الله عليه و آله و سلم رحاب ذلك المكان المبارك، وكان الصمت والهدوء، وحالة من الانتظار والترقّب، تخيّم على أجواء مكّة.

لقد آن الأوان - الآن - لأن يكشف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للناس عن الملامح الحقيقية لدعوته المباركة ويوقف ذلك الحشد الهائل المتعطّش على معالم رسالته العظمى، ومبادئ دينه الحنيف، وبالتالي أن يكملَ حديثه الّذي بدأه قبل عشرين عاماً ولكنّه لم يُوفق لإتمامه بسبب مضايقات المشركين، ومعارضتهم، وبسبب ما أوجدوه من عقبات وعراقيل في طريقه.

ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ابن تلك المنطقة، وتلك البيئة، ولهذا كان عارفاً - تمام المعرفة - بأمراض المجتمع العربي، وأدوائه، وعلاج تلك الأدواء ودوائها.

لقد كان يعرف صلى الله عليه و آله و سلم علل انحطاط المجتمع المكيّ وأسباب تخلّفه عن ركب الحضارة والمدنية، وعن اللحاق بقافلة التكامل البشري الصاعد. من هنا رأى أن

ص:566


1- . بحار الأنوار: 111/21.

يضع يده على مواضع الداء في ذلك المجتمع المريض، وأن يعالج أمراض البيئة العربية بشكل كامل، وكأي طبيب حاذق، وحكيم ماهر.

ونحن هنا ندرج أبرز المقاطع في الخطاب التاريخي الّذي ألقاه سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم على الحشود الكبيرة المتجمعة في ذلك اليوم عند بيت اللّه المعظم.

تلك المقاطع الّتي يعالج كلّ واحد منها مرضاً اجتماعياً خاصّاً من أمراض المجتمع في ذلك العصر وحتّى في عصرنا الحاضر.

1. التفاخر بالنسَب

كان التفاخر بالنسب والقبيلة والعشيرة من الأمراض المستحكمة المتجذّرة في البيئة العربية الجاهلية، وكان من أكبر أمجاد المرء أن ينتسب إلى قبيلة معروفة، ويتفرّع نسبه عن عشيرة بارزة كقريش مثلاً.

ولقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في خطابه المذكور لإبطال هذه السنّة الجاهلية المقيتة:

«أيّها الناسُ إنَّ اللّه قد أذهبَ عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها.

ألا إنكُمْ من آدم، وآدم من طين.

ألا إنَّ خير عباد اللّه عبدٌ إتّقاه».

لقد عمد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في خطابه - لإفهام العالم البشري بأنّ ملاك الشخصية والتفوّق إنّما هو (التقوى) والورع فقط - إلى تصنيف الناس إلى صنفين لا ثالث لهما، وأعطى الفضيلة والمنزلة لأهل التقوى والورع خاصّة.

وبهذا التصنيف الواقعي في ملاكاته أبطل جميع المعايير الخيالية والملاكات

ص:567

والمقاييس المصطنعة إذ قال:

«إنّما الناسُ رجلان:

مؤمنٌ تقيٌ كريمٌ على اللّه.

وفاجرٌ شَقيٌّ هَينٌ على اللّه».

2. التفاضل بالقومية العربية

لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعلم جيداً أنّ هذه الجماعة من البشر تعتبر (العربية) والانتساب إلى العرق العربي من المفاخر الكبرى، وكانت النخوة العربية قد ترسّخت في قلوب تلك الجماعة وعروقها كداء دفين ومرض مزمن، فقال في خطابه لمعالجة هذا الداء الخبيث وتحطيم هذا الصرح الموهوم:

«إنّ العربية ليست بأب والد، ولكنّها لسان ناطق، فمن قَصُر به عمله لم يبلغه حسبُه». وهل نجد كلاماً أعمق مغزى، وأوضح مراداً، وأقوى وقعاً في النفوس من هذا الكلام؟!

3. لجميع أبناء البشر لا لبعض دون بعض

لقد قال داعية الحرية الحقيقية، ورائد حقوق الإنسان الواقعي بهدف تقوية ودعم مبدأ المساواة بين الأفراد والجماعات البشرية:

«إنَّ الناس من آدم إلى يومنا هذا مِثلُ أسنان المشط، لا فضلَ للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلّابالتقوى».

وقد ألغى رسولُ الإنسانية الأعظم بهذا البيان الصريح كلّ أنواع التمييز

ص:568

الظالمة، وكل ألوان التشدّد مع الآخرين، وفعل وبيّن في ذلك العصر ما لم يفعله ولم يبيّنه ميثاق حقوق الإنسان مع كلّ هذه الضجّة الإعلامية الّتي نشهدها في عالمنا الحاضر.

4. الحروب الطويلة والأحقاد القديمة

لقد نشأت الأقوام العربية - نتيجة اشتغالها المستمر بالحروب الداخلية المتلاحقة والطويلة - على الحقد والضغينة.

فقد كانت نيرانُ الحروب مشتعلة في المجتمعات العربية على قدم وساق ومن دون انقطاع.

ولقد واجه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد سيطرته الكاملة على الجزيرة العربية هذه المشكلة.

فقد كان يتوجّب عليه - بغية إقرار الأمن والهدوء والحفاظ عليهما في البيئة الإسلامية - أن يبادر إلى وضع نهاية لهذه المعضلة، وأن يعالج هذا الداء المزمن، فلم يجد دواء لهذا الداء إلّاأن يطلب من الناس كافّة أن يتنازلوا عمّا لهم من دماء في أعناق الآخرين سُفِكت في العهد الجاهلي، وأن تعتبر جميع ملفات العهد القديم باطلة، ومنتهية، ليمكن عن هذا الطريق الحيلولة دون إراقة الدماء الّتي تُعرّض المجتمع الإسلامي الناشئ للخطر، وحتّى ينتزع من أذهانهم ونفوسهم فكرة الإغارة والقتل العشوائي الّذي كان يُتمّ بحجّة القصاص في حين كان من الممكن أن يتمّ بشكل القصاص الحقيقي العادل، فقال صلى الله عليه و آله و سلم للوصول إلى مثل هذه الغاية السامية:

«ألا إنّ كلّ مال ومأثرة ودم في الجاهلية تحت قدميَّ هاتين».

ص:569

5. الأُخوّة الإسلامية

ولقد ارتبط قسمٌ من خطاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك الحشد العظيم بمسألة اتّحاد المسلمين ووحدة كلمتهم، وحقّ المسلم على أخيه المسلم.

وقد كان مقصودُهُ صلى الله عليه و آله و سلم من بيان هذه الحقوق المتبادلة بين المسلمين الّتي تعتبر من مميزات الدين الإسلامي الحنيف، هو أن يرغّب غير المسلمين في الإسلام إذا هم سمعوا ورأوا مثل هذه الحقوق، ومثل هذه العلاقات المتينة بين المسلمين.

فقد قال في هذا الصعيد:

«المُسلِمُ أخو المُسلم، والمسلمون إخْوَةٌ، وهم يدٌ واحدة على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يسعى بذّمتهم أدناهم»(1).

معاقبة المجرمين

ليس من شك في أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان مظهراً كاملاً للإنسانية والرحمة ومثلاً أعلى في العفو والصفح، فهو رغم مشاعر بعض المتطرّفين الملتهبة، أصدر عفوه العام عن أهل مكّة كافّة.

بيد أنّه كان هناك بين المكّيين عدّة أشخاص تجاوزوا الحدّ في معاداتهم للنبي ومعارضتهم للرسول، وارتكبوا في هذا السبيل جرائم لا تغتفر، فلم يكن من الصالح - مع كلّ ما تسبّبوه من فجائع وفضائع - أن يعيشوا بين المسلمين في أمان

ص:570


1- . لقد نقلنا هذه المختارات من: روضة الكافي: 246/8، السيرة النبوية لابن هشام: 870/4؛ المغازي: 836/2، بحار الأنوار: 105/21 و 138 و ج 348/22؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 281/17.

وراحة، إذ كان من الممكن أن يسيئوا استخدام العفو النبويّ فيعودوا إلى مشاغبتهم، وتآمرهم ضدّ الإسلام مرّة أُخرى ويتسبّبوا في ظهور مشاكل أمنية جديدة لا يُعرف مداها، وتبعاتها.

وقد قُتِلَ بعض هؤلاء المجرمين على أيدي المسلمين في الطرقات، ولجأ اثنان منهم إلى بيت «أُمّ هاني» بنت أبي طالب أُخت الإمام علي عليه السلام، فلاحقهما «عليٌ» وهو غارقٌ في الحديد لا يُعرف، فدخلَ بيت أُمّ هاني يطلبهما(1) فواجهت أُمّ هاني فارساً لا يُعرف فقالت: أنا امرأة مسلمة وقد أجرتُ هذين، وجوار المسلمة محترم.

وفي أكثر المصادر أنّها قالت: يا عبداللّه أنا أُمّ هاني ابنة عم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأُختُ علي بن أبي طالب، انصرفْ عن داري.

وهنا عمَد الإمام علي عليه السلام إلى الكشف عن هويته لتعرفه، فنزع المغفر عن رأسه، واسفر عن وجهه.

فما أن وقعت عينا أُمّ هاني على أخيها «علي» بعد فراق طال سنيناً عديدة ومديدة إلا وانحدرت منهما دموع الشوق والفرحة، واعتنقت أخاها، ثم توجّها معاً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليعطي رأيه في أمانها، وجوارها، فأمضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جوار تلك المرأة المسلمة، وأمانها قائلاً:

«قد أجرْنا من أجرتِ وأمَّنّا من أمَّنتِ فلا يقتلهما»(2).

ص:571


1- . يقول ابن هشام إن الرجلين هما: «الحارث بن هشام» و «زهير بن أبي أُميّة بن المغيرة» (السيرة النبوية لابن هشام: 869/4).
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 869/4؛ الطبقات الكبرى: 144/2 و 145.

وقد كان عبداللّه بن سرح الّذي أسلم ثم ارتدّ عن الإسلام أحد العشرة الذين أمر النبي بقتلهم، ولكنّه نجا من القتل بشفاعة عثمان له.

قصّة عكرمة وصفوان

اشارة

ولقد فرّ «عكرمة بن أبي جهل» أحد كبار مثيري الحروب ومشعلي الفتن ضد الإسلام والمسلمين، إلى اليمن، إلّاأنّه نجا من القتل هو الآخر بشفاعة زوجته، في قصّة مفصّلة.

وأمّا «صفوان بن أُميّة» فإنّه مضافاً إلى جرائمه الفادحة، كان قد قتل مسلماً انتقاماً لأبيه «أُميّة بن خلف» الّذي قُتِلَ على أيدي المسلمين في بدر، وذلك عندما صلبَهُ أمام حشد كبير من أهل مكّة في وضح النهار، ولهذا أهدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دمَه، فعزم أن يخرج من الحجاز عن طريق البحر فراراً من القتل، وبخاصّة عندما علم بأنّه من جملة العشرة الذين أمر رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقتلهم وأهدَرَ دمهم.

فطلب «عمير بن وهب» من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يعفو عنه، فقبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شفاعته، وأعطاه عمامَتهُ ليدخلَ بها مكّة كعلامة أمان من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ويصطحب معه إلى مكّة «صفوان بن أُميّة»، فذهب عُميرٌ إلى جَدّة، وأخبر صفوان بذلك، وقدم به مكّة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا وقعت عينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على كبير المجرمين - بل أكبرهم يومئذ - قال له ردّاً عليه - لمّا سأله قائلاً: إنّ هذا (عمير) يزعم أنّك قد أمنتني؟ -:

«صدق».

ثم دعاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الإسلام فقال: فاجعلني بالخيار شهرين، فقال

ص:572

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أنت بالخيار فيه أربعة أشهر»(1).

وبهذا أمهله رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أربعة أشهر كفرصة يفكّر فيها في الإسلام، ودعوة النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

إنّ دراسة إجمالية وسريعة لهذا الموقف تكشف القناع عن حقيقة مسلّمة في الإسلام وفي تاريخه العظيم يحاول المستشرقون المغرضون إنكارها وإخفاءها، وهو أنّ رؤوس الشرك كانوا أحراراً في اختيار العقيدة الإسلامية واعتناقها.

فهم اختاروها واعتنقوها بمحض إرادتهم من دون إكراه أو إجبار، ولا إرعاب أو تخويف؛ بل كانت القيادة الإسلامية تسعى دائماً إلى أن يتمّ اعتناق عقيدة التوحيد عن طريق التدبّر والتفكير الصحيح، لا عن طريق الإرعاب والتخويف.

هذا هو أبرز حوادث فتح مكّة وأكثرها عبرة، وبقي أن نتعرّض لذكر حادثتين جديرتين بالاطّلاع والتأمّل استكمالاً لهذه الدراسة.

وتانك الحادثتان هما:

1. مبايعة النبي نساء مكّة

بعد بيعة «العقبة» كانت هذه هي المرّة الأُولى الّتي أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم البيعة من النساء بشكل ظاهريّ ورسميَّ، ولقد بايعنَهُ على الأُمور التالية:

1. أن لا يُشركنَ باللّه شيئاً.

ص:573


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 875/4؛ المغازي: 854/2.

2. ولا يسرقن.

3. ولا يزنين.

4. ولا يقتلن أولادهنّ.

5. ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنَّ.

6. ولا يعصينك في معروف.

ولقد تمّت هذه البيعة بالكيفية التالية وهي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر بقدح من ماء ثم ألقى في الماء شيئاً من الطيب والعطر ثم أدخل يده فيه وتلا الآية(1) الّتي وردت فيها الأُمور المذكورة، ثم نهض من مكانه وقال صلى الله عليه و آله و سلم للنساء:

«مَنْ أرادتْ أن تبايع فلتُدخلْ يدها في القدح فإنّي لا أُصافحُ النساء»(2).

وكانت العلّة في أخذ مثل هذه البيعة - الخاصّة في موادها وبنودها - من نساء مكّة هي وجود عدد كبير من النسوة الفاسدات بينهن، فلو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يُقدِمْ على أخذ مثل هذه البيعة منهن لكان من المحتمل أن تستأنف تلك النسوة الفاسدات عمَلهنَّ القبيح حتّى في السرّ.

وكانت «هند» زوجة أبي سفيان بن حرب، وأُم معاوية ذات السوابق السوداء والفاضحة من بين تلك النسوة.

وقد كانت هذه المرأة لفضاضة في طبعها وخشونة في سلوكها، تهيمن على عقلية زوجها أبي سفيان، ولطالما فرضت عليه آراءها، حتّى أنّها يوم قرّر أبوسفيان الاستسلام للأمر الواقع، ورغّب أهل مكّة في السلام حرّضت الناس على القتال

ص:574


1- . الممتحنة: 12.
2- . بحار الأنوار: 113/21.

وسفك الدماء ومواجهة جنود الإسلام.

إنّ تحريضات هذه المرأة بالذات هي الّتي أشعلت نيران الحرب في «أُحد»، تلك النيران الّتي كلَّفت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سبعين شهيداً كان أبرزهم «حمزة» الّذي بقرت تلك المرأةُ الفاسدة الفاجرة الحاقدة وبمنتهى القسوة والفضاضة بطنه، وشقّت صدره، واستخرجت كبده، ولاكته بأسنانها.

لم يكن لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بدٌّ من أخذ هذا النوع من البيعة من هذه المرأة وأمثالها في مرأى ومسمع من الناس.

وقد تلا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما نزل من قوله تعالى من شروط البيعة عليهن، فلمّا بلغ إلى قوله: «ولا تسرقن» نهضت هند - وكانت آنذاك متنقّبة متنكّرة - وقالت:

إنّ أبا سفيان رجلٌ ممسكٌ وإنّي أصبت من ماله هنات، فلا أدري أيحل لي أم لا؟

فقال أبوسفيان: ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لكِ حلال.

فضحك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعرفها فقال لها: «وإنّك لهند بنت عتبة»؟!

قالت: نعم، فاعفُ عمّا سلَف يا نبي اللّه عفا اللّه عنك!

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ولا تزنين».

فقالت هند: أو تزني الحرة؟!

لقد كان هذا الدفاع يعدُّ - من منظار علم النفس - نوعاً من كشف القناع عمّا في السريرة والإفصاح عمّا في الضمير. وحيث إنّ هنداً كانت تعرف أنّها كانت فيما مضى تفعلُ مثل هذا، وكانت واثقة من أنّ الناس عند سماع هذه العبارة سيلتفتون بأنظارهم إليها لذلك سارعت فوراً - وبهدف صرف الأنظار عن نفسها - إلى القول:

وهل تزني إلّاالأمة دون الحرّة.

ص:575

ومن الصدف أنّه كان من الرجال في ذلك المجلس بعض من سَبقت له معها علاقات غير مشروعة في العهد الجاهلي فتعجّب من إنكارها، فضحك حتّى استغرق في الضحك، وتسبّب دفاع هند عن نفسها في المزيد من افتضاحها(1).

2. هدمُ بيوت الأصنام بمكّة وما حولها

كانت في مكّة وضواحيها بيوتٌ عديدةٌ وكثيرةٌ للأصنام الّتي كانت تقدُّسها، وتحترمُها القبائلُ المختلفةُ القاطنة في تلك المناطق، وحتّى يقضي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على جُذُور الوثنية في أرض مكّة قام بإرسال فرق عسكرية متعدّدة إلى تلكم المناطق لهدم تلك المعابد، والبيوت، وإزالة الأصنام والأوثان.

كما أنّه صلى الله عليه و آله و سلم أعلن في مكّة نفسها أنّ مَن كان في بيته صنمٌ فليكسره، وفي هذا السياق أرسل «عمرو بن العاص» لتحطيم صنم «سواع» و «سعد بن زيد» لهدم صنم «مناة».

وتوجّه «خالد بن الوليد» على رأس فرقة عسكرية إلى «تهامة» لدعوة بني «جذيمة بن عامر» إلى الإسلام وهدم صنم «عزى»، وقد نهاهُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين كلَّفه بهذه المهمة عن القتال وإراقة الدماء وبعث معه «عبدالرحمن بن عوف» ليعينه على ذلك.

وكانت قبيلةُ بني جذيمة قد قتلت عمّ خالد بن الوليد(2) ووالد عبدالرحمن

ص:576


1- . لاحظ: مجمع البيان: 457/9.
2- . هو الفاكه بن المغيرة بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم، راجع للوقوف على أصل هذه الواقعة: السيرة النبوية لابن هشام: 884/4، تاريخ اليعقوبي: 61/2.

لدى رجوعهما من اليمن في أيام الجاهلية وصادرت أموالهما، ولهذا كان «خالد» يحقد عليهم.

فلما التقى «خالد» بني جذيمة في أرضهم، وجدهم قد أخذوا السلاح، وتهيّأوا لقتاله فأمّنهم وقال لهم: ضَعُوا السلاح فإنّ الناس قد أسلموا.

فرأى زعماءُ القوم أن يضع الناسُ السلاح، ويسلّموا لجنود الإسلام ولكن رجلاً من القوم يقال له: جحدم أدرك بفطنته سوء نية خالد، فقال لزعماء القبيلة:

ويلكم يا بني جذيمة! إنّه خالد واللّه! ما بعد وضع السلاح إلّاالأسئار، وما بعد الأسئار إلّاضرب الأعناق، واللّه لا أضع سلاحي أبداً، فأخذه رجال من قومه فقالوا:

يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا؟ إنّ الناس قد أسلموا ووضعوا السلاح، ووضعت الحرب، وأمن الناس، فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد.

فلمّا وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك، فكتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم، فلمّا انتهى الخبر إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللّهم إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد.(1)

ونتيجة لهذه الجريمة النكراء فقد غضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على خالد غضباً شديداً، ودعا عليّاً من فوره، وأعطاه مبلغاً كبيراً من المال وأمره بالتوجّه إلى بني جُذيمة، وأن يدفع دية من قَتلَ أو جرح خالد من رجالهم، وثمن كلّ ما خسروه أو فقدوه من أموالهم بدقّة وعناية كاملتين.

فخرج عليٌّ حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فودى لهم

ص:577


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 882/4-883.

الدماء وما أُصيب لهم من الأموال حتى إنّه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلّاوداه، وبقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي عليه السلام حين فرغ منهم: هل بقي لكم من دم أو مال لم يودَ لكم؟

فقالوا: لا.

فقال عليه السلام: فإنّي أعطيكم هذه البقية من المال احتياطاً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ممّا يُعلم ولا تعلمون.

ففعل ثم رجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره الخبر، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «أصبت وأحسنت».

ثم قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه حتّى أنّه ليُرى ما تحت منكبيه يقول:

«اللَّهم إنّي أبرأ ممّا صنَع خالد بن الوليد».

قالها ثلاث مرات(1).

لقد تلافى علي عليه السلام جميع الخسائر المادية والروحية الّتي لحقت ببني جذيمة، وقد أعطى شيئاً من ذلك المال لمن ارتاع، وفزع من صنع خالد و جنوده، وطيّب خواطرهم وقال: وهذه لروعة القلوب.

وعندما عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بصنيع عليّ عليه السلام وإجراءاته العادلة والإنسانية مع بني جذيمة المنكوبين قال في حقّه:

«واللّه ما يسرُّني يا عليُّ أنَّ لي بما صنعت حُمُر النِعَم»(2).

ص:578


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 883/4-884. ولاحظ: الكامل لابن الاثير: 255/2-256؛ إمتاع الأسماع: 6/2-7.
2- . الخصال: 562.

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام في آخره: «... أرضيْتَني رضي اللّه عنك، يا عليُّ أنت هادي أُمّتي، ألا إنّ السعيدَ كلّ السعيد من أحبَّك وأخذ بطريقتك، ألا إن الشقيَّ كلّ الشقيّ مَن خالفكَ ورغبَ عن طريقتك إلى يوم القيامة»(1).

جرائم أُخرى لخالد

لم تقتصر جرائم خالد الّتي ارتكبها طيلة حياته الإسلامية في ظاهرها على ما ذُكر؛ بل لقد ارتكب جريمة أُخرى في أيام حكومة «أبي بكر» أكبر وأفضع ممّا مرت، وإليك خلاصة هذه الواقعة:

رفضت بعض القبائل بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، الاعتراف بخلافة أبي بكر، وامتنعت عن أداء الزكاة إليه، فبعث أبوبكر فرقاً عسكرية مختلفة لقمع هذه القبائل المعترضة.

وقد بعث خالد بن الوليد على رأس فرقة عسكرية إلى قبيلة «مالك بن نويرة» لمقاتلتها بحجّة الارتداد، وما كان «مالك» وجميع أفراد قبيلته مستعدّين للقتال، وكانوا يقولون: نحن مسلمون، فلا معنى لمقاتلتنا.

فمكر بهم خالد على نحو مكره ببني جذيمة في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأمّنهم، وطلب منهم إلقاء اسلحتهم، فلمّا وضعوا أسلحتهم، أمر بحبسهم، ثم قتلهم وقتل زعيمهم المسلم الصالح «مالك بن نويرة» واعتدى على زوجته في نفس الليلة(2).

ص:579


1- . أمالي الطوسي: 498 برقم 1093، المجلس 17؛ بحار الأنوار: 143/21، الحديث 6.
2- . لاحظ: أُسد الغابة: 295/4، تاريخ ابن عساكر: 256/16-258؛ البداية والنهاية: 354/6؛ تاريخ الخميس: 233/1.

فهل يصحُ أن يوصفَ هذا الرجل - على هذه السوابق السوداء، ومع هذا الملفّ المخزي - بسيف اللّه، وأن يُعدَّ من أُمراء الإسلام المجاهدين الصالحين؟!!(1).

ص:580


1- . لقد وَرَد ذِكر هذه الحادثة في كتب التاريخ في حوادث السنة الأُولى من حكومة «أبي بكر» بصورة مفصّلة وقد ذكرناها ملخّصة. وللوقوف على تحليل هذه القضية المؤسفة راجع كتاب: النص و الاجتهاد: 108-138، تحقيق أبو مجتبى، قم، ط 1-1404 ه.

51 معركة حنين

اشارة

كانت طريقةُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند فتح أيّة منطقة من المناطق هي أن يقوم بنفسه بإدارة شؤونها السياسية والدينية مادام هو فيها، فإذا أراد أن يغادرها عيّن أفراداً صالحين للقيام بتلك الأُمور، وشغل تلك المناصب؛ لأنّ الناس في تلك المناطق كانوا قد اعتادوا على النظام السابق، ولم يكن لهم معرفة بالنظام الجديد، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّ الإسلام دينٌ متكامل، ونظامٌ سياسي، اجتماعي، أخلاقي، معنوي يستمد قوانينهُ من منبع الوحي الطاهر، ويحتاج إيقاف الناس على تلكم القوانين والتعاليم، وتطبيقها العملي إلى أفراد صالحين متمرّسين ومدرَّبين على التثقيف والتطبيق الصحيحين، ليمكنهم إيقاف الناس في تلك المناطق على مبادئ الإسلام وأُصوله الصحيحة، وتنفيذ البرنامج السماوي الإسلامي في حياتهم على النحو الصحيح.

وقد فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذا عند فتح مكّة، فإنّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن قرّر مغادرة مكّة والمسير إلى قبيلتي «هوازن» و «ثقيف» عيَّن «معاذ بن جبل» ليعلِّمَ الناس القرآن، وأحكام الإسلام، و «عتابَ بن أُسيد» الّذي كان رجلاً مؤهَّلاً، لإدارة الأُمور، والصلاة بالناس جماعة، ثم غادر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكّة بأصحابه بعد أن مكث فيها

ص:581

خمسة عشر يوماً متوجّهاً إلى أرض هوازن(1).

جيشٌ قليل النظير

كان الجيش الّذي سار به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى هوازن يبلغ (12) ألفاً من الجنود المسلّحين: عشرة آلاف هم الذين صحبوه من المدينة، وشاركوا في فتح مكّة، وألفان من رجال وشباب قريش الذين أسلموا بعد الفتح، وقد أوكل النبي صلى الله عليه و آله و سلم قيادتهم إلى أبي سفيان(2).

ولقد كان مثل هذا الجيش العظيم والجمع الكبير قليل النظير، ونادر المثيل في تلك العصور، وقد صارت هذه الكثرة ذاتها سبباً في هزيمته في مبدأ الأمر، فقد أعجب أفراد هذا الجيش بكثرتهم - على خلاف ما مضى - فتجاهلوا التكتيكات العسكرية الدقيقة، وغفلوا عن خطط العدو ونواياهُ فكان ذلك داعياً إلى هزيمتهم!!

فقد قال أبوبكر لمّا رأى كثرة المسلمين: لو لَقِينا بني شيبان ما بالَينا، ولا يغلبنا اليومَ أحدٌ من قِلّة(3).

ولكنّه لم يكن يعرف أنّ الانتصار ليس هو بكثرة الأفراد وضخامة الجيش، بل أنّ هذا العامل غير مهمّ بالقياس إلى بقية العوامل.

ولقد أشار القرآن الكريمُ إلى هذه الحقيقة إذ قال تعالى:

«لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ

ص:582


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 137/2، والمغازي: 889/2.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 139/2، المغازي: 889/2.
3- . المغازي: 889/2.

عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» .(1)

الحصول على المعلومات العسكرية

بعد فتح مكّة دبّت حركةٌ خاصّة في قبائل هوازن وثقيف، وجرت اتّصالات مكثّفة بينها، وكان حلقة الاتّصال، والمدبّر الحقيقي لهذه التحرّكات، شابٌ عُرف بالفروسية والشجاعة يُدعى «مالك بن عوف النصري».

وقد تقرّر بعد سلسلة من الاتصالات والمداولات بين زعماء هوازن وثقيف أن تبادر القبيلتان المذكورتان إلى توجيه ضربة قوية إلى جيش الإسلام عبر خدعة عسكرية، قبل أن يغزوها جنود الإسلام في عقر دورها.

فقد اختارت لقيادة هذه المهمة شاباً متهوّراً في العقد الثالث من عمره هو «مالك بن عوف النصري» الّذي أشرنا إليه عمّا قريب، واشترك في هذه الغزوة جميع قبائل هوازن وثقيف بصورة موحّدة.

فكان من تدبير هذا القائد أن اقترح على جيشه أن يجعلوا النساء والأطفال والأموال وراء ظهورهم، وعندما سألوه عن علّة ذلك الإجراء قال: أردتُ أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وماله وولده ونساءه حتّى يقاتل عنهم(2).

فقبل المشتركون في تلك العملية بأمر قائدهم هذا بالإجماع، وجعلوا أموالهم وأهليهم خلفهم.

وقد خالف شيخٌ مجربٌ حنَّكته الحروب منهم يُدعى «دريد بن الصمّة» هذه الخطّة عندما سمع رغاء البعير، وثغاء الشاة، وخوار البقر، وبكاء الصغير، وجادل فيها مالكاً، واعتبرها خطّة فاشلة من الناحية العسكرية وقال للناس: يا معشر

ص:583


1- . التوبة: 25.
2- . المغازي: 887/2-888.

هوازن واللّه ما هذا لكم برأي، هذا فاضحُكُم في عورتكم، وممكِّنٌ منكم عدوّكم.(1)

ولكن مالكاً لم يعر كلام هذا الشيخ ونصيحته اهتماماً وقال - وهو يتّهمه بالجهل بفنون القتال الحديثة -: أنّك قد كبرت وكبر علمك، وحدث بعدك من هو أبصرُ بالحرب منك.

ولقد أثبت المستقبلُ صحّة ما قاله ذلك الشيخ المحنَّك فإنّ إشراك النساء والأطفال والأنعام في الحرب، وإخراجهم إلى ساحة القتال أحدث لمقاتلي ثقيف وهوازن مشاكل كثيرة، فيما بعد.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا سمع بتحرّكات هاتين القبيلتين بعث «عبداللّه بن حدرد الأسلمي»، وأمره أن يدخل في هوازن وثقيف فيقيم فيهم حتّى يعرف بنواياهم وخططهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق الرجل إليهم ثم عاد إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأَخبارهم.

وكان «مالك بن عوف» قائد هوازن وثقيف قد بعث بدوره ثلاثة جواسيس ليتجسّسوا له على المسلمين، ويأتوه بأخبارهم، فعادوا بأجمعهم فزعين ممّا شاهدوه من قوة المسلمين وكثرتهم.

فقرر قائدُ العدوّ أن يُجبر ضعف جنوده وقلّتهم باستخدام الخدع العسكرية، والتوسّل بأُسلوب المباغتة ليفرّق - بهجوم مفاجئ - صفوف المسلمين، ويهدم نظامهم وانسجامهم، ويصيبهم بالهرج والمرج، والفوضى والحيرة ليختلّ باختلال الجيش أمر القيادة، فلا تتمكّن من ضبط الأُمور، وتحقيق انتصار على المسلمين.

ص:584


1- . المغازي: 888/2.

ولتحقيق هذا الهدف هبط «مالك بن عوف» بجيشه في واد ينحدر إلى منطقة «حنين»، وأمر بأن يختفي الجنود والمقاتلون خلف الصخور والأحجار، وفي شغاف الجبال، وكلّ ما ارتفع من ذلك الوادي ونشز، حتّى إذا انحدر جنود الإسلام في هذا الوادي في غفلة من هذا التدبير خرج رجالُ هوازن وثقيف من مكامنهم، وكمائنهم، ورموا المسلمين الغافلين عن خطّة العدو، بالحجارة والنبل، ثم يخرج إليهم فريق في أسفل الوادي ويضربونهم بالسيوف!!

تجهيزات المسلمين

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عارفاً بقوة العدوّ وعناده فدعا «صفوان بن أُميّة» قبل مغادرة مكّة، واستعار منه مائة درع بأداتها كاملة عارية مضمونة، ولبس رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسُه درعين كما لبسَ المغفر والبيضة، وركب بغلته البيضاء وسار خلف جيشه وسار حتّى دَنوا جميعاً من الوادي فاستراحوا ليلتهم عند فم الوادي، ومع غلس الصبح انحدرت كتيبة «بني سليم» بقيادة «خالد بن الوليد» في وادي «حنين»، وبينما دخل أكثر جنود الإسلام ذلك الوادي حمل عليهم رجالُ هوازن من كمائنهم في مضيق الوادي وشعابه حملة رجل واحد، وأخذوا يرشقونهم بالأحجار والنبال، فألقت أصواتُ الأحجار والنبال فزعاً شديداً في قلوب المسلمين الذين مُطروا بالسهام والنبال والأحجار من جانب، بينما احتوشهم فريقٌ آخر من هوازن بسيوفهم ووقعوا فيهم ضرباً وقتلاً.

أجل لقد فعلت مكيدة هوازن فعلتها في قلوب المسلمين، فقد أوحشتها، وأصابت المسلمين بالفوضى، وخلخلت صفوفهم فلاذوا بالفرار من دون اختيار، وقد أخلّوا هم بنظامهم أكثر ممّا فعله العدوُّ بهم.

ففرح المنافقون في جيش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهذا الحادث، وسرّوا به سروراً

ص:585

عظيماً حتّى قال أبوسفيان شامتاً: لا تنتهي هزيمتُهم دون البحر، وقال آخر: ألا بطَلَ السحرُ اليوم، وقال ثالثٌ: لا يجتبرها محمَّد وأصحابه، وعزم رابعٌ على اغتيال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك الوضع المضطرب وإطفاء شعلة رسالته المقدّسة(1).

صمود النبي ومَن ثَبتَ من أصحابه

لقد أزعج فرارُ المسلمين الّذي كان نابعاً - في الدرجة الأُولى - من الفزع والفوضى الّتي أصابتهم، رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأدرك صلى الله عليه و آله و سلم بأنّه لو تأخّر لحظة واحدة عن فعل ما يجب أن يفعله لتغيَّر وجهُ التاريخ ولتبدّل مسار البشرية، ولحطّم جيش الشرك جيش التوحيد.

من هنا صاح بأعلى صوته وهو على بغلته:

«يا أنصار اللّه وأنصار رسوله أنا عَبدُ اللّه ورسولُه».

قال هذا واندفع ببغلته إلى ساحة القتال في المكان الّذي جعله «مالك» وجنودُه مسرحاً لمهاجمة المسلمين ومباغتتهم وقتالهم، ومشى معه مَن لازمه في تلك اللحظات وثبتوا معه كعلي بن أبي طالب عليه السلام والعباس بن عبدالمطلب، والفضل بن العباس، وأبي سفيان بن الحارث - الّذين لم يغفلوا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منذ بدء القتال لحظة واحدة -، وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عمَّه العباس الّذي كان صاحب صوت عظيم أن ينادي في المسلمين الّذين كانوا يواصلون فرارهم، ولا يلوون على شيء:

«يا معشَر الأنصار، يا أصحاب السَّمُرة»(2).

ص:586


1- . المغازي: 909/2-911؛ السيرة النبوية لابن هشام: 894/4-895؛ إمتاع الأسماع: 17/2.
2- . تاريخ الطبري: 348/2. ولقد ذكر صاحب المغازي في: ج 902/2 جانباً من بطولات علي عليه السلام وتضحياته في هذه الموقعة.

ويقصد من السمرة الشجرة الّتي كانت عندها بيعة الرضوان، فكان هذا النداء تذكيراً بتلك البيعة الّتي تعهدوا فيها لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن ينصروه حتّى الموت.

فبلغت صرخاتُ العباس مسامع المسلمين فثارت حميتُهم، وأخذوا يثوبون إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهم يقولون: لبيك لبيك.

لقد أوجبتْ نداءاتُ العباس المتلاحقة الّتي كانت تخبر وتنبئ في الحقيقة عن سلامة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن تعود الجماعات الهاربة من ساحة القتال إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهي نادمة على فرارها ندماً شديداً، ونظّموا صفوفهم أمام العدو من جديد أفضل ممّا مضى، ثم حملوا حملة رجل واحد على العدوّ الغادر بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لغسل ما لحق بهم من عار الفرار، واستطاعوا في أقصر مدة من الوقت أن يجبروا العدوّ على الانسحاب والفرار، والرسول القائد صلى الله عليه و آله و سلم يقول تشجيعاً لهم، وتقوية لمعنوياتهم:

«أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبدالمطلب».

وقد تسبَّب استخدام هذا التدبير العسكري الحكيم في إرعاب رجال هوازن ومن ساعدهم من ثقيف المقاتلين، بشدّة بحيث انهزموا أمام هجوم المسلمين هذا هزيمة قبيحة ومنكرة، تاركين وراءهم أموالهم ونساءهم وصبيانهم الذين أتوا بهم إلى ساحة المعركة، وجعلوهم خلف ظهورهم بناء على أوامر قائدهم مالك - كما أسلفنا - وفروا بعد أن قُتِلَ منهم جماعة إلى منطقة أوطاس ونخلة، وقلاع الطائف.

ص:587

غنائمُ الحرب

لقد بلغت خسائرُ المسلمين من الارواح في هذه المعركة ثمانية أشخاص في مقابل أسر ستة آلاف نفر من العدو.

كما وأنّ المسلمين غنموا في هذه الواقعة أربعة وعشرين ألف بعير، وأربعين ألف رأس غنم، وأربعة آلاف أُوقية(1) من الفضة.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر بأن يؤخذ الأسرى والغنائم إلى منطقة تُدعى الجعرانة (وهي ماء بين الطائف ومكّة) وكلّف أشخاصاً معيّنين بحراستها وحفظها وجعل الأسرى في بيوت خاصّة، كما أمر بأن تُحفظ الغنائم من دون أن يتصرّف فيها أحدٌ في ذلك المكان، ريثما يرى فيها رأيه، بعد أن يلاحق فلول العدو الّذي فرّ إلى أوطاس ونخلة والطائف(2).

لقطتان من الخلق النبوي العظيم

وينبغي أن نشير هنا إلى قصّتين تدلّان على سمو الأخلاق النبوية، وعمق الرحمة الإسلامية:

1. بعد أن أعاد النبيُ المسلمين الهاربين إلى ساحة المعركة فكرّوا على هوازن وهزموهم هزيمة نكراء، قالت أُمّ سُليم بنت ملحان للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول اللّه! ما رأيت هؤلاء الّذين أسلموا وفرّوا عنك وخذلوك!! لا تعفُ عنهمْ إذا أمكنك

ص:588


1- . الرطل 2564 غراماً، والأُوقية 1/12 من الرطل فعلى هذا تكون الأُوقية 213 غراماً، وأربعة آلاف أُوقية تساوي 852 كيلو غراماً.
2- . كتب ابن هشام في سيرته أنّ عدد القتلى في هذه المعركة كان أربعة أشخاص، ولكن معركة واسعة مثل هذه يتوقع أن يكون قتلاها أكثر من هذا العدد.

اللّه منهم، تقتلهم كما تقتُل هؤلاء المشركين!

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: يا أُمّ سُليم! قد كفى اللّه، عافية اللّه أوسعُ (1).

وهكذا نجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعفو عن أصحابه الهاربين الذين خذلوه في تلك الموقعة.

2. حنق المسلمون على المشركين في وقعة حنين فقتلوهم حتّى أخذوا في قتل الذُرية، فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: ما بالُ أقوام ذهب بهم القتلُ حتّى بلغ الذُرية! ألا لا تُقتلُ الذُرية.

فقال أُسيد بن الحضير: يا رسول اللّه أليس إنّما هم أولاد المشركين!

فقال: أو ليس خيارُكم أولادُ المشركين؟! كلّ نسمة تولَدُ على الفطرة حتّى يعرب عنها لسانُها، وأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها(2).

ص:589


1- . إمتاع الأسماع: 15/2.
2- . إمتاع الأسماع: 15/2-16.

52 غزوة الطائف

اشارة

«الطائف» من مصايف الحجاز ومِنَ المناطق الخصبة، الكثيرة الزرع فيها، وتقع الطائف في الجنوب الشرقي من مكّة على بعد (12) فرسخاً منها، وقد كانت ولا تزال بسبب مناخها اللطيف، وبساتينها المثمرة، ونخيلها الكثير مقصداً بل مركزاً وموطناً لطلّاب اللّذة والراحة من أهل الحجاز.

وقد كانت قبيلة ثقيف الّتي كانت تُعدُّ من القبائل العربية القوية الكثيرة العدد تسكن في هذا البلد.

وكانت أعراب ثقيف من الذين شاركوا في معركة «حنين» ضدّ الإسلام والمسلمين، ثم لجأوا بعد الهزيمة المنكرة الّتي لحقت بهم على أيدي جنود الإسلام الضافرين إلى بلدهم الّذي كان لهم فيه آنذاك حصن قويّ ومنيع.

ولتكميل الانتصار الإسلامي أمر الرسولُ القائدُ صلى الله عليه و آله و سلم بملاحقة الهاربين المنهزمين في معركة حنين.

من هنا كلّف صلى الله عليه و آله و سلم أبا عامر الأشعري وأبا موسى الأشعري وفريقاً من جنود الإسلام بملاحقة من لجأ منهم إلى «أوطاس» فقُتِل القائدُ الأوّل في هذه الواقعة،

ص:590

واستطاع الثاني أن يحرز انتصاراً كبيراً على العدو ويفرّق جمعه(1).

وأمّا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نفسه فقد توجّه بالبقية من جيشه الى الطائف(2)، ومرّ في طريقه على حصن «مالك بن عوف النصري» مثير فتنة «حنين» ورأس المؤامرة، فهدمه وسوّاه بالأَرض.

على أنّ تهديم حصن «مالك» لم يكن بدافع انتقاميّ، بل كان لأجل أن لا يترك وراءه نقطة اعتماد وملجأ للعدوّ.

تحرّكت أعمدة الجيش الإسلامي الواحدة تلو الأُخرى، واستقرّت حول مدينة الطائف.

كان حصن الطائف حصناً منيعاً، مرتفع الجدران، قوي البنيان، فيه أبراجٌ للمراقبة مسيطرةٌ على خارج الحصن سيطرة كاملة.

ومنذ أن استقرّ الجيش الإسلامي خارج الطائف بدأ حصارَه لها، غير أنّ الحصار لم يتكاملْ بعدُ حتّى عمَدَ العدو إلى رمي المسلمين للحيلولة دون تقدّمهم نحو المواقع المرسومة لهم، فقُتِل بهذا جماعة من المسلمين في بداية هذه الواقعة.

فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الجيش بالانسحاب والتراجع التكتيكي إلى نقطة بعيدة عن مرمى العدوّ، والتمركز فيها ريثما تصدر الأوامر الجديدة.

وهنا اقترح «سلمانُ الفارسي» الّذي سبق له أن اقترح حفر الخندق في معركة الأحزاب، وكان ذا خبرة بفنون القتال، اقترح على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يرمي

ص:591


1- . المغازي: 915/2 و 916.
2- . بحار الأنوار: 163/21.

الحصن بالمنجنيق(1)، وهذا الجهاز الّذي كان يُستخدم في حروب تلك الأعصر يؤدي نفس دور الدبابة في الحروب الراهنة.

فقام أُمراءُ الجيش الإسلامي بنصب المنجنيق بإرشاد وتوجيه من سلمان، وأخذوا يرمون الحصن المذكور وأبراجه الشاهقة بالحجارة طوال عشرين يوماً متوالية.

ولكن العدوَّ لم يسكتْ تجاه هذه العمليات القوية الّتي بدأها المسلمون، فزاد من رميه واستمر في ذلك، فوقعت بين المسلمين بعضُ الإصابات نتيجة ذلك(2).

والآن يجب أن نرى كيف حصل المسلمون على جهاز المنجنيق، هذا؟

يرى البعض أنّ سلماناً هو الّذي صنع هذا الجهاز وعلّم المسلمين كيفية استخدامه في هذه الغزوة(3).

ويرى آخرون أنّ المسلمين حصلوا على هذا الجهاز وغنموه من اليهود في خيبر عند فتح قلاعهم وحصونهم واصطحبوه معهم إلى الطائف واستخدموه في غزوها.

ولا يبعد أنّ الصحابي الجليل سلمان الفارسي قد ادخل بعض التحسينات على ذلك المنجنيق الّذي جلبه المسلمون من خيبر، وعلّم المسلمين كيفية نصبه واستخدامه في القتال، فإنّه يستفاد من التاريخ أنّ المنجنيق لم يكن منحصراً في المنجنيق الّذي حُصِل عليه من يهود خيبر، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعث الطفيل بن عمرو

ص:592


1- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 21/2.
2- . الطبقات الكبرى: 158/2.
3- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 21/2 و 23 و ج 266/9.

الدوسي لتحطيم أصنام لقبيلة «دوس» في وقت متزامن مع خروجه إلى معركة حنين ثم الطائف فعاد الطفيل فاتحاً مع من خرجوا تحت إمرته من جنود الإسلام الأربعمائة، وكانوا برمّتهم من أبناء قبيلته، فقد قدم الطائف على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع آلة منجنيق واحدة وعربتين حربيتين خاصتين، وقد استخُدمت هذه الآليات في غزوة الطائف.

شدخُ جدار الحصن بالمنجنيق

كان لابدّ لإخضاع العدو ودفعه إلى الاستسلام من القيام بحملات واسعة ومن مختلف الأطراف والنواحي، ولهذا تقرّر أن يقوم جنود الإسلام، مضافاً إلى رمي الحصن بالمنجنيق، بإيجاد ثغرة في الجدار فواجهوا مشكلة كبرى، لأنّ السهام والأحجار، والنيران كانت تنصبُّ على رؤوس المقاتلين المسلمين كالمطر، ولم يكن في مقدور أحد منهم الاقتراب والدنوّ من جدار الحصن، فكان أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف هو استخدام الدبابة الّتي كانت في جيوش العالم الكبرى في تلك العصور في صورتها البدائية.

وكانت الدبابة آنذاك تُصنَعُ من الخشب وتُغطى بجلود البقر، ويدخل تحتها جماعةٌ من الجنود الأقوياء ثم تتحرّك نحو الحصن حتّى تدنو إليه، ويقوم الجنودُ بعملية إيجاد ثغرة أو نقَب في جدار الحصن، فاستخدم نفرٌ من جنود الإسلام الشجعان الأشداء هذا الجهاز بالطريقة المذكورة، بيد أنّ العدو قد حال دون هذا العمل إذ ألقى على الدبابة سكك الحديد المحماة بالنار فأخرب سقفها، واضطرَّ أفرادها إلى الخروج منها، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت منهم رجلاً واحداً ولم يؤثر، ولم ينجح هذه التكتيك القتالي، ولم يتحقّق أيُ نجاح في هذا المجال، فاْنصرف

ص:593

المسلمون عن استخدامه(1).

ضغوطٌ اقتصادية ونفسية

إنّ تحقيق الانتصار لا ينحصر في مجرّد استخدام الطرق والتكتيكات العسكرية، بل للقائد الحكيم أن يستخدم - لإضعاف قوة العدو وكسر صموده - الضربات والضغوط الاقتصادية ويجبره على الاستسلام.

وقد تكون الضربةُ النفسية والاقتصادية أقوى مفعولاً بدرجات أي إنّ أثرها يفوق بمراتب عديدة أثر الضربة العسكرية، والإضرار البدني الّذي يلحق بجنود العدو وأفراده.

ولقد كانت أرض الطائف أرض زراعة، ونخيل وأعناب، وكانت معروفة في الحجاز بخصبها، وكثرة محاصيلها وخيراتها، لأنّ أهلها كانوا يجهدون كثيراً في تنمية نخيلهم وأعنابهم ورعايتها، ويُولُون الحفاظ عليها اهتماماً كبيراً، ويعطون هذا الأمر القسط الأكبر من جهودهم.

فأعلن رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لتهديد المتمردين اللاجئين إلى الحصن، والمعتصمين به، بأنّه سيعمد إلى قطع أعناب ثقيف، وإفناء مزارعها إذا واصل المعتصمون بالحصن مقاومتهم ولم يسلّموا للمسلمين.

فلم يكترث العدوُ بهذا التهديد؛ لأنّه لم يك يتصوّر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - وهو النبي الّذي عُرف برحمته ورأفته - يستخدم مثل هذه الطريقة.

وفجأة وجدت «ثقيف» أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصدر أوامره بقطع الأعناب، وإتلاف المزارع وتحريقها، فوقع المسلمون فيها يقطعون ويحرقون.

ص:594


1- . لاحظ: المغازي: 928/2.

فعجّت «ثقيفٌ» لذلك وضجّت، واستغاثت برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأقسمت عليه بالرحم والقرابة أن يكفَّ عن ذلك، فتركها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم احتراماً لوشيجة القربى الّتي كانت بينه وبين «ثقيف».(1)

إنّ المعتصمين بحصن الطائف وإن كانوا من مثيري معركة حنين والطائف، وتلك الغزوتان اللّتان كلّفتا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الكثير من الخسائر والمتاعب غير أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قَبِل مع ذلك التماس العدو وطلبه هذا، فأبدى ولمرّة ثانية وجه الإسلام الرحيم وكشف عن إنسانيته في التعامل مع العدوّ اللدُود في ميدان القتال، وأمر أصحابه بالكفّ عن قطع الأعناب وتحريقها.

ثم إنّ مع ما نعرفه ونعهدهُ من أخلاق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأساليبه الإنسانية في مجال التعامل مع العدوّ، يمكننا أن ندرك بسرعة أنّ الامر بقطع الأعناب وتحريق المزارع كان مجرّد تهديد ومحاولة ضغط على العدو بحيث إذا لم تنجح هذه الطريقة معه لكفَّ عنها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتماً.

***

آخر محاولة لفتح حصن الطائف

كانت قبيلة «ثقيف» جماعة ثريّة، وذات مال كثير، وعبيدٍ وإماءٍ كثيرين، ولكي يحصل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على معلومات دقيقة عن الأوضاع في داخل الحصن، ويعرف بالتالي حجم إمكانات العدو ومدى استعداداته من جهة، ويوجد الاختلاف في صفوفه من جهة أُخرى، أمر أن يعلن عن القرار التالي: و ينادى: أيُ عبد نزَل من الحصن وخرَج إلينا فهو حرٌّ.

ص:595


1- . لاحظ المغازي: 928/2.

ونَفعَتْ هذه الطريقة إلى حدّ مّا، فقد خرج من الحصن بطريقة ماهرة حوالي بضعة عشر رجلاً من عبيد ثقيف ورقيقهم، والتحقوا بصفوف المسلمين فعرف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من خلال التحقيق معهم أنّ المعتصمين بالحصن لا ينوون الاستسلام، وأنّهم مستعدون للمقاومة حتّى لوطال الحصار عاماً واحداً، فإنّهم قد أَعدُّوا لمثل هذا الحصار الطويل الطعام الكافي، ولن يقعوا في أزمة بسبب طول الحصار.

جيشُ الإسلام يعود إلى المدينة

استخدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الغزوة جميع الأساليب والتكتيكات العسكرية المادية والنفسيّة ضدّ العدوّ، وقد أثبتت التجربةُ أنّ فتح الحصن يحتاج إلى مزيد من الصبر و العمل، على حين لم تكن ظروفُ الجيش الإسلامي وإمكاناته - يومذاك - لتسمح بذلك القدر من الصبر والترقّب، والانتظار والتوقّف، أكثر ممّا توقّف ومكث في تلك المنطقة وذلك:

أولاً: لأنّه قُتِلَ في أثناء هذه المحاصرة (12) مسلماً سبعة منهم من قريش، وأربعة من الأنصار، ورجل واحد من قبيلة أُخرى.

هذا مضافاً إلى مَن استشهد من المسلمين في وادي «حنين» إثر هجوم العدوّ الغادر، وانفراط صفوف الجيش الإسلامي، والذين لم يذكر التاريخُ - مع الأسف - أسماءهم، وخصوصياتهم، ولهذا كان قد دبَّ نوعٌ من التعب في نفوس جنود الإسلام لم يكن من الصالح تجاهلُه.

وثانياً: أنّ شهر شوال قد انتهى، وبدأ شهر ذي القعدة الّذي كان معدوداً عند العرب من الأشهر الحرُم، وقد أيّد الإسلام فيما بعد هذه السُّنّة، وأكّد حرمة الأشهر الحُرم.

ص:596

من هنا كان من الضروري - حفاظاً على هذه السُّنّة -(1) إنهاء الحصار في أقرب وقت لكي لاتتّهمُ عربُ ثقيف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمخالفة السُّنّة الصالحة وخرقها.

أضفْ إلى ذلك دُنوَّ حلول موسم الحج، مع العلم بأنّ إدارة ذلك الموسم ومناسكه كانت في ذلك العام للمسلمين، بعد أن كانت - قبل ذلك - تُدار بواسطة المشركين وبرعايتهم.

ولا شكّ أنّ موسم الحج الّذي كان سبباً لحصول اجتماع بشريّ عظيم من سكان الجزيرة العربية كان يوفّر أكبر وأفضل فرصة لتبليغ الإسلام وبيان حقيقة التوحيد، وكان على النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يستغلَ هذه الفرصة العظيمة الّتي أُتيحت له لأوّل مرة، في مجال الدعوة، ويستفيد منها أكبر قدر ممكن ويولي اهتمامه لقضايا أُخرى أكثر أهميّة وخطورة من فتح حصن واقع في منطقة نائية.

مع أخذ هذه الظروف بنظر الاعتبار ترك الرسول القائد صلى الله عليه و آله و سلم حصار الطائف وعاد بجيشه إلى الجعرّانة الّتي جعلها محلّاً لحفظ أسرى حنين وغنائمها.

حوادث ما بعد الحرب

انتهت حوادثُ معركة «حنين» و «الطائف» وعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من دون تحقيق نتيجة قطعية إلى «الجعرّانة» لتقسيم غنائم معركة «حنين».

ص:597


1- . ويدلُّ على هذا الأمر أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تَرك مكّة متوجّهاً إلى الطائف في الخامس من شهرشوال واستغرقت مدةُ الحصار عشرين يوماً، وصرفت بقيّة الأيام (وهي خمسة) في المسير إلى حنين، وفي المعركة. وقولنا بأنّ الحصار طال عشرين يوماً يستند إلى رواية نقلها ابن هشام، إلّاأنّ ابن سعد ذكر مدة الحصار أربعين يوماً (الطبقات الكبرى: 158/2).

والغنائم الّتي حصل عليها المسلمون في معركة «حنين» كانت من أكبر الغنائم الّتي غنموها طوال المعارك الإسلامية كلّها، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم قدم «الجعرّانة» كان هناك ستة آلاف أسير، و (24) ألف من الإبل وأكثر من (40) ألف رأس غنم و (852) كيلو غراماً من الفضة يحافظ عليها في مركز الغنائم(1)، وكان من الممكن أن تسدّد القيادة من هذه الغنائم قسماً كبيراً من ميزانية الجيش الإسلامي.

لقد مكث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في «الجعرّانة» ثلاثة عشر يوماً، وفي هذه المدّة قسَّم تلك الغنائم بطريقة خاصّة ملفتة للنظر وجديرة بالتأمّل والدراسة.

فقد خلّى سبيل بعض الأسرى، وتركهم لذويهم، وخطَّط لإخضاع (أو بالأحرى إسلام) مالك بن عوف النصري مثير معركة حنين والطائف الهارب، كما أظهر تقديره وشكره لمواقف الأشخاص في هاتين الغزوتين وخدماتهم، وجذب بسياسته الحكيمة أعداء الإسلام ورغّبتهم في عقيدة التوحيد الشريفة، وأنهى نقاشاً حدث بينه وبين جماعة الأنصار حول طريقة تقسيم الغنائم بخطبة جميلة.

وإليك تفصيل الكلام في المواضيع المذكورة:

1. لقد دأب رسولُ الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم على احترام حقوق الأفراد، وتثمين جهودهم مهما ضؤلت ودقّت، وعلى أن لا يبخس أحداً عمله، فإذا أحسن إليه أحدٌ قابل إحسانه بما يزيد عليه أضعافاً مضاعفة. وكان ذلك من أبرز صفاته وأخلاقه صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد رضعَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وترعرع في قبيلة بني سعد الّتي هي من قبائل هوازن، وقد أرضعته امرأةٌ من هذه القبيلة تُدعى «حليمة السعدية»، وقد بقي في تلك القبيلة خمسة أعوام.

ص:598


1- . الطبقات الكبرى: 152/2.

وقد شاركت قبيلة بني سعد في معركة حنين ضدَّ الإسلام فسُبيت بعض نسائهم وأطفالهم على أيدي المسلمين، كما وقعت بعضُ أموالهم بأيديهم أيضاً، وقد ندمت على فعلها ندماً شديداً.

وقد كانوا يعلمون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نشأ وترعرع فيهم، ورضع بلبن نسائهم هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى كانوا يعرفون أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ملء قلبه الرحمة والمروءة ومعرفة الجميل، فإذا سنَح لهم أنْ يذكِّروه بذلك لأطلق أسراهم حتماً.

فقدمَ وفد هوازن وكان في الوفد عمّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم من الرضاعة قال يومئذٍ: يا رسولَ اللّه إنّما في هذه الحظائر من كان يكفُلك من عماتِكَ وخالاتك، وحواضنك، وقد حضنّاك في حجورنا وأرضعناك بثدينا، ولقد رأيتُك مرضعاً فما رأيتُ مرضعاً خيراً منك، ورأيتُك فطيماً فما رأيتُ فطيماً خيراً منك، ثمّ رأيتك شاباً فما رأيت شاباً خيراً منكِ، وقد تكاملَتْ فيك خلال الخير، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتُك فاْمننْ علينا مَنَّ اللّه عليك.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: قد استأنيت بكم حتى ظننت أنّكم لا تقدمون وقد قسم السبي وجرت فيهم السهمان. وقدم عليه أربعة عشر رجلاً من هوازن مسلمين وجاءُوا بإسلام من وراءهم من قومهم، فكان رأس القوم والمتكلّم أبو صرد زهير بن صرد فقال: يا رسول اللّه... إنّما في هذه الحظائر عماتُك وخالاتُك وحواضنُك اللّاتي كنَّ يكفُلنَكَ، ولو أنّما مَلحْنا للحارث بن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثمّ نزلا منّا بمثل الّذي نزلت به رجونا عطفَهما وعائدتهما علينا وأنت خير المكفولين.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهم:

ص:599

«إنّ أحسَنَ الحديث أصدقُه، وعندي مَن ترون من المسلمين، فأبناؤُكم ونساؤُكم أحبُّ إليكُم أَمُ أموالكم»؟

قالوا: يا رسول اللّه خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا وما كُنّا نعدلُ بالأحْساب شيئاً، فرُدَّ علينا أبناءنَا ونساءنا.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«أمّا ما لي ولبني عبدالمطلب فهو لَكُمْ وأسأل لكم الناس، وإذا صلّيتُ الظهرَ بالناس فقولوا: إنّا لنستشفعُ برسول اللّه إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول اللّه فإنّي سأقول لكمْ: ما كانَ لي ولبني عبدالمطَّلب فهوَ لكمْ وسأطلبُ لكم إلى الناس». فلمّا صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الظهرَ بالناس قاموا فتكلّموا بالذي أمرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالوا: إنا نستشفع برسول اللّه إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول اللّه.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمّا ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم.

فقال المهاجرون: فما كانَ لنا فهو لرسول اللّه.

وقال الانصارُ: ما كانَ لنا فهو لرسول اللّه.(1)

وهكذا وهب الأنصارُ والمهاجرون نصيبَهم من الأسرى تبعاً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم يتأخّر عن ذلك إلّاقليلون مثل «الأقرع بن حابس» و «عيينة بن حصن» فقد امتنعا عن أن يهبا نصيبهما، ويطلقا سراح ما عندهم من السبايا، فقام رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: إنّ هؤلاء القوم جاءُوا مسلمين وقد استأنيتُ بهم، فخيّرتُهم

ص:600


1- . المغازي: 949/2-951.

بين النساء والأبناء، والأموال، فلم يعدلوا بالأبناء والنساء، فمَن كان عندَهُ منهنَّ شيء فطابت نفسه أن يردَّه فليرسلْ، ومن أبى منكم وتمسّك بحقه فليردَّ عليهم، وليكن فرضاً علينا ست فرائض (أي سوف أعطيه بدل الواحد ستاً) من أول ما يفيء اللّه به علينا(1).

فكان لعمل النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذا أثرٌ عظيم في نفوس المسلمين حيث خلّوا سبيل جميع مَن كان في أيديهم من الأسرى والسبايا إلّاامرأة عجوزاً امتنع «عيينة» من ردّها إلى ذويها.

وهكذا أثمر عمل صالحٌ غُرست شَتلته - قبل ستين عاماً - في أرض قبيلة بني سعد على يدي حليمة السعدية، فأتت أُكلَها بعد مدة طويلة وأُطلق بفضل ذلك العمل الصالح سراح الأسرى والسبايا من هوازن(2).

النبي صلى الله عليه و آله و سلم يلتقي الشيماء أُخته من الرضاعة

ثمّ إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دعا أُخته من الرضاعة «الشيماء»(3) وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، ودمعت عيناه، وسألها عن أُمّه وأبيه (من الرضاعة)، فأخبرته بموتهما... وخيّرها صلى الله عليه و آله و سلم: «إن أحببت فأقيمي عندي محبَّبة مكرَّمة، وإن أحببت أن أُمتِّعك وترجعي إلى قومك».

فقالت: بل تُمتّعني وتردّني إلى قومي، فمتَّعها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وردَّها إلى

ص:601


1- . المغازي: 952/2.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 153/2 و 154، السيرة النبوية لابن هشام: 925/4، والحادثة التاريخية هذه جسَّدت مضمون قول اللّه تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (النحل: 97).
3- . هي الشيماء بنت الحارث بن عبدالعزى بن رفاعة. الإصابة: 205/8 برقم 11390.

قومها، وأعطاها غلاماً يقال له مكحول وجارية، وقيل: بل أعطاها (رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم) ثلاثة أعبُد وجارية ونعماً وشاء.(1)

وقد قوّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإخلائه سبيل جميع أسرى هوازن وسباياها من رغبة هوازن في الإسلام، فأسلموا من قلوبهم، وهكذا فقدت «الطائف» آخر حليف من حلفائها.

2. اسلام مالك بن عوف

في هذه الأثناء اغتنم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الفرصة ليعالجَ مشكلته مع «مالك بن عوف النصري» مثير حرب حنين، عن طريق وفد بني سعد وذلك بترغيبه في الإسلام وعزله عن حليفه: «ثقيف».

ولهذا سألهم عن مالك بن عوف ما فعَل؟ فقالوا: يا رسولَ اللّه هو بالطائف مع ثقيف.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أخبروا مالكاً أنّه إنْ أتاني مُسلِماً ردَدتُ عليه أهلَه ومالَهُ وأعطيتُهُ مائة مِنَ الإبل».(2)

فبلّغَ وفدُ هوازن مالكاً كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأمانَهُ المشروط، فقرَّر مالكٌ الّذي كان يرى بأُمّ عينيه تعاظم أمر الإسلام واشتداد أزره كما رأى رحمة النبي ولطفه، أن يخرج من الطائف، ويلتحق بالمسلمين، ولكنّه كان يخشى أن تعرف «ثقيف» بنيّته فتحبسه في الحصن، ولهذا عمَد إلى خطّة خاصّة للفرار، فقد أمر

ص:602


1- . السيرة الحلبية: 93/3؛ الإصابة: 205/8.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 927/4.

براحلته فهُيِّئت له، وأمر بفرسٍ له فأتي به إلى الطائف، فخرج ليلاً، فجلس على فرسه، فركَّضهُ حتّى أتى راحلتَه حيث أمر بها أن تُحبس فركبها، فلحق برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأدركُه بالجعرانة أو بمكّة، فردّ عليه (النبي صلى الله عليه و آله و سلم) أهلَه وماله، وأعطاه مائة من الإبل كما وَعدَ من قبل، وأسلم فحسُن إسلامه، ثم استعمله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على مَن أسلم من قومه وقبائل «ثمالة» و «سلمة» و «فهم».

وقد أنشد «مالك بن عوف» أبياتاً عندما أسلم يصف فيها أخلاق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الكريمة، ويمدحه أجمل مديح إذ يقول:

ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثله في الناس كلّهمُ بمثل محمَّد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتُدي ومتى تَشأْ يخبْرك عمّا في غد

وإذا الكتيبة عرَّدتْ أنيابُها بالسمهريّ وضرب كلّ مهنَّد

فكأنَّه ليثٌ على أشباله وسط الهباءة خادرٌ في مرصد

وصار يقاتل بتلك القبائل ثقيفاً لا يخرج لهم سرحٌ إلّاأغار عليه، حتّى ضيّق عليهم لما حصل عليه من مكانة وعزّة في الإسلام، وبعد أن أدرك قُبح موقف «ثقيف»(1).

3. تقسيم الغنائم

كان أصحابُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يلحّون عليه أن يسرع في تقسيم غنائم الحرب، ولكي يدلّل النبيُّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم على حياده الكامل في تقسيم الغنائم قام إلى بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها ثم قال:

«أيّها الناس واللّه مالي من فيئكم ولا هذه الوبْرة إلّاالخُمس، والخُمس مردودٌ

ص:603


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 927/4-928. وعرّدت أي عوّجت.

عليكم، فأدّوا الخياط والمخيط فإن الغُلولَ (أي الخيانة في بيت المال) يكونُ على أهْله عاراً، وناراً، وشناراً يومَ القيامة».(1)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قسَّم أموال بيت المال بين المسلمين، وأمّا الخُمس الّذي هو حقُّه الخاصّ به فقد وزَّعه بين أشراف قريش الحديثي العهد بالاسلام يتألَّفهم، ويتألفُ بهم قومهُمْ، فأعطى من هذا المال ل: أبي سفيان بن حرب، وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن الحارث، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، والعلاء بن جارية، وصفوان بن أُميّة، وغيرهم ممّن كانوا يعادونه إلى الأمس القريب من رؤوس الشرك ورموز الكفر، لكلِّ واحد منهم مائة بعير(2). وقد كان لهذا العطاء السخيّ أثره الطيب والبالغ في نفوس تلك الجماعة الّتي شملها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم برحمته، ولطفه، وعنايته، وكرمه، واشتدت رغبتهم في الإسلام.

وهذا الفريق هم من يُصطلح عليهم في الفقه الإسلامي بالمؤلّفة قلوبُهم، وهم يشكّلون إحدى مصارف الزكاة بنصّ القرآن الكريم.

ويقول ابن سعد في «الطبقات الكبرى» بعد أن ذكر قصّة هذا التقسيم الخاص للغنائم: وأعطى ذلك كلّه من الخمس وهو أثبت الأقاويل عندنا(3).

ولقد شقّ هذا النوع من الأُسلوب في تقسيم الغنائم وهذا النمط من البذل الّذي مارسه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، على بعض المسلمين، وبخاصّة الأنصار وقد جهلوا

ص:604


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 929/4.
2- . راجع المحبّر: 473، المغازي: 944/2-948، السيرة النبوية لابن هشام: 929/4-932.
3- . الطبقات الكبرى: 153/3.

بالمصالح الّتي كان يراعيها، والأهداف العليا الّتي كان يتوخّاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من هذا النوع من البذل والعطاء (وهو تخصيص حديثي العهد بالاسلام بأكثر الغنائم).

لقد كانوا يتصوّرون أنّ التعصّب القبلي هو الّذي دفع بالرسول القائد صلى الله عليه و آله و سلم إلى أن يقسّم خمس الغنيمة بين أبناء قبيلته حتّى أنّ أحدهم (وهو ذو الخويصرة التميمي) قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكل وقاحة: يا محمَّد قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا اليوم، لم أركَ عدلت!!

فغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من كلامه هذا وقال:

«وَيحَكَ إذا لَمْ يكُنْ العَدلُ عِندي فِعندَ مَنْ يكونُ»؟!

فقال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه ألا أقتله؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا، دعْهُ فإنَّه سيَكُونُ له شيعةٌ يتعمّقون في الدين (أي يتتبّعون أقصاه) حتّى يخرجوا منه كما يخرج السهمُ من الرميّة»(1).

وقد كان هذا الرجلُ - كما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - زعيم فرقة الخوارج في عهد حكومة الإمام علّي عليه السلام، فهو الّذي قاد تلك الفرقة الخطرة، غير أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يقدم على عقوبته على ما بدَر منه فيما بعد؛ لأنّ القصاص أو العقاب قبل الجناية يخالف قواعد الإسلام.

ولقد رفع «سعد بن عبادة» شكوى الأنصار حول كيفية تقسيم الخمس إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم لسعد: إجمَعْ مَن كان هاهنا من الأنصار في هذه

ص:605


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 933/4؛ السيرة الحلبية: 88/3، وفي المغازي: 948/2: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال فيه: «دعه إنّ له أصحاباً يحقِّر أحدُكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية... يخرجون على فرقة من المسلمين». وراجع إمتاع الأسماع: 30/2، وجاء في السيرة الحلبية: أنّه أصل الخوارج.

الحظيرة.

فجمع سعدٌ الأنصار في تلك الحظيرة، فلمّا اجتمعوا دخل عليهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعليه جلالُ النبوة، وهيبة الرسالة، فحمد اللّه وأثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال:

«يا مَعشَر الأنصار ما مَقالةٌ بلغتني عنكم، وجدَةٌ وجدتموها في أنفسكم؟ ألمْ آتكمْ ضُلّالاً فهداكُمْ اللّه، وعالة فأغناكم اللّه، وأعداءً فألّف بَين قُلُوبكُمْ»؟

قالوا: بلى اللّه ورسولُه أمَنُّ وأفضلُ!

قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار»؟

قالوا: وماذا نجيبك يا رسول اللّه ولرسول اللّه المَنُّ والفضلُ؟

قال: «أما واللّه لو شِئْتُمْ قلتم فَصدَقْتُمْ أتيتَنا مكذَّباً فَصدّقناك، ومخذولاً فنصَرْناكَ، وطريداً فآويناكَ، وعائلاً فآسيناك!(1) وَجَدْتُمْ في أنفسِكُمْ يا معشرَ الأَنصار في شَيء مِنَ الدُّنيا تألّفتُ به قوماً ليسلَمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إلى إسلامِكُمْ، أفلا ترضونَ يا معشر الأَنصار أنْ يَذهبَ الناسُ بالشاة والبعير، وترجعُوا برسول اللّه إلى رحالِكُمْ؟

والّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيدهِ لَوْلا الهجرة لكنتُ امرَأً منَ الأَنصار، وَلو سَلكَ الناسُ شِعباً وسلكَتِ الأَنْصارُ شِعباً لَسلكْتُ شِعبَ الأَنصار».

ثم ترحَّم على الأَنصار وعلى أبنائهم وعلى أبناء أبنائهم فقال:

«اللّهمُ اْرحَم الأَنْصار وأبناء الأَنصار وَأبْناء أبناء الأَنصار».

ص:606


1- . إنّ هذا يفيد أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ما كان ينسى فضل أحد عليه وإن كان هو صلى الله عليه و آله و سلم صاحب الفضل الأكبر على الناس أجمعين.

وقد كانت كلماتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هذه من القوّة والعاطفيّة بحيث أثارت مشاعر الأَنصار، فبكوا بعد سماعها بكاء شديداً حتّى اخضلّت لحاهُمْ وابتلَّتْ بالدُّموع وقالوا: رَضينا برسول اللّه قسماً وحَظّاً!!!

ثم انصرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتفرّقوا(1).

إنّ هذه القصّة تكشف عن عمق حكمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعن حنكته السياسيّة البالغة، وكيف أنّه كان يعالج المشاكل بأساليب مناسبة وبروح الصدق واللطف.

رسول اللّه يعتمر

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خرج من الجعرّانة معتمراً، بعد أن قسّم الغنائم، فلمّا فرغ من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة، فقدم المدينة في أواخر شهر ذي القعدة، أو أوائل شهر ذي الحجّة.(2)

ص:607


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 935/4؛ المغازي: 957/2-958.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 936/4.

53 لاميّة كعب بن زهير المعروفة

اشارة

«بانت سعاد...»

فرغَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في منتصف شهر ذي القعدة، من السنة الثامنة للهجرة من قسمة غنائم حنين في الجعرّانة، وكان موسم الحج على الأبواب، وكانت هذه السنة هي السنة الأُولى الّتي كان يتوجّب على الحجيج العرب، مسلمين ومشركين، أن يقوموا بمناسك الحج تحت رعاية الحكومة الإسلامية

وكان اشتراك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الشعائر يزيد الحج عظمة وجلالاً، وكان من الممكن - وبفضل قيادته الحكيمة - أن تتم في ذلك الحشد الهائل والاجتماع العظيم دعوةٌ صحيحةٌ وقويةٌ وواسعةٌ إلى الإسلام، بينما كانت ثمّة مسؤوليات في المدينة تنتظر عودة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقد مضى على مفارقته المدينة ما يقرب من ثلاثة أشهر، وكانت الأعمال الّتي يجب أن يقوم بها هو بنفسه قد تعطَّلت طوال هذه المدة.

وبعد دراسة هذه المسألة من جوانبها المختلفة رأى الرسول القائد صلى الله عليه و آله و سلم أن يكتفي بعُمرة، يغادر بعدها مكّة ليصل إلى المدينة في أقرب وقت ممكن.

ولكنّه صلى الله عليه و آله و سلم رأى أنّه لابدَّ أن يعيّن شخصاً صالحاً لإدارة الأُمور السياسية والدينية في المنطقة الحديثة العهد بالفتح الإسلامي (نعني مكّة) حتّى لا تحدث في

ص:608

غيابه أزمةٌ فيها، وحتّى تجري الأُمور على النسق الصحيح والمطلوب.

من هنا استخلف النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم «عتَّاب بن أسيد» على مكّة، وكان عتاب شاباً لبيباً يتّسم بالصبر والجلد، وكان له من العمر إذ ذاك عشرون سنة، وقد قرّر له النبيُّ راتباً قدره درهمٌ واحدٌ كلّ يوم.

وبهذا العمل (أي تعيين شاب حديث العهد بالإسلام والإيمان في مقتبل العمر، ولكن كفوء، لتسيير الأُمور في مكّة، وتفضيله على كثير من الشيوخ وكبار السنّ) حطّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سدّاً خيالياً، ومفهوماً باطلاً في مجال التوظيف والتأمير.

فإنّ جماعة من الناس لمّا أمّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «عتَّاباً» على أهل مكّة قالوا:

إنّ محمَّداً لا يزالُ يستخفُّ بنا حتّى ولّى علينا غلاماً حدث السنّ ابن ثمانية عشر سنة، ونحن مشايخُ ذوو الأسنان، فأجابَهمْ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقوله في كتاب كتبه لعتّاب:

«لا يحتجُّ مُحْتَجٌّ مِنْكُمْ في مخالَفتِه بِصغَر سنِّه، فليسَ اْلأكبرُ هُوَ الأَفضَلُ، بَل الأَفضلُ هَوَ الأكبرُ، وَهُوَ الأكبرُ في موالاتنا وموالاة أوليائنا ومعاداة أعدائنا، فلذلك جَعلناهُ الأَمير عليكمْ والرئيسَ عليكم، فمَن أطاعَه فمرحباً به ومن خالفَهُ فلا يُبعِدُ اللّهُ غيره»(1).

وبهذا أثبت صلى الله عليه و آله و سلم عملياً أنّ حيازة المناصب الاجتماعية إنّما تدور فقط حول معيار الأهلية والجدارة، والكفاءة، وأَنَّ صِغر السنّ لا يمنع من ذلك إذا كان صاحبُه يتمتع بكفاءة عالية.

ص:609


1- . بحار الأنوار: 123/21.

ثم إنّ «عَتّاباً» قام فخطب في الناس فقال: أيّها الناسُ أجاع اللّه كبِدَ مَن جاع على درهم، فقد رزقني رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم درهماً كلّ يوم، فليست بي حاجةٌ إلى أحد(1).

وأحسن رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الاختيار أيضاً عندما عيّن «معاذ بن جبل» ليعلّمَ الناس القرآن ويفقّههم في الدين، فقد كان معاذ ممّن عرف بالفقه، والمعرفة بأحكام القرآن بين أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا بعثه للقضاء، إلى اليمن سأله صلى الله عليه و آله و سلم: بمَ تَقضي إن عَرضَ قضاءٌ؟ فقال: أقضي بما في كتاب اللّه.

قال: فإنْ لم يكنْ في كتابِ اللّه؟

قال: أقضي بما قضى بهِ الرسولُ.

قال: فإنْ لم يكنْ فيما قضى به الرسولُ؟

قال: أجتَهِدُ رأيي ولا آلو.

فضرب النبي صلى الله عليه و آله و سلم صدره، وقال:

«الحمدُ اللّه الَّذي وفّقَ رسول رسول اللّه لما يرضي رسول اللّه»(2).

قصّة كعب بن زهير بن أبي سلمى

كان «زهير بن أبي سلمى» من شعراء العرب البارعين في العهد الجاهلي، فهو صاحب إحدى المعلّقات السبع الّتي بقيت منصوبة في الكعبة المعظّمة حتّى

ص:610


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 936/4. ويكتب الجزري في أُسد الغابة: (ج 3 ص 358) كان عتاب رجلاً خبيراً صالحاً فاضلاً.
2- . الطبقات الكبرى: 347/2 و 348.

قُبيل نزول القرآن الكريم، وكانت تفتخر بها العربُ، وتبدأ معلَّقتُه تلك بقوله:

أَمِنْ أُمّ أوفى دِمنةٌ لم تكَلّمِ بِحَومانةِ الدَرّاج فالمتثلّم

وقد توفي «زهير» قبل عصر الرسالة، وخلّف ولدين هما: «بجير»، و «كَعْب» وكان الأوّلُ ممّن آمنَ برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ونَصَره، وأحبَّه، بينما عادى الثاني (كعب) رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بشدَّة، وحيث إنّه كان ذا قريحة شعرية موروثة قوية، لهذا كان يهجو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قصائده وأشعاره ويؤلّب الناس ضدَّ الإسلام.

ولمّا قدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة كان «بجير» قد شارك مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم في فتح مكّة، وحصار الطائف، وقد شاهد عن كثب كيف هدّدَ النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم بالقتل بعض الشعراء الذين كانوا يهجون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويؤلّبون الناس ضدَّ الإسلام، وأهدر دماءهم.

فكتبَ بهذا إلى أخيه (كعب) ونصحه في آخر كتابه قائلاً: إن كانَتْ لكَ في نفسك حاجة فَطِر إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه لا يقتل أحداً جاءه تائباً.(1)

فاطمأنَّ كعبُ بكلام أخيه، وتوجّه من فوره إلى المدينة فدخل المسجد ورسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتهيّأ لصلاة الصبح، فصلّى مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لأوّل مرّة ثم جلس إليه، ووضع يده في يده، وكان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يعرفه، فقال: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنَّ كعب بن زهير قد جاء ليستأمِنَ مِنَكَ تائباً مُسِلماً فهل أنت قابلٌ منه إن أنا جئتك به؟

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: نعم.

ص:611


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 937/4.

قال: أنا يا رسول اللّه كعبُ بن زهير(1).

ثم أخرج كعبٌ قصيدته اللّامية العصماء الّتي مدح فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والّتي كان قد أنشأها من قبل، وأنشدَها بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد ليتلافى بها ما سبق أَن بدَرَ منه من هجاء وطعن في سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم(2).

وهذه القصيدة الرائعة هي من أفضل قصائد كعب وقد اعتنى المسلمون بحفظها ونشرها منذ أن أنشدها الشاعرُ المذكور بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد، وقد شرحها علماءُ الإسلام كثيراً، وعدد أبيات هذه اللامية (أي الّتي تنتهي قوافيها باللام المضمومة) 58 بيتاً ومطلعها:

بانَتْ سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ متيَّمٌ إثرَها لم يُفْدَ مكبولُ

لقد بدأ كعب قصيدَته هذه - على عادة شعراء العهد الجاهلي (الذين كانوا يبدأون قصائدهم بمخاطبة محبوبتهم أو مخاطبة الأطلال) - بذكر سعاد زوجته وابنة عمه، ولقد خصّها بالذكر لطول غيبته عنها، لهروبه من النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيقول:

فارقَتْني سعادٌ فراقاً بعيداً فقلبي اليوم أسقَمه الحبُّ، وأضناه، فهو ذليلٌ لغيبتها لم يخلص من الأسر والقيد.

ثم يمضي في هذا النمط من الكلام حتّى يصل إلى أن يعتذر من صنيعه السيئ فقال:

نُبِّئتُ أنَّ رسولَ اللّه أوعدَني والعَفوُ عند رَسول اللّه مأمولُ

ص:612


1- . روي أنّه وثب على كعب - في تلك الحال - رجلٌ من الأنصار فقال: يا رسولَ اللّه دعني وعدوَّ اللّه أن أضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: دعهُ عنكَ فإنّهُ قد جاء تائباً نازعاً (عما كان عليه). لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 938/4-939.
2- . السيرة الحلبية: 239/3.

مهلاً هَداك الّذي أعطاك نافِ - لَة القرآن فيها مواعيظٌ وتَفصيلُ

لا تأخُذَنّي بأقوال الوُشاة وَلمْ أُذْنبْ ولو كَثُرتْ فيَّ الأَقاويلُ

إلى أن قال:

إنّ الرسولَ لنورٌ يُستَضاء بُه مُهنَّدٌ من سيوف اللّه مَسلولُ (1)(2)

حُزنٌ قارَن فَرحاً

في أواخر السنة الثامنة للهجرة فقَد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كُبرى بناته: «زينب»، وقد تزوَّجت زينب قبل البعثة بابن خالتها أبي العاص، وآمنت بأبيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد البعثة من دون تأخير، ولكنَّ زوجها ظلّ على شركه، وشارك في «بدر» ضدّ الإسلام والمسلمين، وأُسِرَ في تلك المعركة فخلّى رسولُ اللّه سبيله، شريطة أن يبعث بابنته «زينب» إلى المدينة.

وفعل ابنُ العاص ذلك فجهَّزَ زوجتَه «زينب» وبعثها برفقة أخيه إلى المدينة، غير أنّ سادة قريش عرفوا بذلك، فكلَّفوا مَن يُعيدُها إلى مكّة، فلحق بها هبّار بن الأسود فروّعها وطعن هودجَها برمحه ففزعت زينب ابنةُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأسقطَتْ حملها من شدّة الفزع، ولكنّها لم تنصرفْ عن الذهاب إلى المدينة، فقد واصلتْ سيرها حتّى قدمَت المدينة وهي عليلةٌ، وقضت بقيّة عمرها مريضة حتّى

ص:613


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 939/4-941.
2- . يقال: إن كعباً عندما فرغ من إنشاء قصيدته كساه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بُردة كانت عليه، فلمّا كان زمن معاوية أرسل إلى كعب أن بعنا بُردة رسول اللّه، فقال: ما كنتُ لأُوثر بثوب رسول اللّه أحداً، فلمّا مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم، وهي البردة الّتي كان يلبسها الخلفاء الأُمويون والعباسيون (راجع: الكامل في التاريخ: 276/2).

توفِّيَت في أواخر السنة الثامنة من الهجرة.(1)

ولكنَّ هذا الحزنَ قارنَهُ فرحٌ وسرورٌ فقد رُزقَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أواخر نفس ذلك العام ولداً أسماه «ابراهيم» من زوجته «ماريّة القبطية» (وهي الجارية الّتي أهداها المقوقس حاكمُ مِصر إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم).

والجدير بالذكر أنّه عندما بشّرت سلمى (المولِّدَة) رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك، أعطاها هدية ثمينة، وعقَّ له في اليوم السابع من ولادته، وحلق شعرَهُ، وتصدّق بوزن شَعره، فضة في سبيل اللّه(2).

ص:614


1- . لاحظ: الاستيعاب: 1854/4 برقم 3360؛ البداية والنهاية: 399/3؛ أعيان الشيعة: 41/7.
2- . تاريخ الخميس: 131/2.

حوادث السنة التاسعة من الهجرة

54 عليُّ بن أبي طالب في أرض طيّ

عام الوفود

انقضت السنة الهجرية الثامنة بكلّ حوادثها المُرّة والحُلوة، فقد سقطت أكبر قاعدة من قواعد الوثنية والشرك في أيدي المسلمين، وعادَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة ظافراً منتصراً على أعداء الإسلام انتصاراً كاملاً، وقد هيمنَت ظلالُ القوة العسكرية الإسلامية على أكثر أنحاء الجزيرة العربية ونقاطها.

كما أخذت القبائل العربية المتمرّدة الّتي لم تكن تتصوّر إلى ذلك اليوم أن تتحقّق مثل هذه الانتصارات لدين التوحيد، أخذت تفكّر شيئاً فشيئاً في التقرّب إلى المسلمين وقبول معتقداتهم، واعتناق دينهم.

من هنا كانت وفودُ القبائل العربية المختلفة، وأحياناً مجموعة من أفراد قبيلة ما بقيادة رئيسها تقدم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتعلن عن إسلامها، وقبولها للرسالة المحمدية.

وقد ازداد قدومُ وفود القبائل هذه على عاصمة الإسلام (المدينة المنورة)

ص:615

في هذا العام حتّى سمّي بعام الوفود(1).

وعندما قدم وفدٌ من قبيلة «طيّ» وفيهم سيدهم «زيدُ الخيل» على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتحادث مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم أعجب رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعقل زيد وحكمته ووقاره فقال عنه:

«ما ذُكِرَ لي رَجُلٌ من العَرب بفَضْلٍ ثم جاءني إلّارأيتُه دونَ ما يُقال فيه، إلّا زيد الخيل، فإنّه لم يبلغْ كلّ ما كان فيه».

ثم سَمّاه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم زيد الخير(2).

إنّ دراسة قصّة الوفود، والإمعان والتدبّر في ما دار بينهم وبين رسول الإسلام

ص:616


1- . لقد سجّل المؤرّخ المعروف محمَّد بن سعد - في كتابه - خصوصيات وأسماء هذه الوفود وتفاصيل القسم الأكبر ممّا دار بينها وبين النبي صلى الله عليه و آله و سلم وما خصّهم به رسولُ الإسلام من اللطف لا يسع المجال لذكره هنا، وقد ذكر أسماء ثلاثة وسبعين وفداً من تلك الوفود الّتي وفدت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم طوال السنة التاسعة من الهجرة أو ما قبلها بقليل (الطبقات الكبرى: 291/1-359).
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 999/4. هذا وينبغي الإشارة هنا وبالمناسبة إلى أنّه كان من سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يغيّر الأسماء القبيحة الّتي اعتاد الجاهليّون على تسمية أبنائهم بها أيثاراً للاسم الحسن، ولأنّ الاسم يورث الاحساس بالشخصية لدى صاحبه على العكس من الاسم القبيح، وقد ثبت هذا نفسياً، بل ربما غيّر الاسماء الّتي قد يشعر معها الإنسان بالعظمة، والفخر والزهو منعاً من أن تحدث لأصحابها مثل ذلك. فعن الإمام جعفر بن محمَّد الصادق عن أبيه عليهما السلام قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان (قرب الأسناد: 93 برقم 310) ولهذا غيّر أسماء كثيرة لرجال ونساء فغيّر اسم ابنة لعمر كانت يقال لها عاصية فسمّاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جميلة (صحيح مسلم: 173/6، باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن) وقد روي أنّ النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّ أوّل ما ينحل أحدُكُمْ ولَدَهُ الاسمَ الحسن» (بحار الأنوار: 122/23).

يفيد بوضوح وجلاء أنّ الإسلام انتشر في شبه الجزيرة العربية عن طريق الدعوة والتبليغ.

على أنّ طواغيت ذلك العصر أمثال أبي سفيان وأبي جهل كانوا يحاولون الحيلولة دون انتشار هذا الدين، فكانت لأجل ذلك حروب النبي صلى الله عليه و آله و سلم فمضافاً إلى أنّ أكثرها كان لإفشال تلك المؤامرات، كان الهدَفُ منها هو قمع أُولئك الطواغيت الذين كانوا يَصدُّون عن سبيل اللّه ويمنعون من دخول مجموعات الدعوة والتبليغ الإسلامية إلى مناطق الحجاز ونجد وغيرها.

إنَّ من البديهيّ أن لا يتيسَّر انتشار أيّ دين، وتطبيق أي برنامج إصلاحي من دون تحطيم الطواغيت، وإزالة الأشواك من طريقه.

ومن هنا نرى أنَّ جميع الأنبياء والرسُل - وليس رسول اللّه فقط - كانوا يجتهدون قبل أي شيء في تحطيم الطواغيت وإزالة السدود والموانع، من طريق الدعوة.

ويتحدّث القرآنُ الكريم في سورة خاصّة عن قدوم هذه الوفود على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وما حقّقه الإسلام من فتح وانتصار ساحق إذ يقول:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ * وَ رَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْواجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً».(1)

وبالرغم مِن هذا الإقبال المتزايد على الإسلام لدى القبائل وقدوم الوفود المتلاحق على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقد قام في السنة التاسعة من الهجرة ببعث عدّة سرايا، ووقعت غزوة واحدةٌ، وكانت السرايا هذه لأجل إفشال المؤامرات الّتي

ص:617


1- . النصر: 1-3.

كانت تحاك ضدّ الإسلام والمسلمين، وكانت في الأغلب لهدم الأصنام الكبيرة الّتي كانت لا تزال القبائلُ العربيةُ المشركةُ تقدّسها وتعبدها، ومن جملة هذه السرايا سرية علي بن أبي طالب عليه السلام الّتي وُجِّهت إلى أرض «طيّ» بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومن بين ما وقع في السنة التاسعة يمكن الإشارة إلى غزوة «تبوك».

ففي هذه الغزوة غادر رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة متوجّهاً إلى أرض تبوك، ولكنّه لم يلق فيها أحداً، فعاد مِن غير قتال، إلّاأنّه مَهَّدَ الطريق لفتح البلاد الحدُودية لمن يأتي في المستقبل.

هدم بيوت الأصنام

لقد كانت الوظيفة الأساسية الأُولى من وظائف النبي صلى الله عليه و آله و سلم هي: نشر عقيدة التوحيد، واجتثاث جذور كلّ نوع من أنواع الشرك، وقد كان صلى الله عليه و آله و سلم يسلُك - لتحقيق هذه الغاية، ولإرشاد الضالّين والوثنيّين - طريق المنطق والاستدلال، قبل أي شيء فكان يلفت أنظارهم بالأدلّة الواضحة والبراهين الساطعة إلى بطلان الشرك والوثنية، فإذا لم يُجد معهم المنطقُ المبرهَنُ، والإرشادُ المستدَلُّ، ولَجّوا في كفرهم وشركهم سمحَ لنفسه بأن يتوسَّل بالقوة، ويداوي أُولئك المرضى روحاً وفكراً والذين يمتنعون عن استعمال الدواء وبمحض اختيارهم، بالمعالجة الجبرية.

فإنّه إذا شاع داء «الكوليرا» في بلد من البلدان مثلاً، وامتنع فريقٌ من الناس عن قبول تلقيحهم بالمصل اللازم لمكافحة ذلك المرض، فإنّ المسؤول في ذلك البلد يرى لنفسه الحقّ في أن يجبر تلك الجماعة الضيّقة التفكير الّتي تعرّضُ سلامة نفسها وسلامة غيرها للخطر من حيث لا تشعر على الرضوخ لعملية التلقيح المذكورة.

ص:618

لقد أدرك رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ضوء تعاليم الوحي أنَّ الوثنية أشبه شيء بجرثومة «الكوليرا» تهدم فضائل الإنسان، وشرفه، وتقضي على مكارم الأخلاق، وتحطّ من مكانة الإنسان الرفيعة، وتجعله كائناً حقيراً أمام الطين والحجر والموجودات المنحطّة.

وعلى هذا الأساس أُمر من جانب اللّه تعالى بأن يجتَثَّ جذورَ الشرك من كيان ذلك المجتمع الموبوء، ويزيل كلّ مظاهر الوثنية، وكلّ أنواعها وأشكالها، وإذا ما قاومت جماعةٌ هذا العمل، وعارضَتْ هذا الإجراء حطّم مقاومته بالقوة العسكرية، والقبضة الحديدية.

إنَّ التفوّق العسكري أعطى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فرصة بَعْث الفِرَق العسكرية لتحطيم وهدم كلّ بيوت الأصنام، وأنْ لا يبقوا في منطقة الحجاز صنماً إلّاهَدَّموه.

عليٌ في أرض طيّ

ولقد كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعرفُ من قَبل، أن في قبيلة طيّ صنماً كبيراً يُقدَّس إلى الآن ومن هنا بَعث صلى الله عليه و آله و سلم بطل جيشه الشجاع علي بن أبي طالب عليه السلام على رأس مائة وخمسين فارساً إلى أرض طيّ، وأمره بأن يحطّم صنم طيّ، ويهدم بيته.

وقد أدرك قائد هذه السرية أنّ القبيلة المذكورة ستقاومُ جنود الإسلام، وأنَّ الأمر لن يتمَّ من دون قتال، ولهذا حمل بأفراده على موضع ذلك الصنم، عند الفجر والناس نيام، فاستطاع أن يأسر جماعة من تلك القبيلة ممّن قاوم، وأن يعود بهم وبالغنائم إلى المدينة، وقد فرّ «عديّ بن حاتم الطائي» الّذي انضمّ فيما بعد إلى صفوف المسلمين، المجاهدين في سبيل اللّه، وكان يرأس تلك القبيلة، حين سمع بتوجّه علي عليه السلام نحوها.

ص:619

ولنستمع إلى عديّ الطائي نفسه وهو يقصُّ علينا قصّة هروبه.

قصة إسلام عدي بن حاتم الطائي

يقول عديّ: ما من رجل كان أشدّ كراهية لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين سمع به، منّي.

أمّا أنا فكنتُ امرأً شريفاً، وكنتُ نصرانياً، وكنتُ أسيرُ في قومي بالمرباع (أي آخذ الربع من الغنائم لأنّي سيّدهم) فكنتُ في نفسي على دين، وكنتُ ملكاً في قومي لما كان يُصنَع بي. فلمّا سمعتُ برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عربيّ، وكان راعياً لإبلي: لا أباً لك أعددْ لي من إبلي أجمالاً ذُلُلاً سماناً، فاحتبسها قريباً منّي، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذنّي؛ ففعل.

ثم إنّه أتاني ذات غداة، فقال: يا عديّ ما كنت صانعاً إذا غشيَتْك خيلُ محمَّد، فأصنَعْهُ الآن، فإنّي قد رأيتُ رايات، فسألتُ عنها، فقالوا: هذه جيوش محمَّد.

قال: فقلت: فقرّبْ إليَّ أجمالي فقرَّبها، فاحتملتُ بأهلي ووُلدي، ثم قلتُ:

ألحَقُ بأهل ديني من النصارى بالشام فسلكتُ الجوشية(1) وخلّفت بنتاً لحاتم في الحاضر، فلمّا (وصلت) الشام أقمت بها. وتخالفني خيلٌ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فتصيب (أُختي) ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في سبايا من طيّ، وقد بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هروبي إلى الشام.

فَجُعِلَت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا يُحبَسن فيه، فمرَّ بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقامت إليه أُختي وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هلَك الوالدُ، وغابَ الوافدُ، فاْمنُنْ عليَّ مَنَّ اللّهُ عليك.

ص:620


1- . الجوشية: جبل للضباب قرب ضرية، من أرض نجد.

قال: ومَن وافدُك؟

فقالت: عديُّ بن حاتم.

قال: الفارُّ من اللّه ورسوله؟

ثم مضى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتركني حتّى إذا كان من الغَدِ مرّ بي، فقلت له مثلَ ذلك، وقال لي مثلَ ما قالَ بالأمس. حتّى إذا كان من الغد مرّ بي وقد يئستُ منه، فاشار إليّ رجلٌ من خلفهِ أن قُومي فكلّميه، فقامتْ إليه، وقالت: يا رسول اللّه هلك الوالدُ، وغابَ الوافدُ، فامنُن عليَّ منَّ اللّه عليك.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «قَدْ فَعلتُ فلا تعجَلي بخروج حتّى تجدي مِنْ قومكِ من يكونُ لك ثقة حَتى يُبلغك إلى بلادك ثم آذنيني».

تقول أُختي: فسألت عن الرجل الّذي أشار إليّ أن أُكلمه فقيل: علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه.

وأقمت حتّى قدم ركبٌ من بلّي أو قضاعة قالت: وأنّما أُريد أن آتي أخي بالشام. قالت: فجئتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقلتُ: يا رسول اللّه قد قدم رهطٌ مِن قومي لي فيهم ثقةٌ وبلاغٌ.

قالت: فكساني رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحَملني، وأعطاني نفقة، فخرجتُ معهمْ حتّى قدمت الشامَ.

قال عَديّ: فواللّه إني لقاعدٌ في أهلي إذ نظرتُ إلى ظعينة (وهي المرأة في هودجها) تصوّبُ إليّ تؤمُنا قال: فقلتُ ابنة حاتم، قال: فإذا هي هي، فلمّا وقفَتْ عليّ انسحلت (أخذتْ في اللوم) تقول: القاطع الظالم، احتملتَ بأهلك وولدك، وتركت بقيّة والدك عورتك.

فقلتُ: أي أُخيّهْ، لا تقولي إلّاخيراً، فواللّه مالي من عُذر، لقد صنعتُ ما

ص:621

ذكرتِ، ثم نَزلَتْ فأقامت عندي فقلتُ لها، وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟

قالت: أرى واللّه أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجُل نبيّاً فللسابق إليه فضلُه، وإن يكن مَلِكاً فلن تذل في عِز اليمن، وأنت أنت. فقلت: واللّه إنّ هذا الرأي.

قال عديّ: فخرجتُ حتّى أقدمُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة فدخلتُ عليه، وهو في مسجده، فسلّمتُ عليه، فقال: مَنِ الرجلُ؟ فقلت: عديُّ بن حاتم، فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فانطلَقَ بي إلى بيته، فواللّه إنّه لعامدٌ بي إليه، إذْ لقيَتْه امرأةٌ ضعيفة كبيرة فاستوقفَتْهُ، فوقف لها طويلاً تكلّمُه في حاجتها. فقلتُ في نفسي: واللّه ما هذا بملك.

ثم مضى بي رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أُدم محشوّة ليفاً فقذفها إليّ، فقال: إجلسْ على هذه، فقلت: بل أنت فاجلسْ عليها، فقال: بل أنتَ، فجلستُ عليها، وجلس رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالأرض (وهو عظيم الحجاز) فقلتُ في نفسي: واللّه ما هذا بأمر ملك، ثم قال: إيه يا عديّ بن حاتم، ألم تكُ ركوسيّاً (وهو دين بين دين النصارى والصابئين)؟

قلت: بلى.

قال: أوَلَمْ تكنْ تسيرُ في قومك بالمرباع؟

قلتُ: بلى.

قال: فإنّ ذلكَ لم يَحُلْ لك في دينك.

قلت: أجل واللّه، وعرفتُ أنّه نبيٌ مُرسَل، يَعلمُ ما يُجهَل، ثم قال: لعلّك يا عديّ إنّما يمنعُك من الدخول في هذا الدين ماترى من حاجتهم، فواللّه ليوشِكَنَّ المالُ أن يفيض فيهم حتّى لا يوجد من يأخذُهُ، ولعلَّك إنّما يمنعُك من دخول فيه

ص:622

ماترى من كثرة عدُوهم وقلّة عددهم، فواللّه ليوشكَنَّ أن تسمعَ بالمرأة تخرجُ من القادسية على بعيرها حتّى تزور هذا البيت، لا تخاف، ولعلَّك إنّما يمنعك من دخول فيه أنّك ترى أنَّ المُلك والسلطان في غيرهم، وأيم اللّه ليوشكِن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتِحَتْ عليهم.

قال عديّ: فأسلمتُ.

وكان عديّ يقولُ: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة واللّه لتكوننَّ، قد رأيتُ القصور البيض من أرض بابل قد فُتِحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتّى تحجَّ هذا البيت، وأيمُ اللّه لتكونن الثالثة، ليفيضنّ المالُ حتّى لا يوجدَ من يأخذه(1).

ولقد نقل العلامةُ الطبرسي في تفسير قوله تعالى: «اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» (2) اللقاء الّذي تمّ بين عديّ ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويقول: قال عديّ انتهيتُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية: «اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ...» حتّى فرغ منها، فقلت له: إنّا لَسْنا نعبدُهم، فقال: أليس يحرّمونَ ما أحلَّ اللّه فتحرّمونَه، ويُحلّون ما حرّمَ اللّه فتستحلُّونه، فقلتُ:

بلى، قالَ: فَتِلكَ عبادتُهم(3).

ص:623


1- . المغازي: 988/2 و 989؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1000/4-1002؛ الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الامامية: 352-354؛ السيرة الحلبية: 257/3-259.
2- . التوبة: 31.
3- . مجمع البيان: 43/5-44.

54 غَزْوَةُ تَبُوك

اشارة

تبوك هي قلعةٌ قويّة، رفيعة الجدران مقامة عند عين ماء على الشريط الحدودي السوري في طريق «حجر» و «الشام».

وكانت سوريةُ آنذاك من مستعمرات إمبراطورية الروم الشرقية، الّتي كانت عاصمتُها القسطنطينية.

وكان جميعُ سكان المناطق الحدودية للشام نصارى على دين المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وكان أكثر زعمائها ولاة منصوبين من قِبَل حاكم الشام الّذي كان يمثّلُ هو بدوره إمبراطور الروم، ويمتثل أوامره.

ولقد كان لانتشار الإسلام السريع في شبه الجزيرة العربية وفتوحات المسلمين المشرقة في الحجاز صداه في خارج الحجاز ينعكسُ بالوسائل الموجودة في ذلك اليوم، وكان ذلك يُرعبُ الأعداء، ويدفعُهم إلى التفكير في حيلة.

ولقد دفعَ سقوطُ حكومة «مكّة» الوثنية، واعتناقُ زعماء الحجاز الكبار للدين الإسلامي، وبطولات جنود الإسلام الباهرة وبسالتهم وتفانيهم الفريد في طريق عقيدتهم، بامبراطور الرّوم إلى أن يحشّد جموعاً كبيرة، ويتهيّأ لمهاجمة المسلمين

ص:624

وغزوهم بغتة، لأنّه كان يرى تزلزل سلطانه مع انتشار الإسلام المطّرد، وكانت مخاوفه تزدادُ يوماً بعد يوم وهو يرى تعاظم القوة الإسلامية العسكرية، وانتشار نفوذه السياسيّ.

كانت الرومُ - آنذاك - المنافسة الوحيدة، والقوية لإيران، وكانت تملك أعظم قوة عسكرية، وكانتْ مغترَّة أشدّ الغرور بنفسها، لما أصابتْهُ من فتوحات وانتصارات في معاركها الكبرى مع إيران، وما ألحقتْهُ من هزائم نكراء بإيران في تلك العصور.

وقد كان جيش الروم يتألّفُ من أربعين ألف فارس وراجل، وكان مجهّزاً بأحدث أسلحة وتجهيزات ذلك العصر، وقد استقرَّ هذا الجيش على الشريط الحدوديّ لأرض الشام، والتحقت به قبائل عديدةٌ تسكن الحدود مثل قبيلة:

«لخم»، «عاملة»، «غسان»، و «جذام»، وتقدمت طلائع ذلك الجيش حتّى منطقة «البلقاء».

ولقد بلغ نبأ استقرار فريق من جنود الروم على الشريط الحدودي للشام إلى مسامع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق القوافل التجارية الّتي تعملُ على طريق الحجاز - الشام، فلم يرَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بُدّاً من أن يردَّ على هؤلاء المعتدين، بجيش عظيم، ويحافظ بذلك على الدين الَّذي قام بفضل الدماء الزكية الّتي أُريقتْ من أصحابه، وبفضل تضحياته هو صلى الله عليه و آله و سلم وهو الآن على أبواب أن يعمَّ العالم نورُه وهُداه، من ضربات العدوّ المفاجئة.

ولقد بلغ هذا الخبرُ المقلق أهل المدينة، وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصحابه بالتهيّؤ لغزو الروم، والناس في زمان عسرة، وشدة من الحرّ، وجَدْب من البلاد، وقد طابت الثمار، والناسُ يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرَهُون الشخوص

ص:625

على الحال الّذي هم عليه.

ولكن الدوافع المعنوية، وروح الحفاظ على الأهداف المقدّسة، والجهاد في سبيل اللّه مقدّمٌ عند عباد اللّه المؤمنين الصالحين على كلّ تلك الأُمور.

تعبئةُ المقاتلين وتهيئة نفقات الحرب

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعرفُ على نحو الإجمال مدى وحجم استعدادات العدوّ، وطاقاته، وقدرته على القتال.

من هنا كان مطمئناً إلى أنّ الانتصار في هذه المعركة بحاجة - مضافاً إلى الخلْفية المعنوية القوية وهي الإيمان باللّه والقتال ابتغاء مرضاته - إلى قوة عسكرية كبيرة جداً ولهذا بعث رجالاً إلى مكّة، ونواحي المدينة يدعون المسلمين إلى المشاركة في الجهاد في سبيل اللّه، ويحثُّون أهل الغنى والثروة، على تهيئة نفقات الجهاد في سبيل اللّه من الزكاة.

وأخيراً أعلن ثلاثون ألفاً من المسلمين استعدادهم للمشاركة في هذه الغزوة واجتمعوا في معسكر عند «ثنية الوداع» وتهيَّأَ قدرٌ كبيرٌ من نفقات القتال عن طريق الزكاة، وكان الجيش الإسلامي يتألف من عشرة آلاف فارس، وعشرين ألف راجل.

وقد أمر رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن تتّخذَ كلُّ قبيلة راية لنفسها.

المتخلِّفُون عن القتال

كانت غزوةُ «تبوك» خير محَكّ لمعرفة المجاهدين الصادقين وتمييزهم عن غير الصادقين من أدعياء الإيمان والمنافقين؛ لأنّ التعبئة العامّة لهذه الغزوَة أُعلِنت في وقت كان الناسُ يستعدُّون فيه للحصاد من جهة، وكان الحرّ على أشدّه من ناحية

ص:626

أُخرى، فكشف تخلّفُ البعض - بالأعذار والحجج المختلفة - القناع عن وجههم الحقيقي، ونزلت آياتٌ في ذمّهم جميعها في سورة براءة.

لقد تخلّف البعضُ عن المشاركة في هذه الغزوة للأسباب والعلل التالية:

1. عندما قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للجدّ بن قيس بن صخر الأنصاري - وكان من الشخصيات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة -:

«أبا وَهَبْ هَلْ لكَ العامَ تخرجُ مَعنا»؟

فقال: أو تأذنُ لي، ولا تفتِنّي(1) فواللّه لقد عرف قومي ما أحدٌ أشدّ عَجباً بالنساء مني، وإنّي لأخشى إنْ رأيتُ نساء بني الأصفر (الروم) لا أصبرُ عليهنَّ.(2)

فأعرضَ عنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن سمع منه ذلك العذر الصبياني، وقد نزل فيه قول اللّه تعالى:

«وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» .(3)

2. المنافقون: إن جماعة ممّن تظاهروا بالإسلام والإيمان وهم منه خلوٌ، أخذوا يثبّطون الناس عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة تبوك، وربما تحجَّجوا بشدّة الحرّ فقالوا: يغزُو محمَّدٌ بني الأصفر مع جَهْدِ الحال والحرّ، والبلد البعيد، إلى ما لا قِبَل له به، يحسب محمَّدٌ أنّ قتال بني الأصفر اللعب، ونافق بمن معه ممّن هو على مثل رأيه، ثم قال: واللّه لكأنّي أنظر إلى أصحابه غداً مقرّنين في الحبال.(4) فنزل فيهم قول اللّه تعالى:

ص:627


1- . أي أخشى الافتتانُ ببنات الروم فلا تفتنيّ بهنَّ يا رسول اللّه.
2- . إمتاع الأسماع: 48/2؛ المغازي: 992/2.
3- . التوبة: 49.
4- . إمتاع الأسماع: 51/2؛ المغازي: 995/2.

«وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .(1)

اكتشافُ شَبكّةٍ جاسُوسيَّة في المدينة

كانَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما أسلَفْنا يولي مسألة تحصيل المعلومات عن العدو وتحركاته اهتماماً كبيراً، وكان أكثر انتصاراته تَعُودُ إلى حُسْن استخدامه لهذه الوسيلة، وبالتالي لمعرفته الدقيقة بتحرّكات العدو ونشاطاتهِ، وعلى هذا الأساس كان يقضي على الكثير من المؤامرات في مهدها.

ولقد بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ عدداً من المنافقين يجتمعونَ في بيت «سويلم» اليهودي،... يثبطون الناس عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة تبوك، فبعث إليهم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «طلحة بن عبيد اللّه» في نفر من أصحابه وأمره أن يُحرِّق عليهم بيت «سويلم». ففعل طلحة.

فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا، فقال الضحّاك في ذلك:

كادَتْ وبَيتِ اللّه نارُ محمَّد يشيطُ بها الضحّاك وابنُ أبيرق

وظَلْتُ وقد طبَّقتُ كِبسَ سوَيلم أنوءُ على رجلي كسيراً ومرفَقي

سلام عَليكُمْ لا أعودُ لِمثلِها أخافُ وَمَنْ تشملْ به النارُ يحرقُ (2)

3. البكّاؤون: لقد أتى رجالٌ من المسلمين رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانوا يرغبون في الخروج مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى هذه الغزوة، وطلبوا منه ما يحملهم عليه من دابّة

ص:628


1- . التوبة: 81-82.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 944/4.

فقد كانوا أهل حاجة فقراء، فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا أجدُ ما أحمِلُكُمْ عليه».

فتولَوْا وأعيُنُهم تفيضُ من الدمع حزناً، ألّا يجدوا ما ينفقون.(1)

فإذا كان بين أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رجالٌ نافقوا، وتركوا الخروج مع رسول اللّه متعلّلين، بالأعذار السخيفة، فقد كان إلى جانب ذلك أيضاً من كان يبكي بكاء مُرّاً لعدم تمكّنه من المشاركة في الجهاد المقدّس، حتّى عُرفوا في التاريخ الإسلامي بالبكّائين، ونزل فيهم قرآنٌ إذ يقول تعالى:

«وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» .(2)

4. المتخلفون: ولقد أبطأَ بعض أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن الخروج، وتخلَّفوا لا عَنْ شكّ وارتياب، أو رغبة عن الجهاد في سبيل اللّه، وقد كانوا أهل صِدق لا يُتَّهمون في إسلامهم، إنّما تخلَّفوا حتّى يلتحقوا بركب النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن يَفرغوا من الحصاد والقطاف وهم (المخلَّفون) الثلاثة حسب تعبير القرآن الكريم الذين فاتتهم غزوةُ تبوك، فوبَّخهمُ اللّه تعالى وعاقبهم على تخلّفِهم ليكونَ في ذلك عبرة لمن سواهم، كما ستعرف تفصيل ذلك عمّا قريب.

5. المجاهدون الصادقون: الذين لَبّوا نداء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتهيّأوا من فورهمْ للخروج معه في شوق بالغ، ورغبة عظيمة في الجهاد.

ص:629


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 945/4.
2- . التوبة: 92.

عدمُ مشاركة «عليّ» عليه السلام في غزوة تَبُوك

لقد كان من أبرز فضائل عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه شارك في جميع المعارك، ولازم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جميع غزواته - وكان هو حاملُ لوائه في تلك المعارك والغزوات - ما عدا تبوك حيث بقي في المدينة بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم يشاركْ في هذا الجهاد المقدس؛ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يدرك جيّداً أنّ بعض المنافقين والمتربّصين، والمتحيّنين الفرصَ من رجال قريش سيستغِلّون فرصةَ غيبة النبي القائد عن المدينة (مركز الدولة الإسلامية) فيثيرون فيها فتنة، ويجهزون على الحكومة الإسلامية الفتية بانقلاب أو ما شابه ذلك، وأنّ مثل هذه الفرصة إنّما تسنح لهم إذا قصد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكاناً نائياً، وانقطع ارتباطه بعاصمة الإسلام (المدينة)!! ولقد كانت «تبوك» أبعد نقطة خرج إليها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جميع غزواته، فكان يحدس - بقوة - أن تقوم القوى المضادّة للإسلام بقلب الأوضاع في غيابه، ويجمعوا من يروا رأيهمْ ويذهبُ مذهبَهم من شتى أنحاء الحجاز، ويتّحدوا لضرب الدولة الإسلامية والقضاء عليها من الداخل.

ولهذا - رغم أنّه استخلف «محمَّد بن مَسْلَمة» على المدينة - قال للامام «علي ابن أبي طالب»:

«إنّ المدينة لا تصلح إلّابي أو بك، فأنتَ خليفَتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي».(1)

ولقد أزعج بقاءُ عليّ عليه السلام في المدينة، المنافقين الذين كانوا يتربَّصون

ص:630


1- . إرشاد المفيد: 156/1؛ بحار الأنوار: 208/21.

بالإسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرصة، ويفكّرون في انقلاب في غيبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّهم كانوا يعرفون أنهم لن يعودُوا يستطيعون مع وجود عليّ عليه السلام في المدينة، ومراقبته الدقيقة لتحرّكاتهم ونشاطاتهمْ فعل أي شيء ممّا كانوا ينوون القيام به، ولهذا أرجفوا به، وبثّوا شائعات خبيثة حوله، بغية إجباره على مغادرة المدينة فقالوا:

ما خلّف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عَليّاً إلّااستثقالاً له، وتخفّفاً منه، أو: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دعاهُ إلى الخروج لتبوك، ولكن عليّاً امتنعَ من الخروج بحجّة الحرّ الشديد، وبُعد الطريق وإيثاراً للدعة والراحة والرفاهية!!

ولإبطال هذه الشائعة الخبيثة، وتكذيب هذا الكلام، أخذ علي عليه السلام سلاحه، وخرج حتّى أتى رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو نازلٌ بالجرف (وهو موضعٌ على ثلاثة أميال من المدينة) فقال:

«يا نبيَ اللّه، زَعَمَ المنافقون أنَّكَ إنّما خَلَّفْتَنِي أنَّكَ استثْقَلتَنِيْ وَتَخفَّفْتَ منّي».

فقالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حينئذٍ كلمته التاريخية الخالدة الّتي تعتبر من أبرز الأدلّة وأقواها وأوضحها على إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام وخلافته بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بلا فصل:

«كَذِبُوا، وَلكنِّني خلَّفتُك لما تَركتُ ورائي، فاْرجعْ فاْخلُفْنِي في أهْلِيْ وَأهْلِكَ، أفَلا تَرْضى يا عَليّ أنْ تَكُونَ مِنّي بِمنزلةِ هارونَ مِنْ مُوسى إلّاأنّه لا نبيَّ بعدي»(1).

فرجع علي عليه السلام إلى المدينة المنورة، ومضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على سفره(2).

ص:631


1- . لاحظ: صحيح البخاري: 129/5، باب غزوة تبوك؛ صحيح مسلم: 120/7، باب فضائل علي عليه السلام.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 947/4؛ السيرة الحلبية: 104/3؛ الطبقات الكبرى: 23/3 و 24؛ إمتاع

جيش الإسلام يتحرّك نحو تبوك

لقد دأب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - إذ خرج لتأديب قوم يكيدون بالاسلام، ويمنعون من تقدّمه وانتشاره، أو يقصدون الهجوم على المدينة واجتياحها، أو إيجاد فتن فيها - على أن لا يبوح بمقصده ووجهته لجنوده وأُمراء جيشه، وأن يسير بالجيش في طريق آخر غير الوجه الّذي ينويه باطناً، حتّى لا يعرف به العدو فيتهيّأ لمواجهته، وبذلك يتسنّى له صلى الله عليه و آله و سلم أن يباغت العدوَّ، ويحقّق الانتصار الساحق عليه(1).

غير أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عدَل عن هذه السيرة في قضية غزو الروميّين الذين اجتمعوا في حدود الشام وهم يتأهَّبون للهجوم على عاصمة الإسلام.

فقد بَيّن للناس - منذ أعلن التعبئة العامّة - الوجهة الّتي يقصُدُها، وكان السرُّ في ذلك هو أنْ يعرف المجاهدون أهميّة هذا السفَر وصعوبتَهُ، وأن يحملوا الزاد الكافي والعدّة اللازمة.

هذا مضافاً إلى أنّ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان مضطرّاً - لتقوية الجيش الإسلامي إلى أنْ يستعينَ بقبائل «تميم» و «غطفان» و «طيّ» الّتي كانت تسكن في مناطق بعيدة عن المدينة. وقد عَمد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهذا الغرض إلى مراسلة زعماء تلك القبائل وساداتها، كما كتب إلى «عتَاب بن أُسيد» أمير مكّة الشاب دعا فيه رجال تلك

ص:632


1- . المغازي: 990/2.

القبائل، وفتيان مكّة إلى المشاركة في هذا الجهاد المقدس(1).

ومثل هذا النوع من الدعوة الصريحة العامّة لا ينسجم مع الكتمان والسريّة، لأنّه كان لابدَّ أن يخبر صلى الله عليه و آله و سلم رؤساء القبائل في هذا الموضوع، ويذكر لهم أهميّته، ليحملُوا معهم الزاد والعدة اللازمة الكافية.

النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يَستعرضُ جيشَهُ

ولمّا حانَ موعد تحرّك الجيش استعرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جيشَه في معسكر المدينة العظيم، المؤلَّف من المؤمنين الفدائيّين الغيارى على الإسلام، والذين فضّلوا المشقّة والموت في سبيل الهدف على الاستراحة في الظلال، والتجارة، وكسب المال واكتناز الثروة، وخرجوا يستقبلون الموت في سبيل الدين بقلوب تفيض إيماناً ويقيناً.

لقد كان هذا المشهد مشهداً جميلاً ورائعاً جداً، وكان له أثرٌ قويٌ في نفوس المتفرّجين.

وفي هذه المناسبة ألقى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خطبة مهمّة، لتقوية معنويات المجاهدين، قد شرح فيها هدفه من هذه التعبئة العامّة الواسعة.

فبعد أن حمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله قال:

«أيّها الناس! أمّا بعدُ، فإنّ أصدقَ الحديث كتابُ اللّه وأوثق العُرى كَلِمة التقوى، وَخير المِللَ ملةُ إبراهيم عليه السلام، وخير السنن سننُ محمَّد، وأشرف الحديث ذكرُ اللّه، وأحسنَ القصَص هذا القُرآن، وخير الأُمور عواقبها، وَشرّ الأُمور محدَثاتُها، وأحسن الهدى هَديُ الأنبياء، وأشْرفَ القَتْل قتل الشهداء».

ص:633


1- . بحار الأنوار: 244/21.

إلى آخر الخطبة الّتي وردتْ بكاملها في المصادر التاريخية والّتي أدرج فيها مجموعة كبرى وهامّة من التعاليم الإسلامية الهامّة فرغبَ الناسُ في الجهاد لما سَمِعوا هذا مِن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(1) ثم أصدر رسولُ اللّه أوامره للجنود بالتوجّه إلى ثغور الشام من الطريق الّذي عيّنه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قصّة مالك بن قيس

إنّ مالك بن قيس «أباخيثمة» رجع بعد أن سارَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أيّاماً إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشّت كل واحدة منهما عريشها، وبرّدت له فيه ماء، وهيّأت له فيه طعاماً فلمّا دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، وما صنعتا له، فقال: رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الضح والريح والحرّ، وأبو خيثمة في ظلّ بارد، وطعام مُهيّأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟ ما هذا بالنصف.

ثم قال: واللّه لا أدخلُ عريش واحدة منكُما حتّى ألحق برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فهيّئا لي زاداً، ففعلتا ثم قدَّم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة «عميرُ بن وهيب الجمحي» يطلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(2).

لقد كان هذا الرجل ممّن لم يُوفَّق - في بداية الأمر - لمرافقة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلّاأنّه التحق بركبه المقدّس ونال السعادة العظمى بحسن اختياره الّذي يستحق

ص:634


1- . المغازي: 1016/2؛ إمتاع الأسماع: 59/2؛ بحار الأنوار: 210/21-212.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 947/4. وقد ذكر الواقدي في المغازي: 998/2 هذه القصّة باختلاف يسير ونسبها إلى عبد اللّه بن خيثمة.

الإكبار والتقدير، ولم يكن مثل أُولئك الذين طلبتهم السعادة ولكنّهم رفضوها، وابتعدوا عنها، وآثروا البقاء في ضلالهم وشقائهم.

فهذا «عبد اللّه بن أُبي» رئيس المنافقين وكبيرهم الّذي عزم على أن يشارك مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الغزوة أقام خيمته في معسكر المسلمين، ولكنّه لخبث سريرته، وعدائه الشديد للإسلام ونبيّه الكريم صلى الله عليه و آله و سلم بدّل رأيه ساعة رحيل الجيش الاسلامي، وعاد إلى المدينة مع أصحابه ليقوم بالشغب، وحيث إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان على عِلم بنفاقه، وخُبث سريرته وكان يدرك جيداً أنّ مشاركة هذا العنصر المنافق وجماعته في ذلك الجهاد لن تعود على المسلمين بفائدة، لذلك لم يهتم صلى الله عليه و آله و سلم بانفصاله عن الجيش الإسلامي ورجوعه إلى المدينة.

مصاعبُ الطريق

لقد واجه جيش الإسلام في أثناء الطريق متاعب ومشاقّاً كثيرة، ولهذا سُمّي هذا الجيش بجيش «العُسرة» ولكن إيمانهم العميق باللّه، وحبّهم الشديد للهدف المقدّس سهَّل لهم تلك المصاعب، وهوّن عليهم تلك المشاق، الّتي استقبلوها بصدور رحبة.

لمّا مرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالحجر (أرض ثمود) سجى ثوبه على وجهه واستحثّ راحلته ثم قال:

«لا تَدْخُلُوا بُيوتَ الَّذين ظَلَمُوا إلّاوَأنْتُمْ باكونَ خوفاً أنْ يُصِيبكُمْ مثلَ ما أصابَهُمْ».(1)

وهو بذلك يحثُ أصحابه على التدبّر في أحوال مَن مضى مِن الأقوام

ص:635


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 949/4.

والشعوب، والتفكّر في مصائرهم وما آلوا عليه بسبب عُتوّهم وعنادهم، وتمرّدهم على الحقّ، فإنّ ظلال الموت الّتي كانت تخيّم على تلك الربوع والأطلال الصامتة خيرُ عبرة للأجيال والأقوام الأُخرى.

ثم نهى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الناس عن أن يشربوا من مائها شيئاً، وأن لا يتوضّأوا به للصلاة، وأن لا يحاسَ به حيس، ولا يطبَخَ به طعامٌ، وأن العجينَ الّذي عُجِنَ به، أو الحيس الّذي فُعِلَ به يعلفونه الإبل، وأن الطبيخ الّذي طُبِخَ به يُلقى، ولا يأكُلُوا منه شيئاً(1)، ففعل الناس ما أمرَهُمْ به رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ثم إنّ الناس ارتحلوا من تلك المنطقة حتّى إذا مضى من الليل بعضُه وصلوا إلى البئر الّتي كانت تشرب منها ناقةُ النبي صالح عليه السلام، فنزلُوا عليها بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

تعليماتٌ احتياطيّة

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يعرفُ بالرياح الشديدة والسامّة والعواصف القوية الّتي كانت تهبُّ في تلك الأَرض بين الحين والآخر، وتبلغ من الشدة والقوة بحيث ربما تحمل البعير بصاحبه، وتلقيه في واد آخر. ولهذا أصدر صلى الله عليه و آله و سلم إلى أصحابه تعليمات احتياطية مشدَّدة فأمرهم بأن يعقلوا إبلهم ولا يخرج أحدٌ منهم في تلك الليلة وحده، بل يخرج من خبائه مع صاحبه.

وقد أثبتت التجاربُ والأحداثُ فيما بعد أنّ التعليمات الاحتياطية النبوية المذكورة كانت مفيدة جداً، لأنّ شخصين من بني ساعدة من الَّذين كانوا في ركب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تجاهَلا هذه التعليمات فخرجا منفردين من خبائهما ليلاً،

ص:636


1- . السيرة الحلبية: 106/3؛ السيرة النبوية لابن هشام: 948/4.

فاختنق أحدهما لشدة الرياح، بينما احتملت الريحُ الرجل الآخر، وضربت به الجبَل، ولما علم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك انزعجَ بشدّة وقال:

«ألمْ أنهكُمْ أنْ لا يَخرجَ أحدٌ منكم إلّاوَمعهُ صاحبَه»(1).

هذا وقد استعمل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على حرس العسكر «عباد بن بشر» فكانَ يطوف في أصحابه على العسكر.

ثم أصبح الناس ولا ماء معهم، وحصل لهم بسبب العطش ما كاد يقطَعُ رقابهم، حتّى حملَ ذلك بعضهم على نحر إبلهم ليشقُّوا أكراشها، ويشربُوا ماءها، بينما صبر آخرون، وانتظروا حصول الماء على ظمأ شديد، وقلوب ملتهبة عطشاً.

ولقد أعإنّ اللّه تعالى الّذي كان قد وَعَد نبيّه الكريم بالنصر أصحابه المسلمين الأوفياء، مرّة أُخرى إذ أرسل سحابة فمطرت حتّى ارتوى الناسُ، واحتملوا ما يحتاجون إليه.

علم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمغيّبات

لاشكّ في أنّ في مقدور رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يَطْلعَ على الغيب ممّا يخفى على الناس، ويخبر به كما يصرّح القرآنُ الكريم بذلك، إلّاأنَّ هذا العلم لا ريب محدودٌ، ويحتاجُ إلى تعليم اللّه سبحانه. يقول تعالى:

«عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» (2).

من هنا يمكن أن تخفى على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في بعض الأحايين، أبسط الأُمور، كأن يفقد مفتاحاً، أو يضيّع مالاً ولا يعرف بمكانه ومصيره، بينما

ص:637


1- . السيرة الحلبية: 106/3؛ السيرة النبوية لابن هشام: 948/4.
2- . الجن: 26 و 27.

يقدر صلى الله عليه و آله و سلم أن يعلم بأخفى الأُمور الغيبية وأشدّها غموضاً فيثير حيرة الناس ودهشتهم وعجبهم.

والسبب في كلّ ذلك هو ما ذكرناه، فإنّ مشيئة اللّه سبحانه لو تعلّقت بأن يعلم نبيّه بشيء من عالم الغيب ويخبر به علمَ وأخبر، وإلّا كان صلى الله عليه و آله و سلم كغيره من أفراد البشر العاديّين.

وفي ضوء هذا البيان لابد أن ننظر إلى القصّة التالية:

لمّا كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ببعض الطريق إلى تبوك ضلّت ناقته، فخرج أصحابه في طلبها، فقام أحد المنافقين، وقال: أليس محمَّد يزعم أنّه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟!

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يكشفُ النقاب ببيانه الرائع:

«إنّ رجُلاً قال: هذا محمَّدٌ يخبرُكُمْ أنّه نبيٌّ، ويزعَمُ أنّه يخبركمْ بأمر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ وإنّي واللّه ما أعلمُ إلّاما علّمني اللّه، وقد دلّني اللّه عليها، وهي في هذا الوادي، في شِعب كذا وكذا، وقد حبَستْها شجرةٌ بزمامها، فانْطلِقُوا حتّى تأتوني بها».

فذهبوا فجاءوا بها(1).

إخباره بمغيَّب آخر

لقد تخلّف أبو ذر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ أبطأ به بعيره، فانتظرهُ المسلمون ريثما يقوم بعيرهُ، ولكن دون جدوى فترك أبوذر البعير، وأخذ متاعه فحملَهُ على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ماشياً، ونزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في بعض

ص:638


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 950/4؛ المغازي: 1010/2.

منازله ونزل المسلمون ليستريحوا فيه بعض الوقت، وفجأة لاح من بعيد رجلٌ، فلمّا نظر إليه ناظرٌ من المسلمين قال: يا رسول اللّه هو واللّه أبوذر، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«رَحمَ اللّهُ أبا ذر يَمشي وحدَه وَيموتُ وحدَه وَيُبْعَثُ وحدَه»(1).

وقد كشف المستقبل عن صحّة هذه النبوءة، فقد توفّي أبوذر في صحراء «الربذة»، وعنده امرأته وغلامه بعيداً عن الناس في حالة مأساوية(2).

لقد تحقّقت نبوءة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في معركة تبوك بعد ثلاثة وعشرين عاماً، فقد نُفِيَ هذا الصحابي المجاهدُ الصادق إلى الشام ثم إلى الربذة، لا لشيء إلّالأنّه جهر بالحقّ، وطالب بالعدل، وفقد قواه وطاقاته البدنية شيئاً فشيئاً حتّى غدا طريح الفراش، في تلك المنطقة الوعرة.

وفيما كان يمضي الدقائق الأخيرة من حياته الحافلة بالأحداث والتطوّرات، وامرأته جالسةٌ عنده ترمق محيّاه المشرق المتعب وقد عرق جبينه، وهي تمسح بيدها العرق وتبكي قال لها: ما يُبكيك؟

فقالت: أبْكي أنّه لايَد لي بتغييبك (أي ليس لي من يعينني على دفنِكَ) ولَيسَ عندي ثوبٌ يسعُك كَفناً!

فارتسمت على شفتَيْ أبي ذر ابتسامةٌ مُرّة وقال: لا تبكي عليَّ، فإنّي سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول: ليموتُنَّ رجلٌ منكم بفلاة من الأَرض تشهدهُ عِصابةٌ من المؤمنين (ثم قال:) فكلُّ مَن كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، فلم يبق منهم غيري، وقد أصبحت بالفلاة

ص:639


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 951/4.
2- . لاحظ: المغازي: 1000/2-1001.

أموت فراقبي الطريق، فإنّك سوف ترين ما أقولُ لك، فإنّي واللّه ما كَذِبتُ ولا كُذِبتُ.

قال هذا وفاضت روحه المباركة(1).

***

ولقد صَدَق أبوذر، فقد كانت ثمّة قافلة من المسلمين تضم شخصيات كبرى مثل «عبد اللّه بن مسعود» و «حجر بن عدي» و «مالك الاشتر» تتقدّم نحو تلك المنطقة.

رأى «عبد اللّه» مِن بعيد مشهداً عجيباً... مشهدَ جسد بلا روح على قارعة الطريق، وعند ذلك الجسد امرأة وصبيّ وهما يبكيان.

فعطف «عبد اللّه» زمام راحلته نحو ذينك الشخصين وتبعه من معه في القافلة أيضاً، وما أن وقعت عينا عبد اللّه على ذلك الجسد حتّى عرف صاحبه، فهذا هو رفيقه وأخوه في الإسلام أبو ذر!!

فاغرورقتْ عيناهُ بالدموع، ووقف عند جثمان أبي ذر، وتذكَّر نبوءة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة تبوك وقال: «رحم اللّه أبا ذر يمشي وحدَه، ويموتُ وحدَه، ويبعث وحده».

ثم صلّى ابن مسعود على أبي ذر، ثم واراهُ الثرى، وبعد أن فرغ من دفنه، وقف مالك الأشتر عند قبره وقال:

اللَّهمّ إنَّ هذا صاحبُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عَبَدك في العابدين، وجاهَدَ فيك المشركين، لم يغيّر ولم يبدّلْ لكنَّه رأى غريباً منكراً فغيّره بلسانه وقلبه، حتّى جُفيَ

ص:640


1- . أُسد الغابة: 302/1، الطبقات الكبرى: 232/4-233.

ونُفيَ وحُرم واحتقر ثم مات وحيداً غريباً(1).

وقد أشار السبكي في أبيات له إلى هذا كما في السيرة الحلبية:

وعاش أبوذر كما قلتَ وحدَه ومات وحيداً في بلاد بعيدة(2)

***

جيش الإسلام في أرض تبوك

حلّ جيش التوحيد في مطلع شهر شعبان سنة تسع من الهجرة في أرض تبوك، ولكن دون أن يرى أثراً لجيش الروم، وكأنّ جنود الروم لمّا علموا بكثرة جنود الإسلام وبشهامتهم وتضحيتهم النادرة الّتي شهدوا نموذجاً منها عن كثب في معركة «مؤتة» رأوا من الصالح أن ينسحبوا إلى داخل بلادهم ولا يواجهوا المسلمين، ويتظاهروا بأنّه لم تراودهُم فكرة الهجوم على المسلمين قط، وأنّ هذا النبأ لم يكنْ إلّاشائعة لا أكثر، فيثبتوا مِن هذا الطريق حيادَهم بالنسبة للحوادث والوقائع الّتي تحدث في الجزيرة العربية(3).

ص:641


1- . ذكر المؤرّخون قصّة وفاة أبي ذر ودفنه بصور مختلفة، فيستفاد من بعض المصادر التاريخية أنّ أباذر كان على قيد الحياة عندما قدمت القافلة المذكورة وتحدث مع رجالها، ولكن بعض المصادر الأُخرى تنص على أنّه مات قبل قدوم تلك القافلة إلى تلك المنطقة، كما أنّه صرح البعضُ أنّ زوجة أبي ذر وابنه حَملا جثمانه إلى قارعة الطريق، بينما قال آخرون أنّ زوجته وابنه جلسا على قارعة الطريق ودلّا القافلة على محل جثمانه الطاهر، راجع للوقوف على ذلك: الطبقات الكبرى: 232/4-235، والدرجات الرفيعة: ص 53.
2- . السيرة الحلبية: 109/3.
3- . ذكر الواقدي في المغازي: 2/1015-1016: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أقام بتبوك عشرين ليلة، وذكر أنّ النبي بعد أن صلّى الفجر ذات يوم جمَع الناسَ، فخطَبَ فيهمْ خطبة بليغة ضمَّنها مواعظَ وتعاليمَ عظيمة كثيرة، ثم أدرجَ نصَ الخطبة.

في هذه اللحظة جمع رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم قادة جيشه الكبار، وتبعاً للأصل الإسلامي: «وشاورْهُمْ في الأمر» تحادثَ معهم حولَ التقدُّم في أرض العدوّ أو الرجوع إلى المدينة وشاورهم في ذلك.

فكانت نتيجة التشاور هي أنَّ على الجيش الإسلامي الّذي تحمَّلَ مشاق كثيرة في هذه السَّفرة، أن يعود إلى المدينة، ليستعيد نشاطَه، وقواه، هذا مُضافاً إلى أنّ المسلمين حقّقوا هدفهم السامي من هذه السفرة وهو تفريق جيش الروم وتبديد اجتماعهم بعد إلقاء الرعب الشديد في قلوبهم، وقد يبقى هذا الرعب في قلوب الروميين إلى مدّة مديدة بحيث يصرفهم عن فكرة تسيير جيش للهجوم على المسلمين، وهذا القدر من النتيجة الّتي من شأنها أن تضمن أمن الحجاز من ناحية الشمال ردحاً من الزمن تكفي للمسلمين فعلاً حتّى يقضي اللّه ما يقضي في المستقبل.

ولقد أضاف كبار المشيرين - حفاظاً على مكانة الرسول القائد، وإشعاراً بأنّ رأيهم هذا قابل للأخذ والرد - قائلين: إن كنتَ أُمِرت بالسَّيْر فسِرْ(1).

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لو أُمرتُ بالسير لم اْستشَرْتُكُمْ فِيهِ».(2)

وهكذا احترم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم آراء مشاوريه ورضى بالعودة إلى المدينة.

وحيث كان هناك حكامٌ وولاةٌ يعيثون في المناطق الحدودية السورية والحجازية فساداً ولهم نفوذ كبيرٌ في قبائلهم ومناطقهم، وكانوا جميعاً نصارى، ولهذا كانَ من المحتمل بقوة أن يستغل الروم قواهم ضد الإسلام ويحملوا

ص:642


1- . المغازي: 1019/2.
2- . السيرة الحلبية: 119/3.

بمساعدتهم على الحجاز.

ولهذا كان يتعيّن أن يعقد معهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معاهدة عدم اعتداء، ليأمن جانبهم ويحصل على أمن أوسع، فأجرى صلى الله عليه و آله و سلم اتصالات مباشرة مع أُولئك الحُكّام والولاة الذين كانوا يعيشون على الشريط الحدودي على مقربة من تبوك وعقد معهم معاهدات عدم تعرّض واعتداء بشروط خاصّة، كما أرسل مجموعات إلى النقاط النائية عن تبوك ليحقّق بذلك مزيداً من الأمن للمسلمين.

لقد اتصلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شخصياً بزعماء «أيلة» و «أذرح» و «الجرباء»، وتمَّ عقدُ معاهدة عدم تعرّض واعتداء بين الجانبين. و «أيلة» مدينةٌ ساحليةٌ تقعُ على ساحل البحر الأحمر، ولا تبعدُ عن الشام كثيراً، وكان زعيم تلك المنطقة هو «يوحنا بن رُؤبة»، فهو يومَ أُتي به إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعليه صليب من ذهب على عادة النصارى، قدّم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فرساً أبيض، وأعلن عن طاعته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فاحترمه النبي وأكرمهُ، وصالحه، وكساه بُرداً يمانيّاً.

وقد قبلَ «يوحنا» هذا، أن يبقى على نصرانيته شريطة أن يدفع للنبي جزية قدرها ثلاثمائة دينار سنوياً، وعلى أن يُحسنَ إلى مَنْ يمرُّ على أيلة من المسلمين؛ وكتب لهُ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كتابَ أمان وقَّعهُ الطرفان، وإليك نص الكتاب المذكور:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا أمنةٌ من اللّه ومحمَّد النبيّ ليوحنا بن رؤبة وأهل أيلة، سُفُنِهمْ وسيارتهم في البرّ والبحر، لهم ذمّةُ اللّه وذمّةُ محمَّد النبي ومَن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمَن أحدث منهم حدثاً، فإنّه لا يحولُ مالُه دون نفسه، وأنّه طَيّبٌ لمن أخذه من الناس، وأنّه لا يحلُّ أن يُمنَعُوا ماء يردونه، ولا طريقاً يُريدونه، من بَرٍّ أو بَحر».

ص:643

هذا الكتاب يكشفُ عن قاعدة مهمّة في السياسة الإسلامية وهي أنّ أيّ شعب أراد أن يسالِم المسلمين، وفَّر الإسلام له كلَّ أمن وسلام(1).

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صالَحَ بقية الحكّام الحدوديّين مثل سادة أقوام «أذرح» و «جرباء» الّتي كانت تتمتّع بأهمية استراتيجية، وبذلك ضمنَ أمن المنطقة الإسلامية من ناحية الشمال.

بعث خالد إلى دَومة الجندل

على طريق تبوك كانت تقعُ منطقةٌ عامرةٌ خضراء ذات أشجار وزروع ومياه جارية تضمُ حصناً منيعاً، وتبعد عن الشام بما يقرب من خمسين فرسخاً، تُسمّى «دومة الجندل»(2) وكان يحكمها يومذاك رجلٌ مسيحيٌ يُدعى «أكيدر بن عبد الملك».

وحيث إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يخشى هجوماً آخر من الروم، والاستعانة بحاكم دومة الجندل المسيحي وبهذا يعرِّضون أمن الحجاز للخطر، لذلك رأى صلى الله عليه و آله و سلم أن يستفيد من قوته الحاضرة أكبر قدر ممكن، فبعث مجموعة من المقاتلين بقيادة خالد بن الوليد إلى المنطقة المذكورة لتطويعها وتطويع حاكمها.

فتوجّه خالد مع فرسانه إلى دومة الجندل حتّى اقتربوا إلى حصنها، وكمنوا قريباً منه.

وفي تلك الليلة خرج «أكيدر» وأخوه «حسان» من الحصن ومعه نفر من أهل بيته للصيد، فلمّا ابتعدوا عن الحصن حاصرتهم خيلُ خالد وأسروا «أكيدر» بعد

ص:644


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 952/4؛ إمتاع الأسماع: 66/2؛ بحار الأنوار: 160/21.
2- . يقول الواقدي في المغازي: 1025/2: تقع دومة الجندل على عشرة أميال من المدينة.

قليل من القتال والمواجهة، وقُتل أخوه «حسان» ولجأ البقية إلى الحصن، واعتصموا به، فصالح خالد «أكيدر» على أن يطلب له ولقومه الأمان من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لقاء أن يفتح أبواب الحصن في وجوه المسلمين ويلقي أهلُها الأسلحة.

فأمر أكيدر الّذي كان يثق بصدق المسلمين واحترامهم لوعودهم وعُهودهم، أمر قومه أن يفتحوا أبواب الحصن ويسلّموا للمسلمين، ويلقوا أسلحتهم ويتركوا القتال، وكانت الأسلحة تبلغ أربعمائة درع، وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف، ثم توجّه خالد بأكيدر وقومه وما حصل عليه من الغنائم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فخلب منظرُ الديباج المخوّص بالذهب عيون جماعة من طُلاب الدنيا. فأخذوا يتلمّسونه بأيديهم ويتعجَّبون منه، فقالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو لا يكترث بتلك الثياب:

«فَوَ الَّذي نفسي بيده لَمناديلُ الجنة أحسنُ مِنْ هذا».

لقد حضر «أكيدر» عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وامتنع عن قبول الإسلام، إلّاأنّه رضي بأن يعطي الجزية للمسلمين، وصالحه النبي صلى الله عليه و آله و سلم على ذلك وكتب له كتاباً، ثم أهدى له صلى الله عليه و آله و سلم هدية واستعمل على حرسه «عبّاد بن بشر» ليوصلَه إلى دومة الجندل سالماً(1).

تقييم إجماليٌ لغزوة تبوك

إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وإن لم يلقَ في هذا السَّفَر الشاق كيداً ولم يواجه العدوّ، ولم يقاتل إلّاأنَّ هذه السَفرة عادتْ عليه بسلسلة من الفوائد المعنوية

ص:645


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 166/2؛ المغازي: 1025/2-1028؛ السيرة النبوية لابن هشام: 952/4؛ بحار الأنوار: 246/21.

والروحية هي:

أوّلاً: صعود مكانة وسمعة الجيش الإسلاميّ، فقد زاد من عظمته وقوته في قلوب سكان الحجاز، وحُكّام المناطق الحدودية السورية، وعرف الصديقُ والعدوُّ أنّ المقدرة العسكريّة الإسلاميّة بلغت من القوة والعظمة بحيث أصبح في مقدورها أن تواجه أكبر القوى العالمية وتقارعها، وتلقي الرعب والخوف في قلوبها.

إنّ انتشار هذا الموضوع بين القبائل العربية الّتي عُجنَت جبلَّتها بروح التمرّد والطغيان، أوجب أن تتخلّى عن فكرة الطغيان والمعارضة، والتآمر ضدَّ الإسلام ردحاً من الزمن، وأن لا تفكِّر في هذه الأُمور.

ولهذا السبب أخذت وفودُ القبائل الّتي لم تخضع للإسلام حتّى ذلك اليوم، تفد تباعاً على رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم بعد رجوعه من تبوك إلى المدينة، وتظهر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم طاعتها وخضوعها حتّى سُمّي ذلك العامُ بعام الوفود، لضخامة عدد تلك الوفود والبعثات الّتي قدمت المدينة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ثانياً: ضمن المسلمون عن طريق عقد المعاهدات المختلفة المتعدّدة مع حكّام المناطق الحدودية الحجازية والسورية أمن هذه المنطقة، واطمأنّوا بسببها إلى أنّهم سوف لن يتعاونوا مع جيش الروم، ولن يدخلوا مع تلك الدولة في مؤامرة ضدّ الإسلام والمسلمين.

ثالثاً: مهّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهذا السفر الشاق الطريق لفتح الشام، فقد عرف قادة جيشه طرق هذه المنطقة ومشاكلها، وعلّمهم كيفية تجييش الجيوش الكبرى في وجه القوى العظمى في ذلك العصر، من هنا كانت الشام وسورية هي أوّل منطقة فتحها المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:646

رابعاً: تميّز المؤمن عن المنافق في هذه التعبئة العامّة، وحصلت عملية تصفية وفرز كبيرة وعميقة في جماعة المسلمين.

المنافقون يخطّطُون لاغتيال النبي صلى الله عليه و آله و سلم

أقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بضع عشرة يوماً في تبوك(1) وبعد أن بعث خالداً إلى «دومة الجندل» توجّه بالمسلمين إلى المدينة. ولدى العودة تآمر (12) منافقاً - ثمانية منهم من قريش والباقي من أهل المدينة - لاغتيال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أثناء الطريق وقبل أن يصلَ إلى المدينة، وذلك بتنفير ناقة النبي صلى الله عليه و آله و سلم في عقبة بين المدينة والشام ليطرحوه في واد كان هناك. وعندما وصل الجيشُ الإسلامي إلى بداية تلك المنطقة (العقبة) قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للناس:

«من شاء مِنكُمْ أنْ يأخذَ بطنَ الوادي فَإنَّه أوسعُ لَكُمْ».(2)

فأخذَ الناس بطن الوادي، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذَ طريق العقبة فيما يسوق «حذيفة بن اليمان» ناقة النبي، ويقودُها «عمّار بن ياسر» فبينما هم يسيرون إذ التفت رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى خَلْفِه، فرأى في ضوء ليلة مقمرة فرساناً متلثّمين لحقوا به من ورائه لينفّروا به ناقته، وهم يتخافتون، فغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم. قائلاً: إضرب وجوه رواحِلهم.

فأرعبهم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بصياحه بهم إرعاباً شديداً، وعرفوا بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم علمَ بمكرهم ومؤامرتهم، فأسرعوا تاركين العقبة حتّى خالطوا الناس.

يقولُ حذيفة: فعرفتُهُمْ برواحلهم وذكرتهم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقلتُ: يا

ص:647


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 953/4، وذهب ابن سعد في الطبقات: 168/2 أنّه مكث بتبوك عشرين يوماً.
2- . بحار الأنوار: 247/21؛ الدر المنثور: 259/3.

رسول اللّه ألا تبعث إليهم لتقتُلَهم؟ فأجابَهُ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في لحن ملؤه الحنان والعاطفة:

«إنّ اللّه أَمرني أن أُعرض عنهم، وأكرهُ أن يقول الناسُ إنّه دَعا أُناساً مِن قومِه وأَصحابه إلى دينهِ فاستجابوا له فقاتل بِهِمْ حَتى ظَهَرَ عَلى عدوِّه ثمَّ أقبلَ عليهِمْ فَقتَلَهُمْ، وَلكِنْ دَعْهُمْ يا حذيفة فإنّ اللّه لَهُمْ بِالمرصاد».(1)

وقد أنزل اللّه سبحانه إثر هذه الحادثة الآية 65 من سورة التوبة الّتي قال تعالى فيها: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ» .(2)

النيّة تقومُ مقام العمل

ليس ثمة مشهد أعظمَ جلالاً من مشهد جيش فاتح يعودُ إلى أحضان الوطن، كما ليس هناك أمرٌ ألذَّ وأهنأ عند الجندي المجاهد من الغلبة على العدو، الّتي تحفظ أمجاده، وتضمن بقاء كيانه، وسلامته، وقد تجلّى هذان الأمران عند عودة الجيش الإسلامي المنتصر إلى المدينة.

لقد دخل الجيشُ الإسلامي الفاتح المدينة بجلال عظيم بعد أن طوَى المسافة بين «تبوك» و «المدينة»، وكانت تغمر جنودَ الإسلام فرحةٌ كبيرة، وتظهرُ على كلماتهم وأعمالهم أماراتُ الاعتزاز بما أحرزوه مِن غلبة على العدوّ، ومن أَداء لحقّ الجندية، وكان السببُ واضحاً لأنَّهمْ أرعَبوا دولة قويّة سبق لها أن هزمت الامبراطورية الإيرانية، فهم أخافوا الروم الّتي انسحبت من تبوك قبل وصول

ص:648


1- . الدرجات الرفيعة: 298-299؛ إرشاد القلوب: 331/2؛ بحار الأنوار: 99/28. ولاحظ: المغازي: 1042/2-1045؛ إمتاع الأسماع: 74/2-75.
2- . راجع: مجمع البيان: 46/3.

المسلمين إليها، وهم طَوّعوا حكّامَ وزعماء المدن والمناطق الحدودية السورية والحجازية، وأخضعوهم للدولة الإسلامية

لا شكّ أنَّ الغلبة على العدوّ فخرٌ عظيم أصاب هذا الجيش، وكان طبيعياً أن يفتخر أفرادُ هذا الجيش ويتباهوا على الذين تخلّفوا في المدينة من دون عذر، ولكنْ حيث إنّ مثل هذا النمط من التفكير وهذه العودة الظافرة كان من الممكن أن يوجِدَ غروراً لدَى البعض فيسيئوا إلى بعض الذين تخلّفوا في المدينة الذين بقوا فيها لعذر وقلوبهم مع جنود الإسلام، ويشاركونهم بأفئدتهم في أفراحهم وأتراحهم، لهذا التفَتَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهُمْ على مشارف المدينة وقد توقَّفُوا خارج المدينة بعض الوقت، فقال لهم:

«إنَّ بالمدينة أقْواماً ما سِرتُم مَسِيراً ولا قَطعْتُمْ وادياً إلّاكانُوا مَعكُم».

قالوا يا رسولَ اللّه: وهم بالمدينة؟

قال: «نعم وهم بالمدينة، حَبَسَهُمُ العُذرُ»(1).

أجل إنّهم كانوا يتشوَّقون إلى الجهاد، هذا الواجب الإسلامي الكبير، ولكن العذر منعهمْ من الاشتراك فيه.

إنّ النبيَ الأكرم بهذه العبارة المقتضبة أشار - في الحقيقة - إلى واحد من البرامج الإسلامية التربوية، وذكّر بأنّ النيّة الطيّبة والفكر الصالح يقومُ مقام العمل الصالح الطيّب، وأن الذين يُحرَمون من القيام بالأعمال الصالحة لافتقادهم القدرة عليها أو فقدان الإمكانيات، يمكنهم أن يشاركوا الآخرين في ثواب العمل الصالح إذا نَووْا ذلك، واشتاقُوا إليه قَلْبياً.

ص:649


1- . السيرة الحلبية: 122/3؛ إمتاع الأسماع: 394/8.

إذا كان الإسلام يهتمُّ بإصلاح الظاهر، فإنّه يهتمُّ أكثر بإصلاح القلب والفكر، بإصلاح الباطن والسريرة، لأنّ إصلاح العقيدة وطريقة التفكير هو منبع جميع الإصلاحات، وأعمالنا كلُّها وليدة أفكارنا ونوايانا.

إذا خفّف النبيُ الأكرم بقوله هذا من غُلَواء المجاهدين وغرورهم، وحفظ مكانة المعذورين من المخلفين فلا يلحق بهم هوانٌ، إلّاأنّه قرّر في نفس الوقت أن يوبّخ المتخلّفين من دون عذر ويلقِّنهمْ دَرساً لن ينسَوْه، وللنموذج ننقل هنا قصّة ثلاثة من المتخلَّفين.

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ

يوم أُعلِنَ في المدينة عن التعبئة العامّة تخلّف ثلاثةٌ من المسلمين في المدينة هم: «هلال بن أُميّة» و «كعب بن مالك» و «مرارة بن الربيع» فقد حضر هؤلاء عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لدى خروجه إلى تبوك واعتذروا إليه بمعاذير عن الاشتراك في الجهاد، فاعتذر أحدُهم، بأنّ الوقت هو وقتُ إدراك الثمر، وأنّهم سيلتحقون بجيش الإسلام إذا فرغوا من الحصاد والقطاف.

إنّ هؤلاء وأمثالهم ممّن يريدون الدين والدينار، وتهمُّهم مصالحهم المادّية الشخصية والاستقلال السياسي معاً، يعانون من نظرة ضيّقة وقصيرة تعادل اللذائذ الماديّة العابرة بالحياة الإنسانية الشريفة، الّتي تتحقّق تحت لواء الاستقلال الفكريّ والسياسيّ والثقافي، بل ربما رجَّحوا الأُولى على الثانية.

ولهذا كان على النبي صلى الله عليه و آله و سلم - بعد العودة - أن يؤدّب مثل هذه العناصر حتّى لا تسري عدوى هذه الحالة المرضيّة إلى الآخرين.

إنّهم لم يتخلَّفوا عن هذا الجهاد فحسب، بل لم يعملوا بالعهد الّذي أعطوه

ص:650

لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً، فإنّهم انشغَلوا بالتجارة، وجمع المال حتّى فُوجئوا بعودة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المُظفَّرة إلى المدينة، فبادروا عند ذلك - لتلافي ما بَدَر منهم من تخلُّف - إلى الحضور عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للتسليم عليه وتقديم التهاني إليه كما فعَل الآخرُون.

إلّا أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أعرض بوجهه عنهم ولم يكترثْ بهم، وعندما بدأ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالكلام في ذلك الاجتماع العظيم وسط موجة من الفرح والابتهاج كان أوّل ما قاله هو:

«لا تُكلمنَّ أحداً مِن هؤلاء الثلاثة».

ومع أنّ عدد المتخلّفين كان يقارب التسعين شخصاً، إلّاأنّ أكثرهُمْ حيث كانوا من المنافقين، ولم يكنْ يتوقّع منهم أن يشاركوا المسلمين في جهاد العدُوّ، لهذا تركَّز ثقلُ هذه القطيعة على هؤلاء المسلمين الثلاثة الذين كان بعضهُم سبقَ منه أنْ اشترك في غزوة بدر مثل «مرارة» و «هلال»، وكانت لهم شخصية ومكانة بين المسلمين!!

ولقد تركت سياسة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الحكيمة - الّتي كانت جزءاً لا ينفك من دينه - أثراً عجيباً، فقد تعطَّلت التجارة والأخذ والعطاء مع المتخلّفين، وكسُدَتْ بضائعُهم، ولم يشترها أحدٌ، وقطع أقرب أقرباء المخلّفين روابطهم وعلاقتهم مع المخلّفين المذكورين إتّباعاً لأوامر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وتركوا حتّى الحديث العابر معهم.

ففعلت مقاطعة الناس للمخلّفين فعلتها، وضغطت عليهم نفسياً بشدّة، حتّى ضاقت عليهم الأَرض على رحابتها في نظرهم كما يقول القرآن الكريم.

ص:651

«حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ» .(1)

ولكنّ هؤلاء الثلاثة المعروفين بفراسة كاملة أدركوا أنّ العيش في البيئة الإسلامية لا يمكن إلّابالالتحاق الحقيقي بصفوف المسلمين، وأنّه لا دوام لحياة الأقليّة الصغيرة أمام الأكثرية القاطعة، وبخاصّة إذا كانت الأقلّية تتألّف من جماعة مشاغبة ومغرضة.

هذه المحاسبات من جانب، والانجذاب الفطريّ من جانب آخر دفعتْ بهؤلاء المخلّفين إلى العودة إلى حظيرة الإيمان الواقعي، وأن يظهروا ندَمهم على فِعلهمُ القبيح بالتوبة إلى اللّه، والإنابة إليه، وقبل اللّه تعالى توبتهم، وأخبر نبيّه الكريم بعفوه عنهم فبادرَ النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم من فوره إلى الإعلان عن عفوه ورفع المقاطعة عنهم(2).

قصّة مسجد ضرار

كانت «المدينة» و «نجران» تُعتَبران بالنسبة إلى أَهل الكتاب منطقتين واسعتين ومركزيتين في شبه الجزيرة العربية، فقد كانوا يتمركزون في هاتين المنطقتين أكثر من أي مكان آخر، ولهذا اعتنق فريقٌ من عرب الأوس والخزرج الدين المسيحي واليهودي.

ويبدو أنّ «أبا عامر» والد «حنظلة غسيل الملائكة» المستشهد في غزوة أُحد،

ص:652


1- . التوبة: 118، وتذكر التفاسير كيفية توبتهم وأنابتهم على وجه التفصيل، فليراجعها من يريد.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 957/4؛ إمتاع الأسماع: 79/2؛ تاريخ الطبري: 374/2. وهذا النوع من المحاربة الّتي سلكها النبي مع المخلّفين علّم المسلمين درساً كبيراً ومفيداً في مقابل الأقلّيات الصغيرة، وهو لا يحتاج إلّاإلى الإخلاص والاتّحاد والعزم. هذا ويذكر الواقدي في المغازي: (1049/2-1056) قصّة هؤلاء المخلّفين بصورة أكثر تفصيلاً ممّا ذكرناه هنا.

كان قد رغب في الدين المسيحي في العهد الجاهلي، فاْنسلك في صفوف الرُّهبان، فلمّا ظهر نجم الإسلام من أُفق المدينة بعد هجرة النبي اليها، واحتوى الدين الجديد الأديان الأُخرى انزعج «أبو عامر» من هذه الظاهرة بشدّة، فشرع بصدق في التعاون مع منافقي الأوس والخزرج. وقد عَرفَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخططهم التخريبية، وأراد اعتقاله، فخرج «أبو عامر» من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى الطائف، وهرب من الطائف بعد سقوطها إلى الشام، وأخذ يقود من هناك شبكة تجسُّسيّة لحزب المنافقين.

وقد كتب إلى المنافقين في المدينة في إحدى رسائله أن استعدّوا وابنوا مسجداً في قباء في مقابل مسجد المسلمين وصلّوا فيه في أوقات الصلاة ليمكنكم - تحت غطاء أداء الفرائض - التحدّث حول الأُمور المتعلّقة بالإسلام والمسلمين، وكيفية تنفيذ المؤامرات الحزبية ضدهم.

لقد كان «ابوعامر» على غرار أعداء الإسلام في العصر الحاضر يرى أنّ أفضل وسيلة لهدم واستئصال الدين في بلد يسوده الدين هو الاستفادة من نفس سلاح الدين، ومن المعلوم أنّه يمكن توجيه الضربة إلى الدين باسم الدين أكثر من أيّ عامل أو وسيلة أُخرى.

لقد كان «أبوعامر» يعلم أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لا يسمح لحزب المنافقين بإقامة مركز لهم مطلقاً إلّاإذا كان لذلك صبغةٌ دينيةٌ، وكان تحت عنوان مسجد.

عندما كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتجهّز إلى «تبوك» أتاه جماعة من المنافقين وطلبوا منه أن يسمح لهم ببناء مسجد في محلّتهم بقباء بحجّة أنّ ذوي العلّة والحاجة لا يمكنهم أن يقطعوا المسافة بين قباء ومسجد النبي للصلاة معه صلى الله عليه و آله و سلم في الليلة المطيرة والليلة الشاتية، فأوكل النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر النظر في طلبهم إلى ما بعد

ص:653

العودة من تبوك(1).

غير أنّ حزب النفاق بادروا إلى اختيار نقطة من الأَرض في قباء، وأسرعوا في إقامة مركز لهم تحت غطاء المسجد، ولمّا عاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه أن يصلّي فيه ركعتين ليُسبغوا بذلك الشرعيّة على مركزهم، وفي هذه الأثناء نزل جبرئيل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره بحقيقة هذا الأمر، وسمّاه في آيات نزَلَ بها على النبي بمسجد ضرار، ووصفه بأنّه مركز بُني لإيجاد الفُرقة بين المسلمين، والتآمر عليهم إذ يقول تعالى:

«وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» .(2)

فأمر النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم فوراً بإحراق ذلك المسجد وتسويته بالأَرض فحرّق وهُدِّمَ وَسُوِّيَ بالأَرض وتحوَّل مكانُه إلى مزبلة فيما بعد(3).

إنّ تحريق وهدم مسجد ضرار كانت ضربة قاضية لحزب النِّفاق، فمنذ ذلك الوقت تلاشت وشائج وروابط ذلك الحزب الخبيث، وهلك حاميهم الوحيد عبد اللّه بن أُبي بعد شهرين من غزوة تبوك.

ولقد كانت غزوة تبوك آخر الغزوات الإسلامية الّتي شارك فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ لم يشارك صلى الله عليه و آله و سلم بعدها في أي قتال.

ص:654


1- . لاحظ: المغازي: 1046/2.
2- . التوبة: 107 و 108.
3- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 956/4-957؛ بحار الأنوار: 253/20.

56 وَفد ثقيف في المدينة

اشارة

انتهت غزوة تبوك بكلّ مشاكلها، ومتاعبها الكثيرة وعاد جنودُ الإسلام المجاهدون إلى المدينة بأبدان متعبة من وعثاء السفر، وبُعد الطريق، ولم يلق جنود الإسلام كيداً ولم تحصل بينهم وبين الجيش الرومي أيّة مواجهة، كما ولم يواجهوا عدواً طوال ذلك الطريق، ولم يغنموا غنيمة. من هنا اعتبر بعض السذَّج من المسلمين تسيير هذا الجيش الضخم عملاً لغواً وعبثاً، وذلك لأنّهم لم يعرفوا بالآثار والنتائج غير المرئية لهذه الحركة العسكرية الواسعة، ولم يمض وقتٌ كبيرٌ إلّا واتّضحت نتائجها، فقد أسلمت على أثر هذه المناورة العسكرية العظمى أشدّ القبائل عداء وعناداً للإسلام، وخضعت لسلطان المسلمين، بإيفاد مندوبيها ووفودها إلى المدينة، وإظهار الطاعة والإسلام عن طريقها، كما أنّها عمدت الى فتح أبواب حصونها الحصينة في وجه المسلمين ليحطّموا أصنامها وأوثانها، وينصبوا على حطامها ألوية التوحيد.

إنّ الجماعات السطحية التفكير القصيرة النظر تهتم - عادة - بالنتائج المرئية الحاضرة، فمثلاً إذا واجه جنودُ الإسلام خلال الرحلة عدوّاً، وقاتلوه وقضوا عليه، وغنموا غنائم من أمواله قالت هذه الجماعة: لقد حقّقت هذه العملية العسكرية

ص:655

نتائج باهرة!!

ولكن أصحاب الرؤية العميقة والنظرة البعيدة يحلّلون الأُمور على غير هذا النمط، فهم يمتدحون أي عمل يخدم الهدف والنتيجة النهائية ويعتبرونه نجاحاً باهراً.

ومن حسن الاتّفاق أنّ غزوة تبوك خدمت هدف النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو اجتذابُ الأقوام العربية إلى الإسلام - خدمة كبرى - لأنه قد شاع في جميع انحاء الجزيرة العربية أنّ الروميّين (الذين غَلبوا الإيرانيين الذين طالما سادوا نصف المعمورة في ذلك الوقت، وحكموا حتّى اليمن وماحولها في آخر حُروبهم، واستعادوا منهم صليبهم وأعادوه إلى بيت المقدس) أُرعبوا بالقوة الإسلامية الكبرى، وانصرفوا عن مقابلة جنود الإسلام.

لقد دفَع هذا النبأ أشدَّ القبائل عناداً، والّتي كانت حتّى يوم أمس غير مستعدة للتعايش مع الإسلام والخضوع له، دفعها إلى أن تغيّر من مواقفها المتعنّتة المتصلّبة، وتفكِّر في التعاون والتعايش مع المسلمين، ولكي تسلَم من عدوان القوى الكبرى في ذلك اليوم (إيران والروم) انضوت تحت لواء الإسلام وأعلنت عن إنتمائها إليه.

وإليك فيما يلي نموذج من هذه التطوّرات الّتي حدثت في مواقف تلك القبائل العربية المعادية للإسلام.

وقوع الفرقة والاختلاف في قبيلة ثقيف

كانت قبيلة ثقيف معروفة بطغيانها وعنادها العجيب بين القبائل العربية، ولقد قاوموا حصار الجيش الإسلامي لهم مدّة شهر واحد معتصمين بحصونهم في الطائف ولم يسلّموا(1).

ص:656


1- . لاحظ: المغازي: 922/2-938.

هذا وكان «عروة بن مسعود الثقفي» وهو أحد سادة ثقيف قد علم بانتصار المسلمين الكبير في أرض تبوك، فقدم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يدخل المدينة، وأسلم على يديه واستأذنه في أن يذهب إلى الطائف، ليدعو قبيلته إلى دين التوحيد فحذّره رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من مخاطر هذا العمل؛ لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يعرف أنَّ فيهم نخوة الامتناع الّذي كان منهم.

وقال له: إنّهم قاتلوك.

فقال عروة: يا رسول اللّه أنا أَحبُّ إليهم من أبكارهم، (أو من أبصارهم)، وكان فيهم كذلك محبَّباً مُطاعاً.

ولقد كان قومُ عروة وسائر قادة ثقيف لم يدركوا بعدُ ما أدركه عروة من عظمة الإسلام، وكان فيهم نخوةٌ وكِبرٌ يمنعانهم من الخضوع للحق.

ولهذا قرّرت أن ترشق بالنبال والسهام أوّل داعية أتاها ليدعوها إلى الإسلام... وهكذا رشقوا بالنبال «عروة» في الوقت الّذي كان يدعوهم إلى الإسلام، فقال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: كرامةٌ أكرمني اللّه بها، وشهادة ساقها اللّه إليَّ (1).

وَفْدُ ثَقِيف

ندم رجالُ ثقيف - بعد مقتل عروة - على فعلهم هذا بشدّة وعرفوا بأنّ الحياة لم تعُدْ ممكنة ومُيسَّرة لهم في قلب الحجاز الذي رُفعَت على جميع مناطقه ألوية التوحيد، وخاصّة بَعد أن أصبحت جميع المراعي والطرق التجارية تحتَ رحمة المسلمين، فقرّروا في ندوة مشاورة عقدت لدراسة مشكلاتهم أن يبعثوا مندوباً من قِبَلهم إلى المدينة ليتفاوض مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويعلن له عن استعداد قومه لاعتناق

ص:657


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 964/4-965.

دين التوحيد ضمنَ شروط معيَّنة، واتفقُوا على إيفاد «عبدياليل» إلى المدينة وإبلاغ رسالتهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولكن «عبدياليل» رفض القيام بهذه المهمّة وقال:

لستُ فاعلاً ذلك حتّى تُرسلوا مَعي رجالاً، لأنّه كان لايثق بثبات رأيهم، وكان يخشى أن يصنَعوا به ما صنَعوا بعروة بن مسعود. فاتّفقوا أن يبعثوا معه خمسة رجال من ثقيف ليقوموا جميعاً بالقدوم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والتفاوض معه.

توجّه هذا الوفدُ السداسيّ إلى المدينة، ونَزلوا بعد طيّ مسافة خارج المدينة عند قناة فألفوا عندها «المغيرة بن شعبة الثقفي» يرعى خيولاً لأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فلمّا رأى المغيرة زعماء قبيلته وعرف هدفهم وثب يشتد إلى المدينة ليبشّر رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن ترك الخيول عند الثقفيّين، وليخبره بقرار قبيلة ثقيف الّتي طال عنادها، فلقيه أبوبكر قبل أن يدخل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره المغيرة عن ركب ثقيف، فرجاه أبوبكر أن يسمح له بتبشير النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يحدّثه المغيرة بالأمر، ففعل المغيرة فدخل أبو بكر على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره بقدومهم عليه وأنّهم جاءُوا ليعتنقوا الإسلام بشروط، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإكرامهم، وضربَ لهم قبة في ناحية مسجده، وكلّف «خالد بن سعيد» بالقيام بشؤون ضيافتهم.

ثم حضر وفدُ ثقيف عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومع أنّ المغيرة كان قد علَّمهم كيف يُحيّون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإنّهم حيّوه بتحية الجاهلية تكبّراً منهم وغروراً، ثم أخبروا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم برأي ثقيف وأضافوا أنّهم مستعدون لاعتناق الإسلام ضمن شروط خاصّة، سوفَ يُعرضونها عليه في جلسة تالية.

واستمرت مفاوضات وفد ثقيف مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عدة أَيّام، وكان «خالد

ص:658

بن سعيد» هو الّذي ينتقل بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه المفاوضات.

شروط وَفد ثقيف

قَبِل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كثيراً من شروط ثقيف حتّى أنّه ضمن لأهل الطائف - ضمن ذلك العهد - أمن منطقة الطائف وما يرتبط بالطائفيّين من أراض، ولكن بعض شروطهم كانت غير صحيحة، ووقحة إلى درجة أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم غضب بسببها، ولا بأس أن نتعرض لذكر بعض هذه الشروط:

قال وفد ثقيف: إنّ قبيلة ثقيف مستعدة لأن تعتنق الإسلام شريطة أن يترك بيت أصنامهم على حاله، وأن يعبُدوا «اللّات» وهو صنم القبيلة الأكبر مدة ثلاث سنين، فأبى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فلمّا رأوا غضب النبي وإباءَه أخذوا يتنازلون عن المدة الّتي ذكروها سنة سنة، وهو يأبي عليهم حتّى سألوا شهراً واحداً، فأبى عليهم أن يدعها ولا يوماً.

ولقد كان مثل هذا الطلب من النبي صلى الله عليه و آله و سلم الّذي كان نَشْرُ التوحيد، وهَدْم بيوت الأصنام، وتحطيم الأوثان يشكّل هدفه الأساسي، كان طلباً مخجلاً جدّاً، ولقد كان مثل هذا الطلب يكشف عن أنّهم كانوا يريدون إسلاماً لا يضرّ بمصالحهم الماديّة وميولهم الباطنية، أمّا إذا كان غير هذا فلن يقبلوه ولن يرضوا به.

ولهذا عندما عرف وَفدُ ثقيف بقبح مطلبهم هذا، بادَروا إلى التعلّل والاعتذار بأنّهم إنّما أرادوا بذلك إرضاء نسائهم وذراريهم وسفهاء قبيلتهم، حيث إنّهم يكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتّى يدخلهم الإسلام، فإذا أبى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليهم ذلك فليبعث معهم شخصاً من غير قبيلتهم ليهدمَها، فوافق النبي صلى الله عليه و آله و سلم على هذا الشرط، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يريد محو وإزالة جميع

ص:659

المعبودات الباطلة عن الحياة البشرية، سواء أتمّ هذا على أيدي الطائفيّين أُمّ على أيدي غيرهم.

والشرط الآخر هو أن يعفيهم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الصلاة. فلقد كانوا يتصوَّرون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يمكنُه التصرّف في الأحكام الإلهية كما يفعل قادة أهل الكتاب، حسب زعمهم، حيث كانوا يكلِّفون جماعة بهذه الأحكام، بينما يُعفون جماعة أُخرى منها، وذلك غفلة منهم عن أنّه صلى الله عليه و آله و سلم يتبع الوحي الإلهيّ، ولا يمكنه التغيير فيه قيد شعرة.

إنّ هذا الشرط كان يكشف عن أنّه لم يكن قد ترَسَّخت في أفئدتهم روح التسليم المطلق بَعدُ، وأنّ اعتناقهم للإسلام كان نتيجة ظروف ساقتهم إلى إسلام ظاهريّ سطحيّ، وإلّا فلا داعي ولا مبرّر للإيمان ببعض ما جاء في الإسلام دون بعض، فيقبلوا شيئاً ويرفضوا شيئاً آخر.

إنّ الإسلام، والإيمان باللّه إن هو إلّانوعٌ من التسليم الباطني الروحيّ، والخضوع القلبي الّذي يقبل المرءُ في ظلّه جميعَ التعاليم والدساتير الإلهية عن طواعية ورغبة، وفي مثل هذه الحالة لا غير لاتجد فكرة التبعيض في التعاليم الإلهية طريقاً إلى روح إنسان ومخيّلتهِ.

ولأجل هذا قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جوابهم:

«لاخَير في دِين لا صَلاة فيه»(1).

إن المسلم الّذي لا يسجد ولا يركع للّه تعالى في اليوم والليلة ولا مرّة واحدة، ولا يذكر ربَّه، لا يكون مُسلماً بالمعنى الصحيح.

ص:660


1- . المغازي: 968/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 967/4؛ السيرة الحلبية: 243/3.

هذا وعندما اتّفق الطرفان على شروطهما نظمت معاهدة تشمل المواد والشروط المتَّفق عليها، وقَّع عليها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وحينئذ أذِنَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لوفد ثقيف بالعودة إلى قومهم، واختار منهم أحدثهم سنّاً وهو «عثمان بن أبي العاص» الّذي كان أحرصهم على التفقّه في الإسلام، وتعلَّم القرآن خلال وجوده بالمدينة فأمَّره عليهم، وجعله نائباً عنه في قبيلة ثقيف وأوصاه - فيما أوصاه - بأن يصلّي بالناس جماعة مراعياً أضعفهم، قائلاً له:

«يا عُثمان تجاوز(1) في الصَلاة وأقدر الناس بأضعفِهم، فإنَّ فيهمُ الكبير والصغير والضعيفَ وذا الحاجة».

ثم كلَّف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «أبا سفيان بن حرب»، و «المغيرة بن شعبة» بالتوجّه إلى الطائف مع وفد ثقيف لهَدم الأصنام فيها، أجَلْ إنّ أبا سفيان الّذي كان وحتّى يوم أمس من حَفظَة الأصنام وهو الّذي أراق في سبيلها أنهراً مِنَ الدّماء، يمشي الآن إلى الطائف وهو يحمل فأسه ومعوله لتحطيم الأصنام فيها، ويحوّلها إلى تلٍّ من الحطب، ويبيع ما يتعلّق بها من ذهب وفضّة وحليّ ليقضي بأموالها ديون «عروة» و «الأسود» حسب أوامر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(2).

ص:661


1- . تجاوَزْ: أي خفف الصلاة وأسْرِعْ بها.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 965/4-967؛ السيرة الحلبية: 243/3-244. ولقد وردت قصّة وفد ثقيف في كتاب «أُسد الغابة»: 216/1 وج 3 ص 406 أيضاً.

57 إعْلان البراءة من المشركين في منى

اشارة

في أواخر السنة التاسعة من الهجرة نزل أمين الوحي جبرئيلُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعدّة آيات من سورة التوبة (سورة براءة)، وكلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يبعث بها رجلاً إلى مكّة ليتلوها مع عهد ذي أربعة بنود في موسم الحج.

ولقد رُفعَ الأمان في هذه الآيات عن المشركين، وأُلغيت جميعُ العهود (إلّا العهود والمواثيق الّتي التزم بها أصحابها ولم ينقضوها)، وأُبلغَ إلى رؤوس الشرك وأتباعهم أن عليهم أن يوضحوا مواقفهم من الحكومة الإسلامية الّتي تقوم على أساس التوحيد، وذلك خلال أربعة أشهر، وإذا لم يتركوا الشرك والوثنية خلال هذه الأشهر الاربعة نُزعت منهم الحصانة، ورفع عنهم الأَمان.

عندما ينتهي المستشرقون إلى هذه القصّة وهذا الفصل من التاريخ الإسلامي يصوّبون رماح حملاتهم إلى الإسلام ويعتبرون هذا الموقف الحاسم والحكيم مخالفاً لمبدأ الحريّة الإعتقادية، ولكنّهم إذا طالعوا صفحات التاريخ الإسلامي من دون أيّ تعصب وانحياز، ودَرَسوا الدوافع الحقيقية وراء هذا الإجراء، والّتي ذُكرت

ص:662

في هذه السورة، وفي النصوص التاريخية لسلموا من كثير من هذه الأخطاء، ولصَدّقوا واعترفوا بأنّ هذا العمل لا ينافي حرية العقيدة الّتي يحترمها عقلاءُ العالم، أبداً، وإليك فيما يأتي الدوافع وراء صدور هذا العهد (البراءة).

1. كان التقليد السائد عند العرب في العهد الجاهلي هو أنّ على زائر الكعبة أن يعطي الثوب الّذي يدخل به إلى مكّة المكرّمة لفقير ويطوف بثوب آخر، وإذا لم يكن له ثوبٌ آخر، فإنّ عليه أن يستعير ثوباً ويطوف به حتّى لا يضطرَّ إلى الطواف عرياناً، وإن لم يمكنه أن يستعير ثوباً طاف بالبيت المعظّم عارياً، بادي السوأة.

وقد دخلت امرأة ذاتُ جمال كبير، ذات يوم المسجد الحرام، وحيث إنّها لم تكُ تملكُ ثوباً آخر، لذلك اضطرّت تبعاً لذلك التقليد الجاهليّ الخرافي أن تطوف عارية بالبيت المعظَّم، ومِنَ الواضح أنّ مِثل هذا الطواف الفاضح، أي الطواف بالجسد العاري، في أقدس بقعة من بقاع العالم على مرأى من جموع الطائفين بالبيت، ينطوي على نتائج سيئّة بالغة السوء.

2. لقد نزلت الآيات الأُولى من سورة التوبة بعد أن انقضت عشرون سنة على بعثة النبي الكريم صلى الله عليه و آله و سلم، وفي هذه المدة كان منطق الإسلام القوي حول المنع من الوثنية والشرك قد بَلغ مسامع جميع المشركين في شبه الجزيرة العربية، فإذا كانت جماعةٌ قليلةٌ منهم لايزالون يُصرّون على الشرك والوثنية، لم يكن ذلك إلّا عن عصبية وعناد.

من هنا كان الوقت قد حانَ لأن يستخدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم آخر علاج لإصلاح ذلك المجتمع المنحرف، وأن يستعين بمنطق القُوّة لضرب كلّ مظاهر الوثنيّة، وأن يعتبرها نوعاً من العدوان على الحقُوق الإلهية والإنسانية، وبهذه الطريقة يقضي على منبع ومنشأ مئآت العادات السيّئة في المجتمع.

ص:663

ولكن المستشرقين الذين اعتبروا هذا العمل مخالفاً لمبدأ حرية الاعتقاد - الّذي هو أساس الدين الإسلامي وقاعدة المدنية الراهنة - قد غفلوا عن هذه النقطة، لأنّ مبدأ حرية العقيدة محترم مادام لا يضرُّ بسلامة الفرد والمجتمع، إذ في غير هذه الصورة يجب مخالفتها حتماً بحكم العقل وسيرة جميع المفكّرين.

فإذا كان في أُوربا اليوم مثلاً جماعة من الشباب المنحرفين ينادون بحرية العري انطلاقاً من أفكار منحرفة فاسدة، وقاموا - على أساس أنّ إخفاء بعض الأقسام من الجسد يثير الفضول ويوجب تحريك الغريزة ويسبب فساد الأخلاق - بتشكيل نوادي العري السرية، فهل يسمح الفكر الإنساني الرشيد لمثل هذه الجماعة بأن تفعل ما تريد تحت قناع حرية العقيدة، ويقول: إنّ الاعتقاد أمرٌ محترم؟! أو أنّ العقل يقضي بأن نحارب مثل هذه الفكرة الحمقاء حفاظاً على سعادة تلك الجماعة نفسها، وسعادة المجتمع وهذا الموقف ممّا لا يتّخذه الإسلام فحسب، بل هو موقف جميع العقلاء في العالم من جميع الاتّجاهات والحركات الهدّامة الّتي تهدّد مصالح المجتمع بالخطر، فهم يحاربونها بلا هوادة، وهذه الحرب في الحقيقة هي محاربة المعتقدات الحمقاء لدى الجماعات المنحطّة.

إنّ الوثنية ليست سوى حفنة من الأوهام والخرافات الّتي تستتبع مئات العادات الدنيئة، وقد بذل رسولُ الإسلام جهوداً كبرى وكافية في سبيل هدايتهم، وبعد أن انقضى أكثر من عشرين عاماً من دعوته كان الوقتُ قد حان لاستئصال جذور الفساد باستخدام القوة العسكرية كآخر وسيلة.

3. ومن جانب آخر فإنّ الحج هو أكبر العبادات والشعائر الإسلامية، ولم تكن الصراعات والمواجهات الّتي وقعتْ بين الإسلام ورؤوس الشرك لتسمح

ص:664

حتّى يوم نزول هذه السورة بأن يعلّم الرسولُ الكريمُ المسلمين مناسك الحج على الوجه الصحيح وبعيداً عن أيّ نوع من أنواع الشوائب والزوائد.

من هنا كان يتوجّب أن يقوم النبيُّ الكريمُ بنفسه بالمشاركة في هذا المؤتمر الإسلامي العظيم، ويعلّم المسلمين هذه العبادة الكبرى بصورة عمليّة، ولكن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إنّما كان يمكنه المشاركة في هذه المراسم والمناسك إذا خلت منطقة الحرم الإلهي ونواحيها من كافّة المشركين الذين أعطوا مقام العبودية والعبادة للأصنام الخشبية، والحجرية، ويطهّرها من كلّ معالم الشرك والوثنية، ويصبح الحرم الإلهي خالصاً للموحّدين والعباد الواقعيّين.

4. إنّ جهاد النبي لم يكُ له أيُّ ارتباط بحرية العقيدة، فالعقيدة ليست شيئاً يمكن أن يُفرَض على أحد، ويوجد أو يمحى بالقهر. إنّ روح الإنسان ونفسه هو مركز الاعتقاد ومقرّه، وظرفه ومكانه، وهو لا يخضع لأي قهر أو تسخير، وإنّ ظهور العقائد في منطقة الضمير يتوقّف على سلسلة من المقدّمات والأوليّات الّتي توجب حصول العقيدة، وظهور العقيدة وحصولها من دون تلك المقدّمات أمر محال.

وعلى هذا الأساس فإنّ مسألة الاعتقاد لا تخضع للقهر، ولا تقبل الفرض، بل كان نضالُ النبي ينحصر في النضال ضدَّ مظاهر هذه العقيدة وهي عبادة الأوثان.

من هنا هَدَم كلّ بيوت الأصنام، وحطَّم الأوثان، بينما ترك الانقلاب في العقائد والضمائر لعامل الزمن الّذي كان مروره يستتبع - لا محالة - مثل هذا التطوّر والتحوّل والانقلاب.

إنّ العوامل الأربعة المذكورة دفعت برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أن يستدعي أبابكر ثم يعلّمه الآيات الأُولى من سورة التوبة ويأمره بأن يذهب برفقة أربعين رجلاً من

ص:665

المسلمين(1) إلى مكّة، ويتلو هذه الآيات الّتي تتضمّن البراءة من المشركين في يوم الأضحى على مسامع الناس.

فتهيّأ أبوبكر للقيام بأداء هذه المهمّة، وتوجّه نحو مكّة، إلّاأنّه لم يلبث أن نزل أمين الوحي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم برسالة من اللّه سبحانه وهي:

«إنّه لا يُؤَدِّي عَنْكَ إلّاأَنْتَ أو رَجُلٌ مِنْكَ».

ولهذا استدعى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً وأخبره بالخبر ثم قال له: إركبْ ناقتي العضباء والحقْ أبابكر فخذ براءة من يده، وامض بها إلى مكّة وانبذ بها عهد المشركين إليهم، أي إقرأ على الناس الوافدين إلى منى من شتّى أنحاء الجزيرة العربية براءة بما فيها النقاط الأربعة التالية:

1. أن لا يدخُلَ المسجدَ مشركٌ.

2. أن لا يطوفَ بالبيت عُريانٌ.

3. أن لا يحجّ بعد العام مشركٌ.

4. أنّ مَنْ كانَ لُهَ عندَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عهدٌ فهو لَهُ إلى مدّته، أيْ إنّه محترمٌ ميثاقهُ ومالُه ونفسُه إلى يوم انقضاء العهد، ومَنْ لم يكن له عهد ومدّة من المشركين فإلى أربعة أشهر، فإن أخذناهُ بعد أربعة أشهر قتلناهُ، وذلك بدءاً من هذا اليوم (العاشر من شهر ذي الحجّة).

إي إنَّ على هذا الفريق من المشركين أن يحدّدوا موقفهم من الحكومة الإسلامية، فإمّا أن ينضووا إلى صفوف الموحّدين، وينبذوا وراء ظهورهم كلّ مظاهر الشرك ويحطموها، وإمّا أن يستعدوا للقتال مع المسلمين(2).

ص:666


1- . وقد ذكر الواقدي أنهم كانوا ثلاثمائة (المغازي: 1077/2).
2- . لاحظ: السيرة الحلبية: 232/3؛ بحار الأنوار: 273/21-275.

فخرج عليٌ عليه السلام على ناقة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم العضباء مع جماعة منهم «جابرُ بن عبد اللّه الأنصاري» حتّى أدرك أبابكر في الجحفة فأبلغه أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فدفع أبو بكر آيات البراءة إلى علي عليه السلام.

ويروي محدِّثو الشيعة وجماعة من محدّثي السنّة أنّ الإمام علي بن أبي طالب قال لأبي بكر: أمرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن أُخيِّرك بين أن تسير معي أو ترجعَ إليه، فرجّح أبو بكر العودة إلى المدينة على المسير مع علي عليه السلام إلى مكّة فقال: بل أرجعْ إليه، وعاد إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا دخل عليه قال: يا رسول اللّه إنّك أهّلتني لأمر طالت الأعناقُ إليَّ فيه، فلمّا توجّهت له رددْتني عنه، مالي أَنزل فيَّ قرآنٌ؟!

فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لا ولكنَّ الأمين جبرئيل هبط إليّ عن اللّه عزّوجلّ بأنّه لا يؤدّي عنك إلّاأنت أو رجلٌ منكَ، وعليٌ مِنّي، ولا يؤدّي عنّي إلّاعليّ»(1).

إلّا أن بعض روايات أهل السنّة تفيدُ أنّ أبا بكر أُنيط إليه إمارة الحجيج في ذلك العام، بينما كُلّف عليٌّ عليه السلام وحده بمهمة قراءة آيات البراءة والنقاط الأربعة المذكورة على الناس يوم الحج الأكبر بمنى(2).

دخل أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام مكّة وفي اليوم العاشر من شهر ذي الحجّة، صعد على جمرة العقبة وقرأ على الناس الآيات الثلاث عشرة من صدر سورة التوبة (براءة) وأذان رسول اللّه المتضمّن للنقاط الأربعة، رافعاً صوته به، بحيث يسمعه جميع مَن حضر، وذلك بمنتهى الشجاعة والجرأة، وأخبر المشركين الذين لاعهد ولا مدّة لهم مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأنّ لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر

ص:667


1- . إرشاد المفيد: 65/1-66.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 970/4. وراجع للوقوف على المصادر العديدة لهذه القضية الغدير: 338/6-350.

ابتداء من يوم قراءة ذلك الإعلان، فإذا انقضت هذه المدة قُتِلُوا إذا وُجدوا على الشرك، فعليهم أن يبادروا خلال هذا الأجل المضروب إلى تطهير بيئتهم من كلّ أنواع الوثنية وإلّا سُلِبَت عنهم الحصانة، ورفع عنهم الأمان.

لقد كان أثرُ هذه الآيات وهذا الأذان النبويّ هو أنّه لم يمض على قراءتهما أربعة اشهر إلّاوأقبلَ المشركون على اعتناق عقيدة التوحيد أفواجاً افواجاً، وهكذا استُئصِلت جذور الوثنية في شبه الجزيرة العربية في أواسط السنة العاشرة من الهجرة.

تعصّبٌ بغيضٌ في تحليل هذا الحدث

لاريب أنّ عزل أبي بكر عن مقام إبلاغ آيات البراءة، وتنصيب علي بن أبي طالب مكانه لأداء تلك المهمة بأمر اللّه تعالى يُعدُّ من أبرز فضائل علي ومناقبه المسلّمة الّتي لا تقبل الانكار والشك، ولكن جماعة من الكتّاب المتعصّبين وقعوا في الخطأ والانحراف رغم ذلك، عند تحليل ودراسة هذه الحادثة.

فهذا «الآلوسي البغدادي» يكتب في تفسيره عند دراسة وتحليل هذه الحادثة: النكتة في نصب الأمير كرّم اللّه تعالى وجهه مبلِّغاً نقضَ العهد في ذلك المحفَل وهي أنّ الصِّديق رضي اللّه تعالى عنه لمّا كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال كما يرشد إليه ما تقدّم في حديث الإسراء،... ولمّا كان علي كرّم اللّه تعالى وجهه الّذي هو أسد اللّه مظهر جلاله، فوّض إليه نقض عهد الكافرين الّذي هو من آثار الجلال وصفات القهر(1).

إنّ هذا التفسير النابع من منبع التعصُّب لا ينسجم مع كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؛

ص:668


1- . روح المعاني: 45/10، تفسير سورة التوبة.

لأنّه قال عند الإجابة لأبي بكر إنّ هذه الآي لا يؤدِّيها إلّاأنا أو رجلٌ منّي، أيْ لا يصلُحُ لأدائها غير هذين الرجلين، وليس في هذا الكلام أي إشارة إلى الرأفة والشجاعة.

هذا مضافاً إلى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المظهر الكامل للرحمة والرأفة وبناء على ما قاله الآلوسي يجب أن لا يُكلّف حتّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بابلاغ هذه الآيات، على حين أنّ الوحيَ قال: هذه الآيات لا يؤدّيها إلّاأنت أو رجلٌ مِنكَ.

ولقد برّر جماعة أُخرى هذا المطلب بنحو آخر فقالوا: لقد كان التقليد المتَّبَع عند العرب في نقض العهود مهما كانت هو أن يقدّم نفسُ الموقِّع على العَهْد أو أحد أنسبائه على نبذ العهد ونقضه، إذ في غير هذه الصورة كان المتعارف عندهم أن يبقى العهد على حالِه، وحيث إنّ علّي بن أبي طالب كان من أقرباء النبي لهذا كُلِّف بإبلاغ هذه الآيات الّتي تضمّنت نبذ العهد.

ولكن هذا التفسير والتوجيه غير مقنع، لأنّه كان ثمّة بين أقرباء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من هو أقرب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مثل عمّه العباس، فلماذا لم يكلَّف بإبلاغ آيات البراءة، ونبذ العهد إلى المشركين؟

ثم لماذا لم يتبع النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذه العادة من أوّل الأمر وهو العارف بتقاليد مجتمعه؟

إذا أردنا أن نقضي في هذه القضية التاريخية بالقضاء المحايد المنصف وجب أن نقول: إنّ علّة هذا العزل، والنصب لم تكن لا لدافع الرغبة في المقام، والطموح إلى السلطة، ولا لوشيجة القربى مع علي عليه السلام، بل كان الغرض من هذا التغيير هوالكشف عملياً عن أهليّة أمير المؤمنين علي عليه السلام وصلاحيّته للقيام بالمهامّ المتعلِّقة بالحكومة الإسلامية وليعلَمَ الناس أنّه عديلُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في الجوانب

ص:669

الروحية، وفي مجال الأهليّة، والصلاحية.

وإنّه إذا ما غابت شمسُ الرسالة بعد حين وجب أن تُسَلَّم مقاليدُ الحكم، وأزمّة التصرُّف في المسائل والأُمور المتعلِّقة بشؤون الخلافة إلى عليّ عليه السلام إذ لا يصلح لهذا العمل الخطير سواه، وإنّه يجب أن لا يقع المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الإشكال والتشتّت، والاختلاف والحيرة في هذا الأمر، لأنّهم قد رأوا بأُمّ أعينهم كيف نُصب «عليٌ» من جانب النبي بأمر اللّه تعالى لنبذ العهود مع المشركين، الّذي هو من صلاحيات واختيارات، الحاكم الإسلامي وشؤونه.

ص:670

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

58 في رثاء الولد العزيز

اشارة

«يا إبراهيم إنّا لَنْ نُغِنيَ عَنْكَ شَيئاً» ثم ذرفت عيناه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: «إنّا بِكَ يا إبراهيم لمحزُونُون، تبكي العين ويحزن القلب وَلا نَقُولُ ما يُسْخِطُ الربَّ».

وفي لفظ: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وَلَوْلا أنّه وَعْدٌ صادِقٌ وَمَوعُودٌ جامِعٌ فإنّ الآخِرَ منّا يَتبعُ الأولَ، لَوَجَدْنا عَليْكَ يا إبراهيم وَجْداً شَدِيداً ما وَجَدْناهُ».

وفي لفظ: «ولولا أنّه أمر حقّ ووعد صدق، وأنّها سبيل مأتية لحزنّا عليك حزناً شديداً أشدّ من هذا، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون».

وفي لفظ: «وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».(1)

هذه العبارات قالها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في رثاء ولدهِ العزيز «إبراهيم» في اللحظات الّتي كان يلفظ فيها أنفاسه الأخيرة في حجر أبيه الرحيم، وبينما كان الوالد العظيم واضعاً شفتيه على خدّ ابنه، ويودّعه بروح ملؤها المشاعرُ

ص:671


1- . السيرة الحلبية: 394/3. ولاحظ: الاستيعاب: 57/1، أُسد الغابة: 39/1.

والعواطفُ، من جانب، وراضية بالتقدير الإلهي من جانب آخر.

إنَّ حبَّ الأولاد والأبناء من أرفع وأظهر تجلّيات الروح الإنسانية، كما أنّه خير دليل على سلامة الروح ولطفاتها.

لقد كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول دائماً: «أكرمُوا أوْلادَكُمْ»(1) وذهب إلى أبعد من ذلك إلى درجة أنّه اعتبر مودَّة الأبناء والعطف عليهم من مكارم أخلاقه ومحاسن سجاياه(2).

ففي السنين والأعوام الماضية واجه النبيُّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم مصيبة افتقاد ثلاثة من أولاده هم: «القاسِم، والطاهر، والطيب»(3) وثلاث من بناته وهن: «زينب» و «رقية» و «أُمّ كلثوم» ولقد حزن لفقدهم حزناً شديداً وكانت «فاطمة» هي البنت الوحيدة الّتي بقيت له من زوجته الكريمة خديجة.

لقد بعثَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السنة السادسة من الهجرة سفراء إلى البلاد المختلفة خارج الجزيرة العربية وكان من جملة الكتب الّتي أرسلها إلى الأُمراء والملوك هي رسالته إلى حاكم مصر يدعوه فيها إلى الإسلام، وإلى عقيدة التوحيد، وهذا الحاكم وإن لم يلبّ نداء النبيّ في الظاهر، ولم يقبل دعوته إلّاأنّه أجاب على كتاب النبي بإجابة حسنة مضافاً إلى أنّه أرسلَ إليه صلى الله عليه و آله و سلم هدايا منها جارية تدعى «مارية».

ولقد نالت هذه الجارية فيما بعد شرف تزوّج النبي الكريم بها وولدت له ابناً

ص:672


1- . بحار الأنوار: 95/104، عن مكارم الاخلاق.
2- . لاحظ: المحجّة البيضاء: 366/3.
3- . بحار الأنوار: 166/22، ولكن بعض علماء الشيعة قالوا: أولاده الذكور من خديجة اثنان فقطراجع بحار الأنوار: 151/22.

سمّاه «إبراهيم» أحبَّه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حبّاً شديداً.

ولقد خفّفت ولادة إبراهيم الكثير من الأحزان الّتي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعاني منها بسبب افتقاده لأولاده الستة، واشعَلَتْ في نفس النبي صلى الله عليه و آله و سلم بصيصاً من الأمل، ولكن هذا البصيص من الأمل سرعان ما غاب بعد ثمانية عشر شهراً، وانطفأ.

لقد خرج رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من بيته ذات يوم لعمل، وعندما عرف بتدهور خطير في صحّة ولده الحبيب الوحيد «إبراهيم» عاد من فوره إلى منزله، وأخذ ابنه من حضن أُمّه، وفيما كانت تعلو ملامحه علامات الغم والاضطراب نطق بهذه العبارات.

إنّ حزن النبي صلى الله عليه و آله و سلم وبكاءه في موت ابنه «إبراهيم» دليل حيُّ على عاطفته الإنسانية الّتي استمرت حتّى بعد وفاة ذلك الولد الحبيب، وإنّ إظهار تلك العواطف والإعراب عن الحزن والأسى كان يكشف عن روح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم العاطفية الّتي كانت تبرز من دون اختيار، فيما دلَّ تجنّب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم التكلّم بما يسخط اللّه في هذه المصيبة المؤلمة على إيمانه ورضاه بالتقدير الإلهيّ الّذي لا مفرَّ لأحد منه.

اعتراض غير وجيه

استغرب عبد الرحمن بن عوف الأَنصاري من بكاء النبيّ على ولده «إبراهيم»، فاعترض على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أو لم تكن نهيتَ عن البكاء، وأنت تبكي؟(1)

إنّ هذا المعترض لم يكن جاهلاً بمبادئ الإسلام وقواعده الرفيعة فحسب؛ بل كان غافلاً حتّى عن العواطف والمشاعر الإنسانية الخاصّة الّتي أودعتْها يد

ص:673


1- . السيرة الحلبية: 395/3.

الخالق في ضميره أيضاً.

إنّ جميع الغرائز الإنسانية خُلِقَتْ في الكيان البشري لأهداف خاصّة ويجب أن يتجلّى كلّ واحد منها في وقته المناسب وموقعه اللازم، فالشخصُ الّذي لا يحزن لفقد أحبّائه وأعزّائه ولا يغتم لفراقهم، ولا تدمع عيناه لذلك، وبالتالي إذا لم يُظِهر من نفسه أيّة ردة فعل عند فراقهم، لم يكن سوى قطعة من الصخر، ولا يستحق اسم الإنسانية

ولكن ثمّة نقطة مهمّة وجديرة بالانتباه، وهي أنَّ هذا الاعتراض وإن كان اعتراضاً غير موجَّه، إلّاأنّه يكشف عن وُجود حرية كاملة، وديمقراطية حقيقية في المجتمع الإسلامي الحديث التأسيس إلى درجة أنَّ شخصاً عاديّاً من الناس تجرّأ على أن ينتقد عمل قائده بمطلق الحريّة ومن دون خوف أو وجَل، وسمع الجواب.

ومن هنا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا، إنّما هذا رَحْمة، ومَن لا يرحم لا يُرحَم»(1).

أو قال:

«لا، ولكنْ نَهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة وخَمش وجوه وشَقِّ جيوب ورنة شيطان...»(2).

ولقد كلّفَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام(3) بتجهيز

ص:674


1- . بحار الأنوار: 151/22.
2- . السيرة الحلبية: 395/3. ولاحظ: مستدرك الحاكم: 40/4.
3- . بحار الأنوار: 156/22، وروي في السيرة الحلبية: 395/3، أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّف الفضل بن العباس (ابن عم النبي) بتجهيز إبراهيم.

«إبراهيم» وتغسيله وتكفينه وتحنيطه، ثم إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم شيّعه مع جماعة من أصحابه، ومضى حتّى انتهى به إلى قبره في البقيع.

ثم إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم رأى في قبر «إبراهيم» خللاً فسوّاه بيده ثم قال:

«إذا عَمِل أحدُكُمْ عَملاً فَليُتْقِنْ»(1).

مكافحة الخرافات

عندما مات إبراهيم ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم انكسفت الشمسُ فتصوّرَ البعضُ ممّن جهل سننَ الطبيعة وقوانينَ العالم الطبيعيّ أنّ الشمس انكسفَتْ لموت إبراهيم.

ولا شكّ أنّ مثل هذا التصوّر الباطل وإن كان قضية خيالية ووهماً سخيفاً إلّا أنّه كان من شأنه أن ينفع النبي، ويعزّز مكانته في المجتمع الّذي طالما آمن بالخرافة وعشقها.

ولو أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان قائداً عادياً ومادياً لكان من الجائز أن يؤيّد صحّة هذا التصوّر ليكتسب من وراء ذلك عظمة وقوة.

ولكن النبي صلى الله عليه و آله و سلم على عكس هذا التوقّع رقى المنبر، وأطْلَعَ الناسَ على حقيقة الأمر وقال:

«أيّها الناس إنّ كسوف الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه، يجريان بأمره، مطيعان له لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته»(2).

ص:675


1- . الكافي: 263/3 ح 45؛ بحار الأنوار: 264/22.
2- . المحاسن: 313/2؛ السيرة الحلبية: 396/3. ولاحظ: صحيح البخاري: 24/2، كتاب الكسوف، وصحيح مسلم: 35/3، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف.

إنّ النبي الكريم صلى الله عليه و آله و سلم على عكس ما يفعله النفعيون الوصوليون الذين لا يكتفون بتفسير الحقائق وتجييرها لمصالحهم، واستخدامها لمآربهم، بل طالما يحاولون استغلال جهل الناس ونزوعهم إلى الخرافات لصالحهم.

إنَّ رسول الإسلام على عكس هذه الجماعة لم يكتم الحقيقة، ولم يستفد من جهل الناس وغفلتهم لصالح نفسه.

ولو أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يُسبغ في ذلك اليوم لباس الصحّة على مثل هذه الفكرة الباطلة وهذا التصوّر الخيالي لم يمكنه أن يطرح نفسَه قائداً خالداً للبشرية ورسولاً مختاراً من جانب خالق الطبيعة، والمؤسّس الحقيقي لقوانين العالم الماديّ، في العالم الراهن الّذي كشف فيه القناع عن أسرار الطبيعة، واتّضحت فيه قوانين العالم المادّي ونواميسه، وعلل الكسوف والخسوف وغيرهما من الظواهر الطبيعية.

إنّ دعوة النبي الأكرم لم تكنْ مختصّة بجماعة العرب كما أنّها لا تخضعُ لحدود زمانية أو مكانية، فلو أنّه كان نبي الأقوام والأجيال الغابرة، فهو كذلك نبيُّ عصر الفضاء، وقائد عصر اكتشاف أسرار الطبيعة ورموزها.

إنّ أحاديث هذا النبي العظيم، وكلماته من القوة، والمتانة ومن الصحّة، والاتّصاف بالواقعية، بحيث لم يتطرّق إليها أيُّ إشكال حتّى مع التطوّرات العلمية الأخيرة الّتي قلبت كثيراً من معارف البشر القديمة رأساً على عقب.

ص:676

59 وفد نجران في المدينة

اشارة

تقع «نجران» بِقُراها السبعين التابعة لها، في نقطة من نقاط الحجاز واليمن الحدودية، وكانت هذه المنطقة في مطلع ظهور الإسلام المنطقة الوحيدة الّتي غادر أهلُها الوثنية لأسباب معيّنة واعتنقوا المسيحية(1) من بين مناطق الحجاز.

وقد كتب رسولُ الإسلام كتاباً إلى أسقف نجران(2) «أبوحارثة» يدعو أهلها فيه إلى الإسلام يوم كتب كتباً إلى ملوك العالم ورؤسائه.

وإليك مضمون هذا الكتاب:

«بِسْم إله إبراهيم وإسحاق وَيَعقوب من مُحَّمد النبي رسول اللّه إلى أسْقُف نَجْران وأهل نَجْران إن أسْلَمْتُمْ فإنّي أحْمَدُ إليكُم اللّه إله إبْراهيم وَإسحاق ويعقوب، أمّا بعد فإني أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد، وأدعُوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام».(3)

ص:677


1- . ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان: 266/5-277 علل اعتناقهم للمسيحية.
2- . الأسقُف معرب كلمة يونانية هي ايسكوپ وتعني الرقيب والمناظر، وهو اليوم منصب أعلى من منصب القسّيس.
3- . بحار الأنوار: 285/21؛ إمتاع الأسماع: 67/14؛ البداية والنهاية: 64/5.

وأضافت بعض المصادر التاريخية الشيعية أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كتب في ذلك الكتاب الآية المرتبطة بأهل الكتاب(1) والّتي تدعوهم إلى عبادة اللّه الواحد القهّار.

قدم سفير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نجران وسلّم كتابه المبارك إلى أسقف نجران، فقرأ ذلك الكتاب بعناية ودقّة متناهية، ثم شكّل جماعة للمشاورة وتداول الأمر واتّخاذ القرار، مكوَّنة من الشخصيات البارزة الدينية وغير الدينية، وكان أحدُ أعضاء هذه المجموعة «شرحبيل» الّذي عُرف بعقله ونُبله، وتدبيره وحكمته، فقال في معرض الإجابة عن استشارة الأسقف إيّاه: قد علمتُ ما وَعَد اللّه إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوّة، فما يؤمِنُك أن يكون هذا الرجلُ، ليس لي في النبوة رأي، لو كان أمرٌ من أُمور الدنيا أشرتُ عليك فيه وجَهدتُ لك.

فقرّر المتشاورون أن يبعثوا وفداً إلى المدينة للتباحث مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ودراسة دلائل نبوّته، فاختير لهذه المهمّة ستون شخصاً من أعلم أهل نجران وأعقلهم، وكان على رأسهم ثلاثة أشخاص من أساقفتهم هم:

1. «أبو حارثة بن علقمة» أُسقف نجران الأعظم والممثّل الرسمي للكنائس الروميّة في الحجاز.

2. «عبد المسيح» رئيس وفد نجران المعروف بعقله ودهائه، وتدبيره.

3. «الأيهم» وكان من ذوي السن ومن الشخصيات المحترمة عند أهل نجران.(2)

ص:678


1- . المرادُ من تلك الآية هو قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» (آل عمران: 64). الإقبال: 311/2.
2- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 65/14.

قدمَ هذا الوفد المسيحيُ المدينة ودخلُوا المسجد على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهم يلبسون أزياءهم الكنسيَّة ويرتدون الديباج والحرير، ويلبسون خواتيم الذهب ويحملون الصلبان في أعناقهم، فأزعج منظرُهم هذا وخاصة في المسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فشعروا بانزعاج النبي ولكنّهم لم يعرفوا سبب ذلك، فسألوا «عثمان بن عفان» و «عبد الرحمن بن عوف» وكانت بينهم صداقة قديمة، فقال الرجلان لعلي بن أبي طالب: ماترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟

قال: أرى أن يَضَعوا حُللَهم هذه وخواتيمهم ثم يعودون إليه.

ففعلوا ذلك ثم دخلوا على النبي صلى الله عليه و آله و سلم فسلّموا عليه فرد عليهم السَّلام، واحترمهم، وقبلَ بعض هداياهم الّتي أهدوها إليه صلى الله عليه و آله و سلم، ثم إنّ الوفد قبْل أن يبدأوا مفاوضاتهم مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم قالوا: إن وقت صلاتهم قد حان واستأذنوه في أدائها، فأراد الناسُ منعهم ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أذن لهم وقال للمسلمين: «دعوهم» فاستقبلوا المشرق، فصلّوا صلاتهم(1).

وبذلك أعطى النبي صلى الله عليه و آله و سلم درساً في التسامح الديني يدفع افتراءات أعداء الإسلام على هذا الدين.

مفاوضاتُ وَفد نجران مع النبي

لقد نَقَل طائفة من كتّاب السيرة، والمحدّثين الإسلاميين نصَّ الحوار الّذي دار بين وفد نجران المسيحي ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولكن المرحوم السيد ابن طاووس نقل نصّ هذا الحوار وقضية المباهلة بنحو أدقّ وأكثر تفصيلاً ممّا ذكره الآخرون من المحدّثين والمؤرّخين.

ص:679


1- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 65/14؛ تاريخ الإسلام للذهبي: 695/2.

فقد ذكر جميع خصوصيات المباهلة من البداية إلى النهاية نقلاً عن كتاب «المباهلة» لمحمد بن المطلب الشيباني(1). وكتاب «عمل ذي الحجّة» للحسن بن إسماعيل(2)، غير أنّ نقل جميع تفاصيل هذه الواقعة التاريخية الكبرى الّتي قصّر حتّى في الإشارة اليها إشارة عابرة بعض أصحاب السيرَ، أمرٌ خارجٌ عن نطاق هذا الكتاب، ولهذا فإنّنا نكتفي بنقل جانب من هذا الحوار الّذي نقله ورواه الحلبي في سيرته(3).

عرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على وفد نجران وتلا عليهم القرآن، فامتنعوا وقالوا:

قد كنّا مُسلمين قبلك.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: كَذِبتُمْ، يمنعكم من الإسلام ثلاثٌ: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمُكُمْ أنّ للّه ولداً. أي لأنّ أحدهم قال له صلى الله عليه و آله و سلم: المسيح ابن اللّه لأنّه لا أبَ له.

وقال له آخر: المسيح هو اللّه لأنّه أحيا الموتى، وأخبر عن الغيوب، وأبرأ من الأدواء كلِّها، وخلَق من الطين طيراً.

فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو عبد اللّه وكلِمته ألقاها إلى مريم.

فغضبوا وقالوا: إنّما يرضينا أن تقول إنّه إله... فنزل الوحي بقوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» (4)، وقوله تعالى:

ص:680


1- . هو محمَّد بن عبد اللّه بن محمَّد بن عبيد اللّه بن البهلول بن همام بن المطلب المولود عام 297 ه والمتوفّى عام 387 ه.
2- . من أراد الوقوف على خصوصيات هذه الواقعة التاريخية فليراجع كتاب «الإقبال» للمرحوم السيد ابن طاووس: 310/2-349.
3- . لاحظ: السيرة الحلبية: 235/3-236.
4- . المائدة: 17 و 72.

«إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» (1).

فقال وفد نجران: إنّا لا نزدادُ منكَ في أمر صاحبنا إلّاتبايُناً، وهذا الأمر الّذي لا نقرّه لك، فهلمَّ فلنلاعنك أيّنا أولى بالحقّ فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين(2).

فأنزلَ اللّهُ عزّوجلّ آية المباهلة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» (3).

فدعاهُمْ إلى المباهلة، فقبلوا، واتّفق الطرفان على أن يقوما بالمباهلة في اليوم اللاحق.

خروجُ النبي صلى الله عليه و آله و سلم للمباهلة

تُعتبر قصّة مباهلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع وَفد نجران من حوادث التاريخ الإسلامي المثيرة والجميلة، وهي وإن قصّر بعض المفسّرين والمؤرّخين في رواية تفاصيلها، وتحليلها، إلّاأَنَّ ثلّة كبيرة، مِن العلماء كالزمخشري في الكشّاف(4)، والفخر الرازي في تفسيره(5)، وابن الأثير في الكامل(6) أعطوا حقّ الكلام في هذا المجال، وها نحن ننقل هنا ملخّص ما كتبَه الزمخشريُ في هذا

ص:681


1- . آل عمران: 59.
2- . بحار الأنوار: 320/21، ولكن آية المباهلة، وكما يستفاد من السيرة الحلبية (: 236/3) تفيد أن النبيَّ هو الّذي اقترح المباهلة ابتداء كما تفيدُ عبارة: «تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا...».
3- . آل عمران: 61.
4- . تفسير الكشّاف: 434/1.
5- . تفسير الرازي: 85/8-86.
6- . الكامل في التاريخ: 293/2.

المجال:

حان وقت المباهلة... وكان النبي صلى الله عليه و آله و سلم ووفد نجران قد اتّفقا على أن يُجريا المباهلة خارج المدينة، في الصحراء... فاختار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من المسلمين ومن عشيرته وأهله أربعة أشخاص فقط وقد اشترك هؤلاء في هذه المباهلة دون غيرهم، وهؤلاء الأربعة لم يكونوا سوى: علي بن أبي طالب عليه السلام، وفاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والحسن، والحسين؛ لأنّه لم يكنْ بين المسلمين من هُوَ أطهر من هؤلاء نفوساً، ولا أقوى وأعمق إيماناً.

طوى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسافة بين منزله، وبين المنطقة الّتي تقرر التباهلُ فيها في هيئة خاصّة مثيرة، فقد غدا محتضناً الحسين(1) آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفَه وعليٌ خلفَها، وهو يقول: إذا دعوتُ فأمِّنوا.

كان زعماء وفد نجران ورؤساؤهم قد قال بعضهم لبعض - قبل أن يغدو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المباهلة -: انظروا محمَّداً في غد، فإن غدا بولده وأهله فاحذَروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه ليس على شيء. وهم يقصدون أنّ النبي إذا جاء إلى ساحة المباهلة محفوفاً بأُبّهة مادية، وقوة ظاهرية، تحفُ به قادة جيشه وجنوده فذلك دليلٌ على عدم صدقه، وإذا أتى بوُلده وأبنائه بعيداً عن أيّة مظاهر مادية وتوجّه إلى اللّه بهم وتضرّع إلى جنابه كما يفعل الأنبياء، دلّ ذلك على صدقه؛ لأنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته، وأفلاذ كبده، وأحبِّ الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه.

ص:682


1- . جاء في بعض الروايات أنّ النبي غدا آخذاً بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة وبين يديه عليّ (بحار الأنوار: 338/21).

وفيما كان رجال الوفد يتحادثون في هذه الأُمور إذ طلع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والأغصانُ الأربعة من شجرته المباركة بوجوه روحانية نيّرة، فأخذ ينظر بعضهم إلى بعض بتعجّب ودهشة، كيف خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بابنته الوحيدة، وأفلاذ كبده وكبدها المعصومين للمباهلة، فأدركوا أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم واثق من نفسه ودعوته وثوقاً عميقاً، إذ أنّ المتردّد غير الواثق بدعوته لا يخاطر بأحبّائه وأعزّته ويعرّضهم للبلاء السماوي.

ولهذا قال أُسقف نجران: يا معشر النصارى إنّي لأرى وُجُوهاً لوشاء اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأَرض نصراني إلى يوم القيامة(1).

إنصراف وَفْد نجران عن المباهلة

لمّا رأى وفد نجران هذا الأمر (وهو خروج النبي بأحبَّتهِ وأعزّته) وسمعوا ما قاله أُسقفُ نجران تشاوروا فيما بينهم ثم اتّفقوا على عدم مباهلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، معلنين عن استعدادهم لدفع الجزية للنبي كلّ سنة، لتقوم الحكومة الإسلامية في المقابل بالدفاع عن أنفسهم وأموالهم، فقبل النبي صلى الله عليه و آله و سلم بذلك، وتقرَّر أن يتمتّع نصارى نجران بسلسلة من الحقوق في ظلّ الحكومة الإسلامية لقاء مبالغ ضئيلة

ص:683


1- . يروي العالم الشيعي الكبير السيد ابن طاووس في كتاب «الاقبال»: 345/2: أقبلَ الناسُ من أهل المدينة من المهاجرين والأنصار، وغيرهم من الناس في قبائلهم وشعارهم من راياتهم وألويتهم وأحسن شارتهم وهيئتهم... ولبث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حجرته حتّى متع (ارتفع) النهار ثم خرج آخذاً بيد علي والحسن والحسين أمامه، وفاطمة عليها السلام من خلفهم فأقبل بهم حتّى أتى الشجرتين فوقف من بينهما من تحت الكساء على مثل الهيئة الّتي خرج بها من حجرته، ثم أرسل إلى وفد نجران ليباهلهم.

يدفعونها سنوياً، ثم قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«أما والَّذي نَفْسي بيده لقد تَدلّى العذابُ على أهل نجران، ولو لاعَنُوني لَمُسِخُوا قردة وخنازير، ولأضرم الواديُ عليهم ناراً، ولاستأصل اللّه تعالى نجران وأهله».

عن عائشة: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خرج (أي يوم المباهلة) وعليه مرط(1)مرجَّل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فادخله، ثم فاطمة، ثم عليُّ، ثم قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (2).(3)

ثم يقول الزمخشري في نهاية هذا الكلام: وفيه دليل لاشيء أقوى منه على فَضْل أصحاب الكساء عليهم السلام، وفيه برهانٌ على صحّة نبوة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّه لم يرو أحدٌ من موافق ولا مخالف أنّهم أجابوا إلى ذلك.(4)

صورةُ العهد النبويّ لأهْل نجران

سأل وفد نجران النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يكتب مقدار الجزية الّتي اتّفق عليه دفعها من قِبَل أهالي نجران إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم في كتاب، وأن يضمن النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم أمن نجران في ذلك الكتاب، فكتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بأمر النبي كتاباً هذا نصّه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما كتبَ النبيُ محمَّدٌ رسولُ اللّه لنجران إذا كان لهُ عليهم حِكْمَةٌ في كلّ ثَمرة، وكلّ صفراء، وبيضاء، وسوداء، ورقيق وأفضل عليهم

ص:684


1- . كساء.
2- . الأحزاب: 33.
3- . مستدرك الحاكم: 147/3؛ المصنّف لابن أبي شيبة: 501/7.
4- . تفسير الكشّاف: 434/1.

وترك ذلك كلّه على: ألفي حلّة من حلل الأواقي في كلّ رجب ألف حلّة، وفي كلّ صفر ألف حلّة، لكلّ حلّة أُوقية من الفضة، فما زادت على الخراج أو نقصت على حلل الأواقي فبالحساب، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عروض أخذ منهم بالحساب، وعلى نجران مؤنة رسلي ومتعتهم ما بين عشرين فدونه ولا يحسبن رسلي فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، إذا كان كيد ومعرة وما هلك ممّا أعاروا رسلي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضامن على رسلي حتى يؤدّوه إليهم، ولنجران وحاشيتها جواراللّه وذمّة محمد النبي على أنفسهم وملّتهم، وأراضيهم، وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم، وبيعهم، وأن لا يغيروا ممّا كانوا عليه، ولا يغير حقّ من حقوقهم، ولا ملّتهم، ولا يغيّر أُسف عن أُسقفيته، ولا راهب من رهبانيّته، ولا واقها من وقيهاه، وكلّ ما تحت أيديهم من قليل أو كثير وليس عليهم دينه، ولا دم جاهلية، ولا يحشرون، ولا يعشرون، ولا يطأ أراضيهم جيش، ومن سأل فيهم حقّاً فبينهم النصف غير ظالمين، ولا مظلومين بنجران، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمّتي منه بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار اللّه وذمّة محمد النبي صلى الله عليه و آله و سلم أبداً حتى يأتي اللّه بأمره، وما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم.(1)

أكبر فضيلة

تعتبر واقعة المباهلة وما نزلَ فيها من القرآن، أكبر فضيلة تدعم موقف الشيعة على مرّ التاريخ، لأنّ ألفاظ الآية النازلة في المباهلة ومفرداتها تكشف عن مكانة

ص:685


1- . إمتاع الأسماع: 70/14؛ دلائل النبوّة للبيهقي: 389/5؛ فتوح البلدان: 77/1. ولاحظ: مكاتيب الرسول: 152/3.

ومقام مَن باهل بهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والذين يتّخذهم الشيعة قادة لهم.

فهذه الآية اعتبرت الحسن والحسين أبناء لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفاطمة الزهراء المرأة الوحيدة الّتي ترتبط برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويصدق عليها عنوان «نسائنا». وقد عبّر عن علي عليه السلام بأنفسنا فكان علي عليه السلام تلك الشخصية العظيمة بحكم هذه الآية بمنزلة نفس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ترى أية فضيلة أعظم وأسمى من أن ترتفع مكانة المرء من الناحية المعنوية ارتفاعاً وتسمو سمواً عظيماً حتّى أنّه يوصف صاحبها بأنّه بمنزلة نفس النبي(1).

أليست هذه الآية شاهد صدق على أفضلية أمير المؤمنين علي عليه السلام على جميع المسلمين.

لقد ذكر الفخر الرازي الّذي عرف الجميع أُسلوبَه في الأبحاث الكلاميّة ومواقفه من القضايا المرتبطة بالإمامة، ذكر استدلال الشيعة بهذه الآية ثم أورد على هذا الاستدلال اعتراضاً قليل الأهمية ممّا لا يخفى جوابه على أرباب العلم وأهل المعرفة.

هذا ويستفاد من الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنَّ المباهلة لا تختصّ بالنبيّ الأكرم، بل يجوز أن يتباهل كلُّ مُسْلم في القضايا الدينية مع مَنْ يخالفه ويجادلُه فيها، وقد جاءت طريقة المباهلة والدعاء المخصوص بها في كتب الحديث، وللوقوف على هذا الأمر يراجع كتاب «نور الثقلين»(2).

ص:686


1- . وقد استند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى هذه الآية في قوله: «عليٌ مني كنفسي».
2- . نور الثقلين: 351/1-352؛ وراجع أيضاً الكافي ج 513/2، كتاب الدعاء، باب المباهلة. وقد أشار العلّامة الطباطبائي في إحدى رسائله إلى هذا الموضوع أيضاً، ويعتبره من معاجز الإسلام الخالدة.

60 تاريخ المباهلة عاماً وشهراً ويوماً

اشارة

إنّ حادثة المباهلة من قضايا التاريخ الإسلامي المعروفة المتواترة الّتي جاء ذكرها في كتب التفسير، والتاريخ والحديث بصورة مبسوطة ومفصَّلة لمناسبة وأُخرى، وتتلخّصُ هذه القصّة فيما يلي:

لقد كتبَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - يوم راسَلَ ملوك العالم وأُمراءه يدعوهم إلى الإسلام - كتب كتاباً إلى أُسقف نجران «أبو حارثة» دعا فيه أهل نجران إلى الإسلام، ولما تسلّم أبو حارثة كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شاور جماعة من أصحابه، فأشاروا عليه بأن يَبْعثوا وفداً يمثّلون أهل نجران إلى المدينة، ليتفاوضوا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن قُرب.

وفعلاً قدم الوفد المذكور المدينة، والتقى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبعد مداولات ومفاوضات كثيرة اقترح النبيُّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم على ذلك الوفد المباهلة بأمر اللّه سبحانه، بأن يخرج الجميع (الطرفان) إلى الصحراء، ويدعُو كلُّ واحد من الجانبين على الآخر، فرضوا باقتراح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولكنّهم أحجموا عن المباهلة لما شاهدوا ما عليه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من حالة معنوية، وروحانية عظيمة، حيث إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اصطحب معه إلى المباهلة أربعة أنفار من أفضل أحبته وأعزّته،

ص:687

وتقرّر أن ينضوي نصارى نجران تحت مظلّة الحكومة الإسلامية وهم على دينهم شريطة أن يدفعوا جزية (وهي مبلغ ضئيل).

هذه هي خلاصة قضية المباهلة الّتي لا يستطيع إنكارها وإخفاءها أي مفسِّر أو مؤرّخ على النحو الّذي ذكر، والآن يجب أن نرى متى وفي أي يوم وشهر وعام وقعتْ هذه الحادثةُ الإسلامية الكبرى؟

عام المباهلة حسب المشهور

ذكر مؤلّف كتاب «مكاتيب الرسول» أنّه لاخلاف عند المؤرّخين في أنّ وفودهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكتاب الصُّلح لهم كان سنة عشر من الهجرة، فتكون سنة المباهلة نفس هذه السنة أيضاً؛ لأنّ كتاب الصلح هذا إنّما كتب عندما أحجم الوفد النجراني النصراني من مباهلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

وقد أدرج نصّ كتاب الصلح من مصادر عديدة.(2)

الشهر واليوم الّذي وقعت فيه المباهلة

إنّ المشهور بين العلماء هو أنّ المباهلة وقعت في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجّة، وذهب المرحوم الشيخ الطوسي إلى أنّها وقعت في اليوم الرابع والعشرين من ذلك الشهر، وروى في كتابه دعاء خاصاً في هذه المناسبة(3).

وأمّا المرحوم السيّد ابن طاووس فقد نقل حول يوم المباهلة أقوالاً ثلاثة،

ص:688


1- . لاحظ: مكاتيب الرسول: 496/2.
2- . لاحظ: مكاتيب الرسول: 152/3-171.
3- . مصباح المتهجد: 759.

وذكر بأنّ أصحّ تلك الأقوال والروايات هو القائل بأنّ يوم المباهلة هو الرابع والعشرون من شهر ذي الحجّة، وقد ذهب البعض إلى أنّه اليومُ الواحد والعشرون، بينما ذهب آخرون إلى أنّه اليوم السابع والعشرون(1).

ثم إنّه رحمه الله روى في آخر كتابه(2) قصّة المباهلة بصورة مفصّلة لم ترد في أي كتاب أو مؤلَّف آخر، ونوّه بأنّ محتويات هذا الباب اقتبست من الكتابين التاليين:

1. كتاب المباهلة تأليف أبي المفضل محمَّد بن عبد المطلب الشيباني(3).

2. كتاب عمل ذي الحجّة تصنيف الحسن بن إسماعيل بن أشناس(4).

إلى هنا اتّضح أنّ يوم المباهلة على المشهور هو اليوم الرابع والعشرون أو الحادي والعشرون أو الخامس والعشرون أو السابع والعشرون من شهر ذي الحجّة.

وأمّا رأينا حول التاريخ الدقيق لهذه الواقعة من حيث العام والسنة، فهو:

إنّ خلاصة القول هي أنَّ هذه الأقوال والآراء حول عام ويوم المباهلة لا

ص:689


1- . الإقبال: 354/2.
2- . الإقبال: 310/2.
3- . لم ينقل المرحوم السيد نسبه بصورة صحيحة، فقد ذكر النجاشي نسبه على النحو التالي: محمَّد بن عبد اللّه بن محمَّد بن عبيد اللّه بن البهلول بن همام بن المطلب وعلى هذا الأساس يكون جده المطلب وليس عبد المطلب، كما أنّه يكون المطلب جده الخامس. وتنبغي الإشارة هنا إلى أنّ لمحمَّد بن عبد اللّه - حسب ما يرى النجاشي - فترتين من الحياة، كان في إحداهما موثوقاً به، وفي الأُخرى غير موثوق به، ولهذا يقول: اجتنب الرواية عنه إلّاعندما يروي الثقات عنه أيام استقامته وصلاحه (راجع: رجال النجاشي: 396 برقم 1059).
4- . جاء ذكره في اسناد الصحيفة السجادية وهو من مشايخ الطائفة الإمامية وقد توفّي عام 460 ه وقد نقل أحاديث المباهلة (راجع الذَّريعة: 344/15).

توافق النقول التاريخية الأُخرى الّتي يتّسم بعضُها بطابع القطعية إلى حدّ بعيد، وإليك أدلّتنا على ذلك فيما يلي:

رأينا حول عام المباهلة

1. لقد جاء في ختام الكتاب الّذي بعثه النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى أُسقف نجران عبارة:

«وإنْ أبيتم فالجزية»، وقد جاءتْ لفظةُ الجزية في القرآن الكريم في سورة التوبة والظاهر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم استخدم هذه الجملة واللفظة في الكتاب المذكور اتباعاً للآية المذكورة، وقد نزلت سورة التوبة قبيل غزوة تبوك بقليل، وقد وقعت هذه الغزوة بعد شهر رجب من السنة التاسعة.

وبناء على هذا يبعد أن يكون رسول اللّه قد كتب لأهل نجران كتاباً، بعثوا بجوابه إليه صلى الله عليه و آله و سلم بعد عام ونصف العام على يد وفدِهم.

إنّ هذه الواقعة التاريخية تحكي عن أنّ هذه الحادثة قد وقعَتْ في السنة العاشرة من الهجرة.

2. اتفق كتّاب السيرة على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعث عليّاً عليه السلام إلى اليمن للقضاء وتعليم الأحكام الدينية، وقد مكث عليٌ عليه السلام هناك ردحاً من الزمان لأداء مهامّه المخوّلة إليه، وعندما علم بتوجّه النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة للحج، خرج هو أيضاً إلى مكّة على رأس جماعة من أهل اليمن، فلقي النبيّ بمكّة، وقدَّم إليه ألف حلّة من البز كان قد أخذها من أهل نجران من باب الجزية الّتي فرضت وكتبت عليهم في معاهدة الصلح(1).

إن هذه القضية التاريخية تفيد أنّ واقعة المباهلة وكتابة العهد لا ترتبط بالسنة

ص:690


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1021/4؛ بحار الأنوار: 115/41.

العاشرة من الهجرة، وذلك لأنّ أهل نجران تعهدوا في وثيقة الصلح أن يدفعوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في كلّ سنة ألفي حلّة (مخيَّطة وغير مخيّطة)، ألف حلّة منها في شهر رجب، وألف حلّة أُخرى في شهر صفر(1).

فاذا سلّمنا بأنّ وثيقة الصلح كتبت في شهر ذي الحجّة وجب أن نقول إنّ المقصود منه هو شهر ذي الحجّة من الأعوام السابقة على السنة العاشرة.

لأنّه كيف يمكن أن نقول بأنّ كتابة وثيقة الصلح، وتنفيذها بواسطة الإمام علي عليه السلام قد تمّا معاً في السنة العاشرة.

وإذا ارتضينا القول المشهور حول اليوم والعام الّذي كتبت فيهما وثيقة الصلح، أمكن في هذه الصورة أن يكون عقدُ الصلح قد تمّ في السنة العاشرة، ولكن يجب أن نُرجع تاريخ كتابته إلى ما قبل شهر رجب؛ لأنّ الفرض هو أنّ الإمام علياً عليه السلام قد استلم أوّل قسط من الجزية المقرّرة في شهر رجب في السنة العاشرة.

والخلاصة: أنّه مع ملاحظة هذه القضية التاريخية (وهي أنّ الإمام علياً استلم القسط الأوّل من الجزية من أهل نجران في شهر رجب وسلمه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مكّة في شهر ذي الحجّة) وجب أن نختار أحد القولين التاليين:

ألف: إذا سلّمنا بأن يوم وشهر تنظيم وثيقة الصلح هو شهر ذي الحجّة، وجب أن نقول إنّ المقصود منه هو أشهر ما قبل السنة العاشرة.

ب: إذا تردّدنا في يوم وشهر كتابة الصلح على نحو التردّد في تحديد عامِه، أمكن في هذه الصورة أن نقول بأنّ يوم المباهلة وكذا يوم تنظيم وثيقة الصلح يرتبطان بأشهر ما قبل شهر رجب من السنة العاشرة للهجرة.

***

ص:691


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 348/1.

زمن المباهلة يوماً وشهراً

إلى هنا اتّضح أنّه من غير الممكن أن يكون عام المباهلة هو السنة العاشرة من الهجرة حتماً، إلّافي صورة واحدة وهي أن نغيّر رأينا في اليوم والشهر اللّذين تمّت فيهما كتابة وثيقة الصلح.

وقد حان الحين الآن لأن نحدّد تاريخ المباهلة من حيث اليوم والشهر في ضوء الأحداث والوقائع التاريخية، فنقول: إنّ الشهر واليوم اللَّذين وقعت فيهما قضية المباهلة هما - حسب ما هو مشهور بين العلماء كما أسلفنا - شهر ذي الحجّة واليوم الرابع والعشرون أو الخامس والعشرون وعلى قول: الحادي والعشرون، أو السابع والعشرون من ذلك الشهر.

والآن يجب أن نرى هل تنطبقُ هذه الأقوال على غيرها من الحوادث التاريخية القطعية أم لا؟

إنّ الدراسة التالية تثبتُ لنا أنّ قضية المباهلة من غير الممكن أن تكون قد وقعت في شهر ذي الحجّة من السنة العاشرة مطلقاً، لأنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد توجَّه إلى مكّة المكرّمة لتعليم مناسك الحج في السنة العاشرة من الهجرة، وفي اليوم الثامن عشر من هذا الشهر (وهو يوم الغدير) نصب في منطقة غدير خم الّتي تبعد عن الجحفة بميلين(1)، علياً خليفة على المسلمين من بعده.

ص:692


1- . «الجحفة» - على وزن طُعمة - تقع على بعد ثلاثة منازل من مكّة وسبعة منازل من المدينة، وتبعد عن البحر الأحمر بستة أميال تقريباً وتقرب من رابغ الّتي تقع الآن على الطريق بين مكّة والمدينة. راجع كتاب التحرير للنووي والتهذيب له أيضاً. هذا ويقول ياقوت الحموي في «مراصد الاطّلاع» ص 109: إنّ الجحفة تقع على بعد أربعة أميال من مكّة وهي ميقات أهل

ولم تكن حادثة الغدير بالحادثة الّتي تنتهي ذيولُها في يوم واحد ليتابع النبي سفرَه إلى المدينة فوراً؛ لأنّ النبي - بشهادة التاريخ - أمر بعد نصب علّي عليه السلام للخلافة أن يجلس عليٌ في خيمة، وأن يدخل عليه المسلمون الحاضرون ثلاثة ثلاثة، ويهنّئونه بالخلافة والإمرة، وقد استمر هذا العمل حتّى الليلة التاسعة عشرة من شهر ذي الحجّة، وقد هَنّأت «أُمهاتُ المؤمنين» عليّاً عليه السلام في نهاية مراسيم التهنئة(1).

من هنا لا يمكن القول بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غادر أرض غدير خم في اليوم التاسع عشر، خاصّة أنّ تلك المنطقة كانت المحلّ الّذي تتشعّب فيه طرق المدنيّين والمصريّين والعراقيّين، وبناء على هذا لابدَّ أنّ الجماعات المختلفة الأوطان الّتي كانت تريد التوجّه إلى أوطانها قد ودَّعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولا شكّ أنّ عملية التوديع هذه قد أوجبت مكث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أرض الغدير مدة أطول.

وحتّى لو فرضنا - افتراضاً - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم توجّه نحو المدينة في اليوم

ص:693


1- . للتعرّف على تفصيل مراسيم التهنئة، لاحظ: موسوعة الغدير: 270/1-283.

التاسع عشر، فهل يمكن أن نقول - في ضوء المحاسبات الّتي نملكها من التاريخ حول مقدار طيّ هذه المسافة - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قدم المدينةَ في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين، وأخذ بمقدّمات قضية المباهلة ثم كتب وثيقة الصلح بينه وبين أهل نجران؟، كلّا حتماً، لأنّ المسافة بين مكّة والجحفة كما ذكرنا في الهامش المتقدّم هي ثلث المسافة بين مكّة والمدينة.

ويجب أن نرى الآن كم كان يستغرقُ من الزمن مجموع سفر القوافل - آنذاك - من مكّة إلى المدينة المنوّرة؟

لا توجد هنا أيّة وثيقة توضح ذلك إلّاحديث سفر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم نفسه الّذي وضعه التاريخ تحت تصرّفنا، فإنّ التاريخ يقول: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قطع هذه المسافة عند هجرته من مكّة إلى المدينة في مدة تسعة أيام(1).

كما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قطع هذه المسافة في مدة أحد عشر يوماً(2).

وسبب التفاوت بين هاتين الرحلتين هو أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قطع المسافة المذكورة في الرحلة الأُولى برفقة شخصين، بينما قطع تلك المسافة في الرحلة الثانية بصحبة جيش قوامُه عشرة آلاف رجل، ومن الطبيعي أن تتمّ الحركة في الرحلة الثانية بصورة أكثر بُطئاً.

ولنفترض أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غادر أرض «غدير خم» في اليوم التاسع عشر، فإنّنا إذا اتّخذنا تسعة أيّام مقياساً لتقييمنا وجب أن نقول: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لابدّ أنّه

ص:694


1- . غادر رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكّة مهاجراً إلى المدينة في الليلة الرابعة من شهر ربيع الأوّل، ووصل إلى محلّة «قبا» حوالي الظهر في اليوم الثاني عشر من نفس ذلك الشهر، وتدلّ القرائنُ على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قطع هذه المسافة بسرعة بسبب ملاحقة قريش له، (الطبقات الكبرى: 135/1).
2- . بحار الأنوار: 19/22.

قطع المسافة بين الجحفة والمدينة في ستة أيام؛ لأنّ المسافة بينهما هي ثلثا مجموع المسافة بين مكّة والمدينة، وبالتالي دخل المدينة في اليوم الرابع والعشرين.

وإذا اعتبرنا الثاني (أي أحد عشر يوماً) أنّه هو المقياس وجب أن يقطع تلك المسافة (أي بين الجحفة والمدينة) في سبعة أيّام ونصف اليوم، فيكون) - حسب القاعدة - قد قدم المدينة في اليوم السادس والعشرين، حوالي الظهر منه.

فهل يمكن القول - في ضوء هذه المحاسبة - بأنّ قضية المباهلة وقعت في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين أو السابع والعشرين؟!

إنّ بطلان هذا القول، وخلوّه عن الصحّة يتّضح أكثر إذا عرفنا بأنّ وفد نجران قبلوا بالتباهل بعد سلسلة من المفاوضات والمداولات، وقد انصرفوا عن التباهل في المآل ووقَّعوا على وثيقة صلح بينهم وبين النبي صلى الله عليه و آله و سلم، تحت شروط خاصّة.

فإنّ أعضاء الوفد المذكور دخلوا المدينة وهم يرتدون ثياباً راقية من الديباج والحرير، وفي أيديهم خواتيم من ذهب، وعلى صدورهم صلبان من ذهب، وتوجّهوا فور قدومهم - وعلى هذه الهيئة - إلى مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولكن النبي واجههم بالكراهة بسبب الهيئة الّتي دخلوا بها عليه.

فانتهى هذا اللقاء من دون عمل شيءٍ وتفرّق أعضاء الوفد، وهم في حيرة من موقف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فالتقى الوفد علياً عليه السلام وسألوه عن سبب استياء النبي وإعراضه عنهم، فأخبرهم الإمام عليٌ عليه السلام بأنّ عليهم أن ينزعوا تلك الثياب والحليّ عنهم، ويدخلوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بثياب عادية حتّى يرتاح إليهم النبيُّ ويستقبلهم بوجه منبسط.

فعاد أعضاء الوفد ودخلوا على النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثانية، ولكن بثياب عادية خالية

ص:695

عن الزينة والحليّ، فاستقبلهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ببشاشة خاصّة، ورحّب بهم ترحيباً كبيراً، ثم سألوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يؤدّوا صلاتهم في المسجد، فأذن لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بذلك، ثم دخلوا مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم في مناظرات ومناقشات مفصّلة، ذكرها أكثر المفسّرين والمؤرّخين ومنهم ابن هشام في سيرته(1)، اتّفقوا على أن يحسموا الأمر بالمباهلة، وحُدِّدَ يوم المباهلة.

ولمّا كان ذلك خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك اليوم مع ابنته الزهراء وصهره عليّ بن أبي طالب، وسبطيه الحسن والحسين، إلى الصحراء للمباهلة مع وفد نجران.

ولكن وفد نجران بعد أن رأوا النبي ومن معه وماهم عليه من البساطة والجلال، انصرفوا عن الدخول في المباهلة ورضخوا طائعين لدفع جزية سنوية إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فهل هذه الوقائع الّتي استغرقت - كما يقول بعض المؤرّخين - أربعة مجالس يمكن أن تكون قد تمّت في يوم واحد؟!

إنّ المحاسبات تقضي وتفيد بأنّ مراسيم المباهلة، وكتابة وثيقة الصلح من غير الممكن أن تكون قد وقعت في اليوم الواحد والعشرين أو الرابع والعشرين، أو الخامس والعشرين أو السابع والعشرين من شهر ذي الحجّة من السنة العاشرة للهجرة.

هذا مضافاً إلى أنّ «نجران» مدينة حدودية بين الحجاز واليمن، ولابد أنّ تردّد القبائل كان من شأنه أن ينقل إلى مسامع النجرانيّين أنباء وجود رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مكّة لأداء مناسك الحج، ولهذا فإنّ من المستبعد أن يكون وفد نصارى

ص:696


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 412/2؛ مجمع البيان: 309/2-310.

نجران قد أقدم على التوجّه إلى المدينة للحضور عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل التأكُّد الكامل من عودته إلى المدينة والاستقرار الكامل فيها.

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟

هنا يمكن أن يقال بأنّ قضية المباهلة وقعت في شهر ذي الحجّة من السنة التاسعة، وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض المؤرخين أيضاً(1).

ولكن المحاسبات التاريخية تثبت أيضاً بطلان هذا الرأي، وذلك لأنّ الإمام عليّاً عليه السلام الّذي كان من الشاهدين لقضية المباهلة، كما أنّه هو الّذي كتب وثيقة الصلح بيده الشريفة، كان قد كلِّف في التاسع من شهر ذي الحجّة من هذه السنة (التاسعة) من قِبَل النبي صلى الله عليه و آله و سلم بمهمة إبلاغ آيات البراءة إلى المشركين في يوم الحج الأكبر بمنى، وفي الحقيقة كانت السنة الثانية الّتي كانت قد أنيطت إمارة الحج وإدارة أمر الحجيج إلى المسلمين، وكان قد اختير أمير المؤمنين أميراً على الحج فيها.

ونحن نعلم أنّ مناسك الحج تنتهي في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجّة، ولاشكّ أنّ شخصية بارزة ومسؤولة كالإمام علي عليه السلام الّذي كان يرأس الحج

ص:697


1- . جاء ذكر هذا عند تفسير سورة التوبة. نقل صاحب الغدير: في ج 6 ص 318-321 هذا الرأي من اثنين وسبعين شخصاً من علماء السنّة، وكأنّ قضية المباهلة بين النبي ووفد نجران وقعت في آخر هذه السنة (التاسعة)، لأنّه ورد أنّ هذا الأمر قد تمّ في شهر ذي الحجّة بعد فتح مكّة، ولابد أنّ المراد بذي الحجّة ليس هو ذو الحجّة من عام حجّة الوداع وهي السنة العاشرة الّتي وقعت فيها قضية الغدير، فإذن هو ذو الحجّة من السنة السابقة على عام الغدير واستغرقت أربعة مجالس (بتلخيص).

في ذلك العام، من غير الممكن أن يكون قد غادر مكّة في اليوم الثالث عشر ويتوجّه إلى المدينة وهو الّذي كانت له أقرباء وأنسباء كثيرون في مكّة، هذا مضافاً إلى أنّ حركة الحجيج لم تكن في تلك العصور حركة انفرادية حتّى يستطيع كلُّ واحد منهم أن يقطع الفيافي القفراء والصحاري القاحلة الموحشة بمفرده، فكان على مَن يريدون الحج أن يتوجَّهوا بصورة جماعية إلى مكّة أو يغادروها إلى بلادهم.

ولهذا فإنّ عليّاً عليه السلام مهما أسرع وجدّ في السير قافلاً إلى المدينة، وقطع المسافة بين مكّة والمدينة بسرعة فائقة، فإنّه من غير الممكن أن يكون قدم المدينة قبل اليوم الرابع والعشرين، ولهذا كيف يمكن أن يقوم بارشاد وفد نجران ودلالتهم على ما يجب أن يفعلوه حتّى يستقبلهم النبي ببشاشة ويرحّب بهم، ويشهد المباهلة مع المتباهلين؟!

إنّ الشواهد والأدلّة التاريخية تشهد بأنّ النظرية المشهورة حول زمن المباهلة (يوماً وشهراً وعاماً) لا تحظى بالاعتبار الكافي، ولابدَّ - لمعرفة زمن هذه الحادثة الّتي هي من مسلّمات القرآن والتفسير والحديث - من مزيد التحقيق، ومزيد الدراسة، والتقصّي.

وهنا يبقى سؤالٌ لابدَّ من الإجابة عنه وهو: كيف اختار المشهورون من العلماء مثل هذه النظرية حول يوم المباهلة وشهرها وعامها؟

والجواب هو: أنّ المرحوم الشيخ الطوسي اختار هذا القول استناداً إلى رواية مسندة نقلها في كتابه، ولكن في سند الحديث المذكور رجالاً غير ثقات في نظر علماء الرجال، نظراء:

1. محمَّد بن أحمد بن مخزوم - أُستاذ التلعكبري في الحديث - فهو ممّن لم

ص:698

يوثَّق(1).

2. الحسن بن علي العدويّ وقد ضعّفه العلّامة(2).

3. محمَّد بن صدقة العنبري وقد وصفه الشيخ الطوسي بالغلوّ(3).

وقد ذكر المرحوم السيد ابن طاووس في كتاب «الاقبال» أُموراً تتعلّق بالمباهلة نقلاً عن كتاب أبي المفضل، وقد ذكرنا في الهامش (ص 689) أنّ أبا المفضل له فترتان في حياته، فهو موثق في حال وغير موثق في حال آخر، ولا يُدرى في أي حال من الحالين كتب أبو المفضل قضايا المباهلة، وأخذها عنه العلماء.

كما أنّ السيّد استند في كتابه المذكور على حديث مرفوع (وهو ما فيه نقص في رجال سنده)، وذكر في ضوئه أنّ يوم المباهلة هو اليوم الرابع والعشرون، في حين لا تقوم مثل هذه الرواية بإثبات المدّعى.

ص:699


1- . وإن حاول المامقاني توثيقه في تنقيح المقال: 74/3 برقم 10349 حيث قال: وظاهره كونه إمامياً وكونه شيخ إجازة بدرجة في الحسان.
2- . رجال العلّامة: 215 برقم 16، الباب الأوّل من الفصل السادس، القسم الثاني.
3- . رجال الشيخ الطوسي: 343 برقم 5107.

61 1. تقييم البراءة من المشركين 2. وفود القبائل في المدينة

اشارة

تركت البراءة القوية الّتي أعلنها أمير المؤمنين علي عليه السلام في موسم الحج في السنة التاسعة بمنى بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والّتي أعلن فيها بصراحة وبصورة رسمية:

إنّ اللّه ورسوله بريئان من المشركين والوثنيّين، وأنّ على المشركين أن يضعوا حدّاً لشركهم خلال أربعة أشهر فإمّا أن يسلّموا ويكفّوا عن عبادة الأصنام ويهجروها، وإمّا أن يستعدوا لمواجهة شاملة.

لقد ترك إعلان هذه البراءة الصريحة أثره العميق والسريع، فقد ارتبكت القبائلُ العربية القاطنة في شتّى أنحاء الجزيرة العربية الّتي كانت بسبب عنادها ولجاجتها ترفض الخضوع لمنطق القرآن والاستجابة لنداء التوحيد وتصرّ على المضيّ في عاداتها الشنيعة، والعكوف على الاوهام والخرافات وعبادة الأصنام والأوثان.

لقد ارتبكت هذه القبائل، على أثر تلك البراءة الصريحة القوية، فعمدت إلى إيفاد وفود ومندوبين من جانبها إلى المدينة عاصمة الإسلام، وقد دار بين كلّ واحد

ص:700

من هذه الوفود وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حوار خاص.

وقد ذكر ابن سعد في «الطبقات الكبرى»(1) مواصفات وخصوصيات اثنين وسبعين وفداً من تلك الوفود.

إنّ توافد هذه البعثات والوفود العجيب وخاصّة في أعقاب إعلان البراءة يكشف عن أنّ مشركي العرب فقدوا في السنة العاشرة من الهجرة كلّ حصن يمنعهم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وإلّا لكانوا يلجأون إليه، ويتظاهرون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولم تنته المدة المضروبةُ (أربعة أشهر) بعد إلّاودخلت كلّ مناطق الحجاز وكلّ أقوامها تحت راية التوحيد، ولم يبق في الحجاز بيت تعبد فيه الأصنام والأوثان ظاهراً حتّى أن فريقاً من سكان اليمن والبحرين واليمامة انتبهوا إلى الإسلام فأقبلوا عليه واعتنقوه.

محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه و آله و سلم

عُرفت قادةُ بني عامر من بين القبائل العربية - يومئذ - بالشرّ والطغيان، وقد اعتزم ثلاثة اشخاص منهم، هم: «عامر» و «أربد» و «جبار» على أن يدخلوا المدينة على رأس وفد من بني عامر، ويتظاهروا بالتفاوض مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ثم يغدروا به في المجلس ويغتالوه.

وكانت الخطّة تقضي: بأن يتحدّث «عامرٌ» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويفاوضه، وفيما هويفعل ذلك يبادر «أربد» إلى ضرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بسيفه.

ولم يخبر بقية أعضاء الوفد بنوايا هؤلاء الثلاثة وخطّتهم، ولهذا أعلنوا

ص:701


1- . الطبقات الكبرى: 291/2-330.

لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن رغبتهم الصادقة في الإسلام، ووفائهم لشخص النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولكنّ «عامراً» أحجم عن أي نوع من أنواع التظاهر بالإسلام في ذلك المجلس، وكان يصرّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يخلو به في مكان آخر ليتحدّث معه على انفراد تمهيداً لتنفيذ الخطّة المشؤومة، وهو ينظر إلى «أربد» وينتظر منه ما كان أمره به واتّفقا عليه، ولكن لا يزداد نظراً إلى «أربد» إلّاويزداد «أربد» حيرة ودهشة، هذا ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول لعامر كلّما قال: خالِّني: لا واللّه حتّى تؤمن باللّه وحده لا شريك له.

فلمّا أيس «عامر» من «أربد»، وكأنّ «أربداً» كلّما عزم أن يجرد سيفه ويهجم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هاب النبي، ومنعته عظمته ومهابته، فانصرف عن نيّته، قال عامر وهو يترك مجلس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: أما واللّه لأملأنّها عليك خيلاً ورجالاً، وهو بذلك يكشف عن عناده وعتوه.

فقابله رسول اللّه بحلم كبير، ولم يرد على كلامه وتهديده وإنّما اكتفى بأن دعا عليه وعلى صاحبه بعد أن غادرا مجلس النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد استجاب اللّه لدعاء نبيه سريعاً، فقد خرج هو وصاحبه راجعين إلى بلادهم حتّى إذا كانا في أثناء الطريق بعث اللّه الطاعون في عنق «عامر» فقتله ذلك المرض الوبيء في بيت امرأة من بني سلول في صورة فضيعة، وحالة سيئة.

وأمّا «أربد» فأرسل اللّه عليه وعلى جمله صاعقة وهو في الصحراء فأحرقتهما، وقد تسبّبت هاتان الحادثتان الفضيعتان اللّتان أصابتا عدوَّين لدُودين من أعداء النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أن يزداد تعلّقُ بني عامر برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويتضاعف حبهم له صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

ص:702


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 991/4-992؛ السيرة الحلبية: 245/3.

أمير المؤمنين في ربوع اليمن

لقد مكّن إقبال أهل الحجاز على الإسلام وأمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم جانب القبائل العربية، مكّن النبي من العمل على مدّ شعاع الإسلام إلى البلاد المتاخمة للحجاز.

فكان أوّل ما فعل صلى الله عليه و آله و سلم في هذا الصعيد هو بعث أحد أصحابه العلماء وهو «معاذ بن جبل» إلى اليمن ليبلِّغَ إلى أهلها نداء التوحيد ويشرح لهم معالم الإسلام وتعاليمه المقدّسة، وقد أوصاه بوصايا كثيرة ومفصّلة منها قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«يَسِّرْ ولا تُعَسِّر، وَبَشِّرْ وَلا تُنَفّر، وَإنَّكَ ستقدِمُ عَلى قَومٍ مِن أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة: فقل شهادة أنْ لا اله الّا اللّه وحده لا شريك له».(1)

ويبدو أنّ معاذاً رغم أنّه كان ملمّاً بالكتاب العزيز والسنّة النبوية وتعاليمها وأحكامها، إلّاأنّه لمّا سألته أمرأة عن حقّ الزوج على الزوجة لم يملك لها جواباً مقنعاً، ولهذا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يوجّه إلى اليمن تلميذه المتميّز «علي بن أبي طالب» عليه السلام حتّى يتمكّن في ضوء دعوته الدائبة، وأحاديثه المبرهنة، وما يمتلك من شجاعة أدبية نادرة، وقوّة عقلية متميّزة من نشر الإسلام العظيم في تلك الربوع.

هذا مضافاً إلى أنّ النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم كان قد بعث «خالد بن الوليد» إلى اليمن من قبل ليزيل المشكلات الّتي كانت تعرقل تقدّم الإسلام في تلك الديار، ولكنّه لم يُوفَّق في مدة بقائه لعمل شيء في هذا المجال(2).

ص:703


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1010/4.
2- . لاحظ: صحيح البخاري: 110/5، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن؛ البداية والنهاية: 120/5.

فاستدعى النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم علياً عليه السلام وأخبره بأنّه يريد أن يذهب إلى اليمن ليدعو أهلها إلى الإسلام، وليخمّس ركازهم، ويعلّمهم الأحكام، ويبيّن لهم الحلال والحرام، وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم، فقال عليٌّ عليه السلام بتواضع بالغ:

«يا رَسولَ اللّه تبعثني وأنا شابٌّ أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء؟» أي ما فعلتهُ قبل هذا.

فضرب رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيده في صدر عليّ عليه السلام وقال:

«اللَّهمَ أهدِ قَلبَه وثَبِّتْ لسانَه».(1)

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«يا علّي لا تقاتِلَنَّ أحداً حتّى تدعوه، وأيمُ اللّه لئن يَهديَ اللّهُ على يَديكَ رَجُلاً خيرٌ لكَ ممّا طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي».(2)

ثم أوصاه صلى الله عليه و آله و سلم بوصايا أربع هامّة إذ قال:

يا علي أُوصيك:

1. بالدُّعاء فإنّ معه الإجابة.

2. وبالشكر فإنَّ معه المزيد.

3. وإيّاك أن تخفِرَ عهداً أو تعين عليه.

4. وأنهاك عن المَكر، فإنّه لا يحيقُ المكر السيّئ إلّابأهله، وأنهاك عن البغي،

ص:704


1- . الطبقات الكبرى: 337/2؛ إمتاع الأسماع: 294/11؛ بحار الأنوار: 360/21.
2- . الكافي: 28/5 ح 4؛ بحار الأنوار: 361/21 ح 3.

فإنّه من بُغي عليه لينصرنّه اللّه».(1)

ولقد بقي علي عليه السلام يقومُ بالقضاء طيلة أيّام إقامته في اليمن بصورة عجيبة محيّرة، وقد دُونت أكثر أقضيته في كتب التاريخ والحديث.

هذا ويروي «البراء بن عازب» وكان من الذين صحبوا علياً عليه السلام في سفره هذا إلى اليمن أنّه لمّا انتهى عليٌّ عليه السلام ومن معه إلى أوائل أهل اليمن، وبلغ القوم الخبر، فخرجوا إليه، صفَّ عليٌّ عليه السلام الجنود الذين كانوا قد استقرّوا هناك من قبل بقيادة خالد بن الوليد، ثم صلّى بهم صلاة الفجر، ثم دعا قبيلة همدان كلّها، وكانت أكبر القبائل اليمنية، ليقرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فحمد اللّه، وأثنى عليه، ثم قرأ على القوم كتابَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأسلَمتْ همدانُ كلُّها في يوم واحد متأثّرة بجلال المشهد، وحلاوة البيان، وعظمة المنطق النبوي؛ فكتبَ أمير المؤمنين عليه السلام بذلك إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلمّا قرأ كتابه استبشر وابتهج وخرَّ ساجداً شكراً للّه تعالى، ثم رفع رأسه وجلس وقال:

«السلام على هَمْدان» يقوله ثلاثاً.

ثم تتابع - على أثر إسلام همدان - أهلُ اليمن على الإسلام(2).

ص:705


1- . أمالي الطوسي: 597 برقم 1239؛ بحار الأنوار: 361/21 ح 4.
2- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 300/2، بحار الأنوار: 360/21-363.

62 حجّة الوداع

اشارة

تُعتبر مراسيم الحج ومناسكه من أعظم العبادات الإسلامية الجماعية التي يؤدّيها المسلمون، جلالاً وأُبّهة؛ وذلك لأنّ أداء مراسيم الحج ومناسكه في كلّ سنة مرة واحدة، يُمثِّلُ بالنسبة للأُمّة الإسلامية أكبر مظاهر الاتّحاد، والوحدة ودليلاً كاملاً على الترفّع عن المناصب والدرجات وتكونُ نموذجاً بارزاً للمساواة بين جميع أبناء البشر، وسبيلاً إلى تقوية أواصر الأُخوة المتينة بين المسلمين، فإذا كان المسلمون لا ينتفعون بهذه المائدة الكبرى الّتي منحها ربُّهم لهم، وإذا كانُوا لا يستفيدون من هذا المؤتمر الإسلامي السنوي العظيم (الّذي يمكنه بِحقٍّ أن يجيبَ ويعالج الكثير من مشكلاتنا الاجتماعية، ويكون نقطة تحوّل عميق في حياتنا) استفادة كاملة لائقة، فإنَّ ذلك ليس - وبدون ريب أو شك - ناشئاً من قصور في القانون الإسلامي، بل هو دليلٌ على قصور قادة المسلمين وتقصير حُكّامهم الذين لا يُولون هذه المراسم وهذا الموسم العظيم اهتماماً مناسباً، ولا يفكّرون في استغلاله على الوجه المطلوب.

فمنذ أن فرغ إبراهيم الخليل عليه السلام من إقامة صرح الكعبة المعظَّمة ودعا الموحِّدين إلى زيارتها، والحج إليها لم تزلْ هذه البنية الشريفة كعبة القلوب،

ص:706

ومطاف الشعوب والأقوام والجماعات الموحّدة الّتي تأتي إليها كلّ عام من شتّى نقاط العالم، ومن مختلف أنحاء الجزيرة العربية، ويؤدُّون عندها المناسك الّتي علّمها إيّاهم النبيُّ العظيمُ إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا السَّلام.

ولكن تقادُم العهد، وانقطاع شعب الحجاز عن قيادة الأنبياء، وأنانية قريش، وسيادة الوثنية على عقول العرب أوجب أن تتعرّض مراسم الحج ومناسكه - من حيث الزمان والمكان - لعملية تحريف وتغيير، وأن تفقد صبغتها الحقيقية ووجهها الواقعيّ.

لهذه الجهات أُمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السنة العاشرة من الهجرة، ومن قِبَل اللّه سبحانه أن يشارك في مراسم الحج شخصياً، ويقوم بتعليم مناسك الحج للناس، ويوقفَهم على واجباتهم في هذه العبادة الكبرى عملياً، كما يقوم بإزالة كلّ ما عَلِق بها من زوائد طيلة السنوات الغابرة، ويعيّنُ حدود «عرفات» و «منى» ويوم الإفاضة منها، ولهذا فإنّ السفر كان سفراً ذا طابع تعليمي، قبل أن يكون ذا طابع سياسيّ واجتماعي.

أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الشهر الحادي عشر من العام العاشر للهجرة (أي شهر ذي القعدة) بأن ينادى في المدينة وبين القبائل بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقصد مكّة للحج هذا العام، فأحدث هذا الإعلان شوقاً وابتهاجاً عظيمَيْن في نفوس جمع كبير من المسلمين، فتهيّأ عددٌ هائلٌ منهم لمرافقة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وضربت مضارب وخيم كثيرة خارج المدينة المنورة بانتظار حركة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وتوجَّهه إلى مكّة(1).

وفي اليوم السادس والعشرين من شهر ذي القعدة خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من

ص:707


1- . لاحظ: المغازي: 1088/2؛ السيرة الحلبية: 307/3.

المدينة متوجّهاً إلى مكّة، وقد استخلف مكانه في المدينة أبا دجانة الأنصاري، وقد ساق معه ما يزيد عن ستين بدنة.

وعندما بلغ الموكب النبويُ العظيمُ إلى «ذي الحليفة» (وهي نقطة فيها مسجد الشجرة أيضاً) أحرم بلبس قطعتين عاديتين من القماش الأبيض من مسجد الشجرة، ودخل الحرم، ولبّى عند الإحرام قائلاً:

«لَبَّيْكَ اللَّهمَ لَبَّيْك، لَبّيْكَ لا شَريْكَ لَكَ لَبّيْك، إنَّ الحَمد والنعمة لك والملكَ، لَبَّيْكَ لا شركَ لَكَ لَبَّيْكَ».

وهو بذلك يلبّي نداء إبراهيم، كما أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يكرّر هذه التلبية كلّما شاهد راكباً، أو علا مرتفعاً من الأَرض، أو هبط وادياً.

ولمّا شارف مكّة قطع التلبية المذكورة.

وفي اليوم الرابع من شهر ذي الحجّة، دخل صلى الله عليه و آله و سلم مكّة المكرمة وتوجّه نحو المسجد الحرام رأساً، ثم دخله من باب بني شيبة وهو يحمد اللّه ويثني عليه ويصلّي على إبراهيم عليه السلام.

ثم بدأ من الحجَر الأسود فاستلمه(1) أوّلاً، ثم طاف سبعة أشواط حول الكعبة المعظّمة، ثم صلّى ركعتين خلف مقام ابراهيم، وعندما فرغ من صلاته سعى

ص:708


1- . المراد من الاستلام هو مسح الحجر الأسود باليدين قبل الشروع بالطواف، وفلسفة هذا العمل هي أنّ هذا الحجر كان يقف عليه إبراهيم لدى بناء جدران الكعبة وإقامتها ورفعها، واستلامُه نوعٌ من تجديد الميثاق مع الخليل عليه السلام والعمل على نصرة عقيدة التوحيد على نحو ما فعل إبراهيم. ولقد اعتمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الفترة المدنية مرتين: إحداهما في السنة السابعة والأُخرى في السنة الثامنة بعد فتح مكّة، وكانت هذه ثالث عمرة يقوم بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع الحج (الطبقات الكبرى: 174/2).

بين الصفا والمروة(1) ثم التفت إلى حجاج بيت اللّه الحرام وقال:

«مَنْ لَمْ يَسُقْ منكُمْ هَدياً فَلْيُحلَّ وليَجْعَلها عُمرة (أي فليقصِّر، أي يأخذ من شعره وظفره فيحلّ له ما حرم عليه بالإحرام) ومَن ساق منكُمْ هَدياً فَليُقِمْ على إحرامه».

وقد كرهَ البعضُ هذا واعتذَروا بأنّه يعزُّ عليهم (أو لا يلذُّ لهم) أن يخرجوا من الإحرام فيحلّ لهم ما يحرم على المحرم فيلبسوا الثياب ويقربوا النساء ويتدهّنوا ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على إحرامه أشعث أغبر.

وربّما قالوا: لا يصحَّ هذا، كيف تقطر رؤوسنا من الغسل(2) ونحنُ زوّار بيت اللّه؟

فالتفت النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى عُمر وكان ممّن بقي على إحرامه وقال له: مالي أراك يا عمر مُحرماً؟ أسقتَ هدياً؟

قال عُمر: لم أسُقْ.

فقال النبيُ: فَلِم لا تُحِلّ وقد أمرتُ مَن لَم يَسُقْ بالإحْلال؟

قال عمر: واللّه يا رسول اللّه لا أحلَلْتُ وانت محرمٌ.(3)

فغضب النبيُ لموقف الناس المتلكّئ هذا وقال:

«لو كنتُ استقبلتُ من أمري ما استَدْبَرتُ لَفعلْتُ كما أمرتُكم».

ص:709


1- . الصفا والمروة جبلان على مقربة من المسجد الحرام، والسعي هو المشي بينهما ابتداء من الصفا وانتهاء بالمروة.
2- . هذه العبارة كناية عن مقاربة الأزواج وغسل الجنابة؛ لأنّ مقاربتهن هي إحدى محرّمات الإحرام وترتفع هذه الحرمة بالتقصير وهو أخذ شيء من شعر الرأس أو اللحية أو تقليم الظفر.
3- . لاحظ: إرشاد المفيد: 173/1-174؛ بحار الأنوار: 385/21-386.

وهو صلى الله عليه و آله و سلم يعني: أنّني لو كنتُ أعلم بالمستقبل، ولو عرفت بموقف الناس المتردّد وخلافهم هذا من قَبْل لما سقتُ الهدي، ولفعلتُ ما فعلتموه من عدم سوق الهدي، ولكن ماذا عساي أن أفعل الآن وقد سقتُ الهدي، ولا يمكنني الإحلالُ من الإحرام، فيجبُ عليَّ أن أبقى على إحرامي «حتّى يبلغ الهدْيُ مَحِلَّه» أي أنحرُ هديي بمنى كما أمر اللّه سبحانه، وأمّا أنتم فمَنْ لِم يَسُق الهديَ منكم فإنَّ عليه أن يُحلَّ إحرامه، واحسبوها عمرة، ثم أحرموا للحج مرة أُخرى(1).

الإمام علي عليه السلام يعود من اليمن

لمّا علم علي عليه السلام بتوجّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة للمشاركة في مراسم الحج، خرج هو وجنوده وقد ساق معه (34) هدياً للمشاركة في الحج، واصطحب حُلَلا من بزّ اليمن وحريرها قد أخذها من أهل نجران، وهي الجزية الّتي تقرَّر دفعُها إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد تعجّل عليٌّ عليه السلام إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واستخلف على جنده الذين خرجوا معه إلى الحج رجلاً من أصحابه لقيادتهم حتّى مكّة، فالتحق برسول اللّه ولقيه على مشارف مكّة، فسرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم به، وبما أحرزَه من نجاحات في مهمّته الّتي بعثه بها إلى أرض اليمن، وقد أخبر بها النبي صلى الله عليه و آله و سلم على وجه التفصيل.

فلمّا فرغ من الخبر عن سفره قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: انطلِقْ فطفْ بالبيت، وحِلَّ كما حلَّ أصحابك.

ص:710


1- . وهذه القصّة توقفنا على تعنّت فريق من الصحابة وتمرّدهم على تعليمات النبي وأوامره الأكيدة، وهم يعلمون أنّه لا ينطق عن الهوى إن هو إلّاوحيٌ يوحى، وثمة شواهد وموارد أُخرى كثيرة على الموضوع، وقد جمعها المغفور له العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي في كتابٍ أسماه «النص والاجتهاد».

فقال علي عليه السلام: يا رسول اللّه إنّي أهللتُ كما أهللت.

فقال: ارجع فاحلل كما حلّ أصحابك.

فقال علي عليه السلام: يا رسول اللّه إني قلتُ حين أحرمتُ: اللَّهمَ إني اهلُّ بما أهلَّ به نبيُّك وعبدُك ورسولُك محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم.

قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: فهل مَعَكَ من هدي؟

قال علي: لا.

فأشركه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هديه، وثبت على إحرامه مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى فَرغا عن الحج ونحر رَسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الهديَ عنهما.(1)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر علياً عليه السلام بأن يرجع إلى جنوده الذين فارقهم، ويصطحبهم إلى مكّة، فلمّا رجع علي عليه السلام إليهم وجد أن الرجل الّذي استخلفه على أُولئك الجنود قد عمد فكسا كلّ رجل من القوم حلّة من البزّ الّذي كان قد أخذه عليٌ من أهل نجران ليسلّمها إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فانزعج من هذا التصرّف غير المشروع وقال له: ويلك ما هذا؟

قال: كسوتُ القوم ليتجملّوا به إذا قدموا في الناس بمكّة، فقال علي عليه السلام:

ويلك! أنزع قبل أن تنتهي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فانتزع ذلك الرجل الحلل من الجنود، وردّها إلى مكانها مع الأشياء الأُخرى من جزية أهل نجران.

فانزعج جماعةٌ من أُولئك الجنود ممّن يزعجهم العدل والنظام دائماً، ويريدون أن تسير الأُمور وفق أهوائهم ومشتهياتهم وإن خالفت سنن

ص:711


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1021/4؛ السيرة الحلبية: 318/3. إنّ هذا يدلّ على أنّ النية الإجمالية كافية، ولا يلزم وقوف الناوي على تفاصيل العمل وجزئياته.

الحقّ ومبادئ العدالة، وأبدوا شكواهم من ما صنع بهم من استرداد الحُلل والثياب.

ولمّا قدموا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمكّة اشتكوا عليّاً عليه السلام فقام رسول اللّه خطيباً في الناس وقال:

«أيّها الناس، لا تشكوا عليّاً، فواللّه إنّه لأخشن في ذات اللّه (أو في سبيل اللّه) مِنْ أن يشكى»(1).

شروع مراسِمُ الحج

انتهتْ أعمالُ العمرة، وكان النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يكره أن ينزل ويمكثَ في دار أحد في المدة الّتي بين العمرة والحج، ولهذا أمر بأن تُضرب له خيمة خارج مكّة.

لقد حلَّ اليوم الثامن من شهر ذي الحجّة، فخرجَ زوّار بيت اللّه الحرام في ذلك اليوم من مكّة إلى أرض عرفات ليقفوا في اليوم التاسع وهو يوم عرفة من ظهر ذلك اليوم وحتّى الغروب منه.

وقد قصَدَ النبي عرفات أيضاً في اليوم الثامن من شهر ذي الحجّة (الّذي يُدعى يوم التروية أيضاً) من طريق منى، وتوقّف في «منى» إلى طلوع الشمس من اليوم التاسع ثم ركب بعيره، وتوجّه نحو عرفات، ونزل في خيمة كانت قد ضربت له في مكان يُدعى «نمرة».

وقد ألقى في ذلك الاجتماع الهائل خطاباً تاريخياً هامّاً وهو على ناقته.

ص:712


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1022/4. وفي بحار الأنوار: 385/21: أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم منادياً أن ينادي في الناس: «ارفعوا ألسنتكم عن عليٍّ فإنّه خشنٌ في ذات اللّه غير مداهن في دينه».

خطابُ النبيّ التاريخي في حجّة الوداع

... في ذلك اليوم الّذي كانت عرفات تشهد فيه اجتماعاً عظيماً وحَشْداً بشرياً هائلاً، لم يشهد مثله شَعْبُ الحجاز من قبل حتّى ذلك اليوم، كان نداءُ التوحيد وشعار الإسلام يدوّي في ربوع تلك المنطقة الّتي كانت فيما مضى من الزمان موطن المشركين ومسكن الوثنيّين، ولكنّها قد تحوّلت الآن إلى قاعدة الموحِّدين، وملتقى عباد اللّه المؤمنين.

في هذه المنطقة بالذات (أي أرض عرفات) نزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصلّى الظهر والعصر وهو يؤُمُ مائة ألف، ثم خطب فيهم خطابَهُ التاريخيّ وهو راكب على راحلته، وكان أحد أصحابه - وكان رفيع الصوت قويه - وقيل: هو ربيعة بن أُميّة بن خلف(1)، قال: يقول له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

«قُلْ يا أيّها الناسُ إنّ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: هَل تدرون أيّ شهر هذا»؟

فيقولون: الشهرُ الحرام. فيقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم لربيعة:

«قُلْ لَهُمْ: إنّ اللّه قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكمْ إلى أن تَلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا».

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم لربيعة:

«قل: يا أيّها الناسُ إنّ رسول اللّه يقول: هلْ تدرون أيّ بَلد هذا؟».

فأجابوا جميعاً: البلدُ الحرام. فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لربيعة:

«قل لَهُمْ: إنّ اللّه قد حَرَّم عليكُمْ دماءكم وأموالكمْ إلى أن تَلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا».

ص:713


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1023/4.

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم لربيعة:

«قُلْ: يا أيّها الناس إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: هل تَدرُون أي يوم هذا؟».

فأجابوا بأجمعهم: يوم الحج الاكبر.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لربيعة:

«قُل لَهُمْ: إنّ اللّه قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربَّكم كحرمة يومكم هذا».(1)

وفي رواية أُخرى:... فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس اسمعوا قولي، فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً.

أيّها الناس إنّ دماءكم وأموالكم(2) عليكم حرام إلى أن تَلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا.

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«وَإنّكُمْ ستَلْقونَ ربَّكُمْ فيسالُكم عَن أعمالكمْ، وَقَد بلّغتُ، فَمَن كانت عندَهُ أمانة فليؤدِّها إلى من ائتمنَهُ عليها.

وَإنَّ كلّ رباً موضوعٌ ولكن لكم رؤوسُ أموالكم لا تَظلِمُونَ ولا تُظلَمون.

قضى اللّه أنّه لا ربا، وإنَّ ربا العباس بن عبد المطلب موضوعٌ كلُّه، وإنّ كلّ دم كان في الجاهلية موضوع، وإنّ أوّل دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - وكان مسترضعاً فى بني ليث، فقتلته هذيل - فهو أوّل ما أبدا به من دماء الجاهلية.

ص:714


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1023/4-1024.
2- . في الخصال: 487/2 بزيادة: وأعراضكم.

أمّا بعد أيّها الناس فإنّ الشيطان قد يئس مِن أنْ يُعبَد بأرضكم هذه أبداً، ولكنّه إن يُطَع فيما سوى ذلك فقد رضيَ به ممّا تحقرون من أعمالِكُمْ (أو رضي منكُمْ بمحقَّرات الأعمال)، فاحذرُوه على دينكم.

أيّها الناس إنَ النسيء(1) زيادةٌ في الكفر، يُضلّ به الذين كَفَروا يُحلّونه عاماً ويحرِّمُونَهُ عاماً ليواطِئُوا عِدَّة ما حرّم اللّه، فَيحلّوا ما حرّم اللّه ويُحرّموا ما أحلَّ اللّه، وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأَرض، وإنّ عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهراً، منها أربعة حُرُمٌ، ثلاثةٌ متوالية: (ذو القِعدة، وذو الحجّة، وشهر المحرم) ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان.

أمّا بعد أيّها الناس إنّ لكم على نسائكم حَقّاً، ولهنّ عليكم حقّاً:

لكم عليهن أنْ لا يوطئن فُرشَكُمْ أحداً تكرهونه (أيْ لا يضيِّفن في بيوتكم مَن تكرهونه).

وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبيّنة، فإن فعلنَ فإنّ اللّه قد أذن لكم أن تهجُروهنَّ في المضاجع، وتضربُوهُنَّ ضرباً غير مبرَّح، فإن انتهين فلَهُنَّ رزقُهُنَّ وكسوتُهنَ بالمعروف، واستَوصُوا بالنساء خيراً، فإنَّهنَ عندكم عَوان لا يملكن لأنفسهنَّ شيئاً، وإنّكم إنّما أخذتُمُوهُنَّ بأمانة اللّه، واستحللتم فروجَهُنَّ بكلمات اللّه، فاعقلوا أيّها الناسُ قولي فإنّي قد بلّغتُ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتُمْ به فلنْ تَضِلُّوا أبداً أمراً بَيّناً: كتاب اللّه وسنّة نبيّهِ (2).

ص:715


1- . شرحنا النسيء في ص 57 من الجزء الأوّل من هذا الكتاب فراجع.
2- . لقد أوصى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأُمّة في هذه الخطبة التاريخية بالكتاب والسنّة، ولكنّه أوصى في خطبة الغدير وفي أُخريات حياته بالكتاب والعترة، وحيث إنّ هذين الحديثين وردا في واقعتين فلا تنافي بينهما، لأنّه يصحّ أن يجعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم السنّة عدلاً للكتاب في واقعة،

أيّها الناس اسمَعوا قولي واعقلوه، تَعلَّمُنّ أنّ كلّ مسلم أخٌ للمسلم، وأنَّ المسلمين إخوة، فلا يحلُّ لامرئ من أخيه إلّاما أعطاهُ عن طِيب نفس منهُ، فلا تظلِمُنَّ أنفسكُمْ، اللّهمّ هل بلّغت؟ فذكر لي أنّ الناس قالوا اللّهمّ نعم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: اللّهمّ اشهد.(1)

***

ولقد مكث رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في عرفات حتّى غروب اليوم التاسع، وعندما اختفى قرصُ الشمس عن الأُفق، واظلمَّ الفضاء بعض الشيء ركبَ ناقته، وأفاضَ إلى المزدلفة، وأمضى فيها شطراً من الليل ولم يزلْ واقفاً من الفجر إلى طلوع الشمس في المشعر، ثم توجَّه في اليوم العاشر إلى «منى» وأدّى مناسكها من رمي الجمار والذبح والتقصير، ثم توجَّه نحو مكّة لأداء بقية مناسك الحج.

وهكذا علّم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الناسَ مناسك الحج بصورة عملية، وحدّد أو أكّد على مشاعره بصورة دقيقة.

ويُطلَقُ على هذه الحجّة التاريخية في كتب التاريخ والحديث «حجّة الوداع» تارة، و «حجّة البلاغ» أُخرى، و «حجّة الإسلام» ثالثة، وإنّما يُطلق كلُّ عنوان من هذه

ص:716


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1022/4-1023. ولاحظ: الخصال: 487؛ وبحار الأنوار: 381/21 باختلاف.

العناوين على هذه الحجّة لمناسبة لا تخفى على القارئ البصير(1).

هذا ونلفتُ نظر القُرّاء الكرام في خاتمة هذا الفصل إلى أنّ المشهور بين المحدّثين هو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ألقى هذا الخطاب التاريخي الخالد في يوم عرفة ولكن يذهبُ بعض المؤرّخين إلى أنّ هذه الخطبة أُلقيت في اليوم العاشر من شهر ذي الحجّة، ويرى آخرون أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم خطب خطباً عديدة في هذه الحجّة مستغلّاً كلّ فرصة سانحة لإبلاغ مبادئ رسالته الإلهية.(2)

هذا وقد وقعت في أثناء هذه الرحلة المقدّسة قضايا ووقائع لطيفة وجديرة بالدرس والتأمّل والتملّي، وقد تركنا ذكرها هنا رعاية للاختصار(3).

ص:717


1- . راجع: السيرة النبوية لابن هشام: 1025/4؛ إمتاع الأسماع: 102/2. هذا ولعلَ الوجه في تسمية هذه الحجّة بالوداع؛ لأنّها آخر حجّة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، وبالبلاغ هو نزول قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» في أعقابها وبالتمام والكمال هو نزول قوله تعالى: «اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي».
2- . راجع: المغازي: 1111/2، إمتاع الأسماع: 118/2، بحار الأنوار: 113/37.
3- . راجع: بحار الأنوار: 378/21-413، إمتاع الأسماع: 102/2-121.

63 إكمال الدين الإسلامي بتعيين الخليفة

اشارة

الخلافةُ حسب عقيدة علماء الشيعة الإمامية منصبٌ إلهيّ يعطى من قبل اللّه تعالى لأفضل أفراد الأُمّة، وأصلحهم، وأعلمهم، والفرق الواضح بين الإمام والنبيّ هو: أنّ النبي مؤسّسُ قواعد الشريعة، وهو الّذي يوحى إليه وينزلُ عليه الكتابُ من السماء، والإمام وإن كان لا يتمتّع بأي واحد من هذه الشؤون إلّاأنّه مضافاً إلى شؤون الحكومة والقيادة هو المبيّن لما جاء به رسول اللّه من الدين ممّا لم يوفق - بسبب الظروف المعاكسة أو عدم الفرص المناسبة - لبيانه أو إظهاره، وترك مهمة بيانه على عاتق أوصيائه وخلفائه.

وعلى هذا الأساس فإنّ الخليفة - من وجهة نظر عقيدة الشيعة الإمامية - ليس مجرّد حاكم زمنيّ للمسلمين وليس المطبق لقوانين الشريعة المقدّسة والحافظ للحقوق الاجتماعية، والحارس لثغور المسلمين وحدود بلادهم المدافع عنها، فحسب، بل هو علاوة على كلّ ذلك الموضح لما خفي من مَعالم الدين، والمكمِّل المبيِّن لذلك الجانب من أحكام الشريعة وقوانينها الّذي لم يُبيَّن من قبَل مؤسّس الشريعة لبعض الأسباب.

أمّا الخلافة في عقيدة أهل السنّة فهي منصبٌ عاديّ وليس الهدف منها إلّا

ص:718

حفظ الكيان الظاهري والشؤون المادية للأُمّة الإسلامية، والخليفة لا ينصَبُ إلّا باختيار الناس وانتخابهم أحداً لشَغل منصب الحكم والقضاء وإدارة الأُمور السياسية والاقتصادية وماشابهها، وذكر تفصيل ما بيّنه صاحبُ الشريعة من الأحكام على نحو الإجمال.

وأمّا بيانُ ما لم يوفق النبيُ لبيانه لأسباب خاصّة فهو يرتبط بعلماء الإسلام وفقهاء المسلمين فهم يعالجون ما يستجدُّ للناس من مشكلات فقهية ودينية من هذا النوع عن طريق الاجتهاد، والرأي.

وعلى أساس هذا الاختلاف في الموقف من قضية الخلافة وحقيقتها والنظرة إليها انشطرت الأُمّةُ الإسلاميةُ إلى طائفتين واتجاهين لا يزالان باقيين إلى هذا اليوم.

وبناء على النظرية الأُولى يكون الإمام مشاركاً للنبيّ في بعض شؤونه، فيُشتَرطُ في الإمام أيضاً ما يُشترط في النبي. وإليك الشرائط المعتبرة في النبي، الّتي تشترط في الإمام أيضاً:

1. يجب أن يكون النبيُّ معصوماً، يعني أن لا يحوم حول الإثم والمعصية طول حياته أبداً، ولا يزلَّ أو يخطأ في بيان أحكام الدين وحقائقه، وعند الإجابة عن أسئلة الناس واستفساراتهم الدينية، ويُشترط في الإمام ذلك أيضاً، والدليلُ في الموردين واحد.

2. يجب أن يكون النبيُّ أعلم الناس بالشريعة، ويجب أن لا يخفى عليه شيء من مسائل الشريعة مُطلقاً؛ وهكذا يجب أن يكون الإمام أعلم الناس بأحكام الدين ومسائله لكونه مكمّلاً أو مبيّناً لما لم يبيّن من مسائل الشريعة في زمن النبيّ.

ص:719

3. إن النبوة منصبٌ تعييني وليس منصباً انتخابياً، بمعنى أنَّ النبيَ لا يكونُ نبيّاً إلّا إذا عيَّنهُ اللّه وابتعثه، ونُصِب في مقام النبوّة من جانبه سبحانه؛ لأنّه تعالى دون سواه يميّز المعصوم عن غير المعصوم، وهو سبحانه دون غيره يعلم مَن بلَغ درجة العصمة عن الخطأ والمعصية في ظل العناية الربانية الغيبية الخاصّة، بحيث يعرف كلّ تفاصيل الدين وجزئياته.

إنّ هذه الشرائط الثلاثة كما هي معتبرة في النبي، كذلك هي معتبرة ومشترطة في خليفته والقائم مقامه.

ولكن بناء على النظرية الثانية لا يشترط أيُّ شيء من هذه الشروط المعتبرة في النبيّ، في الخليفة فلاتجب العصمة، ولا العدالة، ولا يجبُ العلم والإحاطة بالشريعة، ولا يشترط فيه التعيين من جانب اللّه، والارتباط بعالم الغيب، بل يكفي في استحقاق الخلافة أن يكون الشخصُ قادراً في ظلّ ذكائه، ومشورة المسلمين على حفظ الكيان الإسلاميّ، وقادراً على إقرار الأمن في البلاد بتطبيق قوانين الشريعة الجزائية، كما ويتمكّن من توسيع رقعة الأَرض الإسلامية في ظل الدعوة إلى الجهاد.

وعلينا الآن أن نعالج هذه المسألة (أي هل الخلافة والامامة منصبٌ تنصيصي أو انتخابي؟ وهل على النبي أن يعيّن بنفسه مَن يخلفه، أو يوكل الأمر إلى الأُمّة لتختار من تريد؟) وندرسها في ضوء المحاسبات الاجتماعية ليلمس القارئ بوضوح أنَّ الأحوال والظروف الاجتماعية كانت توجبُ أن يقوم النبي صلى الله عليه و آله و سلم بتعيين خليفته في حياته، ويحلّ بذلك مشكلة الخلافة من بعده، ولا يوكل الأمر إلى الأُمّة.

واليك توضيح هذا القسم وبيانه:

ص:720

اقتضاءُ المحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة

اشارة

لاشكّ في أنّ الدين الإسلامي دينٌ عالمي، وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادةُ الأُمّة الاسلامية من شؤون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم مادام على قيد الحياة، وكان عليه أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى أفضل أفراد الأُمّة وأكملهم.

إنّ في هذه المسألة - وهي أنّ منصب القيادة بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم هل هو منصب تنصيصي تعييني أو أنّه منصب انتخابي؟ - اتّجاهين:

فالشيعة يَرون أنّ مقام القيادة منصبٌ تنصيصيٌ ولابد أن يتعيَّن خليفة النبي من جانب اللّه سبحانه.

بينما يرى أهل السنّة أنّ هذا المنصب منصبٌ انتخابي جمهوري، أي أنّ على الأُمّة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد.

إنّ لكلّ من الاتّجاهين المذكورين دلائل ذكرها أصحابُهما في الكتب العقائدية، إلّاأنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة، فإنّ هذه الدراسة كفيلةٌ بإثبات صحّة هذا الاتّجاه أو ذاك.

إنّ تقييم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الإسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأنّ خليفة النبيّ كان لابدّ أن يعيَّن من جانب اللّه تعالى، ولا يترك الأمر من دون مثل هذا التعيين الإلهي، فإنّ المجتمع الإسلامي كان مهدداً على الدوام من جانب الخطر الثلاثي (الروم - إيران - المنافقون) بشنّ الهجوم الكاسح، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

كما أنّ مصالح الأُمّة كانت توجبُ أن توحّدَ صفوف المسلمين في مواجهة

ص:721

الخطر الخارجي وذلك بتعيين قائد سياسيّ من بعده، وبذلك يسدّ الطريق على نفوذ العدوّ في جسم الأُمّة الإسلامية والسيطرة عليها، وعلى مقدّراتها.

وإليك بيان وتوضيح هذا المطلب:

لقد كانت الامبراطورية الروميّة أحد أضلاع المثلث الخطر الّذي يحيط بالكيان الإسلامي ويتهدّده من الخارج والداخل.

وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغلُ بالَ النبي القائد على الدوام حتّى إنّ التفكير في أمر الروم لم يغادرْ ذهنه وفكره حتّى لحظة الوفاة، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت أوّل مواجهة عسكرية بين المسلمين، والجيش المسيحيّ الرومي وقعت في السنة الهجرية الثامنة في أرض فلسطين وقد آلتْ هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم: «جعفر الطيار»، و «زيد بن حارثة»، و «عبد اللّه بن رواحة».

ولقد تسبّب انسحاب الجيش الإسلامي بعد مقتل القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السنة العاشرة للهجرة على رأس جيش كبير جداً إلى حدود الشام ليتصدى بنفسه إلى أيّة مواجهة عسكرية يقوم بها العدو، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة والمضنية أن يستعيد هيبته الغابرة ويجدّد سلطته السياسية.

غير أنَّ هذا الانتصار المحدود لم يُقنِعْ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأعدّ قُبَيل مرضه جيشاً كبيراً من المسلمين وأمَّر عليهم «أُسامة بن زيد»، وكلّفهم بالتوجّه إلى حدود

ص:722

الشام، والحضور في تلك الجبهة.

أمّا الضلعُ الثاني من المثلّث الخطير الّذي كان يتهدّد الكيان الإسلامي فكان الامبراطورية الإيرانية (الفارسية) وقد بلغ من غضب هذه الامبراطورية على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومعاداتها لدعوته أن أقدم امبراطور إيران: «خسرو پرويز» على تمزيق رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وتوجيه الإهانة إلى سفيره باخراجه من بلاطه والكتابة إلى واليه وعميله باليمن بأن يوجّه إلى المدينة مَن يقبض على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أو يقتله إن امتنع!!

و «خسرو» هذا وإن قُتِلَ في زمن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلّاأنّ موضوع استقلال اليمن - الّتي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الإيرانية ردحاً طويلاً من الزمان - لم يغبْ عن نظر ملوك إيران آنذاك، وكان غرور أُولئك الملوك وتجبّرهم، وكبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة (القوة الإسلامية) لهم.

والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الّذي كان يعمل بين صفوف المسلمين - في صورة الطابور الخامس - على تقويض دعائم الكيان الإسلامي من الداخل إلى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول اللّه، في طريق العودة من تبوك إلى المدينة.

فقد كان بعضُ عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه: إنّ الحركة الإسلامية سينتهي أمرها بموت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورحيله وبذلك يستريح الجميع(1).

ولقد قام أبوسفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة إلى الأُمّة الإسلامية من الداخل، وذلك عندما أتى عليّاً عليه السلام وعرض

ص:723


1- . قال سبحانه: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» الطور: 30.

عليه أن يبايعه في مقابل من عيّنه رجالُ السقيفة، ليستطيع بذلك تشطير الأُمّة الإسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين فيتمكّن من التصيّد في الماء العكر.

ولكن الإمام علياً عليه السلام أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة، فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة:

«واللّه إنّك ما أردت بهذا إلّاالفتنة، وإنّك واللّه طالما بغيت للإسلام شراً...

لاحاجة لنا في نصيحتك»!!(1).

ولقد بلغ دورُ المنافقين التخريبي من الشدّة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سُور عديدة هي آل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والعنكبوت، والأحزاب، ومحمَّد، والفتح، والمجادلة، والحديد، والمنافقين، والحشر.

فهل مع وجود هؤلاء الأعداء الخطرين والأقوياء الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه يصحُّ أن يترك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أُمّته الحديثة العهد بالإسلام، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسياً؟

إنّ المحاسبات الاجتماعية تقول: إنّه كان يتوجّب أن يمنع رسول الإسلام بتعيين قائد للأُمّة، من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده، وأن يضمن استمرار وبقاء الوحدة الإسلامية بإيجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حول تلك الأُمّة.

إنّ تحصين الأُمّة، وصيانتها من الحوادث المشؤومة، والحيلولة دون حدوث ظاهرة مطالبة كلّ فريق الزعامة لنفسه دون غيره، وبالتالي التنازع على مسألة

ص:724


1- . الكامل في التاريخ: 326/2؛ تاريخ الطبري: 449/2.

الخلافة والزعامة لم يكن ليتحقّق إلّابتعيين قائد للأُمّة، وعدم ترك الأُمور للقدر.

إنّ المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحّة نظرية «التنصيص على القائد بعد رسول اللّه»، ولعلَّ لهذه الجهة، ولجهات أُخرى طرح رسول الإسلام مسألة الخلافة في الأيام الأُولى من ميلاد الرسالة الإسلامية وظلَّ يواصل طرحها والتذكير بها طول حياته حتى الساعات الأخيرة منها حيث عيَّن خليفتَه ونصَّ عليه بالنص القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته، وفي نهايتها أيضاً.

واليك بيان كلا هذين المقامين:

1. النبوّة والإمامة توأمان

بغضّ النظر عن الأدلّة العقلية على صحّة المحاسبة الاجتماعية الّتي تثبت حقّانية الرأي الأوّل بصورة قطعية، هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحّة الموقف والرأي الذي ذهب إليه علماء الشيعة، وتصدّقه، فقد نصّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مراراً وتكراراً، وأخرج موضوع الإمامة من مجال الانتخاب الشعبي، والرأي العام.

فهو لم يعيّن (ولم ينصّ على) خليفته ووصيّه من بعده في أُخريات حياته فحسب، بل بادر إلى التعريف بخليفته ووصيّه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعدُ سوى بضع عشرات من الأشخاص، وذلك يوم أُمر من جانب اللّه العلي القدير أن ينذر عشيرته الأقربين من العذاب الإلهي الأليم، وأن يدعوهم إلى عقيدة التوحيد قبل أن يصدع برسالته للجميع ويبدأ دعوته العامّة للناس كافّة.

فجمع أربعين رجلاً من زعماء بني هاشم وبني المطلب ثم وقف فيهم خطيباً فقال:

ص:725

«أيّكم يؤازرُني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم».

فأحجم القوم، وقام علي عليه السلام وأعلن مؤازرته وتأييده له، فأخذ رسول اللّه برقبته والتفت إلى الحاضرين وقال:

«إنَّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم»(1).

وقد عُرِفَ هذا الحديث عند المفسّرين والمحدّثين ب: «حديث يوم الدار» و «حديث بدء الدعوة».

على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته، إنّما صرّح في مناسبات شتّى، في السفر والحضر، بخلافة علي عليه السلام من بعده ولكن لايبلغ شيء من ذلك في الاهمية والظهور والصراحة والحسم مابلغه حديث الغدير.

2. قصّة الغدير

لمّا انتهت مراسيم الحج، وتعلّم المسلمون مناسكه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قرّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الرحيل عن مكّة، والعودة إلى المدينة، فأصدر أمراً بذلك.

ولمّا بلغ موكبُ الحجيج العظيم إلى منطقة «رابغ»(2) التي تبعد عن «الجحفة»(3) بثلاثة أميال (أي ما يعادل 4/83 كيلومتراً) نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمنطقة تُدعى «غدير خم» وخاطبه بالآية التالية: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ

ص:726


1- . تاريخ الطبري: 63/2؛ الكامل في التاريخ: 62/2-63.
2- . رابغ تقع الآن على الطريق بين مكّة والمدينة.
3- . من مواقيت الإحرام وتنشعب منها طرق المدنيّين والمصريّين والعراقيّين.

اَلنّاسِ» (1).

إنّ لسان الآية وظاهرها يكشف عن أنّ اللّه تعالى ألقى على عاتق النبي صلى الله عليه و آله و سلم مسؤولية القيام بمهمة خطيرة، وأي أمر أكثر خطورة من أن ينصّب علياً عليه السلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد.

من هنا أصدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمرهُ بالتوقّف، فتوقفتْ طلائعُ ذلك الموكب العظيم، والتحق بهم من تأخَّر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة، وكان الجوُ حاراً إلى درجة كبيرة جداً، وكان الشخص يضعُ قسماً من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه، وصُنِعَ للنبي صلى الله عليه و آله و سلم مظلّةٌ وكانت عبارة عن عباءة ألُقيت على أغصان شجرة (سمُرة)، وصلّى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالحاضرين الظهر جماعة، وفيما كان الناسُ قد أحاطوا به صعدَ صلى الله عليه و آله و سلم على منبر أُعِدَّ من أحداج الإبل وأقتابها، وخطب في الناس رافعاً صوته وهو يقول: «الحمدُللّه وَنَسْتعينُهُ وَ نُؤْمن به وَنَتوكَّلُ عَلَيهِ وَنَعُوذُ بهِ مِن شُرُور أنفُسنا وَ مِنْ سيئاتِ أعمالِنا، الذي لا هاديَ لِمَنْ ضَلَّ وَ لا مُضِلَّ لِمَنْ هَدى، وَ أَشهَدُ أَنْ لا إله إلّا هو وأنّ محمَّداً عبده ورسوله.

أمّا بَعْد، أيّها الناس قَد نَبَّأَني اللطيفُ الخبيرُ أنّه لم يعمَّر نبيٌ إلّامثلَ نصف الذي قبْلَهُ، وإنّي أُوشك أن أُدعى فأُجيبُ، وأنّي مسؤول وأنتمْ مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟

قالوا: نشهَدُ أنَّك قد بَلّغتَ ونصحت وجهَدت فجزاك اللّه خيراً، قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«ألستُمْ تشهدون أن لا إله إلّااللّه وأنّ مُحمَّداً عبدُه وَ رَسُولُهُ، وَ أَنَّ جنَّته حقّ،

ص:727


1- . المائدة: 67.

وَ أَنَّ الساعة آتيةٌ لاريب فيها، وَ إنّ اللّه يبعث مَنْ في القبور»؟

قالوا: بلى نشهدُ بذلك.

قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«اللَّهمَّ اشْهّدْ».

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«إنَّي تاركٌ فيكمُ الثِقلين ما إن تمسَكْتُمْ بِهما لَنْ تَضِلّوا أبداً».

فنادى مناد: بأبي أنت وأُمّي يارسول اللّه، وما الثقلان؟

فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«كِتابُ اللّه سَبَبٌ طرفٌ بيد اللّه وَطرفٌ بأيديكم فتمسكُوا به، والآخرُ عترتي؛ وإنَ اللطيف الخبيرَ نبّأني أنَّهما لَن يفترقا حتى يَردا عَليَّ الحوضَ، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا».

وهنا أخذ بيد «علي» عليه السلام ورفعها حتى رؤي بياضُ آباطهما وعرفه الناس أجمعون ثم قال:

«أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟».

قالوا: اللّه ورسوله أعلم.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«إنّ اللّه مولايَ وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهمْ، فمَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه(1)، اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه، وانصرْ مَن نصره، واخذل

ص:728


1- . لقد كرّر النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذه العبارة ثلاث مرات دفعاً لأي التباس أو اشتباه.

مَن خذله، وأحب مَن أحبه وأبغض مَن أبغضه، وأدر الحقّ معه حيث دار»(1).

واقعة الغدير خالدة إلى الأبد

لقد تعلّقت المشيئةُ الربانية بأن تبقى واقعة الغدير التاريخية في جميع القرون والعصور كتاريخ حيّ يجتذب القلوب والأفئدة، ويكتب عنه الكتّاب الإسلاميون في كلّ عصر وزمان ويتحدّثون حوله في مؤلّفاتهم المتنوّعة في مجال التفسير والتاريخ والحديث والعقائد، كما يتحدّث حوله الخطباء في مجالس الوعظ ومن فوق صهوات المنابر، ويعتبرونها من فضائل الإمام «علي» الذي لا يتطرّق اليها أي شكّ أو ريب.

ولم يقتصرْ هذا على الكتّاب والخطباء بل استلهم الشعراء من هذه الواقعة الكبرى التي فجرت بالتفكير حول هذه الحادثة، وبالإخلاص لصاحب الولاية ينابيع التعبير في وجودهم فأنشأوا أروع القصائد، وجادت قرائحهم بأنواع مختلفة من القصيد الجميل، وخلّفوا لِمن بعدهم وبلغات مختلفة آثاراً أدبية ولائية خالدة.

ولهذا قلّما نجدُ حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامّة وفي التاريخ الإسلامي والأُمّة الإسلامية خاصّة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير، وقلّما استقطبت

ص:729


1- . ورد حديث الغدير في كتب أهل السنّة وصحاحهم بأسانيد معتبرة وطرق متعدّدة وألفاظ مختلفة ومضمون واحد: لاحظ مسند أحمد: 281/4 و 372 و ج 366/5 و 370؛ سنن ابن ماجة: 45/1 برقم 121؛ سنن الترمذي: 297/5 برقم 3797؛ مستدرك الحاكم: 109/3-110 و ص 533؛ مجمع الزوائد: 103/9-109، باب قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» وغيرها كثير. وراجع للوقوف الكامل على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلّامة الأميني.

اهتمام الفئات المختلفة من المحدّثين والمفسّرين والكلاميّين والفلاسفة، والشعراء والأُدباء، والكتّاب والخطباء، وأرباب السير والمؤرّخين كما استقطبت هذه الحادثة، وقلّما اعتنوا بشيء مثلما اعتنوا بها.

إنّ من أسباب خلود هذه الواقعة الكبرى و دوام هذا الحديث هو: نزول آيتين من آيات القرآن الكريم فيها(1)، فما دام القرآن الكريم باقياً مستمراً يتلى آناء الليل وأطراف النهار تبقى هذه الحادثة في الأذهان والنفوس ولا يُمحى ذكرها من العقول والقلوب.

وحيث إنّ المجتمع الإسلامي في العصور الغابرة وكذا الطائفة الشيعية كانوا يعتبرون هذا اليوم عيداً كبيراً من الأعياد الدينية، وكانوا يقيمون فيها مايقيمونه من المراسيم في الأعياد الإسلامية، لهذا فإنّ هذه الحادثة التاريخية (حادثة الغدير) قد اتّخذت طابع الأبديّة والخلود الذي لا يُمحى ذكرها من الأذهان والخواطر.

هذا ويُستفاد من مراجعة التاريخ بوضوح أنّ اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجّة الحرام كان معروفاً بين المسلمين بيوم عيد الغدير وكانت هذه التسمية تُحظى بشهرة كبيرة إلى درجة أنّ ابن خلّكان يقول حول «المستعلي بن المستنصر»: وبويع في يوم غدير خمّ، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجّة سنة 487(2).

وقال في ترجمة المستنصر باللّه العبيدي: وتوفّي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، قلت: وهذه هي ليلة عيد

ص:730


1- . المائدة: 3 و 67.
2- . وفيات الأعيان: 180/1.

الغدير، أعني: ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجّة، وهو غدير خم(1).

وقد عدّه أبو ريحان البيروني في كتابه «الآثار الباقية» ممّا استعمله أهل الإسلام من الأعياد(2).

وليس ابن خلّكان وأبو ريحان البيروني، هما الوحيدان اللّذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الأعياد، بل هذا الثعالبيّ قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين(3).

إنّ عهد هذا العيد الإسلامي وجذوره ترجع إلى نفس يوم «الغدير»؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر المهاجرين والأنصار، بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك اليوم بالدخول على «عليّ» عليه السلام وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن أرقم: كان أوّل مَن صافق النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعلياً: أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وباقي المهاجرين والانصار وباقي الناس(4).

الدلائل الأُخرى على أبديّة الغدير

ويكفي في أهميّة هذا الحدث التاريخي أنّ هذه الواقعة التاريخية رواها مائة وعشرة صحابيّ، على أن هذه العبارة لاتعني أنّ رواية هذه الواقعة اقتصرت على هؤلاء المائة والعشرة من ذلك الحشد الهائل، بل يعني أنّ هؤلاء جاء ذكرهم في كتب أهل السنّة ومصنّفاتهم.

صحيح أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ألقى خطابه المذكور الذي تضمّن نصب عليّ عليه السلام

ص:731


1- . وفيات الأعيان: 230/5.
2- . الآثار الباقية في القرون الخالية: 334، نقلاً عن الغدير: 267/1.
3- . ثمار القلوب: 511، ط القاهرة، نقلاً عن الغدير: 268/1.
4- . راجع مصدره في الغدير: 270/1 (حديث التهنئة).

للخلافة في مائة ألف أو يزيدون من الناس، ولكنّ كثيراً منهم كانوا قد أتوا من مناطق نائية من الحجاز، ولهذا لم يُروَ عنهم هذا الحديث، كما أنّ كثيراً من الذين حضروا ذلك المشهد التاريخي العظيم رووا ونقلوا للآخرين هذا الحديث ولكنّ التاريخ لم يوفق لذكر أسمائهم، أو إذا تمّ ذلك لكن لم يصلْ إلينا.

ثم إنّه روى هذا الحديث في القرن الثاني الإسلامي وهو عصر التابعين تسعة وثمانون تابعياً.

وقد بلغ عددُ من روى حديث «الغدير» في القرون اللاحقة في كتابه من علماء أهل السنّة وفضلائهم ثلاثمائة وستون شخصاً، وصحَّحهُ جمعٌ كبيرٌ منهم واعترفوا بتواتره.

ففي القرن الثالث رواه اثنان وتسعون عالماً.

وفي القرن الرابع رواه أربعة وأربعون.

وفي القرن الخامس رواه أربعة وعشرون.

وفي القرن السادس رواه عشرون.

وفي القرن السابع رواه واحدٌ وعشرون.

وفي القرن الثامن رواه ثمانية عشر.

وفي القرن التاسع رواه ستةُ عشر.

وفي القرن العاشر رواه أربعةُ عشر.

وفي القرن الحادي عشر رواه اثنا عشر.

وفي القرن الثاني عشر رواه ثلاثةُ عشر.

وفي القرن الثالث عشر رواه اثنا عشر.

وفي القرن الرابع عشر رواه عشرون عالماً.

ص:732

ولم يكتف البعض بنقل ورواية هذا الحديث في كتبهم ومؤلَّفاتهم بل ألّفوا حوله رسائل أو كتباً مستقلة.

وقد ألّف المؤرّخ الإسلامي الكبير «الطبري» كتاباً في هذا المجال أسماه «الولاية في طرق حديث الغدير» روى فيه هذا الحديث عن النبي بخمس وسبعين سنداً.

ولقد روى «ابن عقدة» في رسالة «الولاية» هذا الحديث بمائة وخمسين سنداً.

وروى أبوبكر محمَّد بن عمر البغدادي المعروف بالجمعاني هذا الحديث بخمس وعشرين سنداً.

كما روى من علماء الحديث هذه الواقعة نظراء:

أحمد بن حنبل الشيباني ب: 40 سنداً.

ابن حجر العسقلاني ب: 25 سنداً.

الجزري الشافعي ب: 80 سنداً.

أبو سعيد السجستاني ب: 120 سنداً.

الأمير محمَّد اليمني ب: 40 سنداً.

النسائي ب: 250 سنداً.

أبو العلاء الهمداني ب: 100 سند.

أبو العرفان الحبّان ب: 30 سنداً.

وبلغ عددُ من ألّف رسالة خاصّة أو كتاباً مستقلّاً حول هذه الواقعة وخصوصياتها وتفاصيلها 26 شخصاً، ولعلَّ هناك غيرُهم ممّن ألّف كتاباً أو رسالة مستقلّة حولَ هذا الحدث التاريخي الهامّ لم يذكر التاريخُ أسماءهم، أو ضاعت

ص:733

مؤلّفاتُهم بسبب الحوادث والمصائب التي طرأت على الأُمّة الإسلامية وضيَّعت الكثير من تراثها الفكريّ خلال عمليات الإغارة والنهب أو الهدم والإحراق (ولقد اقتبسنا كلّ هذه الإحصاءات من كتاب الغدير).(1)

ولقد كتب علماء الشيعة كتباً قيّمة حول هذه الواقعة أجمعُها وأشملُها كتابُ «الغدير» بقلم العلّامة الجليل والكاتب الإسلامي القدير المرحوم آية اللّه الشيخ الأميني رضى الله عنه والذي يقع في أحد عشر مجلداً في مايقرب من ستة آلاف صفحة، وقد استفدنا كثيراً من تلك الموسوعة في تنظيم الفصل الحاضر.

ثم إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يلبث أن نزل عليه قوله تعالى بعد نصبه عليّاً لإمرة المسلمين في تلك الواقعة:

«اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» .(2)

فكبَّر النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم بصوت عال ثم أضاف قائلاً:

«الحمد للّه على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربِّ برسالتي، وولاية عليّ بن أبي طالب من بعدي».

ثم نزل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من ذلك المنبر المصنوع من أحداج الإبل وأمر أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام أن يجلس في خيمة وأمر كافّة الناس وكلَّ من حضر المشهد من أُمّته، ومنهم الشيخان ومشيخة قريش ووجوه الأنصار، كما أمر أُمّهات المؤمنين بالدخول على أمير المؤمنين عليه السلام وتهنئته على تنصيبه لمنصب الإمامة والخلافة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:734


1- . راجع: الغدير: 14/1-159.
2- . المائدة: 3.

ففعل الناسُ ذلك وانكبوا على «علي» عليه السلام بأيديهم وكان أوّل من صافق وهنأ عليّاً أبوبكر وعمر واصفين إيّاه بالولاية.

وهنا قام «حسان بن ثابت الأنصاري» شاعر الإسلام واستأذن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أن ينشد شعراً بهذه المناسبة، فأذِنَ له رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائلاً: قل على بركة اللّه.

فقام حَسانُ وقال:

يُناديهمُ يومَ الغديرِ نبيّهُمْ بخُمٍّ وَ أَسمِعْ بالنبيِّ منادياً

وقد جاءهُ جبريلُ عن أمر ربِّه بأنّكَ معصومٌ فَلا تكُ وانيا

وَبَلّغهُمُ ماَ أَنزَلَ اللّه ربُّهُمْ إليك ولا تخش هناك الأعاديا

فقامَ به إذ ذاك رافعَ كفّهِ بكف عليٍّ معلنَ الصوت عالياً

فقالَ فمن مولاكُمُ ووليُّكُمْ فقالوا ولم يُبدُوا هناك تعاميا

إلهكَ مَولانا وأنتَ وليّنا ولن تجدنْ فينا لَك اليوم عاصيا

فقالَ له: قمْ يا عليُّ فإنني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنتُ مولاهُ فهذا وليّه فكونوا له أنصار صدق مُواليا

هناكَ دعا اللّهمَ وال وليّه وكُنْ للذي عادى عَلياً معادياً

فياربِّ انصرْ ناصريه لنَصرهم إمام هُدى كالبدر يَجْلُو الدياجيا(1)

ولقد كان هذا الحديث على مدى التاريخ الإسلامي أكبر دليل على أفضلية علي عليه السلام على جميع صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم كافّة، حتى أنّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام احتجّ به مراراً فقد احتجّ به في مجلس الشورى الذي عقد لتعيين الخليفة عقيب وفاة الخليفة

ص:735


1- . لاحظ: الغدير: 39/2 (غديرية حسّان بن ثابت).

الثاني، وفي أيام خلافة عثمان، وفي أيام خلافته عليه السلام أيضاً، كما أنّ شخصيات كثيرة من وجوه المسلمين احتجّوا به على منكري حقّ عليّ وأفضليته وكان ذلك دأبهم دائماً وأبداً.

ص:736

64 1. المتنبّئون كَذباً

اشارة

64 1. المتنبّئون كَذباً(1)2. التفكير في أمر الروم

بعد الانتهاء من مراسم تعيين الخليفة في «غدير خم» انفصلتْ جُموعُ الحجيج المشاركة في مراسم «حجّة الوداع» من الوافدين من الشام ومصر، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أرض الجحفة والذين شاركوا في هذه المراسم من «حضرموت» و «اليمن» انفصلوا عنه في هذه النقطة أو في نقطة سابقة وقفلوا راجعين إلى أوطانهم.

ولكنَّ العشرة آلاف الذين خَرجوا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عادوا مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة، ووَصلوها قبل أن تأتي السنة العاشرة من الهجرة على نهايتها.

كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمون فرحين جداً لانتشار الإسلام في شتّى نقاط

ص:737


1- . كانت مراسلة مسيلمة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم في نهايات السنة الهجرية العاشرة، وكذا ادّعاء الأسود العنسي للنبوّة، وقد دمجنا ذكرهما في حوادث الفصل الرابع والستين تقليلاً لفصول هذا الكتاب.

الجزيرة العربية، ولانتهاء عهد الحاكمية الوثنيّة والشرك في كلّ مناطق الحجاز، وبالتالي لزوال جميع الموانع والعراقيل التي كانت تحول دون نفوذ الإسلام وانضواء الناس تحت لوائه المبارك.

لم يكن شهر ذي الحجّة من السنة العاشرة قد انتهى بعدُ يوم قدم نفران من «اليمامة» المدينة، وسلّما كتاباً من مسيلمة الذي عُرفَ فيما بعد ب «مسيلمة الكذّاب» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ففتح أحد كتّاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم الرسالة وقرأها عليه، فكان مضمونها أنّ شخصاً باليمامة يُدعى «مسيلمة» يدَّعي النبوّة ويشرك نفسه مع رسول الإسلام في أمر الرسالة، ويريد من خلال كتابه أن يُبلغ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بذلك ويعرّفه بنبوّته.

وقد أثبتت كتب السير والتواريخ الإسلامية نصَّ الكتاب المذكور. ويوحي أُسلوب الرسالة المذكورة بأنّ صاحبها أراد تقليد الأُسلوب القرآني في البيان والتعبير، ولكن محاولته باءت بالفشل، فلم يستطع تقليده، وأتى بعبارات خاوية خالية من الروح، يفوقها الكلامُ العادي في القوة بدرجات.

فلقد كتب «مسيلمة» في كتابه هذا:(1).

أمّا بعد، فإنّي قد أُشركتُ في الأمر معَك، وإنّ لنا نصف الأَرض، ولقريش نصف الأرض، ولكنّ قريشاً قوم يعتدون.

قال نعيم بن مسعود الأشجعي: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول لهما حين قرأ كتابه: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، فقال: «أما واللّه لَولا أنّ الرُّسُل لاتُقْتَل لضربتُ أعناقكما».

ص:738


1- . ومن شدّة جهله أنّه لم يبدأ كتابه باِسم اللّه، بل ولم يفعل مافعله حتى المشركون في العهد الجاهلي.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أملى على كاتبه كتاباً إلى مسيلمة قصير المحتوى، مفحم المفاد. واليك نصّ رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«بِسْم اللّه الرحمن الرحيم.

مِن محمَّد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب السلام على مَن اتبعَ الهُدى.

أمّا بعد فإنَّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين»(1).

لمحة عابرة عن هوية مسيلمة

كان مسيلمة من الأشخاص الذين وفَدوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة في السنة العاشرة من الهجرة وأسلم في مَن أسلم، ولكنّه بعد أن عاد إلى موطنه ادّعى النبوّة، وأجابه طائفة من السذّج والبسطاء، وربما من المتعصّبين من قومه.

ولم يكن نجاح دعوته الباطلة في «اليمامة» دليلاً على شخصيته الواقعية، بل التفّ حوله فريق ممّن تبعه تعصّباً وحميّة مع أنّهم علموا بكذبه، وزيف دعوته، إذ كانوا يقولون: «كَذّاب ربيعة أحبُ إلينا من صادق مضَر» وقد قال هذه العبارة أحدُ أتباعه لمّا سأل مسيلمة ذات مرة: مَن يأتيك؟ قال: رحمان، قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنّك كذابٌ وأنّ محمَّداً صادقٌ، ولكن كذّاب ربيعة أحبُّ إلينا من صادق مضَر(2).

إن من المسلَّم أنّ الرجل قد ادّعى النبوّة، وتبعه على ذلك فريق من قومه،

ص:739


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1019/4؛ إمتاع الأسماع: 229/14-230. وتكفي مقارنةُ بسيطة بين نصّ الكتابين في معرفة حقيقة الشخصين.
2- . تاريخ الطبري: 508/2؛ إمتاع الأسماع: 529/14. ويقصد بالأوّل مسيلمة، وبالثاني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولكنّه لم يثبت قط أنّه تصدّى لمعارضة القرآن، وما أُثر عنه - في النصوص التاريخية - من عبارات وجُمَل في معارضة القرآن، لايمكن أن تكون من كلام رجل فصيح كمسيلمة؛ لأنّ عباراته العادية وأحاديثه الأُخرى في غاية البلاغة والإتقان، فكيف تصدر منه هذه العبارات الضعيفة؟!

ولهذا يمكن القول بأنّ ما نقل عنه - على غرار ما نُقِل عن معاصره «الأسود بن كعب العنسي» الذي ادّعى النبوّة معه في اليمن - إنّما هي أُمورٌ نُسِبت إليه، وأُلصِقت به إلصاقاً لأسباب خاصّة؛ لأنّ عظمة القرآن وبلاغته الفائقة في حدٍّ لايجرُؤ معها أحدٌ على التفكير في معارضة القرآن ومقابلته، ويعلم كلُّ عربيٍّ بحكم فطرته الإلهية أنَّ هذا الأُسلوب الجذّاب وأنّ عظمة المعاني القرآنية وسموّها تجعل القرآن الكريم فوق حدود الطاقة البشرية، فكيف يحاول أحد معارضته ومقابلته؟!

ثم إنّ مواجهة المرتدّين من العرب كان أوّل ما قام به الخلفاء بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولهذا حُوصرت منطقة «مسيلمة» من قبل جنود الإسلام، وضيّق عليه الحصار شيئاً فشيئاً، حتى إذا اتّضحت هزيمة ذلك الكذّاب، قال له بعض أتباعه السذَّج: أين ما كنت تعدُنا (من النصر الإلهي)؟ فقال مسيلمة: أمّا الدين فلا، قاتلوا عن أحسابكم.

ولكنّ الدفاع عن الأحساب والكرامة لم يُفد مسيلمة ولا أتباعه شيئاً، فقد قُتِلَ هو وفريق منهم في بستان على أيدي المسلمين، وانتهت بذلك خرافة نبوته المدّعاة(1).

إنّ هذه العبارة القصيرة تكشف عن أنّه كان رجلاً فصيحاً وناطقاً بليغاً، كما

ص:740


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 514/2-516.

أنّها تفيد أنّه لم يكن صاحب تلك العبارات الباردة الخاوية التي نُسِبت إليه - في التاريخ والسيرة - في معارضة القرآن الكريم.

التفكير في أمر الرُّوم

مع أنّ ظهور مثل هؤلاء المتنبّئين الكذبة في شتّى مناطق الحجاز كان خطراً على وحدة أهلها الدينية، فإنّ التفكير في أمر الروم - الذين كانت الشامات وفلسطين من مستعمراتهم آنذاك - كان يستأثر باهتمام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أكثر من غيره؛ لأنّه كان يعلم بأنّ القادة اللائقين في اليمامة واليمن قادرين على مواجهة المتنبّئين، ولهذا قضي على «الأسود العنسي» وهو رجلٌ آخر ادّعى النبوة كذباً في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وذلك بعد يوم من وفاة النبيّ، على يد والي اليمن.

لقد كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم متيقّناً وواثقاً من أنّ الدولة الرومية التي تلاحظ اتّساع رقعة النفوذ الإسلامي الصاعد، والّتي رأت كيف أنّ رسول الإسلام استطاع أن يقتلع جذور اليهودية من الحجاز، وفرض الجزية على فريق النصارى يدفعونها للحكومة الإسلامية، غاضبة لذلك أشدّ الغضب.

لقد كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم منذ أمد بعيد يعتبر خطر الروم خطراً جديّاً لايمكن التغاضي عنه واحتقاره، ولهذا السبب نفسه وجّه في السنة الثامنة من الهجرة جيشاً كبيراً قوامُه ثلاثة آلاف بقيادة «جعفر بن أبي طالب» و «زيد بن حارث» و «عبد اللّه بن رواحة» إلى تخوم الشام حيث يسيطر الروم، وقد استشهد في هذه المعركة القادة الثلاثة، وقفل الجيش الإسلامي راجعاً إلى المدينة من دون انتصارات بتدبير من خالد بن الوليد.

وفي السنة التاسعة عندما بلغه نبأ استعداد الروم لمهاجمة الحجاز - وهو آنذاك في المدينة - خرج صلى الله عليه و آله و سلم بشخصه على رأس جيش قوامُه ثلاثون ألفاً إلى

ص:741

تبوك، وعاد من دون مواجهة إلى المدينة.

ولهذا كان هذا الخطر جدّياً في نظر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ومن هنا فإنه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا عاد من «حجّة الوداع» إلى المدينة هيّأ جيشاً من المهاجرين والأنصار أشرك فيه أشخاصاً معروفين بارزين مثل أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد بن أبي وقاص... وأمر بأن يشارك فيه كلّ مَن هاجر إلى المدينة خاصّة(1).

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولأجل تحريك مشاعر المجاهدين، عقد بيده(2)لواء لأسامة بن زيد الذي أمَّره على ذلك الجيش. وقال له:

«سِر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليّتك هذا الجيش، فأغر صباحاً على أهل أُبْنَى»(3).

فأعطى «اُسامةُ» اللواء إلى «بريدة» وعسكر بالجرف(4) ليلتحق به جنودُ الإسلام أفواجاً أفواجاً، وليتحرّك الجميع في وقت واحد.

لقد اختار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لقيادة هذا الجيش شاباً في مقتبل العمر، وأمّره على طائفة كبيرة من شيوخ الأنصار والمهاجرين، ولقد أرادَ صلى الله عليه و آله و سلم من فعله هذا

ص:742


1- . السيرة الحلبية: 227/3؛ النصُّ والاجتهاد: 30-32.
2- . يذهب كتّاب السُنّة إلى أنّ النبي عقد اللواء المذكور في 26 صفر، وحيث إنّ وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم حسب روايتهم كانت في 12 ربيع الأوّل، لهذا فإنّ من الممكن أن تقع الحوادث التي سيأتي ذكرها مستقبلاً تدريجاً في مدة 16 يوماً، ولكن حيث إنّ الشيعة يرون تبعاً لما رواه عترة النبي أنّ وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانت في 28 صفر لهذا يجب أن يكون عقدُ اللواء قدتمَّ قبل 26 صفر بمدة ليمكن وقوع كلّ هذه الحوادث الكثيرة في هذه المدة.
3- . «أُبْنى» من مناطق البلقاء وتقع في الأراضي السورية وقرب مؤتة بين «عسقلان» و «الرملة».
4- . الجرف: منطقة واسعة على بعد ثلاثة أميال (4/83 كيلومتراً)، وهي مدينة من جانب الشام.

أمرين:

أوّلاً: أن يجبُر - من خلال ذلك - ما لحق من المصيبة بأُسامة بسبب مقتل والده «زيد بن حارث» الذي استشهد في معركة مؤتة مع الروم، وليرفع من شخصيته.

ثانياً: أراد أن يؤكّد قانونه في مجال التوظيف وتوزيع المناصب والمسؤوليات ويجعل ذلك على أساس الكفاءة والشخصية القيادية، أنّ المناصب والمسؤوليات الاجتماعية لاتحتاج إلى غير الكفاءات والمؤهِّلات، ولا ترتبط بحال بالعمر والسن. لقد فعل النبي ذلك حتى يهيِّئ الشباب الذين يتمتّعون بالمؤهِّلات الكافية لتسلّم المسؤوليات الاجتماعية الثقيلة ويعلموا أن المناصب والمهامّ - في النظام الإسلامي - ترتبط ارتباطاً مباشراً بالكفاءة والمؤهّلات القيادية، لا العمر والسنّ.

ثم إنّ الإسلام الواقعي هو الانضباطية الشديدة والانقياد الكامل تجاه التعاليم الإلهية السامية، والمُسْلم الحقيقي هو من ينقاد لتعاليم اللّه تعالى وأوامره وتعاليمه ويقبل بها من كلّ قلبه كجندي في ساحة القتال، سواء أكانت له فيها نفع أم لا، وسواء أكانت تضرُّ به أم لا، وسواء أكانت مطابقة لأهوائه ومطامحه أم لا.

ولقد بيّن الإمام عليٌّ عليه السلام حقيقة الإسلام في عبارة موجزة ولكن بليغة ومعبّرة إذ قال: «الإسلامُ هو التسْليم»(1).

إنّ الذين يؤمنون ببعض تعاليم الإسلام دون بعض، كلّما واجهوا ما لايوافق أهواءهم الباطنية منها، اعترضوا عليه وحاولوا التملّص من المشاركة في تنفيذه بشتّى المعاذير والحجج.

ص:743


1- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 125.

لاشكّ أنّ هذا الفريق يفتقر إلى روح الانضباطية، والتسليم الواقعيّ، والانقياد الكامل الّذي يمثّل روح الإسلام وأساسه.

لقد كان تأمير قائد شاب يُدعى «أُسامة بن زيد» الّذي لم يكن يتجاوز يومذاك العشرين عاماً(1) شاهد صدق على ما نقول؛ لأنَّ تأميره على لفيف من الصحابة يكبرون عنه في العمر أضعافاً، شقَّ على البعض، لأنّهم اعترضوا على الإجراء، وطعنوا في أُسامة، وأطلقوا عبارات تكشف جميعها عن افتقارهم لروح الانقياد والطاعة والتسليم الذي يجب أن يتحلّى بها الجندي المسلم تجاه قائد الإسلام الأعلى (النبيّ)، وأوامره وتعييناته.

ولقد كان محور كلامهم هو أنّ النبي أمَّر شاباً صغير السنّ على شيوخ من الصحابة(2).

وقد غفلوا عن المصالح والأهداف التي توخّاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من هذا الإجراء، وكانوا يقدّرون كلّ عمل بعقولهم الضيّقة المحدودة، ويقيسونه بمقاييسهم الشخصية.

فرغم أنّهم لمسوا من قريب كيف أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يحرص على تعبئة هذا الجيش وبعثه، ولكن عناصر مشبوهة أخّرت حركة الجيش المذكور من معسكر «الجرف» وتوجهه إلى النقطة المطلوبة، وكانت تسعى لعرقلة هذه المهمة.

وبعد يوم من عقد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اللواء لأُسامة، مرض صلى الله عليه و آله و سلم بشدّة وأصابه

ص:744


1- . ذهب البعض إلى أنّه كان في السابعة عشر من عمره، وذهب آخرون إلى أنّه كان في الثامنة عشر من عمره. المهم أنّهم اتّفقوا على أنّه لم يتجاوز العشرين سنة. لاحظ: السيرة الحلبية: 227/3.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 190/2.

صداعٌ شديدٌ تركه طريح الفراش، واستمر هذا المرض عدّة أيام حتى قضى (صلوات اللّه عليه).

وقد علم رَسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مرضه أنّ هناك مَن تخلّف عن جيش أُسامة، وأنّ هناك مَن يعرقل توجّهه نحو المنطقة الّتي عيّنها، وأنّ هناك بالتالي مَن يطعن في أُسامة، فغضب صلى الله عليه و آله و سلم لذلك غضباً شديداً، وخرج وهُو يلتحف قطيفة، وقد عصّب جبهته بعصابة إلى مسجده ليتحدّث إلى المسلمين من قريب، ويحذّرهم من مغبّة هذا التخلّف، فصعد المنبر على ما هو عليه من حُمى شديدة وبعد أن حمدَ اللّه وأثنى عليه قال:

«أمّا بعدُ أيّها الناس فَما مَقالةٌ بلغَتْني عن بَعضِكم في تأميرى أُسامة، ولئن طعَنْتُمْ في إمارتي أُسامة لقَدْ طعَنتم في إمارتي أباه من قَبْلهِ، وأَيمُ اللّه إن كان للإمارة لخليقاً، وإنّ ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لِمن أحبّ الناس إليَّ، وإنهّما لَمخيلان(1) لكلّ خير، واستوصُوا به خيراً فإنّه من خياركمْ».

ثم نزل صلى الله عليه و آله و سلم ودخل بيته... (واشتدت به الحمى)، فجعل يقول لمن يعوده من أصحابه:

«أنفذوا بَعَثَ أُسامة»(2).

ولقد بلغ من إصرار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على بعث جيش أُسامة أنّه كان يقول وهو في فراش المرض:

«جَهّزوا جيش أُسامة، لعَن اللّه مَن تخلّف عنه»(3).

ص:745


1- . فلان مخيّل للخير: أي خليق له. صحاح الجوهري: 1692، مادة «خيل».
2- . الطبقات الكبرى: 190/2.
3- . الملل والنحل للشهرستاني: 13/1، المقدّمة الرابعة.

وقد تسبّبت هذه التأكيدات في أن يحضر جماعة من المهاجرين والأنصار عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للتوديع والخروج عن المدينة تلقائياً والالتحاق بجيش أُسامة في معسكره بالجرف.

وفيما كان أُسامة يتهيّأ للتوجّه بجيشه إلى حيث أمره الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم بلغ بعض الصحابة الحاضرين في الجيش أنباء عن تدهور صحّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم فتسببت في عُدولهم عن الحركة حتى كان يوم الاثنين، فحضر أُسامة عند رسول صلى الله عليه و آله و سلم ليودّعه، فرأى آثار التحسّن بادية على ملامح النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حاثّاً إيّاه على المبادرة والمسارعة في الخروج:

«أُغدُ على بركة اللّه»(1).

فعاد أُسامة إلى المعسكر وأمر بالتحرّك فوراً، ولكنّ الجيش لم يكن قد غادر «الجرف» بعد، حتى جاء نبأ من المدينة بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحتضر، فعمد مَن كانوا يبحثون عن حجّة للتخلّف عن جيش أُسامة، والذين حاولوا خلال ستة عشر يوماً أن يعرقلوا توجّهه بشتّى المعاذير والحجج إلى التوسّل هذه المرة بقضية احتضار النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعادوا إلى المدينة فوراً، وعاد الجيش برمّته هو الآخر إلى المدينة متجاهلين - جميعاً - أوامر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالخروج.

ولم يتحقّق أحد آمال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في أيام حياته بسبب اللا انضباطية التي أبداها فريق من شيوخ القوم وأعيان الجيش.

الأعذارُ غير المقبولة

إنّ خطأً كبيراً كهذا ارتكبه بعض مَن تسلّم أُمور الخلافة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص:746


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 190/2.

وسمّوا أنفسهم خلفاء النبي لايمكن أن يبرَّر أبداً.

ولقد أراد بعض علماء السنّة أن يبرّروا هذا التخلّف بطرق ووجوه مختلفة إلّا أنّهم عجزوا - رغم ذلك - أن يُخرِجوا عذراً مقبولاً ودليلاً مرضياً لأُولئك المتخلّفين عن جيش أُسامة.

وللاطّلاع على ما نُحِت لذلك من أعذار سقيمة راجع «المراجعات»(1)، و «النص والاجتهاد»(2).

الاستغفار لأهل البقيع

كتب فريقٌ من أصحاب السيرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خرج في الليلة الّتي توفّي في صبيحتها مع أبي مويهبة خادمه إلى البقيع مع ما كان عليه من شدّة الحمّى والوجع ليستَغفر لأهل البقيع(3).

ولكنّ المؤرخين الشيعة يرون أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم يوم أحسّ بالوجع أخذ بيد «عليّ» عليه السلام وخرج معه إلى البقيع وخرج خلفه جماعة فقال لمن خرج معه:

«إنّني قد أُمِرتُ أن استغفر لأهل البقيع».

فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم فقال:

«السلامُ عليكم أهل القبور، ليَهْنئكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح الناسُ فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضاً، يتبع آخرها أوّلها».

ثم استغفر ودعا لأهل البقيع طويلاً وأقبل على أمير المؤمنين عليّ عليه السلام فقال:

ص:747


1- . المراجعات: 365 و 370، المراجعة 90 و 91.
2- . النص والاجتهاد: 36-37.
3- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 204/2.

«إنّ جبرئيل كان يعرضُ عليَّ القرآن سنة مرّة، وقد عرضَهُ عليّ العام مرّتين ولا أراه إلّا لحضور أجلي».

ثم قال: يا عليّ إنّي خُيّرت بين خزائن الدُنيا والخلود فيها أو الجنة فاخترتُ لقاء ربِّي والجنّة».(1)

إنَّ الذين ينظرون إلى الكون من المنظار المادّي البحت ويحصرون كلّ الوجود في إطار المادة وآثارها، فالوجود عندهم يساوق المادة قد يتردَّدون في قبول هذا الأمر، ويقولون: كيف يمكن مخاطبة الأرواح؟! وكيف يمكن الاتّصال بهم؟!

كيف يمكن أن يعرف المرء بموته وأجله؟!

ولكنّ الذين كسروا جدار المادّية هذا واعتقدوا بوجود الروح المجرّدة عن البدن المادّي العنصري لاينكرون مسألة الارتباط والاتّصال بالأرواح(2)، ويعتبرونه أمراً ممكناً وواقعياً.

ثم إنّ النبيّ الذي يتحلّى بالعصمة في مجال ارتباطه بعالم الوحي والعوالم المجرّدة من المادة، يمكنه - على وجه القطع واليقين - أن يخبر عن حلول أجله بأمر اللّه وإذنه وإخباره إيّاه.

ص:748


1- . لاحظ: إرشاد المفيد: 181/1؛ بحار الأنوار: 466/22؛ الطبقات الكبرى: 204/2.
2- . طبعاً نحن لانعرف بكلّ ما يدّعيه أدعياء الاتّصال بالأرواح، فإنّ لذلك طريقه الصحيح، وأُسلوبه المشروع.

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة

65 الكتابُ الذي لم يُكتب

اشارة

تُعدُّ الأيّام الأخيرة من حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من أكثر فترات التاريخ الإسلامي أهميّة وحسّاسية ودقّة.

لقد مرّ الإسلام والمسلمون في تلك الأيام بساعات مؤلمة، وحرجة.

إنّ مخالفة بعض الصحابة الصريحة لأوامر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وتخلّفهم عن جيش أُسامة، كلُّ ذلك كان يكشف عن نشاطات سرّية تنبئ عن عزمهم المؤكَّد على الاستيلاء على زمام الحكومة والإمارة والقيادة السياسية في المجتمع الإسلامي بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وإزاحة الخليفة الّذي نصبه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الغدير للإمارة عن مسند الحكم.

ولقد كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم نفسه عارفاً بنواياهم على نحو الإجمال، ولهذا كان يصرّ على خروج جميع أعيان الصحابة في جيش أُسامة ومغادرة المدينة فوراً لمقاتلة الروم، لكي يعطل بذلك خطّتهم.

ولكن دهاة السياسة اعتذروا عن الخروج مع أُسامة بحجج ومعاذير معيّنة،

ص:749

لكي يستطيعوا تنفيذ خططهم بل وعرقلوا مسير الجيش المذكور حتى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فعادوا إلى المدينة - بعد توقّف دام 16 يوماً - على أثر تدهور صحّة النبي واحتضاره، فلم يتحقّق ما كان يريده رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من تفريغ المدينة منهم، فلا يكون أحدٌ منهم فيها يوم وفاته ليستطيع خليفته المنصوب للإمارة يوم غدير خم (نعني الإمام علياً) تسلّم زمان الحكم دون منازع ومزاحم من المعارضين السياسيّين.

إنّهم لم يكتفوا فقط بالعودة إلى المدينة بل حاولوا أن يحولوا دون أي عمل من شأنه أن يؤدّي إلى دعم وتثبيت منصب الإمام علي وخلافته لرسول اللّه بلافصل، فحاولوا منع النبي صلى الله عليه و آله و سلم وصرفه عن البحث في هذه المسألة بشتّى الوسائل، والسبل.

فعمد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الذي عرف بنشاط بعض زوجاته من بنات بعض أُولئك الصحابة، المشين، عمد إلى الخروج إلى المسجد مع ما كان عليه من الحمّى والوجع، ووقف إلى جانب المنبر وقال للناس بصوت عالٍ سُمِع خارج المسجد:

«أيّها الناسُ سُعّرت النار، وأقْبَلت الفتَن كقِطَع الليل المظلم، وإنّي واللّه ما تمسَّكون عليّ بشيء، إنّي لم أُحلّ إلّاما أحلّ القرآن، ولم أُحرّم إلّاما حرّم القرآن»(1).

إنّ هذه العبارة تكشف عن القلَق الشديد الّذي كان يحمله النبي صلى الله عليه و آله و سلم على مستقبل الإسلام بعد وفاته، فما هو المقصود - ياتُرى - من النار التي سعرت؟

ص:750


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1068/4؛ الطبقات الكبرى: 215/2 و 216؛ السيرة الحلبية: 467/3.

أليس هي فتنة الاختلاف والافتراق التي كانت تنتظر المسلمين، والتي اشتعلت بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتعالى لهيبها، ولايزال ذلك اللهيب مشتعلاً، وتلك النار مستعرة؟!

إيتوني بقلم وقرطاس

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعرف بما يجري من نشاطات خارج منزله للسيطرة على الحكم، ولهذا قرّر - بغرض الحيلولة دون انحراف مسألة الخلافة من محورها الأصلي والحيلولة دون ظهور الاختلاف والافتراق - أن يدعم مكانة عليّ ويعزز امارته وخلافته وخلافة أهل بيته، وذلك بأن يثبّت الأمر في وثيقة حيّة وخالدة تضمن بقاء الخلافة في خطّها الصحيح.

فقد روى البخاري في صحيحه باسناده عن ابن عباس قال: لما اشتدّ بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وجعه قال:

«ائتوني بكتاب اكتُبُ (1) لكم كتاباً لاتضلّوا بعده».

قال عمر: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم غلبه الوجعُ، وعندنا كتابُ اللّه حسبنا.

فناقش الحاضرون رأي الخليفة، فخالفه قومٌ وقالوا: هاتوا الدواة والصحيفة ليكتب النبي مايريد، وناصر آخرون عمرَ وحالوا دون الإتيان بماطلبه النبي، ووقع تنازع بينهم وكثر اللغط، فغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بشدة لتنازعهم ولما وجّه إليه من كلمة مهينة، وقال:

«قُومُوا عني ولاينبغي عندي التنازعُ»

ص:751


1- . طبعاً لم يكن الهدف من «اكتب» أن يكتب النبي بيده ذلك الكتاب فالنبي لم يكتب شيئاً في حياته أبداً كما هو مبحوث في أبحاث أُمّية النبي، بل المقصود هو الإملاء على كتّابه.

فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزيئة كلّ الرزيئة ما حال بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبين كتابه.(1)

إنّ هذه الواقعة التاريخية قد نقلها فريق كبير من محدّثي الشيعة والسنّة ومؤرّخيهم، وتعتبر روايتها - حسب قواعد فنّ الدراية والحديث - من الروايات المعتبرة الصحيحة، غاية مافي الأمر أنّ أغلب محدّثي أهل السنّة نقلوا كلام «عمر» بالمعنى لاباللفظ، ولم يورد نص الكلمات الجارحة النابية التي نطق بها في ذلك المجلس المقدّس.

ولا يخفى أنّ الإحجام عن نقل نصّ عبارته ليس لأجل أنّ العبارات التي تفوّه بها تعدّ إهانة لمقام النبوة، بل أنّ هذا التصرّف لأجل الحفاظ على مقام الخليفة ومكانته حتى لايسيء الآخرون النظرة إليه إذا عرفوا بما قاله في حقّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

من هنا عندما بلغ أبوبكر الجوهري مؤلّف كتاب «السقيفة» في كتابه إلى هذا الموضع من القضية قال عند نقل كلام عمر هكذا: وقال عمر كلمة معناها أنّ الوجَع قد غلب على رسول اللّه(2).

ولكن بعضاً آخر عندما يريد نقل ماقاله الخليفة لايصرّح باسمه حفظاً لمقامه

ص:752


1- . صحيح البخاري: 37/1، باب كتابة العلم، و ج 137/5، باب مرض النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و ج 9/7، باب قول المريض قوموا عني؛ صحيح مسلم: 76/5، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي به؛ مسند أحمد: 222/1 و 336 و 355؛ صحيح ابن حبان: 562/14؛ الطبقات الكبرى: 242/2 و 244؛ الملل والنحل للشهرستاني: 22/1؛ إمتاع الأسماع: 132/2؛ السيرة الحلبية: 456/3.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 51/6.

فيقول: فقالوا: إنّ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يهجر.(1) وفي رواية أُخرى: فقالوا: ما شأنه أهجر؟!(2)

إنّ من المسلّم أنّ مثل هذه العبارة الجارحة النابية لو صدرت عن أي شخصية مهما كان مقامها لعُدَّت ذنباً لا يُغتفر؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بنصّ القرآن مصونٌ من أي نوع من أنواع الخطأ والاشتباه والهذيان فهو لاينطق إلّابالوحي.

إنّ اختلاف الصحابة لدى رسول اللّه الطاهر المعصوم صلى الله عليه و آله و سلم وفي محضره كان عملاً سيئاً، ومشيناً إلى درجة أنّ إحدى أزواجه صلى الله عليه و آله و سلم اعترضتْ على هذه المخالفة وقالت من وراء حجاب: ألا تسمعون النبي صلى الله عليه و آله و سلم يعهدُ اليكم؟ إِئتوا رسول صلى الله عليه و آله و سلم بحاجته.

فقال عمر: اسكتن فإنكنّ صواحبه إذا مرض عصرتُنَّ أعيُنكنَّ، وإذا صحّ أخذتُنَّ بعنُقه(3).

إنّ بعض المتعصّبين وإن التمسوا لمخالفة الخليفة لطلب النبي أعذاراً(4) في الظاهر إلّاأنّهم خطّأوا كلامه الذي قال فيه «حسبنا كتاب اللّه»، واعتبروه كلاماً غير صحيح، وصرّحوا جميعاً بأنّ الركن الأساسي للإسلام هو السنّة النبوية، ولا يمكن

ص:753


1- . صحيح مسلم: 76/5، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي به؛ مسند أحمد: 355/1؛ الكامل في التاريخ: 320/2.
2- . لاحظ: صحيح البخاري: 137/5، باب مرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؛ صحيح مسلم: 75/5، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي به؛ مسند أحمد 222/1.
3- . كنز العمال: 243/7 برقم 18771؛ الطبقات الكبرى: 244/2. وفي الطبقات: أنّ النبي قال (في الرد على عمر) هنَّ خيرٌ منكم.
4- . رد العلّامة المجاهد السيد شرف الدين في كتاب المراجعات المراجعة 86 جميع هذه الأعذاربصورة رائعة.

أن يغني كتابُ اللّه الأُمّة الإسلامية عن أحاديث رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم وأقواله.

ولكن الأعجب من كلّ ذلك أنّ الدكتور «هيكل» مؤلّف كتاب «حياة محمَّد»(1) ضمن دفاعه عن الخليفة كتب يقول: ما فتئ ابن عباس بعدها يرى أنّهم أضاعُوا شيئاً كثيراً بأن لم يسارعوا إلى كتابة ما أراد النبيّ إملاءه. أمّا عمر فظلّ ورأيُه أن قال اللّه في كتابه الكريم: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ» (2).

فلو أنّه لاحظ ما قبل هذه الجملة القرآنية وما بعدها لما فسّرها بمثل هذا التفسير، ولما أيّد الخليفة في مقابل نصّ النبيّ المعصوم المطاع، لأنّ المقصود من الكتاب في الآية هو الكتاب التكويني، وصفحات الوجود، فإنّ لكل نوع من الانواع في عالم الوجود صفحة من كتاب الصنع، وتشكّل كلّ الصفحات غير المعدودة كتاب الخليفة والوجود واليك نص الآية:

«وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» (3).

وحيث إنّ ما قبل الجملة التي استُدلّ بها، يرتبط بخلقة الدواب والطيور، ويرتبط ما بعدها بموضوع الحشر في يوم القيامة، يمكن القول بصورة قاطعة بأنّ المراد من الكتاب في الجملة المستدلّ بها والذي لم يفرَّط فيه من شيء هو الكتاب التكويني، وصفحة الخلق.

ثم إنّنا لو قبلنا بأنّ المقصود من الكتاب هو القرآن الكريم فإنّ من المسلّم أنّ فهم هذا الكتاب - وبحكم تصريحه - يحتاج إلى بيان النبي وهدايته كما يقول:

ص:754


1- . حياة محمَّد: 501.
2- . الأنعام: 38.
3- . الأنعام: 38.

«وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» (1).

تأمّل في هذه الآية فإنّها لا تقول «لتقرأ» بل تقول بصراحة: «لتبيّن».

وعلى هذا الأساس إذا كان كتاب اللّه كافياً لم نحتج إلى توضيح النبي وبيانه احتياجاً شديداً(2).

ولو كان حقّاً أنّ الأُمّة الإسلامية لاتحتاج إلى النبي فلماذا كان حبر الأُمّة وعالمها الكبير ابن عباس يقول: يومُ الخميس وما يوم الخميس!! ثمّ جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خدّيه كأنّها نظام اللؤلؤ وقال: قال رسول اللّه: إئتوني بالكتف والدواة (أو اللوح والدواة) أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً، فقالوا: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يهجر.(3)

فمع هذا الحزن الذي كان يبديه ابن عباس، مضافاً إلى الإصرار الذي أظهره رسولُ اللّه، كيف يمكن القول بأنّ القرآن يغني الأُمّة الإسلامية من هذه الوصية (أو الكتاب) الذي كان النبيّ يريد كتابته.

والآن إذا كان النبي لم يوفق لكتابة الكتاب وإملائه فهل يمكن أن نَحدس - في ضوء القرائن القطعية - ماذا كان ينوي النبيّ كتابته في هذه الرسالة؟

ماذا كان الهدف من الكتاب؟

إنّ الطريقة الجديدة والقويمة في تفسير القرآن الكريم التي أصبحت اليوم موضع عناية المحقّقين والعلماء في هذا العصر هو رفع إبهام الآية

ص:755


1- . النحل: 44.
2- . أنّ بيان مدى حاجة القرآن إلى بيان النبي خارج عن نطاق هذا الكتاب، فاطلبه في محلّه.
3- . صحيح مسلم: 76/5، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي به؛ مسند أحمد: 355/1.

وإجمالها في موضوع معيّن بواسطة آية أُخرى تتحدّث عن الموضوع ذاته ولكنّها أوضح من الأُولى دلالة ومفاداً، وبعبارة أُخرى: الاستعانة في تفسير آية بآية أُخرى.

إنّ هذه الطريقة لاتختصُّ بتفسير آيات القرآن بل تنسحب على الأحاديث والروايات الإسلامية أيضاً إذ يمكن رفع الإجمال عن حديث بحديث مشابه، لأنّ القادة الكبار يتحدّثون في موضوع مهمّ وخطير بصورة مؤكّدة ومكرّرة لاتتشابه ولاتتّحد في دلالتها، فقد تكون دلالتها على الآية واضحة، وقد يكون بيان المقصود فيها بالإشارة والكناية حسب المقتضيات.

قلنا: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم طلب من أصحابه وهو في فراش المرض دواة وصحيفة يملي عليهم شيئاً لايضلّون بعده أبداً، ثمّ تسبّب التنازع الذي حدث بين الحاضرين في أن ينصرف من كتابة ما أراد.

يمكن أن يسأل سائل: ما هو الشيء الذي كان يريدُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كتابته في ذلك الكتاب؟

إنّ الاجابة عن هذا السؤال واضحة؛ لأنّه مع أخذ الأصل الذي ذكرناه في مطلع البحث بنظر الاعتبار يجب القول بأنّ هدف النبي لم يكن إلّاتعزيز الوصيّة ودعم خلافة الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وإمرته والتأكيد على لزوم اتّباع أهل بيته الذي صرّح به النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الغدير وغيره.

وهذا المطلب يستفاد من حديث الثقلين المتّفق عليه بين محدّثي السنّة والشيعة، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال في شأن الكتاب الذي نوى كتابته: إنّه يبتغي كتابة شيء لايضلّون بعده أبداً. وقد جاءت هذه العبارة بعينها في حديث الثقلين إذ يقول

ص:756

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معتبراً عدم الضلال بعده معلولاً لاتّباع الكتاب والعترة إذ قال:

«يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضِلّوا: كتابَ اللّه، وعترتي أهلَ بيتي»(1).

ألا يمكن بعد ملاحظة هذين الحديثين والتشابه الموجود بينهما الحدسُ - بصورة قطعية - بأنّ ما كان يهدفه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من طلب الدواة والصحيفة هو مفاد كتابة حديث الثقلين، أو ما هو أعلى ممّا يفيده حديث الثقلين، وهو تعزيز ودعم ولاية الإمام علي عليه السلام وخليفته مباشرة وبلا فصل وهو الذي عيّنه للإمارة والخلافة في الثامن عشر من شهر ذي الحجّة عند مفترق طرق الحجاج المدنيّين والعراقيّين والمصريّين والحجازيّين، وأعلن عن ذلك بصورة شفاهية.

هذا مضافاً إلى أنّ مخالفة مَن شكّل شورى الخلافة في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورشح رفيقه القديم للخلافة بصورة خاصّة بعد رحيل رسول اللّه إلى ربّه، وحصل هو بدوره على أُجرته عند موت الأوّل بصورة نقديّة وعيّنه للخلافة خلافاً لجميع القواعد والأُصول، خير شاهدٍ على أنّ القرائن الّتي كانت في مجلس النبي وكلامه كانت تكشف عن أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يريد أن يملي على كاتبه أمراً يتعلّق بخلافة المسلمين والإمارة والقيادة الّتي أثبتها لعلي وأهل بيته الطاهرين في احاديثه وخطبه.

ولهذا خالف القوم الحضور هذا المطلب بشدّة وحالوا دون الإتيان بالقلم والقرطاس بوقاحة، وخالفوا كتابة شيء، وإلّا فلماذا أصرّوا على المخالفة...

وارتكبوا ما ارتكبوا.

ص:757


1- . سنن الترمذي: 328/5 ح 3874؛ جامع الأُصول: 187/1. وراجع: المراجعات: المراجعة: 8.

لماذا لم يصرُّ النبي على كتابة الكتاب؟

كان في إمكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رغم معاكسات جماعة من أصحابه أن يطلب كاتبه ويكتب الكتاب الذي كان يريد، فلماذا لم يتصرّف هكذا، ولم يستغل مكانته القويّة؛ بل امتنع عن ذلك؟

إنّ الاجابة عن هذا السؤال واضحة: فلو أنّ النبي كان يصرّ على كتابة الكتاب لأصرّوا في الإساءة إلى النبي الذي قالوا عنه أنّه غلبه الوجع أو هجر، ولعمد أنصارهم إلى إشاعة وبثّ هذا الأمر الرخيص، وصنعوا لإثباته الأفاعيل، فكانت تتّسع رقعة الإساءة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الحالة وتستمرّ، فتفقد الرسالة أثرها المنشود.

من هنا عندما قال البعض للنبي - تلافياً لما لحق به من الأذى -: ألا نأتيك بدواة وكتف يا رسول اللّه؟ فقال:

«أبعد الذي قلتم؟ لا ولكنّي أُوصيكم بأهل بيتي خيراً»(1).

تلافي الأمر وتداركه

إنّ مخالفة بعض الصحابة الصريحة وإن صرفت النبي عن الكتابة إلّاأنّه بلّغ مقصوده من طريق آخر، فهو - بشهادة التاريخ - بينما كان يعاني من المرض، والوجع الشديدين، خرج إلى المسجد وهو متوكئ على «عليّ بن أبي طالب» و «ميمونة» مولاته فجلس على المنبر ثم قال:

«يا أيّها الناسُ إنّي تاركٌ فيكم الثقلين».

ص:758


1- . بحار الأنوار: 469/22، نقلاً عن إرشاد المفيد: 184/1.

وسكت، فقام رجل فقال: يارسول اللّه ما هذان الثقلان؟ فغضب حتى احمرّ وجهُه ثم سكن، وقال:

«ماذكرتهما إلّاوأنا أُريد أن أُخبرَكم بهما ولكنْ رَبوتُ فلم استطعْ، سببٌ طرفه بيداللّه، وطرفٌ بأيديكم، تعملون فيه كذا وكذا، ألا وهو القرآن، والثقل الأصغر أهل بيتي».

ثم قال:

«و أيمُ اللّه إنّي لأقولُ لكم هذا ورجالٌ في أصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم».

ثم قال:

«و اللّه لايحبُّهم عبدٌ إلّاأعطاهُ اللّه نوراً يومَ القيامة حتى يرد عليَّ الحوض، ولايبغضهُمْ عبدٌ إلّااحتجب اللّه عنه يوم القيامة»(1).

هذا وقد روى ابن حجر العسقلاني تدارك مافات بصورة أُخرى، ولا تنافي بين الصورتين، إذ يمكن وقوع كليهما.

إنّه يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لأصحابه وقد امتلأت بهم الحجرة وهو في مرضه الذي قبض فيه:

«أيّها الناس يوشَك أن أقبض قبضاً سريعاً، فُينطلَق بي، وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلّفٌ فيكم كتاب اللّه ربي عزّوجلّ، وعترتي أهل بيتي».

ثم أخذ بيد علي عليه السلام فرفعها فقال:

ص:759


1- . بحار الأنوار: 476/22، نقلاً عن مجالس المفيد: 135 برقم 3، المجلس 16.

«هذا عليٌّ مع القرآن والقرآن مع علي، لايفترقان حتى يردا عليّ الحوض فاسألهُما ماذا خلّفت فيهما»(1).

فمع أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكر حديث الثقلين(2) قبل مرضه في مواضع متعدّدة وبألفاظ مختلفة، ولفتَ نظر الناس إلى أهميّة هذين الثقلين، ولكنّه لفت الأنظار مرّة أُخرى وهو في فراش المرض أمام جمع من أصحابه الذين حالوا دون كتابة ما أراد إلى عدم افتراق القرآن والعترة، يمكن الحدسُ بأنّ الهدف من التكرار هو تدارك مافات من كتابة الكتاب الذي لم يُوفق لكتابته.

تقسيم الدنانير

دأبَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مجال بيت المال أن يوزع أمواله في أقرب فرصة سانحة بين الفقراء والمحتاجين.

وعندما كان في فراش المرض تذكّر أنّ هناك دنانير عند إحدى زوجاته فطلبها فوراً، فأحضرتها عنده فأخذها صلى الله عليه و آله و سلم بيده وقال:

«ماظنُّ محمَّد باللّه لولقي اللّه وهذه عنده؟ أنفقيها».(3)

وفي رواية: أمر علياً عليه السلام فتصدّق بها(4).

ص:760


1- . الصواعق المحرقة: 126، الباب 9 منِ الفصل الثاني؛ كشف الغمة: 35/2.
2- . حديث الثقلين من الروايات المتفق عليها بين الشيعة والسنة وقد نقل عن الصحابة بأكثر من 60 طريقاً كما يقول ابن حجر العسقلاني في الصواعق ص 136، وقد خصص المرحوم مير حامد حسين الهندي قسماً من موسوعته «العبقات» بذكر اسناد حديث الثقلين ودلالته. وقد طبعت في ستة أجزاء مؤخّراً.
3- . مسند أحمد: 182/6؛ الطبقات الكبرى: 238/2؛ إمتاع الأسماع: 292/2.
4- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 239/2.

غضب النبي من الدواء الذي سقي

لمّا كانت أسماء بنت عميس وهي من قريبات «ميمونة» زوجة النبي صلى الله عليه و آله و سلم والّتي أقامت أيام الهجرة زمناً في الحبشة تعلّمت من أهلها صنع عقار مركّب من النباتات والأعشاب المختلفة، فلمّا اشتكى وأُغمي عليه تصوّرت أنّ الذي دهاه هو داء: «ذات الجنب»، وكانوا في الحبشة يداوون هذا المرض بذلك العقار، فعمدت إلى معالجته بذلك الدواء، بصبّ شيء منه في فم النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولمّا أفاق وعرف بما صنعوا غضب وقال:

«كم ترون أنّ اللّه كان يسلّط عليّ ذات الجنب ما كان اللّه ليجعل لها علي سلطاناً...»(1).

وداع النبي صلى الله عليه و آله و سلم مع أصحابه

خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أيام مرضه إلى مسجده مراراً يصلّي بالناس، ويذكّرهم أُموراً.

وذات يوم من أيام مرضه أُخرج إلى مسجده معصوب الرأس متّكئاً على «علي» عليه السلام بيمنى يديه وعلى «الفضل» باليد الأُخرى، فصعد المنبر فحمداللّه وأثنى عليه، ثم قال:

«أمّا بَعدُ: أيُّها الناس إنّه قد حان مني خُفوقٌ من بين أظهركم، فمَن كانت له عندي عدة فليأتني أعطه إيّاها، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به».

فقام إليه رجل فقال: يارسول اللّه إنّ لي عندك عدة، إنّي تزوجتُ فوعدتني

ص:761


1- . الطبقات الكبرى: 235/2.

(أن تعطيني) ثلاثة أواق.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «انحلها إيّاه يا فضل» ثم نزل.(1)

فلمّا كان يوم الجمعة - ثلاثة أيام قبل وفاته - صعد المنبر فخطب وقال فيما قال:

«أيُّ رجل منكم كانت له قِبَل محمَّدٍ مظلمة إلّاقام فليقتص منه، فالقصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في دار الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء».

فقام إليه رجلٌ من أقصى القوم يقال له سوادة بن قيس فقال له: فداك أبي وأُمّي يا رسول اللّه، إنّك لمّا أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فلا أدري عمداً أو خطأً. فقال: معاذ اللّه أن أكون تعمّدت. ثمّ قال صلى الله عليه و آله و سلم يا بلال: قم إلى منزل فاطمة فائْتني بالقضيب الممشوق....

إنّ طلب النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذا بأن يقتص منه من له ذلك لم يكن مجرّد مجاملة أخلاقية، بل كان صلى الله عليه و آله و سلم يريد أن ينبّه الناس إلى أهمية مثل هذه الحقوق جداً.(2)

ولمّا أُتي بالقضيب إلى رسول اللّه قال صلى الله عليه و آله و سلم: أين الشيخ؟ قال سوادة: ها أناذا يارسول اللّه بأبي أنت وأُمّي، فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«تعال فاقتصَّ مِنّي حتى ترضى».

فقال سوادة: فاكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه....

ص:762


1- . إعلام الورى: 264/1؛ شرح نهج البلاغة: 183/10؛ بحار الأنوار: 467/22.
2- . هذا مضافاً إلى أنّ ضرب بطن سوادة بالقضيب من قِبَل النبي لم يكن عمداً، ولهذا لم يكن له الحق إلّافي أخذ الدية دون القصاص، مع ذلك أراد النبي أن يلبّي طلبه لمّا قال أُريد أن اقتص.

ثم إنّه وسط دهشة الصحابة وحزنهم وغمّهم وبكائهم تقدّم سوادة إلى النبي وقال: أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك؟ فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللّه، وقبّلَ بطن النبي وصدره الشريف.... فدعا له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال:

«اللَّهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمَّد»(1).

ص:763


1- . أمالي الصدوق: 734، المجلس السادس والسبعون.

66 اللحظاتُ الأخيرة

اشارة

كان القلق والاضطراب يلفُّ المدينة المنورة بأسرها، فصحابة النبي يحيطون ببيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعيون باكية وقلوب حزينة ليطّلعوا على صحّته، وكانت تخرج من منزله بين الحين والآخر أخبار عن اشتداد مرضه، وتفاقم وجعه، لتقضي على كلّ أمل بتحسّن حالته، وتجعل الناس على يقين بأنّه لم يبقَ من حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلّاسويعات قلائل، وأنّه سرعان ما تنطفئ الشعلة المقدّسة، التي أنارت العالم بضيائها.

كان فريق من الصحابة يودّون أن يزوروا نبيّهم وقائدهم من قريب ولكن تدهور صحته ماكان ليسمح بذلك، فلم يكن من الممكن أن يتردّد على غرفته إلّا أهل بيته خاصة. ولقد كانت ابنته الكريمة ووديعته الوحيدة فاطمة الزهراء عليها السلام جالسة عند فراش أبيها، تنظر إلى وجهه المشرق، كانت ترى كيف أنّ عرق الموت يتحدر على جبينه وخده مثل حبات اللؤلؤ، فراحت تردّد أبياتا من الشعر وقلبها يعتصره الحزنُ، ويملأ عيونها دموع الأسى والحزن ويكاد تخنقها الغصّة:

وَ أبيضُ يُستسقى الغمامُ بوجهه ثمالَ اليتامى عصمةٌ للأرامل

ص:764

وفي هذه اللحظات بالذات فتح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عينيه وقال لابنته الزهراء بصوت خافت:

يا بنيّة هذا قول عمّك أبي طالب لاتقوليه ولكن قولي:

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ» (1).(2)

النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يتحدّث مع ابنته الزهراء

لقد كشفت التجربة عن أنّ عواطف الشخصيات الكبرى تجاه أبنائهم تتضاءل أثر تراكم النشاطات وتزايد الاهتمامات والهموم، لأنّ الأهداف الكبرى، والاهتمامات العالية تشغل بالهم وفكرهم إلى درجة لاتترك لهم مجالاً لمشاعرهم العاطفية بالظهور والتجلّي، بيد أنّه يُستثنى الشخصيات الروحانية والمعنوية الكبرى من هذه القاعدة، فهم مع ما يشغل بالهم من الأهداف الكبرى، والاهتمامات العالية، والشواغل اليومية الكثيرة يمتلكون روحاً كبرى ونفسية طيبة سامية فلا يمنعهم عملٌ عن آخر، ولا يشغلهم شُغلٌ عن آخر، فلا مكان للضمور العاطفي والإنساني عندهم في حياتهم الاجتماعية والعائلية.

إنّ محبة النبي صلى الله عليه و آله و سلم لابنته الوحيدة فاطمة كانت من أبرز التجلّيات العاطفية الإنسانية في شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، ولهذا لم يُعهَد أن يسافر رسولُ اللّه من دون أن يودّع ابنته، كما لم يُعهَد أن يرجع إلى المدينة من دون أن يزور ابنته قبل أي أحد، كما كان يحترمها عند زوجاته احتراماً لائقاً بها ويقول لأتباعه:

ص:765


1- . ال عمران: 144.
2- . إرشاد المفيد: 187/1؛ بحار الأنوار: 470/22.

«فاطمةُ بَضعةٌ منّي فمن أغضَبها أغضبني»(1).

كما أنّ رؤية فاطمة كانت تذكّره بأشد نساء العالمين طهراً ووفاء، وعطفاً ولطفاً، (خديجة) التي تحمّلت في سبيل أهداف زوجها المقدّس متاعب كبيرة، وبذلت ثروتها كلّها في سبيل تلك الأهداف بإخلاص ورغبة.

كانت فاطمة الزهراء عليها السلام تلازم فراش والدها النبي صلى الله عليه و آله و سلم طوال أيّام مرضه، ولا تفارقه لحظة واحدة، وفجأة أشار النبيّ إلى ابنته يطلب منها أن تقرب رأسها إلى فمه ليحدّثها، فانحنت فاطمة حتى صار رأسها قريباً من فمه الشريف ثم راح النبي صلى الله عليه و آله و سلم يحادثها بصوت ضئيل ولم يعرف مَن كان هناك ماذا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لابنته الطاهرة في تلك النجوى؟ وإنّما شاهدوا الزهراء تبكي بشدّة لمّا انتهى والدها من حديثه وسالت دموعها بغزارة، ولكنّهم شاهدوا أنّ النبي أشار إليها مرة أُخرى وحدّثها بشيء فسرّت فاطمة وتهلّلت أسارير وجهها، وتبسّمت مستبشرة.

فأثارت هاتان الحالتان المتضادتان المتزامنتان الحضور وبعثتهم على التعجّب والدهشة، فلمّا سألوها عن سرّ ذلك الحزن، وهذه الفرحة، وطلبوا منها أن تذكر لهم علّة هاتين الحالتين المتضادتين قالت:

«ما كنت لأُفشي سرَّه».

ثم بعد أن قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كشفت الزهراء عليها السلام عن الحقيقة بناء على إصرار عائشة وقالت: أخبرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه يُقبَض في وجعه هذا، فبكيتُ،

ص:766


1- . صحيح البخاري: 210/4، باب مناقب قرابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومنقبة فاطمة عليها السلام؛ و ص 219، باب مناقب فاطمة عليها السلام.

ثم أخبرني أنّي أوّل أهله لحاقاً به فضحكتُ (1).

مسواكُ النبي قبيل وفاته

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يستاك كلّ ليلة قبلَ النوم كما كان يستاك بعد أن يستيقظ من نومه، وكان مسواكُ النبي من شجرة الأراك التي تنفع جدّاً في تقوية اللثة، وإزالة الأوساخ وبقايا الطعام عن الأسنان.

وذات يوم دخل أخو عائشة عبد الرحمن على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليعوده وبيده سواكٌ أخضر، فنظر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إليه - وهو في يده - نظراً عرف أنّه يريده فقال عبد الرحمن: يارسول اللّه تريد أن أعطيك هذا السواك؟ فقال: نعم، فقدّمه إلى النبي فوراً، فأخذه صلى الله عليه و آله و سلم واستنّ به كأشدّ ما رأيته يستن بسواك قط، ثم وضعه(2).

وصايا النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبيل رحيله

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خلال فترة مرضه ووجعه يولي إعطاء التعاليم والتذكير بما فيه هداية الناس اهتماماً بالغاً، فقد كان يوصي بالصلاة ورعاية الرقيق في الأيام الأخيرة من حياته الشريفة ويقول:

«الصَلاة الصلاة وما ملكَتْ أيمانُكم...».

وفي رواية أُخرى قال صلى الله عليه و آله و سلم: «اللّه اللّه فيما ملكت أيمانكم، ألبسوا ظهورَهُمْ،

ص:767


1- . الطبقات الكبرى: 247/2؛ الكامل في التاريخ: 323/2؛ إمتاع الأسماع: 422/14.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 234/2، السيرة النبوية لابن هشام: 1069/4.

وأشبعوا بطونَهم، وألينوا لهم القَوْلَ»(1).

وقد سأل كعب الأحبار عمر بن الخطاب بعد وفاة رسول اللّه وفي إيام خلافة الأخير: ما كان آخر ماتكلّم به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ فقال عمر: سَلْ عليّاً. قال: أين هو؟ قال: هو هنا، فسأله.

فقال علي عليه السلام:

«أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال: الصلاة الصلاة.

فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء، وبه أُمروا، وعليه يبعثون(2).

وقد فتح النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم عينيه في آخر لحظة من حياته الشريفة وقال:

«أدعوا لي أخي».

فعرف الجميع بأنّه يريد علياً عليه السلام فدعَوا له علياً فقال:

«أُدنُ منّي».

فدنا منه عليُّ عليه السلام فاستند إليه فلم يزل مستنداً إليه يكلّمه(3).

فلم يلبث أن بدت عليه صلى الله عليه و آله و سلم علامات الاحتضار.

سأل رجلٌ ابن عباس: أرأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم توفّي ورأسه في حجر أحد؟ قال: توفّي وهو لمستند إلى صدر علي.

فقال السائل: قلتُ: فإنّ عروة حدّثني عن عائشة أنّها قالت: تُوفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين سَحْري ونَحْري.

ص:768


1- . الطبقات الكبرى: 254/2.
2- . الطبقات الكبرى: 262/2-263.
3- . الطبقات الكبرى: 263/2.

فقال ابن عباس: أتعقلُ؟! واللّه لتُوفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأنّه لمستند إلى صدر عليّ، وهو الذي غسّله، وأخي الفضل بن عباس(1).

وقد صرّح بذلك أمير المؤمنين علي عليه السلام في إحدى خطبه حيث قال:

«وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي. وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي. وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ صلى الله عليه و آله و سلم وَالْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي»(2).

وينقل بعض المحدّثين أنّ آخر جملة قالها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في آخر لحظة من حياته الشريفة هي جملة: «بل الرفيق الأعلى»(3)، وكأنَّ ملك الموت خيّره عند قبض روحه الشريفة في أن يصحَ من مرضه ويبقى أو يلبّي دعوة ربّه، ويلتحق بالرفيق الأعلى، فعبّر بجملته هذه عن رغبته في اللحاق بربه، ليعيش مع الذين أشار إليهم قولُه سبحانه:

«فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» (4).

قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذا ولفظ أنفاسه الشريفة(5).

يوم الوفاة

في منتصف يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر صفر(6) عرجت روحُ

ص:769


1- . الطبقات الكبرى: 263/2.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 197.
3- . لاحظ: تاريخ الطبري: 441/2؛ الكامل في التاريخ: 321/2 و 322؛ إمتاع الإسماع: 500/14 و 50.9
4- . النساء: 69.
5- . لاحظ: إعلام الورى: 269/1؛ الطبقات الكبرى: 230/2.
6- . وهو ما اتّفق عليه محدثّو الشيعة ومؤرّخوهم، ونقل في السيرة النبوية لابن هشام: 1069/4 بصورة: قيل.

النبي الأكرم المقدّسة إلى بارئها، وإلى جنان الخلد، فسُجّيَ ببُرد يماني، ووضع في حجرته بعض الوقت، وارتفعت صرخات العيال، وعلا بكاء الأقارب، فعرف من كان خارج المنزل أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد قضى، فلم يلبث أن انتشر نبأُ وفاته في كلّ أنحاء المدينة التي تحوّلت بسرعة إلى مناحة كبرى، ومأتم عظيم.

فصاح الخليفة الثاني خارج البيت ولأسباب خاصّة أنّ النبيّ لم يَمُتْ إنّما عُرج بروحه كما عُرج بروح موسى، وأنّه لايموت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم! وأصرّ على هذا الموقف وهدَّد كلّ من يخالف ذلك، وكاد أن يوافق عليه فريقٌ من الناس لولا أن أبا بكر تلا عليه قول اللّه سبحانه:

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» .(1)

حتى فرغ من الآية، فسحَب عمر موقفه، مستغرباً من وجود مثل هذه الآية قائلاً: هذا في كتاب اللّه؟(2)

ثم قام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بتغسيل جسد النبي الطاهر وكفّنه، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان قد قال: «يغسّلني أقرب الناس إليّ» ولم يكن ذلك سوى علي عليه السلام.

ولمّا فرغ «عليٌّ» من تغسيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم كشف الإزار عن وجهه صلى الله عليه و آله و سلم وقال والدموع تنهمر من عينيه الشريفتين:

«بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللّهِ! لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ. خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ،

ص:770


1- . آل عمران: 144.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 267/2؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1069/4-1070.

وَعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً. وَلَوْلَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُونِ، وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً، وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً، وَقَلَّا لَكَ! وَلكِنَّهُ مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّهُ، وَلَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ!»(1).

ثم إنّ الإمام أمير المؤمنين «علي بن أبي طالب» عليه السلام كان أوّل مَن صلّى على جثمان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم صلّى عليه المسلمون جماعة جماعة، ثم تقرر دفنُه صلى الله عليه و آله و سلم في حجرته المباركة.

فقام أبو عبيدة الجراح وزيد بن سهل بحفر قبر له صلى الله عليه و آله و سلم وإعداده ثم دُفِنَ صلى الله عليه و آله و سلم في تلك الحفرة على يد أمير المؤمنين علي عليه السلام يساعده في ذلك الفضل والعباس.(2)

وهكذا غربت شمس أعظم شخصية غيّرت مسار التاريخ البشري بتضحياته الكبرى وجهوده المضنية، وأعظم رسول إلهي فتح أمام الإنسانية صفحات جديدة ومشرقة من الحضارة والمدنية.

ولكن ظهرت على الساحة برحيله مشكلات عديدة كان لها أثرٌ في استمرار رسالته، ومواصلة أهدافه التي من أهمها مسألة الخلافة وموضوع القيادة في المجتمع الإسلامي، وقد بدت بعضُ بوادر الاختلاف في الأوساط الإسلامية حتى قبل رحيله.

غير أنّ هذا القسم وإن كان قسماً مهمّاً وخطيراً من تاريخ الإسلام، إلّاأنّه خارجٌ عن إطار بحثنا هذا (وهو دراسة وتحليل الشخصية المحمدية وحياة النبي

ص:771


1- . نهج البلاغة: الخطبة 235.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1076/4 وما بعدها.

الرسالية والسياسية والعسكرية).

من هنا فإنّنا نختم حديثنا هذا بالشكر للّه تعالى على هذه النعمة الكبرى، والحمدللّه رب العالمين(1).

جعفر السبحاني

شعبان المعظم 1390 ه

قم المقدّسة - الحوزة العلمية

ص:772


1- . تمّ تدوين هذه المحاضرات وتوثيقها وتحقيقها في شهر شعبان المعظم عام 1409 هجرية في مدينة قم والحمد للّه رب العالمين. جعفر الهادي

فهرس المحتويات

الموضوع الصفحة

مقدّمة المؤلّف: مُميّزات النهضة الإلهية وخصائصها... 7

خصيصة «الخلود» والعمق في شخصية رسول الإسلام... 7

المصادر الأُولى والأصيلة للكتابة عن سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 10

حوادث السنةِ الأُولى من الهجرة... 14

27

أوَّل عمل إيجابي للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة

عقد ميثاق تعايش بين المسلمين وغيرهم... 14

مع عمّار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ... 17

ضئرٌ أرأف من والدة!!... 22

التآخي أعظم معطيات الإيمان... 24

منقبتان عظيمتان... 25

منقبةٌ أُخرى لعليّ عليه السلام... 26

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب... 27

أعظم معاهدة تاريخية... 29

ممارسات اليهود الإجهاضية... 35

ص:773

الموضوع... الصفحة

إسلام عبداللّه بن سلّام... 36

خطةٌ يهودية أُخرى للقضاءِ على الحكومة الإسلامية... 37

حوادث السنة الثانية من الهجرة... 41

28

مناوراتٌ عسكرية

واستعراضاتٌ حربية

تهديد خطوط قريش التجارية... 42

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يلاحق قريشاً بنفسه... 45

ما هو الهدف من المناورات العسكرية؟... 50

نظرية المستشرقين... 51

29

تحويل القبلة

من بيت المقدس إلى الكعبة... 56

كرامةٌ علمية لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 61

30

معركة بدر الكبرى

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يتوجّه إلى منطقة ذَفران... 64

المشكلة الّتي كانت تواجهها قريش... 67

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعقد شورى عسكرية... 69

إخفاء الحقائق وكتمانها... 70

قرار الشورى الحاسِم أو رأي زعيم الأنصار... 72

جمع المعلومات حول العدوّ... 73

ص:774

الموضوع... الصفحة

كيف هربَ أبو سفيان؟... 76

علم المسلمين بإفلات قافلة قريش... 77

إختلاف قريش في القتال... 77

«العريش» أو غرفة القيادة... 80

نظرة إلى مسألة «العريش»... 80

تحرّك قريش باتّجاه بدر... 83

قريش تتشاور في القتال... 83

اختلاف قادة قريش في أمر القتال... 84

ما هو الأمر الّذي حتّم القتال؟... 87

المبارزات الفردية أوّلاً... 87

أيّ القولين هو الأصحّ؟... 89

الهجومُ العامُّ... 90

رعاية الحقوق... 92

مصرع أُميّة بن خلف... 92

خسائر بدر في الأرواح والأموال... 93

«ما أنتم بأسمع منهم»... 94

الشعر يخلّد هذه القصة... 95

بعد معركة بدر... 97

قتل أسيرين في أثناء الطريق... 99

بشائر النبيّ إلى المدينة... 101

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم... 101

اشتراك العباس عمّ النبيّ في بدر... 102

ص:775

الموضوع... الصفحة

المنع من النَوح والبكاء في مكة... 103

رسول الإسلام ومكافحة الأُميّة... 104

ما ورد في السيرة حول مصير الأسرى... 105

كلام لابن أبي الحديد في المقام... 107

القرآن يتحدّث عن معركة بدر... 109

31

زواج سيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه

مشاكل الزواج في العصر الحاضر... 115

رسول الإسلام يكافح هذه المشاكل عمليّاً... 116

جهاز فاطمة... 120

مراسم الزواج تقام ببساطة... 123

محاولات يائسة للنيل من علي وفاطمة عليهما السلام... 126

العلّامة الأميني يرد على افتراءات المستشرق النصراني الحاقد... 127

العقّاد والنيل من فاطمة عليها السلام... 137

32

جرائم «بني قينقاع»

لهيب الحرب يبدأ من شرارة... 142

تقارير جديدة تصل إلى المدينة... 146

قريش تغيّر مسير تجارتها... 150

حوادث السنة الثالثة من الهجرة... 152

ص:776

الموضوع... الصفحة

33

الدفاع عن الحريّة

غزوة أحد أو الدفاع عن الحريّة عند جبل أُحُد... 152

إغتيال مفسد آخر... 156

قريش تتكفّل نفقات الحرب... 156

الاستخبارات ترفع تقريراً إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 159

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة... 159

منطقة «أُحد»... 161

المشاورة في كيفية الدفاع... 162

المشاورات العسكرية... 163

الاقتراع من أجل الشهادة!!... 164

حصيلة الشورى... 166

النبيُّ يلبس لامة الحرب... 167

النبيّ يخرجُ مِنَ المَدينة... 168

جنديان فدائيان... 169

العسكران يصطفّان... 173

رفع معنويات الجنود وتقوية عزائمهم... 175

العدوّ ينظّم صفوفه... 176

الإثارة النفسيّة وإلهاب الحماس... 176

بداية القتال... 178

المقاتلون بدافع الشهوة!!... 181

الهزيمة بعد الانتصار... 182

ص:777

الموضوع... الصفحة

شائعة مقتل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 185

هل يمكن إنكار فرار بعض الصحابة من أرض المعركة؟... 186

القرآن يكشف عن بعض الحقائق... 188

التجارب المرّة... 190

خمسة يتحالفون على قتل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 192

الدفاع الموفق أو النصر المجدّد... 196

بقية أحداث واقعة «أُحد»... 207

العدوُّ يحاول استغلال الفرصة... 208

نهاية المعركة... 210

آخر ما نطق به سعدُ بن الربيع... 213

النبيّ يعود إلى المدينة... 214

ذكريات مثيرة عن امرأة مؤمنة... 217

نموذج آخرٌ من النسوة المجاهدات... 217

لابدّ من ملاحقة العدو... 220

حمراءُ الأسد... 223

لا يُخدَعُ مؤمن مرّتين... 225

ميلاد الإمام الحسن السبط... 226

حوادث السنة الرابعة من الهجرة... 227

34

فاجعة فريق المبلّغين

خطّة ماكرة للفتك بالمبلّغين... 228

الغدر بالدعاة إلى الإسلام وقتلهم... 230

ص:778

الموضوع... الصفحة

جريمة بئر معونة... 234

كيدُ المستشرقين وجفاؤهم... 236

المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين... 237

35

غزوة «بني النضير»

بماذا يجب أن تقابل هذه الجريمة؟... 241

المستشرقون و دموع التماسيح... 243

دور حزب النفاق أيضاً... 244

مزارع بني النضير تقسَّم بين المهاجرين فقط... 247

36

تحريم الخمر، ذات الرقاع، بدر الصغرى

تحريم الخمر... 250

وقفة عند «البيان الشافي»... 255

رواية مختلَقَة... 256

غزوةُ ذات الرقاع... 261

مواقف خالدة في هذه الغزوة... 263

الحُرّاس الصامدون... 263

غزوة بدرٌ الصغرى... 264

ولادةُ السِبط الأصغر لرسول اللّه... 266

حوادث السنة الخامسة من الهجرة... 267

ص:779

الموضوع... الصفحة

37

من أجل تحطيم التقاليد الخاطئة

مَن هو زيد بن حارثة؟... 268

زيدٌ يتزوّج بابنة عمّة النبيّ... 269

زيد يطلّق زوجته... 270

زواج النبيّ بمطلقة متبنّاه لإبطال سنة جاهلية أُخرى... 271

المستشرقون وقضية زواج النبيّ بزينب... 275

توضيح عبارتين... 280

38

غزوة الأحزاب

1. غَزوة دُومة الجندل... 286

2. غزوة الخندق (الأحزاب)... 287

استخبارات المسلمين ترفع تقريراً للقيادة... 291

القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان... 294

مقاتلو العرب واليهود يحاصرون المدينة... 295

العدد الدقيق لقوّات الطرفين... 295

خطر البرد، وتناقص الغذاء والعلف... 296

حيي بن أخطب يدخل حصن بني قريظة... 297

النبي يعرف بنقض بني قريظة للعهد... 299

تجاوزات بني قريظة الأوّلية... 300

الإيمانُ في مواجهة الكفر... 302

أبطالٌ من العرب يَعبُرونَ الخندق... 304

تصاول البطلين... 308

ص:780

الموضوع... الصفحة

قيمة هذه الضربة... 309

لماذا التنكّر لهذا الموقف؟... 310

مروءة عليّ عليه السلام وشهامته... 312

جيش العرب يتفرّق في موقفه... 313

العوامل الّتي فرّقت كلمة «الأحزاب»... 315

مبعوثو قريش يمشون إلى بني قريظة... 317

آخر العوامل لهزيمة الكفّار... 318

القرآن الكريم و معركة الأحزاب... 319

حوادث السنة الخامسة من الهجرة... 325

39

سقوط آخر أَوكار الفساد والمؤامرة

قوات الإسلام تحاصر بني قريظة... 326

اليهودُ يتشاورون حول الموقف... 327

خيانةُ أبي لبابة... 330

إلى أيّ مدى ذهب الطابورُ الخامس في مشاغبته؟... 333

تقييم ما استند إليه سعد في حكمه... 335

حوادث السنة السادسة من الهجرة... 341

40

أعداء الإسلام تحت المراقبة المشدّدة

أهل الرأي من قريش يهاجرون إلى الحبشة... 343

الوقاية من تكرار التجارب المرّة... 345

غزوةُ ذي قَرد... 346

ص:781

الموضوع... الصفحة

النذر غير المشروع... 347

41

تمرّد بني المُصطَلِق

غزوة بني المُصطلِق... 350

أوّل خلاف بين المهاجرين والأنصار... 351

منافق حاول إشعال الموقف... 352

صراعٌ بين الإيمان والعاطفة... 355

الزَواجُ المبارك... 358

الفاسق يفتضح... 359

42

قصّة الإفك

المنافقون يتّهمون شخصاً نقيّ الجيب... 362

أبرز النقاط في آيات «الإفك»... 364

الزيادات في هذه القصّة... 366

1. منافاتها لمقام النبوّة والعصمة... 366

2. سعدُ بن معاذ توفّي قبل حادثة «الإفك»... 368

الرواية الأُخرى في سبب النزول... 370

43

رحلةٌ سياسيّةٌ دينيّةٌ

مندوبُو قريش عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 377

رسول اللّه يبعث مندوباً إلى قريش... 380

النبيُ يبعث سفيراً آخر إلى قريش... 381

بيعةُ الرضوان... 383

ص:782

الموضوع... الصفحة

سهيلُ بن عمرو يفاوضُ رسولَ اللّه... 384

التاريخ يعيد نفسه... 387

نَصُّ صُلح الحديبية... 388

نشيد الحرية... 389

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح... 391

تقييم عاجل لصلح الحديبية... 394

قريش تصرُّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة... 398

النساءُ المسلمات لا يُسلَّمن إلى قريش... 401

حوادث السنة السابعة من الهجرة... 402

44

النبيّ يعلن عن رسالته العالمية

الرسالةُ المحمَّدية كانت عالمية... 404

آيات تدلّ على عالمية الرسالة المحمَّدية... 405

رُسُل الإسلام إلى المناطق النائية... 406

أوضاع العالم أيام إبلاغ الرسالة العالمية... 408

رسولُ النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أرض الروم... 409

قيصر يحقّق حولَ النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 411

أثر رسالة النبي إلى قيصر... 414

سَفير النبيّ في البلاط الإيراني... 415

نظرية اليعقوبي... 417

أوامر «خسرو» إلى واليه على اليمن... 418

سفيرُ النبيّ في أرض مصر... 421

المقوقس يكتب كتاباً إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 424

ص:783

الموضوع... الصفحة

المغيرة بن شعبة في البلاط المصري... 425

سفير النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في أرض الذكريات «الحبشة»... 427

محاورة بين سفير النبيّ وحاكم الحبشة... 429

رسالة النجاشي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 430

تقييم سريع لمراسلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم قادة العالم... 431

كتاب رسول اللّه إلى أمير الغساسنة (بالشام)... 434

سادس السفراء في أرض اليمن... 436

رسائل أُخرى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 438

45

قلعة خيبر أو بُؤرة الخطر

إحتلالُ النقاط والطرق الحسّاسة ليلاً... 444

متاريس اليهود تتهاوى... 446

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة... 449

فتح الحصون الواحد تلو الآخر... 451

الانتصار الكبير في خيبر... 454

تحريف الحقائق... 457

ثلاث نقاط مشرقة في حياة علي عليه السلام... 460

عوامل الانتصار... 461

1. التخطيط والتكتيك العسكري الدقيق... 462

2. تحصيلُ المعلومات حول العدوّ... 463

3. تفاني امير المؤمنين عليه السلام... 465

الرحمة في ساحة القتال... 465

مصرع كنانة بن الربيع... 466

ص:784

الموضوع... الصفحة

تقسيم غنائم الحرب... 467

قافلة من أرض الذكريات... 468

حجم الخسائر وعدد القتلى... 470

العفو بعد الانتصار... 470

سلوك اليهود المتعجرف... 473

حيلة مُجازة... 476

46

قصّة فَدَك

حكم الأراضي المفتوحة بلا قتال... 480

قصّة فدك بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 483

فدك في محكمة التاريخ... 487

السيطرة على وادي القُرى... 488

47

عمرة القضاء

النبي يدخل مكّة... 492

النبي صلى الله عليه و آله و سلم يغادر مكّة... 495

أحداث السنة الثامنة من الهجرة... 498

48

معركة مؤتة

حادثة أفجع من السابقة... 500

خلافٌ حول مَن هو الأمير الأوّل؟... 502

جيشا الإسلام والروم يتواجهان... 505

حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة... 508

ص:785

الموضوع... الصفحة

الجنود يعودون إلى المدينة... 510

أُسطورة بدل التاريخ الصحيح... 511

النبيّ يبكي بشدة لمقتل جعفر... 512

49

غَزوةُ ذات السَلاسِل

تفاصيل هذه الغزوة... 516

الإمام عليٌّ ينتدَب لقيادة العملية... 518

عوامل انتصار الإمام عليّ في هذه الموقعة... 519

إعتراض وجواب... 521

50

فَتحُ مَكَّة

تفاصيلُ فتح مكَّة... 525

قريشُ تتوجّس خيفة من ردّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 529

جاسوسٌ يُكتَشف!... 532

النبي يتحرّك باتجاه مكّة... 539

العفو عند المقدرة... 541

تكتيكٌ رائع لجيش الإسلام... 544

العباس يصطحب أبا سفيان إلى خيمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 546

أبوسفيان بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 547

مكّة تستسلم من دون إراقة دماء... 549

أبو سفيان يرجع إلى مكّة... 553

القواتُ الإسلامية تدخل مكّة... 555

ص:786

الموضوع... الصفحة

كسرُ الأصنام وغسل الكعبة... 557

عليٌّ عليه السلام على كَتِف النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 560

النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يعلنُ عن العفو العام... 563

بلالُ يرفع الأذان على سطح الكعبة... 563

النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يتحدّث إلى أقاربه... 565

خطابُ النبي التاريخي في المسجد الحرام... 566

1. التفاخر بالنسَب... 567

2. التفاضل بالقومية العربية... 568

3. لجميع أبناء البشر لا لبعض دون بعض... 568

4. الحروب الطويلة والأحقاد القديمة... 569

5. الأُخوّة الإسلامية... 570

معاقبة المجرمين... 570

قصّة عكرمة وصفوان... 572

مبايعة النبي نساء مكّة... 573

هدمُ بيوت الأصنام بمكّة وما حولها... 576

جرائم أُخرى لخالد... 579

51

معركة حنين

جيشٌ قليل النظير... 582

الحصول على المعلومات العسكرية... 583

تجهيزات المسلمين... 585

صمود النبي ومَن ثَبتَ من أصحابه... 586

غنائمُ الحرب... 588

ص:787

الموضوع... الصفحة

لقطتان من الخلق النبوي العظيم... 588

52

غزوة الطائف

شدخُ جدار الحصن بالمنجنيق... 593

ضغوطٌ اقتصادية ونفسية... 594

آخر محاولة لفتح حصن الطائف... 595

جيشُ الإسلام يعود إلى المدينة... 596

حوادث ما بعد الحرب... 597

النبي صلى الله عليه و آله و سلم يلتقي الشيماء أُخته من الرضاعة... 601

اسلام مالك بن عوف... 602

تقسيم الغنائم... 603

رسول اللّه يعتمر... 607

53

لاميّة كعب بن زهير المعروفة «بانت سعاد...»

قصّة كعب بن زهير بن أبي سلمى... 610

حُزنٌ قارَن فَرحاً... 613

حوادث السنة التاسعة من الهجرة... 615

54

عليُّ بن أبي طالب في أرض طيّ

عام الوفود... 615

هدم بيوت الأصنام... 618

عليٌ في أرض طيّ... 619

قصة إسلام عدي بن حاتم الطائي... 620

ص:788

الموضوع... الصفحة

55

غَزْوَةُ تَبُوك

تعبئةُ المقاتلين وتهيئة نفقات الحرب... 626

المتخلِّفُون عن القتال... 626

اكتشافُ شَبكّةٍ جاسُوسيَّة في المدينة... 628

عدمُ مشاركة «عليّ» عليه السلام في غزوة تَبُوك... 630

جيش الإسلام يتحرّك نحو تبوك... 632

النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يَستعرضُ جيشَهُ... 633

قصّة مالك بن قيس... 634

مصاعبُ الطريق... 635

تعليماتٌ احتياطيّة... 636

علم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمغيّبات... 637

إخباره بمغيَّب آخر... 638

جيش الإسلام في أرض تبوك... 641

بعث خالد إلى دَومة الجندل... 644

تقييم إجماليٌ لغزوة تبوك... 645

المنافقون يخطّطُون لاغتيال النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 647

النيّة تقومُ مقام العمل... 648

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ... 650

قصّة مسجد ضرار... 652

56

وَفد ثقيف في المدينة

وقوع الفرقة والاختلاف في قبيلة ثقيف... 656

ص:789

الموضوع... الصفحة

وَفْدُ ثَقِيف... 657

شروط وَفد ثقيف... 659

57

إعْلان البراءة من المشركين في منى

تعصّبٌ بغيضٌ في تحليل هذا الحدث... 668

حوادث السنة العاشرة من الهجرة... 671

58

في رثاء الولد العزيز

اعتراض غير وجيه... 673

مكافحة الخرافات... 675

59

وفد نجران في المدينة

مفاوضاتُ وَفد نجران مع النبي... 679

خروجُ النبي صلى الله عليه و آله و سلم للمباهلة... 681

إنصراف وَفْد نجران عن المباهلة... 683

صورةُ العهد النبويّ لأهْل نجران... 684

أكبر فضيلة... 685

60

تاريخ المباهلة عاماً وشهراً ويوماً

عام المباهلة حسب المشهور... 688

الشهر واليوم الّذي وقعت فيه المباهلة... 688

رأينا حول عام المباهلة... 690

زمن المباهلة يوماً وشهراً... 692

ص:790

الموضوع... الصفحة

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟... 697

61

1. تقييم البراءة من المشركين

2. وفود القبائل في المدينة

محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 701

أمير المؤمنين في ربوع اليمن... 703

62

حجّة الوداع

الإمام علي عليه السلام يعود من اليمن... 710

شروع مراسِمُ الحج... 712

خطابُ النبيّ التاريخي في حجّة الوداع... 713

63

إكمال الدين الإسلامي بتعيين الخليفة

اقتضاءُ المحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة... 721

1. النبوّة والإمامة توأمان... 725

2. قصّة الغدير... 726

واقعة الغدير خالدة إلى الأبد... 729

الدلائل الأُخرى على أبديّة الغدير... 731

64

1. المتنبّئون كَذباً

2. التفكير في أمر الروم

لمحة عابرة عن هوية مسيلمة... 739

ص:791

الموضوع... الصفحة

التفكير في أمر الرُّوم... 741

الأعذارُ غير المقبولة... 746

الاستغفار لأهل البقيع... 747

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة... 749

65

الكتابُ الذي لم يُكتب

إيتوني بقلم وقرطاس... 751

ماذا كان الهدف من الكتاب؟... 755

لماذا لم يصرُّ النبي على كتابة الكتاب؟... 758

تلافي الأمر وتداركه... 758

تقسيم الدنانير... 760

غضب النبي من الدواء الذي سقي... 761

وداع النبي صلى الله عليه و آله و سلم مع أصحابه... 761

66

اللحظاتُ الأخيرة

النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم يتحدّث مع ابنته الزهراء... 765

العاطفية بالظهور والتجلّي، بيد أنّه يُستثنى الشخصيات الروحانية

والمعنوية... 765

مسواكُ النبي قبيل وفاته... 767

وصايا النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبيل رحيله... 767

يوم الوفاة... 769

فهرس المحتويات... 773

ص:792

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.