ارشاد العقول الی مباحث الاصول المجلد 3

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور:ارشاد العقول الی مباحث الاصول: یبحث عن الحجج الشرعیة و الاصول العلمیة/ تقریرا لمحاضران جعفر السبحانی؛ تالیف محمد حسین الحاج العالمی

مشخصات نشر:بیروت : دارالاضواآ ، 2000م. = 1420ق. = 1379.

مشخصات ظاهری:4ج

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع:اصول فقه شیعه

موضوع:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 - -- معلومات اصول فقه

شناسه افزوده:حاج عاملی، محمد حسین

رده بندی کنگره:BP159/8/س2الف4 1379

شماره کتابشناسی ملی:م 81-35421

ص :1

اشارة

ص:2

ارشاد العقول الی مباحث الاصول: یبحث عن الحجج الشرعیة و الاصول العلمیة

تقریرا لمحاضران جعفر السبحانی

تالیف محمد حسین الحاج العالمی

ص:3

ص:4

مقدمة المولف

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي شرّف العلماء، و عظّم الفضلاء، و فضّل مدادهم على دماء الشهداء، فمن علم و عمل فقد ارتقى إلى منازل السعداء، و من جهل أو علم و لم يعمل فقد هبط إلى درك الأشقياء.

ثمّ الصلاة و السلام على سيّد الأنبياء و خير الأصفياء محمّد و آله مصابيح الهدى و أعلام الورى.

أمّا بعد; يعدّ علم الفقه من أهمّ المعارف و أسناها حيث يتكفل بيان الحلال و الحرام، و المنجيات و المهلكات، ثم يليه في الأهمية أُصول الفقه، كالنظرية إلى التطبيق.

و ممن ساهم في هذا المضمار العلاّمة الحجّة الثبت الشيخ محمد حسين الحاج العاملي) حفظه الله (، حيث حضر بحوثنا الفقهية و الأُصولية و انبرى لكتابتها و مذاكرتها، و قد أودع جلَّ ما ألقيناه من دروس و محاضرات حول الحجج الشرعية في هذا الكتاب الّذي يزف الطبع الجزء الأوّل منه لطلاب الفقه و بغاة الاجتهاد و هو بحمد الله بما أُوتي من مواهب و قابليات سبق أقرانه بسبق غير منكور وسعي مشكور و عقدت عليه آمال الخير و السعادة في مستقبله المشرق.

نسأل الله أن يوفقه لصالح العلم و ينير أمامه درب الخير و الصلاح.

جعفر السبحاني قم. مؤسسة الإمام الصادق) عليه السلام ( 22 من شهر صفر المظفر 1420

ص:5

ص:6

مقدمة المحقق

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد للّه ربّ العالمين، و الصّلاة و السّلام على خاتم أنبيائه محمّد و آله الطاهرين.

أمّا بعد: فهذه درر و فوائد، و غرر و فرائد، التقطتها من دروس شيخنا العلاّمة الحجّة، الباحثِ الكبيرِ، و المحقِّق الخبير، أُسوة المشتغلين، و أُستاذ المتأخرين، آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني دامت أيّام إفاداته، في الحجج العقلية و الأمارات الشرعية.

قمتُ بنشر ما أفاده في هذه الدورة الدورة الرابعة الأُصولية لما رأيت أنّ بينها و بين ما تقدّمها من الدورات، اختلافاً في التقرير، و تفاوتاً في العرض و الاستنتاج، و أرجو أن يكون الكتاب مرجعاً لطلاّب الفضيلة و بغاة الاجتهاد بإذنه سبحانه.

و يأتي جميع ما حرّرته من بحوث شيخنا الأُستاذ مُدّ ظلّه في المباحث العقلية في جزءين:

الأوّل: في مباحث القطع و الظن و البراءة و الاشتغال.

الثاني: في مباحث الاستصحاب و التعادل و الترجيح و الاجتهاد و التقليد.

فها أنا أقدم الجزء الأوّل للقرّاء بفضل من اللّه سبحانه، و أرجو أن يوفقني لنشر الجزء الثاني انّه قريب مجيب.

محمد حسين الحاج العاملي قم المشرقة الجامعة العلمية 10 شوال المكرّم / 1419 ه

ص:7

ص:8

قال شيخنا الأُستاذ:

المقصد السادس: في الحجج الشرعية

اشارة

خصّص المحقّق الخراساني هذا المقصد ببيان الحجج الشرعية، و طرح فيها: حجّية ظواهر الكتاب، و قول اللغوي، و الإجماع المنقول، و الشهرة الفتوائية، و خبر الواحد، فانتهى إلى حجية أكثرها.

و لكنّه قدّم على البحث في هذه الأُمور، أُموراً ترتبط بالقطع و جعلها مقدمة للبحث عن الحجج الشرعية.

و بما انّ الحجّة في الفقه عند الشيعة تنحصر بالكتاب و السنّة و العقل و الإجماع كان الأولى عقد فصول أربعة لهذه الحجج كي يقف المتعلّم على كلّ واحد من هذه الحجج و أدلّة حجّيتها. و ما صنعه المحقّق الخراساني و من بعده من الأعلام تبعاً للشيخ الأنصاري صار سبباً لعدم وضوح معالم الأدلّة الأربعة.

و مع ذلك كلّه، ما فاتهم الإلماعُ إلى هذه الحجج الأربع، فأدخلوا البحث عن حجّية الكتاب في باب حجّية الظواهر على الإطلاق، كما أدخلوا البحث عن السنّة في البحث عن حجّية خبر الواحد، و البحث عن الإجماع في البحث عن حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد، و البحث عن العقل في ثنايا البحث عن حجّية القطع.

ص:9

و لو لا انّ المخالفة لنهج الأعلام يوجب صعوبة في دراسة المسائل الأُصولية للأذهان المألوفة بكتابي الفرائد و الكفاية و ما أُلِّف بعدهما من التقريرات، لتركت السير على نهجهم، و عقدت فصولاً أربعة لكلّ واحد من هذه الحجج، و بعد الفراغ منها، استعرضت البحث فيما لا نصّ فيه و طرحت فيه الأُصول العملية لعلّ اللّه سبحانه يوفقنا على استعراض جديد لهذه المسائل.

مقدمة البحث في تقسيم حالات المكلّف أو المجتهد

التقسيم الثلاثي في كلام الأنصاري

قال الشيخ الأعظم: اعلم أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإمّا أن يحصل له القطع أو الظنّ أو الشكّ، فإن حصل له الشكّ فالمرجع هي القواعد الشرعية، الثابتة للشاكّ في مقام العمل، و تسمّى بالأُصول العملية.

و قد نوقش كلامه بوجوه نذكر منها ما يلي:

1. قد أُخذ المكلف موضوعاً لطروء الحالات الثلاث مع أنّها من خصائص المجتهد دون مطلق المكلّف.

2. أُطلق لفظ الحكم و هو يشمل الإنشائي و الفعلي، مع أنّ الأحكام المترتّبة على القطع و الظن و الشكّ إنّما تترتّب على ما إذا تعلّق القطع و غيره، بالحكم الفعلي دون الإنشائي، و المراد من الحكم الإنشائي ما تمّ تشريعه و لم يبيّن أو لم يصل إلى يد الأُمّة بتاتاً لوجود موانع في طريق إبلاغه و بيانه للناس.

فإن قلت: المراد من الحكم الإنشائي هو الحكم الفاقد للموضوع، كوجوب الحجّ بالنسبة إلى فاقد الاستطاعة، فيقال وجوب الحج في حقّه إنشائي، و معلوم انّ أحكام القطع و غيره مترتبة أيضاً على هذا النوع من الحكم الإنشائي.

قلت: إنّ في الحكم الإنشائي اصطلاحين: أحدهما ما ذكرت، و الثاني ما ذكره المورد كما مرّ، و الإشكال مبنيّ على الاصطلاح الأوّل.

ص:10

3. وجود التداخل في تقسيمه الثلاثي، لأنّ الظنّ إذا قام الدليل على حجّيته، يدخل تحت القطع بالحكم و إن كان ظاهريّاً، و كان الطريق ظنّياً، و إلاّ يدخل تحت الشكّ.

فالإشكال الأوّل متوجه إلى أخذ المكلّف موضوعاً، و الثاني إلى إطلاق لفظ الحكم، و الثالث إلى التقسيم الثلاثي، مع أنّه ثنائي.

نعم من حاول أن يتحفظ بالتقسيم الثلاثي بأن لا يدخل القسم الثاني تحت القسم الأوّل فعليه تبديل الظن بالدليل المعتبر و تقريره بالنحو التالي: إمّا أن يحصل له القطع أو لا، و على الثاني إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا.(1)

و لا يذهب عليك انّ مجرّد جعل الدليل المعتبر مكان الظن لا يكفي في رفع التداخل إلاّ إذا فسر الحكم في قوله:» إذا التفت إلى حكم «بالحكم الواقعي و يقال: انّ الدليل المعتبر بما انّه لا يفيد القطع بالحكم الواقعي لا يدخل تحت القطع، و بما أنّه معتبر لا يدخل تحت الشك، فالصيانة على التثليث فرع تخصيص الحكم، بالواقعي، و إلاّ يدخل الدليل المعتبر تحت القطع، و ينتفي التثليث أيضاً.

التقسيم الثنائي في كلام المحقّق الخراساني ثمّ إنّه لما لم تكن أحكام القطع و قسيميه مختصة بالحكم الواقعي بل يعمّه و الظاهري، عدل المحقّق الخراساني من التقسيم الثلاثي إلى الثنائي و دفع الإشكالات الثلاثة فقال: إنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري متعلّق به أو بمقلّديه، فإمّا أن يحصل له القطع به أو لا.

و على الثاني لا بدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من اتباع الظن لو حصل له و قد تمت مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة و إلاّ فالرجوع إلى

ص:11


1- تقرير لما في الكفاية بتوضيح منّا.

الأُصول العقلية من البراءة و الاشتغال و التخيير.

إنّ كلامه) قدس سره (مركّب من شقين قد تخلص في أوّلهما عن الإشكال الأوّل، باتخاذ المجتهد هو الموضوع بقرينة قوله:» أو بمقلّديه «، و في الوقت نفسه لم يخص حجّية ما استنبطه لنفسه، بل عمّمه لنفسه و لغيره من مقلديه، بل ربما يكون المورد ممّا لا يبتلي به المجتهد كأحكام الحائض و غيرها. كما تخلص عن الثاني بتخصيص الحكم بالفعلي. و عن الثالث بالتقسيم الثنائي.

و على ضوء تعريفه يدخل في القسم الأوّل القطع بالحكم، بقيام الأمارات و جريان الأُصول العملية الشرعية كالبراءة الشرعية و التخيير الشرعي و الاستصحاب، لكون الجميع من قبيل القطع بالحكم الظاهري و المفروض فيها جعل المؤدّى و انّ للشارع فيها حكماً مماثلاً لما تؤدّيه الأمارة و الأُصول الشرعية، هذا هو الشقّ الأوّل.

و أمّا الشقّ الثاني، فأشار به إلى دور المعذّرات العقلية التي ليس في موردها جعل حكم شرعي على الترتيب التالي:

1. الظن عند انسداد باب العلم، إذا قلنا بأنّ العقل يستقل عند انسداده بلزوم الإطاعة الظنية، و تقديمها على الإطاعة الشكية و الوهمية من دون أن يكون للشارع أيُّ تدخّل في المقام، فعندئذ لا يكون المظنون حكماً شرعياً مجعولاً، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ العقل يستكشف في حال الانسداد أنّ الشارع جعله حجّة في هذه الحالة، فيكون للشرع في مورده حكم شرعي مجعول.

2. الأُصول العقلية من البراءة و الاشتغال و التخيير، فانّ مبنى الأوّل قبح العقاب بلا بيان، و الثاني لزوم الخروج عن عهدة التكليف على وجه القطع، و الثالث لزوم الخروج بالمقدار الممكن. و كلّها أحكام عقلية للتخلص من المأزق.

ص:12

القضاء بين العلمين

لا يخفى انّ التقسيم الثلاثي لا يخلو من محسِّنات:

1. انّه تقسيم طبيعي في كلّ موضوع يقع في أُفق الفكر من غير اختصاص بالحكم الشرعي.

2. انّه كديباجة للمباحث الثلاثة التي ألّف الشيخ حولها الرسائل الثلاث: القطع، الظن، و الأُصول العملية. و المحقّق الخراساني مع أنّه اختار التقسيم الثنائي، لكنّه تبع الشيخ في مقام العمل فعقد بحثاً للقطع، و بحثاً آخر للأمارات و الطرق، و أدرج الأُصول العملية في المقصد السابع فلاحظ.

3. التثليث هو المناسب لحال المبتدئ، لأنّ إدخال الظن تحت القطع، بحجّة انّ المضمون حكم قطعي ظاهري من شأن المنتهى.

و أمّا التقسيم الثنائي فإنّما يصحّ إذا قلنا بأنّ المجعول في مورد الأمارات هو الحكم الشرعي و هو غير واضح، و إنّما المجعول فيها إمضاء لما في يد العقلاء و ليس للأمارة عندهم في الأُمور المولوية دور إلاّ أنّه إذا أصاب الواقع نجّز و إن أخطأ عذّر، فليس لنا حكم باسم الحكم الشرعي الظاهري و مثلها الأُصول العملية العامة إذ ليس فيها أيّ جعل للشارع كالبراءة الشرعية و التخيير الشرعي و الاستصحاب.

نعم لا يبعد في الأُصول العملية الخاصة كقوله:» كلّ شيء طاهر «أو» كلّ شيء حلال «كون المجعول هو الحكم الظاهري و سيوافيك بيانها.

هذا كلّه حول الإشكال الثالث المتوجّه إلى الشيخ.

و أمّا الإشكال الأوّل فيمكن الذبّ عنه بأنّ المراد من المكلّف هو المكلّف الفعلي الذي لا ينفك عن الالتفات الإجمالي، و قوله:» إذا التفت «إشارة إلى

ص:13

الالتفات التفصيلي الذي لا ينطبق إلاّ على المجتهد.

و أمّا الإشكال الثاني، فلعلّ انصراف الحكم إلى الفعلي، أغناه عن تقييده به.

انحصار الأُصول العملية في الأربعة، استقرائيّ

اشارة

المعروف انّ انحصار الأُصول العملية العامة في الأربعة استقرائي لإمكان أن يكون هنا أصل عملي خامس، و أمّا أصالة الطهارة و الحلية فانّ كلاً منهما و إن كان أصلاً عملياً لكنّهما تختصان بأبواب معينة، و المقصود من الأُصول العملية في المقام، ما يجري في جميع الأبواب. نعم لو قطع النظر عن الاستصحاب يمكن أن يقال انّ الحصر عقلي، لأنّ الأصل إمّا لا يراعى فيه التكليف المحتمل فهو البراءة، أو يراعى بوجه و هو التخيير، أو يراعى بكلّ وجه و هو الاحتياط.

حصر مجاري الأُصول في أربعة حصر عقلي
اشارة

قد تعرفت على أنّ حصر الأُصول العملية في الأربعة استقرائي لكن حصر مجاريها في الأربعة حصر عقلي دائر بين النفي و الإثبات، فقد ذكر مجاري الأُصول في رسالة القطع للشيخ الأعظم ببيانين، و قد اختلفت طبعات الفرائد، فجاء في بعضها كلا التعبيرين في المتن كما عليه طبعة رحمة اللّه، كما جاء في بعضها الآخر أحدهما في المتن و الآخر في الهامش، و أردفه في رسالة البراءة ببيان ثالث، و إليك دراسة الجميع.

البيان الأوّل

انّ الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا، و على الثاني إمّا أن يمكن الاحتياط إمكان الموافقة القطعية أو لا، و على الأوّل إمّا أن يكون الشكّ في

ص:14

التكليف أو في المكلّف به، فالأوّل مجرى الاستصحاب، و الثاني مجرى التخيير، و الثالث مجرى البراءة، و الرابع مجرى قاعدة الاحتياط.(1)

فقد جعل مجرى التخيير قسيماً لمجرى الاحتياط و البراءة.

البيان الثاني

الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا، فالأوّل مجرى الاستصحاب، و الثاني إمّا أن يكون الشكّ فيه في التكليف أو لا، و الأوّل مجرى البراءة، و الثاني إمّا أن يمكن الاحتياط فيه أو لا، و الأوّل مجرى قاعدة الاحتياط و الثاني مجرى قاعدة التخيير.(2)

فقد جعل مجرى التخيير قسماً من مجرى الشكّ في المكلّف به، فالشكّ في المكلّف به على قسمين: فإمّا لا يمكن الاحتياط و إمّا يمكن. فالأوّل مجرى التخيير و الثاني الاحتياط.

يلاحظ عليه: أنّ المراد من العلم بالتكليف أو الشكّ فيه كما صرّح به الشيخ هو العلم بنوع التكليف كخصوص الوجوب أو خصوص الحرمة، أو الشكّ فيه، فلو علم النوع فهو من قبيل الشكّ في المكلّف به، و لو جهل النوع أو شكّ فيه فهو من قبيل الشكّ في التكليف، و هذا ما يستفاد من كلام الشيخ قال في أوّل رسالة البراءة:» لأنّ الشكّ إمّا في نفس التكليف و هو النوع الخاص من الإلزام و إن علم جنسه كالتكليف المردّد بين الوجوب و الحرمة... «.(3)

ص:15


1- الفرائد: رسالة القطع: 1، طبعة رحمة اللّه.
2- نفس المصدر.
3- الفرائد: رسالة البراءة: 192، طبعة رحمة اللّه.

و على هذا يرد على التقريرين أمران:

الأمر الأوّل: انّ الشكّ في التكليف ليس ملاكاً للبراءة، و لا الشكّ في المكلف به ملاكاً للاحتياط بل ربّ شك في التكليف يجب فيه الاحتياط، كما أنّ ربّ شك في المكلّف به لا يجب فيه الاحتياط.

أمّا الأوّل، فكالشكّ قبل الفحص، أو كون الشكّ متعلقاً بالدماء و الأعراض و الأموال أو إذا دار الأمر بين وجوب شيء، و حرمة شيء آخر، حيث إنّ المعلوم جنس التكليف لا نوعه، فالجميع من قبيل الشكّ في التكليف مع أنّه يجب فيه الاحتياط مثلاً يجب في الأخير فعل الأوّل و ترك الثاني.

و يمكن دفع الأوّلين، بأنّ الفحص من شرائط جريان البراءة لا من شرائط العمل، فلا موضوع لها قبله، كما أنّ وجوب الاحتياط لدليل ثانوي من الإجماع و غيره و لولاه لكانت البراءة جارية.

نعم يبقى المورد الثالث باقياً بحاله و الاحتيال بجعله من قبيل العلم بالنوع بأنّ مرجعه إلى الشكّ إلى العلم بوجوب فعل هذا، أو وجوب ترك ذاك، تكلّف جدّاً.

و أمّا الثاني فكما إذا كان أطراف الشبهة غير محصورة، فلا يجب الاحتياط مع كون الشكّ من قبيل الشكّ في المكلّف به.

الأمر الثاني: انّ نوع التكليف في مجرى التخيير، أعني: دوران الأمر بين المحذورين، مجهول، و على هذا فهو من قبيل الشكّ في التكليف، لكنّه جعله قسيماً لكلا الأمرين في البيان الأوّل، و قسماً من الشكّ في المكلّف به في البيان الثاني، في غير محله.

هذا ما يرجع إلى البيانين الموجودين في أوّل رسالة القطع.

ص:16

البيان الثالث

و هناك بيان ثالث للشيخ ربما يكون أمتن منهما و لا يرد عليه واحد من الإشكالين، و قد جعل فيه ملاك البراءة و الاشتغال عدم نهوض دليل على ثبوت العقاب أو نهوضه من غير نظر إلى كون الشكّ في التكليف أو كون الشكّ في المكلّف به، نعم الغالب على الأوّل عدم نهوض الدليل على العقاب و على الثاني نهوضه عليه، و إليك نصّه:

إنّ حكم الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه و إمّا أن لا يكون، سواء لم يكن يقين سابق عليه أو كان و لم يلحظ، و الأوّل مورد الاستصحاب، و الثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً أم لا، و الثاني مورد التخيير، و الأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا، و الأوّل مورد الاحتياط و الثاني مورد البراءة.(1)

و قد تبع المحقّق الخراساني كلام الشيخ في تعليقته و قيد مجرى البراءة بما إذا لم يكن هناك حجّة ناهضة على التكليف في البين عقلاً و نقلاً.(2)

أمّا عدم ورود الإشكالين فواضح:

أمّا الأوّل: فلأنّ عدم جريان البراءة في الموارد الثلاثة لنهوض الدليل على العقاب، و أمّا الثاني:

فلنهوض الدليل على عدم العقاب من حيث استلزامه العسر و الحرج المنفيين في الشرع.

و على هذا فيكون مجرى كلّ واحد مشخصاً من دون أن يتداخل أحدهما في الأمر بالنحو التالي:

ص:17


1- الفرائد: رسالة البراءة: 192، طبعة رحمة اللّه.
2- تعليقة المحقق الخراساني على الفرائد: 3.

1. مجرى الاستصحاب: أن تكون الحالة السابقة ملحوظة.

2. مجرى التخيير أن لا تكون ملحوظة إمّا لعدمها أو لعدم حجّيتها و لكن كان الاحتياط غير ممكن، سواء كان الشكّ من سنخ الشك في التكليف، كما إذا تردد حكم شيء معين في وقت محدد بين الوجوب و الحرمة; أو كان من قبيل الشكّ في المكلّف به، كما لو علم بوجوب البيتوتة إمّا في هذا البلد أو في بلد آخر، فأصالة التخيير تجري في كلا الموردين بملاك عدم إمكان الاحتياط.

3. مجرى البراءة بعد امتناع الاحتياط عبارة عمّا إذا لم ينهض دليل على العقاب بل على عدمه من العقل: كقبح العقاب بلا بيان أو الشرع كحديث الرفع.

4. مجرى الاشتغال بعد إمكان الاحتياط، إذا نهض دليل على العقاب لو خالف.

و هذا هو المختار، وعليه لا يكون هناك أيّ تداخل.

و أمّا المحقّق النائيني فقد تخلص عن التداخل بوجه آخر حيث جعل مجرى البراءة، هو الشكّ في التكليف و فسّره بالجهل بنوع التكليف و جنسه و جعل العلم بالجنس مع الجهل بالنوع من أقسام الشكّ في المكلّف به، غاية الأمر إذا لم يمكن الاحتياط، يجري التخيير كدوران الأمر بين وجوب الشيء و حرمته، و إذا أمكن يكون مجرى للاحتياط كما إذا علم وجوب شيء، أو حرمة شيء آخر فالمعلوم هو الجنس لكن يختلفان بعدم امكان الاحتياط في الأوّل دون الثاني.

نعم يتوجه عليه النقض بما إذا جهل بالتكليف نوعاً و جنساً فهو عنده من قبيل الشكّ في التكليف و مع ذلك إذا حاز المحتمَل أهميّة خاصة دعت الشارع إلى جعل الاحتياط كالدماء و الأعراض و الأموال فأمرها و إن كان دائراً بين الحلية و الحرمة و كان جنس التكليف مجهولاً لكن يجب الاحتياط. كما يتوجه إليه النقض

ص:18

بعدم لزوم الاحتياط في غير المحصورة مع أنّه من قبيل العلم بالتكليف و الشكّ في المكلّف به.

إلاّ أن يقال انّه بصدد بيان حكم الشبهة بما هي هي مع قطع النظر عن قيام الدليل الخارجي على حكمها.

ص:19

الأمر الأوّل:

اشارة

في أحكام القطع

و نذكر من أحكامها ما يلي:

1. في وجوب متابعة القطع

قال الشيخ الأعظم: لا إشكال في وجوب متابعة القطع و العمل عليه ما دام موجوداً، لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع.

و قال المحقّق الخراساني: لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً و لزوم الحركة على طبقه جزماً.

يلاحظ عليه: أنّه إن أُريد من متابعة القطع، متابعة نفس القطع، فهو فرع كونه ملتفتاً إليه مع أنّه أمر مغفول عنه، لأنّ البحث في القطع الطريقي الذي ليس فيه أيّ التفات إلى القطع، و إن أُريد المقطوع كالوجوب و الحرمة و غيرهما من الأحكام الصادرة من المولى، فالموضوع لوجوب الاتباع عند نظر العقل هو نفس الأحكام بما هي هي حيث يستقل العقل بلزوم إطاعة أوامر المولى و نواهيه، نعم ذات الأحكام بما هي هي و إن كانت موضوعة لوجوب الإطاعة لكن لا يمكن امتثالها إلاّ إذا وقف عليه المكلّف بالحجّة العقلية أو الشرعية كالأمارات، فالوقوف عليها من شرائط تنجز الطاعة من غير اختصاص بالقطع.

ص:20

2. هل طريقية القطع أمر ذاتي له؟

المعروف انّ طريقية القطع من ذاتياته أو لوازمه فهي غنية عن الجعل.

توضيحه: انّ الجعل إمّا بسيط و هو جعل الشيء، أو مركب و هو جعل الشيء شيئاً و مفاد الأوّل مفاد كان التامة، و مفاد الثاني مفاد كان الناقصة، و يسمّى جعلاً تأليفياً أيضاً.

ثمّ الجعل التأليفي ينقسم إلى: جعل تأليفي حقيقي كجعل الجسم أبيض، و جعل تأليفي مجازي كجعل الأربعة زوجاً.

ثمّ إنّ ذاتي الشيء أو لازمه غنيان عن الجعل التركيبي الحقيقي، و ذلك لأنّ مناط الجعل الحقيقي هو الحاجة و عدم إغناء جعل الموضوع عن جعل المحمول كما هو الحال في جعل الجسم فانّ إيجاده لا يغني عن إيجاد البياض، إذ ليس الجسم بما هو هو واجداً للبياض فيحتاج البياض إلى جعل أمر، بخلاف الأربعة بالنسبة إلى الزوجية فانّ جعلها تُغني عن تعلّق جعل مستقل بها، فجعلها جعل بالنسبة إلى لازمها، و إذا كان هكذا حال اللازم، فكيف بالذاتي كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان.

يلاحظ عليه: أنّ الطريقية ليست ذاتية للقطع و في الوقت نفسه لا تنالها يدُ الجعل.

أمّا الأوّل: فإن أُريد من الذاتي، ذاتي باب الايساغوجي، فهو فرع كونها جنساً أو فصلاً أو نوعاً و ليست كذلك، لأنّ حقيقة القطع ترجع إلى كونه من الحالات النفسانية كسائر الصفات، نعم فيه اقتضاء هداية الإنسان إلى الخارج في بعض الأوقات دون بعض.

ص:21

أمّا الثاني: فلأنّها لو كانت من لوازم وجوده لزم عدم صحّة الانفكاك بينهما مع أنّا نرى أنّ الإنسان غارق في الجهل المركّب و كم من قاطع ليس قطعه إلاّ ضلالة.

و مع الاعتراف بأنّ الطريقية ليست ذاتية للقطع تُصافِقُ القولَ بأنّ الحجّية لا تنالها يد الجعل، لكن لا بالملاك السابق أي كونها ذاتية أو من لوازمه بل بملاك آخر، و هو انّ المراد من الجعل هو الجعل الاعتباري التشريعي، و هو ما لا يتعلق إلاّ بالأُمور الاعتبارية، و أمّا الطريقية و الكاشفية أو تتميم الكشف في الأمارات كلّها أُمور تكوينية لا تتحقق إلاّ بيد التكوين لا بالجعل الاعتباري الذي هو موضوع البحث في المقام ، و بذلك يعلم انّ ما يظهر من المحقّق النائيني في غير واحد من المواضع من أنّ المجعول في الأمارات هو الطريقية ليس بتام.

و مثله ما اختاره السيد الحجّة الكوهكمري) قدس سره (في درسه الشريف، فقد كان يقوِّي انّ عمل الشارع في الأمارات هو تتميم الكشف، و من المعلوم انّ التتميم كأصله أمر تكويني لا تنالهما يد الجعل.

فتخلص من ذلك ان الطريقية ليست ذاتية للقطع و في الوقت نفسه لا تنالها يد الجعل، و ما ربما يقال من أنّ الطريقية ذاتية له عند القاطع غير تام، لأنّ الأُمور التكوينية غير خاضعة للنسبية، لأنّ أمرها دائر بين الوجود و العدم، فالطريقية للقطع إمّا حاصلة أو لا؟ و كونها حاصلة له عند القاطع دون غيره يرجع معناه إلى جهله بالواقع فيزعم غير الطريق طريقاً.

نعم إذا صادف الواقع يكون طريقاً فيكون وصفاً مفارقاً لا دائماً.

ص:22

3. هل القطع حجّة بالذات؟

قد تعرفت على حكم الطريقية و انّها غير قابلة للجعل، و إن كانت غير ذاتية له، فيقع الكلام في حجّية القطع، فاعلم أنّ الحجّة على أقسام:

1. الحجّة اللغوية.

2. الحجّة المنطقية.

3. الحجّة الأُصولية.

و نبحث في الجميع واحداً تلو الآخر.

أمّا الحجّة اللغوية أو العقلائية، فهي عبارة عمّا يحتجّ به المولى على العبد و بالعكس. و بعبارة أُخرى:

ما يكون قاطعاً للعذر إذا أصاب، و عذراً إذا أخطأ.

فقد افترض المحقّق الخراساني الحجّية بهذا المعنى من لوازم وجود القطع كالإحراق بالنسبة إلى النار، و من المعلوم امتناع الجعل التأليفي الحقيقي بين الشيء و لازمه، نعم يصحّ الجعل التأليفي العرضي، بجعل الموضوع و إيجاده بسيطاً، فإن جعل النار، جعل للإحراق تأليفاً مجازياً، ثمّ رتب عليه انّه لا يصحّ المنع من تأثيره أي كونه قاطعاً للعذر أو معذّراً، لعدم تعقل الانفكاك بين الشيء و لازمه بل يستلزم اجتماع الضدين في نظر القاطع مطلقاً وافق الواقع أم خالف، و في نفس الأمر إذا وافق.

و ربّما يستدل على امتناع جعل الحجّية له باستلزامه التسلسل، لأنّ الجاعل إمّا أن يكون القطع أو الظن أو الشكّ، و الأخيران أنزل من أن يكون مبدأً لحجّية القطع فينحصر بالقطع، فينقل الكلام إليه، إمّا يتسلسل أو يتوقف في مورد، تكون

ص:23

الحجّية له هناك أمراً ذاتياً.

يلاحظ عليه: أنّ القطع و إن كان في غنى عن جعل الحجّية لها، لكن لا لأجل كونها من لوازم وجوده و ذاته، كذاتي باب البرهان مثل الإمكان بالنسبة إلى الماهية، و الزوجية إلى الأربعة، بل لأجل أنّ صحة الاحتجاج بالقطع من الأحكام القائمة بنفس العقل، و ليست الحجية من عوارض القطع أو لوازمه حتى يستدل بعدم صحّة الجعل بما سمعت من امتناع الجعل التأليفي بين الشيء و ذاتياته أو لوازمه.

و هذا بخلاف الزوجية بالنسبة إلى الأربعة فإنّ الزوجية من لوازم وجود الأربعة و هي قائمة بها قيام اللازم مع الملزوم.

و نظير الحجية بالنسبة إلى القطع حسن العدل و قبح الظلم فربّما يتصور أنّ نسبتهما إلى العدل و الظلم كنسبة الزوجية إلى الأربعة بتصور أنّهما من لوازمهما أو من ذاتياتهما.

و لكن الحق أنّ الحسن و القبح من الادراكات العقلية التي ينتقل إليها العقل من احساسه بالملائمة بين الفطرة و العدل و بالمنافرة بينها و بين الظلم، فيعبر عن الاحساسين بالحسن و القبح دون أن يكونا من الأُمور القائمة بالعدل و الظلم و قد أسهبنا البحث في ذلك في محله(1).

و هذا هو الوجه في عدم خضوع القطع لجعل الحجّية له، لا كونها ذاتيةً له، أو استلزامه التسلسل، لأنّ الدليل الأوّل باطل و الثاني تبعيد للمسافة.

ص:24


1- انظر رسالة التحسين و التقبيح العقليين.
4. ليس القطع حجّة منطقية

إذا كان الحدّ الوسط في القياس المنطقي علّة لثبوت الأكبر للأصغر أو معلولاً لثبوته له فيوصف بالحجّة المنطقية كالتغيّر الذي هو علّة لإثبات الحدوث للعالم، و صورة القياس واضحة.

و بما انّ البحث في المقام في القطع الطريقي الذي ليس له دور في ثبوت المقطوع به واقعاً و تحقّقه، غير كونه كاشفاً عن الواقع فلا يوصف بالحجّة المنطقية فلا يصحّ تنظيم قياس من القطع و جعله حدّ الوسط بأن يقال: هذا مقطوع الخمرية، و كلّ مقطوع الخمرية حرام، فهذا حرام لكذب الكبرى، إذ ليس الحرام إلاّ نفس الخمر، تعلّق بها القطع أو لا، لا خصوص مقطوع الخمريّة.

و مثله الظن و الأمارة، فليس الظن و الأمارة علّة لثبوت المقطوع به، و إنّما هو كاشف، من دون أن يكون له دور في تحقّق متعلقه، فلا يصحّ أن يقال هذا مظنون الخمرية و كلّ مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه، لكذب الكبرى، لأنّ المحرم هو ذات الخمر، لا كونه بوصف المقطوعية.

هذا كلّه في القطع الطريقي، و أمّا القطع الموضوعي خصوصاً إذا كان تمام الموضوع للحكم فبما انّ له دوراً في ثبوت الحكم كما إذا رتّب الشارع الحرمة على مقطوع الخمرية، يكون القطع واسطة لثبوت الأكبر على الأصغر، و يصحّ تأليف قياس منطقي منه، فيقال هذا مقطوع الخمرية و كلّ مقطوع الخمرية حرام، فهذا حرام و الكبرى صادقة بخلاف ما إذا كان القطع طريقاً لا دخيلاً في الموضوع.

و العجب من الشيخ الأعظم حيث فرّق بين القطع و الظن، فقال بأنّه لا يحتج بالقطع على ثبوت الأكبر للأصغر، بخلاف الظنّ أو البيّنة أو فتوى المفتي فصحح قول القائل هذا الفعل ما أفتى بتحريمه المفتي، أو قامت البيّنة على كونه

ص:25

محرماً، و كلّما كان كذلك فهو حرام(1) مع أنّ الجميع من باب واحد، و لعلّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الحجّة المنطقية و الحجّة الأُصولية، فانّ التفكيك إنّما يصحّ في الثانية دون الأُولى، و إليك بيانها.

5. ليس القطع حجّة أُصولية بخلاف الظن

الحجّة الأُصولية عبارة عمّا لا يحكم العقل بالاحتجاج بها و لا يحكم بعدمه أيضاً غير أنّ العقلاء أو الشارع يرون الاكتفاء بالقطع يوجب العسر و الحرج، أو فوتَ المصالح لقلة القطع و اليقين، فيعتبرون الأمارة في الأحكام و البيّنة في الموضوعات حجّة لإثبات متعلقاتهما، و الحجّة بهذا المعنى من خصائص الحجج العقلائية و الشرعية، و ذلك لأنّ كاشفية الأمارة ليست تامة فيحتاج في صحّة الاحتجاج بها إلى إضفاء الحجّية عليه، من جانب العقلاء أو المولى.

و هذا بخلاف القطع فبما انّه كاشف تامّ عند القاطع، يستقل العقل بصحة الاحتجاج به يراه غنيّاً عن إفاضة الجعل عليه، مضافاً إلى ما عرفت من استلزامه التسلسل.

6. لا يصحّ المنع عن العمل بالقطع

إذا كان الحكم مترتباً على الواقع كالحرمة على الخمر بما هو هو، فلو قطع إنسان بكون المائع خمراً لا يصحّ النهي عن العمل به لاستلزامه كون الناهي مناقضاً في كلامه في نظر القاطع، سواء أصاب أم أخطأ، إذ معنى النهي هو تعلّق إرادتين تشريعيتين مختلفتين بشيء واحد.

نعم إذا كانت للطريق مدخليّة في موضوع الحكم، فله أن يتصرّف في

ص:26


1- الفرائد: 1، طبعة رحمة اللّه.

الموضوع و يرتّب الحرمة على الخمر الثابت بالقطع الحاصل من الحسّ دون الحدس، أو على الخمر الثابت بالبيّنة دون القطع ترجيحاً لها على قطع المكلّف لكثرة الخطأ في قطعه.

هذا كلّه في أحكام القطع.

بقي هنا شيء و هو ما ذكره المحقّق الخراساني:

7. أحكام القطع مترتّبة على القطع بالحكم الفعلي

قد مضى و سيوافيك انّ الحكم له مراتب أربع:

1. مرتبة الاقتضاء كالمصالح و المفاسد و تسميتها بالحكم بنوع من التوسّع و المجاز، و إلاّ فهما من مبادئه و مقدماته.

2. مرتبة الإنشاء و التصويب قبل الإبلاغ إلى المكلّف.

3. مرتبة الفعليّة، و جعل البعث و الزجر في مظان وجود التكليف.

4. مرتبة التنجيز إذا وقف عليه المكلّف، و إبلاغه إلى المكلّفين.

و ما ذكر من الأحكام للقطع فإنّما هي في مورد تعلقه بحكم فعلي، يتنجّز بالقطع، و أمّا ما لم يبلغ تلك المرتبة، فلا يترتب عليه حكم شرعي، لأنّه ليس حكماً و إن كان يترتّب عليه الثواب إذا قام بالامتثال من باب الانقياد.

ثمّ أشار إلى مشكلة الجمع بين الحكم الواقعي الفعلي و الظاهري، و سيوافيك بيانه في مبحث الأمارات.

ص:27

الأمر الثاني في التجرّي

و قبل الورود في الموضوع نذكر أُموراً:
1. التجرّي لغةً:

التجرّي في اللغة مطلق إظهار الجرأة، فإذا كان المتجرّى عليه هو المولى فيتحقّق التجرّي بالإقدام على خلاف ما قطع بوجوبه أو بحرمته بترك الأوّل و ارتكاب الثاني دون فرق بين كون قطعه مصيباً للواقع أو مخالفاً له، و لكن المقصود من التجرّي هنا ليس المعنى اللغوي بل المعنى المصطلح، و هو الإقدام على خلاف ما قطع به في مجال إطاعة المولى شريطة أن يكون قطعه خلافاً للواقع. كما إذا أذعن بوجوب شيء أو حرمته، فترك الأوّل و ارتكب الثاني فبان خلافهما، و يسمّى مخالفة القطع المصيب بالمعصية.

و منه يظهر حال الانقياد فهو لغة الإقدام على وفق ما قطع، سواء كان في قطعه مصيباً أم لا، لكن المراد هنا هو القسم الخاص، أعني: ما إذا عمل على وفق قطعه، لكن إذا تبيّن خطأ قطعه، فيختصّ الإقدام على وفق القطع المصيب بالطاعة.

و منه يعلم أنّ التجري و الانقياد بالمعنى الاصطلاحي لا يختصان بالقطع بل يعمان الحجج الشرعية أيضاً من الأمارات و الأُصول، فلو خالف البيّنة أو الأصل

ص:28

العملي ثمّ ظهر عدم إصابتها للواقع يسمى تجرياً، و مثله الانقياد فهو لا يختص بالقطع بل يعم الحجج الشرعية أيضاً.

2. التجرّي اصطلاحاً:

إنّ التجري بالمعنى الاصطلاحي إنّما يتصور إذا كان القطع طريقياً محضاً بحيث ينصبّ الحكم على ذات الواقع سواء أقطع به أم لا، و سواء أ كانت هناك حجّة أم لا.

و أمّا إذا كان الحكم منصبّاً على القطع بالشيء بحيث يكون القطع تمام الموضوع للحرمة سواء صادف الواقع أو لا، فلا يتصور التجري الاصطلاحي هنا بل يعدّ من قبيل المعصية.

3. هل المسألة كلامية أو أُصولية أو فقهية؟

قال شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري: إنّ النزاع يمكن أن يقع في استحقاق العقوبة و عدمه فيكون راجعاً إلى النزاع في المسألة الكلاميّة، كما يمكن أن يقع النزاع في ارتكاب الشيء المقطوع حرمته هل هو قبيح أو لا؟ فتكون المسألة من المسائل الأُصولية التي يستدلّ بها على الحكم الشرعي، و يمكن أن يكون النزاع في كون هذا الفعل، أعني: ارتكاب ما قطع بحرمته مثلاً حراماً شرعاً أو لا، فتكون من المسائل الفقهية.(1)

أقول: الظاهر انّ المسألة قاعدة فقهية، و مصبّ البحث فيها كون نفس التجرّي حراماً أو لا، حتى يكون دليلاً على الحكم الشرعي في أبواب مختلفة من الفقه.

ص:29


1- درر الفوائد: 2/11.

و أمّا البحث عن كونه قبيحاً أو لا؟ فإنّما هو من باب الاستدلال على الحرمة لكشف القبح عن الحرمة لو قلنا بصحّة الكشف في هذه المقامات، كما أنّ البحث عن استحقاقه للعقاب بحث عن نتيجة المسألة.

4. أقسام التجرّي:

إنّ الشيخ قسّم التجرّي إلى أقسام ستة نذكر منها ثلاثة:

أ. إذا نوى ارتكاب المحرم من دون ارتكاب مقدّماته فضلاً عن ارتكاب نفس الحرام ثم ارتدع.

ب. إذا نوى و ارتكب بعض المقدمات ثمّ ارتدع.

ج. إذا ارتكب ما يراه محرماً ثمّ بان كونه مباحاً.

و محلّ البحث هو القسم الثالث للاتفاق على عدم حرمة القسمين الأوّلين.

إذا علمت ذلك، فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في حكم نفس ارتكاب ما قطع بحرمته مثلاً و انّه هل هو حرام أو لا؟ و أُخرى في حكم الفعل المتجرّى به الذي تحقّق التجرّي في ضمنه من حيث الحرمة و عدمها، و لأجل ذلك يقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في حكم نفس التجرّي
اشارة

إذا ارتكب المكلّف ما يراه معصية أو ما قامت الحجّة على كونه كذلك، فهل ارتكب حراماً أو لا؟ ففيه أقوال ثلاثة:

1. الحرمة و استحقاق العقاب. و هو خيرة المحقّق الخراساني.

2. عدم الحرمة و عدم استحقاق العقاب. و هو خيرة الشيخ الأنصاري

ص:30

و إنّما يستحق اللوم و الذم.

و بعبارة أُخرى: ليس هناك قبح فعلي، و لو كان هناك قبح، فإنّما يرجع إلى الفاعل.

3. القول بهما إلاّ إذا اعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة فلا يبعد عدم استحقاق العقاب و مرجعه إلى القول الأوّل غاية الأمر تتدارك الجهة القبيحة، بالجهة المحسِّنة الواقعية. و هو خيرة صاحب الفصول.

و استدلّ القائل بالقبح أو الحرمة بالإجماع تارة، و بناء العقلاء أُخرى، و دليل العقل ثالثاً.

أقول: إنّ الإجماع على فرض ثبوته لا يحتجّ به في مثل تلك المسألة ممّا للعقل إليه سبيل لاحتمال اعتماد المجمعين على حكم العقل، فيكون الإجماع مدركيّاً لا يحتجّ إلاّ بالمدرك لا بالإجماع.

على أنّ الإجماع مخدوش كما يظهر من التذكرة في من أخّر الصلاة مع ظنّ ضيق الوقت ثمّ بان بقاؤه، فقال العلاّمة في التذكرة بعدم العقاب، و حكي عن المفاتيح أيضاً.

نعم أفتوا بحرمة سلوك طريق محظور، لأجل انّ الخوف هو موضوع الحرمة لا الخطر الواقعي.

و أمّا بناء العقلاء فلا يتجاوز عن ذم المرتكب و لومه لا عقابه، و بقي الدليل الثالث أي العقلي فنقول:

قرّر الدليل العقلي بوجوه:

الأوّل: ما نقله الشيخ في فرائده، و حاصله: إذا فرضنا انّ اثنين قصدا شرب الخمر، فصادف أحدهما الواقع دون الآخر، فإمّا أن نقول بصحّة عقوبتهما معاً، أو

ص:31

عدم عقوبتهما كذلك، أو عقوبة المخطئ دون المصيب أو بالعكس; و الأوّل هو المطلوب، و الثاني و الثالث خلاف المتفق عليه، و أمّا الرابع فيلزم أن يكون العقاب و الثواب منوطين بأمر خارج عن الاختيار.

أقول: نحن نختار الشقّ الرابع و هو عقاب المصيب دون المخطئ، و لكن القبيح هو إناطة العقاب بأمر خارج عن الاختيار، و أمّا إناطة عدم العقاب بأمر خارج عن الاختيار فليس بقبيح كما أوضحه الشيخ الأنصاري، و الحاصل نعاقب المصيب لأنّه شرب الخمر عن اختيار، كما شربها في حالة الانفراد، و لا نعاقب المخطئ لأنّه لم يشرب و إن كان عن لا اختيار. و بعبارة أُخرى: تحقّق سبب الاستحقاق في المصيب و هو مخالفته عن عمد، و عدمه في الثاني و لو بلا اختيار.

الثاني: ما ذكره المحقّق الخراساني من شهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته و ذمّه على تجرّيه و هتك حرمة مولاه و خروجه عن رسم العبودية و كونه بصدد الطغيان و العزم على العصيان، كما يشهد الوجدان على صحّة مثوبته على قيامه بما هو قضية عبوديته من العزم على موافقة القطع و البناء على طاعته.

أقول: إنّ موضوع البحث هو مخالفة الحجّة العقلية أو الشرعية لأجل غلبة الهوى على العقل، و الشقاء على السعادة و ربّما مع استيلاء الخوف على المرتكب و عروض الارتعاش حينه، فهل يستحق العقاب أو لا؟ و أمّا ضمّ عناوين أُخر إلى ذلك من الهتك و التمرّد و رفع علم الطغيان فكلّها أجنبيّة عن المقام، و لا شكّ في استحقاق العقاب لو كان عمله مصداقاً للهتك و رمزاً للطغيان و إظهار الجرأة، إلى غير ذلك من العناوين القبيحة.

و الحاصل: انّ الإنسان ربما يرتكب ما يقطع بحرمته لا لأجل الطغيان و إظهار الجرأة و هتك الستر، بل لما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي الذي علمه إيّاه الإمام السجاد) عليه السلام (حيث قال في مقطع من مناجاته معلّماً للداعي:

ص:32

» إلهي لم أعصك حين عصيتُك و أنا بربوبيّتك جاحد، و لا بأمرك مستخف، و لا لعقوبتك متعرض، و لا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت و سوّلت لي نفسي و غلبني هواي، و أعانني عليها شقوتي، و غرّني سترك المرخى عليّ «.

أضف إلى ذلك انّه يستلزم تعدّد العقاب عند الإصابة لموجبين: أحدهما: العصيان، و الثاني: العنوان المشترك) كالتمرّد و الهتك و... (; فقد اتفقوا على أنّ مجرّد مخالفة أمر المولى بلا عذر) العصيان (بأيّ داع كان مستلزم للعقوبة، فإذا ضمّ إليه العنوان المشترك بينه و بين التجرّي يلزم تعدّد العقاب.

ثمّ إنّ صاحب الفصول تفصّى عن الإشكال بتداخل العقابين، و من المعلوم انّه لا يسمن و لا يغني من جوع، لأنّه إن أراد من التداخل وحدة العقاب فيكون ترجيحاً بلا مرجح، و إن أراد كثرة العقاب فليس تداخلاً.

الثالث: ما هو الملاك للعقاب في المعصية؟ فهناك احتمالات:

1. ذات المخالفة للأمر و النهي.

2. تفويت غرض المولى.

3. ارتكاب مبغوض المولى.

4. كونه هتكاً لحرمة المولى و جرأة عليه و إن شئت قلت: المخالفة الاعتقادية.

و لا تصلح الثلاثة الأُولى ملاكاً للعقاب، لوجودها في الجاهل المعذور إذا خالف، فتعيّن الرابع، و هو مشترك بين المعصية و التجرّي.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الملاك للعقاب في المعصية أمر خامس غير موجود لا في المخالفة عن جهل، و لا في التجري و هو مخالفة أمر المولى واقعاً عن عمد بلا عذر و هو مختص بالعصيان، و أمّا غيرهما فالجزء الأوّل أي المخالفة في التجرّي غير

ص:33


1- لمحقّق الاصفهاني: نهاية الدراية: 2/8.

موجود، و المخالفة للواقع و إن كانت موجودة في المعذور، لكن القيد الثاني) بلا عذر (منتف.

الرابع: ما نقله المحقّق النائيني في كلام مبسوط حاصله: انّ المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب هو جهة البغض الفاعلي و حيثيّة صدور الفعل الذي يعلم بكونه مبغوضاً للمولى من دون دخل للواقع، فانّ الإرادة الواقعية ممّا لا أثر لها عند العقل إلاّ بعد الوجود العلمي، و هذا المعنى مشترك بين العاصي و المتجري.

و إن شئت قلت: إنّ المناط عند العقل في استحقاق العقاب هو البغض الفاعلي الناشئ عن العلم بالمخالفة و المعصية، و هذا بعد ما كان العلم من باب الطاعة و المعصية موضوعاً عند العقل واضح.(1)

يلاحظ عليه بأمرين:

1. بعد تسليم كون مناط العقاب هو البغض الفاعلي، انّ الملاك هو البغض الفاعلي المتولد من القبح الفعلي و هذا يختص بالمعصية، و أمّا التجرّي، فالقبح الفاعلي هناك متولد من سوء السريرة و خبث الباطن أو غلبة الهوى على العقل، و الشقاء على خلافه لا من القبح الفعلي.

2. إنّ الهدف من إثبات قبح إرادة المعصية، هو إثبات حرمته ليترتب عليه العقاب، و لكن المحاولة فاشلة، لأنّه ليس كلّ حسن ملازماً للحكم بالوجوب، و لا كلّ قبيح ملازماً للحرمة، إلاّ إذا تعلّق بمبادئ الأحكام و عللها و موضوعاتها كردّ الأمانة أو الخيانة بها، فيكشف كلّ من الحسن و القبح عن وجوب الأوّل و حرمة الثاني، و أمّا إذا تعلّق بمعاليل الأحكام كالطاعة و المعصية، فانّ حسن الأوّل و قبح الثاني لا يكشفان عن حكم شرعي، و إلاّ يلزم عدم انتهاء الأحكام إلى حدّ و تسلسل العقوبات، و ذلك لأنّ الطاعة و المعصية لا يتحقّقان إلاّ إذا سبق عليهما

ص:34


1- الكاظمي: فوائد الأُصول: 3/48.

حكم شرعي، حتى يقال بحسن طاعته و قبح عصيانه، فلو كشف الحكم بحسن طاعة ذلك الحكم، و قبح عصيانه، عن حكم شرعي ثالث يستقل العقل بحسنه و طاعته لتسلسل الأحكام و العقوبات و هو خلاف الوجدان و الضرورة.

و منه تظهر الحال في إرادة المعصية و الطاعة، فلو افترضنا حسن الأُولى و قبح الثانية فلا يكشفان عن حكم شرعي حتى تترتب عليه المخالفة و الموافقة و بالتالي: المثوبة و العقوبة فالكلّ خارج عن حريم الملازمة كما لا يخفى.

تمّ الكلام في المقام الأوّل، و إليك الكلام في المقام الثاني.

المقام الثاني: في حكم المتجرّى به
اشارة

الفرق بين التجرّي، و المتجرّى به واضح، فانّ الأوّل فعل للعبد ينتزع من مخالفة المكلّف الحجّة العقلية و الشرعية بخلاف الثاني فانّه عبارة عن نفس العمل الخارجي كشرب الماء الذي تتحقق به مخالفة الحجّة.

ثمّ الكلام فيه تارة من حيث القبح، و أُخرى من وجه الحرمة الشرعية.

فقد استدل المحقّق الخراساني على عدم قبحه بوجوه ثلاثة:

1. انّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه و الاعتبارات التي بها يصير الشيء حسناً و قبيحاً و لا ملاكاً للمحبوبية و المبغوضية، فقتل ابن المولى مبغوض و إن قتله بعنوان انّه عدوه، و قتل عدوّه حسن و إن قتله بعنوان انّه ابنه.

2. انّ الفعل المتجرّى به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختيارياً، فانّ القاطع لا يقصده إلاّ بما قطع انّه عليه من العنوان الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الأوّلي بل يكون غالباً بهذا العنوان ممّا لا يلتفت إليه.(1)

ص:35


1- كفاية الأُصول: 2/13.

3. انّ المتجرّي قد لا يصدر عنه فعل اختياري أصلاً، فمن شرب الماء باعتقاد الخمرية لم يصدر منه ما قصده و ما صدر منه لم يقصده بل و لم يخطر بباله.(1)

يلاحظ على الأوّل: أنّ العنوان المقبح في كلامهم ليس هو القطع بالقبح بل الجرأة و التمرد و الطغيان أو الهتك و الظلم و لا شكّ انّها من العناوين المقبحة، و منه يظهر حال الوجه الثاني فانّه مبني على كون العنوان القبيح هو القطع و مضافاً إلى ما في إنكار كون القطع مورداً للالتفات إجمالاً، فانّ الالتفات إجمالاً إلى العلم ممّا لا ينكر.

و يلاحظ على الثالث انّه يكفي في صدور الفعل الاختياري، كون الجامع بين الخمر و الماء مورداً للالتفات و هو شرب المائع، فكيف يقال انّه لم يصدر منه، و لذلك يبطل صومه بشرب ما قطع كونه خمراً و هو ماء.

و مع ذلك كلّه، فالحقّ مع المحقّق الخراساني انّ الفعل المتجرّى به باق على ما هو عليه، لأنّ العناوين المقبحة لا تتجاوز عن خمسة: ثلاثة منها قائمة بالجنان، كالجرأة، و العزم على المعصية و الطغيان، و قبحها لا يسري إلى الفعل لكونها من الأُمور القلبية و الفعل كاشف عنها; و اثنان منها الظلم و الهتك و إن كانا قائمين بالفعل لكنّهما يختصان بالمعصية فالظلم على المولى بنقض قانونه، و المفروض عدمه مثله و الهتك بمعنى خرق الستر فانّه من خصائص المعاصي.

في حرمة الفعل المتجرّى به

قد عرفت أنّ الفعل المتجرّى به باق على ما كان عليه من الحسن و القبح إنّما الكلام في حرمته شرعاً لا باستكشاف حرمته من قبحه، لما عرفت من عدم قبحه بل بوجهين تاليين:

ص:36


1- تعليقة المحقّق الخراساني على الفرائد: 13.
1. ادعاء شمول الخطابات الأوّلية له) حرمته بالعنوان الأوّلي (

يمكن أن يقال: انّ متعلّق الخطابات الأوّلية ليس هو شرب الخمر الواقعي، بل القدر الجامع بين مصادفة القطع للواقع، و مخالفته له، بأن يقال: انّ الحرام تحريك العضلات نحو شرب ما أحرز انّه خمر، فيكون المتجرّي عاصياً حقيقة.

و الدليل عليه: انّ متعلّق التكليف يجب أن يكون مقدوراً و ليست المصادفة و المخالفة الواقعيتين تحت الاختيار حتى يتعلق التكليف بالمصادف دون المخالف، فيجب أن يكون متعلّقه إرادة ما أحرز انّه من مصاديق الموضوع إذ هو الفعل الاختياري، فتكون نسبته إلى المطابق و المخالف على حدّ سواء.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الأحكام تتعلّق بما تشمل على المصالح و المفاسد، و لا شكّ انّ المفسدة قائمة بشرب الخمر بما هو هو سواء كان عالماً أو جاهلاً غير انّ الحكم الشرعي لا يتنجز إلاّ بالعلم، فإذا كان كذلك، فالخطابات الأوّلية لا تعمّ إلاّ شرب الخمر الواقعي، لا شرب ما أحرز انّه خمر، و إلاّ يلزم تعلّق الأحكام بالأوسع ممّا قام به الملاك.

و أمّا كون الإصابة و عدمها خارجتين عن الاختيار، فقد عرفت أنّ الأُولى داخلة تحته، نعم الخطاء و عدم الإصابة خارج عنه، فلو قصد شخصان قتل إنسان فأطلقوا الرصاص فأصاب أحدهما دون الآخر، يعاقب الأوّل لأجل قيامه بالفعل الاختياري من قتل إنسان بريء.

هذا كلّه حول حرمته حسب العنوان الأوّلي. بقي الكلام في حرمته بالعنوان الثانوي.

ص:37


1- فوائد الأُصول: 382/37.
2. حرمته بالعنوان الثانوي

قد عرفت أنّ ادّعاء شمول الإطلاقات للفعل المتجرّى به في غاية الضعف، و مثله القول بحرمته لأجل العناوين الثانوية كالجرأة و الطغيان و التمرّد، و الظلم و الهتك، فانّ الثلاثة من الأُمور النفسانية غير القائمة بنفس الفعل، كما مرّ سابقاً، و أمّا الظلم على المولى فرع نقض القانون و هو يختص بالعاصي، و أمّا الهتك فهو فرع التظاهر بالعمل و المفروض في المقام غيره، بل البحث مركز على مخالفة الحجّة و إن كان في خفاء مع الخوف و الوجل.

و بذلك يعلم حال الفعل المنقاد به، فلا يوصف بالحسن، كما إذا جامع امرأة أجنبية بزعم انّها زوجته قضاء للواجب في كلّ أربعة أشهر، فالفعل باق على قبحه، نعم يفارق الانقياد عن التجرّي بورود الدليل على ترتب الثواب على الأوّل، دون العقاب على التجرّي.

أسئلة ثلاثة و أجوبتها
السؤال الأوّل: حكم التجرّي في الآيات و الروايات

إذا لم يكن في مورد التجرّي قبح فعلي و بالتالي لم يكن أي عقاب، فما معنى ما دلّ من الآيات و الروايات على ثبوت العقاب لنية العصيان بالدلالة المطابقية أو الالتزامية.

الجواب: لا دلالة لما استدل به من الأدلّة على المدّعى، و إليك دراسة الآيات أوّلاً، ثمّ الروايات ثانياً.

الف. قوله سبحانه: (وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ

ص:38

فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ).(1)

و الجواب بوجهين: أوّلاً: انّ الآية كبرى كلية لما مرّ في الآية المتقدمة، أعني: قوله سبحانه: (وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ). (2)ممّا يجب إظهارها و يحرم كتمانها و ليست نية المعصية من مصاديق هذه المقولة ممّا يجب إظهارها و يحرم كتمانها.

و ثانياً: انّ القدر المتيقن من الآية، الأُمور التي لها رسوخ في النفس كالإيمان و الكفر، و الملكات الفاضلة أو الرذيلة، و لا تعم الأُمور الآنيّة كنية العصيان التي تأتي و تزول.

2. قوله سبحانه: (وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ).(3)

يلاحظ على الاستدلال: أنّ ظاهرها انّ لكلّ من السمع و البصر و الفؤاد وظائف و أحكاماً يكون كلّ منها مسئولاً عنها، و هذه الضابطة أمر مسلم، انّما الكلام في الصغرى و هي هل الفؤاد مسئول عن حرمة نيّة المعصية إذا نواها و إن لم يرتكبها؟ فلم يدلّ دليل عليه.

و الحاصل: انّ الكبرى لا تدل على الصغرى أي كون الفؤاد مسئولاً عنه لا يدل على أنّه يسأل حتّى عن نيّة المعصية، نعم هو مسئول عن الإيمان و الكفر و النفاق و غيرها ممّا دلّ الدليل القطعي على أنّها من وظائفه، نعم لو ثبت انّ الفؤاد مسئول عن كلّ ما يرجع إليه، يكون هذا دليلاً على حرمة نيّة الجرأة.

3. (لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ

ص:39


1- البقرة: 284.
2- البقرة: 283.
3- الاسراء: 36.

قُلُوبُكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ).(1)

و كيفية الاستدلال واضحة:

و الجواب انّ المراد من قوله: (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) بقرينة مقابلته لقوله: (بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) هو اليمين التي يحلف بها الإنسان عن عقد القلب و قصد منه، و أين هو من المؤاخذة على كلّ عمل قلبي.

و حاصل الآية: انّ ما يحلف به الإنسان جرياً على عادته من قوله:» و اللّه «،» بلى و اللّه «لا يؤخذ به، بل يؤخذ على كلّ يمين كان للقلب و الشعور تأثير فيه و هو الأيمان الجدية.

4. (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ).(2)

ترى أنّه سبحانه أوعد بالعذاب على من أحبّ شيوع الفاحشة في الّذين آمنوا و هو أمر قلبي.

يلاحظ على الاستدلال: أنّ حبّ شيوع الفاحشة من المعاصي الموبقة كما سيوافيك إن شاء اللّه عند البحث في الروايات، فانّ هناك أعمالاً قلبية محرمة كالرضا بمعصية الغير، و أين هو من النية العارية بالنسبة إلى فعل الناوي؟! أضف إلى ذلك انّ الحب في الآية قد اقترن بالعمل، لأنّها نزلت في حقّ عبد اللّه بن أُبيّ الّذي قام بقذف الأبرياء بالفحشاء و المنكر، و المورد يصلح للقرينية، فلا يمكن التمسك بالإطلاق حتى لمن أحبّ شيوع الفاحشة عارياً عن العمل.

5. قوله سبحانه: (تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ).(3)

ص:40


1- البقرة: 225.
2- النور: 19.
3- القصص: 83.

إنّ الاستدلال بالآية ضعيف، لأنّها وردت في شأن قارون و قد أراد علواً في الأرض و فساداً من وراء أعماله الموبقة.

و بعبارة أُخرى: انّ المراد من عدم إرادة العلو، هو عدم بغيه عملاً، و عدم طلبه خارجاً فأطلقت الإرادة، و أُريد منها عدم تحقّق المراد.

هذا كلّه حول الآيات، و أمّا الروايات فهي على صنفين: صنف منها يدل بظاهره البدئي على ترتب العقاب على مجرد نيّة العصيان، و صنف آخر يدل على خلافه، و إليك الكلام في كلا الصنفين:

الصنف الأوّل: ما يدل على ترتّب العقاب
1. حشر الناس على نياتهم

عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» إنّ اللّه يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة «.(1)

و الحديث و إن كان بظاهره دليلاً على المطلوب، و لكنّه يفسّره حديث آخر عن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (قال:» في حديث انّما الأعمال بالنيّات، و لكلّ امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند اللّه فقد وقع أجره على اللّه عزّ و جلّ، و من غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلاّ ما نوى «.(2)

و الحديث المفسر) بالكسر (و المفسَّر) بالفتح (و إن كانا ضعيفي السند، لكن الثاني يرفع الستار عن وجه الأوّل، و انّ المراد من حشر الناس على نياتهم هو حشرهم على نيّاتهم الخالصة أو المشوبة بالرياء، فأين هذا من المطلوب؟!

ص:41


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 5، من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 5.
2- المصدر السابق: الحديث 10.
2. جمع الناس بالرضا و السخط

ما روي عن أمير المؤمنين) عليه السلام (، انّه قال:» أيّها النّاس إنّما يجمع الناس الرضا و السخط، و إنّما عَقَر ناقَة ثمود رجل واحد، فعمّهم اللّه بالعذاب لما عمّوه بالرضى، فقال سبحانه: (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ ) (1)«.(2)

ما روي عنه) عليه السلام (:» الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، و على كلّ داخل في باطل إثمان:

إثم العمل به، و إثم الرضا به «.(3)

يلاحظ على الاستدلال: أنّ الرضا بصدور المعصية عن الغير من المعاصي الكبيرة و ليست من التجرّي، نظير ذلك حبّ شيوع الفاحشة بين الناس كما جاءت في الآية المباركة: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ).(4)

فإنّ نفس الحب معصية قلبية كالكفر و النفاق و غير ذلك، و هذه الروايات الأربع لا دلالة لها على مقصود المستدل.

3. نيّة الكافر شرّ من عمله

روى السكوني عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (أنّه قال:» قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (: نيّة المؤمن خير من عمله، و نيّة الكافر شرٌّ من عمله، و كلّ عامل يعمل على نيّته «.(5)

ص:42


1- الشعراء: 157.
2- نهج البلاغة: الخطبة 221.
3- المصدر نفسه، قسم الحكم، الرقم 154.
4- النور: 19.
5- الوسائل: 1، الباب 6 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 3; و لعلّه متحد مع الحديث 22 في هذا الباب.
يلاحظ عليه بأمرين:

أ. انّ المضمون غريب، إذ كيف تكون نية المؤمن العارية عن العمل، خير من عمله، و مثله نيّة الكافر مع أنّ العمل أفضل من النيّة العارية للمؤمن و على العكس في الكافر، و الغرابة في المضمون تعدّ من مضعفات الاحتجاج بالرواية المذكورة.

ب. انّ الحديث وُجِّه في بعض الروايات بوجهين:

فتارة: فسر» الخير «في الحديث بالكثرة، بمعنى انّ نية المؤمن أكثر و أوسع من عمله كما انّ نية الكافر أكثر و أوسع من عمله، فالمؤمن يبغي الخير الكثير و لا ينال إلاّ القليل كما انّ الكافر يبغي الشر الكثير و لا ينال إلاّ القليل لضيق قدرته. و قد روى الحسن بن حسين الأنصاري، عن بعض رجاله، عن أبي جعفر ) عليه السلام (أنّه كان يقول:

» نيّة المؤمن أفضل من عمله ذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه، و نيّة الكافر شرٌّ من عمله و ذلك لأنّ الكافر ينوي الشر و يأمل من الشر ما لا يدركه «.(1)

و أُخرى: بأنّ نيّة المؤمن بعيدة عن الرياء دون عمله، فقد روى زيد الشحام، قال: قلت لأبي عبد اللّه ) عليه السلام (: إنّي سمعتك تقول: نيّة المؤمن خير من عمله فكيف تكون النية خيراً من العمل؟ قال:» لأنّ العمل ربما كان رياء للمخلوقين و النية خالصةً لربِّ العالمين، فيعطي عزّ وَ جَلّ على النية ما لا يعطي على العمل «.(2)

و التوجيه يختص بنيّة المؤمن و يبقى الإشكال في نية الكافر على حاله.

ص:43


1- الوسائل: 1، الباب 6 من أبواب مقدّمات العبادات، الحديث 17.
2- المصدر السابق، الحديث 15.

و حاصل الكلام: انّ الحديث مشتمل على مضمون غريب أوّلاً، و انّ الخير و الشر فُسِّرا بالكمية تارة، أو بالابتعاد عن الرياء أُخرى، و أين هذا من كون النية المجردة حراماً؟!

4. خلود أهل النار لأجل النية

روى أبو هاشم المدني قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» انّما خُلِّد أهل النار في النار، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا اللّه أبداً; و إنّما خُلِّد أهل الجنة في الجنة، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا، أن لو بقوا فيها، ان يطيعوا اللّه أبداً; فبالنيات خُلِّد هؤلاء و هؤلاء، ثمّ تلا قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) (1)قال: على نيّته «.(2)

و لا يخفى وجود الغرابة في مضمون الحديث، إذ ليس كلّ مؤمن و لا كافر على النحو الذي وصف في الرواية، على أنّ الحديث ضعيف بالحسين بن أحمد المنقري، و أحمد بن يونس، فكيف يحتجّ بحديث غريب في المضمون محكي بالضعاف؟! و أمّا وجه خلودهم في الجنّة، فقد أوضحنا ذلك في كتاب الإلهيات.(3)

5. يكتب في حال المرض ما عمل في حال الصحّة

روى جابر، عن أبي جعفر قال: قال لي:» يا جابر: يكتب للمؤمن في سقمه من العمل الصحيح ما كان يكتب في صحّته، و يكتب للكافر في سقمه من

ص:44


1- الإسراء: 84.
2- الوسائل: الجزء 1، الباب 6 من أبواب مقدّمات العبادات، الحديث 4.
3- تلخيص الإلهيات: 671.

العمل السيّئ ما كان يكتب في صحّته «.

ثمّ قال:» يا جابر ما أشدّ هذا من حديث «.(1)

و الحديث ضعيف جدّاً لما اشتمل على مجاهيل في السند. أضف إلى ذلك انّه يحتمل أن يكون الحديث ناظراً إلى الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن كبناء المسجد فما دام المسجد باقياً و مأوى للمصلين يصل ثوابه إلى المؤمن و إن كان طريح الفراش، و مثله في الكافر إذا أسس سنة سيئة، و القرينة على هذا التفسير هي كلمة» العمل الصالح و العمل السيّئ «فقد ورد عن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (أنّه قال:» إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاّ من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة تجرى له، أو ولد صالح يدعو له «.(2)

و هذا الخبر و ما تقدمه لا يحتج بهما لغرابة متنهما أو ضعف سندهما مضافاً إلى ما عرفت من المناقشة في الدلالة.

الصنف الثاني: ما يدل على عدم الحرمة

تضافرت الروايات على أنّ من ألطافه سبحانه على عباده هو انّه يُجزي على نية العمل الصالح و إن لم يفعله المؤمن، و لا يُجزي على نية العمل السيّئ ما لم يرتكبه، و إليك شيئاً من تلك الروايات، و نشير في الهامش إلى محال ما لم نذكره.

روى الكليني عن زرارة، عن أحدهما) عليهما السلام (، قال:» إنّ اللّه تبارك و تعالى جعل لآدم في ذريته انّ من همَّ بحسنة فلم يعملها كتب له حسنة، و من همّ بحسنة و عملها كتبت له عشراً; و من همّ بسيئة لم تكتب عليه، و من همّ بها و عملها كتبت

ص:45


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 7 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 5.
2- بحار الأنوار: 2/23.

عليه سيئة «.(1)

و بما انّ هذا الصنف من الروايات أكثر عدداً و أوضح دلالة يتعين الأخذ بها، إنّما الكلام في الصنف الأوّل، فهل هناك جمع دلالي أو لا؟ يظهر الأوّل من الشيخ فقد جمع بينهما بوجهين:

الوجه الأوّل: حمل الطائفة الأُولى على من بقي على قصده حتى عجز لا باختياره، و الطائفة الثانية على من ارتدع بنفسه و اختياره.

و استشهد على هذا الجمع بالنبوي، قال:» إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّة، فالقاتل و المقتول في النار «، قيل: يا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال:» لأنّه أراد قتله «.(2)

أقول: إنّ في السند الحسين بن علوان و هو عامي لم يوثّق، كما أنّ فيه عمرو ابن خالد و هو زيدي بتري فالحديث لا يحتج به.

أضف إلى ذلك انّ إرادة قتل المؤمن بالنحو الذي ورد في الرواية من سل السيف على وجهه إلى أن عجز، من المحرمات و ليس من التجرّي، لأنّ فيه إخافة للمؤمن و هو حرام.

و إن شئت قلت: ليس التعليل انّه أراد المعصية، بل أراد القتل على النحو الوارد في الرواية و إرادة القتل بالنحو الوارد فيها من المعاصي.

و قد عقد صاحب الوسائل باباً في الحدود تحت عنوان» من شهر السلاح لإخافة الناس «.(3)

ص:46


1- الوسائل: 1، الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث السادس; و لاحظ الحديث 7، 8، 20، 21، 24 من هذا الباب، و الباب 7، الحديث 3.
2- الوسائل: 11، الباب 67 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
3- الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب حدّ المحارب.

الوجه الثاني: ما دلّ على العفو يحمل على ما إذا لم يرتكب شيئاً من المقدمات و حمل ما دلّ على ترتّب العقوبة إذا اشتغل ببعض المقدمات.

أقول: إنّه جمع تبرعي و على خلاف إطلاق روايات الصنف الثاني.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقّق الخوئي من حمل الروايات الدالة على ترتّب العقاب على ما إذا قصد ارتكاب الحرام الواقعي و إن لم يرتكبه فلا صلة لها بقصد الحرام الخيالي و ما يعتقده المكلّف حراماً، مع عدم كونه حراماً في الواقع كما في التجرّي.(1)

يلاحظ عليه: أنّ معنى ذلك هو حمل الصنف الثاني على خصوص التجري و حمل هذه الروايات الكثيرة عليه بعيد جداً.

أضف إلى ذلك انّ كلاً من العاصي و المتجري قاصد للحرام الواقعي و إنّما الخطأ في التطبيق.

و بعبارة أُخرى تعلقت الإرادة بالحرام، فالمراد بالذات هو الحرام الواقعي، و إنّما يختلفان في الحرام بالعرض.

السؤال الثاني: في تفصيل صاحب الفصول

قد عرفت أنّ التجرّي بما هو مخالفة للحجّة ليس بقبيح غير انّ صاحب الفصول ذهب إلى قبحه، و لكن إذا تحقّق التجرّي في ضمن الواجب غير المشروط بالقربة تقع المزاحمة بين قبح التجرّي و حسن المتجرّى به، كما إذا عثر على إنسان قطع انّه عدو المولى فلم يقتله فبان انّه ابنه.

أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا وجه لهذه المزاحمة، لأنّ المفروض عدم علمه به و لا يكاد أن يؤثر شيئاً بدونه حيث لا يكون حينئذ بهذا الوجه اختيارياً

ص:47


1- مصباح الأُصول: 2/92.

و الحسن و القبح من صفات الأفعال الاختيارية.(1)

و حاصله: انّ الشيء إنّما يوصف بالحسن الفعلي إذا التفت إليه الفاعل و من المعلوم انّه ترك قتل الرجل، بعنوان انّه عدو المولى لا بعنوان انّه ابنه، فكيف يكون هذا الفعل غير الملتفت إليه ملاكاً للحسن و موجباً للمزاحمة بين حسنه و قبح التجرّي.

السؤال الثالث: هل ممارسة التجرّي تنافي العدالة؟

هل مزاولة التجرّي و مداومته تمنع عن تحقّق العدالة بمعنى الملكة قبل تحقّقها، و تَرفَعُها بعد تحقّقها كالمعصية بعينها من غير تفاوت بينهما أصلاً؟ و الظاهر انّ التجرّي بمعنى مخالفة الحجّة و إن لم يكن قبيحاً مورثاً للعقاب و لكنّه كاشف عن انهيار ملكة العدالة إذا تكرّر ذلك العمل منه كما يكون مانعاً عن تحقّقها.

و للمحقّق الخراساني تفصيل ذكره في تعليقته على الفرائد فلاحظ.(2)

ص:48


1- تعليقة المحقّق الخراساني: 16.
2- تعليقة المحقّق الخراساني: 17.

الأمر الثالث في تقسيم القطع إلى طريقي و موضوعي

اشارة

اشتهر تقسيم القطع من زمان الشيخ الأعظم) قدس سره (إلى أقسام خمسة من كونه طريقياً محضاً، أو مأخوذاً في الموضوع ثمّ الثاني على قسمين، لأنّه إمّا يؤخذ فيه بما انّه طريق، أو يؤخذ بما انّه وصف نفساني; و على كلا التقديرين إمّا أن يكون المأخوذ في الموضوع تمامه أو جزءه، و إليك توضيح الأقسام:

1. الفرق بين الطريقي و الموضوعي

إذا كان الحكم مترتباً على نفس الواقع بلا مدخلية للعلم و القطع فيه كحرمة الخمر و القمار و غير ذلك فالقطع عندئذ يكون طريقيّاً و لا يكون للقطع هناك دور سوى التنجيز، و إلاّ فالخمر و القمار، حرام، سواء أ كان هناك علم أو لا، غاية الأمر يكون الجهل عذراً للمرتكب، و هذا بخلاف القطع الموضوعي فإنّ للقطع فيه مدخلية في الحكم بحيث لولاه، لما كان هناك حكم شرعي و أمثلته كثيرة، نظير:

1. الحكم بالصحة فانّه مترتب على الإحراز القطعي في الثنائية و الثلاثية من الصلوات و الأُوليين من الرباعية، بحيث لولاه لما كانت محكومة بها.

2. الحكم بوجوب التمام لمن يسلك طريقاً مخطوراً محرزاً بالقطع أو الظن.

ص:49

3. الحكم بوجوب التيمم لمن أحرز كون استعمال الماء مضراً بالقطع أو الظن.

4. الحكم بوجوب التعجيل بالصلاة لمن أحرز ضيق الوقت بكلا الطريقين.

فلو انكشف الخلاف و انّ الطريق لم يكن مخطوراً، و لا الماء مضراً، و لا الوقت ضيّقاً لما ضرّ بالعمل، لأنّ كشف الخلاف إنّما هو بالنسبة إلى متعلّق القطع لا بالنسبة إلى الموضوع المترتب عليه الحكم.

و بذلك يعلم أنّ القطع الموضوعي، هو ما يكون له مدخلية في ترتب الحكم، لا خصوص ما إذا أخذ في لسان الموضوع بل هو أعمّ من القطع المأخوذ في الموضوع كما هو الحال في قوله تعالى: (وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (1)فانّ التبيّن و إن كان مأخوذاً في لسان الدليل، لكن ليس له مدخلية في وجوب الإمساك إلاّ كونه طريقاً إلى طلوع الفجر، و لأجل ذلك يجب الإمساك إذا علم بطلوع الفجر و إن لم يكن هناك تبين، كما إذا كان الهواء غيماً أو كان الإنسان محبوساً. فليس كلّ قطع أخذ في لسان الدليل، قطعاً موضوعياً كما في الآية فهو مع الأخذ، فيها طريقي محض.

2. تقسيم الموضوعي إلى طريقي و وصفي

إنّ القطع من الأُمور الإضافية، فله إضافة إلى العالم و له إضافة إلى المعلوم، فلو أخذ في الموضوع بما له إضافة إلى العالم، و انّه أمر قائم به كقيام سائر الصفات به، فقد أخذ في الموضوع بما هو وصف نفساني; و لو أخذ فيه بما له إضافة إلى المعلوم و كاشف عنه، فقد أخذ فيه بما انّه طريق، فما في الكفاية من قوله:» لمّا كان

ص:50


1- البقرة: 187.

من الصفات الحقيقية «إشارة إلى أخذه فيه بما هو وصف، و قوله:» ذات الاضافة «إشارة إلى أخذه فيه بما هو طريق.

و بالجملة: القطع من الأُمور النفسانية فتارة يلاحظ بما انّه كاشف عن الواقع، و أُخرى بما انّه أمر قائم بالنفس كالبخل و الحسد، فلو أخذ في الموضوع بما هو طريق و كاشف، يُوصَف بالقطع الموضوعي الطريقي و إن أخذ بما انّه قائم بالنفس و عوارضها يوصف بالقطع الموضوعي الوصفي، و إن شئت التمثيل فقل: إنّ النظر إلى القطع كالنظر إلى المرآة، فتارة يلاحظها الإنسان بوصف كونها مرآة و أنّها كيف تُري، و أُخرى بما انّه جسم صيقلي شفاف و انّها على شكل كذا و قطر كذا، فالموضوعي الطريقي أشبه بالأوّل، و الموضوعي الوصفي أشبه بالثاني.

3. تقسيم الموضوعي إلى تمام الموضوع و جزئه

ثمّ إنّ القطع الموضوعي على قسمين: تارة يكون القطع تمام الموضوع للحكم من غير مدخلية للواقع و يكون الحكم دائراً مداره، و أُخرى يكون القطع جزء الموضوع و الواقع هو الجزء الآخر.

أمّا الأوّل فقد مرت أمثلته، و أمّا الثاني، كبطلان الصلاة في الثوب الذي قطع بنجاسته، فلا تبطل الصلاة إلاّ إذا كان نجساً في الواقع و تعلق به القطع، و إلاّ فلو كان نجساً في الواقع و كان جاهلاً أو كان طاهراً في الواقع و كان القطع جهلاً مركباً، تصح صلاته مع تمشي قصد القربة في الصورة الثانية.

و بذلك يظهر انّ الموضوعي على أقسام أربعة، لأنّ كلاً من المأخوذ في الموضوع طريقياً أو وصفياً، إمّا يكون تمام الموضوع أو جزأه، فتكون الأقسام أربعة، مضافاً إلى الطريقي المحض غير المأخوذ في الموضوع.

نعم استشكل المحقّق النائيني في أخذ القطع الطريقي تمام الموضوع، و تبعه

ص:51

تلميذه في مصباحه. و حاصل كلامهما: أنّ أخذه تمام الموضوع آية انّه لا مدخلية للواقع في ترتّب الحكم، و أخذه بنحو الطريقية آية أنّ للواقع دخلاً فيه و الجمع بينهما جمع بين المتناقضين.(1)

يلاحظ عليه: أنّ معنى القطع الموضوعي الطريقي هو أخذه في الموضوع بما انّ له وصف الطريقية و المرآتية، لا انّ للواقع مدخلية في الحكم حتى لا يصحّ أخذه طريقاً في الموضوع على وجه التمامية، و الخلط حصل في تفسير القطع الموضوعي، و قد أحسن شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري) قدس سره (فقد فسره في درره على نحو ما ذكرناه و قال: المقصود كونه ملحوظاً على أنّه طريق كسائر الطرق المعتبرة. و بعبارة أُخرى:

ملاحظة الجامع بين القطع و سائر الطرق المعتبرة.(2)

4. تقسيم آخر للقطع الموضوعي

ثمّ إنّ المأخوذ في الموضوع تارة يكون القطع بالحكم مأخوذاً في موضوع حكم آخر لا يضاده و لا يماثله بل يخالفه، كما إذا قال: إن قطعت بنجاسة الثوب فلا تصل فيه. فمتعلق القطع حكم وضعي كالنجاسة أخذ في موضوع حكم تكليفي بينهما من النسب هو التخالف إذ قد يكون الشيء نجساً و لكن يجوز فيه الصلاة، كالمعفو عنها، و قد لا تجوز الصلاة و لا يكون نجساً، كالمغصوب و قد يجتمعان.

و قد مثل له المحقّق الخراساني بأنّه إذا قطعت بوجوب شيء فتصدق، و النسبة بين الحكمين هو التخالف لا التماثل و لا التضاد، و أُخرى يكون القطع بالموضوع أي الخمر موضوعاً للحكم الراجع إلى نفس الموضوع كما إذا قال: إن قطعت بخمرية مائع فلا تشربه، و الشائع هو القسم الثاني في ألسن الأُصوليين.

ص:52


1- لاحظ فوائد الأُصول: 2/11; مصباح الأُصول: 2/32.
2- درر الأُصول: 2/331.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بحث عن أقسام القطع الموضوعي هنا إجمالاً و في الأمر الرابع تفصيلاً و كان الأنسب البحث عنه في مورد واحد.

5. قيام الأمارات مكان القطع

إذا كان الحكم مترتباً على الموضوع بما هو هو و كان القطع طريقاً إلى ثبوته أوّلاً، و ترتّب أحكامه ثانياً، تقوم مكانه الطرق و الأمارات بنفس دليل اعتبارهما، فإذا قال:» البيّنة حجّة «يكون معناه ثبوت ما أخبرت عنها من كون المائع خمراً، و المال ملكاً لزيد و يترتّب عليه آثارهما و إلاّ يلزم لغو جعل الحجّية لها، و بذلك يعلم وجه قيام الطرق مكان القطع الطريقي بنفس دليلِ اعتبارها، و المراد من القيام مكانه كونها حجّة مثله لا انّ القطع أصل و الأمارة فرع بل كلاهما طريقان إلى الواقع، غير انّ الأوّل طريق بنفسه و الثاني طريق بإذن الشارع و اقتناعه بها في مقام امتثال أوامره و نواهيه.

إنّما الكلام في قيامها مكانه في القسم الموضوعي بنفس دليل اعتبارها، فذهب الشيخ الأنصاري إلى قيامها مكانه بنفس دليل اعتبارها مقام القطع الموضوعي الطريقي دون الوصفي، فلو أخذ في الموضوع بما هو طريق تقوم البيّنة بنفس دليل اعتبارها مكانه، دون ما أخذ فيه بما هو وصف.

و ذهب المحقّق الخراساني إلى عدم القيام مطلقاً، فهنا قولان:

أمّا الأوّل: فقد ذكره الشيخ في أوّل رسالة القطع، و وجه التفصيل وجود الجامع بين الأمارات و الطرق، و القطع المأخوذ في الموضوع بما هو طريق دون القسم الآخر، و ذلك لأنّ القطع و إن أُخِذَ في الموضوع بشخصه لكن أخذه بما انّه كاشف و مرآة و من المعلوم انّ هذه الجهة مشتركة بين القطع و الأمارات و الطرق، بخلاف المأخوذ في الموضوع بما هو وصف نفساني، فلا جهة مشتركة بينه و بين الأمارات

ص:53

حتى تقوم مكانه، هذا هو المستفاد من كلام الشيخ في رسالة القطع.

و أمّا الثاني، فهو خيرة المحقّق الخراساني، و ذهب إلى عدم القيام إلاّ في القطع الطريقي المحض، و قد عرفت انّه لا معنى للقيام فيه.

أقول: الكلام يقع تارة في مقام الثبوت أي إمكان القيام، و تارة في مقام الإثبات و دلالة الدليل.

و إليك الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في إمكان تنزيل الطريق منزلة القسمين

ذهب المحقّق الخراساني إلى الامتناع، و استدل بما هذا حاصله:

انّ للقطع في جميع الأقسام أثرين بارزين:

1. حجّيته و طريقيته إلى الواقع، و هذا في القطع الطريقي المحض.

2. مدخليته في الموضوع و تأثيره في ثبوت الحكم كدخل القدرة و البلوغ، و هذا في القطع الموضوعي بكلا قسميه.

فدليل الحجّية إنّما يتكفل التنزيل الأوّل، أي تنزيل الطريق مكان القطع في ترتيب ما للقطع بما هو حجّة من الآثار لا بما هو دخيل في الموضوع إلاّ إذا كان هناك تنزيل ثان و هو غير موجود.

فإن قلت: إذا كان لدليل التنزيل إطلاق من كلتا الجهتين فلا مانع من القيام مكانه، كما إذا نزّل الأمارة منزلة القطع في الطريقية و المدخلية في الموضوع.

قلت: إنّ دليل التنزيل مثل قوله:» العمري و ابنه ثقتان، فما أدّيا عني فعنّي يؤدّيان «(1)، لا يكاد يفي إلاّ بأحد التنزيلين، و ذلك لأنّه لو كان تنزيل الطريق مكان القطع لأجل الحجّية يكون النظر إلى القطع و الأمارة نظراً آليّاً و إلى الواقع

ص:54


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.

و المؤدّى استقلالياً، و لو كان تنزيل الطريق مكان القطع لأجل المدخلية في الموضوع يكون النظر إلى الواقع و المؤدّى نظراً آلياً، و إليهما نظراً استقلالياً، و لا يصحّ الجمع بين اللحاظين المتضادين من الواحد.

نعم لو كانت بين التنزيلين جهة جامعة، و كان التنزيل لأجلها، لتحقّق التنزيلان بتنزيل واحد و لكن المفروض عدمه، فلا محيص إلاّ عن تنزيل واحد، إمّا لأجل كونه حجّة، أو لأجل كونه دخيلاً في الموضوع.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ لازم ذلك أن يكون دليل التنزيل مجملاً غير دال على واحد من التنزيلين، فأجاب بأنّ ظهوره في أنّه بحسب اللحاظ الآلي ممّا لا ريب فيه، هذا لبّ مراده في الكفاية.

يلاحظ عليه: أنّ النظر إلى القطع و الأمارة في كلا التنزيلين استقلالي بشهادة انّ المولى ينزِّل الأمارة منزلة قطع المكلّف، و يلاحظهما على وجه الاستقلال سواء أ كانت جهة التنزيل هي الحجية، أو المدخلية في الموضوع، غاية الأمر يلاحظ القطع في التنزيل الأوّل بما هو طريق و مرآة، و في التنزيل الثاني بما هو دخيل في الموضوع و انّه مؤثر في ترتّب الحكم و تحقّقه، و ليس هذان اللحاظان غير قابلين للجمع كما إذا نظر عند شراء المرآة إلى كيفية حكايتها و إراءتها و في الوقت نفسه إلى شكلها و ضخامة زجاجها و ما حولها من الرخام.

و بعبارة أُخرى: انّ نظر القاطع إلى قطع نفسه طريقي محض و لكنّه ليس هو المنزِّل، بل المنزل هو الشارع فهو ينظر إلى قطع المكلّف بنظر استقلالي من غير فرق بين ملاحظته من حيث إنّه مرآة و طريق، أو من حيث إنّه دخيل في الموضوع، فلو كان لدليل التنزيل إطلاق لما منع اللحاظان عن الشمول و الاستيعاب، و تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي، و القطع الموضوعي الطريقي. و بالجملة منشأ الخلط، هو تصور انّ القاطع هو المنزل، مع أنّه غيره.

ص:55

المقام الثاني: في مفاد دليل التنزيل

قد عرفت أنّ الكلام يقع في مقامين: أحدهما: في إمكان تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي، و القطع الموضوعي الطريقي بتنزيل واحد; ثانيهما: في استظهار مقدار دلالة الدليل، و قد عرفت أنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى الامتناع العقلي في المقام الأوّل فلم يعقد بحثاً للمقام الثاني، و لكنّك عرفت إمكانه. إنّما الكلام في مقدار دلالة الدليل.

و الاستظهار من الدليل فرع أن يكون للشارع دور في باب الأمارات و تنزيلها مكان القطع حتى يبحث في جهة التنزيل و انّه هل هو لأجل الحجّية أو المدخلية في الموضوع، لكن الحقّ انّه ليس للشارع في باب الأمارات، جعل و لا تنزيل سوى إمضاء ما بيد العقلاء، و سيوافيك في محلّه انّ عامة ما استدل به على حجّية الخبر الواحد راجع إلى بيان الصغرى و انّ فلاناً ثقة أو لا، دون الكبرى و كأنّها كانت عندهم محرزة و ثابتة.

و على ضوء ذلك يظهر أمران:

1. انّ العمل في مورد القطع الطريقي المحض بالأمارة ليس من باب تنزيله مكان القطع، بل لكونه طريقاً كالقطع و حجّة مثله، لا انّه منزل منزلته و لا يظهر من أدلّة الإمضاء سوى كونها حجّة، لا نازلة منزلته.

2. قيامه مكان القطع الموضوعي يتوقف على وجود جهة جامعة قريبة بينهما، فإن أخذ في الموضوع بما هو كاشف تام يرفض كلّ احتمال مخالف، فلا يكفي دليل الإمضاء في قيام الأمارة مكان القطع لانتفاء الحيثية التي لأجلها أخذ في الموضوع في الأمارة و إن أخذ بما انّه أحد الكواشف، فيقوم مكانه، لأنّ نسبة القطع و الأمارة إلى الحيثية المسوغة لأخذه في الموضوع، سواسية.

ص:56

و للمحقّق الخوئي) قدس سره (بيان آخر يقول: إنّ ترتيب آثار المقطوع على مؤدى الأمارة إنّما هو لتنزيلها منزلة القطع فيكون ترتيب أثر نفس القطع لأجل هذا التنزيل بطريق أولى.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ترتيب أثر المقطوع على المؤدّى إنّما هو لأجل وجود الحجّة الشرعية لا لأجل تنزيلها منزلة القطع، فلا يكون ترتيب ذلك الأثر دليلاً على تنزيل الأمارة منزلة القطع أيضاً.

و بعبارة أُخرى: العمل بالأمارة في مورد القطع الطريقي المحض ليس لأجل تنزيل الأمارة مكان القطع، بل لأجل وجود الحجّة الشرعية، فالتساوي بين المقطوع و المؤدّى لا يكشف عن تنزيل المؤدّى منزلة المقطوع حتى يستكشف منه تنزيل الأمارة منزلة القطع كما لا يخفى.

في قيام الأُصول العملية مقام القطع

قسّم الأصل العملي إلى محرز و غير محرز. و المقصود من الأوّل ما يكون المجعول فيه لزوم الأخذ بأحد طرفي الشكّ بناء على أنّه الواقع و إلغاء الطرف الآخر، كالاستصحاب و قاعدة التجاوز و الفراغ في فعل النفس، و أصالة الصحّة في فعل الغير، و قاعدة عدم العبرة بشكِّ الإمام مع حفظ المأموم و بالعكس. و المراد من الثاني هو الوظيفة المقررة للجاهل شرعاً و عقلاً، كأصل البراءة و الاحتياط و قاعدتي الطهارة و الحلية.

أمّا القسم الثاني فلا يقوم مكان القطع مطلقاً، و ذلك لوجهين:

1. عدم وجود الجهة الجامعة بين القطع الطريقي إلى الواقع و الأُصول

ص:57


1- مصباح الأُصول: 2/37.

المقررة للجاهل بعنوان الوظيفة في مقام العمل، فالقطع طريق إلى الواقع، و الأصل غير المحرز، وظيفة للجاهل إذا انقطعت حيلته، و إلى هذا الوجه أشار المحقّق الخراساني بقوله:» لوضوح انّ المراد من القيام ترتيب ما للقطع من الآثار و الأحكام) تنجّز التكليف و غيره (على الأصل، مع أنّ شأنه ليس إلاّ وظيفة للجاهل في مقام العمل لا تنجيز الواقع «.

2. و لما كان هذا البيان غير جار في أصل الاحتياط حيث إنّ شأنه تنجيز التكليف أشار في وجه عدم قيامه مقام القطع إلى دليل آخر.

و حاصله: انّه يعتبر في التنزيل أُمور ثلاثة:

1. المنزَّل، 2. المنزَّل عليه، 3. جهة التنزيل. و لكن المنزل في المقام هو نفس جهة التنزيل، و ذلك لأنّ المنزل عبارة عن حكم العقل تنجيز الواقع) الاحتياط (و المنزل عليه هو القطع، وجهة التنزيل نفس المنزّل و هو حكم العقل بتنجز الواقع و التكليف لو كان.

فإن قلت: إنّ وحدة المنزَّل، وجهة التنزيل إنّما هو في الاحتياط العقلي، فالمنزل هو حكمه بالتنجّز و المنزل عليه هو القطع، وجهة التنزيل هو حكمه بالتنجز.

و أمّا الاحتياط الشرعي فالأضلاع الثلاثة مختلفة جداً، فالمنزَّل هو حكم الشارع بتنجز الواقع، و المنزل عليه هو القطع، وجهة التنزيل هو حكم العقل تنجز الواقع.

قلت: إنّ الاحتياط الشرعي في الشبهات البدوية غير واجب، بل هي مجرى البراءة، و في أطراف العلم الإجمالي و إن كان واجباً لكنّه بحكم العقل و بوجه سابق على حكم الشرع بالاحتياط كما قال: في الإناءين المشتبهين: يهريقهما جميعاً

ص:58

و يتيمّم.(1)

هذا كلّه حول الأصل غير المحرز; و أمّا الأصل المحرز، فيقوم مكان القطع الطريقي المحض، دون القطع الموضوعي، سواء كان موضوعياً طريقياً أو وصفياً، و ذلك بالبيان السابق في قيام الأمارات مكان القطع الموضوعي. و ذلك لأنّ التنزيل إمّا أن يكون بلحاظ اليقين، أو بلحاظ المتيقن; فإن كان بلحاظ تنزيل اليقين التعبدي مكان اليقين الحقيقي، كان النظر إلى اليقين في كلا الجانبين، استقلالياً، و إلى المؤدّى و المتيقّن آلياً; و إن كان التنزيل بلحاظ تنزيل المؤدّى مكان المتيقن، كان النظر إليهما استقلالياً، و إلى اليقين في كلا الجانبين آلياً، و لا يمكن الجمع بين اللحاظين في آن واحد.

هذا توضيح مراده في الكفاية.

صحّة الجمع بين التنزيلين بنحو الملازمة العرفية

قد عرفت أنّ المحقّق الخراساني منع إمكان تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي الطريقي بدليل واحد، كما منع بنفس هذا الدليل تنزيل الاستصحاب منزلة القطع الموضوعي الطريقي بدليل الاستصحاب لاستلزام التنزيل المزبور الجمع بين اللحاظين الآلي و الاستقلالي في آن واحد.

ثمّ إنّه في تعليقته على الرسائل صحّح دلالة الدليل الواحد على كلا التنزيلين بالبيان التالي:

و هو انّ الأثر إمّا يترتّب على المقطوع بما هو هو، كما إذا قال: الخمر حرام شربه، ففي مثل ذلك يقوم الاستصحاب مكان القطع، فكما أنّه يحرم شربه إذا أحرز بالقطع كذلك يحرم شربه إذا أحرز بالاستصحاب.

ص:59


1- الوسائل: الجزء 2، الباب 4 من أبواب التيمم، الحديث 4.

و لكن ربما يتعلّق الأثر لا بالمتعلّق بما هو هو بل بما تعلّق به القطع، كما إذا قال: إذا قطعت بخمرية شيء فتصدق، ففي مثل ذلك لو كان التنزيلان في عرض واحد يلزم ما تصور من المحال، و أمّا إذا كان التنزيلان لا في عرض واحد بل كلّ في طول الآخر فلا مانع من دلالة الدليل الواحد على كلا التنزيلين، أي تنزيل القطع التعبدي) الاستصحاب (منزلة القطع الواقعي، و تنزيل الخمر التعبدي منزلة الخمر الواقعي، و لكن لا في زمان واحد بل في زمانين، لأنّه إذا دلّ الدليل على أنّ الشارع نزّل الخمر التعبدي منزلة الخمر الحقيقي فهو كاشف عن أنّه نزل القطع التعبدي مكان القطع الحقيقي من ذي قبل، و إلاّ يلزم أن يكون التنزيل الأوّل لغواً، إذ لا يترتب الأثر على إحراز أحد الجزءين و الحكيم منزّه عن اللغوية، و حيث إنّ أحد التنزيلين في طول الآخر لا يلزم الجمع بين اللحاظين في آن واحد.

هذا عصارة ما ذكره في الحاشية.(1)

ثمّ إنّه أورد عليه في الكفاية بأنّه لا يخلو عن التكليف أوّلاً و التعسف ثانياً.

أمّا التكلّف، فلعدم الملازمة العرفيّة بين تنزيل أحد الجزءين و تنزيل الجزء الآخر، و لا ينتقل الإنسان من تنزيل أحدهما إلى أنّه قام بالتنزيل بالنسبة إلى الجزء الآخر قبل ذلك.

و أمّا التعسف فلاستلزامه الدور لأنّ التنزيل فعل شرعي اعتباري و العمل الاعتباري إنّما يصحّ إذا كان له أثر شرعي و المفروض انّ الأثر غير مترتب على واحد من التنزيلين بل على كليهما معاً، فعند ذلك مهما أقدم الشارع على تنزيل

ص:60


1- التعليقة: ص 9، و قد ألّفها قبل الكفاية بسنين، كما يظهر من تاريخ فراغه عن بعض أجزائه، فقد فرغ من التعليق على مبحث التعادل و الترجيح عام 1291 ه، لاحظ ص 289 من الطبعة الحجرية.

واحد من الجزءين دون تنزيل الجزء الآخر يكون فعله عبثاً و فاقداً للأثر إلاّ أن يكون لهذا الجزء الآخر تنزيل قبل ذلك و لكنه خلف لافتراض وحدة التنزيل من غير فرق بين أن يكون المتقدم هو تنزيل مؤدّى الاستصحاب مكان المتيقّن أو تنزيل القطع التعبدي مكان القطع الحقيقي.

و إن شئت قلت: انّ تنزيل المستصحب منزلة الواقع يتوقف على تنزيل القطع التعبدي منزلة العلم بالواقع لترتب الأثر على الواقع و العلم به، و المفروض أنّ تنزيل القطع التعبدي منزلة العلم بالواقع يتوقف على تنزيل المستصحب منزلة الواقع فيكون أحد التنزيلين متوقفاً على الآخر.

هذا لبّ مراده و توضيح مرامه.

و الإجابة عن كلامه بوجهين:

الأوّل: ما ذكرناه سابقاً من حسم مادة الإشكال بأنّ الجمع بين اللحاظين إنّما يلزم لو كان المنزِّل هو القاطع، و أمّا إذا كان المنزِّل غير القاطع فلا يكون هناك أيّ جمع بين اللحاظين أبداً.

و على ضوء ذلك لا حاجة لنا إلى ما تخلص به المحقّق الخراساني في الحاشية حتى ترد عليه مشكلة الدور.

و إن شئت قلت: إنّ هناك أُموراً ثلاثة:

أ. لزوم اجتماع اللحاظين المتضادين.

ب. التخلص عن هذا الاجتماع.

ج. الردّ على هذا التخلص.

فنقول: إنّ الأمر الأوّل و هو اجتماع اللحاظين باطل من أساسه، فلا حاجة إلى التخلّص بما في التعليقة فضلاً عن تحليل ما ذكره نقداً عليها في الكفاية.

ص:61

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ أجاب عن مشكلة الدور بأنّه يكفي في التنزيل الأثر التعليقي و لا تتوقف صحّة التنزيل على الأثر الفعلي، فتنزيل أحد الجزءين دون تنزيل الجزء الآخر صحيح، لأنّه لو انضم إليه التنزيل الآخر صار موضوعاً للأثر و هذا يكفي في رفع الدور.

يلاحظ عليه: بأنّه و إن رفع به مشكلة الدور إلاّ أنّه أبطل البرهان، فإنّ أساسه هو صيانة فعل الحكيم عن اللغوية، فلو كان الأثر التعليقي كافياً يصان به فعل الشارع عن اللغوية فلا يحتاج إلى استكشاف تنزيل الجزء الآخر، لأنّ الحاجة إلى الاستكشاف إنّما كانت لأجل عدم كفاية الأثر التعليقي و لزوم الأثر الفعلي، و إلاّ فلو كفى الأثر التعليقي لصح أحد التنزيلين و إن لم ينضم إليه التنزيل الآخر إلى يوم القيامة.

نظرنا في الموضوع

لا يصحّ الجزم بدلالة الدليل على قيام الأصل المحرز مكان القطع الموضوعي الطريقي إلاّ بملاحظة لسان الدليل، فإن كان لسانه هو التعبد ببقاء اليقين فلا شكّ انّه يقوم مكان القطع الموضوعي الطريقي، فإذا قال الشارع: إذا قطعت بخمرية شيء فتصدق، ثمّ قال: إذا كنت على يقين بالخمرية ثمّ شككت فأنت ذو يقين و ليس عليك أن تنقض اليقين بالشكّ، فعند ذلك يكون دليل الاستصحاب حاكماً على الدليل الأوّل و مفسّراً له و دالاً على أنّ المراد من قوله:» إذا قطعت بخمريّة شيء «هو الأعم من القطع الحقيقي و التعبدي.

و أمّا إذا كان لسان الدليل هو التعبد بوجود المتيقن في السابق لا التعبد ببقاء اليقين فلا يقوم مقام القطع الموضوعي الطريقي و إنّما يقوم مقام القطع الطريقي المحض، ففي رواية حماد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: أشك

ص:62

و أنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا فقال:» مضى «.(1)

تجد انّه يركِّز على وجود ما مضى لا على وجود اليقين، ففي مثله لا يحكم إلاّ بقيامه مقام القطع الطريقي المحض دون ما كان الأثر مترتباً على اليقين بالواقع، إذ ليست العناية في هذا الأصل و ما أشبهه ) كأصالة الصحّة (و عدم العبرة بشكّ المأموم عند حفظ الإمام أو بالعكس، على وجود اليقين.

ص:63


1- الوسائل: 4، الباب 16 من أبواب الركوع، الحديث 1.

الأمر الرابع في القطع و الظن الموضوعيين

اشارة

قد طرح المحقّق الخراساني في هذا الأمر، القطعَ و الظنَ الموضوعيّين و بيّن أقسامهما، و لأجل إيضاح مقاصده نبحث في مقامين:

الأوّل: في أقسام القطع الموضوعي
اشارة

اعلم أنّ القطع إمّا يتعلّق بالحكم أو يتعلّق بموضوع ذي حكم، أمّا الثاني فلم يذكره المحقّق الخراساني بل اكتفى ببيان أقسام الأوّل، و نحن نقتفيه، فنقول: إنّ له أقساماً:

1. أن يؤخذ القطع بالحكم في موضوع نفس الحكم، كما إذا قال: إذا قطعت بوجوب الصلاة تجب الصلاة عليك بنفس هذا الوجوب المقطوع به.

2. أن يؤخذ القطع بالحكم في موضوع مثل ذلك الحكم، كما إذا قال: إذا قطعتَ بوجوب الصلاة تجب الصلاة عليك بوجوب آخر مثله.

3. أن يؤخذ القطع بالحكم في موضوع ضدّ ذلك الحكم، كما إذا قال: إذا قطعتَ بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة.

4. أن يؤخذ القطع بالحكم في موضوع حكم آخر يخالفه لا يضادّه و لا يماثله، كما إذا قال: إذا قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك التصدّق.

ص:64

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني حكم بامتناع الأقسام الثلاثة و لم يذكر من الرابع شيئاً لما سبق ذكره في الأمر الثالث، و إليك بيان أدلّة بطلان الأقسام الثلاثة:

أمّا الأوّل: فلاستلزامه الدور، لأنّ القطع بالحكم فرع وجوده، و المفروض انّ الحكم الواقعي متفرع على القطع بنفس الحكم فيلزم أن يكون الحكم موقوفاً على نفسه.

و بعبارة أُخرى: تعلّق القطع بالحكم يقتضي تقدّم الحكم على القطع هذا من جانب، و من جانب آخر انّ الحكم محمول على القطع بالحكم، فيقتضي تأخّر الحكم عن القطع، تأخرَ المحمول عن موضوعه.

أقول: إنّ القطع بالحكم لا يتوقف على وجود الحكم الواقعي بل يتوقف على الصورة الذهنية منه، فالتوقف من الجانب الأوّل غير صحيح، نعم الحكم الواقعي يتوقف على القطع بالصورة الذهنية من الحكم، و على ضوء هذا فالحكم الموقوف عليه هي الصورة الذهنية و هو غير الحكم الموقوف أي الواقعي.

و الحقّ التفصيل بين كون القطع بالحكم تمام الموضوع و بين كونه جزء الموضوع و الجزء الآخر، وجود الحكم الواقعي، فلو صحّ الدور فإنّما يصحّ في الصورة الثانية.

و ذلك لأنّ الحكم الواقعي حسب الفرض يتوقف على تحقّق الموضوع و هو القطع بالحكم الواقعي، و بما انّ القطع جزء الموضوع و الجزء الآخر هو الحكم الواقعي، فليس كلّ قطع مأخوذاً، و إنّما المأخوذ خصوص القطع الذي تعلّق بالحكم الواقعي، فيكون القطع في مقام الموضوعيّة متوقفاً على تحقّق الجزء الآخر، حتى يتعلّق به و هو الحكم الواقعي و المفروض انّه يتوقف على القطع بالحكم الواقعي.

و أمّا الثاني: إذا كان القطع بالحكم موضوعاً لحكم مماثل، فقد أحاله المحقّق

ص:65

الخراساني لأجل اجتماع المثلين في شيء واحد هو الصلاة فتكون واجبة بوجوبين متماثلين.

يلاحظ عليه بوجهين: أوّلاً: أنّ تعدّد موضوع الوجوبين يرفع الاستحالة، ضرورة انّ الوجوب الأوّل انصبّ على نفس الصلاة و الوجوب الثاني منصب على القطع بوجوبها. و المثلان لا يجتمعان في مكان واحد.

و ثانياً: أنّ الوجوب من الأُمور الاعتبارية و استحالة اجتماع المتماثلين مختص بالأُمور التكوينية النفس الأمرية، فالبياضان المتماثلان المتمايزان لا يجتمعان في نقطة واحدة، و أمّا الوجوبان الاعتباريان فلا مانع من اعتبار شيء واجباً بوجوبين غاية الأمر يكون الثاني أمراً لغواً.

فإن قلت: إنّ لازم اجتماع الوجوبين تعلّق إرادتين متماثلتين بمراد واحد.

قلت: إنّ الإرادتين متعلقتان بمرادين، فالصلاة بما هي هي متعلق بإحدى الإرادتين و القطع بوجوب الصلاة متعلّق بإرادة أُخرى.

و الأولى أن يقال: إنّ اجتماع وجوبين يوجب اللغوية إلاّ أن يحمل على التأكيد.

و أمّا الثالث: فقد أحاله المحقّق الخراساني لاستلزامه اجتماع الضدّين، و يظهر ضعفه ممّا ذكرناه في الوجه الثاني، نعم يصحّ أن يقال: إنّ مآل هذا النوع من الأخذ إلى اللغوية و إلى امتناع امتثال الحكمين المتضادين.

و أمّا الرابع فقد عرفت إمكانه.

ص:66

الاستثناء من عدم جواز الأخذ

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استثنى ممّا عدّه مستحيلاً من الأُمور الثلاثة ما يجمعها أخذ القطع بمرتبة من الحكم في موضوع مرتبة أُخرى من نفس ذلك الحكم أو مثله أو ضدّه، كما إذا قال:

1. إذا قطعت بوجوب الصلاة إنشاءً تجب الصلاة بنفس ذلك الوجوب فعلاً.

2. إذا قطعت بوجوب الصلاة إنشاءً تجب بوجوب فعلي آخر.

3. إذا قطعت بوجوب الصلاة إنشاءً، تحرم عليك فعلاً.

وجه الجواز هو عدم لزوم الدور في الأوّل لكون الحكم المتوقف، غير المتوقف عليه و لعدم كون الوجوبين متماثلين أو متضادين، لأنّ أحدهما إنشائي و الآخر فعلي.

و الحاصل: انّه يجوز أن يكون القطع بالحكم الإنشائي موضوعاً لفعلية ذلك الحكم أو أن يكون القطع بحكم إنشائي موضوعاً لوجوب حكم فعلي آخر مثله أو ضدّه، فبما انّ الحكمين ليسا من نوع واحد لا يكون هناك أيُّ تماثل أو تضاد، فالممكن هو الأربعة، و الممتنع هو الثلاثة فتذكّر.

و أمّا بيان مراتب الأحكام، فنذكرها على وجه الإيجاز:

1. مرتبة الاقتضاء، و هي مرتبة ملاكات الأحكام. و إن شئت قلت: المصالح و المفاسد الموجودة في الأحكام.

2. مرتبة الإنشاء، و هي إنشاء الحكم دون أن يكون هناك بعث و زجر و تحريك بالفعل، كتشريع الحكم قبل بيانه للمكلّف.

ص:67

3. مرتبة الفعلية، و هي عبارة عن بلوغ الحكم مرتبة البعث و الزجر ببيانه و إبلاغه إلى المكلّفين.

4. مرتبة التنجز و الحتمية، و هي فرع علم المكلّف به فيكون مستحقاً للمثوبة و العقوبة لأجل الموافقة و المخالفة.

و ربما ناقش بعضهم فيها و جعل للحكم مرتبتين باخراج المرتبة الأُولى بحجّة انّها ليست حكماً و إخراج المرتبة الرابعة بحجّة انّها حكم عقلي لا صلة له بالحكم المنشأ الشرعي، و على كلّ تقدير، يجوز أن تكون مرتبة منه موضوعاً لمرتبة آخر كما أوضحناه.

في أقسام الظن المأخوذ في الموضوع

الظن المأخوذ في الموضوع، كالقطع المأخوذ فيه له أقسام أربعة أصلية، و أمّا حكمها فهل يتحدان حكماً أو يختلفان؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الثاني. و توضيح كلامه: انّ الظنّ تارة يؤخذ في موضوع نفس الحكم، و أُخرى في مثله، و ثالثة في ضدّه، و رابعة في مخالفه.

و قد مرّ انّ الأقسام الثلاثة الأُول محال في القطع دون الأخير; و أمّا الظنّ فلا شكّ في امتناع الأوّل، و جواز الرابع، إنّما الكلام في القسمين المتوسطين، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى جوازهما في الظنّ دون القطع، وجه الفرق انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في الظن، لأنّ المفروض انّ الواقع غير منكشف مائة بالمائة و المكلّف بعدُ في غمار الجهل، فلا مانع من أن تكون الصلاة بما هي هي واجبة، و بما هي هي مظنون الوجوب، واجبة بوجوب مثله أو محرمة.

و الحاصل انّ هنا فرقاً بين انكشاف الواقع على وجه القطع، فلا موضوع لجعل حكم ثان مثله أو ضدّه لاستلزامه القطع باجتماع الضدين أو المثلين،

ص:68

بخلاف ما إذا كان الواقع مغموراً في ستر الجهل فلا مانع من جعل حكمين متماثلين، أو ضدّين.

فإن قلت: لا فرق بين القطع و الظن، فكما أنّ القطع باجتماعهما محال، فهكذا الظن باجتماعها محال، فإذا تعلّق الظن بحكم فعلي، فجعل حكم فعلي مثله أو ضدّه يستلزم الظن باجتماع المثلين أو الضدين و كلاهما محالان، فالثلاثة الأُول محال في القطع و الظن، و الأخير جائز فيهما.

قلت: إنّ الحكم الفعلي على قسمين:

قسم منه ما يسمّى بالفعلي الحتمي، أي ما ليس له حالة انتظارية حيث تحقق فيه المقتضي و وجدت الشرائط و عدمت الموانع.

و قسم منه فعلي تعليقي بأن بلغ مرتبة الفعلية و لكن لم يبلغ مرتبة الحتمية و التنجز لفقدان شرطه و هو القطع، و إنّما يكون منجزاً إذا تعلّق به القطع.

و على ضوء هذا فالفعلي من جميع الجهات أي الحتمي منه، إذا تعلّق به الظن، لا يصلح أن يقع موضوعاً لحكم مثله أو ضده لاستلزامه الظن باجتماعهما، و أمّا إذا تعلّق بحكم فعلي غير حتمي و لا منجز ففي مثله لا مانع من أن يقع الظن به، موضوعاً لحكم حتمي مثله أو ضدّه، لأنّ تضاد الأحكام إنّما هو في مرحلة الفعلية الحتمية لا في مرحلة التعليقية، و بذلك ظهر الفرق بين القطع و الظن، ففي فرض تعلّق القطع يصير الحكم فعلياً حتمياً، و لا يصلح القطع به، موضوعاً لحكم آخر مثله أو ضدّه لاستلزامه القطع باجتماع المثلين أو الضدين، و هذا بخلاف الظن فانّه لا يوجب انقلاب التعليقي إلى الحتمي، فيبقى الحكم المتعلّق به الظن في مرحلة التعليق و يتعلّق الحكم الثاني على وجه الحتمية، و لا تماثل و لا تضادّ بين هذين النوعين من الحكمين.

ثمّ إنّه) قدس سره (توفق بذلك الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري، حيث جعل

ص:69

الحكم الواقعي من قبيل الفعليات غير المنجزة، و أمّا مؤدّى الأمارة أو الأصل من قبيل الفعليات الحتمية.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه عدل عمّا كان بصدده من إبداء الفرق الجوهري بين القطع و الظن في الأقسام الأربعة الأصلية بامتناع الثلاثة الأُوَل في القطع، و امتناع خصوص القسم الأوّل في الظن و جواز الثاني و الثالث فيه، و جعل وجه الفرق هو انحفاظ الحكم الواقعي في وجود الحكم المماثل و المضاد في مورد الظن كما مرّ و لكنّه بالبيان الأخير، جعل وجه الجواز اختلاف الرتبة بين الحكم الذي تعلّق به الظن و الحكم الذي ترتب على الظن بأنّ الأوّل فعلي غير حتمي و الثاني فعلي حتمي، و من المعلوم أنّه جائز حتى في نفس القطع، و قد صرّح به فيما سبق عند البحث عن أقسام القطع، و قال: نعم يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أُخرى منه أو مثله أو ضدّه، و على هذا لم يبق فرق بين القطع و الظن.

و إن شئت قلت: إنّ الكلام فيما إذا لم يكن تنجّز الواقع مشروطاً بشيء سوى وصول المكلّف إليه بطريق من الطرق، فيقع الكلام في جعل الحكم المماثل أو المضاد، و أمّا إذا كان تنجّز الحكم مشروطاً بخصوص القطع به يكون جعل الحكم المضاد فضلاً عن المماثل جائزاً.

و ثانياً: أنّ الظنّ المعتبر كالقطع، فكما أنّ الثاني، يوجب حتمية الحكم و تنجزه فهكذا الظن المعتبر، فلو صحّ كلامه، فيجب عليه أن يخص جواز الأخذ بالظنّ غير المعتبر، حتى لا يكون تعلّقه بالحكم سبباً لخروجه عن التعليق إلاّ أن تكون الحتمية معلقة على خصوص القطع، لا الحجّة المعتبرة.

ص:70

الأمر الخامس في وجوب الموافقة الالتزامية

اشارة

لا شكّ انّ المطلوب في الأُصول الدينية و الأُمور الاعتقادية، هو التسليم القلبي و الاعتقاد بها جزماً.

إنّما الكلام في الأحكام الشرعية الفرعية التي ثبتت و تنجّزت بالقطع، فهل هنا تكليفان؟ أحدهما: الالتزام بأنّه حكم اللّه قلباً و جناناً.

ثانيهما: الامتثال عملاً و خارجاً.

و لكلّ امتثال و عصيان، فلو التزم قلباً و لكن خالف عملاً فقد عصى و يستحق العقوبة، كما أنّه لو وافق عملاً، و خالف جناناً و التزاماً فقد ترك الفريضة القلبية، فيؤخذ به.

أو أنّ هناك تكليفاً واحداً و هو لزوم امتثال الأحكام الفرعية في مقام العمل و إن لم يلتزم بها قلباً و جناناً.

ذهب المحقّق الخراساني إلى الثاني مستدلاً بشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة و العصيان بذلك و استقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمره إلاّ المثوبة دون العقوبة و لو لم يكن مسلّماً و ملتزماً به، نعم عدم الالتزام يوجب سقوط درجته.

ص:71

هذا و انّ محلّ النزاع في غير الأحكام التعبدية فانّ امتثالها رهن الإتيان بها للّه سبحانه أو لامتثال أمره و غير ذلك، و مثل ذلك لا ينفك عن الالتزام و التسليم بأنّه حكمه سبحانه و ينحصر النزاع بالأحكام التوصلية.

هذا هو محلّ تحرير النزاع و ذاك أيضاً مختار المحقّق الخراساني.

نعم أنكر سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (أن يكون للنزاع مفهوم صحيح قائلاً بأنّ التسليم القلبي و الانقياد الجناني و الاعتقاد الجزمي لأمر من الأمور لا يحصل بالإرادة و الاختيار من دون حصول مقدّماتها و مباديها، و لو فرضنا حصول عللها و أسبابها يمتنع تخلف الالتزام و الانقياد القلبي عند حصول مبادئها و يمتنع الاعتقاد بأضدادها، فتخلّفها عن المبادئ ممتنع كما أنّ حصولها بدونها ممتنع، و على ذلك فإذا قام الدليل القطعي على وجوب شيء فيمتنع عدم عقد القلب على وجوبه أو عقد القلب على ضدّه.

و أمّا الجحد الوارد في قوله سبحانه: (فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ). (1)فلا يراد منه الجحد القلبي، لامتناعه بعد حصول مبادئه من البراهين القطعية على أنّ موسى مرسل من ربه، بل المراد هو الجحد اللفظي و الإنكار اللساني.

و لمّا ذهب) قدس سره (إلى أنّ الالتزام القلبي وليد العلم بالواقع، فهو يحصل في قرارة الإنسان شاء أم لم يشأ، و لا يمكن له عقد القلب على خلافه، أنكر إمكان التشريع فضلاً عن حرمته، إذ كيف يمكن البناء و الالتزام القلبي على كون حكم من اللّه مع علمه بأنّه ليس منه أو يشك من كونه منه.

ص:72


1- النمل: 13 14.

فخرج بنتيجتين:

1. عدم وجوب الموافقة الالتزامية في الأحكام الفرعية المعلومة، لأنّ الالتزام أمر قهري عند حصول العلم.

2. عدم إمكان التشريع، أي عقد القلب على وجوب ما يعلم أنّه ليس بواجب أو يشك.

نعم البدعة حرام، و هي غير التشريع و هو الإفتاء بغير ما أنزل اللّه و دعوة الناس بالعمل به.(1)

يلاحظ على ما ذكره: أنّ النتيجة الثانية و إن كانت تامة و لكن الأُولى غير تامة، لعدم الملازمة بين القطع و الإيمان، و العلم و التسليم، فربّ قاطع و عالم، غير مؤمن و مسلِم قلباً، و قد أوضحه المحقّق الأصفهاني بقوله: الإنسان كثيراً ما يعلم بأهلية المنصوب من قبل من له النصب، لكنّه لا ينقاد له قلبه و لا يقرّ به باطناً، و إن كان في مقام العمل يتحرك بحركته خوفاً من سوطه و سطوته، و هكذا كان حال كثير من الكفار بالنسبة إلى نبيّنا، حيث إنّهم كانوا عالمين بحقيقته كما نطق به القرآن، و مع ذلك لم يكونوا منقادين له قلباً و لا مقرين باطناً، و لو كان ملاك الإيمان الحقيقي نفس العلم التصديقي لزم أن يكونوا له مؤمنين حقيقة.(2)

و الذي يدل على أنّ بين العلم و التسليم مرحلة أو مراحل قوله سبحانه: (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ). (3)قيل: نزلت في الزبير و رجل من

ص:73


1- تهذيب الأُصول: 462/45.
2- نهاية الدراية: 2/26.
3- النساء: 65.

الأنصار خاصمه إلى النبي في شراج(1) من الحرة كانا يسقيان بها النخل كلاهما، فقال النبي للزبير:» اسق ثمّ أرسل إلى جارك «، فغضب الأنصاري و قال: يا رسول اللّه لئن كان ابن عمتك....(2)

فانّ خطاب الأنصاري للنبي كشف عن عدم تسليمه لقضائه و إن لم يخالف عملاً، و بذلك يعلم أنّ المراد من الجحد هو الجحد القلبي و عدم التسليم لمقتضى البرهان لا الجحد اللفظي، فالفراعنة أمام البيّنات التي أتى بها موسى كانوا:

1. عالمين بنبوة موسى و هارون.

2. غير مسلِّمين قلباً، مستكبرين جناناً.

و مما يؤيّد إمكان فصل الإيمان عن العلم، هو انّ الإنسان العادي يخاف من الإنسان الميت، و لكن الغسال يتعامل معه معاملة الإنسان العادي، فالإنسان العادي، عالم بأنّ الميت لا يضر و لكنه ليس بمؤمن بخلاف الغسال، فظهر بذلك انّ للنزاع معنى معقول.

و أمّا حكمها فهناك احتمالات:

الف. التسليم القلبي و الانقياد الجناني لكلّ ما جاء به النبي في مجال العقيدة و الشريعة، فلا شكّ انّه محقّق الإيمان و من أركانه.

ب. الانقياد و التسليم القلبي في القربيات و التعبديات عند الإتيان بها فهذا أيضاً لا غبار في وجوبه، لعدم تمشي القربة، مع عدم الانقياد و الالتزام بأنّه حكم اللّه سبحانه في الواقعة.

ص:74


1- مسيل الماء من الحرّة إلى السهل، و» الحرّة «: الأرض ذات الحجارة.
2- الطبرسي: مجمع البيان: 2/69.

ج. عقد القلب على حكم الشيء في التوصليات و انّه حكم الواقعة، فلا دليل على وجوبه إذ المطلوب إنّما هو تطبيق العمل عليه، و ليس وراء ذلك مطلوب، نعم لا يجب الالتزام بأنّه حكم اللّه، و لكن يحرم الالتزام بخلافه و الالتزام بعدمه.

ثمرة المسألة

ثمّ إنّ الخراساني أشار إلى ثمرة البحث و انّ له ثمرتين، فتارة تظهر الثمرة في الالتزام بالحكم الواقعي، و أُخرى في الالتزام بالحكم الظاهري. و الأُولى ثمرة فقهية، و الأُخرى أُصولية.

أمّا الأُولى: فقد أشار إليها بقوله: ثمّ لا يذهب عليك انّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية، تجب فيما إذا كان المكلّف متمكناً منها....

و حاصل ما أفاده انّ هنا صوراً:

أ. أن يعلم تفصيلاً بالحكم الواقعي، كحرمة العصير قبل التثليث.

ب. أن يعلم إجمالاً بالحكم الواقعي مع إمكان الموافقة العملية، كما إذا علم بوجوب أحد الفعلين.

ج. أن يعلم إجمالاً بالحكم الواقعي مع عدم إمكان الاحتياط، كما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته. فالمكلّف متمكن من الموافقة الالتزامية في جميع الصور، غاية الأمر إن علم بالحكم تفصيلاً يلتزم به تفصيلاً كما في الصورة الأُولى، و إن علم إجمالاً يلتزم به كذلك و يعتقد بما هو الواقع و الثابت و إن لم يعلم به بشخصه.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اعترض على نفسه بقوله:» و إن أبيت إلاّ على لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه «أي بأحدهما مخيّراً.

ص:75

و حاصل الاعتراض: انّ المراد من الموافقة الالتزامية هو الالتزام بالحكم بشخصه و عنوانه، و مثل هذا الالتزام غير حاصل في الصورتين الأخيرتين، لأنّه التزم فيهما بما هو الواقع دون تعيين.

ثمّ أجاب) قدس سره (عنه بوجوه ثلاثة:

1. لو كان المراد منها هو هذا المعنى لما كانت الموافقة القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة.

2. و لما وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً، فانّ محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة.

و حاصل الجواب الأوّل: انّه لو فسرت الموافقة الالتزامية بهذا المعنى لما كان المكلّف متمكناً من امتثاله و يختص وجوبها حينئذ بالصورة الأُولى.

و حاصل الجواب الثاني: انّ الأخذ بأحد الحكمين بشخصه لغاية حصول الموافقة الالتزامية مستلزم التشريع المحرم.

3. انّ الموافقة الالتزامية لو قلنا بها فإنّما نقول بها لأنّها من آثار نفس التكليف، و لو كان كذلك فهو يقتضي الالتزام به معيّناً، و أين هو من القول بالأخذ بواحد من التكليفين مخيراً، فانّ معناه انّ كلّ تكليف يقتضي الالتزام به أو بضده و هو غير معقول، فلا مناص عن القول بأنّ الواجب هو الالتزام بالواقع على ما هو عليه لو قلنا بوجوبها.

الثمرة الأُصولية

قد ذكرنا انّ للبحث ثمرتين: فقهية و أُصولية.

أمّا الأُولى: فقد عرفت أنّ ثمرة البحث ترجع إلى وجوب آخر وراء الالتزام العملي في الأحكام، و قد عرفت أنّه غير واجب و إلاّ لزم عقابان عند الترك التزاماً

ص:76

و قلباً و ثوابان عند القيام بهما.

و أمّا الثانية: و هي جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي، و انّ القول بوجوب الموافقة الالتزامية هل يمنع عن القول بجريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ القول بوجوب الموافقة الالتزامية على النحو الذي عرفت لا يمنع من جريان الأُصول في أطرافه، لأنّ الالتزام بالواقع لا ينافي القول بالبراءة أو الحلية في أطراف العلم ظاهراً، لأنّ أحد الحكمين واقعي و الآخر ظاهري، و إلى ما ذكرنا أشار بقوله:» و من هنا قد انقدح انّه لا يكون من قِبَل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الأُصول... «.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم ذهب أيضاً إلى أنّ وجوب الموافقة الالتزامية ليس مانعاً عن جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي، لكن لا بالبيان الماضي من المحقّق الخراساني من عدم التنافي بين الالتزام بالواقع، و إجراء البراءة ظاهراً، بل ببيان آخر، ذكره في رسالة القطع. و حاصله:

لو افترضنا وجود الدليل بالالتزام بالحكم الواقعي لكن دليل الأصل يخرج المورد عن أدلّة الالتزام بالحكم الواقعي. و هذا نص كلامه: لأنّ الالتزام بالأحكام الفرعية إنّما يجب مقدمة للعمل و ليست كالأُصول الاعتقادية يطلب فيها الالتزام و الاعتقاد من حيث الذات و لو فرض ثبوت الدليل عقلاً أو نقلاً على وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعي لم ينفع، لأنّ الأُصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي فهي كالأُصول في الشبهة الموضوعية مخرجة لمجاريها عن موضوع ذلك الحكم، أعني: وجوب الأخذ بحكم اللّه.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا يدفع بها) أي بالأُصول (محذور عدم

ص:77


1- الفرائد: رسالة القطع: 19، طبعة رحمة اللّه.

الالتزام أو الالتزام بخلافه، إلاّ بوجه دائر، و ذلك لأنّ جريان الأُصول موقوف على عدم المحذور، أي محذور عدم الالتزام بالواقع أو الالتزام بخلافه، و الثاني موقوف على جريان الأُصول.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني حاول أن يرد الدور الذي أورده على الشيخ بقوله:» اللّهمّ إلاّ أن يقال انّ استقلال العقل بالمحذور الخ. و حاصله: العلم بالحكم إنّما يكون علّة لوجوب الالتزام إذا لم يكن هناك ترخيص في الاقدام و الاقتحام كما في صورة العلم التفصيلي، و أمّا إذا كان هناك ترخيص كما هو ظاهر عموم أدلّة الأُصول فلا دور، لأنّ جريان الأُصول موقوف على عدم المحذور، و الثاني موقوف على عموم الدليل في جانب الأُصول و هو متحقّق.

ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني كلاماً في عدم جريان الأُصول في أطراف العلم يتلخص في أُمور ثلاثة:

أ. يشترط في جريان الأُصول العملية وجود الأثر العملي و هو معدوم لاتفاق العلماء على أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية فيجب الاجتناب عن الإناءين المشتبهين، كما يجب الإتيان بالظهر و الجمعة، فإذا كان الأمر كذلك فأي فائدة في جريان استصحاب الطهارة و البراءة في الأمثلة المذكورة.

و الحقّ انّه إشكال تام.

ب. ما نقله عن الشيخ الأنصاري و قد ذكره) قدس سره (في خاتمة الاستصحاب(1) لا في رسالة القطع، و هو انّ القول بجريان الأُصول كالاستصحاب يستلزم تناقض صدر الدليل مع ذيله، فلو شمل قوله:» لا تنقض اليقين بالشك «كلا الاناءين الطاهرين و قد علم بوقوع النجاسة في أحدهما يلزم الحكم بطهارتهما، و لكن بما انّ

ص:78


1- الفرائد: 429، مبحث الاستصحاب في الأصل السببي و المسببي إذا كان الشكّ مسبباً عن أمر ثالث، طبعة رحمة اللّه.

المكلّف عالم بوجود النجاسة في أحدهما يلزم الحكم بنجاسة الإناء الواقعي الذي حلّت فيه النجاسة، فيلزم أن يكون الإناء الواقعي طاهراً بحكم الصدر و نجساً بحكم الذيل أعني قوله: و لكن انقضه بيقين آخر .

ج. نعم تأمل المحقّق الخراساني في هذا الإشكال قائلاً بأنّه مبنيّ على أنّ المراد من اليقين في الذيل هو الأعم من الإجمالي و التفصيلي مع أنّه من المحتمل أن يكون المراد هو اليقين التفصيلي، فعندئذ يكون الإناءان محكومين بالطهارة لا بالنجاسة، لعدم حصول الغاية.

و فيما ذكره من التأمل، تأمل واضح إذ لا دليل لانصراف الذيل إلى خصوص العلم التفصيلي و عدم شموله الإجمالي.

ص:79

الأمر السادس قطع القطاع

يطلق القطاع و يراد منه تارة: من يحصل له القطع كثيراً من الأسباب التي لو أُتيحت لغيره لحصل لهم أيضاً. و أُخرى: من يحصل له القطع كثيراً من الأسباب التي لا يحصل منها اليقين لغالب الناس.

و القطّاع بالمعنى الأوّل زين و آية للذكاء، و بالمعنى الثاني شين و آية التدهور العقلي، و محلّ البحث هو القسم الثاني لا الأوّل.

ثمّ إنّ الوسواس في مورد النجاسات من قبيل القطّاع حيث يحصل له القطع بها من أسباب غير عاديّة، و في مورد الخروج عن عهدة التكاليف وسواس لا يحصل له اليقين بسهولة.

و منه يظهر حال الظنّان، فله أيضاً إطلاقان مثل القطّاع حذو النعلِ بالنعلِ.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه حُكي عن الشيخ الأكبر كاشف الغطاء عدم الاعتناء بقطع القطاع، و تحقيق الحق يتوقف على البحث في مقامين:

الأوّل: ما إذا كان القطع طريقيّاً محضاً.

الثاني: ما إذا كان القطع موضوعيّاً مأخوذاً في الموضوع.

أمّا الأوّل: فالظاهر كون قطعه حجّة عليه، و لا يتصور نهيه عن العمل به

ص:80

لاستلزامه وجود حكمين متناقضين في الشريعة، حيث يقول الدم نجس و في الوقت نفسه ينهاه عن العمل بقطعه بأنّ هذا دم.

نعم لو أراد عدم كفايته في الحكم بصحّة العمل بعد انكشاف الخلاف، كما إذا قطع بدخول الوقت و تبيّن عدم دخوله، فيحكم عليه بالبطلان، كان له وجه، و لكن لا فرق عندئذ بين القطّاع و غيره.

و أمّا الثاني: أي القطع الموضوعي، فبما انّ القطع جزء الموضوع فللمقنن التصرف في موضوع حكمه، فيصح جعل مطلق القطع جزءاً للموضوع كما يصحّ جعل القطع الخاص جزءاً له أي ما يحصل من الأسباب المتعارفة فللنهي عندئذ له مجال، فإذا قطع بأسباب غير عادية فللشارع النهي عن العمل به، لأنّ المأخوذ في الموضوع غيره.

ثمّ لو وقف الإنسان على خطأ القاطع قطاعاً كان أم غيره في الأحكام، و الموضوعات، فهل يجب على الغير إرشاده أو لا؟ فالظاهر وجوبه في مورد الجهل بالأحكام بالنظر إلى أدلّة إرشاد الجاهل من غير فرق بين البسيط و المركب، و أمّا الموضوعات فلا شكّ في عدم وجوب إرشاده إلاّ في مهام الأُمور كالدماء و الأعراض و الأموال الطائلة.

هذا كلّه حول القطاع.

أمّا الظنّان فيمكن للشارع سلب الاعتبار عنه من غير فرق بين كونه طريقاً محضاً إلى متعلقه، أو مأخوذاً في الموضوع و الفرق بينه و بين القطع واضح، لأنّ حجّية الظن ليست ذاتية له و إنّما هو باعتبار الشارع، و جعله حجّة في مجال الطاعة و المعصية، وعليه يصحّ النهي عن العمل به مطلقاً من غير فرق بين كونه طريقيّاً محضاً أو موضوعيّاً.

ثمّ إنّ ظنّ الظنّان يكون محكوماً بحكم الشك، و إليك التوضيح بمثالين:

ص:81

1. لو ظن بعد الخروج عن المحل انّه ترك التشهد، فلا يعود، لكونه من قبيل الشك بعد المحل، نعم لو كان ظاناً متعارفاً كان عليه الرجوع لحجّية الظن في الركعات الأخيرة و أجزاء الصلاة فعلاً أو تركاً.

2. لو ظن قبل الخروج عن المحل، بالإتيان فيعود، لأنّ الشاك في المحل يعود فيحكم عليه بالرجوع و الإتيان به مع أنّه لو كان ظاناً متعارفاً كان عليه عدم الرجوع.

و أمّا الشكّاك ففيه التفصيل: ففي كلّ مورد لا يعتنى بالشك العادي لا يعتنى بشكّ الشكّاك بطريق أولى، كالشكّ بعد المحل; و أمّا المورد الذي يعتنى فيه بالشكّ العادي و يكون موضوعاً للأثر، فلا يعتنى بشكّ الشكّاك ، كما في الشك في عدد الركعتين الأخيرتين فلو شكّ بين الثلاث و الأربع، فالشاك المتعارف يجب عليه صلاة الاحتياط بعد البناء على الأكثر، و أمّا الشكّاك، فلا يعتنى بشكّه و لا يترتب عليه الأثر بشهادة قوله:» لا شكّ لكثير الشكّ «فلو اعتدّ به أيضاً لم يبق فرق بين الشكّاك و غيره.

ص:82

الأمر السابع حجّية العقل في مجالات خاصة

اشارة

إنّ العقل أحد الحجج الأربع التي اتفق أصحابنا إلاّ قليلاً منهم على حجّيته، و لأجل إيضاح الحال نقدّم أُموراً:

الأوّل: الإدراك العقلي ينقسم إلى: إدراك نظري و إدراك عملي.

فالأوّل إدراك ما ينبغي أن يعلم، كإدراك وجود الصانع و صفاته و أفعاله و غير ذلك.

و الثاني إدراك ما ينبغي أن يعمل، كإدراكه حسن العدل و قبح الظلم و وجوب ردّ الوديعة و ترك الخيانة فيها، و المقسم هو الإدراك، فهو ينقسم إلى نظريّ و عمليّ، و ربما يتوسع فيقسم العقل إلى القسمين.

الثاني: انّ الاستدلال لا يتم إلاّ بأحد طرق ثلاث: 1. الاستقراء، 2. التمثيل، 3. القياس المنطقي.

و الاستقراء الناقص لا يحتجّ به لأنّه لا يفيد إلاّ الظنّ، و أمّا الاستقراء الكامل فلا يعدّ دليلاً، لأنّ المستقرئ يصل إلى النتيجة في ضمن الاستقراء فلا تبقى حاجة للاستدلال بالاستقراء الكامل.

و بعبارة أُخرى: الاستقراء الكامل علوم جزئية تفصيلية تصبُّ بعد الانتهاء

ص:83

في قالب قضية كلية من دون أن يكون هناك مجهول يستدل به على العلم به.

و أمّا التمثيل، فهو عبارة عن القياس الأُصولي الذي لا نقول به كما سيوافيك تفصيله عند البحث عن مصادر التشريع عند أهل السنة.

فتعيّن أن تكون الحجّة هي القياس المنطقي، و هو على أقسام ثلاثة:

أ. أن تكون الصغرى و الكبرى شرعيتين.

ب. أن تكون كلتاهما عقليتين، كإدراك العقل حسن العدل و حكمه بوجوب تطبيق العمل عليه و قبح الظلم و حكمه بالاجتناب عنه، و هذا ما يعبّر عنه بالمستقلات العقلية، أو التحسين و التقبيح العقليين.(1)

ج. أن تكون الصغرى شرعية و الكبرى عقلية.

توضيح القسمين الأخيرين:

إنّ الأحكام الشرعيّة المستنبطة من الأحكام العقلية تنقسم إلى قسمين:

الأوّل: ما يُستنبط من مقدمتين عقليّتين، و هذا كالحكم بحسن العدل و قبح الظلم، و حكمه بأنّه عند الشرع أيضاً كذلك، و هذا ما يسمّى بالمستقلات العقلية، فالدليل بعامة أجزائه عقلي، فقد حكم بحسن العدل كما حكم بالملازمة بين العقل و الشرع.

الثاني: ما تكون إحدى المقدمتين عقلية، و هذا كما في باب الملازمات العقلية كوجوب المقدمة فانّ العقل يحكم بثبوت التلازم بين وجوب الشيء و وجوب ما يتوقف عليه، ويحكم بالحكم الإدراكي بأنّ طالب الشيء طالب لمقدماته، أو يحكم بثبوت التلازم بين الأمر بالشيء و حرمة أضداده و انّه عند الشرع في كلا الموردين

ص:84


1- في مقابل الأشاعرة الذين لا يعترفون بهما إلاّ من طريق الشرع، فالحسن عندهم ما حسنه الشارع و هكذا القبيح.

أيضاً كذلك.

و من المعلوم انّه لا يمكن التوصل بهذا الحكم الكلي إلى وجوب الوضوء إلاّ بعد تنصيص الشارع بوجوب الصلاة و توقفها عليه، فيقال إذا أُريد ترتيب القياس و أخذ النتيجة:

الوضوء مقدمة للصلاة، فهذه المقدمة شرعية، و مقدمة الواجب واجبة عقلاً و شرعاً للملازمة، فينتج القياس: الوضوء واجب شرعاً.

الثالث: الفرق بين هذا المقام الباحث عن حجّية العقل و ما مرّ في مبحث الأوامر من الملازمات العقلية بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته، أو وجوب الشيء و حرمة ضدّه، هو انّ البحث السابق كان يدور حول وجود الملازمة بين الإرادتين أو الوجوبين عند العقل و عدمها. و لكن البحث في المقام يدور عن كشفه عن كون الحكم عند الشرع أيضاً كذلك.

و بعبارة أُخرى: كان البحث السابق منصباً على وجود الملازمة العقلية بين الوجوبين و عدمه، أو بين الوجوب و حرمة الضدّ و عدمه، و بعد ثبوتها يبحث في المقام عن حجّية حكمه و كشفه عن حكم الشارع. و نتيجة البحث تكون وجود الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، و انّ الواجب عقلاً، واجب شرعاً أيضاً.

الرابع: عرف الدليل العقلي بأنّه حكم يتوصل به إلى حكم شرعي، و ربما يعرّف: بأنّه ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب نظري.(1) مثلاً إذا حكم العقل بأنّ الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه، موجب لحصول الامتثال فيستدلّ به على أنّه في الشرع أيضاً كذلك، فيترتب عليه براءة الذمة عن الإعادة و القضاء، أو إذا حكم العقل عند التزاحم بلزوم تقديم الأهم كالنفس المحترمة على المهم كالتصرف في مال الغير بلا إذنه، فيستدل به على الحكم الشرعي و هو

ص:85


1- القوانين: 2/2; مطارح الأنظار: 233.

وجوب إنقاذ الغريق و جواز التصرف في مال الغير، كلّ ذلك توصل بالحكم العقلي للاستدلال على الحكم الشرعي.

الخامس: انّ الاستدلال بالحكم العقلي على الحكم الشرعي يتصور على وجهين:

أ. إذا أدرك العقل حكم الموضوع عند لحاظه بما هو هو مع قطع النظر عن سائر الجهات من كونه ذات مصلحة أو مفسدة، موجب لبقاء النظام أو هادم له، نافع للمزاج أو مضرّ له، بل انتقل بحكمه إذا نظر إلى الموضوع بما هو هو، من دون لحاظ أي ضميمة من الضمائم و من أوضح أمثلة هذا القسم استقلاله، بحسن العدل و حكمه بلزوم فعله، و قبح الظلم و حكمه بلزوم طرده.

نعم المورد لا ينحصر بالتحسين و التقبيح، و سيوافيك انّ كلّ ما يدركه العقل بوصف كونه حكماً عاماً غير مقيد بفاعل خاص، و لا طرف معين فهو من مصاديق هذا القسم و نظيره: إدراكه الملازمة بين الإرادتين و الوجوبين، أو إرادة و وجوب شيء و حرمة ضدّه، و هكذا فانّ المدرَك حكم عام غير مقيد بشيء غير انّ التحسين و التقبيح من المستقلات العقلية لكن يجمعهما استقلال العقل في إدراك الحكم العام الذي يشارك فيه الممكن و الواجب.

ب. إذا استقل العقل بالحكم لا بملاحظة الموضوع بما هو هو، بل بما هو ذات مصلحة أو مفسدة فحكم بلزوم حيازة الأُولى و اجتناب الثانية، فهل يستكشف منه الوجوب أو الحرمة عند الشارع، أيضاً بحيث يكون العلم بالمصالح و المفاسد من مصادر التشريع الإسلامي؟ إذا عرفت ذلك، فيقع البحث في حجّية العقل في مقامين:

المقام الأوّل: استكشاف حكم الشرع عند استقلاله بالحكم بالنظر إلى ذات الموضوع، فنقول: إذا استقل العقل بالحكم على الموضوع عند دراسته بما هو هو

ص:86

من غير التفات إلى ما وراء الموضوع من المصالح و المفاسد، كاستقلاله بقبح تكليف غير المميز و من لم يبلغه البيان، فهل يكون ذلك دليلاً على كون الحكم عند الشارع كذلك أو لا؟ فذهب الأُصوليون إلى وجود الملازمة بين الحكمين، و ما ذلك إلاّ لأنّ العقل يدرك حكماً عاماً غير مقيّد بشيء.

مثلاً إذا أدرك العقل) حسن العدل (أدرك انّه حسن مطلقاً، أي سواء كان الفاعل واجب الوجود أم ممكن الوجود، و سواء صدر الفعل في الدنيا أم في الآخرة، و سواء كان مقروناً بالمصلحة أو لا، فمثل هذا الحكم العقلي المدرك يلازم كون الحكم الشرعي أيضاً كذلك، و إلاّ لما كان المدرك عاماً شاملاً لجميع تلك الخصوصيات.

و بذلك تتضح الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع في المستقلات العقلية.

هذا كلّه في المستقلات العقلية و به يظهر حكم غير المستقلات العقلية التي عرفت معناها، مثلاً إذا أدرك العقل الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته، أو وجوب الشيء و حرمة ضدّه، أو الملازمة بين ثبوت الجزاء عند ثبوت العلّة المنحصرة و انتفائه عند انتفائها، يكشف كون الحكم عند الشرع كذلك، لأنّ الحكم المدرك للعقل حكم عام غير مقيّد بشيء من القيود، فكما انّ العقل يدرك الملازمة بين الأربعة و الزوجية بلا قيد، فيكون حكماً صادقاً في جميع الأزمان و الأحوال، فكذلك يدرك الملازمة بين الوجوبين أو بين الوجوب و الحرمة، فالقول بعدم كشفه عن كون الحكم عند الشارع كذلك ينافي إطلاق حكم العقل و عدم تقيّده بشيء.

و بذلك يتضح انّ ادعاء الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع يرجع إلى أنّ الحكم المدرك للعقل حكم مطلق غير مقيد بشيء فيعم حكم الشارع أيضاً.

ص:87

فالاحتجاجات في باب الملازمات مستقلة كانت أو غير مستقلة ترجع إلى كون الحكم المدرَك حكماً مطلقاً شاملاً لكلّ فاعل و ظرف، فإخراج الواجب و إخراج حكمه عن تحت القاعدة خلاف ما يحكم به العقل على وجه الجزم، فمن حاول نفي الملازمة فعليه أن ينفي الإدراك القطعي للعقل في تلك المجالات و انّه ليس للعقل ذلك الإدراك القطعي العام و أنّى له ذلك.

المقام الثاني: استكشاف الحكم الشرعي من المصالح و المفاسد في الموضوع دون نظر إلى حكم العقل بحسنه أو قبحه.

فنقول: إذا أدرك العقل المصلحة أو المفسدة في شيء و كان إدراكه مستنداً إلى المصلحة أو المفسدة العامتين اللّتين يستوي في إدراكها جميع العقلاء، ففي مثله يصحّ استنباط الحكم الشرعي من العقلي.

نعم لو أدرك المصلحة أو المفسدة و لم يكن إدراكه إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء بل إدراكاً شخصياً حصل له بالسبر و التقسيم، فلا سبيل للعقل إلى الحكم بالملازمة فيه، و ذلك لأنّ الأحكام الشرعية المولوية و إن كانت لا تنفك عن المصالح أو المفاسد، و لكن انّى للعقل أن يدركها على ما هي عليها.

و بذلك يعلم أنّه لا يمكن للفقيه أن يجعل ما أدركه من المصالح و المفاسد ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي بل يجب عليه الرجوع إلى سائر الأدلة.

فخرجنا بالنتائج التالية:

أوّلاً: أنّ حكم العقل بشيء في المستقلات العقلية أو في غيرها يكشف عن كون الحكم عند الشرع كذلك شريطة أن يكون العقل قاطعاً و يكون المدرَك حكماً عاماً كما هو الحال في الأمثلة المتقدمة.

ثانياً: إذا أدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في الأفعال إدراكاً نوعياً

ص:88

يستوي فيه جميع العقلاء، كوجود المفسدة في استعمال المخدِّرات، ففي مثله يكون حكم العقل ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي.

ثالثاً: استكشاف ملاكات الأحكام و استنباطها بالسبر و التقسيم ثمّ استكشاف حكم الشرع على وفقه أمر محظور لعدم إحاطة العقل بمصالح الأحكام و مفاسدها، و سيوافيك عند البحث عن سائر مصادر الفقه عدم العبرة بالاستصلاح الذي عكف عليه مذهب المالكية.

تطبيقات

يترتب على حجّية العقل في المجالات الثلاثة، أعني:

1. باب الملازمات العقلية، 2. الحسن و القبح العقليين، 3. المصالح و المفاسد العامتين ثمرات فقهية كثيرة نستعرض قسماً منها.

أمّا باب الملازمات العقلية، فيستنتج منها الأحكام التالية:

1. وجوب المقدمة على القول بالملازمة عند العقل بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته.

2. حرمة ضد الواجب على القول بالملازمة عند العقل بين الأمر بالشيء و النهي عن ضدّه.

3. صحّة العبادة على القول بجواز اجتماع الأمر و النهي، و بطلانها على القول بامتناع اجتماع الأمر و النهي مع تقديم النهي، و صحّتها على الامتناع لكن على القول بتقديم الأمر.

4. فساد العبادة إذا تعلق النهي بنفسها.

5. فساد العبادة إذا تعلق النهي بأجزائها أو شرائطها أو أوصافها، و قد مرّ انّ الصحّة رهن أحد أمرين:

وجود الأمر، أو وجود الملاك. و الأوّل منتف لوجود

ص:89

النهي، و الثاني مثله لكشف النهي عن المبغوضية، و هي لا تجتمع مع الملاك على تفصيل مرّ ذكره.

6. فساد المعاملة إذا تعلق النهي بالتصرف في الثمن أو المثمن للملازمة بين مثل هذا النهي و فساده.

7. انتفاء الحكم مع انتفاء الشرط في القضايا الشرطية إذا ثبت كون الشرط علّة منحصرة للملازمة بين انتفاء العلّة المنحصرة و انتفاء معلولها.

أمّا باب الحسن و القبح العقليين فيستنتج منه الأحكام التالية:

1. البراءة من التكليف لقبح العقاب بلا بيان.

2. الاشتغال بالتكليف عند العلم الإجمالي و تردّد المكلّف به بين أمرين لحكمه بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية و حسن عقوبة من لم يخرج عن عهدة التكليف قطعاً.

3. الإتيان بالمأمور به مجز عن الإعادة و القضاء لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال على تفصيل مرّ في محلّه.

4. وجوب تقديم الأهم على المهم إذا دار الأمر بينهما لقبح العكس.

استكشاف الأحكام من باب إدراك المصالح و المفاسد النوعيين الذي يستوي فيهما كافة العقلاء كاستعمال المخدرات.

نعم إدراك المصالح و المفاسد و مناطات الأحكام بالسبر و التقسيم فهو أمر مرغوب عنه و إن حصل القطع، فالقطع حجّة للقاطع لا لغيره، و ليس حجّة على المقلد لاستناده في استنباط الحكم الشرعي على مصدر غير صالح كاستناده على القياس و الاستحسان.

ص:90

عنوان المسألة بين الأخباريين

هذا هو موقف الأُصوليين من حكم العقل، و أمّا موقف الأخباريين فهم يرفضون العقل في مجال الاستنباط بأحد الوجهين:

أ. منع الصغرى و انّه لا يحصل للعقل قطع بالحكم بل كلّ ما يدركه لا يخرج عن تحت الظنون.

ب. منع الكبرى بعد تسليم الصغرى، و انّ القطع بالحكم و إن كان حاصلاً، لكنّه ليس بحجّة لعدم الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، و إليك دراسة هذين الوجهين:

أمّا الوجه الأوّل: فهو الظاهر من كلام المحدِّث الاسترابادي رائد الحركة الأخبارية حيث صرّح بأنّه لا يحصل اليقين من التمسك بغير الوحي، و يدل على ذلك كلامه في مواضع عديدة قال: كلّ مسلك غير التمسك بكلامهم إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنَّ بحكم اللّه و قد أثبتنا سابقاً انّه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها.

ج. قال في فهرست فصول كتابه: الأوّل: في إبطال التمسك بالاستنباطات الظنية في نفي أحكامه تعالى شأنه و وجوب التوقف عند فقد القطع بحكم اللّه، أو بحكم ورد عنهم) عليهم السلام (.

و لكنّه لم يذكر وجه عدم حصول اليقين و نحن نشير إلى الوجوه التي يمكن أن يعتمد عليها الأخباري في ادّعائه فنقول:

الأوّل: احتمال سعة مناط الحكم عند العقل

إنّ العقل و إن كان مدركاً للمصالح و المفاسد و الجهات المحسنة و المقبحة

ص:91

إلاّ أنّه من الممكن أن تكون لتلك الجهات، موانع و مزاحمات في الواقع و في نظر الشارع و لم يصل العقل إليها إذ ليس من شأن العقل، الإحاطة بالواقع.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره خلاف المفروض، لأنّ الكلام فيما إذا حكم العقل بحكم قطعي على الموضوع بما هو هو كقبح الظلم و الخيانة في الأمانة، أو كقبح ترجيح الأهم على المهم و لا يحتمل أن يكون للحكم مانع في الواقع أو شرط عند الشارع، فما ذكره خارج عن محط البحث.

نعم لو احتمل العقل أحد هذه الأُمور لم يحكم بحكم باتّ.

الثاني: جواز خلو الواقعة عن الحكم

يجوز أن لا يكون للشارع فيما حكم فيه العقل بالوجوب أو الحرمة، حكم أصلاً لا موافقاً و لا مخالفاً بأن تخلو الواقعة عن الحكم رأساً و على ذلك لا حكم للشرع في الموضوع وفاقاً أو خلافاً.(2)

يلاحظ عليه: أنّ احتمال خلو الواقعة من الحكم يضاد مع ما ورد عنهم) عليهم السلام (:» ما من شيء إلاّ و فيه كتاب أو سنة «.

و في حديث آخر: أ كلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيه أو تقولون فيه؟ قال:» بل كلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه «أو» في الكتاب و السنة «.(3)

فكيف يمكن أن لا يكون للشارع حكم في الموضوعات الخطيرة، و قد قال) صلى الله عليه و آله و سلم (في خطبة حجّة الوداع:» يا أيّها الناس ما من شيء يقربكم من الجنّة و يبعدكم من النار، إلاّ و قد أمرتكم به، و ما من شيء يقربكم من النار و يباعدكم

ص:92


1- فوائد الأُصول: 3/60، نقله المؤلف من الفصول و لم نعثر عليه فيه.
2- الفصول في علم الأُصول: 337.
3- الكافي: 621/59، باب الرد إلى الكتاب و السنّة.

من الجنة إلاّ و قد نهيتكم عنه «.(1)

ثمّ إنّ الأخباريين استدلوا بطوائف من الروايات التي زعموا دلالتها على مدّعاهم، و إليك استعراضها تحت عناوين خاصة ليسهل للطالب الوقوف على ما لم نذكر من الروايات فانّ جميعها غير خارجة عن تلك العناوين.

الطائفة الأُولى: لزوم توسيط الحجّة في بيان الحكم

قامت الأدلّة على لزوم العمل بحكم يتوسط الحجّة في تبليغه و بيانه و لا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجّة، و يدلّ على ذلك صحيح زرارة» فلو انّ رجلاً صام نهاره، و قام ليله، و تصدّق بجميع ماله، و حجّ جميع دهره، و لم يعرف ولاية ولي اللّه فيواليه و تكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على اللّه ثواب و لا كان من أهل الإيمان «.(2)

قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» من دان بغير سماع ألزمه اللّه البتة إلى الفناء «.(3)

قال أبو جعفر) عليه السلام (:» كلما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل «(4)إلى غير ذلك من الروايات.

يلاحظ عليه أوّلاً: انصراف الرواية إلى المعرضين عن أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (و المستهدين بغيرهم على وجه كان جميع أعمالهم بدلالة سواهم، و أمّا من أناخ مطيّته على عتبةِ أبوابهم في كلّ أمر كبير و صغير و مع ذلك اعتمد على العقل في مجالات خاصة فالرواية منصرفة عنه جداً.

و بعبارة أُخرى: كما للآيات أسباب و شأن نزول، فهكذا الروايات، فهي تعبّر

ص:93


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 12 من أبواب مقدمات التجارة، الحديث 2.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 13.
3- الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14 و 18.
4- الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14 و 18.

عن سيرة قضاة العامة و فقهائهم كأبي حنيفة و ابن شبرمة و أضرابهم الذين أعرضوا عن أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (و لم يُنيخُوا مطيّتهم على أبواب أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (فيخاطبهم الإمام بما في هذه الروايات.

و أمّا فقهاء الشيعة الذين رجعوا في كلّ واقعة إلى الكتاب و السنّة و تمسكوا بالثقلين فلا يعمهم، و المورد و إن لم يكن مخصِّصاً لكن يمكن إلقاء الخصوصية بالنسبة إلى المماثل و المشابه لا المباين، و تمسك أصحابنا بالعقل في مجالات خاصة لا يعدُّ إعراضاً عنهم بخلاف غيرهم.

و ثانياً: إذا كان العقل أحد الحجج كما في صحيح هشام فيكون الحكم المستكشف ممّا وصل إلى المكلّف بتبليغ الحجّة أيضاً.

روى هشام، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (:» يا هشام إنّ للّه على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة، و حجّة باطنة; فالظاهرة الرسل و الأنبياء و الأئمة، و أمّا الباطنة فالعقول «.(1)

و القول بلزوم توسط الحجّة الظاهرة، يلزم طرح ما دلّ على كونه من الحجج.

الطائفة الثانية: ما تدل على عدم حجّية القياس

هناك روايات متضافرة دلت على المنع عن العمل بالقياس.

روى عثمان بن عيسى قال: سألت أبا الحسن موسى) عليه السلام (عن القياس فقال:» ما لكم و للقياس انّ اللّه لا يسأل كيف أحل و كيف حرّم «.(2)

يلاحظ عليه: أنّ العمل بالقياس عمل بالدليل الظني المنهيّ عنه، و أين هو

ص:94


1- الكافي: 161/13، باب العقل و الجهل.
2- الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 15; و لاحظ الحديث 18 و 28.

من العمل بالحكم القطعي الذي ربما لا يختلف فيه اثنان، كما هو الحال في باب التحسين و التقبيح العقليين، فالاستدلال بهذه الروايات على عدم حجّية العقل في مجالات خاصة استدلال بالمباين على المباين.

الطائفة الثالثة: ما تدل على عدم حجّية الرأي

و هناك طائفة أُخرى تدل على عدم حجّية الرأي، فقد روي عن الإمام علي) عليه السلام (أنّه قال:» إنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه و لم يأخذه عن رأيه «.(1)

و روى ابن مسكان، قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» ما أحد أحبَّ إليّ منكم إنّ الناس سلكوا سبلاً شتى، منهم من أخذ بهواه، و منهم من أخذ برأيه، و انّكم أخذتم بأمر له أصل «.(2)

المهم في الباب هو تفسير الرأي، فالمستدل جعله مرادفاً للاستدلال بحكم العقل مع أنّ المقصود منه هو التفسير بما لا يعلم، قال أبو جعفر) عليه السلام (:» من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم «.(3)

و حصيلة الكلام حول تلك الروايات التي استعرضناها و بسطها الشيخ الحرّ العاملي في أبواب متفرقة من أبواب صفات القاضي إنّها وردت في تفنيد عمل فقهاء العامة و قضاتهم الذين لم يستندوا في الأُصول و الفروع إلى أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (و أخذوا يُفتون و يقضون بقول كلّ من هبّ و دبّ معتمدين على معايير و أُصول منهية أو لم يدل عليها دليل، فإسراء مفاد تلك الروايات إلى عمل أصحابنا الأُصوليين بحكم أنّهم يستدلّون بواضح العقل و بداهة الفطرة على حكم شرعي يَقْضي عجباً.

إنّ أبا حنيفة بنى فقهاً كبيراً، و الحال انّه لم يثبت عنده من الأحاديث النبوية

ص:95


1- الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 31، 12.
2- الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 31، 12.
3- الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 31، 12.

إلاّ سبعة عشر حديثاً(1)، فما حال فقه هذا أساسه؟! و لذلك أخذ الإمام الصادق يذمّ أبا حنيفة و ابن شبرمة، يقول الأخير: دخلت أنا و أبو حنيفة على جعفر بن محمد) عليهما السلام (فقال لأبي حنيفة:» اتّق اللّه و لا تقس في الدين برأيك، فانّ أوّل من قاس إبليس «.(2)

و قال أبو جعفر) عليه السلام (لسلمة بن كهيل و الحكم بن عتيبة:» شرّقا و غرّبا فلا تجدان، علماً صحيحاً إلاّ شيئاً صحيحاً خرج من عندنا أهل البيت «.(3)

الطائفة الرابعة: ما تدل على أنّ المرجع هو الكتاب و السنّة

هناك روايات تدلّ على أنّ المرجع في الأحكام هو الكتاب و السنّة، قال أمير المؤمنين) عليه السلام (:

» من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال، و من أخذ دينه من الكتاب و السنّة زالت الجبال و لم يزل «.(4)

و قال) عليه السلام (:» إنّما الناس رجلان: مُتَّبعُ شرعة، و مبتدع بدعة ليس معه من اللّه برهان سنة و لا ضياء حجّة «.(5)

يلاحظ عليها: أنّها بصدد ردّ عمل من يعمل بكلّ ما اشتهر على ألسن الناس و إن لم يكن له دليل مقابل من يرجع إلى الكتاب و السنّة، و لا صلة له بالبحث أبداً.

ص:96


1- ابن خلدون، المقدمة، طبعة دار و مكتبة الهلال ص 282.
2- الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2 و 16.
3- الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2 و 16.
4- الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 22 و 31.
5- الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 22 و 31.

الأمر الثامن العلم الإجمالي تنجيزاً و امتثالاً

اشارة

هل العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في تنجيز الحكم الواقعي و كفاية الامتثال أو لا و قبل الشروع نطرح سؤالين:

الأوّل: العلم من مقولة الكشف، و هو لا يقبل التفصيل و الإجمال، بل أمره دائر بين الوجود و العدم، و كما هو لا يقبل ذاك التقسيم، فهكذا لا يقبله، متعلّقه، لأنّ تشخّص العلم بالمعلوم كتشخص الإرادة بالمراد، فلو كان فيه إجمال لسرى إلى العلم أيضاً.

الجواب: انّ وصف العلم بالإجمال من باب وصف الشيء بوصف مصداق متعلقه، لأنّه لا إجمال في العلم و لا في متعلقه و إنّما الإجمال في مصداق المتعلّق، فإذا تردّدت النجاسة بين الإناءين، فهنا علم تفصيلي تعلّق بمتعلق لا إجمال فيه، أعني: النجاسة، غير أنّها مردّدة وجوداً و مصداقاً بين الإناءين، فحقيقة العلم الإجمالي يرجع إلى علم تفصيلي، انضم إليه الجهل بمصداق المعلوم بالذات.

الثاني: انّ الأُصوليين يبحثون عن العلم الإجمالي في مبحث القطع أوّلاً، و في مبحث الاشتغال ثانياً، فما هو وجه التكرار؟! الجواب: يمكن أن يُبرّر التكرار بأحد الوجوه الآتية:

1. ما ذكره الشيخ الأنصاري، و هو أنّ لاعتبار العلم الإجمالي مرتبتين:

ص:97

أحدهما: كونه كالتفصيلي في حرمة المخالفة القطعية، ثانيهما: كونه كالتفصيلي في وجوب الموافقة القطعية. و المتكفّل للبحث في الأوّل هو مبحث القطع، و للثاني هو مبحث الاشتغال.

2. ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ تعدّد البحث لأجل تعدّد الغرض: فالغاية للبحث عنه في مبحث القطع هو التعرّف على أنّه علّة تامة للتنجز أو مقتض له، فلو قلنا بالأوّل، يترتب عليه بطلان جعل الترخيص في بعض أطرافه، و حينئذٍ لا يبقى مجال عنه في باب الاشتغال. و أمّا لو قلنا انّه مقتض للتنجّز أي انّه قابل لجعل الترخيص، يبقى مجال للبحث عن ورود الترخيص لبعض الأطراف في الشرع و عدمه، و هذا ما يبحث عنه في باب الاشتغال و يكون البحث صغروياً.

3. ما ذكره سيدنا الأُستاذ) قدس سره (هو انّ المراد من العلم الإجمالي في مبحث القطع، غيره في مبحث الاشتغال، و ذلك انّ المراد منه في المقام هو العلم القطعي الذي لا يرضى المولى بتركه كالعلم بكون أحد الغريقين مسلماً، بخلاف العلم في مبحث الاشتغال، فالمراد منه: قيام الحجّة على التكليف، كما إذا قال:

اجتنب عن الدم، و صار مقتضى إطلاق الدليل هو الاجتناب عنه مطلقاً، كان معلوماً تفصيلاً أو إجمالاً، فالمورد الأوّل هو اللائق بمبحث القطع، و لا شكّ انّ العلم الإجمالي فيه علّة تامّة للتنجز و لا يصحّ معه جعل الترخيص، و المورد الثاني هو اللائق بمبحث الاشتغال و لا شكّ انّه بالنسبة إلى الأمرين مقتض و قابل لجعل الترخيص لأحد الطرفين أو كليهما.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّ البحث يقع في مقامين:

الأوّل: في كون العلم الإجمالي منجّزاً كالعلم التفصيلي أو لا.

الثاني: كون الامتثال الإجمالي كالامتثال التفصيلي.

أمّا المقام الأوّل ففيه أقوال:

ص:98

1. العلم الإجمالي مقتض لحرمة المخالفة و وجوب الموافقة القطعيتين و معناه انّه يجوز جعل الترخيص و إن انتهى إلى المخالفة القطعية، و هو خيرة المحقّق الخراساني في المقام.

2. كونه علّة تامة لكلا الأمرين و هو خيرته في باب الاشتغال، و معناه عدم جواز جعل الترخيص مطلقاً.

3. كونه علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية، و مقتضياً للموافقة القطعية، و معناه عدم جواز جعل الترخيص في كلا الطرفين و جوازه في واحد منهما.

استدل المحقّق الخراساني على مدعاه في المقام بالبيان التالي:

وجود الفرق بين العلم التفصيلي و الإجمالي، فانّ الأوّل بما انّه لا سترة فيه و انكشف الواقع بتمامه فلا موضوع) الجهل و الشك (لجعل الحكم الظاهري بخلاف المقام، فانّ وجود الجهل بمصداق المكلّف به و الشكّ في كلّ واحد من الطرفين، يجعل المقام صالحاً لجعل الحكم الظاهري فيجوز للشارع الإذن في المخالفة احتمالاً و قطعاً.

ثمّ أورد على نفسه إشكالاً، حاصله: كيف يجتمع العلم بالتكليف مع الإذن في المخالفة المحتملة أو القطعية؟ ثمّ أجاب بوجهين:

1. انّه ليس إشكالاً جديداً، بل نفس الإشكال في الجمع بين الواقعي و الحكم الظاهري في باب الشبهة غير المحصورة و الشبهة البدوية، مع العلم بوجود التكليف في الصورة الأُولى و احتمال وجوده في الصورة الثانية، فإذاً لا فرق بينهما و بين المقام، و ما هو الجواب عنه فيهما هو الجواب عنه في المقام.

2. يمكن رفع المناقضة بافتراض انّ الحكم الواقعي في الموارد الثلاثة فعلي معلّق، بمعنى انّه يتنجّز التكليف الواقعي إذا تعلّق به العلم التفصيلي، و المفروض عدم حصول المعلق عليه، فبذلك يرتفع التناقض، و سيأتي تفصيله عند البحث

ص:99

عن الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.

و على ضوء ذلك فالعلم الإجمالي يوجب تنجّز التكليف لو لم يمنع عنه مانع عقلاً، كما في أطراف كثيرة غير محصورة; أو شرعاً، كما إذا أذن الشارع في الاقتحام في المحصورة بناء على شمول قوله:

كلّ شيء فيه حلال و حرام، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه لأطراف العلم الإجمالي كلّ ذلك دليل على أنّ العلم الإجمالي مقتض للتنجز لو لم يمنع عنه مانع.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يصحّ فيما إذا علم التكليف عن طريق إطلاق الحجّة، كما إذا قال:

اجتنب عن الدم، و كان مقتضى الإطلاق لزوم الاجتناب عن الدم المعلوم بالتفصيل أو بالإجمال، ففي مثل ذلك يمكن دعوى أنّ العلم الإجمالي ليس بعلّة تامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية و وجوب الموافقة القطعية، بل هو مقتض بالنسبة إليهما، و أمّا إذا كان هناك علم وجداني بالحكم بحيث يعلم انّ المولى لا يرضى بتركه أبداً سواء كان معلوماً بالتفصيل أو بالإجمال، فادّعاء كونه مقتضياً بالنسبة إليهما كما ترى.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استعرض نظرية الشيخ أعني: كون العلم الإجمالي علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية و مقتضياً بالنسبة إلى الموافقة القطعية فرد عليه بقوله:» فضعيف جداً «ضرورة انّ احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة، فلا يكون عدم القطع بذلك معها، موجباً لجواز الإذن في الاقتحام بل لو صحّ معها الإذن في المخالفة الاحتمالية صحّ في القطعية أيضاً «.(1)

توضيحه: أنّ احتمال جعل المتناقضين محال كالقطع بجعل المتناقضين، ففي مجال جعل الترخيص بالنسبة إلى كلا الطرفين قطع بالتناقض، و بالنسبة إلى

ص:100


1- كفاية الأُصول: 36.

بعض الأطراف، احتمال له، لاحتمال انّ الطرف المرخّص فيه حرامٌ في الواقع، فيكون محكوماً بحكمين متضادين و على ضوء ذلك فلا فرق بين الأمرين.

يلاحظ عليه: أنّ كلام الشيخ ليس بناظر إلى عالم الثبوت و إنّما هو ناظر إلى عالم الإثبات و استظهار الشمول من أدلّة الأُصول، و انّها هل تختص بالشبهة البدوية، أو تعمها و أطراف العلم الإجمالي. و لعلّ الشيخ ينظر في كلامه إلى البيان التالي: و هو انّ كلّ واحد من أطراف الشبهة بشخصه بما انّه مشكوك و غير معلوم، فهو داخل في صدر قوله) عليه السلام (:» كلّ شيء حلال «حتى تعلم انّه حرام. و أمّا المجموع فلأجل العلم بوجود الحرام فيها فهو داخل في ذيل الحديث، و ينتج انّ جعل الترخيص في كلّ واحد بلا مانع أخذاً بصدر الرواية، و جعل الترخيص في كلا الطرفين ممنوع لدخوله في ذيل الحديث.

فتكون النتيجة حرمة المخالفة القطعية و جواز المخالفة الاحتمالية.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل، و حان حين البحث في المقام الثاني.

المقام الثاني: هل الامتثال الإجمالي كالامتثال التفصيلي؟
اشارة

الامتثال الإجمالي تارة يقع في مقابل التمكن من العلم التفصيلي بالامتثال، و أُخرى في مقابل التمكن من الحجّة على الامتثال التفصيلي كالاجتهاد و التقليد.

و يقع الكلام في أمرين:

الأمر الأوّل: الامتثال الإجمالي في مقابل العلم التفصيلي

إذا تمكن من الامتثال بالعلم التفصيلي القطعي، فهل يجزي الامتثال الإجمالي، كما إذا تمكن من تعيين جهة القبلة بالجهاز الصناعي المفيد للعلم و مع ذلك، يصلّي إلى أربع جهات؟ ثمّ إنّ للمسألة صوراً:

ص:101

إنّ المورد إمّا أن يكون توصلياً أو تعبدياً، و على كلا التقديرين إمّا أن يستلزم التكرار أو لا.

أمّا التوصليات فيكفي الامتثال الإجمالي مطلقاً استلزم التكرار كغسل الثوب النجس بماءين يعلم انّ أحدهما مطلق و الآخر مضاف طاهر أو لا، كما إذا ترددت كيفية الغسل بين العصر بين الغسلتين و عدمه، لأنّ الفرض هو إنجاز العمل و المفروض انّه أُنجز بأحسن وجه.

و على هذا لو تردّدت صيغة النكاح بين لفظ النكاح أو الزواج، يجوز له إنشاؤه بكلا اللفظين مع إمكان تحصيل العلم بما يقع به النكاح، و أمّا ما أورد عليه الشيخ بأنّه قام الإجماع على بطلان العقد المعلق لأجل منافاته الجزم المعتبر في الإنشاء فغير تام، فانّ كلامه يرجع إلى أمرين:

1. بطلان العقد المعلّق.

2. لزوم الجزم في الإنشاء.

أمّا الأوّل: فمع قطع النظر عن عدم التعلّق في المقام إلاّ في الضمير بمعنى انّه لو صحّ النكاح بهذا اللفظ فقد أنشأتُ به، انّه لا دليل على بطلانه إلاّ ما دلّ الدليل الخارجي على بطلانه في مورده كالطلاق و نظيره و إلاّ فالمعلّق كالمنجز عند العقلاء في صحّة الانشائية.

و أمّا الجزم في الإنشاء، فإن أراد وجود القصد الجدي لإنشاء النكاح فهو أمر متحقّق و لولاه لما جمع بين اللفظين و إن أراد قصد الإنشاء الجدي بكلّ واحد من اللفظين فليس عليه دليل.

و أمّا التعبديات، فيقع الكلام تارة فيما لا يستلزم الاحتياط تكرار العمل، و أُخرى فيما يستلزمه، ثمّ الأوّل على قسمين، لانّ التكليف المحتمل، تارة يكون تكليفاً مستقلاً، و أُخرى تكليفاً ضمنياً، و إليك الأقسام الثلاثة:

ص:102

1. ما لا يستلزم الاحتياط التكرار و كان التكليف المحتمل تكليفاً مستقلاً كما في غسل الجمعة المردّد بين كونه واجباً أو مستحباً، فالحقّ جواز الاحتياط و جواز ترك الاجتهاد و التقليد، لأنّ اللازم هو إتيان العمل للّه أو كون المحرك إلى العمل أمره سبحانه.

و على كلا التقديرين فالقربة حاصلة، و الفعل مأتي به لأجله سبحانه و لأمره.

نعم الذي يفوت المحتاط هو قصد الوجه على وجه الوصفية، كما إذا قال: اغتسل غسل الجمعة الواجب، أو الغاية، كما إذا قال: اغتسل غسل الجمعة لوجوبه، و لكن الفائت وصفاً كان أو غاية ليس بلازم الاستيفاء، لأنّه لم يدل دليل عقلي أو شرعي على وجوب قصد الوجه وراء قصد القربة، بل يمكن أن يقال دلّ الدليل على خلافه.

و ذلك لأنّا لو قلنا انّ قصد الوجه ممّا يمكن أخذه في متعلّق الأمر فإطلاق الأوامر في الشريعة دالّ على عدم وجوبه.

و إن قلنا بعدم جواز أخذه، فالإطلاق اللفظي و إن كان مفقوداً لكن الإطلاق المقامي كاف في ردّ احتمال وجوبه، و المراد منه: أنّ الأُمور التي يغفل عنها جمهور الناس و لا يلتفت إليها إلاّ الأوحدي منهم لو كانت واجبة لكان على الشارع بيانها و لو ببيان مستقل خارجاً عن متعلق الأوامر و النواهي، و المفروض عدم وجود مثل هذا الدليل.

2. ما لا يستلزم الاحتياط التكرار و كان التكليف المحتمل تكليفاً ضمنياً، كما إذا دار أمر السورة بين كونها مستحبة أو واجبة و في مثله لا يفوت قصد القربة، بل يفوته قصد الوجه و تمييز المستحب عن الواجب و لا دليل عليه.

نعم لو دار أمر الجزء بين كونه واجباً أو مستحباً أو مباحاً، فيمكن الإتيان

ص:103

بالجميع بقصد الأمر المتعلّق بالطبيعة، و إن كان الأمر بالجزء مشكوكاً، و ذلك لأنّ وجود المستحبات و المباحات في ضمن الواجب ليس بمعنى مثل وجود المستحب أو المباح في ضمن الواجب كأدعية شهر رمضان في نهاره، بل معناه انّ تحقّق الطبيعة لا يتوقف على تلك الأجزاء، و لكنّه لو أتاه في ضمنها لكانت جزءاً للمأمور به و من مشخصاته، فيتعلق بها الوجوب بنفس تعلّقه بسائر الأجزاء.

3. ما يستلزم الاحتياطُ التكرارَ سواء كانت الشبهة موضوعية كالصلاة إلى الجهات الأربع، أو حكمية كالجمعة بين صلاة الظهر و الجمعة، و هذا هو محط البحث بين الأعلام، و انّه هل يجوز مع التمكن من العلم التفصيلي بالامتثال، الامتثال الإجمالي أو لا؟ ذهبت جماعة إلى عدم الجواز مستدلين بالوجوه التالية:

الوجه الأوّل: ادّعاء الإجماع على عدم الجواز.

الوجه الثاني: استلزام الاحتياط عدم قصد الوجه و التمييز.

الوجه الثالث: انّ التكرار استخفاف بأمر المولى.

الوجه الرابع: عدم صدق الإطاعة التي هي عبارة عن الانبعاث عن بعث المولى، بحيث يكون الداعي و المحرّك له نحو العمل هو تعلّق الأمر به و انطباق المأمور به عليه، و هذا غير متحقّق في الامتثال الإجمالي، فانّ الداعي إلى الإتيان لكلّ واحد من فردي الترديد، ليس إلاّ احتمال تعلّق الأمر به لا الأمر نفسه، إذ لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص.(1)

يلاحظ عليه: المهمّ هو الوجه الرابع و سائر الوجوه واضحة الدفع، فنقول: إنّه إن أراد من كون الإطاعة هي الانبعاث عن بعث المولى هو الانبعاث عن

ص:104


1- الفوائد: 3/73.

البعث الموجود في البين، فالانبعاث عن الأمر بهذا المعنى متحقّق في الامتثال الإجمالي فانّه لا ينبعث و لا يتحمل العناء إلاّ لامتثال الأمر الموجود، و إن أراد الانبعاث من تعلّق الأمر بالفرد الذي هو بصدد إتيانه، فليس شرطاً في صدق الإطاعة.

و بعبارة أُخرى: المكلّف تارة ينبعث عن الميول النفسية، و أُخرى عن أمر المولى و بعثه. و المفروض في المقام هو الثاني، لأنّه في جميع الحالات منبعث من العلم بأمره الموجود في البين حتى أنّه إنّما يمتثل كلّ واحد لأمره سبحانه أي لأجل احتمال تعلّقه به و هو يكفي في صدق الإطاعة.

فخرجنا بهذه النتيجة: انّ الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي في جميع المراحل إلاّ إذا كان الفعل في نظر العقلاء أمراً عبثاً.

الأمر الثاني: في كفاية الامتثال الإجمالي في مقابل الظن التفصيلي

و قد طرحه الفقهاء في مبحث التقليد، و انّه هل يجوز للمكلّف أن يحتاط مع إمكان الاجتهاد و التقليد؟ قال السيد الطباطبائي في عروته: يجب على كلّ مكلّف في عباداته و معاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً.(1)

و اعلم أنّ العمل بالاحتياط تارة في مقابل الظن المعتبر بالخصوص و يسمى الظنّ الخاص كالخبر الواحد، أو مقابل الظنّ الانسدادي الذي ثبتت حجيته بترتيب مقدمات خمس.

أمّا الأوّل، فالامتثال الظني التفصيلي ليس بأفضل من الامتثال العلمي التفصيلي، و قد عرفت عدم تقدّمه على الامتثال الإجمالي فكيف يقدم عليه ما هو أدون منه رتبة؟! و الظاهر انّ كلاً من الامتثالين في عرض الآخر. نعم ذكر المحقّق

ص:105


1- العروة الوثقى، كتاب التقليد، المسألة الأُولى.

الخراساني احتمالاً في حجّية الظن الخاص، و هو انّه ليس بحجّة إلاّ فيما إذا لم يتمكن من الاحتياط فلو صحّ هذا الاحتمال فالامتثال الإجمالي يكون مقدماً على الظن التفصيلي المعتبر بالخصوص لفقدان شرط حجّيته.

و أمّا الثاني: فلو قلنا انّ من مقدماته عدم وجوب الاحتياط، يكون الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال بالظن التفصيلي.

و لو قلنا بأنّ في مقدماته بطلان الاحتياط لاستلزامه اختلال النظام، يكون الامتثال بالظن التفصيلي مقدماً على الامتثال الإجمالي.

و ينبغي التنبيه على أُمور:

الأوّل: انّ اختلاف القوم في أنّ نتيجة دليل الانسداد، هو الكشف أو الحكومة مبني على تعيين ما هو المأخوذ في مقدمة دليل الانسداد، فإن كان المأخوذ هو بطلان الاحتياط، فالنتيجة هو الكشف، و ذلك لانحصار طريق الامتثال في الظن بعد بطلان الاحتياط و عدم مساواة الوهم و الشك بالظن، و إلاّ يلزم نقض الغرض بخلاف ما إذا كان المأخوذ، عدم وجوبه و كفاية الامتثال به، فبما انّ الطريق متعدّد: الظن و الاحتياط، فلو لم يجعل الظن حجّة، لما لزم نقض الغرض لاحتمال اكتفائه في مقام الامتثال بالاحتياط.

الثاني: انّ في الفقه مسائل لا يمكن الاحتياط فيها كما في باب المواريث، فهل الحبوة للولد الأكبر أو لجميع الورثة؟ و مثله أبواب الحدود و القصاص، فلا محيص من الرجوع إلى الظن التفصيلي، أي الاجتهاد و التقليد.

الثالث: ربما يتصور انّ الاحتياط لأجل استلزامه العسر و الحرج على الإنسان و العيال مرفوع بقوله: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ).(1)

ص:106


1- الحج: 78.

و لكنّه محجوج بما ذكره الشيخ في باب الشبهة غير المحصورة عن أنّ المرفوع بالآية و نظائرها ما إذا كان نفس الحكم بما هو هو مستلزماً للحرج، كرفع المرارة عند المسح عن موضع الجرح، لا ما إذا كان نفس الحكم غير حرجي غير انّ تردّده بين أطراف كثيرة صار سبباً لحرجية امتثاله، فمثله غير مرفوع و لا أقلّ انّه مورد للشك. و مع ذلك فهو قابل للتأمّل، لأنّ الحرج مستند إلى إطلاق الحكم و شموله لما علم بين أفراد غير محصورة، و على كلا التقديرين فالحرج نابع إمّا من الحكم أو من إطلاقه.

ص:107

في الحجج الشرعية

اشارة

قد عرفت أنّ المقصد السادس انعقد لبيان الحجج الشرعية، و كان البحث عن القطع و أحكامه بحثاً تمهيدياً لدراستها، و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أمرين:

الأوّل: لا شكّ انّ الظنّ ليس كالقطع، لأنّ الثاني حجّة بالذات بخلاف الأوّل فحجّيته رهن أحد أمرين:

1. جعل الحجّية و إفاضتها عليه بالجعل الخاص من جانب الشارع كآية النبأ بالنسبة إلى خبر الثقة، أو بالجعل العام كدليل الانسداد بالنسبة إلى مطلق الظن بشرط تقرير مقدّمات الانسداد على نحو الكشف، أي كشف العقل عن أنّ الشارع جعل الظن حجّة.

2. استقلال العقل بالحجّية بعد ثبوت مقدماته بطروء حالات موجبة لاستقلال العقل و حجّيتها في الظروف الخاصة بناء على تقرير مقدمات دليل الانسداد بنحو الحكومة، و مع استقلال العقل بالحجّية لا ملاك لإفاضة الحجّية عليها من الشرع لكفاية استقلاله بالحجّية عن جعلها له من جانب الشارع.

هذا من غير فرق بين ثبوت التكليف و سقوطه، فالظن لا يثبت به التكليف كما لا يسقط به التكليف الثابت، فما لم يحصل اليقين بالفراغ عن العمل و إتيانه على ما هو عليه لا يكفي الظن بالفراغ، و ما ربما ينقل عن المحقّق الخوانساري) قدس سره (من التفصيل بين ثبوت التكليف و سقوطه غير تام، فكما لا يثبت به التكليف لا

ص:108

يسقط به التكليف القطعي، و ذلك لاستقلال العقل بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة العقلية و الضرر المحتمل) العقاب الأُخروي المحتمل (غير مدفوع بالامتثال الظنّي و إنّما يدفع إذا خرج عن العهدة باليقين.

الثاني: قد وقع الخلاف في إمكان التعبد بالظن و عدمه، فعن ابن قِبَة ادّعاء امتناع التعبد، و عن غيره إمكان التعبد، غير انّ القائلين بالإمكان اختلفوا في ورود الأمر بالعمل من الشارع و عدمه، فالمرتضى و ابن البراج و الطبرسي على عدم الورود بعد تسليم إمكانه و غيرهم على ثبوت الورود، فيقع الكلام في مقامين:

الأوّل: إمكان التعبد بالظن و عدمه.

الثاني: في ورود الأمر بالتعبد بالظن و عدمه.

المقام الأوّل: إمكان التعبد بالظن و عدمه

اشارة

ما هو المراد من الإمكان في كلام النافي و المثبِت؟ فهناك احتمالات:

ألف. الإمكان الذاتي بمعنى مساواة نسبة الحجّية و عدمها إلى الظن نظير نسبة الوجود و العدم إلى ماهية الإنسان.

ب. الإمكان الوقوعي بمعنى كون الشيء ممكناً في ذاته و لا يترتب على وقوعه في الخارج أيّ فساد، مثل إدخال المطيع في النار فانّه و إن كان أمراً ممكناً بالذات، لأنّه سبحانه كما هو قادر على الحسن قادر على القبيح أيضاً لكن لا يصدر عنه لمخالفته عدله و حكمته، فهو ممكن بالذات غير ممكن وقوعاً.

و نظيره قول أصحاب الهيئة البطليموسية بامتناع الخرق و الالتئام في الأفلاك التسعة لا بمعنى عدم إمكانهما الذاتي بل بمعنى ترتب مفاسد عليها في عالم النظام، فالخرق و الالتئام غير ممكن وقوعاً لا ذاتاً، و على ذلك رتبوا كون معراج النبي روحياً لا جسمانياً لاستلزام الثاني الخرق و الالتئام.

ص:109

و بذلك يعلم انّ التمثيل بالامتناع الوقوعي بتعدد الآلهة استلهاماً من قوله سبحانه: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (1)غير تام، لأنّ المراد منه ما يتمحّض امتناعه في الوقوع، و ليس تعدد الآلهة كذلك فإنّ امتناعهما لا يتمحض في الوقوع بل هو ممتنع ذاتاً قبل الحكم عليه بالامتناع وقوعاً. نعم الآية الكريمة كفيلة ببيان امتناعه وقوعاً.

ج. الإمكان الاحتمالي، و يراد منه عدم الجزم بامتناع الشيء بمجرّد سماعه، و هو الذي أشار إليه الشيخ الرئيس في كلامه، و قال:

كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان.

و الفرق بين المعاني الثلاثة واضح، فالإمكان الماهوي وصف للماهية بما هي هي، كما أنّ الثاني وصف لها بما انّه لا تترتب على وجودها مفسدة في مقابل ما يترتب على وجودها من مفسدة، و المراد من الثالث احتمال الإمكان و الامتناع فالإمكان بالمعنى الثالث يجتمع مع الممكن و الممتنع بالذات و الممتنع وقوعاً.

و الإمكان بالمعنى الثالث لا يحتاج إلى الدليل، إذ ليس فيه قضاء و لا حكم بخلاف الإمكان بالمعنيين الأوّليين فبما انّهما يحملان حكماً لا يصحّ الحكم بهما بلا دليل.

ما هو محل النزاع من معاني الإمكان؟

الظاهر انّ الإمكان بالمعنى الأوّل خارج عن محطّ النزاع، إذ لا يشك أحد في إمكان التعبد بالخبر الواحد ذاتاً و ماهية و انّ نسبة التعبد و عدمها بالنسبة إليه

ص:110


1- الأنبياء: 22.

سيان، و لو كان هناك نزاع فإنّما هو في الإمكان الوقوعي، و انّه هل يترتب على التعبد الفساد أو لا؟ فابن قبة على الأوّل، و الآخرون على الثاني، و سيوافيك كلام ابن قبة و هو ظاهر في أنّ هناك مانعاً خارجيّاً عن التعبد بالظن و يستشهد بأنّه يستلزم تحليل الحرام أو تحريم الحلال بمعنى أنّ هذا التالي الفاسد يصدّنا عن القول بصدور التعبد عن الشارع.

و من هنا يعلم انّ الاستدلال على الإمكان الوقوعي بالإمكان الاحتمالي غير تام، لأنّ الإمكان الاحتمالي لا يتضمن دعوى و لا حكماً بل هو بمعنى احتمال كلا الطرفين: الإمكان الذاتي و الامتناع الذاتي، و هذا بخلاف الإمكان الوقوعي فانّه يتضمن الحكم بإمكانه بالذات و إمكانه وقوعاً، فكيف يستدل بالإمكان الاحتمالي على الوقوعي.

نعم يمكن أن يقال لا حاجة إلى إثبات الإمكان الوقوعي بل يكفي الإمكان الاحتمالي إذا ثبت بالدليل القطعي وقوع التعبد بالظن في الشريعة، فانّ أدلّ دليل على إمكانه، وقوعه.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني حمل الإمكان الوارد في كلامهم على معنى رابع و هو الإمكان التشريعي قائلاً بأنّ النزاع في أنّه هل يلزم من التعبد بالأمارات محذور في عالم التشريع من تفويت المصلحة و الإلقاء في المفسدة و اجتماع الحكمين المتضادين أو لا؟ و ليس المراد من الإمكان، الإمكان التكويني بحيث يلزم عن التعبد بالظن محذور في عالم التكوين.

يلاحظ عليه: أنّ الإمكان التشريعي بهذا المعنى قسم من الإمكان التكويني و ليس قسيماً له، فانّ التوالي المتوهمة تعدّ أُموراً ممتنعة في صفحة الوجود و التكوين، و كون مورد الإمكان تشريع التعبد بالظن، لا يوجب عدّه قسماً مستقلاً.

إذا علمت هذا، فلنرجع إلى دراسة أدلّة القول بالامتناع.

ص:111

دليل القائل بامتناع التعبّد بالظن
اشارة

إنّ القائل بامتناع التعبد بالظن استدل بوجهين:

أحدهما: لو جاز العمل بالخبر الواحد في الفروع لجاز العمل به في الأُصول، فلو أخبر أحد من اللّه سبحانه لزم قبوله.

و لا يخفى وهن هذا الدليل، لأنّ الأمر في الفروع أسهل، فقبول الخبر فيها لا يلازم قبوله في الأُصول.

ثانيهما: انّه يستلزم تحليل الحرام أو تحريم الحلال.

هذا هو الدليل المهم في كلام ابن قبة، و ذكره المحقّق الخراساني تحت عناوين ثلاثة:

الأوّل: انّ التعبد بالظن يستلزم اجتماع أُمور مستحيلة:

أ. اجتماع المثلين فيما أصاب.

ب. اجتماع الضدين فيما أخطأ، كأن يكون الواقع واجباً و قامت الأمارة على تحريمه.

ج. اجتماع إرادة و كراهة و هما من مبادئ الأحكام، فالأُولى من مبادئ الإيجاب و الثانية من مبادئ الحرمة.

د. اجتماع المصلحة و المفسدة، و هما من ملاكات الأحكام فيما إذا كان الواقع حراماً و قامت الأمارة على الوجوب، أو بالعكس.

كلّ ذلك فيما إذا لم يكن هناك كسر و انكسار في الملاكات، و إلاّ فلو غلب ملاك الحكم الظاهري على ملاك الحكم الواقعي يلزم التصويب و خلوّ الواقعة عن الحكم الواقعي و اختصاص الحكم بالظاهريّ.

ص:112

الثاني: طلب الضدين(1) و هو فيما إذا أخطأت الأمارة و أدّت إلى وجوب ضدّ الواجب، كما إذا أمر المولى بالإزالة واقعاً و هو واجب مضيّق و قامت الأمارة على وجوب الصلاة فيلزم طلب الضدين في ظرف لا يكفي لأحدهما.

الثالث: تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة، و ذلك فيما إذا أدّى إلى عدم وجوب ما هو واجب، أو عدم حرمة ما هو حرام.

هذه هي التوالي الفاسدة الناشئة من التعبد بالأمارة الظنية.

ثمّ إنّ المحقّقين أجابوا عن تلك المحاذير بأجوبة مختلفة نتناول بعضها بالنقاش حسب ما يقتضيه الحال.

إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن تلك الإشكالات بأجوبة ثلاثة، و بهذا جمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.

الجواب الأوّل

(2)

المجعول في باب الأمارات هو الحجّية بمعنى انّه التنجيز لو أصاب و التعذير إذا أخطأ فقط لا جعل حكم مماثل لمؤدّى الأمارة حتى تستتبع حجّية الأمارة حكماً مجعولاً على نحو ما تتضمنه، بل حجّيتها ليست إلاّ تنجيز الواقع إذا أصابت و تعذيره إذا أخطأت، و ليس في مخالفتها أو موافقتها سوى التجري و الانقياد، و على ضوء ذلك ليس هنا حكم وراء الواقع حتى يلزم اجتماع حكمين مثلين إذا وافقت الواقع أو ضدين إذا خالفت الواقع و لا طلب الضدين لعدم الضد الثاني حتى يطلبه و لا اجتماع المصلحة و المفسدة و لا الكراهة و الإرادة، لأنّ الجميع من فروع وجود حكم ثان و المفروض انتفاؤه.

و هو بهذا الجواب ردّ على جميع تلك الإشكالات:

ص:113


1- و هذا المحذور غير ما مرّ من اجتماع الضدين فلاحظ.
2- أشار إلى هذا الجواب بقوله: لأنّ التعبد بطريق غير علمي الخ.

نعم بقي هنا إشكال، و هو انّ جعل الحجّية للأمارة إذا كانت مخالفة للواقع يوجب تفويت مصلحة الواقع إذا قامت على إباحة الواجب أو الإلقاء في المفسدة إذا قامت على حلية الحرام واقعاً، و الفرق بين هذا الإشكال و الإشكالات المتقدمة هي انّ الإشكالات المتقدّمة مترتبة على فرض حكم ثان و قد نفى بتاتاً، و هذا الإشكال مترتب على ترخيص العمل بالأمارة بأيّ معنى كان سواء كان هنا حكم ثان أو لا.

ثمّ أجاب عنه) قدس سره (بأنّه لا مانع من تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة إذا كان هناك مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.

الجواب الثاني

(1)

إنّ للشارع حكماً ظاهرياً وراء الحكم الواقعي بمعنى انّ جعل الحجّية للأمارة مستلزم لجعل حكم مماثل لمؤدّاه، أو بأنّه لا معنى لجعلها إلاّ جعل تلك الأحكام. فهناك حكمان مجعولان، و مع ذلك كلّه لا يلزم المحاذير المتقدمة و ذلك لاختلاف الحكمين جوهراً.

أحدهما: حكم واقعي ناشئ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه و قد تعلّقت به إرادة نفسانية أو كراهة كذلك.

ثانيهما: حكم طريقي لغاية تنجيز الواقع إذا أصاب و التعذير إذا أخطأ من دون أن تكون مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، أو تتعلّق الإرادة أو الكراهة به، غاية الأمر وجود المصلحة في نفس إنشاء الحكم موافقاً كان للواقع أو لا، فعندئذ ترتفع المحاذير السابقة لاختلاف الحكمين جوهراً فليس بمثلين عند الإصابة، و لا ضدين عند المخالفة، و لا يلزم اجتماع المصلحة و المفسدة و لا تتعلق الإرادة

ص:114


1- أشار إلى هذا الجواب بقوله: نعم لو قيل باستتباع جعل الحجّية للأحكام التكليفية الخ.

و الكراهة بشيء واحد، لأنّ المفروض انّ الحكم الطريقي ليس في متعلقه مصلحة و لا مفسدة و لا هو متعلّق إرادة و لا كراهة.

نعم لا ينفك الحكم الواقعي عن المصلحة و المفسدة و عن تعلّق الإرادة و الكراهة.(1)

و الحاصل انّه لا تضاد بين الإنشاءين فيما إذا اختلفا، و لا يكون من اجتماع المثلين فيما اتّفقا و لا إرادة و لا كراهة أصلاً إلاّ بالنسبة إلى متعلّق الحكم الواقعي.

نعم يرد على هذا الجواب نفس ما أورده على الجواب الأوّل، و هو انّ مشكلة تفويت المصلحة باق على حاله، و الجواب عنه نفس الجواب عنه في السابق طابق النعل بالنعل.

الجواب الثالث

إنّ المحقّق الخراساني لاحظ انّ ما ذكره المجعول هو الحجّية أو الأحكام الطريقية لا ينطبق على بعض الأُصول العملية كأصالة الإباحة الشرعية، فانّ الظاهر منه انّ هناك حكماً شرعياً مجعولاً على المشكوك لا طريقاً إلى الواقع إذ الطريقية من أحكام الأمارات لا الأُصول، ففي مثل هذا المورد تخلص عنه بجواب ثالث، و هو انّه التزم بعدم كون الأحكام الواقعية فعلية مطلقة بل فعلية معلقة) أو فعلية لكن غير منجّزة (إلاّ إذا علم به أو أدت إليه الأمارة و لا تعارض بين الفعلي المعلق الذي لم يحصل فيه الشرط، و الحكم الفعلي المطلق فالأحكام الواقعية التي لم يتحقق شرطها أحكام فعلية معلقة بخلاف الأحكام الظاهرية

ص:115


1- ثمّ إنّه (قدس سره) أشار في توضيح هذا الجواب إلى تفسير الإرادة و الكراهة و انّه في المبدأ الأعلى بمعنى العلم بالمصلحة و المفسدة، و في المبادئ العالية، أعني: النبي و الوصي، واقعية الإرادة و الكراهة، و هو غير دخيل في الجواب.

فهي أحكام فعلية منجزة.

و بذلك جعل للفعلية مرحلتين:

أ. الفعلية المعلّقة التي لا يكون بعدها بعث و لا زجر.

ب. الفعلية المطلقة التي يكون بعدها بعث و زجر. هذا ما ذكره المحقّق الخراساني من الأجوبة الثلاثة أو جواب واحد في مراحل ثلاث:

يلاحظ على الجواب الأوّل: أنّ القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هو الحجّية خلاف التحقيق فانّه ليس للشارع أيّ جعل في باب الأمارات، بل أمضى ما عليه العقلاء من العمل بقول الثقة، بالسكوت أو بإخراج الفاسق و إبقاء العادل بالروايات الإرجاعية و غيرها(1)، فما ورد في الروايات إمّا إرشاد إلى الصغرى أو إمضاء لما في يد العقلاء حتى انّ ما ورد في التوقيع عن الناحية المقدسة، أعني قوله:» و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فانّهم حجّتي و أنا حجّة اللّه «ليس بصدد إنشاء الحجّية، بل اخبار عن كونهم حجج اللّه كما يخبر عن نفسه بأنّه حجّة من اللّه.

و يلاحظ على الجواب الثاني: أنّ القول بوجود حكمين أحدهما نفسي و الآخر طريقي قول بلا دليل، فانّ المجعول هو الحكم الواقعي النفسي و لا دليل على جعل حكم طريقي في مقابل الواقع، بل أقصى ما هناك هو الأمر بالعمل بالطرق ليتوصل بها المكلف إلى الواقع، فإن أوصلته إليه فمؤدى الأمارة هو حكم الواقع و إلاّ فتكون اكذوبة نسبت إلى النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و الإمام) عليه السلام (.

و بالجملة: حكم نقلة الأحاديث و الروايات عن اللّه سبحانه بواسطة أنبيائه و أئمته، حكم الناطق في الأجهزة الإعلامية عن جانب الدولة، فلو أصاب خبره

ص:116


1- سيوافيك انّ الروايات على طوائف خمس.

الواقع يكون المؤدّى نفس الواقع، و إن أخطأ يكون كلاماً مكذوباً على لسان الدولة.

نعم ما أفاده في الجواب الثالث مبني على أنّ المجعول هو الحكم الشرعي حيث إنّ الظاهر من أدلّة الأُصول جعل الطهارة و الحليّة للمشكوك و أنّ الواقع ليس بفعلي منجز.

الرابع: ما أفاده الشيخ الأعظم في المقام و أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله:» فقد انقدح بما ذكرنا انّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأُصول و الأمارات فعلياً «و بما انّ ما نسب إليه المحقّق الخراساني لا يوافق كلام الشيخ في الفرائد نأتي بخلاصة كلامه في هذا المقام:(1)

انّ القائل بامتناع التعبد إمّا يقول به في حال الانسداد أو في زمان الانفتاح. أمّا الأوّل فالمنع عن التعبد غير صحيح بعد انحصار الطريق بالظن و إلاّ يلزم ترك العمل بالشريعة.

و أمّا الثاني فلأنّ الإشكال إنّما يتوجه إذا لم تتدارك المصلحة الفائتة أو المفسدة الواردة، بمصلحة في نفس التعبد بالظن بمعنى انّه لا مانع أن يكون في سلوك الأمارة و تطبيق العمل عليها مصلحة يجبر بها الفائتة منها أو الواردة من المفسدة، و ذلك لأنّ في بعث الناس إلى تحصيل العلم مفسدة العسر و الحرج و بالتالي خروجهم عن الدين بخلاف الأمر بالعمل بالأمارة و الأُصول ففيها تسهيل للمكلّفين في سلوكهم الاجتماعي و الفردي، و المصلحة السلوكية لا تمسّ كرامة الواقع و لا تغيره غير انّه إذا صادفت الأمارة الواقع يكون نفس الواقع

ص:117


1- قد ابتدأ الشيخ بتقرير جوابه من صفحة 26 بقوله:» فنقول في توضيح هذا المقام و إن كان خارجاً عن محلّ الكلام «و انتهى عنه في صفحة 30 بقوله:» و تلخص من جميع ما ذكرنا انّ ما ذكره ابن قبة من استحالة التعبد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة غير العلمية ممنوع «) لاحظ طبعة رحمة اللّه ص 26 30).

و إلاّ يكون كاذباً، و لكن نفس العمل بالأمارة لما كان ذات مصلحة سلوكية يتدارك به ما فات من المصالح أو ابتلى به من المفاسد.

ثمّ إنّه يعرف الحكم الواقعي بالبيان التالي و يقول:

إنّ المراد بالحكم الواقعي هو الحكم المتعين المتعلّق بالعباد الذي يحكى عنه الأمارة، و يتعلّق به العلم و الظن و أمر السفراء بتبليغه، و إن لم يلزم امتثاله فعلاً في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه إلاّ أنّه يكفي في كونه الحكم الواقعي انّه لا يعذر فيه إذا كان عالماً به أو جاهلاً مقصراً، و الرخصة في تركه عقلاً كما في الجاهل القاصر أو شرعاً كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه.(1)

و على ضوء ذلك فتندفع جميع المحاذير.

أمّا محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة، فلما عرفت من تداركه بالمصلحة السلوكية.

و أمّا التدافع بين الملاكين، مثلاً إذا كان الواقع حراماً و قامت الأمارة على وجوبه، فالمفسدة قائمة بمتعلّق الحكم و المصلحة بنفس السلوك.

و أمّا المحذور الخطابي من اجتماع المثلين أو الضدين فهو منتف بانتفاء الموضوع، لأنّ الأمارة في خدمة الواقع، فإن وافق فهو، و إلاّ فلا يتضمن حكماً شرعياً و ليس للشارع فيه دور سوى الإمضاء، ففي ظرف الموافقة و المخالفة لا حكم ثان حتى يتحقّق فيه مثلان أو ضدّان، و الدليل على أنّ قيام الأمارة لا تحدث حكماً شرعياً وافق أم خالف هو تصريحه بأنّ معنى» إيجاب العمل على الأمارة، وجوب تطبيق العمل عليها لا وجوب إيجاد عمل على طبقها «.(2)

ص:118


1- الفرائد: 30، طبعة رحمة اللّه.
2- لاحظ الفرائد: 27، طبعة رحمة اللّه.

و أمّا المحذور الراجع إلى المبادي كالإرادة و الكراهة، فمثلاً لو فرضنا انّ الأمارة قامت على وجوب الحرام، فالكراهة متعلّقة بالمتعلّق كالعصير العنبي، و الإرادة متعلّقة بتطبيق العمل على الأمارة و نفس السلوك، و بهذا الجواب تندفع جميع المحاذير: الملاكية و الخطابية و المبادئية.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على هذا الجواب إيرادين:

الأوّل: لو كانت الأحكام الواقعية أحكاماً انشائية يلزم عدم وجوب امتثالها لو قامت الأمارة عليها، و ذلك لأنّ جوهر الحكم الواقعي لما كان إنشائياً، فقيام الأمارة لا يحدث شيئاً سوى انّه قام على حكم واقعي إنشائي غير لازم الامتثال.

الثاني: كيف يمكن التوفيق بذلك مع احتمال وجود أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد الطرق و الأُصول العملية، المتكفلة لأحكام فعلية ضرورة انّه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافين كذلك لا يمكن احتماله، فلا يصحّ التوفيق بين الحكمين بالتزام كون الحكم الواقعي الذي يكون لو لا الطرق إنشائياً، غير فعلي.(1)

يلاحظ على الأوّل: أنّ الإشكال مبني على كون الحكم الواقعي عند الشيخ إنشائياً، و هو خلاف صريح كلامه، فانّ صريح كلامه انّه فعلي و له آثار أربعة:

أ. لا يعذر إذا كان عالماً.

ب. لا يعذر إذا كان جاهلاً مقصراً.

ج. يعذر إذا كان قاصراً عقلاً.

د. معذور شرعاً.

إنّ احتمال المتنافيين و إن كان كالقطع بهما في الامتناع، لكن إذا كان

ص:119


1- الكفاية: 532/52.

الحكمان مختلفين جوهراً كأن يكون أحدهما إنشائياً حسب بعض كلماته أو فعلياً حسب ما استظهرناه، و الآخر فعلياً مطلقاً، فالقطع بوجودهما ليس محالاً فضلاً عن احتمالهما.

الخامس: ما نسب إلى المحقّق السيد محمد الفشاركي و قرّره المحقّق الخراساني بالنحو التالي: انّ الحكمين ليس من مرتبة واحدة بل في مرتبتين ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين. و قد أشار إلى هذا الجواب الشيخ الأنصاري في أوّل مبحث التعادل و التراجيح و إن كان كلامه في رفع التعارض بين الأُصول و ما يحصله المجتهد من الأدلّة الاجتهادية، و لكنّه عام لغير هذا المورد، حيث قال: إنّ موضوع الحكم في الأُصول، الشيء بنفس انّه مجهول الحكم فالحكم عليه بحلية العصير مثلاً من حيث إنّه مجهول الحكم، و موضوع الحكم الواقعي، الفعل من حيث هو هو، فإذا لم يطلع عليه المجتهد كان موضوع الحكم في الأُصول باقياً على حاله فيعمل على طبقه. الخ.(1)

و قد أورد عليه في الكفاية ما مرّ نظيره في تصوير الترتب، و هو انّ الحكم الظاهري و إن لم يكن في تمام مراتب الواقعي إلاّ انّه يكون في مرتبته أيضاً و على تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة.

إلى هنا تمت الأجوبة الخمسة للمجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري التي أشار إليها في الكفاية، و هناك جواب سادس يندفع به جميع المحاذير المذكورة بالبيان التالي و ربما يكون لبّه موجوداً ضمن الأجوبة السابقة.

تحليل جديد للمحاذير

إنّ المحاذير المتصورة في المقام لا تخلو إمّا أن تكون محاذير ملاكيّة، أو

ص:120


1- الرسائل: 431، خاتمة في التعادل و الترجيح، طبعة رحمة اللّه.

محاذير خطابية، أو محاذير مبادئية، و إليك دراسة الكل.

أمّا المحاذير الملاكية، فإمّا أن تكون بصورة تفويت المصلحة و الإلقاء في المفسدة كما إذا كان الشيء واجباً أو حراماً و دلّت الأمارة على حلّيته، أو بصورة تدافع الملاكات كما إذا قامت الأمارة على وجوب ما كان حراماً في نفس الأمر، هذا إذا لم نقل بالكسر و الانكسار و إلاّ لا يكون سوى مؤديات الأمارات أحكام.

و الجواب عن الصورة الأُولى بأنّ في العمل بالأمارة و إن كان فوت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة في بعض الموارد، لكن في إيجاب العمل بتحصيل العلم و الاحتياط مفسدة كبرى و هي لزوم العسر و الحرج الشديدين اللّذين ربما يُسبّبان رغبة الناس عن الدين و خروجهم عنه، زرافات و وحدانا، ففي هذا المأزق، يحكم العقل، بتقديم الأوّل على الثاني، لا أقول إنّ المصلحة الفائتة أو المفسدة الواردة تتدارك، بل أقول: إنّ الأمارات حجّة من باب الطريقية المحضة و انّ قيام الأمارة، لا يحدث مصلحة في المتعلّق، و إذا دار الأمر بين الشرّ القليل و الشرّ الكثير يحكم العقل بتقديم الأوّل على الثاني.

و أمّا الصورة الثانية، أعني: محذور تدافع الملاكات فدفعه واضح، لأنّه إنّما يلزم لو كانت الأمارة محدثة للمصلحة أو المفسدة في المتعلّق، فيلزم التدافع.

و بعبارة أُخرى: إذا كانت الأمارة تمس كرامة الواقع و تحدث مصلحة أو مفسدة في المتعلق، و أمّا لو قلنا بالطريقية المحضة كما هو الحقّ، أو المصلحة السلوكية، فلا، لأنّ المصلحة السلوكية مصلحة نوعية قائمة بنفس الأمر بالعمل بالأمارة لغاية إيجاد الرغبة في الدين فلا صلة لها بالمتعلق.

و من هنا تبين انّه لا يكون في الأمر بالعمل بالأمارة أيُّ محذور ملاكي، و إليك دراسة المحذور الخطابيّ.

ص:121

المحذور الخطابيّ

و المحذور الخطابيّ يتلخص في اجتماع المثلين أو اجتماع الضدين، فنقول: إنّ الجواب عنه بوجهين:

الأوّل: التماثل من أقسام الوحدة و التضاد من أقسام التقابل، و كلاهما من الأعراض الخارجية التي تتصف بها الأُمور الحقيقية و الأحكام أُمور اعتبارية لا تتصفان بهما إلاّ مجازاً، فانّ الوجوب و الحرمة من الأُمور الاعتبارية يقومان في مقام الاعتبار مقام البعث و الزجر التكوينيين، فانّ الإنسان إذا أراد بعث ولده إلى أمر، أو زجره عنه، يبعثه بيده أو يمنعه عنه، و لما كان هذا الأمر غير ممكن في كلّ الأحايين خصوصاً فيما إذا أراد بعث جماعة غائبين أو زجرهم حاول العقلاء لأداء ذينك الغرضين بوضع لفظ افعل أو لا تفعل للحكاية عنهما في عالم الاعتبار، فكلّ من هذين اللفظين مصداق تكويني للّفظ و الصوت، و مصداق اعتباري للبعث و الزجر.

و لما كانت دلالة الألفاظ على المعاني بالوضع و الاعتبار، كان البعث و الزجر المفهومان من اللفظين أولى بأن يكون اعتباريين فلا يتصفان بالتماثل أو التضاد.

الثاني: انّ الإشكال مبني على أن يكون في مورد الأمارات و الأُصول المحرزة حكم شرعي طبق المؤدّى، و يكون إمضاء الشارع للعمل بهما، بمعنى جعل حكم مماثل لما تدل عليه الأمارة و الأصل، و هو خلاف التحقيق، لأنّ العمل بها لغاية درك الواقع و الوصول إليه، فإن حصلت الغاية فنعم المراد، و إلاّ تكون هنا صورة حكم لا حكم شرعي.

نعم لا يبعد أن يكون للشارع في مجاري الأُصول غير المحرزة أحكاماً في ظرف الشكّ كالحلية فإنّ ظاهر قوله: كلّ شيء طاهر حتى تعلم انّه قذر، أو

ص:122

كلّ شيء حلال حتى يعلم انّه حرام بعينه فتدعه جعل الطهارة الشرعية أو الحلية للمشكوك، و في هذه الصورة ينحصر دفع الإشكال الخطابي بالجواب الأوّل.

المحاذير المبادئيّة

تقرير انّ الإرادة القطعية قد تعلّقت بالأحكام الواقعية، فلو تعلّقت أيضاً بالأحكام الظاهرية سواء أ وافقت أم خالفت لزم ظهور الإرادتين المتماثلتين أو المتضادتين في آن واحد و مثلهما الحب و البغض حرفاً بحرف.

الجواب: أمّا في موارد الأمارات و الأُصول المحرزة، فليس هناك حكم ظاهري مجعول حتى تتعلّق به الإرادة و الكراهة، و لو كانت هناك إرادة و كراهة فقد تعلّقا بالحكم الواقعي، و على ذلك فاجتماع الإرادتين، أو الإرادة و الكراهة أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

نعم لا بأس بالإشكال في الأُصول غير المحرزة فانّ الظاهر في أدلّتها جعل الطهارة و الحلية للمشكوك و هو يكشف عن تعلّق الإرادة بالحكم بالطهارة و الحلية، فلو كانت في نفس الأمر محرمة يلزم اجتماع الإرادة و الكراهة.

و الجواب: انّه لا مانع من القول برفع اليد عن الحكم الواقعي و ذلك للمصلحة العليا التي وقفت عليها و لا يلزم منه التصويب، إذ هو عبارة عن إنكار الحكم المشترك بين العالم و الجاهل و هو غير لازم و إنّما اللازم صيرورة الحكم المشترك إنشائيّاً أو فعليّاً معلّقاً و كون الفعلي المنجز هو الحكم الظاهري.

و بهذا البيان الضافي اندفعت المحاذير الثلاثة: الملاكية و الخطابية و المبدئية.

ص:123

المقام الثاني: في وقوع التعبّد بالظن

اشارة

قد تعرّفت على إمكان العمل بالظن، و انّه لا يترتب على التعبّد به شيء من الفساد، و حان حين البحث عن وقوعه في الشريعة، و لنقدم البحث عن الضابطة الكلية في العمل بالظن، و هل الأصل هو جواز العمل به إلاّ ما دلّ الدليل على عدم جواز العمل به كالقياس، أو أنّ الأصل هو عدم الجواز إلاّ ما دلّ الدليل على جواز العمل به.

و ليس المراد من الأصل، هو الأصل العملي بل مقتضى الأدلّة الاجتهادية، و اتفقت كلمة المحقّقين على أنّ الأصل هو الثاني، و انّ مجرّد الشك في الحجّية كاف في استنتاج القطع بعدم الحجّية، و هذا أمر عجيب حيث يتولد من الشكّ فيها، القطع بعدمها، و قد قرر بالبيانين التاليين:

1. البيان الأوّل

قال الشيخ الأعظم ما هذا توضيحه:

إنّ حقيقة العمل بالظن هو الاستناد إليه في مقام العمل، و الالتزام بكون مؤدّاه حكم اللّه في حقّه و هذان الأثران لا يترتبان في ظرف الشكّ في الحجّية، لأنّ الاستناد إلى مشكوك الحجّية في مقام العمل، و كذلك إسناد مؤدّاه إلى الشارع تشريع عملي و قولي دلّت على حرمته الأدلّة الأربعة، فإذا حرم الاستناد و الاسناد و علم ارتفاعهما في حالة الشك، يعلم عدم حجّية الظن، إذ لا معنى لوجود الموضوع مع عدم أثره.

و أورد عليه المحقّق الخراساني:

1. النسبة بين الحجّية و الأثرين عموم و خصوص مطلق، فصحّة الاستناد

ص:124

عملاً و الاسناد قولاً يلازم كون الشيء حجّة، و لا عكس إذ ربما يكون الشيء حجّة كالظن على الحكومة و لا يصحّ معه الاسناد إلى الشارع للفرق بين كون الظن حجّة في حال الانسداد من باب الكشف، و كونه حجّة من باب الحكومة فعلى الأوّل، فالعقل بعد ثبوت بطلان الاحتياط و انحصار الطريق بالظن، يكشف عن أنّ الشارع جعل الظن حجّة فيترتب عليه الأثران دون القول بالحكومة فانّه مبني على القول بعدم بطلان الاحتياط و جوازه، فعندئذ لا يستقل بحجّية الظن لعدم انحصار الطريق بالظن، غاية الأمر لما يجد العقل انّ العمل بالاحتياط على السعة يوجب العسر و الحرج عاد يضيق دائرة الاحتياط فيوجب العمل بالظن حتى لا يلزم العسر و الحرج، فالعمل بالظن في الحقيقة عمل بالاحتياط لكن بعد تضييق دائرته بإخراج المشكوك و الموهوم و إبقاء المظنون، فالظن حجّة في هذه الحالة و لا يصحّ اسناد مضمونه إلى الشارع.

و أضاف تلميذه المحقّق العراقي مورداً آخر، و هو انّ الشكّ قبل الفحص حجّة مع أنّه لا يجوز الانتساب إليه تعالى.(1)

2. لو فرض ترتّب الأثرين، و مع ذلك لم يترتّب عليه سائر الآثار من المنجزية و المعذرية و الانقياد و التجرّي لما كان يجدي في الحجّية شيئاً و مع ترتبها لما كان يضرّ عدم صحّة الاستناد و الاسناد.

و يمكن الذب عن النقض الأوّل بأنّ الكلام في الحجج الشرعية اعتبرها الشارع تأسيساً أو إمضاء، لا الحجج العقلية فانّ الظن على الحكومة حجّة عقلية لا شرعية و الحجّة الشرعية لا يفارق صحّة الاستناد و الإسناد، و منه يظهر حال النقض الثاني، مضافاً إلى أنّ الحجّة هو العلم الإجمالي بالأحكام على نحو لو

ص:125


1- لا يخفى ضعف النقض فانّ الحجّة هو العلم الإجمالي بالأحكام التي لو تفحص عنها يصل إليها لا الشكّ.

تفحص عنه، لعثر عليه و هو الباعث إلى الفحص، لا الشكّ.

2. البيان الثاني

قال المحقّق الخراساني ما هذا توضيحه:

إنّ الأثر المترتب على الشيء قد يترتّب على وجوده الواقعي كالحرمة المترتّبة على واقع الخمر، و قد يترتّب على واقعه و مشكوكه كالطهارة، و ثالثة يترتّب على العلم بالشيء فقط فيكون بوجوده العلمي موضوعاً للأثر.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ المراد من الحجّة في المقام هو ما يحتجّ به المولى على العبد، و العبد على المولى و لها آثار أربعة: التنجز، و التعذير و التجري و الانقياد، و كلّها آثار لما علم كونه حجة بالفعل، و إلاّ فلو كان حجّة في الواقع و لم يقف المكلّف على كونه كذلك لا يترتب عليه شيء من هذه الآثار، لحكومة العقل بقبح العقاب بلا بيان، و عند ذلك لو شككنا في حجّية شيء فهو ملازم للقطع بعدم الحجّية الفعلية و معه لا يترتب عليه شيء من آثارها الأربعة فيكون الأصل في الشكّ في الحجّية عدمها قطعاً، أي عدم صحّة الاحتجاج و ترتّب الآثار.

ثمّ إنّهم تمسّكوا في إثبات حرمة العمل بغير ما علمت حجّيته بآيات و روايات، أمّا الآيات فأوضحها دلالة قوله سبحانه: (وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ). (1)فذمّ سبحانه من يقول ما لا يعلم كونه من اللّه سواء أ كان مطابقاً للواقع أو لا.

و الذي يمكن أن يقال انّ ما ورد من الآيات في هذا المضمار إرشاد إلى حكم العقل القاضي بقبح القضاء بغير دليل و يؤيّد ذلك انّه سبحانه يستشهد على

ص:126


1- الأعراف: 28.

بطلان كلامهم، بما يقتضي به فطرتهم و عقولهم الساذجة، و هو قبح الادّعاء بلا سلطان و لا برهان، قال سبحانه: (وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ).(1)

و قوله سبحانه: (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ) (2)و قوله عزّ اسمه: (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ).(3)

ص:127


1- البقرة: 111.
2- الكهف: 15.
3- يونس: 68.

الحجج الشرعية 1 حجّية الظواهر

اشارة

قد علمت أنّ الضابطة الأُولى في الظنون عدم الحجّية، و هذا هو المحكَّم ما لم يدل دليل على خلافه، و قد ادّعى الأُصوليون خروج بعض الظنون عن تحت ذلك الأصل أوّلها: ظواهر كلام المتكلّم.

فنقول: إنّ استنباط مراد المتكلّم يتوقف على ثبوت أُمور:

أ. أصل الصدور، أي ثبوت صدور الكلام عن المتكلّم إمّا علماً كالخبر المتواتر و المحفوف بالقرائن، أو بالحجّة الشرعية، و المتكفل لبيان هذا الأمر هو أدلّة حجّية قول الثقة.

ب. جهة الصدور، أي ثبوت انّ المتكلّم لم يتكلّم لهواً أو تمريناً أو هازلاً أو تقية، و المتكفل لإثبات هذا الأصل هي الأُصول العقلائية، لأنّ الأصل في كلام كلّ متكلّم هو كونه بصدد بيان صميم مراده، و امّا التكلّم لهواً أو هزلاً أو تقية على خلاف ما عليه العقلاء في محاضراتهم، و لا يُعرَّج على واحد منها إلاّ بدليل خاص.

أضف إلى ذلك أنّ قسماً منها على خلاف الحكمة.

ج. ثبوت ظهور مفرداته، و المتكفل لبيان هذا الأصل علائم الوضع، أعني: التبادر، و صحّة الحمل، و عدم صحّة السلب، و الاطراد، و تنصيص أهل اللغة.

د. حجّية ظهور كلامه بعد انعقاده و كونه منبئاً لكشف مراده، و هذا هو

ص:128

الذي انعقد له هذا البحث و لكنّه لا يحتاج إلى بيان زائد لاتفاق العقلاء على اتباع الظواهر في حياتهم و في كتاباتهم و في أقاريرهم و وصاياهم و اتفاقياتهم التجارية و السياسية و غيرها.

أضف إلى ذلك أنّه لو لم تكن الظواهر حجّة لزم نقض الغرض، لأنّ الغاية من الوضع هي المفاهمة و لو اقتصرنا في ذلك المجال على النصوص لقلت فائدة الوضع.

هذا ممّا لا إشكال فيه إنّما الكلام في الأُمور التالية:

أوّلاً: هل الظواهر معدودة من الظنون خرجت عن تحت الأصل، أو انّها بالنسبة إلى إحضار المراد الاستعمالي دليل قطعي؟ ثانياً: هل الظواهر حجّة مطلقاً أو مقيدة بإفادته الظن الشخصي بالمراد؟ ثالثاً: هل الظواهر حجّة مطلقاً أو تختص حجّيتها بمن قصد إفهامه؟ رابعاً: هل ظواهر الكتاب حجّة أو ليست بحجّة إلاّ بعد تفسير الإمام المعصوم.

فهذه الجهات جديرة بالبحث.

الجهة الأُولى: في أنّ الظواهر من القطعيات

الظاهر انّ خروج الظواهر عن الأصل خروج موضوعي لا حكمي يتبين بتقديم مقدّمة و هي:

انّ الفرق بين الظاهر و النص هو انّ كلا الأمرين يحملان معنى واحداً و يتبادر منهما شيء فارد، غير انّ الأوّل قابل للتأويل فلو أوّل كلامه لعدّ عمله خلافاً للظاهر و لا يعدّ مناقضاً في القول، كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ أشار بدليل

ص:129

خاص بأنّ المقصود هو العلماء العدول.

و أمّا النصّ فهو لا يحتمل إلاّ معنى واحداً، و لا يصحّ تأويله بل يعد أمراً متناقضاً، و هذا مثل قوله سبحانه: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ).(1)

فانّ كون حظّ الذكر مثلي الأُنثى شيء ليس قابلاً للتأويل و لذلك يعدّ نصاً، و من حاول تأويله لا يقبل منه، و مثله قوله سبحانه: (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ).

إذا علمت ذلك، فنقول: إنّ القضاء في أنّ كشف الظواهر عن مراد المتكلّم هل هو كشف قطعي أو ظني يتوقّف على بيان الوظيفة التي حملت على عاتق الظواهر، و ما هي رسالتها في إطار التفهيم و التفهّم، فلو تبيّن ذلك سهل القضاء بأنّ الكشف قطعي أو ظني.

فنقول: إنّ للمتكلّم إرادتين:

1. إرادة استعمالية، و هي استعمال اللفظ في معناه، أو إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء كان المتكلّم جادّاً أو هازلاً أو مورّياً أو غير ذلك، سواء كان المعنى حقيقياً أو مجازياً.

2. إرادة جدية، و هي انّ ما استعمل فيه اللفظ مراد له جداً، و ما هذا إلاّ لأنّه ربما يفارق المراد الاستعمالي، المراد الجدي، كما في الهازل و المورّي و المقنن الذي يُرتِّب الحكم على العام و المطلق مع أنّ المراد الجدي هو الخاص و المقيد، ففي هذه الموارد تغاير الإرادة الجدية الإرادة الاستعمالية، إمّا تغايراً تاماً كما في الهازل و الموري و اللاغي، أو تغايراً جزئياً كما في العام الذي أُريد منه الخاص، أو المطلق الذي أُريد منه المقيد بالإرادة الجدية.

ص:130


1- النساء: 11.

و على ضوء ذلك فيجب علينا أن نحلل أمرين:

الأوّل: ما هي الرسالة الموضوعة على عاتق الظواهر؟ الثاني: ما هو السبب لتسميتها ظنوناً؟ أمّا الأوّل: فالوظيفة الملقاة على عاتق الظواهر عبارة عن إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء كانت المعاني حقائق أو مجازات، فلو قال: رأيت أسداً، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى الحيوان المفترس، و إذا قال: رأيت أسداً في الحمام، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى رجلاً شجاعاً فيه، فدلالة الجملة في كلا الموردين على المراد الاستعمالي كشف قطعي و ليس كشفاً ظنياً و قد أدى اللفظ رسالته بأحسن وجه. و على ذلك لا يصحّ تسميته كشفاً ظنياً، اللّهمّ إلاّ إذا كان الكلام مجملاً أو متشابهاً، فالكلام عندئذ قاصر عن إحضار المعنى الاستعمالي متشخصاً، لكنّهما خارجان عن محطّ البحث و الكلام في الظواهر لا في المجملات و المتشابهات.

و أمّا الثاني: أي السبب الذي يوجب تسمية ذلك الكشف ظنياً، فانّه يتلخص في الأُمور التالية:

1. لعلّ المتكلّم لم يستعمل اللفظ في أيّ معنى.

2. أو استعمل في المعنى المجازي و لم ينصب قرينة.

3. أو كان هازلاً في كلامه.

4. أو مورّياً في خطابه.

5. أو لاغياً فيما يلقيه.

6. أو أطلق العام و أراد الخاص.

7. أو أطلق المطلق و أراد المقيّد.

إلى غير ذلك من المحتملات التي توجب الاضطراب في كشف المراد

ص:131

الاستعمالي عن المراد الجدي على وجه القطع.

و لكن أُلفت نظر القارئ إلى أُمور ثلاثة لها دور في المقام:

1. انّ علاج هذه الاحتمالات ليس من وظائف الظواهر حتى يوصف كشف الظواهر عن المراد الجدي بالظنية، و ذلك لما عرفت من أنّ المطلوب من الظواهر ليس إلاّ شيء واحد و هو إحضار المعاني في ذهن المخاطب، و أمّا الاحتمالات المذكورة و كيفية دفعها فليس لها صلة بالظواهر حتى يوصف كشفها لأجلها بأنّه ظني.

2. انّ بعض هذه الاحتمالات موجودة في النصوص فيحتمل فيه كون المتكلم لاغياً، أو هازلاً، أو مورّياً أو متّقياً أو غير ذلك من الاحتمالات، مع ذلك نرى أنّهم يعدونها من القطعيات.

3. ثمّ إنّ القوم عالجوا هذه الاحتمالات بادّعاء وجود أُصول عقلائية دافعة لها، كأصالة كون المتكلّم في مقام الإفادة، لا الهزل و لا التمرين، بدافع نفسي، لا بدافع خارجي كالخوف و غيره.

و يدل على ما ذكرنا أيضاً انّ الحياة الاجتماعية مبنيّة على المفاهمة بالظواهر، ففي مجال المفاهمة و التفاهم بين الأُستاذ و التلميذ و البائع و المشتري و السائس و المسوس، عليه تدور الجمل حول ما يهمهما و يعتبر المخاطبُ دلالة كلام المتكلّم دلالة قطعية لا ظنية، إلاّ إذا كان هناك إبهام أو إجمال. أو جريان عادة على فصل الخاص و القيد عن الكلام.

و بذلك خرجنا بأن كشف الظواهر عن المراد الاستعمالي، بل المراد الجدي، على ما عرفت أخيراً في مجال المفاهمة، لا في مقام التقنين كشف قطعي و لا يُعرَّج إلى تلك الشكوك.

ص:132

الجهة الثانية: في تقيّد الحجّية بالظن

هل الظواهر متَّبعة مطلقاً سواء أفادت الظن بالمراد، أو هي حجّة بشرط عدم الظن بالخلاف، أو حجّة بشرط الظن بالوفاق، أو يفصل بين الظواهر الدائرة بين الموالي و العبيد، و التي تدور بين غيرهم فيشترط في الثاني الاطمئنان بالمراد؟ و الظاهر هو القول الأوّل، لبناء العقلاء على حجّيتها مطلقاً، بلا قيد و شرط، أمّا في ميدان الاحتجاج و التكليف، فيحتج المولى بظاهر كلامه و لا يقبل من العبد عدم حصول الظن بالوفاق، أو حصول الظن بالخلاف، إلاّ إذا استند إلى قرينة منفصلة، أو متصلة صالحة لصرف الظاهر عن ظاهره، فيخرج عن محلّ البحث، كما أنّ للعبد الاحتجاج على المولى بظاهر كلامه، بل لا ينقدح كما عرفت في أذهانهم احتمال إرادة خلاف الظاهر باحتمال انّه غفل عن نصب القرينة، أو غفل السامع عمّا نصبه، فلأجل ذلك لا يرد من سماعها إلى أذهانهم إلاّ معنى واحد.

الجهة الثالثة: حجّية الظواهر لمن قصد إفهامه و من لم يقصد

لا شكّ في حجّية ظاهر كلامه لمن قصد إفهامه و من لم يقصد، و الشاهد عليه الاحتجاج بالرسائل السرية بين الشخصين، حيث يُستدل بها على حسن نيّة الكاتب أو سوئها، كما يستدلون بالوصايا التي يخاطب فيها الموصي الوصيّ كالابن بالقيام بكذا و كذا، إلى غير ذلك من الظواهر التي أُريد منها تفهيم شخص خاص، و لكنّها تتخذ حجّة مطلقاً.

و قد خالف المحقّق القمّي، حيث فصّل بين من قصد افهامه بالظواهر فهي حجّة له بالخصوص، و من لم يقصد، فهي حجّة له من باب الظن المطلق، الذي

ص:133

ثبتت حجّيته بدليل الانسداد.

و حاصل هذا التفصيل انّ الظواهر حجّة من باب الظن الخاص في موردين:

ألف. إذ أُريد افهام شخص خاص كما في الخطابات الشفاهية فهي حجّة لمن قصد من هذا الباب.

ب. إذ لم يرد إفهام شخص خاص، بل إفهام كلِّ من رجع إليها، و هذا كالكتب المصنّفة و السّجلاّت و الأقارير و الوصايا ممّا يكون المقصود نفس مفاد الكلام من دون تعلّق غرض بمخاطب خاص.

و أمّا في غير هذين الموردين فالظواهر حجّة من باب الظن المطلق، و له أيضاً موردان:

ألف. الأسئلة و الأجوبة الدائرة بين الراوي و الإمام.

ب. الكتاب العزيز بالنسبة إلى المشافهين، بناء على اختصاص خطاباته بالمشافهين و عدم كونه من باب تأليف المؤلفين، فالظهور اللفظي ليس حجّة إلاّ من باب الظن المطلق.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم ذكر وجهاً لهذا التفصيل و حاصله:

إنّ المتكلّم لو كان بصدد إفهام شخص معين، أو إفهام كلِّ من رجع إلى كلامه كالكتب المصنفة، يتحتم عليه إلقاء الكلام على وجه لا يقع المخاطب الخاصُ أو العام في خلاف المراد، بحيث لو فرض وقوعه في خلاف المقصود كان إمّا لغفلة من المتكلّم في إلقاء الكلام على وجه يفي بالمراد، أو لغفلة من المخاطب في الالتفات إلى ما اكتنِف به الكلام الملقى إليه، و كلا الاحتمالين مرجوح في نفسه مع اتفاق العقلاء و العلماء على عدم الاعتناء باحتمال الغفلة في جميع أُمور

ص:134

العقلاء و أفعالهم و أقوالهم.

و أمّا إذا لم يكن الشخص مقصوداً بالإفهام، فلا ينحصر سبب وقوعه في خلاف المقصود بالأمرين، بل هناك سبب ثالث و هو انّه إذا لم نجد في آية أو رواية ما يكون صارفاً عن ظاهره، و احتملنا انّ المخاطب قد فهم المراد بقرينة قد اختفت علينا فلا يكون هذا الاحتمال لغفلة من المتكلّم إذ لا يجب على المتكلّم إلاّ نصب القرينة لمن يقصد إفهامه، كما أنّه ليس اختفاء القرينة مسبّباً عن غفلة الآخر، بل دواعي الاختفاء أمر خارج عن اختياره، فعندئذ لا يوجب الظنَّ بالمراد.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ جميع الاحتمالات التي تصدّنا عن الأخذ بالظواهر مرجوحة عند العقلاء، فكما أنّ غفلة المتكلّم عن نصب القرينة، أو غفلة المخاطب عن الالتفات إلى ما اكتُنف به الكلام من القرينة، أمر مرجوح، فهكذا احتمال وجود قرينة سابقة على الكلام أو قرينة حالية غير منقولة في الكلام، أمر مرجوح لا ينقدح في ذهن العقلاء.

نعم لو جرت سيرة المتكلّم على فصل القرائن عن الكلام، كما هو الحال بين المقنّنين، لزم على المخاطب الفحصُ عن القرائن، و العمل بالظواهر بعد اليأس عن الظفر بها.

و ثانياً: انّ الغرض من نقل الأسئلة و الأجوبة هو إفادة الغير و استفادته، فإذا كان الناقل عارفاً بأسلوب الكلام فلا يخلّ بذكر القرائن المؤثرة في انعقاد الظهور، فعدم ذكره ناش إمّا من عدم عرفانه بأسلوب النقل، أو كونه غير أمين، و الكلّ مندفع.

إن قلت: إنّ الأخبار الصادرة عن الأئمّة لم تصل إلينا إلاّ مقطعة بحيث كانت الأُصول الأوّلية التي اعتمد عليها أرباب الكتب الأربعة، على غير هذا

ص:135


1- الفرائد: 41، طبعة رحمة اللّه.

النحو، فعملية التبويب أوجبت التقطيع فمن المحتمل وجود قرينة مؤثرة في انعقاد الظهور و قد اختفت علينا بسبب التقطيع.

قلت: إنّ التقطيع حصل بأيدي أبطال الحديث كالكليني و الشيخ و غيرهما، فلو كانت في الكلام قرينة مؤثرة في انعقاد الظهور، لما تركوا نقلها.

و ربّما يجاب عن الشبهة بأنّ الأجوبة الصادرة عن الأئمّة ليست إلاّ كالكتب المؤلفة التي ذهب المحقّق القمي فيها إلى الحجّية بالنسبة إلى المشافه و غير المشافه، و ذلك لأنّ الأحكام لمّا كانت مشتركة بين الأُمّة يجري الخطاب الخاص مجرى الخطاب العام في أنّ الغرض نفس الكلام من غير دخل في إفهام مخاطب خاص.(1)

يلاحظ عليه: أنّ كون الحكم مشتركاً غير كون الخطاب مشتركاً و عاماً، و كون الحكم متوجهاً إلى الكلّ غير كون الخطاب متوجهاً إليهم، فإذا كانت الخطابات شخصية يأتي فيها ما احتمله المحقّق القمي من اعتماد المتكلّم على القرائن المنفصلة و المتصلة غير المنقولة أو الحالية غير القابلة للنقل.

و ربما يجاب بجواب ثان و هو: انّه إذا كان الراوي الأوّل مقصوداً بالخطاب للإمام يكون الراوي الثاني مقصوداً بالخطاب للراوي الأوّل، و هكذا إلى أن يصل إلى أصحاب الجوامع، فالمقصود بالإفهام هو كلّ من نظر فيها، فلا يترتب على ذلك التفصيل ثمرة عملية.(2)

و الحاصل: انّ هذه التفاصيل من الشبهة و الأجوبة نتيجة جعل الظواهر من الظنون، فلو كان مختار القوم ما ذكرنا لما كان لهذه البحوث محل.

ص:136


1- تهذيب الأُصول: 2/95.
2- مصباح الأُصول: 2/122.
الجهة الرابعة: في حجّية ظواهر الكتاب
اشارة

قد نقل عن بعض أصحابنا الأخباريين عدم حجّية ظواهر الكتاب، و هذه الدعوى ممّا يندى لها الجبين إذ كيف تكون المعجزة الكبرى للنبي) صلى الله عليه و آله و سلم (مسلوبة الحجّية؟! و على أيّة حال انّ الاقتصار في الاستنباط على السنّة دون الكتاب كانت بمثابة ردّ فعل لما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب انّه قال عند ما طلب النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (القلم و الدواة ليكتب كتاباً : حسبنا كتاب اللّه.(1)

و كلا القولين على طرفي الإفراط و التفريط.

و قبل الخوض في تحليل أدلّة الطرفين نحرر محلّ النزاع، فنقول:

المراد من حجّية ظواهر القرآن هو الاستفادة من عموماته و مطلقاته بعد الفحص عن القرائن العقلية أو اللفظية المتصلة أو الحالية المنقولة بخبر الثقة، خصوصاً الفحص عن مقيداته و مخصصاته في أحاديث العترة الطاهرة، فإذا تمّت هذه الأُمور يقع البحث في صحّة الاحتجاج بظواهر القرآن أوّلاً، و إلاّ فالاستدلال بظواهر القرآن مع قطع النظر عن جميع القرائن و الروايات أمر مرفوض بنفس الكتاب و السنّة قال سبحانه: (وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ).(2)

و اللّه سبحانه عرّف النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (بأنّه مبيّن للقرآن، و أمر الناس بالتفكّر فيه، فللرسول سهم في إفهام القرآن كما أنّ لتفكر الناس سهماً آخر، فبهذين الجناحين يُحلِّق الإنسان في سماء معارفه و يستفيد من حكمه و قوانينه.

ص:137


1- صحيح البخاري: 1/22، كتاب العلم; و ج 2/14.
2- النحل: 44.

هذا هو محلّ النزاع، فالأُصولي ذهب إلى وجوب الاستضاءة بنور القرآن فيما يدل عليه بظاهره، و الأخباري إلى المنع، و أنّ الاستدلال بالقرآن يتوقف على تفسير المعصوم، فيصح الاحتجاج بتفسيره لا بنصِّ القرآن.

إذا عرفت ذلك، فيدل على قول الأُصوليين أدلّة كثيرة.

الأوّل: دلالة القرآن على صحّة الاحتجاج به

قد دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية على أنّ القرآن نور، و النور بذاته ظاهر و مظهر لغيره، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً )(1). و في آية أُخرى: (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ) (2)فلو كان قوله: (وَ كِتابٌ مُبِينٌ ) عطف تفسير لما قبله، فيكون المراد من النور هو القرآن.

انّه سبحانه يصف القرآن بأنّه تبيان لكلّ شيء، و حاشا أن يكون تبياناً له و لا يكون تبياناً لنفسه: قال سبحانه: (وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ )(3). و قال سبحانه: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ).(4)

أ فيمكن أن يَهدِي من دون أن يكون المهتدي مستفيداً من هدايته؟! فإن قلت: إنّ الاستدلال بظواهر القرآن على حجّيتها دور واضح، فانّ الأخباري لا يقول بتلك المقالة.

ص:138


1- النساء: 174.
2- المائدة: 15.
3- النحل: 89.
4- الاسراء: 9.

قلت: إنّ الاحتجاج في المقام على حجّية القرآن إنّما هو بنصوصه لا بظواهره، و الأخباري إنّما يمنع حجّية ظواهره لا حجّية نصوصه.

الثاني: تحدّي النبي بالقرآن

إنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (تحدّى الناس بالقرآن، و التحدّي يتوقف على فهم الكتاب و دركه ثمّ مقايسته بالكتب الأُخرى ثمّ القضاء بأنّه فوق كلام البشر، و لا يخطو الإنسان هذه المراحل إلاّ إذا كان القرآن كلاماً مفهوماً و حجّة على المخاطب، فلو كان فهمُ القرآن منوطاً بتفسير الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (لزم منه الدور، فانّ ثبوت رسالته متوقف على إعجاز القرآن، و هو متوقف على فهمه، و فهمه متوقف على تفسيره، و تفسيره متوقف على حجّية قوله، و هو متوقف على ثبوت رسالته التي هي متوقفة على إعجاز القرآن.

على ذلك فليس فهم القرآن رهن تفسيره، غاية الأمر بما أنّ مقتضى التشريع فصل المخصِّصات و المقيِّدات عن المطلقات و العمومات فلا يحتج بها إلاّ بعد الرجوع إلى المقيّدات و المخصصات في السنَّة.

و قد فهم الوليد بصفاء ذهنه و صميم عربيته انّ بلاغة القرآن خارجة عن طوق القدرة البشرية و قال لماّ سمع آيات من سورة فصلت من الرسول الأعظم: لقد سمعت من محمّد كلاماً لا يُشبه كلام الإنس و لا كلام الجنّ، و إنّ له لحلاوة، و إنّ عليه لطلاوة، و إنّ أسفله لمغدق، و إنّ أعلاه لمثمر، و هو يعلو و لا يعلى عليه.(1)

فإن قلت: إنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (كان يتحدّى بنصوص القرآن لا بظواهره.

قلت: هذا إنّما يصحّ لو لم يتحدّ القرآن بكلّ الآيات، قال سبحانه:

ص:139


1- مجمع البيان: 5/387، ط صيدا.

(وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ )(1). و على هذا فالنبي تحدّى بكلّ سورة من سور القرآن دون فرق بين نصّه و ظاهره.

فإن قلت: يكفي في ثبوت رسالته سائر معاجزه، فإذا ثبتت نبوته بهذا، يكون قوله حجّة في تفسير كتابه و صحيفته.

قلت: إنّ معنى ذلك عدم صحّة التحدّي بالكتاب و هو مردود بنفس الكتاب العزيز.

و الحاصل: انّ تحدِّي النبي في صدر عصر الرسالة بنفس القرآن قبل أن تثبت رسالته و حجّية قوله، دليل على أنّ القرآن أمر مفهوم و حجّة على المخاطب في كشف مفاهيمه و حقائقه.

نعم لا يحيط بكلّ حقائق القرآن و شئونه سوى المعصوم، و لكن الإحاطة به من جميع الجهات شيء، و درك ما يتوقف عليه التصديق بإعجازه شيء آخر، و الأوّل يختص بالمعصوم دون الثاني.

و لك أن تستنتج من هذا البرهان الذي أُقيم على حجّية الظواهر، أمراً آخر له مساس بالجهة الأُولى من الجهات الأربع و هو انّه لو كانت دلالة الظواهر ظنّية، لزم أن يكون القرآن معجزة ظنية، لأنّ الإعجاز أمر قائم باللفظ و المعنى، فلو كان ما يفهمه من ظواهر آياته، مفهوماً ظنياً، يكون إعجازه مبنياً على أساس ظني، و النتيجة تابعة لأخسّ المقدمات، و الإعجاز الظني لا يكون عماداً للنبوة التي تطلب لنفسها دليلاً قطعياً.

ص:140


1- البقرة: 23.
الثالث: حديث الثقلين

قد تضافرت بل تواترت الروايات عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (على لزوم التمسّك بالثقلين و فسرهما بالكتاب و العترة و قال) صلى الله عليه و آله و سلم (:» إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، و عترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا «فجعل كلاً من الثقلين حجّة، و انّ كلاً يؤيد الآخر.

الرابع: الروايات التعليمية

هناك قسم عظيم من الروايات تحكي عن أنّ الأئمّة كانوا يحتجون بظواهر الكتاب على أصحابهم، و يعلمون كيفية استفادة الأحكام منها و يفسرونها لا تفسيراً تعبديّاً، بل تفسيراً تعليمياً، بمعنى انّ الإمام لا يتكلّم بما هو إمام، بل بما هو معلِّم يرشد إلى كيفية دلالة الآية على المقصود، بمعنى انّ الطرفين قد اتّفقا على كون الكتاب حجّة في حدّ ذاته، و يتحاوران في ما هو المقصود من الآية، فلولا انّ الكتاب حجّة لما كان لهذا النحو من التمسّك وجه، و إليك نماذج:

ألف: سأل زرارة أبا جعفر) عليه السلام (و قال: من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين؟ فقام الإمام بتفسير الآية على وجه تعليمي إرشادي إلى ما تدل عليه بلفظها، فقد استدل على كون المسح ببعض الرأس بلفظة» الباء «و على لزوم مسح بعض الرجلين دون غسلهما بوصل الرجلين بالرأس و كونه معطوفاً على الرأس.(1)

ب: سأل عبد الأعلى مولى آل سام أبا عبد اللّه) عليه السلام (عمّن عثر فوقع ظفره فجعل على اصبعه مرارة؟ فقال:» إنّ هذا و أشباهه يعرف من كتاب اللّه: (ما

ص:141


1- الوسائل: 1، الباب 23 من أبواب الوضوء، الحديث 1.

جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1)ثمّ قال: امسَح على المرارة «فأحال الإمام حكم المسح على اصبعه المغطّى بالمرارة، إلى الكتاب. و قد أوضح الشيخ الأعظم كيفية الاستفادة من الآية فلاحظ.(2)

ج: سأل زرارة و محمد بن مسلم أبا جعفر، عن وجوب القصر على المسافر مع أنّه سبحانه يقول: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (3)و لم يقل» افعلوا «فأجاب:» إنّ وزان الآية، وزان قوله سبحانه: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) (4)مع أنّ الطواف بهما واجب «.(5) فأرشد الإمام تلميذيه إلى أنّ الآيتين في مقام دفع توهم الحظر، لا في مقام بيان ما هو الحكم الشرعي فانّه يطلب من السنّة الشريفة.

د. روى عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (انّه شرب رجل الخمر على عهد أبي بكر، و ادّعى انّه حديث العهد بالإسلام و لو علم انّه حرام اجتنبها فانتهى الأمر إلى الإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (فقال:» ابعثوا معه من يدور به على مجالس المهاجرين و الأنصار، من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه «ففعلوا ذلك به، فلم يشهد عليه أحد انّه قرأ عليه آية التحريم فخُلّي سبيله.(6)

ه. سأل زرارة و محمد بن مسلم أبا جعفر) عليه السلام (، عن رجل صلّى في السفر أربعاً أ يعيد أم لا؟ قال:» إن كان قرئت عليه آية التقصير و فسرت أعاد أربعاً، و إن

ص:142


1- الحج: 78.
2- الوسائل: 1، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5; و لاحظ الفرائد: 47.
3- النساء: 101.
4- البقرة: 158.
5- الوسائل: الجزء 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
6- الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب حدّ المسكر، الحديث 1.

لم يكن قُرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه «(1)و المراد من التفسير هو انّ قوله سبحانه: (فَلا جُناحَ ) لدفع توهم الحظر و انّ الحكم يؤخذ من السنّة، أو المراد انّ تقيّد التقصير بالخوف مورديّ و حكم اللّه مطلق، و تقييد حجّية الآية بهذا النوع من التفسير لا يخل بالمقصود، لما قلنا عند تحرير محلّ النزاع، من أنّ المقصود هو التمسك بالقرآن بعد الرجوع إلى السنّة.

إلى غير ذلك من الروايات التي استدل فيها الإمام برهاناً أو جدلاً، فلاحظ.

الخامس: عرض الروايات المتعارضة على القرآن

قد تضافر عنهم) عليهم السلام (في مورد تعارض الروايات، لزوم عرضها على القرآن، فما وافق كتاب اللّه يؤخذ به، و ما خالف يضرب به عرض الجدار، فقال أبو عبد اللّه) عليه السلام (: قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» إنّ على كلّ حقّ حقيقة و على كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه و ما خالف كتاب اللّه فدعوه «.(2) و سيوافيك في محلّه، انّ موافقة الكتاب، ليست من المرجحات، بل من مميّزات الحجّة عن اللاحجّة.

السادس: عرض الشروط على كتاب اللّه

روى الكليني بسند صحيح، عن عبد اللّه بن سنان الثقة قال: سمعته يقول:» من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب اللّه فلا يجوز له و لا يجوز على الذي اشترط عليه، و المسلمون عند شروطهم ما وافق كتاب اللّه «و في رواية أُخرى:» المسلمون عند شروطهم إلاّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه عزّ و جلّ فلا يجوز «.(3)

ص:143


1- الوسائل: الجزء 5، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10; و لاحظ الحديث 11، 12، 14 إلى غير ذلك.
3- الوسائل: الجزء 12، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث 1 و 2; و لاحظ أحاديث الباب.
السابع: القرآن في حديث النبي الأعظم) صلى الله عليه و آله و سلم (

يعرف الرسول الأعظم بأنّ القرآن هو المرجع لدى التفاف الفتن بالأُمّة، قال) صلى الله عليه و آله و سلم (:

» إذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم، فعليكم بالقرآن، فانّه شافع مشفع، و ماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، و من جعله خلفه ساقه إلى النار، و هو الدليل يدل على خير سبيل، و هو كتاب فيه تفصيل، و بيان تحصيل، و هو الفصل ليس بالهزل «.(1)

و عنه صلوات اللّه عليه و آله في ذلك المضمار روايات نقلها الكليني في كتاب القرآن.

الثامن: القرآن في كلام الوصي) عليه السلام (

قال الإمام علي) عليه السلام (:» كتاب اللّه تبصرون به، و تنطقون به، و تسمعون به، و ينطق بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض «.(2)

و في كلام آخر:» و اعلموا انّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، و لا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم «.(3)

إلى غير ذلك من الروايات التي تدل بوضوح على لزوم الرجوع إليه في فهم العقيدة و الشريعة و انّه سبحانه ما أنزله للتلاوة فقط، بل للتلاوة التي يستعقبها التدبّر و التفكّر، ثمّ العبرة و الاعتبار، ثمّ العمل و التطبيق على الحياة.

إلى هنا تجلّت الحقيقة بأعلى مظاهرها و لم يبق إلاّ دراسة أدلّة الأخباريين

ص:144


1- الكافي: 2/238، و السند معتبر.
2- نهج البلاغة: الخطبة 133.
3- نهج البلاغة: الخطبة 167.

الذين نسب إليهم عدم حجّية ظواهر الكتاب إلاّ بعد تفسير الإمام، و هي وجوه أشار إليها في الكفاية:

1. اختصاص فهم القرآن بأهله

يظهر من مذاكرة الإمام أبا حنيفة و قتادة أنّ القرآن فوق فهمهما و انّه لا يفهم القرآن إلاّ من خوطب به.

1. روى شبيب بن أنس، عن بعض أصحاب أبي عبد اللّه) عليه السلام (في حديث أنّ أبا عبد اللّه) عليه السلام (قال لأبي حنيفة:

» أنت فقيه العراق؟ «قال: نعم، قال:» فبم تفتيهم؟ «قال: بكتاب اللّه و سنّة نبيّه. قال:» يا أبا حنيفة! تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته، و تعرف الناسخ و المنسوخ؟ «قال: نعم، قال:» يا أبا حنيفة لقد ادّعيت علماً ما جعل اللّه ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين أُنزل عليهم، ويلك، و لا هو إلاّ عند الخاص من ذريّة نبيّنا محمّد، و ما ورثك اللّه عن كتابه حرفاً «.(1)

و السند ضعيف، لعدم توثيق شبيب بن أنس الوارد فيه، و للإرسال في آخره، لكن ربّما يؤيد المضمون قوله سبحانه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (2)بناء على أنّ المراد من الكتاب هو القرآن، و من المصطفين هو أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (و من الوراثة هو فهمه، و الكلّ قابل للتأمل.

و على كلّ تقدير فالرواية تردّ على المستبدين بالقرآن الذين يفسّرونه و يفتون به من دون مراجعة إلى من نزل القرآن في بيوتهم حتى يعرفوا ناسخه و منسوخه،

ص:145


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.
2- فاطر: 32.

عامّه و مخصصه، مطلقه و مقيده، و أين هو من عمل أصحابنا؟! فإنّهم يحتجون به بعد الرجوع إليهم ثمّ الأخذ بمجموع ما يدل عليه الثقلان.

2. روى الكليني بسند يتصل إلى محمد بن سنان، عن زيد الشحام: دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر فقال:» يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ «فقال: هكذا يزعمون، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» بلغني انّك تفسّر القرآن؟ «فقال له قتادة: نعم! فقال له أبو جعفر بعد كلام:» إن كنت إنّما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و إن كنت قد فسرته عن الرجال فقد هلكت و أهلكت، ويحك يا قتادة! إنّما يعرف القرآن من خوطب به «.(1)

و السند ضعيف بمحمد بن سنان، و الحديث ناظر إلى الاستبداد بالقرآن من دون الرجوع إلى أئمّة أهل البيت، في معرفة ناسخه و مقيّده و مخصصه، و المراد من المعرفة هو المعرفة التامّة التي تكون حجّة على العارف.

2. احتواء القرآن على مضامين شامخة

القرآن مشتمل على مضامين شامخة و مطالب غامضة عالية لا تكاد تصل إليها أفكار أُولي الأنظار غير الراسخين في العلم.

يلاحظ عليه: أنّ احتواءه على تلك المضامين لا يمنع من الاحتجاج بظواهر الآيات التي هي بصدد بيان تكاليف العباد، و ما أُشير إليه من احتوائه على المضامين العالية يرجع إلى الآيات النازلة حول العقائد و القصص، أو يرجع إلى بطون الآيات، روى جابر قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» يا جابر! إنّ للقرآن بطناً، و للبطن ظهراً، و ليس شيء أبعد عن عقول الرجال منه «.(2)

ص:146


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 25.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 74.
3. الظواهر من المتشابهات

يقسم القرآن الكريم الآيات إلى محكم و متشابه، يقول سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ... ).(1)

فالآيات المتشابهة ممنوعة الاتباع، و الظواهر أمّا من المتشابهات قطعاً أو احتمالاً فلا يصحّ التمسّك بها.

يلاحظ عليه: انّ الظواهر من المحكمات، و المحكمات تنقسم إلى نصّ لا يقبل التأويل و يعدّ التأويل تناقضاً في الكلام، و ظاهر يقبله و يعد التأويل عملاً على خلاف الظاهر، و أمّا المتشابه فهو ما لم يستقر له الظهور أصلاً و لم يتبين المراد منه، و لأجل ذلك سمي متشابهاً لمتشابه المراد بغيره.

و قد اختلفت كلماتهم في تفسير المتشابهات، فالمعروف انّ المتشابهات هي الآيات المشعرة بتجسيمه سبحانه، أو كونه ذا جهة أو الجبر و سلب الاختيار عن الإنسان و ما يشبه ذلك ممّا ورد في المحكمات خلافها، ففي ظل القسم الثاني تحلّ عقده المتشابهات و ترجع إليها، و ذلك بالإمعان في الآية المتشابهة و ما قبلها و ما بعدها، و الإمعان في سائر الآيات الواردة في ذلك المجال فيتجلّى المراد بالإمعان و الدّقّة، و هذا مثل قوله سبحانه: (اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (2)و لا تعلم حقيقته إلاّ بملاحظة الآيات الواردة حول عرشه و استيلائه عليه، و أين هذه الآيات من الظواهر التي استقر ظهورها في المعنى، مثلاً قوله سبحانه: (وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ).(3)

ص:147


1- آل عمران: 7.
2- طه: 4.
3- الطلاق: 4.

فانّ ظاهر الآية انّ صاحبات الحمل لا يخرجن من العدة إلاّ بعد وضع أولادهن، و الآية و إن وردت في سورة الطلاق و لكن إطلاقها يعمّ المعتدة بعدّة الوفاة فلو مضى من موت الزوج أربعة أشهر و عشرة أيام فلا تخرج من العدّة إلاّ إذا وضعت حملها، فليست الآية متشابهة غير واضحة المراد و إنّما الكلام في وجود الإطلاق و عدمه، أي في سعة الآية و ضيقها.

على أنّ هناك رأياً آخر في تفسير المتشابه، و هو: انّ المتشابه عبارة عن الآيات الراجعة إلى حقيقة البرزخ و المعاد و الجن و الملك ممّا لا يمكن الإحاطة بكنهه إلاّ بعد الخروج عن دار التكليف، مثلاً انّ قوله سبحانه: (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ) (1)من الآيات المتشابهة التي لا يقف الإنسان على حقيقتها ما دام في دار المجاز.

فلو كان المتشابه هو هذا فلا صلة له بالآيات الواضحة الدلالة و المداليل كأكثر ما ورد في العبادات و المعاملات.

4. العلم الإجمالي بالتخصيص و التقييد

انّا نعلم انّ عمومات القرآن و مطلقاته خصّصت و قيدت بمخصصات و مقيّدات، و مع العلم الإجمالي بطروء التصرف في دلالاتها كيف يمكن التمسّك بظواهرها؟ يلاحظ عليه: أنّ العلم الإجمالي يبعث المجتهد إلى الفحص عن المخصصات و المقيدات الواردة في الكتب الأربعة و غيرها من الكتب المعتبرة، فإذا فحص عنها فحصاً كاملاً و عثر على عدّة منها و احتمل انطباق المعلوم بالإجمال على ما حصّله بالتفصيل، لم يبق له علم إجمالي بوجود المخصصات و المقيدات

ص:148


1- الصافات: 6564.

الصادرة من أئمّة أهل البيت، غاية الأمر يحتمل وجودها في الواقع غير واصلة إليه، و من المعلوم عدم جواز رفع اليد عن الدليل باحتمال التخصيص.

و الحاصل: انّ المستنبط بعد الفحص إمّا يقطع بأنّ المعلوم بالإجمال هو المعلوم بالتفصيل من المخصِّصات و المقيّدات لا غير، و إمّا يحتمل انطباقه على ما حصله، و على كلتا الصورتين لا يبقى علم إجمالي بوجود المخصص وراء ما وقف عليه، غاية الأمر يحتمله.

5. الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي

إنّ حمل الكلام الظاهر في معنى، على أنّ المتكلّم أراد هذا، تفسير له بالرأي.

أقول: روي عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (أنّه قال:» من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار «.(1)

فالاستدلال بهذا الحديث المتضافر على أنّ حمل الظاهر في معنى، على أنّه المراد، من قبيل التفسير بالرأي، استدلال غير تام، و ذلك لأنّ» التفسير بالرأي «مركبة من لفظين:

1. التفسير.

2. الرأي.

أمّا الأوّل: فهو مأخوذ من» فسّر «المشتق بالاشتقاق الكبير من» السفر «و هو الكشف و الظهور، يقال:

أسفر الصبح: إذا ظهر، و أسفرت المرأة عن وجهها: إذا كشفته.

ص:149


1- راجع الوسائل 18 الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 76; و لاحظ 66 و 67 و 78 و بقية أحاديث الباب....

و أمّا الثاني:» الرأي «فهو بمعنى الميل إلى أحد الجانبين و ترجيحه اعتماداً على الظن الذي لم يدل عليه دليل، يقول الراغب: الرأي: اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن، و يؤيده إضافته إلى الشخص أي » برأيه «.

و قد ورد في بعض الروايات مكان الرأي» بغير علم «:» من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار «. و يوضحه قول أبي جعفر) عليه السلام (:» من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم، و من دان اللّه بما لا يعلم فقد ضاد اللّه حيث أحلّ و حرم فيما لا يعلم «.(1) و في رواية أُخرى عن علي) عليه السلام (في كلام له:

» انّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه و لكن آتاه عن ربّه فأخذ به «.(2)

إذا عرفت معنى التفسير أوّلاً، ثمّ الرأي ثانياً، نقول: إنّ حمل الظاهر في معنى، على أنّه مراد المتكلّم، ليس من مقولة التفسير، إذ ليس هنا أمر مستور كشف عنه، فالاستدلال بإطلاق الظاهر أو عمومه، ليس تفسيراً، و رافعاً لإبهامه بل هو من قبيل تطبيق الظاهر على مصاديقه، و التفسير عبارة عن كشف القناع عن وجه الآية، كالغطاء الموجود في الصلاة الوسطى في قوله سبحانه: (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى ) (3)فتفسيرها بواحدة منها، تفسير و مثله قوله: (وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) (4)فانّ الآية قد أحاطها الإبهام من وجوه، و لعلّها أبهم آية وردت في القرآن الكريم، و لم يتسنّ لأحد من المفسّرين كشف قناعها و إن حاولوا لأن يقفوا على مغزاها، إذ فيها إبهامات:

ص:150


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12 و 14; و لاحظ الحديث 21، 28، 30، 33، 34، 35، 50.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12 و 14; و لاحظ الحديث 21، 28، 30، 33، 34، 35، 50.
3- البقرة: 238.
4- النمل: 82.

1. ما هو المراد من وقوع القول عليهم؟ فيفسر باستحقاقهم العذاب، لما في الآية 85 من هذه السورة من قوله سبحانه: (وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ) فهذا تفسير الآية بالآية، و كشف الغطاء عنها بالاستعانة بالقرآن، فلو فسره من عند نفسه لا اعتماداً على آية، و لا سنّة، و لا من حجّة أُخرى كان تفسيراً بالرأي، و الذي يؤيد ذاك التفسير و انّ المراد هو استحقاقهم العقاب ذيل الآية، أعني قوله سبحانه: (أَنَّ النّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) فالمعنى: لأنّ الناس كانوا غير موقنين بآياتنا.

2. ما هو المراد من قوله: (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ )؟ ما هو المراد من الدابة؟ و ما صفتها؟ و كيف تخرج؟ و ما ذا تتكلم به؟ فالآية يغمرها الإبهام فوق الإبهام، فكشف القناع عن وجه كلّ واحد هو التفسير.

فإذا لم يكن حمل الظاهر في معنى على أنّه المراد تفسيراً للآية، يكون بالنسبة إلى الجزء الآخر ) برأيه (أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

6. دعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف من الكتاب

هذا آخر الوجوه التي اعتمد عليها الأخباري، و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجوه بعد تسليم التحريف:

1. التحريف لا يمنع عن حجّية ظواهره، لأنّ الإسقاط لا يلازم حدوث الخلل في آياته.

2. و لو سلم، فلا نعلم حدوثه في آيات الأحكام التي هي مورد الابتلاء للفقيه.

3. و دعوى العلم الإجمالي بوقوع الخلل إمّا في آيات الأحكام، أو في غيرها، غير ضائر بحجّية آيات الأحكام، لعدم منجزية مثل ذاك العلم لعدم إحداثه

ص:151

التكليف على كلّ تقدير، لأنّ الأثر الشرعي) الحجّية (لا يترتّب على سائر الآيات التي لا تحمل حكماً شرعياً، مع أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ تقدير، فالآيات الواردة في مجال القصص و العقائد و المعارف ليست بحجّة بمعنى، لا توصف بالتنجّز و التعذير.

أقول: كان المتوخّى من مثل المحقّق الخراساني هو الوقوف في وجه هذه الفرية التي تمسّ بكرامة القرآن و التشيّع، وقفة لائقة بحالها حتى يكشف الغطاء عن وجه الحقيقة، و يترك هذه الأجوبة.

ترى أنّه خصّ حجّية القرآن بآيات الأحكام، مع أنّ جميع آياته من أقوى الحجج و أكبرها، و توهم انّ الحجّية بمعنى التنجيز و التعذير من خصائص آيات الأحكام، غير تام، فانّها حجّة في باب الأعمال، كما أنّ ما نزل حول العقائد و المعارف حجّة في مجال الاعتقاد، فما جاء في الكتاب العزيز هو الحجّة في باب المعاد، أصله و وصفه، فمن لم يعتقد به أو بوصفه فقد خالف الحجّة المنجزة.

و بما انّ أعداء الإسلام و التشيع، اتخذوا فرية التحريف أداة للهجوم على المسلمين أو الشيعة; و قد كفانا في ذلك، ما حقّقه علماؤنا الأبرار عبر الزمان، و فيما كتبه الشيخ البلاغي في» آلاء الرحمن «و السيد الخوئي في» البيان «و العلاّمة الطباطبائي في» الميزان «في سورة الحجر و المحقّق المعاصر محمد هادي معرفة في كتاب» صيانة القرآن عن التحريف «غنى و كفاية، و قد أفرد شيخنا في تفنيد هذه التهمة رسالة طبعت في مقدمة موسوعة طبقات الفقهاء(1)، و لذلك طوينا الكلام من ذلك.

ص:152


1- مصادر الفقه الإسلامي: 36 78.

الحجج الشرعية 2 قول اللغوي

اشارة

كان البحث السابق حول حجّية الظواهر بعد ثبوت الظهور و قد تبين انّه من الأُمور المفيدة للقطع بالمراد الاستعمالي على المختار أو من الظنون المعتبرة عند العقلاء.

و حان حين البحث عن حجّية الأدوات التي تثبت الظهور عند الشكّ في أصله.

اعلم أنّ الشكّ في أصل الظهور يتصوّر على وجوه:

1. احتمال وجود قرينة حالية خفيت علينا أو سقطت من الكلام، فهل المرجع هو أصالة عدم القرينة؟ أو أصالة الظهور؟ يظهر من المحقّق الخراساني انّ المرجع هو الثاني، لأنّ العقلاء يحملون اللفظ على المعنى الذي كان اللفظ ظاهراً فيه لو لا القرينة، من دون استعانة بشيء لا أنّهم يبنون عليها بعد الاستعانة بأصالة القرينة.

و لا يخفى خفاء المراد من قولهم:» أصالة الظهور «فلو كان المراد هو لزوم الأخذ بالظاهر ما لم يدل دليل على خلافه، فهو صحيح، لكن لا صلة له بالمقام إذ الكلام في وجود الظهور و عدمه.

2. احتمال قرينية الأمر الموجود، كورود الأمر بعد الحظر، فهل هو للوجوب أو لرفع الحظر؟ و الجمل المتعقب بالاستثناء فهل يرجع إلى الأخير وحدها؟ أو إلى الجميع؟ أو فيه تفصيل؟ فإن قلنا انّ المرجع هو أصالة الحقيقة أو عدم القرينة

ص:153

و انّهما أصلان تعبديان فيحمل الأمر على الوجوب، و الجمل غير الأخيرة على العموم، و أمّا لو قلنا بأنّ المرجع هو أصالة الظهور، أي حمل الكلام على ما هو ظاهر فيه، فيكون الكلام مجملاً لعدم الظهور العرفي.

3. و إن كان الشكّ في ظهور هيئات الجمل، كهيئة الجمل الاسمية و الفعلية، أو هيئة الجمل الشرطية، أو الوصفية، و هيئة الأمر و النهي، فالمرجع هو علم المعاني، و لكنّ الأُصوليين أدخلوا قسماً من هذه البحوث في علم الأُصول لمدخليتها في الغرض.

4. و إن كان الشكّ في ظهور المفردات، فإن كان الشكّ في هيئتها كاسم الفاعل و المفعول و الصفة المشبهة و اسم المبالغة، فالمرجع هو علم الصرف حيث يبحث عن وضع أسماء الفاعلين و المفعولين.

5. و لو تعلّق بمادة المفردات، فقد تقدّم انّ المرجع هو التبادر، و عدم صحّة السلب و الاطراد.

و هل هنا مرجع آخر و هو قول اللغوي أو لا؟ فلو أفاد قوله» الظن «و قلنا بحجّيته بالخصوص يكون من قبيل الظن الخاص، ذهب الشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني إلى عدم حجّيته، و إن عدل الأوّل عن كلامه في هامش الفرائد عدولاً نسبيّاً كما سيوافيك.

و على فرض كونه حجّة، فهل هو حجة من باب الشهادة، أو من باب الخبرويّة؟ فلو قلنا بأنّ تشخيص المعاني الحقيقية من المجازية من الأُمور الحسية، التي لا يحتاج إلى إعمال النظر و الفكر، فتكون حجّية قوله من باب الشهادة فيعتبر فيه ما هو المعتبر فيها من العدالة و التعدّد.

و إن قلنا بأنّها من الأُمور التي تتوقف على إعمال النظر و الرأي و الاجتهاد، فتكون حجّيته من باب حجّية قول أهل الخبرة، فلا يعتبر فيه واحد من الأمرين،

ص:154

نعم يعتبر فيه الوثوق و الاطمئنان على قول.

ذهب المحقّق الخوئي إلى القول الأوّل، و قال: بأنّ تعيين معاني الألفاظ من قبيل الأُمور الحسية التي لا دخل للنظر و الرأي فيها، لأنّ اللغوي ينقلها على ما وجده من الاستعمالات و المحاورات، و ليس له إعمال النظر و الرأي، فيكون داخلاً في باب الشهادة فتعتبر فيه العدالة و التعدّد على قول المشهور.(1)

يلاحظ عليه: أنّه) قدس سره (قصر النظر على أصحاب المعاجم المتأخرين المرتزقين من المعاجم الأُمّ، فليس لهم شأن إلاّ ما ذكر فيها، و أمّا أصحاب المعاجم الأوائل، كالعين للخليل، و الجمهرة لابن دريد، و المقاييس لابن فارس، و الصحاح للجوهري، و أساس اللغة للزمخشري، و اللسان لابن منظور، فعملهم مزيج بالحدس و إعمال النظر، و يشهد لذلك، استشهادهم بالآيات و الأحاديث النبوية و أشعار الشعراء حيث يُعيّنون موارد الاستعمال بفضل الإمعان فيها.

إنّ تعيين مواضع استعمال الألفاظ فضلاً عن تعيين معانيها و أوضاعها أمر عسير لا يحصل إلاّ بالدقة و الإمعان، و من طالع المقاييس لابن فارس أو أساس اللغة للزمخشري أو اللسان لابن منظور يقف على الجهود التي بذلوها لتبيين مفاهيم الألفاظ و موارد استعمالها، فالشكّ في أنّ أخبارهم كأخبار أهل الخبرة في غير محله، و أمّا انّهم أهل خبرة في تعيين مواضع الاستعمال أو الأوضاع فسيوافيك بيانه.

و بالجملة استخراج المعاني بفضل الآيات و الروايات و أشعار الشعراء و كلمات العرب يحتاج إلى لطف في القريحة و دقة في الكلام، و قد سئل الأصمعي عن معنى الألمعيّ فأنشد الشعر:

الألمعي الذي يظنُّ بك الظنَّ كأن رأى و قد سمعا

ص:155


1- مصباح الأُصول: 1/131.

فانّ الانتقال إلى معنى الألمعي من هذا البيت، لا ينفك عن الدقة حيث إنّ الموصول وصلته تفسير للمبتدإ و كثير من الناس ربما يسمعون هذا البيت و لا ينتقلون إلى ما انتقل إليه ذلك الأديب.

أضف إلى ذلك انّ قسماً منهم قد قضى عمره في البادية ليعرف مواضع الاستعمال عن كثب، و انّ المتبادر هل هو مقرون بالقرينة أو لا؟ كلّ ذلك لا ينفك عن الاجتهاد و اعمال النظر، و ليس مثل رؤية الهلال التي لا تتوقف على شيء سوى فتح العين و النظر إلى السماء.

فتعيّن انّه لو قلنا بحجّية قول اللغوي فإنّما نقول به من باب أهل الخبرة.

فنقول: استدل على حجّية قوله بعد كون الأصل عدم حجّية قوله بوجوه:

الوجه الأوّل: إجماع العلماء على الرجوع إليهم في تفسير القرآن و الحديث، فلا تجد فقيهاً أو محدثاً إلاّ و يستند إلى أقوال أهل اللغة.

يلاحظ عليه: بما أورد عليه المحقّق الخراساني من أنّه ليس كاشفاً عن دليل تعبّدي وصل إليهم لم يصل إلينا، لاحتمال انّهم استندوا في عملهم على بناء العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة، و أهل اللغة منهم، فيكون الإجماع مدركياً.

الوجه الثاني: سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة، و هذا كما في الأروش و الجنايات، و غيرهما، و أهل اللغة، من خبراء تشخيص المعاني الحقيقية و المجازية، و هذا الدليل هو الدليل المهم.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين:

1. انّ المتيقن من الرجوع إلى رأي أهل الخبرة هو كونه مفيداً للوثوق، و لا يحصل وثوق بالأوضاع عن قول اللغوي.

2. انّه ليس من أهل الخبرة، لأنّ المطلوب هو تشخيص المعاني الحقيقية عن

ص:156

المجازية ليُحْمل اللفظ عند التجرّد عن القرينة عليه، و لكنّ همَّ اللغوي ينحصر في بيان موارد الاستعمال لا تعيين الحقيقة و المجاز، و ليس ذكره أوّلاً دليلاً على كونه المعنى الحقيقي.

يلاحظ على الوجه الأوّل: أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة لأجل انسداد الطريق إلى الواقع، فلا طريق إلى تعيين الأرش في باب المعيب، و مقدار الغبن في البيع الغبني، و حدّ الجناية، إلاّ قول أهل الخبرة، فقولهم حجّة سواء أفاد الوثوق أو لا، و نظيره الرجوع إلى قول الرجالي في تمييز الثقات عن غيرهم، أو الرجوع إلى المجتهد في تعيين الوظائف، فالكلّ من هذا الباب، و ربما لا يفيد قولهم الظن فضلاً عن الوثوق.

و الحاصل: انّ انسداد الطريق جرّ العقلاء إلى إفاضة الحجّية على قول الخبير، لقطع النزاع و تحصيل المقاصد، و تقييد الرجوع بإفادته الظن الشخصيّ فاقد للدليل.

و يلاحظ على الثاني بوجهين:

أوّلاً: أنّ معاجم اللغة على قسمين قسم ألّف لبيان المعاني الأوّلية للألفاظ و إراءة كيفية اشتقاق سائر المعاني من المعنى الأصلي، بحيث تكون أكثر المعاني صوراً مختلفة لمعنى أصلي، و قد ألّف في هذا المضمار المقاييس لابن فارس، و أساس اللغة للزمخشري، فالمراجع إلى الكتابين يقف على المعنى الأصلي و المعاني الفرعية المشتقة من المعاني الأصلية، ثمّ المعاني المجازية.

و ثانياً: أنّ الأُنس بمعاجم اللغة، يخلق في الإنسان قوّة أدبية، يميز بها المعنى الحقيقي للّفظ عن المعنى المجازي، و المراد في المقام عن غيره على وجه يثق بما استخرجه، و لكنّه رهن الأُنس بكتب اللغة و مطالعتها، كمطالعة سائر الكتب و الرجوع إليها في مشكلات القرآن و الحديث و الأدب طول سنين.

ص:157

فنقول: فقول اللغوي على هذا و إن لم يكن حجّة، لكن الرجوع إلى معاجم معدودة أُلّفت بيد فطاحل اللغة، يورث الوثوق بمعنى اللفظ عند التجرّد عن القرينة، فلا محيص عن الرجوع بتلك الغاية، نعم على هذا لا يكون قول اللغوي حجّة و لكن يكون الرجوع إلى المعاجم ذات أهمية كبيرة.

ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ أورد على السيرة بعدم حجّيتها لعدم وجودها في زمن المعصومين) عليهم السلام (، لأنّ الرجوع إلى كتب اللغويين أمر حادث بعدهم.(1)

يلاحظ عليه بأمرين:

أوّلاً: أنّه إذا أطبق العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة، و كان الرجوع بمرأى و مسمع من الشارع، كفى ذلك في تصحيح الرجوع إلى أهل اللغة و إن لم يكن المصداق موجوداً في عصرهم، و إلاّ يلزم عدم حجّية رأيهم في المصاديق الجديدة في باب المعاملات و الجنايات و هو كما ترى.

ثانياً: أنّ تاريخ الأدب العربي يكشف عن وجود السيرة في صدر الرسالة، و قد كان ابن عباس مرجعاً في تفسير غريب اللغة و قد سأله نافع بن الأزرق عن لغات القرآن ما يربو على مائة و سبعين مورداً، فأجاب على الجميع مستشهداً بشعر العرب، و قد نقل الجميع السيوطي في إتقانه، و كان يقول: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فانّ الشعر ديوان العرب.(2)

أضف إليه انّ الأجانب كانوا يتعلمون معاني الألفاظ و مفاهيمها من أهل اللغة، فحجّية رأي أهل اللسان في بيان معاني الألفاظ، يوجب حجّية قول اللغوي خصوصاً إذا كان من أهل اللسان.

الوجه الثالث: ما أشار إليه الشيخ الأنصاري من انسداد باب العلم

ص:158


1- تهذيب الأُصول: 2/97.
2- الإتقان: 4161/382.

بتفاصيل المعاني بحيث يعلم بدخول المشكوك أو خروجه و إن كان المعنى معلوماً في الجملة و إلى ذلك أشار الشيخ الأنصاري بقوله: و الإنصاف انّ موارد الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها و إن كان المعنى في الجملة معلوماً من دون مراجعة اللغوي كما في مثل ألفاظ الوطن و المفازة، و التمر، و الفاكهة و الكنز و المعدن و الغوص و غير ذلك من متعلقات الأحكام ممّا لا تحصى، و إن لم يكن الكثرة بحيث يوجب التوقف فيها محذوراً.(1)

و قد أورد عليه المحقّق الخراساني ما هذا حاصله: من أنّ الانسداد الصغير لا يثبت حجّية قول اللغوي، و ذلك لأنّ باب العلم و العلمي للأحكام الشرعية التي يهمّ المجتهد إمّا مفتوح أو مسدود، فعلى الأوّل، لا وجه لحجّية الظن الحاصل من قول اللغوي، و إن حصل منه الظن بالحكم الشرعي، لفرض انفتاح باب العلم بالأحكام، و على الثاني، يكون الظن على الإطلاق حجّة إذا وقع في طريق الاستنباط و منه الظن الحاصل من قول اللغوي، و إن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد.(2)

يلاحظ على الشقّ الأوّل: بأنّ فرض انفتاح باب العلم و العلمي في جميع الأحكام الشرعية، يلازم حجّية قول اللغوي في الموارد التي يتوقف استنباط الأحكام على فهم التفاصيل و إلاّ فيكون فرض الانفتاح في جميع الأحكام فرضاً باطلاً، لأنّ قسماً من الأحكام لا يعلم إلاّ من طريق قول اللغوي، فكيف يكون باب العلم و العلمي مفتوحاً في عامة الأحكام الشرعية، مع عدم حجّية قول اللغوي الذي يتوقف عليه استنباط بعض الأحكام؟!

ص:159


1- الفرائد: 47.
2- في كلام الشيخ الأنصاري أيضاً إشارة إلى هذا الإشكال فلا تغفل.

الحجج الشرعية 3 الإجماع المنقول بخبر الواحد

اشارة

إنّ الأصل الأوّلي فيما يمكن الاحتجاج به عدم الحجّية إلاّ إذا قام الدليل القطعي على حجّيته، و قد عرفت خروج الأمرين عن تحت ذلك الأصل: أ. الظواهر، ب. قول اللغوي على التفصيل الذي مضى.

و مما قيل بخروجه عن تحت ذلك الأصل هو إجماع العلماء على حكم شرعي إذا نقل بخبر الواحد، و طبع البحث يقتضي ثبوت أمرين قبل الخوض في هذه المسألة:

الأوّل: حجية الإجماع المحصل لنفس الناقل حتى يُبحث عن حجّيته للغير إذا نقل إليه.

الثاني: حجّية خبر الواحد في نقل الحجج.

لكن العلمين الأنصاري و الخراساني بحثوا عن الإجماع المحصل في خلال البحث عن الإجماع المنقول و أخّروا البحث عن حجّية خبر الواحد، و نحن نقتفيهما و لكن بتفاوت يسير، و هو إنّا نعقد لكلّ من الإجماعين بحثاً مستقلاً، فنقول:

المقام الأوّل: حجية الإجماع المحصل
اشارة

الإجماع لغة هو العزم ففي الحديث» من لم يُجْمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له «.(1)

ص:160


1- جامع الأُصول: 7/186.

و في الذكر الحكيم عند سرده لقصة يوسف: (فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ) (1)و أمّا الاتفاق فإنّما يفهم من ذكر المتعلّق، يقال: أجمع القوم على كذا أي اتفقوا، قال سبحانه:

(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ).(2)

و أمّا اصطلاحاً فقد عرّف بتعاريف، و بما انّ ملاك حجّيته عند السنّة غير ملاكها عند الشيعة، نطرح كلاً بوجه مستقل، فنقول:

الإجماع المحصّل عند أهل السنّة

عرّفه الغزالي بقوله: إنّه اتفاق أُمّة محمّد) صلى الله عليه و آله و سلم (بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي.(3)

و على هذا التعريف لا يكفي اتّفاق أهل الحلّ و العقد و لا المجتهدين بل يجب اتّفاق جميع المسلمين، و هذا ما لا ينطبق إلاّ على الضروريات و إن كان أكثر انطباقاً لما أقاموا من الدليل من عصمة الأُمّة، و مع ذلك أعرض عنه أكثر أهل السنّة، فعرّفوه بالنحو التالي:

اتّفاق أهل الحلّ و العقد على حكم من الأحكام، أو اتّفاق المجتهدين من أُمّة محمّد في عصر على أمر، إلى غير ذلك من التعاريف.

و المهم في المقام هو الوقوف على وجه حجّية الإجماع عند أهل السنة، و هذا هو الذي نطرحه فيما يلي:

ص:161


1- يوسف: 15.
2- يونس: 71.
3- المستصفى: 1/110.
مكانة الإجماع في الفقه السنّي

قد عرفت أنّ الإجماع بما هو إجماع ليس من أدوات التشريع و مصادره، و انّ حجّيته تكمن في كشفه عن الحكم الواقعي المكتوب على الناس قبل إجماع المجتهدين و بعده.

و أمّا على القول باختصاص الحكم الواقعي المشترك بما ورد فيه النص عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (، و ترك التكليف فيما سواه إلى اجتهاد المجتهد، فيصير الإجماع من مصادر التشريع، فيعادل الكتاب و السنّة في إضفاء المشروعية على الحكم المتفق عليه، و يصير بالاتفاق حكماً واقعياًً إلهياً.

و يوضحه الأُستاذ السوري» وهبة الزحيلي «بقوله: و نوع المستند في رأي الأكثر، إمّا دليل قطعي من قرآن أو سنّة متواترة، فيكون الإجماع مؤيّداً و معاضداً له; و إمّا دليل ظني و هو خبر الواحد و القياس، فيرتقي الحكم حينئذ من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع و اليقين.(1)

و معنى ذلك انّه لا بدّ أن يكون للإجماع من دليل ظني، فإذا اتّفق المجتهدون على الحكم و لو لأجل ذلك الدليل الظني يصبح الحكم قطعيّاً، و ما ذاك إلاّ لأجل دوران الحكم مدار الاتفاق و عدمه.

يقول الشيخ عبد الوهاب خلاّف: من حقّق النظر في منشأ فكرة الإجماع في التشريع الإسلامي، و في كيفية الإجماع الذي انعقد في أوّل مرحلة تشريعية بعد عهد الرسول، و في تقدير المجمعين لمن عقد عليه إجماعهم من الأحكام، يتحقّق أنّ الإجماع أخصب مصدر تشريعي يكفل تجدّد التشريع و تستطيع به الأُمّة أن تواجه كلّ ما يقع فيها من حوادث، و ما يحدث لها من وقائع، و أن تساير به الأزمان

ص:162


1- الوجيز في أُصول الفقه: 49.

و مختلف المصالح في مختلف البيئات.

ثمّ قاس فكرة الإجماع بالشورى و قال: و منشأ فكرة الإجماع انّ الإسلام أساسه في تدبير شئون المسلمين، الشورى، و أنْ لايستبد أُولي الأمر منهم بتدبير شئونهم سواء أ كانت تشريعية، أم سياسية، أم اقتصادية، أم إدارية أم غيرها من الشئون، قال اللّه تعالى مخاطباً رسوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ )(1)، و لم يخص سبحانه بالمشاورة أمراً دون أمر... ليشعرهم أنّ الشورى من عمد دينهم كإقامة الصلاة.

و على هذا الأساس كان الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (يستشير رءوس صحابته في الأُمور التي لم ينزل وحي من ربِّه، و مما كان يستشيرهم فيه التشريع فيما لم ينزل فيه قرآن إلى أن قال: فلمّا توفّي رسول اللّه و واجهت أصحابه وقائع عديدة لم ينزل فيها قرآن و لم تمض فيها من الرسول سنّة سلكوا السبيل الذي أرشدهم إليه القرآن و هو الشورى، و الذي سلكه الرسول فيما لم ينزل فيه قرآن و هو الشورى.

إلى أن استنتج في كلامه المسهب ما هذا نصّه: و من هنا يتبيّن أنّ إجماع الصحابة ما كان إلاّ اتّفاق من أمكن اجتماعهم من رءوسهم و خيارهم على حكم واقعة لم يرد نص بحكمها، و أنّ الذي دعاهم إلى اتّباع هذا السبيل هو العمل بالشورى التي أوجبها اللّه و سار عليها الرسول، و تنظيم اجتهاد الأفراد فيما لا نصّ فيه، فبدلاً من أن يستقل كلّ فرد من خيارهم بالاجتهاد في هذه الوقائع اجتمعوا و تشاوروا و تبادلوا الآراء، و الخليفة ينفذ الحكم الذي اتّفقوا عليه.(2)

و لا يخفى ما في كلمات الأُستاذ من الخلط.

أمّا أوّلاً: فقد تضافرت الآيات القرآنية على أنّ التشريع حقّ مختص باللّه

ص:163


1- آل عمران: 159.
2- مصادر التشريع الإسلامي: 167166.

تبارك و تعالى، و أنّ كلّ تشريع لم يكن بإذنه فهو افتراء على اللّه و بدعة، و ليس على الناس إلاّ الحكم بما أنزل اللّه، و من حكم بغيره فهو كافر و ظالم و فاسق.(1)

قال سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ ).(2)

و مع هذا التصريح فكيف يكون للبشر الخاطئ غير الواقف على المصالح و المفاسد حقّ التشريع على الإنسان على وجه يكون نافذاً، إلى يوم البعث؟! نفترض أنّ لفيفاً من الصحابة بذلوا جهوداً فوصلوا إلى أنّ المصلحة تكمن في أن يكون حكم الواقعة هو هذا، أ فهل يكون إجماعهم على ذلك الحكم دون أن يكون مستمداً من كتاب أو سنّة حجّة على البشر إلى يوم القيامة، لو لم نقل انّ اتّفاقهم على الحكم عندئذ بدعة و افتراء على اللّه؟! و ثانياً: أنّ عطف الإجماع على المشورة من الغرائب، فإنّ النبي كان يستشير أصحابه في الموضوعات العرفيّة التي ليس للشارع فيها حكم شرعي، و إنّما ترك حكمها إلى الظروف و الملابسات و إلى الناس أنفسهم، حتى نجد انّ أكثر مشاورات النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (كانت تتم في كيفية القتال و الذبّ عن حياض الإسلام.

فهذا هو رسول اللّه يشاور المسلمين في غزوة بدر قبل اصطدامهم بالمشركين، و قال: أشيروا عليّ أيّها الناس، و كأنّه) صلى الله عليه و آله و سلم (يريد أن يقف على رأي أصحابه في السير إلى الأمام و قتال المشركين، أو الرجوع إلى الوراء، و لم يكن في المقام أيّ حكم مجهول حاول النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (أن يستكشفه عن طريق المشاورة، و كم فرق بين المشاورة في الموضوعات العرفية و المشاورة لكشف حكم شرعي منوط بالوحي؟

ص:164


1- راجع سورة المائدة: الآيات: 44 و 45 و 47.
2- الأنعام: 57.

و هذه هي مشاورته الثانية في معركة أُحد حيث شاور أصحابه، ليقف على كيفية مجابهة المشركين و أُسلوب الدفاع عن الإسلام فأدلوا بآرائهم، فمن طائفة تصرّ على أن لا يخرج المسلمون من المدينة و يدافعوا عنها متحصنين بها، إلى أُخرى ترى ضرورة مجابهة المشركين خارج المدينة.(1)

إلى غير ذلك من مشاوراته المنقولة في كتب التاريخ كمشاورته في معركة الأحزاب و غيرها.

و من تتبع المشاورات التي أجراها النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (مع أصحابه في التاريخ يقف على حقيقة، و هي: انّنا لا نكاد نعثر على وثيقة تاريخية تثبت أنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (شاورهم في أُمور الدين و الفتيا، بل كانت تلك المشاورات تتم في أُمور الدنيا و لما فيه صلاح أُمورهم.

أدلّة عدِّ الإجماع من مصادر التشريع

ثمّ إنّك بعد الوقوف على ما ذكرنا من أنّ الإجماع ليس من مصادر التشريع، و إنّما العبرة فيه قابلية كشفه عن الواقع و إصابته، و هذا يختلف باختلاف مراتب الإجماع كما سبق في غنى عن البرهنة على حجّية الإجماع، و إنّما يقوم به من رأى أنّ نفس الإجماع بما هو إجماع من مصادر التشريع، فاستدلوا بآيات:

الأُولى: قوله سبحانه: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ....

الآية الأُولى: قوله سبحانه: (وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً ).(2)

ص:165


1- مغازي الواقدي: 1/211.
2- النساء: 115.

و هذه الآية هي التي تمسّك بها الشافعي على حجّية الإجماع في رسالته أُصول الفقه.

و وجه الاستدلال: هو انّ اللّه يعد اتّباع غير سبيل المؤمنين نوعاً من مشاقّة اللّه و رسوله، و جعلَ جزاءهما واحداً و هو الوعيد حيث قال: (نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ ) فإذا كانت مشاقّة اللّه و رسوله حراماً كان اتباعُ غير سبيل المؤمنين حراماً مثله، و لو لم يكن حراماً لما اتحدا في الجزاء، فإذا حرم اتّباع غير سبيلهم فاتباع سبيلهم واجب، إذ لا واسطة بينهما، و يلزم من وجوبِ اتباع سبيلهم كونُ الإجماع حجّة، لأنّ سبيل الشخص ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد.(1)

يلاحظ على الاستدلال بوجوه:

الأوّل: انّ الامعانَ في الآية يُرشدنا إلى أنّ ثمة طائفتين:

الأُولى: من يشاقق الرسول و يعانِدُه و يتّبع سبيل الكافرين فاللّه سبحانه يولّيه ما تولّى و يصله جهنم.

الثانية: من يحبُّ الرسول و يتّبع سبيل المؤمنين فيعامل معه على خلاف الطائفة الأُولى.

ثمّ إنّ سبيل الكافرين عبارة عن عدم الإيمان به و معاندته و محاربته، و سبيل المؤمنين على ضدّ سبيلهم، فهم يؤمنون به و يحبّونه، و ينصرونه في سبيل أهدافه.

فاللّه سبحانه يذمُّ الطائفةَ الأُولى و يمدح الطائفةَ الثانية، و عندئذ أيُّ صلة للآية بحجّية اتفاق المجتهدين في مسألة من المسائل الفرعية؟ و بعبارة أُخرى: يجب علينا إمعان النظر في قوله سبحانه: (وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) بُغية تبيين سبيل المؤمن و الكافر، فسبيل الأوّل هو الإيمان باللّه

ص:166


1- أُصول الفقه الإسلامي: 1/540.

و إطاعة الرسول و مناصرته، و سبيل الآخر هو الكفر باللّه و معاداة الرسول و مشاقته.

و هذا هو المستفاد من الآية و أمّا الزائد على ذلك فالآية ساكتة عنه.

الثاني: انّ الموضوع في الآية مركب من أمرين:

أ. معاداة الرسول.

ب. سلوك غير سبيل المؤمنين.

فجعل للأمرين جزاءً واحداً و هو إصلاءه النار، و بما انّ معاداة الرسول وحدها كاف في الجزاء، و هذا يكشف عن أنّ المعطوف عبارة أُخرى عن المعطوف عليه، و المراد من اتباع غير سبيل المؤمنين هو شقاق الرسول و معاداته و ليس أمراً ثانياً; فما ذكره المستدل من أنّ سبيل الشخص، هو ما يختاره من القول و الفعل، و إن كان في نفسه صحيحاً، لكنّه أجنبي عن مفاد الآية فانّ المراد منه فيها، مناصرة الرسول و معاضدته.

الثالث: انّ اضفاء الحجّية على اقتفاء سبيل المؤمنين في عصر الرسول لأجل انّ سبيلهم هو سبيل الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (فلا يستفاد منه حجّية مطلق سبيل المؤمنين بعد مفارقته عنهم.

الثانية: آية الوسط

قال سبحانه: (وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ).(1)

وجه الاستدلال: أنّ الوسطَ من كلّ شيء خياره، فيكون تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأُمّة، فإذا أقدموا على شيء من المحظورات، لما وُصِفُوا بالخيرية،

ص:167


1- البقرة: 143.

فيكون قولهم حجّة.(1)

يلاحظ على الاستدلال: أوّلاً: انّ» الوسط «بمعنى العدل، فالآية تصف الأُمّة الإسلامية بالوسطيّة، إمّا لأنّهم أُمّة متوسطة بين اليهود المفرّطين في حقّ الأنبياء حيث قتلوا أنبياءهم، و النصارى الغلاة في حقّهم حتى اتّخذوا المسيح إلهاً، أو انّهم أُمّة متوسطة بين اليهود المكبَّة على الدنيا، و النصارى المعرضة عنها لأجل الرهبانية المبتدعة، و أيّ صلة لهذا المعنى بحجّية رأي الأُمّة في مسألة فقهية؟ ثانياً: نفترض انّ الأُمّة الإسلامية خيار الأُمم و أفضلها لكنّه لا يدل على أنّهم عدول لا يعصون، و لا يدل على أنّهم معصومون لا يخطئون، و المطلوب في المقام هو إثبات عصمة الأُمّة، كعصمة القرآن و النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (حتى يكون ما أجمعوا عليه دليلاً قطعيّاً، مثلَ ما ينطِقُ به الكتابُ و النبيّ الأعظم) صلى الله عليه و آله و سلم (و الآية لا تدل على عصمتهم.

و كون خبر العادل حجّة، غير كون الإجماع حجّة، فإنّ الحجّة في الأوّل بمعنى كونه منجِّزاً إنْ أصاب، و معذِّراً إنْ أخطأ، لا كونه مصيباً للواقع على كلّ حال، و هذا بخلاف كون الإجماع حجّة فإنّ معناه بحكم عصمة الأُمّة انّه مصيب للواقع بل نفسه و الحكم قطعي.

ثالثاً: انّ وصف الأُمّة جميعاً، بالخيار و العدل، مجاز قطعاً، فإنّ بين الأُمّة من بلغ من الصلاح و الرشاد إلى درجة يُستدرّ بهم الغمام، و من بلغ في الشقاء أعلى درجته فخضّب الأرض بدماء الصالحين و المؤمنين، و مع ذلك كيف تكون الأُمّة بلا استثناء خياراً و عدلاً، و تكون بعامّة أفرادها شهداء على سائر الأُمم، مع أنّ كثيراً منهم لا تقبل شهادتُهم في الدنيا فكيف في الآخرة؟!

ص:168


1- أُصول الفقه الإسلامي: 1/540.

يقول الإمام الصادق) عليه السلام (في تفسير الآية:» فإن ظننت انّ اللّه عنى بهذه الآية جميعَ أهل القبلة من الموحّدين، أ فترى أنّ من لا تجوز شهادتُه في الدنيا على صاع من تمر، تُطلب شهادتُه يوم القيامة و تقبل منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟! «.(1)

و هذا دليل على أنّ الوسطيّة وصف لعدّة منهم، و لمّا كان الموصوفون بالوسطيّة جزءاً من الأُمّة الإسلامية صحّت نسبة وصفهم، إلى الجميع نظير قوله سبحانه: (وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) (2)فقد وصف عامّة بني إسرائيل بكونهم ملوكاً، مع أنّ البعض منهم كان ملكاً.

و إذا كانت الوسطيّة لعدّة منهم دون الجميع، يكون هم الشهداء يوم القيامة لا جميع الأُمّة و إنّما نسب إلى الجميع مجازاً.

إلى هنا تمّ تحليل أدلّة أهل السنّة على حجّية الإجماع المحصّل.

حجّية الإجماع حسب أُصول الإمامية

أمّا الشيعة فالمعروف عندهم من الطرق هو أمران:

1. استكشاف قول المعصوم بالملازمة العقلية) قاعدة اللطف (.

2. استكشاف قوله) عليه السلام (بالملازمة العادية) قاعدة الحدس (.

هذان الوجهان هما المعروفان، و أمّا استكشاف قوله عن طريق الدخول فهو يختص بعصر الحضور، و إليك تحليل الوجهين:

ص:169


1- البرهان: 1/160.
2- المائدة: 20.
1. استكشاف قوله) عليه السلام (بقاعدة اللطف

و حاصل تقريره: أن يستكشف عقلاً رأي الإمام) عليه السلام (من اتّفاق من عداه من العلماء على حكم، و عدم ردّهم عنه، نظراً إلى قاعدة اللطف التي لأجلها وجب على اللّه نصب الحجّة المتصف بالعلم و العصمة، فانّ من أعظم فوائده، حفظ الحقّ و تمييزه من الباطل كي لا يضيع بخفائه و يرتفع عن أهله أو يشتبه بغيره، و تلقينهم طريقاً يتمكن العلماء و غيرهم من الوصول به إليه و منعهم و تثبيطهم عن الباطل أوّلا، أو ردهم عنه إذا أجمعوا عليه.(1)

و ممن ذهب إلى اعتبار الإجماع من هذه الجهة، الشيخ الكراجكي قال: كثيراً ما يقول المخالفون: إذا كنتم قد وجدتم السبيل إلى علم تحتاجونه من الفتاوى المحفوظة عن الأئمّة المتقدّمين، فقد استغنيتم بذلك عن إمام الزمان، فأجاب إلى فائدة وجوده أيضاً بأنّه يكون من وراء العلماء، و شاهداً لأحوالهم عالماً بأخبارهم، إن غلطوا هداهم، أو نسوا ذكرهم.(2)

و ممن أيّد هذه القاعدة المحقّق الداماد، قال: و من ضروب الانتفاعات أن يكون حافظاً لأحكامهم الدينية على وجه الأرض عند تشعّب آرائهم، و اختلاف أهوائهم، و مستنداً لحجّية إجماع أهل الحلّ و العقد، فانّه عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف لا يتفرّد بقول، بل من الرحمة أن يكون من المجتهدين من يوافق رأيه رأي إمام عصره و صاحب أمره، يطابق قوله قوله.

و قد نقل عن شريف العلماء انّه قال: فانّ وجود الإمام في زمن الغيبة لطف قطعاً، و من ذلك حفظ الشريعة و ردّ المجمعين على الباطل و إرشادهم إلى

ص:170


1- كشف القناع: 114.
2- كشف القناع: 145.

الحقّ.(1)

هذا و قد نقل المحقّق التستري كلمات كثير من العلماء القدامى و المتأخرين و استظهر من عباراتهم أنّها تنطبق على الاعتماد على قاعدة اللطف، و مع ذلك فهي غير تامّة لوجوه:

الأوّل: انّ هنا أُموراً ثلاثة:

1. انّ وجود الإمام لطف إمّا لأنّه العلّة الغائية للكون، فانّ العالم خلق للإنسان الكامل، و الإمام من أظهر مصاديقه، و لو لا الغاية لساخت الأرض بأهلها، و إمّا لأنّ اعتقاد المكلّفين بوجود امام و تجويز إنفاذ حكمه عليهم في كلّ وقت سبب لردعهم عن الفساد و قربهم إلى الصلاح، و عاملاً لتوحيد حكمتهم و استعدادهم لنصرته لدى الظهور.

2. تصرّفه لطف آخر لأنّه بتصرفه يحفظ الشرائع و يصونها عن الزيادة و النقصان، و يبعث الرعية إلى الصلاح، و يصدّها عن الفساد، و يخلق اجواء و ظروفاً ثقافية، تكون الرعية فيها أقرب إلى الطاعة و أبعد عن المعصية إلى غير ذلك من فوائد لتصرفه.

فاللطف الأوّل لازم وجوده لا يعدم، بخلاف اللطف الثاني فهو رهن استعداد في الرعية، و استعدادها لنصرته، و قبول أوامره و امتثال قوله.

3. حرمان الأُمّة من اللطف الثاني مستند إليهم، لا إلى اللّه و لا إلى الإمام، و ذلك لأنّهم إذا لم يقوموا بوظيفتهم و أرادت الأكثرية مخالفته أو اغتياله، يختفي منهم و يكون حرمانهم من ألطافه و تصرفاته مستنداً إلى شقائهم لا إلى اللّه و لا إلى الإمام.(2)

ص:171


1- كشف القناع: 148.
2- كشف المراد: قسم الإلهيات: 183.

و بعبارة أُخرى: إذا كانت الرعيّة هي السبب لاختفائه فهي السبب لحرمانها من فيوضه و إرشاداته التي منها، التعرّف بالأحكام و معرفة صحيحها عن سقيمها، فليس خفاء بعض التكاليف، بأهمّ من سائر ألطافه، فما هو المجوّز لحرمانهم منها، هو المسوّغ له أيضاً، و على هذا، المصالح التي اقتضت غيبة الإمام و أوجبت حرمان الناس من الفيوض المعنوية، هي التي اقتضت حرمان الناس عن معرفة الحكم الصحيح عن الباطل، و ليس هذا النوع من الحرمان بأعلى من سائر أقسامه.

الثاني: انّ المتمسكين باللطف يرون كفاية إظهار الخلاف و لو بلسان واحد من علماء العصر، و لكن لسائل أن يسأل و يقول: أيّة فائدة تترتب على هداية واحد من أفراد الأُمّة و ترك الجميع في التيه و الضلالة، و لو وجب اللطف لكان عليه هداية الجميع أو الأكثرين، لا الفرد الشاذ النادر، نعم لا يتلقى الجيل الآتي ذلك الاتّفاق إجماعاً لوجود المخالف و هذا ليس إلاّ لطفاً نسبياً، لا مطلقاً؟ الثالث: انّ حال الغيبة لا يفترق حال الحضور، فكما يجوز كتمان بعض الحقائق لخوف أو تقيّة أو غير ذلك من المصالح، فهكذا يجوز حال الغيبة خصوصاً في المسائل التي لا تمسّ الحاجة إليها إلاّ نادراً.

و قد صرّح المرتضى في كتاب الشافي بذلك و قال: إنّ أمير المؤمنين) عليه السلام (كان منذ قبض اللّه نبيّه في حال تقية و مداراة و انّه لما أفضى الأمر إليه لم تفارقه التقية.(1)

و من هنا ظهر مدى صحّة كشف قول المعصوم بالإجماع، ففي الإجماع التشرفي، المتحقّق هو ذات المكشوف و هو قول المعصوم، دون الكاشف، و ادعاء الإجماع غطاء عليه، لئلا يكذب و استكشاف قوله) عليه السلام (عن هذا الطريق يختص بالأوحدي من العلماء.

ص:172


1- كشف القناع: 149، نقلاً عن الشافي.

و في الإجماع الدخولي، يوجد الكاشف و المكشوف، لكنّه يختص بزمان الحضور، و لا يعمّ حال الغيبة.

و استكشاف قوله) عليه السلام (عن طريق قاعدة اللطف غير تامّ من جهة عدم الملازمة العقلية بين الاتفاق و قول الإمام. و إن شئت قلت: بين الكاشف و المنكشف، إذ لا دليل على لزوم إظهار الحقّ و إيجاد الخلاف بين العلماء إذا كان الناس بأنفسهم هم السبب لخفائه، فقاعدة اللطف قاعدة تامة في الحدّ الذي أوعزنا إليه، لا في المقام.

2. الإجماع الحدسي أو الملازمة العادية

و المراد منه حدس قول المعصوم عن طريق اتفاق المجمعين بادّعاء الملازمة العادية بين اتّفاقهم و قول المعصوم، فخرج بقولنا:» حدس قول المعصوم «الإجماع التشرّفي و الدخوليّ، لأنّ المدّعي يصل إليه فيهما عن طريق الحس، كما خرج بقوله:» الملازمة العادية «، كشف قول المعصوم عن طريق قاعدة اللطف، فانّها لو تمّت في المقام لدلّت على وجود الملازمة العقلية بين سكوت الإمام و موافقته لما اتّفقوا عليه.

ثمّ إنّه يقرر كشف قول المعصوم بالحدس بوجوه:

1. تراكم الظنون مورث لليقين

إنّ فتوى كلّ فقيه و إن كان يفيد الظن و لو بأدنى مرتبته إلاّ أنّه يتقوّى بفتوى فقيه ثان، فثالث، إلى أن يحصل للإنسان اليقين من إفتاء جماعة بموافقة القطع بالصحة، إذ من البعيد أن يتطرّق البطلان إلى فتوى جماعة كثيرين.

و هذا الوجه كان موجوداً في كلام القدماء، حتى أنّ السيّد المرتضى أشكل

ص:173

عليه بما سنذكره، و ذكر هذا الوجه المحقّق التستري في كشف القناع تحت عنوان الوجه السادس، و نقله المحقّق النائيني و قال: قيل إنّ حجّيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حدّ يوجب القطع بالحكم كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر.(1)

و أورد عليه المرتضى بما هذا حاصله: نحن إذا جوزنا الخطأ على كلّ واحد فقد جوزنا الخطأ على مجموعهم.

يلاحظ عليه: أنّ حكم المجموع غير حكم الآحاد، و هو أمر واضح، فرجل واحد لا يستطيع أن يرفع الجسم الثقيل، بخلاف المجموع من الرجال.

و الأولى أن يجاب عن الاستدلال بالنحو التالي: و هو وجود الفرق بين الخبر المتواتر، و المقام بوجهين:

الأوّل: انّ كلّ واحد من المخبرين في الخبر المتواتر، يدعي القطع بالرواية مثلاً، فتحصل من ادعاء كلّ فرد القطع بالرؤية، مرتبة في الظن، و يأتي حديث تراكم الظنون المنتهي إلى القطع، بخلاف المقام، فإنّ كلّ فقيه لا يصدر عن القطع، بل أكثرهم يصدر عن الدليل الظني فكلّ يقول: أظن أنّ الحكم كذلك. و من المعلوم انّه لا يحصل من ادعاء الظن مهما تراكم، القطع بالحكم إلاّ نادراً.

الثاني: وجود الفرق بين الخبر المتواتر، و الإجماع المحصّل، فإنّ كلّ مخبر في الأوّل يخبر عن حس، و الاشتباه في الحس قليل، و احتمال تعمّد الكذب مردود بالوثاقة و العدالة، بخلاف المقام فإنّ كلّ واحد من أصحاب الفتوى يخبر عن حدس، و الاشتباه في المسائل العقلية ليس بقليل.

ص:174


1- فوائد الأُصول: 3/150.
2. كشفه عن وجود الدليل المعتبر

إنّ اتّفاق العلماء يكشف عن وجود دليل معتبر وصل إليهم و لم يصل إلينا، و هذا هو الذي اعتمد عليه صاحب الفصول و قال: يُستكشف قول المعصوم أو عن دليل معتبر، باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمّة في الأحكام و طريقتهم التحرّز عن القول بالرأي و الاستحسان.

و اعتمد عليه المحقّق النائيني و عدّه من أحسن الوجوه.

و أورد عليه السيد المحقّق الخوئي: انّه يحتمل أن يعتمدوا على قاعدة باطلة أو أصل مردود.(1)

يلاحظ عليه: أنّ دراسة تاريخ الفقه إلى عصر الشيخ يعرب عن أنّ الفقهاء كانوا لا يصدرون إلاّ عن الروايات و النصوص لا على القواعد، و هذا ظاهر لمن راجعَ الفقه الرضوي، و هو إمّا نفس كتاب التكليف للشلمغاني، أو رسالة علي بن بابويه إلى ابنه الصدوق، أو راجعَ كتابي المقنع و الهداية للصدوق، و المقنعة للشيخ المفيد، و النهاية للطوسي، و هذه الكتب كلّها فقه منصوص مقابل الفقه المستنبط، نعم لا يمكن الاعتماد على انتصار المرتضى و ناصرياته، و لا على كتاب الإيضاح للفضل بن شاذان المتوفّى عام 260 ه لاعتمادهما على الأُصول و القواعد، و لا على كتاب المبسوط للشيخ الطوسي، لأنّ أكثرها فقه مستنبط، استخرجه الشيخ من القواعد.

نعم يرد على هذا الوجه ما ذكره السيد الأُستاذ: من أنّه من البعيد أن يقف الكليني و الصدوق و المفيد و الشيخ و من بعدهما على رواية متقنة دالّة على المقصود، و أفتوا بمضمونه، و مع ذلك لا يذكرونه في جوامعهم.(2)

ص:175


1- سيوافيك تفصيله عند البحث عن الشهرة الفتوائية فانتظر.
2- تهذيب الأُصول:: 2/100.

و ما أوردنا عليه في الدورة السابقة من أنّ أصحاب الكتب الأربعة لم يحيطوا بجميع الأخبار، بشهادة أنّ الشيخ الحرّ العاملي استدرك عليهم بتأليف كتاب وسائل الشيعة، ليس بتام، إذ ليس الكلام في الإحاطة و عدمها، بل الكلام في أنّه من البعيد أن يقف أصحاب الجوامع على خبر، و يفتوا بمضمونه، و لا ينقلوه، و أين هذا من إحاطتهم بجميع الأخبار و عدمها؟

3. كشفه عن شهرة الحكم عند أصحاب الأئمّة

إنّ اتّفاق المرءوسين المنقادين على شيء يكشف عن رضا الرئيس، فإذا رأينا اتّفاق موظفي دائرة على تكريم شخص خاص، يستكشف، أنّ هذا بإشارة منه خصوصاً إذا تكرر التكريم.(1)

و هذا أمر جميل إذا كانت الصلة بين الرئيس و المرءوس موجودة كما في عصر الحضور، و لذلك كان أصحاب أئمّة أهل البيت يتركون ما سمعوه من الإمام شفهياً، و يأخذون بقول ما اتّفق عليه أصحابه، و قد استفتى عبد اللّه بن محرز أبا عبد اللّه عن رجل مات و ترك ابنة و قال: إنّ لي عصبة بالشام، فأفتى الإمام بدفع نصفها إليها و النصف الآخر إلى العصبة، فلمّا قدم الكوفة أخبر أصحاب الإمام فلمّا سمعوا قالوا: اتقاك و المال كلّه للابنة.(2)

و على هذا فالشهرة الفتوائية عند قدماء الأصحاب في عصر الغيبة يكشف عن كون الحكم مشهوراً بين الأصحاب في زمان الأئمّة، و يدل على ذلك أنّ في الفقه الشيعي مسائل كثيرة ليس لها دليل سوى الشهرة، و لعلّ قسماً من أحكام الفرائض من هذا القبيل، كان السيد المحقّق البروجردي يقول: إنّ في الفقه مئات

ص:176


1- فوائد الأُصول: 3/149; درر الأُصول: 2/372.
2- الوسائل: 17، الباب 4 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديث 3.

من المسائل ليس لها دليل في الكتاب و السنّة و لكنّ الأصحاب تلقّوها بالقبول، و هذا يكشف عن ثبوت الحكم في الشريعة المطهرة و معروفيته لدى الأئمّة.

و هذا هو الذي اعتمد عليه السيد الإمام الخميني و لعلّه الأظهر.

تمّ الكلام عن الإجماع المحصّل، و حان حين البحث عن الإجماع المنقول.

المقام الثاني: في حجّية الإجماع المنقول
اشارة

إذا نُقِل الإجماعُ بخبر الثقة فهل هو حجّة للمنقول إليه أو لا؟ فيقع الكلام تارة في الثبوت، أي مقدار دلالة لفظ الناقل، و أُخرى في الإثبات أي حجّية نقله. و إليك الكلام فيهما:

الأوّل: في بيان مقدار الدلالة

يختلف تعبير الناقل في مقام النقل و بذلك يختلف مدلوله حسب نقل السبب أو المسبب أو كليهما، و إليك صوره:

1. أن ينقل السبب و المسبب كليهما عن حس، كما في الإجماع الدخولي.

2. أن ينقل السبب عن حس، و المسبب عن حدس، مثالهما: إذا قال أجمع جميع الأُمّة من المعصوم و غيره و أمّا كون المسبب منقولاً بالحس أو بالحدس فإنّما يعلم من مسلك ناقل الإجماع، و الغالب هو الثاني.

3. أن ينقل السبب عن حس مجرّداً عن المسبب، إمّا تصريحاً كما إذا قال: إجماعاً من غير المعصوم، أو انصرافاً كما إذا قال: أجمع عليه الأصحاب، لكن يكون ملازماً مع المسبب عادة على المسالك الثلاثة ) تراكم الظنون، أو الكشف عن الخبر، أو عن اشتهار الحكم بين أصحاب الأئمّة (.

4. إذا نقل السبب عن حس، لكن لم يكن ملازماً لقول المعصوم، كما إذا

ص:177

وقف على أقوال محدودة فزعم اتّفاق الباقين معهم عن حدس.

5. إذا كان نقل السبب فضلاً عن المسبب عن حدس، كما إذا استكشف رأيهم من اتّفاقهم على قاعدة، يكون المورد من مصاديقه، و سيوافيك مثاله عند دراسة الإجماعات المنقولة في الكتب الفقهية، هذه هي الصور المتصورة في المقام، و لا طريق إلى استكشاف واحدة منها إلاّ لفظ الناقل، فتارة يكون صريحاً فيها و أُخرى ظاهراً و ثالثة مجملاً.

الموضع الثاني: في بيان ما هو الحجّة منه

إذا عرفت اختلاف ألفاظ الناقلين للإجماع في مقام الحكاية، فقبل بيان أحكام الصور يجب التنبيه على أمر و هو: انّه لا إشكال في حجّية القسم الأوّل، كما سيأتي إنّما الكلام في حجّية القسم الثاني، حيث ينقل المسبب عن حدس، فهل تشمله الأدلّة؟ إنّ الدليل الوحيد على حجّية الخبر الواحد هو بناء العقلاء، و هو مختص بما إذا كان المخبر به أمراً حسيّاً أو كانت مقدماته القريبة أُموراً حسيّة، كالاخبار عن العدالة النفسانية إذا شاهد منه التورّع عن المعاصي، أو الإخبار عن الشجاعة، إذا شاهد قتاله مع الأبطال في ساحة القتال، و أمّا إذا كان المخبر به أمراً حدسياً محضاً و لم تكن مقدماته قريبة من الحس، فليست هناك سيرة عقلائية بلزوم الأخذ بخبره، إذا عرفت هذا، فلنرجع إلى بيان أحكامه.

أمّا الصورة الأُولى: أي إذا نقل السبب و المسبب عن حس، فهو و إن كان يتضمن قول المعصوم، لكنّه إنّما ينفع في عصر الحضور لا في زمان الغيبة، فانّ أساس هذا النوع من الادّعاء يرجع إلى الإجماع الدخولي المختص بعصر الحضور.

أمّا الصورة الثانية: إذا كان نقل السبب عن حس، لكن المسبب عن

ص:178

حدس معتمداً على القاعدة العقلية أعني قاعدة اللطف، فلا شكّ أنّه ليس بحجّة للمنقول إليه، لما عرفت من اختصاص حجّية خبر الواحد بما إذا كان المخبر به أو مقدماته القريبة أمراً حسيّاً، و ليس المقام كذلك، لأنّ استكشاف قول المعصوم من الاتّفاق مبني على الحدس و الاستدلال.

أمّا الصورة الثالثة: إذا كان نقل السبب عن حس، الملازم لقول المعصوم عند المنقول إليه ملازمة عادية أو اتّفاقية، فلا شكّ في كونه حجّة، إذ لا فرق بين نقل قول المعصوم بالدلالة التضمنية كما في الصورتين الأُولتين أو بالالتزامية، كما في المقام، إلاّ أنّ الكلام في وجود الصغرى و انّ الناقل تتبع أقوال العلماء إلى حدّ يلازم قول المعصوم، حتى يكون ملازماً لقوله عادة، و سيوافيك تساهل نقلة الإجماع في نقله.

أمّا الصورة الرابعة: إذا نقل السبب عن حس لا يكون ملازماً لقول المعصوم، كما إذا وقف على أقوال عدّة من العلماء فأذعن باتّفاق الكلّ عن حدس و ادّعى الإجماع، فليس بحجّة لعدم الملازمة. اللّهمّ إلاّ أن يضيف المنقول إليه، أقوال الآخرين حتى يحصل عنده السبب التامّ الكاشف عن قول المعصوم.

أمّا الصورة الخامسة: إذا نقل السبب فضلاً عن المسبب عن حدس، كما إذا حاول استكشاف أقوال العلماء من اتّفاقهم على القاعدة، فليس بحجّة عند الناقل فضلاً عن المنقول إليه.

فتلخص من هذا البحث، عدم حجّية الإجماع المنقول إلاّ في الصورة الأُولى، و اختصاصه بعصر الحضور، و الصورة الثالثة، لكنّه قليل الوجود، لأنّ التساهل في نقل الإجماع قد خيّم على أكثر الإجماعات المنقولة في الكتب الفقهية و قلّما يتّفق للفقيه أنْ يتبع كلمات الأوائل و الأواخر حتى تجتمع عنده أقوال الفقهاء إلى حدّ يلازم عادة قول المعصوم.

ص:179

و لأجل إثبات وجود التساهل في نوع الإجماعات المنقولة نذكر بعض ما ذكره الشيخ الأنصاري في المقام و إنْ أهمله المحقّق الخراساني و ما يرتبط بتعارض الإجماعات المنقولة و ثبوت التواتر بالنقل و ذلك في ضمن أُمور.

الأوّل: تقييم الإجماعات الواردة في كتب القدماء

قد عرفت أنّ ما هو المفيد من نقل السبب ما يكون ملازماً عادياً لقول الإمام بأحد الوجوه الثلاثة، إنّما الكلام في انطباقه على الإجماعات الواردة في كتب الأقطاب الخمسة الذين ملأت كتبهم دعوى الإجماع على المسائل المعنونة فيها كالمفيد، و المرتضى، و الطوسي، و الحلبي صاحب الغنية، و الحلّي صاحب السرائر قدّس اللّه أسرارهم.

إنّ الامعان في كتبهم يثبت أنّ ادّعاءهم الإجماع لم يكن على أساس تتبع الأقوال في كتب الأصحاب، بل كانوا يعتمدون في استنباط فتوى الكلّ من اتّفاقهم على العمل بالأُمور التالية:

1. وجود الأصل العملي في المسألة مع افتراض عدم الدليل.

2. عموم دليل في المسألة مع عدم وجدان المخصص.

3. وجود خبر معتبر في المسألة عند عدم وجدان المعارض.

4. اتّفاقهم على مسألة أُصولية، يستلزم القولُ بها، الحكمَ في المسألة المفروضة.

و غير ذلك من الأُمور التي صارت سبباً لنسبة الحكم إلى الأصحاب و ادّعائهم الإجماع.

و الشاهد على ذلك أُمور:

ص:180

أ: وجود الإجماعات المتعارضة من شخص واحد، أو من معاصرين أو متقاربي العصر، أو الرجوع عن الفتوى الذي ادّعى عليه الإجماع.

ب: دعوى الإجماع في المسائل غير المعنونة في كلام من تقدّم على المدّعي.

ج: دعوى الإجماع في المسائل التي اشتهر خلافها في زمان المدّعي و بعده.

كلّ ذلك يشهد على أنّ الأساس لدعوى الإجماع هو أحد الأُمور الآنفة الذكر.

و قد نبه بما ذكرنا جمع من الأصحاب.

1. الشهيد الأوّل، فانّه أوّل من أوّل الإجماعات الواردة في كلمات الأصحاب بوجوه مذكورة في المعالم، منها إرادة الإجماع على نقل الرواية و تدوينها في كتب الحديث.

2. العلاّمة المجلسي في كتاب الصلاة من البحار، فانّه بعد ما ذكر معنى الإجماع و وجه حجّيته عند الأصحاب و رأى انّه لا ينطبق على المسائل، التي ادّي عليها الإجماع قال: إنّ الأصحاب لما رجعوا إلى الفقه نسوا ما ذكروه في الأُصول، فمصطلحهم في الفروع غير ما جروا عليه في الأُصول.(1)

3. الشيخ الأعظم الأنصاري، فقد أثبت أنّ الإجماعات الواردة في كتب الأقطاب الخمسة، ليس على أساس التتبع في كلمات الأصحاب، بل على أساس الاتّفاق على دليل المسألة، و لما وقف أنّ ذلك منهم يوهم التدليس اعتذر بأنّه يندفع بأدنى تتبع في الفقه.

و لأجل إيقاف القارئ على نماذج من هذا النوع من ادّعاء الإجماع نأتي بما استشهد به الشيخ الأعظم حسب تسلسل التاريخ.

ص:181


1- نقله الشيخ في الفرائد: 57، ط رحمة اللّه.
1. المفيد (336 413 ه (

سئل المفيد عن الدليل على أنّ المطلقة ثلاثاً في مجلس واحد يقع منها واحدة؟ فقال: الدلالة على ذلك كتاب اللّه عزّ و جلّ، و سنّة نبيّه، و استدل من الكتاب بقوله: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ ) أي الطلاق الذي يجوز للزوج الرجوع مرّتان، و المرتان لا تكون مرّة واحدة، و في السنّة بقوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» و ما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما لم يوافقه فاطرحوه «و أمّا إجماع الأُمّة فهم منطبقون على أنّ ما خالف الكتاب و السنّة فهو باطل.(1)

2. السيد المرتضى (355 436 ه (

قال المرتضى من مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات، و نقل المحقق أنّه نسب ذلك إلى مذهبنا، لأنّ من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل، و ليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المائعات(2)، فقد تمسك بأصل البراءة و ادّعى الإجماع، مع أنّ المورد من موارد التمسّك باستصحاب النجاسة بعد الغسل بالخلّ مثلاً.

3. الطوسي (385 460 ه (

ذكر الشيخ الطوسي انّه إذا بان فسق الشاهدين بما يوجب القتل بعد القتل أنّه يسقط القود، و تكون الدية في بيت المال، قال: دليلنا، إجماع الفرقة، فانّهم رووا أنّ ما أخطأت القضاة ففي بيت مال المسلمين، فعلّل انعقاد الإجماع بوجود الرواية عند الأصحاب.(3)

ص:182


1- العيون و المناظرات: 176 طبع مؤتمر الشيخ المفيد.
2- المعتبر: 831/82.
3- الخلاف: ج 6، كتاب الشهادات: 289 برقم 36.
4. ابن زهرة (511 585 ه (

قد أكثر ابن زهرة من الاستدلال بالإجماع في المسائل التي لا يساعد دعوى الإجماع، و قد ذكر في أُصول الغنية ما يكون مبرِّراً لهذا النوع من دعوى الإجماع(1).

5. ابن إدريس الحلي (543 598 ه (

قال ابن إدريس في السرائر: كلّ صلاة فريضة فاتت إمّا لنسيان أو غيره من الأسباب فيجب قضاؤها في حال الذكر من غير توان في سائر الأوقات ثمّ قال: و لنا في المضايقة كتاب خلاصة الاستدلال على من منع من صحة المضايقة بالاعتلال، بلغنا فيه إلى أبعد الغايات و أقصى النهايات(2). و قد نقل انّه استدل على القول بالمضايقة بالإجماع، بحجّة أنّ الأصحاب إلاّ نفراً يسيراً من الخراسانيين ذكروا أخبارها في كتبهم، كابن بابويه و الأشعريين، و القميين....

قال الحلي: تجب إخراج الفطرة سواء كنّ نواشز أو لم يكنّ... للإجماع، و العموم، من غير تفصيل من أحد من أصحابنا.(3)

و ردّه المحقّق بأنّ أحداً من علماء الإسلام لم يذهب إلى ذلك قال: فانّ الظاهر أنّ الحلي إنّما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء على تدوينهم للروايات الدالّة على وجوب فطرة الزوجة، متخيّلاً أنّ الحكم معلّق على الزوجية من حيث هي زوجته، و لم يتفطن أنّ الحكم من حيث العيلولة و وجوب الإنفاق.(4)

هذه نماذج تثبت انّ ادّعاءهم الإجماع كان على أساس الاتّفاق على الأصل أو القاعدة أو نقل الخبر، و مع ذلك لا يمكن الاعتماد على الإجماعات الواردة في كلامهم.

ص:183


1- الغنية: 1/371 قسم أُصول الفقه.
2- السرائر: 2731/272.
3- السرائر: 1/466.
4- المعتبر: 601 602 بتلخيص.
الثاني: تقييم الإجماعات الواردة في سائر الكتب

هناك من يدعي الإجماع على أساس التتبع في كلمات الفقهاء و من هذه الطبقة:

1. المحقّق (602 676 ه (، و العلاّمة الحلّي (648 726 ه (، و الشهيد الأوّل (733 786 ه (، و ابن فهد الحلي (842757 ه (، و الشهيد الثاني (911 966 ه (، و الأردبيلي ) المتوفّى 993 ه (.

و صاحب الحدائق) المتوفّى 1186 ه (و صاحب مفتاح الكرامة) المتوفّى 1228 ه (و صاحب الرياض (1159 1231 ه (و صاحب الجواهر (1200 1266 ه (فانّ كتبهم تدل بوضوح على استنادهم إلى التتبع و الوجدان في الكتب، و مع ذلك ليس الجميع على درجة واحدة في التتبع و الدّقة، فلا يمكن الاعتماد على نقولهم إلاّ بعد تبيين الأُمور التالية:

أ: ملاحظة المصادر التي رجع إليها في زمان التأليف.

ب: ملاحظة الكتاب المنقول فيه الإجماع.

ج: ملاحظة لفظ الناقل.

د: ملاحظة نفس المسألة.

ه: ملاحظة حال الناقل في زمان التأليف.

أمّا الأوّل: فانّ نَقَلة الإجماع مختلفة، فربّ ناقل يكتفي بالكتب الموجودة عند التأليف، و منهم من يتوسع في المصادر.

أمّا الثاني: فربّ كتاب وضع على التتبع، ككتاب مفتاح الكرامة، و ربّ كتاب لم يوضع على ذلك.

ص:184

و أمّا الثالث: فربّما يدعي الإجماع و الاتّفاق، و أُخرى يدّعي عدم وجدان الخلاف.

و أمّا الرابع: فربّما يدّعي الإجماع في المسائل المعنونة بين القدماء، و أُخرى يدّعي الإجماع في الفروع التفريعية بين المتأخرين.

و أمّا الخامس: فانّ حال الناقل في زمان تأليف الكتاب مختلفة، فربّ كتاب ألّفه الفقيه في أوان شبابه أو أواسط اشتغاله بالفقه، و ربّ كتاب ألّفه في أُخريات عمره بعد ما غامر في بحار الفقه.

فلو كان المحصّل بعد رعاية هذه الأُمور ملازماً لقول المعصوم ملازمة عادية فهو، و إلاّ فعليه تحصيل أمارات أُخرى ليحصل بالمجموع القطع بقول الإمام.

بقيت أُمور ثلاثة

الثالث: حكم الإجماعات المنقولة المتعارضة

إذا تعارضت الإجماعات المنقولة، فهل التعارض يرجع إلى السبب أي اتّفاق العلماء، أو يرجع إلى المسبب؟! الصحيح انّه يرجع إلى المسبب، إذ لا مانع من صدق كلا الادّعاءين بعد عدم ابتناء الإجماع على اتّفاق الجلّ فضلاً عن الكلّ، و لذلك لا يثبت المسبب.

و أمّا ثبوت السبب، أي الاتّفاق الملازم لقول المعصوم فلا يثبت بواحد منهما، إلاّ إذا كان في أحد النقلين خصوصية موجبة للقطع بالموافقة كأن ينقل أحدهما من القدماء الخبراء بفتوى الأئمّة، و لا يمكن الوقوف على الخصوصية إذا نقل بوجه الإجمال كما هو المفروض إلاّ إذا نقل أسماء المفتين على وجه التفصيل.

ص:185

فخرجنا بهذه النتيجة: أنّ الإجماعات المنقولة المتعارضة غير مفيدة بالنسبة إلى المسبب، للتعارض، و أمّا بالنسبة إلى السبب، فهو و إن كان مفيداً في إثبات السبب، أي فتوى جماعة، لكنّها غير مؤثرة في اقتناص قول الإمام لعدم الملازمة بين فتوى جماعة و قول المعصوم، إلاّ إذا كان في أحد النقلين خصوصية فهو لا يعلم إلاّ ذكر أسماء المفتين تفصيلاً.

الرابع: نقل التواتر بخبر الواحد

الخبر المتواتر: عبارة عن إخبار جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب، و يؤمن من خطئهم.

فإذا نقل الشيخ الطوسي و قال: ثبت بالتواتر» انّ المرأة لا ترث من العقار «. فيقع الكلام تارة في ثبوت المسبب، أي قول المعصوم; و أُخرى في ثبوت صفة التواتر إذا ترتب عليه الأثر، كما إذا نذر أن يحفظ كلّ خبر متواتر أو يكتبه، و الثاني هو الذي أسماه المحقّق الخراساني بالسبب فإليك البيان:

أمّا المسبب، أي قول المعصوم، فلا، إذ غاية ما ثبت بخبر الواحد أنّ جماعة أخبروا بكذا، و ليس قول المعصوم من لوازم إخبار الجماعة الثابتة بخبر الواحد.

و إن شئت قلت: إنّ المخبر به من لوازم التواتر الواقعي لا التواتر الثابت عند الناقل، و الثابت بالخبر الواحد هو الثاني لا الأوّل.

نعم لو أخبر بالعدد، على وجه يكون ملازماً للمخبر به لو سمع منهم بلا واسطة كأن يقول: أخبر مائة شخص أنّ الإمام قال:» لا ترث المرأة من العقار «كان اللازم من قبوله، الحكمَ بوجود إخبار الجماعة، فيثبت المسبب و هو قول الإمام، و هذا هو المستفاد من كلام الشيخ، و إليه يشير المحقّق الخراساني بقوله: و انّه من حيث المسبب لا بدّ في اعتباره من كون الإخبار به إخباراً على الإجمال

ص:186

بمقدار) مائة شخص (يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر لو علم به.

هذا كلّه حول المسبب.

و أمّا من حيث السبب، أي ثبوت صفة التواتر، و ترتيب أثره عليه كما إذا نذر حفظ كلّ خبر متواتر أو تدوينه، فيختلف حسب اختلاف الموضوع.

فلو كان الموضوع ما ثبت بالتواتر إجمالاً، و لو عند الناقل، فيترتب عليه الأثر، و إلاّ فلو كان الموضوع ما تواتر عند المنقول إليه فلا يترتب عليه الأثر.

نعم أخبرنا بأسماء المخبرين على التفصيل، و كان دون التواتر فلو ضَمَّ ما توصل المنقول إليه بالتتبّع و بلغ حدّ التواتر، كان عليه ترتّب أثر التواتر حتى و لو كان الموضوع هو التواتر عند المنقول إليه.

الخامس: صحّة القراءة في الصلاة بالقراءات السبع

قد استفاض الحديث عن أئمّة أهل البيت بأنّ القرآن واحد نزل من عند واحد(1)، و لم يكن للنبي إلاّ قراءة واحدة و هي القراءة الدارجة، التي رواها حفص عن عاصم عن علي) عليه السلام (، لكن العلاّمة و الشهيد ادعيا تواتر القراءات السبع، بل القراءات الثلاث الشاذّة، و على هذا فهل يجوز القراءة في الصلاة بغير القراءة المعروفة أو لا؟ يختلف الحكم جوازاً و منعاً حسب اختلاف الموضوع.

فلو كان الحكم منوطاً بالقرآن المتواتر في الجملة و لو عند الناقل كالعلاّمة و الشهيد، يجوز القراءة بكلّ من القراءات، و إن كان الموضوع هو القرآن المتواتر و الثابت لدى المصلي أو عند مجتهده فلا يُجدي إخبار العلامة و الشهيد بتواتر تلك القراءات إلاّ إذا ثبت تواتره عند المنقول إليه أو مقلّده.

ص:187


1- الكافي: 2/630، كتاب فضل القرآن، برقم 12 13.

الحجج الشرعيّة 4 الشهرة الفتوائية

اشارة

تنقسم الشهرة إلى روائية، و عمليّة، و فتوائية.

الشهرة الروائية عبارة عن: اشتهار نقل الرواية بين الرواة و أرباب الحديث و نقلها في الكتب، سواء عمل بها الفقهاء أم لم يعملوا.

و الشهرة العملية عبارة عن: اشتهار العمل بالرواية و الاستناد إليها في مقام الفتوى، كاستناد الفقهاء على النبوي:» على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي «أو قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» الناس مسلّطون على أموالهم «و إن لم يكونا منقولين في جوامعنا الحديثية، فكيف برواية نقلها الرواة و أرباب الحديث و استند إليها الفقهاء في مقام الفتوى، و سيوافيك أنّ الشهرة العمليّة جابرة لضعف الرواية، كما أنّ الإعراض عنها كاسر لصحّتها، و النسبة بين الشهرتين عموم و خصوص من وجه كما هو واضح.

و الشهرة الفتوائية عبارة عن: مجرّد اشتهار الفتوى في مسألة، سواء لم تكن في المسألة رواية، أو كانت على خلاف الفتوى، أو على وفقها و لكن لم يكن الإفتاء مستنداً إليها، و لا تكون مثلها جابرة لضعف سند الرواية إلاّ إذا علم الاستناد، و لا كاسرة إلاّ إذا علم الإعراض.

فيقع الكلام في حجّية نفس الشهرة الفتوائية من غير فرق بين الشهرة الفتوائية بين القدماء أو بين المتأخرين.

و استدل على الحجّية بوجوه ضعيفة ذكرها الشيخ الأعظم و المحقّق الخراساني.

ص:188

الأوّل: الاستدلال بالأَولوية القطعية

إنّ المناط في حجّية خبر الواحد، كونه مفيداً للظن بالحكم، و هو موجود في الشهرة الفتوائية بوجه أقوى. و أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:

1. القطع بكون المناط هو إفادته الظن غير حاصل، غاية الأمر الظن بكون المناط هو إفادته الظن فتكون الأَولوية ظنية لا قطعية.

2. القطع بأنّه ليس بمناط، لكونه حجّة سواء أفاد الظن أم لا، و الشاهد عليه حجّيته و إن لم يفد الظن الشخصي.

فإن قلت: الخبر الواحد حجّة لإفادته الظن النوعي و الملاك هو هذا.

قلت: لو كان هذا هو المناط يهدم الاستدلال، لأنّ الشهرة الفتوائية لو كانت حجّة فإنّما هي حجّة من باب الظن الشخصي فيكون المناطان متغايرين.

الثاني: تعليل آية النبأ

علل سبحانه المنع عن العمل بخبر الفاسق أنّ الاعتماد على قوله: يعد جهالة بمعنى السفاهة، و الاعتماد على الشهرة ليست كذلك.

يلاحظ عليه: أنّ منطوق الآية هو عدم جواز العمل بكلّ ما يعد سفاهة، لا جواز العمل بكلّ ما لا يعد كما هو واضح، و إلاّ يكون التعليل حجّة لكلّ ظنّ لم يكن العمل به سفاهة.

الثالث: دلالة المقبولة
اشارة

سأل عمر بن حنظلة أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن اختلاف القضاة؟ فقال:» الحكم ما حكم به أعدلهما، و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلى ما

ص:189

يحكم به الآخر «.

قال: فقلت: فانّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه، قال: فقال:

» ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمعَ عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا، و يترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه. إنّما الأُمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيُتّبع، و أمر بيّن غيّه فيجتنب، و أمر مشكل يرد علمه إلى اللّه و إلى رسوله «.(1)

هذه هي المقبولة التي تلقّاها الأصحاب بالقبول، و لكن المشايخ العظام لم يعطوا للرواية حقّها، مثلاً انّ المحقّق الخراساني ضعّف الاستدلال بالرواية بأنّ المراد من الموصول في قوله:» ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا «هو الرواية فلا صلة لها بالشهرة الفتوائية، و المحقّق النائيني، و إنْ ذكر وجه الاستدلال بوجه مطلوب، لكن أورد عليه بما لا يرد عليه.

و بما انّ المورد من المباحث الهامّة في الفقه، نوضح مفاد الرواية، و سيوافيك انّه يستفاد منها أُمور أربعة:

1. انّ الشهرة العملية ليست من المرجّحات، بل من مميّزات الحجّة عن اللاحجّة.

2. انّ الشهرة العملية جابرة لضعف الرواية إذا علم الاستناد إليها في الفتوى.

3. انّ الشهرة العملية على خلاف الرواية كاسرة لصحّتها إذا أُحرز الإعراض.

ص:190


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1; ثمّ قال: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال (عليه السلام):» ينظر إلى ما وافق حكمه حكم الكتاب و السنّة و خالف العامة فيؤخذ به «. و ليكن الذيل ببالك يفيد في المستقبل.

4. انّ الشهرة الفتوائية في الفقه المنصوص بين القدماء حجّة في الفقه، نعم ليس للشهرة الفتوائية قيمة في المسائل التفريعية بين المتأخرين، و إليك بيان الأُمور الأربعة.

إنّ استفادة الأُمور المذكورة تتوقف على بيان أُمور ثلاثة:

1. انّ المراد من» المجمع عليه «ليس ما اتّفق الكلّ على روايته، بل المراد ما اشتهرتْ روايتُه بين الأصحاب، في مقابل الشاذّ الذي ليس كذلك، و يدل على ذلك قول الإمام) عليه السلام (:» يُترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك «.

2. المراد من اشتهار الرواية بين الأصحاب، هو اشتهارها مع العمل بها و الإفتاء بمضمونها، إذ هو الذي يصلح لأن يكون ممّا لا ريب فيه، و إلاّ فلو رووها و لم يعملوا بمضمونها، بل أفتوا على خلافه، ففي مثلها كلّ الريب.

و أمّا إفادة المحقّق الخراساني من أنّ المراد من» ما «الموصولة هو الرواية و لا يعم الإفتاء و إن كان صحيحاً، لكن المراد الرواية التي عملوا بها و أفتوا بمضمونها، و أمّا حجّية مجرّد الإفتاء فسيوافيك.

3. المراد كون المجمع عليه» ممّا لا ريب «هو نفي الريب على وجه الإطلاق كقوله سبحانه: (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ )(1)، بشهادة أنّ النكرة وقعت في سياق النفي و هو يفيد العموم، و إذا كانت الرواية المشهورة المعمول بها ممّا لا ريب فيه، تكون الرواية الشاذة المعرض عنها، ممّا لا ريب في بطلانها، و ذلك بحكم العقل لا بالدلالة اللفظية، فانّه إذا كان أحد طرفي القضية ممّا لا ريب في صحّته و قطعَ الإنسان بصحّته يكون الطرف الآخر مقطوع البطلان، و إلاّ يلزم اجتماع اليقين بالصحّة، مع الشكّ فيها، مثلاً إذا كانت عدالة زيد ممّا لا ريب فيها، يكون مخالفها فسقه ممّا لا ريب في بطلانه.

ص:191


1- البقرة: 2.

و من ذلك يعلم أنّ المشهور داخل في القسم الأوّل من التثليث الوارد في الحديث أيْ بيّن الرشد، و الخبر الشاذ داخلاً في القسم الثاني أيْ بيّن الغي، لا في القسم الثالث أيْ مشكل يرد حكمه إلى اللّه و رسوله.

إذا عرفت هذه المقدمات الثلاث فاعلم أنّه يترتّب عليه أُمور أربعة:

1. الشهرة العملية من مميزات الحجّة عن اللاحجّة

إنّ الأُصوليين يذكرون الشهرة العمليّة من المرجّحات، و معنى ذلك أنّ المشهور المفتى به، و الشاذ المعرض عنه، حجّتان لكن تُرجّح إحداهما على الأُخرى بالشهرة، غير أنّ كونها مرجّحة مبنيّة على افتراض حجّية كلا الخبرين في حدّ نفسهما، لو لا التعارض، و لكن المقام ليس كذلك، لأنّ الشاذ إذا كان ممّا لا ريب في بطلانه، و كان داخلاً في بيّن الغي، لا يكون حجّة سواء كان هناك معارض أو لا، و في صورة المعارضة، يكون الحجّة هو المجمع عليه، المفتى به، دون الشاذ، و على ذلك تكون الشهرة العملية من مميزات الحجّة عن اللاحجة، لا من مرجّحاتهما.

2. الشهرة العملية جابرة لضعف الرواية

إنّ مورد المقبولة فيما إذا كانت الرواية المشهورة المفتى بها صحيحة سنداً، و قد عرفت أنّها تقدّم على الشاذ المعرض عنه، و إن كان صحيح السند.

و لو افترضنا، كون المشهورة ضعيفة السند سواء أ كان له معارض شاذ أم لا فهل عمل المشهور، يجبر ضعف السند؟ الظاهر ذلك، لما سيوافيك من أنّ ما هو الحجّة في باب الروايات، ليس قول الثقة، بل الخبر الموثوق بصدوره، و حجّية قول الثقة لأجل كون وثاقته أمارة على صدوره من الإمام، و لا شكّ انّ عمل

ص:192

الأكابر بالرواية في عصر الحضور أو بعده في عصر الغيبة يورث الوثوق بصدورها.

و هذا المقدار كاف في شمول دليل حجّية خبر الواحد له، نعم المراد هو عمل القدماء بالرواية، المورث للوثوق بصدور الرواية، و لا عبرة بعمل المتأخرين، إذ لا يتميزون علينا بشيء.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي ممّن لا يرى عمل المشهور جابراً لضعف الرواية، فخالف في المقام و اعترض بأمرين: أحدهما يرجع إلى الكبرى و هي كون العمل جابراً، و الآخر إلى الصغرى و هي استناد المشهور إلى الخبر.

أمّا الأوّل: فقال ما هذا حاصله: إذا كان الخبر الضعيف غير حجّة في نفسه على الفرض، و كذلك فتوى المشهور غير حجّة على الفرض، يكون المقام من قبيل انضمام غير الحجّة إلى غير الحجّة فلا يوجب الحجّة، فانّ انضمام العدم إلى العدم لا ينتج إلا العدم.(1)

يلاحظ عليه: أنّ أساس منع الكبرى هو تصور انّ الموضوع للحجّية هو قول الثقة فرتّب عليه انّ عمل المشهور لا يثبت وثاقة الراوي، و لكن الأساس ممنوع، لأنّ ما هو الحجّة حسب سيرة العقلاء هو الخبر الموثوق بصدوره، و حجّية قول الثقة لأجل أنّ وثاقته أمارة على صدق الخبر و صدوره من الإمام، و منه يظهر ضعف ما أفاده، من أنّ كلا من الخبر و الشهرة الفتوائية ليس بحجّة، فأشبه بضم العدم إلى العدم، و ذلك لأنّ كلّ واحد و إن لم يكن مورِثاً للوثوق بالصدور، لكن بعد ضمِّ أحدهما إلى الآخر، يحصل الوثوق المؤكّد كما لا يخفى.

أمّا الثاني: أي إحراز استناد الفقهاء إلى الرواية فقد قال: إنّه أشكل، و ذلك لأنّ القدماء لم يتعرضوا للاستدلال في كتبهم ليعلم استنادهم إلى الخبر الضعيف. و المتعرّض للاستدلال هو الشيخ الطوسي دون من تقدّمه.(2)

ص:193


1- مصباح الأُصول: 2/202.
2- مصباح الأُصول: 2/202.

يلاحظ عليه: أنّ للقدماء لونين من التأليف: أحدهما بصورة الفقه المنصوص، و الآخر بصورة الفقه المستنبط، و كان أساس الأوّل هو تجريد المتون عن الأسانيد و الإفتاء بنفس الرواية أو بمضمون قريب منه، و إذا تضافرت فتاوى تلك الطبقة في مسألة على عبارة موجودة في الخبر الضعيف يستكشف اعتمادهم في مقام الإفتاء على ذاك الحديث، و من هذا القسم، كتاب الشرائع لعلي بن بابويه) المتوفّى عام 329 ه (و كتاب المقنع و الهداية لولده الصدوق) المتوفّى عام 381 ه (، و المقنعة للمفيد) المتوفّى 413 ه (و النهاية للشيخ الطوسي) المتوفّى 460 ه (و كتاب التكليف للشلمغاني) المتوفّى 323 ه (و لعلّ هو نفس كتاب فقه الرضا، فإنّ تضافر هؤلاء على الإفتاء بنص الحديث أو بمضمونه، يورث الاطمئنان بوثوقهم بالحديث من طرق مختلفة.

و أمّا اللون الآخر من التأليف فهو خارج عن محطّ بحثنا، و منه كتاب الإيضاح للفضل بن شاذان، و كتب ابن جنيد، و الناصريات و الانتصار للسيد، و المبسوط للشيخ.

هذا كلّه حول الأمر الثاني كون الشهرة الفتوائية جابراً لضعف الرواية و إليك الكلام في الأمر الثالث.

3. إعراض المشهور عن الرواية كاسر لحجّيتها

إنّ إعراض المشهور عن الرواية مسقط لها عن الحجّية و إن كان السند صحيحاً سواء كان في مقابله خبر معارض أو لا، لكونه مصداق الشاذ النادر الذي لا ريب في بطلانه، و مورد المقبولة و إن كان هو صورة التعارض، و لكن المورد ليس بمخصص، و الموضوع هو الشذوذ و عدم اعتداد الأصحاب بها، من غير فرق بين وجود معارض له أو لا.

ص:194

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي اعترض عليه كما اعترض على الأمر السابق و قال: إذا كان الخبر الصحيح أو الموثق مورداً لقيام السيرة و مشمولاً لإطلاق الأدلّة اللفظية فلا وجه لرفع اليد عنه لإعراض المشهور عنه.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الدليل الوحيد على حجّية الخبر الواحد هو السيرة العقلائية، و أمّا غيرها فإمّا إرشاد إليها أو بيان للصغرى أي أنّ الراوي ثقة، ففي مثل المقام الذي تسالم الأكابر على الإفتاء على خلاف الحديث مع كونه بمرأى و مسمع منهم يتوقف العقلاء من العمل به.

أضف إلى ذلك أنّ المستفاد من المقبولة أنّ الخبر الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه، و معه كيف يمكن الاعتماد عليه؟!

4. الشهرة الفتوائية المجرّدة عن الرواية حجّة

هذا هو بيت القصيد و الغرض المهم الذي عقدنا الباب لبيانه فنقول:

المسائل المشهورة بين الفقهاء على قسمين:

1. المسائل التفريعية أو الفقه المستنبط

و هي المسائل التي لم يرد فيها نصّ و إنّما استنبط حكمها الفقهاء من القواعد و الضوابط، كالشهرة المتحققة في جواز الصلاة في اللباس المشكوك، فانّه من الفقه المستنبط، و الشهرة حصلت من عصر السيد المجدد الشيرازي، بعد ما كان عدم الجواز مشهوراً، و الشهرة و عدمها في هذه المسائل سيّان، و ليس على الفقيه إلاّ ملاحظة نفس الدليل سواء أ كانت هناك شهرة أم لا.

ص:195


1- مصباح الأُصول: 2/203.
2. المسائل المتلقاة عن الأئمة

التي يعبّر عنها بالفقه المنصوص، و أمّا تمييز أحدهما عن الآخر، فيحصل بالرجوع إلى كثير من الكتب التي أُلّفت في الغيبة الصغرى، و أوائل الغيبة الكبرى حيث صار الدارج هو، تجريد المتون عن الأسانيد و الإفتاء بلفظ النص، أو قريب منها.

فإذا وقفنا من القدماء على فتوىً في مسألة، و لم نجد له دليلاً من السنّة، كشف ذلك عن أحد الأمرين على وجه مانعة الخلو:

أ: كون الحكم واصلاً إليهم يداً بيد من عصر الأئمّة إلى زمانهم، و كان الحكم المشهور بين أصحاب الأئمّة و من بعدهم هو ما ورد في الكتب المعدة للفقه المنصوص و إن لم نجد النصّ، و هذا هو الذي اختاره سيدنا الأُستاذ) قدس سره (.

ب: أو كاشفاً عن وجود نصّ وصل إليهم و لم يصل إلينا، و على هذا الوجه تدخل الشهرة الفتوائية في عداد الشهرة العملية لافتراض كشفها عن النص المعمول به عند القدماء.

و الذي يؤيّد ما ذكرناه أمران:

1. انّ في الفقه الإمامي مسائل كثيرة اتّفقت كلمة الفقهاء فيها على حكم ليس له دليل من الكتاب و السنّة سوى تسالم الأصحاب، و كان السيد المحقّق البروجردي ينهيها إلى تسعين، و لكنّه) قدس سره (لم يعيّن مواردها غير انّ المظنون أنّ قسماً وافراً منها يرجع إلى باب المواريث و الفرائض، و لو حذفنا الشهرة، لأصبحت المسائل فتاوى فارغة عن الدليل.

2. انّ الظاهر من بعض الروايات أنّ أصحاب الأئمّة كانوا يعملون بالشهرة الفتوائية، بل كانوا يقدّمونها على ما سمعوه من الإمام شفهياً، و ها نحن نذكر هنا نموذجين ليقف القارئ على مدى اعتمادهم عليها:

ص:196

أ: روى سلمة بن محرز قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: إنّ رجلاً مات و أوصى إلي بتركته و ترك ابنته، قال: فقال لي:» أعطها النصف «، قال: فأخبرت زرارة بذلك، فقال لي: اتقاك، إنّما المال لها، قال:

فدخلت عليه بعد، فقلت: أصلحك اللّه! إنّ أصحابنا زعموا انّك اتقيتني؟ فقال:» لا و اللّه ما اتّقيتك، و لكنّي اتّقيت عليك أن تضمن، فهل علم بذلك أحد؟ «قلت: لا، قال:» فاعطها ما بقي «.(1)

ترى انّ الشهرة الفتوائية بلغت من حيث القدر و المنزلة عند الراوي إلى درجة منعته عن العمل بنفس الكلام الذي سمعه من الإمام فتوقف حتى رجع إلى الإمام ثانياً.

و ربّما كانوا لا يتوقفون عن العمل و يقدّمون المشهورة على المسموع من نفس الإمام شخصيّاً.

ب: روى عبد اللّه بن محرز بيّاع القلانس قال: أوصى إلي رجل و ترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم، و ترك ابنة، و قال: لي عصبة بالشام، فسألت أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن ذلك، فقال:» اعط الابنة النصف، و العصبة النصف الآخر «، فلما قدمت الكوفة أخبرت أصحابنا فقالوا: اتقاك، فأعطيت الابنة النصف الآخر، ثمّ حججت فلقيت أبا عبد اللّه) عليه السلام (فأخبرته بما قال أصحابنا و أخبرته انّي دفعت النصف الآخر إلى الابنة، فقال:» أحسنت، إنّما أفتيتك مخافة العصبة عليك «.(2)

و على ضوء هذه الأحاديث تعرف مكانة الشهرة الفتوائية، عند أصحاب الأئمّة، و معه لا يصحّ لفقيه الإعراض عن الشهرة للأصل أو الرواية الشاذة.

فتبين أنّ الشهرة الفتوائية في المسائل المتلقاة) و إن شئت سمّه الفقه المنصوص (داخلة في مفاد المقبولة لو قلنا بكشفها عن الخبر) المعمول به (أو

ص:197


1- الوسائل: ج 17، الباب 4 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديث 3.
2- المصدر نفسه، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديث 4.

مناطها) لو قلنا بكشفها عن وجود الشهرة عند أصحابهم (و أنّ سيرة أصحاب الأئمّة جرت على الاعتناء بها، فمثل هذه الشهرة إن لم تكن صالحة للإفتاء على طبقها، لكنّها صالحة للاحتياط و عدم الإفتاء بشيء أو الإفتاء بالاحتياط.

و هناك كلمة قيّمة لبطل الفقه الشيخ المفيد (336 413 ه (و هو يعرف لنا مكانة الشهرة، يجب على من يفتى بكلّ خبر، و لا يراعى ضوابط حجّيته، أن يطالعها و يتدبر فيها و نحن نأتي ببعضها:

قال: إنّ المكذوب منها لا ينتشر بكثرة الأسانيد، انتشار الصحيح المصدوق على الأئمّة) عليهم السلام ( فيه، و ما خرج للتقية لا تكثر روايته عنهم، كما تكثر رواية المعمول به، بل لا بدّ من الرجحان في أحد الطرفين على الآخر من جهة الرواة حسب ما ذكرته.

و لم تجمع العصابة على شيء كان الحكم فيه تقيّة، و لا شيء دُلِّس فيه و وُضِع مخروصاً عليهم و كذّب في إضافته إليهم، فإذا وجدنا أحد الحديثين متّفقاً على العمل به دون الآخر، علمنا أنّ الذي اتّفق على العمل به هو الحقّ في ظاهره و باطنه، و أنّ الآخر غير معمول به، امّا للقول فيه على وجه التقية، أو لوقوع الكذب فيه.

و إذا وجدنا حديثاً يرويه عشرة من أصحاب الأئمّة) عليهم السلام (يخالفه حديث آخر في لفظه و معناه، و لا يصحّ الجمع بينهما على حال، رواه اثنان أو ثلاثة، قضينا بما رواه العشرة و نحوهم على الحديث الذي رواه الاثنان أو الثلاثة، و حملنا ما رواه القليل على وجه التقيّة أو توهّم ناقله.(1)

ص:198


1- تصحيح الاعتقاد: 71، ط تبريز.

الحجج الشرعية 5 في حجّية الخبر الواحد

اشارة

قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: البحث عن حجّية الخبر الواحد من أهمّ المسائل الأُصولية التي يدور عليها استنباط أكثر الأحكام الشرعية، لأنّ الخبر المتواتر و المحفوف بالقرينة، قليل جداً لا تفي بمعظم الفقه، و لو اقتصر عليهما، فلا بد من العمل بالظن المطلق لدليل الانسداد، و لأجل ذلك أخذت المسألة لنفسها أهمية خاصة بين الأُصوليين.

الثاني: انّ الاحتجاج بالخبر الواحد يتوقّف على ثبوت أُمور أربعة:

أ: أصل الصدور.

ب: أصل الظهور.

ج: حجّية الظهور.

د: جهة الصدور.

أمّا الثاني: فيثبت بما تثبت به الأوضاع اللغوية كالتبادر و غيره و القرائن العامّة.

و أمّا الثالث: فقد مرّت حجّية الظواهر، عند العقلاء و إمضاء الشرع له.

و أمّا الرابع: فيثبت بالأصل العقلائي، و أنّ الأصل في إلقاء الكلام هو بيان

ص:199

المراد الجدي، و أنّ حمل الكلام على غيره كالتقية و غيرها يحتاج إلى دليل.

بقي الكلام في الأمر الأوّل فهذا ما يتكفله هذا الفصل من إقامة الدليل على حجّية الخبر الواحد.

الثالث: اختلفت كلمتهم في أنّ البحث عن حجّية الخبر الواحد، بحث أُصولي و من مسائل علم الأُصول أو بحث استطرادي؟ ذهب المحقّق القمي إلى الثاني محتجّاً بأنّ الموضوع لعلم الأُصول هو الأدلّة الأربعة بقيد الدليلية، و المسألة عبارة عمّا يبحث عن العوارض الذاتية لموضوع العلم، وعليه البحث عن حجّية الخبر الواحد و انّه هل هو دليل شرعي أو لا، بحث عن وصف موضوع العلم أو جزئه.

ثمّ إنّ المتأخرين عنه ردّوا عليه و قالوا: إنّ البحث عن حجّية الخبر الواحد، بحث عن عوارض الموضوع، لكن بمحاولات مختلفة مذكورة في الفرائد و الكفاية و غيرهما، و إليك بيانها:

أ: ذهب صاحب الفصول إلى أنّ الموضوع ليس الأدلّة الأربعة بقيد الدليلية، بل الموضوع ذات الأدلّة الأربعة بما هي هي، و البحث عن الدليلية، من عوارض الموضوع) السنّة (. و قد وصفه الشيخ بالتجشم و التكلّف، و لعلّه للملاحظة التالية.

يلاحظ عليه: أنّ الأدلّة الأربعة عبارة عن الكتاب و السنّة و العقل و الإجماع، فلو كان البحث عن حجّية المحكي أي السنة الشاملة لقول المعصوم و فعله و تقريره يكون البحث عندئذ كلامياً لا أُصولياً، و إن كان البحث عن حجّية الحاكي فهو ليس من الأدلّة الأربعة.

ب: ما ذهب إليه الشيخ من أنّ الموضوع هو الأدلّة الأربعة بقيد الدليلية، لكن جهة البحث عبارة عن ثبوت السنّة أعني قول الحجّة أو فعله أو تقريره) المسلم وجودها (بخبر الواحد و عدمه، فيقال: هل السنّة ) المحكية (تثبت بخبر

ص:200

الواحد أو لا تثبت إلاّ بما يفيد القطع من التواتر و القرينة؟(1)و قد أورد عليه المحقّق الخراساني في المقدمة الأُولى من مقدّمات علم الأُصول و في المقام، إشكالين:

1. انّ البحث عن ثبوتها به و عدمه خلاف عنوان المسألة في الكتب الأُصولية فانّ عنوانها هو حجّية الخبر الواحد، لا ثبوت السنة بخبر الواحد.

2. انّ المراد من الثبوت في كلامه هو الثبوت التعبّدي، و هو من عوارض الخبر الحاكي، لا المحكي الذي هو الموضوع، بداهة أنّ معناه هل للخبر الواحد هذا الشأن أو لا؟ فلو كان حجّة، ثبت له هذا الشأن و إلاّ فلا.(2)

ج: ما أفاده المحقّق النائيني من أنّ مردّ البحث عن حجّية الخبر الواحد إلى أنّ مؤدى الخبر هل هو من السنة أو لا؟ و إن شئت قلت: إنّ البحث إنّما هو عن انطباق السنّة على مؤدّى الخبر و عدم الانطباق، و هذا لا يرجع إلى البحث عن وجود السنة، و عدمها.

يلاحظ عليه: أنّه مجرّد تغيير في العبارة، فانّ مرجع البحث عن الانطباق و عدمه، هو وجود السنّة في المقام أو لا، و هو بحث عن أصل الموضوع لا عن عوارضه، و بتعبير آخر: هو عين البحث عن وجودها في ضمن هذا الفرد و هويته أولا.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قد تخلّص من الإشكال بأنّ الميزان في المسألة الأُصولية ليس هو البحث عن عوارض الأدلّة الأربعة، بل تكفي صحّة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط، و لو لم يكن البحث فيها عن الأدلّة الأربعة.

ص:201


1- الفرائد: 67، طبعة رحمة اللّه.
2- فوائد الأُصول: قسم التعليقة: 157.

و قد مرّ ما هو الحقّ عندنا في مقدّمات علم الأُصول، فلاحظ.

الرابع: الظاهر من غير واحد من قدماء الأصحاب عدم ورود الدليل على جواز العمل بخبر الواحد و صرح به المرتضى في الذريعة،(1) و ابن إدريس في السرائر في مواضع كثيرة، و نقل عن القاضي ابن البراج و الطوسي. و أمّا الشيخ الطوسي فقال بحجيته، إجمالاً، و لكن اختلفت كلماته في كتاب العدّة في تحديدها إلى أقوال أربعة:

1. حجّية قول الثقة، و المراد منها هو العادل.

2. حجّية غير المطعون من أصحابنا، فيعم الثقة و الممدوح و المهمل.

3. حجّية قول الفاسق أيضاً إذا كان متحرزاً عن الكذب، قائلاً بأنّ الفسق بالجوارح يمنع عن قبول الشهادة و ليس بمانع عن قبول خبره.

4. حجّية ما يرويه المتهمون المضعَّفون إذا كان هناك ما يعضد روايتهم و يدل على صحّتها و إلاّ وجب التوقف.(2)

إلاّ أنّ المعروف بين المتأخرين هو الحجّية، و لعلّ النزاع بين المتقدمين و المتأخّرين أشبه باللفظي، فالجميع يعملون بما دوّن في الكتب الأربعة، غير انّ المتقدّمين يرون أكثرها مقرونة بالقرائن المفيدة للعلم فيعملون بها، و المتأخرون يقولون بحجّية أخبار الاخبار فيعملون بها.

إذا عرفت هذه المقدّمات فلنذكر دليل القائل بعدم الحجّية فقد استدلوا بوجوه.

***

ص:202


1- الذريعة: 2/529.
2- لاحظ العدة: 3671/336، طبعة مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
أدلّة نفاة الحجّية
اشارة

استدل النافي للحجّية بالأدلّة الثلاثة:

الأوّل: الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ أوّلاً، و عن اقتفاء غير العلم ثانياً.

و ذلك في ضمن آيات ثلاث:

الآية الأُولى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى * وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )(1). و الآية صريحة في عدم حجّية الظن في القول و العمل.

الآية الثانية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ).(2)

وجه الاستدلال: انّ النهي و إن كان عن كثير من الظنّ لا عن الجميع، و ذلك بملاك انّ القليل منه على وفق الواقع، و لكن بما انّ الموافق و المخالف غير متميزين يلزم الاجتناب عن الجميع.

الآية الثالثة: (وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً )(3). و الآية جزء من الحِكَم الغُرّ التي أوحى اللّه بها إلى نبيّه و ابتدأ بها بقوله: (وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ) و ختمها بقوله: (ذلِكَ مِمّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ )(4). و العمل بخبر الثقة اقتفاء لما لا بعلم، و الآية تشمل الأُصول و الفروع و قد استشهد بها الإمام على حرمة استماع الغناء و غيره.

ص:203


1- النجم: 27 28.
2- الحجرات: 12.
3- الإسراء: 36.
4- الإسراء: 23 39.
إجابة القائلين بالحجّية عن الاستدلال بالآيات

أجاب القائلون بالحجّية عن الاستدلال بها مثل الشيخ و المحقّق الخراساني بوجهين:

1. اختصاصها بالأُصول و لا يعمّ الفروع.

2. على فرض تسليم عمومها، تخصص بالأدلة الآتية الدالّة على حجّية قول الثقة.

يلاحظ عليه بوجهين: الأوّل: انّ الآية الأُولى و إن وردت في الأُصول و العقائد، و الآية الثانية وردت في غير مورد الأحكام، لكن الآية الثالثة مطلقة تشمل الفروع، بشهادة أنّ الإمام استدل بها على حرمة استماع الغناء عند التخلّي.

الثاني: انّ مساق الآيات الثلاث مساقها الدعوة إلى الفطرة السليمة القاضية بعدم جواز القضاء في شيء إلاّ بعد التبيّن، وعليه لا يتم كلا الوجهين لأنّ مقتضى كونها إرشاداً لحكمها هو عدم الفرق بين الأُصول و الفروع أوّلاً، و عدم قبولها للتخصيص ثانياً، فانّ الأحكام الفطرية لا تقبل التخصيص.

و بذلك ظهر عدم تمامية ما أفاده سيدنا الأُستاذ) قدس سره (من التفصيل بين الآيتين الأُوليين و الثالثة بعدم عمومية الأُوليين، دون الثالثة، فهي عامّة تعمّ الأُصول و الفروع، لما عرفت من أنّ الأحكام الفطرية كالعقلية غير قابلة للتخصيص.

3. و هناك جواب ثالث يظهر من الرازي في تفسيره، و هو: انّه لو دلّت الآيات على عدم جواز التمسّك بالظن لدلت على عدم جواز التمسّك بنفسها فالقول بحجّيتها يقتضي نفيها، و هو غير جائز(1). و إليه يشير سيدنا الأُستاذ) قدس سره (من أنّ دلالة الآية على الردع، من غير العلم ظنية لا قطعية فيلزم الأخذ بمدلولها،

ص:204


1- مفاتيح الغيب: 20/210.

عدم جواز اتباعها لكون دلالتها بالفرض ظنية.

يلاحظ عليه: أنّ دلالة الظواهر على المعاني الاستعمالية قطعية، و لا يظهر في ذهن العقلاء أيّ تردد و شك، و قد تقدّم تفصيله و هناك جواب رابع، و هو للمحقّق النائيني و هو: انّ نسبة الأدلّة الدالّة على جواز العمل بخبر الواحد ليست نسبة التخصيص بل نسبة الحكومة، فانّ تلك الأدلّة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف و جعل الخبر محرِزاً للواقع، فيكون حاله حالَ العلم في عالم التشريع فلا يمكن أن تعمه الأدلّة الناهية عن العمل بالظن.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الدليل الواضح لحجّية الخبر الواحد، هو السيرة العقلائية و هي دليل لبي ليس له لسان، و الحكومة أمر قائم باللسان.

أضف إلى ذلك أنّه ليس في الأدلّة اللفظية ما يدل على إلقاء احتمال الخلاف و جعل الخبر محرزاً للواقع.

و أمّا قوله) عليه السلام (:» العمري و ابنه ثقتان، ما أدّيا إليك عنّي، فعنّي يؤديان، فاسمع لهما و أطعهما فانّهما الثقتان المأمونان «(2)فإنّما سيق لبيان وثاقة الأب و الابن، بقرينة ذيله:» الثقتان المأمونان «لا لأجل إلقاء احتمال الخلاف و تنزيل الظن منزلة العلم.

و التحقيق أن يقال: إنّ الظن يطلق و يراد منه معان مختلفة:

1. اليقين كقوله سبحانه: (وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ * اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ ) (3)و المراد منه بقرينة كونه وصفاً للخاشعين هو اليقين.

ص:205


1- فوائد الأُصول: 3/161.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.
3- البقرة: 45 46.

2. الاطمئنان كقوله سبحانه: (وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ) (1)أي اطمأنّوا انّه لا حيلة إلاّ الرجوع إلى اللّه، و لأجل ذلك رجع اللّه إليهم بالرحمة كما قال تعالى: (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ ).

3. ترجيح أحد الطرفين استناداً إلى الخرص و التخمين بلا دليل مثل قوله: (وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ ).(2)

و المراد من الآيات الناهية عن اتباع الظن إنّما هو هذا النوع من الترجيح غير المعتمد على أصل صحيح بل مبنيّاً على الخرص و التخمين و الخيال، و لأجل ذلك سمّوا الملائكة تسمية الأُنثى.

و يوضح ذلك قوله في سورة الحجرات: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (3)حيث إنّ الرجل يسيء الظن بشخص، ثمّ يتصدى للتحقيق هل هو صحيح أو لا؟ فيتجسس، ثمّ يصل إلى ما ظن به فيغتابه.

و أين هذا النوع من الظن، من العمل بقول الثقة الذي لا يصدر عن الهوى، و لا عن الخرص و التخمين بل يرويه عن حسّ أو ما يقرب منه؟! و لعمري انّ المشايخ ما أعطوا للآيات حقّها من الإمعان.

ص:206


1- التوبة: 118.
2- الأنعام: 116.
3- الحجرات: 12.
الثاني: السنّة

استدل القائلون بعدم جواز العمل بخبر الواحد، بروايات اختلفت مضامينها و انقسمت إلى أصناف، لكنّهم استظهروا من المجموع دلالتها على عدم حجّيته، و أنّها و إن لم تكن متواترة لفظاً لكن القدر الجامع بين الجميع متواتر معنىً، و إليك رءوس أصنافها:

الأوّل: ما يدل على لزوم الاكتفاء بما يعلم، و تدلُّ عليه رواية واحدة.

الثاني: ما يدل على حجّية ما وافق الكتاب و السنّة، و بهذا المضمون روايات خمس.

الثالث: ما يدل على عدم حجّية مخالف الكتاب، و بهذا المضمون رواية واحدة.

الرابع: ما يجمع بين الأمرين، يأمر بأخذ الموافق و طرح المخالف، و بهذا المضمون روايتان.

و قد بث الشيخ الحرّ العاملي هذه الروايات في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي، و إليك دراسة هذه الأصناف.

أمّا الصنف الأوّل: أعني ما يدل على الاقتصار بما يعلم، فقد رواه نضر الخثعمي قال: سمعت أبا عبد اللّه) عليه السلام (يقول:» من عرف إنّا لا نقول إلاّ حقاً فليكتف بما يعلم منّا، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم انّ ذلك دفاع منّا عنه «.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الرواية بصدد توجيه الروايات الواردة على وفق التقيّة، و أنّ الإفتاء بها، لأجل صيانة دماء الشيعة عن الإراقة، فإذا سمع منه خلاف ذلك فليأخذ بما علم، مثلاً: إنّ مسح الرجلين من ضروريات الفقه الإمامي فإذا سمع

ص:207


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

علي بن يقطين خلاف ذلك فليعلم أنّ التجويز لأجل صيانة دمه، و تفسره رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر) عليه السلام (، قال: قال لي:» يا زياد ما تقول لو افتينا رجلاً ممّن يتولاّنا بشيء من التقية؟ «قال: قلت له: أنت أعلم جعلت فداك قال:» إن أخذ به فهو خير له و أعظم أجراً «.(1)

و في الرواية الأُولى احتمال آخر و هو كونها راجعة إلى الذموم الصادرة عن الأئمّة بالنسبة إلى أخلص أصحابه كزرارة، فما صدر إلاّ لأجل صيانة دمه.

أمّا الصنف الثاني، أعني: ما يدل على حجّية الموافق للكتاب و السنّة، و يكفي في ذلك وجود شاهد من القرآن له فقط، فقد عرفت انّه ورد بهذا المضمون روايات خمس:

أ: ما رواه أيّوب بن راشد، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف «.(2)

ب: ما رواه أيّوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبد اللّه) عليه السلام (يقول:» كلّ شيء مردود إلى الكتاب و السنّة، كلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف «.(3)

ج: مرسلة ابن أبي بكير، عن رجل، عن أبي جعفر في حديث قال:» إذا جاءكم عنّي حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به و إلاّ فقفوا عنده «.(4)

د: خبر جابر، عن أبي جعفر) عليه السلام (في حديث»... فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، و إن لم تجدوه موافقاً فردّوه.(5)

ه: ما رواه سدير قال: قال أبو جعفر، و أبو عبد اللّه) عليهما السلام (:» لا يصدق علينا إلاّ ما وافق كتاب اللّه و سنّة نبيّه «.(6)

ص:208


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 13، 14، 18، 37، 47.
3- الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 13، 14، 18، 37، 47.
4- الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 13، 14، 18، 37، 47.
5- الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 13، 14، 18، 37، 47.
6- الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 13، 14، 18، 37، 47.
يلاحظ على الاستدلال بهذه الروايات بوجهين:

1. إذا كانت هذه الروايات بصدد المنع عن العمل بخبر الواحد، كان التصريح بأصل المطلوب أسهل من دون أن يشرط موافقة الكتاب و السنّة، فاشتراط الموافقة يكشف عن عدم كون العمل مصبَّ البحث، و لو كان مصبُّه العمل بالخبر الواحد، كان اشتراط الموافقة لغواً، إذ مع الدلالة القرآنية لا حاجة إلى اخبار الأخبار، و أمّا ما هو مصب البحث فسيوافيك بيانه.

2. لا شكّ انّه صدر من أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (روايات كثيرة، في مختلف الأبواب في المعارف و العلوم الكونية و الأخلاق و الأحكام ما لا يوصف بالمخالفة، و في الوقت نفسه لا يوصف بالموافقة بهما أيضاً لعدم ورودها فيهما، فلا بدّ أن يرجع شرطية الموافقة إلى شرطية عدم المخالفة، كما في الصنفين التاليين.

و أمّا الصنف الثالث: أعني: ما يدل على عدم حجّية المخالف، و بهذا المضمون رواية واحدة و هي:

مرسلة ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه قال: سمعت أبا عبد اللّه) عليه السلام (يقول:» من خالف كتاب اللّه و سنّة محمد فقد كفر «.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا صلة له بخبر الواحد، و انّه يركز على من أفتى بخلاف الكتاب فقد كفر، و البحث في المقام في الرواية لا في الإفتاء.

و أمّا الصنف الرابع: أعني: ما يجمع بين العنوانين، فيأمر بأخذ الموافق، و طرح المخالف، فقد ورد بهذا المضمون روايتان:

أ: ما رواه السكوني، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (: إنّ على كلّ حقّ حقيقة، و على كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه و ما خالف

ص:209


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 16.

كتاب اللّه فدعوه «.(1)

ب: ما رواه هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» خطب النبي بمنى فقال: أيّها النّاس ما جاءكم يوافق كتاب اللّه فأنا قلته، و ما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله «.(2)

و بما انّك عرفت انّه لا يصح جعل الموافقة ملاكاً للقبول، فيكون المراد منه، ما لا يخالف.

هذه أُصول الروايات، و قد عرفت خروج الصنف الأوّل عن مصب البحث، و انّ مرجع اشتراط الموافقة في الصنف الثاني بل مطلقاً إلى شرطية عدم المخالفة الواردة في الرابع.

و على ضوء هذا فقد تواترت الروايات معنىً على عدم حجّية الرواية المخالفة للكتاب و السنّة، و لكن المهم هو تبيين شأن ورود هذه الروايات، إذ كما أنّ للآيات شأن نزول هكذا للروايات أيضاً أسباب صدور و ببيانه يعلم عدم صلتها بعدم حجّية الخبر الواحد.

إنّ الروايات الناهية عن العمل بالرواية المخالفة للقرآن و السنة ناظرة إلى أحد موردين:

أ. في تمييز الحجّة عن اللاحجّة

إنّ موضع هذه الروايات، هو صورة اختلاف الخبرين في المضمون، فيطرد المخالف و لو كان خاصّاً بالنسبة إلى عموم القرآن، و يؤخذ بالموافق، و يشهد لذلك لفيف من الروايات.

ص:210


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10 و 15 و يحتمل وحدة الروايتين.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10 و 15 و يحتمل وحدة الروايتين.

1. ما رواه عمر بن حنظلة: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال:» ينظر ممّا وافق حكمه حكم الكتاب و السنة «.(1)

2. ما رواه ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به و منهم من لا نثق به قال:» إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه «.(2)

3. ما رواه الميثمي انّه سأل الرضا) عليه السلام (يوماً و قد اجتمع عنده قوم من أصحابه و قد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول اللّه في الشيء الواحد. فقال) عليه السلام (:»... ما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب اللّه «.(3)

4. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: قال الصادق) عليه السلام (:» إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه و ما خالف كتاب اللّه فردوه «.(4)

5. ما رواه الحسن بن الجهم، عن الرضا) عليه السلام (قال: قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة فقال:» ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللّه عزّ و جلّ و أحاديثنا فإن كان يشبههما فهو منّا «.(5) و رواه أيضاً عن العبد الصالح) عليه السلام (.(6)

فهذه الروايات المتضافرة تفسر مصب الروايات السالفة، و انّ النهي عن العمل بما خالف القرآن ناظر إلى صورة التعارض، لا صورة الانفراد، فالخبران المتعارضان، لو كان أحدهما خاصاً مخالفاً لعموم القرآن و الآخر مدعماً به يؤخذ بالموافق، بخلاف ما إذا كان الأوّل وحده بلا معارض سواء لم يكن مخالفاً للكتاب أصلاً، أو كان مخالفاً بنحو الخصوص و العموم، فيخصص القرآن بخبر الواحد على رأي أكثر الأُصوليين.

ص:211


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 11، 21.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 11، 21.
3- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 11، 21.
4- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29، 40، 48.
5- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29، 40، 48.
6- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29، 40، 48.
ب: في مقامات الأئمّة و درجات الأنبياء

إنّ ظاهرة الغلو بدت في عصر الإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (فنمت إلى أن بلغت الذروة في عصر الصادق و الكاظم و الرضا) عليهم السلام (، فكان هناك أُناس يضعون الأحاديث في حقّ الأئمة إمّا تشويهاً لسمعة الأئمة حتى ينفضّ الناس من حولهم، بحجّة أنّهم يقولون خلاف القرآن و السنّة النبويّة، أو لغاية الاستئكال بالأحاديث حيث كانوا يملكون قلوب عوام الشيعة و السُّذّج منهم، بالغلو في حقّهم، و قد احتفلت كتب الملل و النحل بهذه الفرق كالخطابية، و النُّصيرية.

روى الكشي، قال يحيى بن عبد الحميد الجمالي في كتابه المؤلف في إثبات إمامة أمير المؤمنين ) عليه السلام (: قلت لشريك: إنّ أقواماً يزعمون أنّ جعفر بن محمد ضعيف الحديث، فقال: أخبرك القصة، كان جعفر بن محمد رجلاً صالحاً مسلماً ورعاً، فاكتنفه قوم جهّال يدخلون عليه و يخرجون من عنده و يقولون:

حدّثنا جعفر ابن محمد، و يحدثون بأحاديث كلّها منكرات كذب موضوعة على جعفر ليستأكلون الناس بذلك، و يأخذون منهم الدراهم، كانوا يأتون من ذلك بكلّ منكر، فسمعت العوام بذلك منهم، فمنهم من هلك و منهم من أنكر.(1)

و قد عالج الأئمّة هذه الظاهرة الخبيثة، بأمر الشيعة بعرض الروايات على القرآن فما وافق أُصول التوحيد بمراتبها و العدل، و مكانة الأئمة يؤخذ به، و ما خالف فلا يؤخذ به، روى الكشي عن ابن سنان قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» انّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذّب علينا و يسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس «.(2)

ص:212


1- البحار: 25/302، الحديث 67.
2- البحار: 25/263، باب نفي الغلو، الحديث 1.

و الذي نلفت إليه نظر القارئ أنّ علماءَنا الأبرار قد بذلوا جهوداً جبارة في تهذيب الشيعة عن الموضوعات، و لذلك لا تجد رواية مخالفة للكتاب و السنّة على وجه التباين إلاّ النادر.

الدليل الثالث: الإجماع

ادّعى السيد المرتضى و غيره من أعلام القدماء عدم جواز العمل بخبر الواحد، و أنّه كالقياس من شعار الشيعة، و أكثر من ركز على ذلك، هو السيد المرتضى و ابن إدريس.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ ادّعاء إجماع السيد، يتعارض مع ادّعاء الشيخ الإجماع على العمل به، يقول في العدّة: و الذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقّة، فانّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم و دوّنوها في أُصولهم، لا يتناكرون ذلك و لا يتدافعونه، حتى أنّ واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور و كان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا.(1)

و ثانياً: أنّ عبارة السيد و إن كانت مطلقة، لكنّها ناظرة إلى الأخبار التي رواها المخالفون، و بذلك أوّل الشيخ كلام أُستاذه. حيث قال: فإن قيل كيف تدّعون الإجماع على الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد و المعلوم من حالها انّه لا ترى العمل بخبر الواحد، كما أنّ المعلوم من حالها انّها لا ترى العمل بالقياس؟ فأجاب: المعلوم من حالها الذي لا ينكر و لا يدفع أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد، الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد و يختصون بطريقه.(2)

ص:213


1- العدة: 1/126.
2- لاحظ العدة: 1281/127.
أدلّة القائلين بالحجّية
اشارة

استدل القائلون بالحجّية، بالأدلة الأربعة.

فمن الكتاب:
الأُولى: آية النبأ

قال سبحانه: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ).(1)

ذكر الطبرسي سبب نزولها و قال: نزلت الآية في الوليد بن عقبة، بعثه رسول اللّه في جباية صدقات بني المصطلق، فخرجوا يتلقّونه فرحاً به و كانت بينه و بينهم عداوة في الجاهلية فظنّ أنّهم همُّوا بقتله، فرجع إلى رسول اللّه و قال: إنّهم مَنعُوا صدقاتهم، و كان الأمر بخلافه، فغضب النبي و همَّ أن يغزوهم، فنزلت الآية.(2)

لكن الجزء الأخير من القصة، غير صحيح فليس النبي من المتسرعين في القضاء، و لو كان كذلك، لتوجه الخطاب إليه، مع أنّه توجّه إلى المؤمنين.

و هناك سؤالان:

و هو أنّ الوليد من أغصان الشجرة الخبيثة قد آمن ظاهراً عام الفتح كسائر الأمويين، و كانت غزوة بني المصطلق في العام السادس من الهجرة، فكيف بعثه النبي لجباية الصدقات؟! و الجواب كون الغزوة في العام السادس و إسلامهم فيه، لا يلازم كون البعث

ص:214


1- الحجرات: 6.
2- مجمع البيان: 5/132.

في تلك السنة و لعلّه) صلى الله عليه و آله و سلم (بعثه بعد عام الفتح كما لا يخفى.

و قد نقل ابن عبد البر في الاستيعاب: و لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت انّ قوله عزّ و جلّ: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) نزلت في الوليد(1). و حكاه عنه ابن الأثير في أُسد الغابة(2). و يؤيده نزول قوله سبحانه: (أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ).(3)

روى الطبرسي، عن ابن أبي ليلى نزل قوله: (أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) في علي بن أبي طالب و رجل من قريش، و قال غيره نزلت في علي بن أبي طالب و الوليد بن عقبة، فالمؤمن علي و الفاسق الوليد، و ذلك انّه قال لعلي) عليه السلام (: أنا أبسط منك لساناً، و أحدُّ منك سناناً، فقال علي) عليه السلام (: ليس كما تقول يا فاسق. قال قتادة: و اللّه ما استووا لا في الدنيا و لا عند الموت و لا في الآخرة.(4)

روى الشارح المعتزلي أنّ حسان بن ثابت شاعر عصر الرسالة قد نظم الواقعة في بيتين:

أنزل اللّه و الكتاب عزيز في عليّ و في الوليد قرآنا

فتبوّأ الوليد إذ ذاك فسقا و عليّ مبوأ إيماناً(5)

2. كيف بعثه النبي إلى جبايتها، مع أنّه فاسق؟ و الجواب انّ المانع من البعث هو الفسق الظاهري لا الخفي، و لعلّه لم يظهر

ص:215


1- الاستيعاب: 2/620.
2- أُسد الغابة: 5/90.
3- السجدة: 18.
4- مجمع البيان: 4/332.
5- شرح النهج: 2/103.

منه إلى زمان البعث أي فسق، و كان فسقه مخفياً إلى أن أظهره القرآن الكريم.

و أمّا الاستدلال فتارة يستدل بمفهوم الوصف، و أُخرى بمفهوم الشرط، و إليك بيانهما.

الأوّل: الاستدلال بمفهوم الوصف بوجهين

1. إنّ قوله: فاسق، وصف لموصوف محذوف، أي مخبر فاسق، فالمخبر الموصوف بالفسق يجب تبيّن خبره، فيكون مفهومه انتفاؤه عند انتفاء الوصف، بمعنى كون المخبر عادلاً. و هذا سار في كلّ وصف لا ثالث له، كما في قوله:» في سائمة الغنم زكاة «فمعناه الغنم بقيد السائمة فيها زكاة، و يكون مفهومه، الغنم عند عدم كونها سائمة ليس فيها زكاة.

يلاحظ عليه: أنّ المستدلّ خلطَ بين كون القيد احترازيّاً، و كونه ذا مفهوم، و مفاد الأوّل هو مدخليته في الحكم مقابل القيد غير الاحترازي مثل (فِي حُجُورِكُمْ ) في قوله سبحانه: (وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ )(1)و أمّا كونه دخيلاً منحصراً لا يقوم مقامه شيء آخر، فلا يدل عليه.

فإن قلت: القائم مقامه هو المعلوفة، فلو كان كذلك، كان ذكر السائمة لغواً، إذ يعرف هذا من أنّ الزكاة لجنس الغنم، و لا مدخلية لأحد الوصفين فيه.

قلت: لا تلزم اللغوية، لاحتمال أن تكون القضية جواباً لسؤال السائل عن المعلوفة فجاء الجواب وفقاً للسؤال، و إن كان الحكم عاماً.

2. ما حقّقه الشيخ، و قال: إنّ لخبر الفاسق حيثيتين: إحداهما ذاتية و هي ما يكون وصفاً للخبر و هي كونه خبر الواحد، و الأُخرى عرضية، أي ما يكون وصفاً للمخبر، و يوصف به الخبر أيضاً بالعناية، و تعليق التبين على العنوان العرضي دون

ص:216


1- النساء: 23.

الذاتي المشترك بين خبر العادل و الفاسق، يعرب عن كونه السبب للتبيّن دون مطلق الخبر، و إلاّ كان العدول عنه إلى العرضي غير بليغ.

يلاحظ عليه: أنّ البيان متين لو لم يكن للعدول وجه، و هو التصريح بفسق المخبر و رفع الغشاء عن وجهه القبيح.

و من هنا يعلم أنّ الآية ليست بصدد جواز العمل بخبر العادل و عدمه، بل هي بصدد المنع عن العمل بخبر الفاسق.

فإن قلت: إنّ سيرة العقلاء على عدم العمل بقول من لا يثقون بقوله، و الفاسق ممن يوثق بقوله، فما السرّ في هذا النهي؟ قلت: السرّ هو التصريح بفسق الوليد و بيان الصغرى، و إن كانت الكبرى عندهم معلومة. هذا كلّه حول الاستدلال بمفهوم الوصف.

و مما ذكرنا يعلم أنّ التقرير الثاني تقرير لمفهوم الوصف لا لمفهوم الشرط، فما أفاده المحقّق النائيني من أنّه ينطبق على مفهوم الشرط غير ظاهر.

الثاني: التمسك بمفهوم الشرط

و قبل تقرير المفهوم، نذكر نكتة و هي أنّ حمل الجزاء على الموضوع على قسمين:

تارة يصحّ حمله عليه سواء أ كان هناك شرط أو لا، كما إذا قال: زيد إن سلّم أكرمه. فإنّ حمل الجزاء صحيح سواء أسلم أم لا، غاية الأمر، خصّ الآمر الإكرام بإحدى الصورتين، و هو ما إذا سلّم.

و أُخرى لا يصحّ حمل الجزاء على الموضوع إلاّ مع وجود الشرط، بحيث لولاه لما صحّ حمله، كما إذا قال: الولد إن رُزِقتَ به فاختنه، أو زيد إن ركب فخذ ركابه، أو قال: الدرس إذا قرأته فاحفظه. ففي هذه الموارد، يكون الشرط من

ص:217

محققات ما موجودة بل كتاب الموضوع، بحيث ينتفي الموضوع بانتفائه.

و القضية الشرطية ذات المفهوم هو القسم الأوّل، الذي يصحّ حمل المشروط) الجزاء (على الموضوع سواء كان هناك شرط أو لا، لا القسم الثاني، بل يكون سلب الجزاء عندئذ لأجل عدم الموضوع، و هو ليس بمفهوم اصطلاحاً، و إلاّ يلزم أن تكون جميع القضايا الحملية ذات مفهوم، إذا علمت هذا فاعلم:

انّ مفهوم الشرط في الآية يقرر على وجهين مبنيين على كون الموضوع ما هو؟ فهل الموضوع:

1. نبأ الفاسق إذا جاء به فيجب تبيّنه؟ أو الموضوع.

2. النبأ المفروض وجوده إن جاء به الفاسق يجب تبيّنه؟ فقرّره المشهور على الوجه الأوّل، و قرّر المحقّق الخراساني على الوجه الثاني.(1)

و إليك كلا التقريرين:

مفهوم الشرط على تقرير المشهور

إنّ تقرير المشهور مبنيّ على جعل الموضوع: نبأ الفاسق، و الشرط: هو المجيء، و الجزاء: هو التبيّن و التثبت; فكأنّه قال: نبأ الفاسق، إن جاء به الفاسق، فتبيّنه و يكون مفهومه:

نبأ الفاسق إن لم يجئ به فلا تتبيّنه، لكنّ للشرط عدم مجيء الفاسق مصداقين:

ص:218


1- فوائد الأُصول: 3/169.

1. عدم مجيء الفاسق و العادل به فيكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

2. مجيء العادل به فيكون عدم التبيّن من قبيل السالبة بانتفاء المحمول، لأنّ النبأ موجود، و المنفي هو المحمول، أعني: التثبيت.

يلاحظ عليه: أنّ المفهوم عبارة عن سلب الحكم عن الموضوع الوارد في القضية، لا عن موضوع آخر لم يرد فيها، فالموضوع في الآية حسب الفرض، هو: نبأ الفاسق، فالتثبّت عند المجيء به و عدم التثبّت عند عدم المجيء به، يجب أن يتوارد عليه لا على موضوع آخر كنبإ العادل الذي ليس منه ذكر في الآية، و على ذلك ينحصر مفهوم الآية بالصورة الأُولى، و هو عدم مجيء الفاسق، من دون نظر إلى نبأ العادل، و من المعلوم أنّ عدم التثبّت عند عدم مجيئه به، لأجل عدم الموضوع للتثبت.

و بعبارة أُخرى: انّ الإثبات و النفي لدى وجود الشرط و عدمه، يتواردان على الموضوع المذكور و هو » نبأ الفاسق «لا انّ الإثبات التبيّن يتوارد على نبأ الفاسق، و النفي عدم التبيّن يتوارد على موضوع آخر، و هو نبأ العادل.

مفهوم الشرط على تقرير الخراساني

لمّا وقف المحقّق الخراساني على الإشكال الوارد على تقرير المشهور، عدل عنه إلى تقرير آخر قال ما هذا نصّه: انّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق يقتضي انتفاءه عند انتفائه.

توضيحه: انّ الموضوع هو النبأ المحقّق وجوده عبر الزمان، و الشرط هو مجيء الفاسق، و الجزاء هو وجوب التبين، و على ذلك فليس مجيء الفاسق به من محقّقات الموضوع، بل من حالاته، لافتراض أخذ النبأ على نحو القضية الحقيقية، فله حالتان:

ص:219

1. مجيء الفاسق به 2. عدم مجيء الفاسق، و لكنّه يلازم مجيء العادل به لافتراض أنّ الخبر محقّق الوجود، و الجائي به إمّا فاسق أو عادل، فإذا لم يجئ به الفاسق، يكون الجائي به عادلاً قطعاً لعدم الشق الثاني.

يلاحظ عليه: أنّ الآية ليست بصدد بيان أحكام النبأ المطلق سواء أ كان الجائي به الفاسق أو العادل فيختص التثبت بالأوّل دون الثاني، بل بصدد بيان حكم نبأ الفاسق بشهادة قوله: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) أي فاسق يحمل نبأ فالنفي و الإثبات يجب أن يتواردا على موضوع واحد و هو نبأ الفاسق.

تقرير ثالث لمفهوم الشرط في الآية

إنّ هنا تقريراً ثالثاً يقرب ممّا ذكره المحقّق الخراساني، و حاصله:

أنّ الشرط تارة يكون بسيطاً و يكون الجزاء في نفسه متوقفاً على الشرط، كما في قولك: إنْ رزقت ولداً فاختنه.

و أُخرى يكون مركّباً، و يكون الجزاء متوقفاً عقلاً على كليهما، كما إذا قال: إن رزقت ولداً و كان ذكراً فاختنه.

و ثالثة يكون متوقفاً على أحدهما دون الآخر، كما إذا قال: إن ركب الأمير و كان يوم الجمعة فخذ ركابه، فإنّ أخذ الركاب متوقف على الركوب عقلاً و لا يتوقف على كون ركوبه يوم الجمعة.

و مثله المقام فانّ التبيّن يتوقف على النبأ، و لا يتوقف عقلاً على الجزء الآخر أعني كون الآتي به فاسقاً، و مفاده عدم التبين عن النبأ عند انتفاء كون الآتي به فاسقاً.(1)

ص:220


1- مصباح الأُصول: 2/159.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره تحليل عقلي صحيح في عالم الثبوت، و لكنّه على خلاف ظاهر الآية، لأنّها ليست بصدد بيان أحكام النبأ على وجه الإطلاق ليعلم بالمنطوق و المفهوم حكم كلا القسمين، بل هي بصدد بيان حكم موضوع واحد، و هو» نبأ الفاسق «، فالتبين عند المجيء و عدمه عند عدم المجيء، يتواردان على موضوع واحد، و هو قول الفاسق.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني سلّم أنّ الموضوع هو» نبأ الفاسق «لا مطلق النبأ، لكن حاول استفادة حكم نبأ العادل من طريق آخر، و هو: أنّ ظاهر الآية انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه و وجود موضوع آخر، ثمّ أمر بالتدبّر.

و لعلّ وجه ما ذكره من ظهورها في انحصار وجوب التبيّن في نبأ الفاسق، هو ما أشار إليه تلميذه المحقّق العراقي: انّ وجوب التبيّن يناسب جهة فسق المخبر لعدم تحرّزه عن المعاصي، التي منها تعمّد كذبه، فوجب التبيّن عن حال خبره لئلا يقع المكلّف في خلاف الواقع، فتحصل له الندامة، و هذا بخلاف خبر العادل فانّه من جهة تورّعه عن محارم اللّه لا يقدم على التعمّد بالكذب، فاحتمال تعمّد كذبه منفي بعدالته.(1)

ثمّ إنّ الإشكال المزبور راجع إلى نفي الاقتضاء و انّه لا مفهوم للقضية الشرطية في الآية، و هناك إشكالات ترجع إلى إيجاد موانع بعد تسليم اقتضائه، و لم يذكر منها المحقّق الخراساني إلاّ إشكالاً واحداً، بخلاف الشيخ الأعظم فانّه أشار إلى إشكالات عديدة منها و نحن نقتفيه.

ص:221


1- نهاية الأفكار: 3/107، للشيخ محمد تقي البروجردي تلميذ المحقّق العراقي.
الإشكال الأوّل: عموم التعليل مانع عن تمامية دلالة الآية

هذا الإشكال هو الذي نقله الشيخ الأعظم عن الشيخ الطوسي في عدّته بقوله: لا يمتنع ترك الخطاب ) مفهوم المخالفة (لدليل و التعليل دليل.(1)

و حاصله: انّه لو سلمنا دلالة مفهوم الآية على قبول خبر العادل غير المفيد للعلم، لكن مقتضى عموم التعليل هو وجوب التبيّن في كلّ خبر لا يُؤمن من الوقوع في الندم من العمل، و إن كان المخبر عادلاً، فيعارض المفهوم، و الترجيح مع ظهور التعليل.(2)

و بتقرير آخر: انّ التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك بين المفهوم و المنطوق قرينة على أنّ الآية فاقدة للمفهوم(3)، و الفرق بين التقريرين واضح، فالأوّل يركز على احتمال الندامة المشترك بين خبري العادل و الفاسق، و الثاني على صدق الجهالة بمعنى عدم العلم على الموردين.

و قد أُجيب عن الإشكال بوجوه:

الوجه الأوّل:

ما أفاده الشيخ: من أنّ المراد من التبيّن ما يعم الظهور العرفي الحاصل من الاطمئنان الذي هو في مقابل الجهالة و الاطمئنان منتف في خبر الفاسق دون العادل.

يلاحظ عليه بوجهين:

أوّلاً: أنّ تفسير التبين بالظهور العرفي لا يصدقه القرآن الكريم، فانّه

ص:222


1- الطوسي، العدة: 1/113.
2- الفرائد: 71.
3- كفاية الأُصول: 2/86.

استعمل فيه في الظهور الحقيقي:

1. كقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (1)و مورد الآية إراقة الدماء، و لا يكتفى فيه بالوثوق و الاطمئنان، بل لا بدّ من العلم أو البيّنة.

2. و قال سبحانه: (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (2)أي يتبين أنّ القرآن حقّ بأجلى مظاهره.

3. و قوله سبحانه: (حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ).(3)

ثانياً: لو صحّ ما ذكره لدلّ منطوق التعليل على حجّية الخبر العادل، من دون حاجة إلى المفهوم، لأنّ الظهور العرفي بمعنى الاطمئنان موجود في خبر العادل قطعاً.

الوجه الثاني:

ما أجاب به المحقّق الخراساني: من أنّ الإشكال مبنيّ على أنّ الجهالة بمعنى عدم العلم، و لكنّه بمعنى السفاهة و فعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل، و هو غير موجود في خبر العدل.

فإن قلت: لو كان العمل بقول الفاسق عملاً سفهيّاً لما أقدم عليه أصحاب النبي و هم عقلاء.

ص:223


1- النساء: 94.
2- فصلت: 53.
3- البقرة: 187.

قلت: إنّهم أقدموا على العمل بقوله غافلين عن فسقه، و لو لا الغفلة لما ركنوا إلى قوله.

أقول: لا شكّ أنّ الجهالة تستعمل في معنى السفاهة، لكنّها في الآية ليست بهذا المعنى، بل هي فيها بمعنى عدم العلم بالواقع ضدّ التبيّن.

أمّا الأوّل: فقد استعملت في قوله سبحانه: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1)و قال سبحانه: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (2)و قال سبحانه: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ )(3).

قال الراغب في المفردات: إنّ الجهل على ثلاثة أضرب: ثالثها فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل.

و أمّا الثاني: فلأنّ الظاهر انّ الجهالة في الآية في مقابل التبيّن، الذي هو إمّا بمعنى العلم القطعي كما قلناه، أو الاطمئنان، و يكون المراد من مقابله أعني الجهالة، ضدّهما، لا مقابل الحكمة.

الوجه الثالث: ما أجاب به المحقّق النائيني من أنّ المفهوم حاكم على التعليل، لأنّ أقصى ما يدل عليه التعليل عدم جواز العمل بما وراء العلم، و المفهوم يقتضي إلغاء احتمال الخلاف و جعل الخبر العادل محرِزاً للواقع و علماً في مقابل التشريع، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما، لأنّ المحكوم لا يعارض الحكم و لو كان ظهوره أقوى.(4)

ص:224


1- الأنعام: 54.
2- النحل: 119.
3- النساء: 17.
4- فوائد الأُصول: 3/172.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الحكومة عبارة عن نظارة أحد الدليلين إلى الدليل الآخر، و تكون نتيجتها تارة رفع حكم الدليل المحكوم بلسان رفع موضوعه، كما إذا قال: إذا شككت فابن على الأكثر، ثمّ قال: لا شكّ للإمام مع حفظ المأموم، أو بالعكس، فهو بلسانه ناظر إلى الدليل المحكوم، و يدل على أنّ شكّ الإمام أو المأموم مع حفظ الآخر خارج عن تحت الدليل الأوّل، لكن لا بنحو الإخراج عن الحكم ابتداء حتى يكون تخصيصاً، بل بنحو رفع الموضوع تعبداً لغاية رفع الحكم. و أُخرى بالتعرض لحالات الحكم المحكوم، كما إذا قال صاحب الشريعة: (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(1)، فهو بلسانه متعرض لأحوال الأحكام الواردة في الشريعة، و يدل على أنّ الحكم إذا كان حرجياً فإطلاقه غير مجعول. و على كلّ تقدير الحكومة قائمة بلسان الدليل، و المفروض في المقام أنّ المفهوم فاقد للّسان، فكيف يكون حاكماً؟! ثانياً: أنّ مفاد المفهوم على القول به، هو عدم وجوب التبيّن، و أين هو من إلغاء احتمال الخلاف، و كونه محرزاً للواقع و علماً في مقام التشريع؟! ثالثاً: أنّ ما ذكره يستلزم الدور، لأنّ انعقاد المفهوم و ظهور القضية في المفهوم، فرع حاكميته على التعليل المزاحم لانعقاد المفهوم، و كون القضية ذات مفهوم و كونه حاكماً، فرع وجوده و اشتمال القضية على المفهوم.

الوجه الرابع: انّ التعليل يختص بما إذا كان العمل بالخبر في معرض الندامة، و هو يلازم خبر الفاسق دون خبر العادل، و العادل و إن كان يخطأ، كالعلم القطعي لكنّهما ليسا في معرض الندامة، و لعلّ هذا الجواب أظهر.

ص:225


1- الحج: 78.
الإشكال الثاني: خروج المورد عن المفهوم

ما أشار إليه الشيخ أيضاً، و هو انّ مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجية التي منها مورد الآية و هو إخبار الوليد بارتداد طائفة، و من المعلوم انّه لا يكفي فيه خبر العادل فلا أقلّ من اعتبار العدلين، فلا بدّ من طرح المفهوم لعدم جواز إخراج المورد.

و قد أجاب عنه الشيخ بانّه لا يلزم إخراج المورد، غاية الأمر يقيّد إطلاق المفهوم في مورد الموضوعات بضمّ عادل آخر إليه، فقول العادل حجّة مطلقاً، غاية الأمر إذا كان المخبَر به حكماً شرعياً يؤخذ بقوله، و إذا كان موضوعاً خارجياً، فليلتمس ضمُّ عادل إليه.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره ليس جواباً عن الإشكال، بل هو تقرير له، و هو خروج المورد عن مفهوم الآية، و ما ذكره ليس إلاّ تغييراً في التعبير، فانّ معنى قوله:» يقيد إطلاق المفهوم في مورد الموضوعات « عبارة أُخرى عن عدم حجّية المفهوم في مورد الآية و انّه لو كان المخبر أيضاً عادلاً لا يعمل به بل لا بدّ من البيّنة.

و قد أجاب المحقّق النائيني عن الإشكال بوجه آخر، و لم يرتضه السيد الأُستاذ و الجواب و الإشكال مذكور في التهذيب، فلاحظ.(1)

الإشكال الثالث: اختصاصه بالموضوعات الخطيرة

و الذي عندي في تفسير الآية من أوّلها إلى آخرها أمر وراء ما ذكره الأعاظم، و حاصله: أنّ الآية غير ناظرة إلى الخبر بما هو خبر، حتى نبحث عن المنطوق و المفهوم و نناقش ما يزاحم أصل المفهوم أو يعارضه، بل الموضوع في الآية هو النبأ

ص:226


1- تهذيب الأُصول: 2/114.

لا الخبر، و هو ليس مطلق الخبر، بل الأمر العظيم الذي يوجب على الإنسان الحزم و الاحتياط و تحصيل التبين و اليقين، و ترك الإقدام مع الجهل، من غير فرق بين خبر الفاسق و العادل، و يخصص الفاسق بالذكر لأجل التصريح بفسق الوليد.

توضيح ذلك: أنّه فرق في لغة العرب بين الخبر و النبإ، و لا يطلق الثاني إلاّ على الخبر الخطير، و لا يطلق النبيّ على مطلق المخبِر، بل الذي يُخبر عن خبر خطير و ينقل أخبار السماء إلى الأرض.

و قد استعمل القرآن لفظ النبأ في خمسة عشر مورداً و أُريد من الكل الأمر الخطير، قال سبحانه:

1. (وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ).(1)

2. (وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ).(2)

3. (وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ).(3)

4. (عَمَّ يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ )(4)، و توضيحه بالعظم لغاية المبالغة.

و محط البحث في الآية هو الموضوعات الخطيرة، فلا يستخدم فيها إلاّ العلم و التبيّن القطعي و لا يكتفى بغيره، من غير فرق بين خبر العادل و الفاسق، و قد مرّ أنّ التبيّن في الآية ليس هو الاطمئنان بل التبيّن العلمي في مقابل الجهل.

فالآية تركِّز على أنّه لا يصلح في تلك المواقف الخطيرة سوى التبيّن و العلم،

ص:227


1- المائدة: 27.
2- الأنعام: 34.
3- النمل: 22.
4- النبأ: 21.

و أمّا في غيرها من سائر الأُمور غير المهمة فالآية ساكتة عنها منطوقاً و مفهوماً، و لا يستعمل لفظ النبأ إلاّ في الموضوعات و لا يعمّ الأحكام، و يختص بالموضوعات التي لها خطر و شأن، لا مطلقه.

هذا حول الإشكالات المختصة بالآية، و هناك إشكالات لا تختص بها بل تعم جمع أدلّة حجّية الخبر الواحد.

الإشكالات غير المختصة بآية النبأ

هناك إشكالات لا تختص بالآية بل تعم جميع ما استدل به على حجّية الخبر الواحد، و كان على الشيخ التفكيك بين النوعين:

الأوّل: التعارض بين المفهوم و الآيات الناهية

و قد أشار إليه الشيخ و حاصله: معارضة المفهوم بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم و النسبة عموم من وجه، فيفترق المفهوم عنها في خبر العادل المفيد للعلم، كما تفترق الآيات عن المفهوم في خبر الفاسق و يجتمعان في خبر العادل المفيد للظن، فالمرجع هو عموم الآيات لأقوائيتها.

و الحقّ أن يقال: إنّ النسبة بين المفهوم و الآيات الماضية هي التباين، لأنّ المراد من الظن كما مرّ هو الخرص و التخمين و الحدس، غير المبنيّ على دليل، و أين هذا من خبر العادل الحاكي عن حس؟

الثاني: المفهوم يعمّ قول السيد

لو كان خبر العادل حجّة، فقول السيد أيضاً خبر الواحد، داخل تحت الآية فلو كان حجّة لزم عدم حجّية الخبر الواحد بتاتاً.

ص:228

و أُجيب بوجوه كثيرة:

1. انّ السيد لا يخبر عن قول المعصوم إلاّ عن حدس، و الحجّة هو الإخبار عن حس.

2. انّ ادعاءه معارض بادّعاء الشيخ عن إجماع الطائفة على حجّية الخبر الواحد.

3. انّ الأمر دائر بين دخوله و خروج غيره، أو بالعكس، فالثاني هو المتعيّن، لاستلزامه التخصيص المستهجن.

4. لو شمله إطلاق المفهوم، يكون مآلها التعبير عن عدم حجّية الخبر الواحد بنقيضه، و ذلك بإدخال قول السيد، و هذا خلاف البلاغة.

5. انّ قول السيّد، ليس من مصاديقه، بل يناقض المفهوم، لأنّه يدل على حجّية خبر الواحد، و هو ينفيه، فلا يعدّ مثله من مصاديقه.

6. لو كان قول السيّد من مصاديق الآية لزم من حجّيته عدمه، لأنّ إخباره عن عدم حجّية خبر الواحد، يشمل قول نفسه بتنقيح المناط و ما يلزم من وجوده، عدمه، باطل.

و هنا كلام للمحقّق الخراساني و حاصله: من الجائز أن يكون خبر العادل حجّة في زمان نزول الآية إلى زمان صدور هذا الخبر من السيّد، و عند ذاك يدخل قول السيد تحت الآية، و دخوله منتهى أمد الحكم الأوّل أعني الحجّية.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا يمكن إدخال قول السيد في مفهوم الآية لا من عصر الرسالة و لا من عصر صدوره من السيّد، إذ على الأوّل يعود محذور تخصيص الأكثر المستهجن، و صيرورة الكلام أشبه باللغز و غيرها من الإشكالات، و على الثاني يلزم حدوث النسخ في الأحكام بعد رحيل النبي، و هو ممنوع إجماعاً.

ص:229


1- تعليقة الخراساني على الفرائد: 63.
الثالث: عدم شمولها للاخبار مع الواسطة

هذا الإشكال يتوجه على أخبار الآحاد المنقولة بوسائط، دون المنقول بواسطة واحدة، و في الحقيقة إشكال واحد و يقرر بوجوه مختلفة، و قد جاء في الكفاية وجهان منها.

أشار إلى الأوّل بقوله:» ربّما أشكل شمول مثلها «.

و إلى الثاني بقوله:» و لا يخفى أنّه لا مجال بعد اندفاع الإشكال «.

و أمّا الشيخ فقد اختلفت نسخ الفرائد، فبعضها تشتمل على ثلاثة، و البعض الآخر على أربعة، أو خمسة، و ممن بينها بوجه واضح المحقّق النائيني في فوائده.

و نحن نذكر في المقام أكثر الوجوه مع إيضاح ما في الكفاية.

1. انصراف الأدلة عن الاخبار بوسائط

إنّ القدر المتيقن من أدلّة حجّية الخبر الواحد، هو الإخبار بلا واسطة، لا الاخبار بواسطتين أو بوسائط.

2. انصرافه عن الخبر التعبدي

الدليل منصرف عن الخبر التعبّدي و لا يعمّ سوى الخبر الوجداني، فمن وقع في مبدأ السند فكلامه خبر وجداني، دون من يحكيه هو عنهم فانّها أخبار تعبّدية لا دليل على حجّية قولها.

يلاحظ عليه: أنّه لا فرق بين الاخبار بلا واسطة أو معها عند العقلاء، كما لا فرق عندهم بين الوجداني و غيره، و اقتصارهم على الوجداني يوجب العسر

ص:230

و الحرج في الحياة، و لو ثبت ذلك فمعناه إلغاء التاريخ عن قاموس العلم فانّه يقوم على العنعنة، مع اهتمامهم بها. نعم لو كثرت الواسطة على نحو لا تسكن النفس بمثله كان لما ذكر وجه، و أمّا الاخبار المنقولة في الكتب الأربعة و غيرها فليست الوسائط على حدّ تسقط كثرة الوسائط لها عن الاعتبار.

3. لزوم كون المخبر به ذا أثر شرعي

إنّ التعبّد بتصديق العادل لا بدّ أن يكون لأجل ترتيب أثر شرعي على قوله، و إلاّ فلو كان المخبَر به فاقداً للأثر، فلا يجب تصديقه، فلو أخبر عن مقدار ارتفاع المنارة أو عن عمق البئر، فلا يجب تصديقه لعدم ترتّب أثر شرعي عليه، و على هذا فلو أخبر الراوي عن الإمام يجب تصديقه، لترتّب الأثر على تصديقه، فالمخبِر كالصفار إذا أخبر عن الإمام العسكري اشتمل على الحكم الشرعي، و أمّا إذا أخبر عن إخبار المخبر، كالصدوق أخبر عن إخبار الكليني، و هو عن إخبار الصفار، و هو عن الإمام العسكري) عليه السلام (، فلا يترتب على تصديق الصدوق و لا الكليني أيّ أثر، لأنّ المخبَر به ليس كلام الإمام، بل إخبار الراوي الفاقد للأثر.

يلاحظ عليه: أنّه يكفي في صحّة التعبّد أن يكون جزء الموضوع للأثر لا تمام الموضوع، فيصحّ الأمر بتصديق الصدوق و الكليني، لغاية إثبات قول الصفار الذي يحمل قول الإمام و الحكم الشرعي.

و بعبارة أُخرى: يكفي وقوعه في طريق ثبوت موضوع ذي أثر شرعي.

4. اتحاد الحكم مع جزء الموضوع

إنّ قول القائل» صدّق العادل «في كلّ خبر ذي أثر شرعي مركّب من أُمور ثلاثة:

ص:231

أ. الحكم و هو: صدِّق.

ب. الموضوع: كلّ خبر.

ج. قيده: ذو أثر شرعي.

فإذا أخبر زرارة عن الإمام الصادق) عليه السلام (عن طهارة العصير بعد التثليث أو نجاسته قبله، فالأُمور الثلاثة متحققة بالشكل التالي، فالحكم هو: وجوب التصديق، و الموضوع: خبره أعني» طهارة الشيء « أو نجاسته، و أثره هو: وجوب الاجتناب عنه، و عدم وجوبه.

فالأُمور الثلاثة متحققة كما هو واضح.

و أمّا إذا أخبر الصدوق عن الكليني، و هو عن الصفار، و هو عن الإمام العسكري) عليه السلام (فوجوب تصديق الصدوق يتوقف على تحقّق أُمور ثلاثة:

الأوّل: الحكم و هو: وجوب التصديق.

الثاني: الموضوع: إخباره عن الكليني.

الثالث: الأثر: و ليس الأثر هناك إلاّ نفس الحكم، إذ لا يترتب على إخبار الكليني للصدوق أيّ أثر شرعي سوى وجوب التصديق، فيلزم أن يكون الحكم مأخوذاً في الموضوع، و هو غير صحيح، لأنّ الحكم متأخر رتبة، و الموضوع بعامّة أجزائه متقدّم.

و بعبارة أُخرى: لا يمكن التعبّد بالتصديق إلاّ أن يكون للموضوع) إخبار الكليني للصدوق (أثر شرعي قبل التعبّد، و المفروض أنّ الأثر جاء من جانب الحكم، و ترتّب عليه في ناحيته و هذا نفس الدور.

نعم لو كان هناك إنشاءان لوجوب التصديق بحيث يكون أحدهما جزء الموضوع، و الآخر الحكم المترتب عليه، لارتفع الإشكال.

ص:232

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن هذا الإشكال بوجوه ثلاثة:

1. انّ قوله:» صدّق العادل في كلّ خبر ذي أثر «لو كان قضيّة حقيقية ناظرة إلى كلّ فرد فرد من الآثار التي يدل عليها لفظة» ذي أثر «لصحّ الإشكال، إذ عندئذ يكون من الآثار هو وجوب التصديق الجائي من ناحية الحكم، مع أنّه يلزم أن يكون الموضوع ذا أثر قبل الحكم، فكيف تكون بعض الآثار نفس الحكم؟! و أمّا إذا كانت القضية طبيعيّة و الحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر، فعندئذ لا يلزم اتحاد الحكم و الموضوع، لأنّه حكم بترتيب طبيعة الأثر من غير نظر إلى أفراده، غير أنّ ذلك الأثر في قول زرارة غير الحكم، و في اخبار الصدوق نفس الحكم، و هذا أمر غير مخل.

2. انّ قوله: صدّق العادل في كلّ خبر ذي أثر، و إن لم يدل بالدلالة اللفظية على ترتيب تصديق العادل للمحذور السابق أعني وحدة الحكم مع جزء الموضوع، و لكن بما أنّه لا فرق بين ذلك الأثر) وجوب التصديق (و سائر الآثار كالاجتناب و عدمه يترتب على خبر العادل جميع الآثار حتى وجوب التصديق.

3. عدم القول بالفصل بين هذا الأثر و بين سائر الآثار في وجوب الترتيب لدى الاخبار بموضوع صار أثره الشرعي وجوب التصديق.

هذا توضيح ما في الكفاية إشكالاً و جواباً.

يلاحظ على الجواب الأوّل: بأنّ الإجمال في مقام الثبوت غير صحيح، فإذا قال: صدّق العادل في كلّ خبر ذي أثر، فإمّا يراد منه أثر غير وجوب التصديق أو الأعمّ منه و من غيره.

فعلى الأوّل لا يصحّ التعبّد بإخبار الصدوق، لعدم الأثر فيما أخبر به، أعني: إخبار الكليني له، مع أنّ تصديقه فرع وجود الأثر في خبره.

ص:233

و على الثاني يعود الإشكال و يلزم أن يكون الحكم مأخوذاً في الموضوع. و الأولى أن يقال: إنّ تصديق الصدوق لا يتوقف على كونه ذا أثر شرعي وراء كونه جزءاً لثبوت الأثر الشرعي أعني قول العسكري.

و بالجملة: انّ وجوب التصديق فرع عدم لغوية التعبد بتصديق العادل، و يكفي في مصونيته عنها ثبوت قول العسكري بهذه التصديقات المتكررة.

5. إثبات الحكم لموضوعه

و هذا هو الإشكال الثاني في الكفاية و الإشكال الخامس حسب تقريرنا، و حاصله:

انّه لو عمّت الدليل للاخبار مع الواسطة لزم إثبات الموضوع بالحكم، مع أنّه يتوقف عليه.

توضيحه: لا شكّ أنّ كلاً من إخبار الشيخ، و المفيد، و الصدوق، و الكليني، و الصفار، موضوعات لقوله:

» صدّق العادل «و المحرز لنا بالوجدان هو أوّل السند، و هو خبر الشيخ، و أمّا الباقي فإنّما يثبت ببركة تصديق الشيخ فيما يحكي، فيلزم أن يكون الحكم) صدّق العادل (مثبتاً للموضوع، أي قول المفيد بأنّ الصدوق أخبره و هكذا.

و قد أجاب عنه في الكفاية بوجوه ثلاثة:

1. إذا كان خبر له أثر شرعي حقيقة بحكم الآية، وجب ترتيب أثره عليه عند اخبار العدل به كسائر ذوات الآثار من الموضوعات، لما عرفت من شمول مثل الآية، للخبر الحاكي للخبر بنحو القضية الطبيعية.

2. أو لشمول الحكم فيها له مناطاً إن لم يشمله لفظاً.

3. أو لعدم القول بالفصل.

ص:234

و حاصل الجواب الأوّل: انّ الموضوع المحرز قبل الحكم و إن كان هو خبر الشيخ عن المفيد فقط، و لكن لما كانت القضية) صدّق العادل (قضية طبيعية لا حقيقية، يسري الحكم إلى جميع الأفراد المحرزة قبل الحكم) خبر الشيخ (و المحرزة بعده كإخبار المفيد عن الصدوق، و ليست حكمها حكم القضية الخارجية، التي يتوقف صدور الحكم على تحقّق الموضوع قبله، و على ذلك فالموضوعات المحرزة بعد تصديق الشيخ، تقع تحت الحكم و إن كان الموضوع متأخراً عن الحكم إحرازاً و ثباتاً.

نظير ذلك قول القائل:» كلّ خبري صادق «فلو أخبر قبله بعشرة أخبار، فهو كما يعم العشرة هكذا يعم حتى نفسه، لأنّ الموضوع هو طبيعة الخبر حتى و إن صار خبراً بهذا الإخبار.

يلاحظ عليه: أنّ الجواب مبني على أنّ هنا» وجوب تصديق واحد «فتوصل بهذا الجواب، و أمّا لو قلنا:

إنّ قول القائل:» صدّق العادل «ينحل حسب تعدد الاخبار إلى قضايا كثيرة، غير أنّ الموضوع الأوّل لما كان محرزاً يشمله الحكم بلا تأخير، و لكن يثبت بفضل تصديق الشيخ موضوع ثان، و هو خبر المفيد عن الصدوق، له وجوب تصديق خاص غير التصديق المتعلق بخبر الشيخ حسب القول بالانحلال، فيصدَّق المفيد فيثبت خبر عدل ثالث و هو خبر الصدوق عن الكليني، فيشمله وجوب تصديق ثالث متولد من انحلال قوله:» صدّق العادل «و هكذا يثبت الموضوع اللاحق ببركة ثبوت الموضوع السابق.

و هذا نظير الإقرار بالإقرار، فيشمله قوله:» إقرار العقلاء على أنفسهم جائز «فلأنّ الإقرار الثاني يثبت بفضل الإقرار الأوّل، و مثله إقامة البيّنة على البيّنة كما لا يخفى.

و في الختام أعطف نظر القارئ إلى أنّ هذه الإشكالات نابعة من الدقة

ص:235

العقلية، فلا تلتفت إليها أذهان العامة الذين هم المخاطبون بالخطابات فلا تصير مانعة عن شمول العمومات، و لو افترضنا أنّ الإشكالات بقيت بحالها، و لم نتوفق لحلها، لما كانت مانعة عن شمول العمومات.

الآية الثانية: آية النفر

قال اللّه تبارك و تعالى: (وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ).(1)

و الاستدلال بالآية يتوقف على الكلام في أُمور:

1. تفسير الآية، 2. كيفية الاستدلال، 3. ما أشكل على الاستدلال.

المقام الاول الكلام في تفسير الآية

لا شكّ أنّ الآية وردت في سياق آيات الجهاد، فانّ الآية المتقدمة عليها و المتأخرة عنها راجعتان إلى الجهاد قال سبحانه: (وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ).(2)

و قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ).(3)

و مع هذا الارتباط الوثيق بين الآية و سائر الآيات الحافّة بها فالاستدلال بها على حجّية الخبر الواحد يحتاج إلى فصلها عن سائر الآيات، و لنذكر الوجوه

ص:236


1- التوبة: 122.
2- التوبة: 121.
3- التوبة: 123.

المحتملة في الآية حيث فسّرت بوجوه:

الأوّل: انّ الخطاب متوجه للمؤمنين في المدينة و مَن حولها، و يخاطبهم بأنّ نفر الجميع إلى الجهاد أمر غير ممكن لاستلزامه تعطيل أمر الحياة و اختلاله، فأمر بنفر طائفة من كلّ فرقة لغاية التفقه في ميادين الحرب، ثمّ إنذار قومهم المتخلفين في المدينة و ما حولها، عند الرجوع إليهم، و المراد من التفقّه ما ذكره الطبرسي» ليتبصّروا و يتيقّنوا بما يُريهم اللّه من الظهور على المشركين و نصرة الدين، و أمّا الإنذار عند الرجوع إليهم باخبارهم بنصر اللّه النبي و المؤمنين لعلّهم يحذرون أن يقاتلوا النبي فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفّار «.

و مزية هذا الوجه أمران:

1. حفظ السياق وصلة الآية بما قبلها من سائر الآيات.

2. عدم التفكيك في ضمائرها، حيث إنّ الضمائر المتصلة الثلاثة: (لِيَتَفَقَّهُوا ) و (لِيُنْذِرُوا ) و (إِذا رَجَعُوا ) ترجع إلى النافرين.

و لكن الذي يبعده أمور ثلاثة:

أ: انّ الظاهر من التفقّه هو فهم معارف الدين و تعلّم أحكامه، و أمّا رؤية النصر في الحروب فهو يوجب مزيّة الثقة بأنّ اللّه ينصر رسوله و المؤمنين، كما قال سبحانه: (إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ )(1)، و هذا ليس تفقهاً في الدين، بل مزيد إيمان باللّه و بما وعد.

ب: انّ النصر لم يكن حليف المسلمين دائماً، بل ربما كانوا يرجعون مع النكسة و الهزيمة، كما هو الحال في غزوة أُحد و حنين، فلا يمكن أن يكون مثل هذا غاية النفر، التي يجب أن لا تنفك عنه.

ص:237


1- غافر: 51.

ج: لازم ذلك أن يكون النافرون أفقه من الذين بقوا في المدينة و تعلموا من النبي كلّ آية نزلت و حديث صدر.

د: القول بأنّ المراد من (وَ لِيُنْذِرُوا ) هو إنذار قومهم الكافرين كي لا يقاتلوا النبي، خلاف الفرض، لأنّ المفروض، انّ الخطاب للمؤمنين من أهل المدينة و من حولها و لم يكن يوم نزول الآية أيّ كافر فيها، لأنّها نزلت في العام التاسع من الهجرة، و قد أسلمت القبائل في الجزيرة العربية إلاّ قليلاً في جانب شمالها قرب الشامات، إلاّ أن يفسر الإنذار بتشجيعهم بالتمسّك بأهداب الإيمان و الإسلام.

الثاني: الخطاب للقاطنين في المدينة و المقيمين فيها و المراد انقسامهم إلى طائفتين، طائفة نافرة و طائفة قاعدة، فغاية النفر، هو الجهاد، و غاية القعود، هو التفقه في الدين لغاية إنذار النافرين عند الرجوع عن الجهاد، روى الطبري في تفسيره عن أبي زيد: انّ معنى الآية (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) أي ليتفقّه المتخلفون في الدين، و لينذروا النافرين إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون.(1)

و على هذا الوجه فالصلة بين الآيات محفوظة مثل السابق، لكن و يفضل عليه، بخلوّه عن الإشكالات الثلاثة المتوجهة إلى الأوّل.

لكن يرد عليه استلزامه التفكيك في مراجع الضمائر المتصلة، وعليه فالضمير في (لِيَتَفَقَّهُوا ) و (لِيُنْذِرُوا ) راجعان إلى القاعدين، و الضمير في (إِذا رَجَعُوا ) إلى النافرين و هو خلاف الظاهر. و هذان الوجهان يشتركان في أنّ الخطاب للمقيمين في المدينة، و هناك وجه ثالث و هو يفارق الوجهين بتوجيه الخطاب إلى غيرهم، و إليك البيان:

ص:238


1- تفسير الطبري: 11/49.

الثالث: انّ الخطاب لمؤمني سائر البلاد، و المراد من النفر، النفر إلى المدينة للتعلّم و التفقه، وعليه يجب أن ينفر من كلّ قبيلة، طائفة للتفقّه في حضرة النبي لغاية إنذار قومهم عند الرجوع.

و مزية هذا الوجه، التحفظ على وحدة مراجع الضمائر المتصلة و خلوه عن الإشكالات الثلاثة المتوجهة إلى الوجه الأوّل، غير انّ لازمه الاختزال و قطع الصلة الآيات، و هو ليس بأمر سهل.

نعم تؤيده روايات كثيرة مذكورة في التفاسير الروائية.

1. روى الصدوق في عيون الأخبار عن الرضا) عليه السلام (عند بيان علل الحج: انّ منها التفقّه و نقل أخبار الأئمة) عليهم السلام (إلى كلّ صقع و ناحية، كما قال اللّه عزّ و جلّ: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ... ).(1)

2. و روى عنهم) عليهم السلام (في تفسير قول النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (:» اختلاف أُمّتي رحمة «:

انّ المراد اختلافهم إلى البلدان، و أنّ الرسول أراد من قوله:» اختلاف أُمّتي رحمة «، قول اللّه عزّ و جلّ:

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ... ).(2)

و هذا الوجه أتقن الوجوه، و هو دليل على لزوم تأسيس الحوزات العلمية في البلدان لينتقل إليها طلاب العلم و بغاة الفضيلة حتى يتفقّهوا فيها و يرجعوا إلى بلدانهم للإنذار.

و لكن يرد عليه: أنّه على خلاف سياق الآية، فالآية واردة في ضمن آيات الجهاد، فكيف يمكن أن تكون مشيرة إلى هذا المعنى؟ نعم يمكن الذبّ عن هذا الإشكال: إمّا بالالتزام بنزول هذه الآية مرتين: مرة في ثنايا آيات الجهاد، و مرّة أُخرى مستقلة و منفصلة عن آياته، و ليس ذلك

ص:239


1- نور الثقلين: 2/283، الحديث 407 و الحديث منقول عن الفضل بن شاذان، انّه عن الرضا (عليه السلام).
2- المصدر نفسه: الحديث 408.

بعزيز، فقد نزلت بعض الآيات مرّتين، مثل قوله سبحانه: (وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ).(1)

كما يمكن الذبّ عنه بوجه آخر و هو: انّ للآية بعدين يتعلّق واحد منهما بأمر الجهاد و الآخر بتحصيل العلم و التفقّه، و الأوّل منهما معلوم من سياق الكلام، و الآخر بعد مجهول يعلم من تفسير الأئمّة و تبيينهم، و لا مانع من أن يكون لبعض الآيات بعد ان أحدهما معلوم و الآخر مجهول يحتاج إلى التنبيه.

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي فسّر الآية بوجه يتّحد مع هذا الوجه، و لكن لا ترد عليه مشكلة عدم انطباقه على سياق الآيات، و إليك بيانه و إن شئت فاجعله رابع الوجوه.

الرابع: انّ الآية تنهى مؤمني سائر البلاد غير مدينة الرسول، أن ينفروا إلى الجهاد كافة، بل يحضهم على أن تنفر طائفة منهم إلى النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (للتفقّه في الدين، و ينفر غيرهم إلى الجهاد، و معنى الآية انّه لا يجوز لمؤمني البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعاً، فهلاّ نفر و خرج إلى النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (طائفة من كلّ فرقة من فرق المؤمنين يتعلموا الفقه و يفهموا الدين فيعملوا به، و لينذروا بنشر معارف الدين قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلّهم يحذرون.(2)

و على ذلك، فتنفر طائفة للتفقّه، في الوقت الذي تنفر طائفة أُخرى للجهاد، فعند ما قضيا حاجتهما يتلاقيان في موطنهما للإنذار و الحذر. فتكون للآية صلة بالجهاد، وصلة بالتفقّه.

و لا يخفى انّ سياق الآية انّ هنا نفراً واحداً تقوم به طائفة واحدة لغاية واحدة، لا نفرين تقوم بهما طائفتان لغايتين مختلفتين، كما هو صريح كلامه،

ص:240


1- الضحى: 5.
2- الميزان: 2/428 بتصرف يسير.

أضف إليه: أنّ ظاهر كلامه أنّ الضمير في (إِذا رَجَعُوا ) يعود إلى النافرين للجهاد و هو مستلزم للتفكيك في الضمائر، حيث إنّ الضميرين السابقين يرجعان إلى النافرين للتفقّه.

المقام الثاني: الاستدلال بالآية

الاستدلال بها يتم على تفسيرها بالوجه الثاني أو الثالث دون الوجه الأوّل، و قد قرره الشيخ الأعظم في الفرائد بوجوه ثلاثة، و تبعه المحقّق الخراساني، و يشكل الحجر الأساس لجميع الوجوه هو: إثبات وجوب الحذر للمقيمين أو المتخلفين، و إليك تقريرها بوجوه ثلاثة.

التقرير الأوّل: محبوبية الحذر يلازم وجوبه

1. انّ أدوات الاستفهام و التمنّي و الترجّي تستعمل في كلام الواجب و غيره في معنى واحد، و هو إنشاء هذه المفاهيم، و إنّما يختلفان في المبادئ فالمبدأ للترجي في كلامه سبحانه إظهار محبوبية الحذر عن العقوبة، و في غيره، هو الجهل بالوقوع.

2. انّ حسن حذر المنذَر عند إنذار المنذِر، في مورد الآية يدل على وجود المقتضي فيه، و هو قيام الحجّة على أمر يستلزم فعله أو تركه العقوبة، و إلاّ فلا يحسن الحذر، لقبح العقاب بلا بيان، و ليس الحجّة إلاّ قول المنذِر و خبره الذي تعلّمه و رجع و أدّى رسالته.

و بعبارة أُخرى: من قال برجحان الحذر قال بوجوبه لا باستحبابه، لأنّ الأُمّة في مورد حجّية الخبر الواحد على قولين:

1. خبر الواحد حجّة، و هو عبارة أُخرى عن وجوب الحذر.

ص:241

2. عدم كونه حجّة، و هو عبارة أُخرى عن عدم وجوبه لا القول باستحبابه، فالقول به إحداث قول ثالث.

التقرير الثاني: لزوم اللغوية لو لا وجوب الحذر

إنّ الإنذار واجب بحكم كونه غاية للنفر الواجب بحكم» لو لا «التحضيضية، فإذا وجب الإنذار، وجب التحذّر أيضاً، و إلاّ لغى إيجاب الإنذار، و الفرق بين التقريرين واضح.

فالتقرير الأوّل، يتطرّق إلى إثبات وجوب الحذر، من حسنه الملازم لوجوبه، و المراد من الحذر هناك هو الحذر النفساني، و هذا التقرير يتطرّق إلى وجوبه من أنّه لو لا وجوب الحذر لغى الإنذار الواجب. و نظيره في الفقه، قولهم بأنّه يحرم على النساء كتمان ما في أرحامهنّ، الملازم لحجّية قولهن، و إلاّ لغى التحريم، قال سبحانه: (وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ).(1)

التقرير الثالث: غاية الواجب واجب

إنّ الحذر غاية للإنذار و النفر الواجبين، و غاية الواجب واجب، لأنّ وجوبهما لأجل تلك الغاية، فلا يعقل أن تكون المقدمة واجبة دون ذيها، و المراد من الحذر في هذا التقرير هو الحذر العملي أي الأخذ بقول المنذِر، و هو عبارة أُخرى عن كونه حجّة.

المقام الثالث: إشكالات الاستدلال

إذا عرفت وجوه الاستدلال بالآية فاعلم أنّه قد أُشكل على كلّ تقرير

ص:242


1- البقرة: 228.

بإشكال، فقد أورد على التقرير الأوّل، ما يلي:

1. حسن الحذر لا يلازم حجّية قول المنذر

إنّ لحسنِ الحذر موردين:

الأوّل: فيما إذا قامت الحجّة على التكليف الواجب، أو الحرام فيحسن الحذر، و بالتالي يجب الخوف من العقاب لقيام الحجّة و هو قول المخبر، و على هذا يكون خبر الواحد حجّة.

الثاني: فيما إذا أخبر المخبر بوجوب الشيء أو بحرمته فهو عند ذلك يخبر عن وجود المصلحة أو المفسدة في الترك أو الفعل، فيحسن الحذر و إن لم يكن قوله حجّة و ذلك لأنّه و إن لم يكن حجّة لكنّه محتمل الصدق، و هو يلازم خوف فوت المصلحة، و الوقوع في المفسدة، و إن لم يلازم احتمال العقاب لافتراض عدم ثبوت حجّية قوله، و من المعلوم انّ المصالح و المفاسد من الأُمور الوضعية التي تترتب على الترك و الفعل سواء كان الفاعل عالماً أو جاهلاً.

و بالجملة احتمال صدق المخبر و إن لم يكن قوله حجّة كاف في حسن الحذر لئلاّ تفوت المصلحة الدنيوية المحتملة أو لا يقع في المفسدة كذلك.

و على ذلك فالحذر مستحب لا واجب، و ما قيل من أنّه إحداث قول ثالث غير مخل إذ فرق بين عدم وجود القول الثالث و بين الاتّفاق على عدم إحداث قول ثالث، فالمورد من قبيل القسم الأوّل لا الثاني.

2. عدم القبول لا يلازم اللغوية

أورد المحقّق الخراساني على التقرير الثاني إشكالاً بأنّه لا تنحصر فائدة الإنذار بالتحذّر تعبّداً.

ص:243

توضيحه: أنّ الغاية ليست منحصرة في القبول، بل هنا فائدة أُخرى و هي انّ إخباره يكون مقدمة لحصول التواتر، كما هو الحال في من رأى الهلال فيخبر و إن لم يكن حجّة لكنّه إذا ضمّ إليه مخبر آخر يكون حجّة.

إلى هنا تمّ الوجهان:

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على التقرير الثالث إشكالاً بما يلي:

3. عدم الإطلاق في وجوب الحذر

و حاصل هذا الإشكال: انّه لو سلّمنا وجوب الإنذار و وجوب الحذر، فالآية إنّما تدل على وجوب الإنذار و الحذر على وجه الإجمال لا على التفصيل، فلعلّه يكون هناك شرط آخر للإنذار أو لوجوب الحذر لم تتطرق إليها الآية لعدم كونها في مقام البيان، يقول المحقّق الخراساني:» و بعدم(1) إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق ضرورة انّ الآية مسوقة لبيان وجوب النفر لا لبيان غائية التحذر و لعلّ وجوبه كان مشروطاً بما أفاده العلم «.

أقول: هذا هو الإشكال المهم في المقام و هو وارد على جميع التقارير لا على التقرير الثالث فقط كما هو ظاهر الكفاية، و لو قرر هذا الإشكال بوجه واضح لاتّضح عدم دلالة الآية على حجّية خبر الواحد، و إليك البيان:

تطرح الآية أُموراً ثلاثة و هي:

أ. تقسيم العمل، ب. وجوب الإنذار، ج. وجوب الحذر.

أمّا الأمر الأوّل، فالآية بالنسبة إليه في مقام البيان و تصرّح بأنّ مسألة التعليم و التعلم كسائر المسائل الاجتماعية لا بدّ فيها من تقسيم العمل و أن يقوم

ص:244


1- من الطبعة المحشاة بتعاليق المشكيني» لعدم إطلاق «و لكنّه تصحيف و الصحيح» و بعدم إطلاق «أي و يشكل الوجه الثالث بعدم إطلاق.

بها طائفة من المؤمنين، كما هو الحال في سائر الأُمور الاجتماعية.

و أمّا الأمر الثاني: أي كيفية الإنذار و هكذا الثالث: أي وجوب الحذر، فهما من الأُمور الجانبية الواردة في الآية، فليست الآية في مقام بيان كيفيتهما و انّه يجب الإنذار على النافر سواء أفاد العلم أم لم يفد، أو يجب الحذر على المقيم أو المتخلّف سواء حصل له العلم أو لا.

و الاستدلال مبني على وجود الإطلاق في ذينك الجانبين مع أنّ ورودهما في الآية ورود استطرادي لا اصالي.

و يدل على ذلك أمران:

1. الإتيان بلفظ كافة في الآية الأُولى، أعني: (وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) فانّه يعرب عن أنّ الآية تركّز البحث على تقسيم العمل لا على كيفية الإنذار أو الحذر.

2. لو كانت الآية بصدد بيان كيفية الإنذار كان عليه ذكر الشرط اللازم للحذر، و هو كون المنذِر ثقة.

نعم، أتعب السيد المحقّق الخوئي) قدس سره (نفسه الشريفة، فحاول أن يثبت انّ الآية في مقام البيان و انّها نظيرة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ).(1)

و لكن هذا قياس مع الفارق فانّ صدر الآية الثانية يشهد بأنّها في مقام بيان حدود الوضوء و شروطه و جزئياته، فلو شكّ في جزئية شيء أو شرطيته صحّ التمسك بالإطلاق في نفي المشكوك، و هذا بخلاف المقام فالآية تركّز على الأمر

ص:245


1- المائدة: 6.

الخاص و هو تقسيم العمل و قيام عدّة بهذه الوظيفة المهمة، و أمّا سائر الجوانب فقد طرحت جانبياً.

4. وجوب الحذر إذا كان الإنذار بالأمر الواقعي

إنّ التفقّه الواجب ليس إلاّ معرفة الأُمور الواقعية من الدين، فالإنذار الواجب هو الإنذار بهذه الأُمور المتفقه فيها، فالحذر لا يجب إلاّ عقيب الإنذار بها، فإذا لم يعرف المخاطب ان الإنذار هل وقع بالأُمور الدينية الواقعية أو بغيرها خطأ أو تعمداً لم يجب الحذر، فانحصر وجوب الحذر إذا علم المتحذر صدق المنذر في إنذاره بالأحكام الواقعية.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا وجه لهذا الإشكال بعد تسليم الإطلاق في جانبي الإنذار و الحذر، فلو قلنا بأنّ الآية تدل بإطلاقها على أنّه يجب على المنذر الإنذار سواء أفاد العلم أم لم يفد، و يجب على المقيم الحذر مطلقاً كذلك كشف ذلك عن أنّ الشارع أمر بتلقّي إنذاره إنذاراً بالأمر الواقعي، فيجب الحذر على السامع لكونه إنذاراً به.

نعم لو أنكرنا الإطلاق، كان لهذا الإشكال وجه(2)، و الظاهر انّ الإشكال بعد تسليم الإطلاق و أمّا مع إنكاره فلا مجال له.

5. الإبلاغ مع التخويف غير نقل القول

و هذا هو الإشكال الخامس الذي طرحه الشيخ، و حاصله: انّ المطلوب في المقام هو إثبات انّ حكاية الراوي قول الإمام حجّة للمجتهد، دون فهمه منه،

ص:246


1- الفرائد: 80.
2- لاحظ الفوائد: 3/188.

و ربما يكون بينهما اختلاف في فهم المراد مع الاتفاق على اللفظ، و هذا هو المطلوب في المقام. و الآية لا تفي بذلك، لأنّها تركّز على الإنذار، و هو الإبلاغ مع التخويف، بحيث يكون نقله و فهمه منها حجّة على المنقول إليه، و هذا لا ينطبق إلاّ على المجتهد بالنسبة إلى مقلِّده، فالآية تركز على أنّ الراوي إذا تفقّه في الدين و فهمه ثمّ بلغه مع الإنذار، يجب على السامع، الحذر و القبول و أين هذا، من حجّية مجرّد حكاية قول الإمام للطرف، بلا قيمة لفهمه من الدين و دركه من الرواية و إنذاره حسب ما فهم؟(1)و الظاهر انّ الإشكال وجيه خصوصاً بالنسبة إلى لفظة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) فانّه عبارة عن فهم الدين حقيقة، فالآية تنص على أنّه يجب على طائفة التفقه في الدين، ثمّ إبلاغ رسالات اللّه إليهم بالتخويف و الإنذار، و هذا لا يقع إلاّ من شخصين:

1. كون المنذر واعظاً ينذر الناس بما يعلمه الناس من الحلال و الحرام، فيكون دوره هو التذكير (وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ).(2)

2. كون المنذر فقيهاً فهيماً للدين مبلِّغاً لأحكام اللّه سبحانه مع التخويف.

و أين هذا من حجّية حكاية الراوي قول الإمام بما هو حاك و ناقل، من دون أن يكون له شأن الإنذار و للسامع شأن الحذر؟ و قد أجاب المحقّق النائيني عن الإشكال بأنّ الإنذار و إن كان هو الإخبار الشامل على التخويف، إلاّ أنّه أعمّ من الصراحة و الضمنية فانّه يصدق الإنذار على الاخبار المتضمن للتخويف ضمناً و إن لم يصرّح به المنذر.(3)

ص:247


1- لتوضيح الإشكال لاحظ الفرائد: 81.
2- الذاريات: 55.
3- الفوائد: 3/188.

يلاحظ عليه: بأنّ الآية ظاهرة في من يتصدّى لأمر الإنذار، بعد التفقّه، و لا يصدق ذلك على من لا شأن له سوى نقل الرواية و حكاية الألفاظ، من دون أن يتصدى لمقام الإنذار.

نعم يمكن أن يقال انّ العرف يساعد على إلغاء الخصوصية، فإذا كان نقله كلام الإمام مع التخويف حجّة، فيكون نقله المجرد أيضاً حجّة و إن لم يكن فهمه و تخويفه حجّة للمنقول إليه.

و الحاصل: انّ المنذر يعتمد على أمرين: السنّة، و تحليلها للمنقول إليه، فإذا كان المنقول إليه عامياً يأخذ كلا الأمرين، و أمّا إذا كان مجتهداً مثل المنذِر، أو إذا كان الناقل عامياً فاقداً للتخويف، يأخذ كلام الإمام و يستقل في فهمه.

فقد خرجنا بالنتيجة التالية:

1. انّ الآية فاقدة للإطلاق في كيفية الإنذار و الحذر.

2. انّ الآية، تركز على من يتصدّى بعد التفقّه، منصب الإنذار و الإبلاغ التخويف، و لا يدل على حجّية نقل العامي كلام المعصوم مجرداً عن التفقّه و الإنذار و الحذر إلاّ إذا قلنا بإلغاء الخصوصية.

الآية الثالثة: آية الكتمان

قال عزّ من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ ).(1)

تقرير الاستدلال: انّه سبحانه يذمُّ أهل الكتاب لكتمانهم البشارات الواردة في كتبهم بظهور النبي القرشي الهاشمي العربي مع أنّهم كانوا يعرفونه كما يعرفون

ص:248


1- البقرة: 159.

أبناءهم قال سبحانه: (اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ )(1). و قال سبحانه:

(وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ )(2). فالآية تدل على تحريم كتمان البيّنات و بالتالي تدل على وجوب القبول و إلاّ لغت حرمة الكتمان.

يلاحظ عليه: أنّ إيجاب البيان بلا قبول أصلاً يستلزم كونه لغواً و أمّا إذا كان القبول مشروطاً بالتعدد أو بحصول الاطمئنان أو العلم القطعي فلا تلزم اللغوية نظير تحريم كتمان الشهادة، قال سبحانه: (وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ).(3)

و مع أنّ إظهار الشهادة واجب و لكن قبولها مشروط بالتعدّد، و أمّا قياس المورد بحرمة الكتمان على النساء كما ورد في قوله سبحانه: (وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ) (4)فقياس مع الفارق، إذ ليس في موردها من تضم شهادته إلى شهادتها، فلا محيص من قبولها، و هذا بخلاف شهادة الشاهد و أخبار الراوي فانّ لها صوراً مختلفة كما أوضحناه.

أضف إلى ذلك انّ الآية بصدد بيان تحريم الكتمان على العلماء، نظير قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:

» إذا ظهرت البدع، فعلى العالم أن يُظهر علمَه «و أمّا ما هو شرط القبول فهو موكول إلى الأدلّة الأُخرى.

الآية الرابعة: آية السؤال

قال سبحانه: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ

ص:249


1- الأنعام: 20.
2- البقرة: 89.
3- البقرة: 283.
4- البقرة: 228.

اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ).(1)

و قال عزّ من قائل: (وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ ).(2)

و يقع الكلام في أُمور ثلاثة:

1. تفسير الآية.

2. الاستدلال بالآية.

3. تحليل الإشكالات حول الاستدلال.

و إليك الكلام في الأمر الأوّل:

إنّ ذيل الآية الثانية يحكي عن سبب نزولهما و هو أنّ مشركي مكة كانوا يُنكرون أن يرسل إليهم بشر مثلهم فبيّن سبحانه بأنّ حكمته اقتضت أن يبعث الرسل من البشر ليشاهدوه و يخاطبوه، و لم يكن الرسل المبعثون إلى الأُمم الماضية ملائكة (جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ ) بل كانوا بشراً يأكلون كما يأكل سائر الناس و ماتوا كما مات الآخرون و ما كانوا خالدين، و لأجل رفع جهلهم أمر بالرجوع إلى أهل الذكر و العلم، يعني السيرة المستمرة بين العقلاء من الرجوع إلى أهل العلم فيما لا يعلمون.

هذا هو مفاد الآية التي نزلت في سورتين باختلاف يسير بينهما، حيث اشتملت الآية الأُولى على لفظة حرف الجر» من «قبلك، دون الآية الأُخرى، و ما هو الوجه في ذاك الاختلاف فعلى عاتق الأدب.

ص:250


1- النحل: 43.
2- الأنبياء: 87.

و أمّا الأمر الثاني: أعني كيفية الاستدلال فقد استدل به صاحب الفصول، و قال: إنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب قبول الجواب، و إلاّ لغى وجوب السؤال، فإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّما يصح أن يسأل عنه و يقع جواباً له و احتمال خصوصية المسبوقية بالسؤال، منتف جداً.

و أمّا الأمر الثالث: فقد أورد على الاستدلال بوجوه:

1. المراد من أهل الذكر أهل الكتاب أو الأئمّة) عليهم السلام (

إنّ المراد من أهل الذكر، حسب سياق الآيات هو علماء أهل الكتاب، حيث إنّ المشركين كانوا ينكرون بعث البشر رسولاً، فأحالهم سبحانه إلى علماء أهل الكتاب العارفين بأحوال الأُمم حتى يسألونهم عمّن بعث اللّه رسولاً، فهل كانوا بشراً أو كانوا ملائكة لا يأكلون و لا يشربون؟ كما أنّ المراد منهم حسب الروايات هم الأئمّة المعصومون) عليهم السلام (، فقد عقد الكليني في أُصول الكافي باباً لذلك، و أخرج فيه روايات بين صحيحة و حسنة و ضعيفة، و على كلّ تقدير لا يشمل غير الطائفتين.

يلاحظ عليه: أنّ الآية تذكّر المشركين بقاعدة سائدة بين العقلاء و هو رجوع الجاهل إلى العالم، و يختلف مصداقه حسب اختلاف الموارد، و في مورد رفع شبهة المشركين فالمرجع الصالح المقبول عندهم، هو علماء أهل الكتاب، و في مورد فهم معالم الإسلام و درك حقائق الكتاب و السنّة فالمرجع هم العترة حسب حديث الثقلين، كما أنّ المرجع للعامي في عرفان الوظيفة هو المفتي و هكذا، فلا السياق آب عن الاستدلال و لا الروايات، بعد كون الجملة حاملة لمعنى عقلائي له مصاديق مختلفة حسب اختلاف الموضوعات، عبر الزمان.

ص:251

2. السؤال لغاية تحصيل العلم

إنّ الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم وجوب تحصيل العلم، لا وجوب السؤال للعمل بالجواب تعبداً، كما يقال في العرف: سل إن كنت جاهلاً، و يؤيّده أنّ الآية واردة في أُصول الدين و علامات النبي التي يؤخذ فيها بالتعبّد إجماعاً.(1)

يلاحظ عليه: تختلف الغاية من السؤال حسب اختلاف واقع السؤال، فإن كان ممّا يجب أن يُعْلَم، فالسؤال لغاية العلم به، و إن كان ممّا يجب أن يعمل به كالأحكام فالسؤال لتلك الغاية سواء أفاد العلم أو لا، لا أقول باختصاص الآية لوجوب السؤال للعمل بالجواب كما ذكره الشيخ ثمّ اعترض عليه بل يجب السؤال للغاية الخاصة به، فهي تعمّ السؤال للعلم و الاعتقاد أو السؤال للعمل.

على أنّ العامي إذا رجع إلى من قوله حجّة، يحصل له العلم بالوظيفة و إن لم يحصل له العلم بالواقع.

3. المراد من أهل الذكر هو أهل العلم لا ناقل الحديث

إنّ الذكر في الآية بمعنى العلم، و الآية تدل على حجّية قولهم بما هم أهل العلم و الفكر، لا بما هم نَقَلَة الحديث و حملته عن طريق البصر و السمع، كما إذا رأى فعل الإمام و سمع كلامه و نقل فلا يقال له إنّه من أهل الذكر و العلم.

و بعبارة أُخرى: أهل الذكر هم الذين يَضمُّون فكرهم و فهمهم إلى كلام الإمام، و يستخرجون مراده بفكرهم الثاقب، و ذهنهم الصائب، و ليس هذا إلاّ المجتهد بالنسبة إلى مقلده.

ص:252


1- الفرائد: 81.

و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بما أشار إليه الشيخ أيضاً في ذيل كلامه و حاصله: أنّ أمثال زرارة و محمد بن مسلم و أبان بن تغلب كانوا من أهل الذكر و العلم، أي كانوا يضمُّون فهمهم إلى كلام الإمام و قوله، و إذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية، وجب قبول روايتهم و رواية غيرهم من العدول مطلقاً لعدم الفصل جزماً في وجوب القبول بين المبتدإ و المسبوق، و لا بين أضراب زرارة و غيرهم ممن لا يكونون من أهل الذكر و إنّما يروي ما سمعه أو رآه.

يلاحظ عليه: أنّ الرجوع إلى زرارة و السؤال عمّا استحصله من الآراء و النظريات من القرآن و السنة فهو سؤال أهل الذكر، و أمّا سؤاله عن مسموعاته و مبصراته ليس سؤال أهل الذكر بما هم أهل الذكر، فالآية لا تشمل مثل هذا في المقيس عليه) زرارة (فكيف المقيس؟! فلا تشمل الآية سؤال من رأى الفعل و سمع القول بلا إعمال نظر و فكر، فالآية أصلح للاحتجاج على جواز التقليد.

و الأولى أن يجاب بما ذكرنا في آية النفر: من أنّه إذا كان نقل رواية زرارة كلام الإمام مع إعمال النظر و الفكر حجّة، فالعرف يساعد على إلغاء الخصوصية بحجّية مجرّد روايته، إذ الأساس هو كلام المعصوم، و فهمه طريق إلى فهم مقاصد الإمام، فإذا استغنى المنقول إليه عن الحجّة الثانية لكونه مجتهداً، غير مقلد، فلا وجه لعدم حجّية مجرّد نقله فعل الإمام و قوله.

4. وجوب السؤال لا يلازم وجوب القبول

إنّ المستدل تطرّق إلى حجّية جواب المجيب بأنّه لو وجب السؤال و لم يجب القبول يكون السؤال لغواً، مع أنّه ليس كذلك لما عرفت في آية الكتمان من أنّ وجوب إظهار الشهادة لا يلازم وجوب القبول، كما لا يلزم من عدم قبولها

ص:253

اللغوية، و في المقام نقول: يجب عليه السؤال إلى أن يحصل له العلم، فكلّ سؤال يشكل شيئاً من الظن حتى ينتهي السائل إلى العلم.

5. الآية ليست بصدد البيان

الآية بصدد بيان قاعدة كلية ربما يكون أمراً فطرياً، و هو أنّه يجب على الجاهل أن يرجع إلى العالم، و أمّا ما هو شرط قبول قوله فهل يكفي الواحد، أو يشترط التعدد، أو إفادته العلم؟ فليس بصدد بيانه، و الشاهد على ذلك أنّه لم يذكر شرط الوثاقة في المجيب الذي هو من أوضح شرائط القبول.

الآية الخامسة: آية الإذن

(وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ).(1)

يقع الكلام في تفسير الآية أوّلاً، و كيفية الاستدلال ثانياً، و الإشكالات المتوجهة إليها ثالثاً، و إليك البيان:

1. تفسير الآية:

أ. انّ الضمير في قوله: (وَ مِنْهُمُ ) يرجع إلى المنافقين، و سبقته ضمائر أُخرى كلّها ترجع إلى المنافقين نظير:

(وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي ).(2)

ص:254


1- التوبة: 61.
2- التوبة: 49.

(وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا ).(1)

(وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ).(2)

ب. الأُذن جارحة السمع المعروفة، و قد أطلقوا عليه الأُذن و سمّوه بها كناية عن أنّه يصغي لكلّ ما قيل له و يستمع إلى كلّ ما يذكر له فهو اذن.

ج. قوله: (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ): ربما يفسّر بأنّه سمّاع يسمع ما فيه خيركم، أي الوحي، و على هذا فالمسموع خير، لكن يبعده انّه لو كان هذا هو المراد لما كانت حاجة إلى قوله: (لَكُمْ ) لأنّ الوحي خير لعامّة الناس فلا يكون للتخصيص وجه.

و الأولى أن يفسّر و يقال انّه من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة أي أُذن خير و انّ نفس استماعه لعامة الاخبار خير لكم، فربّ مخبر، يخبر عن اقتراف الكبائر و آخر يكذبها و النبيُّ يستمع الجميع و لا يكذب أحداً لئلاّ يهتك سترهم و هذا النوع من الأُذن فيه خير المجتمع.

د. قوله: (يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ )، الباء في الأوّل للتعدية كقوله سبحانه: (كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ )(3)، و يحتمل في الثاني أن يكون كذلك مثل قوله: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ ) (4)و قوله: (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) (5)لكن الظاهر أنّها ليست للتعدية، و إلاّ لما كان وجه للعدول من الباء إلى اللام; بل للانتفاع، أي يصدقهم لكون التصديق لصالحهم.

ص:255


1- التوبة: 58.
2- التوبة: 61.
3- التوبة: 19.
4- العنكبوت: 26.
5- يونس: 83.

و المراد من المؤمنين في قوله: (لِلْمُؤْمِنِينَ ) المجتمع المنسوب للإيمان سواء كانوا مؤمنين حقيقيين أو لا، بقرينة قوله بعده: (وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) فانّ المراد منه، هو المؤمنون حقّاً.

ه. ثمّ إنّ التصديق الذي يكون لصالح جميع المجتمع المنسوب إلى الإيمان هو التصديق المخبرِيّ دون التصديق الخبري، أي فرض المخبر صادقاً لا كاذباً بمعنى انّه معتقد بصدق خبره و إن كان كاذباً لا يطابق الواقع، لا إعطاء الصدق للخبر و انّه يطابق الواقع، إذ عندئذ يكون لصالح طائفة من المجتمع دون الجمع.

و الحاصل: انّه يحترم الجميع و يصدقهم بما انّهم مخبرون، لا انّه يصدق أخبارهم و يفرضها عين الواقع، لأنّ ذلك لا يكون إلاّ لصالح جماعة دون أُخرى.

هذا هو تفسير الآية، وعليه وردت روايات كلّها تعرب عن أنّ المنافقين كانوا يتهمون النبي بأنّه إنسان ساذج يصدِّق كلّ خبر يصل إليه. روي أنّ عبد اللّه بن نفيل كان منافقاً، كان يقعد لرسول اللّه فيسمع كلامه و ينقله، و لما أطْلَع اللّه النبي على عمله دعاه رسول اللّه فأخبره، فحلف انّه لم يفعل، فقال رسول اللّه: قد قبلت منك فلا تفعل، فرجع إلى أصحابه فقال: إنّ محمداً أُذن أخبره اللّه انّي أنمّ عليه و أنقل أخباره، فقبله، و أخبرته انّي لم أقل و لم أفعل فقبله; فنزلت الآية.(1)

هذا هو تفسير الآية.

2. في كيفيّة الاستدلال

فقد نقله الشيخ بأنّه سبحانه مدح رسوله بتصديقه للمؤمنين، بل قرنه بالتصديق باللّه جلّ ذكره، فإذا كان التصديق حسناً يكون واجباً.(2) و يزيد في

ص:256


1- تفسير القمي: 1/300، بتلخيص.
2- الفرائد: 82.

تقريب الاستدلال وضوحاً ما رواه في الكافي: انّه كان لإسماعيل بن أبي عبد اللّه دنانير و أراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن، فقال له أبو عبد اللّه:» يا بُنيّ أ ما بلغك انّه يشرب الخمر؟ «قال: سمعت الناس يقولون. فقال:» يا بني إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: (يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول يصدق اللّه و يصدق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم و لا تأمن(1) من شارب الخمر «.

3. ما أورد على الاستدلال من الإشكال

1. إنّ المراد من الأُذن السريع التصديق، و الاعتقاد بكلّ ما يسمع، فمدحه بحسن ظنه بالمؤمنين و عدم اتهامهم، فالعمل بقولهم لاعتقاده بصدقه. و أين هو من العمل دون الاعتقاد؟! يلاحظ عليه: أنّ تفسير الأُذن بسريع الاعتقاد ليس من المحاسن، لأنّه أشبه بالقطّاع، أضف إلى ذلك أنّه ربّما لا يمكن الاعتقاد بكلّ ما سمع إذا استلزم الخبران الاعتقاد بالمتضادين.

2. انّ المراد من التصديق في الآية في مرحلة الكلام من دون تجاوز عنه إلى القلب، فضلاً عن العمل، و إلى هذا يرجع ما قلنا:

من أنّ المراد من التصديق، التصديق المخبرِي، لا التصديق الخبري، و يشهد له كلام الإمام لولده إسماعيل، حيث أمره بتصديق الناس، و ليس المراد تصديق الناس في مورد القرشي جداً على نحو لو تمكن الإمام أجرى عليه الحدّ، بل الحذر منه و العمل على وفق الاحتياط و عدم دفع المال إليه.

و الحاصل: انّ التصديق على قسمين: أخلاقي، و عملي. و المقصود هنا هو

ص:257


1- تفسير البرهان: 1392/138، الحديث....

الأوّل فلا يكذب المخبر بخلاف الثاني، ففيه يترتب الأثر الشرعي كما هو الحال في إجراء أصالة الصحّة في فعل الغير، فالاستدلال ناش من الخلط بين التصديقين.

تمّ الكلام عن الآيات التي استدل بها على حجّية الخبر الواحد، و قد عرفت عدم دلالة واحدة منها على الحجيّة.

***

الاحتجاج على حجّية الخبر الواحد بالسنّة

قد يحتج على حجّية السنّة المحكية بالخبر الواحد بالسنّة، و صحّة الاحتجاج رهن كون ما يحتج به خبراً متواتراً ليكون دليلاً قطعياً على حجّية الخبر الواحد المفيد للظن، و لا يكفي الآحاد منها سواء كانت مستفيضة أو غيرها.

و قد جمع الشيخ الحرّ العاملي ما ورد في هذا المجال في كتاب القضاء خصوصاً في الثامن و التاسع و العاشر و الحادي عشر من أبواب صفات القاضي، و هي على طوائف خمس حسبما قسّمها الشيخ الأنصاري في الفرائد.(1)

و نحن نذكر مقداراً من كلّ طائفة و لكن نخالفه في كيفية السرد، و على كلّ تقدير يقع الكلام في مقامات:

الأوّل: عرض الروايات.

الثاني: كيفية الاستدلال.

الثالث: تحليل الإشكالات.

ص:258


1- الفرائد: 84.
الطائفة الأُولى: الروايات الإرجاعية إلى الرواة بذكر سماتهم و أوصافهم:

1. مقبولة عمر بن حنظلة قال:» ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً «.(1) فانّها و إن وردت في القضاء لكن حجّية قضائه لأجل كون روايته مقبولة، و المتبادر من الجمل الثلاث كونه ذا نظر، و ذلك لأجل نصبه على الحكم و القضاء، كما قال:» فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً «و إلاّ لم يكن لذكره وجه.

2. التوقيع المعروف:» و أمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فانّهم حجّتي عليكم، و أنا حجّة اللّه «.(2) فقد أخذ مطلق راوي أحاديث أهل البيت موضوعاً للحجّية.

3. التوقيع الشريف: الذي ورد على القاسم بن العلاء، و فيه:» فانّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا، قد عرفوا بانّا نفاوضهم سرنا و نحملهم إيّاه إليهم «.(3) و قد أخذ الوثاقة موضوعاً للحكم وراء كونه راوياً.

4. رواية علي بن سويد السائي قال: كتب إليّ أبو الحسن) عليه السلام (و هو في السجن:» و أمّا ما ذكرت يا علي ممّن تأخذ معالم دينك، لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا «.(4) فاكتفى في جواز الأخذ كون الراوي شيعياً.

5. رواية حذيفة بن منصور عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (:» اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر رواياتهم عنّا «.(5)

ص:259


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1. و نقتصر في الإرجاع بذكر الباب و رقم الحديث فيما يأتي.
2- الباب 11، الحديث 9، 40، 42.
3- الباب 11، الحديث 9، 40، 42.
4- الباب 11، الحديث 9، 40، 42.
5- الباب 11، الحديث 37، 41.

6. رواية أحمد بن ماهويه قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث) عليه السلام (أسأله عمّن آخذ معالم ديني، و كتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما:» فهمتُ ما ذكرتما، فاصمِدا في دينكُما على كلّ مسن في حبنا و كلّ كثير القدم في أمرنا «.(1) فالموضوع للقبول من عمّر في حبّ أهل البيت و كثير القدم في أمرهم.

إلى غير ذلك من الروايات الإرجاعية إلى لفيف من شيعتهم بذكر صفاتهم و سماتهم لا بذكر أسمائهم.

الطائفة الثانية: الإرجاع إلى آحاد الرواة بذكر أسمائهم

و نذكر من الطائفة ما يلي:

7. رواية أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن) عليه السلام (قال: سألته و قلت: مَن أُعامل و عمّن آخذ، و قول من أقبل؟ فقال:» العمريّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، و ما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع و أطع فانّه الثقة، المأمون «.(2)

8. رواية أبان بن عثمان، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال له:» إنّ أبان بن تغلب قد روى عنّي روايات كثيرة، فما رواه لك عنّي فاروه عنّي «.(3)

9. رواية يونس بن عمار أنّ أبا عبد اللّه) عليه السلام (قال له في حديث:» أما ما رواه زرارة عن أبي جعفر، فلا يجوز لك أن تردّه «.(4)

10. رواية المفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال للفيض بن المختار في حديث:» فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس «و أومأ إلى رجل من أصحابه فسألت أصحابنا عنه؟ فقالوا: زرارة بن أعين.(5)

11. روى الحسن بن علي بن يقطين، عن الرضا) عليه السلام (قال: قلت: لا أكاد

ص:260


1- الباب 11، الحديث 45، 4، 8، 17، 19.
2- الباب 11، الحديث 45، 4، 8، 17، 19.
3- الباب 11، الحديث 45، 4، 8، 17، 19.
4- الباب 11، الحديث 45، 4، 8، 17، 19.
5- الباب 11، الحديث 45، 4، 8، 17، 19.

أصل إليك، أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني، أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال:» نعم «.(1)

12. رواية أبي بصير قال: إنّ أبا عبد اللّه) عليه السلام (قال له في حديث:» لو لا زرارة و نظراؤه لظننت أنّ أحاديث أبي ستذهب «.(2)

13. رواية شعيب العقرقوفي، قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: ربّما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال:» عليك بالأسديّ «يعني أبا بصير.(3)

14. رواية جميل بن دُرّاج قال: سمعت أبا عبد اللّه) عليه السلام (يقول:» بشر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية البجلي، و أبو بصير ليث بن البختري المرادي، و محمد بن مسلم، و زرارة، أربعة نجباء أُمناء اللّه على حلاله و حرامه، لو لا هؤلاء انقطعت آثار النبوة و اندرست «.(4)

إلى غير ذلك من الروايات التي تُرجِعُ الشيعة إلى أشخاص معيّنين، و يوصفهم بالوثاقة و الأمانة معرِباً عن كون الوثوق بالقول هو مناط الأخذ.

الطائفة الثالثة: الأخبار العلاجية

إنّ الأخبار العلاجية، على قسمين: قسم يأمر بالأخذ بذي المزية من الخبرين، و قسم يأمر بالتخيير.

و سيوافيك الجميع في باب التعادل و الترجيح.

أمّا القسم الأوّل فمنه ما يلي:

15. ما يأمر بأخذ خبر أعدل الراويين و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما.(5)

ص:261


1- الباب 11، الحديث 33، 16، 15، 14.
2- الباب 11، الحديث 33، 16، 15، 14.
3- الباب 11، الحديث 33، 16، 15، 14.
4- الباب 11، الحديث 33، 16، 15، 14.
5- الكافي: 1/68.

16. ما يأمر بالأخذ بموافق الكتاب: كرواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: قال الصادق) عليه السلام (:» إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فردّوه «.(1)

17. ما يأمر بأخذ ما خالف العامّة: كرواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه المصري، قال: قال الصادق ) عليه السلام (:» فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فأعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، و ما خالف أخبارهم فخذوه «.(2)

و أمّا القسم الثاني الذي يأمر بالتخيير فمنه ما يلي:

18. رواية الحسن بن الجهم، عن الرضا) عليه السلام (قال: قلت له:... يجيئنا الرجلان و كلاهما ثقة بحديثين مختلفين و لا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال:» فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت «.(3)

19. رواية الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» إذا سمعت من أصحابك الحديث و كلّهم ثقة فموسّع عليك حتى ترى القائم فترد إليه «.(4) إلى غير ذلك من الروايات الآمرة بالتخيير.(5)

الطائفة الرابعة: الواردة في الحث على نقل الحديث و كتابته و نشره

قد جمع صاحب الوسائل الشيء الكثير ممّا يدل على بثِّ الحديث و كتابته في الباب الثامن من أبواب صفات القاضي، و من أراد فليرجع إليه. لكن نذكر في المقام بعض الكتب التي عرضت على الأئمة فصدقوها.

ص:262


1- الباب 9، الحديث 29 و لاحظ الحديث 21.
2- الباب 9، الحديث 29.
3- الباب 9، الحديث 40، 41.
4- الباب 9، الحديث 40، 41.
5- لاحظ الحديث 44 من الباب 9.

20. روي عن أبي عمرو المتطبب انّه قال: عرضته على أبي عبد اللّه) عليه السلام (، يعني كتاب ظريف في الديات.(1)

21. روى يونس بن عبد الرحمن في حديث قال: أتيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر) عليه السلام (و وجدت أصحاب أبي عبد اللّه) عليه السلام (متوافرين فسمعت واحداً واحداً، و أخذت كتبهم فعرضتها بعدُ على الرضا، فأنكر منها أحاديث.(2)

22. روى أحمد بن أبي خلف قال: كنت مريضاً فدخل عليّ أبو جعفر) عليه السلام (يعودني عند مرضي، فإذا عند رأسي كتاب يوم و ليلة، فجعل يتصفّحه ورقة ورقة حتى أتى عليه من أوّله إلى آخره، و جعل يقول:» رحم اللّه يونس، رحم اللّه يونس، رحم اللّه يونس «.(3)

23. روى داود بن القاسم الجعفري قال: أدخلت كتاب يوم و ليلة الذي ألّفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري) عليه السلام (، فنظر فيه و تصفّحه كلّه، ثمّ قال:» هذا ديني و دين آبائي كلّه، و هو الحقّ كلّه «.(4)

24. روى بورق البوشجاني قال: خرجت إلى سرّ من رأى و معي كتاب يوم و ليلة، فدخلت على أبي محمد) عليه السلام (و أريته ذلك الكتاب و قلت له: إن رأيتَ أن تنظر فيه و تصفّحه ورقة ورقة فقال:» هذا صحيح ينبغي أن تعمل به «.(5)

25. روى حامد بن محمد انّه دخل على أبي محمد) عليه السلام (، فلما أراد أن يخرج سقط منه كتاب في حضنه ملفوف في رداء، فتناوله أبو محمد) عليه السلام (و نظر فيه، و كان الكتاب من تصنيف الفضل، فترحّم عليه و ذكر أنّه قال:» أغبط أهل خراسان لمكان الفضل بن شاذان و كونه بين أظهرهم «.(6)

ص:263


1- الباب 8، الحديث 32، 73، 74، 75، 76، 77.
2- الباب 8، الحديث 32، 73، 74، 75، 76، 77.
3- الباب 8، الحديث 32، 73، 74، 75، 76، 77.
4- الباب 8، الحديث 32، 73، 74، 75، 76، 77.
5- الباب 8، الحديث 32، 73، 74، 75، 76، 77.
6- الباب 8، الحديث 32، 73، 74، 75، 76، 77.

26. روى عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ الحسين بن روح، عن الحسين بن روح، عن أبي محمد الحسن بن علي) عليهما السلام (انّه سئل عن كتب بني فضّال فقال:» خذوا ما رووا، و ذروا ما رأوا «.(1)

27. ذكر النجاشي أنّ كتاب عبيد اللّه بن علي الحلبي عرض على الصادق) عليه السلام (فصححه و استحسنه.(2)

إلى غير ذلك من الكتب المعروضة.

الطائفة الخامسة: ما ورد في ذمّ الكذّابين و وضّاع الحديث

28. قال النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (:» أيها الناس قد كثرت عليّ الكذابة فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار «.(3)

29. قال الصادق) عليه السلام (: لعن اللّه المغيرة بن سعيد انّه كان يكذب على أبي فأذاقه اللّه حر الحديد.(4)

30. و قال الصادق) عليه السلام (:» إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا، فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس «.(5)

31. و قال) عليه السلام (:» إنّ الناس أولعوا بالكذب علينا، كأنّ اللّه افترض عليهم و لا يريد منهم غيره «.(6)

ص:264


1- الباب 8، الحديث 79، 81.
2- رجال النجاشي: برقم 610.
3- الكافي: 1/62 و بحار الأنوار: 2/225.
4- رجال الكشي: 195.
5- رجال الكشي: 257.
6- بحار الأنوار: 2/246.

روى الكشي في ترجمة» المغيرة بن سعيد و أبي الخطاب «شيئاً كثيراً من تقول الكذابين على أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (.(1)

2. كيفية الاستدلال

لا يخفى انّ من لاحظ تلك الروايات الهائلة يستكشف أنّ حجّية الخبر الواحد عندهم كان أمراً مسلماً على وجه لولاها لم يكن لصدور هذه الروايات وجه.

فإذا كانت الحجّة هو الخبر المتواتر، فما معنى الإرجاع إلى رواة الأحاديث، أو الإرجاع إلى آحادهم بأسمائهم؟ كما أنّ السؤال عن علاج المتعارضين من الخبرين، آية تسليم كون كلّ منهما حجّة لو لا المعارض.

و مثله الحثّ على كتابة الحديث، و نقله و بثّه، كما أنّ عرضَ الكتب آية كونه حجّة، و قد عرضوها للتأكد من صحتها.

و لو كان بناء المسلمين على الاقتصار على المتواترات لم يكن لوضع الحديث وجه، لأنّ الغاية هي قبول الناس و المفروض انّ بناءهم كان على عدم قبول الآحاد، فالمجموع يكشف عن جريان السيرة على قبول الآحاد بشرائطها الخاصة.

نعم و لكن لا تجد فيها رواية هي بصدد جعل الحجية للخبر الواحد، بل تدور الروايات بين الفحص عن الصغرى و انّ الراوي ثقة أو لا، أو انّ كتابه مصون من الدس أو لا، أو الإرشاد إلى السيرة المألوفة بين العقلاء و انّه لا عذر لموالينا في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا و في الوقت نفسه النهي عن الأخذ عن غير الموالين.

ص:265


1- رجال الكشي: 194 198 و 246 260.
3. الإشكال على الاستدلال

هذا هو المقام الثالث قد أورد على الاستدلال بها إشكالات نذكر أهمها:

أ. الأخبار ليست بمتواترة

إنّ هذه الأخبار ليست بمتواترة لأنّها تنتهي إلى الكتب الأربعة، و لفيف من سائر الكتب، و شرط التواتر بلوغ الخبر من كلّ طبقة من الطبقات حدّ التواتر، و ليس الأمر كذلك، فانّها في نهاية المطاف تنتهي إلى ثلاثة، أو أربعة أشخاص.

و الجواب: انّ المراد من التواتر في المقام ليس التواتر اللفظي، بل التواتر الإجمالي.

أمّا الأوّل، فالمراد منه إذا اتحدت ألفاظ المخبرين في خبرهم عن موضوع واحد كقوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه «أو قوله:» إنّما الأعمال بالنيّات «و في مثله لا يحصل العلم إلاّ ببلوغ الخبر في كلّ طبقة حدّ التواتر.

و أمّا الثاني، و المراد منه هو العلم الإجمالي بصدور بعض من الأحاديث المختلفة و تسميته بالتواتر، مسامحي و المراد العلم الإجمالي بصدور البعض.

ب. انّ هذه الأخبار مختلفة المضمون

إنّ هذه الأخبار مختلفة المضمون و اللسان، و إليك عناوينها:

1. كونه شيعياً

الظاهر من بعضها كفاية كون الراوي شيعياً، مثل قوله) عليه السلام (:» رواة

ص:266

حديثنا «(1). و قوله) عليه السلام (:» من غير شيعتنا «(2). أو قوله) عليه السلام (:» كلّ مسنّ في حبنا، كثير القدم في أمرنا «.(3)

2. كونه ثقة

إنّ الظاهر من البعض الآخر، كونه ثقة، مثل قوله) عليه السلام (:» التشكيك فيما يرويه ثقاتنا «(4). أو قوله) عليه السلام (:» العمري ثقتي «(5). أو قوله) عليه السلام (:» فيونس بن عبد الرحمن ثقة «(6). و قوله) عليه السلام (:» كلاهما أو كلّهم ثقة «(7).

3. كونه مجتهداً

الظاهر من بعضها لزوم كونه مجتهداً لا ناقلاً مثل قوله) عليه السلام (:» روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا «و يقرب منه ما دلّ على حجّية قول مثل زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير و يونس بن عبد الرحمن و غيرهم من فضلاء أصحاب الصادق، و الرضا) عليهما السلام (، و على هذا يلزم الأخذ بأخص المضامين، و هو أن يكون الراوي جامعاً لجميع هذه الصفات، و هو غير القول بحجّية قول مطلق الثقة.

الجواب: لو وجدنا بين هذه الروايات ما يكون جامعاً لهذه الصفات، و يكون مفاده حجّية مطلق الثقة يتعدى منه إلى المطلوب و إلى هذا يشير المحقّق الخراساني بقوله: و قضيته و إن كان حجّية خبر دل على حجّية أخصها مضموناً إلاّ انّه يتعدى منه فيما إذا كان بينهما ما كان بهذه الخصوصية و قد دلّ على حجّية ما كان أعم.

ص:267


1- لاحظ الحديث 2، 4، 6.
2- لاحظ الحديث 2، 4، 6.
3- لاحظ الحديث 2، 4، 6.
4- لاحظ الحديث 3، 7، 11، 19.
5- لاحظ الحديث 3، 7، 11، 19.
6- لاحظ الحديث 3، 7، 11، 19.
7- لاحظ الحديث 3، 7، 11، 19.

و لعلّ صحيح أحمد بن إسحاق بين تلك الأخبار جامعة لجميع هذه الخصوصيات من حيث السند، و قد دلّ مضمونه على حجّية قول الثقة.

روى الكليني بسند عال رواته كلّهم مشايخ ثقات عدول قد زكّاهم جمع من العدول، فروى: عن محمد بن عبد اللّه الحميري و محمد بن يحيى العطار القمي، عن عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن أحمد بن إسحاق، أنّه سأل أبا الحسن) الهادي) عليه السلام ((و قال له: من أُعامل، و عمّن آخذ، و قول من أقبل؟ فقال:» العمري ثقتي، فما روى إليك عنّي، فعني يؤدّي، و ما قال لك فعنّي يقول، فاسمع له و أطع فانّه الثقة المأمون «.

و سئل أبو محمد) عليه السلام (عن مثل ذلك فقال:» العمري و ابنه ثقتان ما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤديان، ... فإنّهما الثقتان المأمونان «.(1)

و عامة من ورد في السند، من المشايخ، فقال النجاشي في حقّ الأوّل) محمد بن عبد اللّه الحميري (:

ثقة وجه. و في حقّ الثاني) محمّد بن يحيى العطار (: أبو جعفر القمي ثقة. و في حقّ الثالث) عبد اللّه بن جعفر الحميري (: أبو العباس ثقة. و أمّا الرابع) أحمد بن إسحاق (: فهو مردّد بين الرازي و الأشعري، و كلاهما ثقة، و يحتمل اتحادهما. و نظيره رواية الحسن بن علي بن يقطين.(2)

و أمّا المضمون، فقد علّل حجّية قول العمري بأنّه الثقة المأمون، وعليه فرواية كلّ ثقة مأمون، حجّة، سواء كان من المشايخ و الفقهاء أو لا، و المراد من الثقة هو العدل، و نظيره رواية الحسن بن علي بن يقطين.

و منه يظهر انّه ليس للشارع في باب حجّية الخبر الواحد أي جعل و لا تصرف، فما اشتهر في ألسن المشايخ من جعل الحجّية أو الطريقية، أو تتميم

ص:268


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.

الكشف، ليس لها أيّ دليل في الروايات و المتبادر منها، هو إمضاء ما جرى عليه العقلاء في حياتهم العملية من الاعتماد على قول الثقة المأمون فالحجّية إمضائية لا تأسيسية.

***

الاستدلال على حجّية الخبر الواحد بالإجماع

و قد استدلّوا على حجّية الخبر الواحد بالإجماع القولي تارة، و الإجماع العملي أُخرى.

1. الاحتجاج بالإجماع القولي

إنّ الاحتجاج بالإجماع القولي على حجّية الخبر الواحد يتحقّق بأحد وجهين: إمّا بتتبّع فتاوى الأصحاب على الحجّية من زماننا إلى زمان الشيخ حتى يكون إجماعاً محصَّلاً فيكشف رضاء الإمام بذلك على القول بقاعدة اللطف; أو يقطع من باب الحدس، أو بتتبع الإجماعات المنقولة على الحجّية.

و أورد المحقّق الخراساني على التقرير الأوّل باختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات و معه لا يكشف عن رضاه من تتبعها، و على التقرير الثاني، باختلاف معاقد الإجماعات فيها، إلاّ أن يقال:

الاختلاف في الخصوصيات لا يضرّ الإجماع على الحجّية إجمالاً.

يلاحظ على الاستدلال أيضاً بأنّ الإجماع حجّة إذا جهل مصدره و مدركه، و أمّا مع العلم به فيكون المتّبع هو الدليل لا الإجماع.

ص:269

2. الاحتجاج بالإجماع العملي

و قد يحتج بدعوى اتّفاق العلماء عملاً بل كافة المسلمين على العمل بالخبر الواحد في أُمورهم الشرعية، فبما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.

و أورد عليه المحقّق الخراساني: انّه لم يحرز اتّفاقهم على العمل بما هم مسلمون، لأنّهم لا يزالون يعملون بها في غير الأُمور العادية به، فيرجع هذا الاستدلال إلى الاستدلال الآتي، أعني: الاستدلال بسيرة العقلاء.

3. الاحتجاج بالسيرة العقلائية

إنّك إذا تصفّحت حال العقلاء في حياتهم الدنيوية، تقف على أنّهم مطبقون على العمل بقول الثقة في جميع الأزمان و الأدوار و في تمام الأقطار و الأمصار، و يتضح ذلك بملاحظة أمرين:

الأوّل: أنّ تحصيل العلم القطعي عن طريق الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن أمر صعب، خصوصاً بالنسبة إلى من يسكن البوادي و القرى مع قلة المواصلات و الوسائل الإعلامية.

الثاني: انّ القلب يسكن إلى قول الثقة و يطمئن به و يخرج عن التزلزل، و لأجل ذلك يُعدّ عند العرف علماً لا ظناً، خصوصاً إذا كان عدلاً، ذا ملكة رادعة عن الاقتحام في الكذب.

و لو كانت السيرة أمراً غير مرضي للشارع، كان عليه الردع عن ذلك كما ردع عن العمل بقول الفاسق.

مع أنّك إذا سبرت حياة الأُمم في العصور السابقة، تقف على أنّ سيرتهم جرت على العمل بخبر الواحد، خصوصاً بين أهل القرى و البوادي التي لا يتوفر

ص:270

فيها الأخبار المتواترة و لا المحفوفة بالقرائن، و أنّ عمل المسلمين بخبر الثقة لم يكن إلاّ استلهاماً من السيرة العقلائية التي ارتكزت في نفوسهم.

و الحاصل: أنّه لو كان العمل بأخبار الآحاد الثقات أمراً مرفوضاً عند الشرع، لكان هناك الردع القارع و الطرد الصارم حتى ينتبه الغافل و يفهم الجاهل.

و لأجل ذلك نرى أنّه وردت الأخبار المتضافرة حول ردّ القياس، و الرجوع إلى قضاة الجور، و تقبل الولاية من الجائر لما جرت عليه سيرة العامة من العمل به و الرجوع إلى قضاة الجور، و تقبل الولاية من الجائرين، و هي أقلّ ابتلاء بمراتب عن العمل بخبر الواحد، و على ضوء هذا، فهذه السيرة العقلائية حجّة ما لم يردع عنها.

السيرة و الآيات الناهية عن الظن

لا شكّ انّ الاحتجاج بالسيرة فرع عدم الردع عنها شأن كلّ سيرة يستدل بها على حكم شرعي و ربما يتصور انّ الآيات الماضية و الروايات المانعة عن اتّباع غير العلم رادعة عنها و ناهيك قوله تعالى: (وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(1)، و قوله تعالى: (وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )(2).

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عنه بوجوه ثلاثة:

1. انّها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظن في أُصول الدين.

2. المتيقن منها، ما لم يقم على اعتباره حجّة.

3. كونها رادعة، مستلزمة للدور و ذلك:

ص:271


1- الإسراء: 36.
2- النجم: 28.

انّ الرادعية تتوقف على عدم كون السيرة مخصصة أو مقيدة للآيات الناهية، و إلاّ فلا تكون رادعة، و عدم كونها مخصصة أو غير مقيدة فرع كونها بعمومها أو إطلاقها رادعة للسيرة فيلزم توقف كونها رادعة، على نفسها.

ثمّ إنّه) قدس سره (أورد على نفسه بورود نفس الدور على اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضاً.

و لكن الظاهر انّ ما ذكره من الأجوبة الثلاثة تبعيد للمسافة و لا حاجة إليها بل النسبة بين الآيات و السيرة تباين، فانّ المراد من الظن في الآيات هو الوهم و الخيال و الخرص و التخمين، كتسمية الملائكة أُنثى، و أين هذا من العمل بقول الثقة المخبر عن حس، المتحرّز عن الكذب؟! فهو و إن كان ظنياً عقلاً، لكنّه ليس داخلاً في الظن المنهى عنه في الآية، كما أنّه و إن كان غير علمي في نظر المنطقيين، لكنّه في نظر العرف اطمئنان و سكون قلب، فهو لا يقصر عن العلم عندهم.

بقي هنا سؤال و هو انّ المحقّق الخراساني جعل رادعية الآيات للسيرة العملية في مورد خبر الواحد مستلزماً للدور، مع أنّه صحح رادعية الآيات للسيرة المستمرة بين العقلاء بالعمل بالاستصحاب. قال: يكفي في الردع عن مثله بما دلّ من الكتاب و السنّة على النهي عن اتّباع غير العلم عن مثله من الكتاب و السنّة على النهي عن اتباع غير العلم.(1)

فيتوجه السؤال انّه ما الفرق بين المقامين؟ أضف إلى ذلك أمراً ثالثاً و هو انّه إذا فسر الظن في الآيات بما ذكرناه لا تصلح أن تكون رادعة للسيرة، لأنّ الظنّ المنهي عنه غير الظن الحاصل من السيرة، فهو في الأُولى بمعنى الخيال و في الثانية بعض الاطمئنان.

ص:272


1- الكفاية: 280، مبحث الاستصحاب، ط المشكيني.

و أمّا إذا قلنا بوحدة معنى الظن في مورد الآيات و السيرة كما تلقّاه المحقّق الخراساني، فالجواب الذي ذكره من استلزام الرادعية الدور ليس بصحيح، بل الآيات الناهية على هذا الفرض رادعة للسيرة من دون دور، و ذلك ببيانين:

الأوّل: انّ العام حجّة قطعية، و السيرة في مورد خبر الثقة هو حجّية مشكوكة، فكيف تعارض الحجّة القطعية؟ أمّا انّ الآيات فلحجية ظهور العام في تمام أفراده ما لم يدل دليل قطعي على التخصيص، و أمّا كون السيرة حجّة مشكوكة لأنّها لا يحتج بها إلاّ إذا ثبت الإمضاء و لو بالسكوت، و المفروض عدم إحرازه لاحتمال كون الآيات الناهية رادعة و حجّة في قبالها، فيكون مرجع الكلام إلى الشكّ في تخصيص الآيات بالسيرة، و من المعلوم انّ المرجع عندئذ هو العام حتى يثبت الخلاف.

الثاني: انّ رادعية الآيات و إن شئت قلت: الاحتجاج بالآيات موقوف على عدم ثبوت تخصيصها بالسيرة، و هو أمر متحقّق بالفعل، إذ لم يثبت بعد كون السيرة مخصِّصة، فيكفي بالاحتجاج بعدم الثبوت.

نعم لو قلنا بأنّ الاحتجاج بالآيات متوقف على عدم كون السيرة في الواقع مخصِّصاً، و هو بعدُ غير حاصل و لا متحقّق و يتوقف عدم كونها مخصصاً على صحّة الاحتجاج لزم الدور.

فمنشأ الخلط توهم توقف صحّة الاحتجاج بالآيات على ثبوت عدم كونها مخصصةً في الواقع، و الحال انّه متوقف على عدم الثبوت و عدم العلم بالتخصيص و هو أمر حاصل.

ما هو الموضوع للحجّية أ هو خبر الثقة، أو الموثوق بصدوره؟

هل عمل العقلاء بخبر الثقة، بما هو ثقة و إن لم يفد الوثوق بصدور الرواية،

ص:273

أو العمل به لأجل انّه يفيد الوثوق بصدور الرواية عن المعصوم؟ و الظاهر هو الثاني، لأنّ معنى الأوّل كون العمل بخبر الثقة من باب التعبد، و هو بعيد جداً، بل العمل به لأجل كونه طريقاً إلى الوثوق بصدور الرواية، و لأجل ذلك لو لم يُفِدْ ذلك لما عملوا به إلاّ في صورة الاضطرار.

فإذا كان الأمر كذلك يكون الموضوع للحجّية هو الخبر الموثوق بصدوره فيعم الأقسام الأربعة، أعني:

1. الصحيح: ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات.

2. الموثق ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل الثقة) العدل (مع دخول غير الإمامي في سنده كالواقفي و الفطحي.

3. الحسن: ما اتصل سنده إلى المعصوم بإمامي ممدوح بلا معارضة ذم مقبول من غير تنصيص على عدالته في جميع مراتبه السند أو بعضه مع كون الباقي بصفة رجال الصحيح بشرط الوثوق بصدوره.

4. الضعيف ما لا تجتمع فيه أحد الثلاثة و هو على أقسام:

أ. أن يكون مهملاً: أي يكون في السند من هو معنون في الرجال، و لكن لم يذكر في حقّه شيء من المدح أو الذم، فأُهمل من جانب التوثيق و التضعيف.

ب. أن يكون مجهولاً، أي غير معروف بين الرجاليين، و حكموا عليه بالجهالة.

ج. ما حكم عليه بالضعف في العقيدة أو بالخلط و الدس و الوضع.

فالقسمان الأوّلان من الضعيف إذا اقترنا بما يورث الوثوق بصدوره يحكم عليه بالحجّية.

فإن قلت: فعلى هذا يكون الدليل هو القرائن لا الخبر.

ص:274

قلت: إنّ للخبر دوراً في إفادة الاطمئنان، و لذلك اعتبرنا من الضعيف، القسمين الأوّلين.

و هذا هو المختار في باب حجّية الخبر الواحد، و هو خِيرة الشيخ الأعظم في الفرائد، قال: و الإنصاف انّ الدال منها لم يدل إلاّ على وجوب العمل بما يفيد الوثوق و الاطمئنان بمؤدّاه، و هو الذي فسر الصحيح في مصطلح القدماء.

و المعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيداً بحيث لا يعتني به) الاحتمال (العقلاء و لا يكون غيرهم موجباً للتحيّر و التردّد.(1)

***

الخامس: الاستدلال على حجّية الخبر الواحد بالعقل

(2)

و قد استدل على حجّية الخبر الواحد بتقارير ثلاثة:

الأوّل: إجراء الانسداد الصغير في مورد الأخبار

انّا نعلم إجمالاً بصدور كثير من الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب و لا سبيل إلى منع العلم بذلك، و نحن مكلّفون بما تضمنته هذه الأخبار من الأحكام، هذا من جانب.

و من جانب آخر لا يجب الاحتياط في الأخذ بجميعها الأعم من المظنون و المشكوك و الموهوم لعدم إمكانه أو تعسره، و لا يجوز الرجوع إلى الأُصول العملية لمنافاته للعلم الإجمالي بالتكاليف الموجودة فيها، فيجب الأخذ بمظنون الصدور فقط، لأنّ الأخذ بمشكوكه أو موهومه ترجيح للمرجوح على الراجح.

ص:275


1- الفرائد: 106، طبعة رحمة اللّه.
2- و قد عرفت انّ السيرة دليل مستقل وراء الإجماع، فيكون العقل دليلاً خامساً.

و أورد الشيخ على هذا التقرير إشكالات ثلاثة، لم يتعرض المحقّق الخراساني لثانيها، و ردّ الإشكال الأوّل في مقام تقرير الدليل، و قَبِلَ الإشكال الثالث، و صار الدليل لأجل الإشكال الثالث، عقيماً.

تقرير الإشكال: انّ العمل بالخبر المظنون الصدور لأجل كونه موصلاً إلى الظن بصدور الحكم الشرعي، فيجب العمل بكلّ أمارة لها هذا الوصف، أي كلّ أمارة تفيد الظن بصدور الحكم، فعندئذ يكون الخبر و الشهرة الفتوائية و الإجماع المنقول سواسية.

و هذا الإشكال هو الذي أجاب عنه المحقّق الخراساني في ضمن تقرير الدليل من دون أن يشير إلى الإشكال و الجواب.

و حاصل ما دفع به الإشكال في ضمن التقرير: انّ العلم الإجمالي بالتكاليف بين مطلق الأمارات ينحلّ بالعلم بها تفصيلاً عن طريق الاخبار، و عندئذ ينحل العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات و سائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلاً و الشكّ البدوي في ثبوت التكاليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة كالشهرة الفتوائية و الإجماع المنقول.

توضيحه: انّ هنا علماً إجمالياً كبيراً، و هو العلم بالتكاليف في ضمن الأمارات على وجه الإطلاق; و علماً إجمالياً صغيراً، و هو العلم بالتكاليف في ضمن الأخبار التي بأيدينا بأقسامها الثلاثة: المظنونة، المشكوكة، أو الموهومة. و الشيخ يدّعي انّه لا ينحل العلم الإجمالي الكبير بعزل الأخبار عنه، بل يبقى العلم الإجمالي بحاله لوجود العلم بالتكليف في ضمن سائر الأمارات فيجب الاحتياط في الجمع، و لكن المحقّق الخراساني يدّعي انحلال الكبير بعزل الأخبار منها بل بعزل قسم عظيم منه كالتسعين بالمائة من الأخبار فلا يجب الاحتياط في الاخبار.

ص:276

و حينئذٍ يقع الكلام في بيان ما هو الميزان للانحلال و عدمه.

أقول: الميزان في الانحلال و عدمه هو انّه لو كان عدد التكاليف الموجودة في دائرة العلم الإجمالي الكبير مساوياً مع العدد المعلوم في دائرة العلم الإجمالي الصغير، ينحلُّ قطعاً، و يكفي في الانحلال احتمال الانطباق و لا يلزم العلم بالانطباق بخلاف ما إذا كان العدد المعلوم في الثانية أقلّ من العدد المعلوم في الأُولى.

مثلاً لو علمنا بأنّ في قطيع الغنم التي فيها البيض و السود، عشر شياه محرمة، ثمّ علمنا انّ في خصوص السود منها عشر شياه محرمة و احتملنا أن يكون المحرّمة في الثانية نفس الشياه المحرمة في الأُولى، فبعزل الشياه السود ينحلّ العلم الإجمالي الأوّل و إن كانت دائرته أوسع، إذ مع العزل لا يبقى علم إجمالي أبداً، بخلاف ما إذا كان العدد المعلوم في الثانية أقلّ، كما إذا علم وراء العلم الإجمالي في القطيع، بوجود خمسة شياه محرمة في السود منها، إذ عندئذ لا ينحل و إن عزل عن القطيع.

هذه هي الضابطة، و أمّا انّ المقام من قبيل أي من القسمين فهو أمر وجداني لا برهاني، فلو قلنا: إنّ عدد التكاليف المعلومة في دائرة العلم الإجمالي الكبير لا يزيد على العدد المعلوم في دائرة الإجمالي الصغير، فبعزل الاخبار بل بعزل قسم عظيم منها، ينحل العلم الإجمالي الكبير، فلا يجب الاحتياط في سائر الأمارات كالشهرات و الإجماعات المنقولة; و أمّا لو كان العدد المعلوم في الدائرة الأُولى أكثر يبقى العلم الإجمالي الكبير بحاله و إن عزلت الأخبار فلا يختص الاحتياط بخصوص الأخبار، بل يجب فيها و في سائر الأمارات.

و لعلّ الحقّ مع الشيخ بالنظر إلى ما نقلناه عن سيد مشايخنا البروجردي من أنّ في الفقه الشيعي مسائل كثيرة ليس لها دليل سوى الشهرة الفتوائية، و هذا

ص:277

يؤيد انّ العلم بالتكاليف أوسع بما ورد في الأخبار.

و أمّا الإشكال الثاني(1) فقد تركه المحقّق الخراساني و نحن نقتفيه، و إنّما المهم هو الإشكال الثالث.

حاصله: انّ المطلوب هو إثبات حجّية الخبر الواحد، و هذا الدليل يثبت العمل بالأخبار في باب الاحتياط، و تظهر الثمرة في الأُمور التالية:

1. لو كان الخبر الواحد حجّة تكون أمارة، و الأمارة حجّة في لوازمه العقلية و العادية و بالتالي يترتب عليها أحكامها الشرعية، بخلاف ما لو كان الأخذ بها من باب الاحتياط فيكون أصلاً و مثبتات الأُصول ليست بحجّة.

2. لو كان الخبر الواحد حجّة، يصحّ نسبة مضمونه إلى الشارع لقوله:» ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان « و لا يكون تشريعاً، بخلاف ما لو كان أصلاً فلا تصحّ نسبة مضمونه إليه.

3. لو كان الخبر الواحد حجّة يكون مقدماً على الأُصول اللفظية كالعموم و الإطلاق فيخصص العموم و يقيد الإطلاق به، بخلاف ما لو كان الأخذ به من باب الاحتياط فلا يقدّم الأصل العملي على الأصل اللفظي.

4. لو كان الخبر الواحد حجّة، يقدم على الأُصول العملية مطلقاً نافية كانت أو مثبتة، بخلاف ما لو كان أصلاً فيقدم على الأصل النافي للتكليف لكونه على خلاف الاحتياط و لا يقدم على الأصل المثبت للتكليف، فإذا كان مفاد الأصل مثبتاً للتكليف و الخبر نافياً له، لأنّ الأخذ بالثاني من باب الاحتياط و المفروض كونه على خلاف الاحتياط.

ص:278


1- أشار إليه الشيخ بقوله: إنّ اللازم من كون مضمونه حكم اللّه....
التقرير الثاني: إجراء دليل الانسداد في خصوص الأجزاء و الشرائط

استدل الفاضل التوني على حجّية الخبر الموجود في الكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر، و قال: إنّا نقطع ببقاء التكليف في العبادات و المعاملات، مع أنّ جلّ أجزائها و شرائطها و موانعها إنّما تثبت بالخبر الواحد بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الأُمور عن كونها هذه الأُمور عند ترك العمل بخبر الواحد.

و أورد عليه الشيخ بوجهين:

الأوّل: ما أورده أيضاً على التقرير الأوّل مع تفاوت يسير و قال: إنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء و الشرائط بين جميع الأخبار لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره; فاللازم إمّا الاحتياط إن لم يستلزم الحرج، أو العمل بكلّ ما دلّ على جزئية شيء أو شرطيته.

و استشهد على ذلك بأنّه لو عزلنا أخبار العدول من الكتب الأربعة ثمّ ضممنا الباقي منها إلى سائر الأخبار الواردة في غيرها لبقى العلم الإجمالي بحاله.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بما أورده على التقرير الأوّل و قال: إنّ العلم الإجمالي و إن كان حاصلاً بين جميع الأخبار، إلاّ أنّ العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم) عليهم السلام (بقدر الكفاية بين تلك الطائفة(1) أو العلم باعتبار تلك الطائفة كذلك بينها، يوجب انحلال ذاك العلم و صيرورة غيره خارجاً عن طرف العلم.

و حاصله: انّه إذا ضُمّت الروايات المعلومة الصدور إلى معلومة الاعتبار

ص:279


1- المراد من الطائفة ما ورد في كلام صاحب الوافية: الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة من غير فرق بين كونها مفيداً للعلم، أو علمياً دلّ على اعتبار الدليل الخاص.

يبلغ إلى حدّ قد ينحل معه العلم الإجمالي بالأجزاء و الشرائط بين مطلق الأخبار فليس لازم هذا التقريب الاحتياط المطلق بين جميع الأخبار حتى يترتب عليه ما ترتب، ثمّ إنّه) رحمه الله (احتمل عدم الانحلال ثمّ أمر بالتأمّل.

الثاني: انّ المطلوب في المقام هو صيرورة الخبر الواحد من باب كونه أمارة و دليلاً اجتهادياً حتى تترتب عليه الآثار الأربعة.

أ: حجّية مثبتاته و إثبات لوازمه ليترتب على اللازم ما له من الآثار الشرعية.

ب: صحّة نسبة مضمونه إلى اللّه سبحانه أخذاً بقوله) عليه السلام (:» ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان «.

ج: كونه وارداً على الأُصول العملية و رافعاً لموضوعها مثلاً لو كان مقتضى سائر الأُصول هو الاحتياط في الجزء و الشرط كاستصحاب وجوبهما في حال النسيان و الجهل، و كان مقتضى الخبر النفي، فلا يقدم الخبر عليه، لأنّه على خلاف الاحتياط فليس في مثل هذا الخبر ملاك الأخذ به في مقابل الأصل فإذا نسي السورة، فمقتضى استصحاب وجوبها في حال النسيان هو إعادة الصلاة و لكن مقتضى قوله:» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «عدمه لأنّه ليس من الأُمور الخمسة.

د: كونه مقدّماً على الأُصول اللفظية من إطلاق و عموم.

و الدليل الذي أقامه صاحب الوافية لا يثبت إلاّ كونه حجّة من باب الاحتياط فيكون أصلاً من الأُصول لا يترتب عليه تلك الآثار.

التقرير الثالث:

ما ذكره المحقّق الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب الحاشية على المعالم باسم هداية المسترشدين و قد لخّصه الشيخ الأنصاري على وجه لا يخلو عن اختصار مخل، و كلامه) قدس سره (في هداية المسترشدين أيضاً لا يخلو عن إطناب مخل،

ص:280

و تتضح حقيقة مراده إذا رجعنا إلى التنبيه الأوّل من تنبيهات دليل الانسداد، فقد فرعوا على المقدمات الخمس انّ قضيتها على تقدير سلامتها هل هو حجّية الظن بالواقع، أو حجّية الظن بالطريق، أو بهما؟ و قد اختار صاحب الحاشية انّ الحجّة هو الظن بالطريق كالظن بأنّ القرعة حجّة، و الخبر الواحد حجّة، و لا يكفي الظن بالواقع إذا لم يكن هناك ظن بالحجّية كالظن بالحكم الواقعي عن طريق القياس و الاستحسان.(1)

فهو) قدس سره (قد أقام ثمانية أدلة على اعتبار الظن بالطريق، و قد نقل الشيخ الأنصاري الوجه السادس، و نحن نذكر نصّ كلامه.

قال: السادس: إنّه قد دلّت الأخبار القطعية و الإجماع المعلوم من الشيعة على وجوب الرجوع إلى الكتاب و السنّة بل ذلك ممّا اتّفقت عليه الأُمّة.

و حينئذٍ إن أمكن حصول العلم بالحكم الواقعي من الرجوع إليهما في الغالب، تعيّن الرجوع على الوجه المذكور، و إن لم يحصل ذلك و كان هناك طريق في كيفية الرجوع إليهما) كالخبر الصحيح و الموثق مثلاً (تعين الأخذ به و كان بمنزلة الوجه الأوّل و إن انسد سبيل العلم، و كان هناك طريق ظني) كالخبر الحسن و الضعيف ( في كيفية الرجوع إليهما لزم الانتقال إليه و الأخذ بمقتضاه و حيث لا ترجيح لبعض الظنون المتعلقة بذلك على بعض يكون مطلق الظن المتعلق بهما حجّة.(2)

فإن قلت: كيف يكون هذا التقرير دليلاً على حجّية الخبر الواحد، مع أنّ نتيجته هو حجّية مطلق الظن؟

ص:281


1- لاحظ الكفاية: 2/25» هل قضية المقدمات على تقدير سلامتها هي حجّية الظن بالواقع أو بالطريق أو بهما؟ «.
2- هداية المسترشدين: 391.

قلت: لأنّ الضرورة قامت على لزوم الرجوع إلى السنّة و الأخذ بخبر الواحد أخذ بالسنّة دون سائر الأمارات كالإجماع المنقول و الشهرة.

أضف إلى ذلك: انّه ربما يحصل الظن بالحكم و لكن لا يظن بصدوره عن الحجّة، إذ ربّ حكم واقعي لم يصدر عنهم و بقى مخزوناً عندهم لمصلحة من المصالح، فلا يكون مطلق الظنّ مجرداً عن الظن بالطريق حجّة.

هذا توضيح لمرامه.

و أورد عليه الشيخ بالنحو التالي:

إن أراد من السنّة هو قول المعصوم و فعله و تقريره، فيرد عليه انّ الرجوع إلى السنّة ليس إلاّ الوقوف على ما فيها من الأحكام، و ليس الوقوف على لفظها أمراً مطلوباً للفقيه، فإذا كان الملاك للرجوع هو الوقوف على التكاليف، فيشاركه سائر الأمارات في الدلالة على المطلوب، كالإجماع المنقول و الشهرة و لا تختص الحجّية بالخبر الواحد.

و بعبارة أُخرى: إذا لم يتمكن من تحصيل العلم بمدلول السنّة يتعيّن الرجوع باعتراف المستدل إلى ما ظن كونه مدلولاً لأحدهما، و عندئذ لا فرق بين خبر الواحد و مؤدّى الشهرة أو معقد الإجماع المنقول فإنّ مؤدّى الجميع مدلول للكتاب أو لقول الحجّة أو فعله أو تقريره.

و توهم احتمال عدم ورود مؤدّى الشهرة و الإجماع المنقول في الكتاب و السنّة نادر جدّاً، لأنّ المسائل التي انعقدت الشهرة عليها أو حكي الإجماع بها من المسائل التي تعمّ بها البلوى بحيث نعلم صدور حكمها عنهم صلوات اللّه عليهم.

و إن أراد من السنّة، الحواكي، أي الأخبار و الأحاديث، و المراد انّه يجب الرجوع إلى الأخبار المحكية عنهم فإن تمكن من الرجوع إليها على وجه يفيد العلم

ص:282

بالحكم فهو، و إلاّ وجب الرجوع إليها على وجه يظن منه الحكم.

فقد أورد عليه الشيخ بعد إشكالات جانبية بأنّه لو ادّعى الضرورة على وجوب الرجوع إلى تلك الحكايات غير العلمية لأجل لزوم خروج عن الدين لو طرحت بالكلية، يرد عليه انّه إن أراد لزوم الخروج عن الدين من جهة العلم بمطابقة كثير منها للتكاليف الواقعية التي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل بها تفصيلاً) و على حدّ تعبير الكفاية دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعية فيها (فهذا يرجع إلى دليل الانسداد.

و إن أراد لزومه من جهة خصوص العلم الإجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار حتى لا يثبت بها حجّية غير الخبر الظني من الظنون ليصير دليلاً عقليّاً على حجّية الخبر، فهذا يرجع إلى الوجه الأوّل.(1)

و الحاصل: انّ الرجوع إليها، إمّا لأجل العلم بمطابقة أكثرها للواقع، أو للعلم بصدور أكثرها الكاشف عن الواقع. فالأوّل تقرير لدليل الانسداد، و الثاني تقرير لدليل الفاضل التوني.

و قد أورد المحقّق الخراساني على الشيخ في الكفاية بأنّ إشكاله على تقدير إرادة السنّة بالمعنى الثاني إنّما يتم لو كان الرجوع إلى الأخبار من باب الطريقية إلى الواقع و الإنسان غير معذور من قبل الواقعيات فيجب العمل بها، إمّا لقضية المطابقة، أو صدور الأكثر; و أمّا لو قلنا بأنّ الرجوع إليها من باب النفسية و الموضوعية و انّه لا فعلية للواقعيات، بل الفعل هو مؤديات الأخبار، فلا يرجع إلى أحدهما.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اختار انّ مراده هو الوجه الثاني، و أورد عليه بأنّ لازم ما أفاده هو التدرّج في الأخذ بالأخبار، فإن وفى المتيقن الاعتبار لاستنباط

ص:283


1- الفرائد: 106.

الأحكام فهو، و إلاّ فيرجع إلى المتيقن اعتباره بالإضافة و إلاّ فالاحتياط لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره، لأنّ الرجوع إلى ما علم اعتباره تفصيلاً أو إجمالاً) كالرجوع إلى الجمع احتياطاً (يمنع عن الرجوع إلى ما ظن اعتباره.

تمّ الكلام في الأدلة العقلية القائمة على حجّية الخبر الواحد كما تمّ البحث في الظنون الخاصة، و حان حين البحث في الظن المطلق، و لكن هنا ظناً خاصاً دلّ الدليل على اعتباره و لم يتعرض إليه القوم و هو حجّية العرف و السيرة، و إليك البيان.

ص:284

الحجج الشرعية 6 العرف و السيرة

اشارة

إنّ العرف له دور في مجال الاستنباط أوّلاً، و فصل الخصومات ثانياً، حتى قيل في حقّه العادة شريعة محكمة، أو الثابت بالعرف كالثابت بالنص.(1) و لا بدّ للفقيه من تحديد دوره و تبيين مكانته حتى يتبين مدى صدق القولين.

أقول: العرف عبارة عن كلّ ما اعتاده الناس و ساروا عليه، من فعل شاع بينهم، أو قول تعارفوا عليه، و لا شكّ انّ العرف هو المرجع في منطقة الفراغ، أي إذا لم يكن هناك نصّ من الشارع على شيء على تفصيل سيوافيك، و إلاّ فالعرف سواء أ وافقها أم خالفها ساقط عن الاعتبار.

استكشاف الجواز تكليفاً و وضعاً
اشارة

يستكشف جواز الفعل تكليفاً، و وضعاً بالسيرة بشرط أمرين:

1. أن لا يصادم التنصيص:

قد يطلق العرف و يراد به ما يتعارف بين المسلمين من دون أن يدعمه دليل من الكتاب و السنّة، و هذا ما نلاحظه في الأمثلة التالية:

1. العقود المعاطاتية من البيع و الإجارة و الرهن و غيرها.

2. وقف الأشجار و الأبنية من دون وقف العقار.

ص:285


1- رسائل ابن عابدين: 2/113، في رسالة نشر العرف التي فرغ منها عام 1243 ه.

3. دخول الحمام من دون تقدير مدّة المكث فيه و مقدار المياه التي يصرفها.

4. استقلال الحافلة بأُجرة معينة من دون أن يعين حدّ المسافة. إلى غير ذلك من السير المستمرة بين المسلمين و لو اجتمع فيه الشرطان، فالسيرة تضفي عليها الجواز تكليفاً لا وضعاً.

فإن قلت: دلّ الدليل على بطلان الإجارة المجهولة، فالقول بالصحّة في الأخير يصادم النص.

قلت: المراد منه هو الدليل في خصوص المورد على وجه التنصيص.

و أمّا الموجود في المقام فلا يتجاوز الإطلاق القابل للتقييد.

و الكلام الخامس في السيرة، هي انّها على قسمين:

تارة تصادم الكتاب و السنّة و تعارضهما، كاختلاط النساء بالرجال في الأفراح و الأعراس و شرب المسكرات فيها و المعاملات الربوية، فلا شكّ انّ هذه السيرة باطلة لا يرتضيها الإسلام و لا يحتج بها إلاّ الجاهل.

و كاشتراط المرتهن الانتفاع من العين المرهونة، أو اشتراط ربّ المال في المضاربة قدراً معيناً من الربح لا بالنسبة، فهذا النوع من السيرة لا يحتج بها لمخالفتها للنص الصريح.

و أُخرى لا تصادم الدليل الشرعي و في الوقت نفسه لا يدعمها الدليل، فهذا النوع من السيرة إن اتصلت بزمان المعصوم و كانت بمرأى و مسمع منه و مع ذلك سكت عنها تكون حجّة على الأجيال الآتية.

و بذلك يعلم أنّ السير الحادثة بين المسلمين بعد رحيل المعصوم لا يصحّ الاحتجاج بها و إن راجت بينهم كالأمثلة التالية:

1. عقد التأمين: و هو عقد رائج بين العقلاء، عليه يدور رحى الحياة

ص:286

العصرية، فموافقة العرف لها ليس دليلاً على مشروعيتها، بل يجب التماس دليل آخر عليها.

2. عقد حقّ الامتياز: قد شاع بين الناس شراء الامتيازات كامتياز الكهرباء و الهاتف و الماء و غير ذلك التي تعد من متطلبات الحياة العصرية، فيدفع حصة من المال بغية شرائها وراء ما يدفع في كلّ حين عند الاستفادة و الانتفاع بها، و حيث إنّ هذه السيرة استحدثت و لم تكن من قبل، فلا تكون موافقة العرف لها دليلاً على جوازها، فلا بد من طلب دليل آخر.

3. بيع السرقفلية: قد شاع بين الناس انّ المستأجر إذا استأجر مكاناً و سكن فيه مدّة فيصبح له حقّ الأولوية و ربما يأخذ في مقابله شيئاً باسم» السرقفلية «حين التخلية.

4. عقود الشركات التجارية الرائجة في عصرنا هذا، و لكلّ منها تعريف يخصها، و لم يكن لها أثر في عصر الوحي، فتصويب كلّ هذه العقود بحاجة ماسة إلى دليل آخر وراء العرف، فإن دلّ عليه دليل شرعي يؤخذ بها و إلاّ فلا يحتج بالعرف.

2. الرجوع إلى العرف في تبيين المفاهيم

1. إذا وقع البيع و الإجارة و ما شابههما موضوعاً للحكم الشرعي ثمّ شكّ في مدخلية شيء أو مانعيته في صدق الموضوع شرعاً، فالصدق العرفي دليل على أنّه هو الموضوع عند الشرع.

إذ لو كان المعتبر غير البيع بمعناه العرفي لما صحّ من الشارع إهماله مع تبادر غيره و كمال اهتمامه ببيان الجزئيات من المندوبات و المكروهات إذ يكون تركه إغراء بالجهل و هو لا يجوز.

ص:287

يقول الشيخ الأنصاري في نهاية تعريف البيع: إذا قلنا بأنّ أسماء المعاملات موضوعة للصحيح عند الشارع، فإذا شككنا في صحّة بيع أو إجارة أو رهن يصحّ لنا أن نستكشف ما هو الصحيح عند الشارع ممّا هو الصحيح عند العرف، بأن يكون الصحيح عند العرف طريقاً إلى ما هو الصحيح عند الشارع إلاّ ما خرج بالدليل.

2. لو افترضنا الإجمال في مفهوم الغبن أو العيب في المبيع فيحال في صدقهما إلى العرف.

قال المحقّق الأردبيلي: قد تقرر في الشرع انّ ما لم يثبت له الوضع الشرعي يحال إلى العرف جرياً على العادة المعهودة من ردّ الناس إلى عرفهم.(1)

3. لو افترضنا الإجمال في حدّ الغناء، فالمرجع هو العرف، فكلّ ما يسمّى بالغناء عرفاً فهو حرام و إن لم يشتمل على الترجيع و لا على الطرب.

يقول صاحب مفتاح الكرامة: المستفاد من قواعدهم حمل الألفاظ الواردة في الأخبار على عرفهم، فما علم حاله في عرفهم جرى الحكم بذلك عليه، و ما لم يعلم يرجع فيه إلى العرف العام كما بين في الأُصول.(2)

يقول الإمام الخميني) رحمه الله (: أمّا الرجوع إلى العرف في تشخيص الموضوع و العنوان فصحيح لا محيص عنه إذا كان الموضوع مأخوذاً في دليل لفظي أو معقد الإجماع.(3)

ص:288


1- مجمع الفائدة و البرهان: 8/304.
2- مفتاح الكرامة: 4/229.
3- البيع: 1/331.
3. الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق

قد اتخذ الشرع مفاهيم كثيرة و جعلها موضوعاً لأحكام، و لكن ربما يعرض الإجمال على مصاديقها و يتردد بين كون الشيء مصداقاً له أو لا.

و هذا كالوطن و الصعيد و المفازة و المعدن و الحرز في السرقة و الأرض الموات إلى غير ذلك من الموضوعات التي ربما يشك الفقيه في مصاديقها، فيكون العرف هو المرجع في تطبيقها على موردها.

يقول المحقّق الأردبيلي في حفظ المال المودع: و كذا الحفظ بما جرى الحفظ به عادة، فإنّ الأُمور المطلقة غير المعيّنة في الشرع يرجع فيها إلى العادة و العرف، فمع عدم تعيين كيفية الحفظ يجب أن يحفظها على ما يقتضي العرف حفظه، مثل الوديعة، بأن يحفظ الدراهم في الصندوق و كذا الثياب و الدابة في الاصطبل و نحو ذلك، ثمّ إنّ في بعض هذه الأمثلة تأملاً، إذ الدراهم لا تحفظ دائماً في الصندوق، و لا الثياب و هو ظاهر.(1)

4. الأعراف الخاصة

إنّ لكلّ قوم و بلد أعرافاً خاصة بهم يتعاملون في إطارها و يتفقون على ضوئها في كافّة العقود و الإيقاعات، فهذه الأعراف تشكل قرينة حالية لحلّ كثير من الإجماعات المتوهمة في أقوالهم و أفعالهم، و لنقدم نماذج منها:

1. إذا باع دابة ثمّ اختلفا في مفهومه، فالمرجع ليس هو اللغة بل ما هو المتبادر في عرف المتعاقدين و هو الفرس.

2. إذا باع اللحم ثمّ اختلفا في مفهومه، فالمرجع هو المتبادر في عرف

ص:289


1- مجمع الفائدة و البرهان: 28010/279.

المتبايعين و هو اللحم الأحمر دون اللحم الأبيض كلحم السمك.

3. إذا وصّى بشيء لولده، فالمرجع في تفسير الولد هو العرف، و لا يطلق فيه إلاّ على الذكر لا الأُنثى خلافاً للفقه و الكتاب العزيز قال سبحانه: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ).(1)

4. إذا اختلفت البلدان في بيع شيء بالكيل أو الوزن أو بالعد، فالمتبع هو العرف الرائج في بلد البيع.

قال المحقّق الأردبيلي: كلّما لم يثبت فيه الكيل و لا الوزن و لا عدمهما في عهده) صلى الله عليه و آله و سلم (فحكمه حكم البلدان، فإن اتّفق البلدان فالحكم واضح، و إن اختلفا ففي بلد الكيل أو الوزن يكون ربوياً تحرم الزيادة و في غيره لا يكون ربوياً فيجوز التفاضل، و الظاهر انّ الحكم للبلد لا لأهله و إن كان في بلد غيره.(2)

5. إذا اختلف الزوجان في أداء المهر، فالمرجع هو العرف الخاص، فلو جرت العادة على تقديم المهر أو جزء منه قبل الزفاف و لكن ادّعت الزوجة بعده انّها لم تأخذه، و ادّعى الزوج دفعه إليها، فللحاكم أن يحكم على وفق العرف الدارج في البلد.

و قد روي عن الإمام الصادق) عليه السلام (فيما إذا اختلف أحد الزوجين مع ورثة الزوج الآخر، انّه جعل متاع البيت للمرأة و قال للسائل:» أ رأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟ «فقلت: شاهدين، فقال:» لو سألت من بين لابتيها يعني الجبلين و نحن يومئذ بمكة لأخبروك انّ الجهاز و المتاع يهدى علانية، من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به و هذا المدّعي، فإن زعم أنّه أحدث فيه

ص:290


1- النساء: 11.
2- مجمع الفائدة و البرهان: 8/477، كتاب المتاجر، مبحث الربا.

شيئاً فليأت عليه البيّنة «.(1)

6. إذا اختلف البائع و المشتري في دخول توابع المبيع في البيع فيما إذا لم يصرحا به، كما إذا اختلفا في دخول اللجام و السرج في المبيع، فإذا جرى العرف على دخولهما في المبيع و إن لم يذكر يكون قرينة على أنّ المبيع هو المتبوع و التابع، و لذلك قالوا: إنّ ما يتعارفه الناس في قول أو فعل عليه يسير نظام حياتهم و حاجاتهم، فإذا قالوا أو كتبوا فإنّما يعنون المعنى المتعارف لهم، و إذا عملوا فإنّما يعملون على وفق ما يتعارفونه و اعتادوه، و إذا سكتوا عن التصريح بشيء فهو اكتفاء بما يقتضي به عرفهم، و لهذا قال الفقهاء:

المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

إمضاء النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (لبعض الأعراف
اشارة

إنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (أمضى بعض الأعراف الموجودة بين العرب كما أمضى ما سنّه عبد المطلب من السنن، و لكن كان الجميع بإذن منه سبحانه، فلو وضع الدية على العاقلة، أو جعل دية الإنسان مائة من الإبل و غير ذلك، فقد كان بأمر من اللّه سبحانه، كيف و قد أُوحي إليه قوله سبحانه:

(وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ * ... فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ * ... فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ).(2)

تفسير خاطئ

يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: إنّ الرسول لمّا وجد عرف أهل المدينة جارياً على بيع السلم و على بيع العرايا و أصبح هذان النوعان من البيوع التي لا

ص:291


1- الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 1.
2- المائدة: 44 47.

يستغني عنهما المتعاملون أباحهما، فرخّص في السلم و رخص في العرايا مع أنّ كلاًّ منهما حسب الأحكام الشرعية عقد غير صحيح، لأنّ السلم بيع مبيع غير موجود وقت البيع بثمن حال فهو عقد على معدوم، و قد نهى) صلى الله عليه و آله و سلم (عن بيع المعدوم.

و العرايا: عبارة عن بيع الرطب على النخل بالتمر الجاف، و هذا لا يمكن فيه التحقّق من تساوي البدلين، و قد نهى) صلى الله عليه و آله و سلم (عن بيع الشيء بجنسه متفاضلاً، و لكن ضرورات الناس دعتهم إلى هذا النوع من التعامل و جرى عرفهم به فراعى الرسول ضرورتهم و عرفهم و رخّص فيه.(1)

أقول: من أين وقف الأُستاذ على أنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (نهى عن بيع المعدوم مع أنّ الوارد هو قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» و لا بيع ما ليس عندك «؟(2)و قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (ناظر إلى بيع العين الشخصية التي ليست في ملك البائع و إنّما يبيعها ليشتريها من غيره ثمّ يدفعها إليه و مثله لا يشمل بيع السلم.

نعم أطبق العقلاء على عدم اعتبار بيع المعدوم إلاّ إذا كان للبائع ذمّة معتبرة تجلب اعتماد الغير و كان بيع السلف أمراً رائجاً بين العقلاء إلى يومنا هذا غير انّ الشارع جعلها في إطار خاص قال ابن عباس: قدم النبي المدينة و هم يسلفون في الثمار السنة و السنتين، فقال:» من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم و وزن معلوم إلى أجل معلوم «.(3)

و أمّا بيع العرايا فلا مانع من أن يكون تخصيصاً لما نهى عن بيع الرطب بالجاف(4) و قد قيل: ما عام إلاّ و قد خصّ.

ص:292


1- مصادر التشريع الإسلامي: 146.
2- بلوغ المرام: برقم 820، قال وراه الخمسة. و روى أيضاً» و لا تبع... «.
3- بلوغ المرام: برقم 874.
4- روى سعد بن أبي وقاص، قال: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر إذا يبس، فقال: » أ ينقص الرطب إذا يبس؟ «، قالوا: نعم، فنهى عن ذلك.) بلوغ المرام: برقم 865).

و لو افترضنا انّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (رخص هذه البيوع من باب الضرورة يجب الاختصار على وجودها.

نعم لمّا كان النبي واقفاً على مصالح الأحكام و مفاسدها و ملاكاتها و مناطاتها، و كانت الأحكام تابعة لمصالح و مفاسد في متعلّقاتها، كان للنبي) صلى الله عليه و آله و سلم (أن ينص على أحكامه عن طريق الوقوف على عللها و ملاكاتها و لا يكون الاهتداء إلى أحكامه سبحانه عن طريق الوقوف على مناطاتها بأقصر من الطرق الأُخرى التي يقف بها النبي على حلاله و حرامه.

في حجّية مطلق الظن

اشارة

و قد استدل على حجّية مطلق الظن بوجوه أربعة رابعها دليل الانسداد، و إليك الإشارة إليها واحداً تلو الآخر.

الدليل الأوّل: ما استدل به القدماء من الأُصوليين

ذكره الشيخ في العدّة عند البحث في حجّية الخبر الواحد فقال:» إنّ في العقل وجوب التحرز من المضارّ، و إذا لم نأمن عند خبر الواحد أن يكون الأمر على ما تضمّنه الخبر، يجب علينا التحرّز منه، و العمل بموجبه. كما أنّه يجب علينا إذا أردنا سلوكَ طريق أو تجارة و غير ذلك فخُبِّرنا بخبر انّ في الطريق سبعاً أو لصّاً، أو خُبِّرنا بالخسران الظاهر، وجب علينا أن نتوقف عليه و نمتنع من السلوك فيه.(1)

و قرره المحقّق الخراساني بالشكل التالي:

ص:293


1- عدة الأُصول: 1/107.

إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي و التحريمي لمظنة الضرر، و دفع الضرر المظنون لازم.

أمّا الصغرى فقد فسر الضرر بأحد الأمرين:

1. بالعقوبة تارة، و المفسدة أُخرى. فقيل: إنّ الظن بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة فيها بناء على تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد.

و أمّا الكبرى دفع الضرر المظنون لازم فقد استدلّ عليها بوجهين:

1. إمّا أن نقول بالتحسين و التقبيح العقليين فواضح، فالعقل يُقبِّح ارتكاب ما فيه الضرر المظنون.

2. أو لا نقول بهما و مع ذلك يستقل العقل بلزوم دفع الضرر المظنون بل المحتمل لا بملاك استقلاله بهما، بل يحكم بذلك و إن لم يستقل بالتحسين و التقبيح العقليين، و لذلك أطبق العقلاء على ذلك و إن اختلفوا فيهما.

ثمّ إنّ القدماء ناقشوا الكبرى و قد نقل شيخنا الأنصاري منهم أجوبة ثلاثة كلّها يرجع إلى رفض الكبرى و قال:

أ: منع الحاجبيّ الكبرى، و قال: دفع الضرر المظنون احتياط مستحب.

ب: نقل الشيخ في العدّة انّ الحكم في الكبرى راجع إلى المضار الدنيوية لا الأُخروية و هو منه عجيب.

ج: و نقل عن ثالث جواباً نقضياً، و هو النهي عن الأمارات، كخبر الفاسق و القياس مع كونهما مفيدين للظن بالضرر.

و لكن الشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني ركّزا على منع الصغرى، و انّ الظن بالوجوب و الحرمة لا يلازمان الظنّ بالضرر بكلا المعنيين: العقوبة و المفسدة،

ص:294

و إليك توضيح كلا الأمرين.

أمّا الأُولى: فيعلم ببيان مورد القاعدتين:

الأُولى: قبح العقاب بلا بيان.

الثانية: لزوم دفع الضرر) العقاب (المحتمل.

فلو وقفنا على حدود القاعدتين لظهر منع الصغرى في المقام، و إليك البيان:

أمّا القاعدة الأُولى: فالعقل يستقل بقبح العقاب بلا بيان واصل، و لا يرى الملازمة بين الوجوب و التحريم الواقعيين، و العقوبة، و إنّما يرى الملازمة بين الحكم الواصل إلى المكلّف، و العقوبة و ليس المراد إلاّ العلم أو ما دل الدليل القطعي على حجّيته.

و بما انّ المفروض في المقام عدم ثبوت حجّية الظن بالحكم في المقام، فلا يلازم الظّنُّ بالحكم، الظن بالعقوبة أبداً و يكون المحكّم هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان و إن كان في الواقع واجباً أو حراماً. فالقاعدة تنفي أي موضوع للقاعدة الثانية، فالثانية بالنسبة إلى مورد الأُولى، كبرى بلا صغرى.

و أمّا القاعدة الثانية، أعني: وجوب دفع الضرر) العقاب (فتختص بما إذا أُحرزت العقوبة على وجه القطع في ظل البيان الواصل و مع ذلك ربما تتجلّى بصور ثلاث:

أ: القطع بالعقاب، كما إذا علم انّ المائع مسكر.

ب: الظن بالعقاب، كما إذا علم انّ أحد الإناءين مسكر، ففي شرب الواحد منهما مظنة العقاب كما انّ في شرب كليهما القطع به.

ج: احتمال العقاب، كما إذا كانت الأطراف متعددة على وجه لا تخرج عن

ص:295

حدّ المحصورة و احتمال العقاب في واحد لا ينافي القطع بالعقاب في الجميع، ففي هذه الصور الصغرى و الكبرى محرزتان، ففي ظل البيان الواصل يكون العقاب، مقطوعه أو مظنونه أو محتمله واجب الدفع.

و العجب من المحقّق الخراساني حيث احتمل فيما إذا لم يكن في المورد بيان واصل و مع ذلك ظن بالحكم، أن لا يحكم العقل بأحد الطرفين لا باستحقاق العقاب و لا بعدم استحقاقه، و لأجل عدم حكمه بحسن واحد منهما، يكون العقاب محتملاً و يستقل العقل بلزوم دفع العقاب مقطوعه و مظنونه و مشكوكه(1).

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره غير تام لوجهين:

أ: انّ العقل لا يتوقف في الحكم إذا كان الموضوع ممّا له به صلة.

ب: انّ في تجويز توقف العقل عن إصدار الحكم في الموضوع الذي هو المرجع فيه، إبطالاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان و كيف يحتمل العقاب مع عدم كون الظن حجّة و البيان غير واصل.

هذا كلّه إذا أُريد من الضرر في الصغرى العقوبة الأُخروية.

و أمّا إذا أُريد من الضرر، المفاسد، فقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:

الأوّل: انّ الظن بالتكليف يلازم الظن بالمصلحة أو المفسدة، لأنّهما من الأُمور التكوينية و لا تأثير للعلم و الجهل فيهما، و لكن ليس كلّ مفسدة واجبَ الدفع. و ذلك لأنّه ليس المراد منهما المصالح و المفاسد الشخصية، بل المصالح و المفاسد النوعية، و الذي يستقل العقل بدفعه هو الضرر المظنون الشخصي، لا النوعي، و مثله المصلحة النوعية فليس في تفويتها أيّ ضرر شخصي، بل ربما يكون في استيفائها مفسدة كما في الإنفاق بالمال.

ص:296


1- كفاية الأُصول: 110 111.

الثاني: ليس الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد في المأمور و المنهي عنها و إنّما هي تابعة لمصالح في نفس الأحكام.

و على ذلك فالصغرى أي الظن بالضرر الشخصي منتف، و معه كيف يُسْتَدلُّ بالكبرى؟! فإن قلت: إنّ الضرر الشخصي و إن كان منتفياً عند الظن بالحكم، لكن الظن بالمفسدة النوعية أو احتمالها حسب ما ذكر ليس منتفياً، و العقل مستقل بقبح مظنون المفسدة النوعية أو محتملها أو مظنون المصلحة أو محتملها.

قلت: قد أشار إلى هذا السؤال و الجواب عنه بقوله:» و لا استقلال للعقل بقبح ما فيه احتمال المفسدة، أو ترك ما فيه احتمال المصلحة... «.

و حاصل الجواب: انّ العقل إنّما يستقل في مجال المصالح و المفاسد النوعية في صورة العلم بهما دون الظن و الاحتمال.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ما ذكره من تبعية الأحكام للمصالح النوعية و مفاسدها دون الشخصية، ليس بتام، إذ لا مانع من أن يكون في الحكم كلا الملاكين، كما في شرب المسكر و القمار و أكل الميتة و الدم و غير ذلك.

و ثانياً: أنّ ما ذكره من أنّ الأحكام تابعة لهما في نفس الإنشاء دون المتعلّق، غير تام أيضاً، و لو صحّ ما ذكره فإنّما يصحّ في الأوامر الامتحانية دون غيرها، و لو صحّ ما ذكره في عامة الأحكام لما وجب امتثالها، بعد حصول الملاكات، بالإنشاء.

و ثالثاً: التفريق بين الضرر الشخصي المظنون و المحتمل و الضرر النوعي كذلك بإيجاب دفع الأوّل دون الثاني عجيب جدّاً، و لا يحكم بذلك إلاّ العقل المادي الذي يقدم نفسه و نفعه على كلّ شيء، دون العقل الإلهي الذي يرى الناس سواسية، فلو وجب دفع الضرر الشخصي في مجالي الظن و الاحتمال، يجب دفع الضرر النوعي أيضاً كذلك، فالأولى الإجابة بأحد الوجهين على نحو المانعة

ص:297

الخلو:

1. الالتزام بالاحتياط فيما إذا كان الضرر خطيراً و إن كان من حيث الاحتمال ضعيفاً، كما إذا احتمل انّ المائع ممزوج بالسم المهلك، أو انّ شرب التتن يوجب احتراق المعمل المتعلّق بالشعب، فالعقلاء قاطبة على لزوم الاجتناب دون ما إذا كان الضرر طفيفاً و إن كان من حيث الاحتمال قويّاً، هذا من غير فرق بين الضرر الشخصي أو النوعي في كلتا الصورتين.

2. ما ذكره الشيخ من أنّ حكم الشارع بالبراءة في الشبهات يكشف إمّا عن عدم الأهمية، أو لوجود المصلحة الغالبة على المفسدة الحاصلة، كما يظهر من كلمات شيخنا الأنصاري قال: إنّ الضرر و إن كان مظنوناً، إلاّ أنّ حكم الشارع قطعاً أو ظناً بالرجوع في مورد الظن إلى البراءة و الاستصحاب و ترخيصه لترك مراعاة الظن، أوجب القطع أو الظن بتدارك ذلك الضرر المظنون.(1)

الدليل الثاني على حجّية الظن المطلق

إذا ظن بوجوب السورة في الصلاة، فالأمر دائر بين الأخذ به و الأخذ بمقابله، أعني: عدم الوجوب الذي يعدّ بالنسبة إلى مقابله وَهْماً، فلو لم يُؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح.

و قد أجاب عنه الشيخ بوجهين، تارة بالنقض بكثير من الظنون التي حَرُمَ العمل بها إجماعاً كالقياس و الاستحسان، و أُخرى بالحلّ و اقتصر المحقّق الخراساني بالثاني، و إليك توضيحه:

إنّ المستدل قد أخذ لزوم الأخذ بأحد الطرفين) الظن أو الوهم (أمراً مسلماً، فاستنتج انّه لو لم يؤخذ بالظن، لزم الأخذ بالوهم، و هو ترجيح المرجوح على

ص:298


1- الفرائد: 109.

الراجح.

و لسائل أن يقول: لزوم الأخذ إمّا في مقام الإفتاء، أو في مقام العمل.

أمّا الأوّل فإنّما يدور الأمر بينهما إذا وجب عليه الإفتاء، و لكن لقائل أن يقول يحرم عليه الإفتاء و الحال هذه، لأنّه إفتاء بما لا يعلم صحّته سواء كان جانب الظن أو جانب الوهم.

و أمّا الثاني فلأنّ الأمر لا يدور بينهما إلاّ إذا ثبتت قبله مقدمات ثلاث:

1. العلم الإجمالي بالتكاليف.

2. انسداد باب العلم و العلمي بالأحكام بمقدار يكفي في انحلاله.

3. بطلان الاحتياط لاستلزامه العسر و الحرج و عدم جواز الرجوع إلى البراءة لاستلزامه الخروج عن الدين و عدم جواز التقليد.

فعندئذ ينحصر الطريق بالعمل بواحد من الطرفين، و لكنّه يرجع إلى دليل الانسداد، و لا يكون دليلاً مستقلاً.

الدليل الثالث على حجّية الظن المطلق

ما حكاه الشيخ الأنصاري، عن أُستاذه شريف العلماء، و هو عن أُستاذه السيد محمد المجاهد صاحب المناهل) المتوفّى سنة 1242 ه (، ابن السيد علي الطباطبائي صاحب الرياض قدّس اللّه أسرارهم و حاصله:

انّه لا ريب في وجود واجبات و محرمات كثيرة بين المشتبهات، و مقتضى ذلك، الاحتياط التام حتى في الموهومات، و بما انّ الاحتياط التام مستلزم للحرج، فمقتضى الجمع بين القاعدتين هو الاحتياط في المظنونات دون المشكوكات، لأنّ عكسه باطل بالإجماع.

ص:299

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره بعض مقدمات دليل الانسداد و قد أهمل ذكر بعضها الآخر، و هو انسداد باب العلم و العلمي أوّلاً، و عدم إهمال الوقائع المشتبهة ثانياً.

الدليل الرابع على حجّية الظن المطلق: دليل الانسداد

اشارة

و هو مؤلَّف من مقدّمات يستقل العقل من تحقّقها بكفاية الإطاعة الظنية، حكومة أو كشفاً، و هي خمس و جعلها الشيخ أربع بحذف المقدمة الأُولى، و إليك بيانها:

الأُولى: العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة فعلية.

الثانية: انسداد باب العلم و العلمي.

الثالثة: لا يجوز لنا إهمالها و عدم التعرض لها.

الرابعة: لا يجوز أو لا يجب الاحتياط لعدم وجوبه بقوله سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1)أو للإجماع كما لا يجوز الرجوع إلى الأُصول من استصحاب و براءة، لعدم جواز الرجوع إلى الأُصول عند العلم الإجمالي و لا تقليد لحرمته على المجتهد.

الخامسة: لا بدّ في مقام الإطاعة إمّا من الاكتفاء بالإطاعة الوهمية أو الشكية أو الظنية، فعلى الأوّلين يلزم ترجيح المرجوح على الراجح فيتعين الثالث، أعني: الاكتفاء بالإطاعة الظنية.

هذا هو لبّ دليل الانسداد، و تسميته بالدليل العقلي مع كون بعض مقدماته شرعية، أعني: عدم وجوب الاحتياط لقيام الإجماع عليه، أو لدلالة قوله تعالى: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2)لأجل انّ الدليل بصورة قياس

ص:300


1- الحج: 78.
2- الحج: 78.

استثنائي مركب من قضية منفصلة حقيقة ذات أطراف كثيرة، و هي: إمّا أن يكون علم إجمالي بالتكاليف، أو لا يكون، و على الأوّل إمّا أن ينسد باب العلم و العلمي إلى كثير منها أو لا. و على الأوّل إمّا أن يجوز الإهمال أو لا، و على الثاني فالتعرض إمّا بالاحتياط أو بالأُصول العملية أو بالرجوع إلى القرعة أو بالإطاعة الوهمية و الشكية أو الظنية. و الكلّ باطل غير الأخير، فتعين الأخير.

و إليك دراسة المقدّمات واحدة تلو الأُخرى.

المقدمة الأُولى العلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.

و هذه المقدمة أسقطها الشيخ من مقدمات دليل الانسداد و الحقّ معه، لأنّها إمّا أمر بديهي إذ أريد منه العلم بثبوت الشريعة و عدم نسخ أحكامها، أو راجعة إلى المقدمة الثالثة إذا أريد منها العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في خصوص الوقائع المشتبهة التي لم يتبين حكمها و لذلك لا يجوز إهمالها و عدم التعرض لامتثالها أصلاً.

و لكن الظاهر من المحقّق الخراساني هو اختيار الوجه الأوّل، و بذلك تكون مقدمة بديهية لكن العلم الإجمالي بتكاليف فعلية في الشريعة ليس باقياً بحال إجماله بل كلّ ينحلّ بالترتيب التالي.

توضيحه: انّ لنا علوماً ثلاثة:

أ: علم إجمالي كبير، و هو العلم بوجود التكاليف في الواقع و انّ الشرع لم يترك الإنسان سدى.

ب: علم إجمالي صغير، و هو العلم بوجود عامة التكاليف بين الأمارات و الأخبار الموجودة فيما بأيدينا.

ص:301

ج: علم إجمالي أصغر و وجود عامة التكاليف المعلومة إجمالاً في خصوص الأخبار المودوعة في الكتب المعتبرة و غير المعتبرة التي يربو عددها على خمسين ألف حديث.(1)

فلازم ذلك العلم، الاحتياط في خصوص الأخبار الأعم من المعتبرة و غيرها و لا يورث مثل هذا الاحتياط، عسراً و لم يقم إجماع على عدم وجوبه في مورد الأخبار و إن قام الإجماع على عدم وجوبه في أطراف العلمين الأوّلين.

على أنّه سيوافيك إمكان انحلال ثالث العلوم برابعها أيضاً.

المقدمة الثانية انسداد باب العلم و العلمي في معظم الفقه و عليها تدور رحى دليل الانسداد،

و قد اقتصر بها صاحبا المعالم و الوافية و إنّما أضاف إليها سائر المقدّمات المتأخرون عنهما، و لكن انسداد باب العلم بالنسبة إلى معظم الفقه صحيح لقلّة الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة لكن ادّعاء انسداد باب العلمي، أي ما دلّ الدليل القطعي على حجّيته بالنسبة إلى معظم الفقه، غير صحيح لما عرفت من الدليل القطعي على حجّية الخبر الموثوق بصدوره سواء حصل الوثوق بالصدور من وثاقة الراوي أو قرائن أُخر و هو بحمد اللّه متوفر و واف بمعظم الفقه على وجه لا يلزم الرجوع في غير مورد الخبر إلى الأُصول العملية محذور الخروج من الدين، أو مخالفة العلم الإجمالي، لعدم العلم بالتكاليف في غير موارد الاخبار.

نعم لو قلنا بحجّية خصوص الصحيح الأعلائي الذي يكون جميع من ورد في السند إمامياً معدلاً بعدلين من أهل الخبرة، كان لما ادّعاه مجال، و لكن الاقتصار على خلاف ما دلّت عليه الأدلّة.

ص:302


1- الروايات الواردة في الجامع لأحاديث الشيعة تربو على خمسين ألف حديث.

أو قلنا بمقالة المحقّق القمي من أنّ الظهورات حجّة لمن قصد إفهامه من الكلام، فيدخل العمل بها لغير المشافهين تحت العمل بالظن المطلق، و قد عرفت عدم صحّة ما ذكر.

المقدمة الثالثة لا يجوز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها و ترك التعرض لامتثالها بإجراء البراءة في جميعها،

و مع أنّ المقدمة قطعية كما قالها المحقّق الخراساني، لكن الشيخ الأنصاري استدل عليها بوجوه ثلاثة:

أ: الإجماع القطعي على أن ليس المرجع على تقدير انسداد باب العلم و عدم ثبوت الدليل على حجّية أخبار الآحاد بالخصوص، هو البراءة و إجراء أصالة العدم في كلّ حكم، بل لا بدّ من امتثال الأحكام المجهولة بوجه ما، و هذا الحكم و إن لم يصرح أحد به من القدماء بل المتأخرين في هذا المقام، إلاّ أنّه معلوم للمتتبع في طريقة الأصحاب بل علماء الإسلام طراً.

ب: انّ الرجوع في جميع تلك الوقائع المشتبهة حكمها إلى نفي الحكم، مستلزم للمخالفة القطعية المعبر عنها في لسان جمع من مشايخنا بالخروج عن الدين بمعنى انّ المقتصر على التدين بالمعلومات التارك للأحكام المجهولة، جاعلاً لها كالمعدومة يكاد يعد خارجاً عن الدين لقلّة المعلومات و كثرة المجهولات.

ج: لا يجوز الرجوع إلى البراءة من جهة العلم الإجمالي بوجود الواجبات و المحرمات، فانّ أدلّة البراءة مختصة بغير هذه الصورة.

و الفرق بين الوجهين الأخيرين واضح، و هو انّ أوّل الوجهين مبني على عدم جواز المخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين، و هو محذور

ص:303

مستقل; بخلاف ثانيهما، فهو مبني على عدم جواز مطلق المخالفة القطعية و إن لم تكن كثيرة.

و بعبارة أُخرى: أساس الثاني هو العلم الإجمالي المنجز و معه لا تجوز المخالفة مطلقاً قلت أو كثرت، بخلاف الأوّل فانّ أساسه هو لزوم الخروج من الدين و لا يتحقق إلاّ بالمخالفة القطعية الكثيرة.

و قد اعتمد المحقّق الخراساني على الوجه الثاني و قال:

أمّا المقدمة الثالثة فهي قطعية و لو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجّزاً مطلقاً أو فيما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه، كما في المقام حسب ما يأتي، و ذلك لأنّ إهمال معظم الأحكام و عدم الاجتناب كثيراً عن الحرام ممّا يقطع بأنّه مرغوب عنه شرعاً و مما يلزم تركه إجماعاً.

ثمّ إنّه) قدس سره (أشار إلى إشكال في المقام و قال ان قلت:

إذا لم يكن العلم بها منجزاً للزوم الاقتحام في بعض الأطراف كما أشير إليه، فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف حينئذ على تقدير المصادفة، إلاّ عقاباً بلا بيان، و المؤاخذة عليها إلاّ مؤاخذة بلا برهان.

لكن يمكن الإجابة عنه بوجوه:

الأوّل: ما أفاده) قدس سره (بتوضيح منّا انّ إيجاب الاحتياط في غير ما يرتفع به العسر، ليس أثر العلم الإجمالي حتى يقال انّه غير منجز، بل أثر علمنا باهتمام الشارع بمراعاة تكاليف بحيث لا ينافيه عدم إيجابه الاحتياط) فيما يرتفع به العسر (و لو بالالتزام ببعض المحتملات، و أمّا مصدر علمنا باهتمامه فهو إمّا الإجماع أو كونه مستلزماً للخروج عن الدين) الوجهان الأوّلان (.

الثاني: انّ الاضطرار إلى بعض الأطراف إنّما ينافي تنجيز العلم الإجمالي إذا

ص:304

كان الاضطرار إلى طرف معين لا إلى واحد لا بعينه كما سيوافيك، و الاضطرار في المقام إنّما هو للبعض غير المعين لا المعين، لأنّ الاضطرار يرتفع بارتكاب بعض الأطراف لا بعينه.

الثالث: الفرق بين الاضطرار المقدّم على العلم الإجمالي، حيث يوجب عدم انعقاد العلم الإجمالي مؤثراً، لأنّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كونه مؤثراً على كلّ تقدير، و هذا إنّما يتصور إذا لم يتقدّم الاضطرار على العلم إذ عندئذ) فرض التقدم (يكون مؤثراً على فرض و غير مؤثر على فرض. و مثل هذا ينافي العلم بتنجز التكليف على كلّ تقدير، و بين الاضطرار الحادث بعد العلم، فهو و إن كان رافعاً للعلم، لكنّه ليس برافع أثره، لأنّ العقل يحكم بوجوب الاجتناب لأجل العلم السابق المرتفع فعلاً، و انّ الضروريات تتقدر بقدرها، و هو الطرف الرافع للاضطرار، لا غيره. و سوف يوافيك تفصيله.

المقدمة الرابعة: في بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقررة للجاهل.
اشارة

إنّ الطرق المقررة للجاهل أحد أُمور ثلاثة:

1. الاحتياط في المشتبهات مطلقاً.

2. الرجوع في كلّ مسألة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك المسألة، ففي الشكّ في التكليف يرجع إلى البراءة، و في الشكّ في المكلّف به إلى الاحتياط إلاّ إذا لم يمكن فيرجع إلى التخيير، و في الشكّ في حكم سابق يحتمل بقاؤه يرجع إلى الاستصحاب.

3. تقليد الغير، و رجوع المجتهد الذي يعتقد بانسداد باب العلم إلى المجتهد القائل بالانفتاح و كلّ هذه الطرق باطلة، فلم يبق إلاّ العمل بالظن.

فيجب البحث في محاور ثلاثة:

ص:305

1. الرجوع إلى الاحتياط

أمّا الرجوع إلى الاحتياط، فوجه بطلانه أحد أمرين على وجه القضية المانعة الخلو:

أ: الإجماع القطعي على عدم وجوبه في المقام، بمعنى العلم بسيرة العلماء في الفقه، و هو انّ المرجع في الشريعة على تقدير انسداد باب العلم، ليس هو الاحتياط في الدين، و الالتزام بفعل كلّ ما يحتمل وجوبه و لو موهوماً و ترك ما يحتمل حرمته كذلك.

ب: لزوم العسر الشديد، و الحرج الأكيد لكثرة ما يحتمل خصوصاً في أبواب الطهارة و الصلاة، مع عدم إمكان الاحتياط في بعض الموارد، كما لو دار المال بين صغيرين يحتاج كلّ إلى صرفه عليه أو كما في المرافعات و على ذلك فلا مناص من العمل بالظن.

ثمّ إنّ الشيخ أورد إشكالاً على التمسك بأدلّة الحرج و قال: إنّ الأدلة النافية للعسر إنّما تنفي وجوده في الشريعة بحسب أصل الشرع أوّلاً و بالذات فلا تنافي وقوعه بسبب عارض لا يسند إلى الشارع إلى أن قال: و لا ريب في انّ وجوب الاحتياط بإتيان كلّ ما يحتمل الوجوب و ترك كلّ ما يحتمل الحرمة إنّما هو من جهة اختفاء أحكام الشريعة و ليس مستنداً إلى نفس الحكم.

ثمّ أجاب عنه بأنّ الحرج وصف للحكم و المرفوع هو الحكم الحرجي و لا فرق فيه بين ما يكون بسبب يسند عرفاً إلى الشارع و هو الذي أريد بقولهم: دع ما غلب اللّه عليه فاللّه أولى بالنذر، و بين ما يكون مسنداً إلى غيره، فانّ وجوب صوم الدهر على ناذره إذا بان فيه مشقة لا يحتمل عادة، ممنوع، و كذا أمثالها من المشي إلى بيت اللّه جلّ ذكره و إحياء الليالي و غيرهما.

ص:306

توضيحه: أنّ دليل نفي الحرج ينفي كلّ حكم حرجي سواء كان حرجياً حدوثاً، كما في إيجاب المسح على البشرة على من وضع المرارة عليها; أو بقاءً، كما في المقام فانّ امتثال الأحكام في هذه الظروف التي يتوقف امتثال واجب على الإتيان بعشرة أُمور، و ترك المحرم على ترك أُمور كثيرة ناش من حفظ الحكم في المقام فيكون مدلولها نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الحرج و لو باعتبار بقائه في حال الاشتباه(1).

و أمّا المحقّق الخراساني فقد وافق المستدل إذا استلزم الاحتياط اختلال النظام لا ما إذا استلزم الحرج، إذ لا حكومة لأدلته على إيجاب الاحتياط في المقام.

و توضيح كلامه مبني على بيان أمرين:

1. انّ المرفوع هو نفس الحرج، لا الحكم، و الحرج و الضرر من أوصاف أفعال المكلّفين التي هي متعلقات الأحكام، فلا يستدل بأدلّتهما إلاّ إذا كان نفس الفعل و متعلّق التكليف حرجياً. و لذلك يصحّ الاستدلال على عدم وجوب مسح البشرة لمن عثر و سقط ظفره، لأنّ نفس الفعل و متعلّق الحكم حرجي و لا يصحّ الاستدلال بها على عدم لزوم العقد الغبنيّ، لأنّ الفعل، أعني: نفس البيع ليس بحرجي و إنّما الحرج ناش من إيجاب العقد، و هو غير مرفوع.

2. انّ الغرض من رفع الفعل الحرجي إنّما هو رفع حكمه الشرعي، كما هو الحال في: لا شك لكثير الشك، و لا ربا بين الوالد و الولد، و هذا الشرط أعني: كون المتعلّق حرجياً و إن كان حاصلاً في المقام، لأنّ متعلّقه عبارة عن الإتيان بالمشتبهات الكثيرة، لكن حكمه، أعني: إيجاب الاحتياط ليس شرعياً، بل هو حكم عقلي من باب حكمه بتحصيل الموافقة القطعية عند الاشتغال اليقيني.

ص:307


1- الفرائد: 121، طبعة رحمة اللّه; و 111، طبعة محمد علي.

فعدم شمول أدلّة الحرج لأجل انتفاء الشرط الأخير، أي عدم كون حكم المرفوع حكماً شرعياً.

يلاحظ على ما ذكره بوجهين:

أمّا أوّلاً: فلأنّه لو صحّ ما ذكره فإنّما يصحّ في قوله:» لا ضرر «بناء على أنّ الضرر صفة الفعل، و انّ المرفوع خصوص الفعل الضرري لا الحكم الضرري لكن لغاية رفع حكمه، و أمّا القاعدة الأُخرى، فالدليل الواضح فيها قوله سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) فهو ظاهر في نفي الحكم الحرجي بقرينة قوله: (وَ ما جَعَلَ ) فانّ الجعل التشريعي يتعلّق بالحكم لا بالموضوع، و المقصود كما هو الظاهر من رواية» عبد الأعلى مولى آل سام «أعني قوله:» إنّ هذا و أشباهه يعرف من كتاب اللّه «هو الاخبار عن عدم جعل وجوب المسح على البشرة برفع ما عليها، فكيف يقاس هذا بهذا؟! و أمّا ثانياً: فلأنّ ما ذكره غير تام حتى في نفس» لا ضرر «، لأنّه إذا كان المراد نفي الفعل الضرري بلحاظ نفي حكمه، يلزم ارتفاع حرمة الفعل الضرري و جواز الإضرار بالغير و هو خلاف المقصود قطعاً، إذ لو كان وزان» لا ضرر «هو وزان» لا ربا بين الولد و الوالد «يكون المقصود ارتفاع حرمة الضرر، كارتفاع حرمة الربا بينهما، و هو غير صحيح بالضرورة. فتعين انّ المقصود إمّا ما اختاره الشيخ، أو ما ذهب إليه شيخ الشريعة من كون النفي بمعنى النهي، مثل قوله سبحانه: (فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ )(1)، أو ما اختاره سيّدنا الأُستاذ من كون النهي حكماً سلطانياً و حكومياً، لا حكماً شرعياً و فرعياً. و سيوافيك تحقيق الحال في محلّه فانتظر.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار إلى إشكال آخر، و هو انّه لا يصحّ الاحتجاج

ص:308


1- البقرة: 197.

بالعلم الإجمالي على لزوم الاحتياط للزوم رفع اليد عن بعض الأطراف لأجل رفع الاضطرار، بل لا بدّ من الاستدلال على وجوبه بالدليل الشرعي و هو الوجهان الأوّلان الماضيان في المقدمة الثالثة.

و قد عرفت الإشكال في كلامه عند البحث فيها بوجوه ثلاثة فلا يفيد.

الرجوع إلى الأصل في كلّ مورد

من الطرق المقررة للجاهل بالحكم الواقعي، الرجوع إلى الأصل في كلّ مسألة، فيرجع في الشك في التكليف إلى البراءة، و في المكلّف به إلى الاحتياط إذا أمكن، و إلى التخيير إذا لم يمكن، و إلى الاستصحاب إذا كان للحكم سابق; و لكن العمل بهذا الطريق غير صحيح لما أفاده الشيخ بقوله: فالعمل بالأُصول النافية للتكليف في مواردها مستلزم للمخالفة القطعية الكثيرة، و بالأُصول المثبتة للتكليف من الاحتياط و الاستصحاب مستلزم للحرج، و هذا لكثرة المشتبهات في المقامين.(1)

و أمّا المحقّق الخراساني فلم يوافق هذا الجزء من إجزاء الاستدلال، و حاصل ما أفاد: أنّ المانع عند الشيخ الأنصاري عن جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي، هو لزوم التناقض في مدلول الدليل الدال عليها، أعني قوله:» لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر «مثلاً إجراء أصالة الطهارة في الإناءين المشتبهين باعتبار كونهما مسبوقي الطهارة يوجب دخولهما في صدر الحديث و كونهما محكومين بالطهارة، لكن مقتضى العلم بوجود النجاسة في البين هو نقضهما و الحكم بوجوب الاجتناب و دخولها في قوله:» و لكن تنقضه بيقين آخر «و هذا ممّا يصد الفقيه عن القول بدخول أطراف العلم الإجمالي تحت أدلّة الأُصول.

ص:309


1- الفرائد: 126، أواخر المقدمة الثالثة للانسداد.

لكن المانع عن جريان الأُصول عند المحقّق الخراساني، هو وجود المخالفة القطعية، و ذلك لأنّ الحكم بطهارة الاناءين المشتبهين ينتهي إلى شربهما معاً فيلزم المخالفة القطعية.

إذا علمت هذه المقدمة، فاعلم أنّ لكلام المحقّق الخراساني في المقام مقاطع ثلاثة:

1. لا مانع من جريان الأُصول في عامة الموارد المشتبهة و لا يلزم محذور التناقض في المقام، فلأنّ استصحاب عدم التكليف مثلاً بمقتضى قوله: لا تنقض اليقين بالشك في مورد، إنّما يستلزم التناقض إذا كان الشك في جميع الأطراف فعلياً بحيث لا يجري الأصل في مورد جزئي إلاّ و يجري في جميع الموارد المشتبهة، فالحكم بالبراءة في تلك الموارد، ينافي العلم بانتقاض الحالة السابقة في كثير منها، فاستصحاب عدم التكليف في هذه الموارد، تمسكاً بالصدور يناقضه العلم بانتقاض الحالة السابقة في كثير منها فيصدق قوله:

و لكن تنقضه بيقين آخر.

و أمّا إذا لم يكن الشكّ فعلياً إلاّ في مورد جزئي و لم يكن سائر الأطراف مورداً للالتفات، فلا يلزم التناقض لعدم العلم بانتقاض الحالة السابقة في هذا المورد الذي جرى فيه استصحاب عدم التكليف و البراءة منه.

2. لا مانع من جريان الأُصول إذا قلنا بأنّ المانع عن جريانها هو لزوم المخالفة القطعية، فإنّ إجراء أصل الطهارة في كلا الإناءين و استعمالها فيما يشترط فيه الطهارة يستلزم المخالفة القطعية، لكن ذلك الملاك غير موجود في المقام، و ذلك:

لأنّ العلم الإجمالي الكبير، بالتكاليف في المظنونات و المشكوكات و الموهومات منحل ببركة أمرين:

ص:310

أ: ما علم تفصيلاً أو نهض عليه دليل علمي.

ب: الأُصول المثبتة للتكاليف.

فبعد هذا لا يبقى علم بالتكليف بل يكون المقدار منطبقاً على المعلوم بالتفصيل.

و لو افترضنا عدم انحلاله و بقاء العلم الإجمالي بالتكليف لكنّه ليس على وجه يستكشف معه الاحتياط بالوجهين السابقين في المقدمة الثالثة، أعني: الإجماع و الخروج عن الدين.

و عند ذلك فلا يبقى وجه للاحتياط و تكون الأُصول نافيها و مثبتها جارية بلا إشكال.

3. على فرض عدم الانحلال، يلزم القول بالتبعيض في الاحتياط، أي الاحتياط في مظنونات التكاليف و مشكوكاتها و موهوماتها. لا مطلق محتملات التكليف حتى يجب الاحتياط في موارد دلّ الدليل على التكليف، أعني: الدليل العلمي و الأُصول المثبتة، و لو افترضنا لزوم العسر و الحرج في الموارد الثلاثة فيقصر بموارد الظن بالتكليف.

و أمّا الجزء الثالث من أجزاء الاستدلال فواضح لا يحتاج إلى البحث ضرورة انّ التقليد لا يجوز إلاّ للجاهل لا للفاضل الذي يخطئ رأي القائل بالانفتاح.

هذا تمام الكلام في نقد المقدمة الرابعة، أضف إليه انّ المطلوب غير حاصل منها على فرض صحّتها، لأنّ المقصود إثبات حجّية الظن على وجه يقع في عداد الكتاب و السنة القطعية على وجه يخصص به عموم الكتاب و السنة و إطلاقهما حتى و لو كان مفاده على خلاف الاحتياط و لكن الحاصل منها هو حجّية الظن من باب الاحتياط. فيقتصر في العمل به بالموارد التي يكون العمل بها موافقاً للاحتياط... و هو غير المطلوب في المقام.

ص:311

المقدمة الخامسة إذا وجب التعرض لامتثال الأحكام المشتبهة و لم يجز إهمالها بالمرة

كما هو مقتضى المقدّمة الثالثة و ثبت عدم وجوب الامتثال على وجه الاحتياط، و عدم جواز الرجوع إلى الأُصول الشرعية إمّا لاستلزام جريانها طروء التناقض، أو المخالفة القطعية كما هو مقتضى المقدمة الرابعة، تعين التعرض لأمثال الأحكام المشتبهة على وجه الظن بالواقع، إذ ليس بعد الامتثال العلمي، و الامتثال الظني بالظن الخاص، امتثال مقدّم على الامتثال الظني.

توضيح ذلك: انّ للامتثال مراتب أربع:

1. الامتثال العلمي التفصيلي، و هو أن يأتي بما يعلم تفصيلاً انّه هو المكلّف به و في معناه إذا ثبت كونه المكلف به بالظن الخاص، فالعمل بالخبر الواحد و الأُصول التي تثبت حجّتها بالدليل من مصاديق هذه المرتبة.

2. الامتثال العلمي الإجمالي، و هو العمل بالاحتياط في الشبهات البدوية و المقرونة بالعلم الإجمالي.

3. الامتثال الظني، أي أن يأتي بما يظن المكلف به و لم يقم دليل بالخصوص على حجّيته.

4. الامتثال الاحتمالي، كالتعبد ببعض محتملات المكلّف به.

و هذه المراتب لا يجوز عند العقل العدول عن سابقتها إلى لاحقتها إلاّ مع تعذّرها، فإذا تعذرت الأولتان بتعين الامتثال بصورة الظن بالمكلّف به لقبح الامتثال الشكي أو الوهمي، مع إمكان الامتثال الظني و على هذا يصبح الظن حجّة.

و أمّا انّ نتيجة دليل الانسداد إجمالاً هي حجّية مطلق الظن أو حجّيته في

ص:312

الجملة فهو كلام آخر يبحث عنه في تنبيهات الدليل هذا.

و لكن القياس إنّما ينتج إذا كانت المقدمات سليمة عن النقد، و قد عرفت أنّ أكثر المقدّمات غير خالية عن الإشكال.

أمّا الأُولى، فقد عرفت أنّ العلم الإجمالي الكبير ينحل بالصغير و هو بالأصغر، فغاية الأمر يلزم الاحتياط بما في ردّ الأخبار من الأحكام و لا يلزم منه العسر و الحرج، و هذا غير كون الظن حجّة.

أمّا الثانية، فلما عرفت من أنّ باب العلم و إن كان مسدوداً، و لكن باب العلمي ليس بمسدود.

أمّا الثالثة، فهي لا غبار عليها إذ لا يجوز الإهمال لوجوه ثلاثة، و إن أشكل المحقّق الخراساني على الوجه الثالث بعدم تنجيز العلم الإجمالي في المقام لجواز ارتكاب بعض الأطراف، و قد تقدّم دفع إشكاله بوجهين من أنّ الاضطرار إلى أحد الأطراف، أوّلاً، و عروضه بعد العلم ثانياً لا يخلّ بتنجيز العلم الإجمالي.

و أمّا المقدمة الرابعة، فقد أورد عليها المحقّق الخراساني إشكالات:

1. أمّا الرجوع إلى الاحتياط فهو إن كان حرجياً لكن أدلّته لا تشمل المقام لاختصاصها بالفعل الحرجي المحكوم بحكم شرعي و الاحتياط و إن كان حرجياً لكنّه محكوم بحكم عقلي لا شرعي.

و الرجوع إلى الأُصول مثبتة للتكليف أو نافية خال عن الإشكال، لعدم لزوم المتناقض أوّلاً، كما هو مسلك الشيخ في عدم جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي لعدم كون جمع الأطراف محلاً للابتلاء.

و لا المخالفة العملية ثانياً كما هو مبنى المحقّق الخراساني، لأنّ العلم الإجمالي بالتكليف ينحل ببركة أُمور ثلاثة: العلم بالتكليف، قيام الدليل العلمي

ص:313

به، و الأُصول المثبتة له.

3. و لو قيل بعدم الانحلال، فلا مانع من الاحتياط في الصور الثلاث، أي مظنون التكليف، محتمله و موهومه، لا كلّ المحتملات حتى في موارد الأُصول المثبتة للتكليف، بل يكتفي فيها بنفس الأُصول، و لا يجب الاحتياط.

و بذلك يثبت انّ القياس عقيم و لا ينتج حجّية الظن المطلق أصلاً، فإذا بطل الدليل، فالبحث عن نتائجه على فرض الصحّة أمر غريب فتح بابه الشيخ الأنصاري و تبعه المحقّق الخراساني و المحقّق النائيني قدّس اللّه أسرارهم.

و لكن أرى ترك التعرض لها في هذه الأعصار أولى.

غير انّ المحقّق الخراساني ذيل التنبيهات بخاتمة ذكر فيها أمرين قابلين للبحث و الدراسة.

ص:314

خاتمة و فيها أمران:

الأمر الأوّل: هل الظن حجّة في العقائد أو لا؟
اشارة

قد ثبت بفضل البحوث السابقة انّ الظن الخاص حجّة في الفروع و انّ الظن المطلق ليس بحجّة أصلاً، بقي الكلام في حجّية الظن خاصها و مطلقها في الأُصول و العقائد، و إشباع البحث يتوقف على الكلام في محاور.

1. ما هي الأقوال في المسألة؟

قد اختلفت كلماتهم في اعتبار الظن في الأُصول على أقوال:

الأوّل: اعتبار العلم الحاصل من النظر و الاستدلال، و هو المعروف بين العلماء و ادّعى عليه العلاّمة في الباب الحادي عشر إجماع العلماء.(1)

الثاني: اعتبار العلم و اليقين و إن حصل من التقليد أو من قول الفرد أو الجماعة.

الثالث: كفاية الظن مطلقاً.

الرابع: كفاية الظن المستفاد من النظر.

الخامس: كفاية الظن المستفاد من الخبر.

السادس: كفاية الجزم بل الظن من التقليد مع كون النظر واجباً مستقلاً، و لكنّه معفو عنه.

هذه هي الأقوال التي ذكرها الشيخ الأنصاري في المقام.(2)

ص:315


1- الباب الحادي عشر: 4.
2- الفرائد: 169.
2. هل يجوز العمل بالظن الانسدادي في العقائد؟

لا يجوز العمل بالظن الانسدادي و لا بالظن الخاص في القسم الثاني، أعني: ما يجب فيه عقد القلب إن حصل العلم، أمّا الانسدادي فلعدم جريان مقدماته الخمس في هذا القسم، لأنّ الواجب في هذا القسم هو التديّن بالواقع على تقدير حصول العلم و هو غير حاصل. هذا من جانب و من جانب آخر الاحتياط في المقام ممكن بلا محذور، و هذا بخلاف الفروع العملية، فانّ الاحتياط فيها لا يخلو عن أحد المحاذير.

أضف إلى ذلك من لزوم التشريع من التعبد بالظن الانسدادي، لأنّ المطلوب في الأُمور الجوانحية هو التديّن، و العمل بالظن الانسدادي فيها مخالفة قطعية، بالنسبة إلى حرمة التشريع و موافقة احتمالية بالنسبة إلى وجوب التديّن بالعقيدة الحقّة، و العقل لا يجوّز المخالفة القطعية لأجل الموافقة الاحتمالية، و هذا بخلاف الفروع فانّ المطلوب فيها هو العمل دون التديّن.

3. هل يجوز العمل بالظن الخاص؟

هل يجوز العمل بالخبر الواحد في الأُصول الاعتقادية؟ يظهر من الشيخ جوازه حيث قال: فلا مانع من وجوبه في مورد الخبر الواحد، بناء على أنّ هذا نوع عمل بالخبر الواحد، فانّ ما دلّ على وجوب تصديق العادل لا يأبى عن ذلك.(1)

و يظهر أيضاً من صاحب مصباح الأُصول حيث قال: إنّه لا مانع من الالتزام بمتعلّقه و عقد القلب عليه، لأنّه ثابت بالتعبد الشرعي.(2)

ص:316


1- الفرائد: 170، ط رحمة اللّه.
2- مصباح الأُصول: 2/238.

و لكن الاعتماد على خبر الواحد في أُصول الفقه، فضلاً عن أُصول العقائد، فرع وجود إطلاق في أدلّة حجّية خبر الواحد التي عمدتها أو وحيدها هو السيرة العقلائية، و القدر المتيقن منها هو ما يرجع إلى غير هذا القسم، على أنّه لم يعهد من أعاظم الأصحاب كالمفيد و المحقّق العمل بأخبار الآحاد في الأُصول، فالتوقف في هذا القسم و عقد القلب بما هو الواقع هو الأولى.

4. ما يجب فيه تحصيل العلم

إذا ثبت عدم جواز العمل بالظن في الأُصول الاعتقادية يجب تحديد دائرة ما يلزم تحصيل العلم به، فيظهر من العلاّمة في الباب الحادي عشر لزوم تحصيل العلم بتفاصيل التوحيد و النبوة و الإمامة و المعاد مدعياً انّ الجاهل بها عن نظر و استدلال خارج عن ربقة الإسلام مستحق للعذاب الدائم.

و لكنّه غير تام، فانّ معرفة الصانع ببعض صفاته الثبوتية، مثل كونه عالماً، قادراً، حيّاً، سميعاً، بصيراً، و صفاته السلبية، مثل كونه غير جسم، و لا مرئي، و لا في مكان و زمان خاص، أو معرفة نبيّه، و إمامه، و يوم ميعاده، ممّا يمكن ادّعاء لزوم معرفته عقلاً، و انّه يجب تحصيل العلم فيها، لأنّ الآثار المتوخاة من التدين بها ليست حاصلة إلاّ بعد المعرفة، و لا يكفي فيها عقد القلب بالواقع، و إن لم يعرفه مشخصاً، و أمّا ما وراء ذلك فلزوم تحصيل العلم به و عدم كفاية عقد القلب ممّا يحتاج إلى الدليل السمعي.

و قد ادّعى الشيخ الأنصاري وجود بعض الإطلاقات في الأدلة الشرعية الحاكمة بلزوم تحصيل العلم في الأُمور الاعتقادية.

1. مثل قوله تعالى: (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (1)أي

ص:317


1- الذاريات: 56.

ليعرفون.

2. قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس «(1)، بناء على أنّ الأفضلية من الواجب مثل الصلاة تستلزم الوجوب.

3. عمومات وجوب التفقّه في الدين الشامل للمعارف بقرينة استشهاد(2) الإمام) عليه السلام (بها بوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق.

4. عمومات طلب العلم.(3)

فنتيجة هذه الإطلاقات هو لزوم معرفة ما جاء به النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (على كلّ قادر يتمكن من تحصيل العلم، فيجب الفحص حتى يحصل اليأس، فإن حصل العلم بشيء من هذه التفاصيل اعتقد، و إلاّ توقف و لم يتدين بالظن لو حصل.(4)

و لا يخفى انّ ما ذكره من الإطلاقات غير تام، لعدم ورودها في بيان ما يجب التدين و الاعتقاد به حتى يؤخذ بإطلاقها.

أمّا الأوّل: فالظاهر انّ المراد منه هو معرفة اللّه سبحانه لا كلّ ما جاء به النبي في مجال المعارف بدليل انّ اللام للغاية، و النون للوقاية و المعنى: أي بعبادتي و عرفاني لا مطلق ما يجب معرفته.

و أمّا الثاني: فالحديث في مقام بيان أهمية الصلوات الخمس، لا في مقام بيان ما يجب معرفته حتى يؤخذ بإطلاق قوله بعد المعرفة.

ص:318


1- جامع أحاديث الشيعة: 4/3، الأحاديث 41.
2- نور الثقلين: 2/282، الحديث 406 و جاء فيه: أ فيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده؟ فقال: أمّا أهل هذه البلدة فلا يعني المدينة و أمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم أنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: (وَ ما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفرُوا كافَّةً فَلَو لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين...).
3- بحار الأنوار: 2211/162.
4- الفرائد: 171، طبعة رحمة اللّه.

و أمّا الثالث: فبمثل ما أجبنا عن الثاني، فالآية في مقام الحث على النفر، و كيفيته، لا في مقام بيان ما يجب أن يتفقّه فيه، و قد تمسك الإمام بالآية لإثبات كيفية التعرّف على الإمام بعد تسليم لزوم معرفته.

و أمّا الرابع: فهو في مقام بيان لزوم تحصيل العلم لا في بيان ما يجب تعلمه.

هذا كلّه فيما يجب المعرفة مستقلاً، و قد عرفت أنّه لا دليل على وجوب معرفة ما ادّعى العلاّمة لزوم معرفتها، إلاّ معرفة الصانع و توحيده، و بعض صفاته و معرفة نبيّه) صلى الله عليه و آله و سلم (و إمامه و يوم ميعاده.

نعم يكفي تحصيل اليقين أو حصوله من دون حاجة إلى الاستدلال لعدم الدليل على اشتراطه.

حدّ ما يجب تحصيل العلم في الروايات

قد عرفت أنّ ما يدّعيه العلاّمة من وجوب تحصيل العلم بتفاصيل الأُصول الخمسة لا يمكن موافقته، إذ لم يدلّ دليل على هذا اللزوم لا من الكتاب و لا من السنّة و لا من العقل و لا من الإجماع.

و يظهر من غير واحد من الروايات انّ ما يجب تحصيل العلم به لا يتجاوز عن أُمور ثلاثة: التوحيد، و الرسالة و هما دعامتا الإسلام و الولاية و هي دعامة الإيمان و لم يذكر المعاد; لأنّ معرفة النبوة تلازم الاعتقاد بالمعاد، إذ لا يتحقّق الدّين بمعناه الحقيقي من دون اعتقاد بالمعاد.

روى سماعة، قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: أخبرني عن الإسلام و الإيمان، أ هما مختلفان؟ فقال:» إنّ الإيمان يُشارك الإسلام، و الإسلام لا يشارك الإيمان «فقلت: فصفهما لي، فقال:» الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و التصديق برسول اللّه،

ص:319

به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح و المواريث، و على ظاهره جماعة الناس «.(1)

و في رواية سفيان بن السمط، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (:» الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و حجّ البيت و صيام شهر رمضان، فهذا الإسلام، و قال: الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا «.(2)

و بهذا المضمون ما ورد في صحاح أهل السنّة روى البخاري، عن عمر بن الخطاب أنّ علياً» صرخ « ) عند ما بعثه النبي لمقاتلة أهل خيبر (: يا رسول اللّه على ما ذا أُقاتل؟ قال:» قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه و انّ محمّداً رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماؤهم و أموالهم إلاّ بحقها و حسابهم على اللّه «.(3)

كلّ هذه الروايات تحدّد الواجب من المعرفة و انّها لا تتجاوز معرفة الأصلين في تحقّق الإسلام و الولاية في تحقّق الإيمان.

هذه هي الضابطة و لو دلّ دليل على وجوب معرفة شيء آخر كمعرفة أحكام الصلاة فيكون أمراً رابعاً و خامساً.

في الجاهل القاصر

قد عرفت انّه يجب تحصيل العلم فيما تجب معرفته و لا يكفي الظن لعدم الدليل على كفايته.

فعلى ذلك فالمتمكن من المعرفة جاهل مقصر معاقب، إنّما الكلام في الجاهل القاصر، فيقع الكلام فيه من وجوه:

ص:320


1- أُصول الكافي: 2/25، باب انّ الإيمان يشارك الإسلام، الحديث 1.
2- المصدر نفسه: 24، باب انّ الإسلام يحقن به الدم، الحديث 4.
3- البخاري: الصحيح: 1/10، كتاب الإيمان; صحيح مسلم: 7/17 كتاب فضائل علي (عليه السلام); إلى غير ذلك من الروايات.
5. في وجود الجاهل القاصر و عدمه

لا شكّ في وجود الجاهل القاصر، إمّا لقلة الاستعداد و غموض المطلب أو وجود الغفلة و عدم احتمال خلل في معتقده، كما هو المشاهد في كثير من النساء و الرجال، و على ذلك فالجاهل القاصر معذور لقصوره أو غفلته.

نعم إنّما يكون معذوراً و غير معاقب على عدم معرفة الحقّ إذا لم يكن يعانده بل كان ينقاد له لو عرفه.

و ربما يتصور عدم وجود الجاهل القاصر في العقائد لوجوه قاصرة:

1. الإجماع على أنّ المخطئ في العقائد غير معذور، و صحّة الإطلاق يتوقف على عدم وجود القاصر، و إلاّ لبطل مع كون القاصر معذوراً.

يلاحظ عليه: أنّ مصبَّ الإجماع هو الجاهل المتمكن، فلا يدل إطلاقه على عدم وجود القاصر.

2. انّ المعرفة غاية الخلقة، فلو قلنا بوجود الجاهل القاصر يلزم نفي الغاية مع أنّها لا تنفك عن فعل الحقّ سبحانه.

قال تعالى: (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ).(1)

يلاحظ عليه: أنّ الغاية غاية للنوع لا لكلّ فرد لبداهة وجود المجانين و الأطفال الذين يتوفون في صباهم.

3. قوله تعالى: (وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (2)حيث جعل الملازمة بين المجاهدة و الهداية التي هي المعرفة، فلو لم يكن الطرفان ممكنين لم تصح الملازمة فعدم هداية الجاهل القاصر لعدم جهاده.

ص:321


1- الذاريات: 56.
2- العنكبوت: 69.

يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد بيان الملازمة بين المتمكن من الجهاد و الهداية و الملازمة بينهما مسلمة، و أمّا غير المتمكن كالقاصر فهو خارج عن الآية كخروج المجانين و الأطفال الذين يتوفون في صباهم.

و ربما يجاب عن الاستدلال بالآية بأنّ المراد هو مجاهدة النفس، و المراد هو الجهاد النفسي لا الجهاد في سبيل معرفة الرب و شتان ما بينهما، و لكنّه غير خال عن التأمل، لأنّ هذه الآية و ما قبلها تقسم الناس إلى أصناف ثلاثة:

الصنف الأوّل: المفتري على اللّه.

الصنف الثاني: المجاهد في سبيله.

الصنف الثالث: المحسن.

أمّا الأوّل: فوصفهم سبحانه بقوله: (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ) (1)و هذه الطائفة خارجة عن طريق الحقّ لا تُرجى هدايتهم و وصولهم إلى الحقّ، بل كلّما ازدادوا سيراً ازدادوا بعداً و جهلاً.

و الثاني: يهديهم ربّهم إلى سبله لقوله سبحانه: (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) فمن أخطأ فلتقصير منه، إمّا لعدم إخلاصه في السعي، أو لتقصيره فيه.

و الثالث: وصلوا إلى قمّة الكمال في حقلي الإيمان و العمل و صاروا مع اللّه سبحانه لقوله: (وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ).

و مع ذلك فكيف قُصِّر مفاد الآية بالجهاد مع النفس مع ظهور إطلاقها؟! 4. قوله سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (2)فانّ

ص:322


1- العنكبوت: 68.
2- الروم: 30.

قوله (فِطْرَتَ اللّهِ ) عطف بيان أو بدل من الدين، نصب بفعل مقدر، مثل أعني أو أخص، و إلاّ لكان الواجب أن يكون مجروراً بحكم البدلية، و لازم ذلك أن تكون معرفته سبحانه أمراً فطرياً و خلقياً، لا يقبل القصور كسائر الأُمور الوجدانية.

و الظاهر انّ الآية أوضح ما في الباب، و هي تدل على عدم وجود القاصر في معرفة الرب، و انّ للعالم خالقاً و صانعاً، و انّه واحد لا شريك له في ذاته، و هو أمر لا يقبل القصور إلاّ إذا عاند الإنسان فطرته و أنكر وجدانه لغاية مادية كالانحلال من القيود الشرعية، و لأجل ذلك لا يبعد ادّعاء عدم وجود القاصر في باب التوحيد.

إنّما الكلام في غيره كباب النبوة و الإمامة و المعاد، و الآية لا تدل على عدم وجود القصور فيها بشهادة انّ قوله: (حَنِيفاً ) تدل على أنّ التوحيد هو الموافق للفطرة لا الشرك.

نعم، أكثر الكبريات الواردة في مجال الفروع أُمور فطرية كالدعوة إلى الزواج و إكرام الوالدين ورد الأمانة و حرمة الخيانة لكن الكلام في الأُصول لا الفروع.

5. دلّت العمومات على حصر الناس في المؤمن و الكافر.

و دلّت الآيات على خلود الكافرين بأجمعهم في النار.

و دلّ الدليل العقلي بقبح عقاب الجاهل القاصر.

فإذا ضم الدليل العقلي إلى العمومات المتقدمة ينتج عدم وجود القاصر في المجتمع الإنساني، لأنّ ما في المجتمع بين مؤمن و كافر و كلّ كافر محكوم بالعذاب و لا تصدق الكبرى إلاّ مع عدم وجود الكافر الجاهل القاصر فيهم، و إلاّ لخص بغير القاصر و هو خلاف الظاهر.

يلاحظ عليه: أنّ حصر الخلق في المؤمن و الكافر غير حاصر لوجود الواسطة

ص:323

بينهم، أعني: القُصّر، كالسفيه و الصغير و المجنون.

و أمّا الكبرى الثانية فناظرة إلى المتمكن من المعرفة، لأنّ عقاب العاجز القاصر قبيح فضلاً عن خلوده في النار، فالكبرى كلية غير مخصصة لكنّها واردة في حقّ المتمكن، لا كلّ إنسان و إلاّ تمنع كليّتها.

6. هل الجاهل القاصر كافر؟

لا شكّ انّ الجاهل القاصر ليس بمؤمن و لا مسلم، إنّما الكلام في أنّه هو كافر، و المعروف بين المتكلّمين انّه لا واسطة بين الإيمان و الكفر إلاّ المعتزلة حيث ذهبوا إلى وجود الواسطة بينهما و جعلوا مرتكب الكبيرة واسطة بين المؤمن و الكافر و الكتاب العزيز يوافق الحصر قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (1)و لكن قولهم كالآية ناظر إلى عالم الثبوت، فالناس بالنظر إليه غير خارجين عن الصنفين إنّما الكلام في الإطلاق و التسمية، فهل يصحّ إطلاقه على القاصر لفقدان الاستعداد، أو لوجود الغفلة أو المانع أو لا؟ يظهر من بعض الروايات كونهم متوسطين بين الكفر و الإيمان قال سبحانه:

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولئِكَ عَسَى اللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُوراً ).(2)

فقد استثنى سبحانه المستضعفين الذين ليس لهم قدرة الخروج و لا عرفان

ص:324


1- التغابن: 2.
2- النساء: 97 99.

الطريق فما آيسهم سبحانه من عفوه، و يظهر من غير واحد من الروايات انّهم غير محكومين لا بالكفر و لا بالإيمان.

روى العياشي عن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: أتزوج المرجئة أو الحرورية أو القدرية؟ قال: لا عليك بالبله من النساء قال زرارة: ما هو إلاّ مؤمنة أو كافرة، فقال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» أين استثناء اللّه. قول اللّه أصدق من قولك: (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ ) «.(1)

روى حمران بن أعين في تفسير قوله سبحانه: (وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ). (2)عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» إنّهم ليسوا بالمؤمنين و لا بالكافرين، و هم المرجون لأمر اللّه «.(3) و المرجون، جمع المُرجى من أرجى، يرجي، يقال: أرجى الأمر: أخّره، و اسم المفعول منه: مرجى، و الجمع: مرجون، و هم المشركون، لكن يؤخّر أُمورهم رجاء شمول رحمته سبحانه لهم.

إلى غير ذلك من الروايات التي جمعها العلاّمة المجلسي في بحاره، فلاحظ.

7. الجاهل القاصر و الحكم الوضعي

هل الجاهل القاصر، محكوم بالأحكام الوضعية الثابتة للكافر، كنجاسته، و حرمة ذبيحته و تزويجه أو لا؟ التصديق الفقهي يتوقف على معرفة لسان الأدلة في هذه الروايات، فهل الموضوع، هو الكافر، أو غير المسلم أو غير المؤمن باللّه و رسوله؟ فعلى الأوّل لا يحكم بشيء من هذه الأحكام، بخلاف الثاني، و الحكم القطعي يتوقف على دراسة المسألة في الفقه.

ص:325


1- البحار: 69/164، باب المستضعفين، الحديث 24; و في الباب روايات بهذا المضمون.
2- التوبة: 106.
3- البحار: 69/165، باب المستضعفين، الحديث 29.
8. هل الجاهل القاصر معاقب؟

قد تبيّن ممّا ذكرنا حكم العقاب و انّه فرع التمكن و القدرة و المفروض عدمهما، و ما يظهر من المحقّق الخراساني في هامش كفايته من صحّة العقوبة، فهو مرفوض بالعقل و النقل، و احتمال انّه من لوازم الأعمال، أمر غير ثابت، لاحتمال كون العقاب من لوازم اعمال المتمكن لا القاصر.

هذا كلّه، حول الجاهل القاصر المعبّر عنه بالمستضعف الديني، و أمّا الكلام في المستضعف السياسي أو الاقتصادي فخارج عن هدف الكتاب.

الأمر الثاني: في كون الظن جابراً و موهناً و مرجحاً
اشارة

هل الظن غير المعتبر، يكون جابراً، أو موهناً، أو مرجّحاً، أو لا من غير فرق بين تعلّق النهي بالعمل به، و عدمه؟ و الأقسام المتصورة تناهز اثني عشر قسماً، لأنّ كلاً من الجبر و الوهن و الترجيح تارة يتعلق بالسند و أُخرى بالدلالة، فيضرب الاثنان في الثلاثة المذكورة، ثمّ تضرب النتيجة في الاثنين، لأنّ الظن تارة يكون منهياً عنه و أُخرى لا يكون كذلك، فيناهز اثني عشر.

أمّا الستة الأُولى من أقسام الظن المنهي عنه فلا تصلح لا للجبر، و لا للوهن، و لا الترجيح، لا في السند و لا في الدلالة، لأنّ فرض كونه جابراً أو موهناً أو مرجحاً نحو إعمال له و المفروض النهي عنه على وجه الإطلاق، فبذلك تخرج الأقسام الستة عن صلاحية الدراسة.

و أمّا الظن غير المعتبر و غير المنهى عنه فافتراض كونه مرجحاً لتقديم سند إحدى الروايتين على الأُخرى أو دلالتها كذلك، مبني على ما يأتي في مبحث التعادل و الترجيح من لزوم الاقتصار على المرجحات المنصوصة أو جواز التعدي

ص:326

عنها إلى غير المنصوص منها، ذهب الشيخ إلى الأوّل و غيره إلى الثاني، و هو المختار عندنا، لأنّ المحكم في باب تعارض الدليلين، هو روايات التخيير، فالخروج عنه يتوقف على الدليل و هو منفي في غير المنصوص كما سيوافيك.

فيبقى الكلام في الأقسام الأربعة: الجبر و الوهن بقسميهما:

1. كون الظن جابراً للسند

هل الظن غير المعتبر يكون جابراً لضعف السند، كالشهرة على القول بكونها غير حجّة بأن يكون عمل الأصحاب جابراً لضعف السند، كما إذا ورد في السند من لم يوثق لكن عمل الأصحاب بها؟ فلو قلنا بأنّ الحجّة هو خبر الثقة، فلا يكون جابراً، لأنّ عملهم بالخبر ليس دليلاً على كونه ثقة، و لو قلنا بأنّ الحجّة هو الخبر الموثوق بصدوره سواء كان الراوي ثقة أو لا، أو الموثوق بصحّة مضمونه فيصلح لأن يكون جابراً، لأنّ عمل الأصحاب يورث الوثوقَ بصدور الرواية أو الوثوق بصحّة المضمون.

2. كون الظن جابراً لضعف الدلالة

إذا كانت دلالة الرواية على الحكم المطلوب غير واضحة و لا محكمة و لكن حملها المشهور على معنى خاص، كالكراهة المشتركة بين الحرمة و الكراهة المصطلحة، فهل يكون الظن جابراً لضعفها؟ الظاهر لا، لأنّ الأمارة الخارجية لا تثبت ظهورَ اللفظ، و المفروض انّ الحجّة هو ظاهر اللفظ و ما هو المتبادر منه عرفاً بما هو هو لا بمعونة قرينة خارجيّة لم تثبت حجّيته، اللّهمّ إلاّ إذا حصل الاطمئنان باحتفاف الكلام ببعض القرائن الحالية المورثة في ظهور اللفظ في المطلوب، و إن كان اللفظ خالياً عنها.

ص:327

3، 4. كون الظن موهناً للسند أو الدلالة

إذا كانت الرواية تامة من حيث السند و الدلالة، لكن تعلّق الظن الخارجي بعدم صدورها أو عدم دلالتها، فالظاهر عدم نهوضه بذلك إلاّ إذا حصل الاطمئنان بأحدهما، لإطلاق حجّية الخبر سنداً و دلالة و شموله لما كان الظن على خلافه.

هذا كلّه حسب تقرير القوم، لكن للشهرة عندنا حساباً آخر، و قد عرفت أنّها حجّة بنفسها عند عدم التعارض، و مميّزة للحجّة عن غيره عنده، و لأجل ذلك تكون الشهرة جابرةً لضعف السند و ضعف دلالة الرواية، و موهنة لهما إذا كانت على خلاف الرواية، نعم ما ذكروه صحيح في غيرها.

ص:328

المقصد السابع: في الأُصول العملية

الأصل الأوّل:

اشارة

أصل البراءة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً.

الأوّل: تعريف أُصول الفقه

الأوّل: قد مرّ في تعريف أُصول الفقه: انّها عبارة عن القواعد التي تستنبط بها الأحكام الشرعية، أو ما ينتهي إليه المجتهد عند اليأس عن الدليل. و قد كان البحث في المقاصد الستة الماضية مركّزاً على تبيين الأدلة التي يستنبط منها الحكم الشرعي، كما أنّ البحث في هذا المقصد، مركّز على بيان ما ينتهي إليه المجتهد عند اليأس عن الدليل، و يعبّر عنه بالمباحث العقلية أو الأُصول العملية.

ثمّ إنّه يُسمّى الحكمُ المستنبط بالدليل حكماً واقعيّاً، لأنّ الدليل يكشف عنه إمّا كشفاً تاماً كما في صورة العلم أو كشفاً غير تام و لكن جعله الشارع حجّة على الواقع، كما في الأمارات المعتبرة من خبر الثقة و غيره; كما يسمى الحكم المستفاد، ممّا ينتهي إليه المجتهد عند الشك، حكماً ظاهرياً، لعدم كشفه عن الواقع، بل عن الوظيفة الفعلية فهو محكوم بمفاده ظاهراً إلى أن يرتفع العذر، و ما في بعض كلمات الشيخ و غيره من تسمية الأحكام المستنبطة بالأمارات المعتبرة، حكماً ظاهرياً مبني على التسامح، كما يسمّى الدليل الدال على الحكم الواقعي دليلاً اجتهادياً، و الثاني دليلاً فقاهياً، و أمّا وجه التسمية، فقد ذكره المحقّق البهبهاني في تعريف الفقه و الاجتهاد، فلاحظ.

الثاني: قد ظهر ممّا ذكرنا انّ الموضوع للأُصول العملية، هو الشكّ في الحكم الواقعي، الكلي و الجزئي لا مطلق الشكّ

الثاني: قد ظهر ممّا ذكرنا انّ الموضوع للأُصول العملية، هو الشكّ في

ص:329

الحكم الواقعي، الكلي و الجزئي لا مطلق الشكّ، فخرج الشكّ في عدد الركعات الذي هو موضوع للبناء على الأكثر، فالحكم المبني عليه ليس حكماً ظاهرياً، بل هو حكم واقعي.

ثمّ الشكّ في الحكم تارة يتعلق بالكلي كالشكّ في حرمة التدخين، و أُخرى بالجزئي كالشكّ في كون مائع خاص حراماً لاحتمال انّه خمر، أو حلالاً لاحتمال كونه خلاً، فيسمى الأوّل بالشبهات الحكمية، و الثاني بالشبهات الموضوعية، و بما انّ الفرض بيان ما هو الوظيفة عند الشكّ في الحكم الكلي، يكون البحث عن بيان حكم الشكّ في الأمر الجزمي استطرادياً.

الثالث: الأُصول المقررة لوظيفة الجاهل على قسمين:

قسم يختص لبيان وظيفة الجاهل بالموضوعات الخارجية، كما هو الحال في الأُصول التالية:

1. أصالة الصحّة في فعل الغير، 2. أصالة الصحّة في فعل النفس المعبّر عنها بقاعدة الفراغ و التجاوز، 3. الإقراع عند التخاصم.

و أُخرى ما يعمّ الشبهات الحكمية، و عمدتها الأُصول الأربعة: الاستصحاب، و التخيير، و البراءة، و الاشتغال; و أمّا ما عدا تلك الأُصول، كأصالة الطهارة فهي و إن كانت جارية في مورد الشبهتين لكن علل المحقّق الخراساني خروجها عن المسائل الأُصولية باختصاصها بباب الشكّ في الطهارة و لا تعم سائر الأبواب، و لذلك لم تعد من الأُصول العملية العامة السيالة في جميع أبواب الفقه.

يلاحظ عليه: أنّه لو كان سبب الخروج عن الأُصول العملية هو عدم كونها سيالة يلزم خروجُ قسم من المسائل عن علم الأُصول كالبحث عن دلالة النهي على الفساد في العبادات و المعاملات.

ص:330

و الظاهر انّ وجه الخروج كونها قاعدة فقهية كقاعدة كلّ شيء حلال، لما ذكرنا في الأمر الأوّل من مقدمة الكتاب من الميزان لكون المسألة فقهية أو أُصولية، فلاحظ.

الرابع: بيان مجاري الأُصول

إنّ للشيخ الأنصاري في بيان مجاري الأُصول تعابير مختلفة ذكرناها في مبحث القطع، و قد سبق هناك انّ ما ذكره في مبحث البراءة أتقن، قال ما هذا توضيحه:

ثمّ إنّ انحصار موارد الاشتباه في الأُصول الأربعة عقلي، لأنّ حكم الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه، و إمّا أن لا يكون، سواء لم يكن يقين سابق عليه أو كان و لم يلحظ.

و الأوّل مورد الاستصحاب، و الثاني إمّا أن يكون الاحتياط) خصوص الموافقة القطعية (فيه ممكناً أو لا، و الثاني مورد التخيير، و الأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول و إمّا أن لا يدل، و الأوّل مورد الاحتياط، و الثاني مورد البراءة.(1)

يظهر حال التقسيم بذكر أُمور:

1. بما انّ الشيخ يشترط في الاستصحاب أن يكون من قبيل الشكّ في الرافع دون المقتضي لم يقتصر في بيان مجرى الاستصحاب على وجود الحالة السابقة بل أضاف لحاظها أيضاً حتى لا يتداخل الأُصول في الشكّ في المقتضي، إذا اقتصر على مجرّد الحالة السابقة، إذ عندئذ يكون مجرى للاستصحاب لوجود الحالة

ص:331


1- فرائد الأُصول: 192، طبعة رحمة اللّه. و ما بيّنه في هذا المقام من جلائل أفكاره، تعلم قيمته بقياسه على البيانين اللّذين ذكرهما في أوّل رسالة القطع.

السابقة و لغيره لعدم اعتبارها.

2. انّ مجرى التخيير عبارة عمّا إذا لم يمكن الاحتياط، كما إذا دار الأمر بين الوجوب و الحرمة في شيء واحد، فهو على هذا التقسيم ليس من أقسام الشكّ في التكليف و لا الشكّ في المكلّف به، بل له مجرى خاص و له أصل خاص.

3. اشترط في مورد الاشتغال وجود دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول و لم يقل أن يكون الشكّ في المكلّف به، و ذلك لأنّ مجرى الاحتياط أعمّ من الشكّ في المكلّف به، كما في الشكّ في التكليف قبل الفحص حيث يجب الاحتياط و إن لم يكن من قبيل الشكّ في المكلّف به، فيكفي في الاحتياط وجود دليل عقلي أو نقلي، و هذا يشمل الأقسام الثلاثة:

أ: الشكّ في التكليف قبل الفحص.

ب: العلم بنوع التكليف مع تردّد المكلّف به، كالعلم بوجوب إحدى الصلاتين.

ج: العلم بجنس التكليف مع إمكان الاحتياط، كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر، فالعلم بالإلزام أي الجنس الجامع بين الوجوب و الحرمة متحقّق فيلزم التكليف لإمكان الاحتياط.

و بذلك علم أمران:

1. انّ دوران الأمر بين المحذورين الذي هو مجرى التخيير، أمر مستقل ليس بداخل في الشكّ في التكليف و لا في الشكّ في المكلّف به، لاختصاصهما بما إذا أمكن الاحتياط دون ما لا يمكن.

2. انّ الشكّ في المكلّف به لا يختص بما إذا علم النوع(1)، كما إذا تردّد

ص:332


1- كما يظهر من الشيخ حيث قال: لأنّ الشكّ في نفس التكليف و هو النوع الخاص من الإلزام. لاحظ طبعة رحمة اللّه ص 192.

الواجب بين الظهر و الجمعة، بل يعمّ ما إذا علم الجنس و دار الأمر بين الوجوب و الحرمة لكن على وجه يمكن الاحتياط كما مثلنا، أعني: إذا دار الأمر بين وجوب شيء و حرمة شيء آخر، فانّ المعلوم في المقام هو الجنس، أي مطلق الإلزام لا النوع، أعني: الوجوب أو الحرمة، و مع ذلك يجب فيه الاحتياط: الإتيان بمحتمل الوجوب، و ترك محتمل الحرمة.

نعم ليس كلّ مورد علم فيه جنس التكليف داخلاً في الشكّ في المكلّف به كما إذا أمر الشيء بين الوجوب و الحرمة و ذلك لعدم إمكان الاحتياط فيه، و لذلك قلنا بكفاية العلم بالجنس إذا أمكن الاحتياط، فلاحظ.

و الحاصل: انّه إذا دار أمر شيء واحد بين الوجوب و الحرمة، فهو المسمّى بدوران الأمر بين المحذورين، و بما انّه لا يمكن الاحتياط تكون الوظيفة هي التخيير، و أمّا إذا دار الأمر بين وجوب شيء و حرمة شيء آخر، فلا يعدّ من دوران الأمر بين المحذورين، و يكون العلم بالإلزام لأجل إمكان الاحتياط ملزماً للاحتياط، فالعلم بالجنس إذا لم يمكن الاحتياط داخل في مجرى التخيير، كما أنّ العلم به إذا أمكن داخل في مجرى الاحتياط.

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني في تقرير مجاري الأُصول بياناً آخر، قال: إمّا أن تلاحظ الحالة السابقة للشكّ أو لا; و على الثاني إمّا أن يكون التكليف معلوماً بفصله، أو نوعه، أو جنسه، أو لا; و على الأوّل إمّا أن يمكن فيه الاحتياط، أو لا; و الأوّل مجرى الاستصحاب، و الثاني مجرى الاحتياط، و الثالث مجرى التخيير، و الرابع مجرى البراءة.(1)

و الفرق بين التعبيرين هو انّه جعل مجرى التخيير من أقسام الشكّ في المكلّف به، غاية الأمر انّ الشكّ في المكلّف به على قسمين: قسم يمكن فيه

ص:333


1- فوائد الأُصول: 3/325.

الاحتياط، كما إذا دار الواجب بين الظهر و الجمعة، أو دار المكلّف به بين وجوب شيء و حرمة شيء آخر; و آخر لا يمكن فيه الاحتياط، كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء و حرمته و لكن الشيخ جعله أمراً مستقلاً في مقابل الشكّ في المكلّف به.

يلاحظ عليه: أنّ مجرى الاحتياط أعمّ من الشكّ في المكلّف به كما في الشكّ قبل الفحص، و لأجل ذلك قلنا: إنّ تقسيم الشيخ أوفق بالأقسام.

الخامس: جعل الشيخ الأعظم الشكَّ في التكليف الذي هو مجرى للبراءة اثنتي عشرة مسألة باعتبار أنّ الشبهة تكون إمّا تحريمية أو وجوبية أو مشتبهة بينهما، فهذه مطالب ثلاثة، و كلّ مطلب يشتمل على أربع مسائل، و ذلك لأنّ منشأ الشك في الجميع، إمّا فقدان النص، أو إجماله، أو تعارض النص، أو خلط الأُمور الخارجية(1)، و على ذلك فما أفاده صاحب مصباح الأُصول من أنّ الشيخ قسّم الشكّ في التكليف الذي هو مجرى للبراءة على أقسام ثمانية(2) مخالف لتصريح الشيخ، فلاحظ.

و أمّا على ما سلكناه تبعاً له في تقسيمه أوّل البراءة فمسائله لا تتجاوز عن ثمان، ذلك لما عرفت من أنّ مورد دوران الأمر بين المحذورين خارج عن مجرى البراءة و داخل تحت أصل التخيير، و كان على الشيخ أن يجعلها ثمانية حيث إنّه عند تحرير مجاري الأُصول جعل صورة الدوران خارجة عن مجرى البراءة و الاشتغال حيث قال: إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه، و إمّا أن لا يكون، و الأوّل مورد الاستصحاب، و الثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً أو لا، و الثاني مورد التخيير; و الأوّل إمّا أن يكون دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول، أو لا يدلّ; و الأوّل مورد الاحتياط و الثاني مورد

ص:334


1- الفرائد: 192، طبعة رحمة اللّه.
2- مصباح الأُصول: 2/248.

البراءة.(1)

ثمّ إنّ الوجه لعنوان كلّ مطلب على حدة أمران:

1. اختصاص النزاع بين الأُصولي و الأخباري بالشبهة الحكمية التحريمية دون الوجوبية و دون الموضوعية منها، و دون دوران الأمر بين الأمرين.

2. اختصاص بعض أدلّة البراءة بالشبهة التحريمية و لا تعم الوجوبية و الموضوعية، مثل قوله:» كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي «.

نعم أدخل المحقّق الخراساني جميع المسائل تحت عنوان واحد و بحث عن الجميع بصفقة واحدة» و هو من لم يقم عنده حجّة على واحد من الوجوب و الحرمة و كان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه أو خلط الأُمور الخارجية «و لكلّ من السلوكين وجه.

السادس: أخرج المحقّق الخراساني صورة تعارض النص عن مجرى البراءة، و ذلك لقيام الحجّة على لزوم تقديم ذات الترجيح على غيره، و التخيير عند عدمه فلا مجال لأصالة البراءة و غيرها لمكان النصّين فيهما.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان التعارض بين الدليلين الظنيّين، أمّا إذا كان بين القطعيين، أو بين الظنيين و لكن كانت النسبة بينهما عموماً و خصوصاً من وجه، فلا يرجع فيه إلى المرجحات.

أمّا الأوّل كقوله سبحانه: (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ )(2). و قوله: (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً )(3)، حيث دلّت الآية

ص:335


1- الفرائد: 192.
2- البقرة: 240.
3- البقرة: 234.

الأُولى على مقدار التربّص و هو تربّص الحول، و الأُخرى على أربعة أشهر و عشراً، و بما أنّه لا موضوع للترجيح، فيدخل الزائد على المقدار المتيقن فيما لا حجّة فيه، فيرجع إلى أصل البراءة.

أمّا الثاني: ففيما إذا كانت النسبة بين الخبرين عموماً و خصوصاً من وجه، كما في قوله: أكرم العلماء ، و لا تكرم الفسّاق، حيث يتعارضان في مجمع العنوانين، فلا يرجع في مثله إلى الأخبار العلاجية و لا إلى أخبار التخيير، بل يدخل فيما ليس فيه حجّة، فإن كان هناك عام فوقهما يرجع إليه و إلاّ فإلى الأصل.

السابع: الظاهر انّ النزاع بين الأُصولي و الأخباري في المقام صغروي، فهما متّفقان على أنّ العقاب فرع البيان، لكن الأخباري يدّعي ورود البيان عن طريق أخبار الاحتياط و الأُصولي ينكره، و بذلك يعلم انّ الكبرى غنية عن البحث و الإطناب.

الثامن: انّ في الكتب الأُصولية للقدماء مسألة باسم هل الأصل في الأشياء، الحظر أو الإباحة؟(1) و قد حلّ محلها في كتب المتأخرين مسألة البراءة و الاشتغال فهل هما مسألتان أو مسألة واحدة؟ و الجواب: انّهما مسألتان لاختلاف موضوعهما مثل اختلاف جهة البحث فيهما، فالموضوع في المسألة الأُولى، هو الأشياء بما هي هي، هل الأصل فيه الحرمة و التصرف يحتاج إلى الإذن أو بالعكس بشهادة انّهم يقسمون الأفعال إلى ما يستقل العقل بقبحه، أو بحسنه، و إلى ما يتوقف العقل في تحسينها أو تقبيحها، فيختلفون في القسم الثالث إلى أقوال ثلاثة: الحظر، و الإباحة، و الوقف.

فعلى الأوّل تنحصر وظيفة الأنبياء في بيان المحلّلات، و على الثاني على بيان المحرّمات، فعند عدم النص على واحد من الطرفين يحكم عليه بالحرمة الواقعية

ص:336


1- لاحظ التذكرة بأُصول الفقه للشيخ المفيد: 43; و الذريعة: 2/808; و العدة: 2/741.

على الأوّل و بالحلية الواقعية على الثاني، و يتوقف عن الحكم على الثالث.

و الشاهد على ما ذكرنا من أنّ مصبّ البحث هو حكم الأشياء بعناوينها الأوّلية استدلال القائل بالحظر بقوله:» إنّ هذه الأشياء لها مالك و لا يجوز لنا التصرف في ملك الغير إلاّ بإذنه «.(1)

و أمّا المسألة الثانية، فالبحث فيها عن حكم الأشياء عند الشكّ في الأحكام الواقعية المترتبة عليها بما هي هي، فللقائل بالحظر في المسألة الأُولى أن يقول بالبراءة في المسألة الثانية، كما أنّ للقائل بالإباحة فيها أن يقول بالاحتياط فيها لاختلاف موضوعهما، إذ لكل دليلهما.

ثمّ إنّ البحث عن نسبة الأمارات إلى الأُصول، و هل هي الورود، أو الحكومة موكول إلى باب التعادل و الترجيح، و إن طرحه المحقّق الأنصاري و تبعه النائيني و سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (في المقام. لكن نرجئ البحث عنها إلى المقصد الثامن بإذن اللّه.

أدلّة القائلين بالبراءة عند عدم قيام الحجّة على التكليف

اشارة

إذا علمت ذلك، فلنقدّم أدلّة القائلين بالبراءة عند عدم قيام الحجّة على التكليف، فنقول:

استدلوا بآيات أربع.
الآية الأُولى: التعذيب فرع البيان

إنّ هنا آيات تدل على أنّ التعذيب فرع تقدّم البيان نذكر منها آيتين:

قال سبحانه: (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ).(2)

و قال تعالى: (وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا

ص:337


1- العدة: 2/744.
2- الاسراء: 15.

عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ ). (1)و يدل على المقصود آيات أُخرى بهذا المضمون، لاحظها.(2)

و أمّا الاستدلال بهما على البراءة فمبني على أمرين:

الأوّل: انّ صيغة (وَ ما كُنّا ) أو (ما كانَ ) تستعمل في إحدى معنيين إمّا نفي الشأن و الصلاحية لقوله تعالى: (وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ). (3)أو نفي الإمكان كقوله تعالى:

(وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً ).(4)

الثاني: انّ بعث الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (كناية عن إتمام الحجّة على الناس، و بما انّ الرسول أفضل واسطة للبيان و الإبلاغ أُنيط التعذيب بالرسول، و إلاّ يصحّ العقاب ببعث غيره أيضاً لوحدة المناط و حصول الغاية المنشودة; و على ضوء ذلك، فلو لم يبعث الرسول بتاتاً، أو بعث و لم يتوفق لبيان الأحكام أبداً، أو توفق لبيان البعض دون البعض الآخر، أو توفق للجميع لكن حالت الحواجز بينه و بين بعض الناس، لقبح التكليف، و ذلك لاشتراك جميع الصور في عدم تمامية الحجّة.

و المكلّف الشاك في الشبهات التحريمية من مصاديق القسم الأخير، فإذا لم يصل إليه البيان لا بالعنوان الأوّلي و لا بالعنوان الثانوي كإيجاب التوقف ينطبق عليه قوله سبحانه (وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) أي نبيّن الحكم و الوظيفة.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعلّق إهلاك القرية على وجود المنذر و يقول:

ص:338


1- القصص: 59.
2- الشعراء: 208، طه: 134.
3- البقرة: 143.
4- آل عمران: 145.

(وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ لَها مُنْذِرُونَ ).(1)

نعم دلالة الآية على البراءة فرع عدم ورود الحذر بالنسبة إلى مشتبه الحكم لا بالعنوان الأوّلي هو مسلم بيننا و بين الخصم، و لا بالعنوان الثانوي الذي لا يسلِّمه الخصم و يقول: بورود الحذر عن المشتبه بعنوان إيجاب الاحتياط و التوقف، فدلالة الآية معلّقة على إبطال دليل الأخبار.

و بما انّ المشايخ كالشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني و الميرزا النائيني لم يدرسوا تفسير الآية على وجه يليق بشأنها، أوردوا على الاستدلال بها بأُمور غير تامة، و إليك بيانها:

1. انّ ظاهرها الأخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأُمم السابقة.(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الآية بصدد بيان سنن اللّه سبحانه في تعذيب الأُمم العصاة و مثلها آبية عن الاختصاص بالأُمم السابقة و لذلك تكون الأفعال في مثل ذلك منسلخة عن الزمان.

ثانياً: انّ العذاب الدنيوي إذا كان متوقفاً على البيان و الحجة، فالعذاب الأُخروي الذي سجّره الجبار أولى بذلك.(3)

2. انّ مفادها الإخبار بنفي التعذيب قبل إتمام الحجّة كما هو الحال في الأُمم السابقة، فلا دلالة لها على حكم مشتبه الحكم حيث هو مشتبه الحكم، فهي أجنبية عمّا نحن فيه.(4)

ص:339


1- الشعراء: 208.
2- الفرائد: 192، ط قديم.
3- اقتباس عن قول الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في كلامه مع أخيه عقيل. لاحظ نهج البلاغة: الخطبة 224. قال (عليه السلام):» سجرها جبّارها لغضبه «.
4- فوائد الأُصول: 3/333.

يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد بيان تعليق أي عذاب بالبيان، فإذا كان هذا مفادها، فلا يفرق بين حكم الشيء بما هو هو أو حكمه بما هو مشتبه الحكم، فكما أنّ التعذيب على الخمر فرع البيان فهكذا التعذيب على مشتبه الحكم مثله كشرب الدخان.

3. انّ مفاد الآيتين نفي الفعلية و عدم الوقوع في الخارج لا نفي الاستحقاق، و المطلوب للأُصولي هو نفي الاستحقاق ليطابق حكم الفعل.

و أجاب عنه الشيخ الأنصاري) قدس سره (بأنّه يكفي عدم الفعلية في هذا المقام، لأنّ الخصم يعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية، فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعلية في منهج الخصم.

و أرد عليه المحقّق الخراساني بوجهين:

الأوّل: انّ الاستدلال عندئذ يُصبح جدلاً، و هو عبارة عن الأخذ بمسلمات الخصم و الرد بها عليه مع أنّنا في مقام البرهنة على عدم الاستحقاق و المفروض انّ الآية قاصرة الدلالة.

الثاني: منعُ اعتراف الخصم بالملازمة بين نفي الفعلية و الاستحقاق، بشهادة انّه ليس في معلوم الحرمة إلاّ استحقاق العقاب لا فعليّته، لاحتمال شمول غفرانه سبحانه لمرتكبي الحرام مع عدم التوبة أيضاً قال سبحانه: (وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ ). (1)ففي مثله، الاستحقاق دون الفعلية فإذا كان معلوم الحرمة محكوماً باستحقاق العقاب لا بالفعلية، فليكن مشتبه الحرام كذلك فيكون محكوماً باستحقاقه دون فعليته، فلا يكون عدمها، دليلاً على عدم الاستحقاق.

ص:340


1- الرعد: 6.

و الأولى أن يجاب عن أصل الإشكال بوجهين آخرين:

الأوّل: انّ الهدف من الاستدلال بالآية ليس إثبات عدم الاستحقاق ليكون موافقاً لما يحكم به العقل من قبح العقاب بلا بيان، بل الهدف تحصيل المؤمِّن لمرتكب الشبهة سواء أ كان مستحقاً للعقاب لكنّه صار معفوّاً أو لم يكن، و ظاهر الآية كفيل بإثبات مثل هذا.

و الحاصل: انّ البحث في المقام ليس كلامياً دائراً مدار الاستحقاق و عدمه، بل أُصولي يدور حول المؤمّن للعذاب و المسوّغ للارتكاب و عدمهما، و الآية وافية بإثباتهما.

و بذلك يعلم ضعف ما أفاده المحقّق النائيني من أنّ الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأنّ مفادها نفي فعلية التعذيب لا استحقاقه، لأنّ النزاع في البراءة إنّما هو في استحقاق العقاب على ارتكاب الشبهة و عدم استحقاقه لا في فعلية العقاب.(1)

أقول: إنّ ما يهمّ الفقيه هو تحصيل المسوّغ لارتكاب مشتبه الحرمة، و تحصيل المؤمّن من العذاب، و يصلح لإثباته، ما دلّ على نفي الفعليّة و إن لم يدل على نفي الاستحقاق.

الثاني: انّ الآية ظاهرة في نفي الاستحقاق خصوصاً إذا فسر قوله: (وَ ما كُنّا ) بمعنى نفي الإمكان، و ما هذا إلاّ لأجل عدم استحقاقه العذاب ما لم يصل إليه البيان.

4. النقض بالمستقلات العقلية كقبح الظلم نظير النفس و الخيانة بالأمانة حيث يصحّ العذاب و إن لم يكن هناك بلاغ سماوي.

ص:341


1- فوائد الأُصول: 3/334.

و الإجابة عنه واضحة، لأنّ الآية ناظرة فيما يحتاج إلى البيان، على وجه لولاه لما وقف عليه الإنسان و لما كان واضحاً له. و أين هذا من المستقلات العقلية؟! أضف إليه انّه مبيّن بالرسول الباطني و إن لم يكن مبيّناً بالرسول الظاهري.

و ربما ذكرنا علم انّ الآية وافية لما يرومه الأُصولي في المقام، نعم إنّما يتم الاعتماد عليها إذا لم يرد بيان على لزوم الاجتناب، و لو بالعنوان الثانوي كإيجاب الاحتياط و التوقف.

الآية الثانية: التكليف فرع الإيتاء

قال سبحانه: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ).(1)

و الاستدلال مبني على كون المراد من الموصول: التكليف، و من الإيتاء هو الإعلام و التعريف، فيكون معنى الآية لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ تكليفاً أعلمها إيّاه.

أقول: إنّ الموصول في قوله: (إِلاّ ما آتاها ) يحتمل أحد الأُمور الثلاثة:

1. المال.

2. العمل، أي موضوع التكليف.

3. التكليف.

فعلى الأوّل يكون المراد من الإيتاء هو الإعطاء، و كأنّه قال:» لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ بقدر المال الذي أعطاها «.

و على الثاني يكون المراد من الإيتاء هو الإقدار و التمكين، فيكون المراد لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ الفعل الذي أقدرها عليه.

و على الثالث يكون المراد من الإيتاء هو الإعلام و التعريف.

ص:342


1- الطلاق: 7.

و لكن سياق الآية يؤيد الوجهين الأوّلين لأنّها وردت في سورة الطلاق التي تعرضت لحقوق النساء، ففي الآية المتقدمة عليها أمر الأزواج بالقيام بالوظائف التالية:

1. (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ).

2. (وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ).

3. (وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ).

4. (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ).

5. (وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ).(1)

فهذه الجمل التي تحكي عن الحقوق المالية للزوجة على الزوج تكون قرينة على أنّ المراد أحد المعنيين الأوّلين و إن كان الثاني أظهر لكونه عاماً شاملاً للأوّل و غيره.

و حاصل الآية: انّ ما سبق من الأحكام و الحقوق يقوم به كلّ إنسان حسب وسعه، لأنّ اللّه سبحانه لا يكلّف نفساً إلاّ ما أتاها من المقدرة و الإمكان، و لا يكلّف فوقه، و على ذلك لا صلة للآية بباب انّ التكليف فرع البيان.

فإن قلت: إنّ الإمام استشهد بالآية في باب المعرفة، ففي رواية عبد الأعلى، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: قلت له: هل كلّفوا) الناس (المعرفة؟ قال:» لا، على اللّه البيان، (لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ) (2)و (لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها ) (3)«.(4)

ص:343


1- الطلاق: 6.
2- البقرة: 286.
3- الطلاق: 7.
4- الكافي: 1/163، كتاب الحجّة، باب البيان و التعريف، الحديث 5.

قلت: إذا كان المراد من المعرفة الأُمور الغيبية الخارجة عن حدود علم الإنسان العادي، فالتكليف به مع عدم البيان داخل في التكليف بغير المقدور، و على ذلك فيكون الإيتاء أيضاً بمعنى الإقدار و التمكين، لا الإعلام، فتكون الآية ردّاً لمن يجوز التكليف بما لا يطاق.

حتى لو قلنا أيضاً بأنّ إيتاء كلّ شيء بحسبه و انّ إيتاء المال إنّما يتحقّق بالإعطاء و إيتاء الشيء فعلاً أو تركاً إنّما يكون بإقدار اللّه تعالى عليه، و إيتاء التكليف، بالوصول و الإعلام، فلا يصلح للاستدلال إلاّ في التكاليف التي يكون التكليف بها بلا إعلام تكليفاً بغير المقدور كأحوال الحشر و النشر و معرفة الأنبياء و المعارف الغيبيّة التي لو لا لحوق البيان بها يلزم التكليف بغير المقدور، إذ لا طريق لمعرفتها، و أين هذا من ترك مشتبه الحرام الذي أمر مقدور بالنسبة إلى المكلّف الملتفِت، المحتمِل للحرمة.

الآية الثالثة: الإضلال فرع البيان

قال سبحانه: (وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ).(1)

وجه الاستدلال: أنّ التعذيب من آثار الضلالة، و الضلالة معلّقة على البيان في الآية، فيكون التعذيب معلّقاً عليه، فيُنتج أنّه سبحانه لا يُعاقب إلاّ بعد بيان ما يجب العمل أو الاعتقاد به.

فإن قلت: ما هو المراد من إضلاله سبحانه، فإنّ الإضلال أمر قبيح فكيف نسب إلى اللّه سبحانه؟! قلت: إنّ الإضلال يقابل الهداية و هي على قسمين، فيكون الإضلال أيضاً

ص:344


1- التوبة: 115.

مثلها.

توضيحه: انّ للّه سبحانه هدايتين: هداية عامة تعمُّ جميع الناس من غير فرق بين إنسان دون إنسان حتى الجبابرة و الفراعنة، و هي تتحقق ببعث الرسل و إنزال الكتب و دعوة العلماء إلى بيان الحقائق مضافاً إلى العقل الذي هو رسول باطني، و إلى الفطرة التي تسوق الإنسان إلى فعل الخير.

و أمّا الهداية الخاصة، فهي تختصُّ بمن استفاد من الهداية الأُولى، فعندئذ تشمله الألطاف الإلهية الخفيّة التي نعبّر عنها بالهداية الثانوية أو الإيصال إلى المطلوب.

قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ ).(1)

و قال تعالى: (وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ).(2)

و أمّا إذا لم يستفد من الهداية الأُولى، فلا يكون مستحقّاً للاستفادة من الهداية الثانية، فيضل بسبب سوء عمله، فإضلاله سبحانه، كناية عن الضلال الذي اكتسبه بعمله بالإعراض عن الاستضاءة بالهداية الأُولى.

قال سبحانه: (فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ).(3)

فإضلاله سبحانه كإزاغته نتيجة زيغه و انحرافه و كبره و تولّيه عن الحق.

و بذلك يظهر مفاد كثير من الآيات التي تنسب الضلالة إلى اللّه سبحانه، فالمراد هو انقباض الفيض لأجل تقصيره، فيصدق انّه أضله سبحانه و إن كان

ص:345


1- محمد: 17.
2- العنكبوت: 69.
3- الصف: 5.

عن تقصير، قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ ) (1)أي يضلّه لأنّه مسرف كذّاب، و في آية أُخرى: (كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ) (2)فإضلاله نفس عدم هدايته و قبض فيضه لعدم قابليته للهداية الثانوية لأجل إسرافه و كذبه و ارتيابه.

الآية الرابعة: الهلاك و الحياة بعد إقامة البيّنة

قال سبحانه: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ).(3)

و الاستدلال بالآية فرع توضيح مفرداتها و مقاطعها:

1. (بِالْعُدْوَةِ ) بمعنى الناحية من كلّ شيء، و المراد منها في الآية ناحية الوادي، فكان النبي و المسلمون في الناحية المنخفضة من الوادي، و لذلك وصفها سبحانه بقوله: (بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا ) و هي الأدنى ، كما كانت قريش في الناحية العليا منه، لأنّ الوافد من مكة إلى المدينة إذا وصل إلى قريب من وادي بدر تنخفض الأرض لأجل قربها من ساحل البحر.

2. (اَلرَّكْبُ ) جمع الراكب، و المراد منه العير، و هي قافلة قريش التجارية التي كان يسوقها أبو سفيان فكانت على ساحل البحر الذي هو أسفل من مقام الطائفتين الأُولتين.

3. (وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ )، فهو يشير إلى أنّ اجتماع

ص:346


1- غافر: 28.
2- غافر: 34.
3- الأنفال: 42.

الطائفتين في تلك المنطقة كان بتقدير من اللّه لا بإرادة من الجماعة و لو تواعدوا على اللقاء لاختلفوا، إذ كان بين صفوف المسلمين من يخوِّفهم من سطوة قريش و كثرة عدّتهم.

4. (لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً ) أي جمع سبحانه الطائفتين في ذلك المكان لأمر قضاه و أوجبه، و هو ظهور معاجز الإسلام على المشركين التي منها غلبة الفئة القليلة التي لم يكن لهم عدَّة و عُدّة أمام المشركين، و لكنّهم غلبوا الفئة الكثيرة و قتلوا عدّة منهم و أسروا آخرين.

5. فَعلَ ذلك (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) فلو كان المراد من الهلاك و الحياة الهلاك و الحياة الأُخرويين، فيدل انّ العذاب فرع إتمام الحجّة و إقامة الدليل على صدق دعوة النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (.

نعم لو كان المراد من الهلاك و الحياة، هو الموت و البقاء، فيدل على أنّه تعلّقت مشيئته سبحانه بأنّ الكافر سواء قتل أو بقى، أن يكون على بصيرة من الأمر و هو غير المطلوب. و ليست الآية ظاهرة في المعنى الأوّل لو لم نقل بظهورها في المعنى الثاني.

إلى هنا تمّ الاستدلال بالآيات، و إليك الاستدلال بالسنّة.

الاستدلال بالسنّة
1. حديث الرفع

روى الصدوق في التوحيد و الخصال عن أحمد بن محمد بن يحيى، عن سعد ابن عبد اللّه، عن يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» رفع عن أُمّتي تسعة أشياء: الخطأ،

ص:347

و النسيان، و ما أُكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و الحسد، و الطيرة، و التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة «.(1)

و رواه محمد بن أحمد النهدي مرفوعاً عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (:» وضع عن أُمّتي تسع خصال:

الخطأ، و النسيان، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و ما استكرهوا عليه، و الطيرة، و الوسوسة في التفكّر في الخلق، و الحسد ما لم يظهر بلسان أو يد «.(2)

و رواة الحديث الأوّل كلّهم ثقات، و الرواية صحيحة.

و أمّا أحمد بن محمد بن يحيى، فهو و إن لم يوثّق ظاهراً، و لكن المشايخ أرفع من التوثيق، فهو من مشايخ الصدوق، فهو ثقة قطعاً.

نعم الرواية الثانية مرفوعة، مضافاً إلى أنّ محمد بن أحمد النهدي مضطرب فيه، كما ذكر النجاشي في حاله.

و توضيح الاستدلال بالحديث يتوقف على بيان أُمور:

الأوّل: الفرق بين الرفع و الدفع

الرفع: عبارة عن إزالة الشيء بعد وجوده و تحقّقه، و لكن الدفع هو المنع عن تقرر الشيء و تحقّقه عند وجود مقتضيه، هذا هو المعروف، و يؤيده اللغة و موارد الاستعمال.

قال في القاموس: رفعه ضد وضعه، فإذا كان الوضع هو وجود الشيء في مكان، فيكون الرفع إزالة وجوده، بعد وضعه.

قال سبحانه: (وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ).(3)

ص:348


1- الوسائل: 11، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
2- الوسائل: 11، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
3- يوسف: 100.

و قال: (اَللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ).(1)

فكانت السماء و الأرض ملتصقتين، ففصل السماء عن الأرض، فأزالها عن مكانها.

و أمّا الدفع، فقال في المصباح المنير: دفعته دفعاً أي نحيته فاندفع، يقول سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) (2)أي يحفظهم أن يصل إليهم شرّ الأعداء، و قال سبحانه: (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ * ما لَهُ مِنْ دافِعٍ ) (3)أي ما له من شيء يمنع عن وقوعه و تحقّقه بعد تعلّق إرادته على الوقوع.

فإن قلت: إذا كان الرفع ممّا لا يتعلّق إلاّ بالأمر الموجود، فما هو الأمر الموجود الذي تعلّق هو به؟ قلت: الأمر الموجود عبارة عن نفس هذه الأُمور التسعة، فلا شكّ أنّها أُمور متحقّقة في صفحة الوجود، فالرفع تعلّق بها باعتبار كونها أُمور وجودية. و بالجملة المصحح لاستعمال الرفع في الحديث هو تعلّقه بالأُمور التسعة الوجودية من دون حاجة إلى تقدير مقدَّر في هذا الباب.

و على ضوء ما ذكرنا، فالرفع استعمل في معناه الحقيقي، أي رفع التسعة بعد وجودها، نعم رفعها ليس بالحقيقة بل بالادّعاء كما سيوافيك.

هذا كلّه حسب الإرادة الاستعمالية، و أمّا حسب الإرادة الجدية فلا شكّ من لزوم تقدير مقدّر ليصحّ رفعه حقيقة لا ادّعاء مصححاً لنسبة الرفع إلى الأُمور التسعة، و هذا ما سيأتي في الأمر الثالث.

ص:349


1- الرعد: 2.
2- الحج: 38.
3- الطور: 87.

ثمّ إنّ الرفع إن استعمل مجرّداً عن حرف الجرّ، فالمراد رفعه مع الاعتداد به دون فرق بين كونه حسيّاً أو معنوياً، قال سبحانه: (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ).(1)

و أمّا إذا استعمل معها كما في المقام، فيراد منه عدم الاعتداد بالمرفوع كما يقال: رفعت عنه الضريبة.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام فيما هو المصحح لنسبة الرفع إلى المكرَه و المضطرّ و الخاطئ، و الناسي و الجاهل مع وجودها في الحياة، و هذا هو الذي نطرحه في الأمر الثاني.

الثاني: في تصحيح نسبة الرفع إلى التسعة مع وجودها

إذا كان الرفع بمعنى إزالة وجود الشيء، فكيف نسب إلى هذه الأُمور مع أنّها متوفرة في صفحة الوجود؟ و الجواب: انّ الرفع و إن تعلّق برفع نفس الأُمور، لكن الكذب إنّما يلزم إذا كان اخباراً عن عالم التكوين، و أمّا إذا كان إخباراً عن عالم التشريع بمعنى رفع هذه الأُمور بلحاظ عدم آثارها فلا يلزم الكذب نظير قوله: لا ضرر و لا ضرار، و لا بيع إلاّ في ملك، و لا طلاق إلاّ على طهر، و لا يمين للولد مع والده، و لا يمين للمملوك مع مولاه، و للمرأة مع زوجها، و لا رضاع بعد فطام، و لا نذر في معصية اللّه، و لا يمين للمكره، و لا رهبانية في الإسلام.

فهذه الأُمور المرفوعة موجودة في الحياة و لكن لما كان إخباراً عن صفحة التشريع، و كانت هذه الأُمور مسلوبة الأثر فيها، يصحّ الإخبار عن عدمها، باعتبار عدم آثارها.

ص:350


1- البقرة: 253.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني صحح نسبة الرفع إلى الأُمور التسعة بأنّ الرفع تشريعي لا بالملاك الذي ذكرناه من أنّ رفعها بملاك رفع آثارها بل بملاك آخر و هو انّه ليس إخباراً عن أمر واقع، بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع و النفي، كقوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» لا ضرر و لا ضرار «، و كقوله:» لا شكّ لكثير الشكّ «و نحو ذلك ممّا يكون متلوُّ النفي أمراً ثابتاً في الخارج.(1)

يلاحظ عليه مضافاً إلى ما ذكره السيد الأُستاذ من أنّ النبي ليس بمشرع، فلو استعمل النفي لغاية التشريع يلزم كونه مشرعاً(2): أنّ ما ذكره خلاف المتبادر من أمثالها، بل ربما يكون الحكم المنشأ غير واضح لدى العرف في مثل» لا رضاع بعد فطام «أو لا يمين للزوجة مع زوجها، فالحقّ انّ الجملة خبرية و المصحح لنسبة الرفع كونها ناظرة إلى عالم التشريع و الغاية من رفعها، هو الإخبار عن رفع آثارها.

الثالث: ما هو المرفوع ثبوتاً

قد عرفت أنّ الرفع يتعلّق بالشيء الموجود المتحقّق، و ليس هو إلاّ نفس هذه الأُمور الوجودية فهي مرفوعة ادّعاء، لكن الرفع الادّعائي رهنُ وجود رفع أمر حقيقة ليكون مسوِّغاً للرفع الادّعائي المجازي، و هذا ما نعبر عنه بما هو المرفوع ثبوتاً.

و بالجملة تارة يقع الكلام في تعيين ما هو المرفوع إثباتاً، و أُخرى ما هو المرفوع ثبوتاً الذي هو المصحح للرفع الإثباتي؟ فنقول:

أمّا إثباتاً، فلا شكّ انّ مقتضى البلاغة، هو تعلّق الرفع بنفس هذه الأُمور

ص:351


1- فوائد الأُصول: 3/343.
2- تهذيب الأُصول: 2/148.

الوجودية المتحقّقة، و تقدير أيّة كلمة بعد الرفع، يوجب سقوط الكلام عن ذروة البلاغة كتقدير لفظ » الأهل «قبل القرية في قوله سبحانه: (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها )(1)، أو قبل» البطحاء «في شعر الفرزدق، أعني قوله:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته و البيتُ يعرفه و الحلّ و الحرم

فانّ القائل يدّعي أنّ الأمر بلغ من الوضوح إلى درجة حتى أنّ القرية واقفة بما نقول، أو أنّ سيد الساجدين بلغ من المعروفية إلى درجة حتى أنّ البطحاء تعرفه، فتقدير أيّة كلمة في تلك المواضع يوجب سقوط الكلام. و قد عرفت انّ المصحح لاستعمال كلمة الرفع هو كون هذه الأُمور التسعة أُموراً وجودية.

و مع الاعتراف بذلك و انّ متعلّق الرفع هو نفس هذه الأُمور، لكن لما كان نسبة الرفع إلى هذه الأُمور مجازيّاً و ادّعائياً تتوقف نسبة الرفع إلى هذه الأُمور، إلى مسوِّغ بمعنى رفع أمر حقيقة لا ادّعاء ليكون مصححاً لنسبته إلى هذه الأُمور التسعة ادّعاءً، و ما هو إلاّ كون هذه الأُمور مسلوبة الأثر في عالم التشريع، و عندئذ يقع الكلام في تعيين ما هو الأثر الذي صار سلبه، مسوِّغاً لنسبة الرفع إلى هذه الأُمور مجازاً و ادّعاء؟ فقد اختلفت كلمتهم في تعيينه.

فمن قائل بأنّ المرفوع ثبوتاً هو المؤاخذة; إلى آخر، بأنّ المرفوع هو الأثر المناسب كالضرر في الطيرة و الكفر في الوسوسة، و المؤاخذة في الباقي; إلى ثالث، بأنّ المرفوع جميع الآثار. و إليك دراسة الاحتمالات:

1. المرفوع المؤاخذة

إنّ رفع هذه الأُمور كناية عن رفع المؤاخذة، فمن ترك الواجب أو ارتكب الحرام عن جهل و نسيان لم يؤاخذ، و أورد عليه بوجوه:

ص:352


1- يوسف: 82.

1. المؤاخذة أمر تكويني، لا يناسب وضعُها و لا رفعُها، مقام التشريع، فانّ ما يعود إلى الشارع في ذلك المقام رفع الحكم الشرعي و وضعه، لا رفع الأمر التكويني أو وضعه.

يلاحظ عليه: أنّ المؤاخذة لما كانت من توابع الحكم استحقاقاً، أو جعلاً صحّ للشارع حتى في مقام التشريع وضعها و رفعها.

و بعبارة أُخرى: كان للشارع حفظ إطلاق الحكم، و فعليته في حقّ الجاهل الشاك بإيجاب الاحتياط عليه، المستلزم للعقوبة لدى المخالفة، فالدليل على رفع الحكم الواقعي بمعنى عدم فعليته، دليل على عدم إيجاب الاحتياط المستلزم لعدم العقوبة، فالعقوبة و عدمها ممّا يترتبان على الحكم الواقعي بتوسط إيجاب الاحتياط و عدمه، و هذا المقدار من الترتب يصحح رفعها و وضعها من جانب الشارع.

و إلى ما ذكرنا يشير المحقّق الخراساني» انّها و إن لم تكن بنفسها أثراً شرعياً إلاّ أنّها ممّا يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره إيجاب الاحتياط فالدليل على رفع الحكم، دليل على رفع إيجاب الاحتياط المستتبع عدم استحقاق العقوبة لدى المخالفة.

2. انّ المؤاخذة من آثار الحكم المنجّز، و المفروض عدم تنجّزه فكيف يصح الإخبار عن رفعها؟ يلاحظ عليه: أنّه يكفي في استحقاق العقاب قابلية المورد لجعل الحكم الفعليّ منجزاً و إن لم يكن منجّزاً، و ذلك لصحّة تكليف الجاهل بالحكم، الملتفت إليه، بالاحتياط، و المكره، بتحمل الضرر، و المضطرّ بقبول المشقة، فقابلية الحكم الفعلي للتنجّز، كاشف عن وجود المقتضي للعقاب، و هو كاف في صدق الرفع.

3. انّه على خلاف إطلاق الحديث، و لعلّه أتقن الإشكالات المتوجهة إلى هذا الوجه، و سيوافيك دعمه.

ص:353

2. المرفوع هو الأثر المناسب

إنّ المتبادر من الوضع و الرفع في محيط التشريع هو ما يعدُّ أثراً مناسباً للشيء فمع وجود الخصيصة الظاهرة للشيء يُحسن الاخبار عن وضعها، و مع عدمها يحسن الاخبار عن عدمها، و لأجل ذلك صحّ للشاعر أن يقول:

» أسد عليّ و في الحروب نعامة «.

كما صحّ للإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (أن يصف المتقاعدين عن الجهاد بقوله:

» يا أشباه الرجال و لا رجال «.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يصحّ إذا كان الأثر المناسب للشيء، أمراً واحداً يدور عليه رحى الوضع و الرفع، كما هو الحال في الأسد، و أمّا إذا كانت للشيء آثار متعددة و كلّها بالنسبة إلى الشيء على حدّ سواء فلا معنى لجعل واحد منها ملاكاً للرفع، دون بعض كما في المقام.

3. المرفوع هو عموم الآثار

إنّ وصف الشيء بكونه مرفوعاً في صفحة التشريع، إنّما يصحّ إذا كان الشيء فاقداً للأثر مطلقاً فيصحّ للقائل بأنّه مرفوع، و إلاّ فلو كان البعض مرفوعاً دون بعض لا يصحّ ادّعاء كونه مرفوعاً، من غير فرق بين الآثار التكليفية كحرمة شرب الخمر و وجوب جلده، أو الوضعية كالجزئية و الشرطية عند الجهل بحكم الجزء و الشرط أو نسيانهما و كالصحّة في العقد المكره.

و يؤيّد ذلك، إطلاق الحديث أوّلاً، و كونه حديث المنّة، و مقتضاها رفع تمام الآثار ثانياً، و مقتضى صحيحة البزنطي ثالثاً.

ص:354


1- نهج البلاغة: الخطبة 27.

روى البرقي، عن صفوان بن يحيى و أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي جميعاً، عن أبي الحسن ) عليه السلام (في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما يملك أ يلزمه ذلك؟ فقال:» لا، قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (: وضع عن أُمّتي: ما أكرهوا عليه، و ما لم يطيقوا، و ما أخطئوا «.(1)

و قد تمسك الإمام بالحديث على بطلان الطلاق و عدم ترتّب الصحّة التي هي حكم وضعي، فيكشف عن أنّ المرفوع أعمّ من المؤاخذة و الحكم التكليفي و الوضعي.

فإن قلت: إنّ الحلف بالطلاق و قرينيه باطل اختياراً فضلاً عن الاضطرار، لأنّه قد تقرر في محلّه، انّ الطلاق و أضرابه لا يتحقق إلاّ بصيغة خاصة، و لا يقع بقولنا: أنت خلية أو برية أو بالحلف به، و على ذلك فلا حاجة في الحكم بالبطلان إلى حديث الرفع، و هذا يكشف عن أنّ التمسك به كان من باب الجدل و إقناع الخصم بما هو معتقد به، و لا يستفاد منه، أنّ أصل التمسك به صحيح على مذهب الحقّ.

قلت: المتبادر من الرواية هو كون حديث الرفع صالحاً لرفع كلّ أثر تكليفي أو وضعي و كان هذا أمراً مسلّماً بين الإمام و المخاطب، نعم كان تطبيق الكبرى على الصغرى من باب الجدل. و الدليل على ذلك انّ الاعتقاد بعمومية المرفوع لم يكن أمراً معنوناً في فقه العامة في ذاك الأعصار حتى يكون ذاك من مذهبهم و معتقدهم، بل كان التمسك به من باب كونه هو المتبادر عند الافهام، لا من باب كونه مقبولاً عندهم.

ص:355


1- الوسائل: 16، كتاب الأيمان، الباب 12، الحديث 12، نقلاً عن المحاسن: 136.
الرابع: عموم الموصول للحكم و الموضوع المجهولين

قد عرفت أنّ المجوّز لنسبة الرفع إلى الأُمور التسعة ادّعاءً، هو رفع جميع الآثار الشرعية حقيقة بلا ادّعاء، من غير فرق بين كون الحكم الشرعي كلياً، كما في الشبهات الحكمية; أو جزئياً، كما في الشبهات الموضوعية، و لكن ربما يتصور اختصاصه بالأمر الثاني و عدم عمومه بالأوّل، و هذا ما ندرسه في هذا الأمر، و على ثبوت هذا الأمر تدور دلالة الصحيحة على البراءة في الشبهة الحكمية و عدمها.

و قد استدل الشيخ الأعظم(1) بها على المقام بالنحو التالي: إنّ حرمة شرب التتن مثلاً ممّا لا يعلمون، فهي مرفوعة عنهم، و معنى رفعها كرفع الخطأ و النسيان، رفع آثاره أو خصوص المؤاخذة فهو كقوله) عليه السلام (:» ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم «. و قال المحقّق الخراساني: الإلزام المجهول ممّا لا يعلمون، فهو مرفوع فعلاً و إن كان ثابتاً واقعاً.

ثمّ إنّ هنا محاولات لتخصيص الحديث بالموضوع و إخراج الجهل بالحكم عنها، و إليك بيانها واحدةً تلو الأُخرى.

1. وحدة السياق

إنّ وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من الموصول» فيما لا يعلمون «هو الموضوع المجهول كالمائع المردّد بين الخمر و الخل، بشهادة أنّه المراد من الموصول في الفقرات المعطوفة، أعني:» و ما لا يطيقون «و» ما اضطروا إليه «، فانّ ما لا يطاق، أو ما يضطرّ إليه الإنسان، عبارة عن الفعل كالصوم للشيخ و الشيخة

ص:356


1- الفرائد: 195 بتوضيح.

و شرب الخمر للتداوي.

و قد أجاب المحقّق النائيني عن الإشكال بقوله: إنّ المرفوع في جميع الأشياء التسعة إنّما هو الحكم الشرعي، و إضافة الرفع في» غير ما لا يعلمون «إلى الأفعال الخارجية، إنّما هو لأجل انّ الإكراه و الاضطرار و نحو ذلك إنّما يعرض الأفعال لا الأحكام و إلاّ فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعي، كما أنّ المرفوع في» ما لا يعلمون «أيضاً هو الحكم الشرعي و هو المراد من» الموصول «و الجامع بين الشبهات الحكمية و الموضوعية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ المرفوع هو الأحكام مطلقاً حكمية كانت أو موضوعية صحيح حسب الإرادة الجدية، و لكن مصبَّ الإشكال هو الإرادة الاستعمالية بأنّ الرفع حسب هذه الإرادة اسند إلى الموضوع في سائر الفقرات، فليكن كذلك في الفقرة الأُولى، أعني:» فيما لا يعلمون «، و القول بأنّ المرفوع جداً هو الحكم الشرعي في الجميع، لا يدفع الإشكال.(2)

و الأولى أن يجاب بما أجاب به شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري) قدس سره (، و حاصل ما أفاد بتوضيح منّا: أنّ الإشكال مبنيّ على استعمال الموصول في المصاديق الخارجية، فبما انّ المستعمل فيه في الفقرتين، منحصرة في الموضوعات، فليكن قرينة على اختصاصها في الأوّل بها، و لكنّه أمر غير تام، بل المبهمات مستعملة في المفاهيم المبهمة و إنّما تعلم سعته أو ضيقه من صلته، و بما انّ العلم و الجهل يعرضان الحكم و الموضوع، فتكون الفقرة الأُولى شاملة لهما، و لكن الاضطرار و الإكراه لا يعرضان إلاّ الموضوعات الخارجية فتختصان بهما فاختصاص مصاديق الصلة بالموضوعات، لا يكون دليلاً على تخصص صلة الأوّل بها.(3)

ص:357


1- فوائد الأُصول: 3/345.
2- لاحظ تهذيب الأُصول: 2/149.
3- درر الفوائد: 2.
2. عدم صحّة نسبة المؤاخذة إلى الحكم

إذا اخترنا في الأمر السابق بأنّ المرفوع جداً هو المؤاخذة، فالظاهر انّ المراد المؤاخذة على نفس هذه المذكورات، و على هذا لو أُريد من الموصول في قوله:» ما لا يعلمون «الفعل المجهول الحقيقة تصح نسبة المؤاخذة إليه، و إن أُريد الحكم المجهول، لا تصح نسبتها إليه، إذ لا معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة.

يلاحظ عليه أوّلاً: عدم صحّة المبنى، و إنّ المقدّر ليس المؤاخذة بل عموم الآثار.

و ثانياً: لو سلمنا تقدير المؤاخذة، فإن أُريد من صحّة النسبة، هي الصحّة بالدقة العقلية، فالحقّ انّه لا تصح نسبة المؤاخذة لا على الحكم و لا على الموضوع.

أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فانّه لا معنى للمؤاخذة على الخمر و إنّما تصحّ المؤاخذة على شربها و استعمالها، و إن أُريد منها، الصحّة بالمسامحة العرفية، فتصح النسبة إليهما عرفاً.

3. المرفوع هو الأمر الثقيل

إنّ الرفع يقتضي أن يكون متعلّقه أمراً ثقيلاً ليصح تعلّق الرفع، و الأمر الثقيل هو فعل الواجب أو ترك الحرام، و أمّا الحكم فهو أمر صادر من المولى فلا ثقل فيه.

يلاحظ عليه: الأحكام من مصاديق التكليف، و هو من الكلفة، فلو لم يكن فيها ثقل فكيف يطلق عليها التكليف؟ و الشاهد على ذلك وصف الأحكام بالحرج قال سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(1)، أي لم يجعل حكماً حرجياً.

ص:358


1- الحج: 78.
4. ما هو الموضوع هو المرفوع

و هناك محاولة رابعة لتخصيص الحديث بالشبهة الموضوعية، و حاصله: انّ المرفوع في الحديث عبارة عمّا هو الموضوع في سائر الأدلّة، و بما انّه فيها عبارة عن نفس الفعل لا الحكم فيكون المرفوع أيضاً هو نفسه. و الدليل على أنّ الموضوع هو الفعل قوله سبحانه: (وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ )(1)، فالموضوع هو فعل الرزق و فعل الكسوة، و قوله سبحانه: (وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ )(2)، فالموضوع هو الفدية، و قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ )، أو قوله: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )(3)، فالموضوع هو الصيام و الحجّ.

يلاحظ عليه أولاً: أنّ الرفع كما يتعلّق بالفعل كذلك يتعلّق بالتكليف أيضاً، كما في قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» رفع القلم عن ثلاثة «(4)، فانّ المراد رفع قلم التكليف، و المراد انّه لم يكتب عليه شيء من التكاليف، و لذلك عدّ الفقهاء العقل و البلوغ من شرائط التكليف.

و ثانياً: أنّ ما ذكره إنّما يصحّ في غير النسيان، لأنّه يرتكب في غيره عملاً، له حكم خاص فيكون نفس الفعل مرفوعاً، و أمّا فيه فانّه ربما يكون مبدأ لترك الفعل، كنسيان الصلاة في الوقت، أو نسيان أجزاء الواجب فلم يصدر من المكلّف أمر

ص:359


1- البقرة: 233.
2- البقرة: 184.
3- آل عمران: 97
4- الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2 و مرّ الحديث عن صحيح البخاري.

ثقيل حتى يكون هو المرفوع بل لم يصدر منه شيء.

و ثالثاً: أنّ الظهور المتبع عبارة عن الظهور العرفي الذي يستظهره غالب أهل اللسان، لا الظهور المبني على هذا النوع من الدقائق، و على هذا فإنكار إطلاق الحديث بالنسبة إلى الجهل بالحكم أو نسيانه، أمر لا يقبله الذوق السليم.

الخامس: اختصاص الحديث بالرفع الامتناني

قد عرفت في الأمر الثالث انّ المسوغ لنسبة الرفع إلى الأُمور التسعة، إنّما هو رفع آثارها، لكن لما كان الحديثُ حديثَ امتنان بقرينة قوله:» عن أُمّتي «يختص الرفع بما يكون في رفعه منَّة عليهم، لا ضرراً و حرجاً و ضيقاً، و إلاّ فلا يعمه. و على هذا، يجوز إكراه القاضي المدينَ المتمكن من أداء الدين، و لا يحرم، و بالتالي يتملّك الدائن ما أخذه، كما يجوز إكراه المحتكر في عام المجاعة على البيع فيجوز تكليفاً و يصحّ بيعه الطعام ثانياً، كما لا يرتفع بالإكراه ضمان العين التالفة عن جهل و نسيان، إذ ليس في رفعه امتنان عليهم، و لا يرتفع صحّة بيع المضطر إذ ليس في رفعه أيّ امتنان على الأُمّة، بل الامتنان في صحّة المعاملة.

و لكن القدر المتيقن من الحديث هو إذا كان ترتيب الأثر على خلاف الامتنان، و عدمه على وفاقه.

و على ضوء هذا ففيما إذا اضطر إلى أكل الميتة لأجل حفظ الحياة، فالوضع أي كونه محرّماً و موجباً للعقاب على خلاف الامتنان و رفعه، و عدم كونه كذلك على وفاقه، و أمّا إذا اضطر لمعالجة ولده إلى بيع داره، فالوضع أي ترتيب الأثر على بيعه يكون على وفاق الامتنان و رفعه على خلافه، إذ على الرفع يكون بيع الدار باطلاً و التصرّف في الثمن حراماً فلا يتمكن من الوصول إلى مقصوده و هو معالجة ولده.

و مثله» ما أكره عليه «لو أكره على بيع داره، فالوضع أي الحكم بصحة البيع

ص:360

و تملّك المكرِه المبيع على خلاف الامتنان و رفعه و كونه باطلاً لعدم طيب نفسه على وفاقه.

و أمّا إذا أُكره على الحكم التكليفي، كما إذا أُكره على الزنا أو شرب الخمر و إلاّ فيهان، أو يجبر بدفع مال غير مهم بالنسبة إليه، فلا يكون الوضع، أي حفظ حرمة الفعل على خلاف الامتنان بعد كون ما توعد به أمراً قابلاً للتحمّل، و لذا قالوا ليس كلّ إكراه مسوّغاً لمخالفة الحكم التكليفي، بخلاف الإكراه في مورد المعاملات فإنّ الأقل منه الملازم لعدم طيب النفس ملازم للبطلان.

نعم لو كان ما توعد به أمراً مهماً لا يُتحمل عادة، فهو مرفوع، بدليل الإكراه أوّلاً و دليل» لا حرج « ثانياً كما لا يخفى.

السادس: المرفوع آثار المعنون لا آثار العناوين

اعلم أنّ الآثار الشرعية على قسمين:

قسم يترتب على نفس الفعل بما هو هو من دون تعنونه بعنوان خاص كالأحكام الواردة في الآيات التالية:

1. (وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً ).(1)

2. (وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ).(2)

3. (وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ).(3)

4. (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا ).(4)

ص:361


1- الاسراء: 32.
2- الاسراء: 33.
3- الاسراء: 34.
4- المائدة: 38.

5. (اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ).(1)

فالحكم المجعول في هذه الموارد على فعل المكلف بما هو هو عالماً كان أو جاهلاً، مختاراً كان أو مكرهاً، مضطراً أو غير مضطر.

و قسم يترتب الحكم على الفعل بما هو معنون بعنوان خاص، كترتب الدية على القتل الخطأ، كما في قوله سبحانه: (وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ). (2)و كالإتيان بسجدتي السهو إذا تكلم ناسياً، كقوله) عليه السلام (عن الرجل يتكلّم ناسياً في الصلاة؟ فأجاب:» يسجد سجدتين «(3).

فالحكمان مترتبان على الفعل الصادر عن خطأ و نسيان.

إذا علمت ذلك، فاعلم أنّ المرفوع هو القسم الأوّل من الآثار لا الثاني، و ذلك لوجهين:

الأوّل: انّ المتبادر من أخذ العناوين التالية: الإكراه و الاضطرار و النسيان في حديث الرفع، هو أخذها طريقاً إلى متعلّقاتها، فأطلق رفعها و أُريد رفع متعلّقاتها، أعني: الأفعال المكره و المضطر إليها و المنسية و رفعها كناية عن رفع آثار متعلّقاتها التي رتبت في الأدلّة على مطلق الفعل من غير تقييد بعنوان خاص، مثلاً حكم في الآيات السابقة على الزنا و السرقة بالحرمة، و بالقتل بجواز الاقتصاص، و بالعهد بلزوم الوفاء من غير تقييد بعنوان مثل العمد و الاختيار و الذكْر، و مقتضى إطلاق الدليل ثبوتها في جميع الحالات، فإذا ضمّ إليها حديث الرفع، يكون مقتضى الجمع بين الدليلين هو رفع تلك الآثار إذا كان الفاعل مكرهاً أو مضطرّاً، أو ناسياً أو جاهلاً.

ص:362


1- النور: 2.
2- النساء: 92.
3- الوسائل: الجزء 5، الباب 4 من أبواب الخلل، الحديث 1.

و هذا بخلاف الحسد و الطيرة و الوسوسة، فالظاهر انّها عناوين موضوعية، فالمرفوع آثار نفسها.

و على هذا، فلو رتب أثر شرعي على خصوص الفعل الصادر عن خطأ أو نسيان، فلا يكون مرفوعاً بحديث الرفع، لأنّ الخطأ و أمثاله فيه أخذا موضوعاً لا طريقاً إلى المتعلّق.

الثاني: إذا كان حديث الرفع حاكماً على مثل القسم الثاني يلزم التناقض بين الأدلّة الدالة على ثبوت هذه الأحكام في هذه الأحوال، و حديث الرفع النافي لها فيها و لا محيص عن صرفه عن مثل هذه الأحكام.

السابع: عدم اختصاصه بالأُمور الوجودية

إذا كان المرفوع جدّاً هو عموم الآثار، كما مرّ; تكون النتيجة، عدم اختصاص الحديث بالأُمور الوجودية، بل يعمّ الأُمور العدمية. مثلاً لو نذر أن لا يدَّخِنَ، لكن دخّن عن إكراه أو نسيان، فالفعل مرفوع برفع آثاره. و لو نذر، أن يشرب من ماء زمزم فنسي أو أُكره على الترك، فلا يعدّ حنثاً و لا تجب الكفارة.

لكن ذهب المحقّق النائيني) قدس سره (إلى اختصاص الحديث بالأُمور الوجودية، و قال: و إن أكره المكلّف على الترك أو اضطر إليه أو نسي الفعل ففي شمول حديث الرفع لذلك إشكال مثلاً لو نذر أن يشرب ماء دجلة فأُكره على العدم أو اضطر إليه أو نسي أن يشرب، فمقتضى القاعدة وجوب الكفارة لو لم تكن أدلّة وجوب الكفارة مختصة بصورة تعمد الحنث و مخالفة النذر عن إرادة و اختيار، لأنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود، لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعاً لا رفعاً و المفروض انّ المكلّف قد ترك الفعل عن إكراه و نسيان، فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع، و لا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال مرفوعاً و جعله كالشرب حتى يقال انّه لم تتحقق

ص:363

مخالفة النذر فلا حنث و لا كفارة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ كلامه إمّا في عالم الإثبات و الاستعمال أو عالم الثبوت و الجد، فإن كان في المقام الأوّل فقد مرّ انّ مصحح الرفع إثباتاً عبارة عن تعلّقه بهذه العناوين الوجودية، من غير فرق بين تعلّقها بأُمور وجودية أو أُمور عدمية، و ما ذكره) قدس سره (نظير ما ذكره الشيخ الأعظم في بيان وجه اختصاص أخبار الاستصحاب بالشكّ في الرافع دون الشكّ في المقتضي، و ذلك لأنّ النقص لا يناسب إلاّ المعنى الأوّل الذي أحرز فيه اقتضاء البقاء و إنّما شكّ في رافعه دون الثاني الذي لم يحرز فيه اقتضاء البقاء.

و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ المصحح لاستعمال النقض في كلا الموردين هو تعلّقه باليقين الذي هو أمر مبرم مستحكم و ليس مثل الظن سواء تعلّق اليقين بما أحرز فيه المقتضي و شكّ في رافعه أو بما شكّ في وجود الاقتضاء فيه.

و نظيره المقام، فانّ المصحّح في مقام الإثبات، كون متعلّق الرفع عبارة عن الأُمور التسعة التي هي أمر وجودي، فهي في عالم التشريع مرفوعة، من غير نظر إلى تعلّقها بأمر وجودي أو أمر عدمي.

و إن كان كلامه في المقام الثاني، فالمرفوع هو الأحكام الوجودية المترتبة على الموضوعات الشرعية من غير فرق بين ترتبه على أمر وجودي أو أمر عدمي، فالحنث و الكفارة في مثاله الذي ذكره مترتب على ترك الشرب، فالحديث يرفع وجوب الكفارة الذي هو أمر وجودي.

و على ذلك لو أكره على ترك السورة في الصلاة أو نسيها، فيجري فيه حديث الرفع، و سيوافيك تفصيله في أحد الأُمور الآتية.

ص:364


1- فوائد الأُصول: 3533/352.
الأمر الثامن: المرفوع هو المترتب على فعل المكلّف

إنّ المرفوع هو الأثر المترتب على فعل المكلّف، لأنّ هذه العناوين ممّا لا تعرض إلاّ على فعله، فلو ترتب أثر على فعله فهو مرفوع، و أمّا إذا كان الأثر مترتباً على وجود الشيء كالنجاسة بواسطة ملاقاة، جسم لجسم، فلا يرتفع به، فلو أُكره على شرب الخمر ترتفع الحرمة دون نجاسة ملاقيه من اليد و الفم، أو أكره على الزنا، فالأثر المترتب على فعله من حرمة التزويج إذا كانت محصنة مرتفعة بشرط أن يكون كلّ مكرهاً عليه، و بذلك يعلم انّه لو أكره على ترك الفريضة أو اضطر إلى الترك، لا يسقط القضاء، لأنّه مترتب على الفوت بما هو هو لا بما هو فعل المكلّف، فلو نام عن فريضة فعليه القضاء مضافاً إلى وجود الملاك. و لا ينافيه قوله:

» رفع القلم عن ثلاثة... النائم حتى يستيقظ «.

هذه هي الأُمور الكلية التي تسلط الضوء على المقصد إذا عرفتها، فنقول يقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في عنواني» ما لا يعلمون «و» النسيان «

قد عرفت أنّ المرفوع جدّاً هو عموم الآثار الشرعية، و على ذلك كما يكون الحكم التكليفي مرفوعاً بالجهل و النسيان، كذلك يكون الحكم الوضعي، كالجزئية و الشرطية مرفوعاً بهما أيضاً.

فلو جهل بحرمة الشيء بعد الفحص عن مظانّه أو نسي الحكم الشرعي فارتكبه فلا يترتب عليه شيء; فلو نذر أن يصلّي الغفيلة فنسيها، و لم يصل لا يترتب عليه الحنث. و أمّا لزوم القضاء، فالبحث عن لزومه و عدمه يطلب لنفسه مجالاً آخر.

ص:365

إنّما الكلام في رفع الحكم الوضعي كالجزئية و الشرطية، فلنركز الكلام على النسيان و منه يعلم حال الجهل به.

أقول: إنّ النسيان قد يتعلّق بالجزئية، و الشرطية، فهو يكون مساوقاً لنسيان الحكم الكلي، و قد يتعلّق بنسيان الجزء و الشرط مع العلم بحكمهما; و على كلّ تقدير، فلا مانع من عمومية الحديث لكلا القسمين تحت عنوان واحد، و رفع المنسي باعتبار رفع النسيان سواء كان المنسيّ، الحكم الكلي، أو الجزئي بماله من الأثر الشرعي) الوجوب (. و على ضوء ذلك، يكون الواجب في حقّ الناسي الأجزاء الباقية، و تكون الصلاة صحيحة، و التفصيل بين نسيان الحكم، و نسيان الجزئية و الشرطية تحكم بعد تعلّق الرفع برفع النسيان و رفع ما نسي، و هو أعم من الحكم و الجزئية و الشرطية.

نعم استشكل على التمسك بالحديث بأُمور ذكر بعضها المحقّق الخراساني في باب الشكّ في المكلّف به عند الجهل بالجزئية و الشرطية(1)، و بعضها الآخر المحقّق النائيني في المقام، و نحن نشير إلى الجميع بصورة موجزة.

1. الجزئية أمر انتزاعي و ليس حكماً شرعياً و لا موضوعاً لحكم شرعي، فكيف يتعلّق به الرفع التشريعي؟ يجاب: يكفي في جواز الرفع كونها منتزعاً من أمر مجعول، و هو وجوب السورة، و هذا المقدار كاف في صحّة الرفع.

2. انّ رفع الجزئية، يلازم رفع وجوب السورة، و أمّا كون الواجب هو الباقي و تعلّق الأمر به فهو لا يستفاد من حديث الرفع.

يجاب: بأنّ نسبة حديث الرفع إلى أدلّة الأجزاء و الشرائط، هو نسبة

ص:366


1- كفاية الأُصول: 2/235.

الاستثناء، فكما أنّ استثناء شيء من العموم، يلازم اختصاص الحكم الباقي، فهكذا استثناء جزئية السورة في حال النسيان، يلازم انحصار الأمر بالباقي، و بذلك يكون حديث الرفع من أدلّة الأجزاء.

بعبارة أُخرى: تحديد دائرة المأمور به، ليس على عاتق حديث الرفع بل على عاتق أدلّة الأجزاء، فإذا اختص وجوب السورة بغير حال النسيان، يكون الواجب في حقّ الناسي هو الصلاة بغير السورة، و ينطبق عنوان المأمور به على الباقي انطباقاً قهرياً، و يكون سقوط الأمر و الأجزاء مثله.

3. ما ذكره المحقّق النائيني من أنّه لا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الأجزاء و الشرائط، لنسيان أو إكراه و نحو ذلك بحديث الرفع، فانّه لا محلّ لورود الرفع على السورة المنسيّة في الصلاة مثلاً لخلو صفحة الوجود عنها.(1)

يجاب عنه بما عرفت من أنّ الرفع تعلّق في عامة الموارد بأُمور وجودية، و هو العناوين الواردة في الحديث، و قد تقدّم أنّها أخذت فيه بعنوان الطريقية فيكون المرفوع هو المنسي.

4. ما ذكره هو أيضاً) قدس سره (لا يمكن أن يكون رفع السورة بلحاظ رفع أثر الإجزاء و الصحّة، فانّ ذلك يقتضي عدم الإجزاء و فساد العبادة و ينتج عكس المقصود.(2)

يلاحظ عليه: ليس المرفوع هو الإجزاء و الصحّة، بل المرفوع هو الجزئية و الوجوب الذي لها، و هذا ينتج نفس المقصود.

5. إنّما تصحّ عبادة الناسي و يكون المركب الفاقد تمام المأمور به في حقّه إذا أمكن تخصيص الناسي بالخطاب، و أمّا مع عدم إمكانه لأجل كون الخطاب بقيد انّه ناس، لوجب انقلاب الموضوع إلى الذاكر فلا يمكن تصحيح عبادته.

ص:367


1- فوائد الأُصول: 3/353.
2- فوائد الأُصول: 3/353.

يجاب: انّ تصحيح عبادته لا تتوقف على تخصيصه بالتكليف، بل الأمر المتعلّق بالصلاة في الكتاب و السنّة كاف في التصحيح، فانّ الذاكر و الناسي يقصدان امتثال قوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (1)و الصلاة أمر مقول بالتشكيك، تصدق على الفرد الواجد للسورة، و الفاقد لها و كلاهما بما هما فردان للطبيعة، غير انّ الواجب على الذاكر إيجادها في ضمن الفرد الكامل، و على الناسي إيجادها في ضمن الفرد الناقص إيجاد لنفس الطبيعة و امتثال للأمر الوارد في الكتاب و السنّة بلا حاجة إلى تخصيص الناسي بالتكليف.

و على ذلك فلو ذكر الناسي بعد أداء الصلاة انّه ترك السورة فصلاته صحيحة، مجزئة لانطباق عنوان المأمور به على ما أتى، و قد قام الإجماع على عدم وجوب صلاتين في وقت واحد.

6. انّ هذا التقريب يوجب سقوط الأمر الظاهري، و أمّا الأمر الواقعي المتعلّق بالصلاة بعامة أجزائها و شرائطها فهو باق.

يجاب: انّك قد عرفت في باب الإجزاء انّه ليس لنا إلاّ أمر واحد، و هو بوحدته يبعث الذاكر و الناسي و المصحّ و المريض و الحاضر و المسافر، و لأجل ذلك يعبر سبحانه عن صلاة المسافر، بالتقصير و يقول:

(وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (2)فالواجب في حقّ المسافر، هو نفس الواجب في حقّ الذاكر، غير أنّ له أن يقصّرها و يقلِّلها من ركعاتها.

نعم يمكن امتثال هذا الأمر الواحد بصور مختلفة حسب اختلاف أحوال المصلي، من الذكر و النسيان و الصحّة و المرض.

ص:368


1- الإسراء: 78.
2- النساء: 101.
تعلّق النسيان بالسبب

ما ذكرناه في نسيان الجزء و الشرط و المانع يأتي بعينه في نسيان السبب لكن بالتفصيل الآتي.

و هو انّه إن تعلّق النسيان بأصل السبب أو بشرط يعد عند العقلاء من مقومات العقد، كما إذا تقاولا على الزوجية، و دخل بالمرأة بلا عقد عن نسيان أو عقد هازلاً، فلا ريب في بطلان مثل هذا الزواج، إذ لم يصدر من المكلّف أيُّ عمل حتى يوصف بالصحّة، و هذا بخلاف ما إذا تعلّق النسيان بشروط السبب و موانعه، كما إذا عقد فارسياً على القول بشرطية العربية، فيحكم بالصحّة لرفع شرطيتها في حال النسيان فيكون العقد الفارسي قائماً مكان السبب التام، و ليس المرفوع إلاّ شرطية العربية.

و بما ذكرنا يظهر، عدم تمامية ما أفاده المحقّق النائيني حيث قال ببطلان العقد الفارسي إذا صدر عن نسيان قائلاً: بأنّ رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي.(1)

لما عرفت من أنّ المرفوع هو شرطية العربية في العقد، و هو كاف في الصحّة، لا العقد الفارسي.

المقام الثاني: في الاضطرار و الإكراه

قد استقصينا البحث في الفقرتين الماضيتين: ما لا يعلمون، و النسيان; فلنعطف عنان الكلام إلى الفقرتين الأخيرتين: الاضطرار و الإكراه.

فيقع الكلام تارة في الحكم التكليفي، و أُخرى في الحكم الوضعي.

ص:369


1- فوائد الأُصول: 3/357.
تعلّق الإكراه بالحكم التكليفي

إذا تعلّق الإكراه بارتكاب المحرم، فلا يرتفع بمجرّد عدم طيب النفس إلاّ إذا كان المتوعد به أمراً حرجياً، غير قابل للتحمل عادة، و هذا يختلف حسب اختلاف الأشخاص و الأحوال. و قد فصّل الشيخ في الموضوع في المكاسب المحرمة فليرجع إليها.

و أمّا ما رواه المفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (في رجل أتى امرأته و هو صائم و هي صائمة فقال:» إن كان استكرهها فعليه كفارتان، و إن كان طاوعته فعليه كفارة... «.(1) فضعيف السند جدّاً، لأنّ الكليني يرويه بسند لم نجد أيّ توثيق في حقّ واحد منهم، و على فرض الثبوت يحمل على المرحلة التي ربما تسلب الطاقة عرفاً عن الزوجة.

إذا علمت انّه ليس كلّ إكراه مسوِّغاً لارتكاب المحرم بل مرتبة خاصة منه، فاعلم انّه إذا بلغ الإكراه إلى الدرجة المسوِّغة، و أُكره على ارتكاب محرم فعليه الاقتصار به دون تجاوز إلى الفرد الآخر، كما أنّه إذا أكره على ترك فرد من الواجب كالصلاة في المسجد فليس له ترك الصلاة في البيت.

تعلّق الإكراه بالحكم الوضعي

هذا كلّه حسب الحكم التكليفي و أمّا الوضعي، فتارة يتعلّق بالسبب، و أُخرى بالمسبب. أمّا الأوّل فكما لو أُكره على ترك السبب أو ترك ما يعد من مقوماته كالتزويج بلا عقد، أو هازلاً، فلا شكّ في بطلان التزويج غاية الأمر يعدّ معذوراً من جانب المخالفة التكليفية، كالنظر و اللمس إذا استمر الإكراه.

ص:370


1- الوسائل: 7، الباب 12 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

أمّا إذا تعلّق الإكراه بترك الجزء و الشرط أو إيجاد المانع، فالظاهر صحّة العبادة على غرار ما ذكرناه في نسيان الجزء و الشرط و إيجاد المانع إذا كان العذر مستوعباً، و أمّا إذا لم يكن كذلك، فالإجزاء و عدمه رهن جواز البدار مع احتمال ارتفاع العذر أو لا. فعلى الأوّل يجزي لوحدة الأمر و قد امتثله و انطبق عليه عنوان الواجب دون ما إذا قلنا بعدم الاجزاء و مثله إذا أكره على المانع كما إذا أكره على الصلاة في الثوب النجس.

فتلخص من ذلك أنّ مطلق الإكراه لا يسوِّغ مخالفة الحكم التكليفي إلاّ إذا بلغ درجة غير قابلة للتحمل عادة، و معه يجب الاقتصار على مورده.

و أمّا الإكراه على الحكم الوضعي، فلو أُكره على ترك السبب من رأس أو ما يعد مقوماً فلا يجدي في صحّة السبب لعدم السبب.

و أمّا إذا أُكره على ترك الشرط و الجزء و المانع في المعاملة و العبادة، فالظاهر رفع الجزئية و الشرطية و المانع، و بالتالي التكاليف الوضعية و الحكم بصحّة العمل عبادياً كان أو معاملياً.

نعم فصّل سيدنا الأُستاذ) قدس سره (في باب الإكراه بين تعلّقه بالمانع و تعلّقه بترك الجزء و الشرط، بجريان حديث الرفع في الأوّل و صحّة العمل، دون الأخير، و ذلك لأنّ الإكراه في الأوّل تعلّق بشيء ذي أثر و هو المانع كالصلاة في الثوب النجس، دون الأخيرين إذ الإكراه تعلّق بترك الجزء و الشرط، و هما ليسا متعلّقين بالحكم الشرعي.

هذا بخلاف ما إذا نسي الجزء و الشرط بأنّ متعلّق النسيان ذو أثر شرعي، و على ضوء ما ذكر يجزي حديث الرفع في مورد النسيان في جميع الموارد الثلاثة، دون الإكراه فهو يجري في إيجاد المانع، دون ترك الجزء و الشرط.(1)

ص:371


1- تهذيب الأُصول: 1682/167.

يلاحظ عليه: أنّه يكفي في جريان الحديث أحد الأمرين إمّا كون متعلّق العنوان ذا أثر شرعي كنسيان الجزء، أو كون متعلّقه ملازماً عرفاً للحكم الشرعي، فانّ ترك الجزء في نظر العرف ملازم لبقاء الأمر بالمركب فإذا تعلّق الإكراه بترك الجزء و صار المكلّف معذوراً في تركه يكون نظر العرف ملازماً لعدم بقاء الأمر بالمركب و سقوط الأمر النفسي، و هذا المقدار من الملازمة العرفية كاف في التمسك به، هذا كلّه حول الإكراه على السبب.

الإكراه على المسبب

و أمّا إذا أكره على المسبب، فإن كان من الأُمور الاعتبارية المترتبة على فعل المكلّف كالزوجية و الملكية إذا أمكن الاكراه عليه، فهو مرفوع، و أمّا إذا كان من الأُمور المترتبة على وجود السبب بما هو هو لا بما هو فعل اختياري للمكلّف فلا يرتفع بالإكراه كالغسل لمن أكره بالجنابة، و تطهير الثوب و البدن للصلاة لمن أكره على الجنابة.

حكم الاضطرار

الاضطرار إمّا أن يتعلّق بالأمر المشروع كبيع الدار لمعالجة الولد، فلا شكّ انّه غير مؤثر في رفع الأثر، لأنّه على خلاف الامتنان، و أمّا إذا تعلّق بأمر محرم فهو رافع له بعامة مراتبه خلافاً للإكراه، و قد عرفت أنّه لا يرتفع به الأثر إلاّ إذا كان ما توعد به أمراً غير قابل للعمل.

و أمّا إذا تعلّق بإيجاد المانع أو ترك الجزء و الشرط فهو كالإكراه، مختاراً و إشكالاً و جواباً.

ص:372

إكمال

لا يخفى انّ مفاد ما مرّ من الآيات السابقة، مفاد البراءة العقلية من قبح العقاب بلا بيان فلو تم دليل الأخباري على لزوم الاحتياط يكون وارداً على أدلّة الأُصولي، إنّما الكلام في مفاد حديث الرفع، فهل مفاده نفس مفاد البراءة العقلية، أو انّ مفاده رفع الواقع المجهول سواء أ كان حكماً أم موضوعاً و معنى ذلك أنّ المكلّف في سعة من جانبه و ليس له أيّ حرج من جانبه، فلو دل دليل على لزوم الاحتياط و انّ المكلّف مأخوذ من جانب الحكم المجهول يقع التعارض بينهما.

و على ضوء هذا، يجب إمعان النظر في مفاد كلّ دليل يقام على البراءة، فهل يتحد مفاده مع مفاد البراءة العقلية أو لا؟

2. حديث الحجب

روى الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» ما حجب اللّه عن العباد، فهو موضوع عنهم «.(1)

و محمد بن يحيى شيخ الكليني ثقة، يروي عن شيخه أحمد بن محمد بن عيسى، و هو ثقة جليل; يروي عن ابن فضال، و هو الحسن بن علي بن فضال من أصحاب الإمام الهادي و العسكري) عليهما السلام (، كوفي ثقة، و هو شيخ أبي النضر محمد بن مسعود العياشي قال التلميذ: فما لقيتُ بالعراق و ناحية خراسان أفقه و لا أفضل من الحسن بن علي بالكوفة(2); و هو يروي عن داود بن فرقد الثقة; و هو يروي عن زكريا بن يحيى هو الواسطي، قال النجاشي: إنّه ثقة. و الحديث لا غبار عليه، لكن

ص:373


1- الكافي: 1/164، باب حجج اللّه على خلقه، الحديث 3.
2- رجال النجاشي: 1/127، برقم 71.

لوقوع ابن فضال الفطحي في السند، يوصف بالموثق، و قد مات عام 221 أو 224 ه و يمكن وصفه بالصحّة لأنّ ابن فضال كان خصيصاً بالرضا) عليه السلام (و هو يدل على توفّيه على الحقّ و إلاّ لما كان خصيصاً به و اللّه العالم.

و أمّا الدلالة، فتقرر بأنّ حرمة شرب التتن على فرض حرمتها ممّا حجب اللّه علمه عن العباد، فهي مرفوعة عنهم، فليس من ناحيتها أيّ حرج، فيكون على فرض تمامية الدلالة معارضاً لأدلّة الأخباري الدالة على وجود المسئولية للعباد فيما جهلوا من الأحكام و لو بالاحتياط.

إنّما الكلام في تمامية الدلالة، و ذلك لأنّ في الموصول احتمالات:

1. المعارف و الأُمور الغيبيّة التي لم يكلف العباد بالتعرف عليها ككيفية البرزخ و الميزان و الصراط و الشجرة الخارجة من أصل الجحيم(1)، فانّ ذلك كلّه من الأُمور الغيبية التي لا تصل إلى دركها أفهام العباد في هذه النشأة، و يؤيد ذلك المعنى عدّة من الروايات.(2)

2. الأحكام التي لم يُبيّنها الشارع أصلاً، لأجل التسهيل، و يؤيده ما عن أمير المؤمنين) عليه السلام (:» إنّ اللّه افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها، و حدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهِكُوها، و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها نسياناً فلا تتكلّفوها «.(3)

3. المعنى العام الشامل للمعارف و الأحكام لكن بجامع انّه ممّا لم يبيّنه أصلاً.

ص:374


1- إشارة إلى قوله سبحانه: (إنّها شَجَرَة تَخْرُج في أَصْلِ الجَحيم * طَلْعُها كأنّهُ رُءوس الشَّياطين) (الصافات/ 64 65).
2- الكافي: 1/92، الحديث 1، و ص 103، الحديث 12.
3- نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم 105.

4. ذلك المعنى لكن الأعم ممّا لم يبيّنها، أو بيّنها لكن أخفاها الظالمون، أو خفي لأجل حوادث مرّة من التقية و غيرها.

و الاستدلال مبني على كون المراد من الموصول هو الأعم من المعارف و الأحكام، كما أنّه مبنيّ أيضاً على أنّ المراد من الحجب هو الأعم من حجبه سبحانه مباشرة، أو حجب عباده الذي يصحّ اسناده إلى اللّه أيضاً كإسناد سائر أفعال العباد إليه إسناداً بالمباشرة.

فإن قلت: إنّ ظاهر الحجب هو الحجب المباشري فيختص بما لم يُبيّن.

قلت: إنّ ظاهره معارض بظهور لفظ الوضع الذي هو بمعنى الرفع لمكان لفظة» عن «و الرفع فرع وجود الحكم و تشريعه و لولاه لما صحّ رفعه، فيكون الحديث محتمل الوجهين، فيسقط عن الدلالة، بل يمكن ترجيح الأوّل بادّعاء كفاية وجود المقتضي للوضع لكنّه سبحانه لم يضعه تسهيلاً للعباد، كما يمكن ترجيح الثاني بادّعاء انّ الحجب الناشئ من ناحية العباد منسوب إلى اللّه سبحانه كنسبة سائر الأفعال إليه. يقول سبحانه: (وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى )(1)، على أنّه ربّما يكون الحجب معلولاً للحوادث المرّة كجريان السيل، و وقوع الزلزال اللّذين يسببان زوال الكتب فتصحُّ نسبته إلى اللّه سبحانه.

3. حديث السعة

استدل الشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني بقوله) عليه السلام (:» الناس في سعة ما لا يعلمون «.

وجه الاستدلال: انّ» ما «في قوله» ما لا يعلمون «يحتمل أحد وجهين:

1. انّها موصولة: و» لا يعلمون «صلة و الضمير العائد إلى الموصول محذوف،

ص:375


1- الأنفال: 17.

و المعنى: الناس في سعة من جانب شيء لا يعلمونه، فالحرمة المجهولة في شرب التتن شيء بما انّها غير معلومة للناس فهم من ناحيتها في سعة، أي ليس عليهم حرج و ضيق، من إيجاب الاحتياط و التحفّظ، أو ثبوت العقاب و العذاب على فرض كونه حراماً، و يكون مضمونه موافقاً لحديث الرفع، و لو تمّ دليل الأخباري يكون معارضاً معه، لأنّه يدل على عدم السعة و انّه لو كان حراماً ليُؤخذ به الإنسان و لذلك يوجب الاحتياط.

2. مصدرية زمانية(1) مثل قوله تعالى: (وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) (2)أي مدة حياتي، و المعنى الناس في سعة في زمان عدم علمهم.

فإن قلت: إنّما تتم دلالته و يكون معارضاً لدليل الأخباري إذا افترضنا أنّها موصولة، دون ما إذا كانت ظرفية، فيكون معناه: الناس في سعة ما دام لم يعلموا، فيكون الحديث هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان و تكون أدلّة الاحتياط حاكمة عليه.

قلت: هذا ما ذكره المحقّق النائيني حسب ما نقله المحقّق الخوئي في تقريراته(3)، و قد أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله: لا يقال قد علم به وجوب الاحتياط، ثمّ أجاب عنه بما هذا توضيحه:

انّ المراد من العلم فيه، هو العلم بالواقع من غير فرق بين العلم بالحكم الشرعي أو العلم بهوية المشتبه في الشبهة الموضوعية و العلم بالاحتياط ليس علماً به و إنّما علم بحكم وقائي لئلا يخالف الواقع، نعم لو كان وجوب الاحتياط نفسياً، لا يكون بعد العلم به سعة، و لكنّه غير تام، فانّ وجوب الاحتياط لحفظ

ص:376


1- في مقابل المصدرية غير الزمانية مثل قوله: (فَضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) (التوبة: 118).
2- مريم: 31.
3- مصباح الأُصول: 2/278.

الواقع، و لذا لو خالفه و لم يكن في الواقع حراماً، لما استحق العقاب.

فظهر انّه لو تمّ دليل الأخباري لوقع التعارض بينهما، فهذا يدل على السعة ما لم يعلم الواقع بما هو هو، و ذاك يدل على لزوم الاحتياط و إن جهل الواقع.

نعم الظاهر كون» ما «موصولة، لأنّ المصدرية تدخل على الماضي الحقيقي، أو ما بحكمه و هما منتفيان. و لكن ما نقله الشيخ و غيره من النصّ غير وارد في الأُصول الحديثية، و إنّما الوارد أحد التعبيرين:

أ: هم في سعة حتى يعلموا.(1)

ب: الناس في سعة ما لم يعلموا.(2)

أمّا الأول فإليك نصه: انّ أمير المؤمنين) عليه السلام (سُئل عن سفرة وجدت في الطريق، كثير لحمها و خبزها و جبنها و بيضها، و فيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين) عليه السلام (:» يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل، لأنّه يفسد و ليس له بقاء، فإن جاء طالبها، غرموا له الثمن «قيل: يا أمير المؤمنين لا ندري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ قال:» هم في سعة حتى يعلموا «.

و الحديث مروي عن طريق النوفلي عن السكوني، و الأصحاب عملوا برواياتهما كما ذكره الشيخ في العدة و لكن مورده هو الشبهة الموضوعية، لأنّ الشكّ في حلية اللحوم الموجودة فيها لاحتمال كونها للمجوسي الذي لا تحل ذبيحته و الإمام حكم بالحلية، و المقصود هو إثبات الجواز في الشبهة الحكمية.

أضف إلى ذلك، انّ تطبيق الكبرى على موردها مشكل، لأنّ الأصل في

ص:377


1- الوسائل: الجزء 2، الباب 50 من أبواب النجاسات، الحديث 11; و الجزء 16، الباب 38 من أبواب الذبائح، الحديث 2.
2- المستدرك: الجزء 18، الباب 12 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث... نقلاً عن غوالي اللآلي للاحسائي.

اللحوم هو عدم التذكية، فكيف حكم عليها بالحلية؟ و لو كان الحكم لأجل كون الأرض للمسلمين و الغالب عليها هو الإسلام، تكون مستندة إلى قاعدة أُخرى لا إلى أصالة الحلية.

أمّا الثاني: فهو المروي مرسلاً عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (:» الناس في سعة ما لم يعلموا « و الظاهر انّ» ما «ظرفية، دخلت على ما هو بحكم الماضي، دلالته جيدة يعم الشبهتين الموضوعية و الحكمية، لكن السند غير تام.

فخرجنا بالنتيجة التالية:

الحديث الأوّل: من مراسيل الكتب الأُصولية.

الحديث الثاني: السند قابل للاعتماد لكن الدلالة غير تامّة.

الحديث الثالث: تام دلالة غير تام سنداً.

4. حديث الحل الأوّل

روى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه ) عليه السلام (قال: سمعته يقول:» كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خُدِع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك و هي أُختك أو رضيعتك، و الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة «.(1)

و الرواية من ثلاثيات الكليني حيث يروي عن المعصوم بثلاث وسائط، و من ثنائيات القمي حيث يروي عن المعصوم بواسطتين.

ص:378


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

أمّا السند، فلا غبار عليه إلاّ في آخره، فانّ القمي من المشايخ الإثبات.

و هارون بن مسلم أنباري، سكن سامراً، يكنّى أبا القاسم، ثقة، وجه، و كان له مذهب في الجبر و التشبيه، لقي أبا محمّد و أبا الحسن) عليهما السلام (.(1)

و التعبير بلفظ:» كان «حاك عن عدوله عنه، و إلاّ كيف يكون معه ثقة؟! و أمّا مسعدة بن صدقة العبدي; فقد وصفه الشيخ في رجاله بأنّه عامي(2)، و عدّه الكشي من البترية(3)، و لو لا تصريح النجاشي برواية هارون بن مسلم عن مسعدة لكان لاحتمال سقوط الواسطة بينهما مجال.

و السند و إن كان غير نقي، لكن تلوح على المضمون علائم الصدق.

و على كلّ تقدير، فليس في المقام إلاّ رواية واحدة ورد فيها قوله:» كلّ شيء حلال حتى تعرف انّه حرام بعينه فتدعه «.

و يظهر من الشيخ الأعظم انّ هنا رواية مستقلة وراء رواية مسعدة غير مشتملة على لفظة » بعينه «.(4) و لم نقف على ما ذكره.

و نقلها المحقّق الخراساني مشتملة على لفظة» بعينه «، من دون أن يذكر مصدر الرواية.

و على كلّ تقدير فالرواية مختصة بالشبهة الموضوعية، و ذلك لوجوه:

1. لفظة» بعينه «فانّه تأكيد للضمير في قوله:» انّه حرام «، و المعنى حتى تعرف انّه بشخصه حرام، و يتميّز عن غيره; و لا يتصور ذلك إلاّ في الشبهة الموضوعية، فإذا اختلط الخمر بالخل و عرف الخمر، فهناك حرام غير مشخص،

ص:379


1- رجال النجاشي: 2/405، برقم 1181.
2- رجال الشيخ: 146 برقم 40، باب أصحاب محمد بن علي الباقر (عليهما السلام).
3- رجال الكشي: 333، باب عد جماعة من العامة و البترية.
4- الفرائد: 301 و 220 في المسألة الرابعة من الشبهة التحريمية.

فإذا عرفه يقال: عرف الحرام بعينه; و أمّا الشبهة الحكمية، فليس عند الشك، حرام لا بعينه، حتى إذا زال الشكّ يكون الحرام معلوماً بعينه.

و يؤيد انّه بمعنى بشخصه رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة، و غنم الصدقة و هو يعلم انّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم؟ قال: فقال:» ما الإبل إلاّ مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك، لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه «.(1)

و احتمل سيدنا الأُستاذ) قدس سره (كونه تأكيداً لقوله: حتى تعرف، و هو كناية عن وقوف المكلّف على الأحكام وقوفاً علمياً لا يأتيه ريب.(2)

2. الأمثلة التي وردت فيها بعد ضرب القاعدة كلّها من قبيل الشبهة الموضوعية، فتصلح لأن تكون قرينة للمراد، أو مانعة عن انعقاد الإطلاق.

3. قوله:» و الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة «و يعني من البيّنة:

شهادة العدلين، و التي يتوقف عليها ثبوت الموضوعات لا الأحكام، لأنّه يكفي في ثبوتها خبر العدل، و حمل البيّنة على مطلق ما يتبين به خلاف المتبادر منها في عصر الرسول فضلاً عن عصر الأئمّة قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان «(3)مضافاً إلى تفسيرها بالشاهدين في رواية عبد اللّه بن سلمان حيث روى عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (في الجبن قال:» كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان على أنّ فيه ميتة «.(4)

ص:380


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به الحديث 5، و لاحظ الحديث 2 من الباب 53.
2- تهذيب الأُصول: 2/175.
3- الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.
4- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2.
5. حديث الحل الثاني

هناك حديث حل ثان يفترق عمّا سبق باشتماله على جملة:» فيه حلال و حرام «، و قد وردت في روايات ثلاث، و لعلّ الرواية الثالثة نفس الثانية كما نستظهره.

1. ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» كلّ شيء فيه حلال و حرام، فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه «.(1)

2. ما رواه عبد اللّه بن سنان، عن عبد اللّه بن سليمان قال: سألت أبا جعفر عن الجبن فقال لي:» لقد سألتني عن طعام يعجبني، ثمّ أعطى الغلام درهماً فقال:» يا غلام ابتع لنا جبناً «، ثمّ دعا بالغذاء فتغذّينا معه إلى أن قال:» سأخبرك عن الجبن و غيره، كلّ ما كان فيه حلال و حرام، فهو حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه «.(2)

و الأُولى مروية عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (، و الثانية عن أبي جعفر) عليه السلام (، فتكونان روايتين، غير انّ الأُولى مشتملة على لفظة» منه «دون الثانية.

3. ما رواه معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا قال: كنت عند أبي جعفر) عليه السلام (، فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» إنّه لطعام يعجبني، و سأُخبرك عن الجبن و غيره، كلّ شيء فيه الحلال و الحرام، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه «.(3)

و لعلّ السائل الذي عبر عنه» فسأله رجل «هو» عبد اللّه بن سليمان «الوارد في الحديث الثاني، كما يحتمل انّه المراد في رواية أُخرى لعبد اللّه بن سنان قال:

ص:381


1- الوسائل: 12، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
2- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1 و 7.
3- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1 و 7.

سأل رجل أبا عبد اللّه عن الجبن، فقال: إنّي آكله ليعجبني، ثمّ دعا به فأكل.(1) و على ذلك فقد سأل عبد اللّه بن سليمان كلاً من الإمامين أبي جعفر و أبي عبد الله) عليهما السلام (.

و الرواية الأُولى صحيحة رواتها كلّهم ثقات، بخلاف الثانية فانّ عبد اللّه ابن سليمان لم يوثّق، و الثالثة مرسلة لوجود» رجل «في السند، و على كلّ تقدير فالمضمون يلوح عليه علائم الصدق.

الاستدلال بالرواية على الشبهة الحكمية مبني على أمرين:

أ: المراد من الشيء في قوله:» كلّ شيء «، هو الأمر الكلي، كشرب التتن أو لحم الأرنب.

ب: المراد من قوله:» فيه حلال و حرام «بمعنى فيه احتمال الحلال و الحرام.

و عندئذ يقال: إنّ شرب التتن و لحم الأرنب فيهما احتمال الحلية و الحرمة، فهما حلالان حتى تعرف الحرام منه بعينه.

يلاحظ عليه بأُمور:

1. أنّ الظاهر من قوله:» فيه حلال و حرام «هو فعليتهما لا احتمالهما كما في قوله سبحانه: (وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ ).(2)

2. لو أُريد هذا المعنى، لكان الأنسب أن يقول: حتى تعلم، بدل» حتى تعرف «، فانّ العرفان يستعمل في الأُمور الجزئية، لا الكلية، يقال: عرفت اللّه لا علمت اللّه، بخلاف العلم.(3)

ص:382


1- المصدر نفسه، الحديث 2 و قد نقل الحديث مبتوراً.
2- النحل: 116.
3- نعم هذا هو الغالب، و إلاّ فربما يستعمل العلم في الجزئيات، كما مرّ في مسعدة بن صدقة حيث قال: حتى تعلم انّه....

3. لو أُريد ذلك لزمت لغوية قوله:» بعينه «لأنّ الإنسان إذا وقف على حرمة شرب التتن أو لحم الأرنب وقف على حرمة ذلك الشيء لا حرمة شيء آخر، حتى يؤكد بقوله بعينه.

و ربما يصحّح الاستدلال به على الشبهة الحكمية، بأنّ المراد من الشيء هو الجنس البعيد كالشرب بالنسبة إلى الماء و الخمر، و اللحم بالنسبة إلى الغنم و الخنزير ففيه حلال و حرام بالفعل، و لكن نشك في الجبن و الأرنب فهما حلالان حتى تعرف الحرام منه بعينه.

و قد رد عليه الشيخ بوجهين:(1)

1. انّ اللام في قوله:» حتى تعرف الحرام «للعهد الذكري إشارة إلى الحرام المتقدّم، مع أنّه إذا عرفت حرمة شرب التتن، فقد عرفت حرمة مستقلة لا الحرمة المتقدمة المحمولة على الخمر، و لو قلنا بعموم الحديث للشبهة الحكمية يكون معنى الحديث هكذا: انّ من الشرب حلالاً كالماء، و حراماً كالخمر، فشرب التتن لك حتى تعرف الحرمة المتقدمة.

2. ظاهر الرواية انّ التقسيم سبب للشك في حرمة شرب التتن، مع أنّه ليس كذلك فليس حلية شرب الماء، و حرمة شرب الخمر سبباً للشكّ في حرمة التتن.

و الظاهر انّ المراد من الشيء، هو الكلي المنتشر في الخارج المتكثر فيه، بمعنى انّ قسماً منه حلال و قسماً آخر حرام، و قسماً منه مشتبه كالجبن. فالمشكوك محكوم بالحلية، حتى تعرف انّه في قسم الحرام الذي جعل فيه الميتة، فيكون منطبقاً على الشبهة غير المحصورة.

و يؤيد ذلك، حديث أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر) عليه السلام (عن الجبن،

ص:383


1- الفرائد: 201.

فقلت له: أخبرني من رأى انّه يجعل فيه الميتة؟ فقال:» أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين، إذا علمت انّه ميتة فلا تأكل، و إن لم تعلم فاشتر و بع و كل «.(1)

و هناك احتمال ثالث:

و هو أن يراد من الشيء، الجزئي الخارجي كالمال المختلط بالربا، و كالصدقات المشتراة من السلطان و جوائزه المختلط بالحرام، فقد تضافرت الروايات على حليّتها ما لم يعرف الحرام بعينه، و هذان الموردان ممّا أخذ العلم التفصيلي موضوعاً للحرمة.(2)

و لكن جعل الضابطة لأجل ذينك الموردين لا يخلو من بعد.

6. حديث إطلاق الأشياء

روى الصدوق مرسلاً عن الصادق) عليه السلام (قال: و قال الصادق:» كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي «.(3) و الاستدلال يتوقف على تماميته سنداً و دلالة.

أمّا الأوّل، فهو مرسل و هو لا يصلح للاحتجاج به.

لكن المشايخ يفرّقون بين قولي الصدوق، أعني قوله:» روى عن الصادق) عليه السلام («و قوله:» و قال الصادق) عليه السلام («، حيث إنّ النسبة إليه تحكي عن جزم الصدوق بصدور الرواية عن المعصوم. و قال بحر العلوم: إنّ مراسيل الصدوق في الفقيه كمراسيل ابن أبي عمير في الحجية و الاعتبار. و قد ذكرنا كلمات القوم في

ص:384


1- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 5.
2- و قد ذكرنا رواياته في المحصول فلاحظ 3/386.
3- الوسائل: 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 60.

كتابنا» كليات في علم الرجال «.(1)

أقول: إنّ ظاهره هو جزمه بصدورها عن الإمام، و لكنّه كما يكون مستنداً إلى اعتقاده بعدالة رواته يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المفيدة للعلم بالصحة. و على كلا الوجهين لا يصحّ الاستناد، أمّا على الثاني فواضح، لعدم حجّية علم المجتهد على مجتهد آخر; و أمّا الأوّل، فلأنّ غايته توثيقه لمن ورد في السند، و توثيقه إنّما يكون حجّة إذا لم يكن له معارض، و هو فرع الوقوف على أسمائهم و المفروض انّه ترك ذكر السند أصلاً، و مع ذلك لا يمكن ترك هذا النوع من المراسيل.

أمّا الدلالة فهي مبنية على ثبوت أُمور ثلاثة:

1. المراد من الشيء، هو الموضوع المجهول الحكم لا بمعنى انّه استعمل في المعنى المركّب، بل القيد مفهوم من الغاية أعني:» حتى يرد «.

2. المراد من المطلق، هو الإباحة الظاهرية.

3. المراد من الورود، هو الوصول إلى المكلّف.

و قد حمل الشيخ الرواية على هذا المعنى و جعلها من أدلّة البراءة التامة، و انّها تصلح أن تكون معارضةً لدليل الأخباري على فرض تماميته، و ذلك لأنّ الضمير في قوله:» يرد فيه «يرجع إلى ذات الشيء المجهول الحكم، و انّه ما لم يرد ذاك النهي الكذائي فالمكلّف من ناحيته في سعة و إطلاق و انّه محكوم بالإباحة ظاهراً، و على ضوء هذا يكون معارضاً لدليل الأخباري الدالّ على كفاية ورود النهي بالعنوان الثانوي.

و قد فسر المحقّق الخراساني الأُمور الثلاثة بغير هذا النحو.

ص:385


1- كليات في علم الرجال: 383 384.

ففسر الشيء، بما هو هو، من دون وصفه بمجهول الحكم، و الإطلاق بالإباحة الواقعية و الورود بالصدور من قلم التشريع لا الوصول إلى يد المكلف.

فعلى نظرية الشيخ، فالرواية ناظرة إلى بيان حكم مشتبه الحرمة و الحلية، و على نظر المحقّق الخراساني ناظرة إلى بيان حكم الأشياء قبل تشريع الشرائع أو الشريعة المحمدية.

و إليك تحليل النظريتين في الموارد الثلاثة:

أمّا الأوّل: فلا يمكن اختيار واحد من القولين إلاّ بلحاظ الأمرين الأخيرين.

أمّا الثاني: فنظر الشيخ هو الأقرب، لأنّ الإمام بصدد الإفتاء و رفع حاجة المكلّفين في حياتهم، و لا يتم ذلك إلاّ بتفسير الإطلاق بالإباحة الظاهرية، و ذلك لأنّ تفسيره بالإباحة الواقعية للأشياء قبل الشرائع أو قبل مجيء الرسول الأعظم، يوجب كون الإمام بصدد بيان مسألة كلامية، لا مسألة فقهية مفيدة لحال المتكلّم إلاّ بضمّ الأصل و بقاء الإباحة قبل الشرع، و هو كما ترى.

و أمّا الثالث: فالقرائن تشهد على أنّ المراد، هو الوصول إلى المكلّف لا الصدور من قلم التشريع و لو لم يصل. و ذلك أوّلاً: أنّه استعمل الورد في القرآن في الوصول قال سبحانه: (وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ ) (1)أي وصل إلى الموضع الذي فيه ماء باسم» ماء مدين «.

و ثانياً: أنّ اللغة يفسره بمعنى الحضور و الإشراف حتى أنّ الورود في مصطلح البلاد العربية شيء يقابل الصدور يستعملون الاستيراد مقابلاً للتصدير; فجلب الأمتعة من خارج البلد إلى داخل البلد، هو الاستيراد، و عكسه هو التصدير.

ص:386


1- القصص: 23.

و ثالثاً: أنّ تفسير الحديث على النحو الآخر يوجب اختصاص الرواية بعصر الرسول، و انّ الأشياء محكومة بالإباحة و الإطلاق حتى يصدر من الشارع نهي، و تكون الرواية إخباراً عن حكم زمان حياة الرسول، و هو خلاف ظاهرها، فانّ ظاهرها إنشاء حكم بلا تقييد بزمان، و انّ هذا الإطلاق سائر في جميع الأزمنة.

و يؤيد التعبير بلفظ: (حتّى يرد) الدال على المعنى الاستقبالي، و مفاده انّ هذا الحكم سائد في عصر الصادق و بعده إلى أن تتحقق الغاية، و من المعلوم ان لو كان المراد من الورد الصدور من قلم التشريع، فالغاية تمت و تحققت قبيل رحيل الرسول، و لم يبق أي ترقّب إليها بعد.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني وجّه إلى مختاره إشكالات ثلاثة، و أجاب عنها غير انّ في جوابه عن الإشكال الثالث إبهاماً، فليلاحظ.

7. حديث الجهالة

روى الكليني بسند صحيح عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي إبراهيم) عليه السلام (:

1. قال سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدّتها بجهالة، أ هي ممن لا تحل له أبداً؟ فقال:

» لا أمّا إذا كان بجهالة فليزوجها بعد ما تنقضي عدتها، و قد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك «.

2. فقلت: بأي الجهالتين يعذر، بجهالته انّ ذلك محرم عليه أم بجهالته انّها في عدّة؟ فقال:» إحدى الجهالتين أهون من الأُخرى: الجهالة بأنّ اللّه حرّم ذلك عليه، و ذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها «.

3. فقلت: و هو من الأُخرى معذور؟ قال:» نعم إذا انقضت عدتها، فهو معذور في أن يتزوجها «.

ص:387

4. فقلت: فإن كان أحدهما متعمداً و الآخر بجهل؟ فقال:» الذي تعمد لا يحل له أن يرجع إلى صاحبه أبداً «.(1)

و مجموع الأسئلة و الأجوبة لا تتجاوز عن أربعة، و محل الشاهد في الثاني منهما، حيث عدّ الجاهل بحرمة تزويج المعتدة معذوراً و له أن يتزوج بعد ما عرف بطلان عقده، و الرواية محمولة على مجرّد العقد بلا دخول و إلاّ فتحرم مطلقاً جاهلاً كان أو عالماً.

و أمّا فقه الحديث فهنا سؤال، فهل السؤال عن الجاهل الملتفت الشاك أو عن غير الملتفت؟ فعلى الأوّل، فكلا الرجلين متمكنان من الاحتياط بأن لا يعقد حتى يسألا فكيف حكم الإمام على أحدهما بالتمكن منه دون الآخر؟ و على الثاني، فكلاهما غير متمكنين، و حمل الأوّل على غير الملتفت و الثاني على غيره تفكيك بين الجهالتين.

و أمّا الاستدلال فيرد عليه: انّ الظاهر من المعذورية هو المعذورية في الحكم الوضعي و انّه لا يحرم عليه، و يدل على ذلك انّ الإمام أجاب في الجواب عن السؤال الرابع بعدم جواز رجوعه إلى صاحبه أبداً، و كلام السائل و جواب الإمام كلّه يدور حول المعذورية و عدمها، أي يكون الجهل عذراً لئلا تحرم الزوجة عليه أبداً، لا المعذورية في أمر العقاب اللّهمّ إلاّ أن تدّعي الملازمة.

و ما ذكرنا من الأحاديث السبعة، هو المهم من السنّة التي استدل بها على البراءة، و هناك روايات أُخرى يمكن الاحتجاج بها عليها، و قد ذكر بعضها الشيخ الأعظم، فليرجع إلى الفرائد و غيرها.

ص:388


1- الوسائل: الجزء 14، الباب 17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الحديث 4.
الثالث: الاستدلال بالإجماع

إنّ دعوى الإجماع على البراءة على وجوه:

الأوّل: ادّعاء إجماع العلماء من المجتهدين و الأخباريين على أنّ الحكم فيما لم يرد فيه نهي لا بعنوان أوّلي و لا بعنوان ثانوي، أي كونه مجهول الحكم، هو البراءة.

و هذا النوع من الادّعاء صحيح كبرى و باطل صغرى، لأنّ الأخباري يدّعي ورود النهي بعنوان ثانوي.

الثاني: تحصيل الإجماع المحصل على البراءة في مشتبه الحرمة من تتبّع الفتاوى في موارد الفقه من عصر ثقة الإسلام الكليني إلى زماننا هذا، و قد نقل الشيخ شيئاً من كلماتهم.

الثالث: الإجماعات المنقولة في كلمات الصدوق و الحلّي كما نقلها الشيخ.

الرابع: الإجماع العملي و سيرة المسلمين على الارتكاب حتى يدل دليل على الحرمة، و أمر غير بعيد و يظهر من غير واحد من الآيات(1). انّ شأن النبي هو التنصيص على المحرمات دون المحللات و على ذلك درج المسلمون بعد رحيله، فلا يتوقفون في الارتكاب عند الشكّ إلاّ بعد العلم بالحرمة إلى أن ظهر الأمين الاسترابادي فطرح هذه المشتبهات.

و يرد على الجميع: انّ الاعتماد على الإجماع في مثل هذه المسألة مشكل، لاحتمال استناد المجمعين على الأدلة النقلية و العقلية، فيكون الإجماع مدركياً غير مفيد لشيء، كما هو في الإجماع المنقول.

ص:389


1- (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِم يَطْعَمُهُ إِلاّ أن يكونَ مَيْتَةً أَوْ لَحْمَ خِنْزِير أَوْ دَماً مَسْفُوحاً بِهِ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْر باغ وَ لا عاد فَإنَّ رَبّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.) (الأنعام: 145).
الرابع: الاستدلال بحكم العقل

استدل القائل بالبراءة بالحكم القطعي للعقل من قبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلّف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته من الفحص عن حكم الشبهة و اليأس عن الظفر به في مظانّه، و انّ وجود التكليف مع عدم وصوله إلى المكلّف غير كاف في صحّة التعذيب. و انّ وجوده كعدمه في عدم ترتّب الأثر، و ذلك لأنّ فوت المراد مستند إلى المولى في كلتا الصورتين، أمّا إذا لم يكن هناك بيان أصلاً، فمعلوم، و أمّا إذا كان هناك بيان صادر من المولى لكنّه غير واصل إلى العبد، فلأنّ الفوت أيضاً مستند إليه إذ في وسعه إيجاب الاحتياط على العبد، في كلّ ما يحتمل وجود التكليف و مع تركه، يكون ترك المراد مستنداً إلى المولى حيث اقتصر في بيان المراد، بالحكم على الموضوع بالعنوان الواقعي، و لو كان مريداً للتكليف حتى في ظرف الشك و عدم الظفر بعد الفحص، كان عليه استيفاء مراده بإيجاب التحفظ، و مع عدمه، يحكم العقل بالبراءة و انّ العقاب قبيح و يشكّل قياساً بالشكل التالي:

العقاب على محتمل التكليف بعد الفحص التام و عدم العثور عليه في مظانّه لا بالعنوان الأوّلي و لا بالعنوان الثانوي عقاب بلا بيان.

و العقاب بلا بيان بالنحو المذكور أمر قبيح.

فينتج: العقاب على محتمل التكليف بالنحو المذكور أمر قبيح.

ثمّ إنّ في المقام إشكالين أحدهما متوجه إلى الكبرى و الآخر إلى الصغرى.

أمّا الأوّل: فربما يقال: انّ العقاب بلا بيان ليس أمراً قبيحاً إذا كان المكلّف شاكاً فانّ قيمة أغراض المولى ليست بأقلَّ من قيمة أغراض العبد، فكما أنّه يهتم العبد بأغراضه حتى المحتملات و المشكوكات فيسلك سبيل الاحتياط، كذلك

ص:390

يجب عليه الاحتياط في سبيل تحصل أغراض المولى المحتمل، ففي صورة الشكّ يحكم العقل بوجوب الاحتياط.

نعم هنا قاعدة عقلائية جرت عليها سيرتهم و هي عدم عقاب العبد العرفي إلاّ بعد بيان المولى و لو لا بناء العقلاء على عدم العقاب بلا بيان و عدم إمضاء الشارع له، لم يقبح العقاب بلا بيان، و المؤاخذة بلا بيان، فوقع الخلط بين الأحكام العقلائية و الأحكام العقلية المبنية على الحسن و القبح.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ مرجع إنكار القاعدة، إلى أنّ احتمال التكليف منجّز للواقع عند العقل، و إن لم يستوف المولى البيان الممكن، و الاعتماد في التعذيب و المؤاخذة على مثل هذا إنّما يصحّ إذا كان من الأحكام العقلية الواضحة. و من المعلوم خلافها، إذ لو كان حكماً واضحاً لما أنكره العلماء من غير فرق بين الأُصولي و الأخباري، و سيوافيك انّ النزاع بين الأخباري و الأُصولي إنّما هو في الصغرى أي ورود البيان و عدمه لا في الكبرى.

و ثانياً: إنّ اتّفاق العقلاء على قبح العقاب بلا بيان نابع عن حكم العقل بأنّ العبد إذا قام بوظيفته في الوقوف على مقاصد المولى و لم يجد بياناً بأحد العنوانين، يُعدُّ العقاب بحكم وحي الفطرة أمراً قبيحاً و إلاّ يعود بناء العقلاء إلى أمر تعبدي و هو كما ترى.

و ثالثاً: انّ الظاهر من الذكر الحكيم كون المسألة من الأُمور الفطرية حيث يستدل بها الوحي على الناس و يقول: (وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(1)، و يذكر في آية أُخرى انّه سبحانه أبطل ببعث الرسل، حجّة الكفار و العصاة حيث قال: (وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى ).(2)

ص:391


1- الإسراء: 15.
2- طه: 134.

فتبيّن بذلك انّ الكبرى من الأحكام الواضحة لدى العقل و العقلاء بشرط التقرير على ما ذكرناها:

أمّا الأوّل أي الإشكال على الصغرى، فهو الإشكال المعروف الذي ذكره الشيخ و المحقّق الخراساني و من جاء بعدهما من أنّه يكفي في مقام البيان، حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل الموجود في مورد الشبهة التحريمية الحكمية. و يكون شكل القياس بالنحو التالي: الشبهة البدوية التحريمية فيها ضرر محتمل، و كلّ ما فيه ضرر محتمل يلزم تركه فينتج: الشبهة التحريمية ما يجب تركها.

يلاحظ عليه: أنّ المراد من الضرر في القاعدة أحد الأُمور الثلاثة:

1. العقاب. 2. الضرر الدنيوي) الشخصي (. 3. المصالح و المفاسد الاجتماعية.

أمّا الأوّل: فهو بين قطعي الإحراز، كما في مورد العلم الإجمالي بحرمة أحد الأمرين أو وجوبه فينطبق الكبرى على الصغرى، و لذلك أطبق العلماء على وجوب الموافقة القطعية، و قطعي الانتفاء كما في المقام، فانّ الضرر بمعنى العقاب قطعي بحكم قبح العقاب بلا بيان و مع العلم بعدمها، فلا يصحّ الاحتجاج بالكبرى.

و الحاصل انّ لاحتمال الضرر بمعنى العقاب مناشئ كلّها محكومة بالانتفاء، و هذه عبارة عن الأُمور التالية:

1. تقصير العبد في الفحص عن تكاليفه من مظانّها.

2. كون المولى غير حكيم أو غير عادل.

3. وجود البيان بأحد العنوانين.

و المفروض انّ الكلّ منتف، فليس هنا منشأ لاحتمال العقاب، بل العقل

ص:392

قاطع بعدم الضرر) العقاب (و مع انتفائها، لا يحتج بمجرّد الكبرى، ما لم تنضمّ إليها الصغرى و هو احتمال العقاب.

و بذلك يعلم أنّه لا تعارض بين الكبريين و انّ لكلّ موضعاً خاصاً، فمورد قبح العقاب هو الشبهة البدوية كما أنّ موضع وجوب دفع الضرر إنّما هو صورة العلم بالتكليف إجمالاً أو تفصيلاً.

و هذا يعرب عن أنّ ما اشتهر من ورود القاعدة الأُولى على القاعدة الثانية أمر غير صحيح، فإنّ الورود فرع التعارض و لا معارضة بينهما، بل كلّ يطلب لنفسه مورداً خاصاً غير ما يطلبه الآخر لنفسه.

فمورد قاعدة القبح، هو إذا لم يكن من المولى بيان كما أنّ مورد القاعدة الثانية، هو إذا تم البيان، و إن كان المتعلّق مجهولاً بين الأمرين.

هذا كلّه إذا أُريد من الضرر العقوبة المقرّرة للعصاة في الآخرة.

فإن قلت: إنّ الآثار الأُخروية القهرية للعمل أي ارتكاب المحرم الواقعي ممّا لا ينفك عنه فلا تدور وجوداً و عدماً على وجود البيان و عدمه، فيجب الاجتناب دفعاً لهذا النوع من العقاب الأُخروي.

قلت: إنّ ما ذكر من الآثار، من تبعات الإطاعة و العصيان لا مطلق الارتكاب فإذا مارس العبد الإطاعة و العصيان يكتسب ملكة خاصة، فإذا فارقت الجسد تخلق الملكة صوراً متناسبة لما اكتسبتها من الملكات، و ليس كلّ فعل مؤثراً في حصول الملكة و إنّما المؤثر الفعل المعنون بعنوان الطاعة و المعصية، و المفروض عدمهما.

هذا كلّه إذا أُريد منه الضرر الأُخروي بقسميه.

و أما الثاني: أي الضرر الدنيوي فالإجابة عنه واضحة، لأنّ الأحكام الشرعية

ص:393

لا تدور مدار الضرر، أو النفع الشخصيين حتى يكون احتمال الحرمة، ملازماً لاحتمال الضرر الشخصي على الجسم و الروح، بل الأحكام تابعة لمصالح و مفاسد نوعية، و ربما تكمن المصلحة النوعية في الضرر الشخصي كما في ترك الربا، و الظلم على الناس، نعم ربما يجتمع الضرر الشخصي مع المفسدة الاجتماعية كشرب المسكر، و لكنّه ليس أمراً كلياً.

و مع التسليم فليس دفع الضرر الدنيوي أمراً واجباً عقلاً إذا كان في ارتكابه غايات، و الغاية في المقام دفع عسر الاحتياط.

و أمّا الثالث: أي الضرر بمعنى المصالح و المفاسد، فقد أجاب عنه الشيخ عند البحث في الدليل الأوّل على حجّية مطلق الظن و حاصله: انّ حكم الشارع بالبراءة يكشف إمّا عن عدم الأهمية، أو لوجود المصلحة الغالبة على المفسدة الحاصلة.(1)

ص:394


1- الفرائد: 109.

أدلّة الأخباري على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية

اشارة

استدلّ الأخباريّ على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية بالأدلّة الثلاثة: الكتاب و السنّة و العقل دون الإجماع لعدم كونه من الحجج عنده، و إليك دراستها،

أمّا الكتاب فبعدّة من الآيات، تجمعها العناوين التالية:
الأوّل: الحكم بالبراءة قول بغير علم

إنّ الحكم بجواز الارتكاب قول بغير علم لافتراض أنّ الواقع غير معلوم، و معه كيف يُحْكَم على الموضوع بجواز ارتكابه، مع أنّه سبحانه قال: (وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(1)؟ و الإجابة عن الاستدلال واضحة: لأنّ الجهل بالواقع، يستلزم عدم الحكم عليه بالحلية الواقعية، و لكنّه لا يلازم عدم الحكم عليه في الظاهر إذا قام الدليل على سعة المكلّف فيه، كما أنّ الحكم بالضيق في الظاهر ليس قولاً بغير علم استناداً على ما توهمه الأخباري من دلالة الأدلّة عليه.

ص:395


1- الإسراء: 36.
الثاني: الآيات الآمرة بالتقوى

دلّت الآيات على لزوم التقوى بقدر الوسع و الطاقة و الاستطاعة قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )(1). و قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).(2)

وجه الدلالة: انّ الاجتناب عن محتمل الحرمة من التقوى، و كلّ ما كان كذلك واجب بحكم الأمر بها فينتج: الاجتناب عن محتمل الحرمة واجب.

يلاحظ عليه: منع كلّية الكبرى، أي كلّ ما كان من مصاديق التقوى هو واجب، لأنّ التقوى يستعمل تارة في مقابل الفجور، و بما انّ الثاني حرام يكون الأوّل واجباً، قال سبحانه: (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ ) (3)، (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها )(4). و أُخرى في كلّ مرغوب سواء كان واجباً أم مستحباً، قال سبحانه:

(وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى ) و الإتيان بالمستحبات و ترك المكروهات كلّها من مراتب التقوى، مع انّهما غير واجبين. و مما يدل على انّ التقوى ليس خصوص الإتيان بالواجبات و الاجتناب عن المحرمات بل الأعم منهما قوله سبحانه: (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ ) (5)فقد كانت الهداية الأُولى غير منفكة عن التقوى و مع ذلك، يقول سبحانه: (وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ ) بعد زيادة الهداية.

ص:396


1- آل عمران: 102.
2- التغابن: 16.
3- ص: 28.
4- الشمس: 8.
5- محمد: 17.
الثالث: النهي عن الوقوع في التهلكة

نهى سبحانه عن إيقاع النفس في التهلكة قال سبحانه: (وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (1)و في ارتكاب الشبهة مظنة الوقوع في التهلكة و هي واجبة الاجتناب.

يلاحظ عليه: أنّ الآية واقعة في سياق آيات الجهاد:

قال سبحانه: (وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ).(2)

قال سبحانه: (وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ).(3)

قال سبحانه: (وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ).(4)

قال سبحانه: (وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا تُلْقُوا ).(5)

و على ذلك يكون المراد من التهلكة هو ما يترتب على ترك الجهاد و الإنفاق في سبيله من تسلط الأعداء على الأُمّة الإسلامية، و أين هو من ارتكاب الشبهة التحريمية؟! و لو قلنا بأنّ الآية لا صلة لها بالجهاد و انّها ضابطة كلية يعمّ ما فيه الهلاك الأُخروي، فالإجابة واضحة، لأنّ الاستدلال بالكبرى فرع إحراز الصغرى أي الهلاك الأُخروي، و هو في مورد العلم التفصيلي قطعي الوجود، و في أحد طرفي الشبهة المحصورة محتملة، و في الشبهة البدوية قطعي العدم فكيف يستدل بالكبرى مع القطع بعدم الصغرى.

***

ص:397


1- البقرة: 195.
2- البقرة: 190.
3- البقرة: 191.
4- البقرة: 193.
5- البقرة: 195.
الاستدلال بالسنّة
اشارة

استدلّ الأخباري من السنّة بطوائف، و قد قسمها الشيخ إلى أربع طوائف، و تبعه المحقّق الخراساني، و يظهر من المحقّق المشكيني انّها خمس. فالطائفتان الأوّلتان، واضحتا الإجابة، إنّما المهم الطوائف الثلاث أي:

1. أخبار التوقّف.

2. أخبار الاحتياط.

3. أخبار التثليث.

و إليك الكلام في الطائفتين الأُولتين.

الأُولى: حرمة الإفتاء بغير علم

تضافرت الروايات على حرمة القول و الإفتاء بغير علم، مثل صحيحة هشام ابن سالم، قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: ما حقّ اللّه على خلقه؟ قال:» أن يقولوا ما يعلمون، و يكفّوا عمّا لا يعلمون، فإذا فعلوا ذلك، فقد أدّوا إلى اللّه حقّه «.(1)

و يظهر جوابها بما ذكرناه جواباً عن الاستدلال بالآيات الناهية عن الإفتاء بغير العلم فلا نعيد.

الثانية: وجوب الردّ إلى اللّه و رسوله

دلّت الروايات المتضافرة على وجوب الردّ إلى اللّه و رسوله في مشاكل الأُمور، ففي مقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (:» أمر بيّن رشده فيتبع و أمر بيّن

ص:398


1- الوسائل: 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4; و بهذا المضمون روايات كثيرة، نظير: 5، 10، 11، 27، 31، 44.

غيه فيجتنب، و أمر مشكل يرد علمه إلى اللّه و إلى رسوله «.(1)

إنّ مرجع هذه الروايات التي جمعها الشيخ الحرّ العاملي في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي، إلى النهي عن الاستقلال بالفتوى بالمعايير التي ما أنزل اللّه بها من سلطان من القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة، دون الرجوع إلى أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (و يوضحه قول الرضا) عليه السلام (حسب رواية الميثمي في اختلاف الحديث عنهم) عليهم السلام (:» و ما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه، فنحن أولى بذلك، و لا تقولوا فيه بآرائكم، و عليكم الكفّ و التثبت و الوقوف، و أنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا «(2).

الثالثة: وجوب التوقف

الروايات الآمرة بالتوقف على قسمين: تارة تأمر بالتوقّف بلا تعليل، و أُخرى تأمر به معللة بأنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.

أمّا القسم الأوّل فظاهر في الاستحباب نذكر منه ما يلي:

1. ما كتبه الإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (في وصيته لولده الحسن) عليهما السلام (:» لا ورع كالوقوف عند الشبهة «.(3)

2. مرفوعة شعيب رفعه إلى أبي عبد اللّه) عليه السلام (: قال:» أورع الناس من وقف عند الشبهة «.(4)

3. ما ورد في رسالة الإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (إلى عامله في البصرة» عثمان بن حنيف «:

» فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه،

ص:399


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 12، الحديث 9 من أبواب صفات القاضي. و الاستدلال بحيثية الرد إلى اللّه سبحانه، لا من جهة تثليث الأُمور.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 31.
3- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20 و 22.
4- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20 و 22.

و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه «.(1) و القضم كسر الشيء بالأسنان. و المورد شبهة موضوعية يكون النهي فيه للتنزيه.

4. و ما في عهد الإمام) عليه السلام (لمالك الأشتر:» اختر للحكم... و أوقفهم في الشبهات، و آخذهم بالحجج «.(2)

و الأوّلان ظاهران في الاستحباب، و مورد الثالث كما عرفت شبهة موضوعية، و الرابع وارد في شرائط القاضي المستحبة. فيدل الجميع على حسن الاجتناب لا على لزومه.

و أمّا القسم الثاني، أي ما جاء الأمر بالتوقف معلّلاً بأنّه خير من الاقتحام في الهلكة، فتارة ورد في مورد يكون الاجتناب فيه مستحباً باتّفاق الكلّ، و أُخرى فيما يكون الاجتناب واجباً كذلك، و من النوع الأوّل الحديثان التاليان:

5. ما رواه أبو سعيد الزهري، عن أبي جعفر) عليه السلام (قال:» الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، و تركك حديثاً لم تروه، خير من روايتك حديثاً لم تحصه «.(3)

6. ما رواه مسعدة بن زياد، عن أبي جعفر) عليه السلام (، عن آبائه، عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (أنّه قال:» لا تجامعوا في النكاح على الشبهة، وقفوا عند الشبهة يقول إذا بلغك انّك قد رضعت من لبنها و انّها لك محرم و ما أشبه ذلك، فانّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة «.(4)

و من المعلوم أنّ ترك الحديث الذي لم يُرو بطريق صحيح ليس واجباً، كترك تزويج من اتّهم بالرضاع، لأنّ الشبهة موضوعية و المراد من الهلكة، هو التعب

ص:400


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 17، 18، 2.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 17، 18، 2.
3- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 17، 18، 2.
4- الوسائل: الجزء 14، الباب 17 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 2، و لاحظ الحديث 15 فقد نقل ملخصاً.

المترتب على النكاح إذا ثبت وجود الرضاع بين الزوجين.

و من النوع الثاني، أي طُبِّقت القاعدة على مورد يكون الاجتناب واجباً، إليك بيانه.

7. روى جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، انّ على كلّ حقّ حقيقة و على كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فردّوه «.(1)

8. روى عمر بن حنظلة في الخبرين المتساويين من أجل المرجحات عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (:

» إذا كان كذلك فارجئه حتى تلقى إمامك، فانّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات «.(2)

و مورد الأوّل هو الخبر المخالف للكتاب، و مورد الثاني هو إمكان الفحص عن الدليل و التوقف في كلا الموردين واجب.

و إذا كانت القاعدة منطبقة تارة على مورد يكون التوقف مستحباً، و أُخرى على مورد يكون واجباً لا يمكن الاستدلال به على المورد لعدم العلم بأنّه من أيّ القسمين أوّلاً. و يكون الدليل، حكماً إرشادياً تابعاً لمورده ثانياً، ففي المورد العلم الإجمالي، و الشبهة قبل الفحص يكون الحكم منجّزاً و يكون الاجتناب واجباً، و في غير ذلك المورد يكون الوقوف مستحباً.

و الحاصل: انّ وزان قوله:» الوقوف عند الشبهات خير... «وزان قوله:» أطيعوا اللّه «فوجوب الإطاعة و استحبابها تابع لكون المورد ممّا تجب فيه الطاعة، و قد عرفت في المقام انّه يجب في الموردين دون المورد الآخر.

إلى هنا تمّ الكلام في الطوائف الثلاث بقي الكلام في الطائفتين المهمتين:

ص:401


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 35 و 2.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 35 و 2.

الأُولى: أخبار الاحتياط.

الثانية: أخبار التثليث.

و إليك الكلام في الأُولى.

الرابعة: الأخبار الآمرة بالاحتياط في الشبهة

إنّ هناك ست روايات تأمر بالاحتياط في الشبهات، و قد أجاب الشيخ و المحقّق الخراساني عنها على وجه الإجمال من دون أن يدرس الأخير كلّ واحدة على حدة، فلنذكر كلامهما، ثمّ ندرس الروايات واحدة تلو الأُخرى.

قال الشيخ في جواب سؤال وجّهه إلى نفسه ما هذا لفظه: إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرّز عن العقاب الواقعي فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول و هو قبيح، و إن كان حكماً ظاهريّاً نفسياً، فالهلكة الأُخروية مترتبة على مخالفته لا على مخالفة الواقع، و صريح الأخبار إرادة العقوبة على الواقع على تقدير الحرمة.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ وجوب الاحتياط لا مقدّمي و لا نفسي بل طريقي يصحّ أن يحتج المولى بالواقع على العبد عند المخالفة كما هو الحال في مهام الأُمور التي يجب الاحتياط فيها كالدماء و الأعراض و الأموال، فما هو الفرق بين هذه الموارد، و الاحتياط في الموارد الأُخرى؟ ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب بوجوه ثلاثة:

1. انّ ما دلّ على حلّية المشتبه صريح في معناه و دليل الاحتياط ظاهر في الوجوب فيتصرف فيه بالنص.

ص:402


1- الفرائد: 207 208.

2. انّ ما دلّ على حلّية المشتبه أخص ممّا دلّ على وجوب الاحتياط فيقدّم الأخص على الأعم.

3. انّه للإرشاد و لا يعلم وجوبه أو استحبابه إلاّ بتنجز الحكم الواقعي عليه و عدمه قبل تطبيق أخبار الاحتياط عليه، فالحكم الواقعي مع العلم الإجمالي منجز فيكون الاحتياط في أطرافه واجباً، بخلاف الشبهة البدوية فبما انّ الحكم غير منجز يكون الاحتياط حكماً استحبابيّاً.

4. انّ روايات الاحتياط تحكي عن ثبوت العقوبة المنجزة قبل إيجاب الاحتياط، مع أنّ العقوبة على الحكم الواقعي غير المنكشف يكون عقاباً بلا بيان، فتحمل على مورد العلم الإجمالي.

ثمّ ذكر إشكالاً و أجاب عنه بما يتبادر في بدء النظر انّه عود إلى كلام الشيخ الذي نقده و رده أوّلاً. لكنّه غيره يعلم بالتأمل، و الأولى دراسة الروايات واحدة تلو الأُخرى، فنقول:

إنّ روايات الاحتياط على أقسام:

أ: ما هو ظاهر في الاستحباب

إنّ في روايات الاحتياط ما هو ظاهر في كونه أمراً مستحباً، نظير:

1. كلام الإمام علي) عليه السلام (لكميل بن زياد:» أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت «.(1) فانّ لفظ» بما شئت «دليل على الاستحباب إذ الواجب لا يكون معلّقاً بالمشيئة.

2. مرسلة الشهيد:» ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل

ص:403


1- الوسائل: 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 41.

الاحتياط «.(1) و اللسان: لسان النصح.

و هاتان الروايتان ظاهرتان في الاستحباب.

ب: ما هو ظاهر في النهي عن الإفتاء بالرأي

إنّ فيها ما هو ظاهر في النهي عن الإفتاء بالرأي، و المراد منه هو الإفتاء بالمعايير الاختراعية التي ما أنزل اللّه بها من سلطان، نظير ما وجد بخط الشهيد عن جعفر بن محمد يقول:» سل العلماء ما جهلت، و إيّاك أن تسألهم تعنّتاً و تجربة، و إيّاك أن تعمل برأيك شيئاً، و خذ بالاحتياط في جميع أُمورك ما تجد إليه سبيلاً، و اهرب من الفتيا هربك من الأسد «.(2)

إنّ مدرسة أهل الرأي، تقابل مدرسة أهل الحديث، و الطائفة الثانية لا يصدرون إلاّ عن دليل نقلي بخلاف الطائفة الأُولى، فأُولئك يصدرون عن المقاييس و الاستحسانات، و أين هذا من عمل فقهائنا الذين لا يصدرون إلاّ عن الأدلّة الأربعة و قد شطبوا على هذه الظنون بقلم عريض؟! و المراد من نهيه) عليه السلام (من الفتوى، هو الفتوى بتلك المعايير، لا الإفتاء عن دليل شرعي. و لذا أمر الإمام أبو جعفر أباناً أن يجلس في مسجد النبي و يفتي الناس و قال:» إنّي أُحبّ أن يرى في شيعتي مثلك «.(3)

ج: ما هو ظاهر في الاحتياط قبل الفحص

قد ورد الأمر بالاحتياط لإمكان الفحص، و المراد من الاحتياط هو عدم

ص:404


1- نقله الشيخ في الفرائد عن الشهيد.
2- الوسائل: 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 54.
3- رجال النجاشي: 1/73 برقم 6.

الإفتاء بشيء حتى يسأل الإمام فيرجع لبها إلى الطائفة الثانية; روى عبد الرحمن ابن الحجاج، قال:

سألت أبا الحسن) عليه السلام (عن رجلين أصابا صيداً و هما محرمان، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال:» لا، بل عليهما أن يجزى كلّ واحد منهما الصيد «. قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك، فلم أدر ما عليه؟ فقال:» إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا «.(1)

إنّ المشار إليه في قوله:» هذا «هو مطلق الشبهة الحكمية غير المختصة بموردها الذي هو من قبيل الشبهة الحكمية الوجوبية، فوجوب الاحتياط لأجل إمكان الفحص من الدليل بسؤال المعصوم عنها.

د: اتخاذ الاحتياط ذريعة لبيان الحكم الشرعي

روى عبد اللّه بن وضاح أنّه كتب إلى العبد الصالح) عليه السلام (يسأله عن وقت المغرب و الإفطار؟ فكتب إليه:» أرى لك أن تنظر حتى تذهب الحمرة و تأخذ بالحائطة لدينك «.(2)

الظاهر من كلام السائل) ما هو وقت المغرب و الإفطار (انّ الشبهة عنده كانت شبهة حكمية بمعنى انّه كان متردّداً في أنّ وقت صلاة المغرب، هل هو استتار القرص أو زوال الحمرة المشرقية؟ فالعامة على الأوّل، و المشهور عند الشيعة هو الثاني، و لمّا كانت الظروف غير مساعدة لبيان الحكم الشرعي و التصريح بأنّ وقتهما هو زوال الحمرة، توصل الإمام في بيان الحكم الشرعي بالاحتياط، و قال:» أرى لك أن تنظر حتى تذهب الحمرة و تأخذ بالحائطة لدينك «، و العبارة تتحمل معنىً ظاهرياً أي الانتظار لأجل حصول القطع باستتار القرص، و معنىً واقعياً

ص:405


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 37.

و هو الانتظار لذهاب الحمرة وراء استتار القرص، لأنّه الوقت رهن زوالها. فمثل هذه الرواية لا تكون دليلاً على لزوم الاحتياط.

الخامس: التثليث الوارد في المقبولة

قد عدّه الشيخ الأنصاري من أهمّ أدلّة الأخباريين. و حاصل الاستدلال:

إنّ الراوي سأل الإمام عن اختلاف القضاة، فأجاب:

» ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمعَ عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمهما، و يترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فانّ المجمعَ عليه لا ريب فيه. و إنّما الأُمور ثلاثة:

أمر بيّن رشده فيُتبع، و أمر بيّن غيُّه فيجتنب، و أمر مشكل يردّ حكمه إلى اللّه، قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (: حلال بيّن، و حرام بيّن و شبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، و من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات، و هلك من حيث لا يعلم «.(1)

وجه الاستدلال

إنّ الفقرات الثلاث ترمي إلى أمر واحد.

أ: يترك الشاذ الذي ليس بمشهور.

ب: أمر مشكل يرد حكمه إلى اللّه.

ج: و شبهات بين ذلك.

فبما انّ طرح الشاذ و ردّ المشكل إلى اللّه واجبان، يكون الاجتناب عن المشتبه أيضاً مثلهما. و لو كان الاجتناب عن المشتبه مستحباً لا واجباً دون الخبر الشاذ

ص:406


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9، و الحديث 9 من الباب 12، و قد جزّأ (رحمه الله) الحديث.

و الأمر المشكل يكون الاستشهاد بكلام الرسول أمراً غير صحيح لعدم انطباقه عليهما.

يلاحظ عليه أوّلاً:

أنّ طرح الشاذ واجب لا لدخوله فيما فيه الريب كما زعمه الشيخ و لا لكونه من مصاديق الأمر المشكل و لا لدخوله في الشبهات، بل لكونه ممّا لا ريب في بطلانه ضرورة انّه إذا كان المشهور ممّا لا ريب في صحّته يكون نقيضُه ممّا لا ريب في بطلانه، و إلاّ يلزم جواز اجتماع النقيضين.

ثانياً: افترضنا أنّ الشاذّ من أقسام ما فيه الريب و معادِلاً للأمر الثالث في كلام الوصيّ و النبيّ، لكن يكفي في الاستشهاد أن يكون الأوّل) طرح الشاذ (و الثاني) ردّ المشكل إلى اللّه (واجبين، و الاجتناب عن الشبهات أمراً مرغوباً لاشتراكهما في أمر و هو انّ في الاجتناب عن الشبهات تخلّصاً من الوقوع في مفسدة الحرام، كما أنّ في طرح الخبر الشاذ، تخلّصاً من الوقوع فيما فيه الريب.

و ثالثاً: ما عرفت عند البحث في أخبار التوقف من أنّ هذه الفقرة، طُبِّقت على ما يجب فيه الاجتناب و على ما لا يجب باعتراف الأخباريين فيكون قرينة على أنّه حكم إرشادي لا يستفاد منه الوجوب و لا الحرمة بل يتبع في ذلك المرشَد إليه أي حكم العقل في المورد.

و رابعاً: انّ هنا روايات تفسّر الذيل:

1. روى النعمان بن بشير قال: سمعت رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (يقول:» لكلّ ملك حمى، و إنّ حمى اللّه حلاله و حرامه و المشتبهات بين ذلك، كما لو انّ راعياً رعى إلى جانب الحمى لم يثبُت غنَمه أن تقع في وسطه فدعوا المشتبهات «.(1)

ص:407


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.

2. روى الصدوق انّ أمير المؤمنين) عليه السلام (خطب الناس فقال:» حلال بيّن، و حرام بيّن، و شبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك، و المعاصي حمى اللّه و من يرتع حولها يوشك أن يدخلها «.(1)

3. رواية فضيل بن عياض عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: قلت له: مَن الورع من الناس؟ قال:

» الذي يتورّع من محارم اللّه و يجتنب هؤلاء، فإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام و هو لا يعرفه «.(2)

و على ضوء هذه الأحاديث يكون وجه النهي عن الشبهات، هو الوجه في النهي عن المكروهات، و الجامع بينهما هو انّ ارتكاب القسمين يُسهِّل للنفس ارتكاب الحرام، كما أنّ اجتنابهما يورث ملكة في النفس يسهل للإنسان اجتناب المحارم.

***

الثالث: الاستدلال بالعقل

قد عرفت أنّ الأخباريين استدلّوا بوجوه ثلاثة: الكتاب، و السنّة، و العقل. و قد مضت دراسة الأوّلين، فلندرس ثالث أدلّتهم، أعني: العقل.

استدل الأخباريّ على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية بوجوه:

الأوّل: العلم الإجمالي بالمحرّمات
اشارة

إنّا نعلم إجمالاً بمحرمات كثيرة يجب الخروج عنها قطعاً بمقتضى قوله سبحانه: (وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(3)، و بعد مراجعة الأدلّة لانقطع بالخروج عن

ص:408


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 22 و 25.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 22 و 25.
3- الحشر: 7.

جميع تلك المحرّمات الواقعية فيلزم الاجتناب عن كلّ ما يحتمل أن يكون منها إذا لم يكن دليل شرعي.

و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني تبعاً للشيخ الأعظم و غيره. و حاصله: انّ هنا علمين:

1. العلم الإجمالي بوجود المحرمات في الشريعة الغرّاء.

2. العلم التفصيلي بوجود محرّمات في الطرق و الأُصول بمقدار التكاليف المعلومة أو أزيد.

فإذا أخذنا ما فيهما من المحرّمات و عزلناها عن موارد العلم الأوّل، لم يبق فيما سواها، علم بالتكليف بل غايته احتمال التكليف و هو مجرى البراءة.

و هذا نظير ما إذا علمنا بوجود خمس شياه مغصوبة في قطيع غنم، ثمّ علمنا بوجود خمس شياه مغصوبة في الغنم السود منها، و نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال أوّلاً على المعلوم بالتفصيل أو الإجمال في العلم الثاني على وجه لو عزلنا الغنم السود عن القطيع لم يبق علم إجمالي بالمحرم فيها بل يكون احتماله.

ثمّ إنّ هنا إشكالين تعرض لهما المحقّق الخراساني، و الأولى بالدراسة هو الإشكال الأوّل، و حاصله: انّ العلم الثاني بما انّه علم حادث، و إن كان يوجب الانحلال، لكنّه لا يزيل أثر العلم الإجمالي السابق، كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين، ثمّ علم تفصيلاً بنجاسة أحدهما معيّناً لأجل وقوع قطرة من الدم فيه، ففي مثله يلزم الاجتناب عن الآخر أيضاً، لأنّ العلم الإجمالي السابق و إن كان منحلا، لعدم التردد بعد العلم بنجاسة أحدهما بعينه، لكنّ أثر العلم الإجمالي و هو وجوب الاجتناب عن الآخر باق و وجوب الاجتناب عن الإناء الآخر من آثار العلم الإجمالي السابق، لا الموجود فعلاً حتى يقال قد انحلّ بالعلم التفصيلي، و لذلك لو أهرق أحدهما، كان لزوم الاجتناب عن الآخر باقياً بحاله.

ص:409

الجواب: انّ العلم الحادث على قسمين:

تارة يكون العلم و المعلوم حادثين و متأخرين عن العلم الإجمالي الأوّل كما في المثال، ففي مثله لا يكون العلم الثاني مؤثراً في رفع التنجز عن الإناء المشكوك و إن كان مؤثراً في انحلال العلم الإجمالي، و أُخرى يكون العلم متأخراً لكن المعلوم سابقاً على العلم الإجمالي الأوّل أو مقارناً معه: فمثل هذا العلم، يكون مانعاً عن انعقاد العلم الإجمالي الأوّل علماً منجّزاً و إن كان حامل العلم الأوّل قبل الوقوف على العلم الثاني يتصوره علماً منجزاً لوجوب الاجتناب.

مثلاً إذا علم إجمالاً بوقوع قطرة من الدم في أحد الإناءين عند طلوع الشمس، ثمّ وقف على أنّ أحد الإناءين معيّناً كان نجساً عند طلوع الفجر، فمثل هذا العلم التفصيلي و إن كان متأخراً عن العلم الأوّل لكن معلومه و مكشوفه متقدّم على الأوّل و يكون مانعاً عن انعقاد العلم الإجمالي منجزاً، مثل ما إذا كان التفصيلي متقدماً علماً و معلوماً كما إذا علم انّ أحد الإناءين معيّناً نجس في أوّل الليل، ثمّ حدث علم إجمالي بوقوع قطرة من الدم في أحدهما فالمؤثر في سلب التنجيز عن العلم الإجمالي إنّما هو سبق معلوم العلم الثاني عليه سواء كان العلم أيضاً سابقاً كالمثال الثاني أو لا كالمثال الأوّل.

وجهه: انّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كونه محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير و هذا الشرط غير موجود في الموردين لسبق وجوب الاجتناب عن الإناء المعيّن قبل طروء العلم الإجمالي، فلا يكون العلم الإجمالي عندئذ مؤثراً و يكون الإناء الثاني مشكوك الاجتناب.

و المقام من قبيل هذه الصورة لأنّ العلم بقيام أمارات و طرق، على الأحكام الشرعية و إن كان متأخراً لكن معلومه، و هو تنجز مواردها متقدم على العلم الإجمالي و مثله يمنع عن انعقاد العلم الإجمالي منجّزاً حيث إنّ التكليف كان في

ص:410

مواردها منجّزاً قبل حدوث العلم الإجمالي و إن كان غير عالم به، و في مثله لا ينعقد العلم الإجمالي منجزاً و مؤثراً، لأنّه وجب الاجتناب قبله عن أحد الطرفين معيناً، فيكون الطرف الآخر مشكوك الاجتناب.

هذا ما ذكره الأعلام.

أقول: الحقّ التفصيل بين العلم الوجداني بوجود تكاليف في البين بحيث لا يرضى المولى بتركه و بين العلم بتكاليف اكتفى الشارع في امتثالها بقيام الأمارة على ثبوتها و نفيها. فعلى الأوّل، لا محيص عن الاحتياط و لا يجوز الترخيص في محتمل الحرمة أبداً حتى و لو قام الدليل على عدمها، بل يلزم الاحتياط و ترك التعبد بالأمارة القائمة على عدمها.

و على الثاني: أعني العلم بتكاليف على وجه يقتصر المولى في كيفية الامتثال بقيام الأمارة على وجودها أو نفيها، ففي مثله يكون العلم الثاني بوجود محرمات في مورد الطرق و الأُصول، موجباً لانحلال العلم الإجمالي الأوّل، انحلالاً حقيقياً، لا انحلالاً حكمياً، كما يظهر من المحقّق الخراساني، و ذلك ببيانين:

1. انّ قوام العلم الإجمالي بالترديد، على وجه يكون كلّ من الطرفين محتملَ الحرمة أو محتمل وجوب الاجتناب، فإذا صار أحد الطرفين واجب الاجتناب بعينه، و زال التردد فكيف يكون العلم الإجمالي باقياً.

2. انّ مرجعَ العلم الإجمالي إلى قضية منفصلة يتقوم بلفظة» إمّا «أو لفظة» أو «كما يقول العدد إمّا زوج أو فرد، فلا يكون الحكم في واحد من الطرفين قطعياً، و ما دام الحكم كذلك يكون العلم الإجمالي باقياً بحاله، و أمّا إذا انقلب بفضل العلم الثاني، إلى قضية بتيّة و إلى قضية مشكوكة يكون العلم الإجمالي منقلباً إلى علم تفصيلي و شك بدوي و ذلك فيما إذا لم يعلم بانطباق المعلوم بالتفصيل على المعلوم بالإجمال و إلاّ تنحل إلى قضيتين بتيّتين فيقال: هذا طاهر، و هذا نجس.

ص:411

و في المقام علمان إجماليان، أحدهما واسع الأطراف يعم مورد قيام الأمارات و الطرق و غيره، و ثانيهما ضيقها لا يعم إلاّ مواردهما. و بعبارة أُخرى: في المقام علم إجمالي بالمحرمات واسع الأطراف و هو العلم الإجمالي الأوّل و علم إجمالي بها مع ضيق أطرافها فمع قطع النظر عن العلم الثاني، كان التردّد و الانفصال قائمين، و أمّا مع لحاظه و إخراج مورده عن تحت العلم الإجمالي الأوّل، ينقلب التردّد إلى قضية بتّية و هو الحكم بحرمة ما قام الدليل على حرمته، و قضية مشكوكة و هي الموارد التي لم يقم الدليل على حرمتها، و هذا هو المراد من انحلال العلم الإجمالي.

أقسام الانحلال

إذا عرفت ما ذكرنا اعلم أنّ الانحلال على أقسام:

1. أن يعلم بالانطباق و هو انّ ما علم إجمالاً، هو نفس ما علمه تفصيلاً.

2. أن يظن بالانطباق، كما في موارد الطرق و الأمارات.

3. أن يحتمل الانطباق، كما إذا علم بنجاسة أحد الاناءين ثمّ قامت البيّنة على نجاسة أحد الإناءين معيناً على وجه نحتمل أن يكون ذاك النجس هو نفس ما علم إجمالاً بنجاسته كما يحتمل أن يكون غيره.

ففي جميع الموارد، الانحلال حقيقي، و ذلك لما عرفت من أنّ قوام العلم الإجمالي بالترديد،) على ما قرر في الوجه الأوّل (أو تكون القضية بصورة المنفصلة، و على كلّ تقدير فإذا حصل العلم بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفين على الوجه البتّ، يرتفع الترديد، و تنقلب القضية المنفصلة إلى حملية، قطعية و مشكوكة.

نعم الانحلال مشروط بعدم تأخر العلم الثاني عن الأوّل، معلوماً، سواء

ص:412

أ كان معلومه متقدماً على معلوم العلم الإجمالي، أم مقارناً مع معلومه، نعم لا يشترط تقدّم العلم.

و بذلك يظهر عدم تمامية ما ذكره المحقّق الخراساني من كون الانحلال حكمياً لا حقيقياً و قد ذكره في جواب الإشكال الذي أورده على نفسه، و إليك الإشكال و الجواب.

أمّا الأوّل: انّ الانحلال يتم على القول بالسببية و أنّ قيام الأمارة موجب لثبوت التكليف و هو تصويب، و أمّا على القول بالطريقية و أنّ مفاد أدلّة حجّية الخبر الواحد، هو التنجّز إذا أصاب و العذر عند ما أخطأ فلا انحلال لما علم إجمالاً.

و أمّا الثاني فلانّه يكفي في الانحلال نهوضُ الحجّة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف و انّه يكون عقلاً بحكم الانحلال. و لو لا ذلك، لما يجدي القول باعتبار الأمارات من باب السببية ضرورة انّ كون المؤديات أحكاماً شرعية فعلية، إنّما تكون كذلك بسبب حادث و هو كونها مؤديات الأمارات الشرعية.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه و إن كان متيناً، لكن وصفه الانحلالَ بالحكمي ليس بتام، لما عرفت من بقاء العلم الإجمالي فرع أحد الأمرين إمّا الترديد أو بقاء القضية بصورة المنفصلة، و المفروض ارتفاعهما، مطلقاً سواء كان المعلوم بالتفصيل، معلومَ الانطباق على المعلوم إجمالاً أو مظنونه أو محتمله، كما لا يخفى.

نعم لو كان الميزان في الانحلال هو العلم بالواقع و انّ الحرام في ذاك الطرف دون الآخر كان للقول بالانحلال الحكمي مجال، و ذلك لعدم العلم بأنّ الواقع

ص:413


1- كفاية الأُصول: 2/188.

في أيّ طرف من الأطراف، و أمّا إذا كان الميزان هو تنجز الحكم في أحد الطرفين، فالانحلال حقيقي لتنجز الحكم في أحد الطرفين، دون الآخر فيكون الانحلال حقيقياً.

الثاني: استقلال العقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية

و اعلم أنّ في كتب الأُصوليين القدماء مسألة باسم:» هل الأصل في الأشياء هو الحظر أو الإباحة؟ « و الفرق بينها و بين مسألتنا من وجوه:

1. انّ الحظر و الإباحة في المسألة الأُولى ينسبان إلى ما قبل مجيء الشرع بخلاف المقام، فانّ البراءة و الاحتياط يلاحظان بالنسبة إلى حكم الشارع بعد مجيئه.

2. انّ الحكم بأحدهما هناك واقعي مترتّب على الشيء بما هو هو، بخلاف المقام، فانّ الحكم بأحدهما ظاهري لأخذ الشكّ في موضوعه.

3. انّ التحريم أو الترخيص هناك مالكيان معتمدان على مالكيته سبحانه، بخلاف البراءة أو الاحتياط في المقام فانّهما شرعيان معتمدان على تشريع الشارع أحدهما، و كم فرق بين الإباحة المالكية كإذن الإنسان لشخص التصرف في ماله، و الإباحة الشرعية كإذن الشارع الشرب و التوضّؤ من الأنهار التي لها مالك معيّن.

إذا عرفت ذلك، فإليك محصل استدلال الأخباري بهذا الوجه: انّ الأصل في الأشياء قبل الشرع هو الحظر أو التوقف، و ما دلّ على أنّ الأصل فيها بعد مجيء الشرع هو الإباحة معارض بما دلّ على أنّ الأصل الاحتياط أو التوقف، فإذا تعارضا يرجع إلى الأصل المذكور.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة:

1. كون الأصل في الأشياء قبل الشرع هو الحظر أو التوقف أحد الأقوال

ص:414

و يقابله القول بالإباحة، و هو المشهور بين القدماء، فلا يستدل بما هو محلّ الخلاف على المقام.

2. سلمنا ذلك، لكن الدليل بعد مجيء الشرع دلّ على الإباحة، و ما ذكره من وجود التعارض بين الأدلّة بعد الشرع قد عرفت خلافه و عدم تمامية أدلّة القائلين بالاحتياط.

3. لا ملازمة بين القول بالتوقف في تلك المسألة، و الاحتياط في مسألتنا، و ذلك لأنّ كون الحظر هو المحكّم قبل مجيء الشرع، لا يكون دليلاً على أنّه المحكم بعد مجيء الرسل و إنزال الكتب، فإذا لم نجد دليلاً على الحرمة يكون المحكّم هو العقل الحاكم بقبح العقاب بلا بيان، لا القاعدة المختصة بما قبل الشرع، و هذا هو الوجه لعدم الملازمة. و لكن ذكر المشكيني وجهاً آخر له و هو اختلاف المسألتين في الموضوع، فانّ الموضوع في الأوّل هو فعل المكلِّف و الأفعال الصادرة عن المكلّفين بخلافه في الثانية، فانّه عبارة عن فعل المكلّف، و انّه هل يجوز العقاب على الحكم المجهول أو لا.(1)

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ دليل الأخباري مركّب من صغرى و هو كون العالم ملكاً للّه سبحانه، و كبرى و هو انّ التصرف في ملك الغير بلا إذنه قبيح.

أمّا الصغرى فالحقّ فيها التفصيل، فإن أُريد منها، المالكية التكوينية النابعة من خالقيته سبحانه فهو موضع اتّفاق قال سبحانه: (وَ لِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ). (2)و قوله:» يخلق «كأنّه بمنزلة التعليل لقوله (مُلْكُ السَّماواتِ ).

و إن أُريد المالكية الاعتبارية العقلائية فغير صحيح، لأنّه إنّما يتم في حقّ

ص:415


1- هذا ما نقله المشكيني عن أُستاذه في درسه الشريف.
2- المائدة: 17.

من يعيش في ظل التقنين لا في حقّ من يكون فوقه، و بالجملة المالكية الاعتبارية، إنّما تقوم باعتبارها العقلاء، لغايات عقلائية و أمّا الموجود، الخارج عن محيطهم فلا معنى، لاعتبارها في حقّه.

و بعبارة أُخرى: من كان مالكاً تكويناً بالذات، فهو في غنى عن اعتبار المالكية له اعتباراً و الاستدلال عليها بقوله سبحانه: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى )(1)، غير تام، لأنّ إضافة الخمس إليه سبحانه من باب المشاكلة في التعبير، مثل قولهم: (وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي آتاكُمْ ).(2)

و أمّا الكبرى: أعني قبح التصرف في ملك الغير بلا إذن، فهي مردودة بوجهين:

الأوّل: فبالمنع من استقلال العقل بالقبح في المقام بالفرق بين المالكين، فانّ المالك في أحدهما غنيّ بالذات لا تزيده كثرة العطاء إلاّ جوداً و كرماً، و الآخر فقير بالذات حريص على ما في يده، و التصرف في الأوّل لا يُزاحم سلطانه بخلاف التصرف في الثاني فانّه يزاحم سلطانه، فكيف يقاس هذا بهذا.

الثاني: صدور الإذن من المالك بالنسبة إلى العبد، حيث دَلَّت الآيات على أنّ الغاية من وضع الأرض، و ما فيها، انتفاع الإنسان منها، قال سبحانه: (وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ) (3)و (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْض جَميعاً).(4)

ص:416


1- الأنفال: 41.
2- النور: 33.
3- الرحمن: 10.
4- البقرة: 29.
الثالث: في ارتكاب الشبهة احتمال المضرّة

هذا هو الدليل الثالث للأخباريين و حاصله: انّ دفع الضرر المحتمل واجب.

و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:

1. التفريق بين محتمل المفسدة، و قطعيّها، فالواجب دفعها هو الثاني دون الأوّل.

2. انّ الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد النوعية، دون النفع و الضرر الشخصيين، و لو استقل العقل بدفع الضرر المحتمل، لا يستقل بدفع المفسدة المحتملة، لأنّ الأوّل على فرض وجوده شخصي و الثاني نوعي.

و قد استوفينا البحث في هذا الدليل عند البحث في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فليرجع إليه.

بقيت هنا تنبيهات جاءت في كلام الأعلام و نحن نقتفيهم:

التنبيه الأوّل: في حكومة الأصل الموضوعي على الحلية
اشارة

إنّ أصالة البراءة أو الحلية و غيرهما من الأُصول الحكمية إنّما تجريان إذا لم يكن في المورد أصل موضوعي ينقح حال الموضوع و تكون نسبتهما إليه نسبة الأصل المسببي إلى السببي، و إلاّ يكون الأصل الموضوعي مقدماً على الحكمي تقدَّم الأصل السببي على المسببي، و على ذلك فتقدّم الأصل الموضوعي على أصالتي البراءة و الحلية، من فروع قاعدة كلية و هي تقدّم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي مطلقاً، سواء كان الأصل الحكمي هو البراءة أو الحلية أو غيره.

مثلاً إذا غاب الزوج و ترك زوجته و شككنا في حياته، فهنا أصلان و إن كانا متوافقي المضمون:

أحدهما: استصحاب حياته و هو أصل موضوعي جار في

ص:417

ناحية الموضوع) حياة الزوج (. ثانيهما: استصحاب وجوب الإنفاق من ماله و هو أصل كلي جار في ناحية الحكم، فالأوّل مقدّم على الثاني لكون الشكّ في الثاني نابع من الشكّ في الأوّل و مع جريانه في الأوّل و إلزام الشارع بالتعبد به، لا يبقى مجال لجريانه في جانب الآخر.

ثمّ إنّ المثال الدارج في مورد تقدّم الأصل الموضوعي على أصالتي البراءة و الحلية هو تقدّم أصالة عدم التذكية على أصالتي الطهارة و الحلية و قد قسم المحقّق الخراساني الشبهة في المقام إلى حكمية و موضوعية، و ذكر لكلّ صوراً ثلاث مع أنّ صور الكلّ أربع، و إليك بيان الصور الأربع إذا كانت الشبهة حكمية.

صور الشبهة الحكمية الأربع

1. إذا شكّ في الطهارة و الحلية، لأجل الشكّ في كون الحيوان واجداً للخصوصية و القابلية التي تكون مؤثرة في الطهارة و الحلية كالحيوان المتولد، من حيوانين أحدهما يقبل التذكية و الآخر يقبلها، و في الوقت نفسه لا يشبههما.

2. إذا شكّ في الحلية دون الطهارة للعلم بكونه واجداً للخصوصية المؤثرة في الطهارة و الشكّ في كونه واجداً للخصوصية المؤثرة في الحلية كما في مورد الثعلب.

3. إذا شكّ فيهما، لأجل الشكّ في اعتبار كون آلة الذبح حديداً وراء ما يعتبر من فري الأوداج الأربعة و التسمية و الاستقبال و كون الذابح مسلماً.

4. إذا شكّ فيهما لاحتمال مانعية شيء في المورد، كما إذا كان الحيوان جلاّلاً أو موطوءاً و شككنا في مانعيتهما.

الصورة الأُولى: إذا شكّ في وجود خصوصية مؤثرة في الطهارة و الحلية.

إذا ذبح الحيوان، مع جميع الخصوصيات المعتبرة في التذكية، لكن شكّ في

ص:418

وجود الخصوصية في الحيوان المؤثرة في الطهارة و الحلية، فذهب المحقّق الخراساني إلى جريان أصالة عدم التذكية حيث إنّه عند ما كان حيّاً كان غير مذكى فبعد الذبح يشكّ في ارتفاعه فالأصل بقاءه على ما كان عليه.

و قد أشكل على هذا القول بوجهين:

الإشكال الأوّل: انّ الغرض من استصحاب عدم التذكية هو إثبات انّ المذبوح ميتة، و من المعلوم انّ إثبات عنوان الميتة بأصالة عدم التذكية من قبيل نفي أحد الضدين و إثبات الضدّ الآخر و هو من الأُصول المثبتة كإثبات كون الجسم متحركاً بنفي كونه ساكناً.

و إن شئت قلت: الميتة أمر وجودي و هو ما مات حتف أنفه، و إثبات ذلك الأمر الوجودي بأصالة عدم التذكية لا يجوز إلاّ على القول بحجّية الأصل المثبت.

و قد أُجيب عن الإشكالين بوجهين:

1. ما أجاب به الشيخ بأنّ الميتة عبارة عن غير المذكى إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه بل كلّ زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية فهو ميتة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الميتة أمر وجودي بمعنى ما مات حتف أنفه، و لا يعم المذبوح الفاقد للشرائط الشرعية بدليل انّها جعلت في الكتاب في مقابل ما أهلّ لغير اللّه به قال سبحانه: (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (2)و قال أيضاً: (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما

ص:419


1- الفرائد: 223، طبعة رحمة اللّه.
2- الأنعام: 145.

أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (1)و الإهلال رفع الصوت بالشيء و المراد ذكر اسم الأصنام.

و يشهد لما ذكر ما ذكره الأعشى في قصيدته التي أنشأها و جاء بها مكة المكرمة لكن حالت قريش بينه و بين إسلامه، و قال.

و إياك و الميتات لا تقربنّها و لا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا(2)

و لم تكن الميتة في العهد الجاهلي سوى ما مات حتف أنفه، و لم يكن من الميتة الشرعية عندهم أثر.

2. ما أجاب المحقّق الخراساني و يوجد في بعض كلمات الشيخ و حاصله:

إنّ النجاسة و الحرمة كما تعلّقتا بالميتة فهكذا تعلّقنا، بغير المذكى، و لا يحتاج في ترتّب النجاسة و الحرمة على الحيوان بإثبات كونه ميتة بالمعنى اللغوي بل يكفي كونه غير مذكى في ترتيب الأثرين، و ذلك بشهادة قوله سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) إلى أن قال: (وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ).(3)

فإذا كانت التذكية موضوعاً للحلية، يكون رفعها موضوعاً لرفعها و هو الحرمة و قوله تعالى: (وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (4)و قوله سبحانه: (لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ )(5)، و قوله تعالى:

(فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ )(6)، و قوله من موثقة ابن بكير: لا إذا كان ذكياً و ذكاه الذابح إلى غير ذلك من الأخبار.

ص:420


1- النحل: 115.
2- السيرة النبوية لابن هشام: 1/387.
3- المائدة: 3.
4- النحل: 115.
5- الأنعام: 121.
6- الأنعام: 118.

و لا منافاة في ترتيب النجاسة و الحرمة على موضوعين، أحدهما: خاص، أي الميتة; و الآخر: عام ) غير المذكى (و إن كان العام يغني عن الآخر، و ذلك لأنّ الاحناف قبل الإسلام كانوا يجتنبون الميتة، كما ورد في شعر الأعشى، و لمّا كان الموضوع أعم أُضيف إلى الميتة عنوان آخر و هو غير المذكّى بطريق شرعي.

و على ضوء ما ذكرنا يكفي استصحاب عنوان غير المذكّى في ترتّب الحرمة فقط، لأنّها المترتبةُ على غير المذكّى في الآيات و الرواية دون النجاسة و لذا قلنا في محله بأنّ المذبوح على غير الوجه الشرعي، حرام لكونه غير مذكّى و ليس بنجس.

الإشكال الثاني: اختلاف القضية المتيقنة مع المشكوكة

و يمكن تقريره بوجوه مختلفة:

أ: انّ موضوع القضية الأُولى هو الحي، و موضوع القضية الثانية الميت، و لا يصحّ أن تعد الحياة و الموت من حالات الموضوع، و لا وحدة بين الحيوان و الجماد.

ب: انّ الاستصحاب في المقام من قبيل استصحاب القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، كاستصحاب الإنسانية فيما إذا كان في الدار زيد، ثمّ علمنا بخروجه و احتملنا قيام فرد آخر مكانه عند الخروج و مثله المقام فإنّ عدم التذكية كان قائماً بالحي، و قد ارتفع و احتملنا حلول فرد آخر مكانه عند زهوق الروح لأجل احتمال اختلال بعض الشروط) القابلية (فيستصحب الكلي.

و حجّية مثل هذا النوع من الاستصحاب محلّ تأمل، لأنّ الكلي المتحقّق في ضمن الفرد الأوّل غير الكلي المتحقّق في ضمن الفرد الثاني.

ج: انّ القضية المتيقنة من قبيل القضية الموجبة، لكن سالبة المحمول و هي عبارة عن جعل القضية السالبة المحصلة، نعتاً للموضوع، كما إذا قيل زيد هو ليس بقائم و في المقام:» الحيوان، الذي لم تزهق روحه بالكيفيّة المخصوصة «كان محكوماً بعدم التذكية، لكن القضية المشكوكة، عبارة عن القضية المعدولة، أعني:

ص:421

الحيوان الذي، زهق روحه بغير الشرائط المطلوبة، و استصحاب القضية الأُولى و إثبات القضية الثانية من الأُصول المثبتة.

و إن شئت قلت: إنّ ما له حالة سابقة عبارة عن الحيوان الذي لم تزهق روحه بالكيفيّة و هو قطعي الارتفاع للعلم بزهوق روحه، و ما هو مشكوك الارتفاع، أعني: الحيوان الذي زهقت روحه، بغير الكيفية الشرعية، فاقد للحالة السابقة، لأنّ الشكّ في حدوثه و تحقّقه.

هذه صور مختلفة لإشكال واحد و هو عدم وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة.

استصحاب عدم القابلية

ثمّ إنّ المعروف في المقام استصحاب عدم التذكية لكن نقل سيدنا الأُستاذ عن شيخه العلاّمة الحائري قدّس سرّهما انّه كان يتمسك في المقام بأصالة عدم القابلية الحاكم على أصالة عدم التذكية حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي، لأنّ الشكّ في التذكية و عدمها، نابع عن الشكّ في قابلية الحيوان للتذكية.

و حاصل ما أفاده: انّ العوارض على قسمين، عارض الماهية سواء كان لازماً كالزوجية للأربعة، أو مفارقاً كالوجود بالنسبة إلى الماهية، و عارض للوجود، سواء كان لازماً كالنور بالنسبة إلى الوجود، و مفارقا كالبياض و السواد بالنسبة إلى الجسم.

ثمّ إنّ القابلية من عوارض وجود الحيوان، و لكن تعرض للماهية بواسطة الوجود، و يقال ماهية الغنم الموجود قابلة للتذكية، و ماهية الكلب الموجود غير قابلة، و إذا شككنا في قابلية حيوان للتذكية أشرنا إلى ماهيته، و نقول انّها قبل أن

ص:422

توجد لم تكن قابلة للتذكية و لو لأجل عدم الوجود، و لكن انتقض العدم في جانب الوجود و علمنا انّه صار موجوداً و لكن نشكُّ في انتقاض عدم القابلية إلى القابلية و الأصل بقاؤه بحاله.

يلاحظ عليه: أوّلاً: قد ثبت في الفن الأعلى بأنّ ما لا وجود له لا ماهية له، و الماهية حدّ الوجود تنتزع من الشيء بعد تحقّقه، و على ضوء هذا، كيف يصحّ لنا الإشارة إلى ماهية الشيء المعدوم؟ و ثانياً: أنّ الأثر مترتب على التذكية و عدمها، القابلية و عدمها، غاية الأمر انّ القابلية جزء من أجزاء التذكية، فحينئذ استصحاب نفي الجزء، يلازم عقلاً، نفي الكل، و لا يلازمه شرعاً و يكون أشبه بالأصل المثبت.

و ثالثاً: أنّ الإشكال الثاني باق بحاله بصوره الثلاث، لأنّ القضية المتيقنة، قضية أشبه بالسالبة المحصلة فماهية هذا الحيوان لم تكن قابلة للتذكية لعدم وجودها و الغرض إثبات استمرار العدم، حتى بعد وجودها و استصحاب النفي التام لغاية إثبات النفي الناقص من الأُصول المثبتة.

تفصيل للمحقق النائيني

(1)

ثمّ إنّ المحقّق النائيني فصّل في جريان أصالة عدم التذكية بين النظريتين:

الأُولى: أن تكون التذكية أمراً وجودياً بسيطاً مسبَّباً عن الذبح بشرائطه نظير الطهارة المسببة عن الوضوء أو الغسل، و الملكية الحاصلة من العقد و الإيجاب.

فعلى هذه النظرية تجري أصالة عدم التذكية عند الشكّ، لأنّه أمر بسيط مسبوق بالعدم و الأصل بقاؤه على ما هو عليه.

ص:423


1- فوائد الأُصول: 2/281.

الثانية: أن تكون التذكية أمراً مركباً من أُمور ستة، سادسها قابلية الحيوان للطهارة و الحلية، فعلى ذلك لا تجري أصالة عدم التذكية، لأنّ الشكّ لو كان من ناحية الأُمور الخمسة فقد تحققت قطعاً، و إن كان من جهة القابلية فليست لها حالة سابقة وجوداً و عدماً، إلاّ باعتبار استصحاب العدم الأزلي.

يلاحظ على ذلك التفصيل: أنّ الظاهر جريان الأصل مطلقاً سواء كانت التذكية أمراً بسيطاً أو أمراً مركباً من أُمور ستة، أو كانت هي الفري مشروطاً بالأُمور الباقية، و ذلك لأنّ الموضوع للطهارة و الحلية ليس هو الأُمور الكثيرة بكثرتها و تفرقها، بل الموضوع هو الأمر الموحّد من اجتماع الأُمور الستة، أو الفري المشروط بالأُمور الخمسة و الأمر الواحد بما هو واحد كان مسبوقاً بالعدم فيستصحب عدمه، و ما ذكره من التفصيل مبني على عدم اعتبار الوحدة في جانب الموضوع و لو بصورة الوحدة الحرفية التي ليس لها شأن إلاّ جمع المتفرقات و جعلها في إطار واحد، مع أنّها أمر لا مناص عنها، لأنّ الحكم الواحد يطلب لنفسه الموضوع الواحد لا المتفرق الذي لا ارتباط بين أجزائها.

و بذلك ظهر جريان أصالة عدم التذكية على جميع التقادير مع غض النظر من الإشكال المتقدم.

هذا كلّه حول الصورة الأُولى، و إليك الكلام في الصورة الثانية.

الصورة الثانية إذا شكّ في وجود القابلية للحلية، بعد إحراز وجودها للطهارة

فقد منع المحقّق الخراساني عن جريان أصالة عدم التذكية بخلاف الصورة الأُولى و قال بجريان أصالة الحلّ للشكّ في هذا الحيوان المذكّى حلال أو حرام و لا أصل فيه، إلاّ أصالة الإباحة.

ص:424

أمّا جريان الأصل: فلعدم اعتبار الخصوصية الموجبة للحل مأخوذة في التذكية فلا تجري أصالة التذكية للعلم بوجودها، و أمّا الثاني فلأنّه مشكوك الحلية و الحرمة.

يلاحظ على الأمر الأوّل: عدم وضوح الفرق بين الصورتين، فلأنّ الظاهر من تقسيم الشارع الحيوان إلى طاهر و نجس، و حلال و حرام، انّ للتذكية مراتب، فمرتبة منها مؤثرة في الطهارة و مرتبة أُخرى مؤثرة في الحلية، فمع الشكّ في تحقّق القابلية للحلية، تجري أصالة عدم التذكية بالمعنى الثاني.

نعم يرد على جريانه في هذه الصورة ما أوردنا على الصورة الأُولى.

و يلاحظ على الأمر الثاني: أنّ أصالة الحلّ إنّما تجري فيما إذا كان الموضوع محكوماً حسب طبيعته بالحلية و شكّ في حرمته لعروض طوارئ خارجية، و مثله الطهارة، و أمّا إذا كان الموضوع حسب طبيعته محكوماً بالحرمة و كانت الحلية أمراً عارضاً عليه فلا تجري في مثله و لذلك ذهب الشيخ الأعظم و غيره إلى عدم جريان أصالة الإباحة في الدماء و الأعراض و الأموال و إن كانت الشبهة بدوية و ذلك لأنّ الأصل فيها، هو الحرمة و إنّما تعرض الحلية لها بأسباب خاصة فلا يجوز قتل إنسان باحتمال انّه مرتدّ، أو النظر إلى المرأة باحتمال انّها من المحارم، أو التصرف في مال لاحتمال انّه ماله.

و الفقيه إذا تتبع في الفقه وقف على تلك الضابطة و لذلك ذهب المشهور إلى عدم جريان أصالة الصحة في تصرّف غير الولي في مال اليتيم، أو بيع الوقف لاحتمال عروض مسوّغ له و ما ذلك إلاّ لأنّ الأصل في هذه الأُمور، هو الحرمة.

و من هنا يعلم عدم جريان أصالة الحلية في كلتا الصورتين، مع جريان أصالة الطهارة فيهما، لأنّ الأصل في اللحوم هو الحرمة و إنّما يحكم عليها بالحلية لدليل خاص.

ص:425

فتلخص من مجموع ما ذكرناه: أنّه لا تجري أصالة التذكية في كلتا الصورتين لاختلاف القضيتين المتيقنة و المشكوكة، و عندئذ تصل النوبة إلى الأُصول الحكمية فلا تجري أصالة الحلية، لأنّ الأصل في اللحوم الحرمة، و تجري أصالة الطهارة لأنّ الأصل في الأشياء الطهارة الذاتية فتتبعها الطهارة الشرعية.

الصورة الثالثة و الرابعة

إذا شكّ في شرطية شيء في التذكية ككون آلة الذبح حديداً، أو شكّ في مانعية لها كالجلل مع ورود الذبح على الحيوان بعامة ما ثبت اعتباره، فيقع الكلام في مقامين:

1. ما هو مقتضى الدليل الاجتهادي؟ 2. ما هو مقتضى الأُصول العملية إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي؟ أمّا الأوّل: فالظاهر صحّة التمسّك بالإطلاق في نفي الشرطية و المانعية، لأنّ الحلية تعلّقت بالمذكّى في الآية و الرواية، قال سبحانه: (وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (1)و قوله:» إلاّ ما يكون ذكياً ذكّاه الذابح «(2)، و ليست التذكية في اللغة إلاّ الفري مع قابلية في الحيوان، و المفروض صدق الأمرين و تحقّقهما، فإذا شكّ في شرطية زائد أو مانعيته فالأصل عدمهما.

نعم من قال بأنّ التذكية أمر بسيط حاصل من الأُمور الستة، يكون الشكّ من قبيل الشكّ في المحصِّل، نظير ما إذا قلنا بأنّ الطهور عبارة عن الطهارة النفسانية، و تكون الغسلات و المسحات مع سائر الشرائط من قبيل المحصِّلات، فيكون المرجع هو الاشتغال في كلّ ما شكّ في شرطيته أو مانعيته.

ص:426


1- المائدة: 3.
2- الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب لباس المصلي، الحديث 1.

لكن لا دليل على أنّه كذلك، و قد مرّ انّ التذكية عبارة عن الفري مع أجزاء و شروط خاصة، و قد ثبت شرطية ما ثبت، و يكون المرجع في غيره، هو البراءة.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي ذهب إلى عدم صحّة الرجوع إلى إطلاق دليل التذكية لنفي المشكوك قائلاً بأنّها ليست أمراً عرفياً كي ينزل الدليل عليه و يُدفع احتمال التقييد بالإطلاق، كما كان الأمر كذلك في مثل قوله تعالى: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ )(1).(2)

يلاحظ عليه: بعدم وضوح الفرق بين الأمرين بعد شيوعهما في العرف، فكما أنّ تقييد البيع بشروط لا يخرجه من كونه أمراً عرفياً فهكذا تقييد التذكية ببعض الأُمور كذلك، و لعلّ منشأ الخلط بين التذكية بالذال المعجمة، و التزكية بالزاء أُخت الراء، فالأُولى بمعنى الفري و الذبح، و الثانية بمعنى الطهارة و التنزيه، قال سبحانه: (وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها )(3). فهي بالمعنى الثاني ليس أمراً عرفياً، بخلاف التذكية في المقام فهو أمر عرفي غاية الأمر أضاف الشارع إليها شروطاً كنفس البيع.

أمّا الثاني: أي مقتضى الأصل، فالأصل البراءة لكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل و الأكثر فيرفع شرطية الأمر المشكوك أو مانعيته بالأصل.

فإن قلت: لما ذا لا يجري الأصل في ناحية التذكية، فيتمسك بأصالة عدم التذكية؟ قلت: لا شكّ في تحقّق التذكية إنّما الكلام في اشتراطها بوجود شيء أو عدمه الذي هو عبارة أُخرى عن مانعية الشيء الموجود.

ص:427


1- البقرة: 275.
2- مصباح الأُصول: 2/313.
3- الشمس: 7 9.

و إن شئت قلت: إنّ الشكّ في تحقّق التذكية الشرعية و عدمها نابع عن شرطية شيء أو مانعيته، فإذا جرى الأصل في جانب الأصل السببي، ارتفع الشكّ عن جانب الأصل المسببي كما لا يخفى.

صور الشبهة الموضوعية

قد وقفت على أقسام الصور الأربع من الشبهة الحكمية، و إليك الكلام في الشبهة الموضوعية، و صورها أيضاً كالحكمية أربع.

الصورة الأُولى: في اللحم المردّد بين الغنم و الكلب

إذا دار أمر اللحم بين كونه لحمَ غنم أو كلب، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى جريان أصالة عدم التذكية حسب ما قرّره في الصورة الأُولى من الشبهة الحكمية فيكون محكوماً بالنجاسة و الحرمة.

و قد عرفت الإشكال في جريان الأصل و انّ الحقّ عدم جريانها، و عندئذ تصل النوبة إلى الأصل الحكمي، و هو أصالة الطهارة دون الحلية لما عرفت في المقام الأوّل، و سنشير إليه في القسم الثاني.

فإن قلت: لما ذا لا نتمسك بعموم العام، و هو انّ كلّ حيوان قابل للتذكية بمعنى الطهارة إلاّ الكلب و الخنزير؟ قلت: وجه عدم التمسك واضح، لأنّه من قبيل التمسك بعموم العام مع كون الشبهة مصداقاً للمخصص لدوران اللحم المذكور بين كونه داخلاً تحت العام أو داخلاً تحت المخصص. فلا مناص من التمسك بأصالة الطهارة و يكون الحكم بطهارته حكماً ظاهرياً.

ص:428

الصورة الثانية: في اللحم المردّد بين الغنم و الأرنب

إذا دار أمر اللحم بين كونه لحم غنم أو لحم أرنب مع العلم بفري أوداجه بشرائطه الخاصة، فقد عرفت عدم جريان أصالة عدم التذكية، فينتهي الأمر إلى الأُصول الحكمية.

أمّا طهارته فلا شكّ فيها لفرض انّ الحيوان على كلّ تقدير واجد للقابلية التي تؤثر في الطهارة إنّما الكلام في حلّيته، و بما انّ الأصل الأوّلي في اللحوم هو الحرمة، فلا تجري أصالة الحلية، و قد عرفت تفصيلها في الصورة الثانية من الشبهة الحكمية.

و أمّا التمسّك بأصالة الصحّة في فعل المسلم فهو يثبت الطهارة لا الحلية، إذ لا منافاة بين صحّة فعل المسلم و حرمة لحمه، لأنّ للتذكية مراتب مختلفة، و لها آثار فيكفي في صيانة فعل المسلم من اللغوية ترتّب الأثر عليه و هو صحّة التذكية المؤثرة في الطهارة.

الصورة الثالثة: فيما إذا شكّ في وجود الشرط

إذا علمنا بورود التذكية على الحيوان القابل للطهارة و الحلية لكن شكّ في تحقّق الشرط و عدمه فالحقّ فيه التفصيل.

فلو شكّ في كون الذابح مسلماً فلا تجري أصالة الصحّة في فعله.

و أمّا إذا كان الذابح مسلماً و شككنا في رعايته سائر الشرائط، فالأصل الصحّة و يترتب عليه الطهارة و الحلية.

ص:429

الصورة الرابعة: فيما إذا شكّ في وجود المانع

إذا علمنا بورود التذكية على حيوان قابل للطهارة و الحلية و لكن شككنا في اقتران الحيوان بالمانع كعروض الجلل و غيره، فالأصل العدم فيقال: إنّ هذا الحيوان لم يكن جلاّلاً، فالأصل بقاؤه على ما هو عليه.

فقد خرجنا بهذه النتيجة: إنّ اللحم المطروح طاهر في الصورة الأُولى و الثانية فحسب، و طاهر و حلال في الصورتين الأخيرتين على غرار ما ذكرناه في المقام الأوّل.

***

التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط حين التردد بين الوجوب و غير الاستحباب
اشارة

اتّفقت كلّمتهم على الأُمور التالية:

1. يحسن الاحتياط في الأُمور التوصلية، كدفن الميت المردّد بين كونه مسلماً أو كافراً.

2. يترتب الثواب على الاحتياط مهما تحقّق، و لعلّه لاستقلال العقل على ترتّب الثواب على الانقياد و إن لم يستقل بالعقاب في التجري المجرّد عن الهتك، و ذلك لأنّ الإنسان المحتاط بصدد تعظيم المولى و تكريمه، و خضوعه له حتى فيما لم يعلم انّه واجب أو حرام فيستحق الثواب أكثر ممن لا يُحركه إلاّ العلم بالوجوب، بخلاف الثاني فانّه مجرد عن أيّ هتك و إطاحة بالمولى غاية الأمر شرب الماء بتصور انّه خمر، مع عدم كونه بصدد هتكه. و إلاّ خرج عن باب التجري.

ص:430

3. إمكان الاحتياط في العمل العبادي المردد بين الوجوب و الاستحباب لإحراز الأمر و إن كانت الخصوصية مجهولة.

4. اختلفت أنظارهم في إمكان الاحتياط في العمل العبادي عند دوران الأمر بين الوجوب و غير الاستحباب باعتبار أنَّ مقوم العبادة هو قصد القربة، بامتثال أمر المولى و المفروض عدم إحرازه فلا يمكن الاحتياط، قال الشيخ: و في جريان الاحتياط عند دوران الأمر بين الوجوب و غير الاستحباب وجهان، أقواهما العدم، لأنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة التقرب المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلاً و إجمالاً.(1) فالكلام في هذا التنبيه في تصحيح الاحتياط في هذا النوع من العمل و قد ذكروا في وجه تصحيحه وجوهاً ندرسها واحداً تلو الآخر:

1. كشف الأمر عن حسن الاحتياط

يكفي في تصحيح العمل، حسن الاحتياط عقلاً و هو يكشف عن تعلّق الأمر به شرعاً، فيقصد المكلّف ذاك الأمر المستكشف.

أورد عليه بأمرين:

1. ما أورده الشيخ و تبعه المحقّق الخراساني بأنّ الأمر الشرعي بهذا النحو من الانقياد كأمره بالانقياد الحقيقي و الإطاعة الواقعية في معلوم التكليف إرشاديّ محض لا يترتب على موافقته و مخالفته أزيد ممّا يترتب على نفس المأمور به أو عدمه، كما هو شأن الأوامر الإرشادية فلا طاعة لهذا الأمر الإرشادي و لا ينفع في جعل الشيء عبادة، إذ لا إطاعة له حتى يقصد إطاعته.

2. ما ذكره المحقّق الخراساني من استلزام هذا التصحيح الدور، و ذلك لأنّ حسن الاحتياط متوقف على نفس الاحتياط توقفَ العارض على معروضه

ص:431


1- الفرائد: 228.

و إمكان الاحتياط في المورد موقوف على وجود الأمر، المتوقف على الحسن، لأنّ المفروض استكشاف الأمر بالحسن، و إلى ذلك يشير بقوله: بداهة توقف الحسن على الاحتياط توقفَ العارض على معروضه، فكيف يعقل أن يكون الحسن من مبادئ ثبوت الاحتياط؟!(1)

2. استكشاف الأمر عن ترتّب الثواب

و هذا هو الجواب الثاني الذي أشار إليه المحقّق الخراساني من استكشاف الأمر عن ترتّب الثواب على الاحتياط، الكاشف عن وجود الأمر، و الفرق بينه و بين كشفه بحسن الاحتياط، انّ الكشف في المقام إنّي، لأنّ الثواب من آثار الأمر، و هناك لمّي، لأنّ حسن الاحتياط صار سبباً للأمر به، و يرد عليه ما ذكرناه في الوجه الأوّل من عدم كونه أمراً مولوياً فلا إطاعة له حتى يقصد إطاعته، أضف إليه انّ ترتّب الثواب أوّل الكلام فانّه فرع إمكانه و المفروض وجود الشكّ في إمكانه.

3. الاحتياط مجرّد الفعل عدا نيّة القربة

و هذا هو الجواب الثالث الذي أشار إليه الشيخ أيضاً بقوله: إنّ المراد من الاحتياط هو مجرّد الإتيان بجميع ما يعتبر فيها ما عدا قصد القربة.(2)

يلاحظ عليه: أنّ البحث هو الاحتياط في محتمل العبادة، فلو أتى بالعمل مجرّداً عنها، فلا يكون احتياطاً كاملاً بل احتياطاً نسبياً غير مقيد، لأنّه لو كان عبادة لا يفيد إلاّ إذا صدر عن المكلّف عن نيّة القربة.

ص:432


1- كفاية الأُصول: 2/194، و قد جعل المراجع مكان الضمائر في عبارته طلباً للإيضاح.
2- الفرائد: 229، و تركنا ذيل كلامه تبعاً للكفاية.
4. كفاية الإتيان باحتمال الأمر

و هذا هو الجواب الرابع، و قد أشار إليه الشيخ في ضمن كلماته و قال: و التحقيق انّه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبية في صحّة العبادة فيما لا يعلم المطلوبية و لو إجمالاً.(1)

و حاصله: انّه يكفي في تصحيح العبادة، الإتيان بها رجاء و باحتمال تعلّق الأمر به، و ذلك لأنّ الكلام في العبادة المحتملة و يكفي فيها احتمال الأمر.

و بعبارة أُخرى: انّ قصد الأمر من القيود التي يستقل بها العقل و ليس من القيود التي يمكن أخذها في المتعلق لما عرفت وجهه تفصيلاً في الجزء الأوّل و العقل مستقل بكفاية قصد الأمر الاحتمالي في العبادة المحتملة.

5. و هنا جواب خامس، و هو انّه لا يعتبر في صحّة العبادة قصد الأمر، بل يكفي الإتيان بها للّه سبحانه، و هذا هو الذي اعتمدنا عليه في باب العبادات، فلو كان ما ذكرنا كافياً في العبادات القطعية و مغنياً عن قصد الأمر القطعي فليكن كافياً في العبادات المحتملة.

و هناك جواب سادس، و هو قصد الأمر الاستحبابي المستنتج من أخبار» من بلغ «على القول بدلالتها على استحباب نفس العمل، إذ أتى به الإنسان رجاء درك الثواب و حيث إنّ هذه الأخبار وقعت مورداً للنقاش من هذا الجانب نفرّدها بالبحث.

***

ص:433


1- الفرائد: 229.
التنبيه الثالث: التسامح في أدلّة السنن
و لنقدم أُموراً:
1. في السير التاريخي للمسألة

اشتهرت بين الأصحاب مسألة:» التسامح في أدلّة السنن «و يراد منها انّه لا يعتبر في ثبوتها و العمل بها، ما يشترط في ثبوت غيرها كالواجبات و المحرمات من كون الراوي ثقة ضابطاً، بل يكفي وروده و لو عن طريق ضعيف و المسألة معنونة في كلمات الفريقين، غير انّهم يعبِّرون عن المسألة بقولهم:» العمل بالخبر الضعيف في فضائل الأعمال «و قد ألمع إليها الشهيد (734 786 ه (في الذكرى، و ابن فهد الحلي ) المتوفّى 841 ه (في عدة الداعي، و الشهيد الثاني) المتوفّى 966 ه (في درايته، و بهاء الدين العاملي ) المتوفّى 1030 ه (في أربعينه، إلى أن وصلت النوبة للشيخ الأنصاري، فألّف رسالة مستقلة فيها طبعت في آخر كتاب المتاجر له. و أدرجها تلميذه الشيخ موسى التبريزي في حاشيته على الفرائد، باسم» أوثق الوسائل « فلاحظ.

2. وجود ملاكات مختلفة في المسألة

و هل المسألة أُصولية أو فقهية، أو كلامية لكلّ وجه و لا يترتب ثمرة لذلك، فلو كان الكلام مركزاً على عدم اعتبار شرائط الحجية في العمل بالسنن المروية، بل يكفي مجرّد ورود الخبر، فالمسألة أُصولية، و لو كان الكلام دائراً حول ثبوت الاستحباب بمجرّد الورود، و إن لم يكن مطابقاً للواقع بتصور عروض مصلحة غير إلزامية على الفعل عند ذاك و يكشف عنها ترتّب الثواب على الفعل، تكون المسألة فقهية، و أمّا إذا كان الكلام حول ثبوت الثواب و عدمه تكون المسألة كلامية.

ص:434

3. الاستدلال عليها بطرق مختلفة

ثمّ إنّه ربما يستدل على القاعدة بالإجماع و حكم العقل و الأولى الاستدلال عليها بالروايات، لأنّ الإجماع على فرض ثبوته، مدركيّ مستند إلى نفس الروايات، و أمّا العقل فلا يستقل إلاّ بالرجحان، و ترتّب الثواب بما هو مصداق للانقياد، و لا يستقل على خصوص الثواب الوارد في الرواية، كما لا يستقل باستحباب نفس العمل

فالأولى ذكر الروايات،

و التكلّم في حدود دلالتها. و قد جمعها الشيخ الحرّ العاملي في مقدمات وسائل الشيعة.

أ: رواية هشام بن سالم

إنّ لهشام بن سالم رواية واحدة عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (يرويها تارة بلا واسطة، و أُخرى بواسطة صفوان، و الأقرب انّها رواية واحدة، و انّ التعدّد أيضاً محتمل.

1. روى الكليني بسند صحيح عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» من سمع شيئاً من الثواب على شيء، فصنعه، كان له و إن لم يكن على ما بلغه «.(1)

روى البرقي في المحاسن عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:

» من بلغه عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (شيء من الثواب، فعمله كان أجر ذلك له، و إن كان رسول اللّه لم يقله «.(2) و علي بن الحكم الكوفي من أصحاب الإمامين: الرضا و الجواد) عليهما السلام (، و هو ثقة كما في الفهرست و هو متحد مع علي بن الحكم الأنباري، و ابن الزبير، بشهادة انّ الصدوق ذكر طريقه إليه و لم يصفه بأحد الأوصاف الثلاثة: الكوفي، الأنباري أو ابن الزبير، و هذا يكشف عن الاتحاد، و هناك قرائن أُخرى للاتحاد لاحظ المصادر.(3) و الروايتان متحدتان لوحدة المرويّ

ص:435


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 6، 3.
2- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 6، 3.
3- لاحظ قاموس الرجال، و معجم رجال الحديث: 12/411، 426.

عنه، أعني: هشاماً، غاية الأمر يرويها عنه تارة ابن عمير و أُخرى علي بن الحكم إنّما الكلام في اتحاد الثالثة معهما.

2. ما رواه هشام، عن صفوان، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك و إن كان رسول اللّه لم يقله «.(1)

و في السند علي بن موسى، و هو علي بن موسى الكمنداني أحد» عدّة الكافي «إلى أحمد بن محمد بن عيسى حيث يكرر قوله: عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى فهو أحد العدة، و بذلك يعلم انّ المراد من أحمد بن محمد في سند الرواية، هو ابن عيسى: و لم يوثق علي بن موسى، و في معجم البلدان انّ كمندان اسم قم في أيّام الفرس، فلما فتحها المسلمون اختصر اسمها.(2)

و بما انّ الإمام المروي عنه واحد، يحتمل تعدد الروايتين و انّ هشاماً تارة سمع الحديث من الإمام مباشرة، و أُخرى من الراوي عنه أعني صفوان، و لم يكن هشام حاضراً عند ما كان الإمام يحدث صفوان.

ب: روايتا محمد بن مروان

و هنا روايتان لمحمد بن مروان يرويهما عن إمامين.

3. روى البرقي عن أبيه، عن أحمد بن النضر، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» من بلغه عن النبي شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي كان له ذلك الثواب و إن كان النبي لم يقله «.(3) و الرواية صحيحة و أحمد بن

ص:436


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 1.
2- معجم البلدان: 5/305.
3- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 4.

النضر، كمحمد بن مروان ثقة.

4. روى الكليني بسنده عن محمد بن سنان، عن عمران الزعفراني، عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا جعفر) عليه السلام (يقول:» من بلغه ثواب من اللّه على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه و إن لم يكن الحديث كما بلغه «.(1) و السند لا يخلو من ضعف.

و بما انّ الإمام المروي عنه مختلف، فيحكم عليهما بالتعدّد. إلى هنا وقفنا على روايات أربع، و أمّا سائر الروايات فهي إمّا راجعة إليها، أو لا صلة لها بالمقام.

أمّا الأوّل، مثل ما رواه أحمد بن فهد) المتوفّى 841 ه (في عدّة الداعي عن الصدوق بطرقه إلى الأئمّة.(2) أو ما رواه ابن طاووس) المتوفّى 664 ه (في كتاب الإقبال عن الصادق) عليه السلام ((3)، فانّ هذه المراسيل ليست شيئاً مستقلاً بل متخذات من المسانيد السابقة.

و أمّا الثاني، أي ما لا صلة له بالمقام مثل ما رواه الصدوق في عيون الأخبار عن حمدان بن سليمان في تفسير قول اللّه عزّ و جلّ: (فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ )(4)، فجاء فيه» يشرح صدره للتسليم للّه و الثقة به و السكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه «(5)، و أين هو ممّا نحن فيه؟! و مثله مرسلة علي بن محمد القاساني ففيها: من وعده اللّه على عمل فهو منجزه، و من أوعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار.(6)

وجه عدم الصلة في رواية» حمدان «فانّ السكون إلى ما وعد اللّه، التي ثبت

ص:437


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 7، 8، 9.
2- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 7، 8، 9.
3- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 7، 8، 9.
4- الأنعام: 125.
5- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب العبادات، الحديث 2، 5.
6- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب العبادات، الحديث 2، 5.

بالدليل الصحيح من علائم الإيمان كما أنّ المراد من الحديث الثاني هو التفريق بين الوعد و الوعيد، فانّ الأوّل لازم الوفاء دون الثاني فهو ناظر إلى مسألة كلامية فالمعتزلة على لزوم الوفاء بالوعيد مثل الوعد، و الإمامية على خلافهم.

نعم روى ابن فهد في عدّة الداعي عن غير طرقنا مرفوعاً إلى جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» من بلغه من اللّه فضيلة فأخذ بها إيماناً باللّه، و رجاء ثوابه أعطاه اللّه ذلك و إن لم يكن كذلك «.(1)

هذا ما وقفنا عليه من الروايات و إنّما المهم دراسة دلالتها، و تحقيق مضامينها،

و قد اختلفت كلمتهم في تفسيرها إلى وجوه و احتمالات

لا يساعد أكثرها الفهم العرفي، فنذكر المهم.

1. نظرية الشيخ الأنصاري

و حاصل نظريته: انّ هذه الأخبار لا تدل إلاّ على ثبوت الأجر للعامل، و لا يدل على استحباب العمل، و بالتالي لا يمكن تصحيح العمل العبادي المردّد بين الاستحباب و غير الوجوب بهذه الأخبار.

ثمّ إنّه) قدس سره (أخذ في توضيح مقصوده و قال: إنّ الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرعاً على البلوغ، و كونه الداعي على العمل، و يؤيّده تقييده في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبي و التماس الثواب الموعود، و من المعلوم انّ العقل مستقل باستحقاق هذا العامل، المدحَ و الثواب و حينئذٍ إن كان الثابت في تلك الأخبار، هو أصل الثواب كانت مؤكدة لحكم العقل بالاستحقاق إلى أن قال: و إن كان الثابت بهذه الأخبار خصوص الثواب البالغ كما هو ظاهر بعضها فهو و إن كان مغايراً لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا العمل، إلاّ

ص:438


1- عدة الداعي: 13.

أنّ مدلول هذه الأخبار أخبار عن تفضل اللّه سبحانه على العامل بالثواب المسموع، و على كلّ تقدير فلا يدل على صيرورة العمل مستحباً.(1)

و يؤيّد كلام الشيخ أمران:

الأوّل: هو انّ مورد الرواية ليس مختصاً بالمستحبات، بل يعمّ الثواب الموعود على الواجب كما هو أعمّ من أن يرد بدليل واجد لشرائط الحجّية أو لا، فتخصيص مورد الروايات بالمستحبات أوّلاً، و كون الوارد غير حائز لشرائطها ثانياً، أمر لا دليل عليه.

و الحاصل: انّ الرواية إمّا مؤكّدة لحكم العقل إذا كان المقصود أصل الثواب أو أخبار عن تفصيله إذا كان المقصود، هو الثواب الموعود.

الثاني: انّ الظاهر من الروايات أنّ ترتب الثواب، لأجل هذه العناوين:» من بلغه شيء من الثواب، أو بلغه عن النبي شيء من الثواب، أو سمع شيئاً من الثواب «:) كما في روايات هشام بن سالم (ففعل ذلك طلب قول النبي، فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب «) كما في روايتي محمد بن مروان (، و هذا دليل على ترتّب الثواب، لأجل انقياده لا على نفس العمل، فلا يكشف ترتّب الثواب على الانقياد عن استحباب نفس الفعل.

2. نظرية صاحبي العناوين و الكفاية

إنّ المحقّق السيّد فتاح المراغي صاحب العناوين، ذهب إلى أنّ مفادها هو انّه لا يشترط في الخبر الوارد في المستحبات، ما يشترط فيما دلّ على الحكم الإلزامي، و استدل على ذلك بأنّ أغلب المندوبات و المكروهات ليس لها دليل قويّ مع أنّ الفقهاء يُفتون بالندب و الكراهة، فيعتمدون على الخبر الضعيف و فتوى

ص:439


1- الفرائد: 230.

الفقيه الواحد و الشهرة المجردة.(1)

و حاصل النظرية: انّ هذه الأخبار بصدد إعطاء الحجّية للخبر الضعيف في مجال خاص، و يكون الفعل مستحباً بالذات.

يلاحظ عليه: أنّ لسان الحجّية هو إلغاء احتمال الخلاف و البناء على أنّ مؤدّى الطريق هو الواقع كما في قوله:» ما أدّيا عنّي فعني يؤدّيان «لا احتمال عدم ثبوت المؤدى في الواقع كما يحكي عنه قوله: و إن كان رسول اللّه لم يقله، فهذا اللسان غير مناسب لإعطاء الحجّية و لا يصلح لها.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اختار تلك النظرية، و كلامه مؤلف من أمرين:

1. الردّ على استدلال الشيخ.

2. استظهاره مختاره من صحيحة هشام بن سالم.

أمّا الأوّل، فقال في بيانه: إنّ كون العمل متفرعاً على البلوغ، و كونه الداعي إلى العمل غير موجب لأن يكون الثواب إنّما يكون مترتباً عليه فيما إذا أتى برجاء أنّه مأمور به و بعنوان الاحتياط، بداهة انّ الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً و عنواناً يؤتى به بذلك الوجه.

و حاصله: انّ الإتيان لغاية طلب قول النبي أو الثواب الموعود فيه قيد تعليلي لا تقييدي، فليس المأتي مقيداً به، حتى يكون الثواب على الفعل المقيد به.

يلاحظ عليه: أنّ الجهات التعليلية في الأحكام جهات تقييدية لبّاً فلو قال:» لا تشرب الخمر لأنّه مسكر «يكون الموضوع لبّاً هو الخمر المسكر، و لو قال:» أكرم زيداً لعلمه «، يكون الموضوع لبّاً هو زيد العالم، و لو فرضنا ظهور الروايات في ترتّب الثواب على العمل لأجل كون الداعي التماس قول النبي أو إدراك الثواب

ص:440


1- عناوين الأُصول: 133.

الموعود به، يكون الموضوع مركّباً من نفس الفعل و الغاية و هو عبارة أُخرى عن كون الثواب مترتّباً على الانقياد، لا على نفس العمل مجرّداً عنها.

و أمّا الثاني، أي كيفية استظهاره من صحيحة هشام فحاصله: انّ الثواب في صحيحة هشام رتب على نفس العمل حيث قال: كان أجر ذلك، فالمشار إليه بلفظة» ذلك «، هو نفس العمل، و بما انّ الاستحباب لا ينفكّ عن المصلحة، فيكشف عن حدوث مصلحة فيه عند طروء عنوان البلوغ أو السماع فيصير مستحباً و يترتّب عليه آثاره و يصير نظير قوله:» من سرّح لحيته فله كذا «.

يلاحظ عليه بأمرين:

1. ليس المراد من أجر العمل في الرواية هو الأجر الواقعي المكتوب على العمل بما هو هو، و ذلك لأنّه كما يحتمل صدقه، يحتمل كذبه، فليس الأجر الواقعي أمراً محرزاً، بل المراد الأجر الوارد في الخبر الأعمّ من أن يكون موافقاً للواقع أو لا، و هذا النوع من الأجر لم يثبت للعمل بما هو هو، بل ثبت للعمل في الظرف الذي يأتي به المكلف بنيّة درك الثواب الموعود، و من المعلوم انّ ثبوت هذا النوع من الأجر لا يكشف عن استحباب العمل بما هو هو و إنّما يكشف إذا ترتّب عليه الثواب في عامّة الظروف لا في ظرف خاص، و هو خلاف ظاهر الرواية، و أقصى ما يستفاد منه هو عدم حرمان العامل من الأجر تفضّلاً منه سبحانه.

2. ما استظهره إنّما يصحّ لو كان الدليل منحصراً برواية هشام، و لكن هناك روايتان عن طريق محمد بن مروان صريحتان في الثواب لغاية طلب قول النبي، أو التماس ذلك الثواب و معه لا يمكن الاعتماد بالظهور البدائي في صحيحة هشام.

و بذلك يتضح الفرق بين المقام و ما ورد من قوله: من سرح لحيته فله عشر حسنات، أو من صام نصف شعبان فله كذا. فانّ الثواب في الموردين ترتّب على نفس العمل، بخلاف المقام فانّه مترتب على الطاعة الحكمية أي احتمال الأمر، و في مثله لا يكشف الثواب عن وجود الأجر القطعي.

ص:441

3. نظرية المحقّق النائيني

إنّ هذه النظرية مبنية على كون الجملة الخبرية بمعنى الإنشاء و معنى قوله:» فعمله أو فعله «: هو الأمر بالفعل و العمل كما هو الشأن في غالب الجمل الخبرية الواردة في بيان الأحكام، و على هذا يصحّ أن يقال أنّ أخبار من بلغ مسوقة لبيان انّ البلوغ يحدث مصلحة في العمل بها يكون مستحباً فيكون البلوغ كسائر العناوين الطارئة على الأفعال الموجبة لحسنها أو قبحها و المقتضية لتفسير أحكامها، كالضرر و العسر و النذر و الإكراه و غير ذلك من العناوين الثانوية، فيصير حاصل معنى قوله) عليه السلام (:» أو بلغه شيء من الثواب فعمله «بعد حمل الجملة الخبرية على الإنشائية، هو انّه يستحب العمل عند بلوغ الثواب عليه، كما يجب العمل عند نذره، ثمّ استقرب هذا الوجه قائلاً: إنّ ما عليه المشهور حيث إنّ بناءهم في الفقه على التسامح في أدلّة السنن.(1)

و الفرق بين النظريتين الثانية و الثالثة واضح، حيث إنّ العمل على الأوّل يصير مستحباً ذاتياً، بخلافه على هذا القول، يكون مستحباً عرضيّاً لعروض عنوان البلوغ، و قد أوضحه بقوله: إنّ الوجه الأوّل مبني على أن يكون مفاد أخبار من بلغ حجّية قول المبلغ، و أنّ ما أخبر به هو الواقع، فيترتب عليه كلّ ما يترتب على الخبر الواحد للشرائط، و يكون العمل بما هو هو مستحباً، و أمّا على هذه النظرية فانّ مفاده مجرّد إعطاء قاعدة كلية و هي: استحباب العمل إذا بلغ عليه شيء من الثواب، فيكون مفاد أخبار من بلغ قاعدة فقهية كقاعدة» لا ضرر «و» لا حرج «.(2)

ص:442


1- فوائد الأُصول: 4163/415.
2- فوائد الأُصول: 3/415.

و بعبارة أُخرى يكون المستحب هو العمل بعنوانه الثانوي الطارئ عليه.

و إن شئت قلت: إنّ البلوغ في الأوّل جهة تعليلية لعروض حكم الاستحباب على العمل دون نظريته، فهو جهة تقييدية، و تظهر ثمرة هذا الاختلاف في الآثار التي تترتب على المستحبات الذاتية دون المستحبات العرضية.

يلاحظ عليه: أنّ حمل الجمل الاخبارية على الإنشاء إنّما يصحّ في الواجبات و المستحبات المؤكدة حيث تكون شدّة العلاقة بالمطلوب سبباً عن الإخبار عن وجوده في الخارج فيخبر عنه، مكان الانشاء، و أمّا المقام فليس كلّ مستحب يبلغ هذه المكانة من الأهمية حتى يصحّ الاخبار عنه.

ثمرات المسألة

تظهر الثمرة في موارد:

1. ترتّب الآثار المترتبة على المستحبات الشرعية مثل ارتفاع الحدث المترتب على الوضوء المأمور به.

فعندئذ لو ورد خبر غير معتبر بالأمر بالوضوء في ظرف خاص كدخول المسجد فعلى القول الأوّل، لا يترتّب عليه إلاّ الثواب، خلافاً للنظريتين الأخيرتين، فيعامل معه معاملة المستحب فيكون رافعاً للحدث واقعاً.

يلاحظ عليه مضافاً إلى أنّ الاستحباب لا يلازم رفع الحدث كاستحباب الوضوء للحائض عند أوقات الصلاة: أنّه إنّما يتم لو لم يكن الوضوء مستحباً نفسياً، كما هو ظاهر عدّة من الروايات; روى المفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» من جدّد وضوءه لغير حدث، جدّد اللّه توبته من غير استغفار «(1)

ص:443


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 8 من أبواب الوضوء، الحديث 7.

فاستحباب الوضوء ثابت مطلقاً، سواء كان هنا إخبار» من بلغ «أو لم يكن، كان مضمونها ما اختاره الشيخ أو غيرهما.

2. لو ورد الأمر باستحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء، فلو قلنا باستفادة الاستحباب يجوز المسح ببلله إذا جفّ يده، دون ما إذا قلنا بالنظرية الأُولى.

يلاحظ عليه: أنّ ثبوت استحباب غسل اللحية المسترسل، لا يلازم جواز المسح من بلّتها، لاحتمال اختصاص الأخذ بالأجزاء الأصلية.

3. تظهر الثمرة بين نظرية المحقّق الخراساني، و المحقّق النائيني فيما لو ورد خبر ضعيف على استحباب شيء، و ورد خبر ثقة على نفيه، فعلى القول بأنّ هذين الخبرين بصدد جعل الحجّية للخبر الضعيف يقع التعارض بين الخبرين و يقع التعارض بين الحجّتين، و أمّا إذا قلنا بأنّهما بصدد إثبات استحباب واقعي على الفعل بما أنّه ينطبق عليه عنوان البلوغ فلا تعارض بين الخبرين، لأنّ الثاني، ينفي كون العمل مستحبّاً بذاته و نفسه، و الخبر الضعيف لا ينافيه و إنّما يثبت الاستحباب عليه لأجل انطباق عنوان ثانوي عليه.

و بما انّك عرفت انّ النظرية الأُولى هي الحقّ، فلا يصحّ أن يعامل معه معاملة المستحب، بنحو من الأنحاء لا ذاتياً و لا عرضياً و بذلك يعلم انّ التعبير بالتسامح في أدلّة السنن، ليس تعبيراً واقعياً في مضمون الروايات، بل الحقّ هو الإخبار عن تفضّله سبحانه بالثواب على العمل بخبر ورد فيه الثواب سواء أ كان واجباً أم مستحباً، جامعاً للشرائط أو لا.

ص:444

التنبيه الرابع: في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية التحريمية
اشارة

قد عرفت أنّ الشبهة الحكمية التحريمية مجرى للبراءة إنّما الكلام في جريانها في الموضوعية منها، كما إذا شكّ في كون مائع خمراً، فهل يستقل العقل و النقل على البراءة أو لا؟ منشأ الشبهة ما ذكره الشيخ في المسألة الرابعة من مسائل الشبهة التحريمية حيث قال: و توهم عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا نظراً إلى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر مثلاً، فيجب حينئذ اجتناب كلّ ما يحتمل كونه خمراً من باب المقدمة العلمية بالعقل و لا يقبح العقاب خصوصاً على تقدير مصادفة الحرام.(1) ثمّ أجاب عنه) قدس سره (و سيوافيك توضيحه.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامين:

الأوّل: جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية التحريمية

ربما يقال(2) بعدم جريانها فيها، لأنّ وظيفة الشارع هو بيان الكبرى و المفروض انّه بيّنها و قال: الخمر حرام، و ليس بيان الصغريات من وظائفه، حتى يقال انّ العقاب على الفرد المشكوك من الخمر غير مبيّن فيكون العقاب عليه قبيحاً، لما عرفت من أنّ وظيفته هو بيان الأحكام الكلية لا بيان الصغريات، و عندئذ يأتي ما ذكره الشيخ من لزوم الاجتناب من باب المقدمة العلمية.

يلاحظ عليه: أنّ البحث ليس مركّزاً على لفظ البيان حتى يقال انّ بيان الموضوع ليس من وظائفه بل هو مركّز على العقاب بلا حجّة، و هي تتشكل من

ص:445


1- الفرائد: 221.
2- القائل: المحقّق البروجردي في درسه الشريف.

صغرى و كبرى، و لا يصحّ الاحتجاج بالكبرى المجرّدة ما لم ينضمّ إليها العلم بالصغرى و المفروض انّها غير معلومة.

و على ضوء ما ذكر فتجري البراءة العقلية بشرط تقريرها على النحو الذي عرفت.

الثاني: في جريان البراءة الشرعية

أمّا البراءة الشرعية، فقد فصّل المحقّق الخراساني، بين كون النهي عن الشيء، بصورة العام الأفرادي، و كونه بصورة العام المجموعيّ، فتجري البراءة في الأُولى دون الثانية، و المراد من الأوّل أن يكون كلّ عدم من اعدام الطبيعة مطلوباً مستقلاً بحيث يكون لكلّ عصيان و امتثال، فمرجع الشكّ في فردية الشيء للطبيعة، إلى الشكّ في تعلّق حكم تحريمي بهذا الفرد و عدمه، فيكون من قبيل الشبهة البدوية فتجري فيه البراءة، بخلاف الثاني، فانّ هناك حكماً واحداً متعلّقاً بمجموع الاعدام و الترك، بحيث يكون ترك كلّ فرد جزء من المطلوب على نحو التركيب.

يلاحظ عليه: أنّه تجري البراءة حتى على النحو الثاني، لأنّ مرجع الشكّ فيه إلى الأقل و الأكثر الارتباطيّين حيث يتردّد الجزء المأخوذ في ناحية متعلّق النهي بين الأقل لو لم يكن هذا الفرد خمراً و الأكثر إذا كان خمراً و في مثله يكون المرجع إلى البراءة، حيث إنّ مرجع الشك في كونه مصداقاً أولا، إلى انبساط النهي إليه و عدمه.

و على ما ذكرنا تجري البراءة في كلتا الصورتين.

نعم لا تجري في الصورتين التاليتين:

1. إذا كان المطلوب عدماً بسيطاً متحصلاً من تلك الاعدام بحيث يكون

ص:446

الأوّل المحصَّل) بالفتح (مغايراً مع الثاني تحقّقاً، لا مفهوماً فقط، نظير الطهارة النفسانية الحاصلة من الغسلات و المسحات، و هذا ما يسمّى بالشكّ في المحصِّل، فلو صحّت الشبهة التي نقلناها في أوّل التنبيه فإنّما تصحّ في هذه الصورة.

2. أن يتعلّق النهي بالشيء على وجه يكون ناعتاً، فيكون الواجب كون الإنسان موصوفاً بأنّه» لا شارب الخمر «ففي هذه الصورة» يجب الاجتناب عن الفرد المشكوك ليحرز كونه لا شارب الخمر «.

و بذلك يعلم ضعف الشبهة التي ذكرنا في أوّل التنبيه من حيث المقدمة العلمية، فانّها لو صحّت فإنّما تصحّ في هاتين الصورتين الأخيرتين، لا الأُوليين فانّ الواجب في الأخيرتين، أمر بسيط و ترك الفرد مقدمة له، فلا يعلم بحصول الواجب إلاّ بترك الفرد المشكوك مقدمة، و أمّا في الأُوليين فليس هناك مقدمة و ذوها، بل المكلّف به عبارة عن العام الأفرادي أو العام ذي الأجزاء، و بما انّ التكليف ينحلُّ إلى الأفراد و الأجزاء، فالشكّ في الفرد، شكّ في تعلّق الحكم المستقل به، في العام الافرادي، أو في انبساط الحكم المتعلّق بسائر التروك، إلى ترك هذا الفرد أيضاً كما في العام المجموعي.

و أمّا ما أفاده الشيخ) قدس سره (من أنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلاً أو إجمالاً. و أمّا ما احتمل كونه خمراً من دون علم إجمالي فلم يظهر من النهي تحريمه و ليس مقدمة للعلم باجتناب فرد محرم بحسن العقاب عليه(1) و إن كان صحيحاً لكنّه ليس بقالع للشبهة لأنّ القائل بالاحتياط لا يقول بأنّ الاجتناب عن المشكوك مقدمة للاجتناب عن الفرد المحرّم القطعي، بل يقول: إنّ الاجتناب عنه مقدمة للاجتناب عن امتثال الحكم الكلي القطعي أعني لا تشرب

ص:447


1- الفرائد: 220.

الخمر الذي لا يحصل العلم بامتثاله، إلاّ باجتناب الفرد.

و الأولى الإجابة، بما ذكرنا من حديث الانحلال.

و مع ذلك كلّه فلا نقول بجريان البراءة في مطلق الشبهة الموضوعية، بل في كلّ مورد يسهل العلم بالواقع، فالحقّ عندئذ وجوب الفحص و التوقف عن إجراء البراءة كالمائع المردّد بين الخمر و الخل الذي يسهل تحصيل العلم بالشم و الرؤية، و لذلك أفتى المشهور بوجوب الفحص في موارد من الشبهة الموضوعية، كبلوغ المال الزكوي حدَّ النصاب أو لا، أو حصول الاستطاعة للكاسب أو لا.

التنبيه الخامس: في تحديد رجحان الاحتياط
اشارة

قد تقدم من المحقّق الخراساني في التنبيه الثاني حسن الاحتياط عقلاً و شرعاً، و الكلام في المقام في تحديد حسنه، و في المقام أمران:

1. حسن الاحتياط مطلقاً

أ: كان هناك حجّة على عدم الوجوب أو الحرمة أو أمارة على أنّه ليس فرداً للواجب أو الحرام، أو لم يكن.

ب: كان من الأُمور المهمة كالدماء أو لا.

ج: كان احتمال التكليف قوياً أو ضعيفاً.

الاحتياط في هذه الموارد المتقدمة حسن بلا إشكال.

2. في تحديد حسن الاحتياط

قد حدّد الشيخ حسن الاحتياط بأن لا ينتهي إلى إخلال النظام، و يحصل هذا بترجيح بعض الاحتياطات احتمالاً أو محتملاً على بعض:

أمّا الأوّل: كتقديم الاحتياط في الظن على الحرمة في مورد، على الاحتياط في

ص:448

الشكّ في الحرمة في مورد آخر.

أمّا الثاني: كتقديم الأهم محتملاً و إن كان أضعف احتمالاً على غير الأهم محتملاً، كما في الموارد الثلاثة من الأموال و الأعراض و الدماء، فيقدم الاحتياط فيها على غيرها و إن كان الغير أقوى احتمالاً منهما.

يلاحظ عليه: أنّ الاحتياط محدد بالأقل من الإخلال بالنظام إذ يكفي أن ينتهي إلى العسر و الحرج خصوصاً على القول بحرمة العمل الحرجي، أو أن ينتهي إلى ترك الأهم، كالاحتياط المستلزم ترك التحصيل أو تشويه سمعة الدين، أو نفرة الناس عنه إلى غير ذلك من العناوين الثانوية كما لا يخفى.

و ربما يستدل على عدم حسن الاحتياط برواية أبي الجارود حيث سأل أبا جعفر) عليه السلام (عن الجبن و قال له: أخبرني من رأى انّه يجعل فيه الميتة فقال) عليه السلام (:» أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، و إن لم تعلم فاشتر و بع و كل «.(1)

و لكن الاستدلال غير تام إذ الأمر بالأكل لا يدل على حرمة تركه، لأنّ الأمر ورد في مقام توهم الحظر بشهادة قوله:» أ من أجل مكان واحد، يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ «. فلا يدل على وجوب ترك الاحتياط كما لا يخفى.

ص:449


1- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 5.

الأصل الثاني:

اشارة

أصالة التخيير

قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

1. هذا الفصل منعقد لبيان مجرى أصالة التخيير التي هي من الأُصول الأربعة العامة و لم يخصها الشيخ الأنصاري بفصل خاص، مع أنّ الأنسب تخصيص فصل لها مثل أصالة البراءة و الاشتغال، و لعلّ قلّة موارده دعته إلى ترك عقد الفصل المستقل.

2. انّ الشيخ بحث في كلّ من البراءة و الاشتغال، في مطالب ثلاثة، و جعل منشأ الشكّ في كلّ مطلب أحد أُمور أربعة: فقدان النص، أو إجمال النص، أو تعارض النص، أو خلط الأُمور الخارجية.

فالمطالب الثلاثة في الشكّ في التكليف عبارة عن: التحريم المشتبه بغير الوجوب، أو وجوب مشتبه بغير التحريم، أو تحريم مشتبه بالوجوب. فسمّي الأخير بدوران الأمر بين المحذورين.

كما أنّ المطالب الثلاثة في الشكّ في المكلّف به عبارة عن: دوران الأمر بين الحرام و غير الواجب، و دورانه بين الواجب و غير الحرام، و دورانه بين الواجب و الحرام. فسمّي الأخير أيضاً بدوران الأمر بين المحذورين.

فهنا سؤال يطرح نفسه و هو انّه ما الفرق بين المطلب الثالث في التكليف، و المطلب الثالث في الشكّ في المكلّف به؟

ص:450

و الجواب: إذا كان التكليف واحداً مردداً بين المحذورين، كحكم العبادة في أيّام الاستظهار، أو تردد الرجل بين كونه مؤمناً أو محارباً يجب قتله يكون من قبيل دوران الأمر بين المحذورين من قسم الشكّ في التكليف; بخلاف ما إذا كان التكليف متعدداً و اشتبه موضوعهما، كما إذا علم انّ واحدة من الصلاتين واجبة و الأُخرى محرمة و تردد أمرهما بين الظهر و الجمعة.

و إن شئت قلت: إنّ نوع التكليف مجهول في الأوّل دون الآخر، فالنوع معلوم و هو انّ هنا واجباً و محرماً غير انّ الموضوع مردّد بين الجمعة و الظهر، يجمعها، عدم إمكان الموافقة القطعية.

3. إذا كان نوع التكليف مجهولاً; فتارة يكون المورد من قبيل التوصليات، كتردد الإنسان بين كونه محقون الدم أو واجب القتل; و أُخرى يكون من قبيل التعبديات، كحكم العبادة في أيّام الاستظهار، فلو كانت حائضاً فالعبادة محرمة توصلية، و أمّا إذا كانت طاهراً من الحيض، فالعبادة واجبة تعبدياً، فأحد الحكمين على فرض ثبوته تعبدي.

4. الميزان في جريان أصالة التخيير كما سيوافيك امتناع الموافقة القطعية سواء كانت المخالفة القطعية أيضاً ممتنعة كما في دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة و كانت الواقعة واحدة، كشرب مائع مردّد بين الحلف على فعله أو تركه في ليلة معينة; أو كانت ممكنة، كتردده بينهما مع تعدد الواقعة كلّ ليلة جمعة إلى شهر.

5. التقسيم الصحيح في بيان مجاري الأُصول هو ما ذكرنا سابقاً، من أنّ الشكّ أن يكون فيه اليقين السابق ملحوظاً أو لا.

و الأوّل مورد الاستصحاب. و الثاني إمّا أن يكون الاحتياط بمعنى الموافقة القطعية ممكنة أو لا; و الثاني مجرى التخيير، و الأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا يدل، و الأوّل مورد الاحتياط، و الثاني

ص:451

مورد البراءة.(1)

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامات ثلاثة:

أ: دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في نوع التكليف التوصلي.

ب: دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في نوع التكليف التعبدي.

ج: دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في المكلّف به.

و إليك الكلام في واحد بعد آخر.

المقام الأوّل: إذا كان نوع التكليف مجهولاً مع كون الحكم توصلياً

اشارة

إذا دار أمر التكليف بين المحذورين، كما إذا علم إجمالاً بوجوب قتل إنسان، أو حرمته. و منشأ التردد كونه مجهول الهوية، فهو دائر بين كونه مؤمناً أو محارباً. فعلى الأوّل يحرم قتله، و على الثاني يجب، لأنّ أمر الحد دائر بين الحرمة و الوجوب و لكن الحكم الواقعي الأعم من الوجوب و الحرمة على فرض ثبوته، توصّلي.

لا شكّ انّ المخالفة و الموافقة القطعيتين غير ممكنة لكن يقع الكلام في كون المقام محكوماً بحكم ظاهريّ أو لا، فقد ذكر المحقّق الخراساني وجوهاً خمسة:

1. جريان الأُصول النافية كالبراءة العقلية و النقلية دون المثبتة كأصالة الإباحة.

2. وجوب الأخذ بأحدهما تعييناً و هو الحرمة.

3. وجوب الأخذ بأحدهما تخييراً.

4. ليس المورد محكوماً بحكم ظاهريّ من النافي و المثبت و يكفي كون

ص:452


1- فرائد الأُصول: 192.

الإنسان مخيراً تكويناً و هو خيرة المحقّق النائيني.

5. الحكم بالتخيير عقلاً، مع جريان الأُصول المثبتة كالإباحة دون النافية على خلاف القول الأوّل و هو مختار المحقّق الخراساني.

6. جريان جميع الأُصول النافية دون المثبتة كأصالة الإباحة و هو المختار، فلنأخذ كلّ واحد من الأقوال بالبحث.

القول الأوّل: جريان البراءة العقلية و الشرعية

ذهب هذا القائل إلى أنّ الحكم الظاهري الذي يجب التعبد به هو البراءة العقلية أوّلاً، و الشرعية ثانياً.

أمّا الأوّل: فلأنّ كلاً من الوجوب و الحرمة مجهولان، فيقبح المؤاخذة عليهما.

و أمّا الثاني: فلعموم قوله:» رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون «و شموله للمقام.

و قد أورد المحقّق الخراساني على القول بجريان البراءة العقلية، بأنّه لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فانّه لا قصور فيه هاهنا، و إنّما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها.

يلاحظ عليه: أنّ المراد من البيان، هو ما يكون باعثاً أو زاجراً و يخرج المكلّف من الحيرة فيجنح إلى الفعل، أو إلى الترك و الخطاب المردد بين» افعل «و» لا تفعل «فاقد لهذه الخصوصية.

كما أورد عليه المحقّق النائيني بأنّ مدرك البراءة العقلية هو قبح العقاب بلا بيان و في باب دوران الأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب، لأنّ وجود العلم الإجمالي كعدمه لا يقتضي التنجز و التأثير، فالقطع بالمؤمن حاصل بنفسه بلا حاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.(1)

ص:453


1- الفوائد: 3/448.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتم بالنسبة إلى الحكم الواقعي، لأنّ العلم الإجمالي في المقام لا يكون منجّزاً له. و لكن هنا احتمالاً آخر، و هو احتمال لزوم التعبّد في الظاهر بأحد الحكمين تعييناً أو تخييراً، كما اختاره بعضهم، فالغاية من البراءة العقلية هو رفع هذا الاحتمال، ببيان انّ لزوم الأخذ به احتمال لم يقم عليه دليل، فالعقاب عليه، عقاب بلا بيان، و بذلك بان عدم الإشكال في جريان البراءة العقلية.

و قد أورد) قدس سره (أيضاً على القول بجريان البراءة الشرعية بأنّ مدركها هو قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون «و الرفع فرع الوضع، و في موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب و الحرمة كليهما، لا على سبيل التعيين لاستلزامه التكليف بغير المقدور و لا على سبيل التخيير لكونه تحصيلاً للحاصل و مع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلّق الرفع، فأدلّة البراءة الشرعية لا تعم المقام.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الممتنع هو وضع كلّ في عرض الآخر، و أمّا وضع كلّ واحد مستقلاً وحده، بلا نظر إلى وضع الآخر و عدمه، فأمر ممكن لا مانع من وضعه كما لا مانع من رفعه، فيشير المكلّف إلى الوجوب وحده، و يقول: إنّه مشكوك و غير معلوم، فهو مرفوع و مثله الحرمة.

و بعبارة أُخرى: انّ المكلّف ينظر إلى الوجوب و يحتمل أن يكون هو الحكم الظاهري الذي يجب الأخذ به، معيناً أو مخيراً، فيرفع ذلك الاحتمال، فيكون أثر الأصل العقلي أو الشرعي رفع لزوم التعبد بأحد الحكمين في الظاهر، فلا قصور في شمول الدليل، و أمّا مخالفة النتيجة للعلم الإجمالي بالإلزام، فسنرجع إليه في المستقبل.

ص:454


1- الفوائد: 3/448.
القول الثاني: الأخذ بأحدهما تعييناً
اشارة

المراد من الأخذ هو الأخذ بجانب الحرمة قائلاً بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

يلاحظ عليه بأمرين:

1. انّ الضابطة ليست بتامة، بل ربما يكون جلب المنفعة أولى من دفع المفسدة، كنجاة النفس المحترمة إذا استلزمت التصرف في مال الغير.

2. انّ القاعدة فيما إذا علم المكلّف بوجود الملاك في كلا الموردين لا في مثل المقام الذي لم يثبت إلاّ ملاك واحد في أحد الطرفين.

و تصور لزوم الأخذ بأحدهما لأجل الموافقة الالتزامية، مدفوع بأنّ المراد منها هو لزوم الاعتقاد بما جاء به النبي إجمالاً أو تفصيلاً إذا علم لا الأخذ بمحتمل التكليف بجد و حماس، فانّه أشبه بالتشريع.

القول الثالث: الأخذ بأحدهما تخييراً

و حاصل هذا القول: إنّ الحكم الظاهري عبارة عن الحكم بالتخيير الشرعي بين الفعل و الترك و الفرق بين القول الثاني و الثالث واضح بعد اشتراكها في لزوم التعبد بحكم من الحكمين، غير انّ الأوّل يُلْزم التعبد بأحدهما معيّناً كالقول بأنّ الفعل حرام مثلاً، و هذا يلزم التعبد بالتخييري الشرعي، و ليس له دليل صالح سوى قياس وجود الاحتمالين بالخبرين المتعارضين، فانّ المجتهد مخيّر بينهما إمّا من أوّل الأمر، أو بعد عدم الترجيح المنصوص في أحدهما.

يلاحظ عليه: أنّه قياس، لأنّ الحكم بالتخيير فيما إذا كانت هناك حجّتان متعارضتان لا يكون سبباً للحكم به فيما إذا كان هناك احتمالان، و لعلّ لوجود

ص:455

الخبر تأثيراً في الحكم بالتخيير و ليس في مقام الاحتمال.

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني إشكالاً على هذا القول، هذا حاصله:

إنّ التخيير إمّا شرعي واقعي كخصال الكفارات، أو شرعي ظاهريّ كالتخيير في باب تعارض الطرق و الأمارات، و إمّا عقلي كالتخيير الذي يحكم به في باب التزاحم. و الكلّ في المقام منتف.

أمّا الشرعي بكلا قسميه، فانّ الهدف من جعل التخيير هو سوق المكلّف إلى المجعول، و لكنّه في المقام حاصل تكويناً بلا حاجة إلى جعل التخيير.

و أمّا العقلي فإنّما يجري فيما إذا كان في طرفي التخيير ملاك يلزم استيفاؤه و لم يتمكن المكلّف من الجمع بين الطرفين كما في موارد التزاحم، و ليس الأمر في المقام كذلك، لعدم ثبوت الملاك إلاّ في أحدهما.

فخرج بهذه النتيجة: انّ التخيير في المقام، ليس بشرعي و لا عقلي بل تكويني، حيث إنّ المكلّف لا يخلو من فعل أو ترك، فأصالة التخيير في المقام ساقطة.

يلاحظ عليه أوّلا: أنّ التخيير التكويني راجع إلى التخيير في المسألة الفرعية، فهو مخيّر بين الفعل و الترك تكويناً، و أمّا التخيير في المقام فهو تخيير شرعي ظاهري، غايته، دعوة المجتهد إلى الإفتاء بأحد الوجهين.

و من ذلك يعلم أنّ ما أفاده من أنّ الغاية من التخيير الشرعي الظاهري هو سوق المكلّف إلى المجعول و هو في المقام حاصل، ليس بتام بل الغاية منه، هو دعوة المجتهد إلى الإفتاء بأحد الخبرين، كما في باب التعارض، أو أحد الاحتمالين كما في المقام و هو غير التخيير التكويني المجرّد عن الإفتاء بأحد الأمرين.

و بالجملة التخيير التكويني، تخيير في المسألة الفرعية، و التخيير الشرعي

ص:456

الظاهري، تخيير في المسألة الأُصولية.

و ثانياً: أنّ التخيير العقلي، لا يختص بما إذا كان الملاك موجوداً في كلا الطرفين، بل يكفي العلم بوجوده في أحدهما أيضاً كما في الواقف بين الطريقين، و لا يعلم أنّ أيّاً منهما موصل إلى المقصد، فالعقل يحكم بانتخاب واحد منهما، إذ فيه احتمال الوصول بنسبة الخمسين بالمائة بخلاف التوقف فانّه غير موصل.

القول الرابع: التخيير التكويني من دون الالتزام بحكم ظاهري

قد منع المحقّق النائيني من جريان الأُصول لكن لا بملاك واحد، بل بملاكات مختلفة فقد عرفت وجه عدم جريان البراءة العقلية، و الشرعية و أصالة التخيير الشرعية.

لكن بقي الكلام في منعه جريان أصالة الإباحة، و الاستصحاب. أمّا الأُولى فسيوافيك وجه المنع عند بيان القول الخامس، و أمّا الثاني فقد أفاد في وجه منعه انّ الاستصحاب من الأُصول المتكفلة للتنزيل، فلا يمكن الجمع بين مؤدّاه و العلم الإجمالي، فانّ البناء على عدم وجوب الفعل، و عدم حرمته واقعاً كما هو مفاد الاستصحابين، لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمته سواء لزمت منه المخالفة العملية أو لا.

يلاحظ عليه: بمثل ما ذكرناه في جريان أصالة البراءة و حاصله: أنّ كلّ استصحاب بشخصه، لا يخالف العلم الإجمالي، و كون نتيجة الاستصحابين مخالفة مع العلم الإجمالي لا يكون سبباً لعدم إجراء كلّ واحد في محلّه.

نعم يلزم من جريان الأصلين، المخالفة الالتزامية، و سوف يوافيك الكلام فيه.

ص:457

القول الخامس: التخيير العقلي مع جريان أصالة الإباحة

و المدّعى مركّب من جزءين، و استدل على الجزء الأوّل بقوله:» لعدم الترجيح بين الفعل و الترك فيستقل العقل بينهما «، و على الثاني بقوله: و شمول مثل قوله: كلّ شيء حلال حتى تعرف انّه حرام، و لا مانع عنه عقلاً و نقلاً.

و أورد عليه المحقّق النائيني بأنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقيّ تنافي المعلوم بالإجمال، لأنّ مفاد أصالة الإباحة، الرخصة في الفعل و الترك و ذلك يُناقِضُ العلم بالإلزام و هو لا يجتمع مع جعل الإباحة و لو ظاهراً(1).

الحقّ انّ الإشكال وارد و أمّا الفرق بين البراءة العقلية و الشرعية حيث قلنا بجريانهما و أصالة الإباحة حيث منعنا عن جريانها فواضح، ذلك لأنّ كلّ واحد من البراءتين، لا يخالف العلم الإجمالي بالإلزام و إنّما المخالف نتيجتهما و هي ليست من مداليل دليل الأصل، و أمّا أصالة الإباحة فهو بمضمونها المطابقيّة تضاد الإلزام على وجه الإطلاق فالأصل يدعي عدم الخروج عن حدّ الاستواء مع انّا نعلم أنّه خرج عنه و حكم عليه بالإلزام.

و من هنا تبين قوة القول السادس، و هو جريان الأُصول الأربعة: البراءتين و التخيير و الاستصحاب، و عدم جريان أصالة الإباحة.

بقيت هنا أُمور:
1. ما فائدة جريان الأُصول و جعل الحكم الظاهري مع أنّ المكلّف لا يخلو من فعل أو ترك.

الجواب: انّ الرجوع إلى الأصل لغاية احتمال لزوم التعبد بأحدهما المعيّن أو

ص:458


1- فوائد الأُصول: 3/445.

أحدهما المخيّر فلا رافع لهذا الاحتمال إلاّ الأصل.

2. انّ الرجوع إلى الأصل في كلا الجانبين يخالف وجوب الموافقة الالتزامية.

الجواب: انّ الموافقة الالتزامية ترجع في المقام إلى أحد الأُمور التالية:

أ: الالتزام بما جاء به النبي في مجالي العقيدة و الشريعة، من فرائض و مندوبات و محظورات، و مكروهات و مباحات على ما هو عليه، و هذا أمر لا سترة في وجوبه و يُعدّ من شرائط الإيمان، لقوله سبحانه: (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ).(1)

ب: لزوم الالتزام بخصوص أحدهما تعييناً أو تخييراً، و هذا أمر لا دليل عليه بل يستلزم التشريع المحرم و إدخال ما لم يعلم من الدين فيه.

ج: الالتزام بالإلزام الجامع بين الفعل و الترك، فيجب أن يكون مفاد الأصل غير مخالف له. لكن الالتزام أمر محقّق، و لأجل ذلك منعنا عن جريان أصالة الإباحة لكونها بالمفهوم المطابقي تضادّ العلم بالإلزام، و أمّا غيره كأصل البراءة بكلا قسميه أو الاستصحاب، فكلّ أصل في حدّ نفسه لا يخالفه.

و لعلّ نظر القائل بمنع جريان البراءة إلى أنّ كلّ واحد من الأصلين و إن كان مجتمعاً مع الإلزام، لكن نتيجة الأصلين تضاد العلم بالإلزام.

و الجواب: ارتفاع التضاد، باختلاف مرتبة الحكمين، فانّ مفاد الأصلين هو انّه لم يقم دليل على واحد من الوجوب و الحرمة في الظاهر، و هو لا يهدف إلى أنّه ليس هنا إلزام في الواقع، بل يعترف به و يُضيف بأنّه ليس هنا دليل على تحقق الإلزام في ضمن هذا الفرد أو ذاك و لا مانع عن كون الفعل محكوماً بالإلزام واقعاً. و لا يكون محكوماً بأحد الإلزامين ظاهراً.

ص:459


1- النساء: 65.
3. هل التخيير بدئي أو استمراري

قد تبيّن ممّا ذكرنا أنّه إذا دار الأمر بين المحذورين فالإنسان مخيّر بين الفعل و الترك، مع جريان البراءة من الحكمين ظاهراً، فلو كانت الواقعة واحدة فلا موضوع للبحث عن كون التخيير بدئياً أو استمرارياً، إنّما الكلام إذا تعدّدت الواقعة، كما إذا تردد شرب مائع في ليالي الجمعة إلى شهر بين كونه محلوف الفعل أو الترك، فعلى القول بأنّه بدئي، ليس له في الواقعة الثانية اختيار غير ما اختاره في الواقعة الأُولى، بخلاف ما لو كان استمراريّاً. ذهب المحقّق النائيني إلى الثاني و استدل بما هذا حاصله:

إنّ أمره في كلّ ليلة الجمعة دائر بين المحذورين، فكون الواقعة ممّا يتكرر لا يوجب خروج المورد عن دوران الأمر بين المحذورين، و لا يلاحظ انضمام الليالي بعضاً إلى بعض، لأنّ الليالي بقيد الانضمام لم يتعلق الحلف و التكليف بها، فلا بدّ من ملاحظتها مستقلة، ففي كلّ ليلة يدور الأمر بين المحذورين و يلزمه التخيير الاستمراري.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المسألة ليست مبنيّة على ضمّ الليالي بعضها إلى بعض حتى يقال: إنّ كلّ ليلة موضوع بحيالها، و ليس الموضوع المجموع منها، بل مبنيّة على تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات مثل الدفعيات، فلو تردد وجوب شيء في وقت و حرمته في وقت آخر، تجب عليه الحركة على وفق العلم الإجمالي، فلو ترك الفعل في الأوّل و أتى به في الثاني فقد ارتكب المبغوض القطعي للمولى، و مثله المقام، فلو اختار في الواقعة الثانية خلاف الأُولى علم انّه ارتكب المبغوض إمّا في الواقعة الأُولى أو الثانية، و العقل كما يستقل بقبح ارتكاب المبغوض دفعة كذلك يحكم بقبحه تدريجاً.

ص:460


1- فوائد الأُصول: 3/463.
4. في تقديم محتمل الأهمية

إذا قلنا بالتخيير فهل يستقل العقل به مطلقاً، سواء كان أحدهما أقوى احتمالاً، كما إذا كان الوجوب أقوى احتمالاً من الحرمة، أو أقوى محتملاً، كما إذا كان متعلق الوجوب أقوى أهمية على فرض كونه مطابقاً للواقع من متعلّق الحرمة كما إذا دار أمر شخص بين كونه محقون الدم أو مهدوره أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الثاني، و استدل عليه بوجهين:

الأوّل: انّ المقام من صغريات دوران الأمر بين التعيين و التخيير، و الأصل فيه هو التعيين، لأنّ استقلال العقل بالتخيير إنّما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين و مع إجماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعينه.

و أورد عليه سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (: بأنّه إذا جرت البراءة في أصل التكليف، فخصوصيته أولى بأن يكون مجرىً لها.(1)

يلاحظ عليه: أنّ البحث على أساس أن يكون الحكم الظاهري هو التخيير لا البراءة، وعليه لا يستقل به عند إجمال المزية احتمالاً أو محتملاً.

الثاني: قياس المقام بالمتزاحمين، فكما لا يستقل العقل بالتخيير إذا احتمل في أحد المتزاحمين الأهمية كاحتمال كونه إماماً فهكذا في المقام.

و أورد عليه صاحب المصباح بالفرق بين المقامين، بأنّ الأهمية المحتملة في المقام تقديريّة إذ لم يثبت أحد الحكمين بخصوصه، إنّما المعلوم ثبوت الإلزام في الجملة، غاية الأمر أنّه لو كان الإلزام في ضمن أحدهما المعيّن احتمل أهميته، و هذا بخلاف باب التزاحم المعلوم فيه ثبوت الحكم في كلا الطرفين، و إنّما كان عدم وجوب امتثالهما معاً للعجز و عدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما.(2)

ص:461


1- تهذيب الأُصول: 2/246.
2- مصباح الأُصول: 2/334.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره لا يتجاوز عن بيان الفرق بين المسألتين و هو غير منكر، و أمّا انّه يجب مراعاة احتمال المزية في المتزاحمين دون المقام فلم يُبيِّن وجهه، و الحقّ انّ العقل لا يستقل بالتساوي إذا كان أحد الطرفين أقوى احتمالاً أو محتملاً.

و إن شئت قلت: كما لا يحكم العقل بتساوي المرجوح القطعي مع الراجح القطعي كذلك لا يحكم بتساوي المرجوح احتمالاً مع الراجح احتمالاً، من غير فرق بين أن يكون الحكم ثابتاً و الأهمية محتملة، أو يكون كلاهما محتملين، غاية الأمر على فرض ثبوت الحكم فأهميته محتملة.

المقام الثاني: في دوران الأمر بين المحذورين في التعبديات

كان الكلام في المقام الأوّل في دوران الأمر بين المحذورين مع كون الحكمين توصليين، و قد عرفت الأقوال و جريان الأُصول سوى الإباحة، و أمّا إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبديين كصلاة المرأة في أيام الاستظهار، فلو كانت حائضاً حرمت العبادة، حرمة توصلية و أمّا إذا كانت طاهراً وجبت الصلاة وجوباً تعبدياً، فقد ذهب الشيخ إلى أنّ محل الأقوال السابقة ما لو كان كلّ من الوجوب و الحرمة توصليين بحيث يسقط بمجرّد الموافقة، و أمّا لو كانا تعبديين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف و كان أحدهما المعيّن كذلك، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما و الرجوع إلى الإباحة لأنّه مستلزم للمخالفة القطعية.

توضيح ذلك: كان الكلام فيما سبق منصبّاً فيما لو كانت الموافقة القطعية كالمخالفة القطعية ممتنعة، و أمّا المقام فالموافقة القطعية و إن كانت ممتنعة، لكن المخالفة القطعية ممكنة، فلو صلّت بلا نيّة القربة فقد أتت المبغوض، إذ لو كانت طاهرة فصلاتها باطلة، و لو كانت حائضاً فقد ارتكبت الحرام بناء على أنّ صورة

ص:462

العبادة محرمة عليها أيضاً.

أقول: ما ذكره إنّما يمنع عن جريان الأُصول، و لكن لا يمنع من جريان أصل التخيير فهو كالصورة السابقة مخير بين الأمرين إمّا الإتيان بالصلاة مع قصد القربة أو تركها أصلاً، و الميزان في جريانها هو امتناع الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة القطعية أو لا.

المقام الثالث: أصالة التخيير في الشكّ في المكلّف به

إنّ أصالة التخيير لا تختص بصورة الشكّ في التكليف، بل تعمه و الشكّ في المكلّف به، لأنّ الملاك هو دوران الأمر بين المحذورين و عدم إمكان الموافقة القطعية، سواء أمكنت المخالفة القطعية كما مرّ في المقام الثاني أو لم يمكن، و بذلك تقف على أنّ أصل التخيير كما يجري في الشكّ في التكليف، كما إذا كان نوع التكليف مجهولاً، كذلك يجري في الشكّ في المكلّف به، كما فيما إذا كان نوع التكليف معلوماً لكن كانت الموافقة القطعية غير ممكنة، و إليك بعض الأمثلة:

1. إذا علم أنّ أحد الفعلين واجب و الآخر حرام في زمان معيّن و اشتبه أحدهما بالآخر، فهو مخيّر بين فعل أحدهما و ترك الآخر، لأنّ الموافقة القطعية غير ممكنة، نعم ليس له ترك كليهما أو فعل كليهما، إذ تلزم فيه المخالفة القطعية.

2. إذا علم بتعلّق الحلف بإيجاد فعل في زمان، و ترك ذاك في زمان آخر، و اشتبه زمان كلّ منهما، كما إذا حلف بالإفطار في يوم، و الصيام في يوم آخر، فاشتبه اليومان فهو مخيّر بين الإفطار في يوم، و الصيام في يوم آخر، لكن ليس له المخالفة القطعية كأن يصومهما أو يفطر فيهما.

3. نعم لا يجري أصل التخيير فيما إذا دار أمر شيء بين كونه شرطاً للصحة أو مانعاً كالجهر، و ذلك لأنّ الموافقة القطعية بإقامة صلاة واحدة و إن كانت غير

ص:463

ممكنة لكنّها ممكنة بإقامة صلاتين في إحداهما.

و قد عرفت أنّ الملاك لجريان أصالة التخيير امتناع الموافقة القطعية و هو ليس بموجود في هذا المورد.

تمّ الكلام في أصالة التخيير

ص:464

الأصل الثالث:

اشارة

أصالة الاحتياط

و قبل الدخول في المقصود نذكر أُموراً:

الأمر الأوّل: انّ حصر الأُصول العملية العامّة في الأربعة، استقرائي، و حصر مجاريها في الأربعة عقلي،

لكن اختلفت كلمة الشيخ في بيان المجاري، فقرّره في أوّل رسالة القطع بوجهين مختلفين، كما قرره في أوّل رسالة البراءة بوجه ثالث، فلأجل دراسة الفرق بين الشكّ في التكليف و الشكّ في المكلّف به، نأتي بالبيانين الواردين في أوّل رسالة القطع ثمّ نذكر فيها البيان الثالث قال) قدس سره (:

انّ الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا، و على الثاني، إمّا أن يمكن الاحتياط أو لا، و على الأوّل إمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو في المكلّف به، فالأوّل مجرى الاستصحاب، و الثاني مجرى التخيير، و الثالث مجرى البراءة، و الرابع مجرى الاحتياط.

ففي هذا التعريف عدّ مجرى التخيير قسيماً لمجرى الشكّ في التكليف و الشكّ في المكلّف به، فمورده، دوران الأمر بين المحذورين الذي تمتنع فيه الموافقة القطعية، فهو ليس من قبيل الشكّ في التكليف و لا في الشكّ في المكلّف به.

بخلاف التعريف الثاني، فانّه جعل مجرى الاحتياط من أقسام مجرى الشكّ في المكلّف به، و قسمه إلى ما لا يمكن الاحتياط فيه، و ما يمكن، و الأوّل مجرى

ص:465

التخيير، و الثاني مجرى الاحتياط، قال:

و بعبارة أُخرى: الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا، فالأوّل مجرى الاستصحاب، و الثاني إمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو لا، فالأوّل مجرى البراءة، و الثاني إمّا أن يمكن الاحتياط أو لا، و الأوّل مجرى الاحتياط و الثاني التخيير.

الأمر الثاني: المراد من التكليف أحد التكاليف الخمسة

المعروفة من الوجوب و الاستحباب و الحرمة و الكراهة، و الإباحة بالمعنى الأخص، أي ما فيه اقتضاء التساوي.

و على ذلك فكون المورد من قبيل الشكّ في التكليف عبارة عن كون النوع مجهولاً، سواء كان الجنس أيضاً مجهولاً، كشرب التتن حيث إنّ النوع و الجنس) الجواز و المنع (مجهولان، أو كان الجنس معلوماً و النوع مجهولاً كما في دوران الأمر بين المحذورين و العلم إجمالاً بكون الشيء إمّا حراماً أو واجباً.

كما أنّ المراد من الشكّ في المكلّف به هو كون التكليف بنوعه معلوماً، و إنّما الشكّ في المتعلّق، كتردد الواجب بين الطهر و الحرام، و الخمر بين الإناءين.

إذا علمت ذلك فاعلم انّه يرد على البيانين الماضيين إشكالان:

الإشكال الأوّل انّ حصيلة كلا التعريفين: انّ الشكّ في التكليف مجرى للبراءة مع أنّه ربّما يكون المورد من قبيل الشك في التكليف و لكن تكون الوظيفة الاحتياط كما في الموارد الثلاثة التالية:

1. الشبهة التكليفية قبل الفحص.

2. الشبهة البدوية و لكن كان للمحتمل أهمية بالغة، كما في الدماء و الأعراض و الأموال.

ص:466

3. إذا دار الأمر بين وجوب فعل، و ترك فعل آخر، فانّه من نوع الشكّ في التكليف لعدم العلم بنوع التكليف لكن يجب الاحتياط.

و يمكن الذبُّ عن الأوّل: بأنّ الفحص ليس من شرائط العمل بالأصل، بل من شرائط جريانه، فلا يجري الأصل قبل الفحص.

و عن الثاني: بأنّ مقتضى القاعدة هو البراءة، و لكن دلّ الدليل الثانوي على الاحتياط، من الإجماع، أو ما ذكرناه سابقاً من أنّه إذا كان الحرمة أو الفساد هو مقتضى طبع الموضوع، فلا تجري فيه البراءة و لا أصالة الصحة.

نعم النقض الثالث باق بحاله حيث يجب الاحتياط مع كونه من قبيل الشكّ في التكليف على تفسير الشيخ، و إرجاعه إلى الشكّ في المكلّف به بأنّه عالم إمّا بوجوب فعل هذا أو ترك ذاك، تكلّف واضح.

الإشكال الثاني إذا كان الملاك في الشكّ في التكليف هو عدم العلم بالنوع، و في الشكّ في المكلّف به هو العلم به، يلزم أن يكون مجرى التخيير داخلاً في الشكّ في التكليف، مع أنّه جعله قسيماً لمجرى البراءة في التعريف الأوّل، و قسماً من الشكّ في المكلّف به في التعريف الثاني، و هذا إشكال لا يمكن الذبّ عنه.

البيان الثالث جعل الشيخ ملاك البراءة و الاحتياط كون الشكّ في التكليف، و الشكّ في المكلّف به، و فسر التكليف بالعلم بالنوع توجه إليه هذان الإشكالان، و لكنّه) قدس سره (أتى ببيان آخر في أوّل أصالة البراءة هو أتقن من ذينك البيانين إذ لم يعتمد فيه لا على عنوان الشكّ في التكليف و لا على الشكّ في المكلّف به، بل بقيام الدليل على العقاب و عدمه، و قال: إنّ الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه أو

ص:467

لا سواء لم يكن يقين سابق أو كان و لم يكن ملحوظاً، و الأوّل مورد الاستصحاب، و الثاني إمّا أن يكون الاحتياط ممكناً أو لا، و الثاني مجرى التخيير. و الأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع، و إمّا أن لا يدل، و الأوّل مورد الاحتياط، و الثاني مورد البراءة.

و هذا البيان يشارك البيان الأوّل في بيان مجرى الأصلين: الاستصحاب و التخيير، لكن يفارقه في بيان الأصلين في الأخيرين، البراءة و الاشتغال، فالملاك على هذا البيان هو قيام الدليل على العقاب و عدمه، من غير فرق بين الشكّ في التكليف أو المكلّف به، فإن قام الدليل على العقاب لزم الاحتياط. و إن كان الشكّ في التكليف كما في الموارد الثلاثة التي أوردناها نقضاً على البيانين، و إن لم يدل جرت البراءة و إن كان الشكّ في المكلّف به كما في موارد الشبهة غير المحصورة.

و بذلك ظهر أمران:

1. انّ لأصل التخيير مجرى مستقلاً.

2. انّ الميزان في الاشتغال و البراءة قيام الدليل على العقاب و عدمه.

الأمر الثالث: انّ المطالب المبحوث عنها في الشكّ في المكلّف به، كالشكّ في التكليف ثلاثة،

و الفرق، انّ الاشتباه كان هناك في الحكم و هنا في المكلّف به و هي عبارة:

1. اشتباه الحرام بغير الواجب بمسائله الأربع.

2. اشتباه الواجب بغير الحرام بمسائله الأربع.

3. اشتباه الواجب بالحرام بمسائله الأربع.

و أمّا المطلب الثالث فقد عرفت انّه مجرى التخيير، فينحصر البحث في الشبهة التحريمية و الشبهة الوجوبية.

ص:468

الكلام في الشبهة التحريمية من الشكّ في المكلّف به

اشارة

إذا اشتبه الحرام بغير الواجب و مسائلها أربع، لأنّ منشأ الشكّ إمّا فقدان النصّ، أو إجماله، أو تعارضه، أو خلط الأُمور الخارجية، و لما لم يكن للمسائل الثلاث الأُولى، تطبيقات كثيرة في الفقه، انصبّ البحث في هذا المطلب على الشبهة الموضوعية، كما إذا دار أمر المائع النجس بين إناءين مشتبهين، و هو ينقسم إلى محصورة، و غير محصورة، فلنتاول الأُولى بالبحث.

حكم الشبهة التحريمية المحصورة

اختلفت أنظارهم في حكم الشبهة التحريمية المحصورة إلى أقوال:

1. حرمة المخالفة القطعية، و وجوب الموافقة القطعية، و هذا هو المشهور بين الأُصوليين.

2. التفصيل بين المخالفة القطعية و الموافقة القطعية، فتحرم الأُولى دون الثانية، و هو المنسوب إلى المحقّق القمي) قدس سره (.

3. جواز المخالفة القطعية، فضلاً عن الاحتمالية، و هو المنسوب إلى العلاّمة المجلسي رحمة اللّه عليه.

و منشأ الأقوال الثلاثة هو اختلاف أنظارهم في مدى تأثير العلم الإجمالي بالنسبة إلى الأمرين.

ص:469

فمن قائل بأنّه علّة تامّة بالنسبة إلى المخالفة القطعية و الاحتمالية، و لذلك اختار القول الأوّل.

إلى آخر قائل بأنّه علّة تامّة بالنسبة إلى المخالفة القطعية فلا تجوز، و مقتض بالنسبة إلى المخالفة الاحتمالية فلا تجوز الأُولى دون الثانية، و للشارع جعل حكم ظاهري مؤد إلى المخالفة الاحتمالية.

إلى ثالث بأنّه مقتض بالنسبة إلى كلتا المخالفتين، فيجوز للشارع جعل حكم ظاهري مؤدّ إلى كلتيهما.

و على هذه المباني تدور الأقوال الثلاثة.

و على كلّ تقدير يقع الكلام في مقامين.

المقام الأوّل: إمكان جعل الترخيص ثبوتاً
اشارة

إنّ المحقّق الخراساني قد قسّم متعلّق العلم إلى قسمين، لا يجوز في أحدهما جعل الترخيص عقلاً بخلاف الآخر، فقال ما هذا حاصله:

إنّ التكليف المعلوم إجمالاً على قسمين:

1. ما كان التكليف فعلياً من جميع الأبواب بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامة للبعث أو الترك الفعليّين مع ما هو من الإجمال و التردّد كقتل المؤمن و إراقة دمه بلا وجه، فلا محيص عن تنجزه و صحّة العقوبة على مخالفته، و حينئذٍ لا تشمل أدلّة الأُصول أطراف مثل هذا العلم، لاستلزامه التناقض بين التشريعين.(1)

2. ما كان فعليّاً من سائر الجهات، و لا يكون فعليّاً مطلقاً إلاّ إذا تعلّقها لعلم التفصيلي، بحيث لو علم تفصيلاً لوجب امتثاله و صحّ العقاب على مخالفته، ففي هذه الصورة لم يكن هناك مانع عقلاً و لا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعية للأطراف، نظير الأموال المخلوطة بالربا، أو إبل

ص:470


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 5 من أبواب ما فيه الربا، الحديث 3; و الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5; و الباب 4 من هذه الأبواب، الحديث 21.

الصدقة(1) المخلوطة بالحرام، فلا يحرم شيء من تلك إلاّ إذا علم تفصيلاً انّه ربا أو انّه مال الغير، كما وردت في الروايات.

يلاحظ عليه: أنّ الصورة الأُولى خارجة عن محطّ البحث، بشهادة أنّ الاحتمال فيه أيضاً منجّز فضلاً عن العلمين التفصيلي أو الإجمالي، و ينحصر الكلام في الصورة الثانية.

بيانه انّه إذا دلّ دليل قطعي على أصل الحكم، دون حكم صوره، و إنّما دلّ على حكمها إطلاق الدليل الشامل للمعلوم تفصيلاً و المعلوم إجمالاً و المشكوك وجوداً، مثل قوله:» اجتنب عن الخمر «فانّ أصل الحكم ثابت بالدليل القطعي، لكن حرمته في عامة الصور إنّما يثبت بإطلاق الدليل، فلا شكّ في إمكان تقييد الدليل، بصورة العلم التفصيلي، و إخراج صورة العلم الإجمالي بالموضوع عن تحته، كإخراج صورة الشكّ عنه في وجود الموضوع، فهذا أمر ممكن فيجوز تقييد إطلاقه بإخراج صورة المعلوم بالإجمال، فتكون النتيجة اختصاص حرمة الخمر بصورة العلم التفصيلي.

و يمكن استظهار كون الأحكام من قبيل القسم الثاني، من كونها محدّدة بعدم طروء عناوين ثانوية، كالضرر، و العسر، و الحرج، و الاضطرار، و الإكراه و التقية، و عدم الابتلاء بالأهم، إلى غير ذلك من العناوين الثانوية، التي تكون مانعة عن تنجز الأحكام الواقعية، فلو كانت الأحكام منجزة على كلّ تقدير فما معنى تحديدها بهذه الحدود.

نعم انّ هنا أُموراً ربّما يتخيل أنّها من جعل الترخيص حتى في القسم الثاني من الأحكام، و قد أشار إليها الشيخ الأنصاري، و نحن نأتي بها على وجه التفصيل حتى يتبين عدم كونها مانعاً عقلياً من إمكان الترخيص.

ص:471


1- كفاية الأُصول: 2/208.
أ. جعل الترخيص، ترخيص في المعصية

إنّ جعل الترخيص في بعض الأطراف أو جميعها، ترخيص في المعصية الاحتمالية أو القطعية.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكر إنّما يجري في الحكم المنجّز على كلّ حال، دون المنجز بشرط تعلّق العلم التفصيلي. و بعبارة أُخرى: إنّما يتوجه إلى الحكم المعلوم بالوجدان، لا المعلوم بالإطلاق، فالترخيص في صورة العلم الإجمالي كالترخيص في صورة الشك، كاشف عن رفع اليد عن الحكم الواقعي على فرض وجوده، نظير ارتفاعه في مورد الحرج و الضرر و سائر العناوين الثانوية.

ب. جعل الترخيص، تصويب

إنّ جعل الترخيص لبعض الأطراف أو كلّها، يرجع إلى تحليل الخمر في حقّ العالم به إجمالاً، و هو يساوي مع نفي وجود حكم مشترك بين المكلّفين.

يلاحظ عليه: بما مرّ في الجمع بين الأحكام الواقعية، و ما قامت عليه الأمارات و الأُصول التي ربما تتخلف عن الواقع، فانّ الأمر بالعمل بها، يلازم رفع اليد عن الواقع فعلاً، مع التحفظ عليه إنشاء.

ج. جعل الترخيص إلقاء في المفسدة

إنّ جعل الترخيص، إلقاء في المفسدة القطعية أو المفسدة الاحتمالية، و كلاهما قبيح.

يلاحظ عليه: بما ذكر من باب الجمع بين الأحكام الواقعية و الظاهرية، و قلنا ربما يكون في الترخيص مصلحة غالبة على مفسدة الواقع.

ص:472

المقام الثاني: في وقوع الترخيص
اشارة

قد عرفت إمكان جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي و عدم وجود مانع عقلي، إنّما الكلام في وقوعه. و قبل الخوض في بيان مقدار دلالة الأُصول نبيّن ما هو مقتضى الأدلة الاجتهادية حتى يكون هو المتبع عند عدم الدليل على الخلاف.

لا شكّ انّ مقتضى إطلاق الدليل عدم الفرق بين العلم التفصيلي و العلم الإجمالي. لأنّ إطلاق قوله:

» اجتنب عن الخمر «يشمل الأفراد الثلاثة: المعلوم تفصيلاً، و إجمالاً، و المصداق الواقعي المشكوك في الظاهر، لكن دلّ الدليل على وجوب الاجتناب في الصورة الثالثة، بقي القسمان تحته، و إلى ذلك يشير شيخنا الأعظم بقوله: بوجود المقتضي للحرمة و عدم المانع عنه، فقال:

أمّا ثبوت المقتضي فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه، فانّ قول الشارع:» اجتنب عن الخمر « يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإناءين، و لا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلاً، و أمّا عدم المانع فلأنّ العقل لا يمنع من التكليف عموماً أو خصوصاً بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو أُمور.

إذا عرفت مقتضى الدليل الاجتهادي فلنبحث في وقوع الترخيص في أحد الطرفين أو كليهما في الشرع.

1. الترخيص بالاستصحاب

ذهب الشيخ الأعظم إلى عدم شمول أدلّة الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي، و إلاّ تلزم مناقضة صدرها مع ذيلها، و قال في توضيحه ما هذا لفظه: إنّ العلم الإجمالي بانتقاض أحد الضدين يوجب خروجها عن مدلول لا تنقض، لأنّ

ص:473

قوله:» لا تنقض اليقين بالشك، و لكن تنقضه بيقين مثله «، يدل على حرمة النقض بالشك، و وجوب النقض باليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين، فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك، لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المراد من اليقين في الجملة الثانية هو اليقين التفصيلي دون الأعم منه و من الإجمالي، و ذلك لأنّ المتبادر من حرمة نقض اليقين إلاّ بيقين آخر مثله(2)، هو كون اليقين الثاني ناقضاً للأوّل و رافعاً له من رأس و اليقين الإجمالي بورود النجس في أحد الإناءين ليس كذلك، أي ليس ناقضاً لليقين السابق من رأس، و ذلك لأنّ اليقين السابق عبارة عن اليقين بطهارة كلّ من الإناءين، و لا ينقض إلاّ بيقين مثله، و هو اليقين بنجاسة كلا الطرفين، لا اليقين بنجاسة واحد لا بعينه.

و إن شئت قلت: المراد هو رفع اليقين السابق من أصله، و لا يرفع اليقينُ الإجمالي، اليقينَ السابق، غاية الأمر يحدده بأحد الإناءين و يضيقه. و هو غير مفاد الذيل.

نعم يمكن أن يقال بانصراف أدلّة الاستصحاب عن أطراف العلم الإجمالي، و الترخيص ثبوتاً و إن كان ممكناً، لكن ليس كلّ ممكن واقعاً، و مدلولاً للرواية، بل ترخيص الأطراف بعضاً أو كلاّ يحتاج إلى دليل صريح كما في الحلال المختلط كالربا، و الزكاة المختلطة بالحرام.

و بعبارة أُخرى: أنّ الترخيص في أطرافه يتلقاه العرف، ترخيصاً في المعصية و إن لم يكن في الواقع كذلك و لذلك لا تسكن نفسه إلاّ بدليل صريح كما سيوافيك.

ص:474


1- الفرائد: 429، ط رحمة اللّه، مبحث تعارض الاستصحابين.
2- الوسائل: الجزء 1، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1، و في التهذيب: 1/174، لفظة» مثله «.
2. الترخيص بالبراءة العقلية

و هل يجوز التمسّك بالبراءة العقلية و الترخيص في ارتكاب أطراف العلم الإجمالي؟ الظاهر لا، لأنّها مركّبة من صغرى و كبرى، فيقال: هذا المورد لم يرد فيه بيان، و كلّ مورد لم يرد فيه بيان فالعقاب قبيح، فينتج هذا المورد العقاب فيه قبيح، و لكن الصغرى منتفية، للعلم الوجداني أو قيام البيّنة على وجود الخمر في البين، و مع عدم الصغرى كيف يستدل بالكبرى المجرّدة عنها؟

3. الترخيص بالبراءة الشرعية

إنّ ما يستدل به على البراءة الشرعية على قسمين، قسم منه ظاهر في الشبهة البدئية و لا يتبادر منه العموم. و قسم منه ربما يستظهر منه العموم و الشمول لأطراف العلم الإجمالي.

أمّا الأوّل فهي عبارة عن الأحاديث التالية:

1. حديث الرفع:» رفع عن أُمّتي تسعة... و ما لا يعلمون «.

2. حديث الحجب:» ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم «.

3. حديث السعة:» الناس في سعة ما لا يعلمون «.

4. حديث التعريف:» انّ اللّه يحتج على العباد بما آتاهم و عرفهم «.

5. حديث الإطلاق:» كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي «.

أمّا عدم اختصاصها بالعلم التفصيلي، فلأنّ المراد من العلم، و هكذا البيان، و التعريف في الحديث الرابع، هو الحجّة، و هي موجودة بصغراها و كبراها في مورد العلم الإجمالي.

ص:475

و أمّا الرواية الخامسة، فالغاية حصلت حيث علم المكلّف بورود النهي، و إن كان متعلّقه مردّداً بين المصداقين; و لا دليل على تفسيره بالورود على الموضوع المشخص.

ثمّ إنّ هنا نكتة: و هي إنّا و إن أثبتنا إمكان جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي بتقسيم الأحكام إلى قسمين، لكن العرف يتلقى الترخيص فيه، ترخيصاً في المعصية، و لا يقتنع بتلك الإطلاقات لو ثبت إطلاقها بل يراها منصرفة عن مورده، إلاّ أن يرد نصّ في المورد كما ورد في باب الربا، و غيره.

و أمّا القسم الثاني الذي ربما يستظهر منه العموم و الشمول لأطراف العلم الإجمالي فليس إلاّ حديثان:

1.» كلّ شيء لك حلال حتى تعلم انّه حرام بعينه «.(1)

وجه الاستدلال: انّ في قوله:» بعينه «احتمالين:

أ. انّه تأكيد للفعل و قوله:» بعينه «بمعنى جزماً لا تخميناً، فيكون معناه» أي حتى تعلم جزماً، لا ظناً انّه حرام «. و الغاية بهذا المعنى حاصلة في مورد العلم الإجماليّ.

ب. انّه تأكيد للضمير المنصوب في» انّه «و قوله:» بعينه «بمعنى» بشخصه «فيكون المعنى» أي حتى تعلم انّه بشخصه، حرام في مقابل المردد «.

و الأوّل خيرة السيد الأُستاذ) قدس سره (. و الظاهر هو الثاني، و يؤيده ما ورد في اشتراء إبل الصدقة المخلوطة مع الحرام، روى أبو عبيدة، عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان إبل الصدقة و غنم الصدقة و هو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم، قال: فقال:

» ما الإبل إلاّ

ص:476


1- الوسائل: 12/60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه «.(1) و مثله غيره.(2)

و على ضوء ما ذكرنا تصلح الرواية في بادئ الأمر للاستدلال في المقام.

يلاحظ عليه بوجهين:

أوّلاً: أنّه ليس حديثاً مستقلاً و إنّما هو جزء من رواية مسعدة بن صدقة و إن كان الظاهر من المحقّق الخراساني) قدس سره (انّه رواية مستقلة، و الأمثلة الواردة فيها كلّها من قبيل الشبهة البدئية، و الإمام) عليه السلام (طبَّقَ الضابطة عليها فقط و هذا دليل على اختصاصها بها.

و ثانياً: أنّ الحلية في الأمثلة الواردة فيها ليست مستندة إلى الضابطة، بل إلى قواعد أُخرى، قال:

» و هذا مثل الثوب يكون عليك و قد اشتريته و هو سرقة. و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خُدِعَ فبيع قهراً، أو امرأة تحتك و هي أُختك أو رضيعتك «(3)فالحلية في الثوب و العبد المشترى مستندة إلى قاعدة اليد، و في المعقودة، إلى أصالة الصحّة في العقد، أو استصحاب عدم تحقّق النسب و الرضاع بينهما; و هذا يورث الضعف في الاستدلال بالرواية، إلاّ أن يكون الغرض هو الاستئناس.

ب. روى عبد اللّه بن سنان، قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه «.(4)

و قد رواها المشايخ الثلاثة بسندهم إلى عبد اللّه بن سنان و السند صحيح.

ص:477


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
2- الوسائل: الجزء 12، الباب 5 من أبواب الربا، الحديث 3.
3- الوسائل: الجزء 12، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
4- الوسائل: الجزء 12، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

و قد ذكرناها عند البحث عن أدلّة البراءة، و ذكرنا الاحتمالات الموجودة فيها، لكن الذي يمكن أن يقال إنّ إجمال الحديث يرتفع بالرواية الثانية و هي....

ج. ما رواه عبد اللّه بن سنان، عن عبد اللّه بن سليمان، قال: سألت أبا جعفر) عليه السلام (عن الجبن، فقال لي:» لقد سألتني عن طعام يعجبني «ثمّ أعطى الغلام درهماً، فقال:» يا غلام ابتع لنا جبناً «ثمّ دعا بالغذاء فتغذينا معه فأتى بالجبن فأكل و أكلنا، فلما فرغنا من الغذاء، قلت: ما تقول في الجبن؟ إلى أن قال:

» سأخبرك عن الجبن و غيره، كلّ ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه «.(1)

و الفرق بين الروايتين هو انّ عبد اللّه بن سنان يروي الأُولى عن الإمام الصادق) عليه السلام (بلا واسطة، و لكنّه يروي الثانية بواسطة عبد اللّه بن سليمان، عن الإمام الباقر) عليه السلام (فتعدّان روايتين لتعدد الإمام المروي عنه.

د. نعم ثمة رواية ثالثة رواها معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا، قال: كنت عند أبي جعفر) عليه السلام (فسأله رجل عن الجبن، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» إنّه لطعام يعجبني، و سأخبرك عن الجبن و غيره، كلّ شيء فيه الحلال و الحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه «.(2)

و الرواية الثالثة تتحد مع الرواية الثانية، و الظاهر انّ المراد من قوله فسأله رجل هو عبد اللّه بن سليمان.

ه. و يظهر من رواية رابعة انّ عبد اللّه بن سنان كان في مجلس الإمام الصادق) عليه السلام (و سأله رجل عن الجبن، و هل هو عبد اللّه بن سليمان لروايته عنه أيضاً سواء أ كان المراد هو الصيرفي أو العامري فكأنّه سأل الإمامين عن الجبن، أو غيرهما و هو أقرب إذ لا وجه لسؤال شخص واحد الإمامين عن موضوع واحد.

ص:478


1- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1.
2- المصدر نفسه، الحديث 7.

روى البرقي في المحاسن عن عبد اللّه بن سنان: سأل رجل أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن الجبن:

فقال:» إنّ أكله ليعجبني «ثمّ دعا به فأكله.(1)

فالمجموع من حيث المجموع يرفع الإبهام عن الرواية الأُولى، و هي أنّ صناعة الجبن من الميتة أوجد مشكلة في عصر الإمامين الباقر و الصادق) عليهما السلام (، و قد حاولا إزالة الشكوك عن أذهان شيعتهم بجواز الانتفاع ما لم يعرف الحرام بعينه.

و على ضوء ذلك يكون مورد الضابطة، الشبهة المحصورة، و يؤيد ذلك ما رواه أبو الجارود، قال:

سألت أبا جعفر) عليه السلام (عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة، فقال:» أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، و إن لم تعلم فاشتر و بع و كل، و اللّه إنّي لاعترض السوق فأشتري بها اللحم و السمن و الجبن، و اللّه ما أظن كلّهم يُسمُّون هذه البربر و هذه السودان «.(2)

و على ما ذكرنا يكون المراد من» شيء «في قوله:» كل شيء «هو الشيء المنتشر في الخارج، المتكثّر أفراده و مصاديقه، فمثله حلال إلى أن يعرف الحرام منه بشخصه.

و بهذا ثبت انّه لم يثبت أيّ ترخيص في أطراف العلم الإجمالي من الشبهة التحريمية. بقي هنا أمران:

الأوّل: انّ البحث في جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي إنّما هو إذا كان لدليل التحريم إطلاق يعمّ الصورتين التفصيلية و الإجمالية و أمّا إذا لم يك للدليل إطلاق فلا موضوع للبحث، فيجري الأصل بلا معارض، و عندئذ يطرح في مورد البحث السؤال التالي:

ص:479


1- المصدر نفسه، الباب 61 برقم 3.
2- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 5.

إذا ثبت للدليل إطلاق فكيف يمكن تقييد الدليل الاجتهادي بالأصل العملي؟ و هل هذا عمل بالأصل مع وجود الدليل الاجتهادي؟ يلاحظ عليه: أنّ التقييد بدليل الأصل لا بنفسه و ما يدلّ على الأصل دليل اجتهادي مثل ما دلّ على حرمة الخمر في كلتا الصورتين، فقوله:» لا تنقض اليقين بالشك «دليل اجتهادي ثبتت به حجية الأصل، فلو ثبت ترخيص في ناحية المعلوم بالإجمال فإنّما يثبت بدليل اجتهادي لا بالأصل العملي.

الثاني: انّ العلم الإجمالي في التدريجيات كالعلم الإجمالي في الدفعيات، فلا فرق عند العقل بين العلم بربوية أحد البيعين الحاضرين أو بربوية البيع الحاضر أو البيع الآخر في المستقبل. و لا تضرّ استقبالية الفعل مع كون الحكم فعليّاً لا إنشائياً.

هذا كلّه حول الشبهة المحصورة من التحريمية. و أمّا حكم الشبهة التحريمية غير المحصورة فيأتي الكلام عنه في ضمن التنبيهات.

ص:480

تنبيهات
التنبيه الأوّل: في الاضطرار إلى أحد الأطراف

إذا طرأ الاضطرار إلى ارتكاب أحد الأطراف، فهل يجب الاجتناب عن الطرف الآخر أو الأطراف الأُخر، أو لا؟ فيه أقوال: و صور المسألة ست: لأنّ طروء الاضطرار إمّا قبل حدوث العلم الإجمالي، أو معه، أو بعده، و على كلّ تقدير، فالاضطرار إمّا إلى الطرف المعيّن، أو إلى واحد لا بعينه.

أمّا الأقوال فنشير إلى الأقوال المعروفة و هي ثلاثة:

1. إنّ الاضطرار مانع عن فعلية التكليف، سواء طرأ قبل العلم أو معه أو بعده، و كان المضطر إليه واحداً معيناً أو واحداً لا بعينه; و هذه خيرة المحقّق الخراساني في الكفاية.

2. الفرق بين الاضطرار إلى واحد لا بعينه، فلا يجب الاجتناب عن الطرف الآخر، و واحد معيّن فيجب الاجتناب عن الطرف الآخر، و هو خيرته في هامش الكفاية.

3. القول بالاجتناب إذا اضطر إلى واحد منها لا بعينه مطلقاً، سواء كان الاضطرار قبل العلم بالتكليف أو معه أو بعده، و أمّا الاضطرار إلى المعيّن ففيه التفصيل بين طروئه قبل العلم أو معه فلا يجب الاجتناب عن الآخر، و طروئه بعده فيجب الاجتناب، و هو خِيرة الشيخ الأعظم في الفرائد، و إليك توضيح الأقوال و بيان مداركها.

ص:481

أ: عدم وجوب الاجتناب مطلقاً

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الاضطرار إلى أحد الأطراف مطلقاً يوجب عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر، و ذلك لأنّه كما يكون مانعاً عن العلم بفعليّة التكليف لو كان إلى واحد معيّن، كذلك يكون مانعاً لو كان إلى غير معيّن، ضرورة أنّه مطلقاً موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف لو تركه تعييناً أو تخييراً، و هو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو وجوبه بينها.

ثمّ أورد على نفسه إشكالاً، و حاصله:

انّ ما ذكرت إنّما يصحّ إذا كان الاضطرار سابقاً على حدوث العلم أو مقارناً، فإنّه يمنع عن تعلّق العلم بتكليف فعلي بأحد الطرفين، و أمّا إذا كان لاحقاً للعلم المتقدّم فلا، لأنّ مقتضى وجود العلم الإجمالي السابق المتعلّق بتكليف فعلي، هو الاجتناب عن الباقي، لأنّ المفروض عند تعلّق العلم الإجمالي بتكليف فعلي للامتثال، عدم الاضطرار إلى ارتكاب أحد من الطرفين، و هو كاف في لزوم الاجتناب عن الطرف غير المضطر إليه، فالاجتناب من الطرف الآخر من آثار العلم السابق على الاضطرار.

و أجاب عنه: بأنّ الاضطرار من حدود التكليف، و التكليف من أوّل الأمر محدّد بعدم عروض الحرج و الضرر، فعروضه كاشف عن عدم وجود تكليف فعليّ لازم للامتثال، و انّ ذاك العلم لم ينعقد منجّزاً، و إن زعم صاحبه أنّه منجزٌ لاحتمال أن يكون مورد التكليف هو المضطر إليه، فيما إذا اضطر إلى المعيّن، أو يكون هو المختار إذا اضطر إلى واحد لا بعينه.

ثمّ أورد إشكالاً آخر: بأنّه أيّ فرق بين عروض الاضطرار بعد العلم بالتكليف إلى أحد الأطراف معيّناً أو غير معين، و بين إراقة أحد الأطراف بعد تعلّق العلم الإجمالي؟ إذ يجب الاجتناب عن الطرف الباقي، و ما هذا إلاّ

ص:482

لأنّ الاجتناب عنه من آثار العلم الإجمالي السابق، و إن لم يكن موجوداً بالفعل.

ثمّ إنّه أجاب عنه: بوجود الفرق بين الاضطرار و فقدان الموضوع، بأنّ الاضطرار من حدود التكليف، فالتكاليف محدّدة إلى حدّ الاضطرار، فإذا طرأ الاضطرار ارتفع التكليف، و هذا بخلاف وجود الموضوع، فليس التكليف محدّداً و مقيّداً به.

هذا توضيح ما ذكره في الكفاية.

يلاحظ عليه:

بأنّ الاضطرار يُطلق و يراد منه: تارة الاضطرار العقلي الملازم لعجز المكلّف عن القيام بتكليفه، فهذا ليس من حدود التكليف، بل هو من مسوغات التكليف، إذ لا يصحّ التكليف إلاّ بعد وجود الأُمور العامة التي منها القدرة العقلية.

و أُخرى الاضطرار العرفي الملازم للحرج و التعب، فهو من حدود التكليف جمعاً بين إطلاق قوله:

» اجتنب عن النجس «و قوله:» رُفع عن أُمّتي ما اضطرّوا إليه «، لكن التفريقَ بينه و بين فقد المكلّف به، بلا وجه، لأنّه كالاضطرار من حدود التكليف إذ لا يصحّ الاحتجاج بالكبرى من دون ضمِّ الصغرى، و لذلك، لو فقد بعض الأطراف قبل حدوث العلم الإجمالي ثمّ علم إجمالاً بأنّ النجس إمّا الإناء المفقود، أو الإناء الموجود، لا يؤثر العلم الإجمالي أبداً.

ب: التفصيل بين الاضطرار إلى المعيّن و الاضطرار إلى واحد لا بعينه.

و قد عدل المحقّق الخراساني في هامش الكفاية عمّا ذكره فيها، إلى التفصيل بين الاضطرار إلى إناء معيّن من الإناءين، و الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، ففي الأوّل يكون العلم الإجمالي منجزاً بالنسبة إلى الطرف الآخر دون الثاني فلا يكون منجزاً، و قد أفاد في وجه التفصيل ما هذا توضيحه:

ص:483

لو اضطر إلى أحدهما المعيّن يجب الاجتناب عن الطرف الآخر، و ذلك لأنّ التكليف فيه محدود بحدّ الاضطرار، فلو كان هو المحرّم يكون التكليف فيه محدوداً بحدّ الاضطرار، لافتراض حصول الاضطرار بالنسبة إليه، بخلاف ما إذا كان المحرّم هو الطرف الآخر، فالتكليف لا يكون فيه محدوداً بحدّ الاضطرار، بل يبقى التكليف فيه على إطلاقه، لافتراض عدم الاضطرار إليه، و العلم الإجمالي المردّد بين التكليف المحدود الساقط، و المطلق غير المحدود الباقي، يكون منجّزاً، و يكون أشبه بالعلم الإجمالي المردّد بين القصير و الطويل، فلو علم بوجوب قراءة آية مردّدة بين القصير كقوله سبحانه: (مُدْهامَّتانِ ) أو الطويلة كآية الدين، يكون العلم الإجمالي فيه منجزاً.

و أمّا إذا كان الاضطرار إلى واحد لا بعينه، فلا يلزم الاجتناب عن غير المختار أيضاً، لأنّ الاضطرار يمنع عن فعلية التكليف في البين، لما مرّ من أنّ الاضطرار حدّ التكليف، من غير فرق بين كونه مضطراً إلى واحد بعينه، أو إلى أحدهما، و المفروض صلاحية كلّ إناء، لرفع الاضطرار.

يلاحظ عليه: أنّ الضابطة في تنجّز العلم الإجمالي هو أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ تقدير، حتى يحصل العلم بالتكليف القطعي، و إلاّ فلو كان موجباً له على فرض دون فرض، فلا يكون هناك علم به، مثلاً إذا دار سقوط قطرة من الدم بين الماء الكر و القليل، فلا يجب الاجتناب عن الآخر لعدم العلم بإحداث التكليف، و على ضوء ذلك، يجب عليه القول بعدم وجوب الاجتناب إذا اضطر إلى ارتكاب المعيّن من الإناءين، و الاجتناب إذا اضطر إلى الواحد غير المعيّن، على خلاف ما اختاره، و ذلك لأنّه لو كان الاضطرار إلى واحد معيّن من الإناءين فالعلم الاجمالي يحدث التكليف على وجه) إذا كان الحرام في غير الإناء المضطر إليه (و لا يحدث على وجه) إذا كان الحرام في الإناء المعيّن (بخلاف ما

ص:484

إذا كان الاضطرار إلى واحد منهما، فيحدث على كلّ تقدير ثبوتاً، لإمكان معالجة الاضطرار بغير الحرام.

و بعبارة أُخرى: إنّ الميزان في تنجّز العلم الإجمالي أن يتعلّق العلم الإجمالي بشيء لو تعلّق به العلم التفصيلي لتنجّز عليه التكليف الموجود في البين على كلّ تقدير، و هذا غير صادق عند الاضطرار إلى واحد معيّن، فإنّه لا ينجز إذا كان الحرام في الإناء المعين، و ينجز إذا كان في غيره، و هذا بخلاف ما إذا كان الاضطرار إلى واحد لا بعينه، فالتكليف الموجود في البين منجزاً و لا يجوز له شرب النجس بحجّة الاضطرار على كلّ تقدير، إذ في سعة المكلّف معالجة الاضطرار، بغير الحرام.

ج: وجوب الاجتناب عند الاضطرار إلى غير المعيّن، و التفصيل في المعيّن

ذهب الشيخ الأعظم في الفرائد إلى التفصيل بين الاضطرار إلى واحد منهما لا بعينه فيجب الاجتناب عن الآخر سواء كان الاضطرار قبل العلم بالتكليف، أو معه، أو بعده، و الاضطرار إلى واحد معيّن، ففيه التفصيل بين طروء الاضطرار قبل العلم، أو معه، فلا يجب الاجتناب عن الآخر، و طروئه بعد العلم فيجب الاجتناب عن الآخر.

فهنا دعويان:

الأُولى: لزوم الاجتناب عن الطرف الآخر مطلقاً عند الاضطرار إلى واحد لا بعينه.

الثانية: التفصيل عند الاضطرار إلى واحد بعينه، بين عروض الاضطرار قبل العلم بالتكليف أو معه، و بين عروضه بعده، فلا يجب في الأوّلين دون الثالث.

أمّا الدعوى الأُولى فقال في توضيحها: إذا كان الاضطرار إلى فرد غير معيّن،

ص:485

وجب الاجتناب عن الباقي، سواء كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو معه أو بعده، لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من الأُمور، لو علم حرمته تفصيلاً، وجب الاجتناب عنه، و ترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي.

حاصله: أنّ الميزان في تنجّز العلم الإجمالي، هو أن يتعلّق بشيء لو تعلّق به العلم التفصيلي لتنجّز عليه التكليف، و لا يكون الاضطرار مانعاً عن تنجّزه، و هذا متحقّق في الاضطرار إلى الواحد لا بعينه، فهو لا يزاحم تنجّز العلم التفصيلي، إذ في وسعه رفع الاضطرار بغيره، لأنّ المفروض أنّ كلّ واحد كاف في منع الاضطرار. هذا كلّه حول الدعوى الأُولى.

و أمّا الدعوى الثانية فقال في توضيحها:

و أمّا الدعوى الثانية: و هي انّه إذا اضطر إلى ارتكاب بعض المحتملات معيّناً، فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إذا كان الاضطرار قبل العلم أو معه، لرجوعه إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي لاحتمال كون المحرّم هو المضطر إليه.

نعم لو كان الاضطرار بعد العلم فالظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر لأنّ الإذن في ترك بعض المقدمات العلمية بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض الشبهات.

هذه عبارات الشيخ و توضيحها، و نزيد توضيحاً بطرح القواعد الثلاث التي يتميّز بها العلم الإجمالي المنجّز عن غيره، و هي قواعد ثلاث، روحها واحدة و صورها متعدّدة.

الأُولى: يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ

ص:486

تقدير، و إلاّ فلو أحدث على تقدير دون تقدير لا يكون منجزاً، إذ لا يتولد منه علم بالتكليف و إن كان هناك علم بالموضوع، فلو دار أمر وقوع الدم بين ماء الكر و الماء القليل، لا يكون هناك علم بالتكليف و إن كان هناك علم بوجود الموضوع، و لذلك نقول يجب أن يكون محدثاً على كلّ تقدير ليتولّد منه العلم التفصيلي بأصل التكليف، و إن كان المتعلّق مجملاً.

الثانية: انّ المنجز من العلم الإجمالي هو الذي لو انقلب إلى العلم التفصيلي لكان منجّزاً، و أمّا إذا كان التفصيلي منه غير منجّز و محدث للتكليف فلا يكون العلم الإجمالي منجزاً.

الثالثة: العلم الإجمالي إنما ينجز إذا أحرز عدم التنافي ثبوتاً بين الحكم الواقعي للنجس و حكم الاضطرار المسوّغ للارتكاب، فعند ذلك يكون العلم الإجمالي منجزاً لإحراز عدم التنافي.

و أمّا إذا لم يحرز عدم التنافي فلا يتولّد من ذلك العلم الإجمالي خطاب صالح للاحتجاج و عندئذ لا يكون منجزاً.

إذا وقفت على تلك القواعد فهلم معي نطبقه على الصورتين:

الصورة الأُولى: إذا كان الاضطرار إلى واحد غير معيّن، فالقواعد الثلاث منطبقة عليه، لأنّه يحدث التكليف على كلّ تقدير ثبوتاً، إذ لو كان النجس في أيّ طرف يجب عليه الاجتناب عنه ثبوتاً، و لا يزاحمه الاضطرار لإمكان رفعه بالماء الآخر.

و لأنّه لو تبدّل العلم الإجمالي إلى التفصيلي و وقف بأنّ الإناء الواقعي في جانب يمينه هو النجس لكان منجزاً و لا يزاحمه الاضطرار إذ في وسعه رفعه بالإناء الآخر.

ص:487

كما لا مزاحمة بين الخطاب ب» اجتنب عن النجس «و رفع الاضطرار ثبوتاً، فالقواعد الثلاث. متفقة على لزوم الاجتناب عن الطرف غير المضطر إليه.

ربّما يقال: إنّ رفع الاضطرار بالإناء الطاهر واقعاً يتوقف على العلم بالنجس الواقعي بعينه، و أمّا إذا كان مجهولاً فلا يمكن الجمع بين قوله:» اجتنب عن النجس «و قوله:» رفع ما اضطروا إليه «لاحتمال انطباق ما يختاره على النجس الواقعي، و حينئذٍ لا يكون لنا علم بالتكليف على كلّ تقدير إذا كان الاضطرار متقدّماً على العلم.

يلاحظ عليه: بأنّ مجرّد الاضطرار إلى الارتكاب، ليس سبباً لرفع التكليف ما لم ينته إلى العمل، و لذلك لو ارتفع الاضطرار صدفة بعامل آخر، لأثر العلم الإجمالي الحادث بعد الاضطرار.

و عندئذ يكون لنا حكمان فعليّان، يحكم العقل بامتثالهما، و حيث إنّ الامتثال القطعي غير ممكن يحكم بالامتثال الظني، و الاقتضاء بأحد الإناءين و ترك الإناء الآخر.

و أمّا الصورة الثانية ففيما إذا كان الاضطرار مقدّماً على العلم أو مقارناً معه، ففيه لا يجب الاجتناب عن الآخر، لعدم دخول المورد تحت القواعد الثلاث، و ذلك لأنّه لا يحدث مثل هذا العلم التكليف على كلّ تقدير، إذ لو كان النجس في الجانب المعيّن لما وجب عليه الاجتناب، و معه لا يحصل هناك علم بالتكليف مائة بالمائة.

كما أنّه لو انقلب العلم الإجمالي إلى التفصيلي لا يكون منجزاً مطلقاً، إذ لو كان النجس في الإناء غير المعيّن يكون منجزاً، و أمّا إذا كان في الإناء المعيّن فمع العلم التفصيلي بأنّه نجس يجوز ارتكابه للاضطرار.

كما أنّ عدم التنافي غير محرز بين الحكمين، إذ لو كان النجس في جانب

ص:488

الخل فعدم التنافي محرز، و أمّا إذا كان في جانب الماء فالتنافي محقق، و مع الاحتمال لا يكون عدم التنافي محرزاً.

نعم يستثنى من هذه الصورة ما إذا تقدّم العلم الإجمالي على الاضطرار و كان الاضطرار طارئاً و حادثاً فلو عالج الاضطرار بارتكاب الإناء المعيّن يجب عليه الاجتناب عن الإناء الآخر، و ذلك لأنّ التكليف بالاجتناب عن النجس بعد طروء الاضطرار و إن كان مشكوكاً لكن العلم الإجمالي لما انعقد مؤثراً، و حكم العقل قبل الاضطرار بوجوب الاجتناب عن الطرفين تحصيلاً لليقين، فإذا طرأ الاضطرار لا ترفع اليد عن التنجيز السابق إلاّ بقدر الضرورة، فوجوب الاجتناب ليس من آثار وجود العلم الإجمالي الفعلي بالتكليف بعد الاضطرار، بل من آثار وجود العلم الإجمالي السابق للتكليف، و لذلك لو أهرق أحد الإناءين وجب الاجتناب عن الإناء الآخر.

التنبيه الثاني: في خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء

يشترط في صحّة الأمر و النهي كون المتعلّق أمراً مقدوراً عقلاً، و يشترط في صحّة النهي كون المنهي عنه مورداً للابتلاء و واقعاً في متناول المكلّف، و الشرط الأوّل اعتبره الجميع، و أمّا الشرط الثاني فقد اشترطه الشيخ الأنصاري و تبعه المحقّقون.

فقالوا: بعدم صحّة النهي التفصيلي فيما إذا كان المنهي عنه خارجاً عن الابتلاء عادة، فالإناء النجس إذا كان في البلاد النائية و كانت الدواعي مصروفة عنه يقبح النهي عن ارتكابه.

فإذا كان هذا حال العلم التفصيلي فالعلم الإجمالي مثله بطريق أولى، فلو علم بنجاسة أحد الإناءين، و كان أحدهما خارجاً عن محلّ ابتلائه يكون الخطاب

ص:489

بالاجتناب عمّا هو خارج عن محلّ الابتلاء إذا كان نجساً واقعاً قبيحاً، و يعود الإناء الآخر مشكوك الحكم من حيث الحرمة فيرجع إلى أصل البراءة.

هذا ما اختاره شيخنا الأنصاري في بداية البحث.

و أشكل عليه بعض العلماء.

منهم: المحقّق الاصفهاني، فقال في تعليقته: إنّ حقيقة التكليف الصادر من المولى المتعلّق بالفعل الاختياري لا يعقل أن يكون إلاّ جعل الداعي بالإمكان فيجتمع مع الامتناع بالغير بسبب حصول العلّة فعلاً أو تركاً من قبل نفس المكلّف.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الإمكان العقلي لا يدفع الاستهجان العرفي فلو افترضنا صحّة صدور المعصية من العبد، و لكن دلّت القرائن على أنّه لا يقع في متناول يده، فالخطاب بالاجتناب و إن لم يكن قبيحاً عقلاً لكنّه مستهجن عرفاً.

و منهم المحقّق الخوئي على ما في مصباح الأُصول و حاصله: انّ الغرض من الأوامر و النواهي ليس مجرّد تحقّق الفعل و الترك خارجاً، بل الغرض صدور الفعل استناداً إلى أمر المولى، و كون الترك مستنداً إلى نهيه ليحصل لهم بذلك الكمال النفساني كما أُشير إليه بقوله تعالى: (وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ ) و لا فرق في هذه الجهة بين التعبّدي و التوصلي، لأنّ الغرض منها هو الاستناد في الأفعال و التروك إلى أمر المولى و نهيه، بحيث يكون العبد متحركاً تكويناً بتحريكه التشريعي و ساكناً كذلك بتوقيفه التشريعي.

و بعبارة أُخرى: الغرض هو الفعل المستند إلى أمر المولى، و الترك المستند إلى نهيه لا مجرّد الفعل و الترك فلا قبح في الأمر بشيء حاصل عادة، و لا في النهي عن

ص:490


1- نهاية الدراية: 2/253.

شيء متروك بنفسه، و ليس الغرض مجرّد الفعل و الترك حتى يكون الأمر و النهي لغواً و طلباً للحاصل.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الغرض المفروض إنّما يحصل إذا لم يكن هناك عامل طبيعي يصدُّ الإنسان عن الفعل أو يدفعه إليه، فعند ذلك يكون الفعل و الترك مستندين إلى العامل الداخلي لا إلى العامل التشريعي، و الإنسان مهما حرص لا يصحّ أن ينسب ترك الخبائث و الإنفاق على ولده، و فلذة كبده إلى نهيه و أمره سبحانه، بل هو بطبيعة ذاته يترك الأوّل و يندفع نحو الثاني، فلا يحصل الغرض المطلوب في هذين الموردين.

و ثانياً: أنّ هذا الغرض إمّا أن يكون لازم الرعاية في حصول الطاعة و تحقّق الامتثال أو لا، فعلى الأوّل تكون الأوامر و النواهي كلّها تعبدية، و يختل التقسيم إلى توصلي و تعبدي.

أو لا يكون لازم الرعاية، و عند ذلك لا يصحّ أن تقع غرضاً و علّة غائية لجميع الأوامر و النواهي، لعدم تحقّقه إلاّ في قسم خاص.

و ثالثاً: أنّه لا صلة لقوله تعالى: (وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ ) بما ذكره من أنّ الغاية من جميع الأوامر هي العبادة، و رتّب على ذلك أنّه يجب أن تكون جميع حركات الإنسان و سكناته تابعة لأمر المولى و نهيه، مع أنّ الآية المباركة مع اختلاف صغير تهدف إلى أمر آخر، و ذلك لأنّه ورد في آيتين لكلّ هدف خاص يغاير ما جعله تفسيراً للآية.

أمّا قوله: (اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (2)فهو

ص:491


1- مصباح الأُصول: 2/395.
2- التوبة: 31.

ناظر إلى ردّ شرك اليهود و النصارى و انّهم أمروا بعبادة اللّه سبحانه و لم يؤمروا بعبادة الأحبار و الرهبان و المسيح.

و أين هذا المعنى ممّا ذكره من أنّ الغرض من الأوامر و النواهي هو الاستناد في الأفعال و التروك إلى أمر المولى و نهيه؟! و أمّا الآية الثانية: أعني قوله سبحانه: (وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (1)فهي ناظرة إلى المشركين حيث عبدوا مكان عبادة اللّه الأوثان و الأصنام و أطاعوا مكان طاعة اللّه، الطاغوت و لم يُخلِصُوا له الدِّينَ أي الطاعة بل نحتوا له شريكاً في الطاعة، فأين مفاد الآيتين ممّا يرومه المحقّق الخوئي) قدس سره (؟!

الخطابات القانونية و الخطابات الشخصية

و منهم الإمام السيد الخميني) قدس سره (حيث نقد مقالة الشيخ و من تبعه و قال: بأنّ شرطية الابتلاء مبنيّ على كون خطابات الشرع، خطابات شخصية فيأتي حديث الاستهجان، و أمّا على القول بأنّها خطابات قانونية فلا يشترط الابتلاء إلاّ لجمع من الناس، و عندئذ يصحّ خطاب الكلّ بالاجتناب بملاك ابتلاء نوعهم، و إليك التوضيح.

يشترط في الخطاب الشخصي، أمور ثلاثة، القدرة على الامتثال، و كون مورد التكليف مورد الابتلاء للشخص و أن تكون مورداً للرغبة و لا تكون الدواعي عنه مصروفة كالنهي عن عضِّ رأس الشجرة أو المنارة، و ذلك لأنّ المقصود من التكليف كالنهي في المقام هو إيجاد الداعي في ذهن المكلّف للاجتناب عنه، فإذا لم يكن المكلّف قادراً عقلاً على الفعل، أو كان قادراً و لكن كان غير متمكن

ص:492


1- البيّنة: 5.

عادة، أو كان الداعي مصروفاً عن الارتكاب، كان التكليف عبثاً، هذا كلّه في الخطابات الشخصية التي يتلقى المكلّف من المكلّف خطاباً مختصّاً به.

و أمّا الخطابات القانونية من غير فرق بين الوضعية) العرفية (أو الشرعية فهناك خطاب واحد، متعلّق بعنوان عام، و هو حجّة على جميع المكلّفين، و يشترط فيها وجود هذه الأُمور في أغلب الأفراد، لا في كلّ واحد منهم، فلو كان عدّة لا يستهان بهم قادرين على شرب الخمر، و متمكنين منه، و كانت فيهم رغبة طبيعية إلى شربه، كفى في توجيه الخطاب إلى عامّة الناس أو المؤمنين و إن كان فقد بعضهم بعض تلك الشرائط.

و ذلك لأنّ الخطابات التشريعيّة، ليست خطابات كثيرة، بحيث يستقلّ كلّ بخطاب خاص، بل هناك إرادة واحدة متعلّقة بإنشاء واحد، و خطاب فارد، متعلّق بعنوان عام، حجّة على الجميع بحجّة أنّ عنوان الناس و المؤمن منطبق عليه، و هذا معنى الحكم المشترك بين الناس ففي المقام خطاب واحد متعلّق بعنوان عام و هو في وحدته حجّة على الجميع ففي مثل قوله سبحانه: (لا تَقْرَبُوا الزِّنى ) الخطاب واحد، و الزنا، هو المتعلّق التام، و الناس تمام الموضوع للخطاب، و هذا الخطاب الواحد حجّة على عامّة المكلّفين من غير حاجة إلى إنشاء تكاليف أو توجيه خطابات.

فإن قلت: إنّ الخطاب الواحد، المتعلّق بالزنا، المتوجه إلى عنوان الناس، ينحلّ إلى أحكام و خطابات حسب تعدد أفراد المكلّفين، فيكون حكم الخطابات القانونية حكمَ الخطابات الشخصية.

قلت: إن أُريد من الانحلال، قيام الحجّة على كلّ واحد من أفراد المكلّفين، فهو صحيح، لكن لا يستلزم تعدد الخطاب، و إن أُريد وجود إرادات كثيرة، و خطابات متوفرة، حسب عدد الأفراد، فهو ممنوع، بداهة أنّه ليس في ذهن المولى

ص:493

إلاّ إرادة واحدة تشريعية متعلقة بالخطاب الواحد، المتعلق بعامة المكلّفين، و على ذلك يختلف ملاك الاستهجان فيها مع الخطابات الشخصية فلو كانت الأغلبية الساحقة واجدة للشرائط العامة يكفي في توجيهه إلى عامّة المكلّفين، و إن كان بعضهم عاجزاً، أو جاهلاً، أو فاقداً الداعي إلى الفعل، أو لم يكن في متناوله فالخطاب العام شامل له، لأنّه غير مقيّد بقيد، و المصحِّح هو وجودها في غالب الأفراد، غير أنّ الفاقدين للشرائط معذورون عند اللّه سبحانه، لا أنّهم غير مكلّفين.

ثمّ إنّه) قدس سره (استدل على وحدة الخطاب العام، بوجوه سيأتي التعرض إليها، و هذا كلامه و هو من المتانة بمكان و من له أدنى إلمام بالقوانين الوضعية) العرفية (يقف على أنّ ما ذكره) قدس سره (هو الحقّ القراح، مثلاً انّ وكلاء الشعب و نوّابهم، إذا صوّبوا قانوناً، فليس فيما صوبوا إلاّ إنشاء واحد و خطاب واحد، حجّة على الكلّ لا أنّ فيها خطابات انحلالية حسب تعدد الأفراد.

ثمّ إنّه أورد عليه بما يلي:

ما ذا يراد من توجيه الخطاب إلى العنوان؟ فهل أُريد منه العنوان الذهني بما هو هو فهو واضح البطلان، و إن أُريد العنوان الذهني بما هو مرآة إلى الأفراد الخارجية، فعندئذ يكون المخاطب هو المصاديق لا العنوان، و هذا عين القول بالانحلال، و عندئذ يتعدد التكليف بتعدد المكلّفين و إن كان إنشاءً واحداً.

يلاحظ عليه: أنّ العناوين المأخوذة موضوعاً للحكم على قسمين، تارة يكون عنواناً مشيراً، مثل قوله:

يجب على هؤلاء الأمر بالمعروف، فعندئذ يكون العنوان مغفولاً عنه، و الأفراد مورداً للالتفات، و يكون الحكم موضوعاً على الأفراد جداً، لا على العنوان، و يصحّ ادعاء انحلال الخطاب، و أُخرى يكون عنواناً انتزاعياً صادقاً على الكثير، منطبقاً عليه، ففي مثله يكون الحكم مجعولاً على

ص:494

العنوان باقياً عليه، غير منحدر عنه إلى الأفراد الخارجية، لكنّه على وجه كلّ من وقف عليه يتخذه حجّة على نفسه، و في مثله لا يصحّ الانحلال، لعدم كون العنوان، مشيراً مغفولاً عنه.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ كان في درسه الشريف يدعم ما اختاره، بالوجدان حيث إنّه لا يجد المقنن في نفسه إرادات كثيرة حسب تعدد المكلّفين، و لا خطابات كثيرة بل يجد في نفسه إرادة متعلقة بعنوان، و خطاباً متوجّهاً إليه، قابلاً لأن يكون حجّة على الجميع. هذا تقرير كلامه مع ذب ما أورد عليه.

ثمّ إنّه) قدس سره (ذكر أنّ للقول بالانحلال، مضاعفات سلبية لا يلتزم الفقيه بها لكنّها بين واضح و غير واضح.

أمّا الأوّل: فأمران:

1. يلزم على القول بالانحلال عدم صحّة خطاب العصاة و الكفار، فإنّ خطاب من لا ينبعث قبيح، أو غير ممكن، لأنّ الإرادة الجزئية لا تنقدح في لوح النفس إلاّ بعد حصول مبادئ، و منها احتمال الانبعاث، و المفروض عدمه.

قد أورد عليه: بأنّ الغاية من التكليف أحد الأمرين إمّا الانبعاث أو إتمام الحجّة، و خطاب الطائفتين من قبيل الأخير.

يلاحظ عليه: إذا كانت الغاية من التكليف هي إتمام الحجّة مع القطع بعدم انبعاثه من بعثه يكون التكليف عندئذ صوريّاً فاقداً للإرادة الجدّية، و الطاعة من لوازم الإرادة الجدية، كما أنّ العقاب أيضاً من آثارها.

2. يلزم اختصاص الأحكام الوضعية بمحل الابتلاء، فالخمر نجس لمن يبتلي به دون غيره، و هو على خلاف ضرورة الفقه من غير فرق بين القول بكونها تابعة للأحكام التكليفية و منتزعة عنها، كما هو واضح لأنّ المتبوع إذا كان مختصّاً بالمبتلي فالتابع مثله أو كونها مستقلة بالجعل فانّه إنّما هو بلحاظ الآثار، و مع

ص:495

الخروج عن محل الابتلاء لا يترتب عليها آثار، فلا بدّ من الالتزام بأنّ النجاسة و الحلّية و الأُمور النسبية بلحاظ المكلّفين.

و ربّما يقال بأنّ الإشكال يرد على القول بكون الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية.

و أمّا على القول بأنّها مستقلة بالجعل فهي تنحلّ حسب عدد موضوعاتها لا حسب عدد المكلّفين، فإذا قال: الخمر نجس فهو حكم على نجاسة كلّ خمر في سطح الأرض، و يكفي في عدم لزوم اللغوية ابتلاء بعض المكلّفين بكلّ واحد منها.

أقول: إنّ الحكم الوضعي مثل التكليف أمر إضافي له إضافة بالنسبة إلى الجاعل و هو الحقّ سبحانه، و إلى متعلّقه و هو الخمر، و إلى من جُعل له الحكم، أعني: المكلّف، فالقول بالانحلال في الثاني دون الأوّل تفكيك بلا جهة.

و أمّا القسم الثاني فوجهان:

1. لو قلنا بالانحلال في القضايا لزم أن يحكم على القائل بأنّ النار باردة، بأنّه كذب حسب أفراد النار.

يلاحظ عليه: أنّ الصدق و الكذب من آثار القضايا الملفوظة أو المكتوبة، و المفروض أنّها واحدة لا كثيرة.

2. لو قلنا بتخصص كلّ واحد بالخطاب، لزم عدم وجوب الاحتياط عند الشكّ في القدرة الفعلية، لأنّ الشكّ في القدرة شكّ في وجوب الخطاب، و مورده البراءة.

يلاحظ عليه: بما نبّه هو) قدس سره (عليه غير مرّة بعدم جريان البراءة في الشبهات الموضوعية التي يسهل للمكلف الاطلاع على واقعها. و لذلك يجب الفحص عن الاستطاعة العقلية و الشرعية و بلوغ الغلة حد النصاب، و مقدار

ص:496

الدين المكتوب في المذكرات، و ذلك لانصراف أدلة البراءة عن مثل هذا الجاهل الذي يسهل رفع الجهل عن وجه الحقيقة.

ثمّ إنّ الشيخ استدلّ على اعتبار الابتلاء بصحيح(1) علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر ) عليه السلام (قال: سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قِطَعاً صغاراً فأصاب إناءه هل يصحّ له الوضوء منه؟ قال:» إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضأ منه «.(2)

ظاهر الرواية أنّ الدم أصاب الماء الموجود في الإناء، و الإمام فصّل بين المستبان و غيره فأمر بعدم التوضؤ في الأوّل دون الثاني، و عندئذ تكون الرواية دليلاً على عدم انفعال الماء القليل بالدم الذي لا يُدرك بطرف العين، و تكون عندئذ مُعرضاً عنها، لكن عمل بها الشيخ فأفتى بالعفو عمّا لا يدركه الطرف من الدم.

و لما كان مضمون الرواية مخالفاً لما ذهب إليه المشهور من انفعال الماء القليل مطلقاً بإصابة الدم مُدرَكاً كان أو لا، حملها الشيخ الأنصاري على أنّ إصابة الإناء لا يستلزم إصابة الماء، فهو عالم بإصابة الدم على الإناء إمّا نفسه أو باطنه الحاوي للماء، ثمّ جعله دليلاً على مدّعاه في المقام حيث إنّ عدم تنجيز العلم الإجمالي في المقام لأجل خروج بعض الأطراف أعني: الإناء عن محلّ الابتلاء، و إن كان الطرف الآخر محلاً له.

يلاحظ عليه: أنّ هذا التفسير مخالف لظاهر الرواية، فإنّ إصابة الإناء كناية عن إصابة الماء الموجود فيه، و عندئذ ينطبق على مختار الشيخ الطوسي.

ص:497


1- رواه الكليني عن شيخه الثقة محمد بن يحيى، عن العمركي; و هو العمركي بن علي البوفكي، شيخ من أصحابنا ثقة كما قال النجاشي، عن علي بن جعفر الثقة عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام)، و ما ربّما يقال إنّه ضعيف، لا وجه له.
2- الوسائل: الجزء 1، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1.

أضف إلى ذلك كيف يكون الماء مورداً للابتلاء دون الإناء؟ و لم يكن الإناء يومذاك يستخدم مرّة واحدة بل مرّات عديدة، و أغلب الأواني التي كانت تستخدم في حيازة الماء كانت من قبيل الخابية أو الكوز و الإبريق المصنوع من الخزف و لم تكن خارجة عن محلّ الابتلاء.

مسائل ثلاث

إنّ هنا مسائل ثلاث أشار إليها الشيخ الأعظم بعبارة وجيزة و قال:

1. نعم يمكن أن يقال عند الشكّ في حسن التكليف التنجزي عرفاً بالاجتناب، و عدم حسنه إلاّ معلّقاً، الأصل البراءة من التكليف المنجّز، كما هو المقرر في كلّ ما شكّ فيه، في كون التكليف منجَّزاً أو معلقاً على أمر محقق العدم.(1)

2. أو علم التعليق على أمر لكن شكّ في تحقّقه.(2)

3. أو كون المتحقّق من أفراده.(3)

و إليك الكلام في الجميع:

الأُولى: إذا شكّ في شرطية الابتلاء و عدمها

إذا شكّ في اعتبار الابتلاء في صحة الخطاب و عدمه، فهل المرجع الاشتغال و لزوم الاجتناب عن الطرف الآخر، أو البراءة و عدم لزومه؟ ذهب الشيخ و المحقّق النائيني و تلميذه الجليل إلى الأوّل، و المحقّق الخراساني إلى الثاني.

ص:498


1- إلى هنا تمّ بيان المسألة الأُولى.
2- إشارة إلى المسألة الثانية، أعني: الشكّ في وجود الابتلاء مصداقاً بعد معلومية مفهومه.
3- إشارة إلى المسألة الثالثة، أعني: الشكّ في الابتلاء لأجل احتمال مفهوم الابتلاء.

و ليس للشيخ دليل صالح سوى التمسّك بالإطلاق الشامل لمورد الابتلاء و عدمه.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني: بعدم صحّة التمسّك به، إذ هو فيما إذا تحقّق الخطاب، و شكّ في التقييد بشيء، لا في ما إذا شكّ في تحقّق ما يُعتبر في صحّة الخطاب.

و أورد عليه المحقّق الخوئي: بأنّ بناء العقلاء على حجّية الظواهر ما لم تثبت القرينة العقلية أو النقلية على إرادة خلافها، و مجرّد احتمال الاستحالة لا يعدُّ قرينة على ذلك فانّه من ترك العمل بظاهر خطاب المولى لاحتمال استحالة التكليف، و مثله لا يعدّ معذوراً عند العقلاء.

ثمّ مثل مثالاً: إذا أمر المولى بالعمل بخبر العادل و احتملنا استحالة العمل به لاستلزامه تحليل الحرام و تحريم الحلال، لا يكون مثل ذلك عذراً في مخالفة ظاهر كلام المولى، و المقام من هذا القبيل، فلا مانع من التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار الدخول في محلّ الابتلاء في صحّة التكليف.(1)

يلاحظ عليه، بوجود الفرق بين المثال و الممثَّل، فانّ كلامه في المثال وارد في خصوص مورد الشكّ، فهو نص في بيان حكمه، و هذا بخلاف المقام، فانّ كلامه ليس وارداً في مورد الشك) الخارج عن الابتلاء ( غاية الأمر احتمال وجود إطلاق يعم الموردين لعدم شرطية الابتلاء، أو عدمه، لشرطيته فلا يرجع إلى الإطلاق و مع الشكّ في الموضوع كيف يُتمسّك به.

الثانية: إذا شكّ في الابتلاء مصداقاً

إذا شكّ في كون أطراف الشبهة مورداً للابتلاء أو لا، لأجل تردّد طرف

ص:499


1- مصباح الأُصول: 398.

العلم الإجمالي بين كونه داخلاً فيه قطعاً، و خارجاً قطعاً فيشك في كون أطراف العلم الواقعية مورداً له كما إذا تردّد الإناء الآخر، بين كونه في البلد الذي يعيش فيه أو البلد الواقع في أقصى نقاط الهند، فهل يصحّ التمسّك بالعام و تكون النتيجة وجوب الاجتناب عن الإناء الموجود أمامه أو لا؟ مقتضى القاعدة عدمه، لما بيّن في محلّه من أنّ المخصص المتّصل، يتصرّف في موضوع العام و يجعله مركباً من أمرين كقولك: أكرم العالم العادل، و أمّا المخصص المنفصل سواء كان لفظيّاً أو لُبيّاً فهو لا يتصرف في عنوان العام ظاهراً، لكنّه يجعله حجّة في غير عنوان الخاص لبّاً كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم الفساق من العلماء، فالموضوع للعام بما هو حجّة هو العالم غير الفاسق، فإذا شككنا في عدالة عالم و عدمها، لا يصحّ التمسّك بالعام لأنّه و إن كان مصداقاً للعام أعني العالم، لكنّه ليس مصداقاً له بما هو حجّة فيه أعني العالم غير الفاسق.

و مثله المقام فانّ الموضوع للاجتناب و إن كان هو النجس ظاهراً، لكنّ الموضوع لبّاً هو النجس المبتلى به عادة و الشكّ في الابتلاء مصداقاً شكّ في وجود جزء الموضوع و عدمه فلا يصحّ التمسّك به فيرجع في الإناء الموجود إلى البراءة للشكّ في التكليف.

الثالثة: إذا شكّ في الابتلاء مفهوماً

إذا شكّ في صدق عنوان الابتلاء على أحد طرفي العلم الإجمالي لأجل عدم وضوح مفهومه، كما إذا علم بوقوع قطرة من الدم إمّا في الإناء أو الأرض التي يمكن أن يسجد عليها أو يتيمّمه في المستقبل، فهل المرجع هو إطلاق الخطاب أو أصل البراءة و المقام من مصاديق دوران أمر المخصص أو المقيّد بين الأقل

ص:500

و الأكثر مصداقاً فالابتلاء له مصداق قطعي، كما إذا دار أمر الماء بين الإناءين اللّذين يريد استعمال مائهما و مصداق مشكوك لأجل إجمال مفهوم الابتلاء، كما في المثال المزبور، نظير عنوان الفاسق إذا خُصِّص به عموم أكرم العلماء فمرتكب الكبيرة فاسق قطعاً، و مرتكب الصغيرة مشكوك جدّاً، فهل المرجع في الثاني إطلاق العام أو أصل البراءة؟ ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ المرجع إطلاقات الخطابات، و قال: إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرمات مطلقة غير معلقة، و المعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعليق بالابتلاء.

و أمّا إذا شكّ في قبح التنجيز، فيرجع إلى الإطلاقات، فالأصل في المسألة وجوب الاجتناب إلاّ ما علم عدم تنجز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم) التفصيلي (بكونه الحرام.(1)

أقول: إنّ الخارج عن تحت العام ليس خصوص ما علم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعليق بالابتلاء، بل خصوص ما كان الخطاب فيه قبيحاً في نظر العقلاء في الواقع سواء علمنا قُبْحَه أو لا.

و عند ذلك فإذا تردد الأمر بين كون الخطاب مستهجناً فيه أو غير مستهجن فيدور أمره بين بقائه تحت العام و خروجه عنه، و معه كيف يصحّ التمسك بالخطاب؟ و العجب أنّ الشيخ قد سلك في المقام خلاف ما سلكه في المواقع الأُخرى.

فإذا شكّ في سعة مفهوم العام المخصص و ضيقه مثل قولك: أكرم العالم غير الفاسق، حيث دار أمره بين مرتكب خصوص الكبيرة أو الأعمّ منه و من الصغيرة، و بالتالي شكّ في خروج زيد المفروض انّه مرتكب للصغيرة عن تحت

ص:501


1- الفرائد: 252.

العام إذا كان شاملاً لكلا القسمين، و عدمه إذا كان مختصّاً بالكبيرة فقط فلا يصحّ أن يتمسّك بالعام، بحجّة أنّ الخارج هو معلوم الفسق و هو مرتكب الكبيرة، دون مشكوكه و هو مرتكب الصغيرة.

و الحاصل: أنّ الملاك في عدم التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية و به في الشبهة المفهومية للمخصص الدائر أمره بين الأقل و الأكثر، واحد، و هو الشكّ في انطباق العام بما هو حجّة فيه على المورد.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أوضح مقالة الشيخ و قال: إنّه لا إشكال في إطلاق ما دلّ على حرمة شرب الخمر و شموله لكلتا صورتي الابتلاء و عدمه، و القدر الثابت من التقييد هو إذا كان الخمر خارجاً عن مورد الابتلاء بحيث يلزم استهجان النهي عنه بنظر العرف، فإذا شكّ في استهجان النهي فالمرجع هو إطلاق الدليل لما تبين في مبحث العام و الخاص من أنّ التخصيص بالمجمل مفهوماً، المردد بين الأقل و الأكثر لا يمنع عن التمسك.(1)

ثمّ إنّه) قدس سره (أورد على نفسه و قال ما هذا حاصله:

فإن قلت: المخصص المجمل المتصل يسري إجماله إلى العام و لا ينعقد له ظهور في جميع ما يحتمل انطباق مفهوم المخصص عليه إذا كان المخصص لفظيّاً أو لبيّاً ضروريّاً لا نظريّاً، و المقام من قبيل الثاني فيجعل العام حجّة فيما عدا عنوان المخصص سواء كان صدقه على مورد قطعياً أو احتمالياً.

قلت: إنّ إجمال المخصص المتصل سواء كان لفظياً أو عقلياً إنّما يسري إذا كان الخارج عن العموم عنواناً واقعياً غير مختلف المراتب، و تردّد مفهومه بين الأقل

ص:502


1- و الفرق بين البيانين طفيف، فالبيان الأوّل يعتمد على أنّ الخارج هو خصوص ما علم أنّه خارج عن محلّ الابتلاء دون ما شكّ فيه، و لكن الثاني يعتمد على أنّ الخارج خصوص ما علم استهجانه، لا ما شكّ فيه.

و الأكثر، كما في تردد الفاسق بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه، و أمّا إذا كان الخارج عن العموم عنواناً ذا مراتب مختلفة، و علم بخروج بعض أفراده و شكّ في خروج بعض آخر، فإجمال المخصص و تردده بين خروج جميع المراتب أو بعضها لا يسري إلى العام، لأنّ الشكّ في مثل هذا يرجع في الحقيقة إلى الشكّ في ورود مخصص آخر للعام غير ما علم التخصيص به.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ التفريق بين الفسق و الابتلاء و جعل الثاني من أقسام ذات المراتب دون الأوّل غير تام، لأنّ الأوّل مثل الثاني، لأنّ الفسق كالكفر ذو مراتب فالمسلم القاتل فاسق و المسلم الكاذب أيضاً فاسق و أين هذا من ذاك؟! و ثانياً: أنّما أفاده من أنّ المخصص إذا كان ذا مراتب فعلمنا بخروج مرتبة، و شككنا في خروج مرتبة أُخرى فإجمال المخصص لا يسري إلى العام، لأنّ مرجع الشكّ إلى التخصيص الزائد، غير تام. لأنّه إنّما يتم لو خرجت كلّ مرتبة بوجه على حدة، و أمّا إذا كان الكلّ خارجاً بعنوان واحد يعمّ جميع المراتب فإنّ كثرة الخارج و عدمها، لا توجب كون التخصيص أزيد من واحد كما لا يخفى.

تأييد آخر للعلاّمة الحائري

إنّ لشيخ مشايخنا العلاّمة الحائري مقالاً في تأييد الشيخ.

و حاصله: انّه لا يصحّ التمسّك بالخطاب، لأنّ المفروض الشكّ في أنّ خطاب الشرع في هذا المورد حسن أو لا؟ فلا بدّ من الرجوع إلى القاعدة، و لكن القاعدة في المقام هي الاحتياط و الاشتغال لا البراءة لأنّ البيان المصحح للعقاب عند العقل هو العلم بوجود مبغوض من المولى بين أُمور، حاصل; و إن شكّ في الخطاب الفعلي من جهة الشكّ في حسن التكليف و عدمه، و هذا المقدار

ص:503


1- الفوائد: 602/57 نقل بتلخيص.

يكفي حجّة عليه، نظير ما إذا شكّ في قدرته على الإتيان بالمأمور به و عدمها بعد إحراز كون ذلك الفعل موافقاً لغرض المولى و مطلوباً له ذاتاً، و ليس له أن لا يُقْدم على الفعل بمجرّد الشكّ في الخطاب الناشئ من الشكّ في قدرته. و الحاصل أنّ العقل بعد إحراز المطلوب الواقعي للمولى أو مبغوضه لا يرى عذراً للعبد في ترك الامتثال.(1)

و أظن انّ الجواب للسيد المحقّق الفشاركي أُستاذ المحقّق الحائري بشهادة وجود ما يقرب من هذا الجواب في تقريرات المحقّق النائيني، و قد تتلمذا على السيد الفشاركي قدس اللّه أسرارهم، فقد جاء في تقريرات الثاني: انّ القدرة العقلية و العادية ليست من الشرائط التي لها دخل في ثبوت الملاكات النفس الأوّلية، بل هي من شرائط حسن الخطاب، لقبح التكليف عند عدمها، و لكن الملاك محفوظ في كلتا الصورتين:

وجود القدرة و عدمها، و العقل يستقل بلزوم رعاية الملاك و عدم لغويته مهما أمكن، و مع الشكّ في القدرة تلزم رعاية الاحتمال تخلّصاً عن الوقوع في مخالفة الواقع، كما هو الشأن في المستقلات العقلية، فلو صار المشكوك فيه طرفاً للعلم الإجمالي يكون حاله حال سائر موارد العلم الإجمالي بالتكليف من حيث حرمة المخالفة القطعية، و لا يجوز إجراء البراءة في الطرف الذي هو داخل في محلّ الابتلاء.(2)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ لازم هذا البيان الاجتناب عن الطرف المشكوك حتى في ما إذا علم خروج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء قطعاً، للتحفظ على الملاك بقدر ما أمكن، و هؤلاء لا يقولون به.

و ثانياً: انّ العلم بالملاك مع الشكّ في حسن الخطاب، يحتاج إلى دليل، لأنّ

ص:504


1- درر الأُصول: 2/121.
2- الفوائد: 4/55.

الملاك إنّما يستكشف من خطاب المولى، و مع عدمه، كما في الخروج القطعي عن محلّ الابتلاء، و مع الشكّ فيه، كما في المقام، لا علم لنا بوجود ملاك قطعي لازم الإحراز، فلعلّ للقدرة العادية تأثيراً في تمامية الملاك كما هو الحال في القدرة الشرعية كما في الاستطاعة.

التنبيه الثالث: في الشبهة غير المحصورة

خصّص المحقّق الخراساني التنبيه الثالث لبيان حال الشبهة غير المحصورة، و كان الأولى عليه أن يخصصه بملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة، ثمّ يخوض بعد إنهاء البحث عن المحصورة في بيان حكم غير المحصورة.

و إنّما جعل ذلك لنكتة، و هو انّ كون الأطراف محصورة أو غير محصورة لا يؤثر في نظر المحقّق الخراساني بل الملاك عندئذ فعلية التكليف و عدمها، فعلى الأوّل يتنجّز الحكم الواقعي من غير فرق بين المحصورة و غيرها.

ثمّ أفاد: إنّ كثرة الأطراف ربّما تكون سبباً لعسر الموافقة القطعية في المحرّمات و الواجبات، أو طروء ضرر، أو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء كما هو الحال في قلّة الأطراف المعبّر عنها بالمحصورة.

و على كلّ تقدير فليس الميزان كثرة الأطراف أو قلّتها، بل فعلية التكليف و عدمها، لأجل طروء العناوين الثلاثة و لو شكّ في عروض واحد منها، فالمتبع هو إطلاق الدليل.

هذا ما أفاده، و لذلك لم يولِ لغير المحصورة من الشبهة عناية وافرة خلافاً للآخرين.

و لكن تحقيق الكلام يتوقّف على البحث في مقامين:

1. ما هو المعيار لكون الشبهة غير محصورة، و ما هو حدّها؟ 2. ما هو حكمه من التنجّز و عدمه، على فرض صدق الحد؟

ص:505

المقام الأوّل: ما هو المعيار لكون الشبهة غير محصورة؟

قد ذكروا لتمييز المحصورة عن غيرها معايير مختلفة:

1. ما نقله الشيخ عن المحقّق و الشهيد الثانيين و الميسي و صاحب المدارك من أنّها عبارة عمّا يعسر عدّه لا ما امتنع عدّه، لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعد.

و أُورد عليه بأنّ الألف معدود من الشبهات غير المحصورة مع أنّ عدّه غير متعسّر.

2. نفس التعريف لكن بإضافة قيد، و هو تعسّر العد في زمان قصير، لئلاّ يخرج الألف عن تحت التعريف.

3. المرجع في تمييز المحصورة عن غيرها هو العرف، و لعلّ مرجعه إلى الأوّل، لأنّ المراد من الأوّل ما يعسر عدّه عرفاً و ما لا يعسر عدّه كذلك.

4. ما ذكره الشيخ الأنصاري: إنّ غير المحصورة ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى درجة لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها، أ لا ترى انّ المولى إذا نهى عبده عن المعاملة مع زيد فعامل مع واحد من أهل قرية كثيرة الأهل يعلم وجود زيد فيها لم يكن ملوماً و إن صادف الواقع، و قد ذكر انّ المعلوم بالإجمال قد يؤثر مع قلّة الاحتمال، ما لا يؤثّر مع الانتشار و كثرة الاحتمال، كما إذا نهى المولى عن سبّ زيد و هو تارة مردّد بين اثنين و ثلاثة، و أُخرى بين أهل بلدة و نحوها.(1)

و ما ذكره الشيخ هو خيرة المحقّق العراقي حيث قال: إنّ المناط في كون الشبهة غير محصورة هو أن تكون كثرة الأطراف بحدّ يوجب ضعف الاحتمال في

ص:506


1- الفرائد: 261.

كلّ واحد من الأطراف بحيث يكون موهوماً بدرجة لا يعتني العقلاء بذلك الاحتمال، بل ربّما يحصل الاطمئنان بالعدم.(1)

ثمّ أورد على نفسه إشكالاً، حاصله: انّ الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، فكيف يجتمع العلم بوجود الحرام و المبغوض في الأطراف، مع الظنّ بالعدم في كلّ طرف بنحو السلب الكلي؟ و أجاب ما هذا توضيحه: انّ الأفراد إذا لوحظت دفعة واحدة، فليس فيها إلاّ العلم بالحرام و لا خبر عن الظن فضلاً عن الاطمئنان بعدمه، فهذه الصورة هي معقد العلم لا معقد الظن بالعدم.

و أمّا إذا لوحظت الأفراد واحدة بعد واحدة، ففي كلّ واحد ظن أو اطمئنان بعدمه، و الموجبة الجزئية لا تجتمع مع السالبة الكلية، أعني: ما إذا لوحظت الأفراد دفعة واحدة، لكنّها تجتمع مع السالبة الجزئية، أعني: ما إذا لوحظ كلّ فرد بلحاظ مستقل منقطع عن لحاظ آخر.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي نقل عن شيخه النائيني أنّه أورد على التعريف المختار عند الشيخ بوجهين:

الأوّل: أنّه احالة إلى أمر مجهول، فإنّ للوهم مراتب كثيرة، فأيّة مرتبة منه تكون ميزاناً لكون الشبهة غير محصورة.

الثاني: انّ موهومية التكليف لا تمنع عن تنجّز التكليف، و لذا يتنجّز التكليف المردّد بين طرفين و لو كان احتماله في أحدهما ظنياً و في الآخر موهوماً.(2)

يلاحظ على الأوّل: المعيار هو كون التكليف موهوماً في كلّ واحد من

ص:507


1- نهاية الأفكار: 3/330.
2- مصباح الأُصول: 3/373.

الأطراف من دون التزام بمرتبة خاصة من الوهم، فما دام وجود الحرام في كلّ واحد إذا لوحظ وحده موهوماً، لا يعتني به العقلاء و لا يترتب على العلم بالتكليف في المجموع أثر.

و يلاحظ على الثاني: أنّ السبب لعدم تنجيز التكليف ليس مجرّد الموهومية بل الموهومية المستندة إلى كثرة الأطراف، التي تُسبّب قلّة اهتمام العقلاء بالنسبة إلى ذلك الاحتمال، فيكون الحجّة في الواقع هو بناء العقلاء في هذا القسم على موهومية التكليف، لا مطلق الموهومية و إن كان مسبباً عن أمر آخر كما في مثاله.

5. ما ذكره المحقّق النائيني بأنّ إذا بلغ أطراف الشبهة حدّاً لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال في أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك، ثمّ قال: و ليس عدم التمكن من الاستعمال عادة هو الملاك، إذ ربما لا يتمكن عادة من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضاً محصورة كما إذا كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب، بل لا بدّ من اجتماع الأمرين، كثرة العدد، و عدم التمكن من جمعه في الاستعمال، و بهذا تمتاز الشبهة المحصورة عن غير المحصورة.(1)

و بالإمعان في كلامه يظهر انّ ما أورد عليه تلميذه الجليل غير وارد حيث قال: إنّ عدم التمكّن من ارتكاب الجميع لا يلازم كون الشبهة غير محصورة، فقد يتحقّق ذلك مع قلّة الأطراف و كون الشبهة محصورة، كما إذا علمنا إجمالاً بحرمة الجلوس في إحدى غرفتين في وقت معين فانّ المكلّف لا يتمكن من المخالفة القطعية بالجلوس فيهما في ذلك الوقت، و كذلك لو تردّد الحرام بين الضدين في وقت معين.(2)

وجه عدم الورود: انّ الإشكال إنّما يرد لو كان الميزان عدم التمكّن العادي

ص:508


1- فوائد الأُصول: 1184/117.
2- مصباح الأُصول: 3/375.

من المخالفة القطعية و هو) قدس سره (صرّح بأنّه وحده ليس هو الميزان و إلاّ ربما تكون الشبهة محصورة و لا يتمكن المكلّف عادة من المخالفة، كما في الخارج عن محلّ الابتلاء، بل عدم التمكن المستند إلى كثرة الأطراف و مورد النقض ليس كذلك.

نعم أورد عليه سيدنا الأُستاذ) قدس سره (بأنّه إن أراد من عدم التمكن، الاستعمال دفعة، فيلزم أن تكون أكثر الشبهات المحصورة غير محصورة، و إن أُريد الأعم منه و هو التدريج فيلزم أن يكون أكثر الشبهات غير المحصورة، محصورة، إذ قلّما يتفق أن لا يمكن الجمع بين الأطراف و لو في ظرف سنين.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المراد الأعم من الدفعي و التدريجي، لكن المقصود من الإمكان هو العادي لا الفعلي، و الأوّل غير موجود في الشبهة غير المحصورة حتى في أزمنة مختلفة إلاّ ما شذّ و ندر.

إلى هنا تبيّن انّ التعريف الحقّ هو ما عرف به الشيخ الأعظم و تبعه الشيخان: الحائري و العراقي، و لا بأس بتعريف المحقّق النائيني.

المقام الثاني: ما هو الدليل على عدم تنجّز العلم بالتكليف في غير المحصورة؟

و ربما يقال: لم يرد عنوان المحصورة و غيرها في النصوص فما هو الوجه لتحديدهما؟ و الجواب: انّ العنوانين أُخذا مشيرين إلى القسمين من العلم الإجمالي، أي ما تكون قلّة الأطراف و كثرتها مؤثرتين في اعتناء العقلاء بالعلم و عدمه، أو كون التكليف موهوماً في كلّ طرف و عدمه.

ص:509


1- تهذيب الأُصول: 2/294; مصباح الأُصول: 2/374.
المقام الثالث: ما هو الدليل على سقوط العلم الإجمالي في غير المحصورة؟

قد استدل على سقوطه بوجوه مذكورة في الفرائد:

الأوّل: الإجماعات المنقولة المستفيضة، و قد حكاه الشيخ عن المحقّق الثاني في جامع المقاصد، و روض الجنان للشهيد الثاني، و المحقّق البهبهاني في فوائده، لكنّه غير مفيد، لاحتمال أن يكون اتّفاقهم، مستنداً إلى الروايات التي وردت في مختلف الأبواب، فيكون الاتّفاق مدركياً غير كاشف عن دليل وصل إليهم و لم يصل إلينا.

الثاني: ما استدل به جماعة من لزوم المشقة في الاجتناب، و حمله الشيخ على لزومه في أغلب أفراد هذا النوع من الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين، فيشمله أدلّة نفي العسر و الحرج، حتى بالنسبة إلى غير الأغلب.

يلاحظ عليه: أنّ العسر و الحرج موجب لسقوط العلم الإجمالي في المحصورة أيضاً، فلا وجه لعنوان غير المحصورة بخصوصها، مضافاً إلى أنّ الميزان في باب العسر و الحرج هو الضيق الشخصي لا النوعي، فلو كان ضيقاً على الأكثر و سهلاً للأقل فلا وجه لعطف الأقل على الأكثر.

وجهه انّ حديث العسر حديث امتنان، و لا امتنان لتفويت المصلحة على من له إمكان القيام بالتكليف بسهولة.

الثالث: انّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف إلاّ ببعض معين من محتملات الشبهة غير المحصورة و يكون الباقي خارجاً عن محلّ الابتلاء.

يلاحظ عليه: أنّ الخروج من الابتلاء يوجب سقوط العلم الإجمالي مطلقاً في المحصورة و غيرها، فما هو الوجه لعنوان المحصورة برأسها فلا بدّ أن يستدل بدليل يختص به؟

ص:510

الرابع: ما أفاده المحقّق النائيني استنتاجاً من الضابطة التي قرّرها لتميز غير المحصورة عنها، و حاصله: انّه إذا كانت المخالفة القطعية غير محرمة، لعدم التمكن العادي من استعمالها، فإذا لم تحرم المخالفة كما هو المفروض لم يقع التعارض بين الأُصول، و مع عدم التعارض لا تجب الموافقة القطعية و تجوز المخالفة الاحتمالية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ عدم حرمة المخالفة القطعية لو كان مستنداً مباشرة إلى ترخيص الشارع، فهو يلازم عدم وجوب الموافقة القطعية، أو جواز المخالفة الاحتمالية، و أمّا إذا كان مستنداً إلى عجز المكلّف فلا يلازم عدم حرمتها، عدمَ وجوبها، و جواز مخالفتها احتمالاً.

أ لا ترى أنّه لو كان له عدّة زوجات منقطعات يعلم حرمة مسّ واحدة منهن لأجل الحيض، فمع أنّه غير قادر على مسّهن في ليلة واحدة و مع ذلك لا تجوز المخالفة الاحتمالية بمسّ واحدة منهنّ.

و أمّا جريان الأُصول الشرعية في الأطراف لأجل عدم حرمة المخالفة فلا يكون مجوزاً، لجواز المخالفة الاحتمالية، لما عرفت من أنّه إذا كان السبب الحقيقي لجريان الأُصول هو العجز عن المخالفة، لا ينتج جواز المخالفة الاحتمالية.

إذا عرفت أنّ هذه الوجوه غير كافية، فاعلم أنّ الصالح للاستدلال هو الوجهان الآتيان.

الخامس: بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالاحتمال الموهوم النابع من كثرة الأطراف كما أوضحناه، و قد أمضاه الشارع أو لم يردع عنه.

السادس: الروايات الواردة في أبواب أربعة:

1. ما ورد حول الجبن.

ص:511


1- الفوائد: 4/119.

2. ما ورد حول شراء الطعام و الأنعام من العامل الظالم.

3. روايات قبول جائزة الظالم.

4. روايات المال الحلال المختلط بالربا.

و إليك دراسة هذه الروايات:

روايات الجبن

قد ورد عن أبي جعفر) عليه السلام (في الجبن روايات بظاهرها ثلاث، و لكنّها في الواقع اثنتان:

1. ما رواه عبد اللّه بن سليمان، قال: سألت أبا جعفر) عليه السلام (عن الجبن؟ فقال لي:» سألتني عن طعام يُعجبني «ثمّ أعطى الغلام درهماً، فقال:» يا غلام ابتع لنا جبناً «، ثمّ دعا بالغداء فتغدّينا معه فأتى بالجبن فأكل و أكلنا، فلمّا فرغنا من الغداء قلت: ما تقول في الجبن؟ قال:» أو لم ترني آكله «قلت: بلى، و لكن أُحبّ أن أسمعه منك فقال:» سأُخبرك عن الجبن و غيره، كلّ ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه «.(1)

و السند نقيّ غير عبد اللّه بن سليمان فإنّه لم يوثَّق، و لكن روايات الجبن متضافرة كما ستظهر، مضافاً إلى نقل المشايخ عنه كأبان، و صفوان، و ابن أبي عمير، و هذا يلحقه بالحسان.

ثمّ إنّ قوله:» فيه حلال و حرام «ليس بمعنى احتمال الحلال و الحرام، حتى ينطبق على الشبهة البدئية بل فعلية القسمين، فينطبق على المحصورة و غير المحصورة، و المورد قرينة على الثانية، مضافاً إلى أنّ الترخيص في المحصورة يحتاج إلى التنصيص القاطع للاحتمال لأنّ الترخيص فيه بنظر العرف، ترخيص في

ص:512


1- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1.

المعصية، فلا يصار إليه إلاّ بالدليل الحاسم.

2. صحيحة معاوية بن عمّار عن رجل من أصحابنا، قال: كنت عند أبي جعفر فسأله رجل عن الجبن، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» إنّه لطعام يُعجبني و سأُخبرك عن الجبن و غيره، كلّ شيء فيه الحلال و الحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه «.(1) و من المحتمل انّ الرجل السائل هو عبد اللّه بن سليمان، و يشهد بذلك تقارب ألفاظهما، و قد عرفت مفاد الضابطة.

3. ما رواه محمد بن سنان، عن أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر) عليه السلام (عن الجبن، فقلت له:

أخبرني من رأى انّه يجعلُ فيه الميتة، فقال:» أ من أجل مكان واحد، يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين، إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، و إن لم تعلم فاشتر و بع و كُلْ، و اللّه إنّي لاعترض السوق فأشتري بها اللحم و السمن و الجبن، و اللّه ما أظن كلّهم يسمّون هذه البربر و هذه السودان «.(2)

و السند مخدوش بأبي الجارود، كالراوي عنه، أعني: محمد بن سنان، لكن عرفت أنّ روايات الجبن متضافرة. نعم أورد الشيخ الأعظم على دلالته بوجهين:

الأوّل: أنّه ظاهر في الشبهة البدئيّة ببيان انّ المراد: انّ جعل الميتة في الجبن في مكان واحد لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن، لا أنّه لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان.

يلاحظ عليه: أنّ مجموع الروايات الواردة في الجبن حاكية عن ابتلاء الناس بظاهرة جعل الميتة في الجبن و عقد اللبن بها، أعني: الانفحة المأخوذة عن المعز الميّت، و انّها كانت متفشية فيها، فكان مردّداً بين كونه من الميتة و عدمه، ففي ذلك المورد حكم الإمام بالجواز، و مثله لا ينطبق إلاّ على الشبهة غير المحصورة.

الثاني: انّ الحلية لأخذه من سوق المسلم بناء على أنّ السوق أمارة شرعية

ص:513


1- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 7، 5.
2- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 7، 5.

لحلّ الجبن المأخوذ منه و لو من يد مجهول الإسلام.(1)

يلاحظ عليه: ان لو كانت الحلية مستندة إلى سوق المسلم و أمارة لها، فما معنى:» و اللّه ما أظن كلّهم يُسمّون هذه البربر و هذه السودان «؟ فانّها على طرف النقيض من كون مثل هذا السوق أمارة للحلّية، فانّه بصدد تضعيف كونه أمارة، فلا وجه للحلية إلاّ كون الشبهة غير محصورة.

إلى هنا تمّ ما روي عن أبي جعفر) عليه السلام (و قد عرفت أنّه لا يتجاوز عن كونه حديثين، و أمّا ما روي عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (حول الجبن فهي خمسة و يحتمل وحدة الخامس مع الرابع، و إليك نقلها:

4. روى عبد اللّه بن سليمان، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (في الجبن، قال:» كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان فيه ميتة «.(2)

5. روى عبد اللّه بن سنان: قال سأل رجل أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن الجبن، فقال:» إنّ أكله ليعجبني «ثمّ دعا به فأكله.(3) و يحتمل اتحاده مع سابقه، و قد نقلا بالمعنى و الاختصار بأن يكون المراد من قوله:

» رجل «هو عبد اللّه بن سليمان، كما يحتمل تغايرهما.

6. ما رواه بكر بن حبيب، قال: سئل أبو عبد اللّه عن الجبن و انّه توضع فيه الأنفحة من الميتة، قال:

» لا يصلح «ثمّ أرسل بدرهم، فقال:» اشتر من رجل مسلم و لا تسأله عن شيء «.(4)

و المسبب للحلّية هو كون المورد من قبيل الشبهة غير المحصورة، و أمره بالشراء من مسلم، لأجل رفع غبار الشكّ عن قلب السائل ليتّخذه دليلاً على كونه مذكّى و إن كان الدليل واقعاً غيره، و لذلك قال:» و لا تسأله عن شيء «.

ص:514


1- الفرائد: 259.
2- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2، 3، 4.
3- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2، 3، 4.
4- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2، 3، 4.

7. صحيح حماد بن عيسى، قال: سمعت أبا عبد اللّه) عليه السلام (يقول:» كان أبي يبعث بالدراهم إلى السوق فيشترى بها جبناً و يسمّي و يأكل و لا يسأل عنه «.(1)

8. خبر عمر بن أبي شبيل، قال: سألت أبا عبد اللّه عن الجبن؟ قال:» كان أبي ذكر له منه شيء فكرهه ثمّ أكله، فإذا اشتريته فاقطع و اذكر اسم اللّه عليه و كل «.(2)

فمجمل القول في هذه الروايات أنّ فيها احتمالات:

1. راجعة إلى الشبهة غير المحصورة.

2. راجعة إلى الشبهة المحصورة و غيرها خرجت الأُولى بالدليل و بقيت الثانية.

3. راجعة إلى الشبهة البدئية كما احتملها الشيخ في خبر أبي الجارود.

4. انّ الحلّية مستندة إلى سوق المسلم و يده.

و الترجيح مع الأوّل خصوصاً مع ملاحظة المجموع من حيث المجموع مع ملاحظة تفشّي ظاهرة جعل الميتة في الجبن.

نعم هنا إشكال آخر.

إنّ كلّ شيء من الميتة حرام إلاّ الانفحة خلافاً لأهل السنّة، و مع كونها حلالاً، فما هذا الاضطراب في أكل الجبن؟ و تصور انّ الطهارة مختصة بالرضيع لا ما إذا كان معلوفاً فانّها نجسة، مدفوع بانّ عقد اللبن بها يختص بما إذا كان رضيعاً و إلاّ فلا يعقد به.

و لعلّ الظروف لم تكن مساعدة لبيان الحكم الواقعي للسائلين، فحاولوا أن يبيّنوا وجه الحلية من طريق آخر.

ص:515


1- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 8، 6.
2- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 8، 6.
2. جواز شراء الطعام و الأنعام من العامل الظالم

هناك لفيف من الروايات يدل على جواز شراء الطعام و الأنعام من العامل الظالم، و المبيع إمّا زكاة و صدقة أخذه من الفلاّحين، و إمّا خراج الأراضي المفتوحة عنوة، المسمّى باسم المقاسمة و من المعلوم انّ أموالهم كانت غير نقية من الحرام، و مع ذلك سوّغ الإمام المعاملة معه. و إليك بعض الروايات:

1. صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج قال: قال لي أبو الحسن موسى) عليه السلام (:» مالك لا تدخل مع عليّ في شراء الطعام إنّي أظنّك ضيقاً «قال: قلت: نعم، فإن شئت وسعت عليّ، قال:» اشتره «.(1)

و لعلّ المراد من» عليّ «هو علي بن يقطين كما ذكره المجلسي في ملاذ الأخيار.

و قوله:» فإن شئت وسعت «ليس دليلاً على أنّ الحلّية من باب الولاية، لأنّه واقع في كلام الراوي.

2. مرسل محمد بن أبي حمزة، عن رجل، قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (أشتري الطعام فيجيئني من يتظلّم و يقول ظلمني، فقال:» اشتره «.(2)

3. صحيح أبي عبيدة) الحذّاء (عن أبي جعفر قال: سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة و غنم الصدقة و هو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم، قال: فقال:» ما الإبل إلاّ مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه «.(3)

و احتمال انّ التسويغ من باب الولاية يردّه صحيح الحذَّاء حيث ضرب القاعدة و هو جواز الشراء ما لم يعلم بعينه.

4. صحيح معاوية بن وهب) البجلي الثقة (قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (:

ص:516


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، 3، 5.
2- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، 3، 5.
3- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، 3، 5.

أشتري من العامل الشيء و أنا أعلم أنّه يظلم؟ فقال:» اشتر منه «.(1)

5. ما رواه إسحاق بن عمّار مضمراً.(2)

6. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه البصري مضمراً.(3)

و لفظ العامل قرينة على أنّ المبيع كان زكاة و صدقة، أو خراجاً و مقاسمة، فقد جوز الشراء إلاّ إذا علم الحرام مشخصاً، و من المعلوم كون الحرام بالنسبة إلى الحلال كان قليلاً، أشبه بالشبهة غير المحصورة.

3. ما يدل على أخذ جوائز العامل للظالم

و هناك روايات تدل على جواز أخذ جوائز العامل للظالم و أكل طعامه، نذكر منها ما يلي:

1. صحيحة أبي ولاّد، قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلاّ من أعمالهم و أنا أمرّ به فأنزل عليه فيُضيّفني و يُحسن إليّ و ربّما أمر لي بالدرهم و الكسوة و قد ضاق صدري من ذلك، فقال لي:» كل و خذ منه فلك المهنّا وعليه الوزر «.(4)

2. صحيحة أبي المغراء قال: سأل رجل أبا عبد اللّه) عليه السلام (و أنا عنده فقال: أصلحك اللّه أمرّ بالعامل فيجيزني بالدرهم آخذها؟ قال:» نعم «، قلت: و أحجُّ بها؟ قال:» نعم «.(5)

4. التصرف في مال مختلط بالربا

وردت روايات في باب الربا من أنّ من ورث مالاً فيه ربا، لا يحرم عليه إلاّ

ص:517


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4; و الباب 53 من نفس الأبواب الحديث 2 و 3.
2- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4; و الباب 53 من نفس الأبواب الحديث 2 و 3.
3- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4; و الباب 53 من نفس الأبواب الحديث 2 و 3.
4- الوسائل: الجزء 12، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2، و لاحظ الحديث 3 و 5.
5- الوسائل: الجزء 12، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2، و لاحظ الحديث 3 و 5.

إذا عرفه بعينه نقتصر بروايتين صحيحتين:

الأُولى: صحيحة أبي المغراء قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:»... لو أنّ رجلاً ورث من أبيه مالاً و قد عرف أنّ في ذلك المال رباً، و لكن قد اختلط في التجارة بغيره حلال كان حلالاً طيّباً فليأكله، و إن عرف منه شيئاً أنّه رباً فليأخذ رأس ماله و ليردّ الرّبا «.(1)

الثانية: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: أتى رجل أبي) عليه السلام (فقال: إنّي ورثت مالاً و قد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي، و قد عرف أنّ فيه رباً و استيقن ذلك و ليس يطيب لي حلاله، لحال علمي فيه، و قد سألت فقهاء أهل العراق و أهل الحجاز فقالوا: لا يحل أكله، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» إن كنت تعلم بأنّ فيه مالاً معروفاً ربا و تعرف أهله فخذ رأس مالك و ردّ ما سوى ذلك، و إن كان مختلطاً فكله هنيئاً، فإنّ المال مالك و اجتنب ما كان يصنع صاحبه، فإنّ رسول اللّه: قد وضعَ ما مضى من الربا و حَرّمَ عليهم ما بقي، فمن جهل وسع له جهله حتى يعرفه، فإذا عرف تحريمه، حرم عليه «.(2)

و الروايتان ظاهرتان في الشبهة المحصورة، فإذا جاز التصرف فيها ففي غيرها أولى. نعم ليس لها شمول لغير مورد الربا، و لعلّ التسويغ لأجل التسهيل، و قد كان السيد الأُستاذ يحمل ما دلّ على الحلّية ما لم يعلم بعينه على خصوص الشبهة المحصورة من باب الربا و قد نوّهنا بذلك عند تفسير روايات باب البراءة.

و لعلّ هذه الروايات، مع بناء العقلاء و السيرة الجارية بين المتشرعة كافية في رفع اليد عن إطلاق الدليل لو قلنا بأنّ له إطلاقاً لصورة انتشار الحرام بين الكثير.

ص:518


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 5 من أبواب الربا، الحديث 2.
2- الوسائل: الجزء 12، الباب 5 من أبواب الربا، الحديث 3.
بقي هنا أُمور:
الأوّل: جواز ارتكاب الكلّ و عدمه

هل يجوز ارتكاب عامة المشتبهات في غير المحصورة، أو يجب إبقاء مقدار الحرام، أو يفصّل بين ما قصد نفس الحرام من ارتكاب الجميع فارتكب الكلّ مقدمة له، أو قصد الجميع من أوّل الأمر، و بين ما إذا انجر الأمر إليه، فلا مجوز في الصورتين الأُولتين دون الثالثة، مستدلاً على ذلك بأنّهما تستلزمان طرح الدليل الواقعي الدال على وجوب الاجتناب عن المحرم الواقعي، و التكليف لا يسقط من المكلَّف مع العلم غاية ما ثبت في المقام، الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات فيكون البعض المتروك بدلاً عن الحرام و إلاّ فإخراج الخمر الموجود يقيناً بين المشتبهات عن عموم قوله:» اجتنب عن الخمر «اعتراف بعدم حرمته واقعاً و هو معلوم البطلان.(1)

الظاهر انّه لا يختلف الحكم باختلاف المباني.

فلو كان المستند ما اختاره الشيخ من كون التكليف موهوماً بكثرة الأطراف، فيكون مفاده الجواز مطلقاً لأنّ كلّ واحد من الأطراف موهوم التكليف فيجوز اجتنابه، و إن كان ينجر الأمر عند الانتهاء إلى مخالفة التكليف غير انّ الترخيص في كلّ واحد يكون دليلاً على رفع الشارع اليد عن التكليف الواقعي و صيرورته إنشائيّاً في تلك المرحلة.

و ما ربما يقال: من» انّ الجائز من أوّل الأمر، هو ارتكاب مقدار من الأطراف يكون الاحتمال فيه موهوماً و أمّا الأزيد فلا «، غير تام إذ ليس الموضوع

ص:519


1- الفرائد: 260.

للجواز، الكميّة الخاصة التي يكون التكليف فيه موهوماً ليتوقف الجواز إذا انتهى إلى مقدار لا يكون كذلك، بل الموضوع للجواز هو كلّ واحد واحد، لأجل كون التكليف فيه موهوماً، و هذا صادق عند ارتكاب كلّ واحد إلى نهايته.

كما أنّه لو كان الدليل هو الروايات المتقدمة، فالظاهر جواز الارتكاب حتى يعلم الحرام بعينه.

إنّما الكلام على مبنى المحقّق النائيني، فالظاهر جواز ارتكاب الجميع أيضاً، لأنّه جعل عدم المتمكن العادي موضوعاً لعدم حرمة المخالفة القطعية، و سقوط العلم عن التأثير فعند ذلك يجوز ارتكاب الجميع، لأنّ التمكّن الشخصي لا ينافي عدم التمكّن العادي، و المسقط للعلم عن الحجية هو الثاني سواء كان هناك تمكّن شخصي أو لا. لأنّه إنّما قال بعدم حرمة المخالفة القطعية لأجل عدم التمكن العادي من المخالفة و فرع عليه جواز المخالفة الاحتمالية.

الثاني: حكم الكثير في الكثير

إذا كان المردّد في الشبهة غير المحصورة أفراداً كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الأُمور المحسوسة، كما إذا علم بوجود مائة شاة محرمة في ضمن ألف شاة فانّ نسبة المائة إلى الألف، نسبة الواحد إلى العشرة، و هذا ما يسمّى بشبهة الكثير في الكثير، فهل العلم منجّز في هذه الصورة أو لا؟ الظاهر انّه يختلف الحكم حسب اختلاف المباني.

فعلى مبنى الشيخ من موهومية التكليف فالعلم منجّز، لأنّ التكليف في كلّ واحد من الشياه ليس بموهوم و ذلك ينجّز العلم الإجمالي و لا ينافي ما قلنا بأنّ الميزان عامة مراتب الوهم فإنّ المراد من الوهم ما لا يعتد به العقلاء و مع فرض مراتب له لكن الجميع محكوم عندهم بعدم الاعتداد، و هذا بخلاف المقام

ص:520

فالعقلاء يعتدون بواحد في مقابل العشرة.

و أمّا على مبنى المحقّق النائيني و هو عدم حرمة المخالفة القطعية لأجل عدم التمكن من المخالفة القطعية، فالظاهر عدم تنجيز العلم الإجمالي لكون المقام ممّا لا يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية عادة، فهو جعل عدم التمكن العادي دليلاً على جواز المخالفة القطعية، فلو كانت المخالفة القطعية غير ممكنة عادة كما هو المفروض، فيجوز الارتكاب.

الثالث: في كون الساقط هو العلم أو هو مع الشكّ

لا شكّ أنّ العلم الإجمالي بوجود الحرام في الأطراف ينتج الشكّ في كل واحد منها، فالشكّ نابع من العلم و من نتائجه.

و على ذلك فلو قلنا بسقوط العلم، فهل الساقط هو نفس العلم فقط على وجه لو كان للشكّ أثر شرعي من الاشتغال يجب ترتيب أثره عليه لكون المفروض انحصار السقوط بالعلم دون الشكّ، أو الساقط هو العلم و الشكّ معاً؟ و تظهر الثمرة في ما إذا علم بماء مضاف بين الأواني الكثيرة غير المحصورة، فالعلم بوجود الماء المضاف يوجب وجود الشكّ في كلّ واحد من الأواني، فلو قلنا بسقوط العلم و الشكّ معاً يجوز التوضّؤ بواحد منها و الاقتصار عليه، لكون الشكّ ساقطاً عن الاعتبار فيصبح كلّ واحد من الأواني محكوماً بالإطلاق.

و أمّا لو قلنا بأنّ الساقط هو العلم دون الشكّ فيكون الشكّ هنا موضوعاً للاشتغال مثل ما إذا شكّ في إطلاق ماء على نحو الشبهة البدوية، فلو شكّ في ماء أنّه مطلق أو مضاف لا يجوز له الاقتصار بالتوضّي بهذا الماء، و يكون المقام مثله إذا قلنا بسقوط العلم دون الشكّ.

و التحقيق انّه على مبنى الشيخ يسقط العلم و الشكّ معاً، لأنّ إلغاء العلم

ص:521

و جعله كالمعدوم إلغاء لأثره الناتج منه، أعني: الشك، فليس هنا شك تعبّداً حتى يكون موضوعاً للاشتغال.

و بعبارة أُخرى: انّ الحكم بموهومية التكليف عند العقلاء يلازم وجود أمارة على كون الماء مطلقاً لا مضافاً و معه لا موضوع للاشتغال.

و أمّا على مبنى المحقّق النائيني، فقد ذهب المحقّق الخوئي إلى أنّ الساقط هو العلم دون الشكّ، و قال:

إنّ الملاك في عدم التنجيز عدم حرمة المخالفة القطعية، لعدم القدرة عليها، و انّ وجوب الموافقة القطعية متفرّع عليها، فالعلم بالتكليف المردّد بين أطراف غير محصورة يكون كعدمه.

و أمّا الشكّ في كلّ واحد من الأطراف فهو باق على حاله، و هو بنفسه مورد لقاعدة الاشتغال، إذ يعتبر في صحّة الوضوء إحراز كون ما يتوضّأ به ماء مطلقاً، فنفس احتمال كونه مضافاً كاف في الحكم بعدم صحّة الوضوء به، و لو لم يكن علم إجمالي بوجود مائع مضاف، فلا بدّ حينئذ من تكرار الوضوء بمقدار يعلم منه وقوع الوضوء بماء مطلق.(1)

و لكن المحقّق الكاظمي نقل في تقريره لدروس أُستاذه أنّه كان يميل إلى سقوط حكم الشكّ، و هو الظاهر طبقاً لمبناه، و ذلك لأنّه قال: لا تحرم المخالفة القطعية لعدم التمكن العادي عليها، و بما انّ المانع من جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي لزوم المخالفة القطعية، فإذا لم تحرم تجري الأُصول بلا معارض، فاستصحاب الإطلاق في الماء الذي يريد التوضّؤ به محرز للموضوع و لا يعارضه أصل آخر، و معه يكون الشكّ فاقد الأثر لوجود الأصل المحرز.

و أمّا ما ذكره المحقّق الخوئي من وجود الشكّ في قرار ذهنه، فيرد عليه أنّ الموضوع ليس مطلق الشكّ بل الشكّ الذي لم يحكم عليه بحكم، و هذا نظير:

ص:522


1- مصباح الأُصول: 2/378.

» لا شكّ لكثير الشكّ «، أو» لا شكّ للمأموم مع حفظ الإمام «، فمثل هذا الشكّ المحكوم بحكم، خارج عن أدلّة الشكوك، أعني قوله: إذا شككت فابن على الأكثر، و مثله المقام فإنّ الشارع بما أنّه لم يُحرِّم المخالفة القطعية و حكم بجريان الأُصول في كلّ آنية، صارت النتيجة كون الماء مطلقاً، و معه لا شكّ تعبداً حتى يحكم بالاشتغال.

الرابع: لزوم كون العلم الإجمالي محدثاً للتكليف على كلّ تقدير؟

يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون مبدأ لحكم فعلي يطلبه الشارع على كلّ حال، فهذا الحكم الفعلي النابع من العلم الإجمالي فرع أن يكون العلم محدثاً للتكليف على كلّ تقدير، و إلاّ فلو أحدث التكليف إذا كان المعلوم في هذا الطرف و لم يكن محدثاً له إذا كان المعلوم في الطرف الآخر لا يكون هناك علم فعلي بالحكم أوّلاً، و لا تتعارض الأُصول في الطرفين ثانياً، إذ لا يجري فيما لم يحدث تكليفاً و يبقى جارياً فيما نحتمل إحداث التكليف فيه.

و على ذلك فلو علم بنجاسة أحد الثوبين و في الوقت نفسه علم بغصبية الثوب المعيّن منهما، فليس لمثل هذا العلم تأثير على كلّ تقدير، لأنّ النجاسة لو كانت في غير الثوب المغصوب يحدث تكليفاً و يمنع عن استعماله في الصلاة. و أمّا لو كان في الثوب المغصوب فالعلم بنجاسته لا يحدث تكليفاً لأنّه ممنوع الاستعمال سواء كان طاهراً أم نجساً(1)، و لذلك لا تجري أصالة الطهارة في الثوب المغصوب إذ لا أثر للطهارة فيه لما عرفت من أنّه ممنوع الاستعمال في كلتا الصورتين و عندئذ تجري أصالة الطهارة في جانب الثوب الآخر بلا معارض.

ص:523


1- فعدم إحداث التكليف فيه صار سبباً لأمرين: 1. فقدان العلم بالحكم الفعلي المنجّز. 2. عدم تعارض الأُصول في ناحية ما يحتمل حدوث التكليف فيه.

و إن شئت قلت: ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بلزوم الاجتناب عن الثوب المغصوب قطعاً، إمّا لكونه مغصوباً فقط، أو لكونه مغصوباً و نجساً; و إلى شكّ بدوي في ناحية الثوب الآخر.

الخامس: كفاية اندراج الطرفين تحت عنوانين

لا يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي اندراج الطرفين تحت عنوان واحد كالنجاسة، بل يكفي اندراجهما تحت أحد عنوانين محدثين للتكليف، كما إذا علم بنجاسة هذا الثوب أو غصبية الآخر لما عرفت من أنّ الميزان كون العلم الإجمالي محدِثاً للتكليف الفعلي على كلّ حال.

و على ضوء ذلك، فلو كان ذلك الثوب نجساً فهو يحدث التكليف، كما أنّه لو كان الآخر غصباً فكذلك، فالعلم بتحقّق أحد العنوانين في أحد الطرفين يُنتج حكماً فعلياً قطعياً باسم الاجتناب عن المغصوب للشارع و لا يحصل إلاّ باجتنابهما و يتعارض الأصلان.

و على ضوء ذلك، فإذا علمنا بخروج بلل مردّد بين البول و المني يكفي في التنجيز في بعض الظروف فلو كان متطهراً من الحدث الأصغر و الأكبر فعلم بوجود ناقض للطهارة على كلّ تقدير، فمثلاً لو كان البلل بولاً في الواقع فقد نقض طهارته على وجه يوجب التوضّؤ، و لو كان منيّاً تنقض طهارته أيضاً على وجه يورث الغسل.

و بالتالي وقف على حكم فعلي مردّد بين التوضّؤ و الغسل، فيجب الامتثال على وجه تحصل الموافقة القطعية.

نعم لو كان محدثاً بالحدث الأصغر فخرج مثل ذلك البلل، فهو يحدث التكليف على فرض، أعني: إذا كان منيّاً دون ما إذا كان بولاً، لأنّ المفروض أنّه

ص:524

محدث بالحدث الأصغر، و على ذلك لا ينتج العلم الإجمالي حكماً فعلياً قطعياً يجب امتثاله بل ذلك العلم مؤثر على وجه و غير مؤثر على وجه آخر، ففي مثله ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي و هو وجوب الوضوء على كلّ حال و شكّ بدوي و هو وجوب الغسل.

و إن شئت قلت: ينحل إلى علم تفصيلي بوجوب رفع الحدث الأصغر، و إلى شكّ في وجود الحدث الأكبر. و مع الشكّ تجري البراءة في الناحية الثانية.

لا يقال انّ الأثر مترتب أيضاً على فرض كون الخارج بولاً، للزوم غسل المخرج، لأنّا نقول إنّ العلم بوجوب الغَسْل نتيجة علم تفصيلي بنجاسة المخرج لخروج النجس منه سواء أ كان منياً أم بولاً، لا على خصوص كون الخارج بولاً.

التنبيه الرابع: في حكم ملاقي الشبهة المحصورة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

الأوّل: انّ محل البحث في لزوم الاجتناب عن ملاقي الشبهة المحصورة و عدمه، إنّما هو فيما إذا لاقى الشيء أحد الطرفين مثلاً، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الطرفين من السجادة، ثمّ لاقى شيء رطب أحد الطرفين; و أمّا إذا لاقى كليهما مع الرطوبة فهو يعد ملاق للنجاسة، و ليس ملاقياً للمشتبه.

و مثله ما إذا لاقى شيء رطب أحد الطرفين و شيء آخر، الطرف الآخر، فيحصل العلم الإجمالي بنجاسة أحد الملاقيين زائداً على العلم الإجمالي المتعلّق بنفس الشيئين.

الثاني: انّ الكلام في ما إذا لاقى أحد الطرفين، و أمّا إذا انقسم أحد الطرفين بالملاقاة قسمين فهو خارج عن محط البحث، كما إذا غمس إحدى يديه في الإناء و أخرجها منه و كانت القطرات عالقة عليها، فما دام الحال كذلك، فهي تعد من

ص:525

أطراف العلم حيث يعلم بنجاسة هذا الإناء أو ذاك مع ملاقيه، لأنّه أشبه بما إذا قسم ماء أحد الإناءين إلى إناءين فيتوسع طرف العلم، فيدور العلم بين نجاسة ذاك الإناء أو هذين الإناءين.

و الحاصل انّ الكلام فيما إذا كان هناك مجرّد الملاقاة، من دون أن ينتقل شيء من الملاقى إلى الملاقي كما في المقام.

و من هنا يعلم حكم ما إذا علم بغصبية إحدى الشجرتين ثمّ أثمرت إحداهما دون الأُخرى، فربّما يقال بجواز التصرف في الثمرة تكليفاً و لعدم ضمانها وضعاً، باعتبار انّ الموجب لحرمة الثمرة كونها نماء المغصوب و هو مشكوك فيه و الأصل عدمه كما أنّ موضوع الضمان وضع اليد على مال الغير و هو أيضاً مشكوك و الأصل عدمه.

يلاحظ عليه: بأنّ الثمرة، عصارة الشجرة و جزء منها، فهي أشبه بما إذا كبرت الشجرة و أورقت و ارتفعت أغصانها، فتكون الشجرة مع ثمارها و أوراقها طرفاً للعلم، نظيره ما إذا علم بغصبية إحدى الشاتين فانتجت إحداهما، فلا يعد الولد خارجاً عن طرف العلم.

و أمّا الأصل الذي أُشير إليه فهو غير تام، لأنّه من قبيل الأصل الأزلي الذي لا نقول به، و لا عبرة عند العقلاء و لا يعد عدم الاعتداد به عند العقلاء، نقضاً لليقين السابق.

الثالث: لا إشكال في وجوب ترتيب كلّ ما للمعلوم من الأحكام و الآثار، على كلّ واحد من الطرفين من باب المقدمة العلمية، فإذا علم بنجاسة أحد الإناءين فبما انّه لا يجوز التوضّؤ بالنجس، و لا بيعه لا يجوز التوضّؤ بأحدهما و لا بيع أحد منهما، فما للمعلوم من الآثار يترتّب على كلّ واحد لتحصيل البراءة القطعية إنّما الكلام في ترتّب أثر المعلوم بالإجمال على ملاقي الطرفين كوجوب

ص:526

الاجتناب المترتب على الملاقي، فهل يترتب على ملاقي أحد الأطراف أو لا؟ و استنباط حكمه رهن الوقوف على حكم ملاقي النجس الواقعي، فهل الاجتناب عنه من جهة انّه من شئون الاجتناب عن النجس و ليس هنا تعبد وراء التعبد بلزوم الاجتناب عن النجس، أو انّه موضوع مستقل له حكم خاص و امتثال و عصيان مستقل، نسب الأوّل إلى ابن زهرة و الثاني إلى المشهور؟

و قد استدل للقول الأوّل بوجهين

الأوّل: قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ * وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ).(1)

قال ابن زهرة قوله: (وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) و قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (2)يقتضي تحريم استعمال الماء المخالط للنجاسة مطلقاً.(3) ترى أنّه استدل على تحريم استعمال الماء المخالط للنجاسة، بما دلّ على لزوم هجرها، فالآية تدل على هجر نفس العين النجسة، لكنّه جعلها دليلاً على هجر مخالطها أيضاً.

أقول: إنّ الرِّجْز بكسر الراء ورد في القرآن الكريم تسع مرّات، أُريد منه في ثمانية موارد، العذاب; و في مورد واحد، القذارة، و هي أثر الاحتلام الذي ابتلى به بعض الحاضرين في وقعة بدر، قال سبحانه:

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ).(4)

ص:527


1- المدثر: 51.
2- المائدة: 3.
3- الغنية: 1/46، الطبعة المحقّقة.
4- الأنفال: 11.

و أمّا الرُّجز، فقد ورد مرة واحدة، و فسّر بالعذاب تارة و المراد الابتعاد من أسبابه، و الوثن أُخرى، و القذارة ثالثة. فعلى التفسيرين الأوّلين لا صلة للآية بالمقام و يكون خطاب الآية للنبي، بمنزلة قولهم: إيّاك أعني و اسمعي يا جارة، و قوله سبحانه: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ).(1)

و على المعنى الثالث يمكن أن يراد القذارة المعنوية كالحسد و البخل و يكون مساقها مساق المعنيين السابقين، كما أنّه يمكن أن يراد منه القذارة الظاهرية، و قد ورد في تفسيره انّ رجلاً بإيعاز من أبي جهل ألقى شيئاً قذراً على النبي، فلو أُريد منه نجس العين فلا صلة لها بالمقام، و لو أُريد منه الأعم منه و من المتنجس فيصحّ الاستدلال، لأنّه سبحانه أمر بهجرهما بكلمة واحدة و أمراً واحداً، و هذا يدل على أنّ هجر المتنجس من شئون هجر النجس موضوعاً مستقلاً.

يلاحظ عليه: بعد تسليم المقدّمات، لا مانع من أن يكون كلّ من النجس و المتنجس مهجوراً بأمر مستقل، و مع ذلك يصحّ الأمر بهجرهما بمفهوم جامع بينهما و ذلك مثل ما إذا كان شخصان محرّمي الإكرام كلّ بملاك خاص، و مع ذلك صحّ أن يقعا موضوعاً لحكم واحد، كما إذا قال: لا تكرم العاصيين أو لا تكرم الجالسَين.

الثاني: ما رواه الشيخ، عن محمد بن أحمد بن يحيى) الأشعري القمي صاحب كتاب نوادر الحكمة المتوفّى حوالي 290 ه (عن محمد بن عيسى اليقطيني) المعروف بالعبيدي الثقة عند الجميع إلاّ عند أُستاذ الصدوق ابن الوليد (عن النضر بن سويد) الذي وثّقه النجاشي (عن عمرو بن شمر بن يزيد) الذي ضعّفه النجاشي، و لم يوثّقه أحد من القدماء و إن سعى العلاّمة المجلسي و البهبهاني في إثبات وثاقته (عن جابر) بن يزيد الجعفي من أصحاب الباقر الثقة

ص:528


1- الزمر: 65.

على الأقوى (عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: أتاه رجل، فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر) عليه السلام (:» لا تأكله «، فقال له الرجل: الفأرة أهونُ عليّ من أن أترك طعامي من أجلها.

قال: فقال له أبو جعفر) عليه السلام (:» إنّك لم تستخف بالفأرة، و إنّما استخففت بدينك انّ اللّه حرم الميتة من كلّ شيء «.(1)

و يمكن تقريب الاستدلال بوجهين:

1. انّه فسر أكل الطعام الذي وقعت فيه فأرة استخفافاً بالدين و فسّره بتحريم الميتة، فلو كانت نجاسة الملاقي للميتة فرداً آخر وراء التعبد بنجاسة الميتة، لم يكن أكل السمن أو الزيت استخفافاً بالدين المفسّر بتحريم الميتة بل كان استخفافاً بالدين المفسّر بوجوب الاجتناب عن الملاقي.

2. انّ الإمام) عليه السلام (فسّر الاجتناب عن السمن أو الزيت بأنّ اللّه حرم الميتة من كلّ شيء، و لو لا كون الاجتناب عن الملاقي) بالكسر (من شئون الاجتناب عن الملاقى فقط لما كان لهذا التفسير وجه، بل كان عليه أن يقول: إنّ اللّه حرم كلّ شيء لاقى النجس.

و بالجملة نجد انّ الإمام يجعل الفأرة و الميتة موضوعاً للحكم من الاستخفاف و التحريم مع أنّ المطروح للراوي هو الزيت و السمن اللّذين وقعت فيهما الفأرة.

كلّ ذلك دليل على أنّ حكم السمن و الزيت مندك في حكم الميتة و الفأرة، و لذلك جعل أكل السمن استخفافاً بالدين و ردّاً لتحريم الميتة.

ص:529


1- الوسائل: 1، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّ الرواية ضعيفة السند و إن كان يلوح عليها أثر الصدق بأنّ وجه التركيز على الفأرة و الميتة مكان التركيز على السمن و الزيت لأجل تفسّخ الميتة في السمن و الزيت و انحلالها فيه، فكان أكلها ملازماً لأكله.

أضف إلى ذلك انّ دلالة الرواية لا تخرج عن حدّ الإشعار، و لعلّ التركيز على الأمرين مكان السمن و الزيت لأجل الحفاظ على الانسجام بين كلام الراوي و الإمام) عليه السلام (حيث إنّ الراوي لمّا قال: الفأرة أهون علي، فركّز الإمام على الفأرة و أجاب: بأنّ عدم الاعتناء بها ليس استخفافاً بها و إنّما هو استخفاف بالدين، ثمّ قال: كيف تقول الفأرة أهون مع أنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيء.

على أنّ التدقيق في الرواية يرشدنا إلى أنّها بصدد أمر آخر، و هو انّ الراوي تعجب من أن تكون الفأرة الصغيرة سبباً لحرمة زيت أو سمن الخابية، فأجاب الإمام) عليه السلام (بأنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيء من غير فرق بين الصغير و الكبير، و أمّا كون نجاسة الملاقي من شئون الملاقى أو فرد آخر فليس بصدد بيانه.

إلى هنا تمّ دراسة قول ابن زهرة، و إليك دراسة دليل المشهور، فيدل على قولهم أُمور:

1. قوله) عليه السلام (في الخبر المستفيض:» و إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء «(1)فإنّ مفهومه انّه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجسه شيء، و ظاهره هو العلّية و صيرورة الملاقي موضوعاً لأحكام النجاسة لا انّ نجاسة الملاقي نفس نجاسة ذلك الشيء و من توابعها و شئونها و أطوارها.

2. انّ الظاهر من مطهرية الماء و الأرض و الشمس هو كون مسألة الطهارة و النجاسة داخل تحت عنوان السببية و العلّية، فالمطهرات علّة لزوال النجاسة، كما أنّ النجاسات سبب لعروضها على شيء.

ص:530


1- الوسائل: 1/17، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1، 2 و 5.

3. اختلاف الملاقي في كثير من الأحكام عن الملاقى، فلو ولغ كلب في إناء يجب تعفيره، و لو لاقاه شيء لا يجب إلاّ الغَسْل، و مثله وجوب غسل ما لاقى البول مرتين، دون ما إذا لاقى الماء الملاقي له، فيجب مرّة واحدة، و على ذلك جرى مذاق المشهور في أبواب الطهارات و النجاسات، كلّ ذلك يؤيد نظرية المشهور.

الرابع: إذا كان المعلوم بالإجمال تمام الموضوع لحكم شرعي يترتب أثر المعلوم بالإجمال على كلّ من الطرفين، كما إذا علم بخمرية أحد المائعين، فلا يجوز بيعهما، و لا بيع أحدهما و لا التوضّؤ بواحد منهما، و ذلك لأنّ الخمر وحده موضوع لحرمة البيع و التوضّؤ فيترتب حكم المعلوم على كلّ من الطرفين من باب المقدمة العلمية.

الخامس: إذا كان المعلوم بالإجمال جزء الموضوع للحكم الشرعي فلا يترتب الحكم عليه، كما إذا شرب أحد المائعين المردّدين بين الخمر و الماء، فلا يحكم على الشارب بالحدّ، لأنّ الموضوع للحدّ هو شرب الخمر، و المعلوم بالإجمال هو نفس الخمر فلا يترتب أثره على شرب أحد الطرفين، و مثله ما إذا علم وجداناً بكون أحد الجسدين ميِّتَ إنسان و الآخر جسد حيوان مذكّى مأكول اللحم، فلا يجوز بيعهما و لا واحد منهما، لعدم ترتّب منفعة محللة مع العلم الإجمالي، و لكن لو مسّ واحداً من الجسدين لا يجب عليه غسل المس، لأنّ المحرز هو مسُّ أحد الجسدين المردّد بين ما يجب على من مسّه الغسل، و عدمه، و الأثر مترتّب على مس ميت الإنسان، و المعلوم بالإجمال هو وجود الميت بين الجسدين.

هذه هي المقدّمات الخمس المؤثرة في استنباط حكم الملاقي و الأقوال فيه ثلاثة:

1. كونه محكوماً بحكم الملاقى في لزوم الاجتناب و الاشتغال.

2. إجراء البراءة و الحكم بطهارة الملاقي.

3. التفصيل الظاهر من المحقّق الخراساني في الكفاية.

ص:531

دليل القائل بلزوم الاجتناب

إنّ محط البحث فيما إذا حصل الملاقاة بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الشيئين، فعندئذ يحصل بعد الملاقاة علوم ثلاثة:

1. العلم بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر.

2. العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر.

3. العلم بنجاسة الملاقي و الملاقى أو ذاك الطرف، و ذلك لاتحاد حكمها، فيجب الاجتناب عن الجميع بغية الاجتناب عن النجس في البين.

يلاحظ عليه بما مرّ في الأمر الأخير: من أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي، كونه محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير، حتى يحصل منه علم بتكليف فعليّ، و إلاّ فلو أحدث على فرض دون فرض، لا يحصل منه العلم به قطعاً، و لذلك لا يكون العلم الإجمالي منجِّزاً في الفروع التالية:

1. لو علم إجمالاً بوقوع النجاسة في أحد الإناءين اللّذين كان أحدهما محكوماً بالنجاسة و وجوب الاجتناب بدليل شرعي، و بما أنّ العلم الإجمالي لا يُحدِث تكليفاً في الإناء المحكوم بالنجاسة، لأنّه محكوم بها و إن لم يكن هناك علم إجمالي، فلا يجري فيه الأصل، للعلم بنجاسته و وجوب الاجتناب عنه، و يجري في الإناء الآخر بلا معارض.

2. لو علم إجمالاً انّه فات منه إحدى الصلاتين: صلاة العصر مع انقضاء وقته، و صلاة العشاء مع بقاء وقته، و بما انّ العلم الإجمالي بفوت إحداهما لا يُحدث تكليفاً في جانب صلاة العشاء، لأنّ صرف الشكّ في الوقت، و إن لم يكن هناك علم إجمالي كاف في لزوم الإتيان بها، فلا يجري فيها الأصل، و إنّما تجري أصالة البراءة أو قاعدة التجاوز في جانب صلاة العصر بلا معارض.

ص:532

3. لو علم إجمالاً بنجاسة أحد المائعين، ثمّ علم إجمالاً بوقوع نجاسة إما في أحدهما أو في الإناء الثالث، و بما انّ العلم الإجمالي لا يؤثر في جانب الإناءين، لأنّ المفروض وجوب الاجتناب عنهما و لو لم يكن هناك علم إجمالي، فلا يجري الأصل في جانبهما، و يجري الأصل في جانب الإناء الثالث بلا معارض.

هذه الأمثلة و ما ضاهاها داخلة تحت الضابطة السابقة من أنّه يشترط في تنجّز العلم الإجمالي كونه محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير و إلاّ فلا يحصل علم فعلي لازم الامتثال على كلّ تقدير، كما لا يجري الأصل في جانب الموضوع المحكوم سابقاً و يجري في جانب الطرف الآخر المشكوك.

و على ضوء هذا، يعلم جواب الاستدلال، لأنّ مورد البحث فيما إذا تقدّم العلم الإجمالي على الملاقاة، و في مثله يكون العلم الإجمالي الأوّل منجِّزاً، و الثاني غير منجِّز، و الثالث ليس علماً جديداً بل تلفيقاً من الأوّلين اللّذين اتضح حكمهما.

أمّا منجِّزية العلم الأوّل فواضح، و أمّا عدم منجِّزية العلم الثاني فلأنّ العلم الإجمالي الدائر بين وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر، أو الملاقى، ليس محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير لافتراض انّ الطرف الآخر كان واجب الاجتناب ببركة العلم الأوّل، و إن لم يكن هناك علم إجمالي ثان، فلا يكون الثاني مؤثراً فيه، كما لا تجري فيه أصالة الطهارة لكونه محكوماً بوجوب الاجتناب بالعلم الأوّل، و يكون الشك في الملاقي من قبيل الشكّ في الشبهة البدوية و يجري فيه الأصل.

و أمّا العلم الثاني فهو ليس علماً جديداً، بل هو تلفيق من العلمين اللّذين تبيّن حكمهما.

هذا هو الحقّ القراح في الجواب، و إليك دراسة إجابة الشيخ الأنصاري) قدس سره (.

ص:533

تحليل إجابة الشيخ الأنصاري

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري أجاب عن الاستدلال بقوله: قلت: إنّ أصالة الطهارة و الحلّ في الملاقي بالكسر سليم عن معارضة أصالة الطهارة في المشتبه الآخر، و حلّيته، بخلاف أصالة الطهارة و الحلّ في الملاقى) بالفتح (فانّ جريان الأصلين فيه يعارض جريانهما في المشتبه الآخر، و السرّ في ذلك انّ الشكّ في الملاقي) بالكسر (ناش عن الشبهة المتقوّمة بالمشتبهين، فالأصل فيهما أصل في الشكّ السببي، و الأصل فيه أصل في الشكّ المسببي، و قد تقرّر في محلّه انّ الأصل السببي حاكم على الأصل المسببي، و مع جريان الأصل في الملاقى لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي) بالكسر (و المفروض انّ الأصل في الملاقى سقط لأجل التعارض مع أصل الطرف الآخر، فتصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي بلا معارض.(1)

يلاحظ عليه: أنّه مبنيّ على أنّ الرتب العقلية موضوعة للأحكام الشرعية، فعندئذ يقدم الأصل المتقدّم رتبة على الأصل المتأخر كذلك، فإذا سقط الأصل في الرتبة المتقدمة بالتعارض، تصل النوبة إلى الأصل في الرتبة المتأخرة بلا معارض.

و لكنّه أمر غير صحيح، و ذلك لأنّ المخاطب بقوله:» كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر «هو العرف لا الفيلسوف العارف بدقائق المسائل العقلية، و على ذلك فالخطابات ناظرة إلى المصاديق الخارجية للشك، و المفروض انّ كلّ واحد من الطرف الآخر و الملاقى و الملاقي، مشكوك الطهارة معاً، فيجري فيهما الأصل في عرض واحد، لأنّ المكلّف عند ما يشكّ في طهارة الملاقي) بالكسر (يشكّ في طهارة العدلين الآخرين، فلا وجه لجريان الأصل فيهما قبل جريانه في الملاقى.

ص:534


1- الفرائد: 253.

و بذلك يعلم عدم صحّة الشبهة الحيدرية التي حاولت إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي، ببيان جديد، و حاصلها: انّ كلاً من الطرف و الملاقى و الملاقي) بالكسر (صالح لجريان أصلين في كلّ واحد منها:

1. أصالة الطهارة 2. أصالة الحلية.

و منشأ الشكّ في الحلّية، هو الشكّ في طهارته، فلو ثبتت طهارته، ثبتت حليته، كما لو ثبتت نجاسته، ثبتت حرمته.

و على ذلك فأصالة الطهارة في الطرف و الملاقى) بالفتح (في رتبة واحدة.

و لكن أصالة الطهارة في الملاقي في مرتبة ثانية.

كما أنّ أصالة الحلية في الطرف الآخر هي أيضاً في رتبة متأخرة.

و عندئذ فأصالة الطهارة في الملاقي) بالكسر (و إن كان لا يعارض أصالة الطهارة في الملاقى لما عرفت من أنّ الأصل يجري في الملاقى في رتبة متقدمة على الأصل الجاري في الملاقي، لكن أصالة الحل في جانب الطرف الآخر مع أصالة الطهارة في الملاقي في درجة واحدة فيتعارضان و يتساقطان، و تكون النتيجة انّ الطرف الآخر يكون محكوماً بالحرمة، كما يكون الملاقي محكوماً بالنجاسة.

وجه عدم الصحّة: انّ التعارض مبني على حفظ الرُّتَبِ في جريان الأُصول و انّ أصالة الطهارة تجري في الملاقى و طرفه قبل جريانها في الملاقي، ثمّ في مرتبة متأخّرة تجري فيه أصالة الطهارة التي تعارضها أصالة الحلية في الطرف الآخر بما أنّها أيضاً في درجة ثانية، لأنّها مسببة من أصالة الطهارة فيه.

و قد عرفت أنّ الموضوع لقوله:» كلّ شيء طاهر، كلّ مشكوك «في زمان واحد و المفروض انّ الملاقى مشكوك الطهارة و الحلية في عرض الشكّ في الطرفين.

و الجواب ما ذكرناه فلاحظ.

ص:535

القول بالتفصيل للمحقّق الخراساني

إلى هنا عرفت دليل القولين، أعني: وجوب الاجتناب و عدمه، و إليك دليل القائل بالتفصيل الذي اختاره المحقّق الخراساني في كفايته و حاصل كلامه: إنّ هنا صوراً ثلاث:

الأُولى: ما يجب فيه الاجتناب عن الطرف و الملاقى دون الملاقي، و ذلك فيما إذا كان العلم الإجمالي متقدماً على الملاقاة و العلم بها، و هذا هو الذي فرغنا من البحث فيه و وجهه واضح كما تقدّم بالبيانين السابقين.

أ: انّ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الظرف الآخر غير منجِّز لأنّه لا يحدث التكليف على كلّ تقدير، لأنّ الطرف الآخر كان واجب الاجتناب فلا يجري فيه الأصل و يجري في الملاقي بلا معارض.

ب: ما اعتمد عليه الشيخ الأنصاري من تقدّم جريان الأصل في السببي أي الملاقى على المسببي أي الملاقي فإذا تعارض الأصلان في ناحية السببي تصل النوبة حينها إلى المسببي فتجري بلا معارض.

الثانية:(1) ما يجب فيه الاجتناب عن جميع الأطراف: الملاقى و الملاقي و الطرف الآخر. و ذلك إذا علم بالملاقاة، ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر فعندئذ يحدث العلم الإجمالي متعلّقاً بالجميع و تكون الثلاثة معاً طرفاً للعلم.

الثالثة: ما يجب فيه الاجتناب عن الملاقي و الطرف الآخر دون الملاقى.

و قد مثّل لذلك مثالين:

ص:536


1- هذه هي الصورة الثالثة في كلام المحقّق الخراساني قدمناها لأجل وضوح حكمها بخلاف الصورة الآتية التي جاءت في كلامه لبيان الصورة الثانية فإنّ فيها غموضاً بياناً و إشكالاً.

الأوّل: لو علم إجمالاً بنجاسة الملاقي(1) و نجاسة شيء آخر ثمّ حدث العلم بالملاقاة و العلم بنجاسة الملاقى و ذاك الشيء أيضاً، فانّ حال الملاقى في هذه الصورة بعينها حال الملاقي في الصورة السابقة في عدم كونه طرفاً للعلم الإجمالي و انّه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعاً غير معلوم النجاسة أصلاً لا إجمالاً و لا تفصيلاً.

مثلاً علم نجاسة يده أو نجاسة الجانب الأيسر من السجادة ثمّ علم بملاقاة اليد للجانب الأيمن منها على وجه يكون العلم متأخراً و المعلوم) الملاقاة (متقدماً ثمّ علم بنجاسة أحد الجانبين منها، فالعلم الإجمالي الثاني الدائر بين نجاسة أحد الجانبين غير منجّز و لا مؤثر، و ذلك لأنّ الجانب الأيسر قد وجب الاجتناب عنه بحكم العلم الإجمالي الأوّل، فلا يجري فيه الأصل و يجري في طرفه أي الجانب الأيمن بلا معارض.

فتكون النتيجة وجوب الاجتناب عن اليد و الجانب الأيسر، بحكم العلم الإجمالي الأوّل و عدم وجوب الاجتناب عن الجانب الأيمن لعدم منجّزية العلم الثاني، و هذا هو الذي قال فيه المحقّق الخراساني: يجب الاجتناب عن الملاقي و الطرف الآخر دون الملاقى.

الثاني: لو علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي و لكن كان الملاقى خارجاً عن محلّ الابتلاء في حال حدوث العلم الإجمالي و قد وقع محلاً للابتلاء بعد حدوث العلم، مثلاً، لو لاقت يده إحدى السجادتين ثمّ علم إجمالاً بنجاسة هذه السجادة أو السجادة الأُخرى و لكن كانت السجادة الأُولى حين حدوث العلم الإجمالي خارجة عن محل الابتلاء بأن سرقها سارق و أخرجها من البلد، ثمّ عثر

ص:537


1- الملاقاة متقدمة وجوداً و متأخرة علماً و لذلك قال: حدث العلم بالملاقاة، فالحادث هو العلم لا المعلوم، فتدبر.

عليها و صارت محلاً للابتلاء.

و بما انّ الملاقى عند حدوث العلم كان خارجاً عن محلّ الابتلاء لم يكن العلم الإجمالي محدثاً للتكليف بالنسبة إليها، و عندئذ يقوم الملاقي بحكم وحدة حكمهما في الواقع مكانه و يكون طرفاً للعلم الإجمالي و تُصبح النتيجة وجوب الاجتناب عن اليد و السجادة الثانية و يكون العلم الإجمالي منجِّزاً.

و لكن عودة السجادة الأُولى إلى محل الابتلاء لا يجعلها طرفاً للعلم الإجمالي لخروجها عند حدوث العلم الإجمالي.

هذا توضيح ما في الكفاية.

و لنا معه نقاش في كلا الموردين من الصورة الثالثة.

أمّا النقاش في المورد الأوّل فنقول: إنّ هنا تصويرين:

التصوير الأوّل: أن يكون العلم الإجمالي الأوّل ثابتاً غير زائل عند حدوث العلم الثاني، مثلاً إذا علم نجاسة يده أو الجانب الأيسر من السجادة ثمّ علم بالملاقاة على وجه يكون العلم و المعلوم) الملاقاة (متأخرين عن العلم الإجمالي الأوّل ثمّ علم بنجاسة أحد الجانبين منها من دون أن تكون نجاسة اليد مستندة إلى الملاقاة، ففي مثل هذه الصورة يصحّ ما ذكره من وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى، لأنّ العلم الإجمالي نجّز وجوب الاجتناب عن الجانب الأيسر مع اليد، فلا يكون العلم الإجمالي الثاني الدائر بين نجاسة أحد الجانبين محدثاً للتكليف في الأيسر لكونه محكوماً بوجوب الاجتناب من قبل، و لأجل ذلك لا يجري فيه الأصل، و بالتالي يجري في الجانب الأيمن بلا معارض.

و من المعلوم انّ هذه الصورة خارجة عن محطّ البحث، لأنّه فيما إذا كان للملاقاة أثر في وجوب الاجتناب و تأثير في نجاسة الملاقي أمّا في هذه الصورة فليس للملاقاة أي أثر، فلا معنى لطرحه في البحث، و ليس هذا أيضاً مقصوده،

ص:538

و يشهد بذلك انّه فرض كون الملاقاة متقدمة وجوداً و متأخّرة علماً و ليس لهذا الفرض) تقدّم الملاقاة وجوداً (وجه سوى كونه أساساً للعلم الإجمالي الأوّل و إلاّ يكون وزانه وزان ما علم بنجاسة أحد الإناءين الأصغر و الأكبر ثمّ علم إجمالاً أيضاً بنجاسة الإناء الأكبر أو الإناء الثالث، و من المعلوم انّ هذا النوع من العلم الإجمالي لا يؤثر، لأنّ الإناء الأكبر صار محكوماً بوجوب الاجتناب بتنجز العلم الإجمالي الأوّل، فلا يكون للعلم الإجمالي الثاني تأثير بالنسبة إلى الإناء الأكبر و يكون الإناء الثالث مجرى للأصل بلا معارض.

التصوير الثاني: تلك الصورة و لكن كان للملاقاة تأثير و انّه لو كان الملاقي نجساً فإنّما هي لأجل ملاقاته للجانب الأيمن من السجادة، ففي مثل هذه الصورة ينهار العلم الإجمالي الأوّل و يظهر خطؤه، لأنّ نجاسة الملاقي على فرضها ناجمة من نجاسة الملاقى و انحصار سبب نجاسة الملاقى بالملاقاة و إن لم يصرّح به في متن الكفاية إلاّ أنّه صرّح به في حاشيتها و وجه الحاجة إلى القيد واضح.(1)

و عندئذ ينقلب العلم الإجمالي الأوّل الدائر بين نجاسة اليد و الجانب الأيمن إلى علم إجمالي آخر و هو نجاسة أحد الجانبين من السجادة، فلو كانت اليد نجسة فإنّما هو لملاقاتها فيزول العلم الإجمالي الأوّل، و يبقى العلم الإجمالي الثاني و تكون النتيجة وجوب الاجتناب عن الجانبين على خلاف ما ذكره المحقّق الخراساني.

و أمّا الملاقي فبما انّ العلم بالملاقاة كان متحقّقاً قبل العلم الإجمالي الثاني الذي هو العلم الحقيقي فينضم الملاقي إلى الملاقى و يكونان معاً طرفاً للعلم الإجمالي و الطرف الآخر هو الجانب الأيسر و يشبه هذا المورد الصورة الثانية في كلامنا أو الصورة الثالثة في كلام المحقّق الخراساني. و تكون النتيجة وجوب الاجتناب عن الملاقي و الملاقى و الطرف الآخر، و إليك الكلام في المورد الثاني.

ص:539


1- فوائد الأُصول: 4/85.

تحليل المورد الثاني: أعني ما إذا علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر قبل الملاقاة لكن كان الملاقى حين حدوث العلم خارجاً عن محلّ الابتلاء، فحينئذ يقع الملاقي طرفاً للعلم و يحلّ محلَّ الملاقى و بالتالي: لا وجه للاجتناب عن الملاقى و لو دخل محل الابتلاء ثانياً.

يلاحظ عليه: أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء إنّما يكون مانعاً عن جريان الأصل إذا لم يترتب عليه أثر، دون ما إذا كان له أثر حتى في هذه الحالة أيضاً، و الأثر المترتب على الأصل الجاري في الملاقى الخارج عن محلّ الابتلاء هو طهارة ملاقيه، و عند ذلك، يجري الأصل في الملاقى و إن كان خارجاً عن محلّ الابتلاء و يتعارض مع جريانه في الطرف الآخر، و يتساقطان، و على ذلك لو عاد الملاقى إلى محلّ الابتلاء وجب الاجتناب عنه، لأنّه لأجل ترتّب الأثر عليه لم يخرج عن كونه طرفاً للعلم.

و أمّا الملاقي، فالظاهر وجوب الاجتناب عنه، لأنّه لمّا كانت الملاقاة متقدمة على العلم الإجمالي وجوداً و علماً فقد حدث العلم الإجمالي و المكلّف عالم بملاقاة اليد بإحدى السجادتين، فيتعلق العلم الإجمالي بالثلاثة مرّة واحدة غاية الأمر يشكِّل مجموع الملاقى و الملاقي طرفاً و الشيء الآخر طرفاً آخر.

هذا هو حال التفصيل للمحقّق الخراساني و النتيجة هي الموافقة معه في الصورة الأُولى و الثانية، و أمّا الثالثة، فحكمها هو الاجتناب عن جميع الأطراف حتى الملاقى على ما عرفت.

ثمّ إنّه ينبغي طرح ضابطة يعلم بها حكم الموارد التي لا يجب الاجتناب عن الملاقي عمّا يجب، و سيوافيك قريباً.

ص:540

بقيت هنا أُمور:
الأوّل: ما هي الضابطة لتميز موارد الاجتناب عن غيرها

إنّ الضابطة لتمييز موارد الاجتناب عن غيرها عبارة عن وقوع الملاقي طرفاً للعلم حين حدوثه سواء كانت الطرفية محرزة حين حدوث العلم أو صارت مكشوفةً بالعلم الثاني، و لأجل إيضاح القاعدة نأتي بأمثلة:

1. لو كان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الطرفين متقدماً على الملاقاة و العلم بها، فلا شكّ انّه يجب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى لما عرفت من البيانين:

أ: انّ العلم الإجمالي الأوّل منجز دون العلم الإجمالي الثاني الدائر بين نجاسة الملاقي و الطرف الآخر.

ب: تقدّم الأصل السببي على المسببي فيتعارض الأصل في السببي) الملاقى (مع طرف الآخر و يجري في المسببي) الملاقي (بلا تعارض.

2. لو كان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الطرفين متقارناً مع العلم بالملاقاة، فلا شكّ أنّ الملاقي طرف للعلم ضرورة حدوث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى و الملاقي و الطرفِ الآخر.

و على ذلك فكلّما كانت الملاقاة وجوداً و علماً بها متأخرة لا يجب الاجتناب عن الملاقي لانعقاد العلم الإجمالي مؤثراً قبل الملاقاة، فلا يكون الملاقي طرفاً للعلم، بخلاف ما إذا حصل العلم الإجمالي و الملاقاة و العلم بها دفعة واحدة فيقع الملاقي باعتبار وحدة الزمان طرفاً للعلم لا خارجاً عنه.

3. لو كان العلم الإجمالي متأخّراً عن الملاقاة علماً لا معلوماً) وجوداً (كما إذا

ص:541

وقعت قطرة من الدم بين الإناءين يوم الخميس و لم يقف عليه، ثمّ علم بملاقاة الثوب لأحد الإناءين يوم الجمعة، ثمّ علم يوم السبت بوقوع قطرة بين الإناءين يوم الخميس على وجه يكون المعلوم) وقوع القطرة ( متقدماً، و العلم بها متأخراً، فهل يجب الاجتناب عن الملاقي أو لا؟ الظاهر نعم، إذ لا أثر لتقدم المعلوم) وقوع القطرة في أحد الإناءين يوم الخميس (و لذلك لم يتنجّز الحكم بالاجتناب عن الإناءين لعدم العلم و التنجز من آثار العلم لا من آثار المعلوم، و المفروض انّ العلم بالملاقاة كان متقدّماً على العلم بوقوع النجاسة في أحد الإناءين، فإذا طرأ العلم الإجمالي يكون الملاقي طرفاً للعلم و يشبه الصورة الثانية التي قلنا بوجوب الاجتناب عن الجميع.

4. إذا تقدّم حدوث النجاسة وجوداً و تحقّقت الملاقاة وجوداً كذلك بلا علم بهما، ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين و الملاقاة مترتباً.

و في المقام تحقّقت الملاقاة قبل العلم الإجمالي و لكن حصل العلم بها بعده، فالعلم الإجمالي بنجاسة المشتبهين متوسط بين وقوع الملاقاة، و العلم بها.

فهل يلحق بالصورة الأُولى بحجّة انّ العلم بالملاقاة متأخّر أو يلحق بثانية الصور و ثالثتها؟ الظاهر هو الثاني، لأنّ العلم بالملاقاة و إن كان متأخّراً عن العلم الإجمالي لكنّه كشف عن وجود الملاقاة واقعاً قبل العلم الإجمالي، و العلم الإجمالي و إن تعلق بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر لكن بعد العلم بالملاقاة و تحقّقها قبل العلم الإجمالي ينقلب متعلّق العلم و يصير أحد طرفيه مركباً و الآخر بسيطاً و انّ العلم كان ناقصاً من حيث بيان الطرف فيجب الاجتناب عن الجميع.

و بذلك اتّضحت الضابطة الكلية في حكم الملاقى و انّ المقياس هو كون الملاقي طرفاً واقعياً للعلم حين حدوثه أو علم طرفيّته بعد حدوثه.

ص:542

الثاني: في شرطية العزم على الإتيان بالجميع في صدق الامتثال

ذهب الشيخ في الشبهات البدئية إلى أنّه يكفي في تحقّق الامتثال مجرد قصد الأمر المحتمل و لكنّه اشترط في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي لزوم قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير، و لازمه أن يكون المكلّف حال الإتيان بأحد المحتملين، قاصداً للإتيان بالآخر، و لو لا ذلك لا يتحقّق قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير، قال: إنّ النيّة في كلّ من الصلوات المتعدّدة بالنحو التالي: ينوي في كلّ منهما فعلها احتياطاً لإحراز الواجب الواقعي المردّد بينها و بين صاحبها تقرباً إلى اللّه على أن يكون القرب علّة للإحراز الذي جعل غاية للفعل، و يترتّب على هذا انّه لا بدّ من أن يكون حين فعل أحدهما عازماً على فعل الآخر إذ النيّة المذكورة لا تتحقق بدون ذلك، لأنّ من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصداً لامتثال الواجب الواقعي، على كلّ تقدير بل هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ اللازم في امتثال الأُمور العبادية هو الإتيان بها لأجله سبحانه، إمّا لأجل أمره قطعياً كان أو احتمالياً و لأجل ذلك يصح الاغتسال للجنابة و إن لم يعلم بها، و هذا الملاك متحقّق في الأمرين اللّذين يعلم بوجوب أحدهما، و ما ذكره من» أنّه يجب أن يأتي لإحراز الواجب الواقعي تقرباً إلى اللّه و هو لا يتحقّق عند الاقتصار بأحد الفعلين «غير تامّ، لأنّ لإحراز الواجب مرتبتين، تارة تكون الغاية من الإتيان، هو الإحراز على كلّ تقدير، و أُخرى الإحراز على بعض التقادير، و على كلّ تقدير فهو بصدد إحراز الواجب لأجله سبحانه غير انّ الإحراز تارة يكون قطعياً و أُخرى ظنّياً و الإحراز الظنّي قسم منه.

ص:543


1- الفرائد: 270 و 271، طبعة رحمة اللّه.
الثالث: في تقدّم الامتثال القطعي على التعليقي

إذا كان الواجب المشتبه، أمرين مترتبين شرعاً كالظهر و العصر المردّد بين القصر و الإتمام أو المردّد بين الجهات الأربع، فهل يعتبر في صحّة الدخول في محتملات الواجب اللاحق، الفراغ اليقيني من الأوّل بإتيان جميع محتملاته كما صرح به في الموجز و شرحه، و المسالك، و الروض و المقاصد العلية أو يكفي فعل بعض محتملات الأول بحيث يقطع بحصول الترتيب بعد الإتيان بمجموع محتملات المشتبهين كما عن نهاية الأحكام و المدارك فيأتي بظهر و عصر قصراً، ثمّ يأتي بهما تماماً، و قد ذكر الشيخ لكلّ من الاحتمالين وجهاً.(1)

و قوّى القول الثاني بقوله: إنّ أصالة عدم الأمر بالنسبة إلى الإتيان ب» محتملات العصر «إنّما تقتضي عدم مشروعية الدخول في المأمور به و محتملاته التي يحتمله على تقدير عدم الأمر واقعاً كما إذا صلّى العصر إلى غير الجهة التي صلّى الظهر.

و أمّا ما لا يحتمله إلاّ على تقديره وجود الأمر، كما إذا صلّى العصر إلى الجهة التي صلّى إليها الظهر، فلا يقتضي الأصل المنع عنه.(2)

و لكن ذهب المحقّق النائيني إلى عدم الجواز قائلاً: إنّ الامتثال التفصيلي مقدّم على الامتثال الإجمالي، فإنّ إحراز القبلة على وجه التفصيل و إن كان غير ممكن إلاّ أنّ إحراز فراغ ذمّته عن صلاة الظهر عند الشروع في العصر و انّ العصر واقع بعده أمر ممكن فيجب تحصيله.(3)

يلاحظ عليه بوجهين:

1. انّه مبني على تقدم الامتثال التفصيلي على الإجمالي، و هو ممنوع، لما عرفت

ص:544


1- الفرائد: 270 و 271، طبعة رحمة اللّه.
2- الفرائد: 272.
3- فوائد الأُصول: 1404/139 بتلخيص.

من جواز العمل بالاحتياط و ترك الاجتهاد و التقليد.

2. انّ ما يتوخّاه المستدل) إحراز فراغ ذمّته عن صلاة الظهر عند الشروع بالعصر و انّ العصر واقع بعده (حاصل في كلتا الصورتين، لأنّ ما بيده من محتملات العصر لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون إلى القبلة، فعندئذ يعلم أنّ ذمته فرغت عن صلاة الظهر و يكون ما بيده واقعاً بعد الظهر حتماً و يكون كلا الأمرين حاصلين، غاية الأمر بصورة تعليقية; أو لا يكون إلى القبلة، فتكون الصلاتان، أشبه بالحركات الفارغة أو الصلوات التمرينية التي لا يترتب عليها أثر حتى يحتاج إلى إحراز شرطه و هو فراغ ذمّته عن الظهر أوّلاً، و كون العصر واقعاً بعده إذ المفروض انّه ليس بصلاة بل صورتها.

و الحاصل انّ الشرط إمّا حاصل تفصيلاً و لكن تعليقاً، و إمّا لا حاجة إلى إحراز الشرط.

الرابع: في حكم الخنثى المشكل

العلم الإجمالي بالتكليف تارة يكون ناجماً من الترديد في المكلَّف به، كدوران الواجب بين الظهر و الجمعة، و الحرام بين أحد الإناءين، و أُخرى من الترديد في نفس المكلَّف، و أنّه هل هو رجل أو امرأة، كما هو الحال في الخنثى المشكل، بناء على انّه ليس طبيعة ثالثة، بل هو إمّا رجل أو امرأة.

لا شكّ أنّ هناك أحكاماً مشتركة بين الجنسين كالصلاة و الصوم و الخمس و الزكاة فيجب عليه امتثالها سواء أ كان رجلاً أم امرأة، لكنّ هناك أحكاماً مختصة بكلّ جنس، فهو يعلم أنّه مخاطب بحكم أحد الجنسين كالأحكام التالية:

أ: حرمة لبس أحد لباسي الرجل أو المرأة المختصين بهما.

ب: حرمة النظر إمّا إلى الرجل أو المرأة.

ص:545

ج: حرمة التكلّم مع الرجل أو المرأة بناء على حرمته إلاّ في الأُمور الضرورية.

د: حرمة استماع كلام الرجل، أو المرأة على القول به.

ه. حرمة كشف أحد قبليه، و أمّا الدبر فهو محرّم الكشف مطلقاً.

و: حرمة التزويج أو التزوج لوجوب إحراز الرجولية في الزوج أو الانوثية في الزوجة.

و لكن يجوز لكلّ من الرجل و المرأة النظر إليه، و التكلّم معه و استماع صوته لكون المورد بالنسبة إليهما من قبيل الشبهة الموضوعية.

نعم مقتضى العلم الإجمالي هو الاحتياط، و الجمع بين التكليفين، و لكنّه يتوقف على ثبوت أمرين:

الأوّل: انّ الخنثى هو الذي له ذكر و فرج امرأة، و ينقسم إلى مشكل و غير مشكل، فما فيه علامات الذكورية أو الأُنوثية يحكم عليه حسب العلامات، و إنّما الكلام في القسم المشكل الذي حاول الفقهاء أن يبيّنوا الحكم الشرعي في حقّه.

و اعلم أنّ المحاولة في المقام لحلّ مشكلة الخنثى على أساس أنّه ليست طبيعة ثالثة، و انّه إنّما هو ذكر أو أُنثى، و يمكن استظهاره من قوله سبحانه: (أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى ) (1)فالآية تبيّن أنّ الإنسان إمّا ذكر أو أُنثى، حيث جعل المقسم، الإنسان، و الخنثى داخل في المقسم فيكون داخلاً في أحد القسمين، فكان قوله سبحانه: (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ ) بمعنى صيّره و قسّمه إلى قسمين: الذكر و الأُنثى:

ص:546


1- القيامة: 36 39.

و يؤيده أيضاً قوله سبحانه: (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ )(1)، و الآية ظاهرة في حصر الولد في أحد الأمرين و لو كان طبيعة ثالثة يبطل الحصر و تؤيده الروايات حيث ورّثوه حسب الاختبارات المذكورة في كتاب الإرث.

ففي صحيحة داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (: سئل عن مولود ولد، له قبل و ذكر، كيف يُورث؟ قال:» إن كان يبول من ذكره فله ميراث الذكر، و إن كان يبول من القبل فله ميراث الأُنثى «.(2)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في اختباره.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ الإسلام يعامله أحد الجنسين لا جنساً ثالثاً.

و أخيراً قد أصبح معرفة الخنثى و أنّه هل هو ذكر أو أُنثى من السهولة بمكان، و ذلك بفضل التقدم العلمي الهائل في مجال الطب، حتى أصبح بالإمكان إجراء عملية جراحية بغية التعرّف على أنّه من أيّ واحد من الجنسين.

الثاني: انّ مقتضى القاعدة الأوّلية في حقّه هو الاحتياط فلا يتزوج أبداً، و لا ينظر إلاّ إلى المحارم، و لا يُرى بدنه إلاّ لهم و يتجنب عن مختصات الجنسين، لكنّها إنّما تتم إذا لم يوجب حرجاً و إلاّ فله الأخذ بأحد الاحتمالين مطلقاً أو بقيد القرعة و يستمرّ، عليه إذ التخيير بدويّ لا استمراريّ.

ص:547


1- الشورى: 49.
2- الوسائل: 17، الباب 1 من أبواب ميراث الخنثى، الحديث 1.
المقام الثاني: في دوران الأمر بين الأقل و الأكثر

و قبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً:

1. قد عرفت أنّ الشكّ في المكلّف به ينقسم إلى شبهة تحريمية و شبهة وجوبية، و منشأ الشكّ في كلّ، تارة فقدان النص، و أُخرى إجمال النص، و ثالثة تعارض النصين، و رابعة اختلاط الأُمور الخارجية.

و بما أنّ تقسيم الشبهة التحريمية إلى المسائل الأربع، تصوير ذهني ليس لها واقع خارجي، سوى الشبهة الموضوعية ركّزنا البحث في الشبهة التحريمية عليها و قسمناها إلى محصورة و غير محصورة.

و أمّا الشبهة الوجوبية فلها وراء المسائل الأربع تقسيم آخر، و هو أنّ الواجب يدور تارة بين المتباينين و أُخرى بين الأقل و الأكثر، و بما انّ حكم المتباينين واضح و هو وجوب الاحتياط بين المشتبهين ركزنا البحث على الأقل و الأكثر.

2. انّ الأقل و الأكثر ينقسمان إلى الاستقلاليين و الارتباطيين، و الفرق بينهما بأنّ الأقل الاستقلالي يغاير الأكثر الاستقلالي على فرض وجوبه حكماً و وجوباً، ملاكاً و غرضاً، طاعة و امتثالاً، كالفائتة المرددة بين الواحد و الكثير، و الدّين المردّد بين الدرهم و الدرهمين، بخلاف الأقلّ الارتباطي فانّه على فرض وجوب الأكثر، متّحد معه حكماً و وجوباً، ملاكاً و غرضاً، طاعة و امتثالاً، و لا استقلال له في شيء من الأُمور الثلاثة، كالشكّ في وجوب الصلاة مع السورة و عدمها.

ص:548

و بما ذكرنا يعلم أنّ ما هو المقصود من الشبهة التحريمية أعني: الشبهة الموضوعية ليس له إلاّ قسم واحد، و هو الأقل و الأكثر الاستقلاليين، و لا يتصوّر له إلاّ قسم واحد، بخلاف الشبهة الوجوبية فبما انّ البحث فيها لا ينحصر بالموضوعية بل يعمّ المسائل الثلاث، ينقسم إلى الأقلّ و الأكثر الاستقلاليين أو الارتباطيين، و قد أشار الشيخ إلى ما ذكرنا في الفرائد، قال: إنّا لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشكّ في المكلّف به صورة دوران الأمر بين الأقل و الأكثر، لأنّ مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة إلى الشكّ في أصل التكليف، لأنّ الأقلّ حينئذ معلوم الحرمة و الشكّ في حرمة الأكثر.

3. انّ (1) المشكوك من الشبهة الوجوبية، تارة يكون الجزء الخارجي كالسورة و القنوت، و جلسة الاستراحة بعد السجدتين، و أُخرى الخصوصية الموجودة في العبادة، المنتزعة من الأمر الخارجي كالطهارة الحاصلة عن الغسلات و المسحات بنية التقرب، و ثالثة الخصوصية المتحدة مع المأمور به كما إذا دار أمر الواجب بين مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة، أو دار أمر الواجب بين واحد معين من الخصال، أو المردّد بين الأُمور الثلاثة.

و سيوافيك انّ التقسيم الأخير، لا تأثير له في الحكم، و لكن المحقّق الخراساني طرح أمر الجزء في المقام و أحال البحث عن الأمرين إلى التنبيهات، و لكن الشيخ قد بحث في كلّ قسم مستقلاً.(2) و نحن إثر الشيخ ) قدس سره (و نبحث في مقامين نقدّم البحث في الجزء على البحث في الشرط و القيد المشكوك:

4. انّ الأقوال في الأقل و الأكثر الارتباطيين، لا تتجاوز عن ثلاثة:

أ: جريان البراءة العقلية و الشرعية.

ب: القول بالاحتياط و عدم جريانهما.

ج: التفصيل بين العقلية و الشرعية تجري الأُولى دون الثانية.

ص:549


1- الفرائد: 262.
2- لاحظ الفرائد: 272 في القسم الأوّل و 284 في القسم الثاني.
المقام الأوّل: في الجزء المشكوك

إذا عرفت ذلك، فاعلم أن القائلين بجريان البراءتين في الجزء المشكوك استدلوا بوجوه:

الأوّل: الأقل واجب إمّا نفسيّاً أو غيرياً

قال الشيخ الأعظم: إنّ العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ينحل إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل مطلقاً وجب الأقل أو الأكثر، و شك بدويّ في وجوب الأكثر، فتجري البراءة في المشكوك دون المعلوم، أمّا كون الأقل واجباً على كلّ تقدير، لأنّه لو كان الواجب هو الأقل، يكون واجباً نفسياً و لو كان الواجب هو الأكثر يكون الأقل واجباً غيرياً، فإلزام المولى في مورده مقطوع و في غيره مشكوك.(1)

يلاحظ عليه بأُمور:

1. أنّه مبني على وجوب مقدّمة الواجب، و قد فرغنا من عدم وجوبها بل لغوية وجوبها، و لأنّ الهدف من إيجابها هو إيجاد الداعي، فلو كان الأمر بذي المقدمة كافياً في الدعوة إلى ذيها، لكفى في الدعوة إلى المقدّمة و إلاّ لما كان الأمر المقدمي داعياً إلى المقدمة.

2. إذا قلنا بوجوب المقدّمة فإنّما نقول بوجوبها في المقدمات الخارجية، أعني: فيما إذا كانت هناك اثنينية بين المقدمة و ذيها، دون ما إذا كانت المقدّمة نفس ذي المقدمة و كانت المغايرة بينهما اعتبارية.

3. انّ غايته هو العلم بالوجوب الجامع بين النفسي و المقدّمي، و مثل هذا وجوب انتزاعي يدركه العقل، و مثل هذا لا يكون سبباً للانحلال، لأنّ المراد من الانحلال هو العلم لوجوب الأقل شرعاً وجوباً مجعولاً لا وجوباً منتزعاً.

ص:550


1- الفرائد: 274.
الثاني: الأقل واجب إمّا استقلالي أو ضمني

إنّ الكل واجب بوجوب استقلالي، و الأجزاء واجبة بوجوب ضمني، و على هذا لو كان الواجب هو الأقل يكون وجوبه استقلالياً و لو كان الواجب هو الأكثر يكون وجوبه ضمنياً واجباً في ضمن الأكثر، و على كلّ تقدير يكون التكليف بالأقل معلوماً، و العقاب على تركه عقاباً مع البيان.

و الحاصل انّ هنا أمراً واحداً متعلّقاً بالمركب بما هو هو، غير انّ انبساط الأمر عليه يوجب وجوب كلّ جزء جزء بوجوب ضمني، و الأمر الضمني هو مقتضى انبساط الأمر على الأجزاء، و لذلك يكون الآتي بكلّ جزء موجباً لسقوط الأمر الضمني المتعلّق، دون الأمر المتعلّق بالمركب، على ذلك يكون العقاب على ترك المركب لأجل ترك الأجزاء المعلومة) الأقل (عقاباً مع البيان لكن العقاب على تركه بترك الجزء المشكوك، عقاباً بلا بيان.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ لازم أو صريح ذلك التقريب وجود أمرين في كلّ مركب أحدهما استقلالي و الآخر ضمني، و يتعدّد الضمني حسب تعدّد الأجزاء لكنّه غير تام، و ذلك لأنّ الإتيان بالأجزاء بنفس دعوة الأمر المتعلّق بالكلّ لا بأمر ضمني كما في التقرير الثاني و لا بأمر غيري كما في التقرير الأوّل، بل بنفس الأمر المتعلّق بالمركب.

فإذا قال المولى: ابن مسجداً، فالإتيان بالمواد الأوّلية و وضعها في مكانها إنّما هو بدعوة الأمر ببناء المسجد و يعد امتثالاً لذلك الأمر المتعلّق بالعنوان، لكن امتثالاً تدريجياً و ليس لبنائه حقيقة وراء الامتثال التدريجي.

ص:551


1- نسبه المحقّق الخوئي في مصباح الأُصول: 2/428 إلى الشيخ الأنصاري، و لم أعثر عليه في كلماته، نعم كان سيد مشايخنا المحقّق البروجردي يعتمد على ذلك الوجه في درسه الشريف.

و ثانياً: أنّ الجمع بين الأوامر الضمنية الحقيقية و الأمر الاستقلالي جمع بين المخالفين، فانّ الأمر الاستقلالي المتعلّق بالعنوان الوحداني يتوقف على ملاحظة الأجزاء فانية في العنوان و لا تتوجه النفس إلاّ إلى العنوان، و لكن تعلّق الأمر الضمني بكلّ جزء يلازم لحاظ كلّ واحد من الأجزاء مستقلاً غير فان في العنوان و هما لا يجتمعان.

و الحاصل: أنّ الأمر الضمني في هذا التقرير ليس أمراً وهميّاً بل أمر واقعي، و الجمع بينه و بين الأمر الاستقلالي جمع بين لحاظين مختلفين، فتعلّق الأمر الاستقلالي رهن فناء الأجزاء في العنوان و عدم لحاظها إلاّ فانية فيها، لكن تعلّق الأمر الضمني رهن لحاظ الأجزاء مستقلة كلّ واحدة تلو الأُخرى.

و هذا التقرير سمعناه من سيد مشايخنا المحقّق البروجردي في بحث الصلاة و الفرق بينه و بين التقرير السابق واضح. و هناك تقرير ثالث للقول بالبراءة العقلية أبدعه سيدنا الأُستاذ بترتيب مقدّمات مختلفة، و نأتي به في ضمن أمرين.

الثالث: الأقل واجب نفسيّاً

و هذا الوجه ممّا أبدعه سيدنا الأُستاذ، و توضيحه مبني على مقدّمات نأتي بملخّصها:

المقدّمة الأُولى: انّ المركب إمّا حقيقي أو صناعي أو اعتباري،

ففي الأوّل تتفاعل الأجزاء بعضها مع بعض و تخرج الأجزاء عن الاستقلال و الفعلية و يحصل من التفاعل صورة وحدانية تفنى فيها الأجزاء و لا يبقى لها فعلية.

و هذا كالمحاليل الكيمياوية و المعاجين فانّ أجزاءها تفقد فعليّتها و يؤثّر كلّ في الآخر بنفي صورته و يحصل من ذلك التفاعل، صورة ثالثة تعرف بها، كالماء المركب من جزءين هما الأوكسيجين و الهيدروجين، و كالملح المركب من

ص:552

الصوديوم و الكلور، إلى غير ذلك من الأمثلة.

و في الثاني تبقى الأجزاء محتفظة بفعليتها التكوينيّة، غير انّها لا تلحظ بهذا الوصف عند ملاحظتها تحت عنوان واحد، و هذا نظير البناء فانّ كلّ جزء فيه باق على فعليته لكنّه غير ملحوظ بشخصه عند ملاحظته تحت عنوان واحد كعنوان البناء.

و يقرب من الثاني مثل الفوج و العشرة و الصلاة، فانّ كلّ جزء باق على فعليته، غير فان في الكلّ، و لكنّه غير ملحوظ بحياله و استقلاله عند لحاظ جميع الأجزاء تحت عنوان واحد كالفوج و غيره.

و بعبارة أُخرى: انّ المركب الاعتباري الذي هو موضوع البحث له صورة اعتبارية تنحلّ فيها الأجزاء في مقام الاعتبار تحليلاً اعتبارياً حقيقياً، و في الوقت نفسه تبقى الأجزاء محتفظة بفعليتها.

المقدمة الثانية: انّ وحدة الإرادة تابعة لوحدة المراد،

فإذا كان المراد واحداً حقيقة أو متكثراً و لكن ملحوظاً تحت عنوان واحد، تتعلّق به إرادة واحدة، و هذا بخلاف ما إذا كان متكثراً حقيقة فلا يعقل تعلّق إرادة واحدة به.

و بصياغة فنية انّ تشخص الإرادة بتشخص المراد فيتبع في وحدتها و كثرتها، وحدته و كثرته.

و منه يعلم حال الأمر فانّ وحدة الأمر و تعدّده تابع لوحدة المتعلّق و كثرته، فلو كان المتعلق كثيراً بالذات فلا يمكن أن يتعلّق به أمر واحد.

اللّهمّ إلاّ إذا لوحظت الكثرات في ثوب الوحدة و يتخذ لنفسه عنواناً واحداً، فعندئذ يتعلّق به أمر واحد.

المقدّمة الثالثة: انّ الصور في المركبات الاعتبارية ليست أمراً مغايراً للأجزاء بالأسر

بل هو عينها حقيقة، إذ ليس المراد من الصورة إلاّ الأجزاء في لحاظ

ص:553

الوحدة، كما أنّ الأجزاء عبارة عن الأُمور المختلفة في لحاظ الكثرة، و هذا لا يوجب أن يكون وجود الصورة غير وجود الأجزاء.

و بتعبير آخر: انّ الصورة هي نفس الأجزاء بلحاظ الوحدة كما أنّ الأجزاء نفس الصورة لكن بلحاظ الكثرة، فالأجزاء تفصيل الصورة البسيطة كما أنّ الصورة إجمال الأجزاء المفصّلة المختلفة.

و من هنا يعلم أنّ المقام يختلف عن باب المحصِّل) بالكسر (و المحصَّل) بالفتح (الذي اتّفق المشهور على جريان الاشتغال فيه، حيث إنّ الأجزاء باسم الأجزاء المحصّلة) بالكسر (غير الواجب المحصّل) بالفتح (، مثلاً:

لو قلنا بأنّ الوضوء اسم للطهارة النفسانية، و الغسلات و المسحات محقِّقة لها و محصّلة إيّاها، و عندئذ لو شككنا في وجوب شيء خامس كالمضمضة أو الاستنشاق وراء الغسلتين و المسحتين يجب الاحتياط، لأنّ ما تعلّق به الأمر ليس فيه قلّة و لا كثرة، حتى ينحل العلم الإجمالي و تجري فيه البراءة، و ما فيه القلة و الكثرة، ليس متعلّقاً للأمر و إنّما هو محصِّل للواجب و العقل عندئذ يحكم بأنّ الاشتغال اليقيني بأمر معلوم الجزء المشكوك يحصل اليقين بحصول الحالة النفسانية.

و هذا بخلاف المقام فإنّ الأجزاء عين الصورة لكن في لحاظ الكثرة كما أنّ الصورة عين الأجزاء لكن في لحاظ الوحدة، فليس بينهما فرق إلاّ بالإجمال و التفصيل، كما هو الحال في العشرة، فهي نفس الأفراد لكن بصورة الجمع في التعبير، و الأفراد نفس العشرة لكن بصورة التفصيل في البيان، فليس هناك اثنينية و تعدّد حتى يكون أحدهما محصِّلاً و الآخر محصَّلاً، فيدور أمر الواجب بين القليل و الكثير.

ص:554

المقدّمة الرابعة إنّ دعوة الأمر إلى إيجاد الأجزاء إنّما هو بعين دعوتها إلى الطبيعة

لا بدعوة مستقلة و لا بدعوة ضمنية و لا بأمر انحلاليّ و لا بحكم العقل الحاكم بأنّ الإتيان بالكل لا يحصل إلاّ بالإتيان بالأجزاء، و ذلك لأنّ الطبيعة تنحل إلى الأجزاء انحلال المجمل إلى مفصَّله، المفروض انّها عين الأجزاء لكن في لحاظ الوحدة، لا شيئاً آخر، فالدعوة إلى المركب الاعتباري عين الدعوة إلى الأجزاء، مثلاً الأمر بصيام عشرة أيام نفس الأمر بصوم هذا اليوم و ذاك اليوم، كما أنّ الدعوة إلى رفع الجدار بنفس الدعوة إلى بناء البيت لا بدعوة ثانية، و الأمر كما هو حجّة على إيجاد الكلّ فهو بنفسه حجّة على إيجاد الجزء، كما أنّ القيام بكلّ جزء جزء تدريجياً امتثال لنفس الأمر بالكل، و ليس امتثالاً للأمر الضمني المتعلّق به كما قيل و الامتثال كما يكون فوريّاً، يكون تدريجيّاً أيضاً.

المقدّمة الخامسة إنّ مصب الوجوب إنّما هو نفس العنوان لا ذات الأجزاء المردّدة بين الأقل و الأكثر بنعت الكثرة

و إن كان العنوان عين الأجزاء في لحاظ الوحدة، و مع ذلك فمتعلّق الأمر إنّما هو العنوان.

نعم التعبير بأنّ الواجب دائر بين الأقل و الأكثر يومي إلى تعلّق الحكم بالأجزاء رأساً و انّ الواجب بذاته مردّد بينهما، و هو خلاف التحقيق، بل الحكم تعلّق بعنوان غير مردّد في نفسه بين القليل و الكثير، و إن كان ما ينحل إليه العنوان مردّداً بينهما.

إذا عرفت هذه المقدّمات يتضح لك جريان البراءة العقلية.

و ذلك لأنّ الحجّة قامت على وجوب العنوان نحو قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ )،

ص:555

و قيام الحجّة عليه نفس قيامها على الأجزاء، لما عرفت من نسبتها إليه ليس من قبيل نسبة المحصَّل إلى المحصِّل، بل نسبة المفصَّل إلى المجمل، لكن الاحتجاج بالأوّل على وجوب الأجزاء إنّما يصحّ فيما إذا علم انحلاله إلى جزء و جزء حتى يكون داعياً إليه، و أمّا مع الشكّ من كونه جزءاً لا يكون الأمر به حجّة عليها و داعياً إليها ضرورة انّ قوام الاحتجاج بالعلم، و العلم بتعلّق الأمر بالمركب، إنّما يكون حجّة على الأجزاء التي علم بتركب المركب إليها دون ما ما لا يكون.

و إن شئت نزّل المقام على ما إذا تعلّق الأمر بالأجزاء بلا توسط عنوان، فكما أنّه لا يحتج إلاّ على الأجزاء المعلومة دون المشكوكة، فهكذا المقام فإنّ الأمر و إن تعلّق بالعنوان مباشرة دونها، لكن عرفت أنّ نسبة العنوان إليها نسبة المجمل إلى المفصل، فالأجزاء في مرآة الإجمال عنوان، و في مرآة التفصيل أجزاء.

و الحاصل أنّ العبد إذا بذل جهده للعثور على الأجزاء، التي ينحلّ العنوان إليها، فلم يقف إلاّ على التسعة منها دون الجزء العاشر المحتمل، يستقل العقل بأنّه ممتثل حسب قيام الحجّة و يعدّ العقاب على ترك الجزء المشكوك عقاباً بلا بيان.

فإن قلت: إنّ الحجّة قد قامت على العنوان الإجمالي فلا بدّ من الإتيان بالأكثر حتى يحصل العلم بالإتيان لما قامت الحجّة عليه، و بالجملة إذا قام الدليل على وجوب عنوان، مجمل يجب علينا العلم بالبراءة العقلية و هي رهن الإتيان بالأكثر.

قلت: الإشكال مبني على الخلط بين المقام و الشك في المحصِّل، فانّ ما ذكرته صحيح في الثاني حيث إنّ المحصِّل كالغسلات و المسحات، غير المحصَّل كالطهارة النفسانية، و لو شككنا في اعتبار شيء في المحصِّل بنحو لولاه، لما حصل المحصَّل، يحكم العقل بالاشتغال إلاّ إذا أتى بالمشكوك، و هذا بخلاف المقام فانّ

ص:556

العنوان بالنسبة إلى الأجزاء من قبيل الجمع في التعبير مثلاً تارة يقول: زيد، عمرو، بكر، سعد، خالد; و أُخرى يقول: خمسة أشخاص، فلا فرق بين التعبيرين سوى بالإجمال و التفصيل، و قد قامت الحجّة على المقدار المعلوم انحلاله إليه، دون المشكوك انحلاله إليه، فيكون العقاب بالنسبة إليه من قبيل العقاب بلا بيان.

أدلّة القائلين بالاشتغال عقلاً

إلى هنا تمّ ما يمكن أن يقال لتصحيح جريان البراءة العقلية، بقي الكلام في أدلّة القائلين بالاشتغال عقلاً، و هي عشرة، نأتي بالمهم منها:

التقريب الأوّل لمنع البراءة:

ما أفاده المحقّق الخراساني

من استلزام جريان البراءة العقلية أمرين:

1. يلزم من فرض تنجز الأقل، عدم تنجزه.

2. يلزم من فرض الانحلال عدمه.

و بيان الأمرين و إن كان لباً واحداً و هو الخلف يحتاج إلى مقدمة، و هي انّ كلّ علم تفصيلي إذا كان متولّداً من علم إجمالي فلا يكون سبباً لانحلاله و إلاّ يلزم أن يكون المعلول هادماً لعلّته و باقياً بعد فنائها، لأنّ المفروض انّه نابع من ذاك العلم الإجمالي، فكيف يمكن أن يكون باقياً بعد إفنائه؟ فالعلم التفصيلي بوجوب الأقل، نتيجة العلم الإجمالي بأنّه واجب نفسي أو غيري، فلو صار ذاك العلم سبباً لنفي أحد العِدْلين، و هو كونه واجباً للغير، يلزم كون المعلول هادماً لعليّته و باقياً بعد انتفائها.

فلو شككنا في وجوب نصب السلم، و دار الأمر بين كونه واجباً لنفسه أو لغيره، أي للصعود إلى السطح، فالعلم التفصيلي حاصل بوجوب نصب السلم، و لكن الاحتفاظ به فرع حفظ علّته، و هو العلم الإجمالي لوجوبه إمّا نفسياً أو لغيره،

ص:557

و لا يمكن أن يكون محفوظاً مع رفض كونه واجباً للغير و الاكتفاء بوجوبه النفسي.

إذا علم ذلك، فنقول:

يلزم من القول لوجوب الأقل و عدم وجوب الأكثر إشكالان و انّ روحهما واحداً:

يلزم من تنجّز الأقل عدم تنجّزه.

يلزم من الانحلال عدم الانحلال.

و كلاهما خلف.

أمّا الأوّل، فبيانه أنّه يلزم من فرض تنجّز التكليف بالأقل فعلاً عدم تنجّزه كذلك، لأنّ فرض تنجّزه فعلاً إمّا لنفسه أو لغيره فرع تنجّز التكليف بالأكثر أيضاً، حتى يصحّ أن يقال: انّه واجب إمّا نفسياً أو غيرياً، فلو كان وجوبه كذلك، سبباً لوجوبه، دون وجوب الأكثر، يلزم عدم تنجز الأقل أيضاً كذلك، أي على كلّ حال إمّا لنفسه أو لغيره لذهاب المعلول بذهاب علّته.

و أمّا لزوم عدم الانحلال من الانحلال، فلأنّ الانحلال يستلزم عدم تنجّز التكليف المتعلّق بالأكثر على فرض وجوبه، و هو يستلزم عدم العلم بوجوب الأقلّ مطلقاً، و هو يستلزم عدم الانحلال، فيلزم من فرض وجوده عدمه، و هذا هو المقصود من الدور هنا أي مفسدته، أي عدم الشيء من فرض وجوده.

يلاحظ عليه: أنّ الخلف بكلا الوجهين نابع من كون وجوب الأقلّ مقدميّاً أو ضمنياً ناشئاً من وجوب الأكثر، و عندئذ يلزم من القول بتنجّز الأقل مطلقاً عدم تنجّزه كذلك شأن كلّ علم تفصيلي ناجم من العلم الإجمالي، إذا صار الأوّل سبباً لانهدام الثاني، و أمّا إذا كان وجوب الأقل نابعاً من الوجوب المتعلّق بالعنوان، المحرز بالوجدان، فلا يلزم الخلف لأنّه من قبيل علم تفصيلي نابع من علم تفصيلي آخر، ثابت غير متزلزل، و الشكّ إنّما هو في مقدار ما ينحلّ إليه العنوان الواجب، فهل ينحلّ إلى الأقل فقط أو الأكثر أيضاً.

ص:558

و إن شئت قلت: إذا كان وجوب الأجزاء بعين وجوب الكل و كان امتثال كلّ جزء امتثالاً تدريجياً له، فوجوب الأقل على كلّ تقدير لا يتوقف على إحراز وجوب الأكثر و حفظ العلم الإجمالي، بل يتوقف على العلم بوجوب العنوان أو المركب و المفروض انّ العلم بوجوبهما أمر محرز ثابت، لقوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ).(1)

و على ضوء ذلك فهو يأتي بالأجزاء المعلومة بنية الأمر بالكلّ من أوّلها إلى آخرها فلا إشكال، سواء أ كان الواجب هو الأقلّ أم كان هو الأكثر، لأنّ العنوان على وجه ينطبق على كليهما.

فظهر انّ العلم بوجوب الأقل مطلقاً يتوقف على العلم بوجوب العنوان المحرز، لا على وجوبه إمّا نفسياً أو غيرياً، أو نفسياً أو ضمنياً حتى لزم المحذور.

و منه يعلم اندفاع المحذور الثاني إذ لو كان الانحلال مبنياً على وجوب الأقل مطلقاً إمّا نفسياً أو غيرياً لزم المحذور، لأنّ الانحلال يستلزم عدم وجوب الأكثر، المستلزم لعدم وجوب الأقل مطلقاً، المستلزم لعدم الانحلال، لا ما إذا كان الانحلال نابعاً من العلم بوجوبه النفسي سواء أ كان الأكثر واجباً أم لا، و ذلك لأنّ الانحلال يلازم عدم وجوب الأكثر، لكن عدم وجوبه لا يلازم عدم وجوب الأقل حتى يلزم عدم الانحلال، لما عرفت من أنّ وجوب الأقل ليس نابعاً من العلم الإجمالي حتى يتوقف بقاؤه على حفظ العلم الإجمالي، بل وجوبه يتوقف على وجود العلم بوجوب العنوان، الصادق على الأقل و الأكثر، فوجوب الأقل يتوقف على صدق العنوان، و وجوبه لا يتوقف على شيء، لأنّه محرز بالوجدان، لكن لا يحتج به على وجوب الجزء المشكوك بل يحتج على المتيقن منه.

و العجب انّ عصارة الجواب موجودة في كلام المحقّق النائيني قال:

ص:559


1- الإسراء: 78.

إنّ وجوب الأقل لا يكون إلاّ نفسياً على كلّ تقدير سواء كان متعلّق التكليف هو الأقلّ أو الأكثر، فإنّ الأجزاء إنّما تجب بعين وجوب الكل و لا يمكن أن يجتمع في الأجزاء كلّ من الوجوب النفسي و الغيري.(1)

و لو أنّ المحقّق النائيني سار على هذا الجواب لاستغنى عن كثير ممّا ذكره نقضاً و إبراماً.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أجاب عن الخلف بوجه آخر، قال: إنّ دعوى توقّف وجوب الأقل على تنجز الأكثر) لأنّ وجوب الأقل على تقدير كونه مقدمة لوجود الأكثر (إنّما يتوقف على تعلّق واقع الطلب بالأكثر لا على تنجّز التكليف به، لأنّ وجوب المقدّمة يتبع وجوب ذي المقدّمة واقعاً و إن لم يبلغ مرتبة التنجّز.

و كذا تنجّز التكليف بالأقل، لا يتوقّف على تنجز التكليف بالأكثر بل يتوقف على العلم بوجوب نفسه، فانّ تنجّز كلّ تكليف إنّما يتوقف على العلم بذلك التكليف، و لا دخل لتنجّز تكليف آخر في ذلك.(2)

و حاصله: أنّ وجوب الأقل مقدّمة تابع لوجوب الأكثر واقعاً، و البراءة رافعة لتنجّز التكليف بالأكثر لا واقع وجوبه و إن كان غير منجز و الانحلال و إجراء أصل البراءة إنّما ينافي تنجّز التكليف بالأكثر، لا وجوبه الواقعي، و ما هو العلّة لوجوب الأقل مطلقاً هو وجوب الأكثر واقعاً و هو باق، و إن كان تنجّز الأكثر مرفوعاً بالبراءة.

و أمّا وجوب الأقل نفسياً فهو يتوقف على العلم بوجوبه، و هو حاصل من دون توقّف على تنجز التكليف بالأكثر.

يلاحظ عليه: أنّ الشق الأوّل غير تام، لأنّ المقصود إثبات التنجّز بالأقل

ص:560


1- الفوائد: 4/157.
2- الفوائد: 4/158.

على كلّ تقدير و هو فرع حفظ تنجّز الأكثر، و أمّا حفظ الوجوب الواقعي له الأعم من الإنشائي أو الفعلي غير المنجز فلا يكون منتجاً لتنجّز الأقل مطلقاً، لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين، و عندئذ لا يحصل منه العلم بتنجّز الأقل مطلقاً بل أمره دائر بين كونه واجباً غير منجز، و واجباً منجزاً.

إلى هنا تمّ تحليل ما ذكره المحقّق الخراساني، و هناك تقريبات أُخرى لمنع جريان البراءة العقلية و قد ذكر المحقّق النائيني تقريبين نأتي بهما.

التقريب الثاني لمنع البراءة العقلية

لا إشكال في أنّ العقل يحكم بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي، ضرورة انّ الامتثال الاحتمالي إنّما يقتضي التكليف الاحتمالي، و أمّا التكليف القطعي فهو يقتضي الامتثال القطعي، لأنّ العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً و لا يكفي احتمال الفراغ فانّه يتنجز التكليف بالعلم به و لو إجمالاً و يتمّ البيان الذي يستقل العقل بتوقف صحّة العقاب عليه، فلو كان التكليف في الطرف الآخر غير المأتي به، لا يكون العقاب على تركه بلا بيان، بل العقل يستقل في استحقاق التارك للامتثال القطعي للعقاب على تقدير مخالفة التكليف.

ففي ما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلاً، لأنّه يشكّ في الامتثال و الخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين و لا يحصل العلم بالامتثال إلاّ بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة.

ثمّ إنّه) قدس سره (أتى في كلامه بشيء آخر، و هو تقريب مستقل لا صلة له بما ذكر بل هو مأخوذ من تقريب المحقّق صاحب الحاشية الذي نقله عنه قبل هذا التقريب.(1)

ص:561


1- لاحظ الفوائد: 1554/152.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الضابطة ممّا لا غبار عليها، لكن يجب الخروج عمّا اشتغلت الذمّة قطعاً، لا ما اشتغلت به الذمّة احتمالاً، و الأقل ممّا اشتغلت به الذمّة قطعاً فيجب الإتيان به، دون الأكثر لعدم العلم بالاشتغال فيه.

فكما إذا تعلّق الأمر بنفس الأجزاء و دار الأمر بين وجوب الأقل و الأكثر تجري البراءة في الأكثر، فهكذا إذا تعلّق الأمر به بواسطة عنوان، إذ لا فرق بينهما سوى انّ الأمر بالاجزاء على الأوّل في حال الكثرة، و في الثاني في حال الوحدة.

و أمّا ما أفاده من أنّ العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً و لا يكفي احتمال الفراغ، فانّه قد تنجّز التكليف بالعلم به و لو إجمالاً، كلام تام، لكن إذا كان العلم الإجمالي قائماً بحاله، بأن يكون الترديد موجوداً في النفس و يُشكّ في أنّ الواجب هل هذا أو ذاك و هذا إنّما يصحّ في المتباينين لا في مثل المقام فانّ العلم بوجوب الأقلّ حاصل وجوباً، سواء أوجب الآخر أم لا؟ و إنّما الشكّ في وجوب الأكثر و الاحتمال المجرّد، لا يكون منجِّزاً باعثاً للمكلّف نحو الامتثال.

التقريب الثالث و هذا التقريب أيضاً للمحقّق النائيني،

و حاصله:

الشكّ في تعلّق التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط، و إن كان عقلاً لا يقتضي التنجيز، و استحقاق العقاب على مخالفته من حيث هو، للجهل بتعلّق التكليف به، فالعقاب على ترك الخصوصية يكون بلا بيان، إلاّ أنّ هناك جهة أُخرى تقتضي التنجّز و استحقاق العقاب على ترك الخصوصية، على تقدير تعلّق التكليف بها، و هي احتمال الارتباطيّة و قيديّة الزائد للأقل، فإنّ هذا الاحتمال بضميمة العلم الإجمالي يقتضي التنجيز و استحقاق العقاب عقلاً، فانّه لا رافع لهذا الاحتمال، و ليس من وظيفة العقل وضع القيدية أو

ص:562

رفعها، بل ذلك من وظيفة الشارع، و لا حكم للعقل من هذه الجهة فيبقى حكمه بلزوم الخروج من عهدة التكليف المعلوم، و القطع بامتثاله على حاله فلا بدّ من ضمّ الخصوصية.(1)

يلاحظ عليه: أنّه صرّح في صدر كلامه بأنّ الشكّ في تعلّق التكليف بالخصوصية الزائدة لا يقتضي التنجّز و استحقاق العقاب على مخالفته، و إذا كان الأمر كذلك فأيّ فرق بين كون الخصوصية وجوب الجزء و كونها احتمالَ الارتباطيّة، مع اشتراك الأمرين في أنّ العقاب عليهما من قبيل العقاب بلا بيان.

و ما ذكره في ذيل كلامه من أنّه ليست وظيفة العقل وضع القيدية أو رفعها بل ذلك من وظيفة الشارع و إن كان صحيحاً، لكن الهدف من إجراء البراءة العقلية ليس وضعها أو رفعها، بل شأن العقل نفي العقاب المحتمل من ترك القيد المحتمل سواء أ كان ذلك القيد، هو وجوب الجزء، أو الارتباط بين الأقل و الأكثر. و أمّا الرفع أو الوضع فيأتي الكلام فيهما عند البحث في البراءة الشرعية.

و بالجملة فالغرض من إجراء البراءة العقلية تحصيل الأمن من العقاب من ترك الأكثر، لا رفع القيد و إنّما هو من شئون البراءة الشرعية كما سيوافيك.

فإن قلت: لو كان الأقل في نفس الأمر مرتبطاً بالأكثر حيث جعل الشارع الجميع بنعت الوحدة موضوعاً للحكم، فلا يفيد الإتيان بالأقل.

قلت: إحراز كون الأقل مفيداً في نفس الأمر أو غير مفيد ليس من وظائف العبد، بل ذمته رهينة لما ثبت تعلّق الأمر به و المفروض انّ الثابت هو الأقل لا الأكثر.

ص:563


1- فوائد الأُصول: 4/161.
التقريب الرابع:

ما ورد في كلمات الشيخ الأعظم بصورة الإشكال

و قال:

إن قلت: إنّ الأوامر الشرعية كلّها من هذا القبيل لابتنائها على مصالح في المأمور به فالمصلحة إمّا من قبيل العنوان في المأمور به، أو من قبيل الغرض، و بتقرير آخر المشهور بين العدلية: أنّ الواجبات الشرعية، إنّما وجبت لكونها ألطافاً في الواجبات العقلية، فاللطف هو المأمور به حقيقة، أو غرض للأمر فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف و لا يحصل إلاّ بإتيان كلّ ما شكّ في مدخليّته.(1)

و قرّره في الكفاية معتمداً عليه و قال: إنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلاّ بالأكثر بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر و النواهي للمصالح و المفاسد في المأمور به و المنهيّ عنها.

و قد مرّ اعتبار موافقة الغرض و حصوله عقلاً من إطاعة الأمر و سقوطه، فلا بدّ من إحرازه في إحرازها.(2)

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري أجاب عن الاستدلال بوجهين:

الأوّل: انّ جريان البراءة و عدمه في المقام ليس مبنيّاً على مذهب العدلية القائلين بتبعية الأحكام للمصالح و المفاسد، بل يجري على القول بعدم التبعية كما عليه الأشاعرة.

الثاني: انّ الإتيان بالأكثر ليس محصِّلاً للغرض على وجه اليقين، لاحتمال دخل قصد الوجه في حصوله، مع عدم التمكّن منه لاستلزامه التشريع، و على ذلك لا قطع بحصول الغرض على كلا التقديرين.

ص:564


1- الفرائد: 3/273.
2- كفاية الأُصول: 2/232.

و أنت خبير بعدم إتقان الجوابين، أمّا الأوّل فلأنّ الاستدلال عندئذ يكون جدليّاً، لا برهانياً، لأنّ المستدل و المجيب قائلان بالتبعية، فكيف يكون المجيب في مقام الإجابة أشعرياً.

و أمّا الثاني فللاتفاق على عدم وجوب قصد الوجه و إلاّ لامتنع الاحتياط، و من قال بوجوبه فإنّما قال عند التمكّن، لا في مثل المقام.

و لذلك نرى أنّ المحقّق الخراساني نقد كلام الشيخ الأنصاري بوجه مبسّط لم يعرف منه ذلك التبسيط في مقام آخر.

و الأولى في مقام الجواب أن يقال: إذا كان الغرض، متعلقاً للأمر كما إذا أمر المولى بصنع معجون يقوّي الأعصاب، فشك العبد في الأجزاء المحصلة لهذا الغرض هل هي تسعة أو عشرة فلا شكّ في وجوب الاحتياط، لأنّ المأمور به أمر بسيط، غير دائر أمره بين الأقل و الأكثر، و ما يدور أمره بينهما غير مأمور به.

و أمّا إذا تعلّق الأمر بمركب ذي أجزاء أمر المولى به لأجل غرض له، و شكّ في أنّ الغرض المحصِّل له هو الأجزاء التسعة أو العشرة، ففي مثل ذلك لا يجب الاحتياط، لأنّ الواجب على العبد في مجال الإطاعة، الإتيان بما تعلّق به الأمر كاملاً، سواء أ كان محصلاً للغرض أم لا، و ذلك انّه لو لم تكن الأجزاء المعلومة محصلة لغرضه كان عليه البيان إمّا بالعنوان الأوّلي، كأن يبيّن الجزء المشكوك و يكون البيان واصلاً، أو بالعنوان الثاني، كأن يقول: إذا شككت في جزئية شيء للمأمور به فعليك بالاحتياط.

و على ضوء ذلك فالزائد على الأقل لم تقم الحجّة عليه لا تكليفاً و لا غرضاً.

أضف إلى ذلك انّه لو كان مانعاً من جريان البراءة العقلية، يجب أن يكون مانعاً من جريان البراءة الشرعية، مع أنّ المحقّق الخراساني الذي اعتمد على هذا الدليل، قد ذهب إلى جريان البراءة النقلية كما سيوافيك.

ص:565

التقريب الخامس إنّ الأمر المتعلّق بالأقل دائر بين كونه صالحاً للتقرّب إذا كان نفسياً و غير صالح له إذا كان مقدمياً توصلياً

و أمّا الأكثر فأمره صالح للتقرّب، لأنّه إمّا هو الواجب، أو كونه مشتملاً عليه و يقصد التقرّب بما هو المقرّب في الواقع.

يلاحظ عليه: أنّ الأمر المتعلّق بالأقل نفسي لكونه مصداقاً للصلاة إنّما الشكّ في انحلال العنوان الجامع للكثرات، إلى الجزء المشكوك و غيره، و على كلّ تقدير فسواء أثبت الانحلال أم لم يثبت فهو يأتي الاجزاء بالأمر المتعلّق بالعنوان، لا بالأمر المتعلّق بالأجزاء قليلة كانت أم كثيرة، فالأمر المقصود على كلتا الصورتين، أمر نفسي، و الشكّ في مقدار انحلال المتعلّق، لا يجعل الأمر متعدّداً.

التقريب السادس إنّ نفي العقاب من جانب ترك الأكثر، لا يُثبت تعلّق الأمر بالأقل و الغاية إثبات تعلّقه به.

أقول: هذا الإشكال مشترك بين البراءتين: العقلية و الشرعية، فنحيل الجواب إلى البحث التالي:

أدلّة القائلين بجريان البراءة الشرعية

ذهب الأُصوليون إلى جريان البراءة الشرعية، حتى أنّ من منع جريان البراءة العقلية قال بجريان البراءة الشرعية، و في مقدّمهم المحقّق الخراساني فقد أفاد ما هذا توضيحه:

إنّ جزئية السورة مجهولة و محجوبة، فترفع بفضل حديثي الرفع و الحجب.

ص:566

فإن قلت: يشترط في الرفع التشريعي كون المرفوع أثراً مجعولاً شرعياً كالوجوب، أو موضوعاً ذا أثر شرعي كنجاسة الثوب فانّ أثر نجاسته عدم جواز الصلاة فيه، و الجزئية في المقام ليس من أحد القسمين، و أمّا لزوم الإعادة فهو أثر عقلي لجزئية السورة، أو هو من آثار بقاء الأمر بعد التذكر، فالعقل عندئذ يستقل بلزوم الإعادة.

قلت: إنّ الجزئية أمر انتزاعي ينتزع من تعلّق الوجوب الشرعي بالسورة و هذا كاف في تعلّق الرفع بها.

فإن قلت: إنّ حديث الرفع، حديث رفع لا وضع، فما الدليل على تعلّق الأمر بالعبادة الخالية عن الجزء؟ قلت: هذا هو الإشكال الذي مضى عند الكلام في جريان البراءة العقلية أيضاً، و قد تكرّر هذا الإشكال في كلمات المحقّق النائيني من أنّ حديث الرفع، حديث رفع لا وضع فلا دليل على تعلّق الأمر بالخالي.

فأجاب المحقّق الخراساني بقوله: إنّ نسبة حديث الرفع إلى الأدلّة الدالة على بيان الأجزاء إليها، نسبة الاستثناء و عندئذ يكون المجموع دالاًّ على جزئيتها إلاّ مع الجهل بها.

توضيحه: انّ الواقع لا يكون خالياً من أحد أمرين إمّا أن لا تكون السورة جزء الواجب، أو تكون; فعلى الأوّل، فالأمر متعلّق بالخالي واقعاً و إن لم يكن المكلَّف واقفاً عليه.

و على الثاني: يكون حديث الرفع بمنزلة الاستثناء كأنّه يقول: أقم الصلاة بجميع أجزائها إلاّ السورة في حالة الجهل، فالأمر تعلّق بحكم الاستثناء بالطبيعة الخالية عن الجزء.

ص:567

و على ما ذكرنا لا حاجة إلى ما ذكره، لما قلنا من أنّ تعلّق الأمر بالعنوان عين تعلقه بالأقل، إنّما الكلام في انحلاله إلى الجزء المشكوك و عدمه فتعلّقه بالأقل محرز. و لعلّ ما ذكره) قدس سره (يرجع إلى ما ذكرنا.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم حسب عادته طرح الشكّ في جزئية الشيء ضمن مسائل أربع.

أنّ الشكّ في الجزئية تارة يكون ناشئاً من عدم النصّ، و أُخرى من إجمال النصّ، و ثالثة من تعارض النّصين، و رابعة من خلط الأُمور الخارجية و الذي يسمّى بالشبهة الموضوعية، و بما أنّ الدليل واحد في الجميع نقتصر بهذا المقدار تبعاً لصاحب الكفاية، و لا نعقد لكلّ مسألة عنواناً مستقلاً.

نعم سيأتي الكلام في الشبهة الموضوعية بمناسبة البحث في الشكّ في المحصِّل.

المقام الثاني: في الشكّ في الأجزاء التحليلية

قد عرفت في صدر البحث في الأقل و الأكثر أنّ الشك في الجزء على قسمين: تارة يكون للجزء المشكوك وجوبه، وجود خارجي مستقلّ تحتمل مدخليته في الواجب، و هذا هو الذي مرّ البحث فيه في المقام الأوّل.

و أمّا المقام الثاني: فهو عبارة عمّا إذا لم يكن للجزء المشكوك وجوبه، وجود مستقل، و إن كان في بعض المواضع له منشأ انتزاع مستقل، و لكن الجميع داخل تحت عنوان الجزء التحليلي أي ما يحتمل دخله في الواجب و ليس له وجود مستقل، و له أقسام.

الأوّل: ما يكون الجزء التحليلي منتزعاً من أمر خارجي كالتستر من إلقاء الستر على الرأس، و الطهور من الغسلات و المسحات، فالشرط أمر تحليلي باسم

ص:568

التقيّد، و إن كان المنشأ أو القيد ذا وجود مستقل.

الثاني: ما يكون الجزء التحليلي قائماً بالموضوع دون أن يكون مقوّماً له نظير الإيمان بالنسبة إلى الرقبة.

و قد أشار المحقّق الخراساني إلى القسمين الأُوليين بقوله:» إنّه ظهر ممّا مرّ حال دوران الأمر بين المشروط بشيء و مطلقه «و إلى القسم الثالث بقوله:» و بين الخاص و عامه كما في الحيوان «.

ثمّ إنّه) قدس سره (منع من جريان البراءة العقلية في الأقسام الثلاثة بوجهين تطرّق إليهما الشيخ أيضاً.

الأوّل: انّ الأجزاء التحليلية لا توصف بالوجوب من باب المقدمة، و قد أشار الشيخ إلى هذا الدليل أيضاً حيث قال: إنّ ما كان متّحداً في الوجود الخارجي كالإيمان في الرقبة المؤمنة لا يتعلّق به وجوب و إلزام مغاير لوجوب أصل الفعل، و لو مقدمة، فلا يندرج فيما حجب اللّه عن العباد «(1)فلا يصحّ أن يقال: إنّ وجوب الإيمان في الرقبة لم يرد فيه بيان فالعقاب عليه عقاب بلا بيان.

و قد فسّرنا كلام الشيخ في المحصول(2) بوجه آخر فلاحظ، و ما ذكرنا هنا هو الأوفق لظاهر كلامه.

الثاني: انّ وجود الطبيعي في ضمن الواجد للمشكوك، مباين لوجوده في ضمن الفاقد له وعليه فلا يكون هناك قدر متيقن في البين لينحلّ به العلم الإجمالي و تجري أصالة البراءة.

و قد أشار الشيخ إلى هذا الدليل بقوله: إنّ الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك وجوبه، معذور في ترك التسليم لجهله، و أمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم

ص:569


1- الفرائد: 284.
2- المحصول: 3/557.

يأت من الخارج ما هو معلوم تفصيلاً حتى يكون معذوراً من الزائد المجهول، بل هو تارك للمأمور رأساً، و بالجملة فالمطلق و المقيّد من قبيل المتباينين.(1)

و حاصل الدليل الأوّل: انّه ليس هنا وجوب ليقع مصبّاً للبراءة، لأنّ الأجزاء التحليلية لا توصف بالوجوب، كما أنّ حاصل الدليل الثاني، انّ وجود المطلق و المقيّد في الخارج لما كانا متباينين، فلو كان الواجب هو المقيّد، لم يكن الآتي بالمطلق آتياً بالأقل و تاركاً للأكثر، بل لم يأت منه شيء.

و قبل دراسة هذين الدليلين نقدّم أمراً يعلم به ملاك جريان البراءة العقلية و هو:

انّ ملاك جريانها عبارة عن حاجة المورد إلى البيان الزائد، فكلّ مشكوك كان الوقوف عليه رهن بيانه فهو مجرى للبراءة العقلية.

و يقال: إنّ وجوب هذا الشيء لم يرد فيه بيان و كلّ ما كان كذلك و كان واجباً في الواقع لكن تركه المكلّف يكون العقاب عليه عقاباً بلا بيان، هذا، من غير فرق بين أن يتعلّق الوجوب بعنوان كالصلاة و شكّ في انحلاله إلى الشرط المشكوك كالطهارة و التستر أو يتعلّق الحكم بالمطلق و نشك في تقيّده بالقيد كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة، أو يتعلّق الأمر بالعام و نشك في دخل الخاص المقوّم فيه كما إذا تردد الواجب بين كونه ذبح حيوان أو غنم، أو تردد وجوب التيمم على الشيء بين الأرض و التراب، فالملاك في الجميع هو حاجة الشيء المشكوك إلى البيان الزائد، فلو لم يرد و كان واجباً لكن لم يصل إلى المكلّف يكون العقاب على تركه عقاباً بلا بيان.

إذا علمت ذلك فلندرس الدليل الأوّل في الموارد الثلاثة:

ص:570


1- الفرائد: 284.

أ: المطلق و المشروط.

ب: المطلق و المقيد.

ج: العام و الخاص.

أمّا الأوّل: فلأنّ مصب الشكّ ليس وجوبهما الغيريين بل المصب هو الوجوب النفسي لهما مثل سائر الأجزاء، حيث إنّ واقع الشكّ يتعلّق بانحلال الصلاة إليهما و عدم انحلاله، فلو كانا دخيلين في الموضوع له فهي تنحل إليهما و إلاّ فلا.

و من المعلوم أنّ الأمر بالعنوان إنّما يكون حجّة فيما علم انحلاله إليه لا ما شك.

أمّا الثاني: فلأنّ القيد و إن لم يكن داخلاً في مفهوم المقيّد كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة، لكن لو كان الواجب هو الرقبة المؤمنة فالإيمان يكون واجباً وجوباً نفسياً كوجوب الرقبة، و الشك في مثل هذا الوجوب يكون مصححاً لجريان البراءة.

و أمّا الثالث: فلأنّه لو كان الواجب وراء الحيوان شيء آخر، و هو كونه غنماً، وجب بنفس وجوب الحيوان، و الشكّ في مثل هذا الوجوب مجرى للبراءة، نعم الاستدلال يتمُّ لو قلنا بوجوب الأجزاء التحليلية بالوجوب المقدمي و قد سبق اختصاصه على فرض صحّته بالأجزاء الخارجية لا التحليلية العقلية.

و أمّا الوجوب النفسي فهو يعمّ الشرط و القيد و الخاص بلا فرق بينها.

هذا كلّه حول الدليل الأوّل.

و أمّا الدليل الثاني: فلأنّ ما ذكره مبني على تعلّق الأوامر بالموضوع الخارجي فعندئذ يصحّ ما ذكره من أنّ الصلاة مع الخصوصية غير الصلاة بدونها،

ص:571

لأنّ الفاقد لا يتحقّق إلاّ مع خصوصية أُخرى لامتناع تحقّق الجامع بلا فصل و خصوصية.

و مثله الأرض فإذا شككنا في لزوم كون التيمم على التراب، أو مطلق الأرض، نجد أنّ الثاني لا يتحقّق إلاّ في ضمن فصل آخر ككون الأرض حجراً أو رملاً، و من المعلوم أنّ الحجر و التراب متباينان.

و لكنّ الأوامر لا تتعلّق إلاّ بالطبائع الكلية، و المفاهيم المجرّدة، و عندئذ يكون الموضوع من قبيل الأقل و الأكثر، حيث يشكّ في أنّ المأمور به هو مطلق الصلاة، أو الصلاة المشروطة بشيء، و عندئذ يكون من قبيل الأقل و الأكثر، و يقع الثاني مجرى للبراءة، و بعبارة أُخرى يشك في انحلال الموضوع إلى الطهور و التستر أولا.

و خلاصة القول: إنّ الدليل مبني على وجوب الأجزاء التحليلية بالوجوب الغيري، و قد عرفت خلافه، كما أنّ الدليل الثاني مبني على تعلّق الوجوب بالخارج، و قد عرفت أنّه متعلّق بالأُمور الكلية.

إلى هنا تمت دراسة الموارد الثلاثة و أنّها تقع مصبّاً للبراءة العقلية، و أنّ المكلّف لو تركها كان العقاب عليه عقاباً بلا بيان.

في جريان البراءة النقلية

هذا كلّه حول البراءة العقلية، و أمّا البراءة النقلية، فقد فصّل المحقّق الخراساني بين المشروط و شرطه، و المطلق و قيده، و بين العام و الخاص، فقال بجريانها في الأوّلين و عدمه في الثالث.

أمّا جريانها فيهما فلدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية و قيديّة ما شُكّ في شرطيّته، أو قيديّته، و ليس كذلك خصوصية الخاص.

ص:572

و الفرق بينهما أنّ الشرط و القيد من الأُمور الزائدة على الطبيعة المأمور بها، فيدخل المورد تحت الأقل و الأكثر دون خصوصيّة الخاص، فانّها أمر منتزع من نفس الخاص على وجه لولاه لما كان للعام تحقّق فلا يدور الأمر بين الأقل و الأكثر، بل بين المتباينين، لأنّ الخاص نفس العام تحقّقاً، و ليس شيئاً زائداً عليه.

توضيح مراده: انّ العام في كلّ مورد يتحقّق بفصله، و لا تحقق للعام بدون الخاص، كما قال السبزواري:

إبهامَ جنس حسب الكون خذا إذ هو الدائر بين ذا و ذا

و على ذلك فكما أنّ الأكثر يتحقق في ضمن خاص أعني الغنم، و هكذا الأقل أعني الحيوان لا يتحقّق مجرّداً عن الفصل، بل لا بدّ في تحقّقه من فصل، و يتحصل العام في ضمن الإبل و البقر و المعز، و النسبة بينها و بين الغنم هو التباين فيدخل المورد تحت دوران الأمر بين المتباينين.

يلاحظ عليه: أنّه من باب خلط المسائل الفلسفية بالأُمور الاعتبارية، فانّ ما ذكره صحيح حسب الأُصول الفلسفية في المقام، و ذلك لأنّ مدار كون المورد من قبيل الأقل و الأكثر، هو كون ما وقع تحت دائرة الطلب، هو مطلق الحيوان، أو الحيوان الخاص، أعني: الغنم، فبما أنّ الخصوصية مجهولة تقع مجرى للبراءة، و يكون مرفوعاً حسب حديثي الرفع و الحجب.

و إن شئت قلت: إنّ المعيار وجود الكلفة الزائدة في أحد الطرفين دون الآخر، و لا شكّ في الالتزام بكون المذبوح غنماً كلفة زائدة ليست في الطرف الآخر، لأنّه في الخيار بذبح أيّ حيوان.

ثمّ إنّه كان على الشيخ الأنصاري أن يبحث في هذا القسم عن مسائل أربع، لأنّ الشكّ في الجزء التحليلي يكون نابعاً تارة عن فقدان النص، و أُخرى عن

ص:573

إجمال النص، و ثالثة عن تعارض النصين، و رابعة عن خلط الأُمور الخارجية، لكنّه) قدس سره ( اعتماداً على ما سبق، طوى الكلام عنها و اختصر على أصل البحث.

الشكّ في المحصل

ثمّ إنّه كثيراً ما يدور في لسان الأُصوليين مصطلح الشكّ في المحصل، أو الشكّ في السقوط، و لم يذكره المحقّق الخراساني في الكفاية، و ذكره الشيخ في المسألة الرابعة من الشكّ في الأقل و الأكثر، فزعم أنّ الشكّ في المحصِّل عبارة عن الشكّ في الأقل و الأكثر من باب خلط الأُمور الخارجية. فقال: إذا شكّ في جزئية شيء المأمور به من جهة الشكّ في الموضوع الخارجي، كما إذا أمر بمفهوم مبين، مردّد مصداقه بين الأقل و الأكثر، و منه ما إذا وجب صوم هلالي، و هو ما بين الهلاليين فشكّ في أنّه ثلاثون، أو ناقص، و مثل ما لو أمر بالطهور لأجل الصلاة، أعني: الفعل الرافع للحدث أو المبيح لها، فشكّ في جزئية شيء للوضوء أو الغسل الرافعين) أو المبيحين (، و اللازم في المقام الاحتياط، لأنّ المفروض تنجّز التكليف بمفهوم مبين معلوم تفصيلاً، و إنّما الشكّ في تحقّقه بالأقل، فمقتضى أصالة عدم تحقّقه و بقاء الاشتغال عدم الاكتفاء به و لزوم الإتيان بالأكثر....(1)

يلاحظ عليه: أنّ هنا مسألتين:

إحداهما: ما هو الموسوم بالشكّ في المحصّل، أو الشكّ في السقوط؟ ثانيهما: ما هو الموسوم بالشكّ في الشبهة الموضوعية من قسم الأقل و الأكثر؟ و الفرق بين المسألتين كالتالي:

إذا كان متعلّق الأمر واضح المفهوم مبيّن المعنى لا تردّد و لا قلّة و لا كثرة و إنّما الإجمال و التردد في محقِّقه و سببه، و هذا كما في الأمر بالطهور إذا فسر بالحالة

ص:574


1- الفرائد: 283 284.

النفسانية الحاصلة للمتوضئ بعد الوضوء، فلا إجمال و لا إبهام في المأمور، و إنّما الإبهام في أمر خارج عن المأمور به، و هو أنّه هل تتحقّق تلك الحالة بنفس الغسلات و المسحات، أو يتوقف وراءها على غسل الاذن أيضاً؟ فالأقل و الأكثر في ناحية السبب، لا المسبب.

و أمّا إذا كان متعلّق الأمر و النهي مردّداً بين الأقل و الأكثر كما في الشبهة الحكمية كإجمال جزئية السورة في الأُولى، أو كان مصداق المتعلّق مردّداً بينهما فاحتمال كون زيد عالماً وراء سائر الأفراد المعلومة، فهو من قبيل الشكّ في الأقل و الأكثر حكمياً أو موضوعياً.

و منه يظهر أنّ ما مثل به الشيخ من قبيل القسم الأوّل كالطهور أو صوم ما بين الهلالين ليس بصحيح ، لأنّ الشكّ في المثالين ليس في متن المأمور به، و إنّما الشكّ في محقّقه، و انّه هل يتحقّق بنفس الغسلات و المسحات، أو بتسعة و عشرين يوماً، أو لا؟ إذا عرفت ذلك فلنأخذ كلّ واحد بالبحث.

الكلام في الشكّ في المحصِّل

الشكّ في المحصِّل بالمعنى الذي عرفته من خصائص الشبهة الحكمية، فإذا أمر المولى بمسبب توليدي، و دار الأمر في سببه المولّد بين جزئية شيء أو شرطيته، فالحقّ وفاقاً لأهله لزوم الاحتياط، و قد أوضح ذلك الشيخ في كلامه السابق بقوله: إنّ المفروض تنجّز التكليف بمفهوم بيّن معلوم تفصيلاً، إنّما الشكّ في تحقّقه بالفعل، فمقتضى أصالة الاشتغال عدم الاكتفاء و لزوم الإتيان بالأكثر.

فما هو المأمور به، ليس فيه قلّة و لا كثرة حتى تجري فيه البراءة، و ما فيه القلّة و الكثرة ليس بمأمور به.

ص:575

فإن قلت: هذا إذا كان السبب عقليّاً، أو عاديّاً، كما إذا أمر المولى بقتل المرتد، و دار السبب بين ورود ضربة عليه أو ضربتين، أو أمر بتنظيف البيت، و دار أمره بين كنسه فقط، أو كنسه و رشّه، ففي تلك الموارد يجب الاحتياط، إذ ليس بيان السبب من وظائف الشارع، و أمّا إذا كان السبب شرعيّاً، كالوضوء بالنسبة إلى الطهور فتجري فيه البراءة و تحكم بعدم دخله في السبب.

قلت: إنّ أصالة البراءة و إن كان يعالج الشكّ في ناحية السبب فيحكم بعدم دخله في السببية، لكن لا يعالج الشكّ في ناحية المسبب، فالشكّ فيه باق بحاله فالعقل يحكم بأنّ ذمة المكلّف مشغولة بالمفهوم المبيّن، و لا يحصل الفراغ إلاّ بضم المشكوك إلى المتيقن.

فإن قلت: إنّ الشكّ في تحقّق الظهور و عدمه ناجم من شرطية غسل الاذن في المسبب و عدمها، فإذا جرى الأصل في ناحية السبب، و قلنا بأنّ شرطية غسل الاذن مجهولة مرفوعة بحديث الرفع لا يبقى شكّ في ناحية المسبب و انّه حاصل قطعاً.

قلت: إنّ الأصل السببي إنّما يكون حاكماً على الأصل المسببي إذا كان هناك دليل اجتهادي يتخذ نتيجة الأصل السببي صغرى لنفسه فيتركب الدليل من صغرى و كبرى و يكون الكبرى حاكماً على الأصل المسببي، و هذا كما في المثال المعروف: إذا غسل النجس، بماء مستصحب الطهارة، فانّ استصحاب طهارة الماء حاكم على استصحاب نجاسة الثوب، و ذلك لأنّ الشكّ في بقاء النجاسة و عدمه نابع عن طهارة الماء، فإذا كان الماء محكوماً بالطهارة، و الثوب النجس مغسولاً به، يكون مفاد الأصل السببي صغرى لكبرى اجتهادية، و يقال هذا الثوب النجس غسل بماء طاهر) بحكم الاستصحاب (و كلّ نجس غسل بماء طاهر فهو طاهر و هذا هو الكبرى، فينتج هذا الثوب المغسول بماء طاهر طاهر،

ص:576

و ليس المقام كذلك فانّ استصحاب عدم وجوب غسل الاذن لا يحقق موضوعاً لكبرى شرعية، و هي كلّما لم يكن غسل الاذن واجباً يكون الوضوء متحققاً بالغسلتين و المسحتين.

و إن شئت قلت: إنّ الأصل في المقام مثبت، لأنّ رفع وجوب غسل الاذن يلازم عقلاً انحصار الواجب في الأجزاء المتبقية، و هو يلازم تحقق الوضوء المسببي بحكم العقل بأنّه كلّما تحققت العلّة يتحقق المعلول أيضاً، و الكلّ من الأُصول المثبتة.

الشبهة الموضوعية في الأقل و الأكثر الارتباطيين

اشارة

قد عرفت أنّ الشكّ في الأقلّ و الأكثر من جهة المصداق، غير الشكّ في المحصّل، و إن خلط الشيخ الأعظم) قدس سره (بينهما، و قد مرّ حكم الشكّ في المحصِّل و بيانه، و لنأخذ الشكّ في المصداق بالبحث فنقول:

إنّ العناوين الواقعة تحت دائرة الطلب تتصوّر على وجوه:

1. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو العام الاستغراقي.

2. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو العام المجموعي.

3. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو صرف الوجود، و نقض العدم.

و الفرق بين الأوّلين واضح.

إذ على الأوّل: فيه أحكام، و بالتالي امتثالات و عصيانات لكلّ فرد.

بخلاف الثاني ففيه حكم واحد، و بالتالي امتثال و عصيان واحد، فلو قال: أكرم مجموع العلماء، و كان عددهم مائة فأكرم تسعة و تسعين عالماً، و ترك إكرام واحد منهم لما امتثل أصلاً، لكون المجموع موضوعاً واحداً.

ثمّ الحكم المتعلّق بالعنوان تارة يكون الوجوب، و أُخرى الحرمة، و على

ص:577

التقديرين فالوجوب أو الحرمة تارة نفسيان و أُخرى غيريان فيقع الكلام في مقامات أربعة:

1. حكم الشبهة المصداقية في الواجب النفسي

إذا شككنا في مصداقية فرد لعنوان تعلّق به الوجوب النفسي، فإن كان العنوان مأخوذاً بنحو الاستغراقي فالمرجع هو البراءة، للشكّ في أصل التكليف في حقّ الفرد المشكوك، و يكون العام من قبيل الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و أمّا إذا كان مأخوذاً بنحو العام المجموعي، كما إذا قال: أكرم مجموع علماء البلد، فشكّ في كون فرد عالماً أو لا، فذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المرجع، البراءة، و السيد الأُستاذ) قدس سره (إلى الاشتغال، و لعلّ الحقّ التفصيل بين مورد و مورد.

أمّا الأوّل: فلأنّ مرجع الشكّ في عالمية بعض، إلى الشكّ في الأقل و الأكثر الارتباطيين، لأنّه ليس هنا إلاّ تكليف واحد تعلّق بإكرام مجموع العلماء من حيث المجموع، فيكون إكرام فرد من العلماء بمنزلة الجزء لإكرام العلماء كجزئية السورة للصلاة، فيرجع إلى الشكّ بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.(1)

و أمّا الثاني: فبوضوح الفرق بين المقامين، فانّ الأمر في الأقل و الأكثر الارتباطيين تعلّق بالاجزاء بلحاظ الوحدة و ليست الصلاة عنواناً متحصّلاً منها بحيث يشكّ في تحقّقها مع ترك الجزء و الشرط، فالشكّ في الجزئية يرجع إلى الشكّ في انبساط الأمر بالنسبة إليها. بخلاف المقام فانّه تعلّق بعنوان خاص أعني المجموع بما هو هو، و قد قامت الحجّة بما هو هو، و مرجع الشكّ إلى انطباق المأتي به على المأمور به، فالشكّ في المقام، شكّ في تحقّق العنوان المأمور به، بخلاف الآخر

ص:578


1- فوائد الأُصول: 4/202.

فإنّه شكّ في تقيد الصلاة بشيء.

و يمكن أن يقال: إنّه إذا أخذ العنوان موضوعاً بما هو هو فالمرجع هو الاشتغال، لأنّ الذمة مشغولة بإيجاده فإذا شكّ في عالمية فرد، يجب إكرامه إذ مع ترك إكرامه يشكّ في حصول العنوان، و فراغ الذمة، فلا تجري البراءة في مشكوكها، بخلاف ما إذا كان العنوان مأخوذاً بنحو المرآتية إلى الخارج فيكون الشكّ راجعاً إلى قلّة الاجزاء و كثرتها فتجري البراءة.

و أمّا إذا كان تعلّق الحكم بنحو صرف الوجود و ناقض العدم و إيجاد الطبيعة فقط، فإذا شكّ في كون فرد عالماً أو لا، لا يجوز الاكتفاء بإكرام المشكوك بل يجب إكرام من يعلم أو مصداقه.

2. حكم الشبهة المصداقية في الواجب الغيري

هذا كلّه إذا كان الشكّ في الشبهة الموضوعية في الواجب النفسي، و أمّا إذا كان الشكّ في الشبهة الموضوعية من الواجبات الغيرية بناء على القول بالوجوب الغيري ككون الشيء مصداقاً للجزء أو الشرط أو لا، فالأقسام الثلاثة الماضية و إن كانت متصوّرة في المقام، لكن الواقع هو القسم الثالث، أعني:

صرف الوجود و ناقض العدم إذ لم يعهد في الشريعة، اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً بنحو العام الاستغراقي أو المجموعي.

فإذا دار أمر شيء مصداقاً للجزء أو الشرط أو لا، كما إذا شككنا في سورة الانشراح هل هي سورة كاملة بناء على وجوب قراءة السورة الكاملة في الصلاة أو لا، أو في كون مائع خارجي أنّه ماء أو خل، فلا يجوز الاكتفاء بالمشكوك، بل يجب إحراز كونها سورة كاملة، أو ماء مطلقاً.

هذا كلّه حول الحكم الوجوبي النفسي و الغيري.

ص:579

3. حكم الشبهة المصداقية في التحريم النفسي

إنّ حكم الشبهة المصداقية في التحريم النفسي، مطلقاً هو البراءة، سواء أُخذ العنوان بنحو العام الاستغراقي أو بنحو العام المجموعي، أو ترك الطبيعة.

أمّا الأوّل: فكما إذا قال: لا تكرم الفسّاق، فشكَّ في كون زيد فاسقاً أو لا، فرجع الشكّ إلى تعلّق الحكم المنحل به، و هو أشبه بالأقل و الأكثر الاستقلاليين.

و أمّا الثاني: فكما إذا قال: لا تكرم مجموع الفساق من العلماء، فيجوز إكرام من علم فسقه فضلاً عن إكرام المشكوك، و يكفي في صدق الامتثال ترك واحد ممن علم فسقه، حتى يصدق أنّه: لم يكرم المجموع من حيث المجموع.

و أمّا الثالث: فكما إذا قال: لا تشرب الخمر، فصرف الترك، و إن كان يتحقق، بترك فرد من الطبيعة عقلاً، لكن العرف لا يساعده بل يرى صرف الترك، بترك عامّة أفراده، لكن الكبرى حجّة في معلوم الفردية دون مشكوكها، فيجوز شرب مشكوكه.

4. حكم الشبهة المصداقية في التحريم الغيري

يتصوّر الحكم التحريمي الغيري فيما إذا كان الشيء مانعاً أو قاطعاً، و المراد من الأوّل، ما يكون وجوده مضاداً للمأمور به كنجاسة الثوب أو بدنه، و من الثاني ما يكون وجوده قاطعاً للهيئة الاتصالية للفرد المتحقق من الطبيعية كالأكل و الشرب و الضحك.

إنّ العنوان المأخوذ في التحريم الغيري و إن كان يمكن أن يؤخذ بنحو العام الاستغراقي أو المجموعي أو صرف الوجود، لكن الموجود منه في الشريعة هو القسم الأوّل فتكون البراءة هي المحكم للشكّ في تعلّق النهي الانحلالي بذاك الفرد.

ص:580

و على ذلك يترتّب جواز الصلاة في اللباس المشكوك لاحتمال كونه مصنوعاً من وبر أو شعر ما لا يؤكل لحمه، لأنّ المأخوذ في لسان الدليل هو أخذه مانعاً بنحو العام الاستغراقي، فكلّ ما صدق عليه أنّه ممّا لا يؤكل فهو مانع، لا المشكوك كونه، و ذلك لأنّ الشكّ في كونه منه أو من غيره راجع إلى انحلال النهي التحريمي الغيري إلى ذاك الفرد أو لا، و قد عرفت أنّه لا يحتج بالكبرى بدون إحراز الصغرى، و مثله الشكّ في كون شيء كحمل الطفل حال الصلاة قاطعاً أو لا فالبراءة هي المحكم.

هذا من غير فرق بين تفسير المانعيّة بكون وجوده ضداً للفرد المتحقّق منه، أو أخذ عدم المانع شرطاً، لأنّ مرجع الشكّ في كونه ممّا لا يؤكل لحمه على الثاني أيضاً إلى أخذ عدم هذا الفرد، في الصلاة أو لا فتجري البراءة.

ثم لإكمال البحث نعقد تنبيهات:

التنبيه الأوّل: في النقيصة السهوية
اشارة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

الأوّل: هذا التنبيه منعقد لبيان حكم النقيصة السهوية، كما أنّ التنبيه الآتي منعقد لبيان الزيادة العمدية و السهوية، و أمّا النقيصة العمدية فلا حاجة إلى البحث فيها لأنّ البطلان لازم الجزئية.

ثمّ إنّ الشيخ عنون التنبيه بقوله:» إذا ثبتت جزئية شيء و شكّ في ركنيته، فهل الأصل كونه ركناً أو لا؟ و بما انّ هذا التنبيه مختص لبيان حكم النقيصة السهوية فيلزم أن يفسر الركن بالمعنى اللغوي، أي ما يكون نقصه مخلاً.

و أمّا تفسير الركن بما يخلّ نقيصه و زيادته، فهو اصطلاح خاص للفقهاء و لا بأس به إذا جعلنا التنبيهين تنبيهاً واحداً.

ص:581

الثاني: أنّ لسان دليل الجزء على أقسام:

1. ما يكون لسانه، لسان الحكم الوضعي كقوله:» لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب «الظاهر في الجزئية المطلقة.

2. ما يكون بلسان الحكم التكليفي، لكن إرشاداً إلى الجزئية، كقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (1)و هذا أيضاً مثل السابق ظاهر في الجزئية أو الشرطية المطلقة.

3. ما إذا ثبتت جزئية الشيء بدليل لبي، كما في الاستقرار المعتبر في الصلاة، فإنّ عمدة دليله هو الإجماع، و لا إطلاق له، بل القدر المتيقن منه حال الذكر دون النسيان و الغفلة.

الثالث: انّ صور المسألة أربع:

1. إمّا أن يكون لدليل المركب عند نسيان الجزء إطلاق بالنسبة إلى ما عدا المنسي، و لدليل الجزء و الشرط و القاطع و المانع إطلاق، يطلبه الشارع في عامة الحالات و لا ترفع عنه اليد.

2. أن يكون لدليل الجزء المنسي إطلاق، دون دليل المركب بالنسبة إلى ما عدا المنسي.

3. أن يكون الأمر بالعكس.

4. أن لا يكون إطلاق لا في دليل الجزء، و لا في دليل المركّب بالنسبة إلى ما عدا المنسي.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في مقتضى الدليل الاجتهادي، و أُخرى في مقتضى الأصل العملي.

و البحث في حكم الصور الثلاث الأُول بحث في مقتضى الدليل

ص:582


1- المائدة: 6.

الاجتهادي، كما أنّ البحث عن حكم الصورة الرابعة بحث عن مقتضى الأصل العملي.

و ليعلم أنّ البحث في المقام مركّز على تبيين مقتضى القواعد الأُصولية العامة من غير فرق بين باب دون باب أو كتاب دون كتاب.

و أمّا التصديق الفقهي في كلّ مسألة فموكول وراء ذلك إلى ملاحظة سائر ما ورد في المورد من الروايات المرخِّصة أو المانعة. و على ذلك فلو قلنا ببطلان الصلاة مثلاً في بعض الصور، فإنّما هو حسَب مقتضى القواعد، و في الوقت نفسه يمكن تصحيحه بقواعد أُخرى مختصة بباب خاص كقاعدة» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «أو غيرها.

إذا علمت ذلك فلنتناول مقتضى القواعد الاجتهادية بالبحث و له صور ثلاث:

الصورة الأُولى: إذا كان لكلا الدليلين، أعني دليل جزئية الجزء، أو شرطية الشرط، أو مانعية المانع، أو قاطعية القاطع، إطلاق كالإطلاق الموجود في دليل المركّب بالنسبة إلى ما عدا المنسي.

ثمّ إنّ معنى الإطلاق في دليل الجزء هو كونه مطلوباً في حالتي الذكر و النسيان، و أنّ المولى لم ترفع اليد عنه، فهو مقوّم للطبيعة، فيكون مقتضاه بطلان الصلاة عند نسيانه.

كما أنّ معنى إطلاق دليل المركب بالنسبة إلى ما عدا المنسي، هو كون الباقي مطلوباً في حالة النسيان و إن لم يكن معه الجزء المنسي.

و بعبارة أُخرى: الباقي مطلوب مع الجزء في حال الذكر، و أمّا في حال النسيان فهو مطلوب أيضاً و إن لم يكن معه الجزء المنسي.

ص:583

و على ذلك فالإطلاقان يتعارضان، فمقتضى الإطلاق الأوّل بطلان الصلاة عند نسيان الجزء و مقتضى الإطلاق الثاني صحّته، لكن يقدّم إطلاق دليل الجزء على إطلاق دليل المركّب لأنّه أخصّ منه، فتكون النتيجة هي البطلان.

مثلاً إذا ورد: لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب(1). أو ورد: لا صلاة لمن لم يقم صلبه(2)، الظاهر في مطلوبية الفاتحة، أو إقامة الصلب في كلتا الحالتين. و ورد أيضاً: لا تترك الصلاة بحال، المنطبقة على الأجزاء الباقية فيقدّم دليل إطلاق الجزء على الثاني.

اللّهم إلاّ أن يقال: إنّ قوله:» الصلاة لا تترك بحال «حاكم على أدلّة القيود، لأنّه تعرض لما لم يتعرض له تلك الأدلة و هو مقام الترك المتأخر عن اعتبارهما و هذا أيضاً نحو من الحكومة.(3)

نعم سيوافيك تصحيح الصلاة من طريق آخر فانتظر.

الصورة الثانية: إذا كان لدليل الجزء و غيره إطلاق دون المركب، كما هو الحال في قوله:» لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب «بالنسبة إلى قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) فيدل إطلاقه على كونه مطلوباً للمولى في حالتي الذكر و النسيان، فمقتضى إطلاق دليل الجزء عدم الاكتفاء بالمأتي به.

فإن قلت: إنّ الجزئية، و الشرطية، أو القاطعية، و المانعية من الأحكام الوضعية المنتزعة من الأحكام التكليفية، و هو فرع صحّة خطاب الناسي بالمنسي، و من

ص:584


1- الوارد من طرقنا: كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهو خراج أي ناقص، نعم ورد من غير طرقنا عن أبي هريرة قال: أمرني رسول اللّه أن أُنادي لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب، رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللآلي، لاحظ: جامع أحاديث الشيعة: 5/322.
2- الوسائل: 4، الباب 16 من أبواب الركوع، الحديث 1 و 2.
3- تهذيب الأُصول: 2/392.

المعلوم عدم صحّته، فكيف يصحّ انتزاع الجزئية في حقّ الناسي مع عدم وجود منشأ الانتزاع؟ قلت: ما ذكر من الإشكال مبني على كونها منتزعة من الأحكام التكليفية، و أمّا على القول باستقلالها بالجعل فلا، كما هو مفاد قوله:» لا صلاة إلاّ بطهور «و غيره، فإنّ لسانها جعل الجزئية في كلتا الحالتين، فتكون النتيجة بطلان الصلاة كالصورة الأُولى.

أضف إلى ذلك: أنّ ما ورد بلسان التكليف كقوله:» كبّر «،» اسجد «،» تشهّد «أيضاً إرشاد إلى الجزئية، فيعم الدليل كلتا الحالتين.

فإن قلت: يمكن التمسك بحديث» ما لا يعلمون «لرفع جزئية الجزء في حال النسيان أو لا؟ قلت: الأصل دليلٌ حيث لا دليل، و المفروض وجود الدليل الاجتهادي على الجزئية في حال النسيان، و خطابه و إن كان ممتنعاً بالنسبة إلى المنسي و لكن أثر الجزئية إنّما هو بطلان الصلاة و لزوم قضائها بعد رحيله.

تصحيح الصلاة في الصورتين من طريق آخر

يمكن تصحيح الصلاة في هاتين الصورتين من طريق آخر و هو: أنّ نسبة الرفع إلى» ما لا يعلمون « و إن كان رفعاً ظاهرياً مشروطاً بفقد الدليل الاجتهادي، و المفروض وجوده، و لكن نسبة الرفع إلى النسيان و الاضطرار و الإكراه رفع واقعي، و ليس الرفع مقيّداً بعدم وجود الدليل الاجتهادي، بل مشروط بوجوده حتى يكون حاكماً عليه كسائر العناوين الثانوية من الضرر و الحرج، فيتمسك بها مع وجود الدليل الاجتهادي على خلافها، فيقدّم حكم العنوان الثانوي على حكم العنوان الأوّلي.

ص:585

و على ضوء ذلك نقول: جزئية السورة المنسية مرفوع بالنسيان، كما أنّه مرفوع بالاضطرار و الإكراه، نظير رفع وجوب الوضوء الضرري و الحرجي بقاعدتي لا ضرر و لا حرج.

الصورة الثالثة: إذا كان لدليل المركب إطلاق بالنسبة إلى ما عدا المنسي، كما هو الظاهر من قوله:

» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «: الطهور و الوقت و القبلة و الركوع و السجود و لم يكن لدليل الجزء إطلاق مثله، كما هو الحال في الاستقرار في حال الصلاة الذي ليس له دليل سوى الإجماع، و المتيقن منه حال الذكر، فلو نسي و صلّى بلا استقرار يصحّ الإتيان بما عدا المنسي لافتراض وجود الإطلاق بالنسبة إليه.

و أمّا احتمال جزئية الجزء أو الشرط فيجري فيهما البراءة لفرض عدم الدليل الاجتهادي الدال على وجوبه.

فقد خرجنا بتلك النتيجة: أنّ مقتضى القواعد في الصورتين مع قطع النظر عن حديث الرفع بالنسبة إلى الفقرات الباقية هو بطلان الصلاة في الصورتين الأُولتين، و لكن بالنظر إلى نسبة حديث الرفع إلى النسيان و الاضطرار و الإكراه هو الصحّة فيهما.

و أمّا الصورة الثالثة: فالصلاة صحيحة لجريان البراءة في احتمال جزئية الجزء و شرطية الشرط، فالصحّة في الأُوليين برفع النسيان، و في الثالثة برفع ما لا يعلمون.

إلى هنا تمّ الكلام في مقتضى الدليل الاجتهادي.

و إليك الكلام في المقام الثاني.

ص:586

الكلام في مقتضى الأُصول العملية

الكلام في مقتضى الأُصول العملية يختص بما إذا لم يكن في المقام دليل اجتهادي، و ليس هو من هذه الصور إلاّ الصورة الرابعة: أعني إذا لم يكن لدليل المركب و لا لدليل الجزء إطلاق فأتى بالواجب ما عدا المنسي، ثمّ ذكر بعد الفراغ من العمل، و المورد مجرى للبراءة لعدم الدليل الاجتهادي، في كلا الطرفين إذ الواقع لا يخلو عن أحد أمرين: إمّا أن تكون الجزئيّة مطلقة فتلزم إعادتها، أو مختصة بحال الذكر، فيكفي ما أتى به، فيكون مرجع التردد بين الأمرين إلى الشكّ في ثبوت جزئية الجزء أو شرطية الشرط في حال النسيان و عدمه، و معه يكون المرجع هو البراءة.

إلى هنا علم أنّ حكم الصورتين الأُولتين هو البطلان و لزوم الإعادة لو لا حديث رفع النسيان كما أنّ حكم الصورتين الأخيرتين هو الصحّة لجريان البراءة عن جزئية الجزء و شرطية الشرط.

الصحّة رهن التكليف بما عدا المنسيّ

ثمّ إنّ هنا إشكالاً، أشار إليه الشيخ، و غيره في كلماتهم. و هو: أنّ رفع الجزئية و الشرطية، أو رفع وجوب الجزء و الشرط برفع النسيان، أو رفع ما لا يعلمون، لا يضفي على العمل الناقص الصحة، فما دام لم يتعلّق الأمر بما عدا المنسي فالصحّة رهن تعلّقه به و هو أمر غير ممكن، لأنّ تكليف الناسي به، و إيجاب العبادة الخالية عن ذلك، أمر غير ممكن، لأنّه لا بدّ أن يكون الخطاب به بعنوان الناسي، فإن التفت إليه ينقلب إلى الذاكر، فلا يكون الحكم الثابت بعنوانه فعليّاً في حقّه، و إن لم يلتفت فلا يعقل انبعاثه، و يكون الجعل لغواً.

ص:587

نعم ما يمكن أن يقال: إنّه لا حاجة إلى إحراز الأمر بما عدا المنسي، إذا كان لدليل المركب إطلاق بالنسبة إلى الأجزاء الباقية، و لم يكن لدليل الجزء إطلاق كما هو الحال في الصورة الثالثة إذ معنى إطلاق دليل المركب أنّ سقوط وجوب المنسي و عدم الإتيان به في حالة النسيان لا يُخلّ بمطلوبية الأجزاء الباقية فانّها مطلوبة مطلقاً كان المنسي معه أو لا، و هذا يلازم وجود الأمر، فالحاجة إلى إحراز الأمر بما عداه إنّما هو في الصور الثلاث، أعني الأُولى و الثانية و الرابعة بحالها.

فإن قلت: فعلى هذا يكون الحكم بصحّة العمل المركب المنسي بعضُ أجزائه، أمراً غير ممكن، مع أنّ حديث» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «دل على صحّة الصلاة المنسي بعض أجزائها غير الخمسة.

قلت: إنّ القائل بامتناع خطاب الناسي يصحح العمل من جانب آخر و هو: إحراز وفاء المأتي به بالملاك الملزَم و سقوط الأمر باستيفاء ملاكه، و إن كان إحرازه أمراً مشكلاً.

ثمّ المحقّق الخراساني حاول أن يصحح تعلّق الأمر بما عدا المنسي بوجهين:

الأوّل: أن يكون الواجب في حقّ الذاكر و الناسي ما عدا المنسي، و يختص الذاكر بخطاب يخصّه بالجزء المنسي، و المحذور في تخصيص الناسي بالخطاب، لا تخصيص الذاكر، به. و هذا كما إذا كان الواجب في حقّ الذاكر و الناسي ما يتقوم به العمل، أعني: الأركان الخمسة، ثمّ يكلّف خصوص الذاكر ببقية الأجزاء و الشرائط، و هذا بالنظر إلى» حديث لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «الطهور و الوقت و القبلة و الركوع و السجود، غير بعيد.

و إن كان الإذعان به يتوقف على دليل قاطع.

و قد أشار المحقّق الخراساني إلى هذا الجواب بقوله: كما إذا وجّه الخطاب على نحو يعم الذاكر و الناسي بالخالي عمّا شكّ في دخله مطلقاً، و قد دلّ دليل

ص:588

آخر على دخله في حقّ الذاكر.

فإن قلت: إنّ المحاولة و إن صححت إمكان تعلّق الأمر بما عدا المنسي ثبوتاً، لكنّها لا تجدي في مقام الإثبات، و ذلك لأنّ الناسي، قصد الأمر المتوجه إلى الذاكر المتعلّق بالمنسي و غيره، مع أنّ الأمر المتوجه إليه، هو الأمر المتعلّق بما عدا المنسي، فما قصده ليس أمر الناسي، و ما هو أمره لم يقصده.

قلت: إنّ الناسي قصد أوّلاً و بالذات الأمر الفعلي المتوجه إليه، لكنّه تخيّل أنّ الأمر المتوجه إليه هو الأمر المتوجه إلى الذاكر، غفلة عن حقيقة الحال، و مثل هذا لا يضرّ، لأنّه من قبيل الخطأ في التطبيق، و هذا نظير من اقتدى بالإمام الحاضر جداً، لكن زعم أنّه زيد فبان أنّه عمرو، فصلاته محكومة بالصحّة، لأنّ المقصود الواقعي هو الاقتداء بالإمام الحاضر زيداً كان أو عمراً، و التطبيق ناش عن الغفلة و الجهل بالواقع.

الثاني: انّ الخطاب يتوجه إلى الناسي لا بعنوانه، بل بعنوان عام ملازم، كما إذا قال: أيّها البارد مزاجاً صلّ كذا; أو خاص، كما إذا قال: يا زيد صلّ كذا، أي يذكر الأجزاء دون السورة، و إليه أشار المحقّق الخراساني بقوله: أو وجّه إلى الناسي بخطاب يحضه بوجوب الخالي بعنوان آخر عام أو خاص، لا بعنوان الناسي لكي يلزم استحالة إيجاد ذلك عليه بهذا العنوان لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة.

يلاحظ على هذا الجواب: أنّه مجرّد زعم و خيال لا واقع له لعدم وجود خطاب شخصي في الشريعة، و أمّا العنوان العام أعني البارد مزاجاً فليس يلازم الناسي، بل النسبة بينهما عموم و خصوص من وجه.

ثمّ إنّ المطلوب في المقام، إثبات تعلّق الأمر بما عدا الناسي حتى يحكم بصحّة صلاة الناسي، و عدم لزوم الإعادة عليه بعد رفع النسيان و ما أُفيد من

ص:589

الجوابين، لا يتكفلان ذلك، و أقصى ما يُثبتان إمكان التعلّق و عدم استحالته، و أين هو من إثبات الوقوع في الشريعة، حتى تترتب عليه صحّة الصلاة.

فلا محيص عن محاولة ثالثة تتكفل إثبات الوقوع، و هذا ما سنذكره في الجواب الثالث الذي أخذنا لُبَّه عن العلمين الجليلين السيد البروجردي في درسه الشريف و السيد الإمام الخميني قدّس سرّهما و إليك البيان و حاصل كلامهما بتوضيح منّا:

تصحيح تعلّق الأمر بخطاب واحد

إنّ الناسي لا يحتاج إلى خطاب خاص يبعثه إلى الخالي عن المنسي، بل الذاكر و الناسي، مثل الحاضر و المسافر و الصحيح و المريض، محكوم بنفس الخطاب الموجّه إلى الذاكر، كما أنّ المسافر و المريض محكومان بنفس الخطاب الموجّه إلى الحاضر و الصحيح، فالكلّ محكوم بالإرادة الاستعمالية بالصلاة الجامعة(1)للأجزاء و الشرائط، و أمّا حسب الإرادة الجدّية فالمسافر و المريض و الناسي محكوم بأقلّ ممّا حكم على مقابليهم، و هذا على طرف النقيض من الجواب الأوّل، حيث إنّه على أساس أنّ الجميع في المرحلة الأُولى محكومون بالأركان الخمسة، ثمّ يختص الذاكر، بأُمور زائدة عليها بالأمر الثاني.

و أمّا على هذا الجواب فليس هنا إلاّ أمر واحد و هو متعلّق بالعنوان الجامع للأجزاء و الشرائط المجردة عن الموانع و القواطع حسب الإرادة الاستعمالية، لكن الإرادة الجدّية تعلق في حقّ المسافر و المريض و الناسي بأقل من ذلك، كاستثناء الركعتين في مورد المسافر حيث قال: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ

ص:590


1- و بهذا يفترق هذا الجواب عن الجواب الأوّل، حيث إنّه كان مبنياً على أنّ الأمر متعلّق بالأركان، و الأمر الثاني مختص بالذاكر، و هو الإتيان بها، مع أجزاء و شرائط أُخرى.

جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (1)فلفظة (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) دالّ على أنّ المسافر محكوم بنفس الأمر المتوجه إلى الحاضر، لكن يجوز له قصرها، و نظيره المريض و الناسي، الذي يجمعهما المعذور فقد دلّ الدليل على رفع الجزء الحرجي و المنسي عنهما، و مرجع رفعه في حقّهما إلى استثنائهما من دون أن يمس الاستثناء، كرامة الأمر، أو يحوج الآمر، إلى أمر آخر بالخالي عنه.

و يؤيد ذلك ما سبق من أنّ الأمر المتعلّق بالمركب يدعو جميع الأصناف إلى العنوان الذي تعلّق به الأمر لكن بالإرادة الاستعمالية، و لما دلّ الدليل الخارجي على عدم مطابقة الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّية في بعض الأجزاء لطروء عنوان مانع عن الامتثال كالمرض و النسيان، تسقط دعوة الأمر بالنسبة إليه بحكم العقل، و مع ذلك تبقى دعوة الأمر إلى الأجزاء الباقية، لأنّه يدعوه إلى العنوان، و هو أمر مقول بالتشكيك يصدق على الجامع للجزء المنسي و الخالي عنه، و ليست دعوة الأمر إلى الباقية مشروطة بدعوته إلى الأجزاء المنسية لما علمت من وجود المرونة في صدق العنوان على كلا الفردين من الصلاة، و ليس صدق عنوان الصلاة على الصلاة المقصورة أولى من صدقها على الصلاة الرباعية المنسية سورتها.

هذا هو الحقّ القراح في المسألة الذي عليه، سيد مشايخنا المحقّق البروجردي، و السيد الإمام الخميني قدّس اللّه سرّهما.

فإن قلت: ما هو السرّ في الإصرار على إحراز الأمر بما عدا المنسي، مع كفاية الملاك في صحّة العبادة؟ قلت: إنّ إحراز الملاك أشكل من إحراز تعلّق الأمر بما عدا المنسيّ، للشك في وفاء ما أتاه الناسي بغرض المولى، فلا مناص عندئذ من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال، و قضاء الواجب بعد رفع النسيان.

ثمّ إنّه ما قررناه، يعلم أنّ الاشكال الذي أثاره المحقّق النائيني و تبعه تلميذه

ص:591


1- النساء: 101.

الجليل ليس بمهمّ، و إليك كلامهما:

قال الأُستاذ) قدس سره (: إذا كان لدليل المنسي إطلاق يشمل صورة النسيان، فمقتضى إطلاقه هو عدم التكليف ببقية الأجزاء، فإنّه ليس في البين إلاّ تكليف واحد تعلّق بجملة الأجزاء و منها الجزء المنسي، و هذا التكليف الواحد سقط بنسيان بعضها فلا بدّ من سقوط التكليف المتعلّق بجملة العمل، فلو ثبت التكليف ببقية الأجزاء فهو تكليف آخر غير التكليف الذي كان متعلّقاً بجملة الأجزاء، و لا بدَّ من قيام دليل بالخصوص على ذلك فالتكليف بما عدا المنسي يحتاج إلى دليل غير الأدلّة المتكفلة لبيان الأجزاء.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الاشكال مبني على أنّ متعلّق الأمر هو الأجزاء مباشرة، فكأنّ بأمر المولى، بالتكبير، و القراءة، و الحمد و السورة، كما إذا نسي الحمد سقط التكليف المتعلّق بهذه الأجزاء فتعلّقه بغير المنسي يحتاج إلى دليل.

و لكنّك عرفت أنّ متعلّق التكليف هو العنوان الذي هو وجود إجمالي للأجزاء، و الأجزاء وجود تفصيلي له، فمتعلق الأمر هو العنوان، لا الأجزاء بلا واسطة، و قد عرفت أنّ الإرادة الاستعمالية تعلّقت بالعنوان الذي هو عبارة إجمالية عن الأجزاء و الشرائط بأجمعها، لكن المولى أشار بدليل آخر إلى سقوط الإرادة الجدّية في حقّ المنسي، و إخراجها عن تحت الأمر، لكن إخراجها، لا يوجب سقوط الأمر عن العنوان، لما عرفت من صدق العنوان على الواجد و الخالي، فالأمر باق على العنوان و له دعوة إلى الأجزاء إلاّ ما خرج بالدليل.

بذلك تقف على عدم تمامية ما أفاده تلميذه الجليل حيث قال: إنّ نفي الجزئية أو الشرطية لا يكون إلاّ برفع منشأ انتزاعهما من الأمر بالمركب أو المقيّد، و لا يترتب عليه ثبوت الأمر بالمنسي كما هو المدعى و قد علم ممّا ذكرنا عدم تماميته فلاحظ.

ص:592


1- فوائد الأُصول: 4/216.
التنبيه الثاني: في حكم الزيادة عمداً أو سهواً
اشارة

و تحقيق المقام يتوقف على البحث في أُمور:

الأوّل: في تصوير الزيادة في الجزء و الشرط مع أنّه إن أخذ» لا بشرط «لا تتحقق الزيادة و يكون الزائد من مصاديق المأمور به، و إن أُخذ» بشرط لا «يكون تكراره موجباً لنقص الشرط.

الثاني: هل يعتبر في تحقّقها أن يكون المزيد من سنخ المزيد عليه أو لا؟ و بعبارة أُخرى: هل يعتبر كون المزيد من سنخ أجزاء الواجب قولاً و فعلاً، أو لا؟ الثالث: هل يعتبر قصد الزيادة إذا كان المزيد من سنخ أجزاء الصلاة أو لا، بل يكفي مطلق الإتيان به و إن لم يكن عن قصد؟ الرابع: حكم الزيادة حسب القواعد الأوّلية.

الخامس: حكم الزيادة حسب القواعد الثانوية.

و إليك دراسة الكل واحداً بعد الآخر.

الأوّل: تصوير زيادة الجزء و الشرط

فصّل المحقّق الخراساني في تصوير الزيادة ثبوتاً، بين أخذ الجزء في الواجب لا بشرط، و اعتبار عدم الزيادة في أصل المركّب لا في جزئية الجزء و شرطيّة الشرط، و بين أخذهما بشرط لا، فعلى الأوّل تكون الزيادة من قبيل زيادة الجزء، و على الثاني فهو يكون من قبيل نقص الجزء أو الشرط لعدم الإتيان به بوصفه، أعني بشرط كونه وحده.

يلاحظ عليه: أنّ المحاولة غير ناجحة في كلا الوجهين:

أمّا الأوّل: فلأنّه إذا كان الجزء مأخوذاً لا بشرط، و لم تكن الزيادة قيداً في

ص:593

جزئيته، و إنّما تكون قيداً مأخوذاً في المركب، لا يكون الفرد الثاني زيادة في الجزء، لأنّ المفروض أخذ طبيعي الجزء، جزءاً للصلاة، و هو يجتمع مع الواحد و الكثير، فالفرد الثاني لا تنطبق عليه زيادة الجزء، و لو كان مخلاً فإنّما هو لاعتبار أخذ عدم الزيادة جزءاً أو شرطاً في المركّب، فيكون الفرد الثاني موجباً لفقدان الشرط أو الشطر.

و أمّا الثاني: فانّ الجزء فيه مركّب من جزءين، ذات الجزء و قيد الوحدة، و الفرد الثاني بالنسبة إلى ذات الجزء زيادة، و بالنسبة إلى قيد الوحدة منشأ للنقيصة، و لا مانع من أن يكون شيء واحد منشأ للزيادة و النقصان.

و أجاب المحقّق الخوئي بوجه آخر و هو: أن يكون مأخوذاً بنحو صرف الوجود المنطبق على أوّل الوجودات ففي مثل ذلك و إن كان انضمام الوجود الثاني و عدمه على حدّ سواء في عدم الدخل في جزئية الوجود الأوّل، إلاّ أنّه لا يقتضي أن يكون مصداقاً للمأمور به و حينئذٍ تتحقق الزيادة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ أخذه على نحو صرف الوجود لا يخلو من حالتين، إمّا أن يكون مأخوذاً» لا بشرط « فلا يكون زيادة في الجزء، لأنّ المأخوذ هو ذات الجزء من غير تقييده بوحدة و لا كثرة فيكون الفرد الثاني، كأذكار الركوع و السجود كلما زادت يكون الزائد، جزءاً لا زيادة، و إن كان مأخوذاً بشرط لا فيكون من قبيل النقيصة.

و الأولى أن يجاب: بأنّ الموضوع في المقام و في الروايات عرفي، و الزيادة تصدق على الفرد الثاني من غير نظر إلى هذه الدقة العقلية و قوله:» من زاد في صلاته فعليه الإعادة «ناظر إلى الاستعمالات العرفية حتى لو أُخذ الجزء بنحو بشرط لا، و يرشدك إلى هذا أنّ الركعة الثالثة زيادة في صلاة الفجر، و الركعة الرابعة زيادة في صلاة المغرب، و مثله الركوع و السجود الثاني، مع أنّ الجميع أخذ بشرط لا.

ص:594


1- مصباح الأُصول: 2/467.

نعم لا تتصور الزيادة فيما إذا كان الجزء طبيعي الجزء، بلا تحديد في جانب القلّة و الكثرة، كما ذهب إليه بعضهم في أذكار الركوع و السجود، فما أُتي فهو من مصاديق الجزء.

الثاني: في شرطية كون المزيد من سنخ المزيد فيه و عدمها

هل يشترط في صدق الزيادة كون المزيد من سنخ المزيد فيه، أو لا؟ أو يفرّق بين الإتيان، بقصد الجزئية فتصدق الزيادة أو لا معه، فلا تصدق؟ لا شكّ انّ الزيادة في التكوين رهن كونه مسانخاً للمزيد فيه، فلو أضاف عموداً، جنب عمود آخر، أو زاد في كمية جزء لمعجون، يطلق انّه زاد فيه، دون ما إذا لم يكن مسانخاً، كما إذا أدخل في الدواء المحدّد أجزاؤه، شيئاً لا يمتّ له بصلة كطحين الحنطة.

و أمّا الأُمور الاعتبارية فلو كانت الزيادة مسانخة للمزيد فيه فسيأتي الكلام فيه في الأمر الثالث، إنّما الكلام في صدقها فيما إذا لم يكن مسانخاً كحركة اليد في الصلاة، و التأمين و التكتّف، فالظاهر الفرق بين الإتيان به بقصد الجزئية فتصدق الزيادة دون ما إذا لم يقصد، و لذلك لا تصدق الزيادة على الأُولى دون الأخيرين حيث إنّ أهل الخلاف يأتون بهما بنية الجزئية.

الثالث: في شرطية قصد الجزئية في الجزء المسانخ و عدمها

هل يشترط في صدق الزيادة الإتيان بالجزء المسانخ بقصد الجزئية أو لا يشترط، أو يفصل بين الأقوال و الأفعال؟ و الأخير مختار المحقّق النائيني) قدس سره (، كما أنّ الأوّل مختار المحقّق الخوئي، و لعلّ الأظهر هو الوجه الثاني، و إليك بيان الوجهين ثمّ المختار.

ص:595

قال المحقّق النائيني: ما كان من سنخ الأقوال كالقراءة و التسبيح فيعتبر في صدق الزيادة قصد الجزئية و إلاّ كان من الذكر و القرآن غير المبطل، و أمّا ما كان من سنخ الأقوال كالقيام و الركوع فلا يعتبر في صدقها قصد الجزئية فانّ السجود الثالث زيادة في العدد، المعتبر من السجود في الصلاة في كلّ ركعة و إن لم يقصد بالسجود الثالث، الجزئية.(1)

يلاحظ على الشق الأوّل: أنّ عدم الصدق عند عدم قصد الجزئية لورود الدليل على أنّ ذكر اللّه حسن في كلّ حال، أو قراءة القرآن جائز في تمام الأحوال، و إلاّ لصدق الزيادة سواء قصد الجزئية أو لا.

و قال المحقّق الخوئي في لزوم قصد الجزئية: إنّ المركّب الاعتباري كالصلاة مثلاً مركّب من أُمور متباينة مختلفة وجوداً و ماهية، و الوحدة بينهما متقومة بالقصد و الاعتبار، فلو أتى بشيء بقصد ذلك المركب كان جزءاً له و إلاّ فلا، و ما ورد من أنّ الإتيان بسجدة التلاوة في أثناء الصلاة زيادة فيها، تعبّد شرعي و إن لم يكن من الزيادة حقيقة.

و الأولى أن يقال: انّ المركب الاعتباري و إن كان مؤتلفاً من أُمور مختلفة وجوداً و ماهية و لكن تكبيرة الافتتاح يعدّ دخولاً في عمل واحد مستمر عرفاً إلى أن يأتي بما جعله الشارع خروجاً عنه، و الهيئة الاتصالية المستمرة هي التي تبلع تلك المواد المختلفة، و تضفي عليها صورة وحدانية، و عند ذلك لو كان الزائد من غير جنس المزيد لا يعد زيادة في الفريضة لعدم التسانخ بين المزيد و المزيد عليه كحركة اليد أو وضع اليد اليمنى على اليسرى بل يعدّ أمراً أجنبياً، اللّهمّ إلاّ إذا قصد الجزئية، و أمّا إذا كان المزيد من جنس المزيد فيه، فالعرف لا يتوقف في وصفه بكونه زيادة في الفريضة و إن ادّعى المصلّي أنّه ما أتى به، بعنوان انّه جزء من

ص:596


1- فوائد الأُصول: 4/241.

الصلاة، بل يرى المماثلة العرفية كافية.

و يشهد بذلك ما رواه زرارة عن أحدهما) عليهما السلام (قال:» لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم، فإنّ السجود زيادة في المكتوبة «.(1) و حمل ذلك على التعبد و المجاز، غريب مع ورودها في غير واحد من الروايات.

الرابع: ما هو مقتضى القواعد الأوّلية في الزيادة؟

المراد من القواعد الأوّلية في المقام، ما يكون مرجعاً عند فقد الدليل الاجتهادي الدال على الصحّة أو البطلان و ليس هو إلاّ الأُصول العقلية و الشرعية كما أنّ البحث ليس مركزاً على الزيادة السهوية بل يعمّ العمدية منها ذلك لأنّها تفارق النقيصة، حيث إنّ العمدية من النقيصة مبطلة قطعاً، لأنّ البطلان من لوازم الجزئية عند ترك الجزء عمداً و ليست كذلك الزيادة العمدية.

إذا عرفت ذلك: فاعلم أنّه لا شكّ في بطلان العمل بالزيادة في القسمين التاليين:

1. إذا أخذ الجزء لا بشرط و اعتبر عدم الزيادة قيداً للمركب لا للجزء.

2. إذا أخذ الجزء بشرط لا.

لأنّ الزيادة توجب عدم مطابقة المأتي به للمأمور به فلا كلام في بطلان المركّب في هذين القسمين و خروجهما عن محطّ البحث.

إنّما الكلام في القسم الثالث، هو انّه لم تُحْرز كيفية اعتبار الجزء و دار الأمر بين كونه من ذينك القسمين أو القسم الثالث و هو أخذ الجزء لا بشرط في جانب الزيادة على نحو لو أتى بها يكون من مصاديق المأمور به لا أمراً زائداً عليه.

ص:597


1- الوسائل: الجزء 4، الباب 40 من أبواب القواعد، الحديث 1 و غيره.

فمرجع الشكّ عندئذ إلى أخذ العدم قيداً للمركب أو لجزئية الجزء، أو أخذ الزائد مانعاً أو قاطعاً و الأصل في الجميع هو العدم.

فإن قلت: إذا دار الأمر بين أخذ الجزء» لا بشرط «و أخذه» بشرط لا «، فقد دار الواجب بين المتباينين، لأنّهما قسمان من أقسام اللابشرط المقسمي و الحكم فيهما هو الاحتياط، أي ترك الزيادة، و الإعادة معها.

قلت: الميزان في كون المورد مجرى للبراءة أو لا، كون أحد الطرفين أقلّ مئونة من الطرف الآخر، و وجود السعة فيه دون الآخر، و الحكم في المقام كذلك، لأنّ في أخذ العدم قيداً للمركب أو لجزئية الجزء ضيقاً ليس في جانب الآخر أي أخذ الجزء لا بشرط. نظير ذلك، دوران الأمر بين كون الخصال ترتيبيّاً أو تخييراً إذ لا شكّ انّ في الثاني سعة دون الأوّل(1) و على ذلك يصحّ العمل مع الزيادة العمدية أو السهوية لعدم الدليل على أنّ عدمها مأخوذ في الصلاة في جانب الجزء أو المركب.

لكن الحكم بالصحّة فيما إذا كان قاصداً للامتثال مطلقاً سواء كان الزائد دخيلاً أو لا، كما إذا كان قاصداً لامتثال الأمر الفعلي المتوجه إليه لكنّه يتصوّر انّ الواجب هو المشتمل على الزائد، فيأتي به، فيكون المقام من قبيل الخطأ في التطبيق.

أمّا لو لم يكن قاصداً إلاّ في صورة خاصة و هي ما إذا كان الزائد دخيلاً في العبادة على نحو لو لم يكن جزءاً للواجب لما قصد الامتثال، فهو محكوم بالبطلان لعدم قصد امتثال الأمر الواقعي و إن كان ذلك نادر الوجود.

و ربما يتمسك مكان البراءة بالاستصحاب لإثبات الصحّة قد قُرر بوجوه مختلفة نذكر ما هو الصحيح عندنا.

ص:598


1- و هذا غير ما مرّ في الأوامر من أنّه إذا دار كون الواجب تعينياً أو تخييرياً، فالأصل كونه تعينياً، فلاحظ.
الأوّل: استصحاب الهيئة الاتصالية

اعلم أنّ الموجود ينقسم إلى: قار الذات، و غير قارها. و المراد من الأوّل ما يتحقّق عامة أجزائه في زمان واحد، كالأنواع الجوهرية، و المراد من الثاني خلافه، أي لا تجتمع أجزاؤه دفعة واحدة في زمان واحد على الرغم من كونه موجوداً وجدانيّاً لا كثرة فيه، و ذلك لأنّ لوجوده سيلاناً عبر الزمان، فكما أنّ الزمان موجود غير قار الذات فهو أيضاً يسايره و ذلك كنفس الحركة و سيلان الماء إلى غير ذلك من الموجودات المتدرّجة الذات.

و الصلاة من المقولة الثانية فرغم انّ لها وجوداً وحدانياً لكنّها توجد متدرجة بأوّل جزئها، أعني:

التكبيرة، و تنتهي بآخر جزء منها بلا تخلّل عدم بينهما، غير انّ الاتصال في الصلاة اعتباري و في غيرها كسيلان الماء و الحركة حقيقي.

ثمّ إنّ الصلاة عبارة عن الأقوال و الأفعال و أمّا السكنات المتخلّلة فخارجة عنها، غير انّ الهيئة الاتصالية لهذا الموجود الاعتباري تجعل السكنات داخلة فيها، فليس المصلي حال كونه ساكناً غير قارئ و لا فاعل، خارجاً عن الصلاة بل هو فيها، فكأنّ الهيئة الاتصالية كخيط يضم شتات الأجزاء و يوصل بعضها ببعض فالآتي بالمركب داخل فيه من أوّله إلى آخره حتى في السكونات المتخلّلة.

و الذي يدل على أنّ الشارع اعتبر الهيئة الاتصالية فيها هو انّه يعبر عن كثير من المفسدات بالقواطع(1)إذ لولاها لما كان لاستعماله وجه.

مضافاً إلى ذلك انّ ارتكاز المتشرعة يدل على تلك الهيئة.

ص:599


1- الوسائل: الجزء 4، ص 1240، أبواب قواطع الصلاة إلى ص 1484. روى أبو بكر الحضرمي عنهما (عليهما السلام):» لا يقطع الصلاة إلاّ أربعة.... لاحظ باب 1، الحديث 2. كان علي (عليه السلام) يقول:» لا يقطع الصلاة الرعاف «) الباب 2/8).

إذا عرفت ذلك، فلو أتى المصلّي بشيء يشك في قاطعيته كالتجشّؤ فيستصحب بقاء الهيئة الاتصالية و هذا يكفي في صحّة الصلاة.

الثاني: استصحاب عدم وقوع القاطع و المانع في الصلاة

توضيحه: أنّ مشكوك المانعية و القاطعية، إمّا أن يكون مقروناً مع الصلاة من افتتاحها، ففي مثله، لا يجري ذاك الاستصحاب لعدم حالة سابقة مقطوعة; و أمّا إذا لم يكن كذلك و كانت الصلاة في افتتاحها مجردة عنه ففي مثله يجري الاستصحاب المذكور، كما إذا حمل اللباس المشكوك في أثنائها، أو أتى بجزء زائد فشك في وقوع القاطع و عروض المانع على الصلاة و عدمهما، فيقال لم تكن الصلاة في مفتتحها مشتملة عليه و الأصل بقاؤها على ما هي عليها، و تكون النتيجة كون الصلاة بلا مانع و الهيئة الاتصالية بلا قاطع. و لو كان التقرير الأوّل مختصاً بالشكّ في عروض القاطع، لكن هذا التقرير يعمّ الشكّ في حدوث المانع.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ) قدس سره (أورد على هذا الاستصحاب بأنّه مثبت، و حاصل ما أفاد: إنّ الأثر ربما يترتب على كون الشيء موصوفاً بعنوان كما إذا قال: صلّ خلف الرجل العادل، و أُخرى على الموضوع المقيد بالشيء كما إذا نذر التصدّق إذا قامت البيّنة على عدالة زيد، و لكلّ أثر خاص، فلو أراد أن يأتم بزيد فشك في كونه عادلاً وقت الائتمام أو لا، فله أن يستصحب الموضوع الموصوف و يقول: كان زيد عادلاً و الأصل كونه كذلك، و لا يصحّ له استصحاب القيد بأن يقول: عدالة زيد كانت ثابتة و الأصل بقاؤها، و ذلك لأنّ استصحاب القيد لا يثبت كون زيد عادلاً إلاّ على القول بالملازمة العقلية بين بقاء عدالته و كونه عادلاً.

و على ذلك فجريان الاستصحاب في نفس القيد، أي القول بعدم تحقّق القاطع لا يثبت كون الصلاة غير مقرونة بالمانع و القاطع.

يلاحظ عليه: أنّ عدّ مثل هذا من المثبتات يوجب إدخال كثير من الاستصحابات في الأصل المثبت، مثلاً، استصحاب بقاء الوقت لا يثبت كون

ص:600

الصلاة واقعة في الوقت و أداءً، أو استصحاب الطهارة لا يثبت كون المصلي متطهراً مع أنّ الإمام اكتفى به و قال: لأنّه كان على يقين من طهارته و لم يقل انّه كان متطهراً.

و الحاصل انّ استصحاب الوصف المرتبط بالموصوف نفس كون الموضوع موصوفاً به عرفاً.

و إن شئت قلت: إنّ الواسطة ضعيفة.

عدم الحاجة إلى الاستصحاب

ما ذكرنا من الصورتين هو الصحيح من التمسّك بالاستصحاب في المقام، و مع ذلك لا حاجة إليه في إثبات صحّة الصلاة، و ذلك لأنّ البراءة تكفي من دون حاجة إلى الاستصحاب، و البراءة متقدمة عليه إذا كان الأصلان متوافقي المضمون، و ذلك لأنّ صرف الشكّ في كون الشيء قاطعاً كاف في الحكم بعدم كونه قاطعاً، و عندئذ يستغنى عن الاستصحاب الذي هو مركّب من شيئين صرف الشكّ و لحاظ الحالة السابقة، و من المعلوم تقدّم البسيط على المركّب.

فإن قلت: قد تكرّر منّا انّ الاستصحاب مقدّم على أصل البراءة لكونه أصلاً محرزاً، فكيف تقدّم البراءة عليه في هذا المقام؟ قلت: هذا إذا كانا متخالفي المضمون و كان الاستصحاب على خلاف مضمون البراءة دون المقام الذي كلا الأصلين يتّحدان في النتيجة.

الخامس: حكم الزيادة حسب القواعد الثانوية

هذا كلّه حول القواعد الأوّلية، و إليك الكلام في القواعد الثانوية، فقد ورد حول الزيادة روايات بين كونها عامة أو خاصة و الذي يهمنا هو القسم الأوّل.

ص:601

الأوّل: قاعدة من زاد في صلاته

1. ما رواه الكليني بسند صحيح عن زرارة و بكير بن أعين، عن أبي جعفر) عليه السلام (قال:» إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتد بها و استقبل صلاته استقبالاً، إذا كان استيقن يقيناً «.(1)

2. ما رواه الشيخ بسنده إلى علي بن مهزيار، عن فضالة بن أيوب الثقة، عن أبان بن عثمان) الذي هو ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه (عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» من زاد في صلاته فعليه الإعادة «.(2)

3. ما رواه الشيخ عن زرارة، عن أبي جعفر) عليه السلام (قال:» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة:

الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع، و السجود، ثمّ قال: القراءة سنّة، و التشهد سنّة فلا تنقض السنّة الفريضة «.(3)

و سند الشيخ إلى زرارة في التهذيبين غير صحيح، لكن رواه الكليني بسند صحيح رواه شيخنا الحرّ العاملي في أبواب القبلة باللفظ التالي: عن زرارة، سألت أبا جعفر) عليه السلام (في الفرض في الصلاة، فقال:

» الوقت، و الطهور، و القبلة، و التوجه، و الركوع و السجود، و الدعاء «قلت: ما سوى ذلك؟ فقال: سنة في فريضة.(4)

ثمّ إنّ البحث فيما أوردنا من الروايات يتم في ضمن أُمور:

1. شمول الرواية الأُولى لمطلق الزيادة

لا شكّ انّ الرواية تصدق على الموردين:

1. إذا أتى بغير المسانخ بنية الجزئية كالتأمين، و وضع اليد اليمنى على اليسرى.

ص:602


1- الوسائل: الجزء 5، الباب 19 من أبواب الخلل، الحديث 1 و 2.
2- الوسائل: الجزء 5، الباب 19 من أبواب الخلل، الحديث 1 و 2.
3- الوسائل: الجزء 4، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 4.
4- الوسائل: الجزء 3، الباب 1 من أبواب القبلة، الحديث 1.

2. إذا كان الزائد على وجه بحيث يطلق عليه الصلاة، كالركعة.

إنّما الكلام في صدقه على أجزاء الصلاة و إن لم تصدق انّه صلاة بالحمل الشائع، كالسورة و التشهد، نظير ما إذا أمر المولى بصنع معجون مركب من أجزاء معينة كماً و كيفاً فخالف العبد أمر المولى في كمية بعض الأجزاء فزاد في المعجون، و على ذلك يكون معنى قوله:» من زاد في صلاته شيئاً فعليه الإعادة «.

لكن شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري خصّ مفاد الحديث بما إذا كان الزائد مصداقاً للصلاة كالركعة و الركعتين، فاستدل على ذلك بما هذا حاصله:

إنّ الظاهر أنّ متعلّق الزيادة في المقام من قبيل الزيادة في العمر في قولك: زاد اللّه عمرك، فيكون القدر الذي جعلت الصلاة ظرفاً له، هو الصلاة، فينحصر المورد بما إذا كان الزائد مقداراً يطلق عليه الصلاة مستقلاً كالركعة و الركعتين، مضافاً إلى أنّه القدر المتيقن في بطلان الصلاة بالزيادة أضف إليه أنّ رواية زرارة و بكير تشمل على لفظ الركعة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ العمر أمر بسيط لا تتصور فيه الزيادة إلاّ من جنسه، فلو زيد عليه يكون الزائد شيئاً يصدق عليه أنّه عمر، و هذا بخلاف الصلاة المركبة من أُمور شتى مختلفة وجوداً و ماهية فيكفي في صدقها كون الزائد مسانخاً لجزء من أجزائها أو غير مسانخ لكنّه أتى به بنيّة كونه جزءاً لها، و أمّا حديث زرارة فسيوافيك الكلام فيه.

الثاني: في قاعدة لا تعاد

القاعدة الثانية: هي قاعدة لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة كما عرفت.

و يقع الكلام فيها من جهات:

ص:603


1- الصلاة: المقصد الثالث: 210 ط 1353 ه ق.
الجهة الأُولى: في سند القاعدة

روى الصدوق في الفقيه، و الشيخ باسنادهما عن زرارة، عن أبي جعفر) عليه السلام (أنّه قال:

» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع، و السجود «، ثمّ قال:» القراءة سنّة، و التشهد سنّة، فلا تنقض السنّة الفريضة «.(1)

و سند الصدوق في مشيخة الفقيه إلى زرارة صحيح، بخلاف سند الشيخ في مشيخة التهذيب إليه فليس بصحيح، و هذا المقدار يكفي في الاعتماد عليها، مضافاً إلى اشتهارها بين الأصحاب، و إلى رواية الصدوق لها في الخصال بالسند التالي الذي هو في غاية الصحة، قال: حدثنا أبي) رض (قال: حدثنا سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (و السند صحيح و رواته ثقات عدول.

الجهة الثانية: في سعة موضوعها و ضيقه

ينقسم المكلف حسب الحالات إلى» عامد «و» شاك «و» جاهل مركب «و» ناس «فهل القاعدة تشمل الجميع أو لا؟ فلنتناول الأقسام الأربعة بالدراسة.

أمّا العامد: فلا ريب في خروجه عن حريم القاعدة، إذ معنى شمولها له جعل الترخيص للعامد أن يتلاعب بالصلاة بالزيادة و النقيصة في غير الخمسة، و هذا باطل بالضرورة، و قد مرّ أنّ مفاد الجزئية هو البطلان بترك الجزء عامداً.

و أمّا الشاك، الذي يعبّر عنه بالجاهل الملتفت: فتارة يشك في جزئية شيء أو مانعية الزيادة و قاطعيته قبل الشروع في الصلاة، و أُخرى بعدها. أمّا الأوّل: فالرواية

ص:604


1- الفقيه: 1/255; التهذيب: 2/152.

منصرفة عنه، لأنّ موضوعها من دخل في العبادة عن يقين و قطع بالصحة ثمّ عرض له الشك بعد الفراغ عن العمل من جهة احتمال الإخلال بالصلاة من جانب النقيصة و الزيادة، فيقال له أعد، أو لا تعيد، فلا يصدق على الشاك قبل الإتيان بالعمل.

و أمّا الشاك بعد الصلاة، فوظيفته التعلّم و رفع الشكّ، و إلاّ فيرجع إلى القواعد المقررة للشاك لا التحفظ بالشك مطلقاً و العمل بالقاعدة.

و الحاصل أنّ الشاك أعني: الجاهل الملتفت خارج عن مصب الرواية، أمّا قبل الدخول في العمل فلاختصاص القاعدة بنحو لا يمكن معه تدارك المتروك، كمن نسي القراءة و لم يذكر حتى ركع، فلا تكون القاعدة مستندة لجواز الدخول في الصلاة مع الشكّ، بل هي مستندة لمن دخل في الصلاة و قصد امتثال الأمر الواقعي ثمّ تبين الخلل في شيء من الأجزاء أو الشرائط.

و أمّا بعد الدخول فلا تهدف القاعدة إلى تثبيت الجاهل على جهله و الاكتفاء بالقاعدة، بل وظيفته التعلّم و رفع الجهل و إلاّ فالرجوع إلى الأُصول العملية.

فعلى كلّ تقدير فالجاهل الملتفت خارج عن مصب الرواية قبل الدخول أو بعده.

بقي الكلام في الجاهل بالموضوع أو الحكم، و كذا الناسي.

فالظاهر أنّ القاعدة تشملهما بكلا قسميهما دون فرق بين تعلّقهما بالموضوع أو بالحكم، فالأوّل كما لو جهل أنّ ثوبه نجس، و الثاني كما لو جهل بحكم عدم جواز الصلاة فيها، و مثله النسيان بكلا قسميه، فالظاهر أنّ القاعدة تشمل كلا القسمين سواء كان المتعلّق موضوعاً أو حكماً. غير أنّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري منع عن شمول القاعدة في الجهل بالحكم و نسيانه. و بنى مختاره على أمرين:

ص:605

أ: انّ ظاهر قوله:» لا تعاد «هو الصحّة الواقعية، و كون الناقص مصداقاً واقعياً لامتثال أمر الصلاة.

ب: انّ القول بشمول القاعدة لما إذا اعتقد عدم وجوب شيء أو عدم شرطية شيء، أو كان ناسياً لحكم شيء من الجزئية و الشرطية يستلزم التصويب الممتنع لما ظهر من المقدمة الأُولى أنّ ظاهر الصحيح الحكم بصحة العمل واقعاً، و مقتضاه عدم كون المتروك جزءاً أو شرطاً، و لا يعقل أن يقيد الجزئية و الشرطية بالعلم بهما، بحيث لو صار عالماً بعدمهما بالجهل المركب لما كان الجزء جزءاً و لا الشرط شرطاً.

نعم يمكن على نحو التصويب الذي ادّعى الإجماع على خلافه.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ظاهر الحديث هو الاكتفاء بالفرائض عند ترك السنن عن عذر، لا الصحة الواقعية، بشهادة قوله في ذيل الحديث:» و لا تنقض السنّة الفريضة «أي لا يجعل الفريضة كأن لم تكن فيكون معذوراً في ترك السنن.

ثانياً: لا يلزم من سعة الحديث للجاهل بالحكم و ناسيه، التصويب الممتنع و لا التصويب الذي ادّعي الإجماع على خلافه، و ذلك لأنّ التصويب الممتنع عبارة عن خلو الواقعة عن الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، و الذاكر و الناسي، و هو غير لازم إذا قلنا بعموم عدم الإعادة في الجهل بالحكم و نسيانه، لأنّ الحكم الإنشائي مشترك بينهما، و إنّما يختص الفعلي بالعالم و الذاكر، و على ما قلنا من أنّ الحكم الفعلي عبارة عن إعلان الحكم و إبلاغه و إن لم يصل إلى المكلّف فهما مشتركان في الإنشائي و الفعلي، و إنّما يفترقان في التنجّز ، فالحكم منجّز في حقّهما

ص:606


1- المحقّق الحائري، الصلاة: 316، باب الخلل، الطبعة الثانية. و مراده من التصويب الممتنع هو التصويب الأشعري، كما أنّ مراده من التصويب المجمع على بطلانه هو التصويب المعتزليّ و قد تعرّضنا لهما في مبحث إمكان التعبد بالظن، فلاحظ.

دون الجاهل و الناسي.

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّ القاعدة تعم الجاهل و الناسي بكلا قسميه، و انّه إذا انكشف الخلاف برفع الجهل و عود الذكر، يحكم على الصلاة بالقبول من دون إعادة إلاّ في الأُمور الخمسة.

الجهة الثالثة: في سعة دلالتها من حيث المتعلّق

الظاهر انّ الرواية بصدد ضرب القاعدة لمن وقف بعد الصلاة على خلل في صلاته بعد ما دخل فيها عن مجوز شرعي، فعلم أنّه نقص جزءاً أو زاد شيئاً.

فعلى ضوء هذا تكون القاعدة صدرها و ذيلها عامةً لكلا القسمين، فلا يعاد في غير الخمسة لأجل طروء أيّ خلل عليها سواء كان الخلل مستنداً إلى الزيادة أو النقيصة، كما أنّه يعاد في مورد الخمسة لأي خلل فيها من النقيصة و الزيادة.

نعم ربما يخصّص ذيل القاعدة بالنقيصة و ذلك بوجهين.

إنّ المستثنى لا يشمل سوى النقيصة أي ترك الأركان الخمسة و أمّا زيادتها فليست داخلة في المستثنى .

وجه ذلك: أنّه لو قلنا إنّ زيادة الركوع مبطلة، فهذا لأجل أخذ عدمها في جزئية الجزء أو في ضمن المركب، فلو زاد ركوعاً أو سجوداً فهو زيادة في الظاهر، لكن مرجعها إلى النقيصة أي الإخلال بوصف الركوع و السجود، أعني) كونها بشرط لا (. فظهر من هذا البيان أنّ القول ببطلان الصلاة لأجل زيادة الأركان يرجع في الواقع إلى الإخلال بالنقيصة أي إخلال وصف الجزء. هذا من جانب و من جانب آخر انّ الإخلال بالنقيصة منحصر في موارد خمسة، أعني ترك نفس الأركان من رأس كترك الطهور و عدم إقامة الصلاة في الوقت....

فلو قلنا بأنّ زيادة الركوع موجبة للإعادة و قد عرفت أنّ مرجع الزيادة إلى

ص:607

النقيصة يكون الإخلال بالنقيصة غير منحصر بالخمسة بل يتجاوز عنها إلى سادس و هو الإخلال بوصف الركوع) بشرط لا (و سابع و هو الإخلال بوصف السجود) بشرط لا (مع أنّ الرواية تنص على أنّ الإخلال بالنقيصة منحصر في خمسة.

يلاحظ عليه: أنّ مرجع زيادة الجزء المأخوذ بشرط لا، و إن كان إلى النقيصة و فقدان الوصف أي ) بشرط لا (، لكنّه خلط بين حكم العرف و العقل، و العرف يعدّ الركوع المكرّر زيادة في الجزء لا نقيصة في الوصف و إن كان الأمر في نظر العقل كذلك.

و على ضوء ذلك فلو قلنا بعمومية المستثنى للزيادة و النقيصة، يدخل الركوع المكرّر في المستثنى لأجل كونه زيادة لا نقيصة حتى يتجاوز عدد الموجب للإعادة في النقيصة عن الخمسة، و نكون عندئذ في غنى من إضافة أمر سادس في جانب النقيصة.

و استدل المحقّق النائيني باختصاص الذيل بالنقيصة بأنّ بعض ما جاء فيه مختص بها و لا يتصوّر فيه الزيادة كالوقت و القبلة و الطهور.

يلاحظ عليه: أنّ عدم تحقّق الزيادة في البعض لا يوجب اختصاص الحديث بالنقيصة بعد قابلية الركوع و السجود للزيادة و النقيصة.

الجهة الرابعة: في نسبة صدر القاعدة مع الحديث

إنّ صدر القاعدة يتضمّن حكماً سلبياً، و ذيلها حكماً إيجابياً.

أمّا السلبي، فهو عبارة عن الحكم بعدم الإعادة في غير الأركان الخمسة فقوله:» لا تعاد الصلاة « بمنزلة القول: لا تعاد الصلاة عند ورود الإخلال بغير الأركان بالنقص و الزيادة.

ص:608

و أمّا الإيجابي فهو عبارة عن الاستثناء عن الحكم السلبي الذي يكون إيجابياً فقوله:» إلاّ الخمسة « بمنزلة القول: تعاد الصلاة عند ورود الإخلال بأركانها بالنقص و الزيادة.

و الغرض في المقام بيان النسبة بين مفاد الصدر، و حديث أبي بصير، أعني قوله:» من زاد في صلاته فعليه الإعادة «لا بين ذيل القاعدة و الحديث.

و بعبارة أُخرى: بيان النسبة بين الحكم السلبي الوارد في صدر القاعدة، و الحكم الإيجابي في الحديث، فذكر مفاد الذيل عند بيان النسبة خروج عن محط البحث، فنقول: بما انّ المشهور لما فهموا من القاعدة عمومها للزيادة كشمولها للنقيصة، صارت النسبة بينهما عندهم عموماً و خصوصاً من وجه، ثمّ إنّه اختلفت كلمتهم في بيان وجه أخصية القاعدة فذكروا وجهين:

الوجه الأوّل: اختصاص القاعدة بغير الأركان

ذهب شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري) قدس سره (إلى أنّ وجه الأخصية هو اختصاص القاعدة للزيادة غير الركنية قال) قدس سره (: فالنسبة بينها و بين ما دلّ على أنّ من تيقن أنّه زاد في صلاته فعليه الإعادة عموم من وجه، لافتراق الدليلين في النقيصة، و الزيادة الركنية، و اجتماعهما في الزيادة غير الركنية.(1)

توضيحه: أنّا نعبر عن مفاد القاعدة بالصحة، و عن مفاد الحديث بالبطلان، فنقول: القاعدة عامة لأنّها تحكم بصحّة الصلاة في صورتي الزيادة و النقيصة، و خاصة لأنّها تحكم بالصحة في صورة الإخلال بغير الأركان.

و الحديث عام لأنّه يحكم بالبطلان بالزيادة في الركن و غيره، و خاص لأنّه يحكم بالبطلان في صورة الزيادة فقط.

ص:609


1- كتاب الصلاة: 312.

و بما أنّ مصبّ النسبة بين القاعدة و الحديث، هو صدر القاعدة أعني:» لا تعاد «الذي عبّرنا عنه بالصحّة لا ذيل القاعدة، أعني:» إلاّ في خمسة «الذي مفاده بطلانها في الإخلال بتلك الأُمور.

و منها يظهر وجه أخصية القاعدة و هو: انّ الصحّة فيها مختصة بغير الأركان، نعم هي عامة من جهة شمولها للإخلال بالنقيصة و الزيادة.

و بذلك يظهر التسامح في تقرير وجه الأخصية في كلام المحقّق الخوئي حيث جعل وجهها اختصاص الحكم بالبطلان بالأركان و قال: إنّ حديث» لا تعاد «و إن كان خاصاً من جهة انّ الحكم بالبطلان فيه مختص بالأركان إلاّ أنّه عام من حيث الزيادة و النقصان.(1)

و أنت خبير انّ مصب لحاظ النسبة هو الحكمان المختلفان، أعني:» لا تعاد «في القاعدة و» عليه الإعادة «في الحديث، و مخالفة الثاني للأوّل إنّما هو في المستثنى منه، أعني: غير الأركان، حيث تحكم القاعدة بالصحة و الثاني بالفساد، لا في المستثنى، أعني: الأركان، فانّهما متوافقان في الحكم بالفساد و البطلان فيها و الصحيح في وجه الأخصية ما قرّرناه من اختصاص الصحّة بغير الأركان.

الوجه الثاني: اختصاص القاعدة بصورة السهو

يستفاد من كلام الشيخ الأنصاري انّ وجه الأخصية اختصاص القاعدة، بصورة السهو(2) و عمومية الحديث للعمد و السهو، قال:» مقتضى لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة «هو عدم قدح النقص سهواً و الزيادة سهواً، و مقتضى عموم أخبار الزيادة المتقدمة، قدح الزيادة عمداً و سهواً و بينهما تعارض العموم من وجه في

ص:610


1- مصباح الأُصول: 2/269.
2- و لعلّ مراده من السهو، هو عدم العمد، فيدخل فيه الجاهل المركب و الناسي معاً.

الزيادة السهوية [غير الركنية] بناء على اختصاص لا تعاد بالسهو.(1)

و حاصله: انّ القاعدة أخصّ لاختصاصها بالسهو، و أعم لعمومها للزيادة و النقيصة، و الحديث أخص لاختصاصه بالزيادة و أعمّ لعمومه العمد و السهو، فيقع التعارض في الزيادة السهوية غير الركنية، فلا تعاد على القاعدة، و تعاد على الحديث.

وجه تقديم القاعدة على الحديث

ثمّ إنّ الظاهر هو اتّفاقهم على تقديم القاعدة على الحديث، و ذكر الشيخ انّ وجه التقديم هو حكومة القاعدة على الحديث قال:» و الظاهر حكومة قوله:» لا تعاد «على أخبار الزيادة، لأنّها كأدلّة سائر ما يُخلُّ فعله و تركه بالصلاة، كالحدث و التكلّم و ترك الفاتحة، و قوله:» لا تعاد «يفيد انّ الإخلال بما دلّ الدليل على عدم جواز الإخلال به، إذا وقع سهواً لا يوجب الإعادة و إن كان من حقّه أن يوجبها «.(2)

ثمّ إنّ المحقّق النائيني و تلميذه الجليل تبعا الشيخ في وجه التقديم.

قال المحقّق الخوئي في توضيحه: إنّ حديث» لا تعاد «حاكم على أدلّة الزيادة بل على جميع أدلّة الأجزاء و الشرائط و الموانع كلّها، لكونه ناظراً إليها و شارحاً لها، إذ ليس مفاده انحصار الجزئية و الشرطية في هذه الخمسة، بل مفاده انّ الاخلال سهواً بالأجزاء و الشرائط التي ثبت جزئيتها أو شرطيتها لا يوجب البطلان إلاّ الإخلال بهذه(3) فلسانه لسان الشرح و الحكومة فيقدّم على أدلّة

ص:611


1- الفرائد: 293.
2- الفرائد: 294، طبعة رحمة اللّه.
3- مصباح الأُصول: 2/470. و لاحظ الفوائد: 4/239.

الأجزاء و الشرائط بلا لحاظ النسبة بينه و بينها.

أقول: إنّ ما ذكره من حكومة القاعدة على أدلّة الأجزاء و الشرائط أمر لا غبار عليه إنّما الكلام في حكومتها على قوله:» من زاد في صلاته فعليه الإعادة «و ذلك لأنّه ليس في عداد أدلّة الأجزاء و الشرائط بل هو و القاعدة على مستوى واحد ناظران إلى أدلّتهما. و ليس مفاد الحديث» الزيادة مبطلة «حتى يكون في عدادهما و تكون القاعدة حاكمة عليه، بل الكلّ شارح لأحوال الأجزاء و الشرائط في الإبطال و عدمه.

و الحاصل أنّ في مورد الاجتماع دليلين:

أحدهما: مع الزيادة السهوية غير الركنية لا تعاد الصلاة.

ثانيهما: مع الزيادة السهوية غير الركنية تعاد الصلاة.

فلا وجه لحكومة أحدهما على الآخر.

و مع ذلك فالقاعدة مقدمة على الحديث بوجوه:

الأوّل: قوّة الدلالة، لاعتمادها على العدد، و هذا كاشف عن كون المتكلّم بصدد بيان ما هو الموضوع للإعادة و عدمها لوجه دقيق غني عن التخصيص و التقييد.

الثاني: وجود التعليل في القاعدة دون الحديث حيث تعلّل عدمها بأنّ السنّة لا تنقض الفريضة، و مقتضاه عدم لزوم الإعادة فيما إذا زاد شيئاً مع عدم الإخلال بالأركان.

الثالث: لسان الامتنان في القاعدة دون الحديث الموجب، لتقديم ما هو ظاهر في المرونة و السهولة على غيره.

فإن قلت: لو كان الحاكم في مورد الاجتماع هو القاعدة، يلزم تخصيص مورد

ص:612

الحديث بالأركان مع أنّ طروء الخلل فيها قليل، لأنّ الوقت و القبلة لا تتصوّر فيها الزيادة، و الزيادة في الطهور بمعنى الطهارة النفسانية لا تقبل الزيادة و بمعنى تجديد أسبابها غير مخل قطعاً، فتأسيس قاعدتين لموردين غريب جداً.

قلت: إنّ مورد الحديث أوسع من ذلك، لأنّه يعم الزيادة العمدية و السهوية ركناً كان أو غير ركن.

فإن قلت: إنّ الزيادة العمدية قليلة جداً، إذ من البعيد أن يقوم المصلّي المريد لإفراغ ذمّته بالزيادة العمدية، منه فينحصر مصداقه في زيادة الركنين السهوية، و هي أيضاً قليلة، فيلزم تخصيص الأكثر و تأسيس قاعدة كلية لأجل زيادة الركوع و السجود.

قلت: هنا طريقان للتخلّص من هذا المأزق:

أحدهما: القول بعدم شمول القاعدة لصورة الزيادة مطلقاً و اختصاصها بصورة النقيصة.

ثانيهما: اختصاص الحديث بزيادة الركن و الأركان.

أمّا الأوّل فهو مخالف لفهم الأصحاب أولا، لأنّهم تلقّوها ضابطة لمعالجة أي خلل طرأ على الصلاة من غير فرق بين النقيصة و الزيادة، فلا محيص، عن اختيار الثاني و انّ المراد من قوله:» من زاد «هو زيادة الركن أو الركعة كما لا يخفى.

الجهة الخامسة: في بيان نسبة القاعدة مع حديث زرارة

روى الكليني في» باب من سها في الأربع و الخمس و لم يدر زاد أو نقص «عن زرارة، عن أبي جعفر أنّه قال:» إذا استيقن أنّه قد زاد في صلاته المكتوبة لم يعتدّ بها و استقبل صلاته استقبالاً إذا كان استيقن يقيناً «.(1)

ص:613


1- الكافي: 4/354.

و روى أيضاً في باب» السهو عن الركوع «بإضافة قوله:» ركعة «بعد قوله:» المكتوبة «(1)و عنوان الباب حاك عن وجود لفظ» ركعة «، و انّه فهم من قوله:» ركعة «، الركوع. بخلاف الباب السابق فلم يرد فيه لفظ» ركعة «.

و أخرجه صاحب الوسائل عن الكليني في موضعين، مع الزيادة و لم يشر إلى عدم لفظة» ركعة «: في موضع من الكافي، و لعلّ نسخته في كلا البابين كانت مشتملة عليها، أو أنّه رجع إلى باب» السهو عن الركوع «دون الآخر.(2)

و أمّا الشيخ فقد أخرجه في التهذيب في باب» أحكام السهو في الصلاة «عن الكليني بلا هذه الزيادة.(3)

و أمّا المجلسي فقد تبع الكليني في كلّ مورد فنقله في باب» من سها في الأربع و الخمس «بلا زيادة، و في باب السهو عن الركوع معها.

هذا حال المتن، و أمّا وجه الجمع بين القاعدة و الحديث فملخّص الكلام: انّه لو قلنا بوجود لفظ:

» الركعة «في الحديث كما هو الموافق للقاعدة، لأنّ الأمر إذا دار بين النقص السهوي و الزيادة السهوية فالأوّل هو المتعيّن، لأنّه أمر عادي دون الزيادة و عندئذ تصبح النسبة بينهما هو العموم و الخصوص المطلق و يكون الإخلال بالركعة ملازماً للإخلال بالركوع الوارد في المستثنى.

و أمّا لو قلنا بعدم ثبوت الزيادة فيكون حالها حال حديث أبي بصير في النقض و الإبرام و النتيجة فلا نطيل الكلام.

ص:614


1- الكافي: 3/348.
2- الوسائل: الجزء 4، الباب 14 من أبواب الركوع، الحديث 1; و الجزء 5، الباب 19 من أبواب الخلل، الحديث 1.
3- التهذيب: 2/206 ح 64، طبعة الغفاري; و ص 194، طبعة النجف.
التنبيه الثالث: في الاضطرار إلى ترك الجزء و الشرط
اشارة

لو تعذر أحد قيود المأمور به، ففي سقوط التكليف عن المركب قولان مبنيّان على ثبوت التقييد مطلقاً فيسقط التكليف عن الباقي، أو في حال التمكّن فيبقى الأمر على المركب.

و أمّا صور المسألة فهي أربع كالجزء المنسي، غير أنّ الشكّ هناك يتعلّق بوجوب الإعادة بعد الذكر و عدمه، و في المقام بلزوم الإتيان بالباقي عند تعذّر بعض القيود و أمّا الصور فهي:

1. ما يكون لكلّ من دليل المركب و الجزء إطلاق.

2. ما يكون لدليل الجزء إطلاق دون دليل المركب.

3. ما يكون على العكس، بأن يكون لدليل المركّب إطلاق دون دليل الجزء.

4. ما لا يكون لواحد منهما إطلاق.

و معنى الإطلاق في المقام هو المطلوبية في حالتي التعذر و عدمه، و تكون نتيجة الإطلاق في جانب الجزء هو سقوط الأمر بالمركب، و في جانب المركّب، هو لزوم الإتيان بالباقي عند التعذر.

و المناسب للمقام هو الصورة الرابعة، أعني ما إذا لم يكن في المقام إطلاق من الجانبين حتى يكون البحث ممحّضاً للأُصول العملية، و أمّا إذا كان في البين إطلاق فهو خارج عن محطِّ البحث لوجود الدليل الاجتهادي الذي لا تصل معه النوبة إلى الأصل، و لأجل ذلك نبحث في المقامين.

1. مقتضى الدليل الاجتهادي

الكلام في مقتضى الدليل الاجتهادي في المقام هو نفس الكلام في الجزء

ص:615

المنسي، غير أنّ الشكّ في الثاني بعد العمل، و في المقام قبله كما تقدم، و قد عرفت أنّه لو كان لكلا الدليلين إطلاق، أو كان لدليل الجزء إطلاق، يحكم بتقديم إطلاق الجزء، إمّا لأخصيته كما في الصورة الأُولى، أو لعدم الإطلاق في دليل المركب كما في الصورة الثانية، فيحكم بسقوط وجوب المركّب أخذاً بإطلاق الجزء الذي هو بمعنى عدم رفع اليد عنه في تلك الحالة.

و مع ذلك كلّه يمكن تقييد إطلاق دليل الجزء بحديث الرفع، لما عرفت من أنّ تعلّق الرفع بما لا يعلمون تعلّق ظاهري، و بما اضطروا و استكرهوا، تعلّق واقعي، فيكفي في رفع وجوب الجزء، تعلّق الاضطرار بتركه.

نعم إنّما يثبت وجوب الباقي، إذا كان لدليل المركّب إطلاق دون الصورة الثانية. بل يكون حكمها حكم الصورة الرابعة كما ستوافيك.

و أمّا الصورة الثالثة، أعني: ما إذا كان لدليل المركب إطلاق دون دليل الجزء، فيحكم بوجوب الباقي، و قد مرّت الأمثلة عند البحث في حكم الجزء المنسي.

إلى هنا تمّ بيان حكم الدليل الاجتهادي.

2. مقتضى الأُصول العملية

إذا لم يكن لواحد من الدليلين إطلاق، تصل النوبة إلى الأُصول العملية، فيقع الكلام في

مقتضى القاعدة الأوّلية أوّلاً،

ثمّ في مقتضى الأدلّة الثانوية الواردة في خصوص المورد ثانياً.

لا شكّ انّ وجوب الجزء المضطر إليه سقط بالاضطرار، و إنّما الكلام في تعلّق الوجوب بالباقي و الأصل البراءة، و صدق العنوان على الباقي لا يلازم تعلّق الأمر به بعد كون المقيد مغايراً للمجرّد عنه، هذا من غير فرق بين طروء التعذّر

ص:616

قبل تعلّق الوجوب كما إذا بلغ غير عارف بالقراءة، أو بعده، كما إذا عجز عن القراءة بعد دخول الوقت.

نعم لو كان لدليل المركب إطلاق، لما كان للبراءة مجال.

لا يقال: إنّ مقتضى حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية إلاّ في حال التمكّن منه، و عندئذ يبقى الحكم على الأجزاء الباقية.

لأنّا نقول: الحكم بعدم وجوب الباقي ليس مستنداً إلى حديث الرفع حتى يقال: إنّ مقتضاه عدم الجزئية و الشرطية إلاّ في حال التمكّن، بل إلى فقد المقتضي، و هو عدم وجود الإطلاق في دليل المركب.

و بذلك تقف على أنّه لا حاجة للجواب عن الإشكال المزبور بما في الكفاية من أنّ حديث الرفع ورد في مقام الامتنان فيختص بما يوجب نفي التكليف لا إثباته(1) و ذلك لأنّ عدم الوجوب مستند إلى فقد الدليل على الوجوب، لا إلى حديث الرفع حتى يقال: بأنّه رافع للتكليف لا مثبت، فلاحظ.

ثمّ إنّه ربما يستظهر وجوب الباقي بالاستصحاب الحاكم على أصل البراءة و يقرّر بوجوه:

1. استصحاب الوجوب الجامع بين الضمني و الاستقلالي

لا شكّ انّ هنا وجوبين: أحدهما: الوجوب الاستقلالي بالكل و قد ارتفع، و الآخر: الوجوب الضمني لكلّ جزء و هو أيضاً قد ارتفع بارتفاع الأوّل، و مع ذلك كلّه فنحن نحتمل أن يتعلّق وجوب استقلالي ثان بالأجزاء الباقية، فنفس هذا الاحتمال يكفي في احتمال بقاء الوجوب الجامع بين الوجوبين: الاستقلالي و الضمني، فانّهما و إن ارتفعا قطعاً، لكن الجامع بينهما محتمل البقاء، لاحتمال

ص:617


1- كفاية الأُصول: 2/240.

حدوث وجوب استقلالي ثان متعلّق بالأجزاء الباقية فيُستصحب.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ خطاب لا تنقض متوجه إلى العرف العام الدقيق و لا يشمل إلاّ الأفراد التي يلتفت إليها ذلك المخاطب بما انّه عرف عام، و من المعلوم أنّ هذا الفرد من المستصحب فرد عقلي لا يتوجه إليه إلاّ الأوحدي، فشمول أدلّة الاستصحاب لهذا النوع من المصداق مورد تأمّل.

و ثانياً: أنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي، و الجامع بين الوجوبين ليس مجعولاً شرعياً و إنّما هو حكم منتزع عن الحكمين، و المنتزع فعل العقل و ليس مجعولاً للشرع.

2. استصحاب الوجوب الاستقلالي بنحو مفاد كان التامة

بيانه أن يقال قبل تعذر الأجزاء كان هناك وجوب استقلالي و نشك في بقائه فيستصحب البقاء.

يلاحظ عليه: أنّ المطلوب هو وجوب الأجزاء الباقية لا بقاء أصل الوجوب و استصحاب الأخير لإثبات وجوب الأجزاء الباقية، من الأُصول المثبتة، و ذلك لأنّ العقل يحكم بأنّ الوجوب الباقي عرض، و العرض لا يقوم إلاّ بالموضوع، و ليس هو إلاّ الأجزاء الباقية، فهو الموضوع للوجوب.

3. استصحاب الوجوب الاستقلالي بنحو مفاد كان الناقصة

بيانه: انّ الأجزاء الباقية كانت واجبة بالوجوب النفسي غاية الأمر مقيّداً بالجزء المتعذر، فإذا كان الجزء المتعذر مقوّماً للموضوع، و موجباً لانعدامه فلا يجري الاستصحاب، و أمّا إذا كان معدوداً من حالات الموضوع و عوارضه عند العرف، فيجري الاستصحاب بحكم بقاء الموضوع عرفاً.

ص:618

و بعبارة أُخرى: نشك في أنّ هذا الجزء المتعذّر لو كان دخيلاً في الحكم حدوثاً و بقاءً لا يجري الاستصحاب و لو كان دخيلاً حدوثاً لا بقاءً يجري الاستصحاب، و نفس هذا الشكّ مصحّح لجريان الاستصحاب بعد بقاء الموضوع و نسبة الواجد للجزء المتعذر، بالنسبة إلى الفاقد له كنسبة موضوع طرأ عليه التغيير في بعض أحواله.

يلاحظ عليه: أنّ الوجوب السابق كان على عشرة أجزاء، و المقصود الآن إبقاء ذلك الوجوب على التسعة، و من المعلوم انّ إسراء حكم من عنوان إلى عنوان آخر هو نفس القياس المنكر في مذهبنا، و أيّ عرف يتسامح و يقول إنّ العشرة هو نفس التسعة.

و إن شئت قلت: إنّ عالم المفاهيم مثار الكثرة، فكلّ عنوان في عالم المفاهيم يضاد العنوان الآخر، و على ذلك لو ثبت الحكم على عنوان لا يمكن إسراؤه إلى عنوان آخر، و ذلك لأنّه نفس القول بالقياس.

فإذن الحكم المتعلّق بالعشرة كيف يستصحب و يتعلّق بالتسعة؟! فإن قلت: على هذا ينسد باب جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية و يختص بالموضوعات الخارجية، مثلاً الماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه يحكم عليه ببقاء النجاسة مع أنّه من قبيل إسراء حكم من موضوع) الماء المتغير (إلى موضوع آخر) الماء الذي زال تغيره (.

و مثله استصحاب الحرمة لعصير الزبيب، فإنّ الحكم ثبت على العصير العنبي إذا غلى، فإسراء ذلك الحكم إلى العصير الزبيبي عند الغليان أشبه بالقياس، فلو ثبت ما ذكرنا من الإشكال لانسدَّ باب الاستصحاب في الأحكام الكلية.

ص:619

قلت: ليس الهدف من الاستصحاب في المثالين المذكورين إسراء حكم من عنوان) الماء المتغيّر (إلى عنوان آخر) الماء غير المتغيّر (حتى يكون من باب القياس، كما أنّه ليس الهدف إسراء حكم الحرمة من العصير العنبي إلى العصير الزبيبي، فانّ ذلك أشبه بالقياس و لا نقول به.

بل الهدف تسرية الحكم بعد انطباقه على الخارج من موضوع واجد لبعض الخصوصيات إلى موضوع فاقد لها، بشرط أن تكون الخصوصية عند العرف بالنسبة إلى الموضوع الخارجي معدودة من الحالات لا من المقوّمات، و ذلك بالبيان التالي:

إنّ الحكم الشرعي، أعني: الماء المتغير نجس، غير قابل للاستصحاب إلى موضوع آخر، أعني: الماء إذا زال تغيره، لأنّ الموضوعين متغايران و المفاهيم مثار الكثرة، و لكن بعد ما انطبق الدليل الكلي على ماء خارجي يكون الموضوع للاستصحاب هو المصداق الخارجي و هو هذا الماء لا العنوان الكلي، و عندئذ يتخذ الفقيه المصداق الخارجي موضوعاً للحكم، فلو كان التبدّل معدوداً من عوارض الموضوع و حالاته يشير إلى ذلك الموضوع) لا إلى العنوان الكلي (و يقول: كان هذا محكوماً بالنجاسة و الأصل بقاؤه.

و بذلك يظهر صحّة الاستصحاب في العصير العنبي، فليس الهدف إسراء حكم العنب إلى الزبيب، فإنّه قياس واضح.

نعم لمّا انطبق الدليل الأوّل على مصداق خارجي و عنب معين، يتخذه الفقيه موضوعاً و يشير إليه بهذا و يقول: كان هذا في بعض الحالات) عند ما كان رطباً (إذا غلى يحرم، و الأصل بقاء حكمه عند ارتفاع تلك الحالات، و المستشكل خلط بين الأمرين إسراء حكم من عنوان إلى عنوان آخر، و بين إسراء حكم موضوع خارجي انطبق عليه الدليل في بعض الحالات، إلى الحالة التي فقدها و لم تكن الحالة من مقوّماته فالأوّل قياس و الثاني ليس من قبيله بل يعد استصحاباً.

ص:620

و بما أنّ ملاك البحث هو استصحاب الحكم الكلّي المتعلّق بعنوان العشرة فلا يمكن تسريته إلى عنوان التسعة.

4. استصحاب الحكم المتعلّق بالعنوان

هناك بيان آخر يختلف مع ما مرّ، و ذلك لأنّ التقرير السابق كان مبنياً على تعلّق الحكم بالأجزاء مباشرة، و عندئذ يتوجّه إشكال مغايرة القضية المشكوكة مع المتيقّنة. و انّ العشرة، تغاير التسعة، و أمّا لو قلنا كما مرّ في المركب المنسي بعض أجزائه بأنّ الأمر يتعلّق بالعنوان الذي هو وجود إجمالي للأجزاء، و هي وجود تفصيلي له، و له مع وحدة مفهومه عرض عريض، يصدق على الواجد و الفاقد، بقرينة صدقه على صلاة الحاضر و المسافر، و القادر و العاجز، فإذا تعذّر بعض الأجزاء و شككنا في كيفية دخله في الموضوع، فهل هو مطلوب مطلقاً، أو عند التمكن يصحّ لنا، استصحاب الوجوب المتعلّق به إلى أن يعلم ارتفاعه، لوحدة القضيتين، لصدق العنوان على الفاقد و الواجد و هذا المقدار من الوحدة يكفي في جريان الاستصحاب.

و على ضوء ذلك يكون المحكّم هو الاستصحاب لا البراءة.

حكم القواعد الثانوية

هذا حكم القواعد الأوّلية و دونك الكلام في حكم الأدلّة الثانوية الواردة في خصوص هذا الموضوع.

أدلة هذه القواعد
الحديث النبوي

أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال: خطبنا رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (فقال:

ص:621

أيّها الناس قد فرض عليكم الحجّ فحجّوا، فقال رجل: أ كلّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً قال: لو قلت نعم لوجب و لما استطعتم، ثمّ قال: ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شيء فدعوه «.(1)

و رواه النسائي في كتاب الحجّ باب وجوبه بالنحو التالي:

» فإذا أمرتكم بشيء فخذوا به ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه «.(2)

و رواه البيهقي في سننه(3) بلفظ قريب ممّا نقله مسلم.

هذا ما لدى السنّة و أمّا الشيعة فلم يروه أصحاب الكتب الأربعة و لا غيرها، إلاّ ابن أبي جمهور الأحسائي في كتابه غوالي اللآلي و هو من علماء القرن التاسع الهجري.

قال: روي أنّه) صلى الله عليه و آله و سلم (قال:» إنّ اللّه قد كتب عليكم الحجّ «قال فقام الأقرع بن الحابس فقال: في كلّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت، ثمّ قال:» لو قلت نعم لوجب، ثمّ لا تسعون و لا تطيعون، و لكنّه حجّة واحدة «.(4)

و استدلّ به السيد عميد الدين على ما حكاه الشهيد في الذكرى في مسألة صلاة العاري، حيث كان يقوِّي صلاته جالساً ليومئ للسجود عارياً استناداً إلى أنّه حينئذ أقرب إلى هيئة الساجد فيدخل تحت قوله: فأتوا به ما استطعتم.(5)

ص:622


1- التاج الجامع للأُصول: 2/100، كتاب الحج.
2- سنن النسائي: 5/111، و معها تعليقات السيوطي.
3- سنن البيهقي: 4/326.
4- غوالي اللآلي: 1/169.
5- بحار الأنوار: 80/214.

و على أيّ حال فالرواية عندنا مرسلة و عند غيرنا مسندة ينتهي سندها إلى أبي هريرة الذي لا يركن إلى رواياته، و لكن إتقان المضمون يشهد على صدقه و لذلك يعلوه سمو النبوة و نورها.

و أمّا الدلالة فالظاهر أنّها غير صالحة للاستدلال به للمقام بوجهين:

1. موردها الحجّ على ما عرفت، فيكون دليلاً على لزوم الإتيان في ذوي الأفراد، لا في ذوي الأجزاء خصوصاً انّ النسائي رواه:» فخذوا به «مكان» فأتوا منه «، و الأوّل صريح في ذوي الأفراد، هذا لو فسرنا الرواية بملاحظة الصدر أمّا مع الغض عنه فنقول: قوله:» فأتوا به ما استطعتم «فيه احتمالات:

فإنّ لفظة» ما «إمّا مصدرية، أو موصولة.

و على الأُولى إمّا مصدرية غير زمانية، أو مصدرية زمانية، و» من «للتعدية بمعنى» الباء «و على الثانية فلفظة» من «إمّا بيانية أو تبعيضية.

فتلك احتمالات أربعة:

1. أن تكون مصدرية غير زمانية و الجار بمعنى الباء للتعدية: نظير قوله سبحانه: (فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا ). (1)أي فأتوا به قدر الاستطاعة، و تكون النتيجة محبوبية تكرار العمل الواجب أو المستحب بقدر الوسع، و لا صلة لهذا المعنى بالمقام.

2. أن تكون مصدرية زمانية فالجار أيضاً بمعنى الباء للتعدية مثل الأُولى، و يكون المعنى فأتوا به زمان الاستطاعة، و هذا خيرة السيد الأُستاذ و المحقّق الخوئي، و عندئذ يكون إرشاداً لحكم العقل و لا يفيد معنى جديداً.

3. أن تكون» ما «موصولة مفعولاً لقوله:» فأتوا «و الجار بيانيّة و المعنى فأتوا

ص:623


1- التغابن: 16.

الذي استطعتم من إفراد ذلك الشيء و يتحد مع المعنى الأوّل.

4. أن تكون» ما «موصولة مفعولاً لقوله» فأتوا «و الباء تبعيضية.

و المعنى: فأتوا الذي استطعتم من بعض ذلك الشيء و هذه المحتملات الأربعة و لا صلة لها بالمقام إلاّ المعنى الرابع.

و الحقّ انّ المعنيين الأخيرين بعيدان لاستلزامهما تقدّم عائد الموصول) منه (على الموصول أعني:

» ما «و هو غير جائز إلاّ عند الضرورة.

و الظاهر أنّ المتبادر هو المعنى الأوّل، و هو منطبق على المورد) الحج (.

العلويان
الحديث الأول روى صاحب غوالي اللآلي: و قال (عليه السلام): «لا يُترك الميسور بالمعسور»

. و قال) عليه السلام (:

» ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك كلُّه «.

و قد استدلّ به الوحيد البهبهاني في كتاب» مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع «في باب الوضوء عند قول المصنف:» و ترك الاستعانة «فقال ما هذا لفظه: نعم مع الاضطرار يجوز ان يولّي طهارته غيره، و استدلّ بالعلويين.

و قال بحر العلوم في منظومته:

و في اضطرار يسقط المعسور في الكلّ فالفرض هو الميسور

و ليس في كتب القدماء من الحديثين عين و لا أثر، و على ذلك فالاعتماد عليهما في إثبات الحكم الشرعي مشكل.

و أمّا دلالة الأوّل على لزوم الإتيان بالأجزاء الباقية فمبني على أنّ المراد: الميسور من أجزاء المركب لا يسقط بالمعسور من أجزائه.

ص:624

و قد أُورد على الاستدلال بالحديث وجوه:

1. ما أشار إليه المحقّق الخراساني في عدم ظهور الرواية في ذي الأجزاء من الواجب، لاحتمال كون المراد هو ذي الافراد كالحج.

يلاحظ عليه: أنّ الأولى بالذكر هو الأوّل، لأنّ توهم السقوط في المركبات ذات الأجزاء المتلاحمة أقوى من توهم السقوط في الأفراد المتباينة، فاحتمال سقوط الجلّ لأجل سقوط الكلّ أكثر من احتمال سقوط بعض الأفراد لسقوط البعض الآخر، فالأوّل أولى بالذكر.

و يمكن أن يقال: انّ إطلاق لفظة» الميسور «يعم ميسور كلّ شيء، سواء كان ذا أفراد أو ذا أجزاء.

2. انّ الرواية تعمّ الواجبات و المستحبات، و معه يحمل قوله:» لا يسقط «على مطلق المحبوبية، و لا يتم الاستدلال على لزوم الإتيان بالأجزاء الباقية في الواجب.

يلاحظ عليه: بما أشار إليه المحقّق الخراساني من أنّ المراد هو ما لا يسقط بما له من الحكم إن كان واجباً فيبقى الوجوب، و إن كان مستحباً فيبقى الاستحباب.

3. ما أشار إليه المحقّق الخوئي انّ السقوط فرع الثبوت، فالرواية مختصة بتعذّر بعض أفراد الطبيعة باعتبار انّ غير المتعذّر منها كان وجوداً ثابتاً قبل طروء التعذّر فيصدق انّه لا يسقط بتعذّر غيره، بخلاف بعض أجزاء المركب فإنّه كان واجباً بوجوب ضمني قد سقط بتعذّر المركب من حيث المجموع، فلو ثبت وجود بعد ذلك فهو وجوب استقلالي حادث، فلا معنى للإخبار عن عدم سقوطه بتعذر غيره.(1)

ص:625


1- مصباح الأُصول: 2/184.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يتم لو قلنا بوجوب الأجزاء الباقية بوجوب ثان، و لكن عرفت أنّ كلّ جزء، واجب بنفس الوجوب المتعلّق بالكلّ، و لمّا سقطت دعوة الأمر إلى الكلّ، بقيت دعوته إلى الأجزاء الباقية بحالها، و الحديث كشف عن بقاء الدعوة.

أضف إلى ذلك انّا نفترض أنّ الأجزاء الباقية وجبت بوجوب ثان و لكن لما كانت النتيجة واحدة يصحّ أن يقال عرفاً انّ الوجوب لم يسقط.

4. انّ التمسك بهذا الحديث و إثبات مطلوبية الباقي مستلزم الدور، لأنّ كون الأجزاء الباقية ميسوراً للمكلّف فرع كونها واجدة للملاك و إثبات الملاك فرع تعلّق الأمر بالباقي، و تعلّق الأمر فرع إحراز كونه ميسوراً للسابق و مطلوباً ثانوياً له.

يلاحظ عليه: أنّ المراد من الميسور ما يعد ميسوراً في العرف للعمل المتعذر، و يكفي في صدقه عدّه منزلة نازلة للمعسور، من دون نظر إلى كونه ذا ملاك حتى يتوقف صدق الميسور على إحرازه، و إحراز الملاك، على إحراز الأمر المتوقّف على صدق الميسور.

و بالجملة ليس المراد من المماثلة هو المماثلة في الملاك الذي هو أمر غيبي، بل المماثلة في الشئون الظاهرية بحيث يعد الباقي عرفاً انّه ميسور ذلك، كالتسعة بالنسبة إلى العشرة، لا الاثنين بالنسبة إليها.

ذكر سيدنا الأُستاذ انّ في الحديث احتمالات أربعة:

1. أن يراد من الميسور و المعسور، معسور الطبيعة و ميسورها.

2. أن يراد منهما، معسور الأجزاء، من الطبيعة و ميسورها.

3. أن يراد من الأوّل، معسور الطبيعة و من الثاني ميسور الأجزاء.

ص:626

4. عكس الاحتمال الثالث.

أقول: لا سبيل إلى الأخيرين بحكم وحدة السياق، فالأوضح هو الاحتمال الأوّل لو لم نقل انّ هنا احتمالاً خامساً و هو إرادة الجامع بين معسور الطبيعة و معسور الأجزاء أخذاً بإطلاق لفظ الميسور.

الحديث الثاني العلوي الثاني عبارة عن قوله (عليه السلام): «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»

و فيه احتمالات تستخرج من كون المراد من لفظ» كل «في كلا الموردين، العامّ الاستغراقي أو العام المجموعي.

و إليك الاحتمالات المفروضة في هذا المجال:

1. أن يراد من لفظة» كل «في كلتا الجملتين العام الاستغراقي.

2. أن يراد منهما العام المجموعي.

3. أن يراد من الصدر العام الاستغراقي و من الذيل العام المجموعي.

4. عكس الاحتمال الثالث.

لا شكّ انّ المعنى الأوّل، أعني: إرادة العام الاستغراقي من كلتا الفقرتين، أمر غير معقول، لأنّه إذا لم يتمكن من الإتيان بكلّ فرد و جزء من الواجب، فكيف يؤمر بأن لا يترك كلّ فرد و جزء منه، و هل هذا إلاّ كون الذيل مناقضاً للصدر؟ أمّا الثاني: أي إذا أُريد من كلتا الجملتين، العامُّ المجموعي، فهو أمر معقول بشرط أن يُفسَّر الذيل بعدم ترك المجموع لا بالإتيان بالمجموع، و معنى الحديث: إذا لم يمكن الإتيان بمجموع الأفراد أو الأجزاء فلا يترك المجموع بمعنى سلب

ص:627

العموم، و يحصل الامتثال بالإتيان ببعض الأفراد أو الأجزاء، لأنّه يصدق انّه لم يترك المجموع.

نعم لو فسّرنا النهي عن ترك المجموع بالإتيان بالمجموع كما عليه السيد الأُستاذ في تهذيبه و السيد الخوئي في مصباح الأُصول كان مفاده غير معقول(1) لأنّه إذا لم يتمكن من الإتيان بالمجموع كيف يؤمر بالإتيان به؟ و أنت خبير بأنّ النهي تعلّق بترك المجموع، أي لا تترك المجموع، و عدم تركه يحصل بالإتيان بالبعض; و أمّا تفسير النهي عن ترك المجموع بالإتيان به، فلا يدل عليه اللفظ بالدلالة العرفية.

و أمّا الثالث: أعني إذا أُريد من الصدر: العامُّ الاستغراقي، و من الذيل: العام المجموعي، فهو معنى معقول، أي إذا لم يمكن الإتيان بكلّ فرد أو جزء، فلا يترك مجموع الأفراد و الأجزاء.

و أمّا الرابع: أعني ما إذا أُريد من الأوّل العام المجموعي و من الآخر الاستغراقي، فهو أيضاً غير معقول، لأنّه إذا لم يتمكن من الإتيان بالمجموع فكيف يتمكن من عدم ترك كلّ واحد أو جزء؟ و ليعلم أنّ ملاك الامتناع جعل لفظة» كل «في الذيل لعموم الاستغراق، و على ذلك فالصورتان: الأُولى و الرابعة، باطلتان; و الثانية و الثالثة، مقبولتان. و لعلّ المتبادر هو المعنى الثالث، و هو صادق على ذي الأفراد وذي الأجزاء، بل ظهوره في ذي الأجزاء أوضح من ظهوره في ذي الأفراد، و ذلك لأجل لفظة» كل «، بما انّه مقابل للجزء.

ص:628


1- تهذيب الأُصول: 2/406; مصباح الأُصول: 2/480.
الإشكالات الواردة على الاستدلال بالحديث

ثمّ إنّه استشكل على الاستدلال بالحديث بوجهين:

1. عموم القاعدة للواجب و المستحب

إنّ عموم الموصول يقتضي شموله للواجب و المستحب، و على ذلك لا بدّ من حمل النهي في قوله:» لا يترك «على مطلق المحبوبية، فلا يدل على وجوب الإتيان بالباقي، بل يدل على رجحان عدم الترك.

يلاحظ عليه: بما ذكرنا في مبحث الأوامر من أنّ الوجوب و الحرمة خارجان من مداليل الأمر و النهي، فالأمر يدل على البعث، و النهي على الزجر، و أمّا كون البعث إلزاميّاً أو كون الزجر كذلك، أو غير إلزامي، فإنّما يستفاد من دليل خارج، فالعقل يدل على أنّ بعث المولى لا يترك بلا جواب فيحكم بلزوم الامتثال بالفعل في الأمر و الترك في النهي إلى أن يدل دليل على الرخصة فيهما.

و على ذلك فحمل النهي على رجحان عدم الترك لا يكون منافياً لوجوب الأجزاء الباقية أو الأفراد الممكنة، فلأنّه على كلّ تقدير مستعمل في مطلق البعث أو الزجر الشامل للواجب و المستحب.

و إن شئت قلت: إنّ الحديث ظاهر في أنّ ما يمكن من الأفراد و الأجزاء لا يترك بما له من الحكم، كما مرّ ذكره في تفسير قوله:» لا يسقط «.

2. ورود التخصيص الكثير عليها

إنّ الأصحاب لم يعملوا بها في غير باب الصلاة، فلا تكون سنداً إلاّ إذا عمل بها الأصحاب.

ص:629

يلاحظ أنّ الأصحاب عملوا بها في كتاب الطهارة، و الصلاة في مختلف أبوابها، و أمّا عدم العمل به في باب الصوم فلأنّه عمل بسيط يدور أمره بين الوجود و العدم و مثله لا يعد تخصيصاً في القاعدة.

ما هو الشرط لجريان القاعدة؟

ثمّ إنّه يشترط في جريان القاعدة، عدّ الميسور، ميسوراً للطبيعية، فتعد الجبيرة في بعض الأجزاء ميسوراً للوضوء و لا تعد الجبيرة في معظمها ميسوراً من غير فرق بين الموضوعات العرفية و الشرعية.

و أمّا دلالة العلويين على هذا، فلو قلنا بأنّ المراد هو ميسور الطبيعية و معسورها، فمعناه انّ للطبيعة فردين، ميسوراً و معسوراً، و كلاهما من مصاديقها.

و أمّا لو قلنا بالاحتمال الثاني، أي أجزاء المعسورة من الطبيعة و ميسورها منها، فلا وجه لاشتراط صدق الطبيعة على الميسور بل يكفي عدّ الميسور جزء من المعسور، لا مصداقاً له، و لكن بما أنّ القاعدة إرشاد إلى ما عند العقلاء من الإتيان بميسور المطلوب عند معسوره لا محيص عن شرطية صدق ميسور الطبيعة.

و أمّا العلوي الثاني فدلالته غير واضحة، لأنّ المراد من الموصول هو الشيء، و الضميران في لفظة » كلّه «في الموضعين يرجع إليه، و المعنى ما لا يدرك كلّ أجزاء الشيء فلا يترك كلّها، و اللازم كون المأتي به، من أجزاء المعسور، أمّا لزوم صدق الشيء عليه فلا. و يجري فيه ما ذكرناه في العلوي الأوّل من كونها إرشاداً إلى بناء العقلاء، فيحمل على ما إذا عدّ فرداً نازلاً للطبيعة.

و على ذلك فلو دلّ الدليل الخارجي على لزوم الإتيان و إن لم يصدق عليه ميسور الشيء المعسور كما في المسح على المرارة في رواية عبد الأعلى مولى

ص:630

آل سام(1)، أو دلّ على السقوط و إن عُدَّ ميسوراً عرفاً نأخذ به و إلاّ فلا يصحّ التمسّك بإطلاق القاعدة إلاّ فيما إذا صدق على المورد عرفاً انّه ميسوره، و مثلاً لا ينتقل إلى الصلاة قاعداً ما دام متمكناً من القيام، فلو دار الأمر بين القيام معتمداً على شيء، أو القيام غير مستقر، و بين القعود بلا اعتماد أو مع الاستقرار، يقدّم الأوّلان لأنّهما ميسورا القيام، و المرجع هو العرف.

التنبيه الرابع: في دوران الأمر بين الجزئيّة و المانعيّة...

إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته، و بين مانعيته أو قاطعيته، بمعنى انّا علمنا اعتبار شيء في المأمور به، و دار الأمر بين كون وجوده مؤثراً في الصحّة، أو كون وجوده مانعاً عنها، و قد تقدّم الفرق بين المانعية و القاطعية و قلنا إنّ الاعتبار الصحيح فيهما كون وجودهما مزاحمين لا اعتبار عدمهما.

و هذا كالجهر بالقراءة في صلاة الظهر يوم الجمعة لمن لم يصلّ الجمعة فدار أمر الجهر في الحمد بين كونه شرطاً للصحّة أو مانعاً عنها، و نظيره تدارك الحمد لمن نسيه بعد ما أتمّ السورة أو دخل فيها، حيث إنّ التدارك يدور أمره بين كونه شرطاً في الصحّة أو مانعاً عنها، فهل المقام من مجاري التخيير أي من قبيل دوران الأمر بين المحذورين فيأتي فيه كلّ ما قلناه في ذلك المقام من إجراء البراءة عن جميع المحتملات من الجزئية و الشرطية و المانعية و القاطعية، كما عليه الشيخ الأنصاري؟ أو من مجاري الاحتياط، أي من قبيل دوران الأمر بين المتباينين كدوران الواجب بين الظهر أو الجمعة، فيجري فيه الاحتياط كما عليه المحقّق الخراساني؟ و لنذكر دليل الشيخ فقد استدل بوجهين:

الأوّل: انّ العلم الإجمالي غير منجّز في المقام، لأنّ آية منجِّزيته لزوم المخالفة

ص:631


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5.

القطعية عند جريان الأصل، و المقام خارج عن تحت تلك القاعدة لعدم لزومها مع جريان أصل البراءة من جميع المحتملات، لأنّ الإنسان في صلاة واحدة لا يخلو من فعل و ترك و المخالفة القطعية غير ممكنة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الميزان في تنجّز العلم الإجمالي إمكان الاحتياط لا لزوم المخالفة القطعيّة، و هو أمر ممكن بتكرار الصلاة كما سيوافيك بيانه، و قد مرّ في بيان مجاري الأُصول أنّ الموضوع للتخيير هو عدم إمكان الاحتياط، لا عدم إمكان المخالفة، و قلنا هناك إمّا أن يلاحظ الحالة السابقة أو لا، و على الثاني إمّا أن لا يمكن الاحتياط أو يمكن، و على الثاني إمّا أن يكون في التكليف أو في المكلّف به، فالأوّل مجرى الاستصحاب، و الثاني مجرى التخيير، و الثالث مجرى البراءة، و الرابع مجرى الاحتياط فلاحظ.

الثاني: انّ المسألة مبنية على ما هو المختار في الأقل و الأكثر، فلو قلنا بالبراءة هناك، تجري البراءة في المقام، و إن قلنا بالاحتياط هناك فيكون المقام مثله و تعيّن الجمع بالاحتياط. قال) قدس سره (ما هذا لفظه:

التحقيق أنّه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشكّ في الشرطية و الجزئية و عدم حرمة المخالفة القطعية للواقع إذا لم تكن عملية، فالأقوى التخيير هنا و إلاّ تعيّن الجمع بتكرار العبادة.(2)

يلاحظ عليه: وجود الفرق بين المقامين إذ ليس هناك علم يأخذ شيء في المأمور به، و إنّما الموجود هو الشك، و هذا بخلاف المقام لوجود العلم بأخذ شيء فيه، إمّا بما أنّ وجوده مؤثر، أو بما أنّ وجوده مانع.

أمّا القول الثاني: فهو خيرة المحقّق الخراساني، و وجهه وجود العلم الإجمالي و إمكان الاحتياط بتكرار الصلاة و لكن بالتفصيل الآتي:

ص:632


1- الفرائد: 298 طبعة رحمة اللّه.
2- الفرائد: 298 طبعة رحمة اللّه.

1. إذا كان الواجب واحداً شخصياً و لم يكن له إلاّ فرد واحد، كما إذا ضاق الوقت و انحصر الثوب في النجس منه، فدار الأمر بين الصلاة عارياً إذا كان الستر المذكور مانعاً في هذه الحالة أو مع الثوب، إذا كان شرطاً، فالمرجع هو التخيير، لعدم إمكان الموافقة القطعية، و المخالفة القطعية بترك الصلاة غير جائزة، فلم يبق إلاّ الموافقة الاحتمالية و هي تحصل لكلّ واحد من الفردين.

2. إذا كانت الوقائع متعددة و لكن لم يكن لكلّ واقعة إلاّ فرد واحد، كما إذا دار أمر الجهر في صلاة الجمعة بين كونه شرطاً أو مانعاً. فالمرجع هو التخيير لكن تخييراً ابتدائياً لا استمرارياً، لانتهاء التخيير الاستمراري إلى المخالفة القطعية و قد تقدّم حكمه.

3. إذا كانت الوقائع متعددة و للواجب أفراد طولية، كدوران الأمر بين التمام و القصر للشكّ في كون الركعتين الأخيرتين شرطاً أو لا، للشكّ في جزئيتهما و مانعيتهما، فالمرجع هو الاحتياط بتكرار الصلاة.

ص:633

خاتمة في شرائط جريان الأُصول

اشارة

و قبل الخوض في المقصود لا بدّ من تفسير العنوان، و هو انّ الشرط في مورد الأُصول على قسمين:

تارة يكون شرطاً لجريان الأصل بحيث لولاه لما يكون المورد مجرى له، و هذا كالفحص عن البيان الشرعي الذي لولاه لما تجري البراءة العقلية و النقلية، إذ لا يصدق الموضوع أي العقاب بلا بيان، بلا مخصص.

و أُخرى يكون شرطاً للعمل بالأصل، و هذا كعدم التعارض في العمل بالأصل، فالعمل بالأصل المسببي مشروط بعدم وجود أصل سببي آخر.

و ما عن المحقّق المشكيني من جعل الفحص عن البيان شرطاً للجريان في البراءة العقلية و شرطاً للعمل في البراءة الشرعية، غير تام، لأنّ الدليل المهم للثانية هو حديث الرفع، أعني قوله:» ما لا يعلمون « و لا يصدق قوله إلاّ لغير المتمكن من تحصيل العلم، أعني: الحجة الشرعية لا المتمكن فانّ العالم بالقوة بحيث إذا رجع علم، لا يعدّ غير عالم.

إذا علمت ذلك فتارة نبحث عن شرائط جريان الاحتياط، و أُخرى عن شرائط سائر الأُصول.

أمّا الاحتياط فلا شكّ انّه حسن، لكونها مجاهدة في طريق درك الحقّ و العمل به و العقل حكم بحسنه في العبادات و المعاملات لكن بشرطين:

ص:634

1. عدم استلزامه اختلال النظام و إلاّ يصبح أمراً مبغوضاً لا حسناً.

2. عدم مخالفته لاحتياط آخر، و إلاّ لا يصدق عليه عنوان الاحتياط.

و أمّا موارده فتحصر في المواضع التالية:

1. الاحتياط المطلق في الشبهات و إن لم يكن في المورد علم إجمالي و لا حجّة شرعية.

2. الاحتياط فيما إذا كان في المورد علم إجمالي.

3. الاحتياط فيما إذا كان في المورد حجّة شرعية.

ثمّ إنّه لا فرق في الاحتياط في العبادات بين ما يتوقف على التكرار و عدمه، لما عرفت من أنّ الاحتياط بنفسه أمر حسن، لأنّ الهدف إحراز الواقع على ما هو عليه ما لم يستلزم الاختلال في النظام، بل لم يستلزم العسر و الحرج و لم يكن مخالفاً للاحتياط الآخر، و على ذلك فللعامي أن يترك التقليد و الاجتهاد و يعمل بالاحتياط في العبادات و المعاملات.

و ربما يمنع عن الاحتياط مطلقاً لأنّه مفوِّت لقصد الوجه و التمييز من غير فرق بين كونه مستلزماً للتكرار و عدمه.

يلاحظ عليه: أنّ الواجب في العبادات هو قصد الأمر، بل إتيان الفعل للّه سبحانه، و كلاهما حاصلان في العمل بالاحتياط في العبادات، لأنّه يأتي مثلاً بالتسبيحة الثانية أو الثالثة في الركعتين الأخيرتين للّه سبحانه أو لأمره المحتمل. و هكذا يأتي بالصلاة الثانية إذ دار الأمر بين القصر و الإتمام لذلك الغرض، و إنّما الفائت هو الإتيان بالفعل بوصف وجوبه أو لغايته و هو أمر ليس بواجب.

ص:635

في شروط جريان البراءة

اشارة

يقع الكلام في تحقيق شروط جريان البراءة العقلية في مواضع ثلاثة:

الأوّل: في لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي قبل التمسّك بها.

الثاني: في استحقاق تارك الفحص العقاب و عدمه.

الثالث: في صحّة عمل تارك الفحص إذا وافق الواقع.

الموضع الأوّل: في لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي
اشارة

اتّفقت كلمتهم على لزوم الفحص في جريان البراءة العقلية و النقلية، أمّا البراءة العقلية فقد استدل على لزوم الفحص بوجوه نذكر منها وجهين:

الوجه الأوّل: عدم استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان إلاّ بعد الفحص و اليأس من الظفر بالحجّة.

توضيحه: أنّ البيان الرافع لقبح العقاب بلا بيان ليس هو وجود البيان عند اللّه سبحانه أو عند حججه ) عليهم السلام (، بل المراد هو البيان الواصل إلى المكلّف هذا من جانب، و من جانب آخر ليس المراد من الوصول هو وصوله إلى كلّ واحد شخصاً، بل المراد وجوده في مظان البيان بحيث لو رجع إليها لعثر عليه، كما هو حال السيد بالنسبة إلى عبده و الحكومات بالنسبة إلى شعوبها في الوقوف على تكاليفهم و وظائفهم أمام السيد و الدولة، و عند ذلك يكفي وجود البيان عند الرواة

ص:636

و حملة العلم أو الكتب و الجوامع الحديثية التي حفظت بيان الشارع) أوامره و نواهيه (.

و إن شئت قلت: إنّ تنجّز التكليف رهن أحد أمرين:

1. العلم بالتكليف 2. احتمال العثور على التكليف في مظانّه، و على ضوء ذلك فلا يكون الجهل عذراً إلاّ إذا رجع إليها و لم يعثر على البيان، قال سبحانه: (لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ). (1)فقبل الفحص عن الحجّة، فالمولى هو صاحب الحجّة على عبيده، و بعد الفحص و عدم العثور عليه ينقلب الأمر و يحتج العبد على مولاه.

و إن شئت فعبّر بعبارة ثالثة: انّ المراد من البيان هو البيان الصالح لقطع العذر في وجه العبد لمخالفته للتكليف، و ليس هو إلاّ وجود البيان على نحو لو تفحّص عنه لعثر عليه، و هذا النوع من البيان قاطع لعذر المكلّف في مخالفة التكليف. و لا يعلم وجود العذر و عدمه إلاّ بالفحص عن مظانّه.

الوجه الثاني: ما استدل به المحقّق الاصفهاني و قال: إنّ الاقتحام في المشتبه مع أنّ أمر المولى و نهيه لا يعلم عادة بالفحص خروج عن رسم العبودية و زي الرقية.

و الفرق بين البيانين واضح، لأنّ الباعث إلى الفحص، في البيان الأوّل هو نفس التكليف الواقعي إذا احتمل انّه يعثر عليه إذا فحص، و على الثاني الباعث هو انّ الاقتحام في المشتبه قبل الفحص ظلم و تعد على حقّ المولى فيجب الانتهاء عنه.

ثمّ لو خالف الواقع فالعقاب على البيان الأوّل عقاب التكليف، و على

ص:637


1- النساء: 165.

البيان الثاني العقاب على نفس التجرّي و تحقّق عنوان الظلم.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الحكم الواقعي في صورة احتمال وجوده إمّا منجّز أو لا، فعلى الأوّل فالباعث هو احتمال التكليف و صحّة العقاب عليه لا على كون الاقتحام بلا فحص ظلماً، للإجماع على أنّ المعصية الواحدة ليست لها إلاّ عقاب واحد، و على الثاني لا وجه لانطباق الظلم عليه إذ لا تكون مخالفة الحكم الواقعي الشأني ظلماً حتى يعاقب عليه.

هذا كلّه في الشبهات الحكمية، و أمّا الموضوعية، فالمشهور انّ التمسّك بها ليس رهناً للتفحص، فلو دار أمر المائع بين كون خلاً أو خمراً يجوز ارتكابه بلا فحص و إن انتهى إلى شرب الخمر.

و احتجّوا عليه بأنّ الاحتجاج فرع ثبوت الصغرى و الكبرى، و الثانية و إن كانت متحقّقة أي تعلم انّ كلّ خمر حرام و لكن الصغرى غير محرزة فلا يحتج بالكبرى المجرّدة عن الصغرى.

يلاحظ عليه: أنّ الاحتجاج و إن كان فرع إحراز الصغرى، لكنّه لو كان إحرازه أمراً سهلاً غير موجب للعسر و الحرج يصحّ الاحتجاج بالصغرى التي لو تفحص عنها لعثر عليها.

و لذلك أفتى الأصحاب بلزوم الفحص في بعض الشبهات الموضوعية حتى أنّ الشيخ استثنى الموارد الثلاثة: الدماء و الأعراض و الأموال، كما أنّ الفقهاء أفتوا بوجوب الفحص في الموارد التالية:

1. إذا شكّ في مقدار المسافة هل هي مسافة شرعية أو لا؟ 2. إذا شكّ في بلوغ الأموال الزكوية إلى حدّ النصاب.

ص:638


1- نهاية الدراية: 2/305 بتصرّف يسير.

3. إذا شكّ في زيادة الربح على المئونة حتى يخمس.

4. إذا شكّ في حصول الاستطاعة إلى الحجّ.

5. إذا شكّ في مقدار الدين مع العلم بضبطه في السجل إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع في الفقه، فالأولى لزوم الفحص في التمسّك بالبراءة العقلية في الشبهات الحكمية و الموضوعية معاً إلى حدّ لا ينتهي إلى العسر و الحرج أو المشقة و ربما يظهر من بعض الروايات انّ الأمر في باب الطهارة و النجاسة سهل.

في شرط جريان البراءة النقلية

اتّفقت كلمتهم على أنّه لا مجال للبراءة النقلية موضوعاً قبل الفحص و إن اختلفوا في كيفية إقامة الدليل، و نحن نقدّم ما هو الأمتن من الأدلّة:

الأوّل: ترك الفحص و لغوية بعث الرسل

إنّ العقل مستقل بلزوم بعث الرسل و إنزال الكتب، إذ لو لا البعث، لبقي الإنسان في تيه الضلال و لم يتحقق غرض الخلقة، فلو وجب على اللّه سبحانه بعث الرسل من باب اللطف، وجب على الناس سماع كلامهم بعد ثبوت نبوّتهم بالطرق المألوفة، و لو جاز الإعراض عنهم، لكان البعث لغواً، و عادت الخلقة سدىً، تعالى عنه سبحانه قال: (أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) (1)و قال سبحانه: (فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ) (2)و قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ). و على ذلك فقد أتم سبحانه

ص:639


1- المؤمنون: 115.
2- البقرة: 213.

ببعث الرسل الحجّة على العباد، فلا عذر لهم في ترك ما أمروا به، و فعل ما نهوا عنه، فهو سبحانه يحتج عليهم بما بلّغه أنبياءهم و رسلهم، فليس لهم الصفح عن تلك الحجج بترك التعلم و الفحص عن الحكم الشرعي و التمسك بإطلاق قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون «أو:» انّ الناس في سعة ما لا يعلمون «من غير فرق بين مَنْ لم يتعلم شيئاً، أو تعلم أشياء و شكّ في مورد خاص، فلا محيص عن إنكار الإطلاق أو انصرافه إلى ما بعد الفحص، و إلاّ يلزم الأمر بأمرين متنافيين فمن جانب يأمر الرسل، بالتبشير و الإنذار، و من جانب يرخّص في ترك التعلم و يعدُّ جهل العباد عذراً لهم و لا محيص في مقام الجمع عن حمل الحديثين و ما أشبهها، على ما إذا تفحّص و لم يعثر على شيء، فبما أنّه أدّى الوظيفة، فلو كان هناك بيان فهو معذور في تركه، لأنّه سبحانه رفع عن الأُمّة ما لا يعلمون، و لم يلزمهم بالاحتياط.

و إن شئت قلت: إنّ حديث الرفع و أمثاله، حديث امتنان، فأيّ امتنان للجاهل بالإذن له في البقاء على الجهل؟ أ ليست الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد، و إقرار الجاهل على جهله، مفوّت للمصلحة أو موقع له في المفسدة؟ و لأجل ذلك لا مناص من القول بانصراف أدلّة الأُصول كلّها عن مثل المتمكن من التعلم.

الثاني: المورد قبل الفحص شبهة مصداقية

إنّ المراد من» عدم العلم «المأخوذ موضوعاً في لسان أدلّة البراءة ليس العلم المنطقي، أعني: الاعتقاد الجازم، بل المراد الحجّة، كما هو الحال في لفظ» اليقين «، الوارد في أدلّة الاستصحاب فالمعنى رفع عن أُمّتي ما لم تقم الحجّة عليه، و من المعلوم أنّ الحجّة هو الكتاب و السنّة، فإذا لم يرجع إليهما مع التمكن، يكون المورد شبهة مصداقية لأدلّة البراءة، لأنّه يشك في كونه ممّا قامت به الحجّة أم لم تقم، و منه

ص:640

يظهر حال سائر الأدلّة، أعني قوله:» إنّما يحتج على العباد ما آتاهم و عرفهم «، و قال:» كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي «، فإذا احتمل وجود التعريف في الكتاب و ورد النهي في السنّة، يكون التمسك بأدلّة البراءة من قبيل التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقية.

و لعلّ في هذين الدليلين غنى و كفاية عن سائر الأدلّة، و إن شئت التوسّع فاستمع لما يلي.

الثالث: ما دلّ على وجوب السؤال فيما لا يعلم

دل الذكر الحكيم على لزوم السؤال عند عدم العلم، لا الصفح عنه قال سبحانه: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1)و الآية ضابطة كلية جارية في حقلي العقائد و الأحكام، و ما روي في شأن نزولها ليس بمخصص لها ككون المورد، علائم النبي الخاتم، كما أنّ ما ورد في تفسير أهل الذكر من أنّ المراد أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (لا ينافي الاستدلال بها على المقام، لأنّ تفسيرها بهم من باب الجري و التطبيق، لا الحصر، و الحاصل أنّ وظيفة الجاهل هي السؤال لا الثبات على الجهل، و الرجوع إلى العالم، لا إلى البراءة، و الفحص عن الدليل الاجتهادي، داخل في الآية، لأنّه سؤال عن أهل الذكر و الحجج.

الرابع: ما دلّ على وجوب التعلم في الروايات

هناك قسم وافر من الروايات يدل على لزوم التعلم، و المقام لا يسع بنقل جميعها، فلنقتصر على بعضها:

1. روى الفضلاء من أصحاب الإمام الصادق عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (، أنّه

ص:641


1- الأنبياء: 7.

قال لحمران بن أعين في شيء سأله:» إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون «.(1)

2. روى ابن أبي عمير عن محمد بن سكين و غيره، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابة و هو مجدور فغسّلوه فمات، فقال:» قتلوه، ألاّ سألوا ألاّ يمّموه، شفاء العي السؤال «.(2)

3. ما ورد في تفسير قوله سبحانه: (فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (3)عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد) عليهما السلام (يقول: إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي كنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له:

أ فلا عملت بما علمت، و إن قال: كنت جاهلاً، قال: أ فلا تعلّمت حتى تعمل فيخصمه، فتلك الحجّة البالغة.(4)

الخامس: ما دلّ على أنّ الواجب هو السؤال في خصوص الشبهة الحكمية

يظهر من الروايات الواردة حول الشبهة الحكمية أنّ وجوب السؤال كان أمراً مفروغاً عنه عند أهل البيت، و قد ذكرنا قسماً منها عند البحث في أدلّة الأخباريين، و قد جمعها الشيخ الحرّ العاملي في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي.

منها: ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا الحسن عن رجلين أصابا صيداً و هما محرمان، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء إلى أن قال:» إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا فتعلموا «.(5)

و فيما ذكر من الأدلة غنى و كفاية و بعد هذا، لا حاجة إلى الاستدلال

ص:642


1- الكافي: 1/40، الحديث 2.
2- الكافي: 3/68، الحديث 5.
3- الأنعام: 149.
4- البرهان في تفسير القرآن: 1/560، الحديث 2.
5- لاحظ الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 3، 31، 43، 49.

بالإجماع مع احتمال أنّ مصدر المجمعين هو ما ذكرنا من الأدلّة، و لا إلى الاستدلال بالعلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية، و معه لا يجوز الرجوع إليها، و قد أورد عليه بأنّه أخصّ من المدعى، لأنّه لا يثبت وجوب الفحص بعد انحلاله مع أنّ المدّعى هو الفحص في مورد الشبهة البدئية حتى بعد انحلال العلم الإجمالي.

و بعبارة أُخرى: أنّ مورد ما ذكر من الدليل، هو العلم الإجمالي بأصل التكليف و معه لا يجري البراءة، إلى أن ينحل العلم الإجمالي، و معه لا يكون له أيّ أثر، لانعدامه، و المدّعى هو الفحص الثاني في الشبهات الحكمية الطارئة بعد انحلاله، و لزومه يحتاج إلى دليل آخر.

وجوب الفحص في الأصلين: التخيير و الاستصحاب

لا شك أنّ التخيير أصل عقلي للمتحيّر الذي لا حيلة له، و من له حيلة لرفع التحيّر فلا يستقل العقل فيه بالتخيير.

و أمّا الاستصحاب فهو أصل مجعول في حقّ الشاك و أدلّته منصرفة إلى الشكّ المستقر لا الزائل بالمراجعة و الفحص، وعليه استقرت سيرة العلماء.

مضافاً إلى ما ذكر من الأدلّة على لزوم السؤال و التعلّم فانّها تعمّ موارد الأصلين.

مقدار الفحص

و هل يجب الفحص إلى أن يحصل اليقين لعدم الدليل أو يكفي الاطمئنان أو يكفي الظن؟ لا سبيل إلى الأخير، لأنّه لا يُغني من الحقّ شيئاً، و الأوّل مستلزم للعسر و الحرج، فتعيّن الثاني.

ثمّ إنّ الفحص صار في الأزمنة الأخيرة أمراً سهلاً بعد جمع الروايات

ص:643

و تبويبها على وجه يسهل للمستنبط الوقوف على الدليل الاجتهادي بعد الرجوع إلى مظانّه في الكتب الحديثية، و إذا ضمّ إلى هذا تتبع المجتهدين بعد تأليف الكتب الأربعة و غيرها و اعترافهم بعدم العثور على الدليل لحصل الاطمئنان بعدمه في مظانه.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بعد ما فرغ من لزوم الفحص عن الدليل، قال ما هذا لفظه:» و لا بأس بصرف الكلام في بيان بعض بالعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة و الأحكام و مراده انّه بقي هنا بحثان و هما:

1. إذا ترك الفحص فهل يعاقب أو لا؟ 2. صحّة عمل الجاهل التارك للفحص.

و هذان البحثان هما الموضع الثاني و الثالث اللّذين أشرنا إليهما في صدر المقام، و إليك الكلام فيهما.

الموضع الثاني: في عقوبة تارك الفحص
اشارة

إذا ترك الجاهل الفحص فهل يعاقب مطلقاً أو لا يعاقب، أو يفصل بين مخالفة الواقع المنجّز و عدمه؟ فلنذكر صور المسألة:

الأُولى: إذا ترك الفحص و اقتحم الشبهة و لم يكن مؤدِّياً إلى مخالفة الواقع.

الثانية: لو ترك الفحص و اقتحم الشبهة و أدّى إلى مخالفة الواقع، و كان في المورد دليل لو تفحص عنه لعثر عليه.

الثالثة: تلك الصورة، و لكن لو تفحّص عنه لم يقف عليه.

الرابعة: نفس الصورة أيضاً لكن لو تفحّص لوقف على ما يضادّ الواقع.

الخامسة: تلك الصورة، لكن إذا تفحص عن دليل المورد لم يقف عليه، لكن

ص:644

وقف على دليل مسألة أُخرى. كما إذا ترك الشاك في حكم التدخين و شربه، و لكنّه لو تفحص عنه لوصل إلى دليل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال الذي كان مغفولاً عنه في هذه الحالة.

و إليك بيان أحكام الصور:

أمّا الصورة الأُولى: فخارجة عن موضوع البحث، لأنّ الكلام فيما إذا ترك الجاهل الفحص و أدّى إلى مخالفة الواقع، و المفروض في هذه الصورة عدمها.

نعم يكون عمله تجرّياً، و لو قلنا بعقاب المتجري يكون معاقباً و إلاّ فلا.

أمّا الصورة الثانية: فلا شكّ أنّه يصحّ العقاب، لأنّه خالف الواقع بلا عذر، بل خالفه مع وجود الحجّة من جانب المولى على العبد لتمامية البيان الواصل عنه، و إنّما قصر العبد في الوصول إليه، و يكفي هذا في تصحيح العقاب، و كونه جاهلاً بالمخالفة عند العمل لا يعدّ معذوراً.

و إن شئت قلت: إنّ الواقع كما يتنجز بالعلم كذلك يتنجز بالاحتمال قبل الفحص، و ليس التنجز من خصائص العلم، بل يكفي في ذلك احتمال العثور على الدليل إذا تفحص عنه، فما في الأفواه من أنّ التنجّز من شئون العلم فمحمول على الغالب أو على ما بعد الفحص.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني طرح سؤالاً و هو كون المخالفة مغفولة حين العمل؟ فأجاب عنه بأنّها منتهية إلى الاختيار و هو كاف في صحّة العقوبة.

يلاحظ عليه: أنّ البحث في الجاهل الملتفت، التارك للفحص، فكيف تكون المخالفة مغفولة؟ نعم المخالفة ليست قطعية و إنّما هي محتملة، و يكفي في كونه منجزاً قبل الفحص، فالإشكال غير وارد حتى يحتاج إلى الجواب.

و أمّا الصورة الثالثة، و الرابعة: فالظاهر عدم العقاب على نفس مخالفة الواقع لأنّ المفروض أنّه لو تفحص لم يقف على الدليل، أو وقف على ما يؤدي إلى خلاف

ص:645

الواقع.

و قد عرفت أنّ العقاب فرع البيان الواصل، و المفروض أنّه لم يكن كذلك.

فإن قلت: إنّه ترك الواقعة بلا عذر و لا حجّة، و كون المقام خالياً عن الدليل، أو وجود الدليل المخالف للواقع لا يعد عذراً ما لم يستند إليه المكلّف.

قلت: ليس العقاب مترتباً على مطلق ترك الواقع بلا عذر، بل هو مترتب على ترك الواقع المنجز، و هو رهن وجود البيان الواصل، و المفروض عدمه، و بالجملة كونه معذوراً في نفس الأمر لأجل عدم البيان الواصل يكفي في معذوريته عند العقلاء.

نعم كان سيدنا الأُستاذ غير جازم بكون العذر الواقعي المغفول عنه، غير الملتفت إليه رافعاً للعقاب، و لكن الرائج بين العقلاء هو المعذورية، و قد ذكر الشيخ في مبحث التجري ما يفيد المقام، حيث قال: إنّ عدم العقاب لأجل أمر غير اختياري ليس بقبيح و إنّما القبيح هو العقاب لأمر اختياري.(1)

و أمّا عدم التفاته إلى ذلك، أو عدم استناده إليه فإنّما يحقّق عنوان التجري، و هو خارج عن موضوع بحثنا.

و أمّا الصورة الخامسة: فالحقّ صحّة العقوبة لتمامية البيان في المورد الذي خالفه و قد كان بيان المولى فيه تاماً، أعني: وجوب الدعاء عند رؤيته لأنّه خالف الواقع عن اختياره لافتراض أنّه لو فحص لوصل إلى ذلك البيان.

نعم لا يصحّ العقاب بالنسبة إلى التدخين الذي لم يكن هناك بيان واصل.

ص:646


1- الفرائد: 5.
في المقدمات المفوِّتة

ثمّ إنّ هنا إشكالاً معروفاً و هو: انّ التكاليف المشروطة و الموقتة إنّما تتنجز بعد تحقّق الشرط و حصول الوقت، و لا تكون المقدمة العلمية أعني الفحص واجباً إلاّ بعد حصول الشرط، فلو افترضنا أنّ المكلّف لم يتعلم قبل الوقت لعدم وجوب المقدمة، و لم يتمكن عنه بعد وجوبه فيلزم عدم صحّة العقاب مع أنّه على خلاف ما اتّفقوا عليه، نظير ذلك أحكام الشكوك حيث لم يقم دليل على تعلّم أحكامها قبل الوقت لعدم وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، و أمّا بعد دخوله و وجوب ذيها فربما لا يتمكن خصوصاً إذا دخل الصلاة.

و أمّا الجواب فبوجوه:
الوجه الأوّل: نختار انّ التعلم لو قلنا بوجوب المقدمة واجب قبل حصول الشرط،

و ذلك لأنّ كون وجوب المقدمة تابعاً لوجوب ذيها ليس بمعنى ترشح وجوبها عن وجوبه، أو ترشح تعلّق الإرادة بها عن إرادته، بل لكلّ من الوجوبين و الإرادتين مباد و مقدمات بها يتكون وجوبهما و إرادتهما، و على ذلك فلو وجدت المبادئ في مورد المقدمة قبل الوقت يحكم بوجوبها سواء وجب ذوها أم لا، و المقام من هذا القبيل، فانّ المولى لما وقف على توقف امتثال الواجب المشروط على الفحص قبل حصول الشرط، و أنّ ترك التعلم يوجب سلب القدرة عنه حال تحقّق الشرط، تنقدح في نفسه إرادتها و إيجابها، و إن لم تكن تلك المبادئ موجودة في ذيها. و لا يراد من الملازمة تحقّق الإرادتين أو الوجوبين في زمان واحد مثل الزوجية و الأربعة، بل المقصود عدم جواز التفكيك بينهما في مجال الطلب و الإرادة فلو تقدم طلب أحدهما على طلب الآخر لا تنثلم به الملازمة.

الوجه الثاني: حكم العقل بوجوب التعلم و إن لم يتعلق به الوجوب شرعاً

ص:647

لاستقلال العقل بذلك، فلو ترك أو تساهل في التعلم و انتهى إلى ترك الواجب يعدُّ مقصراً في مجال المولوية و العبودية، و لأجل ذلك أفتى الفقهاء بوجوب تعلّم أحكام الشكوك المتعارفة التي تعم بها البلوى.

و بالجملة المقدمات المفوِّتة لغرض المولى يحكم العقل بوجوب تحصيلها و إن لم تكن واجبة شرعاً، لأنّ حفظ غرض المولى ليس بأقل من حفظ غرض العبد فكما هو يقدم على المقدمات المفوتة في محلها فكذلك في أغراض المولى.

و لذلك يجب على الجنب، الغسل قبل الفجر لأجل عدم إمكان درك الفجر بالطهارة إلاّ بالإتيان به قبل وجوب ذيه، كما أنّه يجب السير إلى الحج قبل الموسم لأجل عدم إمكان امتثال أمر المولى إلاّ بالسير قبله، ففي جميع تلك الموارد يحكم العقل بلزوم تحصيل المقدمة المفوتة.

هذان الجوابان موافقان للتحقيق غير أنّ الجواب الأوّل مبني على وجوب المقدمة، دون الثاني فأنّه يمشي و إن لم تكن المقدمة واجبة.

الوجه الثالث: إرجاع الواجب المشروط إلى المعلّق

و حاصل هذا الوجه، هو إرجاع الواجب المشروط إلى الواجب المعلّق الذي يكون الوجوب فيه فعلياً و الواجب استقبالياً.

و على ذلك فوجوب صلاة الظهر قبل دلوك الشمس فعلي و إن كان الواجب استقبالياً، كما التزم بعضهم به في الحجّ و أنّ الوجوب قبل موسم الحجّ فعلي و إن كان الواجب استقبالياً، و على ذلك يجب تحصيل المقدمات لكون الوجوب فعلياً.

فإن قلت: إرجاع الواجب المشروط إلى الواجب المعلق، يوجب لزوم تحصيل عامة المقدمات قبل الوقت، سواء كانت المقدمة علمية كالتعلم، أو وجودية

ص:648

كالستر و الطهارة الخبثية و الحدثية، إلى غير ذلك من المقدمات الوجودية.

قلت: إنّ الواجب المعلق عبارة عن كون الوجوب فيه فعلياً و الواجب استقبالياً، و لزوم تحصيل المقدمات قبل الوقت، تابع لكيفية دخلها في الملاك، فتارة تكون دخيلاً فيه بنحو التحصيل، و أُخرى بنحو الحصول، ففي الأوّل يجب التحصل دون الثاني، و لذلك يجب التعلّم و لا يجب سائر المقدمات.

و إلى ما ذكرنا من الإشكال و الجواب يشير المحقّق الخراساني بعبارته التالية: و لكنّه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية عقلاً بالوجوب قبل الشرط أو الوقت، غير التعلم فيكون الإيجاب حالياً و إن كان الواجب استقبالياً قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه) كالاستطاعة (و لا غير التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته.(1)

يلاحظ على هذا الجواب: انّه على خلاف ظاهر الأدلّة فقوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) (2)فالمتبادر دخول تعلّق الوجوب بدلوك الشمس، و انّه لا وجوب قبل الدلوك كما هو المتبادر من آية الصوم: (كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ).(3)

الوجه الرابع ذهب المحقّق الأردبيلي و تلميذه إلى أنّ وجوب التعلم واجب نفسي تهيئي،

و بهذا تخلص عن الإشكال في الواجب المشروط، فوجوب التعلّم ليس وجوباً

ص:649


1- كفاية الأُصول: 2/259.
2- الاسراء: 78.
3- البقرة: 187.

مقدّمياً حتى يتبع حدوثاً و بقاءً حدوث وجود ذيها، بل واجب نفسي، غاية الأمر المطلوب تهيّؤ المكلّف للعمل بالأحكام، و على ذلك فالعقاب على ترك التعلم فانّ المستتبع للعقاب إنّما هو ترك الواجب النفسي لا ترك الواجب الطريقي و عندئذ يرتفع الإشكال.

يلاحظ عليه بوجوه:

1. انّ القول بأنّ التعلّم واجب نفسي تهيئي جمع بين الضدين، إذ لو كان الملاك قائماً به فلما ذا وصف بأنّه تهيئي للغير؟ و إن لم يكن الملاك قائماً به، فلما ذا يكون واجباً نفسياً؟ فإن قلت: إنّ صلاة الظهر واجب نفسي و في الوقت نفسه مقدمة لصحّة صلاة العصر.

قلت: إنّ صلاة الظهر بما هي هي واجب نفسي فقط، نعم تقدّم صلاة الظهر على صلاة العصر مقدمة لصحّة الصلاة الثانية، فما هو الموضوع للوجوب النفسي، غير الموضوع للوجوب المقدّمي بخلاف المقام فانّ التعلم بما هو هو واجب نفسي، و في الوقت نفسه تهيئي.

2. لو ترك الفحص و خالف الواقع مع وجود البيان الواصل فالقول بأنّ العقاب لترك السؤال و التعلم دون مخالفة الواقع، بعيد جداً، و القول بالعقابين أبعد، فلا محيص عن كون العقاب على ترك الواقع و مخالفته المنجز بمجرّد احتمال وجود البيان الواصل.

3. انّ ما ذكراه مخالف لظهور الأدلّة و قد مضى قوله) عليه السلام (في تفسير قوله تعالى: (فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) انّه يقال للعبد هل علمت؟ فإن قال: نعم. يقال: فهلاّ عملت؟ و إن قال: لا. قيل هلا تعلّمت حتى تعمل؟ إلى غير ذلك من الروايات التي مرّ ذكرها، التي تنادى بوضوح كون العلم مقدمة للعمل نعم معرفة

ص:650

اللّه و صفاته و أفعاله، خارجة عن الموضوع فانّها واجبة عقلاً و المطلوب فيها هو العقيدة.

الموضع الثالث: في صحّة عمل تارك الفحص
اشارة

عنوان البحث يعرب عن اختصاصه بالمجتهد الذي عمل بالأصل قبل الفحص، فهل يحكم على عمله بالصحة أو لا، أو فيه تفصيل؟ و لكنّ ملاكه يعمّ المقلِّد الذي عمل بلا تقليد و لا احتياط. و قد طرح السيد الطباطبائي كلا العنوانين في كتابه العروة الوثقى في أحكام التقليد في المسألة السابعة، غير أنّه خصّها بما إذا لم ينكشف الخلاف، كما خصّ المسألة السادسة عشرة بما إذا انكشف الخلاف، و المقصود في المقام هو ما إذا انكشف الواقع، لأنّ حكم الموضوع قبل الانكشاف واضح، و هو أنّه لا يصحّ له أن يقتصر بما عمل بحكم العقل، لعدم المُؤمِّن من العقاب، و هذا هو المراد من حكم السيد الطباطبائي على عمله بالبطلان.

ثمّ الصور المتصورة فيما إذا انكشف الخلاف أربع:

الصورة الأُولى إذا انكشف أنّ العمل كان مخالفاً لفتوى من يجب الرجوع إليه حين العمل و فتوى من يجب عليه الرجوع فعلاً،

فيحكم بالبطلان لعدم الدليل على الصحّة، فيجب تحصيل المؤمِّن من العقاب، و لا يحصل إلاّ بتطبيق العمل على الحجّة الفعلية.

الصورة الثانية إذا كان العمل موافقاً لفتوى من كان عليه الرجوع حين العمل، و فتوى من يجب عليه الرجوع فعلاً

ص:651

و ذلك لموت الأوّل و تعيّن الرجوع إلى المجتهد الحي فيحكم بالصحة، كما في المعاملات مطلقاً، و في العبادات إذا تمشّت منه القربة، لأنّ الصحّة في الأُولى رهن المطابقة، و في الثانية كذلك بشرط حصول قصد القربة.

الصورة الثالثة أن يكون العمل موافقاً لفتوى من كان الرجوع إليه واجباً حين العمل، و مخالفاً لفتوى من يجب عليه الرجوع فعلاً،

ففيه وجهان:

الأوّل: الصحّة، لكونه موافقاً لرأي من كان الرجوع إليه واجباً، لأنّها تدور على موافقة العمل للواقع و الكاشف عنها رأي المجتهد آنذاك.

الثاني: البطلان، و ذلك لأنّ الحكم بالصحة فرع الاستناد إلى الحجّة الشرعية حين العمل حتى يدخل في معقد الإجماع على صحّة عمل العامي المستند لرأي المفتي فلا يضرّه تبدل رأيه أو موته و رجوعه إلى من يخالفه في الرأي، لوجود الإجماع على الإجزاء و المفروض أنّه لم يستند إليه، حتى يدخل في معقد الإجماع، و انحصر الطريق إلى كشف الموافقة و المخالفة في رأي المجتهد الحيّ، أعني: من يجب عليه الرجوع، و المفروض أنّ العمل حسب نظره باطل، فلا بدّ من تطبيق العمل على وفق رأيه.

و بذلك يعلم حكم ما إذا فاتت فريضة الإنسان و أراد القضاء، فانّه يجب عليه تطبيق العمل على رأي من يجب الرجوع إليه حين القضاء، لا على رأي من كان عليه الرجوع حين الفوت، و ذلك لأنّ الفائت و إن كان هو الواجب الواقعي إلاّ أنّ الطريق إليه هو رأي المجتهد الحي، لا رأي من مضى و تُوفِّي فانّه ليس بحجّة.

ص:652

الصورة الرابعة عكس الثالثة،

فيحكم على العمل بالصحة لقيام الطريق على كون العمل مطابقاً للواقع.

و بذلك يعلم حكم المجتهد، فإذا كان عمله مطابقاً لما استنبطه من الحكم بعد العمل فيحكم بالصحة دون ما إذا كان مخالفاً له.

و ما ذكرنا هو الضابطة في الحكم بالصحة و البطلان لكن اتّفق الأصحاب على صحّة عمل الجاهل في موضعين إذا خالف الواقع و عدم جواز الإعادة مع الحكم بالعقاب.

1. الإتمام موضع القصر دون العكس.

2. الجهر في موضع المخافتة و بالعكس.

فوقع الكلام في كيفية الجمع بين الصحّة و استحقاق العقاب، فانّ الحكم بالصحّة، آية القبول و لا معنى معه للعقاب.

و بعبارة أُخرى، انّ الجمع بين عدم الإعادة و القضاء، و استحقاق العقاب، جمع بين المتناقضين، لأنّ الحكم بالأوّل دليل على أنّ العمل واف بالمصلحة الفائتة الكامنة في العمل بالواقع، و لذلك حكم عليه بعدم الإعادة و القضاء، كما أنّ الحكم بالعقاب دليل على عدم وفاء العمل المأتي به، بالمصلحة الفائتة الكامنة في العمل بالواقع. و مع ذلك فكيف يجمع بين الأمرين.

و قد حاول المحقّقون من عصر الشيخ الكبير كاشف الغطاء، إلى عصرنا، أن يجمعوا بين الصحّة و العقاب بوجوه، نذكر ما ذكره الشيخ الأنصاري، ثمّ نردفه ببعض الكلمات.

قد أجاب الشيخ عن الإشكال باحتمالات ثلاثة:

ص:653

أ: منع تعلّق التكليف فعلاً بالواقع المتروك، و أنّ المأتي به هو المأمور به.

ب: منع تعلّقه بالمأتي به، و انّ الواجب هو الواقع المتروك.

ج: منع التنافي بينهما، بالأمر بالواقع المتروك أوّلاً، و المأتي به ثانياً عند عصيان الأمر الأوّل، و هذا هو المسمّى بالترتب.

و ردّ الأوّل: بأنّه خلاف ظاهر المشهور، حيث إنّهم يقولون ببقاء التكليف المجهول بالنسبة إلى الجاهل.

و ردّ الثاني: بأنّ الظاهر من الأدلّة أنّ المأتي به هو المأمور به، حيث ورد في من جهر محل المخافتة أو بالعكس،» و قد تمّت صلاته «.(1)

و الثالث: مبني على صحّة الترتّب أوّلاً، و ليس المقام من موارده ثانياً.(2)

و قد اختار المحقّق الخراساني الوجه الثاني من هذه الوجوه أي انّ الواجب هو الواقع المتروك و أوضحه بقوله: إنّما حكم بالصحة لأجل اشتمال غير المأمور به على مصلحة تامّة لازمة الاستيفاء في نفسها، مهمة في حدّ ذاتها، و إن كانت دون مصلحة الجهر و القصر، و إنّما لم يؤمر بها، لأجل أنّه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل الأتم.

و أمّا الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكّن من الإعادة فلأنّها بلا فائدة، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في

ص:654


1- إشارة إلى ما رواه الصدوق عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه، و أخفى فيما لا ينبغي الإخفات، فقال: أيّ شيء ذلك فعل تعمداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، و إن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه، و قد تمت صلاته. الوسائل: 4، الباب 26 من أبواب القراءة، الحديث 1.
2- الفرائد: 408، وجه عدم كونه من موارده لأنّه فيما إذا كان هناك أمران أحدهما أهم و الآخر مهم، و كان الاشتغال بالمهم عصياناً للأوّل و ليس المقام كذلك.

المأمور به.(1)

و هو) قدس سره (دفع الإشكال بحذافيره.

أمّا الصحّة فلأجل عدم توقفها على الأمر، بل يكفي فيها الملاك و هو اشتمال العمل على مصلحة تامة و لازمة الاستيفاء، و إن كانت دون الأُخرى، و أمّا عدم الإعادة فللتدافع بين الملاكين، كما إذا أمر المولى عبده بإطعام الضيف باللحم المشويّ فأطعمه بالخبز و الجبن، فلا يبقى مجال لإعادة الإطعام، و أمّا العقاب فلأنّه ترك المأمور به المشتمل على المصلحة الكاملة عن تقصير.

و أمّا ما استظهره الشيخ من أنّ ظاهر الأوّل هو كونه مأموراً به، فلا ظهور لقوله:» تمّت صلاته « سوى في الصحّة و القبول، لا في كونه مأموراً به، و يؤيده ما ورد في نفس الرواية و في رواية أُخرى قوله:

» إذا فعل ذلك ناسياً أو ساهياً فلا شيء عليه «فهو ظاهر في قبول المأتي به مكان الواقع إرفاقاً و منّة.

و هذا الجواب أوضح الوجوه الثلاثة.

ما هو المختار عندنا في حلّ الإشكال

الظاهر أنّ الأجوبة الثلاثة نابعة من عدم الرجوع إلى الروايات، إذ معه يظهر ما هو الحقّ في الجواب فنقول:

إنّ الجواب الماضي كان مبنيّاً على أنّ الرباعية أقلُّ مصلحة من الثنائية، و لكن الظاهر من الروايات تساويهما في المصلحة، و إنّما أمر المسافر بالثنائية لغاية التخفيف، روى الصدوق بسند معتبر عن الفضل بن شاذان في حديث العلل التي سمعها من الرضا) عليه السلام (قال: إنّ الصلاة إنّما قصرت في السفر لأنّ الصلاة المفروضة أوّلاً هي عشر ركعات، و السبع إنّما زيدت فيها فخفّف اللّه عزّ و جلّ عن

ص:655


1- الكفاية: 2/161.

العبد تلك الزيادة لموضع سفره و تعبه و نصبه، و اشتغاله بأمر نفسه و ظعنه و إقامته، لئلاّ يشتغل عمّا لا بدّ منه من معيشته، رحمة من اللّه عزّ و جلّ و تعطفاً عليه....(1)

و على هذا لما لم تكن الرباعية بأقلّ مصلحة من الثنائية و كان الأمر بالإعادة يناقض غرض الشارع، قَبِلَ الرباعية مكانها فيختلف هذا الجواب عن السابق بأمرين:

1. تساوي الصلاتين في المصلحة.

2. عدم الأمر بالإعادة لأجل كونها مخالفة لغرضه الذي هو التسهيل و تنافيه الإعادة.

و أمّا العقاب، مع إمكان الإعادة في الوقت، فلم يرد فيه دليل صالح، و إن ادعي الإجماع و ليس في الروايات منه عين و لا أثر، و الأصل في ذلك صحيحة زرارة و محمد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر) عليه السلام (رجل صلى في السفر أربعاً أ يعد أم لا؟، قال:» إن كان قرئت عليه آية التقصير، و فسّرت له فصلّى أربعاً أعاد، و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه «.(2)

فإن قلت: لو كانت المصلحة متساوية، فلما ذا لا يجوز الإتمام للعالم بالحكم مع وجود الملاك به؟ قلت: إنّ العقل يحكم بحفظ أغراض الشارع، و قد عرفت ما هو الغرض له في الأمر بالقصر، و كون الغرض عائداً إلى صالح العبد لا يسوِّغ المخالفة، و في بعض الروايات ما يشير إلى أنّ العالم المتم رادّ لهدية الشارع و هو قبيح.(3)

هذا و كان سيد مشايخنا المحقّق البروجردي) قدس سره (يقول حول أجوبة الشيخ

ص:656


1- الوسائل: الجزء 3، الباب 24 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الحديث 5.
2- الوسائل: الجزء 5، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
3- الوسائل: الجزء 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3، 4، 8، 11.

الأنصاري في هذا المقام: بأنّ تذليل العقبات الصعاب في مباحث البراءة و الاشتغال عاقه عن إعطاء النظر الدقيق للبحث. ثمّ أشار إلى الأجوبة الثلاثة الماضية.

شرطان آخران للبراءة

اشارة

ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة شرطين آخرين:

الشرط الأوّل: أن لا يكون إعمال الأصل موجباً لثبوت حكم شرعي آخر من جهة أُخرى

مثل أن يقال:» في أحد الإناءين المشتبهين، الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه، فانّه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر، أو فيما علم بحدوث الكرية و ملاقاة الماء بالنجاسة و شكّ في تقدّم أحدهما على الآخر، فانّ إعمال الأُصول في عدم تقدّم الكرية على الملاقاة يوجب الاجتناب عن الملاقي.(1)

إنّ ما ذكره ممنوع صغرى و كبرى.

أمّا الأوّل: فلأنّ الأصل الجاري في هذه الأمثلة هو الاستصحاب لا البراءة و مع غض النظر عن هذا، فانّ الأُصول لا تجري في أطراف العلم الإجمالي إمّا لعدم شمول أدلّة الأُصول لأطرافه، أو شمولها و لكنها تسقط لأجل التعارض، أو لاستلزامه المخالفة العملية.

و أمّا الثاني: فقد أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الإباحة الظاهرية، أو رفع التكليف، إذا كان موضوعاً أو ملازماً لثبوت حكم آخر فلا محيص عن ترتّبه عليه بعد إحرازه كما لو نذر أن يعطي للفقير المال الحلال ظاهراً فوجد مالاً تحت يده يحتمل أنّه لغيره نعم لو كان مترتباً على نفي التكليف واقعاً له، لا يترتب عليه، و ذلك لعدم الموضوع لا للاشتراط، كما إذا نذر أن يعطي للفقير الحلال الواقعي، فلا يجب إذا ثبتت حليته بالأصل.

ص:657


1- الفرائد: 311.

أقول: ترتّب حكم على حكم على أقسام:

1. إذا لم يكن بين الحكمين ترتّب شرعي كما في الأمثلة التي ذكرها الفاضل التوني، فانّ الترتب هناك عقلي، فانّ إجراء الطهارة في أحد الإناءين يلازم عقلاً بحكم العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين نجاسة الإناء الآخر، أو نفي تقدّم أحد الحادثين يستلزم تقدّم الآخر للعلم بتقدّم أحدهما.

2. إذا كان بين الحكمين ترتّب شرعي، لكن كان الحكم الثاني مترتباً على الوجود الواقعي منه، كما إذا نذر أنّه لو صلى بماء طاهر واقعاً فعليه أن يطعم الفقير فتوضّأ بماء مشكوك محكوم بالطهارة ظاهراً.

3. أن يكون الحكم مترتّباً على الأعم من الطهارة الواقعية و الظاهرية كوجوب الوضوء للصلاة المترتّب على الماء الطاهر واقعاً أو ظاهراً.

4. و ربّما يتصوّر وجود قسم رابع و هو أن يكون الحكم الواقعي مترتّباً على الحليّة الواقعية، و الظاهري على الحلية الظاهرية، كوجوب الحجّ المترتّب على إباحة المال الذي يكون به مستطيعاً فلو حكم على إباحة المال ظاهراً حكم بوجوب الحجّ ظاهراً و لو انكشف الخلاف ينكشف عدم وجوب الحجّ عليه واقعاً، و هذا بخلاف وجوب التوضّؤ فأنّه مترتّب على الإباحة الأعم.

يلاحظ عليه: بعدم وجود إلزامين في المقام، إلزام ظاهري، و إلزام واقعي، بل إلزام واحد مترتّب على الاستطاعة الواقعية، فإذا كشف الخلاف، كشف عن عدم الاستطاعة واقعاً، نعم يحكم العقل بلزوم الحجّ عند ثبوت إباحة المال ظاهراً لأجل تحصيل المؤمن و ليس هو حكماً شرعياً.

الشرط الثاني لأصل البراءة أن لا يضرّ بإجرائها شخص آخر
اشارة

ذكر الفاضل التوني شرطاً ثانياً لأصل البراءة، و هو أن لا يضرّ بإجرائها

ص:658

شخص آخر، و مثّل بالأُمور التالية:

1. فتح قفص طائر، فطار.

2. حبس شاة فمات ولدها.

3. أمسك رجلاً، فهربت دابته.

فانّ إعمال البراءة فيها موجب لتضرر المالك فيندرج تحت قاعدة الإتلاف أو قوله:» لا ضرر و لا ضرار «.

يلاحظ عليه بأمرين:

الأوّل: انّه لا موضوع للأصل مع وجود الدليل الاجتهادي، لحكومة قاعدة» من أتلف مال الغير فهو له ضامن «أو قاعدة» لا ضرر و لا ضرار «على أصل البراءة أو ورودهما عليها.

الثاني: انّ حديث الرفع الذي هو من أهم أدلّة البراءة النقلية، حديث امتنان فلا موضوع له إذا كان على خلافه، و أيّ امتنان بالحكم بعدم الضمان على فاتح القفص، أو حابس الشاة، و ممسك الرجل.

ثمّ إنّ القوم تبعاً للشيخ الأنصاري ذيّلوا المقام، بالبحث عن قاعدة» لا ضرر «سنداً و مفاداً و تفريعاً، فبما أنّ البحث فيها طويل الذيل أفردناها بالتأليف و أفرزناها عن سائر المباحث.

تمّ الكتاب بحمد اللّه تبارك و تعالى في ثامن شهر شوّال المكرّم من شهور عام 1419 من الهجرة النبوية و الحمد للّه أوّلاً و آخراً و ظاهراً و باطناً قم المشرفة محمد الحسين الحاج العاملي عُفي عنه

ص:659

ص:660

فهرس المحتويات

كلمة شيخنا المحاضر مدّ ظلّه 5 كلمة المقرّر 7 المقصد السادس: في الحجج الشرعية أ 9 في تقسيم حالات المكلّف أو المجتهد أ 10 التقسيم الثُنائي في كلام المحقّق الخراساني 11 القضاء بين الشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني أ 13 انحصار الأُصول العملية في الأربعة، استقرائيّ أ 14 حصر مجاري الأُصول في أربعة حصر عقلي أ 14 الأمر الأوّل: في أحكام القطع أ 20 في وجوب متابعة القطع أ 20 القطع حجّة لغوية لا منطقية و لا أُصولية أ 23 عدم جواز المنع عن العمل بالقطع، و الأحكام الأربعة للقطع أ 26

ص:661

الأمر الثاني: في التجرّي أ 28 التجرّي لغةً و اصطلاحاً و هل المسألة كلامية أو أُصولية أو فقهية؟ أ 28 الأوّل: حكم نفس التجري و حكم المتجرّى به 30 أسئلة ثلاثة و أجوبتها 38 السؤال الأوّل: حكم التجرّي في الآيات و الروايات أ 38 السؤال الثاني: في تفصيل صاحب الفصول أ 47 السؤال الثالث: هل ممارسة التجرّي تنافي العدالة؟ أ 48 الأمر الثالث: في أقسام القطع 49 تقسيمه إلى طريقي و موضوعي أ 49 تقسيمه إلى طريقي و وصفي أ 49 تقسيمه إلى تمام الموضوع و جزئه أ 51 قيام الأمارات مكان القطع أ 53 في إمكان التنزيل، و وقوعه أ 54 في قيام الأُصول العملية مقام القطع أ 57 صحّة الجمع بين التنزيلين بنحو الملازمة العرفية أ 59

ص:662

الأمر الرابع: في القطع و الظن الموضوعيين أ 64 في أقسام القطع الموضوعي أ 64 في أقسام الظن المأخوذ في الموضوع أ 68 الأمر الخامس: في وجوب الموافقة الالتزامية أ 71 تحرير محلّ النزاع و وجوب الموافقة الالتزامية 72 ثمرات المسألة أُصولية و فقهية 76 الأمر السادس: حكم قطع القطاع أ 80 الأمر السابع: حجّية العقل في مجالات خاصة أ 83 مقدمات تمهيدية للدخول في صلب الموضوع 84 المقام الأوّل: استكشاف حكم الشرع في المستقلات العقلية 86 المقام الثاني: استكشاف الحكم الشرعي من طريق درك مناطات الأحكام 88 تطبيقات أ 89 ما استدل به على عدم حجيّة العقل و نقده أ 91 الأمر الثامن: العلم الإجمالي تنجيزاً و امتثالاً أ 97 حكم الامتثال الإجمالي في مقابل الظن التفصيلي أ 105

ص:663

الحجج و الأمارات الشرعية المقام الأوّل: إمكان التعبّد بالظن و ما هو المراد من الإمكان أ 110 دليل القائل بامتناع التعبّد بالظن أ 112 الجواب عن أدلة القائلين بامتناع التعبد أ 113 محاذير التعبد بالظن مبدأً و ملاكاً و خطاباً 119 تحليل جديد للمحاذير أ 120 المقام الثاني: في وقوع التعبّد بالظن أ 124 1. حجّية الظواهر حجّية الظواهر و فيها جهات: 128 الجهة الأُولى: في أنّ الظواهر من القطعيات أ 129 الجهة الثانية: في تقيّد الحجّية بالظن أ 133 الجهة الثالثة: حجّية الظواهر لمن قصد إفهامه و من لم يقصد أ 133 الجهة الرابعة: في حجّية ظواهر الكتاب أ 137 الأدلة الثمانية على حجّية ظواهر الكتاب 138 أدلة الأخباري على عدم حجّية ظواهر الكتاب أ 145

ص:664

2. حجّية قول اللغوي ما هو المراد من أصالة الظهور؟ أ 153 انعقاد السيرة على الرجوع إلى قول اللغوي 156 تقسيم المعاجم اللغوية إلى قسمين 157 الاستدلال بالانسداد الصغير و جوابه 159 3. الإجماع المنقول بخبر الواحد المقام الأوّل: الإجماع المحصّل عند أهل السنّة أ 161 مكانة الإجماع في الفقه السنّي أ 162 الإجماع عند السنة من مصادر التشريع و أدلته 165 حجّية الإجماع حسب أُصول الإمامية أ 169 استكشاف قوله) عليه السلام (بقاعدة اللطف أ 170 استكشاف قول المعصوم من طرق أُخرى 173 كشف الإجماع عن وجود الدليل المعتبر أ 175 كشف الإجماع عن شهرة الحكم عند أصحاب الأئمّة أ 176 المقام الثاني: في حجّية الإجماع المنقول أ 177 أقسام الإجماع المنقول 178 تقييم الإجماعات الواردة في كتب القدماء أ 180 حكم الإجماع المنقولة المتعارضة 185

ص:665

4. الشهرة الفتوائية أقسام الشهرة: روائية و عملية و فتوائية 188 الاستدلال على حجّية الشهرة الفتوائية أ 189 الشهرة العملية من مميزات الحجّة عن اللاحجّة أ 192 الشهرة العملية جابرة لضعف الرواية أ 192 إعراض المشهور عن الرواية كاسر لحجّيتها أ 194 الشهرة الفتوائية المجرّدة عن الرواية حجّة أ 195 5. في حجّية الخبر الواحد الاحتجاج يقوم على أُسس أربعة 199 أدلّة نفاة الحجّية أ 203 1. الاستدلال على حجّية خبر الواحد من الكتاب 215 الآية الأُولى: الاستدلال بآية النبأ وصفاً و شرطاً أ 216 إشكالات مثارة حول الاستدلال بآية النبأ 222 الآية الثانية: آية النفر و كيفية الاستدلال بها 237 الآية الثالثة: آية الكتمان أ 248 الآية الرابعة: آية السؤال أ 249 الآية الخامسة: آية الأُذن أ 254

ص:666

2. الاستدلال على حجّية خبر الواحد من السنة 258 ذكر طوائف خمس من الروايات الدالة على حجّية خبر الواحد 259 كيفية الاستدلال بها أ 265 3. الاستدلال على حجّية الخبر الواحد من الإجماع أ 269 الاحتجاج بالسيرة العقلائية أ 270 4. الاستدلال على حجّية الخبر الواحد من العقل أ 275 إجراء الانسداد الصغير في مورد الأخبار أ 275 إجراء دليل الانسداد في خصوص الأجزاء أ 279 6. العرف و السيرة شرط الاستدلال بالسيرة على الحكم الشرعي 285 العرف مرجع في تبيين المفاهيم و تشخيص المصاديق أ 287 الأعراف الخاصة حجة أ 289 إمضاء النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لبعض الأعراف أ 291 تفسير خاطئ أ 291 حجّية مطلق الظن و عدمها أ 293 1. تقرير دليل القدماء على حجّية مطلق الظن و نقده أ 293

ص:667

2. تقرير دليل المتأخرين على حجّية مطلق الظن و نقده أ 298 3. تقرير شريف العلماء على حجّية مطلق الظن أ 299 4. دليل الانسداد على حجّية مطلق الظن أ 300 تقرير مقدماته الخمس و تحليلها 301 عدم حجّية الظن في العقائد 315 حكم الجاهل القاصر في تحصيل العلم أ 320 هل الجاهل القاصر كافر؟ أ 324 الجاهل القاصر و الحكم الوضعي أ 325 هل الظن جابر و موهن و مرجح؟ أ 326 المقصد السابع: في الأُصول العملية أ 329 الأصل الأوّل: أصل البراءة أ 329 بيان مجاري الأُصول أ 331 الاستدلال على البراءة بآية التعذيب أ 337 الاستدلال على البراءة بآية الإيتاء أ 342 الاستدلال على البراءة بآية الاضلال فرع البيان أ 344 الاستدلال على البراءة بآية الهلاك بعد البيّنة أ 346 الاستدلال على البراءة بالسنّة أ 347

ص:668

1. حديث الرفع أ 347 الفرق بين الرفع و الدفع أ 348 تصحيح نسبة الرفع إلى التسعة مع وجودها أ 350 ما هو المرفوع ثبوتاً أ 351 المرفوع هو عموم الآثار أ 354 عموم الموصول للحكم و الموضوع المجهولين أ 356 اختصاص الحديث بالرفع الامتناني أ 360 المرفوع آثار المعنون لا آثار العناوين أ 361 عدم اختصاصه بالأُمور الوجودية أ 363 الكلام في النسيان أ 365 الكلام في الاضطرار و الإكراه أ 369 2. حديث الحجب أ 373 3. حديث السعة أ 375 4. حديث الحل الأوّل أ 378 5. حديث الحل الثاني أ 381 6. حديث إطلاق الأشياء أ 384 7. حديث الجهالة أ 387 الاستدلال بالإجماع أ 389 الاستدلال بحكم العقل أ 390

ص:669

أدلّة الأخباري على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية أ 395 الاستدلال بطوائف من الآيات أ 396 الاستدلال بالسنّة على وجوب الاحتياط أ 398 الاستدلال بالعقل و العلم الإجمالي أ 408 انحلال العلم الإجمالي و أقسامه أ 412 استقلال العقل بالحظر في الأفعال أ 414 احتمال المضرة في ارتكاب الشبهة أ 417 تنبيهات 417 التنبيه الأوّل: حكومة الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي أ 417 استصحاب عدم التذكية بصوره المختلفة في الشبهة الحكمية 419 استصحاب عدم القابلية أ 422 استصحاب عدم التذكية في الشبهة الموضوعية أ 428 التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط حين التردد بين الوجوب و غير الاستحباب أ 430 التنبيه الثالث: التسامح في أدلّة السنن أ 434 دراسة مدلول روايات التسامح 435 نقل نظريات الشيخ حول القاعدة 438 ثمرات المسألة أ 443

ص:670

التنبيه الرابع: في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية التحريمية أ 445 التنبيه الخامس: في تحديد رجحان الاحتياط أ 448 الأصل الثاني: أصالة التخيير أ 450 المقام الأوّل: دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات أ 452 الأقوال المختلفة حول دوران الأمر بين المحذورين أ 453 هل التخيير بدئي أو استمراري أ 460 في تقديم محتمل الأهمية أ 461 المقام الثاني: في دوران الأمر بين المحذورين في التعبديات أ 462 أصالة التخيير في الشكّ في المكلّف به أ 463 الأصل الثالث: أصالة الاحتياط أ 465 تبيين مجرى أصالة الاحتياط 466 الشبهة التحريمية المحصورة من الشكّ في المكلّف به أ 469 المقام الأوّل: إمكان جعل الترخيص ثبوتاً أ 470 المقام الثاني: في وقوع الترخيص أ 473 تنبيهات أ 481 التنبيه الأوّل: في الاضطرار إلى أحد الأطراف أ 481 التنبيه الثاني: في خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء أ 489

ص:671

التنبيه الثالث: في الشبهة غير المحصورة أ 505 التنبيه الرابع: في حكم ملاقي الشبهة المحصورة أ 525 دوران الأمر بين الأقل و الأكثر أ 548 جريان البراءة العقلية 549 أدلّة القائلين بالاشتغال أ 557 أدلّة القائلين بجريان البراءة الشرعية أ 566 الشكّ في الأجزاء التحليلية أ 568 الكلام في الشكّ في المحصِّل أ 575 الشبهة الموضوعية في الأقل و الأكثر الارتباطيين أ 577 تنبيهات 581 التنبيه الأوّل: في النقيصة السهوية أ 581 التنبيه الثاني: في حكم الزيادة عمداً أو سهواً أ 593 التنبيه الثالث: في الاضطرار إلى ترك الجزء و الشرط أ 615 الاستدلال على قاعدة الميسور كتاباً و سنة 621 خاتمة في شرائط جريان الأُصول أ 634 الشرط الأوّل: لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي أ 636 شرطان آخران للبراءة أ 657

ص:672

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.