منهج الرشاد فی معرفه المعاد المجلد 2

اشارة

سرشناسه : نعیما طالقانی ، محمدنعیم بن محمدتقی ، قرن ق 12

عنوان و نام پديدآور : منهج الرشاد فی معرفه المعاد/ محمدنعیم بن محمدتقی المدعو بالملا نعیما العرفی الطالقانی ؛ تحقیق رضا استادی

مشخصات نشر : مشهد: مجمع البحوث الاسلامیه ، 1419ق . = - 1377.

مشخصات: 3ج

شابک : 964-444-108-7 9000ریال :(ج .1)

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا.

یادداشت : کتابنامه

موضوع : معاد

موضوع : خداشناسی

شناسه افزوده : استادی ، رضا، 1316 - ، مصحح

شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی

رده بندی کنگره : ‫ ‮ BP222 ‫ ‮ /ن 7م 8 1377

رده بندی دیویی : ‫ ‮ 297/44

شماره کتابشناسی ملی : م 78-578

ص :1

اشارة

ص :2

منهج الرشاد فی معرفه المعاد

محمدنعیم بن محمدتقی المدعو بالملا نعیما العرفی الطالقانی

تحقیق رضا استادی

ص :3

ص :4

الباب الأوّل: في إثبات النفس و إنّيّتها و تحديدها من حيث هي نفس

اشارة

ص:5

ص:6

الباب الأوّل:في إثبات النفس و إنّيّتها،و تحديدها من حيث هي نفس،و أنّها ليست بجسم و لا عرض،و أنّها غير البدن و أجزائه و أعضائه و آلاته و قواه و أعراضه،و غير جسميّته و مزاجه.

قد أشرنا لك في مقدّمة الرسالة إشارة إلى إثباتها،بل إلى أنّها جليّة الإنّيّة،و إن كانت خفيّة الماهيّة و الحقيقة؛و الآن نزيدك بيانا.فنقول:إنّك قد عملت ممّا بيّنوه في إثبات الصّورة النّوعيّة،أنّهم لمّا رأوا أنواع الأجسام-مع اشتراكها في أصل الجسميّة-مختلفة في أشياء كثيرة،كالأمكنة و الأحياز و الأوضاع و الطّبائع و الآثار و خواصّ الأفعال و سائر الأحوال و الصّفات،و يختصّ كلّ نوع منها في ذاته بجملة منها،بحيث لو فرض مخلّى بذاته،كان عليها؛و لو فرض هناك قسر و أخرجه القاسر منها،ثمّ خلّي و طبعه،عاد إليها.فالبرودة و التحتيّة للماء،و الحرارة و الفوقيّة للنار،حكموا بأنّ منشأ ذلك الاختلاف ليس هو الجسميّة المشتركة فيها،و إلاّ لاشتركت كلّ تلك الأنواع في ذلك،بل هو أمر آخر مبدأ لذلك،داخل في حقيقة كلّ نوع من تلك الأنواع؛فحكموا بأنّ لكلّ نوع من أنواع الأجسام من حيث هو ذلك النوع جزءا آخر مختصّا به،هو مبدأ عوارضه و لوازمه و صفاته و أحواله،و به قوام نوعيّته،يسمّى ذلك الجزء بالصّورة النوعيّة،و بذلك أثبتوا الصّورة النوعيّة لأنواع الأجسام كلّها:بسائطها،كالعناصر و الأفلاك و مركّباتها،ناقصة كانت،أي التي لا يكون من شأنها حفظ تراكيبها مدّة معتدّا بها،كالبخار و السّحاب و الريح

ص:7

و المطر و الثلج و ما أشبهها،أم تامّة،أي الّتي يكون من شأنها ذلك،كالجمادات و المعدنيّات الأحجار و الذائبات و الكباريت و الأملاح و ما شابهها؛سواء كانت المركّبات التامّة مركّبة من بسائط العناصر،ككثير منها؛أو مركّبة من المركّبات الناقصة كالمعدنيّات،و سواء كان التركيب من بسائط العناصر تركيبا أوّليّا،كما في الحبوب و البذور و الفواكه،أو ثانويّا كما في الدم المتكوّن من استحالة الغذاء،أو فيما بعد ذلك كاللحم و العظم و الشحم و ما شابهها.

ثمّ إنّك حيث علمت ما ذكرنا،ظهر لك أنّهم أثبتوا ذلك المبدأ الذي سمّوه بالصورة النوعيّة لكلّ نوع من أنواع الأجسام المشتركة في أصل الجسميّة من أجل اختلافها فيما ذكرناه من وجوه الاختلاف،فظهر لك أنّه بذلك الطريق يحكم العقل بثبوت مبدأ في النبات و الحيوان و الإنسان أيضا؛حيث إنّ النبات مع اشتراكه مع غيره من الأجسام في الجسميّة،مخالف لها في أمور أخر،كالتغذية و التنمية و التوليد،و كذلك الحيوان مع اشتراكه مع غير النبات في الجسميّة،و مع النبات فيما يختصّ به،مخالف لها في الاختصاص بالحسّ و الحركة الإراديّة؛و كذلك الإنسان مع اشتراكه مع غير النبات و الحيوان في الجسميّة،و مع النبات و معهما فيما يختصّ بهما،مخالف للجميع فى الاختصاص بالإدراكات الكلّيّة،و الأعمال الفكريّة و الأفعال الحاصلة بالرويّة و نحو ذلك ممّا يختصّ به،فلذلك أثبتوا ذلك المبدأ لهذه الأنواع أيضا،إلاّ أنّهم سمّوه فيها نفسا لا صورة نوعيّة.فحريّ بنا أن ننظر في أنّ تسميته بالنفس على أيّ وجه؟و أنّ تحديده ما ذا؟ و في أنّه هل يصحّ تسميته بالصورة أيضا فيها؟و أنّه هل يصحّ تسميته باسم آخر كالقوّة و الكمال أو نحو ذلك؟و حيث كان تحقيق ذلك مذكورا في كلام الشيخ في الشفاء، فلنذكر ما أفاده فيه،ثمّ نتبعه بتوضيحه حتّى يتلخّص لك ما رمنا بيانه.

نقل كلام و تحقيق مرام

فنقول:قال الشيخ في طبيعيّات الشفاء،في فصل«في إثبات النفس و تحديدها من

ص:8

حيث هي نفس» (1)بهذه العبارة:

إنّ أوّل ما يجب أن نتكلّم فيه:إثبات وجود الشيء الّذي يسمّى نفسا،ثمّ نتكلّم فيما يتبع ذلك،فنقول:إنّا قد شاهدنا (2)أجساما تحسّ و نتحرّك بالإرادة،بل نشاهد أجساما تغتذي و تنمو و تولّد المثل،و ليس ذلك لجسميّتها (3)،فبقي أن تكون بذواتها مباد (4)لذلك غير جسميّتها و الشيء الذي يصدر عنه هذه الأفعال (5).

و بالجملة،كلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة،فإنّا نسمّيه نفسا.و هذه اللفظة اسم لهذا الشيء،لا من حيث جوهره.و لكن من جهة إضافة ما له،أي من جهة ما هو مبدأ لهذه الأفاعيل،و نحن نطلب جوهره و المقولة التي يقع فيها من بعد.و لكنّا الآن إنّما أثبتنا وجود شيء هو مبدأ لما ذكرنا،و أثبتنا وجود شيء (6)ما جهة ماله عرض ما،و نحتاج أن نتوصّل (7)من هذا العارض الذي له إلى أن تحقّق ذاته لتعرف ماهيّته (8)،كأنّا قد عرفنا أنّ لشيء يتحرّك محرّكا ما،و لسنا نعلم من ذلك أنّ ذات هذا المحرّك ما هو؟فنقول:إذا كانت الأشياء التي نرى أنّ النفس موجودة لها، أجساما،و إنّما يتمّ وجودها من حيث هي نبات و حيوان لوجود (9)هذا الشيء لها،فهذا الشيء جزء من قوامها.و أجزاء القوام-كما عملت في مواضع-هي قسمان:جزء يكون به الشيء هو ما هو بالفعل،و جزء يكون به الشيء هو ما هو بالقوّة،إذ هو بمنزلة الموضوع.

فإن كانت النفس من القسم الثاني-و لا شكّ أنّ البدن من ذلك القسم-فالحيوان و النبات لا يتمّ حيوانا و لا نباتا بالبدن،و لا بالنفس؛فيحتاج إلى كمال آخر هو المبدأ بالفعل لما قلنا،و ذلك (10)هو النفس،و هو الذي كلامنا فيه.بل ينبغي أن تكون النفس هو ما به يكون الحيوان و النبات بالفعل نباتا و حيوانا؛فإن كان جسما أيضا،فالجسم صورته ما قلنا؛و إن كان جسما بصورة ما،فلا يكون هو من حيث هو جسم ذلك المبدأ،بل يكون كونه مبدأ من

ص:9


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 5/2-13،المقالة الاولى من الفنّ السادس،تحقيق الدكتور محمود قاسم،أوفست مكتبة المرعشي-قم عن طبعة مصر.
2- في المصدر:إنّا قد نشاهد...
3- و ليس ذلك لها لجسميّتها...
4- أن تكون في ذواتها مبادي...
5- تصدر عنه هذه الأفعال...
6- وجود شيء من جهة...
7- و يحتاج أن يتوصّل...
8- لتعرف ماهيّته...
9- و حيوان بوجود هذا الشيء...
10- فذلك هو النفس.

جهة تلك الصورة؛و يكون صدور الأحوال عن تلك الصورة بذاتها.و إن كان بتوسّط هذا الجسم،فيكون المبدأ الأوّل تلك الصورة،و يكون أوّل فعله بوساطة هذا الجسم،و يكون هذا الجسم جزءا من جسم الحيوان (1)مثلا لكنّه أوّل جزء يتعلّق به المبدأ،و ليس هو بما هو جسم إلاّ من جهة جملة (2)الموضوع،فتبيّن (3)أنّ ذات النفس ليس بجسم،بل هو (4)جزء للحيوان و النبات،هو صورة (5)أو كالصورة أو كالكمال.

فنقول الآن:إنّ النفس يصحّ أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال:قوّة، و كذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما يقبلها من الصورة (6)المحسوسة و المعقولة على معنى آخر:قوّة (7)،و يصحّ أن يقال أيضا (8)بالقياس إلى استكمال الجنس بها نوعا محصّلا في الأنواع العالية أو السافلة:كمال،لأنّ طبيعة الحسّ تكون ناقصة غير محدودة ما لم يحصّلها (9)طبيعة الفصل البسيط و غير البسيط منضافا إليها،فاذا انضاف كمل النوع.

فالفصل كمال النوع بما هو نوع،ليس (10)لكلّ نوع فصل بسيط،قد علمت هذا:بل إنّما هو للأنواع المركّبة (11)من مادّة و صورة،و الصورة فيها (12)هو الفصل البسيط لما هو كمال له،ثمّ كلّ صورة كمال،و ليس كلّ كمال صورة؛فإنّ الملك كمال المدينة،و الربّان كمال السفينة، و ليسا بصورتين للمدينة و السفينة،فما كان من الكمال مفارق الذات،لم يكن بالحقيقة صورة للمادّة و في المادّة؛فإنّ الصورة التي هي في المادّة،هي الصورة المنطبعة فيها القائمة بها.اللّهمّ إلاّ أن يصطلح فيقال:كمال (13)النوع صورة النوع.و بالحقيقة فإنّه قد استقرّ الاصطلاح على أن يكون الشيء بالقياس إلى المادّة صورة،و بالقياس إلى الجملة غاية و كمالا،و بالقياس إلى التحريك مبدأ فاعليّا و قوّة محرّكة.و إذا كان الأمر كذلك،فالصّورة تقتضي نسبة إلى شيء بعيد من ذات الجوهر الحاصل منها،و إلى شيء يكون (14)الجوهر الحاصل هو ما هو بالقوة،و إلى شيء لا ينسب (15)الأفاعيل إليه،و ذلك الشيء هو المادة،

ص:10


1- في المصدر:من جسم الحيوان،لكنه...
2- إلاّ من جملة الموضوع...
3- فبيّن...
4- بل هي جزء...
5- و النبات هي صورة...
6- الى ما تقبله من الصور المحسوسة...
7- قوّة،و يصح أن يقال لها أيضا بالقياس الى المادّة التي تحلّها،فيجتمع منهما جوهر نباتيّ أو حيواني:صورة،
8- و يصحّ...لها أيضا بالقياس...
9- ما لم تحصّلها طبيعة...
10- و ليس لكلّ نوع فصل...
11- للأنواع المركّبة الذوات...
12- و الصورة فيها هو...
13- فيقال لكمال النوع...
14- شيء يكون به الجوهر...
15- لا تنسب الأفاعيل.

لأنّها صورة باعتبار وجودها للمادّة،و الكمال يقتضي نسبة إلى الشيء التامّ الذي عنه يصدر (1)الأفاعيل،لأنّه كمال بحسب اعتباره للنّوع.

فتبيّن (2)من هذا أنّا إذا قلنا في تعريف النّفس:إنّه (3)كمال،كان أدلّ على معناها،و كان أيضا يتضمّن جميع أنواع النفس من جميع وجوهها،و لا تشذّ النّفس المفارقة للمادّة عنه.

و أيضا إذا قلنا:إنّ النفس كمال،فهو أولى من أن نقول:قوّة،و ذلك لأنّ الامور الصّادرة عن النّفس منها من (4)باب الحركة،و منها من (5)باب الاحساس و الادراك، بالحريّ (6)أن يكون لها لا بما لها قوّة هي مبدأ فعل،بل مبدأ قبول (7)،بل مبدأ فعل،و ليس أن ينسب إليها أحد الأمرين بأنّها قوة (8)أولى من الآخر.

فإن قيل لها:قوّة و عني به الأمران جميعا،كان ذلك باشتراك الاسم.و إن قيل:قوّة، و اقتصر على أحد الوجهين،عرض من ذلك ما قلنا.و شيء آخر،و هو أنّه لا يتضمّن الدّلالة على ذات النفس من حيث هي نفس مطلقا،بل من جهة دون جهة.و قد بيّنّا فى الكتب المنطقيّة أنّ ذلك غير جيّد و لا صواب.

ثمّ إذا قلنا:كمال،اشتمل على معنيين (9)،فإنّ النفس من جهة القوّة التي يستكمل بها إدراك الحيوان كمال،و من جهة القوة التي تصدر عنها أفاعيل الحيوان أيضا كمال،و النفس المفارقة كمال،و النفس التي لا تفارق كمال،لكنّا إذا قلنا:كمال،لم يعلم من ذلك بعد أنّها جوهر أو ليست بجوهر،فإنّ معنى الكمال هو الشيء الّذي بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا،و النبات بالفعل نباتا،و هذا لا يفهم عنه بعد أنّ ذلك (10)جوهر أو ليس بجوهر.

لكنّا (11)نقول:إنّه لا شكّ لنا في أنّ هذا الشيء ليس بجوهر (12)بالمعنى الذي يكون به الموضوع جوهرا و لا أيضا بالمعنى الذي يكون به المركّب جوهرا.فأمّا جوهر بمعنى الصورة فلننظر فيه.فإن قال قائل:إنّي أقول للنفس:جوهر (13)و أعني به الصورة،و لست

ص:11


1- في المصدر:تصدر الأفاعيل...
2- فبيّن من هذا...
3- إنّها كمال...
4- منها ما هي من...
5- و منها ما هي من...
6- و التحريك بالحرّي أن...
7- بل هي مبدأ قبول...
8- بأنّها قوّة عليه أولى...
9- على المعنيين...
10- بعد أنّه جوهر...
11- و لكنّا نقول...
12- ليس جوهرا...
13- للنفس: جوهرا.

أعنى به معنى أعمّ من الصورة،بل معنى أنّه جوهر معنى أنّه صورة،و هذا ممّا قاله خلف (1)منهم،فلا يكون معه موضع بحث و اختلاف البتّة،فيكون معنى قوله:«إنّ النفس جوهر»:

أنّها صورة؛بل يكون قوله:«الصورة جوهر»كقوله«الصورة صورة أو هيئة،و الإنسان إنسان أو بشر»،و يكون هذيانا من الكلام.

فإن عنى بالصّورة ما ليس في موضوع البتّة،أي لا يوجد بوجه من الوجوه قائما في الشيء الذي سمّينا لك موضوعا البتّة،فلا يكون كلّ كمال جوهرا،فإنّ كثيرا من الكمالات هي في موضوع لا محالة،و إن كان ذلك الكثير بالقياس إلى المركّب و من حيث كونه فيه ليس في موضوع،فإنّ كونه جزءا منه لا يمنعه أن يكون في موضوع،و كونه فيه لا كالشيء في الموضوع لا يجعله جوهرا،كما ظنّ بعضهم.لأنّه لم يكن الجوهر ما لا يكون بالقياس إلى شيء على أنّه في موضوع،حتّى يكون الشيء من جهة ما ليس في هذا الشيء على أنّه في موضوع جوهرا،بل إنّما يكون جوهرا إذا لم يكن و لا في شيء من الأشياء على أنّه في موضوع،و هذا المعنى لا يدفع كونه في شيء ما موجودا لا في موضوع،فإنّ ذلك ليس له بالقياس إلى شيء (2)حتّى إذا قيس إلى شيء يكون فيه لا كما يوجد الشيء في موضوع صار جوهرا،و إن كان بالقياس إلى شيء آخر،بحيث يكون عرضا،بل هو اعتبار له في ذاته فإنّ الشيء إذا تأمّلت ذاته و نظرت إليها فلم يوجد لها موضوع البتّة،كانت في نفسها جوهرا،و إن وجدت في ألف شيء لا في موضوع بعد أن يوجد في شيء واحد على نحو وجود الشيء في موضوع (3)،فهي في نفسها عرض،و ليس إذا لم يكن عرضا في شيء فهي جوهر فيه،فيجوز أن يكون الشيء لا عرضا في شيء و لا جوهرا في الشيء،كما أنّ الشيء يجوز أن لا يكون واحدا في الشيء (4)و لا كثيرا،و لكنّه (5)في نفسه واحد أو كثير،و ليس الجوهريّ و الجوهر واحدا،و لا العرض بمعنى العرض (6)

ص:12


1- في المصدر:قاله خلق منهم...
2- بالقياس الى كلّ شيء...
3- في الموضوع...
4- واحدا في شيء...
5- كثيرا،لكنّه في نفسه...
6- بمعنى العرضيّ.

الذي في إيساغوجي (1)هو العرض الذي في قاطيفورياس (2)،و قد بيّنّا هذه الأشياء لك في صناعة المنطق.

فبيّن أنّ النفس لا يزيل عرضيّتها كونها فى المركّب كجزء،بل يجب أن تكون في نفسها لا في موضوع (3)و قد علمت ما الموضوع.فإنّ كل (4)نفس موجودة لا في موضوع، فكلّ نفس جوهر،و إن كانت نفس ما قائمة بذاتها،و البوقي كلّ واحد منها في هيولى و ليست في موضوع،فكلّ نفس جوهر.فإن (5)كانت نفس ما قائمة في موضوع و هي مع ذلك جزء من المركّب،فهي عرض،و جميع هذا كمال،فلم يتبيّن لنا بعد أنّ النفس جوهر أو ليس بجوهر من وصفنا أنّها كمال.و غلط من ظنّ أنّ هذا يكفيه في أن تجعل (6)جوهرا كالصورة.

فنقول:إنّا إذا عرفنا أنّ النفس كمال بأيّ بيان و تفصيل فصّلنا الكمال،لم نكن (7)بعد عرفنا النفس و ماهيّتها (8)،بل عرفناها من حيث هي نفس،و اسم النفس ليس يقع عليها من حيث جوهرها،بل من حيث هي مدبّرة للأبدان و مقيسة إليها؛فلذلك يؤخذ البدن في حدّها كما يؤخذ مثلا البناء في حدّ الباني،و إن كان لا يؤخذ في حدّه من حيث هو إنسان، و لذلك صار النظر في النّفس من العلم الطبيعيّ،لأنّ النّظر في النفس من حيث هي نفس، نظر فيها من حيث لها علاقة بالمادة و الحركة؛بل يجب أن يفرد لتعرّضنا ذات النفس (9)بحث آخر،و لو كنّا عرفنا بهذا ذات النفس،لما أشكل علينا وقوعها في أيّ مقولة تقع فيه (10)،فإنّ من عرف و فهم ذات الشيء فعرض على نفسه طبيعة أمر ذاتيّ له،لم يشكل عليه وجوده له،كما أوضحناه في المنطق.

لكنّ الكمال على وجهين:كمال أوّل،و كمال ثان،فالكمال الأوّل هو الذي يصير به النوع نوعا بالفعل،كالشكل للسيف.و الكمال الثاني هو أمر من الامور التي تتبع نوع

ص:13


1- -إيساغي خ ل.
2- في المصدر:في قاطيغوزياس...
3- لا في موضوع البتّة...
4- -فإن كان خ ل.
5- و إن كانت نفس...
6- أن يجعلها جوهرا...
7- لم يكن بعد...
8- و ماهيّتها...
9- أن نفرد لتعرّفنا ذات النفس بحثا آخر...
10- مقولة تقع فيها.

وجود الشيء (1)من أفعاله و انفعالاته،كالقطع للسّيف و كالتمييز و الرويّة و الإحساس و الحركة للانسان،فإنّ هذه كمالات لا محالة للنوع،لكن ليست أوّليّة (2)فانّه ليس يحتاج النوع في أن يصير هو ما هو بالفعل إلى حصول هذه الأشياء له بالفعل،بل إذا حصل له مبدأ هذه الأشياء بالفعل،حتّى صار له هذه الأشياء بعد ما لم تكن بالقوّة الاّ بقوّة بعيدة يحتاج (3)إلى أن يحصل قبلها (4)شيء،حتّى يصير بالحقيقة بالقوّة؛صار حينئذ الحيوان حيوانا بالفعل.فالنفس كمال أوّل،و لأنّ الكمال كمال للشيء،فالنفس كمال الشيء، و هذا الشيء هو الجسم،و يجب أن يؤخذ الجسم بالمعنى الجنسيّ لا بالمعنى المادّيّ،كما علمت في صناعة البرهان،و ليس هذا الجسم الذي النّفس كماله كلّ جسم،فإنّها ليست كمال الجسم الصناعيّ كالسرير و الكرسيّ و غيرهما،بل كمال الجسم الطبيعيّ،و لا كلّ جسم طبيعيّ،فليس النفس كمال نار و لا أرض و لا هواء،بل هي في عالمنا كمال جسم طبيعيّ يصدر (5)عنه كمالاته الثانية بآلات يستعين بها في أفعال الحياة،التي أوّلها التغذّي و النموّ.فالنفس التي نحدّها كمال (6)أوّل لجسم طبيعيّ آليّ له أن يفعل أفعال الحياة؛لكنّه قد يتشكّك في هذا الموضوع بأشياء:من ذلك أنّ لقائل أن يقول:هذا (7)الحدّ لا يتناول النفس الفلكية،لأنّها (8)تفعل بلا آلات،و إن تركتم ذكر الآلات و اقتصرتم على ذكر الحياة لم يغنكم ذلك شيئا،فإنّ الحياة التي لها ليس هو التغذّي و النموّ،و لا أيضا الحسّ؛و أنتم تعنون بالحياة التي في الحدّ هذا.

و إن عنيتم بالحياة ما للنفس الفلكيّة من الإدراك مثلا و التصوّر العقليّ و التحريك لغاية إراديّة،أخرجتم النبات من جملة ما يكون نفس.و أيضا إن كان التغذّي حياة،فلم لا تسمّون النبات حيوانا؟

و أيضا لقائل أن يقول:ما الذي أحوجكم إلى أن تثبتوا نفسا؟و لم لم يكفكم أن

ص:14


1- في المصدر:وجود نوع الشيء...
2- ليست أولى...
3- تحتاج إلى...
4- -فيها خ ل.
5- تصدر عنه...
6- نحدّها هي كمال...
7- يقول:إنّ هذا.
8- -فإنّها خ ل.

تقولوا:إنّ الحياة نفسها هي هذا الكمال،فيكون الحياة هي المعنى الذي يصدر عنه ما تنسبون صدوره إلى النفس من ذلك؟ (1)

فلنشرع في جواب واحد و احد من ذلك و حلّه.

فنقول:أمّا الأجسام السماويّة فإنّ فيها مذهبين:

مذهب من يرى أنّ كلّ كوكب يجتمع منه و من عدّة كرات قد دبّرت بحركته جملة جسم كحيوان واحد،فيكون حينئذ كلّ واحد من الكرات يتمّ فعله (2)بعدّة أجزاء ذوات حركات،فيكون هي كمالات (3)،و هذا القول لا يستمرّ في كلّ الكرات.

و مذهب من يرى أنّ كلّ كرة فلها في نفسها حياة مفردة،و خصوصا،و يرى جسما تاسعا،ذلك الجسم واحد بالفعل لا كثرة فيه،فهؤلاء يجب أن يروا أنّ اسم النفس إذا وقع على النفس الفلكيّة و على النفس النباتيّة،فإنّها تقع (4)بالاشتراك،أنّ (5)هذا الحدّ إنّما هو للنفس الموجودة للمركّبات،و أنّه اذا احتيل حتى يشترك (6)الحيوانات و الفلك في معنى اسم النفس،خرج معنى النباتات من تلك الجملة.على أنّ هذه الحيلة صعبة،و ذلك لأنّ الحيوانات و الفلك لا تشترك في معنى اسم الحياة،و لا في معنى اسم النطق أيضا؛لأنّ النطق الذي هاهنا يقع على وجود نفس لها العقلان الهيولانيّان،و ليس هذا ممّا يصحّ هناك على ما يرى.فإنّ العقل هناك عقل بالفعل،و العقل بالفعل غير مقوّم للنفس الكائنة جزء حدّ للناطق،و كذلك الحسّ فيها (7)يقع على القوّة التي بها يدرك (8)المحسوسات على سبيل قبول أمثلتها و الانفعال منها،و ليس هذا أيضا ممّا يصحّ هناك على ما يرى.

ثمّ إن اجتهد فجعل النفس كمالا أوّلا لما هو متحرّك بالإرادة و مدرك من الأجسام، حتّى تدخل فيه الحيوانات و النفس الفلكيّة،خرج النبات من تلك الجملة؛و هذا هو القول المحصّل.و أمّا أمر الحياة و النفس فمثل (9)الشك في ذلك على ما نقول:إنّه قد صحّ أنّ الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ الأحوال (10)المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل،فإنّ من

ص:15


1- في المصدر:إلى النفس؟فلنشرع...
2- يتمّ فعلها...
3- ذوات حركة،فتكون هي كالآلات،و هذا القول...
4- النباتيّة،فإنّما يقع...
5- و أنّ هذا الحدّ...
6- تشترك الحيوانات...
7- الحسّ هاهنا...
8- التي تدرك بها...
9- فحلّ الشكّ...
10- مبدأ للأحوال.

سمّى هذا المبدأ حياة لم يكن معه مناقشة.و أمّا المفهوم عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان فهو أمران:

أحدهما كون الشيء موجودا فيه مبدأ يصدر (1)تلك الأحوال عنه،أو كون الجسم بحيث يصحّ صدور تلك الأفعال عنه،فأمّا الأوّل فمعلوم أنّه ليس معنى النفس بوجه من الوجوه،و أمّا الثاني فيدلّ على معنى أيضا غير معنى النفس،و ذلك لأنّ كون الشيء بحيث يصحّ أن يصدر عنه شيء أو يوصف بصفة،يكون على وجهين:

أحدهما أن يكون في الوجود شيء (2)غير ذلك الكون نفسه يصدر عنه ما يصدر،مثل كون السفينة،بحيث يصدر (3)عنه منافع السفنيّة (4)،و ذلك ممّا يحتاج إلى الربّان حتّى يكون هذا الكون،و الربّان و هذا الكون ليس شيئا واحدا بالموضوع.

و الثاني أن لا يكون شيء غير هذا الكون في الموضوع،مثل كون الجسم بحيث يصدر منه الإحراق عند من يجعل نفس هذا الكون الحرارة،حتّى يكون وجود الحرارة في الجسم هو وجود هذا الكون،و كذلك وجود النفس وجود هذا الكون على ظاهر الأمر، الاّ أنّ ذلك في النفس لا يستقيم.فليس المفهوم من هذا الكون و من النفس شيئا واحدا.

و كيف لا يكون كذلك و المفهوم من الكون الموصوف لا يمنع أن يسبقه بالذات كمال و مبدأ تمّ (5)للجسم هذا الكون.و المفهوم من الكمال الأوّل الذي رسمناه يمنع أن يسبقه بالذات كمال آخر،لأنّ الكمال الأوّل ليس له مبدأ و كمال أوّل،فليس إذن المفهوم من الحياة و النفس واحدا إذ (6)عنينا بالحياة ما يفهم الجمهور.و إن عنينا بالحياة أن تكون لفظة مرادفة للنفس في الدّلالة على الكمال الأوّل،لم يناقش (7)؛و تكون الحياة اسما لما كنّا وراء إثباته من هذا الكمال (8)،و قد فرغنا الآن عن معنى (9)الاسم الذي يقع على الشيء الذي سمّي نفسا بالإضافة (10)له.فبالحريّ أن نشتغل بإدراك ماهيّة (11)هذا الشيء الذي صار باعتبار (12)المقول نفسا،و يجب أن نشير في هذا الموضع إلى إثبات وجود النفس التي لنا

ص:16


1- في المصدر:تصدر تلك...
2- يكون الوجود شيئا غير...
3- تصدر...
4- المنافع السفينيّة...
5- ثمّ للجسم...
6- إذا عنينا...
7- لم نناقش...
8- هذا الكمال الأوّل...
9- فقد عرفنا معنى...
10- بإضافة له...
11- ماهيّة...
12- بالاعتبار.

إثباتا(على سبيل التنبيه و التذكير)إشارة شديدة الوقوع (1)عند من له قوّة على ملاحظة الحقّ نفسه من غير احتياج إلى تثقيفه (2)و قرع عصاه و صرفه عن المغلّطات.

فنقول:«يجب أن يتوهّم الواحد منّا كأنّه خلق دفعة،و خلق كاملا،لكنّه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات،و خلق يهوي في هواء و خلاء،هويّا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدم ما (3)(4)يحوج إلى أن يحسّ،و فرّقت (5)بين أعضائه فلم تتلاق و لم تتماسّ،ثمّ يتأمّل أنّه هل يثبت وجود ذاته فلا (6)يشكّ في اثباته لذاته موجودا،و لا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه.و لا باطنا من أحشائه،و لا قلبا و لا دماغا و لا شيئا من الأشياء من خارج؛بل كان يثبت ذاته و لا يثبت لها طولا و لا عرضا و لا عمقا،و لو أنّه أمكنه في تلك الحال أن يتخيّل هذا (7)أو عضوا آخر،لم يتخيّله جزءا من ذاته و لا شرطا في ذاته.و أنت تعلم أنّ المثبت غير الّذي لم يثبت،و المقرّ به غير الّذي لم يقرّ به،فإذن للذّات التي أثبت وجودها خاصيّة لها على أنّها هو بعينه غير جسمه و أعضائه التي لم تثبت،فإذن المثبتة (8)(9)له سبيل على تنبّهه (10)على وجود النفس شيئا غير الجسم،و أنّه (11)عارف به مستشعر له،فإن (12)كان ذاهلا عنه،يحتاج إلى أن يقرع عصاه» (13)انتهى كلامه.

«في شرح كلام الشيخ»

و أقول و باللّه التوفيق:

قوله:«في إثبات النفس و تحديدها من حيث هي نفس»،أي من حيث إنّ لها إضافة

ص:17


1- في المصدر:شديدة الموقع...
2- -تثقيف الرماح:تسويتها.
3- -صدما ظ.
4- صدما ما...
5- و فرّق بين...
6- و لا يشكّ...
7- يتخيّل يدا أو عضوا...
8- -المتنبّه ظ.
9- المثبت...
10- سبيل إلى أن يتنبّه...
11- -فإنّه خ ل.
12- و إن كان...
13- -الشفاء- [1]الطبيعيّات؛و قد مرّ.

ما إلى البدن،لا من حيث حقيقتها و جوهرها،كما سيظهر وجه ذلك.

و قوله:«إنّ أوّل ما يجب أن نتكلّم فيه إثبات وجود الشيء الّذي يسمّى نفسا،ثمّ نتكلّم فيما يتبع ذلك»أي إثبات وجود الشيء الذي يسمّى نفسا من حيث إنّه يسمّى نفسا،أي من حيث إنّه يطلق عليه هذه اللفظة،و من جهة أنّ له إضافة إلى البدن و مقيس إليه.

و قوله:«إنّا قد شاهدنا أجساما تحسّ و تتحرّك بالإرادة،بل نشاهد أجساما تغتذي و تنمو و تولّد المثل...»-الى آخره-

يريد إثبات النّفس الأرضيّة المتناولة للنباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،من حيث إنّها نفس و لها إضافة ما إلى الجسم الذي هي نفس له،بأنّا نشاهد أجساما تحسّ و تتحرّك بالإرادة،سواء كانت تحسّ و تتحرّك بالإرادة الجزئيّة فقط كما غير الإنسان من الحيوانات؛أو كانت تحسّ و تتحرك بالإرادة الجزئية و الكلّيّة جميعا،كما في الإنسان،بل نشاهد أجساما تغتذي و تنمو و تولّد المثل،كما في النبات،و كما في الحيوان و الإنسان أيضا.

و إنّما قدّم ذكر ما يختصّ بالحيوان و الإنسان،لكون الغرض الأصليّ منها إثبات النّفس الحيوانيّة،بل الإنسانيّة،و أنّ إثبات النّفس النباتيّة إنّما هو لأجل وجودها في الحيوان،بل في الإنسان.فلذا ذكر ما يختصّ به النبات ثانيا و على سبيل الترقي من السابق.

ثمّ إنّا حيث شاهدنا ذلك،علمنا أنّ لتلك الأحوال المشاهدة في تلك الأجسام مبدأ غير خارج عن ذوات تلك الأجسام،أمّا بيان ثبوت المبدأ لها فظاهر،و أمّا كونه غير خارج عنها،فلأنّا حيث شاهدنا وجود تلك الأحوال في تلك الأجسام،نحكم بأنّ مباديها يجب أن تكون موجودة فيها أو معها و لو بوجه،و هذا أيضا ظاهر.و سيأتي زيادة بيان لذلك.

و علمنا أيضا أن ليس ذلك المبدأ نفس جسميّتها المشتركة،و إلاّ لاشترك جميع الأجسام في تلك الأحوال،و ليس الأمر كذلك.فبقي أن يكون ذلك المبدأ غير جسميّتها

ص:18

المشتركة،و أن تكون لتلك الأجسام بذواتها مباد لتلك الأحوال،و أن يكون فيها أو معها الشيء الّذي يصدر عنه هذه الأفاعيل.

و قوله:«فبالجملة كلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة،فإنّا نسمّيه نفسا».

هذا تفريع على ما تقدّم،أي و بالجملة،فكلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل كذلك،كما في النبات و الحيوان حيث أشرنا إلى إثبات مبدأ لها فيهما،فإنّا نسمّيه نفسا.و لا يخفى أنّ تلك الأفاعيل-حيث كانت-إشارة إلى الأحوال التي ذكرها في النبات و الحيوان عامّة شاملة للحسّ و الإدراك أيضا،و يكونان هما أيضا فعلا بهذا المعنى،و إن لم يكونا فعلا بالمعنى الآخر.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله:«عادمة للارادة»صفة لقوله:« وتيرة واحدة»و أنّ النفي وارد على الموصوف المقيّد بهذا الوصف،و أنّ تحقّق هذا النفي كما يكون بانتفاء الموصوف و الوصف جميعا،أعني أن يكون المتحقّق هنالك كون صدور تلك الأفاعيل على وتائر متعدّدة و أنهاج مختلفة،و مع الإرادة؛كذلك قد يكون بانتفاء الموصوف وحده،و إن لم ينتف الوصف،أعني أن يكون ذلك الصدور على وتائر مختلفة عادمة للإرادة،و قد يكون بانتفاء الوصف وحده،و إن لم ينتف الموصوف؛أعني أن يكون على وتيرة واحدة و مع الإرادة.و حينئذ فيكون المعنى أنّ كلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة،كما في أفعال الطبائع،حيث أنّها تكون على وتيرة واحدة عادمة للإرادة،و يسمّى مبدأ صدورها طبيعة،فإنّا نسمّيه نفسا،سواء كان مبدأ لصدور أفاعيل على أنهاج مختلفة عادمة للإرادة،كالنّفس النّباتيّة،أو مبدأ لصدور أفاعيل على أنهاج مختلفة لكن مع الإرادة،كالنفس الحيوانيّة،و كالنفس الإنسانيّة أيضا إذا استعملت القوى الحيوانيّة و فعلت بتوسّطها،أو مبدأ لصدور فعل على وتيرة واحدة مع الإرادة، كالنفس الإنسانيّة في فعلها الخاصّ بها من الإدراك الكلّيّ و نحوه،إذا قلنا بكونه على نهج واحد.

ص:19

لا يقال قوله:«مبدأ لصدور أفاعيل»بصيغة الجمع يأبى عن حمل العبارة على معنى يشمل القسم الثالث،بل إنّه يشعر بالحمل على معنى يشمل القسمين الأوّلين فقط.

لأنّا نقول:ما فهمته مبنيّ على أنّ إيراد صيغة الجمع إنّما هو بالقياس إلى نفس واحدة، و ليس كذلك؛بل الظاهر أنّه بالقياس إلى نفوس متعدّدة.فحيث اعتبر بالقياس إلى كلّ نفس من النفوس الأرضيّة فعلا خاصّا،اعتبر تعدّد الأفاعيل؛و هذا كما يقال:أفاعيل الطبائع،و الحال أنّ فعل الطبيعة إنّما هو على وتيرة واحدة.و كيف يمكن اعتبار التعدّد و الجمعيّة بالقياس إلى نفس واحدة،و الحال أنّه على هذا يلزم أن يكون قوله:«ليست على وتيرة واحدة»مستدركا لكون قوله:«أفاعيل»الدالّ بصيغة الجمع على التعدّد مغنيا عنه،و لكان حقّ العبارة أن يقول:إنّ كلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل،فإنّا نسمّيه نفسا؛ سواء كان عادما للإرادة أو واجدا لها.

و أيضا على ما ذكرته يلزم خروج النفس الإنسانيّة من حيث فعلها الخاصّ بها،إذا قلنا بوحدته و كونه على وتيرة واحدة،و الحال أنّ المقصود تعميم العبارة بحيث تشملها أيضا مطلقا.فتدبّر.

ثمّ إنّه ربما يظنّ أن ما عبّر به عن النفس الأرضيّة و هو قوله:«ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة»كما أنّه متناول للنفس الأرضيّة بأفرادها و أقسامها،كذلك هو متناول للنفس الفلكيّة أيضا،إذ هي عندهم على القول بتعلّق النفس بكلّ كرة من الكرات و بكلّ كوكب من الكواكب،تكون مبدأ لصدور فعل واحد على وتيرة واحدة مع الإرادة.و على القول بتعلّقها بالفلك الكلّيّ و كون الكرات الجزئيّة و الكواكب المختلفة في الأفاعيل كالآلات،تكون مبدأ لصدور الأفاعيل على وتائر مختلفة و مع الإرادة.و على التقديرين،فتندرج النفس الفلكيّة أيضا في معنى هذه العبارة،و يكون هذا التعريف شاملا للنفس الأرضيّة و الفلكيّة جميعا.

فعلى هذا فيرد على الشيخ أنّه لا يخفى أنّه في هذا الفصل بصدد إثبات النفس الأرضيّة و تحديدها،دون الفلكيّة،فما باله قد عبّر عنها في هذا التعبير بما يتناول الفلكيّة

ص:20

أيضا.

و أيضا أنّه ذكر فيما بعد أنّ اسم النّفس إذا وقع على النّفس الفلكيّة و على النّفس النّباتيّة،فإنّها تقع بالاشتراك،أي اللفظيّ،و أنّ الحيلة في أن يشترك الفلك و الحيوانات في معنى اسم النفس صعبة،و الحال أنّ معنى هذا التعبير معنى مشترك يشترك فيه الجميع، فأين الاشتراك اللفظيّ الذي ادّعاه؟و أين صعوبة الحيلة؟

و ربّما يمكن الجواب عن هذا الإيراد بأنّه لا يخفى أنّ ما دلّت عليه هذه العبارة ليس تحديدا للنّفس مطلقا،لا من حيث جوهرها و ماهيّتها في نفسها،و لا من جهة إضافة ما لها إلى البدن كما هو مقصود الشيخ في هذا الفصل،لأنّ مفاده إنّما هو أمر سلبيّ،كما عرفت من أنّ معناه أنّ النّفس عبارة عن مبدأ أفعال ليس هي كأفعال الطبائع.و بعبارة اخرى أنّ المسمّى باسم النفس،ما لا يكون فعله كفعل الطبائع،و مثل هذا لا يكون تحديدا،لأنّ التحديد إنّما يكون بأمور وجوديّة ذاتيّة،و هل هو إلاّ مثل أن يقال في تحديد الإنسان.إنّه ما يكون مبدأ لأفعال ليست هي كأفعال الفرس،أو ما لا يكون فعله كفعل الفرس،حيث إنّه بذلك لا يتحدّد جوهره من حيث جوهره،و لا من حيث له إضافة إلى غيره.

و بالجملة فهذا ليس بتحديد للنفس،بل إنّما هو مجرّد تعبير عنها و تعيين للمسمّى باسم النّفس،و لا سيّما بوجه سلبيّ و ذكر اسم لها بهذا الوجه،فهو لا يكون تعريفا لها أيضا.و على تقدير تسليم صحّة كونه تعريفا لها،يكون رسما لها لا حدّا.و حينئذ يندفع الإيراد عن الشيخ،لأنّه حيث ادّعى فيما بعد ما ادّعاه،إنّما ادّعاه إذا اريد تحديد النفس به،و لا يخفى أنّه كذلك.و هذا لا ينافي أن يكون يمكن هنا تعبير أو رسم أو اسم بوجه سلبيّ يتحقّق فيه الاشتراك و يعمّ النفس الفلكيّة أيضا،كما أنّه لا يلزم عليه من جهة تعبيره عن مسمّى النفس باسم يتناول الفلكيّة مخالفة ما هو بصدده في هذا الفصل من إثبات الأرضيّة و تحديدها،إنّما يلزم المخالفة لو كان أثبت فيه الفلكيّة أيضا و حدّدها، و هو لم يفعله،كما لا يخفى على الناظر فيما ذكره في هذا الفصل.

ص:21

و قوله:«و هذه اللفظة اسم لهذا الشيء لا من حيث هو جوهره (1)،و لكن من جهة إضافة ما له،أي من جهة ما هو مبدأ لهذه الأفاعيل.و نحن نطلب جوهره و المقولة التي يقع فيها من بعد،و لكنّا الآن أثبتنا وجود شيء هو مبدأ لما ذكرنا،و أثبتنا وجود شيء من جهة ماله عرض ما و نحتاج إلى أن نتوصّل من هذا العارض الذي له إلى أن تحقّق ذاته لتعرف ماهيّته».

أي أنّ هذه اللفظة كما عرفت معناها اسم لهذا الشيء،لا من حيث جوهره و حقيقته في نفسه،و لكنّه اسم له من جهة إضافة ما له،أي من جهة ما هو مبدأ لهذه الأفاعيل التي ليست كأفاعيل الطبائع.و بعبارة اخرى:من جهة أنّه كمال لجسم،و نحن نطلب جوهره في حدّ ذاته،و المقولة الّتي يقع هو فيها من كونه جوهرا،لا عرضا من بعد.و لكنّا الآن في هذا الإثبات إنّما أثبتنا بما ذكرنا:«أنّا قد شاهدنا أجساما تحسّ و تتحرّك بالإرادة»-إلى آخره-وجود شيء هو مبدأ لما ذكرنا من الأفاعيل،و أثبتنا وجود شيء من جهة ماله عرض ما،أي كونه مبدأ لما ذكرنا،و من جهة ما له إضافة ما.و كذلك نريد تحديده من هذه الجهة،حيث أثبت أنّه ليس بجسم و لا مادّة لجسم،بل جزء منه به يتمّ و يكمل كونه مبدأ لما ذكر،و يتمّ كون النبات نباتا بالفعل،و كون الحيوان حيوانا بالفعل،و بالجملة جزء من الجسم النباتيّ و الحيوانيّ،بل الإنسانيّ،يمكن أن يطلق عليه في بادي النظر الصّورة أو كالصورة أو الكمال أو كالكمال أو القوّة،ثمّ فتّش و فحص عن ذلك،و أدى تفتيشه و فحصه إلى أنّه ينبغي أن يطلق عليه الكمال،لا مطلقا،بل الكمال الأوّل لجسم طبيعيّ آليّ له أن يفعل أفعال الحياة كما بيّنه؛و سيأتي زيادة بيانه.و نحتاج أن نتوصّل من هذا العارض و من هذا الحدّ الذي له بالإضافة إلى البدن،إلى أن تحقّق ذاته لتعرف ماهيّته،لا من حيث تلك الإضافة،بل في حدّ ذاته،و من حيث كونه داخلا في مقولة الجوهر؛كما فعله و بيّنه في الفصول الآتية.و لعلّنا نشير إلى ما ذكره فيها أيضا إن شاء اللّه تعالى.

و قوله:«كأنّا قد عرفنا أنّ لشيء متحرّك محرّكا ما،و لسنا نعلم من ذلك أنّ ذات هذا

ص:22


1- -في الأصل:من حيث جوهره.و مرّت في ص 9. [1]

المحرّك ما هو؟»أي كأنّا في إثبات النّفس من جهة كونه مبدأ لتلك الأفاعيل،و لم نعلم بعد حقيقتها و جوهرها في حدّ ذاتها،مثل حالنا في إثباتنا أنّ لشيء ما يتحرّك محرّكا ما،و لم نعلم منه حقيقة المحرّك.فكما أنّا إذا شاهدنا شيئا يتحرّك أيّة حركة كانت[علمنا]أنّ له مبدأ لحركته،أو لم يحصل لنا منه العلم بحقيقة المحرّك بذاته؛كذلك الحال فيما نحن فيه، فإنّ حصول العلم بالنّفس من جهة كونها مبدأ للأفاعيل المذكورة فيما شاهدها فيه،لا يستلزم حصول العلم بحقيقتها في ذاتها.فهذا-مع كونه تنظيرا أو تمثيلا لما نحن فيه- يمكن أن يكون بيانا له أيضا بعبارة أخرى،حيث إنّ مبدئيّة النّفس لتلك الأفاعيل تتضمّن كونها مبدأ للحركة أيضا،فافهم.

و قوله:«فنقول:إذا كانت الأشياء التي يرى أنّ النفس موجودة لها أجساما،و إنّما يتمّ وجودها من حيث هي نبات و حيوان لوجود (1)هذا الشيء لها،فهذا الشيء جزء من قوامها...»إلى آخر ما ذكره.

هذا مع كونه متضمّنا للإشارة إلى ثبوت النّفس للنبات و الحيوان،و إلى كونها داخلة في قوامها،غير خارجة عنها،بيان لكون النفس في النبات و الحيوان،بل في الإنسان أيضا جزءا من قوامها في الخارج،لا جزءا يكون هو بالنسبة إليها بمنزلة الموضوع أو المادّة، و يكون به تلك الأشياء بالقوّة؛بل جزءا يكون به تلك الأشياء بالفعل،و به يتمّ وجودها من حيث هي نبات أو حيوان أو إنسان،و يكمل به قوامها بمنزلة الصّورة أو الكمال.و كذا هو بيان لكون النفس غير جسم.

و توضيح ما ذكره:أنّه إذا كانت الأشياء التي يرى أنّ النفس موجودة لها،كالنّبات و الحيوان التي أثبتنا بالبيان السابق وجودها لها،أجساما كما هو المشاهد.و إنّما يتمّ وجودها من حيث هي نبات و حيوان بوجود هذا الشيء الذي هو مبدأ لتلك الأفاعيل، و سمّيناه نفسا،حيث إنّها مع عدم وجود ذلك المبدأ لها لا تكون نباتا و لا حيوانا بالفعل، و لا يتمّ وجودها،بل تكون كسائر الأجسام غير النبات و الحيوان.فهذا الشيء جزء من

ص:23


1- في المصدر:بوجود هذا الشيء.

قوامها في الخارج.و أجزاء القوام كما عملت في مواضع أخرى هي قسمان:جزء به يكون الشيء هو ما هو بالفعل كالصّورة،و جزء به يكون الشيء هو ما هو بالقوّة كالموضوع؛و لا شكّ فيما نحن فيه أنّ البدن-أي جسم تلك الأشياء-من قبيل الثاني،فلو كان النفس أيضا من هذا القبيل،للزم أن لا يكون يتمّ الحيوان و النبات حيوانا و نباتا بالبدن،و هو ظاهر،و لا بالنفس،لكون المفروض حينئذ كونها مثل البدن في كون الشيء به هو ما هو بالقوّة.و حيث كان المفروض تماميّة وجودهما نباتا و حيوانا بالفعل بهذين الجزءين،أي البدن و ما سمّيناه نفسا،و لم يكن جزء آخر سواهما،فبقي أن يكون النفس من قبيل القسم الأوّل،أي جزء منهما به هما يكونان بالفعل،و لا يكون جسما و هو المطلوب.

و أيضا لو لم يتمّ وجود النبات و الحيوان نباتا و حيوانا بالفعل بالبدن و لا بالنفس، فيحتاج إلى كمال آخر به يتمّ و يكمل وجودها بالفعل،و هو المبدأ بالفعل،لما ذكرنا من الأفاعيل،و ذلك هو النفس،و هو الذي كلامنا فيه.فإنّا لا نعني بالنفس إلاّ ذلك المبدأ.و لا شكّ أنّه لا يمكن أن يكون ذلك الجسم الذي سمّيناه بدنا،فإن لم يكن هو النفس أيضا،بل كان غيرهما،فإن كان جسما آخر من حيث هو جسم،فالجسم حاله كما ذكر من أنّه لا يمكن أن يكون بجسميّته المطلقة التي يكون بها الشيء بالقوة مبدأ لما ذكر و كمالا لهما، و إن كان جسما بصورة ما و كمال ما،يكون به الشيء بالفعل،فلا يكون هذا الجسم أيضا من حيث هو جسم ذلك المبدأ و ذلك الكمال،بل يكون كونه مبدأ أو كمالا من جهة تلك الصّورة،و يكون صدور تلك الأحوال و الأفاعيل عن تلك الصورة بذاتها،و إن كان بتوسّط هذا الجسم الثاني؛فيكون المبدأ الأوّل لتلك الأحوال و الأفاعيل في النبات و الحيوان تلك الصورة المفروضة ثانيا،و يكون أوّل فعله بوساطة هذا الجسم،و يكون هذا الجسم جزءا من جسم الحيوان؛لكنّه أوّل جزء يتعلّق به المبدأ،و ليس هو بما هو جسم إلاّ من جهة كونه موضوعا لتلك الصورة التي هي المبدأ حقيقة لتلك الأحوال،و هي الجزء الذي يكون به الحيوان و النبات تماما بالفعل.

فتبيّن من ذلك أنّ النفس ليس بجسم،سواء كان الجسم هو الجسم المفروض أوّلا

ص:24

أو ثانيا،بل هو جزء للحيوان و النبات،به يتمّ وجودهما،سواء كان الجزء هو الجزء الذي فرضناه أوّلا أو ثانيا.و كيف ما كان،فذلك المبدأ الّذي سمّيناه نفسا جزء من الحيوان و النبات به يتمّ وجودهما بالفعل،سواء سمّيته صورة أو كالصورة،أو كمالا أو كالكمال، أو قوّة أو نحو ذلك من الأسامي.

فلنظر في ذلك و في أنّ إطلاق أيّ هذه الأسماء عليه أولى و أحرى؟

و قوله:«فنقول الآن:إنّ النفس يصحّ أن يقال[لها] (1)بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال:قوّة.و كذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما يقبلها من الصّور المحسوسة و المعقولة على معنى آخر:قوّة».

هذا نظر في أنّه هل يصحّ عليه إطلاق القوّة أم لا؟و حيث كان بيانه يستدعي تفسير معاني القوّة و شرحها،فلنذكرها حتّى يتّضح المقصود.

فنقول:قال الشيخ في«إلهيّات الشفاء»في فصل«في القوّة و الفعل و القدرة و العجز» (2):إنّ لفظة القوّة و ما يرادفها قد وضعت أوّل شيء للمعنى الموجود في الحيوان، الذي يمكنه بها أن تصدر عنه أفعال شاقّة من باب الحركات ليست بأكثريّة الوجود عن الناس في كيفيّتها أو كمّيّتها (3)،و يسمّى ضدّه (4)الضعف،و كأنّها زيادة و شدّة من المعنى الذي هو القدرة،و هو أن يكون الحيوان بحيث يصدر عنه الفعل إن (5)شاء،و لا يصدر عنه إذا لم يشأ،الّتي ضدّها عجز (6).

ثمّ نقلت عنه،فجعلت للمعنى الذي لا ينفعل له و بسببه الشيء بسهولة،و ذلك لأنّه كان يعرض لمن يزاول الأفعال و التحريكات الشاقّة أن ينفعل أيضا منها،و كان انفعاله و الألم الذي يعرض له منه يصدّه عن إتمام فعله،فكان إن انفعل انفعالا محسوسا قيل:له ضعف و ليس (7)له قوّة،و إن لم ينفعل قيل:إنّ له قوّة.فكان«أن لا ينفعل»دليلا على المعنى

ص:25


1- -في المصدر؛و مرّت في ص 10. [1]
2- -الشفاء- [2]الإلهيّات170/-176،الفصل الثاني من المقالة الرابعة، [3]أو فست مكتبة المرعشي-قم،عن طبعة القاهرة (1380 ه-1960 م).
3- في المصدر:في كمّيّتها و كيفيّتها...
4- ضدّها...
5- إذا شاء...
6- العجز...
7- و ليست له.

الذي سمّيناه أوّلا قوّة.

ثمّ جعلوه اسم هذا المعنى،حتّى صار كونه بحيث لا ينفعل إلاّ يسيرا تسمّى (1)قوّة،و إن لم يفعل شيئا.

ثمّ جعلوا الشيء لا ينفعل البتّة أولى بهذا الاسم،فسمّوا حالته من حيث هو كذلك قوّة.

ثمّ صيّروا القدرة نفسها(و هي الحالة التي للحيوان،و بها يكون له أن يفعل و أن لا يفعل بحسب عدم المشيئة و زوال العوائق)قوّة،إذ هو مبدأ الفعل.

ثمّ أنّ الفلاسفة نقلوا اسم القوّة،فأطلقوا لفظة (2)القوّة على حال يكون (3)في الشيء،هو مبدأ تغيّر يكون منه في الآخر من حيث ذلك آخر،و إن لم تكن (4)هناك إرادة؛حتّى سمّوا الحرارة قوّة،لأنّها مبدأ تغيّر من آخر في آخر بأنّه آخر،حتّى أنّه إذا حرّك نفسه أو عالج نفسه و كان مبدأ التغيّر منه فيه،فليس ذلك فيه من حيث هو قابل للعلاج و (5)الحركة،بل من حيث هو آخر،بل كأنّه شيئان:شيء له قوّة أن يفعل،و شيء له قوّة أن ينفعل.و يشبه أن يكون الأمران منه مفرّقين (6)في جزءين،فيكون مثلا المحرّك في نفسه،و المتحرّك في بدنه؛ و هو المحرّك بصورته،و المتحرّك بمادّته؛فهو من حيث يقبل العلاج غير،لذاته من حيث يعالج.

ثمّ بعد ذلك لمّا وجدوا للشيء (7)الذي له قوّة بالمعنى المشهور-قدرة كانت أو شدّة قوّة-ليس من شرط تلك القوّة (8)أن يفعل»و إمكان«أن لا يفعل»،نقلوا اسم القوّة إلى الإمكان،فسمّوا الشيء الذي وجوده في حدّ الإمكان:موجودا بالقوّة،و سمّوا إمكان قبول الشيء و انفعاله:قوّة انفعاليّة.

ثمّ سمّوا تمام هذه القوّة:فعلا،و إن لم يكن فعلا بل انفعالا،مثل تحرّك أو تشكّل أو غير ذلك.فإنّه لمّا كان هناك المبدأ الذي يسمّى قوّة،و كان الأصل الأوّل في المسمّى

ص:26


1- في المصدر:يسمّى قوّة...
2- لفظ القوّة...
3- تكون في...
4- و إن لم يكن...
5- أو الحركة...
6- مفترقين في جزءين...
7- وجدوا الشيء...
8- تلك القوّة أن يكون بها فاعلا بالفعل،بل له من حيث القوّة إمكان أن يفعل.

بهذا الاسم إنّما هو على ما هو بالحقيقة فعل،سمّوا هذا الذي قياسه إلى ما سمّوه الآن:قوّة، كقياس الفعل إلى المسمّى قديما قوّة باسم الفعل،و يعنون بالفعل حصول الوجود،و إن كان ذلك الأمر انفعالا أو شيئا ليس هو فعلا و لا انفعالا.فهذه هي القوّة الانفعاليّة،و ربّما قالوا:

قوّة لجودة هذه و شدّتها.

و المهندسون لمّا وجدوا بعض الخطوط من شأنه أن يكون ضلع مربّع.و بعضها ليس ممكنا له أن يكون ضلع ذلك المربّع،جعلوا ذلك المربّع قوّة ذلك الخطّ،كأنّه أمر ممكن فيه، و خصوصا إن (1)تخيّل بعضهم أنّ حدوث هذا المربّع هو بحركة ذلك الضلع على مثل نفسه.

و إذا (2)عرفت القوّة فقد عرفت القويّ،و عرفت أنّ غير القويّ:إمّا الضعيف،و إمّا العاجز،و إمّا السهل الانفعال،و إمّا الضروريّ،و إمّا أن لا يكون المقدار الخطيّ ضلعا لمقدار سطحيّ مفروض.

و قد يشكل من هذه الجملة أمر القوّة الّتي بمعنى القدرة،فإنّها يظنّ أنّها لا تكون موجودة إلاّ لما من شأنه أن يفعل،و من شأنه أن لا يفعل.فإن كان من (3)شأنه أن يفعل فقط، فلا يرد (4)أنّ له قدرة،و هذا ليس بصادق.فإنّه إن كان هذا الشيء الذي يفعل فقط،يفعل من غير أن يشاء و يريد،فذلك ليس له قدرة و لا قوّة بهذا المعنى،و إن كان يفعل بإرادة،إلاّ أنّه دائم الإرادة و لا يتغيّر إرادته (5)وجودا اتّفاقيّا،أو يستحيل تغيّرها استحالة ذاتيّة.فإنّه يفعل بقدرة.و ذلك لأنّ حدّ القدرة التي يؤثرون هؤلاء أن يحدّوها به موجود هنا (6)،و ذلك لأنّ هذا يصحّ عنه أن يفعل إذا شاء و أن لا يفعل إذا لم يشأ،و كلا هذين شرطيّان.أي أنّه إذا شاء فعل،و إذا لم يشأ لم يفعل،و أنّهما (7)داخلان في تحديد القدرة على ما هما شرطيّان، و ليس من صدق الشرطيّ أن يكون هناك استثناء بوجه من الوجوه،أو صدق حمل (8)،فإنّه ليس إذا صدق قولنا:«إذا لم يشأ لم يفعل»يلزم أن صدق«لكنه لم يشأ وقتا (9)»،و أنه (10)إذا كذب«أنه لا يشاء 10البتّة»يوجب (11)كذب قولنا:«و إذا لم يشأ لم يفعل»فإن هذا يقتضي

ص:27


1- في المصدر:إذ تخيّل...
2- و إذ قد عرفت...
3- كان لما من...
4- فلا يرون أنّ...
5- و إرادته...
6- موجود هاهنا...
7- و إنما هما...
8- صدق حمليّ...
9- وقتا ما...
10- أنّه لم يشأ...
11- يوجب ذلك.

أنّه لو كان لا يشاء لما كان يفعل،كما أنه إذا شاء فيفعل.فإذا (1)صحّ أنّه إذا شاء فعل،صحّ أنّه إذا فعل فقد شاء.أي إذا فعل فعلا (2)من حيث هو قادر،فيصحّ أنه إذا لم يشأ لم يفعل، و إذا لم يفعل لم يشأ.و ليس في هذا أنّه يلزم أن لا يشاء وقتا ما،و هو بيّن لمن عرف المنطق.

و هذه القوى التي هي مبدأ الحركات (3)و الأفعال،بعضها قوى تقارن النطق أو التخيّل، لأنّه (4)،يكاد أن يعلم بقوّة واحدة الإنسان و اللاإنسان،و يكون بقوة واحدة أن يتوهّم (5)أمر اللذّة و الألم،و إن لم يتوهّم (6)بالجملة الشيء و ضدّه.

و كذلك هذه القوى أنفسها أو خادمها تكون قوّة على الشيء و على ضدّه،لكنّها بالحقيقة لا تكون قوّة تامّة،أي مبدأ التغيّر من آخر (7)في آخر بأنّه آخر بالتمام و بالفعل،إلاّ إذا اقترن بها الإرادة منبعثة عن اعتقاد وهميّ تابع لتخيّل شهو انّي أو غضبيّ،أو عن رأي عقليّ تابع لفكرة عقلية،أو تصوّر صورة عقليّة.فيكون (8)إذا اقترن بها تلك الإرادة و لم تكن إرادة مخيّلة بعد،بل إرادة جازمة،و هي التي هي الإجماع الموجب لتحريك الأعضاء،صارت لا محالة مبدأ بالفعل للفعل (9)بالوجوب،إذ قد بيّنّا أنّ العلّة ما لم تصر علّة بالوجوب حتّى يجب عنها الشيء،لم يوجد عنها المعلول؛و قبل هذه الحال فإنّما تكون الإرادة ضعيفة لم يقع إجماع.فهذه القوى المقارنة للنّطق بانفرادها،لا يجب من حضور منفعلها و وقوعها (10)منها بالنسبة التي إذا فعلت فيه فعلت بها،و أن يكون (11)يفعل بها و هي بعد قوّة.

و بالجملة لا يلزم من ملاقاتها للقوّة المنفعلة أن تفعل ذلك،و ذلك لأنّه لو كان يجب عنها وحدها أن تفعل،لكان يجب من ذلك أن يصدر عنها الفعلان المتضادّان و المتوسّطان (12)بينهما،و هذا محال؛بل إذا صارت كما قلنا فإنّها تفعل بالضرورة.

ص:28


1- في المصدر:و إذا صحّ...
2- إذا فعل من حيث...
3- للحركات...
4- و التخيّل،و بعضها قوى لا تقارن ذلك.و التي تقارن النطق و التخيّل تجانس النطق و التخيّل،فإنّه يكاد...
5- لقوّة واحدة أن تتوهّم...
6- و أن تتوهّم بالجملة...
7- مبدأ تغيّر من أمر لآخر...
8- فتكون...
9- مبدأ للفعل...
10- و وقوعه منها...
11- فعلت فيه فعلا،فعلت بها أن يكون يفعل...
12- و المتوسّطات.

و أمّا القوة (1)الّتي في غير ذوات النّطق و التخيّل،فإنّها إذا لاقت القوّة المنفعلة وجب هناك الفعل،إذ ليس هناك إرادة و اختيار ينتظر (2)،فإن انتظر هناك فيكون طبع منتظر (3)فإذا كان يحتاج إلى طبع،فلذلك الطبع هو إمّا المبدأ للأمر أو جزء (4)من المبدأ.و المبدأ مجموع ما كان قبل و ما حصل،و يكون حينئذ نظيرا للإرادة المنتظرة،لكنّ الإرادة تفارق هذا من حيث تعلم.

و القوّة الانفعاليّة أيضا التي يجب إذا لاقت الفاعل أن يحدث الانفعال في هذه الأشياء،هي القوّة الانفعاليّة التامّة؛فأنّ القوّة الانفعاليّة قد تكون تامّة و قد تكون ناقصة، لأنّها قد تكون قريبة و قد تكون بعيدة،فإنّ في المنيّ قوّة أن يصير رجلا،و في الصبيّ أيضا قوّة أن يصير رجلا،لكنّ القوّة التي في المنيّ تحتاج إلى أن تلقاها أيضا قوّة محرّكة قبل التحرّك إلى الرجليّة،لأنّها تحتاج أن تخرج إلى الفعل شيئا ما غير الرجل،ثمّ بعد ذلك يتهيّأ أن يخرج (5)إلى الفعل رجلا بالحقيقة،فإن (6)القوّة الانفعاليّة الحقيقيّة هي هذه.و أمّا المنيّ فبالحقيقة ليست فيه بعد قوّة انفعاليّة،فإنّه يستحيل أن يكون المنيّ و هو منيّ ينفعل رجلا،لكنّه لمّا كان في قوّته أن يصير شيئا (7)غير المنيّ ثمّ انتقل (8)بعد ذلك إلى شيء آخر، كان هو بالقوّة أيضا ذلك الشيء،بل المادّة الاولى هي بالقوّة كلّ شيء.فبعض ما يحصل فيها يعوقها عن بعض،فيحتاج المعوق عنه إلى زواله،و بعض ما فيه لا يعوق عن بعض آخر،و لكنّه يحتاج إلى قرينة اخرى حتّى يتمّ الاستعداد،و هذه القوى هي بعيدة (9).

و أمّا القوة القريبة فهي الّتي لا تحتاج إلى أن تقارنها قوّة فاعليّة قبل القوّة الفاعليّة التي تنفعل عنها،فإنّ الشجرة ليست بالقوّة مفتاحا،لأنّها تحتاج إلى أن يلقاه (10)أوّلا قوّة فاعليّة غير (11)الفاعليّة المفتاحيّة،و هي القوّة القالعة و الناشرة و الناحتة،ثمّ بعد ذلك يتهيّأ لأن ينفعل (12)من ملاقاة القوّة الفاعليّة للمفتاحيّة مفتاحا (13).

و القوى بعضها يحصل بالطباع،و بعضها يحصل بالعادة،و بعضها بالصّناعة،و بعضها

ص:29


1- في المصدر:القوى...
2- تنتظر...
3- ينتظر...
4- و إمّا جزء...
5- أن تخرج...
6- رجلا،و بالحقيقة فإنّ...
7- شيئا من قبل...
8- ثمّ ينتقل...
9- قوّة بعيدة...
10- تلقاها...
11- قبل الفاعليّة...
12- تتهيّأ لأن تنفعل...
13- للمفتاحيّة.و القوى.

يحصل بالاتّفاق،و الفرق بين الّذي يحصل بالصناعة و الّذي يحصل بالعادة،أنّ الذي يحصل بالصناعة هو الّذي يقصد فيه استعمال موادّ و آلات و حركات،فتكسب النفس ملكة بذلك (1)كأنّها صورة تلك الصناعة.و أمّا الّذي بالعادة،فهو ما يحصل من أفاعيل ليست مقصودة فيها ذلك، (2)بل إنّما تصدر عن شهوة أو غضب أو رأي،أو يتوجّه فيها القصد إلى غير هذه الغاية ثمّ يتبعها (3)غاية هي العادة،و لم تكن تقصد،و لا تكون العادة بنفس ثبوت صورة (4)تلك الأفاعيل في النفس.و ربّما لم تكن (5)للعادة آلات و مواد معيّنة، فإنّه لا سواء أن يعتاد إنسان المشي و أن يعتاد النّجارة (6)من الجهة التي قلنا،و بينهما تفاوت شديد.

ثمّ مع ذلك (7)،فإنّك إذا دقّقت النظر،عاد حصول العادة و الصناعة إلى جهة واحدة.

و القوى التي بالطبع (8)،منها ما يكون في الأجسام الغير الحيوانيّة،و منها ما يكون في الأجسام الحيوانيّة».انتهى (9).

ثمّ إنّه حقّق الكلام في إثبات العادة لكلّ متكوّن،و كون كلّ حادث مسبوقا بالمادّة بما لا مزيد عليه.و قال في آخره (10):«و نحن نسمّي إمكان الوجود قوّة الوجود،و نسمّي حامل الوجود (11)الذي فيه قوّة وجود الشيء موضوعا و هيولى و مادّة و غير ذلك بحسب اعتبارات مختلفة،فإذن كلّ حادث فقد تقدّمته المادّة»انتهى.

و قال صدر الأفاضل في(الشواهد الربوبيّة)في الإمكان و الوجوب و القوّة و الفعل (12):

«إنّ الإمكان (13)معناه سلب ضرورة الوجود و العدم عن الماهيّة،و هو صفة عقليّة لا يوصف بها ما لا مادّة في الخارج و لا في نفس الأمر.فالمبدعات إنّما لها في نفس الأمر الوجود

ص:30


1- في المصدر:بذلك ملكة...
2- ليست مقصورة فيها ذلك فقط...
3- ثمّ قد تتبعها...
4- نفس ثبوت ذلك...
5- يكن...
6- التجارة...
7- و مع ذلك...
8- تكون بالطبع...
9- -الشفاء- [1]الإلهيّات 170-176. [2]
10- -نفس المصدر182/. [3]
11- حامل قوّة الوجود...
12- -الشواهد الربوبيّة83/-84، [4]تعليق و تصحيح السيّد جلال الدين الآشتياني،أوفست«مركز نشر دانشگاهى»، 1360 ه-.
13- الإمكان معناه.

و الوجوب،و هي ممكنة بحسب اعتبار ماهيّتها من حيث هي هي،مع قطع النظر عن استنادها إلى جاعلها التامّ.و عدم اعتبار الشيء لا يوجب اعتبار عدمه،فهي ممكنة لا في نفس الأمر،بل في مرتبة من مراتبها،و لا محذور فيه؛إذ الإمكان مفهوم عدميّ،و عدم الشيء في نحو من نفس الأمر لا يوجب عدمه فى نفس الأمر.فالمبدعات ضروريّة الوجود في الواقع،ممكنة الوجود بعض الاعتبارات.و نسبة الإمكان إلى الوجوب نسبة النقص إلى الكمال،و لهذا (1)يجامعه.و أمّا إمكان الحادث فهو قبل وجود الحادث،إذ كلّ كائن فإنّه قبل كونه ممكن الوجود لا واجب و لا ممتنع،فلا بدّ من (2)مادّة أو موضوع أو متعلّق به يحمل إمكانه.و هذا الإمكان ليس مجرّد ممكنيّة الشيء بل ما به يصير ممكن الوجود،و لهذا يتفاوت قربا و بعدا؛فالقريب استعداد و البعيد قوّة.و القوّة قد يقال لمبدإ التغيّر في آخر من حيث هو آخر،سواء كان فعلا أو انفعالا،و يقال لما به يجوز أن يصدر عن الشيء فعل أو انفعال و أن لا يصدر،و هي القوّة التي تقابل (3)الفعل؛و يقال لما به يكون الشيء غير متأثّر عن مقاوم،و يقابله الضعف.

ثمّ القوّة المنفعلة (4)قد تكون مرميّة (5)نحو القبول دون الحفظ كالماء (6)،و في الشمعة قوّة عليهما جميعا،و قد تكون (7)قوّة على واحد أو أمور محدودة،و في الهيولى الاولى قوّة الجميع إذ لا صورة لها،و لكن تقوى بتوسّط شيء على شيء.

و قوّة الفاعل قد تكون (8)محدودة،نحو أمر واحد كالنار على الإحراق؛و قد تكون (9)على امور كثيرة،كقوّة المختار على ما يختار،و قوّة الباري على الكلّ.

و القوّة الفعليّة المحدودة إذا لاقت القوّة المنفعلة،وجب الفعل.

و القوّة الفعليّة قد تسمّى قدرة،و هي إذا كانت مع شعور و مشيئة.و قد يظنّ أنّها ليست قدرة الاّ لما في (10)شأنه الطرفان:الفعل و الترك.و أمّا الفاعل الدائم فالمتكلّمون لا يسمّونه قادرا.و الحقّ خلافه؛فمن فعل بمشيئة يصدق عليه أنّه لو لم يشأ لم يفعل،سواء

ص:31


1- في المصدر:و لذا...
2- فلا بدّ له من...
3- الذي يقابل...
4- قوّة المنفعل...
5- ماهيّة...
6- كما في الماء...
7- يكون قوّة...
8- يكون محدودة...
9- قد يكون...
10- من شأنه.

اتّفق عدم المشيئة او استحال.و صدق الشرطيّة لا يتوقّف على صدق طرفيها.

و القوّة الفعليّة قد تكون (1)مبدأ الوجود و قد تكون (2)مبدأ الحركة.

و الإلهيّون يعنون بالفاعل مبدأ الوجود و مفيده،و الطبيعيّون يعنون به مبدأ التحريك كما مرّ.و الأحقّ باسم الفاعل من يطرد العدم بالكليّة عن الشيء من غير شوب نقص و تنزيه. (3)

ثمّ القوى التي من (4)مبادي الحركات،بعضهما يقارن النطق و التخيّل،و بعضها لا يكون،و الاولى لا يصدر عنها الشيء وحدها،فلا تكون (5)قوّة تامّة،و إنّما تتمّ (6)إذا اقترنتها إرادة جازمة تتوقّف (7)على علم بداع فيجب الفعل،فالقدرة فيها غير (8)القوّة و الاستعداد،و لهذا قيل:الانسان مضطرّ في صورة مختار (9).

و اعلم أنّ الحركة لا بدّ لها من قابل و فاعل،و لا يجوز أن يكونا واحدا،لأنّ أحدهما مكمّل مفيد و الآخر مستكمل مستفيد،فكلّ جسم متحرّك فله محرّك غيره،و لو كان الجسم-بما هو جسم-متحرّكا (10)لم يسكن البتّة،و لكان (11)الأجسام كلّها متحرّكة دائما، فالمحرك لا يحرّك نفسه،بل لشيء لم يكن هو في نفسه (12)متحرّكا،فيكون حركته بالقوّة، و الحارّ كيف يسخن نفسه،بل لشيء يكون السخونة فيه بالقوّة.

فكلّ متحرّك يحتاج إلى ما يخرجه من القوّة إلى الفعل،و هذا الخروج هو الحركة.

و الحركة أمر وجودها خروج الشيء من القوّة إلى الفعل لا دفعة،يقابلها (13)أمر بالقوّة بما هو بالقوّة.

و من هنا ظهر بالبرهان«أنّ كلّ جسم مركّب من الهيولى و الصورة،لأنّ كلّ جسم -بما هو جسم-أمر بالفعل،و بما هو قابل للحركة أمر بالقوة،و هما متقابلان،و هاهنا (14)كثرة»، (15)انتهى كلامه(ره).

ص:32


1- في المصدر:قد يكون...
2- و قد يكون...
3- و شرّيّة...
4- التي هي...
5- و الاولى يصدر عنها الشيء و ضدّه فلا يكون...
6- و إنّما يتمّ...
7- يتوقّف...
8- عين القوّة...
9- -القول لأرسطوطاليس.انظر صوان الحكمة144/. [1]
10- بما هو متحرّكا...
11- و لكانت...
12- لم يكن في نفسه...
13- فقابلها أمر...
14- متقابلات،هاهنا..
15- -الشواهد الربوبيّة82/-84. [2]

و أقول:لا يخفى عليك أنّ مراد الشيخ بقوله هاهنا:«إنّ النفس يصحّ أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال:قوّة،و كذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما تقبلها من الصور المحسوسة و المعقولة على معنى آخر:قوّة»كما هو ظاهر هذا الكلام، و كذا المصرّح به فيما بعد في بيان أولويّة إطلاق الكمال على النفس من إطلاق القوة عليها،أنّه يصحّ أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال،بالمعنى المقابل للانفعال كالتحريكات:قوّة بمعنى الفعل بهذا المعنى،و كذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما تقبلها من الصّور المحسوسة و المعقولة،أي بالقياس إلى ما يصدر عنها من الانفعالات،كالاحساسات و الإدراكات الجزئيّة و الكلّيّة:قوّة بمعنى آخر،أي قوّة بمعنى مبدأ الانفعال.

و لا يخفى أيضا أنّ ما ذكره أخيرا في بيان الأولويّة أنّ إطلاق القوّة عليها بمعنى مبدأ الفعل مثلا،ليس أولى من إطلاقها عليها بمعنى مبدأ الانفعال؛و كذا بالعكس.فحينئذ لو اطلق لفظة القوّة على النفس في تحديدها،فإمّا أن يراد بها أحد المعنيين دون الآخر،فيرد عليه-مع ما ذكر من عدم أولويّة إرادة أحد المعنيين دون الآخر-أنّه لا يتضمّن الدلالة على ذات النفس من حيث هي نفس مطلقا،بل من جهة دون اخرى،أي من جهة كونها مبدأ الفعل مثلا،دون جهة كونها مبدأ الانفعال،أو بالعكس،و إمّا أن يراد بها المعنيان جميعا،فيرد عليه أنّه يكون باشتراك الاسم؛حيث إنّ لفظة القوّة مشترك بين معنيين اشتراكا لفظيّا،فيكون من قبيل ذكر الألفاظ المشتركة في التحديد.و قد بيّن في الكتب المنطقيّة أنّ ذكر الألفاظ المشتركة في التحديدات،و كذا الدلالة على المحدود من وجه دون آخر،غير جيّد و لا صواب.

و هذا بخلاف إطلاق الكمال على النفس.حيث إنّ معنى الكمال كما بيّن المراد به، أي ما به يكمل و يتمّ وجود الشيء شيئا بالفعل،كوجود النبات نباتا بالفعل،و الحيوان حيوانا بالفعل،و ان كان مشتركا أيضا بين المعنيين،لكن اشتراكا معنويّا،و مع ذلك جامع لجميع أنواع النفس؛فإنّ النفس من جهة القوّة التي بها يستكمل إدراك الحيوان-أي هي

ص:33

مبدأ الانفعال-كمال،و من جهة القوّة التي بها يصدر عنها أفاعيل الحيوان كالتحريكات- أي هي مبدأ الفعل-كمال أيضا.و كذلك النفس المفارقة كالنفس الإنسانيّة كمال،و النفس التي لا تفارق كالنباتيّة و الحيوانيّة أيضا كمال.

و لا يخفى أيضا أنّ ما ذكره في وجه الأولويّة إنّما يتمّ لو كان اشتراك القوّة بين المعنيين اشتراكا لفظيّا،فإنّه لو كان اشتراكها بينهما معنويّا كما هو المحتمل،بل الظاهر من كلماتهم كما سنبيّنه،و أريد بها في التحديد القدر المشترك بينهما،لم يتوجّه ما ذكره في وجه الأولويّة،بل كان ذكر القوّة في تحديد النفس من قبيل ذكر الكمال،في كون الاطلاق على المعنيين بمعنى واحد مشتركا،و كونه جامعا لجميع أنواع النفس،و لا تفاوت بينهما إلاّ في الدلالة على كون النفس كمالا للنبات و الحيوان،كما في صورة ذكر الكمال،و عدم الدلالة على ذلك كما في صورة ذكر القوّة.و هذه الدلالة-على تقدير إمكان كونها وجها للأولويّة المذكورة-أنّما تكون وجها آخر غير ما ذكره الشيخ،و كلامنا إنّما هو في الوجه الذي نظره إليه.

و أمّا بيان احتمال كون اشتراك القوّة-بالمعنى المراد هاهنا-اشتراكا معنويّا بين المعنيين و بين جميع أنواع النّفس،فلأنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما نقلنا عن الشيخ في إلهيّات الشّفاء من معاني لفظ القوّة،و ما نقلنا عن صدر الأفاضل(و كأنّه تلخيص ما في الشفاء من وجه)،علمت أنّ لفظة القوّة،و إن اطلقت لغة و اصطلاحا على معان متعدّدة،إلاّ أنّ المعنى المناسب الذي به يصحّ إطلاق هذه اللفظة على النّفس،نباتيّة كانت أم حيوانيّة،هو القوّة،بمعنى مبدأ التغيّر من شيء في آخر من حيث إنّه آخر،حيث إنّ النّفس أيضا من جهة أفاعيلها و تحريكاتها مبدأ التغيّر في بدنها،من حيث إنّ البدن غيرها ذاتا؛و كذلك هي من جهة إحساساتها و إدراكاتها و انفعالاتها مبدأ التغيّر في آلاتها،من حيث إنّها غيرها ذاتا،و كذا في نفسها،من حيث إنّها غيرها بهذا الاعتبار.

و بالجملة،فالمعنى الذي به يصحّ إطلاق لفظ القوّة على النّفس لو أطلق،إنّما هو هذا المعنى،لا غيره من المعاني الأخر المذكورة؛و كأنّه لذلك ترى المحقّق الطوسيّ(ره)في

ص:34

مواضع عديدة من كلامه فى شرحه للإشارات-حيث إنّ الشيخ أطلق لفظة القوّة، و أراد بها الصّورة النوعيّة أو الطبيعة،أو الكيفيّة أو مشاعر النّفس و قواها-فسّرها بمبدإ التغيّر من شيء في آخر من حيث هو آخر.

و قال في بعض تلك المواضع التي أطلق فيه الشيخ القوّة على الكيفيّة،و ذكر أنّ القوى قد تكون مهيّأة نحو الفعل،كالحرارة و البرودة و غيرهما: (1)«إنّ (2)القوى مبادي التغيّرات و هي بحسب ماهيّاتها (3)قد تكون صورا،و قد تكون كيفيّات،و المراد هاهنا الكيفيّات.و تهيؤها نحو الفعل هي أن تجعل موضوعاتها معدّة للفعل،فإنّ الفاعل بها هو موضوعاتها،فالقوّة المهيّئة نحو الفعل كيفيّة يصير بها موضوعها معدّا للتأثير في شيء آخر،فهي مبدأ للتغيّر،و القوّة المهيّئة نحو الانفعال كيفيّة يصير بها موضوعها معدّا للتّأثّر (4)عن شيء آخر،فهي مبدأ التغير».

و لا يخفى أنّ النّفس من قبيل الصور التي هي مبادي التغيّر،و قد أطلق في بعض تلك المواضع لفظ القوّة بهذا المعنى على النّفس النّباتيّة و على النّفس الحيوانيّة و على الفلكيّة أيضا،و ذكر أنّ هذه القوى الثلاث تسمّى نفوسا،كما يظهر لمن تصفّح كلامه.

و لا يخفى أيضا أنّ القوّة بهذا المعنى الذي اريد في إطلاقها على النّفس-أي مبدأ التغيّر-معنى واحد مشترك بين معنيي القوّة،أي القوّة بمعنى مبدأ الفعل،و القوّة بمعنى مبدأ الانفعال و القبول؛فإنّ كلاّ من الفعل و الانفعال ممّا يصدق عليه كونه تغيّرا من وجه.فمعنى مبدأ التغيّر معنى واحد مشترك بين المعنيين اشتراكا معنويّا،و كأنّه لذلك قال صدر الأفاضل في تفسير القوّة بهذا المعنى:«إنّ (5)القوّة قد يقال لمبدإ التغيّر (6)في آخر من حيث هو آخر،سواء كان فعلا أو انفعالا» (7).

و ممّا يؤيّد ما ذكرنا أنّه يظهر من الشيخ نفسه في بيان معاني القوّة أنّه-حيث

ص:35


1- -شرح الإشارات 243/2.
2- في المصدر:القوى قد مرّ أنّها مبادي...
3- ماهيّاتها...
4- للتأثير...
5- و القوّة...
6- التغيير.
7- -الشواهد الربوبيّة 82، [1]تعليق و تصحيح السيد جلال الدين الآشتياني.

فسّر القوّة بمعنى مبدأ التغيّر-أدرج القوّة الفاعلة و القوّة المنفعلة تحته،و جعل كلاّ منهما قسما منه.

و قد قال الحكيم ابن رشد المغربيّ في جامع الفلسفة في تحقيق القوّة الغاذية:«إنّ القوّة يقال بضرب من التشكيك على الملكات و الصور حين ليس تفعل،كما يقال في النّار إنّها محرقة بالقوّة،إذا لم تحضرها المادّة الملائمة للإحراق،و على القوى المنفعلة،كما يقال في الخبز إنّه دم بالقوّة،و في الدم إنّه لحم بالقوّة و ذلك إذا لم يحضر المحرّك.»هذا كلامه.

و هو يدلّ أيضا على اشتراك القوّة بين القوى الفاعلة و المنفعلة اشتراكا معنويّا،حيث إنّ التشكيك مبنيّ عليه،و إن كان في كلامه خلطا بين القوّة بمعنى مبدأ التغيّر و القوّة بمعنى الإمكان،أي الاستعداديّ،فإنّ الظّاهر منه أنّه أراد بالقوّة مبدأ التغيّر لا مطلقا،بل من جهة كون تغيّره في حدّ الإمكان.فتدبّر.

و بالجملة فليس يظهر ممّا نقلنا من كلماتهم و لا من غيرها أنّهم جعلوا القوّة بمعنى مبدأ التغيّر موضوعة على حدة بوضع لغويّ و اصطلاحيّ لمعنى القوّة الفاعلة،و بوضع آخر كذلك لمعنى القوّة المنفعلة،حتّى يكون اشتراكها بينهما اشتراكا لفظيّا،و لا يصحّ ذكرها في مقام تحديد النّفس،لكون استعمال اللفظة المشتركة مخلا بالتحديد،بل الظاهر أنّ القوّة بهذا المعنى مشتركة بين القسمين اشتراكا معنويّا،كالكمال،و لا تفاوت بينهما إلاّ فيما ذكرنا.

فإن قلت:هب أنّ القوّة بهذا المعنى مشتركة معنى بين القسمين،لكن لا يخفى أنّها وردت لغة و اصطلاحا لمعان متعدّدة،لا سترة في أنّها وضعت لكلّ منها وضعا على حدة إذ ليس بينها قدر مشترك معنويّ،فيكون اشتراكها بين هذا المعنى و بين تلك المعاني اشتراكا لفظيّا،فحينئذ نقول:إذا ذكرت تلك اللفظة في مقام تحديد النّفس،كان استعمال اللفظة المشتركة اشتراكا لفظيّا في التحديد،و هو غير جيّد و لا صواب كما ذكره الشيخ.

قلت:هذا مع أنّه ليس ممّا كان نظر الشيخ إليه يمكن دفعه،بأنّا إذا ذكرنا هذه اللفظة

ص:36

في مقام التحديد و أردنا بها هذا المعنى الذي ذكرنا؛فإن كان المتبادر بقرينة المقام إرادة هذا المعنى خاصّة دون ما عداه من المعاني فلا إشكال،و إن لم يكن ذلك متبادرا،فلا سترة في أنّه يمكننا أن نقيّد القوّة بقيد تكون به مختصّة بالقوّة بهذا المعنى،و ينتفي إرادة المعاني الأخر،و لا يكون ذلك من استعمال اللفظ المشترك في التحديد.

فإن قلت:إنّ المتعارف الشائع في التحديدات عند القوم،أنّهم يذكرون أوّلا معنى عامّا بمنزلة الجنس يعمّ المحدود و غيره،ثمّ يقيّدونه بقيد واحد أو أكثر هو بمنزلة الفصل، به يختصّ ذلك المعنى.بل مجموع المقيّد،و القيد بالمحدود،و يخرج غيره.و فيما نحن بصدده،حيث كانت لفظة القوّة مشتركة لفظا بين تلك المعاني،و لم يكن هناك معنى عامّ مشترك،كما هو المفروض،لا يكون ذلك القيد بمنزلة الفصل،فكيف الحيلة في ذلك؟ فإنّك إن ذكرت ابتداء لفظة القوّة مطلقة،ثم قيّدتها بكونها مبدأ التغيّر،كأن قلت:إنّ النّفس قوّة هي مبدأ التغيّر،لم يكن الأوّل بمنزلة الجنس،و لا الثاني بمنزلة الفصل،كما عرفت.

و إن ذكرت لفظة مبدأ التغيّر بدون ذكر لفظة القوّة،لم يكن ذلك من إطلاق لفظة القوّة على النّفس في شيء كما هو المقصود،كما أنّك لو ذكرت لفظة القوّة و لم تذكر قيدا يخصّصها بمعنى مبدأ التغيّر،كان ذلك من استعمال اللفظة المشترك في التحديد.

قلت:الحيلة في ذلك يمكن أن تكون بأن نذكر أوّلا لفظة القوّة،ثمّ نتبعها بقيد يجعلها مختصّة بالمعنى المراد هاهنا،على أن يكون ذلك القيد تفسيرا للقوّة،لا بمنزلة الفصل.

كأن نقول:النّفس قوّة،أي مبدأ تغيّر.ثمّ إنّه لمّا كان قولنا:مبدأ تغيّر،معنى عامّا يشمل غير النّفس أيضا كالطبيعة،كما أنّه يشمل مبدأ التغيّر من حيث الفعل و الانفعال جميعا؛ نضعه كالجنس و نقيّده بقيد يكون بمنزلة الفصل،و يخرج به غير النّفس،كأن نقول:النّفس قوّة أي مبدأ تغيّر مقارنة للإرادة،و هذا كما أنّ الكمال لمّا كان شاملا للكمال الأوّل و الثاني،قيّدناه بالكمال الأوّل،حتّى يخرج الكمال الثاني.

ثمّ إنّه لمّا كان المقصود هنا تحديد النّفس بالقياس إلى البدن،قيّدناه بكونه كمالا أوّلا لجسم طبيعيّ آليّ يمكن أن يصدر عنه ما يصدر عن الأحياء،كما في التحديد الذي ذكره

ص:37

الشيخ،و هو المشهور بين القوم سواء بسواء؛فعلم من ذلك أنّه يصحّ إطلاق القوّة على النّفس،و كذا يصحّ تحديدها بما ذكرنا.و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّ قول الشيخ: (1)«و يصحّ أن يقال (2)أيضا بالقياس إلى استكمال الجنس بها نوعا محصّلا في الأنواع العالية أو السافلة كمال،لأنّ طبيعة الجنس تكون ناقصة غير محدودة ما لم يحصّلها (3)طبيعة الفصل البسيط و غير (4)البسيط منضافا إليها،فإذا انضاف كمل النوع، فالفصل كمال النوع بما هو نوع،و ليس لكلّ نوع فصل بسيط،قد علمت هذا،بل إنّما هو للأنواع المركّبة (5)من مادّة و صورة،و الصورة منهما (6)هو الفصل[البسيط]لما هو كماله (7)».

هذا بيان لانّه يصحّ إطلاق الكمال على النّفس،و لأن إطلاقه عليها على أيّ معنى و على أيّة جهة،و حيث كان بيان ذلك،و كذا بيان ما بعده يستدعي تمهيد مقدّمة،قد حقّقها الشيخ في موضع آخر،فلنذكر ذلك ثمّ نتبعه بشرح هذا الكلام.

فنقول:إنّه قال في إلهيّات الشفاء في فصل«في الفصل بين الجنس و المادة» (8):«إنّ الجسم قد يقال إنّه جنس الإنسان و قد يقال (9)إنّه مادّة الإنسان،فإن كان مادّة الإنسان، كان لا محالة جزءا من وجوده،و استحال أن يحصل ذلك الجزء على الكلّ،و لننظر (10)كيف يكون الفرق بين الجسم-و قد اعتبرناه مادّة-و بينه-و قد اعتبر جنسا-فهناك (11)يصير لنا سبيل إلى معرفة ما نريد بيانه.

فإذا أخذنا الجسم جوهرا ذا طول و عرض و عمق من جهة ما له هذا الشرط، و يشترط (12)أنّه ليس داخلا فيه معنى غير هذا،و بحيث لو انضمّ إليه معنى غير هذا،مثل حسّ أو تغذّ أو غير ذلك،كان خارجا عن الجسميّة و محمولا في الجسميّة و مضافا إليها (13)،فالجسم مادّة.

ص:38


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 6/2-7،الفصل الأول من المقالة الأولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:أن يقال لها أيضا...
3- تحصّلها...
4- أو غير البسيط...
5- المركّبة الذوات...
6- منها...
7- الفصل البسيط لما هو كماله...
8- -الشفاء- [2]الإلهيّات213/-216. [3]
9- قد يقال له إنّه...
10- فلننظره...
11- فهنالك...
12- هذا،و بشرط أنّه ليس داخلا...
13- كان معنى خارجا عن الجسميّة،محمولا في الجسميّة،مضافا إليها.

فإن (1)أخذنا الجسم جوهرا ذا طول و عرض و عمق،بشرط أن لا نتعرّض (2)بشرط آخر البتّة،و لا نوجب أن يكون (3)جسميّته لجوهريّة مصوّرة (4)بهذه الأقطار فقط،بل جوهريّته (5)كيف كانت و لو مع ألف معنى (6)لخاصّيّة تلك الجوهرية و صورة (7)و لكن معها و فيها (8)الأقطار.فللجملة أقطار ثلاثة على ما هي للجسم،و بالجملة أي مجتمعات تكون بعد أن تكون جملتها جوهرا ذا أقطار ثلاثة،تكون (9)تلك المجتمعات-إن كانت هناك مجتمعات-داخلة في هويّة ذلك الجوهر،لا أن تكون تلك الجوهريّة تمّت بالأقطار،ثمّ عرضت (10)تلك المعاني خارجة عن الشيء الذي قد تمّ،كان هذا المأخوذ و هو الجسم (11)الذي هو الجنس.

فالجسم بالمعنى الأوّل،إذ هو جزء من الجوهر المركّب من الجسم و الصّورة التي بعد الجسميّة التي بمعنى المادّة،فليس بمحمول،لأنّ تلك الجملة ليست بمجرّد جوهر ذي طول و عرض و عمق فقط.

و أمّا هذا الثاني،فإنّه محمول على كلّ مجتمع من مادّة و صورة،واحدة كانت أو ألفا، و فيها الأقطار الثلاثة،فهو إذن محمول على المجتمع من الجسميّة(التي كالمادّة)و من النّفس،لأنّ جملة ذلك جوهر،و إن اجتمع من معان كثيرة،فإنّ تلك الجملة موجودة لا في موضوع،و تلك الجملة جسم لأنها جوهر،و هو جوهر له طول و عرض و عمق.

و كذلك (12)الحيوان إذا اخذ حيوانا بشرط أن لا يكون في حيوانيّته إلاّ جسميّة و تغذّ و حسّ،و أن يكون ما بعد ذلك خارجا عنه،فربّما كان لا يبعد أن يكون مادّة للإنسان أو موضوعا و صورته النّفس الناطقة،و إن اخذ بشرط أن يكون جسما بالمعنى الذي يكون به الجسم جنسا،و في معاني ذلك الجسم على سبيل تجويز الحسّ و غير (13)ذلك من الصّور،و لو كان[وجود]النطق أو فصل يقابل النطق غير متعرّض لرفع شيء منها أو وضعه،بل مجوّزا وجود أيّ ذلك كان في هويّته،و لكن كان هناك معها بالضرورة قوّة

ص:39


1- في المصدر:و إن...
2- لا يتعرّض...
3- لا يوجب أن تكون...
4- متصوّرة...
5- جوهريّة...
6- معنى مقوّم لخاصيّة...
7- و صوره...
8- أو فيها...
9- و تكون...
10- ثم لحقت تلك...
11- المأخوذ هو الجسم...
12- و كذلك فإنّ الحيوان...
13- لا غير ذلك.

تغذية و حسّ و حركة ضرورة،و لا ضرورة في أن لا يكون غيرها أو يكون،كان حيوانا بمعنى الجنس.

و كذلك فافهم الحال في الحسّاس و الناطق،فإن اخذ الحسّاس جسما أو شيئا له حسّ،بشرط أن لا يكون زيادة اخرى،لم يكن فصلا،و إن كان جزءا من الإنسان، و كذلك (1)الحيوان،فإنّ الحيوان غير محمول عليه،و إن اخذ جسما أو شيئا مجوّزا له و فيه و معه،أي الصور و الشرائط كانت بعد أن يكون فيها حسّ،كان فصلا،و كان الحيوان محمولا عليه.

فإذن ايّ معنى أخذته ممّا يشكل الحال في جنسيّته أو مادّيّته (2)،فوجدته قد يجوز انضمام الفصول إليه أيّها كان على أنّها منه و فيه (3)،كان جنسا.

و إنّ أخذتها (4)من جهة بعض الفصول،و تمّمت به المعنى و ختمته،حتّى لو دخل شيء آخر لم يكن من تلك الجملة،بل مضافا من خارج،لم يكن جنسا،بل مادّة.

و إن أو جهت لها تمام المعنى،حتّى دخل فيه ما يمكن أن يدخل،صار نوعا.

و إن كنت في الإشارة إلى ذلك المعنى،لا تتعرّض لذلك،كان جنسا.فإذن باشتراط أن لا تكون زيادة يكون (5)مادّة،و باشتراط أن تكون زيادة يكون نوعا،و إن (6)لا تتعرض لذلك،بل يجوّز أن يكون كلّ واحد من الزّيادات على أنّها داخلة في جملة معناه،يكون جنسا،و هذا إنّما يشكل فيما ذاته مركّبة،و أمّا فيما ذاته بسيطة،فعسى أنّ العقل يفرض فيه هذه الاعتبارات في نفسه،على النحو الذي ذكرناه قبل هذا الفصل.و أمّا في الوجود، فلا يكون منه شيء متميّز هو جنس و شيء هو مادّة.انتهى كلامه.

ثمّ إنّه حقّق الكلام في بيان تقدّم بعض هذه الاعتبارات على بعض،و حاصله أنّ الجسميّة مثلا بمعنى المادّة متقدّمة في بعض وجوه التصوّر،بل بالذات أيضا على الحيوانيّة،و بمعنى الجنس متأخّرة عنها كذلك،و بهذا المعنى متأخّرة عن أنواع الحيوان أيضا كذلك،بل الحيوانيّة أيضا بهذا الاعتبار متأخّرة عن أنواعه،و بالاعتبار الأوّل

ص:40


1- في المصدر:و كذلك فإنّ الحيوان غير محمول...
2- مادّيّته من هذه فوجدته...
3- فيه و منه...
4- أخذته...
5- تكون...
6- و بأن.

متقدّمة عليها،و كذلك حال كلّ على جنس و نوع.انتهى بخلاصته.

و أقول:إنّ توضيح ما ذكره و تحريره،أنّا إذا أخذنا الجسم مثلا،مجرّد أنّه جوهر ذو طول و عرض و عمق من جهة ما له هذا المعنى،أي مركّبا من الهيولى الاولى و الصّورة الجسميّة المنفرضة فيها تلك الأقطار الثلاثة،و أخذناه بالنسبة إلى هذا المعنى بشرط شيء و شيئا محصّلا،لم يبق له تحصّل منتظر،و تمّمنا حقيقته و ختمناها به.ثمّ أخذناه بالنسبة إلى غير هذا المعنى من المعاني التي يمكن أن تدخل فيه أيّ معنى كان بشرط لا شيء،أي أنّه يشترط أنّه ليس داخلا فيه معنى غير هذا،أو أنّه بحيث لو انضم إليه و زيد عليه معنى غير هذا،مثل حسّ و تغذية أو غير ذلك من المعاني،كان ذلك المعنى الزائد خارجا عن الجسميّة و مضافا إليها زائدا عليها،كان الجسم المأخوذ بهذا الاعتبار مادّة؛أي مادّة خارجيّة بالمعنى الأخصّ،بالقياس إلى ما اعتبر مضافا إليه زائدا عليه و جزءا خارجيّا بالنسبة إلى المجموع المركّب منه،و ممّا اعتبرنا زائدا عليه متقدّما عليه في الوجودين؛ و علّة مادّية بالنسبة إليه،و غير محمول لا على ذلك المجموع،و لا على ما اعتبر زائدا عليه.

أمّا كونه مادّة كذلك،فلأنّ قياس إلى ما يمكن أن يؤخذ معه مضافا إليه،قياس المادّة الخارجيّة المقابلة إلى الصورة المقبولة التي يمكن اعتبار إضافتها إليها،و جعلها إيّاها شيئا محصّلا غير ما كان أوّلا.

و أمّا كونه جزءا خارجيّا بالنسبة إلى المجموع المركّب منه،و ممّا اعتبر زائدا عليه، فلأنّه حيث فرض متحصّلا باعتبار ما أخذ داخلا فيه و ختم معناه به،يكون موجودا بوجود مغاير لوجود المجموع.و كذا لوجود الجزء الآخر المضاف إليه.و حيث اخذ جزءا لهذا المجموع و موجودا بوجود مغاير،فيكون جزءا خارجيّا.و يلزم كونه متقدّما عليه في الوجود الخارجيّ و الذهنيّ،كما هو شأن الأجزاء الخارجيّة،و يكون أيضا علّة مادّيّة له،حيث أنّ وجود ذلك المجموع إذا كان مسبّبا عن وجود جزئيه،و أحدهما(و هو الجسم بهذا الاعتبار)مادّة للجزء الآخر الذي بمنزلة الصّورة أو هو الصّورة،كان الجسم علّة

ص:41

مادّيّة له.

و أمّا كونه غير محمول على المجموع و على ذلك الزائد،فلأنّ مناط الحمل-على ما هو التحقيق-هو الاتّحاد في الوجود،و هذا منتف هنا،إذ المفروض كون الجسم بهذا الاعتبار متحصّلا في نفسه،موجودا بوجود مغاير لوجود المجموع و لوجود ذلك الأمر الزائد.

أ ليس من المستبين أنّ الجسم المأخوذ بهذا الاعتبار،إنّما هو مجرّد أنّه جوهر ذو أقطار ثلاثة،بشرط أن لا يدخل فيه معنى آخر،و أنّ كلّ جملة من المجتمعات من الجسم بهذا المعنى و ممّا اعتبر زائدا عليه لو لوحظ مجتمعا معه،ليست مجرّد أنّه ذو طول و عرض و عمق،بل هذا مع شيء آخر زائد عليه.و كذا ليس ما اعتبر زائدا عليه نفس كونه مجرّد أنّه ذو أقطار ثلاثة،بل بمعنى آخر،لا يصدق أحدهما على الآخر.

ثمّ إنّا لو أخذنا الجسم جوهرا ذا طول و عرض و عمق،و أخذناه بالنسبة إلى ما سوى هذا المعنى من المعاني التي يمكن أن تؤخذ معه لا بشرط شيء،أي بشرط أن لا نتعرّض لشرط آخر معه أو فيه نفيا و لا إثباتا،و لا نوجب أن يكون جسميّته لجوهريّة مصوّرة بهذه الأقطار فقط،بل نجوّز كون تلك المعاني داخلة في معناه،أعني أن نجوّز كون جوهريّته جوهريّة كيف كانت،و لو مع ألف معنى من تلك المعاني،و ألف صورة من الصّور،يكون ذلك المعنى المأخوذ مقوّما لخاصيّة جوهريّة الجسم المأخوذ أوّلا،و تلك الصّورة المأخوذ بحيث يكون فيها أو معها تلك الأقطار أيضا،أعني أن يكون للجملة من المجتمع من الجسم و من ذلك المعنى و تلك الصورة،أقطار ثلاثة أيضا على ما هي للجسم المأخوذ أوّلا.و أن يكون كلّ جملة من تلك المنضمّات إليه المجتمعات معه،إن كانت هناك مجتمعات،بعد أن تكون كلّها جوهرا ذا أقطار ثلاثة،داخلة في هويّة جوهريّة الجسم،لا أن تكون جوهريّته تمّت بالأقطار الثلاثة ثمّ عرضت تلك المعاني خارجة عن الشيء الذي تمّ،أي عن حقيقة الجسم.أعني أن لا نختم جوهريّة الجسم بكونه ذا أقطار ثلاثة و لا نتمّ معناه به،حتّى يكون ما يمكن أن يؤخذ معه بعد ذلك خارجا عن حقيقته،

ص:42

بل أن نأخذه مع تحصّله في الجملة على هذا الوجه،بحيث يبقى له تحصّل منتظر،يكون ذلك التحصّل المنتظر بتلك المعاني و الصور التي يمكن أن تؤخذ معه.

و بالجملة إنّا لو أخذنا الجسم المأخوذ من حيث هو هو،من غير اشتراط قيد وجوديّ أو عدميّ غير ما اخذ معه أوّلا،مع تجويز كونه مع قيد من القيود التي يمكن أن تؤخذ معه،أو مع عدم ذلك القيد؛و مع احتمال صدقه على المأخوذ مع القيد و على المأخوذ مع عدمه؛و أخذناه غير متحصّل في نفسه التحصّل المطلوب الباقي المنتظر عند العقل،و قابلا لأن يكون مشتركا بين أشياء متخالفة المعاني،بان يكون عين كلّ منها؛ و إنّما يتحصّل بما ينضاف إليه ذلك التحصّل المطلوب،و يصير به أحد تلك الأشياء،فعلى هذا الاعتبار يكون الجسم المأخوذ بهذا الوجه جنسا،أي طبيعة مبهمة ناقصة غير محدودة و غير كاملة،يكون تحصّله المنتظر المطلوب حصوله و كذا تماميّته و كماله بذلك المعنى الآخر المأخوذ معه،كما هو شأن الجنس.

و كذا يكون هو محمولا على كلّ مجتمع من مادّة و صورة،واحدة كانت أو ألفا، و فيها أو معها الأقطار الثلاثة،أي على كلّ مجتمع من الجسم المأخوذ أوّلا و من صورة هي بعد تلك الجسميّة كالنفس،نباتيّة كانت أم حيوانيّة،أو غير النّفس من الصور التي هي الطبائع.

و كذا يكون هو محمولا على تلك المجتمعات معه،و المنضمّات إليه؛فإنّ مناط الحمل هو الاتّحاد في الوجود و هو حاصل هنا،إذ لا يكون الجسم المأخوذ على هذا الوجه موجودا بوجود مغاير لوجود ذلك الأمر المجتمع معه المنضمّ إليه،و لا لوجود المجموع،بل يكون هو و ما يعتبر معه موجودا بوجود واحد.

أ ليس من المستبين أنّه يصدق على كلّ جملة من تلك المجموعات،أنّها جوهر ذو أقطار ثلاثة؟و أنّها موجودة لا في موضوع،و إن صدق هنا معنى آخر أيضا؟و كذلك يصدق على كلّ من تلك الامور المجتمعة معه أنّه موجود لا في موضوع،و أنّه جوهر ذو أقطار ثلاثة أعمّ من أن تكون تلك الأقطار الثلاثة فيه أو معه؛فإنّ فرض الأقطار الثلاثة

ص:43

قد يكون في شيء كالصّورة الجسميّة و نحوها،و قد يكون معه كالنّفس مثلا،أي بعض أقسامها،و بالجملة فيصدق عليه هذا المعنى،و إن صدق هنا معنى آخر أيضا.

و كذا يكون الجسم بهذا الاعتبار جزءا عقليّا للمجموع المركّب منه و من ذلك الأمر الآخر المقوّم له،أي النوع الذي هو عبارة عن مجموع الأمرين العقليين من حيث إنّهما متّحدان في الوجود الخارجيّ.

و إن شئت قلت:إنّه عبارة عن الجسم بشرط شيء،أي بشرط دخول ذلك الأمر الآخر المقوّم في حقيقته،بحيث كان أمرا محصّلا في نفسه،باعتبار أخذ ذلك الأمر الآخر معه،و لم يبق له تحصّل منتظر.

و إن شئت قلت:إنّه عبارة عن ذلك الأمر الآخر،بشرط دخوله في حقيقة الجسم، و جعله له شيئا محصّلا كذلك.

فإنّ مآل الجميع إلى أمر واحد يسمّى بالنّوع،كما سيجيء الإشارة إليه.

و بالجملة،فالجنس يكون جزءا عقليّا بالنسبة إلى النوع،مقدّما عليه في الوجود العقليّ،و بحسب ملاحظة العقل،كالجزء الآخر المسمّى بالفصل؛حيث يقال للجنس أو للفصل:إنّه جزء من النوع،لأنّ كلاّ منهما يقع جزءا من حدّه،و يكون متقدّما عليه عند ملاحظة العقل صورة مطابقة لنوع داخل تحت جنس نوعا من التقدّم،كالتقدّم بالطبع.

و أمّا بحسب الوجود،فهذان الجزءان-و خصوصا الجنس-متأخّر عنه،لأنّه ما لم يوجد الإنسان مثلا،لم يعقل له شيء يعمّه و شيء يخصّه و يحصّله معنى متحصلا بالفعل.

و هذا الذي ذكرنا إنّما هو تصوير كون الشيء مادّة باعتبار،و جنسا باعتبار آخر في الجسم.

و أمّا تصويره في غير الجسم كالحيوان مثلا،فبأن يقال:الحيوان إذا أخذ حيوانا بشرط أن لا يكون في حيوانيّته إلاّ جسميّة و تغذّ و حسّ،و أن يكون ما بعد ذلك خارجا عنه،أي إذا اخذ بالنسبة إلى ما هو داخل في حيوانيته بشرط شيء،و بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المعاني التي يمكن أخذها معه بشرط لا شيء،فربّما كان لا يبعد أن يكون مادّة

ص:44

للإنسان أو موضوعا،و صورته النّفس الناطقة،أي ينبغي أن يكون الحيوان المأخوذ بهذا الاعتبار مادّة للإنسان،كالجسم المأخوذ بهذا الاعتبار.

و إنّما يجزم به الشيخ هنا على ما يشعر به قوله:«فربّما كان لا يبعد»-إلى آخره-كما جزم به في الجسم،لأنّ القياس و إن كان يقضي أن يكون الحيوان المأخوذ بهذا الاعتبار مادّة بالمعنى الأخصّ،و أن يكون المأخوذ معه خارجا عن حقيقته صورة بالمعنى الأخصّ أيضا،أي صورة مقارنة للمادّة كما في صورة فرض الجسم مادّة،لكنّه غير ظاهر في الحيوان بالنسبة إلى الإنسان،لأنّ ما يؤخذ مع الحيوان حينئذ بشرط لا شيء هو النفس الناطقة،و هي ليست بصورة مقارنة للمادّة بل مفارقة عنها،فليس الحيوان أيضا إذا فرض مادّة لها،مادّة بالمعنى الأخصّ بالنسبة إليها،كما أنّ تلك الصورة ليست صورة مقارنة للمادّة.

فلذلك قال الشيخ فيما نقلنا عنه في مقام تحديد النّفس (1):«إنّ ما كان (2)من الكمال مفارق الذّات لم يكن بالحقيقة صورة للمادّة و في المادّة،فإنّ الصورة التي هي في المادّة، هي الصورة المنطبعة فيها القائمة بها،اللّهمّ إلاّ أن يصطلح فيقال لكمال النوع:صورة النوع.»

و حيث كان الأمر كذلك،لم يجزم به الشيخ هنا،بل قال على سبيل الاحتمال«فربّما كان لا يبعد أن يكون مادّة للإنسان أو موضوعا و صورته النفس الناطقة»أي فربّما كان لا يبعد أن يكون مادّة للإنسان أو موضوعا بالمعنى الأعمّ المتناول لما نحن فيه،يعنى إن أطلقنا المادّة عليه،أطلقناها و أردنا بها المعنى الأعمّ الذي يشمل ما يتعلّق به شيء آخر نوعا من التعلّق،كالبدن بالنسبة إلى النفس المجرّدة المتعلّقة به،و إن لم يصحّ إطلاق المادّة عليه أطلقنا الموضوع عليه،و أردنا به هذا المعنى الأعمّ أيضا،و على التقديرين،لو صحّ إطلاق الصورة على ذلك الأمر الزائد الآخر-و هو هنا النّفس الناطقة-و لو لم يكن

ص:45


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 7/2،الفصل الأوّل من المقالة الأولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:فما كان من الكمال.

الإطلاق على سبيل الحقيقة،بل على نوع من التجوّز،أو على سبيل الاصطلاح،أطلقنا الصّورة على النّفس و إن لم يصحّ الإطلاق،قلنا انّها كالصورة.و بالجملة أردنا بها أنّها ليست كالفصل بالنسبة إلى الجنس.

و هذا كما أنّ القياس يقتضي أن يصحّ اعتبار النوع أيضا-كالإنسان-بشرط لا شيء بالنسبة إلى ما يؤخذ معه مشخّصا له،أو كالمشخّص،و الأمارة للتشخّص،أي الأعراض الحالّة فيه.إلاّ أنّه لا يخفى أن ليس الإنسان بالنّسبة إلى تلك الأعراض مادّة بالمعنى الأخصّ،بل موضوعا لها،كما أنّ تلك الأعراض ليست بصورة بمعنى الأخصّ،فتدبّر.

ثمّ إنّا لو أخذنا الحيوان بالاعتبار الذي أخذنا الجسم بذلك الاعتبار جنسا،كان هو أيضا جنسا،أي لو أخذنا الحيوان،مع أخذه بالنّسبة إلى ما يدخل في حيوانيّته،كالجسميّة و التغذّي و الحسّ،بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المعاني،كالنطق و ما يقابل النطق لا بشرط شيء،بمعنى أن لا نتعرّض لرفع شيء من تلك المعاني الأخر أو لوضعه،بل نجوّز وجود أيّ معنى من تلك المعاني داخلا في هويّة الحيوان،مقوّما لحقيقته،محصّلا له شيئا آخر متحصّلا منتظرا،بعد أن كان متحصّلا في الجملة،و مبهما غير محدود،بحسب ذلك التحصّل الباقي المنتظر.أي نجوّز كون الحيوان مع كونه ممّا يدخل بالضرورة في حقيقته الجسميّة،و قوّة التغذية و الحسّ و الحركة،بحيث يمكن أن ينضمّ إليه ما يحصّله شيئا آخر،و يقوّمه كالنطق و مقابله،و بحيث لا ضرورة هنا في ذلك.

و الحاصل أن لا نختم معنى الحيوان بما يدخل في حقيقته،و لا نجعل ما يمكن أن ينضمّ إليه من الأمر المقوّم المحصّل له خارجا عنه البتّة،بل نجوّز مع ذلك انضمامه إليه، و تحصيله إيّاه و تقويمه له،فحينئذ يكون الحيوان حيوانا بمعنى الجنس،كما أنّه إذا اخذ الحيوان بشرط شيء،أي بشرط دخول الأمر الآخر المنضمّ إليه في حقيقته،و كونه أمرا محصّلا في نفسه،و لم يبق له تحصّل منتظر كان نوعا.

و هذا الذي ذكرنا،هو اعتبار كون الشيء الواحد مادّة أو جنسا؛و منه يعلم اعتبار كون الشيء الواحد صورة أو فصلا،حيث يعلم منه أنّه بالاعتبار الذي يؤخذ الشيء به

ص:46

مادّة إذا أخذنا ما يمكن أن ينضمّ إليه أيضا يكون صورة،و بالاعتبار الذي يؤخذ الشيء جنسا إذا أخذ به ما يمكن أن ينضمّ إليه يكون فصلا.

و كما أنّه إذا اخذ الشيء بشرط لا شيء،و بشرط أن لا يدخل في حقيقته ذلك الأمر الزائد،بل أن يكون خارجا عنه،يؤخذ ذلك الأمر الزائد أيضا بشرط لا شيء،أي بشرط أن لا يدخل هو في حقيقة ذلك الشيء،بل أن يكون خارجا عنه.و حينئذ يكون ذلك الشيء مادّة،و ذلك الأمر الزائد صورة؛و يكونان موجودين بوجود على حدة،أي متغايرين بحسب الوجود الخارجيّ،و مغايرا كلّ منهما للآخر بحسبه و للمجموع المركّب الذي هو شيء آخر غيرهما في الخارج.

و كما أنّه إذا اخذ الشيء لا بشرط شيء بالنسبة إلى ذلك الأمر الزائد،و مع تجويز دخوله فيه و تحصيله له،فيكون الأوّل جنسا و الثاني فصلا منوّعا،كما أنّه يكون ذلك الأمر الزائد،بشرط أخذه داخلا في حقيقة الجنس و تقوّمه به نوعا،و هو عبارة عن المجموع باعتبار كونه متّحدا مع جزئيه في الوجود،و كون الجزءين متّحدين معا فيه؛ و بالجملة فيكون كلّ من الجزءين و المجموع متّحدا في الوجود الخارجيّ؛فحينئذ ينبغي أن يكون معنى ما أطلقوه على بعض الصور،أنّها صورة نوعيّة،أي محصّلة نوعا،لكن لا باعتبار ما يطلق عليها الصورة؛فإنّه حينئذ لا يكون المجموع نوعا،بل باعتبار ما يطلق عليها الفصل المنوّع.إلاّ أنّه حيث كانت الذات واحدة،أطلقوا على تلك الذات،التي هي صورة باعتبار أنّها نوعيّة،و إن كان ذلك باعتبار كونها فصلا.

و تصوير الفرق بين الصورة و الفصل في ضمن المثال:أنّ الحسّاس-مثلا-إذا اخذ بشرط لا شيء،أي اخذ جسما و شيئا له حسّ،بشرط أن لا يكون هنا زيادة اخرى،أي أن لا يدخل في حقيقة الحيوان أو الإنسان،بل يكون خارجا عن حقيقتهما،كما أنّ الحيوان و الإنسان قد اخذا حينئذ على أن يكون الحسّاس خارجا عن حقيقتهما،لم يكن فصلا لهما،و إن كان جزءا لهما،أي جزءا خارجيّا و صورة لهما،لعدم حصول الاتّحاد في الوجود الذي هو مناط الحمل،و صدق أحدهما على الآخر؛فإنّه بهذا الاعتبار لا يمكن أن

ص:47

يحمل الحيوان أو الإنسان على الحسّاس،و لا الحسّاس عليهما،و لا على المجموع المركّب من الجزءين،بل يكونان موجودين بوجود مغاير،كما هو شأن الصّورة و الجزء الخارجيّ.

و أمّا لو اخذ الحسّاس لا بشرط شيء،اخذ جسما أو شيئا له الحسّ،و مجوّزا له أو فيه أو معه،أيّ الصّور و الشرائط كانت،أي أن يكون هو داخلا في حقيقة الحيوان أو الإنسان،بعد أن يكون في تلك الصور و الشرائط حسّ؛كان حينئذ فصلا لهما،أي فصلا مقوّما للحيوان بالذات،و للإنسان بواسطة دخول الحيوان في حقيقته،و كان هو محمولا عليهما،كما أنّهما محمولان عليه لحصول مناط الحمل،و هو الاتّحاد في الوجود،و كان المجموع-أعني مجموع المقوّم و المتقوّم به-نوعا،و كذلك المتقوّم به بشرط دخول المقوّم فيه.و كذا المقوّم بشرط دخوله في المتقوّم به،و كان هو-أي النوع أيضا-متّحدا مع هذين في الوجود اتّحادا هو منشأ الحمل.

و كذلك الناطق مع أخذه شيئا له النطق،إذا اخذ بشرط لا شيء؛أي بشرط أن لا يدخل في حقيقة الإنسان مقوّما له،و لا في حقيقة الحيوان محصّلا إيّاه نوعا محصّلا،بل أن يكون خارجا عنهما،لم يكن فصلا و إن كان جزءا خارجيّا و صورة.و إن اخذ لا بشرط شيء،أي إن اخذ مع أخذه شيئا له النطق،مجوّزا له أو فيه أو معه أن يكون داخلا في حقيقة الإنسان مقوّما له،و فى حقيقة الحيوان محصّلا له نوعا كان فصلا،أي فصلا مقوّما للإنسان و فصلا مقسّما للحيوان،و كان يتحقّق الحمل بينها للاتّحاد في الوجود.

و من هذه الجملة يعلم كيفيّة أخذ الشيء نوعا،حيث يعلم أنّه إن اخذ المعنى الجنسيّ بشرط أخذ الفصل معه منضمّا إليه،أو اخذ المعنى الفصليّ بشرط أخذه مع الجنس،أي أخذ مجموع الأمرين،يكون الحاصل حينئذ نوعا.

فالملخّص إذن،أنّ أيّ معنى أخذته ممّا يشكل الحال في جنسيّته أو مادّيّته،فوجدته قد يجوز انضمام الفصول إليه-أيّها كان-على أنّها منه و فيه،كان جنسا و المضاف فصلا.

ص:48

و إن أخذتها (1)من جهة بعض الفصول و تمّمت به المعنى و ختمته حتّى أنّه لو دخل شيء آخر لم يكن من تلك الجملة،بل مضافا من خارج،لم يكن جنسا،بل مادّة،و المضاف صورة أو كالصّورة.و إن أوجبت لها تمام المعنى،حتّى أنّه دخل فيه ما يمكن أن يدخل صار نوعا،و إن كنت في الإشارة إلى ذلك المعنى لا تتعرّض لذلك،كان جنسا.فإذن باشتراط أن لا تكون زيادة،يكون مادّة؛و باشتراط أن تكون زيادة،يكون نوعا،و إن لم (2)يتعرّض لذلك،بل يجوّز أن يكون كلّ واحد من الزيادات،على أنّها داخلة في جملة معناه،يكون جنسا.

و يعلم من هذه الجملة أنّ هذه الاعتبارات الخمسة المذكورة،أي اعتبار كون الشيء مادّة و صورة و جنسا و فصلا و نوعا،يمكن في جميع مراتب وجود الجسم إلاّ في بعض مراتبه،فإنّه يمكن ذلك في صورة أخذ الجسم مركّبا من الهيولى و الصّورة الجسميّة،ثمّ أخذه بالنسبة إلى ما بعد ذلك،كالصّورة النوعيّة للبسائط من الأجسام بشرط لا شيء،و لا بشرط شيء،أو بشرط شيء؛و كذا في صورة أخذه مع الصّورة النوعيّة للبسائط،ثمّ أخذه بالنسبة إلى الصورة النوعيّة للمركّبات مطلقا بالاعتبارات المذكورة.و كذا في صورة أخذه مع الصورة النوعيّة للمركّبات،ثمّ أخذه بالنسبة إلى النفس النباتيّة بهذه الاعتبارات.

و كذا في صورة أخذه مع النّفس النباتيّة،ثمّ أخذه بالنسبة إلى النفس الحيوانيّة بهذه الاعتبارات.و كذا في صورة أخذه مع النفس الحيوانيّة،ثمّ أخذه بالنسبة إلى النفس الإنسانيّة بهذه الاعتبارات.إلاّ أنّه في هذه الصورة،و إن أمكن كون المأخوذ-أي الحيوان -جنسا،و النّفس الإنسانيّة فصلا،و المجموع نوعا؛لكنّه لا يظهر كونه مادّة بالمعنى الأخصّ،و كون النّفس صورة بالمعنى الأخصّ،أي الصّورة المقارنة للمادّة،إلاّ على نوع من التعميم،أو على سبيل الاصطلاح؛كما عرفت بيانه.

و بالجملة،فهذه الاعتبارات يمكن فرضها في جميع تلك المراتب،سواء كان

ص:49


1- -أخذته خ ل.
2- -لا خ ل.

الجنس جنسا عاليا أو متوسّطا أو سافلا،و سواء كان النوع نوعا عاليا أو سافلا أو متوسّطا،و سواء كان الفصل قريبا أم بعيدا،و سواء كانت الصورة صورة البسائط أو صورة المركّبات أو نفسا.

غير أنّ هذه الاعتبارات الخمسة،لا يمكن فرضها في الهيولى الاولى بالنسبة إلى الصورة الجسميّة،فإنّه في هذه الصورة،و إن امكن اعتبار كون الهيولى الاولى مادّة، و الصورة الجسميّة صورة،لكنّه لا يمكن اعتبار كون تلك المادّة جنسا،و تلك الصورة فصلا،و المجموع نوعا،لأنّ المعتبر في الجنس أن يكون له-أوّلا-طبيعة محصّلة في الجملة،ثمّ ينتظر له تحصّل آخر يكون هو بالفصل،و الهيولى الاولى ليس لها تحصّل أصلا،بل هي بالقوّة المحضة،فلا يمكن اعتبارها جنسا،و إذا لم يمكن ذلك،فلم يمكن اعتبار الصورة الجسميّة فصلا أيضا،و لا اعتبار المجموع نوعا.

فعلى هذا،فما ذكره القوم:من أنّ الطبيعة الجسميّة طبيعة نوعيّة،لعلّهم-كما يدلّ عليه كلامهم في ذلك المقام-لم يريدوا به أنّها نوع كسائر الأنواع،بل أرادوا به أنّها طبيعة واحدة محصّلة متّفقة في الحقيقة،كالطبيعة النوعيّة.

و غير أنّ هذه الاعتبارات لا يمكن فرضها في النوع الأخير،كالإنسان بالنسبة إلى الأعراض الحالّة فيه،مشخّصة كانت أم غير مشخّصة،فإنّه ليس الإنسان بالنسبة إليها مادّة بالمعنى الأخصّ،بل موضوعا؛و لا تلك الأعراض صورة بمعنى الصورة التي يكون تحصّل المحل و تقوّمه بها،بل عرضا يتقوّم بالمحل.و كذلك لا يمكن أن يكون الإنسان جنسا،حيث إنّ المعتبر في الجنس كونه طبيعة تامة من وجه،ناقصة من وجه آخر،مبهمة يبقى لها تحصّل منتظر و تماميّة بحسب الإشارة العقليّة،يكون ذلك الجنس و تلك التماميّة بالفصل،و هو ليس كذلك؛فإنّه-حيث فرض نوعا أخيرا،كان تامّا متحصّلا-لم يبق له تحصّل منتظر بحسب الإشارة العقليّة،حتّى يكون تحصّل ذلك بالفصل،بل إنّما بقى تماميّته بحسب الوجود الشخصيّ و الإشارة الحسيّة،و تكون تلك التماميّة بالعوارض المشخّصة،و هذا لا يكون منشأ لإبهامه،و منافيا لتحصّله العقليّ.و إذ لم يمكن

ص:50

اعتباره جنسا،فلم يمكن اعتبار تلك الأعراض فصلا،و لا المجموع نوعا آخر،و كيف يمكن اعتبار ذلك نوعا آخر،مع أنّ المفروض كونه بدون تلك الأعراض نوعا أخيرا؟! هذا خلف.

و حيث عرفت ما ذكرنا،علم أنّ هذا الإشكال،في الفرق بين الجنس و المادّة و الصّورة و الفصل و النّوع،و الاشتباه بينها،الذي يكون رفعه بتلك الاعتبارات المذكورة إنّما يكون فيما ذاته مركّبة،أي في النّوع الجوهريّ الذي يكون ذاته مركّبة من مادّة و صورة،كالجسم و الحيوان،و أمّا فيما ذاته بسيطة غير مركّبة فيهما،كبعض الأنواع الجوهريّة،مثل العقل و النّفس،بل الهيولى الاولى أيضا و كأنواع الأعراض مطلقا،سواء كانت أنواعا عالية أو سافلة أو متوسّطة،فلا يقع فيه هذا الإشكال و الاشتباه،و لا يمكن فيه تلك الاعتبارات المذكورة من الجهة التى اعتبرت في الأنواع الجوهريّة المركّبة من مادّة و صورة،بل إنّ العقل عسى أن يفرض فيه هذه الاعتبارات في نفسه،على النحو الّذي ذكره الشيخ قبل هذا الفصل في بيان إمكان انتزاع امور متعدّدة مختلفة من ذات واحدة بسيطة،و أما في الوجود الواقعيّ،فلا يكون منه شيء متميّز في الواقع هو جنس، و شيء متميّز كذلك هو مادّة،و لا شيء متميّز هو فصل،و شيء متميّز هو صورة.

و توضيح ذلك:أنّ للعقل في تحديد العقل أو النّفس،بل الهيولى الاولى أيضا،أن يعتبر أنّه جوهر من شأنه كذا و كذا،فيعتبر الجوهر جنسا،بناء على أنّه جنس لما تحته من الجواهر.

و يعتبر قولنا:من شأنه كذا و كذا،فصلا محصّلا له نوعا متحصّلا،و يعتبر الجنس باعتبار كونه بشرط ذلك الفصل،أو الفصل بشرط دخوله في معنى ذلك الجنس نوعا متحصّلا.

و كذلك للعقل في تحديد أجناس الأعراض،كالكمّ و الكيف و الأين و غيرها،التي هي أنواع عالية باعتبار،إذا قلنا:إنّ معنى العرض جنس لما تحته من الأعراض،أن يعتبر أنّه عرض من شأنه كذا و كذا،فيعتبر العرض جنسا،و ما بعده من القيد أو القيود فصلا

ص:51

محصّلا،و المتحصّل نوعا.و كذلك له أن يعتبر في تحديد أنواعها التي هي أنواع لتلك الأجناس،و هي أنواع عند كلّ فريق من الحكماء،كالخطّ و السطح و الجسم التعليميّ، التي هي أنواع للمقدار و هو جنس لها؛بأن يقول:إنّ الخطّ مثلا هو مقدار متّصل من شأنه الانقسام في جهة،و إنّ السّطح هو مقدار متّصل من شأنه الانقسام في جهتين،و إنّ الجسم التعليميّ مقدار متّصل من شأنه الانقسام في الجهات الثلاث؛فيعتبر المقدار جنسا،و ما بعده فصلا و المتحصّل نوعا و كذلك له أن يعتبر في جميع هذه الفروض ما اعتبره جنسا مادّة،و ما اعتبره فصلا صورة،من حيث إنّه يمكن أن يعتبر الجنس مادّة،و الفصل صورة في الأنواع الجوهريّة المركّبة من المادّة و الصّورة،إلاّ أنّه لا يكون على هذا شيء متميّز في الخارج أو في الواقع هو جنس،و شيء متميّز مادّة،و لا شيء متميّز كذلك هو فصل، و شيء هو صورة؛بل كلّ هذه موجود واحد،و شيء غير متعدّد.و كيف يمكن التميّز و التعدّد و المفروض كون الذّات واحدة غير مركّبة من مادّة و صورة؟

فإن قلت:إذا أخذ العقل الجنس و الفصل من نفس ذات بسيطة،ثمّ اعتبرهما اعتبارا يكونان به مادّة و صورة،فيكون الانضمام حينئذ انضمام متحصّل بمتحصّل،و اقتران متميّز بمتميّز؛فيلزم من هذا أن يكون المأخوذ منه مركّبا خارجيّا،بناء على أنّ الامور المتغايرة و خصوصا المتباينة لا تطابق موجودا واحدا و ذاتا واحدة بسيطة.

قلت:ما ذكرنا مبنيّ على جواز انتزاع الامور المتباينة أو المتخالفة،و أخذ المعاني الكثيرة من ذات واحدة و بسيطة،و على أنّ الأخذ على هذا الوجه إنّما هو بمجرّد التعمّل العقليّ،و بمحض الاحتيال الذهنيّ،حيث إنّ البسيط لا مادّة له و لا صورة إلاّ بمجرّد اعتبار العقل،و على أنّ التركيب في الحدّ لا يوجب التركيب في المحدود،و إن كان الحدّ عين المحدود باعتبار،إذ التّفاوت بالإجمال و التفصيل،إنّما هو في الملاحظة لا في الملحوظ؛و لا مانع من ذلك كلّه،كما حقّق في موضعه.

و هذا الذي ذكرناه،إنّما هو تحرير ما نقلنا من كلام الشيخ في إلهيات الشفاء،و يتّضح به شرح ما قصدنا شرحه من عبارته في تحديد النفس هنا،حيث يتّضح منه أنّ معنى قوله:

ص:52

«و يصحّ أن يقال أيضا..إلى آخره»أنّه يصحّ أن يقال أيضا للنّفس،بالقياس إلى استكمال الجنس بها؛أي استكمال الجسم الذي هو متعلّق النفس،نباتيّة كانت أم حيوانيّة،بل إنسانيّة أيضا،إذا اخذ ذلك الجسم بالاعتبار الذي يكون به جنسا لا مادّة،كما يدلّ عليه كلامه فيما بعد أيضا،أي«في أنّ النّفس كمال لجسم طبيعيّ»إلى آخره-.

حيث قال (1):«و يجب أن يؤخذ الجسم بالمعني الجنسي لا بالمعنى المادّة (2)».

و بالجملة أن يقال لها،بالقياس إلى استكمال ذلك الجسم-الذي هو جنس باعتبار-بها، نوعا محصّلا في الأنواع العالية أو السافلة،كالجسم النامي و الحيوان و الإنسان:إنّها كمال؛ أي منشأ لحصول ذلك الكمال و التماميّة النوعيّة،لأنّ طبيعة الجنس بما هي جنس تكون ناقصة غير محدودة ما لم يحصّلها طبيعة الفصل البسيط،أي الفصل الذي هو جزء متميّز في الوجود،كما في الأنواع الجوهريّة المركّبة من المادّة و الصورة،و ما لم يحصّلها الفصل غير البسيط،أي الفصل الذي هو بمجرّد اعتبار العقل،من غير أن يكون جزءا متميّزا،كما في الأنواع البسيطة،حال كون ذلك الفصل البسيط أو غير البسيط منضافا إلى تلك الطبيعة الجسميّة الجنسيّة،محصّلا لها و مقوّما إيّاها.فإذا انضاف إليها،كمل النوع و تمّ؛فالفصل حينئذ كمال النوع بما هو ذلك النوع،سواء كان نوعا عاليا أم سافلا،و سواء كان نوعا إضافيّا أم حقيقيّا،و سواء كان بسيطا أم مركّبا.

و قد عرفت-أي بما ذكره في إلهيّات الشفاء كما نقلناه و حرّرناه-أن ليس لكلّ نوع فصل بسيط بالمعنى المذكور،بل إنّما هو للأنواع المركّبة من مادّة و صورة،و الصّورة منهما هو الفصل البسيط لما هو كماله،أي النوع.

و قد أشعر الشيخ بما ذكره،أنّ الفصل-و إن كان أعمّ من الصورة باعتبار أنّه يكون للنوع البسيط و غير البسيط جميعا-بخلاف الصورة فإنّها إنّما تكون للنوع المركّب من مادّة و صورة وحده،و أنّ الفصل حيث كان كمالا للنوع،كان كمالا للنوع البسيط

ص:53


1- -الشفاء-الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:الماديّ.

و المركّب جميعا،و هذا يمكن وجها لأولويّة إطلاق الكمال في تحديد النفس،من إطلاق الصورة لعمومه و شموله لكلّ نوع،بخلاف الصورة،إلاّ أنّ ما نحن فيه لمّا كان من قبيل النوع المركّب،لم يمكن أن يكون ذلك وجها للأولويّة،بل الوجه فيها ما سيذكره بعد.

أمّا بيان أنّ الحال فيما نحن بصدده كذلك،مع بيان أنّ النّفس فيه فصل و كمال،فلأنّ كلامنا في النبات و الحيوان،و لا خفاء في أنّهما كذلك،حيث إنّهما بما هما نوعان مركّبان من مادّة-هي جسمهما إذا اخذ ذلك بالمعنى الذي يؤخذ به الشيء مادّة-و من صورة هي نفسهما إذا اخذت بالمعنى الذي يؤخذ به الشيء صورة.و لا يخفى أنّ إطلاق المادّة و الصّورة بالمعنى الأخصّ المراد في المركّب منهما،و إن لم يصحّ على جزئي الإنسان، أعني بدنه و نفسه المفارقة،لكنّه يصحّ على نوع من التعميم أو الاصطلاح أو التجوّز.

و الحاصل أنّه يصحّ الإطلاق على جزئيه أنّهما كالمادّة و الصورة،في أنّ بدنه جزء به يكون الإنسان بالقوّة كالمادّة،و أنّ نفسه جزء به يكون الإنسان إنسانا بالفعل كالصّورة، و كأنّه لذلك أطلق فيما قبل على جسم النّبات و الحيوان و بدنهما مطلقا-بحيث يشمل بدن الإنسان أيضا-أنّه جزء يكون به النّبات و الحيوان بالقوّة،و اطلق على النّفس النباتيّة و الحيوانيّة مطلقا-بحيث تشمل النفس الإنسانيّة أيضا-أنّها جزء يكونان به بالفعل.

فبالجملة،التركيب من المادّة و الصورة،أو من مثل المادّة و مثل الصورة،حاصل في النبات و الحيوان و الإنسان.

و لا خفاء أيضا في أنّ جسم النبات و الحيوان،الذي هو المادّة باعتبار،و كذا بدن الإنسان الذي هو كالمادّة،يمكن أن يؤخذ بالمعنى الذي يمكن أن يؤخذ به الشيء جنسا، و كذلك النفس النباتيّة و الحيوانيّة المقارنة للمادّة،اللّتان هما صورة النبات و الحيوان، و كذا النفس الانسانيّة المفارقة عنها،التي هي كالصّورة للانسان،يمكن أن تؤخذ بالمعنى الذي به يؤخذ الشيء فصلا،فتكون هي فصولا لها،فتكون منشأ لاستكمال أجناسها بها أنواعا محصّلة،و منشأ لحصول كمال تلك الأنواع،فتكون كمالا بهذا المعنى.

و هذا الذي ذكرنا مع ابتنائه على ما ذكر،يبتني أيضا على مقدّمة اخرى قد حقّقها

ص:54

الشيخ و غيره في موضعه هي:أنّ ما يعبّر به عن فصول النبات و الحيوان و الإنسان،كالنّامي و الحسّاس و الناطق،إنّما هي أمارات للفصول و علامات لها و تعبيرات عنها،و ليست هي بالفصول حقيقة؛إنّما الفصول بالحقيقة هي ما يصدق عليه تلك المشتقّات،و هي النّفوس لها.

و بيان ذلك على الإجمال،أنّه و إن كان المميّز للنبات-مثلا-عن غيره هو النّموّ، و المميّز للحيوان عن غيره هو الحسّ،و المميّز للإنسان عن غيره هو النطق،إلاّ أنّ هذه المعاني،التي هي مبادي اشتقاق النامي و الحسّاس و الناطق،ليست بمحمولة بالتواطؤ على ما فرضت هي مميّزات لها،أي النبات و الحيوان و الإنسان،إذ لا يقال:إنّ النبات نموّ، و لا الحيوان حسّ،و لا الإنسان نطق؛بل إنّما تحصل هذه بالتواطؤ،على ما ليست هي بفصول لها.كما يقال:نموّ هذا الشجر نموّ ذلك الشجر نموّ،و حسّ هذا الحيوان حسّ،و حسّ ذلك حسّ،و نطق زيد نطق،و نطق عمرو نطق.أو يقال:التزايد في الأقطار نموّ،و البصر و السمع حسّ،و إدراك الكليّ نطق،و نحو ذلك.

و لا يخفى أنّ المعتبر في الفصل المميّز،أنّ يكون محمولا بالمواطأة على ما هو فصل له،إذ قد عرفت أنّ الفصل ما كان متّحدا في الوجود مع الجنس و النوع،و هذا الاتّحاد يقتضي أن يكون هو محمولا على الجنس و النّوع بالمواطاة،و ليس الأمر في هذه المبادي للاشتقاق كذلك،بل إنّها تحمل على الجنس و النوع حملا بالاشتقاق،و هو ليس بمناط للفصليّة.

فظهر أنّ تلك المبادي ليست بفصول حقيقة،فلننظر في أنّ المشتقات منها،أي النّامي و الحسّاس و الناطق،هل يمكن أن تكون فصولا حقيقيّة أم لا؟

فنقول:إنّ لتلك المشتقّات مفهومات،و كذا ما يصدق تلك المفهومات عليه؛أمّا مفهوماتها،فهي عبارة عن شيء ما ثبت له النموّ و شيء ما ثبت له الحسّ،و شيء ما ثبت له النطق؛فتكون عبارة عن مفهوم الشيء مع نسبة ما إضافيّة إلى تلك المبادي للاشتقاق.

و لا يخفى أنّ شيئا من ذلك لا يصلح لكونه فصلا،لأنّ مفهوم الشيء مفهوم عرضيّ

ص:55

بالنسبة إلى ما يصدق هو عليه،لا ذاتيّ،كما هو البيّن و المبيّن في موضعه؛فكيف يمكن أن يكون فصلا،و الفصل يجب أن يكون ذاتيّا لما هو فصل له؟و أيضا مفهوم الشيء مفهوم عامّ يعمّ ما فرض هو فصل له و غيره؛و الفصل يجب أن يكون مختصّا بما هو فصل له.

و كذلك تلك النسبة الإضافيّة عرض متقوّم بطرفيها،أي الشيء و تلك المبادي للاشتقاق؛ فكيف يمكن أن تكون فصلا؟فإنّها لو كانت فصلا للأنواع الجوهريّة،لزم تقوّم الجوهر بالعرض،و هو محال.و قد عرفت أنّ تلك المبادي للاشتقاق،التي هي إحدى طرفي تلك النسبة،ليست بفصل،فليس شيء من أجزاء هذا المفهوم فصل.و ظاهر أيضا أنّه لا يمكن أن يكون المجموع المركّب من تلك الأجزاء فصلا،إذ ليس هنا سوى تلك الأجزاء أمرا آخر-من هيئة تركيبيّة أو نحوها-يصلح أن يكون فصلا-.

فظهر أنّ ليس تلك المفهومات فصلا،و بقي النظر فيما صدق عليه تلك المفهومات؛ فنقول:إنّ ما صدق عليه النامي مثلا،إن كان المراد به الجسم من حيث هو جسم،كان جنسا،فلم يكن فصلا.و إن كان المراد به الجسم النامي من حيث هو جسم،نام،كان نوعا، فلم يكن فصلا أيضا،و كذلك الحال في الحسّاس،فإنّه إن اريد به الجسم النامي.لم يكن فصلا بل جنسا،و إن كان المراد به الحيوان،كان نوعا،فلم يكن فصلا أيضا.و كذلك الحال في الناطق،فإنّه إن اريد بما صدق هو عليه الحيوان،كان جنسا،و إن كان المراد به الإنسان،كان نوعا،فلم يكن فصلا أيضا.فبقي أن يكون المراد بما صدق عليه تلك المفهومات أمر آخر وراء هذه،يمكن أن يكون فصلا،و هو الموصوف حقيقة بهذه المشتقّات،و بتوسّطه،أي بتوسّط اتّحاده مع ذلك الجنس و النوع،اتّصف الجنس و النوع بها،و صحّ الحمل بينها بالتّواطؤ،أي النفس النباتيّة للنبات،و الحيوانيّة للحيوان،و الناطقة للإنسان،التي بها امتازت هذه عمّن غيرها و تحصّلت و تقوّمت،و لا نعني بالفصل إلاّ هذا.

إيراد شبهة هنا و دفعها

لا يقال:إذا كان امتياز تلك الأنواع بتلك الفصول التي قلت إنّها تلك النفوس،فامتياز

ص:56

تلك النفوس مع أنّها واقعة تحت أعمّ المقولات البتّة بما ذا؟

لأنّا نقول:هذه شبهة لا اختصاص لها بهذا الموضع،بل واردة على كلّ فصل؛و حلّها أن يقال:إنّ امتياز تلك الفصول إنّما هو بذواتها و أنفسها،بفصول اخر.

و بيان ذلك أنّ امتياز تلك الفصول بفصول اخر،إنّما يلزم لو كانت أعمّ المقولات التي فرضتها مقولة على تلك الفصول قولا ذاتيّا،كقول الجنس على النوع،و ليس الأمر كذلك، بل قولها عليها قول عرضيّ،مثلا الحيوان و إن كان يقال على الإنسان و الناطق،إلاّ أنّ قوله على الإنسان قول ذاتيّ،بمعنى أنّه جنس له،و هو نوع له يحتاج في تميّزه عن غيره بفصل،و هو النّاطق.و قوله على الناطق ليس كذلك،فإنّه لو كان كذلك،لكان الناطق أيضا نوعا و الحيوان جنسا له أيضا،فيحتاج إلى فصل آخر،و هذا الفصل الآخر لو كان قول الحيوان عليه قولا ذاتيّا كذلك،فيحتاج إلى فصل آخر،و هكذا؛فيلزم التسلسل،و هو محال.

فبقي أن يكون قول الحيوان على الناطق قولا عرضيّا،و أن يكون امتياز الناطق عن غيره بذاته،من غير احتياج إلى فصل آخر يميّزه عن غيره،كما هو رأي الشيخ و كثير من الحكماء.

و إن شئت قلت:إن امتيازه عن غيره بذاته،و كذا بوجوده الخاصّ الذي هو متميّز بذاته،حتّى يستقيم أيضا على رأي من يجعل الفصل بالحقيقة هو الوجود الخاصّ،كما في المشخّص.و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّ قول الشيخ (1)«ثمّ كلّ صورة كمال و ليس كلّ كمال صورة،فإنّ الملك كمال المدينة»إلى آخر ما ذكره بيان للفرق بين الصورة و الكمال،و أنّه إذا قلنا في تعريف النّفس«إنّها كمال»،كان أولى،حيث كان أدلّ على معناها المقصود منها؛و كان أيضا يتضمّن جميع أنواع النفس من جميع وجوهها النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،و لا يشذّ النفس المفارقة عن المادّة كالإنسانيّة عنه،بخلاف ما إذا قيل في تعريفها:«إنّها صورة»،

ص:57


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 7/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

ظاهره أنّه بيّن ذلك الفرق بوجهين،و فرّع على الأوّل منهما الأولويّة من جهة تضمّن جميع أنواع النفس،و على الثاني الأولويّة من جهة كونه أدلّ على معناها.

و بيان الأول:أنّه لا يخفى أنّ كلّ صورة كمال،أي أنّ كلّ صورة نوعيّة منطبعة في المادّة كمال،لأنّها ممّا يكمل بها ذو الصورة،سواء اعتبر كونها كمالا من جهة اعتبار كونها صورة،حتّى تكون كمالا للجملة منها و من المادّة،أو من جهة اعتبارها فصلا،حتّى تكون كمالا للنوع.

و بالجملة فالصورة كمال،و لا يخفى أيضا أن ليس كلّ كمال صورة كذلك،فإنّ الملك كمال المدينة،و الرّبان كمال للسفينة،من حيث إنّهما يتمّ بهما ما هو المقصود من المدينة و السفينة و يكمل معهما،و الحال أنّهما ليسا بصورتين كذلك للمدينة و السفينة،بل هما مفارقا الذات عنهما،و ما كان من الكمال مفارق الذات،لم يكن بالحقيقة صورة للمادّة و في المادّة،أي صورة بالمعنى المراد منها عند القوم؛فإنّ الصّورة بالمعنى المصطلح عليه هي الصورة المنطبعة في المادّة القائمة بها،و ظاهر أنّ الكمال المفارق الذات ليس كذلك،اللّهمّ إلاّ أن يصطلح و يقال لكمال النوع،و إن كان مفارق الذات:إنّه صورة النوع بالحقيقة.فظهر أنّ الكمال قد يكون صورة منطبعة في المادّة،و قد يكون مفارق الذات؛بخلاف الصورة فإنّها لا تكون مفارقة الذّات إلاّ بنوع من الاصطلاح.

و ظاهر أيضا أنّ النفس التي نحن بصدد تحديدها،أعمّ من المنطبعة و المفارقة،حيث إنّها أعمّ من النباتيّة و الحيوانيّة المنطبعتين،و من الإنسانيّة المفارقة.

فلو قلنا في تحديدها:إنّها صورة،و أردنا ما بها الكمال أيضا،لكانت مخصوصة بالاوليين خاصّة،بخلاف ما إذا قلنا:إنّها كمال،فإنّه حينئذ يشمل الجميع،أي جميع أنواع النفس من جميع وجوهها،و لا يشذّ النفس المفارقة للمادّة عنه،و هذا هو تحرير ما ذكره.

مناقشة مع الشيخ

إلاّ أنّك خبير بأنّ ما ذكره من الشاهد على الكمال المفارق الذات،كأنّه لا ينطبق على

ص:58

ما نحن بصدده.

فإنّ المقصود وجود كمال مفارق الذات،أي الّذي ليس بصورة،مع هذا يكون كونه كمالا باعتبار أنّه فصل للنوع و كمال له،كالنفس الإنسانيّة على ما عرفت من بيان حالها، و ظاهر أنّ الملك و الرّبان،كما أنّهما ليسا بصورتين للمدينة و السفينة،ليسا بفصلين لهما أيضا.فالأحسن في بيان الفرق و تفريع الشمول عليه أن يقول:إنّ الصورة المنطبعة كمال، و ليس كل كمال صورة كذلك،لأنّه قد يكون الكمال للنوع فصلا للنوع،فصلا ليس صورة في المادّة و للمادّة،كالنفس المفارقة الإنسانيّة على ما عرفت؛ثمّ يفرّع الشمول الذي ادّعاه كما ذكرنا،لكنّه أعلم.

و أمّا بيان الثاني:فلأنّ الاصطلاح قد استقرّ على أن يكون الشيء بالقياس إلى المادّة صورة،و بالقياس إلى الجملة غاية و كمالا؛أي بالقياس إلى جملة المادّة و الصورة من جهة ما هما صورة و مادّة،بل بالقياس إلى جملتهما من جهة ما هما جنس و فصل،أي النوع،غاية باعتبار انتهاء الحركة إليه،و كمالا باعتبار تماميّة النوع و كماله به،و بالقياس إلى التحريك،أي بالقياس إلى تحريكه للمادّة حتّى تصير شيئا بالفعل مبدأ فاعليّا و قوّة محرّكة.و إذا كان الأمر كذلك،فالصورة من حيث إنّها صورة،و بالنظر إلى نفس مفهومها الاصطلاحيّ،تقتضي نسبة إلى شيء بعيد مباين في الوجود من ذات الجوهر الحاصل من الصّورة المتقوّم بها،و إلى شيء يكون الجوهر الحاصل منها هو ما هو بالقوّة،و إلى شيء لا ينسب الأفاعيل إليه؛و ذلك الشيء الموصوف بهذه الأوصاف الثلاثة هو المادّة، لأنّها صورة باعتبار وجودها للمادّة؛و الكمال من حيث هو كمال،و بالنّظر إلى نفس مفهومه الاصطلاحيّ،يقتضي نسبة إلى الشيء التامّ الذي يصدر عنه الأفاعيل.و بالجملة نسبة إلى الشيء الذي هو بخلاف الشيء الأوّل،لأنّه كمال باعتباره للنّوع.

فبيّن من هذا:أنّا إذا قلنا في تعريف النّفس:إنّها كمال،كان أدلّ بمفهومه على معنى النفس الذي هو المقصود هنا،إذ ظاهر أنّ المقصود من معناها أنّها ممّا يكمل و يتمّ الشيء الذي يصدر عنه الأفاعيل المقصودة منها،فبهذا الاعتبار أيضا يكون إطلاق الكمال على

ص:59

النفس النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة أولى من إطلاق الصورة عليها،كما كان ذلك باعتبار الوجه الأوّل،أي الشمول لجميع أنواع النفس من جميع الوجوه أولى.

و قوله:«و أيضا إذا قلنا:إنّ النفس كمال،فهو أولى أن نقول:قوّة،و ذلك لأنّ الامور الصادرة عن النفس.»-إلى آخر ما ذكره-بيان لأولويّة إطلاق الكمال عليها من إطلاق القوّة،و قد عرفت تحريره مع ما فيه.

و قوله:«لكنّا إذا قلنا:كمال،لم يعلم من ذلك بعد أنّها جوهر أو ليست بجوهر،فإنّ معنى الكمال هو الشيء الذي بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا،و النبات بالفعل نباتا؛ و هذا لا يفهم عنه بعد أنّ ذلك جوهر أو ليس بجوهر،لكنّا نقول»-إلى آخر ما ذكره-.

بيان لأنّه بمجرّد إطلاق الكمال على النفس لا يثبت كونه جوهرا بالمعنى الذي اصطلح عليه،إلاّ أنّ توضيحه يستدعي الإحاطة بما ذكره في إلهيّات الشّفاء في فصل تعريف الجوهر و أقسامه بقول كليّ (1)

«قال:إنّ الوجود للشيء قد يكون بالذات،مثل وجود الإنسان إنسانا،و قد يكون بالعرض،مثل وجود زيد أبيض.و الامور التي بالعرض لا تحدّ.فلنترك الآن ذلك و لنشتغل بالموجود،و الوجود الذي بالذات.

فأقدم أقسام الموجودات بالذات هو الجوهر،و ذلك لأنّ الموجود على قسمين:

أحدهما:الموجود في شيء آخر،ذلك الشيء الآخر متحصّل القوام و النوع في نفسه،وجودا لا كوجود جزء منه،من غير أن يصحّ (2)مفارقته لذلك الشيء،و هو الموجود في موضوع.

و الثاني:الموجود من غير أن يكون في شيء من الأشياء بهذه الصّفة،فلا يكون في موضوع البتّة،و هو الجوهر.

و إن كان ما اشير إليه في القسم الأوّل موجودا في موضوع،فذلك الموضوع لا يخلو

ص:60


1- -الشفاء- [1]الإلهيّات57/-60. [2]
2- في المصدر:تصحّ.

أيضا من أحد هذين الوصفين،فإن كان الموضوع جوهرا،فقوام العرض في الجوهر،و إن لم يكن جوهرا،كان أيضا في موضوع،و رجع البحث إلى الابتداء،و استحال ذهاب ذلك إلى غير النهاية (1)،كما سنبيّن في مثل هذا المعنى خاصّة.

فيكون لا محالة بآخره (2)فيما ليس في موضوع،فيكون في جوهر،فيكون الجوهر مقوّم العرض موجودا،و غير متقوّم بالعرض،فيكون الجوهر هو المقدّم في الوجود.

و أمّا أنّه هل يكون عرض في عرض،فليس (3)ذلك بمستنكر،فإنّ السرعة في الحركة،و الاستقامة في الخطّ،و الشكل المسطّح في البسيط،و أيضا فإنّ الأعراض تنسب إلى الوحدة و الكثرة،و هذه-سنبيّن لك-أنّ (4)كلّها أعراض.و العرض-و إن كان في عرض-فهما جميعا في موضوع.و الموضوع بالحقيقة هو الذي يقيمهما جميعا،و هو قائم بنفسه.

ثمّ قد جوّز كثير ممّن يدّعى المعرفة أن يكون شيء من الأشياء جوهرا و عرضا معا بالقياس إلى شيئين،و قال (5):إنّ الحرارة عرض في غير جسم النار،لكنّها في جملة النار ليست بعرض،لأنّها موجودة فيها كجزء.و أيضا ليس يجوز رفعها عن النار و النار تبقى.

فإذن وجودها في النار ليس وجود العرض فيها،فإذا لم يكن وجودها فيها وجود العرض، فوجودها فيها وجود الجوهر.

و هذا غلط،كبير (6)قد أشبعنا القول فيه في أوائل المنطق،و إن لم يكن ذلك موضعه، فإنّهم إنما خلطوا فيه هناك.

فنقول:قد علم ممّا سلف إنّ بين المحلّ و الموضوع فرقا،و أنّ الموضوع يعنى به ما صار بنفسه و نوعيّته قائما ثمّ صار سببا لأن يقوم به شيء فيه ليس كجزء منه،و أنّ المحلّ كلّ شيء يحلّه شيء فيصير بذلك الشيء بحال ما،فلا يبعد أن يكون شيء موجودا في المحلّ (7)،و يكون ذلك المحلّ لم يصر نفسه (8)نوعا قائما كاملا بالفعل،بل إنّما تحصّل

ص:61


1- في المصدر:إلى غير نهاية...
2- لا محالة آخره...
3- فليس بمستنكر...
4- سنبيّن لك كلّها...
5- فيقول...
6- و قد أشبعنا...
7- في محلّ...
8- بنفسه.

قوامه من ذلك الذي حلّه وحده أو مع شيء آخر،أو أشياء أخرى اجتمعت،فصيّرت ذلك الشيء موجودا بالفعل،أو صيّرته نوعا بعينه.

و هذا الذي يحلّ هذا المحلّ،يكون لا محالة موجودا لا في موضوع؛و ذلك لأنّه ليس يصحّ (1)أن يقال:إنّه في شيء،الاّ في الجملة أو في المحلّ،و هو في الجملة كجزء.

و كان الموضوع ما يكون فيه الشيء و ليس كجزء منه،و هو في المحلّ ليس كشيء حصل في شيء،ذلك الشيء قائم بالفعل نوعا،ثمّ يقيم الحال فيه.بل هذا المحلّ جعلناه إنّما يتقوّم بالفعل بتقويم ما حلّه،أو جعلناه (2)إنّما تتمّ (3)له به نوعيّته إذا كانت نوعيّته إنّما تحصّل (4)به أو تصير له نوعيّة باجتماع أشياء جملتها تكون (5)ذلك النوع.

فبيّن أن بعض ما في المحلّ ليس في موضوع.

و أمّا إثبات هذا الشيء الذي هو محلّ دون موضوع،فذلك علينا إلى قريب.

و إذا أثبتناه،فهو الشيء الذي يخصّه في مثل هذا الموضوع باسم الصورة،و إن كنّا قد نقول لغيره أيضا صورة باشتراك الاسم.و إذا كان الموجود لا في موضوع هو المسمّى جوهرا،فالصورة أيضا جوهر.فأمّا المحلّ الذي لا يكون في محلّ آخر،فلا يكون في موضوع لا محالة،لأنّ كلّ موضوع في موجود (6)فهو موجود فى محلّ،و لا ينعكس، فالمحلّ الحقيقيّ أيضا جوهر،و هذا المجتمع أيضا جوهر.انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و مضمونه واضح،إلاّ أنّه لا يستبين منه بيان غلط ما أسنده إلى كثير ممّن يدّعي المعرفة،من تجويز كون شيء واحد جوهرا و عرضا معا بالقياس إلى شيئين.و بيان خلطهم الذي قال إنّه أشبع القول فيه في أوائل المنطق،و ما ذكره فيها،و إن لم يكن الآن في نظرنا،إلاّ أنّ فيما ذكره هنا في بيان أنّه بمجرّد إطلاق الكمال على النفس لا يعلم منه أنّها جوهر أو عرض،كأنّه إشارة أيضا إلى بيان ذلك الغلط و الخلط كما سنبيّنه.

و بالجملة،فبيان ما ذكره هنا يتوقّف من وجه على فهم ما نقلناه عنه في الإلهيّات، و كذلك بيان ما ذكره ثمّة يتوقّف من وجه على ما ذكره هنا،كما سيظهر ذلك كلّه عن

ص:62


1- في المصدر:يصلح...
2- و جعلناه...
3- يتمّ...
4- تحصّل أو تصير...
5- يكون...
6- موجود في موضوع...

قريب.و حيث كان الأمر كذلك،فنقول.

قوله هنا:«لكنّا إذا قلنا كمال-إلى قوله-:لكنّا نقول»

ادّعاء بمجرّد إطلاق الكمال على النفس لا يعلم منه جوهريّتها أو عرضيّتها،و ذلك ظاهر.

و قوله (1):«لكنّا نقول:إنّه لا شكّ لنا في أنّ هذا الشيء ليس بجوهر بالمعنى الذي يكون به الموضوع جوهرا،و لا أيضا بالمعنى الذي يكون به المركّب جوهرا،فأمّا جوهر بمعنى الصورة فلننظر فيه»-إلى آخر ما ذكره-بيان لذلك الادّعاء.

و تحريره:أنّه لا شك لنا في أنّ هذا الشيء الذي بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا،و النبات بالفعل نباتا،و سمّيناه بالنفس،ليس بجوهر بالمعنى الذي يكون به الموضوع جوهرا،على ما بيّنه فيما نقلناه عنه في الإلهيّات من معنى الموضوع و معنى جوهريّته،إذ لم نعتبر ذلك الشيء موضوعا،حتّى يكون جوهريّته بمعنى جوهريّة الموضوع.بل و لم نعتبره محلاّ مطلقا أيضا على ما بيّنه هنالك من معناه و معنى جوهريّته؛ فلا يكون جوهريّته بمعنى جوهريّة المحلّ مطلقا أيضا،و لا أيضا يكون جوهريّة ذلك الشيء بالمعنى الذي يكون به المركّب جوهرا،على ما بيّنه أيضا هنالك من معنى المركّب و معنى جوهريّته،اذ لم نعتبر ذلك الشيء مركّبا أيضا.و بالجملة لا يكون جوهريّته بمعنى جوهريّة الجسم و جوهريّة مادّته،إذ لم نعتبره شيئا من ذلك،بل إنّما اعتبرناه كمالا هو باعتبار ما فصل،و باعتبار ما صورة.

و حيث اعتبرناه كذلك،فلننظر في أنّه هل يلزم من اعتباره كمالا جوهريّته،بمعنى جوهريّة الصورة في الجسم التي هي باعتبار ما فصل و كمال له؟فنقول:إن قال قائل:إنّي أقول للنفس جوهر،و أعني به الصورة خاصّة،و لست أعني به معنى أعمّ من الصّورة بحيث يشمل الموضوع و المركّب و نحوهما أيضا،بل معنى أنّه جوهر معنى أنّه صورة، و هذا ممّا قاله خلف منهم،فحينئذ فلا يكون مع هذا القائل موضع بحث و نزاع و اختلاف

ص:63


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 8/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

البتّة،لأن مفاد قوله هذا إنّما هو مجرّد إطلاق لفظ الصّورة على الجوهر،و مجرّد إطلاق لفظ الجوهر على النفس،من دون أن يكون هناك معنى الجوهر أو معنى ما قصد بالصورة الجوهريّة.فيكون معنى قوله:«إنّ النّفس جوهر»أنّها صورة،أي يطلق عليها لفظ الصّورة،بل يكون قوله:«الصورة جوهر»بهذا المعنى أيضا.أي أنّها يطلق عليها لفظ الجوهر.فيكون كقوله:«الصورة صورة أو هيئة،و الإنسان إنسان أو بشر»لأنّ الصورة كما يطلق عليها لفظ الصورة،يطلق عليها لفظ الهيئة،و كذلك الإنسان يطلق عليه هذان اللفظان.

و بالجملة فيكون هذا القول هذيانا من الكلام،كما لا يخفى،و حيث كان هذا القول منه بهذا التفسير غير مفيد هنا فائدة في إثبات معنى الجوهريّة للنفس،فبقي أن يكون قد عنى بالصورة التي أطلقها على النفس معنى يقصد بالجوهر،حتّى يكون مفيدا هنا.

فنقول:إن عنى بالصورة معنى الجوهر،أي ما ليس في موضوع البتّة،أي لا يوجد بوجه من الوجوه قائما في الشيء الّذي بيّناه لك،-أي في الإلهيّات-موضوعا البتّة،أي أن لا يكون في شيء من الأشياء بهذه الصفة،كما هو معنى الجوهر و حقيقته كما بيّنه هنالك، فلا يخفى أنّ هذا الادّعاء من هذا القائل،إنّما هو لأجل أنّه رأى النفس كمالا و صورة، و ظنّ ثبوت حقيقة الجوهر و معناه لكلّ كمال و صورة،فحكم بثبوت معناه للنفس،و لا سترة في أنّه لا يصحّ كلّيّا،أي ليس كلّ كمال جوهرا بهذا المعنى،فإنّ كثيرا من الكمالات التي هي صور أيضا باعتبار،تكون هي في موضوع و أعراضا لا محالة،سواء كانت كمالات اوّل أو ثواني،و هذا كالشكل للسّيف و القطع له،و كالتميّز و الرويّة و الإحساس و الحركة للإنسان،و كالحرارة التي هي كمال للنار في غير جسم النار،فلم يلزم من كون الشيء كمالا أو صورة كونه جوهرا بالمعنى المذكور،حيث إنّه قد يمكن أن يكون عرضا كما في تلك الأمثلة.

و بهذا القدر قد تمّ ما قصده الشيخ من منع الكليّة،إلاّ انّ ما ذكره بعد ذلك من قوله (1)

ص:64


1- -الشفاء-الطبيعيّات 8/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

«و إن كان ذلك الكثير بالقياس إلى المركّب،و من حيث كونه فيه ليس في موضوع»-إلى آخر ما ذكره-.

بيان:لأنّ الشيء إذا كان في شيء ما في موضوع،و في شيء آخر لا في موضوع، فإنّ ذلك لا يجعله جوهرا،و فيه إشارة أيضا إلى وجه الغلط و الخلط الذي نسبه في الإلهيّات إلى كثير ممّن يدّعي المعرفة.

و تحريره:أنّا لو جوّزنا في ذلك الكمال الذي قلنا إنّه في موضوع بالقياس إلى شيء كونه بالقياس إلى شيء آخر لا في موضوع،كما في الحرارة،حيث إنّها في غير جسم النار في موضوع البتّة،و قلنا إنّها في جسم النّار،أي في جملة النّار،و في المركّبة منها من حيث كونها فيها،ليست في موضوع و ليست بعرض،لأنّها موجودة فيها كجزء،و أيضا ليس يجوز رفعها عن النار و النار تبقى.

و بالجملة أنّها بالقياس إلى النار ممّا ينتفي عنها صفة العرض،كما ادّعاه كثير ممّن يدّعي المعرفة؛فإنّ ذلك لا يجعلها جوهرا في حدّ ذاتها،لأنّ كونها جزءا من النار لا يمنعها أن تكون في موضوع في حدّ ذاتها،حيث إنّ كون شيء في شيء ما،لا كالشيء في الموضوع،لا يكفي في كونه جوهرا في حدّ ذاته،كما ظنّه بعضهم كالكثير ممّن يدّعي المعرفة،لأنّ حقيقة الجوهر على ما عرّفها القوم:ما لا يكون في شيء من الأشياء بوجه من الوجوه موجودا في الشيء الذي سمّوه موضوعا،حتّى يكون في حدّ ذاته و في نفسه جوهرا،و هذا المعنى كما هو صريح كلمات الشيخ في تعريف الجوهر،كذلك هو مدلول ما قاله بعضهم في تعريفه:«أنّه الموجود لا في موضوع»حيث إنّ الموضوع نكرة في سياق النفي و هي تفيد العموم.

و الحاصل أنّ الجوهر ما لا يكون في شيء من الأشياء في موضوع،لا أن يكون ذلك بالقياس إلى شيء مخصوص،فعلى هذا،فالحرارة في جسم النّار-و إن فرضناها فيها-لا في موضوع،ممّا ليس يكون بذلك حقيقة الجوهر في حدّ ذاتها،لأنّ ذلك إنّما هو لها بالقياس إلى جسم النار،لا بالقياس إلى جميع الأشياء،و هذا ليس من معنى الجوهر.نعم

ص:65

هي باعتبار كونها في غير جسم النار في موضوع ممّا يكون حقيقة العرض،لأنّ تحديد العرض حيث كان في مقابلة تحديد الجوهر،على ما عرفته؛يكون ما كان في شيء من الأشياء في موضوع،كما يدلّ عليه قولهم:«إنّه الموجود في موضوع»حيث كان الموضوع نكرة في الإثبات،و هي لا تفيد العموم،أي ما كان بالقياس إلى شيء ما في موضوع،و إن لم يكن بالقياس إلى غيره في موضوع.فعلى هذا يلزم أن يكون ما يوجد في شيء ما في موضوع عرضا،و إن وجد في ألف شيء لا في موضوع،و لا يخفى أنّ تلك الحرارة المفروضة حالها ما ذكر.

و بيان هذا بعبارة أخرى،ما ذكره الشيخ:أنّه لم يكن الجوهر-كما يعلم من تعريفه- ما لا يكون بالقياس إلى شيء على أنّه في موضوع،حتّى يكون الشيء من جهة ما ليس في هذا الشيء على أنّه في موضوع جوهرا،بل أنّما يكون جوهرا إذا لم يكن و لا في شيء من الأشياء على أنّه في موضوع.و هذا المعنى لا يحصل بكونه في شيء ما موجودا لا في موضوع،فإنّ ذلك ليس له بالقياس إلى شيء،حتّى إذا قيس إلى شيء يكون فيه لا كما يوجد الشيء فى موضوع،صار جوهرا.و إن كان بالقياس إلى شيء آخر بحيث يكون عرضا،بل هو اعتبار له في ذاته،فإنّ الشيء اذا تأمّلت ذاته و نظرت إليها،فلم يوجد لها موضوع البتّة،كانت في نفسها جوهرا.و إن وجدت في ألف شيء لا في موضوع،بعد أن يوجد في شيء واحد على نحو وجود الشيء في موضوع،فهي في نفسها عرض.فظهر بما ذكر أنّ كثيرا من الكمالات تكون أعراضا موجودة في موضوع،و أنّ كونها بالقياس إلى شيء ما موجودة لا في موضوع،لا يجعلها جوهرا في نفسها.

و ظهر أيضا أنّه غلط من ادّعى أنّه يجوز أن يكون شيء بالقياس إلى شيء عرضا، و بالقياس إلى آخر جوهرا،فتدبّر.

ثمّ إنّ قول الشيخ (1):«و ليس إذا لم يكن (2)عرضا في شيء فهو (3)جوهر فيه،فيجوز أن

ص:66


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 9/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:تكن...
3- فهي.

يكون الشيء لا عرضا في الشيء و لا جوهرا في الشيء،كما أنّ الشيء يجوز أن لا يكون واحدا في الشيء (1)و لا كثيرا،و لكنه (2)في نفسه واحدا أو كثير»،كأنّه دفع توهّم ينشأ هنا.

و بيان التوهّم:أنّ الحرارة في جسم النّار-مثلا-لا يخفى أنّ وجودها فيها ليس وجود العرض في الموضوع،كما هو المفروض؛و إذا لم تكن عرضا فيها،فهي جوهر فيها، لأنّ الجوهريّة و العرضيّة متقابلتان،فلا يمكن ارتفاعها،بل إذا انتفت إحداهما ثبتت الاخرى.و إذا ثبت أنّها في جسم النار جوهر مع أنّها في غير جسم النار عرض، عاد المحذور جذعا،و هو لزوم كون تلك الكمالات المذكورة بالقياس إلى شيء ما جوهرا بعد أن كانت بالقياس إلى آخر عرضا.و كذا لزوم كون شيء واحد جوهرا و عرضا معا بالقياس إلى شيئين.

و بيان دفع هذا التوهّم:أنّك قد عرفت أن ليس ذلك المعنى بالقياس إلى شيء، فحينئذ يجوز أن يكون الشيء لا عرضا في الشيء و لا جوهرا في الشيء،بل يكون في نفسه جوهرا و عرضا،و هذا ليس من ارتفاع المتقابلين المحال،كما أن الشيء يجوز أن لا يكون واحدا في الشيء،و لا كثيرا في الشيء،و لكنّه في نفسه واحد أو كثير،و الحال أنّ الوحدة و الكثرة أيضا متقابلتان.

و قوله (3):«و ليس الجوهريّ و الجوهر واحدا،و لا العرضيّ (4)بمعنى العرض الذي في إيساغوجي هو العرض الذي في قاطيغورياس (5)،و قد بيّنا هذه الأشياء لك في صناعة المنطق»كأنّه دفع توهّم آخر ينشأ هنا.

و بيان التوهّم:أنّا سلّمنا أنّه بمجرّد كون الشيء كمالا للشيء لا يلزم جوهريّته، حيث إنّ كثيرا من الكمالات أعراض،و كونها في شيء ما موجودة لا في موضوع،لا يجعلها جوهرا كما ذكرت.لكنّا نقول:إنّ الكمال الذي نحن بصدد بيانه،أي النفس النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،حيث جعلنا كونها كمالا،باعتبار كونها فصولا لنوع النبات

ص:67


1- في المصدر:في شيء...
2- لكنّه...
3- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 9/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.و مرّ في ص 12. [2]
4- و لا العرض بمعنى العرضيّ...
5- قاطيغورياس.

و الحيوان و الإنسان،التي هي أنواع جوهريّة مركّبة من مادّة و صورة،أي الفصول التي هي باعتبار ما صورة،كما في النبات و الحيوان،و كالصّورة كما في الإنسان،يكون جوهرا البتّة.إذ لو كان عرضا،لكان تقوّم تلك الأنواع الجوهريّة به،و يلزم تقوّم الجوهر بالعرض و هو محال.و إذا كان جوهرا،ثبت ما هو المطلوب،و هو جوهريّة تلك النفوس التي قلنا إنّها كمال.

و بيان دفع هذا التوهّم:أن ليس الجوهريّ و الجوهر واحدا،إذ الجوهريّ ما كان حمله على الشيء حملا جوهريّا،أي ذاتيّا كحمل الجنس على النوع،و حمل النوع على الشخص.و الجوهر ما كان موجودا لا في موضوع البتّة بالقياس إلى ذاته و إلى جميع الأشياء.و كذلك العرضيّ و العرض الذي في إيساغوجي،أي في باب الكلّيّات الخمس، ما كان حمله على الشيء حملا عرضيّا خارجا عن حقيقته،لا ذاتيّا كحمل العرض العامّ أو الخاصّة على ما تحتها،و كحمل الجنس على الفصل،كما عرفت بيانه.و العرض الذي في قاطيغورياس،أي في باب المقولات العشر،هو ما يكون في موضوع.

و حينئذ فالجوهر كما يمكن أن يكون جوهريّا بالنسبة إلى شيء،كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان،و كذلك مفهوم الجوهر بالقياس إلى الحقائق الجوهريّة التي هي الأنواع،إن قلنا إنّه جنس لما تحته من الأنواع،كذلك يمكن أن يكون عرضيّا غير جوهريّ بالنسبة إلى شيء،كالحيوان بالنسبة إلى الناطق،فإنّه لو كان جنسا ذاتيّا له أيضا،يلزم أن يكون امتيازه عن غيره بفصل آخر،و هكذا،فيلزم التسلسل المحال.

و كذلك العرض،كما يمكن أن يكون عرضيّا بالنسبة إلى شيء مثلا بالنسبة إلى فصول الكيفيّات،التي هي أنواع عرضيّة على ما عرفت بيانه.و كمفهوم العرض،إن قلنا إنّه ليس جنسا لما تحته من الأنواع،كذلك يمكن أن يكون جوهريّا بالنسبة إلى شيء، كالكيف بالنسبة إلى أنواع الكيفيّات،و كمفهوم العرض إن قلنا إنّه جنس لما تحته من الأنواع.

و إذا عرفت ما ذكرنا،ظهر لك أنّ تلك الكمالات التي نحن بصدد بيانها،أعني النفس

ص:68

النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،و إن كانت مما يصدق عليها الجوهر،إلاّ انّها حيث اعتبرت فصولا لتلك الأنواع الجوهريّة لا أنواعا،لا يكون صدق الجوهر-سواء قيل بأنّه جنس لما تحته،أو قيل بأنّه ليس بجنس لما تحته-و كذا صدق تلك الأجناس التي هي جواهر حقيقة،أعني الجسم المطلق و الجسم النامي و الحيوان عليها،أي على تلك الفصول، صدقا ذاتيا و جوهريّا،على ما عرفت من أنّ صدق الجنس على الفصل لا يكون ذاتيّا، أي أن يكون الجوهر داخلا في حقيقتها،أو مأخوذا في حدودها،بل عرضيّا خارجا عنها لازما لها.

و الحاصل أنّ تلك الفصول يلزمها كونها جوهرا باعتبار جوهريّة أجناسها و اتّحادها معها نوعا من الاتّحاد،و به ينتفي لزوم تقوّم الجوهر بالعرض،لا أن تكون حقائقها جواهر في أنفسها و في حدود ذواتها.

و لا يخفى أنّ هذا المعنى من الجوهريّة هو الذي نرومه هنا،و ندّعي عدم ثبوته لتلك الفصول بمجرّد كونها فصولا و كمالات،و هذا كما أنّ فصل الكيف مثلا،و إن صدق عليه أنّه عرض أو كيف،إلاّ أنّه لا يكون صدق العرض،سواء كان جنسا لما تحته من الأنواع العرضيّة أم لم يكن،و كذا صدق الكيف الذي هو جنس عندهم لما تحته على ذلك الفصل صدقا ذاتيّا و جوهريّا،يكون هو بالقياس إلى نوع الكيف،بل صدقا عرضيّا.

و الحاصل أنّه يلزم ذلك الفصل أن يكون عرضا أو كيفا باعتبار اتّحاده مع جنسه الذي هو عرض و كيف بالحقيقة،لا أن يكون هو نفسه في حدّ ذاته عرضا أو كيفا بالحقيقة،بحيث يكون ذلك ذاتيّا له و داخلا في حقيقته و حدّه.

و المحصّل أنّ صدق تلك الأجناس الجوهريّة على تلك الفصول التي نحن بصدد بيانها،ليس هو صدق حقيقة الجوهر،أي الموجود لا في موضوع،بل صدق ما صدق عليه حقيقة الجوهر؛و مع ذلك فليس صدقه عليها صدقا جوهريّا،بل عرضيّا؛فمن أين يلزم جوهريّة تلك الفصول بالحقيقة؟

فإن قلت:إذا لم يكن لفصول الجواهر جوهريّة إلاّ جوهريّة أجناسها،لكانت هي

ص:69

أعراضا في أنفسها،و كذا إذا لم يكن لفصول الأعراض عرضيّة إلاّ عرضيّة أجناسها، لكانت هي في حدّ ذاتها جواهر،لأنّ الجوهريّة و العرضيّة متقابلتان تقابلا في الغاية،و إذا لم يدخل أحد المتقابلين في حقيقة شيء،كان المقابل الآخر داخلا في حقيقته البتّة،و إلاّ لزم ارتفاع المتقابلين،و هو محال.

قلت:إنّ ارتفاع المتقابلين إنّما يستحيل إذا كان ارتفاعهما عن شيء من شأنه ثبوت أحدهما له من حيث ذاته بذاته،و لا نسلّم أنّ تلك الفصول-بحسب حقائقها و ذواتها و فى أنفسها-ليس من شأنها الجوهريّة و لا العرضيّة بالمعنى الذي يراد في الأنواع الجوهريّة و الأنواع العرضيّة،فارتفاعهما عنها في حدود ذواتها ليس بممتنع.

و الحاصل أنّ ارتفاع المتقابلين،بل ارتفاع النقيضين أيضا و إن كان ممتنعا في الواقع،لكنّه ليس بممتنع في بعض مراتب الواقع،و هذا كما يقولون:إنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلاّ هي.

و من هذا أيضا يظهر أن ليس يلزم فيما نحن فيه تقوّم الجوهر بالعرض،لو لم تكن تلك الفصول التي هي الكمالات جواهر في أنفسها،فتدبّر.

و قوله (1)«فبيّن أنّ النّفس لا يزيل عرضيّتها كونها في المركّب كجزء،بل يجب أن تكون في نفسها لا في موضوع البتّة»-الى آخره-تفريع على ما تقدّم،و المعنى:فبيّن ممّا ذكرناه أنّ النّفس التي نحن بصدد بيان حالها لا يزيل احتمال عرضيّتها في نفسها و بحسب حقيقتها كونها كمالا و كونها في المركّب،أي في الجملة التي هي عبارة عن النفس و ما تعلّقت به،كالنبات و الحيوان و الإنسان كجزء منه،حيث عرفت أنّ بعض ما كان كجزء من المركّب يمكن أن يكون عرضا في ذاته،كالحرارة على ما عرفت من حالها.

و أنّ الفصل الذي هو جزء من المركّب الجوهريّ،و إن صدق عليه أنّه جوهر،إلاّ أنّه ليس صدقه عليه صدقا جوهريّا ذاتيّا يستلزم كونه جوهرا في حدّ ذاته،كما هو المقصود هنا من جوهريّة النّفس،بل صدقا عرضيّا يستلزم عروض معنى الجوهريّة له،بل إنّ ثبوت

ص:70


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 9/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

معنى الجوهريّة للنفس بحسب حقيقتها و ذاتها،إنّما يكون إذا ثبت أنّ النفس يجب أن تكون في نفسها لا في موضوع البتّة،كما هو معنى الجوهر،و قد علمت ما الموضوع و ما معناه،حيث علمت في الإلهيّ أن الموضوع يعني به ما صار بنفسه و نوعيّته قائما،ثمّ صار سببا لأن يقوم به شيء فيه ليس كجزء منه،و الحال أنّ هذا المعنى لم يثبت بعد للنفس باعتبار كونها كمالا،أو كونها في المركّب كجزء منه،نعم لو ثبت بالدليل أنّ كلّ نفس موجودة لا في موضوع،ثبت أنّ كلّ نفس جوهر بحسب الحقيقة،أو ثبت أنّ نفسا ما قائمة بذاتها و البواقي كلّ واحدة منها في هيولى و ليست في موضوع،ثبت أيضا أنّ كلّ نفس جوهر بذاتها.و أمّا لو كانت نفس ما قائمة في موضوع،و هي مع ذلك جزء من المركّب، فهي عرض بحسب الحقيقة،و جميع هذا كمال.فلم يتبيّن لنا بعد أنّ النّفس جوهر أو ليست بجوهر من وصفنا أنّها كمال،و غلط من ظنّ أنّ هذا يكفيه في أن تجعل جوهرا كالصورة،بل إنّ إثبات جوهريّة النّفس في ذاتها يحتاج إلى دليل آخر،كما حقّقه الشيخ في فصل آخر بعد هذا الفصل،و نحن سنذكر فيما بعد ملخّصه إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ قوله:«فنقول:إنّا إذا عرفنا أنّ النّفس كمال بأيّ بيان و تفصيل (1)لم نكن بعد عرّفنا النّفس و ماهيّتها (2)»-إلى آخره (3)-هذا بيان بوجه آخر غير السّابق،لأنّ إطلاق الكمال على النّفس في تحديدها لا يدلّ على كونها داخلة في مقولة الجوهر،و لا على حقيقتها و ماهيّتها في نفسها،بل على النفس من حيث هي نفس،و من حيث يطلق عليها اسم النّفس،أي من جهة إضافة ما لها إلى البدن و كونها مقيسة إليه.

و توضيحه:أنّا إذا عرّفنا أنّ النّفس كمال بأي بيان و تفصيل فصّلنا الكمال و فسّرنا معناه،لم نكن بذلك عرّفنا النّفس و ماهيّتها بذاتها،بل عرّفناها من حيث هي نفس،و يطلق عليها هذه اللفظة.فإنّ اسم النفس ليس يقع عليها من حيث جوهرها بذاتها،و من حيث هي واقعة تحت مقولة الجوهر،بل من حيث ما لها إضافة ما،أي من حيث هي مدبّرة

ص:71


1- في المصدر:و تفصيل فصّلنا الكمال...
2- ماهيّتها.
3- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 9/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

للأبدان و مقيسة إليها؛فلذلك يؤخذ البدن في حدّها،أي في حدّها من جهة ما لها إضافة،لا في حدّها من حيث جوهرها و ذاتها بذاتها و كونها واقعة تحت مقولة الجوهر؛كما يؤخذ مثلا البناء في حدّ الباني من جهة الإضافة و من حيث كونه بانيا،و إن كان لا يؤخذ في حدّه من حيث جوهره،و من حيث إنّه إنسان،و لذلك،أي و لأجل أنّ النظر في النفس من حيث هي نفس و من حيث كونها مقيسة إلى الابدان،صار النظر فيها من العلم الطبيعي الذي يبحث فيه من حيث التعلّق بالمادّة و الحركة،أي بالمادّة بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ، لأنّ النظر في النفس أيضا من حيث هي نفس،نظر فيها من حيث لها علاقة بالمادّة بالمعنى الأخصّ،كما في النفس النباتيّة و الحيوانيّة من حيث هي حيوانيّة أو بالمعنى الأعمّ،كما في النفس الإنسانيّة من حيث هي إنسانيّة،و كذا من حيث لها علاقة بالحركة.

فبالجملة،النظر في النفس من الجهة المذكورة لا يكفي لتعرّف ماهيّة النفس في حدّ ذاتها و كونها واقعة تحت مقولة الجوهر،بل يجب أن نفرد لتعرّفنا ذات النفس من هذه الجهة بحثا آخر،كما أفرده فيما بعد،و لو كنّا عرّفنا بالجهة الأولى ذات النفس من الجهة الثانية،لما أشكل علينا معرفة وقوعها في أيّ مقولة تقع فيها من مقولة الجوهر أو العرض، فإنّ من عرف و فهم ذات الشيء من حيث هي ذاته،فعرض على نفسه طبيعة أمر ذاتيّ له، لم يشكل عليه وجوده له،كما أوضحناه في المنطق.

ثمّ إنّ قوله:«لكنّ الكمال على وجهين:كمال أوّل و ثان (1)»-إلى آخره (2)-

بيان لأنّه بمجرّد إطلاق الكمال على النفس في تحديدها من جهة ما لها إضافة ما -كما هو المقصود هنا-لا يتحقّق حقيقتها من هذه الجهة،و لا يحصل حدّها من هذه الحيثيّة؛بل يجب أن يقيّد الكمال بقولنا:كمال أوّل،حتّى يختصّ بالنفس و يخرج غيرها، فإنّ الكمال على وجهين:كمال أوّل و كمال ثان؛و الكمال الأوّل هو الذي يصير به النوع نوعا كاملا بالفصل،كالشكل للسيف،و كالنفس للنبات و الحيوان و الإنسان؛و الكمال

ص:72


1- في المصدر:و كمال ثان.
2- -الشفاء-الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

الثاني هو أمر من الامور التي تتبع وجود الشيء بعد أن كان نوعا بالفعل من أفعاله و انفعالاته،و هذا كالقطع للسيف،و كالتميّز و الرويّة و الإحساس و الحركة للإنسان،فإن هذه كمالات لا محالة للنوع،أي لنوع السيف و لنوع الانسان،لكن ليست أوّليّة،فإنّه ليس يحتاج ذلك النوع في أن يصير هو ما هو بالفعل إلى حصول هذه الأشياء له بالفعل،بل إنّما يحتاج في صيرورته نوعا بالفعل إلى حصول مبدأ هذه الأشياء بالفعل،أي إلى الكمال الأوّل،و ما هو متبوع هذه الأشياء و ملزومها،و إن كان حصول هذه الأشياء له بالقوّة،أي بالقوّة القريبة.

و قوله:«بل إذا حصل له مبدأ هذه الاشياء»

شرط جوابه قوله:«صار حينئذ الحيوان حيوانا بالفعل» (1)

و قوله:«تحتاج»إمّا بضمير التأنيث نعت ثان لقوله:«بقوّة بعيدة»أو بضمير التذكير نعت للكون الذي يفهم من قوله:«بعد ما لم يكن بالقوّة الاّ بقوّة بعيدة». 1

و قوله:«إلى أن يحصل (2)فيها أو قبلها-على اختلاف النسختين-شيء»

الضمير في فيها أو قبلها راجع إلى القوّة.

و قوله:«حتّى تصير (3)بالحقيقة بالقوّة»

الضمير في«يصير»إن كان بالتذكير،فهو راجع إلى الكون بالقوّة،و إن كان بالتأنيث فهو راجع إلى القوّة،و معنى الصيرورة بالحقيقة بالقوّة،الصيرورة بالقوّة القريبة.و معنى الكلام أنّه ليس يحتاج النوع في أن يصير هو ما هو بالفعل إلى حصول هذه الأشياء التي الكمالات الثانية له بالفعل،بل إذا حصل له مبدأ هذه الأشياء،أي الكمال الأوّل بالفعل، حتّى صار له هذه الأشياء بسبب حصول مبدئها له بالقوّة القريبة،بعد ما لم تكن إلاّ بقوّة بعيدة،يحتاج تلك القوّة أو الكون بتلك القوّة إلى أن يحصل قبل تلك القوّة أو فيها شيء هو مبدؤها،حتّى يصير القوّة أو الكون بالقوّة قوّة قريبة و قوّة بالحقيقة،صار حينئذ ذلك النوع

ص:73


1- -الشفاء-الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:يحصل قبلها...
3- حتّى يصير.

-كالحيوان مثلا-نوعا بالفعل،و حيوانا بالفعل،من غير أن يحتاج في كونه نوعا بالفعل إلى حصول هذه الأشياء له بالفعل.

و المحصّل أنّ الكمال الأوّل و الثاني و إن كان كلّ منهما كمالا للنوع،إلاّ أنّ الأوّل متبوع و ملزوم و الثّاني تابع و لازم له؛و أنّ الأوّل متقدّم،و الثاني متأخّر عنه،و الأوّل يتوقّف عليه حصول النوع في نفسه بالفعل،و الثاني متأخّر عن تحصّل النوع بالفعل؛حيث إنّ الأوّل ممّا يحتاج النوع في حصوله بالفعل إلى حصوله بالفعل،دون الثاني؛فإنّه و إن كان حصوله بالقوّة أيضا،أي بالقوّة القريبة يمكن أيضا حصول النوع بالفعل.و الملخّص أنّ الأوّل ممّا يكمل به النوع في ذاته،و الثاني ممّا يكمل به في صفاته،و حيث كان النفس من قبيل الكمال الأوّل،حيث إنّها مبدأ للكمالات الثانيّة،و يصدق عليها ما هو معنى الكمال الأوّل كما ذكر،فيجب أن يقيّد الكمال في حدّها بالكمال الأوّل،حتّى يكون مختصّا بها و يخرج غيرها.فيقال:إنّها كمال أوّل،و ربّما أشعر تمثيله للكمال الأوّل و الثاني أنّ الكمال-مطلقا-كما يمكن أن يكون جوهرا يمكن أن يكون عرضا أيضا،كما ادّعاه فيما تقدّم،فافهم.

و قوله (1):«و لأنّ الكمال كمال للشيء،فالنفس كمال الشيء؛و هذا الشيء هو الجسم، و يجب أن يؤخذ الجسم بالمعنى الجنسيّ لا بالمعنى المادّيّ،كما عملت في صناعة البرهان».

أي حيث قلنا إنّ النّفس كمال أوّل،فاعلم أنّ الكمال لمّا كان من باب المضاف، و كانت الإضافة معتبرة في معنونه،و كان معناه أنّه كمال لشيء،وجب إضافته إلى شيء، و هذا الشيء ليس شيئا مطلقا،بل شيئا خاصّا هو الجسم؛فيجب إضافته إلى الجسم، و القول بأنّها كمال أوّل لجسم،لكن لا للجسم بالمعنى المادّيّ،بل للجسم بالمعنى الجنسيّ،حتّى يمكن أن يكون ذلك كمالا و فصلا له،كما علمت ذلك في صناعة البرهان، و ذكرنا نحن نبذا منه،نقلا عن إلهيّات الشفاء.

ص:74


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

ثمّ إنّ ما يتراءى من ظاهر كلامه هنا أنّ الفصل كمال للجنس،لا ينافي كونه كمالا للنوع أيضا،كما تضمّنه كلامه السابق.حيث إنّ كونه كمالا للجنس بمعنى كونه محصّلا له مقسّما إيّاه،يستلزم كونه محصّلا للنوع أيضا مقوّما إيّاه،كما عرفت من البيان السابق.

فتذكّر.

و قوله (1):«و ليس هذا الجسم الذي النفس كماله،كلّ جسم»-الى آخره-

يعني أنّه بعد تقييد الكمال بكونه كمالا أوّلا لجسم،يجب تقييده بقيود أخر أيضا، حتّى يحصل حدّ تام للنفس من حيث هي نفس،و مقيسة إلى البدن؛لأنّ الجسم الذي النفس كماله ليس كلّ جسم،فإنّها ليست كمال الجسم الصناعيّ،كالسرير و الكرسيّ و نحوهما،بل كمال الجسم الطبيعيّ فيجب التقييد به؛و بعد ذلك فليست هي كمالا لكلّ جسم طبيعيّ،لأنّها ليست كمالا للنار و لا للأرض و لا للهواء من البسائط،حتّى تكون صورة نوعيّة للبسائط،و كذا هي ليست كمالا للمركّبات المعدنية و غيرها،حتّى تكون صورة نوعيّة للمركّبات مطلقا،بل هي في عالمنا هذا-أي عالم الأرضيّات-كمال لجسم طبيعيّ مركّب آليّ ذي آلات و قوى يصدر عنه كمالاته الثانيّة،أي أفعاله و انفعالاته بتوسّط آلات و قوى يستعين هو بها في أفعال الحياة،التي أوّلها التغذّي و النموّ و آخرها الإدراكات.و المعنى أنّه يستعين بها في أفاعيلها إن كان احتاج إلى الاستعانة،و إلاّ فيصدر عنه تلك الأفاعيل بنفسه من غير توسّط آلة،كما في النفس الإنسانيّة في فعلها الخاصّ بها،أي إدراك الكلّيّات.

و الحاصل أنّه يمكن أن يصدر عنه بتوسّط الآلات أو بدون توسّطها ما يصدر من أفاعيل الحياة،التي هي التغذّي و النموّ و التوليد و الإدراك و الحركة الإراديّة و النطق،و إنّما خصّ صورة الاستعانة بالذّكر،لأنّها عامّة لجميع النفوس الأرضيّة،إمّا في جميع ما يصدر عنها،كما في النباتيّة و الحيوانيّة؛و إمّا في الأكثر كما في النفس الإنسانيّة،بخلاف صورة عدم الاستعانة،فإنّها خاصّة ببعض تلك النفوس في بعض أفعالها،و هي النفس الإنسانيّة

ص:75


1- -الشفاء-الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

فيما يختصّ بها من الأفعال كالإدراك الكلّيّ.

فتلخّص من ذلك«أنّ النفس التي نحدّها،أي النّفس الأرضيّة الشاملة للنباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،كمال أول لجسم طبيعيّ آليّ له أن يفعل أفعال الحياة.أي يمكن أن يفعل أفعال الحياة كلّها أو بعضها،سواء كان البعض بعضا أكثر أو أقلّ،و سواء كان صدورها عنه بالفعل أو بالقوّة،أي بالقوّة القريبة من الفعل،و سواء كان ما هو بالفعل دائميّا أم غير دائميّ،قد يكون و قد لا يكون مع إمكان أن يكون.فحصل منه حدّ جامع مانع للنفس من حيث هي نفس.

فالكمال بمنزلة الجنس يعمّ المحدود و غيره،لأنّه عبارة عمّا يتمّ به النوع مطلقا.و هو و إن كان من باب المضاف،إلاّ أنّه يصلح أن يكون جنسا للمسمّى باسم النّفس،لأنّ هذا الحدّ-كما عرفت سابقا-ليس لحقيقتها الجوهريّة،بل لمفهوم النفسيّة،و هي أيضا إضافة خاصّة،و المضاف يمكن أن يكون جنسا لأنواعه.

ثمّ إنّ ما بعد ذلك من القيود بمنزلة الفصل يخرج به غير المحدود،حيث إنّ قولنا:

«أوّل»،يخرج به عنه الكمالات الثانية كالعلم و القدرة و الإحساس و الحركة و غيرها من الأفاعيل و اللوازم التامّة للنّفس.

و قولنا:«لجسم»يخرج الكمال الأوّل للمجرّدات،إن كان لها كمال أوّل.

و قولنا:«طبيعيّ»يخرج صور الأجسام الصناعيّة،كهيئة السيف و السرير و الكرسيّ و غيرها.

و قولنا:«إليّ»يخرج صور البسائط و بعض المركّبات،كصور العناصر و المعدنيّات؛إذ لا يصدر عنها كمالاتها الثانيّة من أفعالها و انفعالاتها بواسطة الآلات،حيث ليست لها آلات و لا قوى متعدّدة،و إن كانت مشتملة على أجزاء مختلفة،فإنّ الأجزاء المختلفة لا تسمّى آلات.

و قولنا:«له أن يفعل أفعال الحياة»يخرج النفوس الفلكيّة،كما سيظهر وجهه.

ص:76

و قوله: (1)لكنّه قد يتشكّك في هذا الموضع بأشياء من ذلك-إلى آخره-

هذا التشكيك الذي ذكره هنا إنّما هو من وجهين.

بيان الأوّل:أنّ في هذا الحدّ الذي حدّدتم به النفس اختلالا من وجوه:أمّا أوّلا،فلأنّ لقائل أن يقول:هذا الحدّ لا يتناول النفس الفلكيّة،لأنّكم قد قيّدتم الجسم بكونه آليّا، و الحال أنّ النفس الفلكيّة تفعل بلا آلات على المذهب الصحيح.

و أمّا ثانيا،فلأنّكم على تقدير ترككم ذكر الآلات و قيد كونه آليّا،و اقتصاركم على قولكم:«له أن يفعل فعل الحياة»حتّى تدخل في الحدّ النفس الفلكيّة باعتبار ترك قيد كونه آليّا،يلزمكم أن تخرجوا النفس الفلكيّة من الحدّ من وجه آخر،لأنّكم عنيتم بالحياة و أفعالها فى قولكم في الحدّ:«له أن يفعل أفعال الحياة»-حيث فسّرتموها بأنّ أوّلها التغذّي و النموّ-معنى يشمل ما للنفس النباتيّة من التغذي و النموّ،و ما للنفس الحيوانيّة من الحسّ،سواء جعلتم الإضافة في قولكم أفعال الحياة،بيانيّة،حتّى تكون تلك الأفعال الحياة نفسها؛أو لاميّة،حتّى تكون تلك الأفعال غير الحياة منسوبة إليها،كما سيجيء تحقيق معنى هذه الإضافة عن قريب،و الحال أن ليس للنفس الفلكيّة هذا المعنى من الحياة و أفعالها.

و هذا الذي ذكرناه إنّما هو تفصيل بيان الاختلال من هذا الوجه،إلاّ أنّه يظهر من المتشكّك أنّه حمل الإضافة على البيانيّة،كما يدلّ عليه قوله (2):فإنّ الحياة التي لها ليس هو التغذي و النموّ،و لا أيضا الحسّ،و أنتم تعنون بالحياة التي في الحدّ هذا و كذا قوله بعد ذلك:«مع أنّ المذكور في الحدّ هو أفعال الحياة،فافهم»و الحاصل أنّه على التقديرين سواء ذكرتم قيد الآليّ في الحدّ أو تركتموه يلزم عليكم إخراج النفس الفلكيّة عن الحدّ.

و أمّا ثالثا،فلأنّكم لو عنيتم بالحياة و أفعالها،ما للنفس الفلكيّة من الإدراك مثلا و التصوّر العقليّ و التحريك لغاية إراديّة،حتّى تدخل النفس الفلكيّة في الحدّ،سواء

ص:77


1- -الشفاء-الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 11/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

تركتم قيد الآليّ أيضا،حتّى يشمل الحدّ للفلك على المذهب الصحيح من عدم كونه آليّا، أو ذكرتموه حتّى يشمله على المذهب غير الصحيح من كونه آليّا،يلزمكم حينئذ أن تخرجوا النبات من جملة ما يكون له نفس،و أن تخرجوا النفس النباتيّة التي مقصودكم دخولها في هذا الحدّ عن هذا الحدّ،لأنّه ليس لها ما ذكر من الامور التي للنفس الفلكيّة،بل يلزمكم أن تخرجوا الحيوان من حيث هو حيوان من جملة ماله نفس،و أن تخرجوا النفس الحيوانيّة التي مقصودكم دخولها في هذه الحدّ أيضا عن الحدّ.لأنّه ليس لها التصوّر العقليّ الذي للفلك.

و هذا أيضا تفصيل بيان اختلال الحدّ من هذا الوجه،إلاّ أنّ المتشكّك اكتفى بلزوم خروج النفس النباتيّة خاصّة،لكونه أظهر.و كذلك ظاهر كلامه أنّه بناه على تقدير ترك قيد الآليّ،ليكون الفلك داخلا على المذهب الصحيح.

و أمّا رابعا،فلأنّكم حيث فسّرتم أفعال الحياة بقولكم«التي أوّلها التغذّي و النموّ».

يلزم عليكم أن تجعلوا التغذي و النموّ حياة على تقدير كون الإضافة بيانيّة،أو افعالا مستندة إلى الحياة على تقدير كونها لاميّة،و على التقديرين يلزمكم أن تقولوا بكون النبات ذا حياة،و أن تسمّونه حيوانا لأنّ اشتقاقه من الحياة،و كلّ ذي حياة فهو حيوان، و الحال أنّكم لا تسمّونه حيوانا و لا تقولون بذلك.

و بما ذكرنا تمّ التشكّك من الوجه الأوّل،و يظهر منه أنّ المتشكّك،و إن ادّعى خروج النفس الفلكيّة بقولهم في الحدّ:«له أن يفعل أفعال الحياة»إلاّ أنّ ذلك الخروج إنّما هو بسبب ما فسّروا أفعال الحياة كما عرفت،و أنّ قولهم:«له أن يفعل»بإسناد الفعل إليه على سبيل الإمكان،كما هو المفهوم من العبارة لا دخل له في ذلك الإخراج،فيفهم منه أنّه حمل قولهم:«له أن يفعل»على معنى عامّ يشمل النفس الفلكيّة أيضا،أي صورة كون الفعل دائميّا كما في الفلكيّة على ما حملناه عليه؛فتفطّن لهذه الدقيقة،فإنّ لها فائدة ستظهر عن قريب.

ص:78

و أمّا التشكّك من الوجه الثاني،فهو ما أشار إليه بقوله (1):«و أيضا لقائل أن يقول»-إلى آخره.

أي و أيضا لقائل أن يقول:ما الذي أحوجكم إلى أن تثبتوا نفسا-أي للنبات و الحيوان و الإنسان-غير حياتها،و لم لم يكفكم أن تقولوا إنّ الحياة نفسها هي هذا الكمال الذي فسّرتم النفس به؟فيكون الحياة هي هذا المعنى الذي يصدر عنه ما تنسبون صدوره إلى النفس من أفعال الحياة.

و كأنّ هذا التشكّك مبنيّ على جعل الإضافة في قولهم:«أفعال الحياة»لاميّة،حيث جوّز كون الأفعال المنسوبة إلى النّفس،منسوبة إلى الحياة،فإنّه كما تضمّن دعوى الاتّحاد بين النفس و الحياة،كذلك يتضمّن دعوى المغايرة بين الأفعال و الحياة،فيظهر من كلام المتشكّك أنّه بنى كلاّ من التشكّكين على تقدير،حيث بنى الثاني على تقدير جعل الإضافة لاميّة،كما هو ظاهر عبارة الحدّ أيضا،و الأوّل على تقدير جعلها بيانيّة،و إن كان يمكن بناؤه على اللاميّة أيضا كما ذكرنا،فتبصّر،و بهذا القدر تمّ بيان التشكّك من الوجهين.

و قوله (2):«فلنشرع في جواب واحد واحد من ذلك و حلّه،فنقول:أمّا الأجسام السماويّة فإنّ فيها مذهبين:مذهب من يرى»-إلى آخره.

هذا جواب عن التشكّك من الوجه الأوّل.و محصّله الجواب عنه بالتزام خروج النفس الفلكيّة عن هذا الحدّ الذي هو حدّ للنفس الموجودة للمركّبات،أي النفس الأرضيّة المتناولة للنباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،و أنّ خروجها عن هذا الحدّ لا ضير فيه، فإنّه ليس هنا معنى مشترك يشترك فيه النفس النباتيّة و الفلكيّة،و أنّ اشتراكهما في اطلاق لفظ النفس عليهما إنّما هو بمجرّد اشتراك اللفظ دون المعنى،بل ليس هنا معنى مشترك يشترك فيه النفس الحيوانيّة و الفلكيّة إلاّ بحيلة صعبة كما سيأتي بيانها.

ص:79


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 11/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- -الشفاء- [2]الطبيعيّات 11/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

و أمّا تحرير كلامه في هذا الجواب و الحلّ:أنّ الأجسام السماويّة،فإنّ فيها مذهبين:

مذهب من يرى أنّ كلّ كوكب يجتمع منه و من عدّة كرات قد دبّرت بحركته جملة جسم كحيوان واحد،فيكون حينئذ كلّ واحد من الكرات الكليّة التي يتمّ حركة الكواكب بها،إنّما يتمّ فعله بعدّة أجزاء ذوات حركات،أي الأفلاك الجزئيّة كالتداوير و الخوارج المركز،فتكون هي-أي الأفلاك الجزئيّة-كالآلات لها،أي لتلك الأفلاك الكليّة.و بعبارة اخرى أنّ النفس الكليّة إنّما تعلّقت بالفلك الكلّيّ،و أنّ ما في الفلك الكلّي من الأفلاك الجزئيّة إنّما هي بمنزلة الآلات له.

فعلى هذا المذهب،و إن كان الجسم الفلكيّ آليّا،إلاّ أنّه ليس هذا المذهب صحيحا في نفسه،لأنّه لا يستمرّ و لا يجري في كلّ الكرات الفلكيّة،لأنّه يلزم على هذا المذهب أن لا يكون نفس متعلّقة بالأفلاك الجزئيّة،و الحال أنّا نشاهد أنّ لها حركات خاصّة مختلفة مخالفة لحركة الفلك الكلّي،و عندهم أنّ كلّ حركة صادرة عن فلك إنّما هي حركة نفسانيّة،و هذا إذا قلنا بالأفلاك السبعة للكواكب السبعة السيّارة لا أزيد.

و أمّا إذا قلنا بأزيد من ذلك،كالفلك الثامن للكواكب الثوابت،و الفلك التاسع للحركة اليوميّة،كما هو مقتضى الدليل عندهم،فالأمر أظهر؛إذ الفلك التاسع عندهم لا كثرة فيه بوجه،حتّى يمكن أن يكون آليّا.و كذلك الفلك الثامن عندهم،و إن كان فيه الكواكب الثابتة،لكن تلك الكواكب ليست مما يمكن أن تكون أجزاء و آلات له بها يتمّ فعله و حركته،بل إنّما ذلك بمجرّد جسم ذلك الفلك الثامن.

و حيث كان هذا المذهب غير صحيح في نفسه،فليس كلامنا في تحديد النفس الأرضيّة بناء على هذا المذهب،و لا نبالي خروج النفس الفلكيّة على هذا المذهب عن الحدّ أو دخوله فيه،و إن تكلّمنا عليه أيضا و قيّدنا الجسم بالآليّ في الحدّ،حتّى تدخل هي فيه،ثمّ قيّدناه بقولنا:«له أن يفعل أفعال الحياة»بالتفسير الذي فسّرنا به أفعال الحياة حتّى تخرج عنه،فلا ضير فيه،إذ ليس هنا معنى مشترك يشترك فيه النفس الفلكيّة و النفس الأرضيّة بأنواعها،كما سيأتي بيانه.

ص:80

و مذهب من يرى أنّ كلّ كرة،كلّية كانت أم جزئيّة،فلها في نفسها حياة مفردة، و نفس على حدة و خصوصا؛و يرى جسما تاسعا،ذلك الجسم واحد بالفعل لا كثرة فيه، بل جسما ثامنا أيضا ليست الكواكب فيه بمنزلة الآلات،فهذا المذهب صحيح كما بيّنّا وجهه.و عليه لا يكون الفلك آليّا،و كلامنا أيضا في تحديد النفس بناء على هذا المذهب،لكونه صحيحا في نفسه،و حينئذ فلو قيّد الحدّ بكون الجسم آليّا،و أخرجنا النفس الفلكيّة عنه ابتداءً لعدم كون الفلك آليّا.و مع ذلك لو قيّدناه بقولنا:«له أن يفعل أفعال الحياة»،على التفسير الذي فسّرناه،ليكون الإخراج أتمّ و أظهر،فلا ضير فيه.

و كذلك لو تركنا ذكر الآلة و لم نقيّد الجسم بكونه آليّا،و أخرجناها بالقيد الأخير خاصّة، أي بقولنا:«له أن يفعل أفعال الحياة»،فلا ضير فيه أيضا؛لأنّ هؤلاء القائلين بهذا المذهب الأخير الصحيح،بل القائلون بالمذهب الأوّل غير الصحيح أيضا،يجب عندهم أن يروا و يعتقدوا أنّ النفس إذا وقع على النفس الفلكيّة و على النفس النباتيّة التي هي من جملة المحدود،فإنّها تقع بمحض الاشتراك اللفظيّ،من دون أن يكون هناك معنى مشترك بينهما؛لأنّ هذا الحدّ إنّما هو للنفس الموجودة للمركّبات-أي الأرضيّة-دون البسائط -أي الفلكيّة-و أنّه إذا احتيل في الحدّ حتّى يشترك الحيوانات و الفلك في معنى اسم النفس،خرج معنى النباتات و نفسها من تلك الجملة.على أنّ هذه الحيلة صعبة جدّا،ربّما يتراءى من صعوبتها أنّ اشتراك الحيوان و الفلك أيضا في وقوع اسم النفس عليهما،إنّما هو بمجرّد اشتراك اللفظ.

و بيان صعوبة الحيلة في ذلك،أنّ الحيوانات و الفلك لا تشترك في معنى اسم الحياة التي أثبتناها للحيوانيّة بما هي حيوانيّة،و لا في معنى اسم النطق الذي أثبتناها للحيوانيّة بما هى إنسانيّة،لأنّ النطق الذي هاهنا أي في الإنسانيّة،يقع على وجود نفس لها العقلان الهيولانيّان،أي العقل بالملكة،و ليس هذا مما يصحّ هناك أي في الفلك، على ما يرى أنّه مقتضى الدليل و معتقدهم.فإنّ العقل هناك عقل بالفعل،و العقل بالفعل، و إن كان يمكن أن يوجد في الإنسان أيضا،لكنّه غير مقوّم للنفس الكائنة جزء حدّ

ص:81

للناطق الذي يطلق على الإنسان،كما أنّه مقوّم للنفس الفلكيّة،إذ لو كان مقوّم لها،لكان الإنسان الذي يخلو عن العقل بالفعل-كما هو الأكثر-غير ناطق،و غير ما هو ثابت له النفس الإنسانيّة،و أن لا يكون إنسانا و لا ناطقا،هذا خلف.

بل المقوّم له العقلان الهيولانيّان اللذان لا يخلو إنسان عنهما،بل العقل الهيولانيّ وحده؛إذ الانسان ربما يخلو عن العقل بالملكة أيضا،و مع هذا فهو إنسان و ناطق.

و كذلك الحسّ من جملة أفعال الحياة هنا،أي في الحيوان يقع على القوّة التي بها يدرك المحسوسات على سبيل قبول أمثلتها و الانفعال عنها،و ليس هذا أيضا يصحّ هناك،أي في الفلك على ما يرى أنّه مقتضى الدليل و معتقدهم.

و بذلك ظهر أن ليس هنا معنى مشترك يشترك فيه الفلك و الحيوان مطلقا،كما أنّه ليس هنا معنى مشترك يشترك فيه الفلك و النبات.

ثمّ إن اجتهد مجتهد،فجعل النفس كمالا أوّلا لما هو متحرّك بالإرادة و مدرك من الأجسام،حتّى يدخل فيه الحيوانات مطلقا و الفلك،خرج النباتات من هذه الجملة،لأنّه ليس لها ذلك المعنى.

فظهر من ذلك أن ليس هنا معنى مشترك بين النفس الأرضيّة المتناولة لجميع أنواعها و بين النفس الفلكيّة،و أنّه حيث كان ذلك الحدّ حدّا للأرضيّة،فينبغي إخراج الفلكيّة عنه.

و هذا الذي ذكرنا هو القول المحصّل في ذلك.و منه يظهر الجواب عن التشكّك بالوجه الأوّل من الطرق الثلاثة الاول،بالتزام خروج النفس الفلكيّة عن الحدّ،و أنّها مما ينبغي خروجها عنه لعدم معنى مشترك هنا،و أنّ خروجها عن الحدّ بقولهم فيه:«له أن يفعل أفعال الحياة»إنّما هو باعتبار المعنى الذي اريد بأفعال الحياة كما ذكر،لا باعتبار إسناد الفعل إليه بطريق الإمكان،كما توهّمه بعض،فإنّ ذلك جار في الفلك أيضا،على ما فسّرنا العبارة فيظهر منه أنّه أيضا في جواب التشكّك،حمل العبارة على ما حملنا عليه، كما أنّ المتشكّك أيضا حملها عليه.

ص:82

نكته

و حيث عرفت ذلك،فاعلم أنّ هذا الجواب كأنّه لا يفي بحلّ هذا التشكّك من الطريق الرابع،و لا يظهر منه أنّ الجواب عنه ما ذا؟

و أقول:لعلّ الجواب عنه التزام كون التغذّي و نحوه من أفعال النبات حياة،أو من جملة أفعال الحياة،و أمّا أنّهم لا يسمّون النبات حيوانا،فلعلّ وجهه أنّ مناط التسمية بالحيوان،إمّا إمكان صدور جميع أفعال الحياة عنه كما في الإنسان،أو إمكان صدور أكثرها أو معظمها عنه كما في الحيوان غير الإنسان،و إمّا إمكان صدور بعض منها قليل كما في النبات؛فلعلّه لم يكن منشأ التسمية بالحيوان.

فان قلت:ما ذكرت من أنّ اشتراك اسم النفس بين الفلك و النبات،بل بين الفلك و الحيوان اشتراك لفظيّ،و أن ليس هنا معنى مشترك،إنّما هو مبنيّ على ما حدّدت به النفس،كما ذكرت؛فلعلّها إذا حدّت بوجه آخر،كان هناك معنى مشترك.فمن أين يحصل الجزم بعدم وجود معنى مشترك هنا كما ادّعيت؟

قلت:من البيّن أنّه لا يكون لحقيقة واحدة حدّان مختلفان،فإنّ الحدّ عين المحدود، و إن كان التفاوت بينهما بالإجمال و التفصيل.و كما أنّه لا يمكن أن يكون حقيقة واحدة حقيقتين مختلفتين،كذلك لا يمكن أن يكون لحقيقة واحدة حدّان مختلفان.و من البيّن أيضا أنّ ما ذكره الشيخ بقوله (1):«كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ له أن يفعل أفعال الحياة».

تعريفا للنفس من حيث هي نفس،حدّ لها من هذه الجهة،كما عرفت بيانه،فلا يكون غير ذلك حدّا لها،بل إنّما يكون ذلك لو كان هنا تعريف آخر غير ذلك،رسما لها أو تعبيرا عنها او تعيينا للمسمّى بها بوجه إيجابيّ أو سلبيّ،من غير أن يكون حدّا لها.

و وجود معنى مشترك في هذه التعبيرات و الرسوم،كما في قول الشيخ فيما تقدّم (2):

ص:83


1- -الشفاء-الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 5/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

«إنّ (1)كل ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة»،على ما فسّرناه و لخّصنا معناه،و هو أتمّ التعبيرات عنها و أحسنها،لا يزيل الاشتراك اللفظيّ؛إذ المقصود حصول ذلك الاشتراك بحسب ما هو حدّ للنفس،و تلك الرسوم و التعبيرات ليست بحدّ.

على أنّ بعض تلك الرسوم و التعبيرات،و إن كان يشمل الفلكيّة أيضا،لكنّه مخلّ من وجه آخر.كما إذا قيل:إنّها مبدأ لصدور فعل ما،إذ يدخل فيه صور البسائط و العنصريّات، و بعضها مما هو مخلّ من وجه آخر.كما إذا قيل:إنّها مبدأ لصدور فعل مع الإرادة،إذ يخرج عنه حينئذ النفس النباتيّة،و بعضها مما لا يشمل الفلكيّة على المذهب الصحيح، كما إذا قيل:إنّها مبدأ لصدور أفعال مختلفة مع الإرادة،إذ ليست أفعال الفلكيّة على المذهب الصحيح-من أنّ لكلّ فلك نفسا مفردة نهج مختلفة،بل هي على نهج واحد على ما قالوا.و هذا أيضا يؤيّد الاشتراك اللفظيّ،و أمّا على المذهب غير الصحيح من أنّ النفس إنّما هي متعلّقة بالفلك الكلّيّ،و أنّ الأفلاك الجزئيّة المختلفة في الحركات بمنزلة الآلات لها،فأفعال الفلكيّة و إن كانت مختلفة،و كذا هذا التعريف و إن كان مشتملا على معنى مشترك بين الفلكيّة و الأرضيّة،لكنّه حيث كان رسما،فلا يزيل ذلك كون اسم النفس واقعا عليهما باشتراك اللفظ،بحسب ما هو حدّ للنفس،كما عرفت.

كلام مع المحقّق الطوسيّ و غيره

و حيث تحقّقت ما ذكرناه،فاعلم أنّ ما ذكره بعضهم-كالمحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات و التجريد-و تبعه فيه كثير من القوم في تحديد النفس من حيث هي نفس،من أنّها كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة (2):حيث غيّروا قول الشيخ في الحدّ:«له أن يفعل أفعال الحياة»،بقولهم:«ذي حياة بالقوّة».

ص:84


1- في المصدر:و بالجملة كلّ ما يمكن.
2- -شرح التجريد219/،للقوشجي،طبع تبريز.

إن كان مرادهم به ما دلّ عليه عبارة الشيخ كما بيّنّا معناها،فلا كلام معهم في كون هذا حدّا للنفس مطابقا لما ذكره الشيخ،إلاّ أنّ تطبيق ما ذكروه على ما ذكره يحتاج إلى تكلّف بالغ؛لأنّه حينئذ يكون معنى قولهم هذا،أنّ النفس كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالفعل،يكون صدور أفعال الحياة عنه بالقوّة،أي ممكنا،كما ذكرنا في معنى قول الشيخ.

و إن كان مرادهم به ما يتبادر من ظاهر قولهم هذا،أنّ النفس كمال أوّل لجسم طبيعي آليّ ذي حياة،يكون حياته بالقوّة بالفعل؛فهذا ليس بصحيح في نفسه،لأنّه يخرج عنه جميع ما قصدوا تحديده،أي النفس الأرضيّة بجميع أنواعها.لأنّ حياة الجميع إنّما هي بالفعل لا بالقوّة،سواء اريد بالحياة عين النفس بناء على تسمية النفس بالحياة-كما وقع في عبارة بعضهم،و ادّعاه المتشكّك في التشكّك بالوجه الثاني-او اريد بها كون الشيء موجودا فيه مبدأ يصدر عنه أفعال الحياة،أو اريد بها كون الشيء بحيث يصحّ صدور تلك الأفعال عنه،كما سيأتي تفسيرها في كلام الشيخ.فإنّ جميع ذلك حاصل للجسم ذي النفس بالفعل لا بالقوّة،و أمّا إذا اريد بالحياة تلك الأفعال أنفسها-كما وقع في كلام المتشكّك بالوجه الأوّل-فتلك الأفعال،و إن كانت تارة بالفعل و تارة بالقوّة،لكنّها ليس يلزم كونها بالقوّة البتّة،كما يدلّ عليه ظاهر تلك العبارة.

و إن كان مرادهم به ما فهمه بعضهم منه،كالشارح القوشجي في شرح التجريد،حيث ذكر:«إنّ المراد به ما يمكن أن يصدر عنه ما يصدر عن الأحياء و لا يكون ذلك الصدور دائما،بل قد يكون بالقوّة (1)»و ادّعى أنّه بهذا القيد يخرج النفس الفلكيّة على المذهب غير الصحيح،أي على رأي من يجعل الفلك آليّا،لأنّ ما يصدر عنها يكون دائما،لا كأفاعيل النفس الأرضيّة،حيث قد تكون بالقوّة،كما أنّه يخرج بقيد كون الجسم آليّا النفس الفلكيّة على المذهب الصحيح،أي على تقدير عدم كون الفلك آليّا.

فهذا المعنى الذي فهمه بعيد عن تلك العبارة بمراحل،لا يستقيم حملها عليه عند من له أدنى معرفة بأساليب الكلام.

ص:85


1- -شرح التجريد220/، [1]للقوشجي.

فيظهر مما ذكرنا،أنّ تغيير عبارة الشيخ بما ذكره هؤلاء تغيير مخلّ،و أنّ فهم المعنى المقصود منه لا يخلو عن سماجة و ركاكة،و أنّ الأحسن ما ذكره الشيخ،و أن إخراج النفس الفلكيّة بما ذكره من القيد إنّما هو من جهة تفسير أفعال الحياة بما فسّر،كما دلّ عليه عبارته.و ادّعاه هو نفسه،و قبله منه المتشكّك:لا يكون تلك الأفعال بالإمكان أو بالقوّة، فاعرف ذلك.

و حيث عرفت ذلك،و عرفت أنّ الحدّ الجامع المانع للنفس الأرضيّة المتناولة للنباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة هو ما ذكر،تحصّل لك أنّه:

إن أريد تحديد النفس الأرضيّة النباتيّة على حدة،ينبغي أن يقال:إنّها كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ له أن يفعل بعض أفعال الحياة،أي التغذية و التنمية و التوليد فقط.

و إن أريد تحديد الحيوانيّة على حدة،ينبغي أن يقال بعد قولهم:«آليّ»:له أن يفعل أكثر أفعال الحياة،أي أن يفعل-مضافا إلى أفعال النباتيّة-الحسّ و الحركة الإراديّة فقط من جملة أفعال الحياة.

و إن أريد تحديد الإنسانيّة على حدة،ينبغي أن يقال بعد قولهم:«آليّ»:له أن يفعل أفعال الحياة كلّها،أي أن يفعل-مضافا إلى أفعال النباتية و الحيوانيّة-النطق و التعقّل الكلّيّ.

و إن اريد تحديد الفلكيّة،ينبغي أن يقال:إنّها كمال أوّل لجسم طبيعيّ له أن يفعل الإدراك و الحركة الدائميّين اللذين يتبعان تعقّلا كلّيّا حاصلا بالفعل.

و هذا إذا اريد تحديدها على المذهب الصحيح.و إن اريد تحديدها على المذهب غير الصحيح،ينبغي أن يزاد قولنا:«آليّ»بعد قولنا:«لجسم طبيعيّ»في هذا الحدّ.

و هذا كلّه ظاهر،و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

و قوله (1):«و أمّا أمر الحياة و النفس،فمثل (2)الشكّ في ذلك على ما نقول:إنّه قد صحّ أنّ

ص:86


1- -الشفاء-الطبيعيّات 12/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:فحلّ الشك.

الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ الأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل»-الى آخر ما ذكره.

هذا جواب عن التشكّك من الوجه الثاني،و حاصله؛أنّ المفهوم عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان ليس معنى النفس،نعم لو اصطلح أحد و سمّى مسمّى النفس بحياة،فلا مناقشة معه،و تحرير كلامه بحيث يتضمّن شرح نبذ من الدقائق التي يمكن أن تنفهم منه،بأن يقال:و أمّا أمر الحياة و النفس و الشكّ في ذلك بتجويز اتّحادهما، فمثل الشكّ في ذلك،أي حاله،و كذا حال حلّه مبنيّ على الوجه الذي نقول:إنّه قد صحّ أنّ الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ الأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل،يعني أنّ هاهنا مقدّمة حقّة بيّنة ممّا تقدّم،هي أنّ الأجسام التي أثبتنا النفس لها،أي النبات و الحيوان و الإنسان،يجب أن يكون فيها مبدأ الأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل،أي يجب أن يكون فيها نفس هي كمال أوّل لها و مبدأ لتلك الأفعال التي قلنا إنّها أفعال الحياة و نسبناها إلى الحياة على سبيل الإضافة إليها،فالمتشكّك كأنّه بنى تشكّكه على أحد أمرين ينشئان من هذه المقدّمة:

الأوّل أنّه حيث رأى أنّه يضاف تلك الأفعال إلى الحياة،و رأى أنّ كون النفس مبدأ لتلك الأفعال يستلزم إضافتها إلى النفس أيضا-أي القول بأنّها أفعال النفس و إضافتها إليها-رأى أنّ إضافتها إلى الحياة ينبغي أن تكون بالمعنى الذي هو المراد في إضافتها إلى النفس،و حيث كانت إضافتها إلى النفس إضافة ظاهرة في المغايرة بين المضاف و المضاف إليه،أي اللاميّة،و في كون المضاف إليه-أي النفس-مبدأ و سببا للمضاف،أي تلك الأفعال،و كون تلك الأفعال مستندة إلى النفس مسبّبة عنها،إذ ليست تلك الأفعال عين النفس،بل غيرها مستندة إليها.

فكذلك ينبغي أن تكون إضافتها إلى الحياة بهذا المعنى،و إذا كانت بهذا المعنى، فيكون النفس و الحياة واحدة بالحقيقة،عبّر عنها تارة بالكمال الأوّل،و تارة بالنفس، و تارة بالحياة؛حيث فرضت كلّ واحدة منهما مبدأ لتلك الأفعال بمعنى واحد،و الحال أنّه

ص:87

لا يكون لأمر واحد مبدءان بمعنى واحد مختلفان بالحقيقة.

و الأمر الثاني،أنّه حيث رأى انتساب تلك الأفعال إلى الحياة تارة،و إلى النفس أخرى،و رأى أنّ كلّ ذي نفس فهو ذو حياة،و بالعكس،رأى من ذلك اتّحاد النفس و الحياة.فهذا هو بيان تشكّك المتشكّك في ذلك.

و أمّا بيان حلّه على الإجمال،فهو أن يقال:إنّ ما ذكرته إنّما يصحّ إذا كان معنى النفس و معنى الحياة واحدا،و أمّا إذا لم يكن واحدا فلا،يعني أنّ العمدة في الحكم باتّحاد النفس و الحياة هو وحدة معنييهما،إذ مع اختلاف معنييهما-كما هو الحقّ عند الجمهور-لا يصحّ الحكم بذلك أصلا،و هذا ظاهر.

و أمّا جعل الإضافة و نسبة الأفعال تارة إلى النّفس،و تارة إلى الحياة،منشأ للاتّحاد، فلا وجه له أيضا أصلا،لأنّه يمكن أن يكون الإضافة إلى الحياة بيانيّة،كما يظهر من المتشكّك نفسه في التشكّك الأوّل،و إلى النفس لاميّة،كما ادّعاه هنا.و على تقدير كون الإضافة في كليهما لاميّة،فيمكن أن يكون الإضافة إلى النفس لاميّة،بمعنى استناد تلك الأفعال إليها و كونها مبدأ لها،و إلى الحياة بمعنى غير ذلك من نوع ملابسة يصحّ معها الإضافة اللاميّة،كما سنشير إليه.

و على تقدير أن تكون في كلّ منهما بمعنى المبدئيّة،فحينئذ إن اريد بها المبدئيّة التامّة،فيمكن أن تكون في إحداهما بمعنى المبدئيّة القريبة،و فى الاخرى بمعنى المبدئيّة البعيدة.و إن اريد بها المبدئيّة الناقصة،فيمكن أن تكونا في مرتبة واحدة.

و على كلّ تقدير،فلا يمكن الاستدلال بإضافة شيء إلى شيئين على اتّحاد ذينك الشيئين،كما يتراءى من المتشكّك.كما أنّه لا يمكن بكون النفس حاصلة لكلّ ما له الحياة حاصلة،الحكم بكونها متّحدتين كما يتراءى ذلك منه أيضا.إذ يمكن أن يكون لشيء واحد شيئان:أحدهما غير الآخر،بل العمدة في الحكم باتّحاد النفس و الحياة، اتّحادهما في الواقع،و هو ممنوع هنا،بل الواقع خلافه.

و أمّا بيان الحلّ على التفصيل،أنّه إن اصطلح أحد،و سمّى مسمّ مبدأ الأحوال

ص:88

المعلومة و مصدر الأفعال المنسوبة إلى الحياة،حياة؛لم يكن معه-حيث لا مناقشة في الاصطلاح-مناقشة في هذه التسمية،و فى كون إضافة تلك الأفعال إلى النفس و إلى الحياة بمعنى واحد،هو كون تلك الأفعال مستندة إلى الشّيء الذي يسمّى تارة نفسا، و اخرى حياة،و كونه مبدأ لها،و في أنّ كون ذي نفس ذا حياة و بالعكس؛يستلزم اتّحادهما حينئذ.

و أمّا المفهوم عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان،فهو أمران غير معنى النفس:أحدهما كون الشّيء-أي الجسم-موجودا فيه مبدأ-أي نفس-يصدر عنه تلك الأحوال و الأفعال المعلومة،أو كون الشّيء-أي الجسم-بحيث يصحّ صدور تلك الأحوال و الأفعال عنه.

فأمّا المعنى الأول من المعنيين،فمعلوم أنّه ليس معنى النفس بوجه من الوجوه،إذ كون الشّيء موجودا فيه النفس لا يكون عين النفس،بل يكون حينئذ النفس أمرا آخر غير ذلك الكون،و غير ذلك الشّيء الكائن الذي قد فرض موجودا فيه النفس.

و أمّا المعنى الثاني،فيدلّ على معنى أيضا غير معنى النفس،و ذلك لأنّ كون الشيء بحيث يصحّ أن يصدر عنه شيء أو يوصف بصفة،لكون الجسم هنا بحيث يصدر عنه تلك الأحوال،أو يوصف بأنّه مبدأ لتلك الأحوال يكون على وجهين:

أحدهما أن يكون في الوجود-أي الموجود-هناك شيئا آخر أيضا غير ذلك الكون نفسه،و غير ذلك الكائن على تلك الحيثيّة،يصدر عن ذلك الكائن على تلك الحيثيّة بانضمام ذلك الشيء الآخر،الذي هو كمال للشيء الأوّل،ما يصدر عنه من تلك الأفعال و الأحوال.

و هذا مثل كون السفينة بحيث يصدر عنها منافع السفينة،فإنّ ذلك ممّا يحتاج إلى الربّان الذي هو كمال السفينة،و إلى انضمامه إليها؛حتّى يحصل و يتمّ هذا الكون.و لا يخفى أنّ هذا الربّان و هذا الكون ليسا شيئا واحدا بالموضوع و الذات،و كذا ليس الربّان و هذا الكائن بهذا الكون شيئا واحدا بالموضوع،بل إنّ الربّان مغاير بالموضوع و الحقيقة

ص:89

لذلك الكون،و كذا لذلك الكائن.

و لا يخفى أيضا أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل،لأنّ كون الجسم بحيث يصحّ أن يصدر عنه تلك الأحوال المعلومة ممّا يحتاج إلى أمر آخر هو الكمال له،و يتمّ به هذا الكون،و هو الذي سمّيناه نفسا،كما تقدّم بيان ذلك كلّه.و ظاهر أنّه مغاير بالموضوع لذلك الكون الذي قلنا إنّه حياة،و كذا للجسم الكائن بهذا الكون،فيكون معنى الحياة على هذا الوجه أيضا غير معنى النفس البتّة.

و الوجه الثاني من الوجهين،أن لا يكون هنا شيء غير هذا الكون و غير هذا الكائن في الموضوع و الحقيقة،مثل كون الجسم بحيث يصدر عنه الإحراق عند من يجعل نفس هذا الكون الحرارة،حتّى يكون وجود الحرارة في الجسم هو وجود هذا الكون.و كذلك وجود النفس للجسم هو وجود هذا الكون له على ظاهر الأمر،لو كان من هذا القبيل.إلاّ أنّ ذلك لا يستقيم في النفس،لأنّك قد عرفت فيما تقدّم،أنّ ذلك في النفس إنّما يستقيم على الوجه الأوّل دون هذا الوجه.حيث عرفت أنّ كون الجسم بحيث يصدر عنه تلك الأفعال المعلومة يحتاج إلى انضمام أمر آخر هو غير ذلك الكون-أي النفس-حتّى يتمّ به هذا الكون،فليس المفهوم من هذا الكون و من النفس شيئا واحدا،و كيف لا يكون كذلك، و الحال أنّ المفهوم من هذا الكون الموصوف لا يمنع أن يسبقه بالذات كمال و مبدأ تمّ للجسم هذا الكون،و المفهوم من الكمال الأوّل الذي رسمناه و حدّدنا به النفس يمنع أن يسبقه بالذات كمال آخر،لأنّ الكمال الأوّل-حيث فرض أوّل-ليس له مبدأ و كمال أوّل.

و أيضا المفهوم من الحياة بالمعنى الأوّل أو المعنى الثاني،بالوجه الأوّل أو الثاني،أمر إضافيّ عرض في موضوع و النفس-كما سيأتي بيان حقيقتها-جوهر لا في موضوع، و أحدهما غير الآخر البتّة.و إنّما يتعرّض الشيخ لهذا الوجه،لأنّه لم يبيّن بعد جوهريّتها.

و كيف ما كان،فليس إذن المفهوم من الحياة و النفس أمرا واحدا بالذات،إذا عنينا بالحياة ما يفهمه الجمهور،و هو معناها عندهم كما عرفت.نعم لو عنينا بالحياة أن تكون لفظة مرادفة للنفس في الدلالة على الكمال الأوّل،و اصطلاحنا على ذلك،لم يناقش فيه؛

ص:90

و كانت الحياة حينئذ اسما لما كنّا وراء إثباته من هذا الكمال الأوّل.و هذا هو تحرير كلامه.

و ظهر منه أنّ النفس و الحياة أمران متغيران بالحقيقة،لا أمر واحد كما ادّعاه المتشكّك.

و يظهر منه أيضا أنّ النفس،كما أنّها مبدأ لتلك الأفعال و الأحوال المعلومة بالذات، كذلك هي علّة لحصول ذلك الكون،الذي هو معنى الحياة لذلك الجسم الذي له النفس.

و أنّ ذلك الجسم أيضا مصدر لتلك الأفعال،لكن لا بالذات،بل بتوسّط النفس.كما أنّه متعلّق الحياة و النفس.

و أنّه إذا اضيفت الأفعال إلى النفس تكون الإضافة لاميّة،بمعنى أنّ تلك الأفعال مستندة إلى النفس،و هي مبدأ لها بالذات.

و أنّها إذا اضيفت إلى ذلك الجسم تكون لاميّة أيضا؛بمعنى أنّه مصدر لها بواسطة النفس.

و كذلك إذا اضيفت الحياة إلى النفس تكون لاميّة أيضا،بمعنى أنّها معلولة للنّفس، و هي علّة لها.

و إذا أضيفت إلى ذلك الجسم تكون لاميّة أيضا،بمعنى أنّها حاصلة له،كما إذا اضيفت النفس إليه.

و امّا إذا اضيفت تلك الأفعال إلى الحياة،فتلك الإضافة لا تكون بيانيّة-كما يفهم من المتشكّك في التشكّك الأوّل-إذ ليست تلك الأفعال من جنس الحياة التي عرفت أنّها الكون الموصوف،بل لاميّة أيضا،لكن لا بالمعاني المذكورة،بل بمعنى أنّها ملابسة للحياة و مصاحبة معها ملازمة لها،حيث إنّ كلاّ من الحياة و تلك الأفعال متلازمتان،بمعنى أنّهما معلولتا علة واحدة هي النفس.

و يظهر منه أيضا أنّ ما وقع في كلام بمعنى الأقدمين من أنّ النفس حياة،كان معناه أنّ النّفس محيية للبدن و منشأ لحصول الحياة له حتّى كأنّها نفس الحياة،و قد أشرنا إلى ذلك

ص:91

فيما سبق في مبحث بقاء النفس.

فهذا القول منه أيضا لا يمكن أن يكون منشأ للتشكّك المذكور،و ادّعاء أنّ النفس نفس الحياة و متّحدة معها بالذّات؛فتبصّر.

ثمّ إنّ قول الشيخ (1):«و قد فرغنا الآن عن (2)معنى الاسم الذي يقع على الشيء الذي سمّي نفسا بالإضافة (3)له،فبالحريّ أن نشتغل بإدراك ماهيّة (4)هذا الشيء الّذي صار بالاعتبار المقول نفسا».

يعني أنّه بذلك الكلام الطويل قد فرغنا عن بيان معنى اسم النفس و تحديدها بحسب ما لها إضافة إلى البدن،و حيث كان هذا التحديد لا يفيد بيان حقيقتها بالنظر إلى ما لها في نفسها،و لا يتبيّن منه أنّ الكمال الأوّل الذي رسمناه،أ هو في ذاته جوهر أم عرض؟و على تقدير كونه جوهرا،هل هو جوهر مجرّد عن المادّة أم مادّيّ سماويّ أم أرضيّ؟و بالجملة لا يتبيّن منه بيان ماهيّتها في ذاتها،كما عرفت وجهه،و الحال أنّ هذا البيان أيضا مقصودنا.

فبالحريّ أن نشتغل بإدراك ماهيّة هذا الشيء الذي صار بالاعتبار المقول نفسا،أي بتحقيق حقيقته في نفسه التي هي حقيقته في حدّ ذاتها،و هي صارت باعتبار القول بأنّها كمال أوّل نفسا متعلّقة بالبدن،مدبّرة له،كما حقّقه فيما بعد هذا الفصل،أنّها جوهر مجرّد من شأنها كذا و كذا،و من حالها كيت و ذيت،و سنشير إليه إن شاء اللّه تعالى.

و قوله (5):«و يجب أن نشير في هذا الموضع إلى إثبات وجود النفس التي لنا إثباتا على سبيل التنبيه و التذكير»-إلى آخره-

معناه أنّه يجب أن نشير في هذا الموضع إلى اثبات وجود النفس التي لنا،أي النفس الناطقة الإنسانيّة،أي إثبات إنّيّتها إثباتا لا على طريق الاكتساب من حدّ أو رسم أو دليل، بل إثباتا ضروريّا بديهيّا يحتاج إلى تنبيه و تذكير.

ص:92


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 13/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:فقد عرفنا الآن معنى...
3- بإضافة...
4- ماهيّة...
5- -الشفاء- [2]الطبيعيّات 13/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

[قوله:]«إشارة شديدة الموقع (1)عند من له قوّة على ملاحظة الحقّ نفسه من غير احتياج إلى تثقيفه و تسويته و قرع عصاه و صرفه عن المغلّطات»:

أي عند من له قوّة ملاحظة على الحقّ،و لا يكون اعوجاج في رأية و عدم استقامة في فكره،حتّى يحتاج إلى تسويته و تعديله،و لا يكون عادلا عن طريق الحقّ،حتّى يحتاج إلى ضربه بالعصا حتى يتنبّه و يجيء إلى سبيل الحقّ،أو إلى ضرب عصاه،حتّى يجد الطريق و يستشعر به كالأعمى.و لا يكون واقعا في الغلط،حتّى يحتاج إلى صرفه عمّا يوقعه فى الغلط.

ثمّ إنّ غرضه من هذه الإشارة يحتمل أحد أمرين:

احدهما أنّ ما تقدّم من إثبات وجود النفس،لمّا كان إثباتا بطريق الكسب، و استدلالا من آثارها عليها،و من جهة مشاهدة أفعالها على وجودها،فيجب هنا أن نشير إلى اثبات وجودها إثباتا بديهيّا،ليتأكّد العلم بوجودها،و يزيد اليقين بثبوت إنّيّتها؛ و يتضمّن مع ذلك بعض ما نريد بيانه هنا،من كونها مغايرة للبدن و لجميع أجزائه و قواه، بل لكلّ ما يدرك بالحواسّ الظاهرة و الباطنة،و بذلك يتضمّن كونها جوهرا مجرّدا عن المادة أيضا،كما يتضمّنه هذا الإثبات في هذه الإشارة،و سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

الثّاني أنّه لمّا كان تحديد الشيء و العلم بحقيقته متوقفا على العلم بوجوده،و كان ما تقدّم تحديدا للنفس من جهة ما لها إضافة ما إلى البدن،فلذا اكتفينا فيه بإثبات وجودها من هذه الجهة،أي من جهة آثارها و أفعالها في البدن.و أمّا نحن فى هذا المقام،حيث كنّا بصدد تحقيق حقيقة النفس في ذاتها،و تحصيل العلم بها من هذه الحيثيّة،و أنّها جوهر مجرّد من شأنه كذا و كذا،و من حالها كيت و ذيت؛فيجب علينا أن نشير إلى إثبات وجودها من حيث ذاتها بذاتها،حتّى نحقّق بعد ذلك حقيقتها من هذه الجهة.

و على الوجهين فتخصيص هذا الإثبات بوجود النفس الإنسانيّة،مع أنّ ما تقدّم منه كان عامّا،يعمّ إثبات النفس الأرضية مطلقا.

ص:93


1- في المصدر:الوقوع.

إمّا لأنّ الإثبات بهذا الوجه الضروريّ التنبيهيّ إنّما يكون في النفس الإنسانيّة فقط، لأنّ ذلك التأمّل و التوهّم و الملاحظة إنّما يكون للإنسان دون النبات و الحيوان،يعني أنّ هذا التنبّه إنّما هو معلوم الحصول للإنسان دون غيره،فإنّه في غيره غير معلوم و إن كان عدمه غير معلوم أيضا.

و إمّا لأنّ الغرض الأصليّ هو إثبات وجود النفس الإنسانيّة و بيان أحوالها،و أما النباتيّة و الحيوانيّة فبالعرض و بتبعيّة بيان حال الإنسانيّة،حيث إنّهما أيضا موجودتان للإنسان أيضا.

و إمّا لأنّ هذا الإثبات،و إن كان في أوّل النظر مخصوصا بالإنسان و بالنفس الإنسانيّة،إلاّ أنّه في النظر الثاني الأدقّ،حيث يثبت أنّ النفس الإنسانيّة ذات واحدة بالحقيقة،لها اعتبارات مختلفة؛باعتبار تكون إنسانيّة،و باعتبار تكون حيوانيّة،و باعتبار تكون نباتيّة-كما سبقت الإشارة إليه فيما تقدّم،و سيجيء زيادة تحقيقه-يكون هذا الإثبات عامّا للجميع،فتدبّر.

و قوله (1):«فنقول:يجب أن يتوهّم الواحد منّا كأنّه خلق دفعة»-إلى آخره-.

إشارات إلى هذا الإثبات.و تحريره:أنّه يجب في هذه الإشارة أن يتوهّم الواحد منّا كأنّه خلق دفعة،أي أوّل خلقه حتّى لا يكون له تذكّر أصلا لشيء مطلقا،و خلق كاملا،أي صحيح العقل حتّى يمكنه التنبّه لذاته،و صحيح الهيئة لئلاّ يؤذيه مرض،فيدرك حالا لذاته غير ذاته،لكنّه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات عن ذاته،أي بحيث لا يبصر أجزاءه و لا شيئا غيرها،لئلاّ يدرك شيئا من هذه،فيحكم بأنّ ذاته هو؛و خلق يهوي و يسقط في هواء،أي في هواء طلق غير محسوس بكيفيّة غريبة من حرّ أو برد أو خلاء، هويّا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدم ما يحوج إلى أن يحسّ،حتّى يحسّ بصدمه أو كيفيّته.

و بالجملة بشيء خارج عن جسده أيضا،لئلاّ يحكم بأنّ ذلك ذاته أو جزء ذاته،

ص:94


1- -الشفاء-الطبيعيّات 13/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الباب السادس.

و فرّقت بين أعضائه فلم تتلاق و لم تتماسّ،بل كانت مفرّقة في ذلك الهواء لئلاّ يحسّ بأعضائه،ثمّ يتأمّل أنّه هل يثبت وجود ذاته؟و لا شكّ أنّه لا يشكّ حينئذ في اثباته لذاته موجودا،و لا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه الظاهرة،و لا باطنا من أحشائه و أعضائه الباطنة،و لا قلبا و لا دماغا و لا شيئا من الأشياء من خارج،بل كان يثبت ذاته،و لا يثبت لها طولا و لا عرضا و لا عمقا.و لو فرضنا أنّه أمكنه في تلك الحال أن يتخيّل شيئا مما ذكر أو عضوا آخر،فلا شكّ أنّه لم يتخيّله جزءا من ذاته و لا شرطا في ذاته،و أنت تعلم أنّ المثبت غير الذي لم يثبت،و أنّ المقرّ به غير الذي لم يقرّ به.فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصيّة هي أنّها مثبتة،و هي ذات ذلك المتنبّه المتوهّم المتأمّل المفروض بعينه غير جسمه و غير أعضائه و غير شيء آخر خارج،و بالجملة غير ما لم يثبته أيّا كان.

ثمّ إنّ ذلك المتأمّل المتنبّه،لو تأمل أدنى تأمّل،تنبّه لأنّه ليس هذا الذات التي أثبت وجودها سوى نفسه،فيحصل له سبيل على التنبّه على وجود النفس له شيئا غير جسمه و بدنه و أعضائه و مزاجه و أعراضه،بل غير ما هو غير لهذا الجسم من الأشياء الخارجة.

و يجب أن يكون عارفا بذلك مستشعرا له،فإنه مع ذلك التنبّه لو كان ذاهلا عنه،كان أعمى القلب ضالاّ عن السّبيل السويّ،ككثير من العوام و أصحاب الطبائع الكثيفة المتورّطين في الجهالات،يحتاج إلى أن يقرع عصاه حتّى يهتدي إلى السبيل،و يشهد بذلك ما نقل عن أرسطو.

إنّه سئل أنّه كيف تعمى النفس عن معرفة نفسها و هي أمّ الحكمة؟

فقال:إذا غابت الحكمة عن النفس،عميت عن نفسها و غيرها كما يعمى البصر عن نفسه و غيره اذا غاب عنه المصباح.

فحاصل هذه الإشارة:أنّه من الفروض الممكنة غير الممتنعة أن يفرض الإنسان كونه في أوّل الخلقة صحيح العقل و الهيئة،في هواء طلق أو خلاء،منفرج الأعضاء غير متلامسها،و غير مستعمل للحسّ في شيء أصلا،فإنّه حينئذ يكون واجدا لذاته و لنفسه، مثبتا لها مستشعرا إيّاها و فاقدا غير مستشعر و غير مثبت لكلّ شيء سواها،و غافلا عن

ص:95

كلّ شيء كأعضائه الظاهرة و الباطنة،و ككونه جسما ذا أبعاد،و كحواسّه و قواه و مزاجه و أعراضه،و كالأشياء الخارجة عنه جميعا،إلاّ عن ثبوت ذاته و نفسه فقط التي يشير إليها بقوله:«أنا».

و بعبارة اخرى،يمكن أن يفرض أنّ إنسانا خلق دفعة واحدة،و خلق متباين الأطراف و لم يبصر أطرافه،و اتّفق أن لم يمسها و لا تماسّت،و لم يسمع صوتا و لا استعمل حسّا من الحواسّ الظاهرة و الباطنة،بحيث جهل وجود جميع أعضائه و غيرها، و علم وجود إنّيته شيئا واحدا مع جهله جميع ذلك.

فإذن يحصل له إدراك هو أوضح الإدراكات و أجلاها،و علم ضروريّ غير مكتسب من حدّ أو رسم أو حجّة أو برهان بوجود نفسه لنفسه،و كونها مغايرة لجميع ما ذكر،حيث إنّ الموجود غير المفقود،و المعلوم غير ما ليس بمعلوم،و المشهور به غير المغفول عنه، و المثبت غير ما ليس بمثبت.

و هذا الذي ذكرناه إنّما هو تحرير كلامه في ذلك في الشفاء،و سنزيده توضيحا.

و أمّا هو في الإشارات فقد ذكر هذه الإشارة و هذا التنبيه هكذا: (1)

«تنبيه:

ارجع إلى نفسك و تأمّل هل إذا كنت صحيحا؟بل و على بعض أحوالك غيرها، بحيث تفطّن للشيء فطنة صحيحة،هل تغفل عن وجود ذاتك و لا تثبت نفسك؟ما عندي أنّ هذا يكون للمستبصر،حتّى أنّ النائم في نومه،و السكران في سكره،لا يعزب ذاته عن ذاته،و إن لم يثبت تمثّله لذاته في ذكره،و لو توهّمت أنّ ذاتك خلقت (2)أوّل خلقتها (3)صحيحة العقل و الهيئة،و فرض (4)أنّها على جملة من الوضع و الهيئة لا تبصر أجزاؤها و لا تتلامس أعضاؤها،بل هي منفرجة و معلّقة لحظة ما في هواء طلق،وجدتها قد غفلت عن كلّ شيء الاّ عن ثبوت إنّيّتها».

ص:96


1- -شرح الإشارات 292/2، [1]أوفست دفتر نشر الكتاب على طبعة المطبعة الحيدريّة،1403 ه.
2- في المصدر:ذاتك قد خلقت...
3- خلقها...
4- و قد فرض.

و حاصل ما ذكره فيه يرجع إلى ما في«الشفاء»،إلاّ أنّه اقتصر في«الشفاء»على فرض حالة للإنسان يكون هو في مثل تلك الحالة غافلا البتّة عن كلّ شيء غيره،أي غير ذاته و نفسه،و لا يكون غافلا عن ذاته،بل يكون مستشعرا له البتّة،كما عرفت بيانه.

و أمّا هو في«الإشارات»،فقد بيّن أوّلا أنّ الإنسان إذا كانت له فطنة صحيحة،فهو لا يغفل عن ذاته و إثبات إنّيّة ذاته في شيء من الحالات،و إن كان يغفل عما سوى ذاته.

ثمّ ازداد إيضاحا،و ترقّى عن ذلك،ففرض تلك الحالة التي يغفل الإنسان فيها البتّة عمّا سوى ذاته،و لا يغفل عن ذاته و ثبوت إنيّة ذاته البتّة.و تحريره:أنّه من المعلوم الضروريّ الوجدانيّ الذي يجد الإنسان من نفسه إذا كان مستبصرا و كانت له فطنة صحيحة،أنّه لا يغفل عن وجود ذاته،و لا يعزب ذاته و نفسه عن ذاته في شيء من الحالات،سواء كان صحيحا أو على بعض أحوال آخر غير الصحّة.و سواء غير مختلّ الإدراك،أو مختلّ الإدراك،يختلّ إدراكه إمّا بالحواسّ الظاهرة،كالنائم؛و إمّا بالحواسّ الباطنة و الظاهرة،كالسكران؛فإنّه في جميع تلك الأحوال يدرك ذاته البتّة،و لو فرضنا غفلته عن ذاته في شيء من تلك الحالات،فإنّما هي غفلة عن إدراكه لذاته،لا عن ذاته، أي أنّه يعلم ذاته البتّة،و إن عرض له غفلة عن العلم بعلمه،بدليل أنّه إذا زالت تلك الحالة كالسكر عنه،يتذكّر أنّه هو بعينه كان يفعل كذا،أو يقول كذا مثلا في تلك الحالة.و لا ضير في الغفلة عن الإدراك،فإنّ العلم بالعلم غير أصل العلم،و إن كانت المغايرة بالاعتبار.

و كذلك من المعلوم بالوجدان أنّه في تلك الحالات التي لا يعزب فيها ذاته و نفسه عن ذاته.قد يعزب عنه غير ذاته،كبدنه و قواه و أعضائه و الأشياء الخارجة،فذاته غير تلك،لأنّ المشعور به غير المغفول عنه.بل نقول:إنّه يمكن فرض حالة لا يعزب فيها ذاته و نفسه عن ذاته البتّة،و يعزب تلك الأشياء البتّة عنه.كما لو توهّم أنّه خلق أوّل مرّة-إلى آخره-فإنّه من المعلوم بالوجدان أنّه في تلك الحالة المفروضة-كما عرفت بيانها-يجد ذاته بحيث غفلت عن كلّ شيء إلاّ عن ثبوت إنّيّتها و وجود نفس له.

فهذا حاصل كلامه في«الإشارات»،و يعلم منه و كذا مما ذكره في«الشفاء»أنّ

ص:97

الإنسان لو تأمّل أدنى تأمّل في الفرض المذكور،أمكن له التنبّه بأنّ إدراكه لذاته،الذي هو عبارة عن تصوّر ذاته و التصديق بثبوت وجود لها،إدراك أوّليّ ضروريّ لا يحتاج فيه إلى حدّ أو رسم أو حجّة و برهان،كما يكون ذلك في الإدراكات الكسبيّة.

و لذلك المدرك-بصيغة اسم الفاعل-أوّلا و بالذات في هذا الإدراك،إنّما هو ذاته بذاته،و نفسه بنفسها،من غير افتقار إلى قوّة أخرى أو آلة أو مشعر من المشاعر الظاهرة أو الباطنة،كما يكون في إدراك المحسوسات و ما شابهها من المتخيّلات و الموهومات،و كذلك المدرك-بصيغة اسم المفعول-إنّما هو ذاته بذاته،و نفسه بنفسها،من غير أن يكون ذلك عضوا من أعضاء بدنه،أو جملة بدنه،أو شيئا آخر غير نفسه و ذاته.

و بالجملة لا مغايرة بين المدرك و المدرك بالذات،و كيف يكون هذا الإدراك بآلة أو قوّة اخرى غير النفس بذاتها،و الحال أنّ المفروض الغفلة عن جميع المشاعر و الحواسّ،و أن لا استعمال لشيء من الحواسّ أصلا؟و كيف يكون المدرك غير ذاته من بدنه و جسده و أعضائه الظاهرة و الباطنة و مزاجه و أعراضه،أو أمر خارج،و المفروض عدم الشعور لشيء من ذلك أصلا؟و كيف يكون هذا الإدراك كسبيّا،و المفروض عدم إدراك شيء هنا سوى الذات و إنّيّتها،حتّى يمكن أن يكون بسببه يحصل هذا الإدراك؟ و هذا كلّه ظاهر في الصورة المفروضة.و يعلم منه أنّ للمتنبّه أن يتنبّه أنّ الحال في إدراك الذات في غير هذه الصور أيضا،أي في جميع حالات إدراكه لذاته،كذلك،كما هو ظاهر على من راجع وجدانه.

ذكر أوهام مع رفعها

ثمّ إنّ في هذا المقام أوهاما ربّما يمكن ذهاب و هم أحد إليها،فيجب علينا أن نتصدّى لدفعها،حتّى تنكشف جليّة الحال حقّ الانكشاف.

منها ما ذكره الشيخ في الإشارات و دفعه،قال (1):

ص:98


1- -شرح الإشارات 296/2-297. [1]

«و هم و تنبيه،

و لعلّك تقول إنّما أثبتّ ذاتي بوسط من فعلي،فيجب أن يكون لك فعل تثبته في الفرض المذكور،أو حركة أو غير ذلك.ففي اعتبارنا الفرض المذكور،جعلناك بمعزل عن (1)ذلك،و أمّا بحسب الأمر الأعمّ،فإنّ فعلك إن أثبتّه فعلا مطلقا،فيجب أن تثبت به فاعلا مطلقا،لا خاصّا هو ذاتك بعينها.و إن أثبتّه فعلا لك فلم تثبت (2)به ذاتك،بل ذاتك جزء من مفهوم فعلك من حيث هو فعلك،فهو مثبت في الفهم قبله،و لا أقلّ من أن يكون معه لا به، فذاتك مثبتة لا به»انتهى.

و تحريره:أنّه عسى أن يذهب و هم أحد إلى أنّ إثبات الإنسان ذاته و نفسه في هذا الفرض ليس أوّليا،بل إنّه يفتقر إلى وسط،و هو فعله في هذا الفرض المذكور.أي أنّه كسبيّ يستفاد من ذلك الفعل،و العلم به نظير برهان الإنّ،أي الدليل الذي فيه يستدلّ على العلّة بمعلولها،و على المؤثّر بأثره،كما أنّ أكثر القوى تثبت بأفعالها و آثارها.

و هذا الوهم باطل من وجهين:

احدهما-و هو الوجه الخاصّ بهذا الفرض-هو أنّ الإنسان في الفرض المذكور لم يكن له فعل،حتّى يمكن له أن يستدلّ به على ذاته،بل كان غافلا عن أفعاله مع إدراك ذاته.

و لو فرضنا أنّه صدر عنه في الفرض المذكور فعل أيضا،فهذا الفعل-و إن كان في بادئ النظر فعلا-لكنّه في التّحقيق ترك كلّ فعل.و مع ذلك فهذا الترك أيضا ليس منشأ لإثبات الذات،بل هو كاشف عن ثبوتها في الواقع،فمن أين يحصل فيه الاستدلال بالفعل على الفاعل؟

و الثاني-و هو الوجه العامّ لهذا الموضع و لغيره-أنّه على تقدير تسليم كون ذلك فعلا أيضا،أنّ الفعل الذي يستدلّ به على الفاعل،إن كان مأخوذا من حيث كونه فعلا ما،و فعلا مطلقا من غير اختصاصه بفاعله الخاصّ،فهو لا يكون دليلا إلاّ على فاعل ما غير معيّن،

ص:99


1- في المصدر:من ذلك...
2- يثبت.

و لا سترة في أنّه لا يمكن أن يستدلّ الإنسان بفعل ما على فاعل معيّن هو ذاته،و إن كان مأخوذا من حيث كونه فعلا خاصّا،و كونه فعلا لفاعل معيّن و منسوبا إليه،فالفاعل المعيّن من حيث اعتباره و ملاحظته في ذلك الفعل الخاصّ،و كونه جزءا من مفهومه من حيث هو هذا الفعل الخاصّ،يجب أن يكون معلوما قبله.و لا أقلّ من أن يكون معلوما معه لا بعده،كما هو في الاستدلال بالفعل على الفاعل.و لا سترة أيضا في أنّه لا يمكن أن يستدلّ الإنسان بفعله الخاصّ،الذي خصوصيّته من جهة أنّه منسوب إليه و هو جزء من مفهوم هذا الفعل و ملحوظ فيه،على ذاته التي هي الفاعل المعيّن هنا؛لأنّ ذاته في هذا الاستدلال يجب أن تكون معلومة قبل هذا الفعل،و لا أقلّ من أن تكون معلومة معه.

و كيفما كان،فلا تكون معلومة بعده،كما هو مقتضى الاستدلال.

و حيث عرفت ذلك،عرفت أنّه لا يمكن أن يستدلّ الإنسان بفعله مطلقا على ذاته المعيّنة المخصوصة استدلال إنّ.و من المعلوم أيضا أنّه لا يمكن الاستدلال اللمّيّ هنا أيضا،أي الاستدلال على ذاته بعلل ذاته،لأنّ وجود ذاته له أظهر عنده من وجود علله و علل ذاته،فلا يمكن له أن يستدلّ عل ذاته استدلالا مطلقا إنيّا و لا لميّا فتبصّر.

فإن قلت كيف يصحّ ما ادّعيت من نفي الاستدلال،و الحال أنّ ما ذكره الشيخ في الفرض المذكور تنبيها على إدراك الإنسان ذاته،و إثبات إنّيّتها في قوّة القياس على هيئة الشكل الثاني هكذا:إنّا لا نغفل عن ذواتنا في حالة من الحالات،و كلّ ما هو غير ذاتنا (1)من البدن و أعضائه و أجزائه و أعراضه و الأشياء الخارجة،فإنّا قد نغفل عنه،ينتج أنّ ذاتنا (2)شيء موجود و ليست شيئا من هذه.

قلت:سلّمنا ذلك،لكنّا نقول:إنّ هذه النتيجة بديهيّة،و إنّ هذا القياس البديهيّ بمقدّمتيه،أعني صغراه و كبراه كما تبيّن بداهتهما في الفرض المذكور،تنبيه عليها،لا حجّة عليها حتّى تكون كسبيّة،و لا منافاة بين أن تكون مقدّمة بديهيّة و أن يكون هنا

ص:100


1- -ذواتنا خ ل.
2- -ذواتنا خ ل.

قياس معقود للتنبيه عليها.كيف و لو كانت مقدّمة من المقدّمات بمجرّد إمكان عقد قياس للتنبيه عليها كسبيّة،لزم أن لا يكون شيء من المقدّمات البديهيّة،حتّى البديهيّات الأوّليّة بديهيّة،بل كسبيّة،فإنّه يمكن عقد قياس لكلّ ذلك.مثلا يمكن أن يقال:إن هذا كلّ لذاك، و ذاك جزء منه،و كلّ ما كان كلاّ فهو أعظم من جزئه،فهذا أعظم من ذاك.

و من تلك الأوهام ما نقله المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات عن الإمام الرازي و دفعه،حيث قال.في مقام التنبيه على أغلاط الإمام و دفع اعتراضاته على الشيخ في هذا المقام (1):

«ثمّ عارضه-أي الإمام الشيخ-بأنّ الإنسان يعلم ذاته المخصوصة،و لا يخطر بباله تصوّر النفس التي يقولون بها،فكلّ ما يجعلونه عذرا عن ذلك،فهو عذر عن هذا الكلام.

و أقول:ليت شعري ما يريد بالنفس التي يقولون بها؟

إن أراد بها ذات الإنسان المدركة المحرّكة،فلا مغايرة.

و إن أراد بها شيئا آخر،فالشيخ لم يقل بها».انتهى.

و تقرير هذا الوهم:أنّ ما ادّعاه الشيخ من أنّ الإنسان عالم بثبوت ذاته في جميع الحالات،و غافل أحيانا عن جميع أعضائه،و المعلوم مغاير لما ليس بمعلوم،فذاته المعلومة التي ليست هي إلاّ نفسه مغايرة لأعضائه،معارض بمثله.و هو أنّ الإنسان يعلم ذاته المخصوصة في جميع الأحوال،و لا يخطر بباله في بعض الأحوال تصوّر النفس التي يقولون بها،و بأنّها عين ذاته.و الحال أنّ المعلوم مغاير لما ليس بمعلوم،فذاته مغايرة لنفسه،مع أنّهم لا يقولون بالمغايرة،بل يقولون بالعينيّة،كما جزم به الشيخ،فكلّ ما يجعلونه عذرا عن هذه المعارضة،فهو عذر عمّا ذكره الشيخ في التنبيه.

و هذا إذا قرّر كلام الإمام على سبيل المعارضة،كما فهمه المحقّق الطوسي(ره).

و يمكن تقريره أيضا على سبيل النقض الإجماليّ أو التفصيليّ.

امّا الأوّل فبأن يقال:لو كان ما ذكره الشيخ حقّا بجميع مقدّماته،لزم أن يكون ذات

ص:101


1- -شرح الإشارات 298/2. [1]

الإنسان مغايرة لنفسه،لجريان نظير هذا البيان فيه،كما عرفت؛و الحال أنّ ذات الإنسان عين نفسه عندهم.

و أمّا الثاني-و إن كان بعيدا عن كلام الإمام-فبأن يقال:إنّا سلّمنا أنّ الإنسان في الفرض المذكور لا يغفل عن ذاته،و يغفل عن أعضائه،و أنّ ذلك دليل على المغايرة،أي مغايرة ذاته لأعضائه.لكون المعلوم مغايرا لما ليس بمعلوم،إلاّ أنّا لا نسلّم أنّ ذاته المعلومة عين نفسه-كما ادّعاه الشيخ و قالوا به-إذ لا دليل هنا على هذا الاتّحاد و هذه العينيّة،بل الدليل قائم على خلافه،و هو نظير الدليل على مغايرة ذاته لأعضائه،إذ الإنسان لا يغفل عن ذاته في جميع الأحوال،و مع ذلك قد لا يخطر بباله تصوّر النفس التي يقولون بها.

و أمّا تحرير الجواب عن هذا الوهم على جميع التقارير الثلاثة،فواضح كما ذكره المحقّق الطوسيّ(ره)،و بيانه:أن لا سترة في أنّ المراد بذات الإنسان،ذاته المدركة المحرّكة المعلومة له في جميع الأحوال.

فالإمام إن أراد بالنفس التي يقولون بها هذا المعنى،كما هو مرادهم بها،فظاهر أنّ الإنسان كما لا يغفل عن ذاته في شيء من الأحوال،لا يغفل عن نفسه بالمعنى المذكور الذي أراده القوم و الشيخ،لكونهما واحدة،و لا مغايرة بينهما أصلا في المعنى.

و إن أراد بالنفس معنى آخر ادّعى هو الغفلة عنه و مغايرته للذات،فهو شيء لم يقل به الشيخ و لا أحد من القوم،كما يعلم من تتبّع كلامهم.

و من تلك الأوهام،ما ذكره الشارح القوشجيّ في«شرح التجريد»في هذا المقام، و أورد عليه النظر؛قال (1):و ردّ ذلك بأنّ ذات الإنسان عندنا هي الأجزاء الأصليّة الجسمانيّة التي هي أجزاء (2)لبدنه،و لا نسلّم أنّه يغفل عنها،بل إنّما يغفل عن الأجزاء الفضليّة،و عن الأعراض و القوى الحالّة فيها.

ص:102


1- -شرح التجريد 222،للقوشجي.
2- في المصدر:هي جزء لبدنه.

أقول:فيه (1)نظر،لأنّه لو كان لا يغفل عن الأجزاء الأصليّة (2)،لكان عالما بأنّها ما هي.لا نقول (3):يجب أن يعلمها بحقيقتها.بل بوجه يمتاز (4)به عما عداها من سائر الأعضاء و غيرها،و أكثر الناس لا يعلمونها كذلك،مع أنّهم يعلمون أنفسهم بوجه تمتاز به عما عداها»انتهى.

و تقرير هذا الوهم:أنّ ذات الإنسان عندنا أي عند بعض المتكلّمين-هي الأجزاء الأصليّة الجسمانيّة التي هي أجزاء لبدنه،و لا نسلّم أنّه في الفرض المذكور أو في شيء من الأحوال يغفل عنه،فإنّه كما لا يغفل عن ذاته،كذلك لا يغفل عن تلك الأجزاء،لكونها عين ذاته.بل الغفلة إنّما تقع عمّا هو غير ذاته من الأجزاء الفضليّة لبدنه،و عن الأعراض و القوى الحالّة فيها،فحينئذ نقول:إنّ الشيخ و كذا من ادّعى مغايرة ذات الإنسان لبدنه و أعضائه،بسبب أنّهم رأوا أنّ الإنسان لا يغفل عن ذاته و يغفل عن تلك الأشياء.

إن أرادوا به أنّ ذات الإنسان أمر آخر سوى الأجزاء الأصليّة أيضا،و هو مغاير لبدنه و أعضائه الأصليّة و الفرعيّة و الأعراض الحالّة فيها جميعا،كما هو مقصودهم،فلا نسلّم ذلك،إذ مبنى هذه المغايرة على وقوع الغفلة،و لا نسلّم وقوع الغفلة عن الأجزاء الأصليّة.

و إن أرادوا به أنّ ذات الإنسان هي الأجزاء الأصليّة من بدنه،و هي مغايرة للأجزاء الفرعيّة و لقواها و أعراضها،فهذا مسلّم،لكنّهم لم يقولوا بذلك.

و مع ذلك فهم إن أرادوا بالنفس التي يقولون بها،تلك الأجزاء الأصليّة-كما هو أيضا عند بعض المتكلّمين-حتّى يكون ذات الإنسان و نفسه واحدة،و عبارة عن تلك الأجزاء الأصليّة،فهذا أيضا مسلّم،إلاّ أنّ الشيخ و نظراءه من الحكماء لم يقولوا بذلك.

و إن أرادوا بالنفس أمرا آخر سوى تلك الأجزاء،و أنّها مغايرة لتلك الأجزاء أيضا،كما هو مقصودهم؛فلم يلزم ذلك من التنبيه المذكور كما عرفت.و هذا هو تقرير هذا الوهم.

و أمّا تقرير دفعه،فبأن يقال:إنّ ما ادّعاه المتوهّم من أنّ الإنسان لا يغفل في شيء من الأحوال عن الأجزاء الأصليّة من بدنه كما لا يغفل عن ذاته،باطل من وجوه:

أمّا أوّلا،فلما ذكره الشارح القوشجي،من أنّه لو كان كذلك لوجب أن يكون عالما

ص:103


1- في المصدر:و فيه نظر...
2- عن أجزائه...
3- لا تقول...
4- يمتاز عمّا عداها.

بأنّها ما هي.لا نقول:يجب أن يعلمها بحقيقتها،حتّى يرد أنّ ذلك غير لازم،كما في العلم بالذات،بل نقول:إنّه يجب أن يكون عالما بها بوجه تمتاز به عمّا عداها من الأجزاء الفرعيّة و غيرها،كما أنّه يعلم ذاته بوجه تمتاز به عمّا عداها،و ظاهر أنّه ليس كذلك،فإنّ أكثر الناس مع علمهم بذواتهم و أنفسهم بوجه تمتاز به عمّا سواها،لا يعلمون الأجزاء الأصليّة لأبدانهم بوجه تمتاز به عمّا عداها.

فإن قلت:لعلّ هذه الغفلة لأجل أنّ هؤلاء لم يتصوّروا معنى الأجزاء الأصليّة،و لم يدركوا أنّها عين ذات الإنسان،فإنّهم لو تصوّروا ذلك و أدركوا هذا الحكم لما غفلوا عنه.

قلت:من المعلوم بالضرورة،أنّ من تصوّر معنى الأجزاء الأصليّة أيضا ربّما يكون غافلا عن العلم بها مع العلم بذاته،و أمّا من أدرك و حكم بأنّها عين ذاته،فهو و إن كان عالما بها مع العلم بذاته،إلاّ لا يجدى نفعا،لأنّ المطلوب عدم الغفلة عن تلك الأجزاء مع العلم بالذات على جميع التقادير الواقعيّة،و لا نسلّم أنّ تقدير الحكم بأنّها عين ذات الإنسان تقدير واقعيّ،بل هو بمجرّد الفرض.فإنّ هذا التقدير إنّما يكون واقعيّا إذا كان ذلك الحكم ثابتا في الواقع،و ليس كذلك،لأنّه لم يثبت بعد و لم يدلّ عليه دليل،بل الدليل على خلافه،كما هو ظاهر على من تأمّل في التنبيه المذكور،و فيما سيأتي من الوجوه على ما نحن بصدده.

و أمّا ثانيا،فلأنّ الأجزاء الأصليّة لا تخلو من أن تكون متّصلة في الواقع بالأجزاء الفضليّة الفرعيّة،أو تكون منفصلة عنها في الواقع،و إن كان الانفصال غير محسوس.

و على الأوّل فواضح أنّه إذا فرضت الأعضاء متفرقة غير متماسّة متباينة الأطراف، كما في الفرض المذكور،كانت الأجزاء الأصليّة في ضمن فرض تفرق الأعضاء مفروضة التفرّق أيضا،كالأعضاء و الأجزاء الفضليّة.

و على الثاني،فإن لم تكن تلك الأجزاء الأصليّة مفروضة التفرّق بتفرّق الأعضاء، فلا خفاء في أنّه يمكن فرض تفرّقها أيضا كفرض تفرّق الأعضاء و الأجزاء الفضليّة،و لا خفاء أيضا في أنّ الإنسان حينئذ في الفرض المذكور لا يغفل عن ذاته مع أنّه يغفل عن

ص:104

إدراك تلك الأجزاء الأصليّة المتفرّقة،كالغفلة عن الأجزاء الفضليّة و عن الأعضاء،فإنّ السبب الذي فرض كونه سبب الغفلة مشترك،و الفرق تحكّم.

و أمّا ثالثا،فلأنّ تلك الأجزاء الأصلية لكونها مادّية و جسمانيّة،من شأنها أن تدرك بالحواسّ،و لا أقلّ من إدراكها بالحواسّ الباطنة كالتخيّل،و الحال أنّ المفروض في الفرض المذكور للتنبيه المسطور أن لا استعمال لحاسّة من الحواسّ أصلا في إدراك شيء من الأشياء مطلقا،و أنّه مع ذلك لا يغفل الإنسان عن ذاته،فكيف تكون الأجزاء مدركة أو عين ذاته مع ذلك الفرض؟فتدبّر.

و ممّا ذكرنا يظهر وجه اندفاع بعض أوهام أخر ربّما يتراءى ورودها على هذا المقام.

منها:أنّه يمكن أن يكون ذات الإنسان و نفسه التي لا يغفل عنها في شيء من الأحوال جسما داخلا في بدنه و في خلل بدنه و فرجه،أو خارجا عنه مجاورا له،إمّا جسما بسيطا عنصريّا نارا أو هواء أو أرضا أو ماء،و إمّا جسما بخاريّا،و إمّا دما أو نحو ذلك،كما ذهب إلى كلّ من ذلك طائفة من القدماء على ما سيجيء ذكره في ذكر عدّ المذاهب في النفس.

و بيان دفع هذا الوهم:أنّ تلك الأجسام أيضا في الفرض المذكور،إمّا مفروضة التفرّق،أو ما يمكن فرض تفرّقها.و أيضا هي ما من شأنها أن تكون مدركة بالحواسّ،و لا أقلّ من إدراكها بالحواسّ و المشاعر الباطنة،و المفروض وقوع الغفلة عن المتفرّقات و عدم استعمال الحواسّ.فتدبّر.

و منه يظهر أنّه لا يمكن ذهاب الوهم إلى أنّ ذات الإنسان هو الهواء الطلق المفروض في الفرض المذكور،لكون المفروض أنّه ظرف لوجود الإنسان المتوهّم المتأمّل المفروض،و محيط به،و ظرف وجود الشيء لا يكون عين ذاته،مع أنّ ذلك الهواء الطلق أيضا هو مما يمكن فرض تفرّقه،و من شأنه أن يدرك بالحواسّ،و لو بالحواسّ الباطنة، و مع أنّه لم يذهب و هم أحد إلى كونه ذات الإنسان و نفسه.

ص:105

و منها أنّه يمكن أن يكون ذات الإنسان و نفسه جسما بسيطا لطيفا سماويّا داخلا في البدن،أو مجاورا له،[و]هو لكونه لطيفا لا يمكن أن يدرك بالحواسّ،و لكونه سماويّا غير قابل للتفرّق،لا يمكن فرض تفرّقه.

و وجه دفعه،أنّه لا خفاء في أنّه لكونه جسما مادّيا يمكن إدراكه بالحواسّ الباطنة، و المفروض عدم استعمالها،فكيف يمكن أن يدرك في الفرض المذكور،فيعلم منه أنّ ذات الإنسان المدركة البتّة في الفرض المذكور غير هذا الجرم السماويّ أيضا،كما أنّها غير تلك الأشياء المذكورة،فتبصّر.

فان قلت:فعلى ما قرّرت التنبيه المذكور الذي قرّره الشيخ لإثبات وجود النفس للإنسان و إثبات إنّيّتها،يكون مفاده أنّ ذات الإنسان-أي نفسه-مدركة بذاتها له بذاته ثابتة له،و مغايرة لبدنه و لجسده الذي هو الجسم ذو الأبعاد الثلاثة،و لأعضائه الظاهرة و الباطنة،و كذا لقواه و حواسّه الظاهرة و الباطنة،و للأعراض الحالّة فيه،كمزاجه و غيره، و لما هو خارج عن ذلك أجمع.

و بالجملة أنّها موجودة بذاتها،مغايرة لما هو مادّيّ أو مدرك بالحواسّ الظاهرة أو الباطنة.ففي هذا التنبيه على هذا التقرير إشارة إلى كون النفس الإنسانيّة جوهرا مجرّدا عن المادّة أيضا،إذ الشيء الموجود القائم بذاته،المغاير للجسم و أجزائه و أعراضه و لكلّ ما يمكن أن يدرك بالحواسّ،لا يكون إلاّ جوهرا قائما بذاته،مجرّدا عن المادّة، و لذلك جعل بعضهم عدم غفلة الإنسان عن إدراك ذاته لذاته و نفسه في جميع الأحوال، و غفلته عن بدنه و أعضائه و الأشياء الخارجة في بعض الأحوال،دليلا على كون نفسه الناطقة جوهرا مجرّدا عن المادّة،حتّى إنّ الفاضل الأحساويّ (1)ذكر من جملة أدلّة القائلين بتجرّد النفس الإنسانيّة الناطقة عليه،هذا الدليل،و خصّه بالذكر،و عدّه أقوى دلائلهم على ذلك.

و حتّى أنّ صدر الأفاضل جعل ما في الإشارات حجّتين على ذلك؛إحداهما من

ص:106


1- -راجع المجلي493/،للأحسائيّ،الطبعة الحجريّة.

جهة مشاهدة حال النائم و السكران،و الاخرى من جهة مشاهدة حال الإنسان في الفرض المذكور للتنبيه المزبور.

و بالجملة،ففيما ذكره الشيخ إشارة-مع إثبات وجود النفس الإنسانيّة و إنّيّتها-إلى تحقيق حقيقتها من حيث كونها جوهرا مجرّدا عن المادّة.فما باله في أن أقام الدليل فيما بعد في الفصول الآتية على جوهريّتها و تجرّدها،و لم يذكر هنا ما يدلّ على أنّ في هذا التنبيه إشارة إلى ذلك،كما ذكر أنّ فيه إشارة إلى إثبات إنّيّتها.

قلت:لعلّ وجه ما فعله،أنّه على تقدير دلالة التنبيه المذكور على كونها جوهرا مجرّدا عن المادّة،فلا يخفى أنّها دلالة إجماليّة،و إشارة غير تفصيليّة على ذلك،فلذلك لم يكتف بها،و ذكر الدليل عليه فيما بعد بوجوه تفصيليّة،لأنّه أراد الدلالة التفصيليّة عليه.

على أنّه يمكن أن يكون نظره في ذلك إلى أنّ التنبيه المذكور،و إن كان فيه إشارة إلى ذلك،إلاّ أنّه ليست هذه الإشارة إشارة مقصودة.فإنّ الغرض من جوهريّة النفس و تجرّدها،جوهريّتها و تجرّدها على الوجه الذي به يكون مختصّا بالإنسان،و لا يجري في غيره من أفراد الحيوان البتّة،يدلّ على ذلك أنّهم قالوا:

إنّ النّفس الناطقة الإنسانيّة جوهر مجرّد عن المادّة،و أنّ النّفس الحيوانيّة و كذا النباتيّة منطبعة في المادّة قائمة بها،و هنا ليس الأمر كذلك،فإنّ عدم الغفلة عن الذات و الغفلة عمّا سواها الذي يمكن أن يكون،دليل على الجوهريّة.و التجرّد لا يخفى أنّه كما أنّه ثابت في الإنسان لا سبيل إلى انكاره فيه،كذلك لا دليل على نفيه في غيره من الحيوانات،و إن لم يكن دليل على ثبوته بالفعل فيها،و بالجملة لا دليل على ثبوت ذلك و لا على انتفائه في غير الإنسان من الحيوان،بل هو في غيره بحسب الاحتمال العقليّ محتمل أن يكون و أن لا يكون.

و لا يخفى أيضا أنّ هذا المعنى-على هذا-لا يكون مختصّا جزما بالإنسان،و إنّما يكون هذا الاختصاص جزما،إذا ثبت بدليل أو وجه تنبيهيّ وجدانيّ أنّه لا يجري في

ص:107

غيره،و المقدّر عدمه.فلذلك ترى الشيخ في الكتابين،و لا سيّما في«الشفاء»،أنّه أثبت أوّلا إنّيّة النفس الناطقة و مغايرته للبدن و أعضائه و أجزائه،ثمّ أثبت بعد ذلك كونها جوهرا مجرّدا عن المادّة،على الوجه الذي يكون مختصّا بالإنسان و لا يجري في غيره البتّة،لكونه هو المقصود.حيث أثبت خواصّ أفعال و أحوال للإنسان لا تجري تلك في غيره البتّة،كالإدراكات الكليّة و نحوها.ثمّ استدلّ بها على تجرّدها،كما سيجيء بيانه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و قد تبعه المحقّق الطوسيّ(ره)في التّجريد.

و من هنا يظهر أنّ ما فعله بعضهم،حيث جعل التنبيه المذكور تنبيها،بل دليلا على تجرّد النفس الإنسانيّة،مبنيّ إمّا على أنّه لم يكن في نظره إثبات تجرّدها على وجه يكون مختصّا بالإنسان،و لا يجري في غيره مع كونه مقصودا.و إمّا مبنيّ على أنّه كان في نظره ذلك،إلاّ أنّه اكتفى في الاختصاص المذكور العلم بحصوله في الإنسان و عدم العلم به في غيره،أي كونه ظاهر الاختصاص بالإنسان.حيث إنّ إدراك الذات و الغفلة عمّا سواها معلوم في الإنسان،و غير معلوم في غيره،و إن كان محتملا،و في الوجهين ما ترى.

و يظهر مما ذكرنا أنّ ما فعله بعضهم من جعله معنى لا خفاء في اشتراكه بين الإنسان و غيره من أفراد الحيوان،بل النبات أيضا،لكون ذاته باقية بعينها في جميع الأحوال،أي أحوال وجوده،مع كون بدنه و جسمه و أعضائه و أعراضه متبدّلة،دليلا على تجرّد النفس الناطقة الإنسانيّة،بعيد من الاستقامة جدّا.و إن اشتهيت الاطّلاع على تفصيل المقام، فاستمع لما يتلى عليك من الكلام.

فنقول:إنّ صدر الأفاضل (1)في مقام إقامة الحجج على أنّ النفس الإنسانيّة جوهر قائم بذاته-بعد ما أقام الحجج عليه و ذكر الحجّة عليه أوّلا هكذا:«إنّ إدراك الشيء لمّا كان عبارة عن حصول صورته للمدرك،فكلّ من أدرك ذاته يجب أن يكون مفارقا عن المحلّ، إذ لو كان في محلّ،لكان صورة ذاته غير حاصلة لذاته بل لمحلّه،لأنّ وجود الحالّ لا

ص:108


1- -الشواهد الربوبيّة211/. [1]

يكون إلاّ للمحلّ.هذا خلف.ثمّ إنّا ندرك ذاتنا بذاتنا (1)،و أمّا شعورنا بشعور ذاتنا فقد و قد (2)،إذ ليس نفس وجودنا،فهو كإدراكنا سائر الأشياء المدركة من خارج.»ثمّ أورد عليه شكّا و أجاب عنه،ثمّ ذكر حجّة اخرى على ذلك مبنيّة على إدراك النفس للمعقولات،ثمّ ذكر تينك الحجّتين اللتين استنبطهما من كلام الشيخ في«الإشارات»،كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم-قال (3):

«حجّة اخرى:بدنك و أعضاؤك دائم الذوبان و السيلان،لعكوف (4)الحرارة الغريزيّة على التحليل و التنقيص،و كذا غيرها من الأسباب،كالأمراض الحادّة (5)و المسهلات، و ذاتك (6)أوّل الصّبا باقية،فأنت أنت لا بدنك (7)».ثمّ قال 1:حكمة عرشيّة قالوا:هذا منقوض بسائر (8)الحيوان،فإنّ الفرس تحلّل أجزاء بدنه معلوم،فلو كانت نفسه-كما قيل- منطبعة في جرم بخاريّ متحلّل دائما،أو في عضو متغذّ متحلّل،لكان كلّ عام بل كلّ اسبوع فرسا جديدا،و الحدس حاكم ببطلانه،فللحيوان نفس كما لنا.

و الشيخ و تلامذته و غيرهم من الحكماء تارة أنكروا بقاء الذات فيما سوى الإنسان، و تارة أثبتوا للجميع نفسا علانية (9)،و حكموا بصعوبة الفرق بين الإنسان و غيره في ذلك.

و أنت-بعد تذكّرك ما أسلفناه-ستذعن أنّ للحيوانات شركة في نفس متخيّلة مجرّدة عن (10)عالم الحسّ،لا عن عالم المثال،على أنّ هذه البراهين تقتضي (11)تجرّد النفس عن البدن المحسوس و عوارضه فقط،و لا تفيد (12)أزيد من هذا،فهو ممّا يقع فيه الاشتراك لسائر (13)الحيوان ممّا له قوّة باطنيّة يشعر (14)بذاتها.

و بعضها مما يقتضي تجرّد النفس عن الكونين،فهي مختصّة بالإنسان العارف،و ستعلم أنّ أصناف الناس ليسوا في درجة واحدة من المواطن».انتهى كلامه.

و أقول:لا يخفى عليك أنّ هذه الحجّة الأخيرة،سواء اقيمت حجّة على تجرّد النفس

ص:109


1- في المصدر:بذاتنا،لأنّا لا نعزب عن ذاتنا،و أمّا شعورنا..
2- فقد فقد...
3- -الشواهد الربوبيّة212/-213. [1]
4- بعكوف...
5- الحارّة...
6- و ذاتك منذ أوّل...
7- لا ببدنك...
8- بسائر...بسائر...
9- عقلانيّة...
10- من...
11- يقتضي...
12- و لا يفيد...
13- لسائر...
14- تشعر.

الناطقة الإنسانيّة-كما فعله-أو على كونها مغايرة للبدن و أجزائه و مزاجه و قواه و أعراضه-كما فعله المحقّق الطوسي(ره)في التجريد-يردّ عليها أنّها منقوضة بسائر الحيوان-كما قالوا-بل بالنبات أيضا،حيث إنّ جسمه و أجزاءه دائما في التبدّل و التغيّر بالاغتذاء و النشو و النماء،مع أنّا نعلم بالضرورة أنّ ذاته باقية بعينها من أوّل زمان وجوده إلى منتهاه.

و ما نقله عن الشيخ و تلامذته و غيرهم من الحكماء،لو كانوا قالوا به،فيردّ على إنكارهم تارة بقاء الذات فيما سوى الإنسان أنّه مكابرة،حيث إنّه خلاف ما يحكم به العقل السليم و الحدس المستقيم،و على إثباتهم تارة للجميع-أي لجميع أفراد الحيوان من الإنسان و غيره-نفسا عقلانيّة،أنّهم إن أرادوا بالنفس العقلانيّة ما هو مناط التكليف كما في الإنسان،فذلك خلاف ما هو ضروري عند جميع العقلاء و في جميع الملل و الأديان،و حينئذ فلا يصعب الفرق بين الإنسان و غيره في ذلك،و إن أرادوا بها غير ما هو مناط التكليف،أي نفسا مجرّدة عقلانيّة في الجملة،هي أقلّ تعقّلا من النفس الإنسانيّة و أدون تجرّدا منها،لم تبلغ مرتبة هي مناط التكليف،بناء على ادّعاء أنّ النفس العقلانية المجرّدة يمكن أن يتفاوت مراتبها في التعقّل و التجرّد المستند إلى ذلك التعقّل،كما يشاهد في الإنسان.حيث إنّ النفوس الإنسانيّة بعضها في مرتبة العقل الهيولانيّ،و بعضها في مرتبة العقل بالملكة،و بعضها في مرتبة العقل بالمستفاد،و بعضها في مرتبة العقل بالفعل؛و مع ذلك فلبعضها تلك المرتبة بالنسبة إلى بعض المعقولات أقلّها أو أكثرها، و لبعضها بالنسبة إلى كلّها أو جلّها.و بناء على ادّعاه أنّ أقلّ تلك المراتب من التعقّل و أدونها في التجرّد-كما في النّفوس الحيوانيّة-و إن كان يتحقّق فيه أصل التعقّل و التجرّد المترتّب عليه بعض أحكام التجرّد و خواصّه،لكون تلك النفس يمكن أن تكون باقية بعد خراب بدنها،لكونها مجرّدة بتلك المرتبة من التجرّد،و حاصلا لها أصل التجرّد،لكي يمكن تصحيح معاد الحيوانات أيضا لو قلنا به،كما في الإنسان،على ما سيجيء بيانه إن شاء اللّه تعالى؛إلاّ انّ تلك المرتبة من التجرّد و التعقّل لا تكون مناط التكليف أصلا،لا

ص:110

بالفعل و لا بالقوّة؛بل إنّما مناط التكليف هو ما بعد تلك المرتبة من المراتب الحاصلة في الإنسان،التي يترتّب على جميعها ما يترتّب على أصل التجرّد،ككونها باقية غير فانية، حتّى يمكن تصحيح المعاد في الأطفال و البله و المجانين و أمثالهم أيضا،مضافا إلى ذلك كونها مناط التكليف،إلاّ أنّ بعض تلك المراتب مناط التكليف بالقوّة البعيدة،كما في مرتبة العقل الهيولانيّ و بعضها مناطه بالقوّة القريبة،كما في مرتبة العقل بالملكة،و بعضها مناطه بالفعل لو لم يكن مانع منه كما في المرتبتين الأخيرتين.

فحينئذ نقول:إنّ إثباتهم للحيوانات نفسا عقلانيّة بالمعنى الذي ذكروا،إن أمكن تصحيحه على هذا الطريق،من غير صعوبة أيضا في الفرق بين الإنسان و غيره في ذلك كما ادّعوه،إلاّ أنّه يردّ عليهم أنّه ما الداعي إلى هذا الإثبات و إلى هذا الالتزام؛و ما الذي اضطرّهم إلى هذا القول؛فإن كان الداعي إلى ذلك قيام دليل على تجرّد النفس مشترك بين الإنسان و غيره من أفراد الحيوان،فيرد عليه أنّه ليس هنا دليل كذلك،فإنّ الحجّة الأخيرة المذكورة التي هي-مثلا-منشأ لتوهّمهم لذلك في زعمهم،كما يدلّ عليه كلام صدر الأفاضل،و إن كانت مشتركة بين الإنسان و غيره من أفراد الحيوان،إلاّ أنّ دلالتها عل تجرّد النفس غير مسلّمة،لأنّه لا دلالة فيها أزيد من أنّ ذات الإنسان أو الحيوان بعينها باقية في جميع أزمنة وجودها،و هي مغايرة لما يتبدّل منهما من البدن و أجزائه و أعضائه و أعراضه.و هذا لا يستلزم كون تلك الذات مجرّدة عن المادّة،لاحتمال أن يكون جوهرا مادّيّا غير متبدّل،باقيا بعينه في جميع الأحوال،إمّا داخلا في البدن،أو خارجا عنه مجاورا له،مثل الأجزاء الأصليّة بعينها،أو جسما بسيطا عنصريّا،أو جرما لطيفا سماويّا باقيا بعينه.فمن أين يحكم العقل بتجرّدها و اشتراك ذلك التجرّد بين الإنسان و غيره من الحيوان،حتّى اضطرّهم إلى إنكار بقاء الذات فيما سوى الإنسان تارة،و إلى إثبات النفس العقلانيّة للجميع أخرى.

و ظاهر أيضا أنّ ما ذكره الشيخ في الكتابين إشارة إلى إثبات إنّيّة النفس الناطقة الإنسانيّة.

ص:111

و جعله صدر الأفاضل حجّة اخرى،بل حجّتين على تجرّدها لا يمكن أن يكون منشأ لذلك،لأنّه و إن دلّ على تجرّدها باعتبار أنّه يدلّ على كونها ثابتة للإنسان بذاته، مدركة له في جميع الأحوال،مغايرة للبدن و جسميّته و أجزائه و مزاجه و أعراضه و أعضائه و قواه،و لكلّ ما يمكن أن يدرك بأحد الحواسّ الظاهرة أو الباطنة،و أنّ الذات الكذائيّة لا تكون إلاّ مجرّدة عن المادّة كما بيّناه سابقا؛إلاّ أنّ هذا ليس مشتركا بين الإنسان و غيره من الحيوان،حيث إنّ ثبوت تلك الحالة،أي إدراك الذات بالذات،و الغفلة عن كلّ ما سواها،و إن كان معلوما في الإنسان،لكنّه غير معلوم في غيره من أفراد الحيوان،و إن لم يكن انتفاؤه أيضا فيه معلوما.

و ظاهر أيضا أنّ البراهين التي أقاموها على تجرّد النفس الإنسانيّة من جهة الإدراكات الكليّة العقليّة و نحو ذلك من الوجوه التي هي مختصّة بالإنسان-كما ذكر صدر الأفاضل نبذا منها-و إن دلّت عل تجرّدها،لكنّها ليست مشتركة بين الإنسان و غيره من الحيوان،كما سيأتي بيانه فيما بعد في مقام إثبات تجرّد النفس الإنسانيّة.و الحال أنّه ليس هنا دليل أو برهان غير ما ذكر يمكن أن يجعل دليلا على تجرّدها،و مع ذلك يكون مشتركا بينهما كما يعلم من تصفّح أدلّتهم التي أقاموها على ذلك و بذلوا جهدهم فيها.

و الحاصل أنّ ما يدلّ على التجرّد،فهو ليس بمشترك بينهما،و ما هو مشترك فليس يدلّ على التجرّد،فمن أين حصل لهم الظنّ المذكور؟حتّى اضطرّوا إلى ما التزموه،فتارة أنكروا بقاء الذات فيما سوى الإنسان،و تارة أثبتوا لغيره أيضا نفسا عقلانيّا.

فإن قلت:إذا لم تكن النفس الحيوانيّة من حيث هي حيوانيّة مجرّدة أصلا،فليس يمكن بقاؤها،بل تكون فانية دائرة،كالبدن و أجزائه،حيث إنّ الادلّة التي تدلّ على بقاء النفس كلّها مبنيّة على تجرّدها،كما عرفت بيانه فيما سلف من الأبواب.و على هنا،فبأيّ طريق يمكن تصحيح المعاد في الحيوان و حشره،كما نطق به الشرع الشريف،و الحال أنّ إعادة المعدوم ممتنعة؟

قلت:معاد الحيوان ليس ضروريا فى الدين كمعاد الإنسان،حيث إنّ الآيات الواردة

ص:112

في حشر الحيوانات،كقوله تعالى: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (1)،و قوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (2)و أمثال ذلك من الآيات و الأخبار غير ناصّة في ذلك،كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

و على تقدير القول بحشرها أيضا،فيمكن تصحيحه بوجه آخر،من غير توقّف على وجود نفس مجرّدة عن المادّة لها،تكون هي باقية بعد خراب أبدانها،و سيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء اللّه تعالى العزيز،فانتظر.

ثمّ إنّ ما ذكره صدر الأفاضل في تحقيق المقام بقوله (3):و أنت بعد تذكّرك ما أسلفناه -الى آخره-مبنيّ أيضا على القول بتفاوت مراتب التجرّد،و أنّ النفس الحيوانيّة أيضا أي نفسها المتخيّلة مجرّدة نوع تجرّد،أي أنّها مجرّدة من عالم الحسّ فقط دون عالم المثال، و أنّ النفس الإنسانيّة-لكونها عاقلة-مجرّدة عن العالمين جميعا.

و فيه أنّ هذا التجرّد ليس هو مقصود القوم ممّا أقاموا الدليل عليه،بل إنّما مقصودهم منه التجرّد الذي حكموا به في النفس الإنسانيّة،أي التجرّد عن العالمين،و أين هذا من ذاك؟نعم لا مشاحّة في الاصطلاح لو اصطلح أحد و سمّى النفس المتخيّلة الحيوانيّة مجرّدة بذلك المعنى.

و قوله 3«على أنّ هذه (4)البراهين تقتضي (5)تجرّد النفس عن البدن المحسوس و عوارضه فقط»-إلى آخره-.

فيه أنّه إن كان المشار إليه بكلمة الإشارة،ما ذكره من الحجّة الأخيرة و ما في معناها،ممّا يدلّ على كون الذات و النفس مغايرة للبدن المحسوس و عوارضه فقط،فقد عرفت أنّ مقتضاه،و إن كان مشتركا بين الإنسان و غيره،لكنّه لا يدلّ على التجرّد بالمعنى

ص:113


1- -التكوير5/. [1]
2- -الأنعام38/. [2]
3- -الشواهد الربوبيّة213/. [3]
4- في المصدر:بعض هذه...
5- يقتضي.

المراد.

و إن كان المشار إليه هو ما ذكره من الحجّتين اللتين استنبطهما من كلام الشيخ في إنّيّة النفس،كما يشعر به قوله:«مما له قوّة باطنة تشعر بذاتها»فقد عرفت أنّ تينك الحجّتين-على تقدير دلالتهما على تجرّد النفس-إنّما تدلاّن عليه في الإنسان خاصّة دون غيره من سائر الحيوان،لأنّ حصول تلك الحالة المفروضة في تينك الحجّتين غير معلوم في غير الإنسان،فليس مقتضاهما ممّا يقع فيه الاشتراك لسائر الحيوان ممّا له قوّة باطنة يشعر بذاته،و إن كان المشار إليه ما ذكره من الحجّة المبنيّة على إدراك النفس للمعقولات الكلّيّة،فظاهر أنّها،و إن كانت تدلّ على التجرّد بالمعنى المراد،إلاّ أنّ مقتضاها ليس بمشترك بين الإنسان و غيره أصلا،إذ إدراك الكلّيّ إنّما هو مختصّ بالإنسان وحده.

و حينئذ فلم يبق من البراهين التي ذكرها إلا الحجّة الاولى التي ذكرها.

و لا يخفى على المتأمّل،أنّها-كما قرّرها-لا دلالة فيها على شيء،حتّى ننظر في أنّ مقتضاها هل هو مشترك بين الإنسان و غيره أم لا؟

و بيان ذلك أنّ قوله فيها:«إنّ إدراك الشيء لمّا كان عبارة عن حصول صورة للمدرك»مبنيّ على كون علم الإنسان بذاته علما حصوليّا أيضا،و هو ممنوع،بل لا معنى له،لأنّ حصول صورة الشيء في الشيء نفسه ممّا لا وجه له،سواء أريد بصورته شبحه و مثاله أو حقيقته،على اختلاف المذهبين في ذلك.بل إنّ علم الشيء بذاته علم حضوريّ منشؤه كون المعلوم عين العالم بالذات،كما هو المقرّر بينهم.

و على تقدير تسليم كونه حصوليّا،فقوله:«فكلّ من أدرك ذاته يجب أن يكون مفارقا عن المحلّ-إلى آخره-ممنوع،لجواز أن يكون مادّيا،و أن يكون صورة ذاته حاصلة له أوّلا و بالذات،و لمحلّه أيضا ثانيا و بالعرض،فلم يلزم منه أن لا يكون تلك الصورة حاصلة إلاّ لمحلّه،حتّى يكون خلاف المفروض،

و هذا،كما أنّه على تقدير كون هذا العلم حضوريّا كما هو المقرّر بينهم،و كون العالم

ص:114

مادّيا،إنّما يلزم كون هذا العلم حاصلا لذات العالم نفسه،لحصول منشأه له و هو الاتّحاد بينها،دون محلّه أصلا لعدم الاتّحاد بينهما.فتبصّر.

و قوله:«و بعضها مما يقتضي تجرّد النفس عن الكونين»كأنّه أراد به البراهين التي مبناها على إدراك النفس للكلّيّات المجرّدة عن الموادّ مطلقا،حيث إنّها تدلّ على تجرّدها عن الكونين،أي عالم الحسّ و المثال جميعا.إلاّ أنّ قوله:«فهي مختصّة بالإنسان العارف»يدلّ على أنّ هذه البراهين تدلّ على تجرّد النفس الإنسانيّة التي هي في مرتبة العقل بالفعل و العقل المستفاد خاصّة،بالنسبة إلى كلّ المعقولات أو جلّها،و أنت ستعرف فيما بعد بيان تلك البراهين على وجه به تدلّ على تجرّد النفس الإنسانيّة مطلقا،سواء كانت للإنسان العارف أم لغيره.فانتظر.

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،و خرجنا بالإطناب عن موضوع الباب،فلنكتف بهذا القدر فى هذا المرام،و لنعد إلى ما كنّا بصدده،فنقول:إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما نقلنا عن الشيخ في«الشفاء»في هذا الفصل،و ما ذكرناه في تحريره،يظهر لك.إلى هنا ما عقدنا الباب لأجله،و هو إثبات النفس و إنّيّتها و تحديدها من حيث هي نفس،و أنّها ليست بجسم و لا مزاج و لا عرض،و أنّها غير البدن و أعضائه و أجزائه و حواسّه و قواه و أعراضه،فلنتكلّم في بعض مطالب اخرى ممّا نرومه هنا،فنقول:

ص:115

ص:116

الباب الثاني: في بيان حقيقة النفس و ماهيّتها

اشارة

ص:117

ص:118

في بيان حقيقتها و ماهيّتها من حيث إنّها جوهر مجرّد عن المادّة في ذاتها،و في أنّها واحدة بالذات المختلفة بالاعتبار و من حيث الأفعال،و لها قوى متعدّدة تختلف أفاعيلها لاختلاف قواها.

و قبل الخوض في المقصود،حريّ بنا أن تقدّم ذكر المذاهب التي قيلت في النفس و جوهرها و نقضها،لكي يحصل للمتبصّر زيادة في التبصرة.

فنقول:قال الشيخ الطبرسيّ(ره)في«مجمع البيان» (1)في تفسير قوله تعالى:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (2):«إنّه اختلف (3)العلماء في ماهيّة الروح.

فقيل:إنّه جسم رقيق هوائيّ متردّد في مخارق الحيوان،و هو مذهب أكثر المتكلّمين،و اختاره المرتضى قدّس اللّه روحه.

و قيل:هو جسم هوائيّ على بنية حيوانيّة،فى كلّ جزء منه حياة،عن عليّ بن عيسى:و كلّ (4)حيوان روح و بدن،إلاّ أنّ فيهم (5)من الأغلب عليهم (6)الروح،و منهم من الأغلب عليهم (7)البدن.

و قيل:إنّ الروح عرض،ثمّ اختلف فيه،فقيل:هو الحياة التي يتهيّأ به المحلّ لوجود

ص:119


1- -تفسير مجمع البيان 675/6،أوفست طهران على طبعة دار المعرفة-بيروت.
2- -الاسراء85/. [1]
3- في المصدر:و اختلف...
4- عيسى قال:فلكلّ...
5- أن منه...
6- عليه الروح...
7- عليه البدن.

القدرة و العلم و الاختيار،و هو مذهب الشيخ المفيد أبي عبد اللّه محمّد بن محمّد بن نعمان (1)و البلخي و جماعة من معتزلة (2)البغداديّين.

و قيل:هو معنى في القلب؛عن الإسوادي (3).

و قيل:إنّ الروح الإنسان،و هي (4)الحيّ المكلّف؛عن ابن الاخشيد و النظّام.

و قال بعض العلماء:إنّ اللّه تعالى خلق الروح من ستّة أشياء:من جوهر النّور، و الطيب،و البقاء،و الحياة،و العلم،و العلوّ.ألا ترى أنّه ما دام في الجسد كان الجسد نورانيّا يبصر بالعينين و يسمع بالاذنين و يكون طيّبا،و اذا اخرج من الجسد نتن الجسد.و يكون باقيا فإذا فارقة الروح بلي و فني.و يكون حيّا و بخروجه يصير ميّتا.و يكون عالما فإذا (5)خرج منه الروح لم يعلم شيئا.و يكون علويّا لطيفا توجد به الحياة،بدلالة قوله تعالى في صفة الشهداء بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ (6)و أجسامهم بليت (7)في التراب».- انتهى كلامه(ره).

و قال الشيخ في«الشفاء» (8):اختلف (9)الأوائل في ذلك،لأنّهم اختلفوا في المسالك إليه،فمنهم من سلك إلى علم النفس من جهة الحركة،و منهم من سلك إليه من جهة الإدراك،و منهم من جمع بين المسلكين،و منهم من سلك الحياة (10)غير مفصّلة.

و من (11)سلك منهم جهة الحركة،فقد كان يخيّل (12)عنده أنّ التحريك لا يصدر إلاّ عن متحرّك،و أنّ المحرّك الأوّل يكون لا محالة متحرّكا بذاته،و كانت النفس محرّكة أوّليّة إليه (13)يتراقى التّحريك من الأعضاء و العضل و الأعصاب،فجعل النفس متحرّكة لذاتها، و جعلها لذلك جوهرا غير مائت،معتقدا أنّ ما يتحرّك لذاته لا يجوز أن يموت.قال:

و لذلك ما كانت الأجسام السماويّة ليست تفسد،و السبب فيه دوام حركتها.

ص:120


1- في المصدر:بن النعمان(ره)...
2- المعتزلة...
3- الأسواري...
4- و هي...
5- فإذا...
6- -آل عمران169/ و 170. [1]
7- قد بليت...
8- -الشفاء- [2]الطبيعيّات 14/2-16،الفصل الأوّل من المقالة الأولى من الفنّ السادس.
9- قد اختلف...
10- طريق الحياة...
11- فمن...
12- تخيّل...
13- إليها.

و منهم (1)من منع أن يكون النفس جسما،فجعله (2)جوهرا غير جسم محرّكا (3)لذاته.

و منهم من جعلها جسما و طلب الجسم المتحرّك لذاته (4).

فمنهم من جعل ما كان من الأجرام التي لا تتجزّى كرويّا ليسهل دوام حركته،و زعم أنّ الحيوان يستنشق ذلك بالتنفّس،و أنّ التنفّس غذاء للنفس،و أنّ النفس يستبقى (5)به النفس بإدخال بدل ما يخرج من ذلك الجنس من الهباء التي هي الأجرام التي لا تتجزّى التي هي المبادي،و أنّها متحرّكة لذاتها (6)،كما يرى من حركة الهباء دائما في الجوّ،فلذلك صلحت لأن تحرّك غيرها.

و منهم من قال:إنّها ليست هي النفس،بل إنّ محرّكها هو النفس و هي فيها،و تدخل البدن بدخولها.

و منهم من جعل النفس نارا،و رأى أنّ النار دائم (7)الحركة.

و أمّا من سلك طريق الإدراك:

فمنهم من رأى أنّ الشيء إنّما يدرك ما سواه،لأنّه متقدّم عليه و مبدأ له،فوجب أن يكون (8)النفس مبدأ،فجعلها من الجنس الذي كان يراه إمّا نارا أو هواء أو أرضا أو ماء.

و مال بعضهم إلى القول بالماء لشدّة رطوبة النطفة التي هي مبدأ التكوّن،و بعضهم جعلها جسما بخاريّا،إذ كان يرى أنّ البخار مبدأ الاشياء على حسب المذاهب التي عرفتها.

و كلّ هؤلاء كان يقول إنّ النفس إنّما تعرف الأشياء كلّها،لأنّها من جوهر المبدأ لجميعها، و كذلك من يرى (9)أنّ المبادي هي الأعداد،فإنّه جعل النفس عددا.

و منهم من رأى (10)أنّ الشيء إنّما يدرك ما هو شبيهه،و أن المدرك بالفعل شبيه المدرك بالفعل،فجعل النفس مركّبا من الأشياء التي يراها عناصر،و هذا انباذقلس (11)،فإنّه قد جعل النفس مركّبة من العناصر الأربعة و من المحبّة و الغلبة،و قال:إنّما يدرك (12)النفس كلّ شيء يشبهه (13)فيها.

ص:121


1- في المصدر:فمنهم...
2- فجعلها...
3- متحرّكا...
4- بذاته...
5- تستبقي...
6- بذاتها...
7- دائمة...
8- تكون...
9- يراه المبدأ،إمّا...
10- رأى...
11- انبادقليس ...
12- تدرك...
13- بشبيهه.

و أمّا الذين جمعوا الأمرين،فكالذين قالوا:إنّ النفس عدد متحرّك (1)لذاته،فهى عدد، لأنّها مدركة؛و هي محرّكة لذاتها،لأنّها محرّكة أوّليّة.

و أمّا الذين اعتبروا أمر الحياة غير ملخّص.

فمنهم من قال:إنّ النفس حرارة غريزيّة لأنّ الحياة بها.

و منهم من قال:بل برودة،و إنّ النّفس مشتقّ من النّفس،و النّفس هو الشيء المبرّد، و لهذا ما يتبرّد بالاستنشاق ليحفظ جوهر النفس.

و منهم من قال:النّفس (2)هو الدم،لأنّه إذا سفح الدم بطلت الحياة.

و منهم من قال:بل النفس مزاج،لأنّ المزاج ما دام ثابتا لم يتغيّر (3)صحّة الحياة.

و منهم من قال:بل النفس تأليف و نسبة بين العناصر،و ذلك لأنّا نعلم أنّ تأليفا ما يحتاج إليه حتّى يكون من العناصر حيوان،و لأنّ النفس تأليف،فلذلك يميل (4)إلى المؤلّفات من النغم و الأراييح (5)و الطعوم و تلتذّ بها.

و من الناس من ظنّ أنّ النفس هو الإله-تعالى عمّا يقول (6)الملحدون-و أنّه يكون في كلّ شيء بحسبه،فيكون في شيء طبعا،و في شيء نفسا،و في شيء عقلا،سبحانه و تعالى عمّا يشركون.فهذه هى المذاهب المنسوبة إلى القدماء الأقدمين في أمر النّفس، و كلّها باطل.انتهى كلامه.

ثمّ أبطل هذه المذاهب و الوجوه المبنيّة هي عليها واحدا بعد واحد بوجوه مبسوطة مفصّلة،نقلها يوجب الإطناب،فلذا لم نتعرّض لنقلها و تحريرها،مع ما نرومه في هذا الفصل من بيان كون النفس جوهرا مجرّدا عن المادّة في ذاته،إذا ثبت بالبيان الذي سنذكره،يبطل به تلك المذاهب،و فيه كفاية في إبطالها عند اولي الألباب،بل إنّ فيما أشار إليه الشيخ-على ما نقلناه سابقا و حرّرناه من إثبات إنّيّتها-عنية في ذلك للمسترشد الطالب للصواب.

و بالجملة،فإبطالها لا يحتاج إلى تجشّم برهان آخر غير ما ذكر،بل إنّ هذه المذاهب

ص:122


1- في المصدر:محرّك...
2- بل النفس...
3- تتغيّر...
4- تميل...
5- الأراييح...
6- يقوله.

و الأقوال لو حملت على ظواهرها و قيل بها في النفس الناطقة الإنسانية،كانت هي في البطلان بمرتبة يستغرب من الحكماء الذين هم من أهل العقل،و كذا من العلماء الذين هم من أهل العلم،ذهابهم إليها و القول بها فيها.

في تأويل بعض تلك المذاهب المنقولة

نعم لو كان مبناها على الرمز،كما كان يقع ذلك في كلام الأقدمين كثيرا،لربّما أمكن تأويل بعضها،مثل أنّ من جعل النفس جوهرا غير جسم محرّكا لذاته،و متحرّكا بذاته، لو أراد بها كونها جوهرا مجرّدا عن المادّة في ذاته،متحرّكا من ذاته حركة رويّة و جولان، إمّا إلى المبادي العالية فيستكمل و يستفيد و يستنير،و إمّا إلى البدن فيفيد و يكمل و ينير، و أنّ شأنه إمّا إفادة الكمال أو استفادته-كما نقلنا ذلك في مسألة بقاء النفس عن أفلاطون و شيعته-لربّما أمكن أن يكون ذلك وجه صحة،و لم يبعد القول به في النفس الناطقة الإنسانيّة،فإنّه لا مخالفة فيه لما ذهب إليه المحقّقون من الحكماء،و لا لما اقتضاه الدليل.

و كذلك القول بأنّها نار أو هواء أو جسم بخاريّ أو حرارة غريزيّة أو برودة يستنشق بها أو دم،كما ذهب إلى كلّ واحد منها فريق،لو أريد به الروح الحيوانيّ الذي يقولون إنّه غير النفس الإنسانيّة و غير النفس الحيوانيّة و النباتيّة،بل إنّه حامل القوى الحيوانيّة و المطيّة الأولى للقوى النفسانيّة البدنيّة،و ما به الارتباط بين النفس و البدن.و يقولون إنّه جس لطيف نافذ في المنافذ،روحانيّ كالجرم السماويّ،و نسبته إلى لطافة الأخلاط و بخاريّتها،و لا سيّما إلى الدم،نسبة الأعضاء إلى كثافة الأخلاط،و أوّل معدن لتولّد هذا الرّوح،و أوّل عضو يحسره و يمنعه عن التفرّق،هو القلب.ثمّ ما بعده كالدماغ و الكبد؛ و لذلك كان أوّل تعلّق النفس بالقلب.و يقولون إنّه له نسبة إلى الهواء لرطوبته و لطافته، و لسهولة حركته إلى المجاري و المنافذ لكونه حاملا للقوى،و القوى لكونها من الأعراض لا يتصوّر تنقّلها من دون حامل لها،و لأنّ الهواء المستنشق إذا اختلط بذلك الروح،يصير عوض ما تحلّل منه.و كذا له نسبة إلى النار لصفائه و حرارته،و إلى الحرارة لحرارته

ص:123

الغريزية،و كون بقاء الحياة بها.و إلى البرودة للتنفّس و الاستنشاق بالمبرّد ليحفظ جوهر النفس.

و بالجملة،لو اريد بذلك الروح الحيوانيّ الذي يقوله الأطبّاء و الحكماء-كما تبيّنوا حقيقته في موضعه،و سيأتي الكلام فيه فيما بعد في موضع يليق به إن شاء اللّه تعالى- لربّما أمكن أن يكون له وجه صحّة.

و قد تأوّل صدر الأفاضل هذه الأقاويل بوجه آخر هو أيضا مرموز.

قال (1):«النفس من حيث نفسيّتها نار معنويّة من نارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (2).و لهذا خلقت من نفخة الصور،فإذا نفخ فى الصور المستعدة للاشتعال النفسانيّ،تعلّقت بها شعلة ملكوتيّة نفسانيّة،و النفس لعدم (3)استكمالها و ترقّيها إلى مقام الروح،يصير نارها نورا محضا لا ظلمة فيه و لا إحراق معه،و عند تنزّلها إلى مقام الطبيعة يصير نورها نارا، مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (4).

ثمّ قال:النّفخة نفختان:نفخة تطفئ النار،و نفخة اخرى تشعلها،فوجود النفس و بقاؤها من النفس الرحمانيّ،و هو انبساط الفيض عن مهبّ رياح الوجود،و كذا زوالها و فناؤها،و تحت هذا سرّ آخر.فعلم أنّ ما ورد في لسان بعض الأقدمين«أنّ النفس نار» أو«شرر»أو«هواء»،لا يجب أن يحمل على التجوّز في اللفظ،و كذا الحال فيما صدر عن صاحب شريعتنا عليه السلام».انتهى كلامه،و هو(ره)أعلم بما قال.

تأويل بعض الاحاديث الواردة في الروح

ثمّ إنّه بما احتملناه في تأويل تلك الأقاويل أو نحوه،ربّما أمكن تأويل ما ورد في أخبار الصادقين عليهم السلام في حال الروح و وصفه و بيان حقيقته.

ص:124


1- -الشواهد الربوبيّة198/. [1]
2- -الهمزة6/ و 7. [2]
3- في المصدر:بعد استكمالها.
4- -الهمزة8/ و 9. [3]

مثل ما رواه الشيخ الطبرسيّ(ره)في كتاب«الاحتجاج»عن أبي جعفر محمّد بن علي الثاني عليه السلام،قال (1):أقبل امير المؤمنين عليه السلام ذات يوم معه (2)الحسن بن علي عليه السلام و سلمان الفارسي و امير المؤمنين عليه السلام متّكئ على يد سلمان، فدخل المسجد الحرام فجلس،إذ أقبل (3)رجل حسن الهيئة و اللباس،فسلّم (4)على أمير المؤمنين عليه السلام،فردّ عليه السلام،فجلس ثمّ قال:يا أمير المؤمنين أسألك عن ثلاث مسائل،إن أخبرتني بهنّ،علمت أنّ القوم ركبوا من أمرك ما أفضى إليهم أنّهم ليسوا بمأمونين في دنياهم و لا في آخرتهم،و إن لم تخبرني،علمت أنّك و أنّهم في شرع سواء، فقال أمير المؤمنين عليه السلام:سلني عمّا بدا لك.فقال:أخبرني عن الرجل إذا نام،أين يذهب روحه؟و عن الرجل كيف يذكر و ينسى؟و عن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام و الأخوال؟

فالتفت أمير المؤمنين عليه السلام إلى أبي محمّد الحسن بن علي عليه السلام،فقال:

يا با محمّد (5)أجبه،فقال عليه السلام:أمّا ما سألت عنه من أمر الإنسان إذا نام أين يذهب (6)روحه،فإنّ روحه متعلّقة بالريح،و الرّيح متعلّقة بالهواء (7)،فإذا نام صاحبها جذبت تلك الروح الرّيح،و جذبت تلك الريح الهواء فرجعت و سكنت (8)في بدن صاحبها.و إن لم بأذن اللّه عزّ و جلّ بردّ تلك الروح على صاحبها،جذب (9)الهواء الريح،فجذبت الريح الروح،فلم تردّ على صاحبها إلى وقت ما يبعث».

و الحديث طويل نقلنا منه موضع الحاجة،و يعلم من آخره أنّ ذلك السائل كان هو الخضر عليه السلام.

و مثل ما رواه الشيخ المذكور في ذلك الكتاب من حديث طويل،روى فيه سؤال الزنديق الذي سأل أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام عن مسائل كثيرة،

ص:125


1- -الاحتجاج للطبرسي 266/1،طبع مؤسسة [1]الأعلى-بيروت،الطبعة الثانية،1403ه.
2- في المصدر:و معه...
3- فأقبل...
4- فسلّم على...و هم...
5- أبا محمّد...
6- تذهب...
7- بالهواء الى وقت ما يتحرّك صاحبها لليقظة، فإن أذن اللّه بردّ تلك الروح على صاحبها،جذبت...
8- فسكنت...
9- جذبت الهواء.

و ما أجابه عليه السلام عنه،قال:قال (1):أخبرني عن السراج إذا انطفئ أين يذهب نوره؟ قال:يذهب فلا يعود.قال:فما أنكرت أن يكون الإنسان مثل ذلك،إذا مات و فارق الروح البدن لم يرجع إليه أبدا،كما لا يرجع ضوء السراج إليه أبدا إذا انطفئ.قال:لم تصب القياس،إنّ النار في الأجسام كامنة،و الأجسام قائمة بأعيانها،كالحجر و الحديد،فإذا ضرب أحدهما بالآخر،سطعت (2)من بينهما نار يقتبس (3)منه سراج له الضوء،فالنار ثابتة في أجسامها،و الضوء ذاهب،و الروح:جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا،و ليس بمنزلة السّراج الذي ذكرت.إنّ الذي خلق في الرحم جنينا من ماء صاف و ركّب فيه ضروبا مختلفة:من عروق و عصب و أسنان و شعر و عظام و غير ذلك هو (4)يحييه بعد موته، و يعيده بعد فنائه.قال:فأين الروح؟قال:في بطن الأرض،حيث مصرع البدن إلى وقت البعث.قال:فمن صلب فأين روحه؟قال:في كفّ الملك الّذي قبضها حتّى يودعها الأرض.قال:فأخبرني عن الروح أغير الدم؟قال:نعم،الروح على ما وصفت لك،مادّتها من الدم،و من الدم رطوبة الجسم و صفاء اللون و حسن الصوت و كثرة الضحك.فإن اجمد (5)الدم،فارق الروح البدن.قال:فهل توصف (6)بخفّة و ثقل و وزن؟قال:الروح بمنزلة الريح في الزقّ،فإذا انفخت فيه امتلأ،الزقّ منها،فلا يزيد في وزن الزقّ ولوجها فيه،و لا ينقصه (7)خروجها منه؛كذلك الروح ليس لها ثقل و لا وزن.قال فأخبرني ما جوهر الريح؟ قال:الريح هواء إذا تحرّك يسمّى ريحا،و إذا (8)سكن يسمّى هواء،و به قوام الدنيا، و لو كفّت الريح ثلاثة أيّام لفسد كلّ شيء على وجه الأرض و نتن ذلك، (9)،لأنّ الريح بمنزلة المروحة،تذبّ و تدفع الفساد عن كلّ شيء و تطيّبه،فهي بمنزلة الروح إذا خرج عن البدن و تغير (10)،و فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (11).

قال:أ فيتلاشى (12)الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟قال:بل هو باق إلى وقت

ص:126


1- -الاحتجاج للطبرسيّ 349/2. [1]
2- في المصدر:سقطت...
3- تقتبس منها...
4- و هو يحييه...
5- فإذا جمد...
6- يوصف...
7- و لا ينقصها...
8- فإذا...
9- و ذلك...
10- عن البدن،نتن البدن و تغيّر...
11- -المؤمنون14/. [2]
12- أ فتتلاشى.

ينفخ في الصور،فعند ذلك تبطل الأشياء و تفنى،فلا حسّ و لا محسوس،ثمّ اعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها،و ذلك أربعمائة سنة يشيب (1)فيها الخلق،و ذلك بين النفختين.

قال و أنّى له البعث،و البدن قد بلي و الأعضاء قد تفرّقت،فعضو ببلدة يأكلها سباعها، و عضو بأخرى تمزّقها (2)هوامّها،و عضو قد صار ترابا بني به من (3)الطين حائط؟!قال:

الذي (4)أنشأه من غير شيء،و صوّره على غير مثال كان سبق إليه،قادر أن يعيده كما بدأه.

قال:أوضح لي ذلك!

قال:إنّ الروح مقيمة في مكانها،روح المحسن في ضياء و فسحة،و روح المسيء في ضيق و ظلمة،و البدن يصير ترابا (5)منه خلق،و ما يقذف (6)به السباع و الهوامّ من أجوافها ممّا أكلته و مزّقته كلّ ذلك في التراب،محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض،و يعلم عدد الأشياء و وزنها،و إنّ تراب الروحانيّين بمنزلة الذهب في التراب،فإذا كان حين البعث،مطرت الأرض مطر النشور،فتربو الأرض،ثمّ تمخض مخض السّقاء،فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء،و الزبد من اللبن إذا مخض،فيجمع (7)تراب كلّ قالب (8)فينقل بإذن اللّه تعالى القادر إلى حيث الروح، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها،و يلج (9)الروح فيها،فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا»و الحديث طويل نقلنا منه موضع الحاجّة.

و مثل ما رواه الشيخ المذكور في ذلك الكتاب (10)عن حمران بن أعين قال:سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ رُوحٌ مِنْهُ (11)قال:هي مخلوقة خلقها اللّه بحكمته في آدم و عيسى (12)عليهما السلام.

و مثل ما رواه فيه (13)عن محمّد بن مسلم،قال:سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه

ص:127


1- في المصدر:يسبت...
2- تمزّقه...
3- مع الطين...
4- قال:إنّ الذي...
5- ترابا كما منه...
6- تقذف...
7- فيجتمع...
8- قالب إلى قالبه،فينتقل بإذن...
9- و تلج...
10- -الاحتجاج 323/2. [1]
11- -النساء 323/2.
12- و في عيسى.
13- -الاحتجاج 323/2. [2]

عزّ و جلّ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (1)،كيف هذا النفخ؟قال:إنّ الروح متحرّك كالريح، و إنما (2)سمّي روحا لأنّه اشتقّ اسمه من الريح.و إنّما أخرجه على (3)لفظة الروح لأنّ الروح متجانس للرّيح،و إنّما إضافة إلى نفسه لأنّه اصطفاه على سائر (4)الأرواح،كما اصطفى بيتا من البيوت،فقال:و«بيتي (5)»،و قال لرسول من الرّسل:«خليلي»و أشباه ذلك (6)،و كلّ ذلك مخلوق مصنوع مربوب مدبّر.

و هاتان الروايتان الأخيرتان قد رواهما الشيخ الكليني(ره)أيضا في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السلام (7).

و مثل ما رواه الكليني(ره)فيه عن أبي حمزة،عن أبي جعفر عليه السلام، قال:سمعته يقول:المؤمن أخو المؤمن لأبيه و أمّه،لأنّ اللّه تعالى خلق المؤمنين من طينة الجنان،و أجرى في صورهم من ريح الجنّة،فلذلك هم إخوة لأب و أمّ.انتهى.

و بيان التأويل في هذه الاخبار،-و اللّه و رسوله و حججه أعلم-أمّا في الخبر الأوّل فيستدعي تمهيد مقدّمة،و هي:

إنّه من المعلوم المقرّر لدى العقلاء،المسلّم عند الأطباء،أنّ من الأسباب الستّة الضروريّة،الهواء المحيط بالأبدان،و يضطرّ إليه الإنسان و الحيوان لتعديل الروح الحيواني الذي أشرنا إلى بيان حقيقته،و إلى أنّه هو المطيّة الأولى للقوى النفسانيّة،و أوّل شيء من البدن يتعلّق به النفس الإنسانيّة،و أنّ هذا التعديل يحصل و يتمّ بفعلين:أحدهما الترويح،و هو يحصل بالاستنشاق،بأن ينبسط القلب و الحجاب و الرية و الشرائين كلّها، فتمتلئ هواء باردا بالقياس إلى الروح القلبيّ المتسخّن بالاحتقان و الحركة.و الفعل الثاني إخراج فضلات هذا الروح،و هي الأبخرة المحترقة بردّ النفس،بأن ينقبض الحجاب و الرية و الشرائين،فيندفع تلك الفضلات و الأبخرة،بمنزلة زقّ الحدّادين،يمتلئ هواء

ص:128


1- -ص72/.
2- في المصدر:إنّما...
3- عن لفظة...
4- ساير...
5- فقال:«بيتي»...
6- «خليلي»،و أشباه ذلك مخلوق مصنوع.
7- -أصول الكافي 103/1-104،طبع المكتبة [1]الإسلاميّة-طهران،1388ه.

بالانبساط،و يخلو بالانقباض.و أنّه لو لا هذان الفعلان لاحترق الروح القلبيّ،و استحال إلى الناريّة،كما أنّه لو كان أحدهما دون الآخر،لربما أدّى إلى فساد ذلك الروح و فنائه، فإنّه لو كان هناك استنشاق دون إخراج الفضلات،لربّما أدّى إلى تبريد الروح القلبيّ تبريدا غير مناسب لمزاجه،فيفسد.و كذا لو كان هناك إخراج الفضلات من دون استنشاق هواء أصلا،لربّما أدّى إلى إخراج الروح بالكليّة،أو إلى تسخينه تسخينا لا يناسب مزاجه، فيفنى.

و بالجملة،أنّ ذلك الهواء المستنشق،مع أنّه مروّح للروح الحيوانيّ غذاء له،إمّا بانفراده-كما هو عند قوم-و إمّا مع البخار اللطيف الحاصل من لطافة الأخلاط كما هو عند آخرين،فيقوم بدل ما يتحلّل من الروح.و أنّه ما دام الهواء المستنشق معتدلا صافيا عن الشوائب و المكدّرات لا يخالط بخار آجام أو بطائح أو آسن الماء أو نتن الجيف أو أبخرة رديّة و أشجار خبيثة أو غبار مترادف أو دخان،كان حافظا للصحة إن كانت حاصلة،أو محدثا لها إن لم تكن حاصلة.و إن تغيّر بسبب هذه المغيّرات كلّها أو بعضها،تغيّر حكمه؛سواء كانت تغيّراته طبيعيّة كالتغيرات الفصليّة،أو غير طبيعيّة.إمّا مضادّة للطبيعة،كالتغيّرات الوبائية،أو غير مضادّة لها،كالتغيّرات الحاصلة بسبب الجبال و البحار.و لذلك كان كلّ فصل يورث الأمراض المناسبة له،و يزيل الأمراض المضادّة له، كما فصّل ذلك فى الكتب الطبيّة.

و كذلك من المعلوم المقرّر عندهم،أنّ النوم و اليقظة اللّذين هما من الستّة الضروريّة، و إن كان النوم أشبه بالسكون،و اليقظة أشبه بالحركة،من حيث إنّ السكون يفعل أفعالا شبيهة بأفعال النوم،مثل الراحة و نضج الغذاء،و إنّ اليقظة يتبعها حركات الحواسّ،و لأنّ النوم يرطّب البدن،بمعنى أنّ البدن يغتذى فيه أكثر و أجود،لقلّة التحلّل فيه.و السكون أيضا يرطّب البدن بهذا المعنى؛و اليقظة تجفّف كالحركة للتحليل؛إلاّ أنّه في كلّ من النوم و اليقظة حركة للروح الحامل للقوى و الحرارة الغريزيّة.

أمّا في اليقظة فإلى خارج،فلذلك يتبعها حركة الحواسّ،و أمّا في النوم،فحيث كانت

ص:129

فيه الحواسّ معطّلة،و كان النوم عبارة عن رجوع الحرارة الغريزيّة إلى الباطن طلبا للإنضاج،يغور الروح الحامل للقوى و الحرارة الغريزيّة المنبثّ في الأعضاء إلى داخل، فيبرّد الظاهر.

و لذلك يحوج النوم إلى دثار أكثر مما فى اليقظة،حيث إنّه يلزم من توجّه الروح و الدم و الحرارة الغريزيّة،إمّا إلى داخل و إمّا إلى خارج،سخونة ما تحرّكت إليه،و برودة ما تحرّكت منه.

و لذلك أيضا إذا لم يكن خلاء في المعدة بل صادف النوم خلطا كثيرا مستعدّا لأن يصير دما جيّدا بالنضح،كان إفراط النوم مرطّبا و مبرّدا.أمّا الترطيب،فلما يلزم ذلك من كثرة الرطوبات بسبب قلّة تحلّل الفضلات،التي من شأنها أن تتحلّل فى اليقظة؛و لذلك يحدث أيضا بلادة القوّة النفسانيّة.و أمّا التبريد،لأنّ الأرطب ممّا ينبغي يجعل البدن أبرد ممّا ينبغي،بسبب حقن الحرارة و حبسها.و إذا وجد النوم خلاء البدن،كان مبرّدا و مجفّفا بانحلال الروح بسبب تحلّل الرطوبة الغريزيّة،فيتبعه تحلّل الروح و الحرارة الغريزيّة.

و إذا وجد غذاء مستعدّا للهضم-كالكيلوس مثلا-هضمه،أو خلطا مستعدّا للنضج -كالبلغم الفجّ-نضّجه،فيسخن لا محالة.و إن وجد خلطا أو غذاء عاصيا على الهضم و النضج،كالبلغم الكثير الفجاجة،الغير المستعدّ للاستحالة إلى الدمويّة،و كالغذاء الردي الكيلوس و الكيموس،كالسمك الغليظ،نشره،أي نشر النوم ذلك بسبب تحريك الحرارة إيّاه،فيبرّد البدن لا محالة.

كما أنّ السّهر المفرط يضعّف الدماغ و يفسد مزاجه إلى ضرب من اليبوسة،و ذلك لكثرة تحلّل الرطوبات بالحرارة التي تكون في الظاهر،بسبب تحرّك الأرواح إلى جهته، و بسبب حركة الحواسّ في إدراكها.و ربّما يؤدّي إلى اختلاط العقل بسبب إفراط سوء المزاج،لأنّ التصرّفات العقليّة تحتاج إلى ضرب من الاعتدال.

و كذلك السهر المفرط يسيء الهضم بتحليل القوّة لتحلّل الرطوبة الغريزيّة و الحرارة.

إلى غير ذلك من العلامات التي سببها حركة الروح،إمّا إلى داخل،كما فى النوم،و إمّا الى

ص:130

خارج،كما في اليقظة.

و بعبارة أخرى أنّ اليقظة حالة تكون النفس فيها مستعملة للحواسّ و القوى المحرّكة من ظاهر،فيكون النوم عدم هذه الحالة،فتكون النفس فيه قد أعرضت عن الجهة الخارجة إلى الجهة الداخلة.و إعراضها لا يخلو من أحد وجوه:إمّا أن يكون الكلال عرض لها من هذه الجهة،و إمّا أن يكون لمهمّ عرض لها في تلك،و إما أن يكون لعصيان في تلك الآلات إيّاها.

و الذي يكون من الكلال،هو أن يكون الروح قد تحلّل و ضعف فلا يقدر على الانبساط،فيغور و يتبعها (1)القوى النفسانيّة.و هذا الكلال قد يعرض من الحركات البدنيّة، و قد يعرض من الأفكار،و قد يعرض من الخوف؛فإنّ الخوف قد يعرض منه النوم،بل الموت.و ربما كانت الأفكار تنوّم لا من هذه الجهة،بل بأن تسخن الدماغ،فينجذب الرطوبات إليه،و يمتلئ الدماغ فيتنوّم بالترطيب.

و الذي هو لمهمّ له في باطن،هو أن يكون الغذاء و الرطوبات قد اجتمعت من داخل، فيحتاج إلى أن يفسدها الروح بجمع الحارّ الغريزيّ،ليفي (2)بهضمها التامّ،فيعطّل الخارج.

و الذي يكون من جهة الآلات،فأن يكون الأعصاب قد امتلأت و انسدّت من أبخرة و أغذية تنفذ فيها إلى أن تنهضم،إذ الروح ثقلت عن الحركة لشدّة الترطيب.

و على هذا فيكون اليقظة لأسباب مقابلة لهذه.من ذلك أسباب تجفّف،مثل الحرارة و اليبوسة؛و من ذلك جمام و راحة حصلت؛و من ذلك فراغ عن الهضم،فيعود الروح منتشرا كثيرا؛و من ذلك حالة رديّة تشغل عن الغور،بل تستدعيه إلى خارج،كغضب أو خوف لأمر قريب،أو مقاساة لمادّة مؤلمة،و غير ذلك من الأسباب،و اللّه تعالى أعلم بالصواب.

ثمّ إنّه حيث كانت في كلّ من النوم و اليقظة حركة للأرواح،إما إلى داخل،و إمّا إلى

ص:131


1- -و يتبعه خ ل.
2- -ليفيء خ ل.

خارج؛بل حركة للقوى النفسانيّة أيضا إلى جهة حركة الأرواح بتبعيّتها،لكونها كصور الأرواح،و كون الأرواح حاملة لها تتحرّك بحركتها؛و كانت الحركة موجبة لحصول سخونتها فى جهة حركتها،و كانت سخونتها موجبة لتحلّلها،لكونها أجساما لطيفة في الغاية حارّة سهلة التحلّل جدّا،فلا تسمح النفس بتحريكها الى جهة،إلاّ إذا كان معها ما يمدّها،ليتدارك ما تحلّل منها بالحركة و السخونة؛و ذلك الممدّ هو الجسم الذي من شأنه أن يكون غذاء للأرواح،و بدلا عمّا تحلّل منها،كالدم الصافي الشبيه بجوهرها،و الهواء المستنشق،كما ذكرنا.

و بالجملة،فهذا الممدّ ممّا لا بدّ منه في بقاء تلك الأرواح و حفظ صحّتها و مزاجها الموافق لها،و لكونها مطيّة للنفس و متعلّقة لها،بحسب تفاوت مراتب احتياج الأرواح إلى ذلك الممدّ،لتفاوت مراتب تحلّلها،كما في حالات النوم و اليقظة،و كما في النوم بالنسبة إلى اليقظة؛فإنّ ذلك التحلّل في النوم ربّما كان أكثر،لكون السخونة التي هي موجبة للتحلّل فيه أكثر،لحصولها بالحركة إلى الداخل.و كذا بسبب احتقان الروح و احتباسه في الداخل،بخلاف اليقظة؛فإنّ السخونة في اليقظة-من حيث هي يقظة-إنّما هي بسبب الحركة خاصّة؛و لا احتباس هاهنا إلاّ أن يكون بسبب من خارج،كما في المخنوق.

و الحاصل أنّ هذا الممدّ ممّا لا بدّ منه،و أنّه لو كان حاصلا،لأمكن بقاء الأرواح و بقاء الحياة؛و لو انتفى لربّما أدّى إلى زوال الأرواح،أو إلى تغيّر مزاجها و انقطاع علاقة النفس عنها و عن البدن،فيحصل الموت؛و كلّ ذلك بإذن اللّه تعالى.

و اذا تمهّدت هذه المقدّمة،اتّضح لك أنّه يمكن تأويل هذا الحديث الشريف بأحد وجهين:أحدهما أمّا ما سألت من أمر الإنسان إذا نام أين يذهب روحه؟فإنّ روحه،أي روحه الحيوانيّة التي هي المطيّة الأولى لروحه الإنسانيّة و ما به التعلّق بين النفس الإنسانيّة الناطقة و بين البدن،متعلّقة لتعديلها كما ذكر بالروح،أي بالهواء المستنشق الذي هو في حركته الانبساطيّة و الانقباضيّة كالريح،بل هو الريح نفسها؛لأنّ الريح ليست

ص:132

إلاّ هواء متحرّكا،و الهواء المستنشق أيضا كذلك.و تلك الريح متعلّقة بالهواء،أي بمطلق الهواء،لكونها بعضا منه و مستمدّة منه.فإذا نام صاحبها و أذن اللّه تعالى في بقاء حياة صاحبها،و في ردّ تلك الروح إلى (1)بدنه،و حصل لها مدد من داخل-كما ذكر-جذبت تلك الروح الريح،أي الهواء المستنشق،و جذبت تلك الريح الهواء،أي قدرا منه يكون مددا لها،و به يقوى الاستنشاق،فتقوى الروح.فرجعت بإذن اللّه تعالى بعد خروجها للاستنشاق إلى داخل،فسكنت في بدن صاحبها؛و بقيت علاقة النفس الإنسانيّة بالبدن لبقاء ما به الارتباط بينها و بين البدن فيه.و إن لم يأذن اللّه عزّ و جلّ برّد تلك الروح إلى صاحبها،و لم يكن لها مدد من داخل أو من خارج،جذب الهواء تلك الريح جذب الكلّ للبعض،فجذبت تلك الريح الروح،لكونها متعلّقة بها مصاحبة معها محتاجة إليها، فتوجّهت بكلّيّتها إلى خارج،فلم تردّ على صاحبها إلى وقت ما يبعث،و لم ترجع إلى بدنه،و انقطعت أيضا علاقة النفس الإنسانيّة عن بدن صاحبها،لزوال ما به الارتباط عنه، إلى أن يأذن اللّه تعالى بالعود في يوم المعاد.

الوجه الثاني،أنّ روحه-أي روحه الإنسانيّة-متعلّقة بالريح،أي أنّها متعلّقة أوّل تعلّق بالروح الحيوانيّة التي هي جسم لطيف رقيق مجانس للريح في صفاتها و أحوالها، و تلك الريح-أي الروح الحيوانيّة-متعلّقة لأجل تعديلها بالهواء لأجل الاستنشاق،فإذا نام صاحبها و ضعفت علاقتها عن البدن و عن تلك الروح الحيوانيّة التي هي مطيّتها الاولى،و توجّهت إلى خارج البدن و مالت إلى الارتباط بما يجانسها من موجودات العالم الأعلى،و توجّهت الروح الحيوانيّة أيضا إلى خارج بتبعيّتها،أو لأجل تعديلها و استنشاقها للهواء.فحينئذ،إن أذن اللّه تعالى في ردّها إلى بدن صاحبها و بقاء علاقتها بالبدن و بمطيّتها الاولى،قويت علاقتها بالبدن،و رجعت إليه،و جذبت تلك الروح-أي الإنسانيّة-الريح-أي الحيوانيّة-جذب الراكب لمطيّتها،و جذب المتبوع لتابعها،و المدبّر لما يدبّره؛و جذبت تلك الريح الهواء لأجل تعديلها و استنشاقها جذب المجانس لما

ص:133


1- -في خ ل.

يجانسه،فرجعت الروح الإنسانيّة إلى البدن،و رجعت الروح الحيوانيّة أيضا إليه بتبعيّتها، فسكنت في بدن صاحبها،و بقيت علاقتها بالبدن و بمطيّتها كما كانت أوّلا.و إن لم يأذن اللّه عزّ و جلّ بردّ تلك الروح على صاحبها،جذب الهواء الريح-أي الروح الحيوانيّة- جذب المجانس لما يجانسه،فجذبت الريح الروح جذب المطيّة لراكبها،فلم تردّ على صاحبها إلى وقت ما يبعث.و هذا الذي ذكرنا هو،-و اللّه أعلم-وجه التأويل في هذا الحديث الشريف.

و منه يعلم وجه التأويل في الحديث الثاني أيضا،فإنّ قوله عليه السلام فيه:«و الروح جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا»لعلّه أراد به،أنّ الروح-أي الروح الحيوانيّ-جسم لطيف كما وصفناه،قد ألبس قالبا كثيفا،و جعل ذلك القالب متعلّقا له نوع تعلّق.و أنّ ذلك القالب الكثيف هو البدن،و هو-خصوصا أعضاؤه الرئيسة كالقلب و الدماغ و الكبد- معدن لتولّد ذلك الروح الحيوانيّ،و أنّ تعلّق الروح الإنسانيّة التي هي جوهر مجرّد عن المادّة،إنّما يكون أوّلا بذلك الجسم اللطيف،و بتوسّطه بالبدن.

و بما ذكرنا يتّضح شرح باقي الحديث الشريف،إلاّ أنّه حيث كانت فيه إشارات إلى امور،فلا بأس أن نبيّنها.

فنقول:إنّ قوله عليه السلام فى جواب سؤال السائل:«فأين الروح؟»

إشارة إلى أنّه إذا مات الإنسان و فني بتلاشي أعضائه و تفرّق أجزائه،يبقى الروح، أي ذلك الجسم اللطيف،بمادّته بل بصورته أيضا،في بطن الأرض،أي في قبره،و حيث مصرع بدنه و مسقط الأجزاء البدنيّة منه إلى وقت البعث.و أنّه لا امتناع في ذلك،فإنّ ذلك الجسم اللطيف ليس عرضا قائما بموضوع،أي البدن،حتّى يكون فناء موضوعه و تلاشي أجزائه موجبا لانعدامه كما هو شأن العرض،بل هو جوهر قائم بذاته،و إن كان معدن تولّده أجزاء البدن كلّها أو بعضها.فإنّه ليس يلزم من انعدام معدن التولّد انعدام ما يتولّد منه الذي هو جوهر قائم بذاته،بل يمكن أن يكون ما يتولّد منه باقيا و متعلّقا نوع تعلّق بالمادّة البدنيّة،كما دلّ عليه قوله عليه السلام في الحديث.

ص:134

و هذا كما أنّ النفس الإنسانيّة المجرّدة،التي هي متعلّقة بالبدن تعلّق تدبير و تصرّف، حيث كانت جوهرا قائما بذاته،لا يلزم من انعدام متعلّقها-أي البدن-انعدامها؛بل هي باقية بعد خرابه،كما دلّت عليه الأدلّة و النصوص على ما أسلفنا بيانها.بل إنّه ربّما دلّ الدليل على بقاء تعلّقها أيضا-نوع تعلّق-بالبدن من حيث المادّة البدنيّة و أجزائه الأصلية الباقية التي تدلّ على بقائها النصوص الكثيرة،على ما مضى بيانها.و يدلّ عليه آخر هذا الحديث أيضا،و كذا من حيث بقاء هذا الجسم اللطيف الذي هو من البدن أيضا، و يدلّ على بقائه هذا القول منه عليه السلام.

و بيان ذلك الدليل الدالّ على بقاء تعلّقها كذلك،أنّ تعلّق النفس الإنسانيّة بالبدن لمّا كان من جهتين:من جهة الصورة البدنيّة،و من جهة مادّته.فحيث بطلت الصورة البدنيّة بخراب البدن و لم تبطل المادّة،يلزم منه بقاء تعلّقها به من الجهة الثانية،و إن كان بطل تعلّقها به من الجهة الاولى.و كذلك حيث كان تعلّقها أوّلا و بالذّات بذلك الجسم اللطيف الذي في البدن،و ثانيا و بالواسطة بالبدن كلّه؛و كان المفروض بقاء ذلك الجسم اللطيف، يلزم منه بقاء تعلّقها به في الجملة،و إن لم يكن هو في ضمن البدن بصورته.

و ممّا ذكرنا يظهر سرّ ما ورد من زيارة القبور و مصارع الأبدان و الدعاء فيها.فتبصّر.

و قول عليه السلام في جواب سؤال السائل:«فمن صلب فأين روحه؟».

إشارة إلى أنّ مقبوض الملك الذي هو قابض الأرواح،إنّما هو ذلك الجسم اللطيف، و ينبغي أن يحمل على أنّه هو المقبوض أوّلا،و أنّ النفس الإنسانيّة المجرّدة مقبوضة بتوسّطه،حيث إنّها متعلّقة أوّلا و بالذات بذلك الجسم اللطيف،و بتوسّطه بالبدن كلّه.فإذا قبض هو،كانت هي مقبوضة أيضا و منقطعة علاقتها عن البدن الذي كان هو معه أو فيه انقطاعا من حيث الصورة البدنيّة،و إن كان تبقى علاقتها به من حيث المادّة و الأجزاء الأصليّة الباقية،و من حيث ذلك الجسم اللطيف الباقي،كما عرفت بيانه.

و كذلك في هذا القول منه عليه السلام إشارة إلى أنّ الإنسان،سواء كان مصلوبا أم غيره و سواء كان مأكول السباع أم غيره،و سواء كان مدفونا أم غيره؛فهذا الجسم اللطيف

ص:135

منه مقبوض بيد الملك،و باق في مصرع بدنه في بطن الأرض،حيث كان مسقط أجزاء بدنه كلّها أو معظمها أو بعضها،أو مسقط أجزائه الأصليّة،أو مودع في الأرض حيث أذن اللّه تعالى في إيداعه،و إن لم يكن مسقط بدنه،و إن لم يكن باطن الأرض بل ظاهرها.

و قوله عليه السلام في جواب سؤاله:«فأخبرني عن الروح،أغير الدم؟»

إشارة إلى أنّ ذلك الجسم اللطيف مادّته و معدن تولّده الدم،كما قاله الحكماء،من أنّه جسم بخاريّ يتولّد من الدّم الذي في القلب و ما يليه في ذلك.

و قوله عليه السلام في جواب سؤاله (1)«فهل توصف بخفّة أو وزن أو ثقل»إشارة إلى أنّه مع كونه متولّدا من الدم،مجانس للريح في صفاته و أحواله و خواصّه كما بيّنه عليه السلام و سبقت الإشارة إليه.

و قوله عليه السلام في جواب سؤاله:«أ فيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟»إشارة أيضا إلى بقائه بمادّته و صورته إلى يوم ينفخ في الصور،و أنّ المتلاشي هو أجزاء البدن.

و قوله عليه السلام:«فعند ذلك تبطل الأشياء و تفنى»لعلّ المراد به-و اللّه أعلم- بطلان الأشياء بصورها،لا انعدامها بالمرّة،كما حقّقنا القول فيه فيما سبق،فتذكّر.

و قوله عليه السلام في جواب سؤاله:«و أنّى له البعث،و البدن قد بلي و الأعضاء قد تفرّقت-إلى آخره-»إشارة إجماليّة إلى ما يرتفع به استبعاد السائل للبعث و إلى كيفيّة العود و الحشر و هي أنّ القادر الّذي أنشأ الإنسان من غير شيء،و صوّره على غير مثال كان سبق إليه،قادر أن يعيده كما بدأه،أي أن يعيد الأمر الباقي منه،و يجمع المتفرّقات منه،فيصوّر مرّة اخرى كما بدأه من غير شيء،و إن كان البدن قد بلي و الأعضاء قد تفرّقت،فعضو ببلدة يأكله سباعها،و عضو بأخرى تمزّقه هوامّها،و عضو قد صار ترابا بني به من الطين حائط؛بل إنّ إعادته على هذا الوجه أهون عليه من البدء،كما قال تعالى:

وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ

ص:136


1- -في المتن«جوابه»،و الظاهر ما أثبتناه.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)،أي أنّه أهون عليه في ظاهر الحال و بالنظر إلى ما يراه القادرون- غيره تعالى-بالنسبة إلى مقدوراتهم،و إن كانت قدرته تعالى لا يختلف حالها في الواقع، بالقياس إلى مقدوراته بالأهونيّة و غيرها.

ثمّ انّ ما ذكره عليه السلام في الإيضاح،إشارة تفصيليّة،فيها بيان الأمر الباقي من الإنسان،من روحه و أجزاء بدنه بعد خراب بدنه،و كذا بيان كيفيّة البعث.

و بيان الأوّل:أنّ الروح،أي ذلك الجسم اللطيف،باقية بعد خراب البدن،مقيمة في مكانها الذي قدّره اللّه تعالى لها،أي في مصرع بدنه و مسقط أجزائه،أو فيما أودعه الملك بإذن اللّه تعالى،روح المحسن في ضياء و فسحة،و روح المسيء في ضيق و ظلمة.

و ينبغي أن يحمل على أنّ النفس الإنسانيّة المجرّدة أيضا باقية متعلّقة نوع تعلّق بذلك الجسم اللطيف،مقيمة معه نوع إقامة في ذلك المكان،إمّا في ضياء و فسحة كما في المحسن،أو في ضيق و ظلمة كما في المسيء،و لعلّه عليه السلام لم يذكره،لأنّه لم ير مصلحة في تحقيق حقيقة المجرّد و بيان أحواله و صفاته و خواصّه لذلك السائل،حيث كان هو الزنديق الذي لم يكن من أهل العلم،و لم يكن يتيسّر له فهم هذه المعاني.بل ربّما كان بيان ذلك له موجبا لزيادة غباوته و عناده و بعده عن الحقّ.و كأنّه لذلك قال تعالى:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (2)بناء على ما فسّره بعض المفسّرين.حيث إنّهم سألوه عن حقيقة الروح المجرّدة الإنسانيّة التي تدبّر بدن الإنسان و بها حياته،و عن أحوالها و صفاتها،فأجيبوا بأنّها أبدعت و أنشأت من أمر اللّه تعالى،إشعارا بأنّهم ليسوا ممّن يتيسّر لهم علم ذلك،كما قال تعالى: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً (3)بل إنّما ينبغي لهم أن يعلموا أنّها من أمر اللّه تعالى و من مبدعاته،مع الإيذان بتجرّدها عن المادّة أيضا، أي كونها من الإبداعيّات الكائنة من غير مادّة و تولّد من أصل،كأعضاء جسد الإنسان.

ص:137


1- -الروم27/. [1]
2- -الإسراء85/. [2]
3- -الإسراء85/. [3]

لأنّ المادّيّ لا يوجد بمجرّد أمر اللّه تعالى،كما هو ظاهر الآية؛بل إنّه و إن كان يوجد بأمر اللّه تعالى،لكن لا به وحده،بل بتوسّط المادّة أيضا،و إن كانت المادّة أيضا موجودة بأمر اللّه تعالى.و كأنّه لذلك اصطلح الحكماء على أنّ المجرّدات من عالم الأمر،و أنّ المادّيات من عالم الخلق.فافهم.

فإن قلت:ما ذكرت من أنّ الروح الإنسانيّة مقيمة مع الرّوح الحيوانيّة في مصرع بدن الإنسان،أو في موضع من الأرض أودعت الروح الحيوانيّة فيه،مخالف لما دلّت الأخبار الكثيرة عليه،من أن الأرواح الإنسانيّة على صور أبدانهم فى قوالب مثاليّة،و أن أرواح المؤمنين في ظهر الكوفة و في شاطئ الفرات،و أرواح الكفّار في وادي برهوت.

قلت:لا مخالفة في ذلك و لا منافاة،فإنّ الروح الإنسانيّة حيث كانت مجرّدة عن المادّة،و المجرّد ليس له في ذاته مكان خاصّ أو وضع خاصّ كما للمادّيّات،فيمكن أن يكون لها تعلّقان:أحدهما بذلك القالب المثالي،و الآخر بمصرع بدنه،و كانت هي في ضمن كلّ منهما،إمّا في ضياء و فسحة كما في روح المحسن،أو في ضيق و ظلمة،كما في روح المسيء،و بذلك ينبغي أن يتأوّل ما ورد من أنّ ملك الموت يقبض في ساعة واحدة أرواح جمع كثير و جمّ غفير من الخلائق،مع أنّ بعضهم في المشرق و بعضهم في المغرب.

و ما ورد من أنّه ما من أحد يحضره الموت،إلاّ مثّل له النبيّ و الحجج صلوات اللّه عليهم حتّى يراهم،فإن كان مؤمنا يراهم بحيث يحبّ،و إن كان غير مؤمن يراهم بحيث يكره.

فتبصّر.

و هذا بيان بقاء روح الإنسان بعد خراب جسده.

و أمّا بيان بقاء ما يبقى من بدنه و جسده بعد خرابه،فهو أنّ البدن،و إن كان يصير متلاشيا و ترابا،إلاّ أنّه يصير ترابا هو مبدأ خلقه و نشوّه،أي التراب الذي منه خلق أوّلا، كما يدلّ عليه نصوص اخر أيضا واردة عنهم عليهم السلام في ذلك،من أنّ الميّت يبلى جسده حتّى لا يبقى لحم و لا عظم إلاّ طينته التي خلق منها،فإنّها لا تبلى في القبر و تبقى

ص:138

مستديرة حتّى يخلق منها كما خلق أوّل مرّة (1).و أنّ كلّ طينة خلق منه الإنسان يدفن فيها، و أنّ النّطفة إذا استقرّت في الرّحم بعث اللّه تعالى ملكا يأخذ من تراب المكان الذي يدفن ذلك الإنسان فيه،فيأخذه و يخلطه بتلك النطفة،فيخلق الإنسان من تلك النطفة المخلوطة بذلك التراب.و إذا اقترب أجله يذهب إلى أن يجيء إلى ذلك المكان.فيموت و يدفن فيه (2).و هذه النطفة مستديرة في القبر،و تبقى إلى أن يخلق الإنسان منها مرّة اخرى،و يشهد به قوله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (3).

و بالجملة،إذا صار جسد الإنسان ترابا،يصير ترابا منه خلق أوّلا،و إن بني به من الطين حائط؛و هو المراد ببقاء الأجزاء الأصليّة من بدنه،و أنّ ما يقذف به السباع و الهوامّ من أجوافها ممّا أكلته و مزّقته،و كذلك ما احرق و صار رمادا مثلا و نحو ذلك،فهو أيضا يصير ترابا كذلك.و كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض،و يعلم عدد الأشياء و وزنها؛و أنّ تراب الروحانيّين بمنزلة الذهب فى التراب،على معنى أنّ ذلك التراب متميّز في الواقع في ضمن جملة التراب،إلاّ أن تراب الروحانيّين-أي الأبرار-من البشر،بمنزلة الذهب في التراب،و إن كان تراب غيرهم بمنزلة غير الذهب،كالنحاس و الصفر مثلا في التراب متميّزا أيضا،أو أنّ تراب من هو ذو روح،أي البشر مطلقا،بمنزلة الذهب في التراب من جهة تميّزه في ضمن التراب في الواقع.

و أمّا بيان الثاني،أي كيفيّة البعث،فهو إنّه إذا كان حين البعث،مطرت الأرض بإذن اللّه تعالى مطر النّشور،فتربو الأرض،ثمّ تمخض مخض السقاء،فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء،و كمصير الزبد من اللبن إذا مخض،فيجمع تراب كلّ قالب،فينتقل بإذن اللّه تعالى القادر إلى حيث الروح،فتعود الصور بإذن المصوّر

ص:139


1- -بحار الأنوار 358/60 [1]عن الكافي. [2]
2- -تفسير الصافي 310/3؛ [3]بحار الأنوار 337/60 و 338 [4] عن الكافي.
3- -طه55/. [5]

-تعالى شأنه-كهيئتها أوّلا.أي فتفاض على ذلك التراب الصور مرّة اخرى،مشابهة للصور الاولى و مماثلة لها،و يلج الروح فيها.أمّا الروح الحيوانيّة،فبإدخالها فى ذلك الجسد،و أمّا الرّوح الإنسانيّة،فبإعادة تعلّقها به مرّة اخرى كما كان أوّلا،فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا،و يعلم أنّه حين البعث هو الذي كان قبل حين البدء،من غير تغاير في ذاته،لا في ترابه و أجزائه الأصليّة،و لا في روحه الحيوانيّة،و لا في روحه الإنسانيّة؛ و إن كانت المغايرة في أجزائه الفضليّة الفرعيّة و في صورته و هيئته حاصلة،فإنّ هذه المغايرة لا دخل لها في اختلاف الذات،مع اتّحاد ما هو الأصل في اتّحاد الذات،و هو باق في الحالتين،أي أجزائه الأصليّة البدنيّة و روحه الإنسانيّة و الحيوانيّة،و كذا مع مماثلة الهيئة و الصورة الثانية للاولى.

و بذلك يتّضح كيفيّة البعث و الحشر و النشر،و يتّضح تفسير آيات واردة في ذلك.

كقوله تعالى:

هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)

و قوله تعالى: وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً (2)

و قوله تعالى: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (3)

و قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (4)

و قوله تعالى: وَ اللّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ

ص:140


1- -الأعراف57/. [1]
2- -الأعراف58/. [2]
3- -الروم50/. [3]
4- -سبأ3/. [4]

اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (1)

و قوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (2)

و قوله تعالى: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ (3)

و قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)

و قوله تعالى: وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (5)

و قوله تعالى: وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (6)

إلى غير ذلك من الآيات فتدبّر تعرف.و اللّه الموفّق.

و هذا الذي ذكرنا هو الكلام في تأويل الخبر الثاني،و اللّه أعلم.

و منه يعلم تأويل الأخبار الباقية؛فإنّ قوله عليه السلام فى الحديث الثالث (7)في تفسير قوله تعالى وَ رُوحٌ مِنْهُ (8):هي مخلوقة خلقها اللّه بحكمته في آدم و عيسى (9)عليهما السلام؛قيل:الروح الحيوانية و الإنسانيّة جميعا؛و كذا إسنادها إلى اللّه تعالى يحتمل التشريف و أنّها مخلوقة له تعالى.

ص:141


1- -فاطر9/. [1]
2- -يس12/. [2]
3- -يس81/. [3]
4- -فصّلت39/. [4]
5- -نوح18/. [5]
6- -الزخرف11/. [6]
7- -الاحتجاج 323/2. [7]
8- -النساء171/. [8]
9- في المصدر:و في عيسى.

كما أنّ قوله عليه السلام فى الحديث الرابع، (1)في تفسير قوله تعالى وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (2)محمول على أنّ المراد بالروح هو الروح الحيوانيّة التي هي مجانسة للريح،و أنّ الإضافة للتشريف.

و كذلك قوله عليه السلام في الحديث الخامس«و أجرى في صورهم من ريح الجنّة» (3)لعلّ المراد به الروح الحيوانيّة التي هي مجانسة للريح كما ذكر،إلاّ أنّها في المؤمن من ريح الجنة،كما أنّ الظاهر أنّ المراد بطينة الجنان ذلك التراب الّذي ذكر أنّه مبدأ خلق الإنسان،إلاّ أنّه في المؤمنين من تراب الجنّة.

و حيث عرفت ما ذكرنا من الكلام الذي وقع في البين بالمناسبة و التقريب،فلنرجع إلى ما كنّا بصدده في هذا الباب.

في بيان جوهريّة النفس

فنقول:أمّا بيان جوهريّة النفس،فله طريقان:أحدهما خاصّ بالنفس الناطقة الإنسانيّة،و الآخر عامّ يعمّ النفس الأرضيّة بأنواعها،أي النباتيّة و الحيوانية و الانسانيّة.

أمّا الطريق الخاصّ بالإنسانيّة،فهو يتوقّف على إثبات تجرّدها،لأنّه إذا ثبت أنّها ليست بجسم،كما تقدّم؛و ثبت مع ذلك أنّها مجرّدة عن المادّة قائمة بذاتها؛لم يقع شكّ في أنّها جوهر.

و أمّا الطريق العامّ،فبأن يقال:لو كان وجود النفس الأرضيّة في الجسم كوجود العرض في الموضوع،لكان حال تلك النفس-بالقياس إلى ذلك الجسم-كحال الأعراض التي يتبع وجودها وجود الموضوع لها،و لا تكون مقوّمة لموضوعها بالفعل،كما هو شأن العرض الموجود في الموضوع.و لكان حال ذلك الجسم-بالقياس إلى النفس-كحال

ص:142


1- -الاحتجاج 323/2. [1]
2- -ص72/.
3- -أصول الكافي 133/2. [2]

الموضوع.أي مادّة محفوظة الذات باقية بعينها مع تبدّل الأعراض الواردة عليها،أي أن يكون ذلك الجسم الذي فرض موضوعا للنفس باقيا بعينه بعد مفارقة تلك النفس عنه، يكون هو موضوعا لغير تلك النفس من نفس أخرى،أو شيء آخر غير النفس،كما هو شأن موضوع العرض،و هذا باطل قد ظهر بطلانه ممّا بيّناه سابقا في مسألة بقاء النفس.

أمّا الأوّل،فلما عرفت هنا لك أنّ المادّة القريبة لوجود هذه الأنفس العنصريّة فيها، إنّما هي ما هي بمزاج خاصّ و هيئة خاصّة و تركيب مخصوص،هي بذلك تستعدّ لفيضان نفس عليها حافظة لمزاجها،جامعة لأجزائها.و أنّه إنّما تبقى تلك المادّة بذلك المزاج و التركيب و تلك الهيئة بالفعل ما دام فيها أو معها النفس،و النفس هي التي تجعلها بذلك المزاج الموافق،و هي علّة لتكوّن النبات و الحيوان على المزاج الذي لهما.و أنّ الموضوع القريب للنفس يستحيل أن يكون هو ما هو بالفعل إلاّ بالنفس،فإنّ النفس علّة لكونه كذلك،و أنّه لا يجوز أن يقال:إنّ الموضوع القريب لها حصل على طباعه موجودا بسبب غير النفس،ثمّ لحقته النفس لحوقا لا قسط لها بعد ذلك في حفظة و تقويمه و تربيته، كالحال في أعراض يتبع وجودها وجود الموضوع،و لا تكون مقدّمة لموضوعها بالفعل.بل إنّ النفس مقوّمة لموضوعها القريب،فحينئذ فهي ليست بعرض.

و منه يظهر أيضا أنّ النّفس مغايرة لمزاج بدنها و لجسميّته.

و أمّا الثاني،فلما عرفت أيضا ثمّة أنّه إذا فارقت النفس عن موضوعها،وجب ضرورة أن يكون فراقها يحدث لغالب صيّر الموضوع بحالة اخرى و أحدث فيه صورة جماديّة،كالمقابلة للصورة المزاجيّة الموافقة لتلك النفس و لتلك الصورة.و أنّ المادّة التي للنفس لا تبقى بعد النفس على نوعها البتّة،بل إما أن يبطل نوعها و جوهرها الذي به كان موضوعا للنفس،أو يخلف النفس عنها صورة أخرى تستبقي المادّة بالفعل على طبيعتها؛ فلا يكون ذلك الجسم الطبيعيّ كما كان أوّلا،بل يكون هناك صورة و أعراض اخرى، و يكون قد تبدّل أيضا بعض أجزائه و فارق عنه،مع تغيّر الكلّ فى الجوهر.

و مما يوضّح ما ذكرنا أنّه من المعلوم المشاهد أنّ النفس الإنسانيّة إذا فارقت بدن

ص:143

الإنسان،و كذا النفس الحيوانيّة إذا فارقت بدن الحيوان،لا يبقى البدن الإنسانيّ و البدن الحيوانيّ على طبيعته الأوّليّة التي كان هو بها موضوعا للنفسين،و على مزاجه و تركيبه الأوّلين؛بل يفسد و يتغيّر و يتلاشى أعضاؤه و يتفرّق أجزاءه و يبطل نوعه.و كذلك النفس النباتيّة إذا فارقت جسم النبات،لا يبقى ذلك الجسم على طبيعته الأوّليّة و نوعه السابق الذي به كان موضوعا للنفس النباتيّة،فإنّ الشّجر المقطوع-مثلا-و إن بقي بصورته و هيئته و تركيبه في الظاهر،إلاّ أنّه في الحقيقة ليس بشجر،بل هو خشب حدثت فيه صورة جماديّة،و لذلك ليس من شأنه أن تفاض عليه نفس تارة أخرى.

و بالجملة،فالنامي من حيث أخذه نفسا و فصلا لذلك الجسم من حيث أخذه جنسا، يلزم من زواله و انعدامه انعدام تلك الحصّة الجنسيّة التي تقوّمها و تحصّلها به.و كذلك من حيث أخذه صورة للجسم من حيث أخذه مادّة،يلزم من انعدامه انعدام تلك المادّة المتقوّمة بتلك الصورة،و عدم بقائها على الطبيعة السابقة.و على التقديرين،فيلزم من مفارقة النفس النباتيّة عن جسم النبات بطلان نوعه.و كذلك من المعلوم المبيّن أنّه عند فيضان النفس النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة و تواردها على المادّة المنويّة البدنيّة الإنسانيّة في الرحم،سواء قلنا:بأنّها نفوس متعدّدة كما قد يظنّ،أو بأنّها ذات واحدة تتزايد كمالاتها كما هو الحقّ،و سيأتي تحقيقه بتوارد الصور المضغيّة و العقليّة و العظميّة و اللحميّة على تلك المادة؛فلا تبقى تلك المادّة على طبيعتها،بل تخلف كلّ نفس من تلك النفوس أو كلّ مرتبة من تلك المراتب نفس أخرى أو مرتبة أخرى تكون تلك المادّة معها على صورة أخرى و طبيعة اخرى غير الأولى،فلا يكون ذلك الجسم الطبيعيّ الذي يفرض موضوعا أو مادّة للنفس الاولى أو للمرتبة الاولى كما كان أوّلا،بل يكون هناك أعراض أخرى و تغيّرت تلك المادّة في الجوهر.

و حيث عرفت ذلك،و عرفت أنّه بعد مفارقة النفس لا تبقى المادّة التي فرض كونها مادّة للنفس على نوعها،عرفت أنّه حينئذ لا يكون هناك مادّة محفوظة الذات بعد مفارقة النفس هي كانت موضوعة للنفس،و الآن موضوعة لغير النفس،فإذن ليس وجود النفس

ص:144

في الجسم كوجود العرض في الموضوع،فثبت مما ذكرنا أنّ النفس ليست بعرض،و أنّ مادّتها ليست بموضوع لها،فثبت أنّ النفس جوهر،لأنّها صورة في موضوع،و هذا هو المطلوب.

فإن قلت:إنّ ما ذكرته من بيان حال المادّة البدنيّة فى الرحم،و إن كان ظاهرا على تقدير القول بأنّ الفائض هناك على المادّة البدنيّة نفوس متعدّدة متغايرة،إلاّ أنّه على تقدير القول بأنّ الفائض هناك نفس واحدة بالذات،يتزايد كمالاتها،ففيه إشكال.لأنّه إن كانت تلك المراتب المتزايدة من قبيل الأعراض،و الحال أنّ موضوعها يتغيّر بتغيّرها كما هو المفروض،فيلزم أن يكون بتغيّر العرض يتغيّر الموضوع،و هذا خلاف ما هو المقرّر عندهم.و إن كانت من قبيل الجواهر،فتكون هي صورا،فتكون نفوسا متعدّدة لا نفسا واحدة و ذاتا واحدة،و هذا خلاف المفروض.

قلت:لا إشكال في ذلك،لأنّها نختار أنّها جواهر و صور مقوّمة لموادّها،فلذا يلزم من تغيّرها تغيّر موادّها.لكن لا يلزم من كونها صورا كونها نفوسا متعدّدة،بل أنّها قوى متعدّدة لذات واحدة و نفس واحدة،أي قوى تنبعث عن النفس الواحدة في الأعضاء، يتأخّر فعل بعضها و يتقدّم فعل بعض آخر منها بحسب استعداد الآلة،و لا يلزم من اختلاف قوى متعدّدة لشيء واحد،اختلاف في ذات ذلك الشيء بحسب جوهره و سنخه، و هذا كما أنّ من البيّن أنّ لكلّ نفس من النفوس النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة التي هي بانفرادها ذات واحدة قوى متعدّدة،و لا يلزم من تعدّد قواها تعدّد ذات تلك النفس الواحدة،و لم يقل به أيضا أحد.

ثمّ إنّ في هذا المقام إشكالا آخر ذكره الشيخ في الشفاء مع جوابه،و بيان الإشكال و تحريره: (1)أنّ ما ذكر من أنّ النفس علّة قريبة لقوام مادّتها القريبة،فهي ليست بعرض، و أنّ مادّتها ليست بموضوع،لو كان مسلّما،فانّما يسلّم في النفس النباتيّة.و أمّا النفس الحيوانيّة،فيشبه أن تكون النفس النباتيّة تقوم مادّتها،ثمّ يلزمها اتّباع هذه النفس

ص:145


1- -الشفاء-الطبيعيّات 24/2-26،الفصل الثالث من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

الحيوانيّة إيّاها اتّباع وجود العرض لوجود الموضوع؛فيكون الحيوانيّة متحصّلة في مادّة تقوّمت بذاتها،أي من غير أن تكون الحيوانيّة مقوّمة لتلك المادّة.بل إنّ تلك المادّة علّة لقوام الحيوانيّة التى حلّتها،فلا تكون الحيوانيّة إلاّ قائمة في موضوع.

و بيان الجواب و تحريره،أنّ النفس النباتيّة-بما هي نفس نباتيّة-لا يجب عنها إلاّ جسم متغذّ مطلقا،و أنّ النفس النباتيّة مطلقة ليس لها وجود إلاّ وجود معنى جنسيّ، و ذلك في الوهم،أي في الذهن فقط.و أمّا الموجود في الأعيان،فهو أنواعها.فحينئذ نقول:

إنّ النفس النباتيّة-بما هي نفس نباتيّة مطلقة-سبب واحد عامّ يجب عنه شيء عامّ أيضا، أي كلّي غير محصّل،و هو الجسم المتغذي النامي المطلق الجنسي الغير المنوّع.و أمّا الجسم ذو آلات الحسّ و التميّز و الحركة الإراديّة،فليس مصدره عن النفس النباتيّة بما هي نفس نباتيّة،بل بما ينضمّ إليها من فصل آخر يصير به طبيعة اخرى،و لا يكون ذلك إلاّ أن يصير نفسا حيوانية.فظهر من ذلك أنّ المادة القريبة للنفس النباتيّة-بما هي نباتيّة-لا تكون بعينها مادّة قريبة للنفس الحيوانيّة بما هي حيوانيّة،بل المادّتان متغايرتان كالنفسين.و أنّه لا يمكن أن تبقى مادّة النباتيّة بعينها مادّة للحيوانيّة،متقوّمة بالنباتيّة فقط، حتّى يمكن فرض النفس الحيوانيّة عرضا قائما في موضوع هو مادّة النباتيّة،بل إنّ تقوّم المادّة الحيوانيّة بالنفس الحيوانيّة؛فهي أيضا ليست بعرض كالنفس النباتيّة التي فرض تقوّم مادّتها بها.

ثمّ إنّه بيّن الجواب عن هذا الإشكال بوجه آخر أبسط و أوضح،و تحريره:أنّ النفس النباتيّة إمّا أن يعنى بها النفس النوعيّة التى تخصّ النبات دون الحيوان،أو يعنى بها المعنى العامّ الذي يعمّ النفس النباتيّة و الحيوانيّة من جهة ما يغتذي و يولّد و ينمو،فإنّ هذا قد يسمّى نفسا نباتيّة،و هذا مجاز من القول،فإنّ النفس النباتيّة لا تكون إلاّ في النبات، و لكن المعنى العامّ الذي يعمّ نفس النبات و الحيوان يكون في الحيوانات،كما يكون في النبات،و وجوده كما يوجد المعنى العامّ في الأشياء.و إمّا أن يعنى بها القوّة من قوى النفس الحيوانيّة التي يصدر عنها أفعال التغذية و التربية و التوليد،كما هو مقتضى القول

ص:146

بأنّ النفس واحدة و لها قوى متعددة،كما هو المذهب الحقّ،و سيأتي تحقيقه.فإن عنى بها النفس النباتيّة التي هي بالقياس إلى النفس الفاعلة للغذاء نوعيّة،أي النفس النوعيّة التي تخصّ النبات،فذلك يكون في النبات لا غير،و ليس في الحيوان؛فلا يمكن أن يقال إنّ النفس النباتيّة قوّمت مادّتها،و صارت تلك المادّة بعينها موضوعا للنّفس الحيوانيّة و هي عرض فيها.و إن عنى به المعنى العامّ،فيجب أن ينسب إليه معنى عامّ لا خاصّ،فإنّ الصانع العامّ هو الذي ينسب إليه المصنوع العامّ،و الصانع النوعي كالنجّار هو الذي ينسب إليه المصنوع النوعيّ،و الصانع المعيّن هو الذي ينسب إليه المصنوع المعيّن،و هذا شيء قد مرّ لك تحقيقه.فالذي ينسب إلى النفس النباتيّة العامّة من أمر الجسم أنّه تامّ عامّ،و أمّا أنّه تامّ بحيث أنّه يصلح لقبول الحسّ أولا يصلح،فليس ينسب إلى النفس النباتيّة من حيث هي عامّة،و لا هذا المعنى يتبعه.

فعلى هذا أيضا،لا يمكن أن يقال:إنّ النفس النباتيّة قوّمت مادّتها،ثمّ صارت تلك المادّة موضوعا للنفس الحيوانيّة.

و أمّا القسم الثالث،و هو أن يعني بها القوّة من قوى النفس الحيوانيّة التي يصدر عنها أفعال التغذية و التربية و التوليد،و هو مقتضى القول بوحدة النفس و تعدّد قواها،فظاهر أنّه على تقديره يستحيل أن يقال:إنّ القوّة النباتية وحدها تفعل بدنا حيوانيّا،إذ ليست هي منفردة بالتدبير،إذ لو كانت منفردة بالتدبير،لكانت تتمّم جسما نباتيّا،و ليس الأمر كذلك، بل المنفردة بالتدبير هناك نفس واحدة تتمّم جسما حيوانيّا بآلات الحسّ و الحركة في الحيوان،و جسما إنسانيّا في الإنسان،لتلك النفس قوى متعدّدة،أمّا قوّتان نباتيّة و حيوانيّة،كما في الحيوان غير الإنسان؛أو ثلاث قوى نباتيّة و حيوانيّة و انسانيّة،كما في الإنسان.و تلك القوى تنبعث عن تلك النفس الواحدة في الأعضاء،و يتأخّر فعل بعضها و يتقدّم بحسب استعداد الآلة.و سيتّضح من بعد أنّ النفس واحدة لها قوى كذلك.

و منه يظهر أن لا سبيل لإيراد نظير هذا الإشكال في المادّة الحيوانيّة،بالنسبة إلى النفس الإنسانيّة،لجريان نظير هذا الجواب بعينه فيه.

ص:147

و كذلك يظهر منه أنّ النفس التي لكلّ حيوان أو إنسان هي جامعة لاسطقسّات بدنه، و مؤلّفها و مركّبها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها،و هي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي،فلا يستولي عليه المغيّرات ما دامت النفس موجودة فيه أو معه،و لو لا ذلك لما بقي على صحّته.

و ممّا ينبّه على ما ذكرنا،ملاحظة ما يلاحظ من قوّة القوة النامية مثلا و ضعفها عند استشعار النفس الناطقة قضايا تحبّها أو تكرهها محبّة و كراهة ليست ببدنيّته البتّة،و ذلك عند ما يكون الوارد على النفس تصديقا ما.و ليس ذلك مما يؤثّر في البدن بما هو اعتقاد، بل يتبع ذلك الاعتقاد انفعال من غمّ أو سرور.و ذلك أيضا من المدركات النفسانيّة، و ليس ممّا يعرض للبدن بما هو بدن،إلاّ أنّه يؤثّر في القوّة النامية الغاذية،حتّى يحدث فيها من العارض الذي يعرض النفس أوّلا-كالفرح النطقيّ-شدّة و نفاذ في فعلها،و من العارض المضادّ لذلك-كالغمّ النطقيّ الذي لا ألم بدنيّ فيه-ضعف و عجز حتّى يفسد فعلها.و ربما انتقص المزاج به انتقاصا.بل ربّما كان الوارد على النفس الناطقة موجبا لتأثّر القوّة الحيوانيّة و قوّتها و ضعفها.و كذلك ربّما يكون الواردات على كلّ من النّباتيّة و الحيوانيّة موجبة لضعف الاخرى و قوّتها.و كذلك ربّما يكون الواردات عليهما موجبة لتأثّر القوّة الناطقة و قوّتها و ضعفها،و كلّ ذلك ممّا يجده الإنسان من ذاته في الأحوال الواردة عليه،و دليل على ما ذكرنا من وحدة النفس و تعدّد قواها.فإنّها لو كانت متعدّدة كما قد يظنّ،لما كان لضعف حال إحداها أو قوّتها مدخل في ضعف حال الاخرى أو قوّتها،و كذلك هو دليل على أنّ تلك النفس جامعة لقوى الإدراك و استعمال الغذاء، و هي واحدة ليست لها هذه منفردة عن تلك.

و إذا عرفت ما ذكر،تبيّن لك أنّ النفس مكمّلة للبدن الذي هي فيه أو معه،و حافظة على نظامه الأولى به أن يتفرّق و يتميّز،إذ كلّ جزء من أجزاء البدن يستحقّ مكانا آخر، و يستوجب مفارقة لقرينه،و إنّما يحفظه على ما هو عليه شيء خارج عن طبيعته،و ذلك الشيء هو النفس في الحيوان و الإنسان.فالنفس إذن كمال،موضوع ذلك الموضوع يتقوّم

ص:148

بها،لا بالعكس،و هي أيضا مكمّل النوع و صانعه،فإنّ الأشياء المختلفة الأنفس،تصير بها مختلفة الأنواع،و يكون تغايرها بالنوع لا بالشخص.فالنّفس إذن ليست من الأعراض التي لا يختلف بها،و لا يكون لها مدخل في تقويم الموضوع.فالنّفس اذن كمال كالجوهر لا كالعرض،إلاّ أنّه ليس يلزم من هذا أن يكون مفارقا أو غير مفارق،فإنّه ليس كلّ جوهر بمفارق،فلا الهيولى بمفارقة و لا الصورة.و قد علمت أنّ الأمر كذلك.انتهى ما ذكره الشيخ في هذا المقام بتحريره،و بذلك تمّت الدلالة على جوهريّة النفس الأرضيّة بأنواعها،إلاّ أنّه لمّا لم يستلزم الدلالة على تجرّد ما هو مجرّد عن المادّة من تلك الأنواع،أعني النفس الناطقة الإنسانيّة كما ذكره الشيخ،و كان ذلك أيضا هو المقصود هنا،بل المقصد الأسنى و المطلوب الأقصى الذي هو مختلف فيه بين المتكلّمين و الحكماء،و يتفرّع عليه أحكام اخرى و مقاصد لا تحصى،كما لا يخفى على اولى النّهى؛فحريّ بنا أن نتكلّم فيه تكلّما وافيا شافيا،عسى أن يرتفع به حجاب الإبهام عن وجه المدّعى،و يتّضح منهج الرشاد و طريق الهدى.

فنقول،و باللّه التوفيق:إنّ الذين قالوا بتجرّد النفس الناطقة الإنسانيّة و مفارقتها عن المادّة،و إن اقاموا عليه أدلّة كثيرة و حججا عديدة تترى من وجوه متكثّرة و طرق شتّى، إلاّ أنّا نذكر من تلك الأدلّة ما هو واضح السبيل،يكفي لدى المنصف المسترشد المستبصر لشفاء العليل،و لرواء الغليل.و لنقدّم قبل الخوض في المقصود ذكر نبذ من خواصّ الأفعال و الانفعالات التي للإنسان،و بيان قوى النظر و العمل التي للنفس الإنسانيّة على سبيل الإجمال،مقدّمة للدليل على ما هو المقصود،موافقا ل«الشفاء»و غيره من كتب العلماء؛فنقول:لا يخفى عليك أنّ للإنسان خواصّ أفعال تصدر عن نفسه ليست هي موجودة لسائر الحيوانات.

منها،أنّه لمّا كان الإنسان في وجوده المقصود منه،يجب أن يكون غير مستغن في بقائه عن المشاركة،و لم يكن كسائر الحيوان الذي يقتصر كلّ واحد منها في نظام معيشته على نفسه و على الموجودات في الطبيعة له.و أمّا الإنسان الواحد،فلو لم يكن في الوجود

ص:149

إلاّ هو وحده،و إلاّ الأمور الموجودة في الطبيعة له لهلك أو لساءت معيشة أشدّ سوء، و تفصيل ذلك لا يناسب المقام.بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد ممّا في الطبيعة،مثل الغذاء المعمول و اللباس المعمول و الموجود في الطبيعة من الأغذية ما لم يدبّر بالصناعات،فإنّها لا تلائمه بل يخسر (1)معها معيشته،و كذا الموجود في الطبيعة من الأشياء التي يمكن أن تلبس أيضا،فقد يحتاج إلى أن تجعل بهيئة و صفة حتّى يمكنه أن يلبسها.

و أمّا الحيوانات الاخرى،فإنّ لباس كلّ واحد معه في الطباع،فلذلك يحتاج الإنسان أوّل شيء الى الفلاحة،و كذلك إلى صناعات أخرى لا يمكن للانسان الواحد تحصيل كلّ ما يحتاج إليه من ذلك بنفسه،بل بمشاركة مع غيره،أي أن يكون مكفيّا بآخر من نوعه، يكون ذلك الآخر أيضا مكفيّا به بنظيره،حتّى يكون هذا يخبز لهذا،و ذلك ينسج لذلك، و هذا ينقل شيئا من بلاد غريبة إلى ذلك،و هذا يعطيه بإزاء ذلك شيئا من قريب،و هذا يخيط لهذا،و هو ينجر له،و أمثال ذلك من المعونات التي لا تتناهى.

و بالجملة،فهو يحتاج في ضرورات المعاش من المسكن و المطعم و الملبس،و دفع الأعداء و التحرّس من طوارق البلاء،إلى أشياء كثيرة من الزرع و الغرس و الحصاد و الطحن و الطبخ و الغزل و النسج و الحياكة و الخياطة و أدوات ذلك كلّه،و كذا إلى البناء و محاويجه و أسباب البناء و أسلحة الحروب و غير ذلك مما لا يحصيها غير علاّم الغيوب، و هي أشياء لا يستطيع لها و لا يقوى عليها إنسان واحد،و لا مائة و لا ألف؛بل يحتاج إلى جماعة كثيرة يجتمعون في مكان واحد و مساكن متقاربة،يعمل كلّ فرقة منهم عملا، فيتعاونون و يتعاضدون،و يتعاوضون أعمالهم،و يتبادلون صنائعهم،فيقع بينهم المعاملات في حقوقهم و مساعيهم.فلهذه الأسباب و أسباب اخرى أخفى و آكد من هذه يحتاج الإنسان إلى أن يكون له في طبعه قدرة على أن يعلم الآخر الذي هو شريكه بعلامة وضعيّة،و كان أخلق ما يصلح لذلك هو الصّوت،لأنّه ينبعث إلى حروف يتركّب منها تراكيب كثيرة من غير مئونة تلحق البدن في ذلك،و يكون سيّالا لا يثبت،فيأمن من وقوف

ص:150


1- -لا يحسن خ ل.

من لا يحتاج إلى شعوره عليه.و بعد الصوت الإشارة،إلاّ أنّها لا تفي بالمعدومات و المعقولات الصرفة و المدركات الباطنيّة،بل تختصّ بالمدركات بالحواسّ الظاهرة،و مع ذلك،فهي إنّما تهدي من حيث يقع البصر،و أن تكون من جهة مخصوصة،و أن تحرّك الحدقة إلى جهة مخصوصة حركات كثيرة يراعى بها الإشارة.

و أمّا الصوت فقد يغني الاستعانة به من أن يكون من جهة مخصوصة،و عن أن يراعى تحريكات،فجعلت الطبيعة للنفس أن تؤلّف من الأصوات ما يتوصّل به إلى إعلام الغير.و أمّا الحيوانات الأخرى،و إن كان فيها أيضا أصوات يقف بها غيرها على حال نفسه،إلاّ أنّ تلك الأصوات إنّما تدلّ بالطبع على جملة من الموافقة و المنافرة غير محصّلة و لا مفصّلة،و الذي للإنسان فهو بخلاف ذلك،لأنّه بالوضع،و على أغراض لا تتناهى، و مقاصد لا تحصى.

فاختصّ الإنسان بهذه الخاصيّة للضرورة الداعية إلى الإعلام و الاستعلام،لضرورة داعية إلى الأخذ و الإعطاء،و لضرورات اخرى.ثمّ باتّخاذ المجامع و استنباط الصنائع التي هي عن استنباط و قياس،بعضها للضرورة النوعيّة،و بعضها للضرورة الشخصيّة و لصلاح حال الشخص.

و أمّا الحيوانات الاخرى و خصوصا للطير (1)و إن كانت لها صناعات-و لا سيّما النحل،فإنّ لها بيوتا و مساكن و تسديسا فيها،و كذلك العنكبوت فإنّ لها نسجا و حياكة-إلاّ أنّ تلك الصناعات ليست ممّا يصدر عن قياس و استنباط و رأي كلّي،بل عن نوع إلهام و تسخير و رأي جزئيّ منبعث عن طبع و قوّة متخيّلة،و لذلك ليست تلك الصناعات ممّا يختلف و يتنوّع،و لا توجد متصرّفا فيها و لو تصرّفا ما كصناعات الإنسان،و كذلك ليست تلك الحيوانات ممّا يصدر عنها غير تلك الصناعات الخاصّة،أي أن تكون صناعاتها غير مخصوصة بوجه دون وجه كما في الإنسان أيضا؛بل إنّ صناعاتها خاصّة بتلك التي شوهد صدورها عنها،و مع ذلك فليست صناعاتها للضرورة

ص:151


1- -الطير خ ل.

الشخصيّة و لصلاح حال الشخص،بل للضرورة النوعيّة فقط،بدليل أنّها لو كانت لصلاح حال الشخص،لكانت ممّا تختلف و لو اختلافا ما،مع أنّ أحوال الأشخاص من حيث هي أشخاص مختلفة جدّا.

ثمّ إنّه حيث كان حال الإنسان ما ذكر،و كان يحتاج في ضرورات معاشه و بقاء نوعه و صلاح حال شخصه إلى بني نوعه الذين يجتمعون في مكان واحد و مساكن متقاربة، يعمل كلّ فرقة منهم عملا،فيتعاونون و يتعاضدون و يتعاوضون أعمالهم و يتبادلون صنائعهم،فيقع بينهم المعاملات في مساعيهم،و كان هذا الاجتماع إنّما ينتظم إذا كان بينهم عدل في المعاملات يتّفق الجميع عليه،لأنّ كلّ واحد يشتهي ما يحتاج إليه، و يغضب على ما يزاحمه،و أكثر الناس لا يكتفي بحقّه،و لا يجتزي بحظّه،بل كلّ إنسان يطمع في نصيب غيره،و لا ينصف من نفسه،و يرى ما له عدلا و ما عليه ظلما،فيؤدّي ذلك بينهم إلى التباغض و التحاسد و التنازع و التعاند،فيقع الجور و يختلّ أمر الاجتماع.

و كان العدل لا يتناول الجزئيّات الغير المحصورة،بل لا بدّ له من قوانين كلّية مصونة عن الخطاء،يقرّرها مقنّن و سانّ معدّل عدل حكيم،احتاج الإنسان لبقاء نوعه و ضرورة معاشه و صلاح حاله-أشدّ احتياج-إلى واضع لتلك القوانين شارع لها مبعوث من اللّه تعالى،يكون هو من نوع الإنسان بحيث يخاطب الإنسان،و يلزمهم التكاليف،و يسنّ للناس في امورهم سننا بإذن اللّه تعالى و وحيه،يرجعون هم إليها و إليه في معاملاتهم، و إلى رئيس لهم يعلم حقائق أعمالهم و دقائق أفعالهم و مقادير أجورهم و موازي صنائعهم،و يقدر على إحقاق حقوقهم و إيصال حظوظهم،و على تأديبهم و سياستهم؛ و يكون إنسانا عظيم المنزلة جليل الرتبة ينبغي له هذه المرتبة على الإطلاق و تليق به بالاستحقاق،لئلاّ يسع أحدا مخالفته و يلزم مطاوعته،و هو النبيّ عليه السلام،و هذا أحد أسباب الاحتياج إليه عليه الصلاة و السلام في كلّ عصر و زمان،و إن كانت أسباب الاحتياج إليه كثيرة يكاد يخفى على أذهاننا دركها،و ما بلغ إليه فهم المرءوسين من البشر هو أقلّ قليل منها.

ص:152

و منها أنّ بدن الإنسان و مزاجه مركّب من طبائع متضادّة و كيفيّات متعاندة، و هو محتاج في معاشه و صلاح حاله إلى أغذية و أشربة مختلفة،إن سالمت بعضا عاندت آخر؛و هو-مع تلك المعاندات-من داخل بدنه واقع في معرض الآفات و مورد البليّات من خارجه،إن انتهز بعضها فرصة،غلب صاحبه فأفسده و أدّى إلى هلاك بدنه و جسده من قريب،بل ربما أدّى بتوسّطه إلى هلاك روحه و نفسه أيضا،فيحتاج ضرورة إلى ضرب من التدبير في غذائه و شرابه و سائر وارداته ليسلم من الآفات و يبقى به مدّة يمكنه فيها الترقّي إلى الكمال المقدّر له.و معلوم أنّ معرفة مضارّها و منافعها و مسالمها و منازعها لا يمكن بالتجربة،فإنّ دواء واحدا أو غذاء و شرابا يختلف أثره في الأمزجة المختلفة و الأمكنة المختلفة و الأزمنة المختلفة،بل في شخص واحد بحسب أحوال و أوقات مختلفة لا تكاد تنضبط برابط،فضلا عن جميع الأغذية و الأشربة و الأدوية بكثرتها التي لا يحصيها و لا يجمعها الارتباط؛و لو كان الطريق إلى معرفتها هو التجربة،لكان في مدّة تجربة شيء واحد هلاك المجرّبين من الناس كلّهم أو جلّهم.و على تقدير فرض حصول معرفتها بالتجربة،لكان ذلك في أقلّ قليل منها،لا في أكثرها و لا في كلّها.و على تقدير تسليم حصول ذلك بالنسبة إلى أكثرها أو كلّها و لو في أزمنة متطاولة و أعصار متمادية، فلا يخفى أنّ التجربة إنّما تفيد معرفة طبائع الأشياء التي للتجربة دخل في معرفتها، و للعقل سبيل إلى العلم بها.و الحال أنّ في الوجود و الطبيعة و فيما يحتاج إليه الإنسان في نظام معيشته و صلاح حاله و بقاء نوعه و شخصه أشياء مثل أغذية و أشربة و مساكن و ملابس و أفعال،لتلك الأشياء خواصّ و أحكام،بعضها مقرّبة للإنسان إلى رحمة اللّه تعالى و إلى ساحة عزّه و كبريائه،و بعضها مبعّدة عن ذلك،و بعضها ممّا ينفع جسده أو روحه أو كليهما،و بعضها يضرّه كذلك؛و أنّ تلك الخواصّ و الأحكام ممّا ليس للتجربة إليها سبيل،و لا من العقل عليها دليل،بل لا يعلمها إلاّ علاّم الغيوب،و إلاّ من هو مبعوث من عنده تعالى.و حيث كان الأمر كذلك،فاحتاج الإنسان في نظام معيشته و بقاء نوعه و شخصه و صلاح حال روحه و جسده،إلى رئيس أديب يؤدّبهم،و معلّم يعلّمهم،و مبيّن

ص:153

يبيّن لهم منافع الأشياء و مضارّها و خواصّها و أحكامها،و أنّ بعضها حلال،و بعضها حرام، و بعضها مباح،و بعضها مندوب،و بعضها مكروه.و من تلك الأسباب،أنّه من المعلوم أنّ الغاية التي خلق الإنسان،الذي هو أشرف الكائنات و أفضل البريّات لأجلها،و أفضل الأعمال التي هو يكتسبها:معرفة اللّه تعالى و صفات جماله و جلاله،و معرفة حقائق الأشياء التي هي صنعه و آلاؤه تعالى،ثمّ امتثال طاعته و اجتناب معصيته بالتخلّق بالأخلاق الزكيّة،و الاتّصاف بالأوصاف المرضيّة،و التنزّه عن الصفات الدنيّة،و التزيّن بالأفعال الجميلة،و التورّع عن الأعمال الرذيلة.و من المعلوم أيضا أنّ هذه المعرفة و هذا العلم و إن كان عقليّا صرفا،بمعنى أنّ العقل السليم يمكنه أن يستقلّ في تحصيله،إلاّ أنّ التحصيل يتوقّف على التنبّه لذلك.و أكثر العقول لكونها منهمكة في الشهوات الحسّيّة، منغمرة في اللذّات و الشوائب الجسمانيّة،قد توسّخ جواهر مراياها بأوساخ تلك العادات الخبيثة،و ران عليها ملكاتها الخسيسة،فهي كأنّها قد رقدت في عادتها كأنّها سكارى، و توغّلت في حالتها كأنّها حيارى.و النائم و إن كان قد يتنبّه بنفسه،لكنّ النيام الغرقى في غمرات المنام لو تركوا و منامهم،لاستمرّوا في سكوتهم يعمهون.و النوم الغرق لو لم يوقظ أهله لتمادوا في نومهم إلى يوم يبعثون،فلو لم يكن رجل أيقظه اللّه تعالى بنوره،يوقظهم من نوم غفلتهم،و ينهضهم من صرعة جهلهم،لم يتيقّظوا و لم يخطر ببالهم أنّ لهم صانعا يجب عليهم أن يعرفوه،ثمّ يسمعوا له و يطيعوه؛و لم يختلج في قلوبهم أنّ هاهنا فضيلة و كمالا غير ما هم به مولعون،و هم فيه مستترون.فذهب أكثر الناس ضياعا،و مضى عامّتهم همجا رعاعا.ثمّ إنّهم بعد ما اوقظوا أيضا أو تيقّظوا،ليس أكثرهم من يبصر شيئا أو يهتدى سبيلا،لما غشى بصائرهم من رمد الغفلة،و أحاط بقلوبهم من رين هواجس العادة،فلا يبصرون طريقا و سبيلا و لا يعقلون حجّة و دليلا،بل لا غنى لهم عن معلّم بصير خبير يعلّمهم كمال التدبير و يهديهم إلى سواء السبيل،عسى أن يكون فرقة منهم تهتدي إلى قليل أو كثير،و هذا-أيضا-أحد أسباب احتياج الإنسان إلى النبيّ عليه السلام و إن كانت أسباب الاحتياج إليه عليه السلام لا تحصى،و ما تفطّن له العلماء من ذلك

ص:154

هو أقلّ قليل منها.

و تلخّص لك مما ذكرنا،أنّ مثل النبيّ عليه السلام بالنسبة إلى المكلّفين في التكاليف العقليّة،أي الاصوليّة،هو مثل أن يكون هناك طريق واضح رشد يفضي سالكه إن سلكه إلى المقصود الخير،إلاّ أنّ بعض سالكيه و إن كانوا صحيحي البصيرة و البصر،لكنّهم نيام يحتاجون إلى موقظ يوقظهم ليتيقّظوا و يفتحوا أعينهم و يروا السبيل لكي يسلكوه.

و بعضهم،و إن كانوا متيقّظين،لكنّهم رمد العين معيوبو البصر يحتاجون إلى معالج يعالج بصرهم و يزيل الغشاوة عن أعينهم حتّى يروا السبيل و يسلكوه،و هذا الموقظ و المعالج هو النبيّ عليه السلام.

و أمّا مثله بالنسبة إليهم في التكاليف الشرعيّة الفرعيّة،كمثل أن يكون هناك طريق رشد،و سبيل واضح أيضا،إلاّ أنّ سالكيه كلّهم عمون يحتاجون إلى قائد يقودهم،و دليل يدلّهم،و آخذ يأخذ بأيديهم و يسلك بهم ذلك السبيل،و هذا هو أيضا النبيّ عليه السلام وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (1)

في بيان اختصاص الإنسان بالقوّة العقليّة

اشارة

و قد تلخّص لك أيضا من هذه الجملة أنّ الانسان-من بين أنواع الحيوان-مختصّ بخاصّيّة،هي كونهم قابلين للتكاليف العقليّة و الفرعيّة و الخطابات الشرعيّة التي هي قوانين كلّيّة،فيظهر منه أنّ الإنسان مختصّ بخاصّيّة هي إدراك المعاني الكلّية دون سائر أفراد الحيوان،و أنّه بسبب حصول القوّة العقليّة فيه،التي هي مدركة الكلّيات،اختصّ بتلك التكاليف و الخطابات.

خاصّيّة للإنسان

و حيث عرفت ما ذكرناه،فاعلم أنّه من جملة خواصّ الإنسان أنّه يتبع إدراكاته

ص:155


1- -العنكبوت43/. [1]

للأشياء النادرة مطلقا انفعال يسمّى التعجّب،و يتبعه الضحك،و يتبع إدراكه للأشياء المؤذية مطلقا انفعال يسمّى الضجر،و يتبعه البكاء،و لا يكون ذلك للحيوانات الاخر.

خاصّيّة أخرى للإنسان

و من جملة خواصّه،أنّه حيث كان في الوجود أفعال،من شأنها و حقّها أنّه لا ينبغي أن يفعلها الفاعل لها،و كذا أفعال حقّها أن يفعلها الفاعل لها،و يسمّى الأولى قبيحة و الثانية جميلة،فيعلمها الإنسان بل ينشأ عليها من صغره إلى كبره،و يتعوّد عليها منذ صباه، و يكون ذلك العلم منه عن اعتقاد و رأي كلّيّ يتبعه رأي جزئيّ،حتّى كأنّه كالغريزيّ له، و إن لم يعمل بعلمه في بعض الموادّ.بخلاف سائر الحيوانات،فإنّها لو تركت أفعالا لها أن تفعلها و لا ينبغي لها أن تفعلها،أو فعلت أفعالا لها أن تتركها و لا ينبغي لها تركها،فليس سبب ذلك فيها اعتقاد و رأي كلّيّ نفسانيّ يتبعه رأي جزئيّ،بل ربّما كان نوع إلهام و تسخير أو هيئة و عارض نفسانيّ متخيّل أو متوهّم.فإنّ الكلب المعلّم-مثلا-إذا لم يأكل صاحبه و لا ولده و لا صيده،بل أمسكه على صاحبه،بل حمله إليه مع جوعه و صبره عليه،فليس ذلك منه عن رأي و اعتقاد كلّيّ،و إلاّ لكان حاله بالنسبة إلى غير صاحبه و ولده و صيده أيضا ممّا ينبغي له تركه كذلك،و المعلوم خلافه.و لكان كلّ كلب مع مشاركته في النوع و الطبيعة له كذلك،و ليس كذلك.بل ربّما كان سب ذلك عارضا نفسانيّا هو لذّة وهمّيّة ينالها،من توقّع إكرام صاحبه إيّاه،فإنّ كلّ حيوان يؤثر بالطبع وجود ما يلذّه و بقاءه و أنّ الشخص الذي يموّنه و يطعمه قد صار لذيذا له،لأنّ كلّ نافع لذيذ بالطبع عند المنفوع.و كذلك المرضعة من الحيوانات إذا آثرت ولدها على نفسها،و خاطرات محامية عليه أعظم من مخاطرتها في حمايتها لنفسها،أو الحيوان إذا أحبّ ولده،فليس سبب ذلك هنا اعتقاد و رأي،و إلاّ لكان حالها بالنسبة إلى غير ولدها ممّا ينبغي لها فعلها أيضا، و المعلوم خلافه.بل ربّما كان سبب ذلك لذّة وهميّة تجدها من تصوّر سلامة ولدها،

ص:156

و ربّما آثرتها على سلامة نفسها.و هذا كما أنّ بعض الإنسان قد يتخيّل لشيء نافع في الواقع و يتنفّر عنه إذا كان بصورة ما يتنفّر عنه،او لشيء متنفّر عنه و يميل إليه إذا كان بصورة ما يميل إليه من غير اعتقاد في ذلك.و كذلك ما يشاهد من أنّ الذئب يحذره كلّ شاة و إن لم تره قطّ و لا أصابته منه نكبة و أذيّة،و يحذر الأسد حيوانات كثيرة،و جوارح الطير يحذرها سائر الطيور،فليس ذلك عن اعتقاد و رأي،و إلاّ لوجب أن تحذر هذه الحاذرات،كالشاة و كثير من الحيوانات و الطيور غير الجوارح،عن غير هذه المحذورات، أي عن غير الذئب و الأسد و جوارح الطير أيضا ممّا ينبغي لها الحذر عنها مثل حذرها عنها،لكونها ممّا من شأنه إصابة الأذيّة إليها،و ليس كذلك،بل كلّ ذلك عن إلهام و تسخير، أو عن تخيّل خاصّ.

خاصّيّة ثالثة للإنسان

و من جملة خواصّ الإنسان،أنّه قد يتبع شعوره أنّه فعل شيئا من الأشياء التي لا ينبغي له أن يفعله انفعال نفسانيّ يسمّى الخجل،بخلاف سائر الحيوان.و كذلك قد يعرض للإنسان انفعال نفسانيّ بسبب ظنّه أنّ أمرا في المستقبل يكون ممّا يضرّه،و ذلك ممّا يسمّى الخوف.و الحيوانات الاخرى إنّما يكون لها ذلك بحسب الآن في غالب الأمر، أو متّصلا بالآن،بدليل أنّه يزول عنها ذلك الانفعال بعد ذلك الآن،بخلاف الإنسان.و كذلك للانسان بإزاء الخوف انفعال يسمّى الرجاء،و لا يكون ذلك أيضا للحيوانات الاخرى إلاّ متّصلا بالآن،لا فيما بعد ذلك من الزمان أيضا كما في الإنسان،و ما يفعله بعض الحيوانات من الاحتياط و الاستظهار،كما يفعله النمل في نقل البرّة بالسرعة إلى حجرتها إنذارا بمطر يكون هناك،فليس ذلك لأنّها تشعر بالزمان و ما يكون فيه،بل ذلك أيضا بضرب من الإلهام و التسخير،أو لأجل تخيّل أنّ ذلك هو ذا يكون فى هذا الوقت،كما أنّ الحيوان يهرب عن الضدّ،لأنّه يتخيّل أنّه هو ذا يضرّ به في الوقت.

و بالجملة،فهذا الرجاء للحيوانات ليس كما للإنسان،لأنّه إنّما يكون لبعض

ص:157

الحيوانات دون جميعها،و مع ذلك فهو يكون للحيوانات التي يكون ذلك لها بالنسبة إلى بعض الأمور دون آخر،و مع ذلك لا يكون إلاّ متّصلا بالآن،فليس ذلك لها عن اعتقاد كما للإنسان.

ثمّ إنّه يتّصل بهذا الجنس من الخاصّيّة ما للإنسان أن يروّي فيه من الأمور المستقبلة أنّه هل ينبغي له أن يفعلها أو لا ينبغي؟فيفعل ما يصحّ أن يوجب رويّته أن لا يفعله وقتا آخر أو في هذا الوقت بدل ما روّى فيه،و لا يفعل ما يصحّ أن يوجب رويّته أن يفعله وقتا آخر أو في هذا الوقت بدل ما روّى.و سائر الحيوانات إنّما يكون لها من الإعداد للمستقبل ضرب واحد مطبوع فيه،وافق عاقبتها أو لم يوافق.

و هذا الذي ذكرناه إنّما هو بيان جملة من الأفعال و الانفعالات و الأحوال،و هي ممّا يوجد للإنسان،و جلّها،بل كلّها يختصّ به الإنسان.و بعضها و ان كان بدنيّا،لكنّه موجود لبدن الإنسان بسبب النفس للإنسان،و ليست لسائر الحيوان،و عسى أن نذكر في طيّ الأبواب الآتية نبذا من الخواصّ أيضا.

و بالجملة،فأكثر الخواصّ الإنسانيّة،بل كلّها ممّا ذكرنا أو لم نذكرها،تدلّ على أنّ للإنسان إدراكا للمعاني الكلّيّة،و هو مختصّ به دون سائر أفراد الحيوان،و بذلك-و كذا بما يشاهد من أحوال الإنسان في أموره و شئونه مع قطع النظر عن تلك الخواصّ أيضا- يعلم أنّ أخصّ الخواصّ بالإنسان،الذي لا يشاركه فيه غيره من أفراد الحيوان،تصوّر المعاني الكلّيّة العقليّة المجرّدة عن المادّة كلّ التجريد،و التوصّل إلى معرفة المجهولات تصوّرا أو تصديقا من المعلومات الحقيقيّة.

فى بيان القوى النظريّة و العمليّة للنفس الإنسانيّة

و حيث عرفت ذلك،فنقول في بيان قوى النظر و العمل التي للنفس الإنسانيّة:إنّه لا يخفى أنّ للإنسان تصرّفا في الأمور الكلّيّة و تصرّفا في الامور الجزئيّة،و أنّ الامور الكلّيّة إنّما يكون فيها اعتقاد فقط،و لو كان أيضا في عمل.فإنّ من اعتقد اعتقادا كلّيّا أنّ البيت

ص:158

-مثلا-كيف ينبغي أن يبنى،فإنّه لا يصدر عن هذا الاعتقاد وحده فعل بيت مخصوص صدورا أوّليّا،فإنّ الأفعال تتناول أمورا جزئيّة،و تصدر عن آراء جزئيّة،و ذلك لأنّ الكلّ -من حيث هو كلّيّ-ليس يختصّ بهذا دون ذلك،فيكون للإنسان قوّة تختصّ بالآراء الكلّيّة،و قوّة أخرى تختصّ بالرويّة في الامور الجزئيّة فيما ينبغي أن يفعل و يترك،و ينفع و يضرّ،و فيما هو جميل و قبيح،و خير و شر،و يكون ذلك بضرب من القياس و التأمّل صحيح أو سقيم،غايته أنّه يوقع رأيا في أمر جزئيّ مستقبل من الأمور الممكنة،حيث إنّ الواجبات و الممتنعات لا يروّي فيها لتوجد أو تعدم،و ما مضى أيضا لا يروّي في إيجاده على أنّه ماض.

ثمّ إنّه إذا حكمت هذه القوّة،يتبع حكمها حركة القوّة الإجماعيّة إلى تحريك البدن، كما كانت تتبع أحكام قوى أخرى في الحيوانات،و تكون هذه القوّة مستمدّة من القوّة التي على الكلّيّات،فمن هناك تأخذ المقدّمات الكبرى فيما تروّى و ينتج في الجزئيّات.

فالقوّة الاولى للنفس الإنسانيّة التي تختصّ بالآراء الكلّيّة قوّة تنسب إلى النظر، فيقال:عقل نظريّ.و القوّة الثانيّة التي لها-و تختصّ بالآراء الجزئيّة-قوّة تنسب إلى العمل،فيقال:عقل عمليّ.و تلك للصدق و الكذب،و هذه للخير و الشرّ،و تلك للواجب و الممكن و الممتنع،و هذه للقبيح و الجميل و المباح.و مبادئ تلك من المقدّمات الأوّليّة، و مبادئ هذه من المشهورات و المقبولات و المظنونات و التجربيّات الواهية التي تكون من المظنونات غير التجربيّات الوثيقة.و لكلّ واحدة من هاتين القوّتين رأي و ظنّ، و الرأي هو الاعتقاد المجزوم به،و الظنّ هو الاعتقاد المميل إليه الراجح مع تجويز الطرف الآخر المرجوح.و ليس من ظنّ فقد اعتقد،كما ليس من أحسّ فقد عقل،أو من تخيّل فقد ظنّ أو اعتقد أو رأى.فيكون في الإنسان حاكم حسّيّ،و حاكم من باب التخيّل وهميّ، و حاكم نظريّ،و حاكم عمليّ،و يكون المبادئ الباعثة لقوّته الإجماعيّة على تحريك الأعضاء وهميّة خياليّة،و عقليّة عمليّة،و شهوة و غضبا،و يكون للحيوانات الأخرى بعض من هذه لا كلّها،كما سيأتي بيانه.

ص:159

ثمّ إنّ العقل العمليّ يحتاج في أفعاله كلّها إلى البدن و إلى القوى البدنيّة إلاّ نادرا، كإصابة العين من بعض النفوس الشّريرة،و الأفعال الخارقة للعادات من المتجرّدين الكاملين،لو قلنا بأنّ هذين النوعين من الفعل يقعان من غير توسّط البدن.

و أمّا العقل النظريّ فإنّ له حاجة ما إلى البدن و إلى قواه،لكن لا دائما و من كلّ وجه، بل قد يستغني بذاته.

ثمّ إنّه ليس شيء من هاتين القوّتين أو هذه القوى هو النفس الإنسانيّة بعينها،بل النفس هو الشيء الّذي له هذه القوى،و هو-كما أشرنا إليه و سنوضّحه-جوهر منفرد بذاته،و له استعداد نحو أفعال بعضها لا يتمّ إلاّ بآلات و بالإقبال عليها بالكلّيّة،و بعضها يحتاج فيه إلى الآلات حاجة ما،و بعضها لا يحتاج إليها البتّة،كما سيأتي شرح ذلك كلّه إن شاء اللّه تعالى.

فجوهر النفس الإنسانيّة مستعدّ لأن يستكمل نوعا من الاستكمال بذاته،و ممّا هو فوقه لا يحتاج فيه إلى ما هو دونه،و هذا الاستعداد له إنّما هو بالقوّة التي تسمّى العقل النظريّ،و هو بها مستعدّ لأن يتحرّز عن آفات تعرض له من المشاركة،كما سيأتي بيانه أيضا،و لأن يتصرّف في المشاركة تصرّفا على الوجه الذي يليق به و ينبغي له.

و هذا الاستعداد له لقوة تسمّى العقل العمليّ،و هي رئيسة القوى التي له إلى جهة البدن، و أمّا ما دون ذلك،فهي قوى تنبعث عنه لاستعداد البدن لقبولها و لمنفعته،و الأخلاق التي تكون للنفس إنّما هي من جهة هذه القوّة،كما سيجيء بيانه أيضا.

و لكلّ واحدة من هاتين القوّتين استعداد كمال،فالاستعداد الصرف من كلّ واحدة منهما أن تحصل لها المبادى التي بها تكمّل أفعالها.أمّا العقل النظريّ الهيولانيّ، فالمقدّمات الأوّليّة و ما يجري مجراها،و أمّا العمليّ،فالمقدّمات المشهورة و هيآت أخرى.فحينئذ يكون كلّ واحد منهما عقلا بالملكة،ثمّ يحصل لكلّ واحد منهما الكمال المكتسب الميسّر له،فيصير مراتبهما أربعا،كما سيأتي بيانه أيضا.

ص:160

تمهيد في أنّ النفس الناطقة الإنسانيّة جوهر مجرّد عن المادّة

و حيث عرفت هذه الجملة على الإجمال،فحريّ بنا أن نبيّن أنّ هذه النفس المستعدّة لقبول المعقولات بالعقل الهيولانيّ و ما بعده من المراتب ليست بجسم و لا جسمانيّ،و بالجملة ليست بذي وضع،بل أنّها جوهر مجرّد عن المادّة و عن توابعها،قائم بذاته.و لمّا كان بيان هذا المقصود على الوجه الذي نرومه هنا،مبنيّا على أنّ النفس الإنسانيّة تدرك المعاني الكلّيّة و المعقولات المجرّدة عن المادّة،فتكون هي أيضا مجرّدة عنها كمدركاتها المجرّدة،و كان هذا موقوفا على بيان مقدّمات:

منها أنّها مدركة للمعاني الكلّيّة و المعقولات،و هذه قد مضى بيانها،حيث عرفت أنّ أخصّ الخواصّ بالإنسان إدراك المعاني الكلّيّة و المعقولات.

و منها أنّ تلك المعاني مجرّدة عن المادّة.

و منها أنّ إدراك النفس لها على أيّ وجه و ما معناه؟

و منها أنّه بأيّ سبب وجهة يكون إدراك المجرّدات مستلزما لتجرّد ما يدركها؟

و هذه المقدّمات لم تتبيّن بعد،فلنبيّنها حتّى يتّضح المقصود.فلنتكلّم أولا في بيان أصناف الإدراكات التي للإنسان،و في إدراك المعاني الكلّيّة،و في تجرّد تلك المعاني و المعقولات عن المادّة.

نقل كلام و تنقيح مرام

فنقول:قال الشيخ فى طبيعيات الشفاء هكذا (1):«فصل في تحقيق أصناف الإدراكات التي لنا،فلنتكلّم الآن في القوى الحاسّة و المدركة (2)،و لنتكلّم فيها كلاما كلّيّا فنقول:يشبه أن يكون كلّ إدراك إنّما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء،فإن كان الإدراك إدراكا لشيء مادّيّ،فهو أخذ صورته مجرّدة عن المادّة تجريدا ما،إلاّ أنّ أصناف التجريد

ص:161


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 50/2،الفصل الثاني من المقالة الثانية من الفنّ السادس.
2- في المصدر:الدرّاكة.

مختلفة و مراتبها متفاوتة.

فإنّ الصورة المادّيّة يعرض (1)لها بسبب المادّة أحوال و أمور ليست هي (2)لذاتها-من جهة ما هي-تلك الصورة،فتارة يكون النزع عن المادّة نزعا مع تلك العلائق كلّها أو بعضها،و تارة يكون النزع نزعا كاملا،و ذلك بأن يجرّد الشيء عن المادّة و عن اللواحق التي لها (3)من المادّة،مثاله:أنّ الصّورة الإنسانيّة و الماهيّة (4)الإنسانيّة طبيعة لا محالة تشترك فيها أشخاص النوع كلّها بالسويّة،و هي يحدّها (5)شيء واحد،و قد عرض لها أن وجدت في هذا التشخّص (6)فتكثّرت،و ليس لها ذلك من جهة طبيعتها الإنسانيّة، و لو كانت (7)للطبيعة الإنسانيّة ما يجب فيها التكثّر،لما كان يوجد إنسانا (8)محمولا على واحد بالعدد.و لو كانت الإنسانيّة موجودة لزيد لأجل أنّها إنسانيّة (9)،لما كان لعمرو.فإذن أخذ (10)العوارض التي تعرض للإنسانيّة من جهة المادّة (11)هي هذا النوع من التكثّر و الانقسام،و يعرض لها أيضا (12)هذه من العوارض،و هو أنّها إذا كانت في مادّة (13)،حصلت بقدر من الكمّ و الكيف و الوضع و الأين،و جميع هذه امور غريبة عن طبائعها،و ذلك لأنّه لو كانت الإنسانيّة على هذا الحدّ،و حدّ آخر من الكمّ و الكيف و الأين و الوضع لأجل أنّها إنسانيّة،لكان يجب أن يكون كلّ إنسان مشاركا للآخر في تلك المعاني،و لو كانت لأجل الإنسانيّة على حدّ آخر وجهة اخرى من الكمّ و الكيف و الأين و الوضع،لكان كلّ إنسان (14)أن يشترك فيه،فإنّ (15)الصورة الإنسانيّة بذاتها غير مستوجبة أن يلحقها شيء من هذه اللواحق العارضة لها،بل من جهة المادّة،لأنّ المادّة التي تقارنها تكون قد لحقتها هذه اللواحق.فالحسّ يأخذ الصورة عن المادّة مع هذه اللواحق و مع وقوع نسبة بينها و بين المادّة،إذا زالت تلك النسبة بطل ذلك الأخذ،و ذلك لأنّه لا ينزع الصورة عن المادّة مع جميع لواحقها،و لا يمكنه أن يستثبت بتلك (16)الصورة إن غابت المادّة،فيكون كأنّه لم ينزع (17)الصورة عن المادّة نزعا محكما،بل يحتاج إلى وجود المادّة أيضا في أن تكون

ص:162


1- في المصدر:تعرض...
2- ليست هي لها بذاتها...المعنى...
3- له من جهة المادة...
4- الماهيّة...
5- بحدّها...
6- هذا الشخص و ذلك الشخص فتكثّرت...
7- و لو كان...
8- إنسان...
9- إنسانيّته،لما كانت...
10- أجد...
11- هي...
12- أيضا غير هذا من...
13- مادّة ما...
14- إنسان يجب أن...
15- فإذن الصورة...
16- تلك...
17- لم ينتزع الصورة إن غابت المادة،فيكون كأنّه لم ينتزع الصورة.

تلك الصورة موجودة لها.

و أمّا الخيال و التخيّل فإنّه تبرّي (1)الصورة المنزوعة عن المادّة تبرئة أشدّ،و ذلك لأنّه يأخذها عن المادّة بحيث لا يحتاج (2)في وجودها فيها إلى وجود مادّتها،لأنّ المادّة،و إن غابت عن الحسّ أو بطلت،فإنّ الصورة تكون ثابتة الوجود في الخيال،فيكون أخذه (3)إيّاها قاصما للعلاقة بينها و بين المادّة قصما تامّا،إلاّ أنّ الخيال لا يكون قد جرّدها عن اللواحق المادّيّة،فالحسّ لم يجرّدها عن المادّة تجريدا تامّا،و لا جرّدها عن لواحق المادّة (4)،لأنّ الصّورة التي في الخيال هي حسب (5)الصورة المحسوسة و على تقدير ما و تكيّف (6)ما و وضع،و ليس يمكن في الخيال البتّة أن يتخيّل (7)صورة هي بحال يمكن أن يشترك فيه (8)جميع أشخاص ذلك النوع،فإنّ الإنسان المتخيّل يكون كواحد من الناس، و يجوز أن يكون ناس موجودين متخيّلين (9)ليسوا على نحو (10)تخيّل ذلك الانسان.

و أمّا الوهم،فإنّه قد يتعدّى قليلا هذه المرتبة في التجريد،لأنّه (11)لا ينال المعاني التي ليست هي في ذاتها بمادّية،و أن عرض لها أن تكون في مادّة.و ذلك لأنّ الشكل و الكون و الوضع و ما أشبه ذلك،امور لا يمكن أن تكون إلاّ بموادّ جسمانيّة.

و أمّا الخير و الشرّ و الموافق و المخالف و ما أشبه ذلك،فهي امور في أنفسها غير مادّيّة،و قد يعرض لها أن تكون مادّيّة.

و الدليل على أنّ هذه الامور غير مادّيّة،أنّ هذه الامور لو كانت بالذات مادّيّة،لما كان يعقل خير أو شرّ أو موافق (12)أو مخالف،إلاّ عارضا لجسم،و قد يعقل ذلك،بل يوجد.

فبيّن أنّ هذه الامور في (13)أنفسها غير مادّيّة،و قد عرض لها أن كانت مادّيّة،و الوهم ربما (14)ينال أو يدرك أمثال هذه الامور،فإذن الوهم قد يدرك امورا غير مادّيّة و يأخذها

ص:163


1- في المصدر:يبرئ...
2- تحتاج...
3- -أخذها خ ل.
4- لواحق المادة.و أمّا الخيال فإنّه قد جرّدها عن المادّة تجريدا تامّا،و لكن لم يجرّدها البتّة عن لواحق المادّة،لأنّ الصورة...
5- على حسب...
6- تكييف ما و وضع ما...
7- تتخيّل...
8- فيها...
9- و متخيّلين...
10- نحو ما يتخيّل خيال ذلك...
11- لأنّه ينال...
12- موافق و مخالف...
13- هي في أنفسها.
14- -إنّما خ ل.

عن المادّة،كما يدرك (1)أيضا معان غير محسوسة و إن كانت مادّيّة،فهذا النزع إذن أشدّ استقصاء و أقرب إلى البساطة من النزعين الأوّلين،إلاّ أنّه مع ذلك لا يجرّد هذه الصورة عن لواحق المادّة،لأنّه يأخذها جزئيّة و بحسب مادّة مادّة،و بالقياس إليها،و معلّقة (2)بصورة محسوسة،مكفوفة (3)بلواحق المادّة و بما يشاركه (4)الخيال فيها.

و أمّا القوّة التي تكون الصور (5)المثبتة فيها،إمّا صور موجودات ليست بمادّيّة البتّة و لا عرض لها أن تكون مادّيّة،أو صور موجودات مادّيّة،لكن (6)مبرّاة عن علائق المادّة من كلّ وجه،فبيّن أنّها تدرك الصور بأن تأخذها أخذا مجرّدا عن المادّة من كلّ وجه.

أمّا (7)ما هو متجرّد بذاته عن المادّة،فالأمر فيه ظاهر،و أمّا ما هو موجود للمادّة،إمّا لأنّ وجودها مادّيّ،و إمّا عارض له ذلك،فتنزعها (8)عن المادّة و عن لواحق المادّة معه (9)، فيأخذه (10)(11)أخذا مجرّدا حتّى يكون مثل الإنسان الذي يقال على كثيرين،و حتّى يكون قد أخذ الكثير طبيعة واحدة،و يفرزه (12)عن كلّ كمّ و كيف و أين و وضع مادّيّ،و لو لم يجرّده (13)عن ذلك،لما صلح أن يقال على الجميع.فبهذا يفترق إدراك الحاكم الحسّيّ، و إدراك الحاكم الخيالي،و إدراك الحاكم الوهميّ،و إدراك الحاكم العقليّ،و إلى هذا المعنى نسوق (14)الكلام في هذا الفصل.

فنقول:إنّ الحاسّ في قوّته أن يصير مثل المحسوس بالفعل،إذ كان الإحساس هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّته فيتصوّر بها الحاسّ،فالمبصر هو مثل البصر (15)بالقوّة،و كذلك الملموس و المطعوم و غير ذلك،و المحسوس الأوّل بالحقيقة هو الذي ارتسم (16)في آلة الحسّ و إيّاه يدرك،و يشبه أن يكون إذا قيل:أحسست الشيء الخارجيّ كان معناه غير معنى أحسست في النفس؛فإنّ معنى قوله:أحسست الشيء الخارجيّ،أنّ صورته تمثّلت في حسّي.و معنى أحسست في النفس،أنّ الصورة نفسها تمثّلت في

ص:164


1- في المصدر:و يدرك...
2- متعلّقة...
3- مكنوفة...
4- -و بمشاركة خ ل.
5- الصورة...
6- و لكن...
7- فأمّا ما...
8- فتنزعه...
9- معها،
10- -فيأخذها خ ل.
11- و تأخذه...
12- و تفرزه...
13- لم تجرّده...
14- كنّا نسوق...
15- المبصر...
16- يرتسم.

نفسي (1).فلهذا يصعب إثبات وجود الكيفيّات المحسوسة في الأجسام.لكنّا نعلم يقينا أنّ جسمين و أحدهما يتأثّر عنه الحسّ شيئا،و الآخر لا يتأثّر عنه ذلك الشيء أنّه مختصّ في ذاته بكيفيّة هي مبدأ حالة (2)الحاسّة دون الآخر».انتهى موضع الحاجة من كلامه (3).

و قال فى الإشارات هكذا:«إشارة:إدراك (4)الشيء هو أن يكون حقيقة متمثّلة عند المدرك،يشاهدها ما به يدرك،فإمّا أن يكون (5)تلك الحقيقة نفس حقيقة الشيء الخارج عن المدرك إذا أدرك،فيكون حقيقته (6)ما لا وجود له في الأعيان الخارجة،مثل كثير من الأشكال الهندسيّة،بل كثير من المفروضات التي لا يمكن (7)إذا فرضت في الهندسة ممّا لا يتحقّق أصلا،و يكون (8)مثال حقيقته مرتسما في ذات المدرك غير مباين له،و هو الثاني (9)».

تنبيه:«الشيء قد يكون محسوسا عند ما يشاهد،ثمّ يكون متخيّلا عند غيبته بتمثّل صورته في الباطن،كزيد الذي أبصرته-مثلا-اذا غاب عنك فخيّلته (10)؛و قد يكون معقولا عند ما يتصوّر من زيد-مثلا-معنى الإنسان الموجود أيضا لغيره،و هو عند ما يكون محسوسا يكون قد غشيته غواش غريبة عن ماهيّته (11)لو أزيلت عنه لم تؤثّر في كنه ماهيّته (12)، مثل أين،و وضع،و كيف،و مقدار بعينه.و لو توهّم بدله غيره لم تؤثّر في حقيقة ماهيّة (13)إنسانيّته.

و الحسّ يناله من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تتوجّه (14)بحسب المادّة التي خلق منها،لا يجرّده عنها و لا يناله إلاّ بعلاقة وضعيّة بين حسّه و مادّته،و لذلك لا يتمثّل في الحسّ الظاهر صورته إذا زال.

و أمّا الخيال الباطن فيتخيّله (15)مع تلك العوارض لا يقدر (16)على تجريده المطلق عنها،لكنّه يجرّده عن تلك العلاقة المذكورة التي تعلّق بها الحسّ،فهو يتمثّل صورته مع

ص:165


1- في المصدر:في حسّي...
2- و إحالة...
3- -الاشارات 308/2-327.
4- درك الشيء هو أن تكون حقيقة...
5- تكون...
6- حقيقة ما لا وجود له الفعل في الأعيان...
7- لا تمكن...
8- أو يكون...
9- و هو الباقي...
10- فتخيّلته...
11- عن ماهيّته...
12- كنه ماهيّته...
13- حقيقة ماهيّة...
14- تلحقه...
15- فتخيّله...
16- لا تقتدر.

غيبوبة حاملها.

و أمّا العقل فيقتدر على تجريد الماهيّة (1)المكفوفة باللواحق الغريبة المشخّصة إيّاها، حتّى كأنّه عمل بالمحسوس عملا جعله معقولا».«و أمّا ما هو في ذاته بريء عن الشوائب المادّية و اللواحق الغريبة التي لا تلزم ماهيّته (2)عن ماهيّته،فهو معقول لذاته،ليس يحتاج إلى عمل يعمل به يعدّه لأن يعقله ما من شأنه أن يعقله،بل لعلّه في (3)جانب من شأنه أن يعقله».-انتهى كلامه-و قال في إلهيات الشفاء هكذا: (4)

فصل في العلم و أنّه عرض

و أمّا العلم فإنّ فيه شبهة،و ذلك لأنّ لقائل أن يقول أنّ العلم هو المكتسب من صور الموجودات مجرّدة عن موادّها،و هي صور جواهر و أعراض،فإن كانت صور الأعراض أعراضا،فصور الجواهر كيف تكون أعراضا؟فإنّ الجوهر لذاته جوهر،فماهيّته (5)لا تكون في موضوع البتّة،و ماهيّته (6)محفوظة،سواء نسبت إلى إدراك العقل لها،أو نسبت إلى الوجود الخارجيّ.فنقول:إنّ ماهيّة (7)الجوهر،بمعنى أنّه الموجود في الأعيان لا في موضوع،و هذا الصفة موجودة لماهيّة (8)الجواهر المعقولة،فإنّها ماهيّة (9)شأنها أن تكون موجودة فى الأعيان (10)،أي أنّ هذه الماهيّة (11)هي معقولة عن أمر وجوده في الأعيان أن يكون لا في موضوع.و أمّا وجوده في العقل بهذه الصفة،فليس ذلك في حدّه من حيث هو جوهر،أي ليس حدّ الجوهر أنّه في العقل لا في موضوع،بل حدّه أنّه سواء كان في العقل أو لم يكن،فإنّ وجوده في الأعيان ليس في موضوع.

فإن قيل:فالعقل أيضا من الأعيان.قيل:يراد بالعين التي إذا حصل فيها الجوهر صدرت عنه أفاعيله و أحكامه،و الحركة كذلك ماهيّتها (12)أنّها كمال ما بالقوّة،و ليست في

ص:166


1- في المصدر:تجريد الماهيّة...
2- لا تلزم ماهيّته عن ماهيّته...
3- لعله من جانب ما من شأنه...
4- -الشفاء-الإلهيّات140/-144.
5- فماهيّته جوهر لا تكون...
6- و ماهيّته...
7- إنّ ماهيّة...
8- لماهيّة...
9- ماهيّة شأنها...
10- الأعيان لا في موضوع...
11- هذه الماهيّة...
12- ماهيّتها أنّها.

العقل حركة بهذه الصفة،حتّى يكون في العقل كمال ما بالقوّة من جهة كذا،حتّى تصير ماهيّتها (1)محركة للعقل،لأنّ معنى كون ماهيّتها (2)على هذه الصفة هو أنّها ماهيّة (3)تكون في الأعيان كمالا لما بالقوّة،و إذا عقلت،فإنّ هذه الماهيّة (4)تكون أيضا بهذه الصفة،فإنّها في العقل ماهيّة (5)تكون في الأعيان كمال (6)لما بالقوّة،فليس يختلف كونها في الأعيان و كونها في العقل،فإنّه فى كليهما على حكم واحد،فإنّه في كليهما ماهيّة (7)توجد في الأعيان كمالا لما بالقوّة.فلو كنّا قلنا:إنّ الحركة ماهيّة (8)تكون كمالا بالقوّة (9)في الأين-مثلا-لكلّ شيء يوجد (10)فيه،ثمّ وجدت في النفس لا كذلك،لكانت الحقيقة تختلف.و هذا كقول القائل:

إنّ حجر المغناطيس حقيقته أنّه حجر يجذب الحديد،فإذا وجد مقارنا لجسميّة كفّ الإنسان و لم يجذبه،و وجد مقارنا لجسميّة حديد ما فجذبه،فلم يجب أن يقال:إنّه مختلف بالحقيقة في الكفّ و في الحديد،بل هو (11)كلّ واحد منهما بصفة واحدة،و هو أنّه حجر من شأنه أن يجذب الحديد.فإنّه إذا كان في الكفّ أيضا،كان بهذه الصفة،و إذا كان عند الحديد أيضا،كان بتلك الصفة.فكذلك حال ماهيّات (12)الأشياء في العقل (13)أيضا بهذه الصفة،و ليس اذا كانت في العقل في موضوع،فقد بطل أن يكون (14)في العقل ماهيّة ما في الأعيان ليست فى موضوع.

فإن قيل:قد قلتم إنّ الجوهر هو (15)ماهيّة لا تكون في موضوع أصلا،و قد صيّرتم ماهيّة (16)المعلومات في موضوع.

فنقول:قد قلنا:إنّه لا يكون في موضوع (17)أصلا.

فإن قيل:فقد (18)جعلتم ماهيّة الجوهر أنّها تارة تكون عرضا و تارة جوهرا،و قد منعتم هذا.

فنقول:إنّا منعنا أيضا أن يكون (19)ماهيّة شيء توجد في الأعيان مرّة عرضا،و مرّة

ص:167


1- في المصدر:تصير ماهيّتها...
2- كون ماهيّتها...
3- أنّها ماهيّة...
4- هذه الماهيّة...
5- ماهيّة تكون...
6- كمال ما بالقوّة،ليس يختلف...
7- ماهيّة توجد...
8- ماهيّة...
9- لما بالقوّة...
10- توجد فيه...
11- بل هو في كلّ...
12- ماهيّات...
13- العقل،و الحركة في العقل أيضا بهذه الصفة...
14- تكون في العقل ليست ماهيّة ما في...
15- هو ما ماهيّته...
16- ماهيّة المعلومات...
17- موضوع في الأعيان أصلا...
18- قد جعلتم ماهيّة...
19- تكون ماهيّة.

اخرى جوهرا حتّى تكون في الأعيان تحتاج إلى موضوع ما،و فيها لا تحتاج إلى موضوع البتّة،و لم نمنع أن يكون معقولة (1)تلك الماهيّة تصير عرضا،أي (2)أن تكون موجودة في النفس لا كجزء.

و لقائل أن يقول:فماهيّة (3)العقل الفعّال و الجواهر المفارقة أيضا كذا يكون حالها،حتّى يكون المعقول منها عرضا،لكنّ المعقول منها لا يخالفها،لأنّها لذاتها معقولة.

فنقول:ليس الأمر كذلك،فإنّ معنى قولنا:إنّها لذاتها معقولة (4)،هو أنّها تعقل ذاتها، و إن لم يعقلها غيرها،و أيضا (5)أنّها مجرّدة عن المادّة و علائقها لذاتها،لا بتجريد يحتاج أن يتولاّه العقل.و أمّا إن قلنا (6)هذا المعقول منها يكون من كلّ وجه هي أو مثلها،و قلنا (7):

إنّه ليس يحتاج إلى وجود المعقول منها،إلاّ أن توجد ذاتها في النفس،فقد أحلنا.فإنّ ذاتها مفارقة،و لا تصير نفسها صورة لنفس إنسان،و لو صارت لكانت تلك النفس قد حصل (8)فيها صورة الكلّ و علمت كلّ شيء بالفعل،و لكانت تصير كذلك لنفس واحدة، و تبقى النفوس الاخرى ليس لها الشيء الذي تعقله،إذ قد استبدّ بها نفس ما،و الذي يقال:

إنّ شيئا واحدا بالعدد يكون صورة لموادّ كثيرة،لا بأن يؤثّر فيها،بل بأن يكون هو بعينه (9)منطبعا،أي انفرد في تلك المادّة و في اخرى و أخرى،فهو محال يعلم بأدنى تأمّل.و قد أشرنا إلى الحال (10)،و ذلك عند كلامنا في النفس،و سنحوج (11)من بعد إلى خوض في إبانة ذلك.

فإذن تلك الأشياء إنّما تحصل في القوى (12)البشريّة معاني ماهيّاتها (13)لا ذواتها،و يكون حكمها كحكم سائر المعقولات من الجواهر،إلاّ في شيء واحد،و هو أنّ (14)تلك الجواهر تحتاج إلى تقشيرات حتى يتجرّد منها تعقّل (15)،و هذا أي الذوات العقليّة لا يحتاج إلى شيء غير (16)أن يوجد المعنى (17)من غير تقشير،كما هو،فينطبع بها النفس.و هذا (18)الذي قلناه إنّما

ص:168


1- في المصدر:معقول تلك الماهيّات يصير...
2- أي تكون موجودة...
3- فماهيّة...
4- -معنى معقول خ ل.
5- و أنّها أيضا...
6- قلنا إنّ هذا...
7- أو قلنا...
8- حصلت فيها...
9- بعينه منطبعا في تلك المادّة...
10- الحال في ذلك...
11- و سنخرج...
12- في العقول...
13- ماهيّاتها...
14- أن تلك تحتاج الى تفسيرات...
15- منها معنى يعقل...
16- و هذا لا يحتاج الى شيء غير...
17- المعنى كما هو،فتنطبع به النفس...
18- فهذا.

هو نقض حجّة المحتجّ،و ليس فيه إثبات ما يذهب (1)إليه.فنقول:إنّ هذه المعقولات سنبيّن من أمرها بعد،أنّ ما كان من الصور الطبيعيّة و التعليمات (2)،فليس يجوز أن يقوم مفارقا بذاته،بل يجب أن يكون في عقل أو في نفس،و ما كان من أشياء مفارقة،فنفس وجود تلك المفارقات مباينة لنا ليس هو علمنا (3)بها،بل يجب أن نتأثّر عنها فيكون ما نتأثّر (4)عنها هو علمنا بها،و كذلك (5)لو كانت صورا مفارقة و تعليمات 1مفارقة،فإنّما يكون علمنا بها ما يحصل لنا منها،و لم تكن أنفسها توجد لنا منتقلة إلينا،فقد بيّنّا بطلان هذا في مواضع.بل الموجود لنا منها هي الآثار الحاكية (6)لها لا محالة،و هي علمنا ذلك (7)إمّا أن يحصل لنا في أبداننا او نفوسنا (8)،و قد بيّنا استحالة حصول ذلك فى أبداننا فبقي (9)أنّها تحصل في نفوسنا،و لأنّها آثار في النفس،لا ذوات تلك الأشياء و لا أمثال لتلك الأشياء (10)،أمثلة قائمة لا في موادّ بدنيّة أو نفسانيّة،فيكون ما لا موضوع له يتكثّر نوعه بلا سبب يتعلّق به بوجه،فهي أعراض في النفس».انتهى كلامه.

و أقول:لا يخفى عليك أنّ فيما نقلناه عن الشيخ في الكتابين غنية و كفاية في بيان ما رمنا هنا بيانه،إلاّ أنّك إن اشتهيت زيادة إيضاح المقام بحيث ينقشع عن بصيرتك سحاب الارتياب في هذا المرام،و ينكشف عن قلبك أغشية المرية و الاوهام،فاستمع لما يتلى عليك من الكلام.

فنقول:كما أنّ للوجود معنيين:

أحدهما معنى مصدريّ انتزاعيّ يعبّر عنه في العربيّة ب«الكون و الحصول»،و في الفارسية ب«بودن».

و الآخر ما به يصير الشيء موجودا،و به يصحّ انتزاع ذلك المعنى الأوّل الانتزاعيّ عنه.

ص:169


1- في المصدر:ما تذهب..
2- -التعلميّات خ ل.
3- علمنا لها...
4- يتأثّر...
5- و كذلك إن كانت...
6- -المحاكية خ ل.
7- و ذلك يكون إمّا...
8- أو في نفوسنا...
9- فيبقى...
10- الأشياء قائمة.

و بالجملة مناط الموجوديّة و منشأ انتزاعها،و قد يعبّر عنه فى الفارسية ب«هستى».

و كذلك للعلم معنيان:

أحدهما معنى مصدريّ انتزاعيّ هو عبارة عن انكشاف المعلوم عند العالم به،و قد يعبّر عنه في الفارسية ب«دانا بودن و دانستن».

و الآخر ما به يصير الشيء عالما،و به يصحّ انتزاع ذلك المعنى الانتزاعيّ عنه،و قد يعبّر عنه في الفارسية ب«دانش».

و كذلك الحال في كثير من الصفات،كالحياة و القدرة.فكذلك الإدراك أيضا-سواء اريد به المعنى العامّ المتناول لأقسامه الأربعة،أعني الإحساس و التخيّل و التوهّم و التعقّل المسمّى بالعلم،كما هو المراد هنا،حتّى يكون العلم أيضا قسما منه و أخصّ منه،مندرجا عنه اندراج النوع تحت الجنس،أو أريد به خصوص الإحساس،كما قد يطلق و يراد به ذلك و إن لم يكن مرادا هنا-فله أيضا معنيان:

أحدهما معنى مصدريّ انتزاعيّ،هو عبارة عن انكشاف المدرك عند المدرك،و قد يعبّر عنه فى الفارسية ب«دريافتن».

و الآخر ما به يصير الشيء مدركا،و به يصحّ انتزاع ذلك المعنى الانتزاعي عنه.

فكما أنّ في الإدراك و العلم الحضوريّ يكون مناط ذلك الإدراك حضور ذلك المعلوم و المدرك عند العالم به المدرك له،و يكون ذلك مستندا إلى أمر به كان الحضور،كالاتّحاد و العينيّة في علم النفس بذاتها،أو ربط الآليّة في علم النفس بما يدركه حواسّها آلاتها، أو ربط العلّيّة التامّة،كما يقولون في علم اللّه تعالى بالموجودات بعد وجودها.كذلك في الإدراك الحصوليّ-سواء كان إدراكا لأمر جزئيّ أو كلّيّ-يجب أن يكون لذلك الإدراك مناط و منشأ،إذ من المعلوم أنّه عند إدراك شيء خارج عن ذات المدرك إدراكا حصوليّا يحصل للذات المدركة له-كالنفس-أمر بسببه تكون قد أدركته،و لم يكن ذلك الأمر قد حصل لها قبل ذلك،فلم تكن مدركة له؛و أنّ ذلك الأمر الحاصل حينئذ هو منشأ ذلك الإدراك.

ص:170

و قد علمت فيما نقلنا عن الشيخ في«الشفاء»أوّلا،أنّه قال:إنّ ذلك الأمر الحاصل في كلّ إدراك جزئيّ أو كلّيّ هو صورة المدرك صورة مجرّدة عن المادّة و لواحقها نحوا من التجريد الحاصل في كلّ إدراك،و أنّ كلّ إدراك إنّما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء،و إن كان قد أطلق على مدركات الوهم اسم المعاني أيضا،أي المعاني التي يأخذها عن المادّة،سواء كانت تلك المعاني أنفسها مادّيّة،كالشكل و اللون و الوضع، أو غير مادّيّة،لكن قد يعرض لها أن تكون مادّية كالخير و الشّرّ و الموافق و المخالف.

و فيما نقلنا عنه في«الإشارات»أنّه قال:إنّ إدراك الشيء-أي مطلقا-هو أن يكون حقيقته متمثّلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك،فأطلق عليه اسم الحقيقة،أي الحقيقة المتمثّلة من المدرك عند المدرك،و إن كان أطلق عليه بعد ذلك اسم مثال الحقيقة أيضا، و كذا أطلق على مدركات الحواسّ مطلقا اسم الصورة،أي الصورة المتمثّلة من المدرك فى المدرك،و على مدركات العقل اسم الماهيّة،أي الماهيّة المجرّدة من اللواحق الغريبة المشخّصة.

و فيما نقلنا عنه في«الشفاء»أخيرا إنّه قال في صورة حصول العلم،أي الإدراك الكلّيّ:أنّ ذلك الأمر الحاصل هو صور الموجودات مجرّدة عن موادّها،فأطلق عليه اسم الصورة،و إن كان قد أطلق عليه أيضا اسم الماهيّة،و المعقول من الماهيّة و معنى الماهيّة و الآثار الحاكية لها.

فحريّ بنا أن ننظر في ذلك،أي في بيان معاني هذه الألفاظ،و بيان المراد منها،و بيان مدلولات هذه الأسماء،و في بيان الوجه في كون حصولها على ذلك الوجه المخصوص سببا للإدراك.

فنقول:كما ذكر الشيخ في إلهيّات الشفاء في فصل في العلل العنصريّة و الصوريّة و الغائيّة (1)«إنّه (2)قد يقال صورة لكلّ معنى بالفعل يصلح أن (3)يعقل حتّى يكون الجواهر

ص:171


1- -الشفاء-الالهيّات282/.
2- في المصدر:قد يقال...
3- أن يفعل حتّى تكون.

المفارقة صورا بهذه المعنى.و يقال:صورة لكلّ هيئة و فعل (1)في قابل وحدانيّ أو بالتركيب حتّى يكون (2)الحركات و الأعراض صورا،و يقال:صورة لكلّ ما (3)يكمل (4)به المادّة بالفعل،فلا يكون (5)حينئذ الجواهر العقليّة و الأعراض صورا (6)،و يقال لما يكمل به المادّة،و إن لم (7)يكن متقوّمة بها بالفعل،مثل الصحّة (8)و ما يتحرّك إليها بالطّبع،و يقال صورة خاصّة لما يحدث في الموادّ بالصناعة من الأشكال و غيرها.و يقال:صورة لنوع الشيء و لجنسه و لفصله و لجميع ذلك.و يكون (9)كلّية الكلّ صورة في الأجزاء أيضا، و الصورة قد تكون ناقصة كالحركة،و قد تكون تامّة كالتربيع و التدوير».

و ذكر في طبيعيّات الشفاء في فصل في تعديد قوى النفس (10):«إن (11)الفرق بين إدراك الصورة و إدراك المعنى أنّ الصورة هو الشيء الذي يدركه الحسّ (12)الباطن،و الحسّ الظاهر يدركه أولا و يؤدّيه إلى الحسّ الباطن،مثل إدراك الشاة صورة (13)الذئب،أعني بشكله (14)و هيئته و لونه،فإنّ الحسّ الباطن من الشاة يدركها،لكن إنّما يدركها أوّلا حسّها الظاهر.

و أمّا المعنى،فهو الشيء الذي يدركه (15)النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحسّ الظاهر أوّلا،مثل إدراك الشاة للمعنى المضادّ في الذئب،أو للمعنى الموجب لخوفها (16)إيّاه و هر بها منه،من غير أن يدرك الحسّ ذلك البتّة.فالذي يدرك من الذئب أوّلا الحسّ الظاهر،ثمّ الحسّ الباطن،فإنّه يخصّ في هذا الموضع باسم الصورة.و الذي يدركه (17)القوى الباطنة دون الحسّ،فيخصّ في هذا الموضع باسم المعنى»-انتهى-.

و ذكر أيضا في طبيعيّات الشفاء في فصل في نسبة الطبيعة إلى المادّة و الصورة و الحركة:«إنّ لكلّ جسم طبيعة و مادّة و صورة و أعراضا،فطبيعته (18)هي القوّة التى يصدر عنها تحرّكه أو تغيّره الذي يكون (19)عن ذاته،و كذلك سكونه و ثباته؛و صورته هي ماهيّته (20)

ص:172


1- في المصدر:و فعل يكون في...
2- تكون...
3- ما تتقوّم به المادّة...
4- -يتقوّم خ ل.
5- فلا تكون...
6- و يقال صورة لما تكمل...
7- لم تكن...
8- الصورة و ما يتحرّك بها بالطبع...
9- و تكون كلّيّة الكلّي صورة للاجزاء أيضا...
10- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 35/2،الفصل الخامس من المقالة الاولى في الفنّ السادس.
11- و الفرق...
12- الحسّ الباطن و الحسّ الظاهر معا،لكنّ الحسّ الظاهر يدركه أوّلا...
13- لصورة...
14- لشكله...
15- تدركه النفس...
16- لخوفها...
17- تدركه القوّة...
18- و طبيعته...
19- يتكوّن...
20- ماهيّته.

التي بها هو ما هو.و مادّته هي المعنى الحامل لماهيّة (1)،و الأعراض هي الأمور التي إذا تصوّرت مادّته بصورته و تمّت نوعيّته،لزمته أو عرضت له من خارج.

و ربّما كانت طبيعة الشيء هي بعينها صورته،و ربّما لم تكن.

أمّا في البسائط،فإنّ الطبيعة هي الصورة بعينها،فإنّ طبيعة الماء هي بعينها الماهيّة (2)التي بها الماء هو ما هو،لكنّها إنّما تكون طبيعة باعتبار،و صورة باعتبار،فإذا (3)قيست إلى الحركات و الأفعال الصادرة عنها سمّيت طبيعة،و اذا قيست إلى تقويمها لنوع الماء،و إن لم يلتفت إلى ما يصدر عنها من الآثار و الحركات،سمّيت صورة» (4)،انتهى.

و ذكر المحقّق الطوسيّ(ره)في التجريد«إنّ المهيّة مشتقّة عمّا هو،و هو ما به يجاب عن السؤال بما هو،و يطلق (5)غالبا على الأمر المعقول (6)،و يطلق الذات و الحقيقة عليها مع اعتبار الوجود» (7)،انتهى.

و ذكر الشارح القوشجيّ في شرح هذا الكلام«انّه (8)يطلق لفظ الماهيّة غالبا على الأمر المتعقّل (9)،أي الحاصل في القوّة العاقلة،فلا يكون إلاّ كلّيّا موجودا في الذهن،و من ثمّ قيل:لفظ الماهيّة يدلّ على مفهوم الكلّيّة التزاما.و يطلق الذات و الحقيقة غالبا عليها،أي على الماهيّة مع اعتبار الوجود (10)أي الخارجيّ،فلا يقال حينئذ:ذات العنقاء أو (11)حقيقتها، بل ماهيّتها.و هذا بحسب الأغلب،إذ قد تستعمل (12)هذه الألفاظ الثلاثة بلا اعتبار فرق بينها».انتهى.

و حيث عرفت ذلك،فنقول:إنّ ذلك الأمر الحاصل الذي ذكر أنّه لا بدّ من حصوله في الإدراك الحصوليّ حتّى يحصل الإدراك،لا خفاء في أنّه لا يمكن أن يكون أمرا مبائنا للمدرك و المعلوم،و مغايرا له من كلّ وجه؛فإنّه لو كان كذلك،لما كان لحصوله في المدرك إفادة للعلم بالمدرك،و هو ظاهر.و لا عينه و متّحدا معه من كلّ وجه؛إذ لو كان كذلك، لكان قد حصل المعلوم و المدرك بوجوده العينيّ في المدرك،أي في النفس و في القوى

ص:173


1- في المصدر:لماهيّته...
2- الماهيّة...
3- فإذا الحركات قيست إلى الحركات و الأفعال...
4- -شرح التجريد82/،للقوشجي.
5- تطلق لفظة...
6- المعقول...
7- -شرح التجريد85/، [1]مؤسسة النشر الإسلامي-قم،1412 ه.
8- و هي(أي الماهيّة)...
9- تطلق المتعقّل و الذات و الحقيقة...
10- للوجود الخارجي...
11- و حقيقتها،بل ماهيّتها...
12- يستعمل.

الدرّاكة،و لكان يجب أن يترتّب على ذلك المدرك عند حصوله في المدرك آثاره الخارجة المطلوبة منه،المترتّبة على وجوده العينيّ؛و لكان يجب أن لا يبقى فرق بين الوجود العينيّ و الوجود الذهنيّ أصلا،و مع ذلك يلزم انتقال الأعراض أيضا إذا كان الإدراك متعلّقا بها،إلى غير ذلك من الأمور التي هي معلومة البطلان.

فبقي أن يكون ذلك الأمر مغايرا للمدرك من وجه،حتّى لا يلزم تلك المفاسد،و كذا متّحدا معه نوعا من الاتّحاد من وجه آخر حاكيا آثاره،حتّى يكون حصوله في المدرك منشأ لإدراكه و لحصول العلم به.و حينئذ نقول:إنّ ذلك الأمر،امّا عبارة عن شبح المعلوم و مثال المدرك،كما يقوله القائلون بحصول الأشياء بأشباحها في الذهن؛و إمّا عبارة عن ماهيّته المجرّدة عن وجوده العينيّ الخارجيّ،و عن المشخّصات التي هي عبارة عن توابع وجوده الشخصيّ نوعا من التجريد الذي تفعله النفس،و تقتدر عليه في كلّ نوع من الإدراك بحسبه،كما يقوله القائلون بحصول الأشياء بأعيانها في الذهن،سواء كانت تلك الأشياء جواهر أو أعراضا،و سواء كانت مجرّدات أو مادّيّات.

و الأوّل باطل،إذ الإدراك-سواء كان كلّيّا أو جزئيّا-قد يتعلّق بما هو ممتنع الوجود في الخارج،و كذا بما هو معدوم في الخارج قطعا،و إن كان ممكنا في نفسه،و يحكم على ذلك بأحكام صادقة في نفس الأمر.

في نصرة القول بوجود الأشياء بأعيانها في الذهن

و من المعلوم أنّ وجود الشبح لشيء،فرع وجود ذي الشبح بوجود آخر مغاير لوجود الشبح،حتى يصحّ نسبة الشبح إلى ذي الشبح و إضافته إليه و الحكم بأنّه شبح له.

فأمّا أن يكون ذلك الوجود لذي الشبح في الخارج،فهو باطل؛إذ المفروض عدم الوجود له في الخارج؛و أمّا أن يكون في الذهن أيضا بوجود آخر مغاير لوجود الشبح فيه،فهذا أيضا باطل،لأنّ ذلك الوجود إمّا بأنّ حصول ذي الشبح بشبحه بشبح آخر غير الأوّل،فننقل الكلام فيه و يلزم التسلسل في الأشباح،و إمّا بأنّ حصول ذي الشبح ماهيّة معرّاة عن

ص:174

الوجود الخارجيّ في الذهن،فهو خلاف الفرض،مع أنّه يستلزم المطلوب أيضا، و هو حصول الأشياء بماهيّاتها في الذهن.

فإن قلت:ما ذكرته إنّما ينفي أن يكون الأشياء التي لا وجود لها في الخارج موجودة في الذهن بأشباحها،و لا ينفي أن يكون الأشياء التي لها وجود في الخارج موجودة في الذهن بأشباحها.فلعلّ القسم الأوّل موجود فيه بمهيّته،و القسم الثاني موجود فيه بشبحه.

قلت:هذا الفرق تحكّم لا دليل عليه و لا باعث له،بل العقل السليم يحكم بأنّه إذا كان وجود الأشياء في الذهن بماهيّاتها في بعض الموادّ،يجب أن يكون في الكلّ كذلك.

فإنّ قلت:لعلّ الداعي إلى هذا الفرق هو الفرار عن الإشكالات الموردة على تقدير وجود الأشياء الموجودة في الخارج بماهيّاتها في الذهن،على ما سيأتي بيانها،حيث إنّها لا ترد على القول بالأشباح.

قلت:هذا لا يمكن أن يكون داعيا إليه،فإنّ تلك الإشكالات كما يمكن دفعها على تقدير القول بوجود الأشياء بأشباحها في الذهن،كذلك يمكن دفعها على تقدير القول بوجودها بأعيانها و ماهيّاتها فيه،كما سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و أيضا نقول:إذا كان وجود الأشياء مطلقا في الذهن عبارة عن حصول ماهيّاتها فيه، لا يخفى أنّه يسهل الخطب في سراية العلم بتلك الماهيّات-التي هي معلومة بالذات-إلى العلم بتلك الحقائق الخارجيّة التي هي معلومات بالعرض،و الحكم عليها و إثبات المحمولات لها.سواء كانت تلك المحمولات ذاتيّات لتلك الحقائق،أو عرضيّات لازمة أو مفارقة،فإنّ تلك الماهيّات هي عين تلك الحقائق باعتبار الذات،و إن كانت مغايرة لها باعتبار الوجود،فيصحّ جعل تلك الماهيّات آلة لملاحظة تلك الحقائق و تعرّف أحوالها.

و أمّا على تقدير القول بأنّ وجود الأشياء في الذهن عبارة عن حصول أشباحها فيه، فيصعب الخطب في ذلك،لأنّ تلك الأشباح لا يخفى أنّها مغايرة لذوات الأشباح بحسب الذات و في أكثر الجهات،و إن كانت مناسبة لها من بعض الوجوه.فلا يعلم أنّ العلم بها هل يمكن أن يسري إلى العلم بتلك الحقائق الخارجيّة أم لا؟و بذلك يصعب الخطب.

ص:175

و حيث عرفت ذلك،عرفت ضعف الاحتمال الأوّل بل بطلانه،و هو حصول الأشياء بأشباحها في الذهن.فبقي أن يكون الحقّ هو الاحتمال الثاني،و هو حصول الأشياء بأعيانها-أي بماهيّاتها-في الذهن مجرّدة عن الوجود الخارجيّ و عن لواحقه،لا بحقائقها المأخوذة مع الوجود الخارجيّ،إلاّ أن يكون المدرك ممّا لا يكون خارجا عن ذات المدرك،كالصورة العلميّة من حيث إنّها علم و إدراك،على ما سيأتي بيانه.فإنّها من هذه الحيثيّة حاصلة في الذهن بحقيقتها،مأخوذة مع الوجود الخارجيّ،فإنّ وجودها في الذهن كذلك هو نوع وجود خارجيّ لها،و إن كان لسببها للمعلوم و المدرك وجود ذهنيّ، و سنزيده بيانا فانتظر.

لا يقال:كما أنّ الأشياء الممتنعة و الممكنة المعدومة في الخارج لا يمكن أن يكون لها أشباح كما ذكرت،فكذلك لا يمكن أن يكون لها ماهيّات،إذ وجود الماهيّة لشيء فرع وجود الحقيقة له،لأنّ الماهيّة-كما ذكروه-هي الحقيقة بعينها،إلاّ أنّ الحقيقة ماهيّة مأخوذة مع الوجود الخارجيّ،و الماهيّة حقيقة مجرّدة عنه.

لأنّا نقول:لا نسلّم ما ذكرته،حيث إنّ عدم كون حقيقة لشيء لا يستلزم عدم كون ماهيّة له،فإنّه قد يمكن أن لا يكون لماهيّة من الماهيّات وجود خارجيّ،و يكون لها مع ذلك وجود ذهنيّ.و نحن نعني بالممتنع و المعدوم في الخارج،ما كان حقيقته الخارجيّة و وجوده الخارجيّ ممتنعا أو معدوما،لا ما كان ماهيّته الذهنيّة و وجوده الذهنيّ ممتنعا أو معدوما.

فحينئذ،فالماهيّات المجرّدة عن الوجود الخارجيّ التي تحصل في الذهن أعمّ من أن يكون لها وجود خارجيّ فيجرّدها العقل عنه فيدركها،كما في الموجودات الخارجيّة، و أن لا يكون لها وجود خارجيّ حتّى تحتاج إلى تجريد،بل يدركها العقل كما هي عليه مجرّدة عن الوجود الخارجيّ،كما في الممتنعات و المعدومات في الخارج.

و بالجملة،إنّ الماهيّة المتمثّلة عند المدرك إن لم تكن خارجة عن ذات المدرك، كالصورة العلمية التي هي تلك الماهيّة الحاصلة في الذهن باعتبار أنّها علم لا باعتبار أنّها

ص:176

معلومة-كما سيأتي الفرق بينهما-فهي بهذا الاعتبار حاصلة بحقيقتها فيه،إذ ذلك الحصول نوع وجود خارجيّ لها،كما أشرنا إليه و سنزيده بيانا.

و إن كانت خارجة عن ذات المدرك،كالصورة الحاصلة التي قلنا إنّها ماهيّات الأشياء من حيث إنّها معلومات و مدركات،فهي عند حصولها في المدرك مجردة عن الوجود الخارجيّ،سواء كانت صورا منتزعة من الخارج إن كان الإدراك مستفادا من خارج؛ أو صورا حصلت عند المدرك ابتداء،سواء كانت الخارجيّة مستفادة منها أو لم تكن، و سواء كان ما يفرض خارجيّا ممتنع الوجود في الخارج أو ممكن الوجود فيه،واقعا في الخارج بالفعل أو غير واقع بل معدوما فيه،ففي كلّ تلك الصور فالماهيّة الحاصلة في الذهن ماهيّة مجرّدة عن الوجود الخارجيّ البتّة،إلاّ أنّ هذا التجريد يكون على وجهين، ففي بعضها يكون التجريد بأن يكون هناك وجود خارجيّ،و يجرّد العقل تلك الماهيّة عنه على الأنحاء المعتبرة في كلّ إدراك،ادراك؛و في بعضها لا يكون وجود خارجيّ هناك، فيدرك الذهن تلك الماهيّة كما هي عينه مجرّدة.

ثمّ إنّه،كما أنّ التجريد عن الوجود الخارجيّ معتبر في تلك الماهيّة الحاصلة،كذلك التجريد عن الغواشي الماديّة التابعة للوجود الخارجيّ في المادّيّات معتبر أيضا فيها،إلاّ أنّه يكون على وجهين أيضا:فتارة يكون بأن يكون هناك غواش مادّية فيجرّد العقل تلك الماهيّة عنها،فيدركها تجريدا هو بحسب كلّ إدراك،إدراك،كما في المادّيّات،أعمّ من أن تكون تلك المادّيّات في أنفسها مادّيّة أو غير مادّيّة،لكن عرض لها أن تكون مادّيّة.

و تارة يكون بأن لا تكون هناك غواش مادّيّة أصلا،كما في المفارقات من العقول و النفوس،فيدركها العقل على ما هي عليه مجرّدة عن الغواشي المادّيّة.و بالجملة فليس هناك تجريد المعقول و لا عمل تعمله النفس في جانب المعقول حتّى تعقله.بل إن كان هناك عمل فهو في جانب العاقل،كالفكر حتّى يعقله،و إن كان يجرّدها أيضا عن الوجود الخارجيّ حتّى يدركها.و حيث عرفت ذلك و عرفت أنّ إدراك الأشياء إنّما يكون بحصول ماهيّاتها في الذهن مجرّدة عن الوجود الخارجيّ العينيّ،عرفت أنّ إدراك ذات الواجب

ص:177

تعالى ممّا لا يمكن،حيث إنّ تجريده عن الوجود العينيّ غير ممكن،فإنّ وجوده تعالى عين ذاته عينيّة حقيقيّة،و تجريد الشيء عن نفسه ممتنع بالضرورة.

ثمّ إنّك بعد ما تحقّقت ما ذكرناه،تبيّنت أنّ تلك الماهيّة الحاصلة في الذهن من حيث إنّها معلومة و مدركة قد تكون جزئيّة،و قد تكون كلّيّة.أمّا الكلّيّة فكالماهيّة التي يدركها العقل،أي يدركها النفس بذاتها لا بتوسّط الحواسّ،سواء كانت قد انتزعت تلك الماهيّة من جزئيّات متعدّدة،أو جزئيّ واحد مادّيّ،أو مجرّد،فإنّه في جميع هذه الصور تكون تلك الماهيّة كلّيّة،و كذلك المعلوم بالذات كلّيّا و المعلوم بالعرض جزئيّا.و أمّا الماهيّة الجزئيّة،فكالماهيّة التي يدركها النفس بتوسّط الحواسّ،فإنّها جزئيّة البتّة،و يكون المدرك بالذات و بالعرض جميعا جزئيّا،إلاّ أنّ الصورة الإدراكيّة و العلميّة من حيث إنّها صورة إدراكيّة علميّة،أي من حيث إنّها علم،فهي جزئيّة ليس إلاّ،و إن كانت الماهيّة المعلومة كلّيّة أيضا،لأنّها من هذه الحيثيّة صورة خاصّة حاصلة في نفس جزئيّة،كما سنزيده بيانا.

ثمّ إنّه حيث كانت تلك الماهيّة من حيث كونها صورة علميّة،و من حيث كونها حاصلة في الذهن قائمة به،موجودة في موضوع هو النفس،أو قوّة،من قواها فتكون هي من مقولة العرض،و كذا تكون من مقولة الكيف،حيث يصدق عليها رسمه الذي ذكروه له،و هو أنّه عرض لا يقتضي لذاته قسمة و لا نسبة.

و حيث عرفت ما ذكرنا،فاعلم أنّ الظاهر من كلمات الشيخ أنّه أراد بذلك الأمر الحاصل في الذهن هذا المعنى الذي ذكرنا،إلاّ أنّه أطلق عليه أسامي مختلفة و عبّر عنه بعبارات متعدّدة.

فتارة أطلق عليه اسم الصورة نظرا إلى ما نقلنا عنه،و هو أنّ الصورة قد تطلق على معنى بالفعل يصلح أن يعقل،أي يدركه النفس؛و القوّة العاقلة أعمّ من أن تدركها بذاتها، كما في إدراكها للكلّيّات؛أو بتوسّط الحواسّ،كما في ادراكها للجزئيّات.فلذلك اطلق الماهيّة على صورة الجسم فيما نقلنا عنه أيضا.

و تارة اسم المعنى في خصوص مدركات الوهم،نظرا إلى ما نقلنا عنه،و هو أنّ

ص:178

المعنى قد يراد به ما يدركه الحسّ الباطن،كما أنّ الصورة قد يراد بها ما يدركها الحسّ الظاهر.

و تارة اسم الحقيقة،و أراد بها الماهيّة نظرا إلى ما نقلنا عن الشارح القوشجيّ،و هو أنّه قد يستعمل لفظ الماهيّة و الحقيقة و الذات بمعنى واحد بلا اعتبار فرق بينها.

و تارة اسم مثال الحقيقة،نظرا إلى أنّ الماهيّة لمّا كانت منتزعة من الحقيقة في الأغلب،و كانت هي مجرّدة عن الوجود الخارجيّ الذي هو مأخوذ مع الحقيقة،فكأنّها مثال للحقيقة.

و تارة اسم الماهيّة،و وجهه ظاهر كما ذكرنا.

و تارة اسم المعقول من الماهيّة و معنى الماهيّة،نظرا إلى أنّ ذلك الأمر هو المعنى الذي يدركه العقل من الماهيّة.

و تارة اسم الآثار الحاكية،نظرا إلى أنّ الماهيّة أثر من الحقيقة في الأغلب تحاكي حالها.

و قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ تلك الماهيّة الحاصلة،من حيث إنّها مدركة و معلومة قد تكون جزئيّة و قد تكون كلّيّة.

فما ادّعاه الشارح القوشجيّ من أنّها لا تكون إلاّ كلّيّة،كأنّه خصّص ذلك بالماهيّة التي يدركها النفس بذاتها إدراكا حصوليّا،و لذلك فسّر الأمر المعقول في كلام المحقّق الطوسيّ بالحاصل في القوّة العاقلة،و إلاّ فما تدركها بتوسّط الحواسّ تكون جزئيّة،و ما تدركه بذاتها إدراكا حضوريّا يكون جزئيّا أيضا،كعلم النفس بذاتها و بالصور العلميّة الحاصلة فيها.

في وجه الاختلاف في أنّ العلم من أيّ مقولة

و إذا عرفت ذلك،فاعلم أنّه عند حصول ذلك الأمر الحاصل الذي قلنا:إنّه عبارة عن ماهيّة الأشياء مجرّدة عن الوجود الخارجي،و قلنا:إنّه كيفيّة حاصلة،يحصل للنفس

ص:179

باعتبار حصولها لها امور:

منها ذات تلك الماهيّة و نفس تلك الكيفيّة.

و منها انفعال للنّفس منها و قبول منها لها.

و منها إضافة ما،تحصل هي للنفس بالنسبة إلى تلك الكيفيّة.

و منها تجريد النّفس إيّاها و أخذها من حقائق الأشياء إن كان هناك تجريد.

و كلّ من هذه الأمور ممّا له مدخل في حصول الإدراك،و منشأ لانتزاع الإدراك بالمعنى المصدريّ،و إن كان العمدة و الأصل في ذلك هو ذات تلك الكيفيّة الحاصلة للنّفس.

فعلى هذا،فمن عدّ العلم و الإدراك من قبيل الكيف،كما هو المشهور بينهم و يشعر به كثير من كلمات الشيخ في الكتابين ممّا نقلناه أو لم ننقله،بل هو صريح ما نقلناه عنه في «الشفاء»في كون العلم عرضا،فلعلّه نظر إلى أصل تلك الكيفيّة الحاصلة.

و من عدّهما من قبيل الانفعال،كما هو رأي بعض،و كأنّه ينظر إليه قول الشيخ في «الشفاء»فيما نقلناه من قوله:«إذ كان الإحساس هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّته»و كذا بعض كلمات أخر منه،فلعلّه نظر إلى الثاني.

و من عدّهما من قبيل الإضافة،كما هو رأي بعض،فلعلّه نظر إلى الثالث،أي إلى خصوص هذه الإضافة الحاصلة بين النفس و بين تلك الكيفيّة بعد قبول النفس لها و حصولها فيها،و إلاّ فعدّهما من قبيل الإضافة مطلقا،و إن لم تكن هي تلك الإضافة الخاصّة بل إضافة مطلقة بين المدرك و المدرك الكائن في الخارج،كما هو ظاهر كلام بعض القائلين بها ممّا لا يكاد يصحّ.إذ ظاهر أنّ تلك الإضافة تستدعي ثبوت المتضايفين،فيلزم أن لا تكون المدركات التي لا تكون في الخارج مدركة البتّة،و أن لا يكون إدراك ما جهلا،إذ الجهل هو كون الصورة الذهنيّة المدركة من الحقيقة الخارجيّة غير مطابقة إيّاها،و أمّا الإضافة فلا توصف بالمطابقة و لا بعدمها.

و كذلك من عدّهما من قبيل الفعل،كما ينظر إليه قول الشيخ فيما نقلناه عنه في

ص:180

«الشفاء»أيضا،يشبه أن يكون كلّ إدراك إنّما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء، و كذا بعض كلمات اخر منه ممّا نقلناه عنه أم لم ننقل،فلعلّه نظر إلى الرابع،و إلاّ فلا فعل آخر للنّفس في إدراكها لشيء غير أخذ الصورة و التجريد من الوجود و المادّة و توابعها، كما هو معلوم بالضرورة الوجدانيّة.اللهمّ إلاّ على مذهب من يقول:إنّ اللّه سبحانه خلق النّفس الإنسانيّة متوسّطة بين العالمين،فجعل لها اقتدارا على إيجاد صور الأشياء و ماهيّاتها في عالمها المتوسّط،و أنّ لتلك الصورة حصولا تعلّقيّا بالنفس التي هي فاعلة لها موجدة إيّاها،بل أنّ حصولها في أنفسها هو بعينه حصولها لفاعلها المفيض لوجودها، و أنّ هذا هو معنى الإدراك،و القائل به أعلم.

و بالجملة،فهذه الاحتمالات الأربعة و إن كان يمكن الذّهاب إليها في بادئ النّظر على ما ذكرنا وجهها،إلاّ أنّ الحقّ هو الأوّل،و هو أنّ الإدراك بمعنى ما يحصل به الإدراك الانتزاعيّ من مقولة الكيف،لأنّ الإدراك قد يوصف بالمطابقة للخارج و يسمّى علما، و قد يوصف بعدم المطابقة له و يسمّى جهلا،و هذا لا يتصوّر في شأن الانفعال و الفعل و الإضافة،بل إنّما يتصوّر في شأن الصورة الذهنيّة فقط،مع أنّ الظاهر-كما أشرنا إليه-أنّ الأصل فى حصول الإدراك هو تلك الصورة،و أنّ ما سواها ليس كذلك.

ثمّ إنّك بعد ما تبيّنت ما فصّلناه،و تحقّقت ما حقّقناه،اتّضح لك شرح ما نقلنا عن الشيخ في الكتابين من معنى الإدراك الحصوليّ و بيان كيفيّته،إلاّ أنّه بقي بعد شرح بعض كلماته فيها،فحريّ بنا أن نشرحها:

فنقول:قوله فى«الشفاء»فى آخر كلامه في بيان معنى الإدراك (1):«فنقول إنّ الحاسّ في قوّته أن يصير مثل المحسوس بالفعل،إذ كان الإحساس هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّته فيتصوّر بها الحاسّ»-إلى آخر ما ذكره.كان معناه كما يدلّ عليه بعض كلماته الاخر أيضا،و خصوصا كلامه في آخر الفصل الذي نقلنا في معنى الإدراك.

أنّ الإحساس لمّا كان هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّة،أي قبول ماهيّة

ص:181


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 53/2،الفصل الثاني من المقالة الثانية في الفنّ السادس.

المحسوس التي هي منتزعة منه،و هي كيفيّة حاصلة في الحاسّ كما ذكر،سواء اطلق عليها اسم الصورة،أو اسم الماهيّة،أو اسم الحقيقة.أو اسم المعنى،أو اسم مثال الحقيقة، أو أمثال ذلك من الأسامي؛و كان الحاسّ بسبب قبوله لتلك الصورة الحاصلة فيه المنطبعة في ذاته يتصوّر بتلك الصورة،و يتكيّف بتلك الكيفيّة،و يتمثّل بذلك المثال،و يتّحد مع تلك الماهيّة نوعا من الاتّحاد،و يستكمل بها نحوا من الاستكمال بعد أن كان بالقوّة، و يصير بها نوعا آخر بالفعل،مثل اتّحاد الجسم بصورته النوعيّة،و استكماله بها و صيرورته نوعا بالفعل بها بعد أن كان بالقوّة؛فيصير بذلك مثل المحسوس،و مشاكلا له مجانسا إيّاه،كان في قوّة الحاسّ أن يصير مثل المحسوس بالفعل.

و على هذا،فالمبصر مثل البصر بالقوّة،و كذلك الملموس و المطعوم و غير ذلك،ففي كلّ ذلك يكون الحاسّ قبل حصول الإحساس،مثل المحسوس بالقوّة،و بعد حصوله مثله بالفعل.بل المحسوس أيضا يكون مثل الحاسّ،فهما متّحدان نوعا من الاتّحاد و متماثلان نوعا من التّماثل،و لذلك يكون المحسوس الأوّل بالحقيقة هو الذي ارتسم في آلة الحسّ و إيّاه يدرك،أي الصورة المتمثّلة في آلة الحسّ التي بتوسّطها يكون الشيء الخارجيّ محسوسا،و هو يكون محسوسا ثانيا و بالعرض.و يشبه أن يكون إذا قيل:أحسست الشيء الخارجيّ،كان معناه غير معنى أحسست في النّفس،فإنّ معنى قوله:أحسست الشيء الخارجيّ،أنّ صورته تمثّلت في حسّي،و أنّه بحصول تلك الصورة و تمثّلها في آلة الحسّ حصل الإحساس بذلك الشيء الخارجيّ،فكان إحساسه و إدراكه حصوليّا متعلّقا بما كان خارجا عن ذات المدرك.و معنى أحسست في النّفس،أنّ الصّورة نفسها -من حيث إنّها حاصلة في النّفس-تمثّلت في نفسي،فكان إدراكها لها حضوريّا متعلّقا بما كان داخلا في ذات المدرك غير خارج عنها،فلذا يصحّ في هذا الإدراك أن يقال:إنّ المدرك أدرك ذاته من وجه.

و إنّما قال:و معنى أحسست في النّفس،مع أنّ المناسب أن يقول:أحسست في الحاسّة،حيث إنّ الكلام في ادراك الحواسّ،إشارة إلى أنّ المدرك للمحسوسات و إن كان

ص:182

هو الحاسّة أوّلا،إلاّ أنّ المدرك لها بالحقيقة هو النّفس أيضا و إن كان بواسطة الحاسّة،كما في إدراك المعقولات،إلاّ أنّ المعقولات يرتسم صورها في النّفس بلا واسطة ارتسامها في شيء آخر،بخلاف المحسوسات،فإنّها ترتسم صورها في الحواسّ و في آلاتها.

ثمّ إنّه حيث كان المحسوس الأوّل بالحقيقة هو الذي ارتسم في آلة الحسّ من الصّورة دون ذي الصورة الذي هو الشيء الخارجيّ،و كانت الكيفيّات المحسوسة في الأجسام،إن كان لها وجود في الأجسام موجودة فيها،دون تلك الصورة التي هي المحسوسة بالحقيقة.فلذلك يصعب إثبات وجود تلك الكيفيّات في الأجسام،حيث إنّ الأجسام التي هي موجودة فيها،غير مدركة بالحقيقة،و ما هو مدرك بالحقيقة ليست تلك الكيفيّات موجودة فيه.إلاّ أنّ هذه الصعوبة تزول بأنّا نعلم علما يقينيّا-و إن كان ذلك العلم اليقينيّ حاصلا من جهة إدراك صور الأجسام و ماهيّاتها-أنّ في الوجود و الطبيعة أجساما ذوات كيفيّات خارجيّة حاصلة فيها قائمة بها في الواقع.فإنّا نعلم قطعا أنّ الأجسام منها ما يتأثّر عنه الحسّ،و منها ما لا يتأثّر عنه الحسّ؛و ذلك لا يكون إلاّ بأن يكون بعض الأجسام مختصّا في ذاته بكيفيّة هي مبدأ حالة الحس دون الآخر،و هذا الذي ذكرنا إنّما هو شرح كلام الشيخ،و كأنّ فيه تلويحا و إشارة إلى أنّ التعقّل أيضا مثل الإحساس فيما ذكره،حيث إنّ كلاّ منهما نوع من الإدراك.و ما ذكره في الإحساس إنّما هو لأجل كون الإدراك كذلك،فيكون فيه إشارة إلى أنّ العاقل أيضا في قوّته أن يصير مثل المعقول بالفعل،إذ كان التعقّل هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّته،فيتصوّر بها العاقل؛فالمعقول مثل العاقل و كذا العكس،و انّ المعقول بالحقيقة هو الذي ارتسم في القوّة العاقلة و إيّاه تدرك.و معنى عقلت الشيء الخارجيّ،أنّ صورته تمثّلت في العقل، أي في النّفس العاقلة.و معنى عقلت في النّفس،أنّ الصورة نفسها تمثّلت في نفسي، فيكون إشارة إلى أنّ مذهب الشيخ هو أنّ المعلوم بالذّات هو الصورة الحاصلة من الأمر الخارجيّ،أي الصورة التي هي ماهيّة الأمر الخارجيّ من حيث إنّها ماهيّة حاصلة في الذّهن.و من حيث إنّها معلومة لا من حيث إنّها صورة خاصّة قائمة بالنّفس الجزئيّة،فإنّها

ص:183

من هذه الحيثيّة علم لا معلوم،و إلى أنّ الأمر الخارجيّ معلوم بالعرض و بتوسّط العلم بصورته،و هذا موافق لمذهب الفارابي أيضا كما هو المنقول عنه،و هذا هو الحقّ كما ينبّه الشيخ في الإحساس،و أنّ القول بكون المعلوم بالذّات هو الأمر الخارجيّ ليس له وجه، إلاّ أن يكون مراد القائل به أنّ المقصود الأصليّ من العلم هو العلم بالشيء الخارجيّ،و إن كان بتوسّط العلم بالشيء الذهنيّ،فتدبّر.

في الإشارة إلى توجيه القول باتّحاد العاقل مع المعقول

و حيث عرفت ما ذكرنا في بيان معنى كلام الشيخ هنا،عرفت أنّ القول باتّحاد العاقل مع المعقول كما هو رأي فورفوريوس من الأقدمين،و تبعه جمع،ربّما يمكن أن يؤوّل بالاتّحاد الذي يظهر من كلام الشيخ هنا،و فصّلنا بيانه في الإحساس.و على هذا،فذلك المذهب ليس بذلك البطلان الذي زعمه الشيخ،و بذل جهده في إبطاله في كتاب«الإشارات»بما لا مزيد عليه.فإنّ ذلك الإبطال إنّما هو مبنيّ على إرادة الاتّحاد بين العاقل و المعقول الخارجيّ الذي هو معلوم بالعرض،مع كونهما ذاتين متباينتين أو متغايرتين في الخارج، حيث إنّ صيرورة شيء موجود بوجود منفرد مختصّ به شيئا آخر موجودا بوجود آخر مستحيل عند العقل،و أمّا لو اريد به الاتّحاد بين العاقل و المعقول بالذّات الذي هو تلك الصّورة العقلية نوعا من الاتحاد كما بيّناه،فله وجه،و كأنّه هو مراد القائلين بذلك المذهب،لكنّ الشيخ أعلم.

و هذا الذي ذكرنا من الفرق بين المدرك بالذّات و المدرك بالعرض،إنّما هو في الإدراك الحصوليّ؛و أمّا في الإدراك الحضوريّ،فليس هناك صورة علميّة و ماهيّة مجرّدة عن الوجود الخارجيّ،و لا إدراك بالعرض؛بل الإدراك هناك يتعلّق أوّلا و بالذّات بذلك الأمر الحاضر عند النّفس و هو مدرك بالذّات.

و بالجملة،أنّه في الإدراك الحصوليّ يكون هناك ماهيّة مجرّدة عن الوجود العينيّ هي تكون مدركة بالذّات،و يكون بتوسّطها الأمر الخارجيّ مدركا بالعرض،و يكون تلك

ص:184

الماهيّة تارة جزئيّة،إن كان إدراك النّفس لها بتوسّط الحواسّ؛و تارة كلّية،إن كان إدراكها لها بذاتها؛و يكون المدرك بالعرض-أي الأمر الخارجيّ-جزئيّا البتّة.

و أمّا في الإدراك الحضوريّ،فليس الحال كذلك؛إذ ليست هناك ماهيّة مجرّدة،بل المدرك بالإدراك الحضوريّ هو ذات ذلك الحاضر بوجوده العينيّ،و هو لا يكون إلاّ جزئيّا؛كما في علم النّفس بذاتها و بالصورة العلميّة الحاصلة فيها؛فإنّ لتلك الصورة أيضا في العقل نحوا من الوجود العينيّ و هي جزئيّة،و سيأتي زيادة توضيح لذلك.فانتظر.

و إذا عرفت شرح قوله في«الشفاء»،فاعلم أنّ ما ذكره في«الإشارات»من«أنّ إدراك الشيء هو أن يكون حقيقته متمثّلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك»،كأنّه أراد بالحقيقة المتمثّلة تلك الماهيّة المجرّدة التي ذكرنا سابقا حالها.

و قوله:متمثّلة عند المدرك،بإيراد كلمة«عند»دون كلمة«في»،كأنّ فيه إشارة إلى أنّ المدرك بالحقيقة في كلّ إدراك هو النّفس،و الحقيقة المتمثّلة في الإدراك الحصوليّ ينبغي أن تكون متمثّلة عندها،سواء كانت متمثّلة فيها نفسها،كما في إدراك الكلّيّات و الجزئيّات المفارقة،أو في آلاتها و حواسّها،كما في إدراك الجزئيّات المادّيّة،فإنّه على التقديرين يكون ذلك التمثّل عندها،أمّا على التقدير الأوّل فظاهر،لأنّه إذا كان فيها يكون عندها أيضا،و أمّا على التقدير الثاني فإنّ ذلك التمثّل،و إن لم يكن في النّفس نفسها بل في آلتها،إلاّ أنّ التمثّل في الآلة تمثّل عند ذي الآلة أيضا،لكون الآلة و ما يتمثّل فيها حاضرة عنده غير غائبة عنه.

و قوله:«يشاهدها ما به يدرك»أي يشاهد تلك الحقيقة المتمثّلة ما به يدرك المدرك إيّاها،إن قرأ«يدرك»بصيغة المضارع الغائب المذكّر المعلوم،و ما به تدرك تلك الحقيقة، إن قرأ بصيغة المضارع الغائب المؤنّث المجهول.و على التقديرين فيكون«ما به يدرك» عبارة عمّا به يقع إدراك النّفس لتلك الحقيقة،و هو ذات النّفس نفسها في إدراكها للكلّيّات،و حواسّها و آلاتها في إدراكها للجزئيّات.فيكون إشارة إلى أنّ الإدراك ينقسم إلى إدراك بآلة،و إلى ادراك بغير آلة بل بذات المدرك.و حينئذ،ففيه مع ملاحظة قوله:

ص:185

«متمثّلة عند المدرك»تنبيه على أنّه في القسم الأوّل ليس الإدراك هو كون الشيء حاضرا عند الحسّ فقط،بل كونه حاضرا عند المدرك أي النّفس،لحضوره عند الحسّ لا بأن يكون حاضرا مرّتين،بل بذلك الحضور عند الحسّ الذي هو آلة النّفس،حيث إنّ المدرك هو النّفس و لكن بواسطة الحسّ،فتدبّر.

و قوله:«فأمّا أن تكون تلك الحقيقة نفس حقيقة الشيء الخارج عن المدرك إذا أدرك -إلى آخر ما ذكره-».كأنّ فيه إشارة إلى أنّ تلك الحقيقة المتمثّلة إن لم تكن خارجة عن ذات المدرك،كملكات النّفس و صفاتها،و كالصّورة العلميّة،أي الماهيّة الحاصلة المتمثّلة المنتزعة من الشيء الخارجيّ من حيث إنّها علم لا من حيث إنّها معلومة،كما سيجيء الفرق بينهما.

و بالجملة،الحقائق التي وجوداتها العينيّة هي بعينها وجوداتها في الذهن من حيث إنّها قائمة به حاصلة فيه،فالحقيقة المتمثّلة عند المدرك من جملة تلك الحقائق هي نفس حقيقتها من غير تجريد لها عن وجودها الخارجيّ،بل هي حاصلة عند المدرك مع وجودها الخارجيّ العينيّ،و ليس الحاصل عنده صورها و لا أمثلتها.

و إن كانت خارجة عن المدرك،فهي على قسمين كما أشرنا إليه سابقا:

قسم لا يكون له وجود بالفعل في الأعيان الخارجة،كالممتنعات و الممكنات بالذّات المعدومة في الخارج،مثل كثير من الأشكال الهندسيّة،بل كثير من المفروضات التي لا تمكن إذا فرضت في الهندسة ممّا لا يتحقّق أصلا.ففي هذا القسم تكون تلك الحقيقة المتمثّلة عند المدرك إذا أدركها هي نفس حقيقة الشيء الخارج عن المدرك،أي نفس ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود الخارجي لا تجريدا يفعله العقل،بل إنّها-في حدّ ذاتها-مجرّدة عن الوجود الخارجيّ،إذ ليس لها وجود خارجيّ فتتمثّل هي على ما هي عليه عند المدرك مجرّدة.و قد عرفت فيما تلونا عليك أنّ الممتنعات و المعدومات الممكنة و إن لم يكن لها حقيقة،أي ماهيّة مأخوذة مع الوجود الخارجيّ،لكنّها ممّا لها ماهيّة غير مأخوذ معها الوجود الخارجيّ،و أنّ حقيقتها هي نفس تلك الماهيّة المجرّدة في حدّ

ص:186

ذاتها عن الوجود العينيّ و لوازمه،و هذا هو القسم الأوّل.

و قسم له وجود بالفعل في الأعيان،ككثير من الأشياء الموجودة في الخارج،و في هذا القسم يكون تلك الحقيقة المتمثّلة عند المدرك مثالا من ذلك الشيء الخارجيّ مثالا غير مباين لذلك الشيء،بل مناسبا له حاكيا آثاره،بل عينه باعتبار الذّات أو مثالا غير مباين للمدرك،أي غير حاصل عند المدرك من جهة وجوده العينيّ الذي هو بهذه الجهة مباين للمدرك،و لا يمكن حصوله عنده،بل حاصلا من جهة وجوده الذهنيّ الذي هو بهذه الجهة غير مباين له و يمكن حصوله عنده.

و بالجملة ماهيّته التي هي عينه من حيث الذّات،لكنّها مجرّدة عن الوجود الخارجيّ و عن لوازمه و توابعه تجريدا يفعله العقل،فيرتسم ذلك المثال في ذات المدرك،فيدركه أوّلا و بالذّات،و يدرك الشيء الخارجيّ بواسطته،و هذا هو القسم الثانيّ.

و هذا الذي ذكرنا إنّما هو شرح كلامه على ما يستفاد منه ظاهرا،إلاّ أنّ المحقّق الطوسيّ(ره)في شرحه للإشارات حمله على محمل آخر.قال في شرح هذا الكلام (1):

«و الأشياء المدركة تنقسم إلى ما لا يكون خارجا عن ذات (2)،و إلى ما يكون.

أمّا في الأوّل،فالحقيقة المتمثّلة عند المدرك هي نفس حقيقتها.

و أمّا في الثّاني،فهي تكون غير الحقيقة الموجودة في الخارج؛بل هي إمّا (3)صور منتزعة من الخارج إن كان الإدراك مستفادا من خارج،أو صورة حصلت عند المدرك ابتداء،سواء كانت الخارجيّة مستفادة منها أو لم تكن.و على التقديرين،فإدراك الحقيقة الخارجيّة هو حصول تلك الصورة الذهنيّة عند المدرك.و استدلّ على ذلك بقوله:فإمّا أن تكون تلك الحقيقة-أي المتمثّلة-نفس حقيقة الشيء الخارج من المدرك إذا أدرك، أو يكون (4)مثال حقيقته مرتسما في ذات المدرك غير مباين له.و قدّم إبطال (5)القسم الأوّل على ذكر القسم الثاني،فقال بعد ذكر القسم الأوّل:فتكون حقيقة ما لا وجود له بالفعل في

ص:187


1- -شرح الإشارات 312/2 و 313.
2- في المصدر:ذات المدرك...
3- صورة...
4- أو تكون...
5- و قدّم إبطال القسم الثاني فقال.

الأعيان الخارجيّة مثل كثير من الأشكال الهندسيّة،مثلا كالكرة المحيطة باثنتى (1)عشرة قاعدة مخمّسات،بل كثير من المفروضات التي لا تمكن إذا فرضت في الهندسة،كما يفرض مثلا من الممتنعات ليتبيّن (2)به الخلف،فيكون (3)تلك الحقيقة ممّا لا تتحقّق أصلا، إذ لا حقيقة لها في الخارج.

و لمّا كانت ممّا (4)يدرك،فعلم أنّها موجودة لا في الخارج بل عند المدرك و فيما لا يباينه.فبإبطال القسم الاوّل تحقّق (5)الثاني.و أشار إلى ذلك بقوله«و هو (6)الثاني»،و المثال في قوله«أو يكون مثال حقيقته»هو الصّورة المنتزعة،أو الصّورة التي لا تحتاج إلى الانتزاع من الشيء الذي لو كان في الخارج لكان هو فهذا بيان ما قاله الشيخ»-انتهى كلامه(ره)-.

كلام مع المحقّق الطوسيّ

و أقول:إنّ ما ذكره(ره)لا غبار عليه،إلاّ أنّ حمل هذا الكلام على الاستدلال المذكور بإبطال القسم الأوّل كأنّه لا يلائمه سياق ظاهر كلام الشيخ،بل إنّ ظاهر سياقه يدلّ على أنّ الأشياء الخارجة عن ذات المدرك تكون على قسمين،و أنّ حقيقتها المتمثّلة عند المدرك تكون على نوعين كما حملنا عليه كلامه.و على تقدير حمله على ما حمله(ره)أيضا،فكأنّه لا يتمّ البيان الذي ادّعاه،إذ هذا البيان إنّما يتمّ في الأشياء التي لا وجود لها في الخارج،و لم يتبيّن منه أنّ الأشياء التي لها وجود خارجيّ و حقيقة خارجيّة لا يمكن أن تتمثّل حقائقها عند المدرك.

اللّهمّ إلاّ أن يقول هو(ره):إنّ الشيخ أحال ذلك على الظّهور،حيث إنّه كما لا تتمثّل الحقيقة الخارجيّة من الشيء الذي لا يكون له وجود في الخارج عند المدرك،إذ لا وجود له و لا حقيقة.كذلك من الظاهر أنّه لا تتمثّل عنده الحقيقة الخارجيّة من الشيء الذي له وجود في الخارج،إذ لو كان كذلك،لكان تترتّب على تلك الحقيقة المتمثّلة الآثار

ص:188


1- في المصدر:باثنى عشر...
2- ليبيّن...
3- فتكون...
4- ممّا تدرك،علم...
5- يتحقّق...
6- و هو الباقي.

الخارجيّة المطلوبة،و لكان لا فرق بين الوجود العينيّ و الوجود الذهنيّ،و هذا باطل بالضّرورة.إلاّ أنّ الظاهر منه أنّه أرجع الضمير المجرور في قول الشيخ:«غير مباين له»إلى المدرك،و قد عرفت أنّه يمكن إرجاعه إلى الشيء أيضا.

و أمّا قوله(ره)أخيرا:«و المثال»في قوله:«أو يكون مثال حقيقته هو الصورة المنتزعة،أو الصورة التي لا تحتاج إلى الانتزاع من الشيء الذي لو كان في الخارج لكان هو»فكأنّه إشارة إلى تعميم المثال بحيث يشمل الصورة المنتزعة من الخارج إن كان الإدراك مستفادا من خارج،و الصورة الحاصلة عند المدرك ابتداءً،سواء كانت الخارجيّة مستفادة منها أو لم تكن،كما ذكره في السابق؛و إن كان يمكن حمله أيضا على تعميم المثال بحيث يشمل الصورة المنتزعة من الأشياء الخارجيّة،و ماهيّات الأشياء التي ليس لها وجود في الخارج كما ذكرنا،و هو(ره)أعلم.

و إذا عرفت ذلك،فاعلم أيضا أنّ ما ذكره الشيخ في«الإشارات»من تنويع الإدراك إلى الأنواع الثلاثة،أعني الحسّ و التخيّل و التعقّل،ربما يتراءى كونه مخالفا لما ذكره في «الشفاء»،حيث نوّعه إلى الأنواع الأربعة،أعني:الحسّ و التخيّل و التوهّم و التعقّل» (1).

و كأنّ وجه ما ذكره في«الشفاء»أنّ ذلك بيان للواقع.و أمّا وجه ما فعله في(الإشارات) فلعلّه هو ما اعتذر عنه المحقّق الطوسيّ(ره)في شرحه،قال:«إنّ (2)الإدراكات إذا قيست إلى مدرك واحد،سقط الوهم عن الاعتبار،لأنّه لا يدرك ما يدركه الحسّ و الخيال بانفراده،بل يدرك (3)ما يدرك (4)بمشاركة الخيال،و بذلك يتخصّص مدركه و يصير جزئيّا، و لذلك لم يعتبره الشيخ في هذا الكتاب و اعتبره في سائر كتبه»-انتهى-.

ص:189


1- -شرح الإشارات 323/2.
2- في المصدر:إلاّ أنّها(أي الإدراكات)إذا قيست...
3- -شرح الإشارات 324/2.
4- ما يدركه.

في تحرير ما ذكره في الشفاء في العلم

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،فلنتكلّم في تحرير ما نقلناه عن الشيخ في «الشفاء»في بيان العلم و أنّه عرض،و ما أورد عليه من الشبهة و أجاب عنها.

فنقول:إنّ ما ذكره من الشبهة مبناها على أنّ الحاصل في الذهن من الشيء الخارجيّ -بل مطلقا-هو ماهيّته المجرّدة عن الوجود الخارجيّ و عن توابعه،و كذا مبناها على أنّ العلم عرض من مقولة الكيف.فيكون ذلك من إحدى القرائن على أنّ مذهب الشيخ-بل المعروف من مذهب الحكماء-هو القول بوجود الأشياء بماهيّاتها في الذهن دون القول بالأشباح،و أنّ العلم من مقولة الكيف دون الفعل و الانفعال أو الاضافة.

و بيان الشبهة هو أنّه لا يخفى أنّ العلم هو الصورة الحاصلة من الشيء أي المكتسب من صور الموجودات مجرّدة عن موادّها،و هي صور جواهر و أعراض؛حيث إنّ المعلوم لا يخلو عنهما،أي الماهيّات التي تكون للجواهر و الأعراض مجرّدة عن وجوداتها العينيّة و عن موادّها،و لا يخفى أيضا أنّ تلك الصورة الحاصلة عرض لصدق حدّه،و«هو الموجود في الموضوع»عليها،لكونها أيضا موجودة في موضوع هو النّفس.و كذا هي من مقولة الكيف لصدق حدّه أيضا،و«هو أنّه عرض لا يقتضي قسمة و لا نسبة»عليها، لكونها أيضا كذلك.

و بالجملة،لا يخفى أنّ تلك الصورة الحاصلة في النّفس عرض،و إن لم نقل بكونها من مقولة الكيف؛و حينئذ نقول:إن كانت صور الأعراض و ماهيّاتها الحاصلة في النّفس أعراضا،فصور الجواهر و ماهيّاتها الحاصلة فيها كيف تكون أعراضا،و الحال أنّ الجوهر ما يكون لذاته جوهرا،فماهيّته لا تكون في موضوع البتّة،و يجب أن يكون ماهيّته محفوظة في كلّ الأحوال،سواء نسبت إلى إدراك العقل لها أو نسبت إلى الوجود الخارجيّ.

و الحاصل أنّ تلك الصّورة الحاصلة و الماهيّة المتمثّلة في النّفس من الجواهر،لا سترة في أنّها عرض؛فإمّا أن يكون معنى الجوهر ذاتيّا لما تحته من الجواهر جنسا لها،كما هو رأي بعض،أو عرضيّا كما هو رأي آخرين.

ص:190

و على الأوّل،فكيف يكون ذاتي الشيء مختلفا؟و كيف يمكن أن يكون مقتضي الذات لا يترتّب عليها؟و كيف يمكن أن ينقلب الذّات مع أنّ كلّ ذلك محال بالضّرورة؟

و على الثّاني،فلا سترة في أنّ ذلك معنى عرضيّ لازم لها؛فكيف يمكن أن يترتّب عليها ذلك العرضيّ تارة و أن لا يترتّب اخرى؟و كيف يمكن أن ينقلب العرضيّ اللازم إلى العرضيّ المفارق؟و هذا بيان الشبهة.

و أمّا بيان الجواب عنها:فهو أنّ ماهيّة الجوهر-على ما يقتضيه حدّه-بمعنى أنّه الموجود في الأعيان لا فى موضوع،و هذه الصّفة موجودة لماهيّة الجواهر المعقولة الحاصلة في النّفس أيضا،فإنّها ماهيّة شأنها أن تكون-إذا وجدت في الأعيان-وجدت لا في موضوع،أي أنّ هذه الماهيّة هي معقولة من أمر،شأن ذلك الأمر أن يكون وجوده في الأعيان لا في موضوع،و أمّا وجوده في العقل بهذه الصّفة،أي أن لا يكون في موضوع، فليس ذلك مأخوذا في حدّه من حيث هو جوهر،أي ليس حدّ الجوهر أنّه إذا كان في العقل كان لا في موضوع؛بل حدّه أنّه سواء كان في العقل أو لم يكن،فإنّ وجوده في الأعيان ليس في موضوع.

و الحاصل،أنّه على تقدير كون معنى الجوهر عرضيّا لما تحته لازما لها،نقول:إنّه عرضيّ لازم لوجوداتها العينيّة الخارجيّة،كسائر لوازم الوجود الخارجيّ؛و لا سترة في أنّ هذا المعنى،أي كونه موجودا لا في موضوع،لا يتخلّف عن تلك الجواهر من حيث وجوداتها الخارجيّة،و أمّا تخلّفه منها بحسب وجوداتها العقليّة،فليس ذلك منافيا لما يقتضيه حدّ الجوهر،و على تقدير كون معنى الجوهر ذاتيّا لما تحته،نقول:إنّه حيث أخذ في حدّه الوجود،أي أن يكون موجودا لا في موضوع،فذلك الوجود معناه الوجود الخارجيّ لا الذّهنيّ و لا الأعمّ منهما.و لا سترة في أنّ هذا المعنى يصدق على الجواهر التي هي أفراده بحسب وجوداتها الخارجيّة و لا يتخلّف عنها،و لا ضير في أن يتخلّف عنها بحسب وجوداتها العقليّة و حصولاتها الذهنيّة.و ممّا ذكر يعلم أنّ المعتبر في معنى العرض و المأخوذ في حدّه أيضا،أن يكون وجوده العينيّ في موضوع.و أمّا كون وجوده

ص:191

الذهنيّ في موضوع،فليس بمأخوذ في حدّه.فعلى هذا فكون ماهيّات الأعراض الحاصلة في الذّهن من حيث وجودها الذّهنيّ أعراضا موجودة في موضوع هو النّفس،ليس ممّا يحقّق عرضيّتها،كما أنّ كون ماهيّات الجواهر الحاصلة في الذّهن من حيث كونها كذلك أعراضا موجودة في موضوع،لا ينافي جوهريّتها.

فإن قلت:من البيّن أنّ المعتبر في تلك الماهيّة الحاصلة في الذهن كونها مجرّدة عن الوجود الخارجيّ مطلقا،و لازم هذا أن لا يكون يتحقّق لتلك الماهيّة الحاصلة فيه شيء ممّا المدخل فيه للوجود الخارجيّ،و من جملته معنى الجوهر و العرض.حيث إنّ المدخل فيه إنّما هو للوجود الخارجيّ خاصّة،كما ذكرت من أنّ الجوهر ما لا يكون بحسب وجوده الخارجيّ في موضوع،و أنّ العرض ما يكون بحسب وجوده الخارجيّ في موضوع.فيلزم من ذلك أن لا تدخل تلك الماهيّة بحسب وجودها الذهنيّ تحت مقولة من المقولات،و أن لا يصدق عليها معنى الجوهر و لا معنى العرض،فكيف يصدق عليها معنى العرض كما ذكرت؟

قلت:الحال كذلك،إلاّ أنّ لتلك الماهيّة الحاصلة من حيث حصولها في الذهن و قيامها بنفس جزئيّة نحوا من الوجود العينيّ أيضا،كما سيأتي بيانه.فهي بذلك الاعتبار تكون عرضا و من مقولة الكيف،سواء كانت هي ماهيّة الجوهر أو ماهيّة العرض.

ثمّ إنّه بما ذكره الشيخ في جواب الشبهة الموردة في الجواهر و الأعراض كما حرّرنا بيانه،كما يندفع الشبهة عن ذلك،كذلك تندفع الشبهة إذا أوردت في مطلق الذّاتيّات و مطلق العرضيّات اللازمة للوجود الخارجيّ.

مثلا إذا قال قائل:لا يخفى أنّ الصورة الحاصلة من الإنسان هي ماهيّة الإنسان مجرّدة عن الوجود الخارجيّ،و من المعلوم أنّ الماهيّة الإنسانيّة ماهيّة نوعيّة معناها الحيوان الناطق،أي التي من شأنها أن يصدر عنها الحسّ و الحركة الإراديّة و إدراك الجزئيّات و الكلّيّات؛و لا سترة في أنّ تلك الماهيّة من حيث إنّها موجودة في الذهن لا يصدر عنها تلك الامور بالفعل،و لا هي ممّا من شأنه أن يصدر عنه تلك الأمور،فكيف يتخلّف عنها

ص:192

ذاتيّاتها و ما هو من مقتضى ذاتها؟

قلنا في جوابه:إنّا سلّمنا أنّ تلك الماهيّة هي الماهيّة الإنسانيّة التي هي الحيوان الناطق.

لكن نقول:إنّ معنى الماهيّة الإنسانيّة أنّها من شأنها أن تصدر عنها تلك الأمور إذا وجدت تلك الماهيّة في الأعيان،لا أنّها من شأنها أن تكون يصدر عنها تلك إذا وجدت في الذّهن أيضا.فهي-سواء وجدت في العين أو في الذّهن-من شأنها أنّها في وجودها العينيّ يمكن أن يصدر عنها تلك الأمور.فعلى هذا،فصدور تلك الأمور التي هي من مقتضى ذات الإنسان،أو إمكان صدورها عنها ممّا للوجود الخارجيّ مدخل فيه،و ان كان ذاتيّا له،و لا ضير في أنّه إذا جرّدت تلك الماهيّة عن الوجود الخارجيّ و حصلت في الذّهن،لم تكن صفتها كذلك من حيث إنّها موجودة فيه.

نعم،ربّما يتحقّق لها من حيث وجودها في الذّهن أمور أخر،كالكلّيّة و الجنسيّة و الفصليّة و أمثال ذلك ممّا لا مدخل للوجود الخارجيّ فيه،بل إنّما المدخل فيه للوجود الذهنيّ خاصّة.و على هذا فقس الحال في ماهيّات أخر و ذاتيّاتها.

و كذلك لو قال قائل:إنّه لا يخفى أنّه عند ادراكنا أو تعقّلنا مثلا للحارّ و البارد، أو للحرارة و البرودة،أو المستقيم و المعوّج،أو الاستقامة و الاعوجاج،يحصل في الذّهن ماهيّات تلك الامور كما ذكرت؛فيلزم أن يكون الذهن حارّا باردا معوّجا مستقيما،إذ لا معنى لهذه إلاّ ما يحصل فيه ماهيّة الحرارة و البرودة و الاستقامة و الاعوجاج.و أيضا يلزم أن تجتمع فيه الأمور المتضادّة من جهة واحدة و يتّصف بها،فيكون هو متضادا كالأمور الحاصلة فيه،و كلّ ذلك باطل بالضّرورة.

قلنا في جوابه:إنّا سلّمنا أنّ الحاصل في الذهن هو ماهيّات تلك الأمور،لكنّا نقول:إنّ تلك الآثار و الأحكام مترتّبة على وجود تلك الماهيّات في الأعيان فقط،فتلك الماهيّات سواء وجدت في الأعيان أو في الأذهان،فمن شأنها أنّها في وجوداتها العينيّة يمكن أن يصدر عنها تلك الآثار و الأحكام،و لا محذور في أن لا يترتّب تلك الآثار و الأحكام عليها من حيث تجرّدها عن الوجود الخارجيّ،أي من حيث وجوداتها الذهنيّة،لكونها

ص:193

غير لازمة لوجودها الذهنيّ.مع أنّ اتّصاف محالّ هذه الامور لصفاتها ممّا يتوقّف على أن يكون تلك المحالّ ممّا من شأنها أن تنفعل عنها و تتّصف بها.و لا نسلّم أنّ الذهن كذلك؛ و لذلك لا يلزم عند تصوّرنا و إدراكنا الأرض أو السّماء مع كون المتصوّر منهما ماهيّتهما، أن يكون الذهن عظيما مثلهما.فتبصّر.

ثمّ إنّ قول الشيخ: (1)«فإن قيل:فالعقل أيضا من الأعيان.قيل:يراد بالعين التي إذا حصل فيها الجوهر صدرت عنه أفاعيله و أحكامه».إيراد على الجواب الذي ذكره عن تلك الشبهة و جواب عن الإيراد.

بيان الإيراد:أنّه حيث ذكر في الجواب أوّلا أنّ معنى الجوهر و ماهيّته أنّه الموجود في الأعيان لا في موضوع،فلا ينافي أن يكون بحسب وجوده الذّهنيّ في موضوع،أورد عليه ثانيا أنّ ماهيّة الجوهر بحسب وجودها في الأذهان أيضا لها وجود في الأعيان،حيث إنّها -بحسب هذا الوجود-موجودة في العقل،أي النّفس.و لا سترة في أنّ العقل من الموجودات العينيّة؛فالموجود فيه أيضا موجود بوجود عينيّ.و الحال أنّ الجوهر بحسب هذا الوجود العينيّ موجود في موضوع،فكيف يمكن أن يكون بحسب هذا الوجود العينيّ موجودا في موضوع؟و كيف يمكن أن يكون ماهيّة الجوهر بأحد الوجودين العينيّين جوهرا و بالوجود الاخر العينيّ عرضا؟

و بيان الجواب:أنّ معنى الموجود في العين ليس أنّه الموجود في عين آخر غير نفس ذلك الموجود،بل المراد بالعين هو عين ذلك الموجود،و معنى الموجود في العين أنّه الموجود في نفسه و في حدّ ذاته،مع قطع النظر عن فرض فارض إيّاه و عن كلّ ما سواه، و هذا المعنى هو المراد من سائر العبارات التي يعبّر بها عنه،كالموجود في نفس الأمر،فإنّ المراد بالأمر هو ذلك الموجود،و بالنّفس ذاته،و بالموجود في نفس الأمر الموجود في نفسه و في حدّ ذاته،مع قطع النّظر عمّا ذكر.و هذا المعنى أيضا يراد بقولهم:الموجود في الخارج،أي أنّه الموجود في نفسه و في خارج الذّهن،و مع قطع النّظر عن فرض الذهن.

ص:194


1- -الشفاء- [1]الإلهيّات140/. [2]

و بالجملة،فالمراد من هذه العبارات و أمثالها،كالموجود العينيّ و الموجود الخارجيّ،أنّه الموجود في حدّ ذاته بوجود أصيل،سواء كان وجوده في موضوع كالعرض،أم لا كالجوهر،وجودا يترتّب عليه آثاره المطلوبة منه و أحكامه و أفاعيله الخارجيّة.و على هذا،فيكون معنى قولهم:الموجود في الذهن و الموجود في العقل و الموجود في النّفس و أمثال ذلك من العبارات،أنّه الموجود بوجود ظلّيّ غير أصيل، وجودا لا يترتّب عليه آثاره و أحكامه و أفاعيله،و إن كان موجودا في النّفس التي هي عين من الأعيان الخارجيّة.نعم لو كان يترتّب على وجوده في العقل آثاره المطلوبة، لكان ذلك وجودا له عينيّا أيضا،لكن باعتبار آخر.

فيلزم ممّا ذكرنا،أنّ كلّ ما هو موجود عينيّ من حيث هو موجود عينيّ يترتّب عليه أحكامه لا يكون موجودا ذهنيّا من حيث هو موجود ذهنيّ لا يترتّب عليه أحكامه المطلوبة منه،و كذا بالعكس،و أنّه لو كان موجود ذهنيّ يترتّب عليه آثاره و أحكامه،كان هو من هذه الحيثيّة موجودا عينيّا لا ذهنيّا.

و كذلك يلزم ممّا ذكر هنا و ما ذكر سابقا من أنّ الجوهريّة و العرضيّة إنّما هما باعتبار الوجود العينيّ من حيث هو وجود عينيّ،أنّ الموجود في الذهن من حيث هو موجود ذهنيّ لا يكون جوهرا و لا عرضا،و إن كان صدق عليه أنّه بحيث لو وجد في الخارج و العين،لكان إمّا جوهرا أو عرضا.و أنّ الموجود في الذهن لو كان بحيث يترتّب عليه آثاره المطلوبة منه،و كان ذلك وجودا عينيّا له باعتبار،لكان يصدق عليه أنّه جوهر أو عرض،إلاّ أنّه لا يكون إلاّ عرضا،لكونه من هذه الحيثيّة موجودا في موضوع هو النّفس.

و إذا تمهّد ذلك،فنقول:من المعلوم بالضّرورة أنّ الصورة العقليّة و الماهيّة الحاصلة في العقل من الجوهر مجرّدة و مادّيّة و بسيطة و مركّبة،و أيّ قسم منه لا يترتّب عليها من حيث كونها موجودة ذهنيّة تلك الآثار و الأحكام و الأفاعيل التي تترتّب على حقيقته الموجودة في الخارج،فليس وجودها في العقل من حيث هو وجودها فيه،و إن كان

ص:195

العقل عينا من الأعيان الخارجيّة،وجودا عينيّا خارجيّا له.و حيث لا يصدق عليها بحسب هذا الوجود أنّها جوهر،و كذلك لا يصدق على هذا الوجود أنّه وجود عينيّ،فلا يلزم أن يكون ماهيّة الجوهر بحسب وجوده العينيّ موجودا فى موضوع،و لا أن تكون بحسب أحد الوجودين العينيّين جوهرا و بالوجود الآخر العينيّ عرضا.و كذلك من المعلوم بالضّرورة أن الماهيّة الحاصلة من العرض،أيّ أنواع منه كانت،فهي من حيث كونها موجودة ذهنيّة،ممّا يترتّب عليها آثارها و أحكامها المترتّبة على حقيقته الموجودة في الأعيان،فليس وجودها في الذّهن من حيث لا يترتّب عليها آثاره،وجودا عينيّا لها، و كذا عرضيّتها بهذا الاعتبار،بل باعتبار وجودها في الأعيان وجودا به يترتّب عليها تلك الآثار.

نعم،إنّ الماهيّة الحاصلة في العقل من الشيء مطلقا،جوهرا كان أم عرضا،ربّما يترتّب عليها من حيث كونها صورة خاصّة قائمة بنفس جزئيّة،و من حيث كونها صورة علميّة،بعض الآثار التي هي من الآثار العينيّة،و هي كونها سببا لانكشاف الأشياء التي هي ذوات الصورة على النّفس،و واسطة لأن تدرك بها النّفس المعلوم الخارجيّ،و تنال بها مدركاتها العينيّة؛فلذلك يكون قيامها بالنّفس منشأ لاتّصاف محلّها-أي النّفس- بالعلم،و بكونها عالمة بمعلومها بسببها،كما يكون الجسم باعتبار حصول السّواد فيه -مثلا-متّصفا بكونه أسود.و الذي يوضح ذلك،أنّ العلم من جملة ملكات النّفس،و قيام ملكاتها بها مطلقا،سواء كانت فضائل أم رذائل،قيام و وجود عينيّ لها،و بسببه يكون منشأ لترتّب آثارها عليها و لاتّصاف محلّها،أي النّفس،بها.

ثمّ إنّه حيث كانت الصورة العلميّة بهذا الاعتبار موجودة في الأعيان،و كانت موجودة في موضوع،لا استبعاد في كون ماهيّات الأشياء الحاصلة في العقل-من حيث كونها صورا خاصّة قائمة بالنّفس-موجودة فيها وجودا يترتّب عليه الآثار.سواء كانت هي ماهيّة الجوهر أو العرض،أعراضا موجودة في موضوع.و لا ينافي ذلك أن تكون تلك الماهيّات-بحسب حقائقها و وجوداتها العينيّة في الخارج-غير هذا الوجود العينيّ له في

ص:196

العقل،بعضها جواهرا و بعضها أعراضا،و لذا لا ينافي أن تكون تلك الماهيّات بحسب وجودها الذهنيّ،أي من حيث وجودها في ضمن الصّورة العلميّة،موجودات ذهنيّة غير مترتّبة عليها الآثار المطلوبة،و لا تكون هي جواهرا و لا أعراضا.

في الفرق بين اعتبارات الماهيّة

و إن اشتهيت زيادة إيضاح المقام،فاعلم أنّه كما أنّ الموجود في الخارج من ماهيّات الأشياء و حقائقها جواهرها و أعراضا لا يكون إلاّ جزئيّا حقيقيّا و شخصا مشخّصا، حيث إنّ الكلّيّ-بما هو كلّيّ-ليس له وجود منفرد بنفسه،و إنّما الموجود في العين هو الشخص المعيّن،كما هو المحقّق في محلّه.و أنّ الشّخص الموجود في الخارج على رأي القائلين بوجود الكلّيّ الطبيعيّ و الطّبيعة من حيث هي في ضمن وجود الأشخاص-كما هو رأي الشيخ و غيره من المحقّقين-عبارة عن تلك الماهيّة المأخوذة مع الوجود العينيّ الشخصيّ،و الملحوظ معها التّشخّص الخارجيّ،أي الماهيّة بشرط شيء،أي بشرط ذلك الوجود و التّشخّص.و بعبارة أخرى مجموع المشروط و الشرط،أو مجموع العارض و المعروض،و هو موجود في الحقيقة في الأعيان وجودا يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة منه؛و كذا هو موصوف بالجوهريّة أو العرضيّة بالذّات،و مدرك أوّلا بالحواسّ، و بواسطتها تدركه النّفس إن كان هو شخصا مادّيّا.و امّا إن كان شخصا مجرّدا عن المادّة، فيدركه العقل أوّلا و بالذّات لا بتوسّط الحواسّ،و أنّ تلك الماهيّة الملحوظة في ضمن الشّخص،التي هي عبارة عن الطّبيعة من حيث هي التي هي من حيث ذاتها ليست إلاّ هي، و ليست في حدّ ذاتها لا عامّة و لا خاصّة و لا كلّيّة و لا جزئيّة و لا مأخوذا معها شرط من الشروط و لا قيد من القيود إلاّ نفسها.

و بالجملة،فهي لا بشرط شيء من كلّ وجه،إلاّ أنّها تصلح لأن يقارنها شرط،و يعتبر معها وجود،فتصير هي بذلك أيضا موجودة وجودا عينيّا يترتّب عليه الآثار في ضمن وجود الشّخص.إلاّ أنّ وجودها وجود ضعيف بالقياس إلى وجود الشّخص،و وجود

ص:197

بالعرض و بتوسّط وجود الشّخص.و لذلك يتّصف أيضا بالجوهريّة أو العرضيّة بالعرض.

إلاّ أنّ مدركها هو العقل و النّفس بذاتها،و ليس وجودها في العقل من هذه الجهة وجودا ذهنيّا لها،بل وجودا عينيّا كما ذكر.كذلك الموجود في النّفس و العقل من ماهيّات الأشياء جواهرها و أعراضها مجرّدها و مادّيّتها،سواء كانت تلك الماهيّة ممّا يمكن أن يكون لها أفراد متعدّدة في الخارج،أو لم يمكن.بل كان نوعها منحصرا في فرد،كالمفارقات،أو لم يمكن أن يكون لها فرد في الخارج أصلا،كماهيّات الممتنعات.و سواء كان ما يمكن أن يكون لها أفراد متعدّدة،بحيث يكون تلك الأفراد المتعدّدة موجودة في الأعيان،أو يكون كلّها معدومة في الأعيان،أو يكون الموجود منها بعضا منها واحدا كان أم أكثر مع إمكان الباقي،إنّما يكون ماهيّات تلك الأشياء مجرّدة عن تلك الوجودات التي لو كانت هي لتلك الماهيّات،لكانت منشأ للآثار المطلوبة منها في الخارج،و معرّاة عن العوارض الخارجيّة و اللواحق التابعة لتلك الوجودات العينيّة و تلك التّشخّصات الخارجيّة،سواء كانت تلك الماهيّات منتزعة عن أشياء خارجيّة أم لا،إلاّ أنّ تلك الماهيّات و إن أخذت في الذهن على أنّها معرّاة عن الوجود العينيّ و مجرّدة عن توابعها،لكنّها-من حيث حصولها في العقل و قيامها بنفس جزئيّة-يكون لها نحو من الوجود العينيّ أيضا غير ما هي جرّدت عنه، و هذا الوجود العينيّ وجود عينيّ ضعيف،له باعتبار ترتّب بعض الآثار عليه نسبة إلى الوجود العينيّ،و باعتبار عدم ترتّب جميع الآثار المطلوبة من الوجود العينيّ عليه نسبة إلى الوجود الذهنيّ،فكأنّه برزخ متوسّط بين الوجود العينيّ و الذهنيّ.فلذلك تكون هي منشأ لحصول العلم بالمعلوم،و منشأ لبعض الآثار دون كلّها،أي تكون منشأ لما يترتّب عليها من حيث كونها صورة علميّة،أي منشأ لاتّصاف محلّها-أي النّفس-بالعلم، و بكونها عالمة بمعلومها.و تكون أيضا،باعتبار اقتران هذا النحو من الوجود معها،جزئيّة و شخصا خاصّا،حيث إنّها بهذا الاعتبار لا تصدق على كثيرين،فإنّ الصورة الحاصلة في ذهن زيد من الإنسان مثلا،حيث إنّها حاصلة في ذهنه،لا تصدق على الصّورة الحاصلة في ذهن عمرو منه مثلا،من حيث هي حاصلة فيه و إحداهما غير الاخرى،و إن كانت

ص:198

أصل الماهيّة المنتزعة من الإنسان الحاصلة في كلّ من الذهنين واحدة بحسب الذات و الحقيقة،مع قطع النظر عن الخصوصيات الذهنيّة.و كذلك تكون هي بهذا الاعتبار عرضا،حيث إنّها قائمة بموضوع و موجودة في موضوع هو تلك النّفس التي هي حاصلة فيها قائمة بها،سواء كانت هي صورة منتزعة من جوهر أو من عرض.و هذه الصّورة بهذا الاعتبار و إن كانت جزئيّة،إلاّ أنّ مدركها هو النّفس بذاتها،لكونها حاضرة عندها.كما أنّ مدركها بالاعتبارين الأخيرين الآتيين أيضا هو النّفس بذاتها.و ما اشتهر عندهم من أنّ النّفس لا تدرك بذاتها الجزئيّ من حيث هو جزئيّ،فإنّما هو في الجزئيّات المادّية المحفوفة بالعوارض المادّيّة،و أمّا الجزئيّات المجرّدة عنها،فهي تدركها بذاتها.

ثمّ إنّه حيث قلنا بوجود الطبيعة من حيث هي في ضمن وجود الشخص،فتكون هي أيضا في ضمن وجود هذه الصّورة الخاصّة التي ذكرنا حالها،و بتوسّطها موجودة نحو وجودها العينيّ أضعف منه،يترتّب عليها ما يترتّب على وجود تلك الصورة من آثارها المذكورة،حيث إنّ مقتضى القول بوجود الطبيعة من حيث هي في ضمن الفرد،أنّ ما يترتّب على ذلك الفرد من الآثار،يترتّب عليها أيضا بأيّ وجود كان لذلك الفرد،و لذلك تكون تلك الطبيعة في ضمن تلك الصّورة الخاصّة جزئيّة،و إن كانت هي في حدّ ذاتها و من حيث هي لا جزئيّة و لا كلّيّة،و كذا تكون عرضا مثلها و إن كانت هي ماهيّة جوهرا، لأنّ ثبوت هذه الصّفات للطّبيعة من حيث هي في ضمن تلك الصّورة،إنّما هو بالعرض لا بالذّات،فإنّها من حيث ذاتها ليست إلاّ هي،من غير اعتبار أمر آخر معها،كما ذكرنا حالها سابقا.

ثمّ إنّ تلك الماهيّة الحاصلة في العقل إذا أخذت على أنّها مجرّدة عن هذا الوجود العقليّ أيضا كما أنّها مجرّدة عن سائر الوجودات العينيّة الخارجيّة و عن توابعها.

و بالجملة،إذا أخذت بشرط لا شيء بالنّسبة إلى كلّ وجود عينيّ و توابعه،و مع هذا أخذت مقيسة إلى الأشخاص التي تكون لها-إن كان يفرض لها أشخاص-و مقولة عليها، محمولة عليها،مشتركة بين كثيرين،كان لتلك الماهيّة في العقل وجود ذهنيّ،أي وجود

ص:199

أضعف من المراتب السّابقة كلّها،لا يترتّب عليه أثر ما من الآثار المطلوبة منها في الأعيان،و هي بذلك الاعتبار لا تكون إلاّ كلّيّة،و حيث لا يترتّب عليها أثر من الآثار العينيّة فهي لا تكون جوهرا و لا عرضا.

و هذا معنى قول بعضهم:«إنّ الطّبائع الكلّيّة من حيث كلّيّتها و وجودها الذّهنيّ لا تدخل تحت مقولة من المقولات،و من حيث وجودها في النّفس تدخل تحت مقولة الكيف».

و المحصّل أنّ تلك الماهيّة الحاصلة في العقل إن أخذت بشرط وجودها العقليّ الذي هو نحو من الوجود العينيّ و إن كان ضعيفا،و بشرط تشخّصها الذهنيّ و بشرط قيامها بنفس جزئيّة،فهي من هذه الحيثيّة صورة جزئيّة لا كلّيّة،و علم لا معلوم.و كذا هو عرض موجود في الموضوع مطلقا،سواء كانت صورة الجوهر أو صورة العرض.كما أنّ تلك الماهيّة أيضا بشرط وجودها في الخارج وجودا عينيّا من غير جهة وجودها العينيّ في العقل،أي من جهة ما يترتّب عليها جميع الآثار المطلوبة عنها شخص جزئيّ موجود في الخارج،و معلوم لا علم،و هي بحسب ذلك الوجود قد يكون جوهرا و قد يكون عرضا.

و إن أخذت تلك الماهيّة الحاصلة في العقل لا بشرط وجودها العقليّ و تشخّصها الذهنيّ،فهي من هذه الحيثيّة،الماهيّة من حيث هي التي هي في حدّ ذاتها ليست إلاّ هي، إلاّ أنّها تتّصف بالعرض في ضمن تلك الماهيّة الموجودة بالوجود الذّهنيّ بأوصافها و أحوالها،كالوجود العينيّ،و الجزئيّة و العرضيّة سوى وصف كونها علما،فإنّها معلومة لا علم.

كما أنّ تلك الماهيّة المأخوذة في حدّ ذاتها لا بشرط شيء،تتّصف بالعرض في ضمن حقائقها،و الماهيّات الموجودة في الأعيان بحسب الوجود العينيّ الذي يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة منه،غير الوجود العينيّ في العقل،بأوصاف تلك الحقائق كالوجود العينيّ،و الجزئيّة و الجوهريّة أو العرضيّة و المعلوميّة،حيث إنّ اتّصاف الماهيّة من حيث هي بالعرض،بأوصاف الماهيّة الموجودة بالوجود العينيّ،إنّما هو بحسب ذلك الوجود

ص:200

العينيّ خاصّة.

و أمّا إذا أخذت تلك الماهيّة الحاصلة في العقل بشرط لا شيء،أي بشرط عدم أخذ الوجودات العينيّة و توابعها معها،سواء كانت تلك الوجودات خارجيّة أم كانت باعتبار الوجود في العقل،و مع ذلك أخذت مقيسة إلى أفرادها التي تفرض لها و مشتركة بينها.

و بعبارة أخرى إذا أخذت بشرط العموم و بشرط عدم الخصوص،من غير أن تكون أيضا لا بشرط العموم أو الخصوص،فتلك الماهيّة الحاصلة في العقل من هذه الحيثيّة موجودة بالوجود الذّهنيّ الذي لا يترتّب عليه شيء من الآثار و الأحكام العينيّة و الأفاعيل الخارجيّة المطلوبة من تلك الماهيّة بحسب وجودها العينيّ.

و كذلك هي من هذه الحيثيّة لا تتّصف بالجوهريّة و لا بالعرضيّة أصلا،إذ ليس لها وجود عينيّ يترتّب عليه الآثار من هذه الجهة أصلا،حتّى تتّصف بالجوهريّة أو العرضيّة.

و كذلك هي من هذه الجهة كلّيّة لا جزئيّة،و من هذه الحيثيّة تكون جنسا أو نوعا و أمثال ذلك من الأمور الّتي هي معقولات ثانية،و تفرض هي لها بحسب وجودها الذهنيّ،إلاّ أنّها من تلك الحيثيّة معلومة أيضا لا علم.

فتلخّص ممّا ذكرنا،أنّ اختلاف تلك الماهيّة المعقولة بالكلّيّة و الجزئيّة و بالعلم و المعلوميّة و بالجوهريّة و العرضيّة و أمثال ذلك،إنّما هو بالاعتبار لا بالذات،و لا حجر في ذلك،إذ كما أنّ الشيء الواحد يمكن أن يكون باعتبارات مختلفة جنسا و نوعا و مادّة كما علمت فيما سلف،يمكن أن يكون باعتبارات مختلفة متّصفا بالأوصاف المختلفة المتغايرة المذكورة،يدلّ على ما ذكرنا ما حقّقه الشيخ في غير موضع من«الشفاء»،مثل ما ذكره في فصل كون الكلّيّة للطبائع الكلّيّة و غيره،فليطالع ثمّة.و إنّما لم ننقله بعبارته، لكون ذلك موجبا للإطناب،و اللّه أعلم بالصواب.

في الإشارة إلى دفع إشكال آخر هنا

ثمّ إنّك حيث تحقّقت ما حقّقناه و تبيّنت ما حرّرناه في بيان كلام الشيخ هنا في مقام

ص:201

دفع الإشكال المورد في الذّاتيّات و لوازم الوجود الخارجيّ من حيث الوجود الذّهنيّ.

فاعلم أنّ في هذا المقام إشكالا آخر ربّما يورد في لوازم الماهيّات ينبغي التعرّض لدفعه.

بيان الإشكال:أنّه لا يخفى أنّ لوازم الماهيّات كالزّوجيّة للأربعة،و الفرديّة للثّلاثة، سواء قيل بأنّها لوازم الماهيّة من حيث هي،أو بأنّها لوازم الماهيّة بكلا وجوديها،أي الخارجيّ و الذهنيّ،أنّما هي تلزم الماهيّة من حيث وجودها الذّهنيّ أيضا،كما تلزمها من حيث وجودها العينيّ.فالأربعة-مثلا-كما أنّها إذا وجدت في الخارج تلزمها الزّوجيّة و ينتزعها العقل منها،كذلك هي إذا وجدت في الذّهن أيضا تلزمها الزّوجيّة،و ينتزعها العقل منها،لكون الماهيّة في كلا الوجودين واحدة،و اللازم لازما لها فيهما.و كما أنّ محلّ الأربعة بحسب وجودها العينيّ يجب أن يكون متّصفا بها و كذا بالزوجيّة،و كذا محلّ الزّوجيّة بحسب وجودها العينيّ يجب أن يكون موصوفا بها،كذلك محلّهما بحسب وجودهما الذّهنيّ و هو النّفس،يجب أن يكون متّصفا بهما إذا حصلتا فيها،فيلزم أن تكون النفس أربعة و زوجا.و كذا يلزم أن تكون النّفس ثلاثة و فردا إذا حصلت الثّلاثة فيها، فيلزم أن تكون زوجا و فردا معا،و كلّ ذلك باطل بالضّرورة.

و لا يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ الأربعة مثلا ماهيّة إذا وجدت في الخارج كانت زوجا،كما ذكر في الجواب عن الإشكال في الجوهر و العرض و لوازم الوجود الخارجيّ،بل في الذّاتيّات أيضا،لأنّ الأربعة بحسب وجودها الذّهنيّ أيضا تلزمها الزّوجيّة،مع أنّه قد ظهر ممّا تقرّر سابقا من أنّ وجودها في الذّهن من حيث حصولها في نفس جزئيّة نوع وجود عينيّ لها.بل نقول على تقدير القول بوجود ماهيّات الأشياء في الذّهن،تكون ماهيّة الممتنع أيضا موجودة فيه إذا حصلت في العقل،فإنّه-كما قرّرت سابقا-و إن لم يكن للممتنع حقيقة موجودة في الخارج،إلاّ أنّ له ماهيّة موجودة في الذّهن، و إذا حصلت في الذّهن و كانت حالّة فيه،يلزم أن يكون محلّها-و هو النّفس-موصوفا بالامتناع،و ذلك باطل بالضّرورة.

ص:202

و بيان الجواب:أنّ الأربعة-مثلا-و إن كانت إذا حصلت في الذّهن أيضا تلزمها الزّوجيّة،إلاّ أنّ اتّصاف محلّها بالأربعيّة أو بالزّوجيّة من جملة آثارها المترتّبة على وجودها العينيّ،فإنّ اتّصاف كلّ محلّ بما حلّ فيه من آثار وجوده العينيّ،و قيام ذلك الحالّ بذلك المحلّ قياما خارجيّا،يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة،و ليس للأربعة و لا للزّوجيّة،بل و لا للثّلاثة و لا للفرديّة و لا للامتناع بحسب وجوداتها في العقل،وجود عينيّ كذلك،و لا قيام خارجيّ،و لذلك لا يتّصف النّفس التي هي محلّ لها بحسب وجودها الذّهنيّ بها أصلا.نعم إنّ لها بحسب حصولها في نفس جزئيّة من حيث حصولها فيها و كونها صورا علميّة،نحوا من الوجود العينيّ الضعيف الذي أثره إنّما هو اتّصاف محلّها بالعلم بها،و هو هنا حاصل بالضّرورة.و أمّا سائر آثار الوجود العينيّ التي من جملتها اتّصاف المحلّ بالحالّ،فلا يترتّب على وجودها في العقل مطلقا.

و بذلك يظهر الجواب عن الإشكال في كلّ لوازم الماهيّات،و كذا في الممتنع،فتدبّر.

و هذا الجواب الذي ذكرنا هو التحقيق في دفع الإشكال،و عليه مدار ما ذكره جمع من الأفاضل:كالسّيّد الشّريف و المحقّق الدّواني و المحشّي الشّيرازيّ من الأجوبة،و إن كانت عبارة بعضهم في ذلك لا تخلو عن خفاء كما يظهر على من راجع كلماتهم.

و أمّا الجواب الذي ذكره الشارح القوشجيّ بالفرق بين الحصول في الذّهن و القيام به، فهو شيء قد تفرّد به،و لا معنى محصّلا له،لأنّ القيام بالذّهن لا معنى له إلاّ الحصول فيه، و كذا الحصول فيه لا معنى له إلاّ القيام به،فالفرق تحكّم.و تفصيل الإيراد عليه لا يسعه المقام.

و هذا الذي ذكرناه كلّه،إنّما هو بيان الجواب عن الإشكال بالوجوه المفصّلة المذكورة،على تقدير القول بحصول الأشياء بأعيانها في الذّهن،كما هو المذهب الحقّ.

و أمّا الجواب عنه على تقدير القول بوجود الأشياء بأشباحها فيه،فهو و إن كان ظاهرا أيضا،لأنّ الموجود في الذهن على هذا القول ليس ماهيّة تلك الأشياء،بل أشباحها و الصّور المخالفة لها في كثير من اللوازم،فلا بعد في أن لا يترتّب عليها ما يترتّب على

ص:203

حقائقها الموجودة في الخارج،و على وجوداتها العينيّة.إلاّ أنّ هذا المذهب لمّا كان مبنيّا على أصل غير أصيل،كما أشرنا إليه فيما سبق،لم نفصّل الجواب على تقديره.

و ظنيّ أنّ القائلين بهذا المذهب كأنّه دعاهم إليه الفرار عن الإشكال بالوجوه المذكورة،و كأنّهم حسبوا أنّها إنّما ترد على تقدير القول بوجود الأشياء بأعيانها في الذهن،دون القول بوجودها بأشباحها فيه،فلذلك ذهبوا إلى ما ذهبوا،و اللّه أعلم بالصّواب.

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،فلنرجع إلى شرح كلام الشيخ الذي كنّا بصدد شرحه و تحريره،فنقول:قوله (1):«و الحركة كذلك ماهيّتها (2)أنّها كمال ما بالقوّة،و ليست في العقل حركة بهذه الصّفة»-إلى آخر ما ذكره-بيان نظير لمدّعاه،و ايراد شاهد على أنّ معنى الجوهريّة للجواهر-أي الوجود-لا في موضوع،سواء كان ذاتيّا لها أو عرضيّا لازما لها،لا يبطل بكون وجودها في موضوع في العقل،بل معنى الجوهر و حدّه أنّه سواء كان في العقل أو لم يكن،فإنّ وجوده في الأعيان ليس في موضوع.

و بيان الشهادة أنّه لا سترة في أنّ الحركة ماهيّتها و ما هو المأخوذ في حدّها،أنّها كمال ما بالقوّة،و معناه أنّها إذا وجدت في الأعيان تكون كمالا لما بالقوّة،لا أنّها إذا وجدت في العقل أيضا،تكون من حيث وجودها فيه بهذه الصّفة؛إذ ليست في العقل حركة بهذه الصّفة،حتّى يكون في العقل كمال ما بالقوّة من جهة كذا-مثلا-حتّى يصير ماهيّتها محرّكة للعقل،فإنّه لو كان في العقل حركة بهذه الصّفة،لكانت صفة لمحلّها و هو العقل.فيلزم أن تكون هي محرّكة لمحلّها،و أن يكون محلّها موصوفا بها حقيقة،كما في محالّها التي هي محالّها بحسب الوجود العينيّ،و هي حالّة فيها قائمة بها حلولا عينيّا و قياما خارجيّا.فيلزم أن يكون العقل متحرّكا و موصوفا بالحركة في كلّ مقولة،حتّى في الأين مثلا،و هذا باطل.بل إنّ معنى كون ماهيّة الحركة بهذه الصفة،هو أنّها ماهيّة تكون

ص:204


1- -الشفاء-الإلهيّات140/ و 141. [1]
2- في المصدر:ماهيّتها.

في الأعيان،و بحسب وجودها العينيّ كمالا لما بالقوّة،و إذا حصلت ماهيّتها في العقل، تكون أيضا بهذه الصّفة،بمعنى أنّها في العقل ماهيّة تكون في الأعيان كمالا لما بالقوّة، فليس يختلف كونها في الأعيان و كونها في العقل،فإنّها في كليهما على حكم واحد،حيث إنّها في كليهما ماهيّة توجد في الأعيان كمالا لما بالقوّة.فلو كنّا قلنا:إنّ الحركة ماهيّة تكون كمالا بالقوة في الأين-مثلا-لكلّ شيء يوجد فيه،ثمّ وجدت في النّفس لا كذلك،لم يلزم منه أن تكون حقيقتها مختلفة،بل إنّ حقيقتها كما ذكر متّحدة.و هي أنّها بحسب وجودها العينيّ كمال لما بالقوّة،سواء عقلت أم لم تعقل.

و حيث لا امتناع في ذلك و لا استبعاد فيه في الحركة،كذلك ينبغي أن يكون لا امتناع و لا استبعاد في ذلك في الجوهر.

و قوله (1):«و هذا كقول القائل إنّ حجر المغناطيس حقيقته أنّه حجر يجذب الحديد» -إلى آخر ما ذكره-إيراد نظير آخر و شاهد آخر.مفاده أنّه كما أنّ حقيقة الشيء لا تختلف بحسب اختلاف أحكامه بحسب الوجود العينيّ و الوجود الذهنيّ،إذا كان حكمه يترتّب عليه بحسب وجوده العينيّ،و كان ذلك الحكم لا يختلف بحسب ذلك الوجود كما في الجوهر و الحركة،فكذلك لا يختلف حقيقة الشيء بحسب اختلاف أحكامه في وجوده العينيّ أيضا،إذا كان حكمه الّذي يترتّب عليه بحسب وجوده العينيّ ممّا يكون مشروطا بأمر و مختصّا بحالة مخصوصة.كأن يكون لازما لوجوده الخارجيّ،و يكون ترتّب ذلك الحكم عليه بالفعل مشروطا بشرط،و إن كان من شأنه أن يكون له ذلك الحكم مطلقا، و كان لا يختلف أصلا.

و بيان الشّهادة أنّ قول القائل:إنّ حجر المغناطيس حقيقته أنّه يجذب الحديد،معناه:

أنّه إذا وجد مقارنا لحديد جذبه،فإذا وجد مقارنا لجسميّة كفّ الإنسان و لم يجذبه،و وجد مقارنا لجسميّة حديد فجذبه،فلم يجب أن يقال:إنّه مختلف بالحقيقة في الكفّ و في الحديد؛بل هو في كلّ واحد منهما بصفة واحدة،و هو أنّه حجر من شأنه أن

ص:205


1- -الشفاء- [1]الإلهيّات141/. [2]

يجذب الحديد،فإنّه إذا كان في الكفّ أيضا،كان بهذه الصّفة،كما أنّه إذا كان عند الحديد أيضا،كان بهذه الصفة.

و حيث لا امتناع و لا استبعاد في ذلك بحسب وجود واحد،أعني الوجود الخارجيّ، و كان لا يختلف بذلك حقيقة ذلك الشيء الواحد،كذلك لا امتناع و لا استبعاد في ذلك بحسب الوجودين،أعني الخارجيّ و الذهنيّ،و لا اختلاف حقيقة لذلك الشيء.

و حيث عرفت ذلك،عرفت أنّ حال ماهيّات الأشياء في العقل أيضا بهذه الصّفة، و ليس إذا كانت في العقل في موضوع،فقد بطل أن يكون في العقل ماهيّة ما في الأعيان ليست في موضوع.

و قوله (1):«فإن قيل:قد قلتم إنّ الجوهر هو (2)ماهيّة لا تكون في موضوع أصلا،و قد صيّرتم (3)ماهيّة المعلومات في موضوع.فنقول:قد قلنا:إنّه لا يكون في موضوع (4)أصلا» إيراد و جواب عنه.

و توجيه الإيراد:إنّكم قلتم:إنّ الجوهر هو ماهيّة لا تكون في موضوع أصلا،و قد صيّرتم ماهيّة المعلومات من حيث كونها معلومة موجودة في الذّهن في موضوع،فكيف هذا؟

و توجيه الجواب أنّا حيث قلنا:إنّ الجوهر ما لا يكون بحسب وجوده العينيّ الذي يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة منه في موضوع و الحال أنّ ماهيّة المعلومات الحاصلة في العقل من الجواهر،ليست بحسب ذلك الوجود العينيّ في موضوع،فقد قلنا:إنّ الجوهر ما لا يكون في موضوع أصلا بحسب وجوده العينيّ القويّ المعتبر في جوهريّته،و عرضيّة تلك الماهيّات بحسب وجودها الذهنيّ لا ضير فيها،كما بيّنّا وجهه.

و قوله (5):«فإن قيل:فقد (6)جعلتم ماهيّة الجوهر أنّها تارة تكون عرضا و تارة جوهرا،

ص:206


1- -الشفاء- [1]الإلهيّات142/. [2]
2- في المصدر:الجوهر هو ماهيّة...
3- ماهيّة...
4- موضوع في الأعيان...
5- -الشفاء- [3]الإلهيّات142/. [4]
6- قد جعلتم ماهيّة.

و قد منعتم هذا.فنقول:إنّا منعنا أيضا أن يكون (1)ماهيّة شيء توجد في الأعيان مرّة عرضا و مرّة جوهرا،حتّى تكون في الأعيان تحتاج إلى موضوع ما،و فيها لا تحتاج إلى موضوع البتّة،و لم نمنع أن (2)تكون معقولة تلك الماهيّة عرضا،أي أن تكون موجودة في النّفس لا كجزء».

إيراد آخر و جواب عنه أيضا

توجيه الإيراد:إنّكم حيث جعلتم ماهيّة الجوهر بحسب وجوده العينيّ لا في موضوع، و بحسب وجوده العقليّ الذي هو نوع من الوجود العينيّ في موضوع،فقد جعلتم ماهيّة الجوهر تارة جوهرا و تارة عرضا،فكيف هذا و قد منعتم ذلك؟

و بيان الجواب:إنّا قد منعنا أن يكون ماهيّة الجوهر تارة جوهرا و تارة عرضا بحسب وجود واحد عينيّ قويّ هو المعتبر في جوهريّته،و هو الوجود العينيّ الخارجيّ الذي يترتّب عليه جميع أحكامه و آثاره،مع قطع النّظر عن الوجود العقليّ،و إن كان هو باعتبار ما وجودا عينيّا ضعيفا لا يترتّب عليه جميع آثاره،بل بعضها كما ذكرنا فيما مضى،و لم نمنع أن يكون ماهيّة الجوهر بحسب الوجود العينيّ القويّ الخارجيّ جوهرا،و بحسب الوجود العقليّ-و إن كان هو نوعا من الوجود العينيّ الضعيف-عرضا،أي موجودة في النّفس لا كجزء.

و قوله (3):«و لقائل أن يقول:فماهيّة (4)العقل الفعّال و الجواهر المفارقة أيضا كذا يكون حالها،حتّى يكون المعقول منها عرضا»-إلى آخر ما ذكره-إيراد آخر على ما ذكره.

بيانه:أنّ ما ذكرت من أنّه يمكن أن يكون ماهيّة شيء موجود في الأعيان جوهرا لا يحتاج إلى موضوع،و إن كانت معقولة تلك الماهيّة تصير عرضا،أي أن تكون في النّفس لا كجزء،على تقدير تسليمه،إنّما يسلّم فيما إذا كانت الصّورة العقليّة منها مخالفة،

ص:207


1- في المصدر:تكون ماهيّة...
2- أن يكون معقول تلك الماهيّات يصير عرضا،أي تكون...
3- -الشفاء- [1]الإلهيّات142/. [2]
4- فماهيّة.

-و لو بوجه-للحقيقة الخارجيّة الموجودة في العين؛كأن تكون الصورة العقليّة و الماهيّة المجرّدة ماهيّة منتزعة من أمر أو أمور حاصلة في الأعيان،ينتزعها العقل منها بعد تجريدها عن العوارض المكتنفة تجريدا يتولاّه العقل،كما في المعنى الكلّيّ من الجوهر المنتزع من الجواهر الشّخصيّة العينيّة بعد تجريدها عن العوارض و المشخّصات.

و أمّا فيما لا تكون هناك مخالفة بين الصّورة المعقولة و الحقيقة العينيّة،فلا نسلّم ذلك.و هذا كما في الصورة العقليّة من العقل الفعّال و الجواهر المفارقة،حيث إنّ المعقول منها لا يخالفها،إذ المعقولة منها لذاتها معقولة من غير احتياج إلى تجريد عن العوارض المشخّصة،لأنّها لذاتها مجرّدة عن المادّة و علائقها و عوارضها،لا بتجريد يحتاج أن يتولاّه العقل.

و محصّل الجواب عن هذا الإيراد:أنّ الصّورة العقليّة من العقل الفعّال و الجواهر المجرّدة أيضا مخالفة لحقائقها الخارجيّة،لأنّ الصورة العقليّة منها أيضا عبارة عن ماهيّاتها المجرّدة عن وجوداتها العينيّة،و عن العوارض المكتنفة،كما في الصّورة العقليّة الكلّيّة المنتزعة من الجزئيات المادّيّة،حيث إنّ الشيء بوجوده العينيّ الذي يترتّب عليه آثاره،لا يحصل في الذهن،و إلاّ لكان الذهن خارجا،و لم يحصل فرق بين الموجود العينيّ و الموجود الذهنيّ.

و حينئذ ففي كلتا الصّورتين يجب أن يكون تجريد عن الوجود الخارجيّ و عن تلك العوارض،إلاّ أنّ التجريد عن الوجود الخارجيّ في كلتا الصورتين،إنّما هو بعمل يتولاّه العقل.و أمّا التجريد عن العوارض،فهو في الصّورة الكلّيّة المنتزعة انّما بتعمّل العقل،و في تلك المجرّدات ليس بتعمّله،إذ هي في حدّ ذاتها مجرّدة عنها،بل إنّما هي تحصل في العقل مجرّدة عنها كما هي عليه في الواقع،فيكون قد كفي المئونة في تجريدها.

فعلى هذا،فأصل التجريد مشترك بينهما و هو في تلك الصّور الكلّيّة بالقياس إلى الوجود الخارجيّ و تلك العوارض جميعا بعمل العقل،و في المعقول من تلك الجواهر المجرّدة المفارقة بالنسبة إلى الوجود الخارجيّ بعمل العقل أيضا،و بالنسبة إلى تلك

ص:208

العوارض لا بعمله.و هذا كما أنّ المعقول من الممتنعات و المعدومات في الخارج ليس إلاّ ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود الخارجيّ و عن توابعه،و مع ذلك فليس يحتاج العقل إلى عمل في تجريدها عنها،إذ ليس لها وجود عينيّ أصلا حتّى يجرّدها العقل عنه،بل هي إنّما تحصل في العقل مجرّدة عنها على ما هي عليه في الواقع.

فظهر أنّ المعقول من تلك الجواهر المفارقة أيضا يخالف حقيقتها بوجه،كما في تلك الصّور الكلّيّة،فجاز أن تكون حقائقها جواهرا،و المعقول منها عرضا،و حينئذ فلا نقض بالجواهر المجرّدة التي وجودها زائد على ذواتها،و يمكن تجريدها عنه.

نعم لو كان شيء من الأشياء ممّا لا يمكن تجريده عن الوجود الخارجيّ،لأجل كون وجوده عين ذاته،و كون تجريد الشيء عن نفسه ممتنعا،كما فى ذات الواجب تعالى، فليس هناك حقيقة و ماهيّة متغايرتان،بل أنّ ماهيّته عين حقيقته،و هما عين وجوده بالحقيقة،و لا يمكن هناك حصول ماهيّته مجرّدة عن الوجود الخارجيّ في العقل،حتّى يمكن له أن يدركه.و لذلك قالوا:إنّه لا يمكن للعقل إدراك كنه ذاته تعالى،و معناه:أنّه ليس له كنه،حتّى يمكن أن يعقل،إذ الكنه عبارة عن الماهيّة المجرّدة عن الوجود الخارجيّ،و هي منفيّة في شأنه تعالى و تقدّس.لا أنّ له كنها و لا يمكن إدراكه؛فتبصّر.

و هذا الذي ذكرنا هو تلخيص السّؤال و الجواب مع بعض زوائد.

و أمّا تحرير كلام الشيخ فيهما،فهو أنّه لقائل أن يقول:فماهيّة العقل الفعّال و الجواهر المجرّدة المفارقة أيضا يلزم أن يكون حالها-كما ذكرت في الجواهر-غيرها،من كون حقائقها جواهر و المعقول منها عرضا،إلاّ أنّ ذلك لا يصحّ فيها،لأنّ المعقول منها لا يخالفها،لأنّها لذاتها معقولة من غير احتياج إلى تجريد في تعقّلها.و حيث لم يكن هناك اختلاف في الذّات،باعتبار الوجود العينيّ و الذّهنيّ،فمن أين يحصل الاختلاف بالجوهريّة و العرضيّة؟

فنقول في جواب هذا القائل:إنّه ليس الأمر كما ذكرت:من أنّ المعقول منها لا يخالفها؛فإنّ معنى قولنا:«إنّها لذاتها معقولة»هو تعقّل ذاتها بذاتها،و إن لم يعقلها غيرها،

ص:209

و أيضا أنّها مجرّدة عن المادّة و علائقها لذاتها لا بتجريد يحتاج أن يتولاّه العقل.

و أمّا إن قلنا:إنّ هذا المعقول منها يكون من كلّ وجه هي أو مثلها،أو قلنا:إنّه ليس يحتاج إلى وجود المعقول منها،إلاّ أن يوجد ذاتها بهويّتها العينيّة الخارجيّة في النّفس، و تكون تلك الهويّة الخارجيّة هي بعينها صورة علميّة حاصلة للنّفس،فقد أحلنا،أي قلنا قولا محالا،فإنّ ذاتها بوجودها العينيّ مفارقة عن المادّة و عن علائقها،حتّى عن الحصول في شيء و لشيء،و لا يصير نفس ذاتها بوجودها العينيّ صورة لنفس إنسان، و صورة علميّة لها،و لو صارت ذاتها بوجودها العينيّ صورة لنفس،لكانت تلك النّفس قد حصل فيها صورة كلّ شيء،و علمت كلّ شيء بالفعل،إذ ذات العقل الفعّال مثلا بوجوده العينيّ ذات حصل فيها صورة كلّ شيء و عالمة بكلّ شيء.

فإذا حصلت هي بوجودها العينيّ الذي يتبع حصولها حصول ما فيها بأجمعها في نفس،يلزم أن يكون النّفس الحاصلة هي فيها عالمة بكلّ شيء بالفعل و الوجدان يشهد بكذبه.

و أيضا لو كانت كذلك،لكانت تصير ذات العقل الفعّال و الجواهر المجرّدة صورة لنفس واحدة،و تبقى النّفوس الاخرى ليس لها الشيء الذي تعقله،حيث إنّ المفروض أنّه قد استبدّ بها نفس واحدة،و انفردت بحلولها فيها و حصولها لها و بكونها صورة لها، فلم يمكن أن تكون هي صورة لنفوس اخرى،و لا أن تعقلها نفس اخرى غير النّفس العاقلة لها أوّلا.إذ لو أمكن ذلك لأمكن كون شيء واحد بالعدد موجود بوجود عينيّ أصيل منفرد بذاته صورة لموادّ كثيرة كنفوس متعدّدة،لا بأن يؤثّر فيها،بل بأن يكون هو بعينه بوجوده العينيّ الشخصيّ منطبعا في تلك المادة و في أخرى و فى أخرى،و هذا محال بأدنى تأمّل،قد أشرنا إلى امتناعه في الكلام في النّفس و في مواضع أخرى.

نعم لو كان شيء واحد بالعدد صورة لموادّ كثيرة و نفوس متعدّدة،بأن يؤثّر فيها،كان يحصل في كلّ مادة منها و في كلّ نفس من تلك النفوس صورة منتزعة منه،أي ماهيّته المجرّدة عن الوجود العينيّ و عن العلائق المادّية،و تتأثّر تلك المادّة و تلك النّفس عنها

ص:210

و تقبلها.

و بعبارة أخرى أن تنتزع كلّ نفس من تلك النّفوس صورة من ذلك الشيء الواحد بالعدد،و ماهيّة مجرّدة منه،و تحصّلها و تجعلها حاصلة في ذاتها فتقبلها،لكان لا مانع من ذلك و لا استحالة فيه.

و حيث عرفت أنّ ذوات تلك الأشياء-أي العقل الفعّال و الجواهر المجرّدة-لا توجد بوجوداتها العينيّة في النّفس إذا عقلتها،عرفت أنّها عند كونها معقولة إنّما تحصل في النّفس ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود العينيّ و عن لواحقه،كما في غيرها من المعقولات،فثبت عندك إذن أنّ تلك الأشياء إنّما تحصل في القوى البشريّة معاني ماهيّاتها المجرّدة،لا ذواتها بوجوداتها الشخصيّة العينيّة،و يكون حكمها كحكم سائر المعقولات من الجواهر التي هي ماهيّات كلّيّة مجرّدة عن الوجود الخارجيّ و عن المادّة و علائقها إلاّ في شيء واحد،و هو أنّ تلك الجواهر المادّيّة تحتاج إلى تقشيرات و تجريدات عن الوجود العينيّ و عن المادّة و عن علائقها حتّى يتجرّد منها تعقّل،و هذه الأشياء و الذوات العقليّة لا تحتاج إلى شيء غير أن يوجد المعنى كما هو فينطبع بها النّفس،أي لا تحتاج إلى تقشير و تجريد عن المادّة و علائقها،لكونها في حدّ ذاتها مجرّدة عنها،و قد كفت النّفس المئونة في تجريده عنها،فتنطبع هي كما هي عليه فيها،و إن كانت تحتاج إلى تجريد عن الوجود العينيّ،كما فى غيرها من المعقولات.

و حيث تحقّقت ما حقّقناه،تبيّنت أنّ هذا الذي قلناه إنّما هو نقض حجّة المحتجّ،أي القائل المذكور الذي ادّعى أنّ المعقول من العقل الفعّال و الجواهر المفارقة لا يخالفها،فلا يجوز أن يكون عرضا،و ليس فيه إثبات ما يذهب إليه.

ثمّ إنّ قول الشيخ (1):«فنقول:إنّ هذه المعقولات سنبيّن من أمرها بعد،أنّ ما كان من الصّور الطبيعيّة و التعليميّات،فليس يجوز أن يقوم مفارقا بذاته».-إلى آخر ما ذكره في الفصل-إعادة بيان لما ذكره قبل،مع زوائد و مزايا،و فيه إشارة إلى أمور.

ص:211


1- -الشفاء- [1]الإلهيّات143/. [2]

منها:أنّ المعقول من الجواهر المفارقة إنّما يكون ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود العينيّ و عن المادّة و علائقها.

و منها:أنّ المعقول من الأشياء المادّية التي قيامها بالمادّة بحسب الوجود العينيّ كذلك أيضا،سواء كانت تلك الأشياء بحسب الحدّ أيضا متعلّقة بالمادّة،كالصّور الطبيعيّة، أو لم تكن بحسب الحدود متعلّقة بها،كالتّعليميّات،مثل التقعير و التربيع و التثليث و أمثالها ممّا هو بحسب الحدّ يمكن أن يتصوّر مجرّدا عن المادّة،لكنّه بحسب الوجود الخارجيّ متعلّق بها.و أنّ القول بأنّ الصّور الطبيعيّة و التعليميّات يجوز أن تقوم مفارقة بذاتها،و أنّ العقل ينالها مجرّدة من غير أن يتعرّض لمادّة تقارنها،حيث إنّ العقل لا ينال إلاّ المفارقات عن المادّة-و هي بهذا الاعتبار معلومة-باطل،و هذا القول هو ما حكاه في «الشفاء»عن أقوام من الأوائل؛قال (1):«و ظنّ (2)قوم أنّ القسمة توجب وجود شيء في كلّ شيء،كإنسانين في معنى الإنسانيّة،إنسان فاسد محسوس،و إنسان معقول مفارق أبديّ لا يتغيّر،و جعلوا لكلّ واحد منهما وجودا،فسمّوا الموجود المفارق موجودا (3)مثاليّا، و جعلوا لكلّ واحد من الأمور الطبيعيّة صورة مفارقة هي المعقولة،و إيّاها يتلقّى العقل،إذ كان المعقول أمرا لا يفسد،و كلّ محسوس من هذه فهو فاسد.

و جعلوا العلوم و البراهين تنحو نحو هذه و إيّاها تتناول.و كان المعروف بأفلاطون و معلّمه سقراط يفرطان في هذا الرأي،و يقولون (4):إنّ للإنسانيّة معنى واحدا موجودا تشترك (5)فيه الأشخاص و تبقى (6)مع بطلانها،و ليس هو المعنى المحسوس المتكثّر الفاسد،فهو إذن المعنى المعقول المفارق.

و قوم آخرون لم يروا لهذه الصّورة مفارقة بل لمباديها،و جعلوا الأمور التعليميّة التي تفارق بالحدود مستحقّة للمفارقة بالوجود،و جعلوا ما لا يفارق بالحدّ من الصّور الطبيعيّة لا يفارق بالذّات،و جعلوا الصّور الطبيعيّة إنّما تتولّد بمقارنة تلك الصّور التعليميّة للمادة،

ص:212


1- -الشفاء- [1]الإلهيّات310/ و 311. [2]
2- في المصدر:فظنّ...
3- وجودا مثاليّا...
4- و يقولان...
5- يشترك...
6- و يبقى.

كالتقعير فإنّه معنى تعليميّ،إذا (1)قارن المادة صارت فطوسة،و صار معنى طبيعيّا،و كان للتقعير من حيث هو تعليميّ أن يفارق (2)،و لم يكن له من حيث هو طبيعيّ أن يفارق.

و أمّا أفلاطون فأكثر ميله إلى أنّ الصّور هي المفارقة،و أمّا التعليميّات فإنّها عنده معان بين الصّور (3)و بين المادّيّات،فإنّها،و إن فارقت في الحدّ،فليس يجوز عنده أن يكون بعد قائم لا في مادّة.-إلى آخر ما ذكره في ذلك الفصل-.

و ذكر مذاهب أخرى في ذلك و أبطلها و ناقضها.

و بالجملة،ففيما ذكره هنا إشارة إلى إبطال ما حكاه ثمّة و أبطله،أي إلى أنّ القول بالمثل التي قال بها أفلاطون و غيره،و قالوا أنّها قائمة بالذات مجرّدة عن الموادّ،و هي بهذا الاعتبار معقولة من الأشياء المادّيّة،سواء صورا طبيعيّة أو تعليميّات،باطل كما أبطلناه في موضع آخر،و على تقدير تسليم جواز كونها مفارقة الذّات،فهي أيضا لا يمكن أن تكون بوجودها العينيّ علما و لا معلوما لنا،بل المعقول منها أيضا إنّما هو ماهيّاتها المجرّدة،كما في الذوات المفارقة.

و منها أنّ الصّورة العلميّة الحاصلة من كلّ شيء،مجرّد أو مادّيّ،جوهر أو عرض، فهي عرض في النّفس،كما مرّ.و هذا الذي ذكرنا إنّما هو بيان مقاصده في هذا المقام.

و أمّا تحرير كلامه،فهو أنّ هذه المعقولات مطلقا سنبيّن من أمرها بعد في موضع نبطل فيه المثل الأفلاطونيّة و نحوها،أنّ ما كان من الصّور الطبيعيّة و التعليميّات،فليس يجوز أن يقوم مفارقا بذاته،بل يجب أن يكون هو في وجوده العقليّ و بحسب كونه معلوما في عقل أو في نفس،و ما كان من أشياء مفارقة عن المادّة بحسب وجوده العينيّ كالذوات المجرّدة،فنفس وجود تلك المفارقات مباينة لنا،ليس هو علمنا بها،أي ليس وجودها العقليّ و وجودها من حيث كونها معلومة لنا حاصلة في عقولنا نفس وجودها لنا بوجودها العينيّ،الذي هي بذلك الوجه مباينة لنا،و لا يمكن أن تصير صورة لنفس إنسان كما مرّ،بل يجب أن نتأثّر عنها،أي أن تحصل ماهيّاتها لنا،بحيث يمكن أن تصير صورة

ص:213


1- في المصدر:فإذا قارن...
2- و إن لم يكن...
3- الصّور و المادّيّات.

لنفوسنا،و تقبلها و تتأثّر عنها،فيكون ما نتأثّر عنها،أي تأثرنا عنها و انفعال نفوسنا عنها، أو الشّيء الذي به نتأثّر عنها،أي الصورة العلميّة و الكيفيّة الحاصلة في نفوسنا هو علمنا بها،أي منشأ لحصول العلم بها و انكشافها علينا،و تكون تلك الماهيّة الحاصلة معلومة لنا كالأمر الخارجيّ.و كذلك لو كانت صور مفارقة و تعليميّات مفارقة و جوّزناها،فإنّما يكون علمنا بها هو ما يحصل لنا منها من التأثّر،أو الكيفيّة الحاصلة،و لم تكن أنفسها بحسب وجوداتها العينيّة المفارقة المباينة لنا،توجد لنا منتقلة إلينا،لأنّا قد بيّنا بطلان هذا في مواضع،و قد بيّنا فيما سلف أيضا أنّ الموجود العينيّ بوجوده العينيّ لا يمكن أن يحصل في نفس،و لا أن يصير صورة لنفس،بل الموجود لنا من تلك الصورة المفارقة أيضا-كما في غيرها من الذوات المجرّدة-هي الآثار الحاصلة منها الحاكية لا محالة، و هي ماهيّاتها المجرّدة.

و بالجملة،فتلك الآثار الحاكية لها هي علمنا بها باعتبار،و معلومة لنا باعتبار آخر.

و ذلك إمّا أن يحصل لنا في أبداننا و أجسامنا أو في نفوسنا.

و الأوّل باطل،إذ قد بيّنا في موضعه استحالة حصول ذلك في أبداننا،حيث إنّ الوجود في المادّيّ-من حيث هو موجود في المادّيّ-لا يكون إلاّ مادّيّا،و هذا باطل،إذ قد بيّنا في مواضع-و سنبيّن أيضا-أنّ تلك المعقولات من حيث كونها معقولات مجرّدة عن المادّة،فبقي أنّها تحصل في نفوسنا.

ثمّ نقول:إنّ تلك المعقولات الحاصلة في النّفس،لأنّها في الحقيقة آثار في النّفس لا ذوات تلك الأشياء المعقولة،حيث إنّ ذواتها بوجوداتها لا تحصل للنّفس،و لا أشياء أخرى هي أمثال لتلك الأشياء،قائمة تلك الأمثال بذواتها لا في موادّ بدنيّة أو نفسانيّة.

حيث إنّها لو كانت كذلك،يلزم أن يكون ما لا موضوع له يتكثّر نوعه بلا سبب يتعلّق به بوجه،لأنّ الصّورة العلميّة من حيث كونها صورة علميّة،و إن كانت حاصلة من ذات واحدة،فهي باعتبار تعدّد النّفوس التي هي حاصلة فيها متعدّدة متكثّرة،و إذا كانت قائمة بذاتها لا في موادّ بدنيّة أو نفسانيّة،أي كانت بحيث لا موضوع لها بوجه،يلزم أن يتكثّر

ص:214

نوعها بلا سبب يتعلّق به بوجه،و هو محال كما تبيّن في موضعه.

و حيث كان كذلك،فهي قائمة إمّا في موادّ بدنيّة أو نفسانيّة.

و الأوّل باطل،فبقي أن تكون هي قائمة في موادّ نفسانيّة،أي قائمة في النفس،بحيث كانت النّفس موضوعة لها،فثبت أنّها أعراض في النّفس،و هذا هو المطلوب.و قد تمّ بذلك تحرير كلام الشيخ و اتّضح بيان بعض ما كنّا بصدده،من بيان معنى الإدراك و كيفيّته، و بيان أصناف الإدراكات التي للإنسان و كيفيّة إدراك المعاني الكلّيّة و تعقّل المعقولات.

و منه اتّضح بيان كون المعاني الكلّيّة و المعقولات الحاصلة في النّفس بذاتها مجرّدة عن المادّة و علائقها،و هذا أيضا أحد المقاصد في هذا الباب.

و الحاصل أنّه اتّضح أيضا بما ذكرنا،أنّ ما يحصل في العقل من الأشياء المعقولة إنّما هو ماهيّاتها مجرّدة عن المادّة و عن علائقها،سواء كان ذلك لا بتجريد يتولاّه العقل،بل بوجود المعنى كما هو عليه فيه،كما في المعقول من الذوات المفارقة عن المادّة،و بتجريد يتولاّه العقل،كما في غيرها من المادّيّات.فلا يقتضي ذلك المعقول مطلقا-من حيث هو معقول-ما يقتضيه المادّيّ من حيث هو مادّيّ،من حدّ من الكمّ و الكيف و الوضع و الأين و نظائرها ممّا هو تابع للمادّة.بل الماهيّة المعقولة من حيث هي معقولة مجرّدة عن المادّة و عن تلك اللواحق أجمع،و إن كانت بحسب وجودها العينيّ ممّا يعرضها تلك اللواحق التابعة للمادّة.فالذوات المجرّدة المفارقة إن كان لها وجود في الخارج،فهي كما أنّها في الوجود العينيّ مجرّدة عن المادّة و توابعها،كذلك هي في وجودها العقليّ مجرّدة عنها.إذ المفروض أنّها كما هي عليه منطبعة في النّفس.و كذلك الإنسان مثلا،و إن كان بحسب وجوده العينيّ شخصا جزئيّا محفوفا بالمادّة و عوارضها،لكنّه بحسب وجوده العقليّ ليس كذلك،بل هو أمر كلّيّ مجرّد عنها.لأنّه لو كان في وجوده العقليّ مادّيّا محفوفا بتلك العوارض،أي محفوفا بمقدار معيّن و أين معيّن و كيف معيّن و وضع معيّن و غير ذلك،لم يكن ملائما لما ليس له ذلك،فلا يكون كلّيّا مشتركا بين كثيرين،هذا خلف.

و حيث تحقّقت ما تلوناه عليك،و تبيّنت أنّ الصّورة العقليّة مطلقا يجب أن تكون

ص:215

من حيث وجودها العقليّ مجرّدة عن المادّة و علائقها،تبيّنت أنّ النّفس الناطقة الإنسانيّة التي هي مدركة بذاتها للصّور العقليّة المجرّدة،و هي حاصلة فيها بذاتها،يجب أن تكون هي أيضا مجرّدة عنها مثلها.إذ لو لم تكن هي مجرّدة مثلها،بل كانت مادّيّة محفوفة بعوارض مادّيّة،و لا أقلّ بوضع معيّن،للزم أن تكون الصّورة العقليّة الحالّة فيها بذاتها العارضة لها غير مجرّدة أيضا،لأنّ اختصاص المحلّ بالمقدار المعيّن و الأين المعيّن و الكمّ المعيّن و الكيف المعيّن و الوضع المعيّن يوجب اختصاص الحالّ فيه بذلك،و لا أقلّ باختصاصه بالوضع المعيّن.هذا خلف

و بعبارة أخرى:الصّورة العقليّة ليست بذات وضع،و كلّ حالّ في مادّيّ،جسم أو جسمانيّ،فهو ذو وضع،فليس محلّها-أي النّفس-مادّية،بل مجرّدة عنها مثلها.

و بما ذكرنا تمّ بيان أنّ النّفس الإنسانيّة الناطقة-من حيث هي-مدركة للمعاني العقليّة،مجرّدة عن المادّة و عن توابعها،مثل تلك الصّورة العقليّة،إلاّ أنّ تلك الصّور مجرّدة قائمة بغيرها هو النّفس،و النّفس مجرّدة قائمة بذاتها.و اتّضح البرهان على ذلك، و هو أيضا من مقاصد الباب،بل ما ينتهي إليه المقاصد الأخر.

و لا يخفى عليك أنّ هذا البرهان-على التّقرير الذي قرّرناه-برهان واضح تامّ لا يرد عليه شيء من الاعتراضات التى أوردوها عليه أو يمكن أن تورد.

في الاشارة إلى دفع شكوك و أوهام ربّما يمكن أن

اشارة

تورد على دليل تجرّد النّفس الإنسانيّة الناطقة

مثل ما قيل:إنّ هذا البرهان مبنيّ على أنّ العلم و الإدراك إنّما هو بار تسام صورة المعلوم و المدرك في ذات العالم و المدرك،و هذا غير مسلّم،لجواز أن يكون بانكشاف الأشياء على النّفس من دون ارتسام صورة فيها،بل في مجرّد آخر،فيلاحظها النّفس من هناك،كما تدرك ما انتقش من الجزئيّات في آلاتها.بل يجوز أن يكون العلم مجرّد انكشاف،من غير أن يرتسم صورة شيء في شيء أصلا.

ص:216

فإنّ هذا الاعتراض مندفع عنه،لأنّا قد بيّنّا فيما سبق أنّ العلم بالمعنى المصدريّ و إن كان عبارة عن انكشاف شيء على شيء،لكنّه بمعنى ما يحصل به الانكشاف إنّما هو صورة حاصلة من شيء في شيء.و بيّنّا أيضا هنالك أنّه ما لم يحصل تلك الصّورة الحاصلة،لا يحصل العلم و لا الإدراك مطلقا.إلاّ أنّ الصّورة الحاصلة من الشيء الجزئيّ المادّيّ،إنّما تحصل في آلات النّفس و بتوسّط حصولها فيها و إدراك قواها لها،تكون هي مدركة للنّفس بالإدراك الحصوليّ،إذا أخذ كونها صورة للمعلوم و معلومه،أو بالإدراك الحضوري إذا أخذ كونها علما و حاضرة بذاتها عند النّفس.و الصّورة الحاصلة من المفارق الجزئيّ،و كذا الصّورة العقليّة الكلّيّة،إنّما تحصل في النّفس بذاتها،فما لم تحصل تلك الصّورة الحاصلة المدركة في ذات المدرك،لم يحصل الإدراك.فتلك الصّورة هي الأصل في كونها منشأ للإدراك و العلم،و إن كان يحصل هناك انفعال خاصّ و إضافة خاصّة أو فعل خاصّ أيضا،و لا نناقش في إطلاق اسم العلم أو الإدراك عليها.

فما ذكره هذا القائل،من أنّ العلم يجوز أن يكون بمجرّد انكشاف الأشياء على النّفس من دون ارتسام صورها فيها،بل في مجرّد آخر،أو من دون ارتسام صورة شيء في شيء أصلا،باطل.

و أيضا إنّا لا ننفي أن يكون صور الأشياء مرتسمة في مجرّد آخر كالعقل الفعّال مثلا، فيلاحظها النّفس من هناك،كما في حالة ذهولها عنها و اتّصالها بالعقل الفعّال فيلاحظها فيه،إلاّ أنّا ندّعي أنّها عند ملاحظتها تلك الصورة فيه،تحصل تلك الصّورة كما هي عليه في النّفس باتّصالها به،و هذا معنى ملاحظتها إيّاها من هناك،فتبصّر.

و مثل ما قيل:سلّمنا أنّ العلم بارتسام الصّورة،لكن جاز أن لا تكون تلك الصّورة مساوية للمعلوم في تمام الماهيّة،بل يكون كنقش الفرس على الجدار،و حينئذ لا يكون هذه الصّورة مجرّدة،بل المجرّد ما له هذه الصّورة.و ليس يلزم من اتّصاف هذه الصّورة بالعوارض المادّيّة،أن لا يكون ذو الصّورة مجرّدا عنها،فإنّه أيضا مندفع عنه،حيث إنّ ما ذكره مبنيّ على أنّ تلك الصّورة عبارة عن أشباح الأشياء،كما هو عند القائلين بحصول

ص:217

الأشياء بأشباحها في الذهن.و قد بيّنا بطلان هذا المذهب،و بيّنا أنّ تلك الصورة عبارة عن ماهيّات الأشياء بأعيانها في الذهن مجرّدة عن المادة و عن علائقها،فتذكّر.

و مثل ما قيل:سلّمنا كون تلك الصورة مساوية للمعلوم في تمام الماهيّة،لكن لا نسلّم أنّ اتّصاف النّفس الناطقة بهذه العوارض يقتضي اتّصاف ما يحلّ فيها بها،فإنّ اتّصاف المحلّ بصفة،لا يوجب اتّصاف ما حلّ فيه بها.ألا يرى أنّ الجسم يتّصف بالبياض،مع أنّ الحركة الحالّة فيه لا تتّصف به؟سلّمناه،لكنّ اتّصاف الصورة الحالّة في النفس بهذه العوارض من قبل محلّها،لا ينافي تجرّدها عنها بحسب ذاتها.و بعبارة أخرى،يمكن أن تكون تلك الصورة بالذّات مجرّدة،و بتوسّط محلّها مادّيّة.أي أن يكون كونها مادّيّة بالعرض،كما في الطبيعة من حيث هي،فإنّ طبيعة الإنسان مثلا من حيث هي هي مجرّدة، و هي من حيث وجودها في ضمن الأشخاص الخارجيّة مادّيّة.

و يؤيّد ذلك أنّه إذا جاز أن يكون الشيء بحسب وجوده العينيّ جوهرا،و بحسب وجوده الذّهنيّ عرضا كما ذكرت،فلم لا يجوز أن يكون الشيء بحسب ذاته من حيث هي،أو بحسب ذاته من حيث الوجود العينيّ مجرّدا عن المادّة و توابعها،و بحسب وجوده الذّهنيّ مادّيّا محفوفا بها.

فإنّ هذا الاعتراض أيضا مندفع.

أمّا ما ذكره أوّلا،فلأنّ اتّصاف الحالّ بصفة المحلّ إذا كان من شأن ذلك الحالّ أن يتّصف بتلك الصّفة أو بخلافها بالذات أو بالعرض ممّا لا يمكن إنكاره.و أمّا عدم اتّصاف الحركة بالبياض الذي موضعه الجسم الذي هو محلّها،فإنّما هو لأجل أن ليس من شأن الحركة الاتّصاف بالبياض و لا بخلافه،لا بالذّات و لا بالعرض.

و أمّا ما ذكره أخيرا،فلأنّا قد بيّنّا فيما سبق،أنّ تجرّد الصّورة العقليّة من غير الذّوات المفارقة إنّما هو في العقل،باعتبار تجريد العقل تلك الماهيّة عن المادّة و عن عوارضها، و أنّها بحسب الوجود الخارجيّ مادّيّة و محفوفة بالعوارض المادّيّة،فهي بحسب وجودها الذّهنيّ،و كذا من حيث ذاتها من حيث هي التي هي بهذا الاعتبار حاصلة في العقل،

ص:218

مجرّدة،و بحسب وجودها العينيّ مادّيّة.فكيف يمكن أن يكون الأمر بالعكس؟أي أن يكون تلك الصّورة في العقل مادّيّة،و بحسب وجودها العينيّ مجرّدة،مع أنّ كلّ ذلك خلاف الفرض،بل فيه التناقض.

و بيّنّا أيضا أنّ الصّورة العقليّة من الذّوات المجرّدة،و إن كانت في الوجود العينيّ مجرّدة عن المادّة،إلاّ أنّها في الوجود العقليّ أيضا منطبعة،كما هي عليه في النّفس من غير عروض شائبة مادّية عليها،فكيف يمكن فيها أيضا أن تكون تلك الصّورة بحسب وجودها العقليّ،أي من قبل محلّها مادّيّة؟فإنّ ذلك أيضا خلاف المفروض و مناقض لما تبيّن.

و ممّا ذكرنا يتلخّص برهان آخر على المطلوب.و قد ذكره الشيخ أيضا في «الشفاء»،و هو أنّه:«لا يخفى أنّ النّفس تجرّد المعقولات الحاصلة من المادّيّات عن المادّة و عن علائقها من الكمّ المحدود و الأين و الكيف و الوضع و سائر عوارض المادّة»، فيجب أن ننظر في ذات هذه الصّورة المجرّدة عن الوضع،كيف هي مجرّدة عنه،إمّا بالقياس إلى الشيء المأخوذ منه،أو بالقياس إلى الشيء الآخذ،أعني أنّ وجود هذه الماهيّة المعقولة المتجرّدة عن الوضع،هل هو في الوجود الخارجيّ أو في الوجود المتصوّر في الجوهر العاقل؟و محال أن تقول:إنّها كذلك في الوجود الخارجيّ،لأنّها في الوجود الخارجيّ محفوفة بالعوارض الخارجيّة البتّة،فبقي أن نقول:إنّما هي مفارقة للوضع و الأين و سائر العوارض المادّيّة عند وجودها في العقل،فإذا وجدت في العقل،لم تكن مادّيّة،و بالجملة ذات وضع و بحيث يقع إليها إشارة حسّيّة.فلا يمكن أن تكون حاصلة في شيء مادّيّ من جسم أو مقدار فيه أو نحو ذلك،لأنّ الحاصل في المادّيّ لا يكون إلاّ ذا وضع،هذا خلف.

فثبت أنّ محلّ تلك المعقولات-و هي النّفس الناطقة الإنسانيّة-مجرّدة عن المادّة مثلها،و هو المطلوب.

و بعبارة أخرى أنّ النّفس الناطقة الإنسانيّة تجرّد المعقولات عن المادّة و عوارضها،

ص:219

فتجرّدها إمّا لذاتها من حيث هي ذاتها،أو لما أخذت هي منه،أو من جهة الآخذ.

و الأوّل يوجب أن لا يعتريها شيء من تلك العوارض بحسب وجودها العينيّ أيضا، لأنّ ما بالذّات لا يتخلّف.

و الثاني يستلزم التناقض.

و في الأخير ثبوت المطلوب،و هو وجود المعقولات في شيء غير جسم و جسمانيّ،أي أنّ الجوهر العاقل الذي هو محلّ المعقولات ليس بجسم و لا هو قائم في جسم على أنّه قوّة فيه أو صورة له بوجه.

و هاهنا برهان آخر أيضا على هذا المطلوب،و هو إن كان محلّ المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير،فإمّا أن يكون تلك الصّورة المعقولة تحلّ منه شيئا وحدانيّا غير منقسم بوجه،أو تكون إنّما تحلّ منه شيئا منقسما.

و الأوّل باطل،لأنّ الشيء الذي لا ينقسم من الجسم بوجه إنّما هو النقطة،و النقطة لا يمكن أن يكون محلاّ للصّورة المعقولة،لا لأجل أنّ النقطة عرض،و العرض لا يكون محلاّ لشيء،حتّى يرد النّقض بأنّ الخطّ مع كونه عرضا محلّ النقطة،و كذا السطح مع كونه عرضا محلّ للخط،و كذا الجسم التعليميّ مع كونه عرضا محلّ للسّطح،و كذا الحركة مع كونها عرضا هي محلّ للسّرعة و البطء.بل لأجل أنّ الحالّ الذي له وجود منفرد متميّز بالذّات،كالصّورة العلميّة،يجب أن يكون لمحلّه أيضا وجود منفرد متميّز بالذّات.و النقطة ليس لها (1)وجود منفرد كذلك،لأنّه لو كان لها وجود كذلك،لكانت جوهرا فردا،و قد ثبت بطلانه.

و كذلك الثاني باطل،لأنّه إذا كان محلّ الصّورة المعقولة من الجسم شيئا منقسما، يجب أن تكون هي أيضا منقسمة بانقسامه.

و بيان ذلك يقتضي تمهيد مقدّمة مبيّنة في موضعها،و هي أنّ المحلّ قد يكون بحيث لا يقتضي انقسامه انقسام الحالّ،و قد يكون بحيث يقتضي.

ص:220


1- -في الأصل«له»،و الظاهر ما أثبتناه.

و الأوّل هو المحلّ المنقسم إلى أجزاء غير متباينة في الوضع،كالجسم المنقسم إلى جنسه و فصله،و إلى مادّته و صورته.و المحلّ الذي ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع، و لكن لا يحلّ فيه الحالّ من حيث هو ذلك المحلّ،بل من حيث لحوق طبيعة أخرى به؛ كالخطّ،فإنّ النقطة لا ينقسم بانقسامه لأنّها لا تحلّه من حيث هو خطّ،بل من حيث هو متناه؛و كالسّطح،فإنّ الشكل لا يحلّه من حيث هو سطح،بل من حيث هو ذو نهاية واحدة أو أكثر؛و كالجسم،فإنّ المحاذاة التي هي إضافة ما مثلا،لا تحلّه من حيث هو جسم،بل من حيث وجود جسم آخر على وضع ما منه؛و كالأجزاء فإنّ الوحدة لا تحلّها من حيث هي أجزاء بل من حيث هي مجموع.

و الثّاني هو المحلّ الذي يحلّ فيه شيء من حيث هو ذلك الشيء القابل للقسمة، كالجسم الذي يحلّ فيه السّواد أو الحركة أو المقدار.

و كذلك الحالّ قد يكون بحيث لا يقتضي انقسامه انقسام المحلّ،و قد يكون بحيث يقتضي.

و الأوّل هو الحالّ الذي لا ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع،كالسّواد المنقسم إلى جنسه و فصله،و كأشياء كثيرة تحلّ محلاّ واحدا معا،كالسّواد و الحركة مثلا،فإنّهما لا يقتضيان بانقسامهما إلى هذين النّوعين انقسام المحلّ إلى جزء أسود غير متحرّك،و إلى جزء متحرّك غير أسود.

و الثّاني هو الحالّ الذي ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع،كالبلقة،فإنّها تنقسم إلى عرضين متباينين في المحلّ و الوضع.

و بعد تمهيد هذه المقدّمة،نقول:لا يخفى أنّ الصّورة العقليّة التي ذكرنا أنّها كيفيّة حاصلة في العقل،إذا كانت حالّة في شيء منقسم من الجسم،يكون حلولها فيه من حيث هو منقسم،أي إلى أجزاء متباينة في الوضع،أي من حيث أنّ المحلّ هو المحلّ الذي يحلّ فيه شيء من حيث هو ذلك الشيء القابل للقسمة،كالجسم الذي يحلّ فيه السّواد مثلا،لا من حيث لحوق طبيعة أخرى به.و حينئذ يكون انقسام المحلّ إلى أجزاء متباينة في

ص:221

الوضع مستلزما لانقسام الصورة العقليّة إليها.أعني أنّا إذا فرضنا في ذلك المحلّ المنقسم أقساما،عرض للصّورة أن تنقسم أيضا إلى أقسام هي أجزاء لتلك الصّورة.و حينئذ نقول:

لا يخلو إمّا أن تكون الأجزاء أجزاء عينيّة لها،أو أجزاء عقليّة لها.

و الأوّل باطل،إذ الأجزاء العينيّة كيف يجتمع منها موجود عقلي ذهنيّ هو تلك الصورة؟بل يجب أن يكون المجتمع منها موجودا عينيّا مثلها،و هذا ظاهرة.و أيضا لو كانت تلك الأجزاء أجزاء عينيّة،لكانت أجزاء مقداريّة متباينة في الوضع كأجزاء محلّها، فكيف يجتمع منها ما هو شيء مجرّد عن المادّة و عن المقدار و الوضع،كما هو شأن الصّورة العقليّة؟

و الثاني أيضا باطل،إذ الأجزاء العقليّة حينئذ إمّا متشابهة أو غير متشابهة.

و الأوّل باطل،لأنّ الأجزاء المتشابهة ما تكون متّفقة الحقيقة،أعني أن يكون حقيقة كلّ جزء موافقة مع حقيقة الجزء الآخر،و كذا مع حقيقة الكلّ؛فيكون أحد الجزءين حافظا لنوع الصّورة العقليّة،و فيه كفاية للمعقوليّة من غير احتياج إلى الجزء الآخر في ذلك،هذا خلف.

و أيضا لا يكون الجزءان المتشابهان بحيث يحصل منهما مجموع إلاّ بحيث يحصل هناك انضياف و زيادة أحدهما على الآخر،إذ الكلّ من حيث هو كلّ ليس هو الجزء،إلاّ أن يكون ذلك الكلّ شيئا يحصل منهما من جهة الزيادة في المقدار،أو الزيادة في العدد،لا من جهة الصّورة.فحينئذ يكون الصّورة المعقولة معروضة للزيادة و النقصان و الجمع و التفريق و أمثالها،ممّا هو مخصوص بالشيء المادّيّ،و قد فرضناها مجرّدة عن المادّة و عوارضها.

و أيضا لا تكون حينئذ الصّورة المعقولة صورة معقولة،بل خياليّة مثلا،و الحال أنّ الصّورة العقليّة بخلاف الصّورة الحسّيّة و الخياليّة و الوهميّة،حيث إنّ النفس في ملاحظة أجزاء لها،تفتقر إلى ملاحظة أمور جزئية متباينة الوضع،مقارنة لهيئات غريبة مادّيّة، حتّى تكون رسمها و رشمها في ذي وضع و قبول انقسام،لأنّا إذا أحسسنا أو تخيّلنا وجه

ص:222

إنسان مثلا،فلا بدّ من أن يلاحظ النّفس أجزاء له متباينة الوضع،مقارنة لهيئات غريبة مادّيّة،كالعين و الأنف و الفم،فإنّ صورة العين اليمنى تدرك في مادّة أو في جهة لم تحلّ اليسرى فيها،و كذلك اليسرى،فهما متباينتان بالوضع.و أيضا كونهما على بعد مخصوص بينهما،و كون إحداهما في جهة من الأخرى غير جهة الأنف هيئات غريبة مادّيّة تقارنها، و تلك الملاحظة تفتقر إلى أن يكون رسمها الحسيّ و رشمها الخياليّ في ذي وضع و ذي قبول انقسام،أي في شيء مادّيّ،و هذا ظاهر.

و كذا الاحتمال الثّاني،أعني أن يكون أجزاء الصّورة العقليّة أجزاء غير متشابهة، باطل أيضا،لأنّ تلك الأجزاء لا تكون إلاّ أجناسا و فصولا ذاتيّة،كما هو المحقّق في محلّه،و محال أن تنقسم الصّورة العقليّة إلى الأجناس و الفصول بحسب انقسام محلّها،أي الجسم المنقسم إلى الأجزاء المقداريّة،لأنّ كلّ جسم،بل كلّ جزء من جسم يقبل القسمة في القوّة قبولا غير متناه كما حقّق في محلّه،فيجب أن يكون تلك الأجناس و الفصول أيضا في القوّة غير متناهية،و هذا محال.إذ يستلزم امتناع تعقّل كنه الأنواع،لأنّ تعقّله على هذا يتوقّف على تعقّل الامور الغير المتناهية.

و أيضا لو كانت القسمة في الجسم إلى أجزاء مقداريّة متباينة في الوضع تفرز أقساما في الصّورة العقليّة،أي أجناسا و فصولا،لكانت تلك الأجناس و الفصول أيضا متمايزة في الوضع،و هذا باطل،لأنّ الأجناس و الفصول غير متمايزة في الوضع.

و أيضا لو كانت تلك القسمة ممّا تفرز أجناسا و فصولا،فلتكن القسمة ممّا قد وقعت من جهة،فأفرزت من جانب جنسا و من جانب فصلا.فلو غيّرنا القسمة و أوقعناها من جانب آخر،يلزم أن يقع بحسب القسمة الأخيرة في جانب نصف جنس و نصف فصل، و هكذا في الجانب الآخر،أو انتقال الجنس و الفصل إلى القسمين الأخيرين بعد كونهما في القسمين الأوّلين،أعني أن يميل كلّ من الجنس و الفصل إلى القسمين الأخيرين، و يكون فرضنا الوهميّ أو القسمة الفرضيّة يدور بمكان الجنس و الفصل،و كان يجرّ كلّ واحد منهما إلى جهة ما بحسب إرادة مريد من خارج،و كلّ ذلك ممّا لا معنى له.

ص:223

و حيث عرفت ما ذكرنا،و عرفت بطلان جميع تلك الاحتمالات فيما إذا كان محلّ الصّورة العقليّة جسما أو جسمانيّا،عرفت أنّه يجب أن يكون محلّها جوهرا غير جسم و لا جسمانيّ،بل مجرّدا عن المادّة و علائقها مطلقا و هو المطلوب.

و عرفت أيضا أنّ الصّورة العقليّة ممّا لا يمكن أن ينقسم إلى أقسام عينيّة مطلقا،و لا إلى أقسام عقليّة متشابهة مطلقا،و لا إلى أقسام عقليّة غير متشابهة بحسب انقسام محلّها؛ بل إنّ انقسامها إلى الأقسام العقليّة غير المتشابهة،أي إلى الجنس و الفصل،إنّما هو فيما إذا كانت منتزعة من مركّب خارجيّ من مادّة و صورة بحسب انقسام ذلك المنتزع منه إلى المادّة و الصّورة،و فيما إذا كانت منتزعة من غير مركّب،بل من أمر بسيط بحسب تعمّل العقل،لو قلنا بكون الجنس و الفصل له،كما مرّت الإشارة فيما سبق إلى ذلك.

و عرفت أيضا أنّ كلّ معقول من حيث هو معقول،يجب أن يكون مجرّدا عن المادّة و علائقها،و كذا كلّ عاقل من حيث هو عاقل يجب أن يكون مجرّدا عنها،إلاّ أنّ المعقول بالتعقّل الحصوليّ قائم بالغير،و العاقل قائم بالذّات،و إن لم يثبت بذلك أنّ كلّ مجرّد يجب أن يكون عاقلا أو معقولا،لكنّه أيضا ممّا برهن عليه في موضعه.

ثمّ إنّك حيث عرفت أنّ هذه البراهين التي ذكرناها على تجرّد النّفس النّاطقة الإنسانيّة-كما قرّرناها-مبنيّة على إدراك النفس للمعقولات المجرّدة،و على تجرّد تلك المعقولات،و بيّنّا فيما سبق أنّ ذلك الإدراك مخصوص بالنّفس النّاطقة الإنسانيّة دون نفوس سائر الحيوانات،عرفت أنّ هذه البراهين مع دلالتها على تجرّد النفس الإنسانيّة تدلّ على عدم مشاركة نفوس الحيوانات معها في ذلك.

إلاّ أنّه بقي هنا سؤال ينبغي التعرّض للجواب عنه حتّى يتمّ المطلوب.

سؤال و جواب

بيان السؤال:أنّه لقائل أن يقول:إنّ ما ذكرت من الدلائل على تجرّد النّفس التي تبتني على ادراك المعقولات،إنّما تنهض فيما إذا كان هناك إدراك بالفعل للمعقولات لا

ص:224

مطلقا،و حينئذ فتدلّ الدّلائل المذكورة على تجرّد النّفس الإنسانيّة التي هي في مرتبة العقل بالفعل أو المستفاد،لا فيها في المرتبتين الأخيرتين المتقدّمتين.و لو سلّم أنّ النّفس في مرتبة العقل بالملكة أيضا لا تخلو عن إدراك بالفعل للمعقولات،و إن كانت من البديهيّات الأوّليّات كقولنا:الكلّ أعظم من الجزء،و الواحد نصف الاثنين مثلا،فلا سترة في أنّها في مرتبة العقل الهيولانيّ تخلو عن ذلك أيضا،فالدّلائل المذكورة لا تدلّ على تجرّدها إذا كانت في مرتبة العقل الهيولانيّ،و الحال أنّ المقصود تجرّد النّفس الإنسانيّة مطلقا سواء كانت في المرتبة الهيولانيّة أو فيما بعدها من المراتب،كما عقدتم عنوان الباب به.و هذا لا يتمّ بهذه الدلائل.و لذلك كان الحكماء القائلون بتجرّد النّفس الإنسانيّة الذين بنوا على تجرّدها بقاءها بعد خراب البدن،متّفقين على بقاء النّفوس التي صارت عقولها الهيولانيّة عقلا بالفعل بعد خراب البدن،و مختلفين في بقاء النّفوس التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل.

فذهب بعضهم كالإسكندر الافريدوسي (1)إلى أنّها تهلك بهلاك البدن،لأنّ دلائل تجرّد النّفس و خصوصا التي تبتني على تصوّر المعقولات،إنّما تنهض في المعقولات بالفعل و المجرّدات بالفعل،لا التي من شأنها التّجريد،و ليس لكلّ أحد أن يدرك معقولا من جهة عقليّة من غير أن يشوب بالحسّ أو الخيال.

و قد نقل صدر الأفاضل عن الشيخ أنّه خالف رأي الإسكندر في أكثر تصانيفه، محتجّا بأنّ الإنسان لا يخلو عن إدراك بعض الأوّليّات،كالواحد نصف الاثنين،و الكلّ أعظم من الجزء،و وافق رأيه في بعض تصانيفه.

و هذا الذي ذكرنا إنّما هو بيان السؤال.

و أمّا بيان الجواب عنه،فهو أنّ مبنى تماميّة الدّليل على تجرّد النّفوس الإنسانيّة، حتّى النّفوس التي في مرتبة العقل الهيولانيّ،على أنّ النّفس الإنسانيّة التي لكلّ إنسان

ص:225


1- -الملل و النحل 433/2،طبع القاهرة، [1]1367 ه.قال:و أومأ(أي الاسكندر الافريدوسي)إلى أنّه لا يبقى للنفس بعد مفارقتها(للبدن)قوّة أصلا،حتّى القوّة العقليّة.

إنّما هي ذات واحدة بالشّخص،و يختلف حالاتها و كمالاتها بحسب مراتبها الأربع:

الهيولانيّة،و بالملكة،و بالمستفاد،و بالفعل.و هذا الاختلاف لا دخل له في اختلاف ذاتها بذاتها،كما سيجيء بيانه.و كذلك مبنيّ على أنّ النّفوس متّحدة بالنّوع و بالحقيقة،مختلفة بالعوارض المشخّصة،كما هو المقرّر عندهم،و سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و حينئذ نقول:إذا ثبت بالدّلائل المذكورة تجرّد النّفس الإنسانيّة التي في مرتبة العقل بالفعل أو بالمستفاد،يجب أن يثبت ذلك فيها في المرتبتين المتقدّمتين،و كذا في كلّ النّفوس الإنسانيّة،إذ لو كانت النّفس الواحدة التي في المرتبتين المتقدّمتين أو في الهيولانيّة منطبعة في المادّة و فيما بعد ذلك من المراتب مجرّدة عنها،لكانت ذاتا واحدة بالعدد بحسب وجود واحد-أعني الوجود الخارجيّ-متحصّلة القوام بالمادّة تارة، و مستغنية عنها في قوامها و تحصّلها أخرى،و هذا محال بالضرورة.

و كذلك لو كانت نفوس المستكملين مجرّدة عن المادّة في قوامها و نفوس غيرهم كالأطفال و البله و المجانين منطبعة فيها،لم تكن النفوس الإنسانيّة متّحدة في النّوع و الحقيقة،بل مختلفة فيهما،إذ ليس الاختلاف بالتجرّد عن المادّة في القوام و التحصّل و الانطباع فيها،فيهما اختلافا بحسب العوارض حتّى لا ينافي الاتّحاد في الحقيقة،بل إنّ ذلك اختلاف بحسب الحقيقة،أي بحسب الحقيقة التي هي لذلك الشيء بحسب وجوده الخارجيّ،و هذا أيضا خلاف الفرض.

فظهر أنّه كما أنّ الإدراك بالفعل للمعقولات دليل على تجرّد المدرك لها،كذلك كون النّفس بحيث يكون من شأنها إدراك المعقولات،لو لم يكن هناك مانع عنه،كاف في ذلك، كما في نفوس غير المستكملين.و سيظهر لك أنّ كلام الشيخ في«الشّفاء»أيضا يدلّ على ما ذكرنا.

فإن قلت:إنّ ما ذكرته وارد عليك في النّفوس الإنسانيّة الجامعة لمراتب النّفس النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة الناطقة،حيث ذكرت فيما سبق أنّ النّفس واحدة بالذات و بالعدد،مختلفة بحسب الكمالات و الحالات،فتصدر عنها باعتبار قوّة أفعال النباتيّة،

ص:226

و باعتبار قوّة أخرى أفعال الحيوانيّة،و باعتبار قوّة أخرى أفعال الحيوانيّة،و باعتبار قوّة أخرى أفعال الإنسانيّة،مع أنّه عندك أنّ النّفس الإنسانيّة مجرّدة عن المادّة،و أنّ النباتيّة و الحيوانيّة منطبعتان فيها،فيلزم أن يكون ذات واحدة بالعدد بحسب وجود واحد مجرّدة عن المادّة تارة،و مستغنية عنها أخرى،و هذا هو ما ذكرت من المحال.

قلت:إنّا و إن ادّعينا أنّ النّفس الإنسانيّة الجامعة لتلك المراتب واحدة بالذات و بالعدد،إلاّ أنّا لا ندّعي أنّها بحسب الأفعال الإنسانيّة مجرّدة،و بحسب الأفعال النباتيّة و الحيوانيّة منطبعة في المادّة،بل ندّعي أنّ هناك ذاتا واحدة مجرّدة عن المادّة في ذاتها في جميع مراتبها و أحوالها و صفاتها و أفعالها،إلاّ أنّ أفعالها على قسمين:

قسم يصدر عنها بقوّة عقليّة،أي بنفسها منفردة عن غيرها مطلقا،و هو إدراك المعقولات،و هو دليل على تجرّدها.

و قسم يصدر عنها بتوسّط الآلات و القوى المادّية،و هو الأفعال النّباتيّة و الحيوانيّة، و ليس يلزم من كون فعلها تارة بتوسّط الآلة و المادّة أن تكون هي منطبعة في المادّة في ذاتها،بل هي في هذه الأفعال أيضا مجرّدة عن المادّة في ذاتها،و إن كان فعلها بتوسّط الآلة المادّية.كما أنّه لا يلزم من تقدّم أفعالها المادّية على أفعالها الذاتيّة أن تكون هي أوّلا منطبعة في المادّة،ثمّ تصير مجرّدة عنها،لأنّها خلقت بحيث يكون من شأنها أن تدبّر البدن و تتصرّف فيه و تستعمل الآلات فتفعل الأفعال الآليّة أوّلا حتّى تصير بذلك مستكملة،بحيث يمكن لها أن تفعل بعد ذلك الأفعال الذاتيّة التي هي دلائل على تجرّدها،فالاشتغال بالأفعال الآليّة كأنّه مانع عن الاشتغال بالأفعال الذاتيّة باعتبار،و إن كان للأوّل إعانة في الثاني،كما سيأتي تحقيقه،و بذلك تكون أفعالها الآليّة متقدّمة على أفعالها الذّاتيّة.

و هذا بخلاف نفس النّباتات و نفوس الحيوانات الأخر غير الإنسان،فإنّا لمّا لم نجد لنفوس الحيوانات الأخر مثلا فعلا صادرا عنها بنفسها دليلا على تجرّدها،بل وجدنا أنّ كلّ ما يصدر عنها إنّما يصدر بتوسّط الآلة الماديّة،حكمنا بأنّها منطبعة في المادّة،و لو كنّا

ص:227

وجدنا لها فعلا خاصّا صادرا عنها بذاتها دليلا على تجرّدها،لربما حكمنا بتجرّدها أيضا في ذاتها،و أنّ أفعالها الجزئيّة المادّية إنّما هو بتوسّط الآلة كما في النّفس الإنسانيّة،و إذ ليس فليس،فاحفظ هذا التحقيق فإنّه به حقيق.و اللّه تعالى أعلم بالصّواب،و إليه المرجع و المآب.

في الإشارة إلى براهين اخر على هذا المطلوب قد ذكرها القوم

ثمّ إنّك إذا تبيّنت ما بيّنّاه،فاعلم أنّ للقوم على هذا المطلب،أي تجرّد النّفس الإنسانيّة،براهين و حججا كثيرة،غير ما ذكرناها و نقلناها أيضا.

فمنها ما هو مبنيّ أيضا على إدراك النّفس للمعقولات،إلاّ أنّا تركنا نقله مخافة للإطناب،و لأنّ فيما نقلناه غنية لاولي الألباب،و كفاية للمسترشدين الطّالبين للصّواب.

و منها ما هو مبنيّ في الظّاهر على أمور أخر غير ما ذكر،إلاّ أنّ مبنى بعضها عند التّحقيق يرجع إلى ما ذكرنا أيضا.و هذا مثل ما قالوه من أنّ النّفس تقوى على إدراك أمور غير متناهيّة،و أنّ الجسم أو الجسمانيّ ليس يقوى على ذلك.فإنّ هذا البرهان ينبغي أن يؤول بما يستفاد من كلام الحكيم ابن رشد المغربي في جامع الفلسفة من أنّ النّفس تقوى على إدراك الكلّيّ و إدراك أفراده الغير المتناهية و الحكم عليها،و إن كان الحكم عليها على سبيل الكلّيّة و الإجمال دون التفصيل:بخلاف الجسم أو الجسمانيّ،فإنّه لا يقدر على ذلك،فإنّه لو لم ينزّل هذا البرهان على ما ذكر،بل حمل على ظاهره،لكان توجيهه مشكلا كما لا يخفى على المتأمّل.

و إلاّ أنّ بعضا من تلك البراهين و الحجج،بل كثير منها إقناعيّات تفيد الطمأنينة بأنّ النّفس الإنسانيّة من عالم آخر غير ما شاهدناه و علمنا حاله من عالم الأجسام و الجسمانيّات،و إن كان نبذ منها-مع ذلك الإقناع-يفيد القطع بالمطلب أيضا لدى التأمّل الصادق،و لا بأس بنقل جملة منها عسى أن يكون موجبا لزيادة الاطمئنان.

ص:228

فيما ذكره بعض مفسّري كلام أرسطو(هو أبو عليّ أحمد بن محمّد مسكويه)

اشارة

فنقول:ذكر بعض مفسّري كلام أرسطو في مقام إثبات أنّ النّفس الإنسانيّة ليست بجسم و لا عرض و لا مزاج،بل هي جوهر قائم بذاته غير قابل للموت:

أنّ من الأشياء البيّنة الواضحة،أنّ الجسم إذا قبل صورة،لم يمكنه أن يقبل صورة غير ما هي من جنسها إلاّ بعد أن يخلع الصّورة الاولى و يفارقها على التمام.و مثال ذلك أنّ الفضّة إذا قبلت صورة الخاتم،لم يمكنها أن تقبل صورة الكوز-مثلا-إلاّ بعد أن تزول عنها صورة الخاتم و تخلعها خلعا تامّا.و كذلك الشّمع إذا قبل صورة نقش ما لم يمكنه أن يقبل صورة نقش آخر،إلاّ بعد أن يمحو عنه صورة النّقش الأوّل،و يفارقه مفارقة تامّة.

و على هذا حال جميع الأجسام.

و هذه قضيّة صادقة مشهورة لا يحتاج فيها إلى دليل،فإن نحن وجدنا شيئا حاله بالضّدّ من حال الأجسام في المعنى الذي ذكرناه،أعني أنّه يقبل صورا كثيرة من غير أن يبطل شيئا منها،تبيّن لنا أنّه ليس بجسم.فإن بان لنا-مع ذلك-أنّه كلّما كثرت هذه الصّور فيها،ازدادت على قبول غيرها،ثمّ جرى ذلك على هذا النّظام إلى غير نهاية،ازددنا بصيرة و يقينا أنّه ليس بجسم.و النّفس العاقلة هذه صورتها،و تلك أنّها إذا قبلت صورة معقول ما،و ثبتت تلك الصّورة فيها،ازدادت بها قوّة على تصوّر معقول آخر إليها من غير أن تفسد الصّورة الأولى.ثمّ كلّما كثرت صور المعقولات فيها،اقتدرت بها على قبول غيرها،و قويت في هذا القبول قوّة متزايدة بحسب تزايد المعقولات.

ثمّ إنّ من الأمور المسلّمة أنّ الإنسان إنّما يتميّز عن البهائم و غيرها بهذا المعنى الموجود له،لا بتخاطيطه و لا ببدنه و لا بشيء من أشكاله البدنيّة.و من الدليل على أنّ ذلك كذلك،أنّ هذا المعنى هو الذي يقال به:فلان أكثر إنسانيّة من فلان،إذا كان فيه أبين و أظهر.و لو كانت إنسانيّته بالتخاطيط و غيرها من جملة البدن،لكانت إذا تزايدت في إنسان قيل بها:فلان أكثر انسانيّة من فلان،و لسنا نجد الأمر كذلك.

و هذا المعنى الذي ذكرناه يسمّى مرّة نفسا ناطقة،و مرّة قوّة عاقلة،و مرّة قوّة مميّزة،

ص:229

و لسنا نشّاح في الأسماء،فليسمّ بأيّ اسم كان.

و ممّا يدلّ أيضا على أنّ هذا المعنى ليس بجسم،أنّ جميع أعضاء الحيوان من الإنسان و غيره،صغر فيه أم كبر،ظهر منه أم بطن،إنّما هو آلة مستعملة لغرض لم يكن استمرّ إلاّ به،إذ كان البدن كلّه آلات،و لكلّ آلة منها فعل خاصّ،لا يتمّ إلاّ إذا اقتضى مستعملا،كما نجد آلات الصّانع و النّجار و غيرهما.

و ليس يجوز أن يقال:إنّ بعض البدن يستعمل بعضه هذا الاستعمال،لأنّ ذلك البعض الذي يشار إليه و يظنّ أنّه يستعمل الآلات الباقية،هو أيضا آلة أو جزءا من آلة،و جميعها مستعملة،فمستعملها غيرها.و اذا كان مستعملها غيرها و لم يكن جزءا منها،وجب أن يكون غير جسم،ليستمرّ له أن لا يشغل مكان الجسم،و لا يزال آلات الجسميّة موضعها، لأنّه لا يحتاج إلى مكان،و يستعملها كلّها على اختلاف الاغراض المستعملة فيها في حالة واحدة من غير غلط و لا عجز،ليتمّ من الجميع أمر واحد،فإنّ هذه الأحوال ليست أحوال الأجسام،و لا موضوعة في أحكامها.و سنبيّن أنّ هذا المعنى ليس بعرض و لا مزاج إذا ذكرنا الفرق بين العقل و الحسّ فيما يأتي من بعد.

على أنّا نقول هاهنا:إنّ المزاج،و بالجملة الأعراض التي توجد في الجسم،كلّها تابعة للجسم،و التّابع للشّيء هو أخسّ منه و أقلّ حظّا من الوجود،لأنّه لا يوجد إلاّ بوجوده.فإن كان أخسّ منه،فكيف يستخدمه و يستعمله،كما يستعمل الصانح آلته و يصير رئيسا عليه،و متحكّما فيه،و هذا تقبيح شنيع».-انتهى كلامه-

و قد ذكر بعض أهل التحقيق:أنّ كلّ صورة أو صفة حصلت في الجسم بسبب،فإذا زالت عنه و بقي فارقا عنها،يحتاج في استحصالها إلى استئناف سبب أو سببيّة من غير أن يكون مكفيّا بذاته،إذ ليس هذا من شأن الجسم.و من شأن النّفس في الصّور العقليّة أن قد تصير بعد استحصالها من معلّم أو فكر،مكفيّة بذاتها في استرجاعها،فالنّفس تعالت عن أن تكون جرميّة،فهي روحانيّة.

و أيضا أنّ كلّ جوهر مادّي لا يمكن أن تتراكم عليها صور كثيرة فوق واحدة،

ص:230

و العلوم كلّها لا تجتمع في دفتر واحد.

و أمّا النّفس فهي لوح يجتمع فيه علوم شتّى و صنائع تترى،و أخلاق مختلفة و أعراض متفاوتة،فليذعن أنّها دفتر روحانيّ و لوح ملكوتيّ لا تتراكم فيه الصّور كما تتراكم في الهيولى الجسمانيّة،و ربّما تزول عنها هذه الأسباب المؤدّية إلى كمالها،لإقبالها إلى شيء من الأمور العاجليّة عند مرض أو شغل قلب أو همّ أو غمّ يعرض لها،إلاّ أنّه لا يزول عنها بهذه الأمور صورها الكماليّة المستحفظة في ذاتها على الإطلاق أو في خزانتها،لأنّها روحانيّة الشّبح،متعلّقة الوجود بجوهر قدسيّ تختزن فيه صورها الكماليّة بنوع قوّة قريبة من الفعل،و العائق لها عن مشاهدة كمالاتها بعد خروجها عقلا بالفعل ليس أمرا داخليّا،كما في الجواهر و المعاني التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل،بل عائقها عن الوصول إلى حاقّ ما لها من السّعادة حجاب خارجيّ احتجبت به ذاتها عن ذاتها،و هو اشتغالها بهذا البدن،و عادتها في الانجذاب إليه بحسب فطرتها الاولى دون الثانية،فإذا ارتفع غبار البدن من بصرها العقليّ و وقع نظرها على ذاتها وجدتها مستكملة بالمعقولات،مشاهدة إيّاها،مستعملة بها.

و بالجملة إذا زال عنها العائق،عادت إلى كمالها بنوع فعل،لا بنوع انفعال،و لهذا يقال لها العقل بالفعل،و إن كان بعد في هذا العالم.

و أمّا الجسم و قواه فلا يمكن له مثل ذلك.ألا ترى أنّ الحواسّ لا يمكن أن يستحفظ في ذاتها صورة و تقبل أخرى،و المعاودة إليها بعد الغيبة بنوع فعل استكفته بذاتها و بمقوّم ذاتها،بل بمثل ما ينشأ منها ابتداء.-انتهى كلامه-

و قد ذكر الشيخ في الإشارات في مقام أنّ النّفس النّاطقة تعقل بذاتها من غير آلة كلاما هذه عبارته (1):«تبصرة:اذا كانت (2)قد استفادت ملكة الاتّصال بالعقل الفعّال،لم يضرّها فقدان الآلات،لأنّها تعقل بذاتها-كما علمت-لا بآلتها،و لو عقلت بآلتها،لكان لا

ص:231


1- -الإشارات 266/3-275. [1]
2- في المصدر:اذا كانت النفس الناطقة قد استفادت.

يعرض للآلة كلال البتّة،إلاّ و يعرض للقوّة (1)كلال كما يعرض لا محالة لقوى الحسّ و الحركة.و لكن ليس يعرض هذا الكلال،بل كثيرا ما يكون (2)القوى الحسّيّة و الحركتيّة في طريق الانحلال،و القوّة العقلية إمّا ثابتة،و إمّا في طريق النموّ و الازدياد.و ليس إذا كان يعرض لها مع كلال الآلة كلال،يجب أن لا يكون لها فعل بنفسها،و ذلك لأنّك علمت أنّ استثناء عين التالي لا ينتج.

و أزيدك بيانا،فأقول:إنّ الشيء (3)إذا عرض له من غيره ما يشغله عن فعل نفسه فليس ذلك دليلا على أن لا فعل له بنفسه (4)،و أمّا إذا وجد قد (5)لا يشغله غيره و لا (6)يحتاج إليه، دلّ على أنّ له فعلا بنفسه».

«زيادة تبصرة:تأمّل أيضا أنّ القوى القائمة بالأبدان بكلّها تكرّر الأفاعيل،لا سيّما القويّة،و خصوصا إذا اتبع (7)فعل فعلا على الفور،فكان الضعيف في مثل تلك الحال غير مشعور به،كالرائحة الضعيفة إثر القويّة،و أفعال القوّة العاقلة قد تكون كثيرا بخلاف ما وصف».

زيادة تبصرة:«ما كان فعله بالآلة،و لم يكن له فعل خاصّ،لم يكن له فعل في الآلة، و لهذا فإنّ القوى الحسّاسة لا تدرك آلاتها بوجه،و لا تدرك إدراكاتها بوجه،فإنّها (8)لا آلات لها إلى آلاتها و إدراكاتها،و لا فعل لها إلاّ بآلاتها.و ليست القوي العقليّة كذلك،فإنّها تعقل كلّ شيء».-انتهى-.

و قد ذكر في«الشّفاء»في مقام أنّ النّفس الإنسانيّة غير مادّيّة (9)،هذه الوجوه مع وجوه اخر أيضا يوجب نقلها الإطناب في الباب.و كذا ذكر الحكيم ابن رشد المغربي في كتابه الموسوم:به«جامع الفلسفة»في مقام أنّ النّفس الإنسانيّة غير هيولانيّة جملة من تلك الوجوه التي ذكرها الشيخ.

ص:232


1- في المصدر:للقوّة العاقلة...
2- ما تكون...
3- الشيء قد يعرض له...
4- في نفسه...
5- و قد لا يشغله...
6- فلا يحتاج فدلّ...
7- اذا اتّبعت فعلا فعلا على الفور،و كان...
8- لأنّها.
9- -الشفاء-الطبيعيّات 187/2 فما بعد،الفصل الثاني من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.

شواهد سمعيّة على هذا المطلب

و حيث عرفت ما نقلنا عنهم من الإقناعيّات التي تفيد الطمأنينة في تجرّد النّفس الإنسانيّة،و مع ذلك يفيد بعضها قطعا بالمطلب أيضا،كما يعلم بالتأمّل الصّادق فيما نقلنا.

فاعلم أنّ هاهنا شواهد سمعية أيضا تفيد نوع طمأنينة في هذا المطلب،حيث إنّها تؤذن بشرف النّفس،و كونها من عالم آخر غير عالم الجسم و الجسمانيّات.

أمّا من الكتاب الكريم،فلقوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (1).

سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ (2) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (3).

و أمّا من الأخبار فكقوله صلى اللّه عليه و آله:

«من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (4)

«أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه» (5)

فيما استدلّ به بعض العلماء على نفي تجرّد

النّفس الإنسانيّة مع جواب ذلك الاستدلال

ثمّ إنّك حيث عرفت ذلك،فاعلم أنّ من السّمعيّات ما استدلّ به بعض المتأخرين من العلماء على أنّ النّفس الإنسانيّة غير مجرّدة،و أن لا مجرّد سوى اللّه تعالى،فلا بأس بنقله و كيفيّة الاستدلال به،ثمّ الجواب عنه.

و هو ما رواه الشيخ الكلينيّ(ره)في كتاب التوحيد من«الكافي»عن محمّد بن

ص:233


1- -المؤمنون14/. [1]
2- -يس36/. [2]
3- -التين4/. [3]
4- -بحار الأنوار 32/2؛99/61؛293/69. [4]
5- -روضة الواعظين للفتّال النيسابوريّ 20.

عبد اللّه الخراسانيّ خادم الرضا عليه السلام،قال (1):«دخل رجل من الزنادقة على أبي الحسن عليه السلام،و كان من سؤاله،أنّه قال:رحمك اللّه أوجدني،كيف هو و أين هو؟ فقال:ويلك،إنّ الّذي ذهبت إليه غلط،هو أيّن (2)الأين و كيّف الكيف بلا كيف،فلا يعرف بالكيفوفيّة و لا بأينونيّة،و لا يدرك بحاسّة و لا يقاس بشيء،فقال الرجل:فإذا إنّه لا شيء إذا لم يدرك بحاسّة من الحواسّ،فقال أبو الحسن عليه السلام:ويلك،لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته،و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه،أيقنّا أنّه ربّنا،بخلاف شيء من الأشياء-الحديث-.

و قد رواه الشيخ الطبرسيّ(ره)أيضا في كتاب«الاحتجاج» (3)بهذا السند هكذا:قال الزنديق:رحمك اللّه،فأوجدني (4)كيف هو و أين هو؟قال:ويلك،إنّ الّذي ذهبت إليه غلط، هو (5)أيّن الأين،و كان و لا أين،و هو كيّف الكيف،و كان و لا كيف،و لا يعرف بكيفوفيّة و لا بأينونيّة،و لا يدرك بحاسّة (6)من الحواسّ،و لا يقاس بشيء،و قال الرّجل:فإذا إنّه لا شيء إذ لم يدرك بحاسّة من الحواسّ،فقال أبو الحسن عليه السلام:ويلك!لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته،و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه،أيقنّا أنّه ربّنا،و أنّه شيء بخلاف الأشياء».

ثمّ ذكره(ره)بعد ذكر سؤال آخر و الجواب عنه:إنّه«قال الرّجل:فلم لا تدركه حاسّة البصر؟قال:للفرق بينه و بين خلقه الذين (7)تدركهم حاسّة الأبصار منهم و من غيرهم،ثمّ هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل.قال:فحدّه لي.قال:لا حدّ له.

قال:و لم؟قال:لأنّ كلّ محدود متناه،و إذا احتمل التّحديد احتمل الزّيادة (8)و احتمل النّقصان،فهو غير محدود،و لا متزايد و لا متناقص و لا متجزّ (9)و لا متوهّم».-الحديث-.

ص:234


1- -أصول الكافي 61/1،ب 57،ح 3. [1]
2- في المصدر:هو أيّن الأين بلا أين...
3- -الاحتجاج396/، [2]مؤسسة الأعلميّ-بيروت،1403 ه.
4- فأجدني...
5- و هو أيّن...
6- بحاسّة و لا يقاس بشيء،قال الرجل...
7- الذي تدركه...
8- الزيادة،و إذا احتمل الزيادة احتمل النقصان...
9- متجزّي.

و قال الفاضل الجليل مولانا الخليل القزوينيّ(ره)في شرحه على الكافي (1)في [شرح]عبارة الحديث الشريف:«فقال أبو الحسن عليه السلام:ويلك،لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه،أنكرت ربوبيّته،و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه،أيقنّا أنّه ربّنا» بهذه العبارة:حاصله منع أنّه إذا لم يدرك بحاسّة كان لا شيء البتّة،أو منع دلالة عدم الإدراك بحاسّة على كونه لا شيئا،مستندا بأنّ لازم أحد النقيضين أو شرطه يستحيل أن يكون ملزوما أو دليلا على الآخر،و عدم الإدراك بحاسّة لازم للربوبيّة،و شرط لليقين بالربوبيّة.و ليس مقصوده عليه السلام أنّ عدم الإدراك بالحواسّ دليل على الصّانعيّة.و لا يخفى أنّ هذا صريح في أنّه لا مجرّد سوى اللّه تعالى،فيبطل قول الزنادقة بتجرّد العقول العشرة و النّفوس النّاطقة.

و في[شرح]قوله عليه السلام:«بخلاف شيء من الأشياء بهذه»العبارة:خبر آخر، لأنّ،«أو»،استئناف بيانيّ،فهو خبر مبتدأ محذوف،أي هو بخلاف.و لمّا كان في الخلاف معنى النفي كان«شيء»نكرة في سياق النفي،أي ليس بينه و بين شيء مشترك ذاتيّ،فلا يمكن أن تدركه الحواسّ كما سيجيء بيانه.-انتهى كلامه ره-.

و قال السّيد الفاضل الرفيع ميرزا رفيع النائينيّ(ره)في حاشيته على الكافي (2)في هذا الحديث بهذه العبارة:قال الرّجل«فإذا إنّه لا شيء»يعني أردت بيان شأن ربّك،فإذا الذي ذكرته يوجب نفيه،لأنّ ما لا يمكن إحساسه لا يكون موجودا.أو المراد أنّه فإذا هو ضعيف الوجود ضعفا يستحقّ أن يقال له:لا شيء؛و قوله عليه السلام«لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه»-إلى آخره-أي جعلت تعاليه عن أن يدرك بالحواسّ،و عجزها عن إدراكه دليلا على عدمه أو ضعف (3)وجوده،فأنكرت ربوبيّته،و نحن إذا عرفناه بتعاليه عن أن يدرك بالحواسّ،أيقنّا أنّه ربّنا،بخلاف شيء من الأشياء.أي ليس شيء من الأشياء

ص:235


1- -راجع شرحه الفارسي على الكافي، [1]المسمّى به الصافي 19/1-21،طبع الهند، [2]كتاب التوحيد؛و [3]شرحه العربيّ (مخطوط)و اسمه الشافي. [4]
2- -الحاشية [5]على الكافي للنائينيّ،مخطوط.
3- في المصدر:و ضعف وجوده.

المحسوسة ربّنا،لأنّ كلّ محسوس ذو وضع،و كلّ ذي وضع بالذّات منقسم بالقوّة إلى أجزاء مقداريّة لا إلى نهاية،لاستحالة الجوهر الفرد،و كلّ منقسم إلى أجزاء مقداريّة يكون له أجزاء متشاركة في الماهيّة و مشاركة للكلّ فيها.و كلّ ما يكون كذلك يكون ذا ماهيّة و وجود يصحّ عليها الخلوّ عنه،و كلّ ما يكون كذلك يكون محتاجا إلى مبدأ مغاير له،فلا يكون مبدأ أوّل،بل يكون مخلوقا ذا مبدأ،فما هو مبدأ أوّل لا يصحّ عليه الإحساس.فالتعالي عن الإحساس الذي جعلته مانعا للربوبيّة و باعثا على انكسارك، مصحّح للربوبيّة،و دالّ على اختصاصه بصحّة الربوبيّة بالنّسبة إلى الأشياء التي يصحّ عليها أن تحسّ».-انتهى كلامه(ره)-.

و أقول:ما نقلنا عن الشّارح الجليل(ره)في شرح الحديث الشريف هو بيان الاستدلال به على عدم مجرّد سوى اللّه تعالى.و ما نقلنا عن المحشّي النائيني(ره)قد فهم بعض الفضلاء من تلامذته أنّ فيه دلالة على الجواب عن ذلك الاستدلال،حيث ذكر في قول المحشّي المذكور(ره) (1):«و نحن إذا عرفناه بتعاليه عن أن يدرك بالحواسّ»-إلى آخره-كلاما بهذه العبارة:استدلّ بعض فضلاء الزمان بهذا الحديث الشريف على انحصار التجرّد في اللّه تبارك و تعالى،و أنّ القول بتجرّد النّفس و العقل قول بتعدّد الواجب تعالى عن ذلك،و إذا حمل على ما حمله المحشّي من أنّ المعنى:إنّ ربّنا بخلاف شيء من الأشياء المحسوسة،بجعل الضّمير في«أنّه»للشأن،أو جعله اسم«انّ»و جعل«ربّنا» بدلا أو بيانا منه،لا يبقى للاستدلال وجه.فإنّ مفاد الحديث الشريف:أنّ اللّه تعالى و تقدّس مخالف للمحسوسات و ذوات الأوضاع،و لا يلزم منه أنّ كلّ ما هو كذلك،فهو الربّ تدبّر».-انتهى كلامه-.

و أقول:لا يخفى عليك أنّ توجيه قوله عليه السلام«أيقنّا أنّه ربّنا بخلاف شيء من الأشياء»كما فهمه ذلك البعض،و هو ظاهر عبارة المحشيّ،لا يخلو عن شيء.أمّا أوّلا، فلأنّه مناف لما تضمّنته عبارة الحديث على رواية الشيخ الطبرسيّ(ره)،حيث رواه هكذا:

ص:236


1- -الحاشية على الكافي للنائينيّ،مخطوط.

أيقنّا أنّه ربّنا و أنّه شيء بخلاف الأشياء؛فإنّه صريح فيما حمل الشّارح الجليل العبارة عليه.

و أمّا ثانيا،فلأنّه على تقديره،يكون الحكم المذكور في الشرطيّة المذكورة،أي قوله عليه السلام:و نحن إذا عجزت حواسّنا-إلى آخره-من قبيل إفادة الأمر البديهيّ،إذ يكون مفاده حينئذ:و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّ ربّنا بخلاف الأشياء المحسوسة،أي إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه،أيقنّا أنّه تعجز حواسّنا عن إدراكه و أنّه ليس بمحسوس و أنّه بخلاف المحسوسات.و هذا مع كونه إفادة بديهيّة لا تليق بمنصب الإمام عليه السلام،لا يكون فيه دلالة على وجه ظاهر في ردّ إنكار السّائل كما لا يخفى.

فبقي أن يكون توجيه العبارة على ما فهمه الشارح الجليل،و على تقديره يلزم ما ادّعاه،من نفي مجرّد سوى اللّه تعالى،حيث يلزم منه،إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه-أي أنّ ذلك الشيء الذي عجزت حواسّنا عن إدراكه-هو ربّنا،و أنّه بخلاف شيء من الأشياء.إذ لو كان هناك مجرّد غيره تعالى-و الحال أنّ المجرّد،هو ما يعجز الحواسّ عن إدراكه-لكان هو أيضا مشاركا مع اللّه تعالى في هذا الحكم،أي في أنّه ربّنا،و أنّه بخلاف شيء من الأشياء.و خصوصا أنّ كلمة«إذا»في اللغة و في عرف المنطقيّين و إن كانت سورا للجزئية،لكنّها تطلق في العرف العامّ إطلاقا شائعا سورا للكلّيّة،فيلزم تعدّد الواجب تعالى،و هو باطل قطعا.

و حيث عرفت ذلك،فاعلم أنّ جواب ذلك الاستدلال إنّما يظهر بعد شرح الحديث الشريف و تحقيق مفاده،و هو أن يقال:لا يخفى أنّ مفاد عبارة الحديث الشريف أنّ ذلك الزنديق لمّا قال:أوجدني-أي أفدني-كيف هو و أين هو؟أجاب عنه عليه السلام:بأنّ ذلك غلط،لأنّ اللّه تعالى موجد الكيف بلا كيف،و موجد الأين بلا أين؛فكيف يتّصف الخالق الموجد لهما بهما،مع كونه خاليا عنهما في مرتبة ذاته،و كذا في مرتبة إيجاده لهما،فإنّ ذلك الاتّصاف لا سترة في أنّه لم يكن قبل إيجاده لهما،و كذا لا يمكن أن يحصل بعد ذلك؛لأنّه إن كان بعد ذلك متّصفا بهما،فإمّا أن يكون لا لحاجة له إليه،فيكون

ص:237

عبثا،و هو محال على اللّه تعالى.و إمّا أن يكون لحاجة له إليه،فيلزم أن يكون هو تعالى في مرتبة إيجاده لهما ناقصا،و يصير بعد اتّصافه بهما تامّا،و هذا أيضا محال.تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

فبيّن عليه السلام أنّه تعالى لا يعرف بكيفوفيّة و لا بأينونيّة،و زاد عليه بأنّه لا يدرك بحاسّة،أي بحاسّة من الحواسّ الخمس الظّاهرة،و كذا بحاسّة من الحواسّ الباطنة،نظرا إلى ظاهر إطلاق العبارة،أو لا يدرك بحاسة البصر،أي لا يدرك ببصر من الأبصار،نظرا إلى ما فهمه السّائل منه فيما رواه الشيخ الطبرسيّ،حيث روى بعد ذلك:«قال الرّجل:فلم لا تدركه حاسّة البصر؟»و قد ذكر المحشّي النائينيّ(ره) (1):«أنّ الإحساس في اللغة:الإبصار، و قد نقله عن صاحب الغريبين قال:قال في الغريبين في قوله تعالى فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ (2)،أي علمه،و هو في اللغة أبصره،ثمّ وضع موضع العلم و الوجود،و منه قوله تعالى هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ (3)أي هل ترى،يقال:هل أحسست فلانا؟أي هل رأيته؟» -انتهى-.

و منه يعلم أنّه يمكن حمل قوله عليه السلام«و لا يدرك بالحواسّ»على أنّه لا يدرك بالقوى الدّرّاكة مطلقا،لا بالحواسّ الظاهرة و لا بالحواسّ الباطنة و لا بالقوّة العقليّة.

و بالجملة،فهذا القول منه عليه السلام،سواء حمل على الأوّل بناء على ظاهر العبارة، أو على الثاني بناء على أنّ المراد بنفي الإدراك بالبصر نفي إدراكه بغيره من الحواسّ أيضا، و إنّما ذكره بخصوصه،لأنّه أظهرها و ألطفها،أو على الثالث بناء على تعميم الإحساس و الحواسّ،كما يستفاد من كلام صاحب الغريبين.إمّا بيان حكم آخر برأسه،غير عدم المعرفة بالكيفوفيّة و الأينونية،أو حكم متفرّع على السّابق،لأنّ كلّ مدرك بالحواسّ لا يخلو عن كيفوفيّة و أينونيّة و لو بوجه،فما كان قد عرى عن ذلك من كلّ وجه،فهو لا

ص:238


1- -الحاشية [1]على الكافي للنائيني،مخطوط.
2- -آل عمران52/. [2]
3- -مريم98/. [3]

يمكن أن يدرك بها.و كذلك كلّ مدرك بالقوّة العاقلة لا يخلو عن كيفوفيّة ما،و إن كان يخلو عن أينونيّة ما،على ما بيّنا فيما سبق حال إدراك القوّة العاقلة لمدركاتها،و الحال أنّ ذاته تعالى منزه عن كيفوفيّة ما مطلقا.

و الحاصل أنّ وجوده تعالى عين ذاته المقدّسة،و لا يمكن للعقل تعرية ذاته عن ذاته حتّى يدركه.

ثمّ زاد عليه السلام على ذلك قوله«و لا يقاس بشيء»أي لا يعرف قدره بمقياس،إذ لا أين له و لا مقدار له حتّى يعرف بمقياس،أو لا يقاس على شيء بمقياس عقليّ أو وهميّ أو حسّيّ،إذ لا نظير له و لا شبيه حتّى يقاس هو عليه بمقياس.

ثمّ إنّ ذلك السّائل لمّا سمع منه عليه السلام ذلك الكلام المتضمّن لأنّه تعالى لا يدرك بالحواسّ و قد حمله على أحد الوجهين الأوّلين،و كان من مذهبه أنّ كلّ موجود يجب أن يكون محسوسا بالحواسّ،و أنّ ما لا يدرك بالحواسّ لا وجود له أصلا،فضلا عن أن يكون ربّا و صانعا،كما نقله ابن سينا في أوّل إلهيّات الإشارات عن قوم من الأوائل و أبطله؛قال (1):قد يغلب على أوهام النّاس أنّ الموجود هو المحسوس،و أنّ ما لا يناله الحسّ بجوهره،ففرض وجوده محال،و أنّ ما لا يتخصّص بوضع (2)أو مكان بذاته كالجسم،أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم،فلا حظّ له من الوجود-إلى آخر ما ذكره هنالك-.

أو كان من مذهبه أنّ ما لا يدرك بالحواسّ،يكون ضعيف الوجود جدّا يستحقّ أن يقال له:إنّه لا شيء،فكيف يمكن أن يكون صانعا للعالم؟قال:إذا أنّه لا شيء،أي لا يكون موجودا،أو يكون ضعيف الوجود جدّا كاللاشيء،و على التقديرين،فلا يصحّ أن يكون ربّا خالقا للعالم،فنفى عنه الوجود مطلقا حتّى يلزم عنه نفي الربوبيّة،حيث إنّ نفي الأعمّ يستلزم نفي الأخصّ.فيكون معنى قوله:«إذا أنّه لا شيء»،كما قرّر الإمام عليه

ص:239


1- -شرح الإشارات 2/3 و 3. [1]
2- في المصدر:بمكان أو وضع بذاته.

السلام سؤاله،أنّه إذا عجزت الحواسّ عن إدراكه انتفى ربوبيّته،و كانت ربوبيّته منكرة.

و حينئذ فقوله عليه السلام«ويلك لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته» بيان لوهمه و منشأ إنكاره،و أنّ مبناه على قضيّة شرطيّة متّصلة لزوميّة،مقدّمها أعني عجز الحواسّ عن إدراكه،مستلزم في وهمه لتاليها،أعني نفي الربوبيّة و إنكارها،حيث إنّه في وهمه مستلزم لنفي الوجود،المستلزم لنفي الربوبيّة.و يكون قوله عليه السلام:و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا،بخلاف شيء من الأشياء-على نسخة الكافي- أو أيقنّا أنّه ربّنا و أنّه شيء بخلاف الأشياء-على نسخة الاحتجاج-إبطالا لذلك الوهم، و ردّا لذلك الإنكار،و بيانا لأنّ عجز الحواسّ عن الإدراك لا ينافي الوجود و الربوبيّة،بل يصحّحهما و يقوّيهما.

فلننظر في كيفيّة دلالة هذا القول من الإمام عليه السلام على ذلك،فنقول:إنّ قوله عليه السلام:و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا-إلى آخره-لا يخفى أنّه قضيّة شرطيّة متّصلة أيضا،و ليست قضيّة اتّفاقية،لا علاقة بين مقدّمها و تاليها،إذ الاتّفاقية هنا لا تؤثّر في إفادة المطلوب شيئا،بل هي قضيّة متّصلة لعلاقة بينهما،و ما تلك العلاقة إلاّ اللزوم بينهما.و حيث كانت لزوميّة،وجب أن يحكم فيها باللزوم بين مقدّمها و تاليها،و مقدّمها و إن كان هو عجز الحواسّ عن إدراكه،لكنّه في الحقيقة هو العلم بعجز الحواسّ عن إدراكه و الإيقان به،كما أنّ تاليها هو الإيقان بأنّه ربّنا و أنّه بخلاف شيء من الأشياء.فكما أنّ اللزوم يجب أنّ يتحقّق بين ذينك العلمين و الإيقانين،كذلك يجب أن يتحقّق أيضا بين المعلومين و المتيقّنين،أي عجز الحواسّ عن إدراكه،و كونه ربّا و بخلاف شيء من الأشياء،فإنّ حصول اللزوم بين العلمين،لا يكون إلاّ إذا حصل اللزوم بين معلوميهما أيضا قطعا،فسواء اعتبر اللزوم بين العلمين،أو بين المعلومين،أو بين أحد المعلومين و بين العلم بمعلوم آخر،كما في ظاهر الحديث الشريف،وجب أن لا يختلف الحال.فلننظر في ذلك حتّى يتّضح المقصود.

فنقول:إذا حكمنا باللزوم بين عجز الحواسّ عن إدراكه و بين كونه ربّنا بخلاف شيء

ص:240

من الأشياء،فإمّا أن يكون ذلك اللزوم بأن يكون المقدّم ملزوما و علّة للتّالي،و التّالي معلولا و لازما له،فهذا مشكل؛لأنّه على هذا يلزم أن يكون الممتنعات و المعدومات أيضا ربّا،حيث إنّها أيضا تعجز الحواسّ عن إدراكها،و على تقدير تخصيص ذلك بما سوى المعدومات و الممتنعات،أي بالأشياء الموجودة التي تعجز الحواسّ عن إدراكها، يلزم أن يكون كثير من الأشياء الممكنة الوجود الموجود في الخارج أو العقل ربّا صانعا للعالم.

أمّا على تقدير تعميم الموجود،بحيث يشمل الموجود في العقل أيضا،فظاهر؛لأنّه لا يخفى أنّ المعاني الكلّيّة موجودات عقليّة،و هي ممّا يعجز الحواسّ عن إدراكها.

و أمّا على تقدير التخصيص بالموجود في الخارج،فكذلك؛لأنّ الكلّيّ الطبيعيّ،أي الطبيعة من حيث هي-على رأي القائلين بوجودها في ضمن أفرادها في الخارج كما هو المذهب الحقّ-موجودة في الخارج،و هي ممّا تعجز الحواسّ عن إدراكها،بل إنّما يدركها العقل خاصّة.و على تقدير عدم القول بوجود الطبيعة من حيث هي في ضمن أفرادها في الخارج-كما هو مذهب بعضهم-فلا يخفى أنّ نفس الحواسّ و القوى الحسّاسة و المشاعر الدرّاكة ممّا هي موجودات عينيّة خارجيّة،و هي ممّا يعجز الحواسّ عن إدراكها،كما هو المتبيّن و المبيّن في محلّه،بل المدرك لها هو العقل،أي النّفس بذاتها إدراكا حضوريّا لكونها آلات لها حاضرة عندها.و الحاصل أنّه لو كان عجز الحواسّ عن الإدراك في الشرطيّة المذكورة علّة و ملزوما للربوبيّة،لزم أن يكون غيره تعالى أيضا ربّا، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

و منه يعلم أنّه لا يمكن أن يكون العلم بهذا المقدّم أيضا علّة و ملزوما للعالم بهذا التالي و لليقين به،أي أن يكون اليقين بعجز الحواسّ عن إدراكه،علّة لليقين بكونه ربّا؛ للزوم ذلك المحذور على تقديره أيضا.

و بالجملة،فيظهر ممّا ذكرنا:أنّه لا يمكن أن يكون مقدّم هذه الشرطيّة دليلا على تاليها،أي دليل لمّ على الصّانعيّة،و كونه ربّا كما اعترف به الشّارح الجليل نفسه أيضا،

ص:241

و حيث بطل احتمال كون مقدّم هذه الشرطيّة علّة و ملزوما لتاليها،فبقي أن يكون معلولا و لازما له،أي أن يكون كونه تعالى ربّا،أو اليقين بكونه ربّا علّة و ملزوما.لكونه ممّا يعجز الحواسّ عن إدراكه أو لليقين بذلك،و هذا لازما له و معلولا له،كما اعترف الشّارح الجليل بأنّ عدم الإدراك بحاسّة لازم للربوبيّة.فلننظر في ذلك.

فنقول:إنّ هذا اللازم في بادي النظر لا يخلو عن أن يكون لازما أخصّ للربوبيّة، أو لازما مساويا لها،أي خاصّة لها أو لازما أعمّ.و الأوّل باطل بالضّرورة،إذ لا معنى للاّزم الأخصّ هنا،و كذا الثاني،إذ اللازم المساوي ما يكون مساويا للملزوم،و أن لا يتحقّق في غيره.فيلزم أنّه أينما تحقّق هذا اللازم-أي عجز الحواسّ عن إدراكه-تحقّق ذلك الملزوم أي الربوبيّة،و قد عرفت بطلانه،حيث عرفت أنّه في كثير المواضع يتحقّق عجز الحواسّ و اليقين به،و لا يتحقّق الربوبيّة و لا اليقين بها،فيظهر أنّه لا يمكن أن يكون لازما مساويا لها،أي أنّه لا يمكن أن يكون عجز الحواسّ عن إدراكه دليلا على الربوبيّة،أي دليل إنّ عليها،كما تضمّن اعتراف الشّارح الجليل:بأنّ عدم الإدراك بالحواسّ ليس دليلا على الصّانعيّة لذلك أيضا،فبقي أن يكون لازما أعمّ.

و على تقديره،يكون عجز الحواسّ عن الإدراك كما يتحقّق في الربّ تعالى شأنه، كذلك يتحقّق في غيره من الأشياء التي تعجز الحواسّ عن إدراكها،أي المجرّدات في ذاتها دون فعلها،كما في النّفس،أو في ذاتها و فعلها جميعا،كالعقول المفارقة إن قلنا بها.

و حينئذ فيكون ردّ إنكار السائل بأنّ عدم الإدراك بالحواسّ لا يمكن أن يكون دليلا على كونه لا شيئا،فإنّ الربّ تعالى شأنه يلزمه أن يكون الحواسّ تعجز عن إدراكه،كما في بعض الاشياء الممكنة الوجود أيضا.

و الحاصل أنّك لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته،و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه،أيقنّا أنّه ربّنا،إذ الرّبّ تعالى شأنه لا يكون إلاّ كذلك.و إنّا حيث أيقنّا بسبب ذلك أنّه ربّنا،و الحال أنّ الرّبّ تعالى يكون بخلاف شيء من الأشياء،أيقنّا أيضا أنّه بخلاف شيء من الأشياء،لأنّ هذين اليقينين متلازمان،و عند ذلك يظهر انعكاس

ص:242

الاستدلال،حيث إنّ ما استدلّ به الشّارح الجليل على عدم مجرّد سوى اللّه تعالى،يدلّ على ثبوت مجرّد سواه تعالى.و إنّ ما يتوّهم هنا:من أنّه لو كان مجرّد سواه تعالى،لكان مشاركا معه تعالى في صفة التجرّد فيلزم أن يكون بينهما مشترك ذاتيّ،أو أن يكون ما يختصّ به تعالى موجودا في غيره أيضا،و كلّ منهما محال،فمدفوع،لأنّ عجز الحواسّ عن إدراكه،أو معنى التجرّد،ليس أمرا وجوديّا ذاتيّا له تعالى،بل إنّه أمر عدميّ،و كذلك ليس لازما مساويا له و أمرا يختصّ به تعالى كما عرفت،بل اللازم المساوي للربوبيّة و ما يختصّ بها الذي لا يوجد في غيرها،هو مجموع ما تضمّنه قوله عليه السلام في صدر الحديث على الرّوايتين:فلا يعرف بالكيفوفيّة و لا بأينونيّة،و لا يدرك بحاسّة و لا يقاس بشيء،و كذا مجموع ما تضمّنه قوله عليه السلام بعد ذلك-على رواية الطبرسيّ(ره)-:

هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل.فإنّ ذلك لازم مساو للربوبيّة لا يتحقّق في غيره تعالى.

و كذلك ما يمكن أن يتوهّم هنا:أنّ التجرّد بمعنى عدم الاحتياج إلى المادّة في القوام، و إن كان معنى عدميّا كما ذكر،إلاّ أنّ معنى القيام بالذّات اللازم للتجرّد أمر وجوديّ.

فلو كان مجرّد سوى اللّه تعالى،يلزم أن يشاركه تعالى في هذا المعنى الوجوديّ.

فمدفوع أيضا،لأنّ هذا المعنى الوجوديّ لا نسلّم أنّه ذاتيّ له تعالى بل عرضيّ، و ليس أيضا عرضيّا لازما مساويا له تعالى،أي خاصّة له،لأنّه يوجد في غيره تعالى أيضا كما في الجسم،حيث إنّ الجسم-أي مجموع الهيولى و الصّورة-قائم بالذّات،غير محتاج إلى المادّة في قوامه و تحصّله،و إن كان جزءاه متحصّلا أحدهما بالآخر.

نعم لو أريد من معنى القيام بالذّات أنّه لا يحتاج في وجوده إلى شيء غيره أصلا، لكان ذلك المعنى مختصّا به تعالى لا يوجد في غيره.و لا نسلّم أنّه لو كان مجرّد سواه تعالى،كان ذلك المعنى متحقّقا فيه أيضا،حتّى يلزم الاشتراك فيما هو مخصوص به تعالى،فإنّ معنى القيام بالذّات في المجرّدات الممكنة أنّها مع احتياجها إلى فاعلها في وجودها لا تحتاج إلى المادّة في قوامها و تحصّلها.

ص:243

بل نقول:إنّ القيام بالذّات له معنيان:

أحدهما أنّه ليس بمحتاج في وجوده و تحصّله إلى غيره مطلقا،و هذا المعنى مختصّ به تعالى ليس يوجد في غيره تعالى،لا في الجسمانيّات و لا في المجرّدات.

و الثاني أنّه مع احتياجه إلى فاعله في ذلك غير محتاج إلى المادّة فيه،و هذا المعنى لا يتحقّق فيه تعالى،و يتحقّق فى غيره ممّا هو كذلك،كالجسم و كالمجرّدات.و كيفما كان،فلا يلزم من وجود مجرّد سواه تعالى،اشتراكه معه في معنى القيام بالذّات،حتّى يلزم الاشتراك فيما هو مختصّ به تعالى،فضلا عن أن يكون هناك اشتراك في ذاتيّ.حيث إنّ القيام بالذّات بكلا المعنيين لا نسلم أنّه أمر ذاتيّ لشيء؛فتبصّر.

و حيث عرفت ما ذكرنا و بيّنا[في]شرح الحديث الشريف،عرفت أنّ الاستدلال به على عدم مجرّد سوى اللّه تعالى في غاية الضّعف،بل أنّه لو أمكن الاستدلال به على شيء،لكان دالاّ على ثبوت مجرّد سواه تعالى كما عرفت.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ اعلم أنّه ربّما ذهب ظنّ بعض من العلماء المتأخّرين (1)إلى الاستدلال على عدم كون مجرّد سوى اللّه تعالى بما تضمّنه الدعاء الذي دعا به سيّد السّاجدين و زين العابدين عليه و على آبائه المعصومين و أولاده الطّاهرين أجمعين أفضل التحيّات و أكمل الصّلوات في التضرّع إلى اللّه تعالى،و هو مذكور في الصّحيفة الكاملة (2)،قال عليه السلام:

«لك يا إلهي وحدانيّة العدد،و ملكة القدرة الصّمد،و فضيلة الحول و القوّة،و درجة العلوّ و الرّفعة،و من سواك مرحوم في عمره،مغلوب على أمره،مقهور على شأنه،مختلف الحالات،متنقّل في الصّفات».

فلا بأس أن ننظر في كيفيّة الاستدلال على المطلوب،ثمّ الجواب عنه.

بيان الاستدلال:انّ ذلك المستدلّ زعم أنّ قوله عليه السلام:«و من سواك مرحوم في عمره»-الى آخره-حيث يدلّ على أنّ من سواه تعالى مطلقا مختلف الحالات متنقّل في

ص:244


1- -و هو بعض الفضلاء القميّين.منه(ره).
2- -الصحيفة السّجاديّة194/ و 195،الدعاء 28،طبع طهران. [1]

الصّفات،يدلّ على نفي مجرّد سواه تعالى،لأنّه لو كان مجرّد سواه تعالى،و الحال أنّ المجرّد على اصول الحكماء غير مختلف الحالات و غير متنقّل في الصّفات،بل أنّ كمالاته بالفعل من كلّ وجه،فلا يكون كلّ من سواه مختلف الحالات متنقّلا في الصّفات، و هذا مخالف لما دلّ عليه قوله عليه السلام.

و بيان الجواب:أنّ هذا لو أجري في النّفس النّاطقة الإنسانيّة فلا يتّجه،لأنّها عند الحكماء و إن كانت مجرّدة بالذّات عن المادّة،لكنّها محتاجة إليها في فعلها و كمالاتها تخرج من القوّة إلى الفعل بتوسّط آلاتها البدنيّة،و لها مراتب و حالات مختلفة و صفات متفاوتة متنقّلة هي من بعضها إلى أخرى،كالمرتبة الهيولانيّة و بالملكة و بالمستفاد،و بالفعل من مراتب العقل النظريّ،و كذا لها مراتب مختلفة و حالات متفاوتة من مراتب العقل العمليّ.و أيّ اختلاف حالات و تنقّل في صفات أعظم من هذا و أظهر منه؟

نعم لو أجري ذلك في العقول المفارقة التي هي على أصول الحكماء مجرّدات في الذّات و الفعل جميعا و كمالاتها بالفعل من كلّ وجه،و قلنا بها،لربّما أمكن اتّجاهه، و مع ذلك يمكن الجواب عنه بأنّ تلك العقول أيضا،حيث إنّها ممكنة الوجود حادثة بالذّات عند الجميع،و بالزّمان و بالدّهر أيضا كما هو الحقّ،و بالجملة فهي ممّا أخرجه الموجد لها عن كتم العدم إلى الوجود،فلها نوع اختلاف في الحالات و نحو تنقّل في الصّفات.و بذلك يمكن أن يصدق عليها أيضا أنّها مختلفة الحالات متنقّلة في الصفات،بخلاف ذاته تعالى،فإنّه لا اختلاف له مطلقا و لا تنقّل في صفته أصلا.و اللّه أعلم بالصّواب و إليه المرجع و المآب.

في الاشارة إلى أنّه باتّضاح الدّليل على تجرّد النّفس

النّاطقة الإنسانية يتّضح الدّليل على جوهريّتها أيضا

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،و اتّضح لك الدّليل على تجرّد النّفس الناطقة

ص:245

الإنسانيّة،و اندفع ما يوهم خلافه،و اتّضح الدليل على جوهريّتها أيضا،كما هو أحد المقاصد في الباب،حيث إنّ الموجود الممكن المجرّد عن المادّة في ذاته ليس إلاّ جوهرا موجودا لا في موضوع،كما هو معنى الجوهر على ما عرّفوه،فحريّ بنا أن نصرف عنان العناية إلى صوب المقصود الآخر من مقاصد الباب،أي في أنّ النّفس الإنسانيّة واحدة بالذّات مختلفة بحسب الأفعال و باعتبار المراتب و الحالات،و أنّ لها قوى متعدّدة يختلف أفاعيلها لاختلاف قواها.

في أنّ النّفس الإنسانيّة واحدة بالذّات مختلفة بالاعتبار

اشارة

فنقول:قال الشيخ في«الشّفاء»:فصل في عدّ المذاهب الموروثة عن القدماء في أمر النّفس و أفعالها و أنّها واحدة أو كثيرة،و تصحيح القول الحقّ فيها (1):«إنّ المذاهب (2)في ذات النّفس (3)و أفعالها مختلفة،فمنها قول من زعم:أنّ النّفس ذات واحدة،و إنّما تفعل جميع الأفعال بنفسها باختلاف الآلات.و من هؤلاء من زعم أنّ النّفس عالمة بذاتها،تعلم كلّ شيء،و إنّما تستعمل الحواسّ و الآلات المقرّبة للمدركات منه (4)بسبب أن تتنبّه (5)لما في ذاتها.و منهم من قال:إنّ ذلك على سبيل التذكّر لها،فكأنّها عرض لها عنده إن نسيت.

و من الفرقة الاولى من قال:إنّ النّفس ليست واحدة،بل عدّة،و أنّ النّفس التي في بدن واحد هو مجموع:نفس حسّاسة درّاكة،و نفس غضبيّة،و نفس شهوانيّة،فمن هؤلاء من جعل النّفس الشّهوانيّة هي النّفس الغذائية،و جعل موضعها القلب،و جعل له شهوة الغذاء و التوليد جميعا.و منهم من جعل التوليد لقوّة من هذا الجزء من أجزاء النّفس فائضة إلى الأنثيين في الذّكر و الأنثى.و منهم من جعل النّفس ذاتا واحدة،و تفيض عنها هذه القوى،و يختصّ (6)كلّ قوّة بفعل،و أنّها إنّما تفعل ما تفعله من الامور المذكرة بتوسّط هذه القوى.

ص:246


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 221/2-223،الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.
2- في المصدر:المذاهب المشهورة...
3- و في أفعالها...
4- منها...
5- تتنبّه به...
6- و تختصّ.

فمن قال:إنّ النّفس واحدة فعّالة بذاتها،احتجّ بما سيحتجّ به أصحاب المذهب الأخير (1)ممّا نذكره.ثمّ قال:فإذا كانت واحدة غير جسم،استحالت (2)أن تنقسم في الآلات و تتكثّر،فإنّها حينئذ تتكثّر (3)صورة مادّيّة،و قد ثبت عندهم أنّها جوهر مفارق بقياسات لا حاجة (4)إلى تعدادها هنا.قالوا:فهي بنفسها تفعل ما تفعل بآلات مختلفة.

و الذين قالوا من هؤلاء:إنّ النّفس علاّمة بذاتها،احتجّوا و قالوا:لأنّها إن كانت جاهلة عادمة للمعلوم (5)،فإمّا أن يكون ذلك لها لجوهرها أو يكون عارضا لها،فإن كان لجوهرها استحال أن تعلم البتّة،و إن كان عارضا لها،فالعارض يعرض على الأمر الموجود للشيء، فيكون موجودا للنّفس أن تعلم الأشياء،لكن عرض لها إن جهلت بسبب،فيكون السّبب إنّما يتسبّب للجهل لا للعلم.فإذا رفعنا الأسباب العارضة،بقي لها الأمر الذي في ذاتها.ثمّ إذا كان الأمر الذي لها في ذاتها هو أن تعلم،فكيف يجوز أن يعرض لها بسبب من الأسباب أن تصير لا تعلم و هي بسيطة روحانيّة لا تنفعل،بل يجوز أن يكون عندها العلم و تكون معرضة عنه مشغولة إذا نبّهت علمت،و كان معنى التنبيه ردّها إلى ذاتها و إلى حال طبيعتها،فصادفت (6)نفسها عالمة بكلّ شيء.

و أمّا أصحاب الذكر (7)،فإنّهم احتجّوا و قالوا:إنّه لو لم تكن النّفس علمت وقتا ما تجهله الآن و تطلبه،لكان (8)إذا ظفرت به لم تعلم أنّه المطلوب،كطالب العبد الآبق،و قد فرغنا (9)من ذكر هذا في موضع آخر و عن نقضه.

و الذين كثّروا النّفس،فقد احتجّوا و قالوا:كيف يمكننا أن نقول:إنّ الأنفس كلّها نفس واحدة،و نحن نجد النبات و لها (10)النّفس الشهوانيّة،أعني الّتي ذكرناها في هذا القبيل (11)و ليس لها الفصل المميّز،فتكون لا محالة هذه النّفس شيئا منفردا بذاته،دون تلك (12)النّفس الحسّاسة المذكورة،ثمّ نجد الحيوان،و لها (13)هذه النّفس الحسّاسة الغضبيّة،و لا

ص:247


1- في المصدر:المذهب الآخر...
2- استحال...
3- تصير...
4- لا حاجة لنا...
5- عادمة للعلوم...
6- فتصادف...
7- أصحاب التذكّر...
8- لكانت...
9- فرغنا عن...
10- و له...
11- في هذا الفصل و ليس له النّفس المدركة الحاسّة،فتكون لا محالة النّفس هذه شيئا...
12- دون تلك النفس،ثمّ...
13- و له.

يكون (1)هناك النّفس النطقيّة أصلا،فتكون هذه الأنفس البهيميّة نفسا على حدة.

و إذا اجتمعت هذه الأمور في الإنسان،علمنا أنّه قد اجتمع فيه أنفس متباينة (2)الذوات،قد يفارق بعضها بعضا،فلذلك يختصّ (3)كلّ واحدة منها بموضع،فيكون للمميّزة الدّماغ،و يكون للغضبيّة الحيوانيّة القلب،و يكون للشهوانيّة الكبد.

فهذه هي المذاهب المشهورة في أمر النّفس،و ليس بصحيح (4)منها إلاّ المذهب الأخير ممّا عدّ أوّلا،فلنبيّن صحّته،ثمّ نقبل على حلّ الشبهة التي أوردوها».

ثمّ إنّه ساق الكلام في تصحيح ما رام تصحيحه،و في إبطال المذاهب الأخر و نقض احتجاجاتهم عليها بوجوه كثيرة،سنذكر نحن فيما سيأتي حاصلها و بيانها مع زوائد و فوائد استفدناها من كلمات الحكماء و سنحت بالبال جملة منها،فنقول:

إنّ القول بوحدة النّفس،أي القول بكون المدبّر في البدن المتصرّف فيه و في أجزائه -كما هو معنى النّفس عندهم-واحدا وحدة بالذات،كأنّه بديهيّ لا يحتاج إلى دليل و برهان،فإنّ كلّ أحد إذا كان سليم الفطرة و راجع إلى وجدانه،يجد من نفسه أنّ المدبّر في بدنه المتصرّف فيه ليس متكثّرا متعدّدا بالذات،بل واحد بالعدد بالذّات،و هو الذي يعبّر عنه بقولنا:أنا أو أنت.و لو جاز التشكّك في هذا لجاز التشكّك في أنّ الإنسان الواحد إنسان متعدّد.فعلى هذا،فالذين تشكّكوا فيه و قالوا بتكثير النّفوس في الإنسان الواحد، فتشكّكهم فيه كأنّه تشكّك في أمر بديهيّ،و هو لا ينبغي أن يلتفت إليه.نعم،لو أرادوا بذلك التكثّر تكثّر قوى نفس واحدة،لكان لذلك وجه،على ما سيأتي تحقيقه.ثمّ إنّه حيث كان هذا الحكم بديهيّا أو في حكمه،فما ذكره القوم دليلا عليه كأنّه تنبيه عليه، و نحن نذكر من ذلك وجهين يفيدان الاطمئنان،و قد سبقت في الأبواب السابقة إشارة ما إليهما.

الوجه الأوّل

إنّه لا سترة في أنّه يصحّ لك أن تقول:أنا قعدت و أنا قمت و أنا جئت و أنا ذهبت و أنا

ص:248


1- في المصدر:و لا تكون...
2- متباينة مختلفة الذوات...
3- تختصّ...
4- يصحّ.

أكلت و أنا شربت و أنا دخلت و أنا خرجت،إلى غير ذلك من الأفاعيل و الحركات و السّكنات التي هي-لا محالة-خاصّة بالجسم،مختصّة بالمادّة،و أنت تنسبها إلى ذاتك و تدّعيها لنفسك.فهذه إمّا مجازات-كما يلوح من كلام بعضهم كصاحب المطارحات- بناء على أنّ هذه أفعال بدنيّة،و أنت تنسبها إلى نفسك لعلاقة المصاحبة و المحبوبيّة،مثلا كما أنّ زيدا مثلا قد ينسب فعل عمرو إذا أحبّه إلى نفسه،فهذا باطل بالضّرورة،لأنّا نعلم قطعا أنّ هذه الإسنادات ليست بمجازات،بل حقائق،فإنّها من قبيل إنّ الجسم إذا جاء، جاء معه لونه المصاحب له حقيقة لكن بالعرض.و منه يظهر وحدة النّفس،حيث إنّ الفاعل في الكلّ واحد.بل يظهر أيضا كما ادّعاه بعضهم تجرّدها عن المادّة بالذات، و كونها مع ذلك موسّخة بأوساخ المادّة و متدرّنة بخبائث الطبيعة من العادات الدنيّة و الملكات الخسيسة و الصّفات الرذيلة،فصارت من العالم الوسط الذي بين عالم المادّة و عالم المجرّدات المحضة،حتّى تتطهّر-باتّباع الأحكام الدينيّة و سلوك الشرائع الإلهيّة و إطاعة أنبياء اللّه تعالى و خلفائه-عن هذه الأوساخ الخسيسة،و تنفض عن ذيل قدسها هذه الآثار الطبيعية،فتجرّد بالكلية عن هذا العالم الدنيويّ الخسيس،و تتدرّج إلى العالم الأعلى الشريف،فتنجو من هذا السّجن و تصير مجرّدة بالفعل.وفّقنا اللّه تعالى لهذا بمنّه و فضله بحقّ محمّد و آله الطّاهرين.

و كذلك لا سترة في أنّه يصحّ لك أن تقول:أنا اشتهيت و تغذّيت-ممّا هو من أفعال النّفس النباتيّة-و أنا أحسست و غضبت-ممّا هو من أفعال النّفس الحيوانيّة-و أنا أدركت و تعقّلت-ممّا هو من أفعال النّفس الإنسانيّة-فهذه أيضا إمّا مجازات لعلاقة المصاحبة مثلا،فهو باطل كما مرّ،فبقي أن تكون حقائق و فيه المطلوب.بل أن تقول:أنا اشتهيت فأحسست فتغذّيت،و أنا أحسست فاشتهيت،و أحسست فغضبت،و أدركت فحرّكت، إلى غير ذلك من العبارات التي تجعل فيها فعل بعض هذه النفوس الثلاثة سببا لفعل أخرى منها،و تدّعي أنّ المبدأ للكلّ أنت نفسك و أنت شاعر به،و لا يخفى أنّ فيه تنبيها واضحا على المطلوب عند ذي فطرة سليمة.

ص:249

الوجه الثّاني

إنّا نجد من أنفسنا أنّ أفعال النّفوس الثلاثة و قواها قد يضعف بعضها بعضا،و قد يقوّي بعضها بعضا،و قد يستعمل بعضها بعضا،و قد يشتغل بعضها عن بعض،و قد يحرّك بعضها إلى بعض،و قد يمنع بعضها عن بعض،و قد يردّ بعضها إلى بعض.

و ذلك كما نجد من أنّ الفرح النطقي-الّذي هو من فعل النّفس الإنسانية،و ذلك عند استشعارها بقضايا تحبّها محبّة ليست ببدنيّة-يؤثّر في القوّة النّامية و في فعل النّفس النباتيّة،فيفيدها شدّة و نفاذا في فعلها،و أنّ الألم النطقيّ-الذي هو من فعل النّفس الإنسانيّة أيضا،و ذلك عند استشعارها بقضايا تكرهها كراهة ليست ببدنيّة أيضا-يؤثّر في فعل النّفس النباتيّة و في القوّة النّامية،فيكون سببا لضعفها و عجزها حتّى يفسد فعلها، و ربّما انتقض المزاج به انتقاضا.

و كما نجد من أنّ الفرح الحسّيّ أو الألم الحسّيّ-اللذين هما من أفعال النّفس الحيوانيّة،و ذلك عند إدراكها للأشياء الملذّة أو المؤلمة،مثل إبصارها للصّور الحسنة أو القبيحة أو استماعها للأصوات الموافقة أو المنافرة-يؤثّران في فعل النامية قوّة أو ضعفا.و كما نجد من أنّ قوّة القوّة النّامية أو ضعفها تؤثّران في فعل الحيوانيّة و قواها قوّة أو ضعفا،بل في فعل الإنسانيّة أيضا.فإنّ من كان صحيح المزاج و البنية،يكون فعل حواسّه و كذا فعل قوّته العاقلة أتمّ و أكمل،و أنّ من كان عليل المزاج و البنية،يكون بعكس ذلك.

و كما نجد من أنّ قوّة الأفعال الحيوانيّة أو ضعفها قد يؤثّران في قوّة النّفس الإنسانيّة أو ضعفها و إن لم يكن ذلك كلّيّا و لا أكثريّا.

و كما نجد من أنّ القوّة النباتيّة قد تستعمل القوّة الحيوانيّة أو الإنسانيّة،و ذلك كما يكون عند التغذّي مثلا،فيلاحظ أوّلا بالقوّة الحيوانيّة أو الإنسانيّة كون ذلك الغذاء ملائما أو منافرا،فتدرك ذلك إمّا بالحواس أو بالحكم العقليّ حتّى تتغذّى به أو تتركه.

و كما نجد من أنّ إدراك الأشياء الملائمة قد يثير الشهوة،و أنّ إدراك الأشياء المنافرة

ص:250

يمنعها.

و كما نجد من أنّ القوى الحيوانيّة تعين النّفس الناطقة في أشياء:منها أن يورد الحسّ الجزئيّات فتحصل لها من الجزئيّات أمور أربعة:

أحدها انتزاع الذهن الكلّيّات المفردة عن الجزئيّات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادّة و عن علائقها،و مراعاة المشترك فيه و المتباين به و الذاتيّ و العرضيّ،فتحدث للنّفس من ذلك مبادي التّصوّر،و ذلك بمعاونة استعمال الخيال و الوهم.

و الثاني بإيقاع مناسبات بين هذه الكلّيّات على سلب و إيجاب،فما كان التّأليف منها بسلب أو إيجاب أوّليّا بيّنا بنفسه،أخذه،و ما كان ليس كذلك يتركه إلى مصادفة الواسطة.

و الثالث تحصيل المقدّمات التجربيّة،و هو أن يجد محمولا لازم الحكم لموضوع ما، كان حكمه إيجابا أو سلبا،أو تاليا موجب الاتّصال أو مسلوبه،أو موجب العناد أو مسلوبه.

و الرابع الأخبار التي يقع فيها التصديق لشدّة التواتر،فإنّ النّفس الإنسانيّة تستعين بالبدن و بالقوى الحيوانيّة البدنيّة،لتحصيل هذه المبادي للتّصوّر و التّصديق.ثمّ إذا حصلتها رجعت إلى ذاتها،فإن عرض لها شيء من القوى التي دونها شاغلة إيّاها بما يليها من الأحوال،شغلتها عن فعلها أو أضرّت بفعلها،و إن لم تشغلها فلا تحتاج إليها بعد ذلك في خاصّ أفعالها،و إلاّ في أمور تحتاج فيها خاصّة إلى أن تعاود القوى الخياليّة مرّة اخرى،و ذلك لاقتناص مبدأ غير الذي حصل.و هذا ممّا يقع في الابتداء و لا يقع بعده إلاّ قليلا.

و أمّا إذا استكملت النّفس و قويت فإنّها تنفرد بأفاعيلها على الإطلاق،و تكون القوى الحسّيّة و الخياليّة و سائر القوى البدنيّة صارفة إيّاها عن فعلها،مثل أنّ الإنسان قد يحتاج إلى دابّة و آلات ليتوصّل بها إلى مقصد ما،فإذا وصل إليه،ثمّ عرض من الأسباب ما يعوّقه عن مفارقتها،صار السبب الموصل إليه بعينه عائقا.

ص:251

و كما نجد من أنّ إدامة استعمال الحواسّ في المحسوسات بحيث لا يكون هناك تعطّل للحواسّ أصلا،و كذا إدامة النّظر في المعقولات قد تشغل النّفس النباتيّة عن فعلها، بل قد تكلّ و تضعف جدّا،و كذلك إدامة استعمال الحواسّ قد تشغل القوّة العاقلة عن فعلها،بل قد تمنعها عنه،و كذا بالعكس،و كل ذلك ظاهر على من راجع إلى وجدانه.

و كما نجد من أنّ حكم الحسّ إذا غلط فيه يردّ إلى حكم العقل،و ذلك مثل أنّ الحسّ الدائم الغلط في محسوسه-كالعين-إذا نظرت من بعيد إلى الشيء الكبير فتراه صغيرا، حتّى ترى الشّمس مثلا و هي أضعاف مقدار الأرض،مثل المرآة التي قطرها شبر،و نظرت إلى الشيء في الماء فتراه كبيرا و هو صغير،و معوجّا و هو مستقيم؛و كالذّوق الصّفراويّ إذا أحسّ بالحلو مرّا،تردّ هذه الأغلاط إلى النّفس و إلى القوّة العاقلة،فتحكم بأنّ الحسّ قد غلط،و أنّ الحقّ غير ما أحسّ،فتردّ الجميع إلى حقائقها.

و حيث عرفت ذلك،أي ارتباط هذه الأفعال المتخالفة بعضها ببعض كما بيّنّا،اتّضح لك أنّ المدبّر للبدن و المتصرّف فيه-و هو المسمّى بالنّفس-شيء واحد.

إذ لو كان متعدّدا،أي نفوسا ثلاثة لا ارتباط بينها من حيث الذّات،لكونها متباينة الذوات كما هو رأي الخصم،و لا بين أفعالها،حيث إنّه من المقرّر عندهم أنّ كلّ نفس من حيث هي فإنّما هي كذلك من حيث يصدر عنها الفعل الخاصّ بها،أي الفعل الأوّل الذي لها،فلا النّفس الغضبيّة من حيث هي غضبيّة تنفعل من اللذّات،و لا الشهوانيّة من حيث هي شهوانيّة تنفعل من المؤذيات،و لا المدركة من حيث هي مدركة تتأثّر ممّا تتأثّر هاتان عنه،كما أنّه لا شيء من هاتين قابلا للصّور المدركة التي تتأثّر عنها النّفس المدركة، و القوّة المدركة،لم يكن هذا الارتباط.

و حيث كان ذلك الارتباط الذي عرفته،فهو إمّا مبنيّ على اشتراك تلك النّفوس المتعدّدة في الآلة أو في المحلّ،و هذا منتف،لأنّ المفروض أنّ بعض تلك النّفوس-و هي الإنسانيّة-ليست في محلّ،و لا لها آلة في أفعالها الذّاتيّة،لكون المفروض تجرّدها، و النفسان الأخريان،أي النباتيّة و الحيوانيّة و إن كان لهما محلّ و آلة،فليس ذلك مشتركا

ص:252

بينهما باعتقاد الخصم أيضا.

و إمّا مبنيّ على أن يكون هناك مدبّر أصل،و يكون ما سواه كالفروع بل كالقوى له، أي أن يكون لهذه النّفوس المتعدّدة رباط واحد يجمع كلّها،أي ما به الارتباط الذي يجمع كلّ ذلك إليه،و يكون نسبته إلى هذه نسبة الحسّ المشترك إلى الحواسّ التي هي الرواضع، و فيه المطلوب.

و بعبارة أخرى إنّك قد عرفت أنّ هذه القوى و النّفوس تشغل بعضها بعضا،و يستعمل بعضها بعضا مع أنّ المفروض أن ليس بينها و لا بين أفعالها ارتباط،و ليس هنا أيضا اشتراك في المحلّ أو الآلة.فلو لم يكن هنا رباط يستعمل هذه فيشغل بعضها عن بعض فلا يستعمل ذلك البعض و لا يدبّره،لما كان بعضها يمنع بعضا عن فعله بوجه من الوجوه،و لا ينصرف عنه،لأنّ فعل قوّة من القوى أو نفس من النّفوس إذا لم يكن له اتّصال بقوّة أخرى أو نفس أخرى لا تمنع الأخرى عن فعلها إذا لم تكن الآلة مشتركة و لا المحلّ مشتركا و لا أمر يجمعها غير ذلك مشتركا.فبقي أن يكون ذلك الارتباط لأمر رابط غير الآلة و المحلّ.

و حينئذ فنقول:إنّ هذا الجامع الرابط لا يجوز أن يكون جسما.

أمّا أوّلا فلأنّ الجسم بما هو جسم ليس يلزمه أن يكون مجمع هذه القوى أو النّفوس، و إلاّ لكان كلّ جسم كذلك،بل لأمر يصير به كذلك،و يكون ذلك الأمر هو الجامع الأوّل، و هو كمال الجسم من حيث هو مجمع و هو غير الجسم،فيكون إذن المجمع هو شيئا غير الجسم،و ليس هو إلاّ النّفس.

و أمّا ثانيا فلأنّه قد تبيّن ممّا سلف أنّ من هذه القوى أو النّفوس ما ليس يجوز أن يكون جسما أو جسمانيّا مستقرّا في جسم،و هو القوّة العاقلة و النّفس الناطقة.

و أمّا ثالثا فلأنّ ذلك الجسم إمّا أن يكون جملة البدن،فيلزم أن يكون إذا نقص منه شيء لا يكون ما نشعر به نحن«أنا»موجودا،و ليس كذلك لأنّي مثلا أكون أنا و إن لم أعرف أنّ لي يدا أو رجلا أو عضوا من هذه الأعضاء،بل أظنّ أنّ هذه توابعي،و أعتقد أنّها آلات لي أستعملها في حاجات،لو لا تلك الحاجات لما احتيج إليها لي،و يكون أنا أيضا

ص:253

أنا و ليست هي،و قد عرفت فيما سلف أنّا لو فرضنا أنّه لو خلق إنسان دفعة واحدة، و خلق متباين الأطراف و لم يبصر أطرافه،و اتّفق أن لم يمسّها و لا تماسّت و لم يسمع صوتا جهل وجود جميع أعضائه،و علم وجود إنيّته شيئا واحدا مع جهل جميع ذلك، و ليس المجهول بعينه هو المعلوم.

و إن لم يكن ذلك الجسم جملة البدن،بل كان عضوا مخصوصا،كالقلب أو الدماغ أو عدّة أعضاء منه هويّتها أو هويّة مجموعها هو الشيء الذي أشعر به«أنا»،أنّه«أنا»، فيجب أن يكون شعوري ب«أنا»هو شعوري بذلك العضو أو بتلك الأعضاء،لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون من جهة واحدة مشعورا به غير مشعور به و ليس كذلك،فإنّي أعرف أنّ لي قلبا أو دماغا بالإحساس و السّماع و التجارب،لا لأنّي أعرف أنّي أنا،فيكون إذن ليس ذلك العضو لنفسه الشيء الذي أشعر به أنّه أنا بالذّات،بل يكون بالعرض أنا،و يكون المقصود بما أعرفه منّي أنّي أنا الذي اعيّنه في قولي:أنا أحسست و تعقّلت و فعلت و جمعت هذه الأوصاف شيئا آخر هو الذي أسمّيه أنا،و كذلك أنّي أعرف أنّي أنا بالمعنى الذي أسمّيه النّفس،أعني المدبّر للبدن و المتصرّف فيه،مع أنّي لا أعرف القلب و الدماغ و لا أفهم معناهما،و حيث بطل كون ذلك الرابط الجامع جسما بطل كونه جسمانيّا أيضا، و حيث بطل ذلك،بطل كونه من جملة هذه النّفوس الثلاثة نفسا نباتيّة أو نفسا حيوانيّة، لكون كلّ منهما جسمانيّة أيضا كما هو المقرّر عندهم و يعترف به الخصم أيضا.فبقي أن يكون ذلك الرابط الجامع الواحد نفسا انسانيّة،و بطل أيضا بذلك كون المتصرّف في البدن نفوسا متعدّدة،كما ادّعاه الخصم.

في إبطال ما تمسّكوا به في تعدّد النّفس في الإنسان

اشارة

مع أن ما تمسّك هو به باطل بما أبطله الشيخ.

قال (1):«و أمّا حجّة هؤلاء الذين يجزّءون النفس،فقد أخذ فيها مقدّمات باطلة،من

ص:254


1- -الشفاء-الطبيعيّات 228/2-231،الفصل السابع في المقالة الخامسة من الفنّ السادس.

ذلك قولهم:إنّه يوجد (1)للنفس النباتيّة مفارقة للحسّاسة،فيجب أن يكون (2)شيء آخر غيره.

فإنّ هذه المقدّمة سوفسطائية،و ذلك لأنّ المفارقة تتوهّم على وجوه،و التي يحتاج إليها هنا (3) وجهان:أحدهما أنّه قد يتوهّم (4)لها مفارقة،كما للّون عن البياض و للحيوان عن الإنسان،إذ يوجد (5)هذه الطبيعة في غير البياض و تلك في غير الإنسان،بأن يقارن كلّ فصلا آخر.و قد يتوهّم (6)مفارقة،كما للحلاوة المقارنة للبياض في جسم،فإنّها قد توجد مفارقة له،فيكون (7)الحلاوة و البياض قوّتين مختلفتين لا يجمعهما شيء و أليق المفارقات بالنّفس النباتيّة للنّفس الحسّاسة هو القسم الأوّل؛و ذلك (8)أنّ النّفس النباتيّة الموجودة في النخلة لا تشارك القوّة النامية الموجودة في الإنسان البتّة في النوع،فإنّ تلك القوّة ليست بحيث تصلح لأن تقارن النّفس الحيوانية (9)،و لا القوّة النّامية التي في الحيوان تصلح لأن تقارن النّفس النخليّة،و لكن يجمعهما معنى واحد،و هو أنّ كلّ واحد (10)منهما يغذّي و ينمي و يولّد،و إن كان ينفصل (11)عنه بعد ذلك بفصل مقوّم منوّع لا بعرض فقط.و المعنى الموجود فيهما جميعا هو جنس القوّة النباتيّة و التي للإنسان (12)يفارق على جهة ما يفارق المعنى الجنسيّ.و نحن لا نمنع أن يوجد جنس هذه القوى لأشياء اخر (13)،و ليس (14)ذلك أنّه يجب أن لا يجتمع (15)هذه القوى في الإنسان لنفس (16)واحدة،بل ليس يجب من ذلك أن لا (17)يكون الطبيعة النّامية الموجودة في الحيوان مقولة على النّفس الحيوانيّة التي له،حتّى يكون 17نفسه الحيوانيّة هي تلك القوّة،كما أنّ الإنسان ليس (18)شيئيا غير حصّة في جنس الحيوانيّة.و هذا شيء قد تحقّق لك في المنطق.فهذا ليس يوجب أن يكون (19)النّفس النّامية التي في الإنسان غير النّفس الحيوانيّة،فضلا عن أن تكون (20)قوى نفس واحدة،فليس إذن النباتيّة التي في الإنسان توجد البتّة مفارقة بنوعها

ص:255


1- في المصدر:توجد النفس النباتيّة...
2- يكون في الإنسان شيء...
3- هاهنا...
4- تتوهّم...
5- توجد...
6- و قد تتوهّم...
7- فتكون...
8- و ذلك لأنّ...
9- الحيوانيّة البتّة...
10- كلّ واحدة منهما تغذّي و تنمي و تولّد،
11- و إن كانت بعد ذلك تنفصل بفصل مقوّم...
12- و يفارق...
13- لأشياء أخرى...
14- و ليس في ذلك...
15- لا تجتمع...
16- نفس الحيوانيّة...
17- تكون...
18- ليس شيئا غير حصّته...
19- تكون...
20- تكونا قوّتي نفس.

للإنسان.و احتجاجهم غير منتفع به إذا كانت القوّة لا تفارق بنوعيّتها،بل بجنسيّتها،و هما مختلفان.و مع ذلك فلنضع القوّة النباتيّة في الحيوان مخالفة للقوّة الحيوانيّة فيه،كأنّ كلّ واحد (1)منهما نوع محصّل منفرد بنفسه،و ليس أحدهما الآخر،و لا مقولا عليه،فما في ذلك ممّا يمنع أن يكون (2)القوّتان جميعا في الحيوان لنفس الحيوان،كما أنّه ليس إذا وجدت الرطوبة في غير الهواء،و ليست مفارقة (3)للحرارة،يجب من ذلك أن لا يكون (4)الرطوبة و الحرارة في الهواء بصورة (5)واحدة و لمادّة واحدة.و ليس إذا كانت حرارة توجد غير صادرة عن الحركة،بل عن حرارة أخرى يجب من ذلك أنّ الحرارة في موضع آخر ليست تابعة للحركة.

و نقول:ليس يمتنع أنّ (6)هذه القوى متغايرة بالنوع أيضا،و تنسب إلى ذات واحدة هي فيه (7)،فأمّا كيفيّة تصوّر هذا،فهو أنّ الأجسام العنصريّة يمنعها (8)صرفة التّضادّ عن قبول الحياة.فكلّما أمعنت في هدم طرف من التّضادّ و ردّه إلى التّوسّط الذي لا ضدّ له، جعلت تضرب إلى تشبّه (9)بالأجسام السّماويّة،فتستحقّ بذلك قبول قوّة محبّة (10)من الجوهر المفارق المدبّر،ثمّ إذا ازدادت قربا من التّوسّط،ازدادت قبول حياة،حتّى تبلغ الغاية التي لا يمكن له أن يكون (11)أقرب منها إلى التّوسّط،و لا أهدم منها للطرفين (12).فيقبل جوهرا مقارب الشّبه من وجه ما للجوهر المفارق كما للجواهر السّماويّة،فيكون حينئذ ما كان يحدث في غيره من المفارق،يحدث فيه من نفس هذا الجوهر المقبول المتّصل به الجوهر.و مثال هذا في الطّبيعيّات:لتوهّم مكان الجوهر المفارق نارا (13)و شمسا،فكان (14)البدن جرما يتأثّر عن النّار،و ليكن كوّة (15)(16)ما،و ليكن مكان النّفس النباتيّة تسخينها إيّاها، و مكان النّفس الحيوانيّة إنارتها فيها،و مكان النّفس الإنسانيّة اشتعالها (17)فيها نارا.

فنقول:إنّ ذلك الجرم المتأثّر كالكوّة (18)إن كان ليس وضعه من ذلك المؤثّر فيه وضعا

ص:256


1- في المصدر:واحدة...
2- تكون...
3- مقارنة للحرارة...
4- لا تكون...
5- لصورة واحدة أو لمادّة...
6- أن تكون هذه...
7- فيها...
8- تمنعها صرفيّة...
9- شبه...
10- محيية...
11- تكون...
12- للطرفين المتضادّين فتقبل...
13- أو شمسا،
14- و مكان...
15- كرة ما...
16- -كوّة:نافذة.
17- إشعالها...
18- كالكرة.

يقبل الاشتعال منه نارا و لا إضاءته و لا (1)إنارته،و لكن وضعا يقبل تسخينه لم يقبل غير (2)فإن كان وضعه وضعا يقبل تسخينه،و مع ذلك هو مكشوف له أو مستشف أو على نسبة إليه يستنير بها عنه استنارة قويّة،فإنّه يسخن عنه،و يستضيء معا،و يكون الضّوء الواقع فيه منه هو مبدأ أيضا مع ذلك المفارق لتسخينه،فإنّ الشّمس إنّما تسخّن بالشّعاع.

ثمّ إن كان الاستعداد أشدّ،و كان (3)هناك ما من شأنه أن (4)تشتعل عن المؤثّر الذي من شأنه أن يحرق بقوّته أو شعاعه اشتعل،فحدثت الشعلة جرما شبيها بالمفارق من وجه، و يكون تلك الشعلة أيضا مع المفارق علّة للتنوير و التسخين معا،حتّى لو بقيت وحدها لاستتمّ أمر التنوير و التسخين،و مع هذا،فقد كان يمكن أن يوجد التسخين وحده (5)، و التسخين و التنوير وحدهما،و لم يكن المتأخّر منهما مبدأ يفيض عنه المتقدّم،و كان إذا اجتمعت الجملة يصير حينئذ كلّ ما فرض متأخّرا،مبدأ أيضا للمتقدّم و فائضا عنه المتقدّم،و هكذا (6)فليتصوّر الحال في القوى النّفسانيّة».-انتهى كلامه-.

أقول:و هذا الذي نقلنا منه لا يخفى أنّه واف بدفع احتجاج القائلين بتكثّر النّفس، كاف في بيان كيفيّة إمكان أن يكون تلك النّفوس المتعدّدة التي هي قوى متغايرة منسوبة إلى ذات واحدة هي نفس الإنسانيّة،و أن يكون تلك الذات مجمعا لتلك القوى و النّفوس، و في ذكر التمثيل اللائق بهذا المقام،و قد عرفت أيضا-ممّا ذكرنا في الأبواب السّالفة-أنّ السمعيّات الظّاهرة في تعدّد النفوس يمكن أن تأوّل بالحمل على تعدّد قوى النّفس الإنسانيّة التي هي ذات واحدة على تكثّر مراتب كمالاتها،فتذكّر.

شكّ مع حلّه

و قد بقي هنا شكّ ينبغي التّعرّض لرفعه،و هو أنّه إذا كان المتصرّف في البدن المدبّر له ذاتا واحدة،هي النّفس الإنسانيّة و هي مجمع القوى،يجب أن يكون تلك الذات مبدأ لجميع تلك الأفعال المنسوبة إلى تلك القوى المتخالفة،و إن كانت مبدئيّتها لبعضها

ص:257


1- في المصدر:و إنارته...
2- غير ذلك...
3- و هناك...
4- أن تشتعل...
5- أو التسخين...
6- فهكذا.

بالواسطة،و لبعضها بدون الواسطة،و الحال أنّ تلك الذات إنّما يصدر عنها فعلها بالاختيار و الإرادة،و تلك الأفعال منها ما ليس مقارنا للاختيار و الإرادة،كالأفعال النباتيّة،فكيف يصدر عن الفاعل بالإرادة فعل ليس بإرادة؟

و الجواب عنه:أنّه لا حجر في ذلك،فإنّ الذي يقتضيه الدليل أنّ الفاعل بالإرادة إنّما يكون فعله بالإرادة إذا كان يصدر عنه بلا واسطة،أو بتوسّط قوّة تختصّ به نفسه،كالأفعال الإنسانيّة.أمّا ما لا يكون كذلك،بل يكون بتوسّط أمر آخر أو قوّة لا تختصّ به نفسه،بل بآلته كالأفعال الحيوانيّة و النباتيّة،فهو تابع في ذلك لما يلزم تلك الواسطة،فتلك الواسطة إن كان فعلها بمقارنة الإرادة كالقوّة الحيوانيّة،يكون فعل ذلك المبدأ البعيد أيضا بالإرادة، لا لأجل أنّه مبدأ بعيد له،بل لأجل أنّ فعل ذلك المتوسّط الذي هو قوّة له بالإرادة،يعنى أنّه يكون بالإرادة لا بالذّات بل بالعرض،و إن كان فعل تلك الواسطة لا بالإرادة كالأفعال النباتيّة.فلا ينافي كون ذلك الفعل مستندا إلى ذلك المبدأ البعيد الذي هو بالإرادة،و كيف ذلك و الحال أنّ الأفعال الطبيعية التي ليست مع الإرادة مستندة بالاخرة إلى المبدأ الفيّاض الذي فعله مقارن للإرادة البتّة.

و هذا كما أنّ فعل النّفس الإنسانيّة بالذّات يكون كلّيّا،و ما يصدر عنها بتوسّط القوّة الحيوانيّة يكون جزئيّا و إن كان مع الإرادة،و لا حجر في ذلك أيضا.و حاصل المقام أنّ ما ينسب إلى النّفس النباتيّة في النبات من الأفعال الطبيعية التي ليست بالإرادة،منسوبة في الإنسان إلى بعض قوى النّفس الإنسانيّة،حيث إنّ المفروض أنّ النّفس النّباتيّة قوّة من قواها،و قواها أيضا من قواها،و كذلك ما ينسب إلى النّفس الحيوانيّة في الحيوان من الأفعال الجزئيّة المقارنة للإرادة،فهى منسوبة في الإنسان إلى بعض من القوى الإنسانيّة، حيث إنّ النّفس الحيوانيّة قوّة من قواها و كذلك قواها من قواها،و ما ينسب إلى النّفس الإنسانيّة،فهي منسوبة إليها بالذّات.

ص:258

في كيفيّة صدور الأفعال المختلفة عن الإنسان

ثمّ إنّك حيث تحقّقت ما ذكر،و عرفت أنّ المدبّر الأصل في البدن الإنسانيّ ذات واحدة هي النّفس الناطقة الإنسانيّة،و أنّ تلك القوى و النّفوس قوى لها و فروع لها،فنعود من رأس و نقول:

لا يخفى أنّ هاهنا أفعالا مختلفة نشاهد صدورها عن الإنسان،حيث إنّ ما ينسب إلى كلّ نفس من تلك النّفوس من الأفعال مخالف لما ينسب إلى الأخرى من الأفعال،و مع هذا فما ينسب إلى كلّ نفس بانفرادها هو أيضا أفعال مختلفة متخالفة.

فإمّا أن يقال بكون تلك الأفاعيل المختلفة مستندة إلى فواعل مختلفة،بأن يكون كلّ فعل من تلك الأفعال مستندا إلى فاعل واحد منفرد،و يكون مجموع تلك الأفاعيل المتعدّدة المتكثّرة مستندة إلى مجموع فواعل متعدّدة متكثّرة بعدد تلك الأفاعيل الجزئيّة أو كلّيّاتها،فهذا باطل،لأنّه بعينه هو القول بتكثّر النّفوس،و قد عرفت بطلانه.مع أنّه يلزم أن يكون عدد تلك النّفوس التي هي فواعل و مدبّرات أزيد من ثلاثة بكثير،حيث إنّ عدد تلك الأفاعيل جزئيّاتها بل كلّيّاتها أيضا أزيد من ثلاثة بكثير،و هذا ممّا لم يقل به أحد من ذوي العقول السّليمة.

و إمّا أن يقال باستناد جميع تلك الأفاعيل المتعدّدة المتكثّرة إلى ذات المدبّر الواحد بذاته-أعني النّفس الناطقة-من غير أن يكون ذلك بتوسّط آلة أو توسّط قوّة أو نحو ذلك، فهذا أيضا باطل،لأنّه بناء على ما تقرّر عندهم من أنّ الواحد بالذّات لا يصدر عنه من جهة واحدة إلاّ أمر واحد،لا يصحّ هذا الفرض.إلاّ أن يكون تكثّر و تجزّي في ذات ذلك الواحد،بحيث يكون له أجزاء كثيرة يفعل كلّ فعل من تلك الأفعال باعتبار جزء منه مناسب لذلك الفعل،و قد عرفت أنّ النّفس النّاطقة الإنسانيّة مجرّدة عن المادّة في ذاتها، بسيطة لا تركيب فيها من الأجزاء لا بالفعل و لا بالقوّة.نعم لو كانت هي جسما،لأمكن فرض ذلك فيها،و إذ ليس فليس.و أيضا على هذا يلزم أن لا يكون للقوى و الحواسّ حظّ في تلك الأفاعيل أصلا،و هو خلاف ما نجده من أنفسنا،كما سنبيّنه.و أيضا يلزم أن يكون

ص:259

فاعل الكلّيّ و الجزئيّ واحدا،و هو باطل كما سبقت الإشارة إليه،و سيتّضح فيما بعد أيضا ان شاء اللّه تعالى.

و إمّا أن يقال باستناد جميع تلك الأفعال إلى ذات تلك النّفس الواحدة بنفسها من غير أن يكون تفعل ما تفعله من الأفعال بتوسّط القوى،إلاّ أنّ ما تفعله بنفسها من الأفاعيل المختلفة إنّما تفعله باختلاف الآلات،كما نقله الشيخ من القول الأوّل في بيان نقل المذاهب،حيث قال (1):«فمنها قول من زعم أنّ النّفس ذات واحدة،و إنّما (2)تفعل جميع الأفعال بنفسها باختلاف الآلات».ثمّ نقل عن ذلك القائل احتجاجه عليه بما احتجّ به كما نقلنا سابقا.فهذا القول أيضا باطل.

أمّا أوّلا،فلأنّه يلزم على هذا المذهب أن لا يكون للحواسّ و المشاعر حظّ في الإدراكات أصلا،و أن لا يكون لها فعل قطعا،و أن لا يكون لها مدخل في تلك الأفعال إلاّ على سبيل الآليّة فقط،حيث إنّ المفروض أن الفاعل بلا واسطة للكلّ هو النّفس خاصّة، و هذا خلاف ما نجده من نفوسنا بالضّرورة.

و أمّا ثانيا،فلأنّه لو صحّ ذلك لصحّ في بعض الأفعال،أي فيما تحتاج فيه إلى الآلة من الأفعال كالأفعال المنسوبة إلى النّفس النّباتيّة و الحيوانيّة،لا في كلّ الأفعال حتّى فيما لا تحتاج فيه إلى الآلة،كالأفعال المنسوبة إلى النّفس الإنسانيّة،إذ ليست هي فيها محتاجة إلى الآلة و لا فيها اختلاف في الآلة حتّى يصحّ أن يقال:إنّها تفعلها بنفسها باختلاف الآلات.و كأنّ ما ذكره الشيخ من القولين الآخرين،-حيث قال:«و من هؤلاء من زعم أنّ النّفس عالمة بذاتها،تعلم كلّ شيء،و إنّما تستعمل الحواسّ و الآلات المقرّبة للمدركات منه بسبب أن تتنبّه به لما في ذاتها؛و منهم من قال:إنّ ذلك على سبيل التذكّر لها،فكأنّها عرض لها عنده أن نسيت»،ثمّ نقل احتجاج الفريقين على ما ذهبا إليه كما نقلنا عنه سابقا -مبنيّان على هذا المذهب أيضا،أي على القول الأوّل،لكن على نحو يحصل به التفصّي

ص:260


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 221/2،الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.
2- في المصدر:و أنّها.

عمّا ذكرناه من الإشكال الثاني،و كأنّ وجه التفصّي أنّ الأفعال المنسوبة إلى النّفس الإنسانيّة،و إن لم يكن لها فيها احتياج إلى الآلة في حصول أصل تلك الأفعال حتّى يلزم خلاف ما هو المقرّر عند الحكماء،إلاّ أنّ لها فيها احتياجا إلى الآلة و استعانة بها بنحو آخر،و هو حصول التنبّه أو حصول التذكّر.

و الحاصل أنّ العلوم و الإدراكات الكلّيّة التي هي أفعال النّفس النّاطقة الإنسانيّة ليس فيها احتياج إلى الآلة في حصول أصلها،كما في الأفعال المنسوبة إلى النّفسين الأخريين،بل إنّ تلك العلوم و الإدراكات مطلقا حاصلة للنّفس الإنسانيّة بذاتها،و هي أفعال لها بنفسها،و أمّا استعمال الحواسّ و الآلات،فهو لأجل أن تكون مقرّبة لها عندها على سبيل التنبّه كما هو رأي فرقة،أو على سبيل التذكّر كما هو رأي فرقة أخرى.و لا يخفى عليك أنّ هذين القولين أيضا باطلان.

أمّا أوّلا،فلأنّ الإشكال الأوّل الذي أوردناه وارد عليهما أيضا،و لا يمكن التفصّي عنه بهما.

و أمّا ثانيا،فلأنّ معنى التنبّه الذي قالت به الفرقة الأولى كأنّ مبناه على أنّ تلك العلوم و الإدراكات حاصلة للنّفس أوّلا على سبيل حصول البديهيّات لها و علمها بها،أي علمها بها علما إجماليّا،و أنّها إذا استعملت الحواسّ و الآلات كان ذلك مقرّبا لها هنا،فتتنبّه لها و يكون بذلك علمها الإجماليّ علما تفصيليّا،و يكون ذلك منبّها لها كما في العلم بالبديهيّات بعد حصول المنبّه لها،و هذا باطل،لأنّه على هذا يلزم أن يكون معلومات النّفس الإنسانيّة و مدركاتها كلّها بديهيّة،و أن لا يكون شيء منها نظريّا،حيث إنّ المنبّه إنّما يكون في البديهيّات دون النظريّات،و ذلك خلاف الواقع و خلاف ما نجده بالوجدان.

و كذلك معنى التذكّر الذي قالت به الفرقة الثانية،كأنّ مبناه على أن علوم النّفس و إدراكاتها نظريّاتها و بديهيّاتها،حاصلة لها علوما تفصيليّا،إلاّ أنّها عرض لها أن نسيتها.

ثمّ إنّها إذا استعملت القوى و الحواسّ،زال عنها النسيان و تذكّرت لها كما هي عليه قبل النسيان.و هذا أيضا باطل من وجهين:

ص:261

أحدهما أنّه أيضا خلاف ما نجده بالوجدان.

و الثاني أنّه على تقدير صحّته،إنّما يصحّ إذا كانت النّفس قديمة أو موجودة قبل البدن بأزمنة كثيرة.حصل لها في تلك الأزمنة تلك العلوم و الإدراكات المفصّلة ثمّ نسيتها بسبب من الأسباب-كالتعلّق بالبدن مثلا-ثمّ زال عنها باستعمال الحواسّ ذلك النسيان و عادت كما كانت أوّلا،إذ من المعلوم أن ليست لها بعد تعلّقها بالبدن زمان يكون لها فيه حصول تلك العلوم و الإدراكات بنفسها،من غير أن تكون قد استعملت الحواسّ حتّى تكون بعد ذلك قد نسيتها،ثمّ استعملت الحواسّ فتذكّرت لها.و هذا أيضا باطل،لأنّا سنقيم الحجّة على كون النّفس الانسانيّة حادثة بحدوث البدن.

و أمّا ثالثا:فلأنّ ما احتجّ به الفرقتان على ما ادّعتاه كما نقله الشيخ عنهما و نقلناه عنه سابقا،باطل بما أبطله به الشيخ.

قال (1):«و أمّا من تشكّك فجعل النّفس عالمة بذاتها (2)فهو فاسد،فإنّه ليس يجب إذا كان جوهر النّفس خاليا بذاته عن العلم (3)يستحيل له وجود العلم،فإنّه فرق بين أن يقال:

إنّ جوهر الشيء باعتبار ذاته لا يقتضي العلم،و بين أن يقال:إنّ جوهره بذلك الاعتبار يقتضي أن لا يعلم.فإنّ لزوم الجهل مع كلّ واحد من القولين يختلف (4).فإنّا إذا (5)سلّمنا أنّ النّفس بجوهرها جاهلة،فإنّما نعني أنّ جوهرها إذا انفرد و لم يتّصل به سبب من خارج لزمه الجهل،بشرط الانفراد مع شرط الجوهر،لا بشرط الجوهر وحده،و لسنا نعني بهذا أنّ جوهرها جوهر لا يعرى عن الجهل.و إن لم نسلّم،بل قلنا:إنّ ذلك أمر عارض لنا (6)، فليس يجب أن يكون مثل هذا العارض واردا على الأمر الطبيعيّ،فإنّه ليس إذا قلنا:إنّ الخشبة خالية عن صورة السرير (7)،و إنّ ذلك الخلوّ ليس لجوهرها،بل لأمر عارض (8)له حائز الزوال.كان هذا القول كأنّك تقول:يجب أن يكون قد كانت فيه صورة السرير (9)

ص:262


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 227/2،الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.
2- في المصدر:لذاتها...
3- أن يستحيل...
4- مختلف...
5- فإنّا و إن سلّمنا...
6- عارض لها...
7- صورة السريريّة...
8- عارض لها...
9- صورة السريريّة ثمّ انفسخت.

و انفسخت.

و من المحال أيضا ما قاله المتشكّك من ارتداد الشيء إلى ذاته،فإنّ الشيء لا يغيب البتّة (1)من ذاته،بل ربّما قيل (2)يغيب عن أفعال تخصّ (3)بذاته،و تتمّ بذاته وحدها،و إنّما يتوسّع فيقال هذا لأنّ هذه الأفعال لا تكون موجودة له،بل لا تكون موجودة أصلا.و أمّا ذاته فكيف تكون غير موجودة لنفسها و بالحقيقة،فإنّ أفعاله لا يجوز أن يقال فيه (4)إنّه يغيب عنها،لأنّ الغائب هو موجود في نفسه غير موجود للشيء،و هذه الأفعال ليست موجودة أصلا إلاّ وقت ما يوجدها،فلا يكون غائبا عنها،و أمّا ذات الشيء فلا يغيب الشيء عنه و لا يرجع إليه.

و أمّا أصحاب الذّكر (5)فقد نقض احتجاجهم في الصناعة الآليّة».-انتهى كلامه-

و أقول:قوله:و أمّا اصحاب الذّكر-إلى آخره-كأنّه إشارة إلى ما تقرّر في علم المنطق من أنّ المطلوب المجهول الذي يراد تحصيله بالنظر،يجب أن يكون معلوما بوجه حتّى لا يكون طالبه طالبا للمجهول مطلقا،و أن يكون مجهولا من وجه آخر،حتّى لا يكون تحصيله تحصيلا للحاصل،و أنّه إذا طلبته النّفس و حصّلته بالنّظر و علمته من الوجه الذي كان مجهولا و ظفرت به و علمت أنّه المطلوب الأوّل الذي كانت تطلبه، فعلمها بأنّه المطلوب إنّما هو من جهة أنّه كان معلوما أوّلا بوجه،و ليس يلزم من ذلك كونه معلوما أوّلا من كلّ وجه حتّى من الوجه الذي كان هو مجهولا بذلك الوجه،كما هو ظنّ أصحاب الذّكر و مبنى احتجاجهم المنقول عنهم عليه،فتدبّر.

و إمّا أن يقال باستناد تلك الأفعال أوّلا و بالذات إلى قوى مختلفة للنّفس الإنسانيّة التي هي ذات واحدة،و باستنادها إلى تلك الذات الواحدة بتوسّط تلك القوى المختلفة، و هذا هو المذهب الذي نقله الشيخ عن بعض القدماء،حيث قال (6):

«و منهم من جعل النّفس ذاتا واحدة،و تفيض عنها هذه القوى،و يختصّ (7)كلّ قوّة

ص:263


1- في المصدر:عن ذاته...
2- قيل إنّه قد يغيب...
3- تختصّ...
4- فيها...
5- التذكّر...
6- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 221/2،الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.
7- و تختصّ.

بفعل،و أنّها إنّما تفعل ما تفعله من الامور المذكورة بتوسّط هذه القوى».

ثمّ اختار هذا المذهب و قال (1):«و ليس بصحيح (2)من هذه المذاهب إلاّ هذا المذهب»،ثمّ صحّحه بأن قال 1:«قد بان ممّا ذكرناه أنّ الأفعال المتخالفة هي لقوى (3)متخالفة،و أنّ كلّ قوّة من حيث هي،فإنّما هي كذلك من حيث يصدر عنها الفعل الأوّل الذي لها،فتكون القوّة الغضبيّة لا تنفعل من اللذّات،و لا الشهوانيّة من المؤذيات،و لا يكون (4)القوّة المدركة متأثّرة ممّا تتأثّر هاتان (5)عنه،و لا شيء من هاتين من حيث هما قابل للصّور المدركة متصوّر لها.فإذا كان هذا متقرّرا،فنقول:إنّه يجب أن يكون لهذه القوى رباط يجمع (6)كلّها،فتجتمع إليه و تكون نسبته إلى هذه القوى نسبة الحسّ المشترك إلى الحواسّ التي هي الرواضع،لأنّا (7)نعلم يقينا أنّ هذه القوى يشغل بعضها بعضا، و يستعمل بعضها بعضا،و قد عرفت هذا فيما سلف،و لو لم يكن رباط يستعمل هذه فيشتغل ببعضها عن بعض،فلا يستعمل ذلك (8)و لا يدبّره،لما كان بعضها يمنع بعضا عن فعله بوجه من الوجوه و لا ينصرف عنه،لأنّ فعل قوّة من القوى إذا لم يكن له اتّصال بقوّة اخرى،لا تمنع (9)القوّة الاخرى عن فعلها إذا لم تكن الآلة مشتركة،و لا المحلّ مشتركا، و لا أمر يجمعها (10)غير ذلك مشتركا.و نحن نرى أنّ الإحساس يثير الشهوة»إلى آخر ما ذكره في بيان وجوب رباط لهذه القوى،و ذكرنا محصّله في بيان وحدة المدبّر للبدن، و كون ذلك المدبّر الواحد ما به الارتباط بين النّفوس الأخر.

ثمّ ذكر أنّ هذا الشيء أي الذي هو مجمع القوى،لا يجوز أن يكون جسما،و بيّن ذلك بالوجوه الثلاثة التى ذكرنا محصّلها فيما سبق،إلاّ،أنّه ذكر في ذيل الوجه الثاني من تلك الوجوه كلاما بهذه العبارة (11):«فإن تشكّك مشكّك،فقيل:إنّه إن جاز أن يكون (12)هذه القوى لشيء واحد مع أنّها لا تجتمع معا فيه،إذ بعضها لا تحلّ (13)الأجسام،و بعضها تحلّها (14)،

ص:264


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 223/2،الفصل السابع من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:و ليس يصحّ منها الاّ...
3- بقوى متخالفة...
4- و لا تكون...
5- تتأثّر عنه هاتان...
6- يجمعها كلّها...
7- فإنّا نعلم...
8- ذلك البعض و لا...
9- لا يمنع...
10- يجمعهما...
11- -الشفاء- [2]الطبيعيّات 224/2،الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.
12- أن تكون...
13- لا يحلّ...
14- يحلّها،فتكون.

فيكون مع افتراقها من غير أن تكون بصفة واحدة منسوبة إلى شيء واحد،فلم لا يكون كذلك الآن،و يكون (1)كلّها منسوبة إلى جسم أو جسمانيّ،فنقول:لأنّ،هذا الذي ليس بجسم يجوز أن يكون منبع القوى يفيض (2)عنها بعضها في الآلة،و بعضها يختصّ بذاته، و كلّها يؤدي إليه نوعا من الأداء،و اللواتي تكون في الآلة تجتمع في مبدأ يجمعها في الآلة ذلك المبدأ،و هو فائض عن الغني عن الآلة،كما تبيّن حاله (3)في حلّ الشبهة.و أمّا الجسم فلا يمكن أن يكون (4)هذه القوى كلّها فائضة منه،فإنّ نسبة القوى إلى الجسم ليس على سبيل الفيضان،بل على سبيل القبول،و الفيضان يجوز أن يكون على سبيل مفارقة للفيض عن المفيض،و القبول لا يجوز أن يكون على تلك السّبيل (5)»-انتهى ملخّص ما ذكره دليلا على ما اختاره و محصّله-.

و أقول:لمّا كان مبنى هذا المذهب المختار عنده على أنّ النّفس المدبّرة للبدن إنّما هي ذات واحدة بالعدد،و أنّ اختلاف أفعالها إنّما هو لاختلاف قواها،و أنّ تلك القوى فائضة عن تلك الذات الواحدة،بيّن الثاني بقوله أوّلا:«قد بان ممّا ذكرناه أنّ الأفعال المتخالفة هي لقوى متخالفة»و بيّن الأوّل و الثالث بما ذكره بعد ذلك،فإنّه متضمّن لكون النّفس ذاتا واحدة رباطا لتلك القوى و فائضا عنه تلك القوى،و كأنّ قوله«قد بان ممّا ذكرناه في الفصول المتقدّمة»كالفصل الذي عقده لبيان أنّ اختلاف أفاعيل النّفس لاختلاف قواها.و يخدشه أنّه في ذلك الفصل أيضا و إن ادّعى ذلك،لكنّا لم نظفر فيه بذكر ما يمكن أن يكون دليلا على أنّ اختلاف الأفاعيل مطلقا-كما هو ظاهر إطلاق كلامه هنا-أو أنّ اختلاف أفاعيل النّفس-كما هو مقصوده هنا و فيما تقدّم-إنّما هو لقوى متخالفة.بل لا يظهر منه فيه و لا في شيء من الفصول المتقدّمة على ما تصفّحنا كلامه ما يدلّ على ما هو مطلوبه هنا،و هو أنّه لا يمكن أن تكون النّفس التي هي الذّات الواحدة تفعل بنفسها أفعالا مختلفة باختلاف الآلات من غير توسّط القوى في ذلك،كما هو مبنى المذهب الأوّل من المذاهب التي نقلها،حيث إنّه في كلّ موضع ذكر أنّ اختلاف أفعال

ص:265


1- في المصدر:و تكون كلّها...
2- فيفيض...
3- حاله بعد...
4- تكون...
5- تلك السبيل.

النّفس لاختلاف قواها ذكره على سبيل الادّعاء من غير إقامة دليل عليه،كما يظهر على من تصفّح كلماته.

اللّهم إلاّ أن يكون أحال ذلك على الظهور،و على أنّه بيّن بنفسه لا يحتاج إلى دليل، فإنّه إذا كانت النّفس المدبّرة للبدن ذاتا واحدة كما بيّنه،و الحال أنّا نجد للإنسان أنّه يصدر عنه أفاعيل مختلفة،

فإمّا أن تكون تلك الأفاعيل تصدر عن تلك الذّات الواحدة بنفسها من غير مدخليّة شيء ممّا يوجب الاختلاف سوى تلك الذّات الواحدة أو بنفسها،باختلاف الآلات،فهذان الاحتمالان باطلان،كما بيّنّاه فيما سبق.و بالجملة فعلى هذين الاحتمالين،لا يكون للقوى و الحواسّ و المشاعر حظّ في تلك الأفاعيل أصلا،و هو باطل بالضّرورة و الوجدان،حيث إنّا نجد أنّ لتلك القوى و الحواسّ حظّا أيضا فيها،و أنّ لكلّ قوّة فعلا يخصّها كما أشار هو إليه فى بيان نقل المذهب المختار عنده،حيث قال:و يختصّ كلّ قوّة بفعل».

و إمّا أن تكون تلك الأفاعيل تصدر عن تلك القوى بنفسها من غير أن تصدر هي عن تلك الذّات الواحدة أيضا بتوسّط تلك القوى،فعلى هذا يلزم أن لا يكون لتلك الذات الواحدة حظّ في تلك الأفعال أصلا،و هذا أيضا باطل.لأنّه لو كان كذلك،لما كانت تلك الذّات حاكمة بين تلك الأفعال،كما هو معلوم بالضّرورة،و لما كان غلط الحواسّ و تلك القوى يردّ على تلك الذّات،كما بيّنّاه فيما سبق.حيث إنّ الحاكم بين الشيئين لا بدّ و أن يكون مدركا لهما،و كذا الحاكم بالغلط يجب أن يكون مدركا له.و الإدراك أيضا من جملة تلك الأفاعيل،حيث إنّ تلك الأفاعيل إنّما هي الإدراكات و التحريكات.

و حيث انتفت هذه الاحتمالات،ثبت أنّ لكلّ من تلك الذّات الواحدة و تلك القوى حظّا في تلك الأفعال،أي أن تكون تلك الأفعال تصدر عن تلك القوى بنفسها،و عن تلك الذّات بتوسّط تلك القوى،لا بالعكس.حيث إنّه لا يعقل صدورها عن تلك الذّات بنفسها، و عن تلك القوى بتوسّط تلك الذّات،فإنّ تلك القوى آلات لتلك الذّات لا بالعكس.و إلى

ص:266

ما ذكرنا أشار في بيان نقل المذهب المختار عنده بقوله:«و يختصّ كلّ قوّة بفعل،و أنّها إنّما تفعل ما تفعله من الامور المذكورة بتوسّط هذه القوى».

و الحاصل أنّه يمكن أن يكون قد أحال وجه ما ذكره على الظّهور،كما بيّنّا.و هذا الذي هو غاية توجيه ما ذكره و تصحيحه.

و فيه مع ذلك أيضا أنّه على هذا التوجيه،إنّما يتمّ الدلالة على أنّ الأفاعيل المختلفة الجزئيّة التي للقوى و الحواسّ و الآلات مدخل فيها،إنّما هي تصدر عن تلك الذّات الواحدة بتوسّط القوى المتخالفة،و لا يتمّ الدّلالة على أنّ الأفاعيل الكلّيّة التي هي مختصّة بذات تلك الذّات الواحدة من غير مدخليّة للآلات فيها،كالتعقّلات و الإدراكات الكلّيّة،هي أيضا إنّما تصدر عن تلك الذّات الواحدة بتوسّط القوى المتخالفة،إذ لا امتناع في أن تكون تلك الأفعال الكلّيّة تصدر عن تلك الذّات الواحدة بنفسها،من غير مدخليّة القوى فيها-كما هو مذهب بعض من الحكماء-إذ ليست تلك[أفعال]آليّة،حتّى يصار فيها إلى ما يصار إليه في الأفعال الآليّة.و لا يخفى أنّ ذلك أيضا،أي كون الأفاعيل المختلفة الذّاتيّة للنّفس صادرة عنها بتوسّط القوى المختلفة مطلوبة أيضا،كما هو ظاهر كلامه في بيان نقل ذلك المذهب المختار عنده،بل صريح كلامه في بيان كيفيّة إفاضة تلك القوى المختلفة عن تلك الذّات الواحدة و كونها منبع القوى،على ما نقلنا كلامه في ذلك.

و حينئذ،ففي تتميم مدّعاه إمّا أن يقال بأنّه لما دلّ الدليل على أنّ الأفاعيل المختلفة الآليّة تصدر عن تلك الذّات الواحدة بتوسّط القوى المختلفة،فينبغي أن يحكم بذلك في الأفاعيل المختلفة الذّاتية غير الآليّة أيضا،ليكون الكلّ على نسق واحد.و فيه،أنّ هذا وجه استحسانيّ لا يفيد الاطمئنان،بل لا يفيد الإقناع أيضا.

و إمّا أن يقال:كما أنّ الأفاعيل الآليّة أفاعيل مختلفة تصدر عن تلك الذّات و الحال أنّها واحدة بسيطة لا اختلاف فيها و لا تعدّد،و يجب أن يكون هناك ما به الاختلاف،و هو توسّط القوى المتخالفة على ما تقرّر عندهم من أنّ الواحد بالذّات لا يصدر عنه من جهة واحدة إلاّ أمر واحد،كذلك الأفاعيل الذّاتيّة غير الآليّة أفاعيل مختلفة،حيث إنّ العقل

ص:267

النظريّ و العقل العمليّ فعلان مختلفان،و مع هذا فمراتب كلّ واحد منهما مختلفة، و أصولها الكلّيّة أربع،كما سيجيء بيانه،و المفروض أنّها أجمع صادرة عن تلك الذّات الواحدة.فلو لم يكن هناك ما به الاختلاف أيضا لم يمكن أن تصدر هي عنها بنفسها، حيث إنّها واحدة بسيطة،فيجب أن يكون هناك أيضا ما به الاختلاف،و ما هو إلاّ القوى المتخالفة.

فإن قلت:إنّا لا نسلّم أن ليس هناك ما به الاختلاف سوى القوى المتخالفة،فإنّه يمكن أن يكون هناك جهات و اعتبارات بها تصدر عن تلك الذّات الواحدة تلك الأفاعيل المختلفة،من غير أن يكون هناك قوى متخالفة بتوسّطها تصدر هي عنها.و بعبارة أخرى:

إمّا أن تكون هناك جهات و اعتبارات مختلفة،أو لا تكون.فعلى الأوّل،فتلك الجهات المختلفة أنفسها يمكن أن تكون كافية في صدور تلك الأفاعيل المختلفة عن تلك الذّات الواحدة من غير احتياج إلى القوى المتخالفة،و إلى توسّطها في ذلك.و على الثّاني فلا يمكن أيضا أن تفيض تلك القوى المتخالفة عن تلك الذّات الواحدة،كما هو مذهب الشيخ في ذلك،أو أن تفيض عليها من المبدأ الفيّاض كما هو الاحتمال،و سنشير إلى وجهه،لأنّ القوى المتخالفة أيضا حيث كانت أمورا مختلفة إنّما تفيض عن تلك الذّات الواحدة أو عليها إذا كانت هناك جهات و اعتبارات مختلفة،بناء على ما هو المقرّر عندهم من أنّ الذات الواحدة البسيطة لا تفيض عنها و لا عليها من جهة واحدة إلاّ أمر واحد.

و بعبارة أخرى إنّهم ذكروا أنّ النّفس الإنسانيّة جوهر واحد و له نسبة و قياس إلى جنبتين،جنبة هي تحته و هي البدن،و جنبة هي فوقه و هي المبادي العالية،و له بحسب كلّ جنبة و كلّ نسبة قوّة،و أنّ له بحسب النسبة إلى ما فوقه القوّة النظريّة،و بحسب النسبة إلى ما تحته القوّة العمليّة،و كذلك له بحسب كلّ نسبة من تينك النسبتين،نسب مختلفة إلى مدركاتها و أفعالها،و بتلك النسب المختلفة يكون له مراتب القوى النظريّة و العمليّة، كما سيأتي بيان ذلك مفصّلا فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و حينئذ نقول:إذا كانت هناك تلك النسب المختلفة و الجهات المتغايرة،فلم لا يجوز

ص:268

أن تكون تلك النسب أنفسها كافية في صدور تلك الأفعال الذّاتيّة غير الآليّة عن تلك الذّات الواحدة،من غير أن يكون هناك قوى مختلفة متوسّطة في ذلك؟

قلت:لا كلام في كون النسب المختلفة و الاعتبارات و الجهات المتغايرة هناك،إلاّ أنّ من يقول بالقوى المتخالفة و بتوسّطها في صدور تلك الأفاعيل المختلفة عن تلك الذّات الواحدة،كالشّيخ و نظرائه بل الأكثرين منهم،كأنّ نظره في ذلك أنّ تلك النسب المختلفة بأنفسها لا تصحّ أن تكون منشأ لصدور الأفاعيل المختلفة،إلاّ أن يكون هناك أمر آخر من حال لتلك الذّات الواحدة،باعتبار يصحّ استناد فعل إليه،و لا نعني بقوّة النّفس إلاّ ذلك الأمر،حيث إنّهم أطلقوا لفظ القوّة على قوّة النّفس بمعنى الحال التي تكون في الشيء و تكون مبدأ تغيّر في آخر،كما أشرنا إليه فيما سلف،و هذا كالقدرة التي أثبتوها لبعض الفواعل،و قالوا بأنّ الفاعل الذي له أن يفعل و أن لا يفعل بحسب المشيّة و عدم المشيّة،سواء كان ذاتا واحدة بسيطة فرض له فعل واحد من جهة واحدة،أو أفعال متخالفة بحسب جهات مختلفة،أو ذاتا مركّبة فرض لها أفعال متخالفة بحسب جهات فيه، إنّما يفعله بالقدرة،فأثبتوا القدرة زائدة على تلك الجهة أو الجهات،فما وجه ذلك في إثبات القدرة هناك فهو الوجه في إثبات القوّة فيما نحن فيه سواء بسواء.

و حيث تحقّقت ما تلوناه عليك،ظهر تلك تصحيح ما ذهب إليه الشيخ،و تبعه الأكثر من القول بأنّ الأفاعيل المختلفة-سواء كانت آليّة أو غير آليّة-إنّما تصدر عن النّفس التي هي الذّات الواحدة بتوسّط القوى المتخالفة.فما ذهب إليه بعضهم كالمحقّق الطوسي و غيره من أنّ الأفعال الآليّة إنّما تصدر عنها بتوسّط القوى و الآلات،و أنّ الأفعال التي هي غير آليّة إنّما تصدر عنها بذاتها،لعلّهم أرادوا بالصدور عنها بذاتها،أنّ ذاتها مصدر لتلك من غير توسّط قوّة بدنيّة و آلة جسمانيّة و حواسّ و مشاعر،و إلاّ فإن أرادوا به أنّ ذاتها بذاتها من غير توسّط قوّة أصلا مصدر لتلك،ففيه خفاء.

فإن قلت:قد ذكر بعض مفسّري كلام أرسطو أنّه لو كانت النّفس النّاطقة تدرك المحسوسات بقوّة ما،و تدرك المعقولات بقوّة أخرى،لما جاز أن تردّ حكم الحسّ فيما

ص:269

يغلط فيه،و تردّه إلى ما حكم به العقل،كما لا تردّ ما حكمت به حاسّة إلى ما حكمت به حاسّة أخرى،و الحال أنها تردّ حكم الحسّ كثيرا إلى ما حكم به العقل،و ذكر الشاهد عليه الأمثلة التي ذكرتها سابقا،ثمّ ذكر أنّ النّفس النّاطقة تدرك الأمور المعقولة بغير النّحو الذي تدرك به الأمور المحسوسة،لأنّها إذا طلبت الأمور المعقولة انبسطت و رجعت إلى ذاتها كأنّها تطلب شيئا هو عندها،و إذا همّت تحصيل رأي بديع أو فكر في عاقبة أو استخراج علم غامض عويص،خلت بنفسها و أبعدت جميع المحسوسات عنها،و كرهت أن يشغلها شيء من الحواسّ،و اجتهدت في تعطيلها،و انبسطت انبساطا راجعا إلى ذاتها،و إذا طلبت الأمور المحسوسة خرجت عن ذاتها،كأنّها تطلب شيئا خارجا عنها،فتحتاج حينئذ إلى آلة تتوسّل بها إلى مطلوبها،فإن وجدت الآلة صحيحة استعملها و أدركت الأمر الخارج،ثمّ حصّلت صورتها عندها في الوهم.و إن لم تجد الآلة،فإنّها تعدم ذلك المطلوب.مثال ذلك الأكمه لأنّه لا يمكنه أن يتصوّر الألوان،لأنّه لم يجد آلتها.فالنّفس الإنسانيّة تدرك الأمور البسيطة بغير آلة،بل بنفسها،و تدرك الأمور المركّبة المحسوسة بتوسّط الحواس،و هذا المذهب لأرسطاطاليس،و يتبيّن منه رأيه في النّفس الناطقة، فإنّها تدرك المحسوسات و المعقولات معا،و ليس كما يظنّه قوم من أنّ الأشياء المحسوسة إنّما تدركها الحواسّ فقط،و الأشياء المعقولة يدركها العقل فقط-انتهى بخلاصته-.

و هذا الذي ذكره ذلك البعض من المفسّرين،يدلّ على عدم صحّة القول باستناد الأفعال الذّاتيّة إلى النّفس الإنسانيّة بتوسّط القوى،كما هو مذهب الشيخ.بل ينبغي القول -على تقديره-باستنادها إلى ذات النّفس بذاتها من غير توسّط قوى في ذلك،فكيف ذلك؟

قلت:هذا الذي ذكره ذلك البعض أوّلا غير مسلّم،فإنّ المسلّم أنّ النّفس لا تردّ حكم ما حكمت به قوّة بدنيّة آليّة إلى ما حكمت به قوّة أخرى آليّة بدنيّة،و أمّا أنّها لا تردّ ما حكمت به قوة آليّة إلى ما حكمت به قوّة أخرى غير آليّة بل ذاتيّة،فليس بمسلّم.كيف

ص:270

و هذا أيضا في الحقيقة ردّ إلى ذات النّفس؟و كيف و ذلك البعض نفسه ذكر أنّها تردّ ما حكمت به حاسّة إلى ما يحكم به العقل؟و الحال أنّ المراد بالعقل هنا عندهم ليس إلاّ قوّة للنّفس.

و أمّا ما ذكره بعد ذلك من الاختلاف بين الأفعال الذّاتيّة غير الآليّة-كالأمور المعقولة-و بين الأفعال الآليّة-كالأمور المحسوسة-فمسلّم،إلاّ أنّه ليس فيه عند التّأمّل دليل على أنّ النّفس تدرك المعقولات بذاتها من غير توسّط قوّة في ذلك،بل ربّما يمكن أن يوجّه ما أسنده إلى أرسطو من المذهب بما وجّهنا به كلام المحقّق الطوسي(ره)،فتدبّر.

و حيث عرفت صحّة ما اختاره الشيخ من المذهب،فاعلم أنّ ما ذكره في كيفيّة إفاضة القوى عن النّفس،حيث قال (1):«إنّ (2)هذا الذي ليس بجسم يجوز أن يكون منبع القوى يفيض (3)عنها بعضها في الآلة،و بعضها يختصّ بذاته،و كلّها يؤدّي إليه نوعا من الأداء،و اللواتي تكون في الآلة تجتمع في مبدأ يجمعها في الآلة ذلك المبدأ،و هو فائض عن الغنيّ عن الآلة».

و حاصله أنّ تلك النّفس التي هي الذّات الواحدة تفيض أوّلا عن المبدأ الفيّاض الذي هو الغنيّ عن الآلة مطلقا،ثمّ تفيض باقتضاء العناية الأزليّة عن تلك النّفس قوى متخالفة.

إلاّ أنّ القوى الآليّة منها تفيض عن تلك النّفس في الآلة و هي حالّة فيها،و أنّ القوى غير الآليّة منها أي الذاتيّة تفيض عنها و تختصّ بذاتها و هي قائمة بها،و أنّ تلك الذات بالنسبة إلى كلّ تلك القوى منبع و مجمع و مخدوم و لها تسلّط و اقتدار على تلك القوى في أن تستعملها في أفعالها،و أنّ تلك القوى كلّها بالنسبة إلى تلك الذات خوادم و رواضع.

فهذا الذي ذكره،و إن كان صحيحا على أصوله لكون النّفس مجمع القوى الآليّة و الذّاتيّة التي بتوسّطها تصدر عنها تلك الأفعال،إلاّ أنّ الأنسب بقواعد الشرع أن يقال إنّ

ص:271


1- -الشفاء الطبيعيّات 224/2،الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس. [1]
2- في المصدر:لأنّ...
3- فيفيض عنه بعضها.

تلك الذّات تفيض عن المبدأ الفيّاض ثمّ تفيض عنه لأجل تلك الذّات قوى متخالفة بعضها تحلّ في آلاتها و بعضها تقوم بها بذاتها،و جعل لها اقتدار على استعمال كلّ تلك القوى في أفعالها،و كلّ تلك القوى خوادم لها.

و كيف ما كان،سواء بنى على ما ذكره أو على ما ذكرنا،فمحصّل الكلام أنّه يجوز أن يكون النّفس التي هي المدبّرة للبدن ذاتا واحدة بسيطة مجرّدة عن المادّة في ذاتها، و يفيض عنها أو عن المبدأ الفيّاض لأجلها في أعضاء مختلفة قوى مختلفة،أو أن يفيض عنها أو عن المبدأ الفيّاض لأجلها أوّلا في البذر و المنيّ قوّة الإنشاء،فتنشأ أعضاء على حسب موافقة أفعال تلك القوّة،يستعدّ كلّ عضو لقبول قوّة خاصّة به تفيض فيه.و لو لا ذلك لكان خلق البدن معطّلا لها.و هذا هو القول فى كيفيّة فيضان القوى الآليّة.

و أمّا القول في كيفيّة فيضان القوى الذّاتيّة،فبأن يقال:يجوز أن يفيض عن تلك النّفس،أو عن المبدأ الفيّاض لأجلها بحسب استعدادات حاصلة لها بسبب تعلّقها بالبدن قوى مختلفة عليها تقوم هي بذاتها تستعملها فى أفعالها الذّاتيّة،و اللّه أعلم بكيفيّة الحال.

فى الإشارة إلى أنّ تلك القوى المتخالفة كيف يخدم بعضها بعضا

ثمّ اعلم،أنّهم ذكروا-كما سيتّضح لك فيما بعد في باب تعديد القوى أيضا-أنّ تلك القوى كيف يرؤس بعضها بعضا و كيف يخدم بعضها بعضا،حيث يظهر لك أنّ العقل المستفاد رئيس للكلّ و يخدمه الكلّ،و هو الغاية القصوى.ثمّ العقل بالفعل يخدمه العقل بالملكة.ثمّ العقل العمليّ يخدم جميع هذه،لأنّ العلاقة البدنيّة-كما سيتّضح بعد-لأجل تكميل العقل النظريّ و تزكيته.و العقل العمليّ هو مدبّر تلك العلاقة،ثمّ العقل العمليّ يخدمه الوهم.و الوهم يخدمه قوّتان:قوّة بعده،و قوّة قبله.فالقوّة التي بعده هي القوّة التي تحفظ ما أدّاه الوهم،أي الذاكرة.و القوّة التي قبله هي جميع القوى الحيوانيّة.ثمّ المتخيّلة يخدمها قوّتان مختلفتا المأخذين:فالقوّة النزوعيّة تخدمها بالائتمار لأنّها تبعثها على

ص:272

التحريك نوعا من البعث،و القوّة الخياليّة تخدمها لعرضها الصّور المخزونة فيها المهيّأة لقبول التركيب و التفصيل،ثمّ هاهنا رئيسان لطائفتين،أمّا القوّة الخياليّة فيخدمها بنطاسيا، و بنطاسيا يخدمها الحواسّ الخمس.و أمّا القوّة النزوعيّة فيخدمها الشهوة و الغضب، و الشهوة و الغضب يخدمهما القوّة المحرّكة في الفعل.ثمّ القوى الحيوانيّة يخدمها النباتيّة، أوّلها و رأسها المولّدة.ثمّ النّاميّة تخدم المولّدة،ثمّ الغاذية تخدمها جميعا.ثمّ القوى الطبيعيّة الأربع تخدم هذه،و الهاضمة منها تخدمها الماسكة من جهة،و الجاذبة من جهة، و الدافعة تخدم جميعها،ثمّ الكيفيّات الاربع تخدم جميع ذلك،لكن الحرارة تخدمها البرودة،فإنّها إمّا أنّ تعدّ للحرارة مادّة أو تحفظ ماهيّتها،و لا مرتبة للبرودة في القوى الداخلة في الأعراض الطبيعيّة إلاّ منفعة تابع و تال،و تخدمهما جميعا اليبوسة و الرطوبة، فهذه درجات القوى.

و منه يعلم كيفيّة تقدّم بعضها في الوجود و تأخّرها في الشّرف و بالعكس،و كذا يعلم منه كيفيّة ارتباط تلك القوى بعضها ببعض،فتبارك اللّه أحسن الخالقين.

في الإشارة إلى أنّ أيّا من الأفاعيل تقتضي قوّة على حدة

و إذا انتهى الكلام إلى هذا المقام،فنتكلّم في أنّ أيّا من الأفاعيل تقتضى قوّة على حدة و أيّا منها يمكن أن يكون لها قوّة مشتركة،و أنّه هل يجب أن يكون لكلّ نوع من الفعل قوّة تخصّه أو لا يجب؟و في أنّه بأيّ سبب يكون القوى متغايرة تغايرا ذاتيّا،و بأيّ سبب وجهة يمكن أن يكون بينها جامع مشترك؟

فنقول:إنّ للنفس أفعالا تختلف على وجوه،فيختلف بعضها بالشدّة و الضّعف، و بعضها بالسّرعة و البط،فإنّ الظّن اعتقاد ما يخالف اليقين بالتأكّد و الشّدّة،و الحدس مخالف لليقين بسرعة الفهم.و قد تختلف أيضا بالعدم و الملكة،مثل أنّ الشكّ يخالف الرأي،فإنّ الشّك عدم اعتقاد من طرفي النقيض،و الرأي اعتقاد أحد طرفي النقيض، و مثل التحريك و التسكين.و قد تختلف بالنسبة إلى أمور متضادّة،مثل الإحساس

ص:273

بالأبيض و الإحساس بالاسود،و إدراك الحلو و إدراك المرّ.و قد تختلف بالنسبة إلى أمور متغايرة بالذات،بل متباينة كإدراك الصّورة و إدراك المعنى،و كإدراك المعنى الجزئيّ و إدراك المعنى الكلّيّ.و قد تختلف بالحسّ مثل إدراك اللّون و إدراك الطّعم.و قد تختلف بالذّات مثل الإدراك و التحريك،و مثل الشهوة و الغضب.و قد تختلف مع بعض هذه الاختلافات بالتقدّم و التأخّر أيضا،كالأفعال النّباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،كما قالوا من أنّ المنيّ في الرّحم يكون له أوّلا الأفعال النباتيّة،ثمّ الحيوانيّة،ثمّ الإنسانيّة.و قد تختلف مع ذلك بالاختلاف في الموضوع أيضا،كهذه الأفعال أيضا،فإنّ النباتيّة قد توجد في النبات دون الحيوانيّة،و كذلك الحيوانيّة قد توجد في الحيوان دون الإنسانيّة،إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف التي تعلم بالتّتبع.

و الذي يقتضيه التدبّر في كلام الحكماء،و في دليلهم على إثبات القوى الخاصّة و المشتركة،أنّ الأفعال المختلفة بالشدّة و الضّعف،أو بالسرعة و البطء،فإنّ مبدأها قوّة واحدة،لكنّها تكون تارة أتمّ فعلا و تارة تكون أنقض فعلا،إذ لو اقتضى ذلك قوى متعدّدة متغايرة،و أن يكون للأنقص قوّة غير القوّة التي للأتمّ،لوجب أن يكون عدد القوى بحسب عدد مراتب النقصان و الزيادة التي تكاد لا تتناهى.كما أنّه لو كان اختلاف الأفعال بحسب التشخّصات التي لا تكاد تنتهي إلى حدّ يوجب اختلاف القوى و تغايرها،لوجب أن يكون عدد القوى بحسب ذلك غير متناه،بل القوّة الواحدة يعرض لها أن تفعل الفعل أشدّ أو أضعف أو أسرع أو ابطأ بحسب الاختيار،أو بحسب مواتاة الآلة،أو بحسب عوائق من خارج أن يكون و أن لا يكون،أو أن يقلّ أو أن يكثر.كما أنّه يعرض للقوّة الواحدة اعتبارات و تشخّصات متعدّدة مع كون ذاتها واحدة.

و كذلك الأفعال المختلفة بالعدم و الملكة،فمبدؤها قوّة واحدة يعرض لها تارة أن تفعل،و تارة أن لا تفعل،مع كون شأنها أن تفعل لو لا العائق عنه.

و أيضا كلّ قوّة من حيث هي قوّة أوّلا و بالذات على فعل من الأفعال التي تقتضي قوى خاصّة،و إن كانت قوّة على ذلك الفعل الذي تخصّه،و يستحيل أن يكون مبدأ لفعل

ص:274

آخر غير بالقصد الأوّل.لكنّه قد يجوز أن يكون مبدأ الأفعال كثيرة غيره بالقصد الثاني.

و هذا مثل إنّ الإبصار إنّما هو قوّة أوّلا و بالذات على إدراك الكيفيّة التي هي اللّون،و اللّون يكون بياضا و سوادا و غيرهما.و مثل القوّة المتخيّلة التي شأنها أن تستثبت صور الأمور المادّيّة من حيث هي مادّيّة مجرّدة نوعا من التجريد غير بالغ،ثمّ يعرض أن يكون ذلك لونا أو طعما أو عظما أو صوتا أو غير ذلك،و مثل القوّة العاقلة التي شأنها أن تستثبت صور الأمور من حيث هي بريئة عن المادّة و علائقها،ثمّ يتّفق أن يكون ذلك شكلا أو عددا أو غير ذلك.

و كذلك قد يجوز أن يكون القوّة معدّة نحو فعل بعينه تحتاج إلى أمر آخر،فينضمّ إليها حتّى يصير بها ما بالقوّة حاصلا بالفعل.فإن لم يكن ذلك الأمر لم تفعل،فيكون مثل هذه القوّة تارة مبدأ للفعل بالفعل،و تارة غير مبدأ له بالفعل،بل بالقوّة.و هذا مثل القوّة المحرّكة،فإنّها إذا صحّ الإجماع من القوّة الشوقيّة بسبب داع من التخيّل أو التعقّل إلى التحريك،حرّكت لا محالة.فإن لم يصحّ،لم تحرّكه.و ليس يصدر عن قوّة محرّكة واحدة بآلة إلاّ حركة واحدة أو الحركات الكثيرة لكثرة آلات الحركة التي هي العضل فينا،و في كلّ عضلة قوّة محرّكة جزئيّة،لا تحرّك إلاّ حركة بعينها.و قد تكون الواحدة أيضا يختلف تأثيرها بحسب القوابل المختلفة و الآلات المختلفة.

هذا،و أمّا الأفعال التي بينها ترتيب و تقدّم و تأخّر زمانيّ،و لها اختلاف في الموضوع كالأفعال التي هي أقسام أوّليّة من جملة أفعال النّفس،و هي ثلاثة أقسام:أفعال يشترك فيها الإنسان و الحيوان و النبات،كالتغذية و التنمية و التوليد؛و أفعال يشترك فيها الإنسان و الحيوان كلّها أو جلّها و لا حظّ للنبات فيها،مثل الإحساس و التخيّل و الحركة الإراديّة؛و أفعال تختصّ بالإنسان،مثل تعقّل المعقولات و استنباط الصنائع و الرويّة في الكائنات و التفرقة بين الجميل و القبيح،فلها قوى متعدّدة،و لكلّ قسم منها قوّة على حدة،إذ ليس يمكن أن يكون لهذه الأقسام الثلاثة الأوّليّة التي قلنا إنّها مختلفة بالتقدّم و التأخّر الزمانيّ و في الموضوع،و مع ذلك فهي مختلفة غاية الاختلاف،قوّة واحدة هي

ص:275

مبدأ للجميع،و هذا هو القول في تلك الأقسام الأوّليّة.

و أمّا القول في خصوص كلّ قسم،قسم،فهو أنّ ما للإنسان من الأفعال الأوّليّة المختصّة به فعلان:علم و عمل،و حيث كانا فعلين مختلفين و أمرين متغايرين تغايرا بالذّات،ينبغي أن يكون لكلّ من العلم و العمل قوّة مختصّة،فلذلك كانت القوّة العمليّة مغايرة للقوّة النظريّة.

ثمّ إنّه حيث كانت مراتب كلّ منهما مختلفة متغايرة،ينبغي أن يكون لكلّ مرتبة من تلك المراتب قوّة أخرى تخصّها،و بيان ذلك:أمّا في مراتب العمليّة،فلأنّ تلك المراتب على ما قالوه أربع:

أوّلها:تهذيب الظاهر باستعمال النواميس الإلهيّة و الشرائع النبويّة.

و ثانيتها:تهذيب الباطن و تطهير القلب عن الملكات الرديّة و الأخلاق الظلمانيّة، و نقض آثار شواغله عن عالم الغيب.

و ثالثتها:تنويرها بالصّور العلميّة و الصفات المرضيّة،و بعبارة أخرى ما يحصل بعد الاتّصال بعالم الغيب،و هو تجلّي النّفس بالصّور القدسيّة.

و رابعتها:فناء النفس عن ذاتها،و قصر النظر على ملاحظة جمال اللّه تعالى و جلاله، حتّى يرى كلّ قدرة مضمحلّة في جنب قدرته الكاملة،و كلّ علم مستغرقا في علمه الشامل،و أنّ كلّ وجود و كمال فائض عن جنابه تعالى.

و لا يخفى أنّ تلك المراتب أمور متغايرة بالذّات،ليست إحداها هي الأخرى.

و حيث كانت كذلك،فينبغي أن يكون لكلّ واحدة منها قوّة تخصّها.

و أمّا في مراتب النظريّة التي هي أربع أيضا عندهم:و هي العقل الهيولانيّ، و بالملكة،و بالمستفاد،و بالفعل،فلأنّها و إن كانت من جهة يغاير بعضها بعضا بالكماليّة و الاستعداد نحو الكمال،و بأنّ الاستعداد إمّا قريب أو بعيد أو متوسّط،حيث إنّ العقل المستفاد كمال و الهيولانيّ استعداد بعيد و بالملكة استعداد متوسّط و بالفعل استعداد قريب كما قالوه،و يمكن أن يذهب الوهم إلى أنّ المبدأ للكلّ قوّة واحدة يختلف أحوالها

ص:276

و أفعالها بالكماليّة و الاستعداد و القرب و البعد و المتوسّط،كما ذكرنا أنّ القوّة الواحدة يمكن أن تكون تارة مبدأ لفعل بالفعل،و تارة مبدأ له بالقوّة،إلاّ أنّك ستعلم ممّا نذكره في بيان أحوال هذه القوّة،أنّ مراتبها مرتّبة في التقدّم و التأخّر الزمانيّين،و بعضها متقدّم على بعض في الزمان،و بعضها متأخّر عن بعض فيه،و كذلك بعضها رئيس و مخدوم لبعض، و بعضها مرءوس و خادم.و تعلم أيضا أنّ تلك المراتب التي حالها ما ذكر تكون مختلفة متغايرة البتّة،لا يجوز أن يكون لجميعها قوّة واحدة بالذّات،بل ينبغي أن يكون لكلّ مرتبة قوّة تخصّها،لأنّهم لذلك أثبتوا لتلك المراتب قوى متعدّدة و إن لم تكن تلك القوى متباينة بالذات،كالقوى الحيوانيّة مثلا.فإنّ القوى الحيوانية متباينة بالذّات لكونها مبادي أفعال مختلفة،و القوى الإنسانية غير متباينة بالذّات لكونها متعلّقة بذات واحدة مجرّدة.

و إنّما تختلف بحسب الاعتبارات التي هي بالقياس إلى تلك الذات عوارض،و هذا هو القول في القوى المتعدّدة التي للنّفس النّاطقة الإنسانيّة.

و أمّا القول في قوى النّفس الحيوانيّة،فهو أنّ لها بالقسمة الاولى فعلان:أحدهما التحريك،و الآخر الإحساس و الإدراك.و حيث كان التحريك و الإدراك فعلين متغايرين بالذات،و مع ذلك فقد يفترقان بالموضوع أيضا،كما في الرية من جملة الأعضاء،حيث قالوا إنّها دائمة الحركة،و لم يجعل لها حسّ و إدراك لئلا تتألّم باصطكاك بعضها ببعض، فينبغي أن يكون لكلّ من التحريك و الإدراك قوّة على حدة خاصّة،تسمّى إحداهما قوّة محرّكة و الأخرى قوّة حاسّة مدركة.ثمّ إنّ المحرّكة حيث كانت على قسمين:محرّكة، بمعنى أنّها باعثة على الحركة هي النزوعيّة،و محرّكة،بمعنى أنّها فاعلة للحركة،و كان البعث و الفعل أمرين متغايرين،حيث إنّ الباعثة النزوعيّة هي التي إذا ارتسمت في التخيّل صورة مطلوبة أو مهروبة عنها،بعثت القوّة المحرّكة الفاعلة على التحريك.و هي التي تنبعث في الأعصاب و العضلات،و من شأنها أن تشنّج العضلات،فتجذب الأوتار و الرّباطات المتّصلة بالأعضاء إلى نحو جهة المبدأ،أو ترخيها أو تمدّهما طولا فتصير الأوتار و الرباطات إلى خلاف جهة المبدأ،فينبغي أن يكون لكلّ من الفعلين قوّة

ص:277

على حدة تخصّه و كذلك الباعثة للحركة،حيث كانت لها شعبتان:شعبة تسمّى شهوانيّة، و هي ما تنبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المطلوبة طلبا للّذّة؛و شعبة تسمّى غضبيّة،و هي ما تنبعث على تحريك يدفع به الشيء المهروب عنه طلبا للغلبة،و كان الغضب و الشهوة فعلين متغايرين مختلفين،ينبغي أن يكون لكلّ منهما قوّة تخصّه، و عسى أن نشير فيما بعد إن شاء اللّه تعالى إلى بعض جهات المغايرة أيضا.و كذلك الإدراك و إن كان معنى واحدا،إلاّ أنّه لمّا كان ينقسم بانقسام المدركات و بتبعيّتها إلى أقسام كثيرة بعدد الحواسّ و المشاعر الظاهرة و الباطنة،و كانت تلك المدركات التي هي مدركات أوّليّة مختلفة بالذّات،و كذا كانت إدراكاتها باعتبارها و بالعرض،و مع ذلك كانت تلك الإدراكات متفارقة بالموضوع و بحسب الآلة،و كانت لكلّ منها آلة غير ما هي للاخرى،إن صحّت تلك الآلة صحّ ذلك الإدراك المنسوب إليها،و إن فسدت فسد،كما يعلم ذلك بالتجربة و الاعتبار،فعلى هذا،كان ينبغي أن يكون لكلّ من تلك الإدراكات المختلفة قوّة تخصّها،و عسى أن نشير فيما بعد إن شاء اللّه تعالى إلى بعض جهات المغايرة أيضا،و هذا هو الكلام في قوى النّفس الحيوانيّة.

و أمّا الكلام في قوى النّفس النباتيّة،فهو أنّهم و إن أثبتوا لها بالقسمة الاولى قوى ثلاثا:هي القوّة الغاذية و المنمية و المولّدة،و أثبتوا لها بالقسمة الثانية قوى أخرى، كالهاضمة و الجاذبة و الدافعة و الماسكة،إلاّ أنّ لبعضهم في وحدة بعض هذه و تعدّده كلاما يعلم ذلك من النظر في كتب الحكماء و الاطبّاء،فلا نطيل الكلام بذكره.و الضّابط فيها أيضا أنّ ما كان من تلك الأفعال مختلفة بالذّات،أو في الموضوع،أو من جهة الخادميّة و المخدوميّة أو نحو ذلك من الجهات التي بها تكون قواها مختلفة-كما سيظهر لك في بيان تعديد القوى النباتيّة-،فيقتضي كلّ منها قوّة على حدة خاصّة،و إلاّ فلا وجه لإثبات القوّة الخاصّة لها،بل يمكن أن يكون هناك قوّة واحدة تختلف اعتباراتها و حالاتها.

ص:278

في الكلام في آلات النّفس و الأعضاء التي

يتعلّق بها القوّة الرّئيسة من النّفس

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،فلنتكلّم في آلات النّفس و الأعضاء التي يتعلّق بها القوّة الرئيسة من النّفس،و حيث كان تفصيل ذلك و تحقيقه على الوجه الأتمّ مذكورا في الشّفاء،فلنكتف فيه بنقل ما قال هو فيه،فنقول:

قال الشّيخ في«الشّفاء» (1):«إنّه قد أفرط النّاس في أمر الأعضاء التي يتعلّق (2)بها القوّة الرّئيسة من النّفس إفراطا في جنبي (3)اللّجاج،و ركنوا إلى تعسّف كثير و تعصّب شديد، مال إليه كلّ واحد من الفريقين حتّى خرج من الحقّ،و أكثرهم (4)من جعل النّفس ذاتا واحدة و قضى مع ذلك أنّ الأعضاء الرّئيسة كثيرة،فإنّه لما تخالف (5)فيه الفلاسفة القائلة بتكثّر أجزاء النّفس،و وافق من قال بوحدانيّتها،لم يعلم أنّه يلزمه أن يجعل العضو الرئيس واحدا،و هو الذي يكون به أوّل تعلّق النّفس،و أمّا المكثّرون لأجزاء النّفس،فما عليهم أن يجعلوا لكلّ جزء (6)معدنا مخصوصا و مركزا مفردا،فنقول:أوّلا أنّ القوى النّفسانيّة البدنيّة،مطيّتها الأولى جسم لطيف نافذ في المنافذ روحانيّ،و أنّ ذلك الجسم هو الرّوح،و أنّه لو لا أنّ قوى النّفس النّاطقة المتعلّقة بالجسم ينفذ (7)محمولة في جسم،لما كان سدّ المسالك حابسا لنفوذ القوى المحرّكة و الحسّاسة و المتخيّلة أيضا،و هو (8)أيضا حابس ظاهر الحبس عند من جرّب التّجارب الطبيّة،و هذا الجسم نسبته إلى لطافة الأخلاط و بخاريّتها نسبة الأعضاء إلى كثافة الأخلاط،و له مزاج مخصوص،و مزاجه أيضا (9)يتغيّر بحسب الحاجة إلى اختلاف يقع (10)فيصير به حاملا لقوى مختلفة،و أنّه ليس (11)يصحّ المزاج الذي منه يغضب للمزاج الذي معه يشتهي (12)،و لا المزاج الذي يصلح للرّوح الباصرة (13)هو بعينه الذي يصلح للرّوح المحرّك.و لو كان المزاج واحدا،لكانت (14)المستقرّة

ص:279


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 232/2،الفصل الثامن من المقالة الخامسة.
2- في المصدر:تتعلّق...
3- جنبتي...
4- و أكثرهم غلطا من...
5- لمّا خالف...
6- جزء منه معدنا...
7- تنفذ...
8- و هو حابس...
9- يتغيّر أيضا...
10- يقع فيه ليصير به...
11- فإنّه ليس يصلح المزاج...
12- يشتهي أو يحسّ...
13- الباصر...
14- لكانت القوى المستقرّة.

في الرّوح واحدة و أفعالها واحدة.فإذا كانت النّفس واحدة،فيجب أن يكون لها أوّل تعلّق بالبدن،و من هناك تدبّره و تنميه،و أن يكون ذلك بتوسّط هذا الرّوح،و يكون أوّل ما تفعل النّفس (1)تفعل بفعل العضو الّذي لوساطته (2)تنبعث قوّته في سائر الأعضاء بتوسّط هذا الروح،و أن (3)ذلك العضو متكوّن من الأعضاء،و أوّل (4)معدن لتولّد الرّوح،و هذا هو القلب، يدلّ على ذلك ما حقّقه التّشريح المتقن،و سنزيد لهذا (5)المعنى شرحا في الفن الذي في الحيوان.

فيجب أن يكون أوّل تعلّق النّفس بالقلب،و ليس يجوز أن تتعلّق بالقلب،ثمّ بالدّماغ،فإنّها إذا تعلّقت بأوّل عضو،صار البدن نفسانيّا.

و أمّا الثّاني:فانّما يعقل (6)لا محالة بتوسّط هذا الأوّل،فالنّفس تحيي الحيوان بالقلب، لكن يجوز أن يكون (7)قوى الأفعال الاخرى تفيض من القلب إلى الأعضاء الأخرى، لأنّ الفيض يجب أن يكون صادرا من أوّل ما يتعلّق (8)،فيكون الدّماغ هو الذي يتمّ فيه مزاج الرّوح الذي يصلح لأن يكون حاملا لقوى الحسّ و الحركة إلى الأعضاء حملا يصحّ (9)معه أن يصدر معها أفعالها حال (10)الكبد بالقياس إلى قوى التغذية،و لكن يكون القلب هو المبدأ الأوّل الذي أوّل تعلّقه به،و منه ينفذ (11)إلى غيره و يكون الفعل في أعضاء أخرى،كما أنّ مبدأ الحسّ عند مخالف (12)هذا القول إنّما هو في الدّماغ،لكنّ أفعال الحسّ لا تكون به و فيه،بل في أعضاء (13)كالجلد و كالعين و كالأذن،و ليس يجب من ذلك أن لا يكون الدّماغ مبدأ،كذلك أيضا يجوز أن يكون القلب مبدأ لقوى التّغذية،و لكن أفعالها في الكبد،و لقوى التّخيّل و التّذكّر و التّصوّر (14)لكن أفعالها في الدّماغ،بل ينبغي أن (15)يكون مبدأ القوى المختلفة غير صالح لأن يصدر عن معدنه جميع أفعالها،بل يجب أن (16)يتفرّع في آلات مختلفة تتخلّق بعد ذلك العضو تخلّقا،و تفيض من ذلك العضو إليها قوّة ملائمة

ص:280


1- في المصدر:النّفس يفعل العضو...
2- بوساطته تنبعث قواها...
3- و أن يكون...
4- أوّل متكوّن...
5- هذا المعنى...
6- تفعل فيه...
7- تكون...
8- متعلّق به...
9- يصلح معه أن تصدر عنها أفعالها...
10- و كذلك حال...
11- تنفذ...
12- مخالفي هذا...
13- أعضاء أخرى كالجلد...
14- و التصوّر و لكنّ...
15- يكون المبدأ للقوى...
16- تتفرّع.

لمزاج ذلك الرّوح و استعداده،على ما ستقف عليه في ذكر الحيوان،حتّى لا يكون على العضو الذي هو المبدأ ثقل،و لذلك خلقت العصب للدّماغ و الأوردة للكبد،و كان (1)الدّماغ مبدأين أوّلين للحسّ و الحركة و التغذية،و كانتا (2)مبدأين ثانيين.و إذ فاض من القلب قوّة التكوين و التّخليق إلى الدّماغ،فيكون (3)الدّماغ،فلا كثير بأس أن (4)يكون الدّماغ يرسل من نفسه آلة يستمدّ بها الحسّ و الحركة من القلب (5)،فلا يجب من القلب أو يكون القلب أن ينفذ إليه الآلة التي بتوسّطها ينفذ إليه الحسّ و الحركة.فلا يجب أن يقع من المضايقة في أمر خلقة العصب أنّ مبدأها من القلب أو (6)الدّماغ ما هو ذا يقع،بل (7)يسلّم أنّه من الدّماغ و يستمدّ من القلب،كما أنّ الكبد يرسل إلى المعدة ما يستمدّ منها فيه،و لها أيضا عروق تمدّ غيرها بها.فليس يجب أن يكون العضو-الذي هو مبدأ قوّة فيه أيضا-أوّل (8)تلك القوّة،و أن يكون آلة لأفعال تلك القوّة،بل يجوز أن (9)يكون الآلة خلقت للاستمداد من شيء آخر،و أن تكون (10)إنّما تستمدّ بعد تخلّقها،حتّى يكون الدّماغ أوّل ما يخلق (11)لم يكن مبدأ للحسّ و الحركة بالفعل،بل مستعدّا لأن يصير مبدأ (12)للأعضاء التي بعده إذا استمدّ من غيره بعد أن يتخلّق (13)آلة الاستمداد من غيره له،فلمّا تخلّق منه عصب ذاهب إلى القلب،استمدّ الحسّ و الحركة منه حينئذ،و يمكن أن يكون مع تخلّق هذا المنفذ بلا تأخّر،فلا يكون (14)في نفوذه عنه إلى القلب حجّة أيضا،و لا شبه حجّة،بل كما تخلّق الدّماغ تخلّق (15)معه عن مادّته شيء نافذ إلى القلب غريب عن القلب يستمدّ (16)منه الحسّ و الحركة.على أنّ نبات هذا العصب من الدّماغ،و مصيره منه إلى القلب ليس شيئا يظهر الظّهور الذي يظنّه مدّعي نبات العصب الذي (17)من الدّماغ أو القلب من الدّماغ إلى القلب، لا من القلب إلى الدّماغ،على ما سنوضّحه في موضعه من كلامنا في طبائع الحيوان (18).

و مع ذلك فلنعد إلى معاملة أخرى،فنقول:إنّه ليس بمستحيل أن يكون مبدأ وجوده (19)

ص:281


1- في المصدر:كان الدماغ...
2- أو كانا مبدأين...
3- فتكوّن...
4- بأن يكون...
5- من القلب،أو يكون القلب ينفذ...
6- أو من الدماغ...
7- بل نسلّم...
8- أول أفعال تلك...
9- أن تكون...
10- و أن تكون إنّما تستمدّ...
11- ما تخلق...
12- مبدأ ما للأعضاء...
13- أن تتخلّق...
14- فلا تكون...
15- يخلق معه من مادّته...
16- استعدّ منه...
17- الذي بين الدماغ و القلب،من الدماغ...
18- الحيوان،و نطول الكلام فيه طولا يشفي و يقنع...
19- وجود قوّة.

قوّة هي في عضو،فينفذ (1)من ذلك العضو إلى عضو آخر،و هناك تتمّ القوّة و تستكمل ثمّ ينعطف (2)إلى هذا العضو الأوّل فيرقده (3)،فإنّ الغذاء إنّما يصير إلى الكبد من المعدة،ثمّ إذا صار هنالك على نحو ما أعاد (4)،فغذاء المعدة في عروق تنبعث من الطّحال (5)في الأجوف و تنبثّ في المعدة.فلا ضير أن يكون مبدأ القوّة ينبعث من القلب (6)و لا تكون القوّة في القلب كاملة تامّة،ثمّ إنّها تعيد (7)القلب إذا استكملت في عضو آخر.

و هكذا حال الحسّ المشترك،فإنّ مبدأ القوّة الحسّاسة الجزئيّة منها (8)،ثمّ إنّها تعود إليه بالفائدة.

على أنّ حسّ القلب (9)بنفسه-و خصوصا اللّمس-أعظم من حسّ الدماغ نفسه و لذلك أوجاعه لا تحمل (10).و على [أنّه يمنع في القوى أن يصير (11)]أقوى و أشدّ في غير مباديها المصادفة (12)موادا تحملها بتلك الحالة،و يشبه أن يكون (13)قوّة أطراف الأوتار على الجذب أشدّ من قوّة أوائلها التي على (14)العصب،فالقلب مبدأ أوّل تفيض منه إلى الدّماغ قوى،بعضها (15)يتمّ أفعالها في الدّماغ و أجزائه،كالتّخيّل و التّصوّر و غير ذلك،و بعضها (16)يفيض من الدّماغ إلى أعضاء خارجة عنه،كما يفيض (17)إلى الحدقة و إلى العضل المتحرّكة، و يفيض (18)من القلب إلى الكبد قوّه التّغذية،ثمّ (19)يفيض من الكبد بتوسّط العروق في جميع البدن،و يغذو (20)القلب أيضا،فيكون (21)القوّة مبدؤها من القلب،و المادة مبدؤها من الكبد.

و أمّا القوى الدّماغيّة،فإنّ البصر يتمّ بالرّطوبة الجليديّة التي هي كالماء الصّافي، فيقبل (22)صور المبصرات و يؤدّيها (23)إلى الرّوح الباصرة (24)،و يكون تمام الأبصار عند ملتقى العصبة المجوّفة،على ما علم من تشريحه و تعريف حاله.

و أمّا الشّمّ فبزائدتين في مقدّم الدّماغ كحلمتي الثّدي.

و أمّا الذّوق فبأعصاب دماغيّة (25)في اللّسان و الحنك،و تعطيها (26)قوّة الحسّ

ص:282


1- في المصدر:فتنفذ...
2- تنعطف...
3- فترفده...
4- عاد فغذّى المعدة...
5- الطحال و الأجوف...
6- القلب مثلا...
7- تفيد القلب...
8- منها...
9- القلب نفسه...
10- لا تحتمل...
11- أنّه ليس بممتنع في القوى أن تصير...
12- لمصادفة مواد تجعلها بتلك...
13- تكون...
14- تلي العصب...
15- فبعضها تتمّ...
16- تفيض من...
17- تفيض إلى...
18- و تفيض من...
19- ثمّ تفيض...
20- و تغذو...
21- فتكون...
22- فتقبل...
23- و تؤدّيها...
24- الباصر...
25- دماغيّة بقي في...
26- و تؤتيهما قوّة.

و الحركة.

و أمّا السّمع فبأعصاب أيضا (1)دماغيّة تأتي الصّماخ فتغشّي السّطح المحيط به.

و أمّا اللّمس فبأعصاب دماغيّة نخاعيّة منتشرة (2)في البدن كلّه.و أكثر عصب الحسّ من مقدّم الدّماغ،لأنّ مقدّم الدّماغ ألين،و اللّين أنفع في الحسّ.و مقدّم الدّماغ كما يتأدّى إلى خلف و إلى نخاع (3)،فيصير أصلب لتدرّج إلى النّخاع الذي يجب أن يعين (4)و فيه الصّلابة.و أكثر عصب الحركة التي من الدّماغ إنّما ينبت (5)من مؤخّر الدّماغ،لأنّه أصلب، و الصّلابة أنفع في الحركة و أعون عليها،و العصبة (6)التي للحركة في أكثر الأمر يتولّد (7)منها العضل،فإذا جاوزت العضل حدث منها و من الرّطوبات الأوتار،و أكثر اتّصال أطرافها بالعظام،و قد تتّصل في مواضع بغير العضلة (8)،و قد يتّصل العظام أنفسها بالعضو المحرّك من غير توسّط وتر،و النّخاع كجزء من الدّماغ ينفذ في ثقب الفقارات،لئلاّ يبعد ما يتولّد من العصب من الأعضاء،بل يتولّد منها العصب مرسلة بالقرب إلى الموضع المحتاج كونها (9).

و أمّا القوّة المصوّرة و الحسّ المشترك،فهما (10)مقدّم الدّماغ في روح يملأ (11)ذلك التجويف،و إنّما (12)كان هناك ليطّلعا على الحواسّ التي أكثرها إنّما تنبعث من مقدّم الدّماغ، فيبقى (13)الفكر و الذكر في التّجويفين الآخرين،لكنّ الذّكر قد تأخّر موضعه،فيكون (14)الرّوح المفكّرة متوسّطا بين خزانة الصّورة (15)بين خزانة المعنى،و يكون (16)مسافته بينهما واحدة.و الوهم مستول على الدّماغ كلّه،و سلطانه في الوهم (17).

و أخلق بأن يتشكّك مشكّك،فيقول:كيف يرتسم (18)صورة جبل،بل صورة العالم في الآلة اليسيرة (19)تحمل القوّة المصوّرة؟

فنقول (20):إنّ الإحاطة بانقسام الأجسام إلى غير (21)النّهاية تكفي مئونة هذا التّشكّك،

ص:283


1- في المصدر:دماغيّة أيضا...
2- تنتشر...
3- و إلى النخاع يصير أصلب ليتدرّج...
4- تعين دقته...
5- تنبت...
6- و العصب...
7- تتولّد...
8- بغير العظام،و قد تتّصل العضلة نفسها بالعضو...
9- كونها به...
10- فهما من مقدّم...
11- تملأ...
12- و إنّما كانا هناك ليطلاّ...
13- فبقي...
14- ليكون مكان الروح...
15- الصور...
16- و تكون...
17- في الوسط متشكّك...
18- ترتسم...
19- التي تحمل...
20- فنقول له...
21- غير نهاية.

فإنّه كما يرتسم العالم في مرآة صغيرة،و في الحدقة بأن ينقسم ما يرتسم فيه بحذاء أقسامه،إذ الجسم الصّغير (1)بحسب قسمة الكبير عددا و شكلا،و إن كان يخالف القسم (2)في المقدار،فكذلك حال ارتسام الصّور الخياليّة في موادّها،ثمّ يكون (3)نسبة ما يرتسم فيه الصّور الخيالية بعضها إلى بعض في عظم ما يرتسم فيه و صغر ما (4)يرتسم فيه،نسبة لشيئين (5)من خارج في عظمهما و صغرهما،مع مراعاة التّشابه في البعد.

و أمّا قوّة العصب (6)و ما يتعلّق بها،فلم تجتمع (7)إلى عضو غير المبدأ،لأنّ فعلها فعل واحد،و يلائم (8)المزاج الشّديد الحرّ و يحتاج (9)إليه،و ليس تأثير المتّفق منه أحيانا تأثير المتّصل من المفكّرة (10)و الحركة حتّى يخاف أن يشتعل اشتعالا مفرطا،و ذلك لأنّه ممّا يعرض أحيانا،و ذلك (11)كاللّازم،مثل الفهم،و المفكّرة (12)و ما يشبههما ممّا يحتاج إلى ثبات و إلى قبول،و يجب أن يكون العضو المعدّ لها (13)أرطب و أبرد،و هو الدّماغ،لئلاّ يشتعل الحارّ الغريزيّ اشتعالا شديدا،و ليقاوم الالتهاب الكائن بالحركة،و لمّا كانت التّغذية ممّا يجب أن يكون العضو (14)عديم الحسّ،حتّى يمتلئ من الغذاء و يفرغ منه،فلا يوجعه ذلك و لا يتألّم كثيرا ممّا (15)ينفذ فيه و منه و إليه،و أن يكون أرطب جدّا كيما يحفظ الحارّ الغريزيّ (16)بالمفارقة و المقاومة،فجعل ذلك العضو الكبد،و جعل قوّة التّوليد في عضو آخر شديد الحسّ ليعين على الدعاء إلى الجماع بالشّبق،و إلاّ لم (17)يتكلّف ذلك،و لو لم يكن فيه لذّة و إليه شبق،إذ لا حاجة إليه في بقاء الشخص،و اللذّة تتعلّق بعضو حسّاس،فجعل له الأنثيان،و أعينا (18)بآلات اخرى بعضها لذبّ (19)المادّة و بعضها لدفعها،كما يأتيك ذكره حيث نتكلّم في الحيوان-انتهى كلامه-.

ص:284


1- في المصدر:الصغير ينقسم...
2- القسم القسم في...
3- تكون نسبة ما ترتسم فيه الصورة الخياليّة،بعضه...
4- ما ترتسم...
5- الشيئين...
6- الغضب...
7- فلم تحتج...
8- و تلائم...
9- و تحتاج...
10- الفكرة...
11- و ذانك...
12- و الفكرة...
13- المعدّ له...
14- يكون بعضو...
15- بما ينفذ...
16- الحارّ القويّ بالمعادلة و المقاومة...
17- لم يكن يتكلّف ذلك،لو لم يكن...
18- و أعينتا...
19- لجذب.

في الإشارة إلى المناسبة بين النّفس و البدن

و احتياج أحدهما إلى الآخر و الارتباط بينهما

و أقول:و أنت بعد تدبّرك فيما نقلنا عنه من هذا الكلام،و تذكّرك لما أسلفنا لك في الأبواب السّالفة،يظهر لك أنّه كما أنّ النّفس الإنسانيّة ذات واحدة بالعدد،و لها قوى مختلفة مرتبطة بعضها ببعض،و هي منبع تلك القوى و ما به الارتباط بينها؛و أنّ قواها يرؤس بعضها بعضا،و يخدم بعضها بعضا،و الرّئيس للكلّ واحد بالعدد،كذلك العضو الرّئيس من آلاتها-أي القلب-عضو واحد بالعدد،و هو بما فيه من الرّوح أوّل ما يتعلّق به النّفس،و هو أيضا منبع الآلات،و هي مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا تامّا كما ذكر.

فيكون المناسبة بين النّفس و البدن بهذا الاعتبار تامّة.

و كذلك يظهر لك أنّه كما أنّ البدن محتاج إلى النّفس لأجل حفظ تركيبه و مزاجه و بقائهما،كذلك النّفس محتاجة إلى البدن،لأجل أفعالها الآليّة،و كذا للاستعانة في أفعالها الذّاتيّة.

و كأنّه لأجل ذلك اشتبه الأمر على بعض الأقدمين من الحكماء،فظنّ أنّ النّفس لا فعل لها بدون مشاركة البدن أصلا حتّى الأفعال الذّاتية لها كالتّعقّل و إدراك الأمور الكلّيّة على ما نقله صاحب«الملل و النحل»عن الاسكندر الأفريدوسي تلميذ أرسطو (1)، و إن كان رأيه هذا مخالفا لرأي أستاده،و لرأي الجمهور من الحكماء.

و بذلك يظهر أنّ بين النّفس و البدن احتياجا شديدا لا غنى لأحدهما من الآخر بوجه،و به يظهر أيضا أنّ بينهما ارتباطا تامّا،و كفاك شاهدا على هذا تأثّر كلّ منهما عن الآخر،و تأثير كلّ واحد منهما في الآخر.أ ليس إذا أحسست بشيء من أعضائك شيئا أو تخيّلت أو اشتهيت أو غضبت،تأثّرت نفسك منها،و حصل فيها هيئة و كيفيّة من الكيفيّات النفسانيّة تسمّى حالا ما دامت سريعة الزّوال؟فإذا تكرّرت و أذعنت النّفس لها، فصارت كلّ مرّة أسهل تأثّرا حتّى تتمكّن تلك الكيفيّة منها و تصير بطيئة الزّوال،فصارت

ص:285


1- -الملل و النحل 443/2،طبع القاهرة،1367 ه.

تلك الهيئة ملكة و عادة و خلقا.و أ ليس إذا عرضت في النّفس هيئة ما عقليّة تأثّر بدنك منها،فحصل أثر ما منها إلى قواك ثمّ في أعضائك؟انظر أنّك إذا استشعرت جانب اللّه عزّ و جلّ و فكّرت[في]جبروته كيف يقشعرّ جلدك و يقف شعرك!فمن هذه الجملة يظهر لك كيفيّة الارتباط و الاتّحاد بينهما.فتبارك اللّه أحسن الخالقين.و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،فلنختم هذا الباب به،و لنصرف عنان العناية إلى صوب المقصد الآخر،فنقول:

ص:286

الباب الثّالث: في تعديد قوى النّفس الإنسانيّة على ما هو المشهور بين الجمهور

اشارة

ص:287

ص:288

الباب الثّالث في تعديد قوى النّفس الإنسانيّة على ما هو المشهور بين الجمهور، و الإشارة إلى نبذ من الحكمة فيما لعلّه يحتاج إلى بيان الحكمة فيه.

اعلم أنّهم ذكروا أنّ للنّفس النّاطقة الإنسانيّة قوى تشارك بها الحيوانات العجم و النّبات،و قوى أخرى تشارك بها الحيوانات العجم دون النّبات،و قوى أخرى أخصّ من الأوليين تختصّ بالإنسان.

أمّا القوى الأولى التي بها تشارك الكلّ،و هي التي تسمّى نباتيّة لا لاختصاص النّبات بها،بل لانحصار قواه فيها،و يسمّيها الأطباء قوى طبيعيّة،و هي مبادي لأفعال مختلفة من غير إرادة،و تلك الأفعال إنّما هي حركات لحفظ البدن و توليده،و تصرّفات في مادّة الغذاء.

و آلة تلك القوى إمّا من الكيفيّات الفعليّة فالحرارة الغريزيّة،فإنّ الحارّ هو المستعدّ لتحريك الموادّ،و يتبعها البرد لتسكينها عند الكمالات.و إمّا من الكيفيّات الانفعاليّة فالرّطوبة،فإنّها هي التي تتخلّق و تتشكّل،و تتبعها اليبوسة لحفظ الموادّ،فأصولها ثلاثة:

الغاذية،و النّامية و المولّدة،اثنتان منها-و هما الغاذية و النّامية-لأجل الشّخص، و واحدة منها-و هى المولّدة-لأجل النّوع:

أمّا الغاذية،ففعلها إحالة الغذاء إلى مشاكلة المغتذي و إضافته إليه بدلا عما يتحلّل، و يتمّ فعلها بأفعال ثلاثة جزئيّة:

ص:289

أحدها تحصيل جوهر البدن و هو في الحيوان و الإنسان الدّم و الخلط الذي هو بالقوّة القريبة من الفعل شبيه بالعضو،و قد يخلّ به كما يقع في علّة تسمّى أطروقيا و هو عدم الغذاء.

و الثاني الإلزاق،و قد يخلّ به كما في الاستسقاء اللحميّ.

و الثالث التّشبيه بالعضو المغتذي حتّى في قوامه و لونه،و قد يخلّ به كما في البرص و البهق،فإنّ جوهر البدن و الإلزاق موجودان فيهما،و التّشبيه غير موجود.

فهذه الأفعال الثّلاثة بقوى ثلاث الغاذية مجموعها،أو قوّة أخرى هي رئيسة لها تستخدم كلّ واحدة منها.و القوّة التي يصدر منها التشبيه يسمّونها مغيّرة ثانية.أمّا التّغيير فظاهر،و أمّا كونها مغيّرة ثانية،فلما سيأتي.و هي واحدة بالجنس في الإنسان و غيره من المركّبات التي لها أعضاء و أجزاء مختلفة بالحقيقة بمنزلة الأعضاء و تختلف بالنّوع،إذ في كلّ عضو منها قوّة تغيّر الغذاء إلى شبيه مخالف لشبيه الأخرى.

و أمّا النّامية،فهي التي تداخل الغذاء بين أجزاء المغتذي فتزيد في الأقطار الثّلاثة بنسبة طبيعيّة،بأن تزيد في الأعضاء الأصليّة،أعني ما يتولّد عن المني كالعظم و العصب و الرّباط و غيرها.و بقولنا:«بنسبة طبيعيّة»يخرج الورم،فإنّه خارج عن المجرى الطبيعيّ، و بذلك يظهر الفرق بين النّموّ و السّمن،فإنّ السّمن إنّما هو زيادة في الأعضاء المتولّدة من الدم كاللحم و الشّحم السّمن،لا في الأعضاء الأصليّة.

و قيل:إنّ النّمو و السّمن مع اشتراكهما في شيء واحد و هو الازدياد الطّبيعيّ للبدن بانضياف مادّة الغذاء إليه،يفترقان في أشياء،منها التّناسب في الأقطار، و منها طلب غاية ما يقصدها الطبع،و منها الاختصاص بوقت معيّن،فالنّموّ يختصّ بجميعها،السّمن يخالفه أحيانا فيها و يوافقه أحيانا،و الذّبول يقابل النّموّ،و الهزال يقابل السّمن.

و بالجملة فالغاذية تخدم هذه القوّة في تحصيل المادّة.

ص:290

و أمّا المولّدة،فقد قال بعضهم ك«شارح التجريد» (1):«إنّ (2)المراد بها قوّتان،فوحدتها اعتباريّة كما في الغاذية،فإنّها كما ذكر (3)عبارة عن ثلاث قوى:«إحداهما يجعل فضلة الهضم الرابع منيّا،و هذه القوّة عملها في الأنثيين،لأنّ ذلك الدّم يصير منيّا فيهما، و ثانيتهما (4)ما يهيّئ كلّ جزء من المنيّ الحاصل من الذّكر و الأنثى في الرّحم لعضو مخصوص،بأن يجعل بعضه مستعدّا للعظميّة،و بعضه مستعدّا للعصبيّة،و بعضه مستعدّا للرّباطيّة،إلى غير ذلك.

و هذه القوّة تسمّى (5)المغيّرة الأولى،لأنّ المغيّرة كما تطلق على هذه القوّة،تطلق على إحدى القوى الثّلاث من القوى الغاذية أيضا لوجود (6)(7)التغيير فيها،فخصّت هذه بالمغيّرة الأولى،و تلك بالمغيّرة الثانية،لتقدّمها عليها في بدن المولود.و فعل هذه القوة إنّما يكون حال كون المنيّ في الرّحم،ليصادف (8)ذلك فعل القوّة المصوّرة،لأنّها تعدّ موادّ الأعضاء،و المصوّرة تلبسها صورها الخاصّة بها.و إنّما لم يذكر المصنّف القوّة المصوّرة لأنّه سيبطلها».

و قال الشيخ في«الشّفاء»:«و أمّا المولّدة فلها فعلان:أحدهما تخليق البذر (9)و تشكيله و تطبيعه،و الثّاني إفادة أجزائه في الاستحالة (10)النباتيّة صورها من القوى و المقادير و الأشكال و الأعداد و الخشونة و الملاسة (11)،و ما يتّصل بذلك،متسخّرة تحت تدبير المنفرد بالجبروت،فيكون (12)الغاذية تمدّها بالغذاء و النّامية تخدمها بالتمديدات المشاكلة»-انتهى-.

و قال المحقّق الطّوسيّ(ره)في قول الشّيخ في«الإشارات» (13):«و الثّالثة (14)المولّدة للمثل،و تنبعث بعد فعل القوّتين مستخدمة لهما»هكذا:«هذه القوّة تنقسم إلى نوعين:

ص:291


1- -شرح التجريد 231 و 232،للقوشجي.
2- في المصدر:أمّا المولّدة فالمراد بها...
3- كما ذكرنا آنفا...
4- و ثانيهما...
5- بالمغيّرة الاولى...
6- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 47/2،الفصل الاوّل في المقالة الثانية.
7- لوجود معنى التغيير...
8- لتصادف...
9- البزر...
10- الاستحالة الثانية...
11- الملاسة...
12- فتكون...
13- -شرح الإشارات 409/2. [2]
14- و الثالث القوّة.

مولّدة و مصوّرة،و المولّدة تنقسم إلى نوعين:محصّلة للبذر (1)و مفصّلة إيّاه إلى أجزاء مختلفة كالأعضاء،و هي الّتي تسمّى مغيّرة أولى بالقياس إلى التي تغيّر الغذاء خدمة للغاذية،و الغاذية المنمية تخدمان المولّدة»-انتهى-.

و أقول:إنّ من أبطل القوّة المصوّرة-كالمحقّق الطّوسيّ-نظر إلى أنّه يستحيل صدور الأفعال المحكمة المتقنة عن قوّة بسيطة عديمة الشعور،و أمّا من أثبتها-كالشّيخ و الأكثر-نظر إلى أنّ تلك الأفعال إنّما تصدر عنها بتدبير المنفرد بالجبروت تعالى شأنه- كما دلّ عليه كلام«الشّفا»-و حينئذ فلا استبعاد في إثباتها.

في الإشارة إلى الحكمة في القوى النباتيّة

و حيث عرفت ذلك فاعلم،أنّهم ذكروا في الحكمة في هذه القوى الثلاث و سبب الاحتياج إليها:أنّ النّفوس إنّما تفيض على الأبدان المركّبة بحسب قرب أمزجتها من الاعتدال و بعدها عنه،و لا بدّ في الأمزجة المعتدلة من أجزاء حارة بالطّبع،و تنبعث أيضا من كلّ نفس كيفيّة فاعلة مناسبة للحياة تكون آلة لها في أفعالها و خادمة لقواها،و هي الحرارة الغريزيّة.فالحرارتان تقبلان على تحليل الرّطوبات الموجودة في البدن المركّب، و تعاونهما على ذلك الحرارة الغريبة من خارج.فإذن لو لا شيء يصير بدلا لما يتحلّل منه لفسد المزاج،و بطل استعداد الممتزج لاتّصال النّفس به،ففسد التركيب.فالعناية الإلهيّة جعلت النّفس ذات قوّة تتّخذ ما يشبه بدنها المركّب بالقوّة،و تحيله إلى أن يشبهه بالفعل، فتضيفه إليه بدلا عمّا يتحلّل،و هي قوّة لا تخلو ذات نفس أرضية عنها.

ثمّ لمّا كانت الأسطقسّات متداعية إلى الانفكاك و لم يكن من شأن القوى الجسمانيّة أن تجبرها على الالتيام أبدا،و كانت العناية المتعالية الإلهيّة مستبقية للطّبائع النّوعيّة دائما،فقدّر بقائها بتلاحق الأشخاص.

أمّا فيما لم يتعذّر اجتماع أجزائه،لبعده عن الاعتدال و لسعة عرض مزاجه،فعلى

ص:292


1- في المصدر:..للبدن.

سبيل التولّد.

و أمّا فيما تعذّر ذلك لقربه منه و لضيق عرض مزاجه،فعلى سبيل التّوالد.

و جعلت النّفس الأخيرة ذات قوّة تختزل من المادّة التي تحصّلها الغاذية ما تجعلها مادّة شخص آخر من نوعه.

و لمّا كانت المادّة المختزلة للتّوليد-لا محالة-أقلّ من المقدار الواجب لشخص كامل،إذ هي مختزلة من شخص،جعلت النّفس المدبّرة لها ذات قوّة تضيف من المادّة التي تحصلها الغاذية شيئا فشيئا إلى المادّة المختزلة،فيزيد بها مقدارها في الأقطار على تناسب يليق بأشخاص ذلك النوع إلى أن يتمّ الشخص،فإذن النّفوس النباتيّة التامّة إنّما تكون ذات ثلاث قوى تحفظ بها الشخص إذا كان كاملا،و تكمله مع ذلك إذا كان ناقصا، و تستبقى النوع بتوليد مثله،و هي المسمّاة بالغاذية و المنمية و المولّدة للمثل.

فظهر من ذلك أنّ أفعال جميع هذه القوى إنّما تتمّ بتصرّفات في مادّة الغذاء،و أنّ هاهنا قوى ثلاثا لأفعال ثلاثة،و أنّ الاحتياج إلى الغاذية و المنمية لأجل الشّخص،و إلى المولّدة لأجل النّوع.و أنّ غاية فعل الغاذية الإحالة إلى المشابهة سدّا لبدل ما يتحلّل.و أنّ غاية فعل المنمية،الزّيادة في النشء على تناسب محفوظ مقصود في أجزاء المغتذي في الأقطار يتمّ بها الخلق.و إنّ غاية فعل المولّدة،الاختزال من ذلك فضلة تعدّ مادّة و مبدءا لشخص آخر.و أنّ الغاذية متقدّمة على النّامية و المولّدة،لتقدّم فعلها على فعليهما.و كذا هي خادمة للنّامية في تحصيل المادّة.

ثمّ إنّ النّامية و المولّدة،و إن كانتا جميعا متأخرتين عن الغاذية لكون فعليهما-أي الإنماء و التوليد-محوجين إلى كثرة المادّة المتعذّر تحصيلها و التصرّف فيها إلاّ بالغاذية، إلاّ أنّه لمّا كان الإنماء الذي هو فعل المنمية أهمّ،لأنّه يتعلّق بإكمال الشّخص،و إنّما احتيج إلى توليد المثل لكون الشّخص معرّضا للفناء،فجعل الإنماء متقدّما على التوليد نوعا من التقدّم،فجعلت المنمية متقدّمة على المولّدة،و جعلت المولّدة في ثالث المراتب، و جعلت المنمية خادمة لها،كما جعلت الغاذية خادمة للنّامية و للمولّدة أيضا.

ص:293

و ذكروا أيضا أنّ الغاذية في أوّل الأمر تقوى على تحصيل مقدار أكثر ممّا يتحلّل، لصغر الجثّة و كثرة الأجزاء الرّطبة فيها،فتعمل المنمية فيما فضل من الغذاء،ثمّ تعجز عن ذلك لكبر الجثّة و زيادة الحاجة،لنفاد أكثر الرّطوبات الأصليّة الصالحة لتغذية الحرارة الغريزيّة،فيصير ما تحصّله مساويا لما يتحلّل،و حينئذ يقف المنمية.ثمّ يقوى المولّدة حينا،ثمّ تقف هي أيضا،أي أنّه عند القرب من تمام النّموّ،تفرغ النّفس للتّوليد،فتقوى المولّدة حينا،و أنّه إذا عجزت الغاذية من إيراد بدل ما يتحلّل،بحيث لم يفضل شيء تتصرّف فيه المولّدة،أو انحرف المزاج بسبب الانحطاط المفرط فصارت المادّة غير مستعدّة لذلك،وقفت المولّدة أيضا،و تبقى الغاذية عمّالة إلى أن تعجز،فيحلّ الأجل عند عجزها عن إيراد البدل،لسرعة تحلّل الأجزاء و انحراف المزاج عن الاعتدال،و انطفاء الحرارة الغريزيّة لعدم غذائها و وجود ما يضادّها.

ثمّ إنّهم ذكروا أنّه يخدم الغاذية قوى أربع،هي الجاذبة و الماسكة و الهاضمة و الدّافعة.و ذكروا في وجه الاحتياج إلى تلك القوى الأربع و بيان أفعالها:أنّه لما كان وجود الشّخص-بل بقاء النّوع بتوليد المثل أيضا-لا يمكن إلاّ بتحصيل الغذاء النافع و إصلاحه و دفع فضلاته،احتيج إلى فعل قوى أربع.

أمّا الاحتياج إلى الجاذبة،فلأنّ الغذاء لا يمكن أن يصل بنفسه إلى جميع الأعضاء، لأنّه إن كان ثقيلا لا يصل إلى الأعضاء العالية،و إن كان خفيفا لا يصل إلى الأعضاء السّافلة،فاحتيج إلى قوّة تجذب الغذاء إلى الأعضاء.

و أمّا إلى الماسكة،فلأنّ الغذاء لا بدّ فيه من الاستحالة،حتّى يصير شبيها بجوهر المغتذى،و الاستحالة حركة،و كلّ حركة في زمان،فلا بدّ من زمان في مثله يستحيل الغذاء إلى جوهر المغتذي.و لأنّ الخلط جسم رطب سيّال،استحال أن يقف بنفسه،فلا بدّ من قاسر يقسره على الوقوف و ذلك القاسر هو الماسكة.

و أمّا إلى الهاضمة،فلأنّ حالة القوّة المغيّرة إنّما تكون لما هو متقارب الاستعداد للصّورة العضويّة،و إنّما يمكن ذلك بعد فعل القوّة التي تجعله متقارب الاستعداد،و تلك

ص:294

هي القوّة الهاضمة.

و مراتب الهضم أربع:أوّلها في المعدة،و ثانيتها في الكبد،و ثالثتها في العروق و رابعتها في الأعضاء.كما فصّل ذلك في الكتب الطّبّيّة.

و أمّا إلى الدّافعة،فلأنّه ليس الغذاء يصير بتمامه جزءا من المغتذي،بل يفضل منه ما يضيق المكان،و يمنع ما يرد من الغذاء عن الوصول إلى الأعضاء،و يوجب ثقل البدن،بل يفسد و يفسد،فلا بدّ من قوّة تدفع تلك الفضلات،و هي الدّافعة،و قد يتضاعف هذه القوى لبعض الأعضاء،كما للمعدة،فإنّ فيها الجاذبة و الماسكة و الهاضمة و الدّافعة بالنسبة إلى غذاء جميع البدن،و فيها أيضا هذه القوى بالنسبة إلى ما تغتذي به خاصّة،فهذه هي القوى الخادمة للغاذية،و يلزم منه أن تكون هي خادمة للنامية و المولّدة،كما أنّ الغاذية خادمة لهما،فهذا هو الكلام في القوى النّباتيّة.

و أمّا الكلام في القوى الحيوانيّة

أي القوى التي يشارك بها الإنسان الحيوانات العجم دون النّبات،فهو أنّهم ذكروا أنّ القوّة الحيوانيّة بالقسمة الأولى تنقسم إلى قوّتين:محرّكة و مدركة،أمّا المحرّكة-و المراد بها ما تكون مبدأ للحركات الجزئيّة الاختياريّة التي تصدر عن شيء يقدر على الفعل و الترك،و يتساوى نسبتها إليه بحسب إرادة ترجّح أحدهما.و بعبارة أخرى ما تكون مبدأ للأفعال المختلفة المقترنة بإرادة التي تنسب إلى النّفس الحيوانيّة في الحيوان-فهي تنقسم [إلى]قسمين:محرّكة بأنّها باعثة على الحركة،و محرّكة بأنّها فاعلة للحركة.

و الباعثة هي القوّة النّزوعيّة الشّوقيّة،و هي التي إذا ارتسمت في التخيّل مثلا صورة مطلوبة أو مهروبة عنها،بعثت القوّة المحرّكة الفاعلة للحركة على الحركة،و لهذه الباعثة شعبتان:

شعبة تسمّى قوّة شهوانيّة،و هي قوّة تنبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المتخيّلة ضروريّة كانت أو نافعة،طلبا للّذة.

ص:295

و شعبة تسمّى قوّة غضبيّة،و هي قوّة تنبعث على تحريك يدفع به الشّيء المتخيّل، ضارّا كان أو مفسدا طلبا للغلبة.

و أمّا القوّة المحرّكة على أنّها فاعلة للحركة،فهي قوّة تنبعث في الأعصاب و العضلات،من شأنها أن تشنّج العضلات،فتجذب الأوتار و الرّباطات المتّصلة بالأعضاء إلى نحو جهة المبدأ،أو ترخيهما أو تمدّهما طولا،فيصير الأوتار و الرّباطات إلى خلاف جهة المبدأ.

و التفصيل أنّ لهذه الحركات الاختياريّة مبادي أربعة مترتّبة،أبعدها عن الحركات هي القوى المدركة،و هي الخيال أو الوهم في الحيوان،و العقل العمليّ بتوسّطهما في الإنسان.

و يليها قوّة الشّوق،فإنّها تنبعث عن القوى المدركة،و تنبعث إلى شوق نحو طلب إنّما ينبعث عن إدراك الملائمة في الشّيء اللّذيذ أو النافع إدراكا مطابقا أو غير مطابق،و تسمّى شهوة،و إلى شوق نحو دفع و غلبة إنّما ينبعث عن إدراك منافاة في الشّيء المكروه أو الضّارّ،و يسمّى غضبا؛و مغايرة هذه القوّة للقوّة المدركة ظاهرة،و كما أنّ الرّئيس في القوى المدركة هو الوهم،على ما سيأتي بيانه،كذلك الرّئيس في القوى المحرّكة هو هذه القوّة.

و يليها الإجماع،و هو العزم الذي ينجزم بعد التردّد في الفعل و التّرك،و هو المسمّى بالإرادة و الكراهة،و يدلّ على مغايرته للشّوق،كون الإنسان مريدا لتناول ما لا يشتهيه، و كارها لتناول ما يشتهيه،و عند وجود هذا الإجماع يترجّح أحد طرفي الفعل و التّرك اللذين يتساوى نسبتهما إلى القادر عليهما.

و يليه القوى المنبثّة في مبادي العضل المحرّكة للأعضاء،و يدلّ على مغايرتها لسائر المبادي كون الإنسان المشتاق العازم غير قادر على تحريك أعضائه،و كون القادر على ذلك غير مشتاق و لا عازم،و هي المبادي القريبة للحركات،و فعلها تشنيج العضل و إرسالها،و يتساوى الفعل و التّرك بالنسبة إليهما.فيظهر أنّ القوى المنبثّة في مبادي

ص:296

العضل فاعلة للحركة و هي محرّكة بالحقيقة،و كذا هي خادمة و مطيعة لتلك القوى الثلاث التي هي آمرة و باعثة على الحركة،و أنّ تلك القوى الثلاث بعضها مباد بعيدة لها و هي القوى المدركة،و بعضها أقرب منها و هي القوّة الشّوقيّة الغضبيّة أو الشّهوانيّة المتوسّطة بين القوى المدركة و بين الإجماع،و بعضها أقرب منها أيضا،و هي الإجماع المذكور،و هو الذي تطيعه القوّة الفاعلة للحركة بلا واسطة.

في الحكمة في القوى المحرّكة الحيوانيّة

ثمّ إنّهم ذكروا في بيان الحكمة في تلك القوى و سبب الاحتياج إليها:أنّه كما أنّ الحكمة في القوى النّباتيّة حفظ الشّخص و بقاء النوع،كذلك الحكمة في هذه القوى المحرّكة الحيوانيّة في الحيوان المحافظة على الأبدان بحسب كمالاتها الشّخصيّة أو النّوعيّة و في الإنسان،فهذه المحافظة مع ما يتوسّل بها الشّخص إلى اكتساب الخير الحقيقيّ و الكمال الأبديّ بحسب العمل و العلم.

انظر إلى أنّ العناية الأزليّة كيف جعلت في جبلّة الحيوانات داعية الجوع و العطش، لتدعو نفوسها إلى الأكل و الشّرب،ليخلف بدلا عما يتحلّل ساعة فساعة من البدن الدائم التحلّل و الذوبان،لأجل استيلاء الحرارة الغريزيّة الحاصل من نار الطبيعة.و جعلت لنفوسها أيضا الآلام و الأوجاع عند الآفات العارضة لأبدانها،لتحرص النفوس على حفظ الأبدان من الآفات إلى أجل معلوم.ذلك تقدير العزيز العليم.

في القوى المدركة الحيوانيّة

اشارة

و هذا الذي ذكرناه هو الكلام في القوى المحرّكة الحيوانيّة،و أمّا القوى المدركة الحيوانيّة،فتنقسم-على المشهور-إلى الحواسّ الخمس الظاهرة المشهورة،و الحواسّ الخمس الباطنة المستورة.أمّا الخمس الظاهرة التي هي لظهورها غنية عن الإثبات،فمنها اللّمس.

ص:297

في اللاّمسة

و هي قوّة مرتّبة في أعصاب البدن في أعصاب البدن كلّه و لحمه،تدرك بالمماسّة، و تؤثّر فيه بالمضادّة المحيلة للمزاج و لهيئة التّركيب.و حيث كان الإحساس بهذه القوّة بالمماسّة و الملاقاة،فلا تحتاج إلى متوسّط كما في الحواسّ الأخر على ما سيأتي بيانه.

و أوّل الحواسّ الذي يصير به الحيوان حيوانا هو هذه القوّة،فإنّه كما أنّ كلّ ذي نفس حيوانيّة أو أرضيّة،فإنّ له قوّة غاذية،و يجوز أن يفقد قوّة أخرى،و لا ينعكس،كذلك حال كلّ ذي نفس حيوانيّة،فله حسّ اللّمس،و يجوز أن يفقد قوّة أخرى و لا ينعكس.

و حال الغاذية عند سائر قوى النّفس الأرضيّة حال اللّمس عند سائر قوى الحيوان، و ذلك لأنّ الحيوان تركيبه الأوّل هو من الكيفيّات الملموسة،فإنّ مزاجه منها و فساده باختلالها،و الحسّ طليعة للنّفس،فيجب أن يكون الطّليعة الاولى هو ما يدلّ على ما يقع به الفساد،و يحفظ به الصّلاح،و أن يكون قبل الطّلائع التي تدلّ على أمور تتعلّق ببعضها منفعة خارجة عن القوام،و مضرّة خارجة عن الفساد.و الذّوق و إن كان دالاّ على الشيء الذي به يستبقى الحياة من المطعومات،فقد يجوز أن يعدم الذّوق و يبقى الحيوان حيوانا،فإنّ الإحساس الآخر ربّما أعان على ارتياد الغذاء الموافق و اجتناب المضارّ.

و أمّا الحواسّ الأخرى،فلا تعين على معرفة أيّ هواء محيط بالبدن مثلا محرق أو مجمد.

و بالجملة،فإنّ الجوع شهوة اليابس الحارّ،و العطش شهوة البارد الرّطب،و الغذاء بالحقيقة ما يتكيّف بهذه الكيفيّات التي يدركها اللمس.و أمّا الطّعوم فتطييبات،فلذلك كثيرا ما يبطل حسّ الذّوق لآفة تعرض،و الحال أنّ الحيوان باق.فظهر أنّ اللّمس هو أوّل الحواسّ،و لا بدّ منه لكلّ حيوان أرضيّ.و لشدّة الاحتياج إلى هذه القوّة،كانت منبثّة في جميع البدن،و سارية بمعونة الأعصاب في جميع الأعضاء،إلاّ ما كان عدم الحس أنفع له، كالكبد و الطّحال و الكلية،لئلاّ تتأذّى ممّا يلاقيها من الحادّ اللذّاع،فإنّ الكبد مولّد للصّفراء و السّوداء،و الطّحال و الكلية مصبّتان لما فيه لذع،و كالرّية،فإنّها دائمة الحركة، فتتألّم باصطكاك بعضها ببعض،و كالعظام فإنّها أساس البدن و دعامة الحركات.فلو

ص:298

أحسّت لتألّمت بالضغط و المزاحمة و بما يرد عليها من المصاكّات،و كالشّعر فإنّه ضعيف بارز من البدن،و لو كان له حسّ لتأذّي دائما.

و بالجملة،فهذه القوّة من بين القوى الحسّاسة الظاهرة أقدمها،و لذلك قد توجد هذه القوّة معرّاة عن سائر الحواسّ الظاهرة،كما يوجد ذلك في الإسفنج البحريّ و غير ذلك ممّا هو متوسّط الوجود بين النّبات و الحيوان،و لا توجد سائر القوى معرّاة عنها،و إنّما كان كذلك،لأنّ هذه القوّة أكثر ضروريّة في وجود الحيوان من سائر قوى الحسّ.

ثمّ من بعد هذه القوّة،قوّة الذّوق،فإنّها أيضا لمس ما،و أيضا فإنّها القوّة التي بها يختار الحيوان الملائم من الغذاء من غير الملائم.

ثمّ قوّة الشّمّ،إذ كانت هذه القوّة أكثر ما يستعملها الحيوان في الاستدلال على الغذاء، كالحال في النّمل و النّحل،فهذه القوى الثّلاث هي القوى الضروريّة في وجود الحيوان.

و أمّا قوّتا السّمع و البصر،فموجودتان في الحيوان من أجل الأفضل،لا من أجل الضرورة،و لذلك كان الحيوان المعروف بالخلد لا بصر له،إلاّ أنّهما ألطف الحواسّ،كاد أن تكون مدركاتهما خارجة عن عالم المادّة،و البصر أشرفهما،و الكلام في ذلك طويل.

ثمّ اعلم أنّه ربّما يقال إنّ الحركة أخت اللّمس في الحيوان.و كما أنّ من الحسّ نوعا متقدّما هو اللّمس،كذلك قد يشبه أن يكون من قوى الحركة نوع متقدّم،و المشهور أنّ من الحيوان ما له حسّ اللّمس و ليس له قوّة الحركة،مثل ضروب من الأصداف.

و قال الشّيخ في الشّفاء في تحقيق ذلك (1):«إنّ الإرادة (2)على ضربين:حركة انتقال من مكان إلى مكان،و حركة (3)انبساط و انقباض للأعضاء من الحيوان من (4)دون انتقال الجملة من موضعها،فيبعد من أن يكون (5)له حسّ اللّمس،و لا (6)يكون له قوّة الحركة،فإنّه كيف يعلم أنّه له حسّ اللّمس،إلاّ بأن يشاهد فيه نوع هرب من ملموس و طلب

ص:299


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 59/2،الفصل الثالث في المقالة الاولى.
2- في المصدر:إنّ الحركة الإراديّة على...
3- و حركة انقباض و انبساط...
4- و إن لم يكن به انتقال الجملة عن موضعها...
5- يكون حيوان له...
6- و لا قوّة حركة فيه البتة،فإنّه.

ملموس (1).

و أمّا ما يتمثّلون (2)به من الأصداف و الإسفنجات و غيرها،فإنّا نجد للأصداف في غلفها حركات انقباض و انبساط و التواء و امتداد في أجوافها،و إن كانت لا تفارق أمكنتها،و لذلك يعرف (3)أنّها تحسّ بالملموس،فيشبه أن يكون (4)ما له لمس،فله في ذاته حركة ما إراديّة،إمّا لكلّيّته و إمّا لأجزائه».-انتهى-.

و أمّا الأمور الّتي تلمس،فالمشهور من أمرها أنّها الحرارة و البرودة و الرّطوبة و اليبوسة و الخشونة و الملامسة و الثّقل و الخفّة،و أمّا الصّلابة و اللّين و الزّوجة و الهشاشة و غير ذلك،فإنّها تحسّ تبعا لهذه المذكورات.

و للشّيخ في ذلك كلام مبسوط في«الشّفاء»،و كذا لابن رشد المغربي في«جامع الفلسفة»بعض كلمات مع الشّيخ،فليرجع إليهما.

ثمّ إنّهم اختلفوا،فذهب الجمهور إلى أنّ القوّة اللامسة قوّة واحدة،بها يدرك جميع الملموسات كسائر الحواسّ،لأنّ اختلاف المدركات لا يوجب اختلاف الإدراكات، ليستدلّ بذلك على تعدّد مباديها.

و ذهب كثير من المحقّقين إلى أنّها قوى متعدّدة حسب تعدّد أنواع الملموسات،و أنّه حيث كانت لهذه القوّة آلة واحدة مشتركة فيها،فلهذا يظنّ اتّحادها؛و إلى هذا المذهب يميل كلام الشّيخ في«الشّفاء»حيث قال (5):«و يشبه أن تكون هذه القوّة عند قوم،لا نوعا أخيرا بل جنسا للقوى (6)الأربع أو فوقها منبثّة معا في الجلد كلّها،واحدة (7)حاكمة في التّضادّ الذي بين الحارّ و البارد،و الثانية حاكمة في التّضادّ الذي بين الرّطب و اليابس، و الثالثة حاكمة في التّضادّ الذي بين الصّلب و اللّين،و الرابعة حاكمة في التضادّ الذي بين الخشن و الأملس،إلاّ أنّ اجتماعها في آلة واحدة يوهم (8)المحسوسات».-انتهى-.

ص:300


1- في المصدر:لملموس...
2- يتمثّلون هم به...
3- نعرف...
4- يكون كلّ ما له...
5- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 34/2،الفصل الخامس من المقالة الأولى.
6- جنسا لقوى أربع...
7- كلّها،و إحداها...
8- يوهم تأحّدها في الذات».

و تحقيق القول في هذا المرام يقتضي بسطا في الكلام لا يناسب المقام.

في الذّائقة

و منها الذّوق،و هي كما ذكره الشّيخ في«الشّفاء»«قوّة مرتّبة في العصب المفروض (1)على جرم اللسان،تدرك الطّعوم المتحلّلة من الأجرام المماسّة له،المخالطة للرّطوبة العذبة التي فيها مخالطة محيلة».

و ذكر علماء التشريح:أنّ الحامل لهذه القوّة هو الشعبة الرابعة من الزّوج الثالث،الذي منبته الحدّ المشترك بين مقدّم الدّماغ و مؤخّره من لدن قاعدة الدّماغ،و تنفذ هذه الشعبة في ثقبة في الفكّ الأعلى إلى اللّسان.

ثمّ إنّ هذه القوّة-كما أشرنا إليه-تالية للّمس في الاحتياج إليها،و منفعتها أيضا في الفعل الذي به يتقوّم البدن،و هي معرفة الصّالح من الغذاء و الفاسد منه.و تجانس هذه القوّة اللّمس في شيء،و هو أنّ المذوق في أكثر الأمر يدرك بالملاسة،و تفارقها في أنّ نفس الملامسة تؤدّي الطعم.كما أنّ نفس ملامسة الحارّ تؤدّي الحرارة،بل كان يحتاج إلى متوسّط يقبل الطّعم و يكون في نفسه لا طعم له،و هو الرّطوبة اللّعابيّة المنبعثة من الآلة المسمّاة بالملعبة،فإن كانت هذه الرّطوبة عديمة الطّعم،أدّت الطّعوم بصحّة،و إن خالطها طعم،كما يكون للممرورين من المرارة،لمن كان في معدته خلط حامض مثلا،يشوب ما يؤدّيه بالطّعم الذي فيه.

و أمّا أنّ هذه الرّطوبة اللّعابيّة هل هي تتوسّط،بأن يخالطها أجزاء ذي الطّعم مخالطة تنتشر فيها ثمّ تتغذّى فتغوص في اللّسان،حتّى تخالط اللّسان فيحسّه،أو يكون نفس هذه الرّطوبة تستحيل إلى قبول الطعم من غير مخالطة،فهو موضع نظر،و تحقيقه في«الشّفاء» فليرجع إليه.

ص:301


1- في المصدر:المفروش.

في الشّامّة

و منها الشّمّ،و هي كما ذكره في«الشّفاء» (1)،«قوّة مرتّبة في زائدتي مقدّم الدّماغ الشبيهتين بحلمتي الثّدي،تدرك ما يؤدّي إليه (2)من الهواء المستنشق من الرّائحة الموجودة في البخار المخالط له،أو الرّائحة المنطبعة فيه باستحالة (3)من جرم ذي الرّائحة»،و واسطة الشّمّ أيضا جسم لا رائحة له،كالهواء في الحيوان البرّيّ،و الماء في الحيوان البحريّ، و هذا المتوسّط يحمل رائحة المشمومات.

و ذكر علماء التّشريح أنّ حامل هذه القوّة هو تانك الزّائدتان النّابتتان من مقدّم الدّماغ،و هما قد فارقتا لين الدّماغ قليلا،و لم يلحقهما صلابة العصب.

و بالجملة فهذه القوّة من شأنها أن تدرك الرّوائح المشمومة،و ليست فصول الرّوائح عندنا بيّنة كفصول الطّعوم،و إنّما نسمّيها بفصول الطّعوم،مثل أن نقول رائحة حلوة و رائحة طيّبة.

و يشبه أن يكون هذه الحاسة فينا أضعف منها في كثير من الحيوان،كالنّسر و النّحل و ما أشبههما من الحيوان القويّ الشمّ.

ثمّ إنّهم قد اختلفوا في الرّائحة.

فمنهم من زعم أنّها تتأدّى بمخالطة شيء من جرم ذي الرّائحة،يتحلّل فيتنجّز فيخالط المتوسّط.

و منهم من زعم أنّها تتأدّى باستحالة من المتوسّط،من غير أن يخالط شيء من جرم ذي الرّائحة متحلّل عنه.

و منهم من قال أنّها تتأدّى من غير مخالطة شيء آخر من جرمه،و من غير استحالة من المتوسّط.و معنى هذا أنّ الجسم ذا الرّائحة يفعل في الجسم عديم الرّائحة، و بينهما جسم لا رائحة له من غير أن يفعل في المتوسّط،و تحقيق القول في ذلك مذكور

ص:302


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 34/2،الفصل الخامس من المقالة الاولى.
2- في المصدر:يؤدّي إليها الهواء...
3- بالاستحالة.

في«الشّفاء».

في السّامعة

و منها السّمع،و هي كما ذكره في«الشّفاء» (1):«قوّة مرتّبة في العصب المنفرش (2)في سطح الصّماخ تدرك صورة تتأتّى (3)إليه من تموّج الهواء المنضغط بين قارع و مقروع مقاوم له،لانضغاط (4)بعنف يحدث منه صوت،فيتأدّى تموّجه إلى الهواء المحصور الرّاكد في تجويف الصّماخ،و يحرّكه بشكل حركته،و تماسّ أمواج تلك الحركة العصبة» (5).

و ذكر علماء التّشريح:إنّ الحامل لهذه القوّة هو القسم الأوّل من قسمي الزّوج الخامس الذي منشؤه خلف الزّوج الثّالث،و منبت هذا القسم بالحقيقة هو الجزء المقدّم من الدّماغ.

و بالجملة فالمحسوس الأوّل لهذه القوّة هو الصّوت،و تحتاج أيضا إلى متوسّط حامل للصّوت،و أمّا بيان كيفيّة إحساسها و بيان ماهيّة الصّوت-بل الصّدى-فيقتضي بسطا في الكلام ليس هنا محلّه.

في الباصرة

و منها البصر،و هي على ما ذكره في«الشّفاء» 1:«قوّة مرتّب في العصب (6)المجوّفة تدرك صورة ما ينطبع في الرّطوبة الجليديّة من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدّية في الأجسام الشّفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقيلة».

و على ما ذكره بعضهم:هي قوّة مودعة في ملتقى العصبتين المجوّفتين اللّتين تنبتان من غور البطنين المقدّمين من الدّماغ عند جوار الزّائدتين الشّبيهتين بحلمتي الثّدي، يتيامن النابت منهما يسارا،و يتياسر النّابت منهما يمينا.حتّى يلتقيا و يصير تجويفهما واحدا،ثمّ يمتدّ النّابت يمينا إلى الحدقة اليمنى و النّابت يسارا إلى الحدقة اليسرى،فذلك

ص:303


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 34/2،الفصل الخامس من المقالة الاولى.
2- في المصدر:المتفرّق في...
3- ما يتأدّى إليها...
4- انضغاطا بعنف...
5- العصبة فيسمع...
6- في العصبة.

التّجويف الذي هو في الملتقى أودع فيه القوّة الباصرة،و يسمّى بمجمع النّور.و إنّما جعلت هاتان العصبتان مجوّفتين للاحتياج إلى كثرة الرّوح الحامل للقوّة الباصرة،بخلاف سائر الحواسّ الظّاهرة.

و ذكر علماء التّشريح أنّ الحامل لهذه القوّة هو الزّوج الأوّل من الأزواج السّبعة التي هي الأعصاب النّابتة من الدّماغ،و هما مجوّفتان تتلاقيان فتفترقان إلى العينين.

و بالجملة،فيتعلّق البصر بالذّات بالضّوء و اللّون،و بتوسّطهما بسائر المبصرات كالشّكل و المقدار و الحركة و غيرها،و هذا أيضا يحتاج إلى متوسّط،أي جسم شفّاف بين الرائي و المرئيّ،كما أنّه يشترط فيه شروط،و هي عشرة على المشهور،أحدها:

توسّط الشّفاف،و الباقية:المقابلة بين الرائي و المرئيّ،و عدم البعد و القرب المفرطين، و عدم الصّغر المفرط،و عدم الحجاب،و كون المرئيّ كثيفا أي مانعا من نفوذ الشّعاع منه، و كونه مضيئا أو مستضيئا،و سلامة الحاسّة،و القصد إلى الإحساس.

و أمّا أنّ ماهيّة الضّوء و اللّون و الشّفّاف ما ذا؟و أنّ كيفيّة الإبصار ما هي؟

هل هي بخروج الشّعاع من العين؟كما هو مذهب الرّياضيّين على اختلاف بينهم في ذلك الشّعاع الخارج،حيث ذهب بعضهم إلى أنّه مخروط مصمت،مركزه عند البصر، قاعدته عند سطح المبصر.و بعضهم إلى أنّه مخروط مركّب من الخطوط الشّعاعيّة المستقيمة أطرافها التي تلي البصر مجتمعة عند مركزها،ثمّ تمتدّ متفرّقة إلى المبصر.

و بعضهم إلى أنّه خطّ واحد مستقيم،فإذا انتهى إلى المبصر تحرّك على مسطّحه في جهتي طوله و عرضه حركة في غاية السّرعة،و يتخيّل بحركته هيئة مخروط.

أو أنّ المشفّ الذي بين البصر و المرئيّ يتكيّف بكيفيّة الشّعاع الذي في البصر، و يصير بذلك آلة للإبصار،كما هو المذهب المنسوب إلى أفلاطون.

أو بأن ينطبع شبح المرئيّ في جزء من الرّطوبة الجليديّة التي هي كالبرد و الجمد في الصّقالة،كما ينطبع في المرآة،لا بأن ينفصل منه شيء و يتحرّك إلى العين،بل بأن يفيض عليها صورة مثل صورته،بسبب استعداد يحدث لها بعد اجتماع شرائط الإبصار،كما هو

ص:304

المناسب المختار عند أرسطو و أتباعه كالشيخ و غيره من الحكماء الطّبيعيّين.

أو أنّ الإبصار ليس بخروج الشّعاع،و لا بتكيّف المشفّ،و لا بالانطباع،بل إذا اجتمع شرائط الإبصار يحصل للنّفس علم جزئيّ خاصّ بالمبصر على سبيل الحضور و المشاهدة من طريق البصر،علما خاصّا لنور البصر و شعاعها الخارج منها.و كذا التكيّف الهواء به مدخل فيه،فلذا عبّر عنه قوم بخروج الشّعاع و بتكيّف الهواء،و كذا الحاصل هناك إنّما هو شبح المرئيّ،أي المرئيّ بوجوده الظّلي لا العينيّ،فلذا عبّر عنه قوم بالانطباع،كما هو المنسوب إلى جماعة من حكماء الاسلام.و منهم المعلم الثّاني في الجمع بين الرأيين،حيث جمع بين رأيي أفلاطون و أرسطو بهذا الوجه،و قال (1):

«ليس مقصود أفلاطون و أرسطو و أشباههما إلاّ هذا المعنى.و كذلك كثير من المباحث المتعلّقة بالإبصار».

فالكلام فيه طويل يستدعي تأليف رسالة منفردة في ذلك،فلذا أعرضنا عن تحقيق القول في ذلك،مع أنّه ليس غرضنا في هذا المقام تحقيق أمثال هذه المسائل،بل ذكر قوى النّفس على سبيل الإجمال.

في الحواسّ الباطنة

و أمّا الحواسّ الباطنة،فهي أيضا خمس على المشهور:الحسّ المشترك،و الخيال، و الوهم،و الحافظة،و المتخيّلة،و هي التي لمعرفتها كثير ارتباط بمعرفة أحوال النّفس النّاطقة التي نحن بصدد بيان أحوالها،و هي التي تسمّى قوى مدركة باطنة.أمّا كونها باطنة،فلبطونها و عدم ظهورها ظهور الحواسّ الظّاهرة،و لذا كانت محتاجة إلى الإثبات كما سيأتي بيانه.بخلاف الحواسّ الظّاهرة حيث كانت غنيّة عن الإثبات.و أمّا كونها مدركة مع كون المدرك بالحقيقة اثنتين منها و هما الحسّ المشترك و الوهم،و كون الثّلاثة الباقية معينة على الإدراك لأنّ الإدراكات الباطنة لا تتمّ إلاّ بالجمع،مع أنّ الإعانة بالحفظ

ص:305


1- -الجمع بين الرأيين31/-40،للفارابيّ.

أو التّصرّف يستلزم الإدراك.

و بيان ذلك:إنّهم ذكروا:أنّ المدركة من هذه،إمّا مدركة لما يمكن أن يدرك بالحواسّ الظّاهرة،و هو ما يسمّى صورا،و إمّا لما لا يمكن أن يدرك بها،و هو ما يسمّى معاني،و أنّ المعينة التي تعين على الإدراك ما تحفظ المدركات من غير تصرّف،ليتمكّن المدركة من المعاودة إلى إدراكها أو بالتّصرّف فيها،و كذلك المعينة بالحفظ معينة،إمّا لمدركة الصّور أو لمدركة المعاني.فهذه خمس قوى:

الاولى،مدركة الصّور،و تسمّى حسّا مشتركا،لأنّها خيالات المحسوسات الظّاهرة بالتّأدية إليها.

و الثّانية،معينتها بالحفظ،و تسمّى خيالا و مصوّرة.

و الثّالثة،المتصرّفة في المدركات،و تسمّى متخيّلة و مفكّرة باعتبارين كما سيأتي بيانه.

و الرابعة،مدركة المعاني و تسمّى وهما و متوهّمة.

و الخامسة،معينتها بالحفظ،و تسمّى حافظة و ذاكرة.

في الاشارة إلى أنّ إثبات تلك القوى الخمس بالدّليل

و أنّ الحكماء و الأطبّاء اختلفوا في ذلك ظاهرا

ثمّ إنّه حيث كانت هذه القوى لبطونها و عدم ظهورها محتاجة إلى الإثبات،استدلّ كلّ فريق من الحكماء و الأطبّاء على وجودها،و مغايرة بعضها لبعض،و كذا للحواسّ الظّاهرة بطريق.

فالأطبّاء قد قيل:إنّهم استدلّوا على ذلك بعروض الآفات و الأمراض في محالّها،فلم يثبتوا إلاّ ثلاث قوى في الباطن،في ثلاثة مواضع:

الاولى في التّجويف الأوّل من التّجاويف الثلاثة التي للدّماغ المترتّبة ولاء بين الجبهة و القفاء،و بعبارة أخرى في البطن الأوّل من البطون الثّلاثة للدّماغ،و يسمّونها

ص:306

الحسّ المشترك و الخيال.

و الثانية في التجويف الثّاني و البطن الثّاني،و يسمّونها المفكّرة و الوهم.

و الثّالثة في الثّالث و يسمّونها الحافظة و المتذكّرة،لأنّ الآفات التي وجدوها،إنّما هي ثلاثة أصناف في هذه المواضع.

و أمّا الحكماء فقد قيل:إنّهم قالوا:إنّ للدّماغ تجاويف و بطونا ثلاثة مترتّبة ولاء بين الجبهة و القفاء،أعظمها البطن الأوّل،ثمّ الثّالث.و أمّا الثّاني فكمنفذ فيما بينهما مزرّد على شكل الدودة.و ينقسم كلّ من التّجاويف و البطون الثّلاثة إلى قسمين،كلّ قسم موضع موضع(كذا)لواحدة من الحواسّ الباطنة،إلاّ القسم الأخير من التّجويف الأخير و البطن الأخير،فإنّه لبعده من الحواسّ الظّاهرة التي هي جواسيس الآفات،و قربه من حلول العاهات،لم يودّع فيه شيء من القوى.فمقدّم التّجويف الأوّل و البطن الأول من التّجاويف و البطون الثّلاثة موضع الحسّ المشترك،و مؤخّره موضع الخيال.و مقدّم البطن الثّاني و التجويف الثّاني موضع المتخيّلة،و مؤخّره موضع الوهم.و مقدّم البطن الثّالث و التّجويف الثّالث موضع الحافظة،و مؤخّره لم يودع فيه شيء.

و قالوا أيضا في وجه التّرتيب بينها أنّ القوى الحيوانيّة الباطنة المدركة للجزئيّات،إمّا أن تكون مدركة فقط أو مدركة و متصرّفة،و الاولى إمّا أن تكون مدركة للصّور الجزئيّة، كصورة زيد و عمرو و هو الحسّ المشترك و بنطاسيا،و إمّا أن تكون مدركة للمعاني الجزئيّة كصداقة زيد و عداوة عمرو و هو الوهم.و لكلّ واحدة من هاتين القوّتين خزانة، فخزانة الحسّ المشترك الخيال،و خزانة الوهم الحافظة.و الحسّ المشترك ينبغي أن يكون مقدّم الدّماغ،ليكون قريبا من الحواسّ الظّاهرة،فيكون التّأدّي إليه سهلا،و خزانة كلّ شيء خلفه،فينبغي أن يكون الخيال موضوعا خلفه،فلذلك ينبغي أن يكون الحسّ المشترك في مقدّم البطن المقدّم من الدماغ،و الخيال في القسم المؤخّر منه،و الوهم ينبغي أن يكون بقرب الخيال،لتكون الصّورة الجزئيّة التي يحكم على معانيها الجزئيّة بحذائه و بقربه،فينبغي أن يكون في البطن الأوسط من الدّماغ و خزانته وراءه،فيكون الحافظة في

ص:307

البطن المؤخّر من الدّماغ.

و القسم الثاني،أعنى المدركة المتصرّفة،هي القوّة التي تسمّى مفكّرة بالقياس إلى النّفس الإنسانية النّاطقة،و متخيّلة بالقياس إلى النّفس الحيوانيّة.و ينبغي أن تكون في الوسط مع الوهم،لتكون قريبة من الصّور و المعاني حتّى تركّب بينهما بسهولة،لأنّه من شأنها تركيب بعض الصّور مع بعض،أو بعض المعاني مع بعض،أو بعض الصّور مع بعض المعاني.فتارة يكون ذلك على وفق الخارج،و تارة يكون مخالفا،كإنسان يطير،و جبل من زمرّد.

و أقول:و منه يعلم أن لا خلاف بين الحكماء و الأطبّاء في مواضع تلك القوى،إلاّ في أنّ الحكماء قسّموا كلاّ من البطون الثلاثة إلى قسمين،و جعلوا كلّ قسم موضع قوّة،إلاّ القسم الأخير من البطن الأخير،و الأطبّاء لم يفعلوا ذلك،و جعلوا كلّ بطن من البطنين الأوّلين موضع قوّتين،و البطن الثّالث موضع قوّة واحدة.و هذا الخلاف أيضا يمكن أن يرتفع لو كان الأطبّاء قائلين بتغاير ما في البطنين الأوّلين من القوى،أي قالوا بالمغايرة بين الحسّ المشترك و الخيال،و كذا بين المفكّرة و الوهم كما هو الاحتمال،حيث إنّ القوى المتغايرة يستدعي كلّ واحدة منها موضعا غير ما للاخرى،فيعلم منه أنّهم أيضا جعلوا كلا من البطنين الأوّلين قسمين،و جعلوا كلّ قسم موضعا لقوّة،و إن لم يعلم منه أيّ قسم موضع لأيّة قوّة،و أنّ موضع الحسّ المشترك مثلا هو مقدّم البطن المقدّم أو المؤخّر منه،و كذا موضع الوهم مثلا أ هو مقدّم البطن الثّاني أو مؤخّره؟و هذا أيضا نوع اختلاف بين الفريقين،و كذلك على هذا التقدير،أي القول بتغاير تلك القوى،يرتفع الخلاف بين الفريقين في عدد القوى،فإنّه عند الجميع خمسة لا ثلاثة.

نعم لو كانت الأطبّاء قائلين بوحدة ما في كلّ بطن،بطن،كما يدلّ عليه كلام سديد الدين الكازروني في شرح الموجز،حيث قال:«و أمّا عند الأطبّاء فإنّ المدركة في الباطن ثلاث قوى،فإنّ الحسّ المشترك و الخيال عندهم واحدة،و كذلك المتخيّلة و الوهم، فيثبتون لكلّ بطن من بطون الدماغ قوّة واحدة،و لا يحتاجون إلى غيرها،لأنّهم يستدلّون

ص:308

من آفة كلّ واحدة منها و من أفعالها على آفة محلّها.فعلى هذا يكون الاختلاف بين الفريقين كثيرا في ذلك.

و بالجملة من المعلوم أنّ الفريقين مختلفان في طريق إثبات تلك القوى،و أنّ الأطبّاء استدلّوا عليها بعروض الآفات على مواضعها و محالّها كما ذكر.

و أمّا الحكماء،فالعمدة في دليلهم على وجودها و تعدّدها و مغايرة بعضها لبعض، و كذا للحواس الظّاهرة إنّما هو مشاهدة الآثار و الأفعال المختلفة التي تدلّ على وجودها و تعدّد مباديها و اختلافها.و قد يستدلّون أيضا نادرا على ذلك بما استدلّ به الأطبّاء.

فلنذكر نبذا ممّا قالوه في ذلك،و نتبعه بالتوضيح إن احتاج إليه.

فنقول:قال الشّيخ في«الشّفاء»في فصل تعديد قوى النّفس الإنسانيّة هكذا (1):

«و من (2)القوى المدركة الباطنة الحيوانيّة قوّة بنطاسيا (3)،و الحسّ المشترك،و هي قوّة مرتّبة في التجويف الأوّل من الدّماغ،تقبل بذاتها جميع الصّور المنطبعة في الحواس الخمس المتأدّية إليه،ثمّ الخيال و المصوّرة،و هي قوّة مرتّبة أيضا في آخر التّجويف المقدّم من الدّماغ،تحفظ ما قبله الحسّ المشترك من الحواسّ الجزئيّة الخمس،و يبقى فيه بعد غيبته (4)تلك المحسوسات.

و اعلم أنّ القبول لقوّة غير القوّة التي بها الحفظ،فاعتبر ذلك من الماء،فإنّ له قبول النّقش و الرّقم،و بالجملة الشكل،و ليس له قوّة حفظه،على أنّا نزيدك لهذا تحقيقا من بعد.و إذا أردت أن تعرف الفرق بين فعل الحسّ (5)العامّ و فعل الحسّ المشترك و فعل المصوّرة،فتأمّل حال القطرة التي تنزل من المطر فترى خطّا مستقيما،و حال الشيء المستقيم الذي يدور فيرى طرفه دائرة،و لا يمكن أن يدرك الشيء خطّا أو دائرة إلاّ و يرى فيه مرارا.و الحسّ الظّاهر لا يمكن أن يراه مرّتين،بل يراه حيث هو.لكنّه إذا

ص:309


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 35/2-37،الفصل الخامس من المقالة الاولى.
2- في المصدر:فمن القوى...
3- بنطاسيا و هي الحسّ...
4- بعد غيبة تلك...
5- الحسّ الظاهر و فعل.

ارتسم في الحسّ المشترك و زال قبل أن ينمحي (1)الصّورة من الحسّ المشترك،أدركه الحسّ الظاهر حيث هو،و أدركه الحسّ المشترك كأنّه كائن حيث كان فيه،و كائن حيث صار إليه فرأى امتدادا مستديرا أو مستقيما.و ذلك لا يمكن أن ينسب إلى الحسّ الظّاهر البتّة،و أمّا (2)المصوّرة فتدرك الأمرين و تتصوّرهما،و إن بطل الشيء و غاب.

ثمّ القوّة التي تسمّى متخيّلة بالقياس إلى النّفس الحيوانيّة،و متفكّرة (3)بالقياس إلى النّفس الإنسانيّة،و هي قوّة مرتّبة في التّجويف الأوسط من الدّماغ عند الدّودة،من شأنها أن تركّب بعض ما في الخيال مع بعض،و تفصل بعضه عن بعض بحسب الإرادة.

ثمّ القوّة الوهميّة،و هي قوّة مرتّبة في نهاية التّجويف الأوسط من الدّماغ،تدرك المعاني الغير (4)المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئيّة،كالقوّة الموجودة في الشاة،الحاكمة بأنّ هذا الذئب مهروب عنه،و أنّ هذا الولد هو المعطوف عليه،و يشبه أن تكون هي أيضا المتصرّفة في المتخيّلات تركيبا و تفصيلا.

ثمّ القوّة الحافظة الذاكرة،و هي قوّة مرتّبة في التّجويف المؤخّر من الدّماغ،تحفظ ما يدركه (5)القوّة الوهميّة من المعاني الغير (6)المحسوسة في المحسوسات الجزئيّة،و نسبة القوّة الحافظة إلى القوّة الوهميّة كنسبة القوّة التي تسمّى خيالا إلى الحسّ (7)المشترك، و نسبة تلك القوّة إلى المعاني كنسبة هذه القوّة إلى (8)القوّة المصوّرة،فهذه هي قوى النّفس الحيوانيّة».-انتهى كلامه-.

و قال أيضا في الفصل الذي فيه قول كلّي على الحواسّ الباطنة التي للحيوان هكذا (9):

«و أمّا الحسّ المشترك،فهو بالحقيقة غير ما ذهب إليه من ظنّ أنّ للمحسوسات المشتركة حسّا مشتركا،بل الحسّ المشترك هو القوّة التي (10)يتأدّى إليها المحسوسات كلّها،فإنّه لو لم تكن قوّة واحدة تدرك الملوّن و الملموس،لما كان لنا أن نميّز بينهما قائلين إنّه ليس

ص:310


1- في المصدر:أن تمحى...
2- و أمّا القوّة المصوّرة...
3- و مفكّرة بالقياس...
4- غير المحسوسة...
5- ما تدركه...
6- غير المحسوسة...
7- الحسّ،و نسبة...
8- إلى الصور المحسوسة،فهذه هي...
9- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 145/2-150،الفصل الأوّل من المقالة الرابعة.
10- التي تتأدّى.

هذا ذاك.

و هب أنّ هذا التّميّز (1)هو للعقل،فيجب (2)أن يكون لا محالة أن يكون العقل يجدهما معا،حتّى يميّز بينهما،و ذلك لأنّها من حيث هى محسوسة،و على النّحو المتأدّي من المحسوس لا يدركها العقل،لمّا (3)سنوضّح بعد.و قد نميّز نحن (4)بينهما،فيجب أن يكون لها اجتماع عند مميّز،إمّا في ذاته أو (5)في غيره،و محال ذلك في العقل على ما ستعلم، فيجب أن يكون في قوّة أخرى،و لو لم يكن قد اجتمع عند الخيال من البهائم التي لا عقل لها،المائلة بشهوتها إلى الحلاوة.مثلا أنّ شيئا صورته كذا هو حلو،لما كانت إذا رأته همّت بأكله.كما أنّه لو لا (6)عندنا أنّ هذا الأبيض هو هذا (7)المعنى لما كنّا إذا سمعنا معناه (8)الشخصيّ،أثبتنا عينيته (9)الشخصيّة،و بالعكس،و لو لم يكن في الحيوان ما يجتمع (10)فيه صور المحسوسات،لتعذّر (11)عليه الحياة،و لو لم (12)يكن الشّمّ دالاّ لها على الطّعم،و لم يكن الصّوت دالاّ إيّاها على الطّعم،و لم (13)يكن الصّورة الخشبيّة تذكّرها صورة الألم حتّى تهرب (14)منه،فيجب لا محالة أن يكون لهذه (15)مجمع واحد من باطن.

و قد يدلّنا على وجود هذه القوّة اعتبارات أمور تدلّ على أنّ لها آلة غير الحواسّ الظّاهرة.

منها (16):ما نراه من تخيّل المدوّريّة أنّ كلّ شيء يدور،فذلك إمّا عارض عرض في المرئيّات،أو عارض عرض في الآلة (17)بها يتمّ الرؤية،و إذا لم يكن في المرئيّات كان-لا محالة-في شيء آخر،و ليس الدّور (18)إلاّ بسبب حركة البخار في الدّماغ و في الرّوح التي فيه،فيعرض لذلك (19)الرّوح أن يدور،فيكون إذن القوّة المرئيّة هناك هي التي يعرض لها أمر قد فرغنا منه.و كذلك يعرض للإنسان دوار من تأمّل ما يدور كثيرا على ما أنبأنا به، و ليس يكون ذلك بسبب أمر في جزء من العين و لا في روح مصبوب فيه.

ص:311


1- في المصدر:هذا التمييز...
2- فيجب لا محالة أن يكون العقل...
3- كما سنوضّح...
4- نحن بينها...
5- و إمّا في غيره...
6- لو لا أن عندنا نحن أن...
7- هذا المغني...
8- غناءه الشخصيّ...
9- أثبتنا عينه...
10- ما تجتمع...
11- لتعذّرت...
12- و لم يكن الشمّ...
13- و لم تكن...
14- تهرب منها...
15- لهذه الصور مجمع...
16- منها ممّا نراه...
17- الآلة التي بها تتمّ الرؤية...
18- الدوار...
19- لتلك الروح أن تدور،فتكون إذن القوّة المرتّبة هناك.

و كذلك تخيّل (1)استعجال المتحرّك النقطيّ مستقيما أو مستديرا على ما سلف من قبل،و لأنّ تمثّل الأشباح الكاذبة و سماع الأصوات الكاذبة قد يعرض لمن يفسد (2)لهم آلات الحسّ،أو كان مثلا مغمّضا لعينيه (3)،و لا يكون (4)السّبب إلاّ تمثّلها في هذا المبدأ.

و التخيّلات التي تقع في النوم،إمّا أن تكون لارتسام (5)الصّورة في خزانة حافظة للصورة (6)،و لو كان كذلك،لوجب أن يكون كلّ ما اقترن (7)فيها متمثّلا في النّفس،ليس بعضها دون بعض،حتّى يكون ذلك البعض كأنّه مرئيّ أو مسموع وحده؛أو أن (8)يعرض لها التّمثّل في قوّة أخرى،و ذلك إمّا حسّ ظاهر و إمّا حسّ باطن،لكنّ الحسّ الظّاهر معطّل في النوم،و ربّما كان (9)ذلك الذي يتخيّل في النوم ألوانا ما مسمول العين،فيبقى (10)أن يكون حسّا باطنا،و ليس يمكن أن يكون إلاّ المبدأ للحواسّ الظّاهرة،و الذي كان إذا استولت القوّة الوهميّة و جعلت تستعرض ما في الخزانة،تستعرضه و لو في اليقظة،فإذا استحكم ثباتها فيها،كانت كالمشاهدة.فهذه القوّة هي التي تسمّى الحسّ المشترك،و هي مركز الحواسّ،و منها يتشعّب (11)الشّعب،و إليها تؤدّى الحواسّ،و هي بالحقيقة هي التي تحسّ، لكن إمساك ما تدركه هذه (12)للقوّة التي تسمّى خيالا و تسمّى مصوّرة و تسمّى متخيّلة، و ربّما فرّق بين الخيال و المتخيّلة بحسب الاصطلاح،و نحن ممّن نفصل (13)ذلك و الصّور التي في الحسّ المشترك و الحسّ المشترك و الخيال كأنّهما قوّة واحدة،و كأنّهما لا تختلفان (14)في الموضوع،بل في الصّورة،و ذلك (15)لأنّه ليس أن يقبل هو أن يحفظ،فصورة المحسوس يحفظها (16)القوّة التي تسمّى المصوّرة،و الخيال،و ليس إليها حكم البتّة،بل حفظ،و أمّا الحسّ المشترك و الحواسّ الظاهرة فإنّها تحكم بجهة ما،أو بحكم ما،فيقال:

إنّ هذا المتحرّك أسود،و أنّ هذا الأحمر حامض،و هذا الحافظ لا يحكم به على شيء من الموجود إلاّ على ما في ذاته،بأنّ فيه صورة كذا.ثمّ قد نعلم يقينا،أنّ (17)ما في طبيعتنا أن

ص:312


1- في المصدر:نتخيّل...
2- لمن تفسد...
3- لعينه...
4- و لا يكون السبب في ذلك...
5- لارتسام في...
6- المصوّر...
7- ما اختزن فيها...
8- أو أن يكون يعرض...
9- كان الذي يتخيّل ألوانا...
10- فبقي...
11- تتشعّب...
12- هذه هو للقوّة...
13- يفصّل،و الحسّ المشترك...
14- لا يختلفان...
15- و ذلك أنّه...
16- تحفظها...
17- أنّ في طبيعتنا.

نركّب المحسوسات بعضها إلى بعض،و أن نفصّل بعضها (1)من بعض،لا على الصّورة التي وجدناها عليها من خارج،و لا مع تصديق بوجود شيء منها أو لا وجوده،فيجب أن (2)يكون فينا قوّة تفعل ذلك بها،و هذه هي التي تسمّى إذا استعملها العقل:مفكّرة،و إذا استعملها (3)قوّة حيوانيّة:متخيّلة.

ثمّ إنّا قد نحكم في المحسوسات بمعان لا نحسّها،إمّا أن لا تكون في طبائعها محسوسة البتّة،و إمّا أن تكون محسوسة،لكنّا (4)لا نحسّها وقت الحكم.

أمّا التي لا تكون محسوسة في طباعها،فمثل العداوة و الرّداءة و المنافرة التي تدركها الشاة في صورة الذئب.و بالجملة المعنى الذي ينفّرها عنه،و الموافقة التي تدركها من صاحبها،و بالجملة المعنى (5)الذي يؤنسها به،و هذه أمور تدركها النّفس الحيوانيّة، و الحسّ لا يدلّها على شيء منها،فإذن القوّة التي بها تدرك قوّة اخرى،و لتسمّ الوهم.

و أمّا التي تكون محسوسة،فإنّا نرى مثلا شيئا أصفر،فنحكم أنّه عسل و حلو،فإنّ هذا ليس يؤدّيه إليه الحاسّ في هذا الوقت و هو من جنس المحسوس،على أنّ الحكم نفسه ليس بمحسوس البتّة،و إن كانت أجزاؤه من جنس المحسوس،و ليس يدركه في الحال،إنّما هو حكم (6)يحكم به،و ربّما غلط به،و هو أيضا لتلك القوّة.و في الإنسان للوهم أحكام خاصّة،من جملتها حملها (7)النّفس على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيّل و لا ترتسم فيه (8)،و ثانيها التّصديق بها.فهذه القوّة لا محالة موجودة فيها (9)،و هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقليّ،و لكن حكما (10)تخييليّا مقرونا بالجزئيّة،و بالصّورة الحسّيّة،و عنه (11)يصدر أكثر الأفعال الحيوانيّة.

و قد جرت العادة بأن يسمّى مدرك الحسّ صورة و مدرك الوهم معنى،و لكلّ واحد منهما خزانة.

فخزانة مدرك الحسّ هي القوّة الخياليّة،و موضعها مقدّم الدّماغ،فلذلك إذا حدثت

ص:313


1- في المصدر:عن بعض...
2- تكون فينا قوّة يفعل...
3- إذا استعملتها...
4- لكننا...
5- المعنى يؤنسها...
6- حكم نحكم به ربّما غلط به...
7- حمله...
8- فيه و يأبى التصديق...
9- فينا...
10- حكما تخيليّا...
11- و عنها تصدر.

هناك آفة،فسدّ هذا الباب من التّصور،إمّا بأن (1)يتخيّل صورا ليست،أو يصعب استثبات الموجود (2).

و خزانة مدرك (3)المعنى هي القوّة التي تسمّى الحافظة،و معدنها مؤخّر الدّماغ، و لذلك إذا وقع هناك آفة يوقع (4)الفساد فيما يختصّ بحفظ هذه المعاني،و هذه القوّة تسمّى أيضا متذكّرة،فتكون حافظة لصيانتها ما فيها،و متذكّرة لسرعة استعدادها لاستثباته و التصوّر (5)بها يستعدّه إيّاها إذا فقدت،و ذلك إذا أقبل الوهم بقوّته المتخيّلة، فجعل يعرض واحدا واحدا من الصّور الموجودة في الخيال،ليكون كأنّه يشاهد الأمور التي هذه صورها،فإذا عرض له الصّورة الّتي أدرك معها المعنى الذي بطل،لاح له المعنى (6)كما لاح من خارج،و استثبته (7)القوّة الحافظة في نفسها كما كانت حينئذ تستثبت،فكان ذكرا (8)،و ربّما كان المصير من المعنى إلى الصّورة،فيكون المتذكّرة (9)المطلوب ليس نسبته إلى ما في خزانة الخيال (10)و كان إعادة،إمّا في وجود العود إلى هذه المعاني التي في الحفظ، حتّى يضبط (11)المعنى إلى لوح الصّورة،فيعود (12)النّسبة إلى ما في الخيال ثانيا،و إمّا بالرجوع إلى الحسّ.مثال الأوّل:أنّك إذا نسيت نسبته إلى صورة،و كنت عرفت تلك النسبة،تأمّلت الفعل الذي كان يقصد منها،فلمّا عرفت (13)أنّه أيّ طعم و شكل و لون يصلح له،فاستثبتّ النسبة به،و فالّفت (14)ذلك،و حصّلته (15)نسبته إلى صورة في الخيال،و أعدت النسبة في الذّكر،فإنّ خزانة الفعل هو الحفظ لأنّه من المعنى،فإن أشكل ذلك عليك من هذه الجهة أيضا و لم يتّضح،فأورد عليك الحسّ صورة (16)شيء،عادت مستقرّة في الخيال و عادت النّسبة إليه مستقرّة في التي تحفظ.

و هذه القوّة المركّبة بين الصّورة و الصّورة،و بين الصورة و المعنى،و بين المعنى و المعنى (17)كأنّها القوّة الوهميّة بالموضوع،لا من حيث تحكم بل من حيث يعمل (18)ليصل

ص:314


1- في المصدر:بأن تتخيّل...
2- الموجود فيها...
3- مدرك الوهم...
4- وقع الفساد...
5- التصوّر به مستعيدة إيّاه إذا فقد،و ذلك...
6- المعنى حينئذ...
7- استثبتته القوّة...
8- ذاكرا...
9- فيكون التذكّر للمطلوب ليست نسبته...
10- خزانة الحفظ،بل نسبته إلى ما في خزانة الخيال،فكأنّ إعادته إمّا في وجه العود...
11- حتّى يضطرّ...
12- فتعود...
13- عرفت الفعل و وجدته و عرفت أنّه...
14- و ألّفت...
15- و حصّلته نسبة إلى...
16- صورة الشيء...
17- و المعنى هي كأنّها...
18- تعمل لتصل.

إلى الحكم.و قد جعل مكانها وسط الدّماغ،ليكون لها اتّصال بخزانتي المعنى و الصّورة.

و يشبه أن تكون القوّة الوهميّة (1)بعينها المفكّرة و المتخيّلة و المتذكّرة،و هي بعينها الحاكمة،فتكون (2)حاكمة،و بحركاتها و أفعالها متخيّلة و متذكّرة،فتكون متخيّلة بما تعمل في الصّورة (3)و المعاني،و متذكّرة بما ينتهي إليه عملها.

و أمّا الحافظة،فهي قوّة خزانتها.و يشبه أن يكون التّذكّر الواقع بالقصد معنى للإنسان وحده،و أنّ خزانة الصّورة هي المصوّرة و الخيال،و أنّ خزانة (4)المعاني هي الحافظة و لا يمتنع أن يكون (5)الوهميّة بذاتها حاكمة (6)و بحركاتها متخيّلة و ذاكرة».-انتهى كلامه-.

و قال ابن رشد المغربي في كتابه الموسوم بجامع الفلسفة،بهذه العبارة:«القول في الحسّ المشترك و هذه القوى الخمس التي عددناها يظهر من أمرها أنّ لها قوّة واحدة مشتركة،و ذلك أنّه لمّا كانت هنا محسوسات لها مشتركة،فها هنا إذا لها قوّة مشتركة بها تدرك المحسوسات المشتركة،سواء كانت مشتركة لجميعها،كالحركة و العدد أو لاثنتين منها فقط،كالشكل و المقدار المدركين بحاسّة البصر و حاسّة اللّمس.

و أيضا فلمّا كنّا بالحسّ ندرك التغاير بين المحسوسات الخاصّة بحاسّة حاسّة،حتّى نقضي مثلا على هذه التّفّاحة أنّها ذات لون و طعم و ريح،و أنّ هذه المحسوسات متغايرة فيها،وجب أن يكون هذا الإدراك لقوّة واحدة،و ذلك أنّ القوّة التي تقضي على أنّ هذين المحسوسين متغايران هي ضرورة قوّة واحدة.فإنّ القول بأنّ القوّة التي بها يدرك التغاير بين شيئين محسوسين ليست بقوّة واحدة بمنزلة القول بأنّي أدرك المخالفة التي بين المحسوس الذي أنا،و المحسوس الذي أحسسته أنت و أنا لم أحسّه،و هذا بيّن بنفسه.

و قد يوقف أيضا على وجود هذه القوّة من فعل آخر ليس يمكننا أن ننسبه إلى واحد من الحواسّ الخمس،و ذلك أنّا نجد كلّ واحد من هذه الحواسّ تدرك محسوساتها، و تدرك مع هذا أنّها تدرك.فهي تحسّ الإحساس،و كان نفس الإحساس هو الموضوع

ص:315


1- في المصدر:الوهميّة هي بعينها...
2- فتكون بذاتها حاكمة...
3- في الصور...
4- خزانة المعنى...
5- أن تكون...
6- حاكمة متخيّلة، و بحركاتها.

لهذا الإدراك،إذ كانت نسبته إلى هذه القوّة نسبة المحسوسات إلى حاسّة حاسّة.و لذلك لسنا نقدر أن ننسب هذا الفعل إلى حاسّة واحدة من الحواسّ الخمس،و إلاّ لزم أن يكون المحسوسات أنفسها هي الإحساسات أنفسها.و ذلك أنّ الموضوع مثلا للقوّة الباصرة إنّما هو اللّون،و الموضوع لهذه القوّة هو نفس إدراك اللّون.فلو كان هذا الفعل للقوّة الباصرة، لكان اللّون هو نفس إدراكه،و ذلك محال.فإذن باضطرار ما يلزم عن هذه الأشياء كلّها وجود قوّة مشتركة للحواسّ كلّها هي من جهة واحدة،و من جهة كثيرة.أمّا كثرتها،فمن جهة ما تدرك محسوساتها بآلات مختلفة تتحرّك عنها حركات مختلفة،و أمّا كونها واحدة،فلأنّها تدرك التغاير بين الإدراكات المختلفة،و لكونها واحدة تدرك الألوان بالعين،و الأصوات بالأذن،و المشمومات بالأنف،و المذوقات باللّسان،و الملموسات باللّحم.و تدرك جميع هذه بذاتها،و تحكم عليها،و كذلك تدرك جميع المحسوسات المشتركة لكلّ واحدة من هذه الآلات،فتدرك العدد مثلا باللّسان و الاذن و العين و اللحم و الأنف،و هي بالجملة واحدة بالموضوع،كثيرة بالقوى،واحدة بالماهيّة،كثيرة بالآلات.

و الحال في تصوّر هذه القوّة واحدة من جهة،كثيرة من أخرى،كالحال في الخطوط التي تخرج من مركز الدائرة إلى محيطها،فإنّ هذه الخطوط كثيرة بالأطراف التي تنتهي إلى المحيط،واحدة بالنقطة التي تجمع أطرافها عندها و هي المركز.

و كذلك هذه الحركات التي تكون عن هذه المحسوسات،هي من جهة المحسوسات و الآلات كثيرة،و هي من جهة أنّها تنتهى إلى قوّة واحدة،واحدة»-انتهى موضع الحاجة من كلامه-.

في الكلام في الحسّ المشترك

و أقول:و باللّه التّوفيق،إنّ ما ذكره الشّيخ في معنى الحسّ المشترك،بقوله:«و أمّا الحسّ المشترك،فهو غير ما ذهب إليه من ظنّ أنّ للمحسوسات المشتركة حسّا مشتركا، بل الحسّ المشترك هو القوّة الّتي يتأدّى إليها المحسوسات كلّها».

ص:316

توضيحه:أنّه ظنّ بعضهم أنّ معنى الحسّ المشترك أنّه قوّة بها يحصل الإحساس بالمحسوسات المشتركة،و مبناه على أنّ المحسوسات بعضها ما هي مختصّة بحاسّة حاسّة،كالألوان المختصّة بالبصر،و الأصوات المختصّة بالسّمع،و الرّوائح المختصّة بالشّمّ،و الطّعوم المختصّة بالذّوق،و الحرارة و البرودة المختصّتين باللّمس.

و بعضها ما هي غير مختصّة بحاسّة واحدة،بل هي إمّا مشتركة بين جميع تلك الحواسّ كالحركة و العدد،و إمّا مشتركة بين أكثر من واحدة كالشّكل و المقدار حيث إنّهما مشتركان بين البصر و اللّمس.و كما أنّ لكلّ من المحسوسات الخاصّة قوّة خاصّة،كذلك لتلك المحسوسات المشتركة قوّة اخرى غير تلك القوى الخمس،هي المسمّاة بالحسّ المشترك،أي هو حسّ يدرك المحسوسات المشتركة.

و هذا الظّنّ باطل،إذ لو كان معنى الحسّ المشترك ما ذكر،لما كان لإثباته قوّة أخرى غير تلك الخمس وجه،لأنّ تلك المحسوسات المشتركة التي ذكرت،إنّما تدركها تلك الحواسّ الخاصّة أيضا،إلاّ أنّ مدركاتها على نوعين:نوع هو مدرك لها بالذّات،و نوع هو مدرك لها بالواسطة و بالعرض.فمدرك البصر مثلا أوّلا و بالذّات و إن كان هو الضّوء و اللّون،إلاّ أنّه يدرك تلك المحسوسات المشتركة أيضا ثانيا و بالواسطة.و كذلك الحال في اللّمس و سائر القوى الأخرى،و لا محذور أيضا أن يتعدّد إدراكات قوّة واحدة و مدركاتها،و أن يصدر عن الواحد أكثر من واحد إذا لم يكن ذلك الصّدور من جهة واحدة و من حيثيّة واحدة،بل أن يكون بعضها بالذّات و بعضها بالعرض،و بالجملة أن يكون من حيثيّات متعدّدة.

و حيث بطل هذا الظّنّ،بطل الوجه الأوّل الذي ذكره ابن رشد في إثبات الحسّ المشترك،إذ هو مبنيّ على هذا الظّنّ،و على أنّ معنى الحسّ المشترك هو ذلك.

بل أنّ معنى الحسّ المشترك كما هو مبنى الوجه الثاني الذي ذكره ابن رشد،أنّه القوّة التي يتأدّى إليها المحسوسات،أي محسوسات الحواسّ الظّاهرة كلّها،سواء كانت تلك المحسوسات محسوسات مختصّة،أو محسوسات مشتركة،بل قد يتأدّى إليها

ص:317

محسوسات بعض الحواسّ الباطنة أيضا،كما في من تعطّل حواسّه الظّاهرة،و استولت المتخيّلة و نقشت في لوح هذه القوّة صورا كانت مخزونة في الخيال،أو صورا ركّبتها من تلك الصّور المخزونة على طريقة انتقاشها فيه من الخارج،على ما سيأتي بيانه.

فهذه القوّة قوّة تقبل بذاتها جميع الصّور المنطبعة في الحواسّ الظّاهرة،و بعض ما في الباطنة المتأدّية لتلك الصّور إليها من طرق تلك الحواسّ،سواء كانت تلك الصّور صورا خاصّة بحاسّة حاسّة،أو مشتركة بينها.

و على هذا فمعنى كون تلك القوّة حسّا مشتركا،أنّها حسّ مشترك بين محسوسات الحواسّ الظّاهرة كلّها مختصّاتها و مشتركاتها،و أنّها تدرك محسوساتها كلّها،لا اختصاص لها بإدراك محسوس حسّ خاصّ،و كذا هي مشتركة بين محسوسات الحواسّ الظّاهرة كلّها و محسوسات الحواسّ الباطنة في الجملة.فالقوّة الباصرة مثلا تبصر و لا تسمع و لا تشمّ و لا تذوق و لا تلمس،و هذه القوّة تفعل الجميع،أي تبصر و تسمع و تشمّ و تذوق و تلمس.و كذا الحال في سائر الحواسّ الظّاهرة،فإنّ كلّ واحدة منها تدرك ما يختصّ بها من المحسوس و لا تدرك الجميع،بخلاف الحسّ المشترك.

و بهذا يحصل الفرق بينها و بين الحواسّ الظّاهرة.

مع أنّه فيما بينها و بين تلك الحواسّ في إدراك ما يختصّ بكلّ واحدة فرقا أيضا، و هو أنّ القوّة الباصرة-مثلا-إنّما تدرك المبصر إذا كانت النسبة المخصوصة محفوظة بينها و بين المبصر،و أمّا هذه فتدرك المبصر و تثبت فيها الصّورة المأخوذة من خارج منطبعة فيها،أي في الرّوح الّتي فيها هذه القوّة،سواء كانت النسبة المذكورة بينها و بين المبصر محفوظة،أو قريبة العهد.

و كذلك بينها و بين الحواسّ الباطنة التي تتأدّى الصّورة منها إليها فرق،و هو أنّ الحسّ المشترك قابلة للصّور لا حافظة لها،و القوّة الخياليّة مثلا حافظة لما قبلت الحسّ المشترك،و ذلك أنّه إذا غاب المبصر مثلا انمحت الصّورة عن الحسّ المشترك و لم تثبت زمانا يعتدّ به،و أمّا الرّوح التي فيها الخيال مثلا فإنّ الصّورة تثبت فيها،و لو بعد حين كثير،

ص:318

كما سيأتي بيانه.

و أيضا إذا كانت الصّورة في الحسّ المشترك،كانت محسوسة بالحقيقة فيها،حتّى إذا انطبعت فيها صورة كاذبة أيضا أحسّتها كما يعرض للممرورين،و أمّا إذا كانت في الخيال مثلا كانت متخيّلة لا محسوسة.

ثمّ نقول في بيان كيفية تأدّي صور المحسوسات إليها من طرق الحواسّ:إنّهم ذكروا:

أنّ لكلّ حاسّة من الحواسّ الخمس الظّاهرة عصبا هو بما فيه من الرّوح آلة لتلك القوّة، و مبدأ أعصاب الحواسّ الأربع غير اللّمس هو مقدّم الدّماغ،و مبدأ أعصاب اللّمس هو الدّماغ و النّخاع الذي مبدؤه أيضا الدّماغ،و أكثرها نخاعيّة،و أنّ آلة الحسّ المشترك هو الرّوح المصبوب في مبادي عصب الحسّ،لا سيّما في مقدّم الدّماغ،و الرّوح المصبوب في مبادي البطن المقدّم هو آلة للحسّ المشترك و الخيال،إلاّ أنّ ما في مقدّم ذلك البطن بالحسّ المشترك أخصّ،و ما في مؤخّره بالخيال أخصّ.فالحسّ المشترك كرأس عين ينشعب منه خمسة أنهار من خارج،و بعض أنهار من داخل،أو مثل حوض ينصبّ فيه خمسة أنهار من خارج و بعض أنهار من داخل،و إنّما يتأدّى الإدراكات الحسّيّة من الحواسّ الظّاهرة بواسطة الأرواح الّتي في الأعصاب إلى التي في مبادئها المتّصلة بالرّوح المصبوب في البطن المقدّم،و كذا يتأدّى من الخيال-مثلا-إلى الحسّ المشترك بواسطة اتّصال الرّوحين في مقدّم البطن المقدّم و مؤخّره،و ليس معنى التّأدية أنّ الكيفيّات المحسوسة تسير في الأعصاب إلى آلة الحسّ المشترك،أو تسير من الرّوح التي هي آلة الخيال إليها كما فهمه بعض،حتّى يرد أنّ الكيفيّات التي هي أعراض،كيف يمكن أن تنتقل عن موضوعاتها إلى غيرها؟بل معنى التأدية أنّها استعارة عن إدراك النّفس بواسطة الرّوح المصبوب إلى كلّ حسّ محسوسه،و بواسطة الرّوح الذي هو مبدأ مشترك للجميع، مثل المحسوسات الظّاهرة،و كذا مثل بعض المحسوسات الباطنة.و اتّصال الأعصاب و الأرواح ليس لتمهيد طرق تسير فيها الكيفيّات،فإنّ الكيفيّات لا تنتقل عن موضوعاتها،و إدراك النّفس ليس بمتأخّر عن ملاقاة الحواسّ للمحسوسات بزمان يقطع

ص:319

فيه تلك المسافات،بل هو لاتّصال الأرواح بمبدإ واحد مجتمعة في موضع يعدّها للإحساس.

و حيث تحقّقت ما تلوناه عليك،فاعلم أنّ الصّادر عن الحسّ المشترك التي هي قوّة واحدة بالقصد الأوّل،إنّما هو فعل واحد هو استثبات الصّور المادّيّة،ثمّ تصير مستثبتة للألوان و الأصوات و الطّعوم و غيرها بقصد ثان،و ذلك لانقسام تلك الصّور إليها،و هذا كالإبصار الذي فعله إدراك اللّون.

ثمّ إنّه يصير مدركا للضدّين،كالسّواد و البياض،لكون اللّون مشتملا عليهما،و ذلك لانقسام تلك الصّور إليهما،و الشيء الواحد يمكن أن يصدر عنه الكثير إذا كان الصّادر بالقصد الأوّل شيئا واحدا ثمّ يتكثّر بقصد ثان،كما في الصّورتين المذكورتين،كما أنّه يمكن صدور الكثير عنه إذا كانت وجوه الصّدورات مختلفة متكثّرة،كما في أفعال النّفس.

و على هذا،فلا يرد أنّ الحسّ المشترك مع كونها قوّة واحدة كيف يصدر عنها الكثير؟ و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

في الدليل على وجود الحسّ المشترك

اشارة

ثمّ إنّ قول الشّيخ:«فإنّه لو لم تكن قوّة واحدة تدرك المكوّن و الملموس،لما كان لنا أن نميّز بينهما قائلين إنّه ليس هذا ذاك»-إلى آخر ما ذكره-دليل على إثبات الحسّ المشترك.

و بيانه:قد إنّا نميّز بين المحسوسات الظّاهرة،و نحكم ببعضها على بعض،سواء كان حكما سلبيّا،كما نحكم أنّ هذا الملوّن ليس هذا الملموس،أو حكما إيجابيّا،كما نحكم بأنّ هذا الأحمر حلو،و لو لم يكن لنا قوّة تجتمع فيها صور المحسوسات،لما كان لنا أن نميّز بينها و نحكم،لأنّ الحاكم المميّز بين الشيئين يحتاج إلى إدراكه لهما و حصولهما عنده و اجتماعهما لديه،إمّا في ذاته،أو في غيره.و محال أن يكون حصول هذين الأمرين في حسّ من الحواسّ الظّاهرة،لأنّه لا يدرك غير نوع واحد من المحسوسات كما

ص:320

سلف.سلّمنا أنّ هذا التّمييز هو للعقل،أي للنّفس بذاتها إلاّ أنّه يجب لا محالة أنّ العقل يجدهما معا حتّى يميّز بينهما و يحكم،و ذلك أيضا محال،لأنّ المحسوسات من حيث هي محسوسة،و على النحو المتأدّي من المحسوس،لا يدركها العقل،لما سنوضّح من بعد،فمحال أن يكون حصول ذلك في العقل أيضا.فإذن لا بدّ من قوّة أخرى غير الحسّ الظّاهر يجتمع فيها صور المحسوسات بالتأدّي إليها من طرق الحواسّ،حيث إنّها كجواسيس لهذه القوّة،تؤدّي مدركاتها إليها،فيجتمع تلك المدركات فيها،و لذلك سمّيت بالحسّ المشترك و هو المطلوب.

و في قوله:«و ذلك لأنّها من حيث هي محسوسة،و على النحو المتأدّي من المحسوس لا يدركها العقل»إيماء إلى دفع إيراد ربّما يمكن أن يورد هاهنا.

بيان إيراد مع دفعه

بيان الإيراد:أنّ الحاكم و المميّز بالحقيقة ليس إلاّ العقل،و إسناد الحكم و التمييز إلى القوّة مجاز،و اجتماع الأشياء عند النّفس حال حكمها عليها و بها قد يكون بارتسامها كلّها في ذاتها أو في قواها العقليّة،كما إذا حكمت بين المعقولات و ميّزت بينها،و قد يكون بارتسام بعضها في ذاتها أو في قواها العقليّة و ارتسام بعض آخر في آلاتها و قواها الجسمانيّة،كما إذا حكمت مثلا على زيد بأنّه إنسان،و على هذا الحجر بأنّه ليس بإنسان، و ميّزت بينهما،و قد يكون بارتسامها في آلتين و قوّتين جسمانيّتين لها،كما إذا حكمت -مثلا-على هذا اللّون بأنّه غير هذا الطّعم،و على هذا الأحمر بأنّه حلو،و ميّزت بينهما، و حينئذ فلا حاجة إلى قوّة أخرى يجتمع فيها صور المحسوسات.بل إنّ تلك الصّور المحسوسة إنّما هي في قواها المختصّة بها،و هي حاضرة عند النّفس،لكونها حاصلة في آلات النّفس التي علم النفس بها علم حضوريّ،و بذلك تحكم بينها و تميّز بينها.

و أمّا بيان الدفع لهذا الإيراد،فهو مبنيّ على مقدّمة،أحال وضوحها على ما ذكره من كلماته من بعد ذلك،و سبقت أيضا الإشارة منه إليها في بعض كلماته المتقدّمة على ذلك،

ص:321

و سلفت الإشارة منّا إليها أيضا فيما سبق من كلماتنا،و هي أنّ كلّ إدراك حصوليّ إنّما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء،و أنّه إن كان ذلك الإدراك إدراكا لشيء مادّيّ،فهو أخذ صورته مجرّدة عن المادّة و علائقها تجريدا.

إلاّ أنّ أصناف التّجريد مختلفة،و مراتبه متفاوتة،كما في إدراك الصّور المحسوسة التي تدركها الحواسّ الظّاهرة و الباطنة،و إدراك الصّورة المعقولة التي تدركها النّفس،و أنّ لتلك الصّور المأخوذة نسبتين:نسبة إلى الشيء الذي انتزعت تلك الصّورة منه،و نسبة إلى المحلّ القابل لها الذي هي حصلت فيه.

و بالاعتبار الأوّل،فهي مطابقة بحسب الماهيّة مع الشيء المأخوذ منه الصّورة، و لذلك يسري الحكم منها إليه.و كذا هي مجرّدة عن الوجود الخارجيّ مطلقا،و كذا عن المادّة و علائقها إن كان الشيء مادّيّا،و لذلك كانت مخالفة له في كثير من اللّوازم كما مرّ بيانه.و بالاعتبار الثّاني فهي معروضة لنحو وجود عينيّ جزئيّ باعتبار قيامها بمحلّ عينيّ و جزئيّ.

و كذلك هي بالاعتبار الأوّل معلومة،أي معلومة بالذات،و بتوسّطها يكون الشيء المنتزع هي منه معلومة بالعلم الحصوليّ،أي أنّها إن كانت صورا مادّيّة جزئيّة تحصل في الآلات البدنيّة التي هي آلات للنّفس،و كذا هي آلات لقوى النّفس،فتدركها تلك القوّة المختصّة بكلّ واحدة أوّلا،و بتوسّط تلك القوّة تدركها النّفس إدراكا حصوليّا،و إن كانت صورا كلّيّة تحصل في النّفس بذاتها،فتدركها بقوّتها العقليّة إدراكا حصوليّا أيضا.و أمّا هي بالاعتبار الثّاني،فمعلومة للنّفس علما حضوريّا،إذ ليس يتوسّط بينها و بين تلك الصّورة صورة أخرى،بتلك الصّورة يحصل علم النّفس بالصّورة الأولى علما حصوليّا، بل إنّ الصّورة الأولى حاضرة بذاتها عند النفس،مثل علمها بآلاتها و بقواها و بذاتها و بعلمها لعلمها و أمثال ذلك ممّا هو معلوم للنّفس علما حضوريّا.

و بعد تمهيد تلك المقدّمة،نقول:لا شكّ إنّا إذا رجعنا إلى وجداننا في صورة تمييزنا بين المحسوسات،و حكمنا عليها و بها،نجد أنّ إدراكنا المحسوسين اثنين أو أكثر،مثل

ص:322

إدراكنا لمحسوس واحد،و بقوّة واحدة،و لا نجد فرقا بين أن ندرك صورة مبصرة مثلا، و أن ندرك صورتين مبصرة و مذوقة حين تمييزنا بينهما،فيجب أن يكون إدراكنا في الحالتين على نسق واحد غير مختلف،و كما إنّا إذا أبصرنا شيئا يكون إبصارنا،له بحصول صورته في آلة الباصرة فتدركها القوّة الباصرة ثمّ تدركها النّفس بتوسّطها،كذلك ينبغى أن يكون إدراكنا للمبصر و المذوق معا مثلا بحصول صورتيهما في آلة من الآلات البدنيّة، فتدركهما قوّة شأنها إدراك المحسوسات كلّها التي قلنا إنّها الحسّ المشترك،و آلتها الرّوح المصبوب في مقدّم البطن المقدّم من الدماغ.و إسناد الحكم و التّمييز إلى هذه القوّة لا ينافي إسنادهما إلى النّفس أيضا،حيث إنّ الحاكم و المميّز أوّلا هو هذه القوّة،و بتوسّطها تكون النّفس أيضا مميّزة و حاكمة،لكونها قوّة من قواها،و بتوسّطها تصدر الأفعال عن النّفس،كما في القوى و الحواسّ الأخر.

و بالجملة،فإنّا لا نجد فرقا في ذلك بين إدراكنا لمحسوس واحد،و بين إدراكنا لأزيد من واحد،فكيف يكون إدراك المحسوس الواحد بحصول صورته في آلة حاسّة من الحواسّ تدركها تلك الحاسّة أوّلا و بتوسّطها تدركها النّفس إدراكا حصوليّا كما هو المقرّر عندهم،و يكون إدراك المحسوسات إذا كانت أزيد من واحد،بحصول صورة كلّ واحد في آلة مخصوصة بها،فتدركها الحواسّ الخاصّة بها أوّلا إدراكا حصوليّا ثمّ تدركها النّفس إدراكا حضوريّا بحصولها في آلاتها و حضور الآلات مع ما فيها عندها،كما في علم النّفس بآلاتها و بذاتها و علمها بعلمها،كما هو مبنى الإيراد.

و على هذا،فكأنّ معنى كلام الشيخ:«و ذلك لأنّها من حيث هي محسوسة،و على النّحو المتأدّي من المحسوس لا يدركها العقل».

أنّها من هذه الحيثيّة لا يدركها العقل أصلا،لا بأن يحصل صورها في ذات النّفس بدون حصولها في آلاتها،فتدركها النّفس إدراكا حصوليّا كما في إدراكها للصّور المعقولة، حيث إنّها لكونها مجرّدة عن المادّة و توابعها،يحتاج إدراكها للصّور المحسوسة إلى قوى جسمانيّة و آلات بدنيّة،و لا بأن تحصل تلك الصّور في آلاتها،فتدركها النّفس إدراكا

ص:323

حضوريّا لحضور تلك الآلات مع ما فيها عندها،لأنّا لا نجد فرقا بين إدراكنا لمحسوس واحد و إدراكنا لأكثر من واحد.

إيراد آخر مع دفعه

فإن قلت إذا كان إدراك أمرين محسوسين أو أكثر و التمييز بينهما أو بينها دليلا على إثبات قوّة على حدة،تدرك ذينك الأمرين أو تلك الأمور،لكان لا يجب أن يكون إدراك الكلّيّ و الجزئيّ و التمييز بينهما،و الحكم بأحدهما على الآخر،كما في قولنا:زيد إنسان و هذا الحجر ليس بإنسان،دليلا على إثبات قوّة على حدة تدركهما و تميّز بينهما،و لم يقل به أحد.

قلت:ذلك إنّما هو لأجل أنّ إثبات قوّة واحدة على حدة تدرك الكلّيّ و الجزئيّ،ممّا لا يمكن،حيث إنّ إثبات قوّة كذلك يستلزم القول بكونها مجرّدة و غير مجرّدة معا،و هذا محال.و لذلك قالوا:إنّ النّفس في تمييزها بين الكلّيّ و الجزئيّ تدركهما بقوّتين،يعنى إنّها تدرك الكلّيّ بقوّة عقليّة،و بحصول صورته في ذاتها،و تدرك الجزئيّ بقوّة جسمانيّة، و بحصول صورته في آلتها،و بما ذكرنا تمّ الدليل على هذا المرام،و اندفع الإيراد عنه،إلاّ أنّه بقي هاهنا دقيقة.

دقيقة

ينبغى التنبيه عليها،و هي أنّ التمييز بين المحسوسات و الحكم بينها،كما هو دليل على إثبات الحسّ المشترك كما ذكره الشّيخ،و بيّنّا وجهه،كذلك هو دليل على إثبات الخيال أيضا،كما سيومئ كلامه إليه،و لذلك قال في الإشارات (1):«و بهاتين القوّتين يمكنك أن تحكم أنّ هذا اللّون غير هذا الطّعم»و أشار بقوله:«هاتين القوّتين»إلى الحسّ المشترك و الخيال.

ص:324


1- -شرح الإشارات 338/2. [1]

و قال المحقّق الطّوسيّ(ره)في شرحه (1): (2)«إنّ (3)هذا الاستدلال مشترك على وجودهما معا،و هو بناء على أنّ النّفس لا تدرك المحسوسات إلاّ بقوى جسمانيّة، و تقريره أنّها لا تدرك بحسّ واحد من الحواسّ الظّاهرة غير نوع واحد من المحسوسات.

فإذن لا بدّ لها حين تحكم على أبيض ما أنّه ذو حلاوة،من قوّة تدرك البياض و الحلاوة معا بها،و لا محالة يكون (4)نسبة جميع المحسوسات إلى تلك القوّة نسبة واحدة.و أيضا كما أنّ النّفس لا تقدر على هذا الحكم إلاّ بقوّة مدركة للجميع،فإنّها أيضا لا تقدر على ذلك إلاّ بقوّة حافظة للجميع،و إلاّ فينعدم (5)صورة كلّ واحد من البياض و الحلاوة عند إدراك الآخر و الالتفات إليه»-انتهى-.

و بما ذكره يظهره وجه إثبات الخيال أيضا بذلك.

في إثبات الحسّ المشترك للحيوانات العجم أيضا

و الإشارة إلى دفع ذلك الإيراد بوجه آخر

ثمّ قول الشيخ:«و لو لم يكن قد اجتمع عند الخيال من البهائم التي لا عقل لها،المائلة بشهوتها إلى الحلاوة-إلى آخره-».

بيان لأنّ هذا التّمييز بين المحسوسات و الحكم بينها،كما أنّه معلوم التّحقّق في الإنسان،و دليل على وجود الحسّ المشترك له-كما ذكر بيانه-كذلك هو معلوم التّحقّق في غير الإنسان من البهائم الّتي لا عقل لها،و الحيوانات العجم؛فيدلّ على وجوده فيها أيضا،و على أنّه من قوى النّفس الحيوانيّة بما هي حيوانيّة،سواء كانت في الإنسان أو في غيره من الحيوانات،و أنّه-على هذا التقدير-لا مجال لتوهّم الإيراد الذي يتوهّم وروده على تقدير الاستدلال بوجود ذلك التّمييز و الحكم في الإنسان على وجود الحسّ المشترك له،حيث إنّه في الحيوانات العجم و البهائم التي لا عقل لها أو غير معلوم وجود

ص:325


1- -شرح الإشارات 338/2-339.
2- في المصدر:و أمّا قول الشّيخ(...)
3- فاستدلال مشترك...
4- تكون...
5- فتنعدم.

العقل و النّفس الناطقة المجرّدة لها،بل إنّ المعلوم أنّ نفوسها منطبعة في المادّة،لا يمكن أن يحصل لها العلم الحضوريّ بما في قواها و حواسّها،لا مجال لتوهّم أنّ تلك الصّور حاصلة في آلاتها و حواسّها،و هي حاضرة عند نفوسها،و بذلك تحكم و تميّز بينها،كما يمكن أن يتوهّم ذلك في الإنسان.

أمّا بيان وجود هذا الحكم و التّمييز في الحيوانات العجم،فلأنّه لو لم يكن قد اجتمع عند الخيال من البهائم التي لا عقل لها المائلة بشهوتها و بقوّتها الشهوانيّة إلى الحلاوة، و بالجملة إلى الشيء الملائم لها،إنّ شيئا صورته كذا هو حلو و ملائم لها،لما كانت إذا رأته همّت بأكله،و حيث كانت حالها كذلك،فهي تحكم بأنّ المبصر الكذائيّ هو حلو و ملائم لذائقتها،و مذوق مثلا و تميّز بينهما.كما أنّه لو لا عندنا أنّ هذا الأبيض هو هذا المعنى،لما كنّا إذا سمعنا معناه الشخصيّ أثبتنا عينيّته الشّخصيّة،و بالعكس،حيث إنّا نميّز بين المبصر و المسموع،و نحكم بينهما.و بالجملة فحال البهائم التي لا عقل لها في ذلك، مثل حالنا فيه سواء بسواء،فحيث كانت هي صدر عنها ذلك التّمييز و الحكم،فتدرك هي أيضا نوعين من المحسوس معا،فإذن لا بدّ لها من قوّة لذلك،و ليست تلك القوّة إحدى الحواسّ الظّاهرة،لأنّها لا تدرك إلاّ نوعا واحدا من المحسوسات كما سلف بيانه،و لا النّفس الحيوانيّة،لأنّها لا تدرك محسوساتها إلاّ بقوى جسمانيّة،و ليس لها لكونها منطبعة في المادّة أن تدرك الصّور التي في قواها و آلاتها إدراكا حضوريّا كالنّفس المجرّدة،فبقي أن يكون هي قوّة من القوى الباطنة،و نحن نسمّيها بالحسّ المشترك و فيه المطلوب.

و إنّما قال:«لو لم يكن قد اجتمع عند الخيال»،إيماء إلى أنّ للخيال أيضا دخلا ما في ذلك الحكم و التّمييز من جهة حفظ تلك الصّور،كما أنّ للحسّ المشترك دخلا فيه من حيث الإدراك كما عرفت بيانه.

و أيضا لو لم يكن في الحيوان مطلقا قوّة يجتمع فيها صور المحسوسات،لتعذّر عليه الحياة.إذ لو لم يكن الشّمّ مثلا دالاّ لها على الطّعم الملائم أو المنافر،و لم تكن تدرك أنّ هذا المشموم مذوق ملائم أو غير ملائم،و كذا لو لم يكن الصّوت دالاّ إيّاها على الطّعم،و لم

ص:326

تكن تدرك أنّ هذا المسموع مذوق ملائم أو غير ملائم.و كذا لو لم يكن المبصر كالصّورة الخشبيّة مثلا تذكّرها صورة و دليلا لها على أنّ هذا المبصر ملموس متنفّر عنه،يحصل من لمسها ألم لها حتّى تهرب منها،لتعذّر عليها الحياة.و حيث كان كذلك،فيجب-لا محالة- أن يكون لهذه المحسوسات مجمع واحد من باطن،و قوّة باطنيّة مدركة لها،و هو المطلوب.

و قوله:«و قد يدلّنا على وجود هذه القوّة،اعتبارات أمور تدلّ على أنّ لها آلة غير الحواسّ الظّاهرة»-إلى آخره-».

استدلال بوجوه أخر على وجود هذه القوّة للإنسان،و مبنى الوجهين الأوّلين على أنّ الدّوران و الدّوّار كما ذكره إنّما يعرض بسبب حركة البخار في الدّماغ،و في الرّوح التي فيه،أي الرّوح الّتي في البطن المقدّم منه،و هي آلة للحسّ المشترك،و ذلك مقرّر بين الأطبّاء و حكماء الطّبيعيّين.فالاستدلال بالوجهين على ذلك،لا غبار عليه على أصولهم.

و قوله:«و كذلك تخيّل استعجال المحرّك النّقطيّ مستقيما أو مستديرا على ما سلف من قبل»وجه آخر مشهور بينهم،و بيانه يظهر ممّا نقلنا أوّلا من كلامه في فصل تعديد قوى النّفس الإنسانيّة.

و قد اكتفى في الإشارات بهذا الدّليل على وجود الحسّ المشترك في مقام بيان الدّليل المنفرد عليه.

و بيّنه المحقّق الطّوسي(ره)في شرحه،بأن قال (1):«و الحاصل أنّ الموجود في الخارج كنقطة،و المرئيّ كخطّ،و النقطة المتحرّكة ترتسم في البصر عند وصولها إلى مكان ما يحدث (2)بحسب المقابلة بينهما،و تزول عنه بزوال المقابلة.و المقابلة إنّما تحصل في آن يحيط به زمانان لا حصول لها فيهما،لكون الحركة غير قارّة،فلو لا شيء آخر غير البصر ترتسم فيه تلك النّقطة،و تبقى قليلا على وجه يتّصل الارتسامات المتتالية في البصر

ص:327


1- -شرح الإشارات 333/2.
2- في المصدر:ما تحدث بحسبه.

و فيه بعضها ببعض،لم يكن اتّصال،فلم ير خطّ،فإذن هاهنا قوّة قد بقي فيها الارتسام البصريّ شاهدا (1)».

ثمّ ذكر أنّه اعترض الإمام الرّازي على هذا الاستدلال بأن قال (2):«لم لا يجوز أن يكون اتّصال الارتسامات في الهواء،بأن يكون كلّ شكل (3)يحدث في جزء من الهواء، لوصول (4)النّقطة إليه،فإنّه يحدث قبل زوال الشّكل السّابق،فيتّصل (5)التّشكّلات و ترى (6)خطّا،قال:و هذا أولى ممّا قالوه،لأنّ القول بمشاهدة ما ليس في الخارج سفسطة و جهالة».

ثمّ قال:«و لم لا يجوز أن يكون ذلك في البصر،و العلم بأنّ البصر لا يرتسم (7)فيه إلاّ صورة المقابل ليس ببرهانيّ،و التجربة لا تفيده».

ثمّ أجاب المحقّق(ره)عن هذا الاعتراض بأن قال (8):

«و الجواب عن الأوّل،بأنّ بقاء التّشكّل السّابق عند تشكّل (9)بعده يقتضي الخلاء، فإنّ التّشكّل إنّما حدث في الهواء لنهاياته المحيطة بالجسم المتحرّك فيه،و بقاء النهايات بحالها بعد خروج المتحرّك عنها،يقتضي إحالة (10)النهايات بالخلاء.

و عن الثّاني أنّ (11)القول بذلك أولى بأن ينسب إلى السفسطة و الجهالة،من القول بوجود قوّة للإنسان يدرك بها شيئا بعد غيبته،لأنّه مع كونه مشتملا على القول بمشاهدة ما ليس في الخارج،قول بمشاهدة ما لا يقابله البصر،و لا يكون في حكم ما يقابله».- انتهى كلامه ره-.

ثمّ إنّ قول الشّيخ:«و لأنّ تمثّل الأشباح الكاذبة و سماع الأصوات الكاذبة قد يعرض لمن يفسد لهم آلات الحسّ،أو كان مثلا مغمضا لعينيه.»-إلى آخره-.

دليل آخر على وجود الحسّ المشترك،مبناه على تأدّي الصّور إليه من قبل الحواسّ

ص:328


1- في المصدر:مشاهدا...
2- -شرح الإشارات 334/2. [1]
3- كلّ تشكّل تحدث...
4- بوصول...
5- فتتّصل...
6- و يرى...
7- لا ترتسم...
8- -شرح الإشارات 334/2. [2]
9- عند حصول التشكّل بعده...
10- إحاطة...
11- بأنّ.

الباطنة،كما أنّ ما تقدّم مبناه على تأدّي الصّور إليه من قبل الحواسّ الظّاهرة.و بيان هذا الدليل ظاهر كما ذكره.

و قوله:«فهذه القوّة هي التي تسمّى الحسّ المشترك»نتيجة لما تقدّم من الوجوه؛ و قوله:«و هي مركز الحواسّ و منها ينشعب الشعب،و إليها تؤدّي الحواسّ،أي الحواس الظّاهرة مطلقا،و الحواسّ الباطنة في الجملة»،و فيه دلالة على وحدة هذه القوّة من جهة، و كثرتها من جهة أخرى،و هو مطابق لما ذكره ابن رشد،و مثّله موافقا لما هو المنقول عن المعلّم الأوّل بالخطوط التي تخرج من مركز الدائرة إلى محيطها،حيث إنّ هذه القوّة كالمركز،و تلك الحواسّ كتلك الخطوط الخارجة.

و قوله:«و بالحقيقة هي التي تحسّ»فيه دلالة على أمرين:

الأوّل أنّ هذه القوّة ممّا تحسّ،و بيانه ظاهر ممّا تقدّم.و الثّاني أنّ الحاسّ بالحقيقة هو هذه القوّة دون غيرها من الحواسّ،و كأنّ وجهه أنّ الحواسّ الأخر لمّا كانت تحسّ من غير استثبات الصّورة فيها،و كانت هذه تحسّ مع استثباتها فيها،فكانت هي بالحقيقة تحسّ.

و قوله:«لكن إمساك ما يدركه هذه للقوّة التي تسمّى خيالا و تسمّى مصوّرة و تسمّى متخيّلة».

يعني أنّ إمساك ما يدركه الحسّ المشترك بعد غيبة المحسوس إنّما هو للقوّة التي تسمّى بهذه الأسامي باعتبارات مختلفة»و فيه دلالة على إثبات الخيال،مع إشارة ما إلى أنّ الخيال غير الحسّ المشترك،حيث إنّ الحسّ المشترك هو المدرك للصّور المحسوسة، و الخيال هو الممسك لها،و الممسك غير المدرك كما سيأتي وجهه.

و قوله:«و ربّما فرّق بين الخيال و المتخيّلة بحسب الاصطلاح».

فيه إشعار بأن لا فرق بين الخيال و المصوّرة بحسب الاصطلاح،فإنّهما واحدة، و تسمّى مصوّرة و خيالا باعتبار إمساك الصّور فيها و حفظها لها،كما يدلّ عليه كلامه الآتي،حيث قال:«فصورة المحسوس يحفظها القوّة التي تسمّى المصوّرة و الخيال»،

ص:329

و يدلّ أيضا عليه ما نقلنا عنه في تعديد القوى،فتذكّر.

و قوله:«و نحن ممّن نفصّل ذلك و الصّور الّتي في الحسّ المشترك»أي نحن ممّن نفرّق بين الخيال و المتخيّلة،و كذا بين الصّور التي في الحسّ المشترك المتأدّية إليه من طرق الحواسّ الباطنة الّتي يسمّى حافظها الخيال و المصوّرة،و الصّور المتأدّية إليه من طرق الحواسّ الباطنة الّتي يسمّى مركّبها و مفصّلها متخيّلة،كما سيأتي في كلامه.

و قوله:«و الحسّ المشترك و الخيال كأنّها قوّة واحدة».-إلى آخره-أي قوّة واحدة بالموضوع،و كأنّهما لا تختلفان في الموضوع،حيث إنّ موضوعهما جميعا هو البطن المقدّم من الدّماغ،و إن كان مقدّمه موضوعا للحسّ المشترك،و مؤخّره موضوعا للخيال، بل في الصّورة.أي بل إنّما تختلفان في الصّورة الحاصلة فيهما،لكن لا في ذات الصّورة نفسها،بل من جهة أخرى يدلّ عليها قوله«و ذلك لأنّه ليس أن يقبل هو أن يحفظ،فصورة المحسوس يحفظها القوّة التي تسمّى المصوّرة و الخيال»يعني أنّ تلك الصّور إنّما تحصل في الحسّ المشترك من حيث إنّه مدرك لها،قابل إيّاها،و تحصل في الخيال من حيث إنّه حافظ لها،ممسك إيّاها،و حيث كان القبول و الحفظ أمرين متغايرين،كان لا محالة مبدءاهما،و هما الحسّ المشترك و الخيال متغايرين.

و معنى قوله:«و ذلك لأنّه ليس أن يقبل هو أن يحفظ»كما يدلّ عليه قوله فيما نقلنا عنه في فصل تعديد القوى:«و اعلم أنّ القبول لقوّة غير القوّة التي بها الحفظ،فاعتبر ذلك من الماء،فإنّ له قبول النّقش و الرّقم و بالجملة الشّكل و ليس له قوّة حفظ»أنّ القبول من حيث هو قبول مغاير للحفظ من حيث هو حفظ،فإنّهما لو كانا متّحدين،لما تخلّف أحدهما عن الآخر،كما في الماء،حيث إنّ له القبول دون الحفظ.و حيث كان متخلّفا أحدهما عن الآخر،فكان أحدهما غير الآخر،و كان مصدراهما أيضا متغايرين،لأنّ الواحد لا يصدر عنه من جهة واحدة إلاّ الواحد،كان الحسّ المشترك من حيث إنّه قابل للصّور غير الخيال من حيث إنّه حافظ لها،و بهذا يتمّ الدّليل على وجودهما،و على مغايرة أحدهما للآخر.

ص:330

و لا يرد النقض بالأشياء التي تجتمع فيها القبول و الحفظ معا،كالأرض التي يجتمع فيها قبول صورة ما و حفظها،لأنّ ذلك إنّما هو لقوّتين فيها،و كالخيال نفسه الذي هو مع حفظ الصّورة قابل لها أيضا حيث إنّ حفظ الصّورة لا يتصوّر بدون القبول،لأنّ الخيال ليس شأنه بذاته قبول الصّور،بل إنّما ذلك القبول من جهة أنّه لمّا كان خزانة للحسّ المشترك القابل للصّور و حافظا لها،و كان الحفظ متوقّفا على القبول مسبوقا به،فلذا كان قابلا لها أيضا،و كان قبولها لها لا بالذات،بل بالواسطة و بالعرض،كما أنّ كثيرا من القوى يصدر عنها بالذّات فعل،و بالواسطة فعل آخر مغاير للأوّل،و المقصود إثبات قوّة شأنها بالذّات أن تكون قابلة للصّور.و ظاهر أنّ الخيال ليس كذلك،بل إنّما هي الحسّ المشترك، كما أنّ المقصود،إثبات قوّة شأنها بالذّات حفظ الصّور،و هي ليست بالحسّ المشترك،بل إنّما هي الخيال.

و كذلك لا يرد النّقض بالأشياء التي يصدر عنها الكثير،كالحسّ المشترك الذي يجتمع فيه صور المحسوسات و يدركها جميعا،و كالنّفس التي تصدر عنها أفعال مختلفة أشرنا إليه من قبل،حيث قلنا إنّ الصّادر بالذّات من الحسّ المشترك هو استثبات الصّور، ثمّ يصير مستثبتا لأنواع المحسوسات،كالألوان و الطّعوم و الروائح و غيرها بقصد ثان، لانقسام تلك الصّور إليها،و أنّ النّفس إنّما يتكثّر فعلها لتكثّر وجوه الصّدورات عنها.

و قوله:«و ليس إليها حكم البتّة بل حفظ،و أمّا الحسّ المشترك و الحواس الظّاهرة، فإنّها تحكم بجهة ما،أو بحكم ما،فيقال:إنّ هذا المتحرّك أسود،و إنّ هذا الأحمر حامض، و هذا الحافظ لا يحكم به على شيء من الموجود إلاّ على ما في ذاته،بأنّ فيه صورة كذا».

بيان لفرق آخر بين الحسّ المشترك و الخيال غير ما تقدّم.

و شرحه:أنّه كما أنّهما متغايران من جهة الصّورة الحاصلة فيهما باعتبار أنّ أحدهما -و هو الحسّ المشترك-قابل لها لا حافظ،و الآخر-و هو الخيال-حافظ بذاته لا قابل، و أنّ قبولها لها لا لذاته بل بالعرض.و لأجل أنّ الحفظ يتوقّف على القبول،كذلك بينهما فرق آخر يدلّ على تغايرهما،و هو أنّ الخيال و المصوّرة ليس إليهما حكم البتّة بوجه من

ص:331

الوجوه،بالقياس إلى الصّور التي هي حافظة لها إلاّ على ما فى ذاتها بأنّ فيها صورة كذا، و أمّا الحسّ المشترك،فإنّه يحكم بها و عليها حكما إيجابيّا أو سلبيّا،و يميّز بينها كما مرّ.

و إنّما قال:«و أمّا الحسّ المشترك و الحواسّ الظّاهرة،فإنّها تحكم»و ضمّ إلى الحسّ المشترك الحواسّ الظّاهرة في ذلك،مع أنّه ليس إليها أيضا حكم كما مرّ.إشعارا بأنّ الحسّ المشترك له حكم بمعونة الحواسّ الظّاهرة،و يتأدّى الصّور منها إليه،فكأنّها شريكة له في ذلك.

و قوله:«ثمّ قد نعلم يقينا أنّ في طبيعتنا أن نركّب المحسوسات بعضها إلى بعض،و أن نفصّل بعضها عن بعض لا على الصّورة التي وجدناها عليها من خارج،و لا مع تصديق بوجود شيء منها أو لا وجوده،فيجب أن يكون فينا قوّة تفعل ذلك بها،و هذه هي التي تسمّى إذا استعملها العقل مفكّرة،و إذا استعملها قوّة حيوانيّة متخيّلة».

بيان لإثبات القوّة المتخيّلة،و لمغايرتها لقوّة الخيال،و لتسميتها مفكّرة و متخيّلة باعتبارين،و شرحه واضح،و إنّما خصّها هنا بتركيب الصّور التي لا وجود لها في الخارج و تفصيلها إشعارا بأنّ أغلب أفعالها و أظهرها إنّما هو تركيب الصّور التي لا وجود لها في الخارج و تفصيلها،و إلاّ فمن شأنها تركيب الصّور الموجودة في الخارج أيضا و تفصيلها، كما يدلّ عليه إطلاق كلامه فيما نقلنا عنه في تعديد القوى،حيث قال:«من شأنها أن تركّب بعض ما في الخيال مع بعض،و تفصّل بعضها عن بعض بحسب الإرادة».

و بقي شيء،و هو أنّ كلامه في«الإشارات»حيث قال في بيان هذه القوّة:«لها أن تركّب و تفصّل ما يليها من الصّور المأخوذة من الحسّ،و المعاني المدركة بالوهم، و تركّب أيضا الصّور بالمعاني و تفصّلها عنها،و تسمّى عند استعمال العقل مفكّرة،و عند استعمال الوهم متخيّلة،مع دلالته على أنّه من شأنها أيضا تركيب المعاني بالمعاني و تفصيلها عنها،و الحال أنّه لم يذكر ذلك في هذا الكلام منه في«الشفاء»،كأنّه موهم لاختصاص الصّور المركّبة و المفصّلة بالصّور الموجودة في الحال،حيث إنّ الحسّ أي الحسّ الظّاهر لا يدرك إلاّ الموجودة دون المخترعة.فعلى هذا فيكون بين كلامه في

ص:332

«الشفاء»و كلامه في«الإشارات»مخالفة من وجهين.

فيه رفع المخالفة بين كلامي الشيخ في الشفاء و الإشارات

و أمّا رفع تلك المخالفة من الوجه الأوّل،فيمكن بأن يقال:لعلّه في هذا القول من «الشّفاء»لو أراد بالصّور مقابل المعاني،و لم يرد بها الصّورة الحاصلة من الشيء مطلقا -سواء كانت صورا بحسب الاصطلاح أو معان بحسبه-اكتفى ببيان بعض أفعال تلك القوّة،و هو تركيب الصّور بعضها ببعض و تفصيلها عنها،حيث إنّ المقصود و هو إثبات القوّة المتخيّلة يتمّ به،و هذا لا ينافي أن يكون من شأنها أيضا تركيب المعاني بالمعاني و تفصيلها عنها،و كذا تركيب الصّور بالمعاني و تفصيلها عنها،و يدلّ عليه أنّه فيما بعد ذلك من كلامه،قال هكذا:«و هذه القوّة المركّبة بين الصّورة و الصّورة،و بين الصّورة و المعنى،و بين المعنى و المعنى،كأنّها القوّة الوهميّة بالموضوع»-إلى آخره-فذكر جميع أفعالها.

و أمّا هو في«الإشارات»فبيّن جميع أفعالها المذكورة.

و أمّا رفع المخالفة من الوجه الثاني،فيمكن بأن يقال:لعلّه في«الشّفاء»-كما ذكرنا- خصّص في أحد كلاميه الصّور بالصّور غير الموجودة إشعارا بأنّها الأعمّ الأغلب الأظهر، و في كلامه الآخر،أطلق الصّور إشعارا ببيان الواقع.

و في«الإشارات»إمّا أن أراد بالصّور المأخوذة من الحسّ الصّور المأخوذة من الحسّ مطلقا،سواء كان حسّا ظاهرا،أم حسّا باطنا،فتشمل الصّور الواقعيّة الموجودة التي تدركها الحواسّ الظّاهرة،فتدركها الحسّ المشترك،و تجتمع في الخيال و الصّور المخترعة،غير الموجودة التي يخترعها الخيال،و يصدق عليها أنّها مأخوذة من الخيال.

و إمّا أن أراد بالصّور المأخوذة من الحسّ الصّور التي من شأنها أن يدركها الحسّ الظّاهر،و يمكن أن تؤخذ منه،سواء كانت صورا واقعية أو غير واقعيّة،بل مخترعة،فإنّ هذه أيضا من شأنها أن تؤخذ من الحسّ الظّاهر على تقدير إمكان وجودها.و على

ص:333

التقديرين،فيكون كلامه موافقا لما ذكره في«الشّفاء»في فصل تعديد القوى.و على تقدير تسليم أنّه أراد بالصّور المأخوذة من الحسّ الصّور الواقعيّة المأخوذة بالفعل من الحسّ الظّاهر،فلعلّه اكتفى في تركيب الصّور و تفصيلها بالصّور الواقعة،إشعارا بأنّ هذا أيضا من جملة أفعال تلك القوّة،و بأنّه به أيضا يتمّ المقصود،و هو إثبات المتخيّلة،و لا ينافي ذلك أن يكون من شأنها أيضا تركيب الصور غير الواقعيّة و تفصيلها.

ثمّ إنّ قوله:«ثمّ إنّا قد نحكم في المحسوسات بمعان لا نحسّها،إمّا أن لا تكون في طبائعها محسوسة البتّة و إمّا أن تكون محسوسة،لكنّا لا نحسّها وقت الحكم»-إلى آخره-.

بيان لإثبات القوّة التي تسمّى و هما و لمغايرتها للنّفس النّاطقة و لسائر القوى الحيوانيّة.

و قوله:«إنّا قد نحكم»-إلى آخره-أي إنّا قد نحكم حكما جزئيّا في المحسوسات الجزئيّة المخصوصة بمعان جزئيّة مخصوصة لا نحسّها.

و قوله:«إمّا أن تكون في طبائعها محسوسة»-إلى آخره-أي أنّ تلك المعاني الجزئيّة التي لا نحسّها،و هي المحكوم بها في المحسوسات المخصوصة الجزئيّة،قسمان:

قسم لا يكون من شأنها أن تكون محسوسة بإحدى الحواسّ الظّاهرة،و قسم يكون من شأنها أن تكون محسوسة،لكنّا لا نحسّها وقت الحكم بها في تلك المحسوسات.

و فيه دلالة على أنّ المعاني تطلق على القسمين جميعا،و كأنّه اصطلاح خاصّ.

و يوافقه أيضا ما سيأتي في كلامه من قوله:«و قد جرت العادة بأن يسمّى مدرك الحسّ صورة،و مدرك الوهم معنى»و كذا ما ذكره في فصل تعديد القوى بهذه العبارة (1):«و الفرق بين إدراك الصّورة،و إدراك المعنى،أنّ الصّورة هو الشيء الذي يدركه الحسّ الباطن و الحسّ الظّاهر (2)،و الحسّ الظّاهر يدركه أوّلا و يؤدّيه إلى الحسّ الباطن،مثل إدراك الشاة صورة (3)الذئب أعني بشكله (4)و هيئته و لونه،فإنّ الحسّ الباطن من الشاة يدركها،لكن

ص:334


1- -الشفاء الطبيعيّات 35/2،الفصل الخامس من المقالة الاولى. [1]
2- في المصدر:و الحسّ الظاهر معا،لكن الحسّ...
3- لصورة...
4- أعني لشكله.

إنّما يدركها أوّلا حسّها الظاهر.و أمّا المعنى فهو الشيء الذي يدركه (1)النّفس من المحسوس من غير أن يدركه الحسّ الظاهر أوّلا،مثل إدراك الشّاة للمعنى المضادّ في الذئب أو للمعنى الموجب لخوفها إيّاه و هربها (2)منه،من غير أن يدرك الحسّ ذلك البتّة.

فالذي يدرك من الذّئب أوّلا الحسّ الظاهر،ثمّ الحسّ الباطن،فإنّه يخصّ في هذا الموضع باسم الصّورة،و الذي يدركه (3)القوى الباطنة دون الحس فيخصّ في هذا الموضع باسم المعنى»-انتهى-حيث إنّ قوله:«و أمّا المعنى فهو الشيء الذي يدركه النّفس من المحسوس من غير أن يدركه الحسّ الظاهر أوّلا»أعمّ من أن يكون ممّا لا يمكن أن يدركه الحسّ الظّاهر أصلا،و أن يكون ممّا يمكن أن يدركه لكنّه لم يدركه حين الحكم.

و كذا قوله:«و الذي يدركه القوى الباطنة دون الحسّ فيخصّ في هذا الموضع باسم المعنى»فتدبّر.

و على هذا فقوله في تعديد القوى في بيان القوّة الوهميّة (4):«إنّها (5)قوّة مرتّبة في نهاية التجويف الأوسط من الدّماغ،تدرك المعاني الغير (6)المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئيّة،كالقوّة الموجودة في الشّاة الحاكمة بأنّ هذا الذّئب مهروب عنه، و أنّ هذا الولد هو المعطوف عليه»ينبغي أن يحمل على أنّ القوّة الوهميّة تدرك المعاني الغير المحسوسة،سواء كانت غير محسوسة أصلا أو محسوسة،لكنّها تكون غير محسوسة وقت الحكم،فهذا أيضا يشمل القسمين جميعا،و أمّا ذكر القسم الأوّل بخصوصه فعلى سبيل المثال.

و كذلك ينبغي أن يحمل عليه كلامه في«الإشارات»حيث قال في مقام إثبات القوّة الوهميّة و القوّة الحافظة هكذا (7):«و أيضا فإنّ الحيوانات ناطقها و غير ناطقها تدرك في المحسوسات الجزئيّة معان جزئيّة غير محسوسة و لا متأدّية من طريق الحواسّ، كإدراك (8)الشّاة معنى في الذئب غير محسوس،و إدراك الكبش معنى في النعجة غير

ص:335


1- في المصدر:الذي تدركه...
2- و هربها عنه...
3- تدركه القوّة...
4- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 36/2 الفصل الخامس من المقالة الاولى.
5- و هي قوّة...
6- غير المحسوسة...
7- -شرح الإشارات 341/3. [2]
8- مثل إدراك الشاة.

محسوس،إدراكا جزئيّا يحكم به،كما يحكم الحسّ بما يشاهده،فعندك قوّة هذا شأنها، و أيضا فعندك و عند كثير من الحيوانات العجم قوّة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم (1)غير الحافظ للصّورة (2)»-انتهى-،فإنّ الظّاهر أنّ قوله:«معان جزئية غير محسوسة» إشارة إلى القسم الأوّل،و قوله:«و لا متأدّية من طريق الحواسّ»إشارة إلى القسم الثّاني، و أنّ ذكر إدراك الشّاة معنى في الذئب-إلى آخره-على سبيل المثال.

دقيقة

و حيث عرفت ذلك،ظهر لك أنّ ما ذكره المحقّق الطّوسي(ره)في«شرح الإشارات» في ذيل كلام الشّيخ في شرح القوى الدّرّاكة من باطن،«إنّ الصّورة هي ما يمكن أن تدرك بالحواسّ الظاهرة،و المعنى ما لا يمكن أن يدرك بها»و قد تبعه في ذلك كثير من المتأخّرين،و بالجملة قد خصّوا المعنى بالقسم الأوّل فقط،كأنّه اصطلاح آخر منهم أو غفلة عن كلام الشيخ،و حينئذ فكلام هؤلاء في إثبات القوّة الوهميّة بإدراك المعاني الجزئيّة التي أرادوا بها القسم الأوّل فقط،إن كان مبناه على أنّ هذا الطريق أوضح طريق في اثباتها و فيه غنية،فلا غبار عليه،و إن كان مبناه على أنّ إثباتها إنّما هو بإدراك القسم الأوّل فقط،ففيه شيء،لأنّه كما يمكن إثباتها بذلك،يمكن إثباتها بإدراك القسم الثّاني أيضا،كما ذكره الشّيخ هنا،و يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

و قوله:«أمّا التي لا تكون محسوسة في طباعها»-إلى آخره-بيان القسم الأوّل من المعاني الغير المحسوسة،و لإثبات القوّة الوهميّة بإدراكها و لمغايرتها لما سواها.و إنّما أسند هنا إدراك تلك المعاني إلى الشاة،مع أنّه فيما تقدّم من قوله:«ثمّ إنّا قد نحكم في المحسوسات بمعان لا نحسّها»أسنده إلينا-أي إلى النّفس الناطقة-إشعارا بأنّ إدراكها إنّما هو من خواصّ النّفس الحيوانيّة بما هي حيوانيّة،و كما أنّها يدركها الإنسان يدركها

ص:336


1- في المصدر:الحاكم بها...
2- للصور.

الحيوان أيضا.و لا فرق في ذلك بين الإنسان و الحيوانات العجم.فالإنسان أيضا إنّما يدركها بقوّته الحيوانيّة.

و قوله:«و هذه امور تدركها النّفس الحيوانيّة»فيه-مع التّصريح بما علم ضمنا من كون إدراكها من خواصّ النّفس الحيوانيّة بما هي حيوانيّة-دلالة على كون مدرك هذه الأمور مغايرا للنّفس الناطقة الإنسانيّة،لأنّه لو كان عينها،لما أدركها الحيوانات العجم التي ليس لها نفس ناطقة،و هذا مع قطع النظر عن أنّ النّفس النّاطقة الإنسانيّة-بما هي نفس ناطقة-إنّما تدرك الكلّيّ من حيث هو كلّيّ،و هذه الأمور أمور جزئيّة مخصوصة،لا يمكن أن يدركها بالذّات ما هو مدرك للكلّيّ.

و قوله:«و الحسّ لا يدلّها على شيء منها»فيه دلالة على مغايرة مدرك هذه الأمور للحسّ المشترك،فإنّه و إن كان حاكما بين الجزئيات مدركا لها مميّزا بينها،إلاّ أنّ مدركاته يجب أن تكون متأدّية إليه من طرق الحواسّ مجتمعة عنده،و هذه الأمور ليست كذلك،لأنّها حيث لم يكن من شأنها أن تكون محسوسة،كيف يمكن تأدّيها إليه من طرق الحواسّ،فلا هي ممّا يتأدّى إليه من طرق الحواسّ الظّاهرة-و هذا ظاهر-و لا من طرق الحواسّ الباطنة كالخيال،إذ ما في الخيال أيضا يجب أن يكون ممّا أن يتأدّى من طرق الحواسّ الظّاهرة،و تكون مخزونة فيه.

و إنّما لم يشر إلى وجه مغايرتها للحواسّ الظّاهرة و للباطنة أيضا غير الوهم،لظهور وجه المغايرة.

و قوله:«فإذن القوّة التي بها تدرك قوّة اخرى و لتسمّ الوهم»أي أنّه حيث ظهر أنّ مدرك هذه الأمور يجب أن يكون غير النّفس النّاطقة و غير الحسّ المشترك و غير الحواسّ الظاهرة و ما سوى الوهم من الباطنة،ظهر أنّ مدركها قوّة أخرى غير هذه،و نحن نسمّيها الوهم،و فيه المطلوب.

و قوله:«و أمّا التي تكون محسوسة،فإنّا نرى مثلا شيئا أصفر،فنحكم أنّه عسل و حلو،فإنّ هذا ليس يؤدّيه إليه الحاسّ في هذا الوقت،و هو من جنس المحسوس»بيان

ص:337

للقسم الثّاني من المعاني،و إثبات القوّة الوهميّة بإدراكه،أي أنّا قد نرى مثلا شيئا أصفر و لم نر عسلا قطّ،إلاّ أنّا سمعنا أنّ العسل يكون أصفر و حلوا،أو رأيناه وقتا ما و لم يثبت صورته في خيالنا أيضا،فنحكم بسبب رؤيتنا شيئا أصفر أنّه عسل و حلو،و لا شكّ أنّ هذا الحكم-حيث كان حكما جزئيّا-ليس الحاكم به أوّلا و بالذّات هو النّفس النّاطقة، و لا الحسّ المشترك،إذ هو،و إن كان حاكما جزئيّا في المحسوسات،إلاّ أنّ مدركه يجب أن يتأدّى إليه من طرق الحواسّ،و المفروض أنّ الصّورة العلميّة ليست كذلك،لأنّها لم تتأدّ إليه في ذلك الوقت من طرق الحواسّ الظّاهرة-و هذا ظاهر كما هو المفروض-و لا من طريق الحواسّ الباطنة كالخيال مثلا،لأنّ ما في الخيال أيضا ينبغي أن يكون متأدّيا من الحواسّ الظّاهرة إلى الحسّ المشترك،ثمّ إلى الخيال حتّى يمكن تأديته ثانيا من الخيال إلى الحسّ المشترك،و هذا ليس كذلك.إذا المفروض أنّا لم نر العسل قطّ،و على تقدير فرض رؤيتنا له وقتا ما،فالمفروض عدم ثبوت صورته في الخيال حتّى يمكن تأدّيها منه إليه.و ظاهر أيضا أنّ الحاكم به ليس شيئا من الحواسّ الظّاهرة مطلقا،و لا القوى الثلاث الباطنة،أي الخيال و المتخيّلة و الحافظة غير الحسّ المشترك،فبقي أن يكون مدركة قوّة اخرى،و نحن نسمّيها الوهم،و فيه المطلوب.

و قوله«على أنّ الحكم نفسه ليس بمحسوس البتّة،و إن كانت أجزاؤه من جنس المحسوس،و ليس يدركه في الحال،إنّما هو حكم يحكم به،و ربّما غلط به و هو أيضا لتلك القوّة».

بيان لإثبات الوهم بوجه آخر،و معناه على أنّ هذا الحكم الجزئيّ نفسه ليس بمحسوس البتّة،أي ليس كما يحكم الحسّ بما يشاهده من الحكم الفصل القطعيّ،بل حكما جزئيّا تخييليّا ليس بفصل،و ليس معناه أنّ هذا الحكم ليس من جنس الصّور،بل من جنس المعاني،حتّى يرد أنّ الحكم مطلقا سواء كان حكما كلّيّا كحكم النّفس النّاطقة، أو جزئيّا كحكم الحسّ المشترك،كذلك و لا اختصاص له بحكم القوّة الوهميّة،و بالجملة، فهذا الحكم ليس كحكم الحسّ بما يشاهده من الحكم الفصل،بل حكما ليس كذلك و إن

ص:338

كانت أجزاؤه من جنس ما يمكن أن يدرك بالحسّ،و مع ذلك فليس الحاكم به يدرك جنس أجزائه في الحال،بل لم يدرك بعض أجزائه بحسب الحسّ كما هو المفروض،بل إنّما هو حكم يحكم به الحاكم به على سبيل البغتة و الفلتة من غير تدبّر فيه،و ربّما غلط فيه،فالحاكم به ليس هو النّفس النّاطقة التي هي تحكم حكما كلّيّا فصلا،و لا الحسّ المشترك الذي هو أيضا يحكم حكما فصلا و إن كان جزئيّا،و لا شيئا من القوى الحيوانيّة الأخر.فبقي أن يكون الحاكم به هو القوّة الاخرى الّتي نسمّيها القوّة الوهميّة.

و منه يظهر أنّه على تقدير فرض تأدّي الصّورة العسليّة من الحواسّ الظّاهرة،أو من الخيال أيضا،حينئذ لا يمكن إسناد هذا الحكم إلى الحسّ المشترك،لأنّه إنّما يحكم حكما جزئيّا فصلا،و هذا الحكم ليس بفصل كما عرفت.

فإن قلت:إذا كان فعل القوّة الواهمة الحكم في المحسوسات بمعان غير محسوسة كما ذكرت،فلا شكّ أنّ تلك المحسوسات من أجزاء حكمها،فيجب أن تدركها أيضا حتّى يمكن لها أن تحكم فيها أو عليها بتلك المعاني،فكيف ذلك؟

قلت:لعلّ فعلها بالذّات إنّما هو إدراك تلك المعاني و الحكم بها،و أمّا إدراك تلك المحسوسات في ضمن الحكم،فلعلّه هو فعلها بالعرض و بالواسطة،أو بتوسّط آلة مدركة للصّور المحسوسة،حيث كانت القوى الحيوانيّة خوادم لها،و لا حجر في ذلك إذا كانت الجهتان متغايرتين،و اللّه أعلم.

و قوله:«و في الإنسان للوهم أحكام خاصّة،من جملتها حملها النّفس على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيّل،و لا ترتسم فيه،و ثانيها التّصديق بها،فهذه القوّة لا محالة موجودة فيها»،أي أنّه من جملة الأحكام الخاصّة المستندة إلى الوهم في الإنسان،أنّ الوهم ربّما يحمل النّفس الإنسانيّة على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيّل،و لا ترتسم فيه، أي في الوهم كالمعقولات الكلّيّة و المجرّدات عن المادّة،و من جملتها أنّه ربّما يحملها على التّصديق بوجود أشياء متخيّلة مرتسمة في الوهم،و إن كان يمنع منه العقل،فيعلم منه أنّ هذه القوّة لا محالة موجودة في النّفس الإنسانيّة،و من جملة قواها.

ص:339

و قوله:«و هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقليّ،و لكن حكما تخييليّا مقرونا بالجزئيّة و بالصّور الحسّيّة،و عنه يصدر أكثر الأفعال الحيوانيّة».

فيه بيان لمعنى كون حكم الوهم ليس بمحسوس،أي ليس بفصل كالحكم العقليّ و كحكم الحسّ بما يشاهده،بل حكما تخييليّا،و كذا فيه بيان لكون الوهم رئيسا في الحيوان للقوى الحيوانيّة.و معنى رئاسته أنّه مستخدم لسائر القوى الحيوانيّة،و لا سيّما الباطنة،و لا سيّما المتخيّلة،كما سيأتي.و إشارة إلى أنّه-حيث كان رئيسا للقوى الحيوانيّة،و عنه يصدر أكثر أفعالها-ينبغي أن يكون آلتها الدّماغ كلّه،أي الرّوح المصبوب في الدّماغ كلّه،و أنّ ما ذكروه من أنّ آلتها التجويف الأوسط من الدّماغ أو المؤخّر منه إنّما هو لمزيد اختصاصه بذلك التجويف الأوسط و المؤخّر منه،لأجل استخدام القوّة المتخيّلة المرتّبة في ذلك التجويف و في المقدّم منه،و لذلك قال في الإشارات:«و آلتها الدّماغ كلّه،لكنّ الأخصّ بها هو التجويف الأوسط» (1).

و قوله«و قد جرت العادة بأن يسمّى مدرك الحسّ صورة و مدرك الوهم معنى»قد مضى معناه.

و قوله«و لكلّ واحد منهما خزانة»-إلى آخره-.

فيه إشارة إلى إثبات الخيال بعد ما أشار إليه أوّلا.و كذا فيه إشارة إلى إثبات الحافظة.

و بالجملة،ففيه إشارة إلى إثبات هاتين القوّتين بطريقين:أحدهما الطريق الذي يناسب مذهب الحكماء،و الآخر الطريق الذي يناسب مسلك الأطبّاء،يعني أنّ لكلّ واحد من مدرك الحسّ و مدرك الوهم خزانة هي الحافظة لما يدركه المدرك له.

فخزانة مدرك الحسّ هي القوّة الخياليّة و المصوّرة و موضعها مقدّم الدّماغ،أي آخر التجويف المقدّم من الدّماغ تحفظ ما قبله الحسّ المشترك من الحواسّ الجزئيّة الخمس، و يبقى فيها بعد غيبة تلك المحسوسات،فلذلك إذا حدثت في مقدّم الدّماغ آفة فسد هذا الباب من التّصوّر و الحفظ،و فساده إمّا بأن يتخيّل الخيال صورا ليست في الواقع،و إمّا

ص:340


1- -شرح الإشارات 345/2. [1]

بأن يصعب استثبات الموجود فيه.

و خزانة مدرك المعنى هي القوّة التي تسمّى حافظة،و معدنها مؤخّر الدّماغ،أي البطن المؤخّر منه،و لا سيّما مقدّمة،و لذلك إذا وقع هناك آفة وقع الفساد فيما يختصّ بحفظ هذه المعاني.

و قوله:«و هذه القوّة تسمّى أيضا متذكّرة،فتكون حافظة لصيانتها ما فيها،و متذكّرة لسرعة استعدادها لاستثباته و التّصوّر بها،مستعيدة إيّاها إذا فقدت».

بيان لأنّ هذه القوّة-أي الحافظة-تسمّى متذكّرة أيضا باعتبارين،أمّا كونها حافظة، فلصيانتها ما فيها من المعاني المتأدّية إليها من الوهم،و أمّا كونها متذكّرة،فلسرعة استعدادها لاستثبات تلك المعاني و التّصوّر بها،مستعيدة لتلك المعاني إذا فقدتها بسبب من الأسباب و زالت هي عنها.

و قوله:«و ذلك إذا أقبل الوهم بقوّته المتخيّلة»-إلى آخر ما ذكره-.

بيان لكيفيّة تذكّرها لتلك المعاني و استعادتها إيّاها و استرجاعها لها،و محصّله أنّه إذا فقدت القوّة الحافظة تلك المعاني،ثمّ فرضنا أنّه أقبل الوهم الذي هو رئيس القوى الحيوانيّة بمعونة القوّة المتخيّلة التي هي خادمته كأنّها من قواه،فجعل يلاحظ واحدا واحدا من الصّور الموجودة في الخيال،ليكون كأنّه يشاهد الأمور التي هذه صورها،فإذا لاحظ الصّورة التي أدرك أوّلا معها أو فيها ذلك المعنى الذي أدّاه إلى الحافظة و اختزنته ثمّ زال عنها،لاح للوهم مرّة أخرى ذلك المعنى كما لاح من خارج،و حيث لاح له المعنى حينئذ أدّاه إلى الحافظة ثانيا،و استثبته القوّة الحافظة أيضا مرّة أخرى،فيكون هذا الاستثبات ثانيا ذكرا و تذكّرا و استرجاعا و استعادة،و يكون رجوع هذه القوّة الحافظة إلى لوح الصّورة،أي الخيال لا لضبط الصّورة نفسها،بل لضبط المعنى الذي معها ثانيا، و ليس الرّاجع إليه أوّلا و بالذّات هو هذه القوّة،بل الرّاجع إليه في الحقيقة هو الوهم،لكن لا بنفسها،بل بمعونة القوّة المتخيّلة،و ليس رجوعه إليه أيضا بالذات لأجل إدراك الصّورة،بل لأجل إدراك المعنى الذي معها ثانيا،حتّى يؤدّيه إلى الحافظة ثانيا،فتضبطه

ص:341

ضبطا بعد آخر،فتكون هذه القوّة أيضا راجعة إليه بالعرض بتوسّط رجوع الوهم إليه.ثمّ إنّه كما يمكن الرّجوع في ذلك إلى لوح الصّورة أي الخيال-كما ذكر-كذلك يمكن الرّجوع فيه إلى الحسّ الظّاهر،و ذلك إذا أشكل التذكّر و الاسترجاع و الاستعادة للمعنى من جهة الرّجوع إلى الخيال،و أورد الحسّ مرّة أخرى صورة شيء معه ذلك المعنى الذي بطل و عادت تلك الصّورة مستقرّة في الخيال.ثمّ توجّه الوهم و لاحظ ذلك المعنى فيه ثانيا فأدّاه إلى الحافظة،فاستقرّ ذلك المعنى فيها،و استثبته و ضبطته مرّة أخرى،فتذكّرته، و هذا الذي إنّما هو محصّل كلام الشّيخ هنا،و ينبغي أن يحمل عليه،و إن كان لا يخلو عن إغلاق ما يزول بتفسيره.

و هو أنّ قوله:«فجعل يعرض واحدا واحدا من الصّور الموجودة في الخيال»أي فجعل الوهم يشاهد ما في الخيال من الصّور،لا لأجل إدراك الصّور و الحكم بها،بل لأجل إدراك المعاني التي معها،و فيه دلالة على أنّ الوهم كما يدرك المعاني،و يحكم بها بالذّات، كذلك يدرك الصّور التي فيها تلك المعاني بالعرض،كما ذكرنا سابقا.

و قوله:«و استثبتته القوّة الحافظة في نفسها،كما كانت حينئذ تستثبت»أي حين لاح للوهم مرّة أخرى ذلك المعنى الذي لاح أوّلا و بطل،استثبتت القوّة الحافظة ذلك المعنى اللائح ثانيا في نفسها كما كانت تستثبت المعنى الذي لاح للوهم أوّلا.

و قوله:«فكان ذكرا»أي كان هذا الاستثبات ثانيا ذكرا،و بذلك يصدق على هذه القوّة الحافظة أنّها ذاكرة و متذكّرة.

و قوله:«و ربّما كان المصير من المعنى إلى الصّورة،فيكون المتذكّرة المطلوب ليس نسبته إلى ما في خزانة الخيال»أي كما أنّه قد يكون مصير الوهم و مصير الحافظة بتوسّط من الصّورة إلى المعنى كما ذكر،كذلك قد يكون مصيرهما من المعنى إلى الصّورة،و ذلك إذا كان معنى من المعاني التي حكم بها الوهم في المحسوسات و أدّاه إلى الحافظة مضبوطا في الحافظة غير منسيّ،إلاّ أنّه كانت تلك الصّورة التي أدرك معها الوهم ذلك المعنى منسيّة،فرجع الوهم حينئذ إلى لوح الصّورة و خزانة الخيال يعرف أنّ أيّا من تلك الصّور

ص:342

المخزونة فيه لها نسبة إلى ذلك المعنى المخصوص،حتّى يحكم ثانيا أنّ تلك الصّورة المعيّنة فيها ذلك المعنى المضبوط،فيكون المتذكّرة-بل الوهم أيضا-ليس المطلوب نسبتهما إلى ما في خزانة الخيال من الصّور من جهة نفس تلك الصّور،بل من جهة إدراك نسبة ذلك المعنى فيهما ثانيا،و بذلك يصدق أيضا على الحافظة أنّها متذكّرة.

ثمّ إنّ قوله:«و كان إعادة إمّا في وجود العود»،-إلى آخره-فقوله:«و كان إعادة» عطف على قوله:«فكان ذكرا»،و قوله:«إلى هذه المعاني»متعلّق بالعود،و قوله:«إلى لوح الصّور»متعلّق بقوله:«إعادة»،و قوله:«و إمّا بالرجوع إلى الحسّ»عطف على قوله:«إمّا في وجود العود»و المعنى أنّه كما كان هذا الاستثبات-أي استثبات المعنى ثانيا بعد بطلانه ذكرا لذلك-كان ذلك إعادة أيضا،و بذلك يصدق على الحافظة أنّها مستعيدة و مسترجعة كما أنّها متذكّرة،و أنّ هذه الإعادة إمّا إلى لوح الصّورة،أي الخيال لأجل حصول العود إلى هذه المعاني الزائلة التي كانت محفوظة في الحافظة أوّلا و فقدتها حتّى تضبط تلك المعاني مرّة اخرى،و تستثبتها الحافظة ثانيا،أي بأن تعود النسبة الى ما في الخيال ثانيا،لا لإدراك ما فيها من الصّور أو ضبطها،بل لأجل إدراك المعاني التي فيها و ضبطها و حفظها ثانيا،بعد ما فقدت و زالت.

و إمّا هذه الإعادة بالرّجوع إلى الحسّ لأجل ما ذكر أيضا.

و قوله:«مثال الأوّل»-إلى آخره-،هذا مثال للإعادة إلى لوح الصّورة.

و قوله:«فإن أشكل عليك ذلك من هذه الجهة أيضا و لم يتّضح فأورد عليك الحسّ» -إلى آخره-مثال للرجوع إلى الحسّ.

ثمّ إنّك حيث عرفت معنى كلام الشيخ و تلخيص مؤدّاه،عرفت أنّ مراده أنّ التّذكّر و الاستعادة و الاسترجاع كلّها معنى واحد،و هو عبارة عن ضبط المعنى و حفظه ثانيا بعد ضبطه و حفظه أوّلا و زواله عن الحافظة،و بالجملة فليس ذلك شيئا سوى الحفظ إلاّ بالاعتبار.فكما أنّ القوّة الحافظة تسمّى حافظة باعتبار حفظ المعنى و استثباته أوّلا، تسمّى متذكّرة و ذاكرة و مستعيدة و مسترجعة باعتبار حفظه و استثباته ثانيا و مرّة

ص:343

أخرى.

و أنّه حيث لم يكن التّذكّر و الاسترجاع و الإعادة مغايرة للحفظ و الضبط بالذّات، بل بالاعتبار،أي بحسب الحصول في الزمانين الأوّل و الثّاني،فلم يستلزم أن يكون الحفظ لقوّة،و التذكّر و الاسترجاع لقوّة أخرى،لعدم الاختلاف الذّاتيّ بينهما،حتّى يستدعي كلّ منهما مبدأ مغايرا لمبدإ الآخر.و هذا كما أنّ الوهم الذي فعله الحكم بالمعاني التي في المحسوسات إذا حكم بذلك في زمان ثمّ حكم بعد زوال المعنى و تذكّر به في زمان آخر ثان،لا يقتضي أن يكون كلّ من الحكمين لمبدإ متغاير،و أن يكون القوّة التي بها حكم به أوّلا مغايرة للقوّة التي بها حكم ثانيا،و لم يقل به أحد أيضا،بل إنّ هذه القوّة أيضا متّحدة بالذّات،متغايرة بالاعتبار.و بحسب الزّمان.

و حينئذ يظهر لك اندفاع ما أورده الإمام الرازي في شرح الإشارات على الشّيخ (1)، حيث ذكر ما حاصله:«أنّ حفظ المعاني مغاير لاسترجاعها بعد زوالها،فإن وجب أن ينسب كلّ فعل إلى قوّة»كما هو مذهب الشّيخ،وجب أن يكون القوى أكثر ممّا ذكره.

بل اندفاع ما ذكره المحقّق الطّوسيّ(ره)في ذلك المقام أيضا،حيث قال (2):«و الحقّ أنّ الذّكر ملاحظة المحفوظ،فهو مركّب من إدراك الشيء (3)ادرك في وقت آخر و فحفظ (....)،و الاسترجاع طلب تلك الحافظة بالفكر،فإذن الذّاكرة ليست هي قوّة بسيطة،بل هي مبدأ فعل مركّب من أفعال قوّتين:مدركة و حافظة،و المسترجعة مبدأ فعل تركّب (4)من أفعال ثلاث قوى:متصرّفة و مدركة و حافظة».

و بيان اندفاعها ظاهر على المتأمّل فيما ذكرنا.

ثمّ إنّ قول الشيخ،«و هذه القوّة المركّبة بين الصّورة و الصّورة،و بين المعنى و الصّورة،و بين المعنى و المعنى،كأنّها القوّة الوهميّة بالموضوع،لا من حيث يحكم،بل

ص:344


1- -راجع شرح الإشارات 346/2. [1]
2- -شرح الإشارات 347/2.
3- في المصدر:إدراك لشيء...
4- فعل يتركّب.

من حيث يعمل ليصل إلى الحكم»-إلى آخر الفصل-.

تفسيره واضح.و ليست هذه الكلمات منه دالّة على اضطرابه في أمر هذه القوى كما فهمه الإمام الرازي،إذ ليس يشتبه على مثل الشّيخ ذلك،بل إنّ مراده كما فهمه المحقّق الطوسيّ(ره)منه،أن المبدأ الذي ينسب إليه التّخيّل و التّذكّر و الحفظ هو الوهم،و لذلك جعله رئيسا حاكما على القوى الحيوانيّة،كما أنّ مبدأ الجميع في الإنسان هو النّفس الناطقة،فتدبّر.

و بما ذكرنا تمّ شرح كلام الشّيخ و تمّ تعديد القوى الحيوانيّة.و قد بقي القول في كثير من أحكام تلك القوى،و خصوصا القول في النّوم و اليقظة و الرّؤيا الصّادقة و الكاذبة و أمثال ذلك ممّا هو له مناسبة و اتّصال بأفعال المصوّرة و المفكّرة من هذه القوى على ما قالوه،إلاّ أنّ تفصيل القول في ذلك حيث كان موجبا للإطناب،لم نتكلّم فيه مخافة ملالة الأصحاب.

في القوى الإنسانيّة

و حيث عرفت تعديد القوى الحيوانيّة،فلنتكلّم في القوى الإنسانيّة،فنقول:

قال الشّيخ في«الشّفاء» (1)في فصل تعديد قوى النّفس:«و أمّا النّفس النّاطقة الإنسانيّة فينقسم (2)قواها إلى قوّة عاملة و قوّة عالمة،و كلّ واحد (3)من القوّتين يسمّى (4)عقلا باشتراك الاسم أو تشابهه،فالعاملة (5)هي مبدأ محرّك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئيّة الخاصّة بالرّوية على مقتضى آراء تخصّها اصطلاحيّة،و لها اعتبار بالقياس إلى القوّة الحيوانيّة النّزوعيّة،و اعتبار بالقياس إلى القوّة المتخيّلة الحيوانيّة و المتوهّمة، و اعتبار بالقياس إلى نفسها.

ص:345


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 37/2-40،الفصل الخامس من المقالة الاولى.
2- في المصدر:فتنقسم...
3- و كلّ واحدة...
4- تسمّى...
5- فالعاملة قوّة هي.

فاعتبارها بالقياس (1)إلى القوّة الحيوانيّة النّزوعيّة،هو القبيل الذي يحدث (2)فيه هيئات تخصّ الإنسان يتهيّأ بها بسرعة (3)و فعل و انفعال،مثل الخجل و الحياء و الضّحك و البكاء و ما أشبه ذلك.

و اعتبارها (4)بحسب القياس إلى القوّة الحيوانيّة المتخيّلة و المتوهّمة،هو القبيل الذي ينحاز (5)إليه إذا اشتغلت باستنباط التّدابير في الأمور الكائنة الفاسدة،و استنباط الصّناعات الإنسانيّة.

و اعتبارها الذي بحسب القياس إلى نفسها،هو القبيل الذي يتولّد (6)من العقل العمليّ و النظريّ الآراء التي تتعلّق بالأعمال و تستفيض ذائعة مشهورة،مثل أنّ الكذب قبيح، و الظّلم قبيح،لا على سبيل التّبرهن،و ما أشبه ذلك من المقدّمات المحدودة للانفصال عن الأوّليّات العقليّة في كتب المنطق (7).

و هذه القوّة يجب أن تتسلّط على سائر قوى البدن على حسب ما يوجبه (8)أحكام القوّة الأخرى التي نذكرها حتّى لا تنفعل عنها البتّة،بل تنفعل تلك عنها و تكون متبوعة (9)دونها،لئلاّ يحدث (10)فيها عن البدن هيئات انقياديّة مستعادة (11)من الأمور الطبيعيّة و هي الّتي تسمّى أخلاقا (12)رذيلة،بل يجب أن تكون غير منفعلة البتّة و غير منقادة،بل تتسلّط (13)،فيكون لها أخلاق فضيلة،و قد يجوز أن ينسب (14)الأخلاق إلى القوى البدنيّة أيضا،و لكن إن كانت هي الغالبة يكون (15)لها هيئة فعليّة،و لهذا الفعل قوّة انفعاليّة،و لتسمّ كلّ هيئة خلقا،فيكون شيء واحد يحدث منه خلق (16)في ذلك،و إن كانت هي المغلوبة يكون لها هيئة انفعاليّة،و لذلك هيئة فعليّة غير غريبة،فيكون ذلك أيضا هيئتين و خلقين، أو يكون الخلق واحدا له نسبتان.

و إنّما كانت الأخلاق التي فينا منسوبة إلى هذه القوّة،لأنّ النّفس الإنسانيّة-كما

ص:346


1- في المصدر:بحسب القياس...
2- تحدث منه فيها...
3- لسرعة و فعل...
4- و اعتبارها الذي بحسب...
5- تنحاز إليه...
6- تتولّد فيه بين العقل...
7- العقليّة المحصنة في كتب المنطق،و إن كانت إذا برهن عليها صارت من العقليّة أيضا على ما عرفت في كتب...
8- توجبه...
9- مقموعة...
10- تحدث...
11- مستفادة...
12- أخلاقا رذيليّة...
13- بل متسلّطة فتكون لها أخلاق فضيليّة...
14- تنسب...
15- تكون لها هيئة...
16- خلق في هذا و خلق في ذلك...

يظهر (1)بعد-جوهر واحد،له نسبة و قياس إلى جنبتين؛جنبة هي تحته،و جنبة هي فوقه، و له بحسب كلّ جنبة قوّة بها ينتظم (2)العلاقة بينه و بين تلك الجنبة.

فهذه القوّة العمليّة هي القوّة التي (3)لأجل العلاقة إلى الجنبة التي (4)دونها و هو البدن و سياسته.و أمّا القوّة النظريّة،فهي القوّة (5)التي لأجل العلاقة إلى الجنبة التي فوقها (6)، لتنفعل و يستفيد منها و تقبل (7)عنها،فكأن للنّفس منّا وجهين:وجه إلى البدن،و يجب أن يكون هذا الوجه غير قابل البتّة أثرا من جنس مقتضى طبيعة البدن،و وجه إلى المبادي العالية،و يجب أن يكون هذا الوجه دائم القبول عمّا هناك و التّأثّر منه.فمن الجهة السفليّة يتولّد (8)الاخلاق،و من الجهة الفوقانيّة (9)يتولّد العلوم،فهذه هي القوّة العمليّة.

و أمّا القوّة النظريّة،فهي قوّة من شأنها أن تنطبع بالصّور الكلّيّة المجرّدة عن المادّة، فإن كانت مجرّدة بذاتها،فأخذها بصورتها في نفسها أسهل،و إن لم تكن فإنّها تصير مجرّدة بتجريدها إيّاها،حتّى لا يبقى فيها عن (10)علائق المادّة شيء،و سنوضح كيفيّة هذا من بعد.

و هذه القوّة النظريّة لها إلى هذه (11)الصّورة نسب مختلفة،و ذلك لأنّ الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئا قد يكون بالقوّة قابلا له،و قد يكون بالفعل قابلا له.و القوّة تقال على (12)معان ثلاثة بالتّقديم و التّأخير:

فيقال قوّة للاستعداد المطلق الذي لا يكون خرج منه بالفعل شيء،و لا أيضا حصل ما به يخرج،كقوّة الطفل على الكتابة.

و يقال قوّة لهذا الاستعداد إذا كان لم يحصل للشيء إلاّ ما يمكنه به أن يتوصّل إلى اكتساب الفعل بلا واسطة،كقوّة الصبيّ الذي ترعرع،و عرف الدواة و القلم و بسائط الحروف على الكتابة.

ص:347


1- في المصدر:يظهر من بعد...
2- تنتظم...
3- التي له لأجل...
4- التي دونه...
5- التي له لأجل...
6- التي فوقها،لينفعل...
7- و يقبل عنها...
8- تتولّد الأخلاق...
9- تتولّد العلوم...
10- فيها من علائق...
11- هذه الصور على...
12- ثلاثة معان.

و يقال قوّة لهذا الاستعداد إذا تمّ (1)بآلاته،و حدث مع الآلة أيضا كمال الاستعداد،بأن يكون له أن يفعل متى شاء بلا حاجة إلى اكتساب (2)،بل يكفيه أن يقصد فقط،كقوّة الكاتب المستكمل للصّناعة إذا كان لا يكتسب (3)؛و القوّة الاولى تسمّى (4)كمال القوّة،فالقوّة النظريّة إذن تارة يكون (5)نسبتها إلى الصّور المجرّدة التي ذكرناها نسبة ما بالقوّة المطلقة، و ذلك بين (6)ما يكون هذا القوّة التي للنّفس لم تقبل بعد شيئا من الكمال الذي بحسبها، و حينئذ تسمّى عقلا هيولانيّا (7)،تشبيها لها باستعداد الهيولى الاولى التي ليست (8)بذاتها ذات صورة من الصّور،و هي موضوعة لكلّ صورة.

و تارة نسبة ما بالقوّة الممكنة،و هي أن يكون (9)القوّة الهيولانيّة قد حصل لها (10)من المعقولات الاولى التي يتوصّل منها و بها إلى المعقولات الثانيّة (11)،و أعني بالمعقولات الأولى المقدّمات التي يقع بها التصديق لا بالاكتساب (12)،و لا بأن يشعر المصدّق بها إنّه كان يجوز له أن يخلو عن التصديق بها وقتا البتّة،مثل اعتقادنا بأنّ الكلّ أعظم من الجزء،و أنّ الأشياء المساوية (13)لشيء واحد بعينه متساوية،فما دام (14)أنّه يحصل فيه من معنى ما بالفعل هذا القدر بعد،فإنّه (15)يسمّى عقلا بالملكة،و يجوز أن (16)يسمّى هذا عقلا بالفعل بالقياس إلى (17)الأوّل،لأنّ القوّة التي ليس لها أن تعقل شيئا بالفعل،و أمّا (18)أنّ هذه،فإنّ لها أن تعقل إذا أخذت تجب (19)بالفعل.

و تارة تكون نسبة ما بالقوّة الكماليّة،و هو أن يكون حصل فيها أيضا الصّورة (20)المعقولة المكتسبة بعد المعقولة الأوّليّة،إلاّ أنّه ليس يطالعها و يرجع إليها بالفعل،بل كأنّها عنده مخزونة،فمتى شاء طالع تلك الصّورة بالفعل فعقلها،و عقل أنّه قد عقلها،و يسمّى

ص:348


1- في المصدر:تمّ بالآلة...
2- الى الاكتساب...
3- لا يكتب...
4- تسمّى مطلقة و هيولانيّة،و القوّة الثانية تسمّى قوّة ممكنة،و القوّة الثالثة تسمّى كمال القوّة...
5- تكون نسبتها...
6- ذلك حينما تكون...
7- هيولانيّا،و هذه القوّة التي تسمّى عقلا هيولانيّا موجودة لكلّ شخص من النوع،و إنّما سميّت هيولانيّة تشبيها إيّاها باستعداد...
8- ليست هي بذاتها...
9- أن تكون القوّة...
10- حصل فيها من المعقولات المعقولات الاولى...
11- الثانية،أعني...
12- لا باكتساب...
13- الأشياء المتساوية...
14- فما دام إنّما حصل فيها من معنى...
15- فإنّها تسمّى...
16- أن تسمّى عقلا...
17- إلى الاولى،لأنّ القوّة الاولى ليس...
18- و أمّا هذه...
19- تبحث...
20- الصور.

عقلا بالفعل،لأنّه عقل (1)متى شاء بلا تكلّف اكتساب،و إن كان يجوز أن يسمّى عقلا بالقوّة بالقياس إلى ما بعدها (2).

و تارة تكون النسبة نسبة ما بالفعل المطلق،و هو أن يكون (3)الصّورة المعقولة حاضرة فيه،و هو يطالعها بالفعل،فيعقلها العقل (4)،و يعقل أنّه يعقلها بالفعل،فيكون ما حصل له حينئذ يسمّى عقلا مستفادا (5)،لأنّه سيتّضح لنا أنّ العقل بالقوّة إنّما يخرج إلى الفعل بسبب عقل هو دائما بالفعل،و أنّه إذا اتّصل العقل بالقوّة بذلك العقل الذي بالفعل نوعا من الاتّصال (6)،و انطبع فيه نوع من الصّور تكون مستفادة من خارج.

فهذه أيضا مراتب القوى التي تسمّى (7)عقلا نظريّة.و عند العقل المستفاد يتمّ الجنس الحيوانيّ و النّوع الإنسانيّ (8)و هناك يكون (9)القوّة الإنسانيّة قد تشبّهت بالمبادي الأولى للوجود كلّه»-انتهى كلامه-.

و قال في الإشارات بعد تفصيل القوى الحيوانيّة هكذا (10):«إشارة،و أمّا نظير هذا التفصيل في قوى النّفس الإنسانيّة على سبيل التصنيف (11)،فهو أنّ النّفس الإنسانيّة التي لها أن تعقل جوهر له قوى و كمالات.

فمن قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن،و هي القوّة التي تختصّ باسم العقل العمليّ،و هي التي تستنبط الواجب فيما يجب أن يفعل من الامور الإنسانيّة جزئيّة، ليتوصّل به إلى أغراض اختياريّة من مقدّمات أوّليّة و ذائعة و تجربيّة،و باستعانة بالعقل النظريّ في الرأى الكلّيّ إلى أن ينتقل به إلى الجزئيّ.

و من قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تكميل جوهرها عقلا بالفعل،فأولاها قوّة استعداديّة لها نحو المعقولات،و قد يسمّيها قوم عقلا هيولانيّة (12)،و هي المشكاة.

و يتلوها (13)قوّة أخرى يحصل (14)لها عند حصول المعقولات (15)لها،فيتهيّأ بها لاكتساب

ص:349


1- في المصدر:يعقل...
2- ما بعده...
3- أن تكون...
4- فيعقلها بالفعل...
5- مستفادا،و إنّما سمّي عقلا مستفادا لأنّه...
6- الاتّصال انطبع...
7- تسمّى عقولا نظريّة...
8- الإنسانيّ منه...
9- تكون...
10- -شرح الإشارات 351/2-354. [1]
11- سبيل التضيّف...
12- عقلا هيولانيّا...
13- تتلوها...
14- تحصل...
15- المعقولات الاولى، فتتهيّأ بها.

الثّواني،إمّا بالفكرة،و هي الشجرة الزيتونة إن كانت ضعيفة (1)،أو بالحدس،و هي (2)زيت أيضا إن كانت أقوى من ذلك،فتسمّى عقلا بالملكة،و هو (3)الزجاجة،و الشريعة البالغة منها قوّة قدسيّة،يكاد زيتها يضيء (4)و لو لم تمسسه نار،ثمّ يحصل بعد ذلك قوّة و كمال، أمّا الكمال،فأن يحصل لها المعقولات بالفعل مشاهدة متمثّلة في الذهن،و هو نور على نور.و أمّا القوّة،فأن يكون لها أن (5)تحصّل المعقول المكتسب المفروغ منه كالمشاهد متى شئت من غير افتقار إلى اكتساب،و هو المصباح.و هذا الكمال يسمّى عقلا مستفادا؛ و هذه القوّة تسمّى عقلا بالفعل.و الذي يخرج من الملكة إلى الفعل التّامّ،و من الهيولى أيضا إلى الملكة فهو العقل الفعّال و هو النّار».-انتهى-.

ثمّ قال (6):«تنبيه:لعلّك تشتهي الآن أن تعرف الفرق بين الفكرة و الحدس؛فاسمع (7):

أمّا الفكرة فهي حركة ما للنّفس في المعاني،مستعينة بالتخيّل في أكثر الأمر،يطلب بها الحدّ الأوسط،أو ما يجري مجراه ممّا يصار به إلى العلم بالمجهول حالة (8)الفقر استعراضا للمخزون في الباطن و ما يجرى مجراه،فربّما تأدّت إلى المطلوب،و ربّما انبثّت (9).و أمّا الحدس،فهو (10)أن يتمثّل (11)الحدّ الأوسط في الذهن دفعة،إمّا عقيب طلب و شوق من غير حركة،و إمّا من غير اشتياق و حركة،و يتمثّل منه ما هو وسط له أو في حكمه».

ثمّ قال (12):«إشارة (13).و لعلّك تشتهي أن تعرف زيادة دلالة على القوّة القدسيّة و إمكان وجودها،فاسمع (14):أ لست تعلم أنّ للحدس وجودا،و أنّ للنّاس (15)فيه مراتب،و في الفكر (16)،فمنهم غبيّ لا يعود (17)عليه الفكر مراده،و منهم من له فطانة إلى حدّ ما و يستمتع بالفكر،و منهم من هو أثقف من ذلك و له إصابة في المعقولات بالحدس.و تلك الثّقافة غير متشابهة في الجميع،بل ربّما قلّت و ربّما كثرت،و كما أنّك تجد جانب النقصان منتهيا إلى

ص:350


1- في المصدر:كانت ضعفى...
2- بالحدس فهي زيت...
3- و هي الزجاجة و الشريفة البالغة...
4- يضيء ثمّ يحصل لها بعد ذلك...
5- أن يحصل...
6- -شرح الإشارات 358/2. [1]
7- فاستمع...
8- حالة الفقد...
9- انبتّت...
10- و هو أن...
11- يتمثّل معه...
12- -شرح الإشارات 359/2-360. [2]
13- و لعلّك تشتهي زيادة...
14- فاستمع...
15- و أنّ للإنسان...
16- و في الفكرة...
17- لا تعود عليه الفكرة برادة.

عديم الحدس،فأتقن (1)أنّ الجانب الذي يلي الزيادة يمكن انتهاؤه إلى غنيّ في أكثر أحواله عن التّعلّم و الفكر» (2)-انتهى موضوع الحاجة من كلامه-.

و أقول:ما نقلنا من كلامه في«الشفاء»و اف ببيان تعديد القوى الإنسانيّة لا يحتاج إلى شرح،فلذا طويناه على غرّة.و كذا كلامه في«الإشارات»و اف ببيانه مع الإشارة إلى بعض مراتب أخر كالحدس و القوّة القدسيّة،و مع الإشارة إلى أنّ المراتب المرتّبة النظريّة نظير مراتب نور اللّه تعالى كما ورد في التنزيل،حيث قال عزّ و جلّ: اَللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ -الآية (3)-و إلى تلك المراتب مطابقة لهذه المراتب،و قد ورد في الخبر«من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (4).

و الحاصل أنّ المشكاة شبيهة بالعقل الهيولانيّ،لكونها مظلمة في ذاتها،قابلة للنّور على التّساوي لاختلاف السطوح و الثقب فيها،و الزّجاجة بالعقل بالملكة،لأنّها شفّافة في نفسها،قابلة للنّور أتمّ قبول،و الشجرة الزيتونة بالفكرة التي أشار إلى بيان ماهيّتها، لكونها مستعدّة لأن تصير قابلة للنّور بذاتها،لكن بعد حركة كثيرة و تعب،و الزّيت بالحدس الذي أشار إلى بيان ماهيّته،لكونه أقرب إلى ذلك من الزيتونة،و الذي يكاد زيتها يضيء و لو لم تمسسه نار بالقوّة القدسيّة التي أشار إلى بيان ماهيّتها،لأنّها تكاد تعقل بالفعل و لو لم يكن شيء يخرجها من القوّة إلى الفعل،و نور على نور بالعقل المستفاد،لأنّه ينير بذاته من غير احتياج إلى نور يكتسبه و النّار بالعقل الفعّال الذي يقولون به و يقولون إنّ الاتّصال به نوعا من الاتّصال هو المخرج من القوّة إلى الفعل،لأنّ المصابيح تشتعل منها.

و هذا آخر ما أردنا ايراده من تعديد قوى النّفس الإنسانيّة.فلنختم الباب به و لنرجع إلى بيان المقصود الآخر،فنقول:الباب الرابع...

ص:351


1- في المصدر:فأيقن...
2- و الفكرة.
3- -النور35/. [1]
4- -بحار الانوار 32/2؛99/61:293/69،و [2]قد مرّ.

ص:352

الفهرس

الباب الأوّل في إثبات النفس و إنّيّتها و تحديدها من حيث هي نفس نقل كلام و تحقيق مرام 8

«في شرح كلام الشيخ»17

إيراد شبهة هنا و دفعها 56

مناقشة مع الشيخ 58

نكتة 83

كلام مع المحقّق الطوسيّ و غيره 84

ذكر أوهام مع رفعها 98

الباب الثاني في بيان حقيقة النفس و ماهيّتها في تأويل بعض تلك المذاهب المنقولة:123

تأويل بعض الاحاديث الواردة في الروح 124

في بيان جوهريّة النفس 142

في بيان اختصاص الإنسان بالقوّة العقليّة 155

ص:353

خاصّيّة للإنسان 155

خاصّيّة أخرى للإنسان 156

خاصّيّة ثالثة للإنسان 157

فى بيان القوى النظريّة و العمليّة للنفس الإنسانيّة 158

تمهيد في أنّ النفس الناطقة الإنسانيّة جوهر مجرّد عن المادّة 161

نقل كلام و تنقيح مرام 161

فصل في العلم و أنّه عرض 166

في نصرة القول بوجود الأشياء بأعيانها في الذهن 174

في وجه الاختلاف في أنّ العلم من أيّ مقولة 179

في الإشارة إلى توجيه القول باتّحاد العاقل مع المعقول 184

كلام مع المحقّق الطوسيّ 188

في تحرير ما ذكره في الشفاء في العلم 190

في الفرق بين اعتبارات الماهيّة 197

في الإشارة إلى دفع إشكال آخر هنا 201

في الاشارة إلى دفع شكوك و أوهام ربّما يمكن أن تورد على دليل تجرّد النّفس الإنسانيّة الناطقة 216

سؤال و جواب 224

في الإشارة إلى براهين اخر على هذا المطلوب قد ذكرها القوم 228

فيما ذكره بعض مفسّري كلام أرسطو(هو أبو عليّ أحمد بن محمّد مسكويه)229

شواهد سمعيّة على هذا المطلب 233

فيما استدلّ به بعض العلماء على نفي تجرّد النّفس الإنسانيّة مع جواب ذلك الاستدلال 233

ص:354

في الاشارة إلى أنّه باتّضاح الدّليل على تجرّد النّفس النّاطقة الإنسانية يتّضح الدّليل على جوهريّتها أيضا 245

في أنّ النّفس الإنسانيّة واحدة بالذّات مختلفة بالاعتبار 246

الوجه الأوّل 248

الوجه الثّاني 250

في إبطال ما تمسّكوا به في تعدّد النّفس في الإنسان 254

شكّ مع حلّه 257

في كيفيّة صدور الأفعال المختلفة عن الإنسان 259

في الإشارة إلى أنّ تلك القوى المتخالفة كيف يخدم بعضها بعضا 272

في الإشارة إلى أنّ أيّا من الأفاعيل تقتضي قوّة على حدة 273

في الكلام في آلات النّفس و الأعضاء التي يتعلّق بها القوّة الرّئيسة من النّفس 279

في الإشارة إلى المناسبة بين النّفس و البدن و احتياج أحدهما إلى الآخر و الارتباط بينهما 285

الباب الثالث في تعديد قوى النّفس الإنسانيّة على ما هو المشهور بين الجمهور في الإشارة إلى الحكمة في القوى النباتيّة 292

و أمّا الكلام في القوى الحيوانيّة 295

في الحكمة في القوى المحرّكة الحيوانيّة 297

في القوى المدركة الحيوانيّة 297

في اللاّمسة 298

في الذّائقة 301

في الشّامّة 302

ص:355

في السّامعة 303

في الباصرة 303

في الحواسّ الباطنة 305

في الاشارة إلى أنّ إثبات تلك القوى الخمس بالدّليل و أنّ الحكماء و الأطبّاء اختلفوا في ذلك ظاهرا 306

في الكلام في الحسّ المشترك 316

في الدليل على وجود الحسّ المشترك 320

بيان إيراد مع دفعه 321

إيراد آخر مع دفعه 324

دقيقة 324

في إثبات الحسّ المشترك للحيوانات العجم أيضا و الإشارة إلى دفع ذلك الإيراد بوجه آخر 325

فيه رفع المخالفة بين كلامي الشيخ في الشفاء و الإشارات 333

دقيقة 336

في القوى الإنسانيّة 345

ص:356

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.