سید المرسلین صلی الله علیه و آله : دراسه موضوعیه لحیاه الرسول الاکرم... المجلد 1

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

Sobhani Tabrizi, Jafar

عنوان و نام پديدآور:سیدالمرسلین صلی الله علیه و آله: دراسه موضوعیه لحیاه الرسول الاکرم.../ جعفر السبحانی؛ بقلم جعفر الهادی.

مشخصات نشر:قم: موسسه الامام صادق (ع)، 1441ق.= 1399.

مشخصات ظاهری:2ج.

شابک:دوره:978-964-357646-2 ؛ ج.1:978-964-357647-9 ؛ ج.2:978-964-357648-6

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

موضوع:محمد(ص)، پیامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11ق.

موضوع:Muhammad, Prophet, d. 632

موضوع:غزوات

موضوع:Ghazavat

موضوع:سنت نبوی

موضوع:*Wonts of the Prophet

موضوع:اسلام -- تاریخ -- از آغاز تا 11ق

موضوع:Islam -- History -- To 632

شناسه افزوده:هادی، جعفر، 1325 - 1399.

شناسه افزوده:Hadi, Ja’far

رده بندی کنگره:BP22/9

رده بندی دیویی:297/93

شماره کتابشناسی ملی:6181606

وضعيت ركورد:فیپا

ص :1

اشارة

سیدالمرسلین صلی الله علیه و آله: دراسه موضوعیه لحیاه الرسول الاکرم...

جعفر السبحانی؛ بقلم جعفر الهادی

ص:2

هويّة الكتاب

سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم

دراسة موضوعية لحياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وما رافقها من أحداث تاريخية ودينية وسياسية وعسكرية واجتماعية

محاضرات

العلّامة المحقّق

الشيخ جعفر السبحاني

بقلم

جعفر الهادي

الجزء الأوّل

نشر

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:3

سبحانى تبريزى، جعفر 1308 -

سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم / تأليف جعفر السبحاني؛ تعريب جعفر الهادي. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1399.

2 ج. (1. VOL ) 9-647-357-964-978 ISBN

(2VOL.SET) 2-646-357-964-978 ISBN

فهرست نويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه به صورت زير نويس.

1. محمد صلى الله عليه و آله و سلم، پيامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11 ق -- سرگذشت نامه. الف. هادى، جعفر، 1325 - مترجم. ب. مؤسسه امام صادق عليه السلام. ج. عنوان.

9 س 2 س/ 22/9 BP 93/297

1399

اسم الكتاب:... سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم / ج 1

المؤلف:... العلّامة المحقّق الشيخ جعفر السبحاني

بقلم:... الأُستاذ الشيخ جعفر الهادي

الموضوع:... السيرة النبوية

الطبعة:... الأُولى

تاريخ الطبع:... 1399 ه. ش / 1441 ه ق/ 2020 م

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

القطع:... وزيري

عدد النسخ:... 1000

التنضيد والإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 1072 تسلسل الطبعة الأُولى: 507

حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة، فلا يجوز شرعاً استنساخ أو نشر اصدارات

المؤسسة إلّابعد التنسيق مع المؤسسة واستحصال الموافقة الرسمية

توزيع: مكتبة التوحيد

ايران - قم؛ ساحة الشهداء

? 37745457؛ 09121519271

www.shia.ir

www.tohid.ir

http://www.imamsadiq.org

ص:4

بسم الله الرحمن الرحيم

ص:5

ص:6

السيرة المحمَّدية مدرسة الأجيال

«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» .(1)

النبيُّ الأكرم «محمّد» صلى الله عليه و آله و سلم أُسوةٌ للمسلمين... أُسوةٌ يقتدون بها في جميع مناحي حياتهم: الفردية والاجتماعية، والسياسية... أُسوة إلى الأبد... في كلّ زمان و مكان، في كلّ عصر و مصر، لجميع المسلمين من كلّ لون ولغة.

ولكن كيف يتأسّى المسلمون - في مختلف الأجيال والأدوار - برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكيف يقتدون بسيرته المثلى، ويهتدون بهديه العظيم؟

إنّ هذا لا يتسنّى إلّاإذا كانت حياة رسول الإسلام بجميع خصوصياتها، وتفاصيلها، وفي جميع مجالاتها ونواحيها، مدوّنة مسجّلة، بل ومحلّلة تحليلاً دقيقاً وعميقاً.

من هنا فإنّ الضرورة تقضي بوجود تاريخ مدوَّن، مشفوع بالتحليل الدقيق، والدراسة الموضوعية لشخصية وسيرة سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم في كافّة مجالاتها الشخصية والرسالية والسياسية والعسكرية.

حقّاً إنّ في حياة رسول الإسلام العظيم «محمّد بن عبداللّه» صلى الله عليه و آله و سلم - كما هو واضحٌ لمن تتبّعَ وتصفّحَ - أُموراً دقيقة، ولكن بالغة العظمة في مداليلها ومعانيها، بالغة الأهميّة في معطياتها ودروسها.

فرسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم هو خاتم الأنبياء، ورسالته وشريعته خاتمة الرسالات

ص:7


1- . الأحزاب: 21.

والشرائع ونهضته هي النهضة الكبرى الّتي مهّدَ لها الأنبياء السابقون، وقد فتحت هذه النهضة الإلهية صفحة جديدة في حياة البشرية، وغيّرت مسار التاريخ الإنساني تغييراً جذريّاً، وأسّست حضارة كبرى لا تزال أمواجها - رغم مرور أربعة عشر قرناً - حيّة نابضة، فاعلة، تهزُّ الضمائر، وتتفاعلُ مع العقول.

ولهذا فإنَّ السيرة المحمّدية مشحونةٌ بالمناهج والدروس، زاخرة بالبصائر والعبر، بقدر ما هي مليئة بالدقائق والحقائق، واللطائف والأسرار.

حقّاً إنّ حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بحاجة إلى تعمّقٍ جديدٍ كلّما تجدّد الزمن، وكلّما تقدّمت العلوم والمعارف، وتطوّرت الحياة، وانفتحت أمام البشرية آفاق جديدةٌ في شتّى الأصعدة والمجالات.

ولا شكّ أنّ هذه المهمّة ليست عملاً بسيطاً ومهمّة سهلة، وخاصّة مع ما عليه الكثير من المصادر التاريخية الأُولى من تصحيف أوتحريف أوتشويه للحقائق، أو تغيير للأحداث.

فإنّ هذه المهمّة تحتاج - في ما تحتاج إليه - إلى ثلاثة شروط أساسية:

1. عقلية متفتّحة، متدبّرة، نافذة، متأنّية.

2. جهود كبيرة، وتتبّع واسع، وتمييز للصحيح عن السقيم، والدخيل عن الأصيل.

3. معرفة بجوانب تتّصل بالسيرة المحمَّدية اتّصالاً وثيقاً كالمعرفة بمكانة سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم في القرآن الكريم.

فمع توفّر هذه الشروط يمكن الحصول على صورة نقيّة، ومفيدة للسيرة المحمَّدية المباركة، صورة تتّفق مع روح القرآن، وتلتقي مع الواقع، وتصلح للاقتداء، والاهتداء، وإقتفاء الأثر.

ص:8

ولقد توفّرت هذه الشروط - وللّه الحمدُ - في أُستاذنا العلّامة المحقّق سماحة آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني، حفظه اللّه.

فهو المعروف بسلسلته القرآنية «مفاهيم القرآن» الّتي تكشف عن إحاطة كبيرة بكتاب اللّه العزيز، وإلمام قليل النظير بمفاهيمه. كما عرف بأعماله الفكرية، الناضجة المتنوعة الكاشفة عن عقلية متفتّحة واعية ومعاصرة.

ولهذا كان خيرَ مَن قام في عصرنا الحاضر بدراسة السيرة المحمَّدية الطاهرة العبقة، فكان هذا العمل التاريخي المبارك الّذي توفّرت فيه المستلزمات الثلاثة الآنفة الذكر: العقلية المتفتّحة، والمعرفة الواسعة بالقرآن الكريم وخاصّة في ما يتّصل بالرَّسول الأكرم، إلى جانب التتبّع الواسع والاستقصاء الكبير لمواقع العبرة والإسوة في حياة خاتم الأَنبياء وسيّد المرسلين.

ولا أجدني - في هذا التقديم العابر - بحاجة إلى ذكر نقاط القوّة الكثيرة في هذه الدراسة المستوعبة لشخصية وحياة رسول الإسلام، بل أرى أن يحاول القارئ الكريم بنفسه الاطّلاع على ذلك حتّى لا يفوته شيء ممّا لا يفوّت، وسيقف بنفسه أيضاً على جسامة ما بذل في هذه الدراسة من جهد، وروعة ما ضُمِّنت من تحليل، وأهمية ما احتوته من حقائق.

وفي الختام أسأل اللّه العلي القدير أن يتقبّل منّا جميعاً هذا الجهد، ويجعله ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إنّه خير معين.

جعفرالهادي

30 شعبان 1409 ه

قم المقدّسة

ص:9

ص:10

مقدّمة المحاضر

اشارة

التاريخُ في أَعظَم ملاحمه

يُحاولُ الإنسان دائماً أن ينظر إلى كلّ قضيّة من القضايا من نافذة الحسّ، وأن يدرسها من خلال الرؤية الحسيّة الماديّة، لأنَّ أوثقَ المعلومات لديه هي تلك الّتي تتألّف من هذه «المعلومات الحسّية» ولهذا فإنّ المسائل الّتي تحظى بأَدلّة حسّية أكثر، تكسب في العادة قسطاً أكبر من ثقة الإنسان وتصديقه.

وعلى هذا الأساس عمَدَ العالم اليوم إلى تأسيس آلاف المختبرات الضخمة للتحقيق في شتّى القضايا العلمية، ويعكف العلماءُ في هذه المختبرات على دراسة وتحليل الأُمور المتنوّعة بأُسلوب خاص وطريقة معيّنة.

ولكن هل يمكن - يا تُرى - أن تدخلَ المسائلُ والقضايا الاجتماعية في نطاق التجربة المختبرية، وتخضع للمجهر والميكروسكوب، ليمكن الحكم في هذه المجالات من خلال ذلك؟!

فمثلاً؛ هل يمكن أن نعرفَ عن طريق التجارب المختبرية ما يؤدّي إليه الاختلافُ والتشرذم في المجتمع الواحد، وما يصيب شعباً من الشعوب أو أُمّة من الأُمم من هذا الطريق؟

أم هل يمكن تقييمُ ما تنتهي إليه جهودُ المستعمرين، أو ما يؤول إليه الظلمُ والحيف، من خلال تجربة حسّية؟

أم هل يمكنُ الوقوفُ على نتائج «الاختلاف الطبقيّ»، «والتمييز العنصريّ» في المجتمع عن طريق التجربة المختبرية؟

في الإجابة عن كلّ هذه الأسئلة يجب أن نقول: كلّا مَعَ الأسف.

ص:11

وذلك لأنَّه لا توجَد للقضايا الاجتماعية - رغم أهميّتها القصوى - مثل هذه المختبرات، وحتّى لو أمكن توفير مثل هذه المختبرات المناسبة لتحليل وتقييم ودراسة القضايا الاجتماعية، فإنّ إنشاءها وإيجادها يكلِّف نفقات باهضةً، وتستدعي جهوداً عظيمة.

ولكنَّ الأمر الّذي في مقدوره أن يقلّل من حجم هذا النقص إلى حدّ كبير هو أنّنا نملك اليوم شيئاً يُسمّى ب: «تاريخ الماضين» والّذي يشرح لنا ما كان عليه البشرُ - أفراداً وجماعات - طوال آلاف السنين من الحياة على هذه الأرض، كما ويعكس مختلف الذكريات والخواطر عنهم، من إنتصارات وهزائم، ونجاحات وانتكاسات، ويوقفنا بالتالي على كلّ ما وقع في حياة الأُمم والشعوب من حوادث مرّة أو حلوة.

إنَّ التاريخ يذكر لنا: كيف وُجدَت الحضارات المشرقة والمدنيات العظمى في العالم، وكيفَ سلكت - بعد مدّة - طريق السقوط والانقراض، حتّى أنّها قد مُحيت عن صفحة الوجود بالمرّة، وأصبحت خبراً بعد أثر، وبالتالي ما هي العوامل الّتي كانت وراء سيادة الشعوب ثم اندحارها.

إنّ حياة الماضين وتاريخهم يحتفظ لنا في صفحاته بقسط كبير ومهمّ جداً من هذه الحوادث، ولهذا صحّ أن يقال: «التاريخ مختبر الحياة العظيم»، فبمعونة التاريخ يمكن تقييم مختلف القضايا الاجتماعية، ودراستها واستخلاص النتائج والعبر المفيدة منها.

عندما يلتقي العالم الحاضر بالعالم الغابر

وإنَّ من حُسن الحظ أنّنا لم نكن أوّل من حطَّ قدمه على هذا الكوكب، فهذه الأرضُ بسهولها وشعابها العريضة، وتلك السماء بنجومها وكواكبها الزاهرة شهدتا ملايين الملايين من البشر الذين سكنوا الأرض من قبلنا، وشهدتا أفراحهم

ص:12

وأتراحهم، همومهم وغمومهم، وحروبهم، ومصالحاتهم، وكلّ ما رافق واكتنف حياتهم من حبّ وبغض وظلمات وأنوار، وارتقاء وهبوط، إلى غير ذلك من شؤون وشجون الحياة البشرية الّتي يزخر بها تاريخ الشعوب والأقوام والأُمم.

صحيح أنّهم قد اختفوا مع الكثير من أسرار حياتهم، وغابوا جميعاً - أشخاصاً وأسراراً - في بحر من النسيان وانسدل عليهم الستار، إلّاأنّ قسطاً مُلفِتاً للنظر وجملة يُعتد بها من تلك الأُمور إمّا أنّها قد دُوّنت بأيدي أصحابها، أو لا تزال طبقاتُ الأرض وبطون التلال تحتفظ بها في ثناياها وطيّاتها، كما ولا تزال ذات الأطلال الصامتة - في ظاهرها - تشكل أضخم متحف، وأغنى معرض، وأكبر مختبر، يعيد لنا شريط التاريخ ويحكي وقائعه وأحداثه، ويشرحُ رموزه وأسراره.

إنَّ مُطالعة تلكم الصفحات من تاريخ الأُمم الغابرة في الكتب، أو في الأطلال العظيمة، أو في ما يعثر عليه المنقِّبون في بطون التلال، وثنايا الأرض تعلّمنا أُموراً كثيرة، وتضيف إلى عُمرنا عُمراً جديداً وزمناً إضافياً، لا يُستهان به وذلك بما تقدّمُ لنا مِنَ الخبرة والعبرة، والهدى والبصيرة.

أليست حصيلة العمر ما هي إلّاما استفاده المرء من تجارب؟ ألا يجعل التاريخ خلاصة أفضل التجارب تحت تصرّفنا؟

ولقد أشار الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في وصية لولده إلى هذه الحقيقة حيث قال:

«أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ؛ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ؛ بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى

ص:13

إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ».(1)

ولكنّ المؤسف أن كُتُب التاريخ الموجودة الآن تعاني من نقص كبير من حيث الإشارة إلى العبر والدروس الاجتماعية المفيدة، لأنّ هذه المصنّفات لم تدوَّن لأَجل هذا الغرض، ولهذا أُغفِلَ فيها - في الأغلب - كلّ ما هو مؤثرٌ في كشف الحقائق التاريخية، وإبراز العلل الكامنة وراء الحوادث المتنوّعة والوقائع المختلفة، وبالتالي فقد تجاهلت تلك الكتب والدراساتُ ما هو المفتاح الطبيعيّ لحلِّ الرُّموز الكبرى في مسيرة التاريخ البشري، واعتنتْ - بدلاً عن ذلك - بالقضايا التافهة.

لقد تصدّى كثيرٌ من المؤرّخين لتدوين وتسجيل القضايا التاريخية، تارة بهدف التسلية وأُخرى بدافع إبراز الفضل لأقوامهم أو طوائفهم، وإظهار تفوّقها على الأقوام والطوائف الأُخرى، وثالثة بدافع الحب والبغض، أو التعصّب لهذا أو ذاك ولهذا عجزت هذه المؤلّفات والكتب عن حلّ أيّة مشكلة، وتبديد أيّة حيرة، بل هي تزيد المرء ضلالاً إلى ضلال، وحيرة إلى حيرة!

ولكن رغم كلّ هذا يستطيع أُولو النباهة والبصيرة، وأصحاب الفهم والتحقيق أن يتوصّلوا - من خلال مطالعة هذه المؤلّفات التاريخية على ما فيها من عيوب ونقائص، ومع ما فيها من أساطير عن الشعوب المختلفة - إلى ما يساعدهم على كشف الكثير من أسرار وخلفيّات القضايا والأُمور المتعلّقة بالشعوب الماضية، تماماً كما يفعل الطبيبُ الحاذق، أو القاضي البارعُ الّذي يمكنهما من خلال الوقوف على القرائن الجزئية المتفرّقة، التوصّل إلى اكتشاف نوع «المرض» أو حالة «المتّهم» الحقيقية، وما يعاني منه في واقعه النفسي.

***

ص:14


1- . نهج البلاغة: قسم الكتب برقم 31.

حياة العظماء والخالدين

إنَّ أعظم صفحات التاريخ قيمة هي تلك الّتي تعكس لنا حياة العظماء وسيرة الرجال الخالدين، وتبحث عنها بصدق وأمانة وموضوعية.

فإنَّ لحياتهم أمواجاً خاصّة، كما أنّها زاخرة بأنواع الحوادث.

لقد كانوا عظماء حقّاً، وكذلك كان كلّ ما يرتبط بهم، ومن ذلك تاريخهم، إنّه شيء عظيم يستحقّ التأمّل والتدبّر، فهو يتّسِمُ بِلمعان يلفت الأنظار، ويخلب الألباب وإنّه غني بالعظات والعبر، زاخرٌ بالبصائر والدروس إلى درجة لا توصف.

إنّهم معجزةُ الخليقة بلا ريب، وإنّ حياتهم لهي - في الحقيقة - ملحمة التاريخ الكبرى، وساحة البطولات الخالدة، ومسرح الحماسات العظمى، الحيّة النابضة على مرّ العصور، والأيام.

لقد كان أُولئك العظماء يعيشون في الأغلب على خطّ الثورات والتغييرات الاجتماعية الأَوّل، وبعبارة أصحّ: كانت الثورات والتحوّلات الاجتماعية تجد مصداقيتها في حياتهم وتتجسّد في مواقفهم، ولهذا كانوا يشكّلون - في واقع الأمر - حلقة الاتّصال بين الحضارات المختلفة المتناقضة، وكانت حياتهم الحافلة بالأحداث شاهدة للألوان المختلفة والمشاهد المثيرة المتنوّعة.

***

الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وحياة حافلة بالأحداث

لم تتّسم حياة أحد من الرجال التاريخيّين والعظماء الخالدين - من حيث وفرة الأحداث، وكثرة المواقف الخالدة، وشمولية الوقائع - كما اتّسمت به حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، ولا اتّصفت شخصية بمثل ما اتّصف به ذلك النبيّ العظيم.

فلم يستطع أحدٌ سواه أن يؤثِّر في بيئته، ثم في جميع العالم، وينفذ إلى

ص:15

أعماق الأعماق بمثل السرعة والسعة الّتي حصلت له صلى اللّه عليه وآله.

ولم يوجد أيُّ واحد منهم قط من مجتمعه المنحطّ المتخلّف، حضارة بتلك العظمة والشموخ، كما فَعلهُ رسولُ الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم، وتلك حقيقة يقرّ بها كلّ مؤرّخي الشرق والغرب.

إنّ مطالعة عميقة لسيرة وحياة هذا الإنسان العظيم، قادرة على أن تعلّمنا الكثير الكثير، وأن توقفنا على مشاهد متنوّعة في غاية النفع ومنتهى الفائدة.

منها: الأَيام الأُولى مِن بناء الكعبة المعظّمة، واستيطان أسلاف النبيّ الكريم «مكّة»، وهجوم عسكر الفيل الفاشل لهدم بيت اللّه المعظّم، والأحداث والملابسات المرافقة لمولد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.

ومنها: المشاهد المحزنة والأليمة، كوفاة «عبداللّه» و «آمنة» والدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مطلع حياته الشريفة بتلك الكيفية المؤلمة.

ومنها: المشاهد العظيمة والمهيبة والحافلة بالأسرار مثل الأيام الأُولى من نزول الوحي، وما جرى في جبل «حراء»، وما تبعه من مواقف الاستقامة والمقاومة الّتي أبداها واتّخذها رسول اللّه وأصحابه المعدودون طيلة ثلاثة عشر عاماً، في سبيل نشر الدين الإسلامي في مكّة، ومكافحة الوثنية والجاهلية.

وكذا مشاهد مثيرة وساخنة وحماسية مثل وقائع السنة الأُولى من الهجرة المباركة وما عقبتها من حوادث ومواقف.

***

وقد أُلّفت حَول حياة رسول الإسلام - أعظم قادة البشرية على الإطلاق - كتبٌ ورسائلٌ ودراساتٌ كثيرة، بحيث لو أُتيح لنا أن نجمعها في مكان واحد لشكّلت مكتبة عظيمة وضخمة.

ويمكن القولُ - بشكل قاطع - بأنّه ليس ثمة من عظيم استقطب اهتمام

ص:16

التاريخ والمؤرّخين والمفكّرين العالميّين الكبار، كما ليس ثمّة شخصيّة من شخصيّات العالم كتب حولها المؤلّفون والباحثون هذا القدر الهائل من المؤلّفات والمصنّفات، والرسائل والكتب، كما حصل لرسول الإسلام محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.

إلّا أنّ أكثر هذه الكتب والمؤلّفات تعاني من أحد إشكالين: إمّا أنّ الكتاب جاء على نسق التسجيل المجرّد للحوادث، أو النصوص التاريخية، من دون أن يتصدّى فيه مؤلّفه لتحليلها، ودراسة خلفياتها ونتائجها، وإصدار الحكم اللازم فيها، بل إنّ البعض قد تجنّب عن بيان علل الوقائع الإسلامية وأسبابها، وثمارها ومعطياتها كذلك.

أو أنّ المؤلّف - في بعضها الآخر - عمَد إلى طائفة من الآراء الحدسية، والاجتهادات الباطلة، العارية عن الدليل وأثبتها في مؤلَّفه على أنّها الحكم الحقّ، وخلط هذه الأحكام مع بيان الحوادث، ومن ثم أخرج كتابه ذاك إلى الجمهور المتعطّش إلى تاريخ الإسلام، على أنّه التاريخ المحقَّق، المُمحَّص.

إنّ الإشكال الّذي يَردُ على الطائفة الأُولى هو: أنّ الهدف من التاريخ ليس هو مجرَّد تسجيل الحوادث التاريخية وضبطها وتدوينها، إنّما هو كتابة صفحات التاريخ، وقضاياه وأحداثه من المصادر الصحيحة الموثوق بها، وإبراز عللها وأسبابها، وثمارها ونتائجها، والتاريخ بهذا الشكل أعظم كنز تركه الأقدمون لنا، ومثل هذا النوع من الدراسة التاريخية لم تُدوَّن - أو أنه قلّما دُوِّنت - حول أعظم قادة البشر، محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم فقد تجنّب أكثر كتّاب السيرة النبوية عن إظهار الرأي في الحوادث، أوالقيام بأي تحليل للوقائع، بحجّة الحفاظ على أُصول الحوادث ونصوصها.

في حين أنَّ هذا العُذر، وهذه الحجة غير كافية لتبرير هذا الموقف، لأنّه كان في مقدور أُولئك المؤرّخين - للحفاظ على ما ذكروه - أن يؤلفوا نوعين من الكتب،

ص:17

نوعاً يختص بسرد الوقائع والنصوص التاريخية على ما هي عليه من دون إبداء رأي، أو تحليل ودراسة، ونوعاً آخر يعتني بذكر الحوادث والقضايا التاريخية مع تحليلها ودراستها بصورة موضوعية صحيحة، أو أن يتم كلا الأمرين في كتاب واحد بأن تفرز الحوادث التاريخية عن التحليل والرأي.

على كلّ حال قلّما نجد بين قدماء الكُتّاب المسلمين من تصدّى للسيرة النبوية المحمَّدية الطاهرة بهذه الصورة، وقلّما يوجد هناك كتابٌ يتناولُ حياة خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين بالتحليل المذكور.

بل لابدّ من القول بأنّ السيرة النبوية الطاهرة ليست هي وحدها التي حُرمت من مثل هذا النمط من التأليف والكتابة، بل شمل هذا الحرمان أكثر الحوادث التاريخية الّتي وقعت على مرّ العصور الإسلامية فهي أُدرجت في الكتب من دون دراسة موضوعية وتقييم دقيق.

نعم إنّ أوّل من فتح هذا الطريق بوجه عامّة المؤلّفين والكتّاب هو:

العلّامة المغربي «ابن خلدون»(1) فقد أسّس في مقدّمته المعروفة باسم (مقدّمة ابن خلدون) منهج التاريخ التحليلي بنحوٍ من الأنحاء.

وأمّا الطائفة الثانية من تلك الكتب فهي وإن أُلّفت على نمط التاريخ التحليلي واتّسمت بصفة التحقيق والدراسة ولكن حيث إنّ بعضهم لم يتجشّم عناء التتبّع والاستقصاء، أو أنّه اعتمد في تحليله للحوادث على المصادر غير المتقنة وغير الصحيحة، فقد تورّط في أخطاء فظيعة محيّرة، وأكثر مؤلفات المستشرقين - الّتي لم تكتَب في الأغلب بهدف التوصّل إلى الحقيقة - من هذا النمط، ومن هذه القُماشة.

ص:18


1- . هو القاضي عبدالرحمن بن محمَّد الحضرمي المالكي المتوفّى عام 808 ه، ومقدّمته وتاريخه - على ما فيهما من أخطاء فظيعة في التحليل - معدودان من الكتب الجيدة المفيدة، وهما مبتكران في موضوعهما.

ولقد دأبنا في هذه الدراسة - بعد ملاحظة هذه الإشكالات - على أن نقدّم إلى القرّاء - جهد الإمكان - كتاباً يخلو عن عيوب ونقائص كلتا الطائفتين.

***

مزايا هذا الكتاب

قد لا يكون من الضروري بيان مزايا هذا الكتاب، واستعراض امتيازاته في مقدّمته، فذلك أمرٌ ينبغي أن يقف عليه القارئ الكريم بنفسه ضمن مطالعته لهذه الدراسة، إلّاأنّه إلفاتاً لنظر القارئ نشير إلى مزيتين هامّتين هما:

الأُولى: أنّنا عمدنا - في هذا الكتاب - إلى تناول وبيان الحوادث والوقائع المهمّة الّتي تنطوي على قَدَر أكبر من الفائدة، والعبرة، وأعرضنا صفحاً عن ذكر الأحداث الجزئية، والوقائع الصغيرة مثل الكثير من السرايا.

ثم إنّنا أخذنا الحوادث التاريخية هذه من المصادر الأصلية، والأوّلية، الّتي دُوِّنت في القرون الإسلامية المشرقة الأُولى، فقد استخلصنا الحادثة من مجموعة تلك المصادر، ثم أشرنا إلى مصدر أو مصدرين من المصادر الّتي ذكرت الحادثة بصورة أكثر تفصيلاً ودقّة.

وربّما يظن بعضُ القرّاء الكرام أنّنا اكتفينا في نقل الحوادث والوقائع بمراجعة مصدر أو مصدرين ممّا ذكرناه في هامش الصفحة، في حين أنّ الواقع هو غير هذا، فنحن قد راجعنا حتّى في نقل الحوادث مهمّا صغرت، أكثر المصادر الأصلية المعروفة، وبعد التحقّق والتثبّت منها، لخصّناها وذكرناها في هذا الكتاب.

ولو أنّنا أشرنا - في جميع الحوادث والوقائع - إلى جميع المصادر الّتي مررنا بها لاستأثر جدول المصادر بقسم كبير من صفحات هذا الكتاب، وهو أمرٌ من شأنه أن يبعث على الملل عند القرّاء، فلكي لا يحس القرّاء بأيّ تعَب أو مَلَل من جانب،

ص:19

ولأجل أن نحافظ على وثائقية الكتاب وأصالة أبحاثه وإتقانها من طرف آخر، اكتفينا بذكر القدر اللازم من المصادر وتجنبنا تحشيدها بتلك الصورة الممِلّة.

وأمّا المزية الثانية: فإنّنا أشرنا - ضمن فصول الكتاب - إلى الاعتراضات والإشكالات، بل وأحيانا إلى مواطن الإساءة الّتي قام بها المستشرقون المغرضون وأجبْنا على جميع الانتقادات والاعتراضات غير المبرَّرة وغير الصحيحة بأجوبة مقنعة وقاطعة وصحيحة، وجرَّدْناهم من الأسلحة الّتي شَهَرُوها في وجه الإسلام ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - كما يقول المثل - وتلك حقيقة يقف عليها القارئ الكريم بنحو أجلى في محلّها.

وعلى هذا الأساس عَمَدنا إلى ذكر رأي المؤلّفين الشيعة (في المسائل المختلف فيها بين المؤرّخين الشيعة والمؤرّخين السنّة) مع ذكر المصادر والشواهد التاريخية الواضحة والمبرهنة عليه، وأزحْنا كل ما يَدُور حول ذلك الرأي من شبهة أو إشكال، ويستهدف إنكار صحّته وحقّانيته.

ويشتمل كتابنا هذا على 66 فصلاً في جزأين.

إنّنا إذ نقدّمُ هذه الدراسة التحليليّة لشخصية وحياة خاتم الأنبياء محمّد صلى الله عليه و آله و سلم إلى القرّاء الكرام، نأمل أن يهتم بها عامّة المسلمين وخاصّة المثقفين والشّباب منهم بوجه خاصّ، ويتناولوا هذه السيرة العطرة بالمطالعة المتأنّية والتأمّل والتدبّر، ونأمل أن يستطيع شبابُنا المؤمن المتحمّس من أن يرسم خريطة حياته وحياة مجتمعه، على ضوء ما يستلهمُه ويستوحيه من سيرة وحياة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الحقبة البالغة الخطورة. واللّه وليّ التوفيق. جعفر السبحاني

26 / جمادى الآخرة / 1392 ه

ص:20

1 سيّد المرسلين في ضوء القرآن الكريم

لقد سلّط القرآن الكريم الضوء على رسول الإسلام محمَّد بن عبداللّه صلى الله عليه و آله و سلم في آيات كثيرة تناولت بيان أسمائه ونشأته وصفاته وخصاله، وبشارات الأنبياء السابقين به، وعصمته وأُمّيته، ورسالته، وخاتميته، وجهوده العظيمة التي بذلها في سبيل إبلاغ مهمّته، والخطابات الخاصّة الإلهية الموجّهة إليه، وما يجب على المؤمنين تجاهه في حياته وبعد وفاته، وما يجب عليهم تجاه أهل بيته وعترته.

ولكي تكون هذه الرؤية القرآنية الشاملة الدقيقة هي القاعدة الإساسية في دراسة الشخصية والسيرة المحمَّدية العظيمة، آثرنا إدراج طائفة من هذه الآيات في مقدّمة هذا الكتاب.

1. قوله تعالى: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» .(1)

2. قال تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» .(2)

3. قال تعالى: «وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» .(3)

4. قال تعالى: «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى * وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى

ص:21


1- . آل عمران: 144.
2- . الفتح: 29.
3- . الصف: 6.

وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى * أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَ وَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى * وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى» .(1)

5. قال تعالى: «أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ * اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» .(2)

6. قال تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ» .(3)

7. قال تعالى: «اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» .(4)

8. قال تعالى: «اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» .(5)

9. قال تعالى: «اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ» .(6)

10. قال تعالى: «فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» .(7)

11. قال تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ

ص:22


1- . الضحى: 3-8.
2- . الانشراح: 1-4.
3- . آل عمران: 81.
4- . الأعراف: 157.
5- . البقرة: 146.
6- . الأنعام: 20.
7- . الأعراف: 158.

وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .(1)

12. قال تعالى: «وَ أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» .(2)

13. قال تعالى: «وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ» .(3)

14. قال تعالى: «اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ * اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .(4)

15. قال تعالى: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى * وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى * فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى * ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى * أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى * وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى * ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى * لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» .(5)

16. قال تعالى: «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» .(6)

17. قال تعالى: «وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ

ص:23


1- . الجمعة: 2-4.
2- . النساء: 113.
3- . العنكبوت: 48.
4- . العلق: 1-5.
5- . النجم: 2-17.
6- . الحاقة: 44-47.

مُبِينٌ» .(1)

18. قال تعالى: «وَ يَقُولُونَ أَ إِنّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ» .(2)

19. قال تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ» .(3)

20. قال تعالى: «وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ» .(4)

21. قال تعالى: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» .(5)

22. قال تعالى: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .(6)

23. قال تعالى: «وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ» .(7)

24. قال تعالى: «وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» .(8)

25. قال تعالى: «إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» .(9)

26. قال تعالى: «وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً» .(10)

27. قال تعالى: «أَ لَيْسَ اللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» .(11)

28. قال تعالى: «وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» .(12)

ص:24


1- . يس: 69.
2- . الصافات: 36-37.
3- . الحاقة: 40-41.
4- . التكوير: 24.
5- . الأعلى: 6.
6- . البقرة: 137.
7- . المائدة: 67.
8- . التوبة: 74.
9- . الحجر: 95.
10- . الإسراء: 73-74.
11- . الزمر: 36.
12- . الطور: 48.

29. قال تعالى: «تِلْكَ آياتُ اللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ» .(1)

30. قال تعالى: «اُتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ» .(2)

31. قال تعالى: «وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» .(3)

32. قال تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» .(4)

33. قال تعالى: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» .(5)

34. قال تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» .(6)

35. قال تعالى: «وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .(7)

36. قال تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» .(8)

37. قال تعالى: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً» .(9)

38. قال تعالى: «وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ» .(10)

39. قال تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» .(11)

40. قال تعالى: «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .(12)

ص:25


1- . آل عمران: 108.
2- . العنكبوت: 45.
3- . الأحزاب: 2.
4- . الشعراء: 214.
5- . الحجر: 94.
6- . الحج: 49.
7- . المؤمنون: 73.
8- . الفرقان: 1.
9- . الفرقان: 56.
10- . الأنفال: 33.
11- . التوبة: 128.
12- . التوبة: 128.

41. قال تعالى: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» .(1)

42. قال تعالى: «إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ» .(2)

43. قال تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» .(3)

44. قال تعالى: «إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ» .(4)

45. قال تعالى: «كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» .(5)

46. قال تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .(6)

47. قال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ» .(7)

48. قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً * وَ داعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً» .(8)

49. قال تعالى: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً» .(9)

ص:26


1- . الأنبياء: 107.
2- . الحج: 67.
3- . الشعراء: 193-194.
4- . البقرة: 119.
5- . البقرة: 151.
6- . آل عمران: 164.
7- . الفتح: 28-29.
8- . الأحزاب: 46.
9- . سبأ: 28.

50. قال تعالى: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» .(1)

51. قال تعالى: «فَفِرُّوا إِلَى اللّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» .(2)

52. قال تعالى: «وَ أَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً» .(3)

53. قال تعالى: «وَ أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» .(4)

54. قال تعالى: «إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ» .(5)

55. قال تعالى: «لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً» .(6)

56. قال تعالى: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ» .(7)

57. قال تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ» .(8)

58. قال تعالى: «وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .(9)

59. قال تعالى: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ

ص:27


1- . سبأ: 46.
2- . الذاريات: 50.
3- . النساء: 78.
4- . النساء: 113.
5- . النساء: 163.
6- . النساء: 166.
7- . الأحزاب: 40.
8- . الأعراف: 158.
9- . يونس: 65.

وَكِيلٌ» .(1)

60. قال تعالى: «وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» .(2)

61. قال تعالى: «وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ» .(3)

62. قال تعالى: «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» .(4)

63. قال تعالى: «وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السّاجِدِينَ * وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» .(5)

64. قال تعالى: «وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» .(6)

65. قال تعالى: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» .(7)

66. قال تعالى: «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» .(8)

67. قال تعالى: «وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ * وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ * وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» .(9)

ص:28


1- . هود: 12.
2- . هود: 120.
3- . الرعد: 32.
4- . الحجر: 88.
5- . الحجر: 97-99.
6- . النحل: 127-128.
7- . الكهف: 6.
8- . طه: 130.
9- . الحج: 42-44.

68. قال تعالى: «وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً» .(1)

69. قال تعالى: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» .(2)

70. قال تعالى: «وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ» .(3)

71. قال تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» .(4)

72. قال تعالى: «وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ» .(5)

73. قال تعالى: «وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» .(6)

74. قال تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» .(7)

75. قال تعالى: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ» .(8)

76. قال تعالى: «وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ» .(9)

77. قال تعالى: «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ» .(10)

78. قال تعالى: «وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ

ص:29


1- . الفرقان: 31.
2- . الشعراء: 3.
3- . النحل: 127.
4- . الروم: 60.
5- . لقمان: 23.
6- . فاطر: 4.
7- . الأسراء: 1.
8- . فاطر: 8.
9- . فاطر: 25.
10- . يس: 76.

اَلْمَنْصُورُونَ» .(1)

79. قال تعالى: «وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ * وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» .(2)

80. قال تعالى: «وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ * وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» .(3)

81. قال تعالى: «اِصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» .(4)

82. قال تعالى: «أَ لَيْسَ اللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» .(5)

83. قال تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ» .(6)

84. قال تعالى: «وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ» .(7)

85. قال تعالى: «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» .(8)

86. قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى

ص:30


1- . الصافات: 171-172.
2- . الصافات: 173-175.
3- . الصافات: 178-179.
4- . ص: 17.
5- . الزمر: 36.
6- . المؤمن: 55.
7- . الأنعام: 52.
8- . الكهف: 28.

أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .(1)

87. قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيماً» .(2)

88. قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .(3)

89. قال تعالى: «وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ

ص:31


1- . النور: 62-63.
2- . الأحزاب: 53.
3- . الحجرات: 1-5.

لَعَنِتُّمْ وَ لكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ» .(1)

90. قال تعالى: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .(2)

91. قال تعالى: «وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» .(3)

92. قال تعالى: «وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .(4)

93. قال تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .(5)

94. قال تعالى: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» .(6)

95. قال تعالى: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً» .(7)

96. قال تعالى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .(8)

97. قال تعالي: «فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .(9)

98. قال تعالى: «إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا

ص:32


1- . الحجرات: 7.
2- . القلم: 4.
3- . الحجر: 88.
4- . الشعراء: 215.
5- . التوبة: 129.
6- . آل عمران: 159.
7- . الأحزاب: 21.
8- . آل عمران: 31.
9- . النساء: 65.

عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً» .(1)

99. قال تعالى: «إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ * إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» .(2)

100. قال تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (3).(4)

ص:33


1- . الأحزاب: 56.
2- . الكوثر: 1-3.
3- . الأحزاب: 33.
4- . ولقد بحث سماحة الأُستاذ العلّامة المحقّق الشيخ جعفر السبحاني دام ظلّه صاحب هذه المحاضرات، حول جميع هذه الآيات ونظائرها في دراسة معمّقة وشاملة في الجزء السابع من موسوعته «مفاهيم القرآن»، فراجع.

2 شبه الجزيرة العربية أو مَهْد الحضارة الإسلامية

اشارة

تقع شبه الجزيرةُ العَربية في الجنوب الغربي من قارة آسيا، وتبلغ مساحتُها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع، أي ضِعف مساحة إيران، وستة أضعاف فرنسا، وعشرة أضعاف إيطاليا، وثمانين ضِعف سويسرا.

ويَحدُّ شبه الجزيرة - الّتي هي أشبه ما يكون بمستطيل غير متوازي الأضلاع - من الشمال فلسطين وصحراءُ الشام، ومن الشرق الحيرة ودجلة والفرات والخليج الفارسي، ومن الجنوب المحيط الهندي والبحر العربي، ومن الغرب البحر الأحمر.

وعلى هذا يحاصر هذه الجزيرة من الغرب والجنوب البحر، ومن الشمال والشرق الصحراء، والخليج.

وقد جرت العادة بتقسيم هذه المنطقة من القديم إلى ثلاثة أقسام:

1. القسم الشمالي والغربي ويُسمّى بالحجاز.

2. القسم المركزي والشرقي ويُسمّى بصحراء العرب.

3. القسم الجنوبي ويُسمّى باليمن.

وتُشكّل داخلَ شبه الجزيرة هذا صحاري كبيرة، ومناطق شاسعة رملية حارة، وغير قابلة للسكنى تقريباً، ومن جملة هذه الصحارى صحراء «بادية السماوة» الّتي تُسمّى اليوم بصحراء «النفوذ»، وصحراء أُخرى واسعة الأطراف تمتد إلى الخليج الفارسيّ يُطلق عليها اليوم اسم «الربع الخالي» وقد كان يُسمّى قسمٌ من هذه

ص:34

الصحارى سابقاً بالأحقاف، ويُسمّى القسم الآخر بالدهناء.

فعليه فالصحارى تُشكّل ثُلث مساحة شبه الجزيرة العربية، هي أراضي خالية من الماء والعشب وغير قابلة للسكنى، اللهم إلّابعض المياه المتجمّعة بسبب تساقط الأمطار، فيجتمع حولها بعض القبائل العربية بعض الوقت، ويرعون فيها إبلهم وأنعامهم ردحاً قليلاً من الزمن.

وأمّا حالة المناخ في شبه الجزيرة العربية، فالهواء في الصحاري والأَراضي المركزية (الوسطى) حارٌ وجافٌ جداً، وفي السواحل مرطوبٌ، وفي بعض النقاط معتدلٌ، وبسبب رداءة الطقس فعدد السكّان بالنسبة للمساحة قليل جدّاً.

وتوجد في هذه الجزيرة سلسلة جبال تمتد من الجنوب إلى الشمال، ويقارب ارتفاع أعلى قممها 2470 متراً.

وقد كانت معادن الذهب والفضة والأحجار الكريمة تشكل مصادر الثروة في شبه الجزيرة العربية منذ القدم، وكان سكّانها يعتنون - من بين الأنعام والحيوانات - بتربية الإبل والفرس أكثر من غيرهما، ومن بين الطيور بالحمام والنعامة أكثر من الطيور الأُخرى.

بيد أنّ أكبر مصدر للثروة في الجزيرة العربية اليوم يأتي عن طريق استخراج النفط.

وتعتبر مدينة «الظهران» - الّتي يُسمّيها الأُوربيّون بالدهران - المركز النفطي الرئيسي في هذه الجزيرة، وتقع هذه المدينة في منطقة الأحساء الّتي تقع في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية على حدود الخليج الفارسي.

ولكي يتعرّف القارئ الكريم على الأَوضاع في شبه الجزيرة العربية بنحو أكثر تفصيلاً فإنّنا نعمد إلى شرح الأقسام الثلاثة المذكورة:

ص:35

1. «الحجاز» وهي المنطقة الّتي تشكل القسم الشمالي والغربي من الجزيرة العربية وتمتد أراضيها على ساحل البحر الأحمر ابتداء من فلسطين وحتّى حدود اليمن.

والحجاز منطقة جبلية، وذات صحار قاحلة، وأراض حجرية، وصخرية، يكثر فيها الحصى.

ولقد كانت هذه المنطقة - في التاريخ - أكثر شهرة من غيرها، ومن المعلوم أنَّ هذه الشهرة جاءت بسبب جملة من العوامل المعنوية والدينية، فهي الآن تضمّ بين جوانحها بيت اللّه الحرام «الكعبة المعظمة»، قبلة ملايين المسلمين، ومهوى أفئدتهم.

وقد كانت البقعةُ الّتي تقوم عليها «الكعبة المعظمة» تحظى منذ سنوات مديدة قبل بزوغ الإسلام باحترام العرب وغيرهم، ولهذا حَرَّموا القتال حول الكعبة تعظيماً لها، حتّى إذا جاء الإسلام أقَرَّ للكعبة ولما حولها، مثل ذلك الاحترام، والتعظيم أيضاً.

ومن أهمّ مُدن الحجاز: «مكّة» و «المدينة» و «الطائف»، وكان للحجاز منذ القديم ميناءان هما: ميناء «جدّة» الّذي يستخدمه أهل مكّة، وميناء «ينبع» الّذي يستخدمه أهلُ المدينة، في سَدِّ الكثير من إحتياجاتهم، ويقع هذان الميناءان على ساحل «البحر الأحمر».

مَكةُ المعظمة

وهيَ من أَشهر مُدُن العالم وأكثر المُدُن الحجازية سُكّاناً، وترتفع عن سطح البحر بما يقارب 300 متر.

ص:36

وإذ تقع مدينة «مكّة» بين سلسلتين من الجبال لذلك فإنّها لاتُرى من بعيد.

تاريخ مكّة

يبدأ تاريخ «مكّة المكرمة» من زمن النبيّ إبراهيم الخليل عليه السلام، فقد أسكن هذا النبيُّ ولده «إسماعيل» مع أُمّه «هاجر» في أرض مكّة، فنشأ اسماعيل هناك، وتزوّج من إحدى القبائل الّتي سكنت على مقربة من تلك المنطقة، الّتي تعرف ب: قبيلة جرهم.

ثم إنّ إبراهيم عليه السلام بنى وبأمر من اللّه تعالى البيت الحرام «الكعبة».

وتقول بعض الروايات الصحيحة: إنّ الكعبة بُنيت على يد النبيّ نوح عليه السلام وإنّ إبراهيم عليه السلام جدّد بناءها.

وهكذا نشأت وبعد هذا تأسّست مدينة مكّة.

وتتكوّن نواحي «مكّة» من أراض سبخة شديدة الملوحة غير قابلة للزراعة أصلاً، حتّى أنّ بعض المستشرقين يذهب إلى أنّه لا يوجد أية منطقة في العالم في رداءة أوضاعها الجغرافية والمحيطية والطبيعية، مثل هذه المنطقة.

المَدينةُ المنوَّرةُ

وهي مدينة تقع في شمال مكّة وتبعد عنها ب: 90 فرسخاً تقريباً (الفرسخ يساوي 5,5 كيلومتراً تقريباً) وتحيط بها بساتين ومزارع ونخيل وافرة، وأرضها صالحة للزراعة.

وكانت المدينة المنوّرة تُسمّى قبل الإسلام ب «يثرب»، وبعد أن هاجر إليها رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم سُمّيت بمدينة الرسول، ثم اطلقت عليها لفظة «المدينة» مجرّدة، تخفيفاً.

ص:37

ويحدّثنا التاريخ أنّ العمالقة كانوا أوّل من سكن هذه الديار، ثم خلف العمالقة طائفة اليهود، والأوس والخزرج الذين سُمِّي المسلمون منهم بالأَنصار فيما بعد.

هذا وقد سلمت الحجاز - على عكس سائر المناطق - من طمع الطامعين وغزو الغزاة والفاتحين، ولم نشاهد فيها أي شيء من آثار حضارة الامبراطوريتين العظيمتين آنذاك قبل الإسلام: الروم والفرس، وذلك لأنها كانت تتألَّف من أراض قاحلة مجدبة غير قابلة للسكنى والعيش فلم تحظ باهتمام أحد من أُولئك الفاتحين حتّى يفكّر في تسيير العساكر، وتجييش الجيوش لفتحها ليعود بعد تحمّل الكثير من المشاكل الّتي تستلزمها عملية الاستيلاء على أراضي تلك المنطقة، خالي الوفاض صفر اليدين.

وللوقوف على هذه الحقيقة اقرأ القصة التالية التي نقلها «ديودرس».

عندما دخل ديميتريوس القائد اليوناني الكبير «بطرا» (وهي مدينة قديمة من مدن الحجاز) بهدف فتح جزيرة العرب خاطبهُ سكّانُ تلك المدينة قائلين:

لماذا تحاربنا أيها الملك ديميتريوس ونحن من سُكان الصحارى الّتي لا تُسدُّ فيها خلّة، ترانا نقطن في هذه البقاع القاحلة فراراً من العبودية. إقبل هديتنا، وارجع إلى حيث كنت، سنكون من أوفى الأصدقاء لك، ولكنّك إذا رغبت في حصرنا حُرِمْتَ كلّ هناءة، ورأيت عجزك عن إكراهنا على تبديل طرق حياتنا الّتي تعوَّدناها منذ نعومة أظفارنا، وإذا قدرت على أسر بعضنا أيقنت أنّك لن تجد واحداً ممّن أسرت يستطيع أن يألف حياة غير الّتي ألفناها.

هنالك رأى ديميتريوس أن يقبل هديتهم وأن يرضى بالمآب.(1)

ص:38


1- . حضارة العرب تأليف غوستاف لوبون: 91-92 ترجمة عادل زعيتر.

2 - المنطقة الوسطى والشرقية، التي تُسمّى ب «صحراء العرب»، ومنطقة «نجد» الّتي هي جزء من هذه المنطقة، وهي أرض مرتفعة يقوم فيها بضع قُرى صغيرة معدودة.

ولقد أصبحت الرياضُ - الّتي اتّخذها السعوديون عاصمة لهم بعد سيطرتهم على البلاد - من المراكز المهمة في هذه الناحية من الجزيرة.

3 - المنطقة الجنوبية الغربية من الجزيرة العربية، والّتي تسمى ب «اليمن» وتمتد طولاً من الشمال إلى الجنوب حوالي (750) كيلومتراً ومن الغرب إلى الشرق حوالى (400) كيلومتر.

وتقدر مساحة هذا البلد بستين ألف ميل مربع تقريباً، ولكنّها كانت - قبل ذلك - أوسع من هذا القدر، وقد كان قسم منها (وهوعدن) خلال النصف الأوّل من القرن الأخير تحت الانتداب البريطاني، ومن هنا ينتهي شمالاً إلى نجد، وجنوباً إلى عدن، وغرباً إلى البحر الأَحمر وشرقاً إلى صحراء الربع الخالي.

ومن مُدُن اليمن المعروفة مدينة «صنعاء» التاريخية العريقة، ومن موانئها المشهورة ميناء «الحديدة» الواقع على البحر الأحمر.

واليمن من أكثر مناطق الجزيرة العربية خصوبة وبركة، ولها تاريخ مشرقٌ وعريق في المدنية والحضارة، فقد كانت اليمن مقرّاً لملوك تُبَّع، الذين حكموا اليمن سنيناً طويلة، وكانت اليمن قبل الإسلام مركزاً تجارياً مهمّاً، وهي في الحقيقة ملتقى طرق الحجاز، اشتهرت في العصور القديمة بمناجم الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، وكانت تصدّر إلى خارج البلاد.

ولا تزال آثار الحضارة اليمنية القديمة باقية إلى الآن.

ولقد قام أهلُ اليمن الاذكياء ببناء الدور والعمارات العالية والجميلة بهممهم

ص:39

العالية في عصور كان البشر يفقد فيها الوسائل الثقيلة، والأجهزة المعقّدة.

كان ملوك اليمن يحكمون البلاد دون أي منازع، إلّاأنهم رغم ذلك لم يكونوا يمتنعون عن تنفيذ ما رسمه حكماء اليمن ورجالهم من أنظمة وقوانين للحكم وإدارة البلاد آنذاك.

ولقد سبقوا الآخرين في الزراعة والفلاحة، ووضعوا لإحياء الأراضي وزراعتها، نظاماً دقيقاً للريّ طبقوا بنوده بدقّة، ولهذا كانت بلادهم تعدّ - آنذاك - من البلدان الراقية المتقدّمة من هذه الناحية.

فها هو «غوستاف لوبون» المؤرّخ الفرنسي المعروف يكتب حول اليمن قائلاً: وهي أغنى جزيرة العرب وأخصبها وأكثرها سكاناً، وهي أهم جزء من البقاع الّتي كان يسمّيها القدماء! بلاد العرب السعيدة.(1)

ويكتب الإدريسيّ المؤرّخ المعروف الّذي كان يعيش في القرن الثاني عشر حول «صنعاء» قائلاً: كانت صنعاء مقر ملوك اليمن، وعاصمة جزيرة العرب، وإنّه كان لملوكها قصر متين شهير، وأنّها كانت تشتمل على بيوت مصنوعة من الحجارة المنحوتة(2).

هذه الآثار العجيبة الّتي عثر عليها المستشرقون وعلماء الآثار في تنقيباتهم الأخيرة تثبت حضارة عجيبة لليمن في عصورها القديمة وذلك في مختلف نواحيها مثل «مأرب» و «صنعاء» و «بلقيس».

ففي مدينة مأرب (وهي مدينة سبأ المعروفة) قصور نضرة ذات أبواب عسجدية، وآينة من ذهب وفضة وسرر من المعادن الثمينة. وقال أرتيميدور: إنّ

ص:40


1- . حضارة العرب: 55.
2- . نزهة المشتاق في اختراق الآفاق على ما في حضارة العرب: 55.

قصورها ذات سقوف مزخرفة بالذهب والعاج والحجارة الثمينة، وذات أثاث فاخر وآنية منقوشة.(1)

ومن آثار «مأرب» التاريخية السدُّ المعروفُ باسم ذلك البلد والّذي لا تزال أطلاله باقية، وهو السدّ الّذي تهدَّم بسبب السيل الّذي سماه القرآن الكريم بسيل العَرِم.

وقد جاء ذكر سبأ في قوله تعالى:

«لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ * وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيّاماً آمِنِينَ * فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ» (2).(3)

ص:41


1- . حضارة العرب: 94.
2- . سبأ: 15-19.
3- . للوقوف على المزيد من المعلومات عن اليمن قديماً وحديثاً، راجع الكتب المؤلّفة حول جغرافية العالم الإسلامي.

3 العَرَب قبلَ الإسلام

اشارة

لمعرفة أوضاع العرب قبل الإسلام يمكن الرجوع إلى المصادر التالية:

1. التوراة، رغم ما فيها من تحريف.

2. كتابات اليونانيين والروميين في القرون الوسطى.

3. الكتابات التاريخية الّتي كتبها علماء الإسلام ومؤلّفوه.

4. الآثار القديمة الّتي عثر عليها المستشرقون في تنقيباتهم والّتي استطاعت من أن تكشف النقاب عن طائفة لا يُستهان بها من الحقائق في هذا الصعيد.

إلّا أنّه مع وجود كلّ هذه المصادر والمراجع لا تزال هناك نقاطٌ كثيرةٌ عن تاريخ العرب في القرون البعيدة تعاني من الغموض.

ولكن حيث إنَّ دراسة أوضاع العرب قبل الإسلام هي من باب المقدّمة في هذا الكتاب، والهدف الأساسي إنّما هو دراسة السيرة النبوية الطاهرة، من هنا نكتفي في هذا الفصل باستعراض النقاط الخاصّة والواضحة من حياة العرب قبيل الإسلام على أنّنا يمكننا أن نقف على وصف دقيق لحالة العرب خاصّة قبيل بزوغ الإسلام من خلال مصدرين إسلاميّين أساسيّين هما:

1. القرآن الكريم.

2. ماورد عن الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة.

فقد وردت في هذين المصدرين تصريحاتٌ ونصوصٌ صريحة تكشف

ص:42

عمّا كان عليه العرب في الجاهلية من سوء الأحوال والأوضاع والأخلاق في جميع الأصعدة والأبعاد، وسنشير إلى أبرز هذه النصوص ونقف عندها بعض الشيء، ولكنّنا نستعرض قبل ذلك شيئاً من تاريخ العرب في القرون البعيدة فنقول:

إنّ من المسلَّم به أنّ شبه الجزيرة العربية كانت منذ أقدم العصور موطناً لقبائل كثيرة انقرض بعضها بمرور الأيام، وفي ثنايا الأحداث، بيد أنّ هناك ثلاث قبائل قد تشعَّبتْ عنها أفخاذٌ وفروعٌ تحظى بشهرة أكثر من بين مَن سكنوا هذه المنطقة.

وهذه القبائل الأُمّ هي:

1. العرب البائدة: وإنما سُمّيت بالبائدة لأنّها أُبيدت بالعذاب الإلهي السماويّ أو الأرضيّ بسبب عصيانها وتمرّدها، وهلكت شيئاً فشيئاً، ولم يبق على وجه الأرض من نسلهم أحد!

ولعلّهم كانوا هم المعنيون بقوم «عاد» و «ثمود» الذين جاء ذكرُهم في القرآن الكريم مراراً.

2. القحطانيّون: وهم أبناء يَعرُب بن قحطان الذين كانوا يقطنون في «اليمن» وسائر المناطق الجنوبية من الجزيرة العربية ويُسمّون بالعرب الأُصلاء، وهم اليمنيون اليوم، ومنهم قبائل الأوس والخزرج وهما قبيلتان كبيرتان كانتا تقطنان المدينة المنورة إبان ظهور الإسلام.

وقد كان للقحطانيّين حكومات كثيرة، كما كانت لهم جهودٌ كبرى في تعمير أرض اليمن وإحيائها، وقد تركوا من ورائهم حضارات ومدنيّات لا يستهان بها.

وتوجد الآن كتابات تُقرأ بصورة علمية توضّحُ إلى حدّ كبير تاريخ

ص:43

القحطانيّين وكلُ ما يقال عن مدنيّة العرب وحضارتهم قبل الإسلام تعود في الحقيقة إلى هذه الطائفة وخاصة من سكَنَ منهم أرضَ اليمن.

3. العدنانيّون: وهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السلام، وسوف يأتي ذكر جذور هذه الطبقة في الأبحاث القادمة. وخلاصة ذلك: أنّ إبراهيم الخليل عليه السلام أُمِرَ أن يسكن وَلده الرضيع إسماعيل مع زوجته «هاجر» أُم اسماعيل في أرض مكّة، فخرج بهما إبراهيم عليه السلام من «فلسطين» وهبط بهما في ذلك الوادي العميق الخالي من الماء والعشب «مكّة» ثم إنّ يد العناية الإلهية امتدّت إلى تلك العائلة المهاجرة، وجادت عليها بعين «زمزم» الّذي جلب الرواء والحياة إلى تلك المنطقة القاحلة الضامئة. ثم تزوّج إسماعيل من قبيلة «جُرهُمْ» الّتي خيّمت بالقرب من مكّة، وأصاب من هذا الزواج عدداً كبيراً من الأبناء، والأحفاد، وأحفاد الأحفاد كان من جملتهم «عدنان» الّذي ينتهي نسب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إليه.

ثم تشعَّبت ذريةُ إسماعيل إلى بطون وأفخاذ، وعشائر وقبائل عديدة، كان من بينها قبيلة قريش الّتي حظيت بشهرة أكبر، ومنها عشيرة بني هاشم الّتي انحدر منها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما ستعرف ذلك بالتفصيل، عمّا قريب.

أخلاقُ العرب وتقاليدُهم العامّة

والمراد منها هو الأَخلاق والآداب الاجتماعية الّتي كانت سائدة في ذلك المجتمع، وقد سادت بعض هذه الأخلاق والعادات والتقاليد في المجتمع العربي عامّة.

ويمكن تلخيصُ ما كانَ العربُ يتمتعون به من أخلاق وصفات حسنة عامّة في ما يلي:

ص:44

لقد كان العرب زمن الجاهلية وبخاصّة ولد «عدنان» أسخياء بالطبع، يكرمون الضيف، وقلّما يخونون الأمانة، لا يغتفرون نقض العهود، ولا يتهاونون مع من يتنكّر للمواثيق، يضحّون في سبيل المعتقد، ويتحلّون بالصراحة الكاملة، وربّما وجد فيهم مَن تمتع بذكاء لامع، وذاكرة خارقة يحفظ بها الأشعار والقصائد الطوال، والخطب المفصّلة.

هذا إلى جانب براعتهم في فن الشعر والخطابة بحيث لم يسبقهم في ذلك غيرهم، وإلى جانب أنّهم كانوا مضرب المثل في الشجاعة والجرأة، والمهارة في الفروسية والرمي.

وكانوا يرون الفرار والإدبار في الحرب عاراً لازماً، وصفة ذميمة يلام صاحبها بسببها أشدّ اللوم.

ولكن في مقابل ذلك كلّه كانوا يعانون من مفاسد أخلاقية تطغى على كلّ كمال عندهم، وتنسي كلّ فضيلة.

ولولا تلك الكوّة المباركة الّتي فتحت عليهم من عالم الغيب، لطويت صفحة حياتهم الإنسانية على القطع واليقين.

أي لو لم تبزغ شمس الإسلام في أواسط القرن السادس الميلادي، ولم تسطع أشعتها الباعثة على الحياة، على عقولهم وقلوبهم لما رأيت اليوم من العرب العدنانيين أيُّ أثر، ولتكرّرت مقولة العرب البائدة مرّة أُخرى!

لقد حَوَّل فقدان القيادة الرشيدة، وغياب الثقافة الصحيحة حياة العرَب، من جانب، وانتشار الفساد والفحشاء من جانب آخر إلى حياة حيوانية مُزرية حتّى أنّ صفحات التاريخ تروي لنا أخباراً وقصصاً مفصّلة عن حروب دام بعضها خمسين عاماً، وبعضها الآخر مئة عام قد نشبت بين القبائل العربية لأسباب بسيطة ودوافع تافهة جدّاً.

ص:45

لقد أدّى عدم سيادة النظام والقانون على الحياة العربية، وعدم وجود حكومة قويّة مسيطرة على الأوضاع، تُوقف البغاة والمتمرّدين عند حدودهم، إلى أن يعيش العرب - آنذاك - في صورة القبائل الرُحّل، ويرحلوا في كلّ سنة إلى منطقة معيّنة من الصحراء التماساً للعشب والماء لأنفسهم ولأنعامهم، فإذا عثروا على ماء وعُشب أو شيء من آثار الحياة نزلوا عنده، وأنزلوا رحالهم بجواره، فإذا سمعوا عن وجود مكان أفضل استأنفوا رحلتهم الصحراوية التماساً لحياة أكثر بركة، وعطاء، وأوفر خصباً وأمناً. هذه الحيرة وهذا الضياع وعدم الاستقرار كان ناتجاً من أمرين:

الأوّل: سوء الأوضاع الجغرافية ورداءة الأحوال الطبيعية للجزيرة العربية، وخاصّة من حيث الماء والمناخ والمراعي.

والثاني: الحروب والمصادمات الدمَوية الكثيرة، واضطراب الأحوال الاجتماعية، الّتي كانت تُلجئ جماعات كثيرة إلى التنقل الدائم والرحيل عن الأوطان ومغادرتها، وعدم الاستقرار في منطقة واحدة.

هل كانَ للعرب حضَارةٌ قبل الإسلام؟

يستنتج مؤلّف كتاب «حضارة العرب» من دراسته لأوضاع العرب في الجاهلية أنّهم كانوا أصحاب حضارة عريقة سبقت الإسلام بقرون.

فالقصور الضخمة الّتي أقاموها في مختلف نقاط ومناطق الجزيرة العربية، والعلاقات التجارية الّتي كانت لهم مع أرقى شعوب الأَرض، شواهد قوية على تمدّنهم وحضارتهم الغابرة، لأنّ قوماً أنشأوا المدن العظيمة - قبل الرومان بقرون كثيرة - وكانت علاقاتهم بأرقى وأكبر شعوب الأرض وثيقة، لا يمكن عدّهم همجاً، وشعباً بلا حضارة.

ص:46

ثم إنّه يستدل - في موضع آخر من كتابه - على حضارة العرب الغابرة بآدابهم ووحدة وكمال لغتهم إذ يقول:

«ولو كان التاريخ صامتاً إزاء حضارة لقطعنا - مع ذلك - بوجودها قبل ظهور «محمَّد» بزمن طويل، ويكفي لتمثّلها أن نذكر أنّه كان للعرب آداب ناضجة ولغة راقية.

والحق أنَّ الآداب واللغة من الأُمور الّتي لا تأتي عفواً، وهي تتّخذ دليلاً على ماض طويل، وينشأ عن اتّصال أُمّة بأرقى الأُمم اقتباسُها لما عند هذه الأُمم الراقية من التمدّن إذا كانت أهلاً لذلك».

وقد خَصَّصَ المؤلّفُ المذكور صفحات عديدة في كتابه لإثبات حضارة عريقة وعظيمة للعرب قبل الإسلام معتمداً في ذلك على ثلاثة أُمور:

1. وجود لغة راقية.

2. وجود علاقات مع الأُمم الراقية.

3. وجود قصور وأبنية ضخمة، وفخمة في اليمن كما يصفها المؤرّخان المسيحيان المعروفان «هيردوتس» و «ارتميدور» اللذان كانا يعيشان قبل المسيح بقرون، وقدامى المؤرخين المسلمين كالمسعودي(1).

لا كلام في أنّه كانت هناك في بعض مناطق الجزيرة العربية بعضُ حضارات، ولكن الأدلّة الّتي استند اليها المؤلفُ المذكورُ لا يمكن أن تكون شاهداً ودليلاً على وجود الحضارة في جميع نقاط الجزيرة العربية أبداً.

صحيح أنّ تكامل اللغة يسير جنباً إلى جنب مع غيره من مظاهر المدنيّة، ولكن لا يمكن أن نعتبر اللغة العربية لغة مستقلة وغير مرتبطة باللغات الأُخرى، أي

ص:47


1- . لاحظ: حضارة العرب: 78-100.

العبرانية والسريانية والآشورية والكلدانية، لأنّ جميع هذه اللغات - حسب ما يؤيّده ويؤكّده المتخصّصون في علم اللغات - كانت ذات يوم متّحدة الأصل، وقد تشعّبت من لغة واحدة، وفي هذه الحالة يحتمل أن تكون اللغة العربية قد حقّقت تكاملها عبر اللغة العبرانية أو الآشورية، وبعد تكاملها أصبحت لغة مستقلة، أي أنّ الآخرين أسهموا في تكميلها.

كما أنه لا شكّ أنّ وجود علاقات تجارية مع الأُمم والشعوب الراقية هو الآخر دليل على الحضارة والمدنية، إلّاأنّه هل كانت جميع مناطق الجزيرة العربية تملك مثل هذه العلاقات، أم إنّ أكثرها كانت محرومة من ذلك؟

هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى فإنّ وجود علاقات بين حكومتين في الحجاز وهما:

«الحيرة وغسّان» وبين حكومتي «الفرس» و «الروم» لا يدل أبداً على وجود حضارة في المنطقتين الحجازيتين، إذ أن جميع هذه الحكومات كانت متّصفة بالعمالة، فإنّ الكثير من البلاد الافريقية هي اليوم من مستعمرات الدول الأُوربية ومع ذلك لا توجد فيها أيّة مؤشرات ولا أيّة مظاهر من الحضارة الغربية الواقعية. طبعاً لا يمكن إنكار حضارة «سبأ ومأرب اليمن» العجيبة لأنّه مضافاً إلى ما جاء حول هذه الحضارة في التوراة، وما نُقِلَ عن «هيردوتس» وغيره، كتبَ المؤرّخ المعروفُ «المسعودي» عن مأرب يقول: إنّ أرض سبأ كانت من أخصب أرض اليمن وأَثراها وأغدقها، وأكثرها جناناً وغيطاناً وأفسحها مُروجاً، مع بُنيان حسن، وشجر مصفوف، ومساكب للماء متكاثفة، وأنهار وأزهار متفرّقة، وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجدّ على هذه الحالة، وفي العرض مثل ذلك، وأنّ الراكب والمارّ كان يسير في تلك الجنان من أوّلها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا تواجهه الشمس ولا تعارضه لاستتار الأرض بالعمارة الشجرية واستيلائها عليها وإحاطتها

ص:48

بها، وكان أهلها في أطيب عيش وأرفهه، وأهنأ حال وأرغد قرى، وفي نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء، وتدفُّق الماء وقوة الشوكة، واجتماع الكلمة، ونهاية المملكة... فذلّت لهم البلاد، وأذعن لطاعتهم العباد فصاروا تاج الأرض.(1)

وخلاصة القول: إنّ هذه الدلائل لا تدلّ على وجود حضارة في كلّ مناطق الجزيرة العربية وخاصّة منطقة الحجاز الّتي لم تذق طعم الحضارة أبداً، حتّى أنّ «غوستاف لوبون» نفسه يعترف بهذه الحقيقة إذ يقول: إنّ جزيرة العرب نجَتْ من غزو الأجنبي خلا ما أصاب حدودها الشمالية، وإنّ عظماء الفاتحين من مصريّين وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم ممّن انتهبوا العالم لم يَنالوا شيئاً من جزيرة العرب الّتي أوصدت دونهم أبوابها.(2)

وعلى فرض صحّة كلّ ما قيلَ عن وجود حضارة شاملة في جميع مناطق الجزيرة العربية فإنّه يجب القول بأنّ القدر المسلَّم في هذا المجال هو أنّه لم يبق أي أثر من هذه الحضارات في منطقة الحجاز، إبان طلوع الإسلام، وبزوغ شمسه، وهي حقيقة يصرّح بها القرآن الكريمُ إذ يقول تعالى: «وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» .(3)

وينْبغي هنا أن نقف عند القرآن الكريم قليلاً - كما وعَدْنا بذلك - فإنّه خير مرآة تعكس أحوال العرب وأوضاعهم بدقّة متناهية وبشمولية ماوراءها شمولية.

ملامح المجتمع الجاهلي العربي من منظار القرآن الكريم

اشارة

إنّ القرآن يكشف إجمالاً عن أنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بُعِثَ إلى قوم لم يبعث إليهم

ص:49


1- . مروج الذهب: 2/161 و 162.
2- . حضارة العرب: 93.
3- . آل عمران: 103.

أحدٌ قبله إذ يقول: «وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .(1)

ويقول في آية أُخرى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» .(2) ومن المعلوم أنّ المقصود في هاتين الآيتين ونظائرهما هم قريش والقبائل القريبة منها.

على أنّ أشمل وصف قرآنيّ لأوضاع المجتمع العربي الجاهلي وأحواله هو قول اللّه تعالى: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» .(3)

فإنَّ هذه الآية تصوّرُ حياة العرب تصويراً مرعباً، إذ تُصوِّرُهُمْ أوّلاً وكأنّهم قد سقطوا في قعر بئر الجاهلية، والضلال، والشقاء، فلا ينقذهم شيء من قعر التردّي والسقوط إلّاالتمسُّك بحبل اللّه، حبل الإيمان والقرآن.

وتصوِّرُهُمْ ثانياً وكأَنّهم على شفير جهنم يوشك أن يسقطوا فيه ويهووا في نيرانه، وليست تلك النار إلّانيران العداوات والحروب الّتي لو لم يقض عليها الإسلامُ بتعاليمه لأحرقت حياة العرب جميعاً.

هذه هي صورةٌ سريعةٌ عمّا كان عليه العرب في الجاهلية من جهل وتردّي.

وأمّا تفصيل ذلك فيمكن الوقوف عليه بمراجعة الآيات الأُخرى التي تعرضت لذكر عادات العرب وأخلاقهم، وأفعالهم، وتقاليدهم، بصورة مفصّلة، وها نحن نشير هنا إلى تلكم العادات والأخلاق الفاسدة على ضوء تلك الآيات على

ص:50


1- . القصص: 46.
2- . السجده: 3.
3- . آل عمران: 103.

نحو الاختصار تاركين التوسّع في ذلك إلى مجال آخر.

لقد اتّصف المجتمعُ العربيُ الجاهلي قبل الإسلام وشاعت فيه أخلاق وعادات من أبرزها مايلي:

1. الشِرْكُ في العِبادة

صحيح أنّ العرب في الجاهلية كانت - كما يكشف القرآن ذلك لنا - موحِّدة في جملة من الأُمور والمجالات كالخالقية والذات،(1) إلّاأنّهم كانوا - في الأكثر - مشركين في العبادة، بل قد ذَهبُوا في هذا السبيل الباطل إلى أحطَّ المستويات في اتّخاذ المعبودات والوثنية.

وإلى ذلك يشير قوله تعالى: «وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَصِفُونَ» .(2)

وقوله تعالى: «أَ فَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَ الْعُزّى * وَ مَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى» .(3)

وغير ذلك من الآيات الّتي تشير إلى ما كانَ يعبُدُه الجاهِليُّون مِن أوثان وأصنام ومبلغ ما وصلوا إليه من انحطاط، واسفاف وانحراف في هذا المجال.

2. إنكارُ المعاد

كان المشركون والجاهليّون يرفُضُون الاعتراف بالمعاد الّذي يعني عودة الإنسان إلى الحياة في عالم آخر للحساب والجزاء، ويصفون مَن يخبر عن ذلك

ص:51


1- . نعم يُستَفاد من آيةٍ واحدةٍ أنّه كان هناك اتجاهٌ نادرٌ بين العرب في الجاهلية ينسب الظواهرالطبيعية إلى الطبيعة والدهر يقول اللّه تعالى: وَ قالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ» (الجاثية: 24).
2- . الأنعام: 100.
3- . النجم: 19 و 20.

اليوم بالجنون أو الكذب على اللّه!!

يقول تعالى: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ» .(1)

3. هَيْمَنةُ الخرافات

لقد كانت حياة العرب الجاهلية مليئةً بالخرافات الّتي كان منها تحريمهم الأكل من أنعام أربعة ذكرها القرآن مندّداً بهذه البدعة إذ قال: «ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» .(2)

البحيرة على وزن فعيلة بمعنى المفعول من البحر وهو الشق، وبحرت أُذن الناقة أبحرها بحراً: إذا شققتها شقاً واسعاً. وهي الناقة إذا كانت نتجت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكراً - وقيل أُنثى - بحروا أُذنها وامتنعوا من ركوبها ونحرها، ولا تُطرد عن ماء، ولا تُمنع من مرعى، وإذا لقيها المعيى لم يركبها.(3)

والسائبة: على وزن فاعلة من ساب الماء إذا جرى على وجه الأرض. وهي المخلاة وهي المسيبة. وكانوا في الجاهلية إذا نذر إنسان نذراً لقدوم من سفر أو برء من مرض أو ما أشبه ذلك قال: ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في التخلية.(4) وقيل هي الّتي تسيّب للأصنام أي تعتق لها. وقيل: إنّ السائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر

ص:52


1- . سبأ: 7 و 8.
2- . المائدة: 103.
3- . مجمع البيان: 3/430-431.
4- . التبيان: 4/38.

إناث ليس فيهن ذكر، سيبت فلم يركبوها ولم يجزّوا وبرها ولم يشرب لبنها إلّا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أُنثى شق أُذنها، ثم يخلّى سبيلها مع أُمها وهي البحيرة.(1)

الوصيلة: على وزن فعيلة وهي في الغنم كانت الشاة إذا ولدت أُنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكراً وأُنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وقيل: كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جدياً ذبحوه لآلهتهم ولحمه للرجال دون النساء، وإن كان عناقاً استحيوها وكانت من عرض الغنم، وإن ولدت في البطن السابع جدياً وعناقاً قالوا: إنّ الأُخت وصلت أخاها فحرّمته علينا، فحرما جميعاً، فكانت المنفعة واللبن للرجال دون النساء.

وقيل: الوصيلة: الشاة إذا أتأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر، جعلت وصيلة فقالوا: قد وصلت، فكان ما ولدته بعد ذلك للذكور دون الإناث.(2)

والحام: هو الذكر من الإبل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمي ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء، ولا من مرعى.3

والظاهر أنّ هذا المذهب تجاه هذه الأنواع من الأنعام كان بدافع الاحترام والشكر لما وهب أصحابها من النعم والبركات، غير أنّ هذا العمل - كان في حقيقته - نوعاً من الإيذاء والإضرار بهذه الحيوانات، لأنّهم كانوا يُهملونها ويحرمونها من العناية اللازمة فكانت تشقى بقية حياتها، وتقاسي من الحرمان، مضافاً إلى ما كان يصيبُها من التلف والضياع، وما يلحق ثروتهم والنعم الّتي وهبها اللّه لهم من هذا الطريق من الضرر والخسارة.

ص:53


1- . مجمع البيان: 3/430 و 432.
2- (2و3) . مجمع البيان: 3/432.

والأسوأ من كلّ ذلك أنّهم - كما يُستفاد من ذيل الآية - كانوا ينسبون هذه المبتدعات المنكرات وهذا المنع والحظر إلى اللّه سبحانه وتعالى، إذ يقول سبحانه: «وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ» وقد أعلمَ اللّه في مطلع الآية أنّه لم يحرّم مِن هذه الاشياء شيئاً، وأنّهم ليكذبون على اللّه بادّعائهم أنّ هذه الأشياء من فعل اللّه أو أمره.

وقد أشار القرآن إلى هذه الخرافات الّتي كانت تُكبّل عقول الناس في ذلك المجتمع إذ يقول: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» .(1)

4. الفساد الأخلاقي

كان المجتمع الجاهلي العربي يعاني من فساد ذريع في الأخلاق، وقد أشار القرآن الكريم إلى اثنين من أبرز وسائل الفساد ومظاهره هما: القمار (الّذي كانوا يسمّونه بالميسر، وإنّما اشتق من اليسر لأنّه أخذ مال الرجل بيُسر وسهولة من غير كدٍّ ولا تعب) والخمر.

وقد بلغ شغفهم بالخمر أنّهم أعرضوا عن قبول الإسلام واعتناقه لأنّه يحرّم تناول الخمر وشربه، كما نقرأ ذلك في قصة الأعشى عمّا قريب.

يقول القرآنُ في هذا الصعيد: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» .(2)

وقد استطاع القرآن الكريم عبر مراحل أربع أن يستأصل هذه العادة البغيضة الّتي كانت قد تجذرت بشكل عجيب في نفوس أُولئك القوم، حتّى أصبحت السمة البارزة لحياتهم وأصبح التغنّي بالخمرة، ووصفها الطابع الغالب لآدابهم،

ص:54


1- . الأعراف: 157، وراجع المحبّر: 330-340.
2- . البقرة: 219.

واللون البارز الّذي يصبغ قصائدهم وأشعارهم.

على أنّ الفساد الأخلاقي في المجتمع الجاهلي العربي قبل الإسلام لم يكن ليقتصر على معاقرة الخمر، ومزاولة الميسر؛ بل تعدّى إلى ألوان أُخرى ذكرها القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعاً، حيث عدّ منها الزنا، واللواط، والقذف، وإكراه الفتيات على البغاء، وما شاكل ذلك.(1)

5. وَأدُ البنات وإقبارُهن

يشير القرآن الكريم أيضاً إلى عادة جاهلية سيئة أُخرى كانت رائجة بين قبائل العرب الجاهلية قاطبة وهي دفن البنت حيةً.

فقد شجب القرآن الكريم هذه العادة البغيضة وهذا العمل اللا إنساني ونهى عنه بشدة في أربعة مواضع، إذ قال تعالى: «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» (2). وقال تعالى: «وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً» .(3)

وقد أتى جدُ «الفرزدق» «صعصعة بن ناجية بن عقال» رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعدّ من أعماله الصالحة في الجاهلية أنّه فدى مئتين وثمانين موؤدة في الجاهلية، وأَنقَذهُنَّ من الموت المحتَّمْ باشترائهنَّ من آبائهن بأمواله.

وقد افتخر «الفرزدق» بإحياء جدِّه للموءُودات في كثير من شعره إذ قال:

ومنّا الّذي منَع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يُوأد(4)

ص:55


1- . راجع للوقوف على ذلك: سورة النساء: 15 و 16. وسورة النور: 2 و 3 وغيرها. وراجع المحبّر: 330-340.
2- . التكوير: 8 و 9.
3- . الإسراء: 31.
4- . بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: 3/45-46.

6. تصوّراتهم الخرافية حول الملائكة

وممّا أشار إليه القرآن الكريم تصورات عرب الجاهلية حول الملائكة، فقد كانوا يعتقدون أنّ الملائكة من الإناث وأنّهن بنات اللّه، إذ يقول تعالى:

«فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» .(1)

7. كيفية الانتفاع من الأنعام

إذا كانت العربُ الجاهلية تمتنع من تناول لحوم الأنعام الأربعة المذكورة آنفاً وتجتنب عن استعمال ألبانها وشعورها وأصوافها إلّاأنّها كانت في المقابل تتناول الدم، والميتة والخنزير، وتأكل من الحيوانات والأنعام الّتي تقتلها بصورة قاسية، وبالتعذيب والأذى، وربّما كانت تعتبر ذلك نوعاً من العبادة، ويُعرف ذلك من الآية التالية الّتي نزلت تنهى بشدة عن أكل هذه اللحوم، وتحرّم تناولها، إذ يقول سبحانه:

«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ» .(2)

فقد حرم اللّه في هذه الآية أكل:

1. الميتة.

2. الدم.

3. لحم الخنزير.

ص:56


1- . الصافّات: 149-154.
2- . المائدة: 3.

4. ما ذكر اسم غير اللّه عليه.

5. الّتي تموت خنقاً، وهي المنخنقة.

6. الّتي تضرب حتّى تموت، وهي الموقوذة.

7. الّتي تقع من مكان عال فتموت وهي المتردية.

8. الّتي تموت نطحاً من حيوان آخر وهي النطيحة.

9. ما افترسه سبع إلا إذا ذُكي قبل موته.

10. وما ذُبِح أمام الأصنام.

8. الاستقسام بالأزلام

فقد كان تقسيم لحم الذبيحة يتم عن طريق الأزلام، والأزلام جمع (زلم) بوزن (شَرَف) وهي عيدان وسهام تستخدم في ما يشبه القرعة لتقسيم لحم الذبيحة.

فقد كان يشتري عشرة أنفار بعيراً ثم يذبحونه، ثم يكتبون على سبعة منها اسهماً مختلفة من الواحد إلى السبعة ولا يكتبون على ثلاثة منها شيئاً، ويجعلونها في كيس ثم يستخرجونها واحدة بعد أُخرى، كلُ واحدة باسم أحدهم فيأخذ كل واحد منهم من الذبيحة ما خرج له من السهم، وهكذا يقتسمون الذبيحة بينهم(1)، فنهاهم اللّه عن ذلك بقوله: «وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ» لأنَّه ضربٌ من القمار الّذي ينطوي على مفاسد الميسر والقمار.

9. النسيء

كان العرب الجاهليون يعتقدون حرمة الأشهر الحرم (وهي أربعة: المحرّم،

ص:57


1- . راجع للوقوف على تفصيل هذه الطريقة بلوغ الأرب: 3/62-63، والمحبّر: 332 و 335.

ورجب وذوالقعدة، وذوالحجة) فكانوا يتحرجّون فيها من القتال، وجرت عادة العرب على هذا من زمن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.

إلّا أنّ سَدَنة الكعبة أو رؤساء العرب كانوا يعمَدُون أحياناً، ولقاء مبالغَ يأخذُونها، أو جرياً مع أهوائهم، إلى تأخير الأشهر الحُرمَ، وهو الأمر الّذي عبّر عنه القرآن الكريم بالنسيء ثمّ نهى عنه وعدّه كفراً إذ قال: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» .(1)

وقد ذكرت كُتُب التاريخ والسير كيفية النسيء وتأخير الأشهر الحرم، الّذي كان يتمّ بصور مختلفة منها: أنّ جماعة ما لو كانت ترغب في استمرار الغارة والقتال ولم تطق تأخير الحرب مدة الأشهر الحرم كانت تطلب من سدنة الكعبة، لقاء ما تقدّمه لهم من هدايا وأموال، تجويز الغارة والقتال في شهر مُحرّم، وتحرم القتال في شهر صفر بدله ليتم عدد الأشهر الحرم (وهي أربعة). وهذا هو معنى قوله تعالى:

«لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللّهُ» وكانوا إذا أحلُّوا الْقتالَ والغارة في المحرّم من سنة حَرَّمُوه في المحرّم مِنَ السَنة التالية، وهذا هو معنى قوله تعالى: «يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً» .

10. الربا

وممّا يشير إليه القرآنُ الكريم من المفاسد الشائعة، والأعمال المنكرة في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام: «الربا» الّذي كان يشكل العمود الفقري في اقتصاد ذلك المجتمع.

وقد حاربَ القرآنُ الكريمُ هذه العادة المقيتة، وهذا الفسادَ الاقتصادي حرباً

ص:58


1- . التوبة: 37.

شعواء، إذ قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ» .(1)

والعجيب أنهم كانُوا يُبرّرونَ هذا العمل اللا إنساني بقولهم «إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» (2) فإذا كان البيعُ حلالاً وهو أخذ وعطاء فليكن الرّبا كذلك حلالاً، فإنّه أخذٌ وعطاء أيضاً، مع أن «الرّبا» من أبشع صور الاستغلال، وقد ردَّ سبحانه على هذه المقالة بقوله تعالى: «وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا» (3) ففي البيع والشراء يتساوى الطرفان في تحمّل الضرر المحتمل، بينما لا يتضرّر المرابي في النظام الربوي أبداً وإنّما يلحق الضرر بمعطي الربا دائماً، ولهذا تنمو المؤسّسات الربوية، ويعظم رصيدُها، وثروتها يوماً بعد يوم فيما يزداد الطرفُ الآخر بؤساً وفقراً، ولا يحصل من جهوده المضنية إلّاعلى ما يسدُّ جوعته، ويقيم أوده، لا أكثر، كلُّ ذلك نتيجة لهذا الأُسلوب الاقتصادي غير العادل.

صورٌ من الوضع الجاهلي

ما قدّمناه كان أبرز المفاسد الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الّتي أشار اليها القرآن الكريمُ، وأمّا التاريخ فمليء بالصور والقصص الّتي تحكي عن تردّي حالة العرب الجاهلية وسقوطها الفظيع في قعر الفساد في جميع المناحي والجهات.

واليك في ما يلي نماذج وصوراً معدودة تكفي للوقوف على الحالة العامّة في ذلك المجتمع نقتبسها لك من أصحّ المصادر وأوثقها:

ص:59


1- . البقرة: 278 و 279.
2- . البقرة: 275.
3- . البقرة: 275.

وها نحن نقدم قصة «أسعد بن زرارة» الّتي تسلّط الضوء على ما كان عليه الوضع الجاهلي في أكثر مناطق الحجاز، فقد قال الطبرسي في «إعلام الورى بأعلام الهدى»: قدم «أسعد بن زرارة» و «ذكوان بن عبد قيس» وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهراً طويلاً، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم «يوم بُعاث» وكانت للأوس على الخزرج؛ فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنّه كان بيننا وبين قومنا حربٌ وقد جئناك نطلب الحلف عليهم، فقال له عتبة: بعدت دارنا من داركم ولَنا شغل لا نتفرّغ لشيء. قال سعد: وما شغلكم وأنتمْ في حرمكم وأمنكم؟ قال له عتبة: خرج فينا رجلٌ يدّعي أنّه رسول اللّه، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا وأفسدَ شُبّاننا، وفرّق جماعَتَنا، فقال له أسعد: مَن هو منكم؟ قال: ابن عبداللّه بن عبدالمطلب من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً. وكان أسعد وذكوان، وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم - النضير وقريظة وقينقاع - أنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنكم به يا معشر العرب، فلمّا سمعَ ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعَ من اليهود، قال: فأينَ هو؟ قال: جالس في الحجر، وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّافي الموسم، فلا تسمع منه ولا تكلّمه فإنّه ساحر يسحرك بكلامه، وكان هذا في وقت محاصَرة بني هاشم في الشعب، فقال له «أسعد»: فكيف أصنعُ وأنا معتمر لابدَّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال: ضعْ في أُذنيكَ القطنَ، فدخل «أسعدُ» المسجد وقد حشا أُذُنيه بالقطن، فطاف بالبيت ورسول اللّه جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه، فلمّا كان في الشوط الثاني قال في نفسه:

ما أجد أجهلَ مني؟ أيكونُ مثل هذا الحديث بمكّة فلا أتعرّفه حتّى أرجع إلى قومي

ص:60

فأخبرهم، ثم أخذ القطن من أُذنيه ورمى به وقال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أنعَمْ صباحاً، فرفع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رأسه إليه وقال: قد أبدَلَنا اللّه به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم، قال له أسعد: إنَ عهدَك بهذا لقريب، إلى مَا تدعُويا محمَّد؟ قال: إلى شهادة ألّا إله إلّااللّه، وإنّي رسولُ اللّه، و أدْعُوكُمْ إلى: «أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» .(1)

فلمّا سمع «أسعد» هذا قال له: أشهد أن لا إله إلّااللّه، وأنك رسولُ اللّه، يا رسول اللّه بأبي أنت وأُمّي....(2)

إنّ الامعان في مفاد هاتين الآيتين يغنينا عن دراسة شاملة وواسعة لأوضاع العرب الجاهلية؛ لأنّ هاتين الآيتين تكشفان عن الأمراض الأخلاقية الّتي كانت تكتنف حياة العرب الجاهلية. ولهذا تلا رسول اللّه الآيات الّتي تشير إلى هذه الأدواء والأمراض ليلفت نظر «أسعد» إلى أهداف رسالته الكبرى.

العقيدة والدين في الجزيرة العربية

عند ما رفع «إبراهيم الخليل» عليه السلام لواء التوحيد في البيئة الحجازية، وأعاد بناء الكعبة المعظمة ورفع قواعدها بمعونة ابنه «إسماعيل»، تبعه في ذلك طائفة من الناس ممّن أنار اللّه به قلوبهم، إلّاأنّه من غير المعلوم إلى أيّ مدى استطاع ذلك

ص:61


1- . الأنعام: 151-152.
2- . بحار الأنوار: 19/8-9؛ إعلام الورى: 1/137-138.

النبيّ العظيم أن يعمّم دين التوحيد ويبسط لواءه على الجميع، ويؤلّف صفوفاً متراصّة، وجبهة عريضة قويّة من الموحّدين، غير أنّ من المعلوم أنّه أصبحت تلك المنطقة مسرحاً للوثنية ولعبادة الأشياء المختلفة مع الأيام فقد كانت الطبقة المثقّفة من العرب تعبد الكواكب والقمر، فهذا هو المؤرّخ العربي الشهير الكلبي الّذي توفّي عام 206 هجرية يكتب في هذا الصدد قائلاً كان «بنومليح» من خزاعة يعبدون الجن، وكانت «حمير» تعبد الشمس، و «كنانة» تعبد القمر، و «تميم» الدبران، و «لخم» و «جذام» المشتري، و «طي» سُهيلاً، و «قيس» الشِّعرى، و «أسد» عطارداً.

أمّا الدهماء والذين كانوا يشكلون أغلبية سكان الجزيرة فقد كانوا يعبدون - مضافاً إلى الصنم الخاص بالقبيلة أو العائلة - ثلاثمئة وستين صنماً، وكانوا ينسبون أحداث كلّ يوم من أيّام السنة إلى واحدٍ منها.

وقد دخَلَتْ عبادةُ الأصنام والأوثان في مكّة بعد «إبراهيم الخليل» عليه السلام على يد «عمر بن لحي»، ولكنّها لم تكن في بداية أمرها بتلك الصورة الّتي وصلت إليها في ما بعد فقد كانوا يعتبرونها في بداية الأمر شفعاء إلى اللّه ووسطاء بينه وبينهم، ولكنّهم تجاوزوا هذا الحدّ في ما بعد حتّى صاروا يعتقدون شيئاً فشيئاً بأنّها ذوات قدرة ذاتية مستقلة، وأنّها بالتالي آلهة وأرباباً.

وكانت الأصنام المنصوبة حول الكعبة تحظى باحترام جميع الطوائف العربية، ولكن الأصنام الخاصّة بالقبائل كانت موضع احترام جماعة خاصّة فقط، ولأجل أن تبقى حرمة هذه الأصنام والأوثان الخاصّة محفوظة لا يمسّها أحد بسوء كانوا ينشئون لها أماكن وبيوت خاصّة، وكانت سدانة هذه البيوت والمعابد تنتقل من جيل إلى آخر بالوراثة.

أمّا الأصنام العائلية فقد كانت العوائل تقتنيها للعبادة كل يوم وليلة، فإذا أراد

ص:62

أحدهم السفر كان آخر ما يصنعه في منزله هو أن يتمسّح به أيضاً.

وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها، واتخذهُ رَبّاً وجعَلَ ثلاثة أثافيّ لقدْره، وإذا ارتحل تركه.

وكان من شَغَفَ أهلِ مكّة وَحُبّهم للكعبة والحرم أنّه كان لا يسافر منهم أحدٌ إلّا حَمَل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم، وحبّاً له فحيثما حلّوا نصبوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة صبابة بها، ويمكن أن تكون هذه هي «الأنصاب» الّتي فُسّرت بالأحجار العادية غير المنحوتة وتقابلها الأوثان، وهي الأحجار المنحوتة على هيئة خاصّة، وأمّا «الأصنام» فهي المعمولة من خَشَب أو ذهب أوفضة على صورة إنسان.

لقد بلغ خضوعُ العرب أمام الأصنام والأوثان حدّاً عجيباً جدّاً، فقد كانوا يعتقدون بأنّهم يستطيعون كسبَ رضاها بتقديم القرابين إليها، وكانوا بعد نحر الهدايا يلطخون وجوه الأصنام ورؤوسها بدماء تلك الهدايا، وكانوا يستشيرونها في مهام أُمورهم، وجلائل شؤونهم، فإذا أرادوا الوقوف على مستقبل الأمر الّذي تصدّوْا له ومعرفة عاقبته أخيرٌ هو أم شرٌ استقسمَ لهم أمين القداح بقدحي (الأمر والنهي) وهيَ قطع كُتِبَ على بَعضها (إفْعَلْ) وعلى بعضها الآخر (لا تَفْعَلْ) فيمدُّ أمين القداح يده ويجيل القداح ويخرج واحداً فإنْ طَلَع الآمر فعل أو الناهي ترك.

وخلاصة القول: إنّ الوثنيّة كانت هي العقيدة الرائجة في الجزيرة العربية، وقد تفشَّتْ فيهم في مظاهرَ متنوّعة ومتعدّدة، وكانت الكعبة المعظّمة - في الحقيقة - محطَّ أصنام العرب الجاهلية وآلهتهم المنحوتة، فقد كان لكلّ قبيلة في هذا البيت صنم، وبلغ عدد الأصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس (360) صنماً في مختلف الأشكال والهيئات والصور، بل كان النصارى أيضاً قد نقشوا على جدران البيت وأعمدته صوراً لمريم والمسيح والملائكة، وقصّة إبراهيم.

ص:63

وكان من جملة تلك الأصنام: «اللات» و «العُزّى» و «مناة» الّتي كانت تعتبرها قريش بنات اللّه وتختص عبادتها بقريش.

وكانت «اللات» تعتبر أُمُّ الآلهة، وكان موضعها بالقرب من «الطائف» وكانت من الحجر الأبيض، وأمّا «مناة» فكانت في عقيدتهم إلهة المصير وربَّة الموت والأجل وكان موضعها بين «مكّة» و «المدينة».

ولقد اصطحب «أبوسفيان» معه يوم «أُحد»: «اللات» و «العزّى».

ويروى أنّه مرض ذات يوم «أبو أُحيحة» وهو رجل من بني أُمية، مرضه الّذي مات فيه، فدخل عليه أبولهب يعوده، فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا با أُحيحة؟ أمن الموت تبكي ولابد منه؟ قال: لا ولكني أخاف أن لا تُعبَد العزّى بعدي! قال أبولهب: واللّه ما عُبدَت حياتك (لأجلك) ولا تُترك عبادتُها بعدك لموتك!! فقال أبو أُحيحة: الآن علمتُ أنّ لي خليفة(1).

ولم تكن هذه هي كلّ الأَصنام الّتي كانت تعظِّمها وتعبُدُها العربُ بل كانت لقريش أصنامٌ في جوف الكعبة وحولها وكان أعظمها «هُبَل»، كما أنّه لم يكن لكلّ قبيلة صنم خاص فحسب، بل كانت كلّ عائلة تعبد صنماً خاصّاً بها مضافاً إلى صنم القبيلة، وكانت المعبودات تتراوح بين الكواكب، والشمس، والقمر، والحجر، والخشب، والتراب، والتمر، والتماثيل المنحوتة المختلفة في الشكل، والهيكل، والاسم، المنصوبة في الكعبة أو في سائر المعابد. لقد كانت الأصنام جميعها أو أغلبها معظَّمة عند العرب، يتقرّبون عندها بالذبائح ويقرّبون لها القرابين، وجرت عادة بعض القبائل آنذاك أن تختار من بين أفرادها كلّ سنة شخصاً في مراسيم خاصّة ثم تذبحه عند أقدام أصنامها، وتقبر جسده على مقربة من المذبح.

ص:64


1- . الأصنام للكلبي: 23.

هذا العرض المختصر يكشف لنا كيف أنّ أرض الجزيرة العربية برمّتها كانت قد أصبحت مسرحاً للأصنام ومستودعاً ضخماً للأوثان، وكيف تحوّلت هذه البقعة من العالم ببيوتها وأزقتها وصحاريها وحتّى بيت اللّه المحرم كانت قد تحولت إلى مخزن للنُّصُب المؤلَّهة، والتماثيل المعبودة، ويتجلّى هذا الأمر من قول شاعرهم الّذي أسلم وراح يستنكر ما كان عليه من عبادة الأصنام المتعدّدة الخارجة عن الإحصاء والعدّ، إذ قال:

أَرَبّاً واحِداً أمْ ألف رَب أدينُ إذا تقسَّمَتِ الأُمورُ

عَزلتُ اللاتَ والعزى جميعاً كذلك يَفعَلُ الجَلِدُ الصَبُور

فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها ولا صَنَميْ بني عمرو أزُورُ

ولا غنماً أزورُ وكان ربّاً لنا في الدهر إذ حلمي يسيرُ

ولكن أعبدُ الرحمان رَبِّي لِيَغْفِرَ ذَنبِيّ الربُّ الغفُورُ(1)

وقد حدثت بسبب الاختلاف والتعدّدية في عبادة الأصنام والأوثان المؤلَّهة السخيفة الباطلة، تناقضاتٌ، وصراعاتٌ، وحروب ومناحرات، قد جرّت بالتالي ويلات ومآس وخسائر مادّية ومعنوية كبرى على تلك الجماعة المتوحشة، الضالّة.

***

عقيدة العرب حول حالة الإنسان بعد الموت

وعن مصير الإنسان وحالته ما بعد الموت هذه المشكلة الفلسفية العويصة كانت رؤية العرب ونظرتهم تتلخّص في ما يلي:

ص:65


1- . بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: 3/249.

عند ما يموت الإنسان تخرج روحه من جسده على هيئة طائر شبيه بالبوم يسمى عندهم ب «الهامّة والصدى» ثم يبقى هذا الطائر قريباً من جسد الميّت ينوح نوحاً مقرحاً وموحشاً، وعند ما يوارى الميّت يبقى هذا الطائر مقيماً عند قبره إلى الأبد!

وربّما وقفَ على جدار منزل الميّت أحياناً لِتَسقُّطِ أخبار عائلته والاطّلاع على أحوالهم!!

قال شاعرهم في ذلك:

سُلِّطَ المُوتُ والمنونُ عليهم فَلَهم في صدى المقابر هامُ

وإذا كان المرء قد مات بموتَة غير طبيعية كما لو قُتِلَ - مثلاً - فإنَّ ذلك الحيوان ينادي باستمرار: «اسقوني... اسقوني» أي إسقوني بسفك دم القاتل وإراقته؛ ولا يسكن عن هذا النواح والنداء الخاص إلا بعد الانتقام والثأر من قاتله.

قال أحدهم في ذلك:

فياربّ إنْ أهلَكْ ولم تُروَ هامتي بِلَيلي أَمُتْ لا قَبرَ أَعطَشَ مِن قَبري(1)

من هنا بالضبط تتجلّى الحقيقة للقارئ ويعلم جيداً كيف أنّ تاريخ العرب ما قبل الإسلام وتاريخهم ما بعد الإسلام ما هو إلّاتاريخان على طرفي نقيض:

فذلك تاريخ جاهلية، ووثنية وإجرام، وهذا تاريخ علم ووَحدانية وإنسانية وإيمان، وشتان ما بين وأد البنات، وبين رعاية الأيتام، وبين السلب والنهب والإغارة، وبين المواساة والإيثار، وبين عبادة الأوثان والأصنام الصمّاء العمياء، والتقرّب إلى اللّه الواحد القادر.

ص:66


1- . بلوغ الأرب: 2/311-312.

الآداب مرآة أخلاق الشعوب ونفسياتها

إنّ الحركة الفكرية والثقافية، وما يتركه أيُ شعب من الشعوب من قصص وحكايات أفضل وسيلة للتعرّف على خلفياته النفسية والأخلاقية، ذلك لأنّ الآداب بما فيها الشعرُ والقصةُ، والخطبةُ والحكايةُ، والمثلُ والكنايةُ مرآةٌ صادقةٌ تعكس المستوى الفكري لأيّة جماعة، وتعتبرُ خير مقياس لتمدّنها، وحضاراتها، وأفكارها ونفسياتها، تماماً كما تحكي اللوحاتُ الفنيةُ عن حياة عائلة، أو منظر طبيعي جميل، أو اجتماعات صاخبةٍ، أو مشاهدَ قتالية.

إنَ القصائد والأَمثال العَربية الّتي كانت رائجة آنذاك تستطيع - قبل كلّ شيء - أن تكشف عن الوجه الحقيقي لتاريخهم ونمط حياتهم وسلوكهم، ولهذا السبب لا يجوز لأي مؤرّخ واقعي يسعى إلى الحصول على صورة كاملة عن تاريخ شعب من الشعوب أن يتجاهل التركة الفكرية والأدبية والثقافية لذلك الشعب، سواء أكان شعراً أم نثراً، أمثالاً أم حكماً، قصصاً أم أساطير.

ومن حسن الحظ أنّ مؤرّخي الإسلام أثبتوا وسجلوا بإتقان ما أُثِرَ من العرب ممّا يرتبط بآدابهم في العصر الجاهلي بقدر ما أُتيحَ لهم ذلك.

وقد كان أبو تمّام «حبيب بن أويس» (المتوفّى عام 231 هجرية) والّذي يُعتبر من كبار أُدباء الشيعة، وله قصائد رائعة في مدح آل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ممّن اعتنى عناية بالغة بهذه الناحية، حيث جَمع في كتابٍ واحدٍ طائفة كبيرة جدّاً من الشعر الجاهلي مفصّلة في عشرة أبواب هي:

1. الحماسة.

2. المراثي.

3. الأدب.

ص:67

4. النسيب.

5. الهجاء. 6. الإضافات.

7. الصفات.

8. السير.

9. المُلَح.

10. مذمّة النساء.

وقد تناولَ هذا الديوان التاريخيُ القيّم عددٌ كبيرٌ من أُدباء المسلمين وعلمائهم بشرح أبياته، وتفسير غوامضها، وبيان أغراضها، ومقاصدها.

كما ترجم أصلُ الديوان إلى لغات أجنبية عديدة جاء ذكر طائفة منها في كتاب «معجم المطبوعات».(1)

مكانة المرأة عند العرب الجاهلية

إنّ الباب العاشر من هذا الديوان خير وسيلة لمعرفة ما كانت عليه المرأة في العصر الجاهلي من الحرمان، وأقوى دليلٍ على أنّها كانت تعيشُ - في ظل ذلك العهد - في أسوأ الحالات وأشد الظروف وأتعسها.

هذا مضافاً إلى أنّ الآيات القرآنية الّتي تنزّلت وهي تشجبُ بعنف معاملة الجاهلين للعنصر النسائي، وقسوتهم على الأُنثى، هي الأُخرى أفضل شاهد على مدى الإنحطاط الأخلاقي والتدهور السلوكي الّذي انحدروا إليه في هذا المجال.

ص:68


1- . معجم المطبوعات: 297، وقد اشتهر هذا الديوان ببابه الأوّل: «الحماسة» فسمي ديوان الحماسة.

إنّ القرآن الكريم يصف عادة وأد البنات بقوله: «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ» (1)أي ليسأل يوم القيامة عن البنات اللاتي وُئدن وهنّ أحياء.

إنّ القرآن الكريم بهذه العبارة الموحية إنما يتحدّث - في الحقيقة - عن عادة وأد البنات بمرارة، ويشجبها بشدة حتّى أنّه يعتبرها جريمة نكراء لا تمر - في الآخرة - بدون حساب شديد، وسؤال خاص.

حقاً إنّه لأمرٌ يكشف عن مدى القسوة الّتي كانت عليها قلوبُ تلك الجماعة.

إنّها قسوة تغشى كلّ عواطف المرء فلا يعود يسمع معها نداء الضمير، ولا يحسُّ معها بوخز الوجدان، إنّه لا يعود يسمع معها حتّى صراخ بنته الجميلة البريئة، واستغاثاتها المؤلمة وهي ترى بأُمّ عينيها حفيرتها، وتحس بيدي والدها القاسي، وهو يدفعها إلى تلك الحفرة ويدفنها حيّة!

إنّها قسوة تكشف عن أسوأ وأحطّ درجات الانحطاط الخلقي، والتقهقر الإنساني.

وبنو تميم هي أوّل قبيلة أقدمت على هذه الجريمة النكراء، وكان السبب أنّ «بني تميم» امتنعوا عن دفع ضريبة الأتاوة الّتي كانت عليهم إلى الملك، فجرّد إليهم النعمان بن المنذر حاكم العراق آنذاك جيشاً كبيراً لضرب هذا التمرّد، وانتصر على «بني تميم» في المآل وغنم منهم الغنائم وسبى منهم الفتيات والنساء، فوفدت وفود «بني تميم» على النعمان بن المنذر وكلّموه في الذراري والنساء، فحكم النعمان بأن يجعل الخيار في ذلك إلى النساء، فأية امرأة اختارت زوجَها ردّت عليه، فاختلَفْنَ في الخيار، فاختار بعضهُنَّ العودة إلى الأهل والآباء، واختارت بنتٌ لقيس بن عاصم

ص:69


1- . التكوير: 8.

سابيها على زوجها مما أثار هذا الموقف والاختيار غيظ والدها العجوز «قيس بن عاصم» فنذرَ من ذلك الحين أنْ يدسَ كلَّ بنتٍ تُولَد له. وهكذا سنّ لقومه الوأد، وأخذت بقية القبائل بهذه العادة البغيضة الوحشية إرضاءً لغيرتهم وظلّوا يمارسونها أعواماً متمادية.(1)

وإليك واحدة من القصص المأساوية في هذا المجال:

قيل لماوفد «قيس بن عاصم» على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سأله بعض الأنصار عمّا يتحدّث به في الموءُودات، فأخبر أنّه ما ولدت له بنت إلّاوأدها، قال: كنتُ أخاف العار وما رحمتُ منهنَ إلّابُنيّة كانت ولدتها أُمّها وأنا في سفر، فدفعتها إلى أخواتها، وقدمت أنا من سفري فسألتها عن الحمل، فأُخبِرت أنّها ولَدت ولداً ميتاً، وكتمتْ حالها، حتّى مضت على ذلك سنونٌ، وكبرت الصبيّة، وينعت، فزارت أُمّها ذات يوم، فدخلتُ فرأيتها وقد ظفرت شعرها وجعلت في قرونها جداداً ونظمت عليها ودعاً، وألبستها قلادة من جزع، فقلت لها: من هذه الصبيّة؟ وقد أعجبني جمالها فبكت أُمّها، وقالت: هذه ابنتك، فأمسكتُ عنها حتّى غفلتْ أُمّها ثم أخرجتها يوماً فحفرتُ لها حفرة وجعلتها فيها وهي تقول: يا أبت ما تصنع؟ أخبرني بحقّك!! وجعلتُ أُقلّب عليها التراب، وهي تقول: أنت مغط عليَّ بهذا التراب، أنت تاركي وحدي، ومنصرفٌ عني، وجعلتُ أقذفُ عليها حتّى واريتها، وانقطع صوتُها، فتلك حسرتها في قلبي، فَدَمعتْ عينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: «إن هذه لقسوة، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم».(2)

وقد ذكر ابن الأثير في كتابه «أُسد الغابة» في مادة: قيس: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم سأل قيساً عن عدد البنات اللاتي وأدهنَّ في الجاهلية؟ فأجاب قيسٌ

ص:70


1- . بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: 3/42-43.
2- . حياة محمَّد: تأليف محمَّد علي الحاج سالمين: 24 و 25.

بأنّه وأد اثنتي عشرة بنتاً له.(1)

ورُوي عن ابن عباس أنّه قال: كانت الحامل إذا قَربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وإذا ولدت ولداً حبسته.(2)

المرأة ومكانتها الاجتماعية عند العرب

كانت المرأة عندهم تباع وَ تُشترى كالمتاع، وكانت محرومة من جميع الحقوق الاجتماعيّة والفردية، حتّى حقّ الإرث.

وقد كان المثقّفون من العرب يعُدُّون النساء من الحَيوانات، ولهذا كانوا يعتبرونهن جزءاً من أثاث البيت ويعاملونهن معاملة الرياش والفراش حتّى سار فيهم المثلُ المعروفُ: «وإنّما أُمّهات الناس أوعية».

كما أنّهم غالباً ما كانوا يقتلون بناتهم في اليوم الأوّل من ميلادهن خشية الفقر تارة، ودفعاً للعار والشنآن تارة أُخرى.

وقد كان هذا القتل يَتُمُّ إمّا بذبحهن أو إلقاءهنّ من شاهق، أو إغراقهنّ في الماء أو الدفن وهن أحياء كما سبق.

وقد تعرّض القرآنُ الكريم - الّذي يعدّ من وجهة نظر المستشرقين الكتابَ والمصدرَ التاريخي العلمي الوحيد الّذي لم تنله يدُ التحريف - تعرَّض لذكر قصة من هذا النوع ضمن آيات من سورة النحل حيث قال: «وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ * يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى

ص:71


1- . راجعُ: أُسد الغابة: 4/220، وجاء في بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: 3/43 أنّه وأد بضع عشرة بنتاً.
2- . بلوغُ الأرب: 3/43.

هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» .(1)

هذا والمؤسف أكثر هو ما كان عليه وضع الزواج في الجاهلية، حيث لم يكن يستند إلى أي قانون، ولم يخضع لأيّواحد من النظم المعقولة، بل كان وضعاً عديم النظير في ذلك الزمان، فلم يكن لعدد الزوجات - مثلاً - حدّ معلوم، أو قاعدة ثابتة.

كما أنّه كلّما أرادوا التخلّص من مهر الزوجة عمدوا إلى إيذائها بقسوة، حتّى تتخلّى هي بنفسها عن حقّها، وكان اقترافها لأيّ عَمل مناف للعفة هو الآخر سبباً لسقوط حقّها في المهر بالمرّة.

ولطالما استغلَّ بعض الأشخاص هذا القانون الجائر للتخلّص مِن مهور زوجاتهم فاتّهموهن بالخيانة الزوجية!!

ومن قبيح ما كانوا يفعلون أن يتزوّج الرجل بزوجة أبيه بعد تطليقها، أو وفاته وربّما تناوب الأبناء على امرأة أبيهم واحداً بعد واحد، فقد روى محمد بن حبيب في المحبّر: وكانَ الرجل (من العرب الجاهلية) إذا مات قام أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه، فورث نكاحها. فإن لم يكن له حاجة فيها تزوّجها بعضُ إخوته بمهر جديد.(2)

وقد أبطل الإسلامُ هذه العادة الفاسدة حيث قال اللّه تعالى: «وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً» .(3)

ص:72


1- . النحل: 58 و 59.
2- . المحبّر: 325-326.
3- . النساء: 22، و كانوا يُسمّون من يتزوج زوجة أبيه الضيزن، وكان هذا الزواج يسمّى في الجاهلية «نكاح المقت» ويُسمّى الولد منه: مقتيّ. (راجع: بلوغ الأرب: 2/53؛ ومجمع البيان للطبرسي: 3/26.

وقد ذكرت كتبُ التاريخ والسيرة طائفة ممّن فعلوا هذا نعرض عن ذكر أسمائهم.

كما ذكرت تلك الكتب أنواعاً أُخرى من المناكح الفاسدة الشنيعة الّتي أبطلها الإسلام.(1)

ثم إنّ المطلَّقة لم يكن لها الحقّ - في زمن الجاهلية - في أن تتزوّج برجل آخر بعد انقضاء عدّتها إلّاإذا أذنَ لها الزوجُ الأوّل الّذي كان غالباً مّا يأخذ مهرها في الزواج الثاني في قبال الإذن.

وربما مَنَع أُولياؤُها من أن تتزوّج بزوجها الأوّل الّذي طلَّقها، ثم خطبها بعد انقضاء العِدّة إذا رضيَتْ به ورغبت فيه، أو أنْ تتزوّج بمن أرادَت وأحبَّت - بعد انقضاء العِدّة - أصلاً، حميّة جاهلية.

وكان الرجُل يرث امرأة ذي قرابته إذا مات عنها، تماماً كما يرث ما خَلف من أمتِعةِ المنزل، زاعماً بأنّه أحقُّ بها من غيره، فيعضلها (يمنعها من الزواج) أو ترّدُ إليه صداقها. وفي رواية: إن كانت جميلة تزوّجها، وإن كانت دميمة حبسها حتّى تموتَ فيرثها، وقد نهى اللّه تعالى عن ذلك، وأبطلَ تلك العادات إذ قال تعالى: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» .(2)

وقال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ» .(3)

وقال تعالى: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ

ص:73


1- . لاحظ: المحبّر: 337-340.
2- . البقرة: 232.
3- . النساء: 19.

سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» .(1)

وخلاصة القول؛ إنّ المرأة كانت في العَهد الجاهِليِّ بشرّ حال، ويكفي لتلخيص ما قلناهُ أنّه لمّا خطب أحدهم إلى رجل إبنَتَه، وذكَرَ لَهُ المهر والصداق قال: إنّي وإن سِيْقَ إليّ المهْر ألْف وعَبْدانِ (أي عَبيدَ ومماليك) وذَوْد (وهو من الإبل مِنَ الثلاث إلى العشر) عَشْرُ، أَحَبُّ أصْهاري إليّ القَبْرُ، وقال شاعرهم، في ذلك.

لِكُلِّ أبي بِنتٍ يُراعي شُؤْونَها ثلاثةُ أصهار إذا حمد الصهرُ

فَبَعَلٌ يراعيها وخدر يكنّها وَقبرٌ يُواريها، وأفضَلُها القبر(2)

كما أنّ العرب كانت مصفقة ومتّفقة على توريث البنين دون البنات.(3)

مقارنة بسيطة

ولو لاحظتَ أيّها القارئ الحقوقَ الّتي قرّرها الإسلام في مجال (المرأة) لأذعنتَ - حقّاً - بأنّ هذه الأحكام والمقرّرات وهذه الخطوات المؤثَرة الّتي خطاها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في سبيل إصلاح حقوق المرأة، وتحسين أوضاعها، هي بذاتها شاهدُ حق، ودليل صدق على حقانيّته، وصدق ارتباطه بعالم الوحي. فأيّة رعاية ولطف بالمرأة وحقوقها وأيُّ اهتمام بشأنها وكرامتها أعلى وأكثر من أن يوصي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم - مضافاً إلى ما جاء في آيات وأحاديث كثيرة تؤكّد على حقوق المرأة وتوصي أتباع هذا الدين بالرحمة بهن واحترامهن - في خطبته الشهيرة في (حَجّة الوداع) بالمرأة، ويؤكّد على ذلك أشد تأكيد إذ يقول صلى الله عليه و آله و سلم:

ص:74


1- . البقرة: 231.
2- . بلوغ الإرب: 2/9.
3- . المحبّر: 236.

«أيّها النَّاسُ إنَّ لِنسائكُمْ عَلَيكُمْ حقّاً، ولكم عليهنَّ حقاً... فاتّقوا اللّه في النِّساء واْستوصُوا بهنَّ خيراً، فإنهنَّ عندكم عوانٌ (أي أسيرات)... أطعمُوهُنَّ ممّا تأكُلُون، واكسوهن ممّا تَلبِسُونَ».(1)

العربُ والرُّوح القتالية

من الناحية النفسية يمكن القول بأنّ عرب الجاهلية كانوا النموذج الكامل للإنسان الحريص، الموصوف بالطمَع الشديد، القويّ التعلّق بالمادّيات.

لقد كانوا ينظرون الى كلّ شيء من زاوية منافعه ومردوداته المادّية، كما أنّهم كانوا دائماً يرون لأنفسهم فضيلة وميزة على الآخرين.

كانوا يحبّون الحرية حبّاً شديداً، ولذلك كانوا يكرهون كلّ شيء يقيّد حريتهم.

يقول ابن خلدون عنهم: «إنّهم (أي العرب الجاهلية) بطبيعة التوحُّش الّذي فيهم أهلُ انتهاب وعيث، ينتهبون ما قدروا عليه... وكان ذلك عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة وهذه الطبيعة منافيةٌ للعمران ومناقضة له».

ويضيف قائلاً: «فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأنّ رزقهم في ضلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال الناس حدُّ ينتهون إليه، بل كلّما امتدت أعينهم إلى مال أو مَتاع أو ماعون انتهبوه»(2).

لقد كانت الإغارة والنهب والقتال من العادات المستحكمة عند القوم، ومن

ص:75


1- . وردت هذه العبارات في مصادر مختلفة مع شيء طفيف من الاختلاف، راجع: تحف العقول: 32-33؛ عوالي اللآلي: 1/255 برقم 16؛ سنن النسائي: 5/364 برقم 9152.
2- . مقدّمة ابن خلدون: 149.

الطبائع الثانوية في نفوسهم، وقد بلغ ولعهم وشغفهم بكلّ ذلك ونزوعهم الشديد إليه أنّ أحدهم - كما يقال - سأل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن سمع منه وصف الجنة وما فيها من نعيم: وهل فيها قتال؟

ولمّا سمع الجواب بالنفي قال: إذن لا خير فيها!!

أجل لقد سجّل التاريخ للعرب ما يقرب من (1700) وقعة وحرباً، إمتد أمدُ بعضها إلى مائة سنة أو أكثر، يعني أنّ أجيالاً كثيرة كانت تتوارث الحرب، وتستمر في قتال الخصم، وربَّ حرب دامية طويلةُ الأمد إندَلعت بسبب قضيَة تافهة.(1)

لقد كان العربي في العهد الجاهلي يعتقد بأنَ الدم لا يغسلهُ إلّاالدم، وقضية «الشنفري» الّتي هي أشبه بالأساطير لغرابتها يمكن أن تعكس مدى «العصبية الجاهلية» الّتي كانت سائدة آنذاك.

فالشنفري يُهانُ على يد رجل من «بني سلامان» فيعزم على الانتقام منه، وذلك بأن يقتل مائة من تلك القبيلة، وبعد التربُّص الطويل يغتال تسعاً وتسعين، ويبقى مشرَّداً حتّى تغتالُه جماعة من اللصوص عند بئر فتفعل جمجمته - بعد مقتله - فعلتها، اذْ تتسبَّبُ بعد مرور سنين في قتل رجل من قبيلة «بني سلامان» وبذلك يكتمل العدد الّذي حلف على قتلهم من تلك القبيلة، وذلك عندما يمر رجل من «بني سلامان» على تلك المنطقة فيهب طوفان شديد يلقي بجمجمة

ص:76


1- . العرب قبل الإسلام: 319 و 320. هذا وتعتبر حرب داحس والغبراء، من أيام العرب التاريخية قبل الإسلام، وقد نشأت بسبب سباق بين فرسين هما داحس والغبراء (وهما فرسين لقيس بن زهير من بني عبس) وفرسين آخرين (لحذيفة الغدر) انتهى إلى التنازع في السباق وازداد التنافر بين المتسابقين وانجرّ إلى طعن أحدهما الآخر، وأن تتهيّأ على إثر ذلك مقدّماتُ حرب طويلة بين قبيلتي الرجلين وحلفائهما استمرّت من عام 568 م إلى عام 608 م وهلاك الكثير من القبيلتين. (راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير: 1/566).

«الشنفري» على ذلك الرجل فتصيبُه في رجله بشدة، فيموتُ بما لحقه من ألم وجراحة.(1)

ولقد بلغ أُنس العرب الجاهلية بالقتال وسفك الدماء أن جعلوا القتل والسفك للدماء من مفاخر الرجال!!

ويبدو ذلك جليّاً لمن يقرأ قصائدهم الملحمية الّتي تفوح منها رائحة الدم، ويخيّم عليها شبح الموت، تلك القصائد الّتي يمدح فيها الشاعر نفسه أو قبيلته بما أراقوه من دماء!! وما أزهقوه من أرواح وما سبوه من نساء!! وأيتموه من أطفال!!

ونجد في البيت الشعريّ التالي مدى انزعاج الشاعر العربيّ الجاهلي لما أصابَ قبيلته مِن نكسةٍ وذل وهزيمة في ميدان القتال، إذ يقول:

فَلَيْتَ لي بِهمُو قَوماً إذا ركَبُوا شَنُّوا الإغارَة رُكباناً وفُرسانا

ويصف القرآن الكريم هذه الحالة بقوله: «وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» .(2)

الأخلاق العامّة في المجتمع الجاهلي العربي

ومهما يكن من أمر فإنّ عوامل مختلفة كالجهل وضيق ذات اليد، وجشوبة العيش، وعدم وجود قانون صحيح يحكم الحياة الاجتماعية، وحالة البداوة الموجبة للتوحّش، والكسل والبطالة وغير ذلك من الرذائل الاخلاقية كانت قد حَولَّتْ جوَّ الجزيرة العربية إلى جوّ فاسدٍ قاتمٍ، حتّى أنّ أُموراً يندى لها الجبين قد أخذت طريقها إلى حياة تلك الجماعة وراحت تتخذ شيئاً فشيئاً صفة العادات المتعارفة!!

ص:77


1- . تاريخ العرب: 1/111، وراجع أيضاً بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: 2/145-146.
2- . آل عمران: 103.

لقد كانت الغارات وعملياتُ النهب، والقمار، والربا، والأسر، والسبي من الأعمال والممارسات الرائجة في حياة العرب الجاهلية، وكان شرب الخمر ومعاقرتها بلا حدود هو الآخر من الأعمال القبيحة الشائعة لديهم، ولقد ترسَّخت هذه العادة القبيحة في حياتهم إلى درجة أنّها صارت جزءاً من طبيعتهم، وحتّى أنّ شعراءهم خصّصوا مساحات كبيرة في قصائدهم لامتداح الخمرة ووصفها، وكانت الحانات مفتوحة تستقبل الزبائن طول الوقت، وقد نُصِبَت عليها رايات.

فها هو شاعرُهم يقول:

إذا متُّ فادفِنّي إلى جَنبِ كَرَمةٍ تُرَوّي عِظامي بَعدَ مَوتى عُرُوقُها

ولا تَدفِنَنّي في الفَلاةِ فإنَّنِي أخافُ إذا مامِتُّ أن لا أذوقُها(1)

لَقَدْ بَلغت معاقَرةُ الخمر من الرواج في الحياة العربية الجاهلية بحيث أصبحت لفظة «التجارة» تعادل في عرفهم بيع الخمور، والاتّجار بها.

ولقد كانت الأخلاق تفسَّر عند العرب الجاهلية بنحو آخر عجيب، فإنّهم مثلاً كانوا يمدحون الشجاعة والمروءة والغيرة، ولكنهم كانوا يقصدون من «الشجاعة» القدرة على الإغارة وسفك الدماء، وكثرة عدد القتلى في الحروب!!

كما أن الغيرة كانت تعني عندهم وأد البنات، حتّى أنّ هذا العمل الوحشيّ كان يُعدّ عندهم من أعلى مظاهر الغيرة، وكانوا يرون الوفاء والوحدة في نصرة الحليف حقاً أو باطلاً، وهكذا فإن أكثر القصص التي نُقِلَت عن شجاعتهم وشَغَفهم بالحرية كانت الشجاعة والشغف بالحرية فيها تتلخص وتتجسَّد في الإغارة والإنتقام.

أنّهم كانوا يعشقون - في حياتهم - المرأة والخمرة والحرب ليس غير.

ص:78


1- . تفسير مفاتيح الغيب: 6/107.

النزوع إلى الخرافة والأساطير في المجتمع الجاهلي

ولقد بَيَّنَ القرآنُ الكريمُ أهدافُ البعثة المحمَّدية المقدّسة بعبارات موجزة، وممّا يلفت النظر - أكثر من أيّ شيء - ما ذكرهُ تعالى في الكتاب العزيز حول أهم هذه الأهداف والغايات العليا إذ قال: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» .(1)

فلابدَّ أن نعرفَ ماذا كانت تلك الأغلال والسلاسلَ الّتي كانتْ عَربُ الجاهلية ترزحُ تحتها حتّى قَبيْل بُزوغ فجر الإسلام؟

لا ريبَ أَنَّها لم تكن من جنس الأَغلال والسَلاسل الحديدية، ولم يكن المقصودُ منها ذلك أبداً، فماذا كانت إذَنْ يا ترى؟

أجَل إنَّ المقصودَ مِنْ هذه الأغلال هي الأوهام والخرافات الّتي كانت تَقيِّد العقلَ العربي عن الحركة، وتعيقه عن النمو والتقدّم، ولا شكّ أن مثل هذه السلاسل والأغلال الّتي تقيّد الفكر البشري وتمنعه من التحليق والتسامي، أثقل بكثير من الأغلالَ والقيود الحديدية وأضرّ على الإنسان منها بدَرجات ومراتب، لأنّ الأغلالَ الحَديديَة توضَع عن الأيدي والأرجل بعد مضيّ زمان، ويتحرّر الإنسان منها، بعد حين، ليدخل معترك الحياة بعقلية سليمة مبرّأة من الأوهام والخرافات، وقد زالَتْ عنه ما تركته تلك الحدائد من جروح وآلام.

أمّا السلاسل والأغلال الفكرية (ونعني بها الأوهام والأباطيل والخرافات) التي قد تهيمن على عقل الإنسان وتكبّلُ شعوره فإنّها طالما رافقت الإنسان إلى لحظة وفاته، وأعاقته عن المسير والانطلاق، دون أن يستطيع التحرّر منها، والتخلّص من آثارها، وتبعاتها، اللهم إلّاإذا استعان على ذلك بالتفكير السليم، والهداية الصحيحة.

ص:79


1- . الأعراف: 157.

فبالتفكير السليم وفي ضوء العقل البعيد عن أيّ وهم وخيال يمكنه التخلّص مِن تلك الأغلال والقيود الثقيلة، وأمّا بدون ذلك فإن أيّ سعي للإنسان في هذا السبيل سيبوء بالفشل.

إنّ من أكبر مفاخر نبيّ الإسلام أنّه كافَحَ الخرافات، وأعلن حرباً شعواء على الأساطير، ودعا إلى تطهير العقل من أدران الأوهام والتخيّلات، وقال: لقد جئت للأخذ بساعِد العقل البشري، وأشدّ عضدَه، وأُحارب الخرافة مهمّا كان مصدرها، وكيفما كان لونها وأيّاً كانت غايتها، حتّى لو خَدَمَت أهدافي، وساعَدَتْ على تحقيق مقاصدي المقدّسة.

إنّ ساسة العالم الذين لايهمهم إلّاإرساء قواعد حكمهم وسلطانهم على الشعوب، لا يتورّعون عن التوسّل بأية وسيلة، والاستفادة من أيّة واقعة في سبيل تحقيق مآربهم حتّى أنّهم لا يتأخّرون عن التذرّع بترويج الخرافات والأساطير القديمة بين الشعوب للوصول إلى سدّة الحكم، أو البقاء فيها ما أمكنهم ذلك. ولو اتّفق أن كانوا رجالاً موضوعيين ومنطقيين فإنّهم في هذه الحالة دافعوا عن تلك الخرافات والأوهام والأساطير الّتي لا تنسجم مع أيّ مقياس عقلي بحجة الحفاظ على التراث القومي، أو احترام رأي أكثرية الشعب، أوما شابه ذلك من الحجج المرفوضة.

ولكنَّ رسولَ الإسلام لم يكتف بإبطال المعتقدات الخرافية الّتي كانت تُلحِق الضرر به، وبمجتَمعه، بل كان يكافح ويحارب بجميع قواه كلّ أُسطورة أو خرافة شعبية أو فكرة فاسدة باطلة، تخدم غرضه، وتساعد على تحقيق التقدّم في دعوته ويسعى إلى أن يجعلَ الناسَ يعشقون الحقيقة لا أن يعبدوا الخرافات، ويكونوا ضحايا الأساطير والأوهام، واليك واحداً من هذه المواقف العظيمة على سبيل المثال لا الحصر.

ص:80

لما ماتَ إبراهيم بن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو ابنه الوحيد، حزن عليه النبيُّ حزناً شديداً، فكانت تنحدر الدموع منه على غير اختيار، واتّفق أن انكسفت الشمس في ذلك اليوم أيضاً، فذهب المولعون بالخرافة في ذلك المجتمع (العربي) على عادتهم إلى ربط تلك الظاهرة بموت إبراهيم واعتبار ذلك دليلاً على عظمة المصاب به فقالوا: انكسفت الشمسُ لموت ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فصعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المنبرَ فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أيُّها الناس إنَّ الشمسَ والقمر آيتان من آيات اللّه يجريان بأمره، مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياتِه، فإذا انكسفا، أو أحدُهما صلّوا».

ثم نزل من المنبر فصلى بالناس صلاة الكسوف.(1) وهي ما تسمّى بصلاة الآيات.

إنّ فكرة انكساف الشمس لموت ابن صاحب الرسالة وإن كان من شأنها أن تقوّي من موقع النبيّ في قلوب الناس، وتخدم بالتالي غرضه، وتساعد على انتشار دعوته، وتقدّمها، إلا أنّه صلى الله عليه و آله و سلم رفض أن يحصل على المزيد من النفوذ في قلوب الناس بواسطة هذا الطريق.

على أنّ محاربَة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم للخرافات والأساطير الّتي كانت نموذجا بارزاً من محاربته للوثنية، وتأليه المخلوقات وعبادتها، لم تكن من سيرته في عهد الرسالة بل كان ذلك دأبه في جميع أدوار حياته، حتّى يوم كان صبياً يدرج، فإنّه كان يحارب الأوهام والخرافات، ويعارضها في ذلك السن أيضاً.

تقول حليمةُ السعدية مرضعة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:... فلمّا تمَّ له (أي لمحمَّد) ثلاث سنين قال لي يوماً: «يا أُمّاهُ مالِيَ لا أرَى أخَوَيَّ بالنّهار»؟

ص:81


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 88/155 ح 12.

قلت له: يا بُنيّ إنّهما يرعيان غنيمات، قال: «فَمالي لا أخْرُج مَعَهما»؟ قلت له:

تحبُّ ذلك؟ قال: نَعَمْ.

فلمّا أصبح دهَّنته وكَحَّلته وعلَّقت في عنقه خيطاً فيه جزع يمانية (وهي من التمائم الباطلة كانت تعلّق على الشخص في أيام الجاهلية لدفع الآفات عنه)، فنزَعَها، ثمّ قال لي: «مَهْلاً يا أُماه فَإنَّ مَعِيَ مَنْ يَحْفُظنِيْ».(1)

الخرافات في عقائد العرب في الجاهلية

كانت عقائدُ جميع الأُمم والشعوب العالمية يوم بزوغ شمس الإسلام ممزوجة بألوان من الخرافات والأساطير.

فالأساطير اليونانية والساسانية كانت تخيّم على أفكار الشعوب الّتي كانت تعدُّ في ذلك اليوم من أرقى الشعوب والمجتمعات.

على أنّه لا تزال خرافات كثيرة تسود وإلى الآن في المجتمعات الشرقية المتقدّمة، ولم تستطع الحضارةُ الراهنة أن تزيلها من حياة الناس ومعتقداتهم.

إنّ تنامي الخرافة يرتبط إرتباطاً وثيقاً بالمستوى العلمي والثقافي في كلّ مجتمع، فبقدر ما يكون المجتمع متخلّفاً من الناحية الثقافية والعلمية تزداد نسبة وجود الخرافة ومقدار نفوذها في عقول الناس ونفوسهم.

لقد سجّل التاريخ عن سُكّان شبه الجزيرة العربية طائفة هائلة وكبيرة من الأوهام والخرافات، وقد جمع السيّد محمود الآلوسي أكثرها في كتابه «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب»، مُرفقاً كل ذلك بما حصل عليه من الشواهد الشعرية وغيرها.

ومن يتصفّح هذا الكتاب يقف على ركام هائل من الخرافات الّتي كانت تملأ

ص:82


1- . بحار الأنوار: 392/15.

العقل العربي الجاهل آنذاك وتعشعش في نفوسهم، وقد كانت هذه السلسلة الرهيبة من الأوهام هي السبب في تخلّف هذا الشعب عن بقية الشعوب والأُمم الأُخرى.

ولقد كانت هذه الخرافات من أكبر السدود في طريق تقدّم الدعوة الإسلامية، ولهذا أجتهد النبيُّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بكل طاقاته في محو وإزالة آثار الجاهلية الّتي لم تكن سوى تلك الأوهام والأساطير والخرافات.

فعندما وجَّه «معاذ بن جبل» إلى اليمن أوصاه بقوله:

«وأمِتْ أمرَ الجاهِليَّة إلّاما سنَّهُ الإسلامُ، وَأظهِرْ أمرَ الأسلام كلّه صغيرهُ وكبيرهُ».(1)

لقد وقف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمام جماهير كبيرة من العرب الذين كانت عقولُهم ترزخ تحت الأفكار والمعتقدات الخرافية ردحاً طويلاً من الزَمن يعلن عن نهاية عهد الأفكار والأوهام الجاهلية إذ قال: «ألا إنّ كُلُّ دم ومال ومأثرة كانت فيْ الجاهِليَّة تحتَ قَدَميّ هذه إلى يوم القيامة».(2)

نماذج من الخرافات في المجتمع الجاهلي

اشارة

وللوقوف على مَدى أهمية التعاليم الإسلامية وقيمتها نلفت نظر القارئ الكريم إلى نماذج من هذه الخرافات، ومن أراد التوسّع فليراجع «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب».(3)

ص:83


1- . تحف العقول: 25.
2- . كنز العمال: 5/130 برقم 12357؛ السيرة النبوية لابن كثير: 4/401، دار المعرفة، بيروت.
3- . لاحظ: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: 286/2-369.

1. الاستسقاء بإشعال النيران

كانت العرب إذا أجدبت، وأمسكت السماء عنهم، وأرادوا أن يستمطروا، عَمَدوا إلى السلع والعشر (وهما أشجار سريعة الاشتعال) فحزموهما، وعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيها النيران وأصعَدوها في جبل وَعر، واتبعوها يدعون اللّه تعالى، ويستسقونه، وإنّما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلاً للبرق بالنار...

وكانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات الأُخرى، وكانت هذه الثيران والأبقار إذا صاحت من وجع الاحتراق ظنّت العرب بأنّ ذلك هو الرعد!!!

وقد قال شاعرهم في ذلك:

يا (كحلُ) قَد أثقَلتَ أذنابَ البَقَر بسَلع يُعقَدُ فيها وعُشر

فَهَل تَجُودينَ بِبَرقٍ أو مَطَر؟

2. ضرب الثور إذا عافت البقر الماء

كانوا إذا أورَدُوا البقر فتمتنع من شرب الماء، ضرَبوا الثورَ لِيقتحمَ الماء، بعدَه ويقولون: إنْ الجنَّ تصدُّ البقرَ عن الماء، وأنّ الشيطان يركَبُ قَرَني الثورَ، ولا يدع البقر تشربُ الماء، ولذلك كانوا يضربون وجه الثور.

وقد قال في هذا شاعرهم:

كَذاك الثورُ يضرَبْ بالهَراوى إذا ما عافَت الْبَقَر الظِماءُ

وقال آخر:

فإني إذاً كالثَور يُضرب جَنبُهُ إذا لَم يَعْف شُرباً وعافت صواحبه(1)

ص:84


1- . عافت أي كرهت شرب الماء.

وقال ثالث:

فلا تجعلوها كالبقير وفحلُها يُكسِّر ضرباً وهْو للورد طائعُ

وما ذَنبُه إن لم ترد بَقَراته وَقَدْ فاجأتْها عند ذاك الشرائعُ

3. كيّ صحيح الإبل ليبرأ السقيمُ

إذا كان يصيب الإبل مرض أو قرح في مشافرها وأطرافها عمدوا إلى بعير صحيح من تلك الإبل فكوَوْا مِشفَرَهُ وعَضُدَه وفَخذَه يرون أنّ ذلك إن فعلوه ذهبَ العُرُّ والقرح والمرض عن إبلهم السقيمة، ولا يعرف سبب ذلك.

وقد احتمل البعض أنّهم إنّما كانوا يفعلون ذلك وقاية للصحاح من الإصابة بالعُرّ الّذي أصاب غيرها، أو أنّه نوع من المعالجة العلمية، ولكن لماذا ترى كانُوا يَعمدُونَ إلى بعير واحد من بين كلّ تلك الإبل، فلابدّ من القول بأنّ هذا الفعل كان ضرباً من الأعمال الخرافية الّتي كانت سائدة في ذلك المجتمع الجاهلي قبل الإسلام.

وقد قال شاعرهم عن ذلك:

وَكَلّفتني ذنبَ امرئ وتركتُه كذِي العُرّ يكوى غيرُه وهو راتع

وقال آخر:

كمن يكوي الصحيح يروم بُرءاً بِه مِن كلِ جَرباء الإهاب

وقال ثالث:

فالزمْتَنِي ذنباً وغيريَ جرَّه حنانيل لا تكو الصَحيح بأجربا

ص:85

4 - حبس ناقة عند القبر إذا مات كريمٌ

إذا ماتَ منهم كريمٌ عقلوا ناقته أوبعيره عند القبر الّذي دُفِنَ فيه ذلك الكريم، فعكَسُوا عنقها، وأداروا رأسها إلى مؤخَّرها وتركوها في حفيرة لا تطعَم ولا تسقى حتّى تموت، وربما أُحرقَت بعد موتها وربما سُلِخَتْ ومُلئ جِلدُها ثماماً، وكانوا يزعمون أنّ مَن مات ولم يُبْلَ عليه (أي لم تعقل ناقة عند قبره هكذا) حُشِر ماشياً، ومن كانت له بلية (أي ناقة عقلت هكذا) حُشِر راكباً على بليّته.

وقد قال أحدهم في هذا الصدد:

إذا مِتُّ فادفنَّي بحرّاء ما بها سوى الأصرخين أو يفوِّز راكبُ

فإن أنتَ لم تُعْقرْ عَليَّ مطيَّتي فلا قامَ في مال لك الدهر حالبُ

وقال آخر وهو يوصي ولده بأن يفعلوا له ذلك:

أَبُنيَّ لا تنسَ البليّة إنّها لأبيك يومَ نُشُوره مركوبُ

5. عَقرُ الإبل عَلى القُبُور

كانوا إذا ماتَ أحدُهم ضربوا قوائم بعير بالسَيف عند قبره، وقيل إنّهم كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميّت المضياف على ما كان يعقره من الإبل في حياته وينحره للأضياف.

وقد أبطلت الشريعة المقدّسة هذه العادة الباطلة في ما أبطلته فقد جاء في الحديث «لا عَقْر في الإسلام».

وقد قال أحدُهم حولَ العَقر هذا:

قُلْ للقوافِل والغُزاة إذا غَزَوا والباكرين وللمجدّ الرائح

إنَ الشَجاعة والسَماحة ضُمِّنا قبراً بِمروَ عَلى الطريق الواضح

ص:86

فإذا مررتَ بِقبره فاعقِرْ بهِ كُومَ الجلاد وكلّ طِرف سابحِ

وأنضحْ جَوانبَ قبره بدمائها فَلَقدْ يكونُ أخا دم وذبائح

6. التعشير

ومن خرافاتهم أنّ الرجلَ منهم كان إذا أرادَ دخولَ قرية فخافَ وباءها أوجنّها، وقف على بابها قبل أن يدخلها فنَهقَ نهيقَ الحمار، ثم علّق عليه كعبَ أرنب كأنَّ ذلك عوذة له، ورقية من الوباء والجن، ويسمّون هذا النهيق التعشير.

قال شاعرهم:

ولا يَنْفَعُ التعشير أن حُمَّ واقع ولا زعزعٌ يُغني ولا كَعبُ أرنب

وقال الآخر:

لعمريَ إن عشّرتُ من خيفة الرَّدى نِهاق حَمير أنّني لجزوعُ

7. تصفيق الضالّ في الصحراء ليهتدي

كان الرجلُ منهم إذا ضَلّ في فلاة قَلَب قميصه وصفق بيديه، كأنّه يومئ بهما إلى انسان مهتدي.

قال أعرابي في ذلك:

قلبتُ ثيابي والظنونُ تجولُ بي وترمي برجلي نحو كلَ سَبيل

فلأياً بلائي ما عرفت حليلتي وأبصرتُ قصداً لم يُصَب بدليل

ص:87

8. الرتم

وذلك أنّ الرجل منهم كان إذا سافر عَمَد إلى خيط فعقده في غصن شجرة أوفي ساقها فإذا عاد نظر إلى ذلك الخيط فإنْ وجده بحاله علم أنّ زوجتَه لم تخنهُ، وإن لم يَجِدْه أو وَجَدَهُ محلولاً قال: قد خانتني. وذلك العقد يسمى «الرتم».

قال شاعرهم في ذلك:

خانته لما رأتْ شَيْباً بمفرقه وغَرّه حِلفُها والعَقْدُ للرتم

وقال الآخر:

لا تحسَبنّ رتائماً عقدّتَها تنبيك عنها باليقين الصادق

وقال ثالث:

يعلل عمروٌ بالرتائم قلبه وفي الحيّ ظبيُّ قد أحلّت محارقه

فما نَفَعَتْ تِلكَ الوصايا ولا جَنَتْ عَليهِ سوى ما لا يحبُّ رتائمه

9. وطيُ المرأة القتيل الشريف لبقاء وَلَدها

فقد كانت العرب تقول: إنّ المرأة المقلاة - وهي الّتي لا يعيش لها وَلَدٌ - إذا وطئت القتيلَ الشريف عاشَ وَلَدُها.

قال أحدُهم:

تظلّ مقاليت النساء يَطأنه يَقُلْنَ ألا يلقى على المرء مئزر

ص:88

10. طَرْحُ السِنّ نَحو الشَمْس إذا سَقَطَتْ

ومن تخيّلات العرب وخرافاتهم أنّ الغلام منهم إذا سَقَطَتْ له سنٌ أخذها بين السبابة والإبهام واستقبل الشمسَ إذا طلعت وقذف بها وقال: يا شمس أبدليني بسنّ أحسن منها، وليجر في ظلمها أياتك، أو تقول: أياؤك، وهما جميعاً شعاع الشمس.

قال أحدهم وهو يصف ثغر معشوقته:

سقته اياه الشمس إلّالثاته أسفَّ ولم تكرم عليه باثمدِ

أي كأنّ شعاع الشمس أعارته ضوءها.

هذا وقد أشار شاعرُهم إلى هذا الخيال (أوقل الخرافة المذكورة) إذ قال:

شادنٌ يحلو إذا ما ابتسَمَتْ عن أقاح كأقاح الرمل غر

بدلته الشمسُ من منبته بَرَداً أبيضَ مصقولَ الأثر

11. تعليق شيء نجس على الرجل وقاية من الجنون

ومن تخيّلات العرب أنّهم كانوا إذا خافُوا على الرجل الجنونَ، وتعرّض الأرواح الخبيثة له نجَّسوه بتعليق الأقذار، كخرقة الحيض وعظام الموتى قالوا:

وأنفعُ من ذلك أن تعلِّقُ عليه طامثٌ عظامَ موتى ثم لا يراها يومَه ذلك. وأنشدوا في ذلك:

فلو أن عِندي جارتَين وراقياً وعَلَّقَ أنجاساً عَلّي المعلقُ

وقالت امرأة وقد نَجَّست ولَدها فلم ينفعه ذلك ومات:

نجّستُهُ لا ينفعُ التنجيسُ والموتُ لا تفوتُه النفوسُ

ص:89

12. الاستشفاء بدم الرئيس

فقد كانت العرب تعتقد أنّ دم الرئيس أو الكبير يشفي من عضة الكلْب الكَلِب.

قال الشاعر:

بناةُ مكارم وأساة جُرحٍ دِماؤُهُمْ من الكَلبِ الشفاءُ

وقال آخر:

أحلامُكُمْ لسِقامِ الجهل شافيةٌ كَما دِماؤكُمُ تشفي من الكَلَب

13. شقّ البرقع والرداء يوجب الحب المتقابل

ومن أوهامهم وتخيّلاتهم أنّهم كانوا يزعمون أنّ الرجل إذا أحب امرأة وأحبّته فشقّ برقعها وشقّت رداءه صلح حبُهما ودام، فإن لم يفعلا ذلك فَسَد حبُهما، قال في ذلك أحدهم:

وكم شَقَقْنا مِن رداء محبِّرٍ وَ مِنْ بُرقُعٍ عَنْ طَفلة غير عانس

إذا شُق بُردٌ شُق بالبرد بُرقعٌ دواليك حتّى كلُّنا غير لابسِ

نروم بهذا الفعل بُقياً على الهوى وإلف الهوى يُغوى بهذي الوساوس

14. معالجةُ المرضى بالأُمور العجيبة

ومن مذاهبهم الخرافية في معالجة المرضى إذا بثرت شفة الصبي حمل منخلاً على رأسه ونادى بين بيوت الحيّ: الحلأ الحلأ، الطعام الطعام، فَتُلقي له النساءُ كِسَرَ الخبز، واقطاع التمر واللحم في المنخل ثم يُلقي ذلك للكلاب فتأكله، فيبرأ مِنَ المرض، فإن أكل صبيٌّ من الصبيان من ذلك الّذي ألقاهُ للكلابِ تمرة أو

ص:90

لقمة أو لحمة، بثرت شفته.

فقد روى عن إمرأة أنّها أنشدت:

ألا حلأ في شفة مشقوقَه فقد قضى منخلُنا حقوقَه

ومن أعاجيبهم أنّهم كانوا إذا طالت علّة الواحد منهم، وظنُّوا أنَّ به مسّاً من الجن لأنّه قَتَلَ حية، أو يربوعاً، أو قنفذاً، عملوا جِمالاً من طين وجعلوا عليها جوالق وملاؤها حنطة وشعيراً وتمراً، وجعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس وباتوا ليلتهم تلك، فإذا أصبحوا نظروا إلى تلك الجمال الطين فاذا رأوا أنّها بحالها، قالوا: لم تقبل الدية فزادوا فيها، وإن رأوها قد تساقطت وتبدّد ما عليها من الميرة قالوا: قد قبلت الدية، واستدلّوا على شفاء المريض وفرحوا وضربوا الدفّ.

قال بعضهم:

قالُوا وقد طالَ عَنائي والسَّقمْ إحمِلْ إلى الجِن جمالات وضَمّ

فَقَد فَعَلت والسقام لم يرم فبالذي يملَك برئي اعتصمْ

وقال آخر:

فياليتَ أنّ الجن جازُوا حمالَتي وزُحزحَ عني ما عناني من السقم

أُعلّلُ قلبي بالَّذي يزعُمونه فَيالَيتَني عُوفيت في ذلك الزعم

ومن مذاهبهم في هذا المجال أنّ الرجلَ منهم كان إذا ظهرت فيه القوباء (وهو مرض جلدي) عالجها بالريق.

قال أحدهم:

يا عَجَباً لهذه الفليقة هَل تُذهِبَنَّ القُوَباءَ الريقة

ص:91

15. خرافاتٌ حول الغائب منهم

كانوا إذا غُمَّ عليهم أمرُ الغائب ولم يعرفوا له خبراً جاءُوا إلى بئر عادية (أي مظلمة بعيدة القعر) أو جاءُوا إلى حصن قديم ونادوا فيه: يا فلان أو يا أبا فلان (ثلاث مرّات)، ويزعمون أنّه إن كان مَيّتاً لم يسمَعوا صوتاً، وإن كان حيّاً سمعُوا صوتاً ربّما توهموه وهماً، أو سمعوه من الصدى فَبَنَوا عليه عقيدَتهم، قال بعضهم في ذلك:

دَعوتُ أبا المِغوار في الحَفْر دعوة فما آضَ صوتي بالذي كنت داعيا(1)

أظنُ أبا المغوار في قصر مظلم تجرُّ عليه الذارياتُ السَوافيا

وقال آخر:

وكمْ ناديتُه والليلُ ساج بِعاديّ البِئار فما أجابا

ومن ذلك أنّ الرجل منهم كان إذا اختلجت عينه قال: (أرى من أُحبُّه) فإن كان غائباً توقّع قدومَه، وإنْ كان بعيداً توقَّعَ قربه، وقالَ أحدهم:

إذا اختلَجَتْ عَيني أقولُ لعَلَّها فَتاة بني عمرو بها العينُ تَلْمعُ

وقال آخر:

إذا اختلَجَت عَيني تَيقَّنتُ إنّني أراكَ وَ إن كانَ المزارُ بَعيدا

وكانوا إذا لا يُحِبُّونَ لمسافر أنْ يعودَ إليهم أوقدُوا ناراً خَلفَهُ ويقولون في دعائهم «أبعَدهُ اللّهُ وأسحقَهُ وأوقدَ ناراً إثرهُ» قال بعضهم:

صحوتُ وأوْقدتُ لِلجَهلِ ناراً وَرد عليك الصبا ما استعارا

ص:92


1- . آضَ أي عاد ورجع.

16. عقائدهُمْ العجيبة في الجنّ وتأثيرُهُ

كانت العربُ في الجاهلية تعتقد في الجن وتأثير هذا الكائن في شتى مجالات حياتهم اعتقاداتٌ عجيبة وفي غاية الغرابة.

فتارة تستعيذُ بالجن، وقد إستعاذَ رجلٌ منهُمْ وَ مَعَهُ ولدٌ فأكلهُ الأَسدُ فقال:

قَدْ استعَذْنا بعظيم الوادي مِن شَرِّ ما فيهِ مِنْ الأعادي

فلم يجرنا من هزبر عادي

وعن الاستعاذة بالجنّ قال اللّه سبحانَهُ في القرآن: «وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» .(1)

ومن ذلك إعْتقادُهُمْ بهتاف الجن، ولهم في هذا المجال أساطيرُ خرافيةٌ مذكورة في محلّها.

ومن هذا القبيلُ إعتقادهُم بالغول، فقد كانت تزعم العربُ في الجاهلية أنّ الغيلان في الفلوات (وهي من جنس الشياطين) تتراءى للناس، وتغول تغولاً أي تتلوّن تلوناً فتضلّهم عن الطريق، وتهلكهم، ومن هذا القبيل أيضاً إعتقادُهم بالسعالي!!

وقد قال أحدُهم في ذلك:

وساحرةٌ عينيّ لو أنَّ عينَها رَأَت ما أُلاقيهِ مِنَ الهَول جَنّتِ

أبيتُ وسعلاةٌ وغولٌ بِقَفْرة إذا الليلُ وارى الجن فيه أرنت

17. تشاؤمهم بالحيوانات والطيور والأشياء

ومن مذاهبهم الخرافية تشاؤمهم بأشياء كثيرة وحالات عديدة:

ص:93


1- . الجن: 6.

فمن ذلك؛ تشاؤمهم بالعطاس.

وتشاؤمهم بالغراب حتّى قالوا: فلانٌ أشآم من غراب البَيْن، ولهم في هذا المجال أبياتٌ شعرية كثيرةٌ منها قول أحدهم:

ليتَ الغرابُ غداة ينعَبُ دائباً كانَ الغرابُ مقطَّعَ الأوداجِ

وكذا تشاؤُمُهمْ وتطيّرهم بالثور المكسور القرن والثعلب. إلى غير ذلك من التخيّلات والأوهام والخرافات والأساطير، والإعتقادات العجيبة، والتصوّرات الغريبة الّتي تزخر بها كتبُ التاريخ المخصّصةِ لبيان أحوال العرب قَبْلَ الإسلام وحتّى إبّان قيام الحضارة الإسلامية.

مكافحةُ الإسلام لهذه الخرافات

ولقد كافح الإسلامُ جميع هذه الخرافات بطرق مختلفة، وأساليب متنوّعة.

أمّا بالنسبة إلى ما كانوا يفعلونَهُ بالحيوانات، فمضافاً إلى أنّ أيّ شيء من هذه الأَعمال لا ينسجم مع العقل والمنطق والعلم؛ لأنّ المطر والغيث لا ينزل من السماء بإشعال النيران، وضرب الثيران لا يؤثر في البقر، كما لا ينفع كيُّ البعير الصحيح في شفاء الإبل السقيمة، وتعتبر هذه الأعمال نوعاً من تعذيب الحيوانات، وقد نهى الإسلام بشدة عن تعذيب الحيوانات وإيذائها، بأيّ شكل كان.

فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «لِلدّابةِ عَلى صاحبها ستُّ خصال:

1. يَبدأ بعلفها إذا نَزَل.

2. ويُعرضُ عليها الماء إذا مَرَّ به.

3. ولا يضرب وجهها فإنّها تسبِّحُ بحمدِ ربِّها.

4. ولا يقفْ على ظهرها إلّافي سَبيل اللّه عزّ وجلّ.

5. ولا يحمّلها فوق طاقتها.

ص:94

6. ولا يكلّفها من المشي إلّاما تطيقُ.

وقد رويت في ذلك روايات عن رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

ومن هنا ندركُ أنّ التعاليم في مجال الرفق بالحيوان، وحمايته، على النقيض من العادات الجاهلية السائدة في البيئة العربية آنذاك.

وأمّا بالنسبة إلى التمائم والأَشياء الأُخرى الّتي كانت تعلّقها العربُ على أعناق وصدور رجالها، وأولادها، من الأحجار والخَرَز، وَ عظام الموتى، ومعالجة المرضى والمصابين وغيرهم بها أحياناً، فقد حاربَها الإسلامُ، بعد أن أبطلها كما أبطل الأفاعيل الّتي سبق أن ذكرناها قبل هذا.

فلمّا جاءت جماعات من الأعراب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وسألوه عن الرّقى والقلائد الّتي كانوا يتداوون بها أو يسترقونها بدلاً عن التداوي بالعقاقير والأدوية قائلين يا رسول اللّه: أنتداوى؟

قال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «تداووا فإنَّ اللّه لَمْ يَضَعْ داء إلّاوَضَعَ لَهُ دَواء».(2)

بل نجد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يأمر سعد بن أبي وقاص عندما أُصيب بمرض في فؤاده أن يعالج نفسَه عِند طبيب إذ قال له لمّا عادَه وعرف بحاله: «إنَك رجلٌ مفودٌ، إئتِ الحارثَ بن كِلْدة أخا ثقيفٍ فإنَّهُ رَجلٌ يتطبَّب».(3)

هذا مضافاً إلى أنّه وردت أحاديث كثيرة تصرّح ببطلان التمائم السحريّة الّتي لا تنفع ولا تضرّ أبداً، وها نحنُ نشير في ما يلي إلى نموذجين من هذه الأحاديث:

ص:95


1- . من لا يحضره الفقيه: 2/286 برقم 2465. وراجع للوقوف على أحاديث حقوق الحيوان كتابنا: الشؤون الاقتصادية: 130-159.
2- . سنن أبي داود: 2/219 برقم 3855، كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى.
3- . كنز العمال: 10/85 برقم 28468.

1. تقول أُم قيس: دخلتُ بابن لي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد أعلقت عليه من العُذْرَة (وهي قلادة سحرية جاهلية) فقال: «علام تدغَرْن أولادَكنَّ بهذا العِلاق، عليكنَّ بهذا العُود الهِنْديّ» وكان صلى الله عليه و آله و سلم يقصد عصارة هذا العود.(1)

2. رُوي عن الإمام جعفر بن محمَّد الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنَّ كثيراً مِنَ التمائم شِرْكٌ».(2)

هذا مضافاً إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأوصياءه الكرام - بارشادهمُ الناس إلى ما ينبغي أن يتداووا به من العقاقير والأدوية وما أعطوْه من تعاليم قيّمة كثيرة في هذا المجال ممّا جمعه المحدّثون الكبار تحت عنوان: «طبّ النبيّ» و «طب الرضا» و... - قد وجّهوا ضربة قوّية أُخرى إلى تلك الأوهام والتخيّلات، والخرافات والأساطير الّتي كان يعاني منها المجتمعُ العربي الجاهلي قبل الإسلام.(3) وأمّا الغول، والطيرة، والتشاؤم، والهامّة، والنَوء، فقد حاربها النبيّ بصراحة إذ قال: صلى الله عليه و آله و سلم «لا هامَّة، ولا نَوء، ولا طِيرَة، ولا غول».(4)

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «العِيافَةُ والطِيَرةُ والطَرْق مِن الجبْت».(5)

ص:96


1- . صحيح البخاري: 7/17، كتاب الطب، باب اللدود.
2- . وسائل الشيعة: ج 4، الباب 41 من أبواب قراءة القرآن، الحديث 4.
3- . وقد فتح المحدّثون من الفريقين أبواباً خاصّة لأحاديث الطبّ النبويّ في كتب الحديث أيضاً.
4- . التاج الجامع للأُصول: 3/196 و 197، الفصل الرابع باب نفي مزاعم الجاهلية، قال مؤلّف التاج: الهامّة طائر أو البوم إذ سقط في مكان تشاءم أهلُه، أو دابّة تخرجُ من رأس القتيل أو من دمه، فلا تزالُ تصيح حتّى يؤخدَ بثاره، والنَوء نجمٌ يأتي بالمطر وآخر يأتي بالريح (حسب عقيدة الجاهلية)!!
5- . مسند أحمد: 3/477؛ التاج الجامع للأُصول: 3/201. قال مؤلّف التاج: العيافة زجر الطّيْر والتفاؤل بأسمائها وأصواتها كالتفاؤل بالعُقاب على العِقاب، وبالغُراب على الغُربة، وبالهُدْهُدْ على الهُدى، وكذا بأفعالها، وكيفية طيرانها فكانت العرب تزجر الطيرَ وتثيره، فما أخذ منها ذات

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً أنه قال: «إنَّ الرقى والتمائم والتولَة شركٌ».(1)

وعن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلتُ يا رسولَ اللّه: أُموراً كنّا نصنعها في الجاهلية، كنّا نأتي الكهّان، قال: فلا تأتوا الكهانَ، قال: قلت: كنّا نتطيّر؟ قال: «ذاك شيء يجدُهُ أحدُكُمْ في نفسِه فلا يَصُدَّنكم».(2)

إنّ وجودَ النهي الشديد والمكرّر في الأحاديث الكثيرة عن الطيرة والتشاؤم، والزجر والعيافة والتمائم والتولة والهامّة والنوء والغول، والكهانة، وإيذاء الحيوانات وكيّهنّ، وتعذيبهن، وماشابه ذلك يدل بوضوح وقوّة على مدى رسوخ هذه العادات الباطلة في الحياة العربيّة الجاهلية، يكشف عن مبلغ اعتقادهم بها، ونزوعهم إليها، وهو بالتالي يكشف عن مغزى قوله تعالى: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» (3) فأيّة سلاسل وأَغلال أثقل وأسوأ عاقبة وأشدّ وطئاً، من هذه الأغلال... أغلال الخرافة والوهم، وسلاسل التخيّلات والأساطير؟!!

أوضاع العرب الإجتماعية قبيل ظهور الإسلام

إنّ أوّل خطوة خطاها البَشَر باتّجاه النمط الإجتماعي كانت عندما أقْبَل على تأسيس وإقامة الحياة القبلية، فالقبيلة تتكوّن من إجتماع عدّة عوائل وأُسر مترابطة فيما بينها بوشائج القربى والنسب تحت زعامة شيخ القبيلة، وبهذا يتحقّق أبسط نمط من أنماط الحياة الإجتماعية.

ص:97


1- . سنن ابن ماجة: 2/1167 برقم 3530؛ التاج الجامع للأُصول: 3/203. قال مؤلِّف الجامع: «التولة»: نوع من السحر يحبّب الرجلَ إلى زوجته، وهو من عمل المشركين (أي في الجاهلية).
2- . صحيح مسلم: 7/35، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان.
3- . الأعراف: 157.

وقد كانت الحياةُ العربية - آنذاك - من هذا القبيل، فكلُ مجموعة من العوائل المترابطة نسبياً تتجمع في شكل قبيلة، وتشكل بذلك مجتمعاً صغيراً يخضع فيه الجميع لأوامر رئيس القبيلة وزعيمها، ولقد كان الجامع بين أفراد القبيلة هو الرابطة القومية، والوشيجة النسبية، وكانت هذه القبائل تختلف في عاداتها ورسومها، وتقاليدها وأعرافها، اختلافاً كبيراً، وإذ كانت كلّ قبيلة تعتبر القبائل الأُخرى غريبة عنها لذلك كانت لا تقيم للآخرين وزناً ولا قيمة، ولا تعترف لهم بأيّ حق أو حرمة.

ولهذا كانت ترى الإغارة على الآخرين وقتلهم، ونهب أموالهم، وسلب ممتلكاتهم وسبي نسائهم من حقوقها القانونية المشروعة، اللّهم إلّاأن يكون بين القبيلة، والقبيلة الأُخرى حلف أو معاهدة.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر كانت القبيلة الّتي تتعرض للإغارة من جانب قبيلة أُخرى ترى من حقّها أن تردَّ الصاع صاعين، فتقتل كلّ أفراد القبيلة المغيرة، لأنّ الدّم - في نظرهم - لا يغسله إلّاالدّم!!!

ولقد تبدّلت أخلاقيةُ العرب هذه بعد انضوائهم تحت لواء الإسلام الحنيف، بل تحوَّلوا من نمط الحكومة القبلية المتخلّفة والنظام العشائري الضيّق هذا، إلى حكومة عالميّة، واستطاع رسولُ الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم أن يؤلّف من القبائل العربية المتفرّقة أُمّة واحدة.

ولا شكّ أنّ تأليف أُمّة واحدة من قبائل وجماعات اعتادت طوال سنين مديدة من التاريخ على التناحر والتنازع، والتخاصم والتقاتل، والتهاجم والإغارة فيما بينها، واستمرأت سفك الدماء، وإزهاق الأرواح، وذلك في مدّة قصيرة، عملٌ عظيم جدّاً، ومعجزة اجتماعية لا نظير لها، لأن مثلَ هذا التحوُّل العظيم إذا أُريدَ لَهُ أن

ص:98

يتمَّ عبر التحوُّلات والتطوّرات العاديّة لاحتاج إلى تربية طويلة الأمد، ووسائل لا تحصى كثرة.

يقول «توماس كارليل» في هذا الصدد: لقد أخرج اللّه العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور، وأحيا به منها أُمّة خاملة لا يُسمعُ لها صوتٌ ولا يُحسُّ فيها حركة، حتّى صار الخمولُ شُهرة، والغموض نباهة، والضعة رفعة، والضعف قوّة، والشرارة حريقاً، وشمل نورُه الأَنحاء، وعمَّ ضوؤه الأرجاء، وما هُو إلا قرنٌ بعد إعلان هذا الدين حتّى أصبح للعرب (المسلمين) قدمٌ في الهند وأُخرى في الأندلس.(1)

وإلى هذه الحقيقة يشير أيضاً مؤلّف تاريخ اللغات السامية الشهير «رينان» قائلاً: «لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسيّ والثقافي والدينيّ قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الّذي صار به العربُ أُمّة فاتحة مُبدعة ولم يكن لجزيرة العرب شأنٌ في القرون الأُولى مِنَ الميلاد، حين كانت غارقة في دياجير ما قبل التاريخ».(2)

أجل إنَّ هذه القبائل العربية الجاهلية المختلفة المتناحرة لم تكن تعيش أيّة حضارة، ولم تمتلك أيّة تعاليم وقوانين، وأنظمة وآداب قبل مجيء الإسلام، لقد كانت محرومة من جميع المقوّمات الإجتماعية الّتي توجبُ التقدّم والرقي، ولهذا لم يكن من المتوقّع أبداً أن تصل إلى تلك الذرى الرفيعة من المجد والعظمة، ولا أن تنتقل من نمط الحياة القبلية الضيّقة إلى عالم الإنسانية الواسع، وأُفق الحضارة الرحيب بمثل هذه السُّرعة الّتي وَصَلت إليه والزمن القصير الّذي انتقلت فيه.

ص:99


1- . المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام للصواف: 38؛ الإسلام والعلم الحديث: 33. وراجع الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل: 2/624.
2- . حضارة العرب: 87.

إنَّ مَثَل الشعوب والأُمم البشرية مثل المباني والعمارات تماماً.

فكما أنّ البناء القويّ الراسخ يحتاج إلى موادّ إنشائية قويّة معدَّة بإتقان ومحضّرة بإحكام حتّى يستطيع البناء المصنوع من هذه الموادّ، والمؤسّس بعناية وهندسة متقَنة من الوقوف في وجه الأعاصير، والأمطار الغزيرة كذلك يحتاج كيانُ كلّ أُمّة رشيدة من الأُمم إلى أُسس وقواعد محكمة (وهي الأُصول والآداب الكاملة، والأخلاق الإنسانية العالية) لتستطيع البقاء والتقدّم.

ولهذا السبب لابدّ من التأمّل في أمر وسرّ هذه الظاهرة العجيبة ولابد أن نتساءل:

كيف تحقّق ذلك التطوّرُ العظيم، وذلك التحوّل العميق للعرب الجاهلية، ومن أين نشأ؟؟

كيف أمكن أن تتحوّل جماعة متشتتة، متعادية، متناحرة، متباغضة، فيما بينها، بعيدة عن النظم الإجتماعية، بمثل هذه السرعة إلى أُمّة متآلفة متآخية متعاونة متسالمة متحابّة، وتشكّل دولة قوّية وكياناً سياسياً شامخاً أوجب أن تخضع لها دول العالم وشعوبه، وتطيعها، وتحترم مبادءها وأخلاقها وآدابها آنذاك.

حقّاً لو كان في مقدور العرب أن يحرزوا ذلك التقدّم الهائل بفعل عامل ذاتي فلماذا لم تستطع عربُ اليمن الّذين كانوا يمتلكون شيئاً كبيراً من الثقافة والحضارة، والذين عاشوا الأنظمة الملكية سنيناً عديدة، بل وربَّت في أحضانها ملوكاً وقادة كباراً، أن تصل إلى مثل هذه النهضة العظيمة الشاملة، وتقيم مثل هذه الحضارة العريضة الخالدة.

لماذا لم تستطع العربُ الغساسنَة الذين كانوا يجاورون بلادَ الشام المتحضّرة، ويعيشون تحت ظلّ حضارة «الروم» أن يصلوا إلى هذه الدرجة من الرشد؟

ص:100

لماذا لم تستطع عربُ الحيرَة الذينَ كانُوا - وإلى الأمس القريب - يعيشون في ظلّ الإمبراطورية الفارسية أن ينالوا مثل هذا الرقي والتقدّم؟ وحتّى لو وصلوا إلى هذه الدرجة من التقدّم وحقّقوا هذه القفزة فإنّه لم يكن أمراً يثير العجب لأنّهم كانوا يعيشون في أحضان مدنيات كبرى، ويتغذون منها، ولكن الّذي يثير الدهشة، والعجب هو أن يستطيع عرب الحجاز من تحقيق هذه النهضة الباهرة، ويرثوا الحضارة الإسلامية العظمى وهم الذين كانوا يفتقرون إلى أبسط مقوّمات الحضارة الذاتية، ولم يكن لهم عهدٌ بأيَّ تاريخ حضاريّ مشرق، بل كانُوا كما عرفت يرزحون تحت أغلال الوَهْم والتخَيُّل، ويسيرون في ظلمات الخرافات والأساطير.

***

دُوَل الحيرة وغسّان

على العموم كانت المناطقُ ذاتُ المناخ الجيّد من الجزيرة العربية حتّى آخر قرن قبل الإسلام تحت سيطرة ثلاث دول كبرى هي: «إيران»، «الروم»، «والحبشة».

فالشرق والشمال الشرقي من هذه المنطقة كانت تحت حماية «إيران».

والشمال الغربي كان تابعاً للروم.

والمناطق المركزية والجنوب كانت تحت نفوذ «الحبشة».

وعلى إثر مجاورة هذه المناطق للدول المتحضّرة المذكورة، وما كان بينها من نزاع وتنافس دائمين، ظهرَت في المناطق الحدودية للجزيرة العربية دول شبه متحضّرة، وشبه مستقلّة كان كلُّ واحدة منها تابعة في حضاراتها لدولة متمدّنة عظمى تجاورها.

وقد كانت دول «غسان»، و «الحيرة» «وكندة» من هذه الدول شبه المستقلّة

ص:101

وشبه المتمدّنة، وكانت كلُّ واحدة منها تابعة لإحدى الدول العظمى آنذاك: «إيران»، «الروم»، «الحبشة».

الحيرة: يتبيَّن من الآثار والأخبار أنّه هاجرت - في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد - بعضُ الطوائف العربية، وذلك في نهايات الحكم الأشكناني، إلى الأراضي المجاورة للفرات، وسيطروا على قسم من أراضي العراق، وقد أوجدت هذه الجماعةُ المهاجرةُ القرى والقلاع هناك، شيئاً فشيئاً، وأحدثت المدنَ الّتي مِن أهمّها: «الحيرة» الّتي كانت تقعُ على حافة صحراء بالقرب مِن مدينة الكوفة الحالية. وقد كانت هذه المدينة - وكما يظهر من اسمها - في بداية أمرها قلعة (لأنّ الحيرة تعني في اللغة السريانية: الدير وما يشبهه) يسكنها العرب ثم تطوّرت شيئاً فشيئاً إلى مدينة.

وقد ساعد مناخها الجميل، والمياهُ الوافرة الّتي تأتي إليها من الفرات، وجودة الأحوال الطبيعية الأُخرى إلى أن تجتذب اليها أصحاب الصحراء، وسكان البوادي، والقفار، كما واستطاعت هذه المدينة وبفضل مجاورتها للحضارة الفارسية أن تكتسب من ثقافتها ومدنيتها ما أفاض عليها لوناً من الحضارة والمدنية، وقد بُنيت بالقرب من «الحيرة» قصورٌ مثل «الخورنق» الّذي أضاف إلى هذه المدينة جمالاً وبهاء خاصّين، وقد تعرَّف العربُ الساكنون في هذه المنطقة على الخط والكتابة، ويمكن أن تكون الكتابة والقراءة قد سرتا منها إلى بقية مناطق الحجاز ومُدُنها.(1)

ولقد كان ملوك «الحيرة» وأمراؤها من اللخميّين العرب يؤيّدون من قِبَل الدولة الإيرانية بقوّة، وسبب هذا التأييد، والحماية الإيرانية لأُمراء الحيرة وملوكها

ص:102


1- . فتوح البلدان للبلاذري: 457.

كان يكمن في أنّ ملوك إيران - آنذاك - كانوا يُريدون أن تكونَ الحيرة سَدّاً، وحاجزاً بينهم وبين عرب البادية، يدفعون بهم خطرَ الغزاة من أهل الصحارى على الحدود الإيرانية.

ولقد سجَّلَ التاريخُ أسماء هؤلاء الأُمراء؛ وقد نظم «حمزة الأصفهاني» فهرستاً بأسمائهم، وجدولاً بأعمارهم ومُدد حكوماتهم، ومن كان يعاصرهم من ملوك بني ساسان الإيرانيين.(1)

ومهما يكن الأمر فإنّ دولة اللخميّين العرب كانت من أكبر الحكومات العربية شبه المتحضّرة في منطقة الحيرة، وكان آخر ملوك هذه السلسلة هو «النعمان بن المنذر» صاحب القصة التاريخية الّتي تتضمّن خلعه من الحكم، وقتله بواسطة الملك الإيراني: «خسرو برويز».(2)

غَسان: في أوائل القرن الخامس أو أوائل القرن السادس الميلادي هبط جماعة من المهاجرين اليمنيين في الشمال الغربي - أقصى نقاط الجزيرة العربية - وفي جوار الإمبراطوريّة الروميّة، وأسّسوا دولة الغساسنة، وقد كانت هذه الدولة تحت حماية الروم، وكان مُلوكُها يُنصبّون من جانب إمبراطوريات «قسطنطينية» مباشرة، تماماً كما كان مُلُوك «الحيرة» يُنصبّون من جانب ملوك إيران.

ولقد كانت دولة الغساسنة متحضّرة نوعاً ما، وحيث إنّ مراكز حكمها كانت قريبة من ناحية إلى «دمشق» ومجاورة ل: «بُصرى» مركز القسم الرومي من الجزيرة العربية من ناحية أُخرى، لذلك تأثّرت بحضارة الروم تأثّراً كبيراً وبالغاً.

ولقد كان الغساسنة متحالفين مع الروم بسبب ما كان بينهم وبين ملوك الحيرة اللخميّين العرب والإيرانيين من الاختلاف والنزاع، ولقد حكم في دولة الغساسنة

ص:103


1- . لاحظ: سِنيِّ ملوك الأرض: 73-76.
2- . لاحظ: الأخبار الطوال: 109.

تسعة أو عشرة من الأُمراء والملوك تباعاً.

الدين في أرض الحجاز

لقد كان الدينُ الرائج في الحجاز هو الوثنية، وعبادة الأصنام.

نعم كانت هناك أقليّات دينية يهودية تقطن في يثرب (المدينة فيما بعد) وخيبر، كما أنّه كان هناك من يتبع المسيحية وهم سكّان نجران، البلد الحدودي لليمن والحجاز.

وكان الدين الرائج في المناطق الشمالية من الحجاز (أي الشام حالياً) هو المسيحية بسبب مجاورة هذه المناطق للروم وخضوعها للسيادة الرومية.

ولو أنّنا استثنينا من الحجاز هذه المناطق الحسّاسة الثلاث لما وجدنا في بقية مناطق الحجاز إلّاالوثنية في أشكال مختلفة، واعتقادات متنوعة، اللّهم إلّابضع أفراد كان عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد ممّن يُسمّون بالأحناف كانوا على دين التوحيد، وكان عددهم بالنسبة إلى الأكثرية الساحقة من العرب الوثنيين قليلاً جدّاً.

فمنذ زمن النبيّ «إبراهيم» الخليل وابنه «إسماعيل» عليهما السلام دخل التوحيد، ودخلت بعض التعاليم الأخلاقية والدينية إلى أرض الحجاز، وكان الحج وأداء مناسكه إحتراماً للكعبة الشريفة هو أحدُ هذه التعاليم والسنن الّتي دخلت مع «الخليل» إلى هذه المنطقة، ثم إنّ رجلاً من قبيلة «خزاعة» يسمى «عمرو بن لحي» الّذي كانت زعامة مكّة قد عهدت إليه، أدخل عبادة الأوثان في مكّة في ما بعد، وذلك عندما سافر هذا الخزاعي إلى بلاد الشام فوجد قوماً من العمالقة يعكفون على تماثيل جميلة النقش والمنظر يعبدونها، ويؤلّهونها، فقال لهم: ما هذه الأصنام الّتي أراكُم تعبدون؟؟ قالوا له: هذه أصنامٌ نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها

ص:104

فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنماً يقال له: «هُبَل» فقدم به مكّة فنصبه ودعا الناس إلى عبادته، وتعظيمه.(1)

وهكذا دخلت الوثنية إلى «مكّة» المكرّمة، وأصبحت عبادة الأوثان والأصنام عبادة رائجة في تلك الديار.

وأشهر أصنام العرب هي:

1. هبل وكانت أعظم أصنام العرب الّتي في جوف الكعبة.

2. اساف.

3. نائلة وكانت هي واساف على موضع زمزم ينحرون عندهما.

4. اللات وكانت لثقيف بالطائف.

5. العُزّى وكانت بنخلة الشامية، وكانت لقريش وبني كنانة.

6. مناة وكانت للأوس والخزرج ومن ذهب مذهبهم من أهل يثرب.

7. عميانس وكان بأرض خولان يقسمون له من أنعامهم وحروثهم.

8. سعد.

9. ذوالخلصة وكانت لدوس وخثعم وبجيلة.

10. مناف.(2)

ولقد كانت هذه هي أشهر أصنام العرب علاوة على الأصنام الأُخرى غير المعروفة الّتي كانت تختصُّ بطائفة دونَ أُخرى، أو بعائلة دون عائلة.

ص:105


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/50-51. والعمالقة هم طائفة من العرب عاشوا وسادوا ثمّ بادوا قبل الإسلام.
2- . راجع الأصنام للكلبي، والمحبر: 315-319.

العلم والثقافة في الحجاز

كان أهلُ الحجاز يوصَفون بالأُميّين، والأُميّ هو من لم يتعلّم القراءة والكتابة، فهو كمن ولدتهُ أُمّه، أو هو باق في عَدم العلم بالقراءة والكتابة على الحالة الّتي ولدته عليها أُمّه. ولأجل أن نعرف مدى ما كان عليه العلمُ والثقافة عند العرب من القيمة يكفي أن نعلم بأنّ عدد الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة بين قريش إلى ما قبل ظهور الإسلام لم يكن يتجاوز (17) شخصاً في مكّة و (11) نفراً فقط من بين الأوس والخزرج في المدينة.(1)

إذا لاحظنا هذا التخلّف والانحطاط في مجال العلم والثقافة في البيئة العربية الجاهلية يتّضح لنا مدى تأثير الإسلام، وأدركنا عظمة التعاليم الإسلامية في جميع الحقول الإعتقادية والإقتصادية والأخلاقية والثقافية، ولابدّ في تقييم الحضارات أن نطالع وندرس الحلقة السابقة، ثم نقيّم الحلقة التالية في ضوء ذلك، وفي هذه الصورة نقف على عظمة تلك الحضارة الحقيقية.(2)

الإمام عليّ عليه السلام يصف العهد الجاهليّ

وقد وصف الإمامُ عليّ أميرُالمؤمنين عليه السلام تلك الحالة في خطبه، وحيث إنّه

ص:106


1- . راجع: فتوح البلدان: 457-459.
2- . للوقوف على معلومات أوسع وأكثر حول عقائد مختلف طوائف المجتمع العربي الجاهلي، وثقافتها وتقاليدها راجع الكتابين التاليين: ألف: «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» تأليف السيد محمود الآلوسي المتوفّى عام 1270 هجري قمري. باء: «المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام» تأليف الأُستاذ جواد علي، وهذا الكتاب أُخرجَ في (10) مجلدات، وقد بُحثَ فيها كل ما يرتبط بحياة العرب في العهد الجاهلي.

عاصر ذروة ذلك الوضع المأساوي ووصفه وصفاً دقيقاً، لذلك ينبغي أنْ نقف عند كلامه قليلاً ليتبيْن لنا جيّداً ما كان عليه العربُ إبّان عهد الرسالة الإسلامية المباركة:

قال عليه السلام في الخطبة (الثانية) من «نهج البلاغة»:

«... وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّداً عَبدُهُ وَ رَسوله أرْسَلَهُ بالدينِ المَشْهُور والعَلَمِ المأثور، والكِتاب المَسْطُور، والنُّور الساطِع، والضِياء اللامع، والأمر الصادع، إزاحة للشُبهات واحتجاجاً بالبَّيِنات وَ تَحْذيراً بالآيات، وتَخْويفاً بالمَثُلات(1)، والناسُ في فتن انْجَذَم(2) فيها حَبْلُ الدِّينِ، وتزَعْزَعتْ سَواري(3) اليَقْينِ واْختَلَفَ النَجْرُ(4)، وتَشتَّتَ الأمرُ، وَضاقَ الَمخْرَجُ، وعَمِيَ المَصْدَرُ، فالهُدى خامِلٌ، والعَمى شامِلٌ، عُصِيَ الرَّحْمنُ و نُصِرَ الشَيْطانُ وَ خُذِلَ الإيْمانُ، فَانْهارَت دَعائِمهُ، وتَنكَّرَتْ مَعالِمُهُ وَدَرَست(5) سُبُلُه وعَفَت شُرُكُه(6)، أطاعُوا الشَيْطانَ فَسلكُوا مسالِكه، وورَدُوامناهِلَه(7) بِهِمْ سارتْ أعلامُه، وقامَ لِواؤُهْ في فِتَن داستْهُمْ بأَخْفافِها(8)ووَطِئَتْهُمْ بِأَظْلافِها(9) وقامَتْ عَلى سَنابِكِها(10) فَهُمْ فيها تائهون حائرُونَ جاهِلُونَ مَفْتُونُونَ في خَيْر دار وَشَرِّ جِيْران نُومُهُمْ سُهُودٌ وَ كُحْلُهمْ دُمُوعٌ بأَرْض عالِمُهْا مُلْجَمٌ وجاهِلُها مُكرَمٌ.(11)

ص:107


1- . المثلات: العقوبات.
2- . انجذم: انقطع.
3- . السواري: الدعائم.
4- . النجر: الأصل.
5- . درست: انطمست.
6- . الشُرك: الطُرق.
7- . المنهل: مورد النهر.
8- . الخف: هو للبعير كالقدم للإنسان.
9- . الظلف: للبقر والشاة كالخفّ للبعير والقدم للإنسان.
10- . السنابك: طرف الحافر.
11- . نهج البلاغة: 46-47، تحقيق صبحي الصالح.

وقال في الخطبة (التاسعة والثمانين) أيضاً:

«أرْسَلَهُ (صلّى اللّه عليه وآله) عَلى حِين فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وَطُول هَجْعة من الأُمَم واعْتزام(1) مِنَ الفِتَن، وانْتِشار مِن الأُمور وَتلظٍّ(2) مِنَ الحرُوب، والدُّنْيا كاسِفَةُ النُّور ظاهِرَةُ الغُرُور، عَلى حينِ اْصفِرار مِنَ وَرَقها، وإياس مِنْ ثَمَرها واغْورار(3) مِنْ مائها، قَد دَرَسَت مَنارُ الْهُدى وَ ظَهَرَتْ أَعلامُ الرَّدى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَة(4) لأهْلِها عابِسةٌ فيْ وَجْه طالِبها، ثَمَرُها الفِتْنَةِ وَ طَعامُها الجيْفَةُ (5)، وشعارُها الخوفُ، وَدثارُها السَيْفُ».(6)

وَقالَ في الخطبة (السادسة والعشرين): «إنَّ اللّه بَعَث مُحمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم نَذيراً لِلعالَمِين، وأمِيْناً عَلى التَّنْزيْل، وَأنتُم مَعشَر العَرَب عَلى شَرِّ دينٍ وَفي شَرِّ دار، مُنِيخُونَ (7) بَيْنَ حِجارَةٍ خُشْنٍ (8) وحَيّات صُمٍّ (9) تَشربُونَ الكَدِرَ وَتَأَكُلُونَ الجَشِبَ (10) وَتَسْفِكُونَ دِماءكُمْ وتقطعُونَ أَرْحامَكُمْ، الاْصنامُ فيكُم مَنْصوبَة، وَالآثامُ بِكُمْ مَعْصُوبَة(11)».(12)

ص:108


1- . اعتزم الفرس: إذا مرّ جامحاً.
2- . تلظٍّ: تَلَهُّبٍ.
3- . اغورار الماء: ذهابه.
4- . تجهّمه: استقبله بوجه كريه.
5- . إشارة إلى أكل العرب للميتة من شدة الاضطرار.
6- . نهج البلاغة: 121-122.
7- . منيخون: مقيمون.
8- . الخُشّن: جمع خشناء من الخشونة.
9- . الصُمّ: الّتي لا تسمع لعدم انزجارها بالأصوات.
10- . الجشِب: الطعام الغليظ.
11- . معصوبة: مشدودة.
12- . نهج البلاغة: 68.

وقال عليه السلام في الخطبة (الثالثة والثلاثين): «إنَّ اللّه بعثَ مُحمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم ولَيسَ أحدٌ مِنَ العَرب يقرأُ كِتاباً ولا يدّعي نُبوّة، فساق الناس حتّى بوَّأَهُمْ محلَّتهُمْ (1)، وَبلَّغهُمْ مَنجاتَهُمْ، فَاستقامَتْ قَناتُهُمْ (2)، واطمأَنَّت صفاتُهُمْ».(3)

وقال في الخطبة (الخامسة والتسعين) أيضاً:

«... بَعَثَهُ (صلّى اللّه عليه وآله) والنّاسُ ضُلالٌ في حَيْرَة، وَحاطِبُونَ في فِتْنَةٍ، قَد اسْتَهْوَتْهُمْ الأَهْواء، وَاسْتَزَلَّتْهُمْ الْكِبْرياء وَاسْتَخَفَّتْهُمْ (4) الجاهِليَّةُ الجَهْلاء، حُيارى في زلْزال مِنَ الأَمْر، وَبَلاء مِنَ الْجَهْلِ، فَبالَغَ صلى الله عليه و آله و سلم في النَّصِيْحَةِ، وَمَضى عَلى الطَّريْقَةِ، وَدَعا إلى الْحِكْمَةِ وَ الْمَوعِظَةِ الْحَسَنَةِ».(5)

وقال عليه السلام: في الخطبة (السادسة والتسعين) أيضاً:

«... مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، وَمَنْبَتُهُ أشْرَفُ مَنْبَتٍ في مَعادِنِ الْكَرامَة، وَمَماهِدِ(6)السَّلامَةِ، قَدْ صُرفَتْ نَحْوَهُ أَفْئدةُ الأَبرار، وَثُنِّيَتْ إلَيْهِ أزمَّةِ الأَبْصار، دَفَنَ اللّه بِهِ الضَّغائِنَ، وَأطْفأَ بِهِ الثَّوائرَ(7) أَلَّف بِه إخْواناً، وَفَرَّقَ بِهِ أقْراناً، أَعزَّ بِهِ الذّلة، وَأَذَلِّ بِهِ الْعِزَّة، كَلامُهُ بَيانٌ وَ صَمْتُهُ لِسان».(8)

وقال عليه السلام في الخطبة (151) أيضاً:

ص:109


1- . بَوّأهم محلَّهُمْ: أنزلَهم منزلتهم.
2- . القناة: العود كناية عن القوّة.
3- . نهج البلاغة: 77.
4- . استخفتّهم: طيّشَتْهُمْ.
5- . نهج البلاغة: 140.
6- . الممهَد: ما يُبسَط فيه الفراش.
7- . الثائرة: العدواة.
8- . نهج البلاغة: 141.

«... أضاءتْ بِه [صلى الله عليه و آله و سلم] البلاد بَعْدَ الضَّلالَةِ المُظْلِمَةِ، والْجهالَةِ الغالِبَةِ، والْجَفْوَة الْجافِيَةِ، وَالنّاسُ يسْتَحِلُّونَ الْحَريمَ، وَيَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيْمَ، يَحْيونَ عَلى فَتْرَة(1)، وَيَمُوتُونَ عَلى كَفْرَة».(2)

وقال عليه السلام في الخطبة (198):

«.. ثُمَّ إنَّ اللّه سُبْحانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم بِالْحَقِّ حِيْن دَنا مِنَ الدُّنْيا الإنْقِطاعُ وَ أقْبَلَ مِنَ الآخِرَة الإطّلاع(3)، وَأظْلَمَتْ بَهْجَتُها بَعْدَ إشْراقٍ، وَقامَتْ بأهْلِها عَلى ساقٍ، وَخَشُنَ مِنها مِهادٌ(4)، وَأَزفَ (5) منها قيادٌ، في انْقِطاعٍ مِنْ مدّتها وَاقْتِراب مِنْ أَشْراطِها(6)، وَتَصَرُّم(7) مِنْ أَهْلِها وانْفِصامٍ (8) مِنْ حَلْقَتِها، وَانْتِشارٍ(9) مِنْ سببها وَعَفاء(10) مِنْ أعْلامِها، وَتَكَشُّفٍ مِنْ عَوْراتِها وَ قِصَرٍ مِنْ طُولِها».(11) وقال عليه السلام في الخطبة (213):

«أَرْسَلَهُ بِالضِّياء وَ قَدَّمَهُ في الْإصْطِفاء، فَرتَقَّ (12) به المَفاتِقَ (13)، وَساوَرَ(14)بِه المُغالِبَ، وَذَلَّلَ بِه الصُّعُوبَة، وَسَهّل بِهِ الحُزُونَةَ (15)، حَتّى سَرَّحَ الضَّلالَ عَنْ

ص:110


1- . على فترة: على خلوّ من الشرائع.
2- . نهج البلاغة: 210.
3- . الاطّلاع: الإتيان.
4- . خشونة المهاد: كناية عن شدّة آلام الدنيا.
5- . ازف: قرب.
6- . الشَرط: العلامة.
7- . التصرّم: التقطّع.
8- . الانفصام: الانقطاع.
9- . انتشار الأسباب: تبدّدها حتّى لا تُضبّط.
10- . عفاء الأعلام: اندراسها.
11- . نهج البلاغة: 314-315.
12- . رتق: سدّ به الفتقَ.
13- . المفاتق: مواضع الفتق.
14- . ساور: ثاوبَ.
15- . الحزونة: غلظ في الأرض.

يمين وَ شِمال».(1)

وقال في الخطبة (191):

«وَأشهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه ابْتَعَثه وَ النّاسُ يَضربُون في غَمْرةٍ (2)، وَيَمُوجُونَ في حَيْرَةٍ قَدْ قادَتْهُمْ أزمَّةُ الحَيْنِ (3)، وَاستَغْلَقَتْ عَلى أَفْئدَتِهِمْ أقْفالُ الرَّيْنِ»(4).(5)

فاطمة الزهراء عليها السلام تصف الوضع الجاهلي

وقد وصفت السيّدة فاطمة الزهراء بنتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم العهدَ الجاهلي بمثلِ ذلك إذ قالت في خطبتها أمام أبي بكر والمسلمين:

«فَبَلَّغَ (أي رسولُ اللّه) الرِّسالة صادِعاً بالنَّذارة،(6) مائلاً عن مَدْرَجَةِ المُشْركيْن ضارباً ثَبَجَهُمْ،(7) آخِذاً بأَكْظامِهمْ داعِياً إلى سَبِيْل رَبِّه بِالحِكْمَةِ وَالْمَوْعظَةِ الْحَسَنَةِ يجف الْأَصْنامَ و يَنْكُثُ الهامَ (8) حتّى انْهَزَمَ الجَمْعُ وَوَلُّوا الدُّبُر حَتى تَفَرّى الليلُ عَنْ صُبْحِهِ وَأسْفَرَ الحَقُ عَنْ محْضِهِ (9) وَنَطَقَ زَعيمُ الدين وَخَرستْ شَقاشقُ (10) الشَّياطين وطاحَ وَشِيظُ(11) النَّفاقِ وانَّحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْر

ص:111


1- . نهج البلاغة: 330.
2- . الغَمرة: الماء الكثير.
3- . الحين: الهلاك.
4- . الرين: التغطية.
5- . نهج البلاغة: 283.
6- . النذار: الإنذار.
7- . الثبج: الكاهل.
8- . الهامة: الرأس.
9- . المحض: الخالص.
10- . الشقشقة: شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير إذا هاج.
11- . الوشيظ: الأتباع والخدم.

والشِّقاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإخْلاص في نفَر مِنَ البيض الْخِماص وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَة مِنَ النّار مُذْقَةَ (1) الشّارب، وَنُهْزَة(2) الطامِع وقَبْسَةِ العِجْلان(3)، وَمَوطئَ الأَقْدامِ تَشْرَبُونَ الطَرقَ (4). وَ تَقْتاتُونَ القِدَّ(5)، أذِلَّةً خاسِئينَ، تَخافُونَ أنْ يَتخَطَّفَكُم النّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذكُمُ اللّه تبارك وتَعالى بِمُحَمَّدٍ بَعْدَ أن مُنِيَّ بِبُهْم(6) الرجال وَ ذُؤبانِ الْعَرَب، وَمَرَدة أهْلِ الْكِتاب(7)، كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرب أطْفأَها اللّه، أوْ نجَمَ (8) قَرْنُ الشَّيْطانِ أوْ فَغرَتْ (9) فاغِرَةً مِنَ الْمُشركيْن، قَذَفَ أخاهُ في لَهواتِها(10)فَلا يَنْكَفِئُ (11) حَتّى يَطَأ جناحها بَأخْمصِهِ».(12)

جعفر بن أبي طالب يصف العهد الجاهلي

ويشهد بذلك أيضاً ما قاله جعفر بن أبي طالب رحمه الله عند النجاشي ملك الحبشة عندما أراد مَبعوثا قريش استعادتَهما إلى مكّة:

أيّها الملك، كُنّا قوماً أهلَ جاهِليَّة، نعبدُ الأصنام، ونأكلُ الميتة، ونأتي

ص:112


1- . المذقة: شربة من اللبن الممزوج بالماء.
2- . النهزة: الفرصة.
3- . قبسة العجلان: الشعلة من النار الّتي يأخذها الرجل العاجل.
4- . الطرق: الماء الّذي خوضته الابل وبوّلت فيه.
5- . القد: قطعة جلد غير مدبوغ.
6- . البهمة: الشجاع الذى لا يهتدي من أن يؤتى.
7- . المارد: العاتي.
8- . نجم: طلع.
9- . فَغرت: فتحت.
10- . اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم.
11- . ينكفئ: يرجع.
12- . الاحتجاج للطبرسي: 1/136. وراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 16/250؛ بلاغات النساء لابن طيفور: 12-13.

الفواحِشَ، ونقطعُ الأرْحام، ونسيء الجوارِ، ويأكلُ القويُ مِنّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتّى بعث اللّه إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبَه وصدقَه وأمانَتَه وعفافَه، فدعانا إلى اللّه لنوحِّده ونعبده، ونخلعُ ما كنّا نعبدُ نحنُ وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسْنِ الجوار، والكفِّ عن المحارم والدّماء، ونَهانا عنِ الفَواحِش، وقول الزُور، وأكل مالِ اليَتيمِ، وقذفِ المحصَناتِ، وأمَرنا أنْ نَعبُدَ اللّه وَ حدَهُ لا نشركُ بِهِ شيئاً، وأمَرَنا بالصّلاةِ والزّكاةِ والصِيام - قالت: فعدّد عليه أُمور الإسلام -(1) فصدّقناه وآمَنّا به واتَّبْعناهُ على ما جاء به من اللّه، فعبدنا اللّه وحدَه فلم نشرك به شيئاً، وحرَّمنا ما حرّمَ عَلَيْنا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فَعدا علينا قومُنا فَعذَّبُونا وافتتنونا عن ديننا، ليردُّونا إلى عبادة الأَوثان مِنْ عِبادَة اللّه تعالى، وأنْ نَسْتَحِلَّ ما كنا نَستحِلَّ من الخَبائث.(2)

ص:113


1- . يعني: أُمّ سلمة، راوية الحديث.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/223-224.

4 إمبراطوريّتا الرُوم وإيران إبّان عهدِ الرِّسالةِ

اشارة

للوقوف على أهميّة النهضة الإسلامية المباركة الّتي تحقّقت على يدي النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بعد إرساله من جانب اللّه تعالى وقيمتها، تكتسبُ دراسة بيئتين اجتماعيّتين أهميّة قصوى، وتانِك البيئتان هما:

1. بيئةُ نزول القرآن الكريم، أي البيئة الّتي ظهر فيها الإسلامُ، وترعرع ونما.

2. البيئة العالمية (خارج الجزيرة العربية)، ويعرف ذلك بدراسة عقائد الناس وأفكارهم في أكثر مناطق العالم - يومَذاكَ - مدنية وحضارة، ومطالعة آدابهم وأخلاقهم وتقاليدهم، وأعرافهم، ومدنيّاتهم الّتي كانت تعتبرُ أفضل الأفكار والمدنيّات، وأرقى الحضارات، والأوضاع آنذاك.

ولقد كانت بيئتا: الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الإيرانية ألمع نقطة في ذلك اليوم، كما يدلنا التاريخ على ذلك. ولابدَّ استكمالاً لهذا البحث من دراسة الأَوضاع في هاتين الإمبراطوريتين، في مناطقها، ومن نواحيها المختلفة، لنقف من هذا الطريق على قيمة الحضارة الّتي أتى بها الإسلام، ونعرف ذلك بوجه أفضل.

***

أوضاع الروم إبَان عهد الرسالة

إنّ أوضاع الروم لم تكن بأقل سوءاً من أوضاع منافستها «إيران» فالحروب

ص:114

الداخلية من جانب والمعارك الخارجية المستمرة مع «إيران» وصراعها الدائم المستمر مع الأخيرة على منطقة «أرمينية» وغيرها، كلّ ذلك كان يهيّئ الناس في تلك البلاد للقبول بثورة جديدة تضع حدّاً لمآسيهم ومحنهم.

ولقد كان للاختلافات والمنازعات الطائفية والمذهبية النصيب الأكبر والأَوفر في توسيع رقعة هذه الاختلافات، والمنازعات.

فالحربُ لم تتوقَفْ أبداً بين الوثنيّين والمسيحيّين ولم تنطفئ شرارتها يوماً أبداً.

فكان إذا غَلَب رجالُ الكنيسة على دست الحكم وأخذوا بمقاليده مارسوا أشدّ أنواع الضغط والاضطهاد بحقِّ خصومهم ومنافسيهم الأمر الّذي كان يساعد على إيجاد أقليّة ناقمة من جهة، كما ويمكن اعتبار ذلك عاملاً مساعداً من جهة أُخرى على تهيئة الشعب الروماني لاحتضان الدعوة الإسلامية، وتقبّلها.

لقد كان حرمانُ طوائف كثيرة ومختلفة ناشئاً من ممارسات رجال الكنيسة القاسية ومواقفهم المتزمتة.

هذا مضافاً إلى أنّ اختلاف القساوسة والرهبان النصارى فيما بينهم من جهة، وتعدّد المذاهب من جهة أُخرى كان يعمل على التقليل من هيبة الإمبراطورية الرومانية وجرّها إلى الضعف والوهن المتزايد يوماً بعد يوم.

هذا بغضّ النظر عن أنَ البيض والصُفر من سُكّان الشمال والمشرق كانوا يفكّرون في السيطرة على المناطق الغنية من أُوربا، وربّما ألحق أحدُهما بالآخر خسائر فادحة وباهضة في الصراعات والصادامات الّتي كانت تقع بينهما. وكان هذا هو نفسُه السبب في أن تنقسم الامبراطوريةُ الرومانية إلى معسكرين: المعسكر (أو القسم) الشرقي، والمعسكر (أو القسم) الغربي.

ص:115

ويعتقد المؤرّخون أنّ أوضاع الروم السياسية، والاجتماعية والاقتصادية في القرن السادس كانت مضطربة، ومتدهورة جدّاً، حتّى أنّهم لا يرون في غلبة الروم وتفوّقها على إيران شاهداً على قدرتها العسكرية، بل يرون أنّ هزيمة إيران كانت بسبب الفوضى الّتي كان سائدة آنذاك في جهاز الحكم الإيراني. إنّ هاتين الدولتين اللتين كانتا تتربَّعان على عرش السيادة والسياسة العالمية في مطلع ظهور الإسلام كانتا تعيشان حالة سيئة من الفوضى، والهرج والمرج، ومن البديهيّ أنَّ مثل هذه الأَوضاع كان من شأنها أن توجد حالة من التهيّؤ الكبير والظمأ الشديد إلى دين صحيح يضع حَدّاً ونهاية لتلك الحالة، ويعيد تنظيم حياتهم.

ظاهرة الجدل العقيم في المجتمع الرومي

المتعارف أن يعمد جماعةٌ مِنَ البطّالين والفسقة إلى طرح سلسلة من القضايا التافهة والمسائل الخاوية، والنقاش حولها بهدف التوصُّل إلى أغراض فاسدة، فيستهلكون بذلك أوقات الناس، ويهدرون أعمارهم على منحر الجدل العقيم.

وهي حالة لها مصاديق كثيرة وشواهد عديدة في كثير من بلاد المشرق، ولسنا بصدد التوسّع فيها فعلاً.

وقد كانت «الروم» تعاني يومئذ من مثل هذه الحالة أكثر من أيّ مكان آخر.

فقد كان ملوك الروم ورجال الحكم والسياسة تبعاً لمذاهب دينية كنسيّة يعتقدون بأنّ المسيح ذو طبيعتين ومشيئتين، ولكن طائفة أُخرى من النصارى وهم «اليعقوبية» كانوا يقولون بأنّه: ذو طبيعة ومشيئة واحدة.

وقد وجهت هذه المسألة الباطلة نفسها، والجدل الواهي حولها ضربة

ص:116

شديدة إلى وحدة الروم ومن ثم استقلالها، وأحدثت في صفوفها إنشقاقاً عميقاً حيث كانت السلطات الحاكمة تضطر إلى الدفاع عن معتقداتها، ولذلك كانت تضطهد معارضيها، وتلاحقهم وهذا الاضطهادُ والضغطُ الروحيّ سبَّب في لجوء البعض إلى الدولة الإيرانية، كما كان هؤلاء همُ الذين تركوا المقاومة عند مواجهة الجيش الإسلامي، وألقوا السلاح، واستقبلوا جنود الإسلام بالأحضان.

كانت الرومُ تمرُّ آنذاك بظروف أشبه ما تكون بظروف القرون الأُوربية الوسطى الّتي ينقل عنها «فلاماريون» الفلكيّ الشهير القضايا التالية الّتي تدلُّ على المستوى الفكريّ والثقافيّ لأُورُبا في القرون الوسطى:

لقد كان كتابُ «المجموعة اللاهوتية» المظهر الكامل للفلسفة المدرسية في القرون الوسطى، وقد بقي هذا الكتاب يُدرَّس في أوربا خلال أربعمئة سنة ككتاب رسمي ومعترف به.

وقد كان من الأبحاث المطروحة في هذا الكتاب البحث حول عدد الملائكة الّتي يمكنها أن تستقر على رأس إبرَة؟! أو عدد الفراسخ بين العين اليسرى والعين اليمنى للأب الخالد؟! إلى غير ذلك من القضايا التافهة!!

إنّ الإمبراطورية الرومية السيئة الحظ فيما كانت تعاني من الحروب الخارجية الكثيرة، كانت تعاني كذلك من النزاعات والاختلافات الداخلية - الّتي كانت - على الأغلب - تتصف بالصبغة المذهبية والطائفية - وكانت تدفع بالبلاد إلى حافّة الهاوية، وتزيدها قرباً إليها يوماً بعد آخر.

ولمّا رأى اليهود (وهي الزمرة الشرّيرة المتآمرة على الشعوب دائماً) تصاعد الإضطهاد والضغط الّذي يمارسه الإمبراطور المسيحي الرومي، خطّطت لإسقاط ذلك النظام، فاحتلت مدينة أنطاكية ذات مرّة، ومثّلت بأسقف أنطاكية الأكبر فصلموا

ص:117

أُذنه، وجدعوا أنفه، فانتقمت حكومة الروم لهذه الجناية بعد مدّة، وقتلت اليهود في أنطاكية في مذبحة كبيرة.

وقد تكرَّرت هذه الجرائم الفظيعة وهذه المذابح، والمذابح الانتقامية المضادّة بين اليهود والنصارى عدّة مرّات، وربّما سرت موجة الروح الانتقامية أحياناً إلى خارج البلاد، فمثلاً اشترى اليهود من إيران ذات مرّة ثمانين ألف مسيحي ثم حزّوا رؤوسهم انتقاماً وتشفّياً.

من هذا يستطيع القارئ الكريم أن يقف على الصورة القاتمة للوضع السيّئ والمتردّي الّذي كان عليه العالم إبان بزوغ شمس الإسلام، ويذعن - مع المذعنين - بأنّ التعاليم الإسلامية الرفيعة التي أنقذت العالم من ذلك الوضع المأساوي لم تكن أبداً وليدة الفكر البشريّ، وأنّ نسيم الوحدة، المنعش، ونغمة السلام الّتي يهدف إليه الإسلام ويسعى إلى تحقيقه وإقراره في الحياة البشرية ليس لها من مصدر إلّا الغيب، إذ كيف يمكن القول بأنّ الإسلام الّذي يعترف حتّى للحيوانات بحقّ العيش والحياة نابع من تلك البيئة المغرقة في القسوّة والوحشية، وناشئ من ذلك المحيط المفحم بروح الانتقام والتشفّي.

لقد أبطل الإسلامُ جميع تلك المجادلات العقيمة والمناقشات التافهة حول مشيئة عيسى وشخصيته، وقال في نعته ووصفه:

«مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ» .(1)

إنّ هذه الآية أنهت الكثير من أبحاث رجال الكنيسة الباطلة الخاوية حول «الروح» و «المسيح» ودمه، وشخصيته، وحقيقته، كما أنّ الإسلام بفضل التعاليم

ص:118


1- . المائدة: 75.

الرفيعة، وإحياء السجايا والملكات الفاضلة أنقذ البشرية من المنازعات، الفارغة، والمذابح الفظيعة.

أوضاع إيران إبّان عَهد الرسالة

إنّ ما دفعَنا إلى دراسة أوضاع الإمبراطورية الرومية هو نفسه يحتّم علينا أيضا دراسة أوضاع إيران يومذاك.

لقد صادف ظهورُ الإسلام وبعثة الرسول الكريم محمّد صلى الله عليه و آله و سلم (611 ميلادية) عهد السلطان الإيراني خسرو برويز (590-628 م)، ففي عهد «خسرو برويز» هذا هاجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من مكّة إلى المدينة المنوّرة (الجمعة 16 تموز 622 م)، وصارت هذه الواقعة مبدأ للتاريخ الإسلامي.

في هذه الأَيام كانت الدولتان العظيمتان (الروم الشرقية وإيران الساسانية) تسيطران على معظم مناطق العالم المتحضّر، ولم تزل هاتانَ الدولتان في نزاع مستمرّ وصراع دائم على مناطق النفوذ حتّى بعد ظهور الإسلام.

فقد بدأت حروب إيران والروم الطويلة من عهد السلطان الإيراني أنوشيروان (531-589 م) واستمرَّت إلى عهد الملك «خسرو برويز» واستغرقت أربعاً وعشرين عاماً من الزمان.(1)

وقد سبَب تحمّل «إيران» و «الروم» للخسائر الكبرى، في الأرواح والأموال خلال هذه المعارك الطويلة في إضعاف تينك الدولتين، وتعطيل وشلّ قواهما بحيث لم يبق منهما إلّاشبحُ دولتين لا أكثر.

ولكي نقف على الوضع العام في إيران آنذاك من جهاته المختلفة، وأبعاده

ص:119


1- . لاحظ: تاريخ علوم وأدبيات در إيران: 3 و 4؛ وإيران در زمان ساسانيان: 267 (باللغة الفارسية).

المتنوّعة وبصورة أفضل، يجب أن نلقي نظرة فاحصة على وضع الحكومات الّتي توالت على سدّة القيادة الإيرانية بعد حكم «انوشيروان» وحتّى بداية دخول المسلمين.

البَذخ والتَرف في البلاط الساساني

كانت حياة الملوك الساسانيين تتّسم عموماً بالبذخ والترف، والتشريفات الطويلة العريضة، وكان البلاطُ الساساني الفخم جدّاً يخلب ببريقه، بريق العيون، ويسحر الأفئدة والعقول.

وكان للإيرانيين في عهد الساسانيين لواء يُعرف ب «درفش كاوياني» أي العلم الكاوياني نسبة إلى كاوه وهو بطل قومي إيراني أُسطوري، وقد كانوا يحملونه معهم في الحروب، أو ينصبونه فوق قصورهم أثناء إحتفالات الساسانيين الكبرى، وقد كان هذا اللواء موشّحاً ومزيّناً بأغلى أنواع المجوهرات بلغت قيمتها التقديرية - حسب قول بعض الكتاب: «000/200/1» درهم (أو ما يعادل 000/30 پوند).

وقد بلغت مجموعة المجوهرات والأشياء الثمينة والتصاوير والرسوم المحيرّة للعقول الّتي كانت تكتضُّ بها قصور الساسانيين من حيث الأهمية والقيمة حدّاً سحرت العيون وخلبَت الألباب.

ولو أنّنا أردنا أن نقف على عجائب ما في تلك القصور، وما كانت تحتوي عليه من غرائب الأشياء لكفانا أن نلقي نظرة واحدة إلى السجّادة البيضاء والكبيرة التي كانت مفروشة في إحدى صالات بعض تلك القصور، وهي السجّادة الّتي كانت تُدعى بالفارسية ب «بهارستان كسرى» وهو بساط كانوا يُعدّونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين، فكانوا إذا أرادُوا الشرب وتعاطي الخمر فرشوه، وشربوا عليه

ص:120

فكأنهم في رياض وكان هذا البساط ستيناً في ستين أرضُه بذهب ووشيُه بفصُوص، وثمره بجوهر وورقه بحرير»(1)!!

وقيل أيضاً: إنّ هذا البساط كان مئة وخمسين ذراعاً في سبعين ذراعاً، وكان منسوجاً من خيوط الذهب والمجوهرات الغالية جداً!!

وقد كان «خسرو برويز» أكثر الملوك الساسانيين ميلاً إلى الترف، والبذخ، واتّخاذ الزينة، وقد بلَغَت عددُ نسائه وجواريه ثلاثة آلاف امرأة واثنا عشر كما نقل حمزة الأصفهاني في كتابه «سني ملوك الأرض».(2)

وجاء في تاريخ الطبري: كان «كسرى برويز» هذا قد جمع من الأموال ما لم يجمعه أحدٌ من الملوك،... وكان أرغب الناسِ في الجوهر والأواني.(3)

الوضع الاجتماعي في إيران

لم يكن الوضعُ الإجتماعي في عهد الساسانيين بأفضل من الوضع السياسي آنذاك أبداً، فقد بلغ الاختلاف الطبقي الّذي كان سائداً في إيران منذ زمن بعيد أشدَّه وأقوى درجاته، وأسوأ حالاته.

فطبقة النبلاء والكهنة كانت تتميّز على بقية الطبقات تميّزاً كاملاً، فهم يختصّون بجميع المناصب الاجتماعية الحسّاسة والعليا، بينما حُرم الكسبة والمزارعون وبقية أبناء الشعب من كافّة الحقوق الاجتماعية، ولم يكن لهم من

ص:121


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 3/130. وجاء فيه: كانت القطف ستين ذراعاً في ستين ذراعاً، بساطاً واحداً مقدار جريب فيه طرق كالصور، وفصوصٌ كالأنهار وخلال ذلك كالدَّير وفي حافاته كالأَرض المرزوعة والأَرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب، ونواره بالذَهب والفضّة!!
2- . لاحظ: سنيّ ملوك الأرض والأنبياء: 420.
3- . تاريخ الطبري: 1/616.

واجب ودور في النظام إلّادفع الضرائب الثقيلة والمشاركة في الحروب.

يكتب أحدُ الكتّاب الإيرانيين وهو الأُستاذ سعيد نفيسي في هذا الصعيد قائلاً:

إنّ ما كان يثير روح النفاق بين الإيرانيين أكثر هو سياسة التمايز الطبقي القاسي جداً الّذي كان الساسانيون يتبعونها في التعامل مع الشعب، وكان لها جذورٌ في العهود والحضارات السابقة، ولكنها بلغت ذورتها في العهد الساساني بالذات!! ففي الدرجة الأُولى كان للعائلات السبع من النبلاء، ثم للطبقات الخمس، إمتيازاتٌ خاصّة حُرمَ منها عامّة أبناء الشعب.

فالملكية كانت محصورة - تقريباً - في تلك العائلات السبع مع العلم أنّ الشعب في العهد الساساني كان يقاربُ عدد نفوسه مئة وأربعين مليوناً في حين لا يبلغ عددُ كلّ واحد من تلك العائلات الممتازة والمتميّزة في شؤونها مئة ألف شخص، فيكون مجموعُها سبعمئة ألف.(1)

وإذا افترضنا أنَّ حرّاسَ الحدود وأمراءهم والمُلّاك الذين كانوا يتمتعون هم الآخرون بشيء من حق الملكية كان يبلغ عددهم أيضاً سبعمئة ألف أيضاً فيكون حق التملّك والمالكية حينئذٍ خاصّاً بمليون ونصف من مجموع مئة وأربعين مليوناً، فقد كانت تلك الزمرة القليلة هي الّتي تملك، وأمّا الآخرون وهم الأكثرية الساحقة فقد كانوا محرومين من هذا الحقّ الطبيعي الموهوب لهم من جانب اللّه أساساً وأصلاً.

لقد كان الكسبة والفلاحون المحرومون من جميع الحقوق، والإمتيازات إلّا

ص:122


1- . تاريخ اجتماعي إيران: 2/6-24 (باللغة الفارسية).

أنّهم يتحمَّلون نفقات حياة البذخ والرفاهية الّتي كان يرفل بها النُبلاء والأشراف والطبقات العليا، لا يأملون خيراً وراء استمرار هذه الأوضاع، ودوامها، ولهذا كثيراً ما كان المزارعون والفلاحون والطبقات الدنيا من الشعب يغادرون أعمالهم، ومزارعهم ويلجأون إلى الأديرة فراراً من الضرائب الباهضة والأتاوات القاصمة للظهور، المبددة للثروات.(1)

يقول مؤلف كتاب «إيران في عهد الملوك الساسانيين».

إنّ حروب إيران - الروم الطويلة بدأت من عهد حكومة الملك الإيراني أنوشيروان (531-589 م).(2)

وخلاصة القول: إنّه كان في الإمبراطورية الساسانية أقلية صغيرة - تقلّ نسبتُها عن 1/5% (واحد ونصف بالمئة) من مجموع الشعب - تملك كلّ شيء بينما كان أكثر من (98,5%) من الشعب الإيراني محرومين من حق الحياة تماماً كالعبيد.

حَقٌّ التعلّم خاصٌ بالطبقات العليا!!

في العهد الساساني كان أبناء الأغنياء والبيوتات الرفيعة هم وحدهم الذين يتمتعون بحقّ التعليم، بينما كان عامّة جماهير الشعب، والطبقات الوسطى والدنيا محرومين من تحصيل العلوم واكتسابها.

وقد كانت هذه المنقصة بادية وواضحة في عصور إيران القديمة جدّاً بحيث ذكرها الشعراء الكبار في ملاحمهم ودواوينهم الملكية المعروفة بالرغم من أنّ الهدف من تلك الملاحم والدواوين كان هو الحماسة، والتفاخر بالبُطولات

ص:123


1- . لاحظ: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي: 70 و 71.
2- . إيران في عهد الملوك الساسانيين: 424.

وتجييش العواطف، بعد مدح الملوك والأمراء.

فها هو «الفردوسي»(1) الشاعر الملحمي الفارسي المعروف، بل أشهر شعراء إيران قد ذكر في شاهنامته (وهي الملحمة الشعرية الّتي يذكر فيها أمجاد ملوك الفرس في قرابة ستين ألف بيت) قصّة في هذا الصدد تعتبر أفضل شاهد على ما قلناه. وقد وقعت هذه القصّة في زمن «أنو شيروان»، أي في الوقت الّذي كانت الإمبراطورية الساسانية تمرُّ فيه بعهدها الذهبي.

وهذه القصّة تشهد بأنّ أكثرية الشعب في عهد هذا الملك أيضاً كانت محرومة من حقّ التعلم، وممنوعة عن اكتساب الثقافة.

يقول الفردوسي: لقد أبدى حذّاء استعداده لتحمّل نفقات الجيش الإيراني - في حربه مع الروم - بدفع ما يحتاجون إليه من ذهب وفضة.

ومع أنّ السلطة في عهد «انوشيروان» كانت بحاجة ماسّة إلى مساعدات مالية كبيرة إذ كان يتعيّن عليها أن تجهّز ما يقرب من ثلاثمئة ألف مقاتل قد أُصيبوا بالمجاعة وقلّة العتاد، بحيث أدى ذلك إلى وقوع بعض الاعتراضات، وإلى ظهور الفوضى في الجنود، ممّا أدى بدوره إلى قلق الملك الإيراني «أنوشيروان».

والتخوّف من مضاعفات هذه الحالة، وآثاره السيئة في قتاله للروم، ولذلك بادر إلى استدعاء وزيره المحنّك «بزرجمهر» للتشاور معه في المخلص من ذلك الوضع المحرج، ثم أمره بالتوجّه إلى منطقة «مازندران» وجمع الأموال اللازمة من سكانها.

ولكن «بزرجمهر» حذَّر الملك من مغبّة هذا العمل، وأضاف بأنّ هذا من

ص:124


1- . راجع للتعرّف على شخصية هذا الشاعر: الموسوعة العربية الميسرة: 1286.

شأنه أن يضاعف من الخطر ثم اقترح جمع الأموال اللازمة عن طريق القروض الشعبية فاستحسن «انوشيروان» اقتراحه وأمره باتخاذ الترتيبات اللازمة على التو، فيرسل الوزير مندوبين له إلى المدن الإيرانية ليكلّم التجار وأصحاب الثروة في الأمر.

فيبدى الحذّاء المذكور استعداده لتحمّل كلّ نفقات الجيش لوحده إلّاأنّه اشترط لذلك بأن يسمحوا لولده الوحيد الراغب في تحصيل العلم جدّاً أن يتعلّم.

فاستحقر الوزير شرطه ووعده بالإنجاز، والسماح لولده بالتعلّم وتحصيل العلم، ثم عرض الأمر على الملك انو شيروان وهو يأمل في أن يتجاوب الملك مع رغبة الحذّاء وطلبه الصغير إذا ما قيس بما سيعطيه من أموال طائلة في تلك الأوضاع الحرجة.

ولكن الملك استشاط غضباً لهذا الطلب، ونهر الوزير قائلاً: دع هذا، ما أسوأ ما تطلبه، إنّ هذا لا يمكن أن يكون، لأنّ ابن الحذّاء بخروجه من وضعه الطبقي يهدم التقليد الطبقيّ المتبع، فينفرط بذلك عقد الدولة، ويكون ضرر هذا المال علينا أكثر من نفعه، وشره أكثر من خيره.

ثم إنّ الفردوسي يعمد إلى شرح المنطق الميكافيلي حكاية عن لسان انوشيروان إذ يقول ناظماً ذلك في أبيات(1) إليك ترجمتها:

وإذا أصبح إبنُ الحذّاء عالماً كاتباً عارفاً فعندما يجلس ولدنا على مسند

ص:125


1- . وإليك هذه الأبيات باللغة الفارسية: چو بازارگان بچه گردد دبير هنرمند و با دانش و ياد گير چو فرزند ما برنشند به تخت دبيرى ببايدش پيروز بخت هنر بايد از مرد موزه فروش سپارد بدو چشم بينا و گوش بدست خردمند مرد نژاد نماند جز از حسرت و سرد باد

الحكم والسلطنة واحتاج إلى كاتب، فإنّه سيضطر إلى الاستعانة بابن ذلك الحذّاء - الكاتب - (وهو من عامّة الشعب ومن أبناء الطبقة الدنيا، وفي حين جرت عادتنا إلى الآن على أن نستعين بأبناء الأشراف والنبلاء لا أبناء الطبقة الدنيا!!!

وإذا حصل ابن الحذّاء وبائع الأحذية على العلم والمعرفة أعاره العلم والمعرفة حينئذٍ عيوناً بصيرة، وآذاناً سميعة فيرى حينئذٍ ما يجب أن لا يراه، ويسمع ما يجب أن لا يسمعه، وحينئذ لا يبقى لأبناء الملوك إلا الحسرة والتأسّف.(1)

وهكذا يعيد الملك دراهم الحذّاء المسكين إليه رافضاً طلبه ويعود الحذّاء خائباً وهو يتوسّل بما يتوسّل به المستضعفون والمحرومون المظلومون وهو الدعاء والضراعة إلى اللّه في الليل، وفي هذا قال الفردوسي: عاد مبعوث الملك بدراهم الحذّاء إليه فأُصيب الحذّاء لذلك بغمّ شديد، ثمّ لما جنّ الليل تضرع الحذّاء إلى اللّه وشكا إليه الملك طالباً عدالته.(2)

والعجيب هو أن يصف البعض هذا السلطان بالعادل وهو الّذي لم يعالج أسوأ مشكلة في المجتمع الإيراني أيام حكمه وسلطانه وهي المشكلة الثقافية، بل تسبّب في أن يصاب الشعبُ الإيراني بالمزيد من المشاكل الاجتماعية وغيرها.

فقد وأد ودفن في القبور ما يقرب من ثمانين ألف انسان وهم أحياء (أو مئة ألف كما قيل) في حادثة واحدة، وهي فتنة مزدك، حتّى أنّه ظنَّ أنّه قد قضى على جذور تلك الفتنة وهو لا يعلم أنّها لم تُستأصل؛ لأنّ مثل هذه الأساليب القمعية إنّما تقضي فقط على المسبَّب دون السبب وتكافح المجرم لا الجرم.

ص:126


1- . راجع شاهنامه (باللغة الفارسية) وتاريخ اجتماعي إيران: 618.
2- . فرستاده برگشت و شد بادرم دل كفشگر زان درم پر زغم شب آمد، غمى شد ز گفتار شاه خروش جرس خواست از بارگاه

لقد كان السبب الحقيقي وراء تلك الفتنة هو الظلم الاجتماعي، والاختلاف الطبقيّ، واحتكار الثروات، والمناصب على أيدي طبقة خاصّة وحرمان الأكثرية الساحقة من الشعب، وغير ذلك من المفاسد وكان عليه لو أراد الإصلاح أن يعالج هذه الأُمور ليأتي على المشكلة من أساسها، ولكنّه بدل ذلك كان يريد - بالقهر والقمع وفي ظلّ الحراب والسياط - أن يظهر الناس أنفسهم بمظهر الراضين عن السلطة، الموافقين على تصرفاتها، وأحوالها وأوضاعها السيئة!!!

ومن هنا نعرف بطلان الحديث المرويّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الّذي قال فيه:

(وُلدتُ في زمن الملك العادل) ويقصد به انوشيروان.(1)

صفحةٌ سوداءٌ من جرائم خسروبرويز

ومن جرائم الملك خسروبرويز ومظالمه المنكرة ما فعله بوزيره الشهير «بزرجمهر» الّذي خدم البلاط الشاهنشاهي الإيرانيّ ثلاثة عشر عاماً، وكان ذلك موجباً لشهرته في البلاد وحسن سمعته بين الناس.

فقد عَمَدَ هذا الملك إلى سجن الوزير المذكور، والنكاية به، وقدكتب إلى الوزير المسجون رسالة يقول فيها: إنَّ حظَّك مِنَ العلم والمعرفة أنّه عرّضك للقتل!!

فأجابه «بزرجمهر» بقوله: «فقد انتفعتُ بعلمي مادام قد حالفنى الحظُ، وحيث عاكسني الآن، فإنّني اصبر وأنتفعُ بصبري، فإذا فاتني فعلُ خير كثير فإنّني سعيدٌ لأنَّني لم أرتكب كذلك شرّاً كثيراً، وإذا ما سلبتني منصب الوزارة فإنّي في

ص:127


1- . راجع في هذا المجال: شعب الإيمان للبيهقي: 4/305؛ تذكرة الموضوعات للفتني: 88؛ الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة للملا علي القاري: 362؛ كشف الخفاء للعجلوني: 2/340.

الوقت نفسه قد استرحت كذلك من غم الحيف بالناس، فلا أُبالي بما أنا فيه».

ولما بلغَت هذه الرسالة إلى الملك «برويز» استشاط غضباً، وأمر بقطع شفتي الوزير، وجَدْع أنفه، وعندما عرف الوزيرُ بهذا الأمر الظالم قال: أجل أن شفتي تستحقان أكثر من هذا. فسأله خسروبرويز: ولماذا؟ فقال: لأنَهما وصفتاك عند العامّة والخاصّة بما لا تستحق من الأوصاف، وأعطتاك ما ليس فيك من الخصال، فأمالتا إليك القلوب، ورغَّبتا فيك النفوس، والأفئدة، وأشاعتا عنك أمجاداً لم تستحقّها، يا أسوأ الملوك وأظلم الحكّام، تقتلني الآن بسوء الظن بعد أن كنت على يقين من وفائي، وصدقي، وإخلاصي، وسلامتي، فمَن بعد هذا يأمل في عدلك، ومَن بعد هذا يثق بقولك؟!

فازداد «خسروبرويز» لسماع هذه الكلمات الساخنة غضباً على غضب، وأمر من فوره بقتل الوزير، فضرب عنقه في التوّ.(1)

وتلك هي معاملة ذلك الملك الموصوف زوراً بالعادل مع أقرب مقرّبيه، وأكثر معاونيه إخلاصاً، ووفاء له فكيف كانت يا تُرى معاملته مع سائر أفراد الرعية وبقية أفراد الشعب؟!

حكم التاريخ في الملوك الساسانيين:

لقد اتّخذ الحكّام الساسانيُّون في عهودهم وحكوماتهم سياسة ظالمة وقاسية، وقد أخضعوا الناس لسلطانهم بالسيف والعنف.

كانوا يفرضون على الناس ضرائب ثقيلة وأتاوات باهضة قاصمة للظهور،

ص:128


1- . يذكر الفردوسي الشاعر الملحمي هذه القصة في شاهنامته المعروفة عند ذكر وقائع انوشيروان أثناء حربه مع الروم (لاحظ: الشاهنامه: 6/257-260).

ولهذا السبب كان عامّة الشعب الإيراني غير راضين على حكمهم وسيرتهم، ولكنّهم خوفاً على نفوسهم، ما كانوا يتمكّنون من الإعلان من استيائهم هذا، بل لم يكن لأرباب الفكر والرأي والعارفين بالأُمور شأن ولا قيمة في البلاط الشاهنشاهي.

لقد بلغ الاستبداد لدى الحكّام الساسانيين حدّاً لم يستطع معه أحدٌ من إظهار رأيه، ولم يجرأ أحدٌ على إبداء أية ملاحظة في شأن من الشؤون.

لقد بلغت القوة بخسروبرويز حدّاً عجيباً وصفه الثعالبي بقوله:

قيل لخسرو برويز (كسرى) دعونا فلاناً الوالي فتباطأ عن الامتثال، فأمر الملك من فوره قائلاً إن كان يصعب عليه مجيئه ببدنه كلّه، فإنّنا يكفينا شيء منه، فليؤتى برأسه فحسب.(1)

الفوضى في الحكومة الساسانية

وممّا يجب أن لا نغفل عن ذكره هو ما تعرُضت له الحكومة الساسانية في أواخر عهدها من الفوضى الإدراية، وتفاقم الهرج والمرج في جهازها الحكومي.

فقد دبّ الصراع والنزاع ونشب التنافس الحاد بين الأُمراء، والأعيان وقاده الجيش في ذلك العهد وذهب كلُّ فريق يختار أميراً من أبناء العائلة المالكة، ويقوم بتصفية الطائفة الأُخرى الّتي اختارت أميراً آخر.

وعندما فكّر العرب المسلمون في فتح إيران كانت العائلة الساسانية المالكة قد بلغت ذروة الضَّعف والإنقسام.

وممّا يدل على ذلك تعاقبُ ما يقرب من (14) ملكاً على مسند الحكم

ص:129


1- . إيران در عهد ساسانيان: 318.

والسلطان خلال مدّة أربعة أعوام من مقتل الملك «خسرو برويز» وجلوس «شيرويه» مجلسه وحتّى آخر ملكٍ من ملوك بني ساسان.

وهذا يعني أنّ حكومة إيران انتقلت خلال مدّة لا تتجاوز أربعة أعوام من يد إلى يد أُخرى (14 مرة)!! ومن الواضح ما يلحق بأيّة دولة ومملكة تتعرض ل (14) انقلاب يُقتل فيه ملك، ويحل محلّه ملك آخر في مثل هذه المدّة القصيرة.

فقد كان كلُ حاكم يتسلَّم زمام الحكم ويستولي على عرش السلطان يعمد إلى قتل واغتيال كلّ مَن كان يطمع في العرش، ولا يتورّع في سبيل إرساء قواعد حكمه من ارتكاب كلّ ما يراه ضرورياً، فكان الأب يقتل ابنه، والابنُ يقتل أباه، وربّما يقتل الأخ إخوته، والزوجة زوجها وهكذا...

فقد قتل «شيرويه» أباه(1) للحصول على مقعد الحكم والسلطان، كما أباد أربعين شخصاً من أبناء الملك «خسروبرويز» أي إخوته!!.(2)

وكان «شهر براز» يقتل كلّ من لا يثق به، وقد أدّى هذا إلى أن يقضي على كل أبناء سلالته من الأُمراء الساسانيين ممّن كان قد تسنَّم عرش السلطان والملوكية قبله، رجلاً كان ذلك أم امراة، صغيراً كان أم كبيراً، لكي لا يبقى في الوجود من يطمع في السلطان أو يدّعيه!!

وصفوة القول: إنّ الفوضى السياسية بلغت في أواخر العهد الساساني حدّاً بحيث كانوا يجلسون فيه الأطفال والصبيان والنساء على أريكة الحكم، ثم يثورون عليهم ويقتلونهم بعد أيام أو أشهر ويحلون محلَّهم أشخاصاً آخرين!!

وعلى هذا فإن الدولة الساسانية رغم قوّتها الظاهرية كانت آخذة في

ص:130


1- . تاريخ الطبري: 2/297.
2- . تاريخ اجتماعي إيران: 2/15-19 (بالفارسية).

الانحطاط والإنحلال وسائرة نحو التمزّق والفناء.

الفوضى الدينية في إيران الساسانيين

لقد كان أهمّ عامل للفوضى الّتي كانت تعاني منها الأوضاع في العهد الساساني هو الاختلاف في المعتقدات الدينية الّتي كانت سائدة آنذاك.

فحيث إنّ «أردشير بن بابك» مؤسّس السلسلة الساسانية كان ابن مؤبد (وهو رجل دين زردشتي) وقيّماً على بيت نار، وقد تمكّن من السلطان بفضل الموابدة، فإنّه اجتهد في الترويج لدين آبائه في إيران.

وفي عهد الساسانيين كان الدين الرسمي والشائع في أوساط الشعب الإيراني هو الدين الزرادشتي، ولمّا كانت السلالة الساسانية قد توصّلت إلى الحكم بواسطة الموابدة - كما أسلفنا - لذلك كان الموابدة والقيّمون على بيوت النار (ونعني بهم رجال الدين الزرادشتي) يحظون بمكانة كبرى لدى البلاط الساساني إلى درجة أنّهم أصبحوا يشكّلون في أواخر العهد الساساني أقوى طبقة، وأشدّ الأجنحة نفوذاً في المجتمع الإيراني آنذاك.

ولقد كان الحكام الساسانيّون دائماً ممَّن رشحهم للحكم الموابدة ورجال الدين الزردشتي المجوسي، ولذلك كان الحكّام يأتمرون بأوامرهم، ولو أنّ أحداً منهم خالف الموابدة عارضوه أشدَّ المعارضة، وسحبوا عنه تأييدهم ودَعْمهمْ، ولهذا اجتهد الملوك الساسانيون في كسب رضا الموابدة، والعناية بهم أكثر من غيرهم من الطبقات، وقد تسبَّبت عناية أُولئك الملوك بالموابدة وحمايتهم لهم في تزايد عددهم، يوماً بعد يوم.

وقد كان الساسانيون يستغلون رجال الدين المجوس أكبر استغلال لتثبيت قواعد حكمهم، وتقوية مواقعهم في السلطان، ولذلك أقاموا في مختلف مناطق

ص:131

البلاد الإيرانية العريضة بيوت النار (وهي معابد المجوس) جاعلين في كلّ واحد من هذه المعابد ثلّة كبيرة من الموابدة كسدنة.

فقد كتب المؤرّخون يقولون: إنّ «خسرو برويز» شيّد بيتاً للنار عظيماً ووكّل به (12 ألف) هيربد (وهو منصب خاص ورتبة خاصة في نظام القيادة الدينية المجوسية) لينشدوا فيه الأناشيد الدينية، ويؤدوا الطقوس والشعائر المجوسيّة!!.(1) وعلى هذا الأساس كان الدين المجوسي دين البلاط، وكان رجاله في خدمة الملوك.

هذا وقد اجتهد الموابدة - بكلّ ما في وسعهم - في إبقاء الطبقات الكادحة والمحرومة من أبناء الشعب الإيراني في حالة من الركود والجمود وحالة عدم الإحساس بالآلام والرضا بالأمر الواقع.

ولقد تسبّبت الصلاحياتُ الواسعة والحريات المطلقة المخوّلة إلى الموابدة في ابتعاد الناس عن الدين المجوسي والنفور منه، فجماهير الشعب كانت تبحث لنفسها عن غير ما يتديّن به الأشراف من عقيدة ودين.

يقول مؤلّف كتاب «تاريخ اجتماعي إيران»: وقد سعى الشعب الإيراني - في المآل - إلى أن يتخلّص من ضغوط الأشراف والموابدة واضطهادهم، ولهذا ظهر بيت الزردشتيين في قبال الدين الرسمي «المزدية الزردشتية» الّذي كان دين البلاط كما عرفنا، وكان يدعى: بهدين (أي: الدين الأفضل) مذهبان آخران.(2)

أجل وبسبب ضغوط الأشراف وتشدّدات الموابدة في العهد الساساني

ص:132


1- . تاريخ تمدن ساساني: 1/1 (بالفارسية).
2- . لاحظ: تاريخ اجتماعي إيران: 2/20.

ظهرت في إيران مذاهب مختلفة الواحد تلو الآخر، وقد حاول «مزدك» ومِنْ قبله «ماني» أن يوجدا بأنفسهِما تحوّلاً في الأوضاع الدينية وفي العقائد والمؤسسات، إلّا أنّهما منيا بالفشل في هذا السبيل(1).

فحوالي سنة (497 ميلادية) قام «مزدك»، وألغى المالكية الانحصارية (الخاصّة)، ونسخ عادة تعدّد الزوجات، ونظام الحريم وكان ذلك في مقدّمة برامجه الإصلاحية، وقد لقيت أفكاره هذه تأيّيداً قوّياً من قِبل الطبقات المحرومة المسحوقة الّتي فجرت بقيادة «مزدك» ثورة كبرى، وانقلاباً هائلاً في المجتمع الإيراني.

ولقد كانت هذه الثورات والانتفاضات الشعبية لأجل أن يتوصّل الناس إلى حقوقهم المشروعة، الممنوحة لهم من قبل اللّه خالقهم وبارئهم.

ولقد قوبل مذهب «مزدك» باعتراض شديد من قِبَل الموابدة، وأُمراء الجيش، وجرّ إلى فتنة كبيرة، وإلى تردّي الأوضاع في إيران آنذاك.

كما أنّ المذهب الزردشتي قد فقد - في أواخر العهد الساساني - حقيقته بصورة كاملة، ووصل الأمر بعبادة النار وتقديسها إلى درجة أنّهم كانوا يحرِّمون الدقّ على حديدة محماة اكتسبت لون النار ولهيبها بمجاورتها لها.

وبكلمة واحدة؛ لقد كانت أكثر المعتقدات الزردشتية المجوسية تتألّف من الخرافات والأساطير، وقد أعطت حقائق هذا الدين - في هذا العهد - مكانها لحفنة من الشعائر الجوفاء، والطقوس الفارغة، الّتي أضاف إليها الموابدة سلسلة من التشريفات الطويلة العريضة تثبيتاً لمواقعهم، ودعماً لمكانتهم في المجتمع الإيراني يومئذ.

ص:133


1- . المذهب المانوي هو المذهب الزردشتي الخليط بالمسيحية، فقد اخترع ماني من مسلك قومي وآخر أجنبي مذهباً جديداً ثالثاً.

لقد بلغت سيطرة الخرافات والأساطير البعيدة عن العقل والمنطق على هذه العقيدة، ورسوخها في هذا الدين حدّاً أقلق حتّى رجال الدين الزردشتي أنفسهم أيضاً، وقد كان بين الموابدة أنفسهم من أدرك منذ البداية تفاهة الطقوس والشعائر الزردشتية الجوفاء فتخلّى عنها.

هذا من جانب ومن جانب آخر كان قد انفتح على الشعب الإيراني منذ أيام الملك «أنوشيروان» فما بعد، طريق التفكير، والتأمّل، والتحقيق، وممّا قد قوّى هذا الأمر ما حصل من اتصالات بين العقائد الزردشتية والمعتقدات المسيحية وغيرها من العقائد والأديان وما تحقّق من تلاقح بينها نتيجة تسلل الثقافة اليونانية والهندية، وغيرها إلى الوسط الإيراني، وتسبّب كلّ ذلك في يقظة الشعب الإيراني، ولذلك أصبح يعاني من هذه الخرافات والأساطير الّتي كانت الديانة الزردشتية تعج بها أكثر من أي وقت مضى.

وعلى أيّة حال فإن الفساد الّذي ظهر في أوساط رجال الدين الزردشت، وتطرّق الخرافات والأساطير الواهية الكثيرة إلى المعتقدات الزردشتية تسَبّبَ في حصول مزيد من التشتّت والاختلاف والتشرذم في آراء الشعب الإيراني وعقيدته.

ومع ظهور هذا الاختلاف وعلى أثر إنتشار المذاهب المتنوّعة ظهرت روح الشكّ والتردّد لدى الطبقة المفكّرة والمثقّفة، وسرت منهم إلى بقية الأصناف والفئات ممّا أدى ذلك إلى أن تفقد جماهير الشعب ثقتهم وإيمانهم القطعي، واعتقادهم الكامل السابق بتلك المعتقدات.

وهكذا استشرى الهرج والمرج وعمَّت الفوضى واللادينية كلّ مناطق إيران والمجتمع الإيراني، وقد رسم «برزويه» الطبيب الشهير في العهد الساساني ذلك الحال فصوّر نموذجاً كاملاً عن الاختلاف الاعتقادي والتشرذم الفكري، وبالتالي اضطراب الأوضاع الإيرانية في العهد الساساني، في مقدمة «كليلة ودمنة».

ص:134

الحروب الإيرانية الرومية

لقد أنقذ «بزرجمهر» - الوزير الإيراني الشهير الّذي كان يحتل مكان الصدارة في حكومة «أنوشيروان» وكان موصوفاً بالتدبير والكفاءة العالية - إيران من الأخطار الّتي أحدقت بها في أكثر الأحايين، ولكن علاقته بالسلطان (أنوشيروان) كانت تتأثّر أحياناً بسعاية الساعين ووشاية الوشاة الذين كانوا يوغرون صدر الملك ضدّه فيستصدرون منه قراراً بحبسه وسجنه.

وقد أوغرّ هؤلاء السعاة والواشون أنفسُهم صدرَ «أنوشيروان» ضد امبراطور الروم، وألّبوه عليه، وشجّعوه على توسيع رقعة نفوذه، وتوسيع حدود بلاده، وإضعاف سيطرة منافسه الخطير، متجاهلاً وثيقة «الصلح الخالد» الّتي عقدها مع الروم واتّفق فيها الجانبان على عدم التعرّض بعضهم لبعض.

وأدّى هذا التحريض بأنوشيروان إلى مهاجمة الروم، واشتعلت على إثرها نيران الحرب، واستطاع جنود إيران أن يفتحوا سورية (وقد كانت مستعمرة رومية) في مدّة قصيرة تقريباً، وحرق أنطاكية ونهب آسيا الصغرى.

وبعد عشرين عاماً من القتال وسفك الدّماء، والكرّ والفر بين الروم وإيران وبعد أن فقد الجانبان قدراتهم وطاقاتهم في تلك المعارك الطاحنة، وبعد الخسائر العظيمة الّتي تحمّلها الطرفان، إضطرّا إلى عقد وثيقة الصلح مرّة ثانية، وحدّدوا حدود بلادهما، ومناطق نفوذهما كما كانت عليه في السابق شريطة أن تدفع دولة الروم كلّ عام ما يعادل (عشرين ألف) دينار إلى دولة إيران.

ومِنَ الواضح الّذي لا يخفى ولا يحتاج إلى البيان أنّ حروباً طويلة الأمد تدور رحاها بعيداً عن مركز الدولة من شأنها أن تأتي بالنتائج السيّئة والتبعات الثقيلة على اقتصاد الشعب المحارب، وصناعته وتوجه إلى هذه الجوانب ضربات قوية،

ص:135

لا تزول آثارها إلّابعد زمان طويل خاصّة مع ملاحظة الوسائل والأدوات في تلك العصور. ومهما يكن فإنّ هذه الحروب، وهذه الحملات المكلّفة هيّأت المقدّمات الموجبة لسقوط الحكومة الإيرانية الحتمي.

فإنّ آثار هذه المعارك لم تَزُل بعد إلّاوقد نشبت حربٌ أُخرى دامت سبعة أعوام فإنّ «تي باريوس» امبراطور الروم بعد أن تسنّم عرش السلطان هدّد بحملاته الكبيرة استقلال الدولة الإيرانية بدافع الانتقام.

وفي الأثناء - وقبل أن يتضح موقف الطرفين وموقعهما في تلك المعارك من الهزيمة أو الانتصار - مات «أنوشيروان» وخلفه في إدراة البلاد ابنه «خسروبرويز».

وقد حمل هذا الأخير على الروم أيضاً، وذلك عام (614 م) بحجج معيّنة، وفتح في أوّل حملة من حملاته: بلاد الشام وفلسطين وأفريقية ونَهب أُورشليم، وأحرق كنيسة القيامة ومزار السيّد المسيح عليه السلام وهدم المدن، ودمّرها.

وقد انتهت هذه الحرب بعد مقتل تسعين ألف من النصارى لصالح الإيرانيين.

في مثل هذه المرحلة الّتي كان فيها العالمُ المتحضّر آنذاك يحترق في نيران الحروب والظُلم، بُعِث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالرسالة الإسلامية، وبلغ نداؤه المحيي للنفوس والعقول سمع البشرية، وقام يدعو الناس إلى الصلح والسلم، وإلى النظم والأمن.

ولقد أدّى انهزامُ الروميين المتدينين، المؤمنين باللّه على أيدي المجوس الكفّار، عبدة النار، إلى أن يتفاءل أهلُ مكّة الوثنيون بهذا الحدث، ويحدّثوا (ويمنّوا) أنفسهم بالانتصار على المسلمين المؤمنين باللّه عمّا قريب، وانطلقوا يردّدون هذه

ص:136

الأُمنية أمام المسلمين وهم يحاولون بها إضعاف معنويّاتهم، وزعزعة إيمانهم، الأمر الّذي أقلق المسلمين.

ولم يتّخذ النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم موقفاً تجاه هذه الظاهرة انتظاراً لما سينزل به عليه الوحيُ إلى أن نزلت آيات في هذا المجال هي الآيات الأُولى من سورة الروم الّتي تقول: «الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .(1)

وقد تحقّقت نبوءة القرآن هذه حول الروم في عام (627 ميلادية) حيث استولى «هرقل» على «نينوى» في حملة واحدة.

وعلى أيّة حال كانت الدولتان المتنافستان تطويان الدقائق والساعات الأخيرة من حياتهما فيما تستعدّان من ناحية أُخرى لتجميع القوى، والتهيّؤ لشن حملات جديدة، وخوض حروب ومعارك أُخرى ولكن حيث إنّ الإرادة الإلهية كانت قد تعلّقت بأن يسطع على تلك المنطقتين نورُ التوحيد وتنتعش نفوسُ الروميين والفرس الذابلة الميّتة بنسائم الإسلام الحيّة، وأشعته الهادية، لذلك لم يلبث أن قُتِل «خسرو برويز» على يدي ابنه «شيرويه» الّذي لم يَدُم سلطانه بعد اغتياله لأبيه أكثر من ثمانية أشهر، ثم سادت إيران بعد «شيرويه» فوضى شاملة خلال أربعة أشهر، حيث تناوب على مسند الحكم حُكامٌ وأُمراء عديدون أربعة منهم من النساء، إلى أن أنهى الجيشُ الاسلاميّ بحملاته الناجحة هذه الأوضاع، ووضع نهاية لهذا الصراع السياسي الحادّ الّذي استمرّ خمسين عاماً والّذي ساعد بدوره على تقدّم الفتوحات الإسلامية.

ص:137


1- . الروم: 1-6.

5 أسلاف رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم

1. بطل التوحيد: إبراهيم الخليل عليه السلام

اشارة

إنّ الهدف من استعراض حياة النبيّ العظيم إبراهيم الخليل عليه السلام هو التعريف بأجداد النبيّ محمّد صلى الله عليه و آله و سلم وأسلافه، لانتهاء نسبه الشريف إلى النبيّ إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وحيث إنّ لهاتين الشخصيتين العظيمتين وبعض أسلاف النبيّ العظام نصيبٌ هامٌّ في تاريخ العرب والإسلام، لهذا ينبغي الحديث عن أحوالهم بصورة مختصرة، خاصَّة أنَّ حوادث التاريخ الإسلامي ترتبط ارتباطاً كاملاً - كحلقات سلسلة واحدة - بالحوادث السابقة، أو المقارنة لبزوغ الإسلام.

فعلى سبيل المثال تُعْتَبر كفالة «عبدالمطلب» لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحمايته له، وجهود «أبي طالب» ودفاعه الطويل عن النبيّ، وعظمة الهاشميّين وسموّ مقامهم وأخلاقهم، وجذور معاداة الأمويين لهم، الأُسس والقواعد الموضوعية لحوادث التاريخ الإسلامي، ولهذا كان لابدّ من تخصيص فصل كامل في التاريخ الإسلامي لهذه الأبحاث.

إنّ في حياة حامل راية التوحيد النبيّ «إبراهيم الخليل» عليه السلام نقاطاً مشرقة وبارزة جدّاً.

فجهاده العظيم في سبيل إرساء قواعد التوحيد واقتلاع جذور الوثنية ممّا لا ينسى.

وهكذا حواره اللطيف والزاخر بالمعاني مع عَبَدة النجوم والكواكب في

ص:138

عصره والّذي ذكره القرآن الكريم ليعرّفنا على أفضل وأسمى درس توحيدي لطلاب الحقيقة وبغاة الحق.

مولد إبراهيم عليه السلام

لقد وُلدَ بطَلُ التوحيد في بيئةٍ مظلمة كانت تسربلها ظلمات الوثنية، وعبادة البشر... في بيئة كان الإنسان فيها يخضع لأَصنام نحتها بيديه، كما يخضع لكواكب ونجوم.

لقد وُلد حامل لواء التوحيد «إبراهيم الخليل» عليه السلام في «بابل» الّتي يعدّها المؤرّخون إحدى عجائب الدنيا السبع، ويذكرون حولها قصصاً وأُموراً كثيرة تنبئ عن عظمتها وأهمّية حضارتها، فيقول «هيردوتس» المؤرّخ المعروف - مثلاً -: لقد كانت بابل بنية بشكل مربَّع طول كل ضلع من أضلاعه الأربعة (120 فرسخاً) ومحيطه (480 فرسخاً)(1).

إنَّ هذا الكلام مهما كان مبالغاً فيه إلّاأنّه على كلّ حال يكشف عن حقيقة لا تقبل الإنكار، إذا ما ضُمَّ إلى ما كتبه الآخرون عن تلك المدينة التاريخية.

غير أنّنا لا نرى من تلك المدينة اليوم ومن مناظرها الجميلة، وقصورها الرائعة، إلّاتلاًّ من التراب في منطقة بين «دجلة» و «الفرات»، فالموت يخيّم على كلّ تلك المنطقة، اللّهم إلّاعندما يكسر علماء الآثار بتنقيباتهم جدار الصمت أحياناً، بحثاً عن آثار تلك المدينة، ويستخرجون بقاياها الموقوف على معالم من حضارة أصحابها وسكانها.

لقد فتح رائد التوحيد ومُرسي أركانه «إبراهيم الخليل» عليه السلام عينيه في دولة «نمرود بن كنعان».

ص:139


1- . قاموس الكتاب المقدّس، مادّة بابل.

وكان نمرود هذا رغم أنّه يعبدُ الصنم يدّعي الأُلوهيَّة ويأمر الناس بعبادته.

وقد يبدو هذا الأمر عجيباً جدّاً فكيف يمكن أن يكون الشخص عابد صنم ومع ذلك يدّعي الأُلوهية في الوقت نفسه، إلّاأنّ القرآن الكريم يذكر لنا نظير هذه المسألة في شأن «فرعون مصر»، وذلك عندما هزّ النبيّ موسى بن عمران عليه السلام قواعد العرش الفرعوني بمنطقه القويّ، وحجّته الصاعقة، فاعترض أنصار فرعون وملؤه على هذا الأمر، وخاطبوا فرعون بلهجة معترضة قائلين: «أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ» .(1) ومن الواضح جدّاً أنّ «فرعون» كان يدّعي الإلوهية فهو الّذي كان يقول: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» (2)، وهو القائل: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» (3) ولكنّه كان في الوقت نفسه عابد صنم ووثنياً.

بَيْدَ أَنَّ هذه الازدواجية ليست بالأمر الغريب عند الوثنيّين، ولا يمنع مانع في منطقهم من أن يكون الشخصُ نفسه وثنياً يعبد الصنم، ومع ذلك يَدَّعي أنّه إلهٌ ويدعو الناس إلى عبادته فيكون إلهاً معبوداً، يعبد إلهاً أعلى منه، لأنّ المقصود من المعبود والإله ليس هو خالق الكون بل هو من يتفوَّق على الآخرين بنحو من أنحاء التفوّق ويمتلك زمام حياتهم بشكل من الإشكال.

هذا والتاريخ يحدّثنا أنّ العوائل في بلاد الروم كانت تعبد كبارها، ومع ذلك كان أُولئك الكبار المعبودين أنفسهم يتّخذون لأنفسهم معبوداً أو معبودات أُخرى.

إنّ أكبر وسيلة توسَّل بها «نمرودُ» في هذا السبيل هو استقطاب جماعة من

ص:140


1- . الأعراف: 127.
2- . النازعات: 24.
3- . القصص: 38.

الكهنة والمنجّمين الذين كانوا يُعدّون الطبقة العالمة والمثقَّفة في ذلك العصر.

فقد كان خضوعُ هذه الطبقة يمهّد لاستعمار الطبقة الدنيا والجاهلة من الناس.

هذا مضافاً إلى أنّه كان يُناصر «نمرود» بعضُ من ينتسب إلى «الخليل» عليه السلام بوشيجة القربى مثل «آزر» الّذي كان يصنع التماثيل، وكان عارفاً بأحوال النجوم والفلك أيضاً، وكان هذا هو الآخر أحد العراقيل الّتي كانت تمنع الخليل من إنجاح مهمّته، لأنّه مضافاً إلى مخالفة الرأي العام له، كان يواجه مخالفة أقاربه أيضاً.

لقد كان نمرود غارقاً في عالم خيالي عندما دقّ المنجمون فجأة أوّل ناقوس للخطر وقالوا له: سوف تنهار حكومتُك، ويتهاوى عرشك وسلطانك على يد رجل يولد في تلك البيئة، الأمر الّذي أيقظ أفكاره النائمة، فتساءل من فوره، وهل وُلد هذا الرجل؟ فقيل له: لا، إنّه لم يولد بعد. فأمر من فوره بعزل الرجال عن النساء (وذلك في الليلة الّتي انعقدت فيها نطفة إبراهيم الخليل عليه السلام عدو نمرود، وهادم ملكه، ومزيل سلطانه وهي الليلة التي حدّدها وتكهّن بها المنجمون والكهنة من أنصار نمرود) ومع ذلك كان جلاوزة «نمرود» يقتلون كلّ وليد ذكر، وكان على القوابل أن يسجِّلن أسماء المواليد في مكتبه الخاص.

ولقد اتّفق أن انعقدت نطفةُ «الخليل» في نفس الليلة الّتي منع فيها أيَّ لقاء جنسي بين الرجال، وأزواجهم.

لقد حملت أُم إبراهيم به كما حملت أُم موسى به، وأمضت فترة حملها في خفاء وتستّر، ثم لجأت بعد وضع وليدها العزيز إلى غار بجبل على مقربة من المدينة حفاظاً عليه، وراحت تتفقده بين حين وآخر من الليل والنهار، قدر المستطاع.

ص:141

وقد أرضى هذا الأَسلوبُ الظالمُ «نمروداً» وأراح باله بمرور الزمن، إذ أيقن بأنّه قد قضى به على عدو عرشه، وهادم سلطانه، وتخلّص منه.

لقد قضى «إبراهيم» عليه السلام ثلاثة عشر عاماً في ذلك الغار الّذي كان يتصل بالعالم الخارجي عبر باب ضيّق، ثم أخرجته أُمّه من ذلك الغار بعد ثلاثة عشر عاماً، ودخل «إبراهيم» في المجتمع، فاستغرب المجتمع النمرودي وجوده وأنكروه.(1)

لقد خرج «إبراهيم» من الغار، مؤمناً باللّه بفطرته، وقوّى توحيده الفطري، بمشاهَدة الأَرض والسماء، والنظر في سطوع الكواكب والنجوم والتأمّل في ما يجري في عالم النبات من نمو وحركة، إلى غير ذلك ممّا يجري في عالم الطبيعة العجيب.

لقد واجه إبراهيم عليه السلام بعد خروجه من الغار جماعة من الناس بهرتهم أحوال الكواكب وعظمة أمرها، ففقدوا عقولهم تجاه هذه الظاهرة، كما رأى جماعة أُخرى أحطَّ فكريّاً من سابقتها يعبدون أصناماً منحوتة، بل واجه ما هو أسوأ بكثير من أعضاء الطوائف والجماعات الضالّة إذ رأى رجلاً يستغل جهل الناس وغباءهم ويدّعي الإلوهية ويفرض عليهم عبادته والخضوع له!!

لقد كان إبراهيم عليه السلام يرى أَنَّ عليه أن يهيّئ نفسه لخوض المعركة في هذه الجهات الثلاث المختلفة، وقد نقل القرآن الكريم قصة نضال النبيّ «إبراهيم» عليه السلام في هذه الأصعدة والجبهات الثلاث، وسننقل لك في ما يأتي وباختصار ما ذكره القرآن في هذا المجال.

ص:142


1- . تفسير البرهان: 1/535.

إبراهيم ومكافحته للوثنية

كانت ظلمات الوثنية قد خيَّمت على منطقة بابل (موضع ولادة الخليل) برمّتها.

فالآلهة المدَّعاة، والمعبودات (السماوية والأرضية) الباطلة قد سحرت عقول مختلف فئات الشعب، فبعضها في نظرهم هي أرباب القدرة والسلطة، وبعضها الآخر وسيلة الزلفى والتقرّب إلى اللّه، إلى غير ذلك من التصوّرات السخيفة في هذا الصعيد.

وحيث إنّ طريقة الأَنبياء في هداية البشرية وإرشادهم هي الاستدلال بالبراهين، والاحتجاج بالمنطق، لأنّهم إنّما يتعاملون مع قلوب الناس وعقولهم، ويبتغون إيجاد حكومة تقوم على أساس الإيمان واليقين، ومثل هذه الحكومة لا يمكن إقامتها بالسيف أو بالنار والحديد. لهذا يبدأون حركتهم بالتوعية الفكرية.

إنّ علينا أن نفرّق بين الحكومات الّتي أراد الأنبياء تأسيسها، وحكومة الفراعنة والنماردة.

إنّ هدف الطائفة الثانية هو: الرئاسة والزعامة، والحفاظ عليها بكلّ وسيلة ممكنة في حياتهم، وإن تلاشت وتهاوت من بعدهم.

ولكنّ الأنبياء والرسل يريدون حكومة تبقى قائمة في جميع الحالات وماثلة في جميع الأوقات، في الخلوة والجلوة، في وقت الضعف، وفي وقت القوّة، في حياتهم وبعد مماتهم... إنّهم يريدون أن يحكموا على القلوب لا على الأبدان، وهذا الهدف لا يتحقّق أبداً عن طريق القوّة واستخدام العنف والقهر!! إنّما يتحقّق عن طريق الحجّة والبرهان.

لقد بدأ النبيُ «إبراهيم» عملَه بمكافحة ما كان عليه أقرباؤُه الذين كان في

ص:143

طليعتهم وعلى رأسهم «آزر» وهو الوثنية وعبادة الأصنام، ولكنّه لم ينته من هذه المعركة ولم يحرز إنتصاراً كاملاً في هذه الجبهة بعد، إلّاوواجه عليه السلام جبهة أُخرى، وكانت هذه الجماعة أعلى مستوى من أفراد الجماعة السابقة في الفهم والثقافة. لأنّ هذه الجماعة - على خلاف أقرباء إبراهيم - قد نبذت عبادة الأوثان والأَصنام(1)، والمعبودات الأرضية الحقيرة، وتوجهت بعبادتها وتقديسها إلى الكواكب والنجوم والأجرام السماوية. ولقد بيَّن «الخليل» عليه السلام في حواره العقائدي مع عُبّاد الأجرام السماوية، ومكافحته لمعتقداتهم الفاسدة، سلسلة من الحقائق الفلسفية والعلمية الّتي لم يصل إليها الفكر البشري يومذاك، وذلك ببيان بسيط مدعوم بأدلّة لا تزال إلى اليوم موضع إعجاب كبار العلماء، وروّاد الفلسفة والكلام.

والأَهم من ذلك - في هذا المجال - أنّ القرآن الكريم نقل أدلّة «إبراهيم الخليل» عليه السلام باهتمام خاص وعناية بالغة، ولهذا ينبغي لنا أن نتوقّف عندها قليلاً، وهذا ما سنفعله في هذه الصفحات.

حوار إبراهيم الخليل عليه السلام مع عبدة الكواكب

ذات ليلة وقف إبراهيم عليه السلام عند ابتداء مغيب الشمس يتطلّع في السماء - وهو ينوي هداية الناس - وبقي ينظر إلى النجوم والكواكب من أوّل الغروب من تلك الليلة إلى الغروب من الليلة التالية، وخلال هذه الساعات الأربع والعشرين حاور وجادل ثلاث فرق، من عبدة النجوم وأبطل عقيدة كلّ فرقة منها بأدلّة محكمة، وبراهين متقنة قوّية.

ص:144


1- . ترتبط آية 74 من سورة الأنعام بحواره عليه السلام مع الوثنيّين، بينما ترتبط الآيات اللاحقة لها بعبدة الأجرام السماوية.

فعندما أقبل الليلُ وخيّم الظلام على كلّ مكان وهو يخفي كلّ مظاهر الوجود ومعالمه في عالم الطبيعة، ظهر كوكبُ «الزُهرة» من جانب الأُفق وهو يتلألأ.

فقال إبراهيم لِعُبّاد هذا الكوكب - وهو يتظاهر بموافقتهم جلباً لقلوبهم، ومقدّمة للدخول معهم في حوار -: «هذا رَبِّي» .

وعندما أفل ذلك الكوكب وغاب عن الأنظار قال: «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» .

وبمثل هذا المنطق الجميل أبطل عقيدة عبدة الزهرة، وأظهر خواءها وفسادها.

ثمّ إنّه عليه السلام نظر إلى القمر المنير الّذي يسحر القلوب بنوره وضوئه، فقال - متظاهراً بموافقة عبدة القمر -: «هذا رَبِّي» ثم ردّ بأُسلوب منطقي محكم تلك العقيدة أيضاً، عندما امتدّت يد القدرة المطلقة ولمّت أشعة القمر من عالم الطبيعة، وعندها اتّخذ إبراهيم عليه السلام هيئة الباحث عن الحقيقة ومن دون أن يصدم تلك الفرق المشركة ويجرح مشاعرها، إذ قال: «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ» (1) لأَنّ القمر قد أَفل أيضاً كما أَفل سابقُه فهو كغيره أسير نظام عُلويٍّ لا يتخلّف، وما كان كذلك لا يمكن أن يُعدَّ رباً يُعبَد، ويتوَجّه إليه بالتقديس والتضرّع.

ولمّا وَلّى الليل وأدبر، واكتسحت الشمس الوضّاءة بأشعتها حجب الظلام، وبثّت خيوطها الذهبية على الوهاد والسهول، والتفت عَبدَة الشمس إلى معبودهم، تظاهر إبراهيم بالإقرار بربوبيتها اتّباعاً لقواعد الجدل والمناظرة ولكن أُفول الشمس وغروبها أثبت هو الآخر بطلان عبادتها أيضاً بعد أن أثبت خضوعها للنظام الكوني العام، فتبرّأ «الخليل» عليه السلام من عبادتها بصراحة.

ص:145


1- . الأنعام: 77.

وعندئذ أعرض عليه السلام عن تلك الطوائف الثلاث وقال: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .(1)

لقد كان المخاطبون في كلام إبراهيم عليه السلام هم الذين يعتقدون بأنّ تدبير الكائنات الأرضية، ومنها الإنسان قد أُنيطت إلى الأجرام السماوية وفوّضت إليها!!

وهذا الكلام يفيد أنّ الخليل عليه السلام لم يقصد المطالب الثلاثة التالية:

1. إثبات الصانع (الخالق).

2. توحيد الذات وأنّه واحد غير متعدد.

3. التوحيد في الخالقية، وأنّه لا خالق سواه.

بل كان تركيزه عليه السلام على التوحيد في «الربوبية» و «التدبير» وإدارة الكون، وأنّه لا مدبّر ولا مربي للموجودات الأرضية إلّااللّه سبحانه وتعالى، ومن هنا فإنّه عليه السلام فور إبطاله لربوبية الأجرام السماوية قال: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ...» وهو يعني أنّ خالق السماوات والأَرض هو نفسه مدبّرها وربُها، وأنّه لم يفوَّض أي شيء من تدبير الكون - لا كلّه ولا بعضه - إلى الأجرام السماوية، فتكون النتيجة: أنّ الخالق والمدبّر واحد، لا أنّ الخالق هو اللّه والمدبّر شيء آخر.

ولقد وقع المفسّرون، والباحثون في معارف القرآن في خطأ، والتباس عند التعرّض لمنطق «إبراهيم» عليه السلام وشرح حواره هذا، حيث تصوّروا أنّ الخليل عليه السلام قصد نفي «أُلوهية» هذه الأجرام يعني الأُلوهية الّتي يعتقد بها جميع شعوب الأرض ويكون هذا الكون الصاخِب آية وجوده.

بينما تصوّر فريق آخر أنّ «إبراهيم» كان يقصد نفي «الخالقية» عن هذه

ص:146


1- . الأنعام: 79.

الأجرام السماوية، لأنّه من الممكن أن يخلق إله العالم كائناً كامل الوجود والصفات ثم يفوض إليه مقام الخالقية، في حين أنّ هذين التفسيرين غير صحيحين، بل كان هدف الخليل عليه السلام - بعد التسليم بوجود إله واجب الوجود، وتوحيده، ووحدانية الخالق - البحث في قسم آخر من التوحيد، ألا وهو التوحيد «الربوبي»، وبالتالي إثبات أنّ خالق الكون هو نفسُه مدبر ذلك الكون أيضاً، وعبارة «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ...» أفضل شاهد على هذا النوع من التفسير.

من هنا كان التركيز الأكبر في بحث إبراهيم على مسألة «الربّ» و «الربوبية» في صعيد الأجرام كالقمر والزهرة والشمس.(1)

هذا واستكمالاً للبحث الحاضر لابدَّ من توضيح برهان النبيّ «إبراهيم» عليه السلام.

لقد استدلّ «إبراهيم» في جميع المراحل الثلاث بأُفول هذه الأجرام على أنّها لا تليق بتدبير الظواهر الأرضية وبخاصّة الإنسان.

وهنا ينطرح سؤال: لماذا يُعتبر أُفول هذه الأجرام شاهداً على عدم مدبِّريتها؟

إنّ هذا الموضوع يمكن بيانُه بصور مختلفة، كلّ واحدة منها تناسب طائفة معيّنة من الناس.

إنّ تفسير منطق «الخليل» عليه السلام وأُسلوبه في إبطال مدبِّرية الأجرام السماوية وربوبيّتها بأشكال وصور مختلفة أفضل شاهد على أنّ للقرآن الكريم أبعاداً مختلفة، وأنّ كل بُعدٍ منها يناسب طائفة من الناس.

ص:147


1- . لقد بيّنا مراتب التوحيد من وجهة نظر القرآن الكريم في موسوعتنا مفاهيم القرآن، الجزء الأوّل: «معالم التوحيد في القرآن الكريم» وأثبتنا هناك أنّ التوحيد في الذات غير التوحيد في الخالقية، وأنّ هذين النوعين من التوحيد غير التوحيد في الربوبية، وهي غير المراتب الأُخرى للتوحيد، فراجع الكتاب المذكور تقف على هذه الحقيقة.

وإليك في ما يلي التفاسير المختلفة لهذا الاستدلال:

أ. إنّ الهدف من اتّخاذ الربّ هو أن يستطيع الكائن الضعيف في ظلّ قدرة ذلك الرب من الوصول إلى مرحلة الكمال، ولابدّ أن يكون لمثل هذا الربّ ارتباطٌ قريبٌ مع الموجودات المراد تربيتها بحيث يكون واقفاً على أحوالها، غير منفصل عنها، ولا غريب عليها.

ولكن كيف يستطيع الكائن الّذي يغيب ساعات كثيرة عن الفرد المحتاج إليه في التربية ويُحرم ذلك الفرد من فيضه وبركته، أن يكون ربّاً للموجودات الأَرضية ومدبّراً لها؟!

من هنا يكون أُفول النجم، وغروبه، الّذي هو علامة غربته وانقطاعه عن الموجودات الأرضية خير شاهد على أنّ للموجودات الأرضية ربّاً آخر، منزّهاً عن تلك النقيصة، بعيداً عن ذلك العيب.

ب. إنَّ طلوع الأجرام السماوية وغروبها وحركتها المنظّمة دليل على أنّها جميعاً خاضعة لمشيئة فوقها، وأنّها في قبضة القوانين الحاكمة عليها، والخضوع لقوانين منظمة هو بذاته دليل على ضعف تلك الموجودات، ومثل هذه الموجودات الضعيفة لا يمكن أن تكون حاكمة على الكون، أو شيء من الظواهر الطبيعية، وأمّا استفادة الموجودات الأرضية من نور تلك الأجرام وضوئها فلا يدلّ أبدّاً على ربوبية تلك الأجرام، بل هو دليل على أنّ تلك الأجرام تؤدّي وظيفة تجاه الموجودات الأرضية بأمر من موجود أعلى.

وبعبارة أُخرى: إنّ هذا الأمر دليل على التناسق الكوني، وارتباط الكائنات بعضها ببعض.

ج. ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات؟ هل الهدف هو أن تسير من النقص إلى الكمال أو بالعكس؟

ص:148

وحيث إنّ الصورة الثانية غير معقولة، وعلى فرض تصوّرها لا معنى لأن يسير المربّي والمدبّر للكون من مرحلة الكمال إلى النقص والفناء، يبقى الفرضُ الأوّل وهو بنفسه دليل على وجود مربٍّ آخر يوصل هذه الموجودات القوّية في ظاهرها من مرحلة إلى مرحلة، هو - في الحقيقة - الربُّ الّذي يبلغ بهذه الموجودات وما دونها إلى الكمال.

طريقة الأنبياء في الحوار والجدال

لقد أسلفنا في ما سبق أنّ «إبراهيم» - بعد خروجه من الغار - واجه صنفين منحرفين عن جادّة التوحيد، هما:

1. الوثنيون.

2. عَبَدة الأجرام السماوية.

ولقد سمعنا حوار «إبراهيم» عليه السلام وجداله مع الفريق الثاني، وعلينا الآن أن نعرف كيف حاور الوثنيين وعبدة الأصنام؟

إنّ تاريخ الأنبياء والرسل يكشف لنا عن أنّهم كانوا يبدأون دعوتهم من إنذار الأقربين ثمّ يوسّعون دائرة الدعوة لتشمل عامّة الناس كما فعل رسول الإسلام في بدء دعوته حيث بدأ بإنذار عشيرته الأقربين لمّا أمره اللّه تعالى بذلك، إذ قال:

«وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (1). وبذلك أسّس دعوته على إصلاح أقربائه وعشيرته.

ولقد سلك «الخليل» عليه السلام نفس هذا المسلك أيضاً، إذ بدأ عمله الإصلاحي بإصلاح أقربائه.

ص:149


1- . الشعراء: 214.

ولقد كان لآزر بين قومه مكانة اجتماعية عُليا فهو - مضافاً إلى معلوماته في الصناعة وغيرها - كان منجّماً ماهراً، وذا كلمة مسموعة ورأي مقبول في بلاط «نمرود» في كلّ ما يخبر به من أخبار النجوم، وكلّ ما يستخرجه وما يستنبطه من الأُمور الفلكية ويذكره من تكهّنات.

لقد أدرك «إبراهيم» أنّه بجلبه لآزار (عمّه) يستطيع أن يسيطر على أوساط الوثنيّين، ويجرّدهم من ركيزة هامّة من كبريات ركائزهم، ولهذا بادر إلى منع عمّه آزر - وبأفضل الأساليب - عن عبادة الأوثان، بيد أنّ بعض الأسباب أوجبت أن لا يقبل «آزر» بنصائح «إبراهيم» عليه السلام، والمهم لنا في هذا المجال هو أن نتعرّف على كيفية دعوة الخليل وعلى أُسلوب حواره مع «آزر».

إنّ الإمعان في الآيات الّتي تنقل حوار «إبراهيم» عليه السلام مع «آزر» توضح لنا أدب الأنبياء، وأُسلوبهم الرائع في الدعوة والإرشاد، ولنقف عند حوار إبراهيم ودعوته، ليتّضح لنا ذلك.

يقول القرآن الكريم عن ذلك: «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا * يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا * يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا» .

فأجابه «آزر» قائلاً: «أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا» .

ولكن «إبراهيم» بسعة صدره وعظمة روحه تجاهل ردّ «آزر» العنيف ذلك وأجابه قائلاً: «سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي» .(1)

ص:150


1- . مريم: 42-47.

وأيّ جواب أفضلُ مِنْ هَذا البيان، وأيُّ لغة أليَن مِنْ هذه اللغة وأحبّ إلى القلب، وأكثر رحمة ولطفاً؟!

هَل كان آزر والدَ إبراهيم؟

إنّ الظاهر من الآيات المذكورة وكذا الآية (115) من سورة «التوبة» والآية (14) من سورة الممتحنة هو: أنّ «آزر» كان والد إبراهيم عليه السلام.

وقد كان إبراهيم يسمّيه أباً في حين كان «آزر» وثنياً، فكيف يصحّ ذلك وقد اتّفقت كلمة علماء الشيعة عامّة على كون والد النبيّ الكريم «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم وجميع الأَنبياء مؤمنين باللّه سبحانه موحّدين إيّاه تعالى.

ولقد قال الشيخ المفيد رضوان اللّه عليه في كتابه القيّم «أوائل المقالات»:

واتّفقت الإمامية على أنّ آباء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من لدن آدم إلى عبداللّه بن عبدالمطلب مؤمنون باللّه عزّ وجلّ موحّدون له. واحتجّوا في ذلك بالقرآن والأخبار. وأجمعوا على أنّ عمّه أبا طالب رحمه الله مات مؤمناً، وأنّ آمنة بنت وهب كانت على التوحيد، وأنّها تحشر في جملة المؤمنين.(1)

وفي هذه الصورة ما هو الموقف من ظواهر الآيات المذكورة الّتي تفيد أُبوّة «آزر» لإبراهيم، وما هو الحلّ الصحيح لهذه المشكلة؟؟

يذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ لفظة «الأب» وإن كانت تُستعمل عادة في لغة العرب في «الوالد»، إلّاأنّ مورد استعمالها لا ينحصر في ذلك.

بل ربّما استعملت - في لغة العرب وكذا في مصطلح القرآن الكريم - في:

(العمّ) أيّضاً. كما وقع ذلك في الآية التالية الّتي استعملت فيها لفظة الأب بمعنى العم إذ يقول سبحانه:

ص:151


1- . أوائل المقالات: 45، باب القول في آباء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وأُمّه وعمّه أبي طالب.

«إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» .(1)

فإنّ ممّا لا ريب فيه أنّ «إسماعيل» كان عمّاً ليعقوب لا والداً له، فيعقوب هو ابن إسحاق، وإسحاق هو أخو إسماعيل. ومع ذلك سمّى أولادُ يعقوب «إسماعيل» الّذي كان (عمَّهم) أباً.

ومع وجود هذين الاستعمالين (استعمال الأب في الوالد تارة، وفي العمّ تارة أُخرى) يصبح احتمال كون المراد بالأب في الآيات المرتبطة بهداية «آزر» هو العمّ، أمراً وارداً، وبخاصّة إذا ضَمَمْنا إلى ذلك قرينة قويّة في المقام وهي: إجماع العلماء الّذي نقله المفيد رحمه الله على طهارة آباء الأنبياء وأجدادهم من رجس الشرك والوثنية.

ولعلّ السبب في تسمية النبيّ «إبراهيم» عمَّه بالأب هو أنّه كان الكافل لإبراهيم ردحاً من الزمن، ومن هنا كان «إبراهيم» ينظر إليه بنظر الأب، وينزله منزلة الوالد.

القرآن ينفي أُبوّة «آزر» لإبراهيم عليه السلام

ولكي نعرف رأي القرآن الكريم في مسألة العلاقة بين «آزر» و «إبراهيم» عليه السلام نلفت نظر القارئ الكريم إلى توضيح آيتين:

1. لقد أشرقت منطقةُ الحجاز بنور الإيمان والإسلام بفضل جهود النبيّ «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم وتضحياته الكبرى، وآمن أكثر الناس به عن رغبة ورضا، وعلموا بأنّ عاقبة الشرك، وعبادة الأوثان والأصنام هو الجحيم والعذاب الأليم.

إلّا أنّهم رغم ابتهاجهم وسرورهم بما وُفقوا له من إيمان وهداية، كانت

ص:152


1- . البقرة: 133.

ذكريات آبائهم وأُمّهاتهم الذين مضوا على الشرك والوثنية تزعج خواطرهم وتثير شفقتهم، وأسفهم.

وكان سماع الآيات التي تشرح أحوال المشركين في يوم القيامة يحزنهم ويؤلمهم، وبغية إزالة هذا الألم الروحي المجهد طلبوا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يستغفر لآبائهم وأُمّهاتهم كما فعل «إبراهيم» في شأن «آزر» فنزلت الآية في مقام الردّ على طلبهم ذاك، إذ قال سبحانه:

«ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ * وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيّاهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ» .(1)

إنَّ ثمة قرائن كثيرة تدلّ على أنّ محادثة النبيّ «إبراهيم» وحواره مع «آزر» ووعده بطلب المغفرة له من اللّه سبحانه قد انتهى إلى قطع العلاقات، والتبرّي منه في عهد فتوَّة «إبراهيم»، وشبابه، أي عندما كان «إبراهيم» لا يزال في مسقط رأسه «بابل» ولم يتوجّه بعد إلى فلسطين ومصر وأرض الحجاز.

إنّنا نستنتج من هذه الآية أنّ «إبراهيم» قطع علاقته مع «آزر» - في أيام شبابه - بعدما أصرّ «آزر» على كفره، ووثنيته، ولم يعد يذكره إلى آخر حياته.

2. لقد دعا «إبراهيم» عليه السلام في أُخريات حياته - أي في عهد شيخوخته - وبعد أن فرغ من تنفيذ مهمّته الكبرى (تعمير الكعبة) وإسكان ذريته في أرض مكّة القاحلة، دعا وبكلّ إخلاص وصدق لجماعة، منهم والداه، وطلب من اللّه إجابة دعائه، إذ قال في حين الدعاء:

«رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» .(2)

ص:153


1- . التوبة: 113 و 114.
2- . إبراهيم: 41.

إنّ هذه الآية تفيد بصراحة أنّ الدعاء المذكور كان بعد الفراغ من بناء الكعبة المعظّمة، وتشييدها، يوم كان إبراهيم يمر بفترة الشيخوخة، فإذا كان مقصودُه من الوالد في الدعاء المذكور هو «آزر» وإنّه المراد له المغفرة الإلهية كان معنى ذلك أنّ «إبراهيم» كان لم يزل على صلة ب «آزر» حتّى أنّه كان يستغفر له في حين أنّ الآية التي نزلت ردّاً على طلب المشركين أوضحت بأنّ «إبراهيم» كان قد قطع علاقاته ب «آزر» في أيّام شبابه، وتبرّأ منه، ولا ينسجم الاستغفار مع قطع العلاقات. إن ضَمَّ هاتين الآيتين بعضهما إلى بعض يكشف عن أنّ الّذي تبرّأ منه «إبراهيم» في أيام شبابه، وقطع علاقاته معه، واتّخذه عدواً، هو غير الشخص الّذي بقي يذكره، ويستغفر له إلى أُخريات حياته.(1)

إبراهيم محطِّم الأَصنام

لقد حلَّ موسم العيد، وخرج أهلُ بابل المغفّلين الجهلة إلى الصحراء للاستجمام، ولقضاء فترة العيد، وإجراء مراسيمه، وقد أخلوا المدينة.

ولقد كانت سوابق «إبراهيم»، وتحامله على الأصنام، واستهزاؤه بها قد أوجدت قلقاً وشكّاً لدى أهل بابل، ولهذا طلبوا منه - وهم الذين يساورهم القلق من موقفه تجاه أصنامهم - الخروج معهم إلى الصحراء، والمشاركة في تلك المراسيم، ولكن اقتراحهم هذا بل إصرارهم واجه رفض إبراهيم الّذي ردّ على طلبهم بحجّة المرض إذ قال: «إِنِّي سَقِيمٌ» وهكذا لم يشترك في عيدهم، وخروجهم وبقي في المدينة.

حقّاً لقد كان ذلك اليوم يوم ابتهاج وفرح للموحّد والمُشرك، وأمّا للمشركين فقد كان عيداً قديماً عريقاً يخرجون للاحتفال به، وإقامة مراسيمه وتجديد ما

ص:154


1- . لاحظ: مجمع البيان: 6/86؛ والميزان في تفسير القرآن: 7/170.

كان عليه الآباء والأسلاف إلى الصحراء حيث السفوح الخضراء والمزارع الجميلة.

وكان عيداً لإبراهيم بطل التوحيد كذلك، عيداً لم يسبق له مثيل، عيداً طال انتظارُه، وأفرح حضوره وحلوله، فها هو إبراهيم يجد المدينة فارغة من الأغيار، والفرصة مناسبة للانقضاض على مظاهر الشرك والوثنية، وحدث هذا فعلاً.

فعندما خرج آخر فريق من أهل بابل من المدينة، إغتنم «إبراهيم» تلك الفرصة ودخل وهو ممتلئ إيماناً ويقيناً باللّه في معبدهم حيث الأصنام والأوثان المنحوتة الخاوية، وأمامها الأطعمةُ الكثيرة الّتي أحضرها الوثنيون هناك بقصد التبرّك بها، وقد لفتت هذه الأطعمة نظر «الخليل» عليه السلام، فأخذ بيده منها كسرة خبز، وقدمها مستهزئاً إلى تلك الأصنام قائلاً: لماذا لا تأكلون من هذه الأطعمة؟

ومن المعلوم أنّ معبودات المشركين الجوفاء هذه لم تكن قادرة على فعل أيّ شيءٍ أو حركةٍ مطلقاً، فكيف بالأكل؟!

لقد كانت تخيّم على جوّ ذلك المعبد الكبير سحابة من الصمت القاتل ولكنّها سرعان ما تبددت إثر أصوات المعول الّذي أخذ «إبراهيم» يهوي به على رؤوس وأيدي تلك التماثيل الجامدة الواقفة بلا حراك.

لقد حطّم «الخليل» عليه السلام جميع الأصنام وتركها ركاماً من الأعواد المهشّمة، والأحجار والحديد المتحطّم، وإذا بتلك الأصنام المنصوبة في أطراف ذلك الهيكل قد تحوّلت إلى تلّة في وسط المعبد.

غير أنّ «إبراهيم» ترك الصنم الأكبر من دون أن يمسّه بسوء، ووضع المعول على عاتقه، وهو يريد بذلك أن يظهر للقوم بأنّ مُحطِمَ تلك الأَصنام هو ذلك الصنمُ الكبير، إلّاأنّ هدفه الحقيقي من وراء ذلك كان أمراً آخراً سنبينهُ في ما بعد.

ص:155

لقد كان «إبراهيم» عليه السلام يعلم بأنَّ المشركين بعد عودتهم من الصحراء، ومن مراسم عيدهم سيزورون المعبد، وسوف يبحثون عن علّة هذه الحادثة، وأنّهم بالتالي سوف يرون أنّ وراء هذه الحادثة واقعاً آخر، إذ ليس من المعقول أن يكون صاحب تلك الضربات القاضية هو هذا الصنم الكبير الّذي لا يقدر أساساً على فعل شيء على الإطلاق.

وفي هذه الحالة سوف يستطيع «إبراهيم» عليه السلام أن يستفيد من هذه الفرصة في عمله التبليغي ويستغل اعتراضهم بأنّ هذا الصنم الكبير لا يقدر على شيء أبداً، لتوجيه السؤال التالي إليهم: إذن كيف تعبدونه؟!!

فمنذ أن أخذت الشمس تدنو إلى المغيب ويقتربُ موعد غروبها، وتتقلّص أشعتها وتنكمش من الرَّوابي والسهول، أخذَ الناسُ يؤوبون إلى المدينة أفواجاً أفواجاً.

وعندما آن موعد العبادة، وتوجّهوا إلى حيث أصنامهم، واجهوا منظراً فظيعاً وأمراً عجيباً لم يكونوا ليتوقَّعونه!!

لقد كان المشهد يحكي عن ذلّة الآلهة وحقارتها، وهو أمرٌ لفت نظر الجميع شيباً وشبّاناً، كباراً وصغاراً.

ولقد كانت تلك اللحظة لحظة ثقيلة الوطأة على الجميع بلا استثناء.

فقد خَيَّم سكوتٌ قاتلٌ مصحوب بحنق ومضض على فضاء ذلك المعبد المنكود الحظ.

إلا أنّ أحدهم خرق ذلك الصمت الرهيب وقال: مَن الّذي ارتكب هذه الجريمة، ومَن فعل هذا بألهتنا؟!

ولقد كانت آراء «إبراهيم» ومواقفه السلبية السابقة ضد الأصنام وتحامله

ص:156

الصريح عليها تبعثهم على اليقين بأنّ «إبراهيم» وليس سواه هو الّذي صنع ما صنع بآلهتم وأصنامهم.

ولأجل ذلك تشكّلت فوراً محكمة يرأسها «نمرود» نفسه، فدعا نمرود أُمّ إبراهيم فقال لها: ما حملك على أن كتمتي أمر هذا الغلام حتّى فعل بآلهتنا ما فعل؟

ولقد أجابت أُمّ إبراهيم على هذا السؤال بقولها: أيّها الملك (فعلت هذا) نظراً منّي لرعيّتك، قال (نمرود): وكيف ذلك؟ قالت: رأيتك تقتل أولاد رعيّتك فكان يذهب النسل، فقلت: إن كان هذا الّذي يطلبه دفعتُه إليه ليقتله ويكف عن قتل أولاد الناس، وإن لم يكن ذلك فبقي لنا ولدنا، وقد ظفرت به فشأنك، فكف عن أولاد الناس، فصوّب رأيها.

ثم جاء دور مساءلة إبراهيم عليه السلام فسأله قائلاً: «أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» (1)، فقال إبراهيم: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» .(2)

وقد كان «إبراهيم» عليه السلام يهدف من هذه الإجابة المصحوبة بالسخرية والازدراء هدفاً آخر، وهو أنّ «إبراهيم» عليه السلام كان على يقين بأنّهم سيقولون في معرض الإجابة عن كلامه هذا: إنّك تعلم يا إبراهيم أنّ هذه الأصنام لا تقدر على النطق، وفي هذه الصورة يستطيع «إبراهيم» أن يُلفت نظر السلطات الّتي تحاكمه إلى نقطة أساسية.

وقد حدث فعلاً ما كان يتوقّعه «إبراهيم» عليه السلام لما قالوا له وقد نكسوا على رؤوسهم: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» فقال إبراهيم ردّاً على كلامهم هذا الّذي كان يعكس حقارة تلك الأصنام والأوثان وتفاهة شأنها: «أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا

ص:157


1- . الأنبياء: 62.
2- . الأنبياء: 63.

يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» .(1)

إلّا أنَّ تلك الزمرة المعاندة الّتي ران على قلوبها الجهلُ والتقليدُ الأعمى لم يجدوا جواباً لأبراهيم الّذي أفحمهم بمنطقه الرصين إلّاأن يحكموا بإعدامه حرقاً، فأَوقدوا ناراً كبيرة وألقوا بإبراهيم عليه السلام فيها إلّاأنّ العناية الإلهية شملت إبراهيم الخليل عليه السلام، وحفظته من أذى تلك النار، وحوّلت ذلك الجحيم الّذي أوجده البشر، إلى جُنينة خضراء نضرة، إذ قال: «يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» .(2)

العِبَر القيمة في هذه القصة

مع أنّ اليهود يعتبرون أنفسَهم في مقدّمة الموحِّدين، لم ترد هذه القصة في توراتهم الحاضرة رغم كونها معروفة بينهم، بل تفرّد القرآنُ الكريم من بين الكتب السماوية بذكرها لأهمّيتها.

ص:158


1- . الأنبياء: 66-67.
2- . وقد ذكرت تفاصيل هذه القصّة في الآيات 51 إلى 70 من سورة الأنبياء وها نحن ندرج كل هذه الآيات هنا: وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنّا بِهِ عالِمِينَ * إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ * قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ * قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاّعِبِينَ * قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ * وَ تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظّالِمِينَ * قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ * قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ * قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ * قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ * قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ * قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ * وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ». وللوقوف على تفاصيل وخصوصيات ولادة إبراهيم عليه السَّلام وتحطيمه للأصنام راجع: الكامل لابن الأثير: 1/94-100؛ وبحار الأنوار: 12/14-55.

من هنا فإنّنا نذكرُ بعض النقاط المفيدة، والدروس المهمّة في هذه القصة الّتي يَهدِفُ القرآن من ذكرها وذكر أمثالها من قصص الأنبياء والرسل.

1. إنّ هذه القصّة خير شاهد على شجاعة «إبراهيم الخليل» عليه السلام وبطولته الفائقة.

فعزم إبراهيم على تحطيم الأصنام، ومحق وهدم كلّ مظاهر الشرك والوثنية المقيتة لم يكن أَمراً خافياً على النمروديّين؛ لأنّه عليه السلام كان قد أظهر شجبه لها، وأعلن عن استنكاره لعبادتها وتقديسها من خلال كلماته القادحة فيها، واستهزائه بها، فقد كان عليه السلام يقول لهم بكلّ صراحة بأنّه سيتخذ من تلك الأصنام موقفاً مّا إذا لم يتركوا عبادتها وتقديسها، فقد قال لهم يوم أرادوا أن يخرجوا إلى الصحراء لمراسيم العيد:

«وَ تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» .(1)

ولقد كان موقف الخليل عليه السلام ينمَّ عن شجاعة كبرى فقد قال الإمام الصادق عليه السلام في هذا الصدد:

«ومنها (أي وممّا تحلّى به النبيّ إبراهيم) الشجاعة وقد كشفت (قضيةُ) الأصنام عنه...، ومقاومة الرجل الواحد أُلوفاً من أعداء اللّه عزّوجلّ تمام الشجاعة».(2)

2 - إنّ ضربات «إبراهيم» القاضية وإن كانت في ظاهرها حربّاً مسلّحة، وعنيفة ضد الأصنام، إلّاأنّ حقيقة هذه النهضة - كما يُستفاد من ردود «إبراهيم» على أسئلة الذين حاكموه، واستجوبوه - كانت ذات صبغة تبليغية دعائية.

فإنّ «إبراهيم» لم يجد وسيلة لإيقاظ عقول قومه الغافية، وتنبيه فطرتهم الغافلة، إلّاتحطيم جميع الأصنام، وترك كبيرها وقد علق القدوم على عاتقه ليدفع

ص:159


1- . الأنبياء: 57.
2- . بحار الأنوار: 12/67.

بقومه إلى التفكير في القضية من أساسها، وحيث إنّ العمل لم يكن أكثر من مسرحية، إذ لا يمكن أن يصدّق أحدهم بأنّ تلك الضربات القاضية كانت من صنع ذلك الصنم الكبير وفعله، حينئذٍ يستطيع إبراهيم أن يستثمر فعله هذا في دعوته، ويقول إنَّ هذا الصنم الكبير لا يقدر - وباعترافكم - على فعل أيّ شيء مهمّا كان صغيراً وحقيراً فكيف تعبدونه إذن؟!

ولقد استفاد «إبراهيم» من هذه العملية فعلاً، وتوصّل إلى النتيجة الّتي كان يتوخّاها، فقد ثابوا إلى نفوسهم بعد أن سمعوا كلمات «إبراهيم» عليه السلام، واستيقظت ضمائرهم وعقولهم ووصفوا أنفسهم بالظلم بعد أن تبيّن لهم الحقّ وبطل ما كانوا يعبدون، إذ قال تعالى: «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظّالِمُونَ» (1) وهذا بنفسه يفيد بأنّ سلاح الأنبياء القاطع في بدء عملهم الرسالي كان هو: سلاح المنطق والاستدلال ليس إلّا، غاية الأمر أنّه كان يتعامل في كلّ دورة بما يناسبها من الوسائل، وإلّا فما قيمة تحطيم عدد من الأَصنام الخشبية بالقياس إلى مخاطرة النبيّ «إبراهيم الخليل» بنفسه وحياته، وبالقياس إلى الأخطار الّتي كانت تتوجّه إليه نتيجة هذا العمل الصارخ.

إذن فلابدّ أن يكون وراء هذه العملية الخطيرة هدفٌ كبيرٌ وخدمة عظمى تستحق المخاطرة بالنفس، ويستحق المرء امتداح العقل له إذا عرّض حياته للخطر في سبيلها.

3. لقد كان إبراهيم يعلم بأنّ هذا العمل سيؤدّي بحياته، وسيكون فيه حتفه، فكانت القاعدة تقتضي أن يسيطر عليه قلقٌ واضطرابٌ شديدان، فيتوارى عن أعين الناس، أو يترك المزاح، والسخرية بالأَصنام على الأقل، ولكنّه كان على العكس من ذلك رابط الجأش، مطمئن النفس، ثابتَ القدم، فهو عندما دخَلَ في المعبد الّذي

ص:160


1- . الأنبياء: 64.

كانت فيه الأصنامُ تقدّم بقطعة من الخبز إلى الأصنام ودعاها ساخراً بها، إلى الأكل، وثم ترك الأَصنام بعد اليأس منها تلاًّ من الخشب المهشّم، واعتبر هذا الأَمرَ مسألة عادية لا تستأهل الوَجلَ والخوف، وكأنّه لم يفعل ما يستتبع الموت المحقَّق ويستوجب الإعدام المحتّم.

فهو عندما يأخذ مكانه أمام هيئة القضاة يقول معرّضاً بالأصنام: فعله كبير الأصنام فاسألوه، ولا شكّ أنّ هذا التعريض والسخرية بالأصنام إنّما هو موقف من لا يوجس خيفة، ولا يشعر بوجَل من عمله، بل هو فعل من قد هيّأ نفسه لكلّ الأخطار المحتملة، واستعدّ لكل النتائج مهما كانت خطيرة.

بل الأعجبُ من هذا كلّه دراسة وضع «إبراهيم» نفسه حينما كان في المنجنيق وقد تيقّن أنّه سيكون وسط ألسنة اللهب بعد هنيئة، وتلتهمه النار المستعرة تلك النار الّتي جمع أهل «بابل» لها الحطب الكثير تقرّباً إلى آلهتهم، وكانوا يعتبرون ذلك العمل واجباً مقدّساً... تلك النار الّتي كان لهيبها من القوّة بحيث ما كانت الطيور تستطيع من التحليق على مقربة منها.

في هذه اللحظة الخطيرة الحسّاسة جاءه جبرئيل وأعلن عن استعداده لإنقاذه وتخليصه من تلك المهلكة الرهيبة قائلاً له: هل لك إليّ من حاجة؟

فقال «إبراهيم»: أمّا إليك فلا، وأمّا إلى ربِّ العالمين فنعم.(1)

إنّ هذا الجواب يجسِّدُ إيمان «إبراهيم» العظيم، وروحه الكبرى.

لقد كان «نمرود» الّذي جلس يراقب تلك النار من عدّة فراسخ، ينتظر بفارغ الصبر لحظة الانتقام، وكان يحب أن يرى كيف تلتهم ألسنة النار «إبراهيم». فما أرهب تلك اللحظات!

لقد وضع إبراهيم عليه السلام في المنجنيقُ، وبهزّة واحِدة أُلقي في وسط النار غير أَنّ

ص:161


1- . لاحظ: عيون أخبار الرضا: 2/60؛ وأمالي الصدوق: 542؛ وبحارالأنوار: 12/35.

مشيئة اللّه، وإرادته النافذة تدخلت فوراً لتخلّص خليل اللّه ونبيّه العظيم، فحوّلت تلك النّار المحرقة الّتي أوقدتها يَدُ البشر إلى روضة خضراء أدهشت الجميع حتّى أَنَّ نمرود عندما أشرف على النار ورأى ذلك، التفت إلى «آزر» وقال - من دون إرادته -: «يا آزر ما أكرمَ إبراهيم على ربّه».(1) إنّ انقلاب تلك النّار الهائلة إلى روضة خضراء لإبراهيم قد تمّ بأمر اللّه المسبّب للأسباب والمعطّل لها متى شاء، المعطي لها آثارها، والسالب عنها ذلك، متى أراد.

أجل إنّ اللّه الّذي منح الحرارة للنّار والإضاءة للقمر، والإشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار وانتزاعها من تلك الاشياء وتجريدها، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبّب الاسباب، ومعطّلها.

غير أنّ جميع هذه الحوادث الخارقة والآيات الباهرة لم تستطع أن توفر لإبراهيم الحرية الكاملة في الدعوة والتبليغ، فقد قرّرت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد «إبراهيم» ونفيه، وقد فتح هذا الأَمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم، وتهيّأت بذلك أسبابُ رحلته إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر وأرض الحجاز.

هجرة الخليل عليه السلام

لقد حكمت محكمة «بابل» على «إبراهيم» بالنفي والإبعاد من وطنه، ولهذا اضطرّ عليه السلام أن يغادر مسقط رأسه، ويتوجّه صوبَ فلسطين ومصر، وهناك واجه استقبال العمالقة الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به، ونَعِمَ بهداياهم الّتي كان من جملتها جارية تدعى «هاجر».

ص:162


1- . لاحظ: تفسير البرهان: 3/826 برقم 7161.

وكانت زوجته «سارة» لم تُرزق بولد إلى ذلك الحين، فحرّكت هذه الحادثة عواطفها ومشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم، ولذلك حثّته على الزواج من تلك الجارية علّه يُرْزَقُ منها بولد، تقرّ به عينه وتزدهر به حياته.

فكان ذلك، وولدت «هاجر» لإبراهيم ولداً ذكراً سُمّي بإسماعيل، ثم بعد مضي مدة من الزمان حبلت سارة هي أيضاً وولدت - بفضل اللّه ولطفه - ولداً سُمّي بإسحاق.(1)

وبعد مدّة من الزمان أمر اللّه تعالى «إبراهيم» بأن يذهب بإسماعيل وأُمّه «هاجر» إلى جنوب الشام «أي أرض مكّة» ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف إلى ذلك الحين... واد لم يسكنه أحدٌ بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية الذاهبة من الشام إلى اليمن، والعائدة منها إلى الشام، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً، وأمّا في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة، خالية من السكان.

لقد كانت الإقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لامرأة عاشت في ديار العمالقة وألفت حياتهم وحضارتهم، وترفهم وبذخهم.

فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب أمام أبصار المقيمين.

وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ من التفكير والدهشة لهذا الأمر، ولهذا فإنّه فيما كان عازماً على ترك زوجته «هاجر» وولده «إسماعيل» في ذلك الواد قال لزوجته «هاجر» وعيناه تدمعان: «إنّ الّذي أمرني أن أضعَكُمْ في هذا المكان هو الّذي يكفيكم».

ثمّ قال في ضراعة خاصة: «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ

ص:163


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 12/118 ح 58.

مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» .(1)

وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت إليهما وقال داعياً:

«رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» .(2) إنَ هذه السفرة والهجرة وإن كانت في ظاهرها أمراً صعباً، وعملية لا تطاق، إلا أنّ نتائجها الكبرى - الّتي ظهرت فيما بعد - أوضحت وبيّنت أهمّية هذا العمل، لأنّ بِناء الكعبة، وتأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع، وخلق نواة نهضة، دينية عميقة، انبثقت على يد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم، كلُّ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.

كيف ظهرت عين زمزم؟

لقد غادر «إبراهيم» عليه السلام أرض مكّة تاركاً زوجته وولده «إسماعيل» بعيون دامعة، وقلب يملأه الرضا بقضاء اللّه والأمل بلطفه وعنايته.

فلم تمض مدّة إلّاونفد ما ترك عندهما من طعام وشراب، وجفّ اللبن في ثديي «هاجر»، وتدهورت أحوال الرضيع «إسماعيل»، وكانت دموع الأُم الحزينة تنحدر على حجرها، وهي تشاهد حال وليدها الّذي قد أخذ العطش والجوع منه مأخذاً.

فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتّى وصلت إلى جبل «الصفا»

ص:164


1- . البقرة: 126.
2- . إبراهيم: 37.

فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل «مروة»، فأسرعت إليه مهرولة، غير أنّ الّذي رأته وظنته ماء لم يكن الّا السراب الخادع، فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والإياب إلى الصفا والمروة أملاً في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرّر، والذهاب والإياب المتعدّد بين الصفا والمروة عادت إلى وليدها قانطةً يائسةً.

كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل وأشرفت على النهاية، ولم يعد ذلك الرضيع الظامئ قادراً على البكاء ولا حتّى على الأنين.

ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه «إبراهيم»، إذ لاحظت هاجر الماء الزلال وهو ينبع من تحت أقدام «إسماعيل».

فسرت تلك الأُم المضطربة - الّتي كانت تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الأخيرة من حياته، وكانت على يقين بأنّه سرعان ما يموت عطشاً، وجهداً - سروراً عظيماً بمنظر الماء، وبرق في عينيها بريق الحياة، بعد أن اظلمّت الدنيا في عينيها قبل دقائق، فشربت من ذلك الماء العذب، وسقت منه رضيعها الظامئ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما بعثه من نسيم الرحمة الربانية كلّ غيوم اليأس، وسحُب القنوط الّتي تلبّدت وخيّمت على حياتها.

ولقد أدّى ظهور هذه العين الّتي تدعى بزمزم إلى أن تتجمّع الطيور في تلك المنطقة و تحلق فوق تلك البقعة الّتي لم يُعهد أن حلَّقت عليها الطيور، وارتادتها الحمائم، وهذا هو ما دفع بجرهم وهي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة إلى أن تتنبه إلى ظهور ماء فيها لمّا رأت تساقط الطيور وتحليقها، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا حقيقة الأمر، وبعد بحث طويل وكثير، انتهيا إلى

ص:165

حيث حلّت الرحمة الإلهية، وعندما اقتربا إلى «هاجر» وشاهدا بأُمِّ عينيهما «امرأة» و «طفلاً» عند عين من الماء الزلال الّذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا، وأخبرا كبار القبيلة بما شاهداه، فأخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة المباركة، وتخيّم عند تلك العين لتطرد عن «هاجر» وولدها مرارة الغربة، ووحشة الوحدة، وقد أدّى نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة إلى أن يتزوّج إسماعيل من تلك القبيلة، ويصاهرهم، وبذلك يحظى بحمايتهم له، وينعم بدفاعهم ورعايتهم ومحبتهم له. ولهذا ينتمي أبناء «إسماعيل» إلى هذه القبيلة من جهة الأُم.

تجديد اللقاء

كان إبراهيم عليه السلام بعد أن ترك زوجته «هاجر» وولده «إسماعيل» في أرض «مكّة» بأمر اللّه، يتردّد على ولده بين فينة وأُخرى.

وفي إحدى سفراته ولعلّها السفرة الأُولى دخل «مكّة» فلم يجد ولده «إسماعيل» في بيته، وكان ولده الّذي أصبح رجلاً قوياً، قد تزوّج بامرأة من جرهم.

فسأل «إبراهيم» زوجته قائلاً: أين زوجك؟ فقالت: خرج يتصيَّد، فقال لها:

هل عندك ضيافة؟ قالت: ليس عندي شيء وما عندي أحد، فقال لها إبراهيم: «إذا جاء زوجك فأَقرئيه السلام وقولي له: فَلْيغيّر عتبة بابه».

وذهب إبراهيم عليه السلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه «إسماعيل» له وقد قال لها ما قال.

ولمّا جاء إسماعيل عليه السلام وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت:

جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفِّة بشأنه، قال: فماذا قال لك؟ قالت: قال لي أقْرئي زوجك السلام وقولي له: فليغيّر عتبة بابه!!

ص:166

فطلّقها وتزوج أُخرى، لأنّ مثل هذه المرأة لا تصلح أن تكون زوجة وشريكة حياة.(1)

وقد يتساءل أحد: لماذا لم يمكث إبراهيم عليه السلام هناك قليلاً ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد، وقد قطع تلك المسافة الطويلة، وكيف سمح لنفسه بأن يعود بعد تلك الرحلة الشاقّة من دون أن يحظى برؤية ابنه العزيز؟!

يجيب أرباب التاريخ على ذلك بأنّ إبراهيم إنّما استعجل في العودة من حيث أتى لوعد أعطاه لزوجته سارة بأن يعود إليها سريعاً، ففعل ذلك حتّى لا يخلف. وهذا من أخلاق الأنبياء.

ثمّ إن «إبراهيم» سافر مرة أُخرى إلى أرض مكّة بأمر اللّه، وليبني الكعبة الّتي تهدّمت في طوفان «نوح»، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.

إنّ القرآن الكريم يشهد بأنّ أرض «مكّة» قد تحوّلت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة إبراهيم عليه السلام، لأنّ إبراهيم دعا بُعَيد فراغه من بناء الكعبة قائلاً:

«رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» (2) على حين دعا عند نزوله مع زوجته، وابنه إسماعيل في تلك الأَرض قائلاً:

«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً» .(3)

وهذا يكشف عن أنّ مكّة تحولت إلى مدينة عامرة في حياة الخليل عليه السلام، بعد أن كانت صحراء قاحلة، وواد غير ذي زرع.

***

ولقد كان من المُستحْسَن اسْتكمالاً لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء

ص:167


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 12/112 ح 38 نقلاً عن قصص الأنبياء.
2- . إبراهيم: 35.
3- . البقرة: 126.

الكعبة المعظمة، ونستعرض التاريخ الإجمالي لذلك، بيد أنّنا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب أعرضنا عن ذلك وعمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز وأشهر أجداد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في التاريخ.

2. قُصَيُّ بنُ كلاب

إنّ أسلاف الرَّسول العظيم صلى الله عليه و آله و سلم هم على التوالي: عَبْدُ اللّه، عَبْدالْمُطَّلِبْ، هاشِم، عبدُ مَناف، قُصّيّ، كِلابٌ، مُرَّة، كَعْب، لُؤيّ، غالِب، فِهْر، مالِك، النَضر، كِنانة، خُزيمَة، مدُركة، إلياس، مُضَر، نَزار، مَعدّ، عَدنان.(1)

من المسلّم أنّ نسب النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم إلى عدنان هو ما ذُكر، فلا خلاف فيه، إنّما وقع الخلاف في عدد، وأسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيل عليه السلام، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ قال: «إذا بَلَغَ نَسَبي إلى عَدْنان فأَمْسِكُوا»(2) هذا مضافاً إلى أَنّ النبيّ نفسه كان إذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك، ونهى عن ذكر من بعده إلى إسماعيل، وقد روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:

كَذِبَ النَسّابُونَ.

ولهذا فإنّنا نكتفي بذكر من اتفِق عليه، ونعمد إلى الحديث عن حياة كلِ واحد منهم.

ولقد كان كلُ من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين، ومشهورين في تاريخ العرب، بيد أنّ حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام، ولهذا فإنّنا نقف عند حياة «قصيّ» ومَن لحقه إلى والد النبيّ «عبداللّه» ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من

ص:168


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 2/5-33.
2- . بحار الأنوار: 15/105 ح 49 عن مناقب ابن شهرآشوب: 1/134؛ وكشف الغمّة: 1/15.

أجداده وأسلافه صلى الله عليه و آله و سلم ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة.(1)

أمّا «قُصَيّ» وهو الجدّ الرابع لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأُمّة «فاطمة» الّتي تزوّجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما: «زهرة» و «قصي» إلّاأنّ زوج فاطمة قد توفّي، وهذا الأخير لم يزل في المهد، فتزوّجت بزوج آخر يدعى ربيعة، وسافرت معه إلى الشام، وبقي «قصيّ» يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتّى وقع خلاف بين قصيّ وقوم ربيعة، واشتدّ ذلك الخلاف حتّى انتهى إلى طرده من قبيلتهم، ممّا أحزن ذلك أُمّه، واضطرت إلى إرجاعه إلى «مكّة».

وهكذا أتت به يد القدر إلى «مكّة»، وسبّبت قابلياته الكامنة الّتي برزت في تلك المدينة في تفوّقه على أهل مكّة وبخاصّة قريش.

وسرعان ما احتلَّ قصيّ هذه المقامات العالية، وشغل المناصب الرفيعة، مثل حكومة «مكّة» وزعامة قريش، وسدانة الكعبة المعظّمة، وصار رئيس تلك الديار دون منازع.

ولقد ترك (قصيّ) من بعده آثاراً كثيرة وعديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن والبيوت حول الكعبة المعظمة، وتأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من أجل التداول في الأُمور وحلّ المشاكل يدعى بدار الندوة.

وقد توفّي «قصيّ» في القرن الخامس الميلادي وخلف من بعده ولدين هما:

«عبد الدار» و «عبد مناف».

ص:169


1- . لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع: 2/5-23.

3. عبدمناف

وهو الجدّ الثالث لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واسمه «المغيرة» ولقبه «قمر البطحاء»، وكان أصغر من أخيه «عبدالدار» إلّاأنّه كان يحظى بمكانة خاصّة عند الناس دون أخيه، وكان شعاره التقوى، ودعوة الناس إلى حسن السيرة وصلة الرحم، بيد أنّه مع ما كان له من المكانة القوّية لم ينافس أخاه «عبدالدار» في المناصب العالية الّتي كان يشغلها. فقد كانت الزعامة لأخيه عبدالدار حسب وصيّة أبيهما «قصيّ».

ولكن بعد وفاة هذين الأَخوين وقع الخصام والتنازع بين أَبنائهما على المناصب، وانتهى ذلك الصراع الطويل إلى اقتسام المناصب والمقامات، وتقرر أن يتولى أبناء عبدالدار سدانة الكعبة وزعامة دار الندوة، ويتولى أبناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم ووفادتهم.

وقد بقي هذا التقسيم المتّفق عليه ساري المفعول إلى زمن ظهور الإسلام.(1)

4. هاشم

اشارة

وهو الجدُّ الثاني لنبي الإسلام واسمه «عَمْرو» ولقبه «العُلاء» وهو الّذي وُلِدَ مع «عبد شمس» توأمين، وأخواه الآخران هما: «المطّلب» و «نوفل».

ص:170


1- . لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم أُسّست ورُفعَ قواعدُها بل حدث كلّ ذلك تدريجاً بحكم المقتضيات والتطوّرات، وكانت هذه المناصب التي استمّرت إلى زمن ظهور الإسلام عبارة عن: 1. سدانة الكعبة. 2. سقاية الحجيج. 3. رفادتهم وضيافتهم. 4. زعامة المكّيين وقيادة جيشهم. ولم يكن هذا الأخير منصباً ذا صبغة دينية.

هذا وثمّة خلاف بين أرباب السيَر وكتّاب التاريخ في أنّ هاشماً وعبد شمس كانا توأمين، وأنّ هاشما ولد وإصبعٌ واحدة من أصابع قدمه ملصقة بجبهة «عبد شمس» وقد نزعت بسيلان دم، فتشاءم الناس لذلك.(1)

يقول الحلبي في سيرته: فكانوا يقولون: سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما، أي بين بني العباس (وهم من أولاد هاشم) وبين بني أُميّة (وهم من أولاد عبد شمس).(2)

وكأنّ كاتب السيرة قد تجاهل الحوادث المحزنة والمؤسفة الّتي وقعت بين بني أُميّة وأبناء عليّ عليه السلام، في حين أنّ تلك الحوادث الدامية الّتي تسببها بنو أُمية وأُهرقَت فيها دماء ذرية رسول اللّه وعترته الطاهرة، أقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين، ولكننا لا ندري لماذا تجاهل ذكرها مؤلّف السيرة الحلبية ولم يشر إليها مطلقاً؟!

ثم إنّ من خصوصيات أبناء «عبد مناف» حسبما يُستفاد من الأدب الجاهلي، وما جاء فيه من أشعار، أنّهم توفوا في مناطق مختلفة.

فهاشم - مثلاً - توفّي في «غزة» وعبد شمس مات في «مكّة»، ونوفل في أرض العراق، والمطلب في أرض اليمن.(3)

وكان من سجايا هاشم وأخلاقه الفاضلة أنّه كان كلّما هَلَّ هلال شهر ذي الحجة قام صبيحته، وأسند ظهره إلى الكعبة المشرّفة، وخطب قائلاً:

«يا معشر قريش إنّكم سادة العرب، وأحسنها وجوهاً، وأعظمها أحلاماً (أي عقولاً) وأوسط العرب (أي أشرَفها) أنساباً، وأقرب العرب بالعرب أرحاماً.

ص:171


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/13؛ السيرة الحلبية: 1/7.
2- . السيرة الحلبية: 1/7.
3- . السيرة الحلبية: 1/8.

يا معشر قريش إنّكم جيرانُ بيت اللّه تعالى أكرمكُمُ اللّه تعالى بولايته، وخصّكم بجواره، دون بني إسماعيل، وإنّه يأتيكم زوّار اللّه يعظّمون بيته فهم أضيافه وأحق مَن أكرم أضياف اللّه أنتم، فأكرموا ضيفه وزوّاره، فإنّهم يأتون شعثاً غبراً من كلّ بلد على ضوامر كالقداح، فأكرموا ضيفه وزوّار بيته، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه، وأنا مخرجٌ من طَيّب مالي وحلاله ما لم يُقطعْ فيه رحم، ولم يؤخذْ بظلم، ولم يُدخل فيه حرامٌ، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعلَ، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلّاطيّباً لم يؤخذ ظلماً، ولم يقطع فيه رحمٌ، ولم يؤخذ غصباً».(1) ولقد كانت زعامة «هاشم» وقيادته نافعة للمكيّين من جميع النواحي، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تحسين أوضاعهم.

ولقد سبّب كرمُه وما قام به من إطعام واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدّة الوطأة عن أهل مكّة، وبالتالي أدى إلى عدم إحساسهم بالقحط، وآثار الجدب.

كما أنّ من خطواته البارزة وأعماله النافعة جدّاً لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير «غسان» من المعاهدة، الأمر الّذي دفع بأخيه «عبد شمس» إلى أن يعاهد أمير الحبشة، وبأخويه الآخرين «المطلب» و «نوفل» إلى أن يعاهدا أمير اليمن وملك إيران بأن تكون القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان من العدوان والتعرّض.

وقد أزالت هذه المعاهداتُ الكثير من المشاكل، وكانت وراء ازدهار التجارة في «مكّة المكرّمة» حتّى عهد بزوغ شمس الإسلام.

ص:172


1- . السيرة الحلبية: 1/9-10.

ثم إنّ من أعمال «هاشم» وخطواته النافعة تأسيسُه لرحلتي قريش اللتين يتحدّث عنهما القرآن الكريم إذ يقول: «رحْلة الشتاء والصْيف» وهما رحلة إلى الشام، وكانت في الصيف، ورحلة إلى اليمن، وكانت في الشتاء، وقد استمرّت هذه السيرة حتّى ما بعد ظهور الإسلام أيضاً.

أُميّة بن عبدشمس يحسد هاشماً

ولقد حسد «أُمية بن عبد شمس» ابن أخي هاشم عمَّه «هاشماً» على ماحظي به من المكانة والعظمة، والنفوذ إلى قلوب الناس وجذبها نحوه بسبب خدماته وأياديه، وما كان يقوم به من بذل وإنفاق، وحاول جاهداً أن يقلّده ويتشبه بهاشم في سلوكه ولكنّه رغم كلّ ما قام به من جهود ومحاولات لم يستطع أن يتشبّه به و يتّخذ سيرته، وكما لم يستطع بإيقاعه والطعن به، من أن يُقلّل من شأنه، بل زاده رفعة وعظمة.

لقد كان لهيب الحسد في قلب «أُمية» يزداد اشتعالا يوماً بعد يوم، حتى دفع به إلى أن يدعو عمَّه «هاشماً» للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرئاسة والزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن، وكانت عظمة «هاشم» وسموّ مقامه تمنع من منافرة ابن أخيه (أُميّة) إلّاأنّه رضي بالمنافرة هذه تحت إصرار (أُميّة) بشرطين:

1. أن يعطي المغلوبُ خمسين من النيَاق سود الحدق تنحر بمكة.

2. جلاء المغلوب عن مكّة عشر سنين.

ومن حسن الحظِّ أنّ ذلك الكاهن نَطق بمدح «هاشم» بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال: «والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر... لقد سبق هاشمُ أُميّة إلى المآثر» إلى آخر كلامه. فقضى لهاشم بالغلبة وأخذ هاشم الإبل فنحرها

ص:173

وأطعمها، وغاب أُمية عن مكّة والعيش بالشام عشر سنين.(1)

وقد استمّرتْ آثارُ هذا الحسد التاريخي إلى 130 عاماً بعد ظهور الإسلام، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.

ثم إنّ القصّة السابقة مضافاً إلى أنّها تبيّن مبدأ العداوة بين الأُمويّين والهاشميّين، تبيّن أيضاً علل نفوذ الأُمويّين في البيئة الشامية، ويتبيّن أنّ علاقات الأُمويّين العريقة بأهل هذه المنطقة هي الّتي مَهّدت لقيام الحكومة الأُمويّة في تلك الديار.

هاشم يَتَزوَّج

كانت «سلمى» بنت «عمرو الخزرجي» امرأة شريفة في قومها، قد فارقت زوجها بطلاق، وكانت لا ترضى بالزواج من أحد، ولدى عودة «هاشم» من بعض أسفاره نزل في يثرب أياماً فخطبها إلى والدها، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش، ولنبله وكرمه، ورضيت بالزواج منه بشرطين: أحدهما أن لا تلد ولدها إلّا في أهلها، وحسب هذا الإتّفاق بقيت «سلمى» مع زوجها «هاشم» في مكّة بعض الوقت حتّى إذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت إلى: «يثرب» وهناك وضعت ولداً أسموه «شيبة». وقد اشتهر في ما بعد ب «عبدالمطلب».

وكتب المؤرّخون في علّة تسميته بهذا الاسم بأنّ هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لأخيه «المطلب»: يا أخي أدرك عبدك شيبة. ولذلك سُمّيَ شيبة بن هاشم: «عبدالمطلب».

وقيل: إنّ أحد المكّيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من أزقّة يثرب، وينتضلون بالسهام، ولمّا سبق أحدُهم الآخرين في الرمي قال مفتخراً: «أنا ابنُ سيّد

ص:174


1- . الكامل لابن الأثير: 2/17؛ والسيرة الحلبية: 1/7.

البطحاء» فسأله الرجل عن نسبه وأبيه فقال: أنا شيبة بن هاشم بن عبدمناف، فلمّا قدم الرجلُ مكّة أخبر «المطلب» أخي «هاشم» بما سمعه ورآه، فاشتاق «المطلبُ» إلى ابن أخيه فذهب إلى المدينة، ولمّا وقعت عيناه على ابن أخيه «شيبة» عرف شبه أخيه هاشم، وتوسَّم فيه ملامحه، ففاضت عيناه بالدموع، وتبادلا قُبُلات الشوق، والمحبّة، وأراد أن يأخذه معه إلى «مكّة» وكانت أُمُه تمانع من ذلك، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه إلى «مكّة» وأخيراً تحققت أُمنية العم فقد استطاع «المطلبُ» أن يحصل على إذن أُمه، فأردفه خلفه وتوجّه حدب «مكّة» تدفعه رغبة طافحة إلى إيصاله إلى والده هاشم.

وفعلت شمسُ الحجاز وأشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه، ولهذا ظنَّ أهل «مكّة» عند دخوله مع عمه «مكّة» أنّه غلام اقتناه «المطلبُ» فكان يقول بعضهم لبعض: هذا عبدالمطلب، وكان المطلب ينفي هذا الأمر، ويقول: إنّما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي، ولكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلتَه، وعُرف «شيبة» بعبد المطلب.(1)

وربما يقال: إنّ سبب شهرته بهذا الاسم هو أنّه تربّى وترعرع في حجر عمّه «المطلب» وكانت العربُ تُسمّي مَن يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته.

5. عبدُ المطّلب

اشارة

عبدُالمطّلب بن هاشم وهو الجدّ الأوّل للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، كان رئيس قريش وزعيمها المعروف، وكانت له مواقف بارزة، وأعمال عظيمة في حياته، وحيث إنّ ما وقع من الحوادث في أيام حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث والوقائع.

ص:175


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/8 و 9، السيرة الحلبية: 1/10-11.

لا شكّ أنّ المرء مهما تمتّع بنفسية قويّة فإنّه سيتأثر - في المآل - ببيئته وعاداتها، وتقاليدها، الّتي تصبغ فكره، بصبغة خاصّة، وتطبع عقليته بطابع معيّن.

بيد أنّ هناك بين الرجال من يقاوم تأثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة، ويصون نفسه من التلوّث بشيء من أدرانها وأقذارها.

وبطلُ حديثنا هنا هو أحد النماذج الصادقة لأُولئك الرجال العظماء؛ لأنّ في حياته صفحات مشرقة عظيمة، وسطوراً لامعة تنبئ عن نفسيته القوّية، وشخصيته الشامخة.

فإنّ الّذي يعيش ثمانين عاماً في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية، ومعاقرة الخمر، والربا، وقتل الأنفس البريئة، والفحشاء حتّى أنّ هذه الأُمور كانت من العادات والتقاليد الشائعة، ولكنّه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء، ويمنع عن الزواج بالمحارم، والطواف بالبيت المعظّم عرياناً، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد، وأداء النذر بلغ الأمر ما بلغ، لهو - حقّاً - نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين يندر وجودُهم، ويقل نظيرهم في المجتمعات.

أجل إنّ شخصية أودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نورَ النبيِّ الأكرم أعظم قائد عالمي، يجب أن يكون إنساناً طاهر السُلوك، نقيَّ الجيب، منزّهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط، والفساد.

هذا ويستفاد من بَعض قصصه وكلماته القصار أنّه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة، وكان يردِّدُ دائماً: «لَنْ يخرج من الدنيا ظلومٌ حتّى ينتقم منه، وتصيبُه عقوبة... واللّه إنّ وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسنُ بإحسانِه، ويعاقَبُ فيها المسيء بإساءته»(1) أي أنّ الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة، فإذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.

ص:176


1- . السيرة الحلبية: 1/7.

ولقد كان «حرب بن أُمية» من أقربائه، وكان من أعيان قريش ووجوهها أَيضاً، وكان يجاور يهودياً فاتّفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض أسواق تهامة، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة، وانتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من «حرب»، ولمّا علم «عبدُالمطّلب» بذلك قطع علاقته بحرب، وسعى في استحصال دية اليهودي المقتول من «حرب» ودفعها إلى أولياء القتيل، وهذه القصّة تكشف عن حبّ عبدالمطلب للمستضعفين والمظلومين وحبّه للحقّ والعدل.

حَفرُ زَمزَم

منذ أن ظهرت عين زمزم نزلت عندها قبيلة جُرهم الّتي كانت بيدها رئاسة مكّة طوال سنين مديدة، وكانت تستفيد من مياه تلك العين، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في «مكّة»، وإقبال الناس على الشهوات والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين، ونضوب مائها بالمرّة.(1)

ويقال: إن قبيلة «جُرهُم» لمّا واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة واضطرت إلى مغادرة تلك الديار، وأيقن زعيمها «مضاض بن عمرو» بأنّه سرعان ما يفقد زعامته، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو، أمر بأن يُلقى الغزالان الذهبيان، والسيوف الغالية الثمن الّتي كانت قد أُهديت إلى الكعبة، في قعر بئر زمزم، ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى أثره إعفاء كاملاً حتّى لا يهتدي خصومه إلى مكانه أبداً، حتّى إذا عادت إليه زعامته وعاد إلى مكّة استخرج ذلك الكنز الدفين،

ص:177


1- . لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا والكوارث، ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات، وهذه الحقيقة مضافاً إلى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم والسنّة الشريفة، قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» سورة الأعراف، الآية: 96.

واستفاد منه. ثم نشب القتال بين «جرهم» و «خزاعة» واضطرت «جرهم» وكثير من أبناء إسماعيل إلى مغادرة «مكّة المكرّمة»، والتوجّه إلى أرض اليمن، ولم يرجع أحدٌ منهم إلى «مكّة» أبداً. ووقعت زعامة مكّة منذ هذا التاريخ بيد «خزاعة» حتّى بزغ نجم قريش في سماء مكّة بوصول قصيّ بن كلاب (الجدَ الرابع لنبي الإسلام) إلى سدة الزعامة والرئاسة، ثم بعد مدّة انتهى أمر الزعامة إلى «عبدالمطلب» فعزم على أن يحفر بئر «زمزم» من جديد، ولكنّه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتّى إذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر أن يهيئ هو و ولده «حارث» مقدّمات ذلك.

وحيث إنّه يوجد في المجتمع دائماً مَن يتحجّج ويجادل - بسبب سلبيته - ليمنع من أي عمل إيجابي مفيد، انبرى منافسو «عبدالمطلب» إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرّد بإعادة حفر بئر زمزم، لكي لا يذهب بفخر هذا العمل العظيم، وقالوا له: إنّها بئر أبينا إسماعيل، وإنّ لنا فيها حقّاً فأشركنا معك، ولكن «عبدالمطلب» رفض هذا الطلب لبعض الأسباب، فقد كان «عبدالمطلب» يريد أن يتفرّد بحفر زمزم، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع ولا منازع، ويحول بذلك دون المتاجرة به، ولم يكن ليتسنّى له ذلك إلّاإذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش.

وقد آل هذا الأمر إلى النزاع الشديد فتقرّر أن يتحاكموا إلى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به، فتوجّه «عبدالمطلب» ومنافسوه إلى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز والشام، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك، وقرب الوفاة أخذوا يفكّرون في كيفية الدفن إذا هلكوا وماتوا، فاقترح «عبدالمطلب» أن يبادر كلُّ واحد إلى حفر حفرته حتّى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون فيها، فإذا استمرّ بهم العطش

ص:178

وهلكوا يكون الجميع (ماعدا من بقي منهم على قيد الحياة) قد أُقبروا، ولم تغد أبدانهم طعمة للوحوش والطيور، فأيَّد الجميع هذا الإقتراح، واحتفر كلّ واحد منهم حفيرة لنفسه، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة، وعيون ذابلة، وفجأة صاح عبدالمطلب: «واللّه إنّ إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لانضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا، لعجزٌ» وحثّهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى أن يجدوا ما ينقذهم من الموت، فركب عبدالمطلب وركب مرافقوه، وأخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين، ولم يمض وقت حتّى ظهرت لهم عين ماء عذبة أنقذتهم من الموت المحتّم، وعادوا من حيث جاءُوا وهم يقولون لعبدالمطلب: «قد واللّه قضى لك علينا يا عبدالمطلب، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً، إنّ الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً» وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع، ولا شريك.(1)

فعمد «عبدالمطلب» وولده الوحيد الحارث إلى حفر البئر، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر، وفجأة عثر «عبدالمطلب» على الغزالين المصاغين من الذهب، والسيوف المرصعة المهداة إلى الكعبة، فشبَّ نزاع آخر بين «قريش» وبين «عبدالمطلب» على هذه الأشياء، واعتبرت «قريش» نفسها شريكة في هذا الكنز، وتقرّر أن يلجأوا إلى القرعة لحل هذه المشكلة، فخرجت القرعة باسم «عبدالمطلب»، وصار جميع ذلك الكنز إليه دون «قريش»، ولكن عبدالمطلب خصّ بتلك الأشياء الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة، وعلّق الغزالين الذهبيّين فيها.

ص:179


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/92-96.

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر

رغم أنّ العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فإنّهم كانوا يتحلّون ببعض الصفات الحسنة، والخصال المحبَّبة.

وللمثال كان نقض العهود من أقبح الأفعال في نظرهم، فإذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أوثقوها بالأيمان المغلّظة المؤكّدة، والتزموا بها إلى النهاية، وربّما نذروا النذور الثقيلة واجتهدوا في أدائها مهمّا كلّف ذلك من مشقّة وثمن.

ولقد أحسَّ «عبدالمطلب» عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلّة أولاده، ولهذا نذر إذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدّم أحدهم قرباناً للكعبة، ولم يُطلِعْ أحداً على نذره هذا.

ولم يمض زمان الّا وبلغ عَدَدُ أبنائه عشرة، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الّذي نذر، وهو أن يذبح أحدهم قرباناً للكعبة.

ولا شكّ أنّ تصور مسألة كهذه فضلاً عن تنفيذها كان أمراً في غاية الصعوبة على عبدالمطلب، ولكنّه كان في نفس الوقت يخشى أن يعجز عن تحقيق هذا الأمر فيكون من الناقضين للعهد، التاركين لأداء النذر، ومن هنا قرّر أن يشاور أبناءه في هذا الأمر، وبعد أن يكسب رضاهم وموافقتهم يختار أحدهم للذبح بالقرعة.(1)

وتمّت عملية القرعة، فأصابت «عبدَاللّه» والد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فأخذ عبدالمطلب بيد ابنه، وتوجَّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.

ولمّا علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصّة النذر المذكور وما آلت إليه عملية

ص:180


1- . هذه القضية ذكرها كثير من المؤرّخين وكتّاب السيرة، وهذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنّها تجسّد مدى إيمان «عبدالمطلب» وقوّة عزمه، وصلابة إرادته، وتبيّن جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده والتزاماته.

القرعة حَزِنَ الناس والشباب خاصّة لذلك حزنا شديداً وبكوا وضجّوا، وقال أحدُهم: ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.

فاقترحت قريشٌ على عبدالمطلب بأن يفدّي «عبداللّه»، وأظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك، فتحيّر «عبدالمطلب» تجاه تلك المشاعر الساخنة، والاعتراضات القوية، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره، ويفكّر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة، فقال له أحدهم: لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلّاً.

فوافق «عبدالمطلب» وأكابر قريش على هذا الاقتراح، وتوجّهوا بأجمعهم نحو «يثرب» قاصدين ذلك الكاهن، ولمّا قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا عليه فقال لهم: كم دية المرء عندكم؟ قالوا:

عشرٌ من الإبل.

فقال: إرجعوا إلى بلادكم، وقَرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم «أي عبداللّه» القداح، فإن خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً، حتّى يرضى ربُّكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربُكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء.

فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر الملتهبة لدى الناس، لأنّ نحر مئات الإبل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً مثل «عبداللّه» يتشحّط في دمه.

ولهذا فإنّهم فور عودتهم إلى «مكّة» بادروا إلى إجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتّى إذا بلغ عدد الإبل مئة خرجت القداح على الإبل، ونجا «عبداللّه» من الذبح، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس، بيدَ أَنّ «عبدالمطلب» طلب أن تُعاد عملية القرعة قائلاً: «لا واللّه حتّى أضربَ ثلاثاً»، وأنّما أراد ذلك ليستيقن أنّ ربّه قد رضي عنه، ولكن في كلّ مرّة كانت القداح تخرج على

ص:181

الإبل المئة فنحرت الإبلُ ثم تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع.(1)

حادثة عام الفيل

عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في أُمّة من الأُمم وخاصّة إذا كان ذا جذور دينية أو ذا مدلولات قومية أو سياسية فإنّه سرعان ما يتحوّل - بفعل إعجاب الناس عامّة به - إلى مبدأ للتاريخ.

فقيام النبيّ موسى يعتَبر مبدأ للتاريخ عند اليهود، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى، والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.

وهذا يعني أنّ كل أُمّة من الأُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الّذي تعتبره بداية تاريخها.

وأحياناً تتخذُ الأُمم والشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع أنّها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب وشعوبه، فقد اتّخذت الثورةُ الفرنسية، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا، والاتحاد السوفياتي، بحيث أصبح يقاس بهما كلّ ما وقع من الحوادث بعدهما. ولكن الشعوب غير المتحضّرة الّتي لم تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتّخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلاً من الثورات والتحوّلات الاجتماعية، وهذا ما حدث عند العرب قبل الإسلام.

ص:182


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 2/5-7؛ بحار الأنوار: 16/74، وقد نُقلّ عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «أنا ابْن الذبيحين» يقصدُ بالأَول جدّه إسماعيل عليه السلام والثاني أباه «عبداللّه» الّذي كاد أن ينحر ولكنّه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيل عليه السلام.

فإنّهم - بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة - اتّخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرّة، كالحرب والزلزال، والمجاعة والقحط أو الحوادث غير الطبيعية، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.

ولهذا نجد بدايات متعدّدة للتاريخ عند العرب، آخرها: حادثة عام الفيل وهجوم «أبرهة» على «مكّة» بهدف هدم الكعبة المشرفة، الّتي صارت فيما بعد مبدأ للتاريخ، تؤرّخ بالنسبة إليه بقية الحوادث والوقائع اللاحقة.

ونظراً لأهميّة هذا الحدث التاريخي العظيم الّذي وقع عام 570 م، واتّفقت فيه ولادة النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم فإنّنا نتناول هذه القصّة بالعرض والتحليل:

ماهي أسباب هذه الحادثة؟

لقد ذكرت قصّة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصّرة، وسوف ننقل - هنا - الآيات الّتي نزلت حول هذه القصّة بعد حوادثها.

يكتب المؤرّخون عن علّة هذه الحادثة أنّ ملك اليمن «تُبان أسعد» والد ذي نواس بعد أن أرسى قواعد حكمه مرّ في إحدى رحلاته على يثرب (المدينة)، وقد كانت ل «يثرب» في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ، فقد قطنها جماعة من اليهود، وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن، ودعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيّين الروميّين، والمشركين العرب.

ولقد تركت دعوتهم وما رافقها من أساليب مؤثّرة أثرها في نفس ذلك الأمير واختار اليهودية، واجتهد في بثّها ونشرها.(1)

ص:183


1- . راجع السيرة النبوية لابن هشام: 1/12.

ثم ملك من بعده ابنه «ذو نواس» الّذي جدّ في بثّ اليهودية والتحق به جماعة خوفاً.

بيد أنّ أهل نجران الّذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية واعتناق اليهودية، وقاوموا «ذي نواس» مقاومة شديدة، فشقّ ذلك على ملك اليمن، وأغضبه فتوجّه أحد قادته إلى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها، فعسكر هذا الجيش على مشارف نجران، واحتفر قائده خندقاً كبيراً، وأوقد فيه ناراً عظيمة، وهدّد المتمردين بالإحراق بالنار.

ولكن أهل نجران الذين أحبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة أظهروا شجاعة كبرى، واستقبلوا الموت حرقاً، وغدوا طعمة للنيران.

يقول المؤرّخ الإسلاميُّ «ابنُ الأثير الجزري» بعد ذكر هذه القصّة: لمّا قتل «ذونواس» من قتل من أهل اليمن في الأُخدود لأجل العود عن النصرانية أفلَت منهم رجلٌ يقال له: دوس ذو ثعلبان حتّى أعجز القوم فقدم على «قيصر» فاستنصره على «ذي نواس» وجنوده وأخبره بما فَعل بهم، فقال له قيصر: بعدت بلادك عنّا، ولكن سأكتبُ إلى النجاشي ملك الحبشة وهو على هذا الدين وقريب منكم، فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره، فأرسل معه ملكُ الحبشة سبعين ألفاً، وأمّر عليهم رجلاً يقال له «أرياط» وفي جنوده «أبرهة الأشرم» فساروا في البحر حتّى نزلوا بساحل اليمن، وجمع «ذو نواس» جنوده فاجتمعوا وكتب إلى زعماء قومه من أهل اليمن يدعوهم إلى الاجتماع لمقاتلة عدوّهم، فلم يجيبوه، فانهارت حكومته أمام حملة جيش الحبشة، وسيطر الأحباش على أرض اليمن، وجُعِلَ «أبرهة» أميراً عليها من قِبَل «النجاشي» بعد مقتل «أرياط»

ص:184

على يد «أبرهة» في صراع على السلطة.(1)

وهذه القصّة هي الّتي تعرف في القرآن الكريم بقصة «أصحاب الأُخدود» وقد جاء ذكرها في سورة البروج إذ يقول اللّه تعالى: «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ * اَلنّارِ ذاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ * وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ» .(2)

وقد ذكر المفسّرون هذه القصّة في شأن نزول هذه الآيات بصورة مختلفة.(3)

ثم إنّ «أبرهة» الّذي أسكره الانتصار والغلبة على منافسه، وتمادى في الشهوات بنى في صنعاء كنيسة عظيمة تقرّباً إلى ملك الحبشة، وإرضاء له ثمّ كتب كتاباً إلى «النجاشي» ملك الحبشة يقول فيه: «إنّي قد بَنيتُ لك أيّها الملك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمُنْته حتّى أصرف إليها حج العرب».

وقد أدّى معرفة العرب بما جاء في هذا الكتاب إلى ردّة فعل شديدة لديهم، إلى درجة أنّ امرأة مِن قبيلة «بني أفقم» تسلّلت ذات ليلة إلى تلك الكنيسة وأحدثت فيها، فأثار هذا العمل الّذي كان يدلّ على مدى ازدراء العرب بكنيسة «أبرهة» واحتقارهم لها، غضب «أبرهة»، هذا من جانب ومن جانب آخر كان «أبرهة» كلمّا زاد في تزيين تلك الكنيسة زاد ذلك من حقد العرب، وحنقهم عليه، واحتقارهم لكنيسته، فتسبّب كلّ ذلك في أن يحلف أبرهة على السير إلى الكعبة وهدمها، فسيَّر لذلك جيشاً عظيماً، وقدّم أمامهُ الفِيَلة المقاتلة، وخرج متوجهاً صوب مكّة وهو

ص:185


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 1/431-433؛ والسيرة النبوية: 1/24-27.
2- . البروج: 4-9.
3- . راجع مجمع البيان: 10/312.

يعتزم هدم الكعبة بيت اللّه الحرام!!

فلمّا عرف زعماء العرب بغايته، وأدركوا خطورة ذلك العمل وأيقنوا بأنّ استقلال العرب وسيادتهم تتعرض لخطر السقوط، لم يمنعهم ما عهدوه من قوّة «أبرهة» وانتصاراته، بل خرج بعضهم إلى حربه فقاتلوه بكلّ شجاعة وبسالة مدفوعين بدافع الغيرة والحفاظ على الشرف المهدَّد بالخَطر.

فقد خرج «ذو نفر» وهو من أشراف أهل اليمن وملوكهم، ودعا قومَه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب «أبرهة» ولكن سرعان ما تغلّب «أبرهة» عليه بجيشه الكبير، ثم خرج له بعد ذلك «نفيل بن حبيب» وبقي يقاتله مدّة طويلة فهزمه «أبرهة» وأُخِذَ له أسيراً، فطلب «نفيل» العفو منه، فاشترط عليه أن يدلّه على طريق مكّة ليعفو عنه، فدلّه نفيل حتّى الطائف، وأوكل الدلالة على بقية الطريق إلى شخص آخر يُدعى «أبو رغال» فدلّه أبورغال على الطريق حتّى أرض «المغمَّس» وهي منطقة قريبة من «مكّة» فنزل «أبرهة» وجيشه بالمغمَّس، فأرسل أبرهة رجلاً من الحبشة - على عادته - إلى ضواحي «مكّة» فاستولى على أموال قريش من الإبل والغنم فساق إليه في جملة ذلك مائتي بعير لعبد المطلب، ثم أمر رجلاً آخر يدعى «حُناطة» ليدخل «مكّة» ويبلغ أهلها عنه ما جاء من أجله، وهو هدم البيت المحرّم الكعبة المعظمة، وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفها، ثم قل له: إنّ الملك يقول لك: «إنّي لم آت لحربكم، إنّما جئتُ لهدم هذا البيت، فإن تعرّضوا دونه بحرب فلا حاجة لي في دمائكم»، فإن هو لم يرد حربي فأتني به.

فدخل «حُناطة» مكّة ولمّا سأل عن سيد قريش و شريفها، وقد كانت قبائل قريش المختلفة قد تجمعت في أطراف البلد جماعات جماعات تتذاكر في أمر «أبرهة» وما يجب اتّخاذه من موقف تجاهه.

ص:186

فدلّوه على بيت «عبدالمطلب»، ولمّا دخل على «عبدالمطلب» أبلغه مقالة «أبرهة» فقال له عبدالمطلب: «واللّه ما نُريدُ حربَه، وما لَنا بذلك من طاقة، هذا بيت اللّه الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخلّي بينه وبينه فواللّه ما عندنا دفع عنه»؟

فسرّ «حناطة» رسول أبرهة بمنطق عبدالمطلب ومقالته الّتي كانت تحكي عن قوّة إيمانه، وعن روحه المسالمة فطلب منه أن يصحبه إلى «أبرهة»، قائلاً:

فانطلق معي إليه فإنّه قد أمرني أن آتيه بك.

عَبدُالمطّلب يَذهب إلى مُعسكر أَبرهة

فتوجّه عبدالمطلب هو وجماعة من ولده إلى معسكر أبرهة، فأُعجب «أبرهة» بوقار رئيس قريش وهيبته إعجاباً شديداً، وبهر به حتّى أنّه نزل له من تخته إجلالاً، وأخذ بيده، وأجلسه إلى جنبه، فسأله عن طريق مترجمه متأدّباً: ما الّذي أتى به وماذا يريد؟ فأجابه عبدالمطلب قائلاً: حاجتي أن يردَّ الملكُ عليَّ مئتي بعير أصابها لي.

فقال «أبرهة» لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني، أتكلّمني في مئتي بعير أصبتُها لك، وتترك بيتاً هو دينك و دين آبائك قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه؟!

فقال له عبدالمطلبُ: إنّي أنا ربُّ الإبل، وأنّ للبيت رباً سيمنعه، فقال «أبرهة» مغتراً بنفسه: ما كان ليمتنع منّي.

ثم أمر بأن ترد الإبل إلى أصحابها.

***

ص:187

إنتظار قريش

ولقد انتظرت قريش عودة «عبدالمطلب» من معسكر «أبرهة» بفارغ الصبر لتعرفَ نتيجة ما دار بينه وبين أبرهة، وعندما عاد «عبدالمطلب» أخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج معه من مكّة، والتحرز في رؤوس الجبال من معرّة الجيش فخرجوا إلى الشعاب، والجبال، ثم لمّا كان الليل نزل عبدالمطلب مع جماعة من قريش إلى الكعبة وأخذ بحلقة بابها يدعون اللّه ويستنصرونه على أبرهة و جنده وقال «عبدالمطلب» مناجياً اللّه سبحانه: «اللَّهُم أنتَ أنيسُ المستَوْحشين ولا وحشة معك فالبيت بيتُك، والحرمُ حرمك، والدارُ دارُك، ونحن جيرانك تمنعُ عنه ما تشاء، وربُ الدار أولى بالدار» ثم قال:

لاهمّ إن(1) العبد يمنع رَح له فامنع حِلالك(2)

لا يغلِبنَّ صليبُهم ومحالهم عَدواً مِحالَك(3)

وقال أيضاً:

يا ربِّ لا أرجُو لهم سواكا يا ربِّ فامنَع مِنهُمو حِماكا

إن عدوَّ البَيتِ مَن عاداكا إمَنعهُمُ أن يخربُوا قراكا

ثم إنّه ترك حلقة الباب، ولجأ ومن معه من قريش إلى الجبل لينظروا ما سيجري.

وفي الصباح وعندما كان «أبرهة» وجنده يستعدّون للتوجّه إلى «مكّة»، وإذا بأسراب من الطيور تظهر من جهة البحر يحمل كلّ واحد منها ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجرين في رجليه، فأظلم سماء الجيش بتحليق تلك الطيور فوق

ص:188


1- . لاهم أصلها: اللّهم والعرب تحذف الالف واللام وتكتفي بما بقي.
2- . الحلال جمع حلة وهي جماعة البيوت.
3- . المحال: القوّة والشدّة.

رؤوس الجند، وتركت تلك الأحجار الصغيرة الحقيرة في ظاهرها أثرها العجيب، فقد رجمت تلك الطيور جنود «أبرهة» بتلك الأحجار بأمر اللّه، فكانت لا تصيب منهم أحداً إلّاتحطّم رأسَه، وتمزق لحم بدنه، وهوى صريعاً، وهلك من توّه، فأصابت واحدةٌ من تلك الأحجار رأس «أبرهة» نفسه فارتعدت فرائصه وأيقن بغضب اللّه وسخطه عليه، فنظر إلى جنوده وهم أشلاء مبثوثون هنا وهناك على الأَرض كورَق الشجر في فصل الخريف، فصاح بِمَن لم يزل على قيد الحياة من جنده يأمرهم بأن يتهيّأوا للعودة إلى اليمن، من حيث أتوا، فأخذ بقية الجند طريق اليمن هاربين، غير أنّ هذه البقية قد هَلكَتْ شيئاً فشيئاً في أثناء الطريق حتّى أنّ أبرهة نفسه لم يصل إلى صنعاء إلّابعد أن تفرّق لحمُ بدنه، وسقطت أعضاؤه وجوارحُهُ ومات بصورة عجيبة.

وقد دَوَّى صوتُ هذه الواقعة العجيبة والرهيبة في العالم آنذاك، وقد ذكرها القرآن الكريمُ في سورة الفيل إذ يقول تعالى: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ * أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» .

وما ذكرناهُ هنا - في هذه الصفحات - ليس هو في الحقيقة إلّاخلاصة ما وَردَ في كتب التاريخ الإسلامي، وصرح به القرآنُ الكريم.(1)

واستكمالاً لهذا البحث نعمد هنا إلى دراسة نظرية المفسّر المصري الكبير الشيخ «محمَّد عبده» والكاتب المعروف الدكتور «هيكل» وزير الثقافة المصري السابق في هذا المجال.

ص:189


1- . لاحظ: السيرة النبوية: 1/28-37؛ تاريخ الطبري: 1/551-556؛ والكامل في التاريخ: 1/442-447؛ وبحار الأنوار: 5/130-146.

كلمة حول المعجزة

لقد أوجدَ التقدّم العلميُّ الأخير في مختلف مجالات العلوم الطبيعية والفضائية، وما استلزم ذلك من تهافت طائفة كثيرة من الفرضيات، ضجّة عجيبة في الغرب، فمع أنّ جميع تلك التطورات كانت مجرّدَ تطورات علمية تجري في مجال المسائل الطبيعية أو الفلكية، ولم يكن لها أيّة صلة بالمعتقدات الدينية، فإنّ هذا التحول والتطوّر وتلك الكشوف أوجدت شكّاً عجيباً لدى بعض الناس انسحب على جميع المعارف والمعتقدات الدينية الموروثة على وجه الإطلاق! والسرّ في ذلك هو أنّ العلماء رأوا بأنّ الفرضيات القديمة، الّتي بقيت تسيطر على الأوساط العلمية لمدّة طويلة من الزمان، قد أصبحت اليوم عرضةً للبطلان والسقوط تحت مطارق التجربة وبواسطة الاختبارات العلميّة، والتحقيقات المختبرية، فلم يَعُد - بعد هذا - مجالٌ للقول بفرضية الأفلاك التسعة الّتي طَلع بها «بطلميوس»، ولا بفرضية مركزية الأرض، ولا غيرها من عشرات الفرضيات، فقالوا في أنفسهم: ولماذا لا تكون بقية المعلومات والمعارف الدينية من هذا القبيل؟!

وقد تفاقم هذا النوع من الشكّ في قلوب جماعة من العلماء بالنسبة إلى جميع المعتقدات والمعارف الدينية ونما بشكل قويّ في فترة قصيرة، وعمَّ الأوساط العلمية كأيّ مرض!!

هذا مضافاً إلى أنّ محاكم التفتيش وتشدّد الكنيسة وأربابها كان لها النصيب الأكبر في ظهور هذه الحالة بل في نموّها، واطّرادها، لأنّ الكنيسة كانت تقضي على العلماء الذين نجحوا في اكتشاف القوانين العلمية تحت التعذيب والاضطهاد القاسي بحجّة أنّها تخالف الكتاب المقدّس، وتعارض مقرَّرات الكنيسة!!

وممّا لا يخفى أنَّ مثل هذه الضُغُوط، وهذا الاضطهاد والتعجرف ما كان ليمرَّ

ص:190

من دون حدوث ردّة فعل، وقد كان من المتوقَع منذ البداية أنّ العلماء في الغرب لو أُتيحت لهم الفرصة لانتقموا من الدين، بسبب سوء تصرّف أرباب الكنيسة، وسوء معاملتهم لهم خاصّة، وللناس عامّة.

وقد حدث هذا فعلاً فكلّما تقدم العلمُ خطوةً، واطّلع العلماء على العلاقات السائدة بين الكائنات الطبيعية، واكتشفوا المزيد من الحقائق الكونية، والعلل الطبيعية لكثير من الحوادث والظواهر المادّية، وكذا علل الأمراض، قلّ اعتناؤهم بالقضايا الميتافيزيقية، وما يدور حول المبدأ والمعاد والأفعال الخارقة للعادة كمعاجز الأنبياء، وازداد عدد المنكرين لها والشاكّين فيها، والمتردّدين في قبولها يوماً بعد يوم!!

لقد تسبَّب الغرورُ العلميُّ الّذي أُصيب به العلماء في الغرب في أن ينظر بعض أُولئك العلماء إلى جميع القضايا الدينية بعين الازدراء والتحقير، وأن يمتنعوا حتّى عن التحدّث في المعاجز الّتي يخبر بها التوراة والإنجيل، ويعتبروا عصا موسى عليه السلام ويده البيضاء، ونفخة المسيح عليه السلام الّتي كانت تشفي المرضى وتحيي الموتى من الأساطير، وراحوا يتساءلون - في عجب واستنكار -: وهل يمكن أن تتحوّل قطعةٌ من الخشب اليابس إلى أفعى، أو ثعبان؟ أو هل يمكن أن تعود الحياة إلى ميّتٍ بكلمات من الدعاء؟

لقد تصوّر العلماء الذين أسكرتهم فتوحاتهم العلمية، أنّهم ملكوا مفاتيح جميع العلوم، ووقفوا على جميع العلاقات بين الكائنات الطبيعية والظواهر الكونية، ومن هنا تصوَّرُوا أنّه لا توجد أيّةُ علاقة بين قطعة الخشب والثعبان، أو بين جملة من الدعاء والتفاتةٍ من بشر وعودة الروح إلى الموتى، ولهذا أخذوا ينظرون إلى هذه الأُمور بعين الشكّ والترديد، وربّما بعين الإنكار والرفض المطلق!!

ص:191

وقد سرى هذا النوعُ من التفكير إلى أوساط بعض العلماء المصريّين الذين تأثّروا بهذا الإتّجاه أكثر من غيرهم، مع بعض التعديل في ذلك الموقف، وشيء من الاختلاف في النظرة المذكورة، ولهذا اتّبعوا تلك السيرة في تحليل الوقائع والحوادث التاريخية والعلمية من هذا النوع، والسِرّ في تأثّر بعض علماء مصر بهذه النظرة قبل وأكثر من غيرهم، هو احتكاك هذه الجماعة بالأفكار الواردة من الغرب قبل غيرهم، ومن هذه المنطقة سَرتْ بعضُ النظريات والآراء الغربية إلى البلاد الإسلامية الأُخرى.

لقد اختار هؤلاء طريقاً خاصّاً قَصَدُوا به الحفاظ على حرمة الكتاب العزيز، والأحاديث القطعية ومكانتها من جهة، وكسب نظر العلماء المادّيين الطبيعيّين إلى أنفسهم من جهة أُخرى، أو أرادوا أن لا يختاروا ما لا يمكن التوفيق بينه وبين القوانين العلمية الطبيعية وتطبيقه عليها.

لقد وجَدَ هؤلاء من جهة أنّ القرآن الكريم يخبر عن سلسلة من المعجزات والخوارق الّتي لا يمكن تفسيرها بالعلوم العادية المتعارفة، لأنّ العلم لا يستطيع أن يدرك العلاقة بين العصا الخشبية اليابسة والثعبان، ومن جهة أُخرى كان القبول بالنظريات الّتي لا يمكن إثباتها بالحسّ والتجربة أمراً في غاية الصعوبة لهم.

ولهذا السبب، وفي خِضمِّ الصراع بين هذين العاملين: العلم والعقيدة، اختار هؤلاء الكتّاب والعلماء نهجاً يستطيعون به وضع نهاية لهذا الصراع، والتنازع، فيحافظون على ظواهر القرآن والأحاديث من جانب، ويتجنبون القول بما يخالف منطق العلم من جانب آخر، ويتلخّص هذا النهج في تفسير جميع المعاجز و جميع خوارق العادة الّتي جرت على أيدي الأنبياء بالموازين العلمية الحاضرة الرائجة في هذا العصر بصورة تبدو وكأنّها أُمورٌ طبيعية، وبهذا يكونون قد حافظوا على مكانة القرآن الكريم والأحاديث القطعية المسلّمة، ولم يتفوّهوا بما يخالف العلم الحديث

ص:192

ويتعارض مع معطياته.

ونحن هنا نذكر من باب النموذج والمثال: التفسير الّذي ذكره العلّامة المصري المعروف «محمَّد عبده» لقصة أصحاب الفيل وماجرى لهم:

فهو يقول عند تفسيره لسورة الفيل:

«فيجوز لك أن تعتقد أنّ هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الّذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الّذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامّه فأثار فيه تلك القروح الّتي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه، وأنّ كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعُدّ من أعظم جنود اللّه في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وأنّ هذا الحيوان الصغير، الّذي يسمونه الآن بالميكروب، لا يخرج عنها».(1)

وقال أحد الكتّاب مؤيّداً هذا الاتّجاه بقوله: «إنّ الطير المستعمل في الكتاب العزيز يراد منه مطلق ما يطير، ويشمل الذباب والبعوض أيضاً».(2)

ولابدَّ قبل دراسة هذه الأقوال أن نستعرض مرّة أُخرى الآيات النازلة في أصحاب «الفيل».

يقول اللّه تعالى: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ * أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» .

إنّ ظاهر هذه الآيات يفيد أنّ جيش أبرهة أُصيب بالغضب والسخط الإلهي،

ص:193


1- . راجع: تفسير في ظلال القرآن: 8/667 (في تفسير السورة).
2- . نفس المصدر.

وأنّ هلاكه وفناءه كان بهذه الأحجار الّتي حملتها تلك الطيور، وألقتْ بها على رؤوس الجند وأبدانهم.

إنّ الإمعان في مفاد هذه الآيات يعطي أنّ مَوتهم كان بسبب هذه الأسلحة غير الطبيعية (الصغيرة الحقيرة في ظاهرها، القوّية الهدّامة بفعلها وأثرها).

وعلى هذا فإنَّ أي تفسير يخالف ظاهر هذه الآيات لا يمكن الذهاب إليه وحمل الآيات عليه ما لم يقم على صحته دليل قطعيّ.

نقاطٌ تقتضي التأمّل في التفسير المذكور

1. أنَّ التفسير المذكور لا يستطيع كذلك أَن يجعل كلّ تفاصيل هذه الحادثة أمراً طبيعياً، بل هناك جوانب في تلك الواقعة التاريخية العجيبة لابدّ من تفسيرها بالعوامل والأسباب الغيبية، لأنّه مع فرض أنّ هلاك الجُند وتلاشي أجسادهم تمَّ بواسطة ميكروب: «الحصبة» و «الجدري»، ولكن من الّذي أرشد تلك الطيور إلى تلك الأحجار الصغيرة الملوّثة بميكروب الحصبة والجدري، فتوجّهت بصورة مجتمعة إلى تلك الأحجار الخاصّة بدل التوجّه إلى الحَبّ والطعام، ثمّ كيف بعد حمل تلك الأَحجار بمناقيرها وأرجلها حلَّقتْ فوق معسكر «أبرهة» ورجمت جنده كما لو أنّها جيشٌ منظّم موجّه؟؟

هل يمكن اعتبار كل ذلك أمراً عادياً، وحدثاً طبيعياً؟

ترى لو أنّنا فسَّرنا طرفاً من هذه الحادثة العظيمة والعجيبة بالعوامل الغيبية، وبإرادة اللّه النافذة فهل تبقى مع ذلك أيّة حاجة إلى أن نفسّر جانباً من هذه الحادثة بتفسير طبيعي مألوف، ونركض وراء التوجيهات الباردة، لنجعلها أمراً مقبولاً.

2. إنَّ الكائنات الدقيقة، أو ما يُسمّى الآن ب «الميكروب» لا شكّ أنّها عدوّة لمطلق الإنسان، وليس بصديقة لهذا أو ذاك، ومع ذلك كيف توجّهت إلى جنود

ص:194

«أبرهة» وقتلتهم دون غيرهم، وكيف نسيت المكيّين بالمرّة؟!

إنَّ التاريخ المدوَّنْ يثبت لنا أنّ جميع الضحايا في هذه الواقعة العظيمة كانوا من جند «أبرهة» ولم يلحق فيها: أيّ أذى - إطلاقاً - بقريش، وغيرهم من سُكان الجزيرة العربية، في حين أنّ الحصبة والجُدَريِّ من الأمراض المعدية، الّتي تنقلها العوامل الطبيعية كالرياح وغيرها من منطقة إلى أُخرى، ورُبَما تُهلِك أهل قطر بأجمعهم.

فهَل مع هذا يمكن أن نعدّ هذه الحادثة حدثاً طبيعياً عادياً؟!

3. أنّ اختلاف هذا الفريق في تحديد نوعية الميكروب، يضفي على هذا الادّعاء مزيداً من الإبهام، ويجعله أقرب إلى البطلان.

فتارة يقولون: إنَّه ميكروب الوباء، وتارةً أُخرى يقولون: إنَّه داء الحصبة والجدري، في حين أنّنا لم نجد مستنداً صحيحاً لهذا الخلاف، ومبرراً وجيهاً لهذا الاختلاف، اللّهمَ إلّاما احتمله «عكرمة» من بين المفسّرين، وعكرمة هو نفسه موضع نقاش بين العلماء، وإلّا لما ذهب «ابن الأثير» من بين المؤرّخين وأرباب السيّر إلى ذكر هذا الرأي في صورة الاحتمال الضعيف، قائلاً: وقال كثير من أهل السير أنّ الحصبة والجدري أوّل ما رؤيا في العرب بعد الفيل، وكذلك قالوا: إنّ العشر والحرمل والشيح لم تعرف بأرض العرب إلّابعد الفيل. ثم عاد فردّ هذا القول فوراً بقوله: وهذا ممّا لا ينبغي أن يعرج عليه فإنّ هذه الأمراض والأشجار قبل الفيل مذ خلق اللّه العالم.(1)

والأعجب من الجميع ما أعطاه مؤلّف كتاب «حياة محمَّد» الدكتور هيكل وزير المعارف المصري السابق من تفسير، عند ذكر قصة الفيل.

ص:195


1- . الكامل في التاريخ: 1/263، ذكر أمر الفيل، تحقيق الشيخ عبدالوهاب النّجار، طبع مصر - 1348 ه.

فهو بعد ذكر تلك القصة سرد آيات سورة الفيل، ومع أنّه أتى بقول اللّه تعالى «وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ» قال عن هلاك جنود أبرهة: «ولَعلّ جراثيم الوباء جاءت مع الريح من ناحية البحر، وأصابت العدوى أبرهة نفسه»(1) فإذا كان الّذي جاء بهذا الميكروب هو الريح، فلماذا حلّقت طيورُ الأبابيل على رؤوس جيش أبرهة، وألقت بالأَحجار الصغيرة على رؤوسهم دون غيرهم، وأي أثر كان لهذه الأحجار في هلاك أُولئك الجنود وموتهم؟

فالحقّ هو: أن لا يُتبعَ هذا النمط من التفكير، وأن لا نسعى لتفسير معجزات الأَنبياء الكبرى بمثل هذه التأويلات والتفسيرات، بل إنّ طريق المعجزات والإعجاز أساساً يختلف عن طريق العلوم الطبيعية الّتي تتحدّد دائرتها بمعرفة العلاقات العادية بين الظواهر الطبيعية، ولهذا يجب علينا أن لا نعمد - إرضاء لهوى جماعة ممّن لا يمتلكون أيّة معلومات دينية، وليست لديهم أيّة معرفة بهذا النوع من القضايا - إلى التنازل عن أُسُسنا الدينية المسلّمة، في حين لا توجد أيّة حاجة مُلزمة إلى مثل ذلك التنازل والاعتذار!

نقطتان هامّتان

وهنا لابد من أن نذكّر بنقطتين:

الأُولى: يجب أن لا يظنّ أحدٌ - خطأ - أنّنا بما قلناه هنا نريد تصحيح كلّ ما تلوكه ألسنُ الناس، وتنسبه إلى الأنبياء العظام، أو إلى عباد اللّه الكرام، من دون أن يكون له أي سند صحيح أو وجه معقول، بل وربما اتَّسَمْ بطابع الخرافة في بعض الأحيان والموارد.

بل مقصودنا هو: أن نثبّت - وطبقاً للمصادر الصحيحة والقطعية المتوفّرة - أنّ

ص:196


1- . حياة محمَّد لمحمَّد حسين هيكل: 102 و 103.

الأنبياء كانوا يقومون - لإثبات ارتباطهم بما وراء هذه الطبيعة - بأعمال خارقة للعادة، خارجة عن الناموس الطبيعيّ المألوف، تعجز العلومُ الطبيعية الرائجة عن إدراك عللها، وأسبابها.

فهدُفنا هو الدفاع عن هذه الطائفة من المعاجز.

الثانية: إنّنا لا نقول مطلقاً: أَنَّ وجود المعجزة هو تخصيصٌ لقانون العلّية العامّ، بل إنّنا في الوقت الّذي نحترمُ فيه هذا القانون المسلّم، نعتقد بأَنّ لجميع حوادث هذا العالم عللاً خاصّة وأسباباً معيّنة، وإنّه من المستحيل أن يوجَد شيء بعد عدمه من دون علّة، بَيْد أنّنا نقول: إنّ لهذه الطائفة من الظواهر والوقائع (أي المعاجز) عللاً غير طبيعية، وإنّ هذه العلل ميسَّرة ومتاحة لأنبياء اللّه ورسله والرجال الإلهيّين خاصّة، وليس في مقدور أحد - لم يستطع لا عن طريق الحس ولا عن طريق التجربة أن يكتشف هذه العلل - أن يتنكّر لها، وينكرها، بل أنّ جميع الأعمال الخارقة الّتي يقوم بها أنبياء اللّه ناشئة عن علل لا يمكن تفسيرها بالعلل الطبيعية المألوفة، ولو أنّها خضعت للتفسير والتوجيه لخرجت عن كونها معجزة، ولم يصدُق في حقّها عنوان الإعجاز.

ولكي نقف على حقيقة هذا الأمر، ونعرف مدى بطلان المذهب المذكور (مذهب تفسير الخوارق والمعاجز بالتفسير المادّي والمألوف المحض) ينبغي أن نتبسّط قليلاً في شرح مسألة الإعجاز ونبحث في مدى علاقتها بقانون العلّية العام.

بحثٌ علميُّ حول المعجزة

اشارة

:

إنّ الحديثَ العلميَّ عن المعجزة لابدَّ أن يتركَّز على عدة نقاط أساسيَة هي:

1. ماهي المعجزة وما هو تعريفها؟

2. هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟

ص:197

3. هل المعجزة تصدر عن علل مادّية غير عادية فقط؟

4. كيف تدل المعجزة على صِدق ادّعاء النبوّة؟

5. كيف وبماذا نميّز المعجزة عن الخوارق الأُخرى؟ إنَّ الاجابة عن هذه الأسئلة كفيلة بتوضيح حقيقة المعجزة، وبيان مدى بطلان الإتّجاه المذكور، نعني: تفسير المعاجز بالتفسير المادّي الطبيعي.

على أنّنا - نظراً لضيق المجال - سنختصر الجواب عن هذه الأسئلة، وعلى من أراد التوسّع أن يرجع إلى كتب الكلام والعقيدة.

1 - ماهي المعجزةُ وما هو تعريفها؟

لقد عرَّف علماء العقيدة المعجزة بتعاريف مختلفة أتقنها وأكملها هو: أنّ المعجزة أمرٌ خارقٌ للعادة، مقرونٌ بالدَّعوى، والتحدّي، مع عدم المعارضة، ومطابقة الدعوى.(1)

ويعني الشرطُ الأولُ (أي كون المعجزة أمراً خارقاً للعادة) أنّ كلّ ظاهرة من الظواهر الطبيعية الحادثة مرتبطة بعلّة حتماً، فلا يمكن صدورها من دون علّة، وهذا الكون مشحون بالعلل الّتي يكتشفها البشر شيئاً فشيئاً وتدريجاً عبر وسائله العادية أو العلميّة، ولكنّ المعجزة مع كونها ظاهرة واقعية ولهذا فهي كغيرها مرتبطةٌ بعلّة، بيد أنّها تختلف عن غيرها من الظواهر في أنّ من غير الممكن كشف عللها من الطريق العادية أو بواسطة التجارب والتحقيقات العلمية، ولا يمكن تفسيرها وتبريرها بالعِلَل العادية أو بما يكتشفه العلمُ من العلل لمثل هذه الحوادث، والمقصود من خرق العادة هو أنْ تقع المعجزةُ على خلاف ما عهدناه وتعوَّدنا عليه

ص:198


1- . راجع للوقوف على هذا التعريف: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلّامة الحلّي شرحاً، والمحقّق نصيرالدين الطوسي متناً: 157، وأيضاً شرح تجريد الاعتقاد للعلّامة القوشجي: 465.

في الظواهر الأُخرى وعِللها، مثل إشفاء المرضى من دون علاج ودواء كما هو المعهود، وإخراج الماء من صخرة صمّاء من دون حفر أو تنقيب كما هو المألوف، وتحويل العصا إلى أفعى من دون تبييض وتفريخ وتوالد وتناسل، بل بمسح من يد، أو بعبارة من لسان، أو بضرب من عصا!!

من هنا نكتشفُ أَنّ كلّ ظاهرة يقف الناس العادّيون بالطرق العادية أو العلماء خاصّة بالطرق العلمية على عللها وأسبابها لا تكون معجزة لأنّه في هذه الصورة لم يقع أي شيء على خلاف العادة، والمألوف ليدل على مزية في الأنبياء.

فإنّ مثل هذه الظاهرة الّتي يكون لها علةٌ عاديةٌ يعرفها جميعُ الناس، أو سببٌ علمي خاصٌ يعرفه علماء ومتخصّصو ذلك العلم يمكن أن يقوم بإيجاد أمثالها جميعُ الناس، فلا تكون حينئذٍ معجزة.

ولا يعني هذا - وكما أسلفنا - أَنَّ المعجزة لا تنتهي إلى أيّة علّة، أصلاً، بل هي تستند إلى علّة غير متعارفة وغير عادية، ولمزيد التوضيح سنبحث في هذا المجال عند الإجابة عن السؤال الثالث.

ويُقصَد من الشرط الثاني (أي كون الإعجاز مقروناً بالدعوى) أن يَدّعي صاحبُ المعجزة النبوّة والسفارة من جانب اللّه تعالى، ويأتي بالمعجزة دليلاً على صحّة دعواه هذه، إذ في غير هذه الصورة لا يكون الأمرُ الخارق للعادة معجزةً بل يُطلَق عليه في الاصطلاح الديني لفظ «الكرامة» كما كان لمريم بنت عمران الّتي كلّما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً فإذا سألها: من أين لها ذلك؟

قالت: هو من عند اللّه(1).

ويعني الشرطُ الثالثُ أن يكون الإعجاز مقروناً بدعوة الناس إلى الإتيان

ص:199


1- . راجع سورة آل عمران: 37.

بمثله، وعجز الناس عن هذه المعارضة، وعدم قدرتهم على الإتيان بمثله مطلقاً، إذ في هذه الصورة يتّضح أَنَّ النبيّ يعتمد على قوة إلهية غير متناهية، قوّة خارجة عن حوزة الإنسان العادي وإمكاناته.

وأمّا الشرط الرابع فيعني أنّ الأمر الخارق للعادة إنّما يكون عملاً إعجازياً، ويستحق وصف المعجزة الدالّة على ارتباط الآتي بها بالمقام الإلهيّ، إذا وافق الأمرُ الواقعُ ما يدّعي أنّه قادر على الإتيان به.

فلو قال: سأجعلُ هذا البئر الجاف الفارغ من الماء، يفيض بالماء بإشارة إعجازية، ثم يقع ما قاله، كان هذا الأمر معجزة حقّاً، وأمّا إذا حصل عكس ما قال، لم يكن ذلك إعجازاً، بل كان تكذيباً لمدّعيها.

هذا هو خلاصة ما يمكن أن يُقال حول تعريف المعجزة والإعجاز وهو يساعد على فهم طبيعة العمل الإعجازيّ.

2. هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟

وبهذا يتّضح جواب السؤال المطروح في هذا المجال وهو أن يقال: إنّ قانون العليّة (أي: ارتباط كلّ معلول حادث بعلّة) ممّا ارتكز عليه الذهنُ البشريُ وقبلَه العلمُ والفلسفة، ولذلك فإنّنا نلاحظ: كلّما وقف الإنسانُ على ظاهرة - مهما كانت - بحَثَ عن علّتها فوراً، فإذا رأى حيّة، مثلاً عرف بأنّ علّتها الطبيعية هي أن تبيض حيّة، ثم خروج حيّة من البيض بعد سلسلة من التفاعلات، فكيف يمكن القبول بالمعاجز مع أنّها لا تنشأ عن مثل هذه العلل ولا تمرُّ بمثل هذه المقدّمات والمراحل والتفاعلات الطبيعيّة، مثل انقلاب العصا إلى ثعبان، أو نبوع الماء من الصخر من دون حفر أو تنقيب.

أليس هذا هدمٌ، أو تخصيصٌ لذلك القانون العقليّ المسَلَّم العام؟

ص:200

فإنّ الجواب على هذا السؤال هو أنّ مثل هذا السؤال لا يطرحه إلّاالَّذين يحصرُون العلل والعلاقات بين الأشياء في العلل والعلاقات الماديّة الطبيعية.

ولكن الحق هو أنَّ أيَّة ظاهرة مادّية يمكن أن يكون لها نوعان من العلل:

1. العلةُ العادية الّتي تخضع للتجربة.

2. العلةُ غير العادية الّتي لا يعرفها الناس ولم تكن متعارفة ولا تخضع للتجربة العلمية.

وهذا يعني أنّه لا توجد أيّة ظاهرة في هذا العالم بدون علّة.

وتوضيحُ هذا أنّ أصل وجود الحيّة ونبوع الماء من الصخرة وتكلّم الطفل - مثلاً - أمرٌ ممكنٌ، ولا يُعدّ من المحالات، لأَنّها لو كانت من المحالات لما تحقّق وجودها أبداً.

نعم أَنّها بحاجة إلى علّة لكي تتحقّق، والعلّة - سواء في المعاجز أو غيرها - يمكن أن تكون إحدى الأُمور التالية:

أ. العلّة الطبيعية العادية وهي ما ألِفناها وأعتدنا عليها، مثل ظهور شجرة من نواة بعد سلسلة من التفاعلات.

ب. العلّة الطبيعية غير العادية وغير المعروفة وهذا يعني أنّه قد يكون لظاهرة معينة نوعان من العلل، وطريقان للتحقّق والوجود أحدهما معروف ومعلوم، والآخر مجهول غير معلوم، والأنبياء بحكم اتّصالهم بالعلم والقدرة الإلهية، يمكن أن يقفوا على هذا النوع مِنَ العلل - عن طريق الوحي - ويوجدوا الظاهرة.

ج. تأثير النفوس والأرواح

إنَّ بعض الظواهر يمكن أن تكون ناشئة من تأثير أرواح الأَنبياء ونفوسهم القوية، كما نلاحظ ذلك في مجال المرتاضين الهنود الذين يبلغون درجة

ص:201

يستطيعون معها أن يقوموا بما يعجز عنه الأفرادُ العاديُّون، وذلك بفضل الرياضات النفسية الّتي يخضعون لها. وهو ما يُسمّى باليوغا أحياناً، وقد كتبت حوله كتب ودراسات(1).

وقد أشار إلى هذا جملةٌ من علماء الإسلام وفلاسفته منهم الفيلسوف الإسلامي الشهير صدر الدين الشيرازي حيث يقول: لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوّةٌ إلهيةٌ تكون بقوّتها كأنّها نفسُ العالم فيطيعُها العنصرُ طاعة بدنها لها، فكلّما ازدادت النفسُ تجرّداً وتشبّها بالمبادئ القصوى، ازدادت قوّةً وتأثيراً في ما دونها.

وإذا صار مجرّدُ التصوّر والتوهّم سبباً لحدوث هذه التغيّرات في هيوليّ البدن لأجل علاقة طبيعيّة، وتعلّقٍ جبلّي لها إليه، لكان ينبغي أن تؤثر في بدن الغير وفي هيوليّ العالم مثل هذا التأثير، لأجل مزيد قوّة شوقية، واهتزاز علوي للنفس ومحبّة إلهية لها، فيؤثر نفسُه في إصلاحها، وإهلاك ما يضرّها ويفسدها.(2)

د. العللُ المجرّدة عن المادة

يمكن أن تكون للظواهر عللٌ مجرّدة عن المادة كالملائكة، ذلك بأن تقوم الملائكة بأمر من اللّه سبحانه بتدمير قرية، أوتقوم بمعجزة بعد طلب النبيّ منها ذلك.

والملائكة مظاهرُ القدرة الإلهية في الكون، وهي الّتي تدبّر أُمور الكون بأمر

ص:202


1- . راجع كتاب الطاقة الإنسانية لأحمد حسين.
2- . راجع: المبدأ والمعاد: 355 و 356 لصدر المتألهين المشهور بصدر الدين الشيرازي، وشرح المنظومة للحكيم السبزواري: 327 قال السبزواري ناظماً: يطيعه العنصرُ طاعة الجَسَد للنفس فالكلُ كجسمه يُعَدّ

اللّه تعالى كما يقول القرآن الكريم: «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» (1)، وهي بالتالي جنود اللّه في السماوات والأَرض «وَ لِلّهِ جُنُودُ السَّماواتِ» .(2)

فلابدّ من إرجاع الظواهر الطبيعية الواقعة إلى أحد هذه العوامل الأربعة، ولا يمكن أبداً حصر العلّة في العلّة الطبيعية العادية المعروفة كما تصوّر منكرو الإعجاز، بل يمكن أن تكون كلُ واحدة من هذه العلل سبباً لحدوث الظاهرة الطبيعية، فإذا لم نشاهد علّة ظاهرة من الظواهر لم يجز لنا أن نُبادر - فوراً - إلى تصوّر أنّها ناشئةٌ من غير علّة.

ويجب إرجاع معاجز الأَنبياء إلى إحدى الطرق الأخيرة، والقول بأنّ الأنبياء استخدموا - في إيقاع الخوارق والمعاجز - إمّا العلل المادّية غير المعروفة للعُرف، والعلم، وأما نفوسهم القوّية الّتي حصلت لهم بفعل الجهاد الرُوحيّ العظيم والرياضات النفسية الشديدة فهي علة تلك الأفعال الخارقة للعادة.

كما ويمكن أن تكون جميع تلك الأفعال العجيبة ناشئة عن جملة من العلل والعوامل الغيبية المدبِّرة للكون بأمر اللّه ومشيئته.

إذن فلا تتحقّق المعجزة بدون علة كما يُتصوَّر، ولا يهدم الإعجاز القوانينَ العقلية المسلّمة.

3. هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟

قد يتصوّر البعض أنّ المعاجز تصدر عن علل مجرّدة عن المادة فقط، نافين أن تكون لها أيَّة علل مادية معروفة أوغير معروفة، في حين لا يصحّ هذا السلب

ص:203


1- . النازعات: 5.
2- . الفتح: 4.

الكلي، إذ ما أكثر الخوارق الّتي تنشأ عن أُمور عادية وعبر سلسلة من التفاعلات الطبيعية.

فعندما يرقُد مرتاض هنديٌ ليمرَّ عليه تراكتور من دون أن تحدث في جسمه أيّة جراحات أو إصابات، فإنّ هناك أُموراً مادّية كثيرة دخلت في هذا الأمر الخارق، مثل: وقوع هذا الحدث في إطار الزمان الخاص، والمكان الخاص، ومثل جسم المرتاض، وما كنة الحراثة.

فإنّ جميع هذه الأشياء المادية أثّرت في ظهور هذا العمل الخارق.

وهكذا عندما تنقلب عصا الكليم عليه السلام إلى حيّة على نحو الإعجاز، فإنّ العصا شيء مادّي، وهكذا الحال في غيره من الموارد.

ولهذا لا يمكن أن نتجاهل تأثير العوامل والأُمور المادّية في ظهور الأُمور غير العادية، وننكر دخالتها بمثل هذا الإنكار.

وهذه هي أكثر النظريات اعتدالاً في هذا المجال.

وفي مقابل ذلك التفريط(1) أفرط آخرون إذ قالوا: إنّ جميع المعاجز والخوارق ناشئة من علل مادّية غير معروفة.

وحتّى ما يقوم به المرتاضون يعود إلى هذه العوامل الطبيعية الّتي لا يعرفها ولا يقف عليها حتّى النوابغ من الناس فضلاً عن العاديين، لأنّ العوامل الطبيعية على نوعين: المعروفة وغير المعروفة، والناس يستفيدون في حياتهم اليومية - في الأغلب - من القسم الأوّل، بينما يستخدم الأنبياء والمرتاضون تلك العوامل الطبيعية غير المعروفة الّتي وقفوا عليها وأدركوها دون غيرهم.

ص:204


1- . أي حصر علل الخوارق والمعاجز في العوامل المجرَّدة ونفي تأثير العلل الماديّة على نحوالإطلاق.

والسبب في وصفنا هذه النظرية بالإفراط والتطرُّف هو عدم وجود دليل لإثباتها، بل يمكن أن يقال أنّ مثل هذا الموقف ناشئ عن الانهزامية تجاه العالم المادّي، أو أنّه لإرضاء المادّيين، والنافين لما يدخل في إطار العالم المادّي، فإنّ المادّيين يرفضون أيّ عالم آخر غير الطبيعة وآثارها وعلاقاتها وخواصها، وحيث إنّ إرجاع المعجزات إلى العلل المجرّدة عن المادّة يخالف منطق المادّيين، ويضاد اتّجاههم وتصوّرهم، لهذا عمد أصحاب هذه النظرية (نظرية إرجاع المعاجز والخوارق إلى علل طبيعية غير معروفة وغير عادية) إلى مثل هذا التفسير إقناعاً للمادّيين، وإرضاء لهم فقالوا: إنّ جميع الخوارق والمعاجز ناشئة من علل طبيعية وماديّة على الإطلاق، غاية ما في الأمر أَنّها علل غير معروفة، شأنها شأن كثير من العوامل الطبيعية المجهولة.

ونحن بدورنا نترك هذه النظرية في دائرة الإجمال وبقعة الإمكان، لعدم الدليل لا على صحّتها ولا على خطئها.

4. كيف تدلّ المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟

إنّ صفحات التاريخ مليئة بذكر من ادّعوا النبوّة خداعاً وكذباً، واستغلالاً للناس، منتهزين سذاجة الأغلبية الساحقة من جانب، وانجذابهم الفطري إلى قضايا التوحيد والإيمان من جانب آخر.

فكيف وبماذا يُميَّز النبيّ الصادق عن مدّعي النبوة؟؟

إنّ المعجزة هي إحدى الطرق التي تدل على صحّة إدعاء النبوّة.

وإِنما تدلُّ المعجزةُ على صدق ادّعاء النبوّة، وارتباط النبيّ بالمقام الربوبي لأن اللّه الحكيم لا يمكن أن يزوّدَ الكاذب في دعوى النبوّة بالمعجزة، لأنّ في

ص:205

تزويد الكاذب تغريراً للناس الذين يعتبرون العمل الخارق دليلاً على ارتباط الآتي به بالمقام الربوبيّ.

وإلى هذا أشار الإمامُ جعفر الصادق عليه السلام في جواب أبي بصير حين سأله عن علّة إعطاء اللّه المعجزة لأنبيائه ورسله: وقال: «لِيَكُونَ دَليلاً عَلى صِدق مَن أتى به، والمعجزة علامةٌ للّه لا يعطيها إلّاأنبياءه وَرسَله، وحجَجَه، ليعرفَ به صدق الصادق مِنْ كذب الكاذِب».(1)

5. بماذا نميّز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟

لا شَكَّ في أنَّ السَّحَرة والمرتاضين يقومون بأفعال خارقة للعادة مثيرة للعجب والدهشة حتّى أنّ البسطاء ربّما يذهب بهم الاندهاش إلى حدّ الاعتقاد بأنّ القائمين بهذه الخوارق مزوَّدون بقوى غامضةٍ غيبيةٍ لا يتوصّلُ إليها البشر.

فكيف يمكن إذن أن نُمَيّز بَينَ المعاجز وتلك الخوارق والعجائب؟

إنّ التمييز بين هذه وتلك يمكن أن يتم إذا لاحظنا العلائم الفارقة بين المعجزة وغير المعجزة من الأعمال الخارقة للعادة، كأعمال السحرة والمرتاضين (أصحاب اليوغا) ونظائرهم.

وهذه الفوارق هي عبارة عن الأُمور التالية:

1. أنّ القوّة الغامضة الحاصلة لدى المرتاضين والسحرة ناشئة بصورة مباشرة من التعلّم عند أساتذة تلك العلوم، وذلك طيلة سنين عديدة من الزمان.

بينما لا يرتبط الإعجاز بالتعلّم والتلمّذ أبداً، والتاريخ خير شاهد على هذا الكلام.

ص:206


1- . علل الشرائع: 1/122 ح 1، باب (100) علّة المعجزة.

2. أنّ أَفعال السَّحرة والمرتاضين العجيبة قابلة للمعارضة والمقابلة بأمثالها، وربّما بما هو أقوى منها، على عكس الإعجاز، فالمعجزات غير قابلة لأن تعارض وتقابل بمثلها أبداً.

3. المرتاضون والسَّحرة لا يَتحدُّون أحداً بأفعالهم، ولا يطلبُون معارضة أحد لَهُمْ وإلّا لافْتضَحُوا وكبتوا.

بينما يتحدّى الأنبياء والرسل بمعاجزهم جميع الناس ويدعونهم لمعارضتهم والإتيان بمثل معاجزهم لوقدروا، واستطاعوا.

وهذا هو القرآن الكريم ينادي بأعلى صوته على مر العصور: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» .(1)

وذلك لأنَ أفعال السَّحرة الخارقة مهما كانت فإنّها تستند إلى الطاقة البشرية المحدودة، ولا تتجاوزها بينما يعتمد الأنبياء والرسل العنصر الغيبي، والإرادة الإلهية.

4. أنّ أفعال السحرة والمرتاضين الخارقة للعادة أُمور محدودة ومقتصرةٌ على ما تعلَّموه وتمرّنوا عليه، بينما لا تكون معاجز الأنبياء والرسل مقتصرة على أُمور خاصّة، فهم لا يعجزون عن الإتيان بكلّ ما يطلبه الناس منهم، طبعاً حسب شرائط خاصّة مذكورة في محلّها في أبحاث الإعجاز.(2)

ص:207


1- . الإسراء: 88.
2- . مثل أن لا يكون ما يطلبه الناس محالاً عقلياً كرؤية اللّه، وأن لا يكون ما سيأتي لهم به دليلاً على ارتباطه بالمقام الربوبي، كما لو طلبوا منه أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب وبيتٌ من ذهب، لأنّ هذه الأُمور لا تكون دليلاً على النبوّة إذ نلاحظ أنّ كثيراً مِنَ الناس يملكون هذه وليسوا مع ذلك بأنبياء.

فتلك معاجز موسى عليه السلام المتعدّدة الابتدائية، والمقترحة، ومعاجز المسيح عليه السلام المتنوّعة خير مثال على هذا الأمر.

5. أنّ أصحاب المعاجز يقصدون من معاجزهم دائماً دعوة الناس إلى أهداف إنسانية عالية وغايات إلهية سامية وبالتالي هداية المجتمع البشري إلى المبدأ والمعاد، والأخلاق الفاضلة فيما لا يهدفُ المرتاضون والسحَرة إلّاتحقيق مآرب دنيوية حقيرة، ونيل مكاسب مادّية رخيصة.

هذا مضافاً إلى أنّ الأنبياء والرسل أنفسهم يختلفون عن السحرة والمرتاضين في نفسيّتهم العالية، وأخلاقهم الفاضلة وتاريخهم المشرق، وصفاتهم النبيلة على العكس من السحرة والمرتاضين.

هذه هي أَهمُّ العلامات الفارقة بين المعاجز الّتي تدلّ على نبوّة الأنبياء والخوارق الّتي يقوم بها المرتاضون والسحرة.

وبعد أن تبيَّن كلّ هذا اتّضح أنَّ الخوارق الإلهية الّتي هي من مقولة المعاجز أيضاً تختلف عن الأُمور العادية في أنّ عللها لا تنحصر في العلل المادّية غير المعروفة فضلاً عن الأُمور المادية المعروفة، بل ربّما تكون مستندة إلى العلل المجرّدة، فليس من الصحيح أن نسعى لتفسير الخوارق الإلهية مثل: «قصة الفيل» الّتي أهلك اللّه تعالى فيها جيش «أبرهة» العظيم بأحجار صغيرة من سجيل رمتها طيور أبابيل بالعلل المادية المعروفة كما فعل من أشرنا إلى أسمائهم في مطلع هذا البحث.(1)

ص:208


1- . أي الأُستاذ الشيخ محمَّد عبده والأُستاذ محمَّد حسين هيكل.

ولهذا عَدلَ «سيد قطب» عن رأيه الّذي كان قد أبداه في ما سبق في أمثال هذه الأُمور، وقال: إنّ الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره، وفي التصوّر الإسلامي وتكوينه... أن ينفُض الإنسان من ذهنه كلَّ تصوّر سابق، وأن يواجه القرآن بغير مقرَّرات تصوّرية أو عقلية أو شعورية سابقة، وأن يبني مقرَّراته كلّها حسبما يصورُ القرآنُ والحديثُ حقائق هذا الوجود، ومن ثمّ لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن، ولا ينفي شيئاً يثبته القرآن ولا يُؤَوّلَه، ولا يثبت شيئاً ينفيه القرآن أو يبطله، وما عدا المثبت والمنفي في القرآن، فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته.

نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن... وهم مع ذلك يؤوّلون نصوصه هذه لتوائم مقرّرات سابقة في عقولهم، وتصوّرات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود.(1)

وأمّا الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، ويعتسفون نفي هذه التصوّرات لمجرّد أنّ العلم لم يصل إلى شيء منها فهم مضحكون حقّاً! فالعلمُ لا يعلم أسرار الموجودات الظاهرة بين يديه والّتي يستخدمها في تجاربه، وهذا لا ينفي وجودها طبعاً! فضلاً عن أنّ العلماء الحقيقيّين أخذت كثرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون، لأنّهم بالتجربة وجدوا أنفسهم - عن طريق العلم ذاته - أمام مجاهيل فيما بين أيديهم ممّا كانوا يحسبون أنّهم فرغوا من الإحاطة بعلمه فتواضعوا تواضعاً علمياً نبيلاً ليست عليه سمةُ الادّعاء، ولا طابع التطاول على المجهول كما يتطاول مُدّعو العلم، ومدّعو التفكير العلمي، ممّن

ص:209


1- . وهنا قال سيّد قطب في هامش هذا الكلام ما نصه: وما أُبرئ نفسي أنني فيما سبق من مؤلّفاتي وفي الأجزاء الأُولى من هذه الظلال قد انسقتُ إلى شيء من هذا... وأرجو أن أتداركه في الطبعة التالية إذا وفق اللّه.

يُنكرون حقائق الديانات وحقائق المجهول.(1)

ثم يقول في موضع آخر من تفسيره ناقداً موقف الأُستاذ عبده من قصة الفيل الّتي هي إحدى الخوارق حيث حفظ اللّه تعالى بيته المعظّم على نحوٍ خارق للعادة:

ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعملُ عملها، أنّ تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى، وأنّ الطير قد تكون هي: الذباب والبعوض الّتي تحمل الميكروبات، فالطير هو كلّ ما يطير.

ثم ينقلُ كلام الأُستاذ «عبده» الّذي ذكرناه بنصّه مع قوله: هذا ما يصحّ الاعتماد عليه في تفسير السورة، وما عدا ذلك فهو ممّا لا يصحّ قبوله إلّابتأويل إن صحّت روايته، وممّا تعظم به القدرة أن يُؤخذَ من استعز بالفيل - وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسماً - ويُهْلكَ بحيوان صغير لا يظهر للنظر ولا يدرك بالبصر حيث ساقه القدرُ، لا ريب عند العاقل أنّ هذا أكبر وأعجب وأبهر.

ثم يقول: ونحن لا نرى أنّ هذه الصورة الّتي افترضها الأُستاذُ الإمامُ - صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم... - أدلَّ على قدرة، ولا أولى بتفسير الحادث، فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع، ومن حيث الدلالة على قدرة اللّه، وتدبيره، ويستوي عندنا أن تكون السنّة المألوفة للناس، المعهودة المكشوفة لعلمهم، هي الّتي جرت، فأهلكت قوماً أراد اللّه إهلاكهم، أو أن تكون سنّة اللّه قد جَرت بغير المألوف للبشر، وغير المعهود المكشوف لعلمهم فحقّقت قدره ذاك.

ص:210


1- . في ظلال القرآن: 8/326 (تفسير سورة الجن).

ثم يقول: فقد كان اللّه سبحانه يريد بهذا البيت(1) أمراً، كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً وليكون نقطة تجمّع للعقيدة الجديدة تزحفُ منه حرّة طليقة في أرض حرّة طليقة لا يهيمن عليها أحدٌ من خارجها ولا تسيطر عليها حكومةٌ قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها، ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال، حتّى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة، ويضربها مثلاً لرعاية اللّه لحرماته وغيرته عليها.

فممّا يتناسق مع جوّ هذه الملابسات كلّها أن يجيء الحادثُ غير مألوف ولا معهود بكلّ مقوّماته وبكلّ أجزائه، ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفردٌ فذٌ.

وبخاصة أنّ المألوف في الجدري والحصبة لا يتّفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده، فإنّ الجدري أو الحصبة لا يُسقطُ الجسم عُضواً عضواً، وأنملة أنملة، ولا يشق الصدر عن القلب!!(2)

ثم إنّ «سيد قطب» يشير إلى علل تفسير هذه الحادثة الخارقة للعادة بالتفسير المادّي العادي الطبيعي، والمدرسة العقلية الّتي كان الأُستاذ «عبده» على رأسها، وضغط الفتنة بالعلم الّتي تركت آثارها في تلك المدرسة، ونحن نكتفي بهذا القدر بالمناسبة، وإشعاراً بما يمكن أن يجنيه مثل هذا الاتجاه على مقولات الدين ومفاهيمه ومقرراته عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية.(3)

هذا و يجدر بنا أن ننقل هنا ما قاله صاحب تفسير «مجمع البيان» في هذا

ص:211


1- . أيّ الكعبة المشرّفة.
2- . في ظلال القرآن: 8/670.
3- . لاحظ: في ظلال القرآن: 8/668-671 (في تفسير سورة الفيل).

الصدد في شأن حادثة الفيل استكمالاً لهذا البحث وتأكيداً لمعجزة هذا الحدث.

قال صاحب المجمع: وكان هذا من أعظم المعجزات القاهرات، والآيات الباهرات في ذلك الزمان، أظهرهُ اللّه تعالى ليدل على وجوب معرفته، وفيه إرهاص لنبوّة نبينا صلى الله عليه و آله و سلم لأنّه ولد في ذلك العام،... وفيه حجةٌ لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة والملحدين المنكرين للآيات الخارقة للعادات، فإنّه لا يمكن نسبة شيء ممّا ذكره اللّه تعالى من أمر اصحاب الفيل إلى طبع وغيره، كما نسبوا الصيحة والريح العقيم والخسف وغيرهما ممّا أهلك اللّه تعالى به الأُمم الخالية إلى ذلك، إذ لا يمكنهم أن يروا في أسرار الطبيعة إرسال جماعات من الطير معها أحجارٌ معدّة مهيَّأة لهلاك أقوام معينين، قاصدات إيّاهُمْ دون من سواهم، فترميهم بها حتّى تُهلِكهم، وتدّمرَ عليهم، حتّى لا يتعدّى ذلك إلى غيرهم، ولا يشكّ من له مسكة عن عقل ولب أنّ هذا لا يكون إلّامن فعل اللّه تعالى، مسبّب الأسباب ومذلِّل الصعاب، وليس لأحد أن ينكر هذا؛ لأنّ نبينا صلى الله عليه و آله و سلم لما قرأ هذه السورة على أهل مكّة لم ينكروا ذلك، بل أقرّوا به وصدّقوه مع شدّة حرصهم على تكذيبه، واعتنائهم بالردِّ عليه، وكانوا قريبي العهد بأَصحاب الفيل، فلو لم يكن لذلك عندهم حقيقةٌ وأصلٌ لأنكَرُوهُ، وجحدوه، وكيف وأنّهم قد أرّخوا بذلك كما أرّخوا ببناء الكعبة، وموت قصيّ بن كعب وغير ذلك.

وقد أكثر الشعراء ذكر الفيل ونظّموه ونقلته الرواةُ عنهم فمِن ذلك ما قاله (أُميّة) بن أبي الصلت:

إنّ آيات ربِّنا بَيِّناتٍ ما يُماريْ فيهِنّ إلّاالكَفُورُ

حبَس الفِيْلَ بالمُغمَّس حَتى ظَلّ يحبو كأنه مَعْقُورُ

وقال عبداللّه بن عمرو بن مخزوم:

ص:212

أنتَ الجليل ربَنا لم تُدْنِس أنت حبَسْت الفيل بالمغمَّس

مِنْ بعد ما همَّ بشيء مَبْلسِ حبَستَه في هيئة المكركس(1)

وقال ابن قيس الرقيّات في قصيدة:

وَاسْتَهلَّتْ عَليْهِمُ الطَيْر با لجندلِ حَتى كأَنَّه مَرْجُومُ (2)

ماذا بَعْدَ هزيمة الأحباش؟

لقد استوجب مقتل أبرهة وتحطّم جيشه وهلاكهم، وبالتالي هزيمة أعداء الكعبة المشرّفة، وأعداء قريش، أن يتعاظم شأن المكيّين، وشأن الكعبة الشريفة في نظر العرب، فلا يجرأ أحدٌ - بعد ذلك - في أن يحدِّث نفسه بغزو مكّة، والإغارة على قريش، أو أن يفكّر في التطاول على الكعبة المعظّمة صرح التوحيد الشامخ، فقد أخذ الناس يقولون في أنفسهم: إنّ اللّه أهلك أعداء بيته المعظّم بمثل ذلك الإهلاك إحتراماً لبيته وتعظيماً لشأن قريش، وقلّما كان يتصوّر أحدٌ أنّ ما وقع كان لأجل المحافظة عى الكعبة فقط، أي من دون أن يكون لمكانة قريش ومنزلتهم وشأنهم دخل في ذلك، ويشهد بذلك أنّ قريشاً تعرّضت مراراً لحملات متكرّرة من غزاة ذلك العصر دون أن يُصابُوا بمثل ما أُصيب به جندُ «أبرهة» الّذي قصد الكعبة بالذات ويواجهوا ما واجهه، من الردع والكبت.

إنَّ هذا الفتح والظفر الّذي نالته قريش من دون تعب ونصب، ومن دون إراقة أية دماء من أبنائها، أحدثت في نفوس القرشيّين حالات جديدة خاصّة، فقد زادت من غرورهم وحمّيتهم، وعنجهيتهم، واعتزازهم بعنصرهم، فأخذوا يفكّرون في تحديد شؤون الآخرين، والتقليل من وزنهم، اعتقاداً منهم بأنّهم الطبقة الممتازة من

ص:213


1- . المنكَّس.
2- . تفسير مجمع البيان للطبرسي: 10/448 في تفسير سورة الفيل.

العرب دون سواهم. كما أنّها دفعتهم إلى أن يتصوَّروا أنّهم وحدهم موضع عناية الأَصنام (الثلا ثمائة والستين) فهم وحدهم الذين تحبُّهم تلك الأصنامُ، وتحميهم وتدافع عنهم!! ولأجل هذا تمادوا في لَهوهم، ولعبهم، وتوسّعوا في ممارسة اللذة والترف حتّى أنّهم أظهروا وَلعاً شديداً بالخمر، فكانوا يحتسونها في كلّ مناسبة، وربّما مدّوا موائد الخمر في فناء الكعبة، وأقاموا مجالس سَمرهم وأُنسهم إلى جانب أصنامهم الخشبية، والحجرية، الّتي كان لكلّ قبيلة من العرب بِينها صَنمٌ أو أكثر، ويقضون فيها أسعدَ لحظات حياتهم - حَسب تصوّرهم - وَهم يتناقلون فيها كل ما سمعوه من أخبار وقصص حول «مناذرة» الحيرة و «غساسنة» الشام وقبائل اليمن، وهم يتصوّرون أنّ هذه الحياة الجميلة هي من بركة تلك الأصنام والأوثان، فهي الّتي جعلت عامّة العرب تخضع لقريش، وجعلت قريشاً أفضل من جميع العرب!!

أوهام قريش تتفاقم!!

إنَّ أخطرَ ما يمرُّ به إنسانٌ في حياته هو أن يصفو عيشه من المشاكل، ردحاً من الزمن ويحسّ لنفسه بنوع من الحصانة الوهمية، فعندها تجده يخصّ الحياة بنفسه ويستأثر بكلّ شيء في الوجود، ولا يرى لغيره من أبناء نوعه وجنسه من البشر أيّ حق في الحياة، ولا أيّ شأن وقيمة تذكر، وذلك هو ما يصطلح عليه بالاستكبار والاستعلاء، والإحساس بالتفوّق، والغطرسة.

وهذا هو بعينه ما حصل لقريش بعد اندحار جيش «أبرهة» وهلاكه، وهلاك جنده بذلك الشكل العجيب الرهيب.

فقد عزمت قريش منذ ذلك اليوم - وبهدف إثبات تفوقّها وعظمتها للآخرين -، على أن تلغي أي احترام لأهل الحلّ لأنّهم كانوا يقولون: إنّ جميع

ص:214

العرب محتاجون إلى معبدنا، وقد رأى العرب عامّة كيف اعتنت بنا آلهةُ الكعبة، خاصّة، وكيف حمتنا من الأعداء!!

ومن هنا بدأت قريش تضيّق على كلّ مَن يدخل مكّة من أهل الحل للعمرة أو الحج، وتتعامل معهم بخشونة بالغة، وديكتاتورية شديدة، ففرضت على كلّ من يريد دخول مكّة للحج أو العمرة أن لا يصطحب معه طعاماً من خارج الحرم، ولا يأكل منه، بل عليه أن يقتني من طعام أهل الحرم، ويأكل منه، وأن يلبس عند الطواف بالبيت من ثياب أهل مكّة التقليدية القومية، أو يطوف عرياناً بالكعبة إن لم يكن في مقدوره شراؤها واقتناؤها، ومَن كان يَرفُض الخضوع لهذا الأمر، مِن رؤساء القبائل وزعمائها، كان عليه أن ينزع ثيابه - بعد انتهائه من الطواف - ويلقيها جانباً، ولا يحق لأحد أن يمسّها أبداً لا صاحبها ولا غيره.(1)

أمّا النساء فكان يجب عليهن إذا أردنَ الطواف أن يُطفنَ عراة، وأن يضعن خرقة على رؤوسهن فقالت امرأة من العرب، وهي كذلك تطوف بالبيت:

اليوم يبدو بعضُه أو كُلّه وما بدا منه فلا أُحِلُّه(2)

ثم إنّه لم يكن يحق لأيّيهودي أو مسيحي - بعد هزيمة «أبرهة» الّذي كان هو أيضاً مسيحياً - أن يدخل مكّة إلّاأن يكون أجيراً لمكيٍّ، وحتّى في هذه الصورة كان يجب عليه أن لا يتحدّث في شيء من أمر دينه ومن أمر كتابه.

لقد بلغت النخوةُ والعصبية بقريش حدّاً جعلتهم يتركون بعض مناسك الحج الّتي كان يجب الإتيان بها خارج الحرم!!

ص:215


1- . وكانت تسمّى عندهم «اللّقى»، أي الملقى على الأرض، وقيل: أصل اللقى أنّهم كانوا إذا طافوا خلعوا ثيابهم وقالوا: لا نطوف في ثياب عصينا اللّه فيها فيلقونها عنهم، ويسمّون ذلك الثوب لقى، فإذا قضوا مناسكهم لم يأخذوها وتركوها بحالها ملقاة. لاحظ: بحار الأنوار: 19/67.
2- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 1/452؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1/131.

لقد أنفوا منذ ذلك اليوم أن يأتوا بمناسك عرفة كما يفعل بقية الناس فتركوا الوقوف بعرفة، والإفاضة منها مع أنّ آباءهم (من ولد إسماعيل) كانوا يُقرّون أنّها من المشاعر والحج،(1) وكانت هيبة قريش وعظمتها الظاهرية رهنٌ - برمتها - بوجود الكعبة بين ظهرانيها، وبوظائف الحج ومناسكه هذه، إذ كان يجب على الناس في كلّ عام أن يأتوا إلى هذا الوادي الخالي عن الزرع وهذه الصحراء اليابسة لأداء المناسك، إذ لو لَم يكن في هذه النقطة من الأَرض أيُ مطاف أو مشعر لما رغب أحد حتّى في العبور بها فضلاً عن المكث فيها عدّة أيام وليال. لقد كان ظهورُ مثل هذا الفساد الأخلاقي وهذا الموقف المتعصِّب من الآخرين أمراً لابدَّ منه بحسب المحاسبات الاجتماعية.

فالبيئة المكيّة لابدّ أن تغرق في الفساد والإنحراف حتّى يتهيّأ العالم لانقلاب أساسيّ ونهضة جذرية.

إنّ كلّ ذلك الانفلات الأخلاقي والترف والانحراف كان يهيّئ الأرضية ويعدّها لظهور مصلح عالمي، أكثر فاكثر.

ولهذا لم يكن غريباً أن يغضب «أبوسفيان» فرعون مكّة وطاغيتها على «ورقة بن نوفل» حكيم العرب الّذي تنصّر في أُخريات حياته واطّلع على ما في الإنجيل، كلّما تحدَّث عن اللّه والأنبياء ويقول له: «لا حاجة إلى مثل هذا الإله وهذا النبيّ، تكفينا عناية أصنامنا»!!

عَبدُ اللّه والدُ النبيّ:

يوم فدى «عبدُالمطلب» ولده «عبداللّه» بمائة من الإبل، نحرها، وأطعم الناس في سبيل اللّه، لم يكن يمض من عمر «عبداللّه» أكثر من أربعة عشر ربيعاً،

ص:216


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 1/452.

وقد تسبَّبَتْ هذه الواقعةُ في أن يكتسب «عبدُاللّه» شهرة خاصّة بين عشيرته مضافاً إلى شهرته الكبرى بين قريش، وأن يحظى بمكانة كبيرة عند أبيه: «عبدالمطلب» بنحو خاص، لأنّ ما يُكلِّفُ الإنسان غالياً، ويتحملُ في سبيله عناء أكثر لابدَّ أن يحظى لديه بمكانة أكبر، ويحبّه محبّة تفوقُ المتعارف.

ومن هنا كان «عبدُاللّه» يتمتعُ باحترام يفوق الوصف بين أبناء عشيرته وأفراد عائلته وأقربائه.

ثم إنّ «عبدَاللّه» يوم كان يتوجّه برفقة والدهِ إلى المذبح كان يعاني من مشاعر وأحاسيسَ متناقضة ومتضادة، فهو من جانب كان يُكِنّ لوالده احتراماً كبيراً وحبّاً شديداً، ولهذا لم يكن يَجدُ بدّاً من طاعته، والانصياع لمطلبه، بينما كان من جانب آخر يعاني من قلق، واضطراب شديدين على حياته الّتي كان يرى كيف تعبث بها يدُ القدر، وتكادُ تقضي عليها كما يقضي الخريفُ على أوراق الشجر.

كما أنّ «عبدالمطلب» نفسه كان هو الآخر تتجاذبه قوّتان متضادتان: قوةُ الإيمان والعقيدة من جانب، وقوةُ العاطفة والمحبّة الأبوية من جانب آخر، وقد أوجدَت هذه الواقعة في نفسي هاتين الشخصيتين آثاراً مُرّة يصعُب زوالها، بيد أن تلك المشكلة حيث عولجت بالطريقة الّتي ذكرناها ونجا «عبداللّه» من الموت المحقّق، فكّر «عبدالمطلب» فوراً في أن يغسل عن قلب «عبداللّه» تلك المرارة القاسية بزواج «عبداللّه» بآمنة، وبذلك يقوّي من عرى حياته الّتي بلغت درجة الانصرام، بأقوى السُّبُل، وأمتن الوسائل.

ومن هنا توجّه «عبدالمطلب» إلى بيت «وهَب بن عبدمَناف» - فور رُجوعه من المذبح آخذاً بيد ولده عبداللّه - وعقد لولده على «آمنة بنت وَهَب» الّتي كانت تُعرَفُ بالعِفة، والطُهر، والنجابة، والكمال.

ص:217

كما أنّه عقد لنفسه - في ذات المجلس - على «دلالة» ابنة عم آمنة، ورُزقَ منها «حمزة» عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمشابه له في السن.(1)

غير أنّ الأُستاذ المؤرّخ «عبدالوهاب النجار» المدرّس بقسم التخصّص في الأزهر الّذي صحح «الكامل في التاريخ» لابن الأثير، وعلَّق عليه بملاحظات وهوامش مفيدة، شكّك في صحة هذه الرواية، واستغربها، وقال: لا أظنُ أنّه يصحّ شيء في هذه الرواية، إذ المعقولُ أن يتريث «عبدالمطلب» بعد ذلك المجهود المضنيّ حتّى يريح نفسه ثم يذهب ليخطب لابنه.(2)

ولكنَّنا نعتقد بأنّ المؤرّخ المذكور لو نَظرَ إلى المسألة مِن غير هذه الزاوية لسَهُل عليه التصديقُ بهذه الرواية.

ثم إنّ «عبدالمطَّلب» عَيَّن موعداً للزفاف، وعند حلول ذلك الموعد تمّت مراسمُ الزفاف في بيت «آمنة» طبقاً لما كان متعارفاً عليه في قريش، ولبث «عبداللّه» مع «آمنة» ردحاً من الزمن حتّى سافر إلى الشام للتجارة، وعند عودته توفّي أثناء الطريق، كما ستعرف.

دَورُ الأَيادي المشْبُوهَة في تاريخ الإسلام

لا شكّ أَنَّ التاريخ سَجَّلَ في صفحاته كُلَّ ما يتعلّق بالشعوب والأقوام من نقاط مضيئة أو مظلمة، كقصص للعبرة والعظة.

ولكنّ الحب والبغضَ تارة، والتساهل والبدعة تارة أُخرى، وحبّ إظهار المقدرة وإبراز القوة الأدبية تارة ثالثة، وغير ذلك من العوامل والأسباب عملت عملها فتدخّلت - في جميع الأدوار والعصور - في صياغة التاريخ، وخلَطت الغث

ص:218


1- . تاريخ الطبري: 2/7، والمذكور في هذا المصدر «هالة».
2- . الكامل في التاريخ: 2/4، قسم الهامش.

بالسمين والحقيقة بالخرافة، وتلك هي مشكلة كبرى تقع في طريق المؤرّخ الّذي يريد عرض حوادث التاريخ في أمانة وإستقامة، ولذلك يجب عليه أن يميّز الحقّ عن الباطل، والصدق عن الكذب من خلال الأخذ بالموازين العلمية، والممارسة الكاملة للتاريخ. ولقد كان للعوامل المذكورة تأثير أيضاً في تدوين التاريخ الإسلامي، فالأيادي المريبة المشبوهة عملت على تحريف الحقائق في هذا المجال، بل وربّما عمد بعض الأصدقاء - بهدف تعظيم شأن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم إلى نسبة بعض الأُمور الّتي يظهرُ عليها آثار الاختلاق والوضع، إليه صلى الله عليه و آله و سلم، وهو منها بُراء.

فقد جاء في التاريخ أنّ نور النبوَّة كان يسطع في جبين «عبداللّه» والد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم دائماً(1)، كما نقرأ أنّ «عبدالمطلب» كان يأخذ بيد ولده «عبداللّه» في سنين الجدب والقحط، ويصعد الجبل ويستسقي متوسِّلاً إلى اللّه بالنور الّذي كان بيّنا في جبين «عبداللّه»، فهذا هو ما كتبه وسجَّله كثيرٌ من علماء الشيعة والسنّة في مؤلّفاتهم، ونحن لا نملك أيّ دليل على عدم صحّته.(2)

ولكن هذا النور صار أساساً لبعض الأساطير الّتي لا يمكن أن نقبل بها مطلقاً، وهذا ما نلاحظه في القصة التالية!!

قِصَّة فاطمة الخَثعَمِيَّة

«فاطمةُ» هذه هي أختُ «ورَقَة بن نوفل» الّذي كان من حكماء العرب وكُهّانهم، وكان له معرفة كبيرة بالإنجيل. وقد سجّل التاريخ حديثه مع خديجة في بدء بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، وسوف نشير إليه في محلّه من هذا الكتاب.

وكانت «فاطمة» أُخت «ورقة» قد سمعت من أخيها عن نبوّة رجل من أحفاد

ص:219


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 1/63.
2- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 2/7-8؛ بحار الأنوار: 15/114.

«إسماعيل»، ولهذا ظلّت تنتظر، وتبحث.

وذات يوم وعندما كان «عبدالمطلب» متوجّهاً إلى بيت آمنة بنت وهب بعد قفوله ومنصرفه من المذبح وهو آخذ بيد «عبداللّه»، شاهدت «فاطمة الخثعمية» - الّتي كانت تقف على مقربة من منزلها - النور الساطع من جبين «عبداللّه»، والّذي كانت تنتظره مدّة طويلة وتبحث عنه بشوق، فقالت: أين تذهب يا عبداللّه؟ لكَ مِثلُ الإبل الّتي نُحِرَت عنك، وقعْ عليَّ الآن.

فقال: إنّ معي أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه!!.

ثمّ تزوّج «عبداللّه» بآمنة في نفس ذلك اليوم، وقضى معها ليلة واحدة.

ثم في الغد من ذلك اليوم أتى المرأة «الخثعمية» الّتي عرضت نفسها عليه، وأبدى استعداده لتنفيذ رغبتها، ولكن «الخثعمية» قالت له: ليس لي بك اليوم حاجة، فلقد فارقك النورُ الّذي كان مَعك أمس!!.

وقيل: إنه لمّا عرضت تلك المرأة «الخثعمية» على «عبداللّه» ما عرضت، أجابها «عبداللّه» بالبداهة ببيتين من الشعر هما:

أمّا الحَرامُ فالمماتُ دُونَهُ وَالحِلُّ لاحلٌ فاستبينهُ

فكيفَ بالأَمر الّذي تبغِينَهُ يحمي الكريمُ عرضَه ودينَهُ

ولكن لم تمر ثلاثة من زواجه بآمنة، وإقامته عندها حتّى دعته نفسُه إلى أن يأتي الخثعمية، وعرض نفسه عليها قائلاً: هل لك فيما كنت أردتْ؟ فقالت: لقد رأيت في وجهك نوراً فأردتُ أن يكون لي فأبى اللّه إلّاأن يجعله حيث أراد، فما صنعت بعدي؟

ص:220

قال: زوَّجني أبي آمنة بنت وهب»!!.(1)

علائم الإختلاق في هذه القصة!

لقد غَفل مختلِقُ هذه القصْة عن أُمور كثيرة عند صياغته لها، ولم يستطع إخفاء آثار الإختلاق عنها.

فلو كان يكتفي بالقول - مثلاً - بأنّ «فاطمة» صادفت «عبداللّه» ذات يوم في زقاق من الأزقة، أو سوق من الأسواق، وشاهدت نورَ النبيّ ساطعاً من طلعته ففكّرت في الزواج منه، رغبة في ذلك النور، لكان من الممكن التصديق بهذه القصة، بيدَ أنّ نصَّ القصة جاء بصورة لا يمكن القبول بها للأسباب التالية:

1. أنّ هذه القصة تفيد أنَّ المرأة «الخثعمية» عندما عرضت نفسها على «عبداللّه»، كانت يد «عبداللّه» في يد والده «عبدالمطلب»، فكيف يمكن أن تعرض تلك الفتاة نفسَها عليه وتبيّن مطلوبها له، ويدور بينهما ما دار، ولا يشعر بهما عبدالمطلب؟!

ثمّ ألم تستحِ من عظيم قريش «عبدالمطلب» الّذي لم يثنه عن طاعة اللّه تعالى شيء حتّى قتلُ ولده وذبحه.

ولو قلنا: إنّ مطلبها كان حلالاً مشروعاً، فإنّ ذلك لا ينسجم مع البيتين من الشعر اللَّذين ردّ بهما «عبداللّه» طلبها.

2. والأصعب من ذلك قصّة عبداللّه نفسه. فإنّ ولداً مثل «عبداللّه» يحترم والده إلى درجة الاستعداد لأن يُذْبَحَ وفاءً لنذر والده، كيف يمكن أن يتفوّه في حضرة والده بما نُقِلَ عنه؟!

ص:221


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/101-103؛ تاريخ الطبري: 2/5-7؛ والكامل في التاريخ: 2/7-8.

ترى أيمكن لشاب نجا لتوّه من السيف والذبح، ولا يزال يعاني من آثار الصدمة الروحية أن يستجيب لرغبات امرأة، أو يبدي استعداده ورضاه القلبيّ لذلك لولا وجود والده معه؟!! ترى هل كانت تلك المرأة جاهلة بالظروف، لا تقدّر الأحوال، ولا تعرف الوقت المناسب لطرح مطلبها، أو أنَّ مختلق هذه القصة غَفل عن نقاط الضعف البارزة هذه؟!!

ثم إنّ ممّا يفضح هذه القصّة ويُظهر بطلانها ما جاء في الصورة الثانية لها، فإنّ عبداللّه - كما لاحظنا - جابه طلب تلك المرأة ببيتين من الشعر وقال ما حاصله بأنّ الموت أسهل عليه من ارتكاب هذا الفعل الحرام الّذي يأتي على دين الرجل وشرفه، فكيف يجوز لمثل هذا الشاب الطاهر الغيور أن يقع فريسة لتلك الأهواء، والرغبات الرخيصة الفاسدة، والحال أنّه لم ينقض من زواجه أكثر من ثلاث ليال، وتدفعه غريزته الجنسية إلى أن يبادر إلى بيت المرأة الخثعمية.

إنَّ ماجابَه به «عبداللّه» دعوة تلك المرأة، وما جاء في ذينك البيتين من الشعر اللّذين يطفحان بالغيرة، والإباء، لخيرُ دليل على طهارة «عبداللّه» وعفّته، وتقواه، وترفّعه عن الآثام والأدران، وابتعاده عن الأنجاس والأدناس.

وقد علّق الأُستاذ العلّامة «النجار» على هذه الأُسطورة بقوله: «ليس من المعقول أن يذهب عبداللّه يبغي الزنا في الساعة الّتي تزوج فيها، ودخل فيها على امرأته».

ولكنّ الأُستاذ «النجار» أخطأ في تشكيكه في النور النبويّ الساطع في جبين «عبداللّه» حيث قال معقباً على كلامه السابق: «ولكنّها مسألة النور في وجهه يريدون إثباتها ورسول اللّه غني عن هذا كلّه».(1)

ص:222


1- . هامش الكامل في التاريخ: 2/4.

فإنّ ذلك ممّا رواه جميع المؤرّخين بلا استثناء، فلا داعي ولا وجه للتشكيك فيه!

طهارة النبيّ من دنس الآباء وعهر الأُمّهات

:

وينبغي هنا - وبالمناسبة - أن نشير إلى مسألة مهمّة في تاريخ النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم ألا وهي طهارة النسب النبوي من دنس الآباء ودناءتهم وعهر الأُمّهات وفسادهن، فلا يكون في أجداده وجدّاته سفاح، وزنا.

وهذا ممّا اتّفق عليه المسلمون، بعد أن دلّ عليه العقل، إذ لو لم يكن النبيّ منزّهاً عن دناءة الآباء وعهر الأُمّهات، لتنفّرت عنه الطباع ولم يرغب أحدٌ في متابعته، والانقياد لأوامره ونواهيه.

ولقد صرّح رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم بذلك في أحاديث رواها السنّة والشيعة.

فقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:

«نقلت من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة نكاحاً لا سفاحاً».(1)

وجاء أيضاً أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:

«لم يزل اللّه ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة».(2)

وقال الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:

«وأشهد أنّ محمَّداً عبدُه ورسولُه وسيّدُ عباده كلما نسخَ اللّه الخلقَ فرقتين جعله في خيرهما لم يُسهِم فيه عاهرٌ، ولا ضربَ فيه فاجرٌ».(3)

وروي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام في هذا الصدد عند تفسير قول اللّه

ص:223


1- . كنز الفوائد: 70.
2- . السيرة الحلبية: 1/70.
3- . نهج البلاغة: 2/194، الخطبة 214، طبعة عبده.

تعالى: «وَ تَقَلُّبَكَ فِي السّاجِدِينَ» (1) أنّهما قالا:

«في أصلاب النبيّين، نَبيٍّ بعد نبيٍّ، حتّى أخرجه من صلب أبيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم».(2) وقد صرّح علماء الإسلام من الفريقين بهذا الأمر، واشترطوه في النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

قال المحقّق نصير الدين الطوسي في «تجريد الاعتقاد»: ويجب في النبيّ العصمة... وعدم السهو، وكلّ ما ينفّرُ عنه من دناءة الآباء وعهر الأُمّهات....(3)

وقد وافقه على هذا العلّامة القوشجي الأشعري في شرح التجريد.(4)

وقال العلّامة المتكلّم المقداد السيوري في «اللوامع الإلهية»: ويجب أن لا يكون مولوداً من الزنا ولا في آبائه دنيّ ولا عاهر.(5)

وفاةُ عَبْد اللّه في «يَثْرب»:

لقد بَدَأ «عبدُاللّه» بالزواج فصلاً جديداً في حياته، وأضاء ربوعها بوجود شريكة للحياة في غاية العفّة والكمال هي زوجته الطاهرة «آمنة»، وبعد مدّة من هذا الزواج المبارك توجّه في رحلة تجارية - وبصحبة قافلة - إلى الشام بهدف التجارة.

دقت أجراسُ الرحيل، وتحرّكت القافلة التجارية وفيها عبداللّه، وبدأت رحلتها من «مكّة» صوب الشام، وهي مشدودة بمئات القلوب والأفئدة.

وكانت «آمنة» تمر في هذه الأيام بفترة الحمل، فقد حملت من زوجها

ص:224


1- . الشعراء: 219.
2- . تفسير مجمع البيان: 7/358، عند تفسير الآية.
3- . كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 472، تحقيق الشيخ حسن زاده الآملي.
4- . راجع: شرح القوشجي لتجريد الاعتقاد: 359.
5- . اللوامع الإلهية: 311.

«عبداللّه».

وبعد مُضيّ بضعة أشهر طلعت على مشارف مكّة بوادر القافلة التجارية وهي عائدة من رحلتها، وخرج جمع كبير من أهل مكّة لاستقبال ذويهم المسافرين العائدين. ها هو والد «عبداللّه» ينتظر - في المنتظرين - ابنه «عبداللّه»، كما أنّ عيون عروسة ولده «آمنة» هي الأُخرى تدور هنا وهناك تتصفّح الوجوه وتبحث عن زوجها «عبداللّه» في شوق لا يوصف.

ولكن ومع الأسف لا يجدان أثراً من «عبداللّه» بين رجال القافلة!!

وبعد التحقيق يتبيّن أنّ «عبداللّه» قد تمرّض أثناء عودته في يثرب، فتوقّف هناك بين أخواله لكي يستريح قليلاً، فإذا تماثل للشفاء عاد إلى أهله في «مكّة».

وكان من الطبيعي أن يغتمّ هذان المنتظران «عبدالمطلب، وآمنة» لهذا النبأ، وتعلو وجهيهما آثار الحزن، والقلق وتنحدر من عيونهما دموع الأسى والأسف.

فأمرَ «عبدُالمطّلب» أكبر ولده: «الحارث» إلى أن يتوجَّه إلى «يثرب»، ويصطحب معه «عبداللّه» إلى مكّة.

ولكنّه عندما دخل يثرب عرف بأنّ أخاه: «عبداللّه» قد توفّي بعد مفارقة القافلة له بشهر واحد، فعاد الحارث إلى مكّة، فأخبر والده «عبدالمطلب»، وكذا زوجته العزيزة «آمنة» بذلك، ولم يخلّف «عبداللّه» من المال سوى خمسة من الابل، وقطيع من الغنم، وجارية تدعى «أُمّ أيمن» صارت فيما بعد مربية النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

ص:225


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/7 و 8؛ والسيرة الحلبية: 1/81-82.

6 مَولدُ رَسُول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

كانت سُحُبُ الجاهلية الداكنة تُغطّي سماء الجزيرة العربية، وتمحي الاعمالُ القبيحةُ والممارساتُ الظالمة، والحروبُ الداميةُ، والنهبُ والسلبُ، ووأدُ البنات، وقتلُ الاولاد، كُلَّ فضيلة أخلاقية في البيئة العربية، وكان المجتمع العربيّ قد أصبح في منحدر عجيب من الشقاء، ليس بينهم وبين الموت إلّاغشاء رقيق ومسافة قصيرة!!

في هذا الوقت بالذات طلعت عليهم شمس السعادة والحياة فأضاءت محيط الجزيرة الغارق في الظلام الدامس، وذلك عندما أشرقت بيئة الحجاز بمولد النبيّ المبارك «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم وبهذا تهيّأَت المقدّمات اللازمة لنهضة شعب متخلّف طال رزوحُه تحت ظلام الجهل، والتخلّف، وطالت معاناته لمرارة الشقاء. فإنّه لم يمض زمن طويل إلّاوملأ نور هذا الوليد المبارك أرجاء العالم وأسّس حضارة إنسانية عظمى في كلّ المعمورة.

فترةُ الطُفولة في حَياة العُظماء

إنّ جميع الفصول في حياة العظماء جديرةٌ بالتأمّل، وقمينة بالمطالعة، فربّما تبلغ العظمة في شخصية أحدهم من السعة، والسموّ بحيث تشمل جميع فصول حياته بدء من الطفولة، بل وفترة الرضاع فتكون حياته وشخصيته برمّتها سلسلة متواصلة من حلقات العظمة.

إنّ جميع الأدوار، والفترات في حياة العظماء، والنوابغ وقادة المجتمعات

ص:226

البشرية، وروّاد الحضارات الإنسانية وبُناتها تنطوي في الأغلب على نقاط مثيرة وحساسة وعلى مواطن توجب الإعجاب.

إنّ صفحات تاريخهم وحياتهم منذ اللحظة الّتي تنعقد فيها نطفهم في أرحام الأُمّهات، وحتّى آخر لحظة من أعمارهم مليئة بالأسرار، زاخرة بالعجائب.

فنحن كثيراً ما نقرأ عن حياة أُولئك العظماء في أدوار طفولتهم أنّها كانت تقارن سلسلةً من الأُمور العجيبة، والمعجزة.

ولو سهل علينا التصديق بهذا الأمر في شأن الرجال العاديين من عظماء العالم، لكان تصديقنا بأمثالها في شأن الأنبياء والرسل أسهل من ذلك بكثير، وكثير.

إنّ القرآن الكريم ذكر فترة الطفولة في حياة النبيّ موسى عليه السلام في صورة محفوفة بكثير من الأسرار، فهو يقول ما خلاصته: إنّ مئآت من الاطفال قُتِلوا وذُبحوا بأمْر من فرعون ذلك العصر منعاً من ولادة موسى ونشوئه.

ولكنّ إرادة اللّه شاءت أن يُولد الكليم، وظلّت هذه المشيئة تحفظه من كيد الكائدين، ولهذا لم يعجز أعداؤه عن القضاء عليه أو إلحاق الأذى به فحسب، بل تربّى في بيت فرعون أعدى أعدائه.

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: «وَ لَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى * إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» .

ثمّ يقول: «إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ» .(1)

ثمّ إنّ القرآن الكريم يذكر قصّة ولادة المسيح، ويصوّر طفولته

ص:227


1- . طه: 37-40.

ونشأته بشكل أعجب إذ يقول:

«وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا * قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا * قالَتْ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا * قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً مِنّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا * فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا * فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا * فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا * يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا * وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا * وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا» .(1)

فإذا كان أتباع القرآن والتوراة والإنجيل يشهدون بصحّة هذه المطالب حول ولادة هذين النبيين العظيمين من أُولي العزم موسى وعيسى عليهما السلام، ويقرّون بصدقها، فلا يصحّ في هذه الصورة أن نستغرب وقوع أمثالها في شأن رسول الإسلام، ونتعجب من الحوادث العجيبة الّتي سبقت أو رافقت ميلاده المبارك، ونعتبرها

ص:228


1- . مريم: 16-33.

أُموراً سطحية لا تدلّ على شيء.

فنحن نقرأ في الكتب التاريخية وفي كتب الحديث عن وقوع حوادث عجيبة يوم ولادة النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم مثل: ارتجاس(1) أيوان كسرى، وسقوط أربع عشرة شرفة منه، وانخماد نار فارس الّتي كانت تُعبد، وانجفاف بحيرة ساوة، وتساقط الأصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها، وخروج نور معه صلى الله عليه و آله و سلم أضاء مساحة واسعة من الجزيرة، والرؤيا المخيفة الّتي رآها أنوشيروان ومؤبدوه، وولادة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مختوناً مقطوع السُرّة، وهو يقول: «أللّه أكبر، والحمدُ للّه كثيراً، سُبحان اللّه بكرة وأصيلاً».

وقد وردت جميع هذه الأُمور في المصادر التاريخية الأُولى، والجوامع الحديثية المعتبرة.(2)

ومع ملاحظة ما ورد في حقّ موسى وعيسى عليهما السلام ونقلنا بعضه هنا، لا يبقى أيّ مجال للشكّ في صحّة هذه الحوادث.

نعم ينبغي أن نسأل هنا: ماذا كانت تهدف هذه الحوادث غير العادية؟

وفي الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نقول:

إنّ هذه الحوادث الخارقة والعجيبة كانت تهدف إلى أمرين:

الأوّل: أن تدفع بالجبابرة، والوثنيين وعَبدة الأصنام إلى التفكير فيما هم فيه فيسألوا أنفسهم: لماذا انطفأت نيرانُهم الّتي طالما بقيت مشتعلة تحرسها أعيان السَّدنة والكهنة؟

ص:229


1- . ارتجاس البناء أي رجف واضطرب وتحرك حركة يسمع لها صوت. تاج العروس: 8/304، مادة «رجس».
2- . لاحظ: تاريخ اليعقوبي: 2/5؛ بحار الأنوار: 15/248-331؛ تاريخ الطبري: 1/580؛ البداية والنهاية: 2/327؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: 4/60 وغيرها.

لماذا سبّبت هزةٌ خفيفةٌ في ارتجاس إيوان كسرى العظيم المحكم البنيان، ولم يحدث لبيت عجوز في نفس ذلك البلد شيء؟

لماذا تهاوت الأصنامُ المنصوبة في الكعبة وحولها، وانكبَّت على وجوهها بينما بقيت غيرها من الأشياء على حالها لم يصبها شيء أبداً؟

لو كانوا يفكّرون في تلك الحوادث لعرفوا أنّ تلك الحوادث كانت تبشّر بعصر جديد... عصر انتهاء فترة الوثنية وزوال مظاهر السلطة الشيطانية واندحارها؟

الثاني: إنّ هذه الحوادث جاءت لتبرهن على شأن الوليد العظيم، وأنّه ليس وليداً عادياً، فهو كغيره من الأنبياء العظام الذين رافقت مواليدهم أمثال تلك الحوادث العجيبة، والوقائع الغريبة، كما يُخبر بذلك القرآن الكريم عن حياة الأنبياء - كما عرفت - وتحدّثت بها تواريخ الشعوب والأُمم المسيحية واليهودية.

وأساساً لا يلزم أن تكون تلك الحوادث سبباً للعبرة ووسيلة للإتّعاظ يوم وقوعها، بل يكفي أن تقع حادثة في إحدى السنين، ثم يعتبرُ بها الناس بعد أعوام عديدة، وقد كانت حوادثُ الميلاد النبويّ من هذه المقولة، لأنّ الهدف منها كان هو إيجاد هزة في ضمائر أُولئك الناس الذين كانوا قد غرقوا في أوحال الوثنية، والظلم، والانحراف الأخلاقي حتّى قمة رؤوسهم، وعشعشت الجهالة والغفلة في أعماقهم حتّى النخاع.

إنّ الذين عاشوا في عصر الرسالة، أو مَن أتى من بعدهم عندما يسمعون نداء رجل نهض - بكلّ قواه - ضدّ الوثنية، والظلم، ثم يطالعون سوابقه، ويلاحظون إلى جانب ذلك ما وقع ليلة ميلاده من الحوادث العظيمة الّتي تتلاءم مع دعوته، فإنّهم ولا شكّ سيعتبرون تقارن هذين النوعين من الحوادث دليلاً على صحّة دعواه، وصدق مقاله، فيصدِّقونه، وينضوون تحت لوائه.

إنّ وقوع أمثال هذه الحوادث الخوارق عند ميلاد الأنبياء مثل «إبراهيم» و

ص:230

«موسى» و «المسيح» و «محمَّد» (صلّى اللّه عليه وعليهم أجمعين) لا يقلّ أهمّية عن وقوعها في عصر رسالتهم ونبوّتهم، فهي جميعاً تنبع من اللُّطف الإلهي، وتتحقّق لهداية البشرية، وجذبها إلى دعوة سفرائه ورسله.

في أيّ يوم وُلدَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟

لقد اتّفق عامّة كُتّاب السيرة على أنّ ولادة النبيِّ الكريم كانت في عام الفيل سنة 570 ميلادية.

لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم رحل إلى ربه عام (632) ميلادية عن (62) أو (63) عاماً، وعلى هذا الأساس تكون ولادته المباركة قد وقعت في سنة (570) ميلادية تقريباً.

كما أنّ أكثر المحدّثين والمؤرّخين يتّفقون على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم ولدَ في شهر ربيع الأوّل.

إنّما وقع الخلاف في يوم ميلاده، والمشهور بين محدّثي الشيعة أنّه كان يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأوّل بعد طلوع الفجر.

والمشهور بين أهل السنّة أنّه صلى الله عليه و آله و سلم وُلدَ في يوم الاثنين الثاني عشر من ذلك الشهر.(1)

أيُّ القولين هو الصحيح؟

إنّ من المؤسف جدّاً أن يعاني التقويم الدقيق لميلاد رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله و سلم ووفاته، بل مواليد ووفيات أكثر قادتنا وأئمتنا مثل هذا الارتباك، وأن لا تكون أوقاتها وتواريخها محدّدةً معلومة على وجه التحقيق واليقين!.

ص:231


1- . وقد ذكر المقريزي في «الإمتاع»: 3، جميع الأقوال المذكورة في يوم ميلاد النبيّ وشهره وعامه، فراجع.

ولقد تسبّب هذا الارتباك في أن لا تستند أكثر احتفالاتنا ومآتمنا إلى تاريخ قطعيّ، في حين نجد أنّ علماء الإسلام كانوا يهتمّون - عادة - بتسجيل الوقائع الّتي حدثت على مدار القرون الإسلامية في نظم خاص وعناية كبيرة، ولكنّنا لا ندري ما الّذي منع من تسجيل مواليد هذه الشخصيات العظيمة ووفياتهم على نحو دقيق، وصورة قطعية؟!

على أنّ مثل هذه المشكلة يمكن حلّها بدرجة كبيرة بالرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام، فإنّ أي مؤرخ لو أراد أنْ يكتب عن حياة شخصيّة من الشخصيات وأراد أن يُلمّ بكلّ تفاصيلها ودقائقها لم يسمح لنفسه بأن يفعل ذلك من دون أن يراجع أبناء أو أقرباء تلك الشخصية الّتي يزمع ترجمتها والكتابة عنها.

ولقد مضى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخلّف من بعده ذرية وقربى وهم الذين يطلق عليهم أهل البيت.

وأهل بيته يقولون: لو كان صحيحاً وحقّاً أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أبونا وجدّنا، وقد نشأنا في بيته وترعرعنا في حجره فإنّنا نقول إنّه قد ولد يوم كذا وتوفّي يوم كذا، فهل يبقى بعد ذلك مجال لأن نتجاهل قولهم ورأيهم، ونختار ما يقوله الآخرون من الأبعدين، وقديماً قالوا: أهل البيت أدرى بما في البيت؟(1)

فَتْرَةُ الحَمْل

المعروفُ أنّ النورَ النبويَ الشريف استقرّ في رحم آمنة الطاهر في أيام التشريق - وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي

ص:232


1- . ومن هنا لابد من الاعتراف بأنّ ما ينقله ويكتبه الإمامية من تفاصيل تتعلّق بحياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هي أقرب من غيرها إلى الحقيقة لأنّها مأخوذة عن أقربائه وأبنائه عليهم السلام.

الحجة(1) - ولكن هذا الأمر لا ينسجم مع الرأي المشهور بين عامّة المؤرّخين من كون ولادة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في شهر ربيع الأوّل، إذ في هذه الصورة يجب أن نعتبر مدة حمل «آمنة» به صلى الله عليه و آله و سلم إمّا ثلاثة أشهر وإمّا سنة وثلاثة أشهر، وكلا الأمرين خارجان عن الموازين العادّية في الحمل، كما أنّه لم يعدّهُ أحدٌ من خصائص النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.(2)

ولقد عالَج المحققُ الكبير الشهيد الثاني (911-966 ه) هذا الإشكال بالنحو التالي إذ قال:

إنّ إيام التشريق لم تكن ثابتة عند العرب زمن الجاهلية بل كانت تتغير أو تتأخر حسب اختيار العرب الجاهلي من ذلك. وهذا هو المعبّر عنه في القرآن الكريم بالنسيء في قوله تعالى: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللّهُ» (3).(4)

وتوضيح هذا هو أنّ أبناء «إسماعيل» كانوا تبعاً لأسلافهم يؤدّون مناسك الحج في شهر ذي الحجة، ولكنّهم رأوا - في ما بعد - أن يحجّوا في كلّ شهر عامين يعني أن يحجّوا في ذي الحجّة عامين، وفي المحرم عامين، وفي صفر عامين وهكذا.

وهذا يعني أنّ الحج يعود كلّ أربعة وعشرين سنة في موضعه الطبيعي (أي شهر ذي الحجّة).

وقد جرى العربُ المشركونَ على هذه الطريقة حتّى صادفت أيامُ الحج شهر

ص:233


1- . لاحظ: الكافي: 1/439 أبواب التاريخ، باب مولد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ووفاته.
2- . قد ذكر الطريحي فقط في «مجمع البحرين» في مادة «شرق» قولاً بهذا لم يُسم قائله.
3- . التوبة: 37.
4- . الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: 5/433.

ذي الحجّة في السنة العاشرة من الهجرة النبوية فحّج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تلك السنة حجّة الوداع، فنهى في خطبة له عن هذه الفعلة (الّتي تُسمّى بالنسيء بمعنى تأخير الحج عن موضعه وموعده) فقال: «ألا وَإنَّ الزَّمان قد استَدارَ كَهيئتهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّه السَّماواتِ وَالأَرضَ، السَّنة اثنا عشَرَ شَهراً، مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاثٌ مَتوالِياتٌ:

ذوالقعدة، وذوالحجة، والمحرَّم، ورجَب مضر الّذي بَين جمادى وشعبان».(1)

وقد أراد صلى الله عليه و آله و سلم بذلك أنّ الأشهر الحُرم رجَعت إلى مواضعها، وعاد الحجّ إلى ذي الحجة وبَطل النسيء.

ونزل في هذه المناسبة قولُ اللّه تعالى: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً» .(2)

من هنا تنتقل أيامُ التشريق كلّ سنتين من مواضعها، على ما عرفت، وحينئذٍ لا منافاة بين القول بأنّ نور النبيّ انتقل إلى رحم أُمّه «آمنة بنت وهب» في أيام التشريق، وبين ما أجمع عليه عامّة المؤرّخين من أنّه وُلدَ في شهر ربيع الأوّل. وإنّما تكون المنافاة بين هذين الأَمرين إذا كان المراد من أيام التشريق هو اليومُ الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من شهر ذي الحجة خاصّة، ولكن قلنا: إنّ أيام التشريق كانت تنتقل من شهر إلى آخر باستمرار، فيلزم أن يكون عام حمل أُمّه به، وعام ولادته أيام الحجّ الواقعة في شهر جمادى الأُولى، وحيث إنّه صلى الله عليه و آله و سلم وُلدَ في شهر ربيع الأَوّل فتكون مُدّة حَمل «آمنة» به عشرة أشهر تقريباً.(3)

ص:234


1- . مجمع البيان: 5/54.
2- . التوبة: 37.
3- . لاحظ: الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: 5/433-435.

مُؤاخَذاتٌ وإشكالاتٌ عَلى هذا البَيان:

إنّ النتيجة الّتي توصّل إليها المرحومُ «الشهيد الثاني» ليست صحيحة، كما أنّ المعنى الّذي ذكره للنسيء لم يقل به من بين المفسّرين إلّامجاهد، وأمّا الآخرون فقد فسَّروهُ بنحو آخر فلا يكون التفسيرُ الّذي مَرَّ قوّياً، وذلك:

أوّلاً: لأنّ «مكّة» كانت مركزاً لجميع الاجتماعات كما كانت معبداً للعرب جميعاً، ولا يخفى أنَّ تغيير الحجّ في كلّ سنتين مرّةً واحدةً من شأنه أن يسبّب الالتباسَ لدى الناس ويوقعهم في الخطأ والاشتباه، وبالتالي يتعرّض ذلك الاجتماع العظيم، وتلك العبادة الجماعية إلى خطر الزوال.

ولهذا يُستَبعد أن ترضى قريش والمكيّون بأن يخضع ما هو وسيلة لعزّتهم وافتخارهم للتغيير والتبدّل الّذي من عواقبه أن يتعرّض وقته وموعده للنسيان، فيذهب ذلك الإجتماع، ويزول من الأساس.

ثانياً: إذا أخضَعنا ما قاله «الشهيد الثاني» لمحاسبة دقيقة فإنّ كلامه يستلزم أن تكون أيام التشريق والحج في السنة التاسعة من الهجرة واقعة في شهر ذي القعدة لا جمادى الأُولى في حين أنّ أميرالمؤمنين عليّاً عليه السلام كُلِّفَ في هذه السنة بالذات بأن يقرأَ سورة البراءة على المشركين في أيام الحجّ، والمفسّرون والمحدّثون متّفقون على أنّه عليه السلام تلاها عليهم في العاشر من شهر ذي الحجّة ثم أمهلهم أربعة أشهر ابتداء من شهر ذي الحجة لا ذي القعدة.(1)

ثالثاً: أنّ النسيء يعني أنَّ العرب حيث لم يكن لديهم مصدر صحيح للرزق بل كانوا يعيشون في الأغلب، على النهب والغارة لهذا كان من الصعب عليهم ترك

ص:235


1- . ولقد قام العلّامة المجلسي في بحار الأنوار: 15/253 بهذه المحاسبة، وإنْ لم يشر إلى الإشكال الّذي أوردناه، فليراجع.

الحرب، في الأشهر الحرم الثلاث (وهي ذوالقعدة وذوالحجة، والمحرّم) لهذا ربّما طلبوا من سدَنة الكعبة بأن يسمحوا لهم بالقتال في شهر المحرم، ثم يتركون الحرب في شهر صفر، وهذا هو معنى النسيء فلم يكن نسيء وتأخير للشهر الحرام في غير شهر محرَّم، وفي الآية نفسها إشارةٌ إلى هذا المطلب: «يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً» .(1) والّذي نراه في حلّ هذه المشكلة هو: أنّ العرب كانوا يحجُّون في وقتين:

أحدهما شهر ذي الحجة، والثاني شهر رجب، وقد كانوا يؤدُّون كلّ مناسك الحج في هذين الوقتين على السواء، فيمكن أن يكون المقصودُ من حَمْل «آمنة» برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أيام التشريق هو شهر رجب، فإذا اعتبرنا يوم ولادته هو السابع عشر من شهر ربيع الأوّل كانت مدّة حمل «آمنة» به ثمانية أشهر وأياماً.

الإحتفال بذكرى المولد النبوي

ينبغي أن يحتفل المسلمون جميعاً بمولد النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ويقيموا المهرجانات الكبرى في هذه المناسبة الشريفة الّتي كانت مبدأ الخير والبركة، ومنشأ السعادة والكرامة للبشرية جمعاء، وأيّة مناسبة أحرى بالإحتفال والاحتفاء من هذ المناسبة؟

على أنّ إقامة مثل هذه الاحتفالات هو نوع من تكريم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو أمرٌ مطلوب ومحبوب في الشريعة المقدّسة.

فقد قال اللّه تعالى: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .(2)

ص:236


1- . التوبة: 37.
2- . الأعراف: 157.

وعزّر بمعنى فخَّم وعظَّم وأعان ونَصر كما في اللغة(1)، وهو لا يختص بزمان دون زمان، فعلى المسلمين في كل وقت وزمان أن يعظّموا شأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويكرّمونه، سواء في حياته أو بعد مماته، لما له من فضل عظيم على الناس، ولما له من منزلة عنداللّه تعالى.

كيف لا والاحتفال بميلاده لا يعني سوى ذكر أخلاقه العظيمة، وسجاياه النبيلة، والإشادة بشرفه وفضله وهي أُمور مدحه القرآن الكريم بها إذ قال سبحانه:

«وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (2)، وقال تعالى أيضاً: «وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» (3) وغير ذلك من الآيات المادحة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فإنّ الاحتفال بميلاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي يتحقّق بذكر صفاته وأخلاقه والإشادة به خير مصداق لرفع ذكره، الّذي فَعلهُ اللّه بنحوٍ مّا.

ولو كان رفع ذكر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أمراً غير جائز ولا صحيح، بل فعلاً قبيحاً لما فعله اللّه، فيكفي في حسنه وصحّته بل ومشروعيته ومطلوبيته أنّ اللّه تعالى فعله بالنسبة لنبيّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وهل يكون الاحتفال بمولد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وإظهار السرور والشكر للّه تعالى بمقدم نبيه المبارك عبادة للنبيّ كما يزعم البعض إذ يقول:

«الذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم».(4)

والحال أنّ العبادة في مفهومها الاصطلاحي الموجب للشرك والكفر ليس إلّا

ص:237


1- . راجع: لسان العرب: 4/562، مادة «عزر».
2- . القلم: 4.
3- . الشرح: 4.
4- . القائل هو محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنّة المحمدية في هوامشه على كتاب فتح المجيد: 154، ثمّ نقل عن كتاب قرّة العيون ما يشابه هذا المضمون.

الخضوع لمن يُعتَقَدْ بإلوهيته وتعظيمه بهذه النيّة،(1) وأين هذا من ذكر فضائل النبيّ في يوم مولده والابتهاج بمقدمه والشكر للّه على ولادته.

ثم إنّ تعظيم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينطلق من كونه عبداً مطيعاً للّه تعالى، أدّى رسالته بصدق وإخلاص، وجسّد بسلوكه وسيرته كلّ مكارم الأخلاق أصدق تجسيد فالاحتفال بمولده الكريم إحتفال بالقيّم السامية، وشكر للّه على منّه، وإظهار للحب الكامن في النفوس ليس إلّا.

والزعم بأنّه محرّم لكونه بدعة، أو لأنّه لا يخلو عن اشتماله على منكرات ومحرّمات كالرقص والغناء فهو مرفوض، مردود لأنّ الكلام إنّما هو حول أصل الاحتفال مجرّداً عن المحرّمات والمنكرات. إنّ الاحتفاء والاحتفال بمولد خاتم النبيين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما هو تكريم لمن كرّمه اللّه تعالى، وأمر بتكريمه، وحثّ على احترامه وحبّه، ومودّته، وإنّه بالتالي أداء شكر للّه تعالى على تلك الموهبة العظيمة، وتلك العطيّة المباركة حيث مَنّ سبحانه على البشرية عامّة وعلى المسلمين خاصّة بأن شرّف الأرض بمولد عظيم نَعُمت الأرض ببركة شخصيته وخلقه، وأشرقت بنور رسالته ودعوته، فأيّة نعمة تُرى أولى بالشكر من هذه، وأي شكر أجمل وأفضل من الإحتفاء بمولد هذا النبيّ العظيم صلى الله عليه و آله و سلم، وذكر فضائله، ومناقبه، للتعرّف عليها، والاقتداء بها، وتشديد الحب له بسببها، والابتهال إلى اللّه في يوم ميلاده، وطلب التوفيق الإلهي لمتابعته، والسير على نهجه، والدفاع عن رسالته، والذبّ دون دينه، بعد الشكر للّه تعالى على موهبته هذه؟؟

هذا ولقد درج المسلمون في العصور الإسلامية الأُولى على الإحتفال بذكرى المولد النبوّي وأنشدوا القصائد الرائعة في مدحه، وذكر خصاله ومكارم

ص:238


1- . راجع مفاهيم القرآن (في معالم التوحيد): 1/404-440.

أخلاقه، وأظهروا السرور بمولده والشكر للّه تعالى بلطفه، وتفضله به صلى الله عليه و آله و سلم على البشرية.

قال الإمام الدياربكري في تاريخ الخميس في هذا الصدد:

لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السلام ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم.(1)

مَراسمُ تسمية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

حلَّ اليومُ السابعُ من الميلاد المبارك، فعقَّ عبدالمطلب عن النبيّ بكبش شكراً للّه تعالى ودعا جماعة ليشتركوا في الاحتفال الّذي حضرهُ عامّة قريش لتسمية النبيّ، وسمّاه «محمَّداً»، وعندما سألوه عمّا حَمله على أن يُسمّي هذا الوليد المبارك «محمَّداً» وهو اسم لم يعرفه العرب إلّانادراً أجاب قائلاً: أردتُ أن يحمَده اللّه في السماء وتحمده الناس في الأَرض.(2)

وإلى ذلك يشير حسان بن ثابت بقوله:

فَشقَّ لَهُ مِنْ إسُمهِ لِيُجلَّهُ فذو العَرْش مَحْمُودٌ وَ هذا محمَّدُ(3)

ومن المسلّم أنّ هذا الإختيار لم يكن ليتم من دون دخالة للإلهام الالهي، لأَنّ اسم «محمَّد» وإن كان موجوداً عند العرب إلّاأنّه قَلّ مَن كان قد تسمّى بهذا الاسم، فحسب ما استقصاه بعضُ المؤرّخين لم يتسَم به إلى ذلك اليوم من العرب إلّاستة عشر شخصاً كما يقول شاعرهم:

ص:239


1- . تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس: 1/223، نقلاً عن المواهب اللدنية: 1/27، للقسطلاني.
2- . لاحظ: السيرة الحلبية: 1/128.
3- . بحار الأنوار: 120/16؛ السيرة الحلبية: 1/128.

إنَ الذينَ سَمُّوا باسم محمدٍ مِنْ قَبلِ خير الخَلقِ ضِعف ثمان(1)

ولا يخفى أن نُدرة المصاديق لأي لفظ من الالفاظ أو اسم من الأسماء من شأنِها أن تقلّل فرص الاشتباه فيه، وحيث إنّ الكتب السماوية كانت قد أخبرتْ عن اسم النبيّ الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم وصفاته، وعلائمه الرُّوحية والجسمية، لذلك يجب أن تكون علائمُه صلى الله عليه و آله و سلم واضحةً جدّاً جدّاً حتّى لا يتطرّق إليها التباسٌ أو اشتباهٌ، وقد كان من علائمه صلى الله عليه و آله و سلم اسمُه الشريف، فيجب أن تكون مصاديقُها قليلة جدّاً حتّى يزيل ذلك أيّ عروض للشكّ والترديد في تشخيص النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة إذا ضمَّتْ إليه بقية أوصافِه وعلائِمهِ، وخصوصياته.

خَطأ الْمُستَشْرقينْ

لقد ذكر القرآنُ الكريمُ اسمين أو عدّة أسماء للنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

ففي سورة آل عمران ومحمَّد والأحزاب والفتح في الآيات 144 و 2 و 40 و 29 سمّاه «محمَّداً».(2)

وفي سورة الصف الآية 6(3) دعاه «أحمد».

والعلّةُ في تسميّته بهذين الاسمين أنّ أُمّهُ «آمنة» سمّته «أحمداً» قبل أن

ص:240


1- . السيرة الحلبية: 1/134 ثمّ يذكر صاحب السيرة أُولئك الأشخاص في بيتين آخرين.
2- . قال تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ». وقال تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ». وقال سبحانه: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ». وقال عزّوجلّ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ».
3- . إذ قال سبحانه: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ».

يُسمّيه جدّه، كما هو مذكور في التاريخ.

وعلى هذا فإنّ ما ذكرهُ بعضُ المستشرقين - في معرض الاعتراض - بأنّ الإنجيل - حسب تصريح القرآن الكريم في سورة الصف الآية 6 - بشَّر بنبيّ اسمُه «أحمد» لا «محمَّد» كلامٌ لا أساسَ له ولا مبرر، لأنّ القرآن الكريم الّذي سمّى نبيّنا ب «أحمد» سمّاه في عدّة مواضع ب «محمَّد»، فإذا كان المصدر في تعيين اسم النبيّ هو:

القرآن الكريم، فإنّ القرآن سَمّاه بكلا الاسمين، في موضع باسم «محمَّد»، وفي موضع آخر باسم «أحمد».

«أحمد» كانَ مِنْ أسماء النبيّ المشهورة

كلُّ مَن كان له أدنى إلمامٍ بتاريخ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم عَلِمَ أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يُدعى باسمين في الناس منذ صغره أحدهما: «محمَّد» الّذي سَمّاه به جَدُّه «عبدالمطلب»، والآخر «أحمد» الّذي سمّته به أُمّه «آمنة».

وهذه حقيقة من حقائق التاريخ الإسلامي، وقد روى المؤرّخون هذا الأمر، ويمكن للقارئ الكريم أن يقرأه في السيرة الحلبية.(1)

ولقد أنشأ عمُّه «أبوطالب»، الّذي أُنيطَت إليه كفالته بعد وفاة عبدالمطلب، فبقي يقوم بهذه المهمّة طوال اثنين وأربعين عاماً بكل حرص ورغبة، ولم يمتنع في هذا السبيل عن بذل كلّ ما استطاع من غال ورخيص، أنشأ في ابن أخيه أبياتاً سمّاه في بعضها «محمَّد» وفي بعضها الآخر «أحمد»، وهذا يكشف عن أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان معروفاً آنذاك بكلا الاسمين.

وإليك فيما يأتي بعض هذه الأبيات الّتي سَمّى فيها «أبوطالب» النبيّ باسم أحمد:

ص:241


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 1/128، باب تسميته صلى الله عليه و آله و سلم محمد وأحمد.

1. إنْ يكُنْ ما أتى بهِ أحمدُ اليومَ سَناءً وكانَ في الحشر ديناً

2. وقالوا لأحمد أنتَ اْمرؤٌ خَلُوفُ الحديث ضَعيف النُسبْ

3. ألا إنّ أحمدَ قد جاءهم بحقٍ ولم يَأتِهمْ بالكَذِبْ

4. أرادُوا قَتْل أحمد ظالموه وَليس لقتله فيهم زعيم

5. ألا إنَّ خيرَ الناس نفْساً ووالداً إذا عُدَّ ساداتُ البرية أحمدُ

6. فَلسْنا وبيتُ اللّه نسلم أحمداً لِعزّاء من عض الزمان ولا كرب(1)

وقد سمّى «أبوطالب» النبيَ صلى الله عليه و آله و سلم في أبيات أُخرى بأحمد أيضاً قد ذكرها كبار المحقّقين من المؤرّخين والمحدّثين ونسبوها إلى أبي طالب ولكنّها غير موجودة في ديوانه.(2)

ص:242


1- . لاحظ: ديوان أبي طالب عليه السلام؛ إيمان أبي طالب للمفيد: 31؛ مناقب ابن شهرآشوب: 1/58؛ الغدير: 7/332 و 364.
2- . مثل قوله: لَعمري لقد كلِفتُ وَجْداً بأحمد وَأحبَبْتُهُ حُب الحبيب المواصلِ زعمتْ قريشٌ أَن أحمد ساحرٌ كَذِبَتْ وَربّ الراقصاتِ إلى الحَرم راجع ديوان أبي طالب، وسيرة ابن هشام: 1/180؛ وشرح النهج لابن أبي الحديد: 14/79 وغيرها.

كما وأنّه قد سَمّاه غيرُ أبي طالب في أبياته بأحمد ممّا يدلّ على أنّه كان مشتهراً بهذا الاسم في ذلك الزمان، وتلك الأبيات كثيرة تفوق حدّ الحصر والإحصاء لكنّنا ننقل نماذج منها هنا:

قال حسّان بن ثابت في رثائه للنبي صلى الله عليه و آله و سلم:

مفجعةٌ قد شفّها فقدُ أحمد فظلَّت لآلاء الرسول تُعدّدُ

أطالت وقوفاً تذرف العينَ جُهدها على طَلل القبر الّذي فيه أحمدُ(1)

وقال في رثائه أيضاً:

صَلّى الإلهُ وَمنْ يحف بعرشِهِ والطَّيِبُونَ عَلى المبارك أحمدِ(2)

وقال في رثاء جعفر بن أبي طالب الطيّار:

فمن كان أو من قد يكون كأحمد نظام الحق أونكال لملحد(3)

وقال حَسّان وهو يذكر معجزة من معاجز النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

ص:243


1- . سيرة ابن هشام: 2/666-667؛ البداية والنهاية: 5/301.
2- . الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/323.
3- . أُسد الغابة: 2/4؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: 2/149.

ففي كَفِّ أحمدَ قد فجّرت عُيونٌ مِنَ الماءِ يومَ الظمأ(1)

وقال كَعبُ بن مالك:

فهذا نَبِيُّ اللّه أحمدُ سَبّحت صِغارُ الحصى في كَفِّه بالتَرنّم(2)

وقال «ورقة بن نوفل» يومَ أخبرتهُ خديجةُ بنزول الوحي على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

فإنْ يَكُ حَقّاً يا خَديجةُ فاعلمي حَديثك إيّانا فأحمدُ مُرسَلُ (3)

وقالت عاتكةُ بنتُ عَبدالمطلب ترثي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

يا عينُ جُودي ما بقيتِ بعبرة سَحّاً على خير البرية أحمدِ(4)

وقال العباسُ في مناسبة تزويج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بخديجة:

أحمدُ سَيّدُ الوَرى خير ماشٍ وَ راكِب(5)

ص:244


1- . بحار الأنوار: 16/413.
2- . بحار الأنوار: 16/415.
3- . بحار الأنوار: 18/195؛ إمتاع الأسماع: 3/20.
4- . طبقات ابن سعد: 2/326؛ إمتاع الأسماع: 14/598.
5- . بحار الأنوار: 16/72.

فتْرَةُ الرِّضاع في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

لم يرتضع وليدُ قريش المبارك «محمَّد» من أُمّه سوى ثلاثة أيام، ثم حَظِيَت بفخر إرضاعه - بعد ذلك - امرأتانُ هما:

1. «ثويبة» مولاة «أبي لهب»، وقد أرضعته أربعة أشهر فقط، وكان النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم وزوجتُه الوفيّة: «خديجة بنت خويلد» يقدّران هذا العمل لها حتّى آخر لحظات حياتها.(1)

و «ثويبة» هذه كانت قد أرضَعَتْ قبلَ ذلك «حمزة» عمَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و «أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي» أيضاً فكانوا إخوة من الرضاعة.(2)

وقد بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد مَبعثه، مَن يشتريها من «أبي لهب» ليعتقها فأبى.

وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يكرمها كلّما دخلت عليه، وكان يبعث إليها بالصّلة إلى أن بلغه خبرُ وفاتها عند منصرفه من وقعة «خيبر» فسأل عن ابنها؟ فقيل: مات قبلها، فسأل عن قرابتها؟ فقيل: لم يبق منهم أحد.(3)

2. «حليمة السعدية» بنت أبي ذؤيب الّتي كانت من قبيلة سعد بن بكر بن هوازن، وكان أولادها عبارة عن: «عبداللّه»، «أنيسة»، «شيماء»، وقد قامت آخر أولادها وهي «الشيماء» بحضانة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً:

وقد كان من عادة العرب يومذاك هو أن يدفعوا أولادهم الرضعاء إلى المراضع اللائي كُنَّ يَعِشنَ في البوادي لينشأوا في تلك البيئات المعروفة بطيب

ص:245


1- . تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس: 1/222.
2- . الكامل في التاريخ: 1/459.
3- . تاريخ الخميس: 1/222، نقلاً عن سيرة مغلطاي وغيره.

هوائها، وقلّة رطوبتها، وعذوبة مائها ببنية قويّة، هذا مضافاً إلى صيانتهم عن خطر الوباء الّذي كان يهدد الأطفال في «مكّة»، ولأنّ ذلك كان له مدخلٌ عظيم، وتأثيرٌ بليغ في فصاحة المولود لسلامة لغة أهل القبائل الساكنة في البوادي آنذاك.

وكانت مراضعُ بني سعد من المشهورات بهذا الأمر بين العرب، فقد كانت نساء هذه القبيلة الّتي كانت تسكن حوالي «مكّة» ونواحي الحرم يأتين «مكّة» في كل عام في موسم خاص يلتمسنَ الرضَعاء ويذهبن بهم إلى بلادهنَّ حتى تتمّ الرضاعة.

وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد تجاوز شهره الرابع لمّا قدمت نساء من بني سعد «مكّة» يلتمسنَ الرضعاء في سنة جدب وقحط، ولهذا كنَّ بحاجة شديدة إلى مساعدة أشراف «مكّة» وأعيانها.

ويقول بعض المؤرّخين: إنّه لم تقبل أيّة واحدة من تلك المراضع أن تأخذ «محمَّداً» بسبب يتمه، وقد كان أغلبهن يُردْنَ أن يأخذنّ مَن يكون له أبٌ حيٌّ حتى يُغدق عَلَيْهنَّ بالمساعدات والصّلات، وحتّى «حليمة» هي الأُخرى أبتْ أخذَهُ، ولكنَّها أيضاً لم تحصل على طفل لِهزال جسمها، فاضطرّت إلى أن تأخذ حفيد «عبدالمطلب» وقالت لزوجها: واللّه لأذهبنَّ إلى ذلك اليتيم فلآخذنَّه، فقال لها زوجُها: لا عليك أن تفعلي، وعسى اللّه أن يجعل لنا فيه بركة.

ولقد أصاب الزوجان في ظنّهما هذا، فمنذ أن أبدت «حليمة» استعدادها لخدمة ذلك اليتيم شملت الألطاف الإلهية كلّ مجالات حياتها.(1) إنّ القسم الأوّل من هذه القصّة ليس سوى اسطورة، لأنّ مكانة البيت الهاشمي الرفيعة، وشخصية رجل عُرِفَ بِكمال الجود والإحسان، وبعون

ص:246


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/105-106؛ بحار الأنوار: 15/364.

المحتاجين والمحرومين كانت سبباً في أن لا تعرض المرضعات عن أخذ «محمَّد» فحسب، بل يتنازعن على أخذه، ولهذا لا يكون هذا القسمُ مِنَ التاريخ سوى أُسطورة تكذبها الحقائق.

وأمّا علّة عدم إعطائه صلى الله عليه و آله و سلم إلى غير «حليمة» من المرضعات فهي: أنّ وليد قريش لم يقبل أيّ ثدي من أثداء تِلكم المرضعات، ولم يزل كذلك حتّى قبلَ ثدي «حليمة السعدية»، فسرّ بذلك «عبدُالمطلب» وأهله سروراً عظيماً، بعد أن حزنهم امتناعُه عنهنَّ قبل ذلك.(1)

قالت «حليمة»: استقبلني عبدُالمطلب فقال: مَن أنت، فقلت: أنا امرأة من بني سعد، قال: ما اسمُك؟ قلتُ: حليمة، فتبسَّم «عبدالمطلب» وقال: بَخ بَخ سَعدٌ وحلْمٌ، خصلتان فيهما خيرُ الدهر، وعز الأبد.(2)

نَظرةُ الإسلام في تأثير الرضاع

وهنا ينبغي بالمناسبة أن نشير إلى نظرة الإسلام في تأثير الرضاع في شخصيّة الإنسان.

فقد سبق الإسلامُ العلمَ الحديثَ في الكشف عن آثار اللبن في تكوين الإنسان الخُلقي والنفْسيّ والعضوي سَلباً وإيجاباً.

ولهذا حثَّ الإسلام على استرضاع الأُم، كما حثّ على اختيار المرضعات الصالحات ونهى عن استرضاع اليهودية والمجوسية والنصرانية والمجنونة منعاً من انتقال طباعِهنَ إلى الطفل عن طريق اللبن.

ص:247


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 15/342-343.
2- . السيرة الحلبية: 1/147.

واستكمالاً لهذا البحث نورد جملة من الأحاديث الّتي تصرّح بهذه الحقيقة العلمية الهامّة:

1. قال اميرالمؤمنين علي عليه السلام:

«تَخَيّرُوا للرضاع كما تَتَخيَّرون لِلنِّكاح فإنّ الرِّضاعَ يُغيّرُ الطِباعَ».(1)

2. وعنه عليه السلام أيضاً:

«اُنظرُوا مَنْ تُرضعُ أولادكُمْ فَإنّ الوَلَد يَشُبُّ عَليهِ».(2)

3 - عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال:

«لا تَسْتَرضعُوا الحَمقاء فإنّ اللبن يُعدي، وإنّ الغُلامَ يَنزع إلى اللَبن...».(3)

4. وعنه عليه السلام أيضاً:

«استرضعْ لولَدك بِلَبنِ الحِسان وإيّاكَ وَ القِباحُ فإنَّ اللَبنَ قد يُعدي».(4)

5. وعن علي عليه السلام أنّه قال:

«ما مِنْ لَبَن يَرضَعُ به الصَبيُّ أعظمُ بَركَةً عَليْه مِنْ لَبنِ أُمَّهِ».(5)

ص:248


1- . قرب الأسناد: 93 ح 312.
2- . فروع الكافي: 6/3 ح 10، باب مَن يكره لبنه وهو لا يكره.
3- . وسائل الشيعة: ج 21، الباب 78 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 2 (آل البيت).
4- . التهذيب: 8/110 ح 25 (376).
5- . الكافي: 6/40 ح 1، باب الرضاع.

7 فَتْرةُ الطفُولة في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

إنّ صفحات التاريخ تشهد بأنّ حياة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم من بداية طفولته وأوان صباه وإلى يوم بعثه بالرسالة كانت مشحونة بسلسلة من الحوادث العجيبة الّتي تعَدُّ بأجمعها من كراماته صلى الله عليه و آله و سلم وتدلّ على أنّ حياة النبيّ لم تكن حياة عادية.

وينقسم المؤلّفون في تفسير هذه الحوادث إلى طائفتين:

1. الماديُّون، وجماعة من المستشرقين: فإنّ العلماء المادّيين الذين يحصرون الوجود في نطاق المادّة، ويعتبرون جميع الظواهر ظواهر مادّية، وينحتون لكل واحدة منها علّة طبيعية، لا يهتمون بهذه الحوادث ولا يُعيرونها أيّة أهمية، لامتناع واستحالة وقوع أمثال هذه الظواهر حسب النظرة المادّية، ولهذا فكلّ ما يصادفونه في ثنايا التاريخ من هذا الباب يعتبرونه من ولائد الخيال، وممّا نسجته أوهامُ التابعين لذلك الدين، أو الطريقة.

وقد تبعهم في هذا الموقف جماعة من المستشرقين فرغم أنّهم يعتبرون أنفسهم - حسب الظاهر - في عداد الموحِّدين، والمؤمنين باللّه، وبما بعد الطبيعة من عوالم الغيب، إلّاأنّهم - لضعف إيمانهم وبسبب غرورهم العلمي، وغلبة النزعة المادية على أفكارهم وأذهانهم - اتبعوا - لدى تحليلهم لهذه الحوادث - المنهج الماديّ، فنحن نقرأ في كتاباتهم مراراً وتكراراً زعمهم بأنَ النبوة ماهي إلّانبوغٌ بشريٌّ، وأنّ النبيّ مجرّد نابغة اجتماعي استطاع تغيير مسار الحياة البشرية بأفكاره النيَّرة!!

ولا شكّ أنّ مثل هذا التصوّر ينبع من طريقة التفكير المادّي الّذي يعتبر

ص:249

جميع الأديان من ولائد الفكر البشري وإفرازات الذهن الإنساني، في حين أنّ علماء العقيدة أثبتوا في: مباحث «النبوَّة العامة» أنَّ النبوّة عطية إلهية، وموهبة ربّانية هي في الحقيقة منشأ جميع الإلهامات والارتباطات المعنوية، ومصدر لمناهج الأنبياء وبرامجهم، ليست أبداً وليدة نبوغهم الإنساني، ولا نسيجة فكرهم البشري، وليس لها مصدر إلّاالإلهام من الغيب، ولكن عندما ينظر المستشرقُ المسيحي إلى هذه القضايا من زاوية الفكر المادّي ويريد تفسير جميع هذه الظواهر بالأُسس العلمية الّتي كشفت عنها التجربةُ ينتقد مثل هذه الحوادث ذات الطابع الإعجازي، وربّما أنكرها من الأساس.

2. المؤمنون باللّه: الذين يعتقدون بأنّ العالم المادّي بجميع خصوصياته وخواصّه يخضع لتدبير عالم آخر، وأنّ ذلك العالم (أي عالم التجرّد وماوراء الطبيعة) هو المنظِم لهذه الطبيعة، وهو المدّبِر لهذا الكون المادّي.

وبعبارة أُخرى: إنّ عالم المادّة ليس عالماً مسيِّباً، مستقلّاً عن غيره، وإنّ جميع الأنظمة والقوانين الطبيعية والعلمية مسبَّبةٌ عن تأثيرات موجودات عُليا، وبخاصّة ناشئةٌ عن إرادة اللّه الخالقِ، الّذي أعطى للمادّة وجودها، وأوجد القوانين والعلاقات الصحيحة بين أجزائها، وبنى بقاءها على سلسلة من النواميس الطبيعية.

إنَ هذا الفريق من الناس مع احترامهم للقوانين العلمية، وإذعانهم الصادق بما قاله العلماء في صعيد العلاقات، والروابط القائمة بين القوانين ممّا أثبته العلم وأكّده، يعتقدون بأنّ مثل هذه القوانين الطبيعية ليست أُموراً لا تقبل التغيير، والتبدّل.

فهم يعتقدون بأنّ العالم الأعلى يمكنه - إذا أراد - أن يُغيّر تلك القوانين لغايات خاصّة، وليس في مقدوره ذلك فقط، بل فعلَ ذلك في جملة من الموارد لأهداف عُليا.

وبعبارة أُخرى: إنَّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل، بل

ص:250

إنَّ علّتها غير طبيعيّة، وافتقاد العلّة الطبيعية (وخاصّة العلة الطبيعية غير المعروفة) ليس دليلاً على افتقاد مطلق العلّة.

والخلاصة؛ إنّ قوانين الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدُّلها، وتغيّرها بإرادة بارئها وخالقها.

إنّهم يقولون: إنَّ جميع خوارق العادة، وجميع أفعال الأنبياء العجيبة الّتي تتّصف بصفة الإعجاز، والخارجة عن إطار القوانين الطبيعية، تتحقّق من هذه الزاوية.

إنَّ هذا الفريق من الناس لا يسمَحُون لأنفسهم بأن يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة، والكرامات الّتي جاء ذكرها في القرآن الكريم، والأحاديث، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة المعتبرة، أو يشكّوا فيها بحجّة أنّها لا توافق الموازين الطبيعية، والقوانين العلمية.

وها نحن نشير إلى قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومع أخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أيُّ مجال للترديد، أو الاستبعاد:

1. لقد نقَلَ المؤرّخون عن «حليمة السعدية» قولها بأنّها لمّا تكفَّلت إرضاع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أرادت أن ترضعه، فلمّا دخلت الدار وسمع عبدالمطلب بمجيئها جاء من ساعته ودخل الدار، ووقف بين يدي حليمة، ففتحت حليمة جيبها وأخرجت ثديها الأيسر، وأخذت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فوضعته في حجرها، ووضعت ثديها في فمه، والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ترك ثديها الأيسر، واضطرب إلى ثديها الأيمن، فأخذت «حليمة» ثديها الأيمن من يد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ووضعت ثديها الأيسر في فمه، وذلك أنَّ ثديها الأيمن كان جهاماً (أي خالياً من اللبن ولم يكن يدرُّ به) لم يكن فيه لبن، وخافت (حليمة) أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذا مصَّ الثدي ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ - بعده - الأيسر.

ولكن النبيّ أصرَّ على أخذ الثدي الأيمن، فلمّا مصَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الأيمن امتلأ فانفتح

ص:251

حتّى ملأ شدقيه بأمر اللّه تعالى وببركته....(1)

2. وتقول «حليمة» أيضاً: إنّ البوادي أجدبت وحملنا الجُهد على دخول البلد، فدخلتُ مكّة ونساء بني سعد قد سبقن إلى مراضعهنّ... فأخذتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فعرفنا (به) البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتّى أثرينا، وكثرت مواشينا، وأموالنا.(2)

إنَّ مَن المسلم أنَّ حكم المادّيين، أومن يحذو حذوهم ويتّبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه.

فإنّ أتباع المنهج المادّي إذ عجزوا عن تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية، نجدهم يبادرون إلى اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال، ومن ولائد الأوهام، وأمّا إذا كانوا أكثر تأدّباً لقالوا: إنّ رسول الإسلام ليس بحاجة إلى أمثال هذه المعاجز.

ونحن نقول: لا نقاش في أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم غنيّ عن هذه المعاجز، إلّاأنّ عدم الحاجة شيء، والحكم بصحّة هذه الأُمور أوبطلانها شيء آخر.

وأمّا المؤمن باللّه الّذي يردُّ النظام الطبيعي، إلى مشيئة اللّه خالق الكون وإرادته العليا، ويعتقد بأنّ كلّ الحركات والظواهر في العالم الطبيعي من أصغر أجزائه (الذرة) إلى أكبر موجوداته (المجرّة) يجري تحت تدبيره، ونظارته، فإنّه بعد التحقّق من مصادر هذه الحوادث والتأكّد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام، وأمّا إذا لم يطمئن إليها لم يرفضها رفضاً قاطعاً.

ولقد ورد في القرآن الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول «مريم» أُمّ عيسى، فالقرآن يخبرنا عن تساقط الرطب الجَنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة

ص:252


1- . بحار الأنوار: 15/345-346 بتصرّف يسير.
2- . المناقب لابن شهرآشوب: 1/32؛ بحار الأنوار: 15/332-333.

المسيح عندما لجأت إليه مريم عند المخاض إذ يقول:

«... أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا» .(1)

إنّه وإن كان الفرق بين «مريم» و «حليمة» شاسعاً وكبيراً من حيث الملكات الفاضلة والمكانة، والمنزلة، إلّاأنّ منزلة «مريم» عليها السلام لو استوجبت مثل هذا اللطف الإلهي، ففي المقام استوجب نفسُ مقام الوليد العظيم، ومكانته عنداللّه تعالى أن تشمله العناية الإلهية.

كما أنّه قد جاء في القرآن الكريم حول مريم عليها السلام أُمور أُخرى مشابهة.

إنّ عصمة هذه المرأة الطاهرة، وتقاها وطهرها البالغ كانت بحيث أنّ «زكريا» كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً، فإذا سألها: مِن أينَ لكِ هذا؟ قالت: هو مِنْ عِنداللّه؟(2).

وَ على هذا الأساس يجب أن لا نتردَّد ولا نسمح لأنفسنا بأن نشكّ في مثل هذه الكرامات، أو نستبعدها.

خَمسَةُ أعوام في الصَحْراء

أمضى وليدُ «عبدالمطلب» في قبيلة «بني سعد» مدّة خمسة أعوام، بلغ فيها أشُدّه.

وخلالَ هذه المدّة أخذته «حليمة» إلى أُمّه مرّتين أو ثلاث، وقد سلّمته إلى أُمّه في آخر مرّة.

وكانت المرّة الأُولى من تلك المرّات عند فطامه، ولهذا السبب أتت به صلى الله عليه و آله و سلم

ص:253


1- . مريم: 24 و 25.
2- . «... وَ كَفَّلها زكريّا كُلَّما دَخلَ عَلَيْها زكَريّا المِحْرابَ وَجدَ عِنْدها رزْقاً قال يا مَريَمُ أنّى لَكِ هذا قالَتْ هُو مِنْ عِنْداللّه» (آل عمران: 37).

«حليمة» إلى مكّة ولكنّها عادت به إلى الصحراء بإصرار منها، وكان السبب وراء هذا الإصرار على اصطحابه معها إلى البادية هو أنّ هذا الوليد قد أصبح مبعث خير ورخاء، وبركة في منطقتها، وقد دفع شيوعُ الوباء في «مكّة» إلى أن تقبل أُمُّه الكريمة بهذا الطلب.(1)

وأمّا المرّةُ الثانيةُ من تلك المرّات فكانت عندما قدم جماعة من نصارى الحبشة إلى الحجاز، فوقع نظرهم على محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم في «بني سعد»، ووجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي الّذي سيأتي بعد عيسى المسيح عليه السلام، ولهذا عزموا على أخذه غيلة إلى بلادهم لما عرفوا أنّ له شأناً عظيماً، لينالوا شرف احتضانه ويذهبوا بفخره.(2)

ولا مجال لاستبعاد هذه القضية لأنّ علائم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ذُكِرَت في الإنجيل حسب تصريح القرآن الكريم، فلا يبعد أنّ علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من العلائم الّتي قرأوها ودرسوها في كتبهم.

يقول القرآن الكريم في هذا المجال:

«وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» .(3) ثمّ إنّ في هذا الصعيد آياتٌ أُخر صرَّحت بجلاء بأنّ علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح، ومن غير إبهام، وأنّ الأُمم السابقة كانت على علم بهذا الأمر.(4)

ص:254


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 401/15.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 108/1.
3- . الصف: 6.
4- . اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ» (الأعراف: 157).

8 العَوْدة إلى أحضان العائلة

اشارة

لقد خَلقَت يدُ القدرة الإلهية كلّ فرد من أفراد النوع الإنساني لأمر معيّن، فهناك من خلق لاكتساب العلم والمعرفة، وهناك من خُلقَ للاختراع والاكتشاف، وثالثٌ خلق للسعي والعمل، وبعض للتدبير والسياسة، وفريق للتدريس والتربية، وهكذا.

وإنّ المربِّين المخلصين الذين يهمّهم تقدم الأَفراد أو رقيّ مجتمعهم لا يعمدون إلى نَصب أحد في عمل من الأعمال ولا يعهدون إليه مسؤولية من المسؤوليات إلّابعد اختبار سليقته ومواهبه، بغية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، إذ في غير هذه الحالة يتعرِّض المجتمع لضررين كبيرين: أحدهما: أن لا يوكل إلى الفرد ما يستطيع القيام به، والثاني: أن يبقى العمل الّذي قام به ناقصاً، مبتوراً.

وقد قيل في المثل: لكلّ إنسان موهبة، والسعيد هو مَن اكتشف تلكم المواهب، وأصابها.

وقد ذكروا أنّ أُستاذاً كان ينصح تلميذاً له كسولاً، ويعدّد له مضارَّ الكسل والتواني، ويصف له حال من ترك الاشتغال بالعلم، وضيّع ربيع حياته في البطالة والغفلة.

وبينما الأُستاذ ينصح تلميذه - وهو يسمع مواعظ أُستاذه - رأى تلميذه يرسم بقطعة من الجص صورة على المنضدة، فأدرك من فوره أنّ هذا الصبيّ لم يُخلق

ص:255

للدرس وتحصيل العلم، بل خلقته يد القدرة للرسم، فطلب منه أن يصطحب أباه إلى المدرسة في اليوم القادم، ثم قال لوالد الصبيّ: إذا كان ولدك هذا كسولاً في التعلّم، والتحصيل فإنّه يمتلك ذوقاً رفيعاً في الرسم، ورغبة كبيرة في التصوير.

وقبل الوالد نصيحة المعلّم هذه ولم يمض زمانٌ طويل إلّاوبرع الصبي وغدا قمة في هذا الفن، بعد أن تابع هوايته بشغف وأكثر من ممارستها.

إنّ فترة الطفولة والصبا في حياة الأشخاص خير فرصة لأولياء الأطفال بأن يختبروا مواهب أبنائهم، ويتعرّفوا عليها من خلال تصرّفاتهم، وأفكارهم وردودهم، لأنّ حركات الطفل وأقواله الجميلة والحلوة خير مرآة لما ينطوي عليه من مواهب وقابليات وصفات لوتوفرت لها ظروف التربية الصحيحة لأمكن الاستفادة منها على أفضل صورة، وأحسن وجه.

إنّ مطالعة فاحصة لحياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأقواله وأفعاله إلى وقت البعثة تُوقفنا على صورة كاملة لشخصيته صلى الله عليه و آله و سلم وتوضح لنا أهدافه العليا، على أنّ مطالعة صفحات الطفولة في حياته صلى الله عليه و آله و سلم فقط لا تكشف لنا عن مستقبله المشرق، بل أنّ دراسة الصورة الإجمالية لحياته وتاريخه إلى يوم مبعثه الشريف، وإعلانه عن نبوَّته وقيادته للمجتمع، تخبرنا عن ذلك المستقبل العظيم، وبالتالي عن هذه الحقيقة وهي أنّ هذه الشخصية خُلِقَت لأيّ عمل، وأن إدعاء الرسالة والقيادة له هل ينسجمُ مع سوابقه التاريخية أم لا؟ هل تُؤيّد تفاصيلُ حياتِه خلال أربعين سنة قبل الرسالة، وهل تؤيّد أفعالُه وأقوالُه، وبالتالي: سلوكه مع الناس ومعاشرته الطويلة مع الآخرين، رسالته أم لا؟

من هنا نعمدُ إلى عرض بعض الصفحات من حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أيّامها وسنواتها الأُولى.

ص:256

لقد حافظت مرضعةُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عليه خمس سنوات، وقامت في هذه المدّة برعاية شؤونه خير قيام، وبالغت في كفالته والعناية به، وخلال هذه المدّة تعلّم النبيّ لغة العرب على أحسن ما يكون، حتّى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يفتخر بذلك في ما بعد إذ كان يقول:

«أنا أعربكُمْ (أي أفصحكم)... واسترضعت في بني سعد».(1)

ثم إنّ «حليمة» جاءت به إلى «مكّة»، وبقي عند أُمّه الحنون ردحاً من الزمن، وفي كفالة جده العظيم: «عبدالمطلب» ردحاً آخر منه، وكان هو السلوة الوحيدة لأقاربه والبقية الباقية من أبيه: «عبداللّه».(2)

سَفْرةٌ إلى يثرب

منذ أن فقَدت كَنّة «عبدالمطلب» وعروس ابنه: «آمنة» زوجها الشاب الكريم:

«عبداللّه» باتت تترقب الفرص لتذهب إلى «يثرب» وتزور قبر زوجها الحبيب الفقيد عن كثب، وتزور أقاربها في يثرب في نفس الوقت.

وذات مرّة فكَّرت بأنّ تلك الفرصة قد سنحت، وأنّ ولدها «محمَّداً» قد كبُر، ويمكنه أن يشاركها في حزنها، فتهيّأت هي وأُمّ أيمن للسفر، واتّجهت نحو يثرب برفقه «محمَّد»، ولبثت هناك شهراً.

ولقد انطوت (وبالأحرى حملت) هذه السفرة على بعض الآلام الروحية لوليد قريش «محمّد» لأنه صلى الله عليه و آله و سلم رأى فيها ولأوّل مرّة البيت الّذي توفّي فيه والده

ص:257


1- . السيرة الحلبية: 1/146.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/109.

العزيز، ودفن(1) وكانت والدته قد حدَّثته بأُمور عن والده إلى ذلك الحين.

وكانت لا تزال سحابةُ الحزن تخيّم على روحه الشريفة إذ فوجئ بحادثة مقرحة أُخرى، وغشيه موج آخر من الحزن لأنّه عند عودته إلى مكّة فقد أُمّه العزيزة في أثناء الطريق في منطقة تُدعى ب «الأبواء».(2)

إنَ هذه الحادثة قد عزَّزتْ مكانة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم في عشيرته أكثر فأكثر، وجعلته يتمتع بمحبّة أزيد منهم، فهو الزهرة الوحيدة من تلك الجنينة المباركة، كما أنّه صار منذ ذلك الحين يتمتع بعناية أكبر من قبل جدّه «عبدالمطلب» ولهذا كان يحبُّه أكثر من أبنائه، بل ويؤثره عليهم جميعاً.

ومن ذلك أنّه كان يُمدُّ في فناء الكعبة المعظمة بساطٌ لزعيم قريش «عبدالمطلب» فيجلس هو عليه ويتحلَّقُ حوله وجوهُ قريش وسادتها وأولادُه، فإذا وقَعت عيناه على بقية عبداللّه «محمَّد» أمر بأن يُفرَّجَ له حتّى يتقدّم نحوه ثم يُجلِسُه إلى جنبه على ذلك البساط المخصوص به.(3)

إنّ القرآن الكريم يُذكّر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بفترة يتمه ويقول: «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى» .(4) إن الحكمة وراء يُتم وليد قريش ليست واضحة لنا تمام الوضوح، ولكنّنا نعلم إجمالاً بأنّ سيل هذه الحوادث المؤلمة أحياناً، والمزعجة أحياناً أُخرى لم يك خالياً عن حكمة معقولة ومصلحة رشيدة، بيد أنّنا مع كلّ هذا يمكن لنا الحدس بأنّ

ص:258


1- . كان البيت الّذي يضمّ قبر «عبداللّه» عليه السّلام لا يزال موجوداً حتّى قُبيل توسعة الدائرة حول المسجد النبوي الطاهر، ولكنه أُزيل بحجّة إيجاد تلك التوسعة.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/109؛ السيرة الحلبية: 3/497.
3- . السيرة النبوية: 1/109.
4- . الضحى: 6.

اللّه تعالى أراد أن يذوق قائد العالم البشري ومعلّمه، وإمام الإنسانية وهاديها - وقبل أن يتسلّم مهامه، ويزاول مسؤولياته العظمى ويبدأ قيادته - حُلو الحياة ومرَّها، ويجرِّب سرّاء العيش وضرّاءه، حتّى تتهيَّأ لديه تلك الروحُ الكبرى الصبورة الصامدة، ويدّخر من تلك الحوادث الصعبة تجارب ودروساً، ويعدّ نفسه لمواجهة مسلسل الشدائد والمصاعب، والمشاق والمتاعب الّتي كانت تنتظره في المستقبل.

و ربّما أراد اللّه تعالى أن لا تكون في عنق نبيِّه طاعة لأحد، ولهذا أنشأه حرّاً خليّاً من كلّ قيدٍ، منذ الأيام الأُولى من حياته، يصنع نفسَه بنفسِه ويقيّض لها موجبات الرشد، وأسباب الرقيّ ليتّضح أنّ نبوغَهُ ليس نبوغاً بشريّاً عادياً ومألوفاً، وأنّه لم يكن لوالديه أي دخل فيه وفي مصيره، وبالتالي فإنّ عظمته الباهرة نابعةٌ من مصدر الوحي، وليست من العوامل العادية والأسباب المأنوسة المتعارفة.

وَفاة عبْدالمُطَّلب

لقد جرت عادة الحياة أن تتعرّض للمرء باستمرار، وتستهدف سفينة حياته كالأمواج المتلاحقة مُوجِّهة ضرباتها القوية لروحه، ونفسه.

أجل هذه هي طبيعة الحياة وسنّتها مع أفراد النوع الإنساني من دون استثناء.

ولم يكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمعزل عن هذه السنّة المعروفة وهذه القاعدة الحياتية العامّة.

فلم تكن أمواج الحزن تفارق قلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لوفاة والديه بعد حتّى فاجأته مصيبة كبرى أُخرى.

إنّه لم يكن يمض من عمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أكثر من ثمان سنوات إلا وفقد جدّه العظيم «عبدالمطلب»، وقد اعتصَرت وفاة «عبدالمطلب» قلب رسول اللّه ألماً وحزناً، وكان لها وقعٌ شديدٌ على نفسه المباركة، حتّى أنّه بكى لفقده بكاء شديداً

ص:259

وظلّت دموعُه تجري من أجله إلى أن وري في لحده، ولم ينس ذكره أبداً!!.(1)

كفالة أبي طالب للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

سيكون لنا حديثٌ مفصَّل حول شخصيّة أبي طالب في فصل خاص(2)وسنثبت هناك إيمانه برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالوثائق والأدلّة القاطعة، ولكنَّ من المناسب الآن أن نستعرض بعض الحوادث المرتبطة بفترة كفالته للنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

لقد تكَفَّل أبوطالب - ولأَسباب خاصّة - رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وتقبّل تحمُّل هذه المسؤولية بفخر واعتزاز، ولأنّ أباطالب - مضافاً إلى العلل المشار إليها - كان أخاً لوالد النبيّ من أُمٍّ واحدة أيضاً،(3) كما أنّه كانَ معروفاً بجوده وكرمه، ومن هنا أوكَل «عبدالمطلب» أمر كفالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حفيده، إليه، وسوف نقصّ عليك تدريجاً سطوراً ذهبية من تاريخه، تمثّل شاهد صدق على خدماته القيّمة، وأياديه الجليلة. يقولون: إنّ النبيّ شارك وهو في العاشرة من عمره جنباً إلى جنب مع عمّه في حرب من الحروب،(4) وحيث إنّ هذه الحرب وقعت في الأشهر الحُرم لذلك سُمّيت بحرب «الفجار» وقد وردت تفاصيل حروب «الفجار» في التاريخ بشكل مسهَب.

ص:260


1- . كتب اليعقوبي في تاريخه: 2/10 و 11 حول سيرة عبدالمطلب، وأنّه كان موحِّداً لاوثنياً، وذكر أنّ الإسلام أمضى الكثير من سننه.
2- . في حوادث السنة العاشرة.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/71 و 116، وأُمّهما هي فاطمة المخزومية.
4- . لقد كتب اليعقوبي في تاريخه: 2/15، طبعة النجف، أنّ أبا طالب لم يشترك في هذه الحرب قط، كما لم يسمح لبني هاشم بالمشاركة فيها أيضاً، لأنه كان ظلماً وعدواناً وقطيعة رحم واستحلالاً للشهر الحرام.

سَفرةٌ إلى الشام

لقد جرت العادة أن يسافر تجّار قريش إلى الشام كلّ سنة مرّة واحدة.

فعزم «أبوطالب» على أن يشارك في رحلة قريش السنوية هذه ذات مرّة، وعالج مشكلة ابن أخيه «محمَّد» الّذي ما كان يقدر على مفارقته بأنّه قرّر أن يتركه في مكّة في حراسة جماعة من الرجال، ولكنّه ساعة الرحيل واجه من ابن أخيه العزيز ما غيّر بسببه قراره المذكور، فقد شاهد «محمَّداً» وقد اغرورقت عيناه بالدموع لفراق كفيله الحميم «أبي طالب»، فأحدثت ملامح «محمَّد» الكئيبة طوفاناً من المشاعر العاطفية في قلب «أبي طالب» بحيث اضطرته إلى أن يرضى بمشقّة اصطحاب «محمَّد» في تلك الرحلة.(1)

لقد كانت سفرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هذه الّتي قام بها بصحبة عمّه وكافله «أبي طالب» في الثانية عشرة من عمره، من أجمل وأطرف أسفاره صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم عَبر فيها على: «مَديَن» و «وادي القرى» و «ديار ثمود» واطّلع على مشاهد الشام الطبيعية الجميلة.

ولم تكن قافلة قريش التجارية قد وَصلت إلى مقصدها حتّى حدثت في

ص:261


1- . ويذكر «أبوطالب» في أبيات له قصّة هذه السفرة وما جرى فيها من البدء إلى الختام نقتطف منها بعض الأبيات: إنَّ ابنَ آمِنة النبيّ محمَّداً عِندي يفوقُ منازل الأولاد لما تعَلّق بالزمام رحمتُه والعيسُ قد قلَّصْنَ بالأزواد فَارفضَّ من عينيّ دمع ذارفٌ مثل الجمان مُفرّق الأفراد راعيتُ فيه قرابة موصولة وحفَظت فيه وصية الأجداد وأمرتُه بالسير بين عمومة بيض الوجوه مصالت أنجاد حتّى إذا ما القومُ بُصرى عاينوا لاقوا على شرك من المرصاد حبراً فاخبرهم حديثاً صادقاً عنه وردّ معاشر الحُسّاد (تاريخ ابن عساكر: 3/12-13؛ وديوان أبي طالب: 33-35).

منطقة تُدعى «بصرى» قضية غيرت برنامج «أبي طالب» وتسببت في عدوله عن المضيّ به في تلك الرحلة والقفول إلى مكّة.

وإليك فيما يلي مجمل هذه القضية:

كان يسكن في «بصرى» من نواحي الشام راهبٌ مسيحي يدعى «بحيرا» يتعبّد في صومعته، يحترمه النصارى في تلك الديار.

وكانت القوافل التجارية إذا مرّت على صومعته توقّفت عندها بعض الوقت وتبرّكت بالحضور عنده.

وقد اتّفق أن التقى هذا الراهبُ قافلة قريش الّتي كان فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلفت نظره شخصيةُ «محمَّد»، وراح يحدق في ملامحه، وكانت نظراته هذه تحمل سراً عميقاً ينطوي عليه قلبه منذ زمن بعيد وبعد دقائق من النظرات الفاحصة، والتحديق في وجه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خرج عن صمته وانبرى سائلاً: أُنشدكم باللّه أيّكم وليّه؟

فأشار جماعة منهم إلى «أبي طالب» وقالوا: هذا وليّه.

فقال «أبوطالب»: إنّه ابن أخي، سلني عمّا بدا لك.

فقال «بحيرا»: إنّه كائن لابن أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ، نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا، هذا سيّدُ العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه رحمة للعالمين. إحذرْ عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليقصدنَّ قتلَه.(1) هذا وقد اتّفق أكثر المؤرّخين على أنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يتعدَّ تلك المنطقة، وليس من الواضح أنّ عمّه «أبا طالب» بعثه إلى مكّة مع أحد، (ويُستَبعد أن يكون عمُّه قد رضي بمفارقته منذ أن سمع تلك التحذيرات من الراهب بحيرا)، أم أنّه

ص:262


1- . روى الطبري في تاريخه: 2/32 و 33؛ وابن هشام في سيرته: 1/116-119، هذه القصّة بتفصيل أكبر وقد اختصرناها هنا تمشياً مع حجم هذا الكتاب.

اصطحبه بنفسه إلى مكّة، وانثنى عن مواصلة سفره إلى الشام.(1)

وربّما قيل إنّه تابع - بحذر شديد - سفرَهُ إلى الشام مع ابن أخيه «محمَّد».

أكذُوبَةُ المُسْتشرقيْن

لقد آلينا على أنفسنا في هذا الكتاب أن نشير إلى أخطاء المستشرقين بل وربّما أكاذيبهم، واتّهاماتهم الباطلة، وشُبههُم الواهية ليتّضح للقرّاء الكرام الى أي مدى يحاول هذا الفريق إرباك أَذهان البُسطاء من الناس، وبلبلة عقولهم حول قضايا الإسلام!!

إنّ قضية اللقاء الّذي تمّ - في بصرى - بين النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والراهب «بحيرا» لم تكن سوى قضية بسيطة، وحادثة عابرة وقصيرة، إلّاأنّها وقعت في ما بعد ذريعة بأيدي هذه الزمرة (المستشرقون) فراحوا يصرّون أشدّ إصرار على أنّ ما أظهره رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من تعاليم رفيعة سامية بعد 28 عاماً، واستطاع أن يُحيي بها تلك الأُمة الميّتة قد تلقّاها من الراهب «بحيرا» في هذه السفرة. ويقولون: إنّ «محمَّداً» بما تمتع به من قوّة ذاكرة، وصفاء نفس ودقّة فكر، وعظمة روح وهبته إيّاها يد القدر، أخذ من الراهب «بحيرا» في لقائه به، قصص الأنبياء السالفين والأقوام البائدة مثل عاد وثمود، وكثيراً من تعاليمه الحيوية.

ولا ريب في أنّ هذا الكلام ليس سوى تصوّر خيالي لا يتلاءم ولا ينسجم مع حياته صلى الله عليه و آله و سلم بل وتكذّبه الموازين العقلية، واليك بعض الشواهد على هذا:

1. لقد كان «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم بإجماع المؤرّخين أُميّاً، لم يتعلّم القراءة والكتابة، وكان عند سفره إلى الشام، ولقائه ب «بحيرا» لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر بعد، فهل يصدق العقل - والحال هذه - أن يستطيع صبيٌ لم يدرس ولم يتعلّم القراءة والكتابة

ص:263


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/118 و 119.

ولم يتجاوز ربيعه الثاني عشر أن يستوعب تلك الحقائق من «التوراة» و «الإنجيل»، ثم يعرضها - في سن الأربعين - على الناس بعنوان الوحي الإلهيّ والشريعة السماوية؟!

إنّ مثل هذا الأمر خارج عن الموازين العادية، بل ربّما يكون من الأُمور المستحيلة لو أخذنا بنظر الاعتبار حجم الإستعداد البشري.

2. إنّ مدّة هذا اللقاء كان أقل بكثير من أن يستطيع محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم في مثل تلك الفترة الزمنية القصيرة أن يستوعب «التوراة» و «الانجيل»، لأنّ هذه الرحلة كانت رحلة تجارية ولم يستغرق الذهاب وإلاياب والإقامة أكثر من أربعة أشهر، لأنّ قريشاً كانت تقوم في كل سنة برحلتين، في الصيف إلى «الشام»، وفي الشتاء إلى «اليمن»، ومع هذا لا يُظنّ أن تكون الرحلة برّمتها قد استغرقت أكثر من أربعة أشهر، ولا يستطيع أكبر علماء العالم وأذكاهم من أن يستوعب في مثل هذه المدّة القصيرة جدّاً محتويات ذينك الكتابين، فضلاً عن صبيّ لم يدرس، ولم يتعلّم القراءة والكتابة من أحد.

هذا مضافاً إلى أنّه لم يكن صلى الله عليه و آله و سلم مصاحباً لذلك الراهب كلّ تلك الأشهر الأربعة بل أنّ اللقاء الّذي وقع إتفاقاً في أحد منازل الطريق لم يستغرق سوى عدة ساعات لا أكثر.

3. إنّ النَص التاريخي يشهد بأنّ «أباطالب» كان ينوي اصطحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى الشام، ولم يكن مقصده الأصلي «بُصرى» بل إنّ «بُصرى» كان منزلاً في أثناء الطريق تستريح عنده القوافل التجارية أحياناً، ولفترة قصيرة جدّاً.

فكيف يمكن في مثل هذه الصورة أن يمكث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك المنطقة، ويشتغل بتحصيل علوم «التوراة» و «الإنجيل» ومعارفهما؟ سواء قلنا بأنّ

ص:264

«أباطالب» أخذه معه إلى الشام، أو عاد به من تلك المنطقة إلى مكّة أو أعاده بصحبة أحدٍ إلى مكّة؟!

وعلى كلّ حال فإنّ مقصد القافلة ومقصد «أبي طالب» لم يكن «بُصرى» ليقال: إنّ القافلة اشتغلت فيها بتجارتها، بينما اغتنم «محمَّد» الفرصة واشتغل بتحصيل معارف العهدين.

4. إذا كان محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم قد تلقّى أُموراً ومعارف من الراهب المذكور إذن لاشتهر ذلك بين قريش حتماً، ولتناقل الجميع خبر ذلك بعد العودة إلى مكّة.

هذا مضافاً إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نفسه ما كان يستطيع أن يدّعي أمام قومه في ما بعد بأنّه أُمّي لم يدرس كتاباً، ولا تلمذ على أحد، في حين أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم افتتح رسالته بهذا العنوان، ولم يقل أحدٌ، يا محمَّد كيف تدّعي بأنّك لم تقرأ ولم تدرس عند أحد وقد درست عند راهب «بصرى» وتلقّيت منه هذه الحقائق الناصعة وأنت في الثانية عشرة من عمرك؟

لقد وَجَّه مشركو مكّة جميع أنواع الإتّهام إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وبالغوا في البحث عن أيّة نقطة ضعف في قرآنه يمكن أن يتذرّعوا بها لتفنيد دعوته، حتّى أنّهم عندما شاهدوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ذات مرّةْ عند «المروة» يجالس غلاماً نصرانياً استغلّوا تلك الفرصة وقالوا: لقد أخذ «محمّد» كلامه من هذا الغلام، ويروي القرآن الكريم مزعمتهم هذه بقوله:

«وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» .(1)

ولكن القرآن الكريم لم يتعرّض لذكر هذه الفرية قط، كما أنّ مشركي قريش

ص:265


1- . النحل: 103.

المجادلين المعاندين لم يتذرّعوا بها أبداً، وهذا هو بعينه دليلٌ قاطعٌ وقويٌ على أنّ هذه الفرية من افتراءات المستشرقين في عصرنا هذا، ومن نسج خيالهم!!

5 - إنّ قصص الأنبياء والرسل الّتي جاءت في القرآن الكريم على وجه التفصيل تتعارض وتتنافى مع ما جاء في التوراة والإنجيل.

فقد ذُكِرَت قصصُ الأنبياء وأحوالهم في هذين الكتابين بصورة مشينة جدّاً، وطُرحت بشكل لا يتّفق مع المعايير العلمية والعقلية مطلقاً، وأنّ مقايسة عاجلة بين هذين الكتابين من جانب وبين القرآن الكريم من جانب آخر تثبت بأنّ قضايا القرآن الكريم ومعارفه لم تتخذ من ذينك الكتابين بحال، ولو أنّ النبيَّ محمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم قد اكتسب معارفه ومعلوماته حول الأنبياء والرسل من العهدين لجاء كلامُه مزيجاً بالخرافات والأَوهام.(1) 6 - إذا كان راهب «بُصرى» يمتلك كلّ هذه الكمّية من المعلومات الدينية والعلميّة الّتي عرضها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلماذا لم يحض هو بأي شيء من الشهرة، ولماذا ترى لم يُربِّ غير «محمَّد» في حين أنّ معبَده كان مزار الناس ومقصدَ القوافل؟!

7 - يعتبرُ الكتاب المسيحيّون «محمّداً» صلى الله عليه و آله و سلم رجلاً أميناً صادقاً، والآيات القرآنية تصرّح بأنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن على علم مسبق أصلاً بقصص الأَنبياء والأُمم السابقين، وأنّ معلوماته في هذا الصعيد لم تحصل لديه إلّاعن طريق الوحي.

فقد جاء في سورة «القصص» هكذا: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى

ص:266


1- . تتجلى هذه الحقيقة أكثر فأكثر إذا ما قارنّا بين مواضيع القرآن الكريم، وبين ما جاء في نصوص العهدين (التوراة والأنجيل) وقد تصدّى بعض الكتاب الإسلاميّين لمثل هذه المقارنة، وتعرضنا لها أيضاً في بعض دراساتنا.

مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ» .(1)

وجاء في سورة «هود» بعد نقل قصة نوح: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» .(2)

إنّ هذه الآيات توضّح أن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن على علم أبداً بهذه الحوادث، والوقائع.

وهكذا جاء في سورة «آل عمران»: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» .(3)

إنّ هذه الآية وغيرها من الآيات العديدة تصرّح بأن هذه الأخبار الغيبيّة وصلت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق الوحي فقط، وهو لم يكن على علم بها مطلقاً.

نَظْرةٌ إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة

إنَّ هذا الكتاب السَماويّ تورَّط في تناقضات عجيبة في بيان قصص الأنبياء والمرسلين لا يمكن نسبتها إلى الوحي مطلقاً، وها نحن نأتي هنا بنماذج في هذا المجال من التوراة ليتّضح لنا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لو كان قد أخذَ قضايا القرآن الكريم من ذلك الراهب فلماذا لا يحتوي هذا الكتاب العظيم على تلك الأضاليل الّتي انطوت عليها «التوراة» و «الإنجيل».

وإليك بعض ما جاء حول الأَنبياء والمرسلين في «التوراة» و «الإنجيل» ونقارن ذلك بما جاء في القرآن الكريم ليتّضح مدى الفرق بين العهدين، والقرآن..

***

ص:267


1- . القصص: 44.
2- . هود: 49.
3- . آل عمران: 44.

1. داود عليه السلام:

جاء في التوراة: «وكان في وقت المساء أنّ داود قام من سريره وتمشّى على سطح بيت الملك فرأى من على السطح المرأة تستحمّ، وكانت المرأة جميلة المنظر جدّاً، فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أُوريا الحثي، فأرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهَّرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها، وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إنّي حُبلى،... وفي الصباح كتب داود مكتوباً إلى يوآب... وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أُوريّا في وجه الحرب الشديدة(1)، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت... فلما سمعت امرأة أُوريّا أنّه قد مات أُوريّا رجلُها ندبت بعلها، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمَّها إلى بيته وصارت له إمرأة، وولدت له إبناً، وأمّا الأمرُ الّذي فعله داود فقبح في عينيّ الرب»!!.(2)

هكذا تصف التوراة النبيّ الكريم داود، وترميه بالزنا، وإكراه امرأة محصنة على خيانة زوجها!!

بينما يصف القرآن الكريم النبيّ داود عليه السلام بأفضل الأوصاف إذ يقول سبحانه:

«وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالاَ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ ... وَ قالَ يا أَيُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» .(3)

ص:268


1- . أي في مقدّمة الجيش المحارب.
2- . العهد القديم (التوراة): صموئيل، الثاني، الإصحاح الحادي عشر 2 إلى 27.
3- . النمل: 15-16.

2. النبيّ سليمان عليه السلام:

تقول «التوراة» عن النبيّ العظيم سليمان عليه السلام:

1 - «وداود الملكُ ولد سليمان من الّتي لأُوريّا».(1)

أي أنّ سليمان النبيّ الكريم - والعياذ باللّه - هو ابن زنا!!

2 - وَ أَحَبَّ المَلِكُ سُلَيمان نساء غريبة... مِنَ الأُمم الذين قالَ عَنْهُمْ الربُ لبنيّ اسرائيل: لا تدخلونَ إليهم، وهُمْ لا يَدُخلونَ إليكم لأَنَّهُمْ يُميلونَ قلوبَكم وراء آلهتهم، فالتصق سلَيمانُ بهؤلاء بالمحبَّة، وكانت له سبع مئة من النساء السيدات، وثلاث مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبَهُ وكان في زمان شيخوخة سليمان أنّ نساءه أملن قلبه وراء آلهة أُخرى، ولم يكن قلبُه كاملاً مع الرب إلهِهِ كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عَشتُورت إلاهة الصيدونيّين، وملكوم رجس العمونيين، وعمل سليمان الشرَّ في عيني الرب، ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه،... فغضب الربُ على سليمان لأنّ قلبه مال عن الرب إله إسرائيل...»!!!.(2)

إنّ سليمان - حسب هذه التعابير التوراتية - يعشق النساء الأجنبيات، ويتقرّب إليهن بصنع أصنام لَهُنَّ. ويعبدها معهن، ويرتكب الشرور الّتي أغضبت الرب!!

بينما يقول القرآن الكريم عن سليمان عليه السلام «وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً» .(3)

ويقول: «وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ كُنّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ» .(4)

ص:269


1- . العهد الجديد (إنجيل مَتَّى): الاصحاح الأول 6.
2- . التوراة: الملوك الأوّل، الإصحاح: 11، العبارات 1:11.
3- . النمل: 15.
4- . الأنبياء: 81.

إنّه نبيّ عظيم اختاره اللّه تعالى لوحيه، وأصطفاه لأَداء رسالاته.

3. يعقوب عليه السلام:

إنَّ «التوراة» تصف النبيّ العظيم يعقوب عليه السلام بأنّه رجل كذّاب مخادع، أخذ النبوّة من أبيه بالمكر والخداع، «وحدث لمّا شاخَ إسحاقُ وكَلّت عيناهُ عن النظر أنّه دعا عيسو ابنه الأكبر، وطلب منه أن يصطاد له صيداً، ويصنع له طعاماً جيّداً حتّى يباركه، ويعطيه النبوّة، ولكن يعقوب (إبن إسحاق من رفقة زوجته الأُخرى) بادر إلى صنع طعام لذيذ لأبيه وتظاهر بأنّه عيسو، لابساً ثياب عيسو، وقطعاً من جلود جَدْيي المعزى على عنقه، لأنّ عيسو كان مشعراً وكان يعقوب أملس الجسد، فبارك إسحاق ابنه يعقوب ومنحه النبوّة، وبعد ذلك قدم عيسو من الصيد، فعرف إسحاقُ بأنّه خُدِع، وأنّ يعقوب أخذ منه النبوّة بالمكر، فارتعد إسحاقٌ ارتعاداً عظيماً جدّاً وقال لعيسو متأسّفاً: قد جاء أخوك بمكر، وأخذ بركتك»!!.(1)

هذا هو حال يعقوب في لسان «التوراة» المحرّفة!!

وأمّا القرآن الكريم فإنّه يقول عن هذا النبيّ الطاهر:

«وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» .(2)

ويقول تعالى أيضاً:

«وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ * إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ * وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» .(3)

ص:270


1- . لاحظ: العهد القديم: سفر التكوين: الإصحاح السابع والعشرون: 1 إلى 46، وقد ذكرنا هذه القصّة من التوراة بتلخيص.
2- . الأنعام: 84.
3- . سورة ص: 45-47.

4. إبْراهيم عليه السلام:

تقول «التوراة» عن إبراهيم عليه السلام إنّه لمّا أراد أن يدخلَ مصر قال لِزوجته سارة:

إنّي قد علمتُ أنّك امرأة حسَنة المنظر، فيكون إذا رآك المصريون أنّهم يقولون:

هذه امرأَته، فيقتلونني، ويَسْتَبْقونكِ، قولي إنّكِ أُختي، ليكونَ لي خيرٌ بسببكِ وتحيا نفسي من أجلِكِ.

وكذلك فعَلتْ سارة و أُخِذت إلى بيت فرعون، فصنع إلى إبرام خيراً بسببها، وصار له غنم، وبقر، وحمير، وعبيد، وإماء، وأُتن، وجمال، ولمّا عرف فرعون - في ما بعد - أنّ سارة زوجة إبراهيم، وليس أُخته عاتبه قائلاً: لماذا لم تخبرني إنّها امرأتك، لماذا قلت: هي أُختي حتّى أخذتها لي لتكونَ زوجتي والآن هو ذا إمرأتك، خذْها واذهب».(1)

إنّ إبراهيم الخليل عليه السلام في وصف التوراة رجلٌ كذّابٌ، يكذب ويحتال.

أمّا القرآن الكريم فيصف هذا النبيّ الجليل بأعظم الأوصاف، ويعتبره أعظم الأنبياء إذ يقول عنه إنّه:

1. حنيف مُوحِّدٌ للّه: «وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً» .(2)

2. إمامُ الناس: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً» .(3)

3. مُسْلِمٌ: «وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً» .(4)

4. حَليمٌ: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ» .(5)

ص:271


1- . لاحظ: العهد القديم: سفر التكوين: الإصحاح الثاني عشر 1-20. بتلخيص واختصار.
2- . آل عمران: 67.
3- . البقرة: 124.
4- . آل عمران: 67.
5- . التوبة: 114.

5. أُمّة كامِلَة بمفرده: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً» .(1)

6. أواهٌ يَخشى اللّه: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ» .(2)

7. مصطفى: «لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» .(3)

8. ذو قلبٍ سَليم: «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .(4)

5. المسيح عليه السلام:

إنّ عيسى: يحتقر أُمّه، ويزدري بها، - حسب رواية الإنجيل - «فجاءت حينئذٍ إخوته وأُمه ووقفوا خارجاً وأرسلوا يدعونه، وكان الجمع جالساً حوله، فقالوا له:

هو ذا أُمُّك وإخوتك خارجاً يطلبونك، فأجابَهُم قائلاً: من أُميّ وإخوتي؟ ثم نظرَ حوله إلى الجالِسين وقال: ها أُمّي وإخوتي، لأَنَّ مَنْ يصنع مشيئة اللّه هو أخي وأُختي وأُمّي»!!(5)

إنّه يقول هذا الكلام عن أُمّه الّتي وصفها القرآن الكريم بأنّ اللّه تعالى اصطفاها على نساء العالمين.(6)

إنه يفَضِّل تلاميذه الذين لم يؤمنوا به في قلوبهم ذرة من خردل، والذين خذلوه ليلة الهجوم عليه من جانب اليهود(7) - كما يقول الإنجيل - على أُمّه الصدّيقة.

ص:272


1- . النحل: 120.
2- . التوبة: 114.
3- . ص: 47.
4- . الصافات: 84.
5- . إنجيل مرقس: الإصحاح الثالث: 31-35.
6- . آل عمران: 42.
7- . لاحظ: انجيل متّى: الإصحاح السابع والعشرون 1-6. انظر كيف وافق يهوذا الاسخريوطي وهو أحد الحواريين مع المتآمرين ضدّ المسيح، وأيضاً راجع نفس السفر: الإصحاح السادس والعشرين: وراجع إنجيل متّى: الإصحاح العاشر أيضاً.

كما أنّ الإنجيل يقول: إنّ المسيح حوّل الماء إلى الخمر في عرس(1) بل يقول إنّه عليه السلام: شرب الخمر، والحال أنّ الإنجيل يصرّح بحرمة الخمر في مواضع عديدة.(2)

هذا هو «عيسى» النبيّ الطاهر وحواريوه حسب رواية الإنجيل!!.(3)

أمّا القرآن الكريم فيقول عنه غير ما يقوله: «الإنجيل» وإليك بعض ما جاء في الكتاب العزيز حول «المسيح» عليه السلام.

قال اللّه تعالى: «وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» .(4)

وقال تعالى أيضاً: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ كَلِمَتُهُ» .(5)

ويكفي في عظمة المسيح عليه السلام وعلوّ شأنه أنّه عليه السلام كلَّم الناس في المهد صبيّاً وقال: «إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا * وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا * وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» .(6)

هذه هي مواقف القرآن الكريم من الأنبياء الكرام، والرسل العظام، وتلك هي مواقف «التوراة» و «الإنجيل» المشينة، المسيئة إلى شخصيّة سفراء اللّه مبلّغي رسالاته، فكيف يُعقل أن يكون القرآن الكريم مقتبساً من تلك الكتب وبينهما بُعد

ص:273


1- . لاحظ: إنجيل يوحنا: الإصحاح الثاني: 1-11.
2- . لاحظ: إنجيل لوقا: الإصحاح الأوّل 15 وغيره.
3- . على أنّ خرافات التوراة والإنجيل لا تنحصر في ما ذكرناه هنا، وللتوسّع راجع: أنيس الأعلام تأليف فخر الإسلام، والهدى إلى دين المصطفى للعلّامة البلاغي.
4- . البقرة: 87.
5- . النساء: 171.
6- . مريم: 30-34.

المشرقين؟!

ثم لو أنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان قد اطّلع على هذه القضايا والقصص قبل إخباره بنبوّته فلماذا لم يرشح منها شيء في أحاديثه قبل الرسالة وقد عاش بين قومه طويلاً؟!

قال اللّه سبحانه في معرض الردّ والجواب على اقتراح المشركين على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأن يأتي لهم بقرآن غير الّذي جاء به:

«قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» .(1) فالآية تؤكّد على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان لابثاً في قومه، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن، أو آياً من آياته، فكلّ ما أخبر به هو ممّا أوحى به اللّه تعالى إليه بعد أن بعثه بالرسالة.(2)

ص:274


1- . يونس: 16.
2- . للتوسّع راجع مفاهيم القرآن: 3/321-323.

9 فَترة الشَباب في حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

يجب أن يكون قادة المجتمع أقوياء شجعان، لايرهبون أحداً، ولا يخافون شيئاً، يمتلكون قوّة روحية كبرى، ويتمتّعون بصبر عظيم، وإرادة قوّية، صلبة.

فكيف يستطيع الضعفاء والجبناء والمتردّدون، وضعّاف النفوس قيادة المجتمع، والخروج به من المآزق والمشاكل، وكيف يستطيعون أن يقاوموا أعداءهم ويحفظوا كيانهم وشخصيّتهم من عدوان هذا أو ذاك؟!

إنّ لعظمة القائد الروحية، ولقواه البدنية والنفسية تأثيراً عظيماً وعجيباً في أتباعه وأنصاره، فعند ما اختار الإمام أميرُ المؤمنين عليه السلام أحدَ أصحابه المخلصين لولاية «مصر» كتب إلى أهل «مصر» المظلومين الذين ذاقوا الأَمرّين على أيدي ولاتهم السابقين كتاباً ذكر فيه شجاعة هذا الوالي الجديد، وقدرته النفسية الفائقة، وإليك فيما يلي بعض الفقرات من ذلك الكتاب الّذي يعكس الشروط والمواصفات الواقعية في القائد:

«أمّا بعدُ فقَد بَعثتُ إليكم عَبداً مِن عباد اللّه لا ينامُ أيّام الخوف، ولا ينكُل عن الأعداء ساعات الروع، أشدّ على الفُجار من حريق النّار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابقَ الحق، فإنه سَيْفٌ مِن سُيوف اللّه، لا كليلُ الظَبَّة، ولا نابِي الضريبة».(1)

ص:275


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 38.

رسولُ اللّه وقدرتُه الروحيّة

لقد كانت آثار الشجاعة، والقوّة باديةً في جبين عزيز قريش منذ طفولته وصباه، ففي الخامسة عشرة من عمره الشريف شارك في حرب هاجت بين قريش من جهة، وقبيلة هوازن من جهة أُخرى، وتدعى «حرب الفجار»، وقد كان في هذه الحرب يناول أعمامه النَّبل.

فها هو «ابن هشام» ينقل عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «كُنْتُ أُنبّلُ عَلى أعْمامِيْ».(1)

إنّ مشاركته صلى الله عليه و آله و سلم في العمليات الحربية في مثل هذه السن تكشف عن شجاعته صلى الله عليه و آله و سلم وقدرته الروحية الكبرى، وتساعدنا على أن ندرك مغزى ما قاله أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في حقّ النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم: «كُنّا إذا أحمر الْبأَسُ إتّقيْنا برَسُول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنّا أقرَبَ إلى العَدوِّ مِنْهُ».(2)

وسوفَ نشير - وبعون اللّه عند ذكر جهاد المسلمين للكفّار والمشركين - إلى نظام العسكرية الإسلامية وكيفية جهاد المسلمين وقتالهم لأعدائهم الّتي تمَّت بأجمعها بتوجيه من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وهو في نفسه من الأبحاث الشيّقة في تاريخ الإسلام.

حُروبُ الفِجار

إنَّ الحديث بتفصيل عن هذه الوقائع وعن تكتيكات هذه الحوادث التاريخيّة خارج عن إطار هذه الدراسة، بيد أنّنا - مع ذلك - نعمد إلى بيان أسباب

ص:276


1- . السيرة النبوية: 1/120، وقد قال ابن الأثير في النهاية: 5/10، مادة «نبل» بعد نقل هذا الحديث وضبط الكلمة «انبل» مشدّدة «اُنبِّل»: «إذا ناولته النبل ليرمي».
2- . نهج البلاغة: فصل من غريب كلامه المحتاج إلى التفسير، الرقم 9.

هذه الحروب الّتي شارك في إحداها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بناء على رواية بعض المؤرّخين وحوادثها على نحو الإجمال بغية إطلاع القارئ الكريم.

كانت العرب تقضي عامها كلّه بالقتال والإغارة، وقد تسبب هذا الوضع في اختلال حياتهم، واضطراب أُمورهم، ولأجل هذا كانوا يحرّمون القتال ويتوقّفون عنه في أربعة أشهر من كلّ عام (هي شهر رجب، ذوالقعدة، ذوالحجة، محرّم) ليتسنّى لهم - في هذه المدّة - أن يقيموا أسواقهم، ويستغلّوها بالكسب والتجارة والبيع والشراء.(1)

ولهذا كانت أسواق «عكاظ» و «مجنَّة» و «ذوالمجاز» تشهد طوال هذه الأشهر الحرام اجتماعات كبرى وتجمعات حافلة وحاشدة، كان يلتقي فيها العدوّ والصديق جنباً إلى جنب، يتبايعون، ويتفاخرون.

فقد كان شعراء العرب المشهورون يلقون قصائدهم في هذه الاجتماعات الكبرى، كما يلقي كبارُ خطباء العرب وفصحاؤهم خطباً قوية، وأحاديث في غاية الفصاحة والبلاغة، وكان اليهودُ والنصارى والوثنيون يعرضون معتقداتهم في هذه المناسبات من دون خوف أو وجلٍ.

ولكنَ هذه الحرمة قد هُتكت أربعَ مرات في تاريخ العرب، وتقاتلت القبائلُ العربية فيما بينها في هذه الأشهر الحرم، ولهذا سُمِّيت تلك الحروب بحروب «الفجار»، وفي مايلي نشير إليها على نحو الإجمال:

الفِجارُ الأُولى:

ووقعت الحربُ فيها بينَ قبيلتي «كنانة» و «هوازن» وجاء في سبب نشوب

ص:277


1- . يُستفاد من قوله تعالى في الآية 36 من سورة التوبة: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان ذا جذور دينية، وكانت العرب الجاهلية تحترم هذه الأشهر اتّباعاً لسُنّة «إبراهيم الخليل» عليه السَّلام.

هذه الحرب أنّ رجلاً يُدعى «بدر بن معشر» كان قد أعدَّ لنفسه مكاناً في سوق «عكاظ» يحضر فيه، ويذكر للناس مفاخره، فوقف ذات مرّة شاهراً سيفه يقول: أنا واللّه أعزُّ العرب فمن زعم أنّه أعزّ منّي فليضربها بالسيف.

فقام رجلٌ من قبيلة أُخرى فضرب بالسيف ساقه فقطعها، فاختصم الناس وتنازعت القبيلتان، ولكنّهما اصطلحتا من دون أن يُقتل أحدٌ.(1)

الفِجار الثانية:

وكان سببها أنّ فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من «بني عامر» وهي جميلة، عليها برقع، فقالوا لها: إسْفري لننظر إلى وجهِك، فلم تفعلْ، فقام غلامٌ منهم، فجمع ذيل ثوبها إلى مافوقه بشوكة، فلمّا قامت انكشف جسمُها، فضحكوا، فصاحت المرأة قومها، فأتاها الناسُ، واشتجروا حتّى كاد أن يكون قتالٌ، ثم اصطلحوا، وانفضُّوا بسلام.

الفِجارُ الثالثة:

وسببه أنّ رجلاً من «كنانة» كان عليه دَيْنٌ لرجل من «بني عامر»، وكان الكناني يماطل، فوقع شجارٌ بين الرجل، واستعدى كلّ واحد منهما قبيلته، فاجتمع الناسُ، وتحاوروا حتّى كاد يكونُ بينهم القتالُ، ثم اصطلحوا.

الفِجارُ الرابعة:

وهي الحرب الّتي - قيل: إنّه - شارك فيها النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد ادّعى البعض إنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يومذاك في الخامسة عشرة، أو الرابعة عشرة من عمره.

ص:278


1- . ولقد كان ممّا أزاله الإسلام ومحاه هذا التفاخر الجاهلي المقيت، وستعرف هذا في الأبحاث القادمة.

وقال بعضٌ: إنّه كان في العشرين من عمره وحيث إنّ هذه الحرب قد استمرّت أربع سنوات. لهذا يمكن أن تكون جميع هذه الأقوال صحيحة.(1)

وقيل في سببها: إنّ «النعمان بن المنذر» ملك الحيرة كان يبعث إلى سوق «عكاظ» في كلّ عام بضاعة في جوار رجل شريف من أشراف العرب، يُجيرها له حتّى تباع هناك ويشتري بثمنها من أقمشة «الطائف» الجميلة المزر كَشة ممّا يحتاج إليه، فأجارها «عروة الرجال الهَوازني» في تلك السنة، ولكن «البراض بن قيس الكناني» انزعج لمبادرة «عروة» إلى ذلك، فشكاه عند «النعمان بن المنذر» ولم يجد اعتراضه وشكواه، فحسد على «عروة» حسداً شديداً، فتَربَّص به حتّى غدر به في أثناء الطريق، وبذلك لطّخ يده بدم هوازني.

وكانت قريش يومذاك حليف كنانة، وقد اتّفق وقوعُ هذا الأمر يوم كانت العرب مشغولة بالكسب والتجارة في سوق عكاظ، فأخبر رجل قريشاً بمقتل الهوازنيّ على يد الكنانيّ، ولهذا عرفت قريش وحليفتها بنوكنانة بالأمر قبل هوازن، وأسرعوا في الخروج من «عكاظ» وتوجّهوا نحو الحرم (والحرم هو أربعة فراسخ من كلّ جانب من مكّة، وكانت العرب تحرّم القتال في هذه المنطقة) ولكن هوازن علمت بذلك فلاحقت قريش وحليفتها فوراً، وأدركتهم قبل الدخول في الحرم فوقع بينهم قتال، ولمّا جنّ الليل كفّوا عن الحرب فاغتنمت «قريش» وحليفتُها فرصة الليل، وواصلت حركتها باتجاه الحرم المكي وبذلك نجت من خطر العدو.

ومنذ ذلك اليوم كانت تخرج قريش وحليفتها من الحرم بين الفينة والأُخرى وتقاتل هوازن، وقد شارك النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في بعض تلك الأيام مع أعمامه على النحو الّذي مرّ بيانه.

وقد استمر الأمر على هذه الحال مدّة أربع سنوات، حتّى أن وُضعَت نهاية

ص:279


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/119 و 120؛ تاريخ الخميس: 1/259.

لهذه الحرب الطويلة بدفع قريش لهوازن دية القتلى الذين كانوا يزيدون على قتلى قريش على يد هوازن.(1)

وقد أسلفنا أنّ تحريم القتال في الأشهر الحُرم كانت له جذورٌ دينية، وحيث إنّ حرب «الفجار» استمرّت أربع سنوات فيمكن أن يكون لمشاركة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فيها وجهاً وجيهاً وهو الدفاع، خاصة أنّه لمّا سُئل صلى الله عليه و آله و سلم عن مشهده يومئذ فقال: «ما سَرّني أنّي لم أَشْهدهُ، إنَّهُمْ تَعَدَّوْا عَلى قَومي، عرضوا (أي قريش) عَلَيْهم (أي على هوازن) أنْ يَدْفعُوا إلَيْهِم البرّاض صاحِبَهُمْ (أي الّذي قتل عروة) فأَبُوا».(2)

ويحتمل أن تكون مشاركته صلى الله عليه و آله و سلم في غير الأشهر الحُرم بناء على استمرار هذه الحروب مدّة أربعة أعوام، وإنمّا سُميّت مع ذلك بالفجار لأنّ بدايتها وافقت الأشهر الحرم لا أنّها وقعت بتمامها في الأشهر الحُرم.

وبذلك لا يبقى مجال لأن تُسْتَبْعَد مشاركة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في بعض أيام تلك الحرب.

حِلْفُ الْفُضُول:

لقد كان في ما مضى ميثاقٌ وحلفٌ بين الجرهميّين يُدعى بحلف «الفُضُول»، وكان هذا الحِلفْ يهدف الى الدفاع عن حقوق المظلومين، وكان المؤسّسون لهذا الحلف هم جماعة كانت أسماؤهم برمّتها مشتقة من لفظة الفضل، وأسماؤهم - كما نقلها المؤرّخ المعروف «عماد الدين ابن كثير» - هي عبارة عن: «فضل بن فضالة»، و

ص:280


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/119؛ الأغاني: 22/307-321.
2- . الأغاني: 22/319.

«فضل بن الحارث»، و «فضل بن وداعة»(1)، وحيث إنّ الحلف الّذي عقدته جماعة من قريش فيما بينها كان متّحداً في الهدف (وهو الدفاع عن حقوق المظلومين) مع حلف «الفضول» لذلك سُمّي هذا الاتّفاق وهذا الحلف بحلف «الفُضول» أيضاً.

فقبل البعثة النبوية الشريفة بعشرين عاماً دخل رجلٌ من «زبيد» في مكّة في شهر ذي القعدة، وعرض بضاعة له للبيع فاشتراها منه «العاص بن وائل»، وحبس عنه حقّه، فاستعدى عليه الزبيديّ قريشاً، وطلب منهم أن ينصروه على العاص، وقريش آنذاك في أنديتهم حول الكعبة، فنادى بأعلى صوته:

يا آل فِهر لمظلوم بضاعتُه بِبطن مكّة نائي الدار والنَفَر

ومُحرمٌ أشعثُ لم يَقض عُمْرتَه يا للرِّجال وبَيْن الحجر والحَجَر

إنّ الحرامَ لِمَن تمَّت كرامتُه ولا حَرام لِثوب الفاجر القذر

فأثارت هذه الأبيات العاطفية مشاعر رجال من قريش، وهيّجت غيرتهم، فقام «الزُبير بن عبدالمطّلب» وعزم على نصرته، وأيّده في ذلك آخرون، فاجتمعوا في دار «عبداللّه بن جَدْعان» وتحالفوا وتعاهدوا باللّه ليكونَنّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتّى يؤدّى إليه حقّه ما أمكنهم ذلك، ثم مَشوا إلى «العاص بن وائل» فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

وقد أنشدَ الزبير بن عبدالمطلب في ذلك شعراً فقال:

ص:281


1- . البداية والنهاية: 2/357.

إنّ الفُضُولَ تَعاقَدُوا وتَحالَفوا ألّا يقيمَ بِبطن مَكَّة ظالمُ

أمرٌ عَليْهِ تَعاقَدُوا وتواثقُوا فالجارُ والمُعترُّ فيهم سالمُ

وقال أيضاً:

حَلفْت لَنعْقَدن حلفاً عليهمْ وإن كُنّا جميعاً أهلَ دار

نسمّيه «الفُضُولَ» إذا عَقَدْنا يَعُزُّ به الغَريبُ لِذي الجوار

ويعْلَمُ منْ حَوالي البيتِ أنّا أُباة الضَيْم نَمنَعُ كُلَّ عار(1)

وقد شارك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، في هذا الحلف الّذي ضمن حقوق المظلومين وحياتهم، وقد نُقِلت عنه صلى الله عليه و آله و سلم عبارات كثيرة يشيد فيها بذلك الحلف ويعتزُّ فيها بمشاركته فيه، وها نحن ننقل حديثين منها في هذا المقام.

قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«لقد شَهدْتُ في دار عبداللّه بن جدعان حلفاً لو دُعيتُ به في الإسلام لأجبتُ».(2)

كما أنّ ابن هشام نقل في سيرته أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يقول في ما بعد عن هذا

ص:282


1- . البداية والنهاية: 2/355-356.
2- . البداية والنهاية: 2/355.

الحلف: «لقد شهدت في دار عبداللّه بن جدعان حلفاً ما أُحبُّ أنَّ لي به حُمُرَ النِعَم ولو أُدعى به الإسلام لأجبت».(1)

ولقد بقي هذا الحلف يحظى بمكانة واحترام قويّين في المجتمع العربي والإسلامي حتّى أنّ الأجيال القادمة كانت ترى من واجبها الحفاظ عليه والعمل بموجبه، ويدلّ على هذا قضيةٌ وقعت في عهد إمارة «الوليد بن عتبة» الأموي(2)على المدينة.

فقد وقعت بين الإمام الحسين بن علي عليه السلام وبين أمير المدينة هذا منازعة في مال متعلّق بالحسين عليه السلام، ويبدو أنّ «الوليد» تحامل على الحسين في حقّه لسلطانه، فقال له الإمامُ السبط الّذي لم يرضخ لحيف قط، ولم يسكت على ظلم أبداً:

«أَحلِفُ باللّه لتَنْصِفَنّي مِنْ حَقّي، أوْ لآخُذَنَّ سَيْفيْ ثمَّ لأَقُومَنَّ في مَسجد رَسُول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثمَّ لأَدْعُونَّ بِحلفِ الفُضُول».(3)

فاستجاب للحسين فريقٌ من الناس منهم «عبداللّه بن الزبير»، وكرّر هذه العبارة وأضاف قائلاً: وأنا أحْلِفُ باللّه لئن دعا به لآخُذَنَّ سَيْفي ثُمّ لأَقُومَنَّ مَعه حتّى يُنْصَفَ مِنْ حَقّهِ أوْ نَمُوتَ جَميعْاً.(4)

وبلغت كلمة الحسين السبط عليه السلام هذه إلى رجال آخرين ك «المسورة بن مخرمة بن نوفل الزُهري» و «عبدالرحمان بن عثمان» فقالا مثل ما قال «ابن الزبير»، فلمّا بلغ ذلك «الوليد بن عتبة» أنصف الحسين عليه السلام من حقّه حتّى رضي.(5)

ص:283


1- . السيرة النبوية: 1/87.
2- . من قبل عمّه معاوية.
3- . السيرة الحلبية: 1/215.
4- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/288.
5- . البداية والنهاية: 2/358 بتصرّف.

10 من فترة الشباب إلى مزاولة التجارة

اشارة

يحمل القادة الإلهيّون العظماء وأصحاب الرسالات السماوية على كواهلهم مسؤوليات كبرى، ومهام عظمى تلازم - في الأغلب - التعرض للمتاعب والمصاعب، والعذاب، وتحمّل الأذى، بل وربّما التعرض للقتل والاغتيال، وكلّما كبرت الأهداف، عظمت المشاكل، والمتاعب.

وعلى هذا الأساس، فإنّ نجاح القادة الرساليّين يتوقّف على مدى صبرهم واستقامتهم في وجه الاتّهامات والمضايقات، وفي وجه الأذى والعذاب، لأن الصبر والتحمّل في جميع مراحل الجهاد والعمل هو الشرط الأساسيّ للوصول إلى المقصود، وإلى تحقيق الهدف المنشود والغاية المطلوبة.

من هنا ليس لقائد حقيقي أن يخشى كثرة العدو، وليس له أن ينسحب، أو يضعف لقلّة الأتباع والمؤيّدين وبالتالي ليس له أن يقلق للنوائب فتخور عزيمته، أو تضعف إرادته، مهما عظمت حلقة البلاء واشتدّت، ومهما تزايدت الأزمات أو تواترت.

إنّنا نقرأ في تاريخ الأَنبياء وقصصهم أُموراً يعسر على الإنسان العاديّ هضمها، ويصعب تصوُّرها.

فعن نوح النبيّ عليه السلام نقرأ أنّه دعا قومه تسعمائة وخمسين عاماً، ولم تنتج هذه الدعوة الطويلة المضنيةُ سوى قلّة من المؤمنين والمؤيدين الذين لم يتجاوز عددهم الواحد والثمانين، وهذا يعني أنّه لم يوفق في كلّ اثنى عشر عاماً إلّالهداية شخص واحد.

ص:284

إنَّ إرادة الصبر، وقوَّة التحمّل، والتصبّر تظهر لدى الإنسان شيئاً فشيئاً، فلابدّ أن تتلاحق حوادثٌ صعبةٌ، ولابد أن يمرَّ المرء بنوائب مزعجة حتّى تأنس روحُه بالأُمور الثقيلة، والقضايا الصعبة.

لقد قضى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شطراً من حياته قبل البعثة في رعي الغنم في الصحاري والقفار، ليكون بذلك صبوراً في تربية الناس الذين سيكلَّف بقيادتهم وهدايتهم، وليستسهل كلّ صعب في هذا المجال.

إنّ إدارة المجتمع البشريّ من أصعب الأُمور الّتي تواجه القادة، ورجال الإصلاح. والمقدرة على الإدارة هذه لا تسنح ولا تتهيَّأ لأَحد إلّابعد مزاولة الأُمور الصعبة، وممارسة الأعمال الشاقّة، وربّما يكون قيام النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم برعي الغنم من هذا الباب، ولهذا جاء في الحديث.

«ما بَعثَ اللّهُ نَبيِّاً قَطُّ حَتّى يَسْتَرْعيْه الغَنم، يُعلّمهُ بذلِكَ رعْيَةَ النّاسِ».(1)

لقد قضى النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم شطراً من عمره الشريف في هذا المجال، وينقل كثيرٌ من أرباب السير والمؤرّخين هذه العبارة عنه صلى الله عليه و آله و سلم:

«ما بعث اللّه نبياً إلّاوَقَدْ رَعى الغَنم» فقال له أصحابه: وَ أَنتَ يا رَسُول اللّه؟

فقال: «وأنا رَعيْتُها لأَهْل مَكَّة بِالقَراريطِ».(2)

إنّ شخصية عظيمة يُفتَرضُ فيها أن تواجه - في المستقبل - أشخاصاً عنودين كأبي جهل وأبي لهب، وأن تصنع ممّن انحطّت أفكارهم حتّى أنّهم سجدوا لكلّ حَجر ومَدر، أفراداً لا يخضعون لأي شيء سوى إرادة الحقّ ومشيئته، لابدَّ أن تتسلّح قبل ذلك بسلاح الصبر، وتتجهّز بأداة التحمّل، وتتزوّد مسبقاً بقدرة

ص:285


1- . علل الشرائع: 1/32 ح 2، الباب 29؛ بحار الأنوار: 11/65.
2- . البداية والنهاية: 2/360؛ السيرة الحلبية: 1/205.

الاستقامة على طريق الهدف، وهذا لا يكون إلّابتعويد النفس على هذه الصفات، وحملها على مشاق الأعمال.

سبب آخر لرعي الغنم

ويمكن أن نذكر هنا سَبباً آخر أيضاً وهو أنّ رجلاً حرّ النفس والعقل كرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تجري في شرايينه وعروقه دماء الغيرة والشجاعة كان يشقّ عليه أن يشاهد كلّ ذلك الظلم والحيف الّذي كان يمارسه طغاة مكّة، وعتاة قريش وزعماؤها الظالمون القساة بحقّ الضعفاء، والمحرومين، وكذا كان يشقّ عليه أن يرى تظاهرهم بالعصيان والفسوق في حرم اللّه، وعند بيته المعظم.

إنّ إعراض سُكّان مكّة عن عبادة اللّه الواحد الحقّ، وطوافهم حول تلك الأصنام الخاوية هي - بلا ريب - أسوأ وأقبح ما يكون في نظر الرجل الفاهم، والعاقل العالم، وأثقل ما يكون عليه.

من هنا رأى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يقضي ردحاً من الزمن في الصحاري والقفار وعند سفوح الجبال الّتي كانت يومئذ بعيدة بطبيعة الحال عن تلك المجتمعات الفاسدة وأحوالها وأوضاعها، ليستريح (أو يتخلّص) بعض الشيء من آلامه الروحية الناشئة مِن رؤية تلك الأوضاع المزرية، والأحوال المشينة. على أَنَّ هذا الأمر لا يعني أنّ للرجل المتّقي أن يسكت على الفساد والظلم، ويقرّ عليهما. ويفرّق بين حياته وحياة الآخرين ويعتزل عنهم ويتّخذ موقف اللامبالاة تجاه الأوضاع المنحرفة، والأحوال الشاذّة، بل أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا كان مأموراً من جانب اللّه سبحانه بالسكوت والانتظار، لأنّه لم تكن ظروف «البعثة» والهداية قد توفّرت وتهيّأت بعد، لذلك اتّخذ صلى الله عليه و آله و سلم مثل هذا الموقف.

***

ص:286

سببٌ ثالث

ولقد كان هذا العمل (أي الاشتغال برعي الأغنام في البراري والقفار وعند السهول وسفوح الجبال) فرصة جيدة لأن يتمكّن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من النظر في خلق السماوات والتطلّع في النجوم والكواكب وأحوالها وأوضاعها، وبالتالي الإمعان في الآيات الأنفسية والآفاقية التي هي جميعاً من آيات وجود اللّه تعالى، ومن مظاهر قدرته وحكمته وعلمه وإرادته.

إنّ قلوب الأنبياء والمرسلين مع أنّها منوَّرة بمصابيح المعرفة المشرقة ومضاءة بأنوار الإيمان والتوحيد منذ بدء فطرتها، وخلقتها، ولكنّهم مع ذلك لا يرون أنفسهم في غنىً عن النظر في عالم الخلق، والتفكّر في الآيات الإلهية، إذ من خلال هذا الطريق يصلون إلى أعلى مراتب الإيمان، ويبلغون أسمى درجات اليقين، وبالتالي يتمكّنون من الوقوف على ملكوت السماوات والأرضين.

إقتْراح أبي طالب

لقد دفع وضع (محمَّد) المعيشي الصعب «أبا طالب» سيد قريش وزعيمها الّذي كان معروفاً بالسخاء وموصوفاً بالشهامة، وعلو الطبع، وإباء النفس إلى أن يفكّر في عمل لابن أخيه، كيما يخفف عنه وطأة ذلك الوضع.

ومن هنا اقترح على ابن أخيه «محمَّد» العمل والتجارة بأموال «خديجة بنت خُويلد» الّتي كانت امرأة تاجرة، ذات شرف عظيم، ومال كثير، تستأجر الرجال في مالها أوتضاربهم إيّاه بشيء تجعله لهم منه.

فقد قال أبوطالب للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:... وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيراتها فيتّجرون لها في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها فوضعتَ

ص:287

نفسَك عليها لأسرعتْ إليك، وفضَّلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك....

ولكن إباء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعلوّ طبعه، منعاه من الإقدام بنفسه على هذا الأمر من دون سابق عهد، ولهذا قال صلى الله عليه و آله و سلم لعمّه: «فلعلّها ترسل إليّ في ذلك»، لأنّهاتعرف بأنّه المعروف بالأمين بين الناس.

فبلغ «خديجة» بنت خويلد، ما كان من محاورة عمّه «أبي طالب»، له، فقالت:

ما علمت أنّه يريد هذا، ثم أرسلت إليه صلى الله عليه و آله و سلم فقالت: إنّي دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعفَ ما أُعطى رجلاً من قومك وأبعثُ معكَ غلامين يأتمران بأمرك في السفر.

ففعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولقي عمّه أبا طالب فذكر له ذلك فقال: «إنّ هذا لرزق ساقهُ اللّهُ إليك».(1)

هل عَمِلَ النبيُّ أجيراً لخديجة؟

وهنا لابدّ من التذكير بنقطة في هذا المجال وهي:

هل عمل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أجيراً في أموال خديجة، أم أنّه قد عمل في تجارتها بصورة أُخرى كالمضاربة، وذلك بأن تعاقد النبيّ مع خديجة على أن يتاجر بأموالها على أن يشاركها في أرباح تلك التجارة؟

إنّ مكانة البيت الهاشميّ، وإباء النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ومناعة طبعه، كلّ تلك الأُمور والخصال توجب أن يكون عملُ النبيّ في أموال خديجة قد تمَّ بالصُورة الثانية (أي العمل في تجارتها على نحو المضاربة لا الإجارة)، وتؤيّد هذا المطلب أُمور هي:

ص:288


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 1/216.

أوّلاً: أنّه لا يوجد في اقتراح أبي طالب أيّة اشارة ولا أي كلام عن الإجارة، بل قد تحاور أبوطالب مع إخوته (أعمام النبيّ) في هذه المسألة من قبل وقال:

«امضوا بنا إلى دار خديجة بنت خويلد حتّى نسألها أن تُعطي محمَّداً مالاً يتّجر به».(1)

ثانياً: أنّ المؤرّخ الأقدم المعروف باليعقوبي كتب في تاريخه:... وأنّه ما كان ممّا يقول الناس أنّها استأجرته بشيء، ولا كان أجيراً لأحد قط.(2)

ثالثاً: أنّ الجنابذي صرّح في كتابه «معالم العترة النبوية» مرفوعاً عن محمد بن إسحاق قال: كانت «خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إيّاه بشيء تجعله لهم منه (أي من ذلك المال أومن ربحه).(3)

***

رحلة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم التجارية إلى الشام

تهيّأت قافلة قريش التجارية للسفر إلى الشام، وفيها أموال «خديجة» أيضاً، في هذه الأثناء جعلت «خديجة» بعيراً قوياً وشيئاً من البضاعة الثمينة تحت تصرّف وكيلها (أي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم) وأمرت غلاميها (ميسرة وناصح) اللّذين قرّرت أن يرافقاه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يمتثلا أوامراه، ويطيعاه، ويتعاملا معه بأدب طوال تلك الرحلة، ولا يخالفاه في شيء.(4)

ص:289


1- . بحار الأنوار: 16/22.
2- . تاريخ اليعقوبي: 2/21.
3- . بحار الأنوار: 16/9 نقلاً عن «معالم العترة النبوية» لأبي محمد بن عبدالعزيز الأخضر الجنابذي الحنبلي.
4- . قالت خديجة لهما: إعلما أنّني قد أرسلتُ إليكما أميناً على أموالي، وأنّه أمير قريش وسيّدها، فلا يدٌ على يده، فإن باع لا يُمنع، وإن ترك لا يؤمر، وليَكُنْ كلامُكما له بلطف وأدب، ولا يعلو كلامكما على كلامه. (بحار الأنوار: 16/29).

وأخيراً وصلت القافلة إلى مقصدها واستفاد الجميع في هذه الرحلة التجارية أرباحاً، إلا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ربح أكثر من الجميع، كما أنّه ابتاع أشياء من الشام لبيعها في سوق «تهامة».

ثم عادت تلك القافلة التجارية إلى «مكّة» بعد ذلك المكسب الكبير، والحصول على الربح الوفير.

ولقد تسنّى لفتى قريش «محمَّد» أن يمرّ - للمرة الثانية في هذه السفرة - على ديار عاد وثمود.

وقد حمله الصمتُ الكبير الّذي كان يخيّم على ديار وأطلال تلك الجماعة العاصية المتمرّدة في نقلة روحانية إلى العوالم الأُخرى أكثر فأكثر، هذا مضافاً إلى أنّ هذه الرحلة جدّدت خواطره وذكرياته في السفرة الأُولى، فقد تذكّر يوم طوى مع عمّه «أبي طالب» هذه الصحاري نفسها وهذه القفار ذاتها، وما كان يحظى فيها من عمّه من الحبّ والعناية. وعند ما اقتربت قافلة قريش إلى «مكّة»، وصارت عند مشارفها، التفت «ميسرة» غلامُ خديجة، إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقال: «يامحمَّد لقد جزنا عقبات بليلة كنّا نجوزها بأيام كثيرة، وربحنا في هذه السفرة ما لم نربح في أربعين سنة ببركتك يا محمد، فاستقبل بخديجة وابشرها بربحنا» فأخذ النبيّ باقتراح ميسرة، وسبق القافلة العائدة في الدخول إلى مكّة، وتوجه نحو بيت «خديجة» بينما كانت خديجة جالسة في غرفتها، فلمّا رأت النبيّ مقبلاً عليها، نزلت من منظرتها وركضت نحوه واستقبلته، وأدخلته في غرفتها، فخبّرها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما ربحوا، ببيان جميل، وكلام بليغ، فسرت «خديجة» بذلك سروراً عظيماً، ثم قدم «ميسرة» في الأثر، ودخل عليها، وأخبرها بكلّ ما رآه وشاهده من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تلك السفرة من الكرامة والخير، والخُلق العظيم، والخصال الكريمة، ومن الأُمور الّتي كانت برمّتها

ص:290

تدلّ على عظمة شخصيته صلى الله عليه و آله و سلم، وسمو خصاله.(1)

ومن جملة ما حدّثها به ميسرة هو أنّه لمّا وقع بين النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وبين رجل تلاح وجدال في بيع قال له ذلك الرجل: إحلف باللّات والعُزى، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ما حلفتُ بهما قط، وإنّي أمرُّ فاعرضُ عنهما.(2)

وحدّثها أيضاً بأنّه لمّا مرّ ببصرى نزلا في ظل شجرة ليستريحها فقال راهبٌ كان يعيش هناك لمّا رأى النبيّ يستريح في ظل تلك الشجرة: «ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلّانبيّ» سأل عن اسمه، فأخبره ميسرة باسمه فقال: «هو نبيّ وهو آخر الأنبياء، إنّه هو هو ومُنزّلِ الإنجيل، وقد قرأت عنه بشائر كثيرة».(3)

خَديجة زَوجةُ الرَّسول الأُولى

حتّى قبل ذلك اليوم لم تكن حالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الاقتصادية ووضعه المالي يُحسدُ عليه، فقد كان بحاجة إلى مساعدة عمّه «أبي طالب» المالية، ولم يكن شغله على النحو الّذي يكفي لضمان نفقاته، من جانب، وتمكينه من اختيار زوجة وشريكة حياة وتكوين عائلة، من جانب آخر.

ولكن هذه السفرة إلى الشام وبخاصة على نحو الوكالة والمضاربة في أموال امرأة جليلة، معروفة في قريش (أعني خديجة) ساعدت وإلى حدّ كبير على تثبيت وضعه الاقتصادي وتقوية بنيته المالية.

ولقد أعجبت «خديجة» بعظمة فتى قريش وسموّ أخلاقه، ومقدرته التجارية

ص:291


1- . بحار الأنوار: 16/5 بتصرّف واختصار.
2- . الطبقات الكبرى: 1/130 وفي بحار الأنوار: 16/18: أنّه صلّى اللّه عليه وآله قال: إليك عنّي ثكلتك أُمّك فما تكلّمت العربُ بكلمة أثقل عليَّ من هذه الكلمة.
3- . بحار الأنوار: 16/18؛ الطبقات الكبرى: 1/130.

حتّى أنّها أرادت أن تعطيه زيادة على ما تعاقدا عليه، تقديراً له، وإعجاباً به، ولكنّه اكتفى بأخذ ما تقرّر في البداية ثم توجّه إلى بيت عمه «أبي طالب» وقدّم كل ما أخذه من «خديجة» إلى عمّه «أبي طالب» ليوسّع به على أهله.

ففرح «أبو طالب» بما عاين من ابن اخيه، وبقية أبيه «عبدالمطلب»، وأخيه «عبداللّه» وأغرورقت عيناه بالدموع، وسرّ بما حقّق من نجاح وما حصل عليه من ربح من تلك التجارة سروراً كبيراً، واستعدّ أن يعطيه بعيرين يسافر عليهما ويتاجر، وراحلتين يُصلح بهما شأنه، ليتسنّى له بأن يحصل على ثروة ومال يعطيه لعمّه ليختار له زوجة.

في مثل هذه الظروف بالذات عزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عزماً قاطعاً على أن يتّخذ لنفسه شريكة حياة ويكوّن أُسرة، ولكن كيف وقع الاختيار على «خديجة» الّتي سبق لها أن رفضت كلّ طلبات الزواج الّتي تقدّم بها كبار الأثرياء والشخصيات القرشية مثل «عقبة بن أبي معيط»، و «أبوجهل» و «أبوسفيان» للزواج بها؟؟!، وماذا كانت العلل الّتي جمعت هذين الشخصين غير المتشابهين، من حيث مستوى الحياة، والثراء؟ وكيف ظهرت تلك الرابطة القوية، وتلك العلاقة المعنويّة العميقة، والأُلفة والمحبّة بينهما إلى درجة أنَّ «خديجة» سلام اللّه عليها وهبت كل ثروتها للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لينفقها في نشر الإسلام، وإعلاء كلمة الحقّ، وإرساء قواعد التوحيد، وبثّ الدين الجديد، وأصبحت تلك الدار الفخمة الّتي كانت تزينها الكراسي المرصّعة، والستر المطرّزة، المصنوعة من أغلى الأقمشة الهندية، والإيرانية، ملجأ للمسلمين، وملتقى لأنصار الرسالة؟!!

لابدَّ من البحث عن جذور هذه الحوادث في تاريخ حياة «خديجة» نفسها، فإنّ من المسلَّم والبديهيّ أنّ هذا النوع من الفداء، والتفاني والإيثار لم يكن ثابتاً ليتحقّق ما لم يكن لها جذور معنوية وطاهرة.

ص:292

إن صفحات التاريخ لتشهد بأنّ هذا الزواج كان ناشئاً من إيمان «خديجة» بتقوى عزيز قريش وفتاها الأمين «محمَّد» وطهره، وحبها الشديد لعفّته وكرم أخلاقه، ولهذا قال النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في حقّها:

«أفضل نساء الجنة أربع: خديجة...».(1)

إنّها أوّل امرأة آمنَتْ برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد قال علي أميرالمؤمنين عليه السلام: في خطبته الّتي يشير فيها إلى غربة الإسلام في مبدأ البعثة النبوية الشريفة:

«ولَمْ يَجمَعْ بَيْتٌ واحِدٌ يَوْمَئذٍ في الإسْلام غَيرَ رَسُول اللّه وَ خَديجَة وأَنا ثالِثُهما».(2)

ويكتب «ابن الأثير»: وقال: عفيف الكندي: كنت امرَأً تاجراً فقدمت مكّة أيام الحج فأتيت العباس فبينما نحن عنده إذ خرج رجل فقام تجاه الكعبة يصلّي ثم خرجت امراةٌ تصلّي معه، ثم خرج غلامٌ فقام يصلّي معه، فقلت: يا عباس ما هذا الدين؟ فقال:

هذا محمَّد بن عبداللّه ابن أخي زعم أنّ اللّه أرسله وأنّ كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة آمنت به، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به، وأيمُ اللّه ما أعلم على ظهر الأَرض أحداً على هذا الدين إلّاهؤلاء الثلاثة.(3)

وينبغي هنا أن نعطي لمحة عن مكانة خديجة في الإسلام تكميلا لهذه الدراسة.

ص:293


1- . خصال الصدوق: 206 ح 2.
2- . نهج البلاغة: 300، الخطبة 192؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي: 13/197 و 201.
3- . الكامل في التاريخ: 2/57.

خديجة في أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

لقد اكتسَبَت «خديجة» بفضل إيمانها العميق بالرسالة المحمدية، وتفانيها في سبيل الإسلام وبسبب حرصها العجيب على حياة صاحب الرسالة وسلامته، وعملها المخلص على إنجاح مهمته، ومشاركتها الفعّالة، في دفع عجلة الدعوة إلى الأمام، ومشاطرتها للنبيّ في أكثر ما تحمّله من محن وأذى بصبر واستقامة وحب ورغبة.

لقد اكتسبت خديجة بفضل كلّ هذا وغيره مكانة سامية في الإسلام، حتّى أنّ النبيّ ذكرها في أحاديث كثيرة وأشاد بفضلها، ومكانتها وشرفها على غيرها من النساء المسلمات المؤمنات، وذلك ولا شك ينطوي على أكثر من هدف.

فمن جملة الأهداف التي ربّما توخّاها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من الإشادة بخديجة عليها السلام إلفات نظر المرأة المسلمة إلى القدوة الّتي ينبغي أن تقتدي بها في حياتها وسلوكها في جميع المجالات والأبعاد، والظروف، والحالات.

هذا مضافاً إلى ما يمكن أن تقدّمه المرأة وهي نصف المجتمع (إن لم تكن أكثره أحياناً) من دعم جدّي للرسالة، مادّياً كان أو معنوياً.

وفيما يلي نأتي ببعض الأحاديث الشريفة الّتي تعكس مكانة خديجة، ومقامها، ومدى إسهامها في نصرة الإسلام ودعم دعوته، وإرساء قواعده.

1. عن أبي زرعة عن أبي هريرة يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أتى جبرئيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقال يا رسول اللّه: هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربّها ومنّي، وبَشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصب لا صخَبَ فيه ولا نصَبِ».(1)

ص:294


1- . صحيح البخاري: 4/231، باب تزويج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خديجة وفضلها؛ صحيح مسلم: 7/133.

2. عن عائشة قالت: ما غِرتُ على امرأة ما غِرتُ على خديجة، ولقد هَلَكتْ قبل أن يتزوجني بثلاث سنين، لما كنتُ أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربُه عزّوجلّ أن يبشرها ببيت من قصب في الجنة، وإنْ كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها (أي خليلاتها وصديقاتها).(1)

3. وعن عائشة أيضاً قالت: ما غِرت على نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلّاعلى خديجة، وإنّي لم أدركها، قالت: وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة قالت «أي عائشة»: فأغضبتُه يوماً فقلت: خديجة!! فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي قد رزقت حبّها».(2)

4. ومن هذا القبيل ما كان يقوم به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع صاحبات خديجة من الاحترام لهن والاحتفاء بهنّ:

فقد وقف صلى الله عليه و آله و سلم على عجوز فجعل يسألها، ويتحفاها، وقال:

«إنّ حسن العهد من الإيمان، إنّها كانت تأتينا أيام خديجة».(3)

5. وروي عن أنس قال: كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذا أُتي بهدية قال: «إذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنّها كانت صديقة لخديجة، إنّها كانت تحب خديجة».(4)

6. روى مجاهد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها، فغضب حتّى اهتزّ مقدَمُ شعره من الغضب، ثم قال: «لا واللّه ما أبْدلَني اللّه

ص:295


1- . صحيح مسلم: 7/133-134، باب فضائل خديجة عليها السلام.
2- . صحيح مسلم: 7/134.
3- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 18/108. وذكر نحوه الحاكم في مستدركه: 1/16.
4- . الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض: 1/126.

خيراً منها، آمنَتْ إذْ كَفَر الناسُ، وصدَّقتني وكذَّبني الناسُ، وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ، ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء». قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئةٍ أبداً.(1)

7. عن يعلى بن المغيرة عن ابن أبي رواد قال: دخل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على خديجة في مرضها الّذي ماتت فيه، فقال لها:

«بالكره منّي ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل اللّه في الكُره خيراً كثيراً، أما علمت أن اللّه تعالى زوَّجني معك في الجنة مريم بنتَ عمران، وكلثمَ أُخت موسى وآسية امرأة فرعون...».(2)

8. عن عكرمة عن ابن عباس قال: خطَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أربع خطط في الأَرض وقال: أتدرون ما هذا؟ قلنا: اللّه ورسولُه أعلم، فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أفضل نساء الجنة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».(3)

9. عن أنس قال: أتى جبرئيل عليه الصلاة والسلام إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعنده خديجة رضي اللّه عنها فقال: إنّ اللّه يقرئ خديجة السلام، فقالت: إنّ اللّه هو السلام، وعليك السلام، ورحمة اللّه وبركاته.(4)

10. عن أبي الحسن الأوّل (الكاظم) عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

ص:296


1- . أُسد الغابة: 5/438؛ الاستيعاب لابن عبدالبرّ: 4/1823؛ ورواها مسلم أيضاً: 7/134؛ وكذا البخاري: 5/39 وقد حذفا آخرها من: فغضب حتّى... إلى آخر الرواية.
2- . أُسد الغابة: 5/439؛ البداية والنهاية: 2/74.
3- . الخصال للصدوق: 205 ح 22؛ بحار الأنوار: 16/2، ح 3.
4- . المستدرك على الصحيحين: 3/186.

«إنّ اللّه اختار من كلّ شيء أربعة... واختار من النساء أربعاً: مريم و آسية وخديجة وفاطمة».(1)

11. عن أبي اليقظان عمران بن عبداللّه عن ربيعة السعدي قال: أتيت حذيفة بن اليمان وهو في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فسمعتُه يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«خديجةُ بنتُ خويلد سابقةُ نساء العالمين إلى الإيمان باللّه وبمحمد صلى الله عليه و آله و سلم».(2)

12. عن عروة قال: قالت عائشة لفاطمة (رضي اللّه عنها بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم): ألا أبشّرك أني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:

«سيدات نساء أهل الجنة أربع: مريم بنت عمران، وفاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وخديجة بنت خويلد، وآسية».(3)

13. عن أبي عبداللّه (الصادق) عليه السلام قال: دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منزله، فإذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها وهي تقول: واللّه يا بنت خديجة، ماترين إلا أنّ لأُمِّكِ علينا فضلاً، وأيُ فضل كانَ لها علينا؟! ماهي إلّاكبعضنا.

فسمع صلى الله عليه و آله و سلم مقالتها لفاطمة، فلمّا رأت فاطمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكت، فقال: ما يبكيك يا بنت محمَّد؟! قالت: ذكرتْ أُمّي فتنقّصتْها فبكيتُ، فغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال:

«مَهْ يا حُميراء، فإنّ اللّه تبارك وتعالى بارك في الوَدُود الولود، وأَنّ خديجة (رحمها اللّه) ولدَتْ مِنّي طاهِراً، وهو عَبْدُ اللّه وهو المطهّر وَ وَلدَتْ منّي القاسم، وفاطمة، ورقية، وأُم كلثوم، وزينب، وأنت ممّن أعقم اللّهُ رحمه فلم تلدي

ص:297


1- . الخصال: 225 ح 58؛ بحار الأنوار: 16/2، ح 5.
2- . المستدرك على الصحيحين: 3/184.
3- . مستدرك الحاكم: 3/185-186.

شيئاً».(1)

أجل هذه هي «خديجة بنت خويلد» شرفٌ وعقلٌ، وحبٌ عميق لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ووفاء وإخلاص، وتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الإسلام الحنيف.

هذه هي «خديجة» أوّل مَن آمنت باللّه ورسوله، وصدّقت محمَّداً فيما جاء به عن ربّه، من النساء، وآزرته، فكان صلى الله عليه و آله و سلم لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردّ عليه، وتكذيب له الّا فرّجَ اللّه عنه بخديجة الّتي كانت تخفّف عنه(2)، وتهوّن عليه ما يلقى من قومه، بما تمنحه من لطفها، وعطفها، وعنايتها به صلى الله عليه و آله و سلم، في غاية الإخلاص والودّ والتفاني.

ولهذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحبُّها حبّاً شديداً ويجلّها ويقدرها حقّ قدرها(3)، ولم يفتأ يذكرها، ولم يتزوّج عليها غيرَها حتّى رحلت وفاء لها، واحتراماً لشخصها ومشاعرها، وكان يغضب إذا ذكرها أحدٌ بسوء، كيف وهي الّتي آمنت به إذ كفر به الناسُ، وصدّقته إذ كذّبه الناسُ، وواسته في مالها إذ حرمهُ الناسُ.

ولهذا أيضاً كانت وفاتها مصيبة عظيمة أحزنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودفعته إلى أن يُسمّي ذلك العام الّذي توفّي فيه ناصراه وحامياه، ورفيقا آلامه (زوجته هذه:

خديجة بنت خويلد، وعمّه المؤمن الصامد الصابر أبوطالب عليهما السلام) بعام الحداد، أو عام الحزن(4) وأن يلزم بيته ويقلّ الخروج(5)، وأن ينزل صلى الله عليه و آله و سلم عند دفنها في

ص:298


1- . الخصال: 405 ح 116؛ بحار الأنوار: 16/3 ح 6.
2- . نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري: 18/171.
3- . أعلام النساء: 1/330.
4- . السيرة الحلبية: 3/498؛ تاريخ اليعقوبي: 2/35. وقد روي اليعقوبي أيضاً عنه عليه السلام أنّه قال بهذه المناسبة: «اجتمعت على هذه الأُمّة مصيبتان لا أدري بأيّهما أنا أشدّ جزعاً».
5- . لاحظ: السيرة الحلبية: 2/41؛ المواهب اللدنية حسب نقل تاريخ الخميس: 1/302 وفيه إضافة: ونالت قريش منه ما لم تكن تنال.

حفرتها، ويدخلها القبر بيده، في الحجون.(1)

عن ابن عباس في حديث طويل في زواج فاطمة الزهراء عليها السلام بعلي عليه السلام اجتمعن (نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم) عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكان في بيت عائشة (ليسألنّه أن يُدخلَ الزهراء على (عليّ) عليه السلام) فأحدقْن به وقُلنَ: فَديناك بآبائنا وأُمهاتنا يا رسول اللّه قد اجتمعنا لأمر لو أنّ «خديجة» في الأحياء لقرّتْ بذلك عينُها.

قالت أُمُّ سلمة: فلمّا ذكرنا «خديجة» بكى رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال: «خديجة وأين مثل خديجة، صدَّقْتني حين كذَّبني الناس، وآزرتني على دين اللّه وأعانتني عليه بمالها، إنَ اللّه عزّوجلّ أمرَني أنْ أُبشّر خديجة ببيت في الجنة من قصب (الزمرّد) لا صخَبَ فيهِ ولا نصَب».(2)

لقد كانت خديجة من خيرة نساء قريش شرفاً، وأكثرهنّ مالاً، وأحسنهن جمالاً، وأقواهنُّ عقلاً وفهماً، وكانت تُدعى في الجاهلية بالطاهرة لشدَّة عفافها وصيانتها3؛ ويقال لها: سيدة قريش4، وكان لها من المكانة والمنزلة بحيث كان كلُّ قومها وسُراة أبناء جلدتها حريصين على الاقتران بها5، وقد خطبها - كما يحدّثنا التاريخ - عظماء قريش وبذلوا لها الأموال، وممّن خطبها «عقبة بن أبي معيط» و «الصلت بن أبي يهاب» و «أبوجهل» و «أبوسفيان» فرفضتهم جميعاً، واختارت رسول اللّه - وهي في سن الأربعين وهو صلى الله عليه و آله و سلم في الخامسة والعشرين - وهي تمتلك تلكم الثروة الطائلة، وهو صلى الله عليه و آله و سلم لا يمتلك من حطام الدنيا إلّاالشيء اليسير اليسير، رغبة في الاقتران به ولما عرفت فيه من كرم الأخلاق، وشرف النفس، والسجايا الكريمة والصفات العالية، وهي ما كانت تبحث عنه في حياتها وتتمنّاه وإذا بتلك المرأة الغنية الثرية المتنعّمة في أفضل عيش تصبح في بيت زوجها

ص:299


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 2/40.
2- . بحار الأنوار: 43/131 نقلاً عن كشف اليقين.

الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تلك الزوجة المطيعة الخاضعة، الوفيّة المخلصة، وتسارع إلى قبول دعوته، واعتناق دينه بوعي وبصيرة وإرادة منها واختيار، وهي تعلم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر ومتاعب، وتجعل كلّ ثروتها في خدمة العقيدة والمبدأ، وتشاطر زوجها آلامه، ومتاعبه، وترضى بأن تذوق مرارة الحصار في شعب أبي طالب ثلاث سنوات وفي سنّ الرابعة أو الخامسة والستين. وهي مع ذلك تواجه كلّ ذلك بصبر وثبات(1)، ودون أن يذكر عنها تبرُّم أو توجّع.

هذا مضافاً إلى أنّها كانت تعامل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأدب تامّ يليق بمقام الرسالة والنبوة، على العكس من غيرها من بعض نساء النبيّ اللائي كنّ ربّما يثرن سخطه وغضبه، ويؤذينه في نفسه وأهله.

وإليك فيما يأتي بعض ما قاله عنها كبار الشخصيات، والمؤرّخين ممّا يكشف عن عظيم مكانتها عند المسلمين أيضاً، قال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:

«كنتُ أوّلَ مَن أسلَم، فمكَثْنا بِذلِكَ ثلاث حجَج، وما عَلى الأَرض خَلْقٌ يُصلّي ويشهَد لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما أتاهُ غيْري، وغير ابنة خويلد رحمها اللّه وقد فعل».(2)

وقال محمَّد بن إسحاق: كانت خديجة أوّلَ مَن آمن باللّه ورسوله وصدّقت بما جاء من اللّه، ووازرته على أمره، فخفّف اللّه بذلك عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من ردّ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلّافرّج اللّه ذلك عن

ص:300


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/59 قال: خديجة بنت خويلد وهي عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله محاصَرة في الشِّعب.
2- . بحار الأنوار: 16/2؛ ومثله في روايات متعدّدة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/119 و 120.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بها إذا رجع إليها تثبِّتُه، وتخفّف عنه، وتهوّن عليه أمر الناس حتّى ماتت رحمها اللّه.(1)

وعنه أيضاً: أنّ «خديجة بنت خويلد» و «أباطالب» ماتا في عام واحد، فتتابع على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هلاك خديجة وأبي طالب، وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام، وكان رسول اللّه يسكن إليها.(2)

وقال أبو أُمامة ابن النقّاش: إنّ سبق خديجة وتأثيرها في أوّل الإسلام ومؤازرتها ونصرتها وقيامها للّه بمالها ونفسها لم يشركها فيه أحدٌ لا عائشة ولا غيرها من أُمّهات المؤمنين.(3)

وقد جاء في «المنتقى»: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند ما أُمِرَ بأن يصدع بالرسالة صعد على الصفا، وأخبر الناس بما أمره اللّه به فرماه أبوجهل (قبحه اللّه) بحجر فشجّ بين عينيه، وتبعه المشركون بالحجارة فهرب حتّى أتى الجبل، فسمع عليٌّ و خديجةٌ بذلك فراحا يلتمسانه صلى الله عليه و آله و سلم وهو جائع عطشان مرهق، ومضت خديجة تبحث عنه في كلّ مكان في الوادي وهي تناديه بحرقة وألم، وتبكي وتنحب؛ ونظر جبرئيل إلى خديجة تجول في الوادي فقال: يا رسول اللّه ألا ترى إلى خديجة قد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ أُدعُها إليك فاقرئها منّي السلام وقل لها: إنّ اللّه يقرئك السلامَ، وبشّرها أنّ لها في الجنةِ بيتاً من قصب لا نصَبَ فيه ولا صخَب، لؤلؤاً مكلّلاً بالذهب؛ فدعاها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والدماء تسيلُ من وجههِ على الأرض وهو يمسحها ويردّها،... فلمّا جنّ عليهم الليل انصرفت خديجة رضي اللّه عنها ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعلي عليه السلام ودخلت به منزلها، فأقعدَتْه على الموضع الّذي فيه الصخرة، وأظلّته بصخرة من فوق رأسه، وقامت في وجهِه تستره ببُردها، وأقبلَ المشركون

ص:301


1- . بحار الأنوار: 16/10-12.
2- . نفس المصدر.
3- . تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس: 1/266.

يرمونه بالحجارة، فإذا جاءتْ من فوق رأسه صخرة وقته الصخرة، وإذا رمَوْهُ مِن تحته وقتْهُ الجدرانُ الحُيّط، وإذا رُميَ من بين يديه وقتْهُ خديجة (رضي اللّه عنها) بنفسها، وجعَلتْ تنادي يا معشر قريش تُرمى الحُرّةُ في منزلها؟ فلَمّا سمِعوا ذلك انصرفُوا عنه، وأصبَحَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وغدا إلى المسجد يُصلّي.(1)

ولقد بَلَغ من خضوعها لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحبّها له أنّها بعد أن تمَّ عقدُ زواجها برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قالت له صلى الله عليه و آله و سلم: «إلى بيتك، فبيتي بيتك، وأنا جاريتك».(2) وجاء في السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية: ولسبقها إلى الإسلام وحسن المعروف جزاها اللّه سبحانه، فبعث جبرئيل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهو بغار حراء وقال له: اقرأ عليها السَّلام من ربها ومنّي، وبشّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب؛ فقالت: هو السلام ومنه السلام وعلى جبرئيل السلام، وعليك يا رسول اللّه السلام ورحمة اللّه وبركاته، وهذا من وفور فقهها (رضي اللّه عنها) حيث جعلت مكان ردّ السلام على اللّه الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق به وما يليق بغيره، قال ابن هشام: والقصب هنا اللؤلؤ المجوّف، وأبدى السهيلي لنفي النصب لطيفة هي أنّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا دعاها إلى الإيمان أجابت طوعاً ولم تحوجه لرفع صوت ولا منازعة ولا نصب بل أزالت عنه كلّ تعب، وآنسته من كلّ وحشة، وهوّنت عليه كلّ عسير فناسب أن تكون منزلتها الّتي بشّرها بها ربُّها بالصفة المقابلة لفعلها وصورة حالها (رضي اللّه عنها) وإقراء السلام من ربها خصوصية لم تكن لسواها، وتميّزت أيضاً بأنّها لم تسؤه صلى الله عليه و آله و سلم ولم تغاضبه قط، وقد جازاها فلم يتزوّج عليها مدة حياتها، وبلغت منه ما لم تبلغه امرأة قط من زوجاته.(3)

ص:302


1- . بحار الأنوار: 18/242-243. باختصار وتصرّف يسير.
2- . بحار الأنوار: 16/4 نقلاً عن الخرائج والجرائح: 1/140.
3- . سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1/169.

افتخار أهل البيت بخديجة عليها السلام

وما يدلّ على سموّ مقامها وعلوّ منزلتها أنّ أهل البيت عليهم السلام طالما افتخروا بأنّ خديجة منهم، وأنّهم من خديجة وقد كانوا يعتزّون بها، ويشيدون بمكانتها:

فقد خطب معاوية بالكوفة حين دخلها والحسن والحسين عليهما السلام جالسان تحت المنبر فذكر عليّاً عليه السلام فنال منه ثم نال من الحسن، فقام الحسين عليه السلام ليردَّ عليه، فأخذه الحسن بيده وأجلسه ثم قام فقال:

«أيُّها الذاكِرُ عَليّاً أنا الحَسن وأبي عليّ وأنت معاويةُ وأبوك صخرٌ، وأُمّي فاطمة وأُمُّك هند، وجدّي رسُولُ اللّه وجدُّك عُتبةُ بنْ رَبيعة، وجدّتي خديجة وجدتُك قتيلة، فلعن اللّه أخْمَلَنا ذكراً، والأَمُنا حَسَباً، وشَرَّنا قديماً وحديثاً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً». فقال طوائفُ من أهل المسجد: آمين(1).

وقيل: إنّ «الحسين» عليه السلام ساير «أنس بن مالك» فأتى قبرَ خديجة فبكى، ثم قال: إذْهَبْ عَنّي قال «أنس»: فاستخفيتُ عنه فلمّا طال وقوفُه في الصلاة سمعته يقول:

يا رَبِّ يَا رَبِّ أنْتَ مَولاهُ فَاْرحَمْ عُبيْداً إلَيْكَ مَلْجاهُ

يا ذا المَعالِي عَلَيْكَ مُعْتَمدي طُوبْى لِمَنْ كُنْت أَنتَ مَوْلاهُ

طُوْبى لِمَنْ كانَ خادِماً أرقاً يَشْكُوْ إلى ذِيْ الجَلالِ بَلْواهُ

إلى آخر الأبيات.(2)

هكذا كان أهل البيت النبوي - اقتداءً برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - يحترمون خديجة ويكرمونها، لما كان لها من شخصية عظيمة، ولما أسدته إلى الإسلام وإلى رسول

ص:303


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: 16/46-47.
2- . بحار الأنوار: 44/193، نقلاً عن عيون المحاسن.

الإسلام من خدمات لا تُنسى على مرّ الدهور.

إنّ بيان ونقل الأحاديث والروايات، وكذا الأقوال الّتي وردت في شأن خديجة والحديث عن شخصيّتها ومكانتها ومدى إسهامها في إنجاح ونصرة الدعوة المحمّدية خارج عن إمكانية هذه الدراسة، ونطاقها، لذلك نكتفي بهذه الإلماعة العابرة.

ولنَعُدْ إلى تبيين الأسباب الظاهرية والباطنية لزواجها من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

العللُ الظاهرية والحقيقية وراء زواج خديجة بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

إنّ الإنسان الماديّ الّذي ينظر إلى كلّ ما يحيط به من خلال المنظار المادّي، ويفسّره تفسيراً مادّياً قد يتصوّر (وبالأحرى يظن) أنّ «خديجة» كانت امرأة تاجرة تهمُّها تجارتها، وتنمية ثروتها، ولأنّها كانت بحاجة ماسّة إلى رجل أمين قبل أي شيء، لذلك وجدت ضالّتها في محمَّد الصادق الأمين صلى الله عليه و آله و سلم فتزوّجت منه، بعد أن عرضت نفسها عليه ومحمَّد صلى الله عليه و آله و سلم هو الآخر حيث إنّه كان يعلم بغناها وثروتها، قبِل بهذا العرض رغم ما كان بينه وبينها من فارق كبير في السن.

ولكنّ التاريخ يثبت أنّ ثمّة أسباباً وعللاً معنويّة لا مادّية هي الّتي دفعت بخديجة للزواج بأمين قريش وفتاها الصادق الطاهر.

وإليك في ما يأتي شواهدنا على هذا الأمر:

1. عندما سألت «خديجة» ميسرة عمّا رآه في رحلته من فتى قريش «محمَّد» فخبّرها ميسرة بما شاهد ورأى من «محمَّد» في تلك السفرة، وبما سمعه من راهب الشام حوله أحسَّت «خديجة» في نفسها بشوق عظيم ورغبة شديدة نحوه كانت نابعة من إعجابها بمعنوية محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم وكريم خصاله، وعظيم أخلاقه، فقالت من دون إرادتها: «حسبُك يا ميسرة؛ لقد زدتني شوقا إلى محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم، إذهبْ فأنت حرٌ

ص:304

لوجه اللّه، وزوجتك وأولادك، ولَك عندي مائتا درهم وراحلتان» وخلعَت عليه خلعة سنية.(1)

ثم إنّها ذكرت ما سمعته من «ميسرة» لورقة بن نوفل وكان من حكماء العرب: فقال ورقة: «لئنْ كانَ هذا حَقّاً يا خديجة، إنّ محمَّداً لنبيُّ هذهِ الأُمُّة».(2)

2. مرَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يوماً بمنزل «خديجة بنت خويلد، وهي جالسة في ملأ من نسائها وجواريها وخدمها، وكان عندها حبرٌ من أحبار اليهود، فلمّا مرّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نظر إليه ذلك الحبر وقال: ياخديجة اعلمي أنّه قد مرّ الآن ببابك شاب حدث السن، فأمري مَنْ يأتي بهذا، فأرسلت إليه جارية من جواريها، وقالت: يا سيدي مولاتي تطلبك، فأقبل ودخل منزلَ «خديجة»،... فقال له الحبر: إكشفْ لي عَنْ بطنك، فكشف له، فلمّا رآه قال: هذا واللّه خاتم النبوّة، فقالت له خديجة: لو رآك عمه وأنت تفتّشه لحلّت عليك منه نازلة البلاء، وإنّ أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود.

فقال الحبر: ومَن يقدر على «محمَّد» هذا بسوء، هذا وحقّ الكليم رسولُ الملك العظيم في آخر الزمان، فطوبى لمن يكون له بعلاً، وتكون له زوجة وأهلاً فقد حازت شرف الدنيا والآخرة.

فتعجَّبت «خديجة»، وانصرف «محمَّد» وقد اشتغل قلبُ خديجة بنت خويلد بحبّه... فقالت: أيّها الحبر بمَ عرفت محمَّداً أنّه نبيّ؟

قال: وجدتُ صفاته في التوراة أنّه المبعوثُ آخر الزمان، يموت أبوه وأُمُّه، ويكفله جدّه وعمه، وسوف يتزوّج بامرأة من قريش سيدة قومها وأميرة عشيرتها، وأشار بيده إلى خديجة... فلمّا سمعت «خديجة» ما نطق به الحبر تعلّق قلبُها بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وكتمت أمرها، فلمّا خرج من عندها قال: إجتهدي أن لا يفوتك

ص:305


1- . بحار الأنوار: 16/52.
2- . السيرة النبوية لابن هشام الحميري: 1/123.

«محمَّدٌ» فهو الشرف في الدنيا والآخرة.(1)

3. كان لخديجة عم يقال له: ورقة، وكان قد قرأ الكتب كلّها (وكان من كُهّان قريش وقد قرأ صحف «شيث» عليه السلام وصحف «إبراهيم» عليه السلام وقرأ التوراة والإنجيل وزبور «داود» عليه السلام) وكان عالماً حبراً، وكان يعرف صفات النبيّ الخارج في آخر الزمان، وكان عند ورقة أنّه يتزوّج بامرأة سيدة من قريش، تسود قومها، وتنفق عليه مالها، وتمكّنه من نفسها، وتساعده على كلّ الأُمور، فعلم ورقة أنّه ليس بمكّة أكثر مالاً من خديجة، فرجا ورقة أن تكون ابنة أخيه خديجة، وكان يقول لها: «يا خديجة سوف تتّصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض والسماء».(2)

هذه قضايا ذكرها بعض المؤرّخين، وهي منقولةٌ ومثبتة في طائفة كبيرة من الكتب التاريخية، وهي بمجموعها تدلّ على العلل الحقيقية والباطنية لرغبة خديجة في الزواج برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وإنّ هذه الرغبة كانت ناشئة من إعجاب «خديجة» بأخلاق فتى قريش الأمين، ونبله، وطهارته، وعظيم سجاياه وخصاله وحبّها لهذه الأُمور، وليس هناك أي أثر في علل هذا الزواج لأمانة «محمَّد» وكونه أصلَح من غيره لهذا السبب للقيام بتجارة «خديجة».

كيفَ تمَّت خِطبةُ خديجة؟

من المسلّم به أنّ اقتراح الزواج جاء من جانب «خديجة» نفسها أوّلاً، حتّى أنّ ابن هشام(3) نقل في سيرته: أنّ «خديجة» لمّا أخبرها ميسرة بما أخبرها به بعثت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالت له: «يا ابْنَ عم إنّي قد رغبتُ فيك لقرابتك، وسِطَتِكَ (4)

ص:306


1- . بحار الأنوار: 16/20-21، نقلاً عن كتاب الأنوار لأبي الحسن البكري.
2- . بحار الأنوار: 16/21.
3- . السيرة النبوية: 1/122.
4- . يسط في حسبه سطة: حلّ وسطه أي أكرمه. وأصل الكلمة الواو وهو بابها، والهاء فيها عوض

في قومك، وأمانتك وحُسن خلقك، وصدق حديثك» ثمّ اقترحَت عليه أن تتزوّج به.

ويعتقدُ أكثرُ المؤرّخين أنّ «نفيسة بنت عليّة» بَلّغتْ رسالة «خديجة» إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على النحو التالي:

قالت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «يا محمَّد ما يمنعك أن تتزوّج... فإن كفيت ذلك ودُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فمَن هي؟

فقالت: خديجة، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: وكيف لي بذلك؟ فقالت: عليَّ، فذهبت إلى خديجة فأخبرتها، فأرسلت خديجة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بوكيلها «عمرو بن أسد»(1) لتحديد ساعة من أجل مراسم الخطبة في محضر من الأقارب.(2)

فشاور النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم أعمامه وفي مقدّمتهم «أبوطالب»، ثم عقدوا مجلساً فخماً حضره كبارُ وجوه قريش، ورؤساؤها فخطبَ «أبوطالب»، وبعد أنَ حَمداللّه وأثنى عليه وصفَ ابن أخيه محمَّداً بقوله:

«ثم إنّ ابْن أخي هذا محمَّد بن عبداللّه بن عبدالمطلب لا يوزَنُ برجل من قريش إلّارجح، ولا يقاس بأحد منهم إلّاعظم عنه، وإن كان في المال قل فإنّ المالَ

ص:307


1- . المعروف أنّ والد خديجة توفّي في حرب الفجار ولهذا قام بالإيجاب من قبلها عمّها عمروبن أسد، ولهذا لا يصحّ ما ذكره بعض المؤرّخين من أنّ خويلد (والد خديجة) امتنع من تزويجها لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في بداية الأمر، ثم رضي بذلك نزولاً عند رغبة خديجة.
2- . لاحظ: تاريخ الخميس: 1/264.

رزق حائل، وظِلٌّ زائلٌ، وَلَهُ في خديجة رغبةٌ ولها فيه رغبةٌ، والصَّداق ما سألتم عاجله وآجله مِن مالي...».(1)

وحيث إنّ «أباطالب» تعرَّض في خطبته لذكر قريش، وبني هاشم وفضيلتهم، ومنزلتهم بين العرب، لذلك تكلّم «ورقة بن نوفل بن أسد» الّذي كان من أقارب خديجة(2) وقال في خطبة له: «لا تنكُرُ العشيرة فضلكُمْ، ولا يَرُدُّ أحدٌ من الناس فخركم وشرفكُمْ، وقد رغبنا في الإتصال بحبلكم وشرفكُمْ».(3)

ثم أُجري عقد النكاح ومهرها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أربعمائة دينار وقيل أصدقها عشرين بكرة.(4)

عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

المعروف المشهور أنّ خديجة عليها السلام تزوّجت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهي في سنّ الأربعين وأنّها وُلدَت قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً.

وذكر البعضُ أقلَّ من ذلك أيضاً.

وقيل: إنّها تزوّجت قبل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم برجلين أوّلهما «عتيقُ بن عائذ» ثمَ من بعده أبوهالة التميمي وقد توفّي كلاهما بُعيد زواجه بخديجة.

وقد شكّك بعض العلماء في قضية زواجها قبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم برجلين بل

ص:308


1- . بحار الأنوار: 16/16-17.
2- . المعروف أنّ ورقة كان عمّاً لخديجة ولكن هذا موضع نقاش لأنّ «خديجة بنت خويلد بن أسد» وورقة بن نوفل بن أسد فيكونان أولاد عمومة، أي أنّه ابن عم خديجة وهي بنت عمّه. ولذلك جاء في بعض المصادر وصفه ب «ابن عمّها» (تاريخ الخميس: 1/282) وراجع قبله السيرة النبوية لابن هشام: 1/156.
3- . بحار الأنوار: 16/16؛ السيرة الحلبية: 1/227؛ تاريخ الخميس: 1/264.
4- . السيرة الحلبية: 1/226.

قطع بعضهم بأنّ خديجة لم تتزوج غير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فقد ذكر أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي (المتوفّى 352 ه) في الاستغاثة حيث يقول: إنّ الإجماع من الخاص والعام من أهل الآثار ونقلة الأخبار على أنّه لم يبق من أشراف قريش من ساداتهم وذوي النجدة منهم إلّامن خطب خديجة ورام تزويجها فامتنعت على جميعهم من ذلك فلمّا تزوجها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غضب عليها نساء قريش وهجرنها وقلن لها خطبك أشراف قريش وأُمراؤهم فلم تتزوّجي أحداً منهم وتزوّجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له، فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة يتزوّجها أعرابي من تميم وتمتنع من سادات قريش وأشرافها على ما وصفناه، ألا يعلم ذو التمييز والنظر أنّه من أبين المحال وأفظع المقال، ولما وجب هذا عند ذوي التحصيل ثبت أنّ خديجة لم تتزوج غير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم....(1)

وقال ابن شهرآشوب: وروى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبو جعفر في التلخيص أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تزوّج بها وكانت عذراء. يؤكد ذلك ما ذكر في كتابي الأنوار والبدع: أنّ رقية وزينب كانتا ابنتي هالة أُخت خديجة.(2)

وقال الإصبهاني في دلائل النبوّة: كانت خديجة امرأة باكراً.(3)

كما استدل المشككون على ذلك باختلاف الروايات وتناقضها حول زواج

ص:309


1- . الاستغاثة: 1/70.
2- . مناقب ابن شهرآشوب: 138/1، المكتبة الحيدرية، النجف - 1376 ه؛ بحار الأنوار: 191/22.
3- . دلائل النبوّة: 178، ط. دار طيبة، الرياض.

خديجة قبل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

وقد روي أنّه كانت لخديجة أُخت اسمها هالة تزوّجها رجل مخزومي، فولدت له بنتاً اسمها هالة، ثم خلف عليها - هالة الأُولى - رجل تميمي يقال له: أبو هند فأولدها ولداً اسمه هند، وكان لهذا التميمي امرأة أُخرى قد ولدت له زينب ورقية فماتت ومات التميمي، فلحق ولده هند بقومه وبقيت هالة أُخت خديجة والطفلتان اللّتان من التميمي وزوجته الأُخرى، وضمّتهم خديجة إليها، وبعد أن تزوّجت بالرسول صلى الله عليه و آله و سلم ماتت هالة، فبقيت الطفلتان في حجر خديجة والرسول صلى الله عليه و آله و سلم وكان العرب يزعمون أنّ الربيبة بنت، ولأجل ذلك نسبتا إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.(2)

ونكتفي بهذا المقدار خوف الإطالة. واللّه العالم.

ص:310


1- . مثل اختلافهم في اسم أبي هالة، هل هو النبّاش بن زرارة أو عكسه، أو هند، أو مالك؟ وهل هو صحابي أو لا؟ وهل تزوجته قبل عتيق، أو تزوّجت عتيق قبله؟ لاحظ: الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم: 2/208. ولاحظ أيضاً الإصابة: 3/611؛ وأُسد الغابة: 5/12 و 13 و 71.
2- . وللمزيد من التفاصيل راجع الاستغاثة: 1/68-70؛ الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم للسيد جعفر مرتضى العاملي: 2/207-219.

11 من الزواج إلى البعثة

اشارة

تُعتَبر فترةُ الشباب من أهمّ وأخطر الفترات في حياة الإنسان، ففي هذه الفترة تبلغ الغريزة الجنسية نضجها وكمالها، وتصبحُ النفسُ البشرية لعبة في أيدي الأهواء ويغلب طوفان الشهوة على فضاء العقل، ويغطّي الظلامُ سماء التفكير، وتشتد حاكمية الغرائز المادّية، وتتضاءل شعلة العقل، وتتراءى أمام عيون الشباب بين الحين والآخر، وصباح مساء صروح عظيمة من الآمال الخيالية.

ولو مَلك الإنسانُ - في مثل هذه الفترة - شيئاً من الثروة، لتحوَّلتْ حياته إلى مسألة في غاية الخطورة فالغرائز الحيوانية، وصحّة المزاج من جهة والإمكانات المادّية والمالية من جهة أُخرى تتعاضدان وتغرقان المرء في بحر من الشهوات، والنزوات، وتهيِّئان له عالماً بعيداً عن التفكير في المستقبل.

ومن هنا يصف علماء التربية تلك الفترة الحسّاسة بأنّها الحدّ الفاصل بين الشقاء والسعادة، والفترة الّتي قلّما يستطيع شاب أن يرسم لنفسه فيها مساراً معقولاً، ويختار لنفسه طريقاً واضحاً على أمل الحصول على الملكات الفاضلة، والنفسية الرفيعة الطاهرة الّتي تحفظه عن أيّ خطر متوقَع(1). حقّاً إنّ كبح جماح النفس،

ص:311


1- . وإلى هذه الحقيقة أشار الشاعر أبو العتاهية بقوله: إنّ الفراغ والشباب والجدة مَفسدة للمرء أي مفسدة أعيان الشيعة: 3/398.

وزمَّها وحفظها مِنَ الانزلاق في مهاوي الشهوات، والنزوات في مثل هذه الفترة لهو أمر عسير جدّاً، ولو أنّ الإنسانَ حُرمَ من تربية عائلية صحيحة مستقيمة كان عليه أن ينتظر مصيراً سيّئاً، ومستقبلاً في غاية البؤس والشقاء.

فَترةُ الشَبابِ في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ليس من شكّ في أنّ فتى قريش «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم كان يتمتع في أيام شبابه بصحّة جيّدة، وقوّة بدنية عالية، وكان شجاعاً قوياً، لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم قد تربّى في بيئة حرّة بعيدة عن ضوضاء الحياة، وفتح عينيه في عائلة اتّصف جميع أفرادها وأعضائها بالشجاعة والفروسية، هذا من جانب، ومن جانب آخر كان يمتلك ثروة «خديجة» الطائلة فكانت ظروفُ الترف، والعيش الشهواني متوفّرة له بشكل كامل، ولكن كيف ترى استفاد من هذه الإمكانات المادّية؟ هل مدَّ موائد العيش واللّذة وشارك في مجالس السهر والسمر واللهو واللعب، وأطلق العنان لشهوته، وفكّر في إشباع غرائزه الجنسية كغيره من شباب ذلك العصر، وتلك البيئة الفاسدة؟

أم أنَّه اختار لنفسه منهجاً آخر في حياته، واستفاد من كلّ تلك الإمكانات في سبيل تحقيق حياة زاخرة بالمعنوية، الأمر الّذي تبدو ملامحه بجلاء لمن تتبع تلك الفترة الحسّاسة من تاريخه؟ إنّ التاريخ ليشهد بأنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يعيش كما يعيش أي رجل، رجلٍ عاقل لبيبٍ وفاضل رشيدٍ، وأنّه طوى تلك السنوات الحسّاسة من حياته كأحسن ما يكون، بعيداً عن العبث والترف والضياع والإنزلاق إلى الشهوات والانسياق وراء التوافه.

بل إنّ التاريخ ليشهد بأنّه كان أشدّ ما يكون نفوراً من اللهو، والعبث، والترف والمجون فقد كانت تلوح على محيّاه دائماً آثار التفكّر والتأمّل، وكثيراً مّا كان يلجأ إلى سفوح الجبال أوالكهوف والمغارات للابتعاد عن الجوّ الإجتماعي الموبوء في

ص:312

مكّة، يلبث هناك أيّاماً يتأمّل فيها في آثار القدرة الإلهية، وفي عظمة الصنع الإلهي، الرائع البديع.

مشاعر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الإنسانية في فترة الشباب

ولقد وقعت في إحدى أسواق مكّة ذات يوم حادثة هيّجت مشاعره الإنسانية وحرّكت عواطفه وأحاسيسه، فقد رأى مقامراً قد خسر بعيره وبيته، بل بلغ الأمر به أن استرقّهُ منافسُه عشرة أعوام.

وقد آلمت هذه القصة المأساوية فتى قريش «محمَّد» بشدّة، إلى درجة أنّه لم يَعُد يحتمل البقاء في «مكّة» ذلك اليوم فغادرها من فوره وذهب إلى الجبال المحيطة بمكة ثم عاد بعد هزيع من الليل.

لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينزعج بشدة لهذه المشاهد المحزنة والأوضاع المأساوية، وكان يتعجّب من ضعف عقول قومه، وانحطاط مداركهم.

ولقد كان بيت «خديجة» قبل زواج النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم بها ملاذاً للفقراء وكعبة لآمال المساكين والمحرومين، وبعد أن تزوّج النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم بها لم يطرأ على وضع ذلك البيت أيُّ تغيير من جهة الإنفاق والبذل.

ففي سنين الجدب والقحط الّتي كانت تضرب مكّة وضواحيها بين الحين والآخر ربّما قدمت «حليمة السعدية» مكّة لتزور ولدها الرضاعي «محمَّد» فكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يكرمها ويحترمها، ويفرش رداءه تحت أقدامها، ويصغي لكلامها بعناية ولطف، وفاء لجميلها، وعرفاناً لعواطفها وأُمومتها.

فقد روي أنّ «حليمة» قدِمت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكّة بعد تزوّجه خديجة، فشكت إليه جدب البلاد وهلاك المواشي فكلَّم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «خديجة» فأعطتها بعيراً وأربعين شاة، وانصرفت إلى أهلها موفورة، مسرورة.

ص:313

وروي أيضاً أنّه استأذنت «حليمة» عليه ذات مرة فلمّا دخلت عليه قال: «أُمّي أُمّي» وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه.(1)

أولادُ خديجة

لا ريب في أنَّ وجودَ الأولاد في الحياة العائليّة ممّا يقوّي أواصر الوشيجة الزوجية، ويعمّق جُذُورها، ويمنح الجوَّ العائليّ بهاء، ورَوْنقاً، وجمالاً خاصّاً.

ولقد أنجبت «خديجةُ» لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ستة من الأولاد اثنين من الذكور، أكبرُهما «القاسم» ثم «عبدُاللّه» اللَّذان كانا يُدعَيان ب: «الطاهر» و «الطيّب» وأربعاً من الإناث.

كتب ابن هشام يقول في هذا الصدد: أكبرُ بناته رُقيَّة ثم زيْنَبْ ثم أُمُّ كلثوم، ثم فاطمة.

فأمّا الذكور من أولاده صلى الله عليه و آله و سلم فهلكوا في الجاهلية، وأمّا بناته فكلُّهن أدركنَ الإسلام.(2)

ورغم أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد عُرفَ بصبره وجَلده في الحوادث والنوائب فربّما انعكست أحزانه القلبية في قطرات دموعه الساخنة المنحدرة على خَدَّيه الشريفين في موت أولاده.

ولقد بلغ به الحزنُ والغمُ لموت ولده «إبراهيم» من زوجته ماريّة القبطية حدّاً لم يحدثْ لغيره من أولاده، إلّاأنّه رغم ذلك الحزن الآخذ من قلبه مأخذاً لم يفتر

ص:314


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 1/168-169.
2- . مناقب ابن شهرآشوب: 1/140، قرب الأسناد: 9 برقم 29؛ الخصال: 404 برقم 115؛ بحار الأنوار: 22/151-152. وقد ذكر البعض للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أكثر من ولدين، راجع: السيرة النبوية: 1/122-123؛ تاريخ الطبري: 2/35؛ بحار الأنوار: 22/166.

لسانه عن حمد اللّه وشكره حتّى أنّ أعرابياً اعترض عليه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا وجده يبكي على ولده قائلاً: يا رسول اللّه تنهى عن البكاء وأنت تبكي؟ أجابه بقوله:

«إنّما هذا رحمة، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم».(1)

حَدْسٌ لا أساس له من الواقع!!

لقد كتبَ الدكتور هيكل في كتابه: «حياة محمَّد» يقول: «لا ريب أنّ خديجة عند موت كلّ واحد منهما (أي ولدي النبيّ: القاسم وعبداللّه) في الجاهلية توجَّهت إلى آلهتها الأصنام تسألها ما بالها لم تشملها برحمتها وبرها».(2)

إنَّ هذا الكلام لا يستند إلى أي دليل تاريخي، وليس هو بالتالي إلّاحَدْسٌ باطل، وادّعاء فارغ ليس له من منشأ إلّاأنّ أغلبية أهل ذلك العصر كانوا عبَدة أوثان، فلابُدّ أنّ خديجة كانت على منوالهم!!

في حين أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يبغض الأصنام والأوثان من بداية شبابه، وقد اتّضح موقفُه منها أكثر في سفرته إلى الشام في أموال خديجة يوم قال لمن استحلفه باللّات والعزى: «إليك عنّي، ثكلتك أُمّك فما تكلَّمت العربُ بكلمةٍ أثقل عليَّ من هذه الكلمة».(3)

مع ذلك كيف يمكنُ القولُ بأنّ امرأة لبيبة عاقلة لم يكن شدّةُ حبّها وشغفها بزوجها موضعَ شكّ، أن تتوجَّه عند موت وَلديها إلى الأصنام التي كانت أبغض الأَشياء عند زوجها، وخاصّة أنّ حبّها لزوجها «محمَّد»، بل إقدامها على الزواج منه إنّما كان بسبب ما كان يتحلّى به من إيمان ومعنوية، وصفات فاضلة، وملكات

ص:315


1- . بحار الأنوار: 22/151.
2- . حياة محمَّد: 128.
3- . بحار الأنوار: 16/17.

أخلاقية عالية، فهي قد سمعت عنه بأنّه آخر نبيّ، وأنّه خاتم المرسلين، فكيف والحال هذه يمكن أن يحتمل أحد أنّها - مع هذا الاعتقاد - بثّت شكواها وحزنها إلى الأوثان والأصنام؟؟!

دَعِيُّ رسول اللّه: زيد بن حارثة

عند الحَجَر الاسود أعلن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن تبنّيه له... ذلك هو زيد بن حارثة.

وكان «زيدٌ» ممّن سباهُ العرب من حدود الشام، وباعُوه في أسواق مكّة رقيقاً لأحد أقرباء «خديجة» يُدعى «حكيم بن حزام»، ولكن لا يُعرف كيف انتقل إلى «خديجة» في ما بعد؟

يقول هيكل في كتابه «حياة محمَّد» في هذا الصدد «لقد ترك موتُ ولدَيْ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في نفس النبيّ أثراً عميقاً حتّى إذا جيء بزيد بن حارثة يُباعُ طلب إلى «خديجة» أن تبتاعه ففعلت ثم أعتقه وتبنّاه».(1)

ولكن أكثر المؤرّخين يقولون: إنّ «حكيم بن حزام» قد اشتراه لعمّته «خديجة بنت خويلد»، وقد أحبَّه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لذكائه وطهره، فوهبته «خديجة» له عند زواجه صلى الله عليه و آله و سلم منها. ففتش عنه والدُه «حارثة» حتّى عرف بمكانه في مكّة، فقدمها، ودخل على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فطلب منه أن يأذن لزيد ليرحل معه إلى موطنه، فدعاه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخيّره بين المقام معه صلى الله عليه و آله و سلم والرحيل إلى موطنه مع أبيه، فاختار المقام مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لما وجد من خلقه، وحنانه، ولطفه العظيم، فلمّا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذلك أخرجه إلى الحجر وأعتقه ثم تبنّاه على مرأى من الناس ومسمع قائلاً: «يا من

ص:316


1- . حياة محمَّد: 128.

حضر اشهدوا أنّ زيداً ابني».(1)

بدايةُ الخِلاف بَين الوثنيّين

لقد أوجدت البعثة النبويّةُ خلافاً واختلافاً كبيراً في أوساط قريش وفرّقْت صفوفهم، غير أنّ هذا الاختلاف قد وُجدت أسبابُه وعواملُه، وظهرت بوادرُه وعلائمُه قبل البعثة المباركة.

فقد أبدى جماعةٌ من الناس في الجزيرة العربية استياءهم من دين العرب وأنكروا عقائدهم الباطلة، وطالما كانوا يتحدّثون عن قرب ظهور النبيّ العربيّ الّذي يتمُّ على يديه إحياء التوحيد.

وكان اليهود يتوعّدون أهل الأصنام بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويقولون:

ليخرجنَّ نبيٌّ فَليكسرن أصنامكم.(2)

وكتب ابن هشام يقول: كان اليهود يقولون للعرب: إنّه قد تقارب زمان نبيّ يُبعث الآن نقتلكم معه قتلَ عاد وإرم.(3)

وكتب يقول أيضاً: وكانت الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى، والكهّان من العرب قد تحدّثوا بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل مبعثه.(4)

هذه الكلمات تُصوِّر انقضاء عهد الوثنية في نظرهم إلى درجة أنّ بعض القبائل أجابت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا بُعثَ، ودعاهم إلى اللّه، بينما أحجمت اليهودُ عن الإيمان به وبرسالته وبقيت على كفرها وجحودها لنبوّته الّتي طالما بشّرت بها.

ص:317


1- . أُسد الغابة: 2/225 و 226.
2- . بحار الأنوار: 15/231.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/137؛ مكتبة محمد علي صبيح، مصر.
4- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/132.

وقد نزل فيهم قولُه تعالى:

«وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (1).(2)

أعمدةُ الوثنيّة تهتزُّ

ولقد شهدَ أحدُ أعياد قريش حادثاً غريباً كان في نظر العقلاء وأصحاب الفكر الثاقب منهم بمثابة جرس إنذار اذِن باقتراب سقوط دولة الوثنيّين، وإنهيار صروح الوثنيّة وعبادة الأصنام، وانقراضها.

فقد اجتمعت قريش يوماً في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظّمونه وينحرون له، ويعكفون عنده، فتنحّى أربعةٌ ممّن عُرفوا بالعلم ناحية، وأخذوا يتحدَّثون سرّاً، وأخذوا ينتقدون عبادة الأوثان والأصنام، وما عليه قومهم من فساد العقيدة.

فقال بعضهم لبعض: تعلموا واللّه ما قومكم على شيء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم!! ما حَجرٌ نُطيف به لا يسمعُ ولا يبصرُ، ولا يضرُ ولا ينفعُ! يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً...

وكان هؤلاء الأربعة هم:

1. «ورقة بن نوفل» الَّذي اختار النصرانية واستحكم فيها، واتّبع الكتب من أهلها حتّى علم علماً من أهل الكتاب.

2. «عبيداللّه بن جَحش» الّذي أسلمَ عند ظهور الإسلام، ثم هاجر مع

ص:318


1- . البقرة: 89.
2- . السيرة النبوية: 1/137.

المسلمين إلى الحبشة. ومعه امرأته حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة، فلمّا قدمها تنصّر وفارق الإسلام، حتّى هلك هناك نصرانياً.

3. «عثمان بن الحويرث» الّذي قدم على قيصر ملك الروم، فتنصَّر.

4. «زيد بن عمرو بن نفيل» الّذي اعتزل الأوثان، وقال: اعبدُ رب إبراهيم.(1)

إنّ ظهور مثل هذا الاستنكار والجحد للأوثان والوثنية لا يعني أبداً أنَّ دعوة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت تعقيباً لدعوة هذه الجماعة، واستمراراً لها!!

كيف يمكن أنْ نعتبر دعوة رسول اللّه العالمية مع ما انطوت عليه من أهداف كبرى، واستندت إليه من معارف وأحكام لا تُحصى، ردّة فعل لمثل هذا الحادث الصغير وتعبيراً عن مثل هذا الاستنكار المحدود؟!

إنّ الحنيفية وهي سُنّة إبراهيم ودينه لم تكن قد مُحِيت كلّيّاً في الحجاز بعد أيام بعثة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، بل كان هناك لا يزال بعض الأحناف (وهم الذين كانوا على دين إبراهيم عليه السلام) منتشرين في أنحاء الجزيرة العربية، إلّاأنّ ذلك لا يعني أنّهم كانوا قادرين على التظاهر بعقيدتهم بين الناس، أو قيادة حركة، أو تربية أفراد على نهجهم، أو أنّ توجُّهاتهم التوحيدية كانت من القوّة بحيث تستطيع أن تكون مصدر إلهام لقيم ومعارف وتعاليم وأحكام لِشخصيّة مثل رسول الإسلام «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم.

فلم يُنقَل عن هؤلاء سوى بعض الإعتقادات المعدودة المحدودة مثل الاعتقاد بالمعاد واليوم الآخر، وشيء بسيط من البرامج الأخلاقية، وحتّى ما نقل عنهم من إبيات توحيدية لا يمكن تأكيد انتسابها إليهم، وإنْ لم يمكن نفي ذلك أيضاً.(2)

ص:319


1- . لاحظ: السيرة النبوية: 1/147.
2- . ولقد نقل ابن هشام في كتابه: السيرة النبوية: 1/148-152 طائفة من الأبيات والقصائد

فهل يمكن والحال هذه أن نعتبر الثقافة الإسلامية العظيمة، والمعارف العقلية العالية، والقوانين والتشريعات المفصّلة، والأنظمة الأَخلاقية والسياسية والاقتصادية الإسلامية، الشاملة الكاملة، كنتيجة لمتابعة أُولئك النفر المعدود من «الأحناف» الموحّدين المنتشرين في أنحاء مختلفة من بلاد الحجاز الذين كانت جلُ عقائدهم تتألّف من مجرد الاعتقاد بوجود اللّه، واليوم الآخر وقضية أو قضيتين من قضايا الأخلاق؟!

نموذج آخر عن ضَعف قريش

لم يكن يمض على عُمر فتى قريش أكثر من خمس وثلاثين عاماً يومَ واجه اختلافاً كبيراً بين قريش، فأزال بحكمته ذلك التخاصم، ولقد كشفت هذه الحادثة عن مدى الإحترام الّذي كان فتى قريش «محمَّد» يحظى به لدى قريش، كما وتكشف عن قوة اعتقادهم بصدقه وأمانته.

واليك تفصيل هذه الحادثة:

انحدر سيلٌ رهيب من جبال مكّة المرتفعة نحو بيت اللّه المعظّم «الكعبة المقدّسة» فلم يسلم من هذا السيل بيت في مكّة حتّى الكعبة المعظمة، الّتي تصدَّعتْ جدرانُها تصدعاً كبيراً بفعل ذلك السيل.

فعزمت قريشٌ على تجديد تلك البِنية المعظمة، ولكنّها تهيّبت ذلك، وتردّدت في هدم الكعبة، فأقدم «الوليد بن المغيرة» وهدمَ ركنين منها على شيء

ص:320

من الخوف، فانتظر أهلُ مكّة أن يحل به أمرٌ، ولكنّهم لمّا رأوا «الوليد» لم يصبه غضب من الآلهة، اطمأنّوا إلى أنّه لم يرتكب قبيحاً، وأنّه عمل ما فيه رضى آلهتهم، فأقدَمُوا جميعاً على هدم ما تبقى من الكعبة، واتّفق أن تحطّمت سفينة قادمة من «مصر» في تجارة لروميّ عند ميناء «جدة» بفعل الرياح والعواصف، فعلمت بذلك قريش، وأرسلت رجالاً يبتاعون أخشابها ليستخدموها في بناء الكعبة المعظمة، وأوكلوا أمر نجارتها إلى نجّار قِبطيّ محترف كان يقطن «مكّة».

ولمّا ارتفعت جدران الكعبة إلى قامة الرجل، وآن الأوان لوضع الحجر الأسود في محله من الركن وقع الاختلاف بين زعماء قريش، وتنازعوا في مَن يتولّى وضع الحجر الأسود في مكانه.

وتحالفت قبيلة «بني عبدالدار» مع «بني عَديّ» على أن يمنعوا من أن ينال هذا الفخار غيرُهم، وعمدوا إلى إناء مملوء بالدم فوضعوا أيديهم فيه تأكيداً لذلك الميثاق.

من هنا تأخّرت عملية البناء وتوقّفت خمسة أيام بلياليها، وكاد أن تنشب بينهم حربٌ دامية، وربّما طويلة، فقد اجتمعت طوائف مختلفة من قريش في المسجد الحرام وهي تنتظر حادثة خطيرة، فعمد - في الأخير - شيخ من شيوخ قريش يُدعى «أبو أُميّة بن مغيرة المخزومي» من زعماء قريش وقال: يا معشر قريش، إجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أوّل مَن يدخل من باب هذا المسجد(1)يقضي بينكم فيه، فقبلوا برأيه أجمع، فكان أوّل داخل عليه فتى قريش «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم فلمّا رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمَّد.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: هلم إليّ ثوباً، فأخذ الحجَر ووضعه فيه ثم قال:

ص:321


1- . وفي رواية: أوّل مَن يدخل باب الصفا.

«لتأخذْ كلُّ قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوهُ جميعاً»

ففعلوا حتّى إذا بلغوا به موضعه من الركن وضعه صلى الله عليه و آله و سلم هو بيده مكانه، وبهذا حال دون وقوع حوادث دامية كادت أن تقع بسبب تنازع قريش، واختلافها، وحلَّ الوفاق محل الشقاق بعد أن رضي الكلُّ بحكمه.(1) وإلى قضية التحكيم هذه يشير «هبيرة بن أبي وهب» في أبيات صوَّرت هذه الحادثة التاريخية الكبرى، إذ قال:

تشاجَرَتِ الأحياء في فَصْل خطةٍ جرت طيرهم بالنَحس مِن بعد أسعد

فلاقَوا لها بالبُغض بعد مَودَّة وأوقدوا ناراً بينهم شرّ موقد

فلما رأينا الأمر قد جدَّ جدُّه ولم يبقَ شيء غيرُ سلّ المهند

رضينا وقلنا العدل أوّلُ طالع يجيء من البطحاء على غير موعد

فلم يفجأنا إلّاالأمينُ محمَّدٌ فقلنا رضينا بالأمين محمَّد

بخير قريش كلِّها أمسى شيمة وفي اليوم مع ما يُحدثُ اللّه في غد

فجاء بأمر لم ير الناس مثلَه أعمَّ وأرضى في العواقب والبَدِ

فتلك يدٌ منهُ علينا عظيمة يروح بها ركب العراق ويغتذ(2)

ص:322


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/124-127.
2- . إمتاع الأسماع: 4/108. والجدير بالذكر أنّهم قالوا عند تجديد بناء الكعبة: «يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها مِن كسبكم إلّاطيّباً، لا يدخلُ فيها مهر بغيّ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس» (البداية والنهاية: 2/368) ولا شكّ أنّ هذه من بقايا تعاليم الأنبياء الّتي بقيت بينهم ولم تمح بالمرّة.

أمينُ قَريشُ يَكْفُلُ عَليّاً

أجدبت مكةُ وضواحيها سنة من السنين، وقلّ فيها الماء، وأصابت الناس أزمة شديدة، وكان أبوطالب عليه السلام كثير العيال، فعزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أن يساعد عمّه أباطالب، ويخفّف عنه عبء العيال، فانطلق إلى عمّه العباس وقال له: «إنّ أخاك أباطالب كثير العيال وقد أصابَ الناس ماترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفّفْ من عياله، آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنتَ رَجلاً».

فكفل العباسُ جعفراً، وكفل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً عليه السلام.

يقول أبوالفرج الاصفهاني المؤرّخ المعروف في هذا الصدد:

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذ «عليّاً» من أبيه وهو صغير في سنة أصابت قريشاً وقحط نالهم، وأخذ حمزة جعفراً، وأخذ العباس طالباً ليكفوا أباهم مؤونتهم ويخفّفوا عنهم ثقلهم، وأخذ هو (أي أبوطالب) عقيلاً لميله كان إليه فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «اخترتُ مَن اختار اللّه لي عليكم: عليّاً».(1)

إنّ هذه الحادثة وإن كانت في ظاهرها تعني أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أقدم على هذا الأمر ليساعِدَ عمَّه أباطالب في تلك الأزمة، لكن الهدف الأعلى والأخير كان أمراً آخر وهو أنْ: يتربّى علي عليه السلام في حجر النبيّ، ويغتذي من مكارم أخلاقه ويتبعه في كريم أفعاله.

ولقد أشار الإمام عليُّ عليه السلام نفسُه إلى هذا الموضوع بقوله:

«وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعي مِنْ رَسُول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالقَرابَةِ القريبَة وَ المَنزِلَةِ الخَصيْصَة، وضعني في حجره وَ أنا ولَد يَضمُّنِي إلى صَدْرهِ وَ يَكنفُني في فِراشِه... وَ

ص:323


1- . مقاتل الطالبيين: 15؛ السيرة النبوية: 1/162 باب أنّ عليّ بن أبي طالب أوّل ذكر أسلم.

لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبعُهُ اتّباعَ الفَصِيْل أَثر أُمِّه، يَرفَعُ لِي في كُلِّ يَوْم مِنْ أخْلاقِهِ عَلَماً، وَيأمُرُني بالإقتداء بِه»(1).

إيمان النبيّ وآبائه وكفلائه قبل الإسلام

تدلُّ الدلائل التاريخيّة، القوّية، فضلاً عن الأدلّة العقلية والمنطقية على أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لم يعبُدْ غير اللّه تعالى منذ وُلِدَ، وإلى أن رحل إلى ربّه، بل وكان كفلاؤه مثل عبدالمطلب وأبي طالب مؤمنون موحِّدُونَ هم أيضاً:

إيمان جدّه عبدالمطّلب

وأمّا عبدالمطلب كفيل النبيّ الأوَّل فلا ننسى أنّه عندما قصد «أبرهة» هدم الكعبة في جيش الفيل، نزل في جوف الليل إلى الكعبة وأخذ بحلقة بابها يَدْعو اللّه سبحانه ويناجيه:

«اللّهم أنيسَ المُسْتَوحشِين، ولا وحشة مَعكَ، فالبيتُ بَيْتُكَ، والحرم حرمك، والدارُ دارُك، ونحنُ جيرانكَ، انّك تمْنَعُ عَنْه ما تشاء، وربّ الدّار أولى بالدّار».(2)

ثم أنشأَ يقول:

يا ربّ لا أرجُو لَهُمْ سِواكا ياربِّ فاْمنَعْ مِنْهُمُو حِماكا

إنَ عَدُوَّ الْبيْت مَنْ عاداكا إمنَعْهُمُو أن يُخربوا فناكا(3)

وهذا يكشف بوضوح عن إيمان عبدالمطلب باللّه تعالى، وتوكّله عليه سبحانه، وأنّه كان الرجل الموحّد الّذي لا يلتجئ في المصائب والمكاره إلى غير

ص:324


1- . نهج البلاغة: الخطبة 192.
2- . بحار الأنوار: 15/66.
3- . الكامل في التاريخ: 1/444؛ بحار الأنوار: 15/70. ولعبدالمطلب مواقف أُخرى مشابهة، وعديدة، راجع بصددها مفاهيم القرآن: 5/136-140.

كهف اللّه، ولا يعرف إلّاباب اللّه على عكس ما كانت الوثنية عليه فإنّ قومه كانوا يستغيثون بالأصنام المنصوبة حول الكعبة.

وممّا يدلّ على إيمانه أيضاً توسّله لكشف غمّته باللّه سبحانه فقد تتابعت على قريش سنون جدب ذهبت بالأموال، وأشرفت الأنفس واجتمعت قريش لعبدالمطلب، وعَلَوا جبل أبي قبيس ومعهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم محمَّد وهو غلام فتقدّم عبدالمطلب وقال: لاهم (أي اللّهم) هؤلاء عبيدك وإماؤك وبنو إمائك، وقد نزل بنا ماترى، وتتابعت علينا هذه السنون فذهبت بالظلف والخف والحافر، - أي الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير - فأشرفت على الأنفس - أي أشرفت على ذهابها - فأذهِب عنا الجدب، وائتنا بالحياء والخصب، فما برحوا حتّى سالت الأودية، وفي ذلك تقول رقيقة:

بشيبة الحمد أسقى اللّه بلدتنا وقد عدمنا الحيا واجلوّذ المطر

إلى أن تقول:

مبارك الاسم يستسقى الغمام به ما في الأنام له عدل ولا خطر(1)

وإلى هذه الواقعة يشير أبوطالب في قصيدة أوّلها:

أبونا شفيع الناس حين سقوا به من الغيث رجاس العشير بكور

ونحن - سنين المحل - قام شفيعنا بمكة يدعو والمياه تغور

وقد نقل الشهرستاني هذه الواقعة في كتابه «الملل والنحل» قال: وممّا يدلّ

ص:325


1- . السيرة الحلبية: 1/181-182.

على معرفته (أي عبدالمطلب) بِحال الرسالة وشرف النبوة أنّ أهل مكّة لمّا أصابهم ذلك الجدب العظيم، وأمسك السحاب عنهم سنتين أمر أباطالب ابنه، أن يُحضر المصطفى محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم فأحضره أبوطالب، وهو رضيع في قماط، فوضعه في يديه واستقبل الكعبة، ورماه إلى السماء، وقال: يا رب بحقّ هذا الغلام، ورماه ثانياً وثالثاً وكان يقول: بحقّ هذا الغلام أسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلاً، فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر، حتّى خافوا على المسجد.(1)

وقال أيضاً: وببركة ذلك النور كان عبدالمطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثّهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيات الأُمور.(2)

وببركة ذلك النور كان يقول في وصاياه: «إنّه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتّى ينتقم اللّه منه وتصيبه عقوبة»، إلى أن هلك رجل ظلوم حتف أنفه لم تصبه عقوبة، فقيل لعبدالمطلب في ذلك، ففكّر وقال: واللّه إنّ وراء هذا داراً يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب فيها المسيء بإساءته.(3)

إنّ توسّل عبدالمطلب باللّه سبحانه وتولّيه عن الأصنام والأوثان، والتجاءه إلى ربّ الأرباب آية توحيده الخالص، وإيمانه باللّه وعرفانه بالرسالة الخاتمة، وقداسة صاحبها، فلو لم يكن له إلّاهذه الوقائع لكفت في البرهنة على إيمانه باللّه، وتوحيده له.

وقد اعترف المؤرّخون لعبدالمطلب بهذا، فقد قال اليعقوبي: «ورفض (عبدالمطلب) عبادة الأصنام، ووحّدَ اللّه عزّوجلّ، ووفى بالنذر، وسنّ سنناً نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنّة الشريفة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بها، وهي: الوفاء

ص:326


1- . الملل والنحل: 2/240؛ دار المعرفة، بيروت.
2- . الملل والنحل: 2/239.
3- . الملل والنحل: 2/239-240.

بالنذور، ومائة من الإبل في الدية، وأن لا تنكح ذاتُ محرم، ولا تؤتى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءُودة، والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزنا، والحدّ عليه، والقرعة، وأن لا يطوف أحد بالبيت عرياناً، وإضافة الضيف، وأن لا ينفقوا إذا حجّوا إلّامن طيّب أموالهم، وتعظيم الأشهر الحُرُم، ونفي ذوات الرايات.(1)

هذا وعن أُم أيمن «رضي اللّه عنها» قالت: كنتُ أحضن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم (أي أقوم بتربيته وحفظه)، فغفلت عنه يوماً فلم أدر إلّابعبدالمطلب قائماً على رأسي يقول «يا بركة».

قلت: لبيك.

قال: أتدرين أين وجدتُ ابني؟

قلت: لا أدري.

قال: وجدته مع غلمان قريباً من السدرة، لا تغفلي عن ابني، فإنّ أهل الكتاب يزعمون أنّه نبيّ هذه الأُمّة، وأنا لا آمن عليه منهم.

وكان عبدالمطلب لا يأكل طعاماً إلّايقول عليّ بابني (أي أحضروه). قال:

وكان عبدالمطلب إذا أتى بطعام أجلس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى جنبه، وربّما أقعده على فخذه، فيؤثره بأطيّب طعامه.(2)

ثم إنّه لمّا بلغ أجله أوصى إلى أبي طالب برسول اللّه وقال له: قد خلّفت في أيديكم الشرف العظيم الّذي تطئون به رقاب العرب، وقال لأبي طالب:

أُوصيك يا عبد منافٍ بعدي بمفرد بعد أبيه فرد

ص:327


1- . تاريخ اليعقوبي: 2/10-11، دار صادر بيروت. وفي بعض ما عدّه المؤرّخ المذكور نظر.
2- . سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1/180.

فارقهُ وهو ضجيع المهد فكنت كالأُمّ له في الوجد

تدنيه من أحشائها والكبد فأنت من أرجى بنيي بعدي

لدفع ضيم أو لشدّ عقدِ(1)

هذا هو عبدالمطلب، وتعوّذه ببيت اللّه الحرام، ومواقفه بين قومه، وكلماته في المبدأ والمعاد، وعطفه وحنانه على رسول الإسلام، واهتمامه برسالة خاتم النبيّين، وهي بمجموعها من أقوى الشواهد على توحيده، وإيمانه باللّه، واعترافه برسالة الرسول الكريم.

إيمان كفيله وعمه أبي طالب

وهكذا كان حال كفيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الثاني أبوطالب عليه السلام، فإنّ له مواقفَ بارزة وكثيرة قبل البعثة النبوية، وبعدها تكشف عن عمق إيمان شيخ الأباطح، وتوحيده.

ومن تلك المواقف استسقاؤه برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في صباه:

فقد أصاب مكّة قحطٌ شديدٌ في سنة من السنين فطلبت قريش من «أبي طالب» أن يستسقي لها فخرج ومعه غلامٌ - وهو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - كأنّه شمسُ دجن تجلّت عنها سحابة قتماء وحوله أُغيلمةٌ، فأخذه «أبوطالب» فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بإصبعه (أي أشار بها إلى السماء) وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا، وأغدق، واغدودق وانفجر له الوادي، وأخصب البادي والنادي.

ففي ذلك يقول أبوطالب - في مدح رسول اللّه -:

وابيضُ يُستَسقى الغمامُ بوجهه ثمالُ اليتامى عِصْمةٌ لِلأرامِلِ

ص:328


1- . تاريخ اليعقوبي: 2/13.

يَلُوذُ بِهِ الهُلاكُ مِن آلِ هاشِم فَهُمْ عِنْدهُ في نَعمةٍ وَفَواضِل

وميزانُ عَدْل لايَخيسُ شعيرة ووَزّانُ صِدْق وزنُه غير هائل(1)

وكلّ هذا يعرب عن توحيد كفيلي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الخالص، وإيمانهما باللّه تعالى، ولو لم يكن لهما إلّاهذين الموقفين لكفياهما دليلاً وبرهاناً على كونهما مؤمنين موحّدِين.

كما أنّ ذلك يدل أيضاً على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نشأ وترعرع ونما في بيتٍ كانت الديانة السائدة فيه هي توحيد اللّه، وعبادته وحده ورفض الأصنام والأوثان.

إيمان والدَي النبيّ الأكرم

لقد نقلت عن عبداللّه والد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلمات وأبيات تدلّ على إيمانه ومن ذلك ما نقله أهل السير عندما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه لما كانت ترى على وجهه من النور، فأبى وقال:

أمّا الحرامُ فالمماتُ دونَه والحِلّ لاحِلّ فاستبينُه

يحمي الكريمُ عرضَه ودينَه فكيفَ بالأمر الّذي تبغينه(2)

وقد روي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «لم أزلْ أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» ولعلّ فيه إيعازاً إلى طهارة آبائه وأُمّهاته من كلّ دنس وشرك.(3)

وأمّا الوالدة فيكفي في إثبات إيمانها ما رواه الحفّاظ عنها عند وفاتها فإنّها

ص:329


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 1/190، وللتوسّع راجع الغدير: 7/345 و 346، وقد ذكرنا مواقف أبي طالب الإيمانية عند البحث عن شخصيته فراجع.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/235؛ السيرة الحلبية: 1/63.
3- . سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1/58.

(رضي اللّه عنها) خَرجت مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهو ابن خمس أو ست سنين ونزلت بالمدينة تزور أخوال جدّه وهم بنو عدي بن النجار ومعها أُمّ أيمن «بركة» الحبشية، فأقامت عندهم، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر أُموراً حدثت في مقامه ويقول: إنّ أُمّي نزلت في تلك الدار، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إليّ فنظر إليَّ رجلٌ من اليهود فقال: يا غلام ما اسمك؟ فقلت: أحمد، فنظر إلى ظهري، وسمعته يقول: هذا نبيّ هذه الأُمّة، ثم راح إلى إخوانه فأخبرهم، فخافت أُمّي عليِّ فخرجنا من المدينة، فلمّا كانت بالأبواء توفّيت ودُفنت فيها.

وروى أبو نعيم في «دلائل النبوّة» عن أسماء بنت رهم قالت: شهدت آمنة أُمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في علّتها الّتي ماتت بها، ومحمَّد عليه السلام غلام يفع (أي يافع) له خمس سنين عند رأسها فنظرت إلى وجهه وخاطبته بقولها:

إن صحَّ ما أبصرتُ في المنام فأنت مبعوثٌ إلى الأنام

فاللّه أنهاكَ عن الأصنام أن لا تواليها مع الأقوام

ثمّ قالت: كلّ حيّ ميّت، وكلّ جديد بال، وكلّ كبير يفنى، وأنا ميّتة وذكري باق وولدتُ طهراً. وقال الزرقاني في شرح المواهب نقلاً عن جلال الدين السيوطي تعليقاً على قولها: وهذا القول منها صريح في أنّها كانت موحِّدة إذ ذكرت دين إبراهيم عليه السلام، وبشّرت ابنها بالإسلام من عنداللّه، وهل التوحيد شيء غير هذا، فإنّ التوحيد هو الاعتراف باللّه وأنّه لا شريك له، والبراءة من عبادة الأصنام.(1)

ونلفت نظر القارئ الكريم هنا إلى ما قاله المرحوم الشيخ المفيد في كتابه «أوائل المقالات» في هذا الصدد:

ص:330


1- . الإتحاف للشبراوي: 144؛ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1/57.

اتّفقت الإمامية على أنّ آباء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من لدن آدم إلى عبداللّه بن عبدالمطلب مؤمنون باللّه عزّوجلّ موحّدون له، واحتجّوا في ذلك بالقرآن والأخبار. قال اللّه عزّوجلّ: «اَلَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ * وَ تَقَلُّبَكَ فِي السّاجِدِينَ» (1).(2)

ثمَّ إنّ هنا سؤالين هما:

1 - هل كان صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة مُوحِّداً؟

2 - بماذا وبأيِّ دين كان يتعبَّد صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة؟

وإليك الحديث فيهما:

إيمان النبيّ باللّه وتوحيده قبل البعثة

إنَ الدلائل التاريخية - بالإضافة إلى البراهين العقلية والكلامية - تدلّ على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان قبل أن يبعثه اللّه بالإسلام، مؤمناً باللّه، موحّداً إيّاه، لم يعبد وثناً قط، ولم يسجد لصنمٍ أبداً، وإنّ ذلك من المسلّمات.

وهذا الأمر وإن كان أمراً مسلّماً وواضحاً كوضوح الشمس، إلّاأنّنا نذكر بعض ما جاء في التاريخ الثابت الصحيح ليقترن ذلك الاتّفاق بأصحّ الدلائل التاريخية:

أمّا بغضه للأَصنام وتجنبه للأوثان وما يكون من هذا القبيل، فإليك بعض ما ذكره التاريخ الصحيح في هذا المجال:

1. جاء في حديثٍ طويلٍ عن حليمة السعدية إنَّ النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا تمّ له ثلاث

ص:331


1- . الشعراء: 218-219.
2- . أوائل المقالات: 45، دار المفيد، بيروت - 1414 ه.

سنين قال لي يوماً: يا أُمّاه (مرضعته حليمة السعدية): مالي لا أرى أخَويَّ بالنهار؟ قلت له: يا بُنيّ إنّهما يرعَيان غُنَيْمات.

قال: فمالي لا أخرج معهما، قلت له: تحبُ ذلك؟ قال: نعم. فلمّا أصبَحَ محمَّد دهّنته (تقول حليمة) وكحّلته وعلّقتُ في عنقه خيطاً فيه جِزعٌ يمانيّ، فنزعها ثم قال لي:

«مَهْلاً يا أُمّاهُ فَإنَّ مَعِيَ مَنْ يَحفظني».(1)

2. روي أنّ «بَحيرا» الراهب قال للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في سفرته الأُولى مع عمّه أبي طالب إلى الشام: ياغلام أسألك بحقّ اللّات والعزى إلّاأخبَرْتَني عمّا أسألك، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا تسأَلْنِي باللّات والعُزّى فواللّه ما أبغَضتُ شَيئاً بغضَهُما» قال (الراهب):

فباللّه إلّاأخْبَرْتني عمّا أسالك عنه، قال صلى الله عليه و آله و سلم: سَلْني عمّا بدا لك.(2)

3. روي أنّه قد وقع بين النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وبين رجل تلاح في سفرته الثانية إلى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها «ميسرة» بعد أن باع صلى الله عليه و آله و سلم سلعته، فقال له الرجل: إحلِفْ باللّات والعزى، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«ما حلفتُ بهما قطُّ، وإنّي أمُرُّ فأُعرِضُ عنهما».

وفي رواية أُخرى:

«إليكَ عَني ثكلتْكَ أُمُّكُ فما تكلّمت العربُ بكلمة أثقلَ عليَّ من هذه الكلمة».

فقال الرجل: القولُ قولك. ثم قال لميسرة: هذا واللّه نبيّ تجده أحبارنا

ص:332


1- . المنتقى، الباب الثاني من القسم الثاني - للكازروني كما في البحار: 15/392.
2- . الطبقات الكبرى: 1/154، السيرة النبوية: 1/117.

منعوتاً في كتبهم.(1)

وأمّا عبادته للّه تعالى فقد أجمع المؤرّخون على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يخلو بحراء كلّ عام شهراً يعبد فيه اللّه تعالى.

وقد قال الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في هذا المجال:

«وَ لَقَدْ كانَ يُجاورُ في كلِّ سَنة بحراء، فأراه وَ لا يراهُ غيري».(2)

حتّى أنّ جبرئيل وافاهُ بالرسالة في ذلك المكان، وفي تلك الحال.

وقد صَرَّح بهذا أصحابُ الصحاح الستة أيضاً إذ قالوا:

«وَ كانَ يخلو بغار حراء فيتحنّثُ فيه، وهو التعبّد الليالي ذوات العدد».(3)

كما أنّ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام وصف هذا المقطع من حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بقوله:

«ولقد قرَن اللّه به صلى الله عليه و آله و سلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ».(4)

وجاء في الأخبار أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حجّ قبل البعثة حجّات عديدة وكان يأتي بمناسكها على وجه صحيح بعيداً عن أعين قريش.

قال الإمامُ الصادقُ عليه السلام: في حديث ابن أبي يعفور:

«حج رَسُولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عشر حجَّات مُستتراً في كُلِّها».(5)

وفي رواية: عشرين حجّة.(6)

ص:333


1- . الطبقات الكبرى: 1/130؛ بحار الأنوار: 16/17-18.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 192.
3- . صحيح البخاري: 1/3، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؛ صحيح مسلم: 1/97، باب بدء الوحي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.
4- . نهج البلاغة: الخطبة رقم 192.
5- . وسائل الشيعة: ج 8، الباب 45 من أبواب وجوب الحج وشرائطه، الحديث 5.
6- . وسائل الشيعة: ج 8، الباب 45 من أبواب وجوب الحج وشرائطه، الحديث 6.

والسبب في هذا الاستتار هو أنّ قريش كانت قد أسقطت بعض مناسك الحج، والعمرة، فكانت تؤدّي الحج بصورة غير صحيحة وربّما غيّرت أشهر الحج أحياناً لبعض الاعتبارات السياسية والمادّية، وهو ما سمّي بالنسيء، وقد مرّ بيانه.

إنّ هذه الوقائع وغيرها - وهي ليست بقليلة - أصدق دليل على إيمانه صلى الله عليه و آله و سلم، وتوحيده، إذ كيف يمكن أن يتنكَّب مثل هذه الشخصية الّتي نشأت وترعرعت في ذلك البيت الطاهر، وقرن اللّه به ملكاً يتولّاه بالتربية والهداية عن جادة التوحيد.

ثم إنّ ممّا لا ريب فيه أنّ الرسول الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم هو أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين بنصّ القرآن الكريم.

وقد صرّح القرآن بأنّ بعض الأنبياء بلغوا درجة النبوّة في الصغر، أو الصبا، ونزلت عليهم الكتب في تلك الفترات.

فَمثلاً يقول القرآن الكريم عن يحيى بن زكريا: «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» .(1)

ثم يقول عن «عيسى بن مريم» عندما كان في المهد وكان وجوه القوم من بني اسرائيل قد استنكروا ولادته من غير أب، وطلبوا من «مريم البتول» أن توضّح لهم الأمر، وتبيّن لهم كيف حملت بعيسى؟!! فأشارت إلى المسيح عليه السلام أن كلِّموه وهو آنذاك في المهد لم يمض على ولادته سوى أيام معدودات؛ فنطق المسيح بفصاحة كبيرة وقال:

«إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» .(2)

ص:334


1- . مريم: 12.
2- . مريم: 30-31.

لقد بيَّن وليد «مريم» للناس أُصول دينه وفُروعه في فترة الطفولة والرضاعة، وأعلن لهم عن توحيده وإيمانه باللّه سبحانه.

فهل يرضى ضميرك أيّها القارئ الكريم أن يكون «يحيى» و «المسيح» عليهما السلام مؤمنين معلنين عن توحيدهما، وإيمانهما منذ طفولتهما، وصباهما، ويكون أفضل الأنبياء والمرسلين، وأشرف الخلق أجمعين إلى سِنّ الأربعين على غير إيمان، وتوحيد، مع أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان مشتغلاً بالتعبّد في جبل «حراء» عند نزول الوحي عليه لأوّل مرّة؟

وإليك بعض ما قاله المؤرّخون، والعلماء في هذا المجال استكمالاً لهذا المبحث: قال ابن هشام: فكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يجاور ذلك الشهر من كلّ سنة يطعم مَن جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جواره من شهره ذلك، كان أوّل ما يبدأ به إذا انصرف من جواره، الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوفُ به سبعاً أو ما شاء اللّه من ذلك، ثم يرجع إلى بيته حتّى إذا كان الشهر الّذي أراد اللّه تعالى به فيه ما أراد من كرامته من السنة الّتي بعثه اللّه تعالى فيها، وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى «حراء» كما كان يخرج لجواره ومعه أهله حتّى إذا كانت الليلة الّتي أكرمه اللّه فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبرئيل عليه السلام بأمر اللّه تعالى.(1)

وقال العلّامة المجلسي: وقد ورد في أخبار كثيرة أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يطوف، وأنّه كان يعبد اللّه في حراء، وأنّه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية والتحميد عند الأكل وغيره، وكيف يجوّز ذو مسكة من العقل على اللّه تعالى أن يهمل أفضل أنبيائه أربعين سنة بغير عبادة؟ والمكابرة في ذلك سفسطة.(2)

ص:335


1- . السيرة النبوية: 1/155.
2- . بحار الأنوار: 18/280.

فإيمان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وتوحيده قبل البعثة، إذن، أمرٌ مسلّمٌ لا شبهة فيه، ولا غبار عليه.

ولكن بعض الكُتّاب من المسيحيين ومن تبعهم، من المستشرقين وغيرهم، أبوا إلّاأن ينتقصوا النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فادّعوا ضلالَهُ قبل البعثة، وإنّه كان على غير إيمان، أو توحيد، واستدلّوا لزعمهم الباطل هذا بما توهّموا أنّه يدلّ على دعواهم من الآيات القرآنية، وأبرزها الآيات التالية:

1. «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَ وَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى» .(1)

2. «وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ * وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ» .(2)

3. «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .(3)

4. «قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» .(4) 5. «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» .(5)

شبهات المستشرقين على عدم إيمان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة

اشارة

لقد استدلّ المستشرقون ومَن لفّ لفّهم ومن سبقهم أو لحقهم من المخطّئة بهذه الآيات على ضلال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة، وسلب الإيمان عنه، ولكنّها لا تدلّ على ما يريدون، ولأجل تسليط الضوء على مقاصدهم نبحث عنها واحدة واحدة.

ص:336


1- . الضحى: 6-7.
2- . المدّثر: 4-5.
3- . الشورى: 52.
4- . يونس: 16.
5- . القصص: 86.

الآيةُ الأُولى: الهداية بعد الضلالة

ذكرالمفسّرون لقوله تعالى: «وَ وَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى» (1) الّذي يشعر بهداية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد الضلالة احتمالات عديدة، في معرض الإجابة عن استدلال مَن استدلّ به لإثبات ضلال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة، ولكن الحقّ أن يقال: إنّ الضال يُستعمل في عرف اللغة في موارد:

1. الضالّ: من الضلالة ضدّ الهداية والرشاد.

2. الضالّ: من ضلّ البعير إذا لم يعرف مكانه.

3. الضالّ: من ضلّ الشيء إذا ضؤل وخفى ذكره.

وتفسير الآية بأيّ واحدة من هذه المعاني لا يثبت ما يدّعيه الذين يتمسّكون بها لأثبات ضلال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة.

أمّا المعنى الأوّل فهو المقصود في كثير من الآيات قال سبحانه: «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ» .(2)

لكن الضلالة على نوعين:

النوع الأوّل ما تكون الضلالة فيه أمراً وجودياً في النفس يوجب ظلمة النفس ومنقصتها، مثل الكفر والشرك والنفاق، والضلالة بهذا المعنى قابلة للزيادة والنقصان قال سبحانه: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ» .(3)

النوع الثاني ما تكون الضلالة فيه أمراً عدَمياً، وذلك عندما تكون النفس فاقدة للرشاد، وعندئذ يكون الإنسان ضالّاً بمعنى أنّه غيرُ واجدٍ للهداية من عند نفسه، وذلك كالطفل الّذي أشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير والشر، ويميز

ص:337


1- . الضحى: 7.
2- . الفاتحة: 7.
3- . التوبة: 37.

بين الصلاح والفساد فهو آنذاك ضالٌّ بمعنى أنّه غير واجد للنور الّذي يهتدي به في سبل الحياة، لا بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في نفسه وروحه.

والمراد من الضالّ في قوله تعالى «وَ وَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى» لو كان ما يضادد الهداية فهو يهدف إلى النوع الثاني، فيكون المعنى أنّك في إبّان عمرك كنت غير واجدٍ للهداية من عند نفسك فهداك اللّه إلى أسباب السعادة وعرفك عوامل الشقاء، وهو إشارة إلى قانون إلهي عام في حياة البشر أنبياء وأُناساً عاديين، وهو أنّ هداية كلّ إنسان بل كلُّ ممكن مكتسبة من اللّه قال سبحانه: «قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» .(1)

وعلى هذا الأساس فالآية تهدف إلى ذكر النعم الّتي أنعم اللّه بها على نبيّه الحبيب منذ أن استعدّ لها فآواه بعد ما صار يتيماً، وأفاض عليه الهداية بعدما كان فاقداً لها بحسب ذاته، وبحكم طبيعته، ويعود زمن هذه العناية الربّانية بنبيّه إلى مطلع حياته، وأُوليات عمره وأيام صباه بقرينة ذكر ذلك بعد الإيواء الّذي تحقّق باليتم، وتمّ بجدّه عبدالمطلب فوقع في كفالته إلى ثمانية سنين. ويؤيّد ذلك قولُ إمام المتّقين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: «و لقد قَرنَ اللّه به صلى الله عليه و آله و سلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ».(2)

وصفوة القول: إنّ المراد بكونه ضالّاً هو أنّ لازم كون النبيّ ممكناً بالذات هو كونه فاقداً في ذاته لكلّ كمال وجمال، مفاضاً عليه كلّ جميل من جانب اللّه تعالى، وهذا هو إشارة إلى مقتضى التوحيد الافعالي، وأين هذا من الضلالة المساوقة

ص:338


1- . طه: 50؛ وراجع الآيات: 2 و 3 من سورة الأعلى، و 43 من سورة الأعراف، و 78 من سورة الشعراء، وغيرها.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 192.

للكفر أو الشرك أوالفسق والعصيان؟!

ثم إنّ من المحتمل أن تكون الضلالة في الآية مأخوذة من «ضلّ الشيء إذا لم يُعرف مكانه» وفي الحديث «الحكمة ضالّة المؤمن» أي مفقودته، لاضدّ الهداية والرشاد، فيكون الضالّ بهذا المعنى منطبقاً على ما نقله أهلُ السير والتواريخ عمّا جرى للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في أيام صباه يوم ضلّ في شعاب مكّة، وهو صغير فمنّ اللّه عليه إذ ردّه إلى جدّه، وقصته معروفة في كتب السير والتاريخ(1)، ولولا رحمة اللّه سبحانه لأدركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً فشملتهُ العناية الإلهية.

أو أن تكون الضلالة في الآية مأخوذة من «ضلّ الشيء إذا خفي وغاب عن الأعين» فالإنسان الضال هو الإنسان المخفيّ ذكره، المنسيّ اسمُه لا يعرفه إلّاالقليل من الناس، ولا يهتدي كثير منهم إليه.

ولو كان هذا هو المقصود، كان معناه حينئذٍ أنّه سبحانه رفع ذكره، وعرّفه للناس بعدما كان خاملاً ذكره منسيّاً اسمُه.

ويؤيّد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح الّتي نزلت لتوضيح ما ورد في سورة الضحى قائلاً:

«أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ * اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» .(2)

فرفع ذِكْره في العالم عبارة عن هداية الناس إليه، ورفع الحواجز بينه وبينهم، وعلى هذا فالمقصود من «الهداية» هو هداية الناس إليه لا هدايته بعد ضلال، فكأنّه

ص:339


1- . لاحظ السيرة الحلبية: 1/180. وغيره، وفي هذه القصة يروي عن حيدة بن معاوية العامري سمعت شيخاً يطوف بالبيت وهو يقول: ياربّ ردّ راكبي محمَّداً أردده ربّي واصطنع عندي يدا
2- . الإنشراح: 1-4.

قال: فوجدك ضالاً، أي خاملاً ذكرك، باهتاً اسمُك، فهدى الناس إليك، وسيّر ذكرك في البلاد.

وإلى ذلك يشير الإمام الرضا عليه السلام على ما في خبر ابن الجهم بقوله: «قال اللّه عزّوجلّ لنبيه محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم: «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى» يقول «ألم يَجدْكَ» وحيداً فآوى إليك الناسَ «وَ وَجَدَكَ ضالاًّ» يعني عند قومك «فَهَدى» أي هَداهُمْ إلى معرفَتِك»(1). قال الأُستاذ الشيخ محمَّد عبده في هذا المجال:

لقد بُغِّضتْ إليه (أي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم) الوثنيّةُ من مبدأ عمره فعاجلته طهارةُ العقيدة، كما بادره حسنُ الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله: «وَ وَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى» لا يُفهَم منه أنّه كان على وثنيةٍ قبلَ الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم، قبل الخلق العظيم حاشَ للّه، إنّ ذلكَ لهوَ الإفكُ المُبِين(2).

الآية الثانية: الأمر بهجر الرجز

استدلّوا بقول اللّه تعالى: «وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ» على وجود أرضية لعبادة الصنم والوثن في شخصية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وذلك بتفسير الرجز بالصنم، والوثن، ويتّضح بطلان هذا الادّعاء والاستنباط إذا أمعنّا في معاني واستعمالات هذه اللفظة في الكتاب العزيز.

إنّ الرجز استعمل في القرآن الكريم في معان ثلاثة: العذاب، القذارة، الصنم.

وقد استعمل الرجز (بكسر الراء) في تسع موارد في القرآن الكريم، وقد أُريد منه في جميعها العذاب إلّافي مورد واحد: وهي: البقرة - 59، والأعراف - 134 (وجاءت اللفظة فيها مرّتين) و 135 و 162 والأنفال - 11 وسبأ - 5 والجاثية - 11

ص:340


1- . بحار الأنوار: 16/142، الحديث 5.
2- . رسالة التوحيد للشيخ محمَّد عبده: 135 و 136.

والعنكبوت - 34.

وجاء الرُجز - بضمّ الراء - مرّة واحدة وهي الآية الّتي نحن بصددها هنا.(1)

وهذه الآية لا تدلّ على ما ذهب إليه الذين يزعمون بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان على غير التوحيد قبل البعثة.

وإليك بيان هذا الموضوع مفصّلاً:

1. إنّ الرُجز لو كان بمعنى «العذاب» دَلّت الآية على هجر ما يستلزم العذابَ، فيكون الخطابُ حينئذٍ مسوقاً من باب التعليم، ومن باب «إيّاك أعني وأسمعي يا جارة»، فيكون ظاهر الأمر هو مخاطبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ونهيه عمّا يستلزم العذاب، وإرادة تعليم الأُمّة مثل قول اللّه تعالى في خطابه للنبي «فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» (2)، وقوله تعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (3)، فكما لا تدلّ الآية على وجود أرضية الشرك في شخصية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كذلك لا تدلّ الآية على وجود أرضية التعرّض للعذاب في شخصية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

2. إن الرُجز لو كان بمعنى (القذارة) وهي تنقسم إلى مادّية ومعنوية فيحتمل أن يكون المراد - بناء على المعنى الأوّل - إشارة إلى ما ورد في الروايات من أنّ أباجهل جاء بشيء قذر، وأمر رجلاً من قريش بإلقائه على النبيّ، ففعل، فأمراللّه نبيّه بتطهير ثوبه من الدنس.

ويحتمل أن تكون الآية دعوة إلى اجتناب الصفات الذميمة بناء على إرادة المعنى الثاني للفظة الرُجز، فتكون الآية تعليماً للناس على النمط السابق، فلا تدلّ على اتّصاف النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بها.

3. الرُجز بمعنى الصنم، لنفترض أنّ المقصود منه في الآية هو الصنم، لكن لا

ص:341


1- . المدَّثر: 5.
2- . القصص: 86.
3- . الزمر: 65.

بمعنى أنّه وضعَ لذاك المعنى، وإنّما وضعَ اللفظُ لمعنى جامع يعمُّ الصنم والخمر والأزلام لاشتراك الجميع في كونها رجزاً، ولأجل ذلك وصِف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» .(1)

ولكن يجاب عن هذا أيضاً بأنّ النبيّ يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن بل كان مشمّراً عن ساعد الجدّ لتحطيم الأصنام ومكافحة عبدتها، فلا يصحّ أن يخاطَب من هذا شأنه بهجر الأصنام إلّاعلى السبيل الّذي أشرنا إليه وهو توجيه الخطاب إلى النبيّ وإرادة الأُمّة به، لكون هذا النوع من الخطاب أبلغ في التأثير، لأنّه سبحانه إذا خاطب أعزّ الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به.

الآية الثالثة: عدم علمه بالكتاب والإيمان

اشارة

قوله سبحانه: «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .(2)

زعم جماعة دلالة هذه الآية - والعياذ باللّه - على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان فاقداً للإيمان قبل الإيحاء إليه.

لكنَّ حياته الشريفة المشرقة بالإيمان، والتوحيد، تفنّد تلك المقالة، فالتاريخ يشهد على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم منذ بداية عمره إلى أن لاقى ربّه مؤمناً موحّداً، وذلك أمرٌ لاشكّ فيه، ولا شبهة تعتريه، وقد أجمع على ذلك أهلُ السير والتاريخ، وحتّى أنّ الأحبار والرهبان كانوا معترفين بأنّه نبيُّ هذه الأُمة، وخاتم النبيين، وكان يسمع تلك

ص:342


1- . المائدة: 90.
2- . الشورى: 52.

الشهادات منهم في فترات خاصّة في «مكّة» و «يثرب» و «بصرى» و «الشام»(1)وغيرها، فكيف والحال هذه يمكن أن يكون غافلاً عن الكتاب الّذي ينزل إليه أو يكون مجانباً للإيمان بوجوده سبحانه، و توحيده، والتاريخ المسلَّم الصحيح يؤكّد على عدم صدق ذلك الاستظهار من الآية الحاضرة.

فلابدّ إذن من الإمعان في مفاد الآية كما لابدّ - في تفسيرها - من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق.

بُعث النبيُّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لهداية قومه أوّلاً، وهداية جميع الناس ثانياً، بالآيات والبيّنات، ونخصُّ بالذكر منها: القرآن الكريم (معجزته الكبرى الخالدة) الّذي بفصاحته أخرسَ فرسان الفصاحة، وقادة الخطابة، وببلاغته قهر ارباب البلاغة وملوك البيان، وخلب عقولهم، وقد دعاهم إلى التحدّي والمقابلة، فلم يكن الجواب منهم إلّاإثارة الشكوك والتهم حوله، وحول ما جاء به، وعدم المعارضة بمثل القرآن قط.

فتارة قالوا: بأنّه يعلّمه بشر، وأُخرى بأنّه إفكٌ افتراه وأعانه عليه قومٌ آخرون، وثالثة: بأنّه أساطير الأوّلين، قد اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً، قال سبحانه ردّاً على هذه التهم الّتي أشرنا إليها: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ * وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» .(2)

وقال سبحانه «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً * وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً

ص:343


1- . راجع: السيرة النبوية والسيرة الحلبية وبحارالأنوار.
2- . النحل: 102-103.

رَحِيماً» .(1)

والآية المبحوثة بصدد بيان هذا الأمر، وأنّه وحي سماويٌ لا إفكٌ إفتراه، ولهذا بدأ كلامه بعبارة: «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» : أي كما أنّه سبحانه أوحى إلى سائر الأنبياء بإحدى الطرق الثلاثة الّتي بيّنها في الآية المتقدّمة، أوحى إليك أيضاً روحاً من أمره، وليس هذا كلامك وصنيعك، بل كلام ربّك وصنيعه.

هذا مجمل الكلام في الآية ولأجل رفع النقاب عن مرماها نقدّم أُموراً تسلّط الضوء على الآية:

الأوّل: أنّ المراد من الروح في الآية هو القرآن وسمّي روحاً لأنّه قوام الحياة الأُخروية، كما أنّ الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية، وتؤيّد ذلك أُمورٌ:

أ - أنّ محور البحث الأصلي في سورة الشورى هو: الوحي والآيات الواردة فيها البالغ عددُها (53) آية تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أوبغيرها.

ب - الآية الّتي تقدّمت على تلك، تبحث عن الطرق الّتي يكلّم بها سبحانه أنبياءه ويقول: «وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» .(2)

ج - أنّه سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة: «وَ كَذلِكَ» : أي كما أوحينا إلى من تقدّم من الأنبياء كذلك أوحينا إليك بإحدى تلك الطرق «رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» ووجه الاشتراك بينه وبين النبيّين هو الوحي المتجلّي في نبينا بالقرآن وفي غيره بوجه آخر.

كلّ ذلك يؤيّد أنّ المراد من الروح في الآية المبحوثة هو القرآن الملقى إليه.

نعم ورد في بعض الروايات أنّ المراد منه هو روح القدس، ولكنّه لا ينطبق

ص:344


1- . الفرقان: 4-6.
2- . الشورى: 51.

على ظاهر الآية، لأنّ الروح بحكم كونه مفعولاً ل «أَوْحَيْنا» يجب أن يكون شيئاً قابلاً للوحي حتّى يكون موحى، وروح القدس ليس موحى بل هو الموحي (بالكسر) فكيف يمكن أن يكون مفعولاً ل «أَوْحَيْنا» ، ولأجله يجب تأويل الروايات إن صحّت أسنادها.

الثاني: إن هيئة «ما كُنْتَ» أو «ما كانَ» تُستعمل في نفي الإمكان والشأن قال سبحانه: «وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ» (1)، وقال عزَّ اسمه: «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» .(2)

وعلى ضوء هذا الأصل يكون مفاد قوله: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ» أنّه لولا الوحيُ ما كان من شأنك أن تدري الكتاب ولا الإيمان، فإن وقفتَ عليهما فإنّما هو بفضل الوحي وكرامته.

الثالث: أنّ ظاهر الآية هو أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كان فاقداً للعلم بالكتاب، والدراية بالكتاب، وإنّما حصلت الدراية بهما في ظل الوحي وفضله فيجب إمعان النظر في الدراية الّتي كان النبيُّ فاقداً لها قبل الوحي وصار واجداً لها بعده، فما تلك الدراية وذاك العلم؟

فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه إجمالاً والإيمان بوجوده وتوحيده سبحانه، أوالمراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب، والإذعان بها كذلك؟

لا شكّ أنّه لا سبيل إلى الأوّل لأنّ علمه - إجمالاً - بأنّه ينزل إليه الكتاب، أو إيمانه بوجود اللّه سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه، ولم يكن العلم بهما ممّا يتوقّف على الوحي، فإنّ الأحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوّته ورسالته ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالاً، وقد سمع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم منهم في فترات

ص:345


1- . آل عمران: 145.
2- . التوبة: 122.

مختلفة: أنّه النبيّ الموعود في الكتب السماوية، وأنّه خاتم الرسالات والشرائع، فهل يصحّ أن يقال إنّ علمه صلى الله عليه و آله و سلم بنزول كتاب عليه إجمالاً كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي، أو أنّه كان متقدّماً عليه و على بعثته، ومثلُهُ الإيمان باللّه سبحانه، وتوحيده، إذ لم يكن الإيمان باللّه أمراً مشكلاً متوقّفاً على الوحي، وقد كان الأحناف في الجزيرة العربية ومن جملتهم رجال البيت الهاشمي موحّدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي إليهم.

فيتعيّن الاحتمال الثاني وهو أنّ العلم التفصيلي بمضامين الكتاب وما فيه من الأُصول والتعاليم ثم الإيمان والإذعان بتلك التفاصيل، كانا متوقّفين على نزول الوحي، ولولاه لما كان هناك علمٌ بها، ولا إيمان.

وبعبارة أُخرى: إنّ العلم والإيمان بالأُمور السمعية الّتي لا سبيل للعقل إليها مثل المعارف والأحكام والقصص ومجادلات الأنبياء مع المشركين والكفّار، وما نزل بساحة أعدائهم من إهلاك وتدمير، لا يحصلان إلّامن طريق الوحي حتّى قصص الأُمم السالفة وحكاياتهم لتطرّق الوضع والدّس إلى كتب القصّاصين، والصحف السماوية النازلة قبل القرآن.

***

تفسير الآية بآية أُخرى

إنّ الرجوع إلى ما ورد في هذا المضمار من الآيات يوضّح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلاً، والإيمان ثانياً.

أمّا الأوّل: فيقول سبحانه: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها

ص:346

أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» (1) فالآية صريحة في أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن عالماً بتفاصيل الأنباء، وقد وقف عليها من جانب الوحي، فعبّر عن عدم وقوفه عليها في هذه الآية بقوله: «ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ» وفي تلك الآية بقوله: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ» والفرق هو أنّ «الكتاب» أعمّ من «أنباء الغيب» والأوّل يشتمل على الأنباء وغيرها، وأمّا «الأنباء» فإنّها مختصّة بالقصص، والكلّ مشتركان في عدم العلم بهما قبل الوحي والعلم بهما بعده.

وأمّا الثاني فقوله سبحانه: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (2)، فقوله: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ» صريحٌ في أنّ متعلّق الإيمانِ الحاصل بعد الوحي، هو الإيمان «بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ» ، أعني: تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة، لا الإيمان باللّه وتوحيده، وعندئذ يرتفع الإبهام في الآية الّتي تمسّكت بها المخطّئة ومَن ينسبون عدم الإيمان باللّه وتوحيده إلى النبيّ قبل البعثة، ويتبيّن أنّ متعلّق الإيمان المنفيّ في قوله: «وَ لاَ الْإِيمانُ» هو «ما أُنْزِلَ» * لا الإيمان بالمبدأ وتوحيده.

والحاصل: إنّ هُنا شيئاً واحداً هو: «الإيمان بما أُنزل من المعارف والأحكام والأنباء» فقد نُفيَ عنَه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرةً إلى فترة ما قبل البعثة، وأثبت له في الآية الأُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد البعثة.

قال الطبرسي: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ» ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الإيمان.(3)

ص:347


1- . هود: 49.
2- . البقرة: 285.
3- . مجمع البيان: 9/65.

وقال الفخر الرازي: المراد من الإيمان هو الإقرار بجميع ما كلّف اللّه تعالى به، وإنّه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف اللّه تعالى، بل إنّه كان عارفاً باللّه...

ثم قال: صفات اللّه تعالى على قسمين: منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقل، ومنها ما لا يمكن معرفته إلّابالدلائل السمعية، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوّة.(1)

وقال العلّامة الطباطبائي في «الميزان»: إنّ الآية مسوقة لبيان أنّ ما عنده صلى الله عليه و آله و سلم الّذي يدعو إليه إنّما هو من عند اللّه سبحانه لا من قِبَل نفسه، وإنّما أُوتي ما أُوتي من ذلك بالوحي بعد النبوّة، فالمراد بعدم درايته بالكتاب هو عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية، فإنّ ذلك هو الّذي أُوتي العلمُ به بعد النبوّة والوحي، وبعدم درايته بالإيمان عدم تلبّسه بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقّة والأعمال الصالحة، وقد سُمّي العمل إيماناً في قوله: «وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» (2)(والمراد الصلوات الّتي أَتى بها المؤمنون إلى بيت المقدس قبل النسخ وتحويل القبلة). فالمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح (علمُ) الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع ولا كنت متلبّساً بما أنت متلبّس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي الاعتقادي والعملي بمضامينه، وهذا لا ينافي كونه صلى الله عليه و آله و سلم مؤمناً باللّه، موحّداً قبل البعثة صالحاً في عمله، فإنّ الّذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملاً، ونفي العلم والالتزام التفصيليين لا يلازم نفي العلم والالتزام الإجماليّين بالإيمان باللّه، والخضوع للحقّ.(3)

ص:348


1- . مفاتيح الغيب: 190/27.
2- . البقرة: 143.
3- . الميزان: 77/18.

الآية الرابعة: عدم رجائه إلقاء الكتاب اليه

قال تعالى: «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» .(1)

استدلّوا بأنّ ظاهر الآية نفيُ علمه بإلقاء الكتاب إليه، فلم يكن النبيُّ راجياً لذلك، ولا واقفاً عليه.

أقول: إنّ توضيح مفاد هذه الآية يتوقّف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية - أعني قوله: «إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» - حتّى يتّضح المقصود، وقد ذكر المفسّرون في توضيحها وجوهاً ثلاثة نأتي بها:

1. أنّ «إلّا» استدراكية، وليست استثنائية فهي بمعنى «لكنَّ» لاستدراك مابقي من المقصود، وحاصل معنى الآية: «ما كنت يا محمَّد ترجو فيما مضى أن يوحي اللّه إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك، إلّاأنّ ربّكَ رَحِمَكَ، وأنعم به عليك وأراد بك الخير» نظير قوله سبحانه: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» (2): أي ولكن رحمة من ربّك خصّك بها، وهذا هو المنقول عن الفرّاء.(3)

وعلى هذا لم يكن للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أيُّ رجاء لإلقاء الكتاب إليه، وإنّما فاجأه الإلقاء لأجل رحمة ربه.

ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلّاإذا امتنع كون الاستثناء متّصلاً، لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.

2. أن يكون «إلّا» للاستثناء لا للاستدراك وهو متّصل لا منقطع، ولكن

ص:349


1- . القصص: 86.
2- . القصص: 46.
3- . تفسير الرازي: 25/22.

المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام، وهو كما في «الكشّاف»:

«وما ألقى عليك الكتاب إلّارحمة من ربك»(1): أي لم يكن لإلقائه عليك وجهٌ إلّا رحمة ربك، وعلى هذا الوجه أيضاً لا يُعلَم أنّه كان للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رجاء لإلقاء الكتاب عليه وإن كان الاستثناء متصلّاً.

وهذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى منه، محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر وإنّما يصار إليه إذا لم يصحّ إرجاعُه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيَّن في الوجه الثالث.

3. أن يكون «إلّا» استثناء من الجملة السابقة عليه أعني قوله: «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا» ويكون معناه: ما كنت ترجو (إلقاء الكتاب عليك) إلّاأن يرحمك اللّه برحمته فينعم عليك بذلك، (فتكون النتيجة): أي ما كنت ترجو إلّاعلى هذا.(2)

فيكون هنا رجاء منفيّاً، ورجاء مثبتاً؛ أمّا الأوّل فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً.

وأمّا رجاؤه به عن طريق الرحمة الإلهية فكان موجوداً، فنفيُ أحد الرجاءين لا يستلزم نفيَ الآخر، بل المنفيّ هو الأوّل، والثابت هو الثاني، وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية.

وقد سبق منّا أنّ جملة: «ما كُنْتَ» وما أشبهه تستَعمل في نفي الإمكان، والشأن، وعلى ذلك يكون معنى الجملة: لم تكن راجياً لأن يلقى إليك الكتاب، وتكون طرفاً للوحي والخطاب إلّامن جهة خاصّة، وهي أن تقع في مظلة رحمته وموضع عنايته، فيختارك طرفاً لوحيه، ومخاطباً لكلامه، فالنبيّ بما هو إنسان عادي

ص:350


1- . تفسير الكشاف: 3/194.
2- . تفسير الرازي: 25/22.

لم يكن راجياً لأن ينزل إليه الوحيُ، ويلقى إليه الكتاب، وبما أنّه صار مشمولاً لرحمته وعنايته، وصار إنساناً مثالياً، قابلاً لتحمّل المسؤولية، وتربية الأُمّة، كان راجياً به، وعلى ذلك فالنفي والإثبات غير واردين على موضع واحد.

وبهذا خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان إنساناً مؤمناً، موحّداً، عابداً للّه، ساجداً، قائماً بالفرائض العقلية والشرعية، مجتنباً عن المحرّمات، عالماً بالكتاب ومؤمناً به إجمالاً، وراجياً لنزوله إليه إلى أن بُعث لإنقاذ البشرية من الجهل، وسوقها إلى الكمال.

الآية الخامسة: لو لم يشأ ما تلوته

قال سبحانه: «قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» (1)، والآية تؤكّد أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان لابثاً في قومه، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن، أو آية من آياته وليس هذا شيء ينكره القائلون بالعصمة، فقد اتّفقت كلمتهم على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقف على ما وقف عليه من آي الذكر الحكيم من جانب الوحي، ولم يكن قبله عالماً به، وأين هذا من قول المخطّئة من نفي الإيمان منه قبلها؟

وإن أردت الإسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدّمة، فترى فيها اقتراحين للمشركين وقد أجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدّمة وعن الآخر في نفس هذه الآية، وإليك نصّها: «قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ

ص:351


1- . يونس: 16.

إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» .(1)

اقترح المشركون على النبيّ أحد أمرين:

1. الإتيان بقرآن غير هذا مع المحافظة على فصاحته وبلاغته.

2. تبديل بعض آياته ممّا فيه سبٌّ لآلهتهم وتنديدٌ بعبادتهم للأوثان والأصنام.

فأجابَ عن الثاني في نفس الآية بأنّ التبديل عصيان للّه، وأنّه يخافُ من مخالفة ربه، ولا محيص له إلّااتّباعُ الوحي من دون أنْ يزيدَ فيه أو ينقص عنه.

وأجاب عن الأوّل في الآية المبحوث عنها بأنّ ذلك أمر غير ممكن؛ لأنّ القرآن ليس من صنعي وكلامي حتّى أذهب به وآتي بآخر، بل هو كلام اللّه سبحانه وقد تعلّقت مشيئته بتلاوتي، ولو لم يشأ لما تلوته عليكم ولا أدراكُمْ به، والدليل على ذلك أنّي كنت لابثاً فيكم عُمُراً من قبل فما تكلّمت بسورة أو بآية من آياته، ولو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلّم به، أيام معاشرتي السابقة معكم في المدة الطويلة، المديدة.

قال العلّامة الطباطبائي في تفسير الآية: إنّ الأمر فيه إلى مشيئة اللّه لا إلى مشيئتي، فإنّما أنا رسول، ولو شاء اللّه أن ينزل قرآناً غير هذا ولم يشأ (تلاوة) هذا القرآنُ ما تلوتُه عليكم، ولا أدراكم به فإني مكثت فيكم عُمُراً من قبل نزول القرآن...، ولو كان ذلك إليّ وبيدي لبادرتُ إليه قبل ذلك، وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه.(2)

ص:352


1- . يونس: 15.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 10/28-29؛ ولاحظ: تفسير المنار: 11/320.

فكيف يمكنُ والحال هذه أنّ يكون مجانباً للإيمان باللّه وتوحيده، لاهياً عن عبادته وتقديسه.

هذا وفي هذا المجال حديث واسع اكتفَيْنا مِنه بهذا القدر، ومن أراد التوسّع عليه مراجعة موسوعتنا «مفاهيم القرآن».(1)

وأمّا الكلام في الجهة الثانية وهي: أنّه بماذا وبأيّ دينٍ كان يتعبَّدُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة، فقد وقع ذلك محطّاً للبحث بين العلماء، وحيث إنّه لا ينطوي على فائدة كبرى، بعد أن تبيّن أنّه كان قبل البعثة مؤمناً، موحّداً، يعبُد اللّه، فإنّه يكفي أن نعرف أنّه كان صلى الله عليه و آله و سلم يلتزم بما ثبت له أنّه شرع اللّه تعالى... وبما يؤدّي إليه عقله الفطري السليم، وأنّه بالتالي كان مؤيّداً مسدّداً، وأنّه كان أفضل الخلق وأكمَلَهم خَلقاً، وخلقاً، وعقلاً، وأنّه كان يعمل حسب ما يُلهَم سواء أكان مطابقاً لشرع ما قبله أم مخالفاً، وأنّ هاديه وقائده منذ صباه إلى أن بُعث هو نفس هاديه بعد البعثة.(2)

ص:353


1- . لاحظ: مفاهيم القرآن: 5/263-335.
2- . وللتوسّع والوقوف على الآراء المختلفة في هذا المجال راجع: مفاهيم القرآن: 5/283.

12 بدء الوَحْي

اشارة

إنَّ التاريخَ الإسلامي يبدأ في الحقيقة من يوم بعثة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالرسالة، والّتي وقعت على أثره حوادث خاصّة.

ويوم بُعثِ النبيُّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لهداية الناس، ودوّى في سمعه الشريف نداء «إنّك لرسول اللّه» الصادر عن ملاك الوحي أُلقيَت على كاهله مسؤولية كبرى وثقيلة جدّاً، على نمط الوظيفة الهامّة الّتي أُلقيت على كاهل مَن سبقه من الأنبياء والرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين.

منذ ذلك اليوم اتّضح هدف أمين قريش، أكثر فأكثر، وتجلّت خطّته أكثر فأكثر.

ونحن نرى من اللازم قبل شرح الحوادث الأُولى الواقعة عند البعثة أن نعطي بعض الإيضاحات حول مسألتين:

1. وجوبُ بعث الأنبياء.

2. دورُ الأنبياء في إصلاح المجتمع.

لقد أودعَ اللّه تعالى في كيان كُلّ كائن من الكائنات أدوات تكامله، وجهّزه - لسلوك هذا الطريق - بالوسائل المتنوّعة، والأجهزة المختلفة اللازمة.

ولنأخذ مثلاً: نبتة صغيرة، فإنّ ثمة عوامل كثيرة تتفاعل فيما بينها وتعمل لتحقيق التكامل فيها.

إنّ جذور كلّ نبتة تعمل أكبر قدر ممكن لامتصاص العناصر الغذائية، وتلبية

ص:354

احتياجات النبتة، وتوصل العروق والقنوات المختلفة، عصارة ما تأخذه من الأرض إلى جميع الأغصان والأوراق.

إنّنا لو درسنا تركيب الوردة لرأيناه أكثر مدعاة للإعجاب وأشدّ إثارة للتعجّب من تركيب بقية النباتات.

فللكأس وظيفة توفير الغطاء اللّازم للأوراق الناعمة اللطيفة في الوردة.

وهكذا الحال بالنسبة إلى بقية الأجهزة في (الوردة) ممّا أُنيط إليها مسؤولية الحفاظ على كائن حيّ، وضمان رشده ونموّه، فإنّها جميعاً تقوم بوظائفها المخلوقة لها بأحسن شكل، وأفضل صورة.

ولو أنّنا خطونا خطوات أكثر وتقدّمنا بعض الشيء لدراسة الأجهزة العجيبة في عالم الأَحياء، لرأينا أنّها جميعاً وبدون استثناء مُزوّدة بما يضمن بلوغها إلى مرحلة الكمال المطلوب لها.

وإذا أردنا أن نصبّ هذا الموضوع في قالب علميّ لوجب أن نقول: إنّ الهداية التكوينية، الّتي هي النعمة المتجلّية في عالم الطبيعة، تشمل كلّ موجودات هذا العالم من نبات، وحيوان وإنسان.

ويبيّن القرآن الكريم هذه الهداية التكوينية الشاملة بقوله:

«رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» .(1)

فإنّه يصرّح بأنّ كلَّ شيء في هذا الكون من الذرة إلى المجرَّة ينعم بهذا الفيض العامّ، وأنَّ اللّه تعالى بعد أن قَدَّر كلَ موجود وكائن، بيّن له طريق تكامله، ورُقيّه، وهيّأ لكلّ كائن مِن تلك الكائنات ما يحتاج إليه في تربيته ونموه، وهذه هي

ص:355


1- . طه: 50.

(الهداية التكوينية العامّة) السائدة على كلّ أرجاء الخليقة دونما استثناء.

ولكن هل تكفي هذه الهداية الفطرية، التكوينية لكائن مثل الإنسان، أشرف الموجودات، وأفضل ما في هذه الخليقة؟!

بكل تأكيد: لا.

لأنّ للإنسان حياة أُخرى غير الحياة المادّية، تشكل أساس حياته الواقعية، ولو كان للإنسان حياة مادّية جافّة فقط مثلما لعالم النباتات، والحيوانات، لكفت العواملُ والعناصرُ المادّية في تكامله، والحال أنّ للإنسان نوعين من الحياة، يكمن في تكاملهما معاً رمز سعادة الإنسان ورقيّه.

إنّ الإنسان الأوّل، ونعني به إنسان الكهوف والحياة البسيطة والفطرة السليمة الّتي لم يطرأ على جبلته أيُّ إعوجاج لم يكن بحاجة إلى ما يحتاج إليه الإنسان الإجتماعيّ من التربية والهداية.

ولكن عندما خطا الإنسانُ خطوات أبعد من ذلك، وبدأ الحياة الاجتماعية، وسادت على حياته فكرة التعاون والعمل الجماعي برزت في روحه ونفسيته سلسلة من الانحرافات نتيجة للاحتكاك الاجتماعي، وغيّرت الخصال القبيحة والأفكار الخاطئة صفاتِه الفطرية، وبالتالي أخرج المجتمع من حالة التوازن! إنّ هذه الانحرافات حملت خالقَ الكون على أن يرسل إلى البشرية رجالاً أفذاذاً صالحين يتولّون تربية البشر، وليقوموا بتنظيم برنامج المجتمع، والتخفيف من المفاسد الناشئة - بصورة مباشرة - عن النزعة الاجتماعية لدى الإنسان، وليضيئوا - بمشاعل الوحي المشعّة المنيرة - طريق السعادة والخير للإنسانية في جميع المجالات والأبعاد.

إذ لا نقاش في أنَّ الحياة الاجتماعية والعيش بصورة جماعية مع كونه مفيداً،

ص:356

ينطوي على مفاسد لا تُنكر، ويجرّ إلى انحرافات كثيرة لا تقبل الترديد.

ولهذا بعث اللّه سبحانه رجالاً مصلحين، وهداة مرشدين يعملون - قدر الإمكان - على الحدّ من الإنحرافات والمفاسد، ويضعون عجلة المجتمع - بتنظيم القوانين الواضحة والأنظمة الحكيمة - على الطريق الصحيح، ويضمنون دورانها وحركتها في المسار المستقيم.

وقد يُستفاد هذا الأمر - بوضوح - من قوله تعالى:

«كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» .(1)

دَور الأنبياء في إصلاح المجتمع:

إنّ الّذي يتصوّره الناس عادة هو أنّ الأنبياء مجرّد معلّمين إلهيّين بُعِثوا لتعليم البشرية.

فكما يتعلّم الطفل خلال حركته التعليمية ابتداء من الابتدائية ومروراً بالمتوسطة وانتهاء بالجامعة، دروساً معيّنة ومواضيع خاصّة على أيدي الأساتذة والمعلمين، كذلك يتعلّم الناس في مدرسة الأنبياء أُموراً خاصّة، ويكتسبون معارف معيّنة، وتتكامل أخلاقهم وصفاتهم وخصالهم الاجتماعية جنباً إلى جنب مع اكتسابهم المعرفة والعلم على أيدي الأنبياء والمرسلين.

ولكنّنا نتصوّر أنّ مهمّة الأنبياء ووظيفتهم الأساسية هي تربية المجتمعات البشرية لا تعليمها، وأنّ أساس شريعتهم لا ينطوي على كلام جديد، وأنّه ما لم تنحرف الفطرة البشرية عن مسارها الصحيح، وما لم تلفّها غشاوات الجهل والغفلة

ص:357


1- . البقرة: 213.

لعرفت وأدركت خلاصة الدين الآلهي، وعصارته، من غير إبهام، ولا خفاء.

على أنّ هذه الحقيقة قد أشار إليها قادة الإسلام العظماء.

فقد قال أميرالمؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة» عن هدف الأنبياء:

«أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وَعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ (ايمانهم)، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ، وَاتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ، وَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهٖ، وَاقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ».(1)

مثالٌ واضح في المقام

إذا قلنا: إنّ وظيفة الأنبياء في تربية الناس وإصلاح نفوسهم هي وظيفة صاحب البستان في تربية شجيرة من الشجرات، أو قلنا: إنّ مَثَل الأنبياء في قيادة التوجّهات الفطرية البشرية وهدايتها، مثل المهندس الذي يستخرج المعادن الثمينة من بطون الأودية والجبال، لم نكن في هذا القول مبالغين.

وتوضيح ذلك أنّ النبتة، أو الشجيرة الصغيرة تحمل من بداية انعقاد حبتها الأُولى كُلَّ قابليات النمو، والرشد، فإذا توفَّر لها الجوُ المناسب للنمو، دبّت الحياة والحركة في كلّ أجزائها، واستطاعت بفعل جذورها القوّية وأجهزتها المتنوّعة وفي الهواء الطلق، والضوء اللازم، من أن تقطع أشواطاً كبيرة من التكامل، والنموّ.

فمسؤولية البستاني في هذه الحالة تتركّز في أَمرين:

1. توفير الظروف اللازمة لتقوية جذور تلك النبتة لكي تظهر القوى المودعة

ص:358


1- . نهج البلاغة: الخطبة رقم 1.

في تلك النبتة أو الشجيرة، وتخرج من حيّز القوّة إلى مرحلة الفعلية، والتحقّق.

2. الحيلولة دون تعرّض تلك الشجرة أو النبتة للانحرافات والآفات، وذلك عندما تتّجه القوى الباطنية صوب الوجهة المخالفة لسعادتها، وتسلك طريقاً ينافي تكاملها.

ومن هنا فإنّ مسؤولية البستاني ووظيفته ليست هي الإنماء بل هي المراقبة وتوفير الظروف اللازمة ليتهيّأ لتلك الشجرة والنبتة أن تُبرز كمالها الباطني.

لقد خلق اللّه سبحانه البشرَ وأودع في كيانه طاقات متنوّعة، وغرائز كثيرة، وعجن فطرته وجبلَّته بالتوحيد، وحبّ معرفة اللّه، وحبّ الحقّ والخير، والعدل والإنصاف، كما وأودع فيه غريزة السعي والعمل.

وعندما تبدأ خمائر هذه الأُمور وبذورها الصالحة المودعة بالعمل والتفاعل في كيان الإنسان تتعرّض في الجو الاجتماعي لِبعض الانحرافات بصورة قهرية، فغريزة العمل والسعي تتخذ شيئاً فشيئاً صفة الحرص والطمع، وغريزة حبّ السعادة والبقاء تتّخذ صورة الأنانية، وحبّ الجاه والمنصب، ويتجلّى نور التوحيد والإيمان في لباس الوثنية وعبادة الأصنام.

في هذه الحالة يعمل سفراء اللّه إلى البشرية: (الأنبياء والرسل) على تهيئة أجواء الرُّشد والنموّ الصحيح لتلك الغرائز وتلك القوى والطاقات على ضوء الوحي، والبرامج الصحيحة المستلهمة من ذلك المنبع الإلهي الهادي، ويقومون بالتالي بتعديل انحرافات الغرائز، والوقوف دون تجاوزها حدودها المعقولة المطلوبة.

ولقد قال أميرالمؤمنين عليه السلام في مامرّ من كلامه: إن اللّه أخذ - في مبدأ الخلق - ميثاقاً يدعى «ميثاق الفطرة».

ص:359

فما هوترى المقصود من ميثاق الفطرة هذا؟

إنّ المقصود من هذا الميثاق هو: أنّ اللّه تعالى بخلقه وإيداعه الغرائز المفيدة في الكيان الإنساني، وبمزج الفطرة البشرية بعشرات الأخلاق الطيّبة والسجايا الصالحة يكون قد أخذ من الإنسان ميثاقاً فطرياً بأن يتبع خصال الخير، ويأخذ بالغرائز الطيبّة الصالحة.

فإذا كان منح جهاز البصر (العين) للإنسان هو نوع من أخذ الميثاق من الإنسان بأن يتجنّب المزالق، ولا يقع في البئر، فكذلك إيداع حسّ التديّن، وغريزة الانجذاب إلى اللّه، وحبّ العدل، في كيانه هو الآخر نوع من أخذ الميثاق منه بأن يظل مؤمناً باللّه، موحّداً إيّاه، عادلاً، منصفاً محبّاً للخير والحقّ.

وإنّ وظيفة الأنبياء هي أن يحملوا الناس على العمل بمقتضى ميثاق الفطرة، وبالتالي فإنَّ مهمّتهم الأساسية الحقيقية هي تمزيق أغشية الجهل وتبديد سحب الغفلة الّتي قد تغلب على جوهرة الفطرة المطعمة بنور الإيمان، فتمنعها من الإشراق على وجود الإنسان، وتحرمُ الإنسان من هدايتها.

ومن هنا قالوا: إنّ أساس الشرائع الإلهية يتألّف من الأُمور الفطرية، الّتي فُطر الإنسان عليها.

وكأنّ صرح الكيان الإنساني (جَبَلٌ) اختفت بين ثنايا صخوره وفي بطونه أحجار كريمة كثيرة ومعادن ذهبية ثمينة، فالوجود الإنساني هو الآخر قد أُودعَت فيه فضائل وعلوم، ومعارف وخصال، وأخلاق متنوّعة. فعندما يغورُ الأنبياء والمهندسون الروحيّون في أعماق نفوسنا وذواتنا وهم يعلمون جيّداً أنّ نفوسنا معجونة بطائفة من الصفات والسجايا النبيلة والمشاعر والأحاسيس الطيّبة، ويعملون على إعادة نفوسنا - بتعاليم الدين وبرامجه - إلى جادة

ص:360

الفطرة المستقيمة السليمة، فإنّهم في الحقيقة يذكّروننا بأحكام فطرتنا، ويُسمّعوننا نداء ضمائرنا، ويلفتونها إلى الصفات، وإلى الشخصية المودعة فيها.

تلك هي رسالة الأنبياء، وذلك هو عملهم الأساسي، وهذا هو دورهم في إصلاح النوع الإنساني، أفراداً وجماعات.

أمين قريش في غار حِراء

يقع جبل «حِراء» في شمال «مكّة» ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة تقريباً.

ويتألّف ظاهر هذا الجبل من قطع صخرية سوداء، لا يُرى فيها أيُّ أثر للحياة أبداً.

ويوجد في النقطة الشمالية من هذا الجبل غار يمكن للمرء أن يصل إليه ولكن عبر تلك الصخور، ويرتفع سقف هذا الغار قامة رجل، وبينما تضيء الشمس قسماً منه، تغرق نواح أُخرى منه في ظلمةٍ دائمةٍ.

ولكن هذا الغار يحمل في رحابه ذكريات كثيرة عن صاحب له طالما تردّد عليه، وقضى ساعات بل وأياماً وأشهراً في رحابه... ذكريات يشتاق الناس - وحتّى هذه الساعة - إلى سماعها من ذلك الغار، ولذلك تجدهم يسارعون إلى لقائه كلّما زاروا تلك الديار، متحمّلين في هذا السبيل كلّ عناء، للوصول إلى رحابه، لكي يستفسروا منه عمّا جرى فيه عند وقوع حادثة: «الوحي» العظيمة، وليسألونه عمّا تحتفظ به ذاكرته من تاريخ رسول الإنسانية الأكبر ممّا جرت حوادثه في ذلك المكان التاريخي، العجيب.

ويتحدّث ذلك الغار هو الآخر إليهم بلسان الحال ويقول: هاهنا المكان الّذي كان يتعبّد فيه عزيز قريش وفتاها الصادق الأمين.

ص:361

وهاهنا قضى ليالي وأياماً عديدة وطويلة قبل أن يبلغ مرتبة الرسالة، في عبادة اللّه، والتأمّل في الكون، وفي آثار قدرة اللّه وعظمته.

أجل، لقد اختار محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم ذلك المكان البعيد عن ضجيج الحياة، للعبادة والتحنّث، فكان يمضي جميع الأيام من شهر رمضان فيه، وربّما لجأ إليه في غير هذا الشهر أحياناً أُخرى، إلى درجة أنّ زوجته الوفيّة كانت إذا لم يرجع إلى منزلها، تعرفُ أنّه قد ذهب إلى «غار حراء» وأنّه هناك مشتغل بالعبادة والتحنّث والاعتكاف، وكانت كلّما أرسلَتْ إليه أحداً وجده في ذلك المكان مستغرقاً في التأمّل والتفكير، أومشتغلاً بالعبادة والتحنّث.

لقد كان صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يبلغ مقام النبوة، ويُبْعَث بالرسالة يفكّر - أكثر شيء - في أمرين:

1 - كان يفكّر في ملكوت السماوات والأرض، ويرى في ملامح كلّ واحد من الكائنات الّتي يشاهدها نور الخالق العظيم، وقدرته، وعظمته وعلمه، وقد كانت تفتح عليه من هذا السبيل نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله النور الإلهيّ المقدّس. 2. كان يفكر في المسؤولية الثقيلة الّتي ستوضع على كاهله.

إنّ اصلاح المجتمع في ذلك اليوم على ما كان عليه من فساد عريق وانحطاط عريض، لم يكن في نظره وتقديره بالأمر المحال الممتنع. ولكن تطبيق مثل هذا البرنامج الإصلاحيّ لم يكن في نفس الوقت أمراً خالياً من العناء والمشاكل، من هنا كان يفكّر طويلاً في الفساد في حياة المجتمع المكّي وما يراه من ترف قريش، وكيفيّة رفع كلّ ذلك وإصلاحه.

لقد كان صلى الله عليه و آله و سلم حزيناً لما يرى في قومه من فساد العقيدة المتمثّل في الخضوع للأوثان الجامدة، والعبادة للأصنام الخاوية الباطلة، ولطالما شوهدت آثار ذلك

ص:362

الحزن على محيّاه، وملامح وجهه الشريف، ولكن لمّا لم يكن مأذوناً بالإفصاح بالحقائق، لذلك كان يتجنّب ردع الناس عن تلك المفاسد، ومنعهم عن تلك الانحرافات.

بدء الوحي

لقد أمر اللّه ملكاً من ملائكته بأن ينزل على أمين قريش وهو في غار حراء ويتلو على مسمعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية والسعادة، معلناً بذلك تتويجه بالنبوّة، ونصبه لمقام الرسالة.

كان ذلك المَلَك «جبرئيل»، وكان ذلك اليوم هو يوم المبعث النبوي الشريف الّذي سنتحدّث عن تاريخه في المستقبل.

ولا ريب أنّ ملاقاة المَلك ومواجهته أمرٌ كان يحتاج إلى تهيّؤ خاصّ، ولو لم يكن محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم يمتلك روحاً عظيمة، ونفسية قوّية، لم يكن قادراً قط على تحمّل ثقل النبوّة، وملاقاة ذلك الملك العظيم.

أجل لقد كان «أمين قريش» يمتلك تلك الروح الكبرى، وتلك النفس العظيمة وقد اكتسبها عن طريق العبادات الطويلة، والتأمّل العميق الدائم، إلى جانب العناية الإلهية.

ولقد روى أصحاب السير والتاريخ أنّه رأى رؤىًّ عديدة قبل البعثة كانت تكشف عن واقع بَيّن واضحٍ وضوح النهار(1).

ولقد كانت ألذّ الساعات وأحبّها عنده بعد كلّ فترة، تلك الساعات الّتي يخلو فيها بنفسه، ويتعبَّد فيها بعيداً عن الناس.

ص:363


1- . لاحظ: صحيح البخاري: 1/22، كتاب العلم؛ بحار الأنوار: 18/194.

ولقد قضى على هذا الحال مدّة طويلة حتّى أتاه - في يوم معيّن - ملكٌ عظيم بلوح نصبَهُ أمامه وقال له: «إقرأ»، وحيث إنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان أُميّاً لم يدرس أجاب المَلَك بقوله: «ما أنا بقارئ».

وتكرّر هذا العمل مرّات أحسّ بعدها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في نفسه أنّه قادر على قراءة ما في ذلك اللوح، فقرأ ساعتها تلك الآيات الّتي تشكّل - في الحقيقة - ديباجة كتاب السعادة البشرية، وأساس رقيّها.

لقد قرأ صلى الله عليه و آله و سلم قوله تعالى:

«اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ * اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .(1)

وبعد أَنْ انتهى جبرئيل من أداء مُهِمّتِه الّتي كُلِّفَ بها من جانب اللّه تعالى، وبلّغ إلى النبيّ تلكم الآيات الخمس، انحدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من جبل حراء، وتوجّه نحو منزل خديجة.(2)

ولقد أوضحت الآيات المذكورة برنامج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إجمالاً، وبيّنت وبشكل واضح أنّ أساس الدين يقوم على القراءة والكتابة، والعلم والمعرفة، واستخدام القلم.

ظاهرة القضايا الغيبيّة في رأي الماديّين

لقد تسبّب التقدّمُ العظيم والمتزايد الّذي تحقّق في ميدان العلوم الطبيعية في سلب الكثير من العلماء القدرة على فهم وإدراك القضايا المعنوية والخارجة عن إطار العلوم الطبيعية، وبالتالي أدى إلى تحديد وتضييق آفاق الفكر عندهم.

ص:364


1- . العلق: 1-5.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/155.

فإذا بهم أصبحوا يتصوّرون أنّ الوجود يتلخّص في هذا الكون المادّي، وأنّه ليس في الوجود من شيء سوى المادّة، وأنّ كل ما لا يمكن تفسيره وتبريره بالقوانين والقواعد المادّية فهو أمر باطل، ومن نسج الخيال!!

إنّ هذا الفريق - لتسرّعه في إصدار الحكم في الأُمور المتعلّقة بالغيب وقضايا ماوراء الطبيعة، وحصر أدوات المعرفة بالحسّ والتجربة - أنكروا عالم الوحي، بحجّة أنّ الحسّ والتجربة لا يقودانهم إلى ذلك العالم، ولا يخبرانهم عن مثل تلك الموجودات، فلكونها بالتالي لا تخضع لمبضع التشريح، ومجهر الإختبار أنكروها بالمرّة، وكانت النتيجة أنّ أدوات المعرفة المعروفة (الحسّ والتجربة) حيث إنّها لا تهدي إلى عالم ماوراء المادّة فإذن لا وجود خارجي لذلك العالم ولحقائقه أبداً!

إنَّ هذا النمط من التفكير نمط ضيّق ومحدود جدّاً، مضافاً إلى أنّه يتّسم بالغرور والغطرسة، فهو من باب «استنتاج عدم الوجود من عدم الوجدان» في خطوة متعجّلة فجّة!!

فمادامت هذه الحقائق الّتي يعتقد بها الإلهيّون المؤمنون باللّه لا يمكن التوصّل إليها عن طريق الأدوات الفعلية المتعارفة بينهم للإدراك والمعرفة فهي إذن لا أساس لها من الواقع!!

إنّ الّذي لا شكّ فيه هو: أنّ الماديين لم يدركوا مقالة العلماء الإلهيّين حتّى في مسألة إثبات الصانع الخالق فكيف بالعوالم الأُخرى لما فوق الطبيعة، ولو أنّ الفريقين تحاورا في جوّ علمي مناسبٍ، بعيداً عن الأغراض والعصبيّات، لكان من المتوقّع أن تزول الفواصل بين المادّيين والإلهيّين في أقرب وقت، وأن يرتفع هذا الاختلاف الّذي قسَّم العلماء إلى فريقين على طرفي نقيض؟!

ص:365

لقد أقام المؤمنون الموحِّدون عشرات الأدلّة والبراهين القاطعة على وجود اللّه تعالى، وأثبتوا بأَنَّ هذه العلوم الطبيعية هي نفسها تقودنا إلى الخالق العالم القادر، وأنّ هذا النظام العجيب السائد في ظواهر الكائنات الطبيعيّة وبواطنها لدليل قاطع، وبرهانٌ ساطع على وجود مبدع لهذا النظام، وأنّ جميع أجزاء هذا الكون المادّيّ، من ذرّاته إلى مجرّاته، يسير وفق قوانين دقيقة متقنة، ولا تستطيع الطبيعة الصمّاء العمياء أبداً أن تكون مبتكرة لهذا النظام البديع، ومبدعة لهذا الترتيب الدقيق.

وهذا هو بنفسه برهان «نظام الوجود» أو (برهان النظم) الّذي ألّف العلماء الإلهيّون الموحدّون حوله عشرات الكتب والدراسات.

وحيث إنّ برهان النظم هذا ممّا يفهمه جميع الناس على مختلف مراتبهم ومداركهم، لذلك ركّزت عليه الكتب الاعتقادية دون سواه، وسلك كُلُّ واحد من العلماء طريقاً معيّناً وخاصّاً لتقريره، وبيانه، كما ودرست الأدلّة والبراهين الأُخرى الّتي لا تتّسم بمثل هذه الشمولية، في الكتب، والمؤلّفات الفلسفية والكلاميّة بصورة مفصّلة ومبسوطة.

إنّ للعلماء الإلهيّين بيانات وأدلّة في مجال (الروح المجردة)، وعوالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) نشير إلى بعضها هنا:

الروح المجرّدة

إنّ الاعتقاد بالروح من القضايا ذات الطبيعة الشائكة، وقد استقطبت اهتمام العلماء وشغلت بالهم بشدة.

فهناك فريقٌ - ممّن اعتاد أن يُخضِعَ كلّ شيء لمبضع التشريح - ينكر وجود الروح، ويكتفي بالاعتقاد بالنفس ذات الطابع المادّي، والعاملة ضمن نطاق القوانين الطبيعية فقط.

ص:366

ووجود «الروح» والنفس غير المادّية (أي المجرّدة المستقلّة عن المادّة) من القضايا الّتي عُولجت ودُرست من قِبَل المؤمنين باللّه، والمعتقدين بالعالم الروحاني، بصورة دقيقة، وعميقة.

فهم أقاموا شواهِدَ عديدةً على وجود هذا الكائن (غير المادّيّ) وهي أدلّة وبراهين لو تمَّ التعرّف عليها ومناقشتها في جوّ علمي هادئ مع الأخذ بنظر الاعتبار ما يقوم عليه منطق الإلهيّين - في هذا المجال - من قواعد وأُسس، لأدّى ذلك إلى التصديق الكامل بها.

على أنّ ما يقوله الإلهيّون في مجالات أُخرى مشابهة مثل: (الملائكة) و (الوحي) و (الإلهام) يقوم هو الآخر على الأساس الّذي شيّدوه ومهّدوه وبرهنوا عليه قبل ذلك بالأدلّة المحكمة، المتقنة(1).

ظاهرة الوحي عِند الماديّين

يُعتبَر الاعتقاد بالوحي أساساً لجميع الرسالات، والأديان السماوية، وتقوم هذه الظاهرة (ظاهرة الوحي) على أنّ الّذي يوحى إليه يمتلك روحاً قوّية تقدر على تلقّي المعارف الإلهيّة من دون واسطة، أو بواسطة ملَك من الملائكة.

ويلخّصُ العلماء المختصُّون تعريفَهم للوحي على النحو التالي: «الوَحيُ تعليمُهُ تعالى مَنْ اصْطفاهُ مِنْ عِباده كُلَّ ما أرادَ اطّلاعه عليه من ألوان الهداية والعِلم ولكِنْ بطريقة خَفيّةٍ غير مُعْتادَة للبَشر».

ولكنّ الماديّين - كما قلنا - لم يستطيعوا هضم هذه الحقيقة، وإدراك هذه الظاهرة على حالها، وصورتها الغيبية بسبب ما ذكرناه من منهجهم ونظرتهم إلى

ص:367


1- . جاء تفصيل هذه البراهين والأدلّة في الكتب الفلسفية مثل: «الإشارات» و «الأسفار». وقد أشرنا إلى بعض هذه الأدلّة في كتاب (اللّه خالق الكون)، فراجع.

الأُمور والكائنات فذهبوا في تفسير ظاهرة الوحي - الّتي هي كما أسلفنا من قضايا الغيب ومن عوالم ما فوق الطبيعة - مذاهب مختلفة ترجع برمّتها إلى الرؤية المادّية للوجود.

وإليك أبرز هذه التفاسير الماديّة لظاهرة الوحي الغيبية:

أبرز النظريات المادّية لظاهرة الوحي

1. قالوا: الوحي هي القدرة الفكرية، والنفسية والعقلية الّتي تحصل للإنسان بسبب التمرينات والرياضات الروحية الّتي على أثرها تنفتح عليه أبوابٌ من الغيب، فيخبر عن أُمور طالما تتّفق مع الواقع على نحو ما يحصل للمرتاضين الهنود.(1)

فالأنبياء بسبب اعتزالهم للمجتمع - على غرار ما يفعل المرتاضون - وإقبالهم على الرياضات الروحية تحصل لهم المقدرة على الإخبار بالغائبات، والكائنات الخفيّة على غيرهم.

والجواب على هذه النظرية هو:

أوّلاً: أنّ دراسة حالات المرتاضين تكشف لنا عن أنّهم طالما يخطأون في إخباراتهم أخطاء فاضحة، بينما لم يُعهَد من نبيٍّ أنّه أخطأ في إخباراته، وإنباءاته.

وثانياً: أنّ ما يفعله المرتاضون لا ينطوي على أيّة أهداف إصلاحية عليا للمجتمع البشري، بل غاية همّهم هو: عرض الأفعال العجيبة على الناس وربّما تسلية المتفرجين، بينما يهدف الأنبياء إلى إصلاح المجتمعات البشرية وقيادتها إلى ذرى الكمال والتقدّم.

ص:368


1- . وهم الّذين يمارسون رياضة اليوغا.

وثالثاً: أنّ المرتاضين لا يثقون بما يخبرون به، كما لم يُعرَف إلى الآن أنّ أحداً منهم قدّم للمجتمع البشريّ برامج كاملة وشاملة للحياة البشرية الفردية والاجتماعية، بينما نجد الأنبياء يخبرون الناس بما أُمروا به وهم على إيمان كامل، ويقين ثابت منه، هذا إلى جانب أنّهم يحملون إلى البشرية برامج اجتماعية وحيوية جامعة الأطراف، كاملة الأبعاد، رفيعة الأهداف، عميقة الغايات، ترجع إليها كلُّ فضيلة وكلّ خير عرفته المجتمعات إلى الآن.

ورابعاً: أنّ أعمال المرتاضين وما تحصَلُ لهم من قوى وتنفتح عليهم من آفاق، محدودة، بينما لا تقف طاقاتُ الأنبياء وآفاق علومهم، وأبعاد أعمالهم عند حدّ.

فلا يمكن أبداً تفسير وتعليل ظاهرة (الوحي) وما يحصل للرسل والأنبياء على أثره من أُمور تتخطّى حدود العالم المادّي المحدود، بالرياضة الروحية الّتي يمارسها المرتاضون وما يحصل لهم على إثرها من أُمور.

2 - قالوا: إنَّ (الوحي) نوعٌ من النبوغ، أو أنّه ناشئ من النبوغ، وأنّ الأنبياء هم نوابغ اجتماعيون لا أكثر.

وقد شرحوا نظريتهم هذه قائلين: بأنّ نظام الخليقة قد ربّى في أحضانه نوابغَ صالحين، اهتدوا بفعل نبوغهم الفكري الرفيع إلى أفكار وقيم رفيعة ودعوا مجتمعاتهم إلى الأخذ بها، والسير على هديها، لتحقيق الخير والعدالة، فكان لهم بذلك أكبر نصيب في إرشاد البشرية إلى سعادتها، فكلّ ما طرحوه من أفكار، وكلّ ما عرضوه على تلك المجتمعات باسم الدين أوالقانون ليست - في الحقيقة - سوى نتيجة ما تمتّعوا به مِن نبوغ، وفكر خارق، ولا علاقة له بعالم آخر غير هذا العالم المادّي المألوف.

ص:369

وقالوا: وإن ممّا يساعد على تقوية هذا النبوغ أُمور أبرزها:

الحبُّ، التعرّضُ للظلم الطويل، الطفولة وما يكتنفها من ضعف وعجز، الوحدة، السكوت، التربية الأُولى، والعيش في صورة الأقليّة وما يرافقها من ظروف إجتماعية غير مؤاتية.

فإنّ جميع هذه الأُمور أو بعضها تدفع بالشخص إلى الإنطوائية، والتفكير والتأمّل، للاهتداء إلى مخرج من المشاكل والصعوبات، ومخلص من الظروف الصعبة، والأحوال الشاقّة.

ويُجاب عن هذه النظرية بأنّ أصحابها حكموا على هذه القضية على أساس موقف اتّخذوه سَلفاً فهُم حَصَروا الأشياء في المادّة والأُمور المادّية ثم فسّروا ما يرتبط بعالم الغيب بذلك، فجاء تفسيرهم لهذه الظاهرة الغيبية تفسيراً مادّياً، غفلة منهم عن أنّ مثل هذا التفسير والتعليل لا يليق بظاهرة (الوحي) الّتي تجسد أعلى قضيّة في سلّم الحقائق العلمية والفلسفية، ويرجع اليها أعظم القوانين والبرامج للسعادة البشرية.

نحن لا ننكر أنّ لما ذكروه من العوامل تأثيراً في تقوّية عملية «التفكير» لدى الإنسان إلى درجة إيجاد ما يُسمّى بظاهرة النبوغ لديه، إلّاأنّه لا يمكن أن يوجد مثل هذا الأَمر نبيّاً خضعت جميع النوابغ البشرية لعظمة تعاليمه الّتي أتى بها طوال أربعة عشر قرناً.

نبيّاً لم يزل ما جاء به من معارف عقلية وفلسفية، وقوانين ترتبط بعالم الطبيعة وبالنظام الاجتماعي وآداب السلوك تحافظ على قوّتها، وعمقها، وأصالتها، ولمعانها كلّ المحافظة رغم كلّ ما أحرزه البشر في ضوء نشاطه الفكري والعقلي من تقدّم، في المعارف والعلوم.

ص:370

هذا مضافاً إلى أنّ نسبة هؤلاء الأنبياء جميع ما عرضوه على المجتمعات البشرية إلى العالم الآخر وإصرارهم على أنّها من جانب اللّه تعالى وليست من نسيج أفكارهم يناقض نظرية هذه الطائفة، الّتي تفسّر النبوّة بالنبوغ.

لنقرأ معاً الآية الّتي يقول اللّه تعالى فيها حاكياً عن رسول الإسلام محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم:

«إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ» .(1)

أو يقول سبحانه:

«إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى» .(2)

3. يقولون: إنّ الوحي هو ظهور الشخصية الكامنة في النبيّ وإيحاؤها لما ينفعه وينفع قومه المعاصرين له، إليه.

وربّما قالوا: إنَّ معلومات «محمَّد» وأفكارَه وآمالَه وَلّدتْ لديه إلهاماً فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفيّة على مخيلته السامية، وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملَك ماثلاً أمامه وهو يتلو على سمعه ما حدّث به بعد ذلك.

وتوضيح هذه النظرية هو: أنّ لكلّ إنسان شخصيتين:

1. الشخصية الظاهرة العادية وهي الّتي تخضع للحواس الخمس وتعمل بها.

2. الشخصية الباطنية وهي الّتي تعمل عندما تتعطّل الحواس، ويتعطّل الشعورُ الظاهري.

وهذه الشخصية هي الّتي تحرّك جميع أعضاء الجسم الإنساني الّتي لا تخضع لإرادته كالكبد، والقلب، والمعدة وغيرها، كما أنّها هي مصدر الكثير من الإلهامات الطيبة في الظروف الحرجة.

ص:371


1- . الأنعام: 50.
2- . النجم: 4.

ثم قالوا: وهذه الشخصية الباطنية قد أصبحت مدركة بالحس، فإنّ المنوَّم مغناطيسياً يظهر بمظهر العقل الراجح، والفكر الثاقب والنظر البعيد، ويقوم بما لا يقوم به في حالته العادية.

وقد انتهى هؤلاء المادّيون من خلال تحقيقاتهم وتجاربهم إلى: أنّ شخصية الإنسان الباطنية أرقى من شخصيته العادية، وإنّ ما يتوصَّل إليه الإنسان من أفكار عالية رفيعة جداً، وما قد يتمتّع به من روح قوية هو من مظاهر هذه الشخصية وفعاليتها.

فقالوا: وإنّ هذه الشخصية هي الّتي تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من اللّه، وقد تظهر لهم متجسّدة فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء!!!

فالوحي عند هؤلاء الباحثين في الروح على الأُسلوب التجريبي لا يكون بنزول ملك من السماء على الرسول فيبلغه كلاماً عن اللّه، بل يكون في تجلّي روح الإنسان عليه بواسطة شخصيته الباطنة فتعلّمه ما لم يكن يعلم، وتهديه إلى خير الطرق لهداية نفسه وترقية أُمّته.(1)

ولكنّ هذه النظرية هي الأُخرى تنبع من الغُرور العلميّ الّذي أصاب هذا النمط من العلماء الَّذين يحاولون تفسير كلّ ظواهر هذا العالم بالتفسير المادّي، وهو لا شكّ ينشأ من عِلمهم المحدود القاصر عن إدراك حقائق الوجود.

إنّنا لا نشكّ في وجود ما يُسمّى بالشخصية الباطنيّة لدى الإنسان فهو ممّا سبق إلى كشفه والتنويه عليه الفلاسفة الإسلاميّون من قبل، ولكن كيف وعلى أيّ أساس حقَّ لهؤلاء أن يفسّروا ظاهرة (الوحي الإلهيّ) والنبوّة بهذا الأمر؟

ص:372


1- . دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي: 10/719، مادّة «وحي».

هذا أوّلاً

وثانياً: أنَّ تجلّي الشخصيّة قلّما يحدث في الأشخاص الأصحّاء، بل هو يحدث في الأغلب عند المتعبين القلقين، والسكارى، والمصابين بالهزيمة والنكسة، لأنّ نافذة (اللّا وعي) عند غيرهم من الأصحّاء تنسد بسبب اشتغالهم الشديد بقضايا الحياة اليومية وهمومها، ولا يبقى للشخصية الباطنية مجال للنشاط والفعالية، كما هو العكس عند المتعبين والسكارى والمرضى الذين يقلّ اهتمامهم بالحياة اليومية فيترك (الوعيُ) مكانه للّاوعي، وتترك الشخصية الظاهرية المعطّلة مكانها للشخصية الباطنية.

ولذلك نجد بين آلاف العلماء والمفكّرين مفكّراً أو عالماً واحد اتّفق له في بداية عمره أن اهتدى بصورة لا شعورية إلى فكرة خاصّة أونظرية معيّنة من دون سابق تفكير أواستدلال قائم على الشعور.

وخلاصة القول: إنّ تجلّي الشخصية الباطنية في الحياة الإنسانية قضية نادرة جداً، وهي لا تحدث إلّافي ظروف خاصّة مثل: المنامات والأحلام وغيرها من التحوّلات الحياتية الّتي تقلّل من توجّه الإنسان إلى العالم الخارجيّ وتصرفُ التفاته وتوجُّهَه إلى الشخصية الباطنية.

ولكن هذه الحالة وهذه الشرائط (أي الغفلة عن هموم الحياة اليومية الخارجية) لم تحصل للأنبياء قط.

فالنبي الأكرم محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم كان طوال (23 سنة) وهي أعوام الرسالة، مشتغلاً كلّ الاشتغال بقضايا الحياة اليومية، فالنشاطات السياسية، والتبليغية وقضايا الدعوة والقيادة كانت تهيمن على كلّ توجّهه واهتمامه، وتملأ عقله وروحه ونفسه.

فالكثير من آيات الجهاد ترتبط بساحات القتال والجهاد، وهذا يعني أنّه كان

ص:373

مشدوداً بروحه وعقله كلّه إلى تلك الأُمور.

وثالثاً: أنَ هذه النظرية يمكن أن تصدق على نبوّة الأنبياء لو كان هؤلاء الأنبياء أفراداً متعبين، منهزمين، منتكسين، مرضى، معتزلين عن الحياة ليقال حينئذٍ إنّ هذه الحالات والظروف مهَّدت لانقطاعهم عليهم السلام عن هموم الحياة، وقضاياها، وبالتالي مهَّدت لفعالية الشخصية الباطنية وعملها.

ولكن تاريخ الأنبياء يشهد بوضوح لا إبهام فيه، بأنّهم كانوا - طيلة حياتهم الرسالية - رجالاً مجاهدين، لا يهمهم إلّاإصلاح المجتمعات وقيادة الجماعات وحلّ المشكلات الاجتماعية، ورفع مستويات الناس معنوياً وفكرياً، وكانوا يعملون لتحقيق هذه الأهداف ليل نهار، بلا سأم ولا ملل، ولا تعب ولا نصب.

فكيف يمكن القول والحال هذه بأنّ الشخصية الباطنية تجلّت لديهم وأوحت إليهم بحقائق وقيم وأفكار؟

إنّ تفسير (الوحي الإلهي) الّذي يُلقى إلى الأنبياء ويكشف لهم عن أدقّ الحقائق وأرفعها، وأعظم المناهج وأكملها، بتجلّي الشخصية الباطنية، ناشئ من اعتقاد هذا الفريق من العلماء بأصالة المادّة، أو بعبارة أُخرى: حصر الوجود في المادّة، ومن هنا حاولوا إلْباس كلّ شيء - حتّى الأُمور المعنوية والغيبية - اللباس الماديّ، وأغلقوا على أنفسهم باب عوالم الغيب، وعمدوا إلى التفتيش عن علّة مادّية حتّى لظاهرة (الوحي) الّتي لا تُقاس بمقاييس العالم المادّي.

هذا مضافاً إلى أنّ تفسير (الوحي الإلهيّ) عن طريق نظرية تجلّي الشخصية الباطنية، وخاصّة في شأن رسول الإسلام «محمَّد» صلى الله عليه و آله و سلم يواجه إشكالات ومؤاخذات أُخرى تجعل هذه النظرية في عداد الأساطير!!

وإنّ أبرز هذه الإشكالات الواردة على هذه النظرية في مجال رسول

ص:374

الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم هي: أنّ هذه النظرية ليست رأياً جديداً وتهمة جديدة توجه إلى نبوّة رسول الإسلام.

فإنّ نظرية «الشخصية الباطنية، والوحي النفسي الذاتي» هي نظرية متبلورة ومتقدّمة لتهمة (الجنون والصَّرع) التي كان يَرمي بها العربُ الجاهليّون رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم!!

فقد كان المشركون في بدء الدعوة يقولون: إنّ ما يقوله «محمَّد» وما يتكلّم به ليس إلّاأفكاره القلقة المضطربة الناشئة عن خياله، وأنّ القرآن هي تلك الأفكار المضطربة الّتي تسرّبت إلى فضاء عقله من دون إرادة منه ولا اختيار!!

لنستمع إلى القرآن الكريم وهو ينقل عنهم هذا الاتّهام:

«بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ» (1).

ولكنّ القرآن الكريم يردّ على هذه المزعمة الواهية بقوله:

«وَ النَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى * وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى» (2).

إنّ القرآن الكريم يشجب - في هذه الآيات المنتظمة انتظاماً رائعاً وبديعاً - هذه المزعمة (أي مقولة أنّ القرآن وليدُ الخيال لدى محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم)، ويردُّ الأمر إلى الوحي الإلهي، والتوجيه الربانيّ العُلويَّ.

إنّ نظرية الوحي النفسيّ وتَجلّي الشخصية الباطنية الّتي طلع بها المادّيون في عصرنا ما هيَ في الحقيقة إلّاغطاء لمزعمة المشركين وتهمة الجنون والخيال، الّتي سبق أن رمى بها أعداء الرسالة الإسلامية ومعارضوها النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم تلك التهمة الّتي

ص:375


1- . الأنبياء: 5.
2- . النجم: 1-5.

يذكرها القرآن الكريمُ بقوله:

«وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» (1).

وهي تهمة كان يوجّهها المعارضون دائماً إلى المصلحين وأصحاب الرسالات(2)، وقد اتّخذت هذه التهمة صبغة علمية جديدة، وتبلورت في نظرية:

«الوحي النفسيّ، وتجلّي الشخصية الباطنية». إنّ القرآن الكريم يردّ على هذه المزاعم والتصوّرات الباطلة حول عمليّة الوحي ومسألة النبوّة ويرد على نسبة الكهانة وماشابه ذلك كالخبر المنقول عن أهل السير بمحاولة إلقاء النبيّ نفسه من شاهق في بداية الوحي الّذي يشبه نسبة الجنون إليه صلى الله عليه و آله و سلم إذ يقول تعالى:

«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ * لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» .(3) بهذا البيان تبيَّنَ بطلان هذا التفسير وجميع التفاسير الأُخرى الّتي تحاول إعطاء (الوحي) طابعاً مادّياً مألوفاً، شأنه شأن غيره من الظواهر الغيبيّة، ونحن استكمالاً لهذا البحث نشير إلى ما هو الحقُّ في هذا المجال، ممّا يؤيّد الواقع والعقل والدين:

ص:376


1- . الحجر: 6، وأيضاً راجع الآيات التالية: سبأ: 8، الصافّات: 36، الدخان: 14، الطور: 29، القلم: 2، التكوير: 22.
2- . إذ يقول القرآن في هذا الصدد: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» (الذاريات: 52 و 53).
3- . التكوير: 20-28.

ظاهرةُ الوحي في منظار العقل والدين

لا شكّ أنّ حياة كلّ فرد من أفراد الإنسان تبدأ من «الجهل» ثم يأخذ الإنسان بالدخول في مجال العلم شيئاً فشيئاً، إلى أن تنفتح عليه بالتدريج نوافذُ على الواقع الخارج عن ذهنه.

فيبدأ الإنسانُ بالتعرّف على الحقائق عن طريق الحواسّ الظاهرية، ثم على أثر التكامل في جهازه العقليّ والفكري يهتدي إلى الحقائق الخارجة عن مجال الحس واللمس، فيغدو عقلانياً استدلاليّاً، ويقف على طائفة من الحقائق الكليّة والقوانين العلمية.

وربّما يظهر بين أفراد النوع الإنساني أصحابُ نفوس عالية يقفون عن طريق الإلهام ومن خلال بصيرة خاصّة على حقائق وأُمور لا يُهتدى إليها حتّى عن طريق الاستدلال والبرهنة!

ومن هنا قسّم العلماء إدراك البشر إلى ثلاثة أنواع: «إدراك العامّة»، «إدراك المفكّرين وأرباب الاستدلال»، «إدراك العرفاء وأصحاب البصائر والنفوس الكبرى».

وكأَنَّ أصحاب الظاهر يستعينون على اكتشاف الحقيقة بالحسّ، والمفكّرين يستعينون بالاستدلال والبرهنة، وأصحاب البصائر والمعرفة بالإلهام والإشراق وبالفيض عليهم من العالم الأعلى.

إنّ النوابغ في مجال الأخلاق، وإنّ عقول العلماء الخلّاقة، وأفكار الفلاسفة العظيمة كلّها تؤيّد وتشهد بأنّ ما يحصلون عليه، وما يطلعون به على المجتمع البشري ممّا لم يعرفوه من قبل ما هي إلّاشرارات مضيئة وملهمة تخطر لهم، ثم يعمدون إلى تنميتها وبلورتها بالتجربة، أو بالاستدلال والبرهنة والتأمّل.

ص:377

قنواتُ المعرفة الثَلاث

من هذا الكلام نستنتج أنّ أمام بني البشر ثلاث طرق للوصول إلى مقاصدهم؛ فالطريق الأوّل يستفيد منه جماهير الناس غالباً، بينما يستفيد طائفة خاصّة منهم من الطريق الثاني، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلّاأفراد معدودون قلةٌ تكاملت عقولُهم، وتسامت أرواحهم. وهي كالتالي:

1 - الطريق التجريبي والحِسي، والمقصود منه ذلك القسم من الإدراكات والمعلومات الواردة إلى محيط الذهن البشريّ عن طريق الحواس الظاهرية كالمرئيات، والمشمومات والمطعومات وغيرها ممّا يستقرُّ في محيط إدراكنا بواسطة الأجهزة المختصّة بها.

وقد استطاع البشر اليوم، وبفضل اختراع التلسكوبات والميكروسكوبات وأجهزة التلفاز والراديو أن يقدّم خدمة كبرى للبشرية في مجال الإدراكات الحسية ويمهِّد لمزيدٍ من سيطرتها على البعيد والقريب.

2 - الطريقُ التعقُّلي الإستدلالي: فإنّ المفكّرين يتوصّلون إلى كشف طائفة من القوانين الكلّيّة الخارجة عن الحسّ عن طريق عملية التفكير والتأمّل وتشغيل جهاز العقل، وإقامة سلسلة من المقدّمات البديهية الواضحة، وبذلك يمكن الوصول إلى قمم المعرفة والكمال العلمي.

إنَّ انكشاف القوانين العلميّة الكليّة، والمسائل الفلسفية، والمعارف المرتبطة بصفات اللّه وأفعاله سبحانه والقضايا المطروحة في علم العقيدة والأديان ناشئ برمَّته من جهاز العقل، وحركته، وناتج من عملية التفكير، والإستدلال المذكورة.

3 - طريق الإلهام: وهذا هو الطريق الثالث لمعرفة الحقائق، وهو فوق نطاق

ص:378

الحسّ والتعقّل.

إنّه نوعٌ جديدٌ من المعرفة ونمط متميّز من إدراك الحقائق، ليس محالاً من وجهة نظر العلم وإن كان يصعُب على أصحاب الإتجاه المادّي القبول به لكونه طريقاً غير حسّي ولا تعقّلي.

وأمّا من جهة الأُصول العِلمية فلا مجال لإنكاره، ولا مبرّر لعدّه من المحالات.

إنّ طريق التعرُّف على حقائق الكون الخارج عن الذهن - في منهج المادّيين، وأصحاب النزعة المادّية - ينحصر في قناتين لا أكثر، وهما اللّذان سبق ذكرُهما، في حين أنّ هناك - حسبَ نظرة الأديان والشرائع الكبرى وحسب نظرة الفلاسفة والعرفاء الإلهيّين - قناة ثالثة أيضاً.

بل إنَّ هذا الطريق الثالث - كما أسلفنا في مسألة الوحي - أكثر واقعية، وأقوى أُسُساً، وأوسع آفاقاً عند من يدَّعون الرسالة، والنبوّة من جانب اللّه سبحانه، وإن نفوس أُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاء وطراوةً بفضل هذا الطريق، وفي ضوء هذه القناة.

وكلّما حصل ارتباط بين اللّه، وبين فرد من أفراد النوع الإنساني على نحو خاص، أُلقيت الحقائق في وجوده من دون توسّط الحواسّ الظاهرية، وإعمال الفكر، واستخدام جهاز العقل.

وهذا النوع من الإلقاء يسمّى حيناً بالإلهام، وبالإشراق حيناً آخر.

ولكن كلّما نتج من ارتباط الإنسان بما وراء الطبيعة سلسلة من التعاليم العامّة والأنظمة والبرامج الشاملة أُطلِق على هذا النوع من الإلقاء عنوان (الوحي)، وسمِّيَ الآتي بها (ملَك الوحي) والآخذ لها (نبيّاً).

ص:379

هذا وقد يوجب الإلهام الثقة والاطمئنان للملهَم إليه، ولكنّهُ لا يمكن أن يكون مبعث الإطمئنان والثقة عند الآخرين.(1)

من هنا اعتبر العلماء «الوحيَ» الطريقَ المطمئنّة الوحيدة إلى المعرفة العامّة...

الوحي الّذي ينزل على الأنبياء الذين ثبتت نبوّتهم بالدلائل القاطعة، من المعجزة وغيرها.

أنواع الوحي وأصنافه

إنّ في مقدور الروح الإنسانية بسبب ما تملك من كمالات أن تتّصل بالعوالم الروحانية من الطرق المختلفة، ونحن هنا نشير إلى هذه الطرق الّتي جاء ذكرها في أحاديث قادة الإسلام وأئمته، باختصار:

1. تارة يتلقّى الحقائق السماوية العليا على نحو الإلهام، فيتّخذ ما يتمّ إلقاؤه في النفس عبر هذا الطريق حكم (العلوم البديهية) الّتي لا يتطرّق إليها أي ريب وشك.

2. وقد يسمع عبارات وكلمات من جسم معيّن (كالجبل والشجرة) كسماع موسى عليه السلام كلام اللّه من الشجرة.

3. وربّما تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار.

4. وقد ينزلُ عليه ملَكٌ من جانب اللّه بكلام خاص.

ص:380


1- . وإنّما قلنا «قد» أي يمكن أن يوجب الاطمئنان ولم نقطع بذلك لأنّ مصدر هذه الإلهامات ليست معلومة وواضحة، ولا يمكن الاعتماد على مطلق الواردات القلبية والفجائية الّتي لا تستند إلى أُصول معلومة. وبعبارة أُخرى: يجب الفصل والتمييز بين الإلهامات الرحمانية والإلقاءات الشيطانية بواسطة الموازين العقلية والشرعية.

وقد نزل القرآن الكريم على النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من هذا الطريق، وقد صرّح القرآن الكريم نفسه بهذا عند قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» .(1)

أساطيرُ مختَلقة

لقد كتب المؤرّخون والكتّاب عن حياة كثير من الشخصيات العالمية، وضبطوا كلّ ما جلَّ ودقَّ في هذا المجال، وربّما تحمّلوا عناء الرحلات الطويلة والأسفار الشاقّة لتكميل دراساتهم، وكتاباتهم.

غير أنّ التاريخ لا يعرف شخصية مثل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ضبطت تفاصيل سيرته الدقيقة، واهتم أتباعه وأصحابه ومحبّوه بكلّ شاردة وواردة في حياته الشريفة.

إنَّ هذا الولع الشديد بتسجيل كلّ شيء - مهما صغر - من حياة النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم وسيرته العطرة كما ساعد على ضبط جميع الجزئيات والتفاصيل في هذا المجال، تسبّب في بعض الموارد في إلصاق بعض الزوائد بحياة النبيّ الأكرم وشخصيته العظيمة، الطاهرة.

ومثل هذا لا يبعد عن المحبّين الجهلاء فكيف بالأعداء الألدّاء العارفين.

من هنا يتعيّن على كلّ مؤلّفٍ يكتب عن سيرة شخصية من الشخصيات أن لا يغفل عن مبدأ (الحذر والإحتياط) في تحليله لحوادثها، وقضاياها، فلا يغفل عن تقييم كلّ ما جاء حولها من روايات وقصص في ضوء الموازين التاريخيّة الدقيقة.

وإليك بقية ما جرى في واقعة نزول (الوحي) في حراء:

ص:381


1- . الشعراء: 193-195، وقد أُشير في سورة الشورى الآية 51 إلى هذه الطرق الأربع جميعها.

بقية حادثة نزول الوحي

استنارت نفس رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وروحه الكبرى بنور «الوحي» المبارك، وتعلّم كلّ ما ألقى عليه مَلَك الوحي في ذلك اللقاء العظيم، وانتقشت تلك الآيات الشريفة في صدره حرفاً حرفاً، وكلمة كلمة.

وقد خاطبه نفس ذلك المَلَك بعد تلاوة تلكم الآيات بقوله:

يا محمَّد... أنت رسولُ اللّه... وأنا جبرئيل.

وقيل: إنّه صلى الله عليه و آله و سلم سمع هذا النداء عند نزوله من غار حراء وقد اضطرب رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهذين الحدَثين، اضطرب لعظمة المسؤولية الكبرى الّتي أُلقيت على كاهله.

وكان هذا الاضطراب طبيعياً بعض الشيء، وهو لا ينافي بالمرّة يقينه صلى الله عليه و آله و سلم وإيمانهُ بصدق ما أُنزلَ عليه لأنّ الروح مهما بلغت من العظمة والسموّ والقوّة والصلابة، ومهمّا كانت قوّة ارتباطها بعالم الغيب، وبالعوالم الرُّوحانية العُليا فإنَّها عندما تواجه لأوّل مرّة مَلَكاً لم تره من قبل، وذلك في مثل المكان الّذي التقى النبيُّ (فوق الجبل) لابُدَّ أنْ يحصل لها مثل هذا الاضطراب، ولهذا زال ذلك الاضطراب عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ما بعد. ثم إنَ الاضطراب والتعب الشديد قد تسبّبا في أن يتوجّه النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم إلى بيت «خديجة» عليها السلام، وعندما دخل بيتها ووجدت على ملامحه آثار الاضطراب والتفكير سألته عن ما جرى له، فحدَّثها بكلّ ما سمع ورأى وقصَّ عليها ما كان من أمر جبرئيل معه، فعظّمت «خديجةُ» عليها السلام أمره، ودعت له، وقالت: إبشر فواللّه لا يخزيك اللّه أبداً.

ثم إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الّذي كان يشعر بالجهد والتعب قال لزوجته الوفيّة

ص:382

«خديجة»: دثّريْني... دَثِّريني.

فدثّرته، فَنام بعض الشيء.

خديجة تذهب إلى ورقة بن نوفل

لقد تحدّثنا في الصفحات الماضية عن «ورقة» وقلنا: إنّه كان ممّن تنصَّر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل وكان ابن عمّ خديجة.

فعندما سمعت «خديجة» زوجة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ما سمعته منه انطلقت إلى «ورقة» لتخبره بما سمعته من زوجها الكريم، وشرحت له كُلّ شيء ممّا جرى له مع جبرئيل.

فقال «ورقة» في جواب ابنة عمّه: واللّه إنّ ابن عمّك لصادق، وإنّ هذا لبدء نبوّة، وإنّه ليأتيه الناموس الأكبر (أي الرسالة والنبوّة).(1)

إنّ ما ذكرناه إلى هنا هو في الحقيقة ملخّص الروايات التاريخية المتواترة الّتي وصلت إلينا، والّتي دُوِّنت في جميع الكتب.

بيد إنّنا نلاحظ بين ثنايا هذه الحادثة أُموراً لا تتّفق مع ما نعرفه عن أنبياء اللّه ورُسُله العظام، كما أنّها لا تتّفق مع ما قرأناهُ إلى الآن عن حياة هذا النبيّ العظيم صلى الله عليه و آله و سلم.

وما سنذكره الآن من هذه الزوائد إمّا يجب اعتباره من قبيل الأساطير التاريخية، أو أنّ علينا تأويله بنوع من التأويل.

وإنا لنعجب قبل كلّ شيء من المفكّر المصريّ الدكتور «هيكل» كيف سمح لنفسه وهو الّذي تحدّث في مقدّمة كتابه عن مشكلة تسرب الأساطير إلى التاريخ

ص:383


1- . الطبقات الكبرى: 1/195.

النبويّ، وقال: بأنّ هناك من دسَّ في السيرة النبوية، عن عداوة أو جهل، بعض الأكاذيب.

ولكنّه مع ذلك ينقل هنا أُموراً لا أساس لها من الصحّة أبداً، في حين أعطى فريقٌ من علماء الشيعة - كالمرحوم الطبرسي - ملاحظات مفيدة في هذا الصعيد.

وإليك في ما يلي بعض هذه الأساطير والقضايا المختلقة، على أنّها لم تكن جديرة بالإشارة أبداً لولا أنّ بعض المحبّين الجَهلاء، والأعداء الأذكياء ذكروها في كتبهم، وكرّروها في دراساتهم:

1. قالوا: إنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عندما دخل منزل خديجة، كان يفكّر في نفسه: لعلّ بصرَه خدعه، أو أنّه كاهن، أو فيه جنون!!

ولكن لمّا قالت له خديجة: «إنّ اللّه لا يفعل بك ذلك يا ابْن عبداللّه، إنّك تصدق الحديث، وتؤدّي الأمانة، وتصلُ «الرحم» اطمأنَّ، وزالَ عنه الشكُّ والتردّد، وألقى على «خديجة» نظرَ شكر ومودّة، ثم طلب أن يُزمَّل، فزمِّلَ فنام!!(1)2. يقول الطبري وغيره من مؤرّخي السيرة: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا سمع نداء يقول: «يا محمَّد أنت رسول اللّه» أصابَهُ خوفٌ شديدٌ حتّى أنّه همَّ بأن يطرح نفسَهُ من أعلى الجبل، فتبدّى له (مَلَك الوحي) ومنعه عن ذلك!!!

3 - ثم إنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ذهب ليطوف بالكعبة بعد ذلك اليوم، فرأى «ورقة بن نوفل» وشرح لورقة ما جرى له مع جبرئيل، فقال له ورقة:

«والّذي نفسي بيده، إنَّك لنبيَّ هذه الأُمة، ولقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الّذي جاء موسى ولتُكذبَنَّه، ولتوذينَّه ولتخرجَنَّه ولتقاتلنّه» فأحسّ «محمَّد» بأنّ ورقة

ص:384


1- . الطبقات الكبرى: 1/195؛ حياة محمَّد: 134.

يصدّقه، فاطمأن.(1)

بُطلانُ هذه المزاعم

إنّ الّذي نتصوّره هو أنّ جميع هذه القصص مختلقة من الأساس، وقد دُسَّت في التاريخ والتفسير عن قصدٍ وهَدف، أو دخلت فيهما عن غير ذلك.

وذلك:

أوّلاً: لأنّنا لتقييم هذه المزاعم يجب أن نُلقي نظرة فاحصة على تاريخ الأنبياء الماضين وسيرهم.

إنّ القرآن الكريم قصَّ علينا قضاياهم، وسيرهم، وقد وردت في هذا المجال روايات وأخبار كثيرة.

وإنّنا لا نجد أيّ أثر لمثل هذه القصص المشينة في حياة أيّ واحدٍ منهم.

إنّ القرآن الكريم يقصّ علينا قصّة بدء نزول (الوحي) على «موسى» بشكل كاملٍ ويبيّن جميع التفاصيل في قصته عليه السلام ولا يذكر أيّ شيء من الخوف، والارتعاش، والوحشة والفزع، بحيث يحدّث نفسه بالإنتحار على أثر سماع الوحي!! مع أنّ أرضية الخوف والفزع في مجال «موسى» كانت متوفرة أكثر، لأنّه سمع في ليلة ظلماء وهو في صحراء خالية نداء من الشجرة يخبره بأنّه نبيُّ مرسَلٌ.

ولكن موسى - كما يصرّح القرآن الكريم، بهذه الحقيقة - حافظ على هدوئه، وسكونه، وعندما خاطبَهُ اللّه تعالى بقوله: «أَنْ أَلْقِ عَصاكَ» * ألقاها من فوره، وكان

ص:385


1- . السيرة النبوية: 1/156.

خوفه من ناحية العصى الّتي تبدّلت إلى ثعبان مخيف، لا من جهة الإيحاء إليه.

فهل يمكن، أو يجوز لنا أن نقول: كان «موسى» لحظة الوحي إليه مطمئناً هادئاً ساكناً، ولكن أفضل الأنبياء والمرسلين اضطرب عند سماع كلام المَلك، وفزع إلى درجة فكَّر في إلقاء نفسه من أعلى الجبل؟! هل هذا كلام معقول؟!

لا ريب أنّ روح محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم ما لم تكن مهيَّأة من جميع الجهات وبصورة كاملة لتلقّي السرّ الإلهيّ (النبوّة) لا يمكن أن يمنَّ عليه الربُ الحكيمُ بمنصب النبوّة، ويختاره لمقام الرسالة، لأنّ الهدف الجوهريّ من ابتعاث الرُسل، وإرسال الأنبياء هو هداية الناس وإرشادهم.

ومن كان كذلك من حيث ضعف الروح ووهن النفس بهذه المرتبة بحيث يحدّث نفسه بالإنتحار خوفاً(1) وفزعاً كيف يمكن أن ينفذ إلى نفوس الناس ويؤثّر فيهم؟!

ثانياً: كيف يمكن أن يطمئن موسى بمجرد سماعه للنداء الإلهيّ إلى أنّه صادرٌ من جانب اللّه، فطلبَ من ربّه من فوره أن يجعل أخاه هارون وزيراً له لأنّه أفصحُ منه قولاً(2)، بينما لا يطمئن سيد المرسلين وخاتمهم؟!

ثالثاً: لقد كان «ورقة» مسيحيّاً حتماً، ولكنّه عندما أراد أن يزيل عن «محمَّد» الشكّ والإضطراب ذكر نبوَّة «موسى» عليه السلام وقال: لقد جاءك الناموس الأكبر الّذي جاء موسى.(3)

ص:386


1- . كما نقل هيكل في كتابه: «حياة محمَّد».
2- . طه: 29.
3- . السيرة النبوية: 1/156. وقد نقل المرحوم المجلسي في بحار الأنوار: 18/228 هذه العبارة عن المنتقى ولكنّه بإضافة لفظة «عيسى» أيضاً ولكن لا وجود لذلك في صحيح البخاري وسيرة ابن هشام اللّذين هما الأساس لهذه الأُمور.

ألا يدلُّ هذا على أنّ ثمة يداً اسرائيليّة وراء هذه الحبكة هي الّتي صاغت هذه القصة واختلقتها في غفلةٍ عما كان يدين به «ورقة» بطلُ القصة؟!

كلّ هذا بغضّ النظر عن أنّ مثل هذه الأُمور تتنافى والعظمة الّتي نعهدها من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، ولا تنسجم معها أبداً، ويبدو أنّ مؤلّف «حياة محمَّد» أدرك إلى درجة ما خرافية هذه القصّة ولذلك نجده ينقل بعض مواضيعها بعد جملة: «كما يقولون».

وقد حارب أئمةُ الشيعة هذه الأساطير بكلّ قوّة، وأبطلوها برمّتها.

فعندما يسأل زرارة الإمام الصادق عليه السلام مثلاً: كيف لم يَخفْ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيما يأتيه من قِبَل اللّه أن يكون ممّا ينزغ به الشيطان؟

قال الإمام عليه السلام: «إنّ اللّه إذا اتّخذَ عبداً ورسولاً، أنزل عليه السكينة والوقار، فكان يأتيه من قِبَل اللّه عزّوجلّ مثل الّذي يراه بعينه».(1)

ويقول العلّامة الشيعي الكبير المرحوم الطبرسي في تفسيره، في هذا الصدد:

«إنّ اللّه لا يوحي إلى رسوله إلّابالبراهين النيّرة والآيات البيّنة الدالّة على أنّ ما يوحى إليه إنّما هو من اللّه تعالى، فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزعُ، ولا يَفْرُق».(2)

ص:387


1- . بحار الأنوار: 18/262، الحديث 16 نقلاً عن تفسير العياشي: 2/201، الحديث 106.
2- . مجمع البيان: 10/174.

13 متى نزل الوحي أوّلاً؟

اشارة

لقد تَعرّضَ يوم مبعث رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم للاختلاف من حيث التعيين والتحديد فهو مثل يوم ولادته ويوم وفاته صلى الله عليه و آله و سلم غير مقطوع به، من وجهة نظر المؤرّخين وكُتّاب السيرة النبويّة.

فلقد اتّفق علماء الشيعة على القول بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بُعِث بالرسالة في السابع والعشرين من شهر رجب، وأنّ نزول الوحي عليه قد بدأ من ذلك اليوم نفسِه.

بينما اشتهر عند علماء السُنّة أنّ رسول الإسلام قد أُوتي هذا المقام العظيم في شهر رمضان المبارك.

ففي ذلك الشهر الفضيل كُلِّف «محمّد» صلى الله عليه و آله و سلم من جانب اللّه تعالى بهداية الناس، وبُعثَ بالرسالة.

ولمّا كانت الشيعة تشايع عترة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته الصادقين، وتعتقد بصحّة ما يرونه ويقولون به اتّباعاً لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيهم، في حديث الثقلين:

«إنّهما لن يفترقا» فإنّهم اتّبعوا - في تحديد يوم المبعث النبوي الشريف - القول المأثور - بنقل صحيح - عن عترة النبيّ المطهّرين في هذا المجال.

فقد روي عن أبناء الرسول وعترته الطاهرة أنّ عظيمَ هذا البيت و سيّده (أي النبيّ) قد بُعِثَ في السابع والعشرين من شهر رجب، وهم في ذلك حجّة.

ولهذا لا يمكن الشكّ والتردّد في صحّة هذا القول وثبوته.(1)

ص:388


1- . راجع بحار الأنوار: 18/189.

نعم غاية ما يمكن الاستدلال به على القول الآخر هو تصريح القرآن الكريم نفسِه بأنّ آيات القرآن نزلت في شهر رمضان، وحيث إنّ يومَ بعثة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كانَ هو بنفسه يوم بدء نزول الوحي، والقرآن عليه، لهذا يجب القول بأنّ يوم البعثة الشريفة إنّما كان في نفس الشهر الّذي نزل فيه القرآن الكريم: أي شهر رمضان المبارك.

وإليك فيما يأتي الآيات الّتي تدلّ على أنّ القرآن الكريم نزل في شهر رمضان:

1. «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» .(1)

2. «حم * وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» (2) وتلك الليلة هي ليلة القَدْر الّتي قال عنها سبحانه: «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» .(3)

ما أجاب به علماء الشيعة

ولقد أجاب مُحدِّثو الشيعة ومفسّروهم عن هذا الاستدلال بطرق مختلفة نذكر طائفة منها هنا:

الجوابُ الأوَّل:

إنّ الآيات المذكورة إنّما تدلّ على أنّ القرآن نزل في شهر رمضان وبالذات في ليلة مباركة منه هي «ليلة القدر»، ولكنّها لا تتعرّض لذكر محلّ نزول هذه الآيات، وأنّها أين نزلت؟ وهي بالتالي لا تدلّ أبداً ومطلقاً على أنّها نزلت في تلك الليلة على قلب رسول اللّه؟

ص:389


1- . البقرة: 185.
2- . الدخان: 1-3.
3- . القدر: 1 و 3.

فيحتمل أن يكون للقرآن نزولات متعدّدة إحداها نزول القرآن على رسول اللّه تدريجاً.

والآخر نزوله الدفعي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور.(1)

وعلى هذا فما المانع من أن تكون بعض آيات القرآن (من سورة العلق) قد نزلت على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في السابع والعشرين من شهر رجب. ثم نزل القرآن بصورته الجمعية الكاملة في شهر رمضان من مكان معيّن أسماه القرآن باللوح المحفوظ، إلى موضع آخر عُبّر عنه في بعض الروايات بالبيت المعمور.

ويؤيّد هذا الرأي قولُ اللّه تعالى في سورة الدخان: «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» فإنَّ هذه الآية - بحكم رجوع الضمير فيها إلى الكتاب - تصرّح بأنّ الكتاب العزيز بأجمعه نزل في ليلةٍ مباركةٍ (في شهر رمضان)، ولابدَّ أنَ يكون هذا النزول غير ذلك النزول الّذي تحقّق في يوم المبعث الشريف، لأنّ في يوم المبعث لم تنزل سوى آيات معدودة لا أكثر.

وخلاصة الكلام هي أنّ الآيات الّتي تصرّح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة مباركة (ليلة القدر) لا يمكن أن تدلّ على أنّ يوم المبعث الّذي نزلت فيه بضعُ آيات أيضاً كان في ذلك الشهر نفسِه، لأنَّ الآيات المذكورة تدلّ على أنّ مجموع القرآن لا بعضه قد نزل في ذلك الشهر، في حين لم تنزل في يوم المبعث سوى آيات معدودة كما نعلم.

وفي هذه الصورة يحتمل أن يكون المراد من النزول الجمعيّ للقرآن هو نزول مجموع الكتاب العزيز في ذلك الشهر من «اللوح المحفوظ» إلى «البيت المعمور».

ص:390


1- . للتعرف على معنى اللوح المحفوظ راجع كتب التفسير.

وقد روى علماء الشيعة والسنّة روايات وأخباراً بهذا المضمون، وبخاصّة الأُستاذ الأزهري محمّد عبدالعظيم الزرقاني الّذي أورد روايات عديدة في هذا الصدد في كتابه.(1)

الجواب الثاني:

وهو أمتن الأجوبة والردود على هذا القول.

فقد بذل الأُستاذُ الطباطبائي جهداً كبيراً لتوضيحه وبيانه في تفسيره القيّم؛ وإليك خلاصته:

إنّ قول اللّه تعالى إنا أنزلناه في شهر رمضان، المقصود منه هو نزول حقيقة القرآن على قلب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّ للقرآن مضافاً إلى وجوده التدريجي، واقعية أطلع اللّه تعالى نبيّه العظيم عليها في ليلة معيّنةٍ من ليالي شهر رمضان المبارك.(2)

وحيث إنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كان قد عرف من قبل بجميع القرآن الكريم لذلك نزلت الآية تأمره بأن لا يعجل بقراءته حتّى يصدر الأمر بنزول القرآن تدريجاً إذ يقول تعالى: «وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» .(3)

وخلاصة هذا الجواب هي: أنَّ للقرآن الكريم وجوداً جمعياً علمياً واقعياً وهو الّذي نزل على الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم مرّة واحدة في شهر رمضان، وآخر وجوداً تدريجياً كان بدء نزوله على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في يوم المبعث، واستمرّ تنزله إلى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج.

الجواب الثالث: التفكيك بين نزول القرآن والبعثة

إنّ للوحي - كما أوضحنا ذلك في مبحث أنواع الوحي إجمالاً - مراتب

ص:391


1- . لاحظ: مناهل العرفان في علوم القرآن: 1/37.
2- . لاحظ: الميزان في تفسير القرآن: 2/14-16.
3- . طه: 114.

ومراحل، تتمثّل أوّلُ مراتبه في الرؤيا الصادقة الّتي رآها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

والمرتبة الأُخرى تمثّلت في سماعه للنداء الغيبيّ الإلهي من دون وساطة ملك.

وآخر تلك المراتب هو أن يسمع النبيُّ كلام اللّه من ملك يبصره ويراه، ويتعرّف عن طريقه على حقائق العوالم الأُخرى.

وحيث إنّ النفس الإنسانية لا تستطيع في الوهلة الأُولى تحمُّل مراتب (الوحي) جميعها دفعة واحدة بل لابدّ أن تتحمّلها تدريجاً، لهذا يجب القول بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد سمع يوم المبعث (اليوم السابع والعشرون من شهر رجب) النداء السماويّ الّذي يخبره بأنّه رسول اللّه، فقط ولم تنزل في مثل هذا اليوم أيّة آية قط، وقد استمر الأمر على هذا المنوال مدّة من الزمان. ثم بعد مدّة بدأ نزول القرآن الكريم على نحو التدريج ابتداء من شهر رمضان.

وخلاصة هذا الجواب هي أنّ ابتعاث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالرسالة في شهر رجب لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتماً. وعلى هذا الأساس ما المانع من أن يُبعَث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شهر رجب، وينزل القرآنُ الكريم في شهر رمضان من نفس ذلك العام؟

إنّ هذه الإجابة وإن كانت لا توافق كثيراً من النصوص التاريخية (لأنّ كثيراً من المؤرّخين صرّحوا بأنّ الآيات الخمس من سورة العلق نزلت في يوم المبعث نفسه) إلّاأنّ هناك - مع ذلك - روايات ذكرت قصة البعثة بسماع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم للنداء الغيبيّ، ولم تذكر شيئاً عن نزول قرآن أو آيات، بل هي تشرح الواقعة على النحو التالي إذ تقول:

في ذلك اليوم سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ملكاً يقول له: يا محمَّد إنّك لرسول

ص:392

اللّه، وجاء في بعض الأخبار أنّه سمع هذا النداء، فقط، ولم تذكر شيئاً عن مشاهدة الملك.

وللمزيد من التوضيح، والتوسّع يُراجع «بحار الأنوار» في هذا المجال.(1)

على أنَ هذه الإجابة تختلف عن الإجابة الرابعة الّتي تقول بأنّ مبعثَ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان في شهر رجب، وكان نزولُ القرآن الكريم بعد انقضاء الدعوة السرّية الّتي استغرقت ثلاثة أعوام.

الأنبياء والبشارة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

وينبغي - استكمالاً لهذا الفصل من التاريخ النبوي - أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الرسالة المحمَّدية المباركة، ممّا بشّر به جميع الأنبياء المتقدّمين زمنياً على خاتم الأنبياء والمرسلين محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك إذ قال اللّه تعالى:

«وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ» .(2)

وهذه الآية وإن كانت تكشف عن أصل عام وكلّي وهو: وجوب تصديق اتّباع النبيّ السابق للنبي اللاحق، إلّاأنّ المصداق الأتمّ لها هو رسول الإسلام الكريم.

ص:393


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 18/184 و 190 و 193 و 253؛ الكافي: 2/460؛ تفسير العيّاشي: 80/1. وهذا الجواب لا ينسجم مع ما رواه البخاري من أنّ بعثة النبيّ رافقت نزول آيات من سورة العلق عليه.
2- . آل عمران: 81.

فيظهر من هذه الآية أنّ اللّه تعالى أخذ الميثاق المؤكّد من جميع الأنبياء أو من أصحاب الشرائع منهم أن يؤمنوا برسالة محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم، ويدعوا أتباعهم إلى تصديقه واتّباعه ونصرته.

روى الفخر الرازي عن أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام:

«إنّ اللّه تعالى ما بَعث آدم عليه السلام ومَن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسَّلام إلّا أخذ عليهم العهد لئن بُعث محمَّد وهو حي ليؤمننّ به ولينصرنه».(1)

وممّا يؤيّد هذا أنّ القرآن دعا أهل الكتاب إلى بيان ما قرأوه ووجدوه في كتبهم حول رسول الإسلام للناس من دون كتمان، واليك فيما يأتي طائفة من الآيات المصرّحة بهذا الأمر:

1. قال اللّه تعالى:

«وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» .(2)

2. قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .(3)

3. وقال تعالى:

«اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ

ص:394


1- . تفسير الرازي: 8/123.
2- . آل عمران: 187.
3- . البقرة: 174.

لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» .(1)

4. وقال سبحانه:

«اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .(2)

إنّ القرآن الكريم يصرّح بجلاء أنّ السيد المسيح عليه السلام أخبر عن رسول الإسلام ورسالته إذ يقول تعالى:

«وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» .(3)

كما يتحدّث القرآنُ الكريمُ عن أهل الكتاب الذين تنكّروا لرسالة النبيّ محمّد صلى الله عليه و آله و سلم عندما بُعثَ وقد كانوا من قبل يخبرون عنه ويطلبون النصر به على أعدائهم إذ قال سبحانه:

«وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» .(4)

بل ويخبرنا القرآنُ الكريم بأَنَّ إبراهيم عليه السلام يومَ أحلّ زوجتَه وولده إسماعيل بأرض مكّة دعا قائلاً:

ص:395


1- . البقرة: 146.
2- . الأعراف: 157.
3- . الصف: 6.
4- . البقرة: 89.

«رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .(1)

وقد انطبقت هذه الأوصاف على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذ يصفه القرآن الكريم بقوله:

«لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .(2)

محمَّد خاتم الأنبياء

واستكمالاً لهذا البحث ينبغي أيضاً أن نشير إلى أبرز ناحية في رسالة النبيّ محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم ونبوته وهي مسألة الخاتمية.

فإنّ القرآن الكريم صرّح في آيات عديدة بكون رسول اللّه محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم خاتم النبيّين، وشريعته خاتمة الشرائع، فلا نبيّ بعده، ولا رسالة بعد رسالته.

وها نحن ندرج أبرز الآيات الواردة في هذا المجال:

1. قال تعالى:

«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً» .(3)

2. قال سبحانه:

«تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» .(4)

3. وقال سبحانه:

ص:396


1- . البقرة: 129.
2- . آل عمران: 164.
3- . الأحزاب: 40.
4- . الفرقان: 1.

«وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ» .(1)

4. وقال تعالى:

«وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .(2)

والآياتُ الثلاث الأخيرة تفيد بأنّ رسالة النبيّ محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم عامّة وعالمية وأبدية لأَنّه في غير هذه الحالة وفي غير هذه الصورة لن يكون نبياً للناس كافّة، وللعالمين جميعاً. ولن يكون نذيراً لقومه ولمن بلغه نداؤه.

هذا وقد صرّح النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم نفسه في أحاديث كثيرة بهذا الموضوع وهو الصادق المصدّق.

فعن أبي هريرة قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أُرسلتُ إلى الناس كافّة وبي خُتِم النبيّون».(3)

ص:397


1- . الأنعام: 19.
2- . سبأ: 28.
3- . الطبقات الكبرى: 1/192.

14 ما سَبَقني أحدٌ

أوَّلُ من آمنَ بالنبيَّ منَ الرجال والنِّساء

لقد انتشرَ الإسلامُ في العالَم بصورة تدريجية، ويوصَف الذين بادروا إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية والمساعدة على نشرها قبل غيرهم ب «السابقين».

وقد كان السبق إلى الإيمان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في صدر الإسلام معياراً للفضل ولهذا يجب أن ندرس هذا الموضوع في ضوء المصادر الصحيحة، ونتعرّف على مَن سَبق إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية من الرجال، ومن النساء.

مِنَ النساء: «خديجة»

إنّ من المسلَّم به تاريخياً أنّ «خديجة» كانت أوّل امرأة آمنت برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،(1) ولم يخالف في هذا أحدٌ، ونحن هنا ننقل مستنداً تاريخياً مهمّاً واحداً ذكره المؤرّخون نقلاً عن إحدى زوجات النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، مكتفين به رعايةً للاختصار. تقول عائشة: كان رَسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر «خديجة» فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيّام فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلّاعجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها، فغضب حتّى اهتز مقدّم شعره من الغضب ثم قال:

ص:398


1- . لاحظ: مستدرك الحاكم: 3/184؛ أُسد الغابة: 5/437؛ البداية والنهاية: 3/20.

«لا واللّه ما أبدَلني اللّه خيراً منها، آمنَت بي إذ كَفَر الناسُ، وَ صَدَّقَتني وكَذَّبني النّاسُ، وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ، ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد الناس».(1)

وممّا يدل أيضاً على سبق خديجة في الإيمان برسول اللّه كلّ نساء العالم جمعاء ما جرى في قضية بدء الوحي، ونزول القرآن، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عندما انحدر من غار «حراء» وأخبر زوجته «خديجة» بما جرى له واجه - رأساً - إيمان زوجته به وقبولها لكلامه، وتصديقها برسالته، تصريحاً وتلويحاً.

هذا مضافاً إلى أنّها كانت قد سمعت من قبل أخباراً تتعلّق بنبوّته ومستقبل رسالته من كهنة العرب وأهل الكتاب، وهذه الأخبار وأمانة فتى قريش وصدقه الّذي اشتهر به هي الّتي دفعت بها إلى أن تتزوّج بالفتى الهاشميّ (محمَّد).

أقدمُ الرجال إسلاماً: «عليّ» عليه السلام

إنّ المشهور المقارب للمتَّفق عليه بين المؤرّخين، سنّة وشيعة، هو أنّ «عليّاً» كان أوّل من آمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الرجال.(2)

ونرى في مقابل هذا القول المشهور أقوالاً أُخر نادرة قد نقل ناقلوها ما يخالفها أيضاً:

فمثلاً يقال: إنّ زيد بن حارثة ربيب رسول اللّه وابنه بالتبنّي، أو أبوبكر كان أوّل من أسلم، ولكن دلائلَ عديدة (نذكر بعضها هنا على سبيل الاختصار) تشهد على خلاف هذين القولين.

وإليك بعض هذه الدلائل:

ص:399


1- . أُسد الغابة لابن الأثير الجزري: 5/438؛ الوافي بالوفيات للصفدي: 13/181.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 38/201 و 228-277، الباب 65.

1. عليٌّ تربّى في حجر النبيّ

لقد تلقّى عليٌ عليه السلام تربيته في حجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ونشأ وترعرع في بيته منذ طفولته، وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يجتهد في تربيته والعناية به كالوالد الرحيم.

قال عامّة المؤرّخين وكُتّاب السيرة بالاتّفاق: إنَّ قريشاً أصابتهم أزمةٌ شديدةٌ (قبل بعثة النبيّ) وكان أبوطالب ذا عيال كثير، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للعباس عمّه، وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس إنّ أخاك أباطالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ماترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلْنخفّف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً فنكفلهما عنه، فقال العباس: نعم، فانطلقا حتّى أتيا أباطالب فقالا له: إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس ما هم فيه (إلى أن قال:) فأخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً فضمّه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمّه إليه، فلم يزل عليٌ مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى بعثه اللّه تبارك وتعالى نبيّاً فاتّبعه علي رضي اللّه عنه وآمن به وصدّقه.(1)

في هذا الصورة يجب أن نقول بأنّ عليّاً عليه السلام انتقل إلى بيت النبيّ وهو دون الثامنة، لأَنَّ الغرض من أخذ النبيّ إيّاه من أبيه «أبي طالب» هو التخفيف عن كاهل زعيم مكّة (أبي طالب)، ومن الواضح أنَّ صبيّاً في مثل هذا السنّ (دون الثامنة) مضافاً إلى أنَّ فصله عن والدَيه أمرٌ في غاية الصعوبة، لن يكونَ لأَخذهِ وتكفّلِهِ أيُ أثر هامّ في وضع أبيه (أبي طالب) المعيشيّ.

وعلى هذا يجب أن نفترض له عليه السلام عمراً يكون لأخذه فيه من قِبَل النبيّ تأثيراً معتداً به في وضع أبيه الإقتصادي والمعيشي.

فكيف يمكن القول - والحال هذه - أنّ أباعد عن البيت النبويّ مثل «زيد بن

ص:400


1- . السيرة النبوية: 1/162؛ البداية والنهاية: 3/34.

حارثة» وغيره اطّلعوا على أسرار الوحي، بينما جهل ابن عم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأقرب الناس إليه والّذي كان معه في أكثر الأوقات بما أتى به صلى الله عليه و آله و سلم وما نزل عليه.

إنّ غرضَ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من تربية الإمام عليّ وتكفّله إيّاه كان إلى حدّ كبير هو أداء ما أسدى إليه أبوطالب من خدمات، ولم يكن ثمّة شيء أحبَّ إلى رسول اللّه من أنْ يهديَ أحداً إلى الصراط المستقيم، فكيف يمكن أن يقال - والحال هذه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حرم ابن عمّه الّذي كان يتمتّع بذكاء باهر وضمير يقظ، من هذه النعمة الكبرى؟!

إنَ من الأفضل أن نسمَعَ هذا الأمر من لسان «علي» نفسه، فقد بيّن عليه السلام في الخطبة القاصعة منزلَته من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقربه إليه هكذا:

«وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ. وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ (وليدٌ) يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ... وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً، وَيَأْمُرُنِي بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ، وَلَا يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا. أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ».(1)

وجاء في تاريخ الطبري عن ابن إسحاق قال: كان أوّل ذكر آمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصلّى معه وصدّقه بما جاءه من عنداللّه «علي بن أبي طالب» عليه السلام وهو يومئذ ابن عشر سنين، وكان ممّا أنعم اللّه به على عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه كان في

ص:401


1- . نهج البلاغة: الخطبة 192، وفي الخطبة 131 يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ، وَسَمِعَ وَأَجَابَ، لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم بِالصَّلَاةِ».

حجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل الإسلام.(1)

2. عليُّ وخديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

ينقل ابن كثير والطبرسي وكثير من علماء التاريخ والرجال القصة التالية عن عفيف الكندي، بأنّه قال:

كنت امرأً تاجراً فقدمتُ «منى» أيام الحج، وكان العباس بن عبدالمطلب امرأً تاجراً، فأتيته أبتاع منه وأبيعه، قال: فبينا نحن عنده إذ خرج رجلٌ من خباء فقام يصلّي تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلّي، وخرج غلام يصلّي معه، فقلت: ياعباس ما هذا الدين، إنّ هذا الدين ما ندري ما هو؟ فقال: هذا محمَّد بن عبداللّه يزعم أنّ اللّه أرسله به، وأنّ كنوز كسرى وقيصر ستُفتَح عليه، وهذه امرأته «خديجة بنت خويلد» آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه «علي بن أبي طالب» آمن به قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذٍ فكنت أكون (رابعاً).(2)

وهذه الواقعة ينقلها ويرويها حتّى الذين يقصرون في رواية فضائل الإمام عليّ وكتابتها، وفي إمكان القارئ الكريم أن يقف على هذه القصة في المصادر المذكورة على وجه التفصيل.

3. أنا الصِدّيق الأكبر

تلاحَظ هذه العبارة ونظائرُها كثيراً، في خطب الإمام عليّ عليه السلام وكلماته فهو يكرّر العبارات التالية بكثرة:

«أنا عَبْدُاللّه، وأخو رسوله صلى الله عليه و آله و سلم، وأنا الصِدّيقُ الأكبر، لا يقولُها بعدي إلّا

ص:402


1- . تاريخ الطبري: 2/57.
2- . البداية والنهاية: 3/35؛ إعلام الورى: 1/105. ولاحظ: تاريخ الطبري: 2/56-57؛ الكامل في التاريخ: 2/57؛ أُسد الغابة: 3/414.

كاذب مفتر، صَلّيتُ مَعَ رسُول اللّه قبل الناسِ بسَبْع سِنين».(1).

4. أوَّلكم إسلاماً: عليٌّ

ولقد وردت أحاديث متواترة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبتعابير متنوّعة قال فيها:

«أوَّلُكُمْ وارداً عَليَّ الحوضَ، أوَّلُكُمْ إسْلاماً عليُّ بنُ أبي طالب».(2)

وعند ما يدرس المنصف المحايد هذه الأحاديث، يقطع بأسبقية الإمام عليّ عليه السلام إلى الإسلام، وتقدّمه على غيره في الإيمان بالدعوة المحمَّدية، ولا يختار القولين الآخرين اللَّذين لا يذهبُ إليهما إلّاالأقليّة.

فإنَّ ما يناهز الستين شخصاً من الصحابة والتابعين يؤيّدون القولَ الأَوّلَ (أي أنّ عليّاً أوّلُ القوم إسلاماً وأقدمهم أيماناً) وحتّى الطبريّ نفسه الّذي شكَّكَ في هذا القول، واكتفى بنقله دون اختياره وتأكيده، روى بأنّ «ابن سعد» سأل أباه قائلاً: أكان أبوبكر أوّلكم إسلاماً، فقال: لا ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين.(3)

ومن غريب الأمر أنّ مؤرّخاً كبيراً كابن كثير يتنكّر لهذه الحقيقة الساطعة فقد ذكر في كتابه «البداية والنهاية» حديثاً صحيحاً بإسناد الإمام أحمد والترمذي في إسلام أميرالمؤمنين وأنَّه أوَّل من أسلم وصلّى ثمَّ أردفه بقوله: وهذا لا يصحّ من أيّ وجه كان روي عنه، وقد ورد في أنَّه أوَّل من أسلم من هذه الأُمَّة أحاديثٌ كثيرةٌ لا يصحّ منها شيء... إلخ.(4)

وقد تصدّى العلّامة المحقّق الأميني رحمه الله للردّ على هذا المقال بالتفصيل

ص:403


1- . تاريخ الطبري: 2/56؛ سنن ابن ماجه: 1/44 برقم 120؛ سنن النسائي: 5/107؛ مستدرك الحاكم: 3/112 وغيرها.
2- . يراجع مصادر هذا الحديث في الغدير: 3/21.
3- . تاريخ الطبري: 2/60.
4- . البداية والنهاية: 7/370.

ونظراً لأهميّة ما كتبه العلّامة الأميني وما احتوى عليه من نصوص تاريخية نسرده هنا بكامله مع ما فيه من تكرار بسيط لبعض ما ذكرناه.(1)

يقول العلّامة الأميني:

ألا مسائل هذا الرَّجل لِمَ لا يصحّ شيء منها من أيّ وجه كان؟! والطرق صحيحةٌ، والرِّجال ثقات، والحفّاظ حكموا بصحَّته، وأرباب السير أطبقوا عليه، وكان من المتسالم عليه بين الصَّحابة الأَوَّلين والتابعين لهم بإحسان.

ونحن لو نقتصر على كلمتنا هذه يحسبها القارئ دعوى مجرّدة لدة دعوى ابن كثير (أعاذنا اللّه عن مثلها) وتخفى عليه جليَّة الحال فيهمنا ذكرُ نزر ممّا يدلُّ على المدَّعى وإن لم يسعنا إيراد كثير منه روماً للاختصار.

النصوص النبوية:

1. قال صلى الله عليه و آله و سلم: «أوَّلكم وارداً - وروداً - على الحوض أوَّلكم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب».

أخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 136 وصحَّحه م - والخطيب البغدادي في تاريخه ج 2 ص 81 و يوجد في الاستيعاب 2 ص 457. شرح ابن أبي الحديد 3، ص 258.

وفي لفظ: «أوَّل هذه الأُمّة وروداً على الحوض أوَّلها إسلاماً عليُّ بن أبي طالب، رضي اللّه عنه». السيرة الحلبيَّة 1 ص 285. سيرة زيني دحلان 1 ص 188 هامش الحلبيَّة.

وفي لفظٍ: «أوَّل الناس وروداً على الحوض أوّلهم إسلاماً عليُّ بن أبي

ص:404


1- . الغدير: 3/219-236.

طالب». مناقب الفقيه ابن المغازلي [: ص 34 ح 22]. مناقب الخوارزمي [: ص 52 ح 15].

2. قال صلى الله عليه و آله و سلم لفاطمة: «زوّجتك خير أُمَّتي، أعلمهم علماً، وأفضلهم حلماً، وأوَّلهم سلماً». راجع ما مرَّ ص 95.

3. قال صلى الله عليه و آله و سلم لفاطمة: «إنَّه لأوَّل أصحابي: إسلاماً. أو: أقدم أُمَّتي سلماً.

حديث صحيحٌ، راجع ص 95.

4. أخذ صلى الله عليه و آله و سلم بيد عليّ، فقال: «إنَّ هذا أوَّل من آمن بي، وهذا أوَّل من يُصافحني يوم القيامة، وهذا الصدِّيق الأكبر». راجع الجزء الثاني ص 313، 314.

5. عن أبي أيوب قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لقد صلّت الملائكة عليّ وعلى عليّ سبع سنين لأنّا كنّا نصلّي وليس معنا أحدٌ يُصلّي غيرنا».

مناقب الفقيه ابن المغازلي [: ص 32 ح 17] باسنادين م - أُسد الغابة 4:18؛ ومناقب الخوارزمي [: 53 ح 17] وفيه: ولِمَ ذلك يا رسول اللّه؟ قال: لم يكن معي من الرجال غيره.

كتاب الفردوس للديلمي. شرح ابن أبي الحديد عن رسالة الاسكافي 3 ص 258. فرائد السمطين الباب 47.

6. ابن عبّاس قال: قال النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم: «إنَّ أوَّل من صلّى معي عليّ». فرائد السمطين الباب 47 بأربع طرق.

7. معاذ بن جبل قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «يا عليُّ! أخصمك بالنبوَّة ولا نبوَّة بعدي، وتخصم الناس بسبع ولا يُجاحدك فيه أحدٌ من قريش، أنت أوَّلهم إيماناً باللّه، وأوفاهم بعهد اللّه، وأقومهم بأمراللّه». الحديث. (حلية الأولياء: 1 / 66).

ص:405

8. أبوسعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعلّي - وضرب بين كتفيه -:

«يا عليُّ لك سبع خصال لا يُحاجّك فيهنَّ أحدٌ يوم القيامة؛ أنت أوَّل المؤمنين باللّه إيماناً، وأوفاهم بعهداللّه، وأقومهم بأمر اللّه». الحديث. (حلية الأولياء 1 ص 66).

9. من حديث أبي بكر الهذلي وداود بن أبي هند الشعبي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنَّه قال لعليّ عليه السلام: «هذا أوّل مَن آمن بي وصدَّقني وصلّى معي». شرح ابن أبي الحديد 3 ص 256.

10. إنَّ أبابكر وعمر خطبا فاطمة فردَّهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: «لم أُؤمر بذلك». فخطبها عليُّ فزوَّجه إيّاها وقال لها: «زوَّجتكِ أقدم الأُمَّة إسلاماً». روى هذا الحديث جماعةٌ من الصحابة منهم: أسماء بنت عميس، وأُمّ أيمن، وابن عبّاس، وجابر بن عبداللّه. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 257.(1)

كلمات أمير المؤمنين عليه السلام

1. قال عليه السلام: «أنا عبداللّه، وأخو رسول اللّه، وأنا الصِّديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلّاكاذبٌ مفتري، ولقد صلّيت مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين، وأنا أوَّل مَن صلّى معه».

إسناده من طريق ابن أبي شيبة والنسائي وإبن ماجة والحاكم والطبري صحيحٌ رجاله ثقات، راجع الجزء الثاني من كتابنا 314.

2. قال عليه السلام: «أنا أوَّل رجل أسلم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم».

أخرجه أبو داود بإسناده الصحيح كما في شرح ابن أبي الحديد 3، ص 258.

3. قال عليه السلام: «أنا أوّل من أسلم مع النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم».

أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه 4، ص 233.

ص:406


1- . الغدير: 3/219-221.

4. قال عليه السلام: «أنا أوَّل من صلّى مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم».

أخرجه أحمد، والحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» وقال: رجاله رجال الصحيح غير حبَّة العرني وقد وثق. وأخرجه أبوعمرو في الإستيعاب 2، ص 458.

وابن قتيبة في «المعارف» ص 74 من طريق أبي داود عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن حبّة عنه عليه السلام. والإسناد صحيحٌ رجاله ثقاتٌ.

5. قال عليه السلام: «أسلمت قبل أن يسلم النّاس بسبع سنين». الرِّياض النضرة: 2 / 158.

6. قال عليه السلام: «عبدت اللّه مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سَبع سنين قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأُمَّة». مستدرك الحاكم: 3/112.

7. قال عليه السلام: عن حكيم مولى زاذان قال: سمعت عليّاً يقول: «صلّيت قبل النّاس سبع سنين، وكنّا نسجد ولا نركع، وأوَّل صلاة ركعنا فيها صلاة العصر» شرح ابن أبي الحديد: 3/258.

8. قال عليه السلام: «عبدت اللّه قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأُمَّة خمس سنين».

الإستيعاب: 2/448؛ الرِّياض النضرة: 2/158؛ السيرة الحلبيَّة: 1/288.

9. قال عليه السلام: «آمنت قبل الناس سبع سنين». خصائص النسائي: 3.

10. قال عليه السلام: «ما أعرف أحداً من هذه الأُمَّة عَبَدَ اللّه بعد نبينا غيري، عبدتُ اللّه قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأُمَّة تسع سنين». خصائص النسائي: 3.

11. من خطبة له عليه السلام يوم صفِّين: «وابن عمِّ نبيِّكم معكم بين أظهركم يدعوكم إلى طاعة ربِّكم، ويعمل بسنَّة نبيِّكم صلى الله عليه و آله و سلم فلا سواء من صلّى قبل كلِّ ذكَر لم يسبقني بصلاتي مع رسول اللّه». كتاب نصر (صفين): 355؛ شرح ابن أبي الحديد:

1/503.

ص:407

12. قال عليه السلام: «اللهمَّ لا أعرف عبداً من هذه الأُمَّة عبدَك قبلي غير نبيّك».

[قاله ثلاث مرّات] ثمَّ قال: لقد صلّيت قبل أن يُصلّي الناس. وفي لفظ: قبل أن يُصلّي أحدٌ. أخرجه أحمد، أبويعلى، البزّار، الطبراني، الهيثمي في المجمع 9، ص 102. وقال: إسناده حسنٌ. شيخ الإسلام الحموئي في الفرائد الباب 48.

13. من كتاب له عليه السلام كتبه إلى معاوية: «إنَّ أولى النّاس بأمر هذه الأُمَّة قديماً وحديثاً أقربها من رسول اللّه، وأعلمها بالكتاب، وأفقهها في الدين، وأوَّلها إسلاماً، وأفضلها جهاداً». كتاب صفِّين لابن مزاحم: 168، ط. مصر.

14. في حديث عنه عليه السلام: «لا واللّه إن كنت أوَّل من صدَّق به فلا أكون أوَّل من كذّب عليه». المحاسن والمساوئ 1، ص 36. تاريخ القرماني هامش الكامل لابن الأثير 1، ص 218.

15. قال عليه السلام: «بُعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء».

مجمع الزوائد: 9/102. تاريخ القرماني: 1/215. الصواعق: 72. تاريخ الخلفاء للسيوطي 112. إسعاف الراغبين 148.

16. من كتاب كتبه عليه السلام إلى معاوية: «إنَّ محمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم لمّا دعا إلى الإيمان باللّه والتوحيد كنّا أهل البيت أوَّل من آمن به؟ وصدَّق بما جاء به، فلبثنا أحوالاً مجرَّمة (أي كاملة) وما يعبد اللّه في ربع ساكن من العرب غيرنا». كتاب صفِّين لابن مزاحم:

100.

17. قال عليه السلام يوم صفِّين مخاطباً أصحاب معاوية: «ويحكم أنا أوَّل مَن دعا إلى كتاب اللّه، وأوَّل مَن أجاب إليه». كتاب نصر (صفيّن): 561.

18. قالت معاذة بنت عبداللّه العدويَّة: سمعت عليَّ بن أبي طالب على منبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «أنا الصدّيق الأكبر، آمنت قبل أن يُؤمن أبوبكر، وأسلمت

ص:408

قبل أن يسلم أبوبكر». راجع الجزء الثاني ص 314.

19. قال عليه السلام في خطبة خطبها في معسكر صفِّين: «أتعلمون أنّ اللّه فضَّل في كتابه السابق على المسبوق، وأنّه لم يسبقني اللّه ورسوله أحدٌ من الأُمَّة؟!» قالوا:

نعم. راجع الجزء الأوّل (الغدير) ص 195.

20. قال عليه السلام: «صلّيت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثلاث سنين قبل أن يُصلّي معه أحدٌ من النّاس». أخرجه أحمد باسنادين.

21. قال عليه السلام: يوم الشورى في حديث أسلفناه: «أمنكم أحدٌ وحَّد اللّه قبلي؟» قالوا: لا. «أمنكم أحدٌ صلّى القبلتين غيري؟» قالوا: لا. راجع ج 1 ص 159-163، وهذه الفقرة من الحديث عدَّها ابن أبي الحديد ممّا استفاضت به الرِّوايات.

22. مرَّ في الجزء الثاني ص 25 في أبيات له عليه السلام كتبها إلى معاوية:

سبقتكمُ إلى الإسلام طرّا غلاماً ما بلغت أوان حلمي

23. ذكر ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول: 11 له عليه السلام:

أنا أخو المصطفى لا شكَّ في نسبي به رُبيت وسبطاه هما ولدي

صدَّقته وجميع النّاس في بُهم من الضَّلالة والإشراك والنكد

قال: قال جابر: سمعت عليّاً يُنشد بهذا ورسول اللّه يسمع: فتبسَّم رسول اللّه وقال: صدقت يا علي؟(1)

ص:409


1- . الغدير: 3/221-224.

كلمة الإمام السبط الحسن عليه السلام:

24. من خطبة للإمام الحسن عليه السلام في مجلس معاوية قوله: «أُنشدكم اللّه أيّها الرَّهط؟ أتعلمون أنَّ الّذي شتمتموه منذ اليوم صلّى القبلتين كلتيهما؟ وأنت يا معاوية بهما كافرٌ، تراها ضلالة، وتعبد اللات والعزّى غواية؛ وأنشدكم اللّه هل تعلمون أنَّه بايع البيعتين كلتيهما: بيعة الفتح وبيعة الرضوان؟ وأنت يا معاوية بإحداهما كافرٌ، وبأُخرى ناكثٌ. وأنشدكم اللّه هل تعلمون أنَّه أوَّل الناس ايماناً؟! وإنَّك يا معاوية وأباك من المؤلَّفة قلوبهم». شرح ابن أبي الحديد: 2/101.

25. وفي خطبة له عليه السلام مرَّت في ج 1، ص 198: «فلمّا بعث اللّه محمَّداً للنبوَّة، واختاره للرِّسالة، وأنزل عليه كتابه ثمَّ أمره بالدعاء إلى اللّه، فكان أبي أوَّل من استجاب للّه ولرسوله، وأوَّل من آمن وصدَّق اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم وقد قال اللّه في كتابه المنزل على نبيِّه المرسل: «أفمن كان على بيِّنةٍ من ربِّه ويتلوه شاهدٌ منه» فجدّي الَّذي على بيِّنةٍ من ربِّه، وأبي الّذي يتلوه وهو شاهدٌ منه».(1)

رأي الصحابة والتابعين في أوّل مَن أسلم

1. أنس بن مالك قال: نُبِّئ (بُعث) النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يوم الإثنين وأسلم عليّ يوم الثَّلاثاء. وفي لفظ له: بُعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء.

أخرجه الترمذي في جامعه 2، ص 214. الطبراني. الحاكم في المستدرك 3 ص 112. ابن عبدالبرّ في الإستيعاب 3 ص 32. ابن الأثير في جامع الأُصول كما في تلخيصه تيسير الوصول 3 ص 271. الحموئي في فرائد السمطين الباب 47. وأوعز إليه العراقي في التقريب 1، ص 85. ويوجد في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

ص:410


1- . الغدير: 3/224.

تذكرة السبط 63. السراج المنير شرح الجامع الصغير 2 ص 424. شرح المواهب 1 ص 241.

2. بُريدة الأسلمي قال: أُوحي إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء. أخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 112 وصحَّحه هو وأقرَّه الذهبي.

3. زيد بن أرقم قال: أوَّل من أسلم مع رسول اللّه عليّ بن أبي طالب.

تاريخ الطبري بإسنادين صحيحين رجالهما ثقات. مسند أحمد 4، ص 368.

مستدرك الحاكم 4، ص 336 وصحَّحه هو وأقرَّه الذهبي. الكامل لابن الأثير 2، ص 22.

4. زيد بن أرقم قال: أوَّل مَن صلّى مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليُّ.

أخرجه أحمد والطبراني كما في مجمع الهيثمي 9 ص 103 وقال: رجال أحمد رجال الصحيحين. أبوعمرو في الإستيعاب 2، ص 459.

5. زيد بن أرقم قال: أوَّل مَن آمن باللّه بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليُّ بن أبي طالب. الإستيعاب 2، ص 459.

6. عبداللّه بن عبّاس قال: أوَّل مَن صلّى عليّ.

جامع الترمذي 2، ص 215. تاريخ الطبري 2، ص 241 بإسناد صحيح.

الكامل لابن الأثير 2 ص 22. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 256.

7. عبداللّه بن عبّاس قال: لعليٍّ أربع خصال ليست لأحد: هو أوَّل عربيّ وأعجميٍّ صلّى مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. مستدرك الحاكم 3، ص 111، الإستيعاب 2 ص 457.

8. عبداللّه بن عبّاس قال مجاهد: إنَّه قال: أوَّل مَن ركع مع النبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم عليُّ بن أبي طالب فنزلت فيه هذه الآية: «وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ» .(1) تذكرة السبط 8.

ص:411


1- . البقرة: 43.

9. عبداللّه بن عبّاس قال في خطبة له: إنَّ ابن آكلة الأكباد قد وجد من طغام أهل الشام أعواناً على عليٍّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول اللّه وصهره وأوَّل ذكر صلّى معه.

كتاب صفِّين لابن مزاحم 360. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 504. جمهرة الخطب 1 ص 175.

10. عبداللّه بن عبّاس قال: فرض اللّه تعالى الإستغفار لعلي في القرآن على كلّ مسلم بقوله تعالى: «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ» (1) فكلُّ مَن أسلم بعد عليٍّ فهو يستغفر لعليٍّ. شرح ابن أبي الحديد: 3/256.(2)

11. عبداللّه بن عبّاس قال: أوّل مَن أسلم عليُّ بن أبي طالب.

الإستيعاب 2 ص 458. مجمع الزوائد 9 ص 102.

12. عبداللّه بن عبّاس قال: كان عليّ أوَّل مَن آمن من الناس بعد خديجة رضي اللّه عنهما.

الإستيعاب 2 ص 457 وقال: قال أبوعمرو رضي اللّه عنه: هذا إسنادٌ لامطعن فيه لأحد لصحَّته وثقة نقلته. وصحَّحه الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242.

13. كان ابن عبّاس بمكَّة يُحدِّث على شفير زمزم ونحن عنده فلمّا قضى حديثه قام إليه رجلٌ فقال: يابن عبّاس؟ إنّي امرؤ من أهل الشام من أهل حمص إنَّهم يتبرَّأون من عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه عليه ويلعنونه. فقال: بل لعنهم اللّه في الدنيا والآخرة وأعدَّلهم عذاباً مهيناً. ألِبُعد قرابته من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ وإنّه لم يكن أوّل ذكران العالمين إيماناً باللّه ورسوله؟ وأوَّل مَن صلّى وركع وعمل بأعمال البرّ؟ قال الشامي: إنَّهم واللّه ما يُنكرون قرابته وسابقته غير أنَّهم يزعمون أنّه قتل

ص:412


1- . الحشر: 10.
2- . الغدير: 3/224-226.

الناس. الحديث. المحاسن والمساوئ للبيهقي 1، ص 30.

14. عفيف قال: جئت في الجاهليَّة إلى مكّة وأنا أُريد أن ابتاع لأهلي من ثيابها وعطرها فأتيت العبّاس بن عبدالمطلب وكان رجلاً تاجراً فأنا عنده جالسٌ حيث أنظر إلى الكعبة وقد حلقت الشمس في السَّماء فارتفعت وذهبت إذ جاء شابّ فرمى ببصره إلى السَّماء ثمَّ قام مستقبل الكعبة، ثمَّ لم ألبث إلّايسيراً حتّى جاء غلامٌ فقام على يمينه، ثمَّ لم يلبث إلّايسيراً حتّى جاءت امرأةٌ فقامت خلفهما، فركع الشابُّ فركع الغلام والمرأة، فرفع الشابُّ فرفع الغلام والمرأة، فسجد الشابُّ فسجد الغلام والمرأة فقلت: يا عبّاس؟ أمرٌ عظيمٌ. قال العبّاس: أمرٌ عظيمٌ، أتدري مَن هذا الشابُّ؟ قلت: لا. قال: هذا محمَّد بن عبداللّه ابن أخي. أتدري مَن هذا الغلام؟ هذا عليّ ابن أخي. أتدري مَن هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد زوجته، انَّ ابن أخي هذا أخبرني أنَّ ربَّه ربّ السماء والأرض أمره بهذا الدين الّذي هو عليه، ولا واللّه ما على الأَرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.

خصائص النسائي 3. تاريخ الطبري 2 ص 21. الرِّياض النضرة 2 ص 158.

الإستيعاب 2 ص 459. عيون الأثر 1 ص 93. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. السيرة الحلبيَّة 1 ص 288.

15. سلمان الفارسي قال: أوَّل هذه الأُمَّة وروداً على نبيِّها الحوض أوَّلها إسلاماً عليُّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

الإستيعاب 2 ص 457. مجمع الزوائد 9 ص 102 وقال: رجاله ثقاتٌ. وعدَّه الإسكافي في رسالته على العثمانيَّة. وأبو عمرو في الإستيعاب. والعراقيُّ في شرح التقريب 1 ص 85. والقسطلاني في المواهب 1 ص 45 ممَّن روى أنَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم.

16. أبو رافع قال: صلّى النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم أوَّل يوم الاثنين وصلّت خديجة آخره

ص:413

وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء من الغد.

أخرجه الطبراني كما في شرح المواهب 1 ص 240. عيون الأثر 1 ص 92.

وتجده وسابقه في الرِّياض النضرة 2 ص 158. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

17. أبو رافع قال: مكث عليّ يصلّي مستخفياً سبع سنين وأشهراً قبل أن يصلّي أحدٌ. أخرجه الطبراني. والهيثمي في المجمع 9 ص 103. والحموئي في الفرائد ب 47.

18. أبوذر الغفاري، عدَّ ممَّن روى أنَّ عليَّ بن أبي طالب أوَّل من أسلم.

الإستيعاب 2 ص 456. التقريب وشرحه 1 ص 85. المواهب اللدنيَّة 1 ص 45.

19. خباب بن الأرت قال: رأيت عليّاً يُصلّي قبل الناس مع النبيّ وهو يومئذ بالغٌ مستحكم البلوغ. رسالة الإسكافي. وعُدَّ ممَّن روى أنَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم في الاستيعاب 2 ص 456. والمواهب اللدنيَّة 1 ص 45.

20. المقداد بن عمرو الكندي، ممَّن روى أنَّ عليّاً أوّل مَن أسلم كما في الإستيعاب 2 ص 456. والتقريب وشرحه 1 ص 85. والمواهب اللدنيَّة 1 ص 45.(1)

21. جابر بن عبداللّه الأنصاري، قال: بُعث النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء. الطبري 2 ص 211. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258، وعدّه أبوعمرو والعراقيُّ والقسطلاني ممَّن روى أنَّ عليّاً أوَّل من أسلم.

22. أبو سعيدالخدري روى أنَّ عليَّ بن أبي طالب أوَّل من أسلم.

ص:414


1- . الغدير: 3/226-227.

الإستيعاب 2 ص 456. شرح التقريب 1 ص 85. المواهب اللدنيَّة 1 ص 45.

23. حذيفة بن اليمان قال: كنّا نعبد الحجارة ونشرب الخمر وعليٌّ من أبناء أربع عشرة سنة قائمٌ يصلّي مع النبيِّ ليلاً ونهاراً، وقريش يومئذ تسافه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما يذبُّ عنه إلّاعليّ. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

24. عمر بن الخطاب، قال عبداللّه بن عبّاس: سمعت عمر وعنده جماعةٌ فتذاكروا السابقين إلى الإسلام فقال عمر: أمّا عليّ فسمعت رسول اللّه: يقول فيه ثلاث خصال، لوددت أن تكون لي واحدة منهنَّ، وكانت أحبّ إليَّ ممّا طلعت عليه الشمس، كنت أنا وأبو عبيدة وأبوبكر وجماعة من أصحابه إذ ضرب النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم على منكب عليٍّ رضي اللّه عنه فقال له: يا عليُّ؟ أنت أوَّل المؤمنين إيماناً، وأوَّل المسلمين إسلاماً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

رسالة الإسكافي. مناقب الخوارزمي [: 55 ح 19]. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

25. عبداللّه بن مسعود قال: أوَّل حديث علمته من أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّي قدمت مكّة مع عمومة لي (وذكر مثل حديث عفيف المذكور ص 226) رسالة الإسكافي.

26. أبو أيّوب الأنصاري، أخرج الطبراني عنه أنَّه قال: أوَّل الناس إسلاماً عليُّ بن أبي طالب. شرح التقريب 1 ص 85. شرح الزرقاني 1 ص 242.

27. أبومرازم يعلى بن مرَّة، عدَّه الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 ممَّن قال: إنَّ عليّاً أوَّل الناس إسلاماً.

28. هاشم بن عُتبة المرقال قال: أنت يا أميرالمؤمنين! أقرب الناس من

ص:415

رسول اللّه رحماً، وأفضل الناس سابقة وقدماً. كتاب نصر (صفين): 125. جمهرة الخطب 1 ص 151.

29. في كلام لهاشم بن عُتبة يوم صفِّين: إنَّ صاحبنا هو أوَّل من صلّى مع رسول اللّه، وأفقهه في دين اللّه، وأولاه برسول اللّه.

كتاب نصر (صفين) 403. تاريخ الطبري 6 ص 24. الكامل لابن الأثير 3 ص 135. وقال هاشم يوم صفِّين:

مع ابن عمّ أحمد المعلّى فيه الرَّسول بالهدى استهلا

أوّل من صدَّقه وصلّى فجاهد الكفّار حتّى أبلى(1)

30. مالك بن الحارث الأشتر قال في خطبة له: معنا ابن عم نبيِّنا وسيفٌ من سيوف اللّه عليُّ بن أبي طالب، صلّى مع رسول اللّه لم يسبقه إلى الصلاة ذكَر، حتّى كان شيخاً لم يكن له صبوةٌ ولا نبوةٌ ولا هفوةٌ، فقيهٌ في دين اللّه، عالمٌ بحدود اللّه.

كتاب نصر 268. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 484. جمهرة الخطب 1 ص 183.(2)

31. عدّي بن حاتم قال في خطبة له مخاطباً معاوية: ندعوك إلى أفضل الأُمَّة سابقة، وأحسنها في الإسلام آثاراً.

كتاب نصر 221. تاريخ الطبري 6 ص 2. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 344.

وفي لفظ ابن الأثير في الكامل 3 ص 124: إنَّ ابن عمّك سيد المسلمين أفضلها سابقةً.

ص:416


1- . كتاب صفين لابن مزاحم: 371، طبعة مصر.
2- . الغدير: 3/227-229.

32. عديّ بن حاتم قال في خطبة أُخرى له: إن كان له - لعليٍّ - عليكم فضلٌ فليس لكم مثله فسلّموا وإلّا فنازعوا عليه، واللّه لئن كان إلى العلم بالكتاب والسنَّة؟ إنّه لأعلم الناس بهما. ولئن كان إلى الإسلام؟ إنَّه لأخو نبي اللّه والرأس في الإسلام.

الإمامة والسياسة 1 ص 103.

33. محمَّد بن الحنفيَّة قال سالم بن أبي الجعد قلت له: أبوبكر كان أوَّلهم إسلاماً؟! قال: لا. الاستيعاب 2 ص 458. إذا ثبت أنَّ أبابكر لم يكن أوَّل الناس إسلاماً فعليّ عليه السلام هو المتعيَّن سبق إسلامه.

34. طارق بن شهاب الأحمسي في كلام له: ثمَّ قلت: ادع عليّاً وهو أوَّل المؤمنين إيماناً باللّه وابن عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ووصيّه، هذا أعظم، الحديث. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 76.

35. عبداللّه بن هاشم المرقال قال في خطبة له: يا أيّها الناس! إنَّ هاشماً جاهد في طاعة ابن عمّ رسول اللّه، وأوَّل من آمن به؛ وأفقههم في دين اللّه. كتاب نصر 405.

36. عبداللّه بن حجل قال: يا أميرالمؤمنين! أنت أوَّلنا إيماناً، وآخرنا بنبيِّ اللّه عهداً. الإمامة والسياسة 1 ص 103، كتاب نصر.

37. أبو عمرة بشير بن محصن قال في جمع من أصحاب علي ومعاوية: إنَّ صاحبي أحق البريّة كلّها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من رسول اللّه. كتاب نصر 210.

38. عبداللّه بن خباب بن الأرت قال ابن قتيبة: إنّ الخارجة الّتي خرجت على عليٍّ بينما هم يسيرون فإذا هم برجل يسوق امرأته على حمار له فعبروا إليه الفرات فقالوا له: مَن أنت؟ قال: أنا رجلٌ مؤمنٌ، قالوا: فما تقول في عليِّ بن أبي

ص:417

طالب؟ قال: أقول: إنَّه أميرالمؤمنين وأوَّل المسلمين إيماناً باللّه ورسوله. قالوا: فما اسمك؟ قال: وأنا عبداللّه بن خباب بن الأرت صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. الإمامة والسياسة 1 ص 122.

39. عبداللّه بن بُريدة قال: أوَّل الرجال إسلاماً عليُّ بن أبي طالب ثمّ الرهط الثلاث: أبوذر وبُريدة وابن عمّ لأبي ذرّ. أخرجه محمَّد بن إسحاق المدني في الجزء الأَوَّل من المغازي.

40. محمَّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية كتاباً منه: فكان أوّل من أجاب وأناب، وصدّق ووافق، وأسلم وسلم أخوه وابن عمِّه عليُّ بن أبي طالب - إلى أن قال -: أوَّل الناس إسلاماً، وأصدق الناس نيَّة - إلى قوله - يالك الويل! تعدل نفسك بعليٍّ وهو وارث رسول اللّه ووصيّه وأبو ولده، وأوّل الناس له اتِّباعاً، وآخرهم به عهداً، يُخبره بسرِّه، ويشركه في أمره. نصر في كتاب صفِّين 133.(1)

41. عمرو بن الحمق قال لعلي: أحببتك لخصال خمس: إنَّك ابن عمِّ رسول اللّه، وأوَّل من آمن به. وفي لفظ: وأسبق النّاس إلى الإسلام، أبوالذريَّة الّتي بقيت فينا من رسول اللّه، وأعظم رجل من المهاجرين سهماً في الجهاد. كتاب صفِّين 115. جمهرة الخطب 1 ص 149.

42. سعيد بن قيس الهمداني يرتجز في صفِّين بقوله:

هذا عليُّ وابن عمِّ المصطفى أوَّل من أجابه ممّن دعا(2)

هذا الإمام لا يُبالي من غوى

43. عبداللّه بن أبي سفيان قال مجيباً الوليد:

ص:418


1- . الغدير: 3/229-230.
2- . شرح النهج لابن أبي الحديد: 13/232 وفيه «أوّل من أجابه فيما روى».

وإنَّ وليّ الأمر بعد محمَّدٍ عليّ و في كلِّ المواطن صاحبه

وصيُّ رسول اللّه حقّاً وصنوه وأوَّل مَن صلّى ومَن لان جانبه

رسالة الإسكافي، وذكرهما الحافظ الكنجي في الكفاية: 48 للفضل بن العبّاس.

44. خزيمة بن ثابت الأنصاري عدَّه العراقي في شرح التقريب 1 ص 85، والزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 ممّن قال بأنَّ عليّاً أوَّل الناس إسلاماً.

وقالا: أنشد المرزبان له في عليٍّ:

أليس أوَّل من صلّى لقبلتكم وأعلم النّاس بالقرآن والسنن؟؟

وذكر له الإسكافي في رسالته كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 259:

وصيُّ رسول اللّه من دون أهله وفارسه مذ كان في سالف الزمنْ

وأوَّل من صلّى من الناس كلّهم سوى خيرة النسوان واللّه ذو المننْ

وذكرهما له الحاكم في المستدرك 3 ص 114، وذكر قبلهما:

إذا نحن بايعنا عليّاً فحسبنا أبو حسن ممّا نخاف من الفتنْ

وجدناه أولى النّاس بالنّاس أنَّه أطبّ قريش بالكتاب وبالسننْ (1)

45. كعب بن زهير، ذكر الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 له. من قصيدة يمدح بها أميرالمؤمنين عليه السلام:

إنَّ عليّاً لميمون نقيبته بالصّالحات من الأفعال مشهورُ

صهر النبيِّ وخير النّاس كلّهُم فكلّ من رامه بالفخر مفخورُ

صلّى الصلاة مع الأُمِّي أوَّلهم قبل العباد وربُّ الناس مكفورُ

ص:419


1- . ولهذه الأبيات بقية توجد في الفصول المختارة: 267.

46. ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، ذكر جمعٌ من الأعلام له أبيات وذكرها آخرون لغيره وهي:

ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرفٌ عن هاشم ثمَّ منها عن أبي حسن

أليس أوَّل مَن صلّى لقبلتهم؟! وأعلم النّاس بالآيات والسنن؟!

وآخر النّاس عهداً بالنبيِّ؟ ومَن جبريل عون له في الغسل والكفن؟

مَن فيه ما فِيهمُ ما تمترون به؟! وليس في القوم ما فيه من الحسنِ

ماذا الّذي ردَّ كم عنه؟! فنعلمه ها إنَّ بيعتكم من أوَّل الفتنِ

وذكر الإسكافي في رسالته البيتين الأوَّلين منها ونسبهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أُميَّة بن عبد شمس حين بويع أبوبكر. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 259.

47. الفضل بن أبي لهب قال ردّاً على قصيدة الوليد بن عقبة:

ألا إنَّ خير النّاس بعد محمَّدٍ مهيمنه التاليه في العرف والنكرِ

وخيرته في خيبر ورسوله بنبذ عهود الشرك فوق أبي بكر

وأوَّل مَن صلّى صنو نبيِّه وأوَّل من أردى الغواة لدى بدر

فذاك عليُّ الخير من ذا يفوقه؟! أبو حسن حلف القرابة والصهر

48. مالك بن عبادة الغافقي حليف حمزة بن عبدالمطلب قال:

رأيت عليّاً لا يلبّث قرنه إذا ما دعاه حاسراً أو مسربلا

فهذا وفي الإسلام أوَّل مسلم وأوَّل من صلّى وصام وهلّلا

49. أبو الأسود الدؤلي يهدِّد طلحة والزبير بقوله:

وإنَّ عليّاً لكم مصحرُ يماثله الأسد الأسودُ

ص:420

أما إنَّه أوَّل العابدين بمكّة واللّه لا يُعبدُ(1)

50. جندب بن زهير كان يرتجز يوم صفين بقوله:

هذا عليُّ والهدى حقّاً معه يا ربّ فاحفظه ولا تضيِّعه

فإنَّه يخشاك ربّي فارفعه نحن نصرناه على مَن نازعه

صهر النبيِّ المصطفى قد طاوعه أوَّل مَن بايعه وتابعه(2)

51. زفر بن يزيد(3) بن حُذيفة الأسدي قال:

فحوطوا عليّاً فانصروه فإنَّه وصيُّ وفي الإسلام أوَّل أوَّل

وإن تخذلوه والحوادث جمَّة فليس لكم عن أرضكم متحوّل(4)

52. النجاشي بن الحارث بن كعب قال:

فقل للمضلّل من وائل ومن جعل الغثَّ يوماً سمينا

جعلت ابن هند وأشياعه نظير عليٍّ أما تستحونا؟!

إلى أوَّل النّاس بعد الرسول أجاب النبيَّ من العالمينا

وصهر الرَّسول ومن مثله إذا كان يوم يشيب القرونا؟!(5)

53. جرير بن عبداللّه البجلي قال:

فصلّى الإله على أحمد رسول المليك تمام النعمْ

وصلّى على الطهر من بعده خليفتنا القائم المدَّعمْ

عليّاً عنيت وصيَّ النبيَّ يجالد عنه غواة الأُممْ

ص:421


1- . رسالة الإسكافي كما شرح ابن أبي الحديد: 13/232.
2- . الغدير: 3/230-232.
3- . في بعض المصادر: زفير بن زيد.
4- . رسالة الإسكافي كما في شرح ابن أبي الحديد: 13/232.
5- . كتاب صفين لنصر بن مزاحم: 66.

له الفضل والسبق والمكرما ت وبيت النبوَّة لا المهتضمْ

54. عبداللّه بن حكيم التميمي قال:

دعانا الزبير إلى بيعة وطلحة من بعد أن أثقلا

فقلنا: صفقنا بأيماننا فإن شئتما فخذا الأشملا

نكثتم عليّاً على بيعة وإسلامه فيكمُ أوَّلا

55. عبدالرحمن بن حنبل [جعل] الجمحي حليف بني الجمح قال:

لعمري لئن بايعتم ذا حفيظة على الدين معروف العفاف موفَّقا

عفيفاً عن الفحشاء أبيض ماجداً صدوقاً وللجبّار قدماً مصدِّقا

أبا حسن فارضوا به وتبايعوا فليس كمن فيه يرى العيب منطقا

عليُّ وصيُّ المصطفى ووزيره وأوَّل مَن صلّى لذي العرش واتَّقى(1)

56. أبو عمرو عامر الشعبي الكوفي قال: أوَّل مَن أسلم من الرِّجال عليُّ بن أبي طالب وهو ابن تسع سنين. رسالة الإسكافي كما في شرح ابن أبي الحديد: 3 / 260.

57. أبو سعيد الحسن البصري قال: عليُّ أوَّل مَن أسلم بعد خديجة. أخرجه أحمد عن عبدالرَّزاق عن معمر عن قتادة عنه. ورواه الإسكافي في رسالته عن عبدالرَّزاق كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

وقال الحجّاج للحسن وعنده جماعةٌ من التابعين وذكر عليّ بن أبي طالب:

ص:422


1- . كفاية الطالب للحافظ الكنجي: 48.

ما تقول أنت يا حسن؟ فقال: ما أقول؟ هو: أوَّل مَن صلّى إلى القبلة، وأجاب دعوة رسول اللّه. وإنَّ لعليٍّ منزلة من ربِّه وقرابة من رسوله، وقد سبقت له سوابق لا يستطيع ردَّها أحد. فغضب الحجّاج غضباً شديداً وقام عن سريره فدخل بعض البيوت.

وقال رجل للحسن: مالنا لا نراك تثني على عليٍّ وتقرّظه؟ قال: كيف؟! وسيف الحجّاج يقطر دماً، إنَّه أوَّل من أسلم، وحسبكم بذلك. رسالة الإسكافي كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

58. الإمام محمَّد بن عليّ الباقر عليه السلام قال: أوَّل مَن آمن باللّه عليُّ بن أبي طالب وهو ابن إحدى عشرة سنة. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

59. قتادة بن دعامة الأكمه البصري قال: عليُّ أوَّل مَن أسلم بعد خديجة.

أخرجه أحمد كما سمعت، والقسطلاني عدّة ممّن قال به في المواهب 1 ص 45، وأقرّه الزرقاني في شرحه 1 ص 242.

60. محمَّد بن مسلم المعروف بابن شهاب(1) عدَّه القسطلاني في المواهب 1 ص 45، وأقرّه الزرقاني في شرحه 1 ص 242 من القائلين بأنَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم.

61. أبوعبداللّه محمَّد بن المكندر المدني قال: عليّ أوَّل مَن أسلم. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

62. أبو حازم سلمة بن دينار المدني قال: عليّ أوّل من أسلم. تاريخ الطبري 1 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

63. أبو عثمان ربيعة بن أبي عبدالرَّحمن المدني قال: عليّ أوَّل مَن أسلم.

ص:423


1- . نسبة إلى جد جده.

تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

64. أبو النضر محمَّد بن السائب الكلبي قال: عليّ أوَّل من أسلم، أسلم وهو ابن تسع سنين. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

65. محمَّد بن إسحاق قال: كان أوّل ذكر آمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصلّى معه وصدّقه بما جاءه من عنداللّه عليُّ بن أبي طالب وهو يومئذ ابن عشر سنين(1)وكان ممّا أنعم اللّه به على عليِّ بن أبي طالب أنَّه كان في حجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل الإسلام.

وقال: وذكر بعض أهل العلم أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان إذا حضرت الصَّلاة خرج إلى شعاب مكَّة وخرج معه عليُّ بن أبي طالب، مستخفياً من عمِّه أبي طالب وجميع أعمامه وسائر قومه فيصلّيان الصَّلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ماشاء اللّه أن يمكثا، ثمَّ إنَّ أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصلِّيان فقال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يابن أخي ما هذا الدين؟ الحديث.

تاريخ الطبري 2 ص 213. سيرة ابن هشام 1 ص 264، 265. سيرة ابن سيِّد الناس 1 ص 93. الكامل لابن الأثير 4 ص 22. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

السيرة الحلبيَّة 1 ص 287.

66. جُنيد بن عبدالرَّحمن قال: أتيت من حوران إلى دمشق لآخذ عطائي فصلَّيت الجمعة ثمَّ خرجت من باب الدرج فإذا عليه شيخٌ يقال له: أبو شيبة القاصّ يقصُّ على الناس، فرغَّب فرغبنا، وخوَّف فبكينا، فلمّا انقضى حديثه قال: اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب. فلعنوا أبا تراب عليه السلام، فالتفت إليَّ من على يميني فقلت له:

فمّن أبو تراب؟ فقال: عليُّ بن أبي طالب ابن عمَّ رسول اللّه، وزوج ابنته، وأوَّل النّاس إسلاماً، وأبوالحسن والحسين. فقلت: ما أصاب هذا القاص؟! فقمت إليه

ص:424


1- . في الكامل لابن الأثير: 2/32: احدى عشرة سنة. نقلاً عن ابن اسحاق.

وكان ذا وفرة فأخذت وفرته بيدي وجعلت ألطم وجهه وأبطح برأسه الحائط، فصاح فاجتمع أعوان المسجد فوضعوا ردائي في رقبتي وساقوني حتّى دخلوني على هشام بن عبدالملك وأبو شيبة يقدمني فصاح: يا أميرالمؤمنين؟ قاصّك وقاصّ آبائك وأجدادك أتى إليه اليوم أمرٌ عظيمٌ. قال: مَن فعل لك؟ فقال: هذا. فالتفت إليَّ هشام وعنده أشراف النّاس فقال: يا أبا يحيى؟ متى قدمت؟ فقلت: أمس وأنا على المصير إلى أميرالمؤمنين فأدركتني صلاة الجمعة فصلَّيت وخرجت إلى باب الدرج فإذا هذا الشيخ قائمٌ يقصُّ فجلست إليه فقرأ فسمعنا، فرغَّب مَن رغَّب، وخوّف مَن خوّف؛ ودعا فأمّنا، وقال في آخر كلامه: اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب، فسألت مَن أبو تراب؟

فقيل: عليُّ بن أبي طالب، أوَّل الناس إسلاماً، وابن عم رسول اللّه، وأبوالحسن والحسين، وزوج بنت رسول اللّه. فواللّه يا أميرالمؤمنين؟ لوذكر هذا قرابة لك بمثل هذا الذكر ولعنه بمثل هذا اللعن لأحللت به الّذي أحللت، فكيف لا أغضب لصهر رسول اللّه وزوج إبنته؟! فقال هشام: بئس ما صنع. تاريخ ابن عساكر 3 ص 407.(1)

هذه جملةٌ من النصوص النبويَّة، والكلم المأثورة عن أميرالمؤمنين والصحابة والتابعين في أنَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم: وهي تربو على مائة كلمة، أضف إليها ما مرَّ (ج 2 ص 276) من أنَّ أميرالمؤمنين سبّاق هذه الأُمَّة. وأشفع الجميع بما أسلفناه (ج 2 ص 306) من أنَّه صلوات اللّه عليه صدِّيق هذه الاُمة، وهو الصِّديق الأكبر.

فهل تجد عندئذ مساغاً لمكابرة ابن كثير تجاه هذه الحقيقة الراهنة وقوله:

وقد ورد في أنَّه أوَّل من أسلم. إلخ؟! فإذا لا يصحُّ مثل هذه فما الَّذي يصحّ؟ وإن كان

ص:425


1- . الغدير: 3/232-236.

لا يصحّ شيء منها فما قيمة تلك الكتب المشحونة بها؟! كلّا، إنَّها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون.

وأنت ترى الرجل يزيّف هذه الكلم والنصوص الكثيرة الصحيحة بحكم الحفّاظ الأثبات بكلمة واحدة قارصة، ويعتمد في إثبات أيِّ أمر يروقه في تاريخه على المراسيل والمقاطيع والآحاد، ونقل المجاهيل وأفناء الناس. انتهى كلام العلّامة الأميني قدس سره.(1)

مناظرة بين المأمون وإسحاق:

ولقد دار بين المأمون العباسي وإسحاق وهو من العلماء المشهورين حوار طريف في هذا المجال ينقله ابن عبد ربّه في كتابه «العقد الفريد» نذكر هنا خلاصته:

قال المأمون: يا إسحاق أي الأعمال كان أفضل يوم بَعث اللّه رسوله؟

إسحاق: الإخلاص بالشهادة.

المأمون: أليس السبق إلى الإسلام؟

إسحاق: نعم.

المأمون: إقرأ ذلك في كتاب اللّه يقول: «وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» (2) إنَّما عُني من سبق إلى الإسلام، فهل علمت أحداً سبق عليّاً إلى الإسلام؟

إسحاق: إنَ عليّاً أسلَم وهو حديث السنّ لا يجوز عليه الحكمُ، وأبوبكر أسلمَ وهو مستكمل يجوز عليه الحكم.

وهنا أمسك المأمونُ بزمام الكلام وقال:

ص:426


1- . الغدير: 3/219-236.
2- . الواقعة: 10-11.

أخبرني عن إسلام عليّ حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دعاه إلى الإسلام، أو يكون إلهاماً من اللّه؟

قال إسحاق: بل دعاه رسول اللّه إلى الإسلام.

قال المأمون: يا إسحاق هل يخلو رسول اللّه حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر من اللّه أو تكلَّف ذلك من نفسه؟

ثمّ قال: يا إسحاق لا تنسب رسولَ اللّه إلى تكلّف فإنّ اللّه يقول: «وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» .(1)

فإذا دعاه بأمر اللّه وليس من صفة الجبّار - جلَّ ذكرُه - أن يُكلِّفَ رسلَه دعاء مَنْ لا يجوز عليه حكم، أفتراه في قياس قولك يا إسحاق؟ أن عليّاً أسلم صبيّاً لا يجوز عليه الحكمُ قد تكلَّف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من دعاء الصبيان ما لا يطيقون.(2)

وعلى هذا الأساس يجب اعتبار إيمان عليّ عليه السلام إيماناً صحيحاً ثابتاً لم يقلّ عن إيمان الآخرين أهميةً وقيمة بل هو أفضل مصداق لقوله تعالى:

«وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» ، هو الإمام علي بن أبي طالب.

قضيّةُ «انقطاع الوَحْي»

لقد أضاءت روحُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ونفسُه الشريفة واستنارت بنور الوحي، ودفَعَه ذلك إلى التأمّل والتفكير في الوظيفة الكبرى والثقيلة الّتي جعلها اللّه على كاهله، وخاصّة عندما خاطبه الله تعالى بقوله: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ» .(3)

ص:427


1- . ص: 86.
2- . العقد الفريد: 5/352، طبعة بيروت، دار الكتب العلمية، و ج 5/94، طبعة لجنة التأليف، القاهرة.
3- . المدثر 1-3.

وهنا طرح المؤرّخون و بخاصّة الطبريّ الَّذي لا يخلو تاريخه من الأساطير الإسرائيليّة قضيّة باسم «انقطاع الوحي» فقالوا: إنّ رسول اللّه بعد أن رأى ذلك الملَك وسمع منه الآيات الأُولى من القرآن الكريم بقي ينتظر نزولَ خطاب آخر من جانب اللّه تعالى، ولكن دون جدوى، فهو لم يرَ ذلك المَلك الجميل بعد ذلك، ولا أنّه سمع النداء الغيبيّ مرّة أُخرى على غرار ما رأى وسمع في بدء نزول الوحي. ولو كان لانقطاع الوحي في بداية عهد الرسالة (الّذي ادّعاه هؤلاء) حقيقة فما هو سوى النزول التدريجي للقرآن ليس إلّا.

وقد تعلَّقت المشيئة الإلهية أساساً بأن ينزلَ الوحيُ على رسول اللّه تدريجاً، لا دفعةً واحدةً وذلك لمصالح معيّنة، وحيث إنّ الأَمر في بدء الوحي كان على أوّله وفي بدايته، لذلك لم ينزل الوحي الإلهي بعد المرّة الأُولى فوراً، ولكن حُمِلَ هذا على «انقطاع الوحي» ولم يكن لا انقطاع الوحي ولا أيّة مسألة أُخرى من هذا القبيل.

وحيث إنّ هذه المسألة قد تذرَّع بها الكُتّابُ المغرضون لذلك ينبغي أن نعطيها بعض الاهتمام ليتّضح أنّ ما أُدّعي من انقطاع الوحي، قضيةٌ فارغةٌ عن الحقيقة ولذلك لا صحّة لتطبيقِ الآيات القرآنية عليها.

ولتوضيح هذا الأمر ننقل هنا نصّ ما كتبه الطبريّ ونقله في تاريخه، ثم نعمد بعد ذلك إلى نقده.

يكتب الطبري حول بداية نزول الوحي على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وما تبعه من أحداث قائلاً:... ثم أبطأ عليه (على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجزع جزعاً شديداً) جبريل فقالت له خديجة: ما أرى ربَك إلّاقد قلاك، قال: فأنزل اللّه عزّوجلّ قوله: «وَ الضُّحى * وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى * وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى * وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى * أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَ وَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى

ص:428

وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَ أَمَّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» (1).(2)

ولقد أوجدَ نزولُ هذه الآيات سروراً عظيماً لدى خديجة عليها السلام، وعلمت بأنّ ما قالته حول رسول اللّه لا أساس له من الصحّة.

أُسطورة وليس تاريخاً!

إنَّ ذاكرةَ التاريخ تحفظ وتتذكّر جيّداً تاريخ حياة السيدة خديجة.

إنَّ خديجة الّتي كانت أخلاق محمَّد الفاضلة وخصاله المجيدة، وأفعاله الحميدة ماثلة أمام عينيها والّتي كانت تؤمن بعدل ربّها، كيف يجوز أن تسيء الظن باللّه تعالى وبنبيّه الكريم، العظيم الشأن؟!

إنَّ مقامَ النبوَّة ومنصبَ الرسالة، والسفارة الإلهية لا يُعطى إلّالمن يملك طائفةً من الصفات النبيلة والخصال الرفيعة، وما لم يتّصف شخصُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بهذه الصفات العليا، وما لم تتوفّر فيه مثل هذه الشرائط الخاصّة والمواصفات المعيّنة لم يُمنح له ذلك المنصب قط. وتقع العصمة والسكينة القلبية، والاعتماد والتوكل في طليعة هذه الخصال والمواصفات، ومع هذه الأوصاف والخصال يستحيل أن يدور في خلده مثل تلك التصوّرات الخاطئة.

ولقد قال العلماء: إنّ المسيرة التكاملية عند الأنبياء تبدأ من فترة الطفولة والصبا، فإنّ الغشاوات والحجب تبدأ تتساقط وتنقشع الواحدة تلو الأُخرى منذ ذلك الوقت، ويستمر ذلك حتّى تصل الإحاطة العلمية لديهم حدَّ الكمال فلا يشكّون في شيء يرونه أو يسمعونه أبداً، ومَن حاز هذه المراتب لا يمكن أن يتطرّق الشكّ والحيرة والتردّد إلى قلبه وعقله مطلقاً.

ص:429


1- . الضحى: 1-11.
2- . تاريخ الطبري: 2/48.

إنَّ آيات سورة «الضحى» وخاصّة عبارة «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى» (1) تفيد فقط بأنّ هناك من قال مثل هذه العبارة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأمّا مَن هو قائلها؟ وكم تركت هذه العبارة مِن تأثير في نفسية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وروحيته فهي ساكتة عن كلّ ذلك؟ وذهب بعضُ المفسّرين إلى أنّ قائلها هم بعضُ المشركين، ولهذا الاحتمال لا تكون جميع الآيات مرتبطة ببدء الوحي، لأنّه لا أحد غير «عليّ» و «خديجة» كان يعرف في بدء البعثة بنزول الوحي، ليتسنّى له أن يعترض على رسول اللّه، ويعيّره بانقطاعه عنه بعد ذلك، فإنّ أمر المبعث والرسالة - كما سنقول ذلك فيما بعد - بقيَ خافياً على أكثر المشركين لمدّة ثلاثة أعوام تماماً، فهو لم يكن مكلَّفاً بإبلاغ رسالته إلى عامّة الناس، إلى أن نزَل قولُه تعالى: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» (2) الّذي أمره اللّه فيه بالجهر بأمر رسالته لعامّة الناس بلا استثناء.

اختلافُ المؤرّخين في مسألة «انقطاع الوحي»

لم يرد في القرآن الكريم أيُّ ذكر مطلقاً لمسألة (انقطاع الوحي) بل لم ترد به إشارة أيضاً، إنّما نلاحظها في كتب السيرة والتفسير فقط، ويختلف كُتّاب السيرة والمؤرّخون في علّة (انقطاع الوحي) هذا، ومدّته اختلافاً كبيراً يجعلنا لا نعتمد على أيّ واحد منها، وها نحن نشير إليها بشكل مّا:

1. أنّ اليهود سألوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن أصحاب الكهف، وعن الروح، وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسّلام: سأُخبركم غداً، ولم يستثن، فاحتبس عنه الوحي.(3)

ص:430


1- . الضحى: 3.
2- . الحجر: 94.
3- . روح المعاني: 30/157. ولاحظ: السيرة الحلبية: 1/499.

بناء على هذا لا يمكن أن نربط هذه المسألة ببدء الوحي ومطلع عهد الرسالة لأنّ اتّصال علماء اليهود وأحبارهم مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق قريش وسؤالهم إيّاه حول هذه الأُمور الثلاثة، وقع في حدود السنة السابعة من البعثة يوم توجّه وفد من قريش إلى المدينة ليسألوا علماء اليهود عن صحّة ما جاء به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فاقترح اليهود عليهم أن يسألوا النبيَّ عن تلك الأُمور الثلاثة.(1)

2. قالت خولة - كانت تخدم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم -: إنّ جرواً دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أياماً لا ينزلُ عليه الوحيُ، فقال: يا خولة ما حدث في بيتي، ما بجبرئيل لا يأتيني؟ قالت خولة: فقلت لو هيّأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جروٌ ميّت فألقيته خلفَ الجدار... فأنزلَ اللّهُ هذه السورة، ولمّا نزل جبرئيل سأله النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم عن التأخّر؟ فقال: أما علمت أنّا لا ندخلُ بيتاً فيه كلبٌ ولا صورةٌ.(2)

3. إنّ المسلمين قالوا: يا رسول اللّه، مالكَ لا ينزلُ عليكَ الوحيُ؟ فقال:

«وكيف ينزِلُ عليّ وأنتمْ لا تنقون رواجبكم، ولا تقصُّون أظفاركُمْ، ولا تأخذونَ من شواربكم»؟ فنزلَ جبرئيلُ بهذه السورة.(3)

4. أهدىَ عثمان إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عنقود عنب وقيل عِذق تمر، فجاء سائلٌ فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدّمه إليه صلى الله عليه و آله و سلم ثانياً ثم عاد السائل فأعطاه، وهكذا ثلاث مرّات، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: ملاطفاً لا غضبان: أسائلٌ أنت يا فلان أم تاجر؟ فتأخّر الوحيُ أيّاماً فاستوحش، فنزلت السورة.(4)

ص:431


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/196.
2- . تفسير القرطبي: 93/20.
3- . تفسير القرطبي: 93/20.
4- . روح المعاني: 157/30.

5. إن جرواً لأحد نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أو أحد أقربائه حال دون نزول الوحي عليه.(1)

6. إنَ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا سأل جبرئيلَ عن تأخّر الوحي؟ قال جبرئيل: لا أملِكُ من نفسي شيئاً إنّما أنا عبدٌ مأمورٌ.(2)

ثم إنّ هناك أقوالاً أُخرى يمكنُ الحصول عليها من مراجعة التفاسير.(3)

ولكنَ الطبريّ نقَلَ وجهاً آخر تمسَّكَ به المغرضون والمرضى من الكُتّاب واعتبروه دليلاً على طروء الشكّ على قلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو أنّ الوحي انقطع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد حادثة (حراء) فقالت خديجة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: ما أرى ربَّك إلّا قد قلاك!!

فأنزل اللّه:

«وَ الضُّحى * وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى» .(4)

وممّا يدلُّ على أَهداف هذا النوع من الكُتّاب، المريضة، أو عدم تتبّعهم واستقصائهم، أنّهم تمسّكوا من بين جميع الأقوال بهذا الاحتمال، واستندوا إليه للحكم على شخصية كرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي لم يرَ في حياته أي أثر للشكّ والحيرة مطلقاً.

وإنّنا مع ملاحظة النقاط التالية يمكننا أن نقف على بطلان هذا الاحتمال وتفاهته:

1. لقد كانت السيدة خديجة من النساء اللواتي أحببن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حبّاً

ص:432


1- . غرائب القرآن في هامش تفسير الطبري: 30/108.
2- . تفسير أبوالفتوح الرازي: 12/108.
3- . مجمع البيان: 10 / تفسير سورة الضحى.
4- . تفسير الطبري: 30/291.

صادقاً وعميقاً، فهي الّتي وفت لزوجها حتّى النفس الأخير، ووقفت ثروتها الطائلة لتحقيق أهدافه، وكانت في عام البعثة قد قضيت خمسة عشر عاماً من حياتها الزوجية، ولم تر خديجة طوال هذه الفترة من زوجها إلّاالتقوى والطهر ولم تلمس منه إلّاكَرَم الصفات و نبل الأخلاق، فقد كانت من المصدّقين له صلى الله عليه و آله و سلم من أوّل يوم وكانت تراعي نهاية الأدب في تكلّمها معه وعشرتها إيّاه صلى الله عليه و آله و سلم فكيف تتكلّم مثل هذه المرأة المؤمنة الوفيّة، مع زوجها بغليظ القول، وتوجّه له مثل هذه الكلمة غير المهذَّبة، بل والجارحة؟!!

2. إنّ آية: «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى» لا تدلّ على أنّ «خديجة» قالت مثل هذا الكلام لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، بل غاية ما تفيده هذه الآية هي أنَّ مثل هذا الكلام قد وُجّه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأمّا مَن هو القائل، ولماذا قال هذا الكلام؟ فليس ذلك معلوماً.

3. إنّ ناقل هذه الرواية يصف «خديجة» تارة بأنّها طمأنت النبيّ، وسكّنت من روعه إلى درجة أنّها منعته عن الانتحار، ولكنّه يصفها تارة أُخرى بأنّها قالت له بأنّ اللّه عاداه وقلاهُ، ألا ينبغي هنا أن نقول: «كن ذكوراً ثم أكذب»؟!

4. إذا كان الوحيُ قد انقطع بعد حادثة جبل (حراء) ونزول بضع آيات من سورة «العلق» إلى أن نزلت سورة «الضحى»، فذلك يقتضي - في هذه الصورة - أن تكون سورة «الضحى» ثاني سورة من حيث الترتيب التاريخي لنزول السُّور، في حين أنَّ تاريخ نزول الآيات و السور القرآنية يفيد أنّها السورةُ الحادية عشَرة من سُور القرآن الكريم؛ لأنّ فهرس السور القرآنية حسب نزولها هو كالتالي:

1. العلق.

2. القلم.

3. المزمِّل.

ص:433

4. المدّثر.

5. تبّت (المَسَد).

6. التكوير.

7. الأعلى.

8. الإنشراح.

9. والعصر.

10. الفجر.

11. الضحى.(1)

نعم انفرد اليعقوبي من بين المؤلّفين باعتبار سورة الضحى - في تاريخه(2) - السورة الثالثة من حيث تاريخ النزول، وحتّى هذا الرأي لا ينسجم مع القصة المذكورة «انقطاع الوحي».

الإختلاف في مدة انقطاع الوحي

لقد تعرّض تحديد مدّة انقطاع الوحي بشكله المزعوم لإبهام كبير، فقد ذكر ذلك بصور مختلفة في التفاسير والأقوال التالية هي: 4. أيّام.

12. يوماً.

15. يوماً.

19. يوماً.

ص:434


1- . تاريخ القرآن للزنجاني: 58.
2- . تاريخ اليعقوبي: 2/33.

25. يوماً.

40. يوماً.

ولكن بعد دراسة فلسفة النزول التدريجي للقرآن الكريم سنرى أنّ انقطاع الوحي وتوقفّه لم يكن حدثاً إستثنائياً، لأنّ القرآن الكريم أعلن منذ أوّل يوم أنّ المشيئة الإلهيّة تعلّقت بأن ينزل القرآن بصورة تدريجية، منجّمة إذ يقول تعالى:

«وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ» .(1)

ويكشفُ القرآن النقاب - في موضع آخر - عن سرِّ نزول القرآن تدريجاً إذ قال:

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً» .(2)

ومع ملاحظة طريقة نزول الآيات والسور القرآنية هذه يجب أنْ لا يُتَوقع نزولُ الآيات كلّ يوم وكلَّ ساعة، وأن ينزل جبرئيلُ على النبيّ على الدَّوام، ويأتي إليه بالآيات دون انقطاع، بل إنَ الآيات القرآنية كانت تنزل على رَسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في فواصل زمنية مختلفة وفقاً للاحتياجات، وبحسب الأسئلة المطروحة على النبيّ، ولأسرار أُخرى في النزول التدريجي شرحها علماء الإسلام(3).

وفي الحقيقة لم يكن هناك ما يُسمّى بانقطاع الوحي، بل كلّ ما كان في الأمر هو أنّه لم يكن ثمّة ما يوجب النزول الفوري، والمتلاحق للوحي.

ص:435


1- . الإسراء: 106.
2- . الفرقان: 32.
3- . راجع للوقوف على هذه المسألة: «مفاهيم القرآن»: 2/122-124 معالم الحكومة الإسلامية.

15 الدَعْوَةُ السِرِّيَّة ودَعوَةُ الأقربين

اشارة

استمرّ النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يدعو إلى دينه سِرّاً مدّة ثلاثة أعوام. وقد عَمَدَ في هذه السنوات إلى بناء الكوادر وإعدادها بدل توجيه الدعوة إلى عامّة الناس، فإنَّ اعتبارات معيّنة في ذلك الوقت كانت توجبُ أنْ لا يجهَر بدعوته ولا يُعْلِنَ عن رسالته، ويكتفي بالاتّصالات الفردية السِّرية ويدعو أشخاصاً معيّنين إلى دينه.

وقد كانت هذه الدعوة السرِّية هي السبب في أن ينجذب إلى الدّين الإسلامي جماعة من الناس، وتواجه دعوته صلى الله عليه و آله و سلم منهم بالقبول، وقد سجَّل التاريخ أسماء هؤلاء السابقين الذين آمنوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، في هذه الفترة من عهد الرسالة، وتاريخ الإسلام، واليك بعضهم:

1. السيدة خديجة بنت خويلد (زوجة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم).

2. عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

3. زيد بن حارثة.

4. الزبير بن العوام.

5. عبدالرحمن بن عوف.

6. سعد بن أبي وقاص.

7. طلحة بن عبيداللّه.

8. أبوعبيدة الجراح.

9. أبو سلمة.

ص:436

10. الأرقم بن أبي الأرقم.

11. عثمان بن مظعون.

12. قدامة بن مظعون.

13. عبداللّه بن مظعون.

14. عبيدة بن الحارث.

15. سعيد بن زيد.

16. خباب بن الأرتّ.

17. أبوبكر بن أبي قحافة.

18. عثمان بن عفان.

وغيرهم من الذين قبلوا دعوة النبيّ، وآمنوا بنبوّته في هذه الفترة.(1)

ولقد كان أقطاب قريش و أسيادها منهمكين - طيلة هذه الأعوام الثلاثة - في لهوهم ومجونهم، ومع أنّهم كانوا قد عرفوا بعض الشيء عن دعوة النبيّ السرّية إلّا أنّهم لم يظهروا أيّة ردّة فِعل تجاهها، ولم يقوموا بشيء ضدّها.

ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه السنوات الّتي تعتبر فترةُ صياغة الفرد يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مكّة للصلاة فيها بعيداً عن أنظار قريش.

واتّفق أن رآهم بعض المشركين في ما كانوا يُصلّون في شعب من شعاب مكّة، واستنكروا عملهم هذا، وأدّى ذلك إلى منازعة عابرة بينهم وبين المشركين جرح على أثرها أحد المشركين على يدي «سعد بن أبي وقاص» أحد المسلمين، ومن هنا قرّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اتّخاذ بَيْت «الأرقم بن أبي الأرقم» محلّاً للعبادة بدل

ص:437


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/165-166.

شعاب مكّة، ليستطيع القيام فيه بالتبليغ والعبادة بحريّة وأمان، بعيداً عن أعين المشركين.(1) ولقد كان «عمّار بن ياسر» و «صهيب بن سنان» الروميّ ممّن آمنوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك البيت.(2)

دَعْوةُ الأَقْرَبيْن

يبدأ العقلاء من الناس من أصحاب البرامج الواسعة والمشاريع الكبرى، أعمالهم الكبرى - عادة - من بدايات صغيرة ونقاط محدّدة، فإذا حقّقوا نجاحاً في هذه البدايات بادروا إلى توسيع نطاق نشاطهم فوراً، وهكذا جنباً إلى جنب مع النجاحات الّتي يحقّقونها في كلّ خطوة يوسّعون دائرة العمل، ويجتهدون في تحقيق المزيد من النجاح، والتكامل لما هم بصدده.

ولقد سأل أحد الشخصيات زعيماً في دولة كبيرة من الدول الكبرى المعاصرة: ما هو سرّ نجاحكم في الأعمال الإجتماعية، وما هو الأمر الّذي يساعدكم على النجاح في مشاريعكم؟

فأجابه ذلك الزعيم قائلاً: إنّ طريقة عملنا نحن الغربيّين تختلف عن طريقتكم أنتم أهل الشرق، فنحن دائماً نخطّطُ لمشاريع كبرى و نبدأ من مكان صغير، وبعد إحراز النجاح نعمد إلى توسيع نطاق العمل، وإذا اكتشفنا في منتصف الطريق خطأ برنامجنا غيّرنا أُسلوب عمَلنا، وعَدلنا إلى طريقة أُخرى، وبدأنا بعمل آخر.

ص:438


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/61.
2- . هذا البيت كان عند جبل الصفا، وكان معروفاً إلى مدّة ب «دار الخيزران». أُسد الغابة: 4/44، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية: 1/192؛ السيرة الحلبية: 1/456.

أمّا أنتم الشرقيون فتدخلون ساحةَ العمل في برامجكم الكبرى من مكان كبير، وتبدأون من نقطة واسعة، وتحاولون تطبيق مشروعكم جملة واحدة، فإذا واجهتم في خلال العمل طريقاً مسدودة لم يكن في إمكانكم أن ترجعوا من منتصف الطريق إلّابتحمل خسائر كبرى فادحة.

هذا مضافاً إلى أنّ أنفسكم كأنّها قد عُجنت بالعجلة ولذلك تودُّون قطفَ ثِمار جهودكم ونتيجة عملكم في الحال دونما صبر وترقّب وانتظار، وهذه هي بنفسها طريقة تفكير إجتماعيّة خاطئة، من شأنها أن تجعل الإنسان أمام طُرق مسدودة كثيرة وغريبة.

هذا ما قاله ذلك الغربيّ.

ولكن الّذي نتصوّره ونعتقده نحن هو: أنّ هذه الطريقة من التفكير لا ترتبط لا بالشرق ولا بالغرب، بل هي ميزة العقلاء الأذكياء من الناس، فإنّهم يعتمدون هذا الأُسلوب لإنجاح مهامّهم، وتحقيق مقاصدهم.

ولقد اتّبع قائد الإسلام الأكبر الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم هذه الطريقة في عمله الرسالي فركّز جهدَه على الدعوة السرّية إلى دينه مدّة ثلاثة أعوام من دون تعجُّل، وكان يعرضُ دينه على كلّ مَن وجده أهلاً للدعوة، ومستعدّاً من الناحية الفكرية للتبليغ.

فرغم أنّه كان يهدف إلى تشكيل دولة عالمية كبرى ينضوي تحت لوائها (لواء التوحيد) جميع أفراد البشرية، إلّاأنّه لم يعمد إلى الدعوة العامّة طيلة هذه الأعوام الثلاثة، بل لم يوجّه الدعوة الخاصّة حتّى إلى أقاربه، إنّما اكتفى بالاتصال الشخصي بمن وجده مؤهّلاً وصالحاً للدعوة، ومستعدّاً لقبول الدِّين، حتّى أنّه استطاع في هذه الأعوام الثلاثة أن يكسب فريقاً من الأتباع من الذين اهتدوا إلى دينه وقبِلُوا دعوته.

ص:439

وقد كان زعماء قريش - كما أسلَفنا - منهمكين طوال هذه الأعوام الثلاثة في اللذّة والهوى وكان فرعون «مكّة» وطاغيتها: «أبوسفيان» وجماعته كلّما سَمِعوا بالدَّعوة أطلقوا ضحكة استهزاء وقالوا لأنفسهم: إنّها أيّام وتنطفئ بعدها شعلة الدعوة هذه فوراً، تماماً كما انطفأت من قبل دعوة «ورقة» و «أُميّة» (الَّلذين أخَذا يحبّذان إلى العرب التوجّه نحو المسيحية ونبذَ الوثنية بعد أن قرءا الإنجيل والتوراة) وبالتالي لن يمرّ زمانٌ حتّى يُنسى هذا الأُمر، ويغدو خبراً بعد أثر، بل لا شيء يُذكر.

بهذا التصوّر، وبهذه العقليّة واجَهت زعامة «مكّة» دعوة النبيّ في البداية، ولهذا لم يقم زعماء قريش خلال هذه السنوات الثلاث بأيّ عَملٍ عدائيّ ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، بل ظلّوا ينظرون إليه بنظر الإحترام، ويُراعون معه قواعد الأدب والسلوك، وكان النبيّ هو أيضاً لا يتعرّض لأصنامهم وآلهتهم في هذه الأعوام الثلاثة بسوء ولا يتناولها بالنقد والاعتراض بصورة علنية، بل كان مركّزاً جهده على الاتصال الشخصي بذوي البصائر من الأشخاص وهدايتهم إلى دينه الحنيف.

ولكن منذ أنْ بدأ النبيُّ دعوة الأقربين وأخذ ينتقد وثنيّتهم، ويذكر أوثانهم بسوء ويعترض على تصرّفاتهم اللاإنسانية أصبح حديث الألسن. ومنذ ذلك اليوم أيضاً بدأت يقظة قريش، وعرفوا أمر محمَّد يختلف عن أمر «ورقة» و «أُميّة» اختلافاً بيّناً وأنّه لبين الدعوتين فرقاً كبيراً، ولهذا بدأت المعارضة والمخالفة السرّية والعلنية، لدعوة النبيّ.

وقد بدأ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بكسر جدار الصمت بدعوة أقربائه إلى دينه ثم شرع بعد ذلك بدعوة الناس أجمعين.

على أنّه ما من شكّ في أنّ الإصلاحات العميقة الّتي يراد لها أن تترك أثراً في جميع شؤون الناس وكلّ مناحي حياتهم، وتغيّر مسير المجتمع تحتاج قبل أيّ شيء إلى قوّتين:

ص:440

1. قوّةُ البيان، بأن يستطيع الداعية والمصلح بيان الحقائق الّتي جاء بها من أفكاره الخاصّة، أو ما تلقّاه عن طريق آخر إلى الناس بأُسلوب جذّاب، يأسر القلوب، ويسحر العقول.

2. القوّةُ الدفاعيةُ الّتي يستطيع تشكيل خطّ دفاعي منها عند التعرّض لهجوم الأعداء والخصوم، وفي غير هذه الصورة ستنطفئ شعلة الدعوة ويفشل المصلح في خطاه الأُولى.

ولقد كان البيان لدى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أعلى مرتبة من الكمال فكان قادراً كأقوى خطيب على بيان تعاليم دينه للناس في غاية الفصاحة والبلاغة. ولكنّه كان يفتقر في الأيام الأُولى من دعوته إلى عنصر (القوّة الثانية)، أي (القوّة الدفاعية)، الرادعة الحامية، لأنه استطاع في السنوات الثلاث الأُولى من رسالته أن يضم إلى دعوته قرابة أربعين شخصاً، وذلك في الظروف السرّية الشديدة، ولا ريب أنّ تلك القلّة القليلة من الأتباع لم تكن قادرة على أن تتولّى مسؤولية الدفاع عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وحماية رسالته.

من هنا عَمَد رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبهدف تحصيل القوّة الدفاعية المطلوبة وتشكيل النواة المركزية إلى دعوة أقربائه إلى دينه قبل التوجّه بالدعوة إلى عامّة الناس، ليتمكَّن من هذا الطريق، أن يزيل النقصَ من جهة عدم وجود القوة الثانية، ويكوّن منهم سياجاً قوياً يحفظه، ويحفظ رسالته من الأخطار المحتملة.

على أنّ فائدة هذه الدعوة كانت على الأقل دفع أبناء عشيرته إلى الدفاع عنه بدافع القربى والرحم على فرض أنّهم لم يؤمنوا برسالته، ولم يقبلوا دعوته.

هذا مضافاً إلى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يعتقد أنّ أيّ إصلاح وتغيير لابد أن يبدأ من إصلاح الداخل وتغييره، فما لم يستطع الإنسان من إصلاح أبنائه وأقربائه وردعهم

ص:441

عن قبائح الأفعال لا يمكن لدعوته أبداً أن تؤثر في الأجانب والأبعدين، لأنَّ المناوئين سيعترضون عليه لدعوته في هذه الحالة، ويشيرون إلى أفعال أبنائه وعشيرته.

من هنا أمره اللّه تعالى بأن يدعو عشيرته الأقربين إذ خاطبه قائلاً:

«وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» .(1)

كما أنّه خاطبه بصدد دعوة الناس عامّة بقوله:

«فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» .(2)

كيفيّة دَعوة الأقربيْن

كانت طريقة رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في دعوة عشيرته الأقربين طريقة جميلة وذكيّة جدّاً، فقد تجلّت في ذلك حقيقة أوضحت أسرار هذه الدعوة في ما بعد أكثر فأكثر.

فإنّ المفسّرين كتبوا عند قوله تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (3) وكذا الأغلبية القريبة للإجماع مِنَ المؤرّخين أنّ اللّه أمر نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم بأنْ ينذر عشيرته الأقربين ويدعوهم إلى دينه و رسالته فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّ بن أبي طالب الّذي كان آنذاك في ربيعه الثالث عشر أو الخامس عشر بأن يُعدَّ طعاماً ولبناً، ثم دعا صلى الله عليه و آله و سلم خمساً وأربعين رجلاً من سراة بني هاشم ووجوههم، وعزم على أن يبوح لضيوفه ويكشف لهم عن أمر رسالته في خلال تلك الضيافة إلّاأنّه - وللأسف - ما أن انتهوا من الطعام حتّى بادر أبولهب فتكلّم بكلمات سخيفة قبل أن يتحدّث النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم ممّا جعل الجوّ غير مناسب لأنْ يطرَح النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم موضوع

ص:442


1- . الشعراء: 214.
2- . الحجر: 94 و 95.
3- . الشعراء: 214.

رسالته عليهم، فانفضّ المجلسُ دون تحقيق هذا الغرض.

ولمّا كان من غد أمر النبيُّ عليّاً عليه السلام بإعداد الطّعام واللّبن ثانية، وكرّر دعوة تلك الجماعة، إلى ضيافة أُخرى، وبعد أن فرغوا من الطعام تكلّم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال:

«يا بَني عَبْدِ الْمُطَّلِب إنّي وَ اللّه ما أعلَمُ شابّاً في العَربَ جاء قومَهُ بأَفضَل ممّا قد جِئتُكُمْ به، إنّي قَدْ جِئْتُكم بِخير الدُّنيا والآخِرة، وَقَدْ أَمرَني اللّه تعالى أن أدْعوكُمْ إليه، فأيّكُمْ يؤازرُني عَلى هذا الأمر على أنْ يكونَ أخي وَوَصِيّي وَ خَليفَتي فِيكُم»؟

قال (علي عليه السلام): فأحجم القوم عنها جميعاً وقلت - وإنّي لأحدثهم سنّاً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً -:

أنا يا نبي اللّه أكونُ وَزيركَ عليه».

(فأعاد القول، فأمسكوا وأعدت ما قلت)، فأخذ برقبتي ثم قال لهم:

«إنَّ هذا أخي وَ وَصيّي وَ خَليفَتي فيكُمْ (أو عَليْكُمْ) فاسْمَعُوا لهُ، وَ أطِيْعُوا».

فقامَ القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب «قد أمرك أن تسمع لابنكَ وتطيعَ».(1)

إنَ ما كتبناه هو - في الحقيقة - خلاصةٌ لحديث مفصَّل رواه أكثر المفسّرين والمؤرّخين بعبارات مختلفة، ولم يشكّك في صحّته أحدٌ، بل اعتبروه من مسلَّمات التاريخ، إلّا «ابن تيمية» الّذي اتّخذ موقفاً خاصّاً من أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و عليهم أجمعين.

ص:443


1- . تاريخ الطبري: 2/62 و 63؛ الكامل في التاريخ: 2/62-63؛ مسند أحمد: 1/111، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/210 و 211.

خِيانةٌ تاريخيّةٌ و جِنايَةٌ أدبيّة!!

إنّ تحريفَ الحقائق وقلبَها، أو إخفاء الوقائع لهُو حقّاً من أوضح مصاديق الخيانة والجناية.

ولقد سلَكَ فريقٌ من الكُتّاب المتعصّبين عبر التاريخ للأسف مثل هذا الطريق المقبوح، وأسقطوا مؤلّفاتهم العلميّة والتاريخيّة بارتكابهم خطيئة التحريف في جملة من الحقائق، من الاعتبار، وهم يخالون أنّ عملهم قادر على أن يبقي الحقائق في هالة الإهمال والغموض.

إلّا أنّ أمر هؤلاء قد انكشف مع انْقضاء الزّمن، وتكامُل العِلْم، ودَفع بفريق من أهل التحقيق والإنصاف إلى أن يمزقوا بأطراف أقلامهم حجب الزيف والتحريف ويُظهروا الوقائع والحقائق على حقيقتها.

وإليك في ما يأتي بعض هذا الخيانات:

1. لقد ذكر محمَّد بن جرير الطبري (المتوفّى عام 310 ه) في تاريخه حادثة دعوة الأقربين بشكل مفصَّل وعلى النحو الّذي مرّ على القارئ الكريم.

بيد أنّه حرّف في تفسيره(1) وكَتمَ، فهُو عند تفسير قوله تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» يذكرُ كلّ ما ذكره في تاريخه، ولكنّه يغيّر ويبدّل في قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حيث يقول: «على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي»، فهو يكتب في تفسيره هكذا: «على أنْ يكونَ أخي وكذا وكذا».

ولا ريب أنَّ في تغيير عبارة «أخي ووصيّي وخليفتي عَليكم (أوفيكم) إلى:

«كذا وكذا» غرضَاً مريضاً، وهو بالتالي خيانة تاريخية فاضحة.

ص:444


1- . تفسير الطبري: 19/149 برقم 20374.

على أنّ الطبريّ لم يكتف بهذا القدر من التغيير في كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بل غيّر حتّى في الجملة الّتي تعقبتها وهي قوله صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن قام عليُّ عليه السلام للمرّة الثالثة وأعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ بعد إحجام القوم وسكوتهم: «إنّ هذا أخي ووصيّي و خليفتي» حيث أبدلها بعبارة: «إنَّ هذا أخي وكذا وكذا»!!!

إنّ على المؤرّخ أن يكون حرّاً وشهماً في كتابة الحقائق وروايتها، فيثبتها ويرويها كما هي، بكلّ شجاعة، وصَلابَة.

ولا ريب أنّ الّذي دفع بالطبريِّ إلى أن يرتكب مثل ذلك التبديل والتغيير هو تعصّبه المذهبي، فهو لا يعتبر الإمام عليّاً خليفة رسول اللّه بلا فصل، وحيث إنّ تينك الكلمتين: «خَليفتي ووَصيّي» تصرّحان بخلافة «عليّ» للنبيّ ووصايته بلا فصل لذلك يغيّر ويبدّل حتّى ينتصر لمذهبه بالتحريف في شأن نزول هذه الآية أيضاً.

2. ولقد فعل ابن كثير (المتوفّى عام 732 ه) نظير هذا في تاريخه وكذا في تفسيره(1) وسلك نفس الطريق الّذي سلكه - من قبل - سلفُه الطبري ضارباً عرض الجدار مبدأ أمانة النقل!!!

ونحن لا نعذر ابن كثير في عمله هذا أبداً، لأنّه قد اعتمد - في رواياته التاريخية، في تاريخه وتفسيره معاً - تاريخ الطبري، لا تفسيره ولا شكّ أنّه قد مرَّ على هذه القصة في تاريخ الطبريّ، ولكنّه مع ذلك حاد عن الطريق السويّ فأعرض عن نقل رواية التاريخ - في هذه الحادثة - وعَمَد - بصورة غير متوقعة - إلى نقل رواية التفسير!!!

3. والأغرب من تينك الخيانتين ما ارتكبه - في عصرنا الحاضر - وزير

ص:445


1- . البداية والنهاية: 3/53؛ تفسير ابن كثير: 3/364.

المعارف المصرية الأسبق الدكتور «هيكل» في كتابه «حياة محمَّد»، وفتح بعمله باب التحريف في وجه الجيل الحاضر. والعجب أنّ «هيكل» هاجم - في مقدّمته - جماعة المستشرقين بشدة وانتقدهم بعنف لتحريفهم الحقائق التاريخية، واختلاقهم لبعض الوقائع في حين لم يقصر عنهم في هذا السبيل فهو:

أوّلاً: نقل الواقعة المذكورة (دعوة الأقربين المعروفة بحادثة يوم الدار أو حديث بدء الدعوة) في الطبعة الأُولى من كتابه المذكور بصورة مبتورة ومقتضبة جدّاً واكتفى من الجملتين الحسّاستين بذكر واحدة منهما فقط وهي قولُ النبيّ مخاطباً الحضور في ذلك اليوم: «مَنْ يُؤازرني يكونُ أخِيْ وَوصيّي و خَليِفَتِي» بينما حذف بالمرّة الجملة الّتي قالها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لِعَلي بعد أن قام للمرّة الثانية وأعلن مؤازرته للنبيّ وهي قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنَّ هذا أخيْ وَ وَصيّي وَ خَلِيْفتي»!!!

ثانياً: أنَّه خطا في الطبعات الثانية والثالثة والرابعة، خطوة أبعد حيث حذَف كلتا الجملتين معاً وبهذا قد وجّه ضربة كبرى إلى قيمته ككاتب، وقيمة كتابه، كدراسة تاريخية!!

النبوّة والإمامة توأمان

إنّ الاعلان عن وصاية عليّ عليه السلام وخلافته في مطلع عهد الرسالة وبداية أمر النبوّة يفيد - بقوة ووضوح - إنَّ هذين المنصبين ليسا بأمرين منفصليْن، ففي اليوم الَّذي يعلِنُ فيه رسولُ اللّه عن رسالته ونبوَّته، يعيّن خليفته ووصيَّه من بعده، وهذا يشهد - بجلاء - بأنّ النبوَّة والإمامة يشكِّلان قاعدة واحدة، وأنّ هذين المنصبين إن هما إلّاكحلقتين متّصلتين لا يفصل بينهما شيء.

كما أنّ هذه الحادثة تكشف - من جانب آخر - عن مدى الشجاعة الروحية

ص:446

الّتي كان يتحلّى بها الإمام أميرُ المؤمنين «عليُّ بن أبي طالب» عليه السلام، حيث قام - في مجلس أحجم فيه الشيوخ الدُهاة والسادة المجرِّبون عن قبول دعوة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خوفاً وتهيّباً - وأعلن بكلّ شجاعة مؤازرته للنبيّ، واستعداده للتضحية في سبيل دينه ورسالته وهو آنذاك غلامٌ في ربيعه الثالث أو الخامس عشر، وما حابى أعداء الرسالة ولا ماشاهم كما فعل المصلحون من الساسة والزعماء المتخوّفون على مصالحهم ومراكزهم آنذاك!!!

صحيح أنّ «عليّاً» عليه السلام كان في ذلك اليوم أصغر الحاضرين سنّاً إلّاأنّ معاشرته الطويلة للنبيّ قد هيّأتْ قلبهُ لتقبُّل الحقائق الّتي تردّد شيوخ القوم في قبولها، بل عجزوا عن دركها وفهمها!!

ولقد أعطى أبو جعفر الإسكافي حقّ الكلام في هذا المجال إذ قال:

فهل يُكلّف عملُ الطعام، ودعاء القوم صغيرٌ غير مميّز، وغِر غير عاقل، وهل يؤتمَن على سرّ النبوّة طفلٌ... وهل يُدعى في جملة الشيوخ والكهول إلّاعاقل لبيب، وهل يضع رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يده في يده، ويعطيه صفقة يمينه بالأُخوة والوصيّة، والخلافة، إلّاوهو أهل لذلك، بالغ حدّ التكليف، محتمل لولاية اللّه، وعداوة أعدائه، وما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه ولم يلصق بأشكاله، ولم يُرَ مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه، وهو كأحدهم في طبقته، كبعضهم في معرفته، وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته... بل ما رأيناه إلّاماضياً على إسلامه، مصمّماً في أمره، محقّقاً لقوله بفعله، قد صدّق إسلامه بعفافه وزهده، ولصق برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من بين جميع من بحضرته، فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته.(1)

ص:447


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/244-245.

16 الدعوة العامّة

اشارة

كان قد انقضت ثلاث سنوات على بدء البعثة يوم عمد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى دعوة الناس عامّة بعد دعوة عشيرته الأقربين.

فقد استطاع خلال السنوات الثلاث الأُولى من عمر الدعوة أن يهدي - من خلال الاتّصالات السرّية - مجموعة من الأشخاص إلى الإسلام ولكنّه دعا هذه المرّة وبصوت عالٍ عامّة الناس إلى دين التوحيد.

فعن ابن عباس قال: صعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم على الصفا فقال: يا صباحاه (وهي كلمةٌ كانت العربُ تطلقها كلّما أحسَّت بخطر، أو بلغها نبأ مُرعبٍ فكانت هذه الكلمة بمثابة جرس الخطر)(1) فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك؟

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: أرأيتكم إن لو أخبرتكم أنَّ العدوّ مُصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدّقوني؟

قالوا: بلى.

قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

فقال أبو لهب: تبّاً لك ألهذا دعوتنا.(2)

وفي رواية أُخرى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: إنّما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو

ص:448


1- . قال الجزري في النهاية: 2/271: صعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على الصفا وقال: يا صباحاه؛ هذه كلمة يقولها المستغيث، وأصلها إذا صاحوا للغارة لأنّهم أكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح ويسمّون يوم الغارة يوم الصباح، فكأنّ القائل: يا صباحاه يقول: قد غشينا العدو.
2- . سنن النسائي: 6/244 برقم 10819.

فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف: ياصباحاه.(1)

ولقد كانت قريش تعرف عن دينه بعض الشيء، قبل هذا ولكنّها تملَّكها الخوفُ هذه المرّة، وهي تسمعُ ذلك الإنذار القويّ فبادر أحد قادة الكفر إلى تبديد تلك المخاوف فوراً، إذ قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: تبّاً لك، ألهذا دعوتنا؟، وتفرّق على أثرها الناس.

الثباتُ والإستقامة على طريق الهدف

إنّ نجاح أيّ شخص مرهونٌ بأمرين:

الأوّل: الإيمان بالهدف.

والثاني: الاستقامة والثبات والسعي الدائب لتحقيق ذلك.

إنَّ الإيمان هو المحرِّك الباطني والقوّة الخفيّة الّتي تجر الإنسان - شاء أم لم يشأ - نحو الغاية الّتي يتوخّاها، وتسهِّل عليه الصعاب، وتدعوه إلى العمل الدائب لتحقيق مقصوده، لأنّ شخصاً كهذا يعتقد اعتقاداً قويّاً بأنَّ سعادته، ومجده يتوقَّفان على ذلك.

وبعبارة أُخرى: إذا آمن إنسان بأنّ سعادته ومجده يتوقّفان على تحقيق هدف معيّن فإنّه سيندفع بقوّة الإيمان نحو تحقيق ذلك الهدف، متجاوزاً كلّ الصعاب، ومتحدّياً كلّ المشكلات في ذلك السبيل.

فالمريض الّذي يرى شفاءه في شرب دواء مرّ مثلاً سيستسهل شُربه.

والغوّاص الّذي يعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ ثمّة درراً غالية الثمن تحت أمواج البحر سيلقي بنفسه في قلب تلك الأمواج دونما خوف أو وجل، ليخرج منها بعد

ص:449


1- . السيرة الحلبية: 1/460.

دقائق ظافراً بأغلى الجواهر.

بينما إذا كان المريض أو الغوّاص يشكُّ في عمله، أو يعتقد بعدم فائدته، فإنَّه لن يُقدمَ عليه قط، وإذا ما أقدم فإنّ عمله سيكون حينئذٍ مقروناً بالجهد والعناء. فقوة الإيمان إذن هي الّتي تذلّل كلّ مشكلة، وتسهِّل كلَّ معضلة.

غير أنّه لا ريب في أنَّ الوصولَ إلى الهَدف لا يخلو من مشاكلّ وموانع، فلابدّ من السعي لرفع تلك الموانع، وإزالة تلكم المشاكل.

وقد قيل قديماً: إنَّ مع كلّ وردة أشواك، فكيف يمكن قطف وردة دون أن تُدمى أنامل القاطف بالأشواك المحيطة بها؟؟

هذا وقد بيّن القرآنُ الكريمُ هذه المسألة (وهي أنّ رمز السعادة هو: الإيمان بالهدف والثبات في طريق تحقيقه) في جملة قصيرة إذ قال:

«إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» .(1)

ثَباتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وَ صَبرُهُ

لقد أدّت اتّصالاتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الخاصّة. قَبل الدعوة العامّة، وجهودُه الكبرى بعد الجهر بالدعوة، إلى ظهور ونشوء صفٍّ مرصوص من المسلمين في وجه صفوف الكفر، والوثنية.

فالَّذين دخَلُوا سرّاً في حوزة الإسلام والإيمان قبل الدعوة العامّة تعرَّفوا على المسلمين الجدد الذين لبُّوا داعي الإسلام بعد إعلان الرسالة، وشكّل القدامى والجدد جماعة قويّة متعاطفة متحاببة، وكان ذلك بمثابة إنذار لأوساط الكفر والشرك والوثنية، أربكها وجعلها تشعر بالخطر.

ص:450


1- . فُصّلت: 30.

على أنّ ضرب نهضة ناشئة والقضاء عليها كان أمراً سهلاً لقريش، ولكنّ الّذي أرعب قريشاً ومنعها من توجيه مثل هذه الضربة هي أنَّ أفراد هذه الجماعة، وعناصر هذه النهضة لم يكونوا من قبيلة واحدة، ليمكن مواجهتها وضربُها بكلّ قوّة، بل انتمى من كلّ قبيلة إلى الإسلام، عددٌ من الأفراد، ومن هنا لم يكن اتّخاذ أيّ قرار حاسم بحقّهم أمراً سهلاً وبسيطاً.

من هنا قرّر سادة قريش وكبراؤها - بعد تداول الأمر في ما بينهم - أن يبدأوا بالقضاء على أساس هذه الجماعة، ومحرِّك هذا الحزب، والداعي إلى هذه العقيدة بمختلف الوسائل فيحاولوا ثنيه عن دعوته بالإغراء والتطميع تارة، ويمنعوا من انتشار دينه بالتهديد والإيذاء تارة أُخرى.

وقد كان هذا هو برنامج قريش وموقفها من الدعوة طيلة عشر سنوات وهي المدّة المتبقية من سنوات البعثة من الفترة المكية، إلى أن قرّرت بالتالي قتله، ولكّنه استطاع أن يبطل مُؤامرتهم بالهجرة إلى المدينة قبل أن يتمكّنوا من القضاء عليه.

ولقد كان «أبوطالب» آنذاك زعيم بني هاشم ورئيسها المطلق، وكان رجلاً طاهر القلب عالي الهمّة، شجاعاً، كريماً، وكان بيته ملجأ دافئاً للمحرومين والمستضعفين، وملاذاً أميناً للفقراء والأيتام، وكان يتمتع في المجتمع العربي - علاوة على رئاسة مكّة و بعض مناصب الكعبة - بمكانة كبرى و منزلة عظيمة، وحيث إنّه كان كفيلاً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد وفاة جدّه «عبدالمطلب»، لذلك حضر سادة قريش بصورة جماعية(1) عنده وقالوا له:

«يا أباطالب إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعابَ دينَنا، وسفَّه أحلامنا وضلّل آباءنا، فإمّا أن تكفّه عنّا، وإمّا أن تخلّي بيننا و بينه».

ص:451


1- . أدرج ابن هشام في سيرته: 1/170-171 أسماءهم بالتفصيل نذكر منهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان وأبو البختري وأبو جهل والوليد بن المغيرة... وغيرهم.

فقال لهم «أبو طالب» قولاً رفيقاً، وردَّهم ردّاً جميلاً، فانصرفوا عنه.

بيد أنَّ نفوذ الإسلام وانتشاره كان يتزايد باستمرار، وكانت جاذبيّة الدّين المحمَّدي، وبيان القرآن البليغ يساعدان على ذلك، فيترك أثره في الناس، وخاصّة في الأشهر الحرم حيث يفد الحجيجُ على مكّة من مختلف أنحاء الجزيرة، وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعرض دينه عليهم، فكانت أحاديثه الجذّابة، وكلماتُه البليغة، ودينُه المحبَّب تؤثر في قلوب كثير منهم، فيميلون إلى الإسلام ويقبلون دعوة الرسول.

وهنا أدرك طغاة مكّة وفراعنتها أنّ «محمَّداً» قد بدأ يفتح له مكاناً في قلوب جميع القبائل، وأصبح له أنصارٌ وأتباعٌ في كثير منها، ممّا دفعهم مرّة أُخرى إلى الحضور عند «أبي طالب» حاميه الوحيد، وتذكيره بالإشارة والتصريح بالأخطار المحدقة باستقلال المكّيين وعقائدهم نتيجة نفوذ الإسلام وانتشاره فقالوا له أجمع: يا أباطالب، إنّ لك سنّاً، وشَرفاً، ومنزلة فينا، وإنّا قد استنهيناك مِن ابن أخيك فلم تنهَه عنّا، وإنا واللّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتّى تكفه عنّا، أو ننازله وإيّاك في ذلك حتّى يهلك أحد الفريقين.

إنّ قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة، بعث إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال له: يابن أخي إنّ قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا... فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«يا عَمّ، واللّه لو وضعُوا الشَمْس في يميني، والقمرَ في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهرهُ اللّه، أو أهلكَ فيه، ما تركتُه».

ثم استعبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فبكى ثم قام، فلمّا وليّ ناداه أبو طالب فقال: أقبل يابن أخي، قال: فأقبل عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال:

ص:452

«إذهَبْ يا ابْن أَخي فَقُلْ ما أحبَبْتَ فَواللّه لا أُسلمك لِشَيءٍ أبداً».(1)

قريش تمشي إلى أبي طالب للمرّة الثالثة

ثم إنّ قريشاً لمّا عرفت أنّ أبا طالب أبى خذلان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم مشوا إليه بعمارة بن الوليد ابن المغيرة فقالوا له:

يا أَبا طالب هذا عمارةُ بن الوليد أنهَدُ فتى في قريش وأجملُه، فخذهُ فلك عقلُهُ ونصرُه، واتخذه ولداً فهو لكَ، وأسلِمْ إليْنا ابن أخيكَ هذا، الّذي فرّق جماعة قومكَ، وَسفَّه أحلامَهُمْ فنقتله، فإنّما هو رجل برجل!!

فقال (أبوطالب وهو مستاء من هذه المساومة الظالمة):

«واللّه لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذُوهُ لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا واللّه ما لا يكون أبداً».

فقال «المطعم بن عدي بن نوفل»: واللّه يا أبا طالب لقد أنصفَك قومُك، فما أراك تريد أن تقبَل منهم شيئاً.

فقال أبوطالب للمطعم: واللّه ما أنصفوني، ولكنّك قد أجمَعتَ خُذْلاني، ومظاهرة القوم عليّ، فاصنَعْ ما بدا لك.(2)

قريش تحاولُ تطميع رسول اللّه!

ولمّا علمت قريش بأنّه لا يمكن إرضاء «أبي طالب» بخذلان ابن أخيه «محمَّد»، فهو وإن كان لا يتظاهر بالإسلام، إلّاأنّه يكنُّ لابن أخيه، وُدّاً عميقاً، ومحبّة

ص:453


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/171-172.
2- . تاريخ الطبري: 2/67-68؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1/172.

كبرى، من هنا قرّروا بأنْ يتركوا مفاوضته، إلّاأنّهم فكّروا في خطة أُخرى وهي أن يُحاولوا إثناء النبيّ عن المضيّ في دعوته بتطميعه بالمناصب، والهدايا، والأموال، والفتيات الجميلات، ولهذا مشوا إلى بيت «أبي طالب» ودخلوا عليه ومحمَّد جالسٌ إلى جنبه فتكلّم متكلِّمهُمْ وقال: يا محمَّد إنا بعثنا إليك لِنُكلِّمك، فإنّا واللّه لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعيّبت الدين، وسببت الآلهة، وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، ولم يبق أمر قبيح إلّا أتيته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنّما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنّما تطلب الشرف فينا فنحن نسوّدك ونشرّفك علينا، وإن كان هذا الّذي يأتيك تابعاً من الجّن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبّك.(1)

فقال أبوطالب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك، يزعمون أنّك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال: وأكثروا عليه من القول.

وتكلم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا عم إنّي أُريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدّي إليهم بها العجم الجزية.

ففزعوا لكلمته، ولقوله فقال القوم: كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً.

قالوا: فماهي؟ فقال أبوطالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟

قال: «لا إله إلّااللّه».

قال: فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ» (2).(3)

ص:454


1- . السيرة الحلبية: 1/488.
2- . ص: 5.
3- . تاريخ الطبري: 2/65-66.

نماذجٌ من إيذاء قُريش وتعذيبها للمُسلمين

يومَ صدَعَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما أُمر، وجَهر بدعوته للناس وأيس سادة قريش من قبوله لأيّ اقتراح من إقتراحاتهم بعدما سمعوه يقول: «واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يُظهِرَه اللّه أو أهلك دونه ما تركتُه» بدأت في الحقيقة مرحلة من أشدّ مراحل حياته، وأكثرها متاعبَ ومصاعبَ، لأنّ قريشاً كانت لا تزال إلى ذلك الوقت تراعي حرمته وتحترمه، وتسيطر على أعصابها، ولكنّها عندما فشلت في خططها لجرّه إلى مساومتها اضطرَّت إلى تغيير نهجها وأُسلوبها معه لتقفَ دون إنتشار دينه مهما كلَّف من الثمن مستخدمة في هذا السبيل كلّ الوسائل الممكنة.

من هنا قرّر سادة قريش بالإجماع أن يتوسَّلوا بسلاح الاستهزاء والسخرية، والإيذاء والتهديد، بهدف صرفه عن المضيّ في دعوته.(1)

ولا يخفى أنّ المصلح الّذي يفكّر في هداية العالم البشريّ كلّه يجب أن يتزوّد بقدر كبير من الصبر والتحمّل، أمام جميع المشكلات والمتاعب، والمكاره والشدائد، ليتغلّب عليها شيئاً فشيئاً، كما كان دأب كلّ المصلحين الآخرين.

ونحن هنا نورد طرفاً من أذى قريش لرسول اللّه وأتباعه ليتّضح مدى صبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وثباته، واستقامته على طريق الدعوة.

ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتمتع - مضافاً إلى العامل الروحي والمعنويّ الباطني الّذي كان يساعده من الداخل، أعني: الإيمان والصبر والإستقامة والثبات - بعامل خارجيّ تولّى حراسته وحمايته وذلك حماية بني هاشم، وعلى رأسهم أبوطالب له صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّه عندما عرف «أبوطالب» بعزم قريش القاطع على إيذاء ابن

ص:455


1- . راجع لمعرفة أبرز من كان يؤذي النبيّ والمسلمين: المحبر: 157 و 161.

أخيه (محمَّد) دعا بني هاشم عامّة، وطلب منهُم جميعاً حماية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والقيام دونه، فلبَّوا نداء سيّدهم، وأجابوه إلى ما دعاهم من حماية رسول اللّه وحراسته بعضٌ بدافع الإيمان وآخر بدافع الرَّحم، إلّا «أبولهب» ورجلان آخران انضموا إلى أعداء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ولكن هذا السياج الدفاعيّ لم يقدر - مع ذلك - على صيانته صلى الله عليه و آله و سلم من بعض الحوادث المرّة، لأنّ قريشاً ألحقت به الأذى، وأنزلت به مكروهاً، كلّما وجدته وَحيداً بعيداً عن أعين حُماته. وإليك فيما يأتي بعض النماذج من ذلك الأذى:

1. مَرَّ «أبوجهل» برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه ببعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلّمه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومولاة لعبداللّه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلبث «حمزة بن عبدالمطلب» رضي اللّه عنه أن أقبلَ متوشّحاً قوسَه راجعاً من قَنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتّى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمرّ على ناد من قريش إلّاوقف وسلَّم وتحدَّث معهم، وكان أعز فتى في قريش، وأشدّ شكيمة.

فلمّا مرّ بالمولاة، وقد رجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى بيته قالت له: يا أبا عمارة (وتلك هي كنيته) لو رأيت ما لقي ابنُ أخيك محمَّد آنفاً من أبي الحكم بن هشام (وتعني أبا جهل): وجده هاهنا جالساً فآذاه وسبَّه، وبلَغَ منهُ ما يُكرَه، ثم انصرف عنه ولم يكلّمه محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم.

فاحتمل «حمزة» الغضب لمّا أراد اللّه به من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، مُعِدّاً لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به.

ص:456

فلمّا دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم، فأقبل نحوه، حتّى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجَّهُ شجّة منكرة، ثم قال: «أتشمته وأنا على دينه أقول كما يقول. فردَّ ذلك عليَّ إن استطعتَ».

فقامت رجالٌ من بني مخزوم إلى «حمزة» لينصروا «أباجهل» فقال أبوجهل:

دعوا أبا عمارة فإنّي واللّه قد سبَبْتُ ابن أخيه سبّاً قبيحاً(1). وبهذا منع «أبو جهل» الّذي كان ممّن يدرك خطورة مثل هذه المواقف من وقوع شجار وقتال.

إنَّ التاريخ الثابت والمسلَّم يشهد بأنّ وجودَ رجال ذوي بأس وقوّة بين صفوف المسلمين مثل «حمزة» الّذي أصبح في ما بعد من كبار قادة الإسلام، قد كان له أثرٌ كبيرٌ في حفظ الإسلام، والحفاظ على حياة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ودعم جماعة المسلمين، وتقوية جناحهم، فهذا ابن الأثير(2) يقول عن حمزة: لمّا أسلم حمزة عرفت قريش أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد عزّ وأنّ حمزة سيمنعه فكفّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.

من هنا أخذت قريش تفكّرُ في إعداد خطط أُخرى لمواجهة قضية الإسلام والمسلمين، سنذكرها في المستقبل.

هذا ويرى بعضُ المؤرّخين مثل ابن كثير الشامي(3) على أنّ رُدود فعل إسلام «أبي بكر» و «عمر» وأثرهما لم تكن بأقلّ من تأثير إسلام «حمزة»، وإنَّ الدين قويَ جانبه بإسلام هذين الرجلين، وكسَبَ المسلمون بذلك القوة والحريّة في العمل والتحرّك، والحقيقة أنّه لا شكّ في أنّه لكلّ فرد تأثيره في تقوية ودعم الإسلام، إلّاأنّه لا يمكن القولُ بحال بأنّ تأثير إسلام الشيخين كان يعدل تأثير إسلام

ص:457


1- . السيرة النبوية: 1/188-189؛ تاريخ الطبري: 2/72.
2- . الكامل لابن الأثير: 2/83.
3- . البداية والنهاية: 2/26 و 32.

«حمزة»، فإنّ «حمزة» ما إنْ سمع بأنّ قريشاً أساءت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلّا وتوجه، من دون أن يُعرّج على أحد، إلى المسيء وانتقم منه في الحال أشدّ انتقام، ولم يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه ومنع المسيء منه، ومن غضبه وانتقامه، بينما يكتب ابن هشام في سيرته عن «أبي بكر» أمراً يكشف عن أنّ «أبابكر» يوم دخل في صفوف المسلمين لم يكن قادراً على حماية نفسه، ولا على الدفاع عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم. وإليك نصُّ الواقعة:

مرَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذاتَ يوم على جماعة من قريش وهم جلوسٌ عندَ الحجر، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: أنتَ الّذي تقول:

كذا و كذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

نعم أنا الّذي أقولُ ذلك، فأخذ رجلٌ منهم بمجمع ردائه (وهم يقصدون قتله) فقام «أبوبكر» دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول رَبّي اللّه؟ ثمّ انصرفوا عنه (ولم يقتلوه لأمر رأوه)، فرجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى منزله، ورجع «أبوبكر» يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه.(1)

إنّ هذه الرواية التاريخية إذا دلّت على مشاعر الخليفة تجاه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلّاأنّها تدلّ قبل أي شيء على عجزه وضعفه.

إنّه يدلُّ على أنّه لم يملك ذلك اليوم أيّة مقدرة بدَنية وروحية، ولا أيّة مكانة اجتماعية تُرهَب، وحيث إنَّ إلحاق الأذى بشخص رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان ينطوي في نظر قريش على عواقب لا تحمد، لذلك تركوا رسولَ اللّه، وَوَجَّهُوا ضربتهم إلى رفيقه وصدعوا فرق رأسه.

ص:458


1- . السيرة النبوية: 1/187-188. وقد ذكر الطبري في تاريخه: 2/72، قصة صدع رأس أبي بكر بالتفصيل فراجع.

ولو أنّك قارنت بين هاتين الحادثتين وقايست بين موقف «حمزة» الشجاع وموقف الخليفة الأوّل هذا لاستطعت أن تقضي بسهولة بأنَّ عزة الإسلام وقوّة المسلمين، وتعزيز موقفهم، وخوف الكفّار كان يعود إلى إسلام أيّ واحد من ذينك الرجلين؟!

هذا وستقرأ في القريب العاجل كيفية إسلام «عمر». وسترى بأنَّ إسلامه - كإسلام صديقه - لم يزد هو الآخر من قدرة المسلمين الدفاعية، وأنّهم بالتالي لم يعتزّوا بإسلامه.

فيوم أسلم «عمر» كادَ أن يُقتل لولا «العاص بن وائل السهمي» لأنّه هو الّذي خاطب الذين قصدوا قتل «عمر» قائلاً: رَجُلٌ اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون [منه]؟ أترونَ بني عَدِيّ بن كعب يسلمون لكم صاحبَهم هكذا، خلوُّا عن الرجل.(1)

إنّ هذه العبارة الّتي قالها «العاص» لإنقاذ الخليفة الثاني من أيدي الذين اجتمعوا على قتله تفيد - بوضوح - أنّ الخوف من قبيلة «عمر» هو الّذي كان وراء تركهم إياه وعدم قتله، وقد كان دفاعُ القبائل عن أبنائها سنّة فطرية وعادة متعارفة يومذاك، وكان يتساوى فيها الكبير والصغير، والشريف والوضيع.

أجل إنَ بني هاشم هم كانوا - في الواقع - الحصن الحقيقي للمسلمين، وقد كان القسط الأكبر من هذا الأمر يتحمّله «أبوطالب» وذووه، وإلّا فإنَّ الأشخاص الآخرين الذين كانوا ينضمُّون إلى صفوف المسلمين لم تكن لديهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم، فكيف بالدفاع عن الإسلام وجماعة المسلمين ليقال: بأنّ المسلمين اعتزوا بهم؟

ص:459


1- . السيرة النبوية: 1/233.

أبوجهل يكمُن لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

لقد أغضب تقدّمُ الإسلام المطّرد قريشاً بشدّة فلم يمرُّ يوم دون أن يبلغهم نبأ عن انضمام واحد من أفراد قريش إلى صفوف المسلمين ولأجل هذا راح مرجل الغضب والحنق على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يغلي في نفوسهم؛ فهذا فرعون مكّة «أبوجهل» قال لقريش في مجلس من مجالسهم: يا معشر قريش إنّ محمَّداً قد أبى إلّا ما ترون: من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإنّي أُعاهِدُ اللّه لأَجلسنَّ له غداً بحجر ما أُطيق حمله - أو كما قال - فإذا سجد في صلاته فضختُ به رأسه.

فلمّا أصبح «أبوجهل» أخذ حجراً كما وصَف، ثم جلس لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينتظره، وغدا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما كان يغدو. وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمكة وقبلته إلى الشام، فكان إذا صلّى صلّى بين الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يصلّي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبوجهل فاعلٌ، فلمّا سجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم احتمل «أبوجهل» الحجر، ثم أقبل نحوه، حتّى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه، مَرعوباً قد يبست يداه على حجره، حتّى قذف الحجَر من يده، وقامت إليه رجالُ قريش فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلتُ لكم البارحة، فلمّا دنوتُ منه عرضَ لي دونهُ فحل من الإبل، لا واللّه ما رأيت مثل هامته ولا مثل قصرته ولا أنيابه....(1)

إنه ليس من شكّ في أنَّ قوة غيبيّة أدركتْ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأمر اللّه تعالى في تلك اللحظة، وصوّرت ذلك المنظر الرهيب، وحفظت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما وعده

ص:460


1- . السيرة النبوية: 1/194.

تعالى وعداً لا خلف فيه إذ قال: «إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» .(1)

وهناك نماذج كثيرةٌ من أذى قريش لشخص رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سجَّلها التاريخ في صفحاته، وقد عقد «ابن الأثير»(2) فصلاً خاصّاً لهذا الموضوع ذكر فيه أسماء أعداء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الألدّاء، في مكّة، وبيّن أنواع ما كانوا يؤذُون به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وما قد مرّ ذكره في الصفحات السابقة ما هو إلّانماذج من ذلك، فقد كان صلى الله عليه و آله و سلم يواجه في كل يوم نوعاً خاصّاً من الأذى، والمضايقة.

فقد رُوي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يطوف ذات يوم فشتمه «عقبة بن أبي معيط» وألقى عمامَته في عنقه، وجرّه من المسجد، فأخذوه من يده، خوفاً مِن بني هاشم.(3)

أبولهب يؤذي رسول اللّه

ولقد تعرّض رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لأذى لا مثيل له من جانب عمّه «أبي لهب» وزوجته «أُم جميل» وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يجاورهم، فلم يألوا جهداً في إزعاجه وإيذائه فكم من مرّة ومرة ألقيا الرماد والتراب على رأسه الشريف وثيابه.

وكم من مرّة نشرت أُمّ جميل الشوك على طريقه، أو جمعته على باب بيته لتؤذيه عند الخروج.

ولا شكّ أنّ معارضَة أنسباء النبيّ وأقربائه لدعوته المباركة، وإيذاؤهم إيّاه كان أكثر إيلاماً لنفسه الشريفة، وأشدّ وقعاً عليها، حتّى أنّنا نجد القرآن يخصّ أبا

ص:461


1- . الحجر: 95.
2- . الكامل في التاريخ: 2/70 كما وعقد المجلسي رحمه اللّه في البحار: 18/148-243، باباًخاصاً بعنوان: «باب المبعث واظهار الدعوة وما لقي (صلّى اللّه عليه وآله) من القوم.
3- . مناقب ابن شهر آشوب: 1/52؛ وفي السيرة الحلبية: 1/293 نظيره.

لهب باللعن وينزل سورة خاصّة به وبزوجته ممّا يكشف عن هذه الحقيقة إذ يقول:

«تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ * ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ * سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ * وَ امْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» .(1)

صبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واستقامته

ولكنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يواجه كلّ ذلك الأذى وما شابهه من التحجّجات - الّتي سنشير إليها - بصبر عظيم، وثبات تتعجّب منه الجبال الشمّاء، وذلك إيماناً منه برسالته.

إيذاء المسلمين وتعذيبُهم!

اشارة

يرجع تقدّمُ الإسلام في مطلع عهد الرسالة إلى عوامل منها: ثبات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسه، وثباتُ أتباعه وأنصاره.

ولقد تعرّفنا - في ما سبق - على أمثلة ونماذج من ثبات قائد الإسلام الأكبر وصبره، واستقامته في ما لقي من أذىً ومضايقة.

على أنّ ثبات أنصاره وأتباعه الذين آمنوا في مكّة (مركز الحكومة الوثنية آنذاك) هو الآخر ممّا يدعو إلى الإعجاب ويستحقّ الاحترام. وسنذكر صمودَهم وثباتهم في حوادث ما بعد الهجرة في محلّه.

وأمّا هنا فنسلّطُ الضوء على حياة عدد من أتباع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم القدامى الذين تحمّلوا أشدّ أنواع العذاب وكانوا يعيشون في المحيط المكّي حيث لم يكن ملجأ لهم يلجأون إليه، وهاجروا منه لأغراض الدعوة والتبليغ بعد أن تحمّلوا شيئاً

ص:462


1- . المسد: 1-5.

كثيراً من الإيذاء والتعذيب على أيدي المشركين والوثنيّين القساة.

1. بلال الحبشي:

كان أبواهُ ممّن أُسروا في الجاهلية وجيء بهم من الحبشة إلى جزيرة العرب ثم إلى مكّة.

وأمّا بلال الّذي أصبح في ما بعد مؤذّن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقد كان غلاماً ل «أُميّة بن خلف» الّذي كان من أشدّ أعداء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

وحيث إنّ عشيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تولَّتِ الدِفاع عنه صلى الله عليه و آله و سلم وحمايته ولم يتمكّن أُمية من إلحاق الأذى برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عمد إلى تعذيب غلامه بلال الّذي أسلم، أمام الناس، بأشدّ أنواع الأذى والتعذيب انتقاماً، وتشفّياً.

فقد كان أُميّة بن خلف يُخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكّة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتّى تموت، أو تكفر بمحمَّد، وتعبد اللّات والعزّى، فيقول وَهو في ذلك البلاء: أَحَدٌ أَحَدٌ.(1)

ولقد أثار ثباتُ هذا الغلام الأسود وجلدُهُ وصبرُه على أذى سيّده، إعجابَ الآخرين، حتّى كان «ورقة بن نوفل» يمرّ به وهو يعذّب بذلك، وهو يقول: أحَد أَحَدْ، فيقول: أحد أحد واللّه يا بلال ثم يقبل على أُميّة بن خلف ومن يصنع ذلك به من «بني جمح» فيقول: أحلف باللّه لئن قتلتموه على هذا لأتخذنّه حناناً (أي لأجعلنَّ قبره متبرّكاً ومزاراً).(2)

وربّما زاد «أُميّة» من تعذيبه لبلال فربط حبلاً بعنقه وترك الصبيان يديرون به

ص:463


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/210.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/210.

في الأزقة والسكك.(1) وقد أُسِر «أُميّة» وابنه في معركة «بدر» وكانا أوّلَ من أُسِرا من المشركين، ولم يوافق بعضُ المسلمين على قتلهما ولكنّ بلالاً قال: «رأسُ الكفر أُميّة بن خلف لا نجوتُ إنْ نجا». وأدّى إصرارُ بلال على قتلهما إلى قتل أُميّة وابنه جزاء أعمالهما الظالمة.(2)

2. آلُ ياسر رمز الصمود والمقاومة!

كان «عَمّار» ووالداه من السابقين إلى الإسلام فهم أسلموا يوم كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يلتقي بأصحابه ويدعو إلى الإسلام في بيت «الأرقم بن أبي الأرقم»، وعندما عرف المشركون بانضمامهم إلى صفوف المسلمين عمدوا إلى إيذائهم وتعذيبهم ولم يألوا جهداً في ذلك أبداً.

فقد كان المشركون يخرجون «عمّاراً» وأباه «ياسر» وأُمَّه «سُميّة» في وقت الظهيرة إلى رمضاء مكّة ليقضوا ساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، وفوق الرّمال الملتهبة والصخور المتّقدة كأنّها الجمرات.

وقد تكرّر هذا العذابُ مرّات عديدة حتّى أودى بحياة «ياسر» فقضى نحبَه على تلك الحال.

وقد خاشنت زوجتُه «سُميّة» أبا جَهل وكلمته في زوجها بغليظ القول، فطعنها اللعين برمح في قلبها فقضت - هي الأُخرى - نحبَها، وكانا أوّلَ شهيدين في الإسلام.(3)

وقد آلم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما شاهده من حالهما وهما يعذّبان بأشد أنواع

ص:464


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى لابن سعد: 3/233.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/153؛ السيرة النبوية لابن هشام: 2/461.
3- . لاحظ: بحار الأنوار: 18/241؛ والسيرة الحلبية: 1/483.

العذاب فقال لهُما ولولدهما «عمّار» وهو يصبّرهم، والدموع تنحدر على خدّيه:

«صَبراً آلَ ياسِر فإنّ موعدكم الجنة».(1)

وبعد أن قضى والدا «عمّار» نحبَهما تحت التعذيب بالغ المشركون القساة في تعذيب «عَمّار» وإيذائه والتنكيل به، وأخذوا يعذّبونه على نحو ما كانوا يعذّبون به بلالاً، وهم يقصدون قتله، وإلحاقه بأبويه!! أو يتبرّأ من دين النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فاضطر إلى أن يعطيهم ما يريدون ويظهر الرجوع عن الإسلام، إبقاء على نفسه، وتقيّة منهم فتركوه، وانصرفوا عن قتله، ولكنّه سرعان ما ندم على فعله من التظاهر بترك الإسلام وتألّم من ذلك فجاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يبكي، فقال له النبيّ: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، قال: إن عادوا فعد، فنزلت الآية التالية في إيمان عمّار: «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ * مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» (2).(3)

هذا وروي أنّ أباجهل حينما قصد تعذيب «آل ياسر» وكانوا أضعف مَن بمكّة أمر بسوط ونارٍ ثم سحبوا عمّاراً وأبويه على الأرض، فكان يكوي بطرف السيف والخنجر المحمى بالنار المشتعلة أبدانهم، ويضربهم بالسوط ضرباً شديداً.

وقد تكرّر هذا العمل القاسي كثيراً حتّى استشهد «ياسر» وزوجته «سُميّة» بسبب ذلك التعذيب المرير، ولكن دون أن يفتئا حتّى النفس الأخير عن مدح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والإشادة بدينه.

ولقد أثار هذا المنظر المؤلم مشاعر فتيان من قريش فأقدموا - رغم عدائهم للإسلام ومشاركتهم لغيرهم من المشركين في بغض الرسول - على تخليص

ص:465


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/211؛ السيرة الحلبية: 1/482.
2- . النحل: 105 و 106.
3- . الدّر المنثور: 4/132 عند تفسير الآيتين المذكورتين.

«عمّار» الجريح المنهك عذاباً من براثن «أبي جهل» ليتمكّن من مواراة أبويه الشهيدين.

3. عَبدُاللّه بن مسعود

تشاور المسلمون في ما بينهم في مقرّهم السرّي في مَن يجهر بالقرآن على مسامع قريش، في المسجد الحرام لأنّها لم تسمع منه شيئاً إذ قالوا: واللّه ما سَمِعَتْ قريشٌ هذا القرآن يجهر لها قط فمَنْ رَجُلٌ يُسمِعُهُموه؟

فقال عبداللّه بن مسعود: أنا.

قالُوا: إنّا نخشاهم عليك، إنّما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه.

قال: دَعوني فإنّ اللّه سيمنعني.

قال: فغدا «ابن مسعود» حتّى أتى المقامَ في وقت الضحى وقريش في أنديتها، حتّى قام عند المقام ثم قرأ: «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رافعاً بها صوته، «اَلرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ» .

قال: ثم استقبلها يقرؤها. قال: فتأمّلوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أُم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنّه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعَلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتّى بلَغَ منها ماشاء اللّه أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثّروا في وجهه فقالوا له: هذا الّذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء اللّه أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً....(1)

ص:466


1- . السيرة النبوية: 1/206.

4. أبوذر: أوّل المجاهرين بالإسلام

كان «أبوذر» رابع أو خامس من أسلم(1)، وعلى هذا فهو من الذين أسلموا في الأيّام الأُولى من بزوغ شمس الإسلام وطلوع فجره، فإذَنْ هو من السابقين إلى الإسلام.

وقد صرّح القرآنُ الكريمُ بأنّ للذين سبقوا إلى الإيمان برسول اللّه في بدء بعثته وبالتالي فإنَ للسابقين عنداللّه تعالى مكانة عظيمة، ومقاماً لا يضاهى إذ قال تعالى: «وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» (2)، وقال تعالى فيهم أيضاً:

«وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .(3)

وقال تعالى كذلك في من آمن قبل فتح مكّة وفضلِهِم، ومكانتهم المعنوية المتفوّقة على مَن أسلم بعدَ إعتزاز الإسلام، واشتداد أمره، وقيام دَوْلته يعني أنّهم ليسوا سواء.

«وَ ما لَكُمْ أَلاّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لِلّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا...» .(4)

أجل هذه هي مكانة السابقين في الإسلام وكان «أبوذر» منهم.

هذا مضافاً إلى أنَّه يُعَدُّ أوّل من نادى بالإسلام على رؤوس الأشهاد وفي الملأ من قريش.

ص:467


1- . أُسد الغابة: 5/186؛ الإصابة: 7/107؛ الإستيعاب: 1/252 برقم 339 و ج 4/1653.
2- . الواقعة: 10-11.
3- . التوبة: 100.
4- . الحديد: 10.

فيومَ أسلم «أبوذر» كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يدعو الناس إلى الإسلام سرّاً، ولم تتهيّأ بعدُ ظروفُ الجَهْر بالدعوة إلى هذا الدّين، فإنَّ أتباع الإسلام والمؤمنين به لم يتجاوز عددُهم في ذلك اليوم عدد الأصابع، هم: النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم وخمسة ممّن آمنُوا به، وقبلوا دعوته، ومع ملاحظة هذه الإعتبارات والظروف لم يكن بدّ - حسب الظاهر - من أن يُخفي «أبوذر» إسلامَه، ويعودَ إلى قبيلته من دون أن يعرف به أحدٌ في مكّة.

ولكنَّ روحَ «أبي ذر» الطافحة بالإيمان والحماس أبت ذلك، وكأنّه قد خُلِقَ لينهض في كلّ زمان ومكان ضدّ الظلم والطغيان، ويرفع عقيدته في وجه الباطل وأهله، ويكافح الإنحراف والإعوجاج أيّاً كان مصدرُه، وصاحبه. وأيُّ باطل أكبر من أن يُطأطِئ الناسُ أمامَ أصنامٍ مصنوعةٍ من الحجر، ويخضعوا أمام أوثان منحوتة من الخشب لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع، ويسجدوا لها ويتخذوها آلهة دون اللّه الخالق الكبير المتعال؟؟

إنّه ليس في وسع «أبي ذر» أن يتحمَّل هذا المشهد البغيض المقرف!!

من هنا قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن مكث في مكّة قليلاً و قرأ شيئاً من القرآن: يا نبيّ اللّه ما تأمرني؟

قال: ترجعُ إلى قومك حتّى يبلُغك أمري.

فقال له: والّذي نفسي بيده لا أرجع حتّى أصرخ بالإسلام في المسجد.

قال: فدخل المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلّااللّه، وأنَّ محمَّداً عبدهُ ورسوله.

قال: فقال المشركون: صبأ الرجل صبأ الرجل، فضربوه حتّى صُرع، فأتاه العباس بن عبدالمطلب فأكبّ عليه - بطريقة لطيفة - وقال: قتلتم الرجل يا معشر قريش! أنتم تجّار طريقكم على غفار، فتريدون أن يقطع الطريق، فأمسكوا

ص:468

عنه.

ثم عاد اليوم الثاني فصنع مثل ذلك ثم ضربوه حتّى صرع، فأكب عليه العباس وقال لهم مثل ما قال في أوّل مرّة، فأمسكوا عنه.(1)

ولا شكّ في أنّه لو لم يكن العباس لما نجا أبوذر من مخالب المشركين في أغلب الظن، ولكن أباذر لم يكن بذلك الرجل الّذي يتراجع عن هدفه بسرعة، ولهذا بدأ جهاده من جديد.

ففي يوم رأى امرأة تطوف بالبيت، وتدعو ساف و نائلة (وهما صنمان لقريش) وتسألهما أن يقضيا لها حاجاتها، فانزعج أبوذر من جهل تلك المرأة، ولكي يفهمها بأنّها تدعو صنمين لا يضرّان ولا ينفعان بل ولا يشعران قال: أنكحي أحدهما صاحبه. فتعلّقت به وقالت: أنت صابئ، فجاء فتية من قريش فضربوه، وجاء ناس من بني بكر فنصروه.(2)

قبيلةُ غِفار تعتنق الإسلام

لقد أدرك رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم قابليات تلميذه وناصره الجديد، وصلابته الخارقة في مكافحة الباطل، ولكن حيث إنّ الوقت لم يكن يحنْ بعد للدخول في مواجهة ساخنة مع المشركين لهذا أمره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يلحق بقومه، ويدعوهم إلى الإسلام، قائلاً له: «إلحق بقومك فإذا بلغك ظهوري فأتني».

فعاد أبوذر إلى قومه، وأخذ يدعوهم إلى الإسلام ويكلّمهم عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويدعوهم إلى نبذ الأصنام وعبادة اللّه الواحد، والتخلّق بالأخلاق الرغيبة.

ص:469


1- . الطبقات الكبرى: 4/225؛ ولاحظ: الاستيعاب: 4/1654؛ الإصابة: 7/106؛ الدّرجات الرفيعة: 228.
2- . الطبقات الكبرى: 4/223.

فأسلم أبواه، أوّلاً، ثم أسلم نصف رجال قبيلته «غفار» ثم اختار البقية الإسلام بعد هجرة النبيّ إلى المدينة، ثم تبعتها قبيلة «أسلم» حيث وفدوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واعتنقوا الإسلام.

ثم التحق أبوذر بعد معركة بدر وأُحد برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة وأقام فيها.(1)

وربّما كان إيذاء المشركين للمسلمين المؤمنين برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتّخذ طابع التهديد والترهيب وممارسة الضغط النفسي والاقتصادي والاجتماعي.

فقد كان أبوجهل إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنّبه وأخزاه، وقال له: تركتَ دين أبيك وهو خير منك، لنُسَفِّهَنَّ حلمَك، ولنفيلنَّ رأيك، ولنضعنَّ شرفك.

وإن كان تاجراً قال له: لنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك.

وإن كان ضعيفاً ضربَهُ، وأغرى به.(2)

وروي أيضاً أنّ «خبّاب بن الأرت» صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان قيناً بمكّة يعمل السيوف وكان قد باع من «العاص بن وائل» سيوفاً عملها له حتّى كان له عليه مال، فجاءه يتقاضاه، فقال له: يا خَبّاب أليس يزعم «محمَّد» صاحبكم هذا الّذي أنت على دينه أنّ في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم، قال خبّاب: بلى، قال: فأنظِرني إلى يوم القيامة يا خبّاب حتّى أرجعَ إلى تلك الدار، فأقضيك هنالك حقّك، فواللّه لا تكونُ أنت وصاحبك يا خبّاب آثر عنداللّه

ص:470


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 4/221 و 222 و 226؛ الدرجات الرفيعة: 225 و 226 و 229 و 230.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/211. قوله: لنفيلن رأيك: أي نضعفه ونفسده.

منّي!!(1)

أعداء النبيّ الألدّاء

إنّ للتعرّف على أعداء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخصومه الألدّاء، ومواقفهم دوراً هاماً في تحليل جملة من حوادث التاريخ الإسلامي الّتي وقعت بعد الهجرة النبوية.

ونحن نكتفي هنا بإدراج أسماء طائفة منهم ونذكر شيئاً من خصوصياتهم.

1. «أبولهب»: عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وقد كان جاراً له صلى الله عليه و آله و سلم وهو الَّذي لم يفتأ لحظة واحدة عن تكذيب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وإيذاء المسلمين.

2. «الأسود بن عبد يغوث» وكان أحد المستهزئين وهو ابن خال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاءً: قد جاءكم ملوك الأَرض الذين يرثون كسرى وقيصر!!(2)

ولم يمهله أجلُه ليرى بأُمّ عينيه كيف ورث المسلمون أرض كسرى وقيصر، ووطأوا عرشهما.

3. «الوليد بن المغيرة» شيخ قريش وحكيمها الّذي كان يملك ثروة هائلة، وسوف نتحدّث عنه وعن موقفه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الفصل القادم.

4. «أُميّة» و «أُبيّ» ابنا خلف، وقد مشى «أُبي» هذا بعظم رميم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم ففتّه في يده ثم نفخه نحو النبيّ وقال: أتزعم أنّ ربك يُحيي هذا بعدما ترى (أو بعدما رمّ)؟ فأنزل اللّه تعالى: «وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ

ص:471


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/238.
2- . السيرة الحلبية: 1/511.

عَلِيمٌ» .(1)

وقد قتل ابنا خلف هذان في بَدْر. 5. «أبو الحكم بن هشام» الّذي سمّاه المسلمون لعناده وتعصُّبه الجاهل ضدّ الإسلام بأبي جهل، وقد قُتل هو الآخر في بدر أيضاً.

6. «العاص بن وائل» وهو والد «عمرو بن العاص»، وهو الّذي وصف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالأبتر.

7. «عقبة بن أبي معيط» الّذي كان من ألدّ أعداء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وأشدّ خصومه بغضاً له صلى الله عليه و آله و سلم، وكان لا يألو جهداً في مضايقة المسلمين ولا يترك فرصةً تمرّ دون إيذائهم!.(2)

هؤلاء هم بعض أعداء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المبالغين في معاداته، وهناك غيرُهم كأبي سفيان ممّن ذكر المؤرّخون خصوصياتهم كاملة في مؤلّفاتهم، وقد أعرضنا عن إدراجهم بأجمعهم هنا رعاية للاختصار.

عمر بن الخطاب يعتنق الإسلام

لقد كان إسلام كلّ واحد من الذين أجابوا دعوة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم نابعاً من سبب معيَّن.

فربَّما أدَّت حادثةٌ صغيرةٌ إلى أن يعتنق فردٌ أو فريقٌ الإسلام، وينضمُّوا إلى صفوف المسلمين.

وقد اتّسمَ السَّبَبُ الّذي آل إلى إسلام عمر - من بين جميع تلكم الأسباب والعلل - بطرافة تقتضي التوقّف عنده في هذه الدراسة التاريخية التحليلية.

ص:472


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 7/34؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1/242-243.
2- . الكامل في التاريخ: 2/74. وراجع أيضاً أُسد الغابة، والإصابة والاستيعاب وغيرها.

على أنّ التسلسل التاريخي، والتنظيم الوقائعي لأحداث الإسلام وإن كان يقتضي منّا أن نأتي على ذكر هذه الحادثة بعد هجرة صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى الحبشة، إلّا أنّ الحديث حيث دار هنا حول صحابة النبيّ وكيفية إسلامهم ومواقفهم، ناسب أن نشير هنا إلى كيفية إسلام الخليفة الثاني.

يقول ابن هشام: كان إسلام عمر - في ما بلغني - أنّ أُخته فاطمة بنت الخطاب وكانت عند «سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل» وكانت قد أسلمت وأسلمَ زوجها «سعيدُ بن زيد»، وهما مستخفيان بإسلامهما من عُمَر (وهؤلاء هم كُلُّ من أسلم من آل الخطاب) وكان خبّاب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يُقرئها القرآن.

(وكان «عُمر» الّذي كانت بينه وبين المسلمين علاقات سيئة جدّاً قد أزعجه ما أصابَ المجتمع المكّي من تشتُّت وفرقة، وما لحق بقريش من المتاعب إثر ظهور الإسلام، من هنا عزم على أن يقضي على علّة هذا الأمر باغتيال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والفتك به).

فخرج عمر يوماً متوشّحاً سيفَه يريد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورهطاً من أصحابه، وقد ذكروا له أنّهم قد اجتمعوا في بيتٍ عند الصفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، ومع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عمّه «حمزة» بن عبدالمطلب و «أبوبكر» و «علي بن أبي طالب» في رجال من المسلمين ممّن كان أقام مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمكّة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه «نعيم بن عبداللّه» (وقد كان صديقاً حميماً لعمر) فقال له: أينَ تريد يا عمر؟

فقال: أُريد محمَّداً هذا الصابئ، الّذي فرّق في أمر قريش، وسفّه أحلامها، وعابَ دينها، وسبَّ آلِهتها، فأقتُله.

فقال له نعيم: واللّه لقد غرّتك نفسُك من نفسِك يا عمر، أترى بني عبد مناف

ص:473

تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلتَ محمَّداً!! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرَهم؟ قال: وأيُ أهل بيتي؟

قال: ختنُك وابنُ عمّك «سعيد بن زيد» وأُختك «فاطمة بنت الخطاب» فقد واللّه أسلما، وتابعا محمَّداً على دينه فعليك بهما.

(فأغضب هذا النبأُ عُمر بشدّة فانصرف عن الهدف الّذي كان يرمي إليه) قال:

فرجع عمر عامداً إلى أُخته وختنه، وعندهما «خبّاب بن الأرت» معه صحيفة فيها سورة «طه» يقرئُهما إيّاها، فلمّا سمعوا حسّ «عُمر» تغيّب «خبّاب» في مخدع لهم، أوفي بعض البيت، وأخفت «فاطمة بنت الخطاب» الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع «عُمر» حين دنا إلى البيت قراءة «خبّاب» عليهما، فلمّا دخل قال: ما هذه الهينمة(1) الّتي سمعت؟

قالا له: ما سمعتَ شيئاً.

قال: بلى واللّه، لقد أُخبرِتُ أنّكما تابعتما محمَّداً على دينه.

وبطش بختنه «سعيد بن زيد» فقامت إليه أُختُه «فاطمة بنت الخطاب» لتكفَّه عن زوجها، فضربها فشجَّها.

فلمّا فعل ذلك قالت له أُخته وختنُه: نعم قد أسلمنا وآمنّا باللّه ورسوله، فاصنعْ ما بدا لك.

فلمّا رأى «عُمر» ما بأُخته من الدَّم نَدمَ على ما صنع، فارعوى، وقال لأُخته:

أعطيني هذه الصحيفة الّتي سمعتكم تقرأون آنفاً أنظرُ ما هذا الّذي جاء به محمَّد؟

فلمّا قال ذلك قالت له أُخته: إنّا نخشاك عليها. قال: لا تخافي وحلف لها

ص:474


1- . الهينمة: صوت كلام لا يُفهم.

بآلهته ليَرُدّنها إذا قرأها، إليها.

فلمّا قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أُخيّ، إنّك نجسٌ على شِركك وإنّه لا يمسُّها إلّاالطاهر، فقامَ «عمر» فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها (آياتٌ من سورة) «طه» هي:

«طه * ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى * اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى * لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى * وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى» .(1)

فقرأها، فلمّا قرأ منها صدراً - تركت هذه الآياتُ المحكمة الفصيحة البليغة تأثيراً شديداً في نفسه - قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه...؟

(وقرر الرجلُ، الّذي كان قبل ثوان عدوَّ الإسلام الأوّل، أن يُغيّر موقفه، فتوجّه إلى البيت الّذي ذكر له أنَّ فيه رسول صلى الله عليه و آله و سلم وجماعة من أصحابه وهو متوشّح سيفَه)، فضربَ عليهم الباب، فلمّا سَمِعُوا صوته قام رجلٌ مِن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فنظر من خلل الباب فرآه متوشّحاً السيفَ، فرجَع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو فزع فقال: يا رسول اللّه: هذا عمر متوشّحاً السيف، فقال حمزة: فائذن له، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن كان يريد شراً قتلناه بسيفه.

فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إئذن له، فأذِنَ له الرجل، ونهض إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى لقيه في الحجرة، فأخذ حجزته (وهو موضع شد الإزار) أو بمجمع ردائه ثم جَبذَهُ جبذَةً شديدةَ، وقال: ما جاء بك يابن الخطاب فواللّه ما أرى أن تنتهي حتّى ينزل اللّه بك قارعة؟!

فقال عُمر: يا رسول اللّه جئتك لأُؤمن باللّه وبرسوله وبماجاء من عند

ص:475


1- . طه: 1-7.

اللّه.(1)

وهكذا أسلم «عمر» عند رسول اللّه وأصحابه وانضوى إلى صفوف المسلمين.

ثم إنّ ابن هشام روى رواية أُخرى في كيفية إسلام عمر مَن أراد الوقوف عليها راجعها في السيرة النبوية.(2)

ص:476


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/229-231.
2- . لاحظ: السيرة النبوية: 1/232.

17 رأي قريش في القرآن

اشارة

إنّ البحث حول حقيقة الإعجاز القرآني أمرٌ خارج عن إطار هدفنا في هذا الكتاب، فذلك متروكٌ إلى الكتب الإعتقادية والكلامية.

ولكن الأبحاثَ التاريخيَّة تهدينا إلى أنّ القرآن الكريم كان مَن أكبر وأقوى أسلحة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بحيث خضع أمام فصاحته البالغة وحلاوة كلماته وقوة آياته، وعباراته، أساتذة الفصاحة والبلاغة وأُمراء البيان والكلام، وعمالقة الكتابة والخطابة، واعترفوا برمَّتهم، وقضّهم وقضيضهم بأَنَّ القرآن الّذي جاء به محمَّد يحتل أعلى مكان في الفصاحة والبلاغة، وأنَّ مثل هذا الحديث لم يعرفه البشر ولم يعهد له التاريخ الإنساني نظيراً.

فلقد كانت جاذبيّة «القرآن الكريم» وتأثير حديثه بحيث ترتعد عند استماع آياته فرائص أعدى أعدائه، وربّما انهارت قواه، فبقي مدة طويلة، لا يقوى على حِراك، ولا يملك فعل شيء.

وفيما يلي نذكر بعض النماذج في هذا المجال:

رأي الوَليد في القرآن:

كان «الوليدُ بن المغيرة» ممّن ترجُع إليه العربُ لحلّ الكثير من مشاكلهم، وكان ذا سنٍّ، وثروة كبيرة فيهم.

وعندما واجهت قريش مشكلة ظهور الإسلام وانتشاره في القبائل مشى فريقٌ منهم إلى الوليد يلتمسون منه حلّاً لهذا الأمر الّذي بات يهدّد كيان الزعامة

ص:477

المكيّة الجاهلية، وطلبوا منه أن يبيّن رأيه في القرآن الكريم وقالوا له: يا أبا عبد شمس ما هذا الّذي يقول محمد أسحر، أم كهانة، أم خطب؟

فقال: دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو جالس في الحجر، فقال: يا محمَّد أنشدْني من شعرك.

فقال النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم: ما هو بشعر، ولكنّه كلام اللّه الّذي به بعث أنبياءه ورسله.

فقال: اتلُ عليّ منه، فقرأ عليه رسول اللّه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم».

فلمّا سمع: الرحمن، استهزأ منه وقال: تدعو إلى رجل باليمامة يُسمّى الرحمن؟

قال. لا، ولكنّي أدعو إلى اللّه وهو الرحمن الرحيم ثم افتتح سورة «حم السجدة»، فلمّا بلغ إلى قوله تعالى:

«فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ» .(1)

فلمّا سمعه (الوليد)، اقشعر جلده، وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته، ثم قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش.

فقالت قريش: يا أبا الحكم صبا أبو عبد شمس إلى دين محمَّد، أما تراه لم يرجع إلينا وقد قبل قوله، ومضى إلى منزله.

فاغتمّت قريش من ذلك غمّاً شديداً، وغدا عليه أبوجهل فقال: يا عم نكّست برؤوسنا وفضحتنا.

قال: وما ذاك يا ابن أخي؟

قال: صبوت إلى دين محمَّد.

ص:478


1- . فصّلت: 13.

قال: ما صبوتُ وإنّي على دين قومي وآبائي، ولكنّي سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود، قال أبوجهل: أشِعر هو؟

قال: ما هو بشعر.

قال: فخطبٌ هي؟

قال: لا وإنّ الخطب كلام متّصل، وهذا كلام منثور، لا يشبه بعضُه بعضاً، له طلاوة.

قال: كهانة هي؟

قال: لا.

قال: فما هو؟

قال: دعني أَفكر فيه.

فلمّا كان من الغد، قالوا: يا أبا عبد شمس ما تقول؟ قال: قولوا: هو سحر فإنّه أخذ بقلوب الناس فأنزل اللّه تعالى فيه:

«ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً * وَ بَنِينَ شُهُوداً» إلى قوله: «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» (1).(2)

***

رأي عتبة بن ربيعة في القرآن

كان «عتبة بن ربيعة» من كبراء قريش وأشرافها، ويوم أسلم «حمزة» وأصبح أصحاب رسول اللّه يزيدون ويكثرون اغتمّت قريش كلّها، وخشي زعماء المشركين أن ينتشر الإسلام أكثر من هذا، فقال عتبة يوماً وهو جالس في نادي

ص:479


1- . المدثر: 11-30.
2- . بحار الأنوار: 17/211-212؛ إعلام الورى بأعلام الهدى: 1/110-112.

قريش، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى «محمَّد» فأُكلّمه وأعرض عليه أُموراً لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيّها شاء ويكف عنّا؟

فقالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلّمه. فقام إليه «عتبة» حتّى جلس إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال: يابن أخي إنّك منّا حيث ما قد علمت من الشرف في العشيرة، والمكان في النسب، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامَهم، وعبت به آلهتهم، ودينهم، وكفّرت به مَن مضى من آبائهم، فاسمع منّي أُعرض عليك أُموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منّا بعضَها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: قل يا أبا الوليد أسمع.

قال: يا ابن أخي إن كنتَ إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سَوَّدناك علينا حتّى لانقطع أمراً دونك، وإن كنتَ تريدُ به مُلكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الّذي يأتيك رئيّاً (وهو ما يتراءى للناس من الجنّ) تراه لا تستطيع ردَّهُ عن نفسك، طلبنا لك الطبَّ، وبذَلنا فيه أموالنا حتّى نُبرئك منه، فإنّه ربّما غلب التابع على الرجل حتّى يداوى منه؛ حتّى إذا فرغ «عتبة»، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يستمع منه قال: أقد فرغتَ يا أبا الوليد؟ قال: نعم قال: فاسمع منّي؛ قال: أفعل، قال:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ».(1)

ثم مضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيها يقرؤها عليه، فلمّا سمعها منه «عتبة» أنصت لها وألقى يديه خلفَ ظهره معتمداً عليهما يستمع منه، (وبقي على هذه مدة من

ص:480


1- . فصلت: 1-5.

الزمن صامتاً وكأنّه قد سُلِبَ قدرة النطق)، ثم انتهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى السجدة فسجد ثم قال:

«قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعتَ فأنتَ وذاك».

فقام «عتبة» إلى أصحابه (وقد تغيَّرت ملامحُه) فقال بعضهم لبعض: نحلف باللّه لقد جاءكم أبوالوليد بغير الوجه الّذي ذهبَ به!! فلمّا جَلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال: ورائي أنّي قد سمعت قولاً واللّه ما سمعت مثله قط، واللّه ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فواللّه ليكوننَّ لقوله الّذي سمعتُ منه نبأ عظيم، فإن تصِبهُ العربُ فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلكه ملكُكُم، وعزُّه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به.

قالوا: سحرَكَ واللّه يا أبا الوليد بلسانه!!

قال: هذا رأيي فيه، فاصنَعوا ما بدا لكم.(1)

هذان نموذجان من رأي كبار فصحاء العرب في العهد الجاهليّ، في القرآن الكريم.

على أنّ هناك أمثلة ونماذج أُخرى كثيرة في هذا المجال.

تحجّجاتُ قريش العجيبة:

اجتمع «عتبة بن ربيعة»، و «شيبة بن ربيعة» و «أبوسفيان بن حرب» و «النضر بن الحارث»، و «أبو البختري»، و «الوليد بن المغيرة»، و «أبوجهل»

ص:481


1- . السيرة النبوية: 1/189-190.

و «العاص بن وائل» وغيرهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: إبعثوا إلى «محمَّد» فكّلِمُوه، وخاصموه حتّى تعذروا فيه، فبعثوا إليه؛ فجاءهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلَّمهم فيه بداء وأنّهم قد غَيَّروا مواقفهم، وكان يحبّ رشدهم وهدايتهم حتّى جلس إليهم. فقالوا له: يا محمَّد إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمكَ، وانّا واللّه ما نعلم رجلاً من العرب أدخلَ على قومه مثلَ ما أدخلتَ على قومك لقد شتمتَ الآباء، وعبتَ الدّين، وشتمت الآلهة... ومضوا يعدّدون أُموراً من هذا القبيل ثم اقترحوا عليه أُموراً ذكرها اللّه تعالى بتمامها في الآية 90 إلى 93 من سورة الإسراء حيث يقول حاكياً عن لسانهم:

«وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى

1. تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا

2. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا

3. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا

4. أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً

5. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ

6. أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» !!

***

وحيث إنَّ مضمون هذه الآيات هو عدم تلبية النبيّ لِمطالبِ قُريش حيث قال: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً» قد تذرّع به المستشرقون للإيقاع بالرسالة المحمَّدية لذلك نعمد هنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات والعلل المنطقيّة لعدم تلبية النبيّ مطالب قريش ومقترحاتهم.

ص:482

الجواب: إنَّ الأنبياء لا يأتون بالمعاجز في كلّ ظرف و زمان، فإنّ للإعجاز شروطاً خاصة لم تتوفّر في هذه الاقتراحات، وهذه الشروط هي:

أوّلاً: أن لا تكون المعجزة من الأُمور المستحيلة الّتي لا يمكن تحقّقها، فإنّ مثلَ هذه الأُمور خارجة عن إطار القدرة، ولا تتعلّق بها مشيئة اللّه تعالى ولا مشيئة أيّ صاحب إرادة مطلقاً.

وعلى هذا الأساس إذا طلب الناسُ من النبيّ أمراً محالاً، فقوبل طلبهم بعدم الاهتمام من قبل النبيّ لم يكن ذلك دليلاً على إنكار صدور المعجزة على أيدي الأنبياء قط.

هذا الشرط لم يكن متوفّراً في بعض مقترحات المشركين المذكورة (المقترح الرابع) فإنّهم طَلبوا من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يأتي لهم باللّه سبحانه وتعالى ليقابِلوه وجهاً لوجه، ويروه جهرة ومن قريب، ورؤية اللّه تعالى أمر محال، لأنّ رؤيته تستلزم أن يكون سبحانه محدوداً بالزمان والمكان، وأن يكون جسماً وذا لون وصورة وهو تعالى منزهٌ عن المادّة ولوازم المادية.

بل حتّى مقترحُهم الثالث لو كان المقصود منه أن تسقط السماء عليهم (لا أن تسقط قطعة من الصخر على رؤوسهم و تقتلهم) فإنّ ذلك هو أيضاً من المحالات، إذ أن المشيئة الالهية تعلّقت بأن يفعل اللّه هذا في نهاية العالم، والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان قد أخبر المشركين بهذا الأمر أيضاً كما يدلّ عليه قولُهم: «كما زعمتَ».

إنَّ إنهدامَ المنظومة الشمسيّة وتبعثرَ النجوم وتساقطها وإن لم يكن في حد ذاته بالأمر المحال، ولكنّه - حسب المشيئة الإلهية الحكيمة وإرادته النافذة القاضية بأن يستمر النوع البشري، ويصل إلى مرحلة الكمال - يعدّ محالاً، ولا يمكن أن يفعل حكيمٌ خلاف ما يقتضيه هدفه وغايته.

ص:483

ثانياً: حيث إنّ الغاية المنشودة من اقتراح وطلب الإعجاز هو أن يستدِلّ به على صدق دعوى النبيّ، وصحة انتسابه إلى اللّه، وبالتالي يكون بدافع تحصيل سند على ارتباطه بعالم ما فوق الطبيعة، لذلك فإنّ أيّ اقتراح ومطالبة بالمعجزة لا تتوفّر فيها هذه الصفة يعني على فرض أن يلبّي النبيُ طلبَهم ويأتي لهم بالمعجزة لا يكون ذلك دليلاً على ارتباطه بعالم الغيب، فحينئذٍ لا معنى ولا موجب لأن يقوم النبيُّ بما لا يرتبط بشؤونه ولا يخدم هدفه.

وقد كانت بعض مقترحات المشركين المذكورة من هذا النوع، وذلك مثل تفجير ينبوع من الأرض، أو أن تكون له جَنّة من نخيل وعنب، أو أن يكون له بيتٌ من زخرف وذهب، فإنّ مثل هذه الأُمور لا تدلّ على نبوّة مَن يمتلكها، إذ ما أكثر الذين يمتلكون واحدة من هذه الأشياء وليسوا مع ذلك بأنبياء، بل ربّما يملكون أكثر من ذلك، ومع ذلك لا يشم فيهم رائحة الإيمان فضلاً عن النبوة.

فإذا لم ترتبط هذه الأشياء بمقام النبوّة، ولا تكون دليلاً على صدق مَن يدّعيها كان الإتيان بها أمراً لغواً وعبثاً تعالى عنه مقام النبوّة، وجلّت عنه منزلة الأنبياء.

وقد يقال: إنّ هذه الأشياء(1) لا تدلّ على صدق دعوى النبيّ إذا حصلت عن طريق الأسباب العادية، ولكنّها لو حصلت بصورة غير عاديّة ولا متعارفة كانت ولا شكّ من المعاجز الإلهية، ودلّت على صدق النبيّ وصحّة دعواه.

ولكنّ الظاهر أنّ هذه فكرةٌ باطلة؛ لأنّ المشركين كانوا يهدفون من اقتراحاتهم هذه أن يكون النبيُّ صاحب مال و ثروة، فقد كانوا يستبعدون أن يكون نبيُّ اللّه ورسولُه فقيراً لا يملك شيئاً من الثروة والمال، وكانوا يعتقدون أنّ الوحي

ص:484


1- . أي الأُمور الثلاثة المقترحة: الينبوع والجنة والبيت من ذهب.

الإلهي يجب أن ينزل على رجل غنيّ ذي طول وحول، ولذلك قالوا مستغربين ومستنكرين:

«وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (1)؟!!

أي لماذا لم ينزل هذا القرآن على رَجُلٍ ثَريّ من مكّة أو الطائف.

وممّا يدلّ على أنّ الهدف كان هو أن يملك النبيُ مثل هذه الأُمور بأي طريق كان، ولو بالطريق العاديّ أنّهم كانوا يريدون هذه الأشياء للنبيّ نفسه، إذ قالوا:

«أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ» .(2)

وبعبارة أُخرى: كانوا يقولون إذا أنت لا تمتلك بستاناً أو بيتاً من ذهب فإنّنا لن نؤمن لك!!

ولو كان الهدف هو أن يحصل هذان الأمران بواسطة القدرة الغيبية لم يكن وجه حينئذٍ لقولهم: ما لم يكن «لَكَ» بيتٌ من زخرف، فإنّنا نؤمن بك بل كان يكفي أن يقولوا: إذا لم تحدِث وتوجد بيتاً وجنّة فإنّنا لن نؤمن لك.

أمّا قولهم في مطلع اقتراحاتهم: «تُفجّرَ لَنا منَ الأَرض يُنبوُعاً» فإنّ مقصودَهم لم يكن هو أن يستخرج لهم بالإعجاز ينبوعاً لينتفعوا به، بل يفعل ذلك لكي يؤمنوا به.

ثالثاً: أنَ المقصود من المعجزة هو الاهتداء في ضوئها إلى صحّة دعوى النبيّ وصدق مقاله، والإيمان بمنصبه، والاعتقاد بمقامه، وعلى هذا إذا كان بين المقترحين للمعجزة من يكونُ الإتيان له بالإعجاز سبباً لإيمانه بالنبيّ، فحينئذٍ كان الإتيان بالمعجزة وتلبية اقتراحه أمراً مستحسناً، وغير مقبوح عقلاً.

أمّا إذا كان المقترحون، يقترحون عناداً ولجاجاً، أو يطلبون ما يطلبونه لهواً

ص:485


1- . الزخرف: 31.
2- . الإسراء: 93.

وتسليةً كما يفعل الناس مع السحرة والمرتاضين فإنّ منزلة النبيّ أجلّ - حينئذٍ - من أن يلبَّي مثلَ هذه المقترحات، ويستجيب لمثل هذه المطالب، وقد كانت بعض اقتراحات المشركين من هذا النمط.

فإنّ مطالبتهم بأن يصعَدَ النبيُّ إلى السماء، أو أن يُنزل من السماء كتاباً يقرأونه لم يكن بهدف إكتشاف الحقيقة لأنّهم لو كانوا ممّن يهدف الوصول إلى الحقيقة فلماذا لم يكتفوا بمجرّد صعوده إلى السماء بل كانوا يصرّون على أن يضمَّ أمراً آخر إلى عروجه وصعوده (وهو أن ينزّل معه كتاباً)!!

ثم إنّه يُستفاد من آيات أُخرى، غير هاتين الآيتين أيضاً، أنّهم كانوا سيعاندون، ويصرّون على كفرهم حتّى بعد نزول الكتاب عليهم من السماء كما يصرّح بذلك قوله تعالى:

«وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ» .(1)

فمن غير المستبعد أن يكون الكتابُ المنزّلُ في قرطاس إشارة إلى اقتراح المشركين الّذي جاء ضمن آيات سورة الإسراء أي قولهم: «أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» (2) فقال اللّه سبحانه: حَتّى لَو فعلنا لهم ذلك لكفروا، وأحجموا عن الإيمان.

رابعاً: أنَّ طلبَ المعجزة إنّما هو لأجل أن يستتبع الإتيانُ بها الإيمانَ بالرسالة والانضمام إلى صفوف المؤمنين، فإذا كانت نتيجةُ المعجزة هي إباء المقترحين، استلزم ذلك نقض الغرض المنشود من المعجزة، وانتفاء فائدتها.

فإذا كان المقصود من سقوط السماء عليهم، هو نزول الصخور السماوية

ص:486


1- . الأنعام: 7.
2- . الإسراء: 93.

لإبادتهم، فإنّ هذا الطلب لا يتّفق أبداً مع هدف الإعجاز وهو من أوضح مصاديق نقض الغرض.

وبالتالي ينبغي أن نذكّر بنقطة وهي: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على خلاف ما تصوّر المستدلّون بهذه الآية على نفي آية معجزة لرسول الإسلام، لم يصف نفسه بالعجز وعدم القدرة على الإتيان بالمعجزة، بل أفاد بقوله: «سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً» (1) أمرين:

1 - تنزيه اللّه، فهو بقوله: «سُبْحانَ رَبِّي» نزّه اللّه تعالى عن كلّ عجز ونقص كما نزّهه عن الرؤية ووصفه بالقدرة على كلّ شيء ممكن.

2. محدوديّة قدرة النبيّ، إذ بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً» أفاد بأنّه امرئ مأمور لا أكثر وأنّه مطيعٌ لأمر اللّه وإرادته فهو يأتي بما يريد ربُّه، والأمرُ إلى اللّه كلّه، وليس للنبيّ أن يُلبّي أيَ طلبٍ واقتراحٍ بإرادته.

وبعبارة أُخرى: أنّ الآية ركّزت في مقام الجواب على طلبهم بعد تنزيه اللّه عن العجز والرؤية على كلمتي: «البشر والرسول» والهدف هو أنّه: إذا أنتم قد طلبتم هذه الأُمور منّي من جهة إنّني بشر، كان طلبكم هذا طلباً غير صحيح، لأنّ هذه الأُمور تحتاج إلى قدرة الهية.

وإن طلبتموها منّي من جهة أنّي نبيّ ورسولٌ فإنّ النبيّ والرسولَ ما هو إلّا إمرئ مأمورٌ يفعلُ ما يأذنُ به اللّه، وليس له أن يفعل ما يشاء هو دون إرادة اللّه تعالى.

وبهذا اتّضح أنّ هذه الآيات لا تدلُّ على ما استدلّ به النافون لمعاجز النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

وكان ممّا تَحجّجت به قريش على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّهم قالوا:

ص:487


1- . الإسراء: 93.

لَوْ كانَ مُحمَّد نبيّاً لشغَلته النبوةُ عن النساء ولأمكنه جميع الآيات (أي لأتته الآيات دفعة واحدة) ولأمكنه منعُ الموت عن أقاربه، ولمّا مات أبوطالب وخديجة فنزل قولُه تعالى: «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ * يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ * وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ» .

وبذلك ردّ عليهم(1).(2)

الدوافع وراء معاداة قريش وعنادهم:

اشارة

هذا القسم هو إحدى النقاط الجديرة بالدراسة في تاريخ الإسلام، لأنّ المرء قد يسائل نفسه، لماذا يا ترى كانت قريش تعارض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أشدّ المعارضة رغم أنّها كانت تعتبره الصادق الأمينَ ولم تعهد منه انحرافاً أو خطأ قط وكانت تسمع كلامَه الفصيح البليغ الّذي يأسر القلوب، وربّما شاهدوا حدوث بعض الخوارق للعادة، الخارجة عن حدود القوانين الطبيعية على يديه.

إنّ هذا التمرّد والمعارضة يعود إلى علّة أو علل عديدة هي:

1. حَسَدُهُمْ للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

لقد عارض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخالفه فريقٌ ممّن عارضه بسبب حسدهم له، فقد كانوا يتمنُّون أن يكونوا هم صاحب هذا المنصب، وصاحب هذه المنزلة.

ص:488


1- . الرعد: 38-40.
2- . بحار الأنوار: 19/17 عن المناقب لابن شهر آشوب: 1/50.

فقد قال المفسِّرونَ عند قوله تعالى: «وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (1) أنّ «الوليد بن المغيرة» قال: أيُنزَّل على محمَّد وأُترك وأنا كبير قريش وسيّدها ويترك «أبو مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي» سيد ثقيف، ونحن عظيما القريتين، فأنزل اللّه تعالى فيه الآية.(2)

وروي أنّه قال: واللّه لو كانت النبوّة حقّاً لكنتُ أولى بها منكَ، لأنَّنِي أكبرُ منكَ سنّاً، وأكثر منكَ مالاً.(3)

وكان «أُميّة بن أبي الصلت» من الذين كانوا يقولون هذا الكلام حول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكان يتمنّى كثيراً أن ينال هو هذا المقام ويحظى بهذا المنصب العظيم، ولم يتبع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى آخر حياته، وكان يؤلّب الناس عليه.

وقد سأل «الأخنسُ بن شريق» - وهو من أعداء رسول اللّه - أبا جهل يوماً: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعتَ من «محمَّد»؟

فقال: ماذا سمعتُ، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرفَ، أطعَمُوا فأطعَمنا، وحَملوا فحمَلنا، وأعطوا فأعطينا، حتّى إذا تجاذبنا على الركب، وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبيُّ يأتيه الوحيُ من السماء، فمتى ندركُ مثل هذه، واللّه لا نؤمنُ به أبداً ولا نصدّقه.(4)

هذه النماذج تُظهِرُ الحسد الّذي كان يحول بين زعماء قريش وساداتها وبين إتّباع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتصديقه، فَعتَوا على اللّه وتركوا أمره عياناً، ولجّوا فيما هم عليه من الكفر، وهناك نماذج وأمثلة أُخرى سجّلتها صفحات التاريخ أعرضنا عن إدراجها هنا.

ص:489


1- . الزخرف: 31.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/242.
3- . بحار الأنوار: 18/235.
4- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/208.

2. معارضة الدعوة الإسلامية لشهواتهم:

وكان لهذا العامل الأثر الأكبر في عتو قريش و معارضتها لدعوة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّهم كانوا أصحاب لهو ولعب، وفسق ومجون، ومثل هؤلاء الذين أمضوا سنوات عديدة على هذا النحو، دون أن يقيّدهم شيء من الحدود والقيود، وجَدوا دعوة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تخالف عاداتهم القديمة، وكان ترك مثل تلك العادات الّتي تتفق مع أهوائهم ورغباتهم النفسيّة أمراً يلازم النصب والعناء والجهد.

3. الخَوفُ مِن عُقُوبات اليوم الآخر:

إنّ سماع آيات العذاب الّتي تنذر الفَسقة والظالمين وتوعدهم بالعقوبات الثقيلة أرعب قلوبهم، وأقلق نفوسهم بشدة.

فعندما كان رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتلو الآيات المتعلّقة بيوم القيامة وأوضاعه، وقضاياه في الاجتماعات والأماكن العامّة، كان يحدث بذلك ضجةً كبرى في أوساطِهِم، فيهدم مجالس لهوهم، وأُنسهم.

إنّ العربي الّذي كان يسلِّحُ نفسه بكلّ ما استطاع من سلاح ليدفع عن نفسه أيَ خطر محتمل، ويعمد إلى ممارسة القرعة ويتعاطى الأنصاب والأزلام ليحصل على لقمة عيشه، ويتفأل بالأحجار، ويتطيّر ويتشاءم بالطيور ويستدلُّ بحالاتها على حوادث وقَعت أوتقعُ، لم يكن على استعداد لأن يهدأ من دون ان يحصل على ضمان بعدم التعرّض لما يخبر عنه «محمَّد» من عذاب وعقاب!!

من هنا كانوا يحاربون النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويخالفونه حتّى لا يسمعوا وعده ووعيده.

واليك بعض الآيات الّتي كانت تقلق بشدة نفوس المترفين من قريش:

«فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ * وَ صاحِبَتِهِ

ص:490

وَ بَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» .(1)

وبينما كانوا يمدّون موائد اللهو والشراب في ظلال الكعبة ويحتسون كؤوس الخمر كانوا فجأة يسمعون هذه الآية:

«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» .(2)

فتلقي في نفوسهم رعباً عجيباً، وينتابهم الاضطراب الشديد حتّى أنّهم كانوا يلقون بكؤوس الخمر جانباً ويتملّكهم خوف شديدٌ لم يعرفوا له مثيلاً.

4. الخَوفُ مِن القَبائل العَربية المشركَة:

قال «الحارث بن نوفل بن عبد مناف» لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّا لنعلم أنَّ قولك حقٌ، ولكن يمنعُنا أن نتبع الهُدى معك ونؤمن بك مخافةَ أن يتخطّفنا العربُ من أرضنا (إن تركنا الوثنية التي تدين بها ويعتبروننا سَدنة لأوثانها) ولا طاقة لنا بها.

فنزل (قوله تعالى يرد عليهم):

«وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّا» (3).(4)

وهكذا كان تخوّف قريش من العرب إن هي تركت ما كان عليه العربُ من الوثنية والشرك أحد الأسباب لعتوهم وَإعراضهم عن قبول الدعوة الإسلامية.

ص:491


1- . عبس: 33-37.
2- . النساء: 56.
3- . القصص: 57.
4- . بحار الأنوار: 18/236.

طائفةٌ مِن اعتراضات المشركين:

وربّما اعترض المشركون على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قائلين: إنّ هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، وإنّما أرضُ الأنبياء الشامُ، فأت الشامَ.(1)

وكان أكثر المشركين يقولون - وذلك بوحي من اليهود - لماذا لا ينزل القرآن على «محمَّد» دفعة واحدة كالتوراة والإنجيل، فحكى القرآن الكريم إعتراضهم هذا بنصّه إذ قال:

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً» .

ثم قال تعالى ردّاً على اعتراضهم هذا:

«كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» .(2)

إنّ القرآن يهتم بهذا الإعتراض، ويوضح مسألة «النزول التدريجي» للقرآن الكريم و يقطع الطريق على المستشرقين المغرضين ومن حذا حذوهم، بمنطقه المحكم، وبيانه القويّ.

وها نحن نعمد هنا إلى إعطاء شيء من التوضيح لهذه المسألة أيضاً:

القُرآن والنُزُولُ التدريجيّ:

إنّ التاريخ القطعيّ لنزول القرآن وكذا مضامين آيات سوره تشهد بأنّ آيات القرآن الكريم وسوره نزلت تدريجاً.

فبمراجعة فاحصة لأوضاع مكّة، والمدينة يمكن تمييز المكيّ من هذه الآيات عن مدنيّها.

فالآيات الّتي تتحدّثُ عن مكافحة الشرك والوثنية ودعوة الناس إلى اللّه

ص:492


1- . بحار الأنوار: 18/198.
2- . الفرقان: 32.

الواحد، والإيمان باليوم الآخر مكيّة، بينما تكون الآيات الّتي تدور حول الأحكام وتحثُّ على الجهاد والقتال مدنيّة، ذلك لأنّ الخطاب في البيئة المكيّة كان موجَّهاً إلى المشركين عَبدة الأوثان الذين كانوا ينكرون توحيدَ اللّه، واليوم الآخر، فهنا تكونُ الآيات الّتي تتحدّث حول هذا الموضوع قد نزلت في هذه البيئة.

في حين كان الخطاب في المدينة المنورة موجّهاً إلى المؤمنين باللّه، وإلى جماعة اليهود والنصارى، وكان الجهاد والقتال في سبيل إعلاء كلمة اللّه هو الأعمال المهمّة الّتي بدأها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وواصلها في هذه البيئة، من هنا تكون الآيات الّتي تتضمّن الحديث حول الأحكام والفروع والقوانين، ويدور الحديث فيها أيضاً حول عقائد اليهود والنصارى ومواقفهم وتتضمّن الحثَّ - كذلك - على الجهاد والقتال والتضحية في سبيل إعلاء كلمة اللّه وإعزاز دينه، آيات مدنيّة.

إنّ كثيراً من الآيات ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالحوادث الّتي وقعت في زمن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وهذه الحوادث هي الّتي تشكّل ما يسمّى بشأن أو أسباب النزول التي يكون الوقوفُ عليها مُوجباً لفهم مفاد الآية، وإيضاح مفادها، فإنّ وقوع هذه الحوادث كان سبباً لنزول آيات فيها بالمناسبة.

على أنّ بعض الآيات الأُخرى نزلت جواباً على أسئلة الناس، ولرفع حاجاتهم في المجالات المختلفة.

والبعضُ الآخر منها نزلت لبيان المعارف والأحكام الإلهية.

ولهذه الأسباب يمكن القولُ بأنّ القرآن الكريم نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تدريجاً لتدرّج موجبات النزول.

وقد صرَّح القرآن الكريم بهذا الأمر أيضاً في بعض المواضع إذ قال:

«وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ» .(1)

ص:493


1- . الإسراء: 106.

وهنا يطرح هذا السؤال وهو: لماذا لم تنزل آياتُ القرآن كُلّها على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جملة واحدة، ودفعة واحدة كما حدث ذلك للتوراة والإنجيل من قبل؟!

إنّ هذا السؤال لم يكن جديداً بل طرحه أعداء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ومعارضوه في عصر الرسالة في صورة الاعتراض أيضاً حيث كانوا يقولون:

«لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً» .(1)

ويمكن تقرير و شرح هذا الاعتراض على نحوين:

1. إذا كان الإسلام ديناً إلهياً، وكان القرآن كتاباً سماوياً منزلاً من جانب اللّه على رسوله، فلابدّ أن يكون ديناً كاملاً، ومثل هذا الدين الكامل يجب أن ينزل بواسطة ملائكة الوحي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جملة واحدة من دون تدرّج ولا توقّف في نزول الآيات، إذ لا مبرّر ولا داعيَ لأن ينزل دينٌ كاملٌ من جميع الجهات، مكمّل من حيث الأُصول والفروع والتشريعات والواجبات والسنن، على نحو التدريج في 23 عاماً، ولمناسبات مختلفة.

وحيث إنّ القرآن نزَلَ منجّماً، وبصورة متفرّقة متناثرة، وعقيب طائفة من الأسئلة، أو وقوع حوادث و طروء حاجات في أزمنة مختلفة يمكن الحدس بأنّ هذا الدين لم يكن كاملاً من حيث الأُصول والفروع، وهو يتدرّج في التكامل ومثل هذا الدين الناقص الّذي يسير نحو كماله خطوة خطوة وبالتدريج لا يصحّ أن يوصَف بالدين الإلهيّ. 2. إنّ آيات القرآن والتاريخ القطعي والمسلّم للتوراة والإنجيل والزّبور تحكي جميعها عن أنّ هذه الكتب السماوية أُعطيت إلى المرسلين بها في ألواح مكتوبة مدوّنة، فلِمَ لم ينزل القرآن الكريم على هذا الغرار، كأن ينزل القرآن على

ص:494


1- . الفرقان: 32.

«محمَّد» في لوح مكتوب كما نزلت التوراة في ألواح مكتوبة؟!

وحيث إنّ المشركين لم يكونوا يعتقدون بهذه الكتب السماوية قط، ولم يكن لهم علم مسبق بكيفية نزولها، لذا يمكن القولُ بأنّ مقصودهم من هذا الاعتراض كان هوالشكل الأوّل من هذا التوضيح، والّذي يتلخّص في أنّه لماذا لم ينزّل ملائكة الوحي آيات القرآن على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جملة واحدة، بل نزلت هذه الآيات عليه صلى الله عليه و آله و سلم في فواصل زمنية متفاوتة، وبمناسبات و حسب وقائع مختلفة متدرّجة؟!

الأسرارُ المنطقيّة للنُزول التدريجي للقرآن:

ولقد كشف القرآنُ القناعَ - في معرض الردّ على إعتراض المشركين هذا - عن حِكَم وأسرار النزول التدريجيّ للقرآن الكريم.

وإليك توضيح هذا القسم الّذي أشار إليه الكتاب العزيز بعبارة مقتضبة قصيرة:

1. إنّ الرسولَ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يتحمَّل مسؤوليات كبرى، وإنّ شخصية كهذه من الطبيعي أن يواجه مشاكلَ ومتاعبَ باهضة وصعبة، ولا ريب أنّ تلك المشاكل والمتاعب توجب الكلل، وانخفاض مستوى النشاط مهما كانت الروحُ الّتي يتمتع بها الشخصُ عظيمة، وقويّة، في مثل هذه الحالة يكون تجديدُ الارتباط بالعالم الأعلى، وتكرّرُ نزول الملك من جانب اللّه تعالى باعثاً على تجدّد النشاط، وعاملاً قوياً في بثّ القوة والحماس والمعنوية الفاعلة في نفس النبيّ وروحه، وبالتالي فإنّ العناية والمحبّة الإلهية الممتدّة لنبيّه ورسوله إنّما تتجدّد بتكرّر نزول الوحي عليه صلى الله عليه و آله و سلم من جانبه تعالى.

وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة النفسية الكبرى إذ قال:

ص:495

«كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» .(1)

2. ويمكن أن تكون الجملةُ المذكورة ناظرة إلى جهة أُخرى وهي: أنّ المصالح التربوية والتعليمية تقتضي أن يتنزّلَ القرآنُ الكريمُ على نحو التدريج ويُلقى إلى الناس على هذا الشكل أيضاً، وذلك لأنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم معلّم الأُمّة، وطبيبُها الروحيُّ الّذي بُعِث إلى الناس بالوصفات الإلهية لتعليمهم، وهدايتهم ومعالجة أمراضهم وأدوائهم الاجتماعية والخلقيّة، والفكرية، وكُلِّفَ بأن يُطبِّق هذه الوصفات في حياتهم العملية، ومثل هذا يتطلّب التدرّج لينفَع الدواء - حينئذٍ - وتنجعَ المعالجةُ.

إنّ أفضل وأنجح أساليب التربية هو أن يمتزج الجانب العمليّ بالجانب النظري في أيّة محاولة تربوية، وأن يطبق كلّ ما يدرسه الأُستاذ بصورة عملية تطبيقية، ويعطي لما يلقيه من معلومات، صبغة تحقيقية، ويتجنّبَ بشدة إتّصافَ أفكاره وآرائه بالطابع النظريّ البحت.

فلو أنّ الأُستاذ المتخصّص في الطبّ اكتفى بإلقاء جملة من المعلومات الكلّيّة والأُسس العامّة من الطبّ على طلابه في الصف حُرم النتائج المتوخّاة والغايات المطلوبة من تعليم الطبّ، بشكل كامل.

أمّا إذا قَرنَ الأُستاذ درسَه النظري بالإرشاد العمليّ وطبَّق ما ألقاه وبيّنه من أفكار ومعلومات في هذا المجال على جسم مريض راقد أمام الطلبة، فإنّه سيحصل على نتائج أحسن، ويساعد الطلبة على فهم أفضل للمواد الّتي درسوها في هذا المجال.

فلو أنَّ الآيات القرآنية الكريمة قد نزلت جملةً واحدة (والحال أنّ المجتمع

ص:496


1- . الفرقان: 32.

الإسلامي لم يكن يحتاج إلى كثير منها) كان القرآن - حينئذٍ - فاقداً لهذه المزية التربوية الهامّة الّتي أشرنا إليها قريباً في مثال تدريس الطب.

إنّ بيان الآيات الّتي يشعر الناس في أنفسهم بعدم الحاجة إلى أخذها وتعلّمها، لا يترك التأثيرَ الباهرَ في القلوب، بينما إذا نزل ملائكة الوحي بآيات القرآن حسب حاجات الناس الّتي يشعرون فيها بضرورة تعلّمها لتضمِّنها الأحكامَ والأُصولَ والفروعَ الّتي يحتاجون إليها، فإنّه لا شكَّ يكون لها في هذه الحالة تأثير أحسن وأقوى في قلوب الناس. كما سيكون لها ترسّخٌ أكبر في نفوسهم، وسيظهرُ الناس من أنفسهم استعداداً أكبر لأخذ ألفاظها ومعانيها، وفوق كلّ ذلك سيشعرون بنتائج هذه التعاليم عند تعليم النبيّ إيّاها لهم، وعندئذ تتحقّق المقولة التربوية الّتي أشرنا إليها في ما سبق وهي اقتران كلام المربّي بالنتيجة لأن النظريات اتّخذت طابعاً عملياً، ولم تكن مجرد نظريات لا ترتبط بالواقع.

ولكن يبقى هنا سؤالٌ آخر وهو: إذا كان نزولُ القرآن قد تحقَّق على نحو التدريج وتبعاً للاحتياجات والحوادث المختلفة، فإنّ ذلك يستلزم انفصام العلاقات والروابط بين الآيات والسور، وهذا ينتج أن لا يهتم الفكر البشري بتعلّم وحفظ معارفها لتبعثرها، وتباعد أزمنتها وغياب علاقاتها، ولكن لو نزل القرآنُ جملة واحدة وتلاه ملائكة الوحي على رسول اللّه دفعة واحدة لرُوعيَت الروابطُ والعلاقات بين قضايا الوحي ولتضاعَفَت رغبةُ الناس واستعدادهم لأخذها وحفظها؟

ولقد أجاب القرآن الكريم أيضاً على هذا السؤال إذ قال: صحيح أنّ آيات القرآن الكريم نزلت على نحو التدريج تبعاً لطائفة من المقتضيات والموجبات إلّا أنّ هذا النزول التدريجي لا يمنع أبداً من ترابط مطالبه، وارتباط مواضيعه بعضها ببعض، فإنّ اللّه تعالى أفاض على هذه الآيات إِنسجاماً وترابطاً خاصاً يمكن

ص:497

الإنسان من تعلّمها وضبطها وحفظها إذا أعطى الموضوعَ قليلاً من الإهتمام، إذ قال تعالى:

«وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً» .(1)

أي إنّنا أعطينا آيات القرآن نظاماً معيناً وترتيباً خاصاً.

أسرارٌ أُخرى لِنُزُول القرآن تدريجاً:

3. لقد واجَه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في فترة رسالته ونبوّته فئات مختلفة من الناس:

كالوثنيّين، واليهود والمسيحيّين الذين كان لكلّ فئة منهم ديناً خاصاً، وعقائد وتصوّرات خاصّة حول المبدأ والمعاد، وغيرهما من المعارف العقلية.

وقد كانت اللقاءات المختلفة هذه توجب أن يعمد الوحي الإلهيّ إلى توضيح وبيان عقائد هذه الفئات (وإن لم يكن مطلوباً ومقترحاً من قبلهم) ويقيم الأدلّة والبراهين على بطلانها، وزيفها، هذا من جانب.

ومن جانب آخر كانت هذه اللقاءات في أزمنة متفاوتة، وأوقات مختلفة، لهذا لم يكن بدّ من أن ينزل الوحيُ الإلهي تدريجاً، وفي الأوقات المختلفة، ويتصدّى لبيان بطلان تلك العقائد والتصوّرات ويجيب على شبهات المخالفين واعتراضاتهم.

وربّما كانت توجب هذه المواجهاتُ العقائدية إلى أن يطرحوا على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعض الأسئلة إمتحاناً واختباراً له وكان على النبيّ أن يجيب عنها، وحيث إنّ هذه الأسئلة كانت تطرَح في أوقات مختلفة، لهذا لم يكن مناص من أن ينزل الوحيُ الإلهيُ في الأوقات والأزمنة المختلفة، وعلى نحو التدريج.

هذا مضافاً إلى أنّ حياة النبيّ نفسَها كان حياة ثورة، ووقائع، وكان النبيُ يواجه

ص:498


1- . الفرقان: 32.

باستمرار أحداثاً وقضايا يجب توضيح حكمها، وبيان المنهج فيها من جانب الوحي الإلهي.

وربّما كان الناس أنفسهم يواجهون في حياتهم اليومية حوادث وأُموراً يرجعون فيها إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يطلبون منه الحكم الإلهيّ فيها ويسألونه عمّا يجب اتّخاذه من الموقف الشرعيّ في تلك الحوادث وما يشابهها.

وحيث إنّ هذه الحوادث، وما يترتّب عليها من تساؤلات كانت تقع في أوقات مختلفة، وبمرور الزمن، لذلك لم يكن بد أيضاً من أن ينزل الوحيُ الإلهيّ بالتدريج ليجيب عن هذه الأسئلة أوّلاً بأوّل.

وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى هذه النقاط، وإلى نقاط أُخرى غيرها في قوله تعالى:

«وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً» .(1)

4. إنّ للنزول التدريجيّ للقرآن الكريم وراء كلّ ذلك سرّاً آخر، وعلّة أُخرى غفلوا عنها، ألا وهي: هداية الناس وتوجيه أنظارهم إلى منشأ هذا الكتاب، وأنّ القرآن ليس إلّاكتاباً سماوياً، ووحياً إلهياً لا غير، ولا يمكن أن يكون من نسج العقل البشريّ، لأن القرآن نزل خلال (23 عاماً) عبر طريق طويل من أنواع الحوادث والوقائع المسرّة والمحزنة، المقرونة بالنصر والهزيمة، والنجاح والإخفاق، ولا شكَّ أنّ هذه الحالات المختلفة، والأحاسيس والمشاعر المتنوّعة المتباينة، تترك أثراً عميقاً في نفس الإنسان، وروحه وعقله، ولا يمكن لإنسان واحد أن يتكلّم بكلام من نوع واحد، وبنبرة واحدة، في حالتين نفسيّتين متضادتين، فالكلام الصادر في حال الفرح والابتهاج والمسرّة من اللسان أوالقلم، يختلف من حيث الفصاحة

ص:499


1- . الفرقان: 33.

والبلاغة و جمال اللفظ وعمق المعنى اختلافاً بارزاً عن الكلام الصادر في حال الحزن والتعب، والإخفاق، والهزيمة.

بينما لا يوجد أي شيء من الاختلاف من حيث الألفاظ والمعاني بين آيات القرآن الكريم مع أنّها نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يمر بحالات مختلفةٍ من الحزن والسرور والإخفاق والانتصار والسرّاء والضرّاء، والعسر والرخاء والجهد والنشاط، بل نجد تلك الآيات على نمط ونسق واحدٍ من القوة والفصاحة والبلاغة، وجمال اللفظ وعمق المعنى بحيث يستحيل على أيّ بشر بلَغَ ما بلغ أن يعارض آية من آياته أو سورة من سوره، وكأنّ القرآن الكريم كمية من الفضّة المائعة خرجت من الأُتون جملة واحدة لا يوجد بين آياتها أيُّ شيء من التفاوت والاختلاف، أو كأنّه جوهرة واحدة أوّلها كآخرها وآخرها كأوّلها.

ولعلّ الآية التالية الّتي تنفي أيّ نوع من أنواع الاختلاف في القرآن إذ تقول:

«وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (1) إشارة إلى هذا السرّ.

إنَّ المفسّرين اعتبروا هذه الآية ناظرة إلى نفي الاختلاف والتناقض بين مفاهيم الآيات ومفاداتها، ومقاصدها، في حين لا تنفي هذه الآية مجرّد هذا النوع من الاختلاف بل تقدّس القرآن المجيد وتنزهه من جميع أنواع الاختلاف والتناقض الّذي هو من لوازم العمل والانتاج البشري.

ص:500


1- . النساء: 82.

18 إلى الحبشة

الهجرة الأُولى

تُعتَبر هجرة فريق من المسلمين إلى أرض الحبشة دليلاً بارزاً على إيمانهم وإخلاصهم العميق لدينهم، ولربّهم؛ وذلك لأنّ فريقاً من الرجال والنساء يقرّرون - وبهدف الحفاظ على عقيدتهم والتخلّص من أذى قريش ومضايقتها والحصول على مكان آمن يقيمون فيه شعائرهم بحرية ويعبدون اللّه الواحد - مغادرة (مكّة)، التي ترزح تحت ظلام الوثنية، فلا يمكن أن يرفعوا نداء التوحيد عالياً في أيّة نقطة من نقاطها، ولا يمكنهم إقامة أحكام الدين الحنيف فيها من دون خوف أو وجل، وبعيداً عن الإرهاب، ويفكّرون، ويفكّرون، وأخيراً يقودُهم التفكير إلى أن يفاتحوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهذه المسألة، ويطلبوا في ذلك رأي النبيّ الّذي يقوم دينه على مبدأ: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ» .(1)

لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعرف أوضاع المسلمين المؤلمة جيداً، فقد كان هو يحظى بحماية بني هاشم، وكان الفتيان الهاشميّون يحمونه ويحفظونه من كلّ أذى، ولكنّ - الذين آمنوا به من الإماء والعبيد، ومن ليست لهم حماية من الأحرار المستضعفين - الّذين كانوا يشكّلون عدداً كبيراً من المسلمين السابقين - كانوا يتعرضون لشتّى صنوف العذاب والإيذاء والمضايقة من قريش الّتي لم تأل جهداً، ولم تدّخر وسعاً، ولم تفوّت فرصةً ولا وسيلةً لإلحاق العنت والأذى بالمؤمنين

ص:501


1- . العنكبوت: 56.

برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولا يستطيع صلى الله عليه و آله و سلم منعهم من ذلك.

وقد كان زعماء كلّ قبيلة يعمدون - للمنع من نشوب أيّ صِدام بين القبائل - إلى تعذيب مَن أسلم من أبناء قبيلتهم، وإيذائه والتنكيل به، وقد مرّت عليك نماذج وأمثلة من أذى قريش وتعذيبها القاسي للمسلمين.

لهذه الأسباب عند ما طلب أصحابُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رأيه في الهجرة من مكّة قال في جوابهم:

«لَوْ خَرجْتُمْ إلى أرض الحَبَشة، فإنَّ بِها مَلِكاً لا يُظلَمُ عِندَهُ أحَدٌ، وهي أرضُ صِدْقٍ حَتى يَجعَلَ اللّهُ لكُم فَرَجاً ممّا أنتُم فيهِ».(1)

أجَل انَ مجتمعاً صالحاً يتسلَّم زمامَ الأمر فيه رجلٌ صالحٌ عادلٌ نموذج مصغّر من جنّة عدن بالنسبة إلى المسلمين المضطهدين في بلدهم بسبب عقيدتهم، وهو ما كان يريده ويتمنّاه أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليتمكّنوا من القيام بشعائر دينهم فيه في جوٍّ من الطمأنينة والأمن.

ولقد كان لكلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أثر قويٌ في نفوس تلك الثلّة المؤمنة الباحثة عن أرض تعبد فيها اللّه في أمان، بحيث لم يمض زمان إلّاوقد شدّت رحالها وغادرت مكّة ليلاً في غفلة من الأجانب المشركين مشاة وركباناً، متجهةً نحو جدّة، للسفر عبر مينائها إلى أرض الحبشة.

وكان هذا الفريق يتألّف من عشر أو خمسة عشر شخصاً بينهم أربعة من النسوة المسلمات.(2)

والآن يجب أن نرى لماذا لم يذكر رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للمسلمين مناطقَ أُخرى للهجرة إليها، وإنّما ذكر الحبشة فقط؟

ص:502


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 213/1؛ تاريخ الطبري: 70/2.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 70/2.

إنّ سر هذا الاختيار يتّضح إذا درسنا أوضاع الجزيرة العربية وغيرها من المناطق آنذاك.

إنّ الهجرة إلى المناطق العربية الّتي كان سكانها من المشركين والوثنيّين قاطبة كان أمراً محفوفاً بالخطر، فإنّ المشركين كانوا سيمتنعون عن قبول المسلمين في أرضهم إرضاء لقريش أو وفاء وتعصباً لدين الآباء (الوثنيّة).

وكذلك المناطق الّتي كان يقطنها المسيحيّون أو اليهود، من الجزيرة العربية لم تكن تصلح لهجرة المسلمين إليها هي الأُخرى، لأنّ تينك الطائفتين كانتا تتقاتلان فيما بينهما في صراع مذهبيّ وطائفي، فلم تكن الأوضاع لتسمح بأن يدخل طرفٌ ثالث في حلبة الصراع، هذا مضافاً إلى أنّ ذينك الفريقين (اليهود والنصارى) كانا يحتقران العنصر العربيّ أساساً، فكيفَ يمكن الهجرة إلى مناطقهم والتعايش معهم؟!

أمّا «اليمن» فقد كان تحت سيطرة الحكم الإيرانيّ الملكيّ، ولم تكن السلطاتُ الإيرانية آنذاك لتسمح بإقامة المسلمين في ربوع «اليمن»، لما عُرف من نقمتها فيما بعد على الدعوة الإسلامية إلى درجة أنّه لما وصلت رسالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى «خسروبرويز» كتب إلى عامله على اليمن فوراً «احمل إليَّ هذا الّذي يذكر أنّه نبيٌّ، وبدأ باِسمه قبل اسمي، ودعاني إلى غير ديني»(1)!!.

وكذلك كانت «الحيرة» تحت الاستعمار والنفوذ الإيرانيّ كاليمن.

وأمّا «الشام» فقد كانت بعيدة عن «مكّة المكرمة»، هذا مضافاً إلى أنّ «اليمن» و «الشام» كانتا سوقين لقريش، وكانت تربُط قريش بسكان هاتين المنطقتين روابط وعلاقات وثيقة، فإذا كان المسلمون يلجأون إليها أُخرجوا منهما بطلبٍ من قريش، تماماً كما طلبت من ملك الحبشة مثل هذا الطلب، ولكنّه رفض طلبهم.

ص:503


1- . بحار الأنوار: 20/382.

وقد كانت الرحلة البحرية - في تلك الآونة - وبخاصة برفقة النساء والأطفال رحلة شاقّة جداً، من هنا كانت هذه الهجرة، وترك الحياة والمعيشة في الوطن دليلاً قوياً على إخلاص أُولئك المهاجرين لدينهم وعمق إيمانهم به، وصدقه.

ولقد كان ميناء «جدة» آنذاك ميناء تجارياً عامراً كما هو عليه الآن، ومن حسن التوفيق أنّ هذه الثلّة المهاجرة قد وصلت إلى هذا الميناء في الوقت الّذي كانت فيه سفينتان تجاريتان على أُهبة الإقلاع، والتوجّه نحو الحبشة، فبادر المسلمون إلى ركوبها والسفر عليها دون تلكّؤ خشية لحاق قريش بهم والقبض عليهم، لقاء نصف دينار عن كلّ راكب.

وكان ذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه.(1)

ولمّا عرف المشركون بهجرة بعض المسلمين أمروا جماعةً من رجالهم بملاحقة أُولئك المهاجرين وإعادتهم إلى مكّة فوراً، ولكن المسلمين المهاجرين كانوا قد غادروا شواطئ «جدة» قبل أن يدركهم الطلب.(2)

ومن الواضح أنّ ملاحقة مثل هذه الثلة الّتي لم تلجأ إلى أرض الغير إلّالأجل الحفاظ على عقيدتها والفرار من الفتنة لنموذج بارز من عتوّ قريش وعنادها. فأُولئك المهاجرون مؤمنون تركوا الأهل والوطن، وأغمضوا الطرف عن المال، والتجارة، وخرجوا يطلبون أرضاً نائية يمارسون فيها شعائرهم بحرية، ومع ذلك لا يكف عنهم زعماء مكّة وجبابرتها وطغاتها!!

أجل أنّ رؤساء «دار الندوة» بمكة وأقطابها كانوا يعلمون جيداً أسرار هذه الهجرة وآثارها من خلال بعض القرائن، والمؤشرات ولذلك كانوا يردّدون فيما بينهم أُموراً سنذكرها في ما بعد.

ص:504


1- . بحار الأنوار: 18/412 نقلاً عن مجمع البيان للطبرسي: 3/400.
2- . السيرة النبوية: 1/321-323.

هذا والجدير بالذكر أنّ أعضاء هذا الفريق المهاجر لم يكونوا من قبيلة واحدة، بل كان كلّ واحد من هؤلاء العشرة ينتمي إلى قبيلة خاصة.

الهجرة الثانية إلى الحبشة:

ثم إنّه وقعت بعد هذه الهجرة هجرة أُخرى، وكان في مقدّمة المهاجرين هذه المرة «جعفر بن أبي طالب». ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولقد تمّت الهجرة الثانية في منتهى الحريّة، لأنّ المسلمين المهاجرين استطاعوا في هذه الهجرة أن يصطحبوا معهم نساءهم وأولادهم، بحيث بلغ عدد المسلمين في أرض الحبشة هذه المرة (83).

هذا إذا لم نحص من وُلد في أرض الحبشة لهُم، وإلّا كان العددُ أكثر من هذا الرقم.

ولقد وَجَدَ المسلمون المهاجرون أرضَ الحبشة كما وصفها رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهم: منطقة عامرة، وبيئة آمنة حرّة، تصلح لأَن يُعبد فيها اللّه تعالى بحرية وأمان.

تقول «أُمّ سلمة» الّتي تشرّفت بالزواج من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ما بعد، عن تلك الأرض: لمّا نزلنا أرضَ الحبشة جاوَرنا بها خير جار النجاشي، أمنّا على ديننا، وعبدنا اللّه تعالى، لا نؤذى، ولا نسمع شيئاً نكرهه.(1)

كما أنّه يُستفاد ممّا قاله بعض أُولئك المهاجرين من الشعر في الحبشة، إنّهم أمنوا بأرض الحبشة، وحمدوا جوار النجاشي، وعَبدوا اللّه لا يخافون على ذلك أحداً.

ص:505


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/222.

ونحن نكتفي هنا بإدراج بعض الأبيات من قصيدة مطوَّلة أنشأها «عبداللّه بن الحارث» في هذا الصدد:

يا راكباً بَلِّغن عَنّي مُغلْغَلة(1) مَن كانَ يرجُو بلاغَ اللّه والدّينِ

كلَّ امرئ مِن عِباداللّه مضطَهدٍ ببَطنِ مكّة مقهور ومفتونِ

أنّا وجَدنا بِلادَاللّه واسعةً تُنجِي مِنَ الذُلِّ والمخزاة والهون

فَلا تُقيموا عَلى ذُلِّ الحَياة وَخز ي في المَماتِ وَعَيب غير مأمون(2)

ويقول ابن الأثير: وكان مسيرهم (إلى الحبشة) في رجب سنة خمس من النبوة، وهي السنة الثانية من إظهار الدعوة، فأقاموا شعبان وشهر رمضان وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة، وكان سبب قدومهم إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه... بلغ الخبر مَن بالحبشة من المسلمين أنّ قريشاً أسلمت، فعاد منهم قومٌ وتخلّف قومٌ.(3)

هذا ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على تفاصيل هذا القسم في السيرة النبويّة لابن هشام.(4)

قريش توفد رجالاً لاسترداد المسلمين:

عندما بلغ قريشاً وزعماء «مكّة» ما أصبح فيه المسلمون المهاجرون من أمن وحرية، وما حصلوا عليه من حسن الجوار والطمأنينة والراحة في أرض الحبشة ثارت ثائرة الحسد والغيظ في قلوبهم، وتوجّسوا خيفة من نفوذ المسلمين في الحبشة؛ لأنّ أرض الحبشة قد أصبحت قاعدة قوية للمسلمين، وكانت الزعامةُ

ص:506


1- . المُغلغلَة: الرسالة ترسَل من بلد إلى بلد.
2- . السيرة النبوية: 1/220.
3- . الكامل في التاريخ: 2/77.
4- . لاحظ: السيرة النبوية: 1/245.

المكيةُ تتخوّفُ من أن يجد أنصارُ الإسلام وأتباعُه منفذاً إلى بلاط النجاشي زعيم الأحباش وملِكهم، ويُميّلوا قلبَه نحو الإسلام، ويكسبوا تأييده للمسلمين، فيؤول الأمر إلى أن يعبّئ جيشاً كبيراً للقضاء على حكومة المشركين الوثنيّين في شبه الجزيرة العربية، وعندها تكون الكارثة.

فاجتمع أقطابُ «دار الندوة» مرة أُخرى للتشاور في الأمر، فاستقرّ رأيهم على أن يبعثوا إلى البلاط الحبشيّ مَن يقدّم إلى النجاشيّ ووزرائه هدايا مناسبة يستميلونهم بها ليستطيعوا من هذا الطريق التأثير على النجاشي ثم يتسنّى لهم بعد ذلك أن يقنعوه بضرورة إخراج المسلمين المهاجرين من أرضه أن يتّهمونهم عنده بالسفاهة والجهل، وابتداع دين جديد منكر، والإرتداد عن دين الآباء والأجداد!!

ولكي تتحقّق خطّتهم هذه على أحسن وجه ويصلوا عن طريقها إلى أفضل النتائج اختاروا من بينهم رجلين ماكرين أصبح أحدُهما في ما بعد من دهاقنة السياسة وهما: «عمروُ بن العاص»، و «عبداللّه بن أبي ربيعة» وقد روى هذه الحادثة ابن هشام في سيرته عن أُمّ سلمة قالت:... ثم بعثوا بذلك عبداللّه بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما: إدفعا إلى كلّ بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشي فيهم، ثم قدّما إلى النجاشيّ هداياه، ثم سلاه أن يسلّمهم إليكما قبل أن يكلّمهم.

قالت: فخرجا (موفَدا قريش) حتّى قدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلّادفعا إليه هديته قبل أن يكلّما النجاشي وقالا لكل بطريق منهم:

إنه قد ضوى(1) إلى بلد الملك منّا غُلمان سفهاء، فارقوا دينَ قومهم، ولم

ص:507


1- . ضوى أيّ لجأ وأتى ليلا.

يَدخلوا في دينكم، وجاءُوا بدين مبتدَع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملِك فيهم أشرافُ قومهم ليردَّهم إليهم فإذا كلَّمنا الملكُ فيهم، فأُشيروا عليه بأن يسلّمهم إلينا، ولا يكلّمهم، فإنّ قومَهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم.

فقالوا لهما: نعم.

ثم إنّهما قدّما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلّماه فقالا له:

أيّها الملك إنّه قد ضَوى إلى بلدك منّا غِلمان سفهاء، فارقوا دينَ قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءُوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بَعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردَّهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

قالت: فقالت بطارقته حوله: صدقا أيّها الملك، قومُهم أعلى بهم عيناً، وأعلمُ بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.

قالت: فغضبَ النجاشيّ (وكان رجلاً حكيماً عادلاً) ثم قال: لاها اللّه، إذن لا أُسلمهم إليهما، ولا يُكادُ قوم جاوَرُوني، ونَزلوا بلادي، واختاروني على مَن سواي حتّى أدعوَهم فأسألهم عمّا يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتُهُم إليهما، ورددتُهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنتُ جِوارَهم ما جاوروني.

قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدعاهم، فلمّا جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ نقول واللّه ما علّمنا، وما أمرنا به نبيُنا صلى الله عليه و آله و سلم كائناً في ذلك ما هو كائن.

فلمّا جاءوا - وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله - سألهم فقال لهم:

ص:508

ما هذا الدين الّذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا (به) في ديني ولا في دين أحدٍ من هذه الملل؟

قالت: فكان الّذي كلّمه جعفر بن أبي طالب (رضوان اللّه عليه) فقال له:

«أيُّها الملك، كنّا قوماً أهلَ جاهلية، نعبُدُ الأَصنامَ، ونأكلُ الميتةَ، ونأتي الفواحش، ونقطعُ الأرحام، ونسيءُ الجوار، ويأكلُ القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتّى بعث اللّه إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبَه وصدقه وأمانته وعَفافه، فدعانا إلى اللّه لنوحِّدَه ونعبُدَه، ونخلَعَ ما كنّا نعبُد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الامانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبدَ اللّه وحدَه، لا نشركُ به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت: فعدد عليه أُمور الإسلام - فصدّقناه وآمنّا به، واتّبعناه على ما جاء به من اللّه، فعبدنا اللّه وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذّبونا، وافتتنونا عن ديننا، ليردُّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللّه تعالى، وأن نستحل ما كنّا نستحل من الخبائث، فلمّا قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَن سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلَم عندكَ أيّها الملك».

قال: فقال له النجاشي: هل معَك ممّا جاء به عن اللّه من شيء؟

قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشيّ: فاقرأهُ عليَّ، فقرأ عليه صدراً من «كهيعص» (قرأ جعفر آيات من مطلع سورة مريم، واستمرَّ في قراءته، وبذلك بيّن نظرة الإسلام إلى «مريم» عليها السلام وطهارة جيبها، وإلى مكانة المسيح عليه السلام، وعظمة شأنه، وجليل مقامه). قالت: فبكى واللّه النجاشيُ حتّى اخضلّت لحيتُه

ص:509

بالدموع، وبكت أسقافتُه(1) حتّى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم.

ثم قال النجاشي:

«إنّ هذا والّذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاة واحدة، انطلقا فلا واللّه لا أُسلِّمهم إليكما ولا يُكادون.

قالت: لمّا خرجا من عنده قال «عمرو بن العاص» - وكان امرأً خدّاعاً ماكراً -:

واللّه لآتينّه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم (وهو يعني أنّه سيأتي بحيلةٍ تقضي على جذور المهاجرين بالمرة).

قالت: فقال له عبداللّه بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإنّ لهم أرحاماً وإن كانوا خالفونا، قال: واللّه لأخبرنّه أنّهم يزعمون أنّ عيسى ابن مريم عبد. ثمّ غدا عليه الغد فقال له:

أيّها الملك، إنّهم يقولون في «عيسى بن مريم» قولاً عظيماً. فأرسل إليهم فسلهم عمّا يقولون فيه.

قالت: فأرسل النجاشيُ إليهم ليسألهم عنه، وهو الملك المحنَّك الّذي لا يأخذ الأُمور على ظواهرها، ومن غير تحقيق ودراسة، فأدرك المسلمون بفطنتهم أنّه سيسألهم هذه المرة عن موقفهم من المسيح عليه السلام فاتّفقوا أن يكون «جعفر» متكلّمهم وخطيبهم وعندما سألوه عمّا سيجيب به الملك قال: أقول واللّه ما قال اللّه، وماجاء به نبيُّنا كائناً في ذلك ما هو كائن؟

قالت: فلمّا دخلوا عليه (النجاشيّ) قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟

قالت: فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الّذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه و آله و سلم: هو عبداللّه ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

ص:510


1- . الأساقفة؛ جمع أُسقف: علماء النصارى.

فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً، ثم قال: واللّه ماعدا عيسى بن مريم ما قلتَ هذا العود.

فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم واللّه، اذهبوا فأنتم شيوم (آمنون) في أرضي مَن سبّكم غُرمَ، ثم قال: مَن سبّكم غرمَ، ثم قال: مَن سبّكم غرم، ما أُحب أنّ لي دبراً من ذهب وإني آذيتُ رجلاً منكم. ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فواللّه ما أخذ اللّه مني الرشوة حين ردّ عليّ مُلكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأُطيعهم فيه».

قالت: فخرجا (مبعوثا قريش) من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.(1)

***

وينبغي أن نسجّل هنا موقفاً آخر من مواقف أبي طالب في تأييد المسلمين، ونصرة الدين الحنيف.

فقد أرسل «أبوطالب» أبياتاً للنجاشيّ يحثُّه على الدفع عن المهاجرين وحسن جوارهم وتلك الأبيات هي:

ألا لَيتَ شِعري كيفَ في النأي جعفرٌ وعمروٌ وأعداء العدو: الأقاربُ؟

وهل نالَت أفعال(2) النجاشيّ جعفراً وأصحابه أو عاق ذلك شاغبُ؟

تَعلّم، أبيتَ اللعنَ، أنّك ماجِدٌ كريمٌ فلا يشقى لَديك المجانبُ

تعلّم بأنّ اللّه زادك بسطةً وأسبابَ خير كلّها بك لازب

وأنّك فَيضٌ ذوسجال غزيرة يَنالُ الأعادي نفعهُا والأقارب(3)

ص:511


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/222-225 باختلاف يسير.
2- . إحسان.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/222.

العَودةُ من الحبشة:

قلنا في ما مضى أنَّ المجموعة الأُولى من المهاجرين رجَعت من الحبشة إلى مكّة لأنباء بلغتها عن إسلام قريش عامة وانضوائها تحت راية الإسلام. حتّى إذا دنوا من «مكّة» بلغهم أنّما كانوا تحدّثوا به من إسلام أهل مكّة كان باطلاً، فلم يدخل منهم إلى «مكّة» إلّاقليل دخلوها مستخفين أو في جوار بعض الشخصيات القرشية بينما عاد الأكثرون من حيث جاءُوا.

وكان ممّن دخل «مكّة» بجوارٍ، «عثمان بن مظعون» الّذي دخلها بجوار «الوليد بن المغيرة» ولكنّه كان يشاهد ما فيه أصحابُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من البلاء، والعذاب، وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة، قال: واللّه إنّ غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهلُ ديني يلقَون من البلاء والأذى في اللّه ما لا يصيبني لنقصٌ كبير في نفسي، فمشى إلى «الوليد بن المغيرة» فقال له: يا أبا عبد شمس وفَت ذِمّتُك، قد رَددْتُ إليك جوارَك.

فقال له: لِمَ يابن أخي؟ لعلَّه آذاك أحدٌ من قومي؟

قال: لا ولكنّي أرضى بجوار اللّه ولا أُريد أن أستجير بغيره.

قال: فانطلق إلى المسجد فاردُد عليّ جواري علانية كما أجرتُك علانيةً.

قال: فانطلقا فخرجا حتّى أتيا المسجدَ، فقال «الوليدُ» مخاطباً مَن حضر مِن قريش: هذا عثمان قد جاء يردُّ عليّ جواري.

قال: صدق، قد وجدتُه وفيّاً كريمَ الجوار، ولكنّي قد أحببتُ أن لا أستجيرَ بغيراللّه، فقد رددتُ عليه جواره.(1)

ص:512


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/247.

ثم لم يمض شيء مِنَ الوقت حتّى دخَلَ المسجدَ «لبيد بن ربيعة» وكان شاعراً متكلِّما بارزاً من شعراء العرب ومتكلّميها ووقف في مجلس من قريش ينشدهم و «عثمان بن مظعون» جالس معهم فقال مِن جملة ما قال شعراً:

ألا كلُ شيء ما خلا اللّه باطلُ

فقال عثمان بن مظعون: صدقتَ فقال: لبيد:

وكلُ نعيم لا محالة زائلُ

قال عثمان: كذبت، نعيمُ الجنة لا يزول، فاستثقل «لبيد» تكذيب عثمان وتحدّيه له في ذلك الجمع فقال: يا معشر قريش واللّه ما كان يؤذى جليسُكم، فمتى حدث هذا فيكم؟؟

فقال رجلٌ مِن القوم: إنَّ هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا فلا تجدنّ في نفسكَ من قوله.

فردّ عليه «عثمان» حتّى تفاقم الأمر بينهما، فقام إليه ذلك الرجلُ فلطم عينه فخضّرها (وأصابها)، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال: أما واللّه يا ابن أخي إن كانت عينُك عَمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمّة منيعة (وهو يريد أنّك لو بقيت في ذمّتي وجواري لما أصابك ما أصابك).

فقال عثمان رادّاً عليه: بل واللّه إنّ عيني الصحيحة لفقيرةٌ إلى مِثل ما أصابَ أُختَها في اللّه، وإنّي لفي جوار مَن هو أعزُّ منكَ، وأقدرُ يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد: هلمّ يا ابنَ أخي إن شئت فعُد إلى جوارك، فقال ابنُ مظعون:

لا.(1)

وكانت هذه صورةٌ رائعةٌ من صور كثيرة لصمود المسلمين، وتفانيهمْ في

ص:513


1- . السيرة النبوية: 1/248.

سبيل العقيدة، وإصرارهم على النهج الّذي اختاروه، ومواساة بعضهم لبعض في أشدّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي.

وفدٌ مسيحيٌ لتقصّي الحقائق يدخل مكّة:

قدمَ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبرُه من الحبشة، (مبعوثين من قِبَل أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة، والتعرف على الإسلام). فوجدوا رسول اللّه في المسجد، فجلسوا إليه، وكلّموه وسألوه، ورجالٌ من قريش (فيهم «أبوجهل») في أنديتهم حول الكعبة.

فلمّا فرغوا من مسألة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عمّا أرادوا، دعاهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى اللّه عزوجلّ وتلا عليهم (آيات من) القرآن، فلمّا سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له و آمنوا به وصدّقوه، وعرفوا منه ما كان يوصَف لهم في كتابهم (الإنجيل) من أمره.

فلمّا قامُوا عنه، اعترضهم «أبوجهل بن هشام» في نفر من قريش، فقالوا لهم:

خيَّبكُمُ اللّه مِن ركبٍ بعَثكُم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئنّ مجالسُكم عنده حتّى فارقتُم دينكُم، وصدَّقتموهُ بما قال، ما نعلمُ ركباً أحمقَ مِنكُم.

فقالوا لهم: سلامٌ عليكم لا نُجاهِلكم، لنا ما نحنُ عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيراً.(1) وبذلك الكلام الجميل ردّوا على فرعون مكّة الّذي كان يبغي - كسحابة داكنة - حجب أشعة الشمس المشرقة، وحالوا دون وقوع صدام.

ص:514


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/263. وقد نزلت في هذا الشأن الآيات 52 إلى 55 من سورة القصص.

وفد قريش إلى يهود يثرب للتحقيق:

لقد أيقظ وفدُ نصارى الحبشة إلى مكّة وما نجم عن لقائهم برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قريشاً ودفعهم إلى تشكيل وَفد يتألّف من «النضر بن الحارث» و «عُقبة بن أبي معيط» وغيرهما وإرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودينه.

فقال أحبارُ اليهود لمبعوثي قريش: سَلوا محمَّداً عن ثلاث نأمركم بهنَّ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسَل، وإن لم يفعل فالرجلُ متقوّلٌ، فروا فيه رأيكم:

1. سلوه عن فتية ذَهبوا في الدهر الأوّل (يعنون بهم أصحاب الكهف) ما كان أمرهم، فإنّه قد كان لهم حديثٌ عجيبٌ.

2. وسلوه عن رجل طوّاف (يعنون به ذا القرنين) قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟

3. وسلوه عن الروح ماهي؟

فإذا أخبركم بذلك فاتّبعوهُ، فإنّه نَبيّ، وإن لم يفعل، فهو رَجُلٌ متقوِّلٌ فاصنَعوا في أمره ما بدا لكم.

فعادَ وفد قريش إلى «مكّة» ولما قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود.

فجاءُوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وطرحوا عليه الأسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: انتظر في ذلك وحياً.

ثم نزل الوحيُ يحملُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأجوبة المطلوبة عن تلك

ص:515

الأسئلة.(1)

وقد ورَدَ الجواب عن السؤال عن الروح في الآية 85 من سورة الإسراء.

وأُجيبَ عن السؤالين الآخرين عن أصحاب «الكهف» وذي القرنين بتفصيل في سورة «الكهف» ضمن الآيات 9-28 و الآيات 73-93.

وقد وردت تفصيلاتُ هذه الإجابات الّتي أجابَ بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أسئلتهم في كتب التفسير.

ولابدَّ هنا من أن نُذكِّر القارئ الكريم بنقطة مفيدة وهي أنّ المراد من «الرّوح» في سؤال القوم ليس هو الرُّوح الإنسانية، بل كان المراد هو جبرئيل الأمين، (بقرينة أنَّ المقترحين الأصليّين لهذه الأسئلة: هم اليهود وكانوا يكرهون الروح الأمين، ويعادونه)، وهو أمرٌ مبحوثٌ في محلِّه من كتب التفسير.

ص:516


1- . لاحظ: السيرة النبوية: 1/195.

19 الأسلحةُ الفاشلة والأساليب الباطلة

اشارة

نظّم أسياد قريش صفوفهم لمكافحة عقيدة التوحيد، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين وأهله.

فقد حاولوا في بداية الأمر أن يُثنُوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن المضيّ في مواصلة دعوته، وذلك بتطميعه بالمال والجاه وماشابه ذلك، ولكن لم يحصلوا من ذلك على شيء، فقد خيّب ذلك الرجلُ المجاهدُ ظنونهم فيه، وبدّد آمالهم في إثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية: «واللّه لو وَضعوا الشمس في يميني، والقَمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما فعلتُ» وهو يعني أنّ تمليكه العالم كلَه لا يثنيه عن هدفه ولا يصرفه عن تحقيق ما نُدِبَ إليه وأُرسل به.

فعمدوا إلى سلاح آخر هو التهديد والأذى، والتنكيل به وبأصحابه وأنصاره، ولكنّهم واجهوا صمودَه وصمود أنصاره وأصحابه، وثباتهم الّذي أدّى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان، وخيبة المشركين وهزيمتهم.

وقد بَلَغ من ثبات المسلمين على الطريق أنّهم أقدموا على مغادرة الوطن، وترك الأهل والعيال، والهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم إلى اللّه، وسعياً وراء نشره وبثه في غير الجزيرة من الآفاق.

ولكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين في جميع هذه الجهات والميادين وعجزهم عن استئصال شجرة التوحيد الفتية، وفشل جميع الأسلحة الّتي استخدموها للقضاء على الدين الجديد وأهله، لم تنته محاولاتهم الإجهاضيّة،

ص:517

بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه أمضى من سوابقه.

وهذا السلاح هو سلاحُ الدعاية ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّه صحيحٌ أنّ إيذاء وتعذيب جماعة المؤمنين في «مكّة» تمنع غيرهم من سُكان «مكّة» من الإنضواء إلى الإسلام إلّاأنّ الحجيج الذين كانوا يسافرون إلى مكّة في الأشهر الحرُم وكانوا يلتقون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جوّ من الأمن والطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثَّرون بدعوة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويتزعزعُ اعتقادهم بالأوثان على الأقل، إن لم يؤمنوا بدينه، ولم يستجيبوا لدعوته، ثم إنّهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام وأنباء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى مواطنهم، ومناطِقهم وكان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه، وأنباء دينه في شتّى مناطق الجزيرة العربية، وكان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجَّه إلى صرح الوثنية في مكّة، وعاملاً قوياً في انتشار عقيدة التوحيد، وسطوع أمره.

من هنا اتّخذ سادةُ قريش أُسلوباً آخر، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار الإسلام، واتّساع رقعته، وقطع علاقة المجتمع العربي به.

وإليك فيما يأتي بيان تفاصيل هذا الأُسلوب، وهذه الخطة:

1. الاتّهاماتُ الباطلة:

اشارة

يمكن التعرّف على شخصية أي واحد وتقييمها من خلال ما يرميه به أعداؤه من شتائم وسباب، وما يكيلون له من اتّهامات ونسب، فَإنّ العدو يسعى دائماً إلى أن يتّهم خصمَه بنوع من أنواع التهم ليُضِلَّ الناس، ويصرفهم عنه، وليتمكّن بما يحوكُه حوله من أراجيف وأباطيل الحط من شأنه في المجتمع وإسقاطه من الأنظار والأعين.

إنّ العدوّ الذكيّ يسعى دائماً إلى أن ينسب إلى منافسه ما يُصدِّقه ولو فئة خاصة من الناس على الأقل، ويوجبُ شكَّهم في صدقه، ويتجنّب تلك النِسَب الّتي

ص:518

لا تصدَّق في شأنه، ولا تناسبُ أخلاقه وأفعاله المعروفة عنه، ولا تمسّه بشكلٍ من الأشكال، لأنّه سوف لا يَجني في هذه الحالة إلّاعكسَ ما يقصد، وخلاف ما يريد.

ومن هنا يستطيع المؤرّخُ المحقّقُ أن يتعرّف على الشخصية الواقعية لمَن يدرسه، وعلى مكانته الإجتماعية، وأخلاقه وسجاياه ولو من خلال ما ينسبُه الأعداء إليه، وما يكيلون له من أكاذيب وإفتراءات، ونسب باطلة واتّهامات، لأنّ العدوّ الّذي لا يخاف أحداً لا يقصّرُ في كيل كلِّ تهمة تنفعُهُ وتخدمُ غرضَه إلى الطرف الآخر، ويستخدم هذا السلاح (أي سلاح الدعاية) ما استطاع، وما ساعدته معرفُته بالظروف، ودرايته بالفَرص.

فإذا لم ينسَب إليه أيُّ شيء من تلك النسب الباطلة، فانّ ذلك إنّما هو لأجل طهارة جيبه، ونقاء صفحته، وتنزُّه شخصيته عن تلك النسب، ولأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها ولم يصدّقها في شأنه.

ولو أنّنا تصفّحنا أوراق التاريخ الإسلامي لرأينا أنّ قريشاً مع ما كانت تكنُّ من عداء، وتحِملُ من حِقد على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكانت تسعى بكلّ جهدها أن تهدم صرح الإسلام الجديد الظهور، وأن تحطّ من شأن مؤسّسه وبانيه لم تستطع مع ذلك أن تستفيد من هذا السلاح، وتستخدمه كاملاً.

فقد كانت تفكّر في نفسها: ماذا تقول في حقّ رسول اللّه؟ وماذا ترى تنسب إليه؟؟

هل تتّهمه بالخيانة المالية وها هم جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟!(1)كما أنّ حياته الشريفة طوال الأربعين سنة الماضية جسّدت أمانته أمام الجميع، فهو الأمين بلا منازع؟

ص:519


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 19/62.

هل تتّهمه بالجري والانسياق وراء الشهوة واللّذة؟ وكيف تقول في حقّه مثل هذا الكلام مع أنّه بدأ حياته الشبابية بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ إلى درجة مَا، وبقي معها حتّى لحظة انعقاد هذه الشورى في «دار الندوة» بهدف الدعاية ضدّه، ولم يُعهَد منه زلّة قدم في هذا السبيل قط؟!

وبالتالي بماذا تتّهم محمَّداً الصادق الأمين، الطاهر العفيف، وأيّة تهمة ترى يمكن أن تُصدَّق في حقّه، أو يحتمل الناس صدقها في شأنه ولو بنسبة واحد في المائة؟

لقد تحيَّر سادة «دار الندوة» وأقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقرَّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش ويطلبوا رأيه فيه، وهو «الوليد بن المُغيرة» وكان ذا سنّ فيهم، ومكانة، فقال لهم:

يا معشر قريش، إنّه قد حضر هذا الموسم، وإنّ وفود العرب ستقدَم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذّبُ بعضكم بعضاً، ويردُ قولُكم بعضُه بعضاً.

قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.

قال: بل أنتم قولوا أسمَع.

قالوا: نقول كاهن.

قال: لا واللّه ما هو بكاهن، لقد رأينا الكُهّانَ فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.

قالوا: فنقول: مجنون.

قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه، ولا تخالجه،

ص:520

ولا وسوسته.

قالوا: فنقول شاعر.

قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.

قالوا: فنقول: ساحر.

فقال: ما هو بساحر لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم.

وهكذا تحيَّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وأخيراً أشار عليهم الوليد أن يقولوا: إنّه ساحر، جاء بقول هو سِحرٌ، يفرّق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته.

ويدلُّ عليه ما أوجده من الخلاف والإنشقاق والتفرُّق بين أهل مكّة الَّذين كان يُضرب بهم المثل في الوحدة والاتّفاق.(1)

وقد ذكر المفسِّرون في تفسير سورة «المدثّر» هذه القصة بنحو آخر فقالوا:

لمّا أُنزل على رسول اللّه «حم * تَنْزِيلُ الْكِتابِ...» * قام إلى المسجد و «الوليد بن المغيرة» قريب منه يسمع قراءته، فلمّا فطن النبيُ صلى الله عليه و آله و سلم لاستماعه لقراءته، أعاد قراءة الآية، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيراً شديداً فانطلق إلى منزله، ولم يخرج منه أيّاماً، فسخرت منه قريشٌ وقالت: صبأ - واللّه - الوليدُ ثم مشى رجال من قريش إليه وسألوه رأيه في قرآن محمَّد، واقترح كل واحد منهم أمراً، ولكنه رد عليها بالنفي جميعاً، فقالت قريش: إذن ما هو؟ فتفكّر «الوليد» في نفسه ثم قال: ما هو إلّاساحرٌ أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله،

ص:521


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/174-175 بتلخيص.

ووُلده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر.(1) ويرى المفسّرون أنّ الآيات التالية نزلت في شأنه إذ يقول اللّه تعالى:

«ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً * وَ بَنِينَ شُهُوداً * وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ * فَقالَ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ... (إلي قوله:) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» .(2)

***

الإصرار في نسبة الجنون إليه صلى الله عليه و آله و سلم:

يعتبر اتّصاف النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم واشتهاره بين الناس بالصدق والأمانة وغيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من مسلَّمات التاريخ.

وهو بالتالي أمرٌ اعترف به حتّى أعداؤه الألدّاء، فقد دانوا بفضله، وأقرُّوا بأخلاقه الكريمة و سجاياه النبيلة، دون تلكؤ، ولا إبطاء.

وقد كانَ من أوصافه الحسنة البارزة أنّ جميع الناس كانوا يدعونه «الصادق» «الأمين» وكانوا يثقون بأمانته ثقة كبرى(3) حتّى أنّ المشركين كانوا يودعون ما غلا من أموالهم عنده، واستمر هذا الأمر حتّى عشرة أعوام بعد دعوته العلنيّة.

وحيث إنّ دعوته صلى الله عليه و آله و سلم قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا

ص:522


1- . لاحظ: مجمع البيان: 10/178.
2- . المدثر: من 11-51.
3- . بحار الأنوار: 19/62 عن عبيداللّه بن أبي رافع قال: كانت قريش تدعو محمَّداً صلى الله عليه و آله و سلم في الجاهلية الأمين، وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها، وكذلك من يقدم مكّة من العرب في الموسم، وجاءته النبوة والرسالة والأمر كذلك.

عنه الناس بما ينسبون إليه من بعض النسب الّتي توجب سوء الظنّ به، ومن ثم إفشال دعوته، وحيث إنّهم كانوا يعلمون أنّ النِسَبَ الأُخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزناً، لأنّها أُمور بسيطة في نظرهم، من هنا رأوا بأنّ يتّهمونه بالجنون، والزعم بأنّ ما يقوله و يقرؤه ما هو إلّامن نسج الخيال، ومن أثر الجنون الّذي لا يتنافى مع الزهد، والأمانة، وذلك تكذيباً لدعوته.

ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة، واتّخذت وسائل عديدة وما كرة لترويجها وبثّها بين الناس.

ومن شدّة مكرهم ومراءاتهم أنّهم كانوا يتّخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك، والترديد إذ يقولون:

«أَفْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» .(1)

وهذه هي بعينها الحيلةُ الشيطانية الّتي يتوسَّل بها ويتستر وراءها أعداء الحقيقة دائماً عند ما يريدون تكذيب المصلحين العظام، وإسقاط خطواتهم وأفكارهم من الاعتبار، والحطّ من شأنها وأهميتها.

ويشير القرآنُ أيضاً إلى أنّ هذا الأُسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصّاً بالمعارضين في عهد الرسالة المحمَّدية، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضاً يتوسّلون بهذا السلاح لتكذيب الرسل، والأنبياء إذ يقول عنهم:

«كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» .(2)

وتحدّث الأناجيلُ الحاضرة هي الأُخرى عن أنّ المسيح عليه السلام عندما وعظ

ص:523


1- . سبأ: 8.
2- . الذاريات: 52 و 53.

اليهود قالوا: إنّ به مسّاً من الشيطان، فهو يهذي فلماذا تصغون إليه؟!.(1)

ومن المسلّم والبديهي أنَّ قريشاً لو كان في مقدورها أن تتّهم رسولَ اللّه الصادق الأمين صلى الله عليه و آله و سلم بغير هذا الاتّهام وتنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخّرت عن ذلك، ولكن حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم المشرقة خلال الأربعين سنة الماضية، وسوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ وغير المكي كانت تحول دون أن ينسبوا إليه شيئاً من تلك النسب القبيحة، الذميمة. لقد كانت «قريش» مستعدة لأن تستخدم أي شيء - مهما صغر - ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فمثلاً عند ما وجده أعداء الرسالة يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى «جبر» عند المروة، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر ضدّه صلى الله عليه و آله و سلم فوراً فقالوا: واللّه ما يُعلِّمُ محمَّداً كثيراً ممّا يأتي به إلّا «جبر» النصراني.

فردّ عليهم القرآن الكريمُ بقوله:

«وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» .(2)

«وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ» .(3)

القرآن يرد على جميع الاتهامات:

وربّما نسبوا إليه صلى الله عليه و آله و سلم الكهانة، والكاهن هو مَن يتصل بعناصر من الجن(4)

ص:524


1- . انجيل يوحنا: الفصل 10، الفقرة: 20.
2- . النحل: 103.
3- . الدخان: 13 و 14.
4- . الجن كائن من الكائنات ومخلوق من مخلوقات اللّه تعالى وقد أخبر به القرآن الكريم في مواضع عديدة كما سُمّيت إحدى السور باسم الجن.

أو الشياطين ويتلقّى منهم أخباراً حول الماضي والمستقبل، وكان هذا موجوداً قبل الإسلام كما ترويه كتب السير والتواريخ.(1)

وقد رد القرآن الكريم على هذه المقالة و هذا الزعم إذ قال تعالى:

«وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ» .(2)

كما ردّ أيضاً تهمة السحر، والكذب والافتراء والشعر، إذ قال تعالى وهو يصف المتّهمين تارة بالكفر وأُخرى بالظلم:

«وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ» .(3)

وقال تعالى: «وَ قالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً» .(4)

وقال سبحانه متعجباً مِنهم: «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» .(5)

وقال تعالى: «وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» .(6)

وقال سبحانه: «وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ» .(7)

وقال عزّوجلّ: «فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ» .(8)

وقال تعالى: «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .(9)

وقال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ» .(10)

وقال سبحانه: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ

ص:525


1- . راجع: بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب: 3/269 باب علم الكهانة والعرافة.
2- . الحاقة: 42.
3- . ص: 4.
4- . الفرقان: 8.
5- . الشعراء: 153.
6- . الحجر: 6.
7- . التكوير: 22.
8- . الطور: 29.
9- . النحل: 101.
10- . هود: 13.

آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً» .(1)

وقال سبحانه: «أَفْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» .(2)

وقال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» .(3) وقال تعالى: «وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ» .(4)

وربّما وصفوا القرآن بأنّه أضغاث أحلام فردّهم سبحانه بقوله.

«بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ» .(5)

وهكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح الاتّهام والتشويش على الشخصية المحمَّدية والرسالة الإسلامية كلّ مذهب، فمرّة وصفوه بأنّه كاهن، وأُخرى بأنّه ساحر، وثالثة بأنّه مسحور، ورابعة بأنّه مجنون، وخامسة بأنّه معلّم، وسادسة بأنّه كذاب، وسابعة بأنّه مفترٍ، وثامنة بأنّه مفترٍ أومجنون على سبيل الترديد، وتاسعة بأنّه شاعر، وعاشرة بأنّ ما يقوله ما هو إلّاأضغاث أحلام.

2. فكرةُ معارضة القرآن:

لم يُجدِ استخدام سلاح الاتّهام ضد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفعاً، ولم يأت بالثمار الّتي كان يتوخّاها المشركون منه، لأنّ الناس كانوا يُدركون بفطنتهم وفراستهم أنّ للقرآن جاذبيّة غريبة، وأنّهم لم يسمعوا كلاماً حلواً، وحديثاً عذباً مثله.

إنّ لكلماته من العمق والعذوبة بحيث يتقبّلها كلُّ قلب، وتسكن إليها كلّ نفس.

ص:526


1- . الفرقان: 4.
2- . سبأ: 8.
3- . الطور: 30.
4- . يس: 69.
5- . الأنبياء: 5.

من هنا لم ينفع اتّهام قريش لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالجنون وبأنَّ ما يقوله إن هو إلّا من نسج الخيال، ونتائج الجنون، شيئاً، فقرّرت أن تخطّط لتدبير آخر ظناً منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه، وعن الاستماع إلى كتابه، ألا وهو: معارضة القرآن الكريم.

فعمدت إلى «النضر بن الحارث» وكان من شياطين قريش، وممّن كان يؤذي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وينصب له العداوة، وكان قد قضى شطراً من حياته في الحيرة بالعراق وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث «رُستم» و «إسفنديار» وقصصهم، وحكاياتهم، وأساطيرهم، وطلبوا منه أن يجمع الناسَ ويقص عليهم من تلكم الأساطير والحكايات يلهي بها الناس عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ويصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!!

فكان إذا جلس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مجلساً فذكَّر (الناس) فيه باللّه، وحذر قومه ما أصاب مَن قبلَهم من الأُمم من نقمة اللّه، خَلفه «النضرُ» في مجلسه إذا قام صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال: أنا واللّه يا معشر قريش أحسنُ حديثاً منه فهلمَّ إليّ، فأنا أُحدِّثكم أحسنَ من حديثه.

ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و «رستم» و «اسفنديار» ثم يقول:

بماذا محمَّد أحسن حديثاً منّي وما حديثه إلّاأساطير الأَوّلين اكتتبها كما اكتتبتُها؟

وقد كانت هذه الخُطة حمقاء جداً إلى درجة أنّها لم تدم إلّاعدة أيّام لا أكثر حتّى أنّ قريشاً سأمت من أحاديث «النضر» وسرعان ما تفرّقت عنه.

وقد نزل في هذا الشأن آيات هي:

«وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي

ص:527

يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» (1).(2)

***

3. تحجّجات صبيانيّة وجاهليّة:

وربّما جسَّدوا معارضتهم للدعوة المحمَّدية في صورة تحجّجات ومجادلات جاهليّة ومآخذ سخيفة أخذوها على رسول اللّه ورسالته، تنم عن تكبّر وجهل، وعناد ولجاج طبعوا عليه.

وها نحن نذكر أبرزها:

أ - لماذا لم ينزل القرآن على ثريّ من أثرياء مكّة أو الطائف؟!

قال تعالى حاكياً قولهم: «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» .(3)

ب - لماذا لم يرسل إليهم ملائكة ولماذا هو بشر؟!

قال تعالى حاكياً عنهم: «وَ ما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً» .(4)

وقال تعالى حاكياً عنهم أيضاً:

«وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» .(5)

ج - أنَّه يدعو إلى خلاف ما كان عليه الآباء، من الدين والعقيدة والسلوك؟

يقول عنهم سبحانه:

ص:528


1- . الفُرقان: 5 و 6.
2- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/195 و 239.
3- . الزخرف: 31.
4- . الإسراء: 94.
5- . الفرقان: 7.

«وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ» .(1)

د - تبديل الآلهة بإلهٍ واحدٍ.

قال اللّه حاكياً عنهم:

«وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ * أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ» .(2)

ه - القول بحشر الأجساد وتجدّد الحياة في يوم القيامة.

قال تعالى حاكياً عنهم:

«وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» .(3)

و - لماذا ليس عنده مثل ماكان لدى موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا، وقد توصّل المشركون إلى هذا النمط من الاعتراض بسبب اتّصالهم بأحبار اليهود.

يقول اللّه حاكياً عنهم:

«فَلَمّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى» .(4)

ز - لماذا ليس معه ملك يُرى ويشاهَد ويحضر معه في كلّ مقام ومشهد.

قال تعالى: «وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ» .(5)

ص:529


1- . المائدة: 104.
2- . ص: 4 و 5.
3- . السجدة: 10.
4- . القصص: 48.
5- . الأنعام: 8.

4. مقترحات عجيبة ومطاليب غريبة:

اشارة

وكان المشركون إذا نفذت تحجّجاتهم واعتراضاتهم الواهية، وقوبلوا بردود قوية وقاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات سخيفة على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في سياق معارضتهم لدعوته، ونورد هنا أبرز تلك الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى معاناة النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم من قومه:

لقد اقترحوا عليه:

1. أن يعبد أصنامهم سنة ويعبدوا إلهه سنة أُخرى وجعلوا ذلك شرطاً لإيمانهم بدعوته!!

فأنزل اللّه تعالى في ردّهم سورة «الكافرون»:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ * وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ * وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ * وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ».

2. تبديل القرآن، فقد دفع نقدُ القرآن الكريم للوثنية، والازدراء على الأصنام، دفعهم إلى أن يطلبوا من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الأوثان والازدراء بالأصنام، وإبطالها.

قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا: «وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» .(1)

فردّ اللّه عليهم بقوله: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» .(2)

ص:530


1- . يونس: 15.
2- . يونس: 15.

3. مطاليب مادية عجيبة!!

وقد عمدوا - بسبب عنادهم وعتوّهم - إلى المطالبة بأُمور لا ترتبط بهداية الناس، مثل مطالبته بأن يفجر لهم ينابيع، أو يُسقط السماء على رؤوسهم قطعاً، أو يصعد إلى السماء، أو يأتي باللّه سبحانه وتعالى، أو غير ذلك من الاقتراحات والمطاليب الّتي كانت إمّا مستحيلة في نفسها أوتناقض غرض الدعوة!!

قال اللّه حاكياً عنهم ذلك: «وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ» .(1)

صبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واستقامته وثباته:

ولقد قابل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّ هذه التحجّجات الإيذائية وما طرح مِنَ الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم وثبات هائل، إيماناً منه بدعوته، وحرصاً على إبلاغ رسالته.

يقول اللّه تعالى في هذا الصدد:

1. «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» .(2)

2. «وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .(3)

3. «وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» .(4)

ص:531


1- . الإسراء: 90-93.
2- . الأحقاف: 35.
3- . يونس: 109.
4- . النحل: 127.

4. «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ» .(1)

5. «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» .(2)

6. «وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً» .(3)

***

معاجز النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم تنحصر في القرآن الكريم:

اشارة

وبالمناسبة لابد أن نذكر أنّ المشركين ومَن حذا حذوهم من الكفّار والمعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمعاجز وديات لا بدافع الرغبة في الإيمان بدعوته، بل بدافع اللجاج والعناد، وإلّا فإنّ معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز، فقد أتى رسول اللّه بآيات ومعاجز كثيرة أُخرى غير القرآن، كان كلّ واحدة منها تكفي للاقتناع برسالته، والإيمان بصحّة دعواه.

فالقرآن نفسه يشير إلى أبرز هذه المعاجز وهي:

1. شقّ القمر

فقد طلب المشركون من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يشق لهم القمر نصفين حتّى يؤمنوا به، فلمّا فعل ذلك لهم بإذن اللّه كفروا به وقالوا: إنّه سحر!!

يقول اللّه تعالى:

«اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ * وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» .(4)

ص:532


1- . الكهف: 28.
2- . القلم: 48.
3- . المزمل: 10.
4- . القمر: 1 و 2.
2. الإسراء والمعراج

إنّ العروج برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - والّذي سيأتي مفصّلاً - هو الآخر معجزة من معاجزه القوية، وقد نطق بها القرآن بقوله:

«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» .(1)

3. مباهلة أهل الباطل

إنّ تقدّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع مَن خرج بهم إلى المباهلة، وإحجام النصارى عن مباهلته، معجزة أُخرى من معاجزه صلى الله عليه و آله و سلم وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية إذ قال:

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» .(2)

وستأتي قصَّة المباهلة على نحو التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة.

4. الإخبار بالمغيبات

أخبر القرآن الكريم بأُمور غيبية كثيرة، فقد أخبر عن غلبة الروم بعد سنين، قال تعالى:

«الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي

ص:533


1- . الإسراء: 1.
2- . آل عمران: 61.

بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ» .(1)

هذا وقد أخبرت الأخبار والأحاديث عن معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم. ومن هذه المعاجز ما ذكره الإمام أمير المؤمنين علّي بن أبي طالب - كما في نهج البلاغة - حول سؤال المشركين من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قلع شجرة بعروقها وجذورها ولمّا فعل ذلك وقال: «يا أيّتها الشجرة إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر، وتعلمين أنّي رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين يديّ بإذن اللّه».

فانقلعت بعروقها ولها دويّ عجيب ووقفت بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولكنّهم كذّبوا وقالوا: ساحر كذّاب، علوّاً واستكباراً.

وقد صرّح الإمام في كلامه هذا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أخبرهم بأنّهم لا يؤمنون وإن ظهرت لهم المعجزة الّتي طلبوها، وإنّ فيهم مَن يطرح في القليب (في معركة بدر) وإنّ منهم من يحزّب الأحزاب (لمعركة الخندق).(2)

حرص النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على هداية قريش:

كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يحرص على هداية قريش وإرشادهم وإيقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين وقائدهم يعلم جيداً بأنّ اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو إلّاأمر نابع من تقليد الآباء، والجدود، أو اتّباع أسياد القبيلة وكبرائها، وهو بالتالي لا يستند إلى جذور في أعماق الناس وأُسس في عقولهم ونفوسهم.

ص:534


1- . الروم: 1-4. وقد أشار القرآن الكريم إلى موارد أُخرى من هذه القبيل. فقد أخبر عن هلاك أبي لهب قال تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ...». وأخبر عن هزيمة المشركين في بدر، قال سبحانه: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ» (القمر: 45).
2- . لاحظ: نهج البلاغة: الخطبة 192.

من هنا فإنَّ أيَّ انقلاب يحصل ويحدث في أوساط السادة والكبراء بأن يؤمن أحدهم مثلاً كان كفيلاً بأن يحلّ الكثير من المشاكل.

من هنا كان ثمّة إصرار كبير على جرّ «الوليد بن المغيرة» الّذي أصبح ابنه «خالد» في ما بعد من قادة الجيش الإسلاميّ، لأنّه كان أسنَّ مَن في قريش وأكثرهم نفوذاً، وأعلاهُم مكانة، وأقواهم شخصية، وكان يُدعى حكيم العرب، وكانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر.

وقد كلّمه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم في ذلك وقد طمع في إسلامه، فَبينا هو في ذلك إذ مرَّ به «ابن أُم مكتوم»، فكلّم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجعل يستقرئه القرآن فشقَّ ذلك منه على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى أضجره، وذلك أنّه شغله عمّا كان فيه من أمر «الوليد». وما طمع فيه من إسلامه، فلمّا أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه، فنزل قوله تعالى:

«عَبَسَ وَ تَوَلّى * أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى * وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى * أَمّا مَنِ اسْتَغْنى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدّى * وَ ما عَلَيْكَ أَلاّ يَزَّكّى * وَ أَمّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى * وَ هُوَ يَخْشى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهّى * كَلاّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ» (1).(2)

وقد فنّد علماء الشيعة ومحقّقوهم هذه الرواية التاريخية، واستبعدوا صدور مثل هذا السلوك عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي امتَدحَهُ ربُّ العالمين بالخلق العظيم، ووصفه بالرأفة بالمؤمنين، وقالوا: ليس في الآيات ما يدلّ على أنّ الّذي عبَس وتولّى هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّها نزلت في رجل من بني أُميَة، كان عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فجاء ابن أُمّ مكتوم، فلمّا رآه تقذر منه، وجمع نفسه، وعبس، وأعرض

ص:535


1- . عبس: 1-11.
2- . لاحظ السيرة النبوية لابن هشام: 1/244-245.

بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك.(1)

***

5. تحريم المشركين استماع القرآن

اشارة

كانت البرامجُ الواسعة الّتي دبّرها الوثنيّون في «مكّة» لمكافحة الإسلام والحيلولة دون انتشاره بين القبائل والجماعات، تُنفَّذ الواحدة تلو الآخرى، ولكن دون جدوى، ودون أن يكسب أصحابُها من ورائها أي نجاح، وأيّة نتائج على المستوى المطلوب، فقد كانت تلك المؤامرات تفشل في كلّ مرة، ولا يجني المشركون منها سوى الخيبة والفشل، وسوى النتائج المعكوسة في أغلب الأحايين.

فقد مارسوا الدعاية ضد رسول اللّه فترة من الزمن ولكن لم يحالفهم التوفيقُ الكاملُ في ذلك، فقد وجدوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أكثر ثباتاً واستقامة في طريقه وأشدّ إصراراً على هدفه، وكانوا يرون بأُمّ أعينهم بأنّ عقيدة التوحيد في انتشار مستمر ومتزايد، يوماً بعد يوم.

ولهذا قرَّر سادة قريش وزعماء «مكّة» المشركون أن يمنعوا الناس عن سماع القرآن. ولكي تتحقّق خطّتهم هذه وتلبس ثوب الوجود بَثّوا جواسيسهم في كلّ أنحاء مكّة ومداخلها ليمنعوا من يفدُ إليها للحج أوالتجارة من الاتّصال بمحمَّد، ومنعه بكلّ صورة ممكنة، عن الاستماع إلى القرآن، وأعلن مناديهم ما ذكره القرآن عند قوله تعالى:

ص:536


1- . مجمع البيان: 10/266. وقد بحثنا هذا الموضوع بالتفصيل في تفسيرنا «منية الطالبين في تفسير القرآن المبين»: 30/98-106، وأثبتنا أنّ العابس ليس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. فمن أراد التفصيل فليرجع إلى تفسيرنا المذكور.

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» .(1)

لقد كان القرآن أقوى أسلحة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فقد ألقى رعباً عجيباً في نفوس الأعداء وأقضّ مضاجعهم.

وكان أشراف قريش وأسيادها يرون بأُمّ أعينهم كيف أنَّ أعدى أعداء النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم (وهو أبوجهل) عندما مشى إليه ليستهزئ به، ويسخر منه، ما أن سمع آيات من القرآن، إلّاوفقد السيطرة على نفسه، ولان قلبه، ولهذا لم يكن أمام أُولئك الأسياد إلّاأن يمنعوا من سماع القرآن منعاً باتاً، ويحرّموا التحدّث إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تحريماً قاطعاً.

ولهذا كان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعض ما يتلوه من القرآن وهو يصلّي إسترق السمع دونهم فرقاً منهم، فإن رأى أنّهم قد عرفوا أنّه يستمع منه ذهبَ خشيةَ أذاهُم فلم يستمع.(2)

واضعو القرار ينقضون قرارهم!!

ولكن من الطريف العجيب أنّ نفس الذين كانوا يمنعون الناس بشدة عن الاستماع إلى القرآن، وكانوا يعدون كلّ مَن يتجاهل قرار (تحريم الاستماع إلى القرآن) مخالفاً يتعرّض للملاحقة والعقاب، نقضوا بعد أيام من إصدار هذا القرار قرارهم وانضمُّوا إلى صفوف المخالفين له في الخفاء.

فإذا بالذين يمنعون من سماع القرآن في العلن، يستمعون إليه في الخفاء!

واليك بعض ما جرى في هذا الصعيد:

خرج «أبوسفيان» و «أبوجهل» و «الأخنس» ليلة ليستمعوا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يصلّي من الليل في بيته، فأخذ كلُّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه،

ص:537


1- . فصّلت: 26.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/206.

وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتّى إذا طلَعَ الفجرَ تفرَّقوا، فجمعهم الطريقُ، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا؛ حتّى إذا كانت الليلة الثانيةُ عاد كلُّ رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرة، ثم انصرفوا، حتّى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كلُّ رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتّى نتعاهد ألّا نعود، فتعاهدوا على ذلك. ثم تفرّقوا.(1)

***

6. منع الأشخاص من الإيمان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

بعد خطة (تحريم الاستماع إلى القرآن) بدأوا بتنفيذ خطة أُخرى وهي منع كلّ قريب وبعيد ممّن رغبوا في الإسلام وقدموا إلى مكّة ليتعرّفوا على النبيّ، وعلى ما أتى به من كتاب ودين، من الاتصال بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

فبثّت قريش جواسيسها في الطرق المؤدّية إلى مكّة ليتصلوا بمن يلقونه من هؤلاء ويبادروا إلى منعه من الاتصال برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والإيمان برسالته، بشتّى الحيل والأساليب.

وإليك نموذجين حيّين من هذا الأمر.

الأوّل: الأعشى بن قيس:

وكان من شعراء العهد الجاهلي البارزين، وكانت قصائده تتناقلها مجالس

ص:538


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/206-207.

السَّمر القرشية، وتتغنّى بها محافل أُنسهم.

وقد بلغ «الأعشى» في كبره نبأ ما جاء به رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من التوحيد ومن تعاليم الإسلام العظيمة، وكان يعيش في منطقة نائية عن مكّة، حيث لم تصل إليها أشعة الرسالة الإسلامية على وجه التفصيل بعد، ولكن ما قد سمع به من تعاليم الإسلام على نحو الإجمال قد أوجد في نفسه هياجاً خاصاً وحرّك مشاعره فأنشأ قصيدة مطوّلة يمدح فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم خرج إلى مكّة ليهديها إليه صلى الله عليه و آله و سلم وهو في نفس الوقت يريد الإسلام.

ورغم أنّ تلكم القصيدة لا تتجاوز أبياتُها 24 بيتاً، ولكنّها تُعدّ من أفضل وأفصح ما قيل من الشعر في الإسلام، وفي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في العهد النبوي ويوجد نصّها الكامل في «ديوان الأعشى» وقد قال فيها وهو يذكر بعض تعاليم الإسلام:

نَبيّاً يرى ما لا تَرون وذكرُه أغار لعَمري في البلاد وأنجدا

فإياك والميتات لا تقربنّها ولا تأخذ سَهماً حديداً لتفصدا

وذا النُصب المنصوب لا تُنسكُنَّه ولا تعبد الأوثان واللّه فاعبُدا

ولا تقربنَّ حُرَّة كان سرُّها عليك حراماً فانكحن أوتأبّداً

وذا الرحم القربى فلا تقطعنَّه لعاقبة، ولا الأسير المقيِّدا

وسبِّح على حين العشيات والضحى ولا تحمَد الشيطان واللّه فاحمدا

فلمّا كان بمكة أو قريباً منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسألوه عن أمره، فأخبرهم بأنّه جاء يريد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليسلم، (وحيث إنّهم كانوا يعرفون بأنّ «الأعشى» رجل يحب النساء والخمر حبّاً كبيراً لذلك عمدوا إلى الضرب على هذا الوتر لينفّروه من الإسلام)، فقالوا له: يا أبا بصير (وهي كنية الأعشى) إنّه يُحرّم

ص:539

الزنا.

فقال الأعشى: واللّه إنّ ذلك لأمرٌ ما لي فيه من أرب.

فقالوا له: يا أبا بصير فإنَّه يحرِّم الخمرَ.

فقال الأعشى - وقد صُدِمَ بهذا الخبر -: أمّا هذه فواللّه في النفس منها لعلالات، ولكنّي منصرفٌ فاتروّى منها عامي هذا، ثم آتيه فأُسلم!! فانصرفَ فمات في عامه ذلك، ولم يَعُدْ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

الثاني: الطُفيل بن عَمرو الدوسيّ:

وهو الشاعر العربي الحكيم العذب اللسان، صاحب النفوذ والكلمة المسموعة في قبيلته.

يروى أنّه قدم «مكّة» ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بها، وكانت قريش تخشى أن يتّصل بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فيسلم.

ومن البديهي أنّ إسلام رجل مثله كان ممّا يشقّ على قريش جدّاً، ولهذا مشى إليه رجالٌ منهم وقالوا له - محذرين إيّاه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم -:

يا طُفيل، إنّك قدمت بلادَنا، وهذا الرجلُ الّذي بين أظهرنا قد أعضلَ بنا، وقد فرّق جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وإنّما قوله كالسحر يفرّق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنَّه، ولا تسمعنَّ منه شيئاً.

ففعلت تحذيراتُ قريش فعلتَها في نفس الطفيل وهم يكرّرونها عليه بقوة وإصرار، حتّى أنّه قرّر أن لا يسمع من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم شيئاً، ولا يكلّمه، وحشّى أُذنه - حين غدا إلى المسجد للطواف - قطناً، خوفاً من أن يبلغه شيء من قول رسول

ص:540


1- . السيرة النبوية: 1/259-260.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو لا يريد أن يسمعه!!!

يقول الطفيل: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائمٌ يصلّي عند الكعبة، فقمتُ منه قريباً فأبى اللّه إلّاأن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعتُ كلاماً حسناً، فقلت في نفسي: واثكلَ أُمّي، واللّه إنّي لرجل لبيبٌ شاعرٌ ما يخفى عليّ الحسَنُ من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الّذي يأتي به حسناً قبلتُه، وإن كان قبيحاً تركتُه؟

فمكثتُ حتّى انصرف رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى بيته فاتّبعته حتّى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمَّد إنّ قومك قد قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا، فواللّه ما برحوا يخوّفونني أمرك حتّى مددت أُذني بكرسف لئلّا أسمع قولك، ثم أَبى اللّه إلّا أن يُسمعني قولك فسمعتهُ قولاً حسناً، فأعرض عليّ أمرك، فعرض عليِّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الإسلام وتلا عليّ القرآن، فلا واللّه ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، فأسلمتُ وشهدتُ شهادة الحق. ثم قلت: يا نبيّ اللّه إنّي امرؤ مطاعٌ في قومي وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام.

ثم يكتب ابن هشام قائلاً: إنّ الطفيل لم يزل بأرض «دوس» يدعوهم إلى الإسلام حتّى هاجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة ومضى «بدر» و «أُحد» و «الخندق» فقدم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمن أسلم معه من قومه وهم سبعون أوثمانون بيتاً ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخيبر فلحقوا جميعاً برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخيبر، وبقي مع النبيّ حتّى قُبِضَ صلى الله عليه و آله و سلم ثم سار مع المسلمين - في زمن الخلفاء - إلى «اليمامة» وشارك في معركتها وقُتِلَ فيها.(1)

ص:541


1- . السيرة النبوية: 1/256-258 بتلخيص.

20 أُسطورة الغرانيق

اشارة

قد يكون بين القرّاء من يودُّ التعرّف على أُسطورة «الغرانيق» الّتي رواها بعض مؤرّخي السنّة ومعرفة جذورها، كما يودّ التعرّف على الأيادي الخفية الّتي كانت وراء اختلاق هذه الأُسطورة، وأمثالها من الأكاذيب، والمفتريات.

كان اليهودُ وبخاصّة أحبارهم ولا يزالون العدوّ رقم واحد للإسلام.

وقد عَمَد فريقٌ منهم - مثل «كعب الأحبار» وغيره - ممّن تظاهروا باعتناق الإسلام إلى تحريف الحقائق باختلاق الأكاذيب وجعل الأخبار المفتراة على لسان الأنبياء.(1)

ولقد أدرج بعضُ المؤلّفين المسلمين بعض هذه المفتريات في مؤلّفاتهم وجعلوها في عداد الحديث والتاريخ الصحيح من دون تمحيصها والتحقيق فيها، ثقة بكلّ من أظهر الإسلام وتظاهر بالإيمان، وانضم إلى صفوف المسلمين!!

ولكنَّ اليوم حيث يجد العلماء فرصة أكبر للتحقيق في هذا النوع من الأحاديث والأخبار، والمنقولات والنصوص، وبخاصّة بعد أن توفّرت لديهم، بفضل جهود طائفة من المحقّقين المسلمين القواعد والضوابط الكفيلة بتمييز الحسن عن القبيح، والصحيح عن السقيم، وفرز الحقائق التاريخية عن القصص الخياليّة، والروايات الاسطورية.

من هنا لا ينبغي لكاتب مسلم ملتزم أن يعتبر كلّ ما يراه في مصنّف تاريخيّ

ص:542


1- . وهي الّتي يُطلَق عليها الاسرائيليات وقد أُلّفَت في هذا المجال بعض الكتب.

أو غير تاريخيّ متقدِّم أمراً صحيحاً مقطوعاً بسلامته، ويرويه في كتابه من دون دراسة وتحقيق، وتمحيص وتقييم.

ماهي أُسطورة الغرانيق؟!

يقولون: إنّ «الأسود بن المطلب» و «الوليد بن المغيرة» و «أُمية بن خلف» و «العاص بن وائل» وهم من زعماء قريش وأسيادها قالوا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

يا محمَّد هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبدُ فنشترك نحن وأنت في الأمر!!

وقالوا ذلك رفعاً للاختلاف، وتضييقاً لشقّة الخلاف، فأنزلَ اللّه سبحانه سورة الكافرين الّتي أمر فيها نبيّه أن يقول في جوابهم:

«لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ * وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» .

ومع ذلك كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يرغب في أن يساوم قريشاً ويجاريهم وكان يقول في نفسه: ليت نزل في ذلك أمر يقرّبنا من قريش.

وذات يوم وبينما كان صلى الله عليه و آله و سلم يتلو القرآن عند الكعبة ويقرأ سورة «النجم» فلمّا بلغ قوله تعالى:

«أَ فَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَ الْعُزّى * وَ مَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى» .(1)

أجرى الشيطان على لسانِه الجُمْلتين التاليتين:

«تِلْكَ الْغَرانِيقُ الْعُلى. مِنْها الشفاعَةُ تُرْتَجى».

فقرأهما من دون إختيار، وقرأ ما بعدها من الآيات، ولمّا بلغ آية السجدة سجد هو ومن حضر في المسجد من المسلمين والمشركين أمام الأصنام، إلّا «الوليد» الّذي عاقه كبر سنه عن السجود!!

ص:543


1- . النجم: 19 و 20.

وفرح المشركون، وارتفعت نداءاتهم يقولون: لقد ذكر «محمَّد» آلهتنا بخير.

وانتشر نبأ هذه المصالحة والتقارب بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمشركين، المهاجرين إلى الحبشة، فعاد على أثرها جماعة منهم إلى مكّة، ولكنّهم ما أن كانوا على مشارف «مكّة» إلّاوعرفوا بأنّ الأمر تغيّر ثانية، وأنّ ملك الوحي نزل على النبيّ وأمره مرة أُخرى بمخالفة الأصنام ومجاهدة الكفّار والمشركين، وأخبره بأنّ الشيطان هو الَّذي أجرى تينك الجملتين على لسانه، وأنّه لم يقله، وأنّه ليس من «الوحي» في شيء أبداً.

وعندئذ نزلت الآيات (52-54) من سورة «الحج» الّتي يقول اللّه تعالى فيها:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .

«لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ * وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .

هذه هي خلاصة أُسطورة «الغرانيق» الّتي أوردها «الطبري» في تاريخه(1)ويذكرها ويردّدها المستشرقون المغرضون بشيء كبير من التطويل والتفصيل!!

محاسبة بسيطة لهذه الأُسطورة

لنفترض أنّ «محمّداً» لم يكن نبياً مرسلاً ولكن هل يمكن لأحد أن ينكر ذكاءه وحنكته، وفطنته وعقله؟!

فهل لعاقل فَطِن، محنَّك لبيب مثله أن يفعل مثل هذا؟!

ص:544


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/75-78.

إنّ الذكيّ اللبيب الّذي يجد أنصاره يتكاثرون ويتزايدون يوماً بعد يوم وتقوى صفوفهم أكثر فأكثر بينما تتفرّقُ صفوفُ أعدائه ومناوئيه ويتناقص معارضوه وخصومُه، هل يقدم في مثل هذه الحالة على عمل يوجب أن يسيء الجميعُ ظنّهم به، ويشك الصديق والعدوُ في أمره؟!

هل تصدّق أنت أيها القارئ الكريم أنّ رجلاً ترك جميع الأموال والمناصب الّتي عرضتها قريش عليه، في سبيل دينه الحنيف، وعقيدة التوحيد أن يصبح مرة أُخرى من دعاة الشرك، ومروّجي الوثنية؟؟!

إنّنا لن نصدّق بمثل هذا الاحتمال في حقّ مصلح أو سياسي عادي من الساسة والمصلحين فكيف برسول اللّه ونبيّه العظيم؟!

رأي العقل في هذه القصة:

1. إنّ العقل يحكم بأنّ المرشدين الذين يبعثهم اللّه تعالى إلى البشرية لهدايتها وإرشادها، وتزكيتها وتعليمها مصونون عن أي خطأ وزلل بقوة (العصمة) الّتي أُوتوها، إذ لو تعرّض مثل هؤلاء إلى الخطأ والزلل في أُمور الدين لزالت ثقة الناس بهم وبكلامهم.

يجب علينا أن نقارن بين أمثال هذه القصص، وبين هذا الأصل العقائديّ المنطقي ونعالج بواسطة معتقداتنا القوية المبرهَنة متشابهات التاريخ ومعضلاته.

إنّ من المسلَّم أنّ عصمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت تمنعه وتحفظه من أي نوع من هذه الحوادث في تبليغ رسالته السماوية.

2. إنّ هذه الأُسطورة تقوم أساساً على أنّ النبيّ قد تعب من أداء مهمَّته الّتي ألقاها اللّه سبحانه عليه، وقد شقَّ عليه ابتعاد الوثنيّين عنه، فكان يبحث عن مخلَص من هذا الوضع المتعِب، يكون طريقاً - حسب تصوّره - إلى إصلاح وضعهم!!

ص:545

ولكن العقل يقضي بأنّ على الأنبياء أن يكونوا صابرين حلماء أكثر ممّا يتصوّر، وأن يكونوا مضرب المثل عند الجميع في ذلك، فلا يُحدّثوا أنفسَهم بالتهرّب من المسؤولية وترك الساحة مطلقاً، مهما اشتدّت الظروف، وتأزّمت الأحوال. بينما لو صحّت هذه الرواية - الأُسطورة - لكانت دليلاً على أنَّ بَطلَ حديثنا قد فَقَد عنان الصبر وأفلت منه زمام الثبات والاستقامة وأنّه بالتالي تعب وملّ، وضني وكلّ، وهو أمرٌ لا ينسجم مع ما يحكم به العقل السليمُ في حقّ الأنبياء، كما لا يتّفق كذلك مع ما عهدناه من سوابق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومن مستقبله أبداً.

إنّ مختلق هذه الأُسطورة لم يمرّ بخاطره وباله أنَّ القرآن الكريم شهد ببطلان هذه القصة، إذ يعد اللّه تعالى نبيه الكريم، بأن لا يتسرّب إلى القرآن أي شيء من الباطل، إذ قال:

«لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ» .(1)

كما وعده أيضاً بأن يَصونه عبَر جميع أدوار البشرية من أي حادث سيّئ، إذ قال سبحانه:

«إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ» .(2)

ومع ذلك كيف يستطيع الشيطان الرجيم عدو اللّه أن ينتصر على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويسرّب إلى القرآن شيئاً باطلاً، ويصبح القرآنُ الّذي تقوم معارفه وتعاليمه على أساس معاداة الوثنية ومحاربتها داعياً إلى الوثنية؟؟!!

إنّه لأمر عجيبٌ جداً أن يفتري مختلِقُ هذه الأُسطورة أمراً ضدَّ التوحيد في موضع قد كذّبه القرآنُ قبل هذا المكان بقليل، إذ قال اللّه تعالى:

ص:546


1- . فصّلت: 42.
2- . الحجر: 9.

«وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى» .(1)

فكيف يترك اللّه نبيّه - وقد وعده بهذا الوعد - من دون حفيظ، ويسمح للشيطان بأن يتصرّف في قلبه وعقله ولسانه؟!

إنّ هذه الأدلّة العقلية إنّما تفيد مَن يكون مؤمناً بنبوة محمَّد صلى الله عليه و آله و سلم ورسالته.

وأمّا المستشرقون الذين لا يعتقدون بنبوته، ويعمدون إلى شرح ونقل وترديد أمثال هذه الأساطير للحطّ من شأن دينه ورسالته فلا تكفيهم هذه الدلائل، فلابدّ أن ندخل معهم في البحث من باب آخر.

تكذيب القِصَّة من طريق آخر

إنّ النصّ التاريخيّ يقول: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قرأ هذه السورة، وكبار قريش وأكثرهم من عمالقة الكلام، وأبطال الفصاحة والبلاغة العربية حضور في المسجد، ومنهم «الوليد بن المغيرة»، متكلّم العرب ومنطيقها المفوّه المعروف بينهم بالذكاء وحصافة العقل والنباهة، وقد سمعوا جميعاً هذه السورة إلى ختامها حيث سجد الجميع بسجدتها.

فكيف اكتفى هذا الجمعُ المؤسسُ للفصاحة والبلاغة الذين كانوا ينقدون كلّ ما يعرض عليهم نقداً دقيقاً؟!

كيف اكتفوا بتينك الجملتين اللتين امتدحتا آلهتهم، وقد تضمّنت الآيات السابقة عليهما، واللاحقة لهما على شتم آلهتم وتفنيدها، والازدراء بها بصورة صارخة و صريحة؟!

كيف تصوّر مختلق هذه الأُكذوبة الفاضحة، تلك الجماعة أصحاب اللغة العربية وآباءها ونقّاد الكلام المعدودين عند العرب كلّها من عمالقة الفصاحة

ص:547


1- . النجم: 3 و 4.

والبلاغة بلا منازع، والذين كانوا أعرف من غيرهم بإشارات تلك اللغة، وكناياتها (فضلاً عن تصريحاتها).

كيف اكتفى هؤلاء بتينك العبارتين في امتداح آلهتهم، وغفلوا عمّا سبقها ولحقها من الذمّ لها والطعن الصارخ فيها؟

إنّه لا يمكن قط أن نخدع العاديّين من الناس بهاتين الجملتين المحفوفتين بكلام مطوَّل يذم عقائدهم وسلوكهم، فكيف بمن عُرف باللب، والحصافة، والحكمة والذكاء؟!

وها نحن ندرج هنا الآيات المتعلّقة بالمقام ونترك أصفاراً (وفراغاً) في مكان الجملتين اللتين ادّعي إضافتهما، ثم نترك للقارئ نفسه أن يقيم بنفسه هل لتينَك الجملتين مكانٌ بين هذه الآيات (الّتي وردت في ذمّ الأصنام والقدح فيها):

وإليك هذه الآيات:

«أَ فَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَ الْعُزّى * وَ مَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى...1 * أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» .(1)

ثم هل يسمحُ إنسانٌ عاديّ لنفسه أن يكفَّ عن معاداة نبيٍّ هاجَمَ عقائدهُ طيلة عَشرة أعوام، وهدر إستقلاله وكيانه، وجرَّ عليه الشقاء بتسفيه أحلامه، وشتم آلهته، لعبارات متناقضة وكلام خليط من الذّم الكبير والمدح العابر.

دَليلٌ لغَويٌّ على تفنيد هذه الأُسطورة

يقول العلامةُ الجليلُ الشيخ محمَّد عبده: لم يُستعمَل لفظ الغرانيق في الآلهة

ص:548


1- . النجم: 19-23.

أبداً لا في اللغة ولا في الشعر العربي.(1)

و «غرنوق» و «غَرنيق» اللّذان جاءا في اللغة استعملا في نوع من طيور الماء أو الشابّ الجميل، ولا يَنطبق أيُ واحد من هذه المعاني على الآلهة.

وقد اعتبر «السيروليم مويير» أحدُ المستشرقين قصة «الغرانيق» هذه من مسلَّمات التاريخ واستدل لها بقوله: لم يكن يمض على هجرة المهاجرين الأُول إلى الحبشة أكثر من ثلاثة أشهر يوم صالح محمَّدٌ قريشاً فعادوا إلى مكّة.

إنّ المسلمين الذين هاجَروا إلى تلك الأَرض وكانوا يعيشون في أمن وطمأنينة في جوار النجاشيّ إذا لم يكونوا يبلغهم نبأ مصالحة النبيّ لقريش لما عادوا إلى مكّة للّقاء بذويهم.

فإذن لابدَّ أَنَّ «محمَّداً» قد تذرَّع بشيء لمصالحة قريش، والتقرّب إليها، وهذا الشيء هو قصة الغرانيق»!!.(2)

ولكن يجب أن نسأل هذا المستشرق المحترم:

أوّلاً: لماذا يجب أن تكون عودة المهاجرين ناشئة عن نبأ صحيح حتماً.

إنّ النفعيّين وذوي الأهواء والأغراض يسعون دائماً إلى بثّ عشرات بل مئات الأخبار الكاذبة بين جماعتهم لتحقيق مآرب خاصّة لهم، فما الّذي يمنع من أن نحتمل أنّ هناك من افتعل خبر مصالحة النبيّ لقريش بهدف إرجاع المهاجرين من الحبشة إلى «مكّة». وقد صدّق بعض أُولئك المهاجرين هذا الخبر الكاذب فعادوا إلى أرض الوطن، بينما لم ينخدع الآخرون بها وبقوا في الحبشة ولم يعودوا

ص:549


1- . نقله عنه القاسمي في تفسيره: 12/55-56.
2- . راجع حياة محمَّد: 165 و 166.

إلى مكّة؟

ثانياً: لنفترض أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يريد أن يصالح قريشاً، فهل يكونُ الطريق إلى السلام والمصالحة منحصراً في افتعال هاتين الجملتين.

ألم يكن إعطاء مجرَّد وَعد مناسب أو مجرّد السكوت عن عقائدهم كافياً لتهدئة خواطرهم، واجتذاب قلوبهم نحوه؟

وعلى كلّ حال فإنّ عودة المهاجرين لا يكونُ دليلاً على صحّة هذه الأُسطورة، كما أنّ المصالحة والتقارب غير متوقّفين على النُّطق بهاتين الجملتين.

والأعجب من هذا أنّ البعضَ تصوَّر الآيات (52-54 من سورة الحج) قد نزلت في قصة الغرانيق.

شبهات للمستشرقين والرد عليها

اشارة

وحيث إنّ هذه الآيات قد وقعت ذريعة بأيدي المستشرقين ومرتكبي جريمة التحريف في التاريخ، فإنّنا نعمدُ هنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات، ونبين للقارئ بأنّها تنظر إلى أمر آخر، ولا ترتبط بهذه القصة بتاتاً.

وها هو نصُّ الآيات المشار إليها: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ * وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .(1)

والآن يجب أن نبيّن مفاد الآيات ولنبدأ بالآية الأُولى:

ص:550


1- . الحج - 52-54.

إنّ الآية الأُولى تذكِّرُ بثلاثة أُمور هي:

1. أنَّ الأنبياء والرسل يتمنّون.

2. أنَّ الشيطانَ يتدخّل في تمنّياتهم.

3. أنّ اللّه يمحي آثار ذلك التدخّل.

وبتوضيح هذه النقاط الثلاث يتّضح مفاد الآية والمراد منها.

وإليك توضيح تلكم النقاط الثلاث:

1. ما هو المقصود من تمنّي الأنبياء والرُسل؟

لقد كان الأنبياء والرسل يحبّون هداية أُممهم، ونشر دينهم وتعاليمهم فيها، وكانوا يدبّرون أُموراً ويخطّطون خططاً لتحقيق أهدافهم هذه، كما كانوا يتحمّلون في هذا السبيل كلّ المتاعب والمصاعب، ويثبتون في جميع المشكلات والمحن.

ولم يكن رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم مستثنى عن هذه القاعدة، فقد كان صلى الله عليه و آله و سلم يخطّط لتحقيق أهدافه كثيراً، ويهيّئ مقدّمات ويبيّن القرآن هذه الحقيقة بقوله:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى» .

فاتّضح إلى هنا المراد من لفظ تمنّى ولنشرح الآن النقطة الثانية.

2. ما هو المقصود من تدخّل الشيطان؟

إنّ تدخُّل الشيطان يمكن أن يتمّ على نحوين:

1. أن يوجد الشكّ والترديد في عزم الأنبياء، ويوحي إليهم بأنَّ هناك عوائق كثيرة تحول بينهم وبين أهدافهم، ولذلك لن يحرزوا نجاحاً في تحقيق تلك الأهداف.

ص:551

2. بأنّ الأنبياء كلّما مهّدوا لأمر وهيَّأوا له مقدّماته، وَ ظهرت منهم أمارات تدلُّ على أنّهم مقدِمون على تنفيذه فعلاً أقام الشيطان ومن تبعه من شياطين الإنس العراقيل والموانع في طريقهم، ليمنعوهم من الوصول إلى غاياتهم.

أمّا الاحتمالُ الأوّل فلا ينسجم لا مع الآيات القرآنية الأُخرى ولا مع الآية اللاحقة.

أمّا مِن جهة الآيات الأُخرى فلأنّ القرآن ينفي بصراحة لا صراحة فوقها أنّه لا سلطان للشياطين على أولياء اللّه وعباده الصالحين (ولو بأن يصوّروا لهم بأنّهم لن يقدروا على تحقيق آمالهم، وأهدافهم) إذ يقول:

«إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» .(1)

ويقول أيضاً: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» .(2)

إنّ هذه الآيات، والآيات الأُخرى الّتي تنفي سلطان الشيطان على أولياء اللّه وعباده الصالحين، وتأثيره في قلوبهم ونفوسهم لخيرُ شاهد وأفضل دليلٍ على أنَّ المقصودَ من تدخّل الشيطان في تمنّيات الأنبياء لَيس بمعنى إضعاف عزيمتهم، وإرادتهم وتكبير الموانع والعراقيل في نظرهم.

أمّا من جِهَة الآيات المبحوثة فإنّ الآية الثانية والثالثة تفسِّر وتشرح علّة التدخّل على النحو الآتي: إنّنا نختبر بهذا العمل فريقين من الناس: الفريق الأوّل: الَّذين في قلوبهم مرض، والفريق الثاني: الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر.

يعني أنَّ تدخُّل الشيطان في أعمال الأنبياء عن طريق تحريك الناس ضِدَّهم

ص:552


1- . الحجر: 42، الإسراء: 65.
2- . النحل: 99.

وضدَّ أهدافهم يوجب مخالفة الفريق الأوّل ومعارضتهم للأنبياء، في حين يكون الأمر على العكس من ذلك في الفريق الثاني فإنّه يزيد من ثباتهم وصمودهم.

وإنّ بيان أن لتدخل الشيطان في تمنّيات الأنبياء، مثل هذين الأثرين المختلفين (أي يحمل فريقاً على المخالفة وفريقاً آخر على الثبات والصمود) يفيد أنّ المراد بالتدخّل هنا هو المعنى الثاني، يعني أنّ التدخّل يحصل عن طريق تحريك الناس ضدّهم، وإلقاء الوساوس في قلوب أعدائهم، وخلق الموانع والعراقيل في طريقهم لا أنّهم يتصرّفون في نفوس الأنبياء وقلوبهم ويضعفون إرادتهم وعزمهم.

إلى هنا اتّضح معنى تدخّل الشيطان في تمنّيات الأنبياء والرسل.

والآن حان الحين لتوضيح المطلب الآخر يعني محو آثار هذا التدخّل.

3. ما هو المقصود من محو آثار التدخّل؟

إذا كان معنى تدخّل الشيطان هو تحريك الناس وتأليبهم ضد الأنبياء ليمنعوا الأنبياء والرسل من التقدّم في أهدافهم، فإنّ محو آثار التدخّل الشيطاني من قبل اللّه - حينئذٍ - يكون بمعنى أنّ اللّه يدفع عن أنبيائه ورسله كيد الشيطان ليتّضح الحقُّ للمؤمنين، ويكون اختباراً لمرضى القلوب كما يقول تعالى في آية أُخرى.

«إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» .(1)

وخلاصة القول: إنّ القرآن يخبر - في هذه الآيات - عن سنّة للّه قديمة في مجال الأنبياء وهي:

إنّ تَمنّي التقدّم في الأهداف وتمنّي التوفيق في هداية الناس هو فعل الأنبياء دائماً. ثم يأتي الدور لتدخّل الشيطان وأتباعه من شياطين الإنس والجنّ، وذلك

ص:553


1- . غافر: 51.

بإيجاد الموانع والعقبات في طريق الأنبياء والرسل.

ثم يأتي من بعد ذلك حلول المدد الإلهي الغيبيّ بمحو و فسخ كلّ التدابير الشيطانية المضادّة لأهداف الأنبياء المعرقِلة لتحقيق أمانيّهم.

وهذه هي إحدى السنن الإلهية الثابتة الّتي جرت في جميع الأُمم السالفة. إنّ تاريخ الأنبياء والرسل وقصصهم من نوح وإبراهيم وأنبياء بني إسرائيل وبخاصّة موسى وعيسى عليهما السلام، و تاريخ حياة الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم خير شاهد على هذا المطلب.

وينبغي استكمالاً لهذا البحث أن نقول: ولأجل ما ورد على هذه القصة الأُسطورية من مؤاخذات رفضها وفنّدها بعض المحقّقين من أهل السنّة إذ قال بعد ذكرها على النحو الّذي أدرجها الطبري في تاريخه وأرسله إرسال المسلّمات:

وأهل الأُصول يدفعون هذا الحديث بالحجّة.

ومن صحَّحهُ قال فيه أقوالاً:

منها: أنّ الشيطان قال ذلك وأذاعه والرسول عليه الصلاة والسَّلام لم ينطق به.

(وذكر وجوهاً أُخرى ثم قال:) والحديث على ما خيّلت غير مقطوع بصحّته.(1)

ص:554


1- . لاحظ: الروض الأنف (في تفسير السيرة النبوية لابن هشام) لعبد الرحمن السهيلي (المتوفّى 581 ه): 2/126.

21 الحصار الاقتصادي والاجتماعي

اشارة

إنّ أبسط وسيلة وأسهلها لضرب الأقلّيات في أي مجتمع، والقضاء عليها هو ما يُسمّى بالمكافحة السلبية الّتي تقوم أساساً على اتّحاد الأكثرية واتّفاقها على مقاطعة الأقليّة المتمرّدة.

إنّ عكس هذا يحتاج إلى أدوات متعدّدة مختلفة، لأنّه يتطلب مثلاً أن يحمل جماعة من المقاتلين السلاح، وتتوجّه نحو الأهداف المطلوبة عبر التضحية بقدر كبير من الأنفس والأموال، وإزالة العشرات من الموانع والسواتر، وهو أمر لا يُقدم عليه القادة المحنّكون إلّابعد توفّر كلّ مستلزمات المواجهة واتّخاذ جميع التدابير اللازمة، والاستعداد الكامل، وبالتالي لا يقدمون على هذه الخطوة ما لم تدعو الضرورة إليها، وتنحصرُ الحيلة في القتال.

ولكنّ المكافحة السلبية لا تتوقّف على مثل هذه الأُمور، بل تحتاج إلى أمر واحد وهو اتّفاق الأكثرية.

يعني أن يتّفق مَن يعنيهم الأمرُ ولهم عقيدة واحدة ويتحالفوا في ما بينهم بصدق على أن يقطعوا كلّ صلاتهم وعلاقاتهم بالأقليّة المعارضة، فيحرّموا التعامل التجاريّ معهم ويوقفوا الاتصال العائليّ بهم، ولا يشركونهم في أعمالهم الاجتماعية ولا يتعاونوا معهم في أُمورهم الشخصيّة أيضاً. في مثل هذه الحالة تضيق الأَرض على الأقلّية بما رحبت وتغدو الدنيا لهم على سعتها كسجن ضيق وصغير، ويصيرون عُرضة للانهيار والسقوط بأقلّ قدر ممكن من الضغط عليها.

ص:555

إنّ الاقليّة المخالفة المتمرّدة ربّما تستسلم - في هذه الحالة - وتؤوب من منتصف الطريق، وتطيع إرادة الأكثرية.

ولكن أقلية كهذه لابد أن تكون ممَّن لا تعود مخالفتها للأكثرية إلى أمر عقائديّ ولا يكون لانفصالها عن الأكثرية طابعٌ أُصوليٌ مبدئي، كما لو كان خلافها مع الأكثرية مثلاً على تحصيل ثروة أو منصب مهمّ أو ما شاكل ذلك.

فإنّ مثل هذه الأقلية إذا أحسّت بخطر جدّي، أو واجهت العذاب والسجن والحصار ستتراجع عن مخالفتها وتعود إلى طاعة الأكثرية مؤثرة اللّذة العابرة المؤقَّتة على اللّذة الاحتمالية، لأنّها لم تنطلق من دوافع إيمانية أصيلة، ولم يكن المحرّك لها محرّكاً روحياً معنوياً.

ولكن الجماعة الّتي يقوم خلافُها للأكثرية على أساس الإيمان بهدف مقدّس، لن تنصاع أبداً لمثل هذه الضغوط، ولن تنثني أمام هذه الرياح والعواصف، ولا يزيدها ضغطُ الحصار إلّاصلابة وقوة، وإصراراً وعناداً، وتردُّ جميع ضربات العدوّ بالصبر والاستقامة.

إنّ صفحات التاريخ البشريِّ تشهد بأنّ أقوى العوامل لثبات كلّ أقليّة وصمودها في وجه الأكثرية هو: قوةُ الإيمان، وعاملُ الاعتقاد، الّذي ربّما يؤدّي رسالة الثبات والمقاومة ببذل آخر قطرة دم في ساحة المواجهة.

ولنا على هذا عشرات بل ومئات الأمثلة من التاريخ الغابر والحاضر.

قريش تحاصر النبيّ والمسلمين اقتصادياً واجتماعياً

لقد شقَّ على قريش انتشار الإسلام المتزايد وأزعجها نفوذه العجيب في القبائل العربية في مدة غير طويلة بالنسبة إلى عمر الدعوة ولهذا كانت تفكّر باستمرار في حلّ لهذه المشكلة.

ص:556

فإنّ إسلام شخصيات ذات أهمية ومكانة كبرى مثل حمزة، وكذا رغبة فتية قريش المتفتحين في الإسلام، وحرية العمل والتحرّك الّتي اكتسبها المسلمون على أثر الهجرة إلى أرض الحبشة، كلّ ذلك زاد من حيرة، واضطراب الزعامة الجاهلية في مكّة، الّتي زادها حيرة، وانزعاجاً، فشل جميع مخططاتها الإجهاضية ضد الإسلام والمسلمين، وعدم حصولها على أيّة نتائج تذكر!!

من هنا فكرت في خطة جديدة، وهي أن تفرض حصاراً اقتصادياً قوياً على النبيّ والمسلمين تقطع به كلّ الشرايين الحيوية للمسلمين، وبذلك تحدّ من سرعة انتشار الإسلام وتقف دون نفوذه، وبالتالي تخنق بين كمّاشة هذا الحصار مؤسّس هذه العقيدة التوحيدية، وأنصاره.

ولهذا اجتمع زعماء قريش في «دار الندوة» ووقّعوا ميثاقاً كتبه «منصور بن عكرمة» وعلّقوه في جوف الكعبة، وتحالفوا بأن تلتزم قريش ببنوده حتّى الموت.

ونصّ هذا العقد على الأُمور التالية:

1. أن لا يبتاعوا من أنصار النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ولا يبيعوهم شيئاً.

2. أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم.

3. أن لا يؤاكلوهم ولا يكلّموهم.

4. أن يكونوا يداً واحدة على «محمَّد» وأنصاره.

وقد وقّعت على هذه الصحيفة الظالمة القاطعة كلُّ الشخصيات البارزة في قريش إلّا «مطعم بن عدي» وأعلنت عن سريان مفعوله بكلّ قوة وإصرار.

فلمّا علم حامي النبيّ الأكبر أبوطالب عليه السلام بذلك جمع بني هاشم و بني المطلب وحمّلهم مسؤولية الدفاع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والحفاظ على حياته وسلامته، وأمرهم بالخروج من مكّة وبدخول شعب كائن بين جبال مكّة كان

ص:557

يعرف بشعب أبي طالب فيه بعض البيوت العادية، والسقائف البسيطة جداً، والسكنى في ذلك الشعب بعيداً عن المجتمع المكّي المشرك.

وعمد إلى بثّ رجال منهم في نقاط مرتفعة للمراقبة والحراسة تحسّباً لأي هجوم مباغت تقومُ به قريش.(1)

وقد استمر هذا الحصار ثلاثة أعوام كاملة، وبلغ الجهدُ بالمحاصَرين في الشعب بحيث ارتفع صراخ الأطفال من الجوع والضر، وبلغت هذه الصرخات مسامع قساة مكّة إلّاأنّها لم تؤثر فيهم قط.

كان الشباب والرجال منهم يعيشون على تمرة واحدة طوال اليوم، وربّما تناصف اثنان تمرة واحدة، ولم يمكنهم الخروج من الشعب طوال هذه السنوات الثلاث إلّافي الأشهر الحرم حيث يسود الأمنُ كلّ أنحاء الجزيرة العربية.

فإذا حلّ الموسمُ كانت بنُو هاشم تخرج من الشعب فيشترون ويبيعون ثم يعودون إلى الشعب إلى الموسم الثاني.

وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يستغلّ هو أيضاً تلك المواسم في نشر دينه، والدعوة إلى ما أتى به. وكانت عناصر قريش تحاول مضايقة النبيّ وأنصاره وتمارس الحصار الاقتصادي عليهم بشكل من الأشكال حتّى في هذه المواسم، فكانوا يحضرون عند مواقع البيع والشراء، فإذا وجدوا مسلماً يريد أن يبتاع شيئاً اشتروه بثمن أغلى ليمنعوا المسلم منه!!

ص:558


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/234؛ تاريخ الطبري: 2/78، وقد كتبت هذه الصحيفة الظالمة في الليلة الأُولى من السنة السابعة للبعثة وعندما عرف أبوطالب بأمرها أنشد قصيدة في ذمهم مطلعها: ألم تعلموا أنا وجدنا محمَّداً نبياً كموسى خُطَّ في أوّل الكُتب

وكان «أبو لهب» أكثر الناس إصراراً على هذا العمل، فقد كان ينادي في الأسواق: يا معشر التجار، غالوا على أصحاب محمَّد حتّى لا يدركوا معكم شيئاً، فقد علمتم مالي ووفاء ذمّتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً، حتّى يرجع الرجل المسلم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيء يطعمهم به، ويغدو التجار على أبي لهب فيربّحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس!!.(1)

وكان «الوليد بن المغيرة» ينادي: أيّما رجل منهُم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه.(2)

وضع بني هاشم المأساوي في الشِعب

لقد بلغ الجهد والجوع بالمحاصَرين في الشعب حدّاً جعلهم يأكلون كلّ ما تقع عليه أيديهم من الخبط وورق السمر حتّى أن «سعد بن أبي وقاص» يقول: لقد جعت حتّى أنّي وطئتُ ذات ليلة على شيء رطب فوضعته في فمي وبلعته، وما أدري ما هو إلى الآن.(3)

هذا وقد بثّت قريش جواسيسها على الطرق المؤدّية إلى الشعب ليمنعوا من إيصال الطعام إلى من فيه، فلا يصل إليهم شيء إلّاسراً و مستخفى به ممّن أراد صلتهم من قريش.

فقد روي أنّ «حكيم بن حزام» (ابن أخ خديجة) و «أبو العاص بن الربيع» و «هشام بن عمرو» كانوا يسرّبون إلى «بني هاشم» في الشعب سرّاً وفي أواسط

ص:559


1- . الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية: 2/127.
2- . سيرة ابن إسحاق (السير والمغازي): 2/140.
3- . الروض الأنف: 2/127.

الليل تحت جنح الظلام، فكان الواحد منهم يحمل قمحاً وتمراً على بعير ويأتي به إلى باب الشعب ثم يصيحُ بها فتدخلُ الشعب ويأخذه بنو هاشم.

وربّما صادفهم بعض جواسيس قريش، فهمُّوا بقتله، أو سبّبوا له بعض المتاعب.

فقد روي أنّ أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد، ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمّته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومعه في الشعب، فتعلّق به وقال: تذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ واللّه لا تبرح أنت وطعامك حتّى أفضحَك بمكة. فجاءه أبو البختري فقال: مالك وله؟

فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم.

فقال له أبو البختريّ - وكان من أعداء الإسلام هو أيضاً -: طعام كان لعمّته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خل سبيل الرجل.

فأبى «أبوجهل» حتّى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ له «أبوالبختري» لحى بعير فضربه به فشجّه ووطأه وطئاً شديداً».(1)

وخلاصة القول؛ إنّ قريشاً بالغت في تضييق الحصار على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومن تبعه حتّى أنّ مَن كان يدخل «مكّة» من العرب. كان لا يجسر على أن يبيع من بني هاشم شيئاً، ومَن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله، وكان «أبوجهل»، و «العاص بن وائل» و «النضر بن الحارث بن كلدة»، و «عقبة بن أبي معيط» يخرجون إلى الطرقات الّتي تدخل «مكّة» فمَن رأوه معه ميرة وطعام نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً، ويحذرونه إن باع شيئاً منهم نهبوا ماله.

ص:560


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/236، هذا ويشكّك أحد المحقّقين في نوايا حكيم بن حزام في هذا العمل، وفي أن يكون قد حصل بدافع الوفاء لوشيجة القربى، بل كان بدافع الربح الأكثر لما ثبت - حسب قوله - من أنّه كان يحتكر الطعام على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

كما وعدوا على مَن أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتدّ البلاء عليهم، وأبدت قريش لبني عبدالمطلب الجفاء.

ولكن لم يستطع كلُّ ذلك أن يفتَّ في عضد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويقلّل من إصراره وثباته على الطريق، ولا مِن اصرار أتباعه وثباتهم وإيمانهم.

وأخيراً تركت صرخاتُ أطفالُ بني هاشم في الشعب من الجوع والعري والجهد والضر، وأوضاعهم المأساوية أثرها في نفوس بعض المشركين الموقعين على تلك الصحيفة الظالمة، وذلك الميثاق المشؤوم، فندموا على إمضائهم لتلك المقاطعة بشدة وصاروا يفكّرون في نقضها بشكل من الأشكال.

فمشى «هشام بن عمرو» إلى «زهير بن أبي أُمية» (وكان من أحفاد عبدالمطلب من جانب بناته) وقال له وهو يحثّه على نقض الصحيفة: يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت، لا يُباعون ولا يُبتاع منهم، ولا يُنكحون ولا يُنكحُ إليهم؟

أما إنّي أحلِفُ باللّه أن لو كانُوا أخوال أبي الحكم (أي أبي جهل) ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً؟

فقال زهير: ويحك يا هشام فماذا أصنع؟ إنّما أنا رجلٌ واحدٌ، واللّه لو كان معي رجلٌ آخر لقمتُ في نقضها حتّى أنقضَها. قال: قد وجدتَ رجلاً.

قال: فمن هو؟ قال: أنا.

قال له زهير: أبغنا رجلاً ثالثاً. فذهب إلى «المطعم بن عدي» فقال له: يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهدٌ على ذلك، موافقٌ لقريش فيه! أما واللّه لئن أمكنتُموُهم من هذه لتجدنَّهم إليها منكم سراعاً؟

قال: ويحك! فماذا أصنع؟ إنّما أنا رجلٌ واحدٌ.

ص:561

قال: قد وجدتَ ثانياً.

قال: من هو؟ قال: أنا.

قال: أبغِنا ثالثاً.

قال: قد فعلتُ.

قال: مَن هوَ؟

قال: زهير بن أبي أُمية.

قال: ابغِنا رابعاً.

فذهب إلى «البَختري بن هشام» فقال له نحواً ممّا قال للمطعم بن عدي، فقال: وهل مَن يُعين على هذا؟

قال: نعم.

قال: من هُوَ؟

قال: «زهير بن أبي أُمية» و «المطعم بن عديّ» وأنا معك.

قال: ابغنا خامساً.

فذهب إلى «زمعة بن الأسود بن المطلب» فكلَّمه وذكر له قرابتهم وحقّهم فقال له: وهل على هذا الأمر الّذي تدعوني إليه من أحد؟

قال: نعم... ثم سمّى له القوم (الذين وعدوه بالمساعدة على نقض تلك الصحيفة القاطعة الظالمة).

فاتّفقوا على أن يحضروا في أندية قريش في المسجد ويُعلِنُوا مخالفَتهم لتلك الصحيفة.

فلمّا أصبحوا غَدوا إلى أنديتهم... ثم أقبل «زهير بن أبي أُميّة» على الناس

ص:562

وقال:

يا أهل مكّة أنأكل الطعام ونلبسُ الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يُباعون ولا يُبتاعُ منهم؟ واللّه لا أقعد حتّى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

فقال أبوجهل، وكان في ناحية المسجد: كذبتَ واللّه لا تُشقّ.

فانتصر زمعة لزهير وردَّ على أبي جهل قائلاً: أنت واللّه أكذبُ، ما رضينا كتابَها حيث كتبت.

وقال أبوالبختري من ناحية مؤيّداً موقف زميله: صدق زمعةُ لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقرّ به.

وقال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى اللّه منها، وممّا كتب فيها.

وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك.

فأحسّ أبوجهل بأنَّ ذلك كان أمراً مبيَّتاً مدبَّراً من قبل فقال:

هذا أمرٌ قُضِيَ بليل، تُشُوور فيه بغير هذا المكان.

وكان أبوطالب - حسب بعض الروايات التاريخية - جالساً ذلك اليوم في ناحية المسجد، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقَّها فوجد (الإرضة)(1) قد أكلتها، إلّا «باسمك اللَّهمَ» (الّتي صُدرَت بها تلك الصحيفة وهي جملة كانت قريش تبدأ بها عهودَها ورسائلها).(2)

فلمّا رأى «أبوطالب» ذلك رجع إلى الشعب وأخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما

ص:563


1- . وهي دودة بيضاء شبه النملة، وهي آفة كلّ شيء من خشب ونبات. راجع لسان العرب: 7/113، مادة «ارض».
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/252-253.

جرى، وعاد المحاصَرون في الشعب إلى منازلهم مرة أُخرى بعد المشورة مع «أبي طالب».

ويروي طائفةٌ من المؤرّخين أنّ «خديجة» و «أبا طالب» أنفقا أموالَهما برمّتها خلال سنوات المحاصرة.

وذكر بعض أهل العلم: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لأبي طالب: يا عمّ إنّ ربّي اللّه قد سلّط «الإرضة» على صحيفة قريش فلم تَدع فيها اسماً هوللّه إلّاأثبتتهُ فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان.

فقال أبوطالب: أربّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم، قال: فواللّه ما يدخلُ عليك أحَدٌ.(1)

ثم قامَ ولبسَ ثيابَه، ومشى هو ورسولُ اللّه وشخصٌ آخر حتّى دخلوا المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه، فلمّا دَنا أبوطالب منهم قامُوا إليه وعظَّموه، وتباشروا وظنّوا أنّ الحصَر والبلاء حمل أبا طالب على التخلّي عن موقفه، فقالوا له: قد آن لك أن تطيب نفسُك عن قتل رجل في قتله صلاحُكم وجماعتكم (أو قد آن لك أن تسلّم إلينا ابن أخيك).

فقال أبو طالب: واللّه ما جئت لهذا، ولكنَّ ابن أخي أخبرني ولم يكذّبني أنّ اللّه تعالى أخبَرهُ أنّه بعث على صحيفتكُم القاطعة دابَّة فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وترك اسم اللّه، فهلم صحيفتكم، فإن كان حقّاً فاتّقوا اللّه وارجعُوا عمّا أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرَّحم.

وإن كان باطلاً دفعتُه إليكم فإن شئتم قتلتمُوهُ، وإن شئتم استحييتموه.

ص:564


1- . وإنّما اتخذ مثلَ هذا الإجراء حتّى لا يفشو ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالُوا للصحيفة ويكذّبوا بذلك خبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

فقالوا: رضينا، وتعاقدوا على ذلك.

ثم بعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من الكعبة، وعليها أربعون خاتماً.

فلمّا أتَوا بها نَظر كلُّ رجل منهم إلى خاتمه، ثم فكوها فإذا ليس فيها حرفٌ واحدٌ إلّا «باسمك اللّهمَّ»، كما أخبرهم بذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

غير أنَّ هذا لم يوجب هدايتهم بل زادهم شرّاً وعناداً، ورجع بنو هاشم مرّة أُخرى إلى الشعب وبقوا محاصرين فيه مدّة من الزمن، ولم يمكنهم الرجوعُ إلى منازلهم بمكة إلّابعد أن نقضها هشام.(1)

وقد قال «أبوطالب» في مدح هذا (أي نقض الصحيفة القاطعة والنَفر الذين قاموا بنقضها) قصيدة مطوَّلة جاء في مطلعها.

ألا هل أتى بَحريُّنا(2) صنعُ ربّنا على نأيهم واللّه بالناس أرودُ(3)

فيخبرهم أنَّ الصحيفة مُزّقَت وأنّ كلُّ ما لم يَرضه اللّه مُفسدُ(4)

هذه أمثلةٌ ونماذجُ من رُدود الفعل الظالمة والمواقف المناوئة الّتي اتّخذتها قريشٌ تجاه الدعوة المحمدية.

على أنّه لا يمكن الادّعاء القطعيّ بأنّ جميع هذه الردود قد وقعت على الترتيب الّذي ذكرناه تماماً، ولكن يمكن بمراجعة النصوص التاريخيّة تحصيل مثل هذا الترتيب وخاصّة أنّ مسألة انتهاء المحاصرة الاقتصادية قد وقعت في منتصف شهر رجب من السنة العاشرة للبعثة الشريفة.

ص:565


1- . لاحظ: السيرة النبوية: 1/253.
2- . يقصد من هاجر من المسلمين إلى الحبشة في البحر.
3- . أي أرفقُ.
4- . السيرة النبوية: 1/253-255. وقد أدرج ابن هشام القصيدة بتمامها، فراجع.

كما أنَّ أذى قريش وردود فعلها ضدّ الإسلام والمسلمين وضدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة لم تنحصر في ما ذكرناه في هذه الفصول بل كانت هناك أساليب أُخرى سلكتها قريش لتحطيم شخصية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وإضعاف عزيمته مثل وصفهم للنبي صلى الله عليه و آله و سلم بالأبتر.

فقد كان «العاصُ بن وائل السهمي» إذا ذكر رسول اللّه قال: دعوهُ، فإنَّما هو رجلٌ أبترٌ لا عقب له، لومات لا نقطع ذكره واسترحتم منه.

فأنزل اللّه تعالى في ذلك سورة الكوثر الّتي يقول فيها:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ * إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ».

وقد أخبر بها اللّه نبيَّه بأنّه سيهبُه ذريّة كثيرة.(1)

ولقد كتبَ العلّامة الفخر الرازي في تفسيره لهذه السورة: المعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قُتِلَ من أهل البيت؟ ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحدٌ يُعبأ به.(2)

ووجه المناسبة أنّ الكافر شمت بالنبيّ حين مات أحد أولاده وقال: إنّ محمَّداً أبتر فإن مات مات ذكره، فأنزل اللّه هذه السورة على نبيّه تسلية له كأنه تعالى يقول: إن كان ابنك قد مات فإنّا أعطيناك فاطمة، وهي وإن كانت واحدة وقليلة، ولكن اللّه سيجعل هذا الواحد كثيراً.

ص:566


1- . السيرة النبوية: 1/265. وجميع التفاسير.
2- . تفسير الرازي (مفاتيح الغيب): 32/124، تفسير سورة الكوثر.

22 أبو طالب رجل الإيمان والتضحيات

اشارة

في الوَقت الّذي كنّا نسطّر فيه مواضيع هذا الفصل كان سجن «القطيف» يضمُّ بين جدرانه رجلاً حر الضمير شجاعاً مقداماً لم يكن له من ذنب إلّاأنّه ألّف كتاباً باسم «أبو طالب مؤمن قريش» يتناول إسلام «أبي طالب» وإيمانه وإخلاصه مثبتاً كلّ ذلك من مصادر أهل السنّة.(1)

فطلبت منه السلطات القضائيّة في الحجاز - وفي عصر يتّسمُ بحرّية التفكير والبيانِ والإعتقادِ - بأن يتراجع عن كلامه، وحيث إنّه لم يكن ليريد أن ينكر حقيقة اعتقد بها عن قناعة ويقين، حكمت عليه تلك السلطات بالإعدام!!

وقد نجا هذا المؤمن الشجاع والكاتب الحرّ من الإعدام اثر جهود إسلامية واسعة وخُفِّضت عقوبته إلى الحبس المؤبّد، ومن ثمّ خفّضت إلى عقوبة الجَلد ثمانين جلدة!!.

وقد أُطلق سراحه بفضل الجهود المتضافرة لعلماء الشيعة ومفكّريهم.

لقد سقطت مؤامرة الحصار الاقتصادي ضدّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بفعل جهود ثلة من ذوي المروءة وأيضاً بفضل صمود النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وثباتهم العظيم. وخرج النبيّ وأنصاره من «شِعب أبي طالب» بعد ثلاث سنوات من النفي والعذاب وعادوا إلى منازلهم ظافرين مرفوعي الرؤوس.

ص:567


1- . والكتاب يقع في 340 صفحة طبع بالحجم الوزيري وطُبع في بيروت مراراً وقدّم له الأديبُ اللبناني المعروف «بولس سلامة» صاحب ملحمة الغدير وملاحم أُخرى.

وعاد التعامُل الاقتصادي مع المسلمين إلى ما كان عليه قبل الحصار، وكانت أوضاع المسلمين تسير نحو الانتعاش والانفراج شيئاً فشيئاً، وإذا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يُفاجَأ بحادث مؤلم مرٍّ ذلك هو وفاة شخصيةٍ كبرى أحدث فقدانها أثراً سيّئاً في نفوس المسلمين وبخاصّة المستضعفين منهم.

ولقد كان هذا الأثر عظيماً جداً بحيث لا يمكن قياسه بشيءٍ بالنظر إلى تلك الظروف الحسّاسة، وذلك لأنّ نمو أية عقيدةٍ وفكرة إنّما يكون في ظل عاملين أساسيّين: أحدهما: حرية التعبير، والآخر: القوة الدفاعية الّتي تحمي أصحاب تلك العقيدة والفكرة ضدّ حملات الخصوم الّتي لا ترحم.

ولقد كان المسلمون - آنذاك - يتمتعون بحرية البيان والتعبير، ولكنّهم افتقدوا بسبب الحادث المفاجئ المذكور العاملَ الجوهري والمصيري الثاني يعني: حامي الإسلام والمدافع الوحيد عنه الّذي وافته المنية في تلك الأيام الحسّاسة وحُرم المسلمون بوفاته من حمايته ودفاعه، ووقايته.

***

أجل لقد فَقَد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حاميه العظيم الّذي تولى مهمة كفالته والدفاع عنه، والمحافظة على حياته بصدق وإخلاص وجدّ و رغبة، وكان يقيه بنفسه وذويه ويؤثره على نفسه وأولاده وينفق عليه من ماله حتّى كَبُرَ وصار له مال وطول منذ أن كان صلى الله عليه و آله و سلم في السنة الثامنة من عمره وحتّى يوم وفاة ذلك الحامي العظيم، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الخمسين من عمره.

لقد فَقَد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شخصيةً خاطبها عبدُالمطلب عند وفاته بالشعر قائلاً:

أُوصِيكَ يا عَبدَ منافٍ بعدي بموحد بَعدَ أبيهِ فَردِ

ص:568

فأجابه أبوطالب قائلاً: يا أبَه لا توصني بمحمّد فإنّه ابني وابن أخي.(1)

ولعلّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد تذكّر في اللحظة الّتي ظهر فيها على جبين أبي طالب عرقُ الموت جميع الحوادث الحلوة والمرّة وقال في نفسه:

1. إنّ هذا الشخص المسجّى على فراش الموت هو عمّه الرؤوف الّذي ظلَّ يحرسه بالليل والنهار طيلة سنوات الحصار في الشعب، فاذا جاء الليل قام عند رأسه بالسيف يحرسه. ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مضطجع ثم يقيمه من فراشه إذا مضى شطرٌ من الليل ويضجعه في موضع آخر ويضجع مكانه ولده «علي بن أبي طالب» حتّى لا تغتاله قريش بعد أن رَصَدوا مكانه، وكمنوا له، وكان يفعل أبوطالب ذلك طوال الليل كلّه فيفديني بولده «علي» ويقيني به حتّى إذا قال له «عليٌ» ليلة:

«يا أبتاه إنّي مقتول ذات ليلة».

فأجابه أبوطالب بنبرة المتحمّس الصبور:

إصبِرَن يا بُنَيَّ فَالصبِرُ أحجى كُلُّ حَيٍّ مَصِيرُه لِشُعُوبِ

قَد بَلَوناك وَ البَلاءُ شَديدٌ لِفِداءِ النَجِيبِ وَ ابنِ النَجيبِ

فأجابه «عليٌّ» بكلام أكثر حلاوةً وعمقاً قائلاً:

أَتَأمُرُني بالصَّبرِ في نَصر أحمَدٍ؟ وَ وَاللّهِ ما قُلتُ الّذي قُلتُ جازعاً

وَلكِنَّني أَحبَبتُ أن تَرَ نُصرَتي وَ تعلَمَ أَنّي لَم أَزَل لَكَ طائِعاً(2)

2. إنّ هذا الجثمان الّذي فارقته الروح هو جثمان عمّي العطوف الّذي شُرّدَ هو وذووه، وعرَّض نفسَه وأهلَه للبَلاء والمحنَة بسبب الحصار لأجلي، وأمر بأن

ص:569


1- . مناقب ابن شهرآشوب: 1/34-35؛ بحار الأنوار: 35/86 ح 30.
2- . مناقب ابن شهر آشوب: 1/58؛ بحار الأنوار: 35/93.

يحرسونني ليلَ نهار، تاركاً زعامته وسيادته، وكلّ شؤُونه للحفاظ عليَّ والإبقاء على رسالتي، وأرسل إلى قريش رسالةً قويةً أعلنَ فيها عن وُقُوفه إلى جانبي وأنّه لن يسلمني ويخذلني مادام حيّاً إذ قال:

فَلا تَحسبُونا خاذِلين مُحمَّداً لذي عزّة مِنّا وَ لا متعزّب

سَتَمنعُه مِنّا يَدٌ هاشِميّةٌ وَ مَركَبُها في الناسِ أخشن مركب(1)

بعد أن تحقّق موت «أبي طالب» ارتفع الصراخ والنحيب من منازله وبيوته، واجتمع حول بيته العدوُّ والصديقُ، والقريبُ والبعيد، واشترك الجميعُ في مراسيم دفنه بقلوب آلمتها الفجيعة به، وقرّحها الحزنُ عليه.

وهل ترى تنتهي آثار وردود فعل وفاة شخصية عظيمة الشأن مثل «أبي طالب» الّذي كان زعيم قريش، وسيد عشيرته بمثل هذه السرعة، والبساطة؟

كلّا بل سيكون لفقدانه أكبر الأثر على مسيرة الدعوة كما ستعرف ذلك مستقبلاً.

نماذج من مشاعر أبي طالب ومودّته للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

إنّ التاريخ البشريّ يحتفظ في صفحاته بأمثلة كثيرة عن مشاعر تبادَلها الأشخاصُ وعواطف وديّة قويّة أبداها البعض تجاه بعض تدورُ أكثرها حول محور الدوافع المادية كالتي تدور حول معيار الجمال أو المال، ولهذا سرعان ما يذهب الحماسُ وتنطفئُ شعلةُ الحبّ، ويتضاءل لهيبُ العاطفةُ في كيانهم حتّى تزول بالمرَّة ولا يبقى منها شيء أبداً لعدم ثبات هذه الدوافع.

ولكنَّ المشاعرَ والعواطفَ الّتي تنبعُ من أواصر الإيمان بفضائل شخص ما

ص:570


1- . بحار الأنوار: 19/4 و 20 و ج 35/93، وفيه: لدى غربة منا ولا متقرب.

وكمالاتِه الروحية والمعنوية لا تنمحي ولا تتلاشى بسرعة.

وقد كانت مودة «أبي طالب» لمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم وحبّه الشديد له تنبع من كلا هذين الدافعّين.

فقد كان «أبو طالب» يؤمن بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم ويرى فيه من جانب الإنسان الكاملَ، بل يعتبره في قمّة الكمال الانساني، ومن جانب آخر كان «محمّد» ابن أخيه، وقد أحلّه ذلك من قلبه محلّ الابن والأخ.

لقد كانت لصفات «محمّد» وخصاله المعنوية والأخلاقية، وطهره مكانة كبرى في قلب عمّه «أبي طالب» إلى درجة أنّه كان يصطحبه معه إلى المصلّى، ويستسقي به أي أنّه يقسم على اللّه بمقامه أن يدفعَ عن الناس القحط والجدب وينزّلَ عليهم الغيث، فكانت دعوتُه تستجاب من دون تأخير.

فقد نقل كثيرٌ من المؤرّخين الحادثة التالية:

قحط الناسُ في «مكّة» وحواليها سنةً من السنين، ومَنعتِ السماء والأرض بركاتها عنهم بشكل عجيب، فمشت قريش بعيون باكية إلى «أبي طالب» تطلب منه بإلحاح أن يستسقي لهم، وأن يذهب إلى المصلّى ويدعو ربّه لينزِّلَ عليهم المطر وينقذهم من تلك المحنة الصعبة.

فخرج «أبو طالب» وقد أخذ بيد غلامٍ كأنّه شمسُ دجن (دجنة) تجلّت عنها غمامة، فأسند ظهره إلى الكعبة ورفع وجهه نحو السماء وقال: يا رب هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً، دائماً هاطلاً.

ويكتب المؤرّخون أنّ السماء كانت صافية لا غيم فيها أبداً ساعة استسقى «أبو طالب» برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولكن ما أن فرغ «أبوطالب» من دعائه إلّاوأقبلت السحاب في الحال، وغطّت سماء «مكّة» وما حولها من المناطق القريبة إليها،

ص:571

وأرعدت السماء وأبرقت ثم جرى غيث عظيم سالت به الأودية، وروت القريب والبعيد، وَسُرّ به الجميع ورضوا.(1)

وقد أشار «أبوطالب» في لا ميّته المعروفة إلى هذه الحادثة.

وقد أنشأ «أبوطالب» تلك القصيدة في أحلك الظروف وأشدّها، يوم زادت قريشٌ من ضغوطها على حامي الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ليسلِّمَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إليها.

وقد ذكَّر فيها «أبوطالب» قريشاً بحادثة الاستسقاء برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل الإسلام وكيف أنّها أُمطِرَت ببركته، بعد قحط طويل، وجدب مهلِك، كاد يبيد الحرث والضرع، وذلك عندما يقول:

وابيض يُستسقى الغمامُ بوجهه ربيع اليتامى عصمة للأرامل

تلوذُ به الهُلاك مِن آل هاشم فهم عندَهُ في نعمة وفواضل

وقد نقل «ابن هشام» في سيرته(2) أربعة وتسعين بيتاً من هذه القصيدة، فيما أورد «ابن كثير» الشامي في تاريخه(3) اثنين وتسعين بيتاً فقط.

وهي قصيدة في منتهى الروعة والعذوبة، وفي غاية القوة والجمال، وتفوق في هذه الجهات كلّ المعلقات السبع الّتي كان عرب الجاهلية يفتخرون بها، ويعدّونها من أرقى ما قيل في مجال الشعر والنظم.

وقد أورد «أبو هفان العبدي» الجامع لديوان «أبي طالب» مائة وواحد وعشرين بيتاً من هذه القصيدة في ذلك الديوان، ويمكن أن تكون كلُّ تلك القصيدة وتمامها.

ص:572


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 18/2 و 3؛ السيرة الحلبية: 1/190.
2- . السيرة النبوية: 1/176-180.
3- . البداية والنهاية: 3/70-74.

ونحن نورد هنا أبياتاً متفرّقة من هذه القصيدة ممّا يتّصل منها برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بصورة صريحة.

كَذِبتُم وبيتِ اللّه نبزى محمّداً ولما نطاعِن دونه ونناضل(1)

ونُسلِمُه حتّى نُصرَّعَ حوله ونَذهَل عن أبنائنا والحلائِل

لَعمري لقد كلّفتُ وجداً بأَحمدٍ وإخوته دأبَ المحبِّ المواصل

فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها و زَيناً لمن والاه ربُّ المشاكل(2)

فَمَن مثلُه في الناس أيُ مؤمَّل إذا قاسَهُ الحُكام عند التفاضل

حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائش يُوالي إلاهاً ليس عنه بِغافِلِ

لقد علِمُوا أنَّ ابْننا لا مكذَّبٌ لدينا ولا يُعنى بقولِ الأباطِل

فأصبَحَ فينا أحمدٌ في أُرومة تقصّر عنه سَورة المتطاول(3)

حَدِبْتُ بنفسي دونَه وحميته ودافعتُ عنه بالذُّرا والكلاكل(4)

فَأيّدَهُ ربُّ العباد بنصره وأظهرَ ديناً حقُّه غير باطل(5)

التغيير في برنامج السفر

لم يكن يمض أكثر من اثني عشر ربيعاً من عُمُر «محمّد» بعد، عندما أراد «أبوطالب» التوجّه إلى الشام مع قافلة قريش التجارية.

وعندما استعدّت القافلة لمغادرة مكّة ودق جرس الرحيل، أخذ «محمّد»

ص:573


1- . أي نُغلَبَ عليه.
2- . المشاكل: العظيمات من الأُمور.
3- . السورة: الشدة والبطش.
4- . الذرا: جمع ذروة وهي أعلى ظهر البعير.
5- . راجع السيرة النبوية: 1/177-180.

فجأة بزمام الناقة الّتي كان يركبها عمُّه وكافله «أبوطالب» بينما اغرورقت عيناه صلى الله عليه و آله و سلم بالدموع وقال:

«يا عمّ إلى مَن تكلني، لا أب لي ولا أُم»؟. هذا المشهد المؤثّر وبخاصّة عند ما رأى «أبوطالب» عيني محمّد وقد اغرورقت بالدموع، فعل فعلته في نفس العم الكافل الحنون، فانحدرت عبرات العطف من عينيه وقرّر من فوره ومن دون سابق تفكير في الموضوع أن يصطحب ابن أخيه «محمّداً» معه في هذا الرحلة، ومع أنّه لم يحسب لهذا الأمر - من قبل - أي حساب، فإنّ «أباطالب» قبل بأن يتحمّل كلّ ما يترتّب على قراره هذا، فحمله معه على ناقته، وبقي يفكر في أمره، ويدبّر شأنه، ويحافظ عليه طوال تلك الرحلة، وشهد منه أثناء الطريق كرامات وخوارق، وقد أنشأ في ذلك قصيدةً موجودةً في ديوان أبي طالب، ومطلع هذه القصيدة هو:

إنَّ ابن آمنة النبيّ محمّداً عندي يفوقُ منازلَ الأولاد(1)

***

أبو طالب والدِفاعُ عن حوزة العقيدة والإيمان

ليست هناك قوةٌ تساعد على الثبات والمقاومة، والصمود والاستقامة، مثل قوة الإيمان، فالايمان بالهدف هو العامل القوي وراء تقدّم الإنسان في ميدان الحياة، فهو الّذي يهضم في نفسه كل الآلام والمتاعب، ويدفع بالمرء إلى المضي قدماً في طريق الوصول إلى أهدافه المقدّسة، حتّى ولو كلّفه ذلك التعرض للموت.

إنَّ الجنديّ المُسلَّح بقوةِ الإيمان منتصرٌ لا محالة.

ص:574


1- . لاحظ: إيمان أبي طالب للشيخ المفيد: 36؛ ديوان أبي طالب: 33-35؛ تاريخ ابن عساكر: 10/1.

إنّ الجنديّ الّذي يعتقد بأنّ الموت في طريق العقيدة هو عين السعادة لابدّ أن يحرز النصر.

إنّ على الجندي - قبل أن يسلِّحَ نفسَه بسلاح العصر - أن يتزوّد في قلبه من طاقة الإيمان بالهدف، ويضيء قلبه بمصباح الاعتقاد بالحقيقة، وحبِّها، ويجب أن يكون جهادُه وصلحُه من أجل العقيدة والدفاع عن حوزتها، وكيانها.

إِنَّ أفكارنا وعقائدنا نابعةٌ من روحنا، وفي الحقيقة أنَّ فكر الإنسان وليد عقله، فكما أنَّ الإنسان يحبُ ولده حبّاً شديداً كذلك يحب أفكاره الّتي هي ولائد عقله وروحه، بل إن حبّ الإنسان لعقيدته أكثر من حبّه لأولاده، ولهذا فهو يدافع عن عقائده حتّى الموت، ويغضي - في سبيل الدفاع عن حوزة العقيدة والحفاظ عليها - عن كلّ شيء بينما هو غير مستعدّ لأن يضحي بنفسه في سبيل الحفاظ على أولاده.

إنّ حب المرء للمال والمنصب حبُّ محدود، فهو ينساق مع هذا الحبّ مادام لم يهدّد حياته خطرُ الموت الحقيقي، ولكنّه مستعد لأن يمضي - في سبيل الدفاع عن حياض العقيدة - إلى حدّ الموت، ويؤثر الموت الشريف في سبيل العقيدة على الحياة، ويَرى الحياة الحقيقية والواقعية في وجود الرجال المجاهدين، وهو يردّد:

«إنّما الحياة عقيدة وجهاد».(1)

ولنلق نظرة فاحصة على حياة بطل حديثنا (ونعني به المدافع الوحيد عن الإسلام وحامي الرسول الأوحد في بدايات عهد الرسالة) فماذا كان دافعه إلى هذا

ص:575


1- . المراد من العقيدة المقدّسة هو بطبيعة الحال ما تذوب «الأنا» فيها في التوحيد والإيمان باللّه إذ هنا يصدُق قولُه: قِف عند رأيك واجتهد إنّ الحياة عقيدةٌ وجِهاد

الأمر، وما الّذي كان يحركه في هذا السبيل؟ وأي شيء كان وراء مضيه في هذا الطريق إلى حافّة العدم، والغض عن النفس والنفيس، والمقام، والقبيلة وغير ذلك والتضحية بكلّ ذلك في سبيل «محمّد» صلى الله عليه و آله و سلم.

إنّ من المتيقَّن أنّ دافعه إلى ذلك لم يكن المحرّك الماديّ، وبالتالي لم يقصد من وراء الدفاع عن ابن أخيه، وحمايته، والحدب عليه، كسب أمر مادي كتحصيل مال وثروة، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن له يومئذ مالٌ، ولا ثروة.

وكما أنّ مقصود «أبي طالب» لم يكن أيضاً تحصيل مقام، وإحراز مكانة اجتماعية؛ لأنّه كان يملك في ذلك المجتمع أعلى المناصب وأهمها، فقد كانت له رئاسه «مكّة» والبطحاء، بل هو فقد منصبه وشخصيته الممتازة و مكانته المنقولة بسبب دفاعه عن «محمّد»، وعدم الاستجابة لقومه في تسليمه إليهم، والتخلّي عنه؛ لأنّ دفاعه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد استوجب سخط زعماء قريش عليه واستياءهم من موقفه، وخروجهم عن طاعته، ودفعهم إلى التمادي في معاداة «بني هاشم» و «أبي طالب» والثورة عليهم!!

تصَوّرٌ باطلٌ

ربّما يتصوّر بعض ضعفاء البصيرة أنّ علّة حدب «أبي طالب» على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والتضحية في سبيله بالنفس والنفيس كانت هي: علاقة القربى، ووشيجة الرَّحِم، أو بتعبير آخر: إِنّ التعصّب القبليّ، والعصبية القومية هو الّذي دفع بأبي طالب إلى أن يعرّض نفسه لكلّ ذلك المكروه في سبيل ابن أخيه.

ولكنّ هذا ليس سوى مجرّد تصوّر باطل لا غير، ويتّضح بطلانه بدراسة مختصرة؛ لأنّه لا تسطيع أية وشيجة قربى على أن تدفع أحداً إلى أن يضحّي بنفسه في أحد أقربائه إلى هذه الدرجة من التضحية والمفاداة، بحيث يقي مثلاً

ص:576

ابن أخيه عليه، ويكون مستعداً لأن يتقطّع ولده بالسيوف إرباً إرباً دون ابن أخيه.

إنّ العصبيّات القبلية والعائلية وإن كانت تدفع بالإنسان حتّى إلى حافّة الموت، ولكن لا معنى لأن تختصّ، هذه الحماية الناشئة عن العصبية العائلية والقبلية الشديدة بفرد واحدٍ، وشخص خاص معيّن من أفراد العائلة والقبيلة، في حين نجد «أبا طالب» قد قام بكلّ هذه التضحية في سبيل شخص واحد، وفرد معين (أي النبيّ)، ولا يفعل مثل هذه في سبيل غيره من أبناء «عبدالمطلب» و «هاشم» وأحفادهما ومَن ينتمي إليهم بوشيجة القربى ورابطة الرحم.

الدافع الحقيقيّ لأبي طالب

وعلى هذا الأساس فإنّ المحرّك والدافِعَ الحقيقيّ لأبي طالب لم يكن أمراً مادياً ولا الجاه والمنصب، أو التعصب القومي، والعائلي، بل كان أمراً معنوياً، وأنّ ضغوط العدوّ وقوّته كانت تدفعه إلى الاستعداد للقيام بأي نوع من أنواع التضحية وذلك الأمر المعنويّ هو اعتقاده الراسخ برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعتبر «محمّداً» مظهراً كاملاً للفضيلة والإنسانية، ويعتبر دينه أفضل برنامج للسعادة، وحيث إنّه كان يحبُّ الحقيقة، ويعشق الكمالَ والحقّ، لذلك كان من الطبيعيّ أن يدافع عن الحقّ والحقيقة، وينصرهما بكلّ وجوده، وبكلّ قواه.

وهذا المعنى هو المستفاد من قصائد «أبي طالب» وأشعاره، فهو يصرّح بأنّ «محمّداً» رسولٌ كموسى وعيسى إذ يقول:

لِيَعلَم خِيارُ النّاسِ أَنَّ مُحمَّداً وزير لموسى وَ المَسيحِ بنِ مَريَمِ

ص:577

أَتانا بِهَدي مِثلَ ما أتيا بهِ فَكُلٌّ بِأمرِ اللّهِ يَهدي وَ يَعصِمِ (1)

ويقول في قصيدة أُخرى:

ألَم تَعلَمُوا أَنَّا وَجَدنا محمّداً نَبِيّاً كَمُوسى خطّ في أوّل الكُتب(2)

هذا وتعتبر أبياته الّتي سبق أن أشرنا إليها والكثير من أمثالها ممّا جاء ذكره في ديوان أبي طالب، وفي ثنايا التاريخ والتفسير والحديث شواهد حيّة وقوية على أنّ محرّك «أبي طالب» الواقعي ودافعه الحقيقي إلى الدفاع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان هو اعتقاده الخالص، وإسلامه الواقعي ولم يكن له أي دافع آخر سوى الإيمان والعقيدة.

ونحن هنا نكشف النقابَ عن بعض مواقفه في الدفاع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحمايته بعد اضطلاعه بعبء الرسالة، ونترك لك أيّها القارئ بأن تدقّق في مثل هذه المواقف الفدائية ثم تقضي بنفسك: هل تنبع مثل هذه التضحية، ومثل هذا التفاني، والفداء إلّامن الإيمان والاعتقاد؟

***

لمحات من تضحيات أبي طالب

اجتمع أسياد قريش وأشرافها في بيت أبي طالب والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حاضر، وتبودلت بين الجانبين أحاديث حول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودينه وما خلق من مشكلات في مكّة، وحاول القرشيّون إثناء النبيّ عن دعوته وعمله ولكن دون

ص:578


1- . مجمع البيان: 4/32؛ مستدرك الحاكم: 2/623 و 624. وفي أعيان الشيعة: 4/121: (نظير) بدل (وزير).
2- . مجمع البيان: 4/31. وقد نقل ابن هشام في السيرة النبوية: 1/235-236 خمسة عشر بيتاً من هذه القصيدة.

جدوى، فلمّا يئسوا من الحصول على النتيجة الّتي كانوا يريدونها نهضوا من مكانهم ليتركوا بيت «أبي طالب» قال «عقبة ابن أبي معيط» غاضباً مهدّداً: لا نعود إليه أبداً، وما خير من أن نغتال محمّداً!!

فلمّا كان مساء تلك الليلة فقد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجاء «أبوطالب» وعمومته إلى منزله فلم يجدوه، فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلب، ثم قال - وهو يظن أنّ قريشاً كادت برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ليأخذ كلّ واحد منكم حديدة صارمة ثم ليتبعني إذا دخلت المسجد، فلينظر كلّ فتى منكم، فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية - يعنى أبا جهل - فإنّه لم يغب عن شر إن كان محمّد قد قتِل، فقال الفتيان: نفعل فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال فقال: يا زيد أحسست ابن أخي؟ قال: نعم كنت معه آنفاً.

فقال أبو طالب: لا أدخل بيتي أبداً حتّى أراه.

فخرج زيد سريعاً حتّى أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو في بيت عند الصفا و معه أصحابه يتحدّثون فأخبره الخبر، فجاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أبي طالب فقال: يا ابن أخي: أين كنت؟ أكنتَ في خير؟ قال: نعم، قال: أدخل بيتك، فدخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا أصبح أبوطالب غدا على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فأخذ بيده فوقف على أندية قريش ومعه الفتيان الهاشميون والمطلبيون فقال: يا معشر قريش هل تدرون ما هممتُ به؟

قالوا: لا، فأخبرهم الخبر، وقال للفتيان اكشفوا عمّا في أيديكم، فكشفوا، فإذا كلّ رجل منهم معه حديدة صارمة. فقال: واللّه لو قتلتموه ما بقّيت منكم أحداً حتّى نتفانى نحن وأنتم، فانكسر القوم، وكان أشدَّهم انكساراً أبوجهل.(1)

ص:579


1- . الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/202-203.

لو لاحظت أيها القارئ الكريم هذه الصفحات وغيرها من تاريخ «أبي طالب»، ودرستَ حياته لرأيت كيف أنّ «أبا طالب» ظلّ طوال اثنين وأربعين سنة بأيّامها ولياليها يحدب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويدافع عنه، ويحاميه، وبخاصة في السنوات العشر الأخيرة من حياته الّتي صادفت بعثة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودعوته، فقد أظهر من الدفاع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والحرص على حياته، وحماية هدفه أكثر ممّا يُتصوّر. ولقد كان العامل الوحيد الّذي دفعه إلى مثل هذا الموقف الراسخ العظيم في هذا السبيل هو: عمق الإيمان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقوة الاعتقاد الخالص برسالته.

ولو أنّنا ضممنا إلى تضحياته الشخصية تضحيات ولده العزيز «عليّ» لأدركنا مغزى البيتين اللّذين أنشدهما «ابن أبي الحديد» المعتزلي الشافعي إذ قال:

ولولا أبوطالب وابنُه لما مَثُلَ الدِّينُ شخصاً وقاما

فذاك بمكّة آوى وَ حامى وَ هذا بِيَثربَ جَسَّ الحماما(1)

تكفير أبي طالب قضيّةٌ ذات بواعث سياسيّة:

ليس من ريب في أنّه لو ثبت عُشر هذا القدر من الشواهد الدالّة على إسلام «أبي طالب» وإيمانه بالرسالة المحمّدية، لغيره ممّن هو بعيدٌ عن قضايا السياسة، وخارج عن دائرة الحقد والبغض لاتّفق الجميع سنةً وشيعةً على إسلامه وإيمانه، ولكن كيف ذهب فريقٌ إلى تكفير «أبي طالب» مع كلّ هذه الشواهد القويّة القاطعة على إيمانه، حتّى أنّ فريقاً من الكتّاب ذهب إلى أنّ بعض الآيات المشعرة بالعذاب

ص:580


1- . شرح نهج البلاغة: 14/84 يقول ابن أبي الحديد: صنّف بعض الطالبيّين في هذا العصر كتاباً في إسلام أبي طالب، وبعثه إليّ، وسألني أن أكتب عليه بخطّي نظماً أو نثراً أشهد فيه بصحّة ذلك، وبوثاقة الأدلّة عليه (إلى أن قال:) فكتبت على ظاهر المجلد هذه الأبيات.

نزلت في شأنه؟!

بينما توقّف في هذا الأمر، وذهب أفراد معدودون من علماء السنّة إلى الحكم بإسلامه وإيمانه، ومنهم «زيني دحلان» مفتي مكّة المتوفّى سنة 1304 من الهجرة.

ولكن الإنصاف هو أن يقال: إنّ الهدف من طرح هذه المسألة والتوقّف في إيمان «أبي طالب» أو تكفيره لم يكن إلّاالطعن في أبنائه، وبخاصّة أميرالمؤمنين الإمام عليّ عليه السلام.

ولقد جرّ بعض كتّاب السنّة - لتبرير تكفير أبي طالب - هذه المسألة إلى غير أبي طالب ووسع دائرة التكفير هذه حتّى شملت آباء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً حيث ذهب إلى أنّ أبوي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ماتا كافرين أيضاً.

ونحن لا يهمنا هنا أن نعلم بأنّ تكفير والدي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مخالفٌ لإجماع الإمامية والزيدية، وكذا جماعة من علماء السنّة، ومحقّقيهم، إنّما الكلام هو حول مَن اتّهموا ببساطة متناهية حامي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الوحيد والمدافع عنه بلا منازع.

الأدِلّة على إيمان أبي طالب

اشارة

إنّ التعرّف على عقيدة أحد، ومعرفة نمط تفكيره، يمكن عن ثلاث طرق هي:

1. دراسة ما ترك من آثار علميّة وأدبية.

2. أُسلوب عمله، وتصرفاته في المجتمع.

3. رأي أقربائه، وأصدقائه غير المغرضين فيه.

ونحن نستطيع أن نتعرَّف على إيمان «أبي طالب» وعقيدته من خلال هذه الطرق.

ص:581

فإنّ أشعار «أبي طالب» تدلّ بجلاء لا لُبس فيه على إيمانه وإخلاصه، وكذا تكونُ خدماته القيمة في السنوات العشر الأخيرة من عمره شاهداً قوياً على إيمانه العميق.

كما وأنَّ رأي أقربائه المنصفين متّفق على أنَّ «أبا طالب» كان مسلماً مؤمناً ولم يقل أحدٌ من أقربائه، في حقّه بغير هذا أبداً.

وإليك إثبات هذا الموضوع عن هذه الطرق الثلاث على وجه التفصيل:

الطريق الأوّل: آثار أبي طالب العلميّة والأدبية

نحن نختار هنا من بين قصائد «أبي طالب» المطوَّلة، بعض الأبيات الّتي تثبت إيمانه برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، واعتقاده بالإسلام، من غير إبهام.

1. لِيَعلَم خِيارُ النّاسِ أنَّ مُحمَّداً وزير لموسى وَ المَسيح بنِ مَريَمِ

أتانا بَهَدي مِثلَ ما أَتيا به فَكُلٌّ بِأمرِ اللّه يَهدِي وَ يَعصِمِ (1)

2. تمنيتمُ أن تَقتُلُوهُ وإنّما أمانيُّكُم هذي كَأحلامِ نائِم

نَبيٌّ أتاهُ الوحيُ من عِندِ رَبّهِ وَمَن قالَ لا يَقرَع بِها سنَّ نادِم(2)

3. ألَم تَعلَمُوا أنّا وَجَدنا محمّداً نبيّاً كَمُوسى خُطَّ في أوّلِ الكُتُب

وَ أنَّ عَلَيهِ في العِبادِ محبةً وَ لا حيفَ في من خصَّهُ اللّه بالحُبّ (3)

ص:582


1- . مجمع البيان: 4/32؛ مستدرك الحاكم: 2/623؛ أعيان الشيعة: 4/121، وفيه (نظير) بدل (وزير).
2- ديوان أبي طالب: 32؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/73.
3- . ديوان أبي طالب: 32؛ بحار الأنوار: 35/159؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1/234.

4. وَاللّهِ لَن يَصِلوا إلَيكَ بِجَمعِهم حَتّى أُوسَّدَ في التّراب دَفينا

فأمضي لأمرك ما عَلَيْكَ غَضاضةٌ وَابشِر وَقرَّ بذاك مِنكَ عُيُونا

وَدَعوتَني وعلمتُ أنّكَ ناصِحٌ وَلَقَد دَعَوت وَ كُنت ثمَّ أمِينا

وعرضت ديناً قد عرفت بأنّه مِن خَير أديان البَريّة دينا(1)

5. أوتُؤمنوا بكتاب منزل عَجَب عَلى نَبيّ كمُوسى أوكذِي النون(2)

6. لَقَد عَلِمُوا أنَّ ابنَنا لا مُكذَّبٌ لَدَينا وَ لا يَعني بِقولِ الأباطِل

فأيّده رَبُّ العِبادِ بِنَصرِهِ وَأظهَرَ ديناً حَقُّهُ غيرُ باطل(3)

إِنّ كلّ واحدة من هذه المقطوعات الشعريّة الّتي تشكّل قسماً صغيراً من قصائد مفصّلة لأبي طالب، تشهد بإيمانه بدين ابن أخيه «محمّد» صلى الله عليه و آله و سلم.

وخلاصة القول: إنَّ بيتاً واحداً من هذه الأبيات كافٍ في إثبات إيمان صاحبها وقائلها، ولو أنّ أحداً قالها وهو خارج عن فلك الصراعات السياسية، وبعيد عن دوائر التعصّبات والأغراض لحكم الجميعُ - بالاتّفاق - بإسلام قائله وإيمانه الخالص العميق.

ولكن لمّا كان «أبوطالب» هو قائلها، وكانت الأجهزة الدعائية في الحكومات الأُموية والعباسيّة تعمل بكلّ جهدها ضدّ آل «أبي طالب» من هنا أبى فريقٌ من الناس أن يُثبتوا مِثل هذه الفضيلة الكبرى لأبي طالب عليه السلام. هذا من جانب.

ص:583


1- . البداية والنهاية: 3/56.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/74؛ ديوان أبي طالب: 173.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/180.

ومن جانب آخر فإنّ أبا طالب والد «علي» الّذي كانت سلطات الخلفاء تعمل ضدّه على الدوام، وتستغل كلّ الوسائل للحطّ من شأنه، كان إسلام أبيه وإيمانه بالرسالة المحمدية يُعدُّ فضيلة بارزة من فضائله عليه السلام في حين أنّ كفر آباء الخلفاء وشركهم يعدُّ مثلبة توجب الحطّ من شأنهم، وقيمتهم.

وعلى كلّ حال قام جماعة بتكفير أبي طالب رغم كلِّ هذه الأشعار والأقوال، والمواقف الصادقة، بل لم يكتفوا بذلك، فادّعوا نزول آيات من القرآن تدلّ على كفره، وشركه!!!

الطريق الثاني: دفاع أبي طالب عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحمايته له

اشارة

إنّ الطريق الثاني للبرهنة والتدليل على إيمان «أبي طالب» هو مواقفه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكيفية دفاعه وذبه عنه و حمايته له، وحدبه عليه صلى الله عليه و آله و سلم وما قام به من خدمات جليلة في هذا الطريق.

إنّ كلّ واحدة من هذه الخدمات تستطيع بمفردها أن تكون المرآة الصادقة الّتي تعكس فكر «أبي طالب» وعقيدته وما كان يحمله بين جوانحه من إيمان بالرسالة والرسول، وإخلاص للّه تعالى.

لقد كان «أبوطالب» هو ذلكم الشخصية الّتي لم يرض لنفسه بأن ينكسر قلب ابن أخيه لتركه في مكّة، واصطحبه معه إلى الشام في الرحلة التجارية الّتي سبق ذكرها، رغم الموانع الكثيرة، وفقدان الوسائل اللازمة، ورغم ما تَرتّب على اصطحابه معه من متاعب.

إنّ ايمانه بابن أخيه كان عميقاً إلى درجة أنّه أخذه إلى المصلّى واستسقى به، مقسماً به على اللّه تعالى أن يكشف العذاب عن قومه، ويرسل رحمته عليهم، فيستجيب اللّه دعاءه، وينزل عليهم غيثاً وافراً ممرعاً، بقيت قصته في ذاكرة التاريخ.

ص:584

إنّه ذلك الرجل الّذي لم يفتأ عن الحفاظ على حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لحظة واحدة، فهو الّذي تحمّل في سبيله ثلاثة أعوام عجاف من الحصار الاقتصادي والاجتماعي الصعب، مؤثراً العيش في الشعب وفي شغاف الجبال والوديان القاحلة على زعامة قريش، ورئاسة مكّة إلى أن أعيته تلك المحن والمتاعب ففقد بذلك صحّته، وانحرف بذلك مزاجه، وتوفّي متأثراً بتلك المتاعب والمصاعب، والمشاق والمحن بعد نقض الصحيفة، وانتهاء الحصار، والعودة إلى المنازل بأيام معدودة!!

لقد كان إيمان «أبي طالب» برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قوياً وراسخاً إلى درجة أنّه رضي بأن يتعرّض كل أبنائه لخطر القتل والاغتيال ليبقى «محمّد» ولا يمسُّه من أعدائه أي سوء، فكان يُضجِع ولده علياً في موضعه، حتّى إذا أرادوا إغتياله لا يصيبه شيء، وهذا يعني أنّه كان يقيه بنفسه وبأولاده.

وفوق هذا كلّه استعدَّ في يومٍ من الأيام لأن يقتل كلّ زعماء قريش وأسيادها انتقاماً لمحمّد، وكان من الطبيعي أن يقتل في هذا العملية بنو هاشم كلُّهم أيضاً.(1)

وصية أبي طالب عند وفاته

وعند وفاته قال لأولاده:

«أُوصيكم بمحمّد خيراً فإنّه الأمينُ في قُريش، وهو الجامعُ لكلّ ما أُوصيكم به، وقد جاءَ بأمرٍ قبله الجَنان، وأنكره اللِسان مخافة الشنئان، وأيم اللّه لكأنّي انظرُ إلى صعاليك العرب، وأهل البرّ في الأطراف، والمستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وصدّقوا كلمته، وعظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش و صناديدها أذناباً، ودُورُها خراباً، وضُعفاؤها أرباباً، وإذا أعظمهم عليه

ص:585


1- . راجع الصفحة 578 من هذا الكتاب.

أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده...».

ثم ختم وصيته هذه بقوله:

يا معشر قريش كونوا له ولاةً، ولحزبه حماةً، واللّه لا يسلك أحدٌ منكم سبيله إلّا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلّاسعد.(1)

نحن لا نشكّ في أنّ «أبا طالب» كان صادقاً في أُمنيّته هذه لأنّ خدماته الكبرى وتضحياته المتواصلة خلال عشر سنوات من بداية عهد الرسالة شاهدة على صدق مقاله، كما كان صادقاً في الوعد الّذي قطعه على نفسه لابن أخيه (محمّد) في مبدأ البعثة عندما جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أعمامه وعشيرته الأقربين ودعاهم إلى الإسلام فقال له أبوطالب:

«اُخرج يا ابن أخي فإنّكَ الرفيعُ كعباً، والمنيع حزباً، والأعلى أباً.

واللّهِ لا يَسلِقُك لسانٌ إلّاسلَقتهُ ألسن حِداد، واجتذَبته سيوفُ حداد.

واللّهِ لَتَذلَنَّ لَكَ العربُ ذلَّ البُهم لحاضِنها».(2)

***

الطريق الثالث: رأي أقربائه وأصدقائه

ويحسن بنا أخيراً أن نسأل عن أبي طالب وعن إيمانه وإخلاصه، أقاربَه غير المغرضين لأنّ «أهل البيت أدرى بما في البيت».

1 - لمّا مات أبوطالب جاء عليٌ عليه السلام إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فآذنه بموته، فتوجّع

ص:586


1- . السيرة الحلبية: 2/49-50.
2- . الطرائف تأليف السيد ابن طاووس: 302 برقم 388، نقلاً عن كتاب «نهاية الطلب وغاية السؤول في مناقب آل الرسول» تأليف إبراهيم بن علي الدينوري الحنبلي.

توجّعاً عظيماً، وحزن حزناً شديداً، ثم قال له: امض فتولّ غسله فإذا رفعته على سريره فأعلمني، ففعل، فاعترضه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو محمول على رؤوس الرجال: قال: «وصلتك رحم يا عم، وجزيت خيراً فلقد ربّيت وكفلت صغيراً، ونصرت وآزرت كبيراً».

ثم تبعه إلى حفرته، فوقف عليه فقال:

«أما واللّه لأستغفرنَّ لك، ولأشفعنَّ فيك شفاعةً يعجبُ لها الثقلان».(1)

2. روي أنّ علي بن الحسين عليهما السلام سئل عن إيمان أبي طالب؟ فقال:

«واعجباً! إنّ اللّه تعالى نهى رسوله أن يقرّ مسلمة على نكاح كافر، وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام، ولم تَزَل تحتَ أبي طالب حتّى مات».(2)

3. روي عن محمّد بن علي الباقر عليهما السلام أنّه قال:

«لو وُضِعَ إيمان أبي طالِب في كفّة ميزان، وإيمانُ هذا الخلقِ في الكفّة الأُخرى لرجح إيمانه».

ثم قال:

«ألم تَعلَموا أنَّ أميرَالمؤمنين عليّاً عليه السلام كانَ يأمر أن يُحجَّ عن عَبدِاللّه وَأبيه أبي طالب في حياته، ثم أوصى في وصيّته بالحج عنهم».(3)

4. قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام:

«إنَّ أصحاب الكَهف أسَرُّوا الإيمان، وأَظهَروا الشركَ فآتاهُمُ اللّهُ أجرَهم

ص:587


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/76.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/69.
3- . شرح نهج البلاغة: 14/68.

مرّتين، وإنّ أبا طالِب أسرّ الإيمان، وأظهر الشرك، فآتاه اللّه أجرَه مَرّتين».(1)

رأي علماء الشيعة في أبي طالب

ولقد اتّفقَ علماءُ الإماميّة والزيديّة تبعاً لأهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على: أنّ «أبا طالب» كان من أبرز المؤمنين برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم يخرج من الدنيا إلّابقلب يفيض إيماناً بالإسلام، وإخلاصاً للّه تعالى، وحبّاً للمسلمين، وقد أُلِّفَت في هذا المجال كتب ورسائل، ودراسات عديدة، يمكن الوقوف عليها لمن أراد.(2)

نظرة إلى حديث «الضحضاح»

اشارة

واستكمالاً لهذا الحديث ينبغي أن نلقي نظرة إلى رواية تشكّك في إيمان أبي طالب، فقد روى بعض الكتّاب مثل البخاري، ومسلم عن رواة نظير سفيان بن سعيد الثوري، عبدالملك بن عمير، عبدالعزيز بن محمّد الدراوردي حديثاً نسبوه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال عن أبي طالب رحمه اللّه:

«وجدتُه في غمرات من النّارِ فأخرجتُه إلى ضحضاحٍ».(3)

«لعلّهُ تنفعُه شفاعَتي يومَ القيامة فيجعَلُ في ضَحضاحٍ منَ النّار يبلغُ كعبَيه، يغلي منهُ دماغُهُ».(4)

إنّ هذه الرواية وإن كانت تكذّبها عشرات الأحاديث والروايات الإسلامية، والدلائل القاطعة الساطعة، وتثبت بطلانها وتفاهتها، ولكنّنا بهدف الوصول إلى

ص:588


1- . شرح نهج البلاغة: 14/70؛ بحار الأنوار: 35/111.
2- . راجع: الغدير: 7/330-409، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت؛ وص 402-404 طبعة النجف الأشرف.
3- . صحيح مسلم: 1/135، باب أهون أهل النار عذاباً، كتاب الإيمان.
4- . صحيح البخاري: 4/247، باب قصة أبي طالب.

مزيد من التوضيح نعمد إلى دراسة أمرين مرتبطين بهذا الحديث.

1. ضعف أسناد هذه الرواية

إنّ رواة هذه الرواية - كما أسلفنا - هم عبارة عن سفيان بن سعيد الثوري وعبدالملك بن عمير و عبدالعزيز بن محمّد الدراوردي الذين سندرس أحوالهم واحداً واحداً على ضوء أقوال علماء الرجال المعترف بهم عند أهل السنّة، حيث قالوا:

ألف. سفيان بن سعيد الثوري

قال أبوعبداللّه محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي - وهو من علماء الرجال البارزين عند أهل السنّة - في سفيان الثوري: كان يدلّس عن الضعفاء.(1)

إنّ هذا الكلام شاهد قوي على وجود التدليس عند الثوري، وعلى روايته عن الضعفاء أو المجهولين، وهو وصف يُسقطه عن درجة الاعتبار.

ب. عبدالملك بن عمير

قال عنه الذهبيّ: طال عُمره وساء حفظُه، قال أبو حاتم: ليس بحافظ، تغيّر حفظه، وقال أحمد: ضعيف يغلط، وقال ابن معين: مخلط، وقال ابن خراش: كان شعبة لا يرضاه، وذكر الكوسج عن أحمد بن حنبل: أنّه ضعيف جداً.(2)

فمن مجموع هذه العبارات نعرف أنّ عبدالملك كان يتّصف بصفات عديدة هي أنّه:

1. سيّئ الحفظ.

ص:589


1- . ميزان الاعتدال: 2/169.
2- . ميزان الاعتدال: 2/660.

2. ضَعيف.

3. كثير الغلط.

4. مخلط.

ومن الواضح أنّ كلّ واحدة من الصفات والحالات المذكورة كافية لأن تبطلَ الأحاديث الّتي يرويها عبدالملك بن عمير، والحال أنّه قد اجتمعت جميع نقاط الضعف هذه في هذا الرجل. ج. عبدالعزيز بن محمد الدراوردي

ولقد وصفَهُ علماء الرجال عند أهل السنّة بالنسيان، وقلّة الحفظ فلا يمكن الاستناد إلى مروياته.

فقد قال أحمد بن حنبل عنه: إذا حدّث من حفظه جاء بأباطيل.

وقال أبو حاتم عنه: لا يُحتَجُّ به.

وقال أبو زرعة أيضاً: سيّئ الحفظ.(1) ومن مجموعة هذه العبارات يتّضح بجلاء أنّ الرواة الأصليّين لحديث الضحضاح ضعفاء في غاية الضعف، إلى درجة لا يمكن الاعتماد على مروياتهم.

2. نصّ حديث الضحضاح يخالف الكتاب والسنّة

لقد نُسِب إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الرواية أنّه أخرج أبا طالب من نار جهنم إلى ضحضاح وبهذا خفَّفَ عنه العذاب، أو أنّه صلى الله عليه و آله و سلم تمنّى أن يشفع له، فيخفِّفَ اللّهُ عنه العذابَ، على حين نفى القرآنُ الكريم والسنّة النبوية الشريفة تخفيف العذاب عن الكفّار كما ونفيا شفاعة أحد في حقّهم.

ص:590


1- . ميزان الاعتدال: 2/634.

وعلى هذا الأساس فلو كان أبوطالب كافراً، لم يجز للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يخفّف عنه العذاب، أو يتمنّى له الشفاعة في يوم الجزاء.

وبهذا يظهر بطلان محتوى حديث الضحضاح.

وإليك فيما يأتي أدلّة ما قلناه من الكتاب والسنّة:

ألف: القرآن الكريم

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد:

«وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» .(1)

ب: السنّة النبوية

إنّ السنّة النبوية الطاهرة تنفي أيضاً الشفاعة للكفّار، ونذكر من باب النموذج بعض تلك الأحاديث:

1. روى أبوذر الغفاري عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:

«أُعطيت الشفاعة وهي نائلة من أُمّتي مَن لا يشرك باللّه شيئاً».(2)

2. روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:

«وشفاعتي لمَن شهد أن لا اله إلّااللّه مخلصاً، وأنَّ محمّداً رسول اللّه يصدِّق لسانُه قلبَه، وقلبُه لسانَه».(3)

إنّ الآيات والروايات المذكورة تثبت بوضوح بطلان نصّ حديث

ص:591


1- . فاطر: 36.
2- . مسند أحمد: 5/162؛ الترغيب والترهيب: 4/433.
3- . مسند أحمد: 2/307؛ الترغيب والترهيب: 4/437.

الضحضاح عند مَن يقول بأنّ أبا طالب مات كافراً.

ونتيجة البحث: أنّه تبيّن ممّا ذكر أنّ حديث الضحضاح لا أساس له من الصحّة لا من جهة السند والطريق، ولا من جهة المتن والنصّ، ولا يمكن الاستدلال به.

وبهذا ينهار أقوى حصن يتمسّكُ به البعض للخدشة في إيمان أبي طالب الثابت المسلّم.

ص:592

23 المعراج

المعراج في نظر القرآن والسنّة والتاريخ

كان الليل يخيم على الأُفق، ويسودُ الظلام على كلّ مكان.

فقد حان الأوانُ لأن ترقدَ جميع الأحياء في مساكنها، وتستريح في جحورها وأعشاشها، وتغمض الأجفان لبعض الساعات عن مظاهر الطبيعة، لتستعيد نشاطها من أجل العمل في يوم جديدٍ حافلٍ بالنشاط والحركة والسعي.

فذلك قانون الطبيعة في كلِّ ليلٍ ونهارٍ.

ولم يكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمستثنى عن هذا الناموس الطبيعي.

فهو صلى الله عليه و آله و سلم مضى ليستريح بعد أن صلّى صلاة العتمة أيضاً.

ولكنّه فجأةً سمع صوتاً مألوفاً مأنوساً له، وكان ذلك هو صوت أمين الوحي «جبرئيل» وهو يخبره بأنّ أمامه الليلة سفراً بعيداً ورحلة طويلة، وأنّه سيرافقه في هذا الرحلة إلى مختلف نقاط الكون، وسيسافر على متن دابة فضائية تدعى «البراق».

لقد بدأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رحلته الفضائية العظيمة من بيت أُخت علي بن أبي طالب(1) «أُمّ هاني»، وتوجّه على متن تلك الدابة إلى «بيت المقدس» في الأردن

ص:593


1- . لاحظ: مجمع البيان: 6/217.

وفلسطين والّذي يُسمّى «المسجد الأقصى» أيضاً، وهبط في تلك النقطة بعد مدة قصيرة جداً، وزار مواضع عديدة من ذلك المسجد، وتفقّد «بيت لحم» مسقط رأس «السيد المسيح» ومنازل الأنبياء وآثارهم ومحاريبهم، وصلّى عند كلّ محراب من بعض تلك المحاريب ركعتين.

ثم بدأ بعد ذلك القسم الثاني من رحلته، حيث عرج من ذلك المكان إلى السماوات العلى، وشاهد النجوم والكواكب، واطّلع على نظام العالم العلوي، وتحدّث مع أرواح الأنبياء، والملائكة السماويّين، واطّلع على مراكز الرحمة والعذاب (الجنة والنار)(1) ورأى درجات أهل الجنة، وأشباح أهل النار عن كثب، وبالتالي تعرف على أسرار الوجود، ورموز الطبيعة، ووقف على سعة الكون، وآثار القدرة الإلهيّة المطلقة، ثم واصل رحلته حتّى بلغ إلى سدرة المنتهى(2)، فوجَدها مسربلة بالعظمة المتناهية والجلال العظيم وعندها انتهى برنامج رحلته صلى الله عليه و آله و سلم، فأمر بأن يعود من حيث أتى فعاد صلى الله عليه و آله و سلم ومرّ في عودته على بيت المقدس ثانية، ثم توجّه منه إلى «مكّة»، ومرّ خلال الطريق على قافلة تجارية لقريش وقد ضلّ بعير لهم في البيداء وكانوا يبحثون عنه، ثم وجد في رحلهم قعباً مملوء من الماء فشرب منه وصبَّ بقيته على الأرض أو غطاه كما كان بناء على رواية. وترجّل عن مركبته الفضائية العجيبة في بيت «أُمّ هاني» قبيل طلوع الفجر، وأخبرها بالخبر قبل أي أحد، ثم كشف عن هذا الحادث في أندية قريش صباح نفس تلك الليلة.

فاستبعد السامعون قصة المعراج والحركة السريعة هذه، واعتبروه أمراً محالاً وأنكروه، وفشا هذا الخبر في جميع الأوساط وغضب بسببه أشراف قريش وساداتهم أكثر من غيرهم.

ص:594


1- . لاحظ: مجمع البيان: سورة الإسراء: 6/215.
2- . لتوضيح معنى سدرة المنتهى راجع كتب التفسير.

وكعادتها بادرت قريش إلى تكذيب هذه القصّة وقالوا: هذا واللّه الأمر البيّن (العجيب المنكر) واللّه إنّ العير لتطّرد شهراً من مكّة إلى الشام مدبرة، وشهراً مقبلة، أفيذهب ذلك «محمّدٌ» في ليلة واحدة؟

وقالوا: إن صدقَتَ فصف لنا بيتَ المقدس، فإنّ فينا من شاهدهُ.

فلم يصف لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيت المقدس فحسب بل أخبرهم بكلّ مامرّ به وفعله ورآه في طريق عودته من بيت المقدس إلى «مكّة» وقال: وآية ذلك أنّي مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، وقد ضلّ لهم بعير وقد همّوا في طلبه، وشربت من ماء في آنية لهم مغطاة بغطاء ثم غطّيت عليها كما كان، ثم مررتُ بعير بني فلان وقد نفّرت لهم ناقة وانكسرت يدها.

فقالت قريش: أخبرنا عن عير قريش.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: إنَّها الآن في التنعيم (وهو مبدأ الحرم) يتقدّمها جمل أورق (أبيض مائل إلى السواد) عليه غرارتان وستدخل الآن مكّة.

فغضبت قريش من هذه الأخبار القاطعة وقالت: سنعلمنَّ الآن صِدقه أو كِذبه.

ثم لم تمض لحظاتٌ إلّاوطلعت العير عليهم، وحدَّثهم أبوسفيان بكلّ ما أخبرهم به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من ضياع بعيرٍ لهم في الطريق وهمّهم في طلبه، وأنّهم وضعوا ماء مملوء فغطوه ولمّا رجعوا وجدوه مغطّى كما غطوه ولكن لم يجدوا فيه ماءً.

هذه هي خلاصة ما جاء في كتب التفسير، والتاريخ، والحديث حول المعراج.

وإذا أراد القارئ الكريم أن يقف على تفاصيل أكثر في هذا المجال فما عليه

ص:595

إلّا أن يراجع بحارالأنوار باب «المعراج».(1)

هل للمعراج جذور قرآنية؟

لقد جاءَ ذكر «المعراج» وسير الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم العجيب في العالم العلوي، والفضاء غير المتناهي في سورتين من القرآن الكريم بشكل واضح وصريح كما وأُشير إليه في سور أُخرى أيضاً. ونحن نكتفي هنا باستعراض الآيات الّتي ذكرت هذه القضيّة بصورةٍ واضحةٍ، ونقف عند بعض النقاط الجديرة بالدراسة فيها:

يقول اللّه تعالى في سورة الإسراء:

«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» .(2)

ويستفاد من ظاهر هذه الآية أُمور:

1. لكي نعلم بأنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يطو تلك المسافات، ولم يقم برحلته إلى تلك العوالم بقوّة بشرية، بل تسنّى له كلُّ ذلك بقوة غيبيّة، فبها استطاع أن يطوي تلك المسافات البعيدة في زمن قصير جداً بدأ اللّه تعالى حديثه عن الإسراء بقوله:

«سُبْحانَ الَّذِي» وهو إشارة إلى تنزيه اللّه عن كلِّ نقص وعيب.

ولم يكتف بذلك بل وصف نفسَه بوضوح بأنّه هو تعالى سبب هذه الرحلة والمسيّرُ فيها إذ قال: «أَسْرى» : أي إنَّ اللّه تعالى هو الّذي سرى برسوله صلى الله عليه و آله و سلم، وأخذه إلى تلك الرحلة.

وهذه العناية لأجل أن لا يتصوّر الناس بأنّ هذه الرحلة تحقّقت بالوسائل

ص:596


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 18/283-410؛ السيرة النبوية: 2/273-276.
2- . الإسراء: 1.

العادية، وحسب القوانين الطبيعية ليتسنّى لهم إنكارها، إِنما تحقّقت بقدرة اللّه وعنايته الربوبية الخاصّة.

2. إنّ هذه الرحلة تحقّقت برمّتها خلال الليل، ويستفاد هذا المطلب - علاوة على كلمة ليلاً - من كلمة «أَسْرى» أيضاً؛ لأنّ العرب كانت تستعمل اللفظة المذكورة في السير ليلاً.

3. مع أنّ هذه الرحلة بدأت من بيت «أُمّ هاني» ابنة أبي طالب، فإنّ الآية صرّحت بأنّها تَمَّت من المسجد الحرام، ولعلّ هذا لأنّ العرب كانت تعتبر كلّ مكّة حرماً إلهياً، ومن هنا كان كلّ مكان من مكّة يتمتّع عندهم بحكم الحرم والمسجد الحرام، فيكون المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة، ومكّة والحرم كلّها مسجد، فصحَّ أن يقول: «مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» .

وتَذهب بعض الروايات إلى أنَّ المعراج كان من نَفس المسجد الحرام.

ثم إنَّ هذه الآية وإن كانت تصرّح بأنَّ المعراج بدأ من «المسجد الحرام» وانتهى ب: «المجسد الأقصى» إلّاأنّ ذلك لا ينافي أن يكون للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رحلة أُخرى إلى العالم العُلوي؛ لأنّ هذه الآية تبيّن فقط قسماً من هذه الرحلة، وأمّا القسم الآخر من برنامج هذه الرحلة فتتعرض لذكره آيات في مطلع سورة «النجم».

4. إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عرج بجسمه وروحه معاً، لا بالروح فقط.

ويدلُّ على ذلك قوله تعالى «بِعَبْدِهِ» الّذي يُستَعمل في «الجسم والروح معاً» ولو كان المعراج بالروح فقط لزم أن يقول: «بروحه».

5. إنَّ الغرض من هذا السير العظيم وهذه الرحلة العجيبة هو إيقاف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على مراتب الوجود، وإطّلاعه على الكون العظيم، وهذا ما سنشرحه فيما بعد.

وأمّا السورة الأُخرى الّتي تعرض لبيان حادثة المعراج بوضوح و صراحة

ص:597

هي سورة «النجم».

والآيات الّتي سندرجها هنا من هذه السورة نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عندما قال لقريش: «رأيت جبرئيلَ أوّل ما أُوحي إلي على صورته الّتي خُلِقَ عليها» جادلته قريش في ذلك، فنزلتِ الآيات التالية تجيب على اعتراضهم:

«أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى * وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى * ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى * لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» .(1)

أحاديث المعراج:

روى المفسّرون والمحدّثون أخباراً وروايات كثيرة حول معراج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وما شاهده في هذه الرحلة العظيمة، ليست برمّتها صحيحة مُسَلَّمة مقطوعاً بها.

ولقد قسّم المفسّر الشيعيُ الكبير المرحومُ «العلّامة الطبرسيّ» هذه الأخبار إلى أصناف أربعة إذ قال: وتنقسم جملتها إلى أربعة أوجه:

أحدها: ما يقطع على صحّته لتواتر الأخبار به، وإحاطة العلم بصحّته (مثل أصل المعراج).

وثانيها: ما ورد في ذلك ممّا تجوِّزه العقول ولا تأباه الأُصول (مثل طوافه في السماء ورؤيته أرواح الأنبياء وتحدّثه معهم ورؤيته للجنة والنار)، فنحن نجوّزه ثم نقطع على أنّ ذلك كان في يقظته، دون منامه.

وثالثها: ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الأُصول، إلّاأنّه يمكن تأويلها على

ص:598


1- . النجم: 12-18.

وجهٍ يوافق المعقول، فالأولى أن نؤوّله على ما يطابق الحقّ والدليل. (مثل أنّه رأى أهل الجنة وأهل النار وتحدّث معهما الّذي يجب أن يؤوّل فيُحمل على أنّه: رأى أشباحهم وصورَهُم وَ صفاتهم).

ورابعها: ما لا يصحّ ظاهره ولا يمكن تأويله إلّاعلى التعسف البعيد، (وهي ما أُلصِق وأُلحق بهذه الحادثة من الأساطير والخرافات، مثل ما روي من أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّم اللّه سبحانه جهرةً ورآه وقعد معه على سريره أو سمع صرير قلمه، ونحو ذلك ممّا يوجب ظاهره التشبيه والتجسيم واللّه سبحانه يتقدّس عن ذلك كلّه)، فالأولى أن لا نقبله.(1)

***

متى وَقَعت هذه الحادثة؟

مع أنّ أهميّة هذه الحادثة العجيبة كانت تستوجب أن تكون مضبوطة التفاصيل من جميع الجهات، إلّاأنّها تعرّضت للاختلاف - مع ذلك - من بعض الجهات و منها تحديد تاريخ وقوعها.

فقد ادّعى كاتبا السيرة المعروفان: «ابن إسحاق» و «ابن هشام» أنّها وقعت في السنة العاشرة من البعثة الشريفة.

وذهب المؤرّخ الكبير «البيهقي» إلى أنّها وقعت في السنة الثانية عشرة من البعثة.

وذهب آخرُون إلى أنّها وقعت في أوائل البعثة، بينما قال فريق رابع: إنّها وقعت في أواسطها.

وربّما يقال في الجمع بين هذه الأقوال: إنّه كان لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معارج

ص:599


1- . مجمع البيان: 6/215.

متعدّدة.

ولكنّنا نعتقد أنّ المعراج الّذي فُرِضَت فيه الصلاة وَقع بعد وفاة أبي طالب عليه السلام في السنة العاشرة قطعاً.

لأنّ من مسلَّمات الحديث والتاريخ أنّ اللّه تعالى أمر نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم في ليلة المعراج أن تصلّي أُمّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلَّ يوم وليلة خمس صلوات.

كما أنّه يُستفاد من ثنايا التاريخ أيضاً أنّ الصلاة لم تُفرَض مادام أبوطالب عليه السلام على قيد الحياة، بل فُرِضت بعد وفاته، لأنّه حضر عنده - ساعة وفاته - سراة قُريش وأسيادها، وطلبوا منه أن يبت لهم في أمر ابن أخيه «محمّد» ويمنعه من فعله، فيعطونه - في قبال ذلك - ما يريد فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك المجلس: نعم كلمة واحدة تعطونيها: «تقولون لا إله إلّااللّه وتخلعون ما تعبدون من دونه».(1)

لقد طلب منهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذا الأمر ولم يطلب منهم شيئاً آخر كالصلاة وغيرها من الفُروع أبداً، وهذا هو بنفسه يدلّ على أنّه لم تجب الصلاة حتّى ذلك اليوم، وإلّا كان الإيمان المجرّد عن العمل، والصلاة مفروضة، لا فائدة فيه.

وأمّا أنّه لم يذكر شيئاً عن نبُوّته ورسالته فلأنّ الإعتراف بوحدانية اللّه بأمره وطلبه صلى الله عليه و آله و سلم إعتراف ضِمنيّ برسالته ونبوّته، وفي الحقيقة أنَّ التلفُّظ بهذه العبارات بأمره يتضمّن شهادتين وإقرارين: الإقرار باللّهِ الواحد، والإقرار بنبوّة رسول الإسلام.

هذا مضافاً إلى أن كُتّاب السيرة ذكروا كيفية إسلام جماعة مثل «الطفيل بن عمرو الدوسي» الّذي أسلم قبل الهجرة(2) بأعوام اكتفى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالشهادتين،

ص:600


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/283.
2- . السيرة النبوية: 1/256.

ولم يجر أي حديث عن الصلاة أبداً.

إنّ هذه الأمثلة تكشف عن أنّ هذه الحادثة (المعراج) الّتي فُرضت فيها الصلاة وقعت قبل الهجرة بسنوات.

والذين تصوّروا أنّ المعراج وقع قبل السنة العاشرة مخطئون خطأ كبيراً، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان محصوراً في شعب أبي طالب منذ السنة الثامنة وحتّى السنة العاشرة، ولم يكن وضع المسلمين ليسمح بفرض تكليف زائد (مثل الصلاة) عليهم.

وأمّا سنوات ما قبل الحصار فعلاوة على ضغوط قريش على المسلمين والّتي كانت هي بنفسها مانعاً من فرض الصلاة على المسلمين، كان المسلمون قلّةً معدودين، ولم يكن نورُ الإيمان، وأُصول الإسلام قد ترسّخت في قلوب ذلك العدد القليل بشكل قوي بعد، ولذلك يكون من المستبعد أن يكلّفوا بأمر زائدٍ مثل الصلاة في مثل ذلك الظرف.

وأمّا ما ورد في بعض الأخبار والروايات من أنّ الإمام علياً عليه السلام صلّى مع رسول اللّه قبل البعثة بثلاث سنوات، واستمر على ذلك بعدها أيضاً فليس المراد منها الصلوات المحدودة المؤقتة بوقت، المشروطة بشروط خاصّة، بل كانت تلك الصلوات عبارة من عبادة خاصة غير محدودة(1)، أو كان المراد منها الصلوات المندوبة والعبادات غير الواجبة.

ص:601


1- . للمزيد من التحقيق في تاريخ وجوب الوضوء والصلاة والأذان يراجع الكافي: 3/482-489.

هل كان المعراج جسمانياً؟

لقد وقع النقاش والكلام في كيفية معراج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأنّه هل كان روحانياً، أو جسمانياً وروحانياً معاً؟ وقيل في ذلك كلام كثير.

ومع أنّ القرآن الكريم والأحاديث تشهد بجلاء لا غموض فيه بأن معراجه صلى الله عليه و آله و سلم كان جسمانياً(1)، فقد أُوردت في المقام بعض الإشكالات والاعتراضات الّتي منعت البعض عن قبول هذه الحقيقة، وبالتالي دفعتهم إلى ارتكاب التأويل، والزعم بأنّ معراج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان روحانياً، أي بالروح لا بالجسم.

لقد قال هؤلاء: إنّ روح النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هي الّتي طافت في تلك العوالم ثم عادت إلى جسد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مرة أُخرى!! وذهب جماعة إلى أبعد من ذلك إذ ادّعوا بأنّ جميع هذه المشاهدات والقضايا تمّت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في عالم الرؤيا، فكلّ ما رآه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أو فعله من الطواف واللقاء والصلاة كانت رؤيا، ورؤيا الأنبياء صادقة!!

على أنّ أقوال الفريق الأخير من البعد عن الواقع بحيث لا يمكن ذكره في عداد الأقوال والنظريات أبداً، لأنَّ قريش بعد أن سمعت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ادّعاءه بأنّه سار كلّ تلك المسافة الطويلة البعيدة، وطاف على كلّ تلك الأماكن المتباعدة العديدة في ليلة واحدة انزعجت بشدّة وهبّت لتكذيبه حقيقة، إلى درجة أنّ خبر المعراج أصبح حديث الساعة في نوادي قريش وأوساطها آنذاك.

ولو كان كلّ ذلك تحقّق للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المنام والرؤيا لما كان لتكذيب قريش وانزعاجها واستنكارها معنى، إذ لا موجب للنزاع لو كان صلى الله عليه و آله و سلم يقول: إنّي فعلت تلك الأُمور، ورأيت تلك المشاهد في الرؤيا والمنام، إذ هو على كلّ حال رؤيا،

ص:602


1- . لقد نقل الفقيه الجليل العلّامة الشيعيّ المرحوم الطبرسي في تفسيره «مجمع البيان» إجماع علماء الشيعة على جسمانية المعراج فراجع: 6/215.

وكلّ شيء - حتّى الأُمور المحالة أوالمستبعدة جداً - ممكن في عالم الرؤيا.

ومن هنا لا قيمة للقول الأخير أصلاً فلا يستحقّ المتابعة أصلاً.

ولكن مع الأسف استحسن بعض العلماء المصريّين (مثل فريد وجدي) هذا الرأي وسعى في تقويته وتبريره، ونحن نحبذ أن نتركه، وأن لا نناقش فيه.(1)

ما هو المراد من المعراج الروحاني؟

لقد عمد فريق ممّن عجز عن دفع وحلّ بعض الاعتراضات والإشكالات الواردة على المعراج الجسماني، إلى تأويل الآيات والأحاديث، واعتبر المعراج النبوي معراجاً روحانياً، لا غير.

والمقصود من المعراج الروحانيّ هو التدبّر في مخلوقات اللّه ومصنوعاته، ومشاهدة جلاله وجماله والاستغراق في ذكر الحقّ، والتفكّر فيه، وبالتالي التخلّص من القيود والأغلال المادية، والعلائق الدنيوية، والعبور من المراتب الإمكانية في المراحل الباطنية والقلبية الّتي يحصل بعد طيّها نوعٌ من القرب الخاص الّذي لا يمكن وصفه.

فإذا كان المراد من (المعراج الروحانيّ) هو التفكّر في عظمة الحقّ وسعة الخلق و.. و.. فلا شك أنّ هذا ليس من مختصّات رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم بل كان أكثر الأنبياء، وكثير من الأولياء من ذوي البصائر القويّة الطاهرة يمتلكون هذه المرتبة، على حين أنّ القرآن الكريم يعتبر (المعراج) من خصائص رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويذكره على أنّه نوع من الامتياز الخاص به صلى الله عليه و آله و سلم.

هذا مضافا إلى أنّ مثل هذه الحالة (أعني: التفكّر في عظمة الخالق

ص:603


1- . يلاحظ: دائرة معارف القرن العشرين: 6/329، مادة «عرج».

والاستغراق في التوجّه إلى الحقّ) كانت تتكرّر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في كلّ ليلة(1)، والحال أنّ (المعراج) الّذي هو محط الكلام قد وقع في ليلةٍ معيَّنة.

إنّ ما دفع بهذا الفريق إلى اتّخاذ مثل هذا الموقف من (المعراج)، وآل بهم اختيار هذا الرأي هو فرضية الفلكي اليوناني المعروف «بطلميوس» الّتي كانت سائدة في الأوساط العلمية في الشرق والغرب طيلة ألفي سنة بالكامل، والّتي أُلّف حولها مئات الكتب، وكانت تعدُّ حتّى حين من المسلّمات في مجال العلوم الطبيعية وهي على نحو الإجمال كالتالي:

إنّ الأجسام في هذا العالم على نوعين: أجسام عنصرية، وأجسام فلكية.

والجسم العنصري هي العناصر الأربعة المعروفة: «الماء، والتراب، والهواء، والنار».

وأوّل كرة تبدو لنا هي كرة التراب وهي مركزُ العالم، ثم تليها كرة الماء ثم كرة الهواء، وتأتي بعد كلّ هذه الثلاثة كرة النار، وكلٌّ من هذه الكرات محيطة بالأُخرى، وهنا (أي وعند كرة النار) تنتهي الكرات، وتبدأ الأجسام الفلكية.

والمقصود من الأجسام الفلكيّة هيَ الأفلاكُ التسعة الّتي تقع الواحدة فوق الأُخرى وتحيط الواحدة بالأُخرى على هيئة قشور البصل، وهي متّصلة بعضها ببعض من دون فاصلة بينها وهي غير قابلة للاختراق والالتئام (أي الشق والالتحام) والفصل والوصل ولا يستطيع أيّ شيء من اختراقها والتحرّك فيها بصورة مستقيمة؛ لأنّ ذلك يستلزم انفصام أجزاء الفلك.

من هنا يكون المعراج الجسماني مستلزماً لأن ينطلق النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من مركز العالم ويصعد بصورة مستقيمة إلى الأعلى عابراً الكرات العنصرية الأربع، ومخترقا

ص:604


1- . راجع وسائل الشيعة: ج 7، الباب 4 من أبواب الصوم المحرّم والمكروه، الحديث 4. قال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي لست كأحدكم، أنّي أظل عند ربّي فيطعمني ويسقيني».

الأفلاك التسعة الواحد تلو الآخر، بينما يستحيل خرق هذه الأفلاك ثم التحامها حسب نظرية بطلميوس وفرضيّته الفلكية.

وعلى هذا لا مناص من أن نعتقد بأنّ المعراج النبويّ كان معراجاً روحانياً، أي أنّ روحه صلى الله عليه و آله و سلم هي الّتي عرجت حتّى لا يمنع أيُّ جسم من عبورها وسيرها وصعودها إلى النقطة المطلوبة والغاية المرسومة.

الجواب:

إنّ هذا الكلام كان مقبولاً وذا قيمة عند ما كانت هيئة بطلميوس وفرضيته الفلكية لم تكن بعد قد فقدت قيمتها في الأوساط العلمية وكان هناك مَن يعتقد بها من صميم فؤاده.

ففي مثل تلك البيئة كان من الممكن التلاعب بالحقائق القرآنية، وتأويل صريح القرآن ونصوص الروايات.

أمّا الآن فقد فقدت أمثال هذه الفرضيات قيمتها، وظهر للجميع بطلانها، ولم يعد أحد يتحدّث عنها، إلّامن باب ما يُسمّى بتاريخ العلوم.

فاليوم وبالنظر إلى كلّ هذه الأجهزة الفلكية والآلات الفضائية الدقيقة، والتلسكوبات العملاقة، وهبوط المركبات الفضائية المتعدّدة على سطح القمر والمريخ، لم يعد مجال لهذه الفرضيات الخيالية.

فاليوم لا يعتبر العلماء المحقّقون فكرة العناصر الأربعة والفلك المتّصل كقشرة البصل إلّاجزءاً من الأساطير.

فإنّ العلماء لم يستطيعوا بالآلات العلمية وأجهزة الرصد الدقيقة والعيون المسلّحة من رؤية، تلك العوالم الّتي حاكها وصنعها بطلميوس بقوة خياله، من هنا فإنّ أية نظرية تقوم على هذا الأساس غير الصحيح تكون عارية عن أية قيمة، واعتبار.

ص:605

نَغمةٌ شاذةٌ:

ولقد طلع مؤسّس الفرقة الشيخية «الشيخ أحمد الأحسائي» في «الرسالة القطيفية» بنغمة شاذة في هذا الصعيد حيث أراد بإراءة طرحة جديدة أن يرضي كلا الطرفين (القائلين بروحانية المعراج النبوي والقائلين بجسمانيته) حيث قال: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عرج ببدنه البرزخي (الهورقليائي)(1) ثم استدلّ لذلك بقوله:

إنّ الصاعد كلّما صعد ألقى في كلّ رتبة من المراتب المذكورة ما فيها، فمثلاً إذا تجاوز كرة الهواء ألقى ما فيه من الهواء، وإذا تجاوز كرة النار ألقى ما فيها، وإذا رجع أخذ ما له من كرة النار، وإذا وصل إلى كرة الهواء أخذ ما له من الهواء.

ومن هنا فإنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عندما عرج إلى السماء ألقى في كلّ كرة واحداً من تلك العناصر الأربعة في كرته، وعرج ببدن فاقد لهذه العناصر.

ومثل هذا البدن لا يمكن أن يكون بدناً عنصرياً، فليس هو إلّاالبدن البرزخي (الّذي أسماه الهورقليائي) لا غير.(2)

وبهذا - حسب تصوّره - أرضى من نفسه كلا الطرفين المذكورين، لأنّه من جانب اعتقد بالمعاد الجسماني، وفي نفس الوقت تخلّص من إشكال «خرق الأفلاك والتحامها» لأنّ نفوذ الجسم البرزخي لا يستوجب أي خَرق وانفصال في جدار الفلك.

ص:606


1- . وهو البدن البرزخي الّذي يشبه البدن الّذي يفعل به الإنسان الأفعال المختلفة في عالم النوم والرؤيا ويقوم بكلّ نوع من أنواع النشاط.
2- . تقع الرسالة القطيفية ضمن مجموعة تحتوي على 92 رسالة باسم جوامع الكلم الّتي طبعت عام 1273. ومع هذا التصريح يدّعي البعض - للتسترّ على خطأ الشيخ وزلته هذه - بأنّ الشيخ يعتقد بأنّ المعراج كان جسمانياً عنصرياً، وأنّه موافق لرأي المشهور في هذا المجال.

ولكن هذه النظرية - كما هو واضح لكلّ عالِم متحرٍّ للحقيقة، بعيد عن العصبية - واضحة البطلان كسابقتها (نظرية المعراج الروحاني)، فمضافاً إلى أنّها مخالفة للقرآن وظاهر الأحاديث، لأنّه - كما أسلفنا - لو عرضنا آية المعراج (من سورة الإسراء) على أيّ عارف باللغة، مهما كان، وطلبنا منه رأيه في هذا الصدد لقال: إنّ مراد القائل هو البدن الدنيوي العنصري الّذي عَبّر عنه القرآن بلفظ العبد، في قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ» (1)، وليس الهورقليائي الّذي لم يكن يعرفه المجتمع العربيّ، ولا يعرف أمثاله في ذلك اليوم أساساً، في حين أنّهم كانوا هم المخاطَبون في آية المعراج في سورة الإسراء لا غيرهم.

هذا مضافاً إلى أنَّ ما دفع بالشيخ إلى ارتكاب هذا التأويل البارد هو الأُسطورة اليونانية المذكورة حول الفلك، حيث تصوّرها كحقيقة ثابتة من حقائق اللوح المحفوظ، وقد كذبها وفندها كلُّ فلكيّي العالم اليَومَ، وأعلنوا عن بطلانها.

فلا يجوز لنا أن نقلِّد تلك الفرضية تقليداً أعمى.

وإذا ما رأينا بعضَ القدماء من المشايخ قال بمثل هذا محسناً الظن بتلك الفرضية الفلكية القديمة وأمثالها أمكن إعذارهم، لعدم قيام أدلّة علمية قوية على خلافها آنذاك.

أمّا اليوم فلا ينبغي لنا أن نتجاهل الحقائق القرآنية لفرضية ثبت بطلانها في الأوساط العلمية.

المعراج وقوانين العلم الحديث:

قد يتصوّر فريقٌ من الناس أنّ القوانين الطبيعية والعلمية الحاضرة لا تتلاءم

ص:607


1- . الإسراء: 1.

مع معراج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وذلك لأنّه:

1. يقول العلم الحديث: إِنَّ الابتعاد عن الأرض يتطلّب التخلّص من جاذبية الأرض، وبعبارة أُخرى إبطال مفعولها.

فإنّ (الكرة) الّتي نقذفها إلى الأعلى تعود مرّة ثانية إلى الأرض بفعل الجاذبية، وكلّما كرّرنا قذف الكرة إلى الأعلى فإنها تعود وترجع إلى الأرض أيضاً.

فإذا أردنا أن نبطل مفعول جاذبية الأرض إبطالاً كاملاً بحيث لا تعود الكرة المقذوفة إلى الأعلى إلى الأرض ثانيةً بل تواصل مسيرها إلى الأعلى فإنّنا نحتاج لتحقيق هذا الهدف إلى جعل سرعة الكرة باتجاه معاكس للأرض تعادل 000/25 ميل في الساعة.

وعلى هذا فإنّ معنى المعراج هو أن يكون النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد خرج من محيط جاذبية الأرض، وأصبح في حالة انعدام الوزن.

ولكن يُطرح هنا سؤال وهو: كيف استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يطوي - بدون وسائل - هذه المسافة بمثل هذه السرعة، وهل البدن الطبيعي يتحمّل مثل هذه السرعة مع عدم توفّر الغطاء الواقي والوسائل اللازمة، الّتي تصون الجسم من التبعثر والذوبان بفعل السرعة الفائقة؟

2. أنّ الهواء القابل للاستنشاق غير موجود فوق عدد من الكيلومترات بعيداً عن سطح الأرض، بمعنى أنّنا كلما ذهبنا صعداً إلى الطبقات العليا وابتعدنا عن الأرض أصبح الهواء أرقّ، حتّى يغدو غير قابل للاستنشاق، وربّما نصل إذا واصلنا الصعود إلى الأعلى إلى منطقة ينعدم فيها الهواء اللازم للتنفس بالمرّة، فكيف استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبعد طي تلك المسافة الطويلة والبعيدة في أعالي الجو أن يعيش بدون وجود الاوكسيجين؟!

ص:608

3. أنَّ الأشعة الفضائية، والأحجار السماوية والشهب الكثيرة المتطايرة إذا اصطدمت بأي جسم أرضي أبادَتهُ، وأفنته، ولكنها عندما تصطدم بالغلاف الغازيّ المحيط بالأرض تتلاشى وتصبح كالغبار ولا تصل إلى الأرض، فيكون الغلاف الغازي في الحقيقة بمثابة درع يقي سُكّان الأرض من خطر تلك القذائف المهلكة.

ومع هذه الحالة كيف تهيّأ لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أن يصون نفسَه من تلك الأشعة الفضائية، والأحجار السماوية؟!

4. إذا تغيّر ضغطُ الهواء على جسم الإنسان فزاد أو نقص اختلت حياته الطبيعية، فهو يمكنه أن يعيش تحت ضغط معين من الهواء، لا يوجَد في الطبقات العُليا من الجوّ، فكيف استطاع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والحال هذه أن يحافظ على حياته في أعالي الفضاء؟!

5. أنَّ سرعة الحركة الّتي سار بها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لا ريب كانت تفوق سرعة الحركة الّتي يسير بها النور ومع العلم بأنّ سرعة النور هي 000/300 كيلومتر في الثانية، مع العلم أيضاً أنّه ثبت في العلم الحديث أنّه لا يستطيع أيُّ جسم أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة النور، فكيف استطاع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يسير بسرعة تفوق سرعة النور، ومع ذلك يرجع إلى الأرض سالم الجسم كامله؟؟!

جوابنا:

وجوابنا هو: أنّنا إذا أردنا أن نناقش هذه المسألة على ضوء القوانين العلميّة الطبيعية لتجاوز عدد الاعتراضات والإشكالات ما ذكرناه آنفاً.

ولكنّنا نقول في جواب هذا الفريق متساءلين: ما هو مقصودكم من توضيح هذه النواميس الطبيعية؟

هل تريدون القول بأنّ السير في العوالم العليا أمرٌ غير ممكن، وممتنع ذاتاً وبالتالي أنّه أمر محال؟!

ص:609

فإننا نقول - حينئذ - في الجواب على ذلك بأن الجهود والتحقيقات العلمية الّتي بذلها علماء الفضاء في الشرق والغرب قد جعلت هذا الأمر - ولحسن الحظ - أمراً ممكناً، وعادياً، لأنّ مع إطلاق أوّل قمر اصطناعي عام (1957 م) إلى السماء والّذي أسماه علماء الفضاء ب «اسپوتنيك» اتّضح أنّه يمكن إبطال مفعول جاذبية الأرض بواسطة الصاروخ، كما أنّ إرسال السفن الفضائيّة الحاملة لروّاد الفضاء من البشر بواسطة الصاروخ أوضح أنَّ ما كان يَعِدّه البشر مانعاً من الصعود إلى الأعلى في الفضاء قد أصبح قابلاً لرفعه وإزالته، والتخلّص منه بفضل العلم والتكنولوجيا.

إنّ البشر استطاع بأدواته وآلاته العلمية والتكنولوجية أن يعالج مشكلات عديدة في مجال ارتياد الفضاء مثل مشكلة الشهب والنيازك المتطايرة في الجوّ ومشكلة الأشعة الفضائية، ومشكلة انعدام الغاز اللازم للتنفس و.. و.. وهاهو علم ارتياد الفضاء في حال توسع مستمرّ وأنّ العلماء أصبحوا الآن يثقون بأنّهم سرعان ما يتمكّنون من مدّ بساط الحياة والعيش في إحدى الكرات السماوية والسفر إلى إحدى الكواكب كالقمر والمريخ بِسهولة كبرى!(1)

إنَّ هذه الأحداث العلمية وهذا التقدّم التكنولوجي في مجال ارتياد الفضاء

ص:610


1- . بعد إطلاق الأقمار والسفن الاصطناعية لأوّل مرة يوم الأربعاء أبريل عام 1961 م بدأ الضابط الروسي جاجارين (27 سنة) رحلته الفضائية في سفينة فضائية، وكان أوّل إنسان أقدم على هذه الرحلة الفضائية، وابتعدت سفينته 302 كيلومتراً عن سطح الأرض، ودارت دورة واحدة حول الكرة الأرضية في ساعة ونصف. وبعد ذلك أقدمت أمريكا والاتحاد السوفيتي على إرسال السفن الفضائية إلى الفضاء في محاولة لغزو القمر حتّى حطّت السفينة الفضائية «أپولو» الحاملة لعدد من روّاد الفضاء على سطح القمر لأوّل مرّة، وكان هذا أوّل مرة يحط فيها إنسان قدمه على أرض القمر. وقد تكرّرت تجربة هذا البرنامج الفضائي فيما بعد مرّات ومرّات وكانت ناجحة على الأغلب. وكلّ هذه الجهود والنتائج تكشف عن أنّ هبوط الإنسان على سطح الكرات والكواكب أمرٌ ممكن، وما يستطيع البشر فعله عن طريق العلم يقدر اللّه خالق البشر على فعله بإرادته النافذة.

شاهدٌ قويٌّ على أنّ هذا العمل أمر ممكن مئة بالمئة، وليس من الأُمور المستحيلة.

وإذا كان مقصود المعترضين على المعراج هو أنّه لا يمكن القيام بمثل هذه الرحلة من دون أجهزة علميّة وتكنولوجية، ولم يكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يملك في تلك الليلة مثل هذه الأجهزة، فكيف طوى تلك المسافات وطاف على جميع تلك العوالم من دون أدنى وسيلةِ نقلٍ من هذا القبيل؟!

فإننا نقول في معرض الإجابة عن اعتراضهم هذا بأنّ جواب هذا الاعتراض يتّضح من الأبحاث الّتي سبقت منّا حول معاجز الأنبياء وخصوصاً بحثنا المفصَّل حول حادثة عام الفيل وهلاك جيش أبرهة العظيم بالأحجار الصغيرة، لأنّه من المسلَّم أنَّ ما يستطيع البشر فعله عن طريق الأدوات والآلات العلمية الصناعية يستطيع الأنبياء فعلَه بعناية اللّه تعالى، وإقداره وبدون الأسباب الظاهرية والخارجية.

لقد عرج رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم إلى السماء بعناية وبإقدار اللّه الّذي خلق الوجود كلّه، وأقام هذا النظام البديع برمّته، فهو الّذي أعطى للأرض جاذبيتها، وأعطى للشمس أشعتها وأوجد مختلف طبقات الهواء، وأنواع الغازات في الجوّ، ومتى أراد أخذَها وانتزعها منها، أو كبح جماحها، وردّ عاديتها.

فإذا تحقّق معراج النبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله و سلم في ظلّ العناية الإلهيّة فإنّ من المسلَّم أن جميع النواميس تخضع أمام قدرته القاهرة، وإرادته الغالِبة، وهي طوع إرادته، والسماوات والأرض مطويّات بيمينه والجميع في قبضته ورهن إشارته دائماً وأبداً، وفي كلّ حين وأوان.

وعلى هذا فماذا يمنع من أن يعمل اللّه الّذي منح للأرض جاذبيتها، وللأجرام السماوية أشعتها، على إخراج عبده المصطفى بقدرته المطلقة ومن دون

ص:611

الأسباب الظاهرية، من مركز الجاذبية الأرضيّة، ويصونه من أخطار الأشعة الكونية، وأن يعمد خالق كلّ هذا القدر الهائل من الأوكسيجين إلى إيجاد الهواء اللازم لنبيّه في الطبقات الّتي ينعدم فيها الهواء، وهذا هو معنى قولهم: «إنَّ اللّه مسبِّبُ الأسباب ومعطِّلُ الأسباب». إنّ أمر المعجزة يختلف ويفترق أساساً عن أمر العلل الطبيعية والقدرة البشرية.

ونحن يجب أن لا نقيس قدرة اللّه المطلقة بقدرتنا المحدودة، فإذا كنّا لا نقدر على شيء من دون الأسباب لم يصحَ أن نقول: إن القادر المطلق لا يقدر على مثله من دون الأسباب الطبيعية أيضاً.

إنَّ إحياء الموتى، وقلب العصا إلى ثعبان، وإبقاء يونس حيّاً في بطن الحوت، في قعر البحار، ممّا صدّقته جميع الكتب السماوية ونقلته إلينا، لا تقلّ إشكالاً ولا تختلف جواباً عن قصة المعراج النبوي

وخلاصة القول: إنّ جميع العلل الطبيعية والموانع الخارجية مسخَّرةٌ لِلّه تعالى خاضعة لإرادته، مطيعةٌ لأمره وإرادته يمكن تعلّقُها بكلّ شيء إلّابالأمر المحال، وأمّا غيرذلك أي ما يكون ممكناً بالذات مهما كان، فإنّهُ قابلٌ لأن يتحقّق في ظل إرادة اللّه ومشيئته، سواء يقدر البشر عليه أم لا يقدر.

على أنّ حديثنا هذا موجَّهٌ إلى مَن آمن باللّه، وعرف ربّه بصفاته الخاصّة به تعالى، وبالتالي آمن باللّه الأزليّ على أنّه القادر على كلّ شيء.

ما هو الهدفُ من المعراج؟

لقد بيّنت الأحاديث - بعد الآيات - الغرض من المعراج وإليك طائفة من هذه الأحاديث.

ص:612

1. يقول ثابت بن دينار سألت الإمامَ زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام عن اللّه جلّ جلاله هل يوصَف بمكان؟ فقال: «تعالى اللّهُ عَن ذلِكَ».

قلت: فلِمَ أسرى بنبيه محمّد صلى الله عليه و آله و سلم إلى السماء؟

قال: «لِيُريَهُ مَلكوتَ السماوات وما فيها من عجائب صنعِهِ وبدائع خلقه».(1)

2. وقال يونس بن عبدالرحمن قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام:

لأيّ عِلةٍ عرج اللّهُ بنبيّه إلى السماء ومنها إلى «سدرة المنتهى»، ومنها إلى «حجب النور» وخاطبه وناجاهُ هناك واللّه لا يوصف بمكان؟.

فقال عليه السلام: «إنَّ اللّه لا يُوصَفُ بمكان ولا يَجري عليهِ زمانٌ، وَلكنَّهُ عزوجل أرادَ أن يُشَرِّف به مَلائِكته، وسكّانَ سَماواتِه، ويكرِّمَهُم بمشاهدته، وَيُريَه من عجائب عظمته مايخبر بهِ بَعدَ هُبُوطِه، وليسَ ذلِكَ على ما يَقُولُه المشبّهون سبحانَ اللّهِ تعالى عَمّا يَصِفُون».(2)

أجل يجب أن يكون لرسول الإسلام وخاتم الأنبياء مثل هذا المقام العظيم ومثل هذه المنزلة السامقة، ليقول للبشرية العائشة في القرن العشرين، والّتي أصبحت تفكّر في الهُبوط على «المريخ» و «الزهرة» وغيرها من الأنجم البعيدة:

بأنّني قد فعلت هذا من دون أية وسيلة، وإنَّ ربّي قد مَنَّ عليّ وعرّفني على نظام السماوات والأرض، وأطلَعَني بقدرته وبعنايته على أسرار الوجود، ورموز الكون.

ص:613


1- . علل الشرائع: 1/131 ح 1؛ بحار الأنوار: 18/347 ح 57؛ التوحيد للصدوق: 175.
2- . علل الشرائع: 1/132 ح 2؛ بحار الأنوار: 18/348 ح 59.

24 سفره صلى الله عليه و آله و سلم إلى الطائف

اشارة

انقضت السنة العاشرة بكلّ حوادثها الحلوة والمرّة، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقد في هذا العام حامييه الكبيرين المتفانيين في سبيله، ففي البداية فقد كبير بني عبدالمطلب وسيدهم، والمدافع الوحيد عن حوزة الرسالة الإسلامية والذابّ بالإخلاص عن حياض الشريعة المحمّدية، والشخصية الأُولى في قريش، أعني:

«أبا طالب» عليه السلام.

ولم تنمح آثار هذه المصيبة المرّة عن خاطر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد إلّاوفاجأته مصيبة وفاة زوجته الوفية العزيزة، السيدة خديجة الكبرى الّتي جدّدت برحيلها عنه أحزان النبيّ وآلامه الروحية.(1)

لقد حامى أبوطالب ودافع عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وحافظ على حياته وسلامته ومكانته، وبينما ساعدت خديجة بثروتها الطائلة في نشر الإسلام وقدمت في هذا السبيل خدمات عظيمة لا تنسى.

من هنا سمّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تلك السنة بعام الحداد، أو الحزن.(2)

ومنذ أن توفّى اللّه الحاميين العظيمين والمدافعين القويين عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ظروفاً صعبة جدّاً قلّما واجهها من قبل.

ص:614


1- . جاء في تاريخ الخميس: 1/301 أنّه قيل بأنّ «خديجة» توفّيت بعد «أبي طالب» بشهرٍ وخمسة أيام، بينما ذهب آخرون مثل ابن الأثير في الكامل: 2/90 إلى أن السيدة خديجة توفّيت قبل أبي طالب، لا بعده.
2- . تاريخ الخميس: 1/301، السيرة الحلبية: 1/347.

فقد واجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منذ حلول السنة الحادية عشرة جوّاً مفعماً بالعداء له، والحقد عليه، وصارت الأخطار تهدّد حياته الشريفة في كلّ لحظة، وقد فقد كلّ الفرص لتبليغ الرسالة وكلّ إمكانات الدعوة إلى دينه.

يقول ابن هشام في هذا الصدد: إنّ «خديجة بنت خويلد» و «أبا طالب» هلكا (أي توفّيا) في عام واحد فتتابعت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المصائب بهلك خديجة وكانت له وزيرة صدق على الإسلام، وكان يسكن إليها، وبهُلك عمّه أبي طالب وكان له عضداً، وحرزاً في أمره، ومنعةً وناصراً على قومه، وذلك قبل هجرته الى المدينة بثلاث سنين. فلمّا هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتّى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً.

ولمّا نثر ذلك السفيه على رأس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذلك التراب، دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول لها:

«لا تبكي يا بُنيَّة فإنَّ اللّهَ مانع أباك».

ويقول بين ذلك:

«ما نالت مني قريشٌ شيئاً أكرَهُهُ حتّى مات أبوطالب».(1)

ولأجل تزايد الضغط والكبت هذا قرر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن ينتقل من المحيط المكّي إلى محيط آخر يتسنّى له تبليغ رسالته.

وحيث إنَّ الطائف كانت تعتبر آنذاك مركزاً هامّاً، لذلك رأى رسول

ص:615


1- . السيرة النبوية: 1/282-283؛ بحار الأنوار: 19/5 عن إعلام الورى: 1/131 عن محمّد بن إسحاق بن يسار.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يسافر لوحده إلى الطائف، ويجري بعض الاتّصالات مع زعماء قبيلة ثقيف وساداتها، ويعرض دينه عليهم علّه يحرز نجاحاً ويكسب أنصاراً جدداً لرسالته من هذا الطريق.

ولمّا انتهى صلى الله عليه و آله و سلم إلى الطائف عمد إلى نَفَر من قبيلة «ثقيف» هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وجلس صلى الله عليه و آله و سلم إليهم، ودعاهم إلى اللّه، فلم يؤثر فيهم كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالوا له: لئن كنتَ رسولاً من اللّه كما تقول لأنتَ أعظمُ خطراً من أن أردَّ عليك الكلام، ولئِن كنت تكذب على اللّهِ ما ينبغي لي أن أُكلّمك!!

فعرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من رَدّهم الصبياني أنّهم يحاولون التملُّص من قبول الدعوة واعتناقِ الإسلام، فقام صلى الله عليه و آله و سلم من عندِهِم بعد أن طلب منهم أن يكتموا ما جرى في هذا اللقاء خشية أن يعرف سفهاءُ ثقيف فيتجرّأوا عليه ويتّخذوا ذلك ذريعة لاستغلال غربته ووحدته، ومن ثم إيذائه، فوعدوه بالكتمان، ولكنّهم - وللأسف - لم يحترموا وعدهم هذا الّذي أعطوه لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، وفجأة وجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسه محاطاً بجمع كبير من أُولئك السفهاء يسبّونه ويصيحون به حتّى اجتمع الناس، وألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه في تلك الساعة، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظلٍ فجلس فيه وهو يتصبّب عرقاً، وقد ألحقوا الأذى بمواضع عديدة من بدنه الشريف ورجلاه تسيلان من الدماء، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، وقد كانا من أثرياء قريش، يومئذ.

فلمّا اطمأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم توجّه إلى ربّه وناجاه قائلاً:

«أللّهُمَّ إلَيكَ أشكُو ضَعفَ قُوَّتي، وَ قِلَّةَ حِيلَتي، وَهَواني عَلى النّاسِ، يا أرحَمَ الرّاحِمين، أنتَ رَبُّ المُستَضعَفِين، وَ أنتَ رَبّي، إلى مَن تكِلُني؟ إلى بعيِدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أم إلى عَدُوّ ملكتَهُ أَمري؟

ص:616

إن لَم يَكُن بِكَ عَليَّ غَضَبُ فَلا أُبالِي، ولكنّ، عافِيتَكَ هِيَ أوسَعُ لِي.

أعُوذُ بِنُورِ وَجهك الّذي أشرقت لَهُ الظُّلماتُ، وَ صَلُحَ عَليهِ أمرُ الدُّنيا وَ الآخِرَة مِن أن يَنزِلَ بِي غَضَبُكَ، أو يَحِلَّ عليَّ سَخطُك.

لَكَ العُتبى حتّى تَرضى، وَ لا حولَ وَ لا قُوّةَ إلّابِكَ».(1)

هذه الكلمات وهذا الدعاء هي استغاثة شخصية عاش خمسين سنة عزيزاً مكرّماً في ظلّ حماية مَن دافعوا عنه بصدق وإخلاص ودفعوا عنه كلّ أذى ولكنّه الآن يضيق عليه رحب الحياة حتّى يلجأ إلى حائط عدوٍّ من أعدائه، ويجلس في ظل شجرة، مكروباً موجَعاً ينتظر مصيره.

فلمّا رآه ابنا ربيعة «عتبة وشيبة» (وكانا من الوثنيّين ومن أعداء الإسلام) وشاهدوا ما لقي من الأذى والعذاب، رَقّا لَهُ فدعوا غلاماً لهما نصرانياً من أهل نينوى يقال له «عداس» فقالا له: خذ قطفاً من العنب فضَعهُ في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى هذا الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس، ثم أقبل بالعنب حتّى وضعه بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ثم قال له: كل، فلمّا وضع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيه يده قال:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم».

فتعجب عداس من ذلك بشدة وقال: واللّه إنَّ هذا الكلام ما يقوله أهلُ هذه البلاد.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومِن أهل أي البلاد أنتَ يا عداس وما دينك؟

قال: أنا نصراني، من أهل نينوى.

قال صلى الله عليه و آله و سلم: من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى.

فقال له عداس: وما يدريك ما (مَن) يونس بن متى؟

ص:617


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/284-286.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم(1): ذاك أخي كان نبياً وأنا نبيّ، أنا رسول اللّه، واللّه تعالى أخبرني خبر يونس بن متى.

فأكبَّ عداس على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد رأى في كلماته علائم الصدق وآيات الحق، وجعل يقبّل رأسَه ويديه، وقدميه، وهما تسيلان من الدماء وآمن به، ثم عاد بعد الاستئذان منه صلى الله عليه و آله و سلم إلى صاحبيه في البستان. فتعجّب ابنا ربيعة لِما رأياه في غلامهما عداس من الانقلاب الروحي العجيب، وسألاه قائلين: ويلك يا عداس مالك تقبّل رأس هذا الرجل، ويديه وقدميه وماذا قال لك؟!

فأجابهما الغلام قائلاً: يا سيدَيَّ ما في الأرض شيء خيرٌ من هذا، هذا رجلٌ صالح لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلّانبيُّ.

فشقَّ كلامُ عداس على ابني ربيعة، وقالا له بنبرة الناصحّ له: ويحك يا عداس، لا يصرفنّك هذا الرجلُ عن دينك فإنّ دينَك خير من دينه!!(2)

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعود إلى مكّة:

انتهت ملاحقةُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بلجوئه إلى حائط ابني ربيعة، وكان عليه الآن، وبعد أن يئس من خير ثقيف أن يعود إلى مكّة، ولكنَّ عودته إلى مكّة لم تكن لتخلو عن مشاكل، لأنّه قد فقد نصيره وحاميه ومدافعه الأكبر والأوحد فكان من المحتمل جداً أن يقبض عليه المشركون ويسفكوا دمه.

فقرر صلى الله عليه و آله و سلم أن يبقى في منطقة «نخلة» (وهي واد بين الطائف ومكّة) بعض الوقت.

ص:618


1- . وفي رواية البحار: 19/6 جملة اعتراضية هنا: - وكان لا يحقر أحداً أن يبلغه رسالة ربه -.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/287؛ بحار الأنوار: 19/6 و 7 و 22 مع اختلاف يسير.

لقد كان يريد أن يرسل أحداً إلى شخصية من شخصيات قريش يطلب منها أن تجيره حتّى يدخل مكّة بجوار، ولكنه صلى الله عليه و آله و سلم لم يجد مَن يقوم له بهذه المهمة.

فترك «نخلة» إلى حراء، وهناك التقى رجلاً خزاعياً وطلب منه أن يأتي «المطعم بن عدي» بمكة، وكان من الشخصيات المكية البارزة و يسأله أن يجير رسول اللّه ليدخل مكّة في أمان من أذى قريش وكيدها.

فدخل الخزاعيّ مكّة، وأبلغ المطعم ما طلبه منه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقبل المطعم - رغم كونه وثنياً مشركاً - أن يجير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال للخزاعي: ائته فقل له: إنّي قد أجرتك فتعال.

فدخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكّة ليلاً ونزل في بيت مطعم مباشرة، وبات ليلته هناك، ولمّا طلعت الشمس من صبيحة غد قال مطعم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لتعلمنّ قريش بأنّك في جوارنا، فأصحبنا إلى البيت، ليروا جوارنا.

فاستحسن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رأيه فأخذ المطعم وأهلُ بيته السلاح ودخلوا مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد الحرام، وكان ورودهم في المسجد بهيئة رائعة.

وكان أبوسفيان قد كمن للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ليكيد به، فلمّا رأى هذا المشهد المهيب غضب غضباً شديداً، وانصرف عن إيذاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فجلس المطعم وولده وأختانه وأخوه، وطاف رسول اللّه بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله.(1)

ص:619


1- . لاحظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/255؛ طبقات ابن سعد: 1/210-212؛ بحار الأنوار: 19/7 و 8. ويستبعد بعض المحقّقين أن يكون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد طلب الجوار من مشرك أو دخل في جوار مشرك، على غرار عدم قبوله الهدية من المشرك، وذكر لذلك أدلّة ووجوها. ولكن يمكن الإجابة عن هذا بأنّ الإجارة كانت أمراً عادياً في ذلك العصر، ولم يكن فيها ما يوجب شيناً على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم تستلزم منّة عليه. ثم ما المانع في مثل هذا الجوار لو ترتبت عليه مصالح عليا، كتمكين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الدخول بسلام إلى مكّة، وتمكّنه من القيام بمهامّه الرسالية، خاصّة أنّ هذا الجوار لم يستغرق إلّايوماً أو

ولم يمض على هذه الحادثة زمان طويل حتّى هاجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من مكّة إلى المدينة، وتوفّي المطعم في أوائل الهجرة في مكّة، ولمّا بلغ رسول اللّه نبأ موته تذكّر صلى الله عليه و آله و سلم إحسانه وجوارَه، وأنشأ حَسّان بن ثابت شاعر الإسلام شعراً يمدحُه فيه تقديراً لخدمته.

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتذكّره كثيراً، حتّى أنّه تذكّره في واقعة «بدر» الّتي انهزمت فيها قريش وعادت منكسرة إلى مكّة بعد أن خسرت كثيراً من رجالها وأُسر منها عدد كبير، فتذكّر مطعم بن عدي ثمة وقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«لو كان مطعم بن عَديّ حياً لوهبت له هؤلاء».(1)

نقطة هامة:

إنَّ سفر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى الطائف يكشف عن إصراره في أداء رسالته واستقامته وصبره صلى الله عليه و آله و سلم كما أنّ تذكُّره لإحسان مطعم في المواقع المناسبة يقودنا إلى خصاله الحميدة وسجاياه الفاضلة، وخلقه العظيم.

ولكن الأهمَّ من هذا وذاك هو أنّنا نستطيع من خلال هذا تقييم خدمات أبي طالب القيمة، ومعرفة أهميتها الكبرى عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، بمقايستها مع ما فعله مطعم.

فإن مطعم لم يفعل شيئاً إلّاأن أجار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحماه يوماً أو بعض يوم.

ص:620


1- . المغازي للواقدي: 1/110 ثم قال الواقدي: وكانت لمطعم بن عدي عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إجارة حين رجع من الطائف.

بينما حدب أبو طالب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودافع عنه وخدمه عمراً كاملاً، ولقى في سبيله من المحن والمتاعب ما لم يلق مطعم منها ولا شيئاً ضئيلاً.

فإذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعلن عن استعداده للإفراج عن جميع الأسرى في «بدر» تقديراً لما قام به مطعم من إجارة بسيطة قصيرة، فماذا عساهُ أن يقوم به تجاه ما أسداه إليه عمُّه وحاميه وكافله الأكبر والأوحد أبوطالب من خدمات طوال أكثر من أربعين عاماً، أنّه يجب أن يكون لمثل هذا الشخص العظيم - الّذي كفل صاحب الرسالة وقام بشؤونه مدّة أربعين عاماً بأيّامها ولياليها ودافع عنه في السنوات العشر الأخيرة وهي جلُّ عمر الرسالة الإسلامية في الفترة المكّية إلى درجة أن عرَّض راحته وسلامته بل حياته وحياة أبنائه لخطر الموت دفاعاً عن حياض الرسالة، وحمايةً لصرح النبوة - مقاماً عظيماً ومنزلة كبرى عند قائد البشرية، ومعلم الإنسانية، وهاديها العظيم.

كيف لا؛ والفرق بين هذين الشخصين كبير، والبون شاسع، فمطعم رجل وثني مشركٌ، بينما يعتبر أبوطالب واحداً من كبار الشخصيات الإسلامية العظيمة بلا جدال.

الدعوة في أسواق العرب:

كانت العرب تجتمع - في مواسم الحج - في نقاط مختلفة مثل: «عكاظ» و «المجنة» و «ذي المجاز»، وكان الشعراء والخطباء العرب البارعُون يقفون في هذه المناطق على أماكن مرتفعة ويلهون فريقاً من الناس بما يلقونه عليهم من خطب وقصائد تدور في الأغلب حول الحرب والقتال، والتفاخر، والعشق.

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شأنه شأن كلّ الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه يستغلّ هذه الفرصة - كغيرها - لإبلاغ رسالة ربه إلى الناس، ولم يكن لأحدٍ منعه أو الكيد به

ص:621

لحرمة القتال والجدال في الأشهر الحرم.

من هنا كان صلى الله عليه و آله و سلم إذا حلّ الموسم وقف على مكان مرتفع وخاطب الناس قائلاً:

«يا أيّها الناس قُولُوا لا إله إلّااللّهُ تُفلِحُوا وتملكوا بها العَرَب وتَذِلُّ لكُمُ العَجمُ، وَإذا آمَنتُم كُنتُم مُلُوكاً فِي الجَنَّة».(1)

دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج:

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يلتقي في مواسم الحج في هذه النقاط برؤساء القبائل العربية وأشرافها، ويقف على منازلهم منزلاً منزلاً، ويعرض دينه عليهم، ويدعوهم إلى اللّه ويخبرهم أنّه نبيٌّ مرسل.(2)

وربّما مشى خلفه عمُّه «أبو لهب» فإذا فرغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من قوله وما دعا به، قال أبو لهب فوراً للناس: يا بني فلان إنّما يدعوكم هذا إلى أن تسلخوا اللّات والعزّى من أعناقكم...، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له.(3)

وقد قدمت جماعة من بني عامر إلى مكّة فدعاهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الإسلام وعرض عليهم نفسه، فقبلوا أن يعتنقوا الإسلام إلّاأنّهم اشترطوا عليه أن يكون إليهم خلافته من بعده إذ قالوا: أرأيتَ إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهركَ اللّهُ على مَن خالفَك، أيكونُ لنا الأمرُ من بعدك؟

ص:622


1- . الطبقات الكبرى: 1/216.
2- . قال ابن هشام: كان صلى الله عليه و آله و سلم لا يسمع بقادم يقدم مكّة من العرب له اسم وشرف إلّاتصدّى له فدعاه إلى اللّه وعرض عليه ما عنده. السيرة النبوية: 2/289.
3- . الكامل في التاريخ: 2/94.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«الأمرُ إلى اللّهِ يَضَعه حيثُ يشاءُ».

فرفضوا اعتناق الإسلام والإيمان باللّه ورسوله.

ثم لمّا عادوا إلى أوطانهم رَجَعُوا إلى شيخ لهم طاعنٍ في السنّ لم يقدر أن يحجَّ معهم و كان ذا بصيرة وفهم فحدّثوه بما جرى بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقالوا: جاءنا فتى من قريش من بني عبدالمطلب يزعم أنّه نبي يدعونا إلى أن نمنعه(1) ونقوم معه.

فوضع الشيخ يديه على رأسه ووبَّخَهُم على رفضهم لدعوة الرسول وقال:

يا بني عامر والّذي نفسُ فلان بيده ما تَقَوَّلَها إسماعيليٌ قط(2)، وإنّها لحقٌ، فأين رأيكم كان عنكم؟!(3)

إنّ هذه القضية التاريخية تفيد - في ما تفيد - بأنّ مسألة الخلافة والإمامة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر تنصيصي، تعييني، لا انتخابي، أي أنّ تعيين الخليفة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يعود إلى اللّه، ولاخيار للناس فيه، وإنّما عليهم الطاعة والرضا.

ص:623


1- . أي نحميه.
2- . أي ما ادّعى النبوة كاذباً أحدٌ من بني إسماعيل.
3- . لاحظ: السيرة النبوية: 2/289.

25 بيعة العقبة

اشارة

كان (وادي القرى) في ما مضى من الزمن طريق التجارة من اليمن إلى الشام، فكانت القوافل التجارية القادمة من اليمن تدخل وادياً طويلاً يُدعى بوادي القرى بعد العبور بالقرب من مكّة، وكانت المناطق الواقعة على طول هذا الوادي مناطق خضراء، ومن هذه المناطق مدينة قديمة كانت تُدعى ب: يثرب والّتي عرفت فيما بعد بمدينة الرسول.

وقد سكن في هذه المدينة منذ أوائل القرن الرابع الميلادي قبيلتا: «الأوس والخزرج» اللّتان كانتا من مهاجري عرب اليمن (من القحطانيّين).

وكان يعيش إلى جانبهم الطوائف اليهودية الثلاث المعروفة: «بنو قريظة» و «بنو النضير» و «بنو قينقاع» الذين كانوا قد هاجروا إليها من شمال شبه الجزيرة العربية واستوطنوها.

وكان يقدم إلى مكّة كلّ عام جماعة من عرب يثرب للاشتراك في مراسيم الحج، وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يلتقي بهم في تلك المواسم، ويجري معهم اتّصالات.

على أنّ كثيراً من تلك الاتصالات وإن لم تثمر ولم تنطو على أيّة فائدة فعلية إلّا أنّها تسبّبت في أن يحمل حجّاج يثرب - لدى عودتهم - أنباء ظهور النبيّ الجديد وينشروه في أوساط المدينة كأهم نبأ من أنباء الساعة، ويلفتوا نظر الناس في تلك الديار إلى مثل هذا الأمر المهم والخطير.

ولهذا ننقل هنا بعض اللقاءات والاتّصالات الّتي تمّت بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجماعات من أهل هذه المدينة في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة

ص:624

عشرة من البعثة لتتّضح بدراسة هذه المطالب علّة هجرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من مكّة إلى يثرب، وتمركز قوى المسلمين في تلك المنطقة.

1. كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّما سمع بقادم يقدم مكّة من العرب له اسم وشرف تصدّى له، ودعاه إلى الإسلام وعرض عليه ما عنده.

قدم «سويد بن الصامت» أخو بني عمرو بن عوف، مكة حاجاً أو معتمراً، فتصدى له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين سمع به، فدعاه إلى اللّه وإلى الإسلام فقال له سويد: فلعلّ الّذي معك مثل الّذي معي.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: وما الّذي معك؟

قال: مجلة لقمان، يعني حكمة لقمان.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إعرضها عليَّ، فعرضها عليه. فقال له: إنّ هذا الكلام حسن، والّذي معي أفضل من هذا. قرآنٌ أنزلهُ اللّهُ تعالى عليّ هو هدى ونور. فتلا عليه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم القرآن ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال سويد: إنّ هذا قولٌ حسن (وآمَنَ برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم) فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنّا لنراه قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل يوم بعاث(1).(2)

2. لمّا قدم «أنس بن رافع» مكّة ومعه فتيةٌ من بني عبدالأشهل، فيهم «إياس بن معاذ»، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأتاهم وجلس إليهم، فقال لهم: هل لكم في خير ممّا جئتم له؟

فقالوا له: وما ذاك؟

قال: «أنا رسول اللّه بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا اللّه ولا يشركوا

ص:625


1- . بعاث موضع كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/289-291.

به شيئاً، وأنزل عليّ الكتاب» ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.

فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً شهماً: أي قوم هذا واللّه خير ممّا جئتم له. فقد أدركَ جيّداً أنّ دينَ التوحيد يكفُلُ كلَّ حاجاتهم فهو دينٌ شاملٌ مباركٌ؛ لأنّه سيصهِرُ الجميعَ في بوتقة الأُخوَّة الواحدةِ فتزول عندئذ أسبابُ العداء والقتال، وبذلك ينهي كلّ مظاهرِ الحرب والتنازع، وكلَّ مظاهر الفساد والتخريب فهو أفضل من طلبِ المساعدة العسكرية من قريش الّتي جاءُوا من أجلها إلى مكّة، فآمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من دون أن يكسب رضا رئيس قبيلته «أنس بن رافع» واستئذانه.

ولهذا غضب أنس بن رافع وأخذ حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجهَ إياس وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمَتَ إياس، وقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج.

ثم يلبث إياس أن هلك، وقد سمعه مَن حضره من قومه عند موته أنّهم لم يزالوا يسمعونه يهلّل اللّه تعالى ويكبّره ويحمده ويسبّحه حتّى مات، فما كانوا يشكّون أنّه قد مات مسلماً، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما سمع.(1)

وقعة بُعاث:

كانت وقعة بُعاث من الحروب التاريخية بين الأوس والخزرج، ففي هذه الوقعة انتصر الأوسيون على منافسيهم، وأحرقوا نخيل الخزرجيين، ثم وقعت بعد ذلك حروب ومصالحات بينهم.

ولم يشترك «عبداللّه بن أُبيّ» وهو من أشراف الخزرج في هذه الوقعة من

ص:626


1- . السيرة النبوية: 2/291.

هنا كان موضع احترام من القبيلتين، وكاد الطرفان يفقدان مقاومتهما بسبب تكرر الحروب، وتحمّل الخسائر الثقيلة، ولهذا رغب الطرفان في عقد صلح بينهما يضع حدّاً لجميع أشكال العمليات العسكرية، والغزو والاقتتال، والثأر والانتقام، وأصرّت القبيلتان على «عبداللّه بن أُبي» بأن يقبل بقيادة عمليّة المصالحة هذه، بل وأعدّوا له تاجاً يتوّجونه به، حتّى يصبح أميراً في وقتٍ معيَّنٍ، ولكن هذا المشروع تعرض للانهيار والسقوط وواجه الفشل على أثر اعتناق جماعة من الخزرج الإسلام، ففي هذا الوقت بالذات التقى رسول اللّه بمكة بستة أشخاص من رجال الخزرج ودعاهم إلى الإسلام فآمنوا به، ولبُّوا دعوته.

تفصيل الحادث:

خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الموسم الّذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كلّ موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج وكانوا ستة أنفار أراد اللّه بهم خيراً. فقال لهم: مَن أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: أمِنْ موالي اليهود؟

قالوا: نعم.

قال: أفلا تجلسُون أكَلِّمُكُم؟

قالوا: بلى.

فجلسوا معه، فدعاهم إلى اللّه عزّوجلّ، وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن وكان ممّا صنع اللّه بهم في الإسلام، أنّ يهوداً كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهلَ شرك وأصحاب أوثان، وكان اليهود قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا وقع بينهم شيء قال اليهود لهم: إنّ نبياً مبعوث الآن، قد أظلّ (أو أطلّ) زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرَم.

ص:627

فلمّا كلَّمَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أُولئك النفر، ودعاهم إلى اللّه، قال بعضهم لبعض يا قوم: تعلموا واللّه إنّه للنبيُّ الّذي توعّدكم به اليهود فلا يسبقنّكم إليه.

فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنّا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم، فعسى أن يجمعهم اللّهُ بكَ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الّذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم اللّه عليه فلا رجل أعزّ منك.(1)

بيعة العقبة الأُولى:

لقد أثّرت دعوة هؤلاء الستّة، الجادة في يثرب تأثيراً حسناً حيث سبّبت في إسلام فريقٍ من أهل يثرب واعتناقهم عقيدة التوحيد.

فلمّا كان العام المقبل (أي السنة الثانية عشرة من البعثة) قدم مكّة اثنا عشر رجلاً من أهل يثرب، فلقوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالعقبة، وانعقدت هناك أوّل بيعة إسلامية.

وأبرز هؤلاء الرجال هم: أسعد بن زرارة، وعبادة بن الصامت، وكان نص هذه البيعة - بعد الاعتراف بالإسلام والإيمان باللّه ورسوله - هو كما نقل عن عبادة بن الصامت قال: كنت في مَن حضر العقبة الأُولى، وكنّا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أن لا نشرك باللّه شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا و أرجلنا، ولا نعصيه في معروف.

(فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم): فإن وفيتم فلكمُ الجنة، وإن غشّيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى اللّه عزّوجل إن شاء عذَّبَ، وإن شاء غفر.(2)

ص:628


1- . تاريخ الطبري: 2/86؛ والسيرة النبوية لابن هشام: 2/292؛ بحار الأنوار: 19/25.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/295.

وهذه البيعة اصطلح على تسميتها المؤرّخون وكتّابُ السيرة ببيعة النساء، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أخذ البيعة من النساء في فتح مكّة على هذا النحو(1).

وعاد هؤلاء النفر إلى يثرب بقلوب مفعمةٍ بالإيمان، مترعة بمحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فعمدوا إلى نشرالإسلام وكتبوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يبعث لهم مَن يعلّمهم الإسلام والقرآنَ، فبعث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لهم «مصعب بن عمير» وأمره بأن يقرِّئهم القرآن ويعلّمهم الإسلام ويفقّههم في الدين، فكان يُسمّى المقرئ بالمدينة.

واستطاع هذا المبلّغُ القديرُ، وهذا الداعية النشيط أن يجمع المسلمين بفضل عمله الدؤوب والحكيم وتبليغه الصحيح في غياب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ويؤمّهم، ويصلّي بهم.(2)

بيعة العقبة الثانية:

لقد أحدث تقدّم الإسلام في يثرب هيجاناً كبيراً وشوقاً عجيباً في نفوس المسلمين من أهلها، فكانوا ينتظرون بفارغ الصبر حلول موسم الحجّ، ليقدموا مكّة، ويلتقوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن كثب، ويُظهروا له عن استعدادهم لتقديم ما يطلبُ منهم من خدمةٍ وعملٍ، وليستطيعوا توسيع نطاق البيعة من حيث الكَمّ ومن حيث الكيف.

وأخيراً حلّ موسم الحجّ فخرجت قافلةٌ كبيرةٌ من أهل يثرب للحجّ تضمّ خمسمائة نفر فيهم ثلاث وسبعون من المسلمين من بينهم امرأتان، والباقي إمّا راغبون في الإسلام، وإمّا غير مكترث به، حتّى قدموا مكّة، والتقوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فواعدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالعقبة للبيعة إذ قال: «موعدكم العقبة في الليلة الوسطى

ص:629


1- . والّتي جاء ذكرها في الآية 12 من سورة الممتحنة.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 19/25.

من ليالي التشريق».

فلمّا كانت الليلة الثالثة عشرة من شهر ذي الحجّة وهي الّتي واعدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيها باللقاء، ونام الناس حضر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع عمّه «العباس بن عبدالمطلب» قبل الجميع، وخرج المسلمون من رحالهم يتسلّلون تسلّل القطا مستخفين بعد أن ناموا مع قومهم في رحالهم، ومضى ثلث الليل لكيلا يحسّوا بخروجهم، حتّى اجتمعوا في الشعب عند العقبة، ولمّا استقرّ المجلس بالجميع، كان أوّل متكلّم هو: العباس بن عبدالمطلب فقال واصفاً منزلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنّما يسمّون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسَها - إنَّ محمَّداً مِنّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا،... فهو في عزّ من قومه، ومَنعة في بلده، وإنّه قد أبى إلّاالإنحياز إليكم، واللُحوق بكم، فإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممّن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترونَ أنكم مُسلِمُوهُ وخاذِلُوهُ بعدَ الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوهُ فإنّه في عزّ ومَنعةٍ من قومه وبلده. فقال الحضور: قد سمعنا ما قلتَ فتكلّم يا رسول اللّه، فخذ لنفسك ولربك ما أحببتَ.

فتكلمَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فتلا القرآن، ودعا إلى اللّه ورغّب في الإسلام ثم قال:

أُبايعُكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.

فأخذ البراء بن معرور بيد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال: نعم والّذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك ممّا نمنع منه أُزُرنا(1)، فبايعنا يا رسول اللّه فنحن واللّه أبناء الحروب وأهل

ص:630


1- . الملاحظ في هذه البيعة انّها كانت بيعة للدفاع عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وليس بيعة للجهاد في سبيل اللّه، ولهذا فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يقدم على القتال في بدر إلّابعد أن كسب موافقة الأنصار ورضاهم.

الحلقة (أي السلاح) ورثناها كابراً عن كابر.

(فدبّ في الحضور حماس وسرور عظيم وتعالت الأصوات والنداءات من الخزرجيّين والّتي كانت تعبيراً عن شدة حماسهم، وسرورهم لهذا الأمر، فقام العباس وهو آخذ بيد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وفي هذه الأثناء نهض «البراء بن معرور» و «أبو الهيثم بن التيهان» و «أسعد بن زرارة» من مواضعهم وبايعوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم بايعه بقية القوم جميعاً).

وقد قال ابن التيهان عند مبايعته للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول اللّه إنّ بيننا وبين الرجال (أي اليهود) حبالاً (وعلاقات) وإنّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه، أن ترجعَ إلى قومك وتدعَنا؟

فتبسَّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال: «بل الدَم الدَم، والهَدم الهَدم، أنا منكم وأنتم منّي، أُحارب من حاربتم، وأُسالم من سالمتم» يعني أنّه سيبقى على العهد، ولا يتركهم وكانت العرب تقول عند عقد الحلف: دمي دمُك، وهَدمي هَدمُك، وهي كناية عن البقاء على العهد واحترام الميثاق والحِلف.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: أخرجُوا إِليَّ منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم.(1)

فأخرَجوا منهم اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس.(2)

وروى ابن إسحاق عن عبداللّه بن أبي بكر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، قال للنقباء أنتم على قومكم بما فيهم كُفَلاء، ككفالة الحواريّين لعيسى بن مريم، وأنا كفيلٌ على

ص:631


1- . راجع: المحبر: 268-274.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/302-303، بتصرّف.

قومي (يعني: المسلمين) قالوا: نعم.(1)

وفي رواية أُخرى: أُبايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحواريّين كفلاء على قومهم بما فيهم، وعلى أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم». فبايعوه على ذلك. وبعد أن تمّت مراسم البيعة وعدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يهاجِرَ إليهم في الوقت المناسب، ثم ارفض الجمع وعادَ القومُ إلى رحالهم.(2)

أوضاعُ المسلمين بعد بيعة العقبة:

والآن ينبغي أن نجيب بالتفصيل على السؤال الّذي يطرح نفسه هنا وهو: ما الّذي دعا أهل يثرب الذين كانوا بعيدين عن مركز ظهور الإسلام إلى أن يستجيبوا لنداء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ويأخذوا بتعاليمه أسرع من المكيّين مع ما كان بين المكيّين وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من القرابة القريبة؟!

وكيف تركت تلك اللقاءاتُ المعدودةُ القصيرةُ بأهل يثرب آثاراً تفوق الآثار الّتي تركتها الدعوةُ المحمّدية خلال ثلاثة عشر عاماً في مكّة؟!

إنّ علّة هذا التقدّم يمكن اختصارها وحصرها في أمرين:

أوّلاً: أنّ اليثربيّين جاوروا اليهودَ سنيناً عديدة وطويلة قبل الإسلام وكثيراً ما

ص:632


1- . السيرة النبوية: 2/305.
2- . بحار الأنوار: 19/25 و 26؛ السيرة النبوية لابن هشام: 2/302-305؛ الطبقات الكبرى: 1/221-223. وفي رواية أُخرى في البحار: 19/47، كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً. وقد كان هذا العمل النبوي حكيماً جداً لأنّ عامّة الناس لا يمكن التعويل والاتّكال على التزاماتهم بل لابد من الاعتماد - ضمناً - على رموز المجتمع ومفاتيحه وهم وجوه القوم وسراتهم.

كانوا يتحدّثون في مجالسهم وأنديتهم عن النبيّ العربيّ الّذي يظهر، ويأتي بدينٍ جديدٍ.

حتّى أنّ اليهود كانوا يقولون: للوثنيّين إنَّ هذا النبيّ سيقيم دينَ اليهود وينشره، ويمحي الوثنية ويقضي عليها بالمرة.

فتركت هذه الكلماتُ أثراً عجيباً في نفوس أهل يثرب، وهيّأت قلوبهم لقبول الدين الّذي كان يخبر عنه يهودُ وينتظرونه، بحيث عندما التقى الأنفار الستة من أهل المدينة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لأوّل مرّة، بادروا إلى الإيمان به من غير إبطاء ولا تأخير بعد أن قال بعضهم لبعض: واللّه إنَّه للنبيّ الّذي توعَّدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه.

ومن هنا فإنّ ممّا يأخذه القرآن على اليهود هو: أنّكم كنتم تهدّدون الوثنيّين بالنبيّ العربيّ، وتبشّرون الناس بأنّه سيظهر، وأنّكم قرأتم أوصافه وعلائمه في التوراة فلماذا رفضتم الإيمان به لمّا جاء صلى الله عليه و آله و سلم؟

يقول تعالى:

«وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» .(1)

ثانياً: أنّ العامل الآخر الّذي يمكن اعتبارهُ دخيلاً في التأثير في نفوس اليثربيّين وسرعة إقبالهم على الإسلام وتقبّلهم لدعوة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو التعب والإرهاق الّذي كان أهل يثرب قد أُصيبوا به من جرّاء الحروب الطويلة الدامية فيما بينهم والّتي استمرّت مائة وعشرين عاماً والّتي أنهكتهم وكادت أن تذهب بما تبقّى من رَمقهم، وجعلتهم يملّون الحياة، ويفقدون كلّ أمَلٍ في تحسّن الأحوال والأوضاع.

ص:633


1- . البقرة: 89.

وإنّ مطالعة وقعة «بُعاث» وهي - حرب وقعت بين الأوس والخزرج - وحدها كفيلة بأن تجسّد لنا الوجهَ الواقعي الّذي كان عليه سكان تلك الديار. ففي هذه الوقعة انهزم الأوسيّون على يد الخزرجيّين، فهربوا إلى «نجد»، فعيّرهم الخزرجيّون بذلك، فَغضب «الحضير» سيد الأوس، لذلك غضباً شديداً، فطعن فخذه برمحه لشدة انزعاجه وغضبه، وترجّل عن فرسه وصاح بقومه قائلاً:

واللّه لا أقوم من مكاني هذا حتّى أُقتل!! فأوقد صمود «الحضير» وثباته نار الحمية والغيرة وأشعل روح الشهامة والبسالة في قومه، فقرّروا الدفاع عن حقّهم مهما كلّفهم الأمر، فقاتلوا أعداءهم مستميتين، والمستميت منتصر لا محالة، فانتصر الأوسيّون المغلوبون، هذه المرة، وهزموا الخزرج هزيمة نكراء وأحرقت مزارعهم ونزل بهم ما نزل على يد الأوسيّين!!.(1)

ثم تتابعت الحروب والمصالحات بعد ذلك، وكانت القبيلتان تتحمّلان في كلّ مرة خسائر كبرى، جعلتهم يواجهون عشرات المشاكل الّتي حوّلت حياتهم إلى حياة مضنية متعبة جداً.

من هنا لم تكن كلتا القبيلتين راضيتين على أوضاعهما، وكانتا تبحثان عن مخلص ممّا هما فيه، من الحالة السيئة، وتفتشان عن نافذة أمل، ومخرج من تلك المشاكل.

ولهذا وجد الخزرجيّون الستة ضالّتهم المنشودة عندما التقوا - ولأوّل مرّة - رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وسمعوا منه ما سمعوا، فتمنّوا أن يضعوا به حدّاً لأوضاعهم المتردّية إذ قالوا له: عسى أن يجمعهم اللّه بك فإن جمعهم اللّه بك فلا رَجلَ أعزّ منك.

ص:634


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 1/680.

كانت هذه هي بعض الأسباب الّتي دعت اليثربيّين إلى تقبّل الإسلام بشوقٍ ورغبةٍ وحماس.

ردود فعل قريش تجاه بيعة العقبة:

كانت قريش تغطّ في نوم عميق وكانت تتصوّر بأنّها قد حدّت من تقدّم الإسلام في مكّة وأنّه قد بدأ يتقهقر ويسير باتجاه السقوط والاندحار، وأنّه لن ينقضي زمانٌ إلّاوتنطفئ جذوة الإسلام وتخمد شعلته، وتنمحي آثاره.

وفجأة استيقظت على دويّ بيعة العقبة الثانية الّتي كانت بمثابة انفجار قلبت كلّ المعادلات، وأسقطت كلّ تصوّرات قريش الساذجة، وذلك عند ما عرف زعماء الوثنيّين بأنّ ثلاثاً وسبعين شخصاً من اليثربيّين عقدوا ليلة أمس وتحت جنح الظلام بيعة مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أن يدافعوا عنه كما يدافعون عن أبنائهم وأهليهم.

فأحدث هذا النبأ خوفاً عجيباً في قلوب قادة قريش وسادة مكّة المشركين المتغطرسين، لأنّهم أخذوا يقولون مع أنفسهم: لقد وجد المسلمون الآن قاعدة قوية في قلب الجزيرة العربية، وأنّه يُخشى أن يجمع المسلمون كلّ طاقاتهم المبعثرة فيها. ويعملون معاً على نشر دينهم، وبث عقيدتهم، وحينئذ ستواجه الوثنية في مكّة خطراً جدياً، يهدّدُها في الصميم.

ولهذا بادرت قريش إلى الاتّصال بالخزرجيّين صبيحة تلك الليلة وقالوا لهم:

يا معشر الخزرج إنّه قد بلغنا أنّكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنّه واللّه ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحربُ بينا وبينهم، منكم.

فحلفَ المشركون من أهل يثرب لقريش أنّه ما كان من هذا شيء، وما علموه، وقد صدقوا لأنّهم لم يعلموا بما جرى في العقبة. فإنّ قافلة اليثربيّين كانت

ص:635

تضمُّ خمسمائة شخص، تسلَّلَ منهم ثلاث وسبعون فقط إلى العقبة وبقية الناس نيام لا يعلمون بشيء.

فأتت قريشٌ إلى «عبداللّه بن أُبيّ بن سلول» فسألوه عَمّا جرى في ليلة العقبة، فأنكر ذلك وقال: إنّ هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثل هذا (أي يعملوه من دون مشورتي) وما علمته كان فانصرفوا عنه.(1)

فعرف المسلمون الذين حضروا ذلك المجلس وبايعوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بفشوّ أمرهم، وانكشاف سرهم، ولهذا قال بعضهم لبعض: مادمنا لم نُعرَف بعدُ فلنخرج من مكّة فوراً قبل أن يظفر المشركون بنا، ولهذا أسرعوا في الخروج من مكّة والتوجّه إلى المدينة، فزاد ذلك من سوء ظن قريش وعزّزت شكوكهم حولَ البيعة، وعرفوا بأنّه قد كان، فخرجوا في طلب جميع اليثربيّين، ولكنّهم لم يتنبّهوا لذلك إلّابعد خروج قافلة اليثربيّين من حدود مكّة، والمكيّين، ولم تظفر قريش إلّا بسعد بن عبادة. غير أنّ ابن هشام يرى بأنّهم ظفروا بنفرين هما: «سعد بن عبادة» و «المنذر بن عمر»، وكان كلاهما من النقباء الاثني عشر.

أمّا «المنذر» فاستطاع أن يخلّص نفسه منهم.

وأمّا «سعد» فقد أخذوه، وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رَحله، ثم أقبلوا به حتّى أدخلوه مكّة يضربونه، ويجذبونه بجمّته(2) وكان ذا شعرٍ كثيرٍ.

قال سعد: فواللّه إنّي لفي أيديهم إذ طلع عليّ نفرٌ من قريش فيهم رجلٌ وضيء أبيض، طويل القامة، فقلت في نفسي: إن يكُ عندَ أحدٍ من القوم خير فعند

ص:636


1- . السيرة البنوية لابن هشام: 2/307.
2- . مجتمع شعر الرأس.

هذا.

قال: فلما دنا منّي رفع يده فلكمني لكمةً شديدةً.

فقلتُ في نفسي: لا واللّه، ما عندهم بعد هذا من خير.

قال: فواللّه إنّي لفي أيديهم يسحبونني إذ رقّ عليَّ رجلٌ ممّن كان معهم:

فقال: ويحك أما بينك وبين أحدٍ من قريش جوارٌ ولا عهدٌ؟

قلت: بلى كنتُ أُجير لجبير بن مُطعِمٍ بن عدي تجارةً، وأمنعهم ممّن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن حرب، قال: ويحك فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما، ففعل. وخرج ذلك الرجل إليهما... فقال لهما: إنّ رجلاً من الخزرج الآن يضرب بالأبطح ويهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جواراً، قالا: ومَن هو؟ قال: سعد بن عبادة.

فقال مُطعِم: صدق واللّه إنّه كان ليجير لنا تجارّنا، ويمنعهم أن يُظلموا ببلده، فجاءا فخلّصا سعداً من أيديهم.(1)

تأثير الإسلام ونفوذه المعنوي:

يصرُّ المستشرقون على أنّ انتشار الإسلام ونفوذه في المجتمعات تمّ بواسطة السيف وفي ظلّ استخدام القوّة.

أمّا بطلان هذا الكلام فسيثبت من خلال الحوادث القادمة.

ونحن نذكر هنا للمثال حادثةً وقعت قبل الهجرة، ونلفت إليها نظر القارئ الكريم، فإنّ دراستها والتعمّق فيها يثبت بجلاء أنّ انتشار الإسلام ونفوذه في أوساط الناس كان في بداية الأمر نابعاً من جاذبيته الّتي كانت تجذب كلّ إنسان بمجرد

ص:637


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/308.

إعطاء شرح مختصر عنه وعن تعاليمه المحببة إليه.

وإليك الحادثة بنصّها:

قرّر مصعب بن عُمير المبلّغ والداعية الإسلامي المعروف الّذي بعثه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة بطلب من أسعد بن زرارة، ذات يوم أن يدعو هو وأسعد أشراف المدينة وساداتها إلى الإسلام بالمنطق والدليل، فدخلا حائطاً(1) من حوائط المدينة فجلسا هناك واجتمع إليهما رجال ممّن أسلم، وكان سعد بن معاذ وأُسيد بن حضير وهما من سادات بني الأشهل موجودين هناك أيضاً.

فقال سعد لأُسيد: جرّد حربتك وقل لهذين (يعني مصعباً وأسعد) ماذا جاء بهما إلى ديارنا يسفهان ضعفاءنا، ولولا أنّ سعد بن زرارة ابن خالتي، لكفيتُك ذلك.

ففعل أُسيد ذلك وقال لمصعب ما جاء بكما إلينا تسفّهان ضعفاءنا وراح يشتمهما فقال له مصعب داعية الإسلام الحكيم، والمتكلّم البليغ الّذي تعلّم أُسلوب الدعوة المؤثّر من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أوتجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفَّ عنك ما تكره؟

قال: أنصفتَ ثم ركّزَ حربته وجلس إليهما يستمع لقولهما فكلّمه مصعبٌ بالإسلام، وقرأ عليه شيئاً من القرآن فأثّرت آياتُ القرآن وما قاله مصعب من المواعظ البليغة في نفسه حتّى عُرِفَ ذلك في إشراق وجهه، وانفراج أساريره، وشوقه فقال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله؟! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلُوا في هذا الدين؟ فقال مصعب وسعد له: تغتسل فتطهر وتغسل ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلّي.

فقام أُسيد بن حضير الّذي حضر لقتل مصعب وسعد من عندهما مبتهجاً

ص:638


1- . بستاناً.

مسروراً فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهّد شهادة الحقّ ثم قام فركع ركعتين.

ثم قال لهما: إنّ ورائي رجلاً إن اتّبعَكما لم يتخلّف عنه أحد من قومه وسأُرسله إليكما الآن، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد بن معاذ الّذي كان ينتظر عودته على أحرّ من الجمر، فلمّا نظر إليه سعد وقومه وهم جالسون في ناديهم قال:

أحلفُ باللّه لقد جاءكم أُسيد بن حضير بغير الوجه الّذي ذهب من عندكم، فلمّا وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟

قال: كلّمت الرجلين، فواللّهِ ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتُهما، فقالا: نفعل ما أحببتَ، فغضب سعدٌ لذلك غضباً شديداً، وأخذ الحربة من أُسيد، ثم خرج إلى مصعب وأسعد ليقتلهما، فلمّا رآهما سعد مطمئنين وقف عليهما متشتماً مهدّداً إيّاهما، ولكن مصعباً وزميله قابلا به بمثل ما قابلا به سابقه أُسيد، وجرى له ما جرى له، فقد فعلت كلمات مصعب في نفسه فعلتها، وخضع لمنطقه القوي، وبيانه الساحِر، وندم على ما قصد فعله، وقال لمصعب نفس ما قاله أُسيد واعتنق الإسلام واغتسل وتطهّر وصلّى ثم رجع إلى قومه وقال لهم: يا بني عبدالأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبةً.

قال: فإنّ كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرامٌ حتّى تؤمنوا باللّه وبرسوله، فالحمد للّه الّذي أكرمنا بذلك.

فلم يُمسِ في دار بني عبدالأشهل رجلٌ ولا امرأة إلّامسلماً أو مسلمة، وهكذا أسلم كلُّ قبيلة بني الأشهل قبل أن يروا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأصبحوا من الدعاة إلى الإسلام والمدافعين عن عقيدة التوحيد، لا بمنطق القوة إنّما بقوة المنطق.(1)

إنّ في التاريخ الإسلامي نماذجَ كثيرة من هذا القبيل تدلّ على بطلان وتفاهة

ص:639


1- . لاحظ: إعلام الورى: 1/139-141؛ بحار الأنوار: 19/10 و 11؛ السيرة النبوية: 297/2.

ما قاله أو روّجه المستشرقون حول أسباب تقدّم الإسلام وانتشاره، فإنّ العامل المعتمدَ في جميع هذه الموارد لم يكن المال والتطميع، ولا السلاح والتهديد، كما ادّعى المستشرقون، وإنّ الذين أسلموا في هذه الحوادث والوقائع لا هم رأوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولا أنّهم التقوا أو اتّصلوا به بنحوٍ من الأنحاء، إنّما كان السبب الوحيد هو: منطق الداعية الإسلامي القويّ وبيانه الساحر الجذّاب، فهُو الّذي كان يفعل في النفوس فعله العجيب، خلال دقائق معدودة، لا في نفس شخص واحد فحسب، بل ربّما في نفوس قبيلة بكاملها. أجل إنّه المنطقُ القوي والكلام المبرهن والحجة البالغة لاسواها.

مخاوف قريش المتزايدة:

لقد أيقظت حماية اليثربيّين للمسلمين قريشاً من غفلتها ونومها العميق مرة أُخرى، وكانت بيعة العقبة الثانية بمثابة ناقوس خطر لها فبدأت أذاها واضطهادها ومضايقتها لهم من جديد، وتهيّأت للعمل على الحيلولة دون انتشار الإسلام ونفوذه وتقدّمه في الجزيرة العربية، وبلغ ذلك الأذى مبلغاً عظيماً.

فشكا أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إليه ما يلقونه على أيدي المشركين من ضغوط وأذى، واستأذنوه في الهجرة إلى مكان فاستمهلهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال:

«قد أُخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها».(1)

وبعد الإذن بالهجرة من قِبَل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أخذ المسلمون يخرجون من مكّة، ويتوجّهون إلى المدينة شيئاً فشيئاً وبحجج مختلفة لكي لا تمنعهم قريش من الهجرة.

ص:640


1- . الطبقات الكبرى: 1/226.

ولم يكن قد مضى على بداية هجرة المسلمين التدريجية هذه زمان طويل إلّا وفطن زعماء قريش لسرّها، وخطرها عليهم فأخذوا يمنعون من أي تنقل وسفر يقوم به المسلمون، وقرّروا أن يعيدوا إلى مكّة كلَ مَن وجدوه في أثناء الطريق، كما قرّروا أن يحبسوا زوجة كلّ مسلم يريد الهجرة وله زوجة قرشية ويمنعوها عنه، ولكنّهم كانوا يتجنّبون إراقة الدماء في هذا السبيل، بل وكان يقتصر أذاهم على الحبس والتعذيب ولا يتعدّاهما.

ولكن هذه المحاولات الّتي قام بها زعماء قريش لوقف الهجرة إلى المدينة لم تثمر لحسن الحظ.

فقد استطاعت مجاميع كبيرة من المسلمين النجاة بنفسها من أيدي قريش واللحاق بزملائهم وإخوانهم في يثرب حتّى أنّه لم يبق في مكّة من المسلمين إلّا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعلي عليه السلام وعدد قليل من المسجونين، أو المرضى من المسلمين.

وقد زاد اجتماع المسلمين في يثرب من مخاوف قريش، وضاعف من قلقها، ولهذا اجتمع كلُّ رؤساء القبائل المكية في «دار الندوة» أكثر من مرّة للتشاور في كيفية القضاء على الإسلام وطُرحت في ذلك المجلس خطط متنوّعة، واقترحت أُمور كثيرة لتحقيق هذه الغاية ولكنّها فشلت برمّتها بتدبير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحكمته، وسياسته الدقيقة.

وأخيراً هاجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من «مكّة» إلى «المدينة» في شهر ربيع الأوّل سنة 14 من البعثة.

أجل لقد تضاعف قلق قريش منذ أن حصل محمّد على قاعدة ثانية خارجة عن نطاق هيمنة المكيّين وسيطرتهم وأصبحوا حيارى لا يدرون ماذا يفعلون، لأنّ جميع خططهم للمنع من انتشار الإسلام واتّساع رقعته، قد باءت بالفشل.

ص:641

لقد أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة والالتحاق بالأنصار وقال لهم: «إنَّ اللّه قد جعل لكم داراً وإخواناً تأمنُون بها»(1).(2)

ص:642


1- . بحار الأنوار: 19/26.
2- . لقد انتهينا من تسجيل حوادث السنوات الثلاث عشرة من البعثة، وقد حاولنا ذكر كلّ ما كان معلوماً مشهوراً من تواريخها، ولكن لا يمكن اعتبار تواريخ كلّ تلك الحوادث أُموراً مقطوعاً بها من هنا ذكرنا الحوادث المثبتة في الفصل 25 من دون إدراج تواريخ لها في الأغلب ولكن حيث إنّ الوقائع الحادثة بعد الهجرة وقعت في أوقات معينة معلومة لذلك فاننا سنرفق ذكر كل حادثة بتاريخ وقوعها في الفصول القادمة.

حوادث السنة الأُولى من الهجرة

26 قصّة الهجرة

اشارة

كان زعماء قريش و رؤساؤها يجتمعون عند كلّ نائبة تنوبهم في «دار الندوة» لحلّ المشاكل ومعالجة ما عرض لهم من نائبةٍ من خلال التشاور حولها وتداول الرأي فيها، ومن خلال تضافر الجهود على حلّها، ورفعها أو دفعها.

وفي السنوات الثانية عشرة، والثالثة عشرة من البعثة واجه أهل مكّة خطراً كبيراً جدّياً، فقد حصل المسلمون على مركز هام، وقاعدة صلبة في يثرب، وتعهّد اليثربيون الشجعان بحماية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والدفاع عنه، وكلّ هذا كان من علامات ومظاهر ذلك التهديد الخطير، الّذي بات يهدّد كيان المشركين والوثنيّين والزعامة القرشية.

وفي شهر ربيع الأوّل من السنة الثالثة عشرة من البعثة الّتي وقعت فيه هجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبينما لم يكن قد بقي من المسلمين في مكّة إلّارسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعلي وأبوبكر و جماعة قليلة من المسلمين المحبوسين، أو المرضى، أو العجزة، وكان هؤلاء على أبواب الهجرة ومغادرة مكّة إلى المدينة اتّخذت قريش فجأة قراراً قاطعاً وحاسماً وخطيراً جداً في هذا المجال.

فقد انعقدت جلسة هامّة للتشاور في «دار الندوة» حضرها رؤساء قريش وزعماؤها وبدأ متكلّمهم(1) يتحدّث عن تجّمع القوى والعناصر الإسلامية

ص:643


1- . وروي أنّه كان: أبوجهل.

وتمركزها في المدينة والبيعة الّتي تمّت بين الخزرجيّين والأوسيّين وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم أضاف قائلاً:

يا معشر قريش إنّه لم يكن أحدٌ من العرب أعَزَّ مِنّا، نحن أهل اللّه تفد إلينا العرب في السنة مرتين، ويكرموننا، ونحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامعٌ، فلم نزل كذلك حتّى نشأ فينا «محمّد بن عبداللّه» فكنّا نسمّيه (الأمين) لصلاحه، وسكونه، وصدق لهجته، حتّى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادّعى أنّه رسول اللّه، وأنّ أخبار السماء تأتيه، فسفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شبّاننا، وفرّق جماعتنا، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا، وقد رأيت فيه رأياً قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن ندسّ إليه رجلاً منّا ليقتله، فإن طلبت بنو هاشم بدمه(1) أعطيناهم عشر ديات.

فقال رجلٌ مجهول(2) حضر ذلك المجلس وعرّف نفسه بأنّه شيخ من أهل نجد: هذا رأي خبيث، قالوا: وكيف ذاك؟ قال: لأنّ قاتل محمّد مقتول لا محالة، فمَن هذا الّذي يبذل نفسَه للقتل منكم؟ فإنّه إذا قُتِل محمّد تعصّب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة، وإنّ بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على وجه الأرض فيقع بينكم الحروب وتتفانوا.

فقال أبو البختري: نلقيه في بيت ونلقي إليه قوته حتّى يأتيه ريبُ المنون.

فقال الشيخ النجديّ مرةً أُخرى: وهذا رأيٌ أخبث من الآخر، قال: وكيف ذاك؟ قال: لأنّ بني هاشم لا ترضى بذلك، فإذا جاء موسمٌ من مواسم العرب استغاثوا بهم، واجتمعوا عليكم فأخرجوه.

فقال ثالث: نُخرجه من بلادنا ونتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا. وفي رواية أُخرى قال: نرحّل بعيراً صعباً ونوثّق محمّداً عليه كتافاً، ثم نضربُ البعيرَ بأطراف الرماح

ص:644


1- . وفي رواية: بديته.
2- . في بعض المصادر: وجاء إبليس في صورة شيخ كبير.

فيوشَكُ أن يقطّعه بين الصخور والجبال إرباً إرباً.

فانبرى ذلك الشيخ النجدي يخطّئ هذا الرأي أيضاً قائلاً: أرأيتم إن خلص به البعير سالماً إلى بعض الناس فأخذ بقلوبهم بسحر بيانه وطلاقة لسانه، فصبأ(1)القوم إليه واستجابت القبائل له قبيلة فقبيلةٌ، فليسيرنَّ حينئذ إليكم الكتائب والجيوش فلتهلكنّ كما هلكت أياد ومن كان قبلكم.

فتحيّروا وساد الصمت ذلك المجلس، وفجأة قال أبوجهل (وعلى رواية:

قال ذلك الشيخ النجدي): ليس هناك من رأي إلّاأن تعمدوا إلى قبائلكم فتختاروا من كلّ قبيلة منها رجلاً قوياً ثم تسلّحوه حساماً عَضباً وليهجموا عليه معاً بالليل ويقطّعوه إرباً إرباً فيتفرّق دمه في قبائل قريش جميعاً فلا تستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة قبائل قريش كلّها في صاحبهم فيرضون حينئذ بالدية منهم!!

فاستحسن الجميعُ هذا الرأي، واتّفقوا عليه، ثم اختاروا القتلة وتقرّر أن يقوموا بمهمتهم اذا جنّ الليل وساد الظلام كلّ مكان.(2)

الإمدادات الغيبية والعنايات الإلهية:

لقد كان أُولئك العتاة الجهلة يتصوّرون أنّ رسالة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم المدعومة من قبل اللّه تعالى والمؤيّدة من جانبه سبحانه يمكن أن يقضى عليها بواسطة هذه الحيل والمكائد، والخطط والمؤامرات، ولم يكونوا يدركون أنّ هذا النبيّ - كغيره من الأنبياء - يتمتّع بالمدد الإلهيّ الغيبي، وأنّ اليد الّتي حفظت مشعل الإسلام طوال ثلاثة عشر عاماً في وجه الأعاصير والرياح، قادرة على إفشال هذه الخطة الأثيمة،

ص:645


1- . صبأ فلان: أي خرج من دينٍ إلى دين غيره، وكانت العرب تُسمّي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الصابئ لأنّه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام، وتُسمّي المسلمين: الصباة.. وهو جمع الصابئ.
2- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 1/227 و 228؛ السيرة النبوية لابن هشام: 1/331-332؛ بحار الأنوار: 19/49-50، و 57-59 باختلاف في الألفاظ.

وتعطيل هذه المؤامرة أيضاً.

يقول المفسّرون: بعد أن دبّر الكفّار ما دبّروا نزل ملك الوحي «جبرئيل»، على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأخبره بما حاك ضدّه المشركون من مؤامرة، إذ قرأ عليه قول اللّه تعالى: «وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» .(1)

وعندئذ أُمِرَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالهجرة من مكّة إلى المدينة، ولكنّ التخلّص من أيدي القساة المكلّفين بقتله من قبل زعماء الوثنيّين وبالنظر إلى المراقبة الدقيقة الّتي كانوا يقومون بها لجميع التحرّكات، لم يكن بالأمر السهل وخاصّة بالنظر إلى بُعد المسافة بين مكّة والمدينة.

فإذا لم يكن رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخرج من مكّة وفق خطة دقيقة صحيحة كان من المحتمل جداً أنّ يدركه المكيّون في أثناء الطريق ويقبضوا عليه ويسفكوا دمه الشريف قبل أن يصل إلى أتباعه وأصحابه.

ولقد ذكر المفسّرون والمؤرّخون صوراً مختلفة لكيفية خروج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهجرته والاختلاف الّذي نلاحظه بين هؤلاء المفسّرين والمؤرّخين في خصوصيات وتفاصيل هذه الواقعة ممّا يقل نظيره في غيره من الوقائع.

وقد استطاع مؤلّف «السيرة الحلبية»(2) أن يُوفّق إلى درجةٍ مّا، بين المنقولات والمرويات المختلفة ببيان خاص، ولكنّه لم يوفّق لإزالة التناقض والاختلاف في بعض الموارد في هذا الصعيد.

ص:646


1- . الأنفال: 30. ليثبتوك أي ليسجنوك.
2- . لاحظ: السيرة الحلبية: 2/191 وما بعدها.

على أنّ الموضوع الجدير بالإهتمام هو أنّ أكثر المؤرّخين الشيعة والسنّة نقل كيفية هجرة النبيّ، وخروجه من منزله، ثم من مكّة بنحو مؤدّاه إسناد نجاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وخلاصه إلى عامل الإعجاز، وبالتالي فقد أسبغوا عليه صبغة الكرامة، والمعجزة.

في حين أنّ الإمعان في تفاصيل هذه القصة يكشف عن أنّ نجاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كانت نتيجة سلسلة من الإجراءات الاحترازية، والتحسّبات، والتدابير الحكيمة، وإنّ إرادة اللّه تعالى تَعَلّقت بأن ينجّي نبيّه الكريم، عن طريق الأسباب العادية المألوفة، وليس عن طريق التدخّل الغيبيّ وإعمال قدرته تعالى الغيبية.

ويدلّ على هذا المطلب أنَّ النبيّ توسّل بالعِلل الطبيعية، والوسائل والأسباب العادية (كمبيت شخص في فراش النبيّ، واختفاء رسول اللّه في الغار، وغير ذلك ممّا سيأتي ذكره)، وبهذا الطريق نجّا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نفسه، وتخلّص من أيدي أعدائه، العازمين على إراقة دمه.

ملك الوحي يخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخطّة قريش لاغتياله

لقد أخبر ملك الوحي «جبرئيل» رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخطّة قريش المشؤومة لاغتياله وأمره بالهجرة، وتقرّر - بغية إفشال عملية الملاحقة - أن يبيت شخصٌ في فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليتصوّر المشركون أنَّ النبيّ لا يزال في منزله، ولم يخرج بعد، وبالتالي يركّزوا كلّ إهتمامهم على محاصرة البيت، وينصرفوا عن مراقبة طرقات مكّة، ونواحيها.

ولقد كانت فائدة هذا العمل أي حصر اهتمام المراقبين ببيت النبيّ أنّه تسنّى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اغتنام الفرصة والخروج من مكّة، والاختفاء في مكان مّا من دون أن يحسّ به أحد من الذين باتوا يراقبون بيته، ويبغون قتله.

ص:647

والآن يجب أن نرى مَن الّذي تطوَّع للمبيت في فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفدى النبيّ بنفسه، ووقاه بحياته؟

ستقولون حتماً: إنّ الّذي سبق جميع المسلمين إلى الايمان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبقي من بدء بعثته وإلى ذلك الحين يذب عنه، هوالّذي يتعيَّن أن يضحّي بنفسه في هذا السبيل، ويقي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحياته في هذه اللحظة الخطيرة، وهذا المضحّي بحياته ونفسه، هو «عليّ» ليس سواه أحد، أنّه تقدير صحيح، وحدس مصيب. فليس غير «علي» يصلح لهذه المهمة الخطيرة.

ولهذا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ عليه السلام:

يا عليّ إنَّ قريشاً اجتمعت عَلى المكر بي وقتلي، وإنّه أُوحي إليَّ عن ربّي أن أهجرَ دار قومي، فنُم عَلى فراشي والتحف ببردي الحضرميّ لِتُخفي بمبيتك عَليهم أثَري، فما أنت قائل وصانع؟

فقال علي عليه السلام: أوْ تَسلَمَنَّ بِمَبيتي هناك يا نبيَّ اللّه؟

قال: نعم، فتبسّم عليّ عليه السلام ضاحكاً مسروراً وأهوى إلى الأرض ساجداً، شكراً لما أنبأه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من سلامته، فلمّا رفع رأسه قال للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

إِمض لما أُمرتَ فِداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومُرني بما شئتَ أكن فيه كمسرّتك، واقع منه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلّاباللّه.

ثم رقدَ عليّ عليه السلام على فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم واشتمل ببرده الحضرمي الأخضر، ولمّا مضى شطرٌ من الليل حاصرَ رَصَدُ قريش - وهم أربعون رجلاً - بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد جرّدوا سيوفَهم، ينتظرون لحظة الهجوم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويتطلّعون إلى داخل البيت من فرجة الباب بين الحين والآخر ليتأكّدوا من بقاء

ص:648

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مضجعه، فيظنون أنَّ النائمَ فى الفراش هو النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

وهنا أراد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يخرج من بيته.

فمن جانب يحاصر الأعداءُ بيته صلى الله عليه و آله و سلم من كلّ جانب، ويراقبون كلّ شيء، ومن جانب آخر تعلّقت مشيئة اللّه تعالى وإرادته القاهرة الغالبة أن ينجو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من أيدي تلك الزمرة المنحطة، فقرأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سورة (يس) لمناسبة مطلعها لظروفه حتّى بلغ إلى قوله تعالى: «فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» (1) وخرج من باب البيت دون أن يشعر به رصدُ قريش المكلّفون بقتله، وذهب إلى المكان الّذي كان من المقرر أن يختبئ فيه على النحو الّذي سيأتي تفصيله.(2)

وأمّا كيف استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يخترق الحصار البشريَ المشدَّد الّذي ضُرِبَ على بيته، ويتجاوز رصدَ قريش من غير أن يشعروا به فذلك غير معلوم جيداً.

إلّا أنّه يستفاد من رواية نقلها المفسّرُ الشيعيُ المعروفُ عليُ بن إبراهيم في تفسيره(3): قول اللّه تعالى: «وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» إنّ رجال قريش كانوا نياماً ينتظرون الفجر عند خروج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولم يكونوا يتصوّرون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد عرف بتدبيرهم ومؤامرتهم.

ولكن يصرّح غيره من المؤرّخين وكُتّاب السيرة(4) بأنّ المحاصرين لمنزل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كانوا يقظين حتّى لحظة الهجوم على بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خرج من البيت عن طريق الإعجاز والكرامة من دون أن يروه ويحسّوا به.

ص:649


1- . يس: 9.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 19/60.
3- . لاحظ: تفسير القمي: 1/276.
4- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 1/228؛ تاريخ الطبري: 2/100.

إنّ إمكان وقوع مثل هذه الكرامة ليس موضع شكّ، ولكن هل كان هناك ما يوجب ذلك؟! إنّ دراسة قصة الهجرة بصورة كاملة تجعل هذه المسألة أمراً قطعياً وهي أنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان عارفاً بمؤامرة القوم قبل محاصرة بيته، وكان قد دبّر ورسم لنجاته خطةً طبيعيةً عاديةً، ولم يكن في الأمر أي إعجاز.

لقد كان يريد صلى الله عليه و آله و سلم بإضجاع علي عليه السلام في فراشه أن ينجو بنفسه من أيدي المشركين من الطرق العادية والقنوات الطبيعية من غير الاستعانة بالإعجاز والكرامة.

وعلى هذا كان في مقدور النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يتحسّب لمسألة المحاصرة والطوق الّذي كان سيُضرَب على بيته من أوائل الليل، وذلك بمغادرة بيته قبل المحاصرة وقبل الغروب.

ولكن يمكن أن يكون لتوقّف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في البيت حتّى ساعة المحاصرة علّة لا نعرفها الآن.

من هنا يكون ادّعاء هذا الموضوع (وهو خروج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من البيت في الليل) غير مقطوع به لدى الجميع لاعتقاد البعض بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غادر منزله قبل فرض الحصار عليه، وقبل غروب الشمس.

إ قتحام الأعداء لبيت الوحي:

طوّقت قوى الكفر مهبط الوحي وبيت الرسالة وباتت تنتظر لحظة الإذن في اقتحامه، والهجوم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في فراشه وضربه وتقطيعه بالسيوف إرباً إرباً!

وقد أصرّ جماعة منهم أن ينفّذوا خطتهم المشؤومة هذه في منتصف الليل وقبل الفجر، فمنعهم أبو لهب من ذلك وقال: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل، فإنَّ

ص:650

في الدار صبياناً ونساءً من بني هاشم، ولا نأمن أن تقع يدٌ خاطئة، فنحرسه الليلة، فإذا أصبحنا دخلنا عليه.

وربّما يقال أنّ علّة التأخير هي أنّهم أرادوا أن يقتلوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند الصباح أمام أعين بني هاشم حتّى يروا أنّ قاتله جماعة وليس واحداً.

وانقشع الظلام شيئاً فشيئاً، وانفجر الصبحُ، ودبّ في المشركين شوقٌ غريبٌ، مع اقتراب ساعة الصفر، فقد كانوا يتصوّرون بأنّهم سينالون ما يريدون قريباً، وبينما هم ينتضون سيوفهم دخلوا حجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبينما هم يهمّون بأخذ مَن كان راقداً في الفراش بسيوفهم، إذا بهم يواجهون علياً عليه السلام يثب في وجوههم وهو يكشف عن نفسه برد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الأخضر، وقال لهم في منتهى الطمأنينة والشجاعة: ما شأنكم؟ وماذا تريدون؟

فقالوا له بغضب: أين محمّد؟

فقال عليه السلام: أَجَعَلتموني عليه رقيبا؟!

فغضِبَ القوم غضَباً شديداً، وكاد الغيظ يخنقهم، فقد ندموا على انتظارهم انفجار الصبح وحمّلوا أبا لهب الّذي منعهم من تنفيذ الهجوم على النبيّ في منتصف الليل فشل الخطة وتفويت الفرصة، فأقبلوا عليه يلومونه ويوبّخونه!!

أجل لقد انزعجت قريش بشدة لفشل هذه المؤامرة، ووجدوا أنفسهم أمام هزيمة نكراء بدّدت كلّ أحلامهم، وحيث إنّهم كانوا يتصوّرون بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لا يستطيع الخروج عن حدود مكّة في مثل تلك المدة القصيرة، فهو إما مختبئ في مكّة، أو أنّه لا يزال في طريق المدينة، لذلك أقدموا فوراً على العمل على ترتيب أمر ملاحقته والقبض عليه.(1)

ص:651


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 19/50-51.

النبيُّ في غار ثور:

إنّ ما هو مسلّم به هو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمضى هو وأبوبكر ليلة الهجرة وليلتين أُخريين بعدها في غار ثور الّذي يقع في جنوب مكّة في النقطة المحاذية للمدينة المنورة.(1)

وليس من الواضح كيف تمّت هذه المصاحبة والمرافقة ولماذا، فإنّ هذه المسألة من القضايا التاريخية الغامضة.

فإنّ البعض يعتقد بأنّ هذه المصاحبة كانت بالصدفة، فقد رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أبابكر في الطريق، فاصطحبه معه إلى غار ثور.

وروى فريق آخرٌ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذهب في نفس الليلة إلى بيت أبي بكر، ثم خرجا معاً في منتصف الليل إلى غار ثور.(2)

وقال فريق ثالث: إنّ أبابكر جاء هو بنفسه يريد النبيّ وكان صلى الله عليه و آله و سلم قد خرج من قبل فأرشدهُ «عليٌّ» إلى مخبأ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

وعلى كلّ حال فإنّ كثيراً من المؤرّخين يعُدّون هذه المصاحبة من مفاخر الخليفة ومناقبه، ويذكرون هذه الفضيلة ويتحدّثون عنها بكثير من الإسهاب والإطناب، وبمزيد من الإكبار والإعجاب.

قريش تفتش عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

لقد تسبّب فشل قريش في تغيير خطّتها، فقد بادرت إلى بثّ العيون والجواسيس في طرقات مكّة، ومراقبة مداخلها ومخارجها مراقبةً شديدةً، وبعثت

ص:652


1- . حيث إنّ الطريق المؤدّي إلى المدينة تقع في شمال مكّة، فاختبأ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في منطقة مقابلة، أي في أسفل مكّة، ليعمي بذلك على قريش فلا يتّبعوا أثره.
2- . تاريخ الطبري: 2/100-101.

القافّة تقتص أثره في كلّ مكان، وفي طريق مكّة - المدينة خاصّة.

ومن جانب آخر جعلت مائة إبل لمَن يأخذ نبي اللّه، ويردّه عليهم أو يأتي عنه بخبرٍ صحيح.

وعمد جماعةٌ من قريش إلى ملاحقة رسول اللّه والتفتيش عنه في شمال مكّة، حيث الطريق المؤدّي إلى المدينة، على حين أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان قد اختبأ - كما قلنا - في نقطة بجنوب مكّة لإفشال عملية الملاحقة.

وتصدّت مجموعة أُخرى لتتبع أثر قدم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ورفيقه!!

وكان الّذي يقفو لهم الأثر يُدعى أبا مكرز فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: هذه قدم محمّد، فما زال بهم حتّى أوقفهم على باب الغار فانقطع عنه الأثر فقال: ما جاوز محمد ومَن معه هذا المكان، إمّا أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا تحت الأرض، فإنّ بباب هذا الغار - كما ترون عليه - نسجُ العنكبوت والقبجة حاضنة على بيضها بباب الغار(1)، فلم يدخلوا الغار.

ولقد استمرت هذه المحاولات بحثاً عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ثلاثة أيام بلياليها ولكن دون جدوى، فلمّا يئس القوم بعد ثلاثة أيام من السعي تركوا التفتيش وكفّوا عن الملاحقة.

الإمام علي عليه السلام والتفاني في سبيل الحق:

إنّ النقطة المهمة في هذه الصفحة من التاريخ هي ما قام به علي عليه السلام من تفانٍ في سبيل الحقّ، والحقيقة.

ص:653


1- . لاحظ: الطبقات الكبرى: 1/229؛ تاريخ الخميس: 1/327-328؛ بحار الأنوار: 19/73 وغيرها. ولقد ذكر عامّة المؤرّخين هذه الكرامة هنا، ولا ينبغي، نظراً لما ذكرناه في قصة الفيل وهلاك إبرهة وجنده بواسطة الأبابيل، تأويل مثل هذا الكرامات.

إنّ التفاني في سبيل الحقّ من شيمة الرجال الذين أحبّوا الحقّ وعشقوه بكلّ وجودهم وكيانهم.

إنّ الذين يغضون نظرهم عن كلّ شيء من أشياء الدنيا ويضحُّون بالنفس والمال والشخصية، ويستخدمون كلّ طاقاتهم المادية والمعنوية في سبيل خدمة الحقّ، وإحيائه، وإقامته هم ولا شك من عشاق الحقّ والحقيقة الصادقين. إنّهم يرون كمالهم وسعادتهم في هدفهم، وهذا هو الّذي يدفعهم إلى أن يصرفوا النظر عن الحياة العابرة، والعيش المؤقت، ويلتحقوا بركب الحياة الواقعيّة الأبدية.

إنّ مبيت عليّ عليه السلام في فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك الليلة الرهيبة لَنمُوذجٌ بارزٌ من هذا الحبّ الحقيقيّ للحقّ، والعشق الصادق للحقيقة، فإنّ الدافع وراء التطوّع لمثل هذه المهمة الخطيرة لم يكن إلّاحبّ «عليّ» لبقاء الإسلام الّذي يكفل سعادة المجتمع، ويضمن ازدهار الحياة، لا غير.

إنّ لهذه التضحية والتفاني من القيمة العظمى بحيث مدحها اللّه تعالى في كتابه العظيم، ووصفها بأنّها كانت تضحية صادقة لكسب مرضاة اللّه، فإنّ الآية التالية نزلت - حسب رواية أكثر المفسّرين - في هذا المورد:

«وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» .(1)

إنّ عظمة هذه الفضيلة وأهمية هذا العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الإمام علي عليه السلام، وإلى أن يَصِفُوا بها علياً بالفداء والبذل والإيثار، وإلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من

ص:654


1- . البقرة: 207.

المسلّمات كلّما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ إليها.(1)

إنَّ هذه الحقيقة لا يمكن كتمانها أبداً فإنّه من الممكن إخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلّاأنّه سرعان ما تمزّق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الأوهام، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة وبخاصّة للإمام أميرالمؤمنين عليه السلام ممّا لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة ويخفي حقائقه بوضع الأكاذيب، ولكنّه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.

فقد عمد «سمرة بن جندب»(2) الّذي أدرك عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم انضمّ بعد وفاته صلى الله عليه و آله و سلم إلى بلاط معاوية بالشام، عمد إلى تحريف الحقائق لقاء أموال أخذها من الجهاز الأموي، الحاقد على أهل البيت.

ص:655


1- . لاحظ: مسند أحمد: 1/87؛ وكنز العمال: 6/407، وقد نقل كتاب الغدير: 2/47-49 طبعة لبنان مصادر نزول هذه الآية في شأن علي عليه السلام على نحو التفصيل، فراجع.
2- . سمرة بن جندب من العناصر المجرمة في الحكومة الأُموية، ولم يكتف سمرة بتحريف الحقائق وقلبها بما ذكرناه، بل أضاف إلى ذلك - حسب رواية ابن أبي الحديد - أمراً آخر أيضاً إذ قال: ونزل في شأن «عليّ» قول اللّه: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ» (البقرة: 204). ومن جرائم هذا الرجل أنّه قتل يوم وُلّيَ البصرة على عهد زياد بن أبيه العراق ثمانية آلاف ممّن كانوا يحبون أهلَ البيت ويوالونهم، وعندما سأله معاوية: هل تخاف أن تكونَ قد قتلتَ أحداً بريئاً؟ أجاب قائلاً: لو قتلتُ إليهم مثلَهم ما خشيت!! هذا ومخازي هذا الرجل أكثر من أن تستوعبه هذه الصفحات القلائل. وسمرة هذا هو ذلك الرجل الصلف الجاف الّذي رد على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم طلبَه بأن يراعي حقَّ جاره في قضية النخلة مراراً فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام» ولمزيد التوضيح راجع كتب الحديث والتراجم والتاريخ.

فقد طلب منه معاوية بإصرار أن يَرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن علي عليه السلام، ويقول للناس إنّها نزلت في حقّ قاتل عليّ (أي عبدالرحمن بن ملجم المرادي)، ويأخذ في مقابل هذه الأُكذوبة الكبرى، وهذا الاختلاق الفضيع الّذي أهلك به دينه مائة ألف درهم.

فلم يقبل «سمرة» بهذا العرض ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتّى بلغ أربعمائة ألف درهم، فقبل الرجل بذلك فقام بتحريف الحقائق الثابتة، مسوّداً بذلك صفحته السوداء أكثر من ذي قبل وذلك عند ما رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية.(1) وقبل السامعون البسطاء قوله، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً أنّ (عبدالرحمن بن ملجم) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِدَ بعد آنذاك. فكيف يصح؟!

ولكن الحقيقة لا يمكن أن تخفى بمثل هذه الحجب الواهية، ولا يمكن أن تنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد تعرّضت حكومة معاوية وتعرّض أهلها وأنصارها للحوادث، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الّذي وقع في عهده المشؤوم، وطلعت شمس الحقيقة والواقع من وراء حجُبُ الجهل والافتراء مرة أُخرى، واعترف أغلبُ المفسّرين الأجلّة والمحدّثين الأفاضل - في العصور والأدوار المختلفة - بأنّ الآية المذكورة نزلت في «ليلة المبيت» في بذل علي عليه السلام ومفاداته النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه.(2)

ص:656


1- . لاحظ: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/73.
2- . لاحظ: شرح نهج البلاغة: 13/262، ولقد أعطى ابن أبي الحديد حقّ الكلام حول هذه الفضيلة.

كلام من ابن تيمية:

أحمد بن عبدالحليم الحرّاني الحنبليّ الّذي مات في سجن بدمشق عام 728 ه من علماء السنّة، تعود إليه أكثر معتقدات الوهابيّين، وأفكارهم.

ولابن تيمية هذا آراء ومواقف خاصّة من النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأميرالمؤمنين، وعامّة أهل بيت النبوة، وقد صرّح بأكثر آرائه ومعتقداته هذه في كتابه «منهاج السنّة».

وقد دفعت عقائدُه المنحرفة وآراؤه الضالّة الكثير من علماء عصره إلى تكفيره، والتبرّي منه.

ومن المؤسف أن يكون قد تأثّر بآرائه بعض السذّج والجاهلين، فنجدهم يشيعون آراءه في المجتمع من دون تحقيق فيما قال، ومن دون مراجعة ذوي الاختصاص لمعرفة رأيهم في أفكاره ومعتقداته، وهم غافلون عن أنّ مثل هذه الآراء قد صدرت من منحرف، وكذّبه بل وكفّره بسببها أهل مذهبه.

ولابن تيمية رأي عجيب حول هذه الفضيلة (مبيت علي في فراش النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم) نذكره للقارئ الكريم مع تصرّف بسيط في الألفاظ.(1)

يقول: إنّ مبيت «عليّ» في فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا تعدّ فضيلة، لأنّ عليّاً عرف من طريقين بأنّه لن يصيبَه شيء في تلك الليلة:

الأوّل: إخبار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الصادق المصدِّق نفسه إيّاه بذلك، إذ قال له في نفس تلك الليلة: «نَمْ في فِراشي فإنّه لن يَخْلُص إليكَ شيء تكرَهُهُ منهم»!!.

الثاني: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كلّفه بردّ الودائع وأداء الأمانات الّتي أودعها أهل مكّة

ص:657


1- . لاحظ: منهاج السنّة النبوية: 7/110، فصل (قال الرافضي: البرهان الثامن: قوله تعالى: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ»). تحقيق محمد رشاد سالم، الطبعة الأُولى - 1406 ه.

عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، إلى أصحابها.

فعلم - من ذلك - أنّهُ لن يُقتل وإلّا لكلّفَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الآخرين بها.

فعرف «عليٌ» من هذا التكليف أنّه لن يلحقه أذىً في هذه العمليّة وأنّه سيوفَّق لأداء ما كلّفَهُ به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

الجواب:

وقبل أن نجيب عن هذا الكلام على نحو التفصيل نقول إجمالاً: إنّ ابن تيميّة بإنكاره هذه الفضيلة أثبت فضيلة أعلى لعليّ عليه السلام؛ لأنّه إمّا أن يكون إيمان عليّ بصدق مقالة الرسول كان إيماناً عادياً، وإمّا أن يكون إيماناً قوياً جدّاً، وكانت جميع أقوال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وإخباراته لديه - في ضوء إيمانه - كالنهار في وضوحه. وعلى الفرض الأوّل لم يكن لعليّ يقينٌ بنجاته من تلك الواقعة، لأنّه لا يحصل لمثل هذه الطبقة من الناس (ولا شكّ أنّ عليّاً ليس منهم حتماً) يقينٌ من كلام النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وحتّى لوقبلوا به في الظاهر، فإنّهم سيساورهم القلق، ولا يفارقهم الاضطراب، وإذا هم باتوا في فراشه في لحظات الخطر، فإنّهم سيبقون فريسة الخوف والوجل وستمرّ في نفوسهم احتمالاتٌ كثيرةٌ حول مآل الأمر ومصيره، وسيتمثّل أمامهم شبح الموت المرعب في كلّ لحظة وآن.

وعلى هذا الفرض لابد أن يقال: بأنَّ عليّاً عليه السلام لم يقدم على هذا الأمر الخطير إلّا وهو يحتمل الهلاك على أيدي المشركين، لا أنّه بات وهو يتيقّن النجاة والسلامة.

وأمّا بناءً على الفرض الثاني فإنّه تثبت لعليّ عليه السلام فضيلة أعلى وأعظم، لأنّ إيمانَ الرجل يجب أن يبلغ من القوة والكمال بحيث لا يفرّق بين صدق كلام النبيّ وبين وضوح النهار، أي أنّهما يكونان عنده بمنزلة سواء.

ص:658

ولا شك أنّ أهمية مثل هذا الإيمان لا يمكن أن يعادِلها شيء.

ونتيجة هذا الإيمان هي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عند ما قال له: نَم في فراشي فلن يصيبك من هجوم الأعداء الحاقدين مكروهٌ، أن ينام في فراش النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بقلبٍ واثِقٍ بالسلامة، ونفس مطمئنّةٍ إلى النجاة، ومن دون أن يخالج نفسَهُ أقل احتمال للخطر.

ولو كان مراد ابن تيمية من قوله: إنّ عليّاً كانَ واثقاً من سلامته، لأنّ الصادق المصدَّق أخبره بذلك، هو: إثبات أعلى درجات الإيمان لعليّ عليه السلام، فقد أثبت له عليه السلام من حيث لا يشعر أكبر فضيلة، وأعلى منقبة، وهي كمال الايمان والثقة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وإخباره.

هذا هو الجواب الإجمالي وإليك الجواب التفصيلي:

الجواب التفصيلي:

فنقول عن الدليل الأوّل: إنّ عبارة «لا يخلص إليك شيء تكرهه» لم ينقلها بعض أرباب السيرة ورجال علم التاريخ الذين لهم سابقة لا تنكر في هذا الصعيد.(1)

نعم روى ابن الأثير (المتوفّى عام 630 ه)(2)، والطبري (المتوفّى عام 310 ه)(3) هذه العبارة وكأنّما قد أخذاها عن ابن هشام في سيرته(4) الّتي نقل فيها

ص:659


1- . مثل ابن سعد (المولود عام 168 والمتوفّى عام 230 ه) في الطبقات الكبرى: 1/227 و 228، وكذا المقريزي في أمتاع الإسماع، عند ذكرهم لتفاصيل قضية المبيت.
2- . الكامل في التاريخ: 2/103.
3- . تاريخ الطبري: 2/99.
4- . السيرة النبوية: 1/333.

تلك العبارة بالصورة المتقدّمة الذكر، خاصة أنّ عبارة ذينك المؤلّفين (الطبري وابن الأثير) تطابق عبارة ابن هشام في هذا المجال تماماً.

هذا مضافاً إلى أنّ القضية لا توجد بهذه الصورة في مؤلّفات علماء الشيعة على ما نعلم. ولقد نقل شيخُ الطائفة الإمامية محمّد بن الحسن الطوسيّ (المتوفّى عام 460 ه) في أماليه قصة الهجرة بشكل أكثر تفصيلاً ودقّة، وذكر العبارة المذكورة مع تغيير بسيطٍ، إلّاأنّه تختلف صورة القضيّة مع ذلك عمّا هي عليه في كتب أهل السنّة، فإنّه رحمه اللّه يصرّح بأنّ عليّاً عليه السلام انطلق هو و «هند بن أبي هالة» ابن خديجة وربيب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في منتصف الليل بعد ليلتين من الهجرة حتّى دخلا على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقال صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ:

«إنّهم لن يَصِلُوا مِنَ الآن إليك يا علي بأمرٍ تكرهه حتّى تقدم عليّ».(1)

وهذه الجملة تشبه الجملة الّتي ذكرها ابن هشام والطبري وابن الأثير، ولكن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قالها لعليّ عليه السلام مطمئِناً إِيّاه بعد ليلتين من المبيت في الفراش، وليس ليلة المبيت كما يروي الثلاثة المذكورون.

هذا علاوة على أنّ كلام علي نفسه خير شاهد على ما نقول:

فلقد عدّ عليّ عليه السلام عمله هذا (أي المبيت في فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك الليلة الرهيبة) نموذجاً من بذله وتفانيه في سبيل الحقّ كما يتّضح ذلك بجلاء من أشعاره حيث يقول:

وَقَيتُ بنفسي خيرَ مَن وَطئ الحصا ومَن طاف بالبيتِ العتيقِ وبالحجر

محمّد لما خافَ أن يمكُروا بهِ فَوقّاهُ ربّي ذُوالجلالِ مِن المَكرِ

ص:660


1- . أمالي الطوسي: 468 ح 37 (1031)، المجلس 16.

وَبِتُ أُراعيهم متى ينشرونني وَقَد وطّنَت نفسي على القتل والأسر

وباتَ رَسُولُ اللّهِ في الغار آمِناً هناكَ وَ في حفظِ الإله وفي سَترِ(1)

ومع هذه العبارات الصَريحة لا مجال للاعتماد على قول ابن هشام الّذي تدل قرائنٌ كثيرةٌ على خطئه، ويُحتمل، احتمالاً قوياً، بأنّ اشتباهه وخطأه قد نشأ من تلخيصه لسيرة ابن إسحاق، وحيث إنّه (ونعني ابن هشام) قد بنى في سيرته على الاختصار لذلك اكتفى بنقل أصل العبارة، مهملاً ظرف النطق بها لعدم أهمية زمن النطق بها وأنّها قيلت في الليلة الثانية أوالثالثة، في نظره، وروى الموضوع بنحوٍ يوهم بأنّ جميع هذه الأُمور وقعت في ليلةٍ واحدةٍ!!

ويؤيّد رأينا هذا أيضاً الحديث المعروف الّذي رواه كثيرٌ من علماء السنّة والشيعة وهو: أن اللّه أوحى إلى جبرئيل وميكائيل عليهما السلام أنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه فأيّكما يؤثر صاحبه بحياته؟

فاختار كلّ منهما الحياة وأحبّاها، فأوحى اللّه تعالى إليهما: عبداي أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب، آخيت بينه وبين «محمّد» فبات على فراشه يفديه بنفسه.

ثم أمرهما بالهبوط إلى الأرض وحراسة عليّ وحفظه من عدوه.(2)

الخطيب وقضية المبيت:

وينبغي أن نختم هذا الفصل بما كتبه الأُستاذ عبدالكريم الخطيب حول مبيت علي عليه السلام في فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حيث قال: لقد دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً ليلة الهجرة، وطلب إليه أن يبيت في المكان الّذي اعتاد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أن يبيت فيه، وأن

ص:661


1- . أمالي الطوسي: 469 ح 37. هذا مضافاً إلى أنَّ الإمام عليه السلام نفسه قد استنشد المسلمين مراراً بهذه القضية مستدلّاً بها على تفانيه في سبيل الإسلام.
2- . بحار الأنوار: 19/39 نقلاً عن إحياء العلوم للغزالي.

يتغطّى بالبرد الحضرميّ الّذي كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يتغطّى به حتى إذا نظر ناظر من قريش إلى الدار رأى كأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نائم في مكانه مغطى بالبرد الّذي يتغطّى به، وهذا الذي كان من عليّ في ليلة الهجرة إذا نظر إليه في مجرى الأحداث الّتي عرضت للإمام علي في حياته بعد تلك الليلة فإنّه يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة وإشارات دالّة على أنّ هذا التدبير الّذي كان في تلك الليلة لم يكن أمراً عارضاً، بل هو عن حكمة لها آثارها - إلى أن قال: - إنّه إذا غاب شخص الرسول كان عليٌ هو الشخصية المهيّأة لأن تخلفه وتمثّل شخصه وتقوم مقامه، حين نظرنا إلى عليّ وهو في برد الرسول وفي مثوى منامه الّذي اعتاد أن ينام فيه فقلنا: هذا خَلَفُ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والقائم مقامه.(1) وأمّا الدليل الثاني الّذي يستفيد منه ابن تيمية أنّ عليّاً كان يعلم بمصيره هو توصية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم له بأداء الأمانات والودائع إلى أهلها، الّتي كانت تَكشف عن أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يعلم بأنّه لن يصلَ إليه مكروهٌ، ولهذا أمره بردّ الودائع والأمانات إلى أصحابها؛ فيمكن الإجابة عنه إذا استعرضنا بقية قصّة الهجرة بشكل صريح وكامل.

وإليك بقية قصّة الهجرة.

بقية قصةِ هجرةِ النبيّ:

انتهت المراحلُ الأُولى لنجاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفق تخطيط صحيح، بنجاح، فقد لجأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في منتصف اللّيل إلى غار ثور، واختبأ فيه، وبذلك أفشل محاولة المتآمرين عليه.

ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم طوال هذا الوقت مطمئنّاً لا يحسُّ في نفسه بأيّ

ص:662


1- . راجع كتاب علي بن أبي طالب بقيّة النبوّة وخاتم الخلافة: 103-105 ملخّصاً.

قلق أو إضطراب، حتّى أنّه طمأن رفيقَ سفره عندما وجده مضطرباً في تلك اللحظات الحسّاسة بقوله:

«لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنا» .(1)

وبقي هناك ثلاث ليال محروساً بعين اللّه تعالى و مشمولاً بعنايته ولطفه، وكان يتردّد عليه صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الأثناء عليٌ عليه السلام وهند ابن أبي هالة (ابن خديجة) على رواية الشيخ الطوسي في أماليه، وعبداللّه بن أبي بكر وعامر بن فهيرة راعي أغنام أبي بكر (بناء على رواية كثير من المؤرّخين).

يقول ابن الأثير: كان عبداللّه بن أبي بكر يتسمَّع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلاً، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره على مقربة من الغار، وكان عبداللّه بن أبي بكر إذا غدا من عندهما أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتّى يعفي أثره.(2)

يقول الشيخ الطوسي في أماليه: انطلق (علي) هو وهند بن أبي هالة حتّى دخلا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الغار (بعد ليلة الهجرة)، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هنداً أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين، فقال أبوبكر: قد كنتُ أعددت لي ولك يا نبي اللّه راحلتين نرتحلهما إلى يثرب.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّي لا آخذهما ولا أحدهما إلّابالثمن. قال: فهي لك بذلك، فأمر صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً عليه السلام فأقبضه الثمن.(3)

وكان من جملة وصايا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ عليه السلام في الغار في تلك الليلة أن يؤدّي أمانته على أعين الناس ظاهراً، وذلك بأن يقيم صارخاً يهتف بالأبطح غدوة

ص:663


1- . التوبة: 40.
2- . الكامل في التاريخ: 2/104.
3- . أمالي الطوسي: 467 ح 37.

وعشياً: ألا مَن كان له قبل محمّد أمانة أووديعة فليأت فلنؤدِّ إليه أمانته.(1) ثم أوصاه صلى الله عليه و آله و سلم بالفواطم (والفواطم هن: فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الحبيبة لديه والأثيرة عنده، وفاطمة بنت أسد أُمّ عليّ عليه السلام، وفاطمة بنت الزبير، ومن يريد الهجرة معه من بني هاشم)، وأمره بترتيب أمر ترحيلهم معه إلى يثرب وتهيئة ما يحتاجون إليه من زاد وراحلة.(2)

وهنا قال صلى الله عليه و آله و سلم عبارته الّتي تذرَّع بها ابن تيمية في دليله الأوّل: «أنّهم لن يصلوا من الآن إليك يا عليّ بأمرٍ تكرهه حتّى تقدم عليَّ».

فالملاحظ للقارئ هو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما قال هذه العبارة عندما أمره بأداء أمانته، وذلك بعد انقضاء قضية ليلة المبيت.

أي أنّه أمر علياً بذلك، وقال له تلك العبارة وهو يتهيّأ للخروج من غار ثور.

يقول الحلبي في سيرته: وصّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في إحدى الليالي وهو بالغار علياً رضي اللّه عنه بحفظ ذمّته وأداء أمانته ظاهراً على أعين الناس.

وثم ينقل عن مؤلّف كتاب «الدر» ما يقتضي أنّه اجتمع به عند خروجه من الغار.(3)

وخلاصة القول: إنّه مع رواية شيخ جليل من مشايخ الشيعة الإمامية كالشيخ الطوسي بالاسناد الصحيحة أنّ الأمر بردّ الودائع والأمانات صدر من جانب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى عليّ عليه السلام بعد ليلة المبيت لا يحقّ لنا أن نعارض هذا النقل الصحيح، ونعمد إلى إلهاء العامّة بالتوافه، وأمّا رواية مؤرّخي أهل السنّة هذا المطلب بشكل آخر يوحي ظاهرُه بأنّ جميع وصايا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ تمت في ليلة واحدة هي ليلة

ص:664


1- . السيرة الحلبية: 2/205؛ أمالي الطوسي: 468 ح 37.
2- . لاحظ: أمالي الطوسي: 470.
3- . لاحظ: السيرة الحلبية: 2/204-205.

الهجرة (ليلة المبيت) فقابلٌ للتفسير والتوجيه، لأنّه لا يبعد أن عنايتهم كانت مركّزة على رواية أصل الموضوع، ولم يكن لظرف صدور هذه الوصايا والأوامر ووقت بيانها أهمية عندهم.

الخروج من الغار:

هيّأ علي عليه السلام بأمر النبيّ: ثلاث رواحل ودليلاً أميناً يُدعى أريقط، ليترحّلوها إلى المدينة، ويدلّهم الدليل على طريقها، وأرسل كلّ ذلك إلى الغار.

ولمّا سمع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رغاء البعير أو نداء الدليل نزل هو و صاحبه من الغار وركبا البعيرين وتوجّها من أسفل مكّة إلى «يثرب» سالكين إلى ذلك الخط الساحلي، وقد جاء ذكر المنازل الّتي مرّا بها في السيرة النبوية لابن هشام.(1)

صفحةُ التاريخ الأُولى:

أجل لقد حلّ الظلام في كلّ مكان، ولملمت الشمس أشعّتها الذهبية من هذا الوجه من الكرة الأرضية لتوجّهها إلى الوجه الآخر منها.

وعاد جماعة من رجال قريش الذين سلكوا كلّ طريق في مكّة وضواحيها بحثاً عن النبيّ، ثلاثة أيام، بلياليها، إلى بيوتهم ومنازلهم متعبين مرهقين، وقد يئسوا من الظفر بالجائزة (وهي مائة من الإبل) الّتي وضعتها سادة قريش لمن يأخذ محمّداً أو يدلّ على مكانه، وأُعيد فتح طريق مكّة - المدينة الّتي أُغلقت لهذه الغاية بعد اليأس من الظفر برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(2)

وفي هذه اللحظات بالذات بلغ نداء الدليل الّذي كان يصطحب معه ثلاث

ص:665


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 2/340.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/104.

رواحل ومقداراً من الطعام، إلى مسمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورفيقه وهما في الغار وقد كان يقول بصوت خافت: لابد أن نتّخد من ظلام هذا الليل ستراً، ونسرع في الخروج من حدود المكيّين، ونختار طريقاً يقلّ سالكوه ولا يهتدي إليه أحد.

ويبدأ تاريخ المسلمين من العام الّذي تضمَّن تلك الليلة بالضبط، وجعل المسلمون يقيسون كلّ ما يقع من الحوادث بذلك العام وبذلك يحدّدون تاريخه وزمان حدوثه.

لماذا أصبح العامُ الهجريُ مبدأ للتاريخ؟

إنّ الإسلام أكمل الشرائع السماوية قاطبة، وقد جاء إلى البشرية بما تتضمّنه شريعة موسى وعيسى عليهما السلام ولكن بصورة أكمل وبصيغة تطابق وتتمشّى مع جميع الظروف والأوضاع.

ومع أنّ السيد المسيح عليه السلام وميلاده المبارك يحظى بالاحترام عند المسلمين إلّا أنّ ميلاده عليه السلام لم يُتخَذ لديهم مبدأ للتاريخ، والتوقيت.

وكانت العرب قد جعلت عام الفيل(1) مبدأ لتاريخها، وكانت تقيس حوادثها وأُمورها إليه فترة من الزمن، ومع أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان قَد وُلِدَ في ذلك العام نفسه، إلّاأنّ المسلمين لم يتّخذوه مع ذلك مبدأ للتاريخ، لأنّه لم يكن ينطوي على ما يتّصل بقضية الإيمان والإسلام.

ولأجل هذا أيضاً لم يتّخذوا عام البعثة مبدأ لتاريخ المسلمين أيضاً؛ لأنّ عدد المسلمين لم يكن يتجاوز في ذلك اليوم ثلاثة أشخاص، إِذن فلم يكن في أي واحد من تلك الحوادث ما يعطي مبرراً قوياً لاتّخاذه مبدأ للتوقيت والتاريخ، إذ لابد أن يكون ما يتّخذ لذلك قضية مصيرية بالغة الأهمية.

ص:666


1- . وهو العام الّذي سيّر فيه أبرهة جيشاً لهدم الكعبة تتقدّمه الفيلة. راجع المحبّر: ص 5-8.

ولكنّه في السنة الأُولى من الأعوام الهجرية حقّق المسلمون انتصاراً عظيماً وباهراً، وقد أُسست فيه حكومة مستقلة وتخلّص المسلمون من التشرذم والتبعثر، وتمركزت قواهم وعناصرهم في نقطةٍ واحدةٍ، وبيئةٍ حرةٍ لا أثرَ فيها للكبت والاضطهاد، من هنا جعلوا ذلك العام (أي العام الّذي تحقّقت فيه هجرة النبيّ العظيم) مبدأً لتاريخهم، وأخذوا يقيسون إليه - وحتّى الآن - كلّ ما يحدث ويقع من خير وشر، لتحديد تاريخ وقوعه.

الهجرة النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافّة:

ولقد جعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم التاريخ الهجريّ بنفسه.

وإنّ أيَّ إعراض وتجاهلٍ لهذا التاريخ، واختيار تاريخٍ آخر مكانه إعراضٌ عن سنّة رسول الإسلام الكريم صلى الله عليه و آله و سلم، ومخالفة لما رسمه للمسلمين في هذا المجال.

إنّ وجود تاريخ معين ثابت (مؤلّفٍ من السنة والشهر واليوم) في الحياة الإجتماعية البشرية، من الأُمور الضرورية الحيوية بل هو في غاية الضرورة والحيوية، من أجل أن لا تتوقّف عجلة الحياة الإجتماعية البشرية عن الدوران والحركة بسبب فقدان مقياس زمني ثابت ومعلوم للأُمور والحوادث.

وتلك حقيقة لا حاجة إلى إقامة البرهان عليها؛ لأنَّ الاستدلال عليها يكون مثل الاستدلال على الأُمور البديهية.

فهل يكون تنظيم المعاهدات، والمواثيق السياسية والعسكرية، والاتّفاقيات، والعقود الاقتصادية وتحويل وتسديد السندات والحوالات التجارية ودفع الديون وكتابة الرسائل العائلية من دون ذكر تاريخ معين فيها أمراً مفيداً؟ كلّا حتماً، ودون ريب.

ص:667

فعندما سأل بعض الصحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن علّة اختلاف أشكال القمر، وأنّه لماذا يكون هلالاً تارة ثم بدراً أُخرى. ثم يعود إلى سيرته الأُولى هلالاً، نزل الوحيُ الإلهي، يبيّنُ بعض حكمة هذه الظاهرة الطبيعية إذ قال تعالى:

«قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ» .(1)

أي أنّ اختلاف أشكال القمر وهيئاته إنّما هو لأجل أن يعرف الناسُ به الوقت والتاريخ فيعرفوا في أي يوم من الشهر هم، في مبدئه أو منتصفه، أو منتهاه، ولكي يعرفوا بواسطة ذلك مواعيد واجباتهم الشرعية والاجتماعية، ويعرف الدُّيّان موعد تسلّم دُيونهم، ويعمَدُ المَدِينون إلى دفع ما عليهم في وقته، ويقومَ المؤمنُون بفرائضهم المقيَّدة بالأزمنة والأوقات كالصوم والحج وماشابه ذلك. من هنا لا مجال للنقاش في احتياج كلّ أُمّة إلى تاريخ معينٍ ثابتٍ محدّد تجعله ملاكاً للتوقيت، ومداراً لتحديداتها الزمنية.

إنّما الكلام هو في ما ينبغي اتّباعه والجري عليه من التواريخ، وتنظيم المستندات والمكاتبات والمواعيد وفقاً له.

وبعبارة أُخرى: إنّ الكلام إنّما هو في ما ينبغي جعله مبدأً للتاريخ يقاس به كلّ العُقودِ والاتّفاقات من حيث الزمان، والتوقيت.

فما الّذي يصلح أوينبغي اتّخاذه مبدأً للتاريخ للأُمّة الإسلامية؟

الجواب:

إنّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة جداً، وهي:

إذا كانت لأُمّة من الأُمم حوادث لامعة وسوابق مشرقة في حياتها، وثقافة خاصّة بها، وديناً ومسلكاً مستقلاً وشخصيات علمية وسياسية بارزة، وأحداث

ص:668


1- . البقرة: 189 ومطلعها: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ...».

ووقائع عظيمة مثيرة، تبعث على الفخر والاعتزاز، ولم تكن كنبتة وحشية نبتت عفواً واعتباطاً من غير قانون ولا جذور كبعض الجماعات والشَعوب الجديدة الظهور الّتي لا ترتكز إلى أُصول ثابتة معلومة.

فإنّ على مثل هذه الأُمّة أن تتّخذ من أعظم حوادثها الاجتماعية والدينية مبدأً لتاريخها الّذي تقيس، وتنظم عليه بقية حوادثها وأعمالها الّتي سبقت تلكم الحادثة العظمى، أو الّتي وقعت أو تقع بعدها.

ومن هنا تكون قد أكسبت شخصيتها وكيانها قوةً أكبر، وصانت نفسها من التبعية للشعوب والأُمم الأُخرى، والميعان والفناء فيها.

وإذ لم يكن في تاريخ الأُمّة الإسلامية شخصية أعلى شأناً من شخصية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، كما لم يكن هناك حادثة أعظم، وأنفع من حادثة الهجرة النبوية المباركة، لأنّ هجرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فتحت - في الحقيقة - صفحةً جديدةً في حياة البشرية، فقد خرج رسول الإسلام وأتباعه من بيئة مكّة الرازحة تحت الكبت، إلى بيئة مناسبة حرّة مكنّتهم من إحداث انطلاقةٍ كبرى لم يشهد التاريخُ البشريُ برمّته لها مثيلاً.

فقد استقبل أهلُ المدينة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومَن هاجر معه من المسلمين إلى يثرب استقبالاً حاراً، ووضعوا تحت تصرّفه كلَّ ما توفّر لديهم من الإمكانات والقوى، فلم يمض زمن إلّاوتمتع الإسلام بفضل هذه الهجرة المباركة بتشكيلات سياسية وعسكرية، واتّخذ صورة وشكلَ حكومةٍ قويةٍ لها وزنُها، وشأنُها، وجانبُها المرهوب في شبه الجزيرة العربية، وسرعان ما نشر رايته على البسيطة كلّها تقريباً، وأسّس حضارةً عظمى لم تر البشرية لها نظيراً.

فإذا لم تحدث تلك الهجرة المباركة المعطاء لقُضي على الإسلام في محيط

ص:669

مكّة، وحُرمَ العالم الإنساني من هذا الفيض العظيم. من هنا، ولأجل هذا اتّخذ المسلمون هجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مبدأً لتاريخهم، ودأبوا على ذلك إلى الآن حيث ينقضي أكثر من ألف وأربعمائة عام، أي أنّ هذه الأُمّة الكبرى تركت وراءها إلى هذا اليوم أربعة عشر قرناً من الأمجاد والمفاخر، وهي الآن تدخل في القرن الخامس عشر؟

مَن الّذي جعل الهجرة مبدأً للتاريخ؟

على العكس ممّا هو مشهور بين المؤرّخين من أنّ الخليفة الثاني جعل هجرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مبدأً للتاريخ باقتراح وتأييد من الإمام أميرالمؤمنين علي عليه السلام وأمر بأن تؤرّخ الدواوين، والرسائل والعهود وما شابه ذلك بذلك التاريخ، فإنّ الإمعان في مراسلات النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ومكاتباته الّتي هي مدرجة في كتب التاريخ والسيرة والحديث والسنّة، وكذا غير ذلك من الأدلّة الّتي سوف نذكرها في هذه الصفحات يثبت أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو نفسه أوّل مَن اعتمد تلك الحادثة الكبرى كمبدأ للتاريخ، وكان يؤرّخ رسائله، وكتبه إلى أُمراء العرب، وزعماء القبائل وغيرهم من الشخصيات البارزة بذلك التاريخ (أي التاريخ الهجري).

وها نحن ندرج هنا نماذج من تلك الرسائل النبوية المؤرّخة بهذا التاريخ، ثم نعمد بعد ذلك إلى استعراض الدلائل الأُخرى على هذا الأمر، ونحن نحتمل أن تكون هناك أدلّة أُخرى غير ما سنذكره هنا - أيضاً - لم نقف عليها.

نماذج من رسائل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والصحابة المؤرّخة:

1. طلب سلمان من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يكتب له ولأخيه (ماه بنداذ) ولأهله وصية مفيدة ينتفع بها، فاستدعى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً وأملى عليه أُموراً، وكتبها علي عليه السلام

ص:670

ثم جاء في آخر تلك الوصية:

«وكتب علي بن أبي طالب بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في رجب سنة تسع من الهجرة».(1)

2. أدرج المؤرّخُ الشهير «البلاذري» في كتابه «فتوح البلدان» نصَّ معاهدة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مع يهود «المقنا» وذكر أنّ مصرياً رأى نصَ هذه المعاهدة في جلدٍ أحمر اللون عتيقٍ وكان قد استنسخَها، فقرأها لي.

ثم نقل البلاذري نصّ تلك المعاهدة وقد جاء في نهايتها:

«وليس عليكم أمير إلّامن أنفسكم أو من أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكتب علي بن أبو طالب في سنة تسع»(2) ومع أنّ «أبا طالب» يجب أن يكتب حسب القواعد الأدبية في المقام «أبي طالب» لكونه مضافاً إليه فقد كتب: «علي بن أبوطالب» ولكن مع ذلك ذكر المحقّقون أنّ قبيلة قريش كانت تتلفّظ لفظة أب في جميع الموارد (أي في حالة النصب والرفع والجرّ) ب «أبو» وتكتبها كذلك أيضاً، وقد صرح الأصمعيّ بهذا من بين الأدباء.

ويقول البروفيسور «محمّد حميد اللّه» مؤلّف كتاب «الوثائق السياسية»: إنّي لمّا كنت في المدينة المنوّرة في شهر محرم سنة 1358 وجدت في الكتابة القديمة الّتي في جنوبي جبل سلع في المدينة المنورة «أنا علي بن أبوطالب».(3)

3. أنّ كتاب الصلح الّذي كتبه الإمام علي عليه السلام بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لنصارى

ص:671


1- . طبقات المحدّثين بأصبهان لعبداللّه بن حبان (المتوفّى 369 ه): 1/234؛ ذكر أخبار أصبهان لأبي نعيم الحافظ الاصبهاني (المتوفّى 430 ه): 1/53.
2- . فتوح البلدان: 72.
3- . مكاتيب الرسول: 289، نقلاً عن شرح ملا علي القاري لشفاء القاضي عياض، وكذا الوثائق السياسية.

نجران مؤرَّخ بالسنة الهجرية الخامسة.

فقد جاء في هذه الرسالة:

«وأمر علياً أن يكتب فيه حين كتب عنه أنّه كتب لخمس من الهجرة».(1)

إنّ هذه الجملة تفيد بوضوح أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم هو واضع التاريخ الهجري ومؤسّسه الأوّل، وهو الّذي أمر علياً عليه السلام بأن يؤرّخ ذلك الكتاب بالتاريخ الهجري في ذيله. 4. جاء في مقدّمة الصحيفة السجادية: قال جبرئيل وهو يفسّر رؤيا رآها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «تدور رحى الإسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثم تدور رحى الإسلام على رأس خمس وثلاثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمساً، ثم لابد من رحى ضلالة هي قائمة على قطبها».(2)

5. يروي المحدّثون الإسلاميُّون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لأُمّ سلمة:

«يُقتَل الحسين بن علي على رأس ستين من مهاجري».(3)

6. قال أنس بن مالك: «حدثنا أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: لاتأتي مائة سنة من الهجرة و منكم عين تطرف».(4)

7. أرّخ أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في أيام حياته الحوادث الإسلامية بهجرته فقالوا: وقع كذا في الشهر كذا من الهجرة، مثلا كانوا يقولون: حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في شهر شعبان وقيل في رجب، وكان عليه السلام يصلّي إلى بيت

ص:672


1- . التراتيب الإدارية (نظام الحكومة النبوية) للشيخ عبدالحي الإدريسي الفاسي: 1/181.
2- . الصحيفة السجادية (طبع الأبطحي): 622.
3- . مجمع الزوائد: 9/190.
4- . مجمع الزوائد: 1/197.

المقدس بالمدينة ستة عشر شهراً، وقيل: سبعة عشر شهراً، وقيل: ثمانية عشر شهراً.(1)

على رأس ثمانية عشر شهراً فرِضَ صوم شهر رمضان.(2)

وقال عبداللّه بن أنيس أمير الوفد الّذي بعثه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

خرجت من المدينة يوم الاثنين لخمس خلونَ من المحرم على رأس أربعةٍ وخمسين شهراً.(3)

وقال محمّد بن سلمة عن غزوة القرطاء: خرجتُ في عشر ليال خلون من المحرم فغبت تسع عشرة وقدمتُ لليلة بقيت من المحرم على رأس خمسة وخمسين شهراً.(4)

إنَّ هذا النوع من تاريخ الحوادث والوقائع يكشف عن أنّ المسلمين كانوا إلى السنة الخامسة من الهجرة يقيسون الحوادث بهجرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويؤرّخون بها عن طريق عدّ الأشهر، حتّى إذا كانت السنة الخامسة من الهجرة أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإحلال السنة الهجرية مكان الشهر الهجري (كما مرّ في الرسالة رقم 4) حيث أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأن يُؤرَّخ الكتاب الّذي كتبه لنصارى نجران بالعام الهجري.

8. نقل المحدّثون الإسلاميون عن الزهري قوله: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا قدم المدينة مهاجراً أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأوّل (أي شهر قدومه المدينة).(5)

9. روى «الحاكم» عن «ابن عباس» قال: كان التاريخ الهجري في السنة الّتي

ص:673


1- . تاريخ الخميس: 1/367.
2- . المغازي: 2/531 تحقيق الدكتور مارسدن جونس.
3- . المغازي: 2/531.
4- . المغازي: 2/534.
5- . فتح الباري: 7/208.

قدم فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة.(1)

إنّ هذه النصوص تحكي عن أنّ قائد الإسلام الأكبر قد أوضح مسألة التاريخ من اليوم الأوّل. وأنّه جعل هجرته مبدأ لذلك التاريخ. غاية ما هنالك أنّ هذا التاريخ كان إلى فترة من الزمن يعدُّ بالأشهر ثم حلّ العدُّ بالأعوام منذ حلول السنة الخامسة من الهجرة محل العدّ بالأشهر.

10. جاء في معاهدة الصلح الّتي نظمها «خالد بن الوليد» لأهل دمشق، ونصّ فيها على احترام دمائهم، وأموالهم وكنائسهم: «وكتب سنة ثلاث عشرة»(2).

وكلّنا نعلم أنّ دمشق فتحت في أواخر حياة الخليفة الأوّل.

فما يدّعيه البعض من أنّ التاريخ الهجري قد اتّخذ في عهد الخليفة الثاني بإرشاد وتأييد من الإمام علي عليه السلام غير صحيح فإنّ تاريخ ذلك يرتبط بالسنة السادسة عشرة أوالسابعة عشرة من الهجرة، والحال أنّ هذه المعاهدة قد نظِّمت ودُوّنت وأُرخت بالتاريخ الهجري قبل ذلك بأربع سنوات.

سؤال:

ويمكن أن يسأل سائل: إذا كان حقّاً أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو مؤسّس التاريخ الهجري وواضعه الأوّل فماذا نفعل بالخبر الّذي رواه كثيرٌ من المحدّثين والمؤرّخين؟

فإنّهم يقولون: رفع رجل إلى عمر صكّاً مكتوباً على آخر بدَين يحلّ عليه في شعبان، فقال عمر: أي شعبان؟ أمِن هذه السنة، أم الّتي قبلها، أم الّتي بعدها؟

ثم جمع الناس (أي أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم) فقال: ضعوا للناس شيئاً

ص:674


1- . مستدرك الحاكم: 3/13-14 وقد صحّحه على شرط مسلم، وص 548.
2- . الأموال: 297، طبعة مصر.

يعرفون فيه حلول ديونهم. فيقال: إنّ بعضهم أراد أن يؤرّخوا كما تؤرّخ الفرس بملوكهم، كلّما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الّذي بعده فكرهوا ذلك.

ومنهم من قال: أرّخوا بتاريخ الروم من زمان اسكندر، فكرهوا ذلك، ولطوله أيضاً.

وقال آخرون: أرّخوا من مولد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وقال آخرون: أرّخوا من مبعثه. وأشار علي بن أبي طالب عليه السلام أن يؤرّخ من هجرته من مكّة إلى المدينة لظهوره على كلّ أحد، فإنّه أظهر من المولد والمبعث، فاستحسن ذلك عمر والصحابة، فأمر عمر أن يؤرَّخ من هجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

الجواب:

إنّ هذا القسم من التاريخ لا يمكن الاستناد إليه في مقابل النصوص الكثيرة الّتي وصفت الرسول العظيم صلى الله عليه و آله و سلم بكونه واضعَ التاريخ الهجري ومؤسّسه الأوّل.

هذا مضافاً إلى أنّه من الممكن أن يكون التاريخ الهجري الّذي وضعه النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم قد تعرّض للترك، وفقد رسميته بمرور الزمن وقلّة الحاجة إلى التاريخ ولكن جُدِّد في زمن الخليفة الثاني، بسبب اتّساع نطاق العلاقات وأُعيد الاهتمام به لاشتداد الحاجة إليه في هذا العهد.

التذكير بنقطتين:

1. لا نجد في الاقتراحات الّتي عرضت على الخليفة في مجال التاريخ أي ذكر للتاريخ المسيحي الّذي يجعل ميلاد السيد المسيح عليه السلام مبدأً للتاريخ.

ص:675


1- . البداية والنهاية: 7/85. ولاحظ: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 12/74. الكامل لابن الأثير: 1/10.

والعلّة هي: أنّ التاريخ الميلادي ظهر في القرن الرابع الهجري الإسلامي بين المسيحيّين بعد سلسلة من المحاسبات التخمينية، فهو لم يكن رائجاً قبل ذلك.

2. أنّ البلاد والأقطار الإسلامية بحاجة اليومَ إلى الوحدة والاتّفاق أكثر من أي زمن مضى.

ومن مظاهر تلك الوحدة هو السعي للحفاظ على التاريخ الإسلامي الهجري. ومن هنا يتوجب على الأقطار الإسلامية أن تقيم كلّ روابطها، وعلاقاتها على أساس التاريخ الهجري، شمسياً(1) كان أو قمرياً.

وإنّ هذا الأمر بحاجة إلى مؤتمر إسلامي كبيرٍ يشترك فيه كبارُ الشخصيات الفكرية الإسلامية من أجل توحيد التاريخ، ودراسة السبل الكفيلة بالوصول إلى هذا الأمر، والتخلّص من التبعية الغربية في التاريخ. إنّ من المؤسف جداً أن تتجاهل بعض الدول الإسلامية والعربية التاريخَ الهجري وتعتمد التاريخ الميلادي المسيحيّ، حتّى أنّ شيخ الجامع الأزهر الّذي يشكّل قمّة القيادة الدينية في المجتمع السنّي يؤرّخ رسائله بالتاريخ الميلادي، ولا يذكر إلى جانبه التاريخ الهجري على الأقل!!(2)

ص:676


1- . التاريخ الهجري الشمسي يؤرّخ لهجرة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم حسب أشهر السنة الإيرانية - الخاصّة بها - المرتّبة حسب الفصول الأربعة حيث تبدأ السنة الإيرانية بفصل الربيع وتنتهي بفصل الشتاء وعدد أيامها 365 يوماً. والسنة الكبيسة 366 يوماً كالسنة الميلادية.
2- . وقد رأيت أنا شخصياً رسالةً من شيخ الجامع الأزهر الأسبق هو الشيخ محمود عبدالحليم وعليها التاريخ الميلادي فحسب!!

مؤامرة الطاغوت:

وكانت إيران من الأقطار الإسلامية الّتي حافظت بشدة على التاريخ الهجري، واعتمدته في أعمالها، ولكن في المؤامرة الّتي نفّذت بواسطة الطاغية المقبور في عام 1399 ه، استبدلت التاريخ الهجري بالتاريخ الشاهنشاهي، وأُعلن في وسائل الإعلام عن وجوب اعتماد هذا التاريخ المختلَق بدل التاريخ الهجري الأصيل!!

ولقد تصوَّر الطاغوتُ الأرعن أنّه يستطيع بحذف التاريخ الهجري، واستبداله بالتاريخ الشاهنشاهي المشؤوم تثبيت قواعد حكومته المهزوزة، وسلطانه المنخور، ونظامه الظالم المتهرّئ، مدة أطول، ولكن العناية الإلهية، وهمّة الشعب الإيراني المسلم العالية، وقيادة الأُستاذ الأكبر آية اللّه العظمى الإمام الخميني قدس سره الشريف أفشلت هذه المحاولة النكراء، وآل الأمر إلى إسقاط النظام الشاهنشاهي بثورة الشعب المجيدة وإقامة حكومة الجمهورية الإسلامية على أنقاض الحكم الملكي المباد، وإحلال التاريخ الهجري الإسلامي المبارك محلّ التاريخ الشاهنشاهي المختلق. والحمدللّه.

الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يبدأ رحلته إلى يثرب

لقد كان على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يقطع - للوصول إلى المدينة - ما يقرب من أربعمائة كيلومتراً، ولا شك أن طيّ هذه المسافة الطويلة تحت تلك الحرارة العالية الدرجة بحاجة إلى خطّة صحيحة، لضمان السلامة، خاصّة وأنّهم كانوا يخافون من أن يقوم الأعراب الذين كانوا ربّما يصادفونهم في أثناء الطريق بإخبار قريش بهم، ولهذا كانوا يسيرون ليلاً ويستريحون نهاراً.

ويبدو أنّ شخصاً شاهد النبيّ ومن معه في أثناء الطريق فرجع إلى مكّة وأخبر قريشاً بذلك فخرج «سراقة بن مالك بن جُعْشُم» يطلبهم طمعاً في جائزة

ص:677

قريش الكبرى فلحق برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد صرفَ قريشاً عن ملاحقة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل ذلك ليتفرد بها.

يقول ابن الأثير: وكانت قريش قد جعلت لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم دية فتبعهم سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فلحقهم فقال أبوبكر: يا رسول اللّه أدركنا الطلبُ، فقال (رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم): «لاتحزن إنَّ اللّهَ معنا».

ودعا عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: فارتطمت فرسه إلى بطنها وثار من تحتها مثل الدخان، فقال: ادع لي يا محمد ليخلصني اللّه ولك عليّ أن أرد عنك الطلب، فدعا له فتخلّص، فعاد يتبعهم، فدعا عليه الثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأُولى فقال: يا محمد قد علمت أنّ هذا من دعائك عليّ فادع لي ولك عهد اللّه أن أرد عنك الطلب، فدعا له فخلص، وقرب من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقال له: يا رسول اللّه خذ سهماً من كنانتي وإنّ إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت.

فقال (رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم): لا حاجة لي في إبلك.(1)

وروى المجلسي أنّ سراقة قال: فسلني حاجة.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: رُدَّ عنّا مَنْ يطلبُنا من قريش.

فانصَرف سراقة فاستقبله جماعة من قريش في الطلب فقال لهم: انصرفوا عن هذا الطريق، فلم يمرّ فيه أحد، وأنا أكفيكم هذا الطريق، فعليكم بطريق اليمن والطائف.(2)

وهكذا ما كان يمرّ بأحد إلّاوصرفه عن البحث عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في هذا

ص:678


1- . الكامل في التاريخ: 2/105.
2- . بحار الأنوار: 19/75. يذكر كثير من المؤرّخين القصة كما نقلناها هنا، ولكن مؤلف حياة محمّد يقول: إنّ سراقة تطيّر لمّا كبا به فرسُه واُلقي في روعه أنّ الآلهة مانعة منه ضالَّته.

الطريق بمثل هذا الكلام.

ثم إنّ كُتّاب السيرة من الشيعة والسنّة يذكرون لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كرامات كثيرة في طريق مكّة - المدينة ونحن ندرج واحدة منها:

مرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أثناء الطريق على خيمة أُمّ معبد الخزاعية وكانت امرأة برزة تحتبي وتجلس في فناء الخيمة فسألوا تمراً أو لحماً ليشتروه، فلم يصيبوا عندها شيئاً...

فقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، فنظر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في كسر خيمتها فقال (صلى الله عليه و آله و سلم لها): ما هذه الشاة يا أُمّ معبد؟ قالت: شاةٌ خلّفها الجهدُ عن الغنم فقال: هل بها من لبن؟.

قالت: هي أجهدُ من ذلك، قال: أتأذنين في أن أحلبها؟.

قالت: نعم بأبي أنت وأُمّي إنّ رأيت بها حلباً فاحلبها.

فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالشاة فمسح ضرعَها، وذكر اسم اللّه، وقال: «اللّهم بارك في شاتها» فتفاجت ودرّت، فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإناء لها يربض الرهط فحلب فيه ثجاً حتّى علته الثمال فسقاها فشربت حتّى رويت، ثم سقى أصحابه فشربوا حتّى رووا، فشرب آخرهم، وقال:

«ساقي القوم آخرهم شرباً».

ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء فغادره عندها، ثم ارتحلوا عنها (إلى المدينة).(1)

وقد ذُكرت هذه الكرامة في كثير من كتب السيرة والتاريخ، وهو أمر ممكن في رؤية المؤمن باللّه، لأنّ الدعاء أحدُ الأسباب التي تستطيع أن تؤثر في الطبيعة،

ص:679


1- . بحار الأنوار: 18/43.

وشأنها شأن غيرها من الكرامات الّتي ورد ذكرها في الكتب الدينية وصدقته التجربة.(1)

النزول في قرية قباء:

تقع قرية قباء على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكّة و كانت مساكن «بني عمرو بن عوف» ومركزهم.

ولقد وصل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومن معه إلى قباء في الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل يوم الاثنين، ونزل على «كلثوم بن الهرم» وهو شيخ من بني عمرو و كان ثمة جمع كبير من المهاجرين والأنصار ينتظرون قدومه، ويستخبرون وروده.

ولقد لبث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قباء إلى آخر أيام الأُسبوع، وقد خط في هذه الفترة مسجداً لقبيلة «بني عمرو بن عوف»، ونصب قبلته.(2)

وكان البعض ممّن رافق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يصرّ عليه أن يسارع في الدخول إلى المدينة، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان ينتظر ابن عمّه علياً.

ويقول: ما أنا بداخلها حتّى يقدم ابن عمّي، وابنتي (يعني عليّاً وفاطمة عليهما السلام).(3)

وأقام عليّ عليه السلام بمكة ثلاث ليال بأيّامها، حتّى أدّى عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الودائع الّتي كانت عنده للناس فقد وقف عليه السلام على مكان مرتفع في مكّة ونادى قائلاً:

ص:680


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 18/43 و ج 19/99-103؛ الطبقات الكبرى: 1/230 و 231؛ تاريخ الخميس: 1/333؛ أُسد الغابة: 1/377.
2- . لاحظ: تاريخ الخميس: 1/338.
3- . الفصول المهمة لابن صباغ المالكي: 1/302 دون أن يذكر اسماً؛ كشف الغمة: 2/32؛ أمالي الشيخ الطوسي: 469 ح 37.

«مَن كانَ لَه قِبَلَ محمّد أمانةٌ أو وديعةٌ فليأتِ فلنؤدّ إليه أمانتهُ».

فكان يأتيه مَن له أمانةٌ أو وديعة عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويذكر علامتها ويأخذها، فلمّا فرغ عليه السلام من أداء الأمانات والودائع خرج بفاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأُمّه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير وآخرين ممّن لم يكن قد هاجر مكّة حتى تلك الساعة، وتوجّه بهم نحو المدينة ليلاً سالكاً بها طريقاً في «ذي طوى».

روى الشيخ الطوسي في أماليه أنّ جواسيس قريش عرفت بسفر علي مع تلك الجماعة، فخرجوا لملاحقتهم، لغرض إعادتهم إلى مكّة، فأدركوهم في منطقة «ضجنان».

ووقع بين رجال قريش وبين علي عليه السلام تلاحٍ وتناوش، وأخذٌ وردٌّ، ودنا الرجال من النسوة، والمطايا ليثوروها، فحال عليّ عليه السلام بينهم، وبينها، ولم يجد عليه السلام طريقاً إلّاأن يدافع عن حرم الإسلام والمسلمين، فشدّ عليهم بسيفه شدَّة الأسد الغضِب والليث الغيور وهو يقول مرتجزاً:

خَلُّوا سبيل الجاهد المجاهِد آليتُ لا أعبُدُ غَيرَ الواحِدِ

فتصدّع عنه القوم وقالوا له: إغن عنّا نفسَكَ يا ابن أبي طالب، فقال عليه السلام:

«فإنّي مُنْطَلِقٌ إلى ابن عمّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيثرب، فمَن سرّهُ أن أُفري لحمه وأُريق دمه فليتعقبني أو فليدن مني».

فتركه القومُ وعادوا من حيث أتوا، وواصل الركبُ رحلته باتّجاه المدينة.(1)

يقول ابن الأثير: قدم «علي» المدينة وقد تفطّرت قدماه، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

ادعوا لي عليّاً، قيل: لا يقدر أن يمشي، فأتاه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واعتنقه وبكى رحمةً لما

ص:681


1- . لاحظ: أمالي الطوسي: 470.

بقدميه من الورم.(1) ولقد قدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قباء في الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل، والتحق به عليُّ عليه السلام في منتصف ذلك الشهر نفسه.(2) ويؤيّد هذا القول ما ذكره الطبري في تاريخه إذ كتب يقول: وأقام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه بمكة ثلاث ليال وأيّامها حتّى أدّى عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الودائع الّتي كانت عنده إلى الناس.(3)

المدينة تهبُّ لقدوم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

ولقد كان يوم دخول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوماً عظيماً جداً، ومشهوداً.

فكم ترى ستكون عظيمةً فرحةُ الذين آمنوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منذ ثلاث سنوات، وظلّوا طوال هذه الأعوام يبعثون برسلهم ووكلائهم إليه، ويذكرون اسمه المقدّس، ويصلّون عليه في صلواتهم كلّ يوم، إذا سمعوا أنّ قائدهم ذلك الّذي طال انتظارهم إيّاه، واشتدّ تشوّقهم إليه كائن عند ميلين من مدينتهم قد نزل في قبا أيّاماً، وسيقدم إليهم ويدخل مدينتهم بعد أيام؟ وكم سيكون مبلغُ ابتهاجهم، وأي ابتهاج ترى سيعم كلّ صغير وكبير؟

إنّه حقّاً لأمر يعجزُ القلم عن بيانه، ويكلّ اللسان عن وصفه.

ولقد كان لفتية الأنصار وشبابهم الضامئين إلى الإسلام الحنيف برنامجٌ رائعٌ وعظيمٌ، فقد كانوا عمدوا بغية تطهير جوّ المدينة من أدران الوثنية إلى كلّ صنم في

ص:682


1- . الكامل في التاريخ: 2/106.
2- . لاحظ: إمتاع الأسماع: 1/64 و 68. وعلى هذا تكون محاصرة بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد تمّت ثلاث ليال قبل شهر ربيع الأوّل من السنة الأُولى من الهجرة، وقد خرج النبيّ من داره ليلة الاثنين ودخل غار ثور وبقي ماكثاً فيه ثلاثة أيام، وخرج منه ليلة الخميس أوّل ربيع الأوّل وتوجّه نحو المدينة ووصل قباء في الثاني عشر منه. راجع تاريخ الخميس: 1/337-338.
3- . تاريخ الطبري: 2/106.

المدينة كان يقدّس ويعبد فأحرقوه وكسّروه، وقد كان كلّ شريف في بيته صنمٌ يمسحه ويطيّبه، ولكلّ بطن من الأوس والخزرج صنمٌ في بيت لجماعة يكرّمونه، ويجعلون عليه منديلاً ويذبَحون له.(1)

ولا بأس في أن نذكر نموذجاً من هذا العمل الجليل الّذي قام به الأنصار في التخلّص من الوثنية:

لمّا قدم مَن بايع من الأنصار في العقبة الثانية إلى المدينة أظهروا الإسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم «عمرو بن الجموح» وكان سيداً من سادات بني سلمة وشريفاً من أشرافهم وكان ابنه «معاذ» بن عمرو قد شهد بيعة العقبة، وبايع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وكان عمرو قد اتّخذ في داره صنماً من خشب يقال له: مناة، كما كانت الأشراف يصنعون، يتّخذه إلهاً يعظّمه ويطهّره، فلمّا أسلم فتيان بني سلمةَ: معاذ بن جبل، وابنه معاذُ بن عمرو بن الجموح كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو بن الجموح فيحملونه ويطرحونه في بعض حُفَر بني سلمة، وفيها عذر الناس، منكَّساً على رأسه!!

فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم مَن عدا على آلهتنا هذه الليلة؟

ثم يغدو يلتمسه حتّى إذا وجده غسله وطهّره وطيّبه. ثم قال للصنم: أما واللّه لو أعلمُ من فَعَلَ هذا بك لأُخزينّه!

فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه ثانيةً ففعلوا به مثل ما فعلوا به أوّلاً.

فيغدو فيجدُه في مثل ما كان فيه من الأذى والوسخ، فيغسله ويطهّره ويطيّبه، ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك.

ص:683


1- . بحار الأنوار: 19/107.

فلمّا أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقَوه يوماً فغسله وطهّره وطيّبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال: إِنّي واللّه ما أعلم مَن يصنعُ بك ماترى، فإن كان فيك خيرٌ فامتنِعْ، فهذا السيف معك.

فلمّا أمسى ونام عمرو عَدَوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلباً ميّتاً فقرنوه به بحبلٍ، ثم ألقَوه في بئرٍ من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس وفضلاتهم. ثم غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الّذي كان به. فخرج يتبعه حتّى وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلبٍ ميّت، فلمّا رآه وأبصر شأنه وكلّمه مَن أسلم من رجال قومه، فأسلم برحمة اللّه وحسُنَ إسلامه.

فقال حين أسلم وعرف من اللّه ما عرف وهو يذكر صنمه ذلك، وما أبصر من أمره، ويشكر اللّه تعالى الّذي أنقذه ممّا كان فيه من العمى والضلالة:

واللّهِ لو كنتَ إلهاً لم تكنْ أنتَ وكَلبٌ وسطَ بئرٍ في قَرَنْ

أُفٍّ لملقاكَ إلهاً مستدَنْ الآن فتشناك عن سوءِ الغبن

فالحمدللّه العلي ذى المِنَنْ الواهب الرزاقِ دَيّان الدَينْ

هُوَ الّذي أَنَقَذني من قبلِ أن أكونَ في ظُلْمَةِ قَبْرِ مرتهَنْ

بأحمد المهدِيْ النبيّ المرتهَنْ (1)

النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يدخُلُ المدينة:

بعد أن التحق علي عليه السلام ومن معه برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قباء توجّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة ولمّا انحدر من ثنية الوداع (وهي منطقة قريبة من المدينة) وحطّ قدمه على تراب يثرب استقبله الناس رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، استقبالاً

ص:684


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 3/309-310.

عظيماً ورحّبوا به أعظم ترحيب، وردّد المرحّبون أناشيد الترحيب التالية:

طَلَعَ البدرُ عَلَينا مِنْ ثَنيات الوَداع

وَجَبَ الشُكْرُ عَلَينا ما دَعا للّهِ داع

أيّها المبعوثُ فينا جِئتَ بِالأمر المُطاع

وكانت بنو عمرو بن عوف قد اجتمعت عنده وأصرّت عليه بأن ينزل في قباء وقالوا: أقم عندنا يا رسول اللّه فإنا أهل الجدّ والجَلَد، والحلقة (أي السلاح) والمنعة، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يقبل.

وبلغ الأوسَ والخزرجَ خروجُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقرب نزوله المدينة فلبسوا السلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته لا يمرّ بحيٍّ من أحياء الأنصار إلّاوثبوا في وجهه وأخذوا بزمام ناقته، وأصرّوا عليه بأن ينزل عليهم، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: خَلُّوا سبيلها فإنّها مأمورة.

وأخيراً لمّا انتهت ناقته - وكان صلى الله عليه و آله و سلم قد أرخى زمامَها - إلى باب المسجد الّذي هو اليوم، ولم يكن مسجداً إنّما كان أرضاً واسعة ليتيمين من الخزرج يقال لهما: سهل وسهيل وكانا في حجر أسعد بن زرارة فبركت الناقة على باب «أبي أيوب» خالد بن زيد(1) الأنصاري الّذي كان على مقربة من تلك الأرض.

فاغتنمت أُمّ أبي أيوب الفرصة فبادرت إلى رحل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فحلّته وأدخلته منزلَها، بينما اجتمع عليه الناس ويسألونه أن ينزل عليهم.

فلمّا أكثروا عليه، وتنازعوا في أخذه قال صلى الله عليه و آله و سلم أين الرحل؟

فقالوا: أُمّ أبي أيوب قد أدخلته بيتها.

ص:685


1- . بحار الأنوار: 19/108 ولكن ذهب البعض (كصاحب الكامل في التاريخ: 2/109) إلى أنّهما كانا في حجر معاذ بن عفراء.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «المرء مع رحله» وأخذ أسعدُ بن زرارة بزمام الناقة فحوّلها إلى منزله.(1)

أصل النفاق ومنشؤه:

كانت الأوس والخزرج قد اتّفقتا على أن تملّك عبداللّه بن أُبي بن سلول (رئيس المنافقين وكبيرهم) عليهم، وذلك قبل أن تبايع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في العقبة وتؤمن به وتعتنق الإسلام، ولكن هذا القرار أُلغي بعد اتّصال الأوس والخزرج برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، من هنا حنق عبداللّه بن أُبي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأضمر له العداوة منذ ذلك الحين، ولم يؤمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى آخر حياته، بل كان ينافق بإسلامه.

ولمّا دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة وشاهد عبداللّه بن أُبي ذلك الاستقبال والترحيب العظيمين لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي قام بهما الأوس والخزرج، شقّ عليه ذلك جداً، ولم يستطع إخفاء حنقه وغضبه، وحقده وعداوته للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم! فعندما انتهى صلى الله عليه و آله و سلم إلى عبداللّه بن أُبي وقد أرخى صلى الله عليه و آله و سلم زمام ناقته لتبرك حيث تريد، أخذ عبدُاللّه كمّه ووضعه على أنفه، وقد ثارت الغبرةُ بسبب الزحام وقال للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بنبرة الحانِق الغاضب: يا هذا إذهب إلى الّذين غرَّوك وخدعوك وأتوا بك، فأنزل عليهم، ولاتُغشنا في ديارنا!!

فقام سعدُ بن عبادة - وقد خشي أن يسوء رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذا الموقف الوقِح الشِرير - فقال: يا رسول اللّه لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء، فإنّا كنّا اجتمعنا على أن نملِّكهُ علينا، وهو يرى الآن أنّك قد سَلَبتهُ أمراً قد كان أشرفَ

ص:686


1- . تاريخ الخميس: 1/341.

عليه.(1)

هذا ويتّفق عامّة المؤرّخين وكتّاب السيرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دخل يثرب يومَ الجمعة، وصلّى صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن وادٍ لهم، وكانت هذه أوّل جمعة جمّعها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الإسلام، فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها في المدينة، وقد تركت هذه الخطبة البديعة البليغة الّتي لم يسمع أهل المدينة مثيلها لفظاً ومعنى من قبل، أثراً عميقاً وطيّباً في قلوبهم ونفوسهم.

وقد أدرج ابن هشام نصّ الخطبة في سيرته(2)، كما أدرجها المجلسي في بحاره(3) أيضاً.

غير أنّ عبارات ومضامين الخطبة الّتي نقلها ابن هشام وأثبتها في سيرته تختلف عمّا رواها وأثبتها المجلسي، وللاطّلاع على ذلك يراجَع المصدران المذكوران.

***

انتهى الجزء الأوّل من كتابنا

«سيد المرسلين»

والحمد للّه رب العالمين

ص:687


1- . بحار الأنوار: 19/108.
2- . لاحظ: السيرة النبوية: 2/347-348.
3- . لاحظ: بحار الأنوار: 19/126.

ص:688

فهرس المحتويات

الموضوع الصفحة

السيرة المحمَّدية مدرسة الأجيال... 7

مقدّمة المحاضر: التاريخُ في أَعظَم ملاحمه... 11

عندما يلتقي العالم الحاضر بالعالم الغابر... 12

حياة العظماء والخالدين... 15

الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وحياة حافلة بالأحداث... 15

مزايا هذا الكتاب... 19

1. سيّد المرسلين في ضوء القرآن الكريم... 21

2. شبه الجزيرة العربية أو مَهْد الحضارة الإسلامية... 34

مَكةُ المعظمة... 36

تاريخ مكّة... 37

المَدينةُ المنوَّرةُ... 37

3. العَرَب قبلَ الإسلام... 42

أخلاقُ العرب وتقاليدُهم العامّة... 44

هل كانَ للعرب حضَارةٌ قبل الإسلام؟... 46

ملامح المجتمع الجاهلي العربي من منظار القرآن الكريم... 49

1. الشِرْكُ في العِبادة... 51

ص:689

الموضوع... الصفحة

2. إنكارُ المعاد... 51

3. هَيْمَنةُ الخرافات... 52

4. الفساد الأخلاقي... 54

5. وَأدُ البنات وإقبارُهن... 55

6. تصوّراتهم الخرافية حول الملائكة... 56

7. كيفية الانتفاع من الأنعام... 56

8. الاستقسام بالأزلام... 57

9. النسيء... 57

10. الربا... 58

صورٌ من الوضع الجاهلي... 59

العقيدة والدين في الجزيرة العربية... 61

عقيدة العرب حول حالة الإنسان بعد الموت... 65

الآداب مرآة أخلاق الشعوب ونفسياتها... 67

مكانة المرأة عند العرب الجاهلية... 68

المرأة ومكانتها الاجتماعية عند العرب... 71

مقارنة بسيطة... 74

العربُ والرُّوح القتالية... 75

الأخلاق العامّة في المجتمع الجاهلي العربي... 77

النزوع إلى الخرافة والأساطير في المجتمع الجاهلي... 79

الخرافات في عقائد العرب في الجاهلية... 82

نماذج من الخرافات في المجتمع الجاهلي... 83

1. الاستسقاء بإشعال النيران... 84

ص:690

الموضوع... الصفحة

2. ضرب الثور إذا عافت البقر الماء... 84

3. كيّ صحيح الإبل ليبرأ السقيمُ... 85

4. حبس ناقة عند القبر إذا مات كريمٌ... 86

5. عَقرُ الإبل عَلى القُبُور... 86

6. التعشير... 87

7. تصفيق الضالّ في الصحراء ليهتدي... 87

8. الرتم... 88

9. وطيُ المرأة القتيل الشريف لبقاء وَلَدها... 88

10. طَرْحُ السِنّ نَحو الشَمْس إذا سَقَطَتْ... 89

11. تعليق شيء نجس على الرجل وقاية من الجنون... 89

12. الاستشفاء بدم الرئيس... 90

13. شقّ البرقع والرداء يوجب الحب المتقابل... 90

14. معالجةُ المرضى بالأُمور العجيبة... 90

15. خرافاتٌ حول الغائب منهم... 92

16. عقائدهُمْ العجيبة في الجنّ وتأثيرُهُ... 93

17. تشاؤمهم بالحيوانات والطيور والأشياء... 93

مكافحةُ الإسلام لهذه الخرافات... 94

أوضاع العرب الإجتماعية قبيل ظهور الإسلام... 97

دُوَل الحيرة وغسّان... 101

الدين في أرض الحجاز... 104

العلم والثقافة في الحجاز... 106

الإمام عليّ عليه السلام يصف العهد الجاهليّ... 106

ص:691

الموضوع... الصفحة

فاطمة الزهراء عليها السلام تصف الوضع الجاهلي... 111

جعفر بن أبي طالب يصف العهد الجاهلي... 112

4. إمبراطوريّتا الرُوم وإيران إبّان عهدِ الرِّسالةِ... 114

أوضاع الروم إبَان عهد الرسالة... 114

ظاهرة الجدل العقيم في المجتمع الرومي... 116

أوضاع إيران إبّان عَهد الرسالة... 119

البَذخ والتَرف في البلاط الساساني... 120

الوضع الاجتماعي في إيران... 121

حَقٌّ التعلّم خاصٌ بالطبقات العليا!!... 123

صفحةٌ سوداءٌ من جرائم خسروبرويز... 127

حكم التاريخ في الملوك الساسانيين... 128

الفوضى في الحكومة الساسانية... 129

الفوضى الدينية في إيران الساسانيين... 131

الحروب الإيرانية الرومية... 135

5. أسلاف رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم... 138

1. بطل التوحيد: إبراهيم الخليل عليه السلام... 138

مولد إبراهيم عليه السلام... 139

إبراهيم ومكافحته للوثنية... 143

حوار إبراهيم الخليل عليه السلام مع عبدة الكواكب... 144

طريقة الأنبياء في الحوار والجدال... 149

هَل كان آزر والدَ إبراهيم؟... 151

القرآن ينفي أُبوّة «آزر» لإبراهيم عليه السلام... 152

ص:692

الموضوع... الصفحة

إبراهيم محطِّم الأَصنام... 154

العِبَر القيمة في هذه القصة... 158

هجرة الخليل عليه السلام... 162

كيف ظهرت عين زمزم؟... 164

تجديد اللقاء... 166

2. قُصَيُّ بنُ كلاب... 168

3. عبدمناف... 170

4. هاشم... 170

أُميّة بن عبدشمس يحسد هاشماً... 173

هاشم يَتَزوَّج... 174

5. عبدُ المطّلب... 175

حَفرُ زَمزَم... 177

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر... 180

حادثة عام الفيل... 182

ماهي أسباب هذه الحادثة؟... 183

عَبدُالمطّلب يَذهب إلى مُعسكر أَبرهة... 187

إنتظار قريش... 188

كلمة حول المعجزة... 190

نقاطٌ تقتضي التأمّل في تفسير «في ظلال القرآن»... 194

نقطتان هامّتان... 196

بحثٌ علميُّ حول المعجزة... 197

1. ماهي المعجزةُ وما هو تعريفها؟... 198

ص:693

الموضوع... الصفحة

2. هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟... 200

3. هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟... 203

4. كيف تدلّ المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟... 205

5. بماذا نميّز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟... 206

ماذا بَعْدَ هزيمة الأحباش؟... 213

أوهام قريش تتفاقم!!... 214

6. عَبدُ اللّه والدُ النبيّ... 216

دَورُ الأَيادي المشْبُوهَة في تاريخ الإسلام... 218

قِصَّة فاطمة الخَثعَمِيَّة... 219

علائم الإختلاق في هذه القصة!... 221

طهارة النبيّ من دنس الآباء وعهر الأُمّهات... 223

وفاةُ عَبْد اللّه في «يَثْرب»... 224

6. مَولدُ رَسُول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 226

فترةُ الطُفولة في حَياة العُظماء... 226

في أيّ يوم وُلدَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟... 231

أيُّ القولين هو الصحيح؟... 231

فَتْرَةُ الحَمْل... 232

مُؤاخَذاتٌ وإشكالاتٌ عَلى هذا البَيان... 235

الإحتفال بذكرى المولد النبوي... 236

مَراسمُ تسمية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 239

خَطأ الْمُستَشْرقينْ... 240

«أحمد» كانَ مِنْ أسماء النبيّ المشهورة... 241

ص:694

الموضوع... الصفحة

فتْرَةُ الرِّضاع في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 245

نَظرةُ الإسلام في تأثير الرضاع... 247

7. فَتْرةُ الطفُولة في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 249

خَمسَةُ أعوام في الصَحْراء... 253

8. العَوْدة إلى أحضان العائلة... 255

سَفْرةٌ إلى يثرب... 257

وَفاة عبْدالمُطَّلب... 259

كفالة أبي طالب للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 260

سَفرةٌ إلى الشام... 261

أكذُوبَةُ المُسْتشرقيْن... 263

نَظْرةٌ إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة... 267

1. داود عليه السلام... 268

2. النبيّ سليمان عليه السلام... 269

3. يعقوب عليه السلام... 270

4. إبْراهيم عليه السلام... 271

5. المسيح عليه السلام... 272

9. فَترة الشَباب في حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم... 275

رسولُ اللّه وقدرتُه الروحيّة... 276

حُروبُ الفِجار... 276

حِلْفُ الْفُضُول... 280

10. من فترة الشباب إلى مزاولة التجارة... 284

سبب آخر لرعي الغنم... 286

ص:695

الموضوع... الصفحة

إقتْراح أبي طالب... 287

هل عَمِلَ النبيُّ أجيراً لخديجة؟... 288

رحلة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم التجارية إلى الشام... 289

خَديجة زَوجةُ الرَّسول الأُولى... 291

خديجة في أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم... 294

افتخار أهل البيت بخديجة عليها السلام... 303

العللُ الظاهرية والحقيقية وراء زواج خديجة بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 304

كيفَ تمَّت خِطبةُ خديجة؟... 306

عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 308

11. من الزواج إلى البعثة... 311

فَترةُ الشَبابِ في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 312

مشاعر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الإنسانية في فترة الشباب... 313

أولادُ خديجة... 314

حَدْسٌ لا أساس له من الواقع!!... 315

دَعِيُّ رسول اللّه: زيد بن حارثة... 316

بدايةُ الخِلاف بَين الوثنيّين... 317

أعمدةُ الوثنيّة تهتزُّ... 318

نموذج آخر عن ضَعف قريش... 320

أمينُ قَريشُ يَكْفُلُ عَليّاً... 323

إيمان النبيّ وآبائه وكفلائه قبل الإسلام... 324

إيمان جدّه عبدالمطّلب... 324

إيمان كفيله وعمه أبي طالب... 328

ص:696

الموضوع... الصفحة

إيمان والدَي النبيّ الأكرم... 329

إيمان النبيّ باللّه وتوحيده قبل البعثة... 331

شبهات المستشرقين على عدم إيمان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة... 336

الآيةُ الأُولى: الهداية بعد الضلالة... 337

الآية الثانية: الأمر بهجر الرجز... 340

الآية الثالثة: عدم علمه بالكتاب والإيمان... 342

تفسير الآية بآية أُخرى... 346

الآية الرابعة: عدم رجائه إلقاء الكتاب اليه... 349

الآية الخامسة: لو لم يشأ ما تلوته... 351

12. بدء الوَحْي... 354

دَور الأنبياء في إصلاح المجتمع... 357

مثالٌ واضح في المقام... 358

أمين قريش في غار حِراء... 361

بدء الوحي... 363

ظاهرة القضايا الغيبيّة في رأي الماديّين... 364

الروح المجرّدة... 366

ظاهرة الوحي عِند الماديّين... 367

أبرز النظريات المادّية لظاهرة الوحي... 368

ظاهرةُ الوحي في منظار العقل والدين... 377

قنواتُ المعرفة الثَلاث... 378

أنواع الوحي وأصنافه... 380

أساطيرُ مختَلقة... 381

ص:697

الموضوع... الصفحة

بقية حادثة نزول الوحي... 382

خديجة تذهب إلى ورقة بن نوفل... 383

بُطلانُ هذه المزاعم... 385

13. متى نزل الوحي أوّلاً؟... 388

ما أجاب به علماء الشيعة... 389

الأنبياء والبشارة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 393

محمَّد خاتم الأنبياء... 396

14. ما سَبَقني أحدٌ... 398

أوَّلُ من آمنَ بالنبيَّ منَ الرجال والنِّساء... 398

مِنَ النساء: «خديجة»... 398

أقدمُ الرجال إسلاماً: «عليّ» عليه السلام... 399

النصوص النبوية... 404

كلمات أمير المؤمنين عليه السلام... 406

كلمة الإمام السبط الحسن عليه السلام... 410

رأي الصحابة والتابعين في أوّل مَن أسلم... 410

مناظرة بين المأمون وإسحاق... 426

قضيّةُ «انقطاع الوَحْي»... 427

أُسطورة وليس تاريخاً!... 429

اختلافُ المؤرّخين في مسألة «انقطاع الوحي»... 430

الإختلاف في مدة انقطاع الوحي... 434

15. الدَعْوَةُ السِرِّيَّة ودَعوَةُ الأقربين... 436

دَعْوةُ الأَقْرَبيْن... 438

ص:698

الموضوع... الصفحة

كيفيّة دَعوة الأقربيْن... 442

خِيانةٌ تاريخيّةٌ و جِنايَةٌ أدبيّة!!... 444

النبوّة والإمامة توأمان... 446

16. الدعوة العامّة... 448

الثباتُ والإستقامة على طريق الهدف... 449

ثَباتُ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وَصَبرُهُ... 450

قريش تمشي إلى أبي طالب للمرّة الثالثة... 453

قريش تحاولُ تطميع رسول اللّه!... 453

نماذجٌ من إيذاء قُريش وتعذيبها للمُسلمين... 455

أبوجهل يكمُن لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 460

أبولهب يؤذي رسول اللّه... 461

صبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واستقامته... 462

إيذاء المسلمين وتعذيبُهم!... 462

1. بلال الحبشي... 463

2. آلُ ياسر رمز الصمود والمقاومة!... 464

3. عَبدُاللّه بن مسعود... 466

4. أبوذر: أوّل المجاهرين بالإسلام... 467

قبيلةُ غِفار تعتنق الإسلام... 469

أعداء النبيّ الألدّاء... 471

عمر بن الخطاب يعتنق الإسلام... 472

17. رأي قريش في القرآن... 477

رأي الوَليد في القرآن... 477

ص:699

الموضوع... الصفحة

رأي عتبة بن ربيعة في القرآن... 479

تحجّجاتُ قريش العجيبة... 481

الدوافع وراء معاداة قريش وعنادهم... 488

1. حَسَدُهُمْ للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 488

2. معارضة الدعوة الإسلامية لشهواتهم... 490

3. الخَوفُ مِن عُقُوبات اليوم الآخر... 490

4. الخَوفُ مِن القَبائل العَربية المشركَة... 491

طائفةٌ مِن اعتراضات المشركين... 492

القُرآن والنُزُولُ التدريجيّ... 492

الأسرارُ المنطقيّة للنُزول التدريجي للقرآن... 495

أسرارٌ أُخرى لِنُزُول القرآن تدريجاً... 498

18. إلى الحبشة... 501

الهجرة الأُولى... 501

الهجرة الثانية إلى الحبشة... 505

قريش توفد رجالاً لاسترداد المسلمين... 506

العَودةُ من الحبشة... 512

وفدٌ مسيحيٌ لتقصّي الحقائق يدخل مكّة... 514

وفد قريش إلى يهود يثرب للتحقيق... 515

19. الأسلحةُ الفاشلة والأساليب الباطلة... 517

1. الاتّهاماتُ الباطلة... 518

الإصرار في نسبة الجنون إليه صلى الله عليه و آله و سلم... 522

القرآن يرد على جميع الاتهامات... 524

ص:700

الموضوع... الصفحة

2. فكرةُ معارضة القرآن... 526

3. تحجّجات صبيانيّة وجاهليّة... 528

4. مقترحات عجيبة ومطاليب غريبة... 530

صبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واستقامته وثباته... 531

معاجز النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم تنحصر في القرآن الكريم... 532

1. شقّ القمر... 532

2. الإسراء والمعراج... 533

3. مباهلة أهل الباطل... 533

4. الإخبار بالمغيبات... 533

حرص النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على هداية قريش... 534

5. تحريم المشركين استماع القرآن... 536

واضعو القرار ينقضون قرارهم!!... 537

6. منع الأشخاص من الإيمان برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم... 538

الأوّل: الأعشى بن قيس... 538

الثاني: الطُفيل بن عَمرو الدوسيّ... 540

20. أُسطورة الغرانيق... 542

ماهي أُسطورة الغرانيق؟!... 543

محاسبة بسيطة لهذه الأُسطورة... 544

رأي العقل في هذه القصة... 545

تكذيب القِصَّة من طريق آخر... 547

دَليلٌ لغَويٌّ على تفنيد هذه الأُسطورة... 548

شبهات للمستشرقين والرد عليها... 550

1. ما هو المقصود من تمنّي الأنبياء والرُسل؟... 551

ص:701

الموضوع... الصفحة

2. ما هو المقصود من تدخّل الشيطان؟... 551

3. ما هو المقصود من محو آثار التدخّل؟... 553

21. الحصار الاقتصادي والاجتماعي... 555

قريش تحاصر النبيّ والمسلمين اقتصادياً واجتماعياً... 556

وضع بني هاشم المأساوي في الشِعب... 559

22. أبو طالب رجل الإيمان والتضحيات... 567

نماذج من مشاعر أبي طالب ومودّته للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 570

التغيير في برنامج السفر... 573

أبو طالب والدِفاعُ عن حوزة العقيدة والإيمان... 574

تصَوّرٌ باطلٌ... 576

الدافع الحقيقيّ لأبي طالب في دفاعه عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 577

لمحات من تضحيات أبي طالب... 578

تكفير أبي طالب قضيّةٌ ذات بواعث سياسيّة... 580

الأدِلّة على إيمان أبي طالب، وفيها ثلاث طرق... 581

الطريق الأوّل: آثار أبي طالب العلميّة والأدبية... 582

الطريق الثاني: دفاع أبي طالب عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحمايته له... 584

وصية أبي طالب عند وفاته... 585

الطريق الثالث: رأي أقربائه وأصدقائه... 586

رأي علماء الشيعة في أبي طالب... 588

نظرة إلى حديث «الضحضاح»... 588

1. ضعف أسناد هذه الرواية... 589

2. نصّ حديث الضحضاح يخالف الكتاب والسنّة... 590

23. المعراج... 593

ص:702

الموضوع... الصفحة

المعراج في نظر القرآن والسنّة والتاريخ... 593

هل للمعراج جذور قرآنية؟... 596

أحاديث المعراج... 598

متى وَقَعت هذه الحادثة؟... 599

هل كان المعراج جسمانياً؟... 602

ما هو المراد من المعراج الروحاني؟... 603

نَغمةٌ شاذةٌ: هل كان المعراج بالبدن البرزخي؟... 606

المعراج وقوانين العلم الحديث... 607

ما هو الهدفُ من المعراج؟... 612

24. سفره صلى الله عليه و آله و سلم إلى الطائف... 614

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعود إلى مكّة... 618

الدعوة في أسواق العرب... 621

دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج... 622

25. بيعة العقبة... 624

وقعة بُعاث... 626

تفصيل الحادث... 627

بيعة العقبة الأُولى... 628

بيعة العقبة الثانية... 629

أوضاعُ المسلمين بعد بيعة العقبة... 632

ردود فعل قريش تجاه بيعة العقبة... 635

تأثير الإسلام ونفوذه المعنوي... 637

مخاوف قريش المتزايدة... 640

حوادث السنة الأُولى من الهجرة... 643

26. قصّة الهجرة... 643

ص:703

الموضوع... الصفحة

الإمدادات الغيبية والعنايات الإلهية... 645

ملك الوحي يخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بخطّة قريش لاغتياله... 647

إقتحام الأعداء لبيت الوحي... 650

النبيُّ في غار ثور... 652

قريش تفتش عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 652

الإمام علي عليه السلام والتفاني في سبيل الحق... 653

كلام من ابن تيمية حول مبيت الإمام علي عليه السلام في فراش النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 657

الجواب التفصيلي... 659

الخطيب وقضية المبيت... 661

بقية قصةِ هجرةِ النبيّ... 662

الخروج من الغار... 665

صفحةُ التاريخ الأُولى... 665

لماذا أصبح العامُ الهجريُ مبدأ للتاريخ؟... 666

الهجرة النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافّة... 667

مَن الّذي جعل الهجرة مبدأً للتاريخ؟... 670

نماذج من رسائل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والصحابة المؤرّخة... 670

مؤامرة الطاغوت... 677

الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يبدأ رحلته إلى يثرب... 677

النزول في قرية قباء... 680

المدينة تهبُّ لقدوم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 682

النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم يدخُلُ المدينة... 684

أصل النفاق ومنشؤه... 686

فهرس المحتويات... 689

ص:704

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.