ص: 2

بسم الله الرّحمن الرّحیم

سألت أبا علیّ عن ترک صرف (زوبر) فقال : علّقه علما علی القصیده ، فاجتمع فیه التعریف والتأنیث ؛ کما اجتمع فی (سبحان) التعریف والألف والنون.

ومنه - فیما ذکره أبو علیّ - ما حکاه أبو زید من قولهم : کان ذلک الفینه ، وفینه ، وندری ، والندری. فهذا ممّا اعتقب علیه تعریفان : العلمیّه ، والألف واللام. وهو کقولک : شعوب ، والشعوب للمنیّه. [وعروبه والعروبه]. کما أن الأوّل کقولک : فی الفرط والحین. [ومثله (غدوه) جعلوها علما للوقت].

وکذلک أعلام الزمان ، نحو صفر ، ورجب ، وبقیّه الشهور ، [وأوّل وأهون وجبار ، وبقیّه تلک الأسماء].

ومنه أسماء الأعداد ، کقولک : ثلاثه نصف ستّه ، وثمانیه ضعف أربعه ، إذا أردت قدر العدد لا نفس المعدود ، فصار هذا اللفظ علما لهذا المعنی.

ومنه ما أنشده صاحب الکتاب من قوله :

أنا اقتسمنا خطّتینا بیننا

فحملت برّه واحتملت فجار (1)

فبرّه اسم علی لمعنی البرّ ، فلذلک لم یصرف للتعریف والتأنیث. وعن مثله عدل فجار ، أی عن فجره. وهی علم مصروف ؛ کما أن برّه کذلک. وقول سیبویه : إنها

ص: 4

معدوله عن الفجره تفسیر علی طریق المعنی ، لا علی طریق اللفظ. وذلک أنه أراد أن یعرّف أنه معدول عن فجره علما ، ولم تستعمل تلک علما فیریک ذلک ، فعدل عن لفظ العلمیه المراد إلی لفظ التعریف فیها المعتاد. وکذلک لو عدلت عن برّه هذه لقلت : برار ؛ کما قال : فجار. وشاهد ذلک أنهم عدلوا حذام وقطام عن حاذمه وقاطمه ، وهما علمان ؛ فکذلک یجب أن تکون فجار معدوله عن فجره علما أیضا.

ومن الأعلام المعلّقه علی المعانی ما استعمله النحویون فی عباراتهم من المثل المقابل بها الممثّلات ؛ نحو قولهم : (أفعل) إذا أردت به الوصف وله (فعلاء) لم تصرفه. فلا تصرف أنت (أفعل) هذه ؛ من حیث صارت علما لهذا المثال ؛ نحو أحمر ، وأصفر ، وأسود ، وأبیض. فتجری (أفعل) هذا مجری أحمد ، وأصرم علمین. وتقول : (فاعله) لا تنصرف معرفه ، وتنصرف نکره. فلا تصرف (فاعله) ؛ لأنها علم لهذا الوزن ، فجرت مجری فاطمه وعاتکه. وتقول : (فعلان) إذا کانت له (فعلی) فإنه لا ینصرف معرفه ولا نکره. فلا تصرف (فعلان) هذا ؛ لأنه علم لهذا الوزن ، بمنزله حمدان ، وقحطان. ونقول : وزن طلحه (فعله) ، ومثال عبیثران (فعیللان) ، ومثال إسحارّ (1) (إفعالّ) ، ووزن إستبرق (استفعل) ، ووزن طریفه (فعیله). وکذلک جمیع ما جاء من هذا الطرز. وتقول : وزن إبراهیم (فعلالیل) فتصرف هذا المثال ، لأنه لا مانع له من الصرف ؛ ألا تری أنه لیس فیه أکثر من التعریف ، والسبب الواحد لا یمنع الصرف. ولا تصرف إبراهیم للتعریف والعجمه. وکذلک وزن جبرئیل (فعلئیل) فلا تصرف جبرئیل ، وتصرف مثاله.

والهمزه فیه زائده ؛ لقولهم : جبریل. وتقول : مثال جعفر (فعلل) فتصرفهما جمیعا ؛ لأنه لیس فی کل واحد منهما أکثر من التعریف.

وقد یجوز إذا قیل لک ما مثال (أفکل) أن تقول : مثاله (أفعل) فتصرفه حکایه لصرف أفکل ؛ کما جررته حکایه لجرّه ؛ ألا تراک إذا قیل لک : ما مثال ضرب ، قلت : فعل ، فتحکی فی المثال بناء ضرب ، فتبنیه کما بنیت مثال المبنیّ ، کذلک حکیت إعراب أفکل وتنوینه فقلت فی جواب ما مثال أفکل : مثال أفعل ، فجررت

ص: 5

کما صرفت. فاعرف ذلک.

ومن ذلک قولهم : قد صرّحت (1) بجدّان ، وجلدان. فهذا علم لمعنی الجدّ.

ومنه قولهم : أتی علی ذی بلیان. فهذا علم للبعد ؛ قال :

تنام ویذهب الأقوام حتّی

یقال أتوا علی ذی بلّیان (2)

فإن قلت : ولم قلّت الأعلام فی المعانی ، وکثرت فی الأعیان ؛ نحو زید ، وجعفر ، وجمیع ما علّق علیه علم وهو شخص؟ قیل : لأن الأعیان أظهر للحاسّه ، وأبدی إلی المشاهده ، فکانت أشبه بالعلمیه ممّا لا یری ولا یشاهد حسّا ، وإنما یعلم تأمّلا واستدلالا ، ولیست کمعلوم الضروره للمشاهده.

* * *

ص: 6

وسبب اجتماعهما هنا فی هذه الصفه أن التذکیر إنما أتاها من قبل المصدریه ؛ فإذا قیل : رجل عدل فکأنه وصف بجمیع الجنس مبالغه ؛ کما تقول : استولی علی الفضل ، وحاز جمیع الرئاسه والنبل ، ولم یترک لأحد نصیبا فی الکرم والجود ، ونحو ذلک. فوصف بالجنس أجمع ؛ تمکینا (لهذا الموضع) ، وتوکیدا.

وقد ظهر منهم ما یؤیّد هذا المعنی ویشهد به. وذلک نحو قوله - أنشدناه أبو علیّ - :

ألا أصبحت أسماء جاذمه الحبل

وضنّت علینا والضنین من البخل (1)

فهذا کقولک : هو مجبول من الکرم ، ومطین من الخیر ، وهی مخلوقه من البخل. وهذا أوفق معنی من أن تحمله علی القلب ، وأنه یرید به : والبخل من الضنین ؛ لأن فیه من الإعظام والمبالغه ما لیس فی القلب.

ومنه ما أنشدناه أیضا من قوله :

*وهنّ من الإخلاف قبلک والمطل (2) *

و [قوله] :

*وهنّ من الإخلاف والولعان (3) *

وأقوی التأویلین فی قولها :

*فإنما هی إقبال وإدبار (4) *

ص: 8

أن یکون من هذا ، أی کأنها مخلوقه من الإقبال والإدبار ، لا علی أن یکون من باب حذف المضاف ، أی ذات إقبال وذات إدبار. ویکفیک من هذا کلّه قول الله - عزوجل - (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبیاء : 37] وذلک لکثره فعله إیّاه ، واعتیاده له. وهذا أقوی معنی من أن یکون أراد : خلق العجل من الإنسان ؛ لأنه أمر قد اطّرد واتّسع ، فحمله علی القلب یبعد فی الصنعه ، و (یصغّر المعنی).

وکأنّ هذا الموضع لمّا خفی علی بعضهم قال فی تأویله : إن العجل هنا الطین.

ولعمری إنه فی اللّغه کما ذکر ؛ غیر أنه فی هذا الموضع لا یراد به إلا نفس العجله والسرعه ؛ ألا تراه - عزّ اسمه - کیف قال عقبه (سَأُرِیکُمْ آیاتِی فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) [الأنبیاء : 37] فنظیره قوله تعالی : (وَکانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : 11] ، (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِیفاً) [النساء : 28] ؛ لأن العجله ضرب من الضعف ؛ لما تؤذن به من الضروره والحاجه.

فلمّا کان الغرض فی قولهم : رجل عدل ، وامرأه عدل إنما هو إراده المصدر والجنس جعل الإفراد والتذکیر أماره للمصدر المذکّر.

فإن قلت : فإن نفس لفظ المصدر قد جاء مؤنّثا ؛ نحو الزیاده ، والعباده ، والضئوله ، والجهومه ، والمحمیه ، والموجده ، والطلاقه ، والسباطه. وهو کثیر جدّا.

فإذا کان نفس المصدر قد جاء مؤنثا ، فما هو معناه ، ومحمول بالتأویل علیه أحجی بتأنیثه.

قیل : الأصل - لقوّته - أحمل لهذا المعنی ، من الفرع لضعفه. وذلک أن الزیاده ، والعباده ، والجهومه ، والطلاقه ، ونحو ذلک مصادر غیر مشکوک فیها ، فلحاق التاء لها لا یخرجها عمّا ثبت فی النفس من مصدریتها. ولیس کذلک الصفه ؛ لأنها لیست فی الحقیقه مصدرا ؛ وإنما هی متأوّله علیه ، ومردوده بالصنعه إلیه. فلو قیل : رجل عدل ، وامرأه عدله - وقد جرت صفه کما تری - لم یؤمن أن یظنّ بها

ص: 9

أنها صفه حقیقیه ؛ کصعبه من صعب ، وندبه من ندب ، وفخمه من فخم ، ورطبه من رطب. فلم یکن فیها من قوّه الدلاله علی المصدریه ما فی نفس المصدر ؛ نحو الجهومه ، والشهومه ، والطلاقه ، والخلاقه. فالأصول لقوّتها یتصرّف فیها ، والفروع لضعفها یتوقّف بها ، ویقصر عن بعض ما تسوّغه القوّه لأصولها.

فإن قلت : فقد قالوا : رجل عدل ، وامرأه عدله ، وفرس طوعه القیاد ، وقال أمیّه - أنشدناه - :

والحیّه الحتفه الرّقشاء أخرجها

من بیتها آمنات الله والکلم (1)

قیل : هذا ممّا خرج علی صوره الصفه ؛ لأنهم لم یؤثروا أن یبعدوا کلّ البعد عن أصل الوصف الذی بابه أن یقع الفرق فیه بین مذکّره ومؤنّثه ، فجری هذا فی حفظ الأصول ، والتلفت إلیها ، ، (للمباقاه لها) ، والتنبیه علیها ، مجری إخراج بعض المعتلّ علی أصله ؛ نحو استحوذ ، وضننوا - وقد تقدّم ذکره - ومجری إعمال صغته وعدته ، وإن کان قد نقل إلی (فعلت) لمّا کان أصله (فعلت). وعلی ذلک أنّث بعضهم فقال : خصمه ، وضیفه ؛ وجمع ، فقال :

یا عین هلا بکیت أربد إذ

قمنا وقام الخصوم فی کبد (2)

وعلیه قول الآخر :

إذا نزل الأضیاف کان عذوّرا

علی الحیّ حتی تستقلّ مراجله (3)

الأضیاف هنا بلفظ القلّه ومعناها أیضا ؛ ولیس کقوله :

*وأسیافنا یقطرن من نجده دما (4) *

ص: 10

فی أن المراد به معنی الکثره. وذلک أمدح ؛ لأنه إذا قری الأضیاف وهم قلیل بمراجل الحیّ أجمع ، فما ظنک به لو نزل به الضیفان الکثیرون!

فإن قیل : فلم أنّث المصدر أصلا؟ وما الذی سوّغ التأنیث فیه مع معنی العموم والجنس ، وکلاهما إلی التذکیر ، حتی احتجت إلی الاعتذار له بقولک : إنه أصل ، وإن الأصول تحمل ما لا تحمله الفروع؟.

قیل : علّه جواز تأنیث المصدر مع ما ذکرته من وجوب تذکیره أنّ المصادر أجناس للمعانی ، (کما غیرها) أجناس للأعیان ؛ نحو رجل ، وفرس ، وغلام ، ودار ، وبستان. فکما أن أسماء أجناس الأعیان قد تأتی مؤنّثه الألفاظ ، ولا حقیقه تأنیث فی معناها ؛ نحو غرفه ، ومشرقه ، وعلّیه ، ومروحه ، ومقرمه (1) ؛ کذلک جاءت أیضا أجناس المعانی مؤنّثا بعضها لفظا لا معنی. وذلک نحو المحمده ، والموجده ، والرشاقه ، والجباسه ، والضئوله ، والجهومه.

نعم ، وإذا جاز تأنیث المصدر وهو علی مصدریّته غیر موصوف به ، لم یکن تأنیثه وجمعه ، وقد ورد وصفا علی المحلّ الذی من عادته أن یفرق فیه بین مذکّره ومؤنثه ، وواحده وجماعته ، قبیحا ولا مستکرها ؛ أعنی ضیفه وخصمه ، وأضیافا وخصوما ؛ وإن کان التذکیر والإفراد أقوی فی اللغه ، وأعلی فی الصنعه ؛ قال الله تعالی : (وَهَلْ أَتاکَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) [ص : 21].

وإنما کان التذکیر والإفراد أقوی من قبل أنک لمّا وصفت بالمصدر أردت المبالغه بذلک ، فکان من تمام المعنی وکماله أن تؤکّد ذلک بترک التأنیث والجمع ؛ کما یجب للمصدر فی أوّل أحواله ؛ ألا تری أنک إذا أنّثت وجمعت سلکت به مذهب الصفه الحقیقیّه التی لا معنی للمبالغه فیها ، نحو قائمه ، ومنطلقه ، وضاربات ، ومکرمات.

ص: 11

فکان ذلک یکون نقضا للغرض ، أو کالنقض له. فلذلک قلّ حتی وقع الاعتذار لما جاء منه مؤنّثا أو مجموعا.

وممّا جاء من المصادر مجموعا ومعملا أیضا قوله :

*مواعید عرقوب أخاه بیثرب (1) *

و (بیثرب).

ومنه عندی قولهم : ترکته بملاحس البقر أولادها. فالملاحس جمع ملحس ؛ ولا یخلو أن یکون مکانا ، أو مصدرا ، فلا یجوز أن یکون هنا مکانا ؛ لأنه قد عمل فی الأولاد فنصبها ، والمکان لا یعمل فی المفعول به ، کما أن الزمان لا یعمل فیه.

وإذا کان الأمر علی ما ذکرنا ، کان المضاف هنا محذوفا مقدّرا ، وکأنه قال : ترکته بمکان ملاحس البقر أولادها ؛ کما أن قوله :

وما هی إلا فی إزار وعلقه

مغار ابن همّام علی حیّ خثعما (2)

محذوف المضاف ، أی وقت إغاره ابن همام علی حیّ خثعم ؛ ألا تراه قد عدّاه إلی [(علی) فی] قوله (علی حیّ خثعما). ف (ملاحس البقر) إذا مصدر مجموع معمل فی المفعول به ؛ کما أن (مواعید عرقوب أخاه بیثرب) کذلک. وهو غریب.

وکان أبو علیّ - رحمه الله - یورد (مواعید عرقوب) مورد الطریف المتعجّب منه.

فأمّا قوله :

ص: 12

قد جرّبوه فما زادت تجاربهم

أبا قدامه إلا المجد والفنعا (1)

فقد یجوز أن یکون من هذا. وقد یجوز أن یکون (أبا قدامه) منصوبا ب (زادت) أی فما زادت أبا قدامه تجاربهم إیّاه إلا المجد. والوجه أن ینصب ب (تجاربهم) ؛ لأنه العامل الأقرب ، ولأنه لو أراد إعمال الأوّل لکان حری أن یعمل الثانی أیضا ، فیقول : فما زادت تجاربهم إیّاه أبا قدامه إلا کذا ؛ کما تقول : (ضربت فأوجعته زیدا) ، وتضعّف (ضربت فأوجعت زیدا) علی إعمال الأوّل. وذلک أنک إذا کنت تعمل الأوّل علی بعده ، وجب إعمال الثانی أیضا لقربه ؛ لأنه لا یکون الأبعد أقوی حالا من الأقرب.

فإن قلت : أکتفی بمفعول العامل الأوّل من مفعول العامل الثانی ؛ قیل لک : فإذا کنت مکتفیا مختصرا فاکتفاؤک بإعمال الثانی الأقرب أولی من اکتفائک بإعمال الأوّل الأبعد. ولیس لک فی هذا ما لک فی الفاعل ، لأنک تقول : لا أضمر علی غیر تقدّم ذکر إلا مستکرها ، فتعمل الأوّل فتقول (قام وقعدا أخواک). فأمّا المفعول فمنه بدّ ، فلا ینبغی أن تتباعد بالعمل إلیه ، وتترک ما هو أقرب إلی المعمول فیه منه.

ومن ذلک (فرس وساع) الذکر والأنثی فیه سواء ، وفرس جواد ، وناقه ضامر ، وجمل ضامر ، وناقه بازل ، وجمل بازل ، وهو لباب قومه ، وهی لباب قومها ، وهم لباب قومهم ؛ قال جریر :

تدرّی فوق متنیها قرونا

علی بشر وآنسه لباب (2)

وقال ذو الرمه :

ص: 13

سبحلا أبا شرخین أحیا بناته

مقالیتها فهی اللباب الحبائس (1)

فأمّا ناقه هجان ، ونوق هجان ، ودرع دلاص ، وأدرع دلاص فلیس من هذا الباب ؛ فإن فعالا منه فی الجمع تکسیر فعال فی الواحد. وقد تقدّم ذکر ذلک فی باب ما اتفق لفظه واختلف تقدیره.

ص: 14

الإنسان إذا فکّر فی عظم هذه المخلوقات تضاءل وتخشّع ، وهبطت نفسه ؛ لعظم ما شاهد. فنسب الفعل إلی تلک الحجاره ، لمّا کان السقوط والخشوع مسبّبا عنها ، وحادثا لأجل النظر إلیها ؛ کقول الله سبحانه (وَما رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَلکِنَّ اللهَ رَمی) [الأنفال : 17] وأنشدوا بیت الآخر :

فاذکری موقفی إذا التقت الخی

ل وسارت إلی الرجال الرجالا (1)

أی وسارت الخیل الرجال إلی الرجال.

وقد یجوز أن یکون أراد : وسارت إلی الرّجال بالرّجال ، فحذف حرف الجرّ ، فنصب. والأوّل أقوی. وقال خالد بن زهیر :

فلا تغضبن من سیره أنت سرتها

فأوّل راض سیره من یسیرها (2)

ورجنت الدابّه بالمکان إذا أقامت فیه ، ورجنتها ، وعاب الشیء وعبته ، وهجمت علی القوم ، وهجمت غیری علیهم أیضا ، وعفا الشیء : کثر ، وعفوته : کثّرته ، وفغر فاه ، وفغر فوه ، وشحا فاه ، وشحا فوه ، وعثمت یده ، وعثمتها أی جبرتها علی غیر استواء ، ومدّ النهر ، ومددته ؛ قال الله عزوجل (وَالْبَحْرُ یَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَهُ أَبْحُرٍ) [لقمان : 27] وقال الشاعر :

*ماء خلیج مدّه خلیجان (3) *

وسرحت الماشیه ، وسرحتها ، وزاد الشیء ، وزدته ، وذرا الشیء وذروته : طیّرته ، وخسف المکان ، وخسفه الله ، ودلع لسانه ودلعته ، وهاج القوم ، وهجتهم،

ص: 16

وطاخ الرجل وطخته ، أی لطخته بالقبیح - فی معنی أطخته ، ووفر الشیء ووفرته. وقال الأصمعیّ : رفع البعیر ورفعته - فی السیر المرفوع - وقالوا : نفی الشیء ونفیته ، أی أبعدته ؛ قال القطامیّ :

*فأصبح جاراکم قتیلا ونافیا (1) *

ونحوه نکرت البئر ونکرتها أی أقللت ماءها ، ونزفت ونزفتها.

فهذا کلّه شاذّ عن القیاس وإن کان مطّردا فی الاستعمال ؛ إلا أن له عندی وجها لأجله جاز. وهو أن کل فاعل غیر القدیم سبحانه فإنما الفعل منه شیء أعیره وأعطیه وأقدر علیه ، فهو وإن کان فاعلا فإنه لما کان معانا مقدرا صار کأنّ فعله لغیره ؛ ألا تری إلی قوله سبحانه (وَما رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَلکِنَّ اللهَ رَمی) [الأنفال : 17] نعم ، وقد قال بعض الناس : إن الفعل لله وإن العبد مکتسبه ، وإن کان هذا خطأ عندنا فإنه قول لقوم. فلمّا کان قولهم : غاض الماء أن غیره أغاضه وإن جری لفظ الفعل له ، تجاوزت العرب ذلک إلی أن أظهرت هناک فعلا بلفظ الأوّل متعدّیا ؛ لأنه قد کان فاعله فی وقت فعله إیاه إنما هو مشاء (2) إلیه ، أو معان علیه. فخرج اللفظان لما ذکرنا خروجا واحدا. فاعرفه.

* * *

ص: 17

فهذا نقض عاده الاستعمال ؛ لأن فعلت فیه متعدّ ، وأفعلت غیر متعدّ.

وعلّه ذلک - عندی - أنه جعل تعدّی فعلت وجمود أفعلت کالعوض لفعلت من غلبه أفعلت لها علی التعدّی ؛ نحو جلس وأجلسته ، ونهض وأنهضته ؛ کما جعل قلب الیاء واوا فی التقوی والرعوی والثنوی والفتوی عوضا للواو من کثره دخول الیاء علیها ؛ وکما جعل لزوم الضرب الأوّل من المنسرح لمفتعلن وحظر مجیئه تامّا أو مخبونا ، بل توبعت فیه الحرکات الثلاث ألبتّه تعویضا للضرب من کثره السواکن فیه ؛ نحو مفعولن ومفعولان ومستفعلان ونحو ذلک ممّا التقی فی آخره من الضروب ساکنان.

ونحو من ذلک ما جاء عنهم من أفعلته فهو مفعول ، وذلک نحو أحببته فهو محبوب ، وأجنّه الله فهو مجنون ، وأزکمه فهو مزکوم ، وأکزّه (1) فهو مکزوز ، وأقرّه فهو مقرور ، وآرضه الله فهو مأروض ، وأملأه الله فهو مملوء ، وأضأده (2) الله فهو مضئود ، وأحمّه الله - من الحمّی - فهو محموم ، وأهمّه - من الهم - فهو مهموم ، وأزعقته فهو مزعوق أی مذعور.

ومثله ما أنشدناه أبو علیّ من قوله :

إذا ما استحمّت أرضه من سمائه

جری وهو مودوع وواعد مصدق (3)

وهو من أودعته. وینبغی أن یکون جاء علی ودع.

وأما أحزنه الله فهو محزون فقد حمل علی هذا ؛ غیر أنه قد قال أبو زید : یقولون : الأمر یحزننی ، ولا یقولون : حزننی ، إلا أنّ مجیء المضارع یشهد للماضی. فهذا أمثل ممّا مضی. وقد قالوا فیه أیضا : محزن ، علی القیاس. ومثله قولهم : مجبّ. منه بیت عنتره :

ص: 19

ولقد نزلت فلا تظنّی غیره

منّی بمنزله المحبّ المکرم (1)

ومثله قول الأخری :

لأنکحنّ ببّه

جاریه خدبّه

مکرمه محبّه

تجبّ أهل الکعبه (2)

وقال الآخر :

ومن یناد آل یربوع یجب

یأتیک منهم خیر فتیان العرب

المنکب الأیمن والردف المحبّ (3)

قالوا : وعلّه ما جاء من أفعلته فهو مفعول - نحو أجنّه الله فهو مجنون وأسلّه الله فهو مسلول ، وبابه - أنهم إنما جاءوا به علی فعل ؛ نحو جنّ فهو مجنون ، وزکم فهو مزکوم ، وسلّ فهو مسلول. وکذلک بقیّته.

فإن قیل لک من بعد : وما بال هذا خالف فیه الفعل مسندا إلی الفاعل صورته مسندا إلی المفعول ، وعاده الاستعمال غیر هذا ؛ وهو أن یجیء الضربان معا فی عدّه واحده ؛ نحو ضربته وضرب ، وأکرمته وأکرم ، وکذلک مقاد هذا الباب؟

قیل : إنّ العرب لمّا قوی فی أنفسها أمر المفعول حتی کاد یلحق عندها برتبه

ص: 20

الفاعل ، وحتی قال سیبویه فیهما : «وإن کانا جمیعا یهمّانهم ویعنیانهم» خصّوا المفعول إذا أسند الفعل إلیه بضربین من الصنعه : أحدهما تغییر صوره المثال مسندا إلی المفعول ، عن صورته مسندا إلی الفاعل ، والعدّه واحده ؛ وذلک نحو ضرب [زید] وضرب ، وقتل وقتل ، وأکرم وأکرم ، ودحرج ودحرج. والآخر أنهم لم یرضوا ولم یقنعوا بهذا القدر من التغییر حتی تجاوزوه إلی أن غیروا عدّه الحروف مع ضمّ أوّله ، کما غیّروا فی الأوّل الصوره والصیغه وحدها. وذلک نحو قولهم : أحببته وحبّ ، وأزکمه الله وزکم ، وأضأده الله وضئد ، وأملاه الله وملئ.

قال أبو علیّ : فهذا یدلّک علی تمکّن المفعول عندهم ، وتقدّم حاله فی أنفسهم ؛ إذ أفردوه بأن صاغوا الفعل له صیغه مخالفه لصیغته وهو للفاعل.

وهذا ضرب من تدریج اللغه عندهم الذی قدّمت بابه ؛ ألا تری أنهم لمّا غیروا الصیغه والعدّه واحده فی نحو ضرب وضرب و (شتم وشتم) تدرّجوا من ذلک إلی أن غیّروا الصیغه مع نقصان العدّه ؛ نحو أزکمه الله وزکم ، وآرضه الله وأرض.

فهذا کقولهم فی حنیفه : حنفیّ ، لمّا حذفوا هاء حنیفه حذفوا أیضا یاءها ؛ ولمّا لم یکن فی حنیف تاء تحذف فتحذف لها الیاء صحّت الیاء ، فقالوا فیه : حنیفیّ. وقد تقدّم القول علی ذلک.

وهذا الموضع هو الذی دعا أبا العباس أحمد بن یحیی فی کتاب فصیحه أن أفرد له بابا ، فقال : هذا باب فعل - بضمّ الفاء - نحو قولک : عنیت بحاجتک وبقیّه الباب. إنما غرضه فیه إیراد الأفعال المسنده إلی المفعول ولا تسند إلی الفاعل فی اللغه الفصیحه ؛ ألا تراهم یقولون : نخی زید ؛ من النخوه ولا یقال : نخاه کذا ، ویقولون (امتقع لونه ولا یقولون : امتقعه کذا ، ویقولون) : انقطع بالرجل ولا یقولون انقطع به کذا. فلهذا جاء بهذا الباب ، أی لیریک أفعالا خصّت بالإسناد إلی المفعول دون الفاعل ؛ کما خصّت أفعال بالإسناد إلی الفاعل دون المفعول ؛ نحو قام زید ، وقعد جعفر ، وذهب محمد ، وانطلق بشر. ولو کان غرضه أن یریک صوره ما لم یسمّ فاعله مجملا غیر مفصّل علی ما ذکرنا لأورد فیه نحو ضرب ورکب وطلب وقتل وأکل وسمل وأکرم وأحسن إلیه واستقصی علیه.

ص: 21

وهذا یکاد یکون إلی ما لا نهایه [له].

فاعرف هذا الغرض ؛ فإنه أشرف من حفظ مائه ورقه لغه.

ونظیر مجیء اسم المفعول هاهنا علی حذف الزیاده - نحو أحببته فهو محبوب - مجیء اسم الفاعل علی حذفها أیضا ، وذلک نحو قولهم : أورس (1) الرمث فهو وارس ، وأیفع الغلام فهو یافع ، وأبقل المکان فهو باقل ؛ قال الله عزوجل : (وَأَرْسَلْنَا الرِّیاحَ لَواقِحَ) [الحجر : 22] وقیاسه ملاقح ؛ لأن الریح تلقح السحاب فتستدرّه ، وقد یجوز أن یکون علی لقحت هی ، فإذا لقحت فزکت ألقحت السحاب ، فیکون هذا ممّا اکتفی فیه بالسبب من المسبّب. وضدّه قول الله تعالی : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : 98] أی فإذا أردت قراءه القرآن ، فاکتفی بالمسبّب الذی هو القراءه من السبب الذی هو الإراده. وقد جاء عنهم مبقل ، حکاها أبو زید. وقال دواد ابن أبی دواد لأبیه فی خبر لهما ، وقد قال له أبوه ما أعاشک بعدی؟

أعاشنی بعدک واد مبقل

آکل من حوذانه وأنسل (2)

وقد جاء أیضا حببته ، قال [الشاعر] :

ووالله لو لا تمره ما حببته

ولا کان أدنی من عبید ومشرق (3)

ونظیر مجیء اسم الفاعل والمفعول جمیعا علی حذف الزیاده فیما مضی مجیء المصدر أیضا علی حذفها ؛ نحو قولهم جاء زید وحده. فأصل هذا أوحدته بمروری إیحادا ، ثم حذفت زیادتاه فجاء علی الفعل. ومثله قولهم : عمرک الله إلا فعلت أی عمّرتک الله تعمیرا. ومثله قوله :

ص: 22

*بمنجرد قید الأوابد هیکل (1) *

أی تقیید الأوابد ثم حذف زائدتیه ؛ وإن شئت قلت : وصف بالجوهر لما فیه من معنی الفعل ؛ نحو قوله :

فلولا الله والمهر المفدّی

لرحت وأنت غربال الإهاب (2)

فوضع الغربال موضع مخرّق. وعلیه ما أنشدناه عن أبی عثمان :

*مئبره العرقوب إشفی المرفق (3) *

أی دقیقه المرفق. (وهو کثیر).

فأمّا قوله :

*وبعد عطائک المائه الرتاعا (4) *

ص: 23

فلیس علی حذف الزیاده ؛ ألا تری أن فی عطاء ألف إفعال الزائده. ولو کان علی حذف الزیاده لقال : وبعد عطوک ، فیکون کوحده. وقد ذکرنا هذا فیما مضی.

ولمّا کان الجمع مضارعا للفعل بالفرعیّه فیهما جاءت فیه أیضا ألفاظ علی حذف الزیاده التی کانت فی الواحد. وذلک نحو قولهم : کروان وکروان ، وورشان وورشان. فجاء هذا علی حذف زائدتیه ، حتی کأنه صار إلی فعل ، فجری مجری خرب وخربان ، وبرق وبرقان ؛ قال :

*أبصر خربان فضاء فانکدر (1) *

وأنشدنا لذی الرمّه :

من آل أبی موسی تری الناس حوله

کأنهم الکروان أبصرن بازیا (2)

ومنه تکسیرهم فعالا علی أفعال ؛ حتی کأنه إنما کسّر فعل ، وذلک نحو جواد وأجواد ، وعیاد وأعیاد [وحیاء وأحیاء] وعراء (3) ، وأنشدنا :

* أو مجن عنه عربت أعراؤه (4) *

ص: 24

فیجوز أن یکون جمع عراء ، ویجوز أن یکون جمع عری ، ویجوز أن یکون جمع عرا ، من قولهم : نزل بعراه أی ناحیته.

ومن ذلک قولهم : نعمه وأنعم ، وشدّه وأشدّ فی قول سیبویه : جاء ذلک علی حذف التاء ؛ کقولهم : ذئب وأذؤب ، وقطع وأقطع ، وضرس وأضرس ؛ قال :

*وقرعن نابک قرعه بالأضرس*

وذلک کثیر جدّا.

وما یجیء مخالفا ومنتقضا أوسع من ذلک ؛ إلا أنّ لکل شیء منه عذرا وطریقا.

وفصل للعرب طریف ؛ وهو إجماعهم علی مجیء عین مضارع فعلته إذا کانت من فاعلنی مضمومه ألبتّه. وذلک نحو قولهم : ضاربنی فضربته أضربه ، وعالمنی فعلمته أعلمه ، وعاقلنی - من العقل - فعقلته أعقله ، وکارمنی فکرمته أکرمه ، وفاخرنی ففخرته أفخره ، وشاعرنی فشعرته أشعره. وحکی الکسائیّ : فاخرنی ففخرته أفخره - بفتح الخاء - وحکاها أبو زید أفخره - بالضم - علی الباب. کل هذا إذا کنت أقوم بذلک الأمر منه.

ووجه استغرابنا له أن خصّ مضارعه بالضمّ. وذلک أنا قد دللنا علی أنّ قیاس باب مضارع فعل أن یأتی بالکسر ؛ نحو ضرب یضرب وبابه ، وأرینا وجه دخول یفعل علی یفعل فیه ، نحو قتل یقتل ، ونخل ینخل ، فکان الأحجی به هنا إذ أرید الاقتصار به علی أحد وجهیه أن یکون ذلک الوجه هو الذی کان القیاس مقتضیا له فی مضارع فعل ؛ وهو یفعل بکسر العین. وذلک أن العرف والعاده إذا أرید الاقتصار علی أحد الجائزین أن یکون ذلک المقتصر علیه هو أقیسهما فیه ؛ ألا تراک تقول فی تحقیر أسود وجدول : أسیّد وجدیّل بالقلب ، وتجیز من بعد الإظهار وأن تقول : أسیود وجدیول ، فإذا صرت إلی باب مقام وعجوز اقتصرت علی الإعلال ألبتّه فقلت : مقیّم وعجیّز ، فأوجبت أقوی القیاسین لا أضعفهما ؛ وکذلک نظائره.

فإن قلت : فقد تقول : فیها رجل قائم ، وتجیز فیه النصب ، فتقول : فیها رجل قائما ؛ فإذا قدّمت أوجبت أضعف الجائزین. فکذلک أیضا تقتصر فی هذه الأفعال

ص: 25

- نحو أکرمه وأشعره - علی أضعف الجائزین وهو الضمّ.

قیل : هذا إبعاد فی التشبیه. وذلک أنک لم توجب النصب فی (قائما) من قولک : فیها رجل قائما ، و (قائما) هذا متأخّر عن رجل فی مکانه فی حال الرفع ، وإنما اقتصرت علی النصب فیه لمّا لم یجز فیه الرفع أو لم یقو ، فجعلت أضعف الجائزین واجبا ضروره لا اختیارا ؛ ولیس کذلک کرمته أکرمه ؛ لأنه لم ینقض شیء عن موضعه ، ولم یقدّم ولم یؤخّر. ولو قیل : کرمته أکرمه لکان کشتمته أشتمه ، وهزمته أهزمه.

وکذلک القول فی نحو قولنا : ما جاءنی إلا زیدا أحد فی إیجاب نصبه ، وقد کان النصب لو تأخر (زید) أضعف الجائزین فیه إذا قلت : ما جاءنی أحد إلا زیدا ، الحال فیهما واحده ، وذلک أنک لمّا لم تجد مع تقدیم المستثنی ما تبدله منه عدلت به - للضروره - إلی النصب الذی کان جائزا فیه متأخّرا. هذا کنصب (فیها قائما رجل) البتّه ، والجواب عنهما واحد.

وإذا کان الأمر کذلک فقد وجب البحث عن علّه مجیء هذا الباب فی الصحیح کله بالضم ؛ نحو أکرمه وأضربه.

وعلّته عندی أن هذا موضع معناه الاعتلاء والغلبه ، فدخله بذلک معنی الطبیعه والنحیزه التی تغلب ولا تغلب ، وتلازم ولا تفارق. وتلک الأفعال بابها : فعل یفعل ؛ نحو فقه یفقه إذا أجاد الفقه ، وعلم یعلم إذا أجاد العلم. وروینا عن أحمد ابن یحیی عن الکوفیین : ضربت الید یده ، علی وجه المبالغه.

وکذلک نعتقد نحن أیضا فی الفعل المبنیّ منه فعل التعجب أنه قد نقل عن فعل وفعل إلی فعل ، حتی صارت له صفه التمکّن والتقدّم ، ثم بنی منه الفعل ؛ فقیل : ما أفعله ؛ نحو ما أشعره ، إنما هو من شعر ، وقد حکاها أیضا أبو زید. وکذلک ما أقتله وأکفره : هو عندنا من قتل وکفر تقدیرا ، وإن لم یظهر فی اللفظ استعمالا.

فلمّا کان قولهم : کارمنی فکرمته أکرمه وبابه صائرا إلی معنی فعلت أفعل أتاه الضمّ من هناک. فاعرفه.

فإن قلت : فهلا لمّا دخله هذا المعنی تمّموا فیه الشبه ، فقالوا : ضربته أضربه

ص: 26

وفخرته أفخره (ونحو ذلک؟).

قیل : منع من ذلک أنّ فعلت لا یتعدّی إلی المفعول به أبدا ، ویفعل قد یکون فی المتعدّی کما یکون فی غیره ؛ ألا تری إلی قولهم : سلبه یسلبه ، وجلبه یجلبه ، ونخله ینخله ، فلم یمنع من المضارع ما منع من الماضی ، فأخذوا منهما ما ساغ ، واجتنبوا ما لم یسغ.

فإن قلت : فقد قالوا : قاضانی فقضیته أقضیه ، وساعانی فسعیته أسعیه؟ قیل : لم یکن من (یفعله) هاهنا بدّ ، مخافه أن یأتی علی یفعل فینقلب الیاء واوا ، وهذا مرفوض فی هذا النحو من الکلام.

وکما لم یکن من هذا بدّ هاهنا لم یجئ أیضا مضارع فعل منه ممّا فاؤه واو بالضم بل جاء بالکسر ، علی الرسم وعاده العرب. فقالوا : واعدنی فوعدته أعده ، وواجلنی فوجلته أجله ، وواضأنی فوضأته ، أضؤه. فهذا کوضعته - من هذا الباب - أضعه.

ویدلّک علی أن لهذا الباب أثرا فی تغییره باب فعل فی مضارعه قولهم : ساعانی فسعیته أسعیه ، ولم یقولوا : أسعاه علی قولهم : سعی یسعی لمّا کان مکانا قد رتّب وقرّر وزوی عن نظیره فی غیر هذا الموضع.

فإن قلت : فهلا غیّروا ما فاؤه واو ؛ کما غیّروا ما لامه یاء فیما ذکرت ، فقالوا : واعدنی فوعدته أوعده ؛ لما دخله من المعنی المتجدّد؟.

قیل : (فعل) مما فاؤه واو لا یأتی مضارعه أبدا بالضمّ ، إنما هو بالکسر ، نحو وجد یجد ، ووزن یزن ، وبابه ، وما لامه یاء فقد یکون علی یفعل ، کیرمی ویقضی ، وعلی یفعل ، کیرعی ویسعی. فأمر الفاء إذا کانت واوا فی فعل أغلظ حکما من أمر اللام إذا کانت یاء. فاعرف ذلک فرقا.

* * *

ص: 27

(هنّ قلن) إلا بالإتمام.

ولذلک کان الحرف المشدّد إذا وقع رویّا فی الشعر المقیّد خفّف ؛ کما یسکّن المتحرک إذا وقع رویّا فیه. فالمشدّد نحو قوله :

أصحوت الیوم أم شاقتک هرّ

ومن الحبّ جنون مستعر (1)

فقابل براء (هرّ) راء (مستعر) وهی خفیفه أصلا. وکذلک قوله :

ففداء لبنی قیس علی

ما أصاب الناس من سوء وضرّ

ما أقلّت قدمی إنهم

نعم الساعون فی الأمر المبرّ (2)

وأمثاله کثیره. والمتحرّک (نحو قول رؤبه) :

*وقاتم الأعماق خاوی المخترق (3) *

ونحو ذلک ممّا کان مفردا محرّکا فأسکنه تقیید الرویّ.

ص: 29

ومن ذلک أن تبنی مما عینه واو مثل فعّل فتصحّ العین للادغام ؛ نحو قوّل وقوّم ، فتصحّ العین للتشدید ؛ کما تصحّ للتحریک فی نحو قولهم : عوض وحول وطول.

فلمّا کان فی ادّغامهم الحرف فی الحرف ما أریناه من استخفافهم إیاه صار تقریبهم الحرف (من الحرف) ضربا من التطاول إلی الادغام. وإن لم یصلوا إلی ذلک فقد حاولوه واشرأبّوا نحوه ؛ إلا أنهم مع هذا لا یبلغون بالحرف المقرّب من الآخر أن یصیّروه إلی أن یکون من مخرجه ؛ لئلا یحصلوا من ذلک بین أمرین کلاهما مکروه.

أمّا أحدهما فأن یدغموا مع بعد الأصلین ؛ وهذا بعید.

وأمّا الآخر فأن یقرّبوه منه حتّی یجعلوه من مخرجه ثم لا یدغموه ؛ وهذا کأنّه انتکاث وتراجع ؛ لأنه إذا بلغ من قربه إلی أن یصیر من مخرجه وجب إدغامه ؛ فإن لم یدغموه حرموه المطلب المروم فیه ؛ ألا تری أنک إذا قرّبت السین فی سویق من القاف بأن تقلبها صادا فإنک لم تخرج السین من مخرجها ، ولا بلغت بها مخرج القاف فیلزم ادّغامها فیها. فأنت إذا قد رمت تقریب الإدغام المستخفّ ، لکنک لم تبلغ الغایه التی توجبه علیک ، وتنوط أسبابه بک.

وکذلک إذا قلت فی اصتبر : اصطبر ، فأنت قد قرّبت التاء من الصاد بأن قلبتها إلی أختها فی الإطباق والاستعلاء ، والطاء مع ذلک من جمله مخرج التاء.

وکذلک إذا قلت فی مصدر : مزدر ، فأخلصت الصاد زایا. قد قرّبتها من الدال بما فی الزای من الجهر ، ولم تختلجها عن مخرج الصاد. وهذه أیضا صورتک إذا أشممتها رائحه الزای فقلت : مصدر ، هذا المعنی قصدت ، إلا أنک لم تبلغ بالحرف غایه القلب الذی فعلته مع إخلاصها زایا.

فإن کان الحرفان جمیعا من مخرج واحد ، فسلکت هذه الطریق فلیس إلا أن تقلب أحدهما إلی لفظ الآخر البتّه ، ثم تدغم لا غیر. وذلک نحو اطّعن القوم ؛ أبدلت تاء اطتعن طاء البته ثم ادّغمتها فیها لا غیر. وذلک أن الحروف إذا کانت من (مخرج واحد ضاقت مساحتها أن تدنی بالتقریب منها ؛ لأنها إذا کانت معها من) مخرجها فهی الغایه فی قربها ؛ فإن زدت علی ذلک شیئا فإنما هو أن تخلص الحرف

ص: 30

إلی لفظ أخیه البته ، فتدغمه فیه لا محاله.

فهذا وجه التقریب مع إیثارهم الإبعاد.

ومن تدافع الظاهر ما نعلمه من إیثارهم الیاء علی الواو. وذلک لویت لیّا ، وطویت طیّا ، وسیّد ، وهیّن (وطیّ) وأغریت (1) ودانیت واستقصیت ، ثم إنهم مع ذلک قالوا : الفتوی ، والتقوی والثنوی ، فأبدلوا الیاء واوا عن غیر قوّه علّه أکثر من الاستحسان والملاینه.

والجواب عن هذا أیضا أنهم - مع ما أرادوه من الفرق بین الاسم والصفه علی ما قدمناه - أنهم أرادوا أن یعوّضوا الواو من کثره دخول الیاء علیها.

ومثله فی التعویض لا الفرق قولهم : تقیّ ، وتقواء ، ومضی علی مضوائه (2) ، وهذا أمر ممضوّ علیه.

ونحوه فی الإغراب قولهم : عوی الکلب عوّه ، وقیاسه عیّه. وقالوا فی العلم للفرق بینه وبین الجنس : حیوه ، وأصله حیّه ، فأبدلوا الیاء واوا. وهذا - مع إیثارهم خصّ العلم بما لیس للجنس - إنما هو لما قدّمنا ذکره : من تعویض الواو من کثره دخول الیاء علیها.

فلا ترینّ من ذلک شیئا ساذجا عاریا من غرض وصنعه.

ومن ذلک استثقالهم المثلین ، حتی قلبوا أحدهما فی نحو أملیت - وأصلها أمللت - وفیما حکاه أحمد بن یحیی - أخبرنا به أبو علیّ عنه - من قولهم : لا وربیک لا أفعل ، یریدون : لا وربّک لا أفعل. نعم ، وقالوا فی أشدّ من ذا :

ینشب فی المسعل واللهاء

أنشب من مآشر حداء (3)

ص: 31

قالوا : یرید : حداد ، فأبدل الحرف الثانی وبینهما ألف حاجزه ، ثم قال مع هذا :

لقد تعلّلت علی أیانق

صهب قلیلات القراد اللازق (1)

فجمعوا بین ثلاثه أمثال مصحّحه ، وقالوا : تصبّبت عرقا.

وقال العجّاج :

*إذا حجاجا مقلتیها هجّجا (2) *

وأجازوا فی مثل فرزدق من رددت رددّد ، فجمعوا بین أربع دالات ، وکرهوا أیضا حنیفیّ ، ثم جمعوا بین أربع یاءات ، فقال بعضهم : أمیّیّ وعدیّیّ ، وکرهوا أیضا أربع یاءات بینهما حرف صحیح حتی حذفوا الثانیه منها. وذلک قولهم فی الإضافه إلی أسیّد : أسیدیّ. ثم إنهم جمعوا بین خمس یاءات مفصولا بینها بالحرف الواحد. وذلک قولهم فی الإضافه إلی مهیّم مهیّیمیّ (3). ولهذه الأشیاء أخوات ونظائر کثیره.

والجواب عن کل فصل من هذا حاضر.

أمّا أملیت فلا إنکار لتخفیفه بإبداله.

وأما (تعللت) و (هججا) ونحو ذلک مما اجتمعت فیه ثلاثه أمثال فخارج علی أصله ، ولیس من حروف العلّه فیجب تغییره. والذی فعلوه فی (أملیت) و (لا

ص: 32

وربیک لا أفعل) و (أنشب من مآشر حداء) لم یکن واجبا فیجب هذا أیضا ، وإنما غیّر استحسانا ، فساغ ذلک فیه ، ولم یکن موجبا لتغییر کل ما اجتمعت فیه أمثال ؛ ألا تری أنهم لمّا قلبوا یاء طیّء ألفا فی الإضافه فقالوا : طائیّ لم یکن ذلک واجبا فی نظیره ؛ لمّا کان الأوّل مستحسنا.

وأمّا حنفیّ فإنهم لمّا حذفوا التاء شجعوا أیضا علی حذف الیاء ، فقالوا : حنفیّ.

ولیس کذلک عدیّیّ وأمّیّیّ فیمن أجازها ؛ (ألا تری) عدیّا لمّا جری مجری الصحیح فی اعتقاب حرکات الإعراب علیه - نحو عدیّ وعدیا وعدیّ - جری مجری حنیف ، فقالوا : عدّییّ ؛ کما قالوا : حنیفیّ. وکذلک أمیّیّ أجروه مجری نمیریّ وعقیلیّ. مع هذا فلیس أمیّیّ وعدییّ بأکثر فی کلامهم. وإنما یقولها بعضهم.

وأمّا جمعهم فی مهیّیمیّ بین خمس یاءات وکراهیتهم فی أسیدیّ أربعا فلأن الثانیه من أسیدیّ لمّا کانت متحرکه وبعدها حرف متحرک قلقت لذلک وجفت. ولمّا تبعتها فی مهییمیّ یاء المدّ لانت ونعمت. وذلک من شأن المدّات. ولذلک استعملن فی الأرداف والوصول والتأسیس والخروج ، وفیهنّ یجری الصوت للغناء والحداء والترنّم والتطویح.

وبعد فإنهم إذا خفّفوا فی موضع وترکوا آخر فی نحوه کان أمثل من ألا یخففوا فی أحدهما. وکذلک جمیع ما یرد علیک مما ظاهره ظاهر التدافع ؛ یجب أن ترفق به ولا تعنف علیه ولا تسرع إلی إعطاء الید بانتقاض بابه. والقیاس القیاس.

* * *

ص: 33

مقبّضا نفسیّ فی طمیر

تجمّع القنفذ فی الجحیر (1)

تنتهض الرعده فی ظهیری

یهفو إلیّ الزور من صدیری (2)

مثل هریر الهرّ للهریر

ظمآن فی ریح وفی مطیر

وأرز قرّ لیس بالقریر

من لدما ظهر إلی سحیر (3)

حتی بدت لی جبهه القمیر

لأربع غبرن من شهیر

ثم غدوت غرضا من فوری

وقطقط البلّه فی شعیری (4)

یقذفنی مور إلی ذی مور

حتی إذا ورّکت من أییری (5)

سواد ضیفیه إلی القصیر

رأت شحوبی وبذاذ شوری (6)

وجردبت فی سمل عفیر

راهبه تکنی بأمّ الخیر (7)

جافیه معوی ملاث الکور

تحزم فوق الثوب بالزنّیر (8)

تقسم استیا لها بنیر

وتضرب الناقوس وسط الدیر (9)

قبل الدجاج وزقاء الطیر

قالت ترثّی لی ویح غیری

إنی أراک هاربا من جور

من هذه السلطان قلت جیر

ص: 35

ما زلت فی منکظه وسیر

لصبیه أغیرهم بغیر (1)

کلهم أمعط کالنغیر

وأرملات ینتظرن میری (2)

قالت ألا أبشر بکل خیر

ودهنت وسرّحت ضفیری

وأدمت خبزی من صییر

من صیر مصرین أو البحیر (3)

وبزییت نمس مریر

وعدس قشّر من قشیر (4)

وقبصات من فغی تمیر

وأتأرتنی نظره الشفیر (5)

وجعلت تقذف بالحجیر

شطری وما شطری وما شطیری

حتی إذا ما استنفدت خبیری

قامت إلی جنبی تمسّ أیری

فزفّ رألی واستطیر طیری

وقلت حاجاتک عند غیری (6)

حقّرت ألا یوم قد سیری

إذ أنا مثل الفلتان العیر (7)

حمسا ولما إضت کالنسیر

وحین أقعیت علی قبیری

أنتظر المحتوم من قدیری

کلا ومن منفعتی وخیری

بکفّه ومبدئی وحوری (8)

ص: 36

أفلا تری إلی قلّه غیر المصغّر فی قوافیها. وهذا أفخر ما فیها ، وأدلّه علی قوّه قائلها ، وأنه إنما لزم التصغیر فی أکثرها سباطه وطبعا ، لا تکلفا وکرها ؛ ألا تری أنه لو کان ذلک منه تجشّما وصنعه لتحامی غیر المصغّر لیتمّ له غرضه ، ولا ینتقض علیه ما اعتزمه.

وکذلک ما أنشده الأصمعیّ من قول الآخر :

قالوا ارتحل فاخطب فقلت هلا

إذ أنا روقای معا ما انفلا (1)

وإذ أؤلّ المشی ألا ألا

وإذ أری ثوب الصبا رفلا (2)

علیّ أحوی ندیا مخضلا

حتی إذا ثوب الشباب ولّی

وانضمّ بدن الشیخ واسمألا

وانشنج العلباء فاقفعلا (3)

مثل نضیّ السقم حین بلا

وحرّ صدر الشیخ حتی صلا (4)

علی حبیب بان إذ تولی

غادر شغلا شاغلا وولّی

قلت تعلّق فیلقا هوجلا

عجّاجه هجاجه تألیّ (5)

لأصبحنّ الأحقر الأذلا

وأن أعلّ الرّغم علا علا

فإن أقل یا ظبی حلا حلا

تقلق وتعقد حبلها المنحلا

وحملقت حولیّ حتی احولا

مأقان کرهان لها واقبلا

إذا أتت جاراتها تفلّی

تریک أشغی قلحا أفلا (6)

ص: 37

مرکّبا راووله مثعلا

کأنّ کلبا لثقا مبتلا (1)

وغلقه معطونه وجلا

أنداه یوم ما طر فطلا (2)

وعلهبا من التیوس علا

یغلّ تحت الردن منها غلا (3)

منتوفه الوجه کأنّ ملا

یملّ وجه العرس فیه ملا (4)

کأن صابا آل حتی امطلا

تسفّه وشبرما وخلا (5)

إن حلّ یوما رحله محلا

حمولها أزجت إلیه صلا (6)

وعقربا تمتلّ ملا ملا

ذاک وإن ذو رحمها استقلا (7)

من عثره ماتت جوی وسلا

أو کثر الشیء له أو قلا

قالت لقد أثری فلا تملّی

وإن تقل یا لیته استبلا

من مرض أحرضه وبلا

تقل : لأنفیه ولا تعلّی

تسرّ إن یلق البلاد فلا

مجروزه نفاسه وغلا (8)

وإن وصلت الأقرب الأخلا

جنّت جنونا واستخفّت قلا (9)

وأجللت من ناقع أفکلا

إذا ظبیّ الکنسات انغلا (10)

ص: 38

تحت الإران سلبته الظلا

وإن رأت صوت السباب علیّ (1)

سحابه ترعد أو قسطلا

أجّت إلیه عنقا مئلا (2)

أجّ الظلیم رعته فانشلا

تری لها رأسا وأی قندلا (3)

لو تنطح الکنادر العتلا

الکندر الزوازی الصملا (4)

الصتم والشنظیره المتلا

فضّت شئون رأسه وافتلا (5)

تقول لابنیها إذا ما سلا

سلیله من سرق أو غلا

أو فجعا جیرتها فشلا

وسیقه فکرّشا وملا (6)

أحسنتما الصنع فلا تشلا

لا تعدما أخری ولا تکلا

یا ربّ ربّ الحجّ إذ أهلا

محرمه ملبّیا وصلّی

وحلّ حبلی رحله إذ حلا

بالله قد أنضی وقد أکلا

وأنقب الأشعر والأظلا

من نافه قد انضوی واختلا (7)

یحمل بلو سفر قد بلّی

أجلاده صیامه وألا (8)

یزال نضو غزوه مملا

وصّال أرحام إذا ما ولی

ذو رحم وصّله وبلا

سقاء رحم منه کان صلا

ص: 39

وینفق الأکثر والأقلا

من کسب ما طاب وما قد حلا

إذا الشحیح غلّ کفّا غلا

بسّط کفّیه معا وبلا

وحلّ زاد الرحل حلا حلا

یرقب قرن الشمس إذ تدلّی

حتی إذا ما حاجباها انغلا

تحت الحجاب بادر المصلی (1)

أقام وجه النضو ثم خلّی

سبیله إذا تسدّی خلا (2)

أحذی القطیع الشارف الهبلا

فجال مخطوف الحشی شملا (3)

حتی إذا أوفی بلالا بلا

بدمعه لحیته وانغلا

بها وفاض شرقا فابتلا

جیب الرداء منه فارمعلا (4)

وحفز الشانین فاستهلا

کما رأیت الوشلین انهلا (5)

حتی إذا حبل الدعاء انحلّا

وانقاض زبرا جاله فابتلا (6)

أثنی علی الله علا وجلا

ثم انثنی من بعد ذا فصلّی

علی النبیّ نهلا وعلا

وعمّ فی دعائه وخلا

لیس کمن فارق واستحلا

دماء أهل دینه وولیّ

وجهته سوی الهدی مولّی

مجتنبا کبری الذنوب الجلّی

مستغفرا إذا أصاب القلی

لما أتی المزدلفات صلّی

سبعا تباعا حلّهن حلا

حتی إذا أنف الفجیر جلّی

برقعه ولم یسرّ الجلا

هبّ إلی نضیّه فعلّی

ص: 40

رحیله علیه فاستقلا (1)

التزم اللام المشدده من أولها إلی آخرها ؛ وقد [کان] یجوز له معها نحو قبلا ونخلا ، ومحلا ، فلم یأت به.

ومثله ما رویناه لأبی العالیه من قوله :

إنی امرؤ أصفی الخلیل الخلّه

أمنحه ودی وأرعی إلّه

وأبغض الزیاره المملّه

وأقطع المهامه المضلّه

لیست بها لرکبها تعلّه

إلا نجاء الناجیات الجلّه

علی هبلّ أو علی هبلّه

ذات هباب جسره شملّه (2)

ناجیه فی الخرق مشمعلّه

تنسلّ بعد العقب المکلّه (3)

مثل انسلال العضب من ذی الخلّه

وکاشح رقیت منه صلّه

بالصفح عن هفوته والزلّه

حتی استللت ضغنه وغلّه

وطامح ذی نخوه مدلّه

حملته علی شباه ألّه (4)

ولم أملّ الشرّ حتی ملّه

وشنج الراحه مقفعلّه

ما إن تبضّ کفّه ببلّه

أفاد دثرا بعد طول خلّه (5)

وصار ربّ إبل وثلّه

لمّا ذممت دقّه وجلّه

ترکته ترک ظبیّ ظلّه

ومعشر صید ذوی تجلّه

تری علیهم للندی أدلّه

سماؤهم بالخیر مستهلّه

ص: 41

أوفی بهم دهر علی مزلّه

ثم تلقّاهم بمصمئلّه (1)

فبدّلت کثرتهم بقلّه

وأعقبت عزّتهم بذلّه

وغادرونی بعدهم ذا غلّه

أبکیهم بعبره منهلّه

ثم صبرت واعتصمت بالله

نفسا بحمل العبء مستقلّه

ودول الأیام مضمحله

یشعبها ما یشعب الجبلّه

تتابع الأیام والأهلّه

وأنشدنا أبو علی :

شلّت یدا فاریه فرتها

وفقئت عین التی أرتها (2)

مسک شبوب ثم وفّرتها

لو خافت النزع لأصغرتها (3)

فلزم التاء والراء ، ولیست واحده منهما بلازمه. والقطعه هائیه لسکون ما قبل الهاء والساکن لا وصل له. ویجوز مع هذه القوافی ذرها ودعها.

وأنشد ابن الأعرابی لیزید بن الأعور الشنّیّ وکان أکری بعیرا له فحمل علیه محملان (4) أوّل ما عملت المحامل. وهو قوله :

لمّا رأیت محملیه أنّا

مخدّرین کدت أن أجنّا

قرّبت مثل العلم المبنّی

لا فانی السنّ وقد أسنّا (5)

ص: 42

ضخم الملاط سبطا عبنّا

یطرح بالطرف هنا وهنّا (1)

لو لا یدالون الهبلّ جنّا

وقطع المسحل والمثنّی (2)

وافتنّ من شأو النشاط فنّا

یدقّ حنو القتب المحنی

إذا علا صوّانه أرنّا

یرمعها والجندل الأغنّا (3)

ضخم الجفور سهیلا رفنّا

وفی الهباب سدما معنی (4)

کأنما صریفه إذ طنّا

فی الضالتین أخطبان غنّی (5)

مستحملا أعرف قد تبنّی

کالصدع الأعصم لمّا اقتنّا (6)

یقطع بعد الفیف مهوأنّا

وهو حدید القلب ما ارفأنّا (7)

کأنّ شنا هزما وشنّا

قعقعه مهزّج تغنّی (8)

تحت لبان لم یکن أدنّا (9)

التزم النون المشدّده فی جمیعها علی ما تقدّم ذکره.

ص: 43

وقال آخر :

إلیک أشکو مشیها تدافیا

مشی العجوز تنقل الأثافیا (1)

فالتزم الفاء ولیست واجبه.

وقال آخر :

کأنّ فاها واللجام شاحیه

حنوا غبیط سلس نواحیه (2)

التزم الألف والحاء والیاء ، ولیست واحده منهنّ لازمه ؛ لأنه قد یجوز مع هذه القوافی نحو یحدوه ، ویقفوه ، وما کان مثله. وأنشد أبو الحسن :

ارفعن أذیال الحقیّ واربعن

مشی حییّات کأن لم یفزعن

إن تمنع الیوم نساء تمنعن (3)

فالتزم العین ولیست بواجبه.

وقال آخر :

یا ربّ بکر بالردافی واسج

اضطرّه اللیل إلی عواسج

عواسج کالعجز لنواسج (4)

التزم الواو والسین ولیست واحده منهما بلازمه.

وقال آخر :

ص: 44

أعینیّ ساء الله من کان سرّه

بکاؤکما ومن یحبّ أذاکما

ولو أن منظورا وحبّه أسلما

لنزع القذی لم یبرئا لی قذاکما (1)

التزم الذال والکاف. وقالوا : حبّه امرأه هویها رجل من الجنّ یقال له منظور ، وکانت حبّه تتطبّب بما یعلّمها منظور.

وأنشد الأصمعیّ لغیلان الربعیّ :

هل تعرف الدار بنعف الجرعاء

بین رحا المثل وبین المیثاء (2)

کأنها باقی کتاب الإملاء

غیّرها بعدی مرّ الأنواء

نوء الثریّا أو ذراع الجوزاء

قد أغتدی والطیر فوق الأصواء (3)

مرتبئات فوق أعلی العلیاء

بمکرب الخلق سلیم الأنقاء (4)

طرف تنقیناه خیر الأفلاء

لأمّهات نسبت وآباء

ثمّت قاظ مرفها فی إدناء

مداخلا فی طول وإغماء

وفی الشعیر والقضیم الأجباء

وما أراد من ضروب الأشیاء (5)

دون العیال وصغار الأبناء

مقفی علی الحیّ قصیر الأظماء

أمسوا فقادوهنّ نحو المیطاء

بمائتین بغلاء الغلاء (6)

أوفیته الزرع وفوق الإیفاء

قد فزّعوا غلمانها بالإیصاء

مخافه السبق وجدّ الأنباء

فلحقت أکبادهم بالأحشاء

ص: 45

باتت وباتوا کبلایا الأبلاء

مطلنفئین عندها کالأطلاء (1)

لا تطعم العیون نوم الإغفاء

حتی إذا شقّ بهیم الظلماء

وساق لیلا مرجحنّ الأثناء

غبّره مثل حداء الحدّاء (2)

وزقت الدیک بصوت زقّاء

ثمت أجلین وفوق الإجلاء (3)

مستویات کنعال الحذّاء

فهنّ یعبطن جدید البیداء (4)

ما لا یسوّی عبطه بالرفّاء

یتبعن وقعا عند رجع الأهواء (5)

بسلبات کمساحی البنّاء

یترکن فی متن أدیم الصحراء

مساحبا مثل احتفار الکمّاء

وأسهلوهنّ دقاق البطحاء (6)

یثرن من أکدارها بالدّقعاء

منتصبا مثل حریق القصباء (7)

کأنّها لمّا رآها الرّآء

وأنشزتهنّ علاه البیداء

ورفّع اللامع ثوب الإلواء

عقبان دجن فی ندی وأسداء (8)

کلّ أغر محک وغرّاء

شادخه غرّتها أو قرحاء

قد لحقت عصمتها بالأطباء

من شدّه الرکض وخلج الأنساء (9)

کأنما صوت حفیف المعزاء

معزول شذّان حصاها الأقصاء (10)

ص: 46

صوت نشیش اللّحم عند القلاء (1)

اطّرد جمیع قوافیها علی جرّ مواضعها إلا (بیتا واحدا وهو) قوله :

*کأنها لما رآها الرّآء*

فإنه مرفوع الموضع. وفیه مع ذلک سرّ لطیف یرجعه إلی حکم المجرور بالتأویل.

وذلک أنّ (لمّا) مضافه إلی قوله : رآها الرّآء ، والفعل لذلک مجرور الموضع بإضافه الظرف الذی هو (لمّا) إلیه ؛ کما أن قول الله تعالی : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر : 1] الفعل الذی هو (جاء) فی موضع جرّ بإضافه الظرف الذی هو (إذا) إلیه. وإذا کان کذلک ، وکان صاحب الجمله التی هی الفعل والفاعل إنما هو الفاعل ، وإنما جیء بالفعل له ومن أجله ، وکان أشرف جزءیها وأنبههما صارت الإضافه (کأنها) إلیه ؛ فکأنّ الفاعل لذلک فی موضع جرّ ، لا سیّما وأنت لو لخّصت الإضافه هنا وشرحتها لکان تقدیرها : کأنها وقت رؤیه الرّآء لها. (فالرّآء) إذا مع الشرح مجرور لا محاله.

نعم ، وقد ثبت أن الفعل مع الفاعل فی کثیر من الأحکام والأماکن کالشیء الواحد.

وإذا کان الفعل مجرور الموضع ، والفاعل معه کالجزء منه ، دخل الفاعل منه فی اعتقاد تلخیصه مجرورا فی اللفظ موضعه ؛ کما أن النون من إذن لمّا کانت بعض حرف جری علیها ما یجری علی الحرف المفرد من إبداله فی الوقف ألفا ؛ وذلک قولهم : لأقومن إذا ؛ کما تقول : ضربت زیدا ، ومع النون الخفیفه للواحد : اضربا. فکما أجریت علی بعض الحرف ما یجری علی جمیعه من القلب ، کذلک أجریت علی بعض الفعل - وهو الفاعل - ما یجری علی جمیعه من الحکم.

ومما أجری فیه بعض الحرف مجری جمیعه قوله :

*فبات منتصبا وما تکردسا (2) *

ص: 47

فأجری «منتصبا» مجری فخذ فأسکن ثانیه ؛ وعلیه حکایه الکتاب : أراک منتفخا. ونحو من قوله : (لمّا رآها الرّآء) فی توهم جرّ الفاعل قول طرفه :

*وسدیف حین هاج الصنّبر (1) *

کأنه أراد : الصّنّبر ، ثم تصوّر معنی الإضافه ، فصار إلی أنه کأنه قال : حین هیج الصنّبر ، ثم نقل الکسره علی حدّ مررت ببکر ، وأجری «صنبر» من الصنّبر مجری بکر علی قوله : أراک منتفخا.

وأعلی من هذا أنّ مجیء هذا البیت فی هذه القصیده مخالفا لجمیع أبیاتها یدلّ علی قوّه شاعرها وشرف صناعته ، وأن ما وجد من تتالی قوافیها علی جرّ مواضعها لیس شیئا سعی فیه ، ولا أکره طبعه علیه ؛ وإنما هو مذهب قاده إلیه علوّ طبقته ، وجوهر فصاحته.

وعلی ذلک ما أنشدناه أبو بکر محمد بن علی عن أبی إسحاق لعبید من قوله :

یا خلیلیّ اربعا واستخبرا ال

منزل الدارس من أهل الحلال (2)

مثل سحق البرد عفّی بعدک ال

قطر مغناه وتأویب الشّمال (3)

ولقد یغنی به جیرانک ال

ممسکو منک بأسباب الوصال

ثم أودی ودّهم إذ أزمعوا ال

بین والأیام حال بعد حال

فانصرف عنهم بعنس کالوأی ال

جأب ذی العانه أو شاه الرمال (4)

ص: 48

نحن قدنا من أهاضیب الملا ال

خیل فی الأرسان أمثال السعالی (1)

شزّبا یعسفن من مجهوله ال

أرض وعثا من سهول أو رمال (2)

فانتجعنا الحارث الأعرج فی

جحفل کاللیل خطّار العوالی

یوم غادرنا عدیّا بالقنا الذّ

بّل السمر صریعا فی المجال

ثم عجناهنّ خوصا کالقطا ال

قاربات الماء من أین الکلال (3)

نحو قوص یوم جالت حوله ال

خیل قبّا عن یمین أو شمال (4)

کم رئیس یقدم الألف علی الس

ابح الأجرد ذی العقب الطوال (5)

قد أباحت جمعه أسیافنا ال

بیض فی الروعه من حیّ حلال

ولنا دار ورثناها عن ال

أقدم القدموس من عمّ وخال (6)

منزل دمّنه آباؤنا ال

مورثونا المجد فی أولی اللیالی (7)

ما لنا فیها حصون غیر ما ال

مقربات الخیل تعدو بالرجال

فی روابی عدملیّ شامخ ال

أنف فیه إرث مجد وجمال (8)

فاتّبعنا ذات أولانا الألی ال

موقدی الحرب وموف بالحبال (9)

ص: 49

فقاد القصیده کلها ، علی أن آخر مصراع کل بیت منها منته إلی لام التعریف ، غیر بیت واحد ؛ وهو قوله :

*فانتجعنا الحارث الأعرج فی*

فصار هذا البیت الذی نقض القصیده أن تمضی علی ترتیب واحد هو أفخر ما فیها. وذلک أنه دلّ علی أن هذا الشاعر إنما تساند إلی ما فی طبعه ، ولم یتجشّم إلا ما فی نهضته ووسعه ، من غیر اغتصاب له ولا استکراه أجاءه إلیه ؛ إذ لو کان ذلک علی خلاف ما حدّدناه وأنه إنما صنع الشعر صنعا ، وقابله بها ترتیبا ووضعا ، لکان قمنا ألا ینقض ذلک کله بیت واحد یوهیه ، ویقدح فیه. وهذا واضح.

وأمّا قول الآخر :

قد جعل النعاس یغرندینی

أدفعه عنّی ویسرندینی (1)

فلک فیه وجهان : إن شئت جعلت رویّه النون ؛ وهو الوجه. وإن شئت الیاء ، ولیس بالوجه.

وإن أنت جعلت النون هی الرویّ فقد التزم الشاعر فیها أربعه أحرف غیر واجبه ، وهی الراء والنون والدال والیاء. [ألا تری أنه یجوز معها (یعطینی) و (یرضینی) و (یدعونی) و (یغزونی)] ؛ ألا تری أنک إذا جعلت الیاء هی الرویّ فقد زالت الیاء أن تکون ردفا ؛ لبعدها عن الرویّ. نعم ، وکذلک کمّا کانت النون رویا کانت الیاء غیر لازمه. وإن أنت جعلت الیاء الرویّ فقد التزم فیه خمسه

ص: 50

أحرف غیر لازمه ، وهی الراء ، والنون ، والدال ، والیاء ، والنون ؛ لأن الواو یجوز معها ألا تری أنه یجوز معها فی القولین جمیعا یغزونی ویدعونی.

ومما یسأل عنه من هذا النحو قول الثقفیّ یزید بن الحکم :

وکم منزل لولای طحت کما هوی بها

بأجرامه من قلّه النیق منهمو (1)

التزم الواو والیاء فیها کلّها.

والجواب أنها واویّه لأمرین : أحدهما أنک إذا جعلتها واویّه کانت مطلقه ، ولو جعلتها یائیه کانت مقیّده ؛ والشعر المطلق أضعاف المقیّد ، والحمل إنما یجب أن یکون علی الأکثر لا علی الأقلّ.

والآخر أنه قد التزم الواو ، فإن جعلت القصیده واویه فقد التزم واجبا ، وإن جعلتها یائیه فقد التزم غیر واجب ، واعتبرنا هذه اللغه وأحکامها ومقاییسها فإذا الملتزم أکثره واجب (وأقلّه غیر واجب) والحمل علی الأکثر دون الأقلّ.

فإن قلت : فإن هذه القلّه أفخر من الکثره ؛ ألا تری أنها دالّه علی قوّه الشاعر.

وإذا کانت أنبه وأشرف کان الأخذ یجب أن یکون بها ، ولم یحسن العدول عنها مع القدره علیها. وکما أن الحمل علی الأکثر ، فکذلک یجب أن یکون الحمل علی الأقوی أولی من الحمل علی الأدنی.

قیل : کیف تصرّفت الحال فینبغی أن یعمل علی الأکثر لا علی الأقلّ ، وإن کان الأقلّ أقوی قیاسا ؛ ألا تری إلی قوه قیاس قول بنی تمیم فی (ما) وأنها ینبغی أن تکون غیر عامله فی أقوی القیاسین عن سیبویه. ومع ذا فأکثر المسموع عنهم إنما

ص: 51

هو لغه أهل الحجاز ، وبها نزل القرآن. وذلک (أننا بکلامهم ننطق) فینبغی أن یکون علی ما استکثروا منه یحمل. هذا هو (قیاس مذهبهم) وطریق اقتفائهم.

ووجدت أکثر قافیّه رؤبه مجروره الموضع. وإذا تأمّلت ذلک وجدته. أعنی قوله :

*وقاتم الأعماق خاوی المخترق (1) *

وقد التزم العجّاج فی رائیّته :

*قد جبر الدین الإله فجبر (2) *

وذلک أنه التزم الفتح قبل رویّها ألبته. ولعمری إن هذا مشروط فی القوافی ، غیر أنک قلّما تجد قافیه مقیده إلا وأتت الحرکات قبل رویّها مختلفه ؛ وإنما المستحسن من هذه الرائیّه سلامتها مما لا یکاد یسلم منه غیرها. فإن کانت المقیّده مؤسّسه ازداد اختلاف الحرکات قبل رویّها قبحا. وذلک أنه ینضاف إلی قبح اختلافه أن هناک تأسیسا ؛ ألا تری أنه یقبح اختلاف الإشباع (3) إذا کان الرویّ مطلقا ؛ نحو قوله : فالفوارع مع قوله : فالتدافع. فما ظنّک إذا کان الروی مقیّدا. وقد أحکمنا هذا فی کتابنا المعرب فی شرح قوافی أبی الحسن.

ص: 52

وقد قال همیان بن قحافه :

لمّا رأتنی أمّ عمرو صدفت

قد بلغت بی ذرأه فألحفت (1)

وهامه کأنها قد نتفت

وانعاجت الأحناء حتی احلنقفت (2)

وهی تسعه وثلاثون بیتا ، والتزم فی جمیعها الفاء ، ولیست واجبه وإن کانت قریبه من صوره الوجوب. وذلک أن هذه التاء فی الفعل إذا صارت إلی الاسم صارت فی الوقف هاء فی قولک : صادفه وملحفه ومحلنقفه (فإذا صارت هاء) لم یکن الرویّ إلا ما قبلها ، فکأنها لمّا سقط حکمها مع الاسم من ذلک الفعل صارت فی الفعل نفسه قریبه من ذلک الحکم. وهذا الموضع لقطرب. وهو جیّد.

ومن ذلک تائیه کثیر :

*خلیلیّ هذا ربع عزّه فاعقلا*

لزم فی جمیعها اللام والتاء.

ومنه قول منظور :

*من لی من هجران لیلی من لی*

لزم اللام المشدّد إلی آخرها.

وفی المحدثین من یسلک هذا الطریق ، وینبغی أن یکونوا إلیه أقرب ، وبه أحجی ، إذ کانوا فی صنعه الشعر أرحب ذراعا ، وأوسع خناقا ؛ لأنهم فیه متأنّون ، وعلیه متلوّمون (3) ، ولیسوا بمرتجلیه ، ولا مستکرهین فیه.

وقد کان ابن الرومیّ رام ذلک لسعه حفظه ، وشدّه مأخذه. فمن ذلک رائیّته فی وصف العنب ؛ وهی قوله :

ص: 53

ورازقیّ مخطف الخصور

کأنّه مخازن البلّور (1)

التزم فیها الواو ألبتّه ولم یجاوزها غالبا. وکذلک تائیته : أترفتها وخطرقتها وسفسفتها ؛ التزم فیها الفاء ولیست بواجبه ، وکذلک میمیته التی یرثی بها أمّه :

*أفیضا دما إنّ الرزایا لها قیم*

أوجب علی نفسه الفتحه قبل المیم علی حدّ رائیّه العجّاج :

*قد جبر الدین الإله فجبر (2) *

غیر أنی أظنّ أن فی هذه المیمیه بیتا لیس ما قبل رویّه مفتوحا.

وأنشدنی مرّه بعض أحداثنا شیئا سمّاه شعرا علی رسم للمولدین فی مثله ، غیر أنه عندی أنا قواف منسوقه غیر محشوّه فی معنی قول سلم الخاسر :

موسی القمر* غیث بکر * ثم انهمر

وقول الآخر :

طیف ألم * بذی سلم * یسری العتم (3) * بین الخیم * (جاد بفم)

وقول الآخر :

قالت حیل * شؤم الغزل * هذا الرجل * حین احتفل * أهدی بصل

والقوافی المنسوقه التی أنشدنیها صاحبنا هذا میمیه فی وزن قوله : طیف ألم ، لا یحضرنی الآن حفظها ؛ غیر أنه التزم فیها الفتحه ألبته ، إلا قافیه واحده وهو قوله : * فاسلم ودم * ورأیته قلقا لاضطراره إلی مخالفه بقیه القوافی بها ؛ فقلت له : لا علیک فلک أن تقول : * فاسلم ودم * أمرا من قولهم : دام یدام ، وهی لغه ؛ قال :

ص: 54

یا میّ لا غرو ولا ملاما

فی الحبّ إن الحبّ لن یداما (1)

فسرّ بذلک وقال : أسیر بها إلی بلدی.

وأفضینا إلی هذا القدر لاتصاله بما کنّا علیه ؛ قال :

وعند سعید غیر أن لم أبح به

ذکرتک إن الأمر یذکر للأمر

وأکثر هذه الالتزامات فی الشعر ؛ لأنه یحظر علی نفسه ما تبیحه الصنعه إیاه إدلالا ، وتغطرفا ، واقتدارا وتعالیا. وهو کثیر. وفیما أوردناه منه کاف.

فأمّا فی غیر الشعر فنحو قولک فی جواب من سألک فقال لک : أیّ شیء عندک؟ : زید أو عمرو أو محمد الکریم أو علیّ العاقل. فإنما جوابه الذی لا یقتضی السؤال غیره أن یجیبه بنکره فی غایه (شیاع مثلها) فیقول : جسم. ألا تری أنه قد یجوز أن یکون فی قوله : أیّ شیء عندک ، إنما أراد أن یستفصلک بین أن یکون عندک علم أو قراءه أو جود أو شجاعه ، وأن یکون عندک جسم ما. فإذا قلت : جسم ، فقد فصلت بین أمرین قد کان یجوز أن یرید منک فصلک بینهما.

إلا أن جسما وإن کان قد فصل بین المعنیین فإنه مبالغ فی إبهامه. فإن تطوّعت زیاده علی هذا قلت : حیوان. وذلک أن حیوانا أخصّ من جسم ؛ کما أن جسما أخصّ من شیء. فإن تطوّع شیئا آخر قال فی جواب أیّ شیء عندک : إنسان ؛ لأنه أخصّ من حیوان ؛ ألا تراک تقول : کلّ إنسان حیوان ، ولیس کلّ حیوان إنسانا ؛ کما تقول : کل إنسان جسم ، ولیس کلّ جسم إنسانا. فإن تطوّع بشیء آخر قال : رجل. فإن زاد فی التطوّع شیئا آخر قال : رجل عاقل أو نحو ذلک. فإن تطوع شیئا آخر قال : زید أو عمرو (أو نحو ذلک).

فهذا کلّه تطوّع بما لا یوجبه سؤال هذا السائل.

ومنه قول أبی دواد :

فقصرن الشتاء بعد علیه

وهو للذود أن یقسّمن جار (2)

ص: 55

فهذا جواب «کم» ؛ کأنه قال : کم قصرن علیه؟ وکم ظرف ومنصوبه الموضع ، فکان قیاسه أن یقول : سته أشهر ؛ لأن «کم» سؤال عن قدر من العدد محصور ، فنکره هذا کافیه من معرفته ؛ ألا تری أن قولک : عشرون والعشرون وعشروک (ونحو ذلک) فائدته فی العدد واحده ؛ لکن المعدود معرفه مرّه ، ونکره أخری.

فاستعمل الشتاء وهو معرفه فی جواب کم. وهذا تطوّع بما لا یلزم. ولیس عیبا ؛ بل هو زائد علی المراد. وإنما العیب أن یقصّر فی الجواب عن مقتضی السؤال ؛ فأمّا إذا زاد علیه فالفضل معه ، والید له.

وجاز أن یکون الشتاء جوابا ل «کم» من حیث کان عددا فی المعنی ؛ ألا تراه سته أشهر. وافقنا أبو علی - رحمه الله - علی هذا الموضع من الکتاب وفسّره ونحن بحلب فقال : إلا فی هذا البلد فإنه ثمانیه أشهر. یرید طول الشتاء بها.

ومن ذلک قولک فی جواب من قال لک : آلحسن أو الحسین أفضل أم ابن الحنفیه؟ : الحسن ، أو قولک : الحسین. وهذا تطوّع من المجیب بما لا یلزم. وذلک أن جوابه علی ظاهر سؤاله أن یقول له : أحدهما ، ألا تری أنه لما قال له : «آلحسن أو الحسین أفضل أم ابن الحنفیه» فکأنه قال : [أ] أحدهما أفضل أم ابن الحنفیه؟

فجوابه علی ظاهر سؤاله أن یقول : أحدهما. فقوله : «الحسن» أو قوله : «الحسین» فیه زیاده تطوّع بها لم ینطو السؤال علی استعلامها. ونظیر قوله فی الجواب علی اللفظ أن یقول : الحسن أو الحسین ، لأن قوله : «أو الحسین» بمنزله أن یقول : أحدهما. والجواب المتطوّع فیه أن یقول : «الحسن» ویمسک ، أو أن یقول : «الحسین» ویمسک. فأمّا کان کیسانیا (1) فإنه یقول : ابن الحنفیه ، هکذا کما تری. فإن قال : آلحسن (أفضل أم الحسین) أو ابن الحنفیه ، فقال : الحسن فهو جواب لا تطوّع فیه. فإن قال : «أحدهما» فهو جواب لا تطوّع فیه أیضا. فإن قال : «الحسین» ففیه تطوّع. وکذلک إن قال : «ابن الحنفیه» فقد تطوّع أیضا. فإن قال : آلحسن أو ابن الحنفیه أفضل أم الحسین فقال له المجیب : الحسین ، فهو

ص: 56

جواب لا تطوّع فیه. فإن قال : أحدهما فهو أیضا جواب لا تطوّع فیه. فإن قال : الحسن أو قال : ابن الحنفیه ناصّا علی أحدهما معیّنا فهو جواب متطوّع فیه علی ما بینّا فیما قبل.

ومن التطوّع المشامّ للتوکید قول الله سبحانه : (إِلهَیْنِ اثْنَیْنِ) [النحل : 51] ، (وَمَناهَ الثَّالِثَهَ الْأُخْری) [النجم : 20] ، وقوله تعالی : (فَإِذا نُفِخَ فِی الصُّورِ نَفْخَهٌ واحِدَهٌ) [الحاقه : 13] ، وقولهم : مضی أمس الدابر ، وأمس المدبر. وهو کثیر. وأنشد الأصمعیّ :

وأبی الذی ترک الملوک وجمعهم

بصهاب هامده کأمس الدابر (1)

وقال :

خبلت غزاله قلبه بفوارس

ترکت منازله کأمس الدابر (2)

ومن ذلک أیضا الحال المؤکّده ؛ کقوله :

*کفی بالنأی من أسماء کاف (3) *

لأنه إذا کفی فهو کاف لا محاله.

ومنه قولهم : أخذته بدرهم فصاعدا ، هذه أیضا حال مؤکّده ؛ ألا تری أن

ص: 57

تقدیره : فزاد الثمن صاعدا ، ومعلوم أنه إذا زاد الثمن لم یکن إلا صاعدا. غیر أنه للحال هنا مزیّه علیها فی قوله :

*کفی بالنأی من أسماء کاف (1) *

لأن (صاعدا) ناب فی اللفظ عن الفعل الذی هو زاد ، و (کاف) لیس بنائب فی اللفظ عن شیء ؛ ألا تری أن الفعل الناصب له ملفوظ به معه.

ومن الحال المؤکّده قول الله تعالی : (ثُمَّ وَلَّیْتُمْ مُدْبِرِینَ) [التوبه : 25] ، وقول ابن داره :

*أنا ابن داره معروفا بها نسبی (2) *

وهو باب منقاد.

فأما قوله سبحانه : (وَلا طائِرٍ یَطِیرُ بِجَناحَیْهِ) [الأنعام : 38] فیکون من هذا. وقد یجوز أن یکون قوله سبحانه (بجناحیه) مفیدا. وذلک أنه قد یقال فی المثل :

*طاروا علاهنّ فشل علاها (3) *

وقال آخر :

وطرت بالرحل إلی شملّه

إلی أمون رحله فذلّت (4)

ص: 58

ومن أبیات الکتاب :

وطرت بمنصلی فی یعملات

دوامی الأید یخبطن السریحا (1)

وقال القطامیّ :

*ونفخوا عن مدائنهم فطاروا (2) *

وقال العجّاج :

*طرنا إلی کل طوال أعوجا (3) *

وقال العنبریّ :

*طاروا إلیه زرافات وأحدانا (4) *

وقال النابغه الذبیانیّ :

*یطیر فضاضا بینها کلّ قوبس (5) *

ص: 59

فیکون قوله تعالی : (یَطِیرُ بِجَناحَیْهِ) علی هذا مفیدا ، أی لیس الغرض تشبیهه بالطائر ذی الجناحین ، بل هو الطائر بجناحیه ألبته. وکذلک قوله عز اسمه : (فَخَرَّ عَلَیْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : 26] قد یکون قوله (من فوقهم) مفیدا.

وذلک أنه قد یستعمل فی الأفعال الشاقّه المستثقله ؛ علی قول من یقول : قد سرنا عشرا وبقیت علینا لیلتان ؛ وقد حفظت القرآن وبقیت علیّ منه سورتان ، وقد صمنا عشرین من الشهر وبقی علینا عشر. وکذلک یقال فی الاعتداد علی الإنسان بذنوبه وقبیح أفعاله : قد أخرب علیّ ضیعتی وموّت علیّ عواملی ، وأبطل علیّ انتفاعی. فعلی هذا لو قیل : فخرّ علیهم السقف ولم یقل : من فوقهم لجاز أن یظنّ به أنه کقولک : قد خرّبت علیهم دارهم ، وقد أهلکت علیهم مواشیهم وغلاتهم ، وقد تلفت علیهم تجاراتهم. فإذا قال : (من فوقهم) زال ذلک المعنی المحتمل ، وصار معناه أنه سقط وهم من تحته. فهذا معنی غیر الأوّل.

وإنما (اطّردت علی) فی الأفعال التی قدّمنا ذکرها ؛ مثل خربت علیه ضیعته وموّتت علیه عوامله ونحو ذلک من حیث کانت (علی) فی الأصل للاستعلاء.

فلمّا کانت هذه الأحوال (کلفا و) مشاقّ تخفض الإنسان وتضعه ، وتعلوه وتفرعه حتّی یخضع لها ویخنع لما یتسدّاه (1) منها کان ذلک من مواضع علی ؛ ألا تراهم یقولون : هذا لک ، وهذا علیک ؛ فتستعمل اللام فیما تؤثره ، وعلی فیما تکرهه ؛ قالت :

سأحمل نفسی علی آله

فإمّا علیها وإمّا لها (2)

وقال ابن حلزه :

ص: 60

فله هنالک لا علیه إذا

دنعت أنوف القوم للتعس (1)

فمن هنا دخلت (علی) هذه فی هذه الأفعال التی معناها إلی الإخضاع والإذلال.

وما یتطوّع به من غیر وجوب کثیر. وفیما مضی منه کاف ودالّ علیه بإذن الله.

* * *

ص: 61

(هل) من معنی الاستفهام.

فإن قلت : فقد أجازوا لیت زیدا أخوک قائما ونحو ذلک فنصبوه بما فی لیت من معنی التمنّی ، وقال النابغه :

کأنه خارجا من جنب صفحته

سفّود شرب نسوه عند مفتأد (1)

فنصب (خارجا) علی الحال بما فی (کأنّ) من معنی التشبیه ، وأنشد أبو زید :

کأنّ دریئه لمّا التقینا

لنصل السیف مجتمع الصداع (2)

فأعمل معنی التشبیه فی (کأن) فی الظرف الزمانیّ الذی هو (لمّا التقینا).

قیل : إنما جاز ذلک فی (لیت) و (کأنّ) لما اجتمع فیهما : وهو أن کلّ واحده منهما فیها معنی الفعل (من التمنی) والتشبیه (وأیضا) فکل (واحده) منهما رافعه وناصبه کالفعل القویّ المتعدّی ، وکلّ واحده منهما متجاوزه عدد الاثنین ، فأشبهت بزیاده عدّتها الفعل ؛ ولیس کذلک ما کان علی حرف ، ولا ما کان علی حرفین ؛ لأنه لم یجتمع فیه ما اجتمع فی لیت ولعلّ.

ولهذا کان ما ذهب إلیه أبو العباس : من أنّ (إلا) فی الاستثناء هی الناصبه ؛ لأنها نابت عن (أستثنی) ، و (لا أعنی) مردودا عندنا ؛ لما فی ذلک من تدافع الأمرین : الإعمال المبقّی حکم الفعل ، والانصراف عنه إلی الحرف المختصر به القول.

نعم ، وإذا کانت هذه الحروف تضعف وتقلّ عن العمل فی الظروف کانت من العمل فی الأسماء الصریحه القویّه التی لیست ظروفا ولا أحوالا ولا تمییزا لاحقا بالحال اللاحقه بالظرف أبعد.

ص: 64

فإن قلت : فقد قالوا : یا عبد الله ویا خیرا من زید ، فأعملوا (یا) فی الاسم الصریح وهی حرف ، فکیف القول فی ذلک؟

قیل : ل (یا) فی هذه خاصه فی قیامها مقام الفعل لیست لسائر الحروف وذلک أن (هل) تنوب عن (أستفهم) ، و (ما) تنوب عن (أنفی) ، و (إلا) تنوب عن (أستثنی) وتلک الأفعال النائبه عنها هذه الحروف هی الناصبه فی الأصل. فلما انصرفت عنها إلی الحروف طلبا للإیجاز ، ورغبه عن الإکثار ، أسقطت عمل تلک الأفعال ، لیتمّ لک ما انتحیته من الاختصار. ولیس کذلک یا.

وذلک (أن یا) نفسها هی العامل الواقع علی زید ، وحالها فی ذلک حال (أدعو) و (أنادی) فی کون کل واحد منهما هو العامل فی المفعول ، ولیس کذلک ضربت وقتلت ونحوه. وذلک أن قولک : ضربت زیدا وقتلت عمرا الفعل الواصل إلیهما المعبّر بقولک : ضربت عنه لیس هو نفس (ض ر ب) إنما ثمّ أحداث هذه الحروف دلاله علیها ؛ وکذلک القتل والشتم والإکرام ونحو ذلک. وقولک : أنادی عبد الله ، وأدعو عبد الله ؛ لیس هنا فعل واقع علی (عبد الله) غیر هذا اللفظ ، و (یا) نفسها فی المعنی ک (أدعو) ؛ ألا تری أنک إنما تذکر بعد (یا) اسما واحدا ، کما تذکره بعد الفعل المستقلّ بفاعله إذا کان متعدّیا إلی مفعول واحد ؛ کضربت زیدا ، ولقیت قاسما ، ولیس کذلک حرف الاستفهام وحرف النفی ، إنما تدخلهما علی الجمل المستقلّه فتقول : ما قام زید وهل قام أخوک. فلمّا قویت (یا) فی نفسها وأوغلت فی شبه الفعل تولّت بنفسها العمل.

فإن قلت : فإنما تذکر بعد (إلا) اسما واحدا أیضا ، قیل : الجمله قبل (إلا) منعقده بنفسها ، وإلا فضله فیها. ولیس کذلک یا ؛ لأنک إذا قلت : یا عبد الله تمّ الکلام بها وبمنصوب بعدها ، فوجب أن تکون هی کأنها الفعل المستقل بفاعله ، والمنصوب هو المفعول بعدها ، فهی فی هذا الوجه کروید زیدا.

ومن وجه آخر أن قولک : یا زید لمّا اطّرد فیه الضمّ وتمّ به القول جری مجری ما ارتفع بفعله أو بالابتداء ؛ فهذا أدون حالی یا أعنی أن (یکون) کأحد جزأی الجمله. وفی القول الأوّل هی جاریه مجری الفعل مع فاعله. فلهذا قوی حکمها وتجاوزت رتبه الحروف التی إنما هی ألحاق وزوائد علی الجمل.

ص: 65

فلذلک عملت یا ولم تعمل هل ، ولا ما ، ولا شیء من ذلک النصب بمعنی الفعل الذی دلّت علیه ، ونابت عنه. ولذلک ما وصلت تاره بنفسها فی قولک : یا عبد الله ، وأخری بحرف الجرّ ؛ نحو قوله : یا لبکر ، فجرت فی ذلک مجری ما یصل من الفعل تاره بنفسه ، وأخری بحرف الجرّ ؛ نحو قوله : خشّنت صدره ، وبصدره ، وجئت زیدا ، وجئت إلیه ، واخترت الرجال ، ومن الرجال ، وسمّیته زیدا ، وبزید ، وکنیته أبا علیّ وبأبی علیّ.

فإن قلت : (فقد) قال الله سبحانه : «ألا یا اسجدوا» [النمل : 25] وقد قال غیلان :

*ألا یا اسلمی یا دار میّ علی البلی (1) *

وقال :

*یا دار هند یا اسلمی ثم اسلمی (2) *

فجاء بیا ولا منادی معها ، قیل : یا فی هذه الأماکن قد جرّدت من معنی النداء وخلصت تنبیها. ونظیرها فی الخلع من أحد المعنیین وإفراد الآخر : (ألا) ؛ لها فی الکلام معنیان : افتتاح الکلام ، والتنبیه ؛ نحو قول الله سبحانه : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْکِهِمْ لَیَقُولُونَ) [الصافات : 151] ، وقوله تعالی : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [البقره : 12] و (قول کثیر) :

*ألا إنّما لیلی عصا خیزرانه (3) *

ص: 66

فإذا دخلت علی (یا) خلصت (ألا) افتتاحا وخصّ التنبیه بیا. وذلک کقول نصیب :

ألا یا صبا نجد متی هجت من نجد

فقد زادنی مسراک وجدا علی وجد

فقد صحّ بما ذکرناه إلی أن قادنا إلی هنا أن حذف الحروف لا یسوّغه القیاس ؛ لما فیه من الانتهاک والإجحاف.

وأمّا زیادتها فخارج عن القیاس أیضا.

وذلک أنه إذا کانت إنما جیء بها اختصارا وإیجازا کانت زیادتها نقضا لهذا الأمر ، وأخذا له بالعکس والقلب ؛ ألا تری أن الإیجاز ضدّ الإسهاب ؛ وذلک لم یجز أبو الحسن توکید الهاء المحذوفه من صله الذی فی نحو (الذی ضربت زید) ، فأفسد أن تقول : الذی ضربت نفسه زید. قال : لأن ذلک نقض ؛ من حیث کان التوکید إسهابا والحذف إیجازا. وذلک أمر ظاهر التدافع.

هذا هو القیاس : ألا یجوز حذف الحروف ولا زیادتها. ومع ذلک فقد حذفت تاره ، وزیدت أخری.

أمّا حذفها فکنحو ما حکاه أبو عثمان عن أبی زید من حذف حرف العطف فی نحو قولهم : أکلت لحما ، سمکا ، تمرا. وأنشد أبو الحسن :

کیف أصبحت کیف أمسیت مما

یزرع الودّ فی فؤاد الکریم (1)

یرید : کیف أصبحت ، وکیف أمسیت. وأنشد ابن الأعرابیّ :

وکیف لا أبکی علی علاتی

صبائحی ، غبائقی ، قیلاتی (2)

أی صبائحی وغبائقی ، وقیلاتی. وقد یجوز أن یکون بدلا ؛ أی کیف لا أبکی

ص: 67

علی علاتی التی هی صبائحی وهی غبائقی وهی قیلاتی ، فیکون هذا من بدل الکل. والمعنی الأوّل أن منها صبائحی ومنها غبائقی ومنها قیلاتی.

ومن ذلک ما کان یعتاده رؤبه إذا قیل له : کیف أصبحت فیقول : خیر عافاک (أی بخیر) وحکی سیبویه : الله لا أفعل ، یرید والله. ومن أبیات الکتاب :

من یفعل الحسنات الله یشکرها

والشرّ بالشرّ عند الله مثلان (1)

أی فالله یشکرها.

وحذفت همزه الاستفهام ؛ نحو قوله :

فأصبحت فیهم آمنا لا کمعشر

أتونی وقالوا : من ربیعه أو مضر؟ (2)

(یرید أمن ربیعه) وقال الکمیت :

طربت وما شوقا إلی البیض أطرب

ولا لعبا منی وذو الشیب یلعب (3)

أراد : أو ذو الشیب یلعب. ومنه قول ابن أبی ربیعه :

ثم قالوا تحبّها قلت بهرا

عدد القطر والحصی والتراب (4)

ص: 68

أظهر الأمرین فیه أن یکون أراد : أتحبها؟ ؛ لأنّ البیت الذی قبله یدلّ علیه ، وهو قوله :

أبرزوها مثل المهاه تهادی

بین خمس کواعب أتراب (1)

ولهذا ونحوه نظائر. وقد کثرت.

فأمّا تکریرها وزیادتها فکقوله :

لددتهم النصیحه کلّ لدّ

فمجّوا النصح ثم ثنوا فقاءوا (2)

فلا والله لا یلفی لما بی

ولا للما بهم أبدا دواء (3)

وقد کثرت زیاده (ما) توکیدا ؛ کقول الله تعالی : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِیثاقَهُمْ) [النساء : 155 ، المائده : 13] وقوله سبحانه (عَمَّا قَلِیلٍ لَیُصْبِحُنَّ نادِمِینَ) [المؤمنون : 40] ، وقوله عز قدره : (مِمَّا خَطِیئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : 25].

وقال جلّ وعزّ : (وَلا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَهِ) [البقره : 195] (فالباء زائده) وأنشد أبو زید :

ص: 69

بحسبک فی القوم أن یعلموا

بأنک فیهم غنیّ مضرّ (1)

فزاد الباء فی المبتدأ. وأنشد لأمیّه :

طعامهم إذا أکلوا مهنّا

وما إن لا تحاک لهم ثیاب (2)

فإن لتوکید النفی ، کقول زهیر :

*ما إن یکاد یخلّیهم لوجهتهم (3) *

ولا من بعدها زائده.

وزیدت اللام فی قوله - رویناه عن أحمد بن یحیی - :

مرّوا عجالا وقالوا کیف صاحبکم

قال الذی سألوا أمسی لمجهودا (4)

وفی قراءه سعید بن جبیر (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَکَ مِنَ الْمُرْسَلِینَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَیَأْکُلُونَ الطَّعامَ) [الفرقان : 20] وقد تقدّم ذکر ذلک.

وزیدت لا (قال أبو النجم) :

ص: 70

ولا ألوم البیض ألا تسخرا

وقد رأین الشمط القفندرا (1)

[وقال العجّاج :

*بغیر لا عصف ولا اصطراف (2)] *

وأنشدنا :

أبی جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتی لا یمنع الجود قاتله (3)

فهذا علی زیاده (لا) أی أبی جوده البخل. وقد یجوز أن تکون (لا) منصوبه الموضع ب (أبی) ، و (البخل) بدل منها.

وزیاده الحروف کثیره ، وإن کانت علی غیر قیاس ؛ کما أن حذف المضاف أوسع وأفشی ، وأعمّ وأوفی ، وإن کان أبو الحسن قد نصّ علی ترک القیاس علیه.

فأمّا عذر حذف هذه الحروف فلقوّه المعرفه بالموضع ؛ ألا تری إلی (قول امرئ القیس) :

*فقلت : یمین الله أبرح قاعدا (4) *

ص: 71

لأنه لو أراد الواجب لما جاز ؛ لأن (أبرح) هذه لا تستعمل فی الواجب ، فلا بدّ من أن یکون أراد : لا أبرح. ویکفی من هذا قولهم : ربّ إشاره أبلغ من عباره.

وأمّا زیادتها فلإراده التوکید بها. وذلک أنه قد سبق أن الغرض فی استعمالها إنما هو الإیجاز والاختصار ، والاکتفاء من الأفعال وفاعلیها ، فإذا زید ما هذه سبیله فهو تناه فی التوکید به. وذلک کابتذالک فی ضیافه ضیفک أعزّ ما تقدر علیه ، وتصونه من أسبابک ، فذاک غایه إکرامک له وتناهیک فی الحفل به.

* * *

ص: 72

وأنشد أبو الحسن :

زیادتنا نعمان لا تنسینّها

تق الله فینا والکتاب الذی تتلو (1)

ومنه أیضا قولهم تجه یتجه (وأصله اتجه) ومثال تجه علی هذا تعل کتقی سواء.

وروی أبو زید أیضا فیما حدّثنا به أبو علی عنه : تجه یتجه ؛ فهذا من لفظ آخر ، وفاؤه تاء. وأنشدنا :

قصرت له القبیله إذ تجهنا

وما ضاقت بشدّته ذراعی (2)

فهذا محذوف من اتّجه کاتّقی.

فأما قولهم : اتخذت ؛ فلیست تاؤه بدلا من شیء بل هی فاء أصلیه بمنزله اتبعت من تبع. یدلّ علی ذلک ما أنشده الأصمعیّ من قوله (3) :

وقد تخذت رجلی إلی جنب غرزها

نسیفا کأفحوص القطاه المطرّق (4)

ص: 74

وعلیه قول الله سبحانه : (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَیْهِ أَجْراً) [الکهف : 77] وذهب أبو إسحاق إلی أنّ اتخذت کاتّقیت واتزنت وأن الهمزه أجریت فی ذلک مجری الواو. وهذا ضعیف ، إنما جاء منه شیء شاذّ ؛ أنشد ابن الأعرابیّ :

فی داره تقسم الأزواد بینهم

کأنما أهله منها الذی اتّهلا (1)

وروی لنا أبو علیّ عن أبی الحسن علی بن سلیمان متمن. وأنشد :

*......... بیض اتّمن*

والذی یقطع علی أبی إسحاق قول الله عزوجل (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَیْهِ أَجْراً). فکما أن تجه لیس من لفظ الوجه کذلک لیس تخذ من لفظ الأخذ.

وعذر من قال : اتّمن واتّهل من الأهل أن لفظ هذا إذا لم یدغم یصیر إلی صوره ما أصله حرف لین. وذلک قولهم فی افتعل من الأکل : ایتکل ، ومن الإزره (2) : ایتزر. فأشبه حینئذ ایتعد فی لغه من لم یبدل الفاء تاء ، فقال : اتّهل واتّمن لقول غیره : ایتهل وایتمن. وأجود اللغتین (إقرار الهمز) ؛ قال الأعشی :

*أبا ثبیت أما تنفکّ تأتکل (3) *

وکذلک ایتزر یأتزر. فأمّا اتّکلت علیه فمن الواو علی الباب ؛ لقولهم الوکاله والوکیل. وقد ذکرنا هذا الموضع فی کتابنا فی شرح تصریف أبی عثمان.

وقد حذفت الفاء همزه وجعلت (ألف فعال) بدلا منها ؛ وذلک قوله.

*لاه ابن عمّک لا أفضلت فی حسب (4) *

ص: 75

فی أحد قولی سیبویه. وقد ذکرنا ذلک.

وأمّا ما حذفت عینه وزید هناک حرف عوضا منها فأینق فی أحد قولی سیبویه.

وذلک أن أصلها أنوق فأحد قولیه فیها أن الواو التی هی عین حذفت وعوّضت منها یاء ، فصارت : أینق. ومثالها فی هذا القول علی اللفظ : أیفل. والآخر أن العین قدّمت علی الفاء فأبدلت یاء. ومثلها علی هذا أعفل.

وقد حذفت العین حرف علّه ، وجعلت ألف فاعل عوضا منها. وذلک رجل خاف ، ورجل مال ، ورجل هاع لاع. فجوز أن یکون هذا فعلا کفرق فهو فرق ، وبطر فهو بطر. ویجوز أن یکون فاعلا حذفت عینه وصارت ألفه عوضا منها ؛ کقوله :

*لاث به الأشاء والعبریّ (1) *

وممّا حذفت عینه وصر الزائد عوضا منها قولهم : سید ومیت وهین ولین ؛ قال :

هینون لینون أیسار ذوو یسر

سوّاس مکرمه أبناء أیسار (2)

ص: 76

وأصلها فیعل : سیّد ومیّت وهیّن ولیّن ؛ حذفت عینها وجعلت یاء فیعل عوضا منها.

وکذلک باب قیدوده وصیروره وکینونه ، وأصلها فیعلوله حذفت عینها ، وصارت یاء فیعلوله الزائده عوضا منها.

فإن قلت : فهلا کانت لام فیعلوله الزائده عوضا منها؟ قیل قد صحّ فی فیعل من نحو سیّد وبابه أن الیاء الزائده عوض من العین ، وکذلک الألف. الزائده فی خاف و (هاع لاع) عوض من العین. وجوّز سیبویه أیضا ذلک فی أینق ، فکذلک أیضا ینبغی أن تحمل فیعلوله علی ذلک. وأیضا فإن الیاء أشبه بالواو من الحرف الصحیح فی باب قیدوده وکینونه. وأیضا فقد جعلت تاء التفعیل عوضا من عین الفعّال. وذلک قولهم : قطّعته تقطیعا : وکسّرته تکسیرا ؛ ألا تری أن الأصل قطّاع وکسّار ؛ بدلاله قول الله سبحانه : (وَکَذَّبُوا بِآیاتِنا کِذَّاباً) [النبأ : 28] ، وحکی الفرّاء قال : سألنی أعرابیّ فقال : أحلّاق أحبّ إلیک أم قصّار؟ فکما أن التاء الزائده فی التفعیل عوض من العین فکذلک ینبغی أن تکون الیاء فی قیدوده عوضا من العین لا الدال.

فإن قلت : فإن اللام أشبه بالعین من الزائد ، فهلا کانت لام القیدوده عوضا من عینها؟ قیل : إنّ الحرف الأصلی القویّ إذا حذف لحق بالمعتلّ الضعیف ، فساغ لذلک أن ینوب عنه الزائد الضعیف. وأیضا فقد رأیت کیف کانت یاء التفعیل الزائده عوضا من عینه (وکذلک ألف فاعل ، کیف کانت عوضا من عینه) فی خاف وهاع ولاع ونحوه. وأیضا فإن عین قیدوده وبابها وإن کانت أصلا فإنها علی الأحوال کلّها حرف علّه ما دامت موجوده ملفوظا بها ، فکیف بها إذا حذفت فإنها حینئذ توغل فی الاعتلال والضعف. ولو لم یعلم تمکّن هذه الحروف فی الضعف إلا بتسمیتهم إیاها حروف العلّه لکان کافیا. وذلک أنها فی أقوی أحوالها ضعیفه ؛ ألا تری أن هذین الحرفین إذا قویا بالحرکه فإنک حینئذ مع ذلک مؤنس فیهما ضعفا. وذلک أنّ تحملهما للحرکه أشقّ منه فی غیرهما. ولم یکونا کذلک إلا لأن مبنی أمرهما علی خلاف القوّه. یؤکّد ذلک عندک أن أذهب الثلاث فی الضعف والاعتلال الألف. ولمّا کانت کذلک لم یمکن تحریکها ألبتّه. فهذا أقوی دلیل علی

ص: 77

أن الحرکه إنما یحملها ویسوغ فیها من الحروف الأقوی لا الأضعف. ولذلک ما تجد أخف الحرکات الثلاث - وهی الفتحه - مستثقله فیهما حتی یجنح لذلک ویستروح إلی إسکانها ؛ نحو قوله :

*یا دار هند عفت إلا أثافیها (1) *

وقوله :

*کأن أیدیهنّ بالقاع القرق (2) *

ونحو من ذلک قوله :

وأن یعرین إن کسی الجواری

فتنبو العین عن کرم عجاف (3)

نعم ، وإذا کان الحرف لا یتحامل بنفسه حتی یدعو إلی اخترامه وحذفه کان بأن

ص: 78

یضعف عن تحمل الحرکه الزائده علیه فیه أحری وأحجی. وذلک نحو قول الله تعالی (وَاللَّیْلِ إِذا یَسْرِ) [الفجر : 4] ، و (ذلِکَ ما کُنَّا نَبْغِ) [الکهف : 64] ، و (الْکَبِیرُ الْمُتَعالِ) [الرعد : 9] ، وقوله :

.......... وما

قرقر قمر الواد بالشاهق (1)

وقال الأسود (بن یعفر) :

*فألحقت أخراهم طریق ألاهم (2) *

یرید أولاهم ، و (یَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) [الشوری : 24] ، و (سَنَدْعُ الزَّبانِیَهَ) [العلق : 18] کتبت فی المصحف بلا واو للوقف علیها کذلک. وقد حذفت الألف فی نحو ذلک ؛ قال رؤبه :

*وصّانی العجّاج فیما وصّنی (3) *

یرید : فیما وصانی. وذهب أبو عثمان فی قول الله عزّ اسمه : (یا أَبَتِ) [مریم : 42] إلی أنه أراد یا أبتاه وحذف الألف. ومن أبیات الکتاب قول لبید :

*رهط مرجوم ورهط ابن المعلّ (4) *

ص: 79

یرید المعلّی. وحکی أبو عبیده وأبو الحسن وقطرب وغیرهم رأیت فرج ، ونحو ذلک. فإذا کانت هذه الحروف تتساقط وتهی عن حفظ أنفسها وتحمل خواصّها وعوانی (1) ذواتها ، فکیف بها إذا جشّمت احتمال الحرکات النّیفات علی مقصور صورها.

نعم ، وقد أعرب بهذه الصور أنفسها ، کما یعرب بالحرکات التی هی أبعاضها.

وذلک فی باب أخوک وأبوک وهناک وفاک وحمیک وهنیک والزیدان والزیدون والزیدین. (وأجریت) هذه الحروف مجری الحرکات فی زید وزیدا وزید ، ومعلوم أن الحرکات لا تحمل - لضعفها - الحرکات. فأقرب أحکام هذه الحروف إن لم تمنع من احتمالها الحرکات أن إذا تحملتها جفت علیها وتکاءدتها (2).

ویؤکّد عندک ضعف هذه الأحرف الثلاثه أنه إذا وجدت أقواهن - وهما الواو والیاء - مفتوحا ما قبلهما فإنهما کأنهما تابعان لما هو منهما ؛ ألا تری إلی ما جاء عنهم من نحو نوبه ونوب ، وجوبه وجوب (3) ، ودوله ودول. فمجیء فعله علی فعل یریک أنها کأنها إنما جاءت عندهم من فعله ؛ فکأنّ دوله دوله ، وجوبه جوبه ، ونوبه نوبه. وإنما ذلک لأن الواو ممّا سبیله أن یأتی تابعا للضمّه.

وکذلک ما جاء من فعله مما عینه یاء علی فعل ؛ نحو ضیعه وضیع ، وخیمه وخیم ، وعیبه وعیب (4) ؛ کأنه إنما جاء علی أنّ واحدته فعله ؛ نحو ضیعه وخیمه وعیبه. أفلا تراهما مفتوحا ما قبلهما مجراتین مجراهما مکسورا ومضموما ما قبلهما ؛ فهل هذا إلا لأن الصنعه مقتضیه لشیاع الاعتلال فیهما.

ص: 80

فإن قلت : ما أنکرت ألا یکون ما جاء من نحو فعله علی فعل - نحو نوب وجوب ودول - لما ذکرته من تصوّر الضمّه فی الفاء ، ولا یکون ما جاء من فعله علی فعل - نحو ضیع وخیم وعیب - لما ذکرته من تصوّر الکسره فی الفاء ، بل لأن ذلک ضرب من التکسیر رکبوه فیما عینه معتلّه کما رکبوه فیما عینه صحیحه ؛ نحو لأمه (1) ولؤم وعرصه وعرص وقریه وقری وبروه (2) وبرا - فیما ذکره أبو علیّ - ونزوه ونزا - فیما ذکره أبو العبّاس - وحلقه وحلق وفلکه وفلک؟

قیل : کیف تصرّفت الحال فلا اعتراض شکّ فی أن الیاء والواو أین وقعتا وکیف تصرّفتا معتدّتان حرفی علّه ، ومن أحکام الاعتلال أن یتبعا ما هو منهما.

هذا هذا ، ثم إنا رأیناهم قد کسّروا فعله مما هما عیناه علی فعل وفعل ؛ نحو جوب ونوب وضیع وخیم ، فجاء تکسیرهما تکسیر ما واحده مضموم الفاء ومکسورها.

فنحن الآن بین أمرین : إما أن نرتاح لذلک ونعلّله ، وإما أن نتهالک فیه ونتقبله غفل الحال ، ساذجا من الاعتلال. فأن یقال : إن ذلک لما ذکرناه من اقتضاء الصوره فیهما أن یکونا فی الحکم تابعین لما قبلهما أولی من أن ننقض الباب فیه ، ونعطی الید عنوه به ، من غیر نظر له ، ولا اشتمال من الصنعه علیه ؛ ألا تری إلی قوله : ولیس شیء مما یضطرّون إلیه إلا وهم یحاولون له وجها. (فإذا) لم یخل مع الضروره من وجه من القیاس محاول فهم لذلک مع الفسحه فی حال السعه أولی بأن یحاولوه ، وأحجی بأن یناهدوه (3) فیتعللوا به ولا یهملوه.

فإذا ثبت ذلک فی باب ما عینه یاء أو واو جعلته الأصل فی ذلک ، وجعلت ما عینه صحیحه فرعا له ، ومحمولا علیه ؛ نحو حلق وفلک وعرص ولؤم وقری وبرا ؛ کما أنهم لمّا أعربوا بالواو والیاء والألف فی الزیدون والزیدین والزیدان تجاوزوا ذلک إلی أن أعربوا بما لیس من حروف اللین. وهو النون فی یقومان وتقعدین وتذهبون. فهذا جنس من تدریج اللغه الذی تقدّم بابه فیما مضی من کتابنا هذا.

ص: 81

وأما ما حذفت لامه وصار الزائد عوضا منها فکثیر.

منه باب سنه ، ومائه ، ورئه ، وفئه ، وعضه ، وضعه. فهذا ونحوه مما حذفت لامه وعوّض منها تاء التأنیث ؛ ألا تراها کیف تعاقب اللام فی نحو بره وبرا ، وثبه وثبا. وحکی أبو الحسن عنهم : رأیت مئیا بوزن معیا. فلما حذفوا قالوا : مائه.

فأما بنت وأخت فالتاء عندنا یدل من لام الفعل ، ولیست عوضا.

وأمّا ما حذف لالتقاء الساکنین من هذا النحو فلیس الساکن الثانی عندنا بدلا ولا عوضا ؛ لأنه لیس لازما. وذلک نحو هذه عصا ورحا ، وکلمت معلّی فلیس التنوین فی الوصل ، ولا الألف التی هی بدل منها فی الوقف - نحو رأیت عصا ، عند الجماعه (1) ، وهذه عصا ومررت بعصا ، عند أبی عثمان والفرّاء - بدلا من لام الفعل ، ولا عوضا ؛ ألا تراه غیر لازم ؛ إذ کان التنوین یزیله الوقف ، والألف التی هی بدل منه یزیلها الوصل. ولیست کذلک تاء مائه وعضه وسنه وفثه وشفه ؛ لأنها ثابته فی الوصل ، ومبدله هاء فی الوقف. فأما الحذف فلا حذف. وکذلک ما لحقه علم الجمع ؛ نحو القاضون والقاضین والأعلون والأعلین. فعلم الجمع لیس عوضا ولا بدلا ؛ لأنه لیس لازما.

فأمّا قولهم : هذان وهاتان واللذان واللتان والذین والّذون فلو قال قائل : إنّ علم التثنیه والجمع فیها عوض من الألف والیاء (2) من حیث کانت هذه أسماء صیغت للتثنیه والجمع ، لا علی حدّ رجلان وفرسان وقائمون وقاعدون ، ولکن علی حدّ قولک : هما وهم وهنّ لکان مذهبا ؛ ألا تری أن (هذین) من (هذا) لیس علی (رجلین) من (رجل) ولو کان کذلک لوجب أن تنکّره ألبتّه کما تنکّر الأعلام ؛ نحو زیدان وزیدین وزیدون وزیدین ، والأمر فی هذه الأسماء بخلاف

ص: 82

ذلک ؛ ألا تراها تجری مثنّاه ومجموعه أوصافا علی المعارف کما تجری علیها مفرده. وذلک قولک مررت بالزیدین هذین ، وجاءنی أخواک اللذان فی الدار. وکذلک قد توصف هی أیضا بالمعارف ؛ نحو قولک : جاءنی ذانک الغلامان ، ورأیت اللذین فی الدار الظریفین. وکذلک أیضا تجدها فی التثنیه والجمع تعمل من نصب الحال ما کانت تعمله مفرده. وذلک نحو قولک : هذان قائمین الزیدان ، وهؤلاء منطلقین إخوتک. وقد تقصینا القول فی ذلک فی کتابنا «فی سرّ الصناعه».

وقریب من هذان واللذان قولهم : هیهات مصروفه (وغیر مصروفه) وذلک أنها جمع هیهاه ، وهیهاه عندنا رباعیه مکرره (1) ، فاؤها ولامها الأولی هاء ، وعینها ولامها الثانیه یاء فهی - لذلک - من باب صیصیه (2). وعکسها باب یلیل (3) ویهیاه (4) ؛ قال ذو الرمّه :

تلوّم یهیاه بیاه وقد مضی

من اللیل جوز واسبطرّت کواکبه (5)

وقال کثیّر :

وکیف ینال الحاجبیّه آلف

بیلیل ممساه وقد جاوزت رقدا (6)

فهیهات من مضعّف الیاء بمنزله المرمره والقرقره.

فکان قیاسها إذا جمعت أن تقلب اللام یاء ، فیقال هیهیات کشوشیات (7)

ص: 83

وضوضیات ؛ إلا أنهم حذفوا اللام ؛ لأنها فی آخر اسم غیر متمکّن لیخالف آخرها آخر الأسماء المتمکنه ؛ نحو رحیان ومولیان. فعلی هذا قد یمکن أن یقال : إن الألف والتاء فی هیهات عوض من لام الفعل فی هیهاه ؛ لأن هذا ینبغی أن یکون اسما صیغ للجمع بمنزله الذین وهؤلاء.

فإن قیل : وکیف ذاک وقد یجوز تنکیره فی قولهم : هیهات هیهات ، وهؤلاء والذین لا یمکن تنکیرهما ؛ فقد صار إذا هیهات بمنزله قصاع وجفان (وکرام وظراف).

قیل : لیس التنکیر فی هذا الاسم المبنیّ علی عدّه فی غیره من المعرب ؛ ألا تری أنه لو کانت هیهات من هیهاه بمنزله أرطیات من أرطاه وسعلیات من سعلاه لما کانت إلا نکره ؛ کما أن سعلیات وأرطیات لا تکونا إلا نکرتین.

فإن قیل : ولم لا تکون سعلیات معرفه إذا جعلتها علما ؛ کرجل أو امرأه سمیتها بسعلیات وأرطیات. وکذلک أنت فی هیهات إذا عرّفتها فقد جعلتها علما علی معنی البعد ، کما أن غاق فیمن لم ینون فقد جعل علما لمعنی الفراق ، ومن نوّن فقال : غاق غاق وهیهاه هیهاه وهیهاه وهیهات فکأنه قال : بعدا بعدا فجعل التنوین علما لهذا المعنی کما جعل حذفه علما لذلک؟

قیل : أمّا علی التحصیل فلا تصح هناک حقیقه معنی العلمیه. وکیف یصح ذاک وإنما هذه أسماء سمّی بها الفعل فی الخبر ؛ نحو شتان وسرعان وأف وأوتّاه وسنذکر ذلک فی بابه. وإذا کانت أسماء للأفعال ، والأفعال أقعد شیء فی التنکیر وأبعده عن التعریف علمت أنه تعلیق لفظ متأوّل فیه التعریف علی معنی لا یضامّه إلا التنکیر. فلهذا قلنا : إن تعریف باب هیهات لا یعتدّ تعریفا. وکذلک غاق وإن لم یکن اسم فعل فإنه علی سمته ؛ ألا تراه صوتا بمنزله حاء وعاء وهاء ، وتعرّف الأصوات من جنس تعرف الأسماء المسماه (بها الأفعال).

فإن قیل : ألا تعلم أن معک من الأسماء ما تکون فائده معرفته کفائده نکرته ألبته. وذلک قولهم : غدوه ، هی فی معنی غداه ؛ إلا أن غدوه معرفه ، وغداه نکره. وکذلک أسد وأسامه ، وثعلب وثعاله وذئب وذؤاله ، وأبو جعده وأبو معطه. فقد تجد هذا التعریف المساوی لمعنی التنکیر فاشیا فی غیر ما ذکرته ، ثم لم

ص: 84

یمنع ذلک أسامه وثعاله وذؤاله وأبا جعده وأبا معطه ونحو ذلک أن تعدّ فی الأعلام وإن لم یخصّ الواحد من جنسه ، فکذلک لم لا یکون هیهات کما ذکرنا؟.

قیل : هذه الأعلام وإن کانت معنیاتها نکرات فقد یمکن فی کل واحد منها أن یکون معرفه صحیحه ؛ کقولک : فرقت ذلک الأسد الذی فرقته ، وتبرکت بالثعلب الذی تبرّکت به ، وخسأت الذئب الذی خسأته. فأمّا الفعل فممّا لا یمکن تعریفه علی وجه ؛ فلذلک لم یعتدّ التعریف الواقع علیه لفظا سمه خاصّه ولا تعریفا.

وأیضا فإن هذه الأصوات عندنا فی حکم الحروف ، فالفعل إذا أقرب إلیها ، ومعترض بین الأسماء وبینها ؛ أولا تری أن البناء الذی سری فی باب صه ومه وحیهلا ورویدا وإیه وأیها وهلم ونحو ذلک من باب نزال ودراک ونظار ومناع إنما أتاها من قبل تضمّن هذه الأسماء معنی لام الأمر ؛ لأن أصل ماصه اسم له - وهو اسکت - لتسکت ؛ کقراءه (1) النبیّ صلی الله علیه وسلم «فبذلک فلتفرحوا» [یونس : 58] وکذلک مه هو اسم اکفف ، والأصل لتکفف. وکذلک نزال هو اسم انزل ، والأصل : لتنزل.

فلما کان معنی اللام عائرا (2) فی هذا الشق وسائرا فی أنحائه ، ومتصوّرا فی جمیع جهاته دخله البناء من حیث تضمّن هذا المعنی ؛ کما دخل أین وکیف لتضمّنهما معنی حرف الاستفهام ، وأمس لتضمنه معنی حرف التعریف ، ومن لتضمنه معنی حرف الشرط ، وسوی ذلک. فأمّا أفّ وهیهات وبابهما مما هو اسم للفعل فمحمول فی ذلک علی أفعال الأمر. (وکأنّ) الموضع فی ذلک إنما هو لصه ومه وروید ونحو ذلک ، ثم حمل علیه باب أفّ وشتّان ووشکان (من حیث) کان اسما سمّی به الفعل.

وإذا جاز لأحمد وهو اسم معرفه علم أن یشبه ب (أرکب) وهو فعل نکره کان أن یشبه اسم سمّی به الفعل فی الخبر باسم سمّی به الفعل فی الأمر أولی ؛ ألا تری أن کل واحد منهما اسم وأن المسمّی به أیضا فعل. ومع ذا فقد تجد لفظ

ص: 85

الأمر فی معنی الخبر ؛ نحو قول الله تعالی : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) [مریم : 28] ، وقوله عزّ اسمه (قُلْ مَنْ کانَ فِی الضَّلالَهِ فَلْیَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مریم : 75] أی فلیمدّنّ. ووقع أیضا لفظ الخبر فی معنی الأمر ؛ نحو قوله سبحانه (لا تُضَارَّ والِدَهٌ بِوَلَدِها)(1) [البقره : 233] وقولهم : هذا الهلال. معناه : انظر إلیه. ونظائره کثیره.

فلما کان أفّ کصه فی کونه اسما للفعل کما أنّ صه کذلک ، ولم یکن بینهما إلا أن هذا اسم لفعل مأمور به ، وهذا اسم لفعل مخبر به ، وکان کل واحد من لفظ الأمر والخبر قد یقع موقع صاحبه ، صار کأن کل واحد منها هو صاحبه ، فکأن لا خلاف هناک فی لفظ ولا معنی. وما کان علی بعض هذه القربی والشبکه ألحق بحکم ما حمل علیه ، فکیف بما ثبتت فیه ، ووقت علیه ، واطمأنت به. فاعرف ذلک.

ومما حذفت لامه وجعل الزائد عوضا منها فرزدق وفریزید ، وسفرجل ، وسفیریج. وهذا باب واسع.

فهذا طرف من القول علی ما زید من الحروف عوضا من حرف أصلی محذوف وأما الحرف الزائد عوضا من حرف زائد فکثیر. منه التاء فی فرزانه وزنادقه وجحاجحه. لحقت عوضا من یاء المدّ فی زنادیق وفرازین وجحاجیح.

ومن ذلک ما لحقته یاء المدّ عوضا من حرف زائد حذف منه ؛ نحو قولهم فی تکسیر مدحرج ، وتحقیره : دحاریج ، ودحیریج. فالیاء عوض من میمه. وکذلک جحافیل وجحیفیل : الیاء عوض من نونه (2). وکذلک مغاسیل ومغیسیل : الیاء عوض من تائه (3). وکذلک زعافیر (4) ، الیاء عوض من ألفه ونونه.

وکذلک الهاء فی تفعله فی المصادر عوض من یاء تفعیل أو ألف فعّال. وذلک

ص: 86

نحو سلّیته تسلیه وربیته تربیه : الهاء بدل من یاء تفعیل فی تسلی وتربّی أو ألف سلاء وربّاء. أنشد أبو زید :

باتت تنزّی دلوها تنزیّا

کما تنزّی شهله صبیّا (1)

ومن ذلک تاء الفعلله فی الرباعیّ ؛ نحو الهملجه والسرهفه ، کأنها عوض من ألف فعلال ؛ نحو الهملاج والسرهاف ؛ قال العجاج :

*سرهفته ما شئت من سرهاف (2) *

وکذلک ما لحق بالرباعی من نحو الحوقله والبیطره والجهوره والسلقاه. کأنها عوض من ألف حیقال وبیطار وجهوار وسلقاء.

ومن ذلک قول التغلبیّ :

*متی کنا لأمک مقتوینا (3) *

والواحد مقتویّ. وهو منسوب إلی مقتی وهو مفعل من القتو وهو الخدمه ؛ قال :

ص: 87

إنی امرؤ من بنی خزیمه لا

أحسن قتو الملوک والحفدا (1)

فکان قیاسه إذا جمع أن یقال : مقتویّون ومقتویّین ؛ کما أنه إذا جمع بصریّ وکوفیّ قیل : کوفیّون وبصریّون ، ونحو ذلک ؛ إلا أنه جعل علم الجمع معاقبا لیاءی الإضافه ، فصحّت اللام لنیّه الإضافه ؛ کما تصحّ معها. ولو لا ذلک لوجب حذفها لالتقاء الساکنین وأن یقال : مقتون ومقتین ؛ کما یقال : هم الأعلون ، وهم المصطفون ؛ قال الله سبحانه «وأنتم الأعلون» [آل عمران : 139] وقال عزّ اسمه (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَیْنَ) [ص : 47] فقد تری إلی تعویض علم الجمع من یاءی الإضافه ، والجمیع زائد.

وقال سیبویه فی میم فاعلته مفاعله : إنها عوض من ألف فاعلته. وتتبع ذلک محمد بن یزید ، فقال : ألف فاعلت موجوده فی المفاعله ، فکیف یعوّض من حرف هو موجود غیر معدوم. وقد ذکرنا ما فی هذا ، ووجه سقوطه عن سیبویه فی موضع غیر هذا. لکن الألف فی المفاعل بلا هاء هی ألف فاعلته لا محاله ، (وذلک) نحو قاتلته مقاتلا ، وضاربته مضاربا ، قال :

أقاتل حتّی لا أری لی مقاتلا

وأنجو إذا لم ینج إلا المکیّس (2)

وقال :

أقاتل حتی لا أری لی مقاتلا

وأنجو إذا غمّ الجبان من الکرب (3)

ص: 88

فأمّا أقمت إقامه ، وأردت إراده (ونحو ذلک) فإن الهاء فیه علی مذهب الخلیل وسیبویه عوض من ألف إفعال الزائده. وهی فی قول أبی الحسن عوض من عین إفعال ، علی مذهبهما فی باب مفعول من نحو مبیع ومقول. والخلاف فی ذلک قد عرف وأحیط بحال المذهبین فیه ، فترکناه لذلک.

ومن ذلک الألف فی یمان وتهام وشئام : هی عوض من إحدی یاءی الإضافه فی یمنی وتهامیّ وشأمیّ. وکذلک ألف ثمان. قلت لأبی علی : لم زعمتها للنسب؟ فقال : لأنها لیست بجمع مکسّر فتکون کصحار. قلت له : نعم ، ولو لم تکن للنسب للزمتها الهاء البتّه ؛ نحو عباقیه (1) وکراهیه وسباهیه (2). فقال : نعم ، هو کذلک.

ومن ذلک أنّ یاء التفعیل بدل من ألف الفعّال ؛ کما أن التاء فی أوله عوض من إحدی عینیه.

ففی هذا کاف بإذن الله.

وقد أوقع هذا التعاوض فی الحروف المنفصله عن الکلم ، غیر المصوغه فیها الممزوجه بأنفس صیغها. وذلک قول الراجز - علی مذهب الخلیل - :

إنّ الکریم وأبیک یعتمل

إن لم یجد یوما علی من یتّکل (3)

أی من یتکل علیه. فحذف (علیه) هذه ، وزاد (علی) متقدّمه ؛ ألا تری أنه : یعتمل إن لم یجد من یتّکل علیه. وندع ذکر قول غیره هاهنا. وکذلک قول الآخر :

ص: 89

أولی فأولی یا امرأ القیس بعد ما

خصفن بآثار المطیّ الحوافرا (1)

أی خصفن بالحوافر آثار المطیّ ، یعنی آثار أخفافها. فحذف الباء من (الحوافر) وزاد أخری عوضا منها فی (آثار المطیّ).

هذا علی قول من لم یعتقد القلب ، وهو أمثل ؛ فما وجدت مندوحه عن القلب لم ترتکبه.

وقیاس هذا الحذف والتعویض قولهم : بأیّهم تضرب أمرر ، أی أیّهم تضرب أمرر به.

* * *

ص: 90

وغیر ذلک مما یوردونه.

ولسنا ندفع أن یکون ذلک کما قالوا ؛ لکنا نقول : إنه یکون بمعناه فی موضع دون موضع ، علی حسب الأحوال الداعیه إلیه ، والمسوّغه له ، فأما فی کل موضع وعلی کل حال فلا ؛ ألا تری أنک إن أخذت بظاهر هذا القول غفلا هکذا ، لا مقیدا لزمک علیه أن تقول : سرت إلی زید ، وأنت ترید : معه ، وأن تقول : زید فی الفرس ، وأنت ترید : علیه ، وزید فی عمرو ، وأنت ترید : علیه فی العداوه ، وأن تقول : رویت الحدیث بزید ، وأنت ترید : عنه ، ونحو ذلک ، مما یطول ویتفاحش. ولکن سنضع فی ذلک رسما یعمل علیه ، ویؤمن التزام الشناعه لمکانه.

اعلم أن الفعل إذا کان بمعنی فعل آخر ، وکان أحدهما یتعدّی بحرف ، والآخر بآخر فإن العرب قد تتّسع فتوقع أحد الحرفین موقع صاحبه إیذانا بأن هذا الفعل فی معنی ذلک الآخر ، فلذلک جیء معه بالحرف المعتاد مع ما هو فی معناه. وذلک کقول الله عز اسمه : (أُحِلَّ لَکُمْ لَیْلَهَ الصِّیامِ الرَّفَثُ إِلی نِسائِکُمْ) [البقره : 187] وأنت لا تقول : رفثت إلی المرأه وإنما تقول : رفثت بها ، أو معها ؛ لکنه لمّا کان الرّفث هنا فی معنی الإفضاء ، وکنت تعدّی أفضیت ب (إلی) کقولک : أفضیت إلی المرأه ، جئت ب (إلی) مع الرفث ؛ إیذانا وإشعارا أنه بمعناه ؛ کما صحّحوا عور وحول لمّا کانا فی معنی اعورّ واحولّ. وکما جاءوا بالمصدر فأجروه علی غیر فعله لما کان فی معناه ؛ نحو قوله :

*وإن شئتم تعاودنا عوادا (1) *

لما کان التعاود أن یعاود بعضهم بعضا. وعلیه جاء قوله :

*ولیس بأن تتبّعا اتّباعا (2) *

ص: 92

ومنه قول الله سبحانه : (وَتَبَتَّلْ إِلَیْهِ تَبْتِیلاً) [المزمل : 8]. وأصنع من هذا قول الهذلیّ :

ما إن یمسّ الأرض إلا منکب

منه وحرف الساق طیّ المحمل (1)

فهذا علی فعل لیس من لفظ هذا الفعل الظاهر ؛ ألا تری أن معناه : طوی طیّ المحمل ؛ فحمل المصدر علی فعل دلّ أول الکلام علیه. وهذا ظاهر.

وکذلک قول الله تعالی : (مَنْ أَنْصارِی إِلَی اللهِ) [الصف : 14] أی مع الله ، وأنت لا تقول : سرت إلی زید أی معه ؛ لکنه إنما جاء (من أنصاری إلی الله) لمّا کان معناه : من ینضاف فی نصرتی إلی الله ؛ فجاز لذلک أن تأتی هنا إلی. وکذلک قوله - عزّ اسمه - : (هَلْ لَکَ إِلی أَنْ تَزَکَّی) [النازعات : 18] وأنت إنما تقول : هل لک فی کذا ، لکنه لمّا کان علی هذا دعاء منه صلی الله علیه وسلم صار تقدیره ؛ أدعوک وأرشدک إلی أن تزکّی. وعلیه قول الفرزدق :

کیف ترانی قالیا مجنّی

أضرب أمری ظهره للبطن

قد قتل الله زیادا عنّی (2)

لمّا کان معنی قد قتله : قد صرفه ، عدّاه بعن.

ص: 93

ووجدت فی اللغه من هذا الفنّ شیئا کثیرا لا یکاد یحاط به ؛ ولعلّه لو جمع أکثره (لا جمیعه) لجاء کتابا ضخما ؛ وقد عرفت طریقه. فإذا مرّ بک شیء منه فتقبّله وأنس به ؛ فإنه فصل من العربیه لطیف ، حسن یدعو إلی الأنس بها والفقاهه فیها. وفیه أیضا موضع یشهد علی من أنکر أن یکون فی اللغه لفظان بمعنی واحد ، حتی تکلّف لذلک أن یوجد فرقا بین قعد وجلس (1) ، وبین ذراع (2) وساعد ؛ ألا تری أنه لما کان رفث بالمرأه فی معنی أفضی إلیها جاز أن یتبع الرفث الحرف الذی بابه الإفضاء ، وهو (إلی). وکذلک لمّا کان (هل لک فی کذا) بمعنی أدعوک إلیه جاز أن یقال : هل لک إلی أن تزکی (کما یقال أدعوک إلی أن تزکی) وقد قال رؤبه ما قطع به العذر هاهنا ، قال :

*بال بأسماء البلی یسمّی*

فجعل للبلی - وهو معنی واحد - أسماء.

وقد قدمنا هذا (فیما مضی من صدر کتابنا).

ومما جاء من الحروف فی موضع غیره علی نحو مما ذکرنا قوله :

إذا رضیت علیّ بنو قشیر

لعمر الله أعجبنی رضاها (3)

أراد : عنّی. ووجهه : أنا إذا رضیت عنه أحبّته وأقبلت علیه. فلذلک استعمل (علی) بمعنی (عن) وکان أبو علیّ یستحسن قول الکسائیّ فی هذا ؛ لأنه قال : لما کان (رضیت) ضدّ (سخطت) عدّی رضیت بعلی حملا للشیء علی نقیضه ؛ کما

ص: 94

یحمل علی نظیره. وقد سلک سیبویه هذه الطریق فی المصادر کثیرا ، فقال : قالوا کذا کما قالوا کذا ، وأحدهما ضدّ الآخر. ونحو منه قول الآخر :

إذا ما امرؤ ولّی علیّ بوده

وأدبر لم یصدر بإدباره ودّی (1)

أی عنّی. ووجهه أنه إذا ولّی عنه یودّه فقد استهلکه علیه ؛ کقولک. أهلکت علیّ مالی ، وأفسدت علیّ ضیعتی. وجاز أن یستعمل (علی) هاهنا ؛ لأنه أمر علیه لا له. وقد تقدّم نحو هذا.

وأما قول الآخر :

شدّوا المطیّ علی دلیل دائب

من أهل کاظمه بسیف الأبحر (2)

فقالوا معناه : بدلیل. وهو عندی أنا علی حذف المضاف ؛ أی شدّوا المطی علی دلاله دلیل ، فحذف المضاف. وقوی حذفه هنا شیئا ؛ لأن لفظ الدلیل یدلّ علی الدلاله. وهو کقولک : سر علی اسم الله. و (علی) هذه عندی حال من الضمیر فی سر وشدّوا ، ولیست موصّله لهذین الفعلین ؛ لکنها متعلّقه بمحذوف ؛ حتی کما قال : (سر معتمدا علی اسم الله) ؛ ففی الظرف إذا ضمیر لتعلقه بالمحذوف.

وقال :

بطل کأنّ ثیابه فی سرحه

یحذی نعال السبت لیس بتوأم (3)

أی علی سرحه (وجاز ذلک من حیث کان معلوما أن ثیابه لا تکون فی دار

ص: 95

سرحه) ؛ لأن السرحه لا تنشقّ فتستودع الثیاب ولا غیرها وهی بحالها سرحها.

فهذا من طریق المعنی بمنزله کون الفعلین أحدهما فی معنی صاحبه علی ما مضی. ولیس کذلک قول الناس : فلان فی الجبل ؛ لأنه قد یمکن أن یکون فی غار من أغواره أو لصب (1) من لصابه ، فلا یلزم أن یکون علیه أی عالیا فیه.

وقال :

وخضخضن فینا البحر حتی قطعنه

علی کل حال من غمار ومن وحل (2)

قالوا أراد : بنا. وقد یکون عندی علی حذف المضاف ؛ أی فی سیرنا ، ومعناه : فی سیرهن بنا.

ومثل قوله : «کأن ثیابه فی سرحه» : قول امرأه من العرب.

هم صلبوا العبدیّ فی جذع نخله

فلا عطست شیبان إلا بأجدعا (3)

لأنه معلوم أنه لا یصلب فی داخل جذع النخله وقلبها.

وأمّا قوله :

وهل یعمن من کان أحدث عهده

ثلاثین شهرا فی ثلاثه أحوال (4)

ص: 96

فقالوا : أراد : مع ثلاثه أحوال. وطریقه عندی أنه علی حذف المضاف ؛ یرید : ثلاثین شهرا فی عقب ثلاثه أحوال قبلها. وتفسیره : بعد ثلاثه أحوال. فالحرف إذا علی بابه ؛ وإنّما هنا حذف المضاف الذی قد شاع عند الخاصّ والعام.

فأمّا قوله :

یعثرن فی حدّ الظبات کأنما

کسیت برود بنی تزید الأذرع (1)

فإنه أراد : یعثرن بالأرض فی حدّ الظّبات ؛ أی وهنّ فی حدّ الظبات ؛ کقولک : خرج بثیابه ؛ أی وثیابه علیه ، وصلّی فی خفّیه ؛ أی وخفّاه علیه. وقال تعالی : (فَخَرَجَ عَلی قَوْمِهِ فِی زِینَتِهِ) [القصص : 79] فالظرف إذا متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال من الضمیر ؛ أی یعثرن کائنات فی حدّ الظبات.

وأمّا قول بعض الأعراب :

نلوذ فی أمّ لنا ما تغتصب

من الغمام ترتدی وتنتقب (2)

فإنه یرید بأمّ : سلمی ، أحد جبلی طیّئ. وسمّاها أمّا لاعتصامهم بها وأویّهم إلیها. واستعمل (فی) موضع الباء أی نلوذ بها ؛ لأنهم إذا لاذوا بها فهم فیها لا محاله ؛ إذ لا یلوذون ویعصمون بها إلا وهم فیها ؛ لأنهم إن کانوا بعداء عنها فلیسوا لائذین بها ، فکأنه قال : نسمک (3) فیها ونتوقّل فیها. فلأجل ذلک ما استعمل (فی) مکان الباء.

فقس علی هذا ؛ فإنک لن تعدم إصابه بإذن الله ورشدا.

* * *

ص: 97

وأننی حیث ما یسری الهوی بصری

من حیث ما سلکوا أدنو فأنظور (1)

فإذا ثبت أن هذه الحرکات أبعاض للحروف ومن جنسها ، وکانت متی أشبعت ومطلت تمّت ووفت جرت مجری الحروف ؛ کما أن الحروف أنفسها قد تجد بعضها أتمّ صوتا من بعض (وإن کانت کلها حروفا یقع بعضها موقع بعض) فی غالب الأمر.

فمما أجری من الحروف مجری الحرکات الألف والیاء والواو إذا أعرب بهن فی تلک الأسماء السته : أخوک وأبوک ونحوهما ، وفی التثنیه والجمع علی حدّ التثنیه ؛ نحو الزیدان والزیدون والزیدین.

ومنها النون إذا کانت علما للرفع فی الأفعال الخمسه ؛ وهی تفعلان ویفعلان وتفعلون ویفعلون وتفعلین. وقد حذفت أیضا للجزم فی لم یغزوا ولم یدع ، ولم یرم ، ولم یخش. وحذفت أیضا استخفافا ؛ کما تحذف الحرکه لذلک. وذلک قوله :

فألحقت أخراهم طریق ألاهم

کما قیل نجم قد خوی متتابع

(یرید أولاهم) ومضی ذکره. وقال رؤبه :

*وصّانی العجّاج فیما وصّنی*

یرید : فیما وصّانی ، وقال الله عزّ اسمه : (وَاللَّیْلِ إِذا یَسْرِ) [الفجر : 4] وقد تقدّم نحو هذا. فنظیر حذف هذه الحروف للتخفیف حذف الحرکات أیضا فی نحو قوله :

*وقد بدا هنک من المئزر*

ص: 99

وقوله :

*فالیوم أشرب غیر مستحقب*

[وقوله :

* إذا اعوججن قلت صاحب قوّم*]

وقوله :

*ومن یتّق فإن الله معه*

وقوله :

*أو یرتبط بعض النفوس حمامها (1) *

وقوله :

سیروا بنی الغم فالأهواز منزلکم

ونهر تیری ولا تعرفکم العرب (2)

أی (ولا) تعرفکم ؛ فأسکن مضطرا.

ومن مضارعه الحرف للحرکه أنّ الأحرف الثلاثه : الألف والیاء والواو وإذا أشبعن ومطلن أدّین إلی حرف آخر غیرهنّ إلا أنه شبیه بهن وهو الهمزه ؛ ألا تراک إذا مطلت الألف أدّتک إلی الهمزه فقلت آء ، وکذلک الیاء فی قولک : إیء ، وکذلک الواو فی قولک : أوء. فهذا کالحرکه (إذا مطلتها) أدّتک إلی صوره أخری غیر صورتها. وهی الألف والیاء والواو فی : منتزاح ، والصیاریف ، وأنظور. وهذا غریب فی موضعه.

ص: 100

ومن ذلک أن تاء التأنیث فی الواحد لا یکون ما قبلها إلا مفتوحا ؛ نحو حمزه وطلحه وقائمه ، ولا یکون ساکنا. فإن کانت الألف وحدها من بین سائر الحروف جازت. وذلک نحو قطاه وحصاه وأرطاه وحبنطاه (1). أفلا تری إلی مساواتهم بین الفتحه والألف ، حتی کأنها هی هی. وهذا یدلّ علی أن أضعف الأحرف الثلاثه الألف دون أختیها ؛ لأنها قد خصّت هنا بمساواه الحرکه دونها.

ومن ذلک قوله :

ینشب فی المسعل واللهاء

أنشب من مآشر حداء (2)

قالوا : أراد : حدادا ؛ فلم یعدد الألف حاجزا بین المثلین ، کما لم یعدد الحرکه فی ذلک فی نحو أملیت الکتاب فی أمللت.

ومن ذلک أنهم قد بیّنوا الحرف بالهاء ؛ کما بیّنوا الحرکه بها (وذلک) نحو قولهم : وا زیداه ، ووا غلامهماه ، ووا غلامهوه ، ووا غلامهموه ، ووا غلامهیه ، ووانقطاع ظهرهیه. فهذا نحو من قولهم : أعطیتکه ، ومرت بکه ، واغزه ، ولا تدعه. والهاء فی کله لبیان الحرکه لا ضمیر.

ومن ذلک أنّ أقعد الثلاثه فی المدّ لا یسوغ تحریکه وهو الألف ، فجرت لذلک مجری الحرکه ؛ ألا تری أن الحرکه لا یمکن تحریکها. فهذا وجه أیضا من المضارعه فیها.

وأما شبه الحرکه بالحرف (ففی) نحو تسمیتک امرأه بهند وجمل. فلک فیهما مذهبان : الصرف وترکه. فإن تحرّک الأوسط ثقل الاسم ، فقلت فی اسم امرأه سمّیتها بقدم بترک الصرف معرفه ألبتّه ؛ أفلا تری کیف جرت الحرکه مجری الحرف

ص: 101

فی منع الصرف. وذلک کامرأه سمّیتها بسعاد وزینب. فجرت الحرکه فی قدم وکبد ونحوه مجری ألف سعاد ویاء زینب.

ومن ذلک أنک إذا أضفت إلی الرباعیّ المقصور أجزت إقرار الألف ، وقلبها واوا ؛ نحو الإضافه إلی حبلی : إن شئت قلت : حبلیّ ، وهو الوجه. وإن شئت : حبلویّ. فإذا صرت إلی الخمسه حذفت الألف ألبتّه ، أصلا کانت أو زائده.

وذلک نحو قولک فی حباری : حباریّ ، وفی مصطفی : مصطفیّ. وکذلک إن تحرک الثانی من الرباعیّ حذفت ألفه ألبتّه. وذلک قولک فی جمزی : جمزیّ ، وفی بشکی بشکیّ ؛ ألا تری إلی الحرکه کیف أوجبت الحذف ؛ کما أوجبه الحرف الزائد علی الأربعه ، فصارت حرکه عین جمزی فی إیجابها الحذف بمنزله ألف حباری ویاء خیزلی (1).

ومن مشابهه الحرکه للحرف أنک تفصل بها ولا تصل إلی الإدغام معها ، کما تفصل بالحرف ، ولا تصل إلی الإدغام معه. وذلک قولک : وتد ، ویطد. فحجزت الحرکه بین المتقاربین ، کما یحجز الحرف بینهما ؛ نحو شملیل وحبربر (2).

ومنها أنهم قد أجروا الحرف المتحرک مجری الحرف المشدّد. وذلک أنه إذا وقع رویّا فی الشّعر المقیّد سکن ؛ کما أن الحرف المشدّد إذا وقع رویّا فی الشعر المقیّد خفّف. فالمتحرک نحو قوله :

*وقاتم الأعماق خاوی المخترق (3) *

فأسکن القاف وهی مجروره. والمشدّد نحو قوله :

*أصحوت الیوم أم شاقتک هرّ (4) *

فحذف إحدی الراءین ؛ کما حذف الحرکه من قاف المخترق. وهذا إن شئت قلبته ، فقلت : إن الحرف أجری فیه مجری الحرکه ، وجعلت الموضع فی الحذف

ص: 102

للحرکه ثم لحق بها فیه الحرف. وهو عندی أقیس.

ومنها استکراههم اختلاف التوجیه : أن یجمع مع الفتحه غیرها من أختیها ، نحو جمعه بین المخترق وبین العقق والحمق. فکراهیتهم هذا نحو من امتناعهم من الجمع بین الألف مع الیاء والواو ردفین.

ومن ذلک عندی أن حرفی العلّه : الیاء والواو قد صحّا فی بعض المواضع للحرکه بعدهما ؛ کما یصحّان لوقوع حرف اللین ساکنا بعدهما. وذلک نحو القود والحوکه والخونه والغیب والصید وحول وروع و (إِنَّ بُیُوتَنا عَوْرَهٌ)(1) [الأحزاب : 13] فیمن قرأ کذلک. فجرت الیاء والواو هنا فی الصحّه لوقوع الحرکه بعدهما مجراهما فیها لوقوع حرف اللین ساکنا بعدهما ؛ نحو القواد ، والحواکه ، والخوانه ، والغیاب ، والصیاد ، وحویل ، ورویع ، وإن بیوتنا عویره.

وکذلک ما صحّ من نحو قولهم : هیؤ الرجل من الهیئه ؛ هو جار مجری صحّه هیوء لو قیل. فاعرف ذلک مذهبا فی صحّه ما صحّ من هذا النحو لطیفا غریبا.

* * *

ص: 103

والذی یفسد کونها حادثه مع الحرف ألبتّه هو أنا لو أمرنا مذکّرا من الطیّ ، ثم أتبعناه أمرا آخر له من الوجل من غیر حرف عطف ؛ لا بل بمجیء الثانی تابعا للأول ألبته لقلنا : اطو ایجل. والأصل فیه : اطو اوجل ، فقلبت الواو التی هی فاء الفعل من الوجل یاء ؛ لسکونها وانکسار ما قبلها. فلو لا أن کسره واو (اطو) فی الرتبه بعدها لما قلبت یاء واو (اوجل). وذلک أن الکسره إنما تقلب الواو لمخالفتها إیاها فی جنس الصوت (فتجتذبها) إلی ما هی بعضه ومن جنسه ، وهو الیاء ؛ وکما أن هناک کسره فی الواو فهناک أیضا الواو ، وهی وفق الواو الثانیه لفظا وحسّا ، ولیست الکسره علی قول المخالف أدنی إلی الواو الثانیه من الواو الأولی ؛ لأنه یروم أن یثبتهما جمیعا فی زمان واحد ، ومعلوم أن الحرف أوفی صوتا ، وأقوی جرسا من الحرکه ؛ فإذا لم یقل لک : إنها أقوی من الکسره التی فیها ، فلا أقلّ من أن تکون فی القوّه والصوت مثلها. فإذا کان کذلک لزم ألا تنقلب الواو الثانیه للکسره قبلها ؛ لأن بإزاء الکسره المخالفه للواو (الثانیه الواو) الأولی الموافقه للفظ الثانیه. فإذا تأدّی الأمر فی المعادله إلی هنا ترافعت الواو والکسره أحکامهما ، فکأن لا کسره قبلها ولا واو. وإذا کان کذلک لم تجد أمرا تقلب له الواو الثانیه یاء ، فکان یجب علی هذا أن تخرج الواو الثانیه من (اطو اوجل) صحیحه غیر معتله ، لترافع ما قبلها من الواو والکسره أحکامهما ؛ وتکافؤهما فیما ذکرنا.

لا ، بل دلّ قلب الواو الثانیه من (اطو اوجل) یاء حتی صارت (اطوایجل) علی أن الکسره أدنی إلیها من الواو قبلها. وإذا کانت أدنی إلیها کانت بعد الواو المحرکه بها لا محاله.

فهذا إسقاط قول من ذهب إلی أنها تحدث (مع الحرف ، وقول من ذهب إلی أنها تحدث) قبله ؛ ألا تراها لو کانت الکسره فی باب (اطو) قبل الواو لکانت الواو الأولی حاجزه بینها وبین الثانیه ، کما کانت میم میزان تکون أیضا حاجزه بینهما - علی ما قدمنا - ، فإذا بطل هذان ثبت قول صاحب الکتاب ، وسقطت عنه فضول المقال.

قال أبو علی : یقوّی قول من قال : إن الحرکه تحدث مع الحرف أن النون الساکنه مخرجها مع حروف الفم من الأنف ، والمتحرکه مخرجها من الفم ، فلو

ص: 105

کانت حرکه الحرف تحدث من بعده لوجب أن تکون النون المتحرّکه أیضا من الأنف. وذلک أن الحرکه إنما تحدث بعدها ، فکان ینبغی ألا تغنی عنها شیئا ؛ لسبقها هی لحرکتها.

کذا قال - رحمه الله - ورأیته معنیّا بهذا الدلیل. وهو عندی ساقط عن سیبویه ، وغیر لازم له.

وذلک (أنه لا ینکر) أن یؤثّر الشیء فیما قبله من قبل وجوده ؛ لأنه قد علم أن سیرد فیما بعد. وذلک کثیر.

فمنه أن النون الساکنه إذا وقعت بعدها الباء قلبت النون میما فی اللفظ. وذلک نحو عمبر وشمباء ، فی عنبر وشنباء ؛ فکما لا یشکّ فی أن الباء فی ذلک بعد النون وقد قلبت النون قبلها ، فکذلک لا ینکر أن تکون حرکه النون الحادثه بعدها تزیلها عن الأنف إلی الفم. بل إذا کانت الباء أبعد من النون قبلها من حرکه النون فیها وقد أثّرت علی بعدها ما أثّرته کانت حرکه النون التی هی أقرب إلیها ، وأشدّ التباسا بها ، أولی بأن تجذبها وتنقلها من الأنف إلی الفم. وهذا کما تراه واضح.

وممّا غیّر متقدّما لتوقّع ما یرد من بعده متأخرا ضمهم همزه الوصل لتوقعهم الضمّه بعدها ؛ نحو : اقتل ، ادخل ، استضعف ، اخرج ، استخرج.

وممّا یقوّی عندی قول من قال : إن الحرکه تحدث قبل الحرف إجماع النحویین علی (قولهم) إن الواو فی یعد ویزن ونحو ذلک إنما حذفت لوقوعها بین یاء وکسره. یعنون : فی یوعد ویوزن (ونحوه) (لو خرج علی أصله). فقولهم : بین یاء وکسره یدلّ علی أن الحرکه عندهم قبل حرفها المحرّک بها ؛ ألا تری أنه لو کانت الحرکه بعد الحرف کانت الواو فی یوعد بین فتحه وعین ، وفی یوزن بین فتحه وزای. فقولهم : بین یاء وکسره یدلّ علی أن الواو فی نحو یوعد عندهم بین الیاء التی هی أدنی إلیها من فتحتها ، وکسره العین التی هی أدنی إلیها من العین بعدها. فتأمّل ذلک.

وهذا وإن کان من الوضوح علی ما تراه فإنه لا یلزم من موضعین : أحدهما أنه لا یجب أن تکون فیه دلاله علی اعتقاد القوم فیما نسبه هذا السائل إلی أنهم

ص: 106

مریدوه ومعتقدوه ؛ ألا تری أن من یقول : إن الحرکه تحدث بعد الحرف ، ومن یقول : إنها تحدث مع الحرف قد أطلقوا جمیعا هذا القول الذی هو قولهم : إن الواو حذفت من یعد ونحوه لوقوعها بین یاء وکسره ، فلو کانوا یریدون ما عزوته إلیهم وحملته علیهم ، لکانوا مناقضین ، وموافقین لمخالفهم ، وهم لا یعلمون. وهذا أمر مثله لا ینسب إلیهم ، ولا یظنّ بهم.

فإذا کان کذلک علمت أن غرض القوم فیه لیس ما قدّرته ولا ما تصوّرته ؛ وإنما هو أنّ قبلها یاء وبعدها کسره ، وهما مستثقلتان. فأما أن تماسّا الواو وتباشراها علی ما فرضته وادّعیته فلا. وهذا کثیر فی الکلام والاستعمال ؛ ألا تری أنک تقول : خرجنا فسرنا ، فلما حصلنا بین بغداد والبصره کان کذا. فهذا کما تراه قول صحیح معتاد ؛ إلا أنه قد یقوله من حصل بدیر العاقول ، فهو - لعمری - بین بغداد والبصره ، وإن کان أیضا بین جرجرایا والمدائن ، وهما أقرب إلیه من بغداد والبصره. وکذلک الواو فی یوعد هی لعمری بین یاء وکسره ، وإن کان أقرب إلیها منهما فتحه الیاء والعین. وکذلک یقال أیضا : هو من عمره ما بین الخمسین إلی الستین ، فیقال ذلک فیمن له خمس وخمسون سنه ، فهی لعمری بین الخمسین والستین ، إلا أن الأدنی إلیها الأربع والخمسون ، والست والخمسون. وهذا جلیّ غیر مشکل. فهذا أحد الموضعین.

وأمّا الآخر فإن أکثر ما فی هذا أن یکون حقیقه عند القوم ، وأن یکونوا مریدیه ومعتقدیه. ولو أرادوه (واعتقدوه) وذهبوا إلیه لما کان دلیلا علی موضع الخلاف.

وذلک أن هذا موضع إنما یتحاکم فیه إلی النفس والحسّ ، ولا یرجع فیه إلی إجماع ولا إلی سابق سنّه ولا قدیم ملّه ؛ ألا تری أن إجماع النحویین فی هذا ونحوه لا یکون حجّه ؛ لأن کل واحد منهم إنما یردّک ویرجع بک فیه إلی (التأمّل والطبع) لا إلی التبعیه والشرع. هذا لو کان لا بدّ من أن یکونوا قد أرادوا ما عزاه السائل إلیهم واعتقده لهم. فهذا کلّه یشهد بصحّه مذهب سیبویه فی أن الحرکه حادثه بعد حرفها المحرّک بها.

وقد کنا قلنا فیه قدیما قولا آخر مستقیما. وهو أن الحرکه قد ثبت أنها بعض حرف. فالفتحه بعض الألف ، والکسره بعض الیاء ، والضمّه بعض الواو. فکما

ص: 107

أن الحرف لا یجامع حرفا آخر فینشآن معا فی وقت واحد ، فکذلک بعض الحرف لا یجوز أن ینشأ مع حرف آخر فی وقت واحد ؛ لأن حکم البعض فی هذا جار مجری حکم الکل. ولا یجوز أن یتصوّر أن حرفا من الحروف حدث بعضه مضامّا لحرف ، وبقیّته من بعده فی غیر ذلک الحرف ، لا فی زمان واحد ولا فی زمانین.

فهذا یفسد قول من قال : إن الحرکه تحدث مع حرفها المتحرّک بها أو قبله أیضا ؛ ألا تری أن الحرف الناشئ عن الحرکه لو ظهر لم یظهر إلا بعد الحرف المحرّک بتلک الحرکه ، وإلا فلو کانت قبله لکانت الألف فی نحو ضارب لیست تابعه للفتحه ؛ لاعتراض الضاد بینهما ، والحسّ یمنعک ویحظر علیک أن تنسب إلیه قبوله اعتراض معترض بین الفتحه والألف التابعه لها فی نحو ضارب وقائم ونحو ذلک. وکذلک القول فی الکسره والیاء والضمه والواو إذا تبعتاهما. وهذا تناه فی البیان ، والبروز إلی حکم العیان. فاعرفه. وفی بعض ما أوردناه (من هذا) کاف بمشیئه الله.

* * *

ص: 108

ولأبی علیّ - رحمه الله - مسألتان : طویله قدیمه ، وقصیره حدیثه ، کلتاهما فی الکلام علی الحرف المبتدأ أیمکن أن یکون ساکنا أم لا. فقد غنینا بهما أن نتکلّف نحن شیئا من هذا الشرح فی معناهما.

ثم من بعد ذلک أن المتحرّک علی ضربین : حرف متحرّک بحرکه لازمه ، وحرف متحرّک بحرکه غیر لازمه. أمّا المتحرّک بحرکه لازمه فعلی ضربین أیضا : مبتدأ ، وغیر مبتدأ. فالمبتدأ ما دام مبتدأ فهو متحرّک لا محاله ؛ نحو ضاد ضرب ، ومیم مهدد. فإن اتصل أوّل الکلمه بشیء غیره فعلی قسمین : أحدهما أن یکون الأوّل معه کالجزء منه ، والآخر أن یکون علی أحکام المنفصل عنه.

الأوّل من هذین القسمین أیضا علی ضربین : أحدهما أن یقرّ الأوّل (علی ما) کان علیه من تحریکه. والآخر أن یخلط فی اللفظ به ، فیسکّن علی حدّ التخفیف فی أمثاله من المتصل.

فالحرف الذی ینزل مع ما بعده کالجزء منه فاء العطف ، وواوه ، ولام الابتداء ، وهمزه الاستفهام.

الأوّل من هذین کقولک : وهو الله ، وقولک : فهو ما تری ، ولهو أفضل من عمرو ، وأهی عندک. فهذا الباقی علی تحریکه کأن لا شیء قبله.

والقسم الثانی منهما قولک : وهو الله ، وقولک : (ثُمَّ هُوَ یَوْمَ الْقِیامَهِ مِنَ الْمُحْضَرِینَ) [القصص : 61] ولهو أفضل من عمرو ، وقوله :

وقمت للطیف مرتاعا وأرّقنی

فقلت أهی سرت أم عادنی حلم (1)

ووجه هذا أنّ هذه الأحرف لما کنّ علی حرف واحد وضعفن عن انفصالها وکان ما بعدها علی حرفین ، الأوّل منهما مضموم أو مکسور أشبهت فی اللفظ ما

ص: 110

کان علی فعل أو فعل ، فخفّف أوائل هذه کما یخفّف ثوانی هذه ، فصارت (وهو) کعضد (وصار وهو کعضد) کما صارت (أهی) کعلم ، وصار (أهی) بمنزله علم. وأمّا قراءه أهل الکوفه (ثم لیقطع) فقبیح عندنا ؛ لأنّ (ثمّ) منفصله یمکن الوقوف علیها ، فلا تخلط بما بعدها ، فتصیر معه کالجزء الواحد. لکن قوله : (فلینظر) حسن جمیل ؛ لأن الفاء حرف واحد ، فیلطف عن انفصاله وقیامه برأسه.

وتقول علی هذا : مررت برجل بطنه کحضجر (1) ، ترید : کحضجر ، ثم تسکّن الحاء الأولی ؛ لأن (کحض) بوزن علم ، فیجری هذا الصدر مجری کلمه ثلاثیّه.

وأمّا أوّل الکلمه إذا لم یخلط بما قبله فمتحرک لا محاله علی ما کان علیه قبل اتصاله به. وذلک قولک : أحمد ضرب ، وأخوک دخل ، وغلامک خرج ، فهذا حکم الحرف المبتدأ.

وأمّا المتحرّک غیر المبتدأ فعلی ضربین : حشو وطرف. فالحشو کراء ضرب ، وتاء قتل ، وجیم رجل ، ومیم جمل ، ولام علم. وأمّا الطرف فنحو میم إبراهیم ، ودال أحمد ، وباء یضرب ، وقاف یغرق.

فإن قلت : قد قدّمت أن هذا ممّا تلزم حرکته ، وأنت تقول فی الوقف : إبراهیم ، وأحمد ، ویضرب ، ویغرق ، فلا تلزم الحرکه ، قیل : (اعتراض الوقف لا یحفل به ، ولا یقع العمل علیه) وإنما المعتبر بحال الوصل ؛ ألا تراک تقول فی بعض الوقف : هذا بکر ، ومررت ببکر ، فتنقل حرکه الإعراب إلی حشو الکلمه ، ولو لا أن هذا عارض جاء به الوقف لکنت ممن یدّعی أن حرکه الإعراب تقع قبل الآخر ؛ وهذا خطأ بإجماع.

ولذلک أیضا کانت الهاء فی (قائمه) بدلا عندنا من التاء فی (قائمه) لمّا کانت إنما تکون هاء فی الوقف دون الوصل.

فإن قلت : ولم جرت الأشیاء فی الوصل علی حقائقها دون الوقف؟

(قیل : لأن) حال الوصل أعلی رتبه من حال الوقف. وذلک أن الکلام إنما وضع للفائده ، والفائده لا تجنی من الکلمه الواحده ، وإنما تجنی من الجمل

ص: 111

ومدارج القول ؛ فلذلک کانت حال الوصل عندهم أشرف وأقوم وأعدل من حال الوقف.

ویدلّک علی أن حرکه الآخر قد تعتدّ لازمه وإن کانت فی الوقف مستهلکه أنک تقلب حرف اللین لها وللحرکه قبله ، فتقول : عصا ، وقفا ، وفتی ، ودعا ، وغزا ، ورمی ؛ کما تقلبه وسطا لحرکته وحرکه ما قبله ؛ نحو دار ، ونار ، وعاب ، وقال : وقام ، وباع.

فإن قلت : فإنّ الجزم قد یدرک الفعل فیسکّن فی الوصل ؛ نحو لم یضرب أمس ، واضرب غدا ، وما کان کذلک.

قیل : إن الجزم لمّا کان ثانیا للرفع وإعرابا کالنصب فی ذینک جری الانتقال إلیه عن الرفع مجری الانتقال عن الرفع إلی النصب ، وحمل الجزم فی ذلک علی النصب ؛ کما حمل النصب علی الجزم فی الحرف ؛ نحو لن یقوما ، وأرید أن تذهبوا ، وتنطلقی. قال أبو علیّ : وقد کان ینبغی أن تثبت النون مع النصب لثبات الحرکه فی الواحد. فهذا فرق وعذر.

فهذه أحکام الحرکه اللازمه.

وأمّا غیر اللازمه فعلی أضرب.

منها حرکه التقاء الساکنین ؛ نحو قم اللیل ، واشدد الحبل. ومنها حرکه الإعراب المنقوله إلی الساکن قبلها ؛ نحو هذا بکر ، وهذا عمرو ومررت ببکر ، ونظرت إلی عمرو. وذلک أن هذا أحد أحداث الوقف فلم یکن به حفل. ومنها الحرکه المنقوله لتخفیف الهمزه ؛ نحو قولک فی مسأله : مسله ، وقولک فی یلؤم : یلم ، وفی یزئر : یزر ، وقوله (وَلَمْ یَکُنْ لَهُ کُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : 4] فیمن سکن وخفف (1). وعلی ذلک قول الله تعالی (لکِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّی) [الکهف : 38] أصله : لکن أنا ؛ ثم خفّف فصار (لکن نا) ثم أجری غیر اللازم مجری اللازم ، فأسکن الأوّل وادّغم فی الثانی فصار لکنّا.

ومن التقاء الساکنین أیضا قوله :

ص: 112

*وذی ولد لم یلده أبوان (1) *

لأنه أراد : لم یلده ، فأسکن اللام استثقالا للکسره ، وکانت الدال ساکنه فحرّکها لالتقاء الساکنین. وعلیه قول الآخر :

*ولکننی لم أجد من ذلکم بدّا (2) *

أی لم أجد ، فأسکن الجیم وحرّک الدال علی ما مضی.

ومن ذلک حرکات الإتباع ؛ نحو قوله :

*ضربا ألیما بسبت یلعج الجلدا (3) *

وقوله :

*مشتبه الأعلام لمّاع الخفق (4) *

ص: 113

وقوله :

*......... لم ینظر به الحشک (1) *

وقوله :

*ماء بشرقیّ سلمی فید أو رکک (2) *

وقوله :

قضین حجّا وحاجات علی عجل

ثم استدرن إلینا لیله النفر

وقوله :

ص: 114

*وحامل المین بعد المین والألف (1) *

وأمّا قول الآخر :

علّمنا أخوالنا بنو عجل

الشغزبیّ واعتقالا بالرجل (2)

فیکون إتباعا ، ویکون نقلا. وقول طرفه :

*......... ورادا وشقر (3) *

ینبغی أن یکون إتباعا ؛ یدلّک علی ذلک أنه تکسیر أشقر وشقراء ، وهذا قد یجیء فیه المعتل اللام (نحو قنو وعشو وظمی وعمی ، ولو کان أصله فعلا لما جاء فی المعتلّ) ؛ ألا تری أن ما کان من تکسیر فعیل وفعول وفعال وفعال ممّا لامه معتلّه لا یأتی علی فعل. فلذلک لم یقولوا فی کساء : کسو ولا فی رداء : ردی ولا فی صبیّ : صبو ولا نحو ذلک ؛ لأن أصله فعل. وهی اللغه الحجازیّه القویّه. وقد جاء شیء من ذلک شاذا. وهو ما حکاه من قولهم : ثنیّ وثن. وأنشد الفرّاء :

فلو تری فیهن سرّ العتق

بین کماتیّ وحوّ بلق (4)

ص: 115

(فهذا جمع فلوّ) وکلا ذینک شاذّ :

ومثله ما أنشده أیضا من قول الشاعر :

أسلمتموها فباتت غیر طاهره

منی الرجال علی الفخذین کالموم (1)

فکسّر منیا علی منی ؛ ولا یقاس علیه. وإنما ذکرناه لئلا یجیء به جاء ، فتری أنه کسر للباب.

ومن حرکات الإتباع قولهم : أنا أجوؤک ؛ وانبؤک ، وهو منحدر من الجبل ومنتن ومغیره ، ونحو (من ذلک) باب شعیر ورغیف وبعیر والزئیر ، والجنّه لمن خاف وعید الله. وشبهت القاف بالخاء لقربها منها فیما حکاه أبو الحسن من قولهم : النقیذ ؛ کما شبّهت الخاء والغین بحروف الفم حتی أخفیت النون معهما فی بعض اللغات ؛ کما تخفی مع حروف الفم. وهذا فی فعیل مما عینه حلقیّه مطّرد.

وکذلک فعل ؛ نحو نغر (2) ومحک وجئر (3) وضحک ، و (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا یَعِظُکُمْ بِهِ) [النساء : 58]. وقریب من ذلک الحمد لله والحمد لله وقتّلوا وفتّحوا ، وقوله :

*تدافع الشیب ولم تقتّل (4) *

ص: 116

وقوله :

*لا حطّب القوم ولا القوم سقی (1) *

ومن غیر اللازم ما أحدثته همزه التذکّر ؛ نحو ألی وقدی. فإذا وصلت سقطت ؛ نحو الخلیل ، وقد قام. ومن قرأ اشتروا الضلاله قال فی التذکر : اشترووا ، ومن قرأ : اشتروا الضلاله قال فی التذکر : اشتروی ، ومن قال : اشترو الضلاله قال فی التذکر : اشتروا.

فهذه طریق هذه الحرکات فی الکلام.

وأمّا الساکن فعلی ضربین : ساکن یمکن تحریکه ، وساکن لا یمکن تحریکه.

الأول منهما جمیع الحروف إلا الألف الساکنه المدّه. والثانی هو هذه الألف ؛ نحو ألف کتاب وحساب وباع وقام.

والحرف الساکن الممکن تحریکه علی ضربین : أحدهما ما یبنی علی السکون.

والآخر ما کان متحرکا ثم أسکن.

الأول منهما یجیء أوّلا وحشوا وطرفا.

فالأول ما لحقته فی الابتداء همزه الوصل. وتکون فی الفعل ؛ نحو انطلق واستخرج واغدودن ، وفی الأسماء العشره : ابن وابنه وامرئ وامرأه واثنین واثنتین (واسم واست) وابنم وأیمن. وفی المصادر ؛ نحو انطلاق واستخراج واغدیدان وما کان مثله. وفی الحروف فی لام التعریف ؛ نحو الغلام والخلیل. فهذا حال الحرف الساکن إذا کان أوّلا.

وأمّا کونه حشوا فککاف بکر ، وعین جعفر ، ودال یدلف. وکونه أخرا فی نحو دال قد ولام هلک فهذه الحروف الممکن تحریکها ؛ (إلا أنّها) مبنیّه علی السکون.

ص: 117

وأمّا ما کان متحرکا ثم أسکن فعلی ضربین : متّصل ومنفصل. فالمتصل : ما کان ثلاثیّا مضموم الثانی أو مکسوره ؛ فلک فیه الإسکان تخفیفا ، وذلک کقولک فی علم : قد علم ، وفی ظرف : قد ظرف ، وفی رجل : رجل ، وفی کبد : کبد.

وسمعت الشجریّ وذکر طعنه فی کتف فقال : الکتفیّه. وأنشد البغدادیّون :

رجلان من ضبّه أخبرانا

أنّا رأینا رجلا عریانا (1)

وقد سمع شیء من هذا الإسکان فی المفتوح ؛ قال الشاعر :

وما کلّ مبتاع ولو سلف صفقه

براجع ما قد فاته برداد (2)

وقد جاء هذا فیما کان علی أکثر من ثلاث أحرف ؛ قال العجّاج :

*فبات منتصبا وما تکردسا (3) *

وحکی صاحب الکتاب : أراک منتفخا ، وقالوا فی قول العجّاج :

*بسبحل الدّفّین عیسجور (4) *

أراد : سبحل ، فأسکن الباء وحرّک الحاء وغیّر حرکه السین. وقال أبو عثمان فی قول الشاعر :

هل عرفت الدار أم أنکرتها

بین تبراک فشسّی عبقر (5)

ص: 118

أراد : عبقر ، فغیّر کما تری إلا أنه حرک الساکن ؛ وقال غیره : أراد : عبیقر فحذف الیاء کما حذفت من عرنقصان حتی صارت عرقصانا. وکذلک قوله : لم یلده أبوان ، قد جاء فیه التحریک والتسکین جمیعا. وکذلک قوله :

*ولکننی لم أجد من ذلکم بدا (1) *

وقد مضیا آنفا.

وأمّا المنفصل فإنه شبّه بالمتّصل ، وذلک قراءه بعضهم (فَإِذا هِیَ تَلْقَفُ) [الشعراء : 45] ، (فَلا تَتَناجَوْا)(2) [المجادله : 9] فهذا مشبّه بدابّه وخدبّ. وعلیه قراءه بعضهم (إِنَّهُ مَنْ یَتَّقِ وَیَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ)(3) [یوسف : 90] وذلک أن قوله (تق و) بوزن علم فأسکن ، کما یقال : علم. وأنشدوا :

ومن یتّق فإن الله معه

ورزق الله مؤتاب وغاد (4)

لأن (تق ف) بوزن علم. وأنشد أبو زید :

*قالت سلیمی اشتر لنا سویقا (5) *

ص: 119

لأن (تراه) کعلم. ومنها :

*فاحذر ولا تکتر کریّا أعوجا (1) *

وأما (إِنَّ اللهَ یَأْمُرُکُمْ) [النساء : 58] و (فَتُوبُوا إِلی بارِئِکُمْ) [البقره : 54] فرواها القرّاء عن أبی عمرو بالإسکان ، ورواها سیبویه بالاختلاس ، وإن لم یکن کان أزکی فقد کان أذکی ، ولا کان بحمد الله مزنّا بریبه ، ولا مغموزا فی روایه. لکن قوله :

*فالیوم أشرب غیر مستحقب (2) *

وقوله :

*وقد بدا هنک من المئزر (3) *

ص: 120

وقوله :

سیروا بنی العمّ فالأهواز منزلکم

ونهر تیری ولا تعرفکم العرب (1)

فمسکّن کله. والوزن شاهده ومصدّقه.

وأمّا دفع أبی العباس ذلک فمدفوع وغیر ذی مرجوع إلیه. وقد قال أبو علیّ فی ذلک فی عدّه أماکن من کلامه وقلنا نحن (معه ما) أیّده ، وشدّ منه. وکذلک قراءه من قرأ (بَلی وَرُسُلُنا لَدَیْهِمْ یَکْتُبُونَ)(2) [الزخرف : 80] وعلی ذلک قال الراعی :

تأبی قضاعه أن تعرف لکم نسبا

وابنا نزار فأنتم بیضه البلد (3)

فإنه أسکن المفتوح ، وقد روی (لا تعرف لکم) فإذا کان کذلک فهو أسهل ؛ لاستثقال الضمه. وأمّا قوله :

ترّاک أمکنه إذا لم أرضها

أو یرتبط بعض النفوس حمامها (4)

فقد قیل فیه : إنه یرید : أو یرتبط علی معنی (لألزمنّه أو یعطینی حقّی) وقد یمکن عندی أن یکون (یرتبط) معطوفا علی (أرضها) أی ما دمت حیّا فإنی لا أقیم ، والأوّل أقوی معنی.

وأما قول أبی دواد :

فأبلونی بلیّتکم لعلّی

أصالحکم وأستدرج نویّا (5)

فقد یمکن أن یکون أسکن المضموم تخفیفا واضطرارا. ویمکن أیضا أن یکون معطوفا علی موضع لعلّ ؛ لأنه (مجزوم جواب الأمر) ؛ کقولک : زرنی فلن

ص: 121

أضیعک حقک وأعطک ألفا ؛ أی زرنی أعرف حقک وأعطک ألفا.

وقد کثر إسکان الیاء فی موضع النصب کقوله :

*یا دار هند عفت إلا أثافیها (1) *

وهو کثیر جدّا ، وشبّهت الواو فی ذلک بالیاء کما شبّهت الیاء الألف ؛ قال الأخطل:

إذا شئت أن تلهو ببعض حدیثها

نزلن وأنزلن القطین المولّدا (2)

وقال الآخر :

فما سوّدتنی عامر عن وراثه

أبی الله أن أسمو بأم ولا أب (3)

وقول الآخر :

وأن یعرین إن کسی الجواری

فتنبو العین عن کرم عجاف (4)

* * *

ص: 122

ألفا ، ولام الفعل ؛ فحذفت العین لالتقائهما ، فصار التقدیر : قلت وبعت ، ثم نقلت الضمّه والکسره إلی الفاء ؛ لأن أصلهما قبل القلب فعلت وفعلت ، فصارا بعت وقلت. فهذا - لعمری - مراجعه أصل ، إلا أنه ذلک الأصل الأقرب لا الأبعد ؛ ألا تری أن أوّل أحوال هذه العین فی صیغه المثال إنما هو فتحه العین التی أبدلت منها الضمه والکسره. وهذا واضح.

ومن ذلک قولهم فی مطایا وعطایا : إنهما لمّا أصارتهما الصنعه إلی مطاءا ، وعطاء أبدلوا الهمزه علی أصل ما فی الواحد (من اللام) وهو الیاء فی مطیّه وعطیّه ؛ ولعمری إن لامیها یاءان ، إلا أنک تعلم أن أصل هاتین الیاءین واوان ؛ کأنهما (فی الأصل) مطیوه وعطیوه ؛ لأنهما من مطوت ، وعطوت ؛ أفلا تراک لم ترجع أصل الیاء فیهما ، وإنما لاحظت ما معک فی مطیّه وعطیّه من الیاء ، دون أصلهما الذی هو الواو.

أفلا تری إلی هذه المعامله ، کیف هی مع الظاهر الأقرب إلیک دون الأوّل الأبعد عنک. ففی هذا تقویه لإعمال الثانی من الفعلین ؛ لأنه هو الأقرب إلیک دون الأبعد عنک. فاعرف هذا.

ولیس کذلک صرف ما لا ینصرف ، ولا إظهار التضعیف ؛ لأن هذا هو الأصل الأوّل علی الحقیقه ، ولیس وراءه أصل ، هذا أدنی إلیک منه کما کان فیما أریته قبل. فاعرف بهذا ونحوه حال ما یرد علیک ممّا هو مردود إلی أوّل وراءه ما هو أسبق رتبه منه ، وبین ما یردّ إلی أول لیست وراءه (رتبه متقدمه) له.

* * *

ص: 124

طرفا أبدلتها همزه ، فصارت فی التقدیر إلی شقاء ، فأبدلت الهمزه واوا ، فصار (شقاویّ) فالواو إذا فی (شقاویّ) غیر الواو فی (شقاوه). ولهذا نظائر فی العربیّه کثیره.

ومنها قولهم فی الإضافه إلی عدوّه : عدویّ. وذلک أنک لمّا حذفت الهاء حذفت له واو فعوله ؛ کما حذفت لحذف تاء حنیفه یاءها ، فصارت فی التقدیر إلی (عدو) فأبدلت من الضمه کسره ، ومن الواو یاء فصارت إلی (عدی) فجرت فی ذلک مجری عم ، فأبدلت من الکسره فتحه ، ومن الیاء ألفا ، فصارت إلی (عدا) کهدی ، فأبدلت من الألف واوا لوقوع یاءی الإضافه بعدها ، فصارت إلی (عدویّ) کهدویّ. فالواو إذا فی عدویّ لیست بالواو فی عدوّه ، وإنما هی بدل من ألف بدل من (یاء بدل من) الواو الثانیه فی عدوّه. فاعرفه.

* * *

ص: 126

وبقیه الباب.

ومنه قوله :

*سماء الإله فوق سبع سمائیا (1) *

ومنه قوله :

*أهبی التراب فوقه إهبایا (2) *

وهو کثیر.

الثانی : منهما وهو ما لا یراجع من الأصول عند الضروره. وذلک کالثلاثیّ المعتلّ العین ؛ نحو قام وباع وخاف وهاب وطال. فهذا ممّا لا یراجع أصله أبدا ؛ ألا تری أنه لم یأت عنهم فی نثر ولا نظم شیء منه مصحّحا ؛ نحو قوم ولا بیع ولا خوف ولا هیب ولا طول. وکذلک مضارعه ؛ نحو یقوم ویبیع ویخاف ویهاب ویطول. فأمّا ما حکاه بعض الکوفیّین من قولهم : هیؤ الرجل من الهیئه فوجهه أنه خرج مخرج المبالغه فلحق بباب قولهم : قضو الرجل ؛ إذا جاد قضاؤه. ورمو ؛ إذا جاد رمیه. فکما بنی فعل مما لامه یاء کذلک خرج هذا علی أصله فی فعل مما عینه یاء. وعلّتهما جمیعا أن هذا بناء لا یتصرّف ؛ لمضارعته - بما فیه من المبالغه - لباب التعجّب ، ولنعم وبئس. فلمّا لم یتصرّف احتملوا فیه خروجه فی هذا الموضع مخالفا للباب ؛ ألا تراهم إنما تحاموا أن یبنوا فعل مما عینه یاء مخافه انتقالهم

ص: 128

من الأثقل إلی ما هو أثقل منه ؛ لأنه کان یلزمهم أن یقولوا : بعت أبوع ، وهو یبوع ، ونحن نبوع ، وأنت - أو هی - تبوع ، وبوعا وبوعوا وبوعی ، وهما یبوعان ، وهم یبوعون ونحو ذلک. وکذلک لو جاء فعل مما لامه یاء متصرّفا للزم أن یقولوا : رموت ورموت ، وأنا ارموا ، ونحن نرمو ، وأنت ترمو ، وهو یرمو ، وهم یرمون ، وأنتما ترموان ، وهنّ یرمون ونحو ذلک ؛ فیکثر قلب الیاء واوا ، وهو أثقل من الیاء.

فأما قولهم : لرمو الرجل فإنه لا یصرّف ولا یفارق موضعه هذا ؛ کما لا یتصرف نعم وبئس ، فاحتمل ذلک فیه لجموده علیه وأمنهم تعدّیه إلی غیره.

وکذلک احتمل هیؤ الرجل ولم یعلّ ؛ لأنه لا یتصرّف لمضارعته بالمبالغه فیه باب التعجب ونعم وبئس ؛ ولو صرّف للزم إعلاله وأن یقال : هاء یهوء ، وأهوء وتهوء ، ونهوء وهما یهوءان ، وهم یهوءون ونحو ذلک ؛ فلمّا لم یتصرّف لحق بصحّه الأسماء ؛ فکما صحّ نحو القود والحوکه والصید والغیب ، کذلک صحّ هیؤ الرجل - فاعرفه - کما صحّ ما أطوله وما أبیعه ونحو ذلک.

وممّا لا یراجع من الأصول باب افتعل إذا کانت فاؤه صادا أو ضادا أو طاء أو ظاء ؛ فإن تاءه تبدل طاء ؛ نحو اصطبر ، (واضطرب) واطّرد واظطلم. وکذلک إن کانت فاؤه دالا (أو ذالا) أو زایا فإنّ تاءه تبدل دالا. وذلک نحو (قولک) ادّلج وادّکر وازدان. فلا یجوز خروج هذه التاء علی أصلها. ولم یأت ذلک فی نثر ولا نظم. فأمّا ما حکاه خلف - فیما أخبرنا به أبو علیّ - من قول بعضهم : التقطت النوی واشتقطته واضتقطته فقد یجوز أن تکون الضاد بدلا من الشین فی اشتقطته. نعم ، ویجوز أن تکون بدلا من اللام فی التقطته ، فیترک إبدال التاء طاء مع الضاد ؛ لیکون ذلک إیذانا بأنها بدل من اللام أو الشین ، فتصحّ التاء مع الضاد ؛ کما صحّت مع ما الضاد بدل منه. ونظیر ذلک قول بعضهم :

یا ربّ أبّاز من العفر صدع

تقبّض الذئب إلیه واجتمع (1)

ص: 129

لمّا رأی أن لا دعه ولا شبع

مال إلی أرطاه حقف فالطجع (1)

فأبدل لام الطجع من الضاد ؛ وأقرّ الطاء بحالها مع اللام ؛ لیکون ذلک دلیلا علی أنها بدل من الضاد. وهذا کصحّه عور ؛ لأنه بمعنی ما تجب صحّته ، وهو اعورّ. وقد مضی ذلک.

ومن ذلک امتناعهم من تصحیح الواو الساکنه بعد الکسره ، ومن تصحیح الیاء الساکنه بعد الضّمه. فأمّا قراءه أبی عمرو : (یا صالِحُ ائْتِنا)(2) [الأعراف : 77] بتصحیح الیاء بعد ضمه الحاء فلا یلزمه علیها أن یقول : یا غلام اوجل. والفرق بینهما أن صحّه الیاء فی (یا صالح ایتنا) بعد الضمه له نظیر ، وهو قولهم : قیل وبیع ، فحمل المنفصل : علی المتصل ؛ ولیس فی کلامهم واو ساکنه صحّت بعد کسره فیجوز قیاسا علیه یا غلام اوجل.

فإن قلت : فإن الضمّه فی نحو قیل وبیع لا تصحّ ؛ لأنها إشمام ضمّ للکسره ، والکسره فی (یا غلام اوجل) کسره صریحه. فهذا فرق.

قیل : الضمه فی حاء (یا صالح) ضمّه بناء فأشبهت ضمّه (قیل) من حیث کانت بناء ؛ ولیس لقولک : (یا غلام اوجل) شبیه فیحمل هذا علیه ، لا کسره صریحه ولا کسره مشوبه. فأمّا تفاوت ما بین الحرکتین فی کون إحداهما ضمه صریحه والأخری ضمه غیر صریحه فأمر تغتفر العرب ما هو أعلی وأظهر منه.

وذلک أنهم قد اغتفروا اختلاف الحرفین مع اختلاف الحرکتین فی نحو جمعهم فی القافیه بین سالم وعالم (3) مع قادم وظالم ؛ فإذا تسمّحوا بخلاف الحرفین مع

ص: 130

الحرکتین کان تسمّحهم بخلاف الحرکتین وحدهما فی (یا صالح ایتنا) وقیل وبیع أجدر بالجواز.

فإن قلت : فقد صحّت الواو الساکنه بعد الکسره نحو اجلوّاذ واخروّاط ، قیل : الساکنه هنا لمّا أدغمت فی المتحرکه فنبا اللسان عنهما جمیعا نبوه واحده جرتا لذلک مجری الواو المتحرکه بعد الکسره ؛ نحو طول وحول. وعلی أن بعضهم قد قال : اجلیواذا ، فأعلّ ؛ مراعاه لأصل ما کان علیه الحرف ، ولم یبدل الواو بعدها لمکان الیاء ؛ إذ کانت هذه الیاء غیر لازمه ، فجری ذلک فی الصحّه مجری دیوان فیها.

ومن قال : ثیره وطیال فقیاس قوله هنا أن یقول : اجلیّاذا فیقلبهما جمیعا ؛ إذ کانا قد جریا مجری الواو الواحده المتحرکه.

فإن قیل : فالحرکتان قبل الألفین فی سالم وقادم کلتاهما فتحه ، وإنما شیبت إحداهما بشیء من الکسره ، ولیست کذلک الحرکات فی حاء (یا صالح) ، وقاف قیل ؛ من حیث کانت الحرکه فی حاء (یا صالح) ضمه ألبتّه ، وحرکه قاف (قیل) کسره مشوبه بالضمّ ؛ فقد تری الأصلین هنا مختلفین ، وهما هناک - أعنی فی سالم وقادم - متفقان.

قیل : کیف تصرّفت الحال فالضمه فی (قیل) مشوبه غیر مخلّصه ؛ کما أن الفتحه فی سالم مشوبه غیر مخلصه ، نعم ولو تطعّمت الحرکه فی قاف (قیل) لوجدت حصّه الضم فیها أکثر من حصّه الکسر ، أو أدون حالها أن تکون فی الذوق مثلها ، ثم من بعد ذلک ما قدّمناه من اختلاف الألفین فی سالم وقادم ؛ لاختلاف الحرکتین قبلهما الناشئه هما عنهما ، و (لیست) الیاء فی (قیل) کذلک بل هی یاء مخلصه وإن کانت الحرکه قبلها مشوبه غیر مخلصه. وسبب ذلک أن الیاء الساکنه سائغ غیر مستحیل فیها أن تصحّ بعد الضمّه المخلصه ، فضلا عن الکسره المشوبه بالضمّ ؛ ألا تراک لا یتعذّر علیک صحّه الیاء وإن خلصت قبلها الضمه فی نحو میسر فی اسم الفاعل من أیسر لو تجشّمت إخراجه علی الصحّه ، وکذلک لو تجشّمت تصحیح واو موازن قبل القلب ؛ وإنما ذلک تجشّم الکلفه لإخراج الحرفین

ص: 131

مصحّحین غیر معلّین. فأمّا الألف فحدیث غیر هذا ؛ ألا تری أنه لیس فی الطوق ولا من تحت القدره صحّه الألف بعد الضمّه ولا الکسره ، بل إنما هی تابعه للفتحه قبلها ؛ فإن صحّت الفتحه قبلها صحّت بعدها ، وإن شیبت الفتحه بالکسره نحی بالألف نحو الیاء ؛ نحو سالم وعالم ، وإن شیبت بالضمّه نحی بالألف نحو الواو فی الصلاه والزکاه ، وهی ألف التفخیم. فقد بان لک بذلک فرق ما بین الألف وبین الیاء والواو.

فهذا طرف من القول علی ما یراجع من الأصول للضروره ممّا یرفض فلا یراجع. فاعرفه وتنبه علی أمثاله فإنها کثیره.

* * *

ص: 132

بقائم ولا قاعدا ، و (إِنَّا مُنَجُّوکَ وَأَهْلَکَ) [العنکبوت : 33] وإذا جاز أن تراعی الفروع ؛ نحو قوله :

بدا لی أنی لست مدرک ما مضی

ولا سابق شیئا إذا کان جائیا (1)

وقوله :

مشائیم لیسوا مصلحین عشیره

ولا تاعب إلا ببین غرابها (2)

کانت مراجعه الأصول أولی وأجدر.

ومن ضدّ ذلک : هذان ضارباک ؛ ألا تری أنک لو اعتددت بالنون المحذوفه لکنت کأنک قد جمعت بین الزیادتین المعتقبتین فی آخر الاسم. وعلی هذا القیاس أکثر الکلام : أن یعامل الحاضر فیغلّب حکمه لحضوره علی الغائب لمغیبه. وهو شاهد لقوّه إعمال الثانی من الفعلین لقوّته وغلبته علی إعمال الأول لبعده. ومن ذلک قوله :

ص: 134

*وما کلّ من وافی منی أنا عارف (1) *

فیمن نوّن أو أطلق مع رفع (کلّ). ووجه ذلک أنه إذا رفع کلا فلا بدّ من تقدیره الهاء لیعود علی المبتدأ من خبره ضمیر ، وکل واحد من التنوین فی (عارف) ومدّه الإطلاق فی (عارفو) ینافی اجتماعه مع الهاء المراده المقدّره ؛ ألا تری أنک لو جمعت بینهما فقلت : عارفنه أو عارفوه لم یجز شیء من ذینک. وإنما هذا لمعامله الحاضر واطّراح حکم الغائب. فاعرفه وقسه فإنه باب واسع.

* * *

ص: 135

ونحو ذلک. وکذلک التثنیه والجمع علی حدّها ؛ نحو الزیدان والعمرین والمحمدون ؛ لیس شیء من ذلک منصرفا (1) ولا غیر منصرف ، معرفه کان أو نکره ؛ من حیث کانت هذه الأسماء لیس مما ینوّن مثلها ، فإذا لم یوجد فیها التنوین کان ذهابه عنها أماره لترک صرفها.

ومن ذلک بیت الکتاب :

*له زجل کأنّه صوت حاد (2) *

فحذف الواو من قوله (کأنه) لا علی حدّ الوقف ولا علی حدّ الوصل. أما الوقف فیقضی بالسکون : (کأنه). وأمّا الوصل فیقضی بالمطل وتمکین الواو : (کأنهو) فقوله إذا (کأنه) منزله بین الوصل والوقف.

وکذلک أیضا سواء قوله :

یا مرحباه بحمار ناجیه

إذا أتی قرّبته للسانیه (3)

فثبات الهاء فی (مرحباه) لیس علی حدّ الوقف ، ولا علی حدّ الوصل. أمّا الوقف فیؤذن (بأنها ساکنه : یا مرحباه. وأما الوصل فیؤذن بحذفها أصلا : یا مرحبا بحمار ناجیه. فثباتها إذا فی الوصل متحرکه منزله بین المنزلتین.

وکذلک سواء قوله :

ص: 138

*ببازل وجناء أو عیهلّ (1) *

فإثبات الیاء مع التضعیف طریف. وذلک أن التثقیل من أماره الوقف ، والیاء من أماره الإطلاق. فظاهر هذا الجمع بین الضدّین ؛ فهو إذا منزله بین المنزلتین.

وسبب جواز الجمع بینهما أن کل واحد منهما قد کان جائزا علی انفرداه ، فإذا جمع بینهما فإنّه علی کل حال لم یکلف إلا بما من عادته أن یأتی به مفردا ، ولیس علی النظر بحقیقه الضدّین کالسواد والبیاض والحرکه والسکون فیتسحیل اجتماعهما. فتضادّهما إذا إنما هو فی الصناعه لا فی الطبیعه. والطریق متلئبّه منقاده ، والتأمّل یوضحها ویمکنک منها.

* * *

ص: 139

فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَهَ عَیْناً) [البقره : 60] أی فضرب فانفجرت ، وقوله عزّ اسمه : (فَمَنْ کانَ مِنْکُمْ مَرِیضاً أَوْ بِهِ أَذیً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْیَهٌ) [البقره : 196] أی فحلق فعلیه فدیه. ومنه قولهم : ألا تا ، بلا فا ؛ أی ألا تفعل ، بلی فافعل ، وقول الآخر :

*قلنا لها قفی لنا قالت قاف (1) *

أی وقفت ، وقوله :

*......... وکأن قد (2) *

أی کأنها قد زالت. فأمّا قوله :

*إذا قیل مهلا قال حاجزه قد (3) *

فیکون علی هذا أی قد قطع (وأغنی). ویجوز أن یکون معناه : قدک! أی حسبک ، کأنه قد فرغ مما قد أرید منه ، فلا معنی لردعک وزجرک.

وإنما تحذف الجمله من الفعل والفاعل لمشابهتها المفرد بکون الفاعل فی کثیر من الأمر بمنزله الجزء من الفعل ؛ نحو ضربت ویضربان ، وقامت هند ، و (لَتُبْلَوُنَّ فِی أَمْوالِکُمْ) [آل عمران : 186] وحبّذا زید ، وما أشبه ذلک مما یدلّ علی شدّه اتّصال الفعل بالفاعل وکونه معه کالجزء الواحد. ولیس کذلک المبتدأ والخبر.

ص: 141

وأمّا حذف المفرد فعلی ثلاثه أضرب : اسم وفعل وحرف :

وإن شئت کان تقدیره : أول من غیره ، ثم شبه الجارّ والمجرور هنا بالمضاف إلیه ؛ لمعاقبه المضاف إلیه إیاهما. وکذلک قولهم : جئت من عل ؛ أی من أعلی کذا ، وقوله :

فملّک باللیط الذی تحت قشرها

کغرقیء بیض کنّه القیض من عل (1)

أمّا قوله :

*کجلمود صخر حطّه السیل من عل (2) *

فلا حذف فیه ؛ لأنه نکره ، ولذلک أعربه ، فکأنه قال : حطّه السیل من مکان عال ؛ لکن قول العجلیّ :

*أقب من تحت عریض من عل (3) *

هو محذوف المضاف إلیه ؛ لأنه معرفه وفی موضع المبنیّ علی الضم ؛ ألا تراه

ص: 143

قابل به ما هذه حاله ، وهو قوله : من تحت. وینبغی أن یکتب (علی) فی هذا بالیاء. وهو فعل فی معنی فاعل ؛ أی أقبّ من تحته عریض من عالیه ، بمعنی أعلاه. والسافل والعالی بمنزله الأسفل والأعلی. قال :

ما هو إلا الموت یغلی غالیه

مختلطا سافله بعالیه

لا بدّ یوما أننی ملاقیه

ونظیر عال وعل هنا قوله :

*وقد علتنی ذرأه بادی بدی (1) *

أی بادی بادی. وإن شئت کان ظرفا غیر مرکب ؛ أی فی بادی بدی ؛ کقوله : - عزّ اسمه - : (بادِیَ الرَّأْیِ) [هود : 27] (أی فی بادی الرأی) إلا أنه أسکن الیاء فی موضع النصب مضطرّا ؛ کقوله :

*یا دار هند عفت إلا أثافیها (2) *

وإن شئت کان مرکّبا علی حدّ قوله :

ص: 144

إذ نحن فی غرّه الدنیا ولذّتها

والدار جامعه أزمان أزمانا (1)

إلا أنه أسکن لطول الاسم بالترکیب ؛ کمعدی کرب. ومثل فاعل وفعل فی هذا المعنی قوله :

أصبح قلبی صردا

لا یشتهی أن یردا

إلا عرادا عردا

وصلّیانا بردا

وعنکثا ملتبدا (2)

أراد : إلا عرادا عاردا وصلّیانا باردا.

وعلیه قوله :

*کأنّ فی الفرش القتاد العاردا (3) *

فأمّا قولهم : عرد الشتاء ؛ فیجوز أن یکون مخفّفا من عرد هذا. ویجوز أن یکون مثالا فی الصفه علی فعل ؛ کصعب وندب.

ومنه یومئذ وحینئذ ونحو ذلک ؛ أی إذ ذاک کذلک ، فحذفت الجمله المضاف إلیها. وعلیه قول ذی الرمّه :

فلمّا لبسن اللیل أو حین نصّبت

له من خذا آذانها وهو جانح (4)

ص: 145

أی : أو حین أقبل. وحکی الکسائیّ : أفوق تنام أم أسفل ؛ حذف المضاف ولم یبن. وسمع أیضا : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)(1) [الروم : 4] ؛ فحذف ولم یبن.

وقد حذف الموصوف وأقیمت الصفه مقامه ؛ وأکثر ذلک فی الشعر. وإنما کانت کثرته فیه دون النثر من حیث کان القیاس یکاد یحظره. وذلک أن الصفه فی الکلام علی ضربین : إما (للتخلیص والتخصیص) ، وإمّا للمدح والثناء. وکلاهما من مقامات الإسهاب والإطناب ، لا من مظانّ الإیجاز والاختصار. وإذا کان کذلک لم یلق الحذف به ولا تخفیف اللفظ منه. هذا مع ما ینضاف إلی ذلک من الإلباس وضدّ البیان. ألا تری أنک إذا قلت : مررت بطویل ؛ لم یستبن من ظاهر هذا اللفظ أن المرور به إنسان دون رمح أو ثوب أو نحو ذلک. وإذا کان کذلک کان حذف الموصوف إنما هو متی قام الدلیل علیه أو شهدت الحال به. وکلّما استبهم الموصوف کان حذفه غیر لائق بالحدیث.

ومما یؤکّد عندک ضعف حذف الموصوف وإقامه الصفه مقامه أنک تجد من الصفات ما لا یمکن حذف موصوفه. وذلک أن تکون الصفه جمله ؛ نحو مررت برجل قام أخوه ، ولقیت غلاما وجهه حسن. ألا تراک لو قلت : مررت بقام أخوه ، أو لقیت وجهه حسن لم یحسن.

فأمّا قوله :

والله ما زید بنام صاحبه

ولا مخالط اللیان جانبه (2)

فقد قیل فیه : إن (نام صاحبه) علم اسم لرجل ، وإذا کان کذلک جری مجری قوله:

ص: 146

*بنی شاب قرناها ......*

فإن قلت فقوله :

*ولا مخالط اللیان جانبه*

لیس علما وإنما هو صفه ، وهو معطوف علی (نام صاحبه) فیجب أن یکون قوله : (نام صاحبه) صفه أیضا.

قیل : قد یکون فی الجمل إذا سمّی بها معانی الأفعال فیها. ألا تری أن (شاب قرناها تصرّ وتحلب) هو اسم علم ، وفیه مع ذلک معنی الذمّ. وإذا کان کذلک جاز أن یکون قوله :

*ولا مخالط اللیان جانبه*

معطوفا علی ما فی قوله (ما زید بنام صاحبه) من معنی الفعل. فأمّا قوله :

مالک عندی غیر سهم وحجر

وغیر کبداء شدیده الوتر

جاءت بکفّی کان من أرمی البشر (1)

أی بکفّی رجل أو إنسان کان من أرمی البشر فقد روی غیر هذه الروایه.

روی : «بکفّی کان من أرمی البشر» ، بفتح میم (من) أی بکفّی من هو أرمی البشر ، و (کان) علی هذا زائده. ولو لم تکن فیه إلا هذه الروایه لما جاز القیاس علیه ؛ لفروده (2) وشذوذه عمّا علیه عقد هذا الموضع. ألا تراک لا تقول : مررت بوجهه حسن ، ولا نظرت إلی غلامه سعید. فأمّا قولهم بدأت بالحمد لله ، وانتهیت من القرآن إلی (أَتی أَمْرُ اللهِ) [النحل : 1] ونحو ذلک فلا یدخل علی هذا القول ؛

ص: 147

من قبل أن هذه طریق الحکایه ، وما کان کذلک فالخطب فیه أیسر ، والشناعه فیه أوهی وأسقط. ولیس ما کنّا علیه مذهبا له تعلّق بحدیث الحکایه. وکذلک إن کانت الصفه جمله لم یجز أن تقع فاعله ولا مقامه مقام الفاعل ؛ ألا تراک لا تجیز قام وجهه حسن ، ولا ضرب قام غلامه ، وأنت ترید : قام رجل وجهه حسن ، ولا ضرب إنسان قام غلامه. وکذلک إن کانت الصفه حرف جرّ أو ظرفا لا یستعمل استعمال الأسماء. فلو قلت : جاءنی من الکرام ؛ أی رجل من الکرام. أو حضرنی سواک ؛ أی إنسان سواک ؛ لم یحسن لأن الفاعل لا یحذف. فأمّا قوله :

أتنتهون ولن ینهی ذوی شطط

کالطعن یهلک فیه الزیت والفتل (1)

فلیست الکاف هنا حرف جر ، بل هی اسم بمنزله مثل ؛ کالتی فی قوله :

*علی کالقطا الجونیّ أفزعه الزجر (2) *

وکالکاف الثانیه من قوله :

*وصالیات ککما یؤثفین*

(أی کمثل ما یؤثفین) وعلیه قول ذی الرمّه :

أبیت علی میّ کئیبا وبعلها

علی کالنقا من عالج یتبطح (3)

ص: 148

فأمّا قول الهذلی :

فلم یبق منها سوی هامد

وغیر الثمام وغیر النؤی

ففیه قولان : أحدهما أن یکون فی (یبق) ضمیر فاعل من بعض ما تقدّم ، کذا قال أبو علیّ رحمه الله. والآخر أن یکون استعمل (سوی) للضروره اسما فرفعه.

وکأنّ هذا أقوی ؛ لأن بعده : *وغیر الثمام وغیر النؤی*فکأنه قال : لم یبق منها غیر هامد. ومثله ما أنشدناه للفرزدق من قوله :

أتته بمجلوم کأنّ جبینه

صلاءه ورس وسطها قد تفلّقا (1)

وعلیه قول الآخر :

فی وسط جمع بنی قریط بعد ما

هتفت ربیعه یا بنی جواب

وقد أقیمت (الصفه الجمله) مقام الموصوف المبتدأ ؛ نحو قوله :

لو قلت ما فی قومها لم تیثم

یفضلها فی حسب ومیسم (2)

أی ما فی قومها أحد یفضلها ، وقال الله سبحانه : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِکَ) [الجنّ : 11] أی قوم دون ذلک. وأمّا قوله تعالی : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَیْنَکُمْ) [الأنعام : 94] فیمن قرأه بالنصب فیحتمل أمرین : أحدهما أن یکون الفاعل مضمرا ؛ أی لقد تقطع الأمر أو العقد أو الودّ - ونحو ذلک - بینکم. والآخر (أن یکون) ما

ص: 149

کان یراه أبو الحسن من أن یکون (بینکم) وإن کان منصوب اللفظ مرفوع الموضع بفعله ، غیر أنه أقرّت نصبه الظرف وإن کان مرفوع الموضع ؛ لاطّراد استعمالهم إیاه ظرفا. إلا أن استعمال الجمله التی هی صفه للمبتدإ مکانه أسهل من استعمالها فاعله ؛ لأنه لیس یلزم أن یکون المبتدأ اسما محضا کلزوم ذلک فی الفاعل ؛ ألا تری إلی قولهم : تسمع بالمعیدیّ خیر من أن تراه ؛ أی سماعک به خیر من رؤیته. وقد تقصّینا ذلک فی غیر موضع.

وقد حذفت الصفه ودلّت الحال علیها. وذلک فیما حکاه صاحب الکتاب من قولهم : سیر علیه لیل ، وهم یریدون : لیل طویل. وکأنّ هذا إنما حذفت فیه الصفه لما دلّ من الحال علی موضعها. وذلک أنک تحسّ فی کلام القائل لذلک من التطویح والتطریح والتفخیم والتعظیم ما یقوم مقام قوله : طویل أو نحو ذلک.

وأنت تحسّ هذا من نفسک إذا تأمّلته. وذلک أن تکون فی مدح إنسان والثناء علیه ، فتقول : کان والله رجلا! فتزید فی قوّه اللفظ ب (الله) هذه الکلمه ، وتتمکّن فی تمطیط اللام وإطاله الصوت بها (وعلیها) أی رجلا فاضلا أو شجاعا أو کریما أو نحو ذلک. وکذلک تقول : سألناه فوجدناه إنسانا! وتمکّن الصوت بإنسان وتفخّمه ، فتستغنی بذلک عن وصفه بقولک : إنسانا سمحا أو جوادا أو نحو ذلک. وکذلک إن ذممته ووصفته بالضیق قلت : سألناه وکان إنسانا! وتزوی وجهک وتقطّبه ، فیغنی ذلک عن قولک : إنسانا لئیما أو لجزا أو مبخلا أو نحو ذلک.

فعلی هذا وما یجری مجراه تحذف الصفه. فأمّا إن عریت من الدلاله علیها من اللفظ أو من الحال فإنّ حذفها لا یجوز ؛ ألا تراک لو قلت : وردنا البصره فاجتزنا بالأبلّه علی رجل ، أو رأینا بستانا وسکتّ لم (تفد بذلک) شیئا ؛ لأن هذا ونحوه ممّا لا یعری منه ذلک المکان ، وإنما المتوقّع أن تصف من ذکرت أو ما ذکرت. فإن لم تفعل کلّفت علم ما (لم تدلل) علیه ؛ وهذا لغو من الحدیث وجور فی التکلیف.

ومن ذلک ما یروی فی الحدیث : لا صلاه لجار المسجد إلا فی المسجد أی لا صلاه کامله أو فاضله ، ونحو ذلک. وقد خالف فی ذلک من لا یعدّ خلافه خلافا.

ص: 150

وقد حذف المفعول به ؛ نحو قول الله تعالی : (وَأُوتِیَتْ مِنْ کُلِّ شَیْءٍ) [النمل : 23] أی أوتیت منه شیئا. وعلیه قول الله سبحانه : (فَغَشَّاها ما غَشَّی) [النجم : 54] أی غشّاها إیاه. فحذف المفعولین جمیعا. وقال الحطیئه :

منعّمه تصون إلیک منها

کصونک من رداء شرعبیّ (1)

أی تصون الحدیث منها. وله نظائر.

وقد حذف الظرف ؛ نحو قوله :

فإن متّ فانعینی بما أنا أهله

وشقّی علیّ الجیب یا ابنه معبد (2)

أی إن متّ قبلک ، هذا یرید لا محاله. ألا تری أنه لا یجوز أن یشرط الإنسان موته ؛ لأنه یعلم أنه (مائت) لا محاله. وعلیه قول الآخر :

أهیم بدعد ما حییت فإن أمت

أوکّل بدعد من یهیم بها بعدی

أی فإن أمت قبلها ، لا بدّ أن یرید هذا. وعلی هذا قول الله تعالی : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ) [البقره : 185] أی من شهد الشهر منکم صحیحا بالغا فی مصر فلیصمه. وکان أبو علی - رحمه الله - یری أن نصب الشهر هنا إنما هو علی الظرف ، ویذهب إلی أن المفعول محذوف ؛ أی فمن شهد منکم المصر فی هذا الشهر فلیصمه. وکیف تصرّفت الحال فلا بدّ من حذف.

وقد حذف المعطوف تاره ، والمعطوف علیه أخری. روینا عن أحمد بن یحیی أنهم یقولون : راکب الناقه طلیحان ؛ أی راکب الناقه والناقه طلیحان. وقد مضی ذکر هذا. وتقول : الذی ضربت وزیدا جعفر ، ترید الذی ضربته وزیدا ، فتحذف المفعول من الصله.

وقد حذف المستثنی ، نحو قولهم : جاءنی زید لیس إلا ، ولیس غیر ؛ أی لیس

ص: 151

إلا إیاه ، ولیس غیره.

وقد حذف خبر إنّ مع النکره خاصّه ؛ نحو قول الأعشی :

إنّ محلا وإنّ مرتحلا

[وإنّ فی السّفر إذ مضوا مهلا (1)

أی : إنّ لنا محلا وإنّ لنا مرتحلا]

وأصحابنا یجیزون حذف خبر إنّ مع المعرفه ، ویحکون عنهم أنهم إذا قیل لهم إنّ الناس ألب علیکم فمن لکم؟ قالوا : إنّ زیدا ، وإنّ عمرا ؛ أی إنّ لنا زیدا ، وإنّ لنا عمرا. والکوفیون یأبون حذف خبرها إلا مع النکره. فأمّا احتجاج أبی العباس علیهم بقوله :

خلا أن حیّا من قریش تفضّلوا

علی الناس أو أن الأکارم نهشلا (2)

أی أو أن الأکارم نهشلا تفضلوا. قال أبو علی : وهذا لا یلزمهم ؛ لأن لهم أن یقولوا : إنما منعنا حذف خبر المعرفه مع إنّ المکسوره ؛ فأمّا مع أنّ المفتوحه فلن نمنعه. قال : ووجه فصلهم فیه بین المکسوره والمفتوحه أن المکسوره حذف خبرها کما حذف خبر نقیضها. وهو قولهم : لا بأس ، ولا شکّ ؛ أی علیک ، وفیه. فکما أنّ (لا) تختصّ هنا بالنکرات فکذلک إنما (تشبهها نقیضتها) فی حذف الخبر مع النکره أیضا.

وقد حذف أحد مفعولی ظننت. وذلک نحو قولهم : أزیدا ظننته منطلقا ؛ ألا تری أن تقدیره : أظننت زیدا منطلقا ظننته منطلقا؟ فلما أضمرت الفعل فسّرته

ص: 152

بقولک : ظننته ؛ وحذفت المفعول الثانی من الفعل الأوّل المقدّر اکتفاء بالمفعول الثانی الظاهر فی الفعل الآخر. وکذلک بقیّه أخوات ظننت.

وقد حذف خبر کان أیضا فی نحو قوله (1) :

أسکران کان ابن المراغه إذ هجا

تمیما ببطن الشأم أم متساکر (2)

ألا تری أن تقدیره : أکان سکران ابن المراغه ؛ فلما حذف الفعل الرافع فسّره بالثانی فقال : کان ابن المراغه. و (ابن المراغه) هذا الظاهر خبر (کان) الظاهره ، وخبر (کان) المضمره محذوف معها ؛ لأن (کان) الثانیه دلّت علی الأولی. وکذلک الخبر الثانی الظاهر دلّ علی الخبر الأول المحذوف.

وقد حذف المنادی فیما أنشده أبو زید من قوله :

فخیر نحن عند الناس منکم

إذا الداعی المثوّب قال یالا (3)

أراد : یا لبنی فلان ، ونحو ذلک.

فإن قلت : فکیف جاز تعلیق حرف الجر؟ قیل : لمّا خلط ب «یا» صار کالجزء منها. ولذلک شبّه أبو علی ألفه التی قبل اللام بألف باب ودار ، فحکم علیها حینئذ بالانقلاب. وقد ذکرنا ذلک. وحسّن الحال أیضا شیء آخر ، وهو تشبّث اللام الجارّه بألف الإطلاق ، فصارت کأنها معاقبه للمجرور. ألا تری أنک لو أظهرت ذلک المضاف إلیه ، فقلت : یا لبنی فلان لم یجز إلحاق الألف هنا (وجرت

ص: 153

ألف الإطلاق) فی منابها هنا عمّا کان ینبغی أن یکون بمکانها ، مجری ألف الإطلاق فی منابها عن تاء التأنیث فی نحو قوله :

ولاعب بالعشیّ بنی بنیه

کفعل الهرّ یحترش العظایا (1)

فأبعده الإله ولا یؤبی

ولا یعطّی من المرض الشفایا (2)

وکذلک نابت أیضا واو الإطلاق فی قوله :

*وما کلّ من وافی منّی أنا عارف*

- فیمن رفع کلا - عن الضمیر الذی یزاد فی (عارفه) ؛ وکما ناب التنوین فی نحو حینئذ ، ویومئذ عن المضاف إلیه إذ. وعلیه قوله :

نهیتک عن طلابک أمّ عمرو

بعاقبه وأنت إذ صحیح (3)

فأما قوله تعالی : «ألا یا اسجدوا» [النمل : 26] فقد تقدّم القول علیه : أنه لیس المنادی هنا محذوفا ، ولا مرادا کما ذهب إلیه محمد بن یزید ، وأنّ (یا) هنا أخلصت للتنبیه مجردا من النداء ؛ کما أن (ها) من قول الله تعالی : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ) [النساء : 109] للتنبیه من غیر أن تکون للنداء. وتأوّل أبو العبّاس قول الشاعر :

طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أن لیس حین بقاء

(أی إبقاء) علی أنه حذف المضاف إلیه أوان ، فعوّض التنوین منه ، علی حدّ

ص: 154

قول الجماعه فی تنوین إذ. وهذا لیس بالسهل. وذلک أن التنوین فی نحو هذا إنما دخل فیما لا یضاف إلی الواحد وهو إذ. فأمّا (أوان) فمعرب ویضاف إلی الواحد ؛ کقوله :

فهذا أوان العرض حیّ ذبابه

زنابیره والأزرق المتلمّس (1)

وقد کسّروه علی آونه ، وتکسیرهم إیّاه یبعده عن البناء ؛ لأنه أخذ به فی شقّ التصریف والتصرّف.

قال :

أبو حنش یؤرّقنا وطلق

وعبّاد وآونه أثالا (2)]

وقد حذف الممیّز. وذلک إذا علم من الحال (حکم ما) کان یعلم منها به.

وذلک قولک : عندی عشرون ، واشتریت ثلاثین ، وملکت خمسه وأربعین. فإن لم یعلم المراد لزم التمییز إذا قصد المتکلم الإبانه. فإن لم یرد ذلک وأراد الإلغاز وحذف جانب البیان لم یوجب علی نفسه ذکر التمییز. وهذا إنما یصلحه ویفسده غرض المتکلم ، وعلیه مدار الکلام. فاعرفه.

وحذف الحال لا یحسن. وذلک أن الغرض فیها إنما هو توکید الخبر بها ، وما طریقه طریق التوکید غیر لائق به الحذف ؛ لأنه ضدّ الغرض ونقیضه و (لأجل ذلک) لم یجز أبو الحسن توکید الهاء المحذوفه من الصله ؛ نحو الذی ضربت نفسه

ص: 155

زید ، علی أن یکون (نفسه) توکیدا للهاء المحذوفه من (ضربت) وهذا ممّا یترک مثله ؛ کما یترک ادّغام الملحق إشفاقا من انتقاض الغرض بادغامه.

فأما ما أجزناه من حذف الحال فی قول الله تعالی : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ) [البقره : 185] أی فمن شهده صحیحا بالغا ؛ فطریقه أنه لمّا دلت الدلاله علیه من الإجماع والسنّه جاز حذفه تخفیفا. (وأما) لو عریت الحال من هذه القرینه وتجرّد الأمر دونها لما جاز حذف الحال علی وجه.

ولم أعلم المصدر حذف فی موضع. وذلک أن الغرض فیه إذا تجرّد من الصفه أو التعریف أو عدد المرّات فإنما هو لتوکید الفعل ، وحذف المؤکّد لا یجوز.

وإنما کلامنا علی حذف ما یحذف وهو مراد. فأمّا حذفه إذا لم یرد فسائغ لا سؤال فیه. وذلک کقولنا : انطلق زید ؛ ألا تری هذا کلاما تامّا وإن لم تذکر معه شیئا من الفضلات ، مصدرا ولا ظرفا ولا حالا ولا مفعولا له ولا مفعولا معه ولا غیره. وذلک أنک لم ترد الزیاده فی الفائده بأکثر من الإخبار عنه بانطلاقه دون غیره.

خَزائِنَ رَحْمَهِ رَبِّی) [الإسراء : 100] ونحوه ؛ الفعل فیه مضمر وحده ، أی إذا انشقّت السماء ، وإذا کوّرت الشمس ، وإن هلک امرؤ ، ولو تملکون. وعلیه قوله :

إذا ابن أبی موسی بلال بلغته

فقام بفأس بین وصلیک جازر (1)

أی إذا بلغ ابن أبی موسی. وعبره هذا أن الفعل المضمر إذا کان بعده اسم منصوب به ففیه فاعله مضمرا. وإن کان بعده المرفوع به فهو مضمر مجرّدا من الفاعل ؛ ألا تری أنه لا یرتفع فاعلان به. وربما جاء بعده المرفوع والمنصوب جمیعا ؛ نحو قولهم : أمّا أنت منطلقا انطلقت معک (تقدیره : لأن کنت منطلقا انطلقت معک) فحذف الفعل فصار تقدیره : لأنّ أنت منطلقا (وکرهت) مباشره (أن) الاسم فزیدت (ما) فصارت عوضا من الفعل ومصلحه للّفظ لتزول مباشره (أن) الاسم. وعلیه بیت الکتاب :

أبا خراشه أمّا أنت ذا نفر

فإنّ قومی لم تأکلهم الضبع (2)

أی لأن کنت ذا نفر قویت وشدّدت ، والضبع هنا السنه الشدیده.

فإن قلت : بم ارتفع وانتصب (أنت منطلقا)؟.

ص: 157

قیل : ب (ما) ؛ لأنها عاقبت الفعل الرافع الناصب ؛ فعملت عمله من الرفع والنصب. وهذه طریقه أبی علیّ وجلّه أصحابنا من قبله فی أنّ الشیء إذا عاقب الشیء ولی من الأمر ما کان المحذوف یلیه. من ذلک الظرف إذا تعلق (بالمحذوف) فإنه یتضمّن الضمیر الذی کان فیه ، ویعمل ما کان یعمله : من نصبه الحال والظرف. وعلی ذلک صار قوله : (فاه إلی فیّ) من قوله : (کلّمته فاه إلی فیّ) ضامنا للضمیر الذی کان فی (جاعلا) لمّا عاقبه. والطریق واضحه فیه متلئبّه.

وممّا یصحّ ویجوز تقدیمه خبر المبتدأ علی المبتدأ ؛ نحو قائم أخوک ، وفی الدار صاحبک. وکذلک خبر کان وأخواتها علی أسمائها ، وعلیها أنفسها. وکذلک خبر لیس ؛ نحو زیدا لیس أخوک ، ومنطلقین لیس أخواک. وامتناع أبی العباس من ذلک خلاف للفریقین : (البصریین والکوفیّین) ، وترک لموجب القیاس عند النظّار والمتکلّمین ؛ وقد ذکرنا ذلک فی غیر مکان.

ویجوز تقدیم المفعول له علی الفعل الناصبه ؛ نحو قولک : طمعا فی برّک زرتک ، ورغبه فی صلتک قصدتک.

ولا یجوز تقدیم المفعول معه علی الفعل ؛ نحو قولک : والطیالسه جاء البرد ؛ من حیث کانت صوره هذه الواو صوره العاطفه ؛ ألا تراک لا تستعملها إلا فی الموضع الذی لو شئت لاستعملت العاطفه فیه ؛ نحو جاء البرد والطیالسه. ولو شئت لرفعت الطیالسه عطفا علی البرد. وکذلک لو ترکت والأسد لأکلک ، یجوز أن ترفع الأسد عطفا علی التاء. ولهذا لم یجز أبو الحسن جئتک وطلوع الشمس أی مع طلوع الشمس ؛ لأنک لو أردت أن تعطف بها هنا فتقول : أتیتک وطلوع الشمس لم یجز ؛ لأن طلوع الشمس لا یصح إتیانه لک. فلمّا ساوقت حرف العطف قبح والطیالسه جاء البرد ؛ کما قبح وزید قام عمرو ؛ لکنه یجوز (1) جاء والطیالسه البرد ؛ کما تقول : ضربت وزیدا عمرا ؛ قال :

جمعت وفحشا غیبه ونمیمه

ثلاث خصال لست عنها بمرعو (2)

ومما یقبح تقدیمه الاسم الممیز ، وإن کان الناصبه فعلا متصرّفا. فلا نجیز شحما تفقّأت ، ولا عرقا تصبّبت. فأمّا ما أنشده أبو عثمان وتلاه فیه أبو العباس من قول المخبّل :

ص: 159

أتهجر لیلی للفراق حبیبها

وما کان نفسا بالفراق یطیب (1)

فتقابله بروایه الزّجاجیّ وإسماعیل بن نصر وأبی إسحاق أیضا :

*وما کان نفسی بالفراق تطیب*

فروایه بروایه ، والقیاس من بعد حاکم. وذلک أن هذا الممیز هو الفاعل فی المعنی ؛ ألا تری أن أصل الکلام تصبّب عرقی ، وتفقّأ شحمی ، ثم نقل الفعل ، فصار فی اللفظ لی ، فخرج الفاعل فی الأصل ممیّزا ، فکما لا یجوز تقدیم الفاعل علی الفعل ، فکذلک لا یجوز تقدیم الممیز ؛ إذ کان هو الفاعل فی المعنی علی الفعل.

فإن قلت : فقد تقدّم الحال علی العامل فیها ، وإن کانت الحال هی صاحبه الحال فی المعنی ؛ نحو قولک : راکبا جئت ، و (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ یَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) [القمر : 7].

قیل : الفرق أن الحال (لم تکن) فی الأصل هی الفاعله ؛ کما کان الممیز کذلک ؛ ألا تری أنه لیس التقدیر والأصل : جاء راکبی ؛ کما أن أصل طبت به نفسا طابت به نفسی ، وإنما الحال مفعول فیها ، کالظرف ، ولم تکن قطّ فاعله فنقل الفعل عنها. فأمّا کونها هی الفاعل فی المعنی فککون خبر کان هو اسمها الجاری مجری الفاعل فی المعنی (وأنت) تقدّمه علی (کان) فتقول : قائما کان زید ، ولا تجیز تقدیم اسمها علیها. فهذا فرق.

وکما لا یجوز تقدیم الفاعل علی الفعل فکذلک لا یجوز تقدیم ما أقیم مقام الفاعل ؛ کضرب زید.

وبعد فلیس فی الدنیا مرفوع یجوز تقدیمه علی رافعه. فأمّا خبر المبتدأ فلم

ص: 160

یتقدّم عندنا علی رافعه ؛ لأن رافعه لیس المبتدأ وحده ، إنما الرافع له (المبتدأ والابتداء) جمیعا ، فلم یتقدّم الخبر علیهما معا ، وإنما تقدّم علی أحدهما وهو المبتدأ. فهذا (لا ینتقض). لکنه علی قول أبی الحسن مرفوع بالمتبدإ وحده ، ولو کان کذلک لم یجز تقدیمه علی المبتدأ.

ولا یجوز تقدیم الصله ولا شیء منها علی الموصول ، ولا الصفه علی الموصوف ، ولا المبدل علی المبدل منه ، ولا عطف البیان علی المعطوف علیه ، ولا العطف الذی هو نسق علی المعطوف علیه ، إلا فی الواو وحدها ، وعلی قلّته أیضا ؛ نحو قام وعمرو زید. وأسهل منه ضربت وعمرا زیدا ؛ لأن الفعل فی هذا قد استقلّ بفاعله ، وفی قولک : قام وعمرو زید ؛ اتسعت فی الکلام قبل الاستقلال والتمام. فأما قوله :

ألا یا نخله من ذات عرق

علیک ورحمه الله السلام (1)

فحملته الجماعه علی هذا ، حتی کأنه عندها : علیک السلام ورحمه الله. وهذا وجه ؛ إلا أن عندی فیه وجها لا تقدیم فیه ولا تأخیر من قبل العطف. وهو أن یکون (رحمه الله) معطوفا علی الضمیر فی (علیک). وذلک أن (السلام) مرفوع بالابتداء ، وخبره مقدّم علیه ، وهو (علیک) ففیه إذا ضمیر منه مرفوع بالظرف ، فإذا عطفت (رحمه الله) علیه ذهب عنک مکروه التقدیم. لکن فیه العطف علی المضمر المرفوع المتّصل من غیر توکید له ، وهذا أسهل عندی من تقدیم المعطوف علی المعطوف علیه. وقد جاء فی الشعر قوله :

قلت إذ أقبلت وزهر تهادی

کنعاج الملا تعسّفن رملا (2)

ص: 161

وذهب بعضهم فی قول الله تعالی : (فَاسْتَوی * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلی) [النجم : 6 ، 7] إلی أنّ (هو) معطوف علی الضمیر فی (استوی).

ومما یضعف تقدیم المعطوف علی المعطوف علیه من جهه القیاس أنک إذا قلت : قام وزید عمرو فقد جمعت أمام زید بین عاملین : أحدهما (قام) ، والآخر الواو ؛ ألا تراها قائمه مقام العامل قبلها ، وإذا صرت إلی ذلک صرت کأنک قد أعملت فیه عاملین ، ولیس هذا (کإعمال) الأول أو الثانی فی نحو قام وقعد زید ؛ لأنک فی هذا مخیّر : إن شئت أعملت الأوّل ، وإن شئت أعملت الآخر. ولیس ذلک فی نحو قام زید وعمرو ؛ لأنک لا ترفع عمرا فی هذا إلا بالأوّل.

فإن قلت : فقد تقول فی الفعلین جمیعا بإعمال أحدهما ألبتّه ؛ کقوله :

*کفانی ولم أطلب قلیل من المال (1) *

قیل : لم یجب هذا فی هذا البیت لشیء یرجع إلی العمل اللفظیّ ، وإنما هو شیء راجع إلی المعنی ، ولیس کذلک قام وزید عمرو ؛ لأن هذا کذا حاله ومعناه واحد ، تقدّم أو تأخّر. فقد عرفت ما فی هذا الحدیث.

ولا یجوز تقدیم المضاف إلیه علی المضاف ، ولا شیء مما اتصل به.

ولا یجوز تقدیم الجواب علی المجاب ، شرطا کان أو قسما أو غیرهما ؛ ألا تراک لا تقول : أقم إن تقم. فأمّا قولک أقوم إن قمت فإن قولک : أقوم لیس جوابا للشرط ، ولکنه دالّ علی الجواب ، أی إن قمت قمت ، ودلّت أقوم علی قمت.

ومثله أنت ظالم إن فعلت ؛ أی إن فعلت ظلمت ، فحذفت (ظلمت) ودلّ قولک:

(أنت ظالم) علیه.

ص: 162

فأمّا قوله :

فلم أرقه إن ینج منها وإن یمت

فطعنه لا غسّ ولا بمغمّر (1)

فذهب أبو زید إلی أنه أراد : إن ینج منها فلم أرقه ، وقدّم الجواب. وهذا عند کافّه أصحابنا غیر جائز ، والقیاس له دافع ، وعنه حاجز. وذلک أن جواب الشرط مجزوم بنفس الشرط ، ومحال تقدّم المجزوم علی جازمه ؛ بل إذا کان الجارّ - وهو أقوی من الجازم ؛ لأن عوامل الأسماء أقوی من عوامل الأفعال - لا یجوز تقدیم ما انجرّ به علیه کان ألا یجوز تقدیم المجزوم علی جازمه أحری وأجدر. وإذا کان کذلک فقد وجب النظر فی البیت. ووجه القول علیه أن الفاء فی قوله : (فلم أرقه) لا یخلو أن تکون معلّقه بما قبلها ، أو زائده ، وأیّهما کان فکأنه قال : لم أرقه إن ینج منها ؛ وقد علم أنّ لم أفعل (نفی فعلت) ، وقد أنابوا فعلت عن جواب الشرط ، وجعلوه دلیلا علیه فی قوله :

یا حکم الوارث عن عبد الملک

أودیت ان لم تحب حبو المعتنک (2)

أی إن لم تحب أودیت. فجعل (أودیت) المقدّمه دلیلا علی (أودیت هذه المؤخّره. فکما جاز أن تجعل فعلت دلیلا علی) جواب الشرط المحذوف ، کذلک جعل نفیها الذی هو لم أفعل دلیلا علی جوابه. والعرب قد تجری الشیء مجری نقیضه ؛ کما تجریه مجری نظیره ؛ ألا تراهم قالوا : جوعان (3) ؛ کما قالوا : شبعان ،

ص: 163

وقالوا : علم (1) ؛ کما قالوا : جهل ، وقالوا : کثر ما تقومنّ ؛ کما قالوا : قلّما تقومنّ. وذهب الکسائیّ فی قوله :

إذا رضیت علیّ بنو قشیر

لعمر الله أعجبنی رضاها (2)

إلی أنه عدّی (رضیت) بعلی لمّا کان ضدّ سخطت ، وسخطت ممّا یعدّی بعلی ، وهذا واضح. وکان أبو علیّ یستحسنه من الکسائیّ. فکأنه قال : إن ینج منها ینج غیر مرقی منها ، وصار قوله : لم (أرقه) بدلا من الجواب ودلیلا علیه.

فهذه وجوه التقدیم والتأخیر فی کلام العرب. وإن کنا ترکنا منها شیئا فإنه معلوم الحال ، ولا حق بما قدّمناه.

وأما الفروق والفصول فمعلومه المواقع أیضا :

فمن قبیحها الفرق بین المضاف والمضاف إلیه ، والفصل بین الفعل والفاعل بالأجنبیّ ، وهو دون الأوّل ؛ ألا تری إلی جواز الفصل بینهما بالظرف ؛ نحو قولک : کان فیک زید راغبا ، وقبح الفصل بین المضاف والمضاف إلیه بالظرف ؛ نحو قول الفرزدق :

فلمّا للصلاه دعا المنادی

نهضت وکنت منها فی غرور (3)

وستری ذلک.

ویلحق بالفعل والفاعل فی ذلک المبتدأ والخبر فی قبح الفصل بینهما.

(وعلی الجمله فکلّما ازداد الجزءان اتصالا قوی قبح الفصل بینهما).

فمن الفصول والتقدیم والتأخیر قوله :

فقد والشکّ بیّن لی عناء

بوشک فراقهم صرد یصیح (4)

ص: 164

أراد : فقد بیّن لی صرد یصیح بوشک فراقهم ، والشکّ عناء. ففیه من الفصول ما أذکره. وهو الفصل بین (قد) والفعل الذی هو بیّن. (وهذا) قبیح لقوّه اتصال (قد) بما تدخل علیه من الأفعال ؛ ألا تراها تعتدّ مع الفعل کالجزء منه. ولذلک دخلت اللام المراد بها توکید الفعل علی (قد) فی نحو قول الله تعالی : (وَلَقَدْ أُوحِیَ إِلَیْکَ وَإِلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکَ) [الزمر : 65] ، وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) [البقره : 102] وقوله :

ولقد أجمع رجلیّ بها

حذر الموت وإنی لفرور

وفصل بین المبتدأ الذی هو الشکّ وبین الخبر الذی هو عناء بقوله : (بیّن لی) ، وفصل بین الفعل الذی هو (بیّن) وبین فاعله الذی هو (صرد) بخبر المبتدأ الذی هو (عناء) ، وقدّم قوله : (بوشک فراقهم) وهو معمول (یصیح) ویصیح صفه لصرد علی صرد ، وتقدیم الصفه أو ما یتعلّق بها علی موصوفها قبیح ؛ ألا تری أنک لا تجیز هذا الیوم رجل ورد من موضع کذا ؛ لأنک ترید : هذا رجل ورد الیوم من موضع کذا. وإنما یجوز وقوع المعمول فیه بحیث یجوز وقوع العامل ، فکما لا یجوز تقدیم الصفه علی موصوفها ، کذلک لا یجوز تقدیم ما اتّصل بها علی موصوفها ، کما لا یجوز تقدیم معمول المضاف إلیه علی نفس المضاف ، لمّا لم یجز تقدیم المضاف إلیه علیه. ولذلک لم یجز قولک : القتال زیدا حین تأتی ، وأنت ترید : القتال حین تأتی زیدا.

فمتی رأیت الشاعر قد ارتکب مثل هذه الضرورات علی قبحها ، وانخراق الأصول بها ، فاعلم أن ذلک علی ما جشمه منه وإن دلّ من وجه علی جوره وتعسّفه ، فإنه من وجه آخر مؤذن بصیاله وتخمطه (1) ، ولیس بقاطع دلیل علی ضعف لغته ، ولا قصوره عن اختیاره الوجه الناطق بفصاحته. بل مثله فی ذلک عندی مثل مجری الجموح بلا لجام ، ووارد الحرب الضروس حاسرا من غیر احتشام ، فهو وإن کان ملوما فی عنفه وتهالکه ، فإنه مشهود له بشجاعته وفیض منته ؛ ألا تراه لا یجهل أن لو تکفر فی سلاحه ، أو أعصم بلجام جواده ، لکان

ص: 165

أقرب إلی النجاه ، وأبعد عن الملحاه (1) ؛ لکنه جشم ما جشمه علی علمه بما یعقب اقتحام مثله ، إدلالا بقوّه طبعه ، ودلاله علی شهامه نفسه. ومثله سواء ما یحکی عن بعض الأجواد أنه قال : أیری البخلاء أننا لا نجد بأموالنا ما یجدون بأموالهم ، لکنا نری أن فی الثناء بإنفاقها عوضا من حفظها (بإمساکها). ونحو منه قولهم : تجوع الحرّه ولا تأکل بثدییها ، وقول الآخر :

لا خیر فی طمع یدنی إلی طبع

وغفّه من قوام العیش تکفینی (2)

فاعرف بما ذکرناه حال ما یرد فی معناه ، وأن الشاعر إذا أورد منه شیئا فکأنه لأنسه بعلم غرضه وسفور مراده لم یرتکب صعبا ، ولا جشم إلا أمما (3) ، وافق بذلک قابلا له ، أو صادف غیر آنس به ، إلا أنه هو قد استرسل واثقا ، وبنی الأمر علی أن لیس ملتبسا.

ومن ذلک قوله :

فأصبحت بعد خطّ بهجتها

کأنّ قفرا رسومها قلما (4)

أراد : فأصبحت بعد بهجتها قفرا کأنّ قلما خطّ رسومها. ففصل بین المضاف الذی هو (بعد) ، والمضاف إلیه الذی هو (بهجتها) بالفعل الذی هو (خطّ) وفصل أیضا بخطّ بین (أصبحت) وخبرها الذی هو (قفرا) ، وفصل بین کأنّ واسمها الذی هو (قلما) بأجنبیّین : أحدهما قفرا ، والآخر : رسومها ؛ ألا تری أن رسومها مفعول خطّ الذی هو خبر کأنّ ، وأنت لا تجیز کأنّ خبزا زیدا آکل. بل إذا لم تجز الفصل بین الفعل والفاعل علی قوّه الفعل فی نحو کانت زیدا الحمّی تأخذ کان ألا

ص: 166

تجیز الفصل بین کأنّ واسمها بمفعول فاعلها أجدر.

نعم ، وأغلظ من ذا أنه قدّم خبر کأنّ علیها وهو قوله : خطّ. فهذا ونحوه ممّا لا یجوز لأحد قیاس علیه. غیر أن فیه ما قدّمنا ذکره من سموّ الشاعر وتغطرفه ، وبأوه ، وتعجرفه (1). فاعرفه واجتنبه.

ومن ذلک بیت الکتاب :

وما مثله فی الناس إلا مملّکا

أبو أمّه حیّ أبوه یقاربه

وحدیث ما فیه معروف ، فلندعه ولنعدّ عنه.

وأما قول الفرزدق :

إلی ملک ما أمّه من محارب

أبوه ولا کانت کلیب تصاهره (2)

فإنه مستقیم ولا خبط فیه. وذلک أنه أراد : إلی ملک أبوه ما أمّه من محارب ، أی ما أم أبیه من محارب ، فقدّم خبر الأب علیه ، وهو جمله ؛ کقولک : قام أخوها هند ، ومررت بغلامهما أخواک.

وتقول علی هذا : فضّته محرقه سرجها فرسک ؛ ترید : فرسک سرجها فضّته محرقه ، ثم تقدّم الخبر علی صورته ، فیصیر تقدیره : سرجها فضّته محرقه فرسک ، ثم تقدّم خبر السرج أیضا علیه فتقول : فضّته محرقه سرجها فرسک. فإن زدت علی هذا شیئا قلت : أکثرها محرق فضّته سرجها فرسک ، أردت : فرسک سرجها فضّته أکثرها محرق ، فقدّمت الجمله التی هی خبر عن الفضّه علیها ، ونقلت الجمل عن مواضعها شیئا فشیئا. وطریق تجاوز هذا والزیاده فی الأسماء والعوائد واضحه. وفی الذی مضی منه کاف بإذن الله.

فأما قوله :

ص: 167

معاوی لم ترع الأمانه فارعها

وکن حافظا لله والدین شاکر (1)

فإن (شاکر) هذه قبیله. أراد : لم ترع الأمانه شاکر فارعها ، وکن حافظا لله والدین. فهذا شیء من الاعتراض. وقد قدّمنا ذکره ، وعلّه حسنه ، ووجه جوازه.

وأما قوله :

یوما تراها کمثل أردیه العص

ب ویوما أدیمها نغلا (2)

فإنه أراد : تراها یوما کمثل أردیه العصب ، وأدیمها یوما آخر نغلا. ففصل بالظرف بین حرف العطف والمعطوف به علی المنصوب من قبله ، وهو (ها) من تراها. وهذا أسهل من قراءه من قرأ : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ یَعْقُوبَ)(3) [هود : 71] إذا جعلت (یعقوب) فی موضع جرّ ، وعلیه تلقّاه القوم من أنه مجرور الموضع. وإنما کانت الآیه أصعب مأخذا من قبل أن حرف العطف منها الذی هو الواو ناب عن الجارّ الذی هو الباء فی قوله (بإسحاق) ، وأقوی أحوال حرف العطف أن یکون فی قوّه العامل قبله ، وأن یلی من العمل ما کان الأوّل یلیه ، والجارّ لا یجوز فصله من مجروره ، وهو فی الآیه قد فصل بین الواو ویعقوب بقوله (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ). والفصل بین الجارّ ومجروره لا یجوز ، وهو أقبح منه بین المضاف والمضاف إلیه. وربما فرد الحرف منه فجاء منفورا عنه ؛ قال :

لو کنت فی خلقاء أو رأس شاهق

ولیس إلی منها النزول سبیل (4)

ص: 168

ففصل بین حرف الجرّ ومجروره بالظرف الذی هو (منها) ولیس کذلک حرف العطف فی قوله :

*... ویوما أدیمها نغلا*

لأنه عطف علی الناصب الذی هو (تری) فکأنّ الواو أیضا ناصبه ، والفصل بین الناصب ومنصوبه لیس کالفصل بین الجارّ ومجروره.

ولیس کذلک قوله :

فصلقنا فی مراد صلقه

وصداء ألحقتهم بالثلل (1)

(فلیس منه) لأنه لم یفصل بین حرف العطف وما عطفه ، وإنما فیه الفصل بین المعطوف والمعطوف علیه بالمصدر الذی هو (صلقه) وفیه أیضا الفصل بین الموصوف الذی هو (صلقه) وصفته التی هی قوله (ألحقتهم بالثلل) بالمعطوف والحرف العاطفه أعنی قوله : وصداء ، وقد جاء مثله ؛ أنشدنا :

أمرّت من الکتّان خیطا وأرسلت

رسولا إلی أخری جریا یعینها (2)

أراد : وأرسلت إلی أخری رسولا جریّا.

والأحسن عندی فی یعقوب من قوله - عزّ اسمه - : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ یَعْقُوبَ) [هود : 71] فیمن فتح أن یکون فی موضع نصب بفعل مضمر دلّ علیه قوله (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) [هود : 71] أی وآتیناها یعقوب. فإذا فعلت ذلک لم یکن فیه فصل بین الجارّ والمجرور. فاعرفه.

فأمّا قوله :

ص: 169

فلیست خراسان التی کان خالد

بها أسد إذ کان سیفا أمیرها

فحدیثه طریف. وذلک أنه - فیما ذکر - یمدح خالد بن الولید ویهجو أسدا ، وکان أسد ولیها بعد خالد (قالوا فکأنه) قال : ولیست خراسان بالبلده التی کانت خالد بها سیفا إذ کان أسد أمیرها (ففی) کان علی هذا ضمیر الشأن والحدیث ، والجمله بعدها التی هی (أسد أمیرها) خبر عنها. ففی هذا التنزیل أشیاء : منها الفصل بین اسم کان الأولی وهو خالد ، وبین خبرها الذی هو (سیفا) بقوله (بها أسد إذ کان) فهذا واحد.

وثان : أنه قدّم بعض ما (إذ) مضافه إلیه وهو أسد علیها. وفی تقدیم المضاف إلیه أو شیء منه علی المضاف من القبح والفساد ما لا خفاء به ولا ارتیاب. وفیه أیضا أن (أسد) أحد جزأی الجمله المفسّره للضمیر علی شریطه التفسیر أعنی ما فی کان منه. وهذا الضمیر لا یکون تفسیره إلا من بعده. ولو تقدّم تفسیره قبله لما احتاج إلی تفسیر ، ولما سمّاه الکوفیون الضمیر المجهول.

فإن قلت : فقد قال الله تعالی : (فَإِذا هِیَ شاخِصَهٌ أَبْصارُ الَّذِینَ کَفَرُوا) [الأنبیاء : 97] فقدّم (إذا) وهی منصوبه ب «شاخصه» ، وإنما یجوز وقوع المعمول بحیث یجوز وقوع العامل ، فکأنه علی هذا قال : فإذا هی شاخصه هی أبصار الذین کفروا و (هی ضمیر القصّه ، وقد تری کیف قدّرت تقدیم أحد الجزأین اللذین یفسّرانها علیها ، فکما جاز هذا (فکذلک یجوز) أیضا أن یقدّم (أسد) علی الضمیر فی (کان) وإن کان أسد أحد جزأی تفسیر هذا الضمیر.

قیل : الفرق أنّ الآیه إنما تقدیم فیها الظرف المتعلّق عندک بأحد جزأی تفسیر الضمیر وهو شاخصه ، والظرف مما یتّسع الأمر فیه ولا تضیق مساحه التعذر له بأن تعلّقه بمحذوف یدلّ علیه شاخصه أو شاخصه أبصار الذین کفروا ؛ کما تقول فی أشیاء کثیره ؛ نحو قوله تعالی : (فَإِذا نُفِخَ فِی الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَیْنَهُمْ)(1) [المؤمنون : 101] ، وقوله : (هَلْ نَدُلُّکُمْ عَلی رَجُلٍ یُنَبِّئُکُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ کُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّکُمْ لَفِی

ص: 170

خَلْقٍ جَدِیدٍ)(1) [سبأ : 7]. وقول الشاعر :

وکنت أری زیدا کما قیل سیّدا

إذا إنه عبد الفقا واللهازم (2)

فیمن کسر إنّ.

وأما البیت فإنه قدّم فیه أحد الجزأین ألبتّه ، وهو أسد. وهذا ما لا یسمح به ، (ولا یطوی کشح) علیه. وعلی أنه أیضا قد یمکن أن تکون (کان) زائده فیصیر تقدیره : إذ أسد أمیرها. فلیس فی هذا أکثر من شیء واحد ، وهو ما قدّمنا ذکره من تقدیم ما بعد (إذ) علیها وهی مضافه إلیه. وهذا أشبه من الأوّل ؛ ألا تری أنه إنما نعی علی خراسان إذ أسد أمیرها ؛ لأنه إنما فضّل أیام خالد المنقضیه بها علی أیام أسد المشاهده فیها. فلا حاجه به إذا إلی (کان) ؛ لأنه أمر حاضر مشاهد. فأمّا (إذ) هذه فمتعلّقه بأحد شیئین : إمّا بلیس وحدها ، وإمّا بما دلّت علیه من غیرها ، حتی کأنه قال : خالفت خرسان إذ أسد أمیرها حالتها التی کانت علیه لها أیام ولایه خالد لها ؛ علی حدّ ما تقول فیما یضمّ للظروف (لتتناولها ، وتصل) إلیها.

فإن قلت : فکیف یجوز للیس أن تعمل فی الظرف ولیس فیها تقدیر حدث؟.

قیل : جاز ذلک فیها ، من حیث جاز أن ترفع وتنصب ، وکانت علی مثال الفعل ، فکما عملت الرفع والنصب وإن عریت من معنی الحدث ، کذلک أیضا تنصب الظرف لفظا (کما عملت الرفع والنصب لفظا) ، ولأنها علی وزن الفعل.

وعلی ذلک وجّه أبو علیّ قول الله سبحانه : (أَلا یَوْمَ یَأْتِیهِمْ لَیْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : 8] لأنه أجاز فی نصب (یوم) ثلاثه أوجه : أحدها أن یکون متعلّقا بنفس

ص: 171

(لیس) من حیث ذکرنا من الشبه اللفظیّ. وقال لی أبو علیّ رحمه الله یوما : الظرف یتعلق بالوهم مثلا.

فأمّا قول الآخر :

نظرت وشخصی مطلع الشمس ظلّه

إلی الغرب حتّی ظلّه الشمس قد عقل

فقیل فیه : أراد نظرت مطلع الشمس وشخصی ظلّه إلی الغرب ، حتی عقل الشمس ظلّه أی حاذاها ؛ فعلی هذا التفسیر قد فصل بمطلع الشمس بین المبتدأ وخبره ، وقد یجوز ألا یکون فصل ، لکن علی أن یتعلّق مطلع الشمس بقوله : إلی الغرب ، حتی کأنه قال : شخصی ظلّه إلی الغرب وقت طلوع الشمس ، فیعلّق الظرف بحرف الجرّ الجاری خبرا عن الظلّ ؛ کقولک : زید من الکرام یوم الجمعه ، فیعلّق الظرف بحرف الجرّ ، ثم قدّم الظرف لجواز تقدیم ما تعلّق به إلی موضعه ؛ ألا تراک تجیز أن تقول : شخصی إلی الغرب ظله ، وأنت ترید : شخصی ظلّه إلی الغرب. فعلی هذا تقول : زید یوم الجمعه أخوه من الکرام ، ثم تقدّم فتقول : زید من الکرام یوم الجمعه أخوه. فاعرفه.

وقال الآخر :

أیا بن أناس هل یمینک مطلق

نداها إذا عدّ الفعال شمالها

أراد : هل یمینک شمالها مطلق نداها. ف (ها) من (نداها) عائد إلی الشمال لا الیمین ، والجمله خبر عن یمینها.

وقال الفرزدق :

ملوک یبتنون توارثوها

سرادقها المقاول والقبابا (1)

أراد : ملوک یبتنون المقاول والقباب ، توارثوها سرادقها. فقوله : «یبتنون المقاول

ص: 172

والقباب» صفه لملوک. وقوله : «توارثوها سرادقها» صفه ثانیه لملوک ، وموضعها التأخیر ، فقدّمها وهو یرید بها موضعها ؛ کقولک : مررت برجل مکلّمها مارّ بهند ، أی مارّ بهند مکلّمها ؛ فقدّم الصفه الثانیه وهو معتقد تأخیرها. «ومعنی یبتنون المقاول» أی أنهم یصطنعون المقاول ویبتنونهم ؛ کقول المولّد :

یبنی الرجال وغیره یبنی القری

شتّان بین قری وبین رجال (1)

وقوله : «توارثوها» أی توارثوا الرجال والقباب. ویجوز أن تکون الهاء ضمیر المصدر ؛ أی توارثوا هذه الفعلات.

فأمّا ما أنشده أبو الحسن من قوله :

لسنا کمن حلّت إیاد دارها

تکریت ترقب حبّها أن یحصدا (2)

فمعناه : لسنا کمن حلّت دارها ، ثم أبدل (إیاد) من (من حلت دارها) فإن حملته علی هذا کان لحنا ؛ لفصلک بالبدل بین بعض الصله وبعض ، فجری ذلک فی فساده مجری قولک : مررت بالضارب زید جعفرا. وذلک أن البدل إذا جری علی المبدل منه آذن بتمامه وانقضاء أجزاءه ، فکیف یسوغ لک أن تبدل منه وقد بقیت منه بقیّه! هذا خطأ فی الصناعه. وإذا کان کذلک والمعنی علیه أضمرت ما یدلّ علیه (حلّت) فنصبت به الدار ، فصار تقدیره : لسنا کمن حلّت إیاد ، أی کإیاد التی حلّت ، ثم قلت من بعده : حلّت دارها. فدلّ (حلّت) فی الصله علی (حلّت) هذه التی نصبت (دارها).

ومثله قول الله سبحانه : (إِنَّهُ عَلی رَجْعِهِ لَقادِرٌ * یَوْمَ تُبْلَی السَّرائِرُ) [الطارق : 8 ، 9] (أی یرجعه یوم تبلی السرائر) فدل «رجعه» علی یرجعه. ولا یجوز أن تعلّق

ص: 173

«یوم» بقوله «لقادر» لئلّا یصغر المعنی ؛ لأنّ الله تعالی قادر یوم تبلی السرائر وغیره فی کل وقت وعلی کل حال علی رجع البشر وغیرهم. وکذلک قول الآخر.

ولا تحسبنّ القتل محضا شربته

نزارا ولا أنّ النفوس استقرّت (1)

ومعناه : لا تحسبنّ قتلک نزارا محضا شربته ؛ إلا أنه وإن کان هذا معناه فإن إعرابه علی غیره وسواه ؛ ألا تری أنک إن حملته علی هذا جعلت (نزارا) فی صله المصدر الذی هو (القتل) وقد فصلت بینهما بالمفعول الثانی الذی هو (محضا) ، وأنت لا تقول : حسبت ضربک جمیلا زیدا وأنت تقدّره علی : حسبت ضربک زیدا جمیلا ؛ لما فیه من الفصل بین الصله والموصول بالأجنبیّ. فلا بدّ إذا من أن تضمر لنزار ناصبا یتناوله ، یدلّ علیه قول : (القتل) أی قتلت نزارا. وإذا جاز أن یقوم الحال مقام اللفظ بالفعل کان اللفظ بأن یقوم مقام اللفظ أولی وأجدر.

وذاکرت المتنبئ شاعرنا نحوا من هذا ، وطالبته به فی شیء من شعره ، فقال : لا أدری ما هو ، إلا أنّ الشاعر قد قال :

*لسنا کمن حلّت إیاد دارها*

البیت. فعجبت من ذکائه وحضوره مع قوه المطالبه له حتی أورد ما هو فی معنی البیت الذی تعقّبته علیه من شعره. واستکثرت ذلک منه. والبیت قوله :

ووفاؤکما کالربع أشجاه طاسمه

بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه

وذکرنا ذلک لاتصاله بما نحن علیه ؛ فإن الأمر یذکر للأمر.

وأنشدنا أبو علیّ للکمیت :

کذلک تلک وکالناظرات

صواحبها ما یری المسحل (2)

أی وکالناظرات ما یری المسحل صواحبها. فإن حملته علی هذا رکبت قبح الفصل. فلا بدّ إذا أن یکون «ما یری المسحل» محمولا علی مضمر یدلّ علیه قوله

ص: 174

«الناظرات» أی نظرن ما یری المسحل.

وهذا الفصل الذی نحن علیه ضرب من الحمل علی المعنی ، إلا أنا أوصلناه بما تقدّمه لما فیه من التقدیم والتأخیر فی ظاهره. وسنفرد للحمل علی المعنی فصلا بإذن الله.

وأنشدوا :

کأنّ برذون أبا عصام

زید حمار دقّ باللجام (1)

أی کأنّ برذون زید یا أبا عصام حمار دقّ باللجام. والفصل بین المضاف والمضاف إلیه بالظرف وحرف الجر قبیح کثیر ؛ لکنه من ضروره الشاعر. فمن ذلک قول ذی الرمه :

کأنّ أصوات من إیغالهنّ بنا

أواخر المیس أصوات الفراریج (2)

(أی کأنّ أصوات أواخر المیس من إیغالهنّ بنا أصوات الفراریج).

وقوله :

کما خطّ الکتاب بکفّ یوما

یهودیّ یقارب أو یزیل (3)

(أی بکفّ یهودیّ).

ص: 175

وقوله :

هما أخوا فی الحرب من لا أخا له

إذا خاف یوما نبوه فدعاهما (1)

أی هما أخوا من لا أخا له فی الحرب ، فعلّق الظرف بما فی (أخوا) من معنی الفعل ؛ لأن معناه : هما ینصرانه ویعاونانه.

وقوله :

هما خطّتا إما إسار ومنّه

وإما دم والقتل بالحرّ أجدر (2)

ففصل بین (خطّتا) و (إسار) بقوله (إمّا) ، ونظیره هو غلام إمّا زید وإمّا عمرو. وقد ذکرت هذا البیت فی جمله کتابی - فی تفسیر أبیات الحماسه» ، وشرحت حال الرفع فی إسار ومنّه.

ومن ذلک قوله :

فزججتها بمزجّه

زجّ القلوص أبی مزاده (3)

_________________

ص 65 ، وشرح الأشمونی 2 / 328 ، وشرح ابن عقیل ص 403 ، وشرح عمده الحافظ ص 495 ، وشرح المفصل 1 / 103 ، ولسان العرب (حبر) ، والمقتضب 4 / 377 ، وهمع الهوامع 2 / 52. یقارب : أی یدنی بعض خطه من بعض. یزیل : یمیز بین الحروف ویباعد بینها.

(1) البیت من الطویل ، وهو لعمره الخثعیه فی الإنصاف 2 / 434 ، والدرر 5 / 45 ، وشرح دیوان الحماسه للمرزوقی ص 1083 ، ولسان العرب (أبی) ، ولها أو لدرنا بنت عبعبه فی الدرر 5 / 45 ، والمقاصد النحویه 3 / 472 ، ولدرنا بنت عبعبه فی شرح المفصل 3 / 21 ، والکتاب 1 / 180 ، ولدرنا بنت عبعبه أو لدرنا بنت سیار فی شرح أبیات سیبویه 1 / 218 ، ولإمرأه من بنی سعد فی نوادر أبی زید ص 115 ، وبلا نسبه فی کتاب الصناعتین ص 165 ، وهمع الهوامع 2 / 52.

(2) البیت من الطویل ، وهو لتأبط شرا فی دیوانه ص 89 ، وجواهر الأدب ص 154 ، وخزانه الأدب 7 / 499 ، 500 ، 503 ، والدرر 1 / 143 ، وشرح التصریح 2 / 58 ، وشرح دیوان الحماسه للمرزوقی ص 79 ، وشرح شواهد المغنی 2 / 975 ، ولسان العرب (خطط) ، والمقاصد النحویه 3 / 486 ، وبلا نسبه فی رصف المبانی ص 342 ، وشرح الأشمونی 2 / 328 ، ومغنی اللبیب 2 / 643 ، والممتع فی التصریف 2 / 526 ، وهمع الهوامع 1 / 46 ، 2 / 52.

(3) البیت من مجزوء الکامل ، وهو بلا نسبه فی الإنصاف 2 / 427 ، وتخلیص الشواهد ص 82 ، وخزانه الأدب 4 / 415 ، 416 ، 418 ، 421 ، 422 ، 423 ، وشرح الأشمونی 2 / 327 ، وشرح المفصل 3 / 189 ، والکتاب 1 / 176 ، ومجالس ثعلب ص 152 ، والمقاصد النحویه 3 / 468 ، والمقرب 1 / 54. یقال : زجه : طعنه بالزّج وهو سنان الرمح. والمزجه رمح قصیر. والقلوص : الناقه الفتیه.

ص: 176

أی زجّ أبی مزاده القلوص. ففصل بینهما بالمفعول به. هذا مع قدرته علی أن یقول:زجّ القلوص أبو مزاده ، کقولک : سرّنی أکل الخبز زید. وفی هذا البیت عندی دلیل علی قوّه إضافه المصدر إلی الفاعل عندهم ، وأنه فی نفوسهم أقوی من إضافته إلی المفعول ؛ ألا تراه ارتکب هاهنا الضروره ، مع تمکّنه من ترک ارتکابها ، لا لشیء غیر الرغبه فی إضافه المصدر إلی الفاعل دون المفعول.

فأمّا قوله :

یطفن بحوزیّ المراتع لم یرع

بوادیه من قرع القسیّ الکنائن (1)

فلم نجد فیه بدّا من الفصل ؛ لأن القوافی مجروره. ومن ذلک قراءه (ابن عامر) : (وَکَذلِکَ زَیَّنَ لِکَثِیرٍ مِنَ الْمُشْرِکِینَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَکاؤُهُمْ) [الأنعام : 137] وهذا فی النثر وحال السعه صعب جدا ، لا سیّما والمفصول به مفعول لا ظرف.

ومنه بیت الأعشی :

إلا بداهه أو علا

له قارح نهد الجزاره (2)

ومذهب سیبویه فیه الفصل بین (بداهه) و (قارح) ؛ وهذا أمثل عندنا من مذهب غیره فیه ؛ لما قدّمنا فی غیر هذا الموضع. وحکی الفرّاء عنهم : برئت إلیک

ص: 177

من خمسه وعشری النخّاسین ، وحکی أیضا : قطع الله الغداه ید ورجل من قاله ، ومنه قولهم : هو خیر وأفضل من ثمّ ، وقوله :

یا من رأی عارضا أرقت له

بین ذراعی وجبهه الأسد (1)

فإن قیل : لو کان الآخر مجرورا بالأوّل لکنت بین أمرین.

إما أن تقول : إلا (علاله أو بداهته) قارح ، وبرئت إلیک من خمسه وعشریهم النّخاسین ، وقطع الله ید ورجله من قاله ، ومررت بخیر وأفضله من ثمّ ، وبین ذراعی وجبهته الأسد ؛ لأنک إنما تعمل الأوّل ، فجری ذلک مجری : ضربت فأوجعته زیدا ؛ إذا أعملت الأوّل.

وإما أن تقدّر حذف المجرور من الثانی وهو مضمر ومجرور کما تری ، والمضمر إذا کان مجرورا قبح حذفه ؛ لأنه یضعف أن ینفصل فیقوم برأسه.

فإذا لم تخل عند جرّک الآخر بالأول من واحد من هذین ، وکلّ واحد منهما متروک وجب أن یکون المجرور إنما انجرّ بالمضاف الثانی الذی ولیه ، لا بالأول الذی بعد عنه.

قیل : أمّا ترکهم إظهار الضمیر فی الثانی وأن یقولوا : بین ذراعی وجبهته الأسد ونحو ذلک فإنهم لو فعلوه لبقی المجرور لفظا لا جارّ له فی اللفظ یجاوره ؛ لکنهم لمّا قالوا : بین ذراعی وجبهه الأسد صار کأنّ (الأسد) فی اللفظ مجرور بنفس (الجبهه) وإن کان فی الحقیقه مجرورا بنفس الذراعین. وکأنهم فی ذلک إنما أرادوا إصلاح اللفظ. وأمّا قبح حذف الضمیر مجرورا لضعفه عن الانفصال فساقط عنا أیضا. وذلک أنه إنما یقبح فصل الضمیر المجرور متی خرج إلی اللفظ ؛ نحو مررت

ص: 178

بزید وک ، ونزلت علی زید وه لضعفه أن یفارق ما جرّه. فأمّا إذا لم یظهر إلی اللفظ وکان إنما هو مقدّر فی النفس غیر مستکره علیه اللفظ فإنّه لا یقبح ؛ ألا تری أن هنا أشیاء مقدّره لو ظهرت إلی اللفظ قبحت ، ولأنها غیر خارجه إلیه ما حسنت. من ذلک قولهم : اختصم زید وعمرو ؛ ألا تری أن العامل فی المعطوف غیر العامل فی المعطوف علیه ، فلا بد إذا من تقدیره علی : اختصم زید واختصم عمرو ، وأنت لو قلت ذلک لم یجز ؛ لأن اختصم ونحوه من الأفعال - مثل اقتتل واستبّ واصطرع - لا یکون فاعله أقلّ من اثنین. وکذلک قولهم : ربّ رجل وأخیه ، ولو قلت : ورب أخیه لم یجز ، وإن کانت ربّ مراده هناک ومقدّره.

فقد علمت بهذا وغیره أن ما تقدّره وهما لیس کما تلفظ به لفظا. فلهذا یسقط عندنا إلزام سیبویه هذه الزیاده.

والفصل بین المضاف والمضاف إلیه کثیر ، وفیما أوردناه منه کاف بإذن الله وقد جاء الطائیّ الکبیر بالتقدیم والتأخیر ، فقال :

وإن الغنی لی لو لحظت مطالبی

من الشعر إلا فی مدیحک أطوع

وتقدیره : وإن الغنی لی لو لحظت مطالبی أطوع من الشعر إلی فی مدیحک ، أی فإنه یطیعنی فی مدحک ویسارع إلیّ. وهذا کقوله أیضا معنی لا لفظا :

تغایر الشعر فیه إذ سهرت له

حتی ظننت قوافیه ستقتتل

وکقول الآخر :

ولقد أردت نظامها فتواردت

فیها القوافی جحفلا عن جحفل

وذهب أبو الحسن فی قول الله سبحانه : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِی یُوَسْوِسُ فِی صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّهِ وَالنَّاسِ) [الناس : 4 ، 5 ، 6] إلی أنه أراد : من شر الوسواس الخناس من الجنّه والناس (الذی یوسوس فی صدور الناس).

ومنه قول الله - عز اسمه - : (اذْهَبْ بِکِتابِی هذا فَأَلْقِهْ إِلَیْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا یَرْجِعُونَ) [النمل : 28] أی اذهب بکتابی هذا فألقه إلیهم فانظر ما ذا یرجعون ثم تول عنهم. وقیل فی قوله تعالی : (وَالَّذِینَ یُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ یَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِیرُ رَقَبَهٍ) [المجادله : 3] إن تقدیره : والذین یظاهرون من نسائهم

ص: 179

فتحریر رقبه ثم یعودون (لما قالوا). ونحو من هذا ما قدّمنا ذکره من الاعتراض فی نحو قوله تعالی : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِیمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ) [الواقعه : 75 ، 76 ، 77] تقدیره - والله أعلم - فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن کریم وإنه لقسم عظیم لو تعلمون.

وقد شبّه الجازم بالجارّ ففصل بینهما ، مما فصل بین الجارّ والمجرور ؛ وأنشدنا لذی الرمه :

فأضحت مغانیها قفارا رسومها

کأن لم سوی أهل من الوحش تؤهل (1)

وجاء هذا فی ناصب الفعل. أخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن یحیی بقول الشاعر:

لمّا رأیت أبا یزید مقاتلا

أدع القتال .......

أی لن أدع القتال ما رأیت أبا یزید مقاتلا ؛ کما أراد فی الأول : کأن لم تؤهل سوی أهل من الوحش. وکأنه شبّه لن بأنّ ، فکما جاز الفصل بین أنّ واسمها بالظرف فی نحو قولک : بلغنی أنّ فی الدار زیدا ، کذلک شبه (لن) مع الضروره بها ففصل بینها وبین منصوبها بالظرف الذی هو (ما رأیت أبا یزید) أی مدّه رؤیتی.

فصل فی الحمل علی المعنی

اعلم أن هذا الشرج غور من العربیه بعید ، ومذهب نازح فسیح. قد ورد به القرآن وفصیح الکلام منثورا ومنظوما ؛ کتأنیث المذکر ، وتذکیر المؤنث ، وتصوّر معنی الواحد فی الجماعه ، والجماعه فی الواحد ، وفی حمل الثانی علی لفظ قد یکون علیه الأول ، أصلا کان ذلک اللفظ أو فرعا ، وغیر ذلک مما تراه بإذن الله.

ص: 180

فمن تذکیر المؤنث قوله :

فلا مزنه ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (1)

ذهب بالأرض إلی الموضع والمکان. ومنه قول الله عزوجل : (فَلَمَّا رَأَی الشَّمْسَ بازِغَهً قالَ هذا رَبِّی) [الأنعام : 78] أی هذا الشخص أو هذا المرئیّ ونحوه.

وکذلک قوله تعالی : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَهٌ مِنْ رَبِّهِ) [البقره : 275] لأن الموعظه والوعظ واحد. وقالوا فی قوله سبحانه : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِیبٌ مِنَ الْمُحْسِنِینَ) [الأعراف : 56] إنه أراد بالرحمه هنا المطر. ویجوز أن یکون التذکیر هنا (إنما هو) لأجل فعیل ، علی قوله :

*بأعین أعداء وهنّ صدیق (2) *

وقوله :

*... ولا عفراء منک قریب (3) *

وعلیه قول الحطیئه :

ص: 181

ثلاثه أنفس وثلاث ذود

لقد جار الزمان علی عیالی (1)

ذهب بالنفس إلی الإنسان فذکّر.

وأمّا بیت الحکمیّ :

*ککمون النار فی حجره*

فیکون علی هذا ؛ لأنه ذهب إلی النور والضیاء ، ویجوز أن تکون الهاء عائده علی الکمون أی فی حجر الکمون. والأوّل أسبق فی الصنعه إلی النفس ، وقال الهذلیّ :

بعید الغزاه فما إن یزا

ل مضطمرا طرّتاه طلیحا (2)

ذهب بالطرّتین إلی الشعر. ویجوز أن یکون (طرّتاه) بدلا من الضمیر إذا جعلته فی مضطمر ؛ کقول الله سبحانه : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَهً لَهُمُ الْأَبْوابُ) [ص : 50] إذا جعلت فی (مفتّحه) ضمیرا ، وجعلت (الأبواب) بدلا من ذلک الضمیر ، ولم یکن تقدیره : الأبواب منها علی أن نخلی (مفتحه) من الضمیر. نعم وإذا کان فی (مفتحه) ضمیر (والأبواب) بدل منه فلا بد أیضا من أن یکون تقدیره (مفتحه لهم) الأبواب منها. ولیس (منها) وفی (مفتّحه) ضمیر مثلها إذا أخلیتها من ضمیر.

ص: 182

وذلک أنها إذا خلت (مفتّحه) من ضمیر فالضمیر فی (منها) عائد الحال إذا کانت مشتقّه ؛ کقولک : مررت بزید واقفا الغلام معه ؛ وإذا کان فی (مفتّحه) ضمیر فإن الضمیر فی (منها) هو الضمیر الذی یرد به المبدل عائدا علی المبدل منه ؛ کقولک : ضربت زیدا رأسه ، أو الرأس منه ، وکلمت قومک نصفهم أو النصف منهم ، وضرب زید الظهر والبطن أی الظهر منه والبطن منه. فاعرف ذلک فرقا بین الموضعین.

ومن تذکیر المؤنّث قوله :

إنّ امرأ غرّه منکن واحده

بعدی وبعدک فی الدنیا لمغرور (1)

لمّا فصل بین الفعل وفاعله حذف علامه التأنیث ، وإن کان تأنیثه حقیقیا. وعلیه قولهم : حضر القاضی امرأه ، وقوله :

لقد ولد الأخیطل أمّ سوء

علی باب استها صلب وشام (2)

وأما قول حران العود :

ألا لا یغرّن امرا نوفلیّه

علی الرأس بعدی أو ترائب وضّح (2)

فلیست النوفلیّه (3) هنا امرأه ، وإنما هی مشطه تعرف بالنوفلیّه ؛ فتذکیر الفعل

ص: 183

معها أحسن.

وتذکیر المؤنث واسع جدّا ؛ لأنه ردّ فرع إلی أصل. لکن تأنیث المذکّر أذهب فی التناکر والإغراب. وسنذکره.

وأمّا تأنیث المذکّر فکقراءه من قرأ «تلتقطه بعض السیاره» [یوسف : 10] وکقولهم : ما جاءت حاجتک ، وکقولهم : ذهبت بعض أصابعه. أنّث ذلک لمّا کان بعض السیّاره سیّاره فی المعنی ، وبعض الأصابع إصبعا ، ولمّا کانت (ما) هی الحاجه فی المعنی. وأنشدوا :

أتهجر بیتا بالحجاز تلفّت

به الخوف والأعداء من کلّ جانب (1)

ذهب بالخوف إلی المخافه. وقال لبید :

فمضی وقدّمها وکانت عاده

منه إذا هی عرّدت إقدامها (2)

إن شئت قلت : أنّث الإقدام لمّا کان فی معنی التقدمه. وإن شئت قلت : ذهب إلی تأنیث العاده ، کما ذهب إلی تأنیث الحاجه فی قوله : (ما جاءت حاجتک) وقال :

یا أیها الراکب المزجی مطیته

سائل بنی أسد ما هذه الصوت (3)

ذهب إلی تأنیث الاستغاثه. وحکی الأصمعیّ عن أبی عمرو أنه سمع رجلا من أهل الیمن یقول : فلان لغوب ، جاءته کتابی فاحتقرها! فقلت له : أتقول : جاءته

ص: 184

کتابی فقال نعم ، ألیس بصحیفه! قلت : فما اللغوب؟ قال : الأحمق. وهذا فی النثر کما تری ، وقد علله.

وهذا مما قد ذکرناه (فیما مضی من) کتابنا هذا ، غیر أنا أعدناه لقوّته فی معناه.

وقال :

لو کان فی قلبی کقدر قلامه

حبّا لغیرک قد أتاها أرسلی (1)

کسّر رسولا وهو مذکّر علی أرسل ، وهو من تکسیر المؤنث ؛ کأتان وآتن ، وعناق وأعنق ، وعقاب وأعقب ، لمّا کان الرسول هنا إنما یراد به المرأه ؛ لأنها فی غالب الأمر ممّا یستخدم فی هذا الباب. وکذلک ما جاء عنهم من جناح وأجنح.

قالوا : ذهب (فی التأنیث) إلی الریشه.

وعلیه قول عمر :

فکان مجنّی دون من کنت أتّقی

ثلاث شخوص : کاعبان ومعصر (2)

أنّث الشخص ؛ لأنه أراد به المرأه. وقال الآخر :

فإن کلابا هذه عشر أبطن

وأنت بریء من قبائلها العشر (3)

ص: 185

ذهب بالبطن إلی القبیله ، وأبان ذلک بقوله : من قبائلها.

وأمّا قوله :

* کما شرقت صدر القناه من الدم (1) *

فإن شئت قلت : أنّث ؛ لأنه أراد القناه ، وإن شئت قلت : إنّ صدر القناه قناه.

وعلیه قوله :

مشین کما اهتزّت رماح تسفّهت

أعالیها مرّ الریاح النواسم (2)

وقول الآخر :

لمّا أتی خبر الزبیر تواضعت

سور المدینه والجبال الخشّع (3)

وقوله :

*طول اللیالی أسرعت فی نقضی (4) *

ص: 186

وقوله :

*علی قبضه موجوءه ظهر کفه*

وقول الآخر :

قد صرّح السیر عن کتمان وابتذلت

وقع المحاجن بالمهریّه الذقن (1)

وأمّا قول بعضهم : صرعتنی بعیر لی ؛ فلیس عن ضروره ؛ لأن البعیر یقع علی الجمل والناقه ؛ قال :

لا تشربا لبن البعیر وعندنا

عرق الزجاجه واکف المعصار (2)

وقال عزّ اسمه : (وَمَنْ یَقْنُتْ مِنْکُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)(3) [الأحزاب : 31] لأنه أراد :

امرأه.

ومن باب الواحد والجماعه قولهم : هو أحسن الفتیان وأجمله ، أفرد الضمیر ؛ لأن هذا موضع یکثر فیه الواحد ؛ کقولک : هو أحسن فتی فی الناس ؛ قال ذو الرمّه :

ومیّه أحسن الثقلین وجها

وسالفه وأحسنه قذالا (4)

ص: 187

فأفرد الضمیر ، مع قدرته علی جمعه. وهذا یدلّک علی قوّه اعتقادهم أحوال المواضع وکیف ما یقع فیها ؛ ألا تری أن الموضع موضع جمع ، وقد تقدّم فی الأوّل لفظ الجمع فترک اللفظ وموجب الموضع إلی الإفراد ؛ لأنه مما یؤلف فی هذا المکان.

وقال سبحانه : (وَمِنَ الشَّیاطِینِ مَنْ یَغُوصُونَ لَهُ) [الأنبیاء : 82] فحمل علی المعنی ، وقال : (بَلی مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلا هُمْ یَحْزَنُونَ) [البقره : 112] فأفرد علی لفظ من ثم جمع من بعد ، وقال عبید :

*فالقطّبیّات فالذنوب (1) *

وإنما القطّبیّه ماء واحد معروف. وقال الفرزدق :

فیا لیت داری بالمدینه أصبحت

بأجفار فلج أو بسیف الکواظم (2)

یرید الجفر وکاظمه. وقال جریر :

بان الخلیط برامتین فودّعوا

أوکلّما ظعنوا لبین تجزع

وإنما رامه أرض واحده معروفه.

واعلم أن العرب إذا حملت علی المعنی لم تکد تراجع اللفظ ؛ کقولک : شکرت من أحسنوا إلیّ علی فعله (ولو : قلت شکرت من أحسن إلیّ علی فعلهم

ص: 188

جاز). فلهذا ضعف عندنا أن یکون (هما) من (مصطلاهما) فی قوله :

*کمیتا الأعالی جونتا مصطلاهما (1) *

عائدا علی الأعالی فی المعنی ؛ إذ کانا أعلیین اثنین ؛ لأنه موضع قد ترک فیه لفظ التثنیه حملا علی المعنی ؛ لأنه جعل کلّ جهه منهما أعلی ؛ کقولهم : شابت مفارقه ، وهذا بعیر ذو عثانین (2) ونحو ذلک ، أو لأن الأعلیین شیئان من شیئین.

فإذا کان قد انصرف عن اللفظ إلی غیره ضعفت معاودته إیاه ؛ لأنه انتکاث وتراجع ، فجری ذلک مجری ادّغام الملحق وتوکید ما حذف. علی أنه قد جاء منه شیء ؛ قال :

*رءوس کبیریهنّ ینتطحان (3) *

وأمّا قوله :

کلاهما حین جدّ الحرب بینهما

قد أقلعا وکلا أنفیهما رابی (4)

فلیس من هذا الباب ، وإن کان قد عاد من بعد التثنیه إلی الإفراد. وذلک أنه

ص: 189

لم یقل : کلاهما قد أقلعا وأنفه راب ؛ فیکون ما أنکرناه ؛ لکنه قد أعاد (کلا) أخری غیر الأولی ، فعاملها علی لفظها. ولم یقبح ذلک ؛ لأنه قد فرغ من حدیث الأولی ، ثم استأنف من بعدها أخری ، ولم یجعل الضمیرین عائدین إلی کلا واحده. وهذا کقولک : من یقومون أکرمهم ، ومن یقعد أضربه. فتأتی ب (من) الثانیه فتعاملها علی ما تختار ممّا یجوز مثله. وهذا واضح فاعرفه. ولا یحسن «ومنهم من یستمعون إلیک حتی إذا خرج من عندک» لما ذکرنا.

وأما قول الفرزدق :

وإذا ذکرت أباک أو أیّامه

أخزاک حیث تقبّل الأحجار (1)

- یرید الحجر - فإنه جعل کلّ ناحیه حجرا ؛ ألا تری أنک لو مسست کل ناحیه منه لجاز أن تقول : مسست الحجر. وعلیه شابت مفارقه ، وهو کثیر العثانین.

وهذا عندی هو سبب إیقاع لفظ الجماعه علی معنی الواحد.

وأمّا قوله :

فقلنا أسلموا إنّا أخوکم

فقد برئت من الإحن الصدور (2)

فیجوز أن یکون جمع أخ قد حذفت نونه للإضافه ، ویجوز أن یکون واحدا وقع موقع الجماعه ؛ کقوله :

*تری جوانبها بالشحم مفتوقا*

وقد توضع من للتثنیه ؛ وذلک قلیل ؛ قال :

*نکن مثل من یا ذئب یصطحبان (3) *

ص: 190

وأنشدوا :

أخو الذئب یعوی والغراب ومن یکن

شریکیه تطمع نفسه کلّ مطمع (1)

أودع ضمیر (من) فی (یکن) علی لفظ الإفراد وهو اسمها ، وجاء ب (شریکیه) خبرا ل (یکن) علی معنی التثنیه ، فکأنه قال : و (أیّ اثنین) کانا شریکیه طمعت أنفسهما کلّ مطمع. علی هذا اللفظ أنشدناه أبو علیّ ، وحکی المذهب فیه عن الکسائیّ أعنی عود التثنیه علی لفظ (من) ؛ إلا أنه عاود لفظ الواحد بعد أن حمل علی معنی التثنیه بقوله : تطمع نفسه (ولم یقل : تطمع أنفسهما). ولو ذهب فیه ذاهب إلی أنه من المقلوب لم أر به بأسا ؛ حتی کأنه قال : ومن یکن شریکهما تطمع نفسه کل مطمع. وحسّن ذلک شیئا العلم بأنه إذا کان شریکهما کانا أیضا شریکیه ، فشجع بهذا القدر علی ما رکبه من القلب. فاعرف ذلک.

والحمل علی المعنی واسع فی هذه اللغه جدّا. ومنه قول الله تعالی : (أَلَمْ تَرَ إِلَی الَّذِی حَاجَّ إِبْراهِیمَ فِی رَبِّهِ) [البقره : 258] ثم قال : (أَوْ کَالَّذِی مَرَّ عَلی قَرْیَهٍ) [البقره : 259] قیل فیه : إنه محمول علی المعنی ، حتی کأنه قال : أرأیت کالذی حاجّ إبراهیم فی ربه ، أو کالذی مرّ علی قریه ؛ فجاء بالثانی علی أن الأول قد سبق کذلک. ومنه إنشادهم بیت امرئ القیس :

ألا زعمت بسباسه الیوم أننی

کبرت وألا یحسن اللهو أمثالی (2)

بنصب (یحسن) والظاهر أن یرفع لأنه معطوف علی أنّ الثقیله ؛ إلا أنه نصب ، لأن هذا موضع قد کان یجوز (أن تکون) فیه أن (الخفیفه) حتی کأنه قال : ألا

ص: 191

زعمت بسباسه أن یکبر فلان ؛ کقوله تعالی : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَکُونَ فِتْنَهٌ) [المائده : 71] بالنصب.

ومن ذلک قوله :

بدا لی أنی لست مدرک ما مضی

ولا سابق شیئا إذا کان جائیا (1)

لأن هذا موضع یحسن فیه لست بمدرک ما مضی.

ومنه قوله سبحانه : (فَأَصَّدَّقَ وَأَکُنْ) [المنافقین : 10] وقوله :

فأبلونی بلّیتکم لعلّی

أصالحکم وأستدرج نویّا (2)

حتی کأنه قال : أصالحکم وأستدرج نویا.

ومن ذلک قول الآخر :

لیبک یزید ضارع لخصومه

ومختبط مما تطیح الطوائح (3)

ص: 192

لأنه لمّا قال : لیبک یزید فکأنه قال : لیبکه ضارع لخصومه. وعلی هذا تقول : أکل الخبز ، زید ؛ ورکب الفرس ، محمد ؛ فترفع زیدا ومحمدا بفعل ثان یدلّ علیه الأول ، وقوله :

إذا تغنّی الحمام الورق هیّجنی

ولو تعزّیت عنها أمّ عمّار (1)

لأنه لمّا قال : هیّجنی دلّ علی ذکّرنی ، فنصبها به. (فاکتفی بالمسبّب الذی هو التهییج من السبب الذی هو التذکیر) ونحوه قول الآخر :

أسقی الإله عدوات الوادی

وجوزه کلّ ملثّ غاد

کلّ أجشّ حالک السواد (2)

لأنه إذا أسقاها الله کلّ ملثّ فقد سقاها ذلک الأجشّ.

وکذلک قول الآخر :

تواهق رجلاها یداها ورأسه

لها قتب خلف الحقیبه رادف (3)

أراد : تواهق رجلاها یدیها ، فحذف المفعول وقد علم أن المواهقه لا تکون من

ص: 193

الرجلین دون الیدین وأن الیدین مواهقتان کما أنهما مواهقتان. فأضمر للیدین فعلا دلّ علیه الأوّل. فکأنه قال : تواهق یداها رجلیها ثم حذف المفعول فی هذا ؛ کما حذفه فی الأوّل فصار علی ما تری : تواهق رجلاها یداها. فعلی هذه الصنعه التی وصفت لک تقول : ضارب (زید عمرو) علی أن ترفع عمرا بفعل غیر هذا الظاهر ؛ ولا یجوز أن یرتفعا جمیعا بهذا الظاهر. فأمّا قولهم : اختصم زید وعمرو ففیه نظر. وهو أنّ عمرا مرفوع بفعل آخر غیر هذا الظاهر ، علی حدّ قولنا فی المعطوف : إن العامل فیه غیر العامل فی المعطوف علیه ؛ فکأنه قال : اختصم زید واختصم عمرو ؛ وأنت مع هذا لو نطقت بهذا الذی تقدّره لم یصلح الکلام معه ؛ لأن الاختصام لا یکون من أقلّ من اثنین. وعلّه جوازه أنه لمّا لم یظهر الفعل الثانی المقدّر إلی اللفظ لم یجب تقدیره وإعماله ؛ کأشیاء تکون فی التقدیر فتحسن (فإذا) أنت أبرزتها إلی اللفظ قبحت. وقد ذکرنا ذلک فیما مضی.

ومن ذلک قول الآخر :

فکرّت تبتغیه فوافقته

علی دمه ومصرعه السباعا (1)

وذلک أنه إذا وافقته والسباع معه فقد دخلت السباع فی الموافقه ، فکأنه قال فیما بعد : وافقت السباع. وهو عندنا علی حذف المضاف ؛ أی وافقت آثار السباع.

قال أبو علیّ : لأنها لو وافقت السباع هناک لأکلتها معه. ف (علی) الآن هذه الظرف منصوبه (2) بالفعل المحذوف الذی نصب السباع فی التقدیر. ولو رفعت السباع لکانت (علی) هذه مرفوعه الموضع ؛ لکونها خبرا عن السباع مقدّما ، وکانت تکون متعلّقه بالمحذوف ؛ کقولنا فی قولهم : فی الدار زید. (وعلی هذا) قال الآخر :

تذکّرت أرضا بها أهلها

أخوالها فیها وأعمامها (3)

ص: 194

لک فیها وجهان : إن شئت قلت : إنه أضمر فعلا للأخوال والأعمام علی ما تقدم ، فنصبهما به ؛ کأنه قال فیما بعد : تذکرت أخوالها فیها وأعمامها. ودلّ علی هذا الفعل المقدّر قوله : تذکرت أرضا بها أهلها ؛ لأنه إذا تذکّر هذه الأرض فقد علم أن التذکّر قد أحاط بالأخوال والأعمام ؛ لأنهم فیها ؛ علی ما مضی من الأبیات. وإن شئت جعلت (أخوالها وأعمامها) بدلا من الأرض بدل الاشتمال ، علی قول الله سبحانه : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) [البروج : 4 ، 5].

فإن قلت : فإن البدل العامل عندک فیه هو غیر العامل فی المبدل منه ، وإذا کان الأمر کذلک فقد آل الحدیث إلی موضع واحد وهو إضمار الفعل ، فلم قسمت الأمر فیهما إلی موضعین؟

قیل : الفرق قائم. ووجهه أن اتصال المبدل بالمبدل منه أشدّ من اتّصال ما حمل علی المعنی بما قبله ، وإنما یأتی بعد استقرار الکلام الأوّل ورسوخه ، ولیس کذلک البدل ؛ لأنه وإن کان العامل فیه غیر الأوّل عندنا فإنه مع ذلک مشابه للصفه وجار مجراها.

نعم ، وقد خالف فیه أقوام ، فذهبوا إلی أن العامل فی الثانی هو العامل فی الأوّل. وحدّثنا أبو علیّ أنّ الزیادیّ سأل أبا الحسن عن قولهم : مررت برجل قائم زید أبوه ، أأبوه بدل أم صفه؟ قال : فقال أبو الحسن : لا أبالی بأیّهما أجبت. أفلا تری إلی تداخل الوصف والبدل. وهذا یدلّ علی ضعف العامل المقدّر مع البدل.

وسألت أبا علیّ - رحمه الله - عن مسأله الکتاب : رأیتک إیاک قائما ، الحال لمن هی؟ فقال : ل (إیاک). قلت : فالعامل فیها ما هو؟ قال : (رأیت) هذه الظاهره.

قلت : أفلا تعلم أن (إیاک) معمول فعل آخر غیر الأوّل؟ وهذا یقود إلی أن الناصب للحال هو الناصب لصاحبها أعنی الفعل المقدّر؟ فقال : لمّا لم یظهر ذلک العامل ضعف حکمه. وصارت المعامله مع هذا الظاهر. فهذا یدلّک علی ضعف العامل فی البدل واضطراب حاله ، ولیس کذلک العامل إذا دلّ علیه غیره ؛ نحو قوله :

*تواهق رجلاها یداها ...*

وقوله :

ص: 195

*ولو تعزّیت عنها أمّ عمّار (1) *

ونحو ذلک ؛ لأن هذا فعل مثبت ، ولیس محلّ ما یعمل فیه المعنی محلّ البدل.

فلمّا اختلف هذان الوجهان من هذین الموضعین اعتددناهما قسمین اثنین.

ومن ذلک قوله :

لن تراها ولو تأمّلت إلا

ولها فی مفارق الرأس طیبا (2)

وهذا هو الغریب من هذه الأبیات. ولعمری إن الرؤیه إذا لحقتها فقد لحقت ما هو متّصل بها. ففی ذلک شیئان :

أحدهما أن الرؤیه وإن کانت مشتمله علیها فلیس لها طریق إلی الطیب فی مفارقها ، اللهمّ إلا أن تکون حاسره غیر مقنّعه ، وهذه بذله وتطرّح لا توصف به الخفرات ولا المعشّقات ؛ ألا تری إلی قول کثیر :

وإنی لأسمو بالوصال إلی التی

یکون سناء وصلها وازدیارها

ومن کانت من النساء هذه حالها فلیست رذله ولا مبتذله. وبه وردت الأشعار القدیمه والمولّده ؛ قال الطائی :

عالی الهوی ، ممّا یعذّب مهجتی

أفرویّه الشّعف التی لم تسهل (3)

وهی طریق مهیع. وإذا کان کذلک وکانت الرؤیه لها لیس مما یلزم معه رؤیه طیب مفارقها وجب أن یکون الفعل المقدّر لنصب الطیب ممّا یصحب الرؤیه لا الرؤیه نفسها ؛ فکأنه قال : لن تراها إلا وتعلم لها أو تتحقق لها فی مفارق الرأس طیبا ؛ غیر أن سیبویه حمله علی الرؤیه. وینبغی أن یکون أراد : ما تدلّ علیه الرؤیه من الفعل الذی قدّرناه.

والآخر أن هذه الواو فی قوله : ولها کذا فی واو الحال وصارفه للکلام إلی

ص: 196

معنی الابتداء ؛ فقد وجب أن یکون تقدیره : لن تراها إلا وأنت تعلم أو تتحقق أو تشمّ ، فتأتی بالمبتدإ وتجعل ذلک الفعل المقدّر خبرا عنه. فاعرف ذلک.

ومنه قوله :

قد سالم الحیّات منه القدما

الأفعوان والشجاع الشّجعما

وذات قرنین ضموزا ضرزما (1)

هو من هذا ؛ لأنه قد علم أن الحیّات مسالمه کما علم أنها مسالمه ، ورواها الکوفیون بنصب الحیّات ، وذهبوا إلی أنه أراد : القدمان فحذف النون. وینشدون فی ذلک قوله :

لنا أعنز لبن ثلاث فبعضها

لأولادها ثنتا وما بیننا عنز (2)

وینشدون قول الآخر :

ص: 197

کأنّ أذنیه إذا تشوّقا

قادمتا أو قلما محرّفا (1)

علی أنه أراد : قادمتان أو قلمان محرفان. ورووه أیضا : تخال أذنیه ...

(قادمه أو قلما للحرّفا. فهذا علی أنه یرید : کل واحده من أذنیه) وممّا ینسبونه إلی کلام الطیر (قول الحجله للقطاه) أقطی (2) قطا ، فبیضک ثنتا ، وبیضی مائتا ؛ أی ثنتان ومائتان.

ومن ذلک قوله :

یا لیت زوجک قد غدا

متقلّدا سیفا ورمحا (3)

أی وحاملا رمحا. فهذا محمول علی معنی الأوّل لا لفظه. وعلیه :

علفتها تبنا وماء باردا

حتی شتت همّاله عیناها (4)

أی وسقیتها ماء باردا ، وقوله :

تراه کأنّ یجدع أنفه

وعینیه إن مولاه ثاب له وفر (5)

ص: 198

أی ویفقأ عینیه ، وقوله :

تسمع للأجواف منه صردا

وفی الیدین جسأه وبددا (1)

أی وتری فی الیدین جسأه وبددا ، وقوله :

فعلا فروع الأیهقان وأطفلت

بالجلهتین ظباؤها ونعامها (2)

أی وأفرخت نعامها ، وقوله :

إذا ما الغانیات برزن یوما

وزجّجن الحواجب والعیونا (3)

أی وکحلن العیون. ومن المحمول علی المعنی قوله :

طافت أمامه بالرکبان آونه

یا حسنه من قوام ما ومنتقبا! (4)

ص: 199

لأن الأوّل فی معنی : یا حسنه قواما ، وقول الآخر :

*یذهبن فی نجد وغورا غائرا (1) *

أی ویأتین غورا.

وقول الآخر :

فاذهب فأیّ فتی فی الناس أحرزه

من یومه ظلم دعج ولا جبل (2)

(حتی کأنه قال : ما أحد أحرزه ظلم ولا جبل).

ومنه قوله :

فإن کان لا یرضیک حتی تردّنی

إلی قطریّ لا إخالک راضیا (3)

حمله الفرّاء علی المعنی ، قال : لأن معناه : لا یرضیک إلا أن تردّنی فجعل الفاعل متعلّقا علی المعنی. وکان أبو علیّ یغلظ فی هذا ویکبره ویتناکره ، ویقول : الفاعل لا یحذف. ثم إنه فیما بعد لان له ، وخفض من جناح تناکره. وعلی کلّ حال فإذا کان الکلام إنما یصلحه أو یفسده معناه ، وکان (هذا معنی) صحیحا مستقیما لم أر به بأسا. وعلی أن المسامحه فی الفاعل لیست بالمرضیّه ؛ لأنه أصعب حالا من المبتدأ. وهو فی المفعول أحسن ؛ أنشد أبو زید :

وقالوا : ما تشاء؟ فقلت : ألهو

إلی الإصباح آثر ذی أثیر (4)

ص: 200

أراد : اللهو ، فوضع «ألهو» موضعه ؛ لدلاله الفعل علی مصدره. ومثله قولک لمن قال لک : ما یصنع زید؟ : یصلّی أو یقرأ ؛ أی الصلاه أو القراءه.

ومما جاء فی المبتدإ من هذا قولهم : تسمع بالمعیدیّ خیر من أن تراه ؛ أی سماعک به خیر من رؤیتک له. وقال - عزوجل - : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِکَ) [الجن : 11] أی منّا قوم دون ذلک ، فحذف المبتدأ وأقام الصفه التی هی الظرف مقامه. وقال جریر :

نفاک الأغرّ ابن عبد العزیز

وحقّک تنفی عن المسجد

فحذف «أن» من خبر المبتدإ ، وهی : وحقّک أن تنفی عن المسجد.

وقد جاء ذلک فی الفاعل ، علی عزّته. وأنشدنا :

وما راعنی إلا یسیر بشرطه

وعهدی به فینا یفشّ بکیر (1)

کذا أنشدناه «فینا» وإنما هو «قینا» أراد بقوله : «وما راعنی إلا یسیر» أی مسیره (علی هذا وجّهه). وقد یجوز أن یکون حالا ، والفاعل مضمر ، أی : وما راعنی إلا سائرا بشرطه.

ومنه بیت جمیل :

جزعت حذار البین یوم تحمّلوا

وحقّ لمثلی یا بثینه یجزع (2)

أی وحقّ لمثلی أن یجزع. وأجاز هشام یسرّنی تقوم ، وینبغی أن یکون ذلک جائزا عنده فی الشعر لا فی النثر. هذا أولی عندی من أن (یکون یرتکبه) من غیر ضروره.

ص: 201

وباب الحمل علی المعنی بحر لا ینکش (1) ، ولا یفثج (2) ولا یؤبی (3) ولا یغرّض ولا یغضغض. وقد أرینا وجهه ، ووکلنا الحال إلی قوّه النظر وملاطفه التأوّل.

ومنه باب من هذه اللغه واسع لطیف طریف ، وهو اتصال الفعل بحرف لیس مما یتعدّی به ؛ لأنه فی معنی فعل یتعدّی به. من ذلک قوله تعالی : (أُحِلَّ لَکُمْ لَیْلَهَ الصِّیامِ الرَّفَثُ إِلی نِسائِکُمْ) [البقره : 187] لمّا کان فی معنی الإفضاء عدّاه بإلی. ومثله بیت الفرزدق :

*قد قتل الله زیادا عنّی (4) *

لمّا کان ذلک فی معنی : صرفه عنّی. وقد ذکرناه فیما مضی. وکان أبو علیّ یستحسنه وینبّه علیه.

ومنه قول الأعشی :

*سبحان من علقمه الفاخر*

علّق حرف الجرّ بسبحان لمّا کان معناه : براءه منه.

الحبلی حبلیّ ، وفی بنی عبیده وجذیمه : عبدیّ وجذمیّ ، وفی زبینه : زبانیّ ، وفی أمس : إمسیّ ، وفی الأفق : أفقیّ ، وفی جلولاء : جلولیّ ، وفی خراسان : خرسیّ ، وفی دستواء : دستوائیّ.

ومنه ما جاء فی غیر الإضافه. وهو نحو قوله :

*من نسج داود أبی سلام*

یرید : أبی سلیمان ، وقول الآخر :

وسائله بثعلبه بن سیر

وقد علقت بثعلبه العلوق (1)

یرید : ثعلبه بن سیّار. وأنشدنا أبو علیّ :

*أبوک عطاء ألأم الناس کلّهم (2) *

یرید عطیّه بن الخطفی ، وقال العبد :

وما دمیه من دمی میسنا

ن معجبه نظرا واتّصافا (3)

أراد : میسان فغیر الکلمه بأن زاد فیها نونا ، فقال : میسنان ، وقال لبید :

*درس المنا بمتالع فأبان (4) *

أراد : المنازل ، وقال علقمه :

ص: 203

کأن إبریقهم ظبی علی شرف

مفدّم بسبا الکتّان ملثوم (1)

وقال :

*واستحرّ القتل فی عبد الأشل*

یرید الأشهل.

(وقال :

*بسبحل الدفّین عیسجور (2) *

أی بسبحل).

وقال :

تحاذر وقع السوط خوصاء ضمّها

کلال فجالت فی حجا حاجب ضمر (3)

یرید : فی حجاج حاجب. (وقد مضی من التحریف فی الاسم ما فیه کاف بإذن الله).

خلا أنّ العتاق من المطایا

أحسن به فهنّ إلیه شوس (1)

وهذا مشبّه بخفت وأردت. وحکی ابن الأعرابیّ فی ظننت ظنت. وهذا کله لا یقاس علیه ؛ لا تقول فی شممت : شمت ولا شمت ؛ ولا فی (أقضضت : أقضت).

فأمّا قول أبی الحسن فی مثال اطمأنّ من الضرب : اضرببّ (2) ، وقول النحویین فیه : اضربّب فلیس تحریفا ، وإنما هذا عند کل واحد من القیلین هو الصواب.

ومن تحریف الفعل ما جاء منه مقلوبا ؛ کقولهم فی اضمحلّ : امضحلّ ، وفی أطیب : أیطب ، وفی اکفهرّ : اکرهفّ ، وما کان مثله. فأمّا جذب وجبذ فأصلان ؛ لأن کل واحد منهما متصرّف وذو مصدر ؛ کقولک : جذب یجذب جذبا وهو جاذب ، وجبذ یجبذ جبذا وهو جابذ ، وفلان مجبوذ ومجذوب (فإذا) تصرّفا هکذا لم یکن أحدهما بأن یکون أصلا لصاحبه أولی من أن یکون صاحبه أصلا له.

وأمّا قولهم : أیس فمقلوب من یئس. ودلیل ذلک من وجهین.

أحدهما (أن لا مصدر) لقولهم : أیس. فأما الإیاس فمصدر أست. قال أبو علیّ : وسمّوا الرجل إیاسا ؛ کما سمّوه عطاء ؛ لأن أست : أعطیت. ومثله - عندی - تسمیتهم إیاه عیاضا ، فلمّا لم یکن لأیس مصدر علمت أنه لا أصل له ، وإنما المصدر الیأس. فهذا من یئست.

والآخر صحّه العین فی أیس ، ولو لم یکن مقلوبا لوجب فیه إعلالها ، وأن یقال : آس واست کهاب وهبت ، وکان یلزم فی مضارعه أواس کأهاب ، فتقلب

ص: 205

الفاء تحرکها و (انفتاحها) واوا ؛ کقولک فی هذا أفعل من هذا من أممت : هذا اومّ من هذا ، هذا قول أبی الحسن ، وهو القیاس. وعلی قیاس قول أبی عثمان أیاس ؛ کقوله : هذا أیم من هذا. فصارت صحّه الیاء فی (أیس) دلیلا علی أنها مقلوبه من یئس ؛ کما صارت صحّه الواو فی عور دلیلا علی أنها فی معنی ما لا بدّ من صحّته وهو اعورّ. وهو باب. وکذلک قولهم : لم أبله. وقد شرحناه فی غیر هذا.

وقال الله سبحانه : (إِنْ کُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَیْها حافِظٌ) [الطارق : 4]. وقال :

سقته الرواعد من صیّف

وإن من خریف فلن یعدما (1)

مذهب صاحب الکتاب أنّه أراد : وإمّا من خریف. وقد خولف فیه.

* * *

ص: 207

وکذلک قول الله سبحانه : (وَأَدْخَلْناهُ فِی رَحْمَتِنا) [الأنبیاء : 75] هذا هو مجاز.

وفیه الأوصاف الثلاثه.

أمّا السعه فلأنه کأنه زاد فی أسماء الجهات والمحالّ اسما والرحمه.

وأما التشبیه فلأنه شبّه الرحمه - وإن لم یصح دخولها - بما یجوز دخوله فلذلک وضعها موضعه.

وأمّا التوکید فلأنه أخبر عن العرض بما یخبر به عن الجوهر. وهذا تعال بالعرض ، وتفخیم منه ؛ إذ صیّر إلی حیّز ما یشاهد ویلمس ویعاین ؛ ألا تری إلی قول بعضهم فی الترغیب فی الجمیل : ولو رأیتم المعروف رجلا لرأیتموه حسنا جمیلا. وإنما یرغّب فیه بأن ینبّه علیه ، ویعظّم من قدره ، بأن یصوّره فی النفوس علی أشرف أحواله ، وأنوه صفاته. وذلک بأن تخیّل شخصا متجسما لا عرضا متوهّما. وعلیه قوله :

تغلغل حبّ عتمه فی فؤادی

فبادیه مع الخافی یسیر (1)

(أی فبادیه إلی الخافی یسیر) أی فبادیه مضموما إلی خافیه یسیر. وذلک أنه لمّا وصف الحبّ بالتغلغل فقد اتسع به ؛ ألا تری أنه یجوز علی هذا أن تقول :

شکوت إلیها حبّها المتغلغلا

فما زادها شکوای إلا تدلّلا

فیصف بالمتغلغل ما لیس فی أصل اللغه أن یوصف بالتغلغل إنما ذلک وصف یخص الجواهر لا الأحداث ؛ ألا تری أن المتغلغل فی الشیء لا بدّ أن یتجاوز مکانا إلی آخر. وذلک تفریغ مکان وشغل مکان. وهذه أوصاف تخصّ فی الحقیقه الأعیان لا الأحداث. فهذا وجه الاتساع.

وأما التشبیه فلأنه شبّه ما لا ینتقل ولا یزول بما یزول وینتقل. وأما المبالغه والتوکید فلأنه أخرجه عن ضعف العرضیه إلی قوّه الجوهریه.

وعلیه (قول الآخر) :

ص: 209

قرعت ظنابیب الهوی یوم عالج

ویوم النقا حتی قسرت الهوی قسرا (1)

وقول الآخر :

ذهوب بأعناق المئین عطاؤه

عزوم علی الأمر الذی هو فاعله

وقول الآخر :

غمر الرداء إذا تبسّم ضاحکا

غلقت لضحکته رقاب المال (2)

وقوله :

ووجه کأنّ الشمس حلّت رداءها

علیه نقیّ اللون لم یتخدّد (3)

جعل للشمس رداء وهو جوهر ، لأنه أبلغ فی النور الذی هو العرض. وهذه الاستعارات کلها داخله تحت المجاز.

فأمّا قولهم : ملکت عبدا ، ودخلت دارا ، وبنیت حمّاما فحقیقیّ هو ونحوه ، لا استعاره فیه ولا مجاز فی هذه المفعولات ؛ لکن فی الأفعال الواصله إلیها مجاز.

وسنذکره. ولکن لو قال : بنیت لک فی قلبی بیتا أو ملکت من الجود عبدا خالصا أو أحللتک من رأیی وثقتی دار صدق لکان ذلک مجازا واستعاره ؛ لما فیه من الاتساع والتوکید والتشبیه ؛ علی ما مضی.

ومن المجاز کثیر من باب الشجاعه فی اللغه : من الحذوف ، والزیادات ، والتقدیم ، والتأخیر : والحمل علی المعنی ، والتحریف.

ص: 210

ألا تری أنک إذا قلت : بنو فلان یطؤهم الطریق ففیه من السعه إخبارک عمّا لا یصحّ وطؤه بما یصحّ وطؤه. فتقول علی هذا : أخذنا علی الطریق الواطئ لبنی فلان ، ومررنا بقوم موطوءین بالطریق ، ویا طریق طأ بنا بنی فلان أی أدّنا إلیهم.

وتقول : بنی فلان بیته علی سنن المارّه ؛ رغبه فی طئه الطریق بأضیافه له. أفلا تری إلی وجه الاتساع عن هذا المجاز.

ووجه التشبیه إخبارک عن الطریق بما تخبر به عن سالکیه. فشبّهته بهم ؛ إذ کان هو المؤدّی لهم ، فکأنه هم.

وأما التوکید فلأنک إذا أخبرت عنه بوطئه إیاهم کان أبلغ من وطء سالکیه لهم. وذلک أن الطریق مقیم ملازم ، فأفعاله مقیمه معه ، وثابته بثباته. ولیس کذلک أهل الطریق ، لأنهم قد یحضرون فیه ویغیبون عنه ، فأفعالهم أیضا کذلک حاضره وقتا ، وغائبه آخر. فأین هذا ممّا أفعاله ثابته مستمرّه. ولمّا کان هذا کلاما الغرض فیه المدح والثناء اختاروا له أقوی اللفظین ؛ لأنه یفید أقوی المعنیین.

وکذلک قوله سبحانه (وَسْئَلِ الْقَرْیَهَ الَّتِی کُنَّا فِیها) [یوسف : 82] فیه المعانی الثلاثه. أمّا الاتساع فلأنه استعمل لفظ السؤال مع ما لا یصحّ فی الحقیقه سؤاله.

وهذا نحو ما مضی ؛ ألا تراک تقول : وکم من قریه مسئوله. وتقول : القری وتسآلک ؛ کقولک : أنت وشأنک. فهذا ونحوه اتساع.

وأمّا التشبیه فلأنها شبّهت بمن یصحّ سؤاله لمّا کان بها ومؤلفا لها. وأمّا التوکید فلأنه فی ظاهر اللفظ إحاله بالسؤال (علی من) لیس من عادته الإجابه. فکأنهم تضمّنوا لأبیهم علیه السلام أنه إن سأل الجمادات والجبال أنبأته بصحّه قولهم.

وهذا تناه فی تصحیح الخبر. أی لو سألتها لأنطقها الله بصدقنا ، فکیف لو سألت من من عادته الجواب.

وکیف تصرّفت الحال فالاتساع فاش فی جمیع أجناس شجاعه العربیه.

* * *

ص: 211

هنا تعریف الجنس ؛ کقولک : الأسد أشدّ من الذئب وأنت لا ترید أنک (خرجت وجمیع الأسد) التی یتناولها الوهم علی الباب. هذا محال ، واعتقاده اختلال.

وإنما أردت : خرجت فإذا واحد من هذا الجنس بالباب. فوضعت لفظ الجماعه علی الواحد مجازا ؛ لما فیه من الاتساع والتوکید والتشبیه. أمّا الاتساع فإنک وضعت اللفظ المعتاد للجماعه علی الواحد. وأمّا التوکید فلأنک عظّمت قدر ذلک الواحد ، بأن جئت بلفظه علی اللفظ المعتاد للجماعه. وأمّا التشبیه فلأنک شبّهت الواحد بالجماعه ؛ لأن کل واحد منها مثله فی کونه أسدا.

وإذا کان کذلک فمثله قعد جعفر ، وانطلق محمد ، وجاء اللیل وانصرم النهار.

وکذلک أفعال القدیم سبحانه ؛ نحو خلق الله السماء والأرض وما کان مثله ؛ ألا تری - أنه عزّ اسمه - لم یکن منه بذلک خلق أفعالنا ، ولو کان حقیقه لا مجازا لکان خالقا للکفر والعدوان وغیرهما (1) من أفعالنا عزّ وعلا. وکذلک علم الله قیام زید مجاز (2) أیضا ؛ لأنه لیست الحال التی علم علیها قیام زید هی الحال التی علم علیها قعود عمرو. ولسنا نثبت له سبحانه علما ؛ لأنه عالم بنفسه ، إلا أنه مع ذلک نعلم أنه لیست حال علمه بقیام زید هی حال علمه بجلوس عمرو ونحو ذلک.

وکذلک قولک : ضربت عمرا مجاز أیضا من غیر جهه التجوّز فی الفعل - وذلک أنک إنما فعلت بعض الضرب لا جمیعه - ولکن من جهه أخری ؛ وهو أنک إنما ضربت بعضه لا جمیعه ؛ ألا تراک تقول : ضربت زیدا ولعلّک إنما ضربت یده أو إصبعه أو ناحیه من نواحی جسده ؛ ولهذا إذا احتاط الإنسان واستظهر جاء ببدل البعض ، فقال : ضربت زیدا وجهه أو رأسه. نعم ، ثم إنه مع ذلک متجوّز ؛ ألا (تراه قد یقول) : ضربت زیدا رأسه ، فیبدل للاحتیاط وهو إنما ضرب ناحیه من رأسه لا رأسه کله. ولهذا ما یحتاط بعضهم فی نحو هذا ، فیقول : ضربت زیدا جانب وجهه الأیمن أو ضربته أعلی رأسه الأسمق ؛ لأن أعلی رأسه قد تختلف أحواله ، فیکون بعضه أرفع من بعض.

ص: 213

وبعد فإذا عرف التوکید لم وقع فی الکلام - نحو نفسه وعینه وأجمع ، وکله وکلهم وکلیهما وما أشبه ذلک - عرفت منه (حال سعه) المجاز فی هذا الکلام ؛ ألا تراک قد تقول : قطع الأمیر اللصّ ویکون القطع له بأمره لا بیده ، فإذا قلت : قطع الأمیر نفسه اللصّ رفعت المجاز من جهه الفعل وصرت إلی الحقیقه ؛ لکن یبقی علیک التجوّز من مکان آخر وهو قولک : اللصّ وإنما لعلّه قطع یده أو رجله ؛ فإذا احتطت قلت : قطع الأمیر نفسه ید اللصّ أو رجله. وکذلک جاء الجیش أجمع ، ولو لا أنه قد کان یمکن أن یکون إنما جاء بعضه - وإن أطلقت المجیء علی جمیعه - لما کان لقولک : أجمع معنی.

فوقوع التوکید فی هذه اللغه أقوی دلیل علی شیاع المجاز فیها واشتماله علیها ؛ حتی إن أهل العربیه أفردوا له بابا لعنایتهم به ، وکونه ممّا لا یضاع ولا یهمل مثله ؛ کما أفردوا لکل معنی أهمّهم بابا ؛ کالصفه والعطف والإضافه والنداء والندبه والقسم والجزاء ونحو ذلک.

وبینت منذ قریب لبعض منتحلی هذه الصناعه هذا الموضع - أعنی ما فی ضربت زیدا ، وخلق الله ونحو ذلک - فلم یفهمه إلا بعد أن بات علیه وراض نفسه فیه واطّلع فی الموضع الذی أومأت له إلیه ، فحینئذ ما تصوّره ، وجری علی مذهبه فی أن لم یشکره.

واعلم أن جمیع ما أوردناه فی سعه المجاز عندهم واستمراره علی ألسنتهم یدفع دفع أبی الحسن القیاس علی حذف المضاف وإن لم یکن حقیقه. (أولا) یعلم أبو الحسن کثره المجاز غیره ، وسعه استعماله وانتشار مواقعه ؛ کقام أخوک وجاء الجیش وضربت زیدا ونحو ذلک ، وکل ذلک مجاز (لا حقیقه) (وهو علی غایه الانقیاد والاطراد. وکذلک أیضا حذف المضاف مجاز لا حقیقه) وهو مع ذلک مستعمل.

فإن احتجّ أبو الحسن بکثره هذه المواضع ؛ نحو قام زید وانطلق محمد وجاء القوم ونحو ذلک ، قیل له : وکذلک حذف المضاف قد کثر ؛ حتی إن فی القرآن - وهو أفصح الکلام - منه أکثر من مائه موضع ، بل ثلاثمائه موضع ، وفی الشعر منه ما لا أحصیه.

ص: 214

فإن قیل : یجید من هذا أن تقول : ضربت زیدا وإنما ضربت غلامه وولده.

قیل : هذا الذی شنّعت به بعینه جائز ؛ ألا تراک تقول : إنما ضربت زیدا بضربک غلامه ، وأهنته بإهانتک ولده. وهذا باب إنما یصلحه ویفسده المعرفه به. فإن فهم عنک فی قولک : ضربت زیدا أنک إنما أردت بذلک : ضربت غلامه أو أخاه أو نحو ذلک جاز ، وإن لم یفهم عنک لم یجز ؛ کما أنک إن فهم عنک بقولک : أکلت الطعام أنک أکلت بعضه لم تحتج إلی البدل ؛ وإن لم یفهم عنک وأردت إفهام المخاطب إیاه لم تجد بدّا من البیان ، وأن تقول : بعضه أو نصفه أو نحو ذلک. ألا تری أن الشاعر لما فهم عنه ما (أراد بقوله) قال:

صبّحن من کاظمه الخصّ الخرب

یحملن عبّاس بن عبد المطلب (1)

وإنما أراد : عبد الله بن عباس ، ولو لم یکن علی الثقه بفهم ذلک لم یجد بدّا من البیان. وعلی ذلک قول الآخر :

*علیهم بما أعیا النطاسیّ حذیما (2) *

أراد : ابن حذیم.

ویدلک علی لحاق المجاز بالحقیقه عندهم وسلوکه طریقته فی أنفسهم أن العرب قد وکّدته کما وکّدت الحقیقه. وذلک قول الفرزدق :

عشیّه سال المربدان کلاهما

سحابه موت بالسیوف الصوارم (3)

ص: 215

وإنما هو مربد واحد ؛ فثناه مجازا لما یتصل به من مجاوره ، ثم إنه مع ذلک وکده وإن کان مجازا. وقد یجوز أن یکون سمّی کل واحد من جانبیه مربدا.

وقال الآخر :

إذا البیضه الصّماء عضّت صفیحه

بحربائها صاحت صیاحا وصلّت (1)

فأکد (صاحت) وهو مجاز بقوله : صیاحا.

(وأما) قول الله عزوجل : (وَکَلَّمَ اللهُ مُوسی تَکْلِیماً) [النساء : 164] فلیس من باب المجاز (فی الکلام) بل هو حقیقه ؛ قال أبو الحسن (2) : خلق الله لموسی کلاما فی الشجره ، فکلّم به موسی ، وإذا أحدثه کان متکلّما به. فأمّا أن یحدثه فی شجره أو فم أو غیرهما فهو شیء آخر ؛ لکن الکلام واقع ؛ ألا تری أن المتکلم منا إنما یستحقّ هذه الصفه بکونه متکلّما لا غیر ، لا لأنه أحدثه فی آله نطقه ، وإن کان لا یکون متکلما حتی یحرّک به آلات نطقه.

فإن قلت : أرأیت لو أن أحدنا عمل آله مصوّته وحرّکها واحتذی بأصواتها أصوات الحروف المقطعه المسموعه فی کلامنا أکنت تسمّیه متکلما وتسمّی تلک الأصوات کلاما؟.

فجوابه ألا تکون تلک الأصوات کلاما ، ولا ذلک المصوّت لها متکلّما. وذلک أنه لیس فی قوّه البشر أن یوردوه بالآلات التی یصنعونها علی سمت الحروف المنطوق بها وصورتها (فی النفس) ؛ لعجزهم عن ذلک. وإنما یأتون بأصوات فیها الشبه الیسیر من حروفنا ؛ فلا یستحقّ لذلک أن تکون کلاما ، ولا أن یکون الناطق بها متکلما ؛ کما أن الذی یصوّر الحیوان تجسیما أو ترقیما لا یسمی خالقا للحیوان ، وإنما یقال مصوّر وحاک ومشبّه. وأمّا القدیم سبحانه فإنه قادر علی إحداث الکلام علی صورته الحقیقیه ، وأصواته الحیوانیه فی الشجره والهواء ، وما أحبّ سبحانه وشاء. فهذا فرق.

فإن قلت : فقد أحال سیبویه قولنا : أشرب ماء البحر ، وهذا منه حظر للمجاز

ص: 216

الذی أنت مدّع شیاعه وانتشاره.

قیل : إنما أحال ذلک علی أن المتکلم یرید به الحقیقه ، وهذا مستقیم ؛ إذ الإنسان الواحد لا یشرب جمیع ماء البحر. فأمّا إن أراد به بعضه ثم أطلق هناک اللفظ یرید به جمیعه فلا محاله من جوازه ؛ ألا تری إلی (قول الأسود بن یعفر)

نزلوا بأنقره یسیل علیهم

ماء الفرات یجیء من أطواد (1)

(فلم یحصل) هنا جمیعه ؛ لأنه قد یمکن أن یکون بعض مائه مختلجا قبل وصوله إلی أرضهم (بشرب أو بسقی) زرع ونحوه. فسیبویه إذا إنما وضع هذه اللفظه فی هذا الموضع علی أصل (وضعها فی اللغه) من العموم ، واجتنب المستعمل فیه من الخصوص.

ومثل توکید المجاز فیما مضی قولنا : قام زید قیاما ، وجلس عمرو جلوسا ، وذهب سعید ذهابا ، (ونحو ذلک ؛ لأن) قولنا : قام زید ونحو ذلک قد قدّمنا الدلیل علی أنه مجاز. وهو مع ذلک مؤکّد بالمصدر. فهذا توکید المجاز کما تری.

وکذلک أیضا یکون قوله سبحانه : (وَکَلَّمَ اللهُ مُوسی تَکْلِیماً) [النساء : 164] من هذا الوجه مجازا علی ما مضی.

ومن التوکید فی المجاز قوله تعالی : (وَأُوتِیَتْ مِنْ کُلِّ شَیْءٍ) [النمل : 23] ولم تؤت لحیه ولا ذکرا. ووجه هذا عندی أن یکون ممّا حذفت صفته ، حتی کأنه قال : وأوتیت من کل شیء تؤتاه المرأه الملکه ؛ ألا تری (أنها لو) أوتیت لحیه وذکرا لم تکن امرأه أصلا ، ولما قیل فیها : أوتیت ، ولقیل أوتی. ومثله قوله تعالی : (اللهُ خالِقُ کُلِّ شَیْءٍ) [الزمر : 62] وهو سبحانه شیء. (وهذا) مما یستثنیه العقل ببدیهته ، ولا یحوج إلی التشاغل باستثنائه ؛ ألا تری أن الشیء کائنا ما کان لا یخلق نفسه ، کما أن المرأه لا تؤتی لحیه ولا ذکرا.

فأما قوله سبحانه : (وَفَوْقَ کُلِّ ذِی عِلْمٍ عَلِیمٌ) [یوسف : 76] فحقیقه لا مجاز.

ص: 217

وذلک أنه سبحانه لیس عالما بعلم ؛ فهو إذا العلیم الذی فوق ذوی العلوم أجمعین. ولذلک لم یقل : وفوق کل عالم علیم ، لأنه - عز اسمه - عالم ، ولا عالم فوقه.

فإن قلت : فلیس فی شیء مما أوردته من قولک : «وأوتیت من کل شیء» و (خالق کل شیء) ، «وفوق کل ذی علم علیم» ، اللفظ المعتاد للتوکید.

قیل : هو وإن لم یأت تابعا علی سمت التوکید فإنه بمعنی التوکید ألبتّه ؛ ألا تری أنک إذا قلت : عممت بالضرب جمیع القوم ففائدته فائده قولک : ضربت القوم کلهم. فإذا کان المعنیان واحدا کان ما وراء ذلک غیر معتدّ به ولغوا.

* * *

ص: 218

فکما لا یشک فی أن کلامه هاهنا خرج مخرج الشک ، لما فیه من عذوبته وظرف مذهبه ، فکذلک ینبغی أن یکون قوله : أو أنت فی العین أملح (أو) فیه باقیه فی موضعها وعلی شکّها.

وبعد فهذا مذهب الشعراء : أن یظهروا فی هذا ونحو شکّا وتخالجا لیروا قوّه الشبه واستحکام الشبهه ؛ ولا یقطعوا قطع الیقین ألبتّه فینسبوا بذلک إلی الإفراط ؛ وغلوّ الاشتطاط ؛ وإن کانوا هم ومن بحضرتهم ومن یقرأ من بعد أشعارهم یعلمون أن لا حیره هناک ولا شبهه ؛ ولکن (کذا خرج) الکلام علی الإحاطه بمحصول الحال.

وقال أیضا :

ذکرتک أن مرّت بنا أمّ شادن

أمام المطایا تشرئبّ وتسنح (1)

وقال الآخر :

أقول لظبی یرتعی وسط روضه

أأنت أخو لیلی فقال : یقال

وما أحسن ما جاء به الطائیّ الصغیر (فی قوله) :

عارضننا أصلا فقلنا الربرب

حتی أضاء الأقحوان الأشنب

وقال الآخر :

فعیناک عیناها ؛ وجیدک جیدها

سوی أنّ عظم الساق منک دقیق (2)

ص: 220

وذهب قطرب إلی أن (أو) قد تکون بمعنی الواو ، وأنشد بیت النابغه :

قالت ألا لیتما هذا الحمام لنا

إلی حمامتنا أو نصفه فقد (1)

فقال : معناه : ونصفه. ولعمری ، إن کذا معناه. وکیف لا یکون کذلک ولا بدّ منه ، وقد کثرت فیه الروایه أیضا بالواو : ونصفه. لکن هناک مذهب یمکن معه أن یبقی الحرف علی أصل وضعه : من کون الشکّ فیه ؛ وهو أن یکون تقدیره : لیتما هذا الحمام لنا (إلی حمامتنا) أو هو ونصفه. فحذف المعطوف علیها وحرف العطف ؛ علی ما قدمناه فی قوله عزوجل : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاکَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَهَ عَیْناً) [البقره : 60] أی فضرب فانفجرت. وعلیه قول الآخر :

ألا فالبثا شهرین أو نصف ثالث

إلی ذا کما ما غیبتنی غیابیا (2)

أی شهرین أو شهرین ونصف ثالث ، ألا تراک لا تقول مبتدئا : لبثت نصف ثالث ؛ لأن ثالثا من الأسماء المضمّنه بما معها. ودعانا إلی هذا التأوّل السعی فی إقرار (هذه) اللفظه علی أوّل أحوالها.

فأمّا قول الله سبحانه : (وَأَرْسَلْناهُ إِلی مِائَهِ أَلْفٍ أَوْ یَزِیدُونَ) [الصافات : 147] فلا یکون فیه (أو) علی مذهب الفرّاء بمعنی بل ، ولا علی مذهب قطرب فی أنها بمعنی

ص: 221

الواو. لکنها عندنا علی بابها فی کونها شکّا. وذلک أن هذا کلام خرج حکایه من الله عزوجل لقول المخلوقین. وتأویله عند أهل النظر : وأرسلناه إلی جمع لو رأیتموهم لقلتم أنتم فیهم : هؤلاء مائه ألف أو یزیدون.

ومثله مما مخرجه منه تعالی علی الحکایه قوله : (ذُقْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْکَرِیمُ) [الدخان : 49] وإنما هو فی الحقیقه الذلیل المهان ، لکن معناه : ذق إنک أنت الذی کان یقال له : العزیز الکریم. ومثله قوله - عزوجل - (وَقالُوا یا أَیُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّکَ بِما عَهِدَ عِنْدَکَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) [الزخرف : 49] أی یا أیها الساحر عندهم لا عندنا ؛ (وکیف) یکون ساحرا عندهم وهم به مهتدون. وکذلک قوله (أَیْنَ شُرَکائِیَ) [النحل : 27 ، الکهف : 52] أی شرکائی عندکم. وأنشدنا أبو علیّ لبعض الیمانیه یهجو جریرا :

أبلغ کلیبا وأبلغ عنک شاعرها

أنّی الأغرّ وأنّی زهره الیمن

قال : فأجابه جریر ، فقال :

ألم تکن فی وسوم قد وسمت بها

من حان موعظه یا زهره الیمن! (1)

فسماه زهره الیمن متابعه له ، وحکایه للفظه. وقد تقدّم القول علی هذا الموضع.

ومن ذلک ما یدعیه الکوفیون من زیاده واو العطف ؛ نحو قول الله - عزوجل - (حَتَّی إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : 73] (قالوا : الواو هنا زائده مخرجه عن العطف. والتقدیر عندهم فیها : حتی إذا جاءوها فتحت أبوابها). وزیاده الواو أمر لا یثبته البصریون. لکنه عندنا علی حذف الجواب ، أی حتی إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها کذا وکذا صدقوا وعدهم ، وطابت نفوسهم ، ونحو ذلک مما یقال فی مثل هذا.

وأجاز أبو الحسن زیاده الواو فی خبر کان ؛ نحو قولهم : کان ولا مال له ، أی کان لا مال له. ووجه جوازه عندی شبه خبر کان بالحال ، فجری مجری قولهم : جاءنی ولا ثوب علیه ، أی جاءنی عاریا.

ص: 222

فأمّا (هل) فقد أخرجت عن بابها إلی معنی قد ؛ نحو قول الله - سبحانه - (هَلْ أَتی عَلَی الْإِنْسانِ حِینٌ مِنَ الدَّهْرِ) [الإنسان : 1] قالوا : معناه : قد أتی علیه ذلک. وقد یمکن عندی أن تکون مبقّاه فی هذا الموضع علی بابها من الاستفهام ، فکأنه قال - والله أعلم - : هل أتی علی الإنسان هذا؟ فلا بدّ فی جوابه من (نعم) ملفوظا بها أو مقدره ، أی فکما أن ذلک کذلک فینبغی للإنسان أن یحتقر نفسه ، ولا یبأی بما فتح له. وهذا کقولک لمن ترید الاحتجاج علیه : بالله هل سألتنی فأعطیتک! أم هل زرتنی فأکرمتک!. أی فکما أن ذلک کذلک فیجب أن تعرف حقّی علیک ، وإحسانی إلیک. ویؤکّد هذا عندک قوله تعالی : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَهٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِیهِ فَجَعَلْناهُ سَمِیعاً بَصِیراً * إِنَّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ) [الإنسان : 2 ، 3] أفلا تراه - عزّ اسمه - کیف عدّد علیه أیادیه وألطافه له.

فإن قلت : فما تصنع بقول الشاعر :

سائل فوارس یربوع بشدّتنا

أهل رأونا بسفح القفّ ذی الأکم (1)

ألا تری إلی دخول همزه الاستفهام علی هل ، ولو کانت علی ما فیها من الاستفهام لم تلاق همزته لاستحاله اجتماع حرفین لمعنی واحد. وهذا یدلّ علی خروجها عن الاستفهام إلی معنی الخبر.

قیل : هذا قول یمکن أن یقوله صاحب هذا المذهب.

ومثله خروج الهمزه عن الاستفهام إلی التقریر ؛ ألا تری أن التقریر ضرب من الخبر ، وذلک ضدّ الاستفهام. ویدلّ علی أنه قد فارق الاستفهام امتناع النصب بالفاء فی جوابه ، والجزم بغیر الفاء (فی جوابه) ألا تراک لا تقول : ألست صاحبنا

ص: 223

فنکرمک ؛ کما تقول ؛ لست صاحبنا فنکرمک. ولا تقول فی التقریر : أأنت فی الجیش أثبت اسمک ؛ کما تقول فی الاستفهام الصریح : أأنت فی الجیش أثبت اسمک ؛ کما نقول : ما اسمک أذکرک أی إن أعرفه أذکرک. ولأجل ما ذکرنا من حدیث همزه التقریر ما صارت تنقل النفی إلی الإثبات ، والإثبات إلی النفی ؛ وذلک کقوله :

ألستم خیر من رکب المطایا

وأندی العالمین بطون راح (1)

أی (أنتم کذاکم) وکقول الله - عزوجل - (آللهُ أَذِنَ لَکُمْ) [یونس : 59] ، (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائده : 116] أی لم یأذن لکم ، ولم تقل للناس : اتخذونی وأمی إلهین ، ولو کانت استفهاما محضا لأقرّت الإثبات علی إثباته ، والنفیّ علی نفیه.

فإذا دخلت (2) علی الموجب نفته ، (وإذا دخلت علی النفی نفته) و (نفی النفی عائد) به إلی الإثبات. ولذلک لم یجیزوا ما زال زید إلا قائما لمّا آل به المعنی (من النفی) إلی : ثبت زید إلا قائما. فکما لا یقال هذا فکذلک لا یقال ذلک. فاعرفه.

ویدلّ علی صحّه معنی التناکر فی همزه التقریر أنها قد أخلصت للإنکار فی نحو قولهم فی جواب قوله ضربت عمر : أعمراه! ومررت بإبراهیم : أإبراهیماه.

ورأیت جعفرا : (أجعفرنیه ، وأ جعفرا إنیه!). وهذا واضح.

واعلم أنه لیس شیء یخرج عن بابه إلی غیره إلا لأمر قد کان وهو علی بابه ملاحظا له ، وعلی صدد من الهجوم علیه.

وذلک أن المستفهم عن الشیء قد یکون عارفا به مع استفهامه فی الظاهر عنه ، لکن غرضه فی الاستفهام عنه أشیاء. منها أن یری المسئول أنه خفی علیه لیسمع جوابه عنه. ومنها أن یتعرف حال المسئول هل هو عارف بما السائل عارف به.

ومنها أن یری الحاضر غیرهما أنه بصوره السائل المسترشد ؛ لما له فی ذلک من الغرض. ومنها أن یعدّ ذلک لما بعده ممّا یتوقّعه ، حتی إن حلف بعد أنه قد سأله

ص: 224

عنه حلف صادقا ، فأوضح بذلک عذرا. و (لغیر ذلک) من المعانی التی یسأل السائل عما یعرفه لأجلها وبسببها.

فلمّا کان السائل فی جمیع هذه الأحوال قد یسأل عما هو عارفه ، أخذ بذلک طرفا من الإیجاب ، لا السؤال عن مجهول الحال. وإذا کان ذلک کذلک جاز لأجله أن یجرّد فی بعض الأحوال ذلک الحرف لصریح ذلک المعنی. فمن هنا جاز أن تقع (هل) فی بعض الأحوال موضع (قد) ؛ کما جاز لأو أن تقع فی (بعض الأحوال موقع) الواو ؛ نحو قوله:

وکان سیّان ألا یسرحوا نعما

أو یسرحوه بها واغبّرت السوح (1)

جاز ذلک لما کنت تقول : جالس الحسن أو ابن سیرین ، فیکون مع ذلک متی جالسهما جمیعا کان فی ذلک مطیعا. فمن هنا جاز أن یخرج فی البیت ونحوه إلی معنی الواو.

(وکل) حرف فیما بعد یأتیک قد أخرج عن بابه إلی باب آخر فلا بدّ أن یکون قبل إخراجه إلیه قد کان یرائیه ، ویلتفت إلی الشقّ الذی هو فیه. فاعرف ذلک ، وقسه ؛ فإنک إذا (فعلته) لم تجد الأمر إلا کما ذکرته ، وعلی ما شرحته.

* * *

ص: 225

فقلت : أنشدتنی : من بائس ، فقال (یابس وبائس) واحد. وأخبرنا أبو بکر محمد ابن الحسن عن أبی العباس أحمد بن یحیی قال (أنشدنی ابن الأعرابی) :

وموضع زبن لا أرید مبیته

کأنی به من شدّه الروع آنس (1)

فقال له شیخ من أصحابه : لیس هکذا أنشدتنا ، إنما أنشدتنا : وموضع ضیق.

فقال : سبحان الله! تصحبنا منذ کذا وکذا ولا تعلم أن الزبن والضیق واحد ، وقد قال الله سبحانه وهو أکرم قیلا : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَیًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنی) [الإسراء : 110] وقال رسول الله صلی الله علیه وسلم : «نزل القرآن علی سبع لغات کلها شاف کاف» (2).

وهذا ونحوه - عندنا - هو الذی أدی إلینا أشعارهم وحکایاتهم بألفاظ مختلفه ، علی معان متفقه. وکان أحدهم إذا أورد المعنی المقصود بغیر لفظه المعهود ، کأنه لم یأت إلا به ، (ولا عدل) عنه إلی غیره ؛ إذ الغرض فیهما واحد ، وکل واحد منهما لصاحبه مرافد. وکان أبو علیّ - رحمه الله - إذا عبر عن معنی بلفظ ما فلم یفهمه القارئ علیه ، وأعاد ذلک المعنی عینه بلفظ غیره ففهمه ، یقول : هذا إذا رأی ابنه فی قمیص أحمر عرفه ؛ فإن رآه فی قمیص کحلیّ لم یعرفه.

فأما الحکایه عن الحسن - رضی الله عنه - وقد سأله رجل عن مسئله ، ثم أعاد السؤال فقال له الحسن : لبّکت علیّ أی خلطت ، فتأویله عندنا أنه أفسد المعنی الأوّل بشیء جاء به فی القول الثانی. فأمّا أن یکون الحسن تناکر الأمر لاختلاف اللفظین (مع اتفاق) المعنیین فمعاذ الله ، و (حاشی أبا سعید) (3). ویشبه أن یکون الرجل لمّا أعاد سؤاله بلفظ ثان قدّر أنه بمعنی اللفظ الأوّل ولم یحسن ما فهمه الحسن رضی الله عنه ، کالذی یعترف عند القاضی بما یدّعی علیه ، وعنده أنه مقیم

ص: 227

علی إنکاره إیاه. ولهذا نظائر. ویحکی أن قوما ترافعوا إلی الشعبیّ فی رجل بخص عین رجل فشرقت بالدم ، فأفتی فی ذلک بأن أنشد بیت الراعی :

لها أمرها حتی إذا ما تبوّأت

بأخفافها مأوی تبوّأ مضجعا (1)

لم یزدهم علی هذا. وتفسیره أن هذه العین ینتظر بها أن یستقرّ أمرها علی صوره معروفه محصّله ، ثم حینئذ یحکم فی بابها بما توجبه الحال من أمرها.

فانصرف القوم بالفتوی ، وهم عارفون بغرضه فیها.

(وأمّا) أتباع العلماء العرب فی هذا النحو فکقول سیبویه : «ومن العرب من یقول : لبّ فیجرّه کجرّ أمس وغاق» ؛ ألا تری أنه لیس فی واحد من الثلاثه جرّ ؛ إذ الجرّ إعراب لا بناء ، وهذه الکلم کلها مبنیّه (لا معربه) فاستعمل لفظ الجرّ علی معنی الکسر ، کما یقولون فی المنادی المفرد المضموم : إنه مرفوع ، وکما یعبرون بالفتح عن النصب ، وبالنصب عن الفتح ، وبالجزم عن الوقف (وبالوقف عن الجزم) کلّ ذلک لأنه أمر قد عرف غرضه والمعنی المعنیّ به.

وإذا جاز أن یکون فی أصول هذه اللغه المقرّره اختلاف اللفظین والمعنی واحد کان جمیع ما نحن فیه جائزا سائغا ، ومأنوسا به متقبلا.

* * *

ص: 228

کالباب الأوّل. فصارت أوّل : حقوّ ، ثم حقیو ، (ثم حقی) ثم حقی. فهذا وجه.

وإن شئت قلت : بدأت بدلوّ فأبدلت لامها لضعفها بالتطرف (وثقلها) یاء ، فصارت دلوی وحقوی. ثم أبدلت الواو یاء لوقوع الیاء بعدها ، فصارت حقی (ثم أبدلت من الضمه فی العین کسره لتصحّ الیاء بعدها ، فصارت : حقی) ثم أتبعت فقلت : حقی (ودلیّ).

ومن ذلک قولهم : إن أصل قام قوم ، فأبدلت الواو ألفا. وکذلک باع أصله بیع ، ثم أبدلت الیاء ألفا ؛ لتحرّکها وانفتاح ما قبلها. وهو - لعمری - کذلک ، إلا أنک لم تقلب واحدا من الحرفین إلا بعد أن أسکنته استثقالا لحرکته ، فصار إلی قوم وبیع ، ثم انقلبا لتحرّکهما فی الأصل وانفتاح ما قبلهما الآن. ففارقا بذلک باب ثوب وشیخ ؛ لأن هذین ساکنا العینین ، ولم یسکنا عن حرکه ولو رمت قلب الواو والیاء من نحو قوم وبیع وهما متحرکتان لاحتمتا بحرکتیهما ، فعزّتا فلم تنقلبا. فهذا واضح.

ومن ذلک ستّ ؛ أصلها سدس ، فلمّا کثرت فی الکلام أبدلوا السین تاء ؛ کقولهم : النات فی الناس ونحوه ، فصارت سدت. (فلما تقارب الحرفان فی مخرجیهما أبدلت الدال تاء وأدغمت فی التاء فصارت ستّ). ولو بدأت هذا الإبدال عاریا من تلک الصنعه لکان استطاله علی الحرفین ، وهتکا للحرمتین.

فاعرف بهذا النحو هذه الطریق ، ولا تقدمنّ علی أمر من التغییر إلا لعذر فیه وتأتّ له ما استطعت. فإن لم تجن علی الأقوی کانت جنایتک علی الأضعف ؛ لتتطرق به إلی إعلال الأقوی أعذر وأولی. فأبه له وقس علیه.

فأمّا قوله :

*أو الفا مکّه من ورق الحمی (1) *

فلم تکن الکسره لتقلب المیم یاء ؛ ألا تراک تقول : تظنّیت وتقصّیت والفتحه

ص: 230

هناک ، لکنه کسر للقافیه.

ومن ذلک مذهب أبی الحسن فی قول الله تعالی : (وَاتَّقُوا یَوْماً لا تَجْزِی نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَیْئاً) [البقره : 48] لأنه ذهب إلی أنه حذف حرف الجر فصار تجزیه ، ثم حذف الضمیر فصار تجزی. فهذه ملاطفه (من الصنعه). ومذهب سیبویه أنه حذف (فیه) دفعه واحده.

* * *

ص: 231

وهی نفسها الجائیه بطائف الأهوال.

وقد تستعمل الباء هنا فتقول : لقیت به الأسد ، وجاورت به البحر ، أی لقیت بلقائی إیّاه الأسد. ومنه مسئله الکتاب : أمّا أبوک فلک أب ، أی لک منه أو به أو بمکانه أب. وأنشدنا :

أفاءت بنو مروان ظلما دماءنا

وفی الله إن لم یعدلوا حکم عدل (1)

وهذا غایه البیان والکشف ؛ ألا تری أنه لا یجوز أن یعتقد أن الله سبحانه ظرف لشیء ولا متضمّن له ، فهو إذا علی حذف المضاف ، أی فی عدل الله عدل حکم عدل.

(وأنشدنا :

بنزوه لصّ بعد ما مر مصعب

بأشعث لا یفلی ولا هو یقمل (2)

ومصعب نفسه هو الأشعث). وأنشدنا :

جازت البید إلی أرحلنا

آخر اللیل بیعفور خدر (3)

وهی نفسها الیعفور. وعلیه جاء قوله :

یا نفس صبرا کل حیّ لاق

وکل اثنین إلی افتراق (4)

وقول الآخر :

ص: 233

قالت له النفس إنی لا أری طمعا

وإنّ مولاک لم یسلم ولم یصد (1)

وقول الآخر :

أقول للنفس تأساء وتعزیه

إحدی یدیّ أصابتنی ولم ترد (2)

(وأما) قوله - عزّ اسمه (یا أَیَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّهُ) [الفجر : 27] فلیس من ذا ، بل النفس هنا جنس (وهو) کقوله تعالی : (یا أَیُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّکَ بِرَبِّکَ الْکَرِیمِ) [الانفطار : 6] و (نحوه). وقد دعا تردد هذا الموضع علی الأسماع ، ومحادثته الأفهام ، أن ذهب قوم (3) إلی أن الإنسان هو معنی ملتبس بهذا الهیکل الذی (یراه) ، ملاق له ، وهذا الظاهر مماسّ لذلک الباطن ، کل جزء منه منطو علیه ومحیط به.

* * *

ص: 234

وحذفت لسکونها وسکون الثانیه بعدها. وکذلک حذفت لام الفعل لیاءی الإضافه فی نحو مصطفیّ وقاضیّ ومرامیّ (فی مرامی). وکذلک باب یعد ویزن ؛ حذفت فاؤه لحرف المضارعه الزائد (کل ذلک) لما کان الزائد ذا معنی. وهذا أحد ما یدلّ علی شرف المعانی عندهم ورسوخها فی أنفسهم. نعم ، وقد حذفوا الأصل عند الخلیل للزائده وإن کانا متساویی المعنیین. وإذا کان ذلک جائزا عندهم ، ومسموعا فی لغتهم ، فما ظنّک بالحرف الزائد إذا کان ذا معنی. وذلک قوله :

بنی عقیل ماذه الخنافق!

لمال هدی والنساء طالق

(فالخنافق) جمع خنفقیق والنون زائده ، والقاف الأولی عند الخلیل هی الزائده ، والثانیه هی الأصل وهی المحذوفه - وقد قدّمنا دلیل ذلک - والنون والقاف جمیعا لمعنی واحد ، وهو الإلحاق.

(فإذا) کانوا قد حذفوا الأصل للزائد وهما فی طبقه واحده - أعنی اجتماعهما علی کونهما للإلحاق - فکیف - لیت شعری - تکون الحال إذا کان الزائد لمعنی والأصلیّ المحذوف لغیر معنی! وهذا واضح.

وفی قولهم : خنافق تقویه لقول سیبویه فی تحقیر مقعنسس وتکسیره (مقاعس ومقیعس) فاعرفه ؛ فإنه قویّ فی بابه.

بل إذا کانوا قد حذفوا الملحق للملحق فحذف الملحق لذی المعنی - وهو المیم - أقوی وأحجی. وکأنهم إنما أسرعوا إلی حذف الأصلی للزائد ؛ تنویها به ، وإعلاء له ، وتثبیتا لقدمه فی أنفسهم ، ولیعلموا بذلک قدره عندهم وحرمته فی تصوّرهم ولحاقه بأصول الکلم فی معتقدهم ؛ ألا تراهم قد یقرّونه فی الاشتقاق مما هو فیه إقرارهم الأصول. وذلک قولهم : قرنیت السقاء إذا دبغته بالقرنوه ، فاشتقّ الفعل منها وأقرت الواو الزائده فیها ، حتی أبدلت یاء فی قرنیت. ومثله قولهم : قلسیت الرجل ؛ فالیاء هنا بدل من واو قلنسوه الزائده ، ومن قال قلنسته فقد أثبت أیضا النون وهی زائده. وکذلک قولهم : تعفرت الرجل إذا خبث ، فاشتق من العفریت وفیه التاء زائده.

فنظیر تقویتهم أمر الزائد وحذف الأصل له قول الشاعر :

ص: 236

أمیل مع الذمام علی ابن عمّی

وأحمل للصدیق علی الشقیق (1)

وجمیع ما ذکرناه من قوّه الزائد عندهم وتمکّنه فی أنفسهم یضعف قول من حقّر تحقیر الترخیم ، ومن کسّر علی حذف الزیاده. وقد ذکرنا هذا. إلا أن وجه جواز ذلک قول الآخر:

کیما أعدّهم لأبعد منهم

ولقد یجاء إلی ذوی الأحقاد (2)

وقول المولّد :

*وأنف الفتی من وجهه وهو أجدع*

وقول الآخر :

أخاک أخاک إن من لا أخا له

کساع إلی الهیجا بغیر سلاح (3)

(وهو باب واسع).

ص: 237

ولا یکون أفعول إلا للمدّ ؛ ألا تری أنک لا تستفید بهمزه أفعول وواوه معنی مخصوصا ؛ کما تستفید بمیم مفعول وواوه معنی مخصوصا ، وهو إفاده اسم المفعول. فهذا من طریق التأمّل واضح. وإذا کان کذلک فکذلک إفعیل لا یکون ملحقا. وأبین منه باب إفعال ؛ لأنه موضوع للمعنی وهو المصدر ؛ نحو الإسلام والإکرام. والمعنی أغلب علی المثال من الإلحاق. وکذلک باب أفعال ؛ لأنه موضوع للتکسیر ؛ کأقتاب وأرسان.

فإن قلت : فقد جاء عنهم نحو إمخاض ، وإسنام (1) ، (وإصحاب) وإطنابه (2) ، قیل : هذا فی الأسماء قلیل جدّا ، وإنما بابه المصادر ألبتّه. وکذلک ما جاء عنهم من وصف الواحد بمثال أفعال ؛ نحو برمه أعشار ، وجفنه أکسار ، وثوب أکباش (3) وتلک الأحرف المحفوظه فی هذا. إنما هی علی أن جعل کل جزء منها عشرا وکسرا وکبشا. وکذلک کبد أفلاذ (4) ، وثوب أهباب وأخباب ، وحبل أرمام (5) وأرماث وأقطاع وأحذاق ، وثوب أسماط ؛ کل هذا متأوّل فیه معنی الجمع.

وکذلک مفعیل ومفعول ومفعال ومفعل : لیس شیء من ذلک ملحقا ؛ لأن أصل زیاده المیم فی الأوّل إنما هی لمعنی ، وهذه غیر طریق الإلحاق. ولهذا ادّغموه فقالوا : مصکّ ومتلّ ونحوهما. وأمّا أفاعل کأحامر وأجارد وأباتر (6) ، فلا تکون الهمزه فیه والألف للإلحاق بباب قذعمل (7). ومن أدلّ الدلیل علی ذلک أنک لا تصرف شیئا من ذلک علما. وذلک لما فیه من التعریف ومثال الفعل ؛ (لأنّ) أجارد وأباترا جار مجری أضارب وأقاتل. وإذا جری مجراه فقد لحق فی المثال به ، والهمزه فی ذلک إنما هی فی أصل هذا المثال للمضارعه ، والألف هی ألف فاعل فی جارد وباتر لو نطقوا به ، وهی کما تعلم للمعنی کألف ضارب وقاتل. فکل

ص: 239

واحد من الحرفین إذا إنما هو للمعنی ، (وکونه) للمعنی أشدّ شیء إبعادا له عن الإلحاق ؛ لتضادّ القضیتین علیه ؛ من حیث کان الإلحاق طریقا صناعیا لفظیا ، والمعنی طریقا مفیدا معنویا. وهاتان طریقتان متعادیتان. وقد فرغنا منهما فیما قبل.

وأیضا فإن الألف لا تکون للإلحاق حشوا أبدا ، إنما تکون له إذا وقعت طرفا لا غیر ، کأرطی ومعزی وحبنطی. وقد تقدّم ذلک أیضا.

ولا یکون أجارد أیضا ملحقا بعذافر ؛ لما قدّمناه : من أن الزیاده فی الأوّل لا تکون للإلحاق ، إلا أن یقترن بها حرف غیر مدّ ؛ کنون ألندد وواو إزمول (1) وإسحوف (2) وإدرون (3) ؛ لکن دواسر (4) ملحق بعذافر (5). ومثله عیاهم (6). وکذلک کوألل (7) ملحق بسبهلل الملحق بهمرجل (8). وأدلّ دلیل علی إلحاقه ظهور تضعیفه ، أعنی کوأللا. ومثله سبهلل. فاعرفه.

ومثل طومار - عندنا - دیماس (9) فیمن قال : دیامیس ، ودیباج فیمن قال : دیابیج ؛ هو ملحق بقرطاس ؛ (کما أن طومارا ملحق بفسطاط). وساغ أن تکون الواو الساکنه المضموم ما قبلها ، والیاء الساکنه المکسور ما قبلها للإلحاق من حیث کانتا لا تجاوران الطّرف بحیث یتمکّن المدّ. وذلک أنک لو بنیت مثل طومار أو دیماس من سألت لقلت : سوآل وسیئال ؛ فإن خففت حرکت کل واحد من الحرفین بحرکه الهمزه التی بعده ، فقلت : سوال وسیال ، ولم تقلب الهمزه وتدغم فیها الحرف ؛ کمقروّ والنسیّ ؛ لأن الحرفین تقدّما عن الموضع الذی یقوی فیه حکم المدّ وهو جواره الطرف. وقد تقدّم ذلک.

فتأمل هذه المواضع التی أریتکها ؛ (فإن أحدا من أصحابنا لم یذکر شیئا منها).

ص: 240

وقالوا أیضا : هیّبان (1) وتیّحان (2) بفتح عینیهما ، ولم یأت فی باب ما اعتلّت لامه فاعل مکسّرا علی فعله. (فالاعتلال المعتدّ) إذا إنما هو للام ، ثم حملت العین علیها فیما ذکرت لک.

ویؤکّد عندک قوّه العین علی اللام أنهما إذا کانتا حرفی عله صحّت العین واعتلّت اللام (وذلک) نحو نواه وحیاه ، والجوی والطوی. ومثله الضواه (3) والحواه (4). فأما آیه وغایه وبابهما فشاذّ. وکأن فیه ضربا من التعویض لکثره اعتلال اللام مع صحّه العین إذا کانت أحد الحرفین.

ویدلّک علی ضعف اللام عندهم أنهم إذا کسّروا کلمه علی فعائل وقد کانت الیاء ظاهره فی واحدها لاما فإنهم مما یظهرون فی الجمع یاء. وذلک نحو مطیّه ومطایا وسبیّه وسبایا و (سویّه وسوایا) فهذه اللام. وکذلک إن ظهرت الیاء فی الواحد زائده فإنهم أیضا مما یظهرونها فی الجمع. وذلک نحو خطیئه وخطایا ، ورزیّه ورزایا ؛ أفلا تری إلی مشابهه اللام للزائد. (وکذلک أیضا لو کسّرت نحو عظایه وصلایه لقلت : عظایا وصلایا). وأیضا فإنک تحذفها کما تحذف الحرکه.

وذلک فی نحو لم یدع ولم یرم ولم یخش. فهذا کقولک : لم یضرب ، (ولم یقعد) وإن تقعد أقعد. ومنها أیضا حذفهم إیاها وهی صحیحه للترخیم فی نحو یا حار ویا مال. فهذا نحو حذفهم الحرکات الزوائد فی کثیر من المواضع. ولو لم یکن من ضعف اللام إلا اختلاف أحوالها باختلاف الحرکات علیها ، نعم ، وکونها

ص: 242

فی الوقف علی حال یخالف حالها فی الوصل - نحو مررت بزید یا فتی ومررت بزید ، وهذه قائمه یا فتی ، وهذه قائمه - لکان کافیا ؛ أولا تری إلی کثره حذف اللام ؛ نحو ید ودم وغد وأب وأخ ، وذلک الباب ، وقلّه حذف العین فی سه ومد. فبهذا ونحوه یعلم أن حرف العله فی نحو قام وباع أقوی منه فی باب غزوت ورمیت. فاعرفه.

* * *

ص: 243

فظاهر هذا أن یکون (جوازیه) جمع جاز أی لا یعدم شاکرا علیه ، ویجوز أن یکون جمع جزاء أی لا یعدم جزاء علیه. وجاز أن یجمع جزاء علی جواز لمشابهه المصدر اسم الفاعل ؛ فکما جمع سیل علی سوائل ؛ نحو قوله :

*وکنت لقی تجری علیک السوائل (1) *

(أی السیول) کذلک یجوز أن یکون (جوازیه) جمع جزاء. ومثله قوله :

*وتترک أموال علیها الخواتم (2) *

یجوز أن یکون جمع خاتم أی آثار الخواتم ، ویجوز أن یکون جمع ختم علی ما مضی. ومن ذلک قوله :

ومن الرجال أسنّه مذروبه

ومزنّدون شهودهم کالغائب (3)

یجوز أن یکون (شهودهم) جمع شاهد ، وأراد : کالغیّاب ، فوضع الواحد موضع الجمع ؛ علی قوله :

*علی رءوس کرءوس الطائر*

(یرید الطیر) ویجوز أن یکون (شهودهم) مصدرا فیکون الغائب هنا مصدرا أیضا ، کأنه قال : شهودهم کالغیبه أو المغیب ، ویجوز أیضا أن یکون علی حذف المضاف ، أی شهودهم کغیبه الغائب.

ص: 246

ومن ذلک قوله :

إلا یکن مال یثاب فإنه

سیأتی ثنائی زیدا بن مهلهل (1)

فالوجه أن یکون (ابن مهلهل) بدلا من زید لا وصفا له ؛ لأنه لو کان وصفا لحذف تنوینه ، فقیل : زید بن مهلهل. ویجوز أیضا أن یکون وصفا أخرج علی أصله ؛ ککثیر من الأشیاء تخرج علی أصولها تنبیها علی أوائل أحوالها ؛ کقول الله سبحانه : (اسْتَحْوَذَ عَلَیْهِمُ الشَّیْطانُ) [المجادله : 19] (ونحوه).

ومثله قول الآخر :

*جاریه من قیس بن ثعلبه (2) *

القول فی البیتین سواء.

والقول فی هذا واضح ؛ ألا تری أن العالم الواحد قد یجیب فی الشیء الواحد أجوبه وإن کان بعضها أقوی من بعض ، ولا تمنعه قوّه القویّ من إجازه الوجه الآخر ، إذ کان من مذاهبهم وعلی سمت کلامهم ، کرجل له عدّه أولاد ، فکلهم ولد له ولا حق به ، وإن تفاوتت أحوالهم فی نفسه. فإذا رأیت العالم قد أفتی فی شیء من ذلک بأحد الأجوبه الجائزه فیه فلأنه وضع یده علی أظهرها عنده ، فأفتی به وإن کان مجیزا للآخر وقائلا به ؛ ألا تری إلی قول سیبویه فی قولهم : له مائه بیضا : إنه حال من النکره ؛ وإن کان جائزا أن یکون (بیضا) حالا من الضمیر المعرفه المرفوع فی (له). وعلی ذلک حمل قوله :

*لعزّه موحشا طلل (3) *

ص: 247

فقال فیه : إنه حال من النکره ، ولم یحمله علی الضمیر فی الظرف. أفیحسن بأحد (أن یدّعی علی أحد) متوسّطینا أن یخفی هذا الموضع علیه ، فضلا عن المشهود له بالفضل : سیبویه.

نعم ، وربما أفتی بالوجه الأضعف عنده ؛ لأنه علی الحالات وجه صحیح. وقد فعلت العرب ذلک عینه ؛ ألا تری إلی قول عماره لأبی العباس وقد سأله عما أراد بقراءته : (وَلَا اللَّیْلُ سابِقُ النَّهارِ) [یس : 40] فقال له : ما أردت؟ فقال أردت : سابق النهار ؛ فقال له أبو العباس : فهلا قلته؟ فقال لو قلته لکان أوزن أی أقوی.

وهذا واضح. فاعرف ذلک ونحوه مذهبا یقتاس به ویفزع إلیه.

* * *

ص: 248

قیات أو قوات لم تخل من أحد أمرین ، کل واحد منهما غیر جائز : أحدهما أن تثبت حکم الیاء والواو حرفین ساکنین فتجیء الألف بعد الساکن ، وهذا ممتنع غیر جائز. والآخر أن تسقط حکمهما لسکونهما وضعفهما ، فتکون الألف کأنها تالیه للکسره والضمه ، وهذا خطأ بل محال.

فإن قلت : فهلا جاز علی هذا أن تجمع بین الألفین وتکون الثانیه کأنها إنما هی تابعه للفتحه (قبل الأولی ؛ لأن الفتحه) ممّا تأتی قبل الألف لا محاله ، وأنت الآن آنفا تحکی عن أبی إسحاق أنه قال : لو مددتها إلی العصر لما کانت إلا ألفا واحده؟

قیل : وجه امتناع ذلک أنک لو تکلّفت ما هذه حاله للزمک للجمع بین الساکنین اللذین هما الألفان اللتان نحن فی حدیثهما أن تمطل الصوت بالأولی تطاولا به إلی اللفظ بالثانیه ، ولو تجشّمت ذلک لتناهیت فی مدّ الأولی ، فإذا صارت إلی ذلک تمّت ووفت فوقفت بک بین أمرین ، کلاهما ناقض علیک ما أعلقت به یدیک :

أحدهما : أنها لمّا طالت وتمادت ذهب ضعفها وفقد خفاؤها فلحقت لذلک بالحروف الصحاح ، وبعدت عن شبه الفتحه الصغیره القصیره الذی رمته.

والآخر : أنها تزید صوتا علی ما کانت علیه ، وقد کانت قبل أن تشبع مطلها أکثر من الفتحه قبلها ؛ أفتشبّها بها من بعد أن صارت للمدّ أضعافها. هذا جور فی القسمه ، وإفحاش فی الصنعه ، واعتداء علی محتمل الطبیعه (والمنّه) (1). ولذلک لم یأت عنهم شیء من مقول ومبیع علی الجمع بین ساکنیهما وهما مقوول ومبیوع ؛ لأنک إنما تعتقد أن الساکن الأوّل منهما کالحرکه ما لم تتناه فی مطله وإطالته (وأمّا) والجمع بینهما ساکنین حشوا یقتادک إلی تمکین الحرف الأوّل وتوقیته حقه لیؤدیک إلی الثانی والنطق به فلا یجوز حینئذ وقد أشبعت الحرف وتمادیت فیه أن تشبهه بالحرکه ؛ لأن فی ذلک إضعافا له بعد أن حکمت بطوله وقوّته ؛ ألا تری أنک (إنما) شبّهت باب عصیّ بباب أدل وأحق لما خفیت (واو فعول) بادغامها ، فحینئذ جاز أن تشبهها بضمه أفعل. فأمّا وهی علی غایه جمله البیان والتمام فلا. وإذا لم یجز هذا التکلف فی الواو والیاء وهما أحمل له ، کان مثله فی الألف للطفها وقله احتمالها ما تحتمله الیاء والواو أحری وأحجی.

ص: 250

وکذلک الحرفان الصحیحان یقعان حشوا ، وذلک غیر جائز نحو فصبل ومرطل ؛ هذا خطأ ، بل ممتنع.

فإن کان الساکنان المحشوّ بهما الأوّل منهما حرف معتل والثانی حرف صحیح تحامل النطق بهما. وذلک (نحو قالب ، وقولب ، وقیلب). إلا أنه وإن کان سائغا ممکنا فإن العرب قد عدته وتخطته ؛ عزوفا عنه وتحامیا لتجشّم الکلفه فیه ؛ ألا تری أنهم لما سکنت عین فعلت ولامه حذفوا العین ألبته فقالوا : قلت وبعت وخفت ، ولم یقولوا : قولت ، ولا بیعت ، ولا خیفت ولا نحو ذلک ممّا یوجبه القیاس.

(وإذا) کانوا قد یتنکبون ما دون هذا فی الاستثقال نحو قول عماره (ولا اللیل سابق النهار) مع أن إثبات التنوین هنا لیس بالمستثقل استثقال قولت وبیعت وخیفت کان ترک هذا ألبته واجبا.

فإن کان الثانی الصحیح مدغما کان النطق به جائزا حسنا ؛ وذلک نحو شابّه ودابّه وتمودّ الثوب وقوصّ بما علیه. وذلک أن الادغام أنبی اللسان عن المثلین نبوه واحده ، فصارا لذلک کالحرف الواحد.

فإن تقدّم الصحیح علی المعتل لم یلتقیا حشوا ساکنین ؛ نحو ضروب وضریب.

وأمّا الألف فقد کفینا التعب بها ؛ إذ کان لا یکون ما قبلها أبدا ساکنا. وذلک أنّ الواو والیاء إذا سکنتا قویتا شبها بالألف. وإنما جاز أن یجیء ما قبلهما من الحرکه لیس منهما ؛ نحو بیت وحوض لأنهما علی کل حال محرّک ما قبلهما ؛ وإنما النظر فی تلک الحرکه ما هی أمنهما أم من غیر جنسهما. فأمّا أن یسکن ما قبلهما وهما ساکنتان حشوا فلا ؛ کما أن سکون ما قبل الألف خطأ. فإن سکن ما قبلهما وهما ساکنان طرفا جاز ؛ نحو عدو ، وظبی. وذلک أن آخر الکلمه أحمل لهذا النحو من حشوها ؛ ألا تراک تجمع فیه بین الساکنین وهما صحیحان ؛ نحو بکر وحجر وحلس. وذلک أن الطرف لیس سکونه بالواجب ؛ ألا تراه فی غالب الأمر محرّکا فی الوصل ، وکثیرا ما یعرض له روم (1) الحرکه فی الوقف. فلما کان الوقف مظنّه من السکون ، وکان له من اعتقاب الحرکات علیه فی الوصل ورومها فیه عند

ص: 251

الوقف ما قدّمناه ، تحامل الطبع به ، وتساند إلی تلک التعلّه فیه.

نعم ، وقد تجد فی بعض الکلام التقاء الساکنین الصحیحین فی الوقف وقبل الأوّل منهما حرف مدّ ؛ وذلک فی لغه العجم ؛ نحو قولهم : آرد (1) ، وماست (2). وذلک أنه فی لغتهم مشبه بدابّه وشابه فی لغتنا.

وعلی ما نحن علیه فلو أردت تمثیل أهرقت علی لفظه لجاز ، فقلت : أهفلت.

فإن أردت تمثیله علی أصله لم یجز ؛ من قبل أنک تحتاج إلی أن تسکّن فاء أفعلت ، وتوقع قبلها هاء أهرقت وهی ساکنه ، فیلزمک علی هذا أن تجمع حشوا بین ساکنین صحیحین. وهذا علی ما قدمناه وشرحناه فاسد غیر مستقیم.

فاعرف مما ذکرناه حال الساکنین حشوا ؛ فإنه موضع مغفول عنه ؛ وإنما (یسفر ویضح) مع الاستقراء له ، والفحص عن حدیثه.

ومن ذلک أنک لما حذفت حرف المضارعه من یضرب ونحوه وقعت الفاء ساکنه مبتدأه. وهذا ما لا سبیل إلی النطق به ، فاحتجت إلی همزه الوصل تسببا إلی النطق به.

* * *

ص: 252

- ثم ادّغمت الزای الأولی فی الثانیه فصارت : إوزّه کما تری. فقد عرفت الآن علی هذا أن الواو فی إوزه إنما هی بدل عن الیاء التی فی إیززه ، وتلک الیاء المقدّره بدل من واو (إوززه) التی هی واو وزّ.

وإن أنت قدّرت أنک لمّا بدأتها فأصرتها إلی إوززه أخذت فی التغییر من آخر الحرف ، فنقلت الحرکه من العین إلی الفاء فصارت إوزّه ، فإن الواو فیها علی هذا التقدیر هی الواو الأصلیه لم تبدل یاء فیما قبل ثم أعیدت إلی الواو ؛ کما قدّرت ذلک فی الوجه الأوّل. وکان أبو علی - رحمه الله - یذهب إلی أنها لم تصر إلی إیززه. قال : لأنها لو کانت کذلک لکنت إذا ألقیت الحرکه علی الیاء بقیت بحالها یاء ، فکنت تقول : إیزّه. فأدرته عن ذلک وراجعته فیه مرارا فأقام علیه. واحتجّ بأن الحرکه منقوله إلیها ، فلم تقو بها. وهذا ضعیف جدّا ؛ ألا تری أنک لمّا حرّکت عین طیّ ، فقویت رجعت واوا فی طوویّ ، وإن کانت الحرکه أضعف من تلک ؛ لأنها مجتلبه زائده ولیست منقوله من موضع قد کانت فیه قویّه معتدّه.

ومن ذلک بناؤک مثل فعلول من طویت. فهذا لا بدّ أن یکون أصله : طویوی.

فإن بدأت بالتغییر من الأوّل فإنک أبدلت الواو الأولی یاء لوقوع الیاء بعدها ، فصار التقدیر إلی طییوی ، ثم ادّغمت الیاء فی الیاء فصارت طیّوی (ثم أبدلت من الضمه کسره فصارت طیّوی) ثم أبدلت من الواو یاء فصارت إلی طیّیی ، ثم أبدلت من الضمه قبل واو فعلول کسره ؛ فصارت طیّیی ، ثم ادّغمت الیاء المبدله من واو فعلول فی لامه فصارت طیّیّ. فلمّا اجتمعت أربع یاءات ثقلت ، فأردت التغییر لتختلف الحروف ، فحرّکت الیاء الأولی بالفتح لتنقلب الثانیه ألفا فتنقلب الألف واوا ، فصار بک التقدیر إلی طییّ ، فلمّا تحرّکت الیاء التی هی بدل من واو طویوی الأولی قویت فرجعت بقوّتها إلی الواو فصار التقدیر : طوییّ ، فانقلبت الیاء الأولی التی هی لام فعلول الأولی ألفا لتحرکها وانفتاح ما قبلها فصارت طوایّ ، ثم قلبتها واوا لحاجتک إلی حرکتها - کما أنک لما احتجت إلی حرکه اللام فی الإضافه إلی رحی قلبتها واوا - فقلت : طوویّ ؛ کما تقول فی الإضافه إلی هوی علما : هوویّ. فلا بدّ أن تستقرئ هذه المراتب شیئا فشیئا ، ولا تسامحک الصنعه بإضاعه شیء منها.

ص: 254

وإن قدّرت أنک بدأت بالتغییر من آخر المثال فإنک لمّا بدأته علی طویوی أبدلت واو فعلول یاء فصار إلی طوییی ثم ادّغمت فصار إلی طوییّ (وأبدلت من ضمه العین (1) کسره فصار التقدیر طوییّ) ثم أبدلت من الواو یاء فصار طییّ ثم ادّغمت الیاء الأولی فی الثانیه فصار طیّیّ ثم عملت فیما بعد من تحریک الأولی بالفتح وقلب الثانیه ألفا ثم قلبها واوا ما کنت عملته فی الوجه الأوّل. ومن شبّه ذلک بلیّ جمع قرن ألوی (2) فإنه یقول : طیّیّ وشیّی. ومن قال : لی فضمّ فإنه یقول : طیّیّ وشیّئ فیهما من طویت وشویت.

فاعرف بهذا حفظ المراتب فیما یرد علیک من غیره ، ولا تضع رتبه ألبتّه ؛ فإنه أحوط علیک وأبهر فی الصناعه بک بحول الله.

* * *

ص: 255