ارشاد العقول الی مباحث الاصول المجلد 1

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور:ارشاد العقول الی مباحث الاصول: یبحث عن الحجج الشرعیة و الاصول العلمیة/ تقریرا لمحاضران جعفر السبحانی؛ تالیف محمد حسین الحاج العالمی

مشخصات نشر:بیروت : دارالاضواآ ، 2000م. = 1420ق. = 1379.

مشخصات ظاهری:4ج

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع:اصول فقه شیعه

موضوع:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 - -- معلومات اصول فقه

شناسه افزوده:حاج عاملی، محمد حسین

رده بندی کنگره:BP159/8/س2الف4 1379

شماره کتابشناسی ملی:م 81-35421

ص :1

اشارة

ارشاد العقول الی مباحث الاصول: یبحث عن الحجج الشرعیة و الاصول العلمیة

تقریرا لمحاضران جعفر السبحانی

تالیف محمد حسین الحاج العالمی

ص:2

ص:3

المدخل

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة: 122

ص:4

كلمة المحاضر

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد للّه الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، و ردعت عظمتُه العقولَ فلم تجد مساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته.

و الصلاة و السلام على من بعثه بالنور المضي، و البرهان الجلي، محمّد نبي الرحمة، و على آله الذين هم كنوز الرحمن إن نطقوا صدقوا، و إن صَمتوا لم يُسبقوا.

أمّا بعد، فإنّ من مفاخر الشيعة الإمامية هو فتح باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية منذ رحيل الصادع بالحق) صلى الله عليه و آله و سلم (إلى يومنا هذا، و الاجتهاد هو الذي يضفي على الشريعة، غضاضة و طراوة و لا يناله إلاّ ذو حظ عظيم.

إنّ الخوض في عباب هذا الفن رهن علوم جمّة، من أهمها: علم الأُصول الذي هو: العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية أو ما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل.

و ممن وفّقه اللّه لدراسة هذا العلم، دراسة معمّقة الشيخ الفاضل المحقّق الثبت محمد حسين الحاج العاملي) حفظه اللّه (فحرّر ما ألقيناه من محاضرات على فضلاء الحوزة العلمية ببيان سهل و أُسلوب جزل بعيداً عن الإطناب و الاقتضاب، و ها هو الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ يقدّمه لطلاب هذا العلم،

ص:5

و قد لاحظته فرأيته وافياً بالمطلوب جامعاً لنكات البحث.

فأسأل اللّه سبحانه أن يوفّقه لصالح العلم و العمل، و أن يجعله ذخراً للإسلام و المسلمين.

جعفر السبحاني قم مؤسسة الإمام الصادق) عليه السلام ( 1 شعبان المعظم 1422 ه

ص:6

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة المؤلف

الحمد للّه الذي خضع له كلّ شيء، و قام به كلّ شيء، و الصلاة و السلام على الداعي إلى الحقّ و الشاهد على الخلق الذي بلّغ رسالات ربّه محمّد خاتم رسله و أفضل سفرائه، و على آله الذين هم أساس الدين و عماد اليقين.

أمّا بعد، فقد أسعفني الحظ في سالف الزمان و قمت بنشر ما استفدته من شيخي العلاّمة الحجّة الفقيه آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني) مد ظلّه (و قد كان لما نشرته من المباحث العقلية لعلم الأُصول صدى واسع في الأوساط العلمية، و لم يخطر ببالي نشر ما استفدته من أُستاذي الكبير في مجال المباحث اللفظية، و لكن لما شجّعني غير واحد من الأعزّاء على نشر ما بقي من المباحث لتكتمل الدورة الأُصولية، شمّرت عن ساعد الجد و قمت بتبييض المباحث المذكورة في قوالب واضحة غير مخلّة بالمراد، و لا مطنبة في البيان، سائلاً المولى عزّ و جلّ أن يطيل عمر شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه الذي كان و لم يزل يربي جيلاً بعد جيل بعلمه و فكره و قلمه و بيانه.

كما أسأله سبحانه أن يجعل ما بذلته من الجهود في إخراج الجزءين الأخيرين

ص:7

كتاباً نافعاً ينتفع به روّاد العلم و طلاّب الفضيلة.

محمد حسين الحاج العاملي جبل عامل جزين 15 شعبان المعظم 1422 ه يوم ميلاد الإمام القائم عجل اللّه تعالى فرجه

ص:8

مقدمة و فيها أُمور:

اشارة

1. موضوع العلوم و مسائلها و تمايزها و...

2. الوضع و فيه جهات من البحث 3. الحقيقة و المجاز 4. استعمال اللفظ في اللفظ و أقسامه 5. وضع الألفاظ للمعاني الواقعية 6. وضع المركبات 7. علائم الوضع أو تمييز الحقيقة عن المجاز 8. تعارض الأحوال 9. في الحقيقة الشرعية 10. ألفاظ العبادات و المعاملات أسام للصحيح أو للأعم 11. الاشتراك اللفظي 12. استعمال المشترك في أكثر من معنى 13. المشتق و انّه حقيقة في المتلبس أو الأعم 14. مسائل في المشتق

ص:9

ص:10

الأمر الأوّل في موضوع العلوم و مسائلها و تمايزها

اشارة

بحث المحقّق الخراساني في الأمر الأوّل عن الموضوعات التالية:

1. تعريف موضوع العلم.

2. ما هي النسبة بين موضوع العلم و موضوع المسألة؟ 3. لزوم وجود موضوع لكلّ علم.

4. تمايز العلوم.

5. ما هو موضوع علم الأُصول؟ 6. ما هو تعريف علم الأُصول؟ 7. ما هو الفرق بين المسائل الأُصولية و القواعد و المسائل الفقهية؟ فهنا جهات من البحث:

الجهة الأُولى: تعريف موضوع العلم

اشارة

قالوا: إنّ موضوع كلّ علم بأنّه» ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية «، المهم هو التعرف على أمرين:

1. العرض في المنطق و الفلسفة.

ص:11

2. الذاتي و أقسامه.

أمّا الأوّل فانّ العرض في الفلسفة يقابل الجوهر، فالماهية إذا وجدت وجدت لا في موضوع فهو جوهر كالإنسان، و إذا وجدت في موضوع فهو عرض كالسواد.

هذا هو العرض حسب الاصطلاح الفلسفي.

و أمّا العرض في الاصطلاح المنطقي فهو أوسع من سابقه، و هو يطلق على الخارج عن ذات الشيء، المحمول على الشيء لاتّحاده معه في الخارج، و على هذا فالناطق عرض بالنسبة إلى الحيوان لخروجه عن حقيقته و صحّة حمله عليه لوحدتهما في الخارج في مورد الإنسان، و المراد من العرض هنا هو المصطلح المنطقي لا الفلسفي، و ربّما صار الخلط بين الاصطلاحين منشأً للاشتباه.

أمّا الثاني أي الذاتي فيطلق و يراد منه أحد المعاني الثلاثة:

1. الذاتي في باب الايساغوجي) الكلّيات الخمس (، و المراد منه ما كان جنساً أو فصلاً أو نوعاً للشيء، و بعبارة أُخرى: ما يكون مقوّماً للموضوع و من ذاتيّاته، و يقابله العرضيّ، و هو ينقسم بدوره إلى عرض عام و خاص كما هو مفصّل في المنطق.

2. الذاتي في باب البرهان، و هو عبارة عن الخارج عن ذات الشيء، المحمول على الشيء من دون حاجة في الانتزاع أو في الحمل إلى وجود حيثية تقييدية في جانب الموضوع، و هذا كما في قولنا: الإنسان ممكن، فانّ الإمكان ليس مقوّماً للإنسان، إذ ليس هو نوعه أو جنسه أو فصله، و مع ذلك ينتزع منه أو يحمل عليه بلا حاجة إلى حيثية تقييدية على نحو يكون وضع الإنسان ملازماً لوضع الإمكان.

ص:12

و ربّما يمثّل بحمل الموجود على الوجود، و الأبيض على البياض، و ربّما يطلق عليه المحمول بالصميمة، و يقابله ما يسمّى المحمول بالضميمة كحمل الأبيض على الاسم، فلا يوصف بكونه أبيض إلاّ بعد ضمّ البياض إليه و عروضه عليه.

3. الذاتي في باب الحمل و العُروض، و يقابله الغريب، و هو المراد من قولهم موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية فمحمولات المسائل أعراض ذاتية لموضوع العلم.

و قد اختلفت كلمتهم في تفسير العرض الذاتي في المقام، فذهب المحقّق الخراساني تبعاً للمحقّق السبزواري في تعاليقه على الأسفار(1) بأنّ المعيار في كون العرض ذاتياً أو غريباً هو أن يكون العرض من قبيل الوصف بحال الشيء لا الوصف بحال متعلّق الشيء.

و بعبارة أُخرى: العرض الذاتي ما يعرض الشيء بلا واسطة في العروض.

توضيحه: انّ الواسطة تطلق على عدّة معان:

1. الواسطة في الثبوت، و هي ما تكون علّة لعروض المحمول على الموضوع كالنار الموقدة تحت القِدْر التي تكون علّة لعروض الحرارة على الماء في قولنا: الماء حار.

2. الواسطة في الإثبات، و هي ما تكون علّة لحصول اليقين بثبوت المحمول للموضوع، كقولنا: العالم متغيّر و كلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث، فالتغيّر سبب لحصول اليقين بحدوث العالم. و بذلك يطلق على الحد الأوسط، الواسطة في الإثبات.

3. الواسطة في العروض، و هي المصحِّحة للنسبة بحيث لولاها لما صحّت

ص:13


1- - الأسفار: 1/32.

النسبة، كما في قولنا: جرى الميزاب، فانّ الجاري حقيقة هو الماء لكن علاقة المجاورة أو الحالية و المحلّية تُصحح نسبة الجريان إلى الميزاب لكن ادّعاءً و مجازاً.

إذا وقفت على ذلك فنقول: إنّ الميزان في عدّ العرض ذاتياً أو غريباً هو كون الوصف بحال الموصوف، أو بحال المتعلّق، و هذا هو المقياس لذاتية العرض و غرابته سواء كان عارضاً بلا واسطة، أو بواسطة مساو، أو بواسطة أخصّ أو أعمّ. فوجود الواسطة و عدمها و نسبتها مع ذي الواسطة ليس مطروحاً في المقام، و إنّما المطروح كون النسبة حقيقية أو مجازية، و على ذلك تكون الأمثلة التالية من العرض الذاتي.

أ: إذا عرض للموضوع بواسطة مباينة، كالحرارة العارضة للماء بواسطة النار.

ب: إذا عرض للموضوع بواسطة أعمّ كالمشي العارض للإنسان بواسطة الحيوان الأعمّ من الموضوع.

ج: إذا عرض للموضوع بواسطة أخصّ، كالضحك العارض للحيوان بواسطة الإنسان.

فكلّ ذلك يعدّ من العرض الذاتي دون العرض الغريب. فأخصّية الواسطة أو أعمّيتها أو تباينها لا يضرّ بكون المحمول عرضاً ذاتياً بالنسبة إلى موضوع العلم إذا كان الوصف حقيقياً لا مجازياً.

تفسير الذاتي عند القدماء

إنّ القدماء من علماء المنطق) الذين هم الأساس لتعريف موضوع العلم

ص:14

بأنّه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية (ذهبوا إلى أنّه يشترط في مقدّمات البرهان أُمور أربعة:

الأوّل: أن تكون النسبة ضرورية الصدق بما لها من الجهة، و إن كانت ممكنة، بمعنى أنّه إذا صدق أحد النقيضين كالإيجاب، يكون النقيض الآخر أي السلب ممتنعاً، فقولنا: الإنسان كاتب بالإمكان، ضروري الصدق أي ممتنع خلافها، بمعنى انّ قولنا:» ليس الإنسان كاتباً بالإمكان العام «محكوم بالامتناع.

الثاني: أن تكون دائمة الصدق بحسب الأزمان، فقولنا: الإنسان كاتب بالإمكان العام، قضية صادقة في عامّة الأزمان.

الثالث: أن تكون كلّية الصدق بحسب الأحوال، فالإنسان في كلّ أحواله كاتب بالإمكان، سواء أ كان قائماً أم قاعداً.

الرابع: أن يكون المحمول ذاتياً للموضوع، و قد عرّفوا المحمول الذاتي بما يكون الموضوع مأخوذاً في حدّ المحمول، مثلاً انّ الفطوسة من العرض الذاتي بالنسبة للأنف، لأنّا إذا أردنا أن نعرف الفطوسة نعرفها بقولنا:» الأنف الأفطس «.

و نظير ذلك إذا قلنا: الإنسان متعجّب، و العدد زوج أو فرد، حيث إنّ الإنسان مأخوذ في تعريف المتعجّب، فانّه الإنسان الذي تعرضه الدهشة و الاستغراب، كما انّ العدد مأخوذ في تعريف الزوج، إذ هو العدد المنقسم إلى متساويين.

فلو كان هناك معروض و عارض فلا يكون الثاني عرضاً ذاتياً إلاّ إذا كان المعروض مأخوذاً في حدّه و تعريفه.

و من ذلك يعلم أنّ تقسيم الموجود إلى الواجب و الممكن، و الممكن إلى

ص:15

الجوهر و العرض، و الجوهر إلى العقل و النفس و الهيولى و الصورة و الجسم، و العرض إلى الكم و الكيف... كلّها أعراض ذاتية بالنسبة إلى الموجود، لأنّه مأخوذ في حدّ كلّ واحد من هذه المحمولات.

هذا هو الغالب و لكن يكفي كون الموضوع أو أحد مقوّماته واقعاً في حدّ المحمول فتعمّ الأقسام التالية:

1. أن يؤخذ موضوع المعروض في حدّ العارض.

2. أن يؤخذ جنس المعروض في حدّ العارض.

3. أن يؤخذ موضوع جنس المعروض في حدّ العارض.

و قد ذكر الشيخ الرئيس لكلّ واحد مثالاً من العلوم الطبيعية، و بما أنّ الأمثلة التي ذكرها لا تخلو من تعقيد نذكر لها مثالاً من العلوم الاعتبارية، مثال الأوّل:» الفاعل مرفوع «فانّ الفاعل لا يؤخذ في تعريف المرفوع، و لكن موضوع الفاعل، أعني: الكلمة مأخوذة في حدّ المرفوع فيقال: المرفوع هو الكلمة المرفوعة.

و مثال الثاني:» الفعل الماضي مبني «فانّ الفعل لا يؤخذ في تعريف المبني، و لكن جنس الفعل، أعني:

الكلمة مأخوذة في حدّ المبني، فيقال: الكلمة مبنيّة.

و مثال الثالث:» المفعول المطلق منصوب «فانّ المفعول المطلق لا يؤخذ في حدّ المنصوب و لا جنسه، أي المفعول بما هو هو و لكن معروض المفعولية و هو الكلمة مأخوذة في حدّ المنصوب.

و هناك قسم آخر فاجعله رابع الأقسام و هو أن يؤخذ المحمول في حدّ الموضوع كما في قولنا:

» الواجب موجود «فالمحمول مأخوذ في حدّ الواجب الذي هو الموضوع، فانّ الواجب عبارة عن الموجود الذي يمتنع عليه العدم.

ص:16

و قد أشار إلى هذا التفسير للعرض الذاتي الشيخ الرئيس بقوله: بأنّ من المحمولات ما لا يكون مأخوذاً في حدّ الموضوع، و لا الموضوع أو ما يقوّمه مأخوذاً في حدّه، فليس بذاتي، بل هو عرض مطلق غير داخل في صناعة البرهان مثل البياض للققنس(1).(2)

هذا هو العرض الذاتي عند القدماء، و قد رتّبوا على ذلك لزوم مساواة العرض الذاتي لمعروضه، و بالتالي مساواة محمولات المسائل لموضوع العلم و ذلك:

إنّ حصول اليقين بالنسبة الموجودة في القضية فرع أن يكون المحمول مساوياً للموضوع بحيث يوضع المحمول بوضع الموضوع، و يرفع برفعه، مع قطع النظر عمّا عداه، إذ لو رفع مع وضع الموضوع أو وضع مع رفعه لم يحصل اليقين، و هذا هو الموجب لكون المحمول الذاتي مساوياً لموضوعه.

مثلاً إذا كان المحمول أخصّ من الموضوع، كما إذا قلنا: كلّ حيوان متعجب، لم يفد اليقين، إذ لا يلازم وضع الموضوع وضع المحمول لكونه أعمّ.

فإن قلت: هذا إنّما يتمّ إذا كان المحمول أخص من الموضوع، و أمّا إذا كان المحمول أعمّ من الموضوع فوضع الموضوع يكفي في وضع المحمول كقولنا: كلّ إنسان ماش، و هذا المقدار يكفي في حصول اليقين و إن لم يستلزم رفع الموضوع رفع المحمول.

قلت: إنّ ما أخذ موضوعاً ليس بموضوع، فانّ القيد في جانب الموضوع أمر لغو، لأنّ الموضوع للمشي هو الحيوان لا الحيوان الناطق) الإنسان (إذ كونه ناطقاً كالحجر في جنب الإنسان، و لذلك قالوا بأنّه يشترط أن يكون المحمول مساوياً

ص:17


1- - الققنس: طائر جميل الصوت و اللفظ رومي.
2- - الفن الخامس من المنطق في برهان الشفاء: 127.

للموضوع لا أعمّ و لا أخصّ.

فإن قلت: إنّ المحمول في كثير من المسائل في الفلسفة الإلهية غير مساو للموضوع كما إذا قلت:

الموجود إمّا واجب أو ممكن، فإنّ كلّ واحد من الواجب و الممكن ليس مساوياً للوجود.

قلت: إنّ المحمول عبارة عن الجملة المردّدة و هي بأجمعها مساو للموجود.

فإن قلت: إنّ كلّ واحد من الواجب و الممكن ذات محمول خاص، فنقول واجب الوجود بالذات بسيط من جميع الجهات.

أو نقول: كلّ ممكن فهو زوج تركيبي له ماهية و وجود.

فالمحمول في كلّ واحد غير مساو للموجود.

قلت: إنّ الموضوع للبساطة ليس هو مطلق الوجود حتى لا تساوي البساطةُ مطلقَ الوجود، كما أنّ الموضوع في القضية الثانية ليس مطلق الوجود، بل الموضوع في الأوّل هو الموجود الواجب، و هو يساوي البساطة، و في الثاني الموجود الممكن، و هو يساوي التركب العقلي، و إلى ما ذكرنا يشير الأُستاذ الطباطبائي بقوله:

» إنّ كلاًّ منهما) الواجب و الممكن (ذاتيّ لحصة خاصّة من الأعم المذكور، لأنّ المأخوذ في حدّ كلّ منهما هو الحصة الخاصة به.(1)

توضيحه أنا إذا قلنا: واجب الوجود بسيط، فالموضوع ليس مطلق الوجود الأعم، بل الحصة الخاصة التوأمة للواجب، و تكون البساطة من أعراضه الذاتية لمساواتها له، نعم إذا قلنا) الموجود إمّا واجب أو ممكن (، فالموضوع هو مطلق الوجود الأعم، ليصحّ تقسيمه إلى القسمين.

ص:18


1- - تعليقة الطباطبائي على الجزء الأوّل لكتاب الأسفار: 30 31.

و بذلك يتبيّن أنّ مساواة العوارض مع موضوع العلم، شرط في المحمولات الأوّلية، كقولنا: الموجود إمّا واجب أو ممكن، و أمّا المحمولات الثانوية كالبساطة و التركّب فلا تشترط المساواة مع موضوع العلم، بل تكفي مساواتها، مع موضوعها، أي الموجود المتحصص بالوجوب، أو الإمكان، و هكذا سائر الموارد، لكفاية هذا المقدار في حصول اليقين بالنسبة.

هذا إجمال ما ذكره العلاّمة الطباطبائي في تعاليقه على الأسفار، و نهاية الحكمة.

غير أنّ هنا نكتة: و هي أنّ ما ذكره من أنّ شرط كون القضايا يقينية هو أن يجتمع فيها شروط أربعة:

كون النسبة ضرورية أوّلاً، و دائمة الصدق ثانياً، و كلّية الصدق ثالثاً، و كون المحمول من العوارض الذاتية للموضوع رابعاً، إنّما يختص بالعلوم الحقيقية و لا يعم العلوم الاعتبارية، لأنّ الاعتباريات قائمة بلحاظ المعتبر، و تتغير بتغيير الاعتبار، و لا يلزم أن تكون ضرورية الصدق و دائمية و كلية.

و بذلك يتضح انّ الأُمور الاعتبارية لا يقام عليها البرهان العقلي بالشكل الذي يقام في العلوم الحقيقية، فانّ الموضوع فيها ليس من علل وجود المحمول حقيقة إلاّ بالاعتبار و المواضعة، و تدوم العلية ما دام الاعتبار قائماً فإذا زال، زالت العلية.

كما أنّه لا يعتبر كون المحمول عرضاً ذاتياً) الشرط الرابع (لأنّ العلوم الاعتبارية تدون لتحقيق غرض اجتماعي كالعلوم الأدبية، فانّ الملاك في كون شيء من مسائل تلك العلوم كونه واقعاً في دائرة الغرض المطلوب من ذلك العلم سواء أ كان العروض بلا واسطة أو معها، و سواء أ كانت الواسطة مساوية أو أعمّ أو

ص:19

أخصّ أو مباينة، و سواء عدّ عرضاً ذاتياً أو غريباً، فانّ اشتراط واحد من هذه الأُمور من قبيل لزوم ما لا يلزم، بل انّ استعمال الذاتي و الغريب في مسائل تلك العلوم من باب التشابه، و إلاّ فلا عرض حقيقة فضلاً عن كونه ذاتياً أو غريباً.

الجهة الثانية: نسبة موضوعات المسائل إلى موضوع العلم

جواب المحقق الخراساني عن إشكال في تعريف موضوع العلم
اشارة

قال المحقّق الخراساني: إنّ موضوع كلّ علم هو نفس موضوعات مسائله و ما يتّحد معها خارجاً و إن كان يغايرها مفهوماً تغاير الكلي و مصاديقه، و الطبيعي و أفراده.

أقول: كأنّه) قدس سره (بصدد الجواب عن الإشكال المذكور في المقام، و هو أنّ العرض الذاتي عبارة عمّا يعرض موضوع العلم بلا واسطة أو بواسطة مساو، فإذا كان هذا هو معنى العرض الذاتي فهو منقوض بمسائل العلوم قاطبة فانّ موضوعات المسائل أخصّ من موضوع العلم من دون فرق بين العلوم الحقيقية و الاعتبارية.

أمّا الأُولى كقولك: كلّ ممكن فهو زوج تركيبي له ماهية و وجود، فمحمول المسألة أعني التركيب عارض لموضوعها أعني) كلّ ممكن (، و هو أخصّ من الموجود المطلق، الذي هو موضوع العلم في الالهيات بالمعنى الأعمّ.

و أمّا الثانية كقولك: كلّ فاعل مرفوع فالرفع من عوارض الفاعل و هو أخصّ من موضوع علم النحو أعني الكلمة و الكلام.

هذا و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ نسبة الموضوعين إنّما هي نسبة الافراد إلى الطبيعي، و المصاديق إلى الكلي، و التغاير المفهومي لا يضر بعد اتحادهما في الوجود.

ص:20

يلاحظ عليه بأمرين:
الأوّل: انّه إنّما يصحّ إذا لم يكن للخصوصية الموجودة في موضوع المسألة مدخلية في عروض المحمول.

فيكون محمول المسألة عارضاً على موضوع العلم، دون ما إذا كان له مدخلية كما في المقام فانّ للإمكان مدخلية في عروض التركب، كما أنّ للفاعلية مثل هذا الشرط، و نظيره قولنا:» زوايا المثلث مساوية لزاويتين قائمتين «فانّ للمثلّثية مدخلية في التساوي، و عندئذ لا يمكن أن يعد محمول المسألة من عوارض موضوع العلم بحجّة أنّ التغاير مفهومي لا مصداقي.

الثاني: انّ الإشكال إنّما يرد على من فسّر العرض الذاتي بما يعرض لموضوع العلم بلا واسطة أو بواسطة أمر مساو،

لا على من فسّر العرض الذاتي بما يعرض الموضوع بلا واسطة في العروض كما عليه المحقّق الخراساني تبعاً للحكيم السبزواري، فوجود الواسطة لا تضر ما لم تكن واسطة في العروض، كما هو كذلك في المقام، فانّ الكم المتصل يتصف حقيقة بالمساواة إذا كان متّحداً مع المثلث، كما أنّ الجسم الطبيعي، يتصف بالحرارة و البرودة إذا كان متّحداً مع النار و الماء و غير ذلك.

هذا و قد أورد السيّد الأُستاذ) قدس سره (على المحقّق الخراساني بانتقاضه بعلمي الهيئة و الجغرافية فانّ النسبة بين الموضوعين فيهما إلى موضوعات مسائلهما نسبة الجزء إلى الكل.(1)

يلاحظ عليه: بعدم انتقاض الضابطة فيهما، و ذلك لأنّ الموضوع في علم الهيئة ليس هو ذوات الكواكب حتى يكون البحث عن كوكب خاص بحثاً في جزء الموضوع، بل الموضوع هو أوضاع الكواكب و طبائعها، و هو أمر كلي، و أوضاع كوكب خاص يكون فرداً من هذا الكلي، و يؤيّد ذلك انّه عرّف علم الهيئة بقولهم

ص:21


1- - تهذيب الأُصول: 1/7.

هو علم يعرف منه أحوال الأجرام البسيطة العلوية و السفلية و أشكالها و أوضاعها و مقاديرها و أبعادها، و موضوعه الأجرام المذكورة من الحيثية المذكورة.(1)

و هكذا الحال في علم الجغرافية فانّ موضوعه أحوال القارّات و البحار المختلفة، فالبحث عن كلّ واحد من هذه القارّات بحثاً عن مصاديق هذا الفرد الكلي لا عن أجزائه.

و يؤيد ذلك أنّه عُرِّف علم الجغرافية بقولهم: علم يتعرّف به على أحوال الأقاليم السبعة الواقعة في الرّبْع المسكون من كرة الأرض و عروض البلدان الواقعة فيها و أطوالها و عدد مدنها و جبالها و براريها و بحارها و أنهارها، إلى غير ذلك من أحوال الربع المعمور.(2)

هذا كلّه على مبنى المحقّق الخراساني، و أمّا على مذهب القدماء فالتساوي بين محمول المسألة و موضوع العلم متحقّق لما عرفت أنّ العرض الذاتي عبارة عمّا يكون الموضوع مأخوذاً في حدّ العرض، كما في قولنا: الموجود إمّا واجب أو ممكن، فالموجود مأخوذ في حدّ الواجب كما هو مأخوذ في حدّ الممكن، و هكذا إذا أخذنا الواجب أو الممكن موضوعاً و بحثنا عن عوارضها و قلنا الواجب بسيط و الممكن مركب، فقد أخذ الموجود في حدّ البسيط كما أخذ في حدّ المركب، لأنّ البسيط من جميع الجهات هو الموجود الواجب، كما أنّ المركّب من ماهية و وجود هو الموجود الممكن، و هكذا.

و مهما تنزلنا و بحثنا عن محمول المحمول فلم يزل موضوع العلم سارياً في حدِّ المحمولات و عند ذلك يتبين معنى التساوي، و هو تساوي المحمول مع

ص:22


1- - أبجد العلوم: 2/576.
2- - أبجد العلوم: 2132/212 و لفظة جغرافيا كلمة يونانية بمعنى صورة الأرض و ربّما يقال جغراويا.

الموجود المتحصص، كتساوي البسيط مع الموجود الواجب) لا مطلق الوجود (و تساوي التركب من ماهية و وجود مع الموجود المركب لا مطلق الموجود.

و إلى ما ذكرنا يشير العلاّمة الطباطبائي في كلامه السابق، أعني: انّ كلاًّ منهما) الواجب و الممكن ( ذاتي لحصة خاصّة من الأعم المذكور، لأنّ المأخوذ في حد كلّ منهما هو الحصة الخاصة به.

إجابة المحقق النائيني

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أجاب عن الإشكال بوجه آخر، و قال: إنّ الموضوع لعلم النحو ليس هو الكلمة من حيث لا بشرط، بل الكلمة من حيث لحوق الإعراب و البناء، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل، لأنّ الموضوع في قولنا:» كلّ فاعل مرفوع «هو الكلمة من حيث لحوق الإعراب و البناء لها، و المفروض أنّها من هذه الحيثية تكون موضوعاً لعلم النحو، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل، لأنّ كلاًّ من موضوع العلم مع موضوعات المسائل ملحوظ بشرط شيء و هو قيد الحيثية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ القيد المأخوذ في ناحية موضوع العلم غير القيد المأخوذ في ناحية موضوع المسائل، فالمأخوذ في الأوّل هو القابلية للحوق الإعراب و البناء، و أين هو من قيد الفاعلية و المفعولية المأخوذة في ناحية موضوع المسألة و ادّعاء الوحدة بينها أمر عجيب؟! نعم ما ذكرناه و حقّقناه إنّما هو جار في العلوم الحقيقية، و أمّا الالتزام به في العلوم الاعتبارية فهو التزام بما لا يجب الالتزام به كما ذكرنا ذلك أيضاً عند البحث في المقام الأوّل.

ص:23


1- - فوائد الأُصول للكاظمي: 241/23، بتلخيص.

الجهة الثالثة: في لزوم وجود موضوع لكلّ علم

هل يجب أن يكون لكلّ علم موضوع خاص يبحث عن عوارضه الذاتية أو لا؟ فيه أقوال:

1. لزوم وجود الموضوع، و هو الظاهر من القدماء من تعريفهم موضوع العلم.

2. عدم لزوم وجود الموضوع لكلّ علم، و ذلك لأنّ كلّ علم عبارة عن عدّة مسائل متشتتة يجمعها اشتراكها في حصول غرض واحد، و لا يحتاج وراء ذلك إلى وجود موضوع يبحث عن أعراضه الذاتية.

قال المحقّق الأصفهاني: إنّ العلم عبارة عن مركب اعتباري من قضايا متعددة يجمعها غرض واحد.(1)

3. القول بالتفصيل بين العلوم الحقيقية و الاعتبارية بلزوم وجود الموضوع في الأُولى دون الثانية، و هو خيرة العلاّمة الطباطبائي.(2)

استدلّ للقول الأوّل بقاعدة» الواحد لا يصدر إلاّ من واحد «ببيان أنّ الغرض الواحد المترتب على مجموع المسائل يتوقف على وجود جامع بينها و إلاّ يلزم صدور الواحد عن الكثير.

يلاحظ عليه: أنّ القاعدة على فرض صحّتها مختصة بالواحد البسيط الذي ليس فيه رائحة التركيب، كالعقل الأوّل، بناء على أنّه إنيُّ الوجود، فهو لا يصدر إلاّ عن الواحد، و ذلك لأنّه يجب أن يكون بين العلة و المعلول رابطة بها يصدر المعلول عن العلة، و إلاّ فلو صدر من دون وجود صلة بينهما يلزم أن يصدر كلّ

ص:24


1- - نهاية الدراية: 1/7.
2- - لاحظ الأسفار، قسم التعليقة: 311/30.

شيء عن كلّ شيء، فعلى ذلك فلو صدر المعلول الواحد من اثنين يجب أن يجتمع فيه حيثيتان مختلفتان تصحح كلّ واحدة صدوره عن العلة، فعندئذ ما فرضناه واحداً عاد كثيراً، و هو خلف.

و لذلك قالوا: الواحد مع فرض كونه واحداً من جميع الجهات لا يمكن أن يصدر تارة من علّة و أُخرى من علة أُخرى. و هذا كما ترى يخصص برهان القاعدة و موردها بالبسيط من جميع الجهات و ليس له مصداق في جانب العلة إلاّ اللّه سبحانه و لا في جانب المعلول إلاّ العقل.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ القاعدة لا تجدي نفعاً في المقام، لأنّ الغرض المترتّب على المسائل ليس غرضاً واحداً شخصيّاً بسيطاً حتى يتوقف صدوره على تصوير جامع بين المسائل الكثيرة، بل هو غرض واحد نوعيّ يتكثّر بتكثّر المسائل، فالغرض المترتب على مسألة حجّية خبر الواحد غير الغرض المترتب على مسألة دلالة الأمر على الوجوب و عدمه، و الغرض المترتب على أبواب النواسخ، غير الغرض المترتب على باب الفاعل و المفاعيل، و مثل هذا لا يلزم أن يصدر من الواحد، بل قد يصدر من الكثير لأنّه أيضاً كثير.

هذا كلّه حول القول الأوّل.

و أمّا القول الثاني، فبيانه أنّ المحمول في العلوم عرض ذاتي لموضوع العلم فالموضوع من علل وجوده، فكيف يمكن أن يكون هناك عرض بلا موضوع سواء أ كان العرض عرضاً فلسفياً أم منطقياً.

و بعبارة أُخرى: قد عرفت أنّ العرض الذاتي ما يؤخذ موضوعه في حدّه و هو الضابط في تمييزه، فإذا فرض للمحمول محمول، و لمحموله محمول، وجب أن يؤخذ الموضوع الأوّل في حدّ الجميع حتى ينتهي إلى آخر محمول مفروض، فوجود

ص:25

الموضوع من صميم كون العرض ذاتياً.(1)

و أمّا القول الثالث، فبرهانه هو أنّ العلوم الاعتبارية تدوّن للحصول على غرض واحد اعتباري، و ليس حصول ذلك الغرض رهن وجود موضوع شامل لعامة موضوعات مسائله، فالمقوم للعلم الاعتباري ترتّب غرض واحد على مسائل متسانخة سواء كان الكل داخلاً تحت عنوان واحد أو لا، بل يكفي اشتراك عدّة من المسائل في الحصول على غرض واحد، و هذا القول هو المتعيّن من بين الأقوال.

الجهة الرابعة: في تمايز العلوم

اشارة

لا شكّ في وجود التمايز بين العلوم إنّما الكلام في تعيين المميز بينها، و هناك أقوال:

1. تمايز العلوم بتمايز الأغراض، و هو خيرة المحقّق الخراساني.

2. تمايز العلوم بتمايز الموضوعات و هو المشهور.

3. تمايز العلوم بالجهة الجامعة بين مسائلها المنتزعة من المحمولات.

4. تمايز العلوم و اختلاف بعضها بذاتها و جوهرها، و هو خيرة سيدنا الأُستاذ.

فلنتناول كلّ واحد من هذه الأقوال بالبحث و التحليل.

دليل القول الأوّل

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض و قال: إنّ تمايز العلوم، إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين لا الموضوعات و لا

ص:26


1- - الأسفار، قسم التعليقة: 1/31.

المحمولات، و إلاّ كان كلّ باب، بل كلّ مسألة من كلّ علم، علماً على حدة، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدّد، كما لا تكون وحدتهما سبباً لأن يكون من الواحد(1)) إذا كان الغرض متعدّداً (.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه إذا كان بين العلمين تمايز في مرتبة الذات كتمايز علم النفس و علم النبات، حيث إنّ الموضوع في الأوّل غيره في الثاني، فلا تصل النوبة إلى التمييز بالغرض الذي هو أمر متأخّر عن جوهر المسألة: موضوعها و محمولها.

و ثانياً: أنّ ما ذكره إنّما يتمّ ظاهراً لا واقعاً في العلوم التي تتّحد موضوعاً و تختلف في المسائل، كعلمي الصرف و النحو، حيث إنّ الصرف يبحث عن عوارض الكلمة و الكلام من حيث الصحّة و الاعتلال، و النحو يبحث عن عوارضهما من حيث الإعراب و البناء، فعند ذلك يتصوّر انّ المائز بين العلمين هو تعدّد الغرض و هو معرفة الصحيح و المعتل، و المعرب و المبني، و لكنّ هناك نكتة مغفول عنها و هي أنّ تغاير الغرضين رهن أمر جوهري أضفى للعلمين صبغة التعدّد، و هو عبارة عن اختلاف مسائل العلمين جوهراً، فالعلمان متميّزان في مرتبة متقدّمة على الغرض، و الدليل على أنّ الجهة الجامعة لمسائل علم الصرف غير الجهة الجامعة لمسائل علم النحو، فكلّ يجمعها جهة جامعة متغايرة فالأولى اسناد الميز إلى تلك الجهة الجامعة لا إلى الغرض العائد منها.

و ثالثاً: أنّ المراد من الغرض إمّا غرض تدويني أو غرض تعليمي، و كلاهما متأخران عن العلم، فلا بدّ أن يكون للعلم ميز جوهري قبل هذين الغرضين.

ص:27


1- - كفاية الأُصول: 1/5.
دليل القول الثاني

ذهب المشهور إلى أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، و هو صحيح في الجملة، لأنّ موضوع كلّ علم داخل تحت نوع خاص، كعلمي الحساب و الهندسة، فانّ الموضوع في الأوّل من مقولة الكم المنفصل، و يبحث فيه عن أحوال الأعداد، و الموضوع في الثاني من مقولة الكم المتصل، و يبحث فيه عن أحكام الخطوط و السطوح و الأجسام التعليمية، و مع هذا المائز الذاتي لا تصل النوبة إلى المائز بالعرض.

و لكن ليس جميع العلوم كذلك، فانّ العلوم ربّما تتحد موضوعاً و تتعدد وصفاً و تأليفاً حسب الجهات الملحوظة، فانّ البدن الإنساني موضوع لكلّ من علم الطب و التشريح، و وظائف الأعضاء، فبما أنّه يبحث عنه من جهة عروض الصحّة و السقم عليه يكون موضوعاً لعلم الطب، و بما انّه يبحث فيه لغاية التعرّف على أعضائه و أجزائه، فهو موضوع لعلم التشريح، و بما انّه يبحث فيه لغاية التعرّف على وظيفة كلّ عضو، فهو موضوع لعلم وظائف الأعضاء، فالعلوم متعددة و الموضوع واحد، فالميز هنا بالمحمولات لا بالموضوعات.

فإن قلت: التمايز في هذا النوع من العلوم أيضاً بالموضوعات، و ذلك لأنّ تمايز العلوم بالموضوعات و تمايز الموضوعات بالحيثيات، فإذا انضمت الحيثية إلى موضوع العلم يتميز عن العلم الآخر لاختلاف حيثيته معه.

قلت: إنّ هذه الحيثيات ليست إلاّ أُموراً منتزعة من المحمولات المختلفة في هذه العلوم الثلاثة فما هو المحمول في علم الطب غير المحمول في علم التشريح، و المحمول فيهما غير المحمول في علم وظائف الأعضاء، و إذا لاحظها الخبير، يرى بينها اختلافاً ذاتياً، و ينتزع من كلّ واحد حيثية خاصة يوصف بها الموضوع في كلّ علم، و يتخيل انّ تمايز العلوم، بالموضوعات و تمايز الموضوعات بالحيثيات، غافلاً

ص:28

عن أنّ هذه الحيثية منتزعة من محمولات العلوم، متأخرة عنها. و على ذلك فنسبة الميز إلى المحمولات في أمثال هذه الموارد، أولى من نسبته إلى الحيثيات.

دليل القول الثالث

إنّ لمسائل كلّ علم جهة و خصوصية لا توجد في مسائل سائر العلوم، و تكون هذه الجهة جامعة بين تلك المسائل و بسببها يحصل الميز بين مسائل هذا العلم و مسائل سائر العلوم، مثلاً: الجهة الجامعة لمسائل علم النحو هي البحث عن كيفية آخر الكلمة من المرفوعية و المنصوبية و المجرورية، فهي خصوصية ذاتية ثابتة في جميع مسائله، و بهذه الجهة تمتاز هذه المسائل عن مسائل سائر العلوم.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح في العلوم التي تتحد موضوعاً و تختلف محمولاً، كما في علمي النحو و الصرف أو العلوم الثلاثة الطب و التشريح و وظائف الأعضاء، فانّ المائز هو الجهة الجامعة بين مسائل العلمين أو مسائل العلوم الثلاثة، و أمّا إذا كان العلمان مختلفين موضوعاً فالتميز بالموضوع مقدّم رتبة و زماناً على الميز بالجهة الجامعة، فانّ أوّل ما يقع في الذهن في هذه الموارد هو الموضوع ثمّ المحمول ثمّ الجهة الجامعة بين مسائلها.

دليل القول الرابع

ذهب السيّد الأُستاذ) قدس سره (إلى أنّ تمايز العلوم بذواتها، و قال: إنّ منشأ وحدة العلوم إنّما هو تسانخ القضايا المتشتتة التي يناسب بعضها بعضاً، فهذه السنخية موجودة في جوهر تلك القضايا و حقيقتها، ففي مثله تمايز العلوم و اختلاف بعضها يكون بذاتها، فقضايا كلّ علم مختلفة و متميزة بذاتها عن قضايا علم آخر.

و أمّا تداخل بعض مسائل العلوم في بعض فلا يضر بما ذكرناه، لأنّ المركب

ص:29

بما هو مركب متميز بذاته عن غيره لاختلاف أكثر أجزائه مع أجزاء المركب الآخر، و إن اتّحدا في بعض.(1)

يلاحظ عليه: أنّه ليس قولاً آخر غير القول بأنّ التمايز إمّا بالموضوع أو بالجهة الجامعة بين محمولات المسائل، فانّ قولنا:» كلّ فاعل مرفوع «و إن كان غير مسانخ لقولنا:» زوايا كلّ مثلث تساوي زاويتين قائمتين «غير انّ عدم التسانخ إمّا لأجل الاختلاف في الموضوع، أو المحمول، أو النسبة بينهما، و ليس في المقام وراء هذه الصور الثلاث أمر آخر يكون هو موجباً لعدم التسانخ، فلاحظ.

و الحقّ في المقام هو أنّ الميز بالموضوع فيما إذا كان بين الموضوعين تباين نوعي كعلمي الهندسة و الحساب، و بالجهة المشتركة بين محمولات المسائل، فيما إذا كان الموضوع واحداً كعلمي الصرف و النحو و علوم الطب و التشريح و وظائف الأعضاء.

و أمّا التمايز بالأغراض فقد عرفت تأخّره عن الميز الجوهري الموجود بين المسائل، إذ ترتّب غرض واحد على عدّة من المسائل دون الآخر كاشف عن تمايز جوهري بين العلمين فلا تصل النوبة إلى التمايز بالأغراض مع وجود التمايز الجوهري.

الجهة الخامسة: ما هو موضوع علم الأُصول؟

اشارة

قد اختلفت أنظار علماء الأُصول في تعيين موضوع علم الأُصول، و هناك عدّة أقوال:

1. إنّ موضوع علم الأُصول هو الأدلّة الأربعة و هو خيرة القدماء.

ص:30


1- - تهذيب الأُصول: 1/4.

2. إنّ موضوع علم الأُصول هي الجهة الجامعة بين موضوعات مسائل ذلك العلم، و هو خيرة المحقّق الخراساني.

3. إنّ الموضوع هو الحجّة في الفقه، و هو خيرة المحقّق البروجردي.

4. لا حاجة لوجود موضوع لعلم الأُصول، و هو مختار سيّدنا الأُستاذ، و هو الأقوى.

و إليك دراسة الأقوال واحداً تلو الآخر.

تحليل القول الأوّل و نقده

ذهب القدماء إلى أنّ موضوع علم الأُصول هو الأدلّة الأربعة، و ربّما يحذف الوصف، و يقال: نفس الأدلّة.

و أورد عليه: بأنّه إذا كان الموضوع هي الأدلة الأربعة بقيد الدليلية تخرج أكثر المباحث الأُصولية عن كونها مسألة أُصولية و تُصبح من مبادئ ذلك العلم، لوجود الفرق الواضح بين مبادئ العلم و عوارضه.

فالأوّل يبحث في وجود موضوع العلم، و الثاني يبحث عن عوارضه بعد تسليم وجوده، فإذا كان موضوع علم الأُصول هو الأدلّة الأربعة يكون البحث عن حجّية الخبر الواحد و كونه دليلاً أو لا، بحثاً عن وجود مصاديق هذه الأدلّة الأربعة، و البحث عن مصاديق الموضوع بحث عن المبادئ لا عن العوارض.

و قد أجاب عنه الشيخ عند البحث عن حجّية الخبر الواحد، بقوله:» إنّ مرجع هذه المسألة إلى أنّ السنة أعني: قول الحجّة أو فعله أو تقريره هل يثبت بخبر الواحد، أو لا يثبت إلاّ بما يفيد القطع من التواتر و القرينة؟ و من هنا يتّضح

ص:31

دخولها في مسائل أُصول الفقه الباحث عن أحوال الأدلّة «.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ المراد من السنة إمّا المحكي أعني: قول المعصوم) عليه السلام (و فعله و تقريره أو ما يعمّ الحاكي، أعني: خبر الواحد الحاكي عنها.

فعلى الأوّل، فالمراد من الثبوت، إمّا الثبوت الواقعي أي وجود السنّة الذي هو مفاد كان التامة، فهو بحث عن وجود الموضوع لا عن عوارضه.

أو الثبوت التعبّدي، أي وجوب العمل على طبق الخبر، فهو و إن كان بحثاً عن العوارض لكنّه بحث عن عوارض الحاكي لا المحكي، و مرجع البحث إلى أنّ الحاكي هل له هذا الشأن أو لا؟ و على الثاني، أي كون المراد من السنّة ما يعمّ حاكيها، فالإشكال و إن كان مرتفعاً، و ذلك لأنّ البحث في تلك المباحث يكون عن أحوال السنّة بهذا المعنى، إلاّ أنّ البحث في غير واحد من مسائل هذا العلم لا يخصّ الأدلّة، بل يعمّ غيرها كالبحث عن مفاد الأمر و النهي و أنّهما ظاهران في المعنى الكذائي أو لا.(2)

يلاحظ عليه: بأنّا نختار الشق الثاني، و لكن البحث عن ظهور الأمر في الوجوب و الفور و إن كان لا يختصّ بالسنّة، بل يعمّ مطلق الأمر في اللغة العربية لكن إذا ثبت ظهوره في الوجوب لمطلق الأمر، يثبت ظهوره في الأمر الوارد في السنّة، و ذلك لأنّ الأمر الوارد في السنّة مصداق جزئي من مصاديق مطلق الأمر، و العارض بواسطة أمر أعم يعدّ عرضاً ذاتياً بالنسبة إلى الأخص إذا لم تكن الواسطة، واسطة في العروض كما في المقام.

ص:32


1- - الفرائد: 37، طبعة رحمة اللّه.
2- - كفاية الأُصول: 91/6.
تحليل القول الثاني و نقده

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ موضوع علم الأُصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة من دون أن نعلم ذاك الموضوع بخصوصه.

يلاحظ عليه: أنّه نوع فرار عن بيان الحقيقة، لأنّ المشاكل التي تكتنفها، صدّته عن بيان ما هو الموضوع لذلك العلم.

تحليل القول الثالث و نقده

ذهب المحقّق البروجردي إلى أنّ موضوع علم الأُصول هو الحجّة في الفقه، و مسائله عبارة عن التعيّنات العارضة لها و المحدّدة إيّاها.

توضيح ذلك: انّ العرض على قسمين: خارجي و تحليلي.

فالبحث عن عوارض الجسم من حيث الحركة و السكون و الألوان و الطعوم بحث عن عوارض خارجية محسوسة.

و لكن البحث عن تعيّن الوجود المطلق بإحدى التعيّنات التالية ككونه عقلاً و نفساً و صورة و هيولى و جسم بحث عن العوارض التحليلية.

فالموضوع في العلم الإلهي عبارة عن الوجود المطلق بما هو هو و عوارضه عبارة عن حدوده و تعيّناته. فالحكيم الإلهي يبحث عن تعيّنات الوجود بكونه واجباً أو ممكناً، و الممكن جوهراً أو عرضاً، و الجوهر عقلاً و نفساً و جسماً و هكذا، فروح البحث في جميع الأقسام ليس ثبوت الوجود و تحقّقه، لأنّ الواقعية أمر مسلّم عند الحكيم و إنّما الهدف بيان أقسامه و أنواعه و حدوده و تعيّناته.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الفقيه يعلم أنّ بينه و بين ربّه حججاً قاطعة للعذر و لكن لا يعرف خصوصياتها و حدودها مع العلم بأصل الموضوع، فيطرح

ص:33

الحجّة المقطوعة على بساط البحث، و يبحث عن تعيّناتها و حدودها و أشكالها و ألوانها، بأنّها هل هي خبر الواحد أو الشهرة الفتوائية أو الإجماع المنقول و هكذا؟ فالبحث عندئذ يكون بحثاً عن عوارض الموضوع بعد التسليم بأصل وجوده.

فتلخّص من ذلك أنّ الموضوع هو الحجّة في الفقه، و العوارض العارضة عليها هي العوارض التحليلية كما لا يخفى.

و قد استشكل السيّد الأُستاذ) قدس سره (على هذا التقرير في درس المحقّق البروجردي) قدس سره (و قال:

لو كان الموضوع هو الحجّة في الفقه، فالواجب أن يقال: الحجّة خبر الواحد مع أنّ المتعارف هو العكس.

فأجاب المحقّق البروجردي: بأنّ هذا نظير مسائل الفن الأعلى، فإنّ الموضوع فيه بالاتفاق هو الموجود من حيث هو موجود، مع أنّه يقع محمولاً لا موضوعاً، فلا يقال: الموجود عقل، بل يقال العقل موجود، و هكذا، و وجه ذلك ما أشار إليه الحكيم السبزواري في أوّل الطبيعيات حيث قال:

إن قلت: كيف يكون الجسم هناك عرضاً ذاتياً للموضوع، و المسألة الجسم موجود؟ قلت: بل المسألة» الموجود جسم «و لا سيما على أصالة الوجود و اعتبارية الماهية.(1)

و قد أورد عليه شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة بأنّ لازم هذا خروج أكثر المسائل عن كونها مسألة أُصولية، كالبحث عن ظهورات الأمر و النهي في الوجوب و التحريم، و الفور و التراخي، و الوحدة و الكثرة، ممّا يتطلب فيه إثبات أصل الظهور لا بحثاً عن تعيّنات الحجّة و تطوراتها، و لكنّه عدل عن

ص:34


1- - السبزواري: شرح المنظومة: 201.

الإشكال في هذه الدورة قائلاً بأنّ عنوان المسألة شيء و روحها شيء آخر، فليس الأُصولي عالماً لغوياً يتطلب إثبات أصل الظهور، و إنّما هو يتطلّب إثبات أصل الظهور حتى يكون ذريعة لإقامة الحجّة على واحد من الطرفين. و لأجل ذلك يكون مرجع البحث في هذه المسائل إلى طلب الحجّة على الوجوب أو الندب أو الحرمة أو الفورية و عدمها و هكذا.

ما هو المختار؟

فالأولى أن يقال: انّ كلّ قاعدة تكون ممهدة لتشخيص الأحكام و الوظائف الكلية للمكلفين، فهي مسألة أُصولية، سواء أ كان لهذه القواعد موضوع واحد أم لا، و سواء أ كان البحث عن عوارض الأدلّة الأربعة أو تعيّنات الحجّة أم لا، بل يكفي كون القاعدة ممهدة لتشخيص الوظائف الكلية.

الجهة السادسة: ما هو تعريف علم الأُصول؟

عرّف علم الأُصول قديماً و حديثاً بتعاريف لا يخلو أكثرها من مناقشة:

1. تعريف القدماء: هو العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية.

يلاحظ عليه: أنّ المستنبَط ربّما لا يكون حكماً شرعياً بل وظيفة عملية و عذراً عقلياً بين العبد و المولى كالأُصول العقلية، فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بمعنى معذورية العبد في مخالفة الواقع، و أمّا ما هو الحكم الشرعي الفرعي فلا يستنبط من حكم العقل.

فإن قلت: على القول بالملازمة بين حكم العقل و الشرع يكون المستنبَط حكماً شرعياً.

ص:35

قلت: إنّ غاية ما يَثبت بالملازمة هو إمضاء الشارع معذورية العبد في هذه الحالة و هي ليست حكماً شرعياً فرعياً، و لأجل هذا الإشكال عدل المحقّق الخراساني إلى تعريفه بوجه آخر.

2. تعريف المحقّق الخراساني: صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي تنتهي إليها في مقام العمل.

و يردّ عليه أوّلاً: أنّ لازم ما اختاره في تمايز العلوم أن يعد علم الأُصول علمين لغرضين مختلفين، و تصوّر وجود الجامع بين الغرضين لا يدفع الإشكال، و إلاّ تلزم وحدة علم الصرف و النحو لوحدة الغرض و هو صيانة اللسان عن الخطأ.

و ثانياً: أنّ الظاهر انّ علم الأُصول هو نفس القواعد، و أمّا الصناعة فإنّما هي من المبادئ لا نفس العلم.

3. تعريف المحقّق النائيني: هو العلم بالكبريات التي لو انضمَّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلي.(1)

و يرد عليه: ما أوردناه على تعريف القدماء أنّه ربّما لا يكون المستنتج حكماً فرعياً كليّاً، بل تكون وظيفة عملية.

4. تعريف السيّد الأُستاذ: القواعد الآلية التي يمكن أن تقع كبرى لاستنباط الأحكام الفرعية الإلهية، أو الوظيفة العملية.

و هذا التعريف يحتوي على نقطتين هامتين:

النقطة الأُولى: توصيف القواعد بالآلية، كالمنطق الذي هو قواعد آلية للتفكير الصحيح. فخرجت القواعد الفقهية حيث إنّها مطلوبة بنفسها و ليست مطلوبة لغيرها.

ص:36


1- - فوائد الأُصول: 1/19.

و بعبارة أُخرى: انّ القواعد الأُصولية ما ينظر بها إلى الفقه، و أمّا القواعد الفقهية فهي ما ينظر فيها، و كم فرق بين النظر إلى الشيء بعنوان الآلية و الوسيلة و النظر فيه بعنوان بما هو هو.

و ثمة حديث منقول عن الإمام أمير المؤمنين علي) عليه السلام (حيث قال في بيان نظر الإسلام إلى الدنيا:» من أبصر بها بصّرته، و من أبصر إليها أعمته «.(1)

فلو طلب الدنيا لغاية نيل رضا اللّه سبحانه فهو طلب مرغوب، و أمّا لو طلبها لنفسها دون أن تكون ذريعة إلى كسب الآخرة فهو طلب مرغوب عنه، فالمطلوب من القواعد الأُصولية وقوعها في طريق الاستنباط لا أنّها مطلوبة في حدّ ذاتها، و هذا ما يدفعنا إلى القول بتهذيب علم الأُصول و الأخذ بما هو مقدمة للاستنباط و رفض ما ليس كذلك.

النقطة الثانية: وصفها بإمكان الوقوع لا حتميته، و ذلك ليدخل في التعريف الظنون غير المعتبرة كالقياس و الاستحسان و الظن الانسدادي عامّة، فالجميع يمكن أن تقع في طريقه، و إن لم يقع، للنهي عن بعضها.

و هناك تعريف خامس ذكره شيخنا الأُستاذ مدّ ظله في الدورة السابقة. فمن أراد فليرجع إلى المحصول.

الجهة السابعة: الفرق بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية

و قد ذكرتْ بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية فروق عديدة نقتصر على أهمها:

الفرق الأوّل: انّ المسائل الأُصولية لا تتضمن حكماً شرعيّاً، خلافاً للقواعد

ص:37


1- - نهج البلاغة: الخطبة 82.

الفقهية التي تتضمن حكماً شرعيّاً، و توضيح ذلك:

إنّ المسائل الأُصولية تدور حول محاور أربعة:

1. تعيين الظهورات و مداليل الألفاظ التي يعبّر عنها بمباحث الألفاظ، كالبحث عن ظهور الأمر في الوجوب و النهي في الحرمة.

2. المباحث العقلية أو ما يعبّر عنها بالملازمات العقلية، كالبحث عن الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها، أو وجوب الشيء و حرمة ضده.

3. مباحث الحجج و الأمارات، كالبحث عن حجّية خبر الواحد.

4. الأُصول العملية التي يراد بها تعيين وظيفة الشاك.

و أنت إذا لاحظت هذه المحاور تقف على أنّ المحمول في جميعها ليس حكماً شرعياً فرعياً، بل هو إمّا حكم عقلي أمضاه الشارع كباب الملازمات، أو حكم وضعي كالحجّية، فهي و إن كانت حكماً شرعياً لكن ليس فرعياً، و هكذا الحال في تعيين الظهورات و الوظائف العملية فالجميع بين حكم عقلي أو شرعي غير فرعي.

و هذا بخلاف القواعد الفقهية فانّها تتضمن حكماً شرعيّاً فرعياً كقوله:» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «، و قوله:» على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي «، و قوله:» ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده «. فانّ القاعدة و إن لم ترد بلفظها في الشرع و لكنّها قاعدة مقتبسة من الأحكام الشرعية الفرعية في موردها. فللفقيه أن يقتبس من هذه الموارد قاعدة كليّة باسم» ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده «.

هذا هو الفرق الأوّل بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية.

الفرق الثاني: انّ المسائل الأُصولية تجري في كلّ باب من أبواب الفقه، بخلاف القواعد الفقهية فانّ الغالب فيها هو اختصاصها بباب دون باب

ص:38

كالأمثلة المذكورة. نعم ربّما يجري بعضها في جميع الأبواب كقاعدة لا ضرر و لا حرج.

الفرق الثالث: انّ نتائج المسائل الأُصولية أحكام و وظائف كلّية، بخلاف القواعد الفقهية فانّه ربّما تكون نتيجتها حكماً جزئياً كجريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية كاستصحاب طهارة الثوب المعيّن، و نظيره أصالة البراءة و الاحتياط في الموضوعات، فانّ المترتب عليهما هو الوظيفة الشخصية لمن تم عنده أركان البراءة و الاحتياط.

و من هنا يعلم أنّ الاستصحاب في الشبهات الحكمية مسألة أُصولية بخلافه في الشبهات الموضوعية فانّه قاعدة فقهية، و لا بأس أن يختلف حال المسألة باختلاف موارد تطبيقها، و نظيره البراءة و الاحتياط فانّها في الشبهات الحكمية مسألة أُصولية و في الشبهات الموضوعية قواعد فقهية.

إلى هنا تمّ ما هو المهم عندنا في بيان الفرق بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية، غير أنّ للشيخ الأنصاري بياناً آخر في المقام و هو:

انّ إجراء المسألة الأُصولية في موردها يختص بالمجتهد بخلاف الفقهية فانّ إجراءها في مواردها جائز للمقلّد أيضاً.

و الظاهر عدم تماميّة هذا الفرق فانّ كثيراً من القواعد الفقهية كالمسائل الأُصولية يختص العمل بها بالمجتهد إذ هو القادر على تشخيص» ما يضمن عمّا لا يضمن «، و تمييز الأصل الحاكم عن الأصل المحكوم في الشبهات الموضوعية، و الشرط المخالف للكتاب و السنّة عن موافقهما.

إلى هنا تمّ الفرق بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية، بقي الكلام في تمييز المسألة الفقهية من القواعد الفقهية و المسائل الأُصولية، فنقول:

ص:39

المسألة الفقهية: ما يبحث فيها عن أحكام الموضوعات الخاصّة، تكليفية كانت كالبحث عن وجوب الصلاة و الصوم أم وضعية كالبحث عن طهارة الماء و نجاسة الدم، بل يمكن أن يقال انّ المسائل الفقهية لا تختص بالبحث عن أحكام الموضوعات بل تشمل أيضاً البحث عن ماهية الموضوعات التي تتعلّق بها الأحكام، كالبحث عن ماهية الصلاة و الصوم و أجزائها و موانعها و شرائطها إذ لا وجه لكون البحث عنها استطرادياً.

و من هنا يعلم الفرق بينها و بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية فلا نطيل.

إلى هنا تمّ ما أفاده المحقّق الخراساني في الأمر الأوّل، و إليك الكلام في الأمر الثاني:

ص:40

الأمر الثاني في الوضع

اشارة

و فيه جهات من البحث:

الجهة الأُولى: في حقيقة الوضع

اشارة

(1)

منها: الوضع، هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنى و ارتباط خاص بينهما ناشئ من تخصيصه به تارة، و من كثرة استعماله فيها أُخرى.(2)

يلاحظ عليه:

1. انّ اختصاص اللفظ بالمعنى و الارتباط المذكور من نتائج الوضع، ناشئ منه و ليس نفسه.

2. انّ الارتباط المذكور كما يحصل بالأمرين اللّذين أشار إليهما، كذلك يحصل باستعمال اللفظ في المعنى بداعي الوضع، و سيوافيك تفصيله عند البحث في الحقيقة الشرعية على أنّ تصوير الجامع بين القسمين من الوضع مشكل.

3. انّ التعريف لا يخلو من إجمال، حيث قال: نحو ارتباط بين اللفظ و

ص:41


1- - لقد استأثرت هذه البحوث باهتمام خاص في علم الألسنة الذي يدرس في الجامعات كعلم مستقل، له خصوصياته و استيعاب البحث فيه يخرجنا عن المقصود، إنّما نكتفي بالإشارة إليه على وجه عابر.
2- - كفاية الأُصول: 1/10.

المعنى، دون أن يُبيّن حقيقة هذا الربط.

و منها: انّ حقيقة الوضع ليست إلاّ التعهد بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى.(1)

و هذا التعريف هو المعروف بمسلك التعهد في الوضع، و أوّل من فسّر الوضع به هو المحقّق النهاوندي) المتوفّى 1317 ه (و تبعه تلميذه أبو المجد الاصفهاني (1285 1362 ه (و المحقّق الخوئي (1317 1413 ه (في محاضراته و تعليقاته على أجود التقريرات.

قال أبو المجد في شرح مرام أُستاذه: الوضع عبارة عن التعهّد، أعني: تعهد المتكلّم للمخاطب و التزامه بأنّه لا ينطق بلفظ خاص إلاّ عند إرادته معنى خاصاً، أو أنّه إذا أراد إفهامه معنى معيناً، لا يتكلّم إلاّ بلفظ معيّن، فمتى تعهد له بذلك و أعلمه به حصلت الدلالة و حصل الإفهام.(2)

يلاحظ عليه بوجوه:

1. انّه من قبيل خلط الغاية من الفعل، بنفس الفعل. فالوضع شيء و الغاية المتوخّاة منه شيء آخر، فالتعهد المذكور في كلامه غاية الوضع حتى يخرج فعل المتكلّم عن اللغوية.

و إن شئت قلت: الوضع عمل خاص يستعقب ذلك التعهدَ و ليس نفسَه.

2. لو كانت حقيقة الوضع ذاك التعهد، لزم كون كلّ مستعمل واضعاً، لالتزام كلّ مستعمل تفهيم المعنى عند التكلّم باللفظ المخصوص و الالتزام به أمر

ص:42


1- - تشريح الأُصول: للمحقق النهاوندي.
2- - وقاية الأذهان: 62، ط مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).

غريب و إن التزم به بعض المحقّقين.(1)

3. انّ الالتزام بالتعهد في الوضع، غير لازم بل يكفي فيه مجرّد جعل اللفظ في مقابل المعنى بداعي الانتقال إليه عند التكلّم كما هو الحال في سائر الدوال كالعلائم الرائجة لإدارة المرور.

و قد تفطن المحقّق الاصفهاني لما ذكرناه من كون كيفية الدلالة و الانتقال من اللفظ و سائر الدوال على نهج واحد بلا إشكال.

فقال: فليس من ناصب العلامة على رأس الفرسخ إلاّ وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه، من دون أيّ تعهّد منه.(2)

نظرنا في حقيقة الوضع

و الحقّ انّ الوضع(3) عبارة عن تعيين الألفاظ في مقابل المعاني فقط، و أمّا التزام الواضع بأنّه متى أراد تفهيم المعنى، يتكلّم بهذا اللفظ فهو الغرض الداعي إلى ذلك الجعل، و الذي يدلّ على أنّ حقيقة الوضع لا تتجاوز عن ذلك، أمران:

الأوّل: انّ وظيفة الأخصّائيين في اللغة العربية هي وضع الألفاظ بإزاء المعاني، فإذا كانت هناك اصطلاحات علمية أو اجتماعية غير دارجة في اللغة العربية، فانّ هؤلاء الأخصّائيين يضعون بازائها ألفاظاً من اللغة العربية و بعد أن يتمّ الاتفاق عليها، يذاع أمرها فتستعمل.

فإذا كان عملهم لا يتجاوز إلاّ جعل اللفظ بإزاء المعنى فليكن كذلك عمل السائرين عبر الزمان من أهل اللغة.

ص:43


1- - تعاليق أجود التقريرات: 1/12.
2- - نهاية الدراية: 1/14.
3- - المقصود، التعييني، لا التعيّني لما مرّ في ص 41.

الثاني: انّ مسئولية إدارة المرور هي عبارة عن» وضع علائم للوظائف «التي ينبغي لسائقي الشاحنات و الناقلات الالتزام بها بغية تنظيم المرور، و عملهم هذا أشبه بعمل الواضع فليكن عمل المتقدمين من أهل اللغة كذلك.

الجهة الثانية: وجود العلقة الذاتية بين الألفاظ و معانيها

قد نقل عن غير واحد من أهل الأدب وجود العلقة الذاتية بين الألفاظ و المعاني و ذلك لصيانة عمل الواضع عن الترجيح بلا مرجح، فانّ جعل لفظ في مقابل معنى فعل اختياري صادر من الإنسان الذي لا يرجِّح أحد الطرفين إلاّ بمرجح و ليس هو إلاّ وجود العلقة الذاتية.

يلاحظ عليه: لو صحّ ذلك لزمت لغوية الوضع إذ تكون دلالة اللفظ على المعنى أشبه بدلالة الدخان على النار، أو دلالة السعال على وجع الصدر.(1)

نعم يمكن تفسير القول بالعلقة الذاتية بين اللفظ و المعنى بوجه آخر، و هو أنّ التتبع يكشف عن أنّ الإنسان كان يسمِّي الحيوانات بأصواتها كالهدهد، و البوم، و الحمام، و العصفور، و الهرة، كما يستند في حكاية الأفعال و الحركات إلى أصواتها، كالدق، والدك، و الشق، الكسر، الصرير، الدوي، النهيق، و لأجل ذلك ربّما يمكن أن يقال: إنّ كلّ إنسان بما هو مفطور على إظهار ما في ضميره، كان ينتخب لإبراز ما في ضميره ألفاظاً يرى بينها و بين معانيها مناسبة خيالية أو وهمية كالمشابهة في الشكل و الهيئة و غير ذلك من المناسبات، فها هو لفظ الهيولى فانّه بمعنى» المادة الأُولى «لكن يستعمل العرف الخاص في الموجود المَهيب، لما يراه بين ذلك اللفظ و المعنى من مناسبة وهمية.

ص:44


1- - الدلالة الأُولى عقلية، و الثانية طبعيّة.

و بذلك يجاب عمّا يقال بأنّه لو لا العلقة الذاتية بين اللفظ و المعنى يلزم الترجيح بلا مرجح، و ذلك لما عرفت من أنّه يكفي وجود التناسب الوهمي و الخيالي و غيرهما في انتخاب اللفظ و لا يحتاج إلى المناسبة الذاتية.

الجهة الثالثة: في تعيين الواضع

إنّ الإمعان في الحياة البشرية الغابرة، يُثبت بأنّ الحضارة الإنسانية بأبعادها ليست وليدة يوم أو شهر أو سنة، بل الإنسان خرج من البداوة و الحياة الفردية إلى الحياة الاجتماعية بالتدريج فهو عبْر تعمير الأرض بأنحائها المختلفة كان بحاجة شديدة إلى المفاهمة و المكالمة، و قد خلق اللّه سبحانه مادتها في فطرته، و قال: (عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) فالحاجة دعته إلى إفهام ما في ضميره من الحوائج بإنشاء ألفاظ مقابل معان بالتدريج فلو قلنا إنّ لكلّ لغة واضعاً، فالواضع هو البشر عبر الزمان بإذن اللّه سبحانه بالتدريج و لم يزل الأمر كذلك في مستقبل الحضارة حيث انّ الألفاظ تزداد، وفق زيادة المعاني.

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ الواضع هو اللّه تبارك و تعالى، و هو الواضع الحكيم حيث جعل لكلّ معنى لفظاً مخصوصاً باعتبار مناسبة بينهما مجهولة عندنا، و جعله تبارك و تعالى هذا واسطة بين جعل الأحكام الشرعية المحتاج إيصالها إلى إرسال رسل و إنزال كتب، و جعل الأُمور التكوينية التي جبل الإنسان على إدراكها كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء و نحو ذلك. فالوضع جعل متوسط بينهما لا تكويني محض حتى لا يحتاج إلى أمر آخر، و لا تشريعي صرف حتى يحتاج إلى تبليغ نبيّ أو وصيّ، بل يلهم اللّه تبارك و تعالى عباده على اختلافهم كلّ طائفة بالتكلّم بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص.

ص:45

و استدل على ذلك بأمرين:

الأوّل: لو فرضنا جماعة أرادوا إحداث ألفاظ، بقدر ألفاظ أيّ لغة لما قدروا عليه فما ظنك بواحد.

الثاني: كثرة المعاني، فانّه يتعذّر تصوّرها من شخص أو أشخاص.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّه سبحانه وضع الألفاظ لمعانيها ثمّ ألهم بها الإنسان أمر محتمل، و ربما يشير إليه سبحانه: (اَلرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) لا يخالف ما اخترناه آنفاً، لكن ما استدلّ عليه بالوجهين غير تام. لأنّه إنّما يتمّ لو كان هناك واضع خاص أو أشخاص معينون، و أمّا على القول بأنّ أصل كلّ لغة و تكاملها يرجع إلى جهد الإنسان عبر سنين طويلة فلا بعد في أن يقوم البشر طيلة هذه السنين بوضع لغات متعددة لمعاني كثيرة.

الجهة الرابعة: في أقسام الوضع

اشارة

قُسِّم الوضع إلى أقسام أربعة:

1. الوضع الخاص و الموضوع له الخاص.

2. الوضع العام و الموضوع له العام.

3. الوضع العام و الموضوع له الخاص.

4. الوضع الخاص و الموضوع له العام.

القسم الأول و الثاني إمكانا و وقوعا

و قد اتّفق علماء الأُصول على إمكان الأوّلين و وقوعهما، و الأكثر على إمكان الثالث و وقوعه و امتناع القسم الرابع.

غير انّ المهم هو الوقوف على ما هو الميزان في كون الوضع خاصّاً أو عامّاً؟

ص:46


1- - أجود التقريرات: 121/11.

ثمّ البحث عن القسمين إمكاناً و وقوعاً و إجمال الكلام فيه على انّ الوضع يقوم بأمرين:

الأوّل: اللفظ و هو الموضوع.

الثاني: المفهوم الملحوظ.

و المدار في وصف الوضع بكونه خاصّاً أو عامّاً، هو كون الملحوظ خاصّاً، أو عاماً. فلو كان الملحوظ خاصّاً فالوضع خاص. و لو وضع اللفظ لنفس الملحوظ الخاص يكون الموضوع له خاصاً أيضاً. و لو كان الملحوظ عاماً فالوضع عام و لو وضع اللفظ لنفس الملحوظ العام يكون الموضوع له عامّاً أيضاً.

و أمّا إذا كان المفهوم الملحوظ عامّاً لكن لم يوضع اللفظ بازائه، بل بإزاء مصاديقه، فيكون الوضع عامّاً لكون الملحوظ عاماً، و الموضوع له خاصاً، لأنّ الوضع للأفراد و المصاديق، و هذا كأسماء الإشارة حيث إنّ الملحوظ طبيعة المفرد المذكر و الموضوع له مصاديق ذلك الملحوظ العام.

و أمّا إذا كان المفهوم الملحوظ خاصّاً لكن لم يوضع اللفظ بإزاء ذلك الخاص بل بإزاء الجامع بين ذلك الفرد و سائر الأفراد، يكون الوضع خاصّاً و الموضوع له عاماً.

إلى هنا وقفنا على واقع التقسيم الرباعي في مجال الوضع، فإذا كان الأوّل و الثاني ممكنين و واقعين فلا نبحث فيهما و إنّما نركز الكلام على الثالث و الرابع.

القسم الثالث: إمكاناً و وقوعاً

فنقول: المشهور بين الأُصوليين إمكان الثالث و وقوعه، و قد قرروا إمكانه بوجوه:

ص:47

الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني في» الكفاية «، قال:

إنّ العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده و مصاديقه بما هو كذلك، فانّه من وجوهها، و معرفة وجه الشيء معرفته بوجه، بخلاف الخاص فانّه بما هو خاص لا يكون وجهاً للعام و لا لسائر الأفراد، فلا تكون معرفته و تصوّره معرفة له و لا لها أصلاً و لو بوجه.(1)

و حاصل هذا الوجه: انّه لا يشترط في تصوّر الموضوع له تصوّره تفصيلاً، بل يكفي تصوّره إجمالاً، و يكفي في ذلك معرفة الأفراد بوجهها و هو العام.

يلاحظ عليه: أنّ معنى كون الشيء وجهاً، هو كونه مرآة له و حاكياً عنه، و الحكاية فرع الوضع، و المفروض أنّ الملحوظ العام كالحيوان الناطق لم يوضع إلاّ لنفس الحقيقة المعرّاة عن كلّ قيد و شرط، فكيف يمكن أن يحكي المعنى المطلق، عن القيود و الخصوصيات التي بها قوام الفرديّة؟! و الحاصل: انّ القدر المشترك بما هو قدر مشترك و الذي نعبّر عنه بالملحوظ لا يحكي إلاّ عن القدر الجامع عن الخصوصيات و فردية الفرد بالثانية دون الأُولى.

الثاني: ما ذكره المحقّق الخوئي، حيث قرر إمكان القسم الثالث بما هذا خلاصته: الفرق بين القضية الخارجية و الحقيقية، هو انّ الحكم في الأُولى مقصور على الأفراد الموجودة في ظرف الحكاية، مثل قولك:

» قُتل من في العسكر «و» نهب ما في الدار «و أمّا الحقيقية فالحكم فيها مجعول على الأفراد المحقّقة، و المقدّرة في الأزمنة الآتية، مثل قولك: كلّ إنسان كاتب بالقوّة.

فكلّ إنسان موجود في ظرف الحكم و الموجود في الأزمنة الآتية المقدرة ظرفه، مشمول لهذا الحكم، و ليس هذا إلاّ لأجل أخذ الطبيعة في موضوع الحكم

ص:48


1- - كفاية الأُصول: 1/10.

على وجه سارية في أفرادها، و جارية في مصاديقها، فيشمل كلّ فرد محقّق في ظرفه، و ما قيل من أنّ العام لا يحكي عن المصاديق و الأفراد فإنّما يصحّ إذا كانت القضية طبيعية أو خارجية، و أمّا إذا كانت مأخوذة على نحو القضية الحقيقية التي تكون فيها الطبيعة متحدة مع المصاديق و سارية فيها، فانّها تحكي عن الجميع حسب سريانها.(1)

يلاحظ عليه: انّ معنى سريان الطبيعة في مصاديقها هو ثبوت الحكم عليها متى وجدت، و يكفي في ثبوت الحكم انطباق العنوان عليها، و يكفي في الانطباق كون الفرد بما هو إنسان مصداقاً للجامع بما هو هو، لا بما له من الخصوصيات و القيود. و أمّا حكايتها عن الافراد و الخصوصيات فلا، لأنّ مناط الحكاية هو دخول الخصوصيات في مفاد الملحوظ العام، و المفروض انّها حقيقة معرّاة، و تصور انّ الجامع متحد مع الخصوصيات و إن كان صحيحاً لكن الاتحاد ليس مناط الحكاية، و إنّما مناطها دخول الخصوصيات في المعنى الجامع و حكايتها عنها، و المفروض أنّ الملحوظ الجامع لم يوضع إلاّ لنفس الجامع.

الثالث: ما أفاده المحقّق العراقي و حاصله:

إنّ العناوين العامة المنتزعة على أنواع:

1. العنوان المنتزع من الجامع الذاتي بين أفراده، المتحد وجوداً مع خصوصيات الأفراد و المعرّى عنها تصوراً و حقيقة كالحيوان و الإنسان.

2. العنوان المنتزع من الأفراد باعتبار اتّصافها بخصوصية خارجة عن ذاتها

ص:49


1- - حكى شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه انّه سمع ذلك التقرير من السيد الخوئي في درسه الشريف عام 1370 ه. ق و أشار إلى ذلك التقرير في المحاضرات بصورة عابرة حيث قال: و هذا هو الوضع العام و الموضوع له الخاص و حاله كحال القضية الحقيقية ) المحاضرات: 1/53).

و ذاتياتها، سواء كان ما بحذائها شيء كالأبيض، أو لا كالممكن. و هذان القسمان لا يحكيان عن شيء من خصوصيات أفراده بل يحكيان عن الجامع الساري.

3. العنوان العام الذي يحكي إجمالاً عن الخصوصيات التي يكون بها التشخص خارجاً.

و الأوّل و الثاني يحكيان عن الجامع الموجود في الفرد، دون الخصوصيات، و الثالث يحكي عن نفس الخصوصيات التي بها يكون التشخص خارجاً، مثل مفهوم» الشخص «و» الفرد «و» المصداق «فهذه عناوين كلية منتزعة من الأفراد و الخصوصيات الخارجية. و نظيرها لفظ» كل «و» بعض «و الموصولات مثل» من « و» ما «. و عندئذ يصحّ أن يوضع لفظ» الإنسان «، لكلّ من ينطبق عليه لفظ الإنسان فانّ لفظ الكلّ، حاك عن الأفراد إجمالاً، أو يقال لفظ» هذا «موضوع لكلّ مفرد مذكر.(1)

و هذا التقرير لا غبار عليه، و على ذلك يمكن أن يمثل له بأسماء الإشارة، فلفظ» هذا «وضع لكلّ مفرد مذكر، فقولنا: مفرد مذكر إشارة إلى الجامع، و إذا أضيف إليه لفظة كلّ يشير إلى المصاديق، و هذا المقدار من الحكاية يكفي لكون الموضوع له خاصاً.

إلى هنا تمّ بيان القسم الثالث، و إليك بيان القسم الرابع:

القسم الرابع: إمكاناً و وقوعاً
اشارة

ذهب المحقّق الخراساني إلى امتناع القسم الرابع و استدلّ عليه بقوله:

إنّ الخاص لا يكون مرآة للعام، لأنّه إذا لوحظت الخصوصية فيه حين

ص:50


1- - لاحظ بدائع الأفكار: 391/38.

الوضع يكون الموضوع له كالوضع خاصاً، و إن جرّد عن الخصوصية يكون الوضع عامّاً و يرجع إلى القسم الثالث.(1)

و حاصل كلامه: انّ الخاص لتقيده بقيود و خصوصيات لا يحكي إلاّ عن الموجود المشخص، فكيف يمكن أن يكون مرآة للمعنى المتعرّي عن الخصوصيات؟! و لو جرّد الملحوظ عن الخصوصية يصبح حينئذ كليّاً و يصير من قبيل القسم الثالث، لأنّ الملحوظ يكون عاماً و إن كان الموضوع له خاصاً، هذا.

لكن لفيفاً من المحقّقين حاولوا تصحيح هذا القسم بالأمثلة التالية:

أ: إذا لاحظ الواضع فرداً خارجياً من نوع كزيد، و هو يعلم أنّ بينه و بين سائر الأفراد جامعاً كليّاً، فيضع اللفظ للجامع بينه و بين سائر الأفراد، فالملحوظ خاص أعني زيداً، لكن الموضوع له الجامع بين هذا الفرد و سائر الأفراد.

ب: ما ذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري: إذا تصور شخصاً جزئياً خارجيّاً من دون أن يعلم تفصيلاً بالقدر المشترك بينه و بين سائر الأفراد، و لكنّه يعلم إجمالاً باشتماله على جامع مشترك بينه و بين باقي الأفراد مثله، كما إذا رأى جسماً من بعيد و لم يعلم أنّه حيوان أو جماد، فوضع لفظاً بإزاء ما هو متحد مع هذا الشخص في الواقع) أي على الجامع بينه و بين غيره (فالموضوع له لوحظ إجمالاً و بالوجه، و ليس الوجه عند هذا الشخص إلاّ الجزئي، لأنّ المفروض أنّ الجامع ليس متعقلاً عنده إلاّ بعنوان ما هو متّحد مع هذا الشخص.(2)

ج: الكمّ المعروف بالمتر الذي هو وحدة قياس الطول و مقداره 100 سانتيمتر، فالمخترع وضع لفظ المتر على الوحدة القياسية التي اخترعها و على كلّ

ص:51


1- - كفاية الأُصول: 1/10.
2- - درر الفوائد: 1/5.

وحدة تشابهها، فالوضع خاص، لأنّ الموضوع هو الكمية المعيّنة، و لكن الموضوع له هو الجامع بينه و بين غيره.(1)

فالمحقّقون حاولوا تصحيح هذا القسم كما صححوا أيضاً القسم السابق.

نظرية السيد الأُستاذ

إنّ سيدنا الأُستاذ حاول حسم النزاع بالبيان التالي:

و حاصله: القول بالتفصيل بين كون الملحوظ الخاص حاكياً عن العام، و بين كونه سبباً للانتقال إلى العام.

فعلى الأوّل يمتنع هذا القسم، لأنّ الملحوظ بما هو خاص لا يحكي عن العام، ضرورة تقيّده بخصوصيات تعيقه عن حكاية العام.

و أمّا على الثاني فلا مانع من إمكان القسم الرابع، لأنّ الخاص ربّما يكون سبباً للانتقال إلى العام، و الانتقال خفيف المئونة لا يتوقف على أن يكون اللفظ حاكياً عن المنتقل إليه حتى يقال انّ الحكاية فرع الوضع، بل ربّما يكون الضدّ سبباً للانتقال إلى الضدّ، فكلّما يسمع الإنسان اسم موسى الكليم ينتقل إلى طاغوت عصره فرعون، و هكذا.(2)

نعم ذكر سيدنا الأُستاذ نفس هذا التفصيل في القسم الثالث، و انّ العام لا يحكي عن الخصوصيات و لكن يوجب الانتقال إليها، فلو كان الوضع متوقفاً على الحكاية فهذا القسم مثل القسم الرابع في الامتناع و لو كان الانتقال كافياً في الوضع فكلاهما سيان.

ص:52


1- - حكى شيخنا الأُستاذ مدّ ظله انّه سمعه من والده عند تدريسه المنطق لجمع من الفضلاء.
2- - تهذيب الأُصول: 1/8، بتلخيص.

و لكنّك عرفت أنّ الانتقال من العام إلى الخاص يمكن أن يتمّ عن طريق ضميمة لفظ» كلّ «إلى الملحوظ حتى يكون مشيراً و حاكياً عن الخصوصيات، بأن يضع لفظة هذا لكلّ مفرد مذكر، فالوضع عام، لأنّ الملحوظ عام و هو المفرد المذكر، و الموضوع له خاص و هو ما أُشير إليه بقولنا كل.

الجهة الخامسة: في المعاني الحرفية

اشارة

يقع البحث في الحروف في موضعين:

1. ما هي معانيها و مضامينها.

2. ما هي كيفية وضعها.

و النظر في كيفية الوضع و أنّه خاص أو عام يتبع اتخاذ النظر في الموضع الأوّل، و البحثان مختلطان في كلام القوم.

و نحن نركز البحث على الموضع الأوّل و نبحث عن الموضع الثاني في الجهة السادسة.

التعريف المعروف لكلّ من الاسم و الحرف، و هو ما ذكره ابن الحاجب (570 640 ه (صاحب الكافية حيث قال:

» الاسم ما دلّ على معنى في نفسه، و الحرف ما دلّ على معنى في غيره، و المراد من الموصول هو الكلمة، و الضمير في كلّ من» نفسه «و» غيره «يرجع إلى المعنى. و أنّه في حدّ ذاته على قسمين، قسم يكون مفهوماً محصلاً في نفسه، لا يحتاج في تحصيله في الذهن إلى معنى آخر، و قسم يكون مفهوماً متحقّقاً في الذهن يتبع غيره «.(1)

ص:53


1- - شرح الكافية: 5، في معنى الحرف.

ثمّ إنّه ظهرت بعد ابن الحاجب آراء في معنى الحروف و هي بين الإفراط و التفريط، و إليك دراسة هذه الآراء:

1. نظرية المحقّق الرضي) المتوفّى 668 ه (

إنّ الشيخ الرضي اختار في تفسير التعريف المذكور بأنّ الضمير في كلّ من نفسه و غيره يرجع إلى الموصول الذي أُريدت منه الكلمة، و انتهى إلى أنّ معنى الاسم) الابتداء (مضمون نفسه، و لكن معنى الحرف ) من (مضمون لفظ آخر، يضاف ذلك المعنى) مضمون من (إلى معنى ذلك اللفظ الأصلي، و إليك نصّه.

قال الرضي: انّ معنى» من «الابتداء، فمعنى» من «و معنى لفظة» الابتداء «سواء، إلاّ أنّ الفرق بينهما انّ لفظ الابتداء ليس مدلوله مضمون لفظ آخر، بل مدلوله معناه الذي في نفسه مطابقة، و معنى» من « مضمون لفظ آخر يضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك اللفظ الأصلي، فلهذا جاز الاخبار عن لفظ الابتداء في قولك» الابتداء خير من الانتهاء «و لم يجز الاخبار عن لفظ» من «لأنّ الابتداء الذي هو مدلولها، في لفظ آخر، فكيف يخبر عن لفظ ليس معناه فيه، بل في لفظ غيره، و إنّما يخبر عن الشيء باعتبار المعنى الذي في نفسه مطابقة، فالحرف وحده لا معنى له أصلاً، إذ هو كالعلم المنصوب بجنب شيء ليدل على أنّ في ذلك الشيء فائدة ما، فإذا أفرد من ذلك الشيء بقي غير دال على معنى في شيء أصلاً، فظهر بهذا انّ المعنى الافرادي للاسم و الفعل في أنفسهما و للحرف في غيره.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: وجود التناقض بين الصدر و الذيل، فانّ صدر كلامه يوحي إلى أنّ لفظة» من « موضوعة لنفس ما وصفت له كلمة الابتداء، حيث يقول:

ص:54


1- - شرح الرضي لمقدمة ابن الحاجب (الكافية): 4.

فمعنى» من «و معنى» لفظة الابتداء «سواء. فينطبق على نظرية المحقّق الخراساني الآتية.

لكن الذيل يشير إلى نظرية غير معروفة، هي انّ وزان الحروف وزان الأعاريب في أواخر الكلم، فكما أنّ التنوين يشير إلى كون اللفظ فاعلاً، و مفعولاً من دون أن يكون له معنى خاص فهكذا الحروف.

و ثانياً: أنّ الميزان في كون اللفظ ذا معنى أو غيره إنّما هو التبادر، و لا شكّ انّه يتبادر من الحروف معاني خاصة مندكة في معاني متعلقاتها لا انّها خالية من المعنى.

و الفرق بين الحروف و الاعراب واضح فانّ الحروف ممّا ينطق بها مستقلاً فيليق أن يكون لها وضع خاص دون الاعراب.

2. نظرية المحقّق الخراساني

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المعاني الحرفية و الاسمية متحدة جوهراً فلا فرق بينهما، و انّ الاستقلال و الآلية خارجان عن حريم المعنى و حقيقته و إنّما يعرضان عند الاستعمال. فيكون الوضع عاماً و الموضوع له عاماً.(1)

و إنّما ذهب إلى هذا القول تخلصاً من المضاعفات الموجودة في القول بأنّها موضوعة للمعاني الآلية من الابتداء و الانتهاء، لأنّ أخذ الآلية جزء للمعنى يوجب كون الموضوع له خاصاً؟ و عندئذ يعود السؤال بأنّه ما هو المراد من كونه خاصاً؟ فإن أُريد منه الجزئي الخارجي، فربما يكون المستعمل فيه عاماً كما إذا قال:

سر من البصرة إلى الكوفة، و إن أُريد منه الجزء الذهني بحيث يكون لحاظ الآلية قيداً له فيترتب عليه عدّة أُمور:

ص:55


1- - كفاية الأُصول: 1/15.

1. لزوم تعدد اللحاظين عند الاستعمال، لاستلزامه لحاظ المعنى، مضافاً إلى اللحاظ الموجود فيه عن طريق الوضع.

2. عدم انطباقه على الخارج لكون جزء الموضوع أمراً ذهنياً.

3. لزوم كون لحاظ الاستقلالية جزءاً للمعاني الاسمية فيُصبح المعنى الاسمي خاصاً، و هو خلاف ما اتّفقوا عليه.

و حاصل تلك النظرية انّ الأسماء و الحروف موضوعة لمعنى واحد معرّى عن كلّ قيد، أعني:

الاستقلالية و الآلية، لكنّ تعرضهما تلك الخصوصية عند الاستعمال فليستا جزء الموضوع و لا جزء المستعمل فيه، بل من طوارئ الاستعمال و عوارضه.

و الفرق بين تلك النظرية و ما هو المشهور واضح جدّاً، إذ المعنى على مبنى المحقّق الخراساني خال عن كلا القيدين: لحاظ الاستقلال و لحاظ الآلية، و كلاهما يعرضان على المعنى في درجة متأخرة عن الوضع، و هذا بخلاف ما عليه المشهور من أنّ الاستقلال من صميم المعنى الاسمي و جوهره، كما أنّ الآلية و التدلّي و القيام بالغير مقوم للمعنى الحرفي بحيث لو حذفت التبعية لما يبقى للمعنى الحرفي أثر.

هذا مذهبه فهلم معي لتحليله و نقده.

يلاحظ عليه: أوّلاً: انّ لتبيين معاني الألفاظ و تشخيص الموضوع له عن غيره طرقاً مألوفة عند العقلاء و الاخصائيين في ذلك العلم و ما سلكه) قدس سره (من إقامة البراهين العقلية في ذلك الموضوع نهج غير مألوف و لا مفيد، فإنّ لكلّ علم مبادئ و مقدمات خاصة يجب التطرق من تلك المبادئ إلى النتائج، فإثبات اللغة بالبرهان الفلسفي أشبه باصطياد المعاني الفلسفية و اقتناصها من الاعتبارات العرفية، و ممن نبّه على هذه النكتة أساتذتي الكرام لا سيما السيّد الأُستاذ و العلاّمة الطباطبائي قدّس سرّهما.

ص:56

و ثانياً: إذا كانت المعاني في الخارج، مستقلة و غير مستقلة، قائمة بنفسها و متدلّية بغيرها. فلما ذا يترك الواضع هذين المعنيين و لم يُعْرِ لهما أهمية فانّ تعلّق الغرض ببيان هذين المعنيين بنفس خصوصياتهما أكثر من تعلّق غرضه بالجامع بينهما.

و ثالثاً: إذا فرضنا انّ الخصوصيتين أعني: الاستقلالية و الآلية غير داخلتين في الموضوع له و إنّما تعرضان للمعنى عند الاستعمال فما هو الدليل المفهم لتلك الخصوصية فانّ المفروض انّ الدالّ هو اللفظ، و اللفظ دالّ على المعنى الجامع، فكيف تفهم الخصوصية عند الاستعمال مع أنّها غير داخلة لا في الموضوع له و لا في المستعمل فيه؟! و رابعاً: انّ لازم ما ذكره جواز استعمال كلّ من الاسم و الحرف مكان الآخر، مع أنّه غير جائز، و ما ذكره من أنّ هذا النوع من الاستعمال على خلاف شرط الواضع، غير تام، لعدم لزوم اتّباع شرطه، حتى و إن شرطه في ضمن الوضع.

و خامساً: ما ذا يريد من خروج الاستقلالية و التبعية من صميم المعنى الاسمي و الحرفي؟ فإن كان يريد خروجهما عن مفهومهما واقعاً، فهذا نفس القول بارتفاع النقيضين، فانّ المعنى في حدّ الذات إمّا مستقل أو غير مستقل.

و إن أراد خروج لحاظ الاستقلالية و الآلية لا نفسهما عن صميم المعنى كما هو ظاهر كلامه، فيرد عليه انّ مقوم المعنى الحرفي ليس لحاظ الآلية حتى يلزم من خروجه عن صميم المعنى، وحدة المعاني الحرفية و الاسمية، بل المعيار في كون المعنى حرفياً هو كون جوهره و حقيقته قائماً بالغير متدلّياً به في مقابل خلافه.

و لو كان الملاك للمعنى الاسمي و الحرفي هو لحاظ الاستقلال في الأوّل و لحاظه الآلية في الثاني كان لما ذكره وجه حيث يصحّ ردّه بالبراهين الثلاثة على

ص:57

خروجها، فنخرج بالنتيجة التالية: وحدة المعاني الاسمية و الحرفية حقيقة و اختلافاً عند الاستعمال.

و أمّا إذا كان ملاك التمييز بينهما هو جوهر معانيهما على نحو يكون أحدهما مستقلاً بالذات، و إن لم يلاحظ الاستقلال، و يكون ثانيهما متدلّياً بالذات و قائماً بالغير، و إن لم يلاحظ التدلّي و القيام بالغير، لم يكن لما ذكر وجه، و لأجل ذلك ذهب المحقّقون إلى أنّ التفاوت بين المعنيين لا يمتّ إلى اللحاظ بصلة، بل يمتّ إلى جوهرهما و واقعهما، و إليك شرح هذه النظرية.

النظرية الثالثة: تمايزهما بنفس الذات
اشارة

هذه النظرية هي النظرية المعروفة من عصر ابن الحاجب إلى يومنا هذا، فقد تقدّم تعريف المعنى الاسمي و الحرفي عنه. و شرحه الشريف الجرجاني في تعليقته على شرح الكافية للشيخ الرضي، و نقله عبد الرحمن الجامي في شرحه على الكافية تارة باسم الحاصل و أُخرى باسم المحصول.

و أوّل من شرحه بأمانة و دقة صدر الدين الشيرازي، و تبعه شيخنا المحقّق الاصفهاني في تعليقته على الكفاية، و السيد الطباطبائي في تعليقته عليها، و السيد الإمام الخميني في محاضراته قدّس اللّه أسرارهم، و نحن نذكر النظرية بأوضح العبارات و أبينها.

إنّ الغاية من وضع الألفاظ سواء أ كان بالوضع التعييني أو التعيّني هو رفع الحاجة و إظهار ما يقوم بالنفس من المفاهيم و المعاني التي ينتقل إليها الذهن من طرف الحواس و غيرها من أدوات المعرفة.

هذا من جانب، و من جانب آخر انّ الوجود في النشأة الخارجية على أقسام ثلاثة:

ص:58

1. ما هو مستقل ذاتاً و ماهية كما هو مستقل خارجاً و وجوداً.

و بعبارة أُخرى: مستقل في كلتا النشأتين: الذهنية و الخارجية، فله استقلال في صحيفة الذهن كما له استقلال في صحيفة الوجود، كالجواهر بأقسامها، و هذا ما يعبّر عنه الفلاسفة بقولهم:» في نفسه لنفسه «فكلمة » في نفسه «إشارة إلى استقلاله في مفهومه و ذاته، كما أنّ لفظة» لنفسه «إشارة إلى استقلاله في الوجود من دون أن يكون قائماً بالغير ناعتاً له.

2. ما هو مستقل ذاتاً و ماهية، لكن غير مستقل خارجاً و وجوداً، بل إذا وجد في الخارج وجد في موضوع، ناعتاً لغيره واصفاً له.

و بعبارة أُخرى: مستقل في صحيفة الذهن دون صحيفة الخارج، و ذلك كالأعراض بأقسامها التسعة، فالبياض له مفهوم مستقل يُعرف: انّه لون مفرّق لنور البصر. لكنّه إذا وجد في الخارج بحاجة إلى موضوع يقوم به. و مثله سائر الأعراض و يعبّر عنه:» في نفسه مفهوماً لغيره وجوداً «.

3. ما هو غير مستقل في كلتا النشأتين لا في الذهن و لا في الخارج و ليس له مفهوم تام كما ليس له وجود مستقل، فهو في عالم التصوّر اندكاكيّ المعنى، و في عالم التحقّق اندكاكيّ الوجود، فمفهومه فان في مفهوم آخر كما أنّ وجوده كذلك.

و هذا كالمعاني الحرفية حيث لا تتصور إلاّ تبعاً للمعاني المستقلة و في ظلها، كما لا تتحقق إلاّ مندكة في الغير و فانية فيه، و يعبّر عنه في مصطلحهم بقولهم:» ما وجوده في غيره لغيره «.

فالقسم الأوّل هو الوجود النفسي، و الثاني هو الوجود الرابطي و يعبّر عنه بالاعراض أيضاً، و الثالث هو الوجود الرابط، كما يقول الحكيم السبزواري:

انّ الوجود رابط و رابطي ثمة نفسي فهناك و اضبطي

ص:59

و إن أردت التوضيح فاستوضح الأمر في المثال التالي:

تقول زيد في الدار، فهاهنا أمران مستقلان مفهوماً و مصداقاً و هو» زيد «و» دار «و هناك مفهوم ثالث و هو» كون زيد في الدار «فهو مفهوم لا يتصوّر إلاّ مضافاً إلى زيد و دار كما لا يتحقق إلاّ بهما. و الاندكاكية و اللااستقلالية في صميم ذاته و جوهر حقيقته على نحو لو انسلخ المعنى عن هذا الوصف، لعدم المعنى و انقلب المعنى الحرفي معنى اسمياً، و بذلك أصبح المعنى الحرفي أخسَّ المعاني تصوراً و وجوداً.

و قس عليه سائر الأمثلة الرائجة كقولك: سرت من البصرة إلى الكوفة، فهاهنا مفهومان مستقلان ماهية و ذاتاً، أحدهما السير، و الآخر البصرة، و هناك مفهوم ثالث و هو كون ابتداء السير من البصرة هو غير مستقل مفهوماً إلاّ إذا أُضيف إلى سائر المعاني كالسير و البصرة، كما هو غير مستقل وجوداً فلا يتحقّق الابتداء بهذا المعنى إلاّ قائماً بالسير من البصرة. إلى غير ذلك من الأمثلة.

و بذلك يعلم انّ الفرق بين المعاني الاسمية و الحرفية جوهري، ينبع الفرق من جوهر معانيهما و صميم ذاتهما سواء أ كان هناك ملاحظ أم لا.

و بعبارة أُخرى: الاستقلالية و الآلية من صميم ذاتهما على نحو لو سلختا عن هذين المعنيين لانعدما.

قال الشريف الجرجاني: كما أنّ في الخارج موجوداً قائماً بذاته، و موجوداً قائماً بغيره، كذلك في الذهن معقول هو مدرك قصداً ملحوظ في ذاته، يصلح أن يحكم عليه و به، و معقول هو مدرك تبعاً و آلة، كملاحظة غيره، فلا يصلح لشيء منهما، فالابتداء مثلاً إذا لاحظه العقل قصداً و بالذات كان معنى مستقلاً بالمفهومية، ملحوظاً في ذاته، و هو بهذا الاعتبار مدلول لفظ الابتداء فقط، و لا حاجة في الدلالة

ص:60

عليه إلى ضمّ كلمة أُخرى إليه لتدل على متعلّقه، و هذا هو المراد بقولهم إنّ للاسم و الفعل معنى كائناً في نفس الكلمة الدالة عليه، و إذا لاحظه العقل من حيث هو حالة بين السير و البصرة مثلاً و جعله آلة لتعرف حالهما كان معنى غير مستقل بالمفهومية و لا يصلح أن يكون محكوماً عليه و به و لا يمكن أن يتعقّل إلاّ بذكر متعلّقه بخصوصه و لا أن يدلّ عليه إلاّ بضم كلمة دالّة على متعلّقه.(1)

ثمّ إنّه أفاض القول في ذلك، فمن أراد فليرجع إلى الكتاب.

و بذلك يعلم ضعف كلام المحقّق الخراساني حيث جعل المعاني الاسمية و الحرفية واحداً بالذات تصوراً و ذاتاً لكن الاستقلالية و الآلية تعرضان على المعنى الوارد عند الاستعمال، فجعل ما هو جزء الذات أو صميمها أمراً عرضياً للمعنى.

أسئلة و أجوبة

فإن قلت: قد عدّ العرض في البيان السابق من القسم الثاني و هو ما يكون مستقلاً مفهوماً، و غير مستقل وجوداً، مع أنّ هذا التعريف للأعراض لا يصدق إلاّ على الكم و الكيف و لا يصدق على الأعراض النسبية كالأين و متى، فانّ الأوّل عبارة عن كون الشيء في المكان، كما أنّ الثاني عبارة عن كون الشيء في الزمان، و ما هذا معناه فهو من المعاني الحرفية القائمة بالغير مفهوماً و وجوداً لا وجوداً فقط.

قلت: إنّ تفسير المقولتين بما ذكر تفسير خاطئ، بل الأين عبارة عن الهيئة الحاصلة للشيء من كونه في المكان أو من كونه في الزمان، و الهيئة الحاصلة معنى اسمي مستقل مفهوماً، و إن كان غير مستقل وجوداً، و هذا نظير الجِدَة فانّ الجدة ليست إلاّ الهيئة الحاصلة من إحاطة شيء بشيء كالهيئة الحاصلة للإنسان بالتعمم

ص:61


1- - شرح الكافية المشهور بشرح الجامي: 15.

و التقمّص.

فإن قلت: إنّ ما ذكر من التعريف للمعنى الحرفي لا ينطبق على بعض الحروف كالكاف في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ )(1). فانّ معناه» ليس مثلَ مثله شيء «و نظيره» واو «الاستئناف و» تاء «التأنيث في » ضربت «، و لفظة» قد «في الفعل الماضي.

قلت: إنّ الكاف في الآية ليس حرفاً بل اسم بمعنى» مثل «و لذلك تقسم الكافُ إلى حرف و اسم، و أمّا الباقي فالأولى المعاملة معها معاملة العلائم كالتنوين في الفاعل، و النصب في المفعول، و لا مانع من كون بعض العلائم مشيرة إلى المعنى الاسمي.

فإن قلت: إنّ المحقّق صاحب الحاشية) المتوفّى 1248 ه (قسّم معاني الحروف إلى قسمين: إخطارية و إيجادية، و المراد من الأُولى ما يكون حاكياً عن معنى متحقّق في الخارج مثل قولك:» سرت من البصرة إلى الكوفة «، كما أنّ المراد من الثانية ما لا يكون حاكياً عن معنى متحقّق في الخارج بل المعنى يوجد بنفس الاستعمال، مثل قولك: يا زيد أو» إياك «فالجميع ينشئُ معنى النداء و الخطاب، فالقسم الأوّل أشبه بالجمل الخبرية و القسم الثاني أشبه بالجمل الإنشائية، فهل يخالف ذلك المعنى، المختار؟ قلت: إنّ تقسيم معاني الحروف إلى إخطارية و إيجادية تقسيم بديع، و لكن الإخبار و الإيجاد يتحقّقان بما للحروف من المعنى، فلا بدّ من التركيز على المعنى الحرفي أوّلاً و قد أهمله صاحب الحاشية ثمّ تقسيم ذلك المعنى إلى إخطاري

ص:62


1- - الشورى: 11.

و إيجادي فقد تكلّم هو عن خصوصيات المعنى الحرفي و أقسامه دون حقيقته و واقعه.

و بذلك يعلم انّ نظرية المحقّق النائيني أيضاً لا تخالف مختارنا حيث قال: إنّ شأن أدوات النسبة ليست إلاّ إيجاد الربط بين جزئي الكلام، فانّ الألفاظ بما لها من المفاهيم متباينة بالهوية و الذات، فلفظ» زيد «بما له من المعنى مباين للفظ» قائم «بما له من المعنى، و كذا لفظ» السير «مباين للفظ» الكوفة «و» البصرة «بما لهما من المعنى، لكن أدوات النسبة إنّما وضعت لإيجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم على وجه يفيد فائدة تامة يصحّ السكوت عليها، فكلمة» من «و» إلى «إنّما جيء بهما لإيجاد الربط و إحداث العلقة بين » السير «و» البصرة «و» الكوفة «الواقعة في الكلام بحيث لو لا ذلك لما كان بين هذه الألفاظ ربط و علقة أصلاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من شأن الحروف أمر لا سترة عليه لكن الربط يحصل بواقع المعنى الحرفي فكان عليه أن يحدد المعنى الحرفي ثمّ يتكلّم في أوصافه و قُدُراته.

و بذلك يظهر انّ نظرية المحقّق الخوئي في الحروف أيضاً لا تخالف ما ذكرنا حيث قال: إنّ الحروف وضعت لتضييق المعاني الاسمية و تقييدها بقيود خارجة عن حقائقها، و مع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجية، بل التضييق إنّما هو في عالم المفهوم، ثمّ مثّل بمثال و قال: الصلاة في المسجد حكمها كذا، فانّ الصلاة لها إطلاق إلى الخصوصيات المسنونة و المصنفة و المشخصة، فغرض المتكلّم قد يتعلّق ببيان المفهوم على إطلاقه وسعته و يقول: الصلاة خير موضوع، و قد يتعلّق بإفادة حصة خاصة منه و يقول: الصلاة في المسجد حكمها كذا، حتى تدلّ على

ص:63


1- - فوائد الأُصول: 1/42; أجود التقريرات: 1/18.

انّ المراد ليس الطبيعة السارية إلى كلّ فرد بل خصوص حصة منها.(1)

يلاحظ عليه: لو سلمنا انّ دور الحروف دور التضييق فهو يحصل بما للحرف من المعنى فلا بدّ أن نتعرف على ذات المعنى ثمّ على وصفه من الضيق.

على أنّ فيما ذكره من وضع المعاني الحرفية للضيق إشكالاً واضحاً ذكره شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة.(2) و بذلك علم أنّ النظريات الثلاث ليست مخالفة للمختار و إنّما ركّز أصحابها على صفات المعاني الحرفية دون ذاتها و واقعها، فهذه النظريات الأربع ترجع إلى أمر واحد.

الجهة السادسة: في بيان كيفية وضع الحروف

اشارة

قد تقدّم البحث في حقيقة المعنى الحرفي و حان البحث عن كيفية وضعها، فهناك نظريات:

أ: الوضع عام كما أنّ الموضوع له كذلك، و هو خيرة المحقّق الخراساني.

ب: الوضع عام لكن الموضوع له خاص، و هو المختار.

أمّا الأُولى: فهي خيرة المحقّق الخراساني، و حاصلها: انّه لا فرق بين المعنى الاسمي و الحرفي جوهراً و ذاتاً و انّهما وضعا لمعنى واحد غير انّ الاختلاف بالاستقلال و الآلية يعرضان على المعنى عند الاستعمال.

فالواضع نظر إلى مفهوم ك» آغاز «باللغة الفارسية و وضع له لفظ الابتداء و لفظة» من «لكن اشترط على المستعملين باستعمال الأوّل في الابتداء المستقل و الثاني في الابتداء غير المستقل، فهما يعرضان على المعنى عند الاستعمال، فالملحوظ» آغاز «بما انّه عام فالوضع عام و بما انّه الموضوع له فكذلك.

ص:64


1- - أجود التقريرات: 1/18.
2- - لاحظ المحصول لزميلنا الجلاليّ.

و لكنّك عرفت عدم اتقان المبنى و انّ معاني الحروف تتمايز عن الأسماء بجوهرهما لا باللحاظ.

و أمّا الثانية: فهي خيرة السيّد الأُستاذ) قدس سره (، و توضيحها يحتاج إلى مقدّمة، و هي انّه لا جامع مقولي للمعاني الحرفية، و ذلك لأنّ الجامع المقولي عبارة عن المفهوم العام المنتزع من الأفراد باعتبار اشتراكهما في حقيقة واحدة، و ما هو كذلك يكون له مفهوم مستقل يلاحظه الذهن مرة بعد مرة، و مثل ذلك لا يكون جامعاً مقولياً للحروف، لأنّ واقع الحروف هو القيام بالغير و الاندكاك فيه، فلو انسلخت هذه الخصوصية عنه لانقلب المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي.

و بذلك يعلم أنّه لا يمكن أن يكون هناك جامع مقولي للحروف، لأنّه بما هو جامع مقولي يلازمه الاستقلال، و بما هو جامع مقولي للحروف يلازمه الاندكاك و التبعية، و هما لا يجتمعان في مفهوم واحد في زمان واحد.

و بعبارة أُخرى: لا جامع مقولي بين المعاني الحرفية، إذ لو كان الجامع من سنخ المعنى الحرفي لوجب أن يكون متدلّياً بالذات و هو بهذا الوصف يمتنع أن يكون مقولة، لأنّ المقولة تحمل على مصاديقها، و الحمل يستلزم الاستقلال في التصور، و هو لا يجتمع مع كونه معنى حرفياً غير مستقل في المفهوم.

و إن شئت قلت: إنّه لو كان الجامع من سنخ المعاني الاسمية، فهو لا يكون جامعاً للمعاني الحرفية.

فإن قلت: إذا لم يكن هناك جامع ذاتي للمعاني الحرفية، فكيف توضع الحروف لمصاديق المعنى الكلي حتى يكون الموضوع له عاماً؟ قلت: لا محيص للواضع من التمحل بأن يتوصل عند الوضع بمفاهيم اسمية لا تكون جامعاً ذاتياً لها، كما لا تكون ربطاً حقيقياً و تدلياً واقعيا، كمفاهيم

ص:65

الظرفية و الابتداء الآلي و غيرهما. فيضع الحروف لما هو مصداق لها بالحمل الشائع، و يشير بهذه العناوين إلى المصاديق، و بهذه المفاهيم إلى الأفراد.

و بذلك يعلم أنّ الموضوع له خاص، لأنّه وضع لما هو المصداق للابتداء أو الانتهاء، و المصداق يلازم الجزئية.

فإن قلت: قد استدلّ المحقّق الخراساني على كون معاني الحروف كلية بقوله: إنّ المستعمل فيه كثيراً ما يكون كلياً كما إذا وقع تحت الأمر كقوله:» سر من البصرة إلى الكوفة «بشهادة انّه إذا بدأ بسيره من أي نقطة من نقاط البصرة يكون ممتثلاً و لو كان المستعمل فيه جزئياً لما صحّ الامتثال إلاّ من نقطة واحدة.

يلاحظ عليه: أنّا لا نجد فرقاً بين هذا المثال المدّعى استعمال الحرف فيه في المعنى الكلي، و بين قولنا:

» سرت من البصرة إلى الكوفة «المدّعى استعمال الحرف فيه في المعنى الجزئي، و الظاهر انّ المتكلّم لاحظ البصرة أمراً واحداً شخصياً و استعمل الحرف في ذلك الواحد الشخصي، و إنّما التكثر جاء من جانب العقل، حيث إنّ العقل بعد ما لاحظ انّ البصرة واحد ذو أجزاء، يصلح أن يبتدأ بالسير من كلّ جزء، حكم بأنّ الامتثال يحصل من أي جزء تحقق، و كم فرق بين أن يكون المستعمل فيه أمراً كلياً من أوّل الأمر، و بين أن يكون واحداً حقيقياً منحلا إلى كثير بحكم العقل، نظير انحلال الحكم الواحد إلى الكثير كما لا يخفى.

ثمرة البحث

و قد ذكرت ثمرات للبحث عن كيفية الوضع و الموضوع له نشير إلى بعضها:

أ: لو كان الموضوع له فيها خاصاً لا يتصور تقييده، و ذلك لأنّ التقييد فرع الإطلاق و هو فرع السعة، و الخاص فاقد لها فلا يمكن تقييده، و على ذلك رتبوا انّ

ص:66

القيد في الواجب المشروط لا يرجع إلى الهيئة، لأنّ مدلول الهيئة معنى حرفي، و المعنى الحرفي بما انّ الموضوع له فيه خاص لا يقبل التقييد فلا مناص من إرجاعه إلى المادة، نظير قولك:» أكرم زيداً إن سلّم «فقوله:» أكرم «مركب من هيئة و مادة، فلو كان الموضوع له للهيئة هو الوجوب الشخصي فهو لا يقبل التقييد فلا يمكن القول بأنّ الوجوب مشروط بالتسليم، بل يجب القول بأنّ التسليم قيد للمادة، و معنى الجملة هو ان سلم زيد أكرمه إكراماً مقيداً بكونه بعد التسليم.

يلاحظ عليه: بما ذكرناه في محلّه من أنّ الجزئي غير قابل للتقييد من حيث الأفراد لكنّه قابل له من حيث الأحوال، فزيد بما انّه جزئي لا يقبل التقييد الافرادي، و لكن يقبل التقييد الأحوالي، لأنّ له أحوالاً كثيرة ككونه قائماً قاعداً، متعمماً، و غير متعمّم، فيمكن أن يقيّد بحال من الأحوال، و لذلك لو شككنا انّ الموضوع للوجوب هو زيد أو هو مع قيد التعمم يحكم بالإطلاق على الأوّل. و على هذا، الوجوب أو إنشاء البعث و إن كان أمراً شخصياً لكن له أحوالاً مختلفة، فالوجوب المقيّد بتسليم زيد غير الوجوب المقيّد بعدم تسليمه فيصحّ تقييده بالتسليم.

ب: إنكار المفهوم للقضايا الشرطية، فانّ القول بالمفهوم على أساس انّ المنفي سنخ الحكم لا شخصه، و إلاّ فانّ الشخص يرتفع بارتفاع قيده و هو لا يجتمع مع كون مفاد الهيئة أمراً جزئياً بخلاف ما إذا قلنا بأنّ مفادها أمر كلي فمع ارتفاع شخص الحكم، يقع الكلام في ارتفاع سنخه و عدمه.

يلاحظ عليه: بمثل ما ذكرنا في الثمرة الأُولى فانّ الموجود الشخصي و إن لم يكن قابلاً للتقييد من حيث الافراد، لكنّه قابل له من حيث الأحوال، فانّ وجوب الإكرام المقيّد بتسليم زيد غير وجوب الإكرام في حالة أُخرى، فللوجوب وجود

ص:67

سعي حسب الحالات.

و على ضوء هذا فللحكم الشخصي الجزئي حالتان:

1. ملاحظته مع التسليم فلا شكّ انّه في هذا اللحاظ مرتفع بعدم التسليم على كلا القولين.

2. ملاحظته مع عدم التسليم فالمثبت للمفهوم يقول بارتفاعه أيضاً دون المنكر.

فالقول بالمفهوم و إنكاره لا يبتني على كون مفاد الهيئة كليّاً بل يجري على القول بجزئية معناها.

و بذلك ظهر انّ المسألة فاقدة الثمرة.

الجهة السابعة: في وضع أسماء الإشارة و الضمائر و الموصولات

اشارة

و في المسألة آراء نشير إليها:

1. نظرية المحقّق الخراساني

لقد اختار المحقّق الخراساني فيها ما اختاره في الحروف من أنّ الوضع عام و الموضوع له و المستعمل فيه كذلك، و انّ أسماء الإشارة مثل» هذا «و الضمائر الغائبة و الحاضرة كلّها وضعت لنفس المفرد المذكر على النحو الكلي، إمّا ليشار بها إلى معانيها كأسماء الإشارة و الضمائر الغائبة، أو يخاطب بها كما في الضمائر الخطابية، و لما كانت الإشارة و التخاطب يستدعيان التشخص، لأنّ الإشارة و التخاطب لا يكاد يكون إلاّ إلى الشخص أو معه، فتعرض الخصوصية من ناحية الاستعمال كما لا يخفى.(1)

ص:68


1- - كفاية الأُصول: 1/16.

فعلى ما ذكره يكون الموضوع له هو ذات المفرد المذكر و نفس المشار إليه مع قطع النظر عن كونه بوصف المشار إليه، لكن النظرية يحيطها شيء من الغموض لأنّه يقول:» وضعت لنفس المفرد المذكر على النحو الكلّي ليشار بها إلى معانيها «.

فما ذا يريد من الإشارة؟ فإن أراد الإشارة بنفس اللفظ، فهو غير معقول، لأنّه إذا كان موضوعاً لنفس المفرد المذكر فاستعماله فيه لا يستلزم إلاّ إحضار نفس المعنى لا أمراً زائداً عليه.

و إمّا أن يراد الإشارة الحسية بالاصبع و غيره، فمع أنّه يستلزم عدم صحّة استعماله إلاّ مع الإشارة يلزم عدم صحّة الضمائر الخطابية، فانّ الخطاب لا يتحقّق إلاّ بنفس اللفظ لا بأمر آخر حيث نقول:» خرجت أنت «.

2. النظرية الثانية: نظرية المحقّق البروجردي

و هذه النظرية على طرف النقيض من النظرية السابقة، لأنّها تعتمد على أنّ أسماء الإشارة وضعت لنفس الإشارة من دون أن يدخل فيها المشار إليه، أعني: المفرد المذكّر، و قد تبعه السيّد الأُستاذ) قدس سره (.

و حاصل النظرية: انّ أسماء الإشارة و الضمائر و الموضوعات، التي يجمعها» المبهمات «وضعت لنفس الإشارة فيكون لفظ» هذا «بمنزلة الإشارة بالاصبع فيكون آلة للإشارة، و الإشارة أمر متوسط بين المشير و المشار إليه. و على ذلك يكون عمل المبهمات كلّها عملاً إيجادياً، و لأجل ذلك ينتقل الذهن بعد سماعها إلى المشار إليه.

و لعلّه إلى ذلك يشير ابن مالك في ألفيّته بقوله:

بذا، لمفرد مذكر أشر بذي و ذه، تي تا على الأُنثى اقتصر

فهو يقول: إنّ لفظ» ذا «موضوع لنفس الإشارة لا للمشار إليه، و مثله

ص:69

الضمائر فيشار بلفظ» أنا «إلى المتكلّم، و بلفظ» أنت «إلى المخاطب، و بلفظ» هو «إلى الغائب.

و لأجل ذلك يجب أن يكون المشار إليه متعيّناً إمّا تعيّناً خارجياً أو ذكرياً، كما في ضمير الغائب، أو وصفياً كما في الموصولات حيث يشار لها إلى ما يصدق عليه مضمون الصلة.(1)

يلاحظ عليه: أنّه إذا كانت أسماء الإشارة موضوعة لنفس الإشارة، فالإشارة معنى حرفي قائم بالمشير و المشار إليه، و لازم ذلك أن لا يقع مبتدأً مع أنّ الواقع خلافه، و قد أجاب عن هذا الإشكال السيّد الأُستاذ بقوله:

بأنّ المبتدأ هو الشخص الخارجي و قد أُحضر بواسطة اللفظ، و المحمول إنّما يحمل على ذلك الشخص الخارجي.

لكن الإجابة غير مقنعة، إذ لازم ذلك تركيب الكلام من جزء ذهني و هو المحمول، و جزء خارجي و هو الموضوع. و الالتزام بصحّة هذا النوع من الكلام كما ترى.

على أنّ بعض المبهمات مثل» من «،» ما «،» أي «لا يتبادر منها الإشارة كقوله: (يُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ).(2)

و قوله تعالى: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ).(3)

و قوله) عليه السلام (:» من كان على يقين و شكّ فليمض على يقينه «.(4)

3. النظرية المختارة

إنّ أسماء الإشارة لم توضع لنفس المفرد المذكر كما في النظرية الأُولى، و لا لنفس الإشارة مع قطع النظر عن المشار إليه كما في النظرية الثانية، بل وضعت

ص:70


1- - نهاية الأُصول: 21 22.
2- - الجمعة: 1.
3- - الأنعام: 81.
4- - الوسائل: 1، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 6.

للمفرد المذكر في حال الإشارة على نحو يكون القيد) أي الإشارة (خارجاً و التقيّد داخلاً، و هذا هو الذي اختاره المحقّق الاصفهاني فقال: إنّ أسماء الإشارة و الضمائر و بعض المبهمات موضوعة لنفس المعنى في حال تعلّق الإشارة به خارجاً أو ذهناً على نحو القضية الحينية(1). فقولك» هذا «لا يصدق على زيد إلاّ إذا صار مشاراً باليد أو بالعين، و الفرق بين مفهوم لفظ» المشار إليه «و لفظ» هذا «هو الفرق بين لفظ الربط و مفهوم» في «و» من «.(2)

توضيحه: انّه يمكن استظهار حال أسماء الإشارة من الإشارة التكوينية فانّ دورها هو إحضار المشار إليه عن طريق الإشارة بالاصبع و العصا، و كان الإنسان البدائي يحضرها بالاستعانة بالإشارة التكوينية، و لمّا تقدّم في مجال الحضارة قامت الألفاظ مكان الأعمال، و وضع لفظ» هذا «مكان العمل التكويني فكانت النتيجة إحضار المشار إليه عن طريق الإشارة اللفظية فيكون الموضوع له، الذاتَ الواقعة في إطار الإشارة و مجالها أو حين الإشارة.

و بالجملة المتبادر من أسماء الإشارة هو الذات المتقيدة بالإشارة على نحو يكون القيد خارجاً و التقيّد داخلاً. و دخول الإشارة بالمعنى الحرفي لا بالمعنى الاسمي.

و بذلك تظهر كيفية الوضع فهو عام فيكون الملحوظ قبل الوضع عاماً) الذات في مجال الإشارة (لكن الموضوع له خاص، لأنّ الإشارة الخارجية) لا مفهوم الإشارة (معنى حرفي لا جامع مقولي بين أفرادها.

فيتوصل بلفظ) المفرد المذكر عند الإشارة (إلى مصاديقها فتوضع عليها، فيكون الموضوع له خاصاً.

و منه تظهر حال الضمائر: الخطاب و التكلّم و الغيبة حرفاً بحرف، فالمتبادر

ص:71


1- - بل المقيدة بالإشارة كما سيوافيك في التوضيح.
2- - نهاية الدراية: 1/21.

من لفظ» أنت «و» أنا «و» هو «الذات عند الإشارة و إن كانت الإشارة في الضمير الغائب أضعف من الأوّلين.

ثمّ إنّ الإشارة اللفظية تتكفّل وراء إحضار المشار إليه، بيان إفراده و تثنيته و جمعه و تذكيره و تأنيثه، حضوره و غيبته، و لذلك مسّت الحاجة إلى وضع الألفاظ و عدم الاكتفاء بالإشارات التكوينية.

و أمّا الموصول فالظاهر عدم وجود الإشارة فيه فهو بأسماء الأجناس أشبه، و لأجل اشتمالها على الإبهام المطلق دون أسماء الأجناس تلزم الصلة بعدها، فالظاهر انّ الوضع فيها عام كالموضوع له.

الجهة الثامنة: في الإخبار و الإنشاء

اشارة

الجمل الإنشائية على ضربين:

فضرب منها يُستخدم في باب الأمر و النهي، و قسم منها في العقود و الإيقاعات، مثل قولك» بعت «أو » أنت طالق «إذا كنت في مقام الإنشاء، و قد اختلف الأُصوليون في تبيين الفرق بين الإخبار و الإنشاء على وجوه:

1. نظرية المحقّق الخراساني

اختار المحقّق الخراساني في المقام نفسَ ما اختاره في المعاني الاسمية و الحرفية من عدم دخول واقعية الانشاء و الاخبار في الموضوع له، و إنّما هما من قيود الوضع و طوارئ الاستعمال. فمفاد» بعت «نسبة مادة البيع إلى المتكلّم إمّا بقصد ثبوت معناه في موطنه فإخبار، أو بقصد تحقّقه و ثبوته بنفس الاستعمال فإنشاء.(1)

ص:72


1- - كفاية الأُصول: 1/16.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره خلاف الحكمة فإذا كان المعنى في حدّ ذاته على قسمين و يريد المتكلّم تارة حكاية المعنى و أُخرى إيجاده بنفس الاستعمال، فلا وجه للعدول عن هذا الطريق الطبيعي و جعل اللفظ لمعنى مشترك بين القسمين.

و بالجملة: اخراج مفاد الإخبار و الإنشاء عن نطاق الموضوع له و جعلهما من قيود الوضع خلاف الوضع الطبيعي.

2. نظرية المحقّق الخوئي

إنّ للمحقّق الخوئي في باب الفرق بين الإنشاء و الإخبار نظرية شاذة خالف فيها المشهور، توجد جذورها في كلام المحقّق الإيرواني.(1) و قد ذكره في تعاليقه في أجود التقريرات.(2) و قرره تلميذه في المحاضرات، و نحن نذكر ما في الأخير حيث قال: إنّ الجملة الإنشائية موضوعة لإبراز أمر نفساني خاص، و كلّ متكلّم متعهد بأنّه متى ما قصد إبراز ذلك، يتكلّم بالجملة الإنشائية. مثلاً: إذا قصد إبراز اعتبار الملكية، يتكلّم بصيغة» بعت «أو» ملكت «و إذا قصد إبراز اعتبار الزوجية، يبرزه بقوله:» زوجت «أو» أنكحت «و إذا قصد إبراز اعتبار كون المادة على عهدة المخاطب، يتكلم بصيغة» افعل «و نحوها.

فالجمل الإخبارية و الإنشائية تشترك في الدلالة على الإبراز، إلاّ أنّ الأُولى مبرزة لقصد الحكاية و الإخبار عن الواقع و نفس الأمر، و تلك مبرزة لاعتبار من الاعتبارات كالملكية و الزوجية و نحوهما.

و استدلّ على ذلك بأنّ المراد من كون الإنشاء للإيجاد، إمّا الإيجاد التكويني فهو بيّن البطلان، و إمّا الإيجاد الاعتباري، كإيجاد الوجوب و الحرمة و الملكية

ص:73


1- - نهاية الدراية: 1/13.
2- - أجود التقريرات: 261/25.

و الزوجية، فيرده أنّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني من دون حاجة إلى اللفظ و التكلّم، فإنّ الإيجاد يتحقّق بالاعتبار النفساني سواء أ كان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن، و من هنا يعلم أنّه لا فرق بينها و بين الجمل الاخبارية.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ لازم ما ذكره هو رجوع الإنشاء إلى الإخبار و قبوله الصدق و الكذب مثل الاخبار، فإذا كانت الجملة مطلقاً سواء كانت إنشائية أو إخبارية موضوعة للإبراز غير انّ المبرَز تارة يكون قصد الحكاية و الإخبار عن الواقع، و أُخرى الابراز عمّا في الذهن من اعتبار المالكية للمشتري و الزوجية لزيد. فعندئذ يكون مفاد الجملة الإنشائية كالجملة الإخبارية، غير أنّ إحداهما تحكي عن الخارج و الثانية عن عمل الذهن، و يتوجه عليه انّه يحتمل الصدق و الكذب، و هذا هادم لما هو المعروف من أنّ الجملة الإنشائية لا يصحّ وصفها بالصدق أو الكذب.

ثانياً: أنّ لازم ذلك كون» بعت «و» زوجت «مرادفاً لاعتبار الملكية للمشتري أو الزوجية للزوج و هو كما ترى.

ثالثاً: أنّ ما ذكره من أنّ الإيجاد يتحقّق بالاعتبار النفساني سواء أ كان هناك لفظ يتلفّظ به أم لم يكن، غير تام، و ذلك لأنّه مبني على أنّ وعاء الاعتبار هو الذهن، و قد تم فيه مع أنّ الأُمور الاعتبارية لا خارجية و لا ذهنية، بل لها واقعية في عالم الاعتبار، و الأثر مترتب على إيجاد الموضوع في ذلك الوعاء لا في وعاء الذهن.

فقولك: زوجت هذه لهذا إيجاد للزوجية في عالم الاعتبار لا في وعاء الذهن، فما اعتبره في الذهن يكون كالمقدمة و الأرضية الصالحة لإنشاء ما اعتبره في الذهن في عالم الاعتبار باللفظ على نحو يعد ذلك العمل في تلك الظروف وعاءً للإنشاء.

ص:74


1- - المحاضرات: 951/94.

و إن شئت قلت: إنّ الأثر غير مترتب على التصورات الذهنية و ان ابرزه باللفظ، بل الأثر مترتب على النقل و الانتقال الإنشائيّين بالسبب القولي أو السبب الفعلي. و أنت إذا لاحظت حقيقة المعاطاة تقف على أنّ الغاية هي إيجاد البيع بالسبب الفعلي الذي كان الإنسان البدائي يزاوله.

3. النظرية المختارة

إنّ مشاهير الأُدباء و الأُصوليين ذهبوا إلى أنّ دور الصيغ الإنشائية دور الإيجاد لمعانيها لا الكشف عن حقيقة خارجية أو ذهنية، فقولك:» زوّجت «إيجاد للزوجية، و» بعتُ «إيجاد للملكية، و» هل قام زيد « إيجاد للاستفهام بالحمل الشائع، و الكلام في المقام في العقود و الإيقاعات التي تدور عليها رحى الحياة فنقتصر على توضيحها، و أمّا الكلام عن سائر الإنشائيات كمدلول الأمر و النهي فنرجئ البحث عنها إلى مكانها.

لا شكّ أنّ الزوجية و الملكية و الرئاسة اعتبارات اجتماعية، إنّما الكلام في كيفية اعتبارها و انتقال الإنسان الاجتماعي إلى تلك الأُمور الاعتبارية، فنقول:

إنّ سبب الانتقال إلى اعتبار هذه الأُمور إنّما هو التكوين، مثلاً:

يرى الإنسان في الخارج أمرين مماثلين، كالعينين و الأُذنين و الرجلين و اليدين على نحو كلّ يدعم الآخر في العمل و من جانب آخر يلمس الإنسان انّ بين الرجل و المرأة تجاذباً جنسياً و عاطفياً على نحو يُكمل كلّ منهما الآخر في مجالات مختلفة، و هذا ما يدفع الإنسان الاجتماعي إلى اعتبارهما زوجين كالأُذنين، غير انّ زوجية الأُذنين بالتكوين و زوجية الرجل و المرأة بالاعتبار و التنزيل.

ثمّ إنّ الزوجية الاعتبارية كالزوجية التكوينية تحتاج إلى عامل يوجدها

ص:75

و يحقّقها، فالعامل المكوّن للزوجية التكوينية هو خالق الكون، و المكوّن للزوجية الاعتبارية هو السبب اللفظي أو السبب الفعلي، فيقول: زوجت هذه بهذا، أو زوجت المرأة المعلومة بالرجل المعلوم، و بذلك يوجد ما اعتبره من الزوجية في عالم الاعتبار و على صعيد القانون بحيث يتلقّى العرف كلاً زوجاً للآخر.

و لك أن تجري ذلك البيان في الملكية الاعتبارية، فانّ الإنسان يحسّ من جانب انّه مالك لكلّ عضو من أعضائه و لذلك يضيف الأعضاء إلى نفسه فيقول: يدي و رجلي و عيني و سمعي، و هذه الملكية ملكية تكوينية.

و من جانب آخر انّه يرى نفسه أولى من غيره لما جناه بيده من السمك من البحار و البلوط من الغابات، بل يرى كلّ ما حصّله ببدنه و سائر أعضائه أولى بها من غيرها، و لذلك يخاطب أمير المؤمنين ) عليه السلام (جنوده و يقول:» فَجَناةُ أيديهم لا تكونُ لغيرِ أفواهِهِم «.(1)

ثمّ إنّه يحسّ في الحياة الاجتماعية إلى ضرورة التبادل بين ما يرى نفسه أولى به و ما يراه الآخر أولى به، كدفع السمك الذي اصطاده من البحر إلى من يملك الحنطة فيقوم بالمبادلة يقول: بعت هذا بهذا، أي ملكتك ما مَلِكتُ، غير انّ الملكية التكوينية تحتاج إلى عامل تكويني و لكنّها في المقام بعامل لفظي.

و بذلك يعلم أنّ عالم الاعتبار عبارة عن تنزيل الفاقد منزلة الواجد، أو تنزيل الموجود الاعتباري منزلة التكويني و أخذ الثاني أُسوة للجعل و الإنشاء.

و لك أن تجري ذلك البيان في الرئاسة فانّ الرأس يدير البدن تكويناً فالإدارة بما أنّها أمر تكويني منحها اللّه سبحانه هذه المسئولية إليه هذا من جانب، و من جانب آخر إذا كان هناك مجتمع لغاية عقلائية فالضرورة تقضي وجود مدير

ص:76


1- - نهج البلاغة: الخطبة 232.

لهم و عند ذلك يعتبره رئيساً، أي يعطي ما للرأس من الحكم التكويني لهذا الإنسان. و ينشأ ما اعتبر، بقوله: جعلته حاكماً و رئيساً لكم، و بذلك يتبين انّ عامل الاعتبار كنفس المعتبرات ليس لها في الواقع و الخارج مصداق يخصّه و لكن الحياة تدور على هذه المفاهيم الوهمية.

فخرجنا بتلك النتيجة: انّ الأحكام الإنشائية لا توصف بالصدق أو الكذب، لأنّ السبب أعني: اللفظ أو الفعل وضعا للإيجاد، و المفروض تحقّقه و يتلوه المسبب، و الصدق و الكذب من آثار الحكاية.

الجهة التاسعة: في مفاد هيئة الجملة الاسمية

اشارة

المعروف بين المنطقيين أنّ القضية تتركب من أُمور ثلاثة: الموضوع، المحمول، و النسبة، و هي إمّا إيجابية أو سلبية، و على ذلك فالقضية مشتملة على نسبة كلامية و الدالّ عليها هيئة الجملة الاسمية.

ثمّ إن وافقت النسبةُ الموجودة في القضية الملفوظة أو المتصورة، النسبةَ الخارجية، فالقضية صادقة، و إلاّ فهي كاذبة.

فيقع الكلام في مقامين:

الأوّل: في اشتمال القضية على النسبة التي نعبر عنها بالنسبة الكلامية.

الثاني: في وجود النسبة الخارجية.

و الدليل الوحيد في المقام الأوّل هو التبادر، كما أنّ الدليل في المقام الثاني هو البرهان العقلي. فلا يختلط عليك المقامان من حيث التحليل و اختلاف البرهان.

أمّا الأوّل: فالظاهر عدم اشتمال القضية الحملية على النسبة الكلامية، و ذلك لأنّ هيئة الجملة الاسمية لم توضع لها بل وضعت للهوهوية و انّ هذا ذاك،

ص:77

فإذا لم يكن هناك دالّ على النسبة الكلامية، فمن أين نعلم بأنّ القضية الكلامية تشتمل على النسبة؟ هذا، و انّ التبادر ببابك، فلاحظ القضايا الحملية ترى أنّ المتبادر هو الهوهوية و انّ هذا ذاك لا أنّ هنا موضوعاً و هناك محمولاً و هناك نسبة تَربط المحمول بالموضوع، فهذا غير متبادر جدّاً.

و إليك دراسة القضايا:

1. القضايا الحملية الأوّلية مثل: الإنسان إنسان أو حيوان ناطق.

2. القضايا الحملية الشائعة بالذات مثل: البياض أبيض.

3. القضايا الحملية الشائعة بالعرض مثل: الجسم أبيض.

و الفرق بين القسمين الأخيرين أنّ الموضوع في الأوّل مصداق حقيقي للمحمول و في الثاني مصداق له بالعرض، فانّ ما هو الأبيض واقعاً هو البياض، و أمّا الجسم فإنّما يكون أبيض ببركة ذلك العارض له.

4. قضايا الهلية البسيطة مثل: زيد موجود.

5. قضايا الهلية المركبة مثل: زيد قائم.

ففي جميع هذه الموارد يتبادر من الهيئة الهُوهويّة، أي كون المحمول عين الموضوع مفهوماً أو مصداقاً. و لا تتبادر الكثرة حتى يُربط أحدهما بالآخر بالنسبة، فإذا سألك سائل بقوله: هل زيد قائم أو موجود؟ فانّه يسأل عن أنّه هل هو و لا يسأل عن ثبوت الوجود أو القيام لزيد، من دون فرق بين كون المشتق مركباً أو بسيطاً، لأنّ الكلام ليس في مفهوم المشتق بل الكلام في مفهوم الجملة التركيبية فبساطة المشتق و تركبه غير مؤثر في ذلك.

هذا كلّه في الحمليات الموجبة بعامة أقسامها.

و أمّا الحمليات السالبة فالهيئة فيها موضوعة لسلب الحمل و نفي الهوهوية،

ص:78

فمعنى قول القائل: ليس زيد عالماً هو سلب كونه هو هو، و انّه لا اتحاد بينهما، و ليس معناه حمل النسبة السلبية على زيد.

فالسوالب المحصلة من القضايا الحملية لسلب الهوهوية لا حمل النسبة السلبية على زيد.

هذا كلّه في الحمليات الحقيقية، و أمّا الحمليات المؤوّلة، أعني: ما تتخللها الأدوات مثل» في «و» على « فالحقّ انّ موجباتها تشتمل على النسبة الكلامية أوّلاً و الخارجية ثانياً دون سالباتها، فالأوّل مثل قولك:» زيد في الدار «أو» زيد على السطح «لأنّ تفسير الجملة عن طريق الهوهوية غير تام، إذ لا يمكن أن يقال انّ زيداً هو نفس في الدار، بل لا بدّ من القول باشتمال الجملة على النسبة و هي انّ هنا زيداً، كما أنّ هنا داراً و شيئاً ثالثاً و هو كون زيد فيها. و هو أمر وراء الموضوع و المحمول. و هذا من غير فرق بين مقام الدلالة و مقام الخارج، ففي الخارج أيضاً زيد و سطح و استقرار زيد عليه نظير قولك:» الماء في الكوز «، ففي هذا النوع من الحمليات ترافق النسبةُ الكلامية، النسبةَ الخارجية.

و أمّا السوالب فهي لسلب النسبة، فقولك: ليس زيد في الدار، سلب للنسبة المذكورة الكلامية أو الخارجية.

و بذلك يعلم أنّ متعلّق السلب تابع لما هو مدلول القضية الحملية الموجبة، فلو كان مدلولها هو الهوهوية فالسلب يتعلّق بسلب الهوهوية كما أنّه لو كان موجبها هو النسبة و حصول شيء في شيء أو على شيء فالسلب يتعلّق بسلب تلك النسبة.

إلى هنا تبيّن عدم اشتمال الجمل الاسمية على النسبة الكلامية إلاّ في الحملية المؤوّلة الموجبة، فالقول بالاشتمال فيها هو الصحيح.

ص:79

الثاني: في النسبة الخارجية

هذا كلّه حول المقام الأوّل، و أمّا المقام الثاني أي عدم وجود النسبة الخارجية بين الموضوع و المحمول في عالم التطبيق، فالدليل الوحيد هو البرهان لا التبادر.

و البرهان يثبت عدمها في القضايا التالية:

1. الحمل الأوّلي كقولك: الإنسان إنسان أو حيوان ناطق، فلا نسبة خارجية بين الأمرين لامتناع جعل الربط بين الشيء و نفسه، فانّ النسبة فرع التعدد و المفروض هو الوحدة في مقام المفهوم فضلاً عن مقام المصداق.

2. الهلية البسيطة، مثل قولك: زيد موجود، فانّ القول بوجود النسبة الحرفيّة بين الطرفين يستلزم استقلال الماهية و كونها طرفاً للنسبة و هو باطل.

3. الهلية المركبة و لكن المحمول من قبيل الذاتي في باب البرهان كقولك: زيد ممكن، و إذ يمتنع أن تكون هناك نسبة خارجية بين زيد و إمكانه، لأنّ المفروض انّ المحمول ينتزع من صميم الموضوع و حاقه على نحو يكون وضع الموضوع كافياً لوضع المحمول، فكيف يمكن أن يكون هناك رابط بينهما؟ 4. الحمل الشائع بالذات، مثل قولنا: البياض أبيض، لامتناع تصور النسبة بين الشيء و مصداقه الذاتي.

فلم يبق إلاّ الحمل الشائع بالعرض، مثل قولنا: الجسم أبيض أو زيد قائم ففيه التفصيل بين النسبة الكلامية و النسبة الخارجية، فالأُولى منتفية لما عرفت من أنّ الهيئة الكلامية موضوعة للهوهوية لا للنسبة، و أمّا الثانية فهي متحقّقة فانّ زيداً شيء و القيام شيء آخر، و حصول القيام له أمر ثالث.

و منه تظهر حال الحمليات المؤوّلة نحو زيد في الدار، أو زيد على السطح،

ص:80

فالقول بالنسبة الخارجية فيها كالنسبة الكلامية على ما مرّ موافق للتحقيق، فانّ زيداً شيء و السطح شيء آخر و استقراره عليه أمر ثالث الذي هو معنى حرفي.

إذا عرفت ما ذكرنا تقف على أنّ منهجنا في دراسة هذه المقدّمة أقرب إلى التحقيق لما عرفت من تفكيك النسبة الكلامية عن النسبة الخارجية، و برهنا على الأوّل بالتبادر، و على الثانية بالبرهان، خلافاً للسيّد الأُستاذ فانّه جعل برهان الأمرين شيئاً واحداً و استدلّ من عدم النسبة الخارجية على انتفاء النسبة الكلامية مع أنّه لا ملازمة بين الانتفاءين. إذ لم يكن الواضع فيلسوفاً حتى يضع الهيئة وفق مقتضى البرهان.

ص:81

الأمر الثالث في الحقيقة و المجاز

عرّف المجاز بأنّه استعمال اللفظ في غير ما وضع له لمناسبة بين المعنى الحقيقي و المعنى المجازي، فإن كانت المناسبة هي المشابهة فالمجاز استعارة، و إلاّ فالمجاز مرسل، كاستعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ و بالعكس، كاستعمال العين في الإنسان مثل ما ورد في قول الإمام أمير المؤمنين علي) عليه السلام ( :» عيني بالمغرب كتب إليّ يُعلمني «.(1)

و عكسه كاستعمال الإنسان في عضو منه، كما في قولك: ضربت إنساناً، إذا ضربت عضواً منه.

و على قول هؤلاء يكون استعمال اللفظ في غير ما وضع له بالوضع و حسب تحديد الواضع حيث إنّ الواضع رخص فيما إذا كان هناك علقة مشابهة أو سائر العلائق البالغة إلى 25 علاقة.

هذا هو المعروف و لكن هناك نظرية جديدة أبدعها العلاّمة أبو المجد الشيخ محمد رضا الاصفهاني (1285 1362 ه (في كتابه» وقاية الأذهان «و تبعه السيد المحقّق البروجردي (1292 1380 ه ( و السيّد الأُستاذ) قدس اللّه أسرارهم (و هذه النظرية من بدائع الأفكار في عالم الأدب، و قد أحدثت هذه

ص:82


1- - نهج البلاغة، قسم الكتب، برقم 33.

النظرية انقلاباً في عالم المجاز حيث استطاعت أن تغيّر العديد من المفاهيم السائدة آنذاك، و حاصلها انّ اللفظ في مجال المجاز يستعمل في نفس المعنى الحقيقي بالإرادة الاستعمالية لكن بادّعاء انّ المورد من مصاديق المعنى الحقيقي، يقول العلاّمة أبو المجد: إنّ تلك الألفاظ مستعملة في معانيها الأصلية، و مستعملها لم يحدث معنى جديداً و لم يرجع عن تعهده الأوّل، بل أراد بها معانيها الأوّلية بالإرادة الاستعمالية على نحو سائر استعمالاته من غير فرق بينهما في مرحلتي الوضع و الاستعمال.(1)

و الدليل على ذلك انّ الغاية المتوخاة من المجاز كالمبالغة في النضارة و الصباحة أو الشجاعة أو إثارة التعجب لا يحصل إلاّ باستعمال اللفظ في المعنى الحقيقي لا في المعنى المجازي، و يعلم ذلك بالإمعان في الأمثلة التالية:

1. يحكي سبحانه عن امرأة العزير انّه لما سمعت بمكر نسوة في حاضرة مصر بقوله: (... أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ).(2)

و الغاية من وصفه ب» ملك «هو المبالغة في النضارة و الصباحة، و هو لا يتم إلاّ أن يستعمل اللفظ في نفس المعنى الحقيقي» فرشته «لا في الإنسان الجميل، لأنّه لا يؤمّن الغرض المنشود إلاّ به، بشهادة انّك لو قلت هكذا:» ما هذا بشراً إنْ هذا إلاّ إنسان جميل «لسقطت العبارة عن قمة البلاغة.

2.

لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد اظفاره لم تقلم

فالشاكي مقلوب» الشائك «و هو حدة السلاح، و قوله: مقذف، أي من له

ص:83


1- - وقاية الأذهان: 103.
2- - يوسف: 31.

صولات في ساحات الوغى، فالغرض هو المبالغة في الشجاعة و انّه أسد حقيقة بشهادة انّه أثبت له لبداً و أظفاراً غير مقلّمة، و الغاية المتوخّاة لا تحصل إلاّ باستعمال الأسد في نفس الحيوان المفترس لكن بادّعاء انّ المورد من مصاديقه. و أمّا إذا استعمل في الرجل الشجاع يكون الكلام بعيداً عن البلاغة بشهادة انّك لو قلت:» لدى رجل شجاع ذي سلاح حاد «ترى بوناً شاسعاً بين المعنيين.

3.

قامت تظلّلني و من عجب شمس تظلّلني من الشمس

و الغرض هو إثارة العجب من أنّ المحبوبة بما انّها شمس ساطعة صارت تظلّله من الشمس، و التعجب إنّما يحصل إذا استعمل الشمس الأُولى في نفس معناها، و عندئذ يتعجب الإنسان كيف تكون الشمس مظلّلة من الشمس؟! بخلاف ما إذا قلنا بأنّها استعملت في المرأة الجميلة، إذ لا موجب عندئذ للتعجب، لأنّ الأجسام على وجه الإطلاق جميلة و غير جميلة تكون حائلة عن الشمس.

و بذلك تقف على حقيقة أدبية، و هي انّ المجاز ليس من قبيل التلاعب باللفظ بل من قبيل التلاعب بالمعنى على حد تعبير السيّد الأُستاذ، فالإنسان البليغ لا يستعير لفظ الأسد للرجل الشجاع و إنّما يستعير معناه له، و هو لا يتحقّق إلاّ باستعماله في نفس الموضوع له، غاية الأمر بادعاء، فيكون المجاز هو استعمال اللفظ في المعنى ليكون قنطرة للفرد الادّعائي.

فإن قلت: إنّ تلك النظرية إنّما تصحّ في اسم الجنس الذي له فرد حقيقي و فرد ادّعائي لا في الاعلام كحاتم و يوسف اللذين ليس لهما إلاّ فرد واحد.

قلت: إنّ قوام المجازية هو ادّعاء العينية، و هو يدّعي انّه نفس حاتم و نفس يوسف و ليس مغايراً.

ص:84

و يمكن أن يقال: انّ حاتم و يوسف قد خرجا عن العلمية و صارا عند المتكلم اسماً للسخي غاية السخاء، و الجميل غاية الجمال، فعندئذ يستعمله في الجامع المنطبق على ذينك الفردين.

و الذي يؤيد كون المجاز من مقولة الاستعمال فيما وضع له هو انّ الكناية عند القوم من قبيل استعمال اللفظ في الملزوم لغاية الانتقال إلى لازمه، فهو أشبه بالمجاز حيث إنّه من قبيل الاستعمال في المعنى الحقيقي لغاية الانتقال إلى الفرد الادّعائي. و الفرق بينهما وجود الادعاء في المجاز دون الكناية.

فإن قلت: ما الفرق بين هذه النظرية و ما نسب إلى السكاكي في كتابه» مفتاح العلوم «حيث إنّه هو أيضاً يدّعي انّ المعنى المجازي فرد ادّعائي للمعنى الحقيقي؟ قلت: الفرق بينهما واضح، ذلك انّ السكاكي يعتقد كالمشهور بأنّ المجاز عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له من أوّل الأمر لكن المجوز لاستعارته لما لم يوضع له هو ادّعاء كونه من مصاديق ما وضع له ادّعاءً على خلاف تلك النظرية التي تقول باستعمال اللفظ فيما وضع له مدّعياً بأنّه من مصاديق ما وضع له من أوّل الأمر، و إليك نصّ عبارة السكاكي في» مفتاح العلوم «، قال في علم البيان:

و أمّا المجاز فهو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق، استعمالاً في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها، مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع، ثمّ أخذ في تفسير قيود التعريف.(1)

ص:85


1- - مفتاح العلوم: 153، ط مصر عام 1318 ه.

و على هذا البيان يمكن إرجاع كثير من المجاز في الاسناد إلى المجاز في الكلمة، فقوله سبحانه حاكياً عن إخوة يوسف: (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنّا لَصادِقُونَ )(1) فالمشهور انّه من قبيل المجاز في الاسناد بتقدير أهل القرية، نظير قول الفرزدق في مدح زين العابدين) عليه السلام (:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته و البيت يعرفه و الحل و الحرم

فالمعروف انّه من قبيل المجاز في الاسناد أي يعرف أهل البطحاء وطأته، و لكن الحقّ انّ الجميع من قبيل المجاز في الكلمة، لأنّه بصدد المبالغة أنّ الأمر من الوضوح وصل إلى حدّ حتى أنّ جدران القرية مطّلعة على هذا الأمر، و انّ البطحاء تعرف وطأة الإمام فضلاً عن أهلها.

و بذلك يظهر انّ صحّة الاستعمالات المجازية تستند إلى الوضع، لأنّه من قبيل استعمال اللفظ فيما وضع له، و لكن حسنه يستند إلى الطبع و الذوق.

و بعبارة أُخرى: المصحح هو الوضع منضماً إلى حسن الطبع.

ص:86


1- - يوسف: 82.

الأمر الرابع في استعمال اللفظ في اللفظ

اشارة

إنّ استعمال اللفظ في اللفظ يتصوّر على أقسام أربعة:

1. إطلاق اللفظ و إرادة شخصه، مثل زيد في كلامي هذا لفظ.

2. إطلاق اللفظ و إرادة مثله، مثل زيد في كلام القائل زيد قائم لفظ.

3. إطلاق اللفظ و إرادة صنفه، كقول القائل: زيد في ضرب زيد فاعل.

4. إطلاق اللفظ و إرادة نوعه، كقولنا: زيد على وجه الإطلاق لفظ.

فيقع الكلام في مقامين:

الأوّل: صحّة الإطلاق.

الثاني: كون ذلك الإطلاق استعمالاً أم لا؟ و على فرض كونه استعمالاً، فهل هو حقيقي أو مجازي؟ لا كلام في صحّة الإطلاق، و أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، فالأمثلة تعرب عن استحسان الذوق هذا النوع من الإطلاق، و لم يخالف في ذلك أحد من الأُصوليين إلاّ صاحب الفصول في القسم الأوّل، فلنرجع إلى المقام الثاني و انّ هذا الإطلاق هل يوصف بالاستعمال أو لا؟ فلنأخذ كلّ قسم بالبحث.

ص:87

1. إطلاق اللفظ و إرادة شخصه

إنّ حقيقة الاستعمال تقوم على أركان ثلاثة:

الأوّل: إطلاق اللفظ.

الثاني: انتقال المخاطب عند سماع اللفظ إلى الصورة الذهنية.

الثالث: انتقاله منها إلى الوجود الخارجي.

مثلاً إذا قلنا:» قام زيد «يتحقّق هناك الركن الأوّل و هو إطلاق اللفظ ثمّ يعقبه انتقال المخاطب إلى الصورة الذهنية من قيام زيد، و بما انّ القضيّة ليست ذهنية ينتقل المخاطب من الصورة الذهنية إلى الوجود الخارجي، و لذلك قلنا بأنّ الاستعمال ثُلاثي الأركان.

و أمّا المقام، أعني: إطلاق اللفظ و إرادة شخصه، فليس هناك إلاّ ركنان:

أ: إطلاق اللفظ.

ب: انتقال المخاطب إلى الصورة الذهنية ثمّ انتقاله إلى نفس اللفظ الصادر) الركن الأوّل (مكان الانتقال إلى الركن الثالث، أعني: الوجود الخارجي المغاير للّفظ.

و بعبارة أُخرى: انّ الاستعمال أمر ثلاثي، و هو الانتقال من اللفظ إلى الصورة الذهنية له، و منها إلى الخارج، و لكن الأمر هنا ثنائي ينتقل من اللفظ إلى الصورة الذهنية و منها إلى اللفظ.

و بعبارة ثالثة: انّ هنا وجوداً خارجياً للّفظ و هو أمر تكويني قائم بالمتكلّم، و صورة ذهنية له حاصلة في ذهن المخاطب ثمّ انتقال إلى اللفظ الصادر من المتكلّم من دون أن ينتقل إلى شيء ثالث، فالمنتقل إليه و إن كان لفظاً خارجياً لكنّه ليس شيئاً ثالثاً.

ص:88

فالمقام من قبيل إلقاء صورة الموضوع في ذهن المخاطب لينتقل منه إلى نفس الموضوع ثمّ يحكم عليه بأنّه كذا.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية و تبعه سيد مشايخنا البروجردي ذهب إلى أنّ هذا القسم من قبيل إلقاء نفس الموضوع في ذهن المخاطب، و لعلّه من سهو القلم، بل من قبيل إلقاء صورة الموضوع في ذهن المخاطب، لأنّ الهوية الخارجية لا تنالها النفس و لا تقع في لوحها.

و من ذلك يعلم أنّ المقام ليس من قبيل الاستعمال لما عرفت من أنّ الاستعمال ثلاثي الأركان و المقام من قبيل ثنائي الأركان.

و أمّا وصف القضية بالدال و المدلول فلا مانع منه، فاللفظ بما انّه موجد للصورة في ذهن المخاطب دال، و بما انّه يُنتقل من الصورة الذهنية إلى نفس ذلك اللفظ فهو مدلول، كما أنّ الدلالة ليست من قبيل الدلالة الوضعية، لأنّ الدلالة عبارة عن دلالة اللفظ على معناه الخارجيّ الذي هو غير الصورة الذهنية للّفظ و غير شخص اللفظ و لكن ليس في المقام وراء الأمرين شيء.

ثمّ إنّه لم يخالف في هذا القسم إلاّ صاحب الفصول و قد ذكر دليلاً لمنع صحّة الإطلاق نقله صاحب الكفاية و أجاب عنه، و لكن أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه حيث إنّ الطبع السليم يستحسن هذا النوع من الإطلاق فمن أراد التفصيل فليرجع إلى محاضرات شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة.

2. إطلاق اللفظ و إرادة مثله

كما إذا قال: زيد في قولك: زيد قائم، لفظ و أراد اللفظ الصادر من المخاطب. لا شكّ في إمكانه إنّما الكلام في كون الإطلاق استعمالاً، أو لا، و الحقّ

ص:89

انّه استعمال حيث يكون زيد وسيلة و آلة للحاظ مماثله و تصوّره، فيكون دالاً و المماثل مدلولاً، فالمماثل هنا بمنزلة المعنى.

و إن شئت قلت: إنّ التلفّظ بلفظ» زيد «يكون سبباً لإيجاد الصورة الذهنية للفظ في ذهن المخاطب، ثمّ هو ينتقل من تلك الصورة إلى الصورة المماثلة و هو أمر ثالث لا إلى نفس ذلك اللفظ حتى يكون من قبيل القسم الأوّل.

نعم هذا النوع من الاستعمال لا حقيقة و لا مجاز، لأنّ زيداً وضع للشخص الخارجي و إطلاقه و إرادة المماثل ليس استعمالاً فيما وضع له و لا في غير ما وضع له بنوع من العلاقة.

3 و 4. إطلاق اللفظ و إرادة صنفه و نوعه

المراد من الصنف هو النوع المحدود بقيود، فإذا قال: زيد في ضرب زيد فاعل فقد حدّ طبيعة زيد بكونه بعد الفعل، فأطلق لفظ زيد و أُريد منه صنف ذلك اللفظ و هو الواقع بعد فعل ضرب.

نعم الحكم لا يختص بزيد الوارد في الجملة، بل يعمّه و كل ما ورد بعد فعل ضرب في كلام أيّ متكلّم كان.

و أمّا الرابع، أعني: إطلاقه و إرادة النوع كما إذا قال:» زيد لفظ «و أراد منه نوع اللفظ لا خصوص ما تكلم و لا مثله و لا صنفه، فزيد من أي متكلم صدر لفظ و لا شكّ في إمكان هذين الإطلاقين، إنّما الكلام كونه استعمالاً أو لا؟ و الظاهر حسب المعيار الذي عرفت أنّه من قبيل الاستعمال، لأنّ المخاطب ينتقل من سماع زيد إلى الصورة الذهنية و منه إلى أمر ثالث و هو زيد الواقع بعد الفعل أو طبيعة اللّفظ.

ص:90

و الحاصل: انّ ركن الاستعمال الذي يقوم على أركان ثلاثة موجود، فانّ المخاطب ينتقل من الصورة الذهنية إلى مراد المتكلّم، أعني: الصنف أو النوع و هو أمر ثالث.

و بما انّ هذه المقدّمة لا تمّت إلى الأُصول بصلة و إنّما هي بحث أدبي، اكتفينا بهذا المقدار.

فتحصّل ممّا ذكرنا: انّ القسم الأوّل ليس استعمالاً كما أنّه ليس من قبيل إلقاء نفس الموضوع، بل إلقاء صورة الموضوع في ذهن المخاطب، و أمّا الأقسام الثلاثة فهي من قبيل الاستعمال، لأنّ المخاطب ينتقل بعد سماع اللفظ إلى الصورة الذهنية و منها إلى الفرد المماثل أو الصنف أو النوع.

ص:91

الأمر الخامس في وضع الألفاظ لمعانيها الواقعية

اشارة

و قبل الخوض في المقصود، نذكر أمرين:

الأوّل: ما هو السبب لطرح المسألة؟

عرّف المحقّق الطوسي في» منطق التجريد «، الدلالةَ المطابقية: أنّها دلالة اللفظ على تمام المسمّى.

و التضمنية: انّها دلالة اللفظ على جزئه.

و ذكر العلاّمة في شرحه على» منطق التجريد «انّه أورد على المحقّق الطوسي الإشكال التالي و هو:

انّ هذا التعريف غير مانع فيما إذا كان اللفظ مشتركاً بين الكلّ و الجزء، كما إذا كان لفظ الإنسان موضوعاً للحيوان الناطق تارة و لخصوص الناطق أُخرى فأطلق الإنسان و أراد الناطق، فيصدق عليه انّه مطابقي، لأنّه تمام الموضوع بالنسبة إلى الوضع الثاني، و تضمني، لأنّه جزء الموضوع بالنسبة إلى الوضع الأوّل.

ثمّ نقل العلاّمة عن المحقّق الطوسي أنّه أجاب عن الإشكال و قال: إنّ اللفظ لا يدلّ بذاته على معناه، بل باعتبار الإرادة و القصد و اللفظ، فحينما يراد منه المعنى المطابقي لا يراد منه المعنى التضمني فهو يدلّ على معنى واحد لا غير. ثمّ قال العلاّمة: و فيه نظر.(1)

ص:92


1- - الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد: 4.

توضيح جواب المحقّق الطوسي هو: انّ المتكلّم إذا أطلق الإنسان و أراد الناطق فإن أراده بما انّه تمام المعنى فلا يصدق انّه معنى تضمني، و إن أراد أنّه جزء المعنى فلا يصدق عليه انّه معنى مطابقي.

و قد أجاب المحقّق الطوسي بنفس هذا الجواب عن إشكال أُورد على تعريف المفرد حيث عُرّف المفرد بأنّه الذي ليس لجزئه دلالة أصلاً، و اعترض عليه بعض المتأخرين بلفظ» عبد اللّه «إذا جعل علماً لشخص فانّه مفرد مع أنّ لجزئه دلالة ما.

فأجاب عنه المحقّق الطوسي بأنّ دلالة اللفظ لما كانت وضعية كانت متعلّقة بإرادة المتلفّظ الجارية على قانون الوضع، فما يتلفّظ به و يراد به معنى ما و يفهم عنه ذلك المعنى، يقال له انّه دال على ذلك المعنى; و ما سوى ذلك المعنى ممّا لا تتعلّق به إرادة المتلفّظ، لا يقال إنّه دالّ عليه، و إن كان ذلك اللفظ أو جزء منه، بحسب تلك اللغة أو لغة أُخرى أو بإرادة أُخرى، يصلح لأن يدل به عليه.

و إذا ثبت هذا فنقول، اللفظ الذي لا يراد بجزئه الدلالة على جزء معناه، لا يخلو من أن يراد بجزئه، الدلالة على شيء آخر أو لا يراد، و على التقدير الأوّل لا تكون دلالة ذلك الجزء متعلّقة بكونه جزءاً من اللفظ الأوّل، بل قد يكون ذلك الجزء بذلك الاعتبار لفظاً برأسه دالاً على معنى آخر بإرادة أُخرى، و ليس كلامنا فيه، فإذن لا يكون لجزء اللفظ الدال من حيث هو جزء دلالة أصلاً و ذلك هو التقدير الثاني بعينه، فحصل من ذلك انّ اللفظ الذي لا يراد بجزئه دلالة على جزء معناه لا يدل جزؤه على شيء أصلاً.(1)

و الحاصل: انّه إذا تلفّظ بلفظ عبد اللّه، فإمّا يتلفّظ به بما انّ جزء لفظه يدل

ص:93


1- - شرح الإشارات: 321/31.

على جزء معناه أو لا يدل; فعلى الأوّل مركب خارج عن التعريف، و على الثاني مفرد لا ينتقض به التعريف.

و على كلّ تقدير فالمحقّق الطوسي ممّن ذهب إلى أنّ دلالة اللفظ على المعنى موقوفة على إرادة المتلفّظ ذلك المعنى إرادة جارية على قانون الوضع، إذ الغرض من الوضع تعدية ما في الضمير و ذلك يتوقّف على إرادة اللافظ فما لم يرد المعنى من اللفظ لم تجد له دلالة عليه.(1)

الثاني: أشكال أخذ الإرادة جزءاً للمعنى

إنّ وضع اللفظ للمعنى المراد يتصوّر على وجوه:

1. أخذ الإرادة بالحمل الأوّلي) مفهوم الإرادة (جزءاً للمعنى.

2. أخذ الإرادة بالحمل الشائع الصناعي) مصداق الإرادة (جزءاً للمعلوم بالذات.

3. أخذ الإرادة بالحمل الشائع جزءاً للمعلوم بالعرض.

4. أخذ الارادة بالحمل الشائع الصناعي بنحو القضية الحينية في الموضوع له.

5. أخذ الإرادة بالحمل الشائع الصناعي قيداً للوضع. هذه هي الوجوه المتصوّرة.

إذا عرفت هذين الأمرين، فلنذكر حكم كلّ واحد من هذه الوجوه:

أمّا الوجه الأوّل، فهو بديهي البطلان، و لم يذهب إليه أحد.

و أمّا الثاني أي كون اللفظ موضوعاً للمعلوم بالذات) الصورة الذهنية (التي

ص:94


1- - المحاكمات لقطب الدين الرازي في ذيل الإشارات: 1/32.

تعلّقت بها الإرادة بالحمل الشائع، فيلزم أن تكون القضايا إخباراً عن الأُمور الذهنية لا إخباراً عن الخارج، لأنّ المعلوم بالذات الذي هو متعلّق الإرادة قائم بالذهن، فالقيد و المقيد كلّها أُمور ذهنية و بالتالي لا ينطبق على الخارج.

و أمّا الثالث، أي كون اللفظ موضوعاً للمعلوم بالعرض الذي تعلّقت به الإرادة عن طريق الصورة الذهنية(1)، فهذا أيضاً يستلزم عدم إمكان حمل قائم على زيد الخارجي، لأنّ الموضوع في» قائم «مركب من أمر خارجي) المعلوم بالعرض (و أمر ذهني) تعلّق الإرادة به (فلا يصحّ أن يقال:» زيد قائم «إلاّ بالتجريد، فانّ القيام و إن كان موجوداً في الخارج إلاّ أنّ الإرادة التي وصف بها القيام عن طريق الصورة الذهنية أمر ذهني.

و أمّا الرابع، أي كون الموضوع له المعلوم بالعرض حين تعلّقت به الإرادة على نحو لا يصدق اللفظ إلاّ على المعنى المراد و في الوقت نفسه ليس كونه مراداً جزءاً للمعنى، و هذا هو مفاد القضية الحينية.

توضيحه: انّ القضايا على أقسام ثلاثة:

أ: المشروطة، مثل قولك: كلّ كاتب متحرك الأصابع ما دام كاتباً، فحركة اليد ثابتة للكاتب بشرط كونه كاتباً.

ب: المطلقة، مثل قولك: كلّ كاتب متحرك الأصابع بالفعل، أي في أحد الأزمنة الثلاثة، فحركة اليد للكاتب على وجه الإطلاق.

ج: و الحينية، و هي نحو قولك: كلّ كاتب متحرك الأصابع حين هو كاتب، فحركة اليد ثابتة للكاتب لا على وجه الإطلاق حتى يعم المحمول) الحركة (حالة

ص:95


1- - و إنّما يوصف الخارج بكونه معلوماً بالعرض، لأنّ الإنسان يصل إليه عن طريق الصورة الذهنية، فتكون الأخيرة معلومة بالذات و ما قبلها معلوماً بالعرض.

عدم الكتابة و لا على وجه التقييد حتى يؤخذ في الموضوع ما دام كونه كاتباً، و لكنه في الوقت نفسه لا ينطبق إلاّ على حال الكتابة، فالمحمول في الحينية و إن كان مطلقاً غير مشروط لكنّه على نحو لا ينطبق إلاّ على المشروطة; و هذا كما إذا رأيت زيداً معمّماً، فالتعمّم ليس قيداً للمرئيّ و لا للرؤية، و لكنّه لا ينطبق إلاّ على المعمّم و أنت ما رأيت إلاّ زيداً المعمّم، و في المقام، اللفظ وضع لذات المعنى لكن حين كونها مراداً للمتكلّم و اللافظ. و على ضوء ذلك لا يرد عليه ما أوردنا من انقلاب القضية الخارجية إلى الذهنية كما في الثاني، و لا عدم انطباق القضية على الخارج كما في الثالث، و الحينية مع كونها نزيهة عما أورد على القسمين و لكنّها لا تنطبق إلاّ على المضيق و هو المعنى المراد.

يلاحظ عليه: بأنّ القضية الحينية و إن كانت رائجة بين المنطقيّين و لكن لم نتصور لها معنى محصلاً، فانّ الكتابة في قوله:» حين هو كاتب «إمّا قيد للمحمول) متحرك الأصابع (فيكون من قبيل المشروط، أو ليس قيداً له و للمحمول إطلاق، فيكون من قبيل المطلقة العامة، فما معنى هذا التذبذب بين المشروطة و المطلقة، و إن نطق به المنطقيون؟ و بعبارة أُخرى: انّ القول بأنّ المحمول هو المتحرك المقترن بالكتابة لا بقيدها لا يخلو من إبهام، لأنّ المحمول إمّا مقيد بالاقتران بالكتابة أو لا، و على الأوّل تعود الحينية إلى المشروطة، و على الثاني يكون المحمول مطلقاً صادقاً في كلتا الحالتين: حالة وجود الكتابة و عدمها.

و بذلك يظهر انّ قوله إنّ الموضوع له هي المعاني حالة كونها مرادة لا مقيداً بها لا يخلو إمّا أن تكون القضية مطلقة فتعم المرادة و غير المرادة، أو مقيدة فيرجع إلى المشروطة.

ص:96

و بعبارة أُخرى: انّ تمييز الحصة التوأمة بالإرادة عن الحصة غير التوأمة يحتاج إلى قيد حتى يوضع لاحدى الحصتين دون الأُخرى. و معه يرجع إلى المشروطة.

و أمّا الخامس: فهو خيرة المحقّق الأصفهاني فقال: العلقة الوضعية متقيدة بصورة الإرادة الاستعمالية و في غيرها لا وضع، و ما يرى من الانتقال إلى المعنى بمجرّد سماع اللفظ من لافظ غير شاعر فمن جهة أُنس الذهن بالانتقال من سماعه إلى إرادة معناه.(1)

توضيح ما ذكره: هو أنّ الوضع فعل اختياري للواضع، و كلّ فعل اختياري لا بدّ له من غاية، فالعلّة الغائية تضيق جانب الفعل و تحدده و تخصه بصورة وجوده الغاية و هو الإفادة و الاستفادة أو إبراز ما في الضمير.

يلاحظ عليه: أنّ الغرض من الوضع و إيجاد العلقة الاعتبارية بين اللفظ و المعنى، هي بيان الحقائق الواقعية بما هي هي لا ما وقعت في أُفق الإرادة، فإذا قال القائل:» الماء جسم رطب سيال «، فانّه يريد بيان الحقيقة الخارجية و انّ ذلك العنصر بما هو هو لا بما انّه واقع في ذهن القائل، فإذا كانت الغاية محددة للفعل فالغاية هي بيان الحقائق و هو يوجب إطلاق العلقة الوضعية و عدم تقيّدها بإرادة المتكلّم.

بقي هنا أُمور:

الأوّل: انّ الدلالة تنقسم إلى: تصورية، و تفهيمية، و تصديقية.

أمّا الأُولى: فهي عبارة عن دلالة اللفظ على معناه عند سماعه، و ربّما يعبّر عنها بالدلالة الوضعية، و هي لا تتوقف على شيء ما عدا العلم بالوضع، و لأجل

ص:97


1- - نهاية الدراية: 1/23.

ذلك ينتقل الذهن إلى المعنى بمجرّد السماع و لو من لافظ غير شاعر.

و أمّا الثانية: أعني الدلالة التفهيمية، فهي عبارة عن دلالة اللفظ على أنّ المتكلّم أراد تفهيم المعنى للغير، و هذه الدلالة تتوقّف وراء العلم بالوضع على أنّ المتكلّم في مقام التفهيم، لا في مقام تمرين الخطابة و أمثالها أو تعلم اللغة.

و أمّا الثالثة: أي الدلالة التصديقية، فهي عبارة عن دلالة اللفظ على أنّ الإرادة الاستعمالية مطابقة للإرادة الجديّة، و هي تتوقف وراء الأمرين على أمر ثالث و هو أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية. و هذا الأصل و ما قبله أي كونه بصدد التفهيم من الأُصول العقلائية إذا لم يقم دليل على خلافه.

الثاني: انّ المحقّق الخراساني لما قال بوضع الألفاظ للمعاني الواقعية حاول تأويل الكلام المنقول عن العلمين الطوسي و الحلي، بأنّ مرادهما من تبعية الدلالة للإرادة، هو الدلالة التصديقية و لذلك لا يصحّ لنا أن نُسند مضمون الكلام إلى شخص ما لم يُحرز أنّه أراد ذلك المعنى، وعليه لو تكلّم مورّياً أو تقيّة أو لغير ذلك لا يصحّ أن يسند مضمونه إليه.

أقول: ما ذكر من تبعية الدلالة التصديقية لإرادة المتكلّم و إن كان صحيحاً لكنّه ليس نظرية خاصّة للعلمين، بل هي ممّا لم يختلف فيه اثنان، فاشتمال كلامهما على التبعية ناظر إلى معنى آخر و هو تبعية الدلالة التصورية أو الوضعية للإرادة. و عذر المحقّق الخراساني في هذه النسبة، عدم مراجعته لكلامهما في محلّه.

الثالث: انّ كلّ من فسّر الوضع بالتعهد و الالتزام و قال إنّه عبارة عن التعهد بأنّ كلّما أطلق اللفظ أراد منه المعنى الخاص لا مناص له عن القول باختصاص الدلالة الوضعية بصورة قصد التفهيم و إرادة المعنى من اللفظ.

لأنّ الالتزام أو التعهد الذي هو مقوّم الوضع إنّما يتعلّق بالأمر الاختياري،

ص:98

و ما هو تحت اختيار الواضع هو ذاك) كلّما أطلق اللفظ أراد منه المعنى (، و أمّا الالتزام بكون اللفظ دالاً على معناه و لو صدر منه عن غير شعور أو اختيار، فلا يعقل أن يكون طرفاً للالتزام و الاختيار.

و بالجملة: إنّما يتعلّق الالتزام بفعل الإنسان لا بفعل غيره. و في أفعال النفس يتعلّق بالاختياري منها لا بالخارج عنه، كالنطق نائماً أو ساهياً.

ص:99

الأمر السادس في وضع المركّبات

اشارة

ربّما نسب إلى بعض الأُدباء القول بوضع خاص للمركّبات وراء المفردات.

توضيحه: انّ قولنا» زيد إنسان «حاو لأوضاع ثلاثة، فللموضوع وضع، و للمحمول وضع آخر، و للهيئة وضع ثالث، فنسب إلى بعض الأُدباء انّه يقول: إنّ هنا وضعاً رابعاً و هو وضع مجموع المادة و الهيئة، و ربّما يتجاوز عدد الأوضاع عن الأربعة إلى الخمسة و من خمسة إلى ستة، مثلاً: قولنا:» زيد قائم « للمحمول وضعان: وضع للمادة، و وضع للهيئة مضافاً إلى وضع المبتدأ و الهيئة، فيكون وضع المجموع وضعاً خامساً.

و لو كان لكلّ من الموضوع و المحمول وضع، كقولنا:» الضارب متعجب «ينتهي عدد الوضع إلى ستة و هكذا يزداد عدد الأوضاع.

فسواء أصحت النسبة إلى بعض الأُدباء) كما يظهر من شرح المفصّل لابن مالك انّ لهذا القول قائلاً ( أم لم تصح فالقول بوضع المجموع ساقط، و ذلك للوجوه التالية:

1. أنّ وضع المجموع أمر لغو، لأنّ وضع المفردات و الهيئة الاسمية كافيتان في إفادة المراد من دون حاجة إلى وضع المجموع من حيث المجموع.

2. ما ذكره ابن مالك في شرحه على المفصل، و قال: إنّه لو كان للمجموع

ص:100

وضع لما كان لنا أن نتكلّم بكلام لم يسبق إليه، إذ المركب الذي أحدثناه لم يسبق إليه أحد.

توضيحه: انّه لو كان للمجموع وراء المفردات و الهيئة وضع للزم أن تكون صحة الاستعمال متوقفة على الوضع المذكور، و على ذلك فلو كانت الجملة مما سبق استعمالها و تعلق بها وضع الواضع يصحّ لنا الاستعمال، و أمّا إذا كانت من الجمل المحدثة التي لم يسبق استعمالها و لم يتعلق بها الوضع لزم عدم صحّة استعمالها، لأنّها ليست على موازين الوضع كقولنا:» ارمسترونغ أوّل رائد فضائي «.

و ربّما يورد على تلك النظرية بأنّه: لو صحّ لزم الانتقال إلى المعنى مرتين في آن واحد، لفرض وضع المفردات مرّة، و المجموع من حيث المجموع مرّة أُخرى، و هذا يكون نظير ما إذا أتى الإنسان أوّلاً بأسماء كلّ عضو من أعضاء الإنسان، ثمّ أتى بلفظ الإنسان الجامع للأعضاء كلّها مرة ثانية.

يلاحظ عليه: أنّ الانتقال معلول للأُنس الحاصل من الاستعمال المعلول للوضع، و تعدّد الوضع لا يوجب تعدّد الانس فلا يلزم الانتقال.

إكمال المعروف انّ وضع المواد شخصي و وضع الهيئات نوعي،

و يراد منه أنّ المصدر بوحدته الشخصية كالضرب و القتل موضوع لمعناه، بخلاف الهيئات فانّها موضوعة بجامعها العنواني فيقال هيئة فاعل وضعت لمن قام بالفعل.

و قد أورد عليه بأنّه إن أُريد من نوعية الوضع في الهيئات عدم اختصاصها بمادة معينة فانّ المادة أيضاً غير مختصة بهيئة معينة، فانّ المصدر له صيغ مختلفة كالضارب و المضروب التي هي كالهيئة بالنسبة إلى المصدر.

ص:101

و إن أُريد من شخصية الوضع في المواد امتياز كلّ مادة عن الأُخرى، فكل هيئة أيضاً تتميز عن الأُخرى إذ هيئة الفاعل غير هيئة المفعول.

و الظاهر انّ مراد القائل بنوعية الوضع في الهيئات و شخصيته في المواد هو انّ الهيئة غير قابلة للحاظها مستقلّة بل تلاحظ في ضمن مادة لكن وضعها كذلك كالضارب يوجب عدم اطّرادها في مادة أُخرى، فيجب أن توضع بشكل لا يكون للمادة) الضرب (فيها أي مدخلية كأن يقال: هيئة ضارب و ما يشبهها، و هذا معنى نوعية الوضع في الهيئة، فليس الوضع متعلّقاً لهيئة شخصية قائمة بمادة معلومة، بل لها و لما يشبهها.

و أمّا المادة فهي قابلة للحاظها استقلالاً فلا تكون مقيدة بالهيئة و لو استخدمنا الهيئة فإنّما هي لإمكان النطق بها لا للحاظها مستقلاً.

فإن قلت: فعلى ذلك يكون المصدر هو مادة المشتقات مع أنّ المادة يجب أن تكون موجودة بعامة خصوصياتها في المشتقات، و من المعلوم انّ المصدر و إن كان موجوداً بمادته في سائر المشتقات و لكن هيئته غير موجودة، لأنّها تمنع طروء الصيغ المختلفة عليه.

قلت: إنّ هيئة المصدر ليست جزءاً، و إنّما استخدمنا الهيئة لإمكان النطق بها. فالموضوع هو) ض، ر، ب (و الهيئة آلة لإمكان النطق بها. وعليه تكون المادة متوفرة في جميع الصيغ.

ص:102

الأمر السابع في علائم الوضع أو تمييز الحقيقة عن المجاز

اشارة

قد ذكروا لتمييز الموضوع له عن غيره أو تمييز الحقيقة عن المجاز علائم أربع، نذكرها واحدةً بعد الأُخرى.

العلامة الأُولى: التبادر

اشارة

التبادر عبارة عن سبق المعنى من اللفظ عند الإطلاق بنفسه من غير قرينة.

و بعبارة أُخرى: انسباق المعنى إلى الذهن من حاقِّ اللفظ لا عن القرينة بحيث كان السبق مستنداً إلى اللفظ نفسِه لا إلى القرينة فيكون دليلاً على أنّه موضوع له، إذ ليس لحضور المعنى منشأ إلاّ أحد أمرين: إمّا القرينة أو الوضع فإذا انتفى الأوّل ثبت الثاني.

ثمّ التبادر إنّما يكون كاشفاً عن الوضع إذا كان سبق المعنى من اللفظ أمراً

ص:103

مرتكزاً في النفس كما هو الحال في أهل اللغة حيث إنّ الإنسان إذا نشأ و ترعرع بين أهل اللغة يرتكز معنى اللفظ في ذهنه فإذا تبادر بلا قرينة يكون دليلاً على الوضع.

فإن قلت: إنّ سبق المعنى إنّما يكون دليلاً على الحقيقة إذا فُسّر المجاز باستعماله في غير ما وضع له، و أمّا على القول المختار من أنّ المجاز هو اللفظ المستعمل في الموضوع له كالحقيقة لكن بادّعاء انّ المنطبق عليه من مصاديق اللفظ، فلا يكون دليلاً على الحقيقة لاشتراكهما في أنّ المستعمل فيه هو الموضوع له.

قلت: إنّ المستعمل فيه في الحقيقة و المجاز و إن كان واحداً لكن يفترقان بانسباق نفس المعنى الحقيقي من اللفظ مجرداً عن الادّعاء بخلاف المجاز فانّ الانسباق فيه على أساس الادّعاء.

مشكلة الدور في التبادر

و قد أورد على كون التبادر علامة الوضع لاستلزامه الدور، فانّه يُستخدم للعلم بالوضع، و على ذلك فالعلم بالوضع متوقّف على التبادر، و هو متوقّف على العلم بالوضع، إذ لو لا العلم به لما تبادر.

يلاحظ عليه: بأنّ المستعلِم) بالكسر (إمّا من أهل اللسان أو من غيره، فإن كان من أهل اللسان فالعلم التفصيلي بالوضع، موقوف على تبادره و لكن تبادره موقوف على العلم الارتكازي بالوضع الذي ربّما يعبّر عنه بالعلم الإجمالي، و هذا النوع من العلم الارتكازي يحصل للإنسان الناشئ بين أهل اللغة منذ نعومة أظفاره.

و إن كان المستعلم من غيرهم فعلمه تفصيلاً بالوضع موقوف على تبادر

ص:104

المعنى من اللفظ عند أهل اللسان و تبادرهم موقوف على علمهم بالوضع من طرق شتّى.

ثمّ إنّ هناك كلاماً للمحقّق العراقي في رفع الدور حيث قال: إنّ العلم المستفاد بالتبادر غير العلم الذي يتوقف عليه التبادر حتى لو قلنا بتوقفه على العلم التفصيلي، لأنّه يكفي في ارتفاع الدور تغاير الموقوف و الموقوف عليه بالشخص لا بالنوع و لا بالصنف، و لا شبهة في مغايرة العلم الشخصي الحاصل بالتبادر للعلم الشخصي الذي يتوقف عليه التبادر.(1)

يلاحظ عليه: أنّه إذا كان العلم التفصيلي الثاني موجوداً في لوح النفس قبل التبادر، فلا معنى لتحصيل مثله كما لا يخفى.

بقيت هنا أُمور:

الأوّل: ربما يقال إذا كان الموضوع للاحتجاج هو ظهور الكلام سواء أ كان حقيقة أم مجازاً فلا فائدة في معرفة الموضوع له، و تمييز المعنى المجازي عن المعنى الحقيقي و الذي يعتبره العقلاء هو ظهور الكلام سواء كان الموضوع له أو لا.(2)

يلاحظ عليه: أنّه إذا كان الكلام ظاهراً في معنى، كان لما ذكره وجه، و أمّا إذا كان الكلام مجملاً فانعقاد الظهور موقوف على العلم بالوضع، و هو يُعرف بالتبادر فيكون لمعرفة الموضوع له أثر و فائدة.

الثاني: انّ تبادر المعنى من اللفظ في زماننا لا يثبت كونه المعنى الحقيقي في عصر الرسول و الأئمّة ) عليهم السلام (حتى يحمل اللفظ الوارد من الكتاب و السنّة عليه إلاّ أن يعضد بأصالة عدم النقل، و قلنا بأنّ مثبتاتها حجّة، و لعلّه على هذا جرت سيرة

ص:105


1- - المحقّق العراقي: بدائع الأفكار: 1/97.
2- - المحقّق العراقي: المقالات: 31، و التعبير منّا.

المفسرين للقرآن حيث يفسرون الأشعار الجاهلية و الرسائل القديمة بالمعاني الرائجة في أيامهم.

الثالث: انّ التبادر كما قلنا إنّما يكون حجّة على الموضوع له إذا كان التبادر مستنداً إلى اللفظ لا إلى القرينة، و إلاّ فالمعنى المجازي أيضاً يتبادر مع القرينة، و على هذا فلو أحرزنا أنّ التبادر مستند إلى حاق اللفظ أو إلى القرينة فهو، و إلاّ فهل يُجدي أصالة عدم القرينة لإثبات كون المعنى متبادراً من حاق اللفظ أو لا؟ الظاهر لا، لا لأجل عدم حجّية الأصل المثبت لما علمت أنّ الأصل اللفظي حجّة في مثبتاته بل لأنّ العقلاء إنّما يستخدمون ذلك الأصل عند الشكّ في المراد فيعيّنون به المراد، و أمّا إذا علم المراد و شك في كيفية الإرادة و انّه هل هو على نحو الحقيقة أو المجاز فلا، و ما هذا إلاّ لأنّ العقلاء يستخدمون الأُصول فيما يمسّ بحاجاتهم، و أمّا تعيين كيفية الإرادة و انّها هل هي على وجه الحقيقة أو المجاز فخارج عن مقاصدهم.

بحث استطراديّ

قد انتهى البحث عن التبادر و هناك بحث استطرادي، و هو أنّ الدور المتوهم في التبادر، نفس الدور المتوهم في الشكل الأوّل، حيث إنّ العلم بالنتيجة موقوف على العلم بكلّية الكبرى، و العلم بكليتها موقوف على العلم بثبوت الأكبر للأصغر، ففي المثال المعروف: العالم متغيّر، و كلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث، فلا شكّ أنّ العلم بالنتيجة موقوف على العلم بكلية الكبرى، أي أنّ كلّ متغير) حتى العالم (حادث، و العلم بكليّتها فرع العلم بالنتيجة، إذ لو لا العلم بأنّ الأصغر) العالم (من مصاديق الأوسط) المتغير (لما أمكن له الحكم بنحو الكلية.

و قد نقل أنّ العارف أبا سعيد أبا الخير أورد تلك الشبهة على الشيخ الرئيس

ص:106

أبي علي ابن سينا قائلاً: بأنّ الاستنتاجات كلها من طرق الأشكال الأربعة و الثلاثة الأخيرة تنتهي إلى الشكل الأوّل و هو مستلزم للدور، لأنّ ثبوت النتيجة يتوقف على كلية الكبرى، و لا يعلم صدق الكبرى على النحو الكلي حتى يكون الأكبر) الحادث (صادقاً على الأصغر) العالم (.

و كان في وسع الشيخ أبي سعيد تبيين الشبهة بأقوى من ذلك بأن يقول: إنّ الموادّ التي تتألف من الأقيسة لا تتجاوز عن خمسة أقسام.

فالقسم الشعري و المغالطي خارجان عن حيّز الاعتبار، و قسم الجدل لإسكات الخصم و تبكيته، و ربما يكون باطلاً عند المجادل، و القياس الخطابي لإقناع الإنسان العاجز عن إدراك البرهان، و القياس البرهاني يصاغ بأحد الأشكال الأربعة، و أفضلها هو الشكل الأوّل و هو لا ينتج لاستلزامه الدور.

و قد نقل انّ الشيخ ملا خليل القزويني الذي تتلمذ على الشيخ بهاء الدين العاملي و المحقّق الداماد كان ممّن يجوّز الترجيح بلا مرجّح و يستشهد برغيفي الجائع و طريق الهارب و انّه يختار أحدهما بلا مرجح، كما يعتقد ببطلان الشكل الأوّل لاستلزامه الدور بالبيان الآتي، و لما وقف على أنّ المحقّق آغا حسين الخوانساري أجاب عن شبهته، غادر قزوين متوجهاً إلى أصفهان و لما نزل بها و دخل المدرسة صادف بها أحد تلاميذ الخوانساري أعني الشيخ ميرزا محمد حسن الشيرواني فسأله عن سبب مجيئه إلى أصفهان، فقال: جئت لأناظر الخوانساري لاعتقاده بصحّة الشكل الأوّل و أنا أعتقد بكونه عقيم.

فقال الشيرواني: لما ذا؟ أجاب: لأنّه مستلزم للدور، و الدور باطل، فالشكل الأوّل باطل.

فقال الشيرواني: يا للعجب ما أتقن برهانَك حيث تستدل بالشكل الأوّل على بطلان الشكل الأوّل، فانّ ما ذكرته نفس الشكل الأوّل.

ص:107

فلمّا سمع القزويني الجوابَ ركب راحلتَه و عاد إلى قزوين من دون أن يرى حاجة لمواجهة الخوانساري.

إنّ هذا النوع من التفكير الذي كان عليه القزويني شائع بين أهل العرفان المجرّدين عن البرهان حتى انّ جلال الدين الرومي من تلك الزمرة حيث يبرهن بالعقل على عدم حجّية العقل و يقول:

پاى استدلاليان چوبين بود پاى چوبين سخت بى تمكين بود

و حاصله: انّ البرهان كالقدم الخشبي، و القدم الخشبي ضعيف المقاومة، فينتج انّ البرهان ضعيف المقاومة، ترى أنّه يستدلّ بالبرهان العقلي على صورة الشكل الأوّل على بطلان البرهان.

هذا و قد أجاب الشيخ الرئيس عن الدور الذي طرحه العارف أبو سعيد أبو الخير و قال: إنّ كلية الكبرى موقوفة على العلم باندراج الأصغر في الأكبر إجمالاً، و المقصود من النتيجة حصوله تفصيلاً; و قد أوضحه المحقّق السبزواري في شرحه على منطق منظومته و قال: إنّ الحكم يختلف باختلاف العنوان، حتى يكون الموضوع بحسب وصف، معلوم الحكم، و بحسب وصف آخر مجهولاً، فيستفاد حكمه باعتبار وصف، من العلم بحكمه باعتبار وصف آخر، فإذا قلنا كلّ إنسان حيوان، و كلّ حيوان حساس، أخذنا أفراد الحيوان الذي هو الحد الأوسط بعنوان الحيوان، لا بعنوان الإنسان و مجانساته، فلا دور و لا مصادرة، و تختلف الأحكام باختلاف العنوانات اختلافاً بيناً.(1)

فالإنسان بما انّه حيوان، نعلم أنّه حساس، و نريد أن نقف على أنّه حساس، بما انّه إنسان فالعلم الثاني موقوف على الأوّل بلا عكس.

ص:108


1- - الحكيم السبزواري: شرح المنظومة: قسم المنطق، 79.

و أوضحه المحقّق الآشتياني بقوله: إنّ العلم بالنتيجة، أي أنّ العالَم بالخصوص و بالتفصيل حادث يتوقف على العلم بالمقدمتين، و أمّا العلم بأنّ كلّ متغيّر حادث لا يتوقف على العلم بأنّ العالم بما هو عالم و بعنوان كونه عالماً بخصوصه و تفصيلاً، حادث، بل على العلم إجمالاً بعنوان انّه شيء متغير، حادث لا بعنوان انّه عالَم بخصوصه، فالعلم به من حيث إنّه متصف بعنوان خاص و هو العالمية محكوم بصفة أُخرى و هي الحدوث، متوقف على العلم به من حيث إنّه متصف بصفة أُخرى بعنوان آخر، و هو كونه شيئاً متغيراً، فلا دور لاختلاف طرفي التوقف.(1)

جواب آخر عن الدور

و هو انّ العلم بالنتيجة موقوف على كلية الكبرى، و لكن العلم بكلية الكبرى موقوف على الدليل العقلي الدال على الملازمة بين التغيّر و الحدوث من دون نظر إلى مصداق دون مصداق، فإذا دلّ الدليل العقلي على أنّ التغير عبارة عن التدرّج في الوجود، و التدرج يلازم تحقّق الشيء شيئاً فشيئاً يكون التغير ملازماً للحدوث، فالعقل ينتزع من هذه الملازمة قانوناً كلياً باسم كل متغير حادث.

هذا إذا كان الموضوع في الكبرى دليلاً على الملازمة كالتغير، و ربما لا يكون كذلك و إنّما تعلم كلية الكبرى من دليل خارجي، مثلاً نقول: هذا مثلث و كلّ مثلث زواياه تساوي زاويتين قائمتين، فالعلم بالكبرى رهن البرهان الهندسي على انّ مقدار زوايا المثلث، تساوي زاويتين قائمتين.

تمّ الكلام في التبادر و إليك البحث في العلامة الثانية.

ص:109


1- - الآشتياني: التعليقة على شرح المنظومة.

العلامة الثانية: صحّة الحمل و صحّة السلب

إنّ صحّة الحمل تعرب عن كون الموضوع هو المعنى الحقيقي كما أنّ صحّة السلب آية كونه مجازاً.

و تحقيق المقام يحتاج إلى بيان أُمور:

الأوّل: انّ الحمل إمّا أولي ذاتي أو شائع صناعي، فالأوّل عبارة عمّا إذا كان بين المحمول و الموضوع وحدة مفهومية، و أمّا الثاني فهو عبارة عن كون الموضوع من مصاديق المحمول، و كان الاتحاد في مقام الوجود و العينية دون المفهوم كما إذا قلنا: زيد إنسان.

ثمّ إنّ صحّة الحمل إنّما تجدي في القسم الأوّل كأن يقال: الحيوان المفترس أسد، و الحيوان الناطق إنسان، بخلاف الحمل الشائع الصناعي فانّه لا يثبت كون الموضوع هو الموضوع له للمحمول، و إنّما يثبت كونه من مصاديق المحمول، و هو ليس بمطلوب في المقام، و لذلك نركّز في المقام على الحمل الأوّلي دون الحمل الشائع الصناعي.

الثاني: انّ كيفية الاستعلام تتحقّق بالنحو التالي:

يُتخذ المعنى موضوعاً و ينظر إليه لا بما هو لفظ بل بما انّه مفهوم، و يجعل اللفظ الذي نريد استعلام معناه، محمولاً و يقال: الحيوان المفترس أسد أو الحيوان الناطق إنسان، فإذا صحّ الحمل يكون ذلك علامة على أنّ الموضوع، هو الموضوع له، كما أنّ صحّة السلب آية انّه ليس بموضوع له، كما إذا قال: الرجل الشجاع ليس بأسد حقيقة.

الثالث: انّ المحقّق القمي فرّق بين صحّة الحمل و صحّة السلب، فاكتفى

ص:110

في الأوّل بصحّة حمل معنى واحد على الموضوع، و قال في الثاني بأنّه لا يكون علامة إلاّ إذا صحّ سلب جميع المعاني الحقيقية عن المستعمل فيه لئلا يرد النقض في المشترك فانّه يصحّ سلب بعض المعاني عن مورد، كالعين بمعنى الذهب عن الفضة و لا يصحّ سلب جميعها.(1)

الرابع: قد أورد السيّد الأُستاذ على كون صحّة الحمل علامة الوضع، أو صحّة السلب علامة المجاز، بأنّ الاستعلام حاصل من التبادر الحاصل من تصوّر الموضوع، السابق على الحمل و سلبه، فيكون اسناده إلى الحمل و سلبه في غير محله.

فإن قلت: إنّما يصحّ ما ذكر إذا كان المستعلم من أهل اللسان، و أمّا إذا كان من غيرهم فلا تبادر و لا وحدة عنده بين الموضوع و المحمول فحينئذ إذا رأى صحّة الحمل عند العرف أو صحّة السلب يجد ضالّته.

قلت: إنّ صحّة الحمل عند أهل اللغة أو عدم صحّته يرجع إلى تنصيص أهل اللغة و اللسان و ليست بعلامة مستقلة، لأنّ العلم بصحّة الحمل لا يحصل إلاّ بتصريح الغير.(2)

يلاحظ عليه: انّا نختار الشق الأوّل و انّ المراد هو صحّة الحمل عند المستعلم لكن إنّما تكون صحّة الحمل مسبوقة بالتبادر إذا كان زمان الاستعلام مقارناً بزمان الحمل و سلبه فيسبقه التبادر و يغني عن غيره.

و أمّا إذا كان زمان الحمل مقدّماً على زمان الاستعلام، كما إذا صدر الحمل عن الإنسان في مقام إلقاء الخطابة أو المحاضرات العلمية و لم يكن حينذاك بصدد الاستعلام و إنّما تكلم بما تكلم ارتجالاً، و لما صار بصدد الاستكشاف وقف

ص:111


1- - قوانين الأُصول: 1/21.
2- - تهذيب الأُصول: 1/58.

على حمله أو سلبه السابقين، فيستدل به على كون الموضوع حقيقة أو مجازاً.

و نختار الشق الثاني و نقول: إنّ المراد من تنصيص أهل اللغة هو تصريحهم بالموضوع على وجه تفصيلي كقاموس اللغة و أساس البلاغة و لسان العرب، و ما أفاده من أنّ العلم بصحّة الحمل لا يحصل إلاّ بتصريح الغير فيرجع إلى تنصيصه، غير تامّ، بل العلم بها يحصل من الوقوف و لو بالقرائن الخارجية على كون الحمل أو السلب صحيحاً عندهم و إن لم يصرّحوا بصحّة الحمل.

الخامس: قد سبق انّ التبادر لا يثبت إلاّ انّ الموضوع هو المعنى الحقيقي في عصر المتعلّم، و امّا انّه هو الموضوع له في عصر النبي و الأئمّة فلا يتم إلاّ بأصالة عدم النقل المتفق عليها عند العقلاء، و مثله صحّة الحمل أو عدم صحّة السلب فلا يثبت إلاّ كون الموضوع هو المعنى الحقيقي في عصرنا.

نعم لو قلنا بأنّ المدار في الحجّية هو الظهور الواصل للسامع كفى نفس التبادر و صحة الحمل المثبتين لهذا الظهور.

و أمّا لو كان المدار هو الظهور حين صدوره من المتكلّم فهو يحتاج وراء التبادر أو صحة الحمل إلى أصالة عدم النقل.

السادس: انّ مشكلة الدور و حلها في المقام نفسها في التبادر طابق النعل بالنعل.

***

ص:112

العلامة الثالثة: الاطّراد

إذا اطّرد استعمال لفظ في أفراد كلي بحيثية خاصة، كرجل باعتبار الرجولية في زيد و عمرو، مع القطع بكونه غير موضوع لكل واحد على حدة، استكشف منه وجود علاقة الوضع بينها و بين ذاك الكلي، و علم أنّه موضوع للجامع بين الأفراد. و احتمال كونه مجازاً لأجل العلاقة، مدفوع بعدم الاطّراد في علائق المجاز، فانّ علامة الجزء و الكل ليست مطردة بشهادة انّه يصحّ استعمال العين في المراقب و لا يصحّ استعمال الشعر فيه، و يصحّ استعمال اللسان في الوكيل دون الصدر فيه و غير ذلك.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة:

1. انّ المجاز و إن لم يطرد في نوع علائقه و مطلق المشابهة إلاّ انّه في خصوص ما يصحّ معه الاستعمال في المجاز مطرد كالحقيقة.(1)

يريد أنّ استعمال الجزء في الكل و إن كان ليس بمطّرد في نوع تلك العلاقة بأنْ يطلق الجزء كالشعر و يراد الكل أي الإنسان، لكنّه مطّرد في خصوص ما كان للجزء دور خاص في مورد الاستعمال كالعين في المراقبة، و التبيين في اللسان، و العمل في اليد.

ثمّ إنّه لما التفت إلى وجود الفرق بين الاطّرادين حيث إنّ الاطّراد في الحقيقة عار عن التأويل، بخلاف الاطّراد في المجاز فانّه لا يصحّ إلاّ مع التأويل، أي تنزيل الجزء منزلة الكل، و كأنّه ليس للإنسان الجاسوس شأن سوى العين و النظر،

ص:113


1- - كفاية الأُصول: 1/28.

و للعامل سوى العمل باليد، و هكذا، و على ذلك فالاطّراد بلا تأويل علامة الحقيقة، و الاطّراد معه آية المجاز.

و لما التفت إلى ذلك الإشكال حاول الإجابة عنه من دون أن يذكر الإشكال و قال:

2. و زيادة قيد من غير تأويل أو على وجه الحقيقة و إن كان موجباً لاختصاص الاطّراد كذلك في الحقيقة إلاّ انّه حينئذ لا يكون علامة لها إلاّ على وجه دائر.(1)

توضيحه: انّ العلم التفصيلي بالحقيقة موقوف على الاطّراد من غير تأويل أي الاطّراد على وجه الحقيقة تفصيلاً فيلزم اتحاد الموقوف و الموقوف عليه.

ثمّ قال: إنّه لا يمكن الإجابة عن الدور بما ذكر في التبادر و صحة الحمل، لأنّ أحد الطرفين فيهما كان تفصيلياً و الآخر إجمالياً بخلاف المقام فانّ الطرفين على نحو التفصيل.

3. و إلى الإشكال الثالث يشير المحقّق الخراساني بقوله: و لا يتأتّى التفصّي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا ضرورة أنّه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطّراد أو بغيره.(2)

و حاصل كلام المحقّق الخراساني يرجع إلى أُمور ثلاثة:

الأوّل: انّ المجاز مطرد كالحقيقة في صنف العلامة.

الثاني: انّ إضافة قيد» بلا تأويل «في تعريف الاطّراد يوجب الدور.

الثالث: الجواب المذكور عن الدور في العلامتين الماضيتين لا يأتي هنا.

و قبل الإجابة عن هذه الإشكالات نوضح واقع الاطّراد و انّه لو كان هناك

ص:114


1- - كفاية الأُصول: 1/29.
2- - كفاية الأُصول: 1/29.

علامة للتعرف على الحقيقة لمن يريد الوقوف على اللغة هو الاطّراد غير انّ المشهور لم يعيروا أهمية لهذه العلامة حتى أنّ البعض ترك البحث فيها، غير أنّ المتتبع لاستعمالات اللغة يجد أنّ الاسلوب الوحيد للتعرّف على معاني الألفاظ هو الاطّراد.

توضيح ذلك: انّ الجاهل باللغة إذا أراد أن يعرف معاني اللغات الأجنبية من أهل اللسان ليس له طريق إلاّ الاستماع لمحاضرات أهل اللغة في مقامات مختلفة، فإذا رأى أنّ لفظاً خاصاً تستعمله طوائف مختلفة مع ثقافات متنوعة بحيثية واحدة في معنى واحد ينتقل إلى أنّه هو الموضوع له و انّ الاستعمال خال عن القرينة، مثلاً: رأى أنّ الفقيه يقول: الماء طاهر و مطهّر، أو قليل أو كثير، و يقول الكيميائي: الماء مركب من عنصرين أوكسيجين و هيدروجين، و يقول الفيزيائي: الماء لا لون له، و الكل يستعمل ذلك اللفظ في مورد خاص بحيثية واحدة و هو المائع السيال، و بما انّ المستعملين ذوو ثقافات مختلفة فمن البعيد أن يكون بينهم اتفاق على الاستعمال، فإذاً ينتقل الإنسان إلى أنّ الماء في لغة العرب موضوع للجسم الرطب السيال، فالفقيه العربي كالكيمياوي العربي مثل الفيزياوي كلّ يطلق ذلك اللفظ على هذا المعنى بما هو من أبناء تلك اللغة لا بما هو فقيه أو كيمياوي أو فيزياوي.

و بذلك يعلم أنّ طريق اقتناص معاني اللغة الأجنبية إنّما هو الاطّراد، فلنفترض انّا لا نعلم معنى الغنيمة الواردة في قوله سبحانه: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ )(1) حيث إنّ معناها مردد بين غنيمة الحرب أو مطلق ما يفوز به الإنسان، فالسنّة على الأوّل، و الشيعة على الثاني، و من الطرق الموضحة

ص:115


1- - الأنفال: 41.

لمعناها هو التتبع في لغة العرب و استعمالها في كلمات أهل اللسان في خصوص الغنيمة الحربية أو مطلق ما يفوز به الإنسان، فإذا رجعنا إلى القرآن نرى أنّه يستعمله في المعنى الثاني و يقول: (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ )(1)، فالمراد من الغنائم عند اللّه هو الثواب الأُخروي، و إذا رجعنا إلى السنّة نرى أنّها تستعمله في ذلك المعنى، يقول رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» غنيمة مجالس الذكر الجنة «(2)و في حديث آخر:» رمضان غنم المؤمن «(3)إلى غير ذلك من الموارد التي تستعمل في ألسنة أهل اللغة في معنى عام، فإذاً يحدس الإنسان بأنّه الموضوع له، و أمّا استعمالها في الغنيمة الحربية فلأجل أنّها من مصاديق ذلك المعنى، و إن شاع الاستعمال الثاني في ألسن المفسرين و الفقهاء.

إذا وقفت على ما ذكرنا فلنرجع إلى نقد ما ذكره المحقّق الخراساني.

أمّا الإشكال الأوّل: أعني وجود التسوية بين الحقيقة و المجاز حيث إنّ الثاني مطرد في صنف العلائق كالحقيقة.

فالإجابة عنه واضحة، و ذلك لأنّ المجاز غير مطّرد حتى في مورد صنف العلاقة، لأنّ المجاز عبارة عن حسن استعمال اللفظ في الموضوع له لكن بادّعاء أنّ المورد من مصاديق المعنى الحقيقي، و لكن حسن هذا الادّعاء رهن أمرين:

أ: أن يستحسنه الذوق، فلو قال أسد و أراد به الحيوان المفترس و طبّقه على الرجل الشجاع يستحسنه الذوق، دون ما إذا قال أسد و أراد الحيوان المفترس لكن طبقه على الرجل الأبخر بادعاء أنّ الحيوان المفترس أيضاً أبخر.

ب: كون المقام مناسباً لإظهار هذا الادّعاء، فلا يستعمل الأسد في المعنى

ص:116


1- - النساء: 94.
2- - انظر الاعتصام بالكتاب و السنّة: 292 تجد فيها أحاديث أُخرى مع مصادرها.
3- - انظر الاعتصام بالكتاب و السنّة: 292 تجد فيها أحاديث أُخرى مع مصادرها.

المجازي إلاّ إذا كان المقام مناسباً لإظهار بطولته و شجاعته، كما في قول الشاعر:

لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم

بخلاف ما إذا لم يكن المقام مقتضياً له كما إذا حاول أن يشاركه في الغذاء فلا يصحّ أن يقول يا أسد تفضل إلى الطعام بل يجب أن يقول: يا صديق تفضل إلى الطعام.

فهناك فرق بين يا رجل و يا أسد، فالثاني لا يصحّ إلاّ إذا كان المقام مختصاً ببيان شجاعته، بخلاف الأوّل فانّه يطّرد مطلقاً في عامة المقامات، و بذلك يظهر اختصاص الاطّراد بالحقائق دون المجازات، و لأجل ذلك قلنا لو صحّ استعمال اللفظ في موارد مختلفة مع محمولات مختلفة، لكشف عن كون المجوز هو الوضع دون القرينة.

و مثله إذا قلنا» فلان عين «فليس له اطّراد، كاطّراد لفظ الإنسان إلاّ في مقام خاص و هو كونه مراقباً للأُمور.

و أمّا الإشكال الثاني: أعني إضافة» من غير تأويل «إلى تعريف الاطّراد يستلزم الدور.

فالظاهر أنّ المحقق الخراساني زعم أنّ العلم بالموضوع له على وجه الحقيقة متوقف» على الاطّراد من غير تأويل «على نحو يجب أن يحرز قبل الاستعلام» الاطّراد بلا تأويل «ثمّ يستخدمه المستعلم في التعرف على الموضوع له، فلو كان هذا هو المراد لكان لإشكاله وجه، إذ مع العلم بالمعنى الحقيقي، لا جهل حتى نتوسل إلى رفعه، مضافاً إلى اتحاد الموقوف و الموقوف عليه.

و أمّا إذا كان المراد أنّ العلم بالمعنى الموضوع له على وجه الحقيقة موقوف على إعمال الاطّراد بكثرة حتى يقف المستعلم بأنّ الاستعمال في هذه الموارد الكثيرة

ص:117

ليس مقروناً بالتأويل، فهو لا يستلزم الدور، لأنّ قيد» من غير تأويل «ليس قيداً للاطّراد من أوّل الأمر و إنّما هو نتيجة الإطراد.

و على ذلك فالعلم بالموضوع له على وجه الحقيقة متوقّف على الاطّراد، لكن إلى حد يحصل العلم بأنّه ليس في المقام أي تأويل و تنزيل، و إلاّ فلو كان لعُلم، فهو) أي من غير تأويل (نتيجة الاطّراد و في طوله لا في عرضه.

و على ذلك فينشأ من الاطّراد أُمور ثلاثة:

أ. انّ الاطّراد نتيجة الوضع.

ب. الاطّراد ليس مقروناً بالتأويل.

ج. انّ المستعمل فيه هو المعنى الحقيقي.

إلى هنا تمّت الإجابة عن الإشكالين.

و أمّا الإشكال الثالث من انّ الجواب عن الدور على النحو السابق في التبادر و صحّة الحمل لا يأتي في المقام فقد علم جوابه ممّا ذكرنا، و ذلك لأنّ العلم بالحقيقة على وجه التفصيل هو الموقوف و لكن الموقوف عليه هو الاطّراد إلى حد ينتهي إلى العلم بعدم التأويل، فعندئذ يحصل العلم بالعلم بالحقيقة.

و قد أورد على الاطّراد السيّد الأُستاذ إشكالاً آخر و حاصله:

أنّ الاطّراد مسبوق بصحّة الحمل فيكون غير محتاج إليه.

و يمكن الإجابة عنه، بأنّ الاطّراد إنّما يكون مسبوقاً بصحّة الحمل لو علم انّ الحمل صحيح بلا قرينة، و أمّا إذا شكّ في أنّ المصحّح للحمل ذات الموضوع، أو بضميمة قرينة فلا يكون مسبوقاً به، فعندئذ يكون اطّراد الاستعمال في موارد مختلفة مع الحمل عليه بمحمولات متنوعة كاشفاً عن الحقيقة، و أنّ المجوز هو الوضع، دون القرينة من دون أن يكون لصحّة الحمل دور في مجال الاستكشاف.

ص:118

ثمّ إنّ كون الاطّراد دليلاً على الحقيقة ليس بمعنى أنّ الأصل في الاستعمال هو الحقيقة كما عليه المرتضى، و ذلك للفرق بين القولين فانّ ما ذكره يرجع إلى أنّ الأصل في كلّ استعمال ما لم يعلم كونه مجازياً كون المستعمل فيه معنى حقيقياً، و لأجل ذلك ذهب إلى أنّ اشتراك صيغة الأمر في الوجوب و الندب لأجل استعماله فيهما.

و بالجملة: هو يكتفي بمجرّد الاستعمال و يجعله دليلاً على الحقيقة.

و ما ذكرنا يرجع إلى أنّ استعمالاً واحداً أو اثنين لا يكشف عن كون المستعمل فيه حقيقة إلاّ إذا انتهى إلى حدّ نطمئنّ بأنّ الانتقال من اللفظ إلى المعنى، مستند إلى الوضع لا إلى القرينة إذ لو كان لبان، و لو خفي في مورد فلا يكاد يخفى في الموارد المختلفة، و كم فرق بين القولين.

العلامة الرابعة: تنصيص أهل اللغة

قد ذكروا انّ تنصيص أهل اللغة على معنى اللفظ من أسباب التعرّف على المعنى الحقيقي و تمييزه عن المعنى المجازي، و المراد من أهل اللغة هم الذين ألّفوا معاجم اللغة و قواميسها، منهم:

1. الخليل بن أحمد البصري الفراهيدي سيد أهل الأدب، فهو أوّل من دوّن لغة العرب على وفق حروف المعجم لكنّه رتب الحروف حسب مخارجها من الحلق، فاللسان فالأسنان، فالشفتين، و بدأ بحرف العين و ختمها بحروف العلة) واي (و قد طبع أخيراً، توفّي عام 170 ه.

ص:119

2. محمد بن الحسن بن دريد، صاحب الجمهرة في اللغة) المتوفّى عام 321 ه (.

3. إسماعيل بن حمّاد الجوهري، صاحب كتاب صحاح اللغة،) المتوفّى عام 391 ه (.

إلى غير ذلك من أُمّهات كتب اللغة المؤلفة في العصور الأُولى، أو المؤلفة في العصور الوسطى، كلسان العرب لابن منظور المصري) المتوفّى عام 707 ه (، و» القاموس المحيط «للفيروزآبادي ) المتوفّى عام 717 ه (.

ثمّ إنّه استشكل على تلك العلامة بأنّ شأن اللغوي هو بيان موارد الاستعمال من غير فرق بين كونه معنى حقيقياً أو مجازياً، مع أنّ المطلوب هو تمييز المعنى الحقيقي عن المجازي.

يلاحظ عليه بوجهين:

الأوّل: أنّ كتب اللغة على قسمين: قسم منه يتعرّض للمعنى الأصلي الذي اشتقّ منه سائر المعاني و تفرّع منه بمناسبة من المناسبات، و من أحسن ما ألف في هذا المضمار كتاب» المقاييس «لأحمد بن فارس بن زكريا) المتوفّى عام 395 ه (، و» أساس البلاغة «للزمخشري) المتوفّى عام 538 ه (فقد بذل المؤلفان الجهودَ لتعيين أُصول المعاني و تميزها عن متفرعاتها، فالرجوع إلى هذين المعجمين يوقف المراجع على المعنى الموضوع له، دون خصوص المستعمل فيه.

الثاني: ان همّ أغلب المعاجم و إن كان بيان المستعمل فيه، من دون تركيز على المعنى الأصلي، لكن الممارس لها، ممارسة تامة يكتسب ملكة يستطيع بها تمييز المعنى الحقيقي عن المعاني المشتقة منه، و ذلك رهن الممارسة الممتدة بكتب اللغة، على نحو يخالط علمُ اللغة دمَه و لحمَه، مضافاً إلى قريحة أدبية يقتنص على ضوئها

ص:120

الحقائقَ، و نمثل لذلك مثالين:

1. انّ أهل اللغة يذكرون للفظ الوحي معان: كالإشارة السريعة، و الصوت الخفي، و الإلهام القلبي، و التسخير، إلى غير ذلك من المعاني، و لكلّ واحد منها شاهد في القرآن الكريم(1)، لكن الإمعان فيها يقضي أنّ له معنى واحداً و هو الافهام بخفاء و البواقي صور له.

2. يذكر أهل اللغة للقضاء عشرة معاني كالحكم، الصنع، الحتم، البيان، الموت، الإتمام، بلوغ النهاية، العهد، الإيصاء، و الأداء، و لكن الإمعان يثبت أنّ الجميع مصاديق مختلفة لمعنى واحد و هو العمل المتقن، و الباقي صور له، و لذلك أرجع صاحب المقاييس الجميع إلى أصل واحد.

و على ذلك فالرجوع إلى هذه القواميس على النحو المذكور ربّما يرفع الستار عن وجه الحقيقة.

ص:121


1- - الإشارة، كقوله سبحانه: (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا) (مريم: 11). الصوت الخفي، كقوله سبحانه (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) (الأنعام: 112). الإلهام القلبي، كقوله سبحانه: (وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (القصص: 7). التسخير، كقوله سبحانه: (وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (فصلت: 12).

الأمر الثامن في تعارض الأحوال

لا شكّ أنّه إذا دار الأمر بين حمل اللفظ على المعنى الحقيقي و المجازي، فالأصل هو الحقيقة حتى يثبت خلافه، أو إذا دار الأمر بين العام و الخاص، أو المطلق و المقيّد، فالأصل هو الأخذ بالعموم و المطلق حتى يثبت خلافها.

إنّما الكلام فيما إذا دار الأمر بين أحد الأُمور الخمسة التي كلها على خلاف الأصل كالتجوز و التخصيص و الاشتراك، و النقل و الإضمار، و غيرها كالاستخدام و التقييد فهل هناك ترجيح لأحدها على الآخر، أو لا؟ قد ذكر الأُصوليون وجوهاً استحسانية لترجيح بعض على البعض الآخر، و قد أطنب المحقّق القمي(1) الكلام في ذلك لكنّها وجوه عقلية ظنية، لا تثبت الظهور.

مثلاً إذا دار الأمر في قوله سبحانه: (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها )(2) بين إضمار لفظ» أهل «، أو استعمال القرية في غير معناها الحقيقي فقد ذكروا لكلّ وجهاً غير مقنع، فالبحث عن هذه الوجوه و نقدها إضاعة للعمر و المتّبع لدى أهل المحاورة هو الظهور فإن تحقّق فهو و إلاّ فلا تعتبر، لأنّ هذه الوجوه، علل فكريّة، أشبه بأُمور عقلية بعيدة عن الأذهان العرفية، فلا يلتفت إليها العرف الدقيق حتى يثبت بها الظهور للكلام.

ص:122


1- - قوانين الأُصول: 351/31.
2- - يوسف: 82.

الأمر التاسع في الحقيقة الشرعية

اشارة

الحقيقة الشرعية عبارة عن صيرورة ألفاظ العبادات حقائق في المعاني المخصوصة بوضع الشارع تعييناً أو تعيّناً، أو بنحو آخر كما سيوافيك و هل هي ثابتة أو لا؟ و تحقيق المقام يتوقف على نقل الآراء في المسألة.

إنّ النظريات المطروحة في المقام لا تتجاوز عن أربع:

الأُولى: بقاء ألفاظ العبادات على معانيها اللغوية.

و هذه النظرية هي المنسوبة إلى أبي بكر الباقلاني) المتوفّى 403 ه (و هو من أكابر الأشاعرة و قد ادّعى أنّ ألفاظ العبادات استعملها النبي في معانيها اللغوية و طبَّقها على تشريعاته، لأنّها من مصاديقها التي كشف عنها الشارع و إن كان العرف غافلاً عنها، فالألفاظ باقية على معانيها اللغوية إلى يومنا هذا.

الثانية: انّ ألفاظ العبادات نقلت على لسان النبي من معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية بالوضع الجديد.

الثالثة: انّ النبي استعملها في تلك المعاني مجازاً ثمّ صارت حقائق في تلك المعاني في لسان المتشرعة، فهي حقائق متشرعية لا شرعية.

الرابعة: انّها كانت حقائق في تلك المعاني الشرعية قبل بعثة النبي و بعده

ص:123

و انّ العرب كانت تستعمل تلك الألفاظ في هذه الماهيّات بلا قرينة مقالية أو حالية، و قد خاطب النبي الأُمّة الإسلامية بلغتهم. و إليك دراسة الأقوال:

دراسة النظرية الأُولى: أي بقاء ألفاظ العبادات على معانيها اللغوية

أمّا النظرية الأُولى: فهي مردودة، إذ كيف يمكن أن يدّعى أنّ الصلاة من مصاديق الدعاء التي كشف عنها الشارع، إذ بين الدعاء و الصلاة بون شاسع، فإذا استعملها النبي في تلك المعاني في حين مغايرتها مع المعنى اللغوي فلا بدّ له من مسوّغ، و هو أحد أمرين: إمّا النقل و الوضع فيدخل في القول الثاني، أو العلاقة بين المعنيين فيدخل في القول الثالث، فنظرية الباقلاني مردّدة ثبوتاً بين القولين و لا يمكن أن تكون نظرية مستقلة.

دراسة النظرية الثانية: أي أنّ ألفاظ العبادات نقلت على لسان النبي ص من معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية بالوضع الجديد

و استدلّ للنظرية الثانية بتبادر المعاني الشرعية من هذه الألفاظ في محاورات النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و هو رهن الوضع، إذ لو لا الوضع لم يصح التبادر.

و بالجملة: انّ المثبِت يعتمد على التبادر في لسان النبي و يراه ملازماً للقول بالوضع.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح لو لم يصحّ تفسير التبادر عن طريق القول الرابع، و إلاّ فلو كانت تلك الألفاظ حقائق عرفية في عصر التشريع في لسان العرب لصحّ تفسير التبادر عن ذلك الطريق من دون أن يكون للنبي دور في تحقّق التبادر كما سيوافيك. فهذا القول متين إذا لم يثبت القول الرابع.

دراسة النظرية الثالثة: أي أنّ النبي ص استعملها في تلك المعاني مجازاً ثمّ صارت حقائق في تلك المعاني في لسان المتشرعة

و استدل للنظرية الثالثة بأنّ كونها حقائق شرعية في لسانه) صلى الله عليه و آله و سلم (يتوقف على الوضع و هو إمّا تعييني أو تعيّني، و الأوّل بعيد جداً، و إلاّ لنقل، و الثاني يتوقف على الاستعمال بكثرة و لا يكفي عصر الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (و استعمالاته في تحقّق النقل.

يلاحظ عليه بوجهين:

الأوّل: لما ذا لا تكفي فترة الرسالة لتحقق الوضع التعيّني مع أنّ بلالاً

ص:124

ينادي كلّ يوم و يقول:» حي على الصلاة «عشر مرات، فيكفي في تحقق الحقيقة الشرعية مضيّ أيام أو شهور؟! الثاني: الوضع غير منحصر بالتعيينيّ و التعيّني، إذ هناك طريق آخر للوضع و هو الاستعمال بداعي الوضع كما يقول الأب عند تسمية المولود الجديد مخاطباً أُمّه: ائتيني ولدي الحسين يحاول بذلك تسميته به.

و من الممكن أن يتولّى النبي عملية الوضع من خلال هذا الطريق، فلما صلّى أمام قومه، فقال: صلّوا كما رأيتموني أُصلي، فهو بنفس ذلك الاستعمال نقل الصلاة من معناها اللغوي إلى الحقيقة الجديدة.

نعم ربّما يقال بأنّه يمتنع الاستعمال بداعي الوضع، لأنّه يستلزم الجمع بين اللحاظين المختلفين في آن واحد، فبما انّه بصدد الوضع فيلاحظ لفظ الحسين لحاظاً استقلالياً، و بما انّه بصدد استعماله في المولود الجديد يلاحظ اللفظ استعمالاً آلياً، فليزم الجمع بين اللحاظين في آن واحد.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ وضع اللفظ يستلزم لحاظه على وجه الاستقلال ممّا لا غبار عليه، إنّما الكلام في الشق الثاني و هو أنّ الاستعمال يلازم لحاظ اللفظ آلياً و تبعياً، إذ حينئذ يسأل عن معنى التبعية و الآلية فإن أُريد منها مغفوليةُ اللفظ، فهو غير صحيح، فانّ الإنسان في مقام إظهار الفصاحة يتوجه إلى اللفظ مثل توجهه إلى المعنى فينتخب السهلَ العذْب و يترك خلافه لا سيما إذا كان سياسياً يحاسَب على كلّ لفظ يتفوّه به.

و إن أُريد من التبعية كون اللفظ وسيلة لإفادة المعنى و المعنى، هو الأصل، فهذا النوع من التبعية لا ينافي اللحاظ و لا يلازم المغفوليّة.

ص:125

دراسة النظرية الرابعة أي أنّها كانت حقائق في تلك المعاني الشرعية قبل بعثة النبي و بعده و انّ العرب كانت تستعمل تلك الألفاظ في هذه الماهيّات بلا قرينة مقالية أو حالية

و حاصل هذه النظرية: أنّ هذه الألفاظ كانت حقيقة في هذه المعاني قبل البعثة و متزامناً معها و قد استعملها النبي فيها كاستعمال سائر الألفاظ من غير فرق بينها. و توضيح ذلك يتوقف على ثبوت أمرين و إن ذكر أحدهما القوم و غفلوا عن الثاني، و لذلك استشكلوا على تلك النظرية غفلة عن الأمر الثاني.

1. انّ هذه العبادات كانت موجودة في الشرائع السابقة، و يشهد لها كثير من الآيات القرآنية، و نكتفي بالبعض منها.

قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ).(1)

و قال تعالى: (وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ).(2)

و قال تعالى: (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ).(3)

و قال تعالى: (وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ).(4)

فانّ هذه الآيات و غيرها ممّا يجده المتتبع في القرآن، تدل على وجود تلك الماهيات في الشرائع السابقة و انّها ليست ماهيات مخترعة.

هذا هو الأمر الأوّل و إليك الكلام في الأمر الثاني:

ص:126


1- - البقرة: 183.
2- - الحج: 27.
3- - مريم: 3130.
4- - مريم: 5554.

2. إذا كانت هذه الحقائق موجودة في الشرائع السماوية، و كانت للعرب صلة وثيقة باليهود و النصارى، فقد كانت» يثرب «معقل اليهود و» نجران «مركزاً للنصارى، و كانت لقريش رحلتان في الشتاء و الصيف، فرحلة في فصل الشتاء إلى» اليمن «التي كانت تتواجد فيها اليهود بكثرة، و رحلة في فصل الصيف إلى الشام التي كانت يوم ذاك مركزاً للنصارى، فلم يكن للعرب يوم ذاك بُدّ من وجود لفظ، يعبّر به عن عباداتهم: صلاتهم و صومهم، و لم يكن ذلك اللفظ سوى نفس هذه الألفاظ.

و يؤيّد ذلك انّ القرآن استعملها في نفس تلك المعاني في بدء البعثة فجاءت الآيات التالية في السور المكية النازلة في صدر البعثة:

1. (أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلّى ).(1)

2. (فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلّى * وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّى ).(2)

3. (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ).(3)

4. (إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ ).(4)

فقد نزلت هذه الآيات في أوائل البعثة، مع أنّ الصلاة فرضت في ليلة المعراج و كان عروجه إلى السماء في العام العاشر من الهجرة، و قد ورد لفظ الصلاة في السور المكية قرابة 35 مرة. كلّ ذلك يدلّ على أنّ العرب المعاصرين لعصر الرسالة كانوا يستعملون تلك الألفاظ في نفس هذه المعاني، بلا قرينة.

و انّ الوحي اتبع اللغة الدارجة بين قوم النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (.

و بالجملة: المهم في هذا الأمر، هو الوقوف على أنّ العرب كانت لهم صلة

ص:127


1- - العلق: 109.
2- - القيامة: 31 32.
3- - المدثر: 43 44.
4- - الكوثر: 21.

وثيقة، مع أتباع الشرائع السماوية الذين كانوا يصلّون، و يصومون و لم يكن لهم بدّ من التعبير عن هذه الحقائق بلفظ خاص، و ليس هذا اللفظ إلاّ ما استخدمه القرآن في بدء البعثة غاية الأمر قد أضاف جزءاً أو شرط شرطاً، و عين موانع و قواطع لها.

و يؤيد ذلك أيضاً أنّ جعفر بن أبي طالب عرّف دين النبي لملك الحبشة بكلام مفصل و كان ذلك في العام الخامس من البعثة، و قد جاء في ثناياه:

أيّها الملك كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام إلى أن قال: و أمرنا أن نعبد اللّه وحده لا نشرك به شيئاً، و أمرنا بالصلاة و الزكاة و الصيام فصدقناه و آمنا... «.(1)

كل ذلك يعرب عن شيوع استعمال هذه الألفاظ في تلك المعاني يوم ذاك و قد خاطب رئيس الوفد ) جعفر بن أبي طالب (ملكَ الحبشة بلغة قومه، و بالتالي خاطب النبي الناس أيضاً بلغة قومه و قال سبحانه:

(وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ).(2)

ثمّ إنّ القوم نظروا إلى القسم الأوّل من الآيات الدالة على ثبوت هذه الحقائق في الشرائع السماوية، و غفلوا عن القسم الثاني منها الدال على التعبير عنها في بدء البعثة بنفس هذه الألفاظ، كما غفلوا عن انتشار هذه المفاهيم بين الجزيرة العربية فقد كانوا يعبّرون عنها بهذه الألفاظ، و لذلك استشكل على هذه النظرية جماعة منهم المحقق النائيني حيث قال:

إنّ المعاني و إن كانت ثابتة في الشرائع السابقة إلاّ أنّها لم تكن يعبّر عنها

ص:128


1- - السيرة النبوية: 1/338; اقناع الاسماع: 21; بحار الأنوار: 18/414.
2- - إبراهيم: 4.

بهذه الألفاظ بل بألفاظ أُخر، فلا يكون ثبوتها في الشرائع السابقة مانعاً عن الحقيقة الشرعية.(1)

و منهم المحقّق المشكيني حيث قال:

إنّ وجود هذه المخترعات عند الأُمم السابقة لا يقدح في الحقيقة الشرعية، لأنّ تلك الألفاظ لم تكن حقيقة في هذه المعاني كما هو كذلك بالنسبة إلى أكثر الشرائع الواردة على غير لسان العرب.(2)

و منهم المحقّق الخوئي حيث يقول: إنّ مجرّد الثبوت هناك لا يلازم التسمية بهذه الألفاظ، و ليس في المقام إلاّ التعبير عنها بهذه الألفاظ في الكتاب العزيز، و من الواضح أنّه لا يدل على وجود تلك الألفاظ في الشرائع السابقة كما هو الحال بالقياس إلى جميع الحكايات و القصص القرآنية التي كانت بالسريانية كما في لغة عيسى أو العبرانية في لغة موسى، و من المعلوم أنّ تلك المعاني كان يعبر عنها بألفاظ سريانية أو عبرانية.(3)

و أنت ترى: أنّ أساس الاستدلال ليس مجرّد ورودها في الشرائع السابقة حتى يستشكل بما ذكر، بل أساسه هو وجود هذه المفاهيم و انتشارها في الجزيرة العربية بحكم الصلة الوثيقة بينهم و بين اليهود و النصارى، فلم يكن لهم بدّ من ألفاظ يعبّر بها عن هذه الحقائق.

و توهم أنّ ما هو الموجود من هذه الحقائق، يغاير ما هو الموجود في الشريعة الإسلامية مردود بتصريح القرآن على الوحدة في مورد الصيام و الحج كما هو صريح الآيات السابقة.

ص:129


1- - أجود التقريرات: 1/34.
2- - كفاية الأُصول: 1/33 قسم التعليقة.
3- - المحاضرات: 1/138.

و على كلّ تقدير تظهر الثمرة فيما إذا وردت هذه الألفاظ في لسان النبي و الأمير، بلا قرينة مفهمة، فعلى القول بالحقيقة الشرعية يحمل على تلك المعاني، و على القول الآخر، تحمل على المعنى اللغوي.

لكن الثمرة افتراضية بحتة إذ ليس لنا مورد نشك في المراد من تلك الألفاظ حتى يُتوقف رفع إجماله، على تلك المسألة.

*** لو افترضنا مورداً دار الأمر فيه بين الحمل على المعنى اللغوي أو الشرعي، فهل هنا أصل يعيّن أحد المعنيين أو لا؟ نقول: إنّ هنا صوراً:

1. إذا كان تاريخ النقل و الاستعمال معلومين.

2. إذا كان تاريخ النقل و الاستعمال مجهولين.

3. إذا كان تاريخ النقل مجهولاً و الاستعمال معلوماً.

4. إذا كان تاريخ النقل معلوماً و الاستعمال مجهولاً.

أمّا الصورة الأُولى فخارجة عن مورد الافتراض، كما أنّ الصورة الثانية لا يجري فيها الأصلان، و لو جرى تساقطا بالتعارض.

أمّا الكلام في الصورتين الأخيرتين:

الف: إذا علم تاريخ الاستعمال و أنّ النبي قال في العام الأوّل من الهجرة:» إذا رأيتم الهلال فصلّوا « و جهل تاريخ النقل و انّه هل كان قبل ذلك العام أو بعده، و جاره أمر الصلاة بين الدعاء و العبادة الخاصة فهل تجري أصالة عدم النقل إلى زمان الاستعمال فتكون النتيجة، هو الحمل على المعنى اللغوي؟ فيه خلاف بين المحقق الخراساني و شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري، فقال الأوّل: بالمنع، لأنّ أصالة عدم النقل أصل عقلائي مجراه هو الشكّ في أصل النقل، لا

ص:130

العلم بالنقل و الشك في تقدّمه و تأخره كما في المقام.

و قال الثاني: إنّ الوضع السابق لا ترفع عنه اليد إلاّ بعد العلم بالوضع و حيث لم يعلم وجوده حين الاستعمال فيحمل على المعنى اللغوي فتكون النتيجة موافقة لأصالة عدم النقل.

يلاحظ عليه: أنّ الحجّة هو ظهور الكلام لا العلم بالوضع الأوّل، و مع هذا العلم الإجمالي بالنقل و الشك في تقدمه أو تأخره عن الاستعمال، لا يبقى للكلام ظهور حتى نتبعه.

ب: إذا علم تاريخ النقل و انّه كان في العام الأوّل من الهجرة، و لكن جهل تاريخ الاستعمال و انّه هل كان قبل النقل أو بعده، فهل تجري أصالة عدم الاستعمال إلى زمان النقل فتكون النتيجة هو الحمل على المعنى الشرعي أو لا؟ وجهان:

1. أنّ الأصل المزبور ليس أصلاً عقلائياً إذ ليس عندهم منه عين و لا أثر، بل هو أصل شرعي، و جريانه فرع وجود أثر شرعي مرتب عليه بلا واسطة و هو ليس بموجود.

2. ما عليه شيخ مشايخنا العلامة الحائري بحمل اللفظ على المعنى اللغوي، لأنّ الوضع الأوّل حجّة و لا يرفع عن الحجّة إلاّ بالحجة، فتكون النتيجة موافقة لأصالة عدم الاستعمال إلى زمان النقل، و قد عرفت أنّ الحجّة هو الظهور و هو غير متحقّق مع العلم الإجمالي.

ص:131

الأمر العاشر في أنّ ألفاظ العبادات وضعت للصحيح أو الأعم

تمهيد في تخصيص صاحب الكفاية البحث بألفاظ العبادات

عنون صاحب الكفاية المسألة بالنحو التالي و قال:» ألفاظ العبادات أسام لخصوص الصحيحة أو للأعم منه «فخصّ البحث بالعبادات لأجل أنّه عقد باباً خاصّاً للمعاملات، و عنوان البحث في كتب القوم بالنحو التالي: أسماء العبادات و المعاملات» هل هي موضوعة للصحيح أو للأعم منه؟ «أو هل هي أسام للصحيح أو الأعم؟ و عنوان البحث متفرع على ثبوت الحقيقة الشرعية عندهم، و أمّا على القولين الآخرين، أعني:

استعمالها في لسان الشارع في معانيها الشرعية مجازاً و صيرورتها حقائق متشرعية كما هو القول الثالث، أو بقائها على معانيها اللغوية إلى يومنا هذا و قد أضاف الشارع أجزاءً و شرائط لها، فالعنوان غير شامل لهما إذ ليس من الوضع و التسمية أثر على القولين.

لكن عدم شمول العنوان شيء، و عدم جريان النزاع على ذينك القولين أمر آخر، بل النزاع يجري على جميع الأقوال الأربعة.

ص:132

21. أمّا جريانه على القول بالحقيقة الشرعية أو الحقيقة العرفية التي كانت هي المختار فواضح، فانّه يبحث عمّا هو الموضوع له عند الشارع على القول بالحقيقة الشرعية، أو ما هو الموضوع له عند العرب المعاصرين لنزول القرآن عند نقلهم ألفاظ العبادات من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية.

3. و أمّا جريانه على القول بالحقيقة المتشرعية فيقع النزاع في أنّ الشارع هل لاحظ العلاقة بين المعاني اللغوية و المعاني الصحيحة، أو لاحظ العلاقة بينها و بين الأعم من هذه المعاني الجديدة؟ و على كلّ تقدير يكون الأصل في استعمالات الشارع هو المعنى الذي لاحظ العلاقة بينه و بين المعنى اللغوي، و يكون إرادة المعنى الآخر محتاجة إلى القرينة، و إلاّ فيحمل على المعنى الذي وقع طرفاً عند ملاحظة العلاقة.

4. و أمّا جريانه على القول ببقاء الألفاظ على معانيها اللغوية و انّ إرادة الخصوصيات من طريق الدوال الأُخر، فيقع النزاع في أنّ القرينة التي نسبها الشارع لإفادة الخصوصيات هل كانت دالة على إرادة المعنى الصحيح أو كانت دالة على المعنى الأعم؟ و يكون الأصل في الاستعمال هو المعنى الذي نصب عليه القرينة في هذا الاستعمال بحيث يكون إرادة المعنى الآخر محتاجة إلى القرينة المعينة.

إذا عرفت هذا فيقع البحث في جهات:

الجهة الأُولى ما هو معنى الصحّة؟

قد ادّعى المحقّق الخراساني أنّ الصحّة بمعنى التمام، ثمّ ذكر أنّ تفسير

ص:133

المتكلّم الصحّة بموافقة الشريعة، أو الفقيه بما يسقط الإعادة و القضاء، تفسير باللازم، و بما يهم كلّ واحد منهما، فالمتكلّم يهمّه التعرف على ذاته سبحانه و صفاته و أفعاله و العقاب و الثواب من أفعاله، و هما يترتبان على الموافقة و المخالفة، و لأجل ذلك فسره بموافقة الشريعة، كما أنّ الفقيه يهمه تعيين تكليف المكلّف من الإعادة و القضاء و عدمهما و لذلك فسّره بسقوطهما.

يلاحظ عليه: أنّ بين الصحّة و الفساد تقابل التضاد، فالصحّة كيفية وجودية عارضة للشيء باعتبار اتصافه بكيفية ملائمة لنوعه أو باعتبار ترتب أثر يترقب منه، كما أنّ الفساد كيفية منافرة لطبعه أو باعتبار ترتّب أثر لا يترقب منه، و بهذا المعنى توصف الدهون و الأدوية و المعاجين بالصحّة و الفساد. و على هذا فلا وجه لتفسير الصحّة بمعنى التمام، لأنّ الصحّة بمعنى التمام لا يقابلها الفساد بل يقابلها النقص، يقال: تام و ناقص، فيطلقان على الشيء باعتبار اجتماع أعضائه أو أجزائه و عدمه، و بذلك ظهر أنّ الصحة في مقابل الفساد و التمام في مقابل النقص و تفسير الصحّة بالتمام ليس تفسيراً تاماً.

و يظهر من أهل اللغة أنّ الصحّة تستعمل تارة في مقابل المرض و أُخرى في مقابل العيب، قال ابن فارس: الصحّة، أصل يدلّ على البراءة من المرض و العيب، و على الاستواء من ذلك. الصحّة ذهاب السقم، و البراءة من كلّ عيب، قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ «.(1)

فقوله:» يدلّ على البراءة من المرض «يعرب عن أنّ الصحّة كيفية وجودية في مقابل المرض الذي هو أيضاً كذلك، و قوله:» على البراءة من العيب «يدل على أنّ الصحّة بمعنى تام الأجزاء في مقابل المعيب الذي هو ناقص الأعضاء.

هذا هو حال اللغة، و أمّا اصطلاحاً فتطلق الصحّة تارة على الجامع للصفة

ص:134


1- - المقاييس: 3/281.

المعتبرة في العبادة في مقابل الآخر إذا كانت متصفة بصفات مقابلها. ككون القراءة صحيحة أو ملحونة، فيكون بينهما من التقابل، هو تقابل التضاد. و أُخرى على الجامع للأجزاء و الشرائط و غير الجامع لهما، فيكون بينهما من التقابل هو تقابل العدم و الملكة. فالأوّل يناسب كون الصحّة في مقابل المرض، و الآخر كون الصحّة في مقابل المعيب.

الجهة الثانية ما هو المقصود من الوضع للصحيح؟

هل المراد من الصحيح هو الصحيح بالحمل الأوّلي، أو المراد هو الصحيح بالحمل الشائع، أو لا هذا و لا ذاك بل ماهية لو وجدت في الخارج لوصفت بالصحّة؟ لا طريق إلى القول الأوّل لاستلزامه كون الصلاة مرادفة لمفهوم الصحّة، كما لا طريق إلى الثاني لاستلزامه أن يكون الموضوع له خاصّاً مع أنّ الجميع متفق على أنّ الموضوع له هو الأمر الكلي المردد بين الصحيح أو الأعم منه و غيره، فتعيّن الثالث، أي الماهية الاعتبارية التي لو وجدت في الخارج لوصفت بالصحّة، فالصحّة الفعلية من صفات وجودها و التعليقية من أوصاف الماهية.

الجهة الثالثة ما هو الداخل في المسمّى؟

لا شكّ أنّ الأجزاء داخلة في المسمّى، إنّما الكلام في دخول الشرائط فيه على

ص:135

القول بالصحيح سواء أ كان شرطاً شرعياً كالطهارة، أو شرطاً عقلياً غير قابل للأخذ في المتعلق كقصد الأمر، أو شرطاً لتحقّق المأمور به كعدم الابتلاء بالضد.

ذهب الشيخ الأنصاري إلى خروج الشرائط عن تحت المسمّى، قائلاً: بأنّ رتبة الأجزاء رتبة المقتضي، و رتبة الشرائط متأخرة عن رتبة المقتضي، فلا يسوغ إدخالها في المسمّى لتستوي مع الأجزاء رتبة.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ تقدّم الأجزاء على الشرائط في عالم العين و الكون لا يكون مانعاً من اجتماعهما في مقام التسمية، كما أنّ الواجب و الممكن كذلك و لكنّهما داخلان تحت عنوان الوجود.

أقول: الظاهر دخول الشرائط في المسمّى على القول بالصحيح، بشهادة أنّ المحقّق الخراساني يجعل الموضوع له هو الجامع بين أفراد الصحيح الذي يترتب عليه النهي عن الفحشاء، و من المعلوم أنّ ذلك الأثر لا يترتب إلاّ على الجامع للأجزاء و الشرائط، و يدلّ على ذلك) دخول الشرائط في المسمّى عند الصحيحي ( اعتراض الأعمّي على الصحيحي من أنّ القول بالوضع للصحيح يلزم تكرار معنى الطلب في الأوامر المتعلّقة بها، لأنّ الأمر حينئذ يرجع إلى الأمر بالمطلوب إذ هو معنى الصحيح، فيكون المعنى أطلب المطلوب.(2) و من المعلوم أنّ المطلوب هو التام جزءاً و شرطاً. و مع ذلك فالرائج بين العقلاء هو الفرق بين شرائط الماهية و شرائط التحقق بإدخال الأوّل في المسمّى كالطهارة، و عدم دخول الثاني» كعدم الابتلاء بالأهم منه «و أمّا قصد الأمر فهو متفرّع على القول بإمكان أخذه في المتعلق أو لا. فعلى الأوّل يكون داخلاً في المسمّى دون الثاني.

ص:136


1- - مطارح الأنظار: 6.
2- - الفصول: 48.

الجهة الرابعة في لزوم جامع على كلا القولين

اشارة

إنّ الأثر الفقهي المترتّب على المسألة هو صيرورة المسمّى مجملاً على القول بالصحيح، و مبيّناً على القول بالأعم، فلا يجوز التمسّك بالإطلاق على القول بالصحيح دون القول بالأعم. و من المعلوم أنّ تصوير ذلك الأثر الفقهي فرع وجود جامع واقع تحت الأمر يكون مبيّناً على أحد القولين و مجملاً على القول الآخر.

أضف إلى ذلك أنّه لو لا القول بوجود الجامع يلزم أن يكون لفظ العبادات مشتركاً لفظياً، لأنّ للصحيح مراتب مختلفة كما للأعم كذلك، و جواز الإطلاق على الجميع رهن أحد الأمرين: كونه مشتركاً معنوياً أو مشتركاً لفظياً و الثاني باطل، فتعيّن الأوّل، و هو يلازم وجود الجامع في البين.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ تصوير الجامع على القول بالأعم من السهولة بمكان، لأنّه يقسم الأجزاء إلى قسمين: أجزاء المسمّى، و أجزاء المأمور به، فالأركان الأربعة مثلاً، أجزاء للمسمّى و لا تخلو صلاة منها إمّا بعينها أو بأبدالها، و خلوّ صلاة الغرقى غير مضر، لأنّها ليست صلاة، بل دعاء و ابتهال، بخلاف الصحيحي فانّ الاجزاء كلّها عنده أجزاء للمسمّى و ليس من أجزاء المأمور به لديه عين و لا أثر، و عندئذ يشكل تصوير جامع، يصدق على عامة الصلوات الصحيحة رباعيتها، و ثلاثيتها، و ثنائيتها و أحاديتها، مع أنّ لكلّ منها مراتب مختلفة حسب اختلاف حالات المكلّف، لأنّ لازم كونها موضوعة للأجزاء الكثيرة

ص:137

هو خروج الصلوات الصحيحة القليلة الأجزاء عن المسمّى. كما أنّ وضعه للأجزاء القليلة من الصلوات الصحيحة يستلزم كون الأجزاء الأُخرى أمراً خارجاً عنها.

و الحاصل: أنّ الأعمّي جعل بعض الأجزاء جزء المسمّى، أعني: الأركان الأربعة، و الأجزاء الباقية جزء المأمور به و بذلك تخلّص عن الإشكال.

و أمّا الصحيحي فبما أنّه يدّعي الوضع للصحيح يجعل الجميع جزء المسمّى و ليس عنده من جزء المأمور به عين و لا أثر، فعند ذلك يتوجه إليه الإشكال المتقدم، حيث إنّ وضعها للأجزاء الكثيرة يوجب خروج الأجزاء القليلة عن المسمّى، كما أنّ وضعها للأجزاء القليلة يوجب اشتمال الأجزاء الكثيرة على الصلاة و غير الصلاة.

ثمّ إنّ ذلك صار سبباً لالتجاء المحقّق الخراساني إلى الجامع البسيط حتى يتمكن له ادّعاء وجوده في عامة الصلوات قليلة كانت أو كثيرة.

و بالجملة: انتخابه كون الموضوع له هو الأمر البسيط لأجل الفرار عن الإشكال المتقدم، فإليك تقريبه مع سائر التقريبات الواردة للأعلام.

التقريب الأوّل للمحقّق الخراساني

حاصله: انّ الجامع بين أفراد الصلاة ليس مشخصاً باسمه، و لكنّه يمكن الإشارة إليه بخواصه و آثاره، قال: فانّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذاك الجامع، فيصحّ تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلاً، بالناهية عن الفحشاء و ما هو معراج المؤمن و نحوهما.(1)

ص:138


1- - كفاية الأُصول: 1/36.

يلاحظ عليه أوّلاً: وجود التعارض بين الصدر و الذيل، فالصدر ظاهر في أنّ الموضوع له شيء و الأثر المترتب عليه معرف له، و لكن الذيل ظاهر في أنّ الموضوع له هو نفس الناهية عن الفحشاء، إلاّ أن يحمل حرف الباء في قوله بالناهية على السببية أي بسبب الناهية عن الفحشاء و من خلالها.

و ثانياً: أنّ الهدف من الوضع تفهيم ما قام في الذهن في المعنى، فلو كان المعنى غير قابل للتفهيم إلاّ بالإشارة إليه بالأثر الخاص كان الوضع له لغواً و يتعين الوضع للأثر، و هذا يجرّنا إلى القول بوجوب كون الجامع أمراً عرفياً مخطوراً إلى أذهان العرف.

و ثالثاً: أنّ استخدام قاعدة الواحد أعني:» لا يصدر الواحد إلاّ عن الواحد «في المقام حيث استدلّ باشتمال عامة الصلوات الصحيحة في الأثر الواحد، أعني: النهي عن الفحشاء على وجود جامع بينها، غير تام، و ذلك لأنّها حسب برهانها مختصة بالواحد الشخصي البسيط من جميع الجهات من دون أن يكون فيه أي شائبة كثرة و إلاّ فيخرج عن تحت القاعدة.

و أمّا برهان القاعدة فهو أنّ المعلول الواحد البسيط من جميع الجهات الخالي عن شائبة أيّة كثرة يجب أن يصدر عن علّة معينة فقط، و إلاّ فلو صدر عن كثير يلزم طروء الكثرة عليه.

و ذلك لأنّه يلزم أن يكون بين المعلول و العلة رابطة ظلية تصحح صدوره عنها، و إلاّ فلو صدر عنها بلا تلك الرابطة يلزم صدور كلّ شيء من كلّ شيء، و على ذلك فلو صدر المعلول البسيط عن علة فلا بدّ أن يصدر عنها بحيثية خاصّة، و مع ذلك فلو صدر عن علّة أُخرى يلزم أن يصدر عنها بحيثية مغايرة للحيثية الأُولى، و هذا يستلزم انقلاب الواحد إلى الكثير ففرض كون المعلول واحداً

ص:139

بسيطاً لا كثرة فيه يساوق حصر صدوره عن علة واحدة.

و على ضوء ذلك فالقاعدة مختصة بالواحد البسيط من جميع الجهات، و أين هو من النهي عن الفحشاء الذي هو واحد بالنوع حيث إنّ النهي عن الكذب غير النهي عن الغيبة و كلاهما غير النهي عن النميمة؟! و رابعاً: انّ الأثر المترتب على الصلاة مختلف، و اختلافه يكشف عن وجود الكثرة في الصلاة، فالصلاة كما هي تنهى عن الفحشاء، فهي عمود الدين، و قربان كلّ تقي، و معراج المؤمن، فيلزم أن يكون في الصلاة جوامع كثيرة كلّ مصدر لأثر خاص.

و خامساً: انّ القول بوضع الصلاة للجامع البسيط الموجود في جميع المراتب و إن كان يرفع الإشكال و هو وجود الجامع في عامة مراتب الصحيح أُحادية كانت الصلاة أو ثُنائية أو ثلاثية أو رباعية، كانت الصلاة صلاة اختيار أو صلاة اضطرار، لكنّه يوجب الإشكال في أمر آخر و هو أنّ مشاهير الأُصوليين في مبحث الشك في الجزئية و الشرطية ذهبوا إلى القول بالبراءة بادّعاء انحلال العلم الإجمالي إلى أمر يقيني و شكّ بدوي، و هذا إنّما يصحّ إذا تعلّق الأمر بأمر مركب ذي أبعاض حتى يكون بعضه متيقناً و البعض الآخر مشكوكاً، الذي هو قوام الانحلال، و أمّا إذا كان الأمر متعلّقاً بأمر بسيط و كانت نسبة الأجزاء إليه نسبة المحصِّل إلى المحصَّل يكون المرجع هو الاشتغال لكون المأمور به واضحاً، و الشكّ إنّما هو في محقّقه و دورانه بين الأقل و الأكثر، و من المعلوم انّ العقل يحكم عندئذ بالاحتياط للعلم بالاشتغال القطعي و الشكّ في سقوطه بالأقل، و هذا ما يعبّر عنه تارة بالشكّ في المحصل أو الشكّ في السقوط.

هذا هو الإشكال الذي تنبّه إليه المحقّق الخراساني و أجاب عنه بقوله:

ص:140

إنّ الجامع مفهوم واحد منتزع عن هذه المركّبات المختلفة زيادة و نقيصة، بحسب اختلاف الحالات، متّحد معها نحو اتحاد و في مثله تجري البراءة، و إنّما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجياً مسبباً عن مركب مردّد بين الأقل و الأكثر كالطهارة المسببة عن الغسل و الوضوء فيما إذا شكّ في اجزائهما.(1)

توضيح الجواب: وجود الفرق بين المسبب الذي له وجود مستقل منفصل عن السبب، و بين المنتزع عن المركب المتحقّق معه من دون أن يكون له وجود مستقل، فالأُولى كالطهارة إذا فسِّرت بالطهارة النفسانية التي تتحقق بالغسلات و المسحات فظرف المسبب هو النفس كما أنّ ظرف السبب هو الخارج، ففي هذا المورد إذا شكّ في حصول الطهارة النفسانية لأجل الشكّ في اعتبار الاستنشاق في الوضوء و عدمه يجب الاحتياط، لأنّ الاشتغال اليقيني بالمسبب البسيط، أعني: الطهارة النفسانية، يقتضي البراءة اليقينية و لا يحصل إلاّ بضمّ الاستنشاق إليه و الثاني كما في المقام، فانّ للعنوان البسيط نحو اتحاد في الخارج مع الأجزاء و الشرائط و لا يضر اختلاف المنتزع منه قلة و كثرة في انتزاعه كالإنسان المنتزع من الإنسان التام و الناقص، فوجود هذا الجامع البسيط عين وجود المركبات و ليس مغايراً لها حتى يكون الشكّ في قلتها أو كثرتها من قبيل الشكّ في المحقّق.

يلاحظ عليه: أنّ الالتزام بالجامع البسيط بأيّ نحو كان، يوجب الاشتغال لا البراءة، و كون المسبب غير السبب كما في الصورة الأُولى أو متّحداً معه كما في المقام، لا تأثير له في اختلاف الأصل، و ذلك لأنّ متعلّق الأمر هو العنوان الكلي المنتزع و هو أمر بسيط، لا المنتزع منه الذي يتّحد فيه الأمران، فمنشأ الخلط تصوّر أنّ الأمر يتعلّق بالوجود الخارجي الذي يتّحد فيه المنتزع و المنتزع منه غافلاً عن

ص:141


1- - كفاية الأُصول: 1/37.

أنّ الأمر يتعلّق بالعنوان الكلي الموجود في الذهن لغاية الإيجاد، و هو غير المنتزع منه في مقام تعلّق الأمر.

إلى هنا تمّ الكلام حول الجامع الأوّل، و إليك الكلام في الجامع الثاني.

التقريب الثاني للمحقّق الاصفهاني

ذهب المحقّق الأصفهاني إلى أنّ الماهية إذا كانت من الماهيات الحقيقية تكون واضحة في مقام الذات و مبهمة من حيث الطوارئ و العوارض، و هذا كالإنسان الذي هو معلوم جنساً و فصلاً، و إنّما الإبهام في عوارضه المشخّصة.

و إذا كانت الماهية من الأُمور المؤتلفة من عدّة أُمور بحيث تزيد و تنقص كمّاً و كيفاً، فمقتضى الوضع لها أن تلاحظ على نحو مبهم في غاية الإبهام بمعرّفية بعض العناوين غير المنفكّة عنها، و هذا كالصلاة حيث إنّها مركبة من ماهيات مختلفة: كالوضع، و الكيف و الفعل، فلا محيص من وضع اللفظ لسنخ عمل مبهم لا يعرف إلاّ من جانب أثره، و هو النهي عن الفحشاء أو غيره من المعرّفات، بل العرف لا ينتقل من سماع لفظ الصلاة إلاّ إلى سنخ عمل خاص مبهم إلاّ من حيث كونه مطلوباً في الأوقات و هذا هو الذي تصوّرناه في ما وصفت له الصلاة بتمام مراتبها، من دون الالتزام بجامع ذاتي مقولي، و من دون الالتزام بالاشتراك اللفظي.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الصلاة مركّب اختراعي، و كلّ مخترع أعرف بما اخترع من غيره، يقول سبحانه: (أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )(2) و عندئذ كيف يمكن اختراع مركب لغاية الأمر به و عدم التعرف عليه إلاّ من جانب أثره؟!

ص:142


1- - نهاية الدراية: 1/39.
2- - الملك: 14.

و على ضوء هذا لا يصحّ كلامه بأنّ الصلاة مبهمة في ذاتها و في مقام تجوهرها. كيف! و انّ الآمر هو الذي يتصوّر الموضوع و يأمر به، و عند ذلك لا بدّ له من تصوّر ما يأمر به.

ثمّ إنّه) قدس سره (قاس المقام بالخمر قائلاً» بأنّه مبهم من حيث اتخاذه من العنب و التمر و غيرهما، و لذا لا يمكن وصفه إلاّ ببعض الآثار كالمسكرية «و لكن الفرق بين المقيس و المقيس عليه واضح، فانّ الخمر من الأُمور التكوينية و ليست ذاتها و تجوهرها رهن تصور متصوّر و لحاظ لاحظ، فلا مانع من أن يكون لها واقع مبهم غير معلوم إلاّ من ناحية أثره كالاسكار، و هذا بخلاف المركّبات الاختراعية الاعتبارية فانّ واقعيتها و تجوهرها بيد مخترعها و لاحظها فلا بدّ أن تكون ذاتها معلومة لمخترعها في مقام الذات لا أن تكون مبهمة إلاّ من حيث الأثر.

ثانياً: انّ ما ذكره قريب ممّا ذكره أُستاذه غير انّه يفارقه في أنّ الأُستاذ صرّح ببساطة الجامع دونه فيرد عليه ما أورد عليه أخيراً.(1) و هو انّ الموضوع له مع إبهامه و إجماله إمّا مركب أو بسيط، و البسيط إمّا جامع مقولي أو جامع عنواني، و المجموع غير تام.

أمّا المركّب فيرد عليه أنّه مردّد بين الأقل و الأكثر أجزاءً، فلو وضعت الصلاة على الأكثر أجزاءً لا يصدق على القليل و إن وضعت على العكس يكون الأكثر أجزاءً صلاة مع شيء خارج عن ماهيتها.

و أمّا البسيط، فالمقولي منه غير متصوّر، لأنّ الصلاة مركب من مقولات مختلفة كالوضع، و الكيف، و الفعل، و من المعلوم أنّ الجميع من الأجناس العالية التي ليس فوقها جنس فلو كانت للصلاة جامع مقولي يلزم أن يكون الجامع فوق

ص:143


1- - قد تقدّم عند مناقشة قول المحقّق الخراساني تحت عنوان» و خامساً «.

تلك الأجناس مع أنّها ليس فوقها جنس» ليس وراء عبادان قرية «.

و أمّا الجامع العنواني الذي يعبّر عنه بالانتزاعي كالناهي عن الفحشاء و المنكر فهو يستلزم خلاف المطلوب إذ يلزم عليه وجوب الاحتياط عند الشكّ في الأقل و الأكثر.

إلى هنا تمّ التقريبان للعلمين: المحقّق الخراساني و المحقّق الأصفهاني قدّس سرّهما، و هناك تقريب ثالث للمحقّق النائيني.

التقريب الثالث للمحقّق النائيني

قال: إنّ الموضوع له هو خصوص التام الأجزاء و الشرائط كصلاة المكلّف المختار، و إطلاقها على الصلوات الناقصة الاضطرارية إنّما يكون بعد التصرّف في الأمر العقلي، و جعل الصلوات العذرية المجزية مشابهة للصلوات التامّة في الإسقاط و عدم وجوب الإعادة و القضاء و تنزيلها منزلتها من جهة المسقطية و الإجزاء و بعد هذا التنزيل صارت صلوات ادّعائية ثمّ أطلقت الصلاة عليها.(1)

و حاصله: انّ الموضوع له أوّلاً هي المرتبة العليا الواجدة لتمام الأجزاء و الشرائط، و الاستعمال في غيرها من المراتب الصحيحة على قول الصحيحي، أو الأعمّ منها على الأعمّي، من باب الادّعاء و التنزيل، أي تنزيل الفاقد منزلة الواجد مسامحة، كما في جملة من الاستعمالات.(2)

يلاحظ عليه: بأنّ صلاة المكلّف المختار ليست على نمط واحد، فالرباعية و الثنائية كلاهما من صلاة المكلّف المختار، فما هو الموضوع له؟ فان وضعت

ص:144


1- - هذا ما نقله شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه من كتاب نتائج الأفكار: 1/93 الذي هو تقرير لبحوث المحقّق الشاهرودي، و كان من أبرز تلاميذ النائيني و محيطاً بآراء أُستاذه.
2- - السيد الخوئي: أجود التقريرات: 1/36.

للثنائية تكون الرباعية مشتملة على الصلاة و غيرها، و لو وضعت للرباعية تخرج الثنائية عن اسم الصلاتية، و بما انّه لا يتصوّر الجامع بين الواجد و الفاقد فيلزم أحد المحذورين.

إلى هنا تمّت التقريبات الثلاثة للصحيحي و كلّها غير ناجعة.

ثمّ إنّ هناك تقريبات أُخرى لتصوير الجامع على القول بالصحيح نذكرها تباعاً، و لكن نود أن نشير إلى نكتة و هي أنّ الجامع المتصور للصحيحي يجب أن يعالج الأُمور التالية و هي:

1. شمول الجامع لعامة الصلوات الصحيحة بوضع واحد لا بأوضاع متعددة.

2. كون الاجزاء مطلقاً في الثنائية و الثلاثية نفس الجامع دون أن يكون البعض جزء المسمّى، و البعض الآخر جزء الماهية.

3. كون المرجع عند الشكّ في الجزئية و الشرطية هو البراءة، فكلّ تقريب يؤمِّن هذه الأهداف الثلاثة فهو ممّا يرتضيه الصحيحي، و إليك دراسة التقريبات الباقية من هذا المنظار.

التقريب الرابع للمحقّق البروجردي

يقول: إنّ الجامع الذاتي المقولي لا يتصوّر في المقام، فانّ الأشياء المتباينة بالذات لا يعقل فرض الجامع بينها بالوحدة الحقيقية الذاتية في مرتبة واحدة من مراتب الصلاة، فكيف بالجامع بين جميع المراتب من الكامل المختار تام الأجزاء و الشرائط إلى أنقص المراتب كمية و كيفية؟ فتصوير الجامع الذاتي ممّا لا سبيل إليه.

ص:145

و أمّا الجامع العرضي فالذي يخطر ببالنا أنّ حال المركّبات العبادية كالصلاة و الصوم و الزكاة و أمثال ذلك حال المركّبات التحليلية كالإنسان و نظائره، فكما أنّ الإنسان محفوظ في جميع أطوار أفراده زادت خصوصية من الخصوصيات أو نقصت، كان في أقصى مراتب الكمال أو حضيض النقص، و ذلك لأنّ شيئية الشيء بصورته فكذلك حال المركبات الاعتبارية العبادية، بمعنى انّه يمكن اعتبار صورة واحدة تمتاز بها عن غيرها و تكون تلك الصورة، ما به الاجتماع لتمام الأفراد و جميع المراتب، و تكون محفوظة في جميع المراحل، و هذا الشيء هو الخشوع الخاص في الصلاة، فانّ التخشّع الخاص الذي كون محصل شيئية الصلاة و به تصير الصلاة صلاة محفوظ في جميع أفراد الصلاة و مراتبها المختلفة، و هذا هو المناسب لمقام عبودية العبد بالنسبة إلى مولاه.(1)

و إن شئت قلت: إنّ جميع مراتب الصلاة بمالها من الاختلاف في الأجزاء و الشرائط تشترك في كونها توجّهاً خاصّاً و تخشّعاً مخصوصاً من العبد، و يوجد هذا التوجّه بإيجاد أوّل جزء منها و يبقى إلى أن تتم، فيكون هذا التوجّه بمنزلة الصورة لتلك الأجزاء المتباينة بحسب الذات، المختلفة كمالاً و نقصاً باختلاف المراتب، فالتخشّع بوجوده الخارجي بمنزلة الصورة لهذه الأجزاء، فهو موجود بعين وجودات الأجزاء فيكون الموضوع له لنفس الصلاة هذا المعنى المحفوظ في جميع المراتب.(2)

و حاصله: انّ الصلاة عبارة عن توجّه الإنسان إلى اللّه سبحانه و تخشّعه و خضوعه متقارناً مع الأجزاء و الشرائط بحيث يكون للمجموع من الصورة

ص:146


1- - الحجة في الفقه مهدي الحائري اليزدي، تقريراً لبحث العلاّمة البروجردي: 1/58.
2- - نهاية الأُصول: 1/40.

و الأجزاء وجود واحد.

يلاحظ عليه: أنّ التقرير المزبور غير دافع للإشكال، و ذلك لأنّه لو كان الموضوع له هو التوجّه و التخشّع القائم بالأجزاء و الشرائط، محدَّداً بحدّ خاص يتوجّه عليه الإشكال، و هو انّه يلزم أن تكون الصلاة المشتملة على ذلك الحدّ و غيره من الصلوات الصحيحة، مشتملة على الصلاة و غيرها، كما يلزم أن لا يكون الأقل من المحدد في الهيئة و المادة مصداقاً للصلاة، و ذلك لازم التحديد من كلا الجانبين.

اللّهمّ إلاّ أن يكون الموضوع له لا بشرط من كلا الجانبين، بمعنى أنّه يكون عين الصلاة عند الوجود و غير مضر عند الفقدان، و كان على السيد البروجردي التصريح بهذا الأمر، و إلاّ فمجرّد القول بكون الموضوع له التوجّه إلى اللّه المتّحد مع الأجزاء، لا يدفع الإشكال.

التقريب الخامس ما ذكره السيّد الأُستاذ

إنّ المركّبات الاعتبارية إذا اشتملت على هيئة و مادة، يمكن أن يؤخذ كلّ منهما في مقام الوضع لا بشرط. و المراد من أخذهما لا بشرط هو أخذ المادة و الهيئة بعرضها العريض. و ذلك كالمخترعات من الصنائع المستحدثة، فإنّ مخترعها بعد أن صنعها من موادّ مختلفة و ألّفها على هيئة خاصّة، وضع لها اسم الطيّارة أو السيّارة آخذاً كلاً من موادّها و هيئاتها لا بشرط. و لأجل ذلك ترى أنّ تكامل التصنيع كثيراً ما يوجب تغييراً في موادّها و هيئاتها، و مع ذلك يطلق عليها اسمها، كما كان يطلق في السابق و ليس ذلك إلاّ لأخذ الهيئة و المادّة لا بشرط، أي عدم لحاظ مادّة خاصّة و هيئة مقيّدة.

ص:147

و أوضح مقالته هذه بقوله: المركّبات الاعتبارية على قسمين: قسم يكون الملحوظ فيه كثرة معيّنة كالعشرة، فإنّها على وجه لو فقد منها جزء، تنعدم العشرة. و قسم يكون فيه الأمر الاعتباري، على نحو لم تلحظ فيه كثرة معيّنة في ناحية الموادّ، بحيث ما دامت هيئتها و صورتها العرضية موجودة، يطلق عليها اللفظ الموضوع و إن قلّت موادّها أو تكثّرت.

و الحاصل: أنّ المادّة لم تلحظ فيها كثرة معيّنة، و يكفي فيها ذكر بعدَ) التكبيرة (ركوع و سجود و طهور و تصدق على الميسور من كلّ واحد.

و أمّا الهيئة فهي أيضاً مأخوذة بنحو اللابشرط مثل مادّتها، بعرضها العريض، و تكفي صورة اتصالية حافظة لمادّتها أخذت لا بشرط في بعض الجهات.

و نظير ذلك، لفظ الدار و البيت فانّها من حيث المادة لا بشرط، سواء أخذت موادّها من الطين، أو الآجر، أو من الحجر و الحديد، كما أنّها من حيث الهيئة أيضاً كذلك، سواء بنيت على هيئة المربع أو المثلث، و على طبقة واحدة أو طبقتين، فهو موضوع لهيئة مخصوصة غير معيّنة من بعض الجهات مع مواد فانية فيها.

إذا عرفت ذلك نقول: إنّ لفظ الصلاة موضوع لنفس الهيئة اللابشرط، الموجودة في الفرائض و النوافل قصرها و تمامها، و ما وجب على الصحيح أو المريض بأقسامها، فيكفي في صدقها، وجود هيئة بمراتبها إلاّ بعض المراتب التي لا تكون صلاة كصلاة الغرقى، لعدم وجود مواد من ذكر و قرآن و سجود و ركوع.(1)

ص:148


1- - تهذيب الأُصول: 781/77، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
التقريب السادس للمحقّق الخوئي

إنّ كلّ مخترع هو أعرف بما اخترعه سواء كان المخترع شارعاً أم غيره، و تدلّ الروايات على أنّ التكبيرة و التسليمة معتبرتان فيها حيث إنّ الصلاة أوّلها التكبير و آخرها التسليم، كما أنّ الركوع و السجود و الطهارة معتبرة فيها، حيث إنّ كلاً منها ثُلث الصلاة، و أمّا غير ذلك من الأجزاء و الشرائط فهي خارجة عن حقيقتها و دخيلة في المأمور به على اختلاف الأشخاص و الحالات، و المراد من دخل الطهارة و الركوع و السجود، هو الأعمّ منها و من أبدالها، و لا بأس أن يكون مقوّم الأمر الاعتباري على سبيل البدلية.

كما أنّه لا مانع من دخول شيء في مركّب اعتباري عند وجوده، و خروجه عنه عند عدمه إذا كان المسمّى بالنسبة مأخوذاً على نحو لا بشرط كما هو الحال بالنسبة إلى غير المأخوذ في المسمّى من القراءة و التشهد و غيرهما فلو وجب يكون عينها، و لو لم يجب، لم يضرّ بتحقق الصلاة كما هو الحال في لفظ الدار فانّه موضوع بما اشتمل على ساحة و حيطان و غرفة، فإن كان هناك إيوان و نهر و سرداب يكون جزءاً منه و إلاّ فلا يضرّ عدمه.(1)

ففي ظل هذين التقريرين يرتفع الإشكال و يتحقق مطلوب الصحيحي.

أمّا أوّلاً: فالجامع إذا أُخذ لا بشرط من حيث الهيئة و المادة يصدق على عامة مراتب الصحيح و مصاديقه.

و ثانياً: انّ الاجزاء مطلقاً في الثنائية و الثلاثية و الرباعية نفس الجامع، إذ هو مقتضى أخذه لا بشرط دون أن يكون البعض جزء الماهية و الآخر جزء المأمور به.

ص:149


1- - تعليقة أجود التقريرات: 411/40.

بما انّ الموضوع له هو الهيئة و المادة المركبة ففي ظرف الشك في الشرطية و الجزئية الزائدة يكون المرجع هو البراءة لانحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي و شك بدوي.

التقريب السابع للعلاّمة الطباطبائي

إذا هيّأ الإنسان معجوناً من المعاجين للحصول على أثر خاص، ربّما يوصله التتبع إلى أنّ الأثر لا يقتصر على الأجزاء المعيّنة للمعجون فحسب بل ربما يترتب مع تبديل بعض أجزاء المعجون بأجزاء أُخرى مغايرة مع الأجزاء الأوّلية فيطلق عليه نفس الاسم لاشتراك جميع الأجزاء في الأثر، و كأنّ الاشتراك في الأثر يكون سبباً لانتزاع جامع أعمّ من الجامع الأوّل، و هكذا الحال إذا وجد ذلك الأثر في أجزاء أُخرى مغايرة لأجزاء المعجون الأصلية.

و في النتيجة يكون الاشتراك في الأثر سبباً لسبك جامع من جامع أوّلي و هكذا، و نظيره صناعة الحلوى إذا عملها من دقيق البر ثمّ وجد انّ دقيق الشعير يفي بالغرض المطلوب فيسمّيه أيضاً بنفس الاسم، ثمّ يقف على أنّ دقيق الارز و الذرة يفيان بالغرض يتوسع في الاسم، و ما هذا إلاّ لأنّ الوحدة في الأثر تكون سبباً في كلّ مرتبة لانتزاع جامع أوسع من سابقه.

و نظير ذلك المصباح فقد كان يطلق في البداية على الحطب المشتعل، ثمّ وصل الإنسان بنضوج عقله إلى أنّه يمكن أن يصل إلى مُنيته من الدهن المائع إذا وقع فيه فتيلاً ليمس الدهن بسهولة فأسماه أيضاً مصباحاً مع البون الشاسع بين المسمّيين، و بهذا المنوال سمّى المصباح الغازي أو الكهربائي مصباحاً، و ما هذا إلاّ لأنّ ترتّب الأثر المطلوب عليها صار سبباً لتبسيط الاسم توسيع الجامع.

ص:150

إذا عرفت ذلك فنقول: كانت الصلاة يوم فرضت ركعتين مع ما لها من الأجزاء و الشرائط فصار له جامع متواطئ يصدق على أفراده على نحو واحد.

ثمّ أُضيف إليها ما فرضه النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (فسمّيت أيضاً بنفس التسمية مع ما بين المسمّيين من الفرق، و ما هذا إلاّ لأنّ وحدة الأثر صارت سبباً لتبسيط الجامع الأوّل، ثمّ طرأت عليه التصرّفات المختلفة بالعفو بحسب الحالات الطارئة و الآثار اللاحقة من السفر و الحضر و الخوف و المرض و الاضطرار، كلّ ذلك صار سبباً لتسمية الفاقد بنفس الاسم لاشتراك الجميع في الأثر، فكأنّ لوحدة الأثر دوراً في تبسيط الجامع الأوّل و تبديله إلى جامع أوسع، و إن شئت قلت: سبباً لسبك جامع من جامع آخر.(1)

و ليس هذا بمعنى كثرة الوضع حسب اختلاف المراتب، بل لأجل أنّ الاجزاء لم يؤخذ في المسمّى في المرحلة الأُولى بما هي هي، بل بما أنّ لها دوراً في الأثر المطلوب، فإذا قام متى آخر بذلك الدور يجوز إطلاق الاسم عليه لكونه واجداً لنفس الحيثية التي بررت تسميته بنفس الاسم، و على ضوء ذلك فعامّة الأجزاء و الشرائط في كلّ مرتبة نفس المسمّى و ليس خارجاً عنه، كما انّه عند الشكّ في الجزئية و الشرطية يكون المورد مصبّاً للبراءة، و ما ذلك إلاّ لأنّ الواجب نفس الأجزاء لا الأمر البسيط.

إلى هنا تم تصوير الجامع على الصحيحي، و معنى هذا هو إمكان القول بالصحيح ثبوتاً، و أمّا إثباتاً فيحتاج إلى دراسة أدلّته، فنقول:

ص:151


1- - حاشية الكفاية: 1/42، 43، بتوضيح منّا.

الجهة الخامسة أدلّة القول بالصحيح

احتجّ القائل بالصحيح بوجوه نذكر بعضها:

الأوّل: التبادر، و دعوى انّ المنسبق إلى الأذهان منها هو الصحيح، و لما كان المختار عند المحقّق الخراساني هو إجمال مفهوم الصلاة، توجّه إليه إشكال يختص بمقالته و مقالة تلميذه القائلين بإجمال مفهوم الصلاة، و انّها لا تعرف إلاّ بآثارها.

و حاصل الإشكال انّه: كيف يمكن الجمع بين تبادر الصحيح و القول بإجمال مفهومها و عدم تبيّنها؟ فأجاب عنه بقوله: و لا منافاة بين دعوى ذلك و بين كون الألفاظ على هذا القول مجملات، فانّ المنافاة إنّما تكون إذا لم تكن معانيها على هذا الوجه مبينة بوجه، و قد عرفت كونها مبينة بغير وجه.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ تبادر الصحيح بمعرفية بعض الآثار، يلازم عدم تبادر شيء من حاق اللفظ أصلاً، و رجوع هذا الدليل إلى الدليل الثالث المذكور في كلامه و هو التعرّف على معنى الموضوع له من خلال آثاره و يعلم ذلك بملاحظة أمرين:

أ: التبادر عبارة عن فهم المعنى من ذات اللفظ و حاقه بلا استعانة بقرينة خارجية أو من آثاره و خواصّه.

ب: انّ اللفظ في هذه المرحلة حسب فرض المستدلّ مجمل، مغمور في

ص:152

الإبهام لا نعرف منه شيئاً، و إن كان الإجمال زائلاً بملاحظة آثاره و خواصّه.

فنقول: إنّ ادّعاء تبادر الصحيح على الافتراض الأوّل غير ممكن، لأنّ المفروض أنّ اللفظ مجمل فيها، و مهما رجع العارف باللسان إلى ارتكازه لا يتبادر منه شيء.

كما أنّ تبادر الصحيح منه على الافتراض الثاني و إن كان أمراً ممكناً لكنّه يرجع إلى الدليل الثالث، و هو التعرف على الموضوع من حيث السعة و الضيق من خلال آثاره كمعراج المؤمن.

و بالجملة: لمّا ذهب المحقّق الخراساني و تلميذه المحقّق الاصفهاني إلى إجمال معنى اللفظ و إبهامه و عدم وضوحه إلاّ من خلال آثاره، لم يكن لهم بد من إرجاع الدليل الأوّل إلى الثالث و حذف التبادر بما انّه دليل مستقل، إذ لا معنى للتبادر مع القول بالإجمال، و بعد رفع الإجمال بالآثار لا حاجة إلى التبادر لمعلومية الموضوع من خلال آثاره.

و قد أورد على الاستدلال السيّد الأُستاذ) قدس سره (بما هذا حاصله:

إنّ أسماء الأجناس كالصلاة موضوعة للماهية المعرّاة عن كلّ شيء سوى نفسها، و أمّا الصحّة فهي من لوازم وجود الماهية، فانّ الماهية تتقرّر في مقام التسمية، ثمّ توجد بفعل المكلّف، ثمّ يعرضها الصحّة من المرحلة الثالثة و معه كيف يمكن أخذ لازم الوجود في مرحلة التقرر الماهوي.

يلاحظ عليه: أنّ الموضوع له ليس الماهية الصحيحة بالحمل الأوّلي أو الصحيحة بالحمل الشائع ) الصحة الخارجية (لأنّهما كما أفاد) قدس سره (متأخّران، بل الموضوع له واقع الصحيح لا عنوانه و لا وجوده الخارجي نظير ذلك نسبة واقع التقدّم إلى عنوان التقدّم، فانّ اليوم متقدّم على الغد بواقعه لا بعنوانه لأنّه لا يوصف به ما لم يتحقّق الغد، لأنّهما متضايفان، هما متكافئان قوة و فعلاً، و مع

ص:153

ذلك فلليوم واقع التقدم و حقيقته. و قد صرح بذلك) قدس سره (في الشرط المتأخر.

و ثانياً: انّ الدليل لا يثبت إلاّ كون الصحّة متبادراً في هذه الظروف، و أمّا كونها كذلك في عصر النبي و بعده فلا يثبت بهذا النوع من التبادر.

اللّهمّ إلاّ أن يدفع الإشكال بأصالة عدم النقل التي من لوازمها كون المتبادر اليوم هو المتبادر في عصر النبي، و عند ذلك لا يكون التبادر دليلاً مستقلاً بل بضميمة أصل عقلائي آخر.

الثاني: صحّة السلب عن الفاسد، بسبب الإخلال ببعض أجزائه و شرائطه بالمداقة و إن صحّ الإطلاق عليه بالعناية، فيقال الصلاة الفاسدة ليست بصلاة.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الصلاة على مسلك المحقّق الخراساني و تلميذه موضوع لمعنى مبهم من جميع الجهات مبيَّن من جانب الآثار، فعندئذ لا يمكن سلب الصلاة على وجه الإطلاق عن الصلاة الفاسدة، و إنّما يكون المسلوب الصلاة المبيّنة من طريق آثارها كالنهي عن الفحشاء و المنكر و معراج المؤمن، فعندئذ يعود مفاد السلب إلى القول التالي: الصلاة الفاسدة ليست صلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر، و من المعلوم أنّ السلب المقيّد لا يكون آية المجاز، بل السلب المطلق دليل المجاز، فلو قلنا العبد الكافر ليس رقبة مؤمنة لا يعدّ دليلاً على أنّه ليس برقبة على الإطلاق، فآية المجاز هو ما إذا كان المحمول مسلوباً بنعت الإطلاق.

و ثانياً: أنّ صحّة السلب عن الفاسد إنّما هو بحسب عرفنا، و أمّا أنّه كذلك حسب عرف النبيّ فلا يثبت إلاّ بأصالة عدم النقل، و قد عرفت حالها.

الثالث: الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص و الآثار للمسمّيات مثل» الصلاة عمود الدين «أو » معراج المؤمن «و» الصوم جنّة من النار «إلى غير ذلك، أو نفي ماهياتها و طبائعها مثل:» لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب «و نحوه ممّا كان ظاهراً

ص:154

في نفي الحقيقة بمجرّد فقد ما يعتبر في الصحّة شرطاً أو شطراً، و إرادة خصوص الصحيح من الطائفة الأُولى، و نفي الصحّة من الثانية، خلاف الظاهر لا يصار إليها مع عدم نصب قرينة عليه، بل و استعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع حتى في مثل» لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد «ممّا يعلم أنّ المراد نفي الكمال بدعوى استعماله في نفي الحقيقة في مثله أيضاً بنحو من العناية لا على الحقيقة و إلاّ لما دلّ على المبالغة.(1)

و أورد عليه سيّدنا الأُستاذ بأنّ هذه الآثار إنّما تترتّب على الصلاة إذا انضم إليها قصد القربة و إلاّ فلا تكون معراجاً و لا ناهية، و لم يقل أحد بدخول هذا الجزء في مدلول الصلاة، و عندئذ تكون الصلاة بالنسبة إلى هذه الآثار مقتضية لا علة تامّة، و الاقتضاء كما هو موجود في الصحيحة موجود في الفاسدة غاية الأمر أنّها في الأُولى أقرب إلى الآثار.

يلاحظ عليه: أنّ القائل بالصحّة لا يدّعي أزيد من ذلك، و هو أنّه وضع للماهية التامة من حيث الأجزاء و الشرائط إذا انضم إليه قصد القربة تكون معراجاً للمؤمن و ناهية عن الفحشاء و المنكر.

و هذا بخلاف القول بالأعمّي، فانّ المسمّى عنده إذا انضم إلى قصد الأمر لا تترتب عليه تلك الآثار على وجه القطع.

نعم لو كان المدّعى كون الصلاة علّة تامّة لهذه الآثار بلا حاجة إلى شيء آخر، لكان لما ذكر من الإشكال وجه، لكن المدّعى غير ذلك كما عرفت.

فإن قلت: على هذا تكون الصلاة الصحيحة مقتضية لهذه الآثار لا علّة تامّة، و مع هذا القول لا يبقى فرق بينها و بين الفاسدة منها فانّها أيضاً مقتضية لهذه الآثار إذا انضم إليها، سائر الأجزاء أو الشرائط.

ص:155


1- - كفاية الأُصول: 1/45.

قلت: هذا ما ذكره شيخنا الأُستاذ مدّ ظله في الدورة السابقة لكن عدل عنه في هذه الدورة بما هذا حاصله: انّ ظاهر الروايات، عدم الفصل بين الصلاة و هذه الآثار و انّها مترتبة عليها بلا ترتيب، خرجنا عنه في مورد قصد القربة لأنّها روح العبادة و مقومها، فالصلاة مع هذا الجزء علة تامة لهذه الآثار، بخلاف الأعمّ من الصحيح و الفاسد، فهي ليست علة تامة حتى مع هذا الجزء، بل يتوقف على انضمام أجزاء أُخرى إليها، و الروايات المبينة للآثار، منصرفة عن هذا النوع من العبادة.

نعم يرد على الاستدلال بالقسم الثاني من الروايات أنّ هذه التراكيب و إن كانت مستعملة في نفي الحقيقة حتى في نوعه» لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد «(1)، و قوله:» يا أشباه الرجال و لا رجال «(2)لكن فرق بين نفي الحقيقة حقيقة و بين نفي الحقيقة مبالغة و عناية، و هذه التراكيب كثيرة الاستعمال في نفي الحقيقة مبالغة و عناية مثل قوله:» لا رضاع بعد فطام «(3)، و» لا رهبانية في الإسلام «.(4)

و مع هذه الكثرة فلا تصلح تلك الأخبار للاستدلال، لأنّ كثرة الاستعمال إذا صارت إلى حدّ وافر، تزاحم ظهور اللفظ في نفي الحقيقة حقيقة كما في قوله:» لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب «كما هو أساس الاستدلال.

و لم يفرق المستدل بين نفي الحقيقة حقيقة، و نفيها ادّعاءً و مبالغة.

ص:156


1- - التهذيب للشيخ الطوسي: 3/261، باب فضل المساجد و الصلاة فيها، الحديث 55; الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 1، و رواه الدارقطني في سننه: 1/420.
2- - نهج البلاغة: الخطبة 27.
3- - الوسائل: 14، كتاب النكاح، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرضاع، الحديث 5.
4- - بحار الأنوار: 68/317.

الدليل الرابع: و يمكن تقريره بالنحو التالي، و هو مركّب من مقدمات أربع:

أ: انّ طريقة العقلاء في وضع الألفاظ هي وضعها للصحيح.

ب: انّ الداعي إليه هو كثرة الحاجة إلى تفهيم الصحيح.

ج: انّ هذه الحكمة أيضاً موجودة في وضع الشارع.

د: لا يصحّ التخطّي عن هذه الطريقة.(1)

يلاحظ عليه: بمنع المقدمة الثانية و هو كثرة الحاجة إلى تفهيم الصحيح فانّ الحاجة إلى تفهيم الفاسد ليست بأقل من العكس، و الأولى أن يقرر بنحو آخر، و هو أنّ الغاية تحدِّد فعل الفاعل، فلا يتصور أن يكون الفعل أوسع من الغرض و الهدف، فالسفر لغاية زيارة الصديق تتحدد بتلك الغاية، و إرادة السفر في إطار أعم من هذا لا يصدر من الفاعل الحكيم.

و على ضوء هذا فنقول: إنّ الشارع اخترع الصلاة لغاية خاصة، و هي تهذيب الإنسان و تربيته، و من المعلوم أنّ تلك الغاية من نتائج الصلاة التامة لا الناقصة، و من آثار الصلاة الصحيحة لا الفاسدة، فإذا كان الداعي للاعتبار هو تهذيب الإنسان و تربيته فيتحدد فعله) أي اعتباره ماهية الصلاة (بتلك الغاية، فينتج أنّ ما هو المعتبر عند الشارع هو الصلاة الصحيحة لترتب الغرض عليه فقط، و طبيعة الحال أن يكون المسمّى هو نفس المعتبر بأن يكون اللفظ موضوعاً لنفس ما اعتبره لا للأعم منه.

نعم ربّما يتعلق الغرض بتفهيم قسم آخر و هو الفاسد فله أن يطلق عليه عناية. فقد خرجنا بالنتيجة التالية: انّ ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح منها.

ص:157


1- - كفاية الأُصول: 1/26.

الجهة السادسة في بيان أدلّة القول بالأعم

اشارة

إنّ دراسة القول بالأعم كدراسة القول بالصحيح فرع تصوير جامع له أوّلاً، ثمّ دراسة أدلّته، و لما كان هذا القول ساقطاً عندنا فندرس أدلّته فقط و نحيل دراسة تصوير الجامع إلى الكفاية و غيرها، فقد بحثوا عنه بحثاً وافياً، فلنركِّز البحث على دراسة أدلّته. استدلّ القائل بالأعم بوجوه:

الأوّل: التبادر
الثاني: عدم صحّة سلب الصلاة عن الفاسدة

يلاحظ عليهما انّهما دليلان وجدانيان لا برهانيان، إذ للخصم أيضاً أن يدّعي خلافها، كما مرّ حيث إنّ الصحيحي كان يدّعي تبادر الصحيح من الصلاة كما يدّعي صحة سلب الصلاة عن الفاسدة، فالأولى الإعراض عنهما و صبّ الجهود على دراسة سائر الأدلّة.

الثالث: صحّة التقسيم إلى الصحيحة و الفاسدة

إنّ صحّة تقسيم الصلاة إلى الصحيحة و الفاسدة آية كونها اسماً للأعم، و ذلك لأنّ المقسم يجب أن يكون موجوداً في جميع الأقسام و إلاّ لما صحّ التقسيم، فلا يقال: الصلاة إمّا صحيحة أو سعي بين الصفا و المروة.

ص:158

و أجيب عن الاستدلال بأنّ الاستعمال لا يكون دليلاً على الحقيقة بل هو أعمّ من الحقيقة و المجاز.

و الجواب لا يخلو من نظر، لأنّ الاستعمال إنّما لا يكون دليلاً على الحقيقة إذا احتمل فيه أنّ الإطلاق من باب الادّعاء، و أمّا إذا اطلق على الشيء من دون شائبة ادّعاء فهو يكون دليلاً على الحقيقة، كما أنّ المقام كذلك.

نعم يرد على الاستدلال بأنّ صحّة التقسيم حسب أعصارنا حيث صار الابتلاء بالعبادات الفاسدة بين الناس أمراً رائجاً و اتخذ التقسيم المزبور ذريعة لبيان حكم الفردين فعبروا عنها بالصحيح و الفاسد، و أمّا كون الأمر كذلك في عصر الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (، أعني: عصر التسمية، فلم يثبت ذلك.

اللّهمّ إلاّ بمعونة أصالة عدم النقل حتى يثبت به صحّة التقسيم في عصره، و لكن القدر المتيقن من هذا الأصل هو المورد الذي لم يكن هناك أي مظنة بالنقل، بخلاف المقام فانّ الظن بالنقل موجود لأجل كثرة الحاجة إلى إفهام الفاسد من الموضوع.

الرابع: حديث الولاية

قال الإمام الصادق) عليه السلام (:» بني الإسلام على خمس: الصلاة، و الزكاة، و الحجّ، و الصوم، و الولاية، و لم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بالأربع و تركوا هذه، فلو أنّ أحداً صام نهاره و قام ليله و مات بغير ولاية لم يقبل له صوم و لا صلاة «.(1)

وجه الاستدلال: أنّه لو كانت أسماء العبادات أسامي للأعم لصحّ وصفهم بالأخذ

ص:159


1- - الكافي 2/19، باب دعائم الإسلام، الحديث 5.

بالأربع، و أمّا على القول بوصفها للصحيح فلا يتم لهم الأخذ مطلقاً لا الأربع و لا الولاية.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال غير تام على كلا القولين، سواء أقلنا بصحّة عباداتهم لكن مع عدم ترتب الثواب عليه، أو ببطلان عباداتهم.

أمّا على الأوّل: فالأخذ يحمل على الحقيقة، فقد أخذوا بالأربع حقيقة، لأنّ المفروض صحّة عباداتهم، و أمّا على الثاني فالمراد من أخذهم هو أخذهم بها حسب اعتقادهم لا حسب الواقع، و قد عقد صاحب الوسائل باباً أسماه» بطلان العبادة بدون ولاية الأئمّة) عليهم السلام («(1)أورد روايات تناهز تسع عشرة رواية، أكثرها دالة على صحّة عباداتهم و لكن لا تقبل و لا يترتب عليها الثواب فلاحظ رقم 2، 4، 5، 7، 8 و غيرها، و على ذلك فيكون الأخذ على وجه الحقيقة.

و هناك جواب آخر و هو أنّ المراد من الصحيح هو الصحيح النسبي أي الأجزاء و الشرائط التامّة لا الصحيح المطلق كالصّحة لأجل الاعتقاد بالولاية فانّ الصحّة بهذا المعنى خارج عن المسمى قطعاً.

الخامس: الحديث النبوي، روي عنه) صلى الله عليه و آله و سلم (أنّه قال لجارية كانت تعرف أيام حيضها :» دعي الصلاة أيام أقرائك «.(2)

وجه الاستدلال: انّه لو لم يكن المراد منها الفاسدة لما صحّ النهي عنها لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يتم إذا كان النهي مولوياً فيشترط فيه أن يكون المتعلّق مقدوراً، و الصحيح ليس بمقدور، و أمّا إذا كان إرشادياً إلى المانعية فلا يشترط فيه التمكّن لأنّ النهي لأجل بيان المانعية. و المراد إرشادها إلى أنّ الصلاة لا تجتمع مع الحيض.

ص:160


1- - الوسائل: 1، الباب 29 من أبواب مقدمة العبادات.
2- - الكافي: 3/88، باب جامع في الحائض و المستحاضة، الحديث 1.

السادس: انّه لا شبهة في صحّة تعلّق النذر بترك الصلاة في مكان تكره فيه، و حصول الحنث بفعلها، و لو كانت الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة لزم إشكالان:

الإشكال الأوّل: عدم إمكان حنث الحلف، لأنّ الحنث يتحقّق بالصلاة الصحيحة، و هي غير مقدورة بعد نهي الشارع.

الإشكال الثاني: يلزم المحال، لأنّ المنذور حسب الفرض تعلّق بالصحيحة، و مع النذر لا تقع صحيحة، فيلزم من فرض تعلّق النذر بالصحيحة عدم صحّتها.

أقول: إنّ الإشكال مشترك بين الصحيحي و الأعمّي، لأنّ متعلّق النذر على كلا القولين هو الصحيح لا الأعم، لأنّ المنذور ليس ترك الأجزاء الرئيسية، و لا الصورة المعهودة المشتركة بين الصحيح و الفاسد، فما هو الجواب عند الأعمّي هو الجواب عند الصحيحي. إذا عرفت ذلك فنقول:

الأوّل: ما أجاب به المحقّق الخراساني، و قال: لو صحّ ذلك لاقتضى عدم صحّة تعلق النذر بالصحيح لا عدم وضع اللفظ له شرعاً.

مع أنّ الفساد من قبل النذر لا ينافي صحّة متعلّقه، فلا يلزم من فرض وجودها عدمها.(1)

أقول: أمّا الجواب الأوّل فواضح لا سترة عليه.

و أمّا الجواب الثاني: فحاصله أنّ النذر منعقد، و الصلاة باطلة، و الحنث متحقق، و ما ذلك إلاّ لأنّ النذر تعلّق بما هو الصحيح في نفسه لا الصحيح من الجهات الطارئة عليه، و الصلاة في الحمام بعد تعلّق النذر بتركها، صحيحة في حدّ نفسها على وجه لو أتى بها في البيت أو المسجد لكانت صحيحة بالفعل، و إن

ص:161


1- - كفاية الأُصول: 1/48.

كانت بعد تعلّق النذر باطلة بالفعل.

بعبارة أُخرى: أنّ للصلاة في الحمام بعد تعلّق النذر بتركها نحوين من الصحة.

أ: كونها صحيحة في حدّ نفسها، أي تامّة الأجزاء و الشرائط، و هذه هي المنذور تركها.

ب: ما هو الصحيح بالفعل و بالحمل الشائع، و هو لم يتعلّق به النذر.

و على ضوء ذلك فالنذر منعقد لرجحان ترك تلك الصلاة، و الحنث محقّق لأنّه أتى بالمنذور تركها أعني الصلاة الصحيحة في حدّ ذاتها، و في الوقت نفسه هي باطلة بالحمل الشائع لتعلّق النهي بها و ليست بمبرئة للذمة.

نعم لو تعلّق النذر بترك الصلاة المطلوبة بالفعل نمنع انعقاد النذر كما نمنع حصول الحنث بفعلها، لأنّ ما أتى به ليس بصحيح بالفعل.

الثاني: ما أفاده المحقق البروجردي، و حاصله: منع انعقاد النذر من رأس، بدليل أنّ صرف المرجوحية الإضافية لا يكاد يكون مصححاً لتعلّق النذر بتركه، و إلاّ فمن الجائز شرعاً تعلّق النذر بترك الصلاة في البيت لمرجوحيتها بالإضافة إلى الصلاة في المسجد، و لا أظن أن يلتزم به أحد في الفقه، فالصلاة في الحمام أيضاً كذلك فانّها ليست مرجوحة في حدّ نفسها بل هي مرجوحة بالقياس إلى غيرها من أطراف التخيير، و اللازم في صحّة النذر بالترك هو المرجوحية الذاتية، و أظن أنّ الجمود على لفظ الكراهة في الصلاة في الحمام ممّا أوجب القول بصحّة النذر بتركها.

و بعبارة أُخرى: المراد من كراهة الصلاة في الحمام هو كونها أقلّ ثواباً لا أنّ فيها حزازة ذاتية حتى يصحّ تعلق النذر بتركها، و أمّا الأقلية فلا تكون مسوغة لتعلّق النذر، و إلاّ لزم صحّة تعلق النذر بترك الصلاة في البيت أو في مسجد

ص:162

المحلة لكونهما أقلّ ثواباً بالنسبة إلى المسجد الجامع.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الكراهة في المقام هي من قبيل القسم الثاني، أي كونها ذات حزازة، فانّ الحمام محل الأوساخ و القذارات فإقامة الصلاة فيها أشبه بسقي المولى بماء عذب في وعاء قذر، فقياس الصلاة في الحمام بالصلاة في البيت قياس مع الفارق، و لذلك يتعلّق النذر بتركها في الحمام دون الثاني.

الثالث: ما أفاده المحقّق الحائري و تبعه سيدنا الأُستاذ و حاصل كلامهما بإيضاح منّا: أنّ النذر صحيح و الصلاة صحيحة بالفعل و الحنث واقع.

أمّا الأوّل: فلما عرفت من وجود الحزازة في الصلاة المأتي بها في الحمام فيصحّ تعلّق النذر بتركها كما يصحّ تعلّق النذر بترك سائر المكروهات.

و أمّا الثاني: أي كون الصلاة صحيحة بالفعل فلتعدد متعلّق الأمر في الصلاة و النهي عن الحنث، فالأمر تعلق بطبيعة الصلاة بما هي هي من دون أن يتعدّى الأمر عن متعلقه إلى شيء آخر، كما أنّ النهي تعلّق بعنوان الحنث، فالصلاة المأتي بها في الحمام مصداق ذاتي للصلاة و مصداق عرضي للحنث، و قد ثبت في محله جواز اجتماع الأمر و النهي بين عنوانين بينهما من النسبة عموم و خصوص من وجه، فالصلاة المأتي بها مصداق للواجب بالذات كما هي مصداق بالعرض للمنهي عنه.

و أما الثالث: أي تحقّق الحنث لأنّ المفروض هو جواز اجتماع الأمر و النهي على شيء و عدم مزاحمة الأمر للنهي، فهو صحيح بالفعل و قد حنث به نذره.

إلى هنا تمّت أدلة القائلين بالأعم، و قد عرفت سقم الجميع و عدم نهوضها على المدّعى، بقي الكلام في ثمرات المسألة و هذه هي التي سنوضحها في الجهة الآتية.

ص:163


1- - نهاية الأُصول: 54، الطبعة الثانية.

الجهة السابعة في ثمرات المسألة في مورد العبادات

اشارة

قد ذكر للمسألة ثمرات أربع نذكر واحدة منها:

جواز التمسّك بالإطلاق

و حاصل الثمرة: صحّة التمسك بالإطلاق على القول بالأعمّ و عدمها على القول بالصحيح.

و ذلك لأنّ الشكّ في جزئية شيء أو شرطيته، عند الأعمّي يرجع إلى الشك في كونه داخلاً في المأمور به أو لا، بعد إحراز الموضوع، أعني: الجامع بين الصحيح و الفاسد.

بخلاف الشكّ عند الصحيحي فانّ الشكّ فيهما يرجع إلى الشكّ في صدق الموضوع و عدمه، و مع الشكّ فيه لا يجوز التمسّك بالإطلاق.

وجهه: أنّ الأركان الأربعة مثلاً تشكِّل عند الأعمي تمام المسمّى، فيكون محرزاً باحرازه، فيرجع الشك في جزئية

ص:164

الاستعاذة إلى الشك في كونه جزءاً للمأمور به أو لا بعد إحراز الموضوع فتنفى جزئيته بالإطلاق.

و أمّا عند الصحيحي، فما وجب من جليل و دقيق فهو عنده داخل في المسمّى، و ليس عنده من التقسيم المزبور عين و لا أثر. مثلاً الشك في جزئية الاستعاذة، يرجع إلى الشكّ في دخوله في المسمّى و عدمه، و مع هذا الشك يكون الموضوع مشكوك الإحراز، و معه لا يصحّ التمسّك بالإطلاق، فانّ التمسّك فرع إحرازه و تعلّق الشك بالطوارئ و العوارض كشرطية الإيمان في الرقبة.

و ردّت الثمرة بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أنّ الصحيحي و إن كان لا يتمكن من التمسّك بالإطلاقات اللفظية لكن بإمكانه التمسّك بالإطلاقات البيانية نظير الإطلاق الوارد في صحيحة حمّاد حيث قام الإمام و صلّى ركعتين و بيّن عملاً أجزاء الصلاة و شرائطها(1)، فإذا شكّ في وجوب الاستفادة فيتمسّك بهذا الإطلاق المسمّى بالإطلاق البياني.

يلاحظ عليه: أنّ ذلك خروج عن محط البحث، فانّ الثمرة في المسألة هي جواز التمسّك بالإطلاقات اللفظية و عدمها، و أمّا الإطلاقات البيانية فالصحيحي و الأعمي أمامها سواسية.

الوجه الثاني: أنّ الثمرة عديمة الفائدة، لأنّ المطلقات الواردة في الكتاب لا يجوز التمسّك بها لعدم ورودها في مقام البيان، فقوله:» أقيموا الصلاة «نظير قول القائل» الغنم حلال «فكما لا يجوز التمسّك بإطلاق قوله:» الغنم حلال «على حلية المغصوب و الجلاّل و الموطوء لعدم كونه في مقام البيان، فهكذا الحال في إطلاقات الكتاب، فانّها في مقام بيان أصل الحكم و التشريع لا في مقام بيان الخصوصيات، و عندئذ فالصحيحي و الأعمّي أمامها سيّان فلا يجوز التمسّك على كلا القولين، غاية الأمر أنّ الصحيحي ليس له التمسّك لوجهين:

إجمال الموضوع، و كون الخطاب في غير مقام البيان، و الأعمي لوجه واحد.

ص:165


1- - الوسائل: الجزء 4، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 1.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره و إن كان صحيحاً في قسم من إطلاقات الكتاب العزيز غير أنّ بعضها في مقام البيان مثلاً قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ )(1) في مقام البيان بشهادة انّه سبحانه يأخذ ببيان الجزئيات و التفاصيل و يقول: (أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ )(2) كما أنّه يأخذ ببيان مبدأ الإمساك و نهايته و يقول: (كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ )(3) فعلى هذا فلو شكّ في مدخلية ترك الارتماس في حقيقة الصيام فعلى القول بالصحيحي يكون مرجع الشكّ إلى صدق المسمّى، و أمّا على القول بالأعمّي يكون مرجع الشكّ إلى جزئية أو شرطية أمر زائد وراء المسمّى فيتمسّك بإطلاق الآية و يثبت عدم مدخليته.

الوجه الثالث: أنّ الأعمّي أيضاً لا يصحّ له التمسّك بالمطلقات، لأنّ المسمّى و إن كان الأعم لكن المأمور به هو القسم الصحيح فكلما شكّ في جزئية شيء أو شرطيته فهو شكّ في تحقّق الصلاة الصحيحة.

يلاحظ عليه: أنّ المستشكل خلط بين كون المأمور به ذات الصحيح أو المقيّد بعنوان الصحيح، فعلى الأوّل إذا كان المسمّى محرزاً كما هو المفروض عند القول بالأعم و شكّ في جزئية شيء أو شرطيته يتمسّك بالإطلاق لإحراز ذات الصحيح لأجل كون الشكّ في شرطية شيء وراء صدق المسمّى.

و أمّا على الثاني فبما أنّ المأمور به مقيد بعنوان الصحّة فيجب على المكلف إحراز ذلك العنوان و يعود الشكّ إلى الشكّ في وجود جزء الموضوع فلا يحرز إلاّ بالإتيان بالمشكوك، نظير المقام.

و بعبارة أُخرى: فرق بين أمر المولى بتهيئة معجون و علمنا أنّ مراده هو

ص:166


1- - البقرة: 183.
2- - البقرة: 184.
3- - البقرة: 187.

المعجون الصحيح، و بين أمره بتهيئة معجون مقيّد بالصحّة، فلو شكّ في مدخلية السكر فيه يصحّ التمسّك بالإطلاق على القول الأوّل لإحراز كونه معجوناً، و إنّما الشكّ في جزئية شيء زائد على المعجون، و أمّا على الثاني فالشكّ في صدق الموضوع، لأنّ المأمور به هو المعجون المقيّد بعنوان الصحّة، فكما يجب على العبد إحراز كونه معجوناً كذلك يجب إحراز كونه صحيحاً، فالجزء الأوّل و إن كان محرزاً لكن الجزء الثاني بعد ليس محرزاً.

إلى هنا تبيّن أنّ الإشكالات الثلاثة الموجّهة إلى الثمرة الأُولى غير واردة.

نعم يرد على تلك الثمرة إشكالان آخران:

أ: قد عرفنا فيما ذكرنا أنّ ألفاظ العبادات كلّها مستعملة في لسان الشارع فيما هو الموضوع له من أوّل الأمر في العصور السابقة على الإسلام، إذ ليست هذه الماهيات العبادية من مخترعات الشريعة الإسلامية، بل كانت موجودة بين العرب قبل الإسلام، و إنّما تصرّف فيها الشرع المقدس بإضافة بعض الخصوصيات.

و على ذلك فالموضوع له الذي وضعت بازائه هذه الألفاظ محرز عند الشكّ في وجوب الاستعاذة على كلا القولين، فيرجع الشكّ على كلا المبنيين إلى الشكّ في جزئية شيء زائد أو شرطيته، فيجوز التمسّك بالإطلاقات على القول بالصحيح و الأعمّ.

ب: انّ ما ذكر ليس ثمرة أُصولية، لأنّ الثمرة الأُصولية ما تقع كبرى في عملية الاستنباط، و أمّا المقام فانّ غايته كشف وجود الإطلاق على القول بالأعم دونه على الصحيح، و هذا أشبه بمبادئ المسائل الفقهية، فالقول بوجود الإطلاق على الأعمّي دون الصحيحي كالقول بوجود الخبر في موضوع دون موضوع فلا يعد ثمرة لمسألة أُصولية.

ص:167

و أمّا الثمرات الثلاث الباقية فقد طوى عنها الكلام شيخنا الأُستاذ مدّ ظله في هذه الدورة و قد أشبع الكلام فيها في الدورات المتقدّمة.(1)

الجهة الثامنة في أسماء المعاملات

و تحقيق المقام رهن أُمور:
الأوّل: لمّا كانت العبادات من مخترعات الشارع و معتبراته يصحّ فيها البحث في أنّ ألفاظها هل هي موضوعة للصحيح أو الأعمّ منها؟

لأنّ الموضوع له من مخترعاته، و هو الذي وضع لفظ العبادة في مقابلها، و هذا بخلاف المعاملات، فانّها ليست من مخترعاته بل من مخترعات العقلاء و هم الذين وضعوا ألفاظ المعاملات في مقابل ما اعتبروه بيعاً أو نكاحاً أو إجارة و ليس للشارع دور فيها، سوى تحديدها بحدود و قيود، و على ذلك فلا معنى للقول بأنّ ألفاظ المعاملات موضوعة في الشرع للصحيح أو الأعم، بل لو صحّ طرحه فلا بدّ أن يقال هل المعاملات موضوعة عند العرف و العقلاء لخصوص الصحيح أو الأعم؟

الثاني: ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ النزاع في أنّ أسماء المعاملات وضعت للصحيح أو للأعم إنّما يتأتى على القول بوضعها للأسباب دون القول بوضعها للمسببات،

و ذلك لأنّ المسبب أمر بسيط دائر أمره بين الوجود و العدم،

ص:168


1- - و قد سها قلم زميلنا السيد الجلالي (حفظه اللّه) في تقرير الثمرة الثالثة، و التقرير الصحيح ما يلي: إذا نذر أن يعطى درهماً للمصلّي فعلى القول بوضعها للصحيح لا يفي بنذره و لا تبرأ ذمّته إلاّ إذا دفع إلى من صلّى صلاة صحيحة، بخلافه على القول الآخر فتبرأ ذمّته بالدفع إلى كلّ من صلّى، صحيحة كانت صلاته أم فاسدة. (المؤلف).

فالعلقة الحاصلة في البيع و النكاح إمّا متحقّقة أو غير متحقّقة، و لا معنى لأن تكون متحقّقة فاسدة، و هذا شأن الأُمور الاعتبارية البسيطة و هي بين الوجود و العدم و لا واسطة بينهما، فعلى هذا لو عقد بالفارسية أو كان العاقد غير بالغ، فعلقة الزوجية إمّا موجودة فتكون صحيحة، أو غير موجودة.

نعم لو قلنا بوضعها للأسباب فللنزاع فيه مجال، و ذلك لأنّ الأسباب مركبة من أجزاء و شرائط كالإيجاب المتعقّب للقبول مع صدورهما من عاقل بالغ إلى غير ذلك من الشروط، فيمكن أن يقال بأنّه هل وضعت للمركّب التام من الأسباب عند العرف للأعم.(1)

الثالث: أنّ اختلاف الشرع و العرف في اعتبار سبب و عدمه في عالم الثبوت كبيع المنابذة هل يرجع إلى الوحدة في المفهوم و الاختلاف في المصداق

كما عليه المحقّق الخراساني أو يرجع إلى الاختلاف في نفس المعتبر؟(2)، فالمعتبر عند الشرع في عالم الثبوت غير المعتبر عند العرف.

استدلّ المحقّق الخراساني على مختاره بقوله:

لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضاً و انّ الموضوع له هو العقد

ص:169


1- - و لكن يمكن أن يقال: انّ النزاع لا يجري حتى على القول بأنّ ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب مثل عدم جريانه على القول بوضعها للمسببات، و ذلك لأنّ أمر الاعتبار يدور أمره بين الوجود و العدم، فلو كانت العربية معتبرة في العقد عند المعتبر يختصّ اعتبار السببية بها، و لا يكون غيرها سبباً أصلاً، لا انّه يكون سبباً فاسداً لأنّ معناه انّه اعتبره لكن بوصف الفساد، و هو بعيد عن عالم الاعتبار، فانّه لو ترتب الأثر عليه، يكون معتبراً، و إلاّ فلا يعتبره و يحذفه عن قاموس حياته.
2- - قلنا في المعتبر لا الموضوع له لما سيوافيك من أنّ ألفاظ المعاملات في الأدلّة الامضائية موضوعة و مستعملة في الصحيح عند العرف، و بذلك يتبين انّ هذا البحث راجع إلى مقام الثبوت. و انّ الأولى التعبير بوحدة المعتَبر و عدمها، لا وحدة الموضوع له، لما عرفت من أنّه ليس للشارع دور في وضع ألفاظ المعاملات. (المؤلّف)

المؤثر لأثر كذا شرعاً و عرفاً، و الاختلاف بين الشرع و العرف فيما يعتبر في تأثير العقد لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى، بل الاختلاف في المحققات و المصاديق و تخطئة الشرع العرف في تخيّل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره، محقِّقاً لما هو المؤثر كما لا يخفى.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لو كان المعتبر عند العرف و الشرع هو العقد المؤثر» لأثر كذا «كان لما ذكره وجه و يلزم وحدة المعتبر و يرجع الاختلاف إلى المصاديق و يصحّ للشرع أن يخطِّئ العرف تخطئة مصداقية.

و أمّا إذا كان المعتبر أمراً تفصيلياً مثل: الإيجاب و القبول اللفظيين المتعاقبين الصادرين من بالغ عاقل، فعندئذ يكون عدم اعتبار جزء من أجزاء هذا المعتبر اختلافاً في نفس المعتبر، لا وحدة في المعتبر و اختلافاً في المصداق.

أضف إلى ذلك أنّ التخطئة في المصداق إنّما تصحّ في الأُمور التكوينية التي يكون لها واقع محفوظ فبالقياس إليه يشار إلى أنّ هذا مصداق له و ذاك ليس بمصداق كقوله» الفقاع خمر، هي خمرة استصغرها الناس «.(2)

و أمّا الأُمور الاعتبارية التي لا واقع محفوظ لها، و انّ محورها نفس الاعتبار، فلا يصحّ لمعتبِر أن يخطِّئ اعتبار معتبر آخر. لأنّ لكلّ معتبر سلطاناً في عالم الاعتبار حسب معاييره.

الرابع: في إمكان وضع ألفاظ المعاملات للصحيح أو الأعم ثبوتاً دون مقام الإثبات

قد عرفت أنّ النزاع في وضع ألفاظ المعاملات للصحيح أو الأعم إنّما يأتي على القول بوضعها للأسباب دون المسببات إذ الأُولى توصف بالصحّة عند اجتماع جميع أجزائها و بالصحّة عند فقدان بعضها، فعلى ذلك فهي قابلة

ص:170


1- - كفاية الأُصول: 1/49.
2- - الكافي: 6/423، باب الفقاع، الحديث 91.

للوضع لأحد المعنيين ثبوتاً، و أمّا إثباتاً فهي موضوعة للسبب الصحيح لما عرفت من أنّ الغرض يحدد فعل الإنسان فلا يصدر عنه فعل أوسع من غرضه، و بما أنّ الداعي لاعتبار المعاملات و وضع اللفظ لها، هو المصالح التي تترتب عليها و تدور عليها رحى الحياة، فلا بد أن يدور اعتباره ثبوتاً و وضع اللفظ إثباتاً، مدار وجود الاغراض الداعية، و هي منحصرة بالصحيح من الأسباب دون الفاسد منها، فيكون الاعتبار و الوضع منحصرين به، فخرجنا بالنتائج التالية:

أوّلاً: اختصاص النزاع في أسماء المعاملات بالعرف دون الشرع.

ثانياً: أسماء المعاملات موضوعة للصحيح العرفي.

ثالثاً: أنّ اختلاف الشارع و العرف في اعتبار سبب و عدمه يرجع إلى الاختلاف في نفس المعتَبر، حيث إنّ الشارع اعتبر في عالم الثبوت وجود اللفظ في الأسباب و القبول و لم يعتبره العرف، و هذا يرجع إلى الاختلاف في المعتبر لا الوحدة في نفس المعتبر و الاختلاف في المصداق.

الخامس: في وجه التمسّك بالإطلاقات و الأدلّة الإمضائية بعد القول بأنّ أسماء المعاملات وضعت عند العرف للصحيح دون الأعم،

و هذا هو بيت القصيد في هذا المبحث فعلى الفقيه الذي يتمسّك بالأدلة الإمضائية في مقام الشك في التخصيص أو اعتبار قيد أو شرط أن يثبت أنّ القول بوضع الألفاظ للصحيح عند العرف لا يمنع من التمسّك بها، فيقع البحث في مقامين:

المقام الأوّل: لو قلنا بأنّ ألفاظ المعاملات وضعت للأسباب الصحيحة عرفاً فهل يجوز التمسّك بالإطلاق أو لا؟ و بعبارة أُخرى: إذا قلنا بأنّ ألفاظ المعاملات أسام للأسباب الصحيحة، فهل يكون ذلك مانعاً من التمسك بإطلاقات الأدلة الإمضائية عند الشكّ في

ص:171

صحّة سبب و فساده، كتقدم القبول على الإيجاب، أو إجراء الصيغة بلفظ المضارع أو لا؟ التحقيق أنّه لا يكون مانعاً و يترتب عليه صحّة التمسّك بها.

أمّا على مذهب المحقّق الخراساني من اتفاق العرف و الشرع فيما هو السبب للملكية أو علقة الزوجية، و إنّما الاختلاف يرجع إلى التخطئة في المصداق، فظاهر، لأنّ إطلاقها لو كان مسوقاً في مقام البيان يُنزَّل على أنّ المؤثر عند الشارع هو المؤثر عند العرف و لم يعتبر في تأثيره عنده غير ما اعتبر فيه عندهم، كما ينزل عليه إطلاق كلام غيره حيث إنّه منهم، و لو اعتبر في تأثيره ما شك في اعتباره كان عليه البيان و نصب القرينة عليه، و حيث لم ينصب بان عدم اعتباره عنده أيضاً، و لذا يتمسّكون بالإطلاق في أبواب المعاملات مع ذهابهم إلى كون ألفاظها موضوعة للصحيح.(1)

و أمّا على المختار من أنّ اختلاف الشارع و العرف في بعض الأسباب إنّما هو من حيث المعتَبر لا من باب الاختلاف في المصداق، فربما يشكل التمسّك، لأنّ مرجع الشكّ إلى التمسّك بالعام عند الشبهة المصداقية له، و إلى هذا الإشكال يشير الشيخ الأعظم في آخر تعريف البيع حيث قال: و يشكل بأنّ وضعها للصحيح يوجب عدم جواز التمسّك بإطلاق نحو» أحل اللّه البيع «و إطلاقات أدلة سائر العقود في مقام الشك في اعتبار شيء منها مع أنّ سيرة علماء الإسلام التمسّك بها في هذه المقامات.(2)

أقول: الحقّ جواز التمسّك على هذا القول أيضاً، و يعلم ذلك بأمرين:

ص:172


1- - كفاية الأُصول: 1/50.
2- - المتاجر: 80، آخر تعريف البيع.

1. انّ المعتبر عند الشارع و إن كان يختلف مع المعتبر عند العرف، لكن الاختلاف ليس بالتباين بل بالأقل و الأكثر، و المفهوم الشرعي لأجل زيادة القيود أضيق من المفهوم العرفي.

2. انّك قد عرفت أنّه ليس للشارع في باب المعاملات دور فالأسباب و المسببات و وضع اللفظ في مقابل الأسباب كلّها من العرف و العقلاء، و عندئذ فإذا قال الشارع:» أوفوا بالعقود «فمعنى ذلك أوفوا بالأسباب الصحيحة العرفية، غاية الأمر أنّ الأمر بالوفاء بعامة العقود إنّما هو بالإرادة الاستعمالية، فلو افترضنا مورداً ما لم تتعلق به الإرادة الجدية كبيع المنابذة الذي هو بمعنى تعين المبيع برمي الحجارة على قطيع غنم بإصابة شاة معينة، يشير إليه الشارع بقوله:» لا منابذة في البيع «فإذا سكت فيعلم أنّ السبب الصحيح عند العرف هو السبب الصحيح عند الشرع.

و بعبارة أُخرى: يتخذ السبب الصحيح عرفاً مرآة و طريقاً إلى السبب الصحيح شرعاً، و إلاّ تلزم لغوية الخطابات الإمضائية، و هذا هو الذي يشير إليه الشيخ الأعظم في آخر تعريف البيع و يقول: و أمّا وجه تمسّك العلماء بإطلاق أدلة البيع و نحوه فلأنّ الخطابات لما وردت على طبق العرف، حُمِل لفظ البيع و شبهه في الخطابات الشرعية على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف، أو على المصدر الذي يراد من لفظ) بعت ( فيستدل بإطلاق الحكم بحله أو بوجوب الوفاء على كونه مؤثراً في نظر الشارع أيضاً.(1)

و الحاصل: انّ المهم في المقام هو أنّ القول بوضع الألفاظ للصحيح لا يوجب إجمال الأدلة الإمضائية، و لو قلنا بالإجمال في العبادات على وجه الفرض

ص:173


1- - المتاجر: 80، آخر تعريف البيع.

فلا نقول به في المقام لما عرفت من أنّه ليس للشارع دور في اختراع المعاملات و لا أسبابها و لا في وضع ألفاظها لها، بل كلّها بيد العرف غير أنّ الشارع إذا تكلم إنّما يتكلم بلسان العرف، فإذا أمضى العنوان الذي هو اسم للسبب الصحيح عرفاً يكون معناه أنّه كذلك عند الشرع، فإذا شكّ في سببية شيء كعقد غير البالغ، فلو كان سبباً عرفاً نستكشف انّه أيضاً سبب شرعاً، أخذاً بحديث المرآتيّة، و إلاّ كان عليه التصريح بعدم السببية كما صرح في باب الطلاق و عيّن السبب المعيّن و هو أن يقول المطلّق:» أنت طالق «.

المقام الثاني: إذا قلنا بوضعها للمسببات، أعني: الملكية الحاصلة من العقد، و علقة الزوجية الحاصلة من الإيجاب و القبول، فشككنا في صحّة واحد من المعاملات، فالشك في الصحّة يتجلّى على قسمين، فتارة يكون الشكّ نابعاً من احتمال خروج عنوان عن الإطلاقات، و أُخرى يكون الشكّ نابعاً من جزئية شيء أو شرطيّته في أسبابها.

أمّا الأوّل: فيجوز التمسّك بالإطلاقات و الأدلّة الإمضائية، لأنّ الشرع إذا أمضى المسبب العرفي و كان الفرد المشكوك واجداً للمسبب حسب نظر العرف، فبحكم الإطلاق يحكم ببقاء الفرد المشكوك تحته. كما إذا شكّ في خروج البيع الربوي في غير المكيل و الموزون كالمعدود و المزروع و المشاهد عن تحت إطلاق قوله تعالى: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) فيحكم ببركة إطلاق الأدلة الإمضائية بعدم خروجها عن المسبب الممضى على وجه الإطلاق.

و أمّا الثاني: إذا كان الشكّ في صحّة المسبب نابعاً من احتمال مدخلية شيء في السبب كمدخلية البلوغ في العاقد، و تقدّم الإيجاب على القبول في العقد، فالشكّ في صحة النكاح و البيع بالمعنى المسببي، نابع عن شرطية البلوغ أو تقدّم

ص:174

الإيجاب على القبول في السبب، فهل يمكن رفع الشكّ عن ناحية السبب بالتمسّك بالإطلاق المنصبّ على إمضاء المسبب العرفي أو لا؟ ذهب المحقّق النائيني إلى القول الثاني، و حاصل كلامه: أنّ إمضاء المسبب كما هو المفروض ) لافتراض أنّ أسماء المعاملات اسم للمسبب دون السبب (لا يكون دليلاً على إمضاء السبب، قال) قدس سره ( : انّه إذا كان إمضاؤه للمسببات أي للمعاملات التي هي رائجة عند العرف كالزوجية و المبادلة، مع قطع النظر عن الأسباب التي يتوسل بها إليها، كما في قوله تعالى: (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ) فانّه في مقام بيان أنّ المعاملات الربوية من دون نظر إلى الأسباب غير ممضاة في الشريعة، بخلاف المعاملة البيعية، فالإطلاق لو كان وارداً في هذا المقام فلا يدل على إمضاء الأسباب العرفية، و ذلك لعدم الملازمة بين إمضاء المسبب و إمضاء السبب، إلاّ فيما إذا كان له سبب واحد فانّ إمضاءه لمسببه يستلزم إمضاءه لا محالة و إلاّ كان إمضاؤه لغواً، و كذا فيما إذا لم يكن في البين قدر متيقّن فإنّ نسبة المسبّب حينئذ إلى الجميع على حدّ سواء فلا يمكن الحكم بإمضاء بعض دون بعض، و في غير هاتين الصورتين لا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن و في الزائد يرجع إلى أصالة العدم.(1)

ثمّ إنّه) قدس سره (أجاب عن الإشكال بجواب فلاحظه.(2)

و الأولى أن يجاب بوجهين:

أ: وجود الملازمة العرفية بين إمضاء المسببات و الأسباب، فهي و إن لم تكن

ص:175


1- - أجود التقريرات: 501/49; المحاضرات: 1/197.
2- - حاصله: إبداء الفرق بين إمضاء الأسباب و إمضاء الأدوات، فنفى الملازمة في الأُولى و أثبتها في الثانية، قائلاً بأنّ نسبة الإيجاب و القبول بالنسبة إلى المنشأ من قبيل الإيجاد بالآلة لا من باب السبب و المسبب.

عقلية و لكنّها ملازمة عرفية فإمضاء المسبب العرفي و الذي له سبب مثله، يلازم إمضاء الثاني.

ب: التمسّك بالإطلاق المقامي، و حاصله: أنّ كلّ شيء لا يلتفت إليه إلاّ الأوحدي من الناس، فلو كان معتبراً كان على الشارع التنبيه عليه، و إلاّ لزم نقض الغرض، فمثلاً: أنّ العرف يرى تحقّق المنشأ في باب الطلاق بأي صيغة اتفقت، مثل قوله:» أنت خلية «، و» أنت برية «، و لكن الشارع لا يرى السبب إلاّ قوله:

» أنت طالق «فإذا أمضى الشارع المسبب العرفي) الطلاق العرفي (و لكن كان هناك اختلاف بين الشرع و العرف في السبب نبّه عليه كما قال: إنّما الطلاق أن تقول:» أنت طالق «.(1)

و حيث لم يرد في باب المعاملات بيان خاص بالنسبة إلى السبب يستكشف من سكوت الشارع عدم اعتبار سبب خاص، و انّ السبب الفعلي كالسبب القولي، و هذا نظير قصد الوجه و التمييز اللّذين يدّعيهما ابن إدريس في امتثال الواجبات، و المشهور لم يقل بوجوبهما و ذلك تمسكاً بإطلاقات أدلّة الصلاة، لأنّ قصد الوجه و التمييز من الأُمور العقلية التي لا يلتفت إليهما إلاّ الأوحدي من الناس فلو كان واجباً كان على الشارع التنبيه عليها، و مثله المقام.

فإن قلت: فهل يمكن دفع الشكّ عن طريق المرآتية حسب ما قرر في المقام الأوّل؟ قلت: ثمة فرق جوهري بين المقامين فانّ الإمضاء تعلّق في المقام الأوّل بالأسباب، و تعلق الشكّ بسببية شيء كالمعاطاة، فيمكن أن يقال انّ إمضاء السبب العرفي طريق إلى السبب الشرعي، و هذا بخلاف المقام فانّ المفروض

ص:176


1- - الوسائل: 15، الباب 16 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه، الحديث 3 و 4.

أنّ الإمضاء تعلّق بالمسبب، و لكن الشكّ تعلّق بشرطية شيء في السبب كتقدّم الإيجاب على القبول فلا يمكن إمضاء المسبب الصحيح عرفاً طريقاً إلى إمضاء السبب.

و على كلّ تقدير فهذا البحث هو بيت القصيد في هذا المقام، فعلى الفقيه الجهد و بذل الجد حتى يرفع المحاذير الواقعة أمام التمسّك بالإطلاقات، سواء أقلنا بوضعها للأسباب أو المسببات.

السادس: في أنّ أسماء المعاملات اسم للأسباب أو للمسببات

هل أسماء المعاملات موضوعة للأسباب أو للمسببات؟ و هذه مسألة صغروية.

و الجواب انّ الأدلّة على قسمين:

1. ما يكون العنوان اسماً للسبب كما هو الحال في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(1)فالإمضاء يتعلّق بالأسباب.

فانّ العقد عبارة عن شدّ الحبلين، و استعير في الآية للإيجاب و القبول، فتكون الآية ظاهرة في إمضاء الأسباب فيؤخذ بإطلاقها في كلّ ما يراه العرف سبباً إلاّ إذا قام الدليل على إلغاء سببيته.

و ما ربما يقال من أنّ العقد هو العهد المشدد فلا يصدق إلاّ في الأيمان و الأقسام، في غير محله، لقوله سبحانه: (إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ )(2) فالعقدة في الآية بمعنى الإيجاب و القبول المعبّر عنهما بالعُقْدة.

و ربما يقال بأنّ الآية ناظرة إلى إمضاء المسببات، لأنّها تأمر بالوفاء بالعقود و الوفاء إنّما يتصوّر في أمر باق و ما هو الباقي هو المسبب دون السبب فانّه أمر آني.

ص:177


1- - المائدة: 1.
2- - البقرة: 237.

يلاحظ عليه: أنّ الأسباب لها بقاء في عالم الاعتبار بشهادة أنّه ربّما يتعلّق بها الفسخ.

2. ما يكون العنوان ظاهراً في المسبب مثل قوله: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ )(1) و قوله:» الصلح جائز بين المسلمين «(2)و» النكاح سنّتي «(3)و» الطلاق بيد من أخذ بالساق «.(4)

السابع: في أقسام الجزئية و الشرطية و...

إنّ دخالة شيء في شيء تارة تكون بنحو الجزئية و أُخرى بنحو الشرطية.

ثمّ إنّ الجزئية و الشرطية تنقسمان إلى الجزئية و الشرطية للماهية، و أُخرى للفرد، و بذلك تصير الأقسام أربعة.

كما أنّ تأثير الشيء تارة يكون وجوده مؤثراً في المطلوب أو في كماله، و أُخرى يكون وجوده مخلاً، ثمّ المخل ينقسم إلى قسمين، فتارة يكون وجوده مخلاً للواجب و مبطلاً للغرض، و أُخرى يكون وجوده مخلاً للهيئة الاتصالية و قاطعاً لها كالضحك و البكاء و الفعل الكثير الماحي لصورة الواجب. فيسمى الأوّل بالمانع كالحدث و الخبث، و الثاني بالقاطع كالبكاء الممتد.

و إليك التفاصيل:

أمّا إذا كان للشيء مدخل في قوام الماهية سواء أ كان بنحو الجزئية كالركوع و السجود، أو بنحو الشرطية كالطهارة، فيسميان بجزء الماهية و شرطها، و الفرق بين الجزء و الشرط واضح، لأنّ الجزء بوجوده حاضر في حدّ الشيء فيكون القيد و التقيد داخلاً فيها، و أمّا الشرط فهو بوجوده و إن لم يكن حاضراً في قوام الشيء

ص:178


1- - البقرة: 275.
2- - من لا يحضره الفقيه: 3/21، الحديث 2.
3- - لآلي الأخبار: 3/221.
4- - الجامع الصغير: 2/57.

و لكنّ لوجوده قبل المأمور به أو معه أو بعده تأثيراً في حصول المطلوب، فيكون القيد خارجاً و التقيّد داخلاً، فالطهارة قبل الصلاة و استقبال الكعبة حين الصلاة و الأغسال الليلية للمرأة المستحاضة بعد الصوم من قبيل الشروط للماهية.

و بعبارة أُخرى ما يكون دخيلاً في أصل المطلوب بنحو الجزئية أو الشرطية يسمّى جزء الماهية و شرطها.

و أمّا إذا كان الشيء غير دخيل في قوام الشيء على نحو لو لم يكن محققاً لما يضرّ به و لكن له مدخلية في كمال المطلوب و جماله، فإن كان دخيلاً على نحو الجزئية يسمى جزء الفرد، و إن كان دخيلاً بنحو الشرطية يسمى شرط الفرد، و هذا كالقنوت في الصلاة أو الصلاة في المسجد، فالصلاة بلا قنوت أو في غير المسجد صلاة صحيحة وافية بالغرض المطلوب غير أنّ القنوت في الصلاة، و إقامتها في المسجد يوجب كمال المطلوب و جماله، و هذا ما يعبّر عنه بجزء الفرد و شرطه فالأمران يعدان من محققات الفرد و مشخصاته و إن لم يكونا من قوام الشيء و الغرض المطلوب.

و بذلك يعلم أنّ القنوت في الصلاة جزء للصلاة الموجودة فهي بعامة أجزائها مصداق للواجب مثل الصلاة في المسجد لا أنّ أصل الصلاة واجبة و القنوت أمر مستحب في واجب.

و ما هذا إلاّ لأنّ الصلاة مع القنوت فرد وحداني له حكم واحد و ليس له حكمان، و لا يعد القنوت أمراً زائداً على الصلاة الموجودة كردّ السلام إلى من سلّم على المصلي فانّ التسليم بعنوان الجواب شيء وراء الصلاة، أو الصلاة على النبي إذا سمع اسمه، فهي تعدّ أمراً زائداً على الصلاة، مستحباً فيها بخلاف المشخصات الفردية فانّهما من أجزاء الفرد و الفرد بوحدته مصداق للواجب.

و ربّما يورد على هذا التصوير أي تقسيم الجزء و الشرط إلى كونهما جزءاً أو

ص:179

شرطاً للفرد بأنّ المراد من الجزء أو الشرط في المقام، هو العوارض الفردية الخارجية عن ماهية الشيء، و هذا إنّما يتصور في المركبات الخارجية، مثلاً الإنسان له علل القوام أعني الجنس و الفصل كما له العوارض الفردية من الأعراض التسعة من الطول و القصر و اللون و غيرها، و عندئذ يحلّله العقل إلى أُمور مربوطة بجوهره و ماهيته، و أُمور مربوطة بعوارضه و خصوصياته الفردية.

و أمّا المركب الاعتباري فبما أنّه فاقد للوحدة الحقيقية فكلّ فرد منه له ماهية خاصّة فللفاقد ماهية، و للواجد ماهية أُخرى، مثلاً الصلاة مع القنوت موجودة، و الصلاة لا معه موجودة أُخرى، فلا يعد القنوت من العوارض الفردية و البواقي من علل القوام.

يلاحظ عليه: بأنّ الأُمور الاعتبارية سهلة المئونة، فيمكن أن تسمّي ما له مدخلية في أصل الغرض بجزء الماهية و شرطها، و ما له مدخلية في كمال الغرض فهو جزء الفرد أو شرطه، و يمكن أن يقال بصورة التقريب أنّ ذلك التقسيم بكلا شقيه نظير ما نشاهده في التكوين كالدار فهناك ما هو دخيل في أصل المطلوب على وجه لولاه لما يتحقق الغرض كالغرف، و هناك ما يعد كمالاً للدار كالإيوان و السرداب، فلو وجدا كانا جزءاً من الدار و إلاّ لم يضر.

هذا كلّه حول الجزئية و الشرطية، و أمّا المانعية و القاطعية، فمدخلية الأُولى لأجل كون وجود المانع مخلاً للواجب و لملاكه، و هذا ما يعبّر عنه مسامحة بجزئية عدمه أو شرطيته، و إلاّ فحقيقة الأمر هو كون المانع بوجوده مخلاً، و أمّا القاطع فهو أيضاً بوجوده يخل بالهيئة الاتصالية و يقطعها.

إلى هنا تمّت الأقسام الستة، و أمّا القسم السابع فهو أن يكون الواجب ظرفاً للمستحب بدون مدخلية أحدهما في الآخر و ذلك، كالأدعية الواردة في أيّام شهر رمضان لخصوص الصائم.

ص:180

الأمر الحادي عشر في الاشتراك اللفظي

اشارة

الاشتراك اللفظي: عبارة عن كون اللفظ موضوعاً لمعنيين أو أكثر من واضع واحد(1) بأوضاع متعددة بالوضع التعييني أو التعيّني.

و يقع الكلام فيه في جهات:

الجهة الأُولى: في إمكان الاشتراك اللفظي

لا شكّ في إمكان الاشتراك اللفظي و الدليل عليه وجوده، فهذه هي العين تستعمل في الباكية و الجارية، و لو افترضنا انّها كانت حقيقة في واحدة منهما و استعملت في الأُخرى لعلاقة المشابهة لنبع الماء فيهما، لا يضرّ بالمقصود، إذ ليس المدّعى تقارن المعنيين في الوضع، بل يكفي التعاقب أيضاً.

ثمّ إنّ هناك من أحال الاشتراك اللفظي بدعوى أنّه مخل بتفهيم المقصود من الوضع لخفاء القرائن.

و أجاب عنه في» الكفاية «من إمكان الاتّكال على القرائن الواضحة أوّلاً، و منع كونه مخلاً بالمقصود لتعلّق الغرض بالإجمال ثانياً.

ص:181


1- - هذا القيد من قبيل» لزوم ما لا يلزم «ذكره من أحاله كالمحقق الخوئي، و إلاّ فالمشترك اللفظي ليس رهن واضع واحد، بل الغالب هو تعدّد الوضع، لتعدّد الواضع، فتدبّر.

و يمكن أن يقال انّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان الواضع واحداً فيصدّه الاخلال عن الوضع الثاني دون ما إذا كان متعدداً.

ثمّ إنّ صاحب المحاضرات استدلّ على امتناع الاشتراك بأنّ الوضع الثاني يستلزم نقض الوضع الأوّل، لأنّ الوضع ليس بمعنى جعل الملازمة بين طبيعي اللفظ و المعنى الموضوع له، أو جعله وجوداً تنزيلياً للمعنى، بل بمعنى تعهد الواضع في نفسه بأنّه متى تكلّم بلفظ مخصوص لا يريد منه إلاّ تفهيم معنى خاص، و من المعلوم أنّ هذا التعهد لا يجتمع مع تعهده ثانياً بأنّه متى تكلّم بذلك اللفظ لا يقصد إلاّ تفهيم معنى آخر مبايناً للأوّل، ضرورة أنّه بذلك نقض ما تعهده أوّلاً.

و إن شئت قلت: إنّ الوضع عبارة عن التعهد المجرّد عن الإتيان بأيّة قرينة، و هذا غير متحقّق في الاشتراك اللفظي.(1)

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصحّ إذا كان الواضع واحداً، و أمّا إذا كان متعدداً فلا، و سيوافيك أنّ الاشتراك اللفظي مستند إلى تباعد القبائل العربية بعضهم عن بعض.

ثمّ إنّ هناك من زعم وجوب الاشتراك قائلاً: بأنّ الألفاظ و التراكيب المؤلّفة منها متناهية، و المعاني غير متناهية و الحاجة ماسّة إلى تفهيم المعاني بالألفاظ و لا يتم ذلك إلاّ بالاشتراك.

و أجاب عنه في» الكفاية «: بأنّ المعاني إذا كانت غير متناهية فلا يمكن الوضع لها لا بالاشتراك و لا بغيره، لاستلزامه الأوضاع غير المتناهية من الإنسان المتناهي.

ص:182


1- - المحاضرات: 1/213.

و لكن الظاهر أنّ مراد القائل هو كثرة المعاني لا كونها غير متناهية حقيقة.

نعم ما ذكره من الأجوبة الثلاثة عقيب هذا الجواب هو الصحيح، قال:

1. إنّ المعاني على فرض تناهيها، لا تمس الحاجة إلاّ بالقدر المتناهي منها، لأنّ الأغراض المتداولة بين العقلاء متناهية.

2. مع أنّه يكفي الوضع للمفاهيم الكلية و إرادة الجزئيات بالقرائن.

3. انّ طريق التفهيم لا ينحصر بطريق الحقيقة، بل يكفي إفهام المعاني بطريق المجاز، و هو باب واسع.(1)

و يمكن أن يجاب أيضاً بأنّ الألفاظ كالمعاني غير متناهية عرفاً، و ذلك بسبب تلفيق الحروف الهجائية بعضها مع بعض لا سيما إذا أُضيف إليها الاختلاف في الحركات فلا تكون الألفاظ أقلّ عدداً من المعاني المطروحة للعقلاء.

الجهة الثانية: في منشأ الاشتراك

الظاهر أنّ منشأ الاشتراك هو تشتت الناطقين باللغة العربية، حيث كانت طائفة تعبّر بلفظ خاص عن معنى، و طائفة أُخرى تعبّر به عن معنى آخر من دون أن تطّلع على ما في حوزة الأُخرى من أوضاع، فلما قام علماء اللغة بجمع لغات العرب من أفواه القبائل العربية ظهر الاشتراك اللفظي.

و هناك عامل آخر أقلّ تأثير من العامل الأوّل و هو ظهور الاشتراك في ظل كثرة الاستعمال في معنى مجازي إلى حدّ يصير حقيقة كما في لفظ» الغائط «فانّه موضوع للمكان الذي يضع فيه الإنسان، ثمّ كنّى به القرآن عن فضلته إلى أن صار حقيقة.

ص:183


1- - كفاية الأُصول: 1/53.

الجهة الثالثة: في وقوع الاشتراك في القرآن

لا شكّ في وجود الاشتراك في لغة العرب، و قد جمع علماء اللغة المشتركات اللفظية فيها.

و أمّا القرآن فقد ورد فيه النجم و هو مشترك بين الكوكب و النبات الذي لا ساق له، قال سبحانه:

(وَ النَّجْمِ إِذا هَوى )(1) و قال: (وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ )(2) و مثل النجم لفظة» النون «فانّه مشترك بين الحوت و الدواة.(3)

قال سبحانه: (وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ).(4)

و قال سبحانه: (ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ).(5)

ثمّ إنّ علماء علوم القرآن فتحوا باباً في المشتركات القرآنية أسموه بمعرفة الوجوه و النظائر و ألّفوا في هذا المضمار رسائل و كتباً، و لكنّهم خلطوا في كثير بين المصداق و المعنى.(6) مثلاً: ذكروا للقضاء معاني مختلفة كالفراغ، و الأمر، و الأجل، و الفصل، و المضي، و الهلاك، و الوجوب، و الإبرام، و الإعلام، و الوصية، و الموت، و النزول، و الخلق، و الفعل، و العهد، مع أنّ الجميع من مصاديق المعنى الواحد و هو العمل المتقن و التنفيذ القاطع.

يقول ابن فارس(7): ليس له إلاّ أصل واحد و الجميع يرجع إلى ذلك و هو ما يدلّ على إحكام أمر، و إتقانه و إنفاذه لجهة، قال اللّه تعالى: (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ

ص:184


1- - النجم: 1.
2- - الرحمن: 6.
3- - مجمع البيان: 5/330; الإتقان: 1/667، أخرجه عن الحسن و قتادة.
4- - الأنبياء: 87.
5- - القلم: 1.
6- - لاحظ الإتقان في علوم القرآن: 1/445.
7- - إنّ ابن فارس بطل في حلبة ردّ المعاني الفرعية إلى الأصلية، و كتابه» المقاييس «من أحسن الكتب، و يليه ما ألّفه الزمخشري باسم » أساس البلاغة «.

سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ )(1) أي أحكم خلقهن، و القضاء: الحكم، قال اللّه سبحانه في ذكر من قال: (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ )(2) أي اصنع و احكم، و لذلك سمّي القاضي قاضياً، لأنّه يحكم الأحكام و ينفذها، و سمّيت المنية قضاء لأنّها أمر ينفذ في ابن آدم و غيره من الخلق.

إلى أن قال: و كلّ كلمة في الباب فانّها تجري على القياس الذي ذكرناه، فإذا هُمز تغيّر المعنى، يقولون: القُضاة: العيب، يقال ما عليك منه قضاة، و في عينه قضاة: أي فساد.(3)

ص:185


1- - فصّلت: 12.
2- - طه: 72.
3- - لاحظ في ذلك المقاييس: 1005/99، مادة قضى.

الأمر الثاني عشر في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى

اشارة

كان البحث السابق يدور حول إمكان الاشتراك و عدمه، فإذا ثبت وجود اللفظ المشترك يقع الكلام في جواز استعماله في أكثر من معنى واحد.

و محلّ النزاع هو أن يكون كلّ من المعنيين ملحوظاً بحياله و استقلاله مثلما استعمل في واحد منهما، فخرجت الصورتان التاليتان عن محط النزاع:

أ. إذا استعمل في مجموع المعنيين، بحيث يكون كلّ منهما جزء المستعمل فيه، نظير العام المجموعي عند الأُصوليين.

ب. إذا استعمل في معنى جامع لكلا المعنيين، كما إذا استعمل في المسمّى بالعين الشاملة للذهب و الفضة، و الباكية و الجارية.

فإنّ هاتين الصورتين ليستا من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل الأُولى استعمال في معنى مركب من معنيين حقيقتين، كما أنّ الثانية استعمال في جامع المعنيين، و المستعمل فيه ذو أجزاء، و في الثانية ذو أفراد.

و على كلّ تقدير، فالظاهر من القدماء أنّ البحث في الجواز و عدمه بحث لغوي، و لكن الظاهر من المتأخرين أنّ البحث عقلي.

و لذلك

استدلّوا للامتناع العقلي بوجوه،

اشارة

نذكرها مع تحليلها.

ص:186

1. جواز الاستعمال رهن لفظ و لحاظ ثان

استدلّ المحقّق الخراساني على الامتناع بأنّ الاستعمال ليس مجرّد جعل اللفظ علامة للمعنى حتى يصحّ جعل اللفظ الواحد علامة لشيئين، بل الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى، فإذا كان فانياً في أحد المعنيين، فافناؤه في المعنى الثاني يحتاج إلى لحاظ اللفظ بغير اللحاظ الأوّل، و المفروض انتفاؤه، قال في» الكفاية «:

حقيقة الاستعمال ليس مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى، بل جعله وجهاً و عنواناً له، بل بوجه نفسه، كأنّه الملقى، و لذا يسري إليه قبحه و حسنه كما لا يخفى، و لا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك إلاّ لمعنى واحد، ضرورة انّ لحاظه هكذا في إرادة معنى، ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر، حيث إنّ لحاظه كذلك، لا يكاد يكون إلاّ بتبع المعنى فانياً فيه فناء الوجه في ذي الوجه و العنوان في المعنون، و معه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد، مع استلزامه للحاظ آخر، غير لحاظه كذلك في هذا الحال؟!(1)يلاحظ عليه: أنّه إن أُريد من الإفناء، المعنى الحقيقي بأن يتبدّل اللفظ إلى المعنى و تذهب فعلية اللفظ، فهو غير صحيح، و لا يلتزم به القائل، و إن أُريد أنّ الغرض الذاتي يتعلّق بالمعنى دون اللفظ، فالتالي غير ممتنع، إذ أي مانع من أن يتعلّق الغرض الذاتي بمعنيين و ينظر إليهما بلفظ واحد ملحوظ بلحاظ فارد.

2. اجتماع لحاظين آليّين في شيء واحد

استدلّ المحقّق العراقي بأنّ وضع اللفظ للمعنى ليس جعله علامة عليه

ص:187


1- - كفاية الأُصول: 1/54، المطبوع بحاشية المشكيني رحمه اللّه.

و لو بنحو التنزيل، بل هو جعل اللفظ مرآة تحكي المعنى و تصوره للسامع، و استعمال اللفظ في المعنى هو فعلية كون اللفظ الموضوع مرآة و حاكياً. و بما أنّ المرآة ملحوظة حين استعمالها باللحاظ الآلي، فيلزم من استعمال اللفظ الواحد في معنيين أو أكثر، أن يلحظ ذاك اللفظ الواحد، في آن واحد، بلحاظين آليينَ و حينئذٍ يجتمع اللحاظان في واحد شخصي.

نعم لو كانت حقيقة الوضع هو العلامة، فلا مانع من كون شيء واحد علامة لشيئين.(1)

و الفرق بين تقريري الأُستاذ) الخراساني (و التلميذ) العراقي (، انّ تقرير الأُستاذ يركز على لزوم وجود لفظ و لحاظ آخر باعتبار انّ الاستعمال إفناء للّفظ، و لا بدّ في الاستعمال في المعنى الثاني من لحاظ و لفظ و استعمال آخر.

و هذا التقرير يركز على استلزام الاستعمال اجتماع لحاظين آليين في شيء واحد.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبني على أنّ تعدّد اللحاظ في المعنيين يلازم تعدده في اللفظ المستعمل فيها، و لكن الظاهر أنّه لا ملازمة بين تعدّد اللحاظ في المعنى، و تعدّده في اللفظ، و ذلك لأنّ كلاً من المعنيين تعلّق به الغرض الذاتي فيكون كلّ منهما ملحوظاً على وجه الاستقلال، بخلاف اللفظ فانّه متعلّق بالغرض تعلقاً آلياً، فيكفي في مقام استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى، تصوّر المعنيين مستقلاً أوّلاً، ثمّ الانتقال منهما إلى اللفظ ثانياً، و الانتقال منه إلى المعنيين ثالثاً.

3. اجتماع لحاظين مستقلين في صقع النفس

استدلّ المحقّق النائيني على الامتناع بأنّ لازم استعمال اللفظ في المعنيين

ص:188


1- - بدائع الأفكار: 1/146، و ما أفاده تعبير آخر عما في» الكفاية «.

على نحو الاستقلال، تعلّق اللحاظ الاستقلالي بكلّ واحد منهما في آن واحد، كما إذا لم يستعمل اللفظ إلاّ فيه، و من الواضح أنّ النفس لا تستطيع أن تجمع بين اللحاظين المستقلين في آن واحد.(1)

و هذا التقرير يغاير التقريرين السابقين، فانّ الأوّل كان يركّز على أنّ الاستعمال رهن لحاظ ثان و هو غير موجود، كما أنّ الثاني يركز على أنّ لازم الاستعمال اجتماع لحاظين آليين في شيء واحد.

و هذا التقرير يركز على أنّ النفس ليس بمقدورها ملاحظة معنيين بحيالهما و استقلالهما.

يلاحظ عليه: أنّ الممتنع هو اجتماع لحاظين مستقلين في آن واحد في معنى واحد، لأنّه أشبه باجتماع المثلين.

و أمّا تعلّق اللحاظين المستقلين بمعنيين في آن واحد كما في المقام فليس يمتنع، و الشاهد على ذلك انّ النفس تستخدم العين و السمع و الذائقة و الشامة في آن واحد و يكون مدركات كلّ منها ملحوظة بالاستقلال أيضاً.

4. إيجاد ماهيتين مختلفتين بوجود واحد

استدلّ المحقّق الاصفهاني في تعليقته بأنّ حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ، حيث إنّ وجود اللفظ في الخارج، وجود لطبيعي اللفظ بالذات،) تكويناً (و وجود لطبيعي المعنى بالجعل و المواضعة و التنزيل، لا بالذات، و لا يعقل أن يكون وجود واحد وجوداً لماهيتين بالذات، و حيث إنّ الموجود الخارجي ) اللفظ (بالذات واحد، فلا مجال لأن يقال: انّ وجود اللفظ وجود لهذا المعنى

ص:189


1- - المحاضرات: 1/217 و لاحظ أجود التقريرات: 1/51 و المذكور في الثاني لا يخلو من إجمال.

خارجاً، و وجود آخر لمعنى آخر، حيث لا وجود آخر حتى ينسب إلى الآخر بالتنزيل، و ليس الاستعمال إلاّ إيجاد المعنى بنحو وجوده اللفظي خارجاً، و قد عرفت أنّ الإيجاد و الوجود متحدان بالذات و حيث إنّ الوجود واحد فكذا الإيجاد.(1)

و حاصل ما أفاده يرجع إلى أمرين:

1. اللفظ وجود تنزيلي للمعنى، فإذا صار وجوداً لأحد المعنيين، فلا وجود آخر له.

2. الوجود و الإيجاد واحد بالذات، و الاختلاف بالاعتبار، فإذا كان وجود اللفظ واحداً بالذات، فليكن إيجاداً كذلك، لتفرّع الإيجاد على الوجود في الوحدة و الكثرة.

يلاحظ عليه: أنّ أساسه خلط الاعتبار بالتكوين، فانّ الإيجاد التكويني لا يتعلّق إلاّ بماهية واحدة دون ماهيتين، و أمّا الإيجاد الاعتباري فلا دليل على أنّه كذلك، إذ أيّ مانع من فرض اللفظ وجوداً لكلّ من المعنيين في وعاء الاعتبار، و هل هذا إلاّ إجراء حكم التكوين على الاعتبار؟ أضف إلى ذلك أنّه لا دليل على أنّ اللفظ إيجاد للمعنى، بل وسيلة للالتفات إلى المعنى، فاستعمال اللفظ أشبه بكونه سبباً للانتقال إلى المعنى.

إلى هنا تبيّن أنّه لا دليل على امتناع الاستعمال، لكن يقع الكلام في وجود المانع من جانب الواضع و عدمه، فلو كان هناك مانع فإنّما هو من ناحية الوضع.

ص:190


1- - نهاية الدراية: 1/64.

المانع من جهة الوضع

ذهب المحقّق القمي إلى أنّ المانع هناك وضعي لا عقلي و هو أنّ الواضع وضع اللفظ للمعنى في حال الوحدة فلا يجوز استعمال المفرد في غير حال الانفراد لا حقيقة و لا مجازاً، أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فلانّه لم تثبت الرخصة في هذا النوع من الاستعمال.(1)

يلاحظ عليه: أنّ اللفظ و إن وضع للمعنى حال الوحدة لكن القيد) حال الوحدة (ليس قيداً للموضوع له و لا قيداً للوضع فلا يكون مانعاً من الاستعمال.

فإن قلت: إنّ الوحدة و إن لم تكن قيداً لواحد منهما لكن الوضع لم يتحقّق إلاّ في هذه الحالة فكيف يستعمل في غيرها؟ قلت: إنّ الضيق الذاتي إنّما يكون مانعاً إذا كان الاستعمال بملاك وضع واحد، و أمّا إذا استعمله بملاك وضعين فلا يكون مثله مانعاً عن الاستعمال.

و الحاصل: أنّ كون المعنى موضوعاً له في حال الوحدة لا يكون مانعاً من استعماله في أكثر من معنى واحد و إلاّ يرجع إلى كونه قيداً لأحدهما و المفروض عدمه.

ثمّ أدلّ دليل على إمكانه هو وقوعه، فقد قام أحد المعنيين بالأدب العربي(2) بجمع شواهد على تحقّق استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى، و نحن نقتصر على شيء قليل.

يقول الشاعر في مدح النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (:

المرتمي في الدجى، و المبتلى بعمى و المشتكي ظمأ و المبتغي دينا

ص:191


1- - قوانين الأُصول: 1/63، طبعة تبريز عام 1315 ه.
2- - المحقّق أبو المجد الشيخ محمد رضا الاصفهاني في كتاب» وقاية الأذهان «.

يأتون سدّته في كلّ ناحية و يستفيدون من نعمائه عيناً

فاستعمل الشاعر لفظ» العين «في الشمس، و البصر، و الماء الجاري، و الذهب حيث إنّ المرتمي » المرميّ «في الدجى، يطلب الضياء، و المبتلى بالعمى يطلب العين الباصرة، و الإنسان الظمآن يريد الماء، و المستدين يطلب الذهب.

بقيت هنا أُمور:

الأوّل: لو قلنا بجواز استعمال اللفظ في الأكثر فالظاهر أنّه حقيقة في المفرد و المثنى و الجمع،

لما عرفت من أنّ محط النزاع استعمال اللفظ في كلّ واحد من المعنيين مستقلاً، بالنظر إلى الوضعين لا في مجموع المعنيين على نحو التركيب و لا في الجامع بين المعنيين و قد عرفت أنّ الوحدة ليست قيداً للوضع و لا للموضوع له.

نعم ذهب صاحب المعالم إلى أنّ استعمال المفرد في الأكثر مجاز، و استعمال غيره كالتثنية و الجمع في الأكثر حقيقة.

أمّا الأوّل، فلاستلزامه سقوط قيد الوحدة المأخوذ في الموضوع له; و أمّا الثاني، فلأنّ التثنية بمنزلة تكرير اللفظ، فكأنّك نطقت بلفظين، و استعملت كلاً في معنى خاص.

و ما ذكره غير تام، أمّا في المفرد فلما عرفت من أنّ الوحدة ليست قيداً لا في الوضع و لا في الموضوع له.

و أمّا الثاني أي استعمال التثنية و الجمع في أكثر من معنى حقيقة، فلأنّ الظاهر أنّ الهيئة فيهما تدل على تعدد ما أُريد من المفرد، فلو أُريد من المفرد أحد المعاني فيدلّ على الفردين منه، و عندئذ لا يكون من قبيل استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى، و إن أريد منه أكثر من معنى واحد فالهيئة تدل على الفردين

ص:192

من كلّ من المعنيين، كفردين من العين الجارية و فردين من العين الباكية، و لا يكون الاستعمال حقيقة أيضاً على مبناه، لاستلزامه حذف الوحدة الملحوظة.

و حاصل الكلام: انّ الاستعمال على وجه يكون حقيقة و لا يكون من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى، و على فرض آخر يكون من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى، و لكن لا يكون الاستعمال حقيقة على مبناه.

الثاني: إذا ثبت جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فهل يحمل المشترك على جميع المعاني عند عدم قرينة على واحد منها، أو لا؟

ذهب المحقّق البروجردي إلى الأوّل، قائلاً بأنّه حقيقة في الجميع فمقتضى أصالة الحقيقة في الاستعمالات حمله على الجميع.

يلاحظ عليه: أنّ المتَّبَع في الكلام هو الظهور العرفي، حتى أنّ العمل بأصالة الحقيقة، لأجل كون المجاز خلاف الظاهر المتبادر، و لا شكّ أنّ المتبادر هو إرادة واحد من المعاني لا أكثر، لأنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى نادر، فلا يصار إليه إلاّ أن يدلّ عليه دليل.

الثالث: هل يجوز استعمال اللفظ الواحد في المعنى الحقيقي و المجازي معاً؟

الظاهر أنّه لا يوجد مانع عقلي و لا قانوني، نعم ربما يقال بامتناعه، لأنّ استعماله في المعنى الموضوع له يصيّره حقيقة، و استعماله في الوقت نفسه في غير الموضوع له يصيّره مجازاً، و المجاز و الحقيقة متضادان لا يجتمعان.

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره إنّما يتم في الأعراض المتأصلة كالسواد و البياض دون الأُمور الاعتبارية كالحقيقة و المجاز. و لا مانع من وصف الاستعمال الواحد حقيقة باعتبار، و مجازاً باعتبار آخر.

ص:193

الرابع: قد ورد في الروايات أنّ للقرآن تنزيلاً و تأويلاً، و أنّ لآياته ظهراً و بطناً،
اشارة

فربّما استدلّ القائل بجواز استعمال المشترك في معنيين بهذه الروايات بذريعة أنّ التأويل غير التنزيل، و البطن غير الظهر.

و لكن الظاهر انّه لا صلة لهذه الروايات بمحل النزاع، و إليك التفصيل.

أمّا التأويل فيستعمل في موردين:

الأوّل: تأويل خصوص المتشابه.

الثاني: تأويل الآيات القرآنية.

أمّا الأوّل فقد أشار إليه سبحانه بقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ ).(1)

فالتأويل من آل، يؤول: رجع و يرجع في هذه الآية بمعنى إرجاعها إلى ما هو المراد الواقعي، فانّ للآيات المتشابهة ظهوراً غير مستقر، فالذين في قلوبهم زيغ يتبعون الظهور المتزلزل ابتغاء الفتنة، و أمّا غيرهم فيتأمّلون فيها و يرجعون الآية في ظل الآيات المحكمة إلى ما هو المراد واقعاً و يستقر بذلك ظهورها.

مثلاً قد وردت آيات حول صفاته سبحانه التي تسمّى بالصفات الخبرية كاليد و الوجه و العين، و الاستواء على العرش، إلى غير ذلك من الآيات التي لها ظهور بدوي و هو ظهور غير مستقر، و ظهور نهائي و هو ظهور مستقر.

أمّا الظهور البدوي فهو أنّ للّه سبحانه أعضاء كأعضاء الإنسان، و استقراراً على العرش كاستواء الإنسان على السرير.

ص:194


1- - آل عمران: 7.

و أمّا الظهور المستقر فهو ما يتبادر من الآية بعد الإمعان في القرائن الحافّة بها، بضميمة الرجوع إلى الآيات المحكمة التي هي كالقرائن المنفصلة بالنسبة إلى الآية، و على ذلك فالمراد من التأويل الذي هو مصدر باب التفعيل، بمعنى إرجاع الآية إلى ما هو المقصود بالتأمل في القرائن و الشواهد المتصلة و المنفصلة.

و من القول الخطأ تفسير التأويل بمعنى حمل الآية على خلاف ظاهرها، لأجل مخالفتها لحكم العقل أو الحكم القطعي من الشارع فيؤوّل أي يصرف إلى خلاف ظاهرها بغية الجمع بين مفاد الآية و حكم العقل أو الآيات الأُخرى.

وجه الخطأ: انّ التأويل بهذا المعنى مصطلح جديد للمفسرين و الأُصوليّين و ليس له أثر في كتب اللغة، و حاشا أن توجد في القرآن آية مخالفة لحكم العقل، أو الحكم القطعي في الشرع حتى يصرف إلى خلاف ظاهرها، فما يتبادر من المخالفة كما في مورد الصفات الخبرية فإنّما هي مخالفة بدوية و ظهور غير مستقر، و أمّا الظهور المستقر للآية فلا يكون مخالفاً لسائر الأدلة، و لأجل المزيد من الإيضاح نأتي بمثال يرجع إلى استعمال اليد في الآيات:

1. يقول سبحانه (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ).(1)

فنقول: إنّ اليد في الآية استعملت في العضو المخصوص و لكن كُنِّي بها عن الاهتمام بخلقة آدم حتى يتسنّى بذلك ذم إبليس على ترك السجود لآدم، فقوله سبحانه: (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) كناية عن أنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتى يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له، بحجّة أنّه لا صلة له بي، مع أنّه موجود خلقتُه بنفسي، و نفخت فيه من روحي، فهو مخلوقي الذي قمت

ص:195


1- - ص: 75.

بخلقه، فمع ذلك تمرّدتَ عن السجود له.

فأُطلقت الخلقةُ باليد و كُنّي بها عن قيامه سبحانه بخلقه، و عنايته بإيجاده، و تعليمه إيّاه أسماءه، لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد، يقول: هذا ما بنيته بيدي، أو ما صنعته بيدي، أو ربّيته بيدي، و يراد من الكل هو القيام المباشري بالعمل، و ربّما استعان فيه بعينه و سمعه و غيرهما من الأعضاء، لكنّه لا يذكرها و يكتفي باليد. و كأنّه سبحانه يندد بالشيطان بأنّك تركتَ السجود لموجود اهتممت بخلقه و صنعه.

2. (أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ )(1) فالمجسّمة المتعبّدة بظواهر النصوص البدوية تستدلّ بالآية على أنّ للّه سبحانه أيدي يقوم بها بالأعمال الكبيرة، و لكنّ المساكين اغترّوا بالظهور التصوريّ و لم يتدبّروا في الظهور التصديقي، أخذوا بالظهور الجزئي دون الجُملي، فلو كانوا ممعنين في مضمون الآية و ما احتفّ بها من القرائن، لميّزوا الظهور التصديقي الذي هو الملاك لتحديد مفاد الآية عن غيره، فإنّ الأيدي في الآية كناية عن تفرّده تعالى بخلق الأنعام و انّه لم يشاركه أحد فيها، فهي مصنوعة للّه تعالى و الناس ينتفعون بها، فبدل أن يشكروا، يكفرون بنعمته، و أنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي، و المدار في الموافقة و المخالفة هو الظهور التصديقي لا التصوري.

قال الشريف المرتضى(2): قوله تعالى: (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) جار مجرى قوله:» لما خلقت أنا «و ذلك مشهور في لغة العرب. يقول أحدهم: هذا ما كسبتْ يداك،

ص:196


1- - يس: 71.
2- - أمالي المرتضى: 1/565.

و ما جرت عليك يداك. و إذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضرب من الكلام فيقولون: فلان لا تمشي قدمه، و لا ينطق لسانه، و لا تكتب يده، و كذلك في الإثبات، و لا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة، بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل.

3. قال سبحانه: (وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ )(1) فاليد و إن كانت ظاهرة في العضو الخاص لكنّها في الآية كناية عن القوة و الإحكام بقرينة قوله: (وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ ) و كأنّه سبحانه يقول: و السماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها و إنّا لذو سعة في القدرة لا يعجزها شيء، أو بنيناها بقدرة عظيمة و نوسعها في الخلقة.

(2)إلى هنا خرجنا بالنتائج التالية:

1. انّ اللازم في الصفات الخبرية، أعني اليد و الرجل و العين و الاستواء، هو تحصيل الظهور التصديقي لا التصوّري، و الظهور الجملي لا الجزئي، فعندئذ يتعبّد به و لا يعدل عنه. و لا يحتاج إلى حمل الظاهر على خلافه.

2. انّ اليد في الآيات الثلاث، إمّا كناية عن قيام الفاعل بالفعل مباشرة لا باستعانة من الغير كما في الآيتين الأُوليين، أو كناية عن القدرة الخارقة.

3. حمل الآية على خلاف ظهورها البدوي أمر لا مانع منه، لأنّ الظهور البدوي ليس بحجّة و مخالفته لا تعد خلافاً للحجة.

هذا كلّه حول تأويل المتشابه، و أمّا الثاني أي تأويل القرآن فهو في مقابل التنزيل، فللقرآن تنزيل و تأويل، فالمراد من التنزيل ما انطبقت الآية عليه وقت

ص:197


1- - الذاريات: 47.
2- - الكشاف: 3/21.

نزولها، و أمّا التأويل فالمراد هو المصاديق التي تتجدد للآية عبر الزمان، و ها نحن نستعرض المثالين التاليين:

1. يقول سبحانه: (وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ).(1)

نص القرآن الكريم بأنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (بشخصه منذر، كما نصّ بأنّ لكلّ قوم هاد، و قد قام النبي بتعيين مصداق الهادي في حديثه، و قال:» أنا المنذر و عليٌّ الهادي إلى أمري «.(2)

و لكن المصداق لا ينحصر بعلي، بل الهداة الذين تواردوا عبر الزمان هم المصاديق للآية المباركة، و لذلك نرى أنّ الإمام الباقر) عليه السلام (يقول:» رسول اللّه المنذر، و عليٌّ الهادي، و كلّ إمام هاد للقرن الذي هو فيه «.(3)

فالهداة المتواردون كلّهم تأويل للآية في مقابل التنزيل.

2. يقول سبحانه: (وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ).(4)

فهذه الآية تعطي ضابطة كلية في حقّ الناكثين للعهد الشرعي، قد احتجّ بها أمير المؤمنين) عليه السلام (في يوم الجمل، روي عن الإمام الصادق) عليه السلام (أنّه قال:» دخل عليّ أُناس من أهل البصرة، فسألوني عن طلحة و الزبير، فقلت لهم: كانا من أئمّة الكفر، انّ عليّاً يوم البصرة لمّا صفَّ الخيول، قال لأصحابه: لا تعجلوا على القوم حتى أعذِّر فيما بيني و بين اللّه عزّ و جلّ و بينهم، فقام إليهم فقال:

يا أهل البصرة هل تجدون عليّ جوراً في حكم اللّه؟

ص:198


1- - الرعد: 7.
2- - نور الثقلين: 2/482 و 485.
3- - نور الثقلين: 2/482 و 485.
4- - التوبة: 12.

قالوا: لا.

قال: فحيفاً في قسم) جمع القسمة (؟ قالوا: لا.

قال: فرغبت في دنيا أخذتها لي و لأهل بيتي دونكم، فنقمتم عليّ فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا.

قال: فأقمت فيكم الحدود و عطّلتها عن غيركم؟ قالوا: لا.

قال: فما بال بيعتي تُنكث، و بيعة غيري لا تُنكث؟ إنّي ضربت الأمر أنفَه و عينَه فلم أجد إلاّ الكفر أو السيف، ثمّ ثنى إلى أصحابه، فقال:

إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول في كتابه: (وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ).(1)

فقال أمير المؤمنين) عليه السلام (:» و الذي فلق الحبة و برأ النسمة و اصطفى محمداً بالنبوة انّهم لأصحاب هذه الآية و ما قوتلوا منذ نزلت «.(2)

ثمّ إنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (هو الذي سمّى هذا النوع من القتال حسب ما ورد في الرواية تأويلاً في مقابل التنزيل، فقال مخاطباً لعلىّ:» فتقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت معي على تنزيله، ثمّ تقتل شهيداً تخضب لحيتك من دم رأسك «.(3)

روى ابن شهرآشوب عن زيد بن أرقم، قال: قال النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (:» أنا أُقاتل على التنزيل، و عليّ يقاتل على التأويل «.(4)

ص:199


1- - التوبة: 12.
2- - نور الثقلين: 2/189; البرهان في تفسير القرآن: 2/106.
3- - بحار الأنوار: 40/1، الباب 91.
4- - المناقب: 3/218.

فهذا هو عمار قاتل في صفين مرتجزاً بقوله:

نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله(1)

فوصف جهاده في صفين مع القاسطين تأويلاً للقرآن الكريم.

و على ذلك فالمراد من البطن هو المصاديق المتجددة عبر الزمان، و التعبير بالسبعين كناية عن الكثرة.

منهج القرآن في الهداية

إنّ كثيراً من الآيات القرآنية نزلت في ظروف خاصة، غير أنّ مفادها لا يقتصر على هذه الظروف فحسب بل يعمّها و غيرها، فمثلاً قوله سبحانه:

(وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ).(2)

إنّ كثيراً من المشركين كانوا يرفضون رسالة النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (بذريعة أنّه) صلى الله عليه و آله و سلم (يأكل الطعام كسائر الناس، فأمرهم سبحانه أن يسألوا أهل الذكر عن الأنبياء السابقين، و انّهم هل كانوا على تلك الوتيرة أو على غيرها؟ فمورد السؤال هو ذاك، كما أنّ المراد من أهل الذكر علماء أهل الكتاب، و لكن مفهوم الآية و هو الرجوع إلى أهل الذكر في المشاكل العالقة عام لا يختص بأهل الكتاب و لا بمورد الآية، و لذلك فسّر أهل الذكر في بعض الروايات بأئمّة أهل البيت، و هو أيضاً من قبيل الجري، أعني:

تطبيق الكلي على أفضل أفراده، و لذلك يستدل بالآية على لزوم التقليد، لأنّه رجوع إلى أهل الذكر.

فالانتقال بالآية من مفادها الضيّق البدوي إلى هذا المعنى الوسيع تأويل

ص:200


1- - الاستيعاب: 2/472، المطبوع في حاشية الإصابة.
2- - النحل: 43 و الأنبياء: 7.

و بطن لها، و بذلك تستفيد الأُمّة من الآية حقائق و معاني كثيرة. و لا صلة للتأويل بهذا المعنى لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني فسّر التأويل و البطن بوجه آخر لا يخلو من إشكال و قد بين شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه إشكاله في الدورة السابقة فليُرجع إلى المحصول.

ص:201

الأمر الثالث عشر في المشتق

اشارة

اتّفقت كلمة علماء الأُصول على أنّ المشتق حقيقة في المتلبّس بالمبدإ، و مجازٌ فيما يتلبس به في المستقبل، و اختلفوا فيما انقضى عنه المبدأ،

و قبل الدخول في صلب الموضوع، نقدّم أُموراً:

الأوّل: تعريف المشتق

المشتق هو اللفظ المأخوذ من لفظ آخر، و يسمّى الأوّل فرعاً، و الثاني أصلاً، و لا بدّ بينهما من مناسبة حتى يتحقّق الأخذ و قد قسّموه إلى صغير و كبير و أكبر. لأنّ الفرع إمّا أن يشتمل على حروف الأصل و ترتيبه، فهو الأوّل، و إذا أطلق لا ينصرف إلاّ إليه. و إمّا أن يشتمل على حروفه دون ترتيبه، و هو الاشتقاق الكبير، كما قيل: إنّ» فسر «مأخوذ من سفر، و يقال:» أسفر النقاب «إذا رفع، و التفسير أيضاً رفع النقاب عن وجه المراد; و إمّا أن لا يشتمل على حروفه فضلاً عن ترتيبه و هو الأكبر كثلم و ثلب.(1)

ص:202


1- - لاحظ في الوقوف على تفصيل الأقسام: الفصول الغروية: 58 59.
الثاني: النزاع لغوي لا عقلي

الظاهر أنّ النزاع في المقام لغوي، و البحث في حدود الموضوع له، و انّ الواضع هل وضعه لخصوص المتلبّس بالمبدإ أو وضعه للأعم منه و ممن تلبّس به آناً ما و إن زال عنده؟ و الدليل على أنّه لغوي هو استدلال الطرفين بالتبادر و صحّة السلب و عدمه، و لو كان النزاع عقلياً لما كان لهذه الاستدلالات وجه، خلافاً لصاحب المحجة حيث ذهب إلى أنّ النزاع عقلي، و انّه لا خلاف في المفهوم و المعنى، بل الاختلاف في الحمل، فانّ القائل بعدم صحّة الإطلاق على من انقضى عنه المبدأ يرى وحدة سنخ الحمل في المشتقات و الجوامد، فكما لا يصحّ إطلاق الماء على البخار بعد ما كان ماءً، كذلك لا يصحّ إطلاق المشتق على ما زال عنه المبدأ بعد تلبّسه به، و القائل بصحّته يدّعي تفاوت الحملين، فانّ الحمل في الجوامد» حمل هو هو «، فلا يصحّ أن يقال للهواء ماء، و الحمل في المشتقات» حمل ذي هو «و» حمل انتساب «و يكفي في الانتساب مجرّد الخروج من العدم إلى الوجود فيصحّ الحمل على المتلبّس و من انقضى عنه المبدأ.

حاصله: انّ المفهوم واحد عند الطرفين، و القائل بالمجازية يدّعي كون الحمل في الجامد و المشتق حمل مواطاة، و القائل بالحقيقة يقول إنّ الحمل في الجامد مواطاة و في المشتق» حمل ذي هو «.

يلاحظ عليه: أنّه لا معنى للنزاع في صحّة الإطلاق و عدمه عقلاً إذا تسالموا على المفهوم، و المعنى بداهة بطلان عدِّ ما كان واجداً للمبدإ ثمّ صار فاقداً، من مصاديقه بحسب نفس الأمر، لأنّ الصدق و الجري يدور مدار الواجدية و معه لا وجه له.

ص:203

الثالث: المشتق بين الأُدباء و الأُصوليين

قد عرفت معنى المشتق عند الأُدباء، و هو أخذ اللفظ من لفظ آخر، و أمّا المشتق في لسان الأُصوليين فهو عبارة عمّا يجري على الذوات باعتبار كونها واجدة للمبدإ و اتحادها معه بنحو من الاتحاد.

و بذلك يعلم أنّ النسبة بينهما عموم و خصوص من وجه، فالأفعال قاطبة ماضيها و مستقبلها و أمرها، و إن كانت مشتقة عند الأُدباء لكنّها خارجة عن تعريف المشتق عند الأُصوليين، لأنّ الأفعال تدلّ على قيام مبادئها بالذات، قيام صدور أو حلول أو طلب فعل أو طلب ترك، و لا تدل على وصف الذات بها، و نظير الأفعال المصادر المجرّدة و المزيدة لعدم جريها كالأفعال على الذوات بنحو الهوهوية، بل هي تدل على نفس المبادئ.

كما أنّ بعض الجوامد الذي يجري على الذوات، و ينتزع منه باعتبار اتحاده بالمبدإ كالزوج و الرق و الحرّ، داخل في تعريف المشتق عند الأُصوليين و خارج عن تعريف المشتق عند الأُدباء.

و أمّا الاجتماع فيصدقان جميعاً على أسماء الفاعلين و المفعولين و أسماء الزمان و المكان، و أسماء الآلة و الصفات المشبهة و صيغ المبالغة، لوجود الملاك في الجميع و هو: انتزاعها من الذات و حملها عليه.

و بالجملة: الميزان وجود ذات و مبدأ قائم بها، من غير فرق بين القيام الصدوري و الحلولي، أو كون المبدأ فعلاً، أو حرفة، أو ملكة، كما لا فرق بين النسب، أي النسبة القائمة بين الصفات و الذات، سواء أ كانت النسبة ثبوتية، أو تجددية، أو وقوعاً عليه، أو وقوعاً فيه، أو وقوعاً به، أو غير ذلك ممّا يجده الإنسان في أسماء الفاعل و المفعول و الزمان و المكان و الآلة و الصفة.

ص:204

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أيّد كون ملاك البحث أعمّ من المشتق عند الأُدباء و انّه يعمّ بعض الجوامد كالزوج للفرع الذي طرحه صاحب الإيضاح فيمن كان له زوجتان كبيرتان ارضعتا زوجته الصغيرة، قال:

تحرم الأُولى و الصغيرة، و أمّا الثانية فحرمتها و عدمها مبنيّة على كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس، أو كونه حقيقة في الأعمّ منه و ممن انقضى عنه المبدأ، فإن قلنا بالأوّل، لم يصدق على الثانية انّها أُمّ زوجته، بل هي أُمّ البنت، و ليست أُمّ البنت محرّمة، و إن قلنا بالأعمّ، يصدق أنّها أُمّ من كانت زوجته سابقاً.(1)

ثمّ إنّ الكلام يقع في تحريم المرتضعة أوّلاً، و الكبيرة الأُولى ثانياً، و الكبيرة الثانية ثالثاً.

أمّا المرتضعة، فلا شكّ أنّها تحرم على الزوج إذا كان اللبن له، إذ حينئذ تكون الزوجة الصغيرة المرتضعة، بنته الرضاعية، و البنتية و الزوجية غير مجتمعتين.

نعم لو كان اللبن لزوجها السابق الذي خرج عن حبالتها و تزوّجت بالثاني، تكون المرتضعة عندئذ ربيبة رضاعية للزوج الثاني، و حرمتها مبنية على حرمة الربيبة النسبية إذا تأخرت ولادتها، كما إذا طلّقها الزوج و تزوّجت بآخر و أنجبت بنتاً فلو قلنا بحرمة المتأخّرة للزوج الأوّل فتعمّ الحرمة البنت الرضاعية المتأخّرة في المقام أخذاً بقوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

و أمّا الكبيرة فقد اتّفقت كلمتهم على بطلان زوجيتها، لأنّها صارت أُمّ الزوجة مع أنّها كالكبيرة الثانية لا تحرم إلاّ على القول بوضع المشتق للأعم لا لخصوص المتلبس فلا خصوصية للأُولى في ذلك.

بيان ذلك بوجهين:

ص:205


1- - إيضاح الفوائد في شرح القواعد: 3/52.

الأوّل: انّ المتضائفين متكافئان قوّة و فعلاً، و لا يمكن التفكيك بينهما، وعليه فبنتية المرتضعة و أُمومة المرضعة متضايفتان، لأنّه عند ما صارت المرضعة أُمّاً صارت المرتضعة بنتاً، فهي أُمّ البنت، لا أُمّ الزوجة، و إلاّ لزم تفكيك أحد المتضائفين) الأُمومة (عن الآخر) البنتية (.

الثاني: إنّ زوجية المرتضعة و بنتيتها، متضادتان شرعاً، فمرتبة البنتية، مرتبة زوال الزوجية، و المفروض أنّها أيضاً مرتبة حصول الأُمومة، فينتج أنّ مرتبة الأُمومة، مرتبة زوال الزوجية فليس لنا زمان و لا مرتبة تضاف فيه الأُمومة إلى الزوجية.

و حاصل التقرير الأوّل: أنّ صدق الأُمومة على الكبيرة، و الزوجية على الصغيرة غير معقول، لعدم صحّة انفكاك أحد المتضائفين) الأُمومة (عن المتضائف الآخر) البنتية (.

و حاصل التقرير الثاني: أنّ مرتبة حصول البنتية و الأُمومة، مرتبة زوال الزوجية، فكيف تكون أُمّاً للزوجة بل تكون أُمّاً للبنت، و أُمّ البنت ليست من المحرمات.

هذا هو الإشكال، و انّ المرضعتين في الحكم على حد سواء، و حرمة الكل مبنيّة على كون المشتق حقيقة فيمن انقضى عنه المبدأ.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر أجاب عن الإشكال بما هذا لفظه: من أنّ صدق البنتية للمرتضعة و زوال زوجيتها، و أُمومة المرضعة الأُولى، متّحدات في الزمان، فآخر زمان الزوجية متصل بأوّل زمان حدوث الأُمومة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الاكتفاء بهذا المقدار، خلاف منصرف العمومات، فانّ الظاهر من» أُمّهات نسائكم « أن تكون المرأة أُمّاً حقيقة أو تنزيلاً لزوجة فعلية، و أمّا الأُمومة المقارنة لآخر جزء الزوجية الزائلة، فليست داخلة تحتها.

ص:206


1- - الجواهر: 33029/329.

و الأولى أن يقال انّ التفريق بين المرضعتين لأجل النصّ الخاص، و ذلك لمعتبرة علي بن مهزيار عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: قيل له: انّ رجلاً تزوج بجارية صغيرة، فأرضعتها امرأته، ثمّ أرضعتها امرأة له أُخرى.

فقال ابن شبرمة: حرمت عليه الجارية و امرأتاه، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» أخطأ ابن شبرمة، تحرم عليه الجارية و امرأته التي أرضعتها أوّلاً، فأمّا الأخيرة فلم تحرم عليه، كأنّها أرضعت ابنته «.(1)

و لعلّ الرواية تؤيد ما ذكره صاحب الجواهر من أنّه يكفي صدق الأُمومة عند زوال الزوجية. و ذلك من خلال انّ حكم التفصيل بين المرضعتين، مقتضى القاعدة: دخول الأُولى تحت الآية دون الثانية، و لا وجه لهذا الاستظهار إلاّ إذا قلنا بمقالة صاحب الجواهر.

الأمر الرابع: في دخول أسماء الزمان في محط النزاع

ربّما يتوهم خروج أسماء الزمان عن حريم النزاع كالمضرب إذا أُريد منه زمان الضرب، إذ لا يتصور له إلاّ قسم واحد و هو الذات المتلبّسة بالمبدإ، أي الزمان الذي وقع فيه الضرب، و أمّا القسم الآخر، أعني: ما انقضى عنه المبدأ فلا يتصوّر في الزمان، لأنّ الذات في اسم الزمان كالمضرب و المقتل هو الزمان و هو ليس شيئاً باقياً بل هو أمر منقض جزءاً فجزءاً.

و قد أجاب عنه في» الكفاية «بأنّ انحصار مفهوم في فرد لا يلازم وضع اللفظ لهذا الفرد كما في لفظي الإله(2) و الواجب، فهما كليان مع أنّ المصداق

ص:207


1- - الوسائل: 14، الباب 14 من أبواب الرضاع، الحديث 1.
2- - و في المصدر لفظ الجلالة، و الظاهر انّه علم للذات الجامعة لصفات الجلال و الكمال، و لم يقل أحد بكونه كلياً و إنّما قال به من قال في لفظ الإله.

منحصر في واحد.

يلاحظ عليه: بوجود الفرق بين اسم الزمان و ذينك اللفظين، فانّ انحصار اسم الزمان في مصداق واحد، أعني: المتلبس أمر تدركه عامّة الناس، و هذا بخلاف انحصار الإله و الواجب في فرد، فهو ليس بهذا الوضوح، و لذلك ذهبت الثنوية إلى تعدد الإله و الواجب.

أضف إلى ذلك أنّ عطف» الواجب «على الإله غير تام، لعدم انحصار الثاني بفرد خاص، بل هو يعم الواجب بالذات و الواجب بالغير، و الواجب بالقياس إلى الغير كالمتضايفين، فانّ وجود الأب واجب بالقياس إلى الابن و بالعكس.

و قد أجاب المحقّق النائيني عن التوهّم بأنّه لو كان الزمان المأخوذ فيها، شخص ذاك اليوم بعينه لا كليه فللتوهم المذكور مجال، لكن كون المأخوذ فيها هو الشخص، في حيّز المنع، بل الظاهر أنّه الكلي.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه لو كان الإشكال منصبّاً على صدق عنوان المقتل على اليوم الثاني أو الثالث من السنة الثانية و الثالثة كان لما ذكره وجه، و هو أنّ المقتل اسم كلي له مصاديق متعددة عبر الزمان حسب السنوات، غير أنّ الإشكال منصبّ على صدقه في نفس اليوم الأوّل بعد طروء القتل، فانّ المقتل عبارة عن الزمان الذي وقع فيه القتل و هو جزء من اليوم، مع أنّه يطلق على جميع الأجزاء.

و ثانياً: انّ المقتل و إن كان كلّياً، لكنّه بعد انطباقه على اليوم المعيّن تشخّص الكلي في ضمن ذلك الفرد، فصار ذلك اليوم) اليوم العاشر من محرم عام 61 ه (مصداقاً لمقتل الحسين) عليه السلام (فقط فلا يكون له مصداق آخر.

ص:208


1- - أجود التقريرات: 1/56.

و الصحيح أن يقال: انّ لكلّ شيء بقاءً بحسبه، فالأشياء المادية على أقسام ثلاثة، و لكلّ بقاء عند العرف:

1. الجوامد، كالإنسان و الفرس.

2. الزمانيات كالتكلم و سيلان الماء.

3. الزمان كاليوم و الليل.

و لا شكّ أنّ للقسم الأوّل بقاء حسب الحسّ، فزيد اليوم هو نفس زيد في الأمس أو الغد.

و أمّا القسم الثاني فمع أنّ الإنسان يحس زواله و عدم بقائه، و مع ذلك يفترض الإنسان له بقاءً كسيلان الماء و نبعه فانّ له ابتداء و انتهاء، و للتكلم مبدأ و منتهى، فيتلقاها العرف أمراً واحداً ثابتاً، و مثله الزمان كاليوم فانّه له مبدأ بطلوع الشمس و بقاءً إلى غروبها عند العرف مع أنّ أجزاءه غير مجتمعة، فإذا وقع القتل في أوّل اليوم صحّ إطلاق المقتل إلى آخر اليوم لما عرفت من أنّ لليوم في نظر العرف بقاءً، و لذلك يقول: رأيته في أوّل اليوم أو وسطه أو آخره.

و أمّا صحّة إطلاقه بعد مضي سنة أو سنوات فلأجل اعتقاد الناس بعود الزمان بنفسه في ذلك اليوم و هم يرون اليوم في السنة الثانية نفس اليوم الماضي و عينه لا مثله. و لذلك يقولون اليوم مقتل الحسين) عليه السلام (.

ثمّ إنّه ربّما يتوهم أيضاً بخروج اسم المفعول عن حريم النزاع لا لأجل عدم بقاء ذاته على ما توهم في اسم الزمان، بل لأجل كونه متلبساً دائماً، فالشخص ما دام موجوداً يطلق عليه أنّه مضروب أو مقتول فتكون أسماء المفعولين خارجة عن محط النزاع.

يلاحظ عليه: أنّه يجب أن يُحدّد مفهوم المضروب، فلو أُريد منه المعنى

ص:209

الحدوثي التجددي فهو قابل للانقضاء، ففي الآن الذي وقع عليه الضرب هو مضروب دون الآنات المتتالية.

نعم لو أُريد منه المعنى الناعت و المعرّف كما يقال: علي قالع باب خيبر فلا يتصوّر فيه الانقضاء.

و بعبارة أُخرى: فهو بالمعنى الحدوثي يتصوّر له التلبس و الانقضاء، و بالمعنى الوصفي فهو متلبّس دائماً لا يتصوّر له الانقضاء.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني استثنى من محط البحث، ألفاظ العلة و المعلول و الممكن و الواجب و الممتنع، قائلاً: بأنّ منزلة هذه الألفاظ منزلة العناوين الذاتية كالإنسان، إذ لا يعقل بقاء الذات مع ذهاب الإمكان و إلاّ لزم انقلاب الممكن إلى الواجب و الممتنع.

يلاحظ عليه بوجهين: أوّلاً: أنّ ما ذكره إنّما يتم في العلل غير الاختيارية فلا يمكن ذهاب الوصف ) العلية (مع بقاء الذات، دون العلل الاختيارية فلا مانع من بقاء الذات و ازالة وصف العلية في العلل المختارة.

و ثانياً: أنّ ما ذكره إنّما يصحّ لو كانت هذه الألفاظ موضوعة بوضع خاص، فبما أنّه لا يتصور فيها الأعمية، فلا معنى للوضع بالأعم، و أمّا إذا كان الموضوع له هو الهيئة الكلية في أسماء الفاعلين و المفعولين من دون نظر إلى مادة، فعدم جريان النزاع في بعض الموارد لا يوجب عدم جريانه في الهيئة على الوجه الكلّي من دون نظر إلى مادة خاصّة، كما لا يخفى.

الأمر الخامس: في دلالة الأفعال على الزمان

المعروف بين الأُدباء أنّ الفعل يدلّ على الزمان، فالماضي يدل على تحقّق

ص:210

الحدث فيما سبق، و المضارع على تحقّقه فيما يأتي أو الحال، و صيغة الأمر تدلّ على الطلب في زمان الحال حتى أنّ ابن الحاجب عرّف الفعل بقوله: ما دلّ على معنى في نفسه مقترناً بأحد الأزمنة الثلاثة.(1)

و لكن المشهور بين الأُصوليين المتأخّرين عدم دلالته على الزمان، و استدلّوا عليه بوجوه غير تامّة، و إليك سردها:

الأوّل: انّ المادة في الأفعال تدلُّ على نفس الحدث، و الهيئة على نسبة الحدث إلى الفاعل، فما هو الدال على الزمان؟ يلاحظ عليه: بأنّ الدالّ عليه عند القائل بدلالة الفعل على الزمان هي الهيئة التي تدلّ على نسبة الحدث إلى الفاعل في زمان خاص كما سيوافيك بيانه.

الثاني: النقض بصيغة الأمر و النهي، فانّ مدلولهما إنشاء طلب الفعل أو الترك، غاية الأمر أنّ نفس الإنشاء بهما متحقّق في الحال و هو غير القول بدلالتهما عليه.

يلاحظ عليه: بوجود الفرق بين المقيس و المقيس عليه، فانّ الأفعال من قبيل الإخبار الملازم للزمان لكونه ينبئُ عن فعل محقّق أو سيتحقق في المستقبل، بخلاف الأمر و النهي فانّهما من مقولة الإنشاء، و لا يلازم مدلولُ الإنشاء الزمانَ.

أضف إلى ذلك انّ القائل بالفورية في كلتا الصيغتين يقول بدلالة الأمر و النهي على الزمان الحاضر.

الثالث: لو دلّ على الزمان لما صحّ اسناده إلى نفس الزمان، كما في قوله» مضى الزمان «و إلاّ لزم أن يكون للزمان زمان. و لما صحّ اسناده إلى المجرّد من دون فرق بين أن يكون المجرّد فاعلاً كما في قولك:» علم اللّه «، فانّ فعله فوق

ص:211


1- - شرح الكافية: للرضي: 1/11.

الزمان، أو مفعولاً كما في قولك» خلق اللّه الأرواح «.

يلاحظ عليه: أنّ ذلك إثبات اللغة بالبرهان، مع أنّ الوضع لا يقتضي أن يكون على وفقه، فالبرهان العقلي شيء و الوضع شيء آخر، فانّ الواضع لم يكن فيلسوفاً حتى يلتفت إلى هذه المحاذير و يضع الفعل للحدث المنتسب إلى الفاعل المجرّد عن الزمان حتى يصحّ اسناده إلى المجردات فاعلاً و مفعولاً، و المحذور المتوهم في المثال الأوّل ممّا يلتزم به العرف بشهادة أنّه يعتقد أنّ للزمان زماناً و يقول:» كان يوم، و لم يكن مع اللّه سبحانه شيء، ثمّ خلق السماوات و الأرض و الأيّام و الليالي «حتى أنّ هذا الزعم سرى إلى بعض المتكلّمين الذين أثبتوا لمجموع العالم حدوثاً زمانياً، فقالوا: كان زمان و لم يكن شيء سوى اللّه ثمّ خلق ما خلق.

و من هنا يعلم الحال في المثال الثاني، فإنّ قولنا» علم اللّه «يدلّ على الزمان و إن كان البرهان يقتضي كون فعله فوق الزمان بمعنى أنّ علمه سابق على الزمان أو أنّ فعله غير مقيّد به.

و أمّا قوله:» خلق اللّه الأرواح «فمعنى تجرّد الأرواح كونها غير متقيدة بالزمان و إن كانت غير خارجة عنه.

و الحاصل: انّ إثبات اللغة بالبراهين الفلسفية ليس طريقاً صائباً، فاللازم تحليل مسائل كلّ علم حسب الأُسلوب الخاص به.

الرابع: المضارع عندهم مشترك في الحال و الاستقبال و ليس بمشترك لفظي، و إلاّ لزم استعماله فيهما استعمالاً في أكثر من معنى واحد كما في قولنا:» يضرب زيد اليوم و غداً «، و لا معنوي لعدم الجامع بين الحال و الاستقبال لتباين أجزاء الزمان.

يلاحظ عليه: بأنّ الجامع بين الحال و الاستقبال أمر انتزاعي، و هو» ما لم

ص:212

يمض من الزمان «، و هو كاف في الوضع إذ يمكن به الإشارة إلى الموضوع له.

الخامس: انّ الماضي عندهم ربّما يستعمل فيما هو مستقبل حقيقة، و بالعكس، مثل قولك:» يجيئني زيد بعد عام، و قد ضرب قبله بأيّام «و قولك:» جاء زيد في شهر كذا، و هو يضرب في ذلك الوقت «أو» فيما بعده «أو» فيما مضى «.

يلاحظ عليه: أنّ الملاك في كون الشيء ماضياً أو مضارعاً، إمّا حال التكلّم أو الحدث الذي قورن به الكلام، و المثالان من قبيل الثاني لا الأوّل، فانّ الملاك هو المجيء و» ضرب زيد «ماض بالنسبة إليه، كما أنّ» ضربه «مضارع بالنسبة إليه فلا تعارض.

فهذه الأدلّة التي ذكر أكثرها المحقّق الخراساني في الكفاية لا تسمن و لا تغني من جوع.

و الحقّ أن يقال: أنّ الأفعال ماضيها و مستقبلها تدلّ على الزمان الماضي أو المستقبل بالدلالة الالتزامية، لا بالدلالة المطابقية و لا التضمنية.

و يعلم ذلك بملاحظة أمرين:

أ. لا يمكن لأحد أن يُنكر وجود الفرق بين قولنا: ضرب و يضرب، فانّ الأوّل يقارب من قولنا ضرب في الماضي مثلاً، و الثاني من قولنا يضرب في المستقبل.

هذا من جانب، و من جانب آخر أنّ الزمان ماضيه و مستقبله من المفاهيم الاسمية و لا معنى لأخذها في مداليل الهيئة التي هي من المفاهيم الحرفية.

فالأمر الأوّل يجرّنا إلى القول بدلالته على الزمان، و الأمر الثاني يصدّنا عن القول به، فالذي يمكن أن يقال: انّ المتبادر من الهيئة معنى ينبئُ عن صدور الحدث من الفاعل كما في الأفعال المتعدية، أو قيامه به كما في الأفعال اللازمة، أو

ص:213

ترقّب الصدور عن الفاعل أو ما يقرب من ذلك في الفعل المضارع، و من الواضح أنّ الإخبار عن التحقّق أو الترقّب يلازم دلالة الفعل على الماضي و الحال و المستقبل، فالقول بالدلالة صحيح إذا أُريد منه ما ذكرنا.

و إن شئت قلت: إنّ الهيئة موضوعة لسبق الحدث، أو لترقّب وقوعه، و السبق و الترقّب يلازمان الزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال.

نعم ليس المراد من وضع الهيئة على مفهوم التحقّق و السبق أو مفهوم الترقّب و اللحوق بصورة المعنى الاسمي حتى يقال: انّ الهيئة من الأدوات الحرفية فكيف تدل على المعنى الاسمي؟! بل المراد واقع السبق و حقيقته أو مصداقه، و هذا نظير ما يقال انّ لفظة» من «موضوعة للابتداء و انّ» إلى «موضوعة للانتهاء، فليس المراد انّهما موضوعان لمفهومهما الاسمي بل لواقعهما و مصداقهما و ما يعد ابتداءً و انتهاء في الخارج.

و ما ذكرناه هو خلاصة ما أفاده المحقّق الاصفهاني في تعليقته و السيّد الأُستاذ في درسه.

قال الأوّل: إنّ هيئة الماضي موضوعة للنسبة المتقيّدة بالسبق الزماني بنحو يكون القيد خارجاً و التقيّد داخلاً، و هيئة المضارع موضوعة للنسبة المتقيّدة بعدم السبق الزماني، لا أنّ الزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال أو غير الماضي بهذه العناوين الاسمية، مأخوذة في الهيئة كي يقال انّ الزمان عموماً و خصوصاً من المعاني المستقلة بالمفهومية فلا يعقل أخذها في النسبة التي هي من المفاهيم الأدوية.(1)

و الحاصل: انّ هنا دلالة واحدة و هي الدلالة على سبق الحدث أو ترقّب

ص:214


1- - نهاية الدراية: 1/75، ط عبد الرحيم، طهران.

حصوله، لكن العقل يحلّله إلى دلالات كثيرة، و هو أنّ هنا حدثاً و نسبة و فاعلاً و صدوراً سابقاً أو لاحقاً. كما هو الحال في قولنا باللغة الفارسية» زد «أو» مى زند 3 «.

الأمر السادس: ما هي مادة المشتقات؟
اشارة

لا شكّ انّ العارف باللغة يُحسّ أنّ هناك معنى سارياً في عامّة المشتقات بحيث إنّ المفاهيم المختلفة تطرأ على ذلك المعنى، و يصوّره بصور مختلفة، و هذا ما يسمّى بمادة المشتقات، فالهيئات تفيد معاني مختلفة لكن الجميع ينصبُّ على معنى واحد، فتارة يلاحظه صادراً عن الفاعل، و أُخرى واقعاً عليه، و ثالثة متحقّقاً في زمان و مكان، إلى غير ذلك من المعاني الطارئة، و هذا يدلّنا على أنّ في المشتقات مادة سيّالة متضمّنة معنى سارياً في عامّة الصحيح في جميع الصور.

و يؤيد ذلك أنّه كثيراً ما يعلم الإنسان مفهوم الهيئة و لكن يجهل بمفاد المادة، و هذا آية تعدد الوضع و انّ هناك شيئا موضوعاً لمعنى، و الهيئة موضوعة لمعنى آخر، و قد اختلفت كلمتهم في تعيين ما هي المادة السارية لهذه المشتقات الكثيرة إلى مذاهب:

الأوّل: انّ المصدر أصل، و الفعل و الوصف مشتقان منه، و هذا خيرة البصريين.

الثاني: انّ الفعل أصل، و المصدر مشتق منه، و هذا مذهب الكوفيين، و إلى المذهبين يشير ابن مالك في ألفيته، يقول:

المصدر اسم ما سوى الزّمان من مدلولي الفعل كامن من أمن

بمثله أو فعل أو وصف نصب و كونه أهلاً لهذين انتخب

الثالث: انّ المصدر أصل، و الفعل مشتق منه، و الصفات مشتقة من الفعل.

ص:215

الرابع: انّ كلاً من المصدر و الفعل أصل برأسه.(1)

و هناك مذهب خامس سيوافيك بيانه و هو خيرة السيّد الأُستاذ) قدس سره (.

وهم و إزاحة

إنّ بعض المتأخّرين من الأُصوليين نفوا كون المصدر أصلاً و مادة للمشتقات قائلين بأنّ الأصل يجب أن يكون محفوظاً في فروعه بمادته و هيئته مع أنّ هيئة المصدر مانعة من كونه أصلاً لسائر المشتقات، لعدم إمكان حفظ الهيئة فيها.

و بالجملة: انّ نسبة مادة المشتقات إليها كالمقسم بالنسبة إلى سائر الأقسام، فكما أنّه يشترط وجود المقسم في عامة الأقسام، فيجب وجود المصدر بهيئته و مادته في جميع المشتقات، و لكنّه أمر غير ممكن، لأنّ هيئة المصدر آبية عن انضوائها في هيئة أُخرى، فلا بد من إزالة الهيئة السابقة و هي لا تجتمع مع مبدئيتها للمشتقات.

يلاحظ عليه: بأنّه نشأ من قياس المبدأ في عالم الألفاظ بما هو المبدأ في عالم التكوين و الحقائق العينية، فانّ الهيولى الأُولى مادة الكون و هي عارية عن كلّ الفعليات حتى تصلح لئن تتعاقب عليها صور كثيرة، و أمّا المبدأ في عالم الألفاظ فلا دليل على لزوم كونه عارياً عن كلّ الخصوصيات، بل يكفي وجود سريان حروفه مع ترتيبها في عامة المشتقات.

فالمصدر أشبه بالمبدإ في التراكيب الصناعية، فانّ القطن يُعد مبدأ لكثير من الألبسة حيث إنّه مادة للخيط و الثياب، و النفط مادة للصناعات البلاستيكية

ص:216


1- - لاحظ شرح ابن عقيل: 4741/473.

مع أنّهما غير مأخوذتين بعامة الخصوصيات في فروعهما.

فإذا كان الحال كذلك في التراكيب الصناعية، فليكن كذلك في عالم الألفاظ فانّ المصدر لما كان أقل و أبسط من حيث المعنى عن سائر المشتقات، أخذ مبدأ لها، و أمّا لزوم حفظ عامّة خصوصيات المبدأ في الفروع فهو أشبه بلزوم ما لا يلزم.

فإن قلت: إنّ المصدر يشتمل على نسبة ناقصة، فهي تمتنع عن كون المصدر مادة المشتقات.

قلت: إنّ اشتمال المصدر على النسبة الناقصة لا يضرّ بالمقصود، لأنّها نسبة مبهمة قابلة لتوارد النسب المختلفة عليه.

نعم لو اشتمل على نسبة تامّة كالفاعلية أو المفعولية فهي تمنع عن التلوّن بألوان النسب.

فإن قلت: فعلى هذا فاسم المصدر أولى بأن يكون مادة المشتقات، لأنّه فاقد حتى نفس هذه النسبة الناقصة، و إنّما يدل على مجرّد الحدث.

قلت: إنّ اسم المصدر نادر الوجود فلا يكن اتخاذه مبدأ و مصدراً.

فإن قلت: لو كان للمادة وضع مستقل وراء وضع الهيئات، للزم تعدد الدلالة، و هو يستلزم تعدد المداليل، و هو لا يناسب بساطة المشتق الذي اتّفقت عليه كلمتهم في هذه الأعصار، على أنّ تعدد المداليل خلاف المتبادر في عامّة الصيغ.

قلت: إنّ وجود المادة لما كان مندكّاً في الهيئة و متحصلاً بتحصلها، و متحداً معها بنحو من الاتحاد، اندكت دلالتها في دلالة الهيئة، فصار اللفظ بهيئته و مادّته مفيداً لمعنى واحد.

ثمّ إنّ هيئة المصدر لما كانت مانعة عن كون المصدر مادة للمشتقات عند

ص:217

السيّد الأُستاذ) قدس سره (ذهب إلى أنّ المبدأ عبارة عن الحروف المترتبة مجرّدة عن كلّ هيئة، كحروف» ض، ر، ب «فهي موضوعة لنفس المعنى مجردة عن كلّ خصوصية و نسبة فاعلية أو مفعولية.

فإن قلت: إنّ اللفظ الموضوع لا بدّ و أن يكون قابلاً للتنطّق و التلفظ، و المادة العارية عن كلّ صورة غير قابلة له.

قلت: إنّ وضع المادة لما كان وضعاً تهيئياً لأن تتلبس بالهيئات الكثيرة من الماضي و المضارع، فلا يلزم أن تكون قابلة للتنطق.(1)

يلاحظ عليه: أنّ العرف العام لا يضع لفظاً لمعنى ما لم ينطق به فهو بالنطق به يضع اللفظ غالباً، و قد مرّ أنّ وضع غالب الألفاظ وضع تعيني لا تعييني، و وضع المادة بلا هيئة يحتاج إلى قدرة فكرية خارج عن إطار قدرة الواضع الساذج. و لذلك استقرّ نظره أخيراً على أنّ المصدر مادة المشتقات، لكن الهيئة غير دخيلة في المبدئيّة بل دخيلة في إمكان النطق به، و لو أمكن النطق به بلا هيئة لوضعها بلا هيئة، و على ذلك يصبح النزاع أشبه باللفظيّ.

الأمر السابع: التفصيل في بعض المشتقات و نقده

ربّما يفصل بين المشتقات فيتوهم أنّ بعضها حقيقة في المتلبّس و البعض الآخر في الأعم، و ذلك فيما لو كان المبدأ فيه حرفة أو قوّة أو ملكة فانّ المشتق يصدق مع عدم التلبّس بالمبدإ و ذلك كالكاتب و المثمر و المجتهد.

و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بما حاصله: أنّ اختلاف المشتقات في المبادئ و كون المبدأ في بعضها حرفة و صناعة، و في بعضها قوّة و ملكة، و في بعضها

ص:218


1- - تهذيب الأُصول: 1061/105.

فعلية، لا يوجب تفصيلاً في المسألة، بل يوجب طول التلبّس و قصره حسب اختلاف المبادئ، فلو كانت المادة فعلية يكون المتلبّس أقل مدّة مما إذا كانت المادة حرفة أو ملكة أو قوّة.

توضيح ذلك: أنّ المبدأ تارة يؤخذ على نحو الفعلية كقولنا قائم، و أُخرى على نحو الحرفة كقولنا تاجر، و ثالثة على نحو الصناعة كقولنا: حدّاد و نسّاج، و رابعة على نحو القوّة كالشجر المثمر، و خامسة على نحو الملكة كالطبيب و المجتهد، و سادسة على نحو الانتساب إلى الأعيان الخارجية كقولنا لابن و تامر.

فعند ذلك يختلف واقع التلبّس حسب اختلاف المبادئ، ففي القسم الأوّل: يشترط كونه واجداً للمبدإ فعلاً و لذلك لا يصدق القائم على القاعد.

و في الثاني و الثالث: يكفي اتخاذه حرفة و صنعة ما دام لم يعرض عنهما و إن لم يكن يمارس فعلاً.

و في الرابع: يكفي كونه واجداً لقوة الإثمار في مقابل فقدانها و إن لم يثمر الآن، فالشجرة الواجدة لتلك القوّة شجرة مثمرة حتى في أيام الشتاء. نعم لو زالت قوّة الاثمار لخرجت عن كونها مثمرة. و هكذا الأمر في الخامس و السادس، فما دام الطبيب و المجتهد يملكان ملكة الطبابة و الاجتهاد يصدق عليهما أنّهما طبيب و مجتهد إلاّ إذا زالت الملكة.

و إلى ذلك يرجع قول بعضهم من أنّ تلبّس كلّ شيء بمادة حسب اختلاف المادة. و عند ذلك يقع النزاع في أنّ هيئة المشتق هل رخصت للمتلبّس الذي تقتضيه مادته أو للأعم منه و ممن انقضى عنه المبدأ؟ و بذلك يعلم أنّ اختلاف كيفية التلبّس لا يوجب اختلافاً فيما هو الملاك غير أنّ الظاهر من المحقّق الخراساني أنّ الاختلاف في كيفية التلبّس ينشأ من

ص:219

جانب المادة كما هو الغالب فيما مضى، و لكنّه ربّما ينشأ من الهيئة و ذلك كما في المفتاح و المسجد، فانّ المادة فيهما أعني الفتح و السجود من قبيل الفعليات لكن الهيئة وُصفت لما يصلح للفتح أو يكون معداً للسجود و إن لم يفتح به أو لم يسجد فيه.

بل ربّما ينشأ الاختلاف من كيفية الجري، فإذا قلت: هذا المائع سم قاتل، يستفاد منه أنّ المبدأ أخذ بالقوّة، و أمّا إذا قلت، زيد قاتل، فيراد منه أنّه قاتل بالفعل.

الأمر الثامن: ما هو المراد من الحال في عنوان البحث؟
اشارة

المذكور في عنوان المسألة في الكتب هو أنّ المشتق حقيقة في المتلبّس في الحال أو الأعم منه و ممن انقضى عنه المبدأ، فاختلفت كلمتهم في تفسير الحال إلى أقوال:

الأوّل: أنّ المراد هو زمان النطق بالمشتق.

و هذا الاحتمال مردود بوجوه:

أ. عدم دلالة المشتق على الزمان.

ب. اتّفاقهم على أنّ قولنا: كان زيد ضارباً أمس، أو سيكون ضارباً غداً، حقيقة إذا كان متلبّساً بالمبدإ في ظرف النسبة، و هذا يدل على أنّ المشتق لم يوضع للمتلبّس في زمان النطق.

ج. أنّ هذا الاحتمال يوجب كون المشتق مجازاً في أغلب الموارد، لأنّ التلبّس في زمان النطق أقلّ مصداقاً من غيره.

الثاني: انّ المراد زمان التلبّس.

ص:220

و هذا الاحتمال لا ينسجم مع عنوان البحث لاستلزام أن يكون اللفظ» في الحال «أمراً زائداً حيث إنّهم عنونوا البحث بالشكل التالي و قالوا:» هل المشتق حقيقة في خصوص ما تلبّس بالمبدإ في الحال أو فيما يعمّه « و لا معنى لقولنا:» تلبّس بالمبدإ في حال التلبس «لأنّ المتلبّس بالمبدإ يتلبّس في حال التلبّس.

الثالث: انّ المراد زمان الجري و النسبة.

و هذا هو الذي اختاره المحقّق الخراساني و غيره، و حاصله: أنّه موضوع للمتلبّس بالمبدإ في ظرف النسبة، فلو كان ظرف التلبس موافقاً لظرف النسبة فهو حقيقة و إلاّ فهو مجاز، فإذا قلت: زيد ضارب غداً، فلو أردت أنّ المتلبّس بالضرب غداً، ضارب غداً يكون حقيقة، و لو أُريد انّ المتلبّس بالضرب غداً، ضارب فعلاً فهو مجاز.(1)

يلاحظ عليه بأُمور:

الأوّل: انّ مدلول المشتق بسيط و وضعه للمتلبّس في حال الجري و زمان النسبة يستلزم كونه مركّباً و دالاً على الزمان تضمناً، و هو لا يجتمع مع كونه بسيطاً.

الثاني: انّ ما ذكره إنّما يتمشّى في الجمل الإخبارية، و أمّا الجمل الإنشائية مثل قولك:» أكرم العالم « لأنّ الجمل الإنشائية لا تدلّ على الزمان حتى يقال: إذا طابق زمان التلبّس مع زمان النسبة فهو حقيقة و إلاّ فهو مجاز.

الثالث: و هو بيت القصيد في المقام أنّ النزاع في مفاهيم المفردات و معاني الكلمات و انّ لفظ المشتق بما هو هو مع قطع النظر عن كونه مبتدأ أو فاعلاً أو مفعولاً هل هو موضوع للمتلبّس أو موضوع للأعم؟ و النسبة و الجري و تطابق زمان التلبّس مع زمان الجري يوجب أن يكون

ص:221


1- - كفاية الأُصول: 1/66.

البحث في الجمل و المركبات، و المفاهيم التصديقية مع أنّ البحث إنّما هو في المفاهيم التصورية، و بذلك يعلم أنّ هذه الاحتمالات كلّها ضعيفة و انّه لا بدّ من تفسير الحال بمعنى آخر.

ما هو المختار في تفسير الحال؟

و الحقّ أن يقال أنّ المراد من الحال في عنوان البحث هو فعلية اتصاف الذات بالمبدإ، و يرجع النزاع إلى سعة المفاهيم و ضيقها.

فعلى القول بالأخصّ يكون الموضوع له هو الذات المتزامنة مع المبدأ، و على القول الآخر يكون الموضوع له الأعم من المتلبّس و من انقضى عنه المبدأ.

و بذلك ظهر أنّ المراد من الحال هو فعلية التلبّس و مقارنة الذات بالمبدإ.

و إن شئت قلت: إنّ العقل يرى جامعاً حقيقياً بين الأفراد المتلبّسة بالمبدإ و لا يرى ذلك الجامع بين المتلبّس و ما انقضى عنه المبدأ، و لو كان هناك جامع، فالجامع كما سيوافيك جامع انتزاعي فالنزاع في أنّ الموضوع له هو الجامع الحقيقي أو الجامع الانتزاعي فالنزاع حقيقة في تحديد معاني المفردات لا فيما هو المراد من الجمل، فانّ الثاني يتبع الأوّل. فلو كان المشتق موضوعاً لحكم إنشائي كقولنا:» أكرم العالم «و» صل خلف العادل «فعلى القول بالتلبّس يختص الحكم بالموضوع المتّصف بالمبدإ، فلا يجب إكرام من نسي علمه كما لا يجوز الصلاة خلف من كان عادلاً و أُزيلت عدالته، بخلافه على القول بالأعم.

هذا في القضايا الإنشائية، و أمّا القضايا الخبرية كقولنا: إنّ زيداً ضارب، فعلى القول بكونه موضوعاً للمتلبّس بالفعل فهو ينطبق على التلبّس في زمان الجري و النسبة، بخلافه على القول الآخر، فهو ينطبق على كلا الظرفين، ظرف

ص:222

الجري و النسبة و ظرف الانقضاء.

و بعبارة أُخرى: على القول بوضعه للمتلبّس، فلو قلنا زيد ضارب، و أردنا منه أنّه ضارب أمس، فهو حقيقة في ذلك الظرف دون الآخر; و أمّا إذا قلنا بالقول الآخر، فهو حقيقة في ذلك الظرف و غيره.

و القول بأنّ الموضوع له هو المتلبّس بالفعل غير القول بأنّه موضوع للمتلبّس في ظرف النسبة و الجري، نعم، ينطبق المتلبّس بالفعل عند ما ورد في الجملة الخبرية على المتلبّس في ظرف النسبة في الجمل الخبرية، لكن الانطباق غير كونه موضوعاً له، و بذلك ظهر الفرق بين المختار و ما ذهب إليه المحقّق الخراساني.

الأمر التاسع: ما هو الأصل في المسألة؟

المراد من الأصل ما ينتهي إليه المجتهد بعد اليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي، فلو ثبت بالدليل الاجتهادي بأنّ المشتق موضوع للمتلبّس أو للأعم فالمستنبط في غنى عن هذا الأصل، و إنّما يحتاج إليه إذا لم يتبين له ما هو الواقع حسب الدليل الاجتهادي، فكون الأصل مرجعاً فرع اليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي.

ثمّ إنّ الأصل في المقام إمّا لفظي أو عملي، و العملي إمّا موضوعي أو حكمي.

أمّا الأوّل: فالمراد منه هل الأصل تقديم المجاز على الاشتراك المعنوي، أو الأصل العكس؟ فعلى القول بكونه موضوعاً للمتلبّس يكون استعماله في ما انقضى عنه المبدأ من باب المجاز، و أمّا على القول الآخر يكون اللفظ موضوعاً لمعنى جامع بين المصداقين، و يكون مشتركاً معنوياً، و بما أنّه لا ترجيح عندنا

ص:223

لتقديم أحد الأصلين على الآخر كما أوضحنا حاله فيما سبق فليس هنا أصل لفظي، و انحصر البحث في الأصل العملي و هو إمّا موضوعي جار في تنقيح الموضوع و إمّا حكمي.

أمّا الأوّل: فكقولنا: الأصل عدم الوضع للأخص، أو الأصل عدم وضعه للأعم، فهذا الأصل ساقط في المقام لوجوه:

أ. تعارض الأصلين في كلّ من الجانبين.

ب. انّ هذا الأصل مثبت، فانّ عدم الوضع للجامع بين أفراد المتلبّس لا يثبت كونه موضوعاً للجامع الوسيع الشامل للمتلبّس و غير المتلبّس، لأنّه من اللوازم العقلية.

ج. انّ هذا النوع من الأصل غير معتبر عند العقلاء، فانّ الغاية من إجراء الأصل عندهم هو كشف المراد لا تحديد المعنى اللغوي كما هو المفروض في المقام.

و أمّا الأصل الحكمي الشرعي في موارد الشكّ، فهو يختلف حسب اختلاف الموارد.

قال المحقّق الخراساني: فلو كان الانقضاء قبل انشاء الحكم و شككنا في سعة الحكم و ضيقه لأجل الشكّ في معنى المشتق، تكون أصالة البراءة محكّمة، كما إذا قال:» أكرم العلماء «و قد انقضى المبدأ قبل إنشاء الحكم عن بعض الأفراد، و أمّا إذا كان الانقضاء بعد إنشاء الحكم فاستصحاب الوجوب محكَّم.(1)

و حاصله: انّه إن كان الشكّ في الحدوث تجري أصالة البراءة، و إذا كان الشكّ في البقاء تجري قاعدة الاشتغال، فلو كان الانقضاء قبل إنشاء الحكم يرجع

ص:224


1- - كفاية الأُصول: 1/68.

الشكّ إلى سعة الحكم و ضيقه فتجري فيه البراءة، و أمّا إذا كان الانقضاء بعد انشاء الحكم يرجع الشكّ إلى بقاء الوجوب و الأصل بقاؤه.

هذا فيما إذا كان الواجب عامّاً استغراقياً، و أمّا إذا كان الواجب عامّاً بدلياً كما إذا قال:» أكرم عالماً «، فالثمرة أيضاً مترتبة فلا يسقط التكليف إلاّ بإكرام المتلبّس في الصورة الأُولى، و لا يسقط بإكرام المنقضي عنه المبدأ للشكّ في شمول الحكم له حتى يسقط بامتثاله، و هذا بخلاف ما إذا قلنا بالأعم، فيجوز الاقتصار بإكرام من انقضى عنه المبدأ لشمول الحكم له على ذلك الفرض.

فاتضح بذلك ظهور الثمرة في كلا المقامين: إذا كان الواجب استغراقياً، و إذا كان الواجب عامّاً بدلياً.

ثمّ إنّ صاحب المحاضرات اختار أنّ الأصل على كلا القولين هو البراءة فيما إذا كان الواجب عامّاً استغراقياً; أمّا إذا كان إنشاء الحكم بعد الانقضاء، فواضح لكون الشكّ في الحدوث; و أمّا إذا كان الانقضاء بعد الإنشاء، فلا يجري سواء قلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية و عدمها، أمّا على الثاني، أعني: عدم جريانه في الأحكام الكلية فواضح، و أمّا على القول بجريانه فوجه عدم الجريان في المقام لأجل نكتة خاصة و هي عدم إحراز بقاء الموضوع، فانّ الشبهة فيه مفهومية، لأنّ الموضوع له مردد بين خصوص المتلبّس أو الأعمّ منه و من المنقضي، فالاستصحاب لا يجري في الحكم لعدم إحراز وحدة القضية المتيقنة مع المشكوكة، مثلاً: العالم بما له من المعنى موضوع للحكم، فالتمسّك باستصحاب بقاء الحكم غير ممكن للشكّ في بقاء الموضوع.(1)

أقول: و تحقيق المقام يتوقّف على البحث في موضعين:

ص:225


1- - المحاضرات: 2581/257.

الأوّل: حكم الاستصحاب في الأحكام الكلية، سواء أ كانت الشبهة مفهومية أو لا.

الثاني: حكم الاستصحاب في الأحكام الكلية في خصوص ما إذا كانت الشبهة مفهومية.

أمّا الأوّل: فلأنّ الإشكال الماثل في نظر الأعلام هو ارتفاع الموضوع، فإذا قال الشارع) الماء المتغيّر نجس (فلو فرضنا زوال تغيّره بنفسه و شككنا بقاء الحكم لا يصحّ استصحاب الحكم الكلي، لأنّ الموضوع هو الماء المتغيّر، و المفروض زواله، فكيف يستصحب؟ و نظيره استصحاب النجاسة المترتبة على العنب المغلي و اسرائه إلى الزبيب المغلي مع أنّهما موضوعان متغايران.

هذا هو حقيقة الإشكال في جريان الأصل في الأحكام الكلية على وجه الإطلاق، و أمّا دفع هذا الإشكال فحاصله: أنّ هنا خلطاً بين استصحاب الحكم الكلي المترتب على عنوان الماء المتغيّر و إسرائه إلى عنوان آخر و هو الماء غير المتغيّر، و بين استصحاب الجزئي بعد انطباق الحكم الكلي على مصداقه الخارجي، و زوال الموضوع يختص بالأوّل دون الثاني، إذ لا شكّ أنّ إسراء حكم عنوان إلى عنوان آخر أشبه بالقياس و لا يصدق عليه النقض إذا لم يترتب حكم الأوّل على الثاني.

و أمّا إذا افترضنا أنّ هذا الحكم الكلي) الماء المتغيّر نجس (انطبق على الخارج و مصداقه الجزئي، فصار الماء الموجود في الحوض محكوماً بالنجاسة، فعند ذلك يصير الموضوع هو الماء الموجود في الخارج لا عنوان الماء المتغيّر.

فإذا افترضنا أنّه زال تغيّره بنفسه فبما أنّ الموضوع للحكم الشرعي بعد الانطباق هو ذلك الماء المشخّص لا) العنوان الكلي (فنشير إلى ما بين أيدينا من

ص:226

الماء، و نقول: كان هذا نجساً و الأصل بقاء نجاسته، و من الواضح أنّ الوحدة محفوظة في كلتا الحالتين و ليس هاهنا ماءان، بل هو ماء واحد في الحوض زال شيء من أوصافه، فالوحدة محفوظة و مرجع الشكّ إلى أنّ التغيّر في الدليل هل هو حيثية تقييدية فتدور النجاسة مدار وجودها، أو حيثية تعليلية فيكفي وجود التغيّر آناً ما؟ و الحاصل: أنّ عالم المفاهيم مثار الكثرة، فالموضوع في لسان الدليل هو مفهوم الماء المتغيّر و إن كان يشار به إلى الخارج لكنه في عالم العقل غير الماء الذي زال تغيّره، و أمّا بعد الانطباق و صيرورة الهوية الخارجية موضوعاً للنجاسة، فجواز الاستصحاب و عدمه يدور مدار حفظ الهوية الخارجية، و قد عرفت أنّ الماء في كلتا الحالتين ماء واحد و موضوع فارد و إنّما تغيّر بعض أوصافه، فعندئذ يحكم ببقاء نجاسة هذا الماء.

و بذلك تعلم صحّة استصحاب الحكم، المترتب على العنب المغلي و إسرائه إلى الزبيب و ذلك بالبيان السابق، فانّ العنب و الزبيب و إن كانا موضوعين و هما كثيران متعددان، متغايران في عالم المفهوم و لا يصحّ إسراء حكم العنب إلى الزبيب لأنّه أشبه بالقياس، لكن إذا انطبق الحكم الكلّي على العنب الخارجي المغلي فيصير الموضوع بعد ذلك العنب الخارجي لا عنوان العنب، و عندئذ يشار إليه بأنّه كان إذا غلى ينجس، و هكذا إذا صار زبيباً لوحدة الهوية الخارجية و إنّما طرأ التغيّر على حالات الموضوع من حيث اشتماله على الرطوبة و جفافها.

هذا كلّه حول استصحاب الحكم الكلّي على وجه الإطلاق.

و أمّا الثاني: أي استصحاب الحكم الكلي فيما إذا كانت الشبهة موضوعية.

بيانه: أنّه إذا كان الشكّ في البقاء ناشئاً عن إجمال الموضوع كالمغرب لتردده

ص:227

بين كونه نفس استتار القرص أو هو مع ذهاب الحمرة المشرقية، فلو افترضنا استتار القرص و عدم ذهاب الحمرة، و شككنا عندئذ في حرمة الإفطار فالموضوع بمفهومه الكلّي مشكوك إذ هو على فرض مرتفع، و على فرض آخر باق، لكن موضوع الاستصحاب أي استصحاب الحكم الجزئي، ليس هو مفهوم النهار بل الزمان الموجود فيشار إليه بأنّه كان الإمساك فيه واجباً و الأصل بقاؤه. أو كانت إقامة العصر فيه واجبة و الأصل بقاؤها، و قد ثبت في محله انّ للزمان بقاءً بحسبه كالزمانيات و الجوامد.

و هذا إجمال ما تلقيناه من السيّد الأُستاذ، و قد حكاه عن شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري في درسه الشريف، و سيوافيك مزيد توضيح في مبحث الاستصحاب، و مما ذكرنا يعرف حال المقام فلا نطيل.

الأمر العاشر: نفي الملازمة بين التركّب و الوضع للأعم
اشارة

ذهب المحقّق النائيني إلى الملازمة بين نظرية تركّب المشتق و وضعه للأعم، و نظرية بساطته و القول بوضعه للأخص. قال: إنّ الركن الوطيد على القول بالوضع للمركّب هو الذات و انتساب المبدأ إليها. و من المعلوم أنّ النسبة الناقصة لم يؤخذ فيها زمان دون زمان، و قد تبيّن عدم دلالة الأفعال على الزمان، فالمشتقات لا تدلّ عليه بالأولوية. و لذا كان المشهور بين القدماء القائلين بالتركيب هو الوضع للأعم، و هذا بخلاف القول بوضعه لمعنى بسيط فانّ الركن في صدق المشتق بناء على البساطة هو نفس المبدأ، غاية الأمر أنّه ملحوظ بنحو يصحّ معه الحمل، و لا يكون مبايناً للذات بحسب الوجود، فيقوم الصدق بالمبدإ فإذا انعدم و انقضى فلا محالة لا يصدق العنوان الاشتقاقي إلاّ بالعناية.(1)

ص:228


1- - أجود التقريرات: 761/75.

يلاحظ عليه: أنّه لا ملازمة بين التركّب و الوضع للأعم، كما لا ملازمة بين البساطة و الوضع للأخص.

أمّا الأوّل: فلو افترضنا أنّ الركن الركين على القول بالتركّب هو الذات لكن يمكن ملاحظتها مع المبدأ) غير الركن (بإحدى الصورتين التاليتين:

أ. الذات المتلبّسة بالمبدإ.

ب. الذات المنتسب إليها المبدأ.

فالأوّل: لا يصدق إلاّ على المتلبّس بالفعل، و أمّا الثاني فيكفي في الصدق مجرّد الانتساب إلى المبدأ و إن انقضى عنه.

و ما أفاده من أنّ المشتق لا يدلّ على الزمان) زمان النطق أو زمان التلبّس (و إن كان صحيحاً لكنّه لا يفيده لما عرفت من أنّ المراد من الحال ليس أحد الزمانين، بل فعلية التلبّس، فيرجع النزاع إلى أنّ الموضوع له هل هو المتلبس بالفعل أو المنتسب إليه المبدأ؟ و أمّا الثاني: فلأنّ ما ذكره مبني على ما اختاره الشريف من أنّ المشتق عين المبدأ، و الفرق بينهما هو كون الأوّل لا بشرط و الآخر بشرط لا، و عندئذ يكون الركن الركين هو المبدأ، و مع زواله لا معنى لصدقه.

و لكن سيوافيك عدم صحّة مختار الشريف، و أنّ الفرق بين المشتق و المبدأ أوسع ممّا ذكره، بل بينهما مغايرة تامّة و إن كان كلّ بسيطاً، فالمبدأ هو نفس الحدث أو نفس العنوان، و المشتق هو، المعنون، و هو مفهوم وحداني بسيط منحل عند العقل إلى ذات و عنوان و نسبة.

و عندئذ يقع الكلام في أنّ الموضوع له هو المفهوم الوحداني الذي لا ينطبق إلاّ على المعنون بالمبدإ حدوثاً و بقاءً، أو المفهوم الوحداني الذي يكفي في انطباقه عبر الزمان كونه معنوناً حدوثاً و إن زال العنوان بقاءً.

ص:229

دعوى أُخرى: للمحقّق النائيني

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ القول بالأعم يحتاج إلى تصوير جامع بين المتلبّس و المنقضي و لا جامع بينهما، فإذا لم يعقل وجود الجامع فلا مجال لدعوى الوضع للأعم.(1)

و قد استحسنه سيّدنا الأُستاذ، و قال: لا محيص للقائل بالأعم من تصوير جامع بينهما، و إلاّ يلزم الاشتراك اللفظي، و لو امتنع تصوير الجامع يسقط دعواه. و لكن الجامع غير موجود إذ الجامع الذاتي بين الواجد و الفاقد غير موجود، و أمّا الجامع الانتزاعي فهو إمّا بسيط أو مركّب، و الجامع البسيط على قسمين لأنّه إمّا جامع بسيط لا ينحلّ إلى شيئين و إمّا ينحل.

و الأوّل غير معقول لعدم وجود جامع بسيط يتكفّل إفهام كلا المعنيين و إخراج المتلبّس فيما بعد، و الجامع البسيط المنحل إلى المركب غير متصور إذ هو لا بدّ أن ينتزع من الواقع، و الانتزاع فرع صلاحية الواقع، إذ كيف يصحّ انتزاع مفهوم بسيط منحل واحد من الواجد و الفاقد، أمّا الجامع التركيبي التفصيلي فهو و إن كان ممكناً حتى يدخل المعنيان و يخرج الثالث لكنّه ممّا لا يرضى به القائل بالأعم.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الجامع هو الجامع البسيط المنحل إلى المركب، و هو المعنون بما هو معنون و هو ينحل عقلاً إلى ذات ثبت لها العنوان و المبدأ بنحو من أنحاء الثبوت، و ما أفاده» من أنّ الجامع ينتزع من الواقع، و الانتزاع فرع صلاحية الواقع، إذ كيف يصحّ انتزاع مفهوم بسيط من الواجد و الفاقد «، صحيح لو كان

ص:230


1- - أجود التقريرات: 1/78; المحاضرات: 1/249.
2- - تهذيب الأُصول: 1151/114.

منشأ الانتزاع هو حيثية الفقدان و الوجدان، بل منشأ الانتزاع في كلا الموردين حيثية الوجدان، لأنّ القائل بالأعم يقول بأنّ ثبوت المبدأ للذات آناً ما في التكوين يوجب اتصاف الذات بحيثية) تعنونها بمن ثبت له المبدأ (كافية في انتزاع المفهوم عن الذات في كلتا الحالتين، و ذلك لأنّ الحيثية الاعتبارية المصححة للانتزاع موجودة دائماً و إن زال عنه المبدأ، فالعنوان البسيط المنحل إنّما ينتزع من هذه الحيثية الوجودية المتحقّقة في المنقضي و المتلبس، فالمعنى الجامع منتزع من الواجد على كلا القولين لا من الواجد و الفاقد.

هذه هي الأُمور العشرة التي تسلط الضوء على البحث، فإذا فرغنا عن بيانها فلندخل في صلب الموضوع، و هو أنّ الحقّ أنّ المشتق موضوع للمتلبّس بالمبدإ.

المشتق موضوع للمتلبّس بالمبدإ

إنّ القوم استدلّوا على كون المشتق موضوعاً للمبدإ بوجوه سيوافيك بيانها: و لكن الأولى أن يستدلّ عليها بطريق أسهل و هو ما يلي:

و هو أنّ الإمعان في الصيغ يثبت أنّ الواضع يريد توارد المعاني المختلفة على المبدأ و تصوير المبدأ بألوان النسب بينه و بين الذات، فتارة يلاحظ المبدأ بما أنّه منتسب إلى الذات بالصدور عنها، و أُخرى بالوقوع على الذات، و ثالثة بثبوته فيها كما في الصفة المشبهة، و رابعة بملاحظة الزمان و المكان ظرفاً للمبدإ و هكذا، فالمشتق هو المبدأ الملحوظ مع الذات بنسب و إضافات مختلفة، و ما هذا شأنه يكون المحور هو المبدأ لا الذات، فالنسب المختلفة المتداولة تصاغ من المبدأ و تضاف إلى الذات.

و إن شئت قلت: إنّ الواضع يتلاعب بالمبدإ من خلال صياغته في قوالب

ص:231

مختلفة، فالمبدأ هو الذي يتجلّى بصور و أشكال مختلفة، و ليس هناك تلاعب بالذات و لا صياغتها بأشكال مختلفة، و ما هذا شأنه لا يمكن غض النظر عنه عند الاستعمال، فانّ القول بكونه حقيقة فيمن انقضى عنه المبدأ أشبه بغض النظر عنه عند الاستعمال.

و بعبارة أُخرى: انّ النسبة تتوقف على أمرين: الذات، و الحدث. و الواضع يصبّ اهتمامه على طروء النسب المختلفة على المبدأ عند نسبته إلى الذات، فالمحور هو الذات، لكن وجود الذات ضروري لا لكونه محوراً بل لأجل انّ النسبة قائمة بالطرفين.

أدلّة القائلين بالوضع للمتلبّس

استدلّ القائلون بالوضع للمتلبّس بوجوه:

الأوّل: التبادر، إذ المرتكز عند أهل اللسان عند إطلاق المشتق هو المتلبّس بالمبدإ لا من هو كان متلبّساً، فإذا قيل: صلّ خلف العادل، أو أدّب الفاسق، أو إذا قيل: لا يصلّين أحدكم خلف المجذوم و الأبرص و المجنون، أو إذا قيل: الاعرابي لا يؤم المهاجرين.(1) لا يفهم منه إلاّ المتلبّس بالمبدإ، و هذا هو الظاهر في اللغات الأُخرى.

و بما أنّ النزاع في كون المشتق حقيقة في المتلبّس أو الأعم فيما إذا يتصور له الانقضاء و يتصور له الاستمرار، و على ذلك فخرج الاستدلال بلفظ» الممكن «على القول بالأخص لعدم تصوّر الانقضاء فيه، كما خرج الاستدلال بالسارق و الزاني على القول بالأعم إذ لا يتصوّر فيه الاستمرار.

ص:232


1- - الوسائل: 5، الباب 15 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

الثاني: صحّة سلب المشتق عمّن انقضى عنه المبدأ فيقال: زيد الناسي ليس بعالم، و هي آية المجازية.

و أورد عليه: أنّه إن أُريد بصحّة السلب صحّته مطلقاً، فغير سديد; و إن أُريد مقيداً فغير مفيد، لأنّ علامة المجاز هي صحّة السلب المطلق.

توضيحه: انّ علامة المجازية هو سلب اللفظ بما له من المعنى عن المورد حتّى يدلّ على أنّه ليس من مصاديقه مطلقاً، و أمّا سلب معنى خاص للفظ عن المورد فلا يدلّ إلاّ على أنّه ليس من مصاديق ذلك المقيّد، و أمّا أنّه ليس من مصاديق المعنى على وجه الإطلاق فلا، فإذا قلت مشيراً إلى الرقبة الكافرة إنّها ليست برقبة مؤمنة، لا يدلّ على أنّها ليست برقبة أصلاً، فعلى ذلك إذا قلت: زيد الناسي ليس بعالم بالفعل، يدلّ على أنّه ليس من مصاديق المتلبس بالفعل و أمّا انّه ليس من مصاديقه مطلقاً و لو باعتبار من انقضى عنه المبدأ فلا.

و قد أجاب عنه في» الكفاية «بما هذا توضيحه: انّ قولنا بالفعل تارة يكون قيداً للمسلوب أي العالم، و أُخرى أن يكون قيداً للسلب أي) ليس (، فلو قلنا: زيد الناسي، أو الذي انقضى عنه المبدأ ليس بعالم بالفعل، يصير المسلوب مقيّداً، و يكون معناه أنّ زيداً الناسي ليس من مصاديق العالم بما له علم بالفعل، و مثله لا يكون علامة للمجازية لوضوح انّ عدم كونه مصداقاً للعالم بملاك العلم الفعلي لا يكون دليلاً على عدم كونه مصداقاً له الآن و لو بملاك علمه السابق الزائل.

و أمّا لو قلنا: زيد الناسي، أو الذي انقضى عنه المبدأ ليس بالفعل بعالم يكون المسلوب مطلقاً، و يرجع مفاده إلى أنّ زيداً الذي نسي علمه ليس بالفعل بعالم، أي ليس مصداقاً بالفعل بأيّ عنوان من العناوين، للعالم، لا بملاك العلم الفعلي، و لا بملاك العلم السابق الزائل، و مثل هذا يكون علامة للمجازية.

ص:233

و لعلّ ما ذكرناه في توضيح الكفاية أقرب إلى المتن ممّا ذكره المحقّق المشكيني) قدس سره (في تعليقته.

يلاحظ عليه: أنّ الغاية من التمسّك بصحّة السلب و عدمه هو تبيين كون المورد مصداقاً للّفظ و عدمه و تحديداً لمفهوم اللفظ سعة و ضيقاً عرفاً و من المعلوم أنّه لو كان هذا هو الغاية المتوخّاة، فالعرف لا يعير أهمية لهذه الدقة الفلسفية، فلا يفرق بين كون القيد قيداً للمسلوب أو قيداً للسلب، و عند ذلك لا يمكن نسبة النتيجة الحاصلة من التفريق إلى العرف.

و الحاصل: أنّ العرف هو المرجع في تحديد المفاهيم و تبيين المصاديق و لكن يجب أن يكون المحكم في هذا الباب هو العقل العرفي الدقيق لا الفعل الفلسفي، فسلب مصداقية المنقضي عنه المبدأ بالنحو المذكور لا يفهمه العرف حتى يحكم بأنّه ليس بمصداق.

و الشاهد على ذلك أنّ صاحب الكفاية اتبع في الجواب ما ذكره الحكماء في تعريف الماهية، فقد ذكروا في حدّ الماهية تعبيرين:

1. الماهية ليست من حيث هي هي إلاّ هي.

2. الماهية من حيث هي هي ليست إلاّ هي.

ففرقوا بين تقديم السلب على الحيثية و تأخرها عنه، يقول السبزواري:

و قدّ مَنْ سلباً على الحيثية حتى يعم عارض الماهية

فإثبات المصداقية أو نفيها بهذه الدقائق لا يلتفت إليها العرف و لا يكون مصداقاً له و إن أصرّ عليه العقل لانّ الموضوع له هو المفاهيم المنطبقة على المصاديق العرفية.

الثالث: ربّما يستدل على وضع المشتق للمتلبّس بالدليل التالي: و هو أنّه لا

ص:234

ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة على ما ارتكز لها من المعاني، فلو كان المشتق حقيقة في الأعم لما كان بينها مضادة بل مخالفة لتصادقها فيما انقضى عنه المبدأ و تلبّس بالآخر.

و أورد عليه المحقّق الرشتي من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني: من أنّ التضاد أمر ارتكازي من غير فرق بين المشتقات كالأبيض و الأسود و مباديهما كالبياض و السواد.

يلاحظ عليه بوجهين:

1. انّه يرجع إلى التبادر و ليس دليلاً مستقلاً، و ذلك انّ الحكم بالتضاد بين المشتقين بأنّهما من الأُمور غير القابلة للجمع فرع إحراز معنى كلّ بالتبادر، و أنّ المتبادر من كلّ واحد هو تلبّس الموضوع بالمبدإ، و عندئذ يحكم العقل بعدم صحّة اجتماعهما، فالحكم بالتضاد متأخر عن إحراز المعنى بالتبادر، و معه لا حاجة إلى دليل آخر.

2. انّ الأعمّي لا يسلم التضاد إلاّ بين المبدأين لا بين العنوانين، فصدق الأبيض و الأسود لا يستلزم إلاّ اجتماع العنوانين من غير ملازمة بين صدقهما و اجتماع المبدأين.

هذه هي الوجوه المهمة و بقيت هنا وجوه أُخرى تطلب من محالها.

أدلّة القول بالأعم

استدلّ القائل بالأعم بوجوه:

الأوّل: التبادر، و لكنّه غير تام، لأنّ المتبادر من قولنا:» لا تصل خلف الفاسق «و أمثاله، هو المتلبّس، و ادّعاء وجود القرينة في أمثال هذه الموارد و إن كان محتملاً، لكن ليس كلّ مورد كذلك.

ص:235

مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الصيغ المشتقة من المبدأ، نوع تلاعب بالمبدإ لا بالذات، فكيف يصدق الفرع دون الأصل.

الثاني: عدم صحّة السلب في المقتول و المضروب إذا انقضى عنه المبدأ.

يلاحظ عليه: أنّه إن أُريد منها المعنى الحدوثي أي من وقع عليه القتل و الضرب، فلا نسلم صدقه عند ما انقضى عنه المبدأ، و إن أُريد الأثر الباقي بعد القتل و الضرب، فالصدق لأجل كونه متلبساً بالأثر الباقي.

ثمّ إنّ أكثر الإطلاقات في الجمل و التراكيب بلحاظ ثالث و هو الإطلاق بلحاظ حال التلبّس خصوصاً فيما إذا لم تقبل التكرار كالمقتول و المصلوب، أو ما يقبل التكرار و لا يقبل الاستمرار كالسارق و الزاني.

الثالث: هو استدلال الإمام بآية الابتلاء على عدم صلاحية الخلفاء الثلاثة لإشغال منصب الإمامة بعد رحلة الرسول الأعظم) صلى الله عليه و آله و سلم (، و إليك الآية و نصّ الإمام و كيفية الاستدلال، قال سبحانه:

1. (وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ).(1)

و في الآية جهات مهمة للبحث نشير إليها:

1. ما هو الغرض من ابتلاء الأنبياء؟ 2. كيف كان ابتلاء إبراهيم) عليه السلام (؟ 3. ما هو المراد من الكلمات؟ 4. ما هو المراد من الإتمام؟ 5. ما هو المراد من جعله إماماً بعد ما كان نبيّاً و رسولاً؟ 6. ما هو المقصود من العهد المنسوب إليه سبحانه، و كيف تكون الإمامة

ص:236


1- - البقرة: 124.

عهد اللّه؟ 7. كيف تدل الآية على عصمة الإمام؟ و قد حققت هذه الأُمور في موسوعة مفاهيم القرآن.(1)

2. و أمّا استدلال الإمام بالآية، فقد روى الصدوق عن الإمام الصادق) عليه السلام (في تفسير قوله:

(لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) انّه قال: إنّ الإمامة لا تصلح لمن عبد وثناً أو صنماً أو أشرك باللّه طرفة عين، و إن أسلم بعد ذلك، و الظلم وضع الشيء في غير موضعه، و أعظم الظلم الشرك باللّه قال اللّه تعالى:

(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )(2).(3)

3. و أمّا كيفية الاستدلال فلأنّه مبني على صغرى مسلّمة و كبرى قرآنية.

أمّا الصغرى: هؤلاء كانوا ظالمين مشركين.

و أمّا الكبرى: و الظالمون لا تنالهم الإمامة.

فينتج: هؤلاء لا تنالهم الإمامة.

و إنّما يصحّ وصفهم بعنوان الظالمين عند التعدي إذا قلنا بوضع المشتق للأعم بحيث يصدق على المتلبّس بالمبدإ و المنقضي عنه حتى يصحّ عدّهم من الظالمين حين تصدّوا للخلافة و قد انقضى المبدأ، و لو قلنا بوضع المشتق على المتلبس تبقى الكبرى بلا صغرى، إذ لا يصحّ أن يقال: هؤلاء كانوا ظالمين عند التصدّي بل يجب أن يقال: كانوا ظالمين قبل التصدي، و أمّا بعده فقد صاروا موحّدين.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال على عدم صلاحيتهم للإمامة يصحّ على كلا

ص:237


1- - مفاهيم القرآن: 2595/197.
2- - لقمان: 13.
3- - البحراني: البرهان: 1/149.

القولين، أمّا على الأعم فلما عرفت.

و أمّا على القول بالأخص فللاستدلال أساس آخر، غير مبني على كونهم ظالمين حين التصدي، بل هم غير لائقين لها و إن لم يكونوا ظالمين حين التصدي.

و ذلك لأنّ الإمامة كالنبوّة منصب إلهي يجب أن يتنزه المتصدّي عمّا يوجب نفرة الناس و تباعدهم عنه، و لا تتحقّق تلك الأمنية إلاّ بتباعده عن ألوان الشرك و الأعمال القبيحة طيلة عمره حيث إنّ الناس يفرون عمّن كان في فترة من عمره مشركاً مقترفاً للمعاصي.

و بما أنّ هؤلاء كانوا كذلك في فترات من أعمارهم فكانوا ظالمين، فصار هذا سبباً لحرمانهم منه.

و هناك بيان آخر للاستدلال بالآية نقله السيد الطباطبائي عن بعض مشايخه و انّه قال: إنّ الناس حسب التقسيم العقلي على أربعة أقسام:

أ. من كان ظالماً في جميع عمره.

ب. من لم يكن ظالماً طيلة عمره.

ج. من كان ظالماً في مقتبل عمره و تائباً في أواخره حين التصدّي.

د. من لم يقترف الشرك في أوان عمره و اقترفه في أواخره حين التصدي.

فيجب إمعان النظر في تحديد ما هو المسئول لإبراهيم الخليل، و العقل يحكم بأنّ إبراهيم أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل و الرابع من ذريّته، فيبقى القسمان الآخران و قد نفى اللّه أحدهما أي من كان ظالماً في مقتبل عمره و غير ظالم حين التصدّي، و بقي الآخر و هو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره.

على أنّه يمكن أن يفسر استدلال الإمام بالآية بأنّ الإطلاق باعتبار حال التلبّس.

ص:238

خاتمة المطاف في ثمرات البحث

تظهر الثمرة بين كون المشتق موضوعاً لخصوص المتلبّس أو الأعم في الموارد التالية و يجمع الكل كون المشتق موضوعاً للحكم:

1. قال رجل لعلي بن الحسين) عليهما السلام (: أين يتوضّأ الغرباء؟ قال:» تتّقي شطوط الأنهار، و الطرق النافذة و تحت الأشجار المثمرة... «(1)فعلى التلبّس يختص الحكم بما إذا كان مثمراً و لو بالقوّة، بخلاف القول بالأعم، فيشمل حتى الشجرة اليابسة الساقطة عن التوريق و الأثمار.

2. قال أمير المؤمنين) عليه السلام (:» لا يصلّين أحدكم خلف المجذوم و الأبرص و المجنون و المحدود، و ولد الزنا، و الأعرابي لا يؤم المهاجرين «.(2)

3. عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (في المرأة إذا ماتت و ليس معها امرأة تغسلها، قال:» يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسلها إلى المرافق «.(3) فلو قلنا بكون المشتق حقيقة في المنقضي فللزوج المطلّق لها، التغسيل عند فقد المماثل.

ص:239


1- - الوسائل: 1، الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 1.
2- - الوسائل: 5، الباب 15 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.
3- - الوسائل: 2، الباب 24 من أبواب غسل الميت، الحديث 8.

و ربما يمثل بالماء المشمَّس أو المسخَّن، و لكن الوارد في لسان الأدلّة، التعبير عنه بصيغة الفعل لا بصيغة المشتق، فقد ورد عن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» الماء الذي تسخّنه الشمس لا تتوضّئوا به و لا تغسلوا و لا تعجنوا به فانّه يورث البرص «.(1)

ص:240


1- - الوسائل: 1، الباب 6 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.

مسائل في المشتق

المسألة الأُولى: في خروج الذات عن مفهوم المشتق

هل المشتق في مفهومه الابتدائي يدلّ على الذات أو لا؟ فالمحور في المقام هو التركيز على دخول الذات في المشتق و عدمه، و أمّا ما هو الفرق بين هذه المسألة و المسألة الآتية أعني: الفرق بين المبدأ و المشتق فسيوافيك بيانه.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ في المسألة أقوالاً:

الأوّل: انّ الذات خارجة عن المشتق ابتداءً و انتهاءً، فالمشتق لا يدلّ عليها لا بمفهومه الابتدائي و لا بمفهومه الانحلالي، و هذا هو قول الشريف على ما في تعليقاته على شرح المطارح، و هذا مبنيّ على أنّ المفهوم من المشتق، نفس المفهوم من المبدأ و الاختلاف في أنّ الأوّل لا بشرط و الثاني بشرط لا.(1)

الثاني: أنّ المشتق مشتمل على الذات، و المبدأ و النسبة، ابتداء و انتهاء، أي في مفهومه الابتدائي و الانحلالي، و هذا القول يقابل القول الأوّل تماماً.

الثالث: أنّ المشتق يدلّ على معنى بسيط، غير أنّه ينحلّ عند التحليل إلى ذات و عنوان و نسبة، فهو بسيط لفظاً و دلالة و مدلولاً في مقابل الجمل المركبة.

و المختار هو الأخير، و ببيان برهانه يظهر عدم تمامية القولين، و إليك البيان:

إنّ المشتق بسيط لفظاً و دلالة و مدلولاً، في مقابل الجمل التي هي مركبة لفظاً

ص:241


1- - شرح المطارح: 11.

و دلالة و مدلولاً، لكنّه ينحل عند العقل إلى أُمور ثلاثة: ذات و عنوان و اتّصاف، في مقابل الجوامد التي هي بسائط في المراتب الثلاثة، و غير منحلّة إليها عند التعمّل، و في مقابل المركبات التي تتألف ابتداءً من أُمور ثلاثة من ذات و عنوان و اتصاف.

و إن شئت قلت: إنّ العقل تارة يدرك الذات بلا عنوان، كزيد، و ربّما يدرك العنوان بلا ذات كالعلم، و ربّما يدرك الذات مع العنوان، فقد وضع للأوّل الجوامد، و للثاني المبادئ، و أمّا الثالث فله صورتان:

الأُولى: يدرك الذات و العنوان و الاتصاف على وجه التفصيل، بحيث يتعلّق بكلّ منها إدراك مستقل، فهذه هي المركبات التفصيلية، و يقال: زيد متصف بالعلم.

الثانية: يكون الذات و العنوان و النسبة مدركة بنحو وحدانيّ و بإدراك واحد فيعبّر عنه بالمشتق، فهو حاك لا عن الذات وحدها، و لا عن العنوان كذلك، و لا عن الذات و العنوان و النسبة تفصيلاً، بل عن المعنون بما هو مفهوم واحد منحل عند التعمّل إلى الثلاثة عند الإطلاق.

و الفرق بين الصورتين واضح، ففي الأُولى ألفاظ و دلالات و مدلولات تفصيلية، بخلاف المشتق ففيه لفظ واحد و دلالة واحدة و مدلول واحد، لكن تنحل إلى ألفاظ و دلالات و مداليل عند التعمّل.

و الدليل على ذلك هو التبادر، و معه لا نحتاج إلى إقامة دليل آخر» فالكاتب و الضارب «في لغة العرب و» نويسنده و زننده «في لغة الفرس، تدلاّن على معنى وحداني له التحليل في مرحلة ثانية. فمن قال ببساطة المشتق و أراد هذا المعنى فهو صحيح، كما أنّ من قال بالتركيب و أراد التركّب عند التحليل فهو أيضاً صحيح.

ص:242

و أمّا من قال بالبساطة في المرحلتين، أو التركيب كذلك فقد نازع وجدانه و إليك تحليلهما:

أمّا الثاني: أعني دلالة المشتق على الذات و المبدأ و النسبة في مفهومه الابتدائي فهو ساقط جدّاً للفرق الواضح بين قولنا» ضاحك «و قولنا» الإنسان له الضحك «أو» كاتب «و» الإنسان له الكتابة «فادعاء التركيب في المفهوم الابتدائي من السخافة بمكان.

أمّا القول الأوّل فظاهره أنّه يريد نفي دخول الذات في مفهوم المشتق مطلقاً، لا ابتداءً و لا تحليلاً، فقد استدلّ عليه بوجوه.

الأوّل ما استدلّ به الشريف و قال:

لو قلنا بدخول الذات في المشتق يلزم أحد محذورين:

أ. دخول العرض العام في الفصل، إذا كان الداخل فيه مفهوم الشيء كما في قولنا» الإنسان ناطق «.

ب. انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية، إذا كان المأخوذ مصداق الشيء كما في قولنا» الإنسان كاتب «.

فدخول الشيء في مفهوم الناطق يستلزم دخول العرض العام في الفصل، كما أنّ دخول الإنسان في المثال الثاني يوجب انقلاب القضية من الممكنة إلى الضرورية، لأنّ معنى قولنا:» الإنسان كاتب «هو » الإنسان، إنسان كاتب «و ثبوت الإنسانية للإنسان بالضرورة.

و قد أُجيب عن الشق الأوّل بوجوه:

1. ما أفاده صاحب الفصول من أنّ أخذ الناطق فصلاً مبني على تجريده عن مفهوم الشيء.(1)

ص:243


1- - الفصول: 62، ط الحجرية.

و هو غير تام، لأنّ المنطقيين جعلوا الناطق فصلاً للإنسان بما له المعنى من دون تجريد.

2. ما أجاب به المحقّق الخراساني من أنّ الناطق ليس فصلاً حقيقياً بل من أظهر خواص الإنسان، و لذا ربّما يجعلون لازمين و خاصتين مكان فصل واحد، فيعرفون الحيوان، بأنّه حساس متحرك بالإرادة، مع أنّ الشيء الواحد لا يكون له إلاّ فصل واحد.

و الوجه في عدم كون الناطق فصلاً حقيقياً، هو أنّ المبدأ للناطق لو كان هو النطق بمعنى التكلّم فهو كيف محسوس، و إن كان بمعنى التفكّر و درك الكليات فهو كيف نفساني على القول بأنّ العلم من مقولة الكيف.

3. انّ الفصل الحقيقي للإنسان هو النفس، غير أنّ الناطق عنوان وصفي لهذا الفصل الحقيقي و من أظهر خواصه، فلما كانت حقيقة الفصل مجهولة لنا، أُشير إلى توضيحه بالعنوان الوصفي كما لا يخفى.

و أمّا الشقّ الثاني: فقد أجاب عنه صاحب الفصول بأنّ المحمول ليس مصداق الشيء و الذات وحده بل المقيّد بالوصف، و ليس ثبوته للموضوع حينئذ بالضرورة، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضرورياً.

و الحقّ أنّ ما أجاب به صاحب الفصول جواب كاف، و ما أورد عليه صاحب الكفاية ليس بكلام جدير بالدراسة بل يورث الإطالة بلا فائدة.

كما أنّ ما تنظر صاحب الفصول حسب ما نقله في الكفاية لا على النحو الموجود في نفس الفصول فيما أفاده سابقاً ليس كلاماً تامّاً جديراً بالدراسة، فنحن نضرب صفحاً عن كليهما.

و الذي أضيف في المقام ردّاً على دليل الشريف هو أنّ ما ذكره إثبات اللغة

ص:244

بالدليل الفلسفي و هو بعيد عن جادة الصواب، فانّ لتحليل مسائل كلّ علم أُسلوباً خاصاً به و لم يكن الواضع يحمل ذهنية فلسفية حتى يخرج الذات على المشتق بغية الفرار من دخول العرض العام في الفصل، أو انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية، فهذا الجواب يحسم هذا الدليل كما يحسم سائر الأدلّة التي هي على غرار هذا الدليل.

الثاني: ما ذكره صاحب الفصول استلهاماً من دليل المحقّق الشريف الذي طرح قضية منفصلة و قال:

» لو كان المأخوذ مفهوم الشيء يلزم دخول العرض العام في الفصل، و لو كان المأخوذ مصداقه يلزم الانقلاب «، و قد انتقل صاحب الفصول منه إلى أمر آخر، و هو أنّ الانقلاب غير منحصر بأخذ المصداق فيه، بل يلزم من أخذ مفهوم الشيء أيضاً فيه، لأنّ الشيئية أمر ضروري للإنسان.

يلاحظ عليه: بمثل ما أورد هو على كلام الشريف في الشق الثاني، و حاصله: أنّ المحمول ليس الشيئية المطلقة بل المتقيدة بالكتابة و هي ليست بضرورية.

الثالث: لو كان الشيء داخلاً فيه بمفهومه أو مصداقه لزم تكرار الموصوف في قولنا:» زيد الكاتب «.

يلاحظ عليه: بأنّ المأخوذ فيه هو المفهوم المعرّى من كلّ قيد، ما عدا قيام المبدأ به و لا تعيّن له لينطبق على ذوات معينة كزيد و عمرو و يلزم التكرار.

و بعبارة أُخرى: إنّما يلزم التكرار لو كانت الذات مأخوذة على نحو التفصيل، و لا أظن أنّ القائل يعتقد به، لأنّها مأخوذة على نحو الإجمال.

الرابع: أنّ المادة في المشتق تدل على نفي الحدث، و الهيئة من الدوال الحرفية، فيجب أن يكون مدلولها معنى حرفياً لا اسمياً، و ليس هو إلاّ نسبة الحدث إلى

ص:245

الذات بحيث تكون نفس الذات خارجة و التقيّد داخلاً. و القول بأنّ المشتق موضوع للذات المتلبّسة، قول بدلالة الدوال الحرفية على المعنى الاسمي، و هو غير تام، فانتزاع المشتق من الذات المتلبسة و دلالته عليها أشبه شيء بدلالة الدوال الحرفية على المعاني الاسمية.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال إنّما يتمّ لو قلنا بدخول الذات على وجه التفصيل في المشتق و أمّا لو قلنا بأنّ المتبادر منه في المفهوم الابتدائي أمر بسيط، لا الذات وحدها و لا العنوان وحده، و لا النسبة وحدها، بل شيء بسيط ينحل لدى التحليل إلى أُمور ثلاثة، و ذلك البسيط القابل للانحلال هو المعنون فلا يتوجّه الإشكال.

إلى هنا تمّ ما أُقيم من الوجوه على خروج الذات عن المشتق، و كلّها أدلة غير صالحة لإثبات اللغة حتى و إن خلت من الإشكالات المذكورة لما عرفت من أنّ اللغة لا تثبت بالدليل العقلي.

المسألة الثانية: في الفرق بين المشتق و مبدئه
اشارة

لمّا ذهب الشريف و من تبعه إلى أنّ الذات خارجة عن مفاد المشتق ابتداءً و تحليلاً، توجه إليه سؤال و هو انّه ما هو الفرق بين» الضارب «الذي هو على مختاره بمعنى الضرب، فحاول إبداء الفرق بينهما.

و الحاصل: انّه لو قلنا بأنّ مفاد المشتق مركّب دالّ على الذات و العنوان و النسبة.

أو قلنا بأنّ مفاد المشتق بسيط وحداني أي المعقول و لكن ينحلّ إلى أُمور ثلاثة.

ص:246

لكُنّا في غنى عن عقد مسألة باسم» ما الفرق بين المبدأ و المشتق «لأنّ الفرق جوهري واضح لا حاجة إلى البيان.

نعم لو قلنا بمقالة الشريف أي بخروج الذات عن المشتق، ابتداء و تحليلاً، و انّ مفاد المشتق نفس مفاد المبدأ جوهراً، لزم عقد مسألة باسم الفرق بينهما، و لذلك عمد القائل إلى بيان الفرق.

قال في» الكفاية «: الفرق بين المشتق و مبدئه مفهوماً أنّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبّس بالمبدإ، و لا يعصي على الجري عليه لما هما عليه من نحو من الاتحاد.

بخلاف المبدأ فانّه بمعناه يأبى عن ذلك، بل إذا قيس و نسب إليه كان غيره لا هو هو، و ملاك الحمل و الجري إنّما هو نحو من الاتحاد و الهوهوية، و إلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما من أنّ المشتق يكون لا بشرط و المبدأ يكون بشرط لا. أي لا يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل و مفهوم المبدأ يكون آبياً عنه.

ثمّ إنّهم شبّهوا الفرق بين المشتق و المبدأ بالفرق بين الجنس و المادة، فهما اسمان لشيء واحد كالحيوان، غير أنّه بما أنّه لا بشرط يسمّى جنساً و يحمل على النوع، و يقال: الإنسان حيوان، و بما أنّه بشرط لا، مادة فلا يحمل على الإنسان.

و مثله الناطق فهو باعتبار كونه لا بشرط فصل، و باعتبار كونه بشرط لا صورة.

هذا خلاصة ما ذكره المحقّق الخراساني و هو من الإجمال بمكان.

و توضيحه: أنّ اللابشرط و بشرط لا، يستعمله أهل المعقول في موردين:

الأوّل: أحدهما لحاظ مفهوم واحد تام بالنسبة إلى عوارضها و طوارئها

ص:247

كالرقبة حيث يلاحظ بالنسبة إلى الإيمان بأنحاء ثلاثة، فيقال: رقبة بشرط الإيمان، و رقبة بشرط عدمه، و رقبة مطلقة سواء كانت مؤمنة أو كافرة.

و في هذا الصدد يقول المحقّق السبزواري:

مخلوطة مطلقة مجرّدة عند اعتبارات عليها موردة

من لا بشرط و كذا بشرط شيء و معنيي بشرط لا استمع إليّ

ففي هذا النوع من اللحاظ، الملحوظ، ماهية واحدة تامّة، تلاحظ بالنسبة إلى ما يعرضها من الطوارئ و تطرأ المفاهيم الثلاثة الاعتبارية، أعني: بشرط شيء، و لا بشرط، و بشرط لا، و هي خارجة عن واقع الملحوظ و مفهومه و إنّما يعرض عليها بنوع من اللحاظ، فهذا القسم من لحاظ الماهية لا صلة له بالمقام و لا بما ذكره أهل المعقول في باب الفرق بين الجنس و المادة، أو الفصل و الصورة.

الثاني: ما ذكروه في التفريق بين كون الحيوان جنساً و مادة، أو كون الناطق فصلاً و صورة، فيفارق الملحوظ في هذا المورد ما هو الملحوظ في المورد الأوّل، بالوجه التالي:

إنّ المفهوم في القسم الأوّل مفهوم واحد تعرض عليه الاعتبارات الثلاثة، و لا تنثلم وحدة الملحوظ بعروضها عليها، و لذلك قلنا تلاحظ الماهية بالنسبة إلى عوارضها و طوارئها، بخلاف القسم الثاني فانّ الملحوظ يخرج عن كونه مفهوماً واحداً باعتبار كون اللابشرطية داخلاً في صميم الجنس، و البشرطاللائية داخلاً في صميم المادة، فيكون المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر، فالجنس هو المفهوم المبهم المغمور الذي هو على عتبة الاكتمال بالفصل و لذلك يكون قابلاً للحمل و لذلك يوصف باللابشرط بالنسبة إلى الحمل.

و أمّا المادة فهي ماهية محصّلة مبينة غير قابلة للحمل و لذلك توصف بشرط

ص:248

لا، فيكون كلّ من القيدين: اللابشرط و بشرط لا، داخلاً في جوهر المعنى و مكملاً له على خلاف ما مرّ في السابق. فيسمّى الحيوان و الناطق عند اعتبارهما جنساً و فصلاً، بالأجزاء الحملية، و عند اعتبارهما مادة و صورة، بالأجزاء الحدّية.

و بهذا يعلم عدم صحّة ما اعترض به صاحب الفصول على هذا النوع من الفرق حيث قال:

إنّ أخذ العرض لا بشرط لا يصحح حمله على موضوعه، فانّا إذا قلنا: زيد عالم، أو متحرك، يمتنع حمل العلم و الحركة عليه و إن اعتبر لا بشرط، بل مصحح الحمل أنّ مفاد المشتق باعتبار هيئته مفاد ذو هو فلا فرق بين قولنا ذو بياض و قولنا ذو مال، فكما أنّ المال إن اعتبر لا بشرط لا يصحّ حمله على صاحبه، فكذلك البياض، و مجرّد استقلال أحدهما) المال (بالوجود دون الآخر) البياض (لا يجدي فرقاً في المقام، فالحقّ أنّ الفرق بين المشتق و مبدئه هو الفرق بين الشيء وذي الشيء، فمدلول المشتق أمر اعتباري منتزع من الذات بملاحظة قيام المبدأ بها.(1)

وجه الإشكال: انّه خلط بين المقامين و زعم أنّ لحاظ الماهية لا بشرط في المقام الثاني على غرار لحاظ الماهية لا بشرط في المقام الأوّل، و لذلك أورد انّ العلم و الحركة مهما لوحظا لا بشرط، لا يصحّ حملهما على الذات ما لم يقدّر فيهما لفظة» ذو «و لكنّه غفل عن الفرق بين اللحاظين، فاللابشرطية و البشرطلائية في المقام الأوّل غير داخلين في جوهر الملحوظ، و لذلك يبقى الملحوظ على وحدته، بخلاف المقام الثاني، فالمفهومان داخلان في جوهر الملحوظ فيصبح الملحوظ كمفهومين مختلفين يكون لأحدهما قابلية الحمل دون الآخر. و لذلك يقول الشيخ الرئيس في المقام الثاني:

ص:249


1- - الفصول: 62.

إنّ الماهية قد تؤخذ بشرط لا، بأن يتصور معناها بشرط أن يكون ذلك المعنى وحده بحيث يكون كلّ ما يقارنه زائداً عليه، فيكون جزءاً لذلك المجموع مادة له، فيمتنع حمله على المجموع) الإنسان (لانتفاء شرط الحمل، و قد تؤخذ لا بشرط، بأن يتصوّر معناها مع تجويز كونه وحده، و كونه لا وحده، بأن يقترن مع شيء آخر فيحمل على المجموع، و الماهية المأخوذة كذلك قد تكون غير محصلة بنفسها في الواقع، بل يكون أمراً محتملاً للمقولية على الشيء مختلفة الماهيات) كما هو شأن الجنس (، و إنّما يتحصل بما ينضاف إليها فيتخصص به و يصير بعينها أحد تلك الأشياء فيكون جنساً و المنضاف إليه الذي قومه و جعله أحد تلك الأشياء فصلاً.(1)

إلى هنا أوضحنا ما ذكره صاحب الكفاية، كما أوضحنا مقصود صاحب الفصول و عدم تمامية كلامه، غير أنّ الواجب إيضاح ما ذكره أهل المعقول حول كون الحيوان جنساً تارة و مادة أُخرى و كذلك الناطق فصلاً و صورة.

و الذي يمكن أن يقال في المقام) و التفصيل موكول إلى محله (هو أنّ الحد كالحيوان الناطق، بالنسبة إلى المحدود كالإنسان يلاحظ على وجهين:

الأوّل: أن يلاحظ كلّ من المفهومين على وجه الإبهام و الإجمال من دون أن يكون لها مفهوم تام، فيلاحظ الحيوان بما انّه جسم نام حساس متحرك بالإرادة الذي يصلح لأن يشكّل أحد الأنواع كالإنسان و الفرس، فعندئذ إذا نسب إلى الإنسان أو غيره من الأنواع يكون نفس النوع، لا جزءاً من النوع، إذ معنى ذلك أن الحيوان في حركته الجوهرية يصل إلى مقام الإنسانية، و عندئذ يتّحد مع الناطق، و في هذا اللحاظ لا يعد الحيوان جزءاً) للمحدود (و لا الناطق كذلك، بل تُتناسى الجزئية لما عرفت من أنّ الجنس في هذا اللحاظ يتحصّل بالناطق و يكون نفس

ص:250


1- - المنظومة: قسم الحكمة: 91. نقلاً عن الشيخ الرئيس.

الإنسان، فلذلك يصحّ أن يقال: الإنسان حيوان أو الحيوان ناطق، أو غيرهما، و يسمّى» الحيوان الناطق «أجزاء حملية في مقابل ما سيوافيك في المورد الثاني.

الثاني: أن يلاحظ كلّ من الحيوان و الناطق بما هما مفهومان متحصلان و يكون كلّ واحد جزءاً من ماهية الإنسان و يتشكل الإنسان من اجتماعهما، ففي هذا اللحاظ أي النظر إليها بعنوان الجزئية للمحدود يسمّى الحيوان مادة ذهنية، و الناطق صورة ذهنية، و يمتنع حمل الحيوان على الإنسان لأنّه أصبح عندئذ جزء الإنسان لا نفسه، و لا يصحّ حمل الجزء على الكلّ فلا يقال: زيد يد، و لأجل تلك الحالة يوصفان بكونهما أُخذا بشرط لا، غير قابلين للحمل، كما يسمى بالأجزاء الحدية.

و بذلك يعلم مضمون الجملة المعروفة بين أهل المعقول حيث قالوا: إنّ الجنس و الفصل(1) من أجزاء الحد لا من أجزاء المحدود أي الإنسان، و معنى الجملة أنّ الحيوان و الناطق إذا لوحظا جنساً و فصلاً للمحدود، يصبح كلّ منهما نفس الإنسان لا جزئه، و لو وصفا بالجزئية فإنّما هو باعتبار كونهما من أجزاء الحد، لا من أجزاء المحدود أي الإنسان لما عرفت من أنّهما في هذا اللحاظ عين المحدود و نفسه.

نعم لو لوحظا بما انّهما مادة و صورة ففي هذه الحالة يكون كلّ جزء للمحدود فيكون الحيوان جزءاً لماهية الإنسان فيمتنع الحمل، كما يكون الناطق جزءاً له فيمتنع الحمل فيطلق عليهما المادة و الصورة ) الذهنيتين (مكان الجنس و الفصل.

و لعلّ هذا المقدار من الإيضاح كاف في المقام، و التفصيل يطلب من محله.

ص:251


1- - أي ما ينطبق عليه الجنس و الفصل كالحيوان الناطق لا عنوانهما، إذ بهذا العنوان ليسا من أجزاء الحدّ كما مرّ.

هذا هو الكلام في المشبه به، و أمّا الكلام في المشبه فنقول:

إنّ المشتق و المبدأ كالجنس و المادة، فالأوّل منهما مفهوم مبهم غير متحصّل و إنّما يتحصّل بما يحمل عليه، بخلاف الثاني فانّه مفهوم متحصّل في نفسه آب عن الحمل.

أقول: إنّ قياس المشتق و المبدأ بالجنس و المادة، قياس مع الفارق، فانّ مصحح حمل الجنس على الفصل هو تقوّمه بالفصل في عالم المفهوم، لما عرفت من أنّ الجنس مفهوم مغمور، مبهم، يحتاج إلى ما يخرجه من الإبهام في ذلك الظرف، و هذا بخلاف المشتق بالنسبة إلى موضوعه لعدم تقوّم مفهوم المشتق بالموضوع فهو غير الموضوع مفهوماً، و إن اتحدا وجوداً، و شتّان بين الاتحادين، فالأوّل يتّحد مع الموضوع في المفهوم، و الآخر يختلف معه فيه و يتّحد معه في الوجود.

و بعبارة أُخرى: انّ الجنس هو المفهوم المغمور الذي لم تتعين حدوده و خصوصياته إلاّ بالفصل بحيث لو وجد في الخارج يكون عين الفصل عينية اللامتحصل مع المتحصل، و هذا بخلاف المشتق فانّ مسوغ الحمل ليس إبهام مفهومه، فانّه ذو مفهوم متحصّل و متعيّن إلاّ من جهة الموضوع، و هذا غير الإبهام في المفهوم، بل مسوّغ الحمل قيامه بالموضوع في عالم التكوين، فشتان بين المسوّغين، فوجه الشبه بين الجنس و المشتق غير موجود كما لا يخفى.

إيضاح و إكمال

لما كان ما ذكروه من الفرق بين المشتق و المبدأ من خلال التشبيه بالجنس و الفصل، مجرّد دعوى بلا برهان، بل كان صرف التشبيه، حاول غير واحد من أهل المعقول إقامة البرهان عليه بوجوه أربعة، ترجع بعضها إلى المحقّق الدواني، و إليك البيان:

ص:252

الأوّل: ما ذكره أهل المعقول في الفرق بين العرض و العرضي، أنّ العرض تارة يلاحظ بما هو هو و انّه موجود في قبال موضوعه فهو بهذا اللحاظ بياض و لا يصحّ حمله على موضوعه مثل الجسم، كيف و المفروض أنّه لوحظ بنحو المبائنة مع الموضوع، و الحمل هو الاتحاد في الوجود.

و أُخرى يلاحظ بما أنّه ظهور موضوعه و طور لوجوده و شأن من شئونه، و ظهور الشيء و طوره و شأنه لا يباينه فيصحّ حمله عليه، إذ المفروض انّ هذه المرتبة من مراتب وجود الشيء، و الحمل هو الاتحاد في الوجود.

و بعبارة أُخرى: انّ واقع البياض يطرد العدم من جانب ماهيته أوّلاً، فيكون اللابياض بياضاً، و من جانب موضوعه فيكون اللاأبيض، أبيض، فبما أنّه يطرد العدم عن جانب ماهيته يقال له البياض، و بما انّه يطرد العدم عن جانب موضوعه، يقال له: الأبيض.

و هكذا الضرب بما أنّه يطرد العدم عن ماهيته، يطلق عليه الضرب، و بما أنّه يطرد العدم عن جانب موضوعه يطلق عليه الضارب.

فتحصل من ذلك أنّ للبياض و الأبيض مفهوماً واحداً، يختلفان بالاعتبار، فوزان الضرب وزان البياض، و وزان الضارب كوزان الأبيض.

و هذا التقرير، بيان جديد لكون الفرق بين المبدأ و المشتق بشرط لا و لا بشرط.

يلاحظ على ذلك البيان بوجهين:

أوّلاً: انّه لا يتم في كلّ مشتق كأسماء الأزمنة و الأمكنة حيث لا يعدّ المبدأ» الضرب «من شئون الزمان و المكان، و مع ذلك يصح حمله عليه هنا مقتل الحسين أو هذا اليوم مقتله) عليه السلام (، و إنّما يجري في بعض المشتقات كالمبدإ بالنسبة إلى الفاعل و المفعول.

ص:253

و ثانياً: انّ ابتناء الفرق بين المبدأ و المشتق على هذا التقرير الوارد عن الحكماء في دراسة عالم الكون من غير نظر إلى عالم الألفاظ ابتناء غير صحيح، فانّ معاني الألفاظ إنّما تؤخذ من الإمعان فيما يتبادر منها عند أهل اللسان لا ممّا حقّقه الحكماء عند دراسة صحيفة الكون الذي لا صلة له بعالم الألفاظ فإنّ ما ذكروه في الفرق بين العرض و العرضي يرجع إلى دراساتهم صحيفة الكون، يقول الحكيم السبزواري:

و عرضي الشيء غير العرض ذاك البياض ذاك مثل الأبيض

الثاني: ما نقله الحكيم السبزواري في تعاليقه على الأسفار من انّا إذا رأينا شيئاً أبيض، فالمرئي بالذات هو البياض، و نحن قبل ملاحظة أنّ البياض عرض و العرض لا يوجد قائماً بنفسه، نحكم بأنّه بياض و أبيض، و لو لا الاتّحاد بالذات بين البياض و الأبيض لما حكم العقل بذلك في هذه المرتبة، و لم يجوِّز قبل ملاحظة هذه المقدمات، كونه أبيض، لكن الأمر بخلاف ذلك.

يلاحظ عليه: بأنّا و إن نحكم عند رؤية البياض قبل ملاحظة أنّه عرض و انّ العرض لا يوجد قائماً بنفسه بأنّه أبيض، و الملاحظة التفصيلية و إن كانت غير موجودة عند الرؤية، لكن الملاحظة الإجمالية موجودة ارتكازاً، لأنّ الإنسان طيلة حياته يشاهد أنّ البياض لا يوجد إلاّ مع موضوعه، فهو مع هذا العلم الموجود في خزانة ذهنه إذا رأى البياض، و حمل عليه الأبيض، فإنّما حمل على البياض الذي لا يفارق الموضوع، فلا يدلّ ذاك الحمل على خروج الذات و النسبة عن مفهومه.

الثالث: أنّ المعلّم الأوّل و مترجمي كلامه عبروا عن المقولات بالمشتقات، و مثلوا لها بها فعبّروا عن الكيف بالمتكيف و مثلوا لها بالحار و البارد، فلولا الاتحاد

ص:254

بالذات لم يصحّ ذلك التعبير و التمثيل إلاّ بالتكلّف، بأن يقال: ذكر المشتقات لتضمنها مبادئها.(1)

الرابع: نقل عن بهمنيار تلميذ الشيخ الرئيس قال: إنّ الحرارة لو كانت قائمة بذاتها، لكانت حرارة و حارة.(2)

يلاحظ عليه: بأنّه لا حجّية لكلام أرسطو و مترجمي كلامه.

و مثله ما نقل عن تلميذ الشيخ الرئيس، إذ هو قضية شرطية لا تثبت بها اللغة.

المسألة الثالثة: في ملاك الحمل

قد اشتهر بينهم أنّ ملاك الحمل أمران:

المغايرة من جهة و الاتحاد من جهة أُخرى، و المغايرة إمّا تكون بالاعتبار كما في قولنا:» زيد زيد « فالأوّل منهما يغاير الثاني اعتباراً، حيث يحتمل فيه في بادئ النظر، جواز سلب الشيء عن نفسه فيرده بقوله » زيد «، أو بالإجمال و التفصيل كما في قولنا:» الإنسان حيوان ناطق «أو مغايراً بالمفهوم كما في الحمل الشائع الصناعي» زيد قائم «.

هذا هو حال التغاير، و أمّا الوحدة فالمثالان الأوّلان يتّحد الموضوع مع المحمول في المفهوم كما أنّ المثال الثالث يتحدان مصداقاً.

هذا هو المعروف بين المنطقيّين و اختاره المحقّق الخراساني، و قال: ملاك الحمل هو الهوهوية و الاتحاد من وجه و المغايرة من وجه آخر كما يكون بين المشتقات و الذوات.(3)

ص:255


1- - الأسفار: 1/42.
2- - نهاية الدراية: 1/94.
3- - كفاية الأُصول: 1/84.

و أوضحه المحقّق الاصفهاني بأنّ ملاك المغايرة في الحمل الأوّلي، هو المغايرة بالاعتبار الموافق للواقع، و في الحمل الشائع هو المغايرة بالمفهوم.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكروه و إن كان صحيحاً لكنّه ليس ملاكاً و مصححاً للحمل و ذلك أنّ مناط الحمل هو الوحدة و الهوهوية لا التغاير و الاثنينية، فاشتراط وجود التغاير بين الموضوع و المحمول في صحّة الحمل أمر غير صحيح.

نعم يشترط في كون الحمل مفيداً و خارجاً عن اللغو و العبث أن يكون بينهما تغاير إمّا اعتباراً أو إجمالاً و تفصيلاً، أو مفهوماً.

و الحاصل: انّ ملاك الحمل هو تناسي التغاير حتى يجوز الحمل بأنّه هو و التوجه إلى التغاير يعوق الإنسان عن الحمل.

نعم الحمل المفيد رهن وجود التغاير بينهما، و إلاّ يصير أمراً لغواً، فهؤلاء خلطوا بين ملاك الحمل و كونه مفيداً.

ثمّ إنّه يظهر من صاحب الفصول الاكتفاء بهذا الملاك في مورد يكون التغاير اعتبارياً و الوحدة حقيقة، كما في قولك:» هذا زيد «أو» الناطق إنسان «و أمّا إذا انعكس بأن كان التغاير حقيقياً و الاتحاد اعتبارياً كقولك:

الإنسان جسم، فيحتاج وراء ذلك إلى أمرين آخرين:

الأوّل: أخذ الأجزاء لا بشرط كما في المثالين، و لأجل ذلك لا يصحّ حمل البدن و النفس على الإنسان، و لا يصحّ أن يقال: الإنسان بدن) مكان الجسم (، أو نفس، مكان الناطق.

الثاني: تنزيل الأشياء المتغايرة منزلة شيء واحد و ملاحظتها من حيث المجموع و الجملة، فتلحقه بذلك الاعتبار وحدة اعتبارية، فيصحّ حمل كلّ جزء من

ص:256


1- - نهاية الدراية: 1/97.

الأجزاء لا بشرط، عليه. و حمل كلّ واحد منها على الآخر بالقياس إليه نظراً إلى اتحادهما فيه.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ملاحظة التركيب يعطي للمحمول وصف الجزء من الكل، و عندئذ يمتنع حمله عليه كامتناع حمل كلّ جزء على الكلّ، مثل زيد يد أو رجل، اللّهمّ إلاّ بالعناية و المجاز، و إلى هذا الإشكال يشير المحقّق الخراساني بقوله:» بل يكون ذلك مخلاً لاستلزام المغايرة بالجزئية و الكلية أي كون الموضوع كلاً و المحمول جزءاً.

و ثانياً: انّه خلط بين الأجزاء الحدية و الأجزاء الحملية، فلو لوحظ كلّ من الجنس و الفصل جزءاً للنوع و تركبه منهما فعندئذ يصير كلّ من الحيوان و الناطق من الأجزاء الحدية و لا يصحّ حمل واحد منهما على النوع، و هذا بخلاف ما لو لوحظا على نحو الإبهام على نحو يكون كلّ عين الآخر، و عندئذ يصبحان من الأجزاء الحملية، فيصحّ أن يقال» الإنسان حيوان «فما ذكره من حديث الجزئية و الكلية من آثار الأجزاء الحدية لا الأجزاء الحملية.

المسألة الرابعة: مغايرة المبدأ للذات

قد مرّ سابقاً أنّه يشترط في صحّة الحمل أو كونه مفيداً على ما عرفت مغايرة المحمول مع الموضوع، فعند ذلك ربّما يشتبه الأمر على بعضهم من أنّه إذا كان ملاك الحمل هو المغايرة، فكيف تحمل صفاته سبحانه مثل» العالم «و» القادر «عليه سبحانه مع أنّه صفاته تعالى عين ذاته لا تغاير بينهما؟ و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني من أنّ المراد من المغايرة هو التغاير

ص:257


1- - الفصول: 62.

الاعتباري أو الإجمالي و التفصيلي أو التغاير المفهومي، و كلّ منها لا ينافي الاتّحاد العيني و الخارجي، فمفهوم العالم و القادر و إن كان غير مفهوم الموضوع و لكنّهما عينه خارجاً، و على هذا لا نحتاج في إجراء الصفات إلى التأوّل بالنقل أو التجوز.

أقول: لو كان محور البحث و روح الإشكال هو ما ذكره المحقّق الخراساني في وجود توهّم التضاد بين شرطية التغاير في صحّة الحمل و عينية صفاته مع ذاته لكان لما أجابه مجال، و ذلك لأنّه يشترط في التناقض الوحدات الثمانية و هي هنا منتفية، و ذلك لأنّ مصب التغاير هو المفاهيم، و مصب الوحدة هو العينية الخارجية، فلا تصادم بين الكلامين.

و أمّا لو كان محور البحث أمراً آخر و هو أنّ المتبادر من المشتق هو زيادة العنوان على الذات، و عندئذ يصبح جواب المحقّق الخراساني أجنبياً عن البحث، و إليك التفصيل:

إنّ مذهب الحقّ أنّ صفاته تعالى قديمة لا حادثة خلافاً للكرامية.

و انّها عين ذاته لا زائدة عليها خلافاً للأشاعرة.

فالإمامية و الأشاعرة يتفقان في كون الصفات قديمة لا حادثة، و لكنّها عند الأشاعرة زائدة على الذات تمسّكاً بظواهر بعض الآيات مثل قوله سبحانه: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ )(1) الظاهر في أنّ علمه غير ذاته، و لكن الإمامية قائلة بعينية الصفات، و إلاّ يلزم القدماء الثمانية عدد الذات و الصفات السبعة الجمالية.

هذا من جانب، و من جانب آخر أنّ المتبادر من المشتق هو المعنون، لا المبدأ فقط كما عليه الشريف، و لا الذات و النسبة و المبدأ على نحو التفصيل، بل المفهوم الوحداني المنحل عند التعمل إلى ذات و عنوان.

ص:258


1- - النساء: 166.

فإذا كان المتبادر من الصفات كالعالم و القادر هو المعنون بما هو معنون يلزم عدم صحّة إجراء الصفات الثبوتية عليه تعالى، لأنّ مقتضى المحمول في قولنا:» اللّه عالم «هو زيادة العنوان على المعنون مع أنّ العقيدة على خلافها.

فلو كان محور البحث هو هذا لأصبح كلام المحقّق الخراساني في» أنّ صفاته و إن كانت عين ذاته خارجاً لكنّه غيرها مفهوماً «أمراً لا صلة له بالإشكال.

نعم يكون كلام صاحب الفصول من الالتزام بالنقل و التجوّز في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى كلاماً مرتبطاً و إن كان غير صحيح، و ذلك لانّا نجري تلك الصفات على اللّه سبحانه كجريها على غيره من دون تجوّز و لا نقل. فعلى ذلك يجب حلّ المسألة من طريق آخر.

و يمكن حل الإشكال بوجهين:

الأوّل: ما أجاب به سيدنا الأُستاذ بأنّه لا يفهم من لفظ العالم إلاّ المعنون من حيث هو كذلك، و أمّا زيادة العنوان على المعنون و قيامه به فهو خارج عن مفهومه، فالمشتق يدل على المعنون، و العينية و الزيادة من خصوصيات المصاديق.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ دلالة الهيئة على مغايرة المبدأ لما يحمل عليه ليس أمراً خفياً لقضاء التبادر بذلك.

الثاني: أنّ المتبادر من المشتق هو المعنون، و الذات المتلبّسة بالمبدإ، و ظاهره زيادة العنوان على الذات، و نحن نجري أوصافه سبحانه عليه بهذا المعنى، و نستعملها في المعنى المتبادر عرفاً بالإرادة الاستعمالية غير انّ البرهان قام على

ص:259


1- - تهذيب الأُصول: 1/228.

عينية صفاته مع ذاته، فترفع اليد عن هذا الظهور بالدليل العقلي، فالمراد الجدي عند من قام الدليل عنده على العينية، غير المراد الاستعمالي الذي يشترك فيه العالم و الجاهل و الفيلسوف و المتكلّم.

و قيام البرهان على الوحدة لا يكون سبباً لتغيير اللغة و المتبادر العرفي، غاية الأمر أنّ الأكثرية الساحقة من الناس لا يتوجهون إلى هذه الدقائق، فيستعملون اللفظ فيه سبحانه على النحو الذي يستعملونه في غيره و لا يرون الزيادة مخلّة بالتوحيد.

و الحاصل أنّ هنا مقامين:

الأوّل: اللغة، الظهور، و التبادر.

الثاني: العقيدة و البرهان و الاستدلال.

و ليس من شأن العقيدة تفسير اللغة و المتبادر العرفي، كما أنّه ليس للظواهر أنْ تصادم البراهين العقلية، فلكلّ طريقه و مجراه.

المسألة الخامسة: في قيام المبدأ بالذات

هل يشترط في صحّة الحمل قيام المبدأ بالموضوع أولا؟ وجوه و آراء.

الأوّل: يشترط قيام المبدأ بالذات قياماً حلولياً، و هذا ما عليه الشيخ الأشعري حيث فسّر كونه سبحانه متكلّماً بأنّ التكلّم من صفات الذات القائم بها قياماً حلولياً، و كلامه هو الكلام النفسي لا الكلام اللفظي، و لا ما هو المفهوم من اللفظ.

الثاني: عدم اعتبار قيامه بالذات، بشهادة أنّه يصدق على الفاعل أنّه ضارب و مؤلم مع أنّ الضرب غير قائم بهما بل بالمؤلم و المضروب.

ص:260

الثالث: ما اختاره صاحب الفصول من أنّه يعتبر قيام المبدأ بالذات قياماً أعم من الحلول كما في قولنا » زيد عالم «أو بالصدور كما في» زيد ضارب و مولم «أو بغير هذا النحو من القيام بالوقوع عليه كما في المفعول به أو الوقوع فيه كما في أسماء الزمان و المكان كالمضرب.

نعم لا يشترط على مختاره قيام المبدأ بالذات إذا كان المبدأ ذاتاً لا وصفاً كصفاته سبحانه بالنسبة إلى ذاته، أو كان كمثل اللابن و التامر إذ ليس المبدأ أعني: التمر و اللبن قائماً ببائعهما.

الرابع: ما اختاره صاحب الكفاية من لزوم قيام المبدأ بالذات و تلبّسها به، غير أن تلبّس كلّ شيء بحسبه، ففي صفاته الجارية عليه تعالى، يكون المبدأ مغايراً له تعالى مفهوماً، و قائماً به عيناً بنحو من القيام لا أن يكون هناك اثنينية أو كان ما بحذائه غير ما بحذاء الذات. و عدم اطّلاع العرف على مثل هذا التلبّس من الأُمور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة و لو بنحو من التأمل و التعمل من العقل.

فإن قلت: إنّ مثل هذا التلبّس لا يعد عرفاً من مصاديق القيام و تلبّس الذات به.

قلت: إنّ العرف مرجع في تعيين المفاهيم لا في تطبيقها على مصاديقها.

يلاحظ عليه أوّلاً: إنّ المتبادر في القيام و التلبّس، التعدّد و الاثنينية، فإذا كان المبدأ عين الذات في عامّة المراحل، كيف يمكن أن نتصوّر قيام شيء بشيء أو تلبّسه به؟ و ما ذكره من التعابير المتكررة نوع تلاعب بالألفاظ و ليس له من الحقيقة نصيب.

و ثانياً: أنّ ما ذكره من أنّ العرف مرجع لتحديد المفاهيم لا لتعيين المصاديق

ص:261

أمر غير تام، بل العرف مرجع في كلا الموردين، و لذلك لا يعدّ لون الدم دماً واجب الاجتناب، و ذلك لأنّ لون الدم غير الدم عرفاً و إن كان حسب التحليل الطبي أو العقلي مرتبة من اللون.

و الحقّ أن يقال: انّ العقيدة لا تمسّ اللغة و لا تغيّرها، فنحن نجري صفاته تعالى عليه بما له من المعنى من دون أي نقل و تجوّز، و ظاهره زيادة العنوان على المعنون، أو تلبّس الذات بشيء ورائها، أو قيامه بها، لكن دلّ البرهان على أنّ هذا الظهور غير معتبر عقيدة، لدلالة العقل على أنّ صفاته سبحانه عين ذاته.

قال الإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (:» شهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّأه، و من جزّأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إليه، و من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه.(1)

و قوله) عليه السلام (:» لشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف «إشارة إلى ما ذكرناه من المتفاهم العرفي من الصفات، و لكن الإمام نفى الاثنينية بالبرهان، لا بالتصرّف في معاني المشتقات، و لا إشكال في أنّه يستعمله العامي و الحكيم في معنى واحد في حقّه سبحانه إرادة استعمالية غير أنّ المراد الجدي لدى الحكيم يغاير الاستعمالي.

و أظن أنّ القوم لو فتحوا باباً خاصّاً للألفاظ و معانيها، و باباً آخر للعقائد، بحيث لا يكون ظهور اللفظ مبدأً للعقيدة، و لا العقيدة صادمة لظهور اللفظ، لكان أحسن.

و الحاصل: نحن نشاطر المحقّق الخراساني الرأي في أنّ الصفات الكمالية، تطلق على الممكن و الواجب بمعنى واحد من دون أن يكون في الإطلاق الثاني

ص:262


1- - نهج البلاغة، الخطبة الأُولى.

تجوّز أو نقل لكن نختلف معه في أنّه يدّعي انّ مفهوم المشتق الذي هو التلبس و القيام صادق على الممكن و الواجب و لا يتنافيان مع عينية صفاته لذاته لأن تلبّس كلّ شيء بحسبه و لا يتوقفان على أن يكون ما بحذاء أحدهما عين الآخر.

و لكنا نجري الصفات عليه تعالى بنفس المفهوم العرفي و لكن نعتقد انّ البرهان لا يوافق هذا الظهور فيكون الظهور مراداً استعمالياً و لكنّ المراد الجدي لمن التفت إلى ذلك، غيره.

المسألة السادسة: في عدم اعتبار التلبّس الحقيقي

ربما يقال بأنّ تلبّس الذات بالمبدإ ليس شرطاً في صحّة الحمل فربّما يكون هناك حمل بلا تلبّس كما في» الميزاب جار «و الجريان قائم بالماء مع أنّه حمل على الميزاب.

و الجواب: انّ الجريان قائم بالماء حقيقة و بالميزاب ادّعاءً و تنزيلاً، فلا يشترط في القيام و التلبّس، القيام و التلبس الحقيقيّان، بل يكفي التنزيليان منهما، و هذا هو الحال في عامّة المجازات في الاسناد، فلفظ الجاري مستعمل في معناه اللغوي غير أنّ اسناده إلى الميزاب اسناد مجازي لا حقيقي و لا يشترط التلبّس الحقيقي و هذا من الوضوح بمكان.

تمّ الكلام في الأُمور الأربعة عشر التي جعلها المحقّق الخراساني كالمقدمة الواحدة لمقاصد الكتاب.

ص:263

ص:264

المقصد الأوّل في الأوامر

اشارة

و فيها فصول:

الفصل الأوّل: في مادّة الأمر و فيه جهات من البحث الفصل الثاني: فيما يتعلّق بصيغة الأمر و فيه مباحث الفصل الثالث: في أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء الفصل الرابع: في مقدّمة الواجب الفصل الخامس: في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه و فيه أُمور الفصل السادس: في جواز أمر الأمر مع العلم بانتفاء شرطه الفصل السابع: في تعلّق الأوامر بالطبائع أو الافراد الفصل الثامن: إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز؟ الفصل التاسع: في الواجب التخييري و حلّ مشاكله الفصل العاشر: في الواجب الكفائي الفصل الحادي عشر: في المطلق و المؤقت، و الموسع و المضيّق الفصل الثاني عشر: في الأمر بالأمر بفعل، هل هو أمر بالفعل؟ الفصل الثالث عشر: الأمر بالشيء بعد الأمر به، ظاهر في التأكيد أو التأسيس

ص:265

ص:266

الفصل الأوّل مادة الأمر

اشارة

و فيه جهات من البحث:

الجهة الأُولى: معنى لفظ الأمر لغة

قد ذكروا للفظ الأمر معان متعددة:

أ. الطلب، كما يقال أمره بكذا.

ب. الشأن، كما يقال شغله أمر كذا.

ج. الفعل كما في قوله: (وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ).(1)

ه. الفعل العجيب كما في قوله: (وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا ).(2)

و. الغرض كما يقال: جاء زيد لأمر كذا.

ز. الحادثة كما يقال: وقع الأمر.

و لا شكّ أنّ ما ذكروه من التفاصيل من باب خلط المصداق بالمفهوم كما هو الحال في أكثر المعاجم اللغوية حيث ذكروا للفظة» القضاء «معاني عشرة مع أنّه ليس له إلاّ معنى واحد و هو إتقان الفعل، و ما ذكر من المعاني مصاديق له: كقوله سبحانه: (وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ )(3). فانّ التشريع الإلهي بما أنّه يتمتّع

ص:267


1- - هود: 97.
2- - هود: 58.
3- - الإسراء: 23.

بالإتقان استعمل في حقّه القضاء أي الحكم المتقن. و مثله المقام فانّ قسماً من هذه المعاني من المصاديق و بعضها من الوضوح بمكان، فانّ الغرض في قوله:» جاء زيد لأمر كذا «مستفاد من اللام فالمدخول مصداق الغرض لا مفهومه، و هكذا في قوله سبحانه: (فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا ) فالمدخول مصداق للتعجب لا مستعمل في مفهومه.

بقي الكلام في تحديد معنى الأمر، فهناك آراء نشير إلى بعضها.

انّه موضوع لمعنيين:

الطلب و الشأن و هو خيرة صاحب الفصول الطلب و الشيء و هو خيرة المحقّق الخراساني الطلب و الفعل و هو المختار عندنا أمّا الأوّل: فقد استند صاحب الفصول في كون الشأن من معاني الأمر إلى قول القائل:» شغلني أمر كذا «مع أنّه من المحتمل أن يكون المراد هو الفعل أي شغلنا فعل كذا، كما اعتمد المحقّق الخراساني في استعماله في الشيء على قول القائل: رأيت اليوم أمراً عجيباً، مع أنّه من المحتمل أن يكون الأمر بمعنى الفعل.

أضف إلى ذلك انّه لو كان الأمر بمعنى الشيء يلزم صحّة استعمال أحد المترادفين مكان الآخر، فكما يقال:» اللّه شيء «و» العقل شيء «، يجب أن يصحّ القول بأنّ اللّه أمر، و العقل أمر، كلّ ذلك يعرب عن عدم كون الأمر بمعنى الشيء.

هذا كلّه حول القولين، و أمّا القول الثالث أي كون المعنى الثاني للأمر هو الفعل، فيكفي في ذلك قوله سبحانه: (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما

ص:268

لا يُبْدُونَ ).(1)

أي كلّما يجري في الكون من السنن التي هي من أفعاله سبحانه بيد اللّه، و قوله: (قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ).(2)

و قوله: (وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ )(3) أي شاور هؤلاء في أُمورك و أفعالك و ما تفعل و ما تترك.

ثمّ إنّ الأمر بمعنى الطلب بالقول المخصوص يجمع على أوامر، كما أنّه بمعنى الفعل يجمع على أُمور.

نعم لو قلنا بأنّ الأمر هو نفس الأمر المخصوص فلا يصحّ منه الاشتقاق لكونه معنى جامداً غير قابل للسيلان، بخلاف ما إذا قلنا إنّه حقيقة في الطلب بالقول المخصوص.

ثمّ إنّ الثمرة تظهر فيما لو ورد لفظ الأمر في الكتاب و السنّة و لم يعلم المقصود منه، فعندئذ تصل النوبة إلى الأُصول العملية، فلو كان للحكم حالة سابقة يستصحب، و إلاّ فلو كان الشكّ في التكليف، يقع مجرى للبراءة و إلاّ، يقع مجرى الاشتغال.

الجهة الثانية: في اعتبار العلو و الاستعلاء

هل يعتبر العلو و الاستعلاء في صدق مفهوم الأمر، أو لا يعتبران أو فيه تفصيل؟ فيه أقوال و آراء:

الأوّل: اعتبار العلو دون الاستعلاء.

الثاني: اعتبار أحدهما.

ص:269


1- - آل عمران: 154.
2- - البقرة: 210.
3- - آل عمران: 159.

الثالث: اعتبار كليهما و هذا هو المختار.

الرابع: عدم اعتبار واحد منهما.

و إليك دراسة الكلّ واحداً تلو الآخر.

أمّا القول الأوّل: فهو خيرة المحقّق الخراساني، فذهب إلى اعتبار العلو في معنى الأمر فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمراً، و لو أطلق عليه الأمر، كان بنحو من العناية.

كما أنّ الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء، فيكون الطلب من العالي أمراً و لو كان مستخفضاً بجناحه.

أقول: ما ذكره) قدس سره (من اعتبار العلو لا غبار عليه، و الدليل عليه هو التبادر، فانّ في لغة العرب ألفاظاً ثلاثة لكلّ مورده:

1. الأمر، و يرادفه في اللغة الفارسية» فرمان «.

2. الالتماس، و هو طلب المساوي من المساوي.

3. السؤال، و هو طلب السافل من العالي.

فالأوّل هو الطلب الصادر من العالي، و الثاني هو الطلب الصادر من المساوي، و الثالث هو الطلب الصادر من السافل.

و هذا يُثبت دخول العلو في مادة الأمر و أمّا عدم اعتبار الاستعلاء فلم يذكر عليه دليلاً و سيوافيك اعتباره أيضاً.

و أمّا القول الثاني: فقد نقله في» الكفاية «و ضعّفه، و حاصل استدلاله أنّه يكفي أحدهما، أمّا العلو فلما مرّ، و أمّا كفاية الاستعلاء فلأجل تقبيح العقلاء، الطالب السافل من العالي المستعلي عليه، و توبيخه لأجل أنّه يصدق عليه الأمر.

و ردّه بقوله: إنّ التوبيخ ليس على الأمر، بل على استعلائه حقيقة، و لو أطلق

ص:270

عليه الأمر فإنّما هو بالمشاكلة، أو لكونه بصورة الأمر لأنّه مقتضى استعلائه.

و أمّا القول الثالث: أعني: اعتبار كليهما، فهذا هو المختار أمّا العلو فواضح لما عرفت من التبادر.

و أمّا الاستعلاء فنمنع صدق الأمر على طلب العالي من السافل بلسان الاستدعاء، و ذلك لأنّ مورد البحث هو ما إذا صدر الطلب بلسان المولوية و العبودية، و في مثله يعتبر الاستعلاء، و لو كان الكلام خارجاً عن تلك الدائرة فلا يطلق عليه انّه الأمر بل يطلق عليه الاستدعاء حتى و لو صدر عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و يشهد لذلك ما رواه ابن عباس حيث إنّ بريرة كانت زوجة للعبد فلما اعتقت كان لها الخيار حسب الحكم الشرعي بين البقاء على حبالة زوجها أو المفارقة، فاختارت هي، المفارقة; فاتّصل زوجها بعمّ النبي العباس بن عبد المطلب ليكلّم النبي حتى يأمرها بالبقاء، فلمّا كلمها النبي، و قال لها:» إنّه زوجك « فقالت بريرة: أ تأمرني يا رسول اللّه؟ فقال: لا، إنّما أنا شافع، قال: فخيّرها، فاختارت نفسها.(1)

ترى أنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (لما يخاطبها، بقوله:» إنّه زوجك «، الظاهر في أنّ الإبقاء مع حبالة الزوج السابق، كان مورد رغبة النبي، فسألته) صلى الله عليه و آله و سلم (و قالت: أ تأمرني بكلامك هذا؟ فنفى النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (الأمر و أثبت الشفاعة، فلو كان وجود العلو كافياً في صدق الأمر لما كان لبريرة السؤال عن مقصود النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (لملازمة العلو وحده مع الأمر.

و هذا أي سؤالها عن مقصود النبي يدلّ على أنّ خطاب العالي على قسمين:

قسم يكون مقروناً بالاستعلاء فيكون أمراً، و قسم آخر يكون بلسان الاستدعاء فيكون شفاعة.

ص:271


1- - مسند أحمد: 1/215.

و أمّا القول الرابع: فهو خيرة المحقّق البروجردي القائل بعدم أخذ واحد منهما في صدق الأمر مستدلاً، بقوله: إنّ حقيقة الطلب على قسمين: قسم يطلب فيه انبعاث المطلوب منه من نفس الطلب، بحيث يكون داعيه و محرّكه إلى الامتثال صرف هذا الطلب، و هذا ما يسمّى أمراً.

و قسم يقصد فيه انبعاث المطلوب منه من الطلب منضماً إلى بعض المقارنات التي توجب وجود الداعي في نفسه، كطلب المسكين من الغني، و هذا القسم من الطلب يسمّى التماساً(1) و القسم الأوّل يناسب العالي. و لا يراد منه كون الطالب عالياً، مأخوذاً في مفهوم الأمر، حتى يكون معنى» آمرك بكذا «أطلب منك و أنا عال.

فعلى هذا فحقيقة الطلب على قسمين غاية الأمر أنّ القسم الأوّل منه حقّ من كان عالياً، و مع ذلك لو صدر عن السافل بالنسبة إلى العالي كان أمراً أيضاً و لكن يذمّه العقلاء على طلبه بالطلب الذي ليس شأناً له فيقولون أ تأمره؟! كما أنّ القسم الثاني يناسب شأن السافل، و لو صدر عن العالي أيضاً لم يكن أمراً فيقولون لم يأمره بل التمس منه و يرون هذا تواضعاً منه.(2)

يلاحظ عليه: أنّ تقسيم الطلب إلى قسمين، و إن كان تقسيماً صحيحاً، لكن الكلام في كيفية وضع لفظ الأمر للقسم الأوّل فما هو المخصص لعدم شموله للقسم الثاني، فلا بدّ أن يضمّ إلى معنى الطلب شيء آخر حتى يصدّه عن الشمول للقسم الآخر، فما هو ذاك القيد؟ فهل هو:

1. ما يكون الانبعاث من نفس الطلب، و هو كما ترى.

ص:272


1- - طلب السافل من العالي يسمّى سؤالاً و دعاءً لا التماساً.
2- - نهاية الأُصول: 761/75 بتلخيص.

2. ما يكون الطالب، عالياً بالنسبة إلى المطلوب منه.

و لا ثالث، و الثاني هو المتعيّن، و لا يعني هذا القول دخول العلو بالمعنى الاسمي في مدلول الأمر حتى يكون معنى قوله:» آمرك «أي أطلب منك و أنا عال، و لو فسّر بذلك فهو من قبيل زيادة الحدّ على المحدود، بل يراد دخوله على وجه الإجمال و على نحو المعنى الحرفي.

الجهة الثالثة: في دلالة مادة الأمر على الوجوب

اختلفت كلمتهم في أنّ لفظة الأمر حقيقة في الوجوب، أو مشترك معنوي بينه و بين الوجوب.

ذهب المحقّق الخراساني إلى الأوّل، و استدلّ عليه بوجوه تالية:

1. انسباق الوجوب منه عند الإطلاق.

2. الأمر بالحذر من مخالفة أمر الرسول، كقوله سبحانه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ )(1) و الضمير في» أمره «يرجع إلى النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (لما تقدم من قوله سبحانه: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً )(2) و» المخالفة «يتعدى بنفسه يقال خالف أمره، و لكن جاءت هنا مقروناً ب» الجارّ «لتضمنها معنى الإعراض، أي يعرضون عن أمر الرسول.(3)

3. و قوله:» لو لا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسواك «(4)الدالّ على أنّ الأمر

ص:273


1- - النور: 63.
2- - النور: 63.
3- - مجمع البيان: 4/158 ط صيدا.
4- - وسائل الشيعة: الجزء 2، الباب 3 من أبواب السواك، الحديث 4.

يلازم المشقة و هي آية الوجوب.

4. قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (لبريرة بعد قولها: أ تأمرني يا رسول اللّه؟ قال:» لا إنّما أنا شافع « أي أ تلزمني بالبقاء مع الزوج؟ فأجاب: لا.

5. و صحّة توبيخ العبد الذي خالف أمر المولى، كقوله سبحانه: (ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ).(1)

6. و الإيعاد بالسجن عند المخالفة، كقوله سبحانه حاكياً عن امرأة العزيز: (وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ ).(2)

ثمّ إنّه) قدس سره (أجاب عن أدلة القائلين بالاشتراك المعنوي حيث استدلّوا بالوجوه التالية:

أ: الأمر ينقسم إلى الإيجاب و الاستحباب و التقسيم آية أنّه حقيقة في الجامع بينهما.

يلاحظ عليه: أنّ التقسيم بنفسه قرينة على أنّ المراد من المقسم هو الأعم من الوجوب، و الكلام فيما لا يكون هناك قرينة.

ب: انّ الأمر يستعمل في الوجوب و الندب فلو لم يكن موضوعاً للقدر المشترك بينهما لزم أن يكون إمّا مجازاً في الندب أو مشتركاً لفظياً و كلاهما على خلاف الأصل.

يلاحظ عليه: بأنّه لا دليل على هذه الترجيحات كما تقدّم في تعارض الأحوال فانّ الأُصول اللفظية إنّما يحتجّ بها فيما إذا كان الشكّ في المراد لا في مثل المقام حيث إنّ الهدف تبيّن كيفية الإرادة، و انّها هل على نحو الحقيقة أو الأعمّ منها و من المجاز؟ إلى غير ذلك.

ص:274


1- - الأعراف: 12.
2- - يوسف: 32.

ج: انّ فعل المندوب طاعة، و كلّ طاعة فهو فعل المأمور به، ففعل المندوب، فعل المأمور به.

يلاحظ عليه: منع الكبرى لو أُريد من المأمور به، المعنى الحقيقي أي فعل الواجب، و لو أُريد الأعم منه و من غيره لا يثبت المدعى. هذا توضيح ما في الكفاية.

هناك نكتة مهمة كان على صاحب الكفاية التنبيه عليها، و هي:

أنّه لا شكّ في استفادة الوجوب من لفظة الأمر و من مرادفه في الفارسية) فرمان (إنّما الكلام في مَنْشَئِها، فهل الوجوب مدلول لفظي وضعي، بمعنى أنّ لفظه موضوع للوجوب، أو هو مقتضى الإطلاق و انّ الوجوب لا يحتاج إلى بيان زائد، بخلاف الندب، فإذا لم يكن هناك بيان زائد يحمل على الوجوب، أو لا هذا و لا ذاك، بل هو مقتضى حكم العقل؟ هنا احتمالات ثلاثة ندرسها.

لا سبيل إلى الأوّل، إذ ليس الوجوب و الندب من مداليل لفظ الأمر، بل الكل من المفاهيم الانتزاعية، فانّ لفظ الأمر وضع لنفس الطلب وحده، و إنّما ينتزع الوجوب من استعماله مقروناً بشيء يدل على شدّة رغبة المولى بالفعل و عدم رضاه بتركه، كما أنّ الندب ينتزع من استعماله مقروناً بما يدل على خلاف ذاك.(1)

نعم الاحتمال الثاني قريب بناء على إلقاء الأمر(2) بلا قرينة دالة على الندب كاف في بيان الوجوب، بخلاف الندب فهو رهن بيان زائد من تجويز المخالفة و سيوافيك أنّ مقتضى صيغة الأمر هو كونه نفسيّاً، عينياً تعيينياً، لأنّها لا تحتاج إلى

ص:275


1- - و سيوافيك تفصيله في دلالة صيغة الأمر على الوجوب أو الندب و الكلام في المقام في لفظ» الأمر «فلا يختلط عليك البحث.
2- - من فرق بين لفظ الأمر و صيغته.

بيان زائد سوى الأمر و البعث، بخلاف مقابليها فانّها رهن القيود التي تفيد انّ الأمر غيري لا نفسي، أو كفائي لا عيني، أو تخييري لا تعييني، و سيأتي توضيح ذلك في محله العاجل.

و الاحتمال الثالث هو الأقرب و هو حكم العقل بأنّ أمر المولى لا يترك بلا جواب، و انّه يلزم تحصيل المُؤمِّن من العقوبة، و لا يجوز تركه باحتمال انّه يرضى لتركه.

و لذلك، يجب العمل بالأمر إلاّ إذا دلّ الدليل على الترخيص، فيكون الوجوب من المداليل العقلية، لا اللفظية الوضعية، و لا الإطلاقية.

الجهة الرابعة: في أنّ الموضوع له هو الطلب الإنشائي

اشارة

لما اختار المحقّق الخراساني أنّ مفاد الأمر، هو الطلب، حاول بيان واقع هذا الطلب و أنّ المراد منه هو الطلب الإنشائي لا الحقيقي الذي يقال له الطلب بالحمل الشائع الصناعي.

و لا يختص هذا البحث بمادة الأمر، بل يعم صيغته فانّها أيضاً موضوعة حسب مختاره للطلب، و انّ المراد منه هو الإنشائي، لا الحقيقي.

و على هذا كان الأنسب إيراده في الفصل الثاني المختص بصيغة الأمر، و أن يبحث عن مفاد الأمر بمادته و صيغته بصفقة واحدة.

و على كلّ تقدير، انّ الطلب على قسمين:

1. اعتباري إنشائي.

2. واقعي حقيقي.

و الذي يمكن إنشاؤه باللفظ هو المعنى الاعتباري منه، لا الحقيقي كما هو

ص:276

الحال في عامّة الإنشائيات، فانّ الزوجية الحقيقية غير قابلة للإنشاء، بل القابل له، هو الاعتباري المنتزع من الحقيقي بنوع من التشبيه.

و كذا الرئاسة، فمنها تكويني و قد منح اللّه سبحانه الرأس تدبير الأعضاء فهو يدير و يدبّر تكويناً، و منها اعتباري و هو المدير المنصوب لإدارة مجتمع خاصّ، يأمر و ينهى.

و التكويني من كلّ هذه الأُمور، رهن علّة تكوينية، فاللّه سبحانه خلق العين و الأُذن زوجين، بخلاف الاعتباري منه، فهو رهن ترتّب غرض عقلائي لاعتباره و فرضه، فالرجل الهندي يتزوج امرأة إيرانية، و بينهما من حيث الموطن و الثقافة، بعد المشرقين، لكن الاعتبار يفرضهما زوجين يتساهمان في الحياة حلوها و مرّها.

و نظير ذلك، الإرادة، فمنها حقيقيّة تتجلّى في الذهن بعد مقدّمات، من تصوّر الشيء المراد و التصديق بفائدته، و الميل إليه، و... إلى أن تنتهي تلك الأُمور إلى استتباعها حركة العضلات، نحو إنجاز العمل أو نحو الأمر به فالإرادة التكوينية، رهن علّة تكوينية توجب ظهورها على لوح النفس.

كما أنّ منها قسماً إنشائياً، يفرض لأجل ترتب غرض عقلائي عليه فقول المولى:» افعل «أو آمرك بكذا إنشاء للإرادة باللفظ على غرار الإرادة التكوينية، غير انّها تفترق عن الثانية، انّ الإرادة الحقيقية أمر واقعي ظاهر على لوح النفس، بخلاف الأُخرى فهي صرف اعتبار و فرض.

و على ضوء ذلك فالطلب و الإرادة كفرسي رهان في عامّة المجالات و المظاهر من حيث المفهوم و المصداق و الإنشاء.

الف: فالطلب و الإرادة يتّحدان مفهوماً و بينهما من الحمل، الحمل الأوّلي.

ب: الطلب و الإرادة يتّحدان مصداقاً، فالظاهر في لوح النفس طلب و إرادة بالحمل الشائع.

ص:277

ج: الطلب و الإرادة يتّحدان إنشاءً، فالمنشأ بلفظ الأمر أو افعل أمر واحد، له اسمان لكن كلّما أُطلق الطلب ينصرف إلى القسم الإنشائي من هذه الأقسام، و كلما أُطلقت الارادة تنصرف إلى القسم الحقيقي منها.

و لعلّ بعض من ذهب إلى تعدّد الطلب و الإرادة، و عدم وحدتهما، أراد مغايرة الإنشائي من الطلب، مع الفرد الحقيقي من الإرادة و إلاّ فلا وجه للتعدد.

و يشهد على الوحدة أنّ الإنسان إذا حاول أن يفعل شيئاً مباشراً، أو يقوم به غيره نيابة لم يجد في قرارة ذهنه، سوى شيئاً واحداً يعبّر عنه تارة بالطلب التكويني و أُخرى بالإرادة الحقيقية، و لذلك ذهب الأصحاب إلاّ من شذّ إلى وحدتهما في مجال التكوين و الحقيقة، كوحدتهما في عالم المفهوم و الإنشاء، و من ذهب من الأصحاب إلى التعدّد، فإنّما أخذ من الطلب، الجانب الإنشائي و من الإرادة القسم الحقيقي، و لا شبهة في مغايرتهما، إنّما الكلام مقايسة كلّ إلى الآخر في رتبة واحدة.

و ليس هذا من خصائص الطلب و الإرادة، بل الأمر كذلك في مورد النهي فلا تجد في لوح النفس إلاّ أمراً واحداً كالكراهة و ليس شيء آخر سواها حتى تسمّيه بلفظ آخر، خلافاً لمورد الأمر حيث نجد هناك لفظين مختلفين، لكن يشير إلى معنى واحد.

و مثلهما: الترجّي و التمنّي، بل الجمل الخبرية، فليس في مورد الجميع سوى أمر نفساني، يعبّر عنه في مورد الإنشاء بالترجي و التمنّي، و في مورد الخبر بالعلم، فليس في عامة الموارد إنشائية أو إخبارية سوى أمر واحد، و يعبّر عنه بلفظ واحد كما هو الغالب أو بلفظين كما في مورد الأمر.

هذا توضيح ما في» الكفاية «مع ما في تعبيره من التعقيد.

ص:278

و كان عليه) قدس سره (الإشارة إلى نكتة مهمة و هي ما هو السبب لطرح هذه المسألة؟ أي: وحدة الطلب و الإرادة أو تعددهما.

و لأجل إزاحة النقاب عن وجه الحقيقة يلزم البحث في النقاط التالية:

أ. ما هو السبب لطرح هذه المسألة في علم الكلام؟ ب. ما هو المراد من الكلام النفسي الذي أعقب طرحَ تلك المسألة؟ ج. الأدلة الأربعة للأشاعرة على إثبات الكلام النفسي و نقدها.

د. ما معنى كونه سبحانه متكلّماً عند المعتزلة و الإمامية؟ ه. ما هو موقفنا من المسألة المطروحة: وحدة الطلب و الإرادة؟ و إليك البحث فيها واحدة تلو الأُخرى.

الأُولى: ما هو السبب لطرح هذه المسألة في علم الكلام؟

ربّما يسأل الإنسان نفسَه عما هو السبب لطرح مسألة وحدة الطلب و الإرادة) كما عليه الإمامية و المعتزلة (أو تعددهما) كما عليه الأشاعرة (و ما دور تلك المسألة في علم الكلام؟ و يعلم السبب من خلال الوقوف على سيرها التاريخي.

إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى ذاتي و فعلي، و المائز بينهما هو أنّ الأوّل أُحادي التعلّق، بمعنى أنّه لا يقبل النفي و الإثبات، و هذا كالعلم و القدرة، فهو سبحانه يعلم و يقدر على الإطلاق و لا يصحّ أن يقال و لو في مورد خاص لا يعلم و لا يقدر عليه، و هذا بخلاف صفات الفعل المنتزعة من إيجاده سبحانه و خلقه، فهي ثُنائية التعلّق، أي تقبل النفي و الإثبات و يقال: يُحيي و لا يحيي، يميت و لا يميت، يخلق و لا يخلق، و لو باعتبار تعلّق أحدهما بموجود و الآخر بغيره.

ص:279

و قد ذكر شيخنا الكليني ذلك الميزان في كتاب الكافي حيث قال: أ لا ترى انّا لا نجد في الوجود ما لا يُعلم و لا يُقدر عليه و كذلك صفاته الذاتية الأزلية، فلسنا نصفه بقدرة، و عجز، و علم، و جهل، و سفه، و حكمة، و عزة، و دولة. و لكن يجوز أن يقال: يُحب من أطاعه، و يُبغض من عصاه، و يُوالي من أطاعه، و يُعادي من عصاه، و انّه يرضى و يسخط، إلى آخر ما أفاد.(1)

هذا و قد اختلفت كلمة أهل العلم في صفة التكلّم، فأهل الحديث أي أتباع أحمد بن حنبل) المتوفّى عام 241 ه (و الأشاعرة الذين يقتفون أثر الشيخ أبي الحسن الأشعري (260 324 ه (على أنّها من صفات الذات كالعلم، و القدرة و الإرادة، و هي غير هذه الثلاثة.

و اختارت الإمامية و المعتزلة أنّها من صفات الفعل و إن اختلفت الطائفتان في كيفيّة تقرير كونها من صفات الفعل بعد الاتفاق على عدم كونها من صفات الذات، و سيوافيك الفرق بين التقريرين.

و لما كان القول بأنّ التكلّم من صفات الذات مستلزماً لكونه قديماً كالذات ذهب أهل الحديث و الأشاعرة برُمّتهم إلى أنّ كلامه سبحانه قديم ليس بمخلوق.

قال أحمد بن حنبل: القرآن كلام اللّه ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، و من زعم أنّ القرآن كلام اللّه عزّ و جلّ، و وقف و لم يقل مخلوق و لا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل، و من زعم بأنّ ألفاظنا و تلاوتنا له مخلوقة و القرآن كلام اللّه، فهو جهمي، و من لم يُكفّر هؤلاء القوم فهو مثلهم.(2)

و على هذا اتّفقت الحنابلة و الأشاعرة على أنّ التكلّم وصف ذاتي قديم، و كلامه مثل ذاته قديم، و بالتالي: القرآن قديم.

ص:280


1- - الكافي: 1/111.
2- - السنة: 49.

و بذلك تشبّهوا في كلامهم هذا من غير وعي بقول النصارى، حيث قالوا: بأنّ المسيح كلمة اللّه و هي قديمة، و هؤلاء أيضاً قالوا بأنّ القرآن كلام اللّه و هو قديم، و قد أثبتنا في بحوثنا الكلامية أنّ القول بأنّ التكلّم من صفات الذات و انّ كلامه قديم و القرآن أمر غير حادث، إنّما تسرّب من قبل علماء النصارى الذين كان لهم صلة وثيقة بعلماء البلاط الأموي و العباسي.(1)

ثمّ بعد الاتّفاق بأنّ التكلّم من صفات الذات اختلفت الأشاعرة و الحنابلة في تفسير تلك الصفة، فالحنابلة قالوا بأنّ كلامه و حروفه و جمَله و أصواته قديمة حالّة في الذات(2)، و لما كان هذا القول واضح البطلان، حاول الإمام الأشعري لما تاب عن الاعتزال و التحق بأهل الحديث حاول أن يصحح عقيدة أهل الحديث بكون التكلّم من صفات الذات و انّه قديم بقدم الذات، خالياً عن تلك الوصمة العالقة بعقيدة أهل الحديث، و ذلك من خلال تفسير كلامه بالكلام النفسي.

و كان من نتائج القول بالكلام النفسي هو تعدد الطلب و الإرادة، و سيوافيك عند دراسة أدلة الأشاعرة انّ القول بالكلام النفسي يلازم تعدد الطلب و الإرادة.

الثانية: ما هو المراد من الكلام النفسي؟

إنّ الكلام النفسي الذي طرحه الإمام الأشعري في تفسير كلامه سبحانه قد اكتنفه غموض كثير، حتى أنّ المحقّق الطوسي وصفه بأنّه غير معقول، و قال: و النفساني غير معقول.(3)

و قد نقل الشريف المرتضى عن شيخه المفيد أنّه كان يقول: ثلاثة أشياء لا

ص:281


1- - انظر كتاب بحوث في الملل و النحل: 3/379، لشيخنا الأُستاذ (مد ظله).
2- - شرح المواقف: 8/92.
3- - كشف المراد: قسم الإلهيات: 32.

تُعقل، و قد اجتهد المتكلمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلّ حيلة فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات تناقض المعنى فيها مفهوم الكلام، اتحاد النصرانية يعني التثليث مع ادّعاء التوحيد، و كسب النجارية، و أحوال البهشمية.(1)

و كان على الشيخ المفيد أن يعطف عليها الكلام النفسي.

و على الرغم من ذلك ففي الأشاعرة من تصدّى لتفسيره، منهم:

1. قال العضدي في» المواقف «: هو المعنى القائم بالنفس الذي يعبّر عنه بالألفاظ و نقول هو الكلام حقيقة، و هو قديم قائم بذاته تعالى، و هو غير العبارات، إذ قد تختلف بالأزمنة و الأمكنة، و لا يختلف ذلك المعنى النفسي.(2)

2. الفاضل القوشجي في شرحه على تجريد الاعتقاد، فقال: إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك، يجد في نفسه معاني يعبر عنها بالألفاظ التي يسمّيها بالكلام الحسّي، فالمعنى الذي يجده في نفسه و يدور في خلده و لا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع و الاصطلاحات و يقصد المتكلم حصوله في نفس السامع ليجري على موجبه، هو الذي نسمّيه الكلام النفسي.(3)

3. و قال الفضل بن روزبهان) المتوفّى عام 927 ه (في ردّه على كتاب العلاّمة باسم كتاب نهج الحقّ:

إذا أراد المتكلّم بالكلام، فهل يفهم من ذاته أنّه يزوّر و يرتب المعاني فيعزم على التكلم بها، كما انّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم فانّه يرتب معاني و أشياء و يقول في نفسه سأتكلم بهذا؟ فالمنصف يجد في نفسه هذا البتة.(4)

ص:282


1- - الفصول المختارة: 1292/128 ط النجف الأشرف.
2- - شرح المواقف: 8/94.
3- - شرح التجريد للقوشجي: 420.
4- - محمد حسين المظفر، دلائل الصدق: 1/146.

ما ذكره هؤلاء الأعلام أوضح شيء وقفت عليه في الكتب الكلامية للأشاعرة. و مع ذلك كلّه فما ذكروه لا يسمن و لا يغني من جوع، لأنّ التكلّم عندهم من صفات الذات و صفة التكلّم عندهم غير صفة الإرادة و العلم، و ما ذكروه من المعاني المنتظمة في النفس التي لا تختلف مع اختلاف اللغات ترجع إلى أحد الأمرين: إمّا معاني إخبارية فترجع إلى التصور و التصديق، أو إنشائية فترجع إلى الإرادة و الكراهة و نظائرهما من الترجي و التمني و الاستفهام، فعندئذ يكون الكلام النفسي من فروع العلم في الإخبار، و فروع الإرادة و الكراهة في الإنشائيات.

و بذلك أصبح الكلام النفسي بين الأحجيّة و اللغز و ما يرجع إلى العلم و الإرادة.

إلى هنا تمّ الكلام في النقطة الثانية.

الثالثة: أدلّة الأشاعرة على الكلام النفسي

استدلّت الأشاعرة على وجود الكلام النفسي بوجوه نذكر منها أربعة:

الأوّل: استدلّ السيد الشريف على الكلام النفسي و تبعه الفضل بن روزبهان في شرحه على كتاب » نهج الحقّ «للعلاّمة الحلي بأنّ الرجل قد يأمر بما لا يريده، كأمره للاختبار فليس فيه الإرادة و لكن يطلق عليه الأمر، و هذا دليل على وجود شيء في النفس المصحح لإطلاق الأمر عليه، و ليس هو إلاّ الطلب و هو الكلام النفسي.(1)

فهذا الدليل متضمّن لإثبات الكلام النفسي كما يتضمن تعدد الإرادة و الطلب.

و الجواب: أنّ الأوامر الاختبارية على قسمين:

ص:283


1- - شرح المواقف: 8/94.

قسم تتعلّق الإرادة فيه بنفس المقدمة، و يكون نفس الفعل غير مراد، كما هو الحال في الأمر بذبح إسماعيل، فانّ المقصود هو ترفيع إبراهيم بهذا العمل حتى يُؤثر رضا ربِّه على عواطفه النفسية، و هذا يتم بالتهيؤ للعمل من خلال الإتيان بالمقدمات و لذلك لما جاء إبراهيم بالمقدمات أُوحي إليه (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ).(1)

ففي هذا القسم نمنع عدم وجود الإرادة، بل هي موجودة متعلّقة بالمقدمة، و بذلك ينخرم الاستدلال، لأنّه مبني على عدم وجود الإرادة حتى يثبت بذلك وجود شيء آخر باسم الطلب الذي يصحِّح صدق الأمر.

و قسم آخر تتعلّق الإرادة بنفس الإنشاء دون المقدّمة و لا ذيها، و هذا كما إذا أمر الوالد ولده بالأمر لغاية تدريبه للرئاسة و تدبير الأُمور، ففي هذا المقام أيضاً الإرادة موجودة لتعلّقها بنفس الأمر بالأمر.

و بذلك ظهر أنّه ليس في الأوامر الاختيارية مورد يفقد الإرادة حتى نحتاج في تصحيح الأمر إلى شيء ثان باسم الطلب.

الثاني: انّ العصاة و الكفّار مكلّفون بما كُلّف به أهل الطاعة و الإيمان، و تكليفهم لا يكون ناشئاً من إرادة اللّه سبحانه، و إلاّ لزم تفكيك إرادته عن مراده، فلا بدّ أن يكون هناك مبدأ آخر للتكليف و هو الطلب. و هذا يدل على تغاير الإرادة و الطلب أوّلاً، و وجود صفة أُخرى في ذاته غير الإرادة.

و حاصل الاستدلال: أنّ الأمر في مورد العصاة و الكفّار لا يخلو من حالتين:

1. إمّا أن تكون هناك إرادة من اللّه بالنسبة إليهما.

2. أو لا تكون إرادة منه إليهما.

ص:284


1- - الصافات: 105.

فعلى الأوّل يكون هؤلاء مكلفين لكن يلزم تفكيك المراد من الإرادة، بشهادة المخالفة.

و على الثاني يلزم عدم كونهم مكلفين فلا يصحّ العقاب.(1)

فلا محيص عن القول بأنّهم مكلّفون لا بملاك الإرادة بل بملاك الطلب، و تفكيكه عن المطلوب غير ضائر.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني بالتفكيك بين الإرادة التكوينية و الإرادة التشريعية، بأنّ ما لا ينفك عن المراد هي الأُولى من الإرادتين دون الثانية، و إليك نص كلامه حيث قال:

إنّ استحالة التخلّف إنّما تكون في الإرادة التكوينية و هو العلم بالنظام على النحو الكامل التام دون الإرادة التشريعية و هو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف، و ما لا محيص عنه في التكليف إنّما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية.(2)

ثمّ إنّه) قدس سره (أورد في مسألة أُخرى و هي أنّ سبب الإطاعة و الإيمان هو موافقة الإرادة التشريعية من اللّه مع الإرادة التكوينية منه، فعندئذ يختار العبد الإيمان و الطاعة، و سبب الكفر و العصيان مخالفة الإرادة التشريعية مع التكوينية منه سبحانه، فالتشريعية تتعلّق بالإيمان و الطاعة، و التكوينية منه تتعلق بالخلاف فيصدر منه الكفر و العصيان.

أقول: إنّ ما ذكره ذيلاً خارج عمّا هو المطلوب في المقام و لذلك نرجئه إلى المقام الثاني الذي يأتي بعد الفراغ عن مسألة وحدة الطلب و الإرادة و تعدّدهما.

و لو كان) قدس سره (مقتصراً بما قبل الذيل لأغنانا عن الخوض في المسألة الثانية غير أنّ كلامه في الذيل جرّه إلى البحث عن الجبر و الاختيار إلى أن وصل إلى مقام

ص:285


1- - شرح المواقف: 8/95.
2- - الكفاية: 1/99.

انكسر رأس يراعه، و نحن نرجع إلى ذلك البحث بعد الفراغ من وحدة الطلب(1) و الإرادة و عدمها.

و على كلّ حال فما ذكره في الجواب غير صحيح لوجهين:

الأوّل: أنّ تفسير الإرادة في كلا الموردين بالعلم تفسير خاطئ لاستلزامه إنكار الإرادة في ذاته تقدّست أسماؤه و الفاعل الفاقد للإرادة أشبه بالفاعل غير المختار، و هو إنكار لذات جامعة لجميع الصفات الجمالية و الجلالية.

الثاني: انّ ظاهر كلامه أنّ الإرادة التكوينية تتعلّق بفعل النفس و لذلك لا تنفك عن المراد لكونها تحت اختيار النفس، و الإرادة التشريعية تتعلق بفعل الغير، و بما أنّه خارج عن اختيار النفس ربّما تنفك الإرادة عن المراد فيريد المولى شيئاً و يريد العبد شيئاً آخر.

و لكنّه غير تام، لأنّ الإرادة لا تتعلق إلاّ بما يقع تحت اختيار المريد، و الذي هو تحت اختيار الفاعل إنّما هو أفعاله، سواء كان مبدأً للتكوين أو مبدأً للتشريع، و أمّا فعل الغير فهو خارج عن اختيار الآمر فكيف تتعلق الإرادة بالخارج عن حيطة اختياره؟ و الحاصل: أنّ دراسة ماهية الإرادة يدفعنا إلى القول بأنّها لا تتعلق إلاّ بما يقع تحت اختيار المريد و هو ليس إلاّ فعل نفسه، و أمّا فعل الغير فهو خارج عن اختياره، فكيف يطلبه و يريده من دون فرق بين أن يكون الآمر هو اللّه سبحانه أو الموالي العرفية.

نعم انّ اللّه سبحانه قادر على أن يلجئه إلى الطاعة و لكن المفروض غير ذلك و أنّ المطلوب قيامه بالفعل عن اختيار.

ص:286


1- - لاحظ ص 296.

و بهذا تبيّن أنّ جواب المحقّق الخراساني غير تام.

و الأولى في الجواب أن يقال: انّ الإرادة في كلا المقامين تعلقت بفعله سبحانه و أنّه ليس هنا أي تفكيك بين الإرادة و متعلقها، ففي القسم التكويني منها تعلقت بإيجاد العالم، فإذا قال له كن فيكون.

و في القسم التشريعي تعلقت إرادته بإنشاء البعث و انشاء الطلب و قد تحقّق الانشاء و لم يلزم منه تفكيك الإرادة عن المراد.

و على ضوء ذلك نحن نختار أنّ الكفار و العصاة مكلّفون، و ملاك التكليف إرادته سبحانه لكن ليس متعلقها أفعالهم الجوانحية و الجوارحية، بل متعلقها إنشاء البعث و الطلب و إقامة الحجة عليهم، و هو متحقّق. و يكفي هذا المقدار كونهم مكلفين.

الثالث: ما ذكره الفضل بن روزبهان، قال: إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم، و خالق الكلام لا يقال انّه متكلّم، كما أنّ خالق الذوق لا يقال انّه ذائق، فيجب أن يكون كلامه قائماً بنفسه و ذاته، و ليس هو إلاّ الكلام النفسي.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما استدلّ به مبني على أنّ الهيئة موضوعة للدلالة على القيام الحلولي، وعليه لا يكون سبحانه متكلماً إلاّ بحلول الكلام في ذاته، و بما أنّ حلول الحروف و الجمل و الأصوات في ذاته أمر محال فالحال في ذاته هو الكلام النفسي أي المعاني المنتظمة.

و لكن المبنى غير تام، إذ قد يكفي في صدق المشتق قيام المبدأ بالذات بنحو من الأنحاء سواء كان القيام حلولياً كالحي و الميت أو صدورياً كالضارب، أو لأجل صلتها بالمبدإ كاللابن و التامر، و ليس صدق المشتقات بإحدى هذه

ص:287


1- - دلائل الصدق: 1/147.

الملابسات قياسياً حتى يقاس الذائق و الطاعم على المتكلّم و يستدل بصدق الأخير على صدق الأولين.

و يمكن أن يقال: انّ اختلاف المبادئ من حيث التعدية و اللزوم يوجب صدق بعض المشتقات عليه سبحانه دون بعض، فما كان منها متعدياً، يكفي فيه الإيجاد و الصدور، و يستند إليه سبحانه، كالقابض و الباسط و المتكلّم، و ما كان من قبيل اللازم يشترط فيه الحلول فلا يطلق عليه سبحانه كالنائم و الذائق و القائم.

ثمّ إنّ هذا الدليل يركِّز على إثبات الكلام النفسي و لا صلة له بوحدة الطلب و الإرادة أو تعدّدهما.

و مثله الدليل التالي.

الرابع: انّ الكلام كما يصحّ إطلاقه على الكلام اللفظي كذلك يصحّ إطلاقه على الكلام الموجود في النفس، كما في قوله سبحانه: (وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ )(1) فأطلق» القول « على الموجود في الذهن. و قوله سبحانه: (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ ).(2)

و الجواب عن الآية الأُولى: انّ إطلاق القول فيها على الموجود في الضمير من باب العناية فانّ القول من التقوّل باللسان فلا يطلق على المعاني المنتظمة في النفس إلاّ بالعناية كما يقول الإنسان: إنّ نفسي صحيفة علم، و أمّا الآية الثانية فلا صلة لها بالمقام لأنّها ترجع إلى أنّ نية السوء يُحاسَب بها العبد.

و حصيلة البحث: انّ الكلام النفسي أمر باطل و ما تصوّروه من الكلام النفسي فهو في الإنشائيات من قسم الإرادة و الكراهة أو التمنّي و الترجّي أو

ص:288


1- - الملك: 13.
2- - البقرة: 284.

الاستفهام، و في الإخبار من قبيل التصوّر و التصديق، فإذا كان المبنى باطلاً فما فرّعوا عليه من تغاير الطلب و الإرادة مثله.

الرابعة: معنى كونه سبحانه متكلّماً عند العدلية
اشارة

اتّفق المسلمون على أنّ من صفاته سبحانه كونه متكلّماً و لكن اختلفوا في تفسيره إلى مذاهب أربعة:

أ. إنّه سبحانه متكلّم بمعنى حلول الحروف و الأصوات و الجمل و الكلمات في ذاته، و هو مذهب أهل الحديث.

ب. انّه متكلّم بالكلام النفسي، و هو مذهب الشيخ الأشعري الذي قام به بإصلاح عقيدة أهل الحديث، و قد زاد الطين بلّة.

ج. انّه سبحانه متكلّم بمعنى أنّه يوجد ألفاظاً في الشجر و الجبل و الحجر، و هذا مذهب المعتزلة.

د. كلامه سبحانه فعله و هو نظرية الإمامية.

قد وقفت على التفسيرين الأوّلين و ضعفهما، و إليك التفسير الثالث الذي عليه أئمّة المعتزلة.

قالوا: كلامه سبحانه أصوات و حروف ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي، و قد صرح بذلك القاضي عبد الجبار، فقال: حقيقة الكلام الحروف المنظومة و الأصوات المقطعة، و هذا كما يكون منعِماً بنعمة تُوجد في غيره، و رازقاً برزق يوجد في غيره، فهكذا يكون متكلّماً بايجاد الكلام في غيره، و ليس من شرط الفاعل أن يحلّ عليه الفعل.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ تفسير التكلّم بهذا المعنى لا يختص بالمعتزلة بل

ص:289


1- - شرح الأُصول الخمسة: 528; شرح المواقف: 495.

هو شيء تقبله عامة الطوائف الإسلامية، و هذا هو شارح المواقف يقول: هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره، بل نحن نقوله و نسمّيه كلاماً لفظيّاً و نعترف بحدوثه و عدم قيامه بذاته تعالى و لكن نُثبت أمراً وراء ذلك.

و ثانياً: أنّ تفسير التكلّم بهذه الصورة إنّما يصح فيما إذا كلّم سبحانه شخصاً من أنبيائه كما في قوله سبحانه: (وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً )(1). و ليس تكليمه عندئذ منحصراً بما ذكر، بل له أقسام ثلاثة أشار إليها سبحانه في بعض الآيات، فقال: (وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ).(2)

و قد بين تعالى انّ تكليمه الأنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية:

1. (إِلاّ وَحْياً ).

2. (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ).

3. (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ).

فقد أشار بقوله (إِلاّ وَحْياً ) إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة و خفاء.

كما أشار بقوله (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) إلى الكلام المسموع لموسى) عليه السلام (في البقعة المباركة . قال تعالى: (فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ).(3)

و أشار بقوله (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) إلى الإلقاء الذي يتوسط فيه ملك الوحي، قال سبحانه: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ ).(4)

ص:290


1- - النساء: 164.
2- - الشورى: 51.
3- - القصص: 30.
4- - الشعراء: 193 194.

ففي الحقيقة الموحي في الأقسام الثلاثة هو اللّه سبحانه تارة بلا واسطة بالإلقاء في الروع، أو بالتكلّم من وراء حجاب بحيث يسمع الصوت و لا يرى المتكلّم، و أُخرى بواسطة الرسول) أمين الوحي (، فهذه الأقسام الثلاثة هي الواردة في الآية المباركة.

هذا كلّه حول مذهب المعتزلة; و أمّا مذهب الإمامية فحاصله ما يلي:

مذهب الإمامية في كونه متكلّماً

مذهب الإمامية، و هو يتركب من أمرين:

أ. حقيقة كلامه إذا خاطب الأنبياء و هذا هو الذي سبق تفسيره.

ب. وصفه بالتكلّم إذا لم يكن هناك مخاطب خاص، فلا بدّ من تفسيره بوجه آخر، و هو أنّ كلامه ليس من قبيل الأصوات و الألفاظ، بل عبارة عن الأعيان الخارجية و الجواهر و الأعراض، و قد سمّى سبحانه فعله كلاماً في غير واحد من الآيات، كما سيوافيك، و تسمية الكون بعامّة أجزائه كلاماً لأجل أنّه يفيد ما يفيده الكلام اللفظي.

توضيحه: أنّ الكلام في أنظار الناس هو الحروف و الأصوات الصادرة من المتكلّم، القائمة به و هو يحصل من تموج الهواء و اهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج، زال الكلام معه، و لكن الإنسان الاجتماعي يتوسّع في إطلاقه، فيطلقه على الخطبة المنقولة، و الشعر المروي مع أنّ الكلام الواقعي قد زال بزوال الموجات و الاهتزازات، و ليست الخطب و الأشعار المكتوبة منها، و مع ذلك يطلق عليهما الكلام توسّعاً، و وجه التوسّع اشتراك الثاني مع الأوّل في الأثر و هو الكشف عمّا في

ص:291

ضمير الإنسان.

كما يتوسّع أكثر من ذلك فيطلقه على كلّ فعل يكشف عمّا في ضمير الفاعل من العلم و القدرة و العظمة و الكمال، غير أنّ دلالة الألفاظ على السرائر و الضمائر وضعيّة اعتبارية، و دلالة الأفعال و الآثار على ما عليه الفاعل من العظمة، تكوينية.

و لأجله نرى أنّه سبحانه يسمّي عيسى بن مريم كلمة اللّه و يقول: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ )(1)وجه الإطلاق هو أنّ ولادة المسيح من أُمّه من دون أن يكون هناك لقاح الذكر و الأُنثى، يعد آية من آياته و معجزة من المعاجز و كاشفاً عن قدرته و عظمته سبحانه.

و في ضوء هذا الأصل يَعُدّ سبحانه كلّ ما في الكون من كلماته و يقول: (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً ).(2)

و يقول سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ ).(3)

قال أمير المؤمنين و سيد الموحدين) عليه السلام (في» نهج البلاغة «:

» يُخْبِرُ لا بِلسان وَ لَهَوات، و يَسْمَعُ لا بخُروق و أدوات، يقولُ و لا يَلفِظُ، وَ يَحْفَظُ و لا يَتَحَفَّظُ، وَ يُريد و لا يُضْمِر، يُحِبّ و يرضى مِنْ غَيرِ رِقَّة، وَ يُبْغِضُ وَ يغضب من غير مشقّة، يقول لمن أراد كونه: كن. فيكون، لا بصوت يُقْرَع، و لا

ص:292


1- - النساء: 171.
2- - الكهف: 109.
3- - لقمان: 27.

بِنداء يُسمَع، و إنّما كلامه سبحانه فِعْلٌ منه أنشأه وَ مَثَّلَهُ، لم يكن من قبل ذلك كائناً، و لو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً «.(1)

و قد نقل عنه) عليه السلام (أنّه قال مبيّناً عظمة خلقة الإنسان:

أ تزعم أنّك جرمٌ صغيرٌ و فيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ

و أنت الكتابُ المبينُ الذي بأحرُفِهِ يَظهَرُ المُضْمَرُ

فكلّ ما في صحيفة الكون من الموجودات الإمكانية كلماته، و تخبر عمّا في المبدأ من كمال و جمال و علم و قدرة.

و إلى ذلك يشير المحقّق السبزواري في منظومته بقوله:

لسالك نهج البلاغة انتَهَج كلامه سبحانه الفعل خَرَج

إنّ تَدْرِ هذا، حمدَ الأشيا تعرِف إن كلماتُه إليها تُضف(2)

إلى هنا تمّ البحث عن النقطة الرابعة، و حان البحث عن النقطة الخامسة و هي موقفنا من اتحاد الطلب و الإرادة.

الخامسة: موقفنا من وحدة الطلب و الإرادة
اشارة

قد عرفت أنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى اتّحاد الطلب و الإرادة في المراحل الثلاث، أي مفهوماً و إنشاءً و مصداقاً، و لكن مقتضى التحقيق خلاف ما أفاد.

أمّا المرحلة الأُولى أي وحدتهما مفهوماً فهو غير تام للفرق بينهما بوجوه:

1. المفهوم من الطلب، غير المفهوم من الإرادة، بدليل عدم صحّة استعمال الطلب مكان الإرادة و بالعكس يقول سبحانه: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ

ص:293


1- - نهج البلاغة، الخطبة 179، ج 2، ص 122، ط عبده.
2- - شرح منظومة السبزواري، لناظمها، ص 190.

بِكُمُ الْعُسْرَ )(1) و لكن لا يصحّ أن يقال يطلب اللّه منكم اليسر و لا يطلب منكم العسر.

قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» طلب العلم فريضة على كلّ مسلم «.(2) فلا يقوم مكانه الإرادة، بأن يقال إرادة العلم فريضة على كلّ مسلم و مسلمة.

2. تستعمل الإرادة فيما إذا كان المراد قريب الوصول غير محتاج إلى مقدمات كثيرة، بخلاف الطلب فانّه السعي الذي يكون الوصول إلى المطلوب رهن مقدّمات كثيرة.

3. الإرادة أمر قلبي جانحي، و الطلب أمر خارجي جارحيّ.

و مع هذه الاختلافات كيف يمكن ادّعاء الترادف بين اللفظين، و انّهما متحدان مفهوماً.

و أمّا المرحلة الثانية: مرحلة الإنشاء و الاعتبار فالمشكلة فيها تكمن في أنّ الأُمور الاعتبارية، بما أنّها أُمور عرفية ترجع حقيقتها إلى جعل مثال لأمر خارجي ملموس كالزوجية و المالكية، و أمّا الأُمور البعيدة عن الحسّ القائمة بالنفس كالإرادة، فلا تمس الحاجة إلى جعل فرد اعتباريّ منها حتى يسمّى بالإرادة الإنشائية أو بالترجّي أو التمنّي الإنشائيين، بل غاية ما يطلبه العقلاء في تلك الموارد، إظهارها و إبرازها.

و أمّا الطلب فلا مانع من جعل فرد انشائي يقوم مقام فرد تكويني، فانّ الإنسان ربّما يطلب خروج زيد من البيت، فتارة يقوم بالتكوين، فيأخذه بيده و يُخرجه منه، و أُخرى بإنشاء ذلك الأمر التكويني، بالإشارة باليد أو الحاجب، أو التكلّم بلفظ أخرج.

ص:294


1- - البقرة: 185.
2- - الكافي: 1/30.

و بذلك اتضح انّه ليس لنا إرادة إنشائية، و أمّا الطلب فله وجود تكويني و إنشائي، و معه كيف يمكن أن يتّحدان في مقام الإنشاء مع أنّه ليس للإرادة فرد إنشائي؟! و أمّا المرحلة الثالثة: أي عدم اتحادهما مصداقاً، فلأنّ الإرادة التكوينية من الأُمور النفسانية موطنها النفس و الطلب من الأُمور الجوارحية، موطنها الخارج عن حيطة النفس، فكيف يمكن الحكم باتحادهما؟! و بذلك تبيّن تغاير الطلب و الإرادة في المراحل الثلاث، لكن لا بالمعنى الذي عليه الشيخ الأشعري، فانّ الكلام النفسي باطل، و مع ذلك فالطلب يغاير الإرادة في عامّة المراحل.

و من آفات التحقيق قلة التتبع، و أنّ أكثر المفكرين يغترون بإبداعاتهم دون أن يتحملوا عبء التحقيق، و على ذلك فلا غرو في رمي المحقّق الخراساني النزاعَ القائم بين الأشاعرة و المعتزلة طِوال قرون على قدم و ساق، باللفظي و انّ من قال بالوحدة، فقد رام وحدة كلّ مع الآخر، مع حفظ المرحلة، فقال: إنّ كلاً منهما متحدان مفهوماً و إنشاء و مصداقاً، و من قال بالتعدد، فقد نسب الفرد الحقيقي من الإرادة مثلاً إلى الفرد الإنشائي منه، ثمّ تبجّح) قدس سره (بتحقيقه و تصليحه فقال» ثمّ إنه يمكن مما حققنا ان يقع الصلح بين الطرفين و لم يكن نزاع في البين بأن يكون المراد من حديث الاتحاد، ما عرفت من العينية مفهوماً و وجوداً حقيقياً و إنشائياً، و يكون المراد من المغايرة و الاثنينية، هو اثنينية الإنشائي من الطلب، و الحقيقي من الإرادة.

و لكنّك بعد الوقوف على السير التاريخي للمسألة تقف على عدم صحّة هذا النوع من التصالح و أنّ النزاع حقيقي، كيف؟! و كان النزاع بين الطائفتين، عنيفاً، و التاريخ يعبّر عنه بمحنة أحمد و أتباعه.

ص:295

إكمال

إنّ المحقّق الخراساني لما ذكر أنّ للّه سبحانه إرادتين: تكوينية و تشريعية، و انّ ما لا ينفك عن المراد إنّما هو القسم الأوّل لا الثاني، عرج على مبحث آخر من دون ملزم، و هو أنّ الإيمان رهن موافقة الإرادة التكوينية للّه سبحانه مع الإرادة التشريعية منه، كما أنّ الكفر و العصيان رهن مخالفتهما، فإذا توافقتا فلا بدّ من الإطاعة و الإيمان، و إذا تخالفتا فلا مناص من اختيار الكفر و العصيان.

ثمّ إنّه بعد ما ذكر هذا لمع في ذهنه إشكالان ذكرهما بصيغة السؤال و الجواب، نذكرهما كالتالي:

الإشكال الأوّل: فإذا كان الكفر و العصيان، و الإطاعة و الإيمان بإرادته سبحانه التي لا تتخلف عن المراد فلا يصحّ أن تتعلّق بها الإرادة لكونها خارجية عن الاختيار المعتبر في التكليف عقلاً.

هذا هو السؤال أو الإشكال.

فأجاب عنه: بأنّ تعلّق الإرادة التكوينية بفعل الإنسان لا يلازم الجبر لأنّها تعلّقت بصدور الفعل عن العبد بقيد الإرادة و الاختيار، فلو صدر عنه جبراً يلزم تخلّف إرادته عن مراده تعالى.

و بالجملة هناك أُمور ثلاثة:

الأوّل: تعلّق الإرادة الإلهيّة بفعل العبد.

الثاني: تعلّقها بصدور الفعل عنه لكن لا مطلقاً، بل عن إرادة و اختيار.

الثالث: ما يترتّب على فعل العبد من الكفر و العصيان.

و إنّما يلزم الجبر لو لم يتوسط الثاني بين الأوّل و الثالث.

الإشكال الثاني: إنّ الكفر و الإيمان و إن صدرا عن العبد بإرادة و اختيار إلاّ

ص:296

أنّ هنا أمراً آخر يُضفي على الفعل طابع الجبر، و هو أنّ كلّ ما في الكون قد تعلقت به الإرادة الأزلية و المشيّة الإلهية، و بما أنّ الإرادة جزء من صحيفة الكون، فقد تعلّقت بها الإرادة الأزلية، فيصبح وجودها أمراً حتمياً، و معه لا يكون الفعل أمراً اختيارياً.

و أجاب عنه) قدس سره (بقوله: إنّ ثمة أُموراً أربعة:

الأوّل: العقاب.

الثاني: الكفر و العصيان.

الثالث: الاختيار و الانتخاب.

الرابع: الشقاء الذاتي.

و الأوّل مسبب عن الثاني و هكذا، فالعقاب مسبب عن الكفر، و هو بدوره مسبب عن الاختيار الذي ينتهي إلى الشقاء الذاتي. و حيث إنّ الذاتي لا يعلل فلا يصحّ القول لم جعل السعيد سعيداً و الشقي شقياً. فانّ السعيد سعيد في بطن أُمّه، و الشقي شقي في بطن أُمّه. فلا مناص من دخول الكافر النار كما لا مناص من دخول المؤمن الجنة، لكون الأوّل شقيّاً بالذات و الثاني سعيداً كذلك.

و بما انّ المحقّق الخراساني لم يخرج من البحث بنتيجة باهرة بل أثار في نفس الوقت إشكالين لم يخرج من عهدة الاجابة عنهما، و هما:

1. انّ كفر الكافر متعلّق الإرادة الأزلية فلا محيص عن كفره.

2. انّ عقوبة الكافر معلول للشقاء الذاتي و لو بوسائط فلا مناص من كفره.

و كلا الإشكالين لا ينتجان إلاّ الجبر.

اعتذر عن هذه النتيجة السيئة للبحث بقوله:» قلم اينجا رسيد سر

ص:297

بشكست «أي وصل اليراع هنا و انكسر رأسه، كناية عن عدم الخروج بنتيجة صحيحة.

و هذا ما دعانا إلى عقد بحث مستقل حول الجبر و التفويض و إن كان البحث فيه استطراداً.(1)

و لو لا كلام المحقّق الخراساني في المقام لاقتصرنا على القدر الذي قدّمناه.

ص:298


1- - بما انّ هذا البحث من بحوث شيخنا الأُستاذ دام ظلّه كان بحثاً مسهباً مترامي الأطراف ننشره مستقلاً بفضل من اللّه سبحانه.

الفصل الثاني في صيغة الأمر

اشارة

و فيه مباحث:

المبحث الأوّل ما هو معنى صيغة» افعل «؟

قد خصّصنا المبحث الأوّل من مباحث هذا الفصل لبيان الموضوع له لصيغة» افعل «كما خصّصنا المبحث الثاني لبيان كيفية استفادة الوجوب و الندب منها. غير أنّ القدماء خلطوا بين المبحثين و الأولى ما صنعه صاحب الكفاية فقد فصل المبحث الأوّل عن الثاني، فنقول:

لا شكّ أنّ صيغة افعل تستعمل و يراد منها البعث تارة، و التمنّي ثانياً، كقول امرئ القيس:

ألا أيّها اللّيل الطويل ألا انجلي بصبح و ما الإصباح منك بأمثل

و التعجيز ثالثاً كقوله سبحانه: (وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ).(1)

ص:299


1- - البقرة: 23.

و التحقير رابعاً كقوله سبحانه: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ )(1) إلى غير ذلك من المعاني التي تراد من صيغة الأمر.

إنّما الكلام فيما هو الموضوع له لهذه الصيغة، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّه وضعت لإنشاء الطلب و انّه استعمل في عامّة الموارد في هذا المعنى فلو كان هنا اختلاف فإنّما هو في الدواعي و البواعث فربّما يكون الداعي الطلب الحقيقي، و أُخرى التمنّي، و ثالثة التعجيز، و رابعة الإهانة، فهي موضوعة لانشاء الطلب بلا قيد و شرط، و مستعملة فيها في عامّة الموارد، فبما أنّ المستعمل فيه واحد في الجميع و إنّما الاختلاف في الدواعي، يوصف الجميع بالحقيقة.

لكنّه احتمل في ذيل كلامه أنّ استعمالها فيما إذا كان الداعي، هو البعث و التحريك، حقيقة و في غيره كالتمني و التعجيز مجاز، لا لأجل الاختلاف في المستعمل فيه، لأنّه واحد حسب المفروض، بل لأجل كون الوضع لإنشاء الطلب مقيّداً بما إذا كان الداعي هو التحريك لا غيره. فلأجل تخلّف شرط الوضع توصف سائر الاستعمالات بالمجازية.

يلاحظ عليه بأُمور:

1. الظاهر أنّ هيئة افعل موضوعة للبعث الإنشائي مكان البعث التكويني; كما في بعث العبد و الغلام إلى العمل، باليد، و كإغراء الكلب المعلَّم للصيد. نعم لازم البعث الإنشائي هو كون المأمور به مطلوباً و مراداً، و يدل على ذلك أنّ مفاد» افعل «مضاد لمفاد» لا تفعل «و مفاد الثاني هو زجر المكلف عن الفعل فيكون مفاد » افعل «هو بعثه نحو الفعل.

2. انّ ما احتمله في آخر كلامه بأنّ استعماله فيما إذا كان الداعي غير التحريك مجاز، غير صحيح على مذهبه، لأنّ المجاز عنده عبارة عن استعمال

ص:300


1- - آل عمران: 119.

اللفظ في غير ما وضع له، و المفروض أنّ صيغة» افعل «مستعملة في عامّة الموارد فيما وضع له أعني: إنشاء الطلب و إنّما الاختلاف في المبادي و البواعث فلا ينطبق عليه حدّ المجاز، و إنّما ينطبق عليه حدّ الغلط، لأنّ وضع الهيئة للطلب الإنشائي إذا كان مقيّداً بكون الداعي هو التحريك، يكون استعماله في الطلب الإنشائي لكن بداعي التعجيز، خارجاً عما رخّصه الواضع فيكون الاستعمال مع وحدة المستعمل فيه غلطاً نظير استعمال الابتداء الاسمي في المعنى الحرفي و بالعكس، حيث ذهب المحقّق الخراساني إلى وحدة المعنيين و انّ الاختلاف في شرط الوضع حيث شرط الواضع استعمال كلّ في الابتداء الاسمي أو الحرفي، فلو عكس يكون الاستعمال غلطاً.

و أمّا على المذهب المختار في المجاز فقد بنى شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة(1) على أنّه مجاز حيث إنّ المجاز يشارك الحقيقة في أنّه استعمال اللفظ فيما وضع له و يختلف عنه بادّعاء الفردية للمعنى الموضوع من المجاز دون الحقيقة مثل المقام حيث يدّعي المشابهة و الفردية، بين الطلب الإنشائي، و التعجيز، و التحقير، و التمنّي.

و لكنّه مدّ ظله عدل عنه في هذه الدورة فبنى على أنّه من قبيل الكنايات بداهة عدم وجود ادّعاء الفردية أو المشابهة بين البعث الإنشائي، و التعجيز و ما عطف عليه. نعم ينطبق عليه حدّ الكناية، حيث طلب من الليل، الانجلاء و من الكافر الإتيان بسورة، و أريد منه لازمه في هذه الموارد، و هو التمنّي، و التعجيز، و الإهانة و غير ذلك. و سيوافيك نظيره في الجمل الاخبارية التي أُريد منها إنشاء الحكم، كقوله:» ولدي يصلّي « و نقول إنّه من باب الكناية.

تمّ الكلام في المبحث الأوّل.

ص:301


1- - لاحظ المحصول: 1/332.

المبحث الثاني في أنّ الأمر بلا قرينة يدل على الوجوب

اشارة

هل يتبادر من صيغة الأمر، الوجوب بالوجوه الأربعة التالية أو لا؟ و يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: تبيين حقيقة الوجوب و الندب ثبوتاً و إثباتاً.

الثاني: في حمل الأمر الفاقد للقرينة على أحد المعنيين، على الوجوب بأحد الوجوه و إليك البيان:

الأوّل: تبيين حقيقة الوجوب و الندب ثبوتاً و إثباتاً

انّ الوجوب و الندب من أقسام البعث الإنشائي، و إنّما الكلام فيما يميّز أحدهما عن الآخر فهناك وجوه مذكورة في كتب القوم.

1. الوجوب و الندب مشتركان في الطلب الإنشائي غير أنّ أحدهما مقيّد بالمنع عن الترك و الآخر مقيّد مع عدم المنع من الترك.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره معنى تحليلي لهما و المطلوب تبيين المعنى المطابقي، و هذا كالماء له معنى مطابقي و معنى تحليلي يذكره علماء الكيمياء حيث يفسرونه

ص:302


1- - معالم الدين: 63، ط منشورات الرضيّ.

بأنّه سائل مركب من عنصري الأُوكسجين و الهيدروجين.

2. الوجوب هو الطلب المترتب عليه العقوبة عند المخالفة بخلاف الندب، فالاستحقاق و عدم الاستحقاق يميّز الوجوب عن الندب.

يلاحظ عليه: أنّ الاستحقاق و عدمه من آثار الوجوب و الندب، و الكلام في تبيين واقع المؤثر مع قطع النظر عن الأثر.

3. الوجوب و الندب يشتركان في البعث المسبوق بالإرادة و يختلفان في شدّة الإرادة في الأوّل و ضعفها في الثاني.

و إن شئت قلت: البعث الإنشائي فعل اختياري للنفس و لا بدّ من سبق إرادة تكوينية، فالإرادة التكوينية إذا كانت شديدة و الأغراض و المصالح لازمة الاستيفاء ينتزع عنه الوجوب، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك فينتزع منه الندب.

و على ذلك فالوجوب و الندب من المفاهيم البسيطة تنتزعان من طلب نابع من إرادة شديدة أو نابع من إرادة ضعيفة.

هذا كلّه هو الفرق المفهومي من حيث الثبوت، و أمّا من حيث الإثبات و انعقاد الظهور في أحد الأمرين، فيمكن استظهاره بالقرائن التالية:

1. كيفية أداء المطلب بشدّة و صلابة أو رخوة و فتور.

2. علو الصوت و انخفاضه.

3. اشتمال الأمر على نون التوكيد و عدمه.

4. الوعيد على الترك و عدمه.

هذا كلّه فيما إذا علم أحد الأمرين، و أمّا إذا كان الكلام غير مقرون بهذه القرائن، فهل يمكن أن يستفاد منها الوجوب أو الندب أو لا يستفاد واحد منهما؟

ص:303

الثاني: حمل الأمر على الوجوب إذا لم يكن قرينة

ذهب الأكثر إلى أنّها ظاهرة في الوجوب و اختلفوا في منشأ هذا الظهور إلى وجوه.

الأوّل: دلالة الهيئة على الوجوب بالدلالة اللفظية الوضعية.

يلاحظ عليه: بأنّ الموضوع له لصيغة الأمر كما مرّ هو البعث الإنشائي و ليس الوجوب داخلاً في حقيقته و لا الندب، و قد عرفت أنّها من المفاهيم الانتزاعية من الطلب المقرون بالإرادة الشديدة أو الضعيفة.

و عندئذ فكيف تدل الصيغة بالدلالة اللفظية على الوجوب؟ الثاني: انصراف الصيغة إلى الوجوب.

يلاحظ عليه: بأنّ الانصراف إمّا لكثرة الوجود، أو كثرة الاستعمال، و الوجوب و الندب متساويان في هذين الأمرين فقد استعملت صيغة الأمر في الندب كثيراً كما أنّ مصاديقه أيضاً متوفرة.

الثالث: انّ الوجوب مقتضى مقدّمات الحكمة، و هو خيرة المحقّق العراقي في» بدائع الأفكار «.(1)

و حاصل مرامه بتوضيح منّا: انّه إذا كان لحقيقة واحدة فردان يتوقّف تفهيم أحدهما على بيان زائد دون الفرد الآخر فيحمل بمقتضى كون المتكلّم حكيماً على الفرد الذي لا يحتاج بيانه إلى أمر زائد، مثلاً: الرقبة لها قسمان:

أ. مطلق الرقبة سواء كانت كافرة أو مؤمنة.

ب. الرقبة المؤمنة.

ص:304


1- - بدائع الأفكار: 1/214.

فإذا قيل: اعتق رقبة من دون أن يقيّد بالإيمان يحمل على القسم الأوّل، لأنّه لو كان الأوّل هو المراد لكان اللفظ وافياً بالمراد، بخلاف ما إذا كان المراد هو الثاني فاللفظ قاصر عن إفادته، فلا يكون اللفظ وافياً بالمراد، و هو خلاف مقتضى الحكمة.

و مثله المقام فانّ الوجوب هو نفس الإرادة بلا قيد، و أمّا الندب فهي الإرادة المحدودة بحدّ خاص به تكون إرادة ندبية، وعليه يكون إطلاق الكلام كافياً في الدلالة على كونها وجوبية إذ لا حدّ لها ليفتقر المتكلّم في مقام إفادته إلى بيان ذلك الحد، و هذا بخلاف ما لو كانت الإرادة ندبية فانّها محدودة بحدّ خاص ليس من سنخ المحدود، و لهذا يفتقر المتكلّم في مقام بيانه إلى تقييد الكلام بما يدل عليه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه غير تام ثبوتاً و لا إثباتاً.

أمّا الأوّل: فلما عرفت من أنّ الوجوب و الندب ينتزعان من البعث الإنشائي النابع عن إرادة شديدة أو إرادة لينة، فكلّ منهما يشتركان في البعث الإنشائي و يتميزان بقيدين، فالإرادة في الأوّل مقيدة بالشدّة، و في الثاني بالضعف، فإن قيل انّ الشدّة ليست شيئاً سوى الإرادة قلنا هكذا الضعف ليس شيئاً سوى الإرادة كما حقّق في محلّه.

و أمّا الثاني: فإذا كان كلّ واحد قسمين من مقسم واحد أي البعث الإنشائي فكلّ يتميز في مقام الإثبات بقيد و انّ العرف يتلقّى الأمر بلا قيد مساوياً للوجوب، فالوجوب هو الأمر المطلق، بخلاف الندب فهو الأمر المقيّد بجواز الترك زائد على المقسم، و إلاّ فلو اشتمل أحدهما على القيد دون الآخر لزم أن يكون القسم عين المقسم.

ص:305


1- - بدائع الأفكار: 1/214.

نعم يمكن تصحيحه ببيان يأتي عند البحث في أنّ الأمر يحمل على النفسي العيني التعييني لا على مقابلاتها، فانتظر.

الرابع: انّ دلالة الأمر على الوجوب بحكم العقل بمعنى أنّ العقل يرى مطلق الأمر موضوعاً لوجوب الطاعة و لاستحقاق العقوبة عند الترك ما لم يحرز كون الأمر ندباً، و هذا معنى كون الأمر ظاهراً في الوجوب.

و إن شئت قلت: إذا صدر عن المولى أمر يحكم العقل بتحصيل المؤمّن لوجوب دفع الضرر المحتمل و هو امّا الطاعة و إمّا تحصيل الحجّة على كون الأمر بالندب.

و إن شئت قلت: وظيفة المولى هي إنشاء البعث و إصدار الأمر، و أمّا بيان أنّه للوجوب أو الندب فهو ليس من وظائفه، بل على العبد السعي، فإن تبيّن له أحدهما عمل على طبق ما تبين، و إلاّ عمل على مقتضى حكم العقل و هو أنّ أمر المولى لا يترك بلا جواب.

فعلى هذا يحمل الأمر المجرّد عن القرينة على الوجوب ما لم يدل الدليل على كونه للندب.

إيضاح

قال صاحب المعالم: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمّة) عليهم السلام (أنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعاً في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها في اللفظ، لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجِّح الخارجي، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر، بمجرّد ورود الأمر به

ص:306

منهم) عليهم السلام (.(1) و قد أجاب المحقّق الخراساني بالنقض تارة و الحل أُخرى.

أمّا النقض: فبالعمومات الواردة في لسان الشرع حيث إنّ أكثرها خُصِّصت حتى قيل: ما من عام إلاّ و قد خصّ، مع أنّه لا يمنع من حمل العام على العموم عند عدم المخصص.

و أمّا الحل فلأنّ الاستعمال في الندب و إن كان كثيراً لكن الاستعمال لما كان مصحوباً بالقرينة فلا يوجب صيرورته مجازاً مشهوراً حتى يوجب التوقّف في حمله على الوجوب أو يرجح المجاز، الندب عليه.

يلاحظ عليه: بعدم تمامية كلا الوجهين:

أمّا النقض فلأنّ المدعى استعمال الأمر ابتداءً في المعنى المجازي أي الندب، و هذا لا ينطبق على العام المخصص، لأنّ العام قبل التخصيص و بعده مستعمل في المعنى الموضوع له، و التخصيص إنّما يرد على الإرادة الجدية لا الاستعمالية، و المقياس في المجاز كون اللفظ مستعملاً في غير الموضوع له بالإرادة الاستعمالية، فكيف يقاس الأمر المستعمل في الندب، بالعام المستعمل في العموم قبل التخصيص و بعده، و أمّا الحلّ فلأنّ صاحب المعالم يدّعي استعمال الأمر في الندب بلا قرينة، فأين هذا من الردّ عليه بأنّ الاستعمال كان مصحوباً مع القرينة.

و الأولى في الجواب أن يقال: انّ الوجوب و الندب ليس من المداليل اللفظية و إنّما هما من المفاهيم المنتزعة من البعث الإنشائي النابع عن إرادة شديدة ثبوتاً، و أمّا إثباتاً فقد عرفت أنّ لكلّ، أمارة و علامة في مقام الدلالة.

و أمّا إذا كان الكلام مجرّداً عن القرينة فقد عرفت أنّ الأمر على وجه الإطلاق موضوع لوجوب الطاعة عند العقل ما لم يعلم الإذن في الترك فليس للمكلّف ترك المأمور به باحتمال وجود الإذن في الترك، فأئمّة أهل البيت استعملوا الأمر في عامّة

ص:307


1- - المعالم: 48 49، قوله» فائدة «الطبعة الحجرية.

الموارد في البعث الإنشائي، غير أنّه دلّت القرائن تارة على الوجوب و أُخرى على الندب و إن كان أكثر، و ثالثة تجرّدت عن القرينة فيجب بحكم العقل الطاعة ما لم يدل دليل على الإذن في الترك.

و حاصل الردّ: انّ الإشكال إنّما يتوجّه إذا كان الوجوب و الندب من مداليل الأمر لا من أحكام العقل، و على الثاني لا يترك أمر المولى بلا دليل إلاّ إذا كان هناك دليل على الترك.

ص:308

المبحث الثالث دلالة الجملة الخبرية على الوجوب

ربّما تستعمل الجملة الخبرية في مقام الطلب و البعث يقول سبحانه: (وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ )(1) و قال سبحانه: (وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ )(2) و قال سبحانه: (وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ )(3) و قد تضافرت في الروايات عنهم) عليهم السلام (في أبواب الطهارة و الصلاة و غيرهما» يغتسل «،» يعيد الصلاة «،» يستقبل القبلة «، إلى غير ذلك، فالجمل الخبرية في هذه الموارد استعملت لداعي الطلب أو البعث، و الكلام يقع في أُمور أربعة:

أ. هل الاستعمال مجاز أو حقيقة أو كناية؟ ب. هل يلزم الكذب إذا لم يمتثل العبد؟ ج. هل الجملة ظاهرة في الوجوب؟ د. هل الجملة آكد في إفادة الوجوب من الجمل الإنشائية؟ و إليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر:

أمّا الأوّل: فلا شكّ انّها ليست بمجاز لا على مذهب المشهور و لا على المختار.

ص:309


1- - البقرة: 228.
2- - البقرة: 241.
3- - البقرة: 233.

أمّا مذهب المشهور فلأنّ المجاز عبارة عن استعمال اللفظ ابتداءً في غير ما وضع له، و أمّا المقام فالجملة الخبرية استعملت في الإخبار لا في الإنشاء فلا يكون مجازاً.

و أمّا على المختار من أنّ المجاز عبارة عن استعمال اللفظ في نفس ما وضع له لكن بادّعاء المشابهة و ادّعاء أنّ المورد من مصاديق الموضوع له. فليست الجملة الخبرية موصوفة بالمجاز، إذ ليس هناك مشابهة بين الإخبار و الانشاء، كما ليس هناك ادّعاء أنّ الانشاء من مصاديق الاخبار، و النتيجة أنّه لا ينطبق تعريف المجاز على مثل هذه الموارد، كما قلنا نظير ذلك في استعمال الإنشاء بداعي الإخبار بأنّ المستعمل فيه و إن كان البعث الإنشائي، لكنّه ليس بمجاز لا على مذهب المشهور لكون الاستعمال فيما وضع له، و لا على المختار لعدم وجود المشابهة و الادّعاء.

و أمّا كونه حقيقة فذهب المحقّق الخراساني إلى كونها حقيقة قائلاً بأنّ الجمل الخبرية في هذا المقام مستعملة في معناها، إلاّ أنّه ليس بداعي الاعلام بل بداعي البعث كما هو الحال في الصيغ الإنشائية على ما عرفت من أنّها أبداً تستعمل في معانيها الإيقاعية لكن بدواع أُخر.

يلاحظ عليه: بأنّ استعمال اللفظ في معناه الحقيقي ليس تعريفاً تامّاً للحقيقة، بل يحتاج إلى قيد آخر و هو أن يكون الموضوع له متعلقاً للإرادة الاستعمالية و الجدية معاً، و إلاّ فلو كان المعنى الحقيقي موضوعاً للإرادة الاستعمالية فقط دون الجديّة، بل صار المعنى الحقيقي جسراً و واسطة لتفهيم المعنى الآخر فهذا ليس بحقيقة، بل يسمّى في الاصطلاح كناية، فإذا قال: زيد جبان الكلب، أو كثير الرماد، أو طويل النجاد، فالجمل الثلاثة مستعملة فيما وضعت له و لكن الموضوع له مراد بالإرادة الاستعمالية، و أمّا المراد الجدي فهو

ص:310

وصفه بالسخاء و الشجاعة، و الدليل على ذلك أنّه لو لم يكن في بيته أيُّ كلب و لا رماد و لا طول النجاد لا توصف الجمل بالكذب، لعدم استقرار الذهن على المعنى الموضوع له، بل يستقر على المعنى الثاني اللازم للمعنى الموضوع له.

و قد قلنا(1) نظير ذلك في الجمل الإنشائية المستعملة بداعي التعجيز و التمنّي و الإهانة، فهي و إن استعملت في البعث الإنشائي لكن المراد الجدّي شيء آخر و هو التعجيز و التمنّي و الإهانة، فيعد اللفظ كناية، أي ذكر الملزوم و إرادة اللازم.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل أي كونه مجازاً أو حقيقة أو كناية.

و أمّا الأمر الثاني: أي عدم لزوم الكذب فلما أفاده المحقّق الخراساني بأنّه إنّما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الإخبار و الإعلام لا لداعي البعث، كيف؟ و إلاّ يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل زيد كثير الرماد، أو مهزول الفصيل، لا يكون كذباً إذا قيل كناية عن جوده و لو لم يكن له رماد أو فصيل أصلاً، و إنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد.

و أمّا الثالث: أي دلالته على الوجوب فالأظهر أنّه كذلك بشهادة أنّ الجملة تكشف عن شدة رغبته بالموضوع حتى يراه في الخارج مجسّماً موجوداً، و هذا يكشف عن شدّة الرغبة و كثرة العناية بالموضوع، مثلاً انّ الرجل في مقام دعوة ابنه إلى الصلاة يقول في مجمع: إنّ ولدي هذا يصلِّي، فرغبته إلى إقامة الصلاة كانت على درجة يرى الصلاة بعينها في مستقبل أيّام الولد.

و منه يظهر الأمر الرابع من أنّه آكد كما هو واضح.

إلى هنا تمّ الكلام في المباحث الثلاثة من الفصل الثاني، و أمّا المبحث الرابع الذي عقده المحقّق الخراساني، فنحن في غنى عنه، لأنّنا أدرجنا مطالب هذا المبحث في المبحث الثالث.

ص:311


1- - لاحظ ص 301 من هذا الجزء.

المبحث الرابع التوصلي و التعبدي

و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً تسلّط أضواءً على المسألة.
الأوّل: ما ذا يقصد من التوصلي؟

يستعمل التوصّلي في موارد كلّها مصاديق من مفهوم واحد.

1. ما لا يعتبر فيه المباشرة، بل يكفي تبرّع الغير كأداء الدين، فلو قام متبرّع بأداء دين الغير كفى، و يقابله ما يشترط فيه المباشرة، كما إذا سلَّم شخص على شخص خاص فلا يسقط بجواب شخص آخر.

2. ما لا يعتبر في سقوطه الاختيار و الالتفات كتطهير البدن و الثوب من الخبث، فلو غمست الأُمّ يد الطفل في الماء لطهرت و إن كان الطفل غير مختار بل غير ملتفت، و يقابله ما يشترط فيه قصد العنوان، كعناوين المعاملات كالبيع و غيره، فلا يتحقّق البيع بلا قصد عنوانه.

3. ما لا يشترط في سقوطه تحقّقه في ضمن فرد سائغ بل يسقط في ضمن فرد محرّم، كما إذا وجب قتل الحية فيسقط الواجب و لو بقتلها بآلة مغصوبة.

و هذا لا يعني أنّ الواجب هو الفرد الأعم من السائغ و المحرّم، بل لما حصل الغرض بقتل الحية بآلة مغصوبة سقط الوجوب لانتفاء الموضوع أو

ص:312

لحصول الغرض و إلاّ فالواجب هو الكلي المتحقق في ضمن السائغ.

4. ما يحصل الغرض بمجرّد ايجاد الواجب بأيّ داع كان، و يقابله ما لا يسقط بايجاده، بل لا بدّ من إتيانه لأمره سبحانه أو لأجله، و الأوّل كدفن الميت، و الثاني كالواجبات العباديّة.

هذه الموارد الأربع يستعمل فيها كلمة التوصل فله معنى عام يشمل هذه الموارد.

و المقصود من التوصلي في المقام هو المورد الرابع، أي ما لا يشترط في سقوطه الإتيان به لأجل أمره سبحانه.

الثاني: ما ذا يقصد من التعبّدي؟

يطلق التعبّدي و يراد منه أحد الأُمور التالية:

أ. الإتيان بالواجب بقصد أمره سبحانه.

ب. الإتيان بالواجب للّه تبارك و تعالى.

ج. الإتيان بداعي التقرّب إليه سبحانه.

د. الإتيان بداعي كونه تعظيماً و تقديساً له.

ه. الإتيان بداعي المحبوبية للمولى، فيكون الداعي إلى العمل كونه محبوباً و مطلوباً للّه لا سائر الدواعي.

و. الإتيان بقصد المصلحة المعنوية المترتبة على العمل، كالتقوى في الصوم، و الانتهاء عن الفحشاء في الصلاة، قال سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )(1) و قال: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ).(2)

ص:313


1- - البقرة: 183.
2- - العنكبوت: 45.

نعم لا يكفي الإتيان بالعمل لأجل المصالح الدنيوية كالصحة في الصوم و التجارة في الحجّ و الرياضة في الصلاة، لأنّ الإتيان لأجل هذه الغايات لا يضفي للعمل عنوان العبادة.

و على ضوء ذلك فالعبادة عبارة عن إتيان العمل بواحد من هذه الغايات.

الثالث: هل هناك عبادة ذاتية؟

ثمّ إنّه ربّما يتصور أنّ هناك أُموراً تعد من العبادات الذاتية، و هي التي تعدّ من مظاهر التعظيم و التقديس بين عامّة الشعوب.

يلاحظ عليه: أوّلاً: بأنّ السجود لو كان عبادة ذاتية، فكيف أمر اللّه سبحانه الملائكة بالسجود لآدم، أو كيف سجد يعقوب و أولاده لولده يوسف، قال سبحانه: (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ )(1) و قال أيضاً: (وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ).(2)

و ثانياً: انّ كونهما من مظاهر التقديس و التعظيم إنّما هو بالجعل و الاعتبار بشهادة انّه يمكن أن يجعل الركوع أمام الشخص آية التحقير و الإهانة.

الرابع: ما هو حدّ العبادة؟

العبادة عبارة عن الخضوع بالجوارح نابعاً عن الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له، أو ربوبيته، و المراد من الأُلوهية هو الاعتقاد بأنّ المخضوع له إله العالم أو يملك شيئاً من أفعاله من الإمطار و الغفران و...، و على ذلك فالعبادة متقوّمة بعنصرين: عنصر ظاهري و هو الخضوع عملاً، و عنصر باطني و هو الاعتقاد بكون المخضوع له إلهاً أو ربّاً.(3)

ص:314


1- - الحجر: 29.
2- - يوسف: 100.
3- - لاحظ للمزيد من التفصيل كتاب مفاهيم القرآن: 1، فصل التوحيد في العبادة.

و بذلك يعلم انّ مجرد الخضوع لا يعدّ عبادة ما لم ينبع من الاعتقاد الخاص، و هو كون المخضوع له إله العالم أو ربّه.

و الشاهد على ذلك أنّ عبادة المسلمين للّه سبحانه، و عبادة المشركين للأصنام و الأوثان واجدة لهذا الشرط، فالمسلمون يعبدون اللّه تعالى بما أنّه إله العالم و ربّ العالمين و ربّ الإنسان، كما أنّ المشركين يعبدون الأوثان و الأصنام بما انّها آلهة و أرباب، و لذلك يقول سبحانه ردّاً عليهم: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا )(1) و قال سبحانه: (أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ )(2) و قول يوسف لصاحبيه في السجن: (أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ ).(3)

و من هنا يعلم أنّ كلّ خضوع و خشوع أمام الأنبياء و الأولياء لا تعدّ عبادة ما لم يعتبرهم الخاضع أرباباً و آلهة، بل اتّخذهم عباداً مكرمين.

و الكلام الحاسم مع من يرى كلّ تعظيم و تقديس للأنبياء و الأولياء عبادة أو دعوتهم شركاً هو أن يحدد ذلك القائل العبادة بحد منطقي فما لم تحدد به لا يمكن القضاء الحاسم، و قد علمت الحد المنطقي لها.

الخامس: التقسيم ثنائي لا ثلاثي

المعروف أنّ الواجب إمّا توصلي أو تعبّدي، و ذهب السيّد الأُستاذ إلى أنّ التقسيم ثلاثي، و ذلك أنّ ما يعتبر في ثبوته قصد القربة ينقسم إلى قسمين تعبّدي و تقرّبي، فانّ ما يؤتى به متقرّباً إلى اللّه، إمّا ينطبق عليه عنوان العبودية للّه، بحيث يعد العمل عبودية للّه سبحانه كالصلاة و الاعتكاف و الحجّ، أو لا ينطبق عليه ذاك

ص:315


1- - الأنبياء: 22.
2- - ص: 5.
3- - يوسف: 39.

العنوان، و إن كان يعد إطاعة، كالزكاة و الخمس، و يعتبر في سقوط الواجب الإتيان به للّه سبحانه، لكن لا يعدّ عبادة و عبودية، أعني ما يساوق عنوان:» پرستش «في الفارسية. و على ذلك فالأولى تبديل عنوان البحث إلى التوصلي و التقربي، حتّى يعم القسم الأخير.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبني على أن ترادف العبادة للفظ» پرستش «في الفارسية مع أنّه غير ثابت، فانّ للثاني ضيقاً لا ينطبق على الفرائض المالية التي يشترط في صحّتها الإتيان بها متقرّباً إلى اللّه، و لكن العبادة في لغة العرب أعمّ من ذلك اللفظ، لأنّ العبادة لغة هي: الخضوع و الخشوع و التذلّل، لكن لا مطلقاً بل الخضوع النابع من اعتقاد خاص و هو الاعتقاد بما انّه إله، أو خالق أو انّه قائم بالأفعال الإلهية، فصلاة الموحّد و صيامه عبادة، لأنّه قام بها لأجل انّ المعبود إله أو ربّ، كما أنّ خضوع المشركين أمام الوثن و الصنم كان عبادة لا لأنّ الأصنام خلاّق العالم، بل لتخيّلهم أنّه سبحانه فوّض أفعاله إليها، من المغفرة، و الشفاعة، فإذا شفعت تقبل شفاعتها من دون حاجة إلى إذنه سبحانه في الشفيع، و ارتضائه المشفوع له.

فإذا كان هذا معنى العبادة فكلّ عمل يشعر بالخضوع، و يعرب عن تعظيم الغير بما أنّه إله أو ربّ أو مفوّض إليه أفعاله سبحانه، يكون عبادة من غير فرق بين الصلاة و إعطاء الخمس و الزكاة. و الوقوف في عرفات و المشعر الحرام و منى، و الذبح و حلق الرأس و السعي و الطواف، فروح العبادة عبارة عن كون المحرّك، هو استشعار العظمة استشعاراً نابعة من الاعتقاد بكون المعبود خالقاً أو ربّاً أو ما يماثل ذلك من كونه مالكاً لبعض أفعاله سبحانه.

ص:316

السادس: ما هو الأصل فيما شكّ أنّه توصلي أو تعبّدي؟

إذا علم أنّ الواجب تعبدي أو توصلي يعمل به حسب ما علم، و أمّا إذا شكّ، فهل هناك أصل لفظي يثبت كونه توصلياً أو لا؟ ثمّ إذا لم يكن هناك أصل لفظي فما هو حكم الأصل العملي في المقام.

لا شكّ أنّه إذا شككنا في قيد المتعلّق يتمسك بالإطلاق كما إذا قال: اعتق رقبة، نتمسّك بإطلاق المتعلق ويحكم بعدم وجوب الإيمان، و أمّا المقام فهناك خصوصية ربّما تكون مانعة عن التمسّك بإطلاق المتعلق، فإذا قال الشارع: أقم الصلاة لدلوك الشمس، فربّما لا يمكن التمسّك، بإطلاق الصلاة لدفع الشك في اعتبار قصد القربة مثلاً، و ذلك لأنّ قيود المتعلق على قسمين:

قسم ما ينوع المتعلّق إلى قسمين كرقبة مؤمنة و رقبة كافرة، فهذا ما يسمّى من القيود الواقعة تحت دائرة الطلب، فكأنّ الطلب يقع على المتعلق مطلقة أو مقيدة.

و قسم آخر لا ينوع المتعلّق إلى قسمين، و هو عبارة عن القيود الناشئة من جانب الأمر بالمتعلّق بحيث لو لا الأمر لما يكون عن هذا القيد عين و لا أثر، و هذا كقصد الأمر في الصلاة، فالصلاة المقيّدة بقصد الأمر متقيّدة بقيد يأتي من قبل الأمر، فلولا أمر الآمر لما يوصف المتعلق بقصد الأمر، و لأجل هذا التفاوت بين القيدين صار القسم الثاني محطاً للنزاع، و انّ إطلاق المتعلّق هل يدل على كون الواجب توصلياً أو لا؟ فمن قال بإمكان أخذ هذا القسم من القيود في المتعلق قال بأنّ الأصل هو التوصلية إلاّ أن يدلّ الدليل على خلافه، و هذا خيرة الفقهاء من القدامى و المتأخّرين إلى عصر الشيخ الأنصاري.

و أمّا من قال بعدم جواز أخذه في المتعلّق، فذهب إلى أنّ الأصل هو التعبدية إلاّ أن يدل دليل على التوصلية وعليه الشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني.

ص:317

أدلة القول بامتناع أخذ قصد القربة في متعلق الأمر و إن مقتضى الأصل التوصلية
اشارة

و استدلّوا على امتناع الأخذ في المتعلّق بوجوه نذكرها تباعاً، و نقدّم ما ذكره صاحب الكفاية أوّلاً ثمّ نعرّج على ما ذكره الآخرون.

الأوّل: استلزامه التكليف بغير المقدور

إنّ أخذ» قصد الأمر «في المتعلّق يستلزم التكليف بغير المقدور، فإذا افترضنا أنّ الموضوع قبل الأمر هو» الصلاة مع قصد الأمر «فهو فعل غير مقدور قبل الأمر، فكيف يأمر بشيء غير مقدور قبله مع أنّه يشترط تعلّقه بالمقدور؟ يلاحظ عليه: أنّه يشترط كون المتعلّق مقدوراً حين الامتثال لا حين الأمر، و المفروض أنّه بعد الأمر يصير امتثاله أمراً ممكناً.

الثاني: استلزامه داعوية الأمر إلى نفسه

إنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلقه، و المتعلّق هاهنا هو الشيء المقيّد بقصد الأمر، فنفس الصلاة مثلاً لا تكون مأموراً بها حتى يقصد المأمور امتثال أمرها، و الدعوة إلى امتثال المقيّد محال، للزوم كون الأمر داعياً إلى داعوية نفسه و محرّكاً لمحرّكية نفسه.

و إلى ذلك يشير صاحب الكفاية بقوله: لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها لعدم الأمر بها، فانّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقيّداً بداعي الأمر و لا يكاد يدعو الأمر إلاّ إلى ما تعلّق به لا إلى غيره.(1)

و حاصل الاستدلال: أنّ الأمر إمّا يدعو إلى امتثال نفس الصلاة، و هي ليست متعلّق الأمر، و إمّا يدعو إلى امتثال المركب من الصلاة و قصد الأمر، و هو

ص:318


1- - كفاية الأُصول: 1/109.

يستلزم كون الشيء داعياً إلى نفسه.

و هذا الوجه غير تام بكلا شقّيه، إذ لنا أن نختار كلاً من الشقين و نجيب عنه، فنقول:

أمّا الشقّ الأوّل: فنحن نقول إنّ الصلاة بما هي هي متعلقة بالأمر و واجبة إمّا بالوجوب الغيري على القول بوجوب الأجزاء الداخلية، أو بالوجوب الضمني حسب ما ذهب إليه المحقّق البروجردي حيث يترشح من الوجوب النفسي وجوبات متعددة حسب تعدد الأجزاء، أو بالوجوب النفسي حسب المختار في باب الأجزاء الداخلية حيث إنّ الإنسان يأتي بكلّ جزء داخلي بنيّة امتثال الأمر النفسي، فإذا قال المولى: ابن مسجداً، فالمهندس أو البنّاء إنّما ينوي امتثال الأمر النفسي عند الاشتغال بالتخطيط و تهيئة مواد البناء، و حفر الأرض لنصب الأعمدة، فهذه الأعمال كلها نوع امتثال للأمر النفسي، غير أنّ هذا الامتثال يتم بنحو تدريجي. و على جميع الأقوال فالصلاة مأمور بها.

و أمّا الشقّ الثاني: فنلتزم بأنّ الأمر يدعو إلى كلا الجزءين: الصلاة، و قصد الأمر، غير أنّ داعوية الأمر إلى متعلّقه ليست داعوية تكوينية حتّى يلزم محرّكية الأمر لنفسه، بل داعوية تشريعية التي مرجعها إلى بيان موضوع الطاعة، و على ذلك فالأمر يبيّن موضوع الطاعة و هما أمران: الصلاة و قصد الأمر، و لا ضير في ذلك.

نعم لو قلنا بأنّ الأمر محرّك تكويني بالنسبة إلى المتعلّق يلزم ما ذكر، و يدل على ذلك أنّ الأمر لو كان محركاً لما وجد على أديم الأرض كافر أو عاص، بل المحرّك هو الخوف من العذاب أو الطمع في الثواب.

ثمّ إنّ» الأمر بالصلاة مقيّدة بداعي أمرها «ليس بمعنى أنّه يأتي الجزء

ص:319

الثاني» داعي أمرها «بقصد أمره، فانّ هذا التفسير غفلة عن معنى أخذ» قصد الأمر «في متعلّق الأمر، فانّ الهدف من أخذه ليس إلاّ لبيان كيفية امتثال الجزء الأوّل فقط، فإذا أتى بالصلاة بقصد أمرها فقد امتثل الأمر بالمركب من الصلاة و قصد الأمر، قهراً، و معه لا يبقى موضوع لامتثال الجزء الثاني.

و هذا كما إذا أمر المولى بالصلاة مع الطهارة فمن لم يكن متطهراً يكون الأمر داعياً إلى كلا الجزءين، و أمّا من كان واجداً لها فتنحصر داعويته إلى الصلاة وحدها.

و الحاصل: انّ المستدل زعم أنّ هناك واجبين يجب امتثالهما:

أ. نفس الصلاة بقصد أمرها.

ب. قصد الأمر بقصد أمره.

فيخيل إليه أنّ الإتيان بالجزء الأوّل غير كاف في صدق الامتثال، بل لا بدّ من امتثال الجزء الثاني بقصد أمره، و عندئذ يترتب عليه محذور و هو عدم إمكان إتيان الجزء الثاني بقصد أمره، و لكنّه غفل عن أنّ الواجب بالذات هو الجزء الأوّل و إنّما أخذ الجزء الثاني في الموضوع طريقاً إلى الصلاة و عنواناً لها، فإذا أتى بالصلاة مع قصد الأمر فقد حصل الجزء الثاني قهراً من دون حاجة إلى إتيانه بقصد الأمر.

الثالث: استلزامه التسلسل

و بيانه يحتاج إلى بيان مقدمة و هي:

كان المبنى في الدليل الثاني على أنّ الصلاة فاقدة للأمر، و المجموع و إن كان واجداً للأمر لكن الأمر لا يمكن أن يدعو إلى المركب لاستلزامه داعوية الأمر إلى نفسه كما تقدّم.

و لقائل أن يقول: إنّ الصلاة إنّما تفقد الأمر إذا كان الجزء الثاني شرطاً لا

ص:320

شطراً، و إلاّ فيوصف كلّ جزء بالوجوب.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أبطل هذا البيان باستلزامه التسلسل، و ذلك لما اختاره في باب اختيارية الشيء حيث ذهب إلى أنّ ملاك الاختيارية كون الشيء مسبوقاً بالإرادة، و على ضوء هذا فكلّ شيء اختياري إذا صدر عن إرادة، و أمّا الإرادة فليست اختيارية لعدم صدورها عن إرادة.

و على ضوء ذلك فالصلاة اختيارية، و قصد الأمر الذي هو عبارة أُخرى عن إرادة الأمر غير اختيارية، و لو قلنا بأنّ الجزء الثاني اختياري أيضاً يجب أن يسبق بإرادة ثالثة و هلم جراً.

و إلى هذا الدليل أشار المحقّق الخراساني بقوله:

» فانّه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري، فانّ الفعل و إن كان بالارادة اختيارياً، إلاّ أنّ إرادته حيث لا تكون بإرادة أُخرى و إلاّ لتسلسلت ليست باختيارية.(1)

يلاحظ عليه: عدم تمامية المبنى، فانّ الملاك في اختيارية الفعل أحد أمرين: إمّا أن يكون مسبوقاً بالإرادة كما هو الملاك في الأفعال الصادرة عن الجوارح.

و إمّا أن يكون صادراً عن فاعل مختار بالذات و إن لم يكن مسبوقاً بالارادة و هذا كالأفعال الصادرة عن الجوانح مثل الإرادة، فانّها فعل اختياري لصدورها عن نفس المختار بالذات.

ثمّ إنّ الإرادة لو كانت غير اختيارية لزم عدم صحّة جعلها قيداً أيضاً مع أنّ المحقّق الخراساني خصّ الإشكال بكون الإرادة شطراً لا شرطاً.

أضف إلى ذلك انّه لو كان قصد الأمر غير اختياري كيف يحكم العقل

ص:321


1- - كفاية الأُصول: 1/110.

بوجوب تحصيله مع أنّ تعلق التكليف بغير المقدور أمر ممتنع سواء كان الحاكم هو الشرع أو العقل؟ إلى هنا تمّت الأدلة الثلاثة التي أوردها المحقّق الخراساني دليلاً لامتناع أخذ قصد الأمر في المتعلّق و هي:

1. استلزام التكليف بغير المقدور.

2. داعوية الأمر إلى نفسه.

3. استلزامه التسلسل.

و قد عرفت وهن الجميع.

و هناك أدلّة أُخرى ذكرها غير المحقّق الخراساني، و إليك تفصيلها:

الرابع: استلزام الدور

إنّ الأمر يتوقف على موضوعه توقّفَ العرض على موضوعه، فلو كان قصد الأمر مأخوذاً في الموضوع، لزم الدور، لعدم تحقّق جزء الموضوع إلاّ بالأمر.

يلاحظ عليه: أنّ الأمر الصادر من المولى يتوقف على تصور» الصلاة في الذهن مع قصد الأمر « و هذا لا يتوقف على صدور الأمر من المولى، بل يمكن تصوّر الصلاة مع قصد الأمر و إن لم يكن هناك أمر، و عندئذ فلا دور.

الخامس: تقدّم الشيء على نفسه

و يلوح من هذا الدليل أنّ في القول بالأخذ مفسدة الدور، و الفرق بين الرابع و الخامس، أنّ الأوّل يصر على نفس» الأمر «و انّه عرض، و هذا الدليل يصر على عنوان» القصد «في قصد الأمر و يقول:

إنّ الأخذ في المتعلّق يستلزم تقدّم الشيء) أي القصد (على نفسه برتبتين،

ص:322

و ذلك لأنّ قصد الأمر متأخر عن الأمر، و الأمر متأخر عن الموضوع، فينتج انّ القصد متأخر عن الموضوع برتبتين. و أخذه في الموضوع يستلزم تقدّم الشيء) القصد (على نفسه.

يلاحظ عليه: أنّه نفس الإشكال السابق، لكن ببيان آخر، و هو بيان مفسدة الدور، و الجواب أنّ المتأخر عن الموضوع هو القصد الخارجي المتعلّق بالأمر الواقعي الصادر عن المولى، فهما) الأمر و القصد ( متأخران عن الموضوع، إمّا برتبة) كما هو الحال في الأمر (، أو برتبتين) كما هو الحال في قصده (.

و المأخوذ في الموضوع هو مفهوم» قصد الأمر «الكلي لا القصد الخارجي المتعلّق بالأمر الواقعي الصادر عن المولى، فما هو المتأخر ليس جزء الموضوع، و ما هو جزء الموضوع ليس متأخراً.

و بعبارة أُخرى: ما هو المتأخر عبارة عن قصد الأمر بالحمل الشائع الصناعي، و ما هو المتقدّم عبارة عن مفهومه الكلي الذي ينطبق عليه قصد الأمر بالحمل الأوّلي، فالموقوف و الموقوف عليه مختلفان.

السادس: لزوم اتحاد الحكم و الموضوع

انّ ما لا يوجد إلاّ بنفس انشائه كيف يعقل أخذه مفروض الوجود في موضوع نفسه، فانّ مرجعه إلى اتحاد الحكم و الموضوع، و الأمر في» قصد الأمر «ممّا لا يوجد إلاّ بالإنشاء، و كيف يصحّ أخذه في المتعلّق.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المأخوذ في الموضوع ليس نفس الحكم الخارجيّ، بل المأخوذ

ص:323


1- - هذا، هو الوجه الذي يظهر من المحقّق الخوئي في أثناء تقرير برهان أُستاذه، و لكن لا صلة له ببرهانه و إنّما هو وجه مستقل) لاحظ المحاضرات: 2/156).

مفهوم كلي، و ما هو الحكم مصداق له، و الفرق بينهما هو الفرق بين الحمل الأوّلي و الشائع الصناعي.

السابع: لزوم تقدّم الشيء على نفسه في المراحل الثلاث

و حاصله: انّ أخذ قصد الأمر في المتعلّق يستلزم تقدّم الشيء على نفسه في مقام الإنشاء و الفعلية و الامتثال.

أمّا في مقام الإنشاء فلأنّ الموضوع في القضايا الحقيقية لا بدّ و أن يكون مفروض الوجود في الخارج في مقام أخذه موضوعاً، سواء أ كان خارجاً عن اختيار المكلّف كالوقت أم داخلاً تحت اختياره كما في قوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فانّ معناه انّه إذا فرض حصول عقد في الخارج يجب الوفاء به، و حينئذٍ لو أخذ قصد امتثال الأمر قيداً للمأمور به، يكون الأمر موضوعاً للتكليف و مفروض الوجود في الإنشاء، فيكون وجود التكليف مشروطاً بفرض وجود نفسه فرضاً مطابقاً للواقع، و يستلزم عندئذ كون الأمر مفروض الوجود قبل وجود نفسه، و هو بعينه محذور الدور.

و أمّا في مقام الفعلية فلأنّ فعلية الحكم تتوقّف على فعلية موضوعه، أعني: متعلقات متعلّق التكليف، و حيث إنّ المفروض انّ نفسه هو الموضوع لنفسه و متعلّق لمتعلّقه فطبيعة الحال تتوقف فعليته على فعلية نفسه.

و بعبارة أُخرى: إذا أمر المولى بواجب مقيد بداعي أمره، ففعلية خطابه تتوقّف على فعلية موضوعه و المفروض انّ الأمر لنفسه، جزء الموضوع وعليه تتوقّف فعلية الأمر على فعلية نفسه.

و أمّا في مقام الامتثال فانّ قصد امتثال الأمر متأخر عن الإتيان بتمام أجزاء المأمور به و قيوده، و حيث إنّ من جملة الأجزاء و القيود حسب الفرض نفس قصد

ص:324

الامتثال الذي هو عبارة عن دعوة شخص ذاك الأمر فلا بدّ و أن يكون المكلّف في مقام امتثاله قاصداً للامتثال قبل قصد امتثاله، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه، لأنّه بما هو جزء المأمور به مقدّم، و بما أنّ ماهية قصد امتثال الأمر عبارة عن الإتيان بالأجزاء بقصد الأمر متأخر عن الاجزاء.(1)

يلاحظ على الأوّل: بأنّ أقصى ما يلزم هو فرض وجود الشيء) قصد الأمر (قبل تحقّقه و هو ليس بمحال، و إنّما المحال وجوده واقعاً قبل تحقّقه، فما عبّر بقوله» يلزم كونه مفروض الوجود قبل وجوده و هو بعينه محذور الدور «غير تام فانّ محذور الدور هو وجوده واقعاً قبل تحقّقه لا فرض وجوده قبل تحقّقه، و شتان بينهما.

و على الثاني: فلأنّ فعلية الحكم تتوقّف على فعلية الموضوع لا بمعنى وجوده خارجاً بل بمعنى قدرة المكلّف على الإيجاد و الامتثال، و المفروض أنّ المكلّف قادر على الصلاة بقصد أمرها، و أمّا القدرة على إيجاد المتعلّق و الصلاة) بقصد الأمر (فهي موقوفة على صدور الأمر الإنشائي قبل فعلية الموضوع لا على الأمر الفعلي.

فينتج: الأمر الفعلي موقوف على القدرة على إيجاد الصلاة بأمرها، و القدرة الكذائية ليست موقوفة على الأمر الفعلي، بل على الأمر الإنشائي السابق.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ أجاب عن الإشكال بوجه آخر، و قال: إنّ فعلية الحكم لا تتوقف على فعلية الموضوع توقّف المعلول على علته، بل لا بدّ في حال فعلية الحكم من فعلية الموضوع و لو صار فعلياً بنفس فعلية الحكم، لأنّ الممتنع هو التكليف الفعلي بشيء لم يكن متحقّقاً بالفعل، و أمّا التكليف الفعلي بشيء يصير فعلياً بنفس فعلية الحكم فالضرورة قاضية بجوازه.

و على الثالث: فلأنّ قصد الامتثال الذي هو متأخر عن إتيان المأمور به

ص:325


1- - أجود التقريرات: 1081/107 و أوضحه تلميذه المحقّق الخوئي في المحاضرات: 2/157.

المركب من الصلاة و قصد الأمر إنّما هو قصد بالحمل الشائع الصناعي، فهو بهذا المعنى متأخر عن المتعلّق و جزئه، و أمّا المتقدّم الذي يجب على المكلف قصد امتثاله فإنّما هو قصد الأمر بمفهومه الكلي الذي يقال انّه قصد الأمر بالحمل الأوّلي.

الثامن: استلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي و الاستقلالي

إنّ التكليف بالصلاة بقصد أمرها مستلزم للجمع بين اللحاظ الآلي و الاستقلالي، لأنّ الموضوع بقيوده لا بدّ و أن يكون ملحوظاً استقلالاً، و الأمر بما أنّه آلة البعث ملحوظ باللحاظ الآلي، فكون شيء مأخوذاً في ناحية الأمر و المأمور به يستلزم كونه ملحوظاً بلحاظين مختلفين.(1)

يلاحظ عليه: بما سبق من أنّ الملحوظ استقلالاً هو قصد الأمر المأخوذ في المتعلّق و هو أمر بالحمل الأوّلي، و الملحوظ آلياً هو الأمر الجزئي المتعلّق بالمتعلّق الكلي.

و الحاصل: انّ الأمر الخارجي الذي هو بعث بالحمل الشائع ملحوظ آلياً و المأخوذ في المتعلّق هو الصورة الكلية للأمر الذي لا يقال انّه حمل بالشائع الصناعي.

التاسع: التهافت في اللحاظ

لو أخذ قصد الأمر في متعلّق متعلقه يلزم منه التهافت في اللحاظ و التناقض في العلم، لأنّ موضوع الحكم متقدّم عليه في اللحاظ، و قصد الأمر متأخر عنه في

ص:326


1- - راجع نهاية الأُصول: 99.

اللحاظ، كما أنّه متأخر عنه في الوجود فيكون متأخراً عن موضوع الأمر برتبتين، فإذا أخذه جزءاً من موضوع الأمر أو قيداً فيه لزم أن يكون الشيء الواحد في اللحاظ الواحد متقدّماً في اللحاظ و متأخراً فيه، و هو في نفسه غير معقول وجداناً امّا للخلف أو لغيره.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ الملحوظ متقدّماً غير الملحوظ متأخراً، فالملحوظ متقدّماً هو قصد الأمر بمفهومه الكلي، و الملحوظ متأخراً هو الأمر بالحمل الشائع، فهناك لحاظان و ملحوظان، لا انّ هناك لحاظاً واحداً لشيء واحد متقدّم و متأخر.

و ثانياً: انّ أقصى ما يترتّب عليه لحاظ الشيئين المترتبين في رتبة واحدة و هو ليس بمحال كلحاظ العلة و المعلول المترتبين في رتبة واحدة و اللحاظ خفيف المئونة، و إنّما المحال كون المترتبين في رتبة واحدة في عالم الوجود.

العاشر: وجود التسلسل في المدعو إليه

هذا الوجه، نقله المحقّق البروجردي عن أُستاذه المحقّق الخراساني، و حاصله: إذا تعلّق الأمر بالصلاة بداعي الأمر، فيسأل عن داعي الأمر و انّه إلى مَ يدعو؟ فإن دعا إلى ذات الصلاة، فهو خلف، إذ ليس له أمر و إن دعا إلى المركب أي) الصلاة بداعي الأمر (ننقل الكلام إلى هذا الداعي الثالث و هلم جراً.

و الجواب: نختار الأمر الأوّل، و انّه يدعو إلى نفس الصلاة، و القول بأنّه فاقد للأمر قد مرّ جوابه بأنّ الأجزاء مأمور بها بالأمر النفسي، و انّ من شرع في الصلاة فقد شرع بامتثال الأمر النفسي.

ثمّ نختار الأمر الثاني بأنّه يدعو إلى الصلاة بداعي الأمر، و لكن ليس معناه

ص:327


1- - بدائع الأفكار: 230.

هو الإتيان بكلّ من الجزءين بداعيه، أي الاتيان بالصلاة بداعي الأمر و الإتيان بداعي الأمر بداعي أمره، و ذلك لأنّ الجزء الثاني لما لم يكن مقصوداً بالذات، بل كان المقصود هو إتيان الجزء الأوّل بداعي أمره، فإذا أتي بالجزء الأوّل بداعي الأمر، يسقط امتثال الجزء الثاني، لأنّه لم يؤخذ على وجه الموضوعية، بل لأجل الطريقية إلى الجزء الأوّل و بيان كيفية امتثاله.

و لعمر القارئ انّ ما ذكروه من الوجوه العشرة مغالطات ظهر وجهها ممّا ذكرنا، و مقام الشيخ الأنصاري و تلاميذه و تلامذة تلاميذه أرفع من أن يعتمدوا على هذه الوجوه، خصوصاً و انّ المقام من قبيل الاعتباريات و الاعتبار سهل المئونة، فكيف يدعى فيها الاستحالة و الامتناع؟! ***

تصحيح الأخذ بأمرين
اشارة

ثمّ إنّ من قال بامتناع قصد الأمر في المتعلّق بأمر واحد حاول أن يصحح الأخذ في المتعلّق بأمرين:

أحدهما يتعلق بنفس الطبيعة

و يقول: أقم الصلاة، و الأمر الثاني يتعلّق بالإتيان بها بداعي أمرها كما إذا قال: امتثل أمر الصلاة بقصد أمرها.

و على هذا فيكون الأصل في الأوامر التوصلية، فانّ الأخذ في متعلّق الأمر الأوّل و إن كان محالاً و لكن لما كان الأخذ في المتعلق بالأمر الثاني جائزاً فعدم وجود الأمر الثاني يكشف عن عدم مدخليته فيه.(1)

و أورد المحقّق الخراساني على هذا الوجه بأنّ الأمر الأوّل إن كان يسقط

ص:328


1- - مطارح الأنظار: 60.

بمجرّد موافقته، و لو لم يقصد به الامتثال كما هو قضية الأمر الثاني فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله، فلا يتوصل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة و الوسيلة و إن لم يكد يسقط بذلك فلا يكاد يكون له وجه إلاّ عدم حصول غرضه بذلك من أمره لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله و إلاّ لما كان موجباً لحدوثه، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الأمر، لاستقلال العقل مع عدم حصول غرض الآمر بمجرّد موافقة الأمر، بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه فيسقط أمره.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان للمكلّف إحدى الحالتين، إمّا عالماً بالتوصلية، أو شاكّاً فيها و في التعبدية، فعلى الأوّل يسقط البحث، و على الثاني يعمل بقاعدة الاشتغال، و أمّا إذا كان المكلّف قاطعاً بأنّه توصلي قطعاً مخالفاً للواقع، أو غير ملتفت إلى أنّه تعبدي أو توصلي، فعندئذ يحتاج المولى في استيفاء غرضه إلى التوصل بالأمر الثاني فلا يكون لغواً.

ثمّ إنّ المحقّق البروجردي أورد على تصحيح الأخذ بإشكالين:

الأوّل: إذا كانت المصلحة قائمة بالمركّب من الصلاة و قصد الأمر، فكيف يبعث المولى عبده إلى الجزء) الصلاة (الفاقد للمصلحة؟ الثاني: انّ الأمر الأوّل لما تعلّق بالفاقد للمصلحة لا يكون إلاّ أمراً صورياً، و لا يكون قصد الأمر الكذائي مصحّحاً لكون الشيء عبادة.(2)

و الظاهر عدم تماميتهما أمّا الأوّل، فلأنّ الصلاة بما هي هي، ليست مجرّدة عن المصلحة، بل هي حاملة لبعضها.

و إن شئت قلت: تعدّ مقتضياً بالنسبة إليها، و لأجل ذلك يصحّ الأمر بها.

ص:329


1- - كفاية الأُصول: 1/111.
2- - نهاية الأُصول: 115.

نعم إنّما يمتنع إذا بعث إليها و اكتفى بالأمر الأوّل.

و منه يظهر حال الجواب الثاني، إذ ليس الأمر الأوّل صورياً بل أمر جدّي غاية الأمر على نحو الأمر بالمقتضي كما مرّ.

نعم يمكن أن يؤاخذ على تصحيح الأخذ بالأمرين بأنّ الأخذ لا يتوقف على الأمرين بل يصحّ بأمر واحد و لكن بوجهين:

الأوّل: أخذه في المتعلّق بصورة جملة خبرية بأن يقول: أقم الصلاة و يجب أن تُقيمها بقصد أمرها، فانّ أكثر الإشكالات غير متوجهة على هذه الصورة.

الثاني: أن ينهى عن الضد حتى يتعيّن الضد الآخر بأن يقول:» أقم الصلاة لا بداع نفساني «فإذا كان أحد الضدين اللّذين لا ثالث لهما منهياً عنه يتعيّن الضد الآخر أي بداع إلهي.

الإطلاق المقامي

إذا قلنا بامتناع أخذ قصد الأمر في المتعلّق فالإطلاق اللفظي يكون منتفياً بانتفاء موضوعه، إذ ليس للمولى إمكان الأخذ للمتعلّق حتى يُستدل بعدم الأخذ على عدم الوجوب، و لكن هناك أصلاً آخر باسم الإطلاق المقامي فيتمسّك به و يستدل به على التوصلية.

و الفرق بين الإطلاقين هو أنّ الإطلاق اللفظي عبارة عن كون المولى بصدد بيان كلّ ما له دخل في متعلّق الحكم، فإذا سكت نستكشف عن عدم مدخليته، بخلاف الإطلاق المقامي فانّه عبارة عن كون المولى بصدد بيان كلّ ما له دخل في غرضه و إن لم يكن له دخل في المتعلّق فإذا سكت نستكشف عن عدم وجوبه.

و على ضوء ذلك فيمكن أن يتمسّك بالإطلاق المقامي على عدم مدخلية

ص:330

قصد الأمر، و حتى قصد الوجه و التمييز في الغرض، إذ لو كان له مدخلية لوجب على المولى التنبيه على مدخليته و لو ببيان خارج عن الخطاب كأن يقول بعد الأمر بالصلاة أيّها المكلّف، الواجب الذي أمرت به واجب تعبّدي لا توصّلي، فسكوته في كلّ مورد مشكوك كاشف عن عدم مدخليته في غرض المولى و عدم مدخليته في المتعلّق.

و بهذا ظهر أنّ الأصل في التعبّدية و التوصّلية هو التوصّلية، و ذلك من وجوه شتى:

أ. إمكان أخذه في المتعلّق، و قد عرفت عدم تمامية الوجوه التي استدلّوا بها على الامتناع.

ب. إمكان أخذه في المتعلّق بأمر ثان.

ج. إمكان أخذه في المتعلّق مقيّداً بجملة خبرية.

د. إمكان تفهيمه بالنهي عن ضده بعد الأمر بالشيء.

ه. إمكان التمسّك بالإطلاق المقامي و انّه لو كان له مدخلية لكان على المولى البيان.

بقي الكلام في أدلّة القائلين في أنّ الأصل هو التعبديّة.

أدلّة القائلين بأنّ مقتضى الأصل هو التعبديّة
اشارة

استدلّ القائلون بانّ الأصل هو التعبّدية بوجوه:

الأوّل: ما نقله المحقّق النائيني عن العلاّمة الكلباسي:

أنّ المولى إنّما يأمر عبده بشيء و يطلبه منه ليجعل أمره محرّكاً إيّاه نحو العمل و باعثاً له نحو المراد.

و إن شئت قلت: إنّ الغرض من الأمر، كون الأمر داعياً، فحينئذ إن أتى

ص:331

المكلّف به بداعي أمره، فقد حصل الغرض و سقط الأمر، و إلاّ فلا.(1)

يلاحظ عليه: أنّه خلط بين كون الغرض من الأمر أن يكون داعياً للمكلّف إلى المأمور به، و بين كون الغرض منه هو الإتيان به بذاك القصد. و المسلّم إنّما هو الأوّل، و أمّا الثاني فيفتقر إلى دليل.

و بعبارة أُخرى: انّ الغرض من الأمر هو تعيين موضوع الطاعة حتّى يقف المكلّف على واجبه، و أمّا الإتيان لأجل أمر المولى فلم يعلم أنّه غرض الأمر.

الثاني: قوله سبحانه: (وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ).

(2)

و هو يدل على حصر الأوامر الصادرة منه سبحانه في التعبّدية، حيث جاءت غاية للأمر، في قوله (وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ ) أي ما أُمروا بشيء في مورد من الموارد من الطهارة إلى الديات إلاّ لأجل عبادة اللّه، فكانت الغاية للأمر في جميع الموارد هي عبادة اللّه، وعليه فكلّ أمر ورد في الشريعة، عباديّ، إلاّ ما قام الدليل على كونه غير عبادي، و هذا العموم متّبع إلى أن يدلّ دليل على خلافه.

يلاحظ عليه: بأنّ الآية بصدد بيان حصر العبادة و الطاعة في اللّه سبحانه، لا حصر عامة أوامره في التعبّدية، و على ذلك فمعنى قوله (وَ ما أُمِرُوا ) أي ما أُمروا) في مجال العبادة (إلاّ بالعبادة الخالصة. و ليس معناه انّهم ما أمروا بشيء مطلقاً إلاّ ليعبدوا اللّه به حتى تكون الغاية من الأمر مطلقاً في تمام الموارد عبادة اللّه سبحانه، و يؤيد ذلك قوله سبحانه: (اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ )(3) فالآية ظاهرة في أنّهم ما أمروا في مجال العبادة إلاّ عبادة إله واحد لا

ص:332


1- - أجود التقريرات: 1131/112.
2- - البينة: 5.
3- - التوبة: 31.

عبادة الآلهة و لا اتخاذ الأحبار و الرهبان أرباباً من دُون اللّه.

الثالث: قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «إنّما الأعمال بالنيّات، و إنّما لامرئ ما نوى»

(1)

أي واقعية كلّ عمل بنيّة القربة و إيجاده للّه سبحانه، فيكون المراد من النيّة، نيّة القربة، فكلّ عمل خلا عن نيّة القربة لا يُعدّ عملاً، فلا يحصل الامتثال.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال مبني على تفسير النيّة في الحديث بنيّة القربة، مع أنّه لا دليل عليه، بل المراد منه قصد العناوين التي ربّما ينطبق على العمل، كضرب اليتيم للأدب أو للإيذاء، وعليه لا يكون للروايتين مساس بالمقام.

و إن شئت قلت: إنّ اتّصاف العمل بالحسن و القبح، أو بكونه مقرّباً و غير مقرّب منوط بكيفية النيّة.

و أنّ كلّ عمل أتاه المكلّف بنيّة صالحة، يوصف بالحسن و القربة، و إلاّ فلا، و أمّا أنّ سقوط كلّ أمر يتوقّف على نيّة التقرّب إلى اللّه، و أنّه لولاها لفسد العمل فلا يدل عليه.

و في بعض الروايات: انّ اللّه لا ينظر إلى صوركم و لكن ينظر إلى قلوبكم.

إلى هنا تبيّن أنّ مقتضى الأصل اللفظي هو التوصّلية إلاّ أن يدلّ دليل على كون الواجب قربياً.

مقتضى الأصل العقلي

لو افترضنا أنّه لم نخرج بنتيجة قطعية حسب الأدلة الاجتهادية فلا محيص من الرجوع إلى الأصل العقلي أوّلاً و الشرعي ثانياً، فما هو مقتضى الأصل العقلي؟

ص:333


1- - الوسائل: 1، الباب 5 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 7.

إنّ مقتضاه هو البراءة، سواء أقلنا بإمكان أخذه في المتعلّق أم لا؟ أمّا على الأوّل فواضح، و أمّا على الثاني فلأنّ المولى و إن كان غير متمكّن من الأخذ في المتعلّق لكن يمكن أن ينبه على شرطيته بالأمر الثاني أو بالطرق التي تعرفت عليها.

لكن المحقّق الخراساني ذهب إلى أنّ الأصل الجاري في المقام عند الشكّ هو الاشتغال، قائلاً:

بأنّ الشكّ هاهنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها، فلا يكون العقاب مع الشكّ و عدم إحراز الخروج عقاباً بلا بيان، ضرورة أنّه بالعلم بالتكليف، تصحّ المؤاخذة على المخالفة، و عدم الخروج عن العهدة، لو اتّفق عدم الخروج عنها بمجرّد الموافقة بلا قصد القربة، و هكذا الحال في كلّ ما شكّ دخله في الطاعة، و الخروج به عن العهدة ممّا لا يمكن اعتباره في المأمور به، كالوجه و التمييز.(1)

توضيحه: أنّه) قدس سره (بصدد بيان الفرق بين الأقلّ و الأكثر الارتباطيين، و المقام بأنّ الشكّ في الثاني يرجع إلى الشكّ في السقوط دون الأوّل فانّ الشكّ فيه يرجع إلى سعة المتعلّق و ضيقه.

و أساس الفرق هو التمكّن من أخذ القيد في المتعلّق في الارتباطيين، دون المقام حيث إنّ الأخذ فيه مستلزم للمحال، و على ضوء ذلك لا ملازمة بين القول بالبراءة فيهما و القول بالبراءة في المقام مضافاً إلى أنّه) قدس سره (يعول بالاشتغال في كلا المقامين كما سيوافيك في مبحث الاشتغال.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ ما ذكره مبني على تقسيم الجزء إلى ما يمكن أن يكون

ص:334


1- - كفاية الأُصول: 1141/113.

مأخوذاً في المتعلّق و ما لا يمكن، فتجري البراءة في الأوّل دون الثاني.

و أمّا على المختار من أنّ جميع الشروط و الأجزاء على سنخ واحد، و انّ الكلّ يرجع إلى المتعلّق، و انّ للمولى أن يأخذ قصد الأمر جزءاً للمأمور به كالقنوت و جلسة الاستراحة، فلا يصحّ الفرق بين المقام و الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و ثانياً: أنّ ما ذكره من الدليل على الاشتغال في المقام ليس أمراً جديداً، بل هو دليل القائلين بالاشتغال في الأقل و الأكثر الارتباطيين في ذلك المبحث حيث قالوا: بأنّ الأمر بالأقل معلوم و نشك في سقوطه لأجل ارتباطية الأجزاء، و انّ الغرض المستكشف من الأمر معلوم و نشك في سقوطه بإتيان الأقل، فيجب الإتيان بكلّ ما احتمل دخله في الغرض.

فإذا كان روح الدليل في المقامين هو الشكّ في السقوط و حصول الغرض، فنقول:

إنّ تحصيل غرض المولى واجب لكن في المقدار الذي قام الدليل عليه، و أمّا ما لم يقم عليه الدليل فليس بواجب تحصيله، كما في المقام.

و بعبارة أُخرى: فالعبد مسئول أمام اللّه حسب ما أعطي من الحجة لا ما شك فيه، و الشكّ في سقوط الأمر في المقامين لاحتمال عدم حصول الغرض لا يؤثر في الاشتغال، و قد نبّه ببعض ما ذكرنا المحقّق العراقي في تقريراته، فقال:

إنّ التقريب المذكور ليس موجباً للفرق بين المقام و الأقل و الأكثر الارتباطيين، بل هو أحد الوجوه التي ذكرت للدلالة على لزوم الاحتياط فيهما.(1)

ص:335


1- - بدائع الأفكار: 1/240.
حكم الأصل الشرعي
اشارة

قد عرفت أنّ حكم الأصل العقلي هو البراءة، و أمّا حكم الأصل الشرعي فهو أيضاً كالعقلي على ما اخترنا من إمكان أخذه في المتعلّق بطرق مختلفة، فإذا شككنا في جزئيته أو شرطيته فيكون ممّا لا يعلمون، فيرفع بحديث الرفع.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما بنى على عدم إمكان أخذه في المتعلّق ذهب في المقام إلى عدم جريان البراءة الشرعية قائلاً:

بأنّه لا بدّ في عمومها لشيء من كونه قابلاً للرفع و الوضع، و ليس المقام كذلك، فانّ دخل قصد القربة و نحوها في الغرض ليس بشرعي، بل واقعي، و دخل الجزء و الشرط فيه و إن كان كذلك، إلاّ أنّهما قابلان للوضع و الرفع شرعاً. فبدليل الرفع و لو كان أصلاً يكشف أنّه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه الشكوك، يجب الخروج عن عهدته عقلاً، بخلاف المقام، فانّه علم بثبوت الأمر الفعلي و شكّ في كيفية الخروج.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره مبني على امتناع أخذه في المتعلّق مطلقاً، فعندئذ يكون دخله في الغرض تكوينياً لا جعلياً، و الأمر التكويني غير قابل للوضع و الرفع.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار في ذيل كلامه إلى وجود الفرق بين المقام و الشكّ في الجزئية و الشرطية، بعد اشتراكهما في أنّ مدخلية الجزء و الشرط أمر عقلي، و لكنّه في غير قصد الوجه قابل للرفع و الوضع، فلأجل ذلك يشمله حديث الرفع بخلاف المقام.

ص:336


1- - كفاية الأُصول: 1161/114.
نقل كلام عن المحقّق العراقي

إنّ المحقّق العراقي تابع المحقّق الخراساني في عدم جريان البراءة الشرعية، و أيّده بوجهين، لكن مبنى الوجه الأوّل غير مبنى الوجه الثاني.

فالأوّل منهما مبني على عدم جريان البراءة العقلية.

كما أنّ الوجه الثاني مبني على القول بعدم إمكان أخذه فيه بأمر واحد و إمكان أخذه بأمرين، و لو لا التوجّه إلى أنّ لكلّ وجه مبنى خاصاً لانقلب كلامه إلى ألغاز.

أمّا الأوّل فقال:

أمّا الوجه الأوّل فمحصّله أنّ ملاك البراءة النقلية هو كون الأمر المشكوك فيه إذا لم يبينه المولى كان ناقضاً لغرضه، و مورد الكلام ليس كذلك، فانّ القيد المزبور على فرض كونه مراداً للمولى لا يكون ناقضاً لغرضه إذا لم يبينه لكفاية حكم العقل بلزوم الإتيان به في مورد الشكّ، فلا يلزم من عدم البيان نقض الغرض، و إذا كان المورد كذلك لا يكون مجرى للبراءة النقلية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ حكم العقل بالاشتغال حكم في مقام الشكّ، و ليس حكماً واقعياً، فكم فرق بين الحكم بحسن العدل و قبح الظلم فلا يمكن للشارع نقضه و بين حكمه بالاشتغال في المقام في مقام الشكّ، فعندئذ يكون حكم الشارع بالبراءة النقلية بما انّه حكم مولوي رافعاً لحكم العقل.

و أمّا الوجه الثاني: انّ جريان البراءة النقلية عن وجوب قيد الدعوة بنحو الأمر الثاني، لا يثبت أنّ متعلّق الأمر الأوّل هو تمام المطلوب إلاّ على القول بحجّية

ص:337


1- - بدائع الأفكار: 1/243.

الأصل المثبت، ضرورة أنّ نفي الوجوب من متمم الجعل، و إثبات انّ الباقي واف بالغرض بالأصل المذكور من أظهر مصاديق الأصل المثبت، بخلاف ما لو قلنا بإمكان أخذ قيد الدعوة و نحوه في متعلّق الأمر الأوّل فانّه عليه يرجع الشكّ إلى انبساط الأمر على الجزء أو القيد المشكوك في دخله، فإذا جرت البراءة في انبساط الأمر عليه و تعلقه به استفدنا أنّ باقي الأجزاء هو تمام المأمور به في نظر العرف و ليس ذلك من المثبت لخفاء مثل هذه الواسطة في نظر العرف.(1)

و حاصله: انّه لو قيل بإمكان الأخذ بأمر واحد تثبت أصالة البراءة الشرعية انّ المأتي به تمام الموضوع، و أمّا على القول بعدم إمكان أخذه بأمر واحد و إنّما يمكن بأمر ثان، فنفي الأمر الثاني بالبراءة و بالتالي نفي التعبدية لا يثبت كون المأتي به تمام الواجب.

يلاحظ عليه: بأنّ الالتزام بوجوب العلم بكون المأتي به تمام المأمور به من قبيل الالتزام بما لا يجب الالتزام به، إذ ليس الواجب إلاّ عنوان الصلاة لا عنوان تمام المطلوب حتى يجب إحرازه، بل يجب إحراز ما قامت عليه الحجّة سواء أ كان تمام المأمور به أو لا.

إلى هنا خرجنا عن هذا البحث الضافي بالنتائج التالية:

1. انّ مقتضى الأصل اللفظي في التوصلية و التعبدية هو التوصلية.

2. انّ مقتضى الأصل العقلي و الشرعي عند عدم الدليل كالإطلاق و غيره على التوصلية، هو التوصلية.

3. انّ المعتبر في صحّة الواجب هو الإتيان به للّه سبحانه، و لا يعتبر الإتيان به لأمره سبحانه.

ص:338


1- - بدائع الأفكار: 1/244.

إنّ هذا البحث مبنيّ على القول بأنّ ملاك العبادة هو الإتيان لأمره، و أمّا على القول بأنّ ملاك العبادة هو الإتيان للّه سبحانه فالبحث أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

ص:339

المبحث الخامس في دوران صيغة الأمر بين كونه نفسياً، تعيينياً، عينياً، و ما يقابلها

اشارة

إذا دار أمر الصيغة بين كونه نفسياً أو غيرياً، كما إذا قال: اغتسل للجنابة، و احتمل كونه واجباً بنفسه أو غيرياً واجباً للغير كالصلاة و الصوم.

أو دار أمرها بين كونه تعيينياً أو تخييرياً، كما إذا قال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ )(1) و دار بين كونه واجباً تعيينياً لا يسقط بالإتيان بشيء آخر، أو تخييرياً ساقطاً بفعل الظهر أيضاً.

أو دار أمرها بين كونه عينيّاً أو كفائياً كما إذا قال: قاتل في سبيل اللّه، و دار أمره بين كونه واجباً عينياً و واجباً عليه في جميع الحالات قام به الآخر أو لا، أو كفائياً ساقطاً إذا قام به الآخر.

فالمعروف في جميع الصور الثلاث هو الحمل على النفسي التعييني العيني، غير أنّهم اختلفوا في وجه ذلك بعد الاتفاق على أصل الحمل، و قد ذكروا في المقام وجوهاً.

ص:340


1- - الجمعة: 9.
الوجه الأوّل: الحمل مقتضى الإطلاق

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الحمل مقتضى إطلاق الصيغة قال: مقتضى إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسياً، تعيينيّاً، عينياً، لأنّ الوجوب في مقابلاتها مقيّد بقيد، و مضيقة دائرته به، فإذا كان في مقام البيان و لم ينصب قرينة عليه، فالحكمة تقتضي كون الوجوب مطلقاً، وجب هناك شيء آخر أو لا، أتى بشيء آخر أو لا، أتى به آخر أو لا.(1)

و حاصله: انّ الوجوب في الثلاثة الأول، مطلق، و في مقابلاتها مقيّد، فإذا لم يأت بالقيد مع كونه في مقام البيان، يؤخذ بإطلاقه و يحمل على كونه نفسياً تعيينياً، عينيّاً.

و أورد عليه السيّد الأُستاذ: بأنّ كلاً من القسمين، من أقسام الوجوب، يمتاز عن المقسم بقيد، و لا معنى لأن يكون أحد القسمين مقيّداً دون الآخر، و إلاّ يلزم أن يكون القسم عين المقسم، و إليك بيان قيد كلّ واحد من القسمين:

الواجب النفسي ما وجب لنفسه.

و الغيري ما وجب لغيره.

الواجب التعييني ما وجب و إن أتى بشيء آخر.

و التخييري ما وجب إذا لم يأت بشيء آخر.

الواجب العيني، ما وجب و إن أتى به شخص آخر.

و الكفائي ما وجب إذا لم يأت به شخص آخر.

و على ضوء ذلك يكون كلّ واحد منهما في مقام التحديد مشتملاً على قيد زائد على نفس البعث و لو من باب زيادة الحدّ على المحدود، وعليه تصير النفسية

ص:341


1- - كفاية الأُصول: 1/116.

مباينة للغيرية، لا تتعين إلاّ بدال آخر، فلو كان هناك قرينة على أحد الطرفين فهو، و إلاّ يصير الكلام من هذه الجهة مجملاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح إذا لوحظ كلّ من القسمين برؤية عقلية، فلكلّ، قيد يمتاز به عن المقسم و القسم الآخر، و أمّا إذا لوحظ برؤية عرفية فالعرف يرى الوجوب النفسي، نفس الوجوب بلا قيد، و هكذا الآخران، من دون أن يزيد على الوجوب بشيء، و ذلك لأنّ القيد في الواجب النفسي، أعني قوله:» ما وجب لذاته أو لنفسه «ليس شيئاً زائداً على أصل الأمر، بل هو تأكيد له، فلا يتلقّاه العرف أمراً زائداً على أصل الوجوب و إن كان في نظر العقل قيداً زائداً.

و به يتبين حال الأمرين الآخرين، فانّ تفسير التعييني» بما وجب و إن أتى بشيء آخر «، و تفسير العيني » بما وجب و إن أتى به آخر «، ليس قيداً زائداً على الوجوب، بل هو تفسير لإطلاق الوجوب وسعته و انّه غير محدد و لا مقيّد، و واجب في كلتا الحالتين، وعليه يكفي في بيانه السكوت بخلاف القيد في الأقسام الثلاثة، فانّه تحديد للوجوب و تضييق له فلا يكفي في بيانه السكوت، بل لا بدّ من التكلّم به، فإذا سكت يحمل على الفرد الذي يكون إطلاق الوجوب كافياً في بيانه و إفادته.

و بعبارة أُخرى: انّ الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم، و يكون وافياً بإفادة المقصود، فلو أُريد النفسي و نظيره، فالوجوب المطلق من غير قيد باللفظ واف بإفادة المراد، و إن أُريد المقيّد، فالتعبير غير واف، و قد عرفت انّ النفسي و التعييني و العيني، نفس الوجوب المطلق في منظر العرف لا تزيد عليه بشيء في ذهنه. و كأن العرف يتلقى السكوت وافياً ببيان الثلاثة الأول، دون الثلاثة الأُخر.

ص:342


1- - تهذيب الأُصول: 1/167.
الوجه الثاني: الحمل مقتضى حكم العقل في مجال العبودية

قد عرفت أنّ أمر المولى، تمام الموضوع لوجوب الطاعة و العلم بالخروج عن العهدة، و لا يصحّ له ترك المأمور به باحتمال كونه مندوباً، فلا يترك أمر المولى بلا جواب، و الجواب إمّا العلم بكونه مندوباً و إمّا الإتيان بالمأمور.

و على ضوء ذلك يجب أن يحمل على كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً، إذ على هذا الفرض يقوم بامتثال الأمر في جميع الأحوال و لا يترك أمر المولى بلا جواب بخلاف ما إذا حمل على مقابلاتها فحينئذ يصحّ له ترك المأمور به باحتمال انّه واجب مقدّمي بشيء لم يجب بعد، أو واجب تخييري أتى بعدله، أو كفائي أتى آخر به، و من المعلوم أنّ ترك المأمور به بهذه الاحتمالات ترك بلا عذر قاطع و جواب حاسم.

الوجه الثالث: المختص بمورد التعييني و العيني

إنّ الوجوب في الواجب التخييري متعلّق بعنوان انتزاعي و هو أحد الفعلين أو الأفعال كما أنّه في الواجب الكفائي متعلّق بأحد المكلّفين، فلو أتى المكلّف بأحد الأعدال أو قام به أحد المكلّفين فقد امتثل الحكم، لكون المأتي به موافقاً للمأمور به، و على هذا فمقتضى الإطلاق كون الواجب تعيينياً عينياً، و ذلك لأجل أنّ الفرق بين الواجب التعييني و التخييري هو أنّ الواجب في الأوّل هو الجامع الحقيقي و العنوان المتأصّل المنطبق على مصاديقه انطباقاً ذاتياً و يكون لنفس العنوان مدخلية في الحكم، مثل قوله:» صلّ «و يكون المكلّف مخيّراً بين مصاديقه الذاتية في مقام الامتثال، و أمّا الواجب في الثاني، فالواجب فيه هو العنوان الانتزاعي و الجامع غير المتأصّل، و المكلّف مخيّر بين مصاديقه كعنوان أحد الفعلين

ص:343

أو أحد الأفعال، و لا مدخلية للعنوان في ثبوت الحكم، إلاّ أنّه اتخذ وسيلة لبيان ما هو الواجب، و تعلّق الإرادة و العلم بهذه العناوين، بمكان من الإمكان فضلاً عن تعلّق الحكم الذي ليس إلاّ أمراً اعتبارياً.

فإذا قال المولى:» أطعم «فظاهر البيان مدخلية ذاك العنوان، بما هو هو، في الحكم، لا بما أنّه أحد أفراد العنوان الانتزاعي، و لو كان المتكلّم في مقام البيان، و كان الواجب تعيينياً لكفى البيان المزبور، بخلاف ما إذا كان تخييرياً، فانّه يكون البيان ناقصاً غير واف.

و بذلك يعلم حال التردد بين العيني و الكفائي، فانّ مردّ التردد إلى أنّ التكليف توجّه إلى نفسه أو إلى عنوان أحد المكلّفين، فانّ ظاهر الخطاب أنّه متوجّه إلى شخصه أو إلى عنوان ذاتي كالمستطيع الذي هو من مصاديقه، و هذا بخلاف ما إذا كان واجباً كفائياً فالخطاب فيه ليس متوجّهاً إلى شخص المكلّف و لا إلى عنوان ذاتي، بل إلى عنوان انتزاعي كأحد المكلّفين.

يلاحظ عليه: انّ ما ذكره مبني على تفسير الفرق بين التعييني و التخييري أو العيني و الكفائي بما ذكر، و سيوافيك عدم صحّته و انّ التعلق في الجميع بنحو واحد. و إنّما الاختلاف في سنخ الوجوب، لا في متعلقه على النحو الذي مرّ.

هذا كلّه حول الأصل اللفظي، و أمّا مقتضى الأصل العملي فقد فرّقه الأُصوليون المتأخرون فبحثوا عن مقتضى الأصل فيما إذا دار بين النفسي و الغيري في مبحث وجوب المقدمة، و عن الأمرين الأخيرين في مبحث البراءة و الاشتغال.

ص:344

المبحث السادس الأمر عقيب الحظر أو توهمه

لو قلنا بإفادة صيغة الأمر الوجوب وضعاً أو إطلاقاً أو لأجل حكم العقل، فهل الأمر كذلك إذا وقع عقيب الحظر أو توهمه؟ و إليك بعض الأمثلة:

1. قال سبحانه: (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ ) و قال بعد النهي (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ )(1) فالحظر و النهي في آية واحدة.

2. قال سبحانه: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ )(2) أي غير مستحلّين اصطيادها في حال إحرامها.

و جاءت الآية الثانية بالأمر بالاصطياد بعد الاحلال، و قال: (وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ).(3)

فما هو مفاد الأمر بعد النهي أو توهمه؟ و هناك أقوال:

أ. فمن قائل بظهورها في الاباحة.

ب. إلى آخر قائل بظهورها في الوجوب.

ج. إلى ثالث بتبعية حكم الموضوع لما قبل النهي إذا علّق الأمر بزوال علّة

ص:345


1- - البقرة: 222.
2- - المائدة: 1.
3- - المائدة: 2.

النهي، كما قال: (وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ).

د. إلى رابع بإجمال الكلام لاكتنافه بما يصلح للقرينية، فالمرجع بعد الإجمال هو الأُصول العملية كما هو مختار المحقّق الخراساني و هو الأقوى.

وجه ذلك: هو ما عرفت من أنّ دلالة الأمر على الوجوب تدور على أحد محاور ثلاثة:

1. دلالة الصيغة على الوجوب بالدلالة اللفظية.

2. دلالتها على الوجوب من باب الإطلاق، و هو أنّ البعث المطلق يساوق الوجوب، بخلاف الندب، فانّه يحتاج في إفادته وراء البعث إلى قيد زائد، و قد مرّ نظير ذلك في دوران الأمر بين النفسية و الغيريّة فلو أراد الوجوب، يكون اللفظ وافياً ببيانه، بخلاف الندب.

3. دلالتها على الوجوب، من باب حكم العقل و العقلاء، بأنّ أمر المولى لا يُترك بلا جواب، و ليس للعبد ترك المأمور به باحتمال كون الطلب مندوباً.

و على أيّ وجه من هذه الوجوه الثلاثة، اعتمد في استفادة الوجوب، فهو غير جار في المقام.

أمّا على الوجه الأوّل، فانّ استعماله في الوجوب حقيقة و في غيره مجاز، فإذا دار مفاد الصيغة في قوله (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ) بين الحقيقة و المجاز فلا يمكن التمسّك بأصالة الحقيقة لأنّها إنّما تجري إذا لم يكتنف الكلام بمحتمل القرينية كما في المقام حيث إنّ تقدّم النهي ربّما يصلح أن يكون قرينة على أنّ الأمر لبيان الترخيص و رفع الحظر، لا لزوم الامتثال.

و منه يظهر حال الوجه الثاني، فانّ الأخذ بالإطلاق رهن تمامية مقدّمات الحكمة أعني كون المتكلّم في مقام البيان، و عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب،

ص:346

و فقد ما يصلح للقرينية، فثبوت الإطلاق، المساوق للوجوب، فرع عدم وجود ما يصلح للقرينية، لكن النهي المتقدّم يصلح لها و انّ المراد من الأمر، هو نقض النهي و الحظر لا البعث الجدّي إلى المتعلّق.

أمّا على المذهب المختار فهو أيضاً كذلك، لأنّ الموضوع لوجوب الطاعة، هو الأمر، غير المكتنف بما يصلح لأن يصرفه إلى أنّ المقصود رفع الحظر المحقق، أو المتوهم و ليس هذا الاحتمال، نظير احتمال إرادة الندب من الأمر المطلق، غير المكتنف بما يصلح للقرينية، إذ لا إجمال فيه، و لا يكون الاحتمال المجرّد عذراً في ترك المأمور به، بخلاف المقام.

و من ذلك يعلم، أنّ أقوى الأقوال هو القول بالإجمال و الرجوع إلى الأُصول العملية إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي فوقهما و إلاّ فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي و هذا كما في مورد المرأة الحائض.

فقد ورد مفاد النهي في قوله سبحانه (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ ).

و ورد الأمر بعده عند زوال ملاك النهي و قال: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) و لاحتفاف الأمر بما يصلح للقرينة، يصبح الأمر مجملاً غير دال إلاّ على حكم شرعي مردد بين الأحكام الأربعة.

و لكن لما كان في المقام تشريع فوقاني دال بإطلاقه الأحوالي على حكم الزمان الذي ورد فيه الأمر، يكون هو المرجع، أعني قوله سبحانه: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ )(1) فهو بإطلاقه يعم حال المحيض و الطهارة، خرج عنه الأوّل، و بقي الباقي تحته، و يكون الحكم الشرعي هو الإباحة الشرعية.

ص:347


1- - البقرة: 223.

المبحث السابع دلالة الأمر على المرّة و التكرار

اشارة

و لنقدّم أمام البحث أُموراً:

الأوّل: فيما إذا كانت هناك قرينة على أحد الأمرين

إنّ البحث في دلالة الأمر على المرّة و التكرار مركّز فيما إذا لم يدل دليل خارجي على أحد الأمرين كالتكرار في قوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )(1) أو المرّة في الأمر الوارد في الحج في الروايات الذي يعبر عنه قوله سبحانه: (لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ).(2)

الثاني: في تحرير محلّ النزاع

هل النزاع في دلالة المادة، أو الهيئة أو مجموعهما على أحد الأمرين؟ وجوه، ذهب صاحب الفصول إلى أنّ محلّ النزاع في دلالة الهيئة لا في المادة، لإجماع أهل الأدب على أنّ المصدر المجرّد من اللام و التنوين لا يدلّ إلاّ على صرف الطبيعة.

و أورد عليه المحقّق الخراساني: بأنّه إنّما يتم إذا كان المصدر هو مبدأ المشتقات، و ليس كذلك، بل هو أحد المشتقات، فعدم دلالته لا يدل على عدم

ص:348


1- - الإسراء: 78.
2- - آل عمران: 97.

دلالة مبدأ المشتقات عليهما.

يلاحظ عليه: أنّ عدم دلالة المصدر، يكشف عن عدم دلالة مادة المشتقات على أحدهما، لاشتراك المصدر مع سائر المشتقات في مادتها، فإذا كان المصدر مادة و هيئة غير دالّ إلاّ على نفس الطبيعة فينتج أنّ مادة المشتقات مطلقاً في أي واحد منها لا تدل على أحدهما لوجود مادتها في المصدر بلا تغيير.

الثالث: الفرق بين الدفعة و المرة و...

الفرق بين الدفعة و الدفعات و المرّة و التكرار، هو أنّ الملاك في الدفعة و الدفعات، هو وحدة الحركة و تعددها، و لكن الملاك في الثاني، هو وحدة المصداق للطبيعة و كثرته.

و على ضوء ذلك ربّما يجتمع الدفعة مع التكرار كما إذا أتى العبد بإناءين مملوءين من الماء فقد امتثل دفعة، و لكن بفردين مكررين، و على كلّ تقدير فكلّ من المعنيين قابل لأن يقع محلّ النزاع.

و تظهر الثمرة فيما لو قلنا بدلالته على المرّة بمعنى الدفعة، إذ يكون الإتيان بفردين دفعة، مجزياً و واقعاً، تحت الأمر بخلاف ما لو فُسرت بالفرد، فيضرّ تعدد الفرد و إن كانت الحركة واحدة.

ثمّ إنّ صاحب الفصول أصرّ على أنّ المراد من المرّة و التكرار هو الدفعة و الدفعات لا الفرد و الأفراد، قائلاً بأنّه لو كان المراد، هو الفرد و الأفراد، لكان الأنسب جعله ذيلاً للبحث الآتي في تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد، فلو قلنا بالثاني، يلزم أن يبحث بأنّ المدلول هل هو الفرد الواحد أو الأكثر أو لا واحد منهما؟ و أمّا لو أُريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين.

ص:349

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا علقة بين المسألتين سواء أُريد من المرّة و التكرار، الدفعة و الدفعات، أو أُريد منهما، الفرد و الافراد.

و ذلك لأنّه إنّما يصحّ جعل هذه المسألة ذيلاً لمسألة تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد، إذا أُريد من الطبيعة في عنوان المسألة الثانية: تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد، الطبيعة بما هي هي، فبما انّه لا يتصوّر في الطبيعة بهذا المعنى، الفرد و الأفراد، فتصبح دلالة الأمر على الفرد و الأفراد، ذيلاً للشق الثاني من تلك المسألة و يقال: فعلى القول بتعلّقها بالفرد، فهل يتعلّق بفرد واحد، أو أفراد؟ و لكن تفسير الطبيعة بالمعنى المذكور في عنوان المسألة الثانية، خاطئ جداً، لأنّها بما هي هي ليست محبوبة و لا مبغوضة، فكيف يتعلّق بها الأمر؟ بل المراد منها في عنوان المسألة الوجود السعي بلا لحاظ المشخصات، و عندئذ وقع النزاع في أنّ متعلّق الأمر، هل وجود الطبيعة بوجودها السعي من دون أن يكون للمشخصات دور في المطلوب أو انّ متعلقها وجود الطبيعة مع مشخّصاتها الفرديّة، مثلاً إذا قال: اسقني بالماء فجاء بالماء في إناء بلّور، فهل المتعلق إحضار الماء بوجوده السعي، سواء أ كان في إناء بلور أو نحاس أو غيره من دون نظر إلى تلك الخصوصيات، أو أنّ المتعلّق هو تلك المشخصات مضافاً إلى وجود الطبيعة.

فإذا كان هذا معنى النزاع في تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد، يصحّ النزاع في أنّ الأمر يدل على المرّة و التكرار بمعنى الفرد و الافراد على كلا القولين، و أمّا على القول الأوّل أي تعلقه بالطبيعة بمعنى الوجود السعي، فيقع النزاع في دلالة الأمر على الوجود الواحد لها أو الوجودات الكثيرة، و أمّا على القول الثاني فواضح لا يحتاج إلى بيان.

فاتضح أنّ البحث عن المرّة و التكرار سواء فسّرنا بالدفعة أو الدفعات أو

ص:350

بالفرد و الافراد، مسألة مستقلة فيصحّ النزاع في دلالة الأمر على المرّة و التكرار بكلا المعنيين، فليست المسألة، ذيلاً للقول الثاني في مسألة متعلق الأمر، فلاحظ.

*** إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الحقّ عدم دلالة الصيغة على واحد من الأمرين، لأنّ الدالّ إمّا الهيئة فهي موضوعة للبعث و الاغراء، أو المادة و هي موضوعة للطبيعة بما هي هي من دون تقيّد بالوحدة أو الكرة، فأين الدال؟! و أمّا الاكتفاء بالمرة فلأجل حصول الامتثال بها عقلاً، لا من باب دلالة الصيغة عليها لفظاً.

نعم يمكن القول بأنّ المرّة مقتضى الإطلاق بالبيان الذي مرّ في كون الوجوب أو النفسية مقتضى إطلاق الأمر، فلاحظ.

بقي هنا شيء و هو انّه على المختار من عدم الدلالة على واحد من المرّة و التكرار، لو امتثل المكلّف بالاتيان بعدة افراد من الطبيعة دفعة واحدة، كما إذا قال المولى: أكرم عالماً فأكرم عدّة منهم دفعة، فهل هو يعد امتثالاً واحداً أو متعدّداًً؟ ذهب سيد مشايخنا المحقّق البروجردي إلى القول الثاني قائلاً بأنّ الطبيعة تتكثر بتكثر أفرادها، و كلّ فرد من الأفراد محقّق للطبيعة، و لما كان المطلوب هو الطبيعة بلا تقيّد بالمرّة و التكرار فحينئذ إذا أتى المكلف بأفراد متعددة فقد أوجد المطلوب أي الطبيعة بايجاد كلّ فرد، و يكون كلّ فرد امتثالاً برأسه كما أنّه موجود برأسه.

و من هذا القبيل الواجب الكفائي حيث إنّ الأمر فيه متعلّق بنفس الطبيعة و يكون جميع المكلّفين مأمورين بإتيانها فلو أتى واحد منهم بها سقطت عن الباقي

ص:351

و لا مجال للامتثال ثانياً، و لو أتى عدّة منهم بها دفعة يكون كلّ واحد منهم ممتثلاً و تتحقق امتثالات لا امتثال واحد من الجميع.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ فيه خلطاً بين تعدد الطبيعة و تعدد الامتثال، أمّا الأوّل فلا شكّ فيه، لأنّ كلّ واحد من المصاديق و الافراد، محقق للطبيعة فزيد إنسان تام، و عمرو إنسان تام آخر كما أفاده الشيخ الرئيس في تحقيق أنّ وجود الطبيعة في الخارج بمعنى وجود أفرادها.

و أمّا الثاني: انّ تعدد الامتثال فهو رهن تعدد الطلب و البعث، حتّى يعدّ امتثال كلّ بعث امتثالاً مستقلاً، لكن المفروض عدمه حيث إنّ هنا بعثاً واحداً متعلقاً بالطبيعة غير المقيّد بالمرة و التكرار، و معه كيف يتعدد الامتثال؟ و ليس الأمر بإكرام العالم، كالأمر بإكرام العلماء، حيث إنّ الأمر في الثاني ينحلّ إلى أوامر حسب عدد المصاديق و لكلّ امتثال، بخلاف الأوّل، فهو أمر واحد، متعلّق بالطبيعة المطلقة غير المقيّدة، و معها يكون البعث مثلها واحداً، كما يكون الامتثال أيضاً واحداً.

و بما ذكرنا يعلم الفرق بين المقام و الواجب الكفائي حيث إنّ البعث هناك متعدد حسب تعدد الأفراد، فالكلّ مأمور بتجهيز الميت و مواراته لكن لو أتى به فرد منهم سقط عن الباقي لارتفاع الموضوع أو غيره و على ضوئه لو أتى به عدّة دفعة واحدة يعد الجميع ممتثلاً، لقيام الكلّ بالخطاب الموجَّه إليه.

ص:352


1- - لمحات الأُصول: 84

المبحث الثامن في دلالة الأمر على الفور أو التراخي و عدمها

اشارة

إنّ الواجب ينقسم إلى قسمين: موسّع و مضيّق. فالأوّل ما لا يكون مقيّداً بالزمان، كأداء الدين غير المؤجّل بأجل، أو يكون الزمان المضروب على الفعل أوسع منه، و يكون المكلّف مخيّراً في امتثاله بين الزمن الأوّل و الثاني. كصلاة الظهر بالنسبة إلى وقتها.

و أمّا الثاني، فعلى أقسام:

الأوّل: ما يكون محدوداً من حيث الزمان، لا يجوز تقديمه و لا تأخيره، كالصوم الواجب في شهر رمضان.

الثاني: ما يجب فوراً، و يسقط وجوبه فضلاً عن فوريته لو أخّر. كردّ السلام، فلو لم يردّ، عصى، و سقط الوجوب.

الثالث: ما يجب فوراً، و لو عصى لسقطت فوريته لا أصله، كصلاة الزلزلة: فلو عصى و أخّر، سقطت فوريتها لا أصل وجوبها.

الرابع: ما لا يسقط أصل وجوبه و لا فوريته إذا عصى، و لكن يجب عليه الإتيان به فوراً ففوراً، كقضاء الفوائت.

و هذا التقسيم حسب الثبوت. و إليك الكلام حسب الإثبات. فهل الأمر يدلّ على كونه مضيّقاً أو موسّعاً أو لا يدلّ على واحد منهما؟ استدلّ القائل بعدم الدلالة على واحد منهما بالدليل الماضي في مبحث المرّة و التكرار، و حاصله: أنّ الأمر مركّب من هيئة و مادة، و الثانية دالة على الطبيعة

ص:353

المطلقة، و الهيئة موضوعة للبعث، فأين الدالّ على الفورية أو التراخي؟! هذا حسب الدلالة اللفظية و قد عرفت عدم دلالتها على واحد منهما.

إنّما الكلام في مقتضى الإطلاق فقال المحقّق الخراساني بأنّ قضية إطلاق الصيغة جواز التراخي.

و يمكن أن يقال انّ مقتضى الإطلاق هو الفور، و ذلك لما مرّ في وجه حمل الأمر على الوجوب دون الندب، أو النفسية دون الغيرية، فيقال في المقام انّ كلا من الفور و التراخي خارج عن مفهوم البعث، و قسمان له، و إرادة كلّ قسم يحتاج إلى بيان زائد وراء بيان البعث، غير أنّ متلقّى العرف أنّ البعث يلازم الانبعاث فكأنّهما متلازمان فلو أراد الآمر ذاك الفرد، فهو غني عن البيان، و إن أراد التراخي فهو رهن بيان زائد.

هذا إذا كان المولى في مقام البيان، و أمّا إذا كان في مقام الإجمال و الإهمال فالمرجع هو البراءة عن الكلفة الزائدة على أصل التكليف و هي الفورية.

أدلة القائل بالفورية
اشارة

استدل على القول بالفورية تارة بأنّها مقتضى صيغة الأمر، و أُخرى بأنّها مقتضى الأدلّة الخارجية.

أمّا الأوّل: مقتضى صيغة الأمر

فهو خيرة شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري حيث نزّل العلل التشريعية منزلة العلل التكوينية فكما أنّ مقتضى الثانية عدم انفكاك معاليلها عنها، فهكذا الأُولى قال في قضاء الفوائت: إنّ الفورية و إن كانت غير ملحوظة قيداً في المتعلق، إلاّ أنّها من لوازم الأمر المتعلق به فانّ الأمر تحريك إلى العمل و علة تشريعية، و كما أنّ العلة التكوينية لا تنفك عن معلولها في الخارج، كذلك العلة

ص:354

التشريعية تقتضي عدم انفكاكها عن معلولها في الخارج.(1)

و ضعفه ظاهر، فانّ عدم الانفكاك في التكوين، لا يكون دليلاً على عدم انفكاكه في التشريع، فانّ نظام العلّة و المعلول، نظام الضرورة فوجود المعلول بعد العلة أمر ضروريّ لا محيص عنه، و هذا بخلاف نظام التشريع فانّه نظام الاعتبار و الفرض فيتبع كيفية الاعتبار، فلو اعتبر البعث غير منفك عن الانبعاث التشريعي، فلا محيص عن الفورية، و إن اعتبره منفكّاً عنه فلا محيص عن التأخير، و إن اطلق، يحتمل الأمران، فوزان الزمان كوزان المكان و سائر القيود، لا يتكفّل لبيانها نفس البعث بل لا بدّ من دليل آخر.

و ما ذكرناه لا ينافي ما تقدّم من أنّ الإطلاق يساوق الفورية و انّ التراخي رهن البيان الزائد، و ذلك لأنّ ما ذكرناه مبني على أنّ الفورية هو متلقى العرف في دائرة المولوية و العبودية، من دون حاجة إلى قياس علل التشريع كالأمر بالعلل التكوينية كما عليه هذا البيان.

و أمّا الثاني: مقتضى الأدلّة الخارجية

أي الاستدلال بالأدلة الخارجية فقد استدلّوا بآيتين:

الأُولى: آية المسارعة

قال سبحانه: (وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ).(2)

و الدلالة مبنية على بيان أمرين:

1. انّ الأمر في» سارعوا «للوجوب فتكون المسارعة واجبة.

2. انّ المغفرة من أفعاله سبحانه و لا يمكن التسارع إليها فيكون قرينة على

ص:355


1- - كتاب الصلاة، باب قضاء الفوائت: 392، ط 1352 ه.
2- - آل عمران: 133.

انّ المراد بها، هو أسبابها أعني الواجبات فينتج وجوب المسارعة إلى الإتيان بالواجبات.

يلاحظ عليه: أنّ سبب المغفرة بين المتشرعة هو الاستغفار بشرائطه، وعليه كتاب اللّه العزيز يقول سبحانه: (وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ * أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ).(1)

فلو تمت دلالة الآية، لدلّت على المبادرة إلى الاستغفار، لا إلى سائر الواجبات.

الآية الثانية: آية المسابقة

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ).(2)

وجه الاستدلال أنّ ظاهر الآية وجوب الاستباق إلى الخيرات التي من أظهر مصاديقها هو فعل الواجبات فلو عصى، يجب عليه الإتيان في الآن الثاني و هكذا.

يلاحظ عليه: أنّ مفهوم الآية هو وجوب تسابق العباد في ميدان المباراة نحو عمل الخير، على نحو لو بادر أحد لم يبق موضوع للآخر، و أين هذا من وجوب مبادرة كلّ إلى واجبه و إن لم يكن في جانبه أيّ مكلف؟!

ص:356


1- - آل عمران: 136135.
2- - المائدة: 48.

و الآية نظير قوله سبحانه (وَ اسْتَبَقَا الْبابَ )(1) حيث تسابق كل من يوسف و امرأة العزيز نحو الباب فحاول يوسف فتحه و الأُخرى غلقه و المنع عن خروجه.

أضف إلى ذلك أنّ الإمعان في الآية يعطي انّ المراد منها هو الحكم بما أنزل اللّه و عدم اتّباع الأهواء، و يدل عليه قوله سبحانه: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ).(2)

إكمال: لو قلنا بدلالة الصيغة على الفور امّا بالدلالة اللفظية أو لكونه مقتضى الإطلاق، فلو عصى المكلّف فهل يجب عليه الإتيان بالمأمور به ثانياً أو لا؟ فيه تفصيل بين كون المقام من قبيل وحدة المطلوب كما في السلام فيسقط عصياناً، أو تعدده، كما في قضاء الفوائت بناء على المضايقة. و لا يمكن استظهار واحد منهما من صيغة الأمر فالمرجع أحد الأمرين:

1. الإطلاق القاضي بعدم الوجوب في الآن الثاني لو تمّت مقدّمات الحكمة.

2. الأصل العملي من الاستصحاب أو البراءة، فلو جرى استصحاب الوجوب لأجل القول بأنّ الفورية ليست قيداً للموضوع، و إلاّ فالمرجع البراءة من الإتيان ثانياً.

ص:357


1- - يوسف: 25.
2- - المائدة: 48.

الفصل الثالث في الاجزاء

و قبل الخوض في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: في عنوان المسألة

اختلفت كلمة الأُصوليين في عنوان المسألة، فعنونه المرتضى في» الذريعة «(1)بقوله: هل الأمر يقتضي الإجزاء أو لا؟ و تبعه صاحب الفصول.(2)

و عنونه الشيخ في» مطارح الأنظار «(3)بقوله: إتيان المأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء أو لا؟ و الفرق بين العنوانين واضح، فالنزاع على الأوّل لفظي، منصبٌّ على دلالة لفظ الأمر على الإجزاء، كما أنّه على الثاني، عقلي منصبٌّ على وجود الملازمة بين الإتيان بالشيء على وجهه و الإجزاء.

الثاني: ما هو المراد من لفظة» على وجهه «؟

قد جاء في العنوان الذي طرحه الشيخ في المطارح لفظة» على وجهه «فما هو المراد منه؟ هناك احتمالات:

ص:358


1- - الذريعة إلى أُصول الشريعة: 1/121.
2- - الفصول الغروية: 116.
3- - مطارح الأنظار: 18.

1. المراد منه قصد الوجه، أعني: قصد الوجوب أو الندب.

يلاحظ عليه: بعدم اعتبار قصد الوجه عند الأصحاب إلاّ من شذّ منهم كابن إدريس، فلا وجه لأخذه في العنوان.

2. المراد منه الكيفيات الشرعية المعتبرة في المأمور به من الأجزاء و الشرائط الشرعية.

يلاحظ عليه: باستلزامه أن يكون القيد زائداً لدخولها في قوله:» المأمور به «فلا وجه للتعبير بلفظ آخر.

3. المراد منه الكيفية التي لا يمكن أخذها في المأمور به، و يعدّ من القيود الواقعة فوق دائرة الطلب دون تحتها، أعني قصد الأمر حيث إنّه من الأُمور التي تتحقّق بعد تعلّق الأمر.

يلاحظ عليه: أنّ تقسيم القيود إلى ما يقع تحت دائرة الطلب و ما لا يقع، من التقسيمات التي ظهرت من عصر الشيخ الأنصاري إلى يومنا هذا، و قد عرفت أنّ القيود عند القدماء كانت على وزان واحد، فقصد الأمر كالسورة و القنوت فالجميع يتعلّق بها الأمر، و عند ذلك يدخل قصد الأمر في قولهم» إتيان المأمور به «.

نعم على خيرة الشيخ و المحقّق الخراساني يكون قصد الأمر خارجاً عنه و يحتاج إلى التعبير عنه بلفظ آخر، لكن العنوان ليس للشيخ نفسه بل لغيره.

و يمكن أن يقال: أنّ المراد من قوله» على وجهه «التنبيه على بعض صور المسألة ممّا يعد موافقاً للشرع حسب الظاهر دون الواقع، كما إذا صلّى بالطهارة الاستصحابية ثمّ بان كونه محدثاً فقد صلّى و أتى بالمأمور به لا على وجهه الواقعي، لما قرر في محله من أنّ الطهارة شرط واقعي لا ظاهري و القيد على هذا و إن أصبح

ص:359

توضيحياً لكن أتي به لغرض التنبيه على هذا النوع من الموارد الذي ربما يغفل عنه بعض الأفراد.

الثالث: ما هو المراد من الاقتضاء؟

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الاقتضاء في العنوان) الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء (بمعنى العلية و التأثير لا بنحو الكشف و الدلالة، بشهادة أنّه نسب إلى الإتيان لا إلى صيغة الأمر.(1)

ثمّ استشكل على نفسه بقوله: هذا إنّما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره، و أمّا بالنسبة إلى أمر آخر كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الإجزاء أو بنحو آخر لا يفيده.(2)

و بعبارة أُخرى: أنّ الإتيان إنّما يكون علّة و مؤثراً لسقوط الأمر المتعلّق بالمأتي به، و أمّا بالنسبة إلى الأمر الآخر الذي لم يمتثل بعدُ: أعني الأمر الواقعي فلا معنى لكون الامتثال بالأمر الاضطراري أو الظاهري علّة لسقوط الأمر الواقعي، فلا محيص في تصحيح النزاع من تفسير الاقتضاء بالدلالة و الكشف، بأن يكون مصب النزاع في دلالة الدليل على اشتمال المأتي به بالمصلحة الجابرة للمصلحة الفائتة فيجزي و إلاّ فلا. مثلاً انّ قوله:» إنّ التيمّم أحد الطهورين «(3)و قوله:» و يكفيك الصعيد عشر سنين «(4)دالّ على اشتمال المورد على المصلحة

ص:360


1- - بخلاف العنوان الأوّل فقد عرفت أنّ الاقتضاء فيه نسب إلى الأمر.
2- - الكفاية: 1/125.
3- - الوسائل: 2، كتاب الطهارة، الباب 23 من أبواب التيمم، الحديث 5.
4- - الوسائل: 2، كتاب الطهارة، الباب 24 من أبواب التيمم، الحديث 12.

التامّة الجابرة للمصلحة الفائتة و معه لا يبقى مجال للشكّ في السقوط.

ثمّ إنّه) قدس سره (أجاب عن الإشكال بقوله:

نعم لكنّه لا ينافي كون النزاع فيهما كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدّم، غايته أنّ العمدة في سبب الاختلاف فيهما إنّما هو الخلاف في دلالة دليلهما، هل أنّه على نحو يستقل العقل بأنّ الإتيان به موجب للإجزاء و يؤثر فيه و عدم دلالته و يكون النزاع فيه صغروياً أيضاً، بخلافه في الإجزاء بالاضافة إلى أمره فانّه لا يكون إلاّ كبروياً لو كان هناك نزاع كما نقل عن بعض.(1)

و حاصله: انّ ما ذكر ليس مانعاً من تفسير الاقتضاء بالعلية و التأثير في نفس المورد، غاية الأمر يحتاج إلى إحراز الصغرى و هو اشتمال المأتي به على المصلحة الجابرة للمصلحة الفائتة; فعندئذ يقع النزاع في الكبرى و هو عليّة امتثال الأمر الاضطراري أو الظاهري لسقوط الأمر الواقعي، فالنزاع في أنّ إتيان كلّ شيء مسقط لأمره كبروي، و في غيره صغروي و كبروي.

و أورد عليه السيد الأُستاذ: بأنّه لا يصحّ تفسير» الاقتضاء «بالعليّة، سواء كان المعلول هو الإجزاء بالمعنى اللغوي أي الكفاية، أو سقوط الأمر، أو سقوط إرادة المولى.

أمّا الأوّل: فهو أمر انتزاعي لا يقع مورد التأثر و التأثير، مثلاً أنّ العطشان إذا شرب ماءً و تروّى يقول كفى، فينتزع من التروّي و رفع العطش عنوان» الإجزاء «فليس هو شيئاً وراء التروّي.

و أمّا الثاني: فانّ الإتيان علّة لحصول الغرض، و مع حصوله ينتفي الأمر، بانتفاء مقتضيه، و سببه حصول الغرض لا انّه يسقط.

ص:361


1- - الكفاية: 1/125.

و أمّا الثالث: فلأنّ الإتيان معلول لإرادة الآمر، فلا يكون المعلول علّة لارتفاع علّته فلا يكون علّة لسقوط الإرادة.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ المعلول أمر آخر وراء هذه الأُمور الثلاثة، و لعلّ لفظ الإجزاء كناية عنه و هو حكم العقل بالإجزاء، و المراد من العلّية كون الإتيان موضوعاً لحكم العقل، كما أنّ العدل موضوع لحكم العقل بالحسن، و الظلم موضوع لحكمه بالقبح، فتصبح المسألة عقلية بحتة في مورد، و عقلية و شرعية في مورد آخر، كما أفاده المحقّق الخراساني) قدس سره (.

ثمّ إنّ ما أفاده من أنّ إتيان المأمور به، من معاليل إرادة المولى فكيف يكون المعلول طارداً لعلّته؟ قد مرّ الكلام فيه، و هو أنّ الإرادة مطلقاً تكوينية كانت أو تشريعية إنّما تتعلق بالفعل الاختياري و ليس فعل الغير في اختيار المريد، و لذلك قلنا إنّ الإرادة التشريعية متعلّقة بالبعث و الطلب و هو فعل اختياري للمريد، و هو بالنسبة إلى العبد مبيّن لموضوع الطاعة، و أمّا الانبعاث فهو من آثار الخوف من تبعات المخالفة كما لا يخفى.

الرابع: للإجزاء حقيقة متشرعيّة؟

ربّما يتصوّر أنّ للإجزاء حقيقة متشرعيّة، فقد نقل من معناه اللغوي أي الكفاية إلى سقوط الإعادة في الوقت، و القضاء في خارجه.

و الظاهر خلافه و أنّه ليس له إلاّ معنى واحداً، و أمّا السقوط فهو من لوازم المورد، فإجزاء المأتي به يلازم عدم التعبّد به في وقته أو خارجه ثانياً، كما في إجزاء المأتي به بالأمر الاضطراري، فهو يلازم سقوط التعبّد بالأمر الاختياري، أو إجزاء

ص:362


1- - تهذيب الأُصول: 1791/178، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المأتي به بالأمر الظاهري فهو يلازم سقوط التعبّد بالأمر الواقعي، فكلّ ذلك من لوازم المورد، أو المستعمل فيه من دون أن يكون هناك وراء الفقه مصطلح خاصّ.

الخامس: الفرق بين هذه المسألة و مسألة المرّة و التكرار

ربّما تتصور وحدة المسألتين و انّ القول بالإجزاء نفس القول بدلالة الأمر على المرّة، كما أنّ القول بعدمه عبارة أُخرى عن عدم الإجزاء.

يلاحظ عليه بأنّ تصادق المرة مع الإجزاء أو تصادق التكرار مع عدمه، لا يكون دليلاً على وحدة المسألتين بعد تعدد الملاك الذي يُصحح عقد مسألتين مختلفتين، فانّ البحث في أُولى المسألتين إنّما هو في تعيين ما هو المأمور به شرعاً حسب دلالة الصيغة بنفسها كما عليه شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري على ما مرّ أو بدلالة أُخرى كما عليه الآخرون.

و أمّا البحث في المقام فإنّما هو بعد الفراغ عن تعيين ما هو المأمور به، سواء أ كان المأمور به هو الطبيعة المجرّدة أو المقيدة بالمرّة أو التكرار، و يقال إذا أتى المكلف بما هو المأمور به بكماله و تمامه، سواء أ كان المأمور به، هو الطبيعة أو المقيّدة بالمرة أو التكرار هل هو يجزي أو لا؟ نعم القول بالإجزاء يتصادق مع القول بالمرة، كما أنّ القول بالتكرار، يتصادق مع عدم الإجزاء، و لكن التصادق الموردي لا يكون دليلاً على وحدة المسألتين.

السادس: الفرق بين المقام و مسألة تبعية القضاء للأداء

إنّ هنا مسألة أُخرى باسم تبعية القضاء للأداء و عدم تبعيّتها له و يعبّر

ص:363

عنها بأنّ القضاء بالأمر الأوّل أو بالأمر الجديد فإذا فات الأمر الواقعي منه و امتثل مكانه الأمر الاضطراري أو الظاهري يكون القول بالإجزاء مساوقاً للقول بأنّ القضاء بالأمر الجديد، كما يكون القول بعدمه مساوقاً للقول بأنّ القضاء بالأمر الأوّل.

يلاحظ عليه: أنّ المسألتين مختلفتان من حيث الموضوع أوّلاً و أنّ بينهما من حيث المورد عموم و خصوص من وجه ثانياً.

أمّا الأوّل: فلأنّ الموضوع في مسألة تبعية القضاء للأداء هو فوت المأمور به، كما أنّ الموضوع في المقام هو إتيان المأمور به بنحو من الأنحاء، و مع الاختلاف في الموضوع كيف تكونان مسألة واحدة؟! و أمّا الثاني، ففيما إذا أتى بالمأمور به على وجهه الواقعي يبحث فيه عن الإجزاء و عدمه دون مسألة تبعية القضاء للأداء، إذ لا موضوع لها لعدم الفوت، كما إذا فات منه الواقع و لم يأت بالواجب أصلاً لا واقعياً و لا اضطرارياً و لا ظاهرياً، لا موضوع للإجزاء، بل يتمحض المقام لمسألة التبعية.

نعم يجتمعان فيما إذا أتى بالواجب بأمر اضطراري أو ظاهري فيصح البحث فيه من الجهتين.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني فرّق بين المسألتين بأنّ البحث في المقام عقلي و في مسألة تبعية الأداء للقضاء لفظي حيث يبحث عن دلالة الأمر على تبعية القضاء للأداء و عدمها.(1)

يلاحظ عليه: أنّ معنى ذلك أنّ المسألتين متحدتان في الماهية و مختلفتان في أُسلوب الاستدلال إلاّ انّ هذا لا يصحح عقد مسألتين مختلفتين، بل يُلزم الأُصولي

ص:364


1- - كفاية الأُصول: 1/126.

على عرض مسألة واحدة، يستدلّ عليها تارة بالعقل و أُخرى بالنقل.

إذا عرفت هذه الأُمور فاعلم أنّه يقع الكلام في مواضع ثلاثة:

1. امتثال كلّ أمر يجزي عن التعبّد بنفس ذلك الأمر سواء أ كان واقعياً أم اضطرارياً أو ظاهرياً.

2. إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري يجزي عن الإتيان به بالأمر الواقعي.

3. إتيان المأمور به بالأمر الظاهري يجزي عن الإتيان به بالأمر الواقعي.

إذا عرفت عناوين المواضع، فلنأخذ كلّ واحد بالبحث.

ص:365

الموضع الأوّل امتثال كلّ أمر يجزي عن التعبّد به ثانياً

اشارة

إنّ إجزاء امتثال كلّ أمر عن التعبّد به ثانياً من قبيل القضايا التي قياساتها معها، و ذلك لأنّ عدم السقوط رهن أحد أُمور كلّها منتفية.

1. تعدد المطلوب و انّه أتى بمطلوب واحد دون الآخر، و هو باطل، لأنّ الواجب هو نفس الطبيعة و هي تصدق على الإتيان بفرد واحد.

2. عدم حصول الغرض، و هو أيضاً باطل، لأنّ المأتي به سبب تام لحصول الغرض و إلاّ لما أمر به.

3. بقاء الأمر مع حصول الغرض، و هو أيضاً باطل، لاستلزامه الإرادة الجزافية.

فإذا انتفت الأُمور الثلاثة فلا وجه لبقاء الأمر، نعم ربّما يعترض بالحج الفاسد بالجماع محرّماً، فانّه يجب عليه الإعادة.

يلاحظ عليه: بأنّ من جامع و هو محرم، إمّا أن يكون عالماً بالحكم أو جاهلاً، فالحج في الصورة الأُولى فاسد فلم يأت بالمأمور به على وجهه، فيجب عليه القضاء في العام القابل، و هو في الصورة الثانية و إن كان صحيحاً لكن إيجاب الإعادة لأجل العقوبة لا لإيجاب التعبّد بما امتثل ثانياً.

و تدلّ عليه رواية زرارة، قال:» فأي الحجّتين لهما «قال: الأُولى التي أحدثا

ص:366

فيها ما أحدثا، و الأُخرى عليهما عقوبة «.(1)

فما حكي عن أبي هاشم الجبائي) المتوفّى 321 ه (و القاضي عبد الجبار) المتوفّى 415 ه ( المعتزليين من عدم اقتضاء الإتيان بالمأمور به للإجزاء مستدلاً بإعادة الحجّ على من أفسد، فكأنّه في غير محلّه، إذ العالم بالحرمة ما أتى بالواجب على وجهه، و الجاهل و إن أتى على وجهه، لكن الحجّ الثاني عقوبة و ليس امتثالاً للأمر الأوّل.

تبديل امتثال بامتثال آخر
اشارة

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قد وافق المشهور في أنّ الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه يوجب الإجزاء، و لكنّه ذهب أيضاً إلى أنّ للعبد تبديل امتثال بامتثال آخر، و القولان بظاهرهما متناقضان، فانّ الإجزاء يلازم سقوط الأمر، و معه لا يبقى موضوع للامتثال الثاني، فانّ مفاده هو الإتيان بالشيء بقصد أمره السابق و المفروض انّه قد سقط، فكيف يمكن القول بالجمع بالإجزاء الذي يلازم سقوط الأمر بتاتاً و تبديل امتثال بامتثال آخر و هو يستلزم بقاء الأمر الأوّل و هو كما ترى؟ هذا هو الإشكال الواضح على الكفاية لكنّه) قدس سره (حاول الجمع بين القولين) الإجزاء و تبديل امتثال بامتثال آخر (و أفاد في وجهه: بأنّه ربّما لا يكون مجرّد امتثاله علّة تامة لحصول الغرض، و إن كان وافياً به لو اكتفى به، كما أنّه إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد، فانّ الأمر بحقيقته و ملاكه لم يسقط بعدُ، و لذا لو أُهرق الماء و اطلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً كما إذا لم يأت به أوّلاً، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه و إلاّ لما وجب حدوثه، فحينئذ يكون له

ص:367


1- - الوسائل: 9، الباب 3 من أبواب كفارة الاستمتاع، الحديث 9.

الإتيان بماء آخر موافق للأمر كما كان له قبل إتيانه الأوّل بدلاً عنه.(1)

يلاحظ عليه: بما عرفت بأنّ الامتثال الأوّل يوجب سقوط الأمر و لا يعقل صدق امتثال ثان بعد سقوطه.

و أمّا المثالان، فيلاحظ على الأوّل بأنّه من قبيل تبديل مصداق امتثال لمصداق آخر، لا تبديل امتثال بامتثال آخر، فانّ الأمر بظاهره و حقيقته و ملاكه قد سقط و إنّما للمكلّف أن يبدّل مصداقاً بمصداق آخر.

و أمّا الأمر الثاني، و هو أنّ الإتيان بالماء ثانياً ليس لأجل بقاء الأمر فانّه قد سقط بتمامه و إنّما الملزم هو العلم بالغرض و إن لم يكن هناك أمر، كما إذا رأى انّ ابن المولى سقط في الماء و كان المولى غافلاً فعلى العبد إذا اطّلع عليه أن ينقذه و إن لم يكن هناك أمر من المولى لكفاية العلم بالغرض.

ثمّ إنّه استدل على جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر بالروايات الواردة في الأبواب الثلاثة التالية:

أ. باب الكسوف إذا صلّى و الشمس بعد لم تنجل.

ب. الصلاة جماعة مع المخالف و قد صلّى الفريضة قبله.

ج. إعادة الصلاة إذا وجد جماعة.

و لكن الروايات لا صلة لها بالمدعى كما ستعرف.

فنقول:

1. ما ورد في باب الكسوف

روى معاوية بن عمّار، قال: قال أبو عبد اللّه:» صلاة الكسوف إذا فرغت

ص:368


1- - كفاية الأُصول: 1/127.

قبل أن ينجلي، فأعد «.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ المتبادر من الرواية هو إعادة الصلاة بأمر جديد لا بالأمر الساقط بالامتثال، و كأنّ الإعادة مستحبة شرعاً، و هو ينوي ذلك الأمر الثاني لا الأمر الأوّل، بخلافه على القول بجواز تبديل امتثال بامتثال آخر فانّه ينوي في الإتيان الثاني امتثال الأمر الأوّل الذي وصفه المحقّق الخراساني بأنّه بحقيقته و ملاكه لم يسقط.

2. ما ورد في إعادة الصلاة مع المخالف

هناك روايات تدلّ على أنّ من صلّى وحده يجوز له أن يعيد الصلاة خلف المخالف.

روى عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (انّه قال:» ما منكم أحد يصلّي فريضة في وقتها ثمّ يصلّي معهم صلاة تقية و هو متوضّئ إلاّ كتب اللّه له بها خمس و عشرين درجة فارغبوا في ذلك «.(2)

يلاحظ عليه: أنّ هذه الرواية لا مساس لها بتبديل امتثال بامتثال آخر، بل هي كروايات الباب السابق تدلّ على استحباب إعادة الفريضة جماعة تقية، فهو من قبيل امتثال أمر بعد امتثال آخر.(3)

3. استحباب الإعادة إذا وجد جماعة

روى هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (أنّه قال: في الرجل يصلّي الصلاة

ص:369


1- - الوسائل: 5، الباب 8 من أبواب صلاة الكسوف، الحديث 1.
2- - الوسائل: 5، الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1 و لاحظ 2 و 3.
3- - لاحظ ما لم نذكر من الروايات في ذلك الباب.

وحده ثمّ يجد جماعة، قال:» يصلّي معهم و يجعلها الفريضة إن شاء «.(1)

و روى زرارة، عن أبي جعفر في حديث، قال:» لا ينبغي للرجل أن يدخل معهم في صلاتهم و هو لا ينويها صلاة، بل ينبغي له أن ينويها و إن كان قد صلّى، فانّ له صلاة أُخرى «.(2)

يلاحظ عليه: أنّ روايات هذا الباب تتحد مع نفس ما أوردها صاحب الوسائل في الباب السابق) أي الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة (و إن فرّق بينهما صاحب الوسائل فزعم أنّ روايات الباب السابق راجعة إلى إعادة الصلاة بالمخالف و هذه الروايات مطلقة تعم المخالف و غيره إذا كان إماماً، فيجوز لمنفرد إعادة الصلاة خلف الموافق أيضاً.

و لكن دراسة روايات الباب البالغة إحدى عشرة رواية تعرب إذا كان عارفاً بلحن كلماتهم و كيفية إشاراتهم أنّ الروايات تعود إلى إعادة الصلاة خلف المخالف جماعة، و لا ينافي ما ذكرنا وصف الصلاة الثانية بالفريضة، و يقول:» و يجعلهما الفريضة «كما في رواية هشام بن سالم(3) و حفص بن البختري.(4)

فانّ المراد أنّه ينوي الفريضة التي أقامها، و لكن الإعادة مستحبة.

و حصيلة الكلام: انّا لم نجد رواية تدل على جواز تبديل امتثال بامتثال آخر.

ثمّ إنّ السيد الأُستاذ فسّر القسم الثالث من الروايات بأنّه من قبيل تبديل مصداق المأمور به الذي تحقّق به الامتثال بمصداق آخر غير محقّق للامتثال لكن

ص:370


1- - الوسائل: 5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1 و 2.
2- - الوسائل: 5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1 و 2.
3- - الوسائل: 5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.
4- - الوسائل: 5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 11.

محصل للغرض اقتضاء مثل المصداق الأوّل، أو بنحو أوفى، فهو لا يتوقف على بقاء الأمر، لأنّه من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر لا بوصف كونه مأموراً به.(1)

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصحّ في التوصّليات، و أمّا الفرد التعبّدي فيحتاج إلى قصد الأمر، فما هو الأمر الداعي؟ فإن كان الأمر الأوّل، فقد سقط كما اعترف به، و إلاّ يكون من قبيل تبديل امتثال بامتثال آخر و هو بصدد الردّ عليه، و إن كان الأمر الاستحبابي، أو الوجوبي القضائي، فهذا يكفي في الجواب من دون حاجة إلى القول بأنّه من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر.

تمّ الكلام في الموضع الأوّل و يليه الكلام في الموضع الثاني

ص:371


1- - تهذيب الأُصول: 1/183.

الموضع الثاني في إجزاء الأمر الاضطراري عن الواقعي

اشارة

و قد يعبّر عن العنوان باجزاء الأمر الواقعي الثانوي عن الأمر الواقعي الأوّلي، كالصلاة مع الطهارة الترابيّة أو على وفق التقية، و ظاهر العنوان يعطي انّ هنا أمرين: أمراً واقعياً ثانوياً، و أمراً واقعياً أوّلياً، و محط البحث إغناء امتثال الأمر الأوّل، عن امتثال الأمر الثاني، لكن الحقّ أنّ هنا أمراً واحداً متعلقاً بالجامع الواحد، الصادق على جميع أفراده، غير أنّ المختار مكلّف بامتثاله بكيفية، و المضطرّ مكلّف بامتثاله بكيفية أُخرى، و الصلاة بكلتا الكيفيتين من مصاديق الجامع المنطبق على عامّة أفراد الصحيح على ما مرّ في مبحث الصحيح و الأعمّ.

و إن شئت مزيد توضيح فنقول: إذا زالت الشمس، يخاطب عامّة المكلفين بخطاب و أمر واحد متعلق بالصلاة في قوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً )(1)، فالصلاة قائماً أو قاعداً، راكباً أو راجلاً، مع الطهارة المائية أو الترابية من مصاديق الصلاة الواردة في تلك الآية و هي تعمها بوضعها للجامع الشامل لعامة أفراد الصحيح، فالأمر واحد، و المأمور به واحد، و لو كان هنا اختلاف فانّما هو في كيفية امتثال الأمر الواحد.

ص:372


1- - الاسراء: 78.

فإن قلت: الاختلاف في الكيفية يكشف عن تعدد المأمور به، الملازم لتعدد الأمر.

قلت: إنّ الاختلاف فيها إنّما يكشف عن تعدد المأمور به إذا كانت الكيفيات بصورها المختلفة كالطهارة المائية و الترابية مأخوذة في الموضوع، و عندئذ يكون لفظ الصلاة مشتركاً لفظياً لا معنوياً، و المفروض خلافه، لأنّ المأخوذ في الصلاة هي الطهارة بعرضها العريض الشامل لكلتا الطهارتين، و مثلها عدد الركعات، فلم يؤخذ فيه عدد معيّن كالثنائية أو الرباعية، و إلاّ لصار اللفظ مشتركاً لفظيّاً، بل الموضوع له هي الهيئة الصلاتية الصادقة على الثنائية و الرباعية، فالصلاة بما لها من المعنى الواحد، الشامل لصلاة المختار و المضطر(1)، أو الآمن و(2) الخائف، و الحاضر و المسافر(3) وقعت موضوعة للأمر الواحد، و دلّ الدليل الخارجي على أنّ الصلاة مع الطهارة المائية للواجد، و مع الترابية للفاقد، و هكذا سائر الأفراد.

في العذر غير المستوعب

إذا عرفت أنّ في المقام أمراً واحداً، يقع الكلام في الاجزاء، و عدمه عند ما كان العذر غير مستوعب فنقول هنا صور ثلاث:

1. أن يكون لدليل البدل أعني دليل التيمم إطلاق(4)، بمعنى شمول دليله، لمن فقد الماء في بعض الوقت دون الجميع، فيجب على غير المستوعب كالمستوعب، امتثال الأمر بالطهارة الترابية، و في مثله يكون القول بالإجزاء من

ص:373


1- - المائدة: 6.
2- - البقرة: 238 239.
3- - النساء: 101.
4- - المراد من الإطلاق كون العذر غير المستوعب مسوّغاً للتيمّم و إيقاع الصلاة منه.

قبيل قضايا قياساتها معها، بل يدخل في المبحث السابق، من أنّ امتثال كلّ أمر موجب لإجزاء نفسه، لأنّ المفروض أنّ هنا أمراً واحداً و واجباً فارداً، و الامتثال، آية الإجزاء و ليس هنا أمر آخر حتى يبحث عن إجزائه عنه.

2. أن يكون لدليل المبدل فقط إطلاق أعني قوله سبحانه: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ... )(1) الخ بحيث يفرض على المكلف الواجد للماء في بعض الأوقات دون كلها، الصلاةَ مع الطهارة المائية أيضاً، فلا شكّ في عدم الإجزاء.

3. أن يكون الدليلان مهملين، كأن يكون عدم الوجدان في بعض الأوقات دون بعض غير داخل تحت موضوع المبدل و البدل، فيكون المرجع عندئذ هو الأُصول العملية، و الظاهر أنّ المرجع هو الاحتياط، لأنّ مرجع الشك إلى الشك في سقوط الأمر بالصلاة بالطهارة الترابية و عدمها.

و بعبارة أُخرى: انّه يشكّ في سقوطه بالطهارة الترابية إذا كان فاقداً في بعض دون بعض.

هذا على المختار، و أمّا على مختار القوم من تعدد الأمر و الشكّ في إغناء امتثال أحد الأمرين عن الآخر، فقد بحث عنه المحقّق الخراساني تارة من حيث الثبوت و أُخرى من حيث الإثبات، و قال ما هذا إيضاحه:(2)

حكم الإجزاء ثبوتاً على القول بالتعدّد
اشارة

إنّ الفرد الاضطراري من حيث وفائه لمصلحة الفرد الاختياري على أقسام أربعة:

ص:374


1- - المائدة: 6.
2- - كلّما يمرّ عليك بحوث مبنية على تعدد الأمر و المختار غيره. المؤلّف

الأوّل: أن يكون الفرد الاضطراري في حال الاضطرار كالاختياري في حال الاختيار في كونه وافياً بتمام المصلحة و الملاك.

الثاني: أن لا يكون وافياً به، و لكنّه لو أتى بالفرد الاضطراري يكون مانعاً عن استيفاء المصلحة الفائتة بعد رفع الاضطرار.

الثالث: تلك الصورة و لكن تكون المصلحة الفائتة واجبة الاستيفاء.

الرابع: تلك الصورة، و لكن تكون المصلحة الفائتة مستحبّة الاستيفاء.

إذا عرفت أنّ نسبة الفرد الاضطراري إلى الاختياري من حيث الثبوت على أقسام أربعة، فاعلم أنّه يجب البحث في كلّ قسم عن أمرين:

أ: إجزاء امتثال الأمر الاضطراري عن امتثال الأمر الاختياري.

ب: جواز المبادرة إلى الامتثال بالفرد الاضطراري و عدمه.

فكلّ قسم من هذه الأقسام الأربعة تقع موضوعاً للبحث عن الإجزاء أوّلاً، و جواز المبادرة ثانياً.

فأخذ المحقّق الخراساني بدراسة كلّ قسم من حيث الإجزاء أوّلاً، و المبادرة ثانياً، و قال ما هذا مثاله:

1. أمّا الصورة الأُولى: فلا شكّ في إجزاء الفرد الاضطراري عن الفرد الاختياري، لعدم قصور مصلحته عن مصلحته.

و أمّا تصوير البدار فيدور مدار كون الفرد مشتملاً على المصلحة مطلقاً و إن كان العذر غير مستوعب، أو مشروطاً بالانتظار إلى حدّ يضيق الوقت إلاّ عن الصلاة بالطهارة الترابية، أو مشروطاً باليأس و إن حصل في أوّل الوقت.

فعلى الأوّل يجوز البدار دون الثاني، و أمّا الثالث فيدور مدار حصول اليأس.

2. و أمّا الصورة الثانية: فلو أتى بالفرد الاضطراري يجزي قطعاً لعدم تمكّنه من الفرد الاختياري بعد الإتيان بالاضطراريّ لكونه مانعاً عن درك مصلحة الفرد

ص:375

الاختياري.

و أمّا البدار فلا، لأنّ الفرد الاضطراري مفوِّت لمصلحة الواقع التي لا يمكن تداركها، فلا يسوغ البدار إلاّ لمصلحة فيه كالإتيان بالصلاة في أوّله.

3. و أمّا الصورة الثالثة: فلا شكّ أنّه لا يجزي، بل لا بدّ من الإعادة أو القضاء، لأنّ المفروض عدم وفاء الفرد الاضطراري بمصلحة الفرد الاختياري و كان استيفاء المصلحة الباقية ممكنة و واجبة و أمّا البدار فيجوز بشرط أن يأتي بالفرد الاختياري أيضاً بعد زوال العذر، و على ذلك فهو مخيّر بين البدار بإتيان الفرد الاضطراري أوّلاً و الاختياري بعد رفع الاضطرار، أو الصبر إلى أن يأتي بالفرد الاختياري وحده.

4. و أمّا الصورة الرابعة: فلا شكّ أنّ الفرد الاضطراري يجزي لكون الفائتة مستحبّة التدارك.

و أمّا البدار فالظاهر من الكفاية المطبوعة مع حاشية المشكيني أنّه يتعيّن عليه البدار.

هذا كلامه في مقام الثبوت، و سيوافيك كلامه في مقام الإثبات.

أقول: يلاحظ عليه أوّلاً: انّ التقسيم حسب الثبوت انّما يفيد إذا كان عندنا دليل في مقام الإثبات ما يمكن به الاهتداء إلى كلّ واحد من هذه الصور مع أنّه ليس في الأدلّة ما يشير إلى أكثرها.

و ثانياً: لم يعلم وجه تعين البدار في رابع الأقسام، فانّه إذا كان الباقي ممكن الاستيفاء بعد ارتفاع العذر و إن لم يكن واجبه فلا وجه لتعيّن البدار المفوت للمصلحة الفائتة غير الملزمة.

غاية ما يمكن أن يقال: انّه يستحب البدار إذا كان لأوّل الوقت فضيلة

ص:376

رابية على سائر الأوقات.

ثمّ إنّه أورد صاحب المحاضرات على المحقّق الخراساني بأنّ التخيير في الصورة الثالثة غير معقول، لأنّ الشارع إذا لم يكتف بالعمل الناقص في أوّل الوقت، و أوجب على المكلّف الإتيان بالعمل التام الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار و العذر، سواء أتى المكلّف بالعمل الاضطراري الناقص في أوّل الوقت، أم لم يأت به، فبطبيعة الحال لا معنى لإيجابه العمل الاضطراري الناقص و إلزام المكلّف بإتيانه و لو على نحو التخيير، فانّه بلا ملاك يقتضيه حيث إنّه لا يترتب على وجوبه أثر.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ تسويغ البدار بالناقص مع لزوم الإتيان بالكامل في آخر الوقت بعد ارتفاع العذر، لأجل ترتّب رجحان ما عليه غير واف بمصلحة الفرد التام، فيصحّ تسويغه و الحكم بجواز الإتيان به مع لزوم الإتيان بالفرد التام في آخر الوقت، أشبه ببدل الحيلولة إذا لم يتمكّن الإنسان من أداء العين عاجلاً، فيلجأ إلى الناقص إلى أن يتمكّن من الكامل.

و الفرد الناقص و إن لم يشتمل على تمام المصلحة لكنّه مشتمل على مصلحة تامّة راجحة. هذا كلّه حول ما ذكر في مقام الثبوت.

و أمّا مقام الإثبات فيقع الكلام تارة في العذر غير المستوعب، و أُخرى في المستوعب منه، و إليك الكلام فيهما فنقول:

المقام الأوّل: في العذر غير المستوعب

فقد ذكر المحقّق الخراساني في المقام أمرين:

ص:377


1- - انظر المحاضرات: 2/233.

1. أن يكون لدليل البدل إطلاق بمعنى، فلو قال:» التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين «و فرضنا شموله للعذر غير المستوعب و لم يذكر شيئاً من الإعادة و القضاء، فالظاهر هو الإجزاء.

2. إذا لم يكن لدليل البدل إطلاق، فالمرجع هو البراءة، لكونه شكّاً في أصل التكليف، من غير فرق بين الإعادة و القضاء.

أقول: إنّ هنا صوراً ثلاثاً:

الأوّل: أن يكون لدليل البدل إطلاق دون دليل المبدل.

الثانية: أن يكون لدليل المبدل إطلاق دون دليل البدل.

الثالثة: أن يكون كلّ من دليلي البدل و المبدل مهملين.

أمّا الصورة الأُولى: فالظاهر هو الإجزاء كما مرّ في كلامه، لأنّ المفروض أنّ دليل البدل يعم العذر غير المستوعب، و هو بصدد بيان ما هي الوظيفة فلو وجبت الإعادة و القضاء وراء الإتيان بالبدل لأشار إليه في نفس الدليل.

كما أنّ مقتضى الإطلاق هو البدار، إذ لو كان الانتظار لازماً و كان الشرط هو العذر المستوعب لصرّح به.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي أنكر وجود الإطلاق في أدلّة التيمم و قال:

إنّه لا إطلاق لأدلّة مشروعية التيمم بالقياس إلى من يتمكّن من الإتيان بالعمل الاختياري في الوقت، بداهة أنّ وجوب التيمم وظيفة المضطر، و لا يكون مثله مضطراً لفرض تمكّنه من الصلاة مع الطهارة المائية في الوقت، و مجرّد عدم تمكّنه منها في جزء منه لا يوجب كونه مكلفاً بالتكليف الاضطراري ما لم يستوعب تمام الوقت.(1)

ص:378


1- - المحاضرات: 2362/235.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ حكم الوضوء و التيمم جاءا في آية واحدة و هي الآية السادسة من سورة المائدة و الفقهاء يحتجون بإطلاق الآية في مورد الوضوء، فكيف يمكن أن يقال أنّها في مورد التيمم ليست في مقام البيان؟ و ثانياً: أنّ الموضوع في التيمم هو غير الواجد لا المضطر، و الفاقد و إن كان مضطراً لكنّه عنوان ملازم و ليس بموضوع للحكم، فإذا كان الموضوع هو الفاقد للطهارة المائية يتحقق الموضوع في المقام، ويحكم بإيجاب التيمم و عدم لزوم الإعادة و القضاء بحكم أنّ الآية في مقام البيان.

نعم انّه) قدس سره (سلّم جواز البدار عند التقية لدليل خاص و قال: قد ثبت جواز البدار في بعض الموارد لكن بدليل خاص مع فرض تمكن المكلف من الفعل الاختياري التام في الوقت: منها موارد التقيّة حيث يجوز البدار فيها واقعاً و إن علم المكلّف بارتفاعها في أثناء الوقت و تمكّنه من العمل بلا تقية.(1)

و أمّا الصورة الثانية: أعني ما إذا كان لدليل المبدل إطلاق دون دليل البدل، بمعنى أنّ ما دلّ على شرطية الطهارة المائية شاملة لهذه الصورة، و انّ الشارع لم يرفع اليد عن الشرط في هذه الصورة، فعدم الإجزاء واضح فيحتاج إلى الإعادة في الوقت و القضاء خارجه.

و أمّا الصورة الثالثة: أعني ما إذا كان الدليلان مهملين، فالمتّبع هو الأصل، و هو عند المحقّق الخراساني في المقام هو البراءة عن إيجاب الإعادة و القضاء، لأنّه شكّ في التكليف.

توضيحه: أنّ التكليف بالأمر الواقعي لم يكن فعلياً في زمن الاضطرار و إنّما الفعلي هو التكليف الظاهري، و المفروض انّه امتثله، و بعد ارتفاع العذر يشكّ في

ص:379


1- - المحاضرات: 2362/235.

فعلية الحكم الواقعي و عدمها، و معه يكون الشكّ في حدوث تكليف آخر بالإعادة أو القضاء و هو مدفوع بالأصل مع احتمال كون الأمر الظاهري وافياً بمصلحة الأمر الواقعي.

يلاحظ عليه: بأنّ محط البحث عدم وجود إطلاق في ناحية البدل، و معه لا علم بفعلية التكليف الظاهري أيضاً إذ يحتمل أن يكون الشرط المسوّغ للتيمّم هو استيعاب العذر و المفروض خلافه، و عند ذلك يكون مرجع الشكّ في المقام إلى دوران الأمر بين الواجب التخييري أو التعييني، إذ لو كان العذر في بعض الوقت كافياً في إقامة الصلاة مع الطهارة الترابية يكون المكلّف مخيراً بين إتيانها في أوّل الوقت بالطهارة الترابية أو الصبر إلى ارتفاع العذر و الإتيان بها مع الطهارة المائية، و هو مخيّر بين هذا و بين الصبر إلى ارتفاع الضرر و التمكّن من الطهارة المائية، و من المعلوم أنّ في دوران الأمر بين الواجب التخييري و الواجب التعييني هو الأخذ بالثاني. لأنّ في العمل بما يحتمل التعيين علم بالبراءة القطعية بخلاف الأخذ بأحد طرفي الواجب التخييري المحتمل ففيه احتمال البراءة.

ثمّ إنّ السيّد الأُستاذ وافق القائل في كون المرجع هو البراءة و لكن خالفه في التقرير.

فانّ الأوّل اعتمد على أنّ التكليف الظاهري الفعلي قد امتثل، و التكليف الواقعي غير الممتثل مشكوك حدوث وجوبه.

و أمّا السيّد الأُستاذ فقد دعمه بوجه آخر، و قال:

بأنّه في حال العذر المؤقت قاطع بعدم الأمر بالإتيان بالصلاة

ص:380

مع الطهارة المائية، و لكن يحتمل أن يكون مأموراً بالأمر الاضطراري فقط، فيأتي به رجاء امتثاله على فرض الأمر به، فإذا أتى به رجاءً يشكّ في حدوث الأمر الآخر بالصلاة مع الطهارة المائية، فيرجع الشكّ إلى حدوث التكليف لا إلى سقوطه بعد العلم به.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه إنّما يصحّ بعد الإتيان بالأمر الاضطراري المحتمل، فيقال: الأوّل قطعي الارتفاع و الثاني مشكوك الحدوث، و أمّا إذا لوحظ التكليف أوّل الوقت قبل الإتيان بالفرد الاضطراري فانّه عندئذ يعلم بتوجه أحد الأمرين:

1. التخيير بين امتثال الأمر الظاهري أو الأمر الواقعي.

2. تعيّن امتثال الأمر الواقعي فقط.

و من المعلوم أنّ المرجع في مثله، هو الأمر التعييني المحتمل، لأنّ فيه البراءة القطعية من التكليف دون الأوّل.

المقام الثاني: في العذر المستوعب

و الصور المتصوّرة فيه اثنتان:

1. أن يكون لدليل البدل إطلاق.

2. أن يكون كلّ من دليلي البدل و المبدل مهملين.

و لا يتصور هناك عكس الصورة الأُولى بأن يكون لدليل المبدل إطلاق دون البدل، لأنّ لازم شرطية الطهارة المائية في الصلاة في العذر المستوعب هو جواز ترك الصلاة بتاتاً، و هو غير جائز لعدم جواز ترك الصلاة على كلّ حال.

أمّا الصورة الأُولى فلا شكّ في الإجزاء، لأنّ المفروض انّ لدليل البدل إطلاقاً يعمُّ العذر المستوعب، و لم يرد فيه الأمر بالقضاء خارج الوقت، من غير فرق بين القول بوحدة الأمر كما هو واضح، و بين تعدده كما عليه القوم.

ص:381


1- - تهذيب الأُصول: 1/188.

أمّا الأوّل فلأنّ الواجب هو الجامع المتحقّق بالفرد الاضطراري، و من المعلوم أنّه يسقط التكليف عندئذ لفرض تحقّق الطبيعة في فرد واحد.

و أمّا على القول بتعدد الأمر فالأصل أيضاً هو البراءة، لأنّ البحث على أساس أنّ القضاء بأمر جديد مستفاد من قوله) عليه السلام (:» من فاتته فريضة يقضي ما فاته كما فاته «.(1) فإيجاب القضاء يحتاج إلى صدق عنوان الفوت و هو مردّد بين العناوين التالية:

1. فوت الواجب بالأمر الظاهري، و المفروض أنّه لم يفت.

2. فوت الفريضة الواقعية الفعلية، و هو خلاف المفروض، إذ لا فعلية لأمر الصلاة بالطهارة المائية حتى يصدق على المورد فوت الفريضة الواقعية الفعلية.

3. فوت الملاك الواقعي، و هو مشكوك، لاحتمال قيام الطهارة الترابية مكان الطهارة المائية في هذه الحالة، فلا علم بفوت الملاك.

فتلخّص من ذلك أنّه لا محيص من القول بالبراءة في العذر المستوعب على كلا المبنيين، سواء كان هناك أمر واحد أو أمران.

أمّا الأمر الواحد فقد امتثله، و أمّا الأمران فالثاني منهما مشكوك الحدوث لأنّ حدوثه فرع صدق الفوت و هو دائر بين فوت الفريضة الظاهرية الفعلية أو فوت الفريضة الواقعية الفعلية أو فوت الملاك.

أمّا الأوّل فقد امتثله، و أمّا الثاني و الثالث فهما مشكوكا الحدوث.

ص:382


1- - الوسائل: 5، الباب 6 من أبواب قضاء الصلوات، الحديث 1.

الموضع الثالث إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي

اشارة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أمراً:

إنّ العمل بالأمارات و الأُصول تارة يكون لأجل استكشاف أصل التكليف; كما إذا قامت الأمارة على أنّ الواجب هو صلاة الجمعة، و تبين أنّ الواجب هو الظهر، فلا معنى للبحث في الإجزاء، أي إجزاء امتثال أمر موهوم عن امتثال أمر واقعي، فلأجل ذلك نضرب الصفح عنه في كلا الموردين: الأمارات و الأُصول.

و أُخرى يكون لغاية استكشاف خصوصيات المكلّف به من كون شيء جزءاً أو شرطاً أو مانعاً أو عدم كونه كذلك، فالنزاع منصبّ على هذا القسم.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في موردين:

الأوّل: العمل بالأمارة لاستكشاف كيفية التكليف
اشارة

إذا عمل بالأمارة لاستكشاف خصوصيات المكلّف به، مثلاً: إذا صلّى إنسان أو توضأ أو اغتسل أو حجّ على وفق ما أخبر به الثقة اعتماداً على قول الشارع بحجّية خبره ثمّ بان الخلاف، فهل يكون مجزياً أو لا؟ ذهب المتأخرون من الأُصوليين، منهم: المحقّق الخراساني و السيد الأُستاذ، إلى عدم الإجزاء عند ظهور الخلاف، سواء انكشف الخلاف بعلم وجداني أو

ص:383

بأمارة شرعية، و ذلك:

لأنّ لسان الأمارات لسان ما هو الشرط واقعاً، فانّ دليل حجّيتها حيث كان بلسان أنّه واجد لما هو شرطه الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف أنّه لم يكن كذلك بل كان شرطه فاقداً.(1)

و بعبارة أُخرى: انّ لسان دليل التعبد بالأمارات هو التعبّد بها بما انّه طريق إلى الواقع و كاشف عنه و انّ الواقع متحقّق هنا، فإذا تعبّدنا الشارع بالعمل بالأمارة لأجل هذه الحيثية ثمّ تبيّن الخلاف و انّه لم يكن طريقاً و لا كاشفاً و لا الواقع متحقّقاً، يتبين أنّه لم يكن هنا تعبد بالعمل بها في هذا المورد، و معه كيف يمكن القول بالإجزاء؟ و بعبارة ثالثة: انّ العمل بالأمارات لأجل الكشف عن الواقع دون تصرّف فيه و لا انقلاب الواقع عنه إلى مدلول الأمارة، فعندئذ فالذي تعلق به الأمر لم يحصل، لتخلّف الأمارة، و الذي حصل لم يتعلق به الأمر.(2)

هذا هو الظاهر من كلّ من قال بعدم الإجزاء في العمل بالأمارات و البيّنات.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ المعيار في حجيّة الأمارة و إن كان هو الكشف عن الواقع غير أنّ المراد من الكشف هو الكشف النوعي الغالبي لا الكشف الدائمي، و ذلك واضح لمن لاحظ الأمارة، فانّ الثقة ليس بمعصوم و إنّما يُصيب قوله الواقع في أكثر الموارد لا جميعها، فمن اعتبره حجّة فإنّما اعتبره بهذا الملاك أي كونه كاشفاً عن الواقع في غالب الموارد، فإذا كان هذا هو الملاك فهو موجود في عامّة الموارد حتّى فيما خالف الواقع.

ص:384


1- - الكفاية: 1/133.
2- - تهذيب الأُصول: 1/147.

ثانياً: أنّ بين الأمر بالعمل بالأمارة حتّى على القول بالطريقية و الاكتفاء بمدلول الأمارة في مقام الامتثال ملازمة واضحة، و تعد هذه الملازمة من المداليل العرفية التي هي حجّة عندهم و تكون حجّة على العبد، و نوضح الملازمة بالمثالين التاليين:

أ. إذا أمر المولى عبده بأن يهيئ له دواء ليتداوى به، و أمره بأن يسأل صيدلياً بالخصوص عن نوعية اجزائه و كميته و كيفية تركيبه، فاتّبع العبد إرشادات الصيدليّ الذي جعل قوله حجّة في هذا الباب، ثمّ ظهر أنّ الصيدلي كان قد أخطأ في مورد أو موردين، فانّ العرف يعدّون العبد ممتثلاً لأمر مولاه، و يرون عمله مسقطاً للتكليف، من دون إيجابه بالقيام مجدّداً بتهيئة الدواء، اللّهمّ إلاّ أن يأمره المولى مجدداً.

ب: إذا أمر عبده ببناء بيت، و أمره أن يرجع في كلّ ما يتعلّق بالبناء إلى مهندس متخصص و معمار ماهر، و اتبع العبد أوامره فبنى البيت، لكن تبيّن خطأ المهندس أو المعمار، فانّ العبد معذور، و العمل مجز، اللّهمّ إلاّ أن يأمره بالإعادة.

و الإنسان المتشرع إذا خوطب بهذه الارتكازات، بوجوب العمل بقول الثقة ينتقل منه إلى أنّ الشارع قد اكتفى في تحصيل مقاصده بما تؤدي إليه الأمارة تسهيلاً للأمر على العباد، فانّ الشارع واقف على أنّ إلزام المكلّف بتحصيل العلم يوجب العسر و الحرج و رغبة الناس عن الدين. هذا من جانب، و من جانب آخر وقف على أنّ العمل بالأمارة يؤدّي إلى تحصيل مصلحة المولى بنسبة عالية أي تسعين بالمائة، و لذلك أمر بالعمل بها مكتفياً في تحصيل مقاصده و مصالحه بهذا المقدار لما أنّ في الأمر بتحصيل العلم عسراً و حرجاً.

و هذا البيان يقتضي كون العمل بالأمارة موجباً للاجزاء عند كشف الخلاف

ص:385

مطلقاً، سواء انكشف بدليل قطعي أو بأمارة.

فإن قلت: إنّ لسان دليل حجّية الأمارة هو الطريقية، لأنّ الشارع تعبّدنا بالأمارة بحيثية خاصة و هي كونها طريقاً إلى الواقع كاشفة عنه، و تحقّق الواقع في موردها، و المفروض عدم تحقّق هذه الحيثية فينتج عدم وجود التعبّد في ذلك الموضع و إنّما تخيلنا التعبد.

قلت: إنّ الملاك للتعبّد هو الكشف النوعي، و الملاك بهذا المعنى متحقّق في العمل بالأمارات.

و المستدل تصوّر أنّ الملاك هو كونه كاشفاً في عامّة الموارد، و هو كما ترى! لأنّ الأمارات توافق الواقع غالباً لا دائماً فالخلط بين كون التعبّد بملاك الكشف الدائم أو الكشف الغالب صار سبباً لاختيار القول بعدم الإجزاء.

و الأوّل و إن كان غير موجود لكنّه ليس بملاك، و الثاني موجود و هو الملاك.

أسئلة و أجوبة

إن قلت: إنّ الملازمة بين الأمر بالعمل بالأمارة، و الإجزاء غير مختصة بالعمل بها لأجل استكشاف الأجزاء و الشرائط، بل يعمّ ما إذا عمل بها عند استكشاف أصل التكليف و على ضوء ذلك يلزم القول بالإجزاء في كلتا الصورتين.

قلت: فرق واضح بين عدم امتثال أمر المولى أصلاً، و بين امتثاله على وجه غير تام، ففي مجال استكشاف أصل التكليف إذا تخلفت الأمارة عن الواقع لم يُمتثل أمر المولى، أصلاً، فكيف يحكم بالإجزاء؟! بخلاف التخلف في استكشاف الأجزاء و الشرائط فقد قصد الأمر المتوجّه إلى صلاة الظهر، مثلاً، غاية الأمر أتى بالمأمور به ناقصاً فبانسحاب الأمر عن الأجزاء العشرة إلى الأجزاء التسعة، كما هو

ص:386

مقتضى جريان البراءة عند الشكّ في الجزئية و الشرطية، يكون المأتي به متعلّقاً للأمر الواقعي لأجل انسحاب الأمر عن الجزء المجهول و استقراره على ما سواه.

فإن قلت: إنّ القول بالإجزاء يستلزم التصويب، لأنّ رفع اليد عن جزئية السورة في حقّ من قامت عنده الأمارة على عدم الجزئية يوجب اختصاص الحكم بالعالم دون الجاهل و هكذا سائر الموارد.

قلت: إنّ التصويب عبارة عن إنكار الحكم المشترك الإنشائي بين العالم و الجاهل، و هو موجود، و انّ المرتفع هو فعلية الحكم أو تنجزه، و هو ليس بمحذور، و ليس للقائل بعدم الاجزاء أيضاً القول بفعلية الحكم أو تنجزه في حقّ الجاهل.

فإن قلت: إنّ لازم إيجاب العمل على وفق الأمارة بما أنّها كاشفة هو عدم الإجزاء، لأنّ لازم الكشف كون الواقع هو الميزان دون مؤدّى الأمارة و هو يناقض القول بالإجزاء الذي مقتضاه كون المحور مؤدى الأمارة.(1)

قلت: هذا ما استند إليه السيّد الأُستاذ في القول بعدم الإجزاء، و لكنّه غير تام، لأنّ إيجاب العمل على وفق الأمارة بما أنّها كاشفة غالباً لا دائماً، و مثل هذا لا يستلزم أن يكون الملاك هو الواقع، بل يستلزم كون الملاك هو الواقع الغالب و هو متحقّق، فلا يلزم من القول بالكاشفية و الإجزاء الجمع بين النقيضين.

و حصيلة الكلام: انّ الأمارات حجّة من باب الكاشفية النوعية، و التعبّد بها لأجل هذا الملاك، و هذا الملاك موجود في عامة الموارد هذا من جانب، و من جانب آخر وجود الملازمة العرفية بين الأمر بالعمل على وفق الأمارة و بين اجتزاء المولى بما أدّت إليه الأمارة و إن خالفت في بعض الموارد.

و لذلك قوّى شيخنا الأُستاذ دام ظلّه في كافة دوراته الأُصولية كون

ص:387


1- - تهذيب الأُصول: 1/191.

العمل بالأمارات في إثبات الجزئية و الشرطية و المانعية أو نفيها موجباً للإجزاء و إن خالف الواقع.

و ليس هذا القول ملازماً للقول بالتصويب لثبوت الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، كما ليس القول بالإجزاء مضاداً للقول باعتبار الأمارة من باب الكاشفية، لأنّ الكاشفية الغالبية لا تزاحم القول بالاجزاء، و انّما تزاحمه إذا كان الملاك هو الكاشفية الدائمية.

الاستدلال على الإجزاء بوجه آخر

ثمّ إنّ سيد مشايخنا المحقّق البروجردي) قدس سره (ممّن تفرّد بين معاصريه في القول بالإجزاء عند تخلّف الأمارة، و استدلّ على ما رامه بما هذا حاصله: انّ دليل حجّية الأمارة حاكم على دليل الشرائط و الاجزاء و الموانع فيما إذا كانت الشبهة موضوعية فإذا قال الشارع: صلّ في طاهر، كان المتبادر من لفظ» طاهر «هو الطهارة الواقعية، و كان الشرط لو لا الدليل الحاكم لصحّة الصلاة هو الطهارة الواقعية، و لكن لما جعل الشارع قول الثقة حجّة و أخبر هو عن طهارة الثوب المعيّن تصير نتيجة الجمع بين الدليلين هو توسعة المأمور به الصلاة في الثوب الطاهر و انّه تجوز الصلاة في ثوب طاهر واقعاً أو محكوم بالطهارة ظاهراً، فلو صلّى مع ثوب هذا شأنه، فقد حازت صلاته شرط الصلاة واقعاً، لأنّ الشرط واقعاً أعمّ من الواقعي و الظاهري، و تخلّف الأمارة يوجب ارتفاع الشرط من حين التخلّف.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح في أدلة الأُصول العملية كقاعدتي الطهارة و الحلية اللتين للشارع دور تأسيسي في حجيّتهما.

ص:388


1- - نهاية الأُصول: 1/129.

فإذا قال الشارع صلّ في طاهر، ثمّ قال:» كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر «، فاقتران الثاني بالأوّل يوجب حكومته عليه، بمعنى أنّ الشرط للصلاة واقعاً هو الطهارة الأعم من الواقعية و الظاهرية، و أمّا أدلّة حجّية الأمارات فليس للشارع هناك دور لا تأسيساً و لا إمضاءً، بل غاية الأمر هو عدم الردع، و من المعلوم أنّ الحكومة تقوم باللفظ، و المفروض سكوت الشارع في مقابل عمل العقلاء بقول الثقة، و كون سكوته كاشفاً عن الرضا، فما هذا حاله كيف يكون حاكماً على دليل الشرائط و الاجزاء؟! مع أنّه لم يرد منه في مورد حجّيتها دليل لفظي، و سيوافيك عند البحث في حجّية خبر الواحد أنّ ما استدل به القوم على الحجّية ناظر إلى بيان الصغرى لا إلى الكبرى، و كأنّ الكبرى كانت عندهم أمراً مسلماً و إنّما حاولوا إحراز الصغرى و انّ فلاناً هل هو ثقة أو لا، و في مثل هذا المورد الذي ليس هناك دليل لفظي حول الحجّية كيف يمكن استظهار الحكومة التي هي قائمة باللفظ؟ و الأولى التمسّك بما ذكرنا من الملازمة في دائرة المولوية و العبودية بين صحّة العمل بقول الثقة و الاكتفاء في مجال الطاعة على ما أدّت إليه الأمارة.

تفصيل بين الانكشاف الوجداني و غيره

و ربّما يفصل بين ما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني فلا يجزي، أو بحجّة معتبرة فيجزي، لأنّ الحجّة اللاحقة كالسابقة، فكما يحتمل أن تكون الحجّة اللاحقة مطابقة للواقع كذلك يحتمل أن تكون الحجّة السابقة مطابقة للواقع و إن كان الواجب على من قامت عنده الحجّة الثانية العمل على مفادها.

يلاحظ عليه: أنّه لو أغمضنا النظر عن الملازمة العرفية، فالحقّ هو عدم الإجزاء في كلتا الصورتين، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، و المفروض

ص:389

في كلتا الصورتين عدم تحصيل البراءة اليقينية فيهما، فالعلم السابق بالتكليف كاف في عدم الإجزاء حتى يعلم الخروج عنه، إمّا بعلم قطعي أو بحجّة شرعية، فالعلم غير موجود و الحجّة الشرعية الأُولى متعارضة مع الحجّة الشرعية الثانية.

التفصيل بين الطريقية و السببية

و قد فصّل صاحب المحاضرات بين الطريقية و السببية، و أنّ الحقّ على الأولى هو عدم الإجزاء، لأنّ ما أُتي به ليس بمأمور به، و المأمور به ليس بمأتي به. و المفروض أنّ الصحّة إنّما تنتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به في الخارج، الموجبة لسقوط الإعادة في الوقت، و القضاء في خارجه، كما أنّ الفساد ينتزع من عدم مطابقة المأتي به للمأمور به.(1)

يلاحظ عليه: بمنع عدم مطابقة المأتي به للمأمور به، فانّ الملازمة العرفية تكشف عن انسحاب الوجوب عن الجزء أو الشرط الذي قام الدليل الاجتهادي على عدم وجوبه فعلاً، فيكون الواجب الفعلي في حقّه ما أتى به، فيكون المأتي به مأموراً به.

بقي الكلام في الإجزاء على القول بحجّيتها من باب السببية فقبل الخوض في المقصود نذكر أقسام السببية.

أقسام السببية

إنّ للسببية تفاسير ثلاثة:

الأوّل: ما ينسب إلى الأشاعرة، و هو إنكار الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، و انّ أحكامه سبحانه تابعة لآراء المجتهدين أو الأمارات و الأُصول

ص:390


1- - المحاضرات: 2/260.

القائمة في المورد، و هذا النوع من التصويب يستلزم الدور، لأنّ البحث و التفحّص و الاجتهاد آية وجود الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، فيبحث عن العثور عليه، فلو فرض تحقّق وجوده تابعاً للفحص و البحث يلزم الدور لكن لا أظن انّ الأشاعرة تقول بالسببية بهذا المعنى، و قد أثبتنا في رسالة الاجتهاد و التقليد أنّهم لا يقولون بالتصويب إلاّ فيما لا نصّ فيه من الأحكام التي فوّض تشريعها في نظرهم إلى الحكام و المجتهدين، و امّا المشرَّع من الأحكام فالحكم الواقعي غير تابع لآراء المجتهدين و قيام الأمارة، فلو كان للسببية مفهوم عند الأشاعرة فإنّما هو بهذا المعنى.

الثاني: ما هو منسوب إلى المعتزلة، و حاصله: تسليم الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، غير أنّه إذا طابقت الأمارة الواقع تنجزه، و إن خالفت الأمارة الواقع ينقلب الواقع إلى مضمون الأمارة، فيكون مضمونها هو الحكم الواقعي عند من قامت الأمارة على وفقه.

و هذا القول و إن كان يسلّم وجود الحكم الواقعي المشترك بين العالم و الجاهل، و لكنّه يخصّه بالعالم دون من قامت الأمارة عنده على خلاف الواقع، و إلاّ ينقلب الواقع إلى مضمون الأمارة.

الثالث: ما اختاره بعض علمائنا الإمامية و على رأسهم الشيخ الأنصاري حيث ذهب إلى أنّ الأمارة إذا طابقت الواقع تجزي بلا إشكال.

و أمّا إذا خالفت الواقع فبما أنّ العمل بها مفوت لمصلحة الواقع يجب أن يكون هناك ما يجبر به تلك المصلحة الفائتة.

و ليس هنا شيء سوى القول بالمصلحة السلوكية، و انّ في تطبيق العمل على مفاد الأمارة مصلحة، فهذه المصلحة القائمة بنفس السلوك لا بمؤدى الأمارة

ص:391

جابرة للمصلحة الفائتة القائمة بالمؤدّى.

و قد اعترض المحقّق الخوئي على هذا النوع من السببية و قال: بأنّ المصلحة الواقعية إذا كانت حاصلة بأحد أمرين:

الأوّل: الإتيان بالواقع كصلاة الظهر مثلاً.

الثاني: سلوك الأمارة الدالّة على وجوب الجمعة في تمام الوقت من دون كشف الخلاف، فيمتنع عندئذ تخصيص الوجوب الواقعي بخصوص صلاة الظهر، لقبح الترجيح من دون مرجح، و معه كيف يكون الحكم الواقعي مشتركاً بين العالم و الجاهل؟! بل يكون الحكم الواقعي تعيينياً في حقّ العالم، و تخييرياً في حقّ الجاهل.(1)

يلاحظ عليه: انّ المطلوب بالذات هو المصلحة القائمة بالمتعلّق و أمّا المصلحة السلوكية فهي في طول الاولى تحدث لأجل جبر ما فات، فإذا كان لها تلك المكانة فكيف يمكن أن يؤمر بها على وجه التخيير؟

حكم الإجزاء على التفاسير الثلاثة

إذا عرفت أنّ السببية على أقسام ثلاثة فلا شكّ أنّ العمل بالأمارة موجب للإجزاء على القولين الأوّلين، إذ لا واقع للحكم الشرعي فيما لا نصّ فيه سوى مفاد الأمارة من أوّل الأمر على القول الأوّل، و انقلاب الواقع إلى مفادها عند المخالفة على القول الثاني فلا يتصوّر فيه التخلّف.

إنّما الكلام في الإجزاء على القول بالسببية بالمعنى الثالث، و يختلف حكم الإجزاء حسب اختلاف الفائت، فإن كان الفائت فضيلةَ أوّل الوقت، كما إذا بان

ص:392


1- - المحاضرات: 2/272.

الخلاف قبل خروج الوقت، فالمتدارَك هي الفضيلة لا مصلحة أصل الوقت و لا الصلاة فتجب الإعادة، و أمّا إذا كان الفائت مصلحة الوقت و بالتالي مصلحة الصلاة فلا بدّ أن تكون المصلحة الفائتة متداركة بالسلوكية كما هو المفروض، فلا يجب القضاء.

هذا كلّه إذا كان وجه الحجّية معلوماً و انّ الأمارة حجّة من باب الطريقية المحضة أو السببية المحضة، و أمّا إذا لم يعلم وجه الحجّية بل صار وجهها مردداً بين الطريقية و السببية، و هذا هو الذي أفاض فيه الكلام المحقّق الخراساني قرابة صفحة واحدة مع غاية الإيجاز، فخرج بالنتيجة التالية: أنّه تجب الإعادة دون القضاء، و بما انّ هذا الموضع من الكفاية معقد جدّاً نشرحه على النحو التالي:

إذا كان وجه الحجّية غير معلوم

ذكر المحقّق الخراساني ما هذا حاصله:

إذا بان الخلف و الوقت باق، تجب عليه الإعادة، للأصل و هو أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف، فهذا الأصل يقتضي الإعادة في الوقت.

لا يقال: انّ هنا أصلاً آخر يعارضه و هو استصحاب عدم كون التكليف في الواقع فعلياً في الوقت.

و بعبارة أُخرى: لم يكن الواقع فعلياً قبل الزوال و بعده مع قيام الأمارة على خلاف الواقع و نشكّ في فعليته، فالأصل بقاؤه على ما كان عليه من عدم الفعلية.

لأنّا نقول: إنّ الواجب على المكلّف احراز إنّ ما أتى به مسقط للتكليف، و قد علم اشتغال ذمته و شكّ في فراغها بالمأتي. و ما أُشير إليه من الأصل أي عدم فعلية الواقع لا يثبت أنّ المأتي به مسقط إلاّ على القول بالأصل المثبت.

ص:393

و الحاصل: انّ المطلوب بعد العلم باشتغال الذمة هو العلم بالمسقط أو قيام الحجّة عليه، و الأصل الثاني لا يثبت كون المأتي به مسقطاً، و إنّما يدلّ على عدم فعلية الواقع في حقّه، و لازم ذلك و إن كان مسقطية المأتي به لكنّه أصل مثبت.

فإن قلت: ما الفرق بين المقام و بين المقامين الآخرين:

1. الأوامر الاضطرارية، إذا فقد الماء في أوّل الوقت و وجده في آخره.

2. الأوامر الظاهرية، إذا أحرزت انّ الحجّية من باب السببية، حيث مرّ عدم وجوب الإعادة في هاتين الصورتين عند ارتفاع الاضطرار أو تبين الخلاف؟ قلت: الفرق بينهما واضح و هو وجود العلم بوجوب الفرد الاضطراري أو الفرد المأمور به بالأمر الظاهري) لأجل القول بالسببية (فيهما، و قد امتثل ما علم به و بعد ارتفاع الاضطرار أو الجهل في الوقت يشك في حدوث وجوب آخر يتعلّق بإتيان الفرد الاختياري أو الفرد الواقعي و الأصل عدم حدوثه.

و أمّا المقام فليس هناك أيّ علم بوجوب الفرد الظاهري، و ذلك لأنّ الأمارة لو كانت حجّة من باب السببية فالفرد مأمور به، و إن كانت حجّة من باب الطريقية فليس بمأمور به، فينتج أنّه ليس لنا علم قطعي بوجوب الفرد المأتي به حتى يقال: انّ ما علم قد امتثل و ما لم يمتثل) الفرد الواقعي (يُشك في حدوث الوجوب المتعلق به، فيكون المرجع هو أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف و هي تقتضي الإعادة في الوقت.

و قد أشار المحقّق الخراساني إلى السؤال و الجواب من دون طرح السؤال بقوله:» و هذا بخلاف ما إذا علم أنّه مأمور به واقعاً و شكّ في أنّه يجزي عمّا هو المأمور به الواقعي الأوّلي، كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية بناءً على أنّ

ص:394

الحجّية على نحو السببية «. فهذه العبارة تشتمل على سؤال مقدر مفاده أي فرق بين المقام و تينك الصورتين؟ كما تشتمل على جواب و هو وجود العلم بالتكليف قبل رفع العذر و الجهل و قد امتثله و الشكّ في حدوث تكليف آخر في الصورتين، بخلاف المقام فانّ الشكّ فيه في أصل سقوط التكليف.

هذا كلّه حول الأداء و أمّا القضاء فقد بنى الحكم بالقضاء على ما اختاره في الإعادة من أنّ المحكم هو عدم الإتيان بالمسقط، فهنا صور ثلاث:

1. إذا قلنا إنّ القضاء بالأمر الجديد، أعني» من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته «و انّ الفوت الذي هو موضوع لهذا الأمر، أمر وجودي لا يحرز بالأصل أي أصالة عدم الإتيان بالواقع.

2. تلك الصورة، لكن الفوت الذي هو موضوع للأمر الجديد، أمر عدمي قابل للإثبات بالأصل.

3. انّ القضاء بنفس الأمر الأوّل من دون حاجة إلى الأمر بالقضاء فكان إتيان الطبيعة مطلوباً و إتيانه في الوقت مطلوباً ثانياً.

فعلى الأوّل لا يجب القضاء لعدم ثبوت الموضوع حتّى يثبت التكليف الجديد بخلاف الصورتين الأخيرتين، فيجب القضاء امّا لثبوت الموضوع بالأصل، إذا كان بأمر جديد، أو لكفاية نفس الأمر الأوّل في إثبات القضاء.

هذا إيضاح ما أفاده في» الكفاية «.

يلاحظ على ما ذكره في أمر الإعادة: أنّ الظاهر عدم وجوب الإعادة في المقام كالصورتين الأخيرتين لعدم العلم بثبوت التكليف أزيد ممّا أتى، و ذلك لأنّه لو كانت الأمارات حجّة من باب الطريقية، أو السببية السلوكية فالواجب هو الواقع دون ما أدّت إليه الأمارة، غاية الأمر تكون المصلحة السلوكية جابرة لفضيلة

ص:395

الوقت، دون مصلحة أصل الوقت و الفعل، فتجب الإعادة.

و إن كانت الأمارات حجّة من باب السببية بالمعنيين الأوّليين، فقد أتى بما اشتغلت به ذمّته، و عند ذلك ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي و شكّ بدوي، لأنّه يعلم بتوجّه الوجوب إليه و هو متعلّق إمّا بالصلاة التي صلاّها أو الصلاة التي لم يصلها، و مثل هذا العلم لا يؤثر، لأنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون العلم محدثاً للتكليف على كلّ تقدير، و ليس هذا النوع من العلم كذلك، لأنّه على فرض لا يحدث تكليفاً، لأنّ المفروض أنّه امتثله، و على الفرض الثاني و إن كان محدثاً للتكليف لكنّه مشكوك، و هذا نظير ما إذا علم بعد إقامة صلاة الجمعة بأنّ الواجب إمّا الصلاة التي صلاّها أو صلاة الظهر التي لم يصلّها، فلا يؤثر ذلك العلم الإجمالي، نعم لو كان ذلك العلم قبل إقامة صلاة الجمعة يكون مؤثراً.

هذا كلّه حول الإعادة، و أمّا ما أفاده حول القضاء، فالظاهر عدم القضاء على جميع المباني حتى على القول بأنّ القضاء بالأمر الأوّل، أو الأمر الثاني لكن الفوت أمر عدمي يثبت بالأصل، و ذلك لأنّ القضاء معلّق في لسان الدليل على الفوت الذي هو عبارة أُخرى عن عدم الإتيان بالواجب في الوقت، و المفروض أنّ الموضوع عدم الإتيان بالواجب في الوقت بعد لم يثبت لأنّه على القول بحجّية الأمارة من باب السببية فقد أتى بالواجب، فلم يحرز عدم الإتيان به حتى يتبعه الأمر بالقضاء. نعم لو كان ملاكها هو الطريقيّة وجب القضاء لكنّ الملاك مشكوك.

ص:396

المورد الثاني العمل بالأُصول العملية لاستكشاف كيفية التكليف
اشارة

قد عرفت حكم الامتثال بالأمارات في مجالي استكشاف أصل التكليف، و استكشاف الأجزاء و الشرائط عند ظهور المخالفة، فحان البحث في حكم الامتثال بالأُصول العملية عند ظهور المخالفة.

و بما انّه قد مرّ أنّ التخلّف في أصل الحكم لا يوجب الإجزاء، من غير فرق بين الأمارة و الأصل، نخص البحث بما إذا عمل بالأُصول لاستكشاف أجزاء المكلّف به و شرائطه و موانعه و قواطعه.

و اللازم بالبحث في المقام هي الأُمور التالية:

1. أصالة الطهارة.

2. أصالة الحلّية.

3. الاستصحاب.

4. أصالة البراءة.

5. قاعدة التجاوز.

6. تبدل رأي المجتهد بالنسبة إلى أعماله و أعمال مقلّديه.

و إليك الكلام فيها واحداً تلو الآخر.

ص:397

1. أصالة الطهارة و الإجزاء

ذهب أعلام المتأخرين إلى أنّ امتثال قاعدة الطهارة موجب للإجزاء و إن بان التخلّف، معتمدين في ذلك على ما ذكره المحقّق الخراساني، و حاصله:

انّ دليل أصالة الطهارة حاكمة على أدلّة الأجزاء و الشرائط، بتوسعة الموضوع، مثلاً إذا قال الشارع:

» صلّ في طاهر «. فالظاهر منه أنّه يشترط أن يكون اللباس طاهراً واقعياً، فإذا قال بعده:» كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر «فبالمقارنة نستكشف أنّ الثاني بصدد توسعة الموضوع و أنّ الطهارة التي هي شرط صحّة الصلاة أعمّ من الطهارة الواقعية و الظاهرية.

و على ضوء ذلك: إذا تبيّن أنّ الثوب نجس فانكشاف الخلاف إنّما هو بالنسبة إلى نفس الطهارة و النجاسة حيث تبين انّ الثوب نجس، و أمّا بالنسبة إلى شرط الصلاة فالانكشاف من حينه لا من أصله، لما عرفت من أنّ شرط الصحّة هو الشرط الأعمّ من الظاهري و الواقعي لا الشرط الواقعي فقط حتّى تصحّ نسبة انكشاف الخلاف بالنسبة إلى الشرط.

و هذا توضيح ما ذكره صاحب الكفاية في المقام حيث قال:

و التحقيق أنّ ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف و تحقيق متعلّقه و كان بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو الحلية بل و استصحابهما في وجه قوي و نحوها بالنسبة إلى كلّ ما اشترط بالطهارة أو الحلية، يجزي، فانّ دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط و مبينا لدائرة الشرط و انّه أعمّ من الطهارة الواقعية و الظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل بشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل

ص:398

ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل.(1)

و كان السيد البروجردي يعتمد في درسه الشريف على بيان آخر و هو أنّه إذا صلّى في ثوب طاهر تمسّكاً بأصالة الطهارة، ينطبق على المأتي به عنوان الصلاة فيسقط التكليف المتعلّق به في قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) و قد قام الإجماع على عدم وجوب صلاتين من نوع واحد للمكلّف في وقت واحد.

فالحكم بالإعادة و القضاء خرق لهذا الإجماع، و معناه وجوب صلاتي الظهر في وقت واحد.

و هناك دليل آخر على الإجزاء و هو التمسّك بالملازمة العرفية بين الأمر بالعمل بالأُصول في كيفية الامتثال و إجزاؤه في مقام الامتثال مطلقاً، سواء أ وافق الواقع أم خالفه. و قد مرّ في مورد الأمارة.

2. أصالة الحلية و الإجزاء

يظهر حكم قاعدة الحلية ممّا ذكرناه في أصالة الطهارة بالوجوه الثلاثة، تارة لأجل حكومة القاعدة على أدلّة الأجزاء و الشرائط، و أُخرى بانطباق عنوان الصلاة على المأتي به و سقوط وجوبه بعد الإتيان و عدم وجوب صلاتين من نوع واحد للشخص في يوم واحد و ثالثة من وجود الملازمة بين الأمر بالعمل بأصالة الحلية، و الإجزاء في مقام الامتثال، و الوجوه الثلاثة واضحة لا حاجة إلى التبيين.

3. الاستصحاب و الإجزاء

ذهب المحقّقون من الأصوليّين إلى أنّ الاستصحاب أصل محرِز، و انّ لسانه في الموضوعات كالطهارة و العدالة هو جعل المماثل عند الشكّ، فإذا قال الشارع:

ص:399


1- - كفاية الأُصول: 1/133.

صلّ في طاهر، فإذا شككنا في طهارة ثوب بعد اليقين بطهارته و قال الشارع:» لا تنقض اليقين بالطهارة بالشكّ فيها «فمعناه أنّ الثوب محكوم بالطهارة، فيكون بالنسبة إلى دليل الشرطية حاكماً و جاعلاً للمصداق، غاية الأمر مصداقاً ظاهرياً لا واقعياً، فلو ظهر التخلّف فالتخلّف إنّما هو بالنسبة إلى طهارة الثوب و نجاسته لا بالنسبة إلى كون المكلّف واجداً للشرط، فصلاته كانت صلاة صحيحة تامّة إلى يوم القيامة حتّى و إن ظهر بالعلم القطعي كون الثوب نجساً، فالعلم المتأخر يؤثر في مجال الشرط بالنسبة إلى المستقبل لا بالنسبة إلى الماضي، لأنّ الشرط إذا كان أعمّ من الواقعي و الظاهري لا يتصوّر فيه التخلّف.

و هذا البيان هو الذي نقلناه من المحقّق الخراساني، و يمكن تعضيده بما نقلناه من كلام المحقّق البروجردي، و بما أردفناه من حديث الملازمة، فالجميع يهدف إلى أمر واحد، و هو أنّ الشارع اقتصر في مجال امتثال تكاليفه بما تؤدي إليه هذه الأُصول، سواء أ وافقت الواقع كما هو الحال في 90% أم خالفه كما في 10%، غير أنّ المصلحة التسهيلية دفعت بالشارع إلى الاكتفاء بما أدّت إليه الأُصول مطلقاً. و رفع اليد عن الجزئية و الشرطية في مقام التنجيز عند المخالفة.

4. أصالة البراءة و الإجزاء

إذا شكّ في جزئية شيء كوجوب السورة التامّة شبهة حكمية و أجرى الفحص اللازم فلم يعثر على الدليل في مظانه فأجرى البراءة عن الوجوب و صلّى صلاة بلا سورة تامّة، ثمّ بدا خلافه و أنّ الواجب هو السورة التامّة، فهل يجزي ما أتى به من العمل الناقص أو لا؟ الأقوى هو الإجزاء.

و الدليل على ذلك ما ذكرنا من حديث الملازمة، فإذا قال الشارع: (أَقِمِ

ص:400

اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) و كانت الصلاة موضوعة للصلاة التامّة التي من أجزائها السورة الكاملة.

ثمّ قال: إذا شككت في وجوب شيء من أجزاء الصلاة، فهو مرفوع،) و ليس المراد الرفع الواقعي لاستلزامه التصويب، بل المراد الرفع الظاهري، و هو الرفع في ظرف الشكّ (تكون نتيجة الدليلين انّ المولى قد اكتفى في امتثال اغراضه و مقاصده بما أدّت إليه الأُصول في ظرف الشكّ، و بما أنّ مؤداها يوافق الواقع في أكثر الموارد و يخالفه في أقلّها اقتصر بالأكثر و رفع اليد عن الأقل.

و هذه هي الملازمة العرفية التي اعتمدنا عليها في غير مرّة.

و أمّا القول بالإجزاء من طريق حكومة الأُصول على أدلّة الأجزاء و الشرائط فإنّما يتصوّر في الشبهات الموضوعية، و أمّا الشبهات الحكمية فلا يعقل حكومة الأُصول على الأدلّة الاجتهادية حيث إنّ الأصل دليل حيث لا دليل.

نعم لو كان مجرى البراءة هو الشبهة الموضوعية فهذا المانع غير موجود، إنّما الكلام في كون لسان حديث الرفع لسان الحكومة. فانّ لسانه لسان النفي) رفع (لا جعل المصداق و الإثبات.

5. قاعدة التجاوز و الإجزاء

الظاهر من الروايات الدالّة على عدم الاعتداد بالشكّ عند التجاوز أنّه أصل عقلائي أمضاه الشارع، فقد ورد في غير مورد قوله:» فشكك ليس بشيء «(1)و قوله:» فليمض «.(2) فهذان التعبيران يعبّران عن تجويز الإتيان بالمأمور به بهذه الكيفية، و هو يلازم عرفاً باقتصار الشارع في تأمين مقاصده و أغراضه بما أدّت إليه

ص:401


1- - الوسائل: 5، الباب 23 من أبواب الخلل، الحديث 1.
2- - الوسائل: 1، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 6.

قاعدة التجاوز تسهيلاً للعباد، فبحكم الملازمة يحكم بالإجزاء.

أضف إلى ذلك ما نقلناه من المحقّق البروجردي بأنّه بعد ما امتثل المأمور به في ظلّ القاعدة ينطبق عليه عنوان الصلاة، لأنّها و إن وضعت للصلاة الصحيحة لكن لها عرضاً عريضاً و مصاديق مختلفة، فإذا انطبق عليه عنوان المأمور به يسقط الأمر لزوماً و إيجاب الإعادة و القضاء يكون بلا ملاك، مضافاً إلى الإجماع على عدم وجوب صلاتين من نوع واحد في يوم واحد.

و أما الحكم بالإجزاء عن طريق الحكومة فهو فرع أن يكون اللسان لسان الحكومة بجعل المصداق.

6. انكشاف الخلاف بدليل قطعي

قد عرفت أنّ مقتضى العمل بالأُصول في استكشاف الأجزاء و الشرائط هو الإجزاء من غير فرق بين انكشاف الخلاف على وجه الظن أو على وجه القطع، فلو صلّى صلاة الظهر بلا سورة أو مع سورة ناقصة اعتماداً على الأُصول، أو صلّى في ثوب مشكوك محكوم بالطهارة، و قام الدليل المفيد للعلم بوجوب السورة، أو وجوب السورة الكاملة، لكان ما أتى به مجزياً لما عرفت من حديث الحكومة، أو حديث انطباق عنوان الصلاة، أو الملازمة، و كون الدليل الثاني قطعياً و حجّية القطع ذاتية لا يضرُّ بالمقام لأنّ القطع يكشف عن الحكم الواقعي و يهدم الحكم الظاهري عند وجوده لا الحكم الظاهري في ظرفه، كما أنّه لا فرق بين العبادات و المعاملات تكليفاً و جزءاً و شرطاً و مانعاً، فالأعمال المنطبقة على الأمارات و الأُصول أو فتوى المجتهد مجزية و ان تبيّن الخلاف بقيام حجج قطعية على خلافها.

ص:402

7. تبدّل رأي المجتهد

إذا تبدّل رأي المجتهد إلى رأي آخر أو مات المقلَّد و قلّد مجتهداً آخر، يخالف رأيه، رأي الميت يكفي ما أتى به سابقاً، و ذلك لقصور أدلّة حجّية الاجتهاد الثاني، عن شموله لما مضى، بل القدر المتيقّن هو لزوم تطبيق العمل عليه في المستقبل.

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني إشكالات على حكومة الأُصول العملية على أدلّة الأجزاء و الشرائط و قد تعرّضنا لها في الدورات السابقة و بيّنا انّها غير تامّة، فمن أراد فليرجع إلى المحصول.(1)

ص:403


1- - المحصول: 4451/440.

تنبيهات ثلاثة

الأوّل: الامتثال اعتماداً على القطع بالأمر

كان الكلام في السابق هو امتثال أمر المولى اعتماداً على دليل شرعي كالأمارة و الأُصول، و أمّا إذا امتثل أمره اعتماداً على قطعه و يقينه فقطع بعدم وجوب السورة الكاملة، أو قطع بطهارة ثوبه فصلى ثمّ بدا خلافه، فهل يكون مجزياً أو لا؟ الجواب: لا يكون مجزياً إذ لا دليل عليه.

لأنّ الدليل المهم على الإجزاء أحد الأمرين:

أ: ادعاء الملازمة بين الأمر بالعمل بالأمارة و الأصل و اكتفاء المولى في دائرة المولوية و العبودية بما أتى، و هو إنّما يجري إذا كان هناك أمر من الشارع لكيفية الامتثال، و المفروض انتفاؤه، بل اتبع المكلف حكم العقل بأنّه يجب العمل بالقطع، و نتيجة حكمه عبارة عن التنجّز إذا أصاب و التعذير إذا أخطأ، و هذا غير الإجزاء.

ب: حكومة دليل الأمر الظاهري على الأدلّة الواقعية، كما هو الحال في بعض الأُصول، و هو أيضاً فرع وجود أمر من الشارع و المفروض انتفاؤه.

الثاني: القول بالإجزاء لا يلازم التصويب

ربّما يتهم القائل بالإجزاء بالقول بالتصويب مع أنّه لا ملازمة بين القولين، سواء كان الدليل رافعاً للحكم أو موسّعاً لدائرة الشرط.

ص:404

فالأوّل: كما إذا قامت الأمارة على عدم وجوب السورة الكاملة ثمّ بان الخلاف.

و الثاني: كما إذا أثبت الأصل طهارة شيء و حليته.

أمّا عدم لزوم التصويب في الصورة الأُولى أي إذا كان الدليل رافعاً لوجوب الشيء فلأنّ مورد توهّم التصويب أحد الأُمور التالية:

أ: القول بالإجزاء بمعنى إنكار حكم اللّه المشترك بين العالم و الجاهل، فحكم العالم هو وجوب الصلاة مع السورة الكاملة، و حكم الجاهل وجوبها بلا سورة، فالحكم المشترك بينهما منتف.

يلاحظ عليه: أنّ الحكم المشترك بين العالم و الجاهل في مرحلة الإنشاء محفوظ، فما شرعه اللّه سبحانه و بلغه إلى النبي حكم مشترك بين الطائفتين بلا فرق بين العالم و الجاهل.

ب: القول بالإجزاء يلازم عدم فعلية الحكم في حقّ الجاهل، و فعليته في حقّ العالم، و هذا أيضاً نوع إنكار لحكم اللّه المشترك.

يلاحظ عليه: أنّ تخصيص الفعلية بالعالم و إخراج الجاهل عنها أمر مشترك بين القائل بالإجزاء و النافي له، و ذلك لقبح خطاب الجاهل فعلاً.

ج: القول بالإجزاء يلازم قبول الناقص مكان الكامل.

يلاحظ عليه: بأنّه ليس أمراً بديعاً، فقد اتّفق الكل على سقوط بعض الأجزاء و الشرائط عن المطلوبية بعد الإتيان بالفرد الناقص من الصلاة، لحديث» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة «(1)فلو أتى بالصلاة بلا سورة جهلاً أو نسياناً فصلاته صحيحة بلا إشكال.

ص:405


1- - الوسائل: 4، كتاب الصلاة، الباب 10، من أبواب الركوع، الحديث 5.

أمّا عدم لزوم التصويب في الصورة الثانية، أعني: فيما إذا قام الأصل على طهارة ثوب و كان الواقع على خلافه، فالأصل الثاني يكون مبيّناً لموضوع دليل الجزئية و مبسّطاً له، و أين هذا من التصويب؟! فإذا قال المولى:» صل في طاهر «فدليل أصالة الطهارة بالنسبة إليه بمنزلة المفسّر للدليل الأوّل و لا معنى لتصور التصويب عند تفسير أحد الدليلين الدليلَ الآخر.

نعم دليل الأصل يخصص دليل الجزئية و الشرطية، لا دليل نجاسة البول إذا كان الثوب متنجّساً بالبول.

فقوله) عليه السلام (:» اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه «(1)فيفهم منه نجاسة هذه الأبوال مطلقاً لا في حالة العلم، فدليل الأصل لا صلة له بأدلّة النجاسات.

فتلخّص انّ حديث التخصيص بالنسبة إلى أدلّة النجاسات منتف، و أمّا توسيع شرط الصلاة من الظاهرية إلى الأعم من الواقعية و الظاهرية فليس بتصويب، بل حكومة دليل على دليل.

التنبيه الثالث: في مسائل تترتّب على الاجزاء
اشارة

إنّ هنا مسائل فقهية تترتب على مختار الفقيه في باب الإجزاء و هذه المسائل مبثوثة في أبواب الفقه، نختار منها ما يلي:

المسألة الأُولى: إذا اختلفت فتوى السابق مع اللاحق

قال السيد الطباطبائي في العروة الوثقى:

المسألة 53: إذا قلّد من يكتفي بالمرّة مثلاً في التسبيحات الأربع و اكتفى

ص:406


1- - الوسائل: 2، الباب 8 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

بها، أو قلّد من يكتفي في التيمم بضربة واحدة، ثمّ مات ذلك المجتهد، فقلّد من يقول بوجوب التعدد، لا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة.

و كذا لو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بالصحّة ثمّ مات و قلّد من يقول بالبطلان، يجوز له البناء على الصحّة. نعم فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني.

و أمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شيء كالغسالة ثمّ مات و قلّد من يقول بنجاسته فالصلوات و الأعمال السابقة محكومة بالصحّة و إن كانت مع استعمال ذلك الشيء، و أمّا نفس ذلك الشيء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته.

و كذا في الحلية و الحرمة، فإذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلاً، فذبح حيواناً كذلك فمات المجتهد و قلّد من يقول بحرمته، فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع و إباحة الأكل، و أمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه، و لا أكله، و هكذا.(1)

و هذه المسألة صارت محلاً للنقاش و الجدل و قد علّق عليها العلماء تعاليق وافقوا المتن في بعض الموارد و خالفوه في بعض آخر، و نحن نذكر ما هو المختار عندنا، نقول:

يقع الكلام تارة في عبادات المكلّف، و أُخرى في معاملاته بالمعنى الأعم كحلية الحيوان المذبوح، و طهارة الثوب و البدن، و ثالثة في الموضوعات التي تعد أثراً خارجاً عن إطار فعل المكلّف كالكحول و الفقاع إذا أفتى المجتهد الأوّل بطهارتهما و الآخر بنجاستهما، و هما موجودان في وعائهما في كلتا الحالتين، و إليك الكلام في الموارد الثلاثة.

ص:407


1- - العروة الوثقى، فصل التقليد، المسألة 53.
1. حكم العبادات

الظاهر أنّ كلّ ما أتى به من العبادات يُعد أمراً صحيحاً، و إن كان يجب عليه تطبيق العمل في المستقبل على قول المجتهد الثاني، فما صدر منه من الأفعال و كان صحيحاً حسب الحجّة الأُولى يحكم عليها بالصحة حتّى بعد تقليد المجتهد الثاني لوجوه:

الأوّل: أنّ الحجة الثانية تُسقط الحجة السابقة عن الاعتبار في المستقبل مع بقائها على وصف الحجّية بالنسبة إلى ما سبق، لا أنّ الحجّة الثانية تكشف عن عدم حجّية السابقة في ظرفها، فالأُولى حجّة فيما سبق حتى الآن، و إن كانت الحجّة الثانية تسقط الأُولى عن الحجّية فيما يأتي من الزمان، و على ذلك فالأعمال التي أتى بها حسب الحجة الأُولى محكومة بالصحّة حتى بعد قيام الحجة الثانية، لما عرفت من أنّها لا تكشف عن عدم الحجّية فيما مضى و إنّما تسقطها عن الحجّية فيما يأتي. و ذلك لأنّ الحجّة الثانية ليست وحياً إلهياً كاشفاً عن بطلان الأُولى، بل هي اجتهاد كالاجتهاد الأوّل و إن كان المتعيّن الرجوع إليها فمقتضى الجمع بين الحجتين كون كلّ حجّة بالنحو المذكور.

الثاني: التمسك بالملازمة العرفية، فانّ الشارع إذا أمر بمركب كالصلاة و الحجّ ثمّ جعل فتوى المفتي حجّة في تشخيص الواجب عن غيره، فمعنى ذلك أنّه اكتفى في أغراضه بما أدّت إليه فتوى ذلك المجتهد على التفصيل الذي عرفت فاقتضت المصلحةُ التسهيلية إضفاءَ الاعتبار على قوله مطلقاً حتّى فيما خالف الواقع.

الثالث: انّ الفتوى الأُولى كانت حجّة في الأعمال السابقة، و نشك في سقوط حجّيتها بالنسبة إلى ما مضى، فيحكم ببقائها بالنسبة إلى ما مضى، و أمّا

ص:408

الفتوى الثانية فلا شكّ أنّها حجّة بالنسبة إلى الحوادث التالية: و أمّا الحوادث السابقة فنشكّ في حجّيتها بالنسبة إليها فيؤخذ بالاستصحاب من دون معارض.

و بالجملة: فالقدر المتيقّن في قوله:» و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا «أو ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة هو حجّية قول الفقيه بالنسبة إلى ما يأتي من الحوادث، و أمّا بالنسبة إلى السابق فلا إطلاق في الأدلّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي ممّن ذهب إلى لزوم تطبيق العمل على الاجتهاد الثاني من غير فرق بين ما مضى و ما يأتي و استدلّ على ذلك بالوجه التالي:

أنّ قيام الحجّة الثانية و إن كان لا يستكشف به عن عدم حجّية الاجتهاد الأوّل مثلاً في ظرفه إلاّ أنّ مقتضاها ثبوت مدلولها في الشريعة المقدّسة من الابتداء لعدم اختصاصه بعصر دون عصر، إذاً العمل المأتي به على طبق الحجّة السابقة باطل، لأنّه مقتضى الحجّة الثانية، و معه لا بدّ من إعادته أو قضائه.

و احتمال مخالفة الواقع، و إن كانت تشترك فيه الحجتان، إلاّ أنّ هذا الاحتمال يلغى في الحجّة الثانية حسب أدلّة اعتبارها، و لا يلغى في الأُولى، لسقوطها عن الاعتبار، و مجرد احتمال المخالفة يكفي في الحكم بالإعادة أو القضاء، لأنّه لا مؤمِّن معه من العقاب. و حيث إنّ العقل مستقل بلزوم تحصيل المؤمن، فلا مناص من الحكم بوجوب الاعادة على طبق الحجّة الثانية، لأنّ بها يندفع احتمال الضرر بمعنى العقاب.

و أمّا القضاء فهو أيضاً كذلك، لأنّ مقتضى الحجّة الثانية أنّ ما أتى به المكلّف على طبق الحجّة السابقة، غير مطابق للواقع فلا مناص من الحكم ببطلانه، و معه يصدق فوت الفريضة و هو يقتضي وجوب القضاء.(1)

ص:409


1- - التنقيح، قسم الاجتهاد و التقليد: 1/54.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ مدلول الحجّة الثانية هو ثبوت مدلولها في الشريعة المقدّسة من الابتداء و إن كان أمراً صحيحاً، إلاّ أنّ الكلام في مقدار حجّية هذا الكشف، فانّه لما كان ظنياً يمكن تخصيص حجّيته بالحوادث التي يواجهها المكلّف في المستقبل، و قد علمت أنّ القدر المتيقّن من حجّية قول المفتي هو حجّيتها فيما سيرد من الحوادث، و أمّا ما مضى من الحوادث فالحجة الأُولى حجّة بالفعل بالنسبة إليها.

و إن شئت قلت: إنّ الحجّة الثانية لما كانت ظنية لا تكشف عن بطلان الحجّة الأُولى، غاية الأمر ورد التعبّد بالأخذ بها دون الأُولى و القدر المتيقن من التعبد هو ما سيرد من الحوادث لا ما مضى و بذلك يعلم وجود المؤمِّن بالنسبة إلى الأعمال السابقة و ليس هو إلاّ الحجّة الأُولى.

و أمّا القضاء فهو و إن كان مترتباً على فوت الفريضة لكن إثبات فوت الفريضة بالنسبة إلى ما مضى أوّل الكلام لما عرفت من أنّ القدر المتيقن من حجّيتها إنّما هو فيما يرد من الحوادث لا فيما مضى فلا يثبت بها فوت الفريضة حتّى يعمّه قوله: ما فاتته فريضة فليقض كما فاتته.

2. حكم المعاملات

قد عرفت أنّ السيد الطباطبائي ذهب إلى البناء على الصحّة فيما إذا أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم عليه بالصحّة ثمّ مات و قلّد من يقول بالبطلان.

و كذا إذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلاً فَذُبِح حيوان كذلك فمات المجتهد و قلّد من يقول بحرمته فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع و إباحة الأكل.

ص:410

هذا ممّا لا غبار عليه، و ما ذكرنا من الأدلّة في العبادات يجري في المعاملات طابق النعل بالنعل.

لكنّه) قدس سره (حكم بنجاسة الغسالة، و قال: و أمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شيء كالغسالة ثمّ مات، و قلّد من يقول بنجاسته فالصلوات و الأعمال السابقة محكومة بالصحّة، و إن كانت مع استعمال ذلك الشيء، و أمّا نفس ذلك الشيء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته. و مثله إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه و لا أكله.

و أمّا ما هو الحقّ في المقام فيعلم بالبيان التالي فانّ مصب الإجزاء هو صدور عمل من المكلّف أمضاه الشارع حسب فتوى المجتهد الأوّل، فلو كان ذلك العمل سبباً لأثر، فمعنى إمضاء السبب هو ثبوت أثره حدوثاً و بقاءً، و التفصيل بين الحدوث و البقاء نقض لسببية ذلك السبب.

و على ذلك فبما أنّ الشارع أمضى نفس الفعل بمعنى الذبح فيترتب أثره من غير تقيّد بزمان دون زمن، فيجوز أكل الذبيحة و بيعها حتى بعد موت المجتهد الأول.

و مثله غسل الثوب بالغسالة فانّ العمل الصادر من المكلّف هو الغسل، و قد أمضاه الشارع بأنّه مطهر فيترتب عليه أثره حدوثاً و بقاءً فيحكم بطهارة الثوب، و أمّا نفس الغسالة فبما انّه جسم خارجي لا يعد عملاً للمكلّف فيرجع في حكمها إلى المجتهد الثاني فالمعيار هو إمضاء العمل.

3. الموضوعات الخارجية

و أمّا الموضوعات الخارجية التي تختلف فيها أنظار المجتهدين نظير طهارة

ص:411

الفقاع مثلاً، فلو كان رأي المجتهد الأوّل على الطهارة على خلاف المجتهد الثاني فإنّه يرجع في مثله إلى الثاني، و ذلك لأنّه لم يكن هناك فعل صادر من المكلّف حتّى يقع في إطار الإمضاء، بل غاية ما كان هناك موضوع خارجي كان الأوّل يحكم بطهارته، ويحكم الثاني الآن بنجاسته، فبما أنّ الفقاع موضوع مستقل في كلّ آن، و ليست طهارته أو نجاسته في الآن اللاحق استمراراً لهما في الآن السابق، بل تنسبان إلى ذات الفقاع من دون أن يتقيّد بيوم دون يوم، فيكون محكوماً بالنجاسة، هذا.

المسألة الثانية: لو دخل الصبي في الصلاة و هو غير بالغ فبلغ في أثنائها،

فهناك احتمالات:

1. إكمال الصلاة و الاجتزاء بها.

2. وجوب الإعادة بعد الإكمال.

3. قطع الصلاة و الابتداء بها.

لا سبيل إلى الثالث و الأقوى هو الأوّل، و وجهه وحدة الأمر المتوجّه إلى الصبي و البالغ و كلاهما مأموران بأمر واحد، أعني قوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ).(1)

غير أنّ الدليل الخارجي دلّ على قوّة الطلب في الأوّل و ضعفه في الثاني، و ليس الوجوب و الندب من مداليل الأمر حتى يكون الأمر المتوجّه إلى البالغ غير المتوجه إلى غيره، فإذا اتحد الأمر فقد امتثله، غاية الأمر كان الطلب في النصف الأوّل من العمل غير مقرون بالشدة و مقروناً بها في النصف الآخر، لكنّه لا يؤثر في تعدد الأمر، خلافاً لصاحب الجواهر حيث ذهب إلى لزوم الإعادة زاعماً تعدد

ص:412


1- - الإسراء: 78.

الأمر.(1)

المسألة الثالثة: إذا انحصر الثوب في النجس و لم يتمكن من غسله و نزعه لبرد و صلّى فيه، ثمّ تمكّن من أحدهما أو كليهما و الوقت باق،

يجزي إذا كان في دليل رفع الاضطرار إطلاق، و لو كان في دليل المبدل أي طهارة الساتر إطلاق، يعيد، و لو شكّ فعلى المختار من وحدة الأمر، فالمرجع هو الاحتياط، لأنّه من قبيل الشكّ في سقوط الأمر الواحد، و على القول بتعدّده كما عليه المحقّق الخراساني فالمرجع هو البراءة كما عرفت.(2)

إلى غير ذلك من المسائل التي جاء تفصيلها في المحصول.(3)

ص:413


1- - الجواهر: 7/239، و لاحظ كتاب الصلاة للشيخ الحائري، ص 25.
2- - الجواهر: 2526/248.
3- - راجع المحصول: 4581/456.

ص:414

الفصل الرابع مقدّمة الواجب

اشارة

خصّص المحقّق الخراساني هذا الفصل بالبحث في الأُمور التالية:

الأوّل: تحرير محلّ النزاع.

الثاني: كون المسألة عقلية أُصولية.

الثالث: تقسيمات المقدّمة إلى داخلية و خارجية، و عقلية و شرعية و عادية، إلى غيرها من المقدّمات.

الرابع: في تقسيم الواجب إلى مطلق و مشروط و منجّز و معلّق.

الخامس: وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها.

السادس: ما هو الواجب من المقدّمة؟ السابع: في ثمرات القول بوجوب المقدّمة.

الثامن: ما هو الأصل عند الشكّ في وجوب المقدّمة.

إذا عرفت ذلك فلندرس تلك الأُمور واحداً تلو الآخر.

الأوّل: في تحرير محلّ النزاع

إنّ محلّ النزاع يحتمل أن يكون أحد الأُمور التالية:

1. الوجوب العقلي الذي يدركه العقل و يعبّر عنه باللابدية، و لكنّه ليس

ص:415

موضع النزاع قطعاً لحكمه بالوجوب بالبداهة أوّلاً، و اتّفاق العقلاء على وجوبها ثانياً لمن أراد الوصول إلى ذيها.

2. الوجوب العرضي، بمعنى أنّ هنا وجوباً واحداً ينسب إلى ذيها حقيقة و إلى مقدمته مجازاً، كنسبة الجريان إلى الماء بالحقيقة و إلى الميزاب بالمجاز، و هذا أيضاً خارج عن محط البحث لأنّه يصبح بحثاً أدبياً خارجاً عن غرض الأُصولي.

3. الوجوب الشرعي الغيري الأصلي.

4. الوجوب الشرعي الغيري التبعي.

فالنزاع على هذين الاحتمالين مركز على عروض وجوب شرعي للمقدّمة بما انّها مقدّمة و لذلك يوصف الوجوب بالغيري، غاية الأمر إذا كانت المقدمة مورداً لتوجه الآمر يوصف بالأصلي، و إذا لم يكن كذلك يوصف بالتبعي.(1)

يلاحظ على ذينك الاحتمالين: بأنّه تكون المسألة عندئذ فقهية، و لما عرفت أنّ محمول المسألة إذا كان أحد الأحكام الشرعية، فالمسألة فقهية.

5. وجوب الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته، فعلى هذا تكون المسألة أُصولية كسائر الملازمات المبحوث عنها في علم الأُصول، فانّ المسائل التي يبحث فيها عن الملازمات كلّها مسائل أُصولية نظير البحث عن وجود الملازمة بين وجوب الشيء و حرمة ضده و كالبحث عن الملازمة بين ثبوت الحكم عند وجود قيده، و ارتفاعه عند ارتفاعه) أبواب المفاهيم (.

البحث عن الملازمة بين حرمة العبادات و فسادها.

البحث عن الملازمة بين المعاملات و فسادها.

ص:416


1- - سيوافيك الفرق بين الأصلي و التبعي في محله فلو تعلقت الإرادة بالشيء على وجه التفصيل فهو أصلي و إلاّ فهو تبعي. لاحظ ص 535 من هذا الجزء.

فالبحث في هذه المسائل كما في المقام أيضاً عن وجود الملازمة بين الأمرين و عدمها، فالقائل بالوجوب يدّعي الملازمة، و القائل بالعدم ينكر الملازمة.

فإن قلت: هل الملازمة في المقام من المستقلات العقلية أو من غير المستقلات العقلية؟ قلت: هي من القسم الثاني، و ذلك لأنّ الفرق بينها هو لو كانت الصغرى و الكبرى عقليتين تعدّ المسألة من المستقلات العقلية، كما في حسن العدل و قبح الظلم، و حسن العمل بالميثاق و قبح التخلّف عنه، و حسن جزاء الإحسان بالإحسان و قبح جزائه بالإساءة، فالصغرى و الكبرى كلاهما ممّا يدركهما العقل.

و أمّا إذا كانت الصغرى شرعية و الكبرى عقلية فتكون المسألة من الأحكام العقلية غير المستقلة، كما في المقام حيث إنّ الصغرى في باب المقدمة مأخوذة إمّا من الشارع أو من العرف و العادة، فإذا قال الشارع:

الوضوء مقدمة. يحكم العقل بوجود الملازمة بين الوجوبين، أو قال: إزالة النجاسة عن المسجد واجبة، يحكم العقل بوجود الملازمة بين وجوبها و حرمة ضدّها أعني الصلاة.

فإن قلت: إذا كان البحث في هذه المسائل الخمس مركزاً على وجود الملازمة و عدمها، فلما ذا يبحث عنها في الجزء الأوّل المختص بمباحث الألفاظ، أ ليس الأولى البحث عنها في الجزء الثاني المخصص بالمباحث العقلية؟ قلت: الحقّ انّها من المباحث العقلية، غير أنّ المقدمة لما كانت متوقفة على السماع من الشرع صار ذلك مسوغاً للبحث عنها في الجزء الأوّل المخصَّص بالمباحث اللفظية.

على أنّ هناك من الأُصوليين من قال بدلالة الأمر بذي المقدّمة على وجوب المقدّمة بالدلالة الوضعية الالتزامية، و هي عند المنطقيين دلالة لفظية لا عقلية كما

ص:417

سيوافيك تفصيله في الأمر الثاني، و لذلك جاء ذكر المسألة في المباحث اللفظية.

فإن قلت: هل الملازمة بين وجوب ذيها و وجوب المقدّمة الواقعية، أو بين وجوب ذيها و ما يراه المولى مقدّمة؟ قلت: ذهب السيّد الأُستاذ إلى القول الثاني، قائلاً: بأنّ الإرادة من الفاعل إنّما تتعلّق بالشيء بعد تصوّره و الإذعان بفائدته، و يمتنع تعلّق الإرادة بما هو مقدّمة في نفس الأمر إذا كان غافلاً عنها. و على ذلك فالملازمة هي بين إرادة ذيها و إرادة ما يراه مقدّمة.

و الحاصل: انّ الإرادة وليدة العلم، و لا يعقل تعلّقها بشيء إلاّ بعد العلم به و عرفانه مقدمة للشيء.(1)

قلت: الظاهر أنّه يكفي كون المقدمة مورداً للتوجّه و متعلّقة بالإرادة حسب الإجمال، كما إذا أمر المولى بصنع دواء سائل من عقاقير مختلفة و لا يعلم تفصيلها و خصوصياتها، فتتعلّق الإرادة بوجوب ما هو مقدمة لتحضير هذا الدواء، فالظاهر أنّ الملازمة على فرض ثبوتها بين وجوب الشيء و وجوب ما هو مقدمة في الواقع سواء وقف عليه المولى بالتفصيل أم لا، و لعلّ ما ذكرناه هو مراد السيّد الأُستاذ.

نعم لو لم يكن مورداً للالتفات لا تفصيلاً و لا إجمالاً لما يكون طرفاً للملازمة.

الأمر الثاني: المسألة عقلية أُصولية

اشارة

هل البحث في المسألة لفظي أو عقلي، فقهي أو أُصولي، الظاهر انّ المسألة

ص:418


1- - تهذيب الأُصول: 1/153.

عقلية أُصولية.

أمّا كونها عقلية: فلما عرفت أنّ محور البحث هو وجود الملازمة بين الإرادتين ثبوتاً، و الوجوبين إثباتاً، و عدمها، و هو بحث عقلي.

و الظاهر أنّ وصف القدماء بكون المسألة لفظية لأجل قولهم بدلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدّمته دلالة التزامية و هي عندهم دلالة لفظية لا عقلية، تبعاً للمنطقيين حيث إنّهم يعدون الدلالة التضمّنية و الالتزامية من الدلالات اللفظية، قال السبزواري في منظومته:

دلالة اللفظ بدت مطابقة حيث على تمام معنى وافقه

و ما على الجزء تضمناً وسم و خارج المعنى، التزام، إن لزم(1)

و في مقابلهم علماء البيان حيث جعلوا كلتا الدلالتين) التضمنية و الالتزامية (من الدلالات العقلية فلاحظ.(2)

و أمّا كونها مسألة أُصولية فلوجود ملاكها فيها و هو كونها صالحة لاستنباط الحكم الشرعي منها بوقوعها كبرى للدليل، فيقال: الوضوء مقدمة، و مقدمة الواجب واجب لأجل الملازمة بين الوجوبين، فينتج:

الوضوء واجب، و منه يظهر أيضاً انّ الملازمات كلّها من المسائل الأُصولية حيث يستنبط من الملازمة، الحكمُ الشرعي.

المسألة من مبادئ الأحكام أيضاً

إنّ للفقهاء مصطلحاً خاصّاً في باب الأحكام الخمسة باسم مبادئ الأحكام، و يراد بها ما يبحث عن عوارض الأحكام الخمسة من ملازماتها

ص:419


1- - شرح المنظومة، قسم المنطق: 13.
2- - لاحظ مفتاح العلوم للسكاكي: 140 141.

و معانداتها إلى غير ذلك ممّا يمكن أن يعرض الحكم الشرعي بما هو هو، مثلاً يقال: وجوب الشيء يلازم وجوب مقدمته، أو وجوب الشيء يلازم حرمة ضدّه، هذا في باب الملازمة، و أمّا المعاندة فيقال وجوب الشيء يعاند حرمته فلا يمكن أن يكون شيء واحد واجباً و حراماً، و لأجل ذلك منعوا من اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد و لو بعنوانين، و هذا مصطلح خاص بالفقهاء حول الأحكام الخمسة.

و على ضوء ذلك ذهب سيد مشايخنا المحقّق البروجردي إلى أنّ هذه المسألة من مبادئ الأحكام، قائلاً: بأنّ القدماء كانوا يبحثون عن معاندات الأحكام و ملازماتها و يسمّونها بالمبادئ الأحكامية، و منها هذه المسألة، و المراد منها المسائل التي تكون محمولاتها من عوارض الأحكام التكليفية أو الوضعية من التلازم و التضاد.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لا مانع من أن تكون مسألة واحدة من مبادئ الأحكام في علم، و من المسائل في علم آخر، نظير المقام فانّه بالنسبة إلى علم الفقه يعد من مبادئ الأحكام، و بالنسبة إلى أُصول الفقه يعدّ من المسائل.

ثمّ إنّ صاحب المحاضرات ردّ على كون المسألة من مبادئ الأحكام بقوله: إنّ المبادئ لا تخلو إمّا أن تكون تصوّرية أو تصديقية و لا ثالث لهما، و المبادئ التصوّرية هي لحاظ ذات الموضوع و المحمول و ذاتياتهما في كلّ علم، و من البديهي أنّ البحث عن مسألة مقدّمة الواجب لا يرجع إلى ذلك، و المبادئ التصديقية هي المقدّمات التي يتوقّف عليها تشكيل القياس، و منها المسائل الأُصولية، فانّها مبادئ تصديقية بالإضافة إلى المسائل الفقهية.

ثمّ قال: و لا نعقل المبادئ الأحكامية في مقابل المبادئ التصوّرية

ص:420


1- - نهاية الأُصول: 1/142.

و التصديقية. نعم قد يكون الحكم موضوعاً فيبحث عن حالاته و آثاره إلاّ أنّه داخل في المبادئ التصديقية و ليس شيئاً آخر في مقابلاتها، كما أنّ تصوّر الحكم بذاته و ذاتياته داخل في المبادئ التصوّرية.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ مبادئ الأحكام من فروع المبادئ التصوّرية فانّها تتلخص في الأُمور التالية:

1. تصوّر الموضوع بذاته و ذاتياته و لازمه و معانده.

2. تصوّر المحمول بذاته و ذاتياته و لازمه و معانده.

3. تعريف العلم على وجه الإجمال.

4. بيان الغرض من العلم.

فالفقيه في الفقه يبحث عن أفعال المكلّفين التي هي الموضوع، و يعرضها الأحكام الخمسة التي هي المحمول، فيبحث عن ذات الحكم كالوجوب، و ذاتياته كجنسه و فصله، فيقال: الوجوب هو الطلب المانع من الترك، و لازمه، و يقال: إيجاب الشيء يلازم إيجاب مقدمته و حرمة ضده، و معانده و هو امتناع كون شيء واحد واجباً و حراماً، فمبادئ الأحكام ليست إلاّ جزءاً من المبادئ التصوّرية.

و بذلك يظهر ضعف ما جاء في آخر كلامه من أنّه» يكون الحكم موضوعاً فيبحث عن حالاته و آثاره إلاّ أنّه في الحقيقة داخل في المبادئ التصديقية «لما عرفت من أنّه داخل في المبادئ التصوّرية، فذات الحكم و ذاتياته و لوازمه و معانداته كلّها مبادئ تصوّرية للأحكام التي هي محمولات في الفقه على أفعال المكلّفين.

ثمّ إنّ سيد مشايخنا المحقّق البروجردي ذهب إلى عدم كون المسألة أُصولية

ص:421


1- - المحاضرات: 2/295.

قائلاً: بأنّ الموضوع لعلم الأُصول هو الحجّة في الفقه، و البحث عن تعيناتها و تشخّصاتها بخبر الواحد و غيره من مسائلها، و أمّا المقام فمحط النظر في المسألة هو إثبات الملازمة أو نفيها لا الحجّية.

و بعبارة أُخرى: بعد ثبوت الملازمة لا معنى للبحث عن الحجّية، لأنّ وجود أحد المتلازمين حجّة على الآخر، و مع عدمها لا معنى لحجيّة وجوب شيء على وجوب شيء آخر بالضرورة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المحمول في عامّة المسائل الأُصولية هو البحث عن تعيّن الحجّية بموضوع المسألة، غاية الأمر تارة يكون المحمول نفس الحجّية، فيقال: خبر الواحد حجّة، و أُخرى يكون المحمول أمراً غير الحجّية لكن يكون مرجعه إليها، مثلاً، نقول:

هل الأمر يدلّ على الفور أو التراخي؟ أو انّ الأمر يدلّ على المرّة و التكرار؟ فالمحمول في تينك المسألتين و نظائرها أمر غير الحجّية، لكن يرجع الكلام إلى البحث عن وجود الحجّة للفقيه على كون الواجب فوريّاً أو غير فوري أو واجباً مرة أو غير مرة، و قد عرفت في صدر الكتاب أنّ الفقيه يعلم أنّ بينه و بين ربّه حججاً شرعية في بيان الواجبات و المحرّمات، فيبحث في علم الأُصول عن تشخّص تلك الحجج الكلية في موضوع خاص و هو كون الأمر حجّة على الوجوب إذا كان دالاً على الوجوب، و حجّة على الفور و التراخي إذا كان موضوعاً لهما، و حجّة على المرّة و التكرار إذا كان موضوعاً لهما، فروح البحث في الجميع هو البحث عن وجود الحجّة على أحد هذه الأُمور.

ص:422


1- - نهاية الأُصول: 1/142.

و منه يعلم حكم المقام فانّ البحث عن وجود الملازمة و عدمها لغاية تحصيل الحجّة على وجوب المقدمة و عدم وجوبها، فإثبات الملازمة أمر طريقي لإثبات وجوب المقدمة الخاصّة كالوضوء و عدم وجوبها، و بذلك يعلم أنّ مرجع أكثر ما يبحث في مباحث الألفاظ الذي يتراءى فيها كون المحمول أمراً غير الحجّة إلى تحصيل الحجّة على أحد الطريقين، كما عرفت.

الأمر الثالث: تقسيمات المقدّمة

اشارة

تنقسم المقدّمة إلى أقسام كثيرة نبحث فيها على وجه التفصيل.

التقسيم الأوّل: تقسيمها إلى داخلية و خارجية.
اشارة

(1)

أمّا الداخلية ففيها اصطلاحان:

الداخلية بالمعنى الأخص

قد تطلق الداخلية و يراد بها ما يكون القيد و التقيّد داخلين في ماهية الواجب، كالأجزاء، فذات الركوع و اتّصاف الصلاة به داخلان في ماهية الصلاة، و على ذلك فيخرج كلّ من الشرط، و عدم المانع، و المعد، عن كونها مقدمة داخلية لأنّ ذواتها خارجية عن الواجب و انّما الداخل فيها هو تقيّد الصلاة بها، و هذا ما يطلق عليه» الداخلية بالمعنى الأخص «.

الداخلية بالمعنى الأعم

و قد تطلق الداخلية على ما إذا كان التقيّد داخلاً في ماهية الواجب، سواء أ كان القيد داخلاً أم خارجاً، و على ذلك فلا شكّ انّ الشرط و عدم المانع و المعد داخلة في المقدمة الداخلية و هذا ما يطلق عليه» الداخلية بالمعنى الأعم «.

ص:423


1- - و يأتي التقسيم الثاني ص 434 من هذا الجزء.

و بما أنّه يشترط بين المقدمة و ذيها التعدّد و الاثنينية فيكون وجود الشرط و عدم المانع و المعد داخلاً في محط النزاع لوجود الملاك فيها، لأنّ الشرط غير المشروط، و هكذا المعد غير المعدّ له، إنّما الكلام في دخول الأجزاء في محط النزاع و ذلك لأجل عدم ملاك البحث فيها أعني الاثنينية، حيث إنّ الأجزاء نفس الكلّ، و تفصيل الكلام يتوقّف على البحث في الأُمور التالية:

1. هل يصحّ وصف الأجزاء بالمقدمية؟ 2. إذا صحّ الوصف، هل هناك ملاك لعروض الوجوب الغيري على الأجزاء؟ 3. و على فرض وجود الملاك هل هناك مانع من وصف الأجزاء بالوجوب الغيري؟ فهذه أُمور ثلاثة لا بدّ من دراستها واحداً بعد الآخر في مقامات ثلاثة:

المقام الأوّل: في صحّة عدّ الأجزاء مقدمة

إنّ أوّل من طرح هذه المسألة هو الشيخ محمد تقي الاصفهاني مؤلف كتاب» هداية المسترشدين «في شرح معالم الدين، و يُعد المؤلف من نوابغ هذا العلم، فقد ذهب إلى عدم صحّة وصف الأجزاء بالمقدّمية، لأنّ الأجزاء ليست إلاّ نفس الشيء و ليس بين الأجزاء و الكلّ، تعدد و مغايرة.

و بعبارة أُخرى: المقدّمة تطلق على ما يقع في طريق وجود الشيء، و الشيء لا يمكن أن يقع في طريق نفسه.

هذا هو الإشكال الذي أثاره ذلك المحقّق، و لا يذهب عليك أنّه جعل المقدمة» الأجزاء «، و كأنّ هناك مقدمة واحدة باسم الاجزاء فرتب عليها أنّها عين الكلّ.

و قد سلك هذا الطريق المحقّق الخراساني فجعل المقدمة الاجزاء لكنّه

ص:424

تخلّص عن الإشكال بوجه سيوافيك.

و أمّا الشيخ الأنصاري فقد جعل المقدّمة نفس الجزء، و لكنّه تخلّص عن الإشكال بوجه غير صحيح.

و أمّا المحقّق البروجردي و تبعه السيد الإمام قدّس سرّهما فقد جعل المقدّمة كلّ جزء جزء على حدة، فصار هناك بعدد الأجزاء مقدمة، و عندئذ تخلّص عن الإشكال بوجه صحيح كما سيوافيك.

إذا عرفت ذلك فقد أجيب عن الإشكال بوجوه:

الأوّل: جواب الشيخ الأعظم

ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ الجزء له لحاظان:

الأوّل: لحاظ الجزء بشرط لا، و هو في هذا النظر مقدمة.

الثاني: لحاظ الجزء» لا بشرط «و معنى» لا بشرط «انّه يجتمع مع كلّ شرط، و من الشروط هو لحاظ الجزء منضمّاً مع سائر الأجزاء، فالجزء في هذا اللحاظ يكون عين الكلّ و لا يعد مقدمة، و إليك نصّ كلامه:

إنّ الجزء له اعتباران:

أحدهما: اعتباره» لا بشرط «، و هو بهذا الاعتبار عين الكلّ، و متّحد معه، إذ لا ينافي ذلك انضمامَ سائر الأجزاء إليه، فيصير مركباً منها، و يكون هو الكلّ.

و ثانيهما: اعتباره بشرط لا، و هو بهذا الاعتبار يغاير الكلّ.(1)

يلاحظ عليه: أنّ كلا اللحاظين غير تامّين:

أمّا لحاظ الجزء كالركوع» بشرط لا «فهو و إن كان يحدث المغايرة بين الجزء

ص:425


1- - مطارح الأنظار، ص 40، السطر الرابع.

و الكلّ، لكنّه يخرجه عن المقدّمية، لأنّ المقدمية ما يكون في خدمة ذيها، فإذا لوحظ الجزء بشرط لا فمعنى ذلك أنّ الجزء لوحظ منفصلاً عن كلّ شيء، و أن لا يكون معه شيء آخر فالجزء في هذا اللحاظ لا يجتمع مع الكلّ، و معه كيف يكون مقدمة له بمعنى كونه جزءاً للمركب؟! و أمّا لحاظ الجزء على نحو اللابشرط فلحاظه بهذا المعنى لا يجعله عين الكلّ في عامّة الشرائط، و ذلك لأنّ اللابشرط يجتمع مع ألف شرط، فكما أنّ من الشروط الانضمام فلحاظ الجزء في هذه الحالة يجعله عين الكلّ، لكن من الشروط أيضاً الوحدة و التجرّد، فالجزء الموصوف لا بشرط عند لحاظ الوحدة، يخرجه عن كونه عين الكلّ.

الثاني: جواب المحقّق الخراساني

قد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المقدّمة هي الأجزاء بالأسر(1)) مكان قول الشيخ الذي جعل المقدمة كلّ جزء جزء، فعلى مبنى الخراساني ليس هنا إلاّ مقدمة واحدة، بخلاف جواب الشيخ فانّ هنا مقدمات حسب تعدد الأجزاء (قال ما هذا حاصله:

إنّ المقدمة هي نفس الأجزاء بالأسر، و ذا المقدمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع، فتحصل المغايرة بينهما، و على ذلك يلزم في اعتبار الجزئية، أخذ الأجزاء لا بشرط، كما أنّه لا بدّ في اعتبار الكلية من أخذه بشرط الاجتماع.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الحلّ المزبور، مبنيّ على أنّ هنا مقدمة واحدة بمعنى الأجزاء، تلاحظ تارة امّا لا بشرط، و أُخرى بشرط شيء، لكنّه ليس بتام، بل هناك

ص:426


1- - بالأسر: أي برمّته و جميعه.
2- - كفاية الأُصول: 1/140.

مقدمات حسب تعدد الاجزاء و معه يحصل التغاير بين المقدمة و ذيها من دون حاجة إلى اللحاظين المذكورين و سيوافيك تفصيله.

الثالث: جواب المحقّق البروجردي

إنّ منشأ الإشكال في المقدّمة الداخلية هو تخيّل أنّ هناك مقدّمة واحدة باسم الأجزاء فأُثير الإشكال و هو أنّه عين الكلّ فكيف توصف بالمقدّمية؟ و يندفع بأنّه ليست هنا مقدمة واحدة حتّى يترتب عليه الاشكال، بل هناك مقدّمات حسب تعدد الأجزاء، فلو كانت الصلاة ملتئمة من أجزاء عشرة، فهناك عشر مقدمات في كلّ واحد ملاك المقدمية، و هو توقّف الكلّ عليه، و من المعلوم أنّ الجزء بما هو جزء غير الكل، و الفرق بينها واضح جدّاً.

و إن شئت فقس الإرادة الآمرية بالإرادة الفاعلية، فكما أنّ الإنسان المريد لتحضير مركّب من مواد متعددة تتعلق ارادته بتحضير كلّ واحد واحد من أجزاء المركّب، فهكذا إرادته الآمرية تتعلق بتحضير المأمور كلّ جزء من هذا المركب حتى تتشكل أجزاؤه، فتحضير المركّب رهن تحضير كلّ جزء، ففي كلّ جزء ملاك المقدمة، و ملاك تعلّق الإرادة الفاعلية و الآمرية.

و بذلك تقف على ضعف كلام المحقّق الخراساني فانّه تصوّر أنّ هنا مقدمة واحدة و هي الأجزاء بالأسر، فصار بصدد تصحيح المغايرة بين المقدّمة و ذيها بجعل المقدّمة لا بشرط و ذيها بشرط شيء.

و أمّا على هذا المبنى فالمقدّمة نفس الجزء، و هو يغاير الكلّ جوهراً، من دون حاجة إلى تصوير المغايرة بلحاظ اللابشرطية و بشرط شيء.

ص:427

الرابع: جواب المحقّق الخوئي

ذكر صاحب المحاضرات جواباً رابعاً، و هذا حاصله: انّ المقدّمة قد تطلق و يراد بها ما يكون وجوده في الخارج غير وجود ذيه، بأن يكون هناك وجودان. و قد تطلق و يراد بها مطلق ما يتوقف عليه وجود الشيء، و إن لم يكن وجوده في الخارج غير وجود ذيه.

أمّا المقدّمة بالإطلاق الأوّل، فلا تصدق على الأجزاء، بداهة أنّ وجود الاجزاء ليس مغايراً لوجود الكلّ، بل وجوده عين وجود أجزائه بالأسر، و التغاير لحاظاً لا يثبت التغاير الخارجي.

و أمّا المقدمة بالإطلاق الثاني فتشمل الأجزاء أيضاً، لوضوح أنّ وجود الكلّ يتوقّف على وجود أجزائه، و أمّا وجودها فلا يتوقّف على وجوده. و ذلك كالواحد بالنسبة إلى الاثنين، فانّ وجود الاثنين يتوقّف على وجود الواحد دون العكس.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ كلامه فاقد للانسجام، فانّه عند ما يعرّف الجزء بأنّه نفس الكلّ يأخذ الأجزاء موضوعاً لكلامه و يقول بداهة انّ وجود الأجزاء ليس مغايراً للكل.

و عند ما يحاول إثبات المغايرة يأخذ الجزء موضوعاً لكلامه فيقول: بأنّ الاثنين يتوقّف على الواحد.

و لو انّه اكتفى بالشق الثاني من كلامه الذي اهتم فيه بإثبات المغايرة من خلال أنّ الجزء غير الكلّ لحصل المطلوب من دون حاجة إلى ما ذكره في صدر كلامه.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل.

ص:428


1- - المحاضرات: 2982/297.
المقام الثاني: في وجود الملاك لوصف الأجزاء بالوجوب المقدّمي

قد عرفت أنّ في الأجزاء ملاك المقدمية، فهل يمكن وصفها بالوجوب الغيري أو لا؟ ذهب صاحب الكفاية في هامش كتابه إلى عدمه، قائلاً بأنّه ليس فيها ملاك الوجوب الغيري، حيث إنّه لا وجود لها غير وجودها في ضمن الكلّ حتى يتوقف على وجودها، و بدون التوقّف لا وجه لعروض الوجوب عليها أصلاً.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره مبني على أنّ هنا مقدمة واحدة باسم الأجزاء بالأسر، و بما أنّها نفس الكلّ لا توصف بالوجوب الغيري وراء الوجوب النفسي، و أمّا على ما قلناه من أنّه هنا مقدمات حسب تعدد الأجزاء، فملاك الوجوب موجود في كلّ جزء، لأنّ الجزء غير الكلّ عنواناً و تحقّقاً.

المقام الثالث: في وجود المانع عن تعلّق الوجوب

إذا ثبت وجود المقتضي للوجوب بالبيان الذي مرّ، فهل هنا مانع عن عروض الوجوب الغيري على الأجزاء أو لا؟ و المانع المتخيل هو اجتماع المثلين.

ذهب المحقّق الخراساني إلى وجود المانع قائلاً: ما هذا تفصيله.

إنّ الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتاً، و إن كانت المغايرة بينهما اعتباراً، فتكون واجبة بعين وجوبه، و مبعوثاً إليها بنفس الأمر الباعث إليه، فلا تكون واجبة بوجوب آخر، لامتناع اجتماع المثلين.

يلاحظ عليه: بأنّ أساس الإشكال تخيل انّ المقدّمة عبارة عن الاجزاء

ص:429


1- - كفاية الأُصول: 1/141، ط المشكيني، قسم الهامش.

برمتها مقدمة واحدة، فصار ذلك سبباً لتوهم اجتماع وجوبين متماثلين أحدهما غيري و الآخر نفسي.

و أمّا على ما قلنا من أنّ هناك مقدّمات لا مقدّمة واحدة، فمعروض الوجوب الغيري هو الجزء، و معروض الوجوب النفسي هو الكل، فالموضوعان متغايران.

و بذلك يظهر الاستغناء عن بقية كلام المحقّق الخراساني حيث طرح إشكالاً و أجاب عنه فانّهما مبنيان على مختاره من أنّ المقدمة هي الاجزاء، و على ما ذكرنا من أنّ المقدمة هي الجزء فالإشكال و الجواب ساقطان من رأس.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني حاول أن يجيب عن اجتماع المثلين بالبيان التالي، و حاصله: انّ اجتماع الحكمين المذكورين في شيء واحد، لا يؤدي إلى اجتماع المثلين، بل يؤدي إلى اندكاك أحدهما في الآخر، فيصيران حكماً واحداً مؤكداً، كما في كلّ واجب نفسي وقع مقدمة لواجب آخر، كصلاة الظهر بالاضافة إلى صلاة العصر، حيث إنّها واجب نفسي و في الوقت نفسه واجب غيري باعتبار كونها مقدمة لصلاة العصر، و مثله ما لو نذر إقامة النافلة في المسجد، فالوجوب الآتي من قبل النذر يندك في الاستحباب النفسي.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ الاندكاك فرع إمكان التعلّق، فإذا كان التعلّق غير ممكن لاستلزامه اجتماع المثلين فلا تصل النوبة إلى الاندكاك.

و بعبارة أُخرى: الاندكاك مرحلة العلاج، فلا بدّ من تصحيح الاجتماع أوّلاً ثم معالجته.

ثانياً: ما ذكره من الأمثلة ليس فيها أي اندكاك.

ص:430


1- - المحاضرات: 3012/299. لاحظ أجود التقريرات: 1/216.

فانّ الأمر النفسي تعلّق بالظهر، و الأمر الغيري تعلّق بتقدّم الظهر على العصر، فليس هناك اجتماع في موضوع واحد حتّى يندك أحدهما في الآخر.

و منه يظهر حال النذر فإذا نذر إقامة النافلة في المسجد، فالوجوب النفسي تعلّق بنفس الصلاة، و الوجوب الآتي من قِبل النذر تعلّق بالوفاء للنذر، فالموضوعان متغايران حاملان لحكمين متماثلين.

نعم الصلاة في المسجد مصداق لكلا العنوانين الواجبين، و لا يلزم اجتماع الأمرين فيها، لأنّ الأحكام تتعلّق بالعناوين لا بالمصاديق.

نعم يعد المصداق طاعة للواجب لا نفس الواجب.

الغناء عن الوجوب الغيري للإجزاء

و يمكن أن يقال: انّا و إن صححنا ملاك المقدمية و ملاك تعلّق الوجوب و عدم المانع من تعلّقه، لكن المولى في غنى عن إيجاب الأجزاء الداخلية بعد إيجابها نفسياً، و ذلك لأنّ الأمر الداعي إلى الكل يدعو إلى كلّ جزء جزء، و معه يكون إيجاب الجزء أمراً لغواً و عبثاً لا فائدة فيه، و يظهر ذلك بالإمعان في الإرادة الفاعلية فان إرادة إيجاد الكلّ يبعث الإنسان إلى المقدمة الخارجية إيجاد الجزء من دون حاجة إلى إرادة ثانوية متعلّقة بالجزء، فإذا كان هذا حال الإرادة الفاعلية يكون حال الإرادة الآمرية مثلها، فأمر المولى بالكل و بعث العبد إليه يغنيه عن تعلّق بعث و وجوب إلى كلّ جزء جزء، فإنّ الإيجاب الأوّل يبعثه إلى الكلّ كما يبعثه إلى الجزء.

فقد ظهر من ذلك عدم الحاجة إلى إيجاب المقدمات الداخلية إيجاباً غيرياً وراء الإيجاب النفسي المتعلّق بالكل.

ص:431

هذا كلّه حول المقدمة الداخلية، أي المقدمة التي هي داخلة في ذيها، و ليس لها وجود غير ذيها، و إليك الكلام في المقدمة الخارجية.

المقدمة الخارجية

تنقسم إلى مقدمة خارجية بالمعنى الأخص، و خارجية بالمعنى الأعم، أمّا الأوّل فهي ما يكون القيد و التقيّد كلاهما خارجين عن الواجب، و يمثل لها بالمكان، فانّ المكان ليس جزءاً من الواجب، بل هو خارج عنه قيداً و تقيّداً، لكنّها متوقفة عليه.

و أمّا الثاني ما يكون القيد خارجاً سواء كان التقيّد أيضاً خارجاً كالمكان أو كان التقيّد داخلاً، كطهارة البدن، و طهارة الثوب، و استقبال القبلة، و الطهارة من الحدث، فانّها بوجوداتها الخارجية خارجة عن الصلاة، لكن تقيّد الصلاة بها داخلة فيها.

و على ضوء هذا فالمقدمة الداخلية بالمعنى الأعمّ هي خارجية أيضاً بالمعنى الأعم.

إذا عرفت ذلك فقد اختلفت كلماتهم في وجوب المقدمة الخارجية إلى أقوال:

1. التفصيل بين السبب و الشرط، فالأوّل واجب دون الثاني، و هو المحكي عن السيد المرتضى، و لكن صاحب المعالم أمعن في كلامه و قال: بأنّ النسبة في غير محلّها، بل هو يريد أنّ وجوب الواجب لا يمكن أن يكون مشروطاً بالنسبة إلى سببه لاستلزامه طلب الحاصل، بخلاف غيره من المقدمات، فان وجوبه بالنسبة إليها يمكن أن يكون على قسمين: مطلق و مشروط.

ص:432

2. الواجب النفسي هو السبب و إن كان الوجوب في الظاهر متعلقاً بالمسبب لكونه هو المقدور دون المسبب.

و الإجابة عنه واضحة، لكون المسبب أيضاً مقدوراً، بالقدرة على سببه.

3. التفصيل بين ما يكون وجود أحدهما مغايراً لوجود الآخر في الخارج، كشرب الماء و رفع العطش، و ما يكون عنوانين لموجود واحد، مثل الإلقاء في النار و الإحراق، و الغسل و التطهير، ففي مثل ذلك يمتنع وجود وجوبين، دون القسم الأوّل، لاستلزامه اجتماع المثلين في مورد واحد.(1)

يلاحظ عليه: كيف يتصوّر العلية و المعلولية في القسم الثاني الذي يكون العنوانان متّحدين في الوجود، فانّ وزان العلة وزان التأثير، و وزان المعلول وزان التأثر، فكيف يمكن أن يتحد المؤثر و المتأثر وجوداً و مع ذلك يطلق عليهما العلة و المعلول؟ على أنّ المثال المذكور لا ينطبق على الضابطة لتغاير الإلقاء و الإحراق وجوداً، و الغسل و التطهير الشرعي تحقّقاً.

و على كلّ تقدير فالملاك في هذا التقسيم تقسيم المقدمة بذاتها و نفسها، و هي إمّا داخلة في المأمور به أو خارجة عنها.

ص:433


1- - لاحظ أجود التقريرات: 1/219.
التقسيم الثانيتقسيمها إلى عقلية و شرعية و عادية

(1)

و ملاك هذا التقسيم هو الحاكم بالمقدمية، فتارة يحكم العقل بأنّه مقدمة كمقدمية العلّة للمعلول، و يسمّى مقدمة عقلية; و أُخرى يحكم الشرع بأنّه مقدمة كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة فيكون مقدمة شرعية; و ثالثة تحكم العادة بأنّها مقدمة فتكون المقدمة عادية، فملاك التقسيم في المقام غير ملاكه فيما مضى حيث كان الملاك في التقسيم السابق لحاظ المقدمة بنفسها و ذاتها بالنسبة إلى المأمور به، و هناك لحاظ المقدمة بالنسبة إلى الحاكم بأنّه مقدمة.

و قد أورد على هذا التقسيم ما هذا توضيحه:

1. انّ الثانية ترجع إلى الأولى، لأنّ امتناع المشروط بدون شرطه بعد أخذه فيه من جانب الشارع عقلي.

2. انّ العادية لو أُريد بها ما يكون التوقّف عليها حسب العادة بحيث يمكن تحقّقها بدونها) واقعاً و فعلاً ( إلاّ أنّ العادة جرت على الإتيان به بواسطتها) و هذا كالسيارة بالنسبة إلى الخيل، فانّ العادة جرت في هذه الأيام على الاستفادة من الأُولى دون الثاني، و لكن الوصول إلى المقصد لا يتوقّف على السيارة لا واقعاً و لا فعلاً (و هي و إن كانت غير راجعة إلى العقلية إلاّ أنّه

ص:434


1- - مرّ التقسيم الأوّل، ص 423.

خارج عن محلّ النزاع.

و إن كانت بمعنى أنّ التوقّف عليها و إن كان فعلاً واقعياً كنصب السلّم و نحوه للصعود إلى السطح، إلاّ أنّه لأجل عدم التمكّن من الأسباب الأُخرى كالطيران و الإعجاز، لكنّها عندئذ راجعة إلى العقلية لتعيّن الاستفادة من هذه المقدمة عقلاً بعد فقدان القسمين الآخرين.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ ما ذكره من أنّ الشرعية داخلة في العقلية، و إن كان صحيحاً، لكنّه لا ينافي ذلك التقسيم، لأنّ محور التقسيم في المقام هو الحاكم، و انّه إمّا العقل أو الشرع أو العادة، و هذا لا ينافي أن تدخل المقدّمة الشرعية بعد حكم الحاكم في المقدّمة العقلية فانّ الكلام في المقام في التقسيم قبل الحكم لا بعد ما حكم، و دخول إحداهما في الأُخرى إنّما يتحقّق بعد الحكم.

ثانياً: أنّ المراد من المقدّمة العادية هو ما احتمله أوّلاً، أي ما يكون هناك أسباب متعددة لتحصيل ذيها لكن جرت العادة على الاستفادة بمقدمة خاصّة، و هذا كالوصول إلى المقصد، فهناك أسباب كالسيارة و الخيل و لكن جرت العادة على الأُولى غالباً، و ما ذكر من أنّه ليس موضع النزاع لا ينافي التقسيم، لأنّ التقسيم يدور مدار الحاكم لا على مدار كونه موضع النزاع أو لا.

ثمّ إنّ صاحب المحاضرات أورد على هذا التقسيم بقوله:

إنّ الشرعية هي المقدمة الداخلية بالمعنى الأعم، و العقلية هي الخارجية بالمعنى الأخص.(2)

و ما ذكره و إن كان صحيحاً، لكن ملاك التقسيم هو الحاكم، فلا مانع من أن يقسم المقدمة بلحاظ إلى الداخلية و الخارجية، و بلحاظ آخر إلى الشرعية و العقلية.

ص:435


1- - الكفاية: 1/143.
2- - المحاضرات: 2/303.
التقسيم الثالث تقسيمها إلى مقدمة الوجود و الصحّة و...

المقدمة بالنسبة إلى ذيها تارة تكون مقدمة لوجود ذي المقدمة كالأجزاء بالنسبة إلى الكل، و أُخرى مقدمة لصحتها كما في الشرائط بالنسبة إلى الصلاة على القول بكونها اسماً للأعم.

و ثالثة مقدمة لوجوب ذيها كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ، و رابعة مقدمة للعلم بها كالصلاة إلى الجوانب الأربع. و ملاك التقسيم هو دور المقدمة بالنسبة إلى ذيها.

و قد أورد المحقّق الخراساني على هذا التقسيم بأُمور:

1. انّ مقدمة الصحّة ترجع إلى مقدمة الوجود، أمّا إذا قلنا بأنّ ألفاظ العبادات أسام للصحيح منها فواضح، و أمّا على القول بأنّها موضوعة للأعم، فهي و إن كانت لا ترجع إلى مقدمة الوجود لكن لمّا كان الواجب هو الصحيح من الصلاة لكون المأمور به هو الصحيح تكون مقدمة وجودية للواجب، و البحث في مقدمة الواجب لا في مقدمة المسمّى.

2. انّ مقدّمة الوجوب خارجة عن محلّ البحث، لأنّه لولاها لما اتصف الواجب بالوجوب، فكيف تتصف بالوجوب من قبل الواجب المشروط وجوبه بها.

ص:436

3. انّ المقدمة العلمية كالصلاة إلى أربع جهات، ممّا يحكم بها العقل إرشاداً ليؤمن من العقاب لا من باب الملازمة بين وجوبها و وجوب ذيها، فانّ ملاك الملازمة هو التوقّف و هو منتف في المقام.(1)

أقول: أمّا الإشكال الأوّل فهو و إن كان متيناً لرجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود، و لا يمكن تفكيكها عنه، لكن ما ذكره من الإشكالين الأخيرين غير تامّين، لأنّ محور التقسيم ليس كون الشيء موضعاً للنزاع و عدمه، بل ملاك التقسيم اختلاف دور المقدّمة بالنسبة إلى ذيها و انّها امّا مقدّمة وجودية أو مقدّمة وجوبية أو مقدّمة علمية.

ص:437


1- - كفاية الأُصول: 1/144.
التقسيم الرابع تقسيمها إلى السبب و الشرط و المعدّ و عدم المانع
اشارة

و ملاك التقسيم هو اختلاف كيفية تأثير السبب و الشرط و المعدّ في ذي المقدمة، و إليك تعاريفها:

1. عرّفوا السبب:

ما يكون منه وجود المسبب، و يتوقّف عليه وجوده.(1)

و التعريف ينطبق على المقتضي الذي هو جزء العلّة التامة كالنار بالنسبة إلى احتراق الحطب، فانّ وجود الاحتراق من النار، و لكنّها ليست علّة تامّة لوضوح انّ الاحتراق رهن أُمور أُخرى، كيبوسة الحطب و تحقّق المحاذاة بينهما و عدم المانع إلى غير ذلك من الشروط.

و ربما يُعرّف: ما يلزم من وجوده وجود المسبب و من عدمه عدمه، و السبب بهذا المعنى ينطبق على العلّة التامة و لعلّ تعريفه به نظراً إلى إطلاق السبب في لسان الفقهاء على الأُمور التالية التي أشبه بالعلّة التامة.

كصيغة العتق بالنسبة إلى العتق الواجب، و الوضوء و الغسل بالنسبة إلى الطهارة عن الحدث، و الغَسْل بالنسبة إلى إزالة الخبث، و النظر، المحصل للعلم الواجب و قطع الرقبة، المحقّق للواجب.

ص:438


1- - قوانين الأُصول: 1/100.
2. عرّفوا الشرط:

ما يلزم من عدمه عدم المشروط و لا يلزم من وجوده وجوده، و ذلك كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة و نصب السلّم بالنسبة إلى الكون على السطح.(1)

و لكن الأولى أن يعرف:

ما يكون مكملاً لفاعلية الفاعل و مؤثراً في قابلية القابل كيبوسة الحطب بالنسبة إلى إحراق النار.

3. عرّفوا المعدّ:

ما يُقرِّب العلة من المعلول كارتقاء السلّم، فانّ صعود درجة يُهيئ الفاعل إلى الصعود إلى درجة أُخرى.

و كأنّ الشرط و المعد من سنخ واحد و الجامع بينهما هو إفاضة القابلية، فلو كانت الإفاضة شيئاً فشيئاً فهو معد و إلاّ فهو شرط، فيكون المعدّ من أقسام الشرط بالمعنى الجامع.

4. عرّفوا المانع:

ما لا يلزم من عدمه عدم شيء بل يلزم من وجوده عدم شيء.(2)

إنّ حقيقة المانعيّة ترجع إلى وجود التضاد بين المانع و بين الشيء، فعبروا عن التضاد و التمانع بين الشيئين بأنّ عدم المانع شرط، و من المعلوم انّ العدم أنزل من أن يكون جزءاً للعلّة و مؤثراً في المعلول.

يقول الحكيم السبزواري:

لا ميز في الاعدام من حيث العدم و هو لها إذاً بوهم يرتسم

كذاك في الاعدام لا علية و إن بها فاهوا فتقريبية(3)

ص:439


1- - قوانين الأُصول: 1/100.
2- - قوانين الأُصول: 1/100.
3- - شرح المنظومة للحكيم السبزواري: 42.
التقسيم الخامس تقسيمها إلى متقدمة و مقارنة و متأخرة
اشارة

قد عرفت أنّ لكلّ تقسيم من تقسيمات المقدمة ملاكاً خاصّاً، و الملاك في هذا التقسيم هو الزمان، فتارة تكون المقدمة، متقدمة في الزمان على ذيها، و أُخرى مقارنة، و ثالثة متأخرة عنه في الوجود.

و الذي دعاهم إلى هذا التقسيم وجود الأقسام الثلاثة في الفقه، و إليك أمثلتها:

1. قسّم الفقهاء الوصيةَ إلى تمليكية و عهدية و فكية، فالأوّل كما إذا أوصى بتمليك شيء للموصى له، و الثاني كما إذا أوصى بأن يحج عنه، و الثالث كما إذا أوصى أن يفك عنه عبده.

فإذا أوصى بتمليك شيء من تركته لزيد فالوصية شرط متقدّم على الملكية، و الملكية تحصل بعد قبول الموصى له.

2. اتّفق الفقهاء على أنّ العقل و البلوغ شرطان لعامّة التكاليف فهما من الشرائط المقارنة.

3. اتّفقوا على أنّ صوم المستحاضة في اليوم الذي تصوم محكوم في يومها بالصحة مع تأخر شرطها، أعني: اغتسالها ليلاً، فالصحّة متقدّمة و الشرط متأخر.

ثمّ إنّهم بعد الوقوف على ذلك التقسيم وقفوا على إشكال و هو أنّ الشرط

ص:440

من أجزاء العلّة، و العلّة تكون مقارنة للمعلول وجوداً و متقدّمة عليه رتبة، فإذا كان هذا حال العلّة، و كان الشرط على وجه الإطلاق جزءاً للعلة، فكيف ينقسم الشرط بالنسبة إلى المعلول إلى أقسام ثلاثة متقدم، مقارن، متأخر؟ و لأجل رفع الإشكال نبحث في مقامات ثلاثة:

الأوّل: في شرائط المأمور به.

الثاني: في شرائط التكليف.

الثالث: في شرائط الوضع.

فانّ الشرط لا يخلو من الأقسام الثلاثة، و إليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر.

***

المقام الأوّل: شرط المأمور به

تنقسم شرائط المأمور به إلى متقدّم على الواجب، كالغسل و الوضوء، إذا قلنا بشرطية نفس الأعمال الخارجية للواجب، و مقارن، كالستر و الاستقبال، و متأخر كما إذا أمر بالصوم نهاراً مقيّداً إياه بالاغتسال ليلاً.

و الجواب: انّ لشرط المستعمل في المقام غير الشرط الفلسفي، فانّ الثاني عبارة عمّا يكون مكملاً لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل، فالأوّل كالمحاذاة للنار فلولا المحاذاة لم تؤثر النار في إحراق القطن، و الثاني كيبوسة الحطب فلولاها لم يحترق بسهولة.

هذا هو الشرط الفلسفي، و يجب أن يكون مقارناً مع العلّة لا متقدّماً و لا متأخراً، فالمحاذاة و اليبوسة الخارجتان عن تلك الضابطة لا تؤثران لا في فاعلية الفاعل، و لا في قابلية القابل.

ص:441

و أمّا الشرط المستعمل في المقام فهو عبارة عمّا يكون القيد خارجاً و التقيّد داخلاً في مقابل الجزء، فانّ الثاني كالركوع يكون داخلاً في المأمور به قيداً و تقيّداً، بخلاف الوضوء فانّه يكون داخلاً تقيداً لا قيداً.

فالذي أوجد الإشكال في المقام هو اشتراك لفظ الشرط بين معنيين: أحدهما ما يستعمل في الفلسفة و الآخر ما يستعمل في الفقه، فالاشتراك اللفظي أحد أسباب المغالطة مثل قولك مشيراً إلى الباصرة هذه عين.

ثمّ مشيراً إلى نبع جار و» كلّ عين جارية «فتستنتج هذه جارية، و إنّما نشأ الخلط في أنّ المقصود من العين الأولى هي الباصرة، و من الثانية النبع الجاري، و مثله المقام.

و على ذلك فالمقصود من الشرط أي ما يكون من متعلقات المأمور به، و من المعلوم أنّ المأمور به أمر تدريجي لا دفعي، فيقدّم قسم من أجزائه و يؤخّر قسم آخر، و المتقدم و المتأخر يعد اعتباراً عملاً واحداً ذا عنوان واحد.

هذا هو حقيقة الأمر، و ممن تنبّه لهذا الجواب المحقّق النائيني حيث قال: التحقيق هو خروج شروط المأمور به عن حريم النزاع، بداهة أنّ شرطية شيء للمأمور به ليست إلاّ بمعنى أخذه قيداً في المأمور به، فكما يجوز تقييده بأمر سابق أو مقارن، يجوز تقييده بأمر لاحق أيضاً، كتقييد صوم المستحاضة بالاغتسال في الليلة اللاحقة، إذ لا يزيد الشرط بالمعنى المزبور على الجزء، الدخيل في المأمور به تقيّداً و قيداً.(1)

و بذلك نستغني عمّا ذكره المحقّق الخراساني من الجواب، لما عرفت من أنّ الإشكال غير شامل لهذه الصورة، إذ لا علّية و لا معلولية.

ص:442


1- - أجود التقريرات: 2221/221.
المقام الثاني: شرائط التكليف

إنّ شرائط التكليف على أقسام، تارة يكون متقدماً كما إذا قلت: إذا جاء زيد اليوم يجب عليك إكرامه غداً، على وجه يكون لفظة غداً قيداً للوجوب، و منه ما يكون مقارناً كالبلوغ و العقل المقارنين للوجوب، و منه ما يكون متأخراً كوجوب الحجّ في أوّل أشهر الحجّ للمستطيع مع كونه مشروطاً بدرك الوقوفين، فيقال: انّ التكليف فعل من أفعال المولى، و شرطه جزء من علل التكليف فكيف يكون متقدّماً تارة و متأخراً أُخرى مع أنّه من أجزاء العلّة التي يجب أن تكون مجتمعة في زمان و مكان واحد؟ و الجواب: انّ التكليف يطلق و يراد منه أحد المعنيين:

الأول: الايجاب و الزجر الاعتباريان الإنشائيّان.

الثاني: الإرادة الحقيقية الظاهرة في نفس المولى الباعثة إلى الإيجاب و الزجر الاعتباريين.

أمّا الأوّل: فبما انّ الأُمور الاعتبارية قائمة بنفس الاعتبار و تابعة لكيفيته فلا يحكم عليها بضوابط التكوين، فما ذكر من أنّ شرط العلة يجب أن يكون مقارناً فهو راجع إلى الشرط التكويني كالمحاذاة في يبوسة الحطب، و أمّا الخارجة عن مدار التكوين فهي تابعة لكيفية الاعتبار، فللمعتبر أن يجعل الشيء المتقدّم شرطاً للاعتبار المتأخر و بالعكس.

و أمّا الثاني: فبما انّ الإرادة الظاهرة في لوح النفس من الأُمور التكوينية فلو كان شيء شرطاً لظهور الإرادة يجب أن يكون تابعاً لضوابط التكوين بأن يكون مقارناً لعلة الإرادة لا متقدّماً و لا متأخراً عنها.

هذا هو الإشكال، و أمّا الحل فلا شكّ أنّ الصغرى) كون الإرادة من الأُمور

ص:443

التكوينية (و الكبرى لزوم اقتران شرط العلة التكوينية معها صحيح، إنّما الإشكال في تعيين ما هو الشرط للإرادة.

فالخلط حصل بين ما هو شرط في القضية اللفظية للإيجاب، و ما هو شرط للإرادة الحقيقية، ففي المثال المذكور» إن جاءك زيد اليوم يجب عليك إكرامه غداً «انّ شرط الإيجاب و إن كان هو المجيء المتقدّم على الإيجاب، لكنّه ليس شرط الإرادة بل شرطها هو تصوّر المولى في أنّ إكرام زيد غداً لأجل قدومه إلى هذا البلد مصلحة ملزمة، و هذه الصورة العلمية تصير سبباً لظهور الإرادة في ذهن المولى التي يتبعها الإيجاب.

فالمجيء المتقدّم شرط للإيجاب الاعتباري، و أمّا شرط الإرادة فهو عبارة عن الصورة العلمية للقضية الموجودة في النفس المقارنة لانقداح الإرادة، و المراد من الصورة العلمية هو علمه بوجود المصلحة في الإكرام.

و منه يظهر حال الشرط المتأخر، فانّ حياة المكلف في أيّام الحجّ و دركه الموقفين شرط للإيجاب الاعتباري للحج للمستطيع في أوائل أشهر الحجّ، و أمّا انقداح الإرادة في ذهن المولى التي يتبعها الإيجاب فشرطها عبارة عن العلم بالمصلحة في هذا النوع من العمل، و العلم بالمصلحة مقرون بانقداح الإرادة، فالخلط حصل بين شرط الايجاب و شرط انقداح الإرادة.

و إن شئت مزيد توضيح فلنذكر ما ذكره شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة فقال: إنّ هاهنا أُموراً يجب التمييز بينها:

1. الوجوب الاعتباري العقلائي المنتزع عن نفس التكليف، و لا شكّ أنّ شرطه هو نفس المجيء أو نفس القدرة الموجودة في ظرفه. و لكن التقدّم و التأخّر في الشرط لا يضرّان في الأُمور الاعتبارية، إذ لا تأثير فيها و لا تأثّر، و إنّما واقعها هو

ص:444

اعتبار الوجوب و فرضه تحت شرائط خاصّة، متقدّمة أو مقارنة أو متأخّرة.

2. الإرادة الحقيقية المنقدحة في ذهن المولى، فهي بما أنّها أمر تكويني يجب أن يكون شرطها مقارناً لها، و قد علمت أنّ المحرك و الباعث لظهورها انّما هو العلم بالمصلحة فيما إذا قال: إذا جاءك زيد يوم الخميس فأكرمه يوم الجمعة، أو العلم بتحقق القدرة في ظرفها في فريضة الحجّ.

3. نفس العمل الخارجي الصادر من المكلّف، فلا شكّ أنّ الشرط هو نفس القدرة الخارجية و هي مقارنة.

فتلخّص أنّ الشرط فيما تجب فيه المقارنة الزمانية، مقارن لمشروطه، و فيما هو متقدّم و متأخر ممّا لا تجب فيه المقارنة لخروجها عن مصب القاعدة العقلية، أعني: لزوم مقارنة الشرط لمشروطه.

و ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ الشرط هو لحاظه ذهناً لا وجوده خارجاً فإنّما يتمّ في هذا القسم، أي شرائط التكليف: الاعتبار، و الإرادة الحقيقية، لا في شرائط الوضع الذي هو المقام الثالث.

المقام الثالث: في شرائط الوضع

المراد بالوضع هو الأحكام الوضعية من الصحة و الملكية و الزوجية و غير ذلك، فتارة يكون الشرط الذي ربّما يطلق عليه السبب متقدّماً على الوضع، و أُخرى مقارناً له، و ثالثة متأخّراً عنه.

فالأوّل كالوصية التمليكيّة حيث إنّ الإيصاء جزء السبب لحصول الملكية، و الجزء الآخر هو قبول الموصى له.

و الثاني: كالعقل و البلوغ المقرون بالعقد.

ص:445

و الثالث: كالاجازة بالنسبة إلى صحّة البيع الفضولي، إذا قلنا بأنّ الإجازة كاشفة عن حدوث الملكية للمشتري من زمان العقد، و مثلها الأغسال الليلية إذا كانت شرطاً لوصف الصوم بالصحّة الفعلية بشرط تعقبها بالأغسال.

فالإشكال في المقام هو تقدّم الشرط على المشروط أو تأخّره عنه.

و الإجابة عن هذا الإشكال واضحة لما قلنا من أنّ الأُمور الاعتبارية لا تخضع للقواعد التكوينية فمقارنة الشرط مع العلّة و عدم تأخّره أو تقدّمه عليه إنّما يختص بالعلل التكوينية، و أمّا الأُمور الاعتبارية الخاضعة لاعتبار المعتبر فلا مانع من أن يتّخذ المتقدم أو المتأخّر شرطاً، فلا إشكال في القول بصحّة البيع الفضولي فيما مضى إذا لحقت الإجازة، أو صحّة صوم المستحاضة في يومها إذا اغتسلت بعد اليوم.

نعم هنا إشكال آخر غير الإشكال المعروف) امتناع تقدّم الشرط على العلّة أو تأخّره عنها (نوضحه بالبيان التالي:

إنّ الأُمور الاعتبارية و إن كانت غير خاضعة للقواعد التكوينية لكنّها بما أنّها أُمور اعتبارية عقلائية تتوقّف صحّة اعتبارها على أمرين:

1. أن يترتب على الاعتبار أثر، فلو كان خالياً عنه لغى الاعتبار كاعتبار» أنياب أغوال «فانّ تخيّل الغول و نابه أمر ذهني فاقد للأثر فلا يعد من الاعتبارات العقلائية.

2. عدم اشتمال الاعتبار على التناقض، مثلاً إذا اعتبر شيئاً جزءاً للسبب و مع ذلك رتّب الأثر مع عدم هذا الجزء فانّه و إن لم يكن أمراً محالاً لكنّه بما انّه تناقض في الاعتبار و تناقض في القانون لا يحوم حوله العقلاء و يسقط عن الاعتبار.

و على ضوء ذلك فالاعتبارات الشرعية و العقلائية يجب أن يجتمع

ص:446

فيها شرطان:

أ. ترتّب الأثر.

ب. عدم التناقض في الاعتبار.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ القول بصحّة عقد الفضولي و ملكية المشتري للمبيع قبل الإجازة) الكشف الحقيقي (و إن لم يكن أمراً محالاً إلاّ انّه مناقضة في الاعتبار و التقرير حيث إنّ المقنن يعتبر أوّلاً مقارنة الرضا للتجارة شرطاً لحصول الملكية و يقول: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ )(1) و يقول ) صلى الله عليه و آله و سلم (:» لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه «(2)فمعنى ذلك انّه اعتبر السبب التام لحصول الملكية، هو التجارة الناشئة عن الرضا و طيب النفس.

و القول بحدوث الملكية للمشتري، قبل الإجازة و رضى المالك يناقض الاعتبار الأوّل. فلو حاول المقنن صيانة الاعتبار الأوّل فليس له محيص عن القول بالنقل أي تأثير الاجازة في ما يأتي فالقول بالكشف الحقيقي مع القول بأنّ الموضوع هو التجارة المقرونة بالتراضي لا يجتمعان في عالم الاعتبار.

و لأجل ذلك قلنا في محلّه انّ الكشف الحقيقي ليس أمراً محالاً بل مخالفاً للاعتبار السابق.

تصوير نتيجة الكشف الحقيقي

و بهذا تبيّن انّ الكشف الحقيقي و إن لم يكن أمراً محالاً و لكنّه يلازم التناقض في الاعتبار، و لأجل ذلك التجأ غير واحد من المحقّقين كشريف العلماء و غيره إلى

ص:447


1- - النساء: 29.
2- - المستدرك: 3، كتاب الغصب، الحديث 5; الوسائل 3، الباب 3 من أبواب مكان المصلي، الحديث 3.

الكشف الحكمي، و حاصله: عدم حصول الملكية إلاّ بعد الاجازة غير انّه إذا حصلت الاجازة يكون نماء المبيع للمالك الثاني شرعاً و تعبّداً، و قد أوضحه الشيخ في متاجره.(1)

و يمكن أن يقال بنتيجة الكشف الحقيقي بالبيان التالي، و هو أنّ الملكية لما كانت من الأُمور الاعتبارية، و الاعتبار سهل المئونة، فلا مانع من أن يقال: لا ملكيّة للمشتري قبل الإجازة لا واقعاً و لا ظاهراً، غير انّ إجازة المالك كما تؤثر في المستقبل و تجعل المشتري مالكاً للمبيع فيه كذلك تؤثر فيما مضى و تجعل المبيع ملكاً للمشتري من زمان العقد إلى زمان الإجازة.

و على ما ذكرنا من إنشاء الملكية من زمان العقد إلى زمان الإجازة إلى الأزمنة الآتية ليس فيه أي تناقض في الاعتبار مع حصول نتيجة الكشف الحقيقي و هو كون المبيع ملكاً للمشتري فيما مضى. لأنّ الملكية على وجه الإطلاق تحصل بعد الإجازة و اجتماع الشرط.

فإن قلت: ما ذكرت من المحاولة و إن كان خالياً من التناقض في الاعتبار، لكنّه مخدوش من جهة أُخرى و هو أنّه يستلزم أن يكون شيء واحد في زمان واحد ملكاً لشخصين، حيث إنّ المبيع يوم الخميس باعتبار عدم صدور الإجازة يُعدّ ملكاً للمالك الأوّل، و ينقلب الأمر بعد صدورها من المالك فيصير نفس ذلك المبيع في ذلك اليوم ملكاً للمشتري، و هذا ما ذكرنا من استلزامه ملكية شيء واحد في ظرف واحد لشخصين.

قلت: إنّ المسوّغ لهذا النوع من الملكية، أعني: أن يكون شيء واحد في يوم واحد ملكاً لشخصين هو اختلاف زمان الاعتبار، حيث إنّ ظرف اعتبار كون

ص:448


1- - المتاجر: 133 طبعة تبريز.

المالك مالكاً للمبيع هو يوم الخميس، و أمّا اعتبار كون المشتري مالكاً له في نفس ذلك الظرف، فإنّما هو يوم الجمعة، فاختلاف زمان الاعتبارين هو المسوّغ، و إن كان زمان الملكيتين واحداً.

و يمكن استظهار ذلك) أي أنّ دور الإجازة إيجاد الملكية من زمان العقد إلى زمان الإجازة و بعدها (من صحيحة محمد بن قيس، فانّ هذه الصحيحة و إن اشتملت على مشاكل في المضمون و ربّما يمكن التغلب على بعضها لكن الهدف هو استظهار أنّ دور الإجازة دور إحداث الملكية من زمان العقد إلى زمان الإجازة و بعدها، فعندئذ يكون هناك نتيجة الكشف أي كون المبيع ملكاً للمشتري و إن لم يكن نفسه.

روى محمد بن قيس، عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: قضى أمير المؤمنين) عليه السلام (في وليدة باعها ابن سيدها و أبوه غائب، فاستولدها الذي اشتراها منه، فولدت منه غلاماً، ثمّ جاء سيدها الأوّل، فخاصم سيدها الأخير، فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني، فقال:» الحكم أن يأخذ وليدته و ابنها «، فناشده الذي اشتراها، فقال له:» خذ ابنه الذي باعك الوليدة حتى ينفّذ لك البيع «، فلمّا أخذه قال له أبوه: أرسل ابني، قال:

لا و اللّه، لا أرسل إليك ابنك حتّى ترسل ابني، فلما رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه.(1)

و الشاهد في قوله:» خذ ابنه الذي باعك الوليدة حتى ينفذ لك البيع «أي ينفذ البيع الذي صدر من ابنه و أن يسنده إلى نفسه من لدن صدوره إلى زمان إجازته، و هذا دليل على أنّ دور الإجازة دور إحداث الملكية لا الكشف عن الملكية، و لكن لا إحداثاً في المستقبل فقط حتّى تكون ناقلة، بل إحداثاً من زمان

ص:449


1- - الوسائل: 14، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الاماء، الحديث 1.

العقد إلى زمان الإجازة و فيما بعد.

و بذلك يرتفع الإشكال، لأنّ العقد غير مؤثر في الملكية إلاّ بعد الإجازة و هي مقترنة بالعقد، لأنّ للعقد بقاء عرفياً لا عقلياً.

و بهذا تمّ تحليل الموارد الثلاثة، أعني: شرط المأمور به، أو شرط التكليف، أو شرط الوضع.

و اللازم علينا أن نقتصر على ما ذكرنا غير أنّ ما ذكره المحقّق الخراساني في» الكفاية «ممّا تداولته الألسن، فلنرجع إلى كلامه فقد أتى بجواب مجمل غاية الإجمال في» الكفاية «و أوضحه في فوائده.

جواب المحقّق الخراساني

قال في» الكفاية «: و كذا الحال في شرائط الوضع مطلقاً و لو كان مقارناً فإن دخل شيء في الحكم به و صحّة انتزاعه لدى الحاكم به ليس إلاّ ما كان بلحاظه يصحّ انتزاعه لدى الحاكم و بدونه لا يكاد يصحّ اختراعه عنده فيكون دخل كلّ من المقارن و غيره بتصوره و لحاظه و هو مقارن فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن، فتأمّل تعرف.(1)

و لا يخفى ما في كلامه من الإجمال، و قد أوضحه في الفوائد بما هذا نصّه:

إنّ كلّما تتوقف عليه الأحكام الشرعية مطلقاً تكليفية أو وضعية ممّا يتداول إطلاق الشرط عليه مطلقاً، مقارناً كان لها أو لا، إنّما يكون دخله بوجوده العلمي لا بوجوده الخارجي، و يكون حال السابق أو اللاحق بعينه، حالَ المقارن في الدخل مثلاً إلى أن قال إن قلت: هذا خلاف ظاهر لفظ الشرط الذي قد أطلق على مثل الإجازة و الغسل في الليل.

ص:450


1- - كفاية الأُصول: 1/146.

قلت: لو سلّم كان إطلاقه عليه من باب إطلاقه على مثل الرضاء المقارن لما عرفت أن دخلها كدخله في التأثير بلا تفاوت أصلاً.

إن قلت: فما وجه إطلاقهم الشرط على مثل ذلك ممّا لا دخل له إلاّ بوجوده العلمي؟ قلت: الوجه صدق الشرط حقيقة بناء على إرادة الأعمّ من الذهني و الخارجي من لفظ الوجود و العدم في تعريفه بما يلزم من عدمه العدم و لا يلزم من وجوده الوجود، و صدقه مجازاً من باب التشبيه و المسامحة بناء على إرادة خصوص الخارجي، و مثل هذا الإطلاق ليس بعزيز.(1)

و حاصل كلامه: انّ الشرط يطلق و يراد منه الوجود الخارجي كاليبوسة في الحطب التي هي شرط الاحتراق، و قد يطلق و يراد به الوجود العلمي، و هذا هو المراد في هذا المقام، مثلاً الحكم بما انّه فعل اختياري للحاكم لا يتوقف صدوره منه إلاّ على تصوّره بتمام شرائطه المتقدّمة و المقارنة و اللاحقة و هو الموجب لحدوث الإرادة في نفسه، فالشرط له حقيقة إنّما هو وجود تلك الشرائط في عالم التصوّر دون وجودها في عالم الخارج.

و منه يظهر حال الوضع فالشرط عبارة عن لحاظ الحاكم كون الرضا مقارناً أو متأخّراً عنه، فنفس الرضا و إن كان مقارناً أو متأخّراً لكن لحاظ العقد معه مقارن للعقد في جميع الأحوال.

يقول المحقّق الخوئي في توضيح مرام المحقّق الخراساني: إنّ الشرط في الحقيقة تصوّر الشيء و وجوده الذهني دون وجوده الخارجي، و إطلاق الشرط عليه مبني على ضرب من المسامحة باعتبار أنّه طرف له.

ص:451


1- - فوائد الأُصول: 309.

و على ضوء هذا الأساس لا فرق بين كون وجود الشرط خارجاً متأخراً عن المشروط أو متقدّماً عليه أو مقارناً له، إذ على جميع هذه التقادير، الشرط واقعاً و الدخيل فيه حقيقة هو لحاظه، و وجوده العلمي، و هو معاصر له زماناً و متقدّم عليه رتبة.

و على الجملة فالحكم بما أنّه فعل اختياري للحاكم فلا يتوقّف صدوره منه إلاّ على تصوّره بتمام أطرافه من المتقدّمة و المقارنة و اللاحقة، و هو الموجب لحدوث الإرادة في نفسه نحو إيجاده كسائر الأفعال الاختيارية، فالشرط له حقيقة إنّما هو وجود تلك الأطراف في عالم التصور و اللحاظ دون وجودها في عالم الخارج.(1)

و كان عليه أن يضيف عليه قوله: و هكذا الحال في شرائط الوضع، أي صحّة الصوم و حدوث الملكية، فإنّ الشرط هو لحاظ العقد مع الرضا، سواء كان الرضا متقدّماً أو متأخراً.

هذا هو غاية توضيح مرامه.

يلاحظ عليه: أنّه على خلاف ظاهر الأدلّة فانّ الشرط عبارة عن نفس الرضا، قال سبحانه: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ).(2)

و ما تخلّص به في آخر كلامه من النقض و الإبرام غير رافع لهذا الإشكال، إذ ليس الإشكال في صحّة الصدق و إنّما الإشكال فيما هو المتبادر من الأدلّة، فانّ المتبادر من الأدلّة هو الوجود الخارجي لا لحاظ الحاكم وجوده في ظرفه.

نعم يصحّ ما ذكره في شرائط الحكم و الارادة، فانّ الشرط فيها هو تصوّر الشروط المتقدّمة و المتأخّرة و لا يصحّ في شرائط الوضع كما مرّ.

ص:452


1- - المحاضرات: 2/310.
2- - النساء: 29.
إجابة المحقّق النائيني عن الإشكال

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أجاب عن الإشكال بوجه آخر، و قال:

إنّ امتناع الشرط المتأخّر من القضايا التي قياساتها معها و لا تحتاج إلى برهان، بل يكفي في امتناعه نفس تصوّره، فانّ حال الشرعيات حال العقليات التي تقدّم امتناع تأخّر العلّة فيها أو جزئها أو شرطها ممّا له دخل في تحقّق المعلول، عن معلولها.

ثمّ قال: و أمّا توهّم انّ امتناع الشرط المتأخّر إنّما يكون في التكوينيات دون الاعتباريات و الشرعيات التي أمرها بيد المعتبر و الشارع، حيث إنّ له أن يعتبر كون الشيء المتأخّر شرطاً لأمر متقدّم، ففساده أيضاً غني عن البيان، لأنّه ليس المراد من الاعتبار مجرّد لقلقة اللسان، بل للاعتباريات واقع، غايته أنّ واقعها عين اعتبارها، و بعد اعتبار شيء شرطاً لشيء و أخذه مفروض الوجود في ترتب الحكم عليه كما هو الشأن في كلّ شرط، كيف يمكن تقدّم الحكم على شرطه؟ و هل هذا إلاّ خلاف ما اعتبره؟! و بالجملة: بعد فرض اعتبار شيء موضوعاً للحكم لا يمكن أن يتخلّف و يتقدّم ذلك الحكم على موضوعه، فظهر فساد ما ذكر من الوجوه لجواز الشرط المتأخر.

و أحسن ما قيل في المقام من الوجوه: هو أنّ الشرط عنوان التعقب و الوصف الانتزاعي، و قد تقدّم عدم توقّف انتزاع وصف التعقب على وجود المتأخّر في موطن الانتزاع، بل يكفي في الانتزاع وجود الشيء في موطنه، فيكون الشرط في باب الفضولي هو وصف التعقّب، و انّ السبب للنقل و الانتقال هو

ص:453

العقد المتعقب بالإجازة، و هذا الوصف حاصل من زمن العقد هذا.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ ما ذكره من أنّ امتناع الشرط المتأخّر من القضايا التي قياساتها معها لا يخلو من خلط التكوين بالتشريع، فانّ الممتنع هو الأوّل، و أمّا الثاني فلا يقبل الامتناع، نعم فرض وجود المعتبَر مع فقد ما يعتبر علة له يوجب تناقضاً في الاعتبار و هو أمر خارج عن سيرة العقلاء لا أنّه أمر محال.

و ما ذكره جواباً عن هذا الإشكال من» انّ الاعتبار ليس مجرّد لقلقة اللسان، بل للاعتباريات واقع غايته انّ واقعها عين اعتبارها «لا يدفع الإشكال، فانّ أقصى ما يمكن أن يقال انّ للاعتباريات نظاماً عقلائياً فاعتبار شيء ثمّ اعتبار خلافه و إضفاء الرسمية على كلا الاعتبارين خارج عن سيرة العقلاء.

و العجب أنّه يقول في آخر كلامه:» كيف يمكن تقدّم الحكم على شرطه؟ و هل هذا إلاّ خلاف ما اعتبره؟! «فانّ حاصل هذا الكلام: أنّ القول بتأخّر الشرط خلاف الاعتبار السابق لا انّه أمر محال.

ثانياً: أنّ ما وصفه بأحسن الأجوبة و هو أنّ الشرط عنوان التعقّب و هو موجود مع العقد و إن لم يوجد الشرط، أعني: الإجازة، ففيه أيضاً خلط بين ذات المتعقّب و عنوان التعقب، فالأوّل متحقّق و إن لم يلحق به الإجازة، و أمّا التعقّب بالعنوان الوصفي فبما انّه أمر انتزاعي و الأمر الانتزاعي من مراتب التكوين، فكيف يمكن انتزاعه بالفعل مع عدم وجود منشأ الانتزاع، أعني: الإجازة؟! و بعبارة أُخرى: انّ عنوان التعقّب امّا منتزع من ذات العقد و ذات الصوم بلا لحاظ ضمّ الاجازة و الاغتسال، فلازمه حدوث الملكية، و وصف الصوم بالصحة الفعلية، و إن لم تنضم إليهما الإجازة و الاغتسال، و هو خلاف الفرض.

ص:454


1- - فوائد الأُصول: 1/281.

و إمّا منتزعة عنهما بملاحظة الاجازة و الاغتسال، فلازمه عدم إمكان انتزاعهما ما لم تلحق بهما الإجازة و الاغتسال، إذ لو لم يكن ذات العقد أو الصوم كافياً في صحّة الانتزاع، فلا معنى لانتزاع الخصوصية بلا ضم الإجازة أو الغسل.

فالحقّ في الجواب ما عرفت.

ص:455

الأمر الرابعتقسيمات الواجب

اشارة

(1)

قسم الواجب إلى أقسام بملاكات مختلفة، نستعرضها فيما يلي:

التقسيم الأوّل: تقسيمه إلى مطلق و مشروط
اشارة

قد جعل المشهور التقسيم إلى مطلق و مشروط تقسيماً للواجب مع أنّه في الحقيقة على مذهب المشهور تقسيم للوجوب، حيث إنّ الوجوب يكون تارة مرسلاً و مطلقاً من أيّ قيد، و أُخرى مقيّداً و مشروطاً بقيد، وعليه فوصف الواجب بالمطلق و المشروط وصف بحال المتعلّق.

و على كلّ حال فقد عرّف المطلق و المشروط بتعاريف نقتصر على ذكر تعريفين:

الأوّل: المطلق ما لا يتوقف وجوبه بعد الأُمور العامة على شيء، و يقابله المشروط. و المراد من الأُمور العامة: العقل و البلوغ و العلم و القدرة العقلية لا الشرعية.

يلاحظ عليه: أنّ تعريف المطلق بما ذكر يوجب أن لا يوجد له مصداق إلاّ معرفة اللّه سبحانه، إذ ما من واجب إلاّ و هو مشروط بشيء مضافاً إلى الأُمور

ص:456


1- - مرّ الأمر الثالث في تقسيم المقدمة ص 423.

العامّة كالصلاة و الصوم و الحجّ بالنسبة إلى الوقت، و الجهاد بالنسبة إلى أمر الإمام به، و غير ذلك.

على أنّ في جعل العلم ممّا يتوقّف عليه الحكم إشكالاً واضحاً، و هو استلزامه الدور، لأنّ الحكم يتوقّف على شرطه و هو العلم، و العلم موقوف على المعلوم) الحكم (.

إلاّ أن يقال بأنّ مرتبة من الحكم و هو الفعلية أو التنجّز موقوفة على العلم لا كلّ المراتب كالإنشاء، فالإنشاء حكم مطلق غير مشروط بالعلم، لكن فعلية الحكم على مبنى القوم أو تنجّزه كما هو الحقّ موقوفة على علم المكلّف.

الثاني: المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده، كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة حيث إنّ وجودها موقوف على الطهارة لكن وجوبها ليس موقوفاً عليها، فلو لم يكن متوضّئ تجب الصلاة عليه غاية الأمر يجب عليه تحصيل الوضوء، و يقابله المشروط كالحج فانّ وجوبه موقوف على الاستطاعة التي يتوقّف عليها وجود الحجّ، فالحجّ وجوداً و وجوباً موقوف على الاستطاعة.

يلاحظ عليه: أنّ وجوب الحجّ موقوف على الاستطاعة الشرعية، لكن وجودَه لا يتوقّف على الشرعية منها، بل يكفي الاستطاعة العقلية كما في حج المتسكع، فانّ الاستطاعة العقلية أوسع من الاستطاعة الشرعية، فالناس أكثرهم مستطيعون للحجّ بالاستطاعة العقلية دون الشرعية.

اللّهم إلاّ أن يقال المراد توقّف الحجّ الواجب لا مطلق الحجّ، فالقسم الواجب من الحجّ موقوف وجوده على الاستطاعة الشرعية، كما أنّ وجوبه موقوف عليها.

ص:457

اعتذار المحقّق الخراساني

إنّ المحقّق الخراساني اعتذر عن الإشكالات الواردة على هذه التعاريف بأنّها تعريفات لفظية و التي تسمّى بشرح الاسم، و ليس بالحد و الرسم، و قال ما يقرب من هذا أيضاً في مبحث العام و الخاص، و هكذا في مبحث المطلق و المقيد.

أقول: بما انّ المحقّق الخراساني كرّر ذلك الاعتذار في غير مورد من كتابه فنعود إلى مناقشته بالوجه التالي:

أوّلاً: إن أراد انّ هذه التعاريف تعاريف لفظية بحجّة انّ المعرّف من الأُمور الاعتبارية و هي تفقد الجنس و الفصل الحقيقيّين، فيرجع جميع المعرفات إلى كونها لفظية، فلو أراد هذا، فهو حقّ.

و إن أراد أنّ القوم كانوا بصدد التعريف اللفظي و العرفان الإجمالي دون التعريف بالحد و الرسم فهو غير مطابق للواقع، إذ لو كانت الغاية ذلك لما كان لمناقشاتهم في مقام التعريف وجه، فانّ النقاش آية انّهم كانوا بصدد التعريف الحقيقي.

ثانياً: انّ الظاهر من كلماته أنّ» التعريف اللفظي «و» شرح الاسم «و» ما الشارحة «من الألفاظ المترادفة تستعمل في معنى واحد، قد تبع في ذلك أُستاذَه الحكيم السبزواري، حيث قرأ عليه شيئاً من الفلسفة في مسيره من خراسان إلى العراق، قال الحكيم السبزواري:

أُسّ المطالب ثلاثة علم مطلب» ما «مطلب» هل «مطلب» لم

فما هو الشارح و الحقيقي و ذو اشتباك مع هل أنيق

ص:458

و قال في شرحه:» يطلب «ب» ما «الشارحة أوّلاً شرح مفهوم الاسم، بمثل: ما الخلاء؟ و ما العنقاء؟ و ب» ما «الحقيقية، تعقل ماهية النفس الآمرية، مثل ما الحركة؟ و ما المكان؟(1)الظاهر اشتباه الأمر على المحقّق السبزواري حيث عدّ ما الشارحة في مقابل ما الحقيقية، مع أنّ القول الشارح في المنطق نفس الحد و الرسم، و الاختلاف بينهما بالاعتبار، فتعريف الشيء بالحد أو الرسم قول شارح قبل العلم بوجوده، و تعريفه بنفس ذلك بعد العلم بوجوده، حدّ و رسم، فالقول الشارح عنوان يشمل الحدّ و الرسم، و لكن يختلف استعمالها حسب اختلاف الاعتبار، و يشهد بذلك كلام الشيخ الرئيس في» منطق الإشارات «و شارحه المحقّق الطوسي، و إليك كلامهما:

قال الشيخ الرئيس في» منطق الاشارات «: قد جرت العادة أن يسمّى الشيء الموصل إلى التصوّر المطلوب، قولاً شارحاً، فمنه حدّ و منه رسم.(2)

و تختلف ما الشارحة عن ما الحقيقية بالاعتبار، و الفرق أنّ السؤال في الثانية بعد معرفة وجود المسئول عنه دون الأُولى.

قال المحقّق الطوسي: إنّا إذا قلنا في جواب من يقول: ما المثلث المتساوي الأضلاع؟ انّه شكل تحيط به خطوط ثلاثة متساوية، كان حداً بحسب الاسم، ثمّ إنّه إذا بيّنا أنّه الشكل الأوّل من كتاب أقليدس، صار قولنا الأوّل بعينه حدّاً بحسب الذات.(3)

ص:459


1- - شرح المنظومة: 32.
2- - شرح الإشارات: 1/25.
3- - المصدر نفسه.
الإطلاق و التقييد من الأُمور النسبية

الإطلاق و التقييد من الأُمور الاضافية كالأُبوّة و البنوّة لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة و إن كان يجتمعان فيه من جهتين، فهكذا الإطلاق و الاشتراط، فانّ وجوب الشيء قد يكون بالنسبة إلى شيء مطلقاً، كوجوب الصلاة بالنسبة إلى الوضوء، و بالنسبة إلى شيء آخر مشروطاً كوجوبها بالنسبة إلى الوقت.

و تظهر الثمرة أنّه إذا كان وجوب الشيء بالنسبة إلى شيء مطلقاً يجب تحصيله بخلاف ما إذا كان بالنسبة إليه مشروطاً، فلو كان خارجاً عن الاختيار ينتظر إلى حصوله، و إن كان داخلاً في الاختيار لا يجب تحصيله كالاستطاعة الشرعية.

إذا علمت ذلك، فاعلم أنّ هناك بحثاً آخر، و هو ما يلي:

هل القيد يرجع إلى مفاد الهيئة أو إلى مفاد المادة؟

ذهب المشهور إلى أنّ القيد في الواجب المشروط يرجع إلى مفاد الهيئة، و تكون النتيجة عدم الوجوب ما لم يحصل القيد، و أمّا المادة فهي باقية على إطلاقها.

نعم خالف الشيخ الأنصاري الرأي العام في الواجب المشروط فاختار أنّ القيد يرجع إلى الواجب فيكون الواجب محدداً بالقيد، و أمّا الوجوب فهو باق على إطلاقه، فالصلاة قبل الوقت واجبة غير أنّ الواجب مقيّد بالزوال، و نستوضح كلتا النظريتين بالآية التالية:

قال سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ

ص:460

قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً )(1)» الدلوك «بمعنى الزوال، و لفظة» اللام «في قوله» لدلوك «بمعنى » عند «أي أقم الصلاة عند دلوك الشمس، فلو قلنا بأنّ غسق الليل هو وسط الليل فالآية متضمنة لأوقات الصلوات الخمسة، فتدلّ على أوقات الأربعة قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ... إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ )، و على وقت صلاة الفجر قوله: (وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) و لو قلنا إنّ المراد من غسق الليل هو ابتداء الليل، فتدلّ على أوقات الفرائض الثلاثة: الظهر و العصر و الفجر.

و على كلّ حال فالقيد في الآية، أعني قوله: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) إمّا إلى قوله: (أَقِمِ ) كما عليه المشهور أو إلى (اَلصَّلاةَ ) كما عليه الشيخ الأنصاري، و لنستوضح المقام بمثال آخر.

إذا قال القائل: أكرم زيداً إن سلّم، فالتسليم إمّا قيد للوجوب المستفاد من هيئة أكرم، أو قيد للإكرام الحامل للهيئة.

فعلى الأوّل: يكون المعنى يجب إن سلّم على وجه لو لا التسليم لا وجوب.

و على الثاني يكون المعنى يجب إكرام زيد إكراماً مقيداً بتسليمه، فالوجوب على إطلاقه و إن كان الإكرام مقيّداً بالتسليم.

و بعبارة أُخرى: الوجوب حالي و إن كان ظرف العمل استقبالياً.

تحليل واقع القيود ثبوتاً

و قبل أن ندرس أدلّة الطرفين نحلل واقع القيود ثبوتاً، فانّ القيود حسب الواقع على قسمين:

ص:461


1- - الاسراء: 78.

فقسم لا يصلح إلاّ أن يكون قيداً للمتعلّق، و قسم لا يصلح إلاّ أن يكون قيداً لمفاد الهيئة.

أمّا الأوّل: فلو افترضنا أنّ المصلحة قائمة بإقامة الصلاة جماعة، أو إقامتها في المسجد، أو الطواف بالبيت على نحو تكون الصلاة و الطواف مجرّدتين عن القيود فاقدتين للمصلحة، ففي هذا الظرف يكون القيد راجعاً إلى الواجب، فإذا قال: صلّ في المسجد، أو صلِّ صلاة الجمعة جماعة، أو طف بالبيت، فجميع تلك القيود من محصلات المصلحة في الصلاة و الطواف، فهذا النوع من القيد لا يصلح إلاّ أن يكون قيداً للواجب لا للوجوب.

و أمّا الثاني: فكما إذا افترضنا انّ الصوم بما هو هو ذو مصلحة أو انّ العتق بما هو هو أمر راجح، و لكن مثل هذه المصلحة غير كافية، لانقداح الارادة في نفس المولى و بالتالي انشاء البعث إليه، إلاّ إذا صدر منه فعل لا يغتفر إلاّ بالتكفير من الصوم و العتق، ففي هذا المورد يكون القيد راجعاً إلى مفاد الهيئة أي البعث، و يقول: إن أفطرت فكفّر، و إن ظاهرت فأعتق. فالإفطار و الظهار من قيود الإرادة و البعث، و نظيره الحج متسكعاً فانّ الحجّ ذو مصلحة كافية و لكنّه غير كاف في انقداح الإرادة في لوح النفس و بعث العبد إليه، لاستلزامه الحرج، و إنّما يبعث إذا استطاع العبد، فتكون الاستطاعة قيداً لظهور الإرادة، و بالتالي لبعث المولى، و مثل الموردين الأُمور العامّة، فانّ العقل و القدرة من شروط الإيجاب، فلولاهما لما ظهرت الإرادة في لوح النفس و لا البعث إلى العمل.

و بذلك ظهر أنّ القيود ثبوتاً على قسمين، فقسم يرجع إلى المادة و لا يصلح أن يكون قيداً للوجوب و البعث، و قسم على العكس. فإذا كانت القيود حسب الثبوت على قسمين فلا وجه لجعلهما قسماً واحداً كما عليه العلمان حيث جعل

ص:462

المحقّق الخراساني كلّ القيود راجعة إلى الهيئة و جعل الشيخ الأنصاري كلّها راجعة إلى المادة، بل لا بدّ من التفصيل بين القيود.

إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلى دراسة أدلّة الشيخ.

أدلّة رجوع القيد إلى المادة

استدلّ الشيخ على رجوع القيد إلى المادة بوجوه أربعة:

الأوّل: انّ هيئة الأمر موضوعة» بالوضع النوعي العام و الموضوع له الخاص «لخصوصيات أفراد الطلب و الإرادة الحتمية الإلزامية التي يوقعها الآمر و يوجدها، فالموضوع له و المستعمل فيه، فرد خاص من الطلب، و هو غير قابل للتقييد.

و إن شئت قلت: إنّ الهيئة موضوعة بالوضع العام للموضوع له الخاص، فيكون مفادها إيجاد البعث، و هو أمر جزئي لمساواة الإيجاد بالجزئية، و الجزئي لا يقبل التقييد.(1)

يلاحظ عليه: ما مرّ سابقاً من أنّ الجزئي فاقد للسعة و الإطلاق من حيث الأفراد، و أمّا من حيث الحالات فهو قابل للتقييد، فانّ الوجوب المنشأ، له مصداق واحد و لكنّه من حيث الحالات ينقسم إلى حالتين:

أ. الوجوب المقرون بالتسليم.

ب: الوجوب المجرّد عن التسليم.

فالقيد إذا رجع إلى المقيّد يخص البعث بحالة خاصّة و هو حالة التسليم.

الثاني: ما لخصه المحقّق الخراساني في» الكفاية «، بقوله: إنّ العاقل إذا توجّه

ص:463


1- - لاحظ مطارح الأنظار: 46.

إلى شيء و التفت إليه، فإمّا أن يتعلّق طلبه به أو لا يتعلّق به طلبه أصلاً، لا كلام في الثاني.

و على الأوّل فإمّا أن يكون ذلك الشيء مورداً لطلبه و أمره مطلقاً، على اختلاف أطواره، أو على تقدير خاص، و ذلك التقدير تارة يكون من الأُمور الاختيارية، و أُخرى لا يكون كذلك، و ما يكون من الأُمور الاختيارية قد يكون مأخوذاً فيه على نحو يكون مورداً للتكليف، و قد لا يكون كذلك على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه و الأمر به.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه جعل المقسم من أوّل الأمر هو المطلوب و ذكر له أقساماً، و لنا أن نجعل المقسم هو الطلب، فنقول: إذا أطلّ الإنسان بنظره إلى شيء، فإمّا أن يطلبه أو لا يطلبه، و على الثاني إمّا أن يتعلّق طلبه به على وجه الإطلاق، و أُخرى على وجه التقييد، ثمّ القيد إمّا أن يكون أمراً اختيارياً أو خارجاً عنه، و القيد الاختياري إمّا أن يكون مطلوباً حصوله أو مطلوباً تحصيله.

الثالث: انّ المقصود من الإنشاء ليس مفهوم الطلب الاسمي، بل إيجاد مصداقه في الخارج إنشاء و اعتباراً، و مثله غير ملحوظ مستقلاً، بل ملحوظ على نحو الاندكاك في ضمن لحاظ متعلّقه، أعني: المطلوب، و الشيء ما لم يلحظ مستقلاً و لم يقع في أُفق النفس كذلك يمتنع تقييده، إذ التقييد عبارة عن لحاظ شيء مستقلاً، ثمّ تقييده ثانياً.

و على هذا الوجه اعتمد المحقّق النائيني حيث قال: إنّ النسبة حيث إنّها مدلولة للهيئة فهي ملحوظة آلة و معنى حرفياً، و الإطلاق و التقييد من شئون

ص:464


1- - كفاية الأُصول: 1/153.

المفاهيم الاسمية الاستقلالية.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ النسب التي هي من المعاني الحرفية من المقاصد الأصلية للمتكلّم، و القيد يرجع إلى المقاصد الأصلية.

توضيحه: أنّ الغرض الأصلي من التكلّم غالباً هو افادة النسب التي هي قسم من المعاني الحرفية كالهوهوية في قولنا:» زيد قائم «، و الظرفية في قولنا:» زيد في الدار «، و التقييد يرجع إلى المقاصد الأصلية.

و إن شئت قلت: إنّ الإثبات تابع للثبوت و قد عرفت أنّ القيد تارة يرجع إلى الطلب و أُخرى إلى المطلوب، فإذا كان الثبوت على قسمين فكيف يمكن لنا جعله في الإثبات قسماً واحداً؟ و ثانياً: ما أفاده المحقّق الخراساني من أنّه لو سلّمنا امتناع تقييد المعاني الملحوظة آلية، فانّه إنّما يمنع عن التقييد لو أنشأ أوّلاً غير مقيّد، لا ما إذا أنشأ من الأوّل مقيّداً غاية الأمر قد دلّ بدالّين و هو غير إنشائه أوّلاً ثمّ تقييده ثانياً.

الرابع: انّ تقييد مفاد الهيئة يستلزم تعليق الإنشاء و هو أمر محال، لأنّ الإنشاء من مقولة الإيجاد و هو لا يقبل التقييد، بل أمره دائر بين الوجود و العدم، فامّا أن يكون الإيجاد محقّقاً أو غير محقّق، و لا معنى للإيجاد المعلّق من غير فرق بين الإيجاد التكويني و الإنشائي.

يلاحظ عليه: بأنّ ما أُفيد من أنّ الإنشاء لا يقبل التعليق، فهو كالإيجاد أمره دائر بين الوجود و العدم غير أنّ القيد يرجع إلى المنشأ فهاهنا انشاء و هاهنا منشأ، و الأوّل غير مقيّد و الثاني و هو الطلب مقيد.

ص:465


1- - أجود التقريرات: 1/131.

توضيحه: انّ الانشاء عبارة عن استعمال اللفظ في معناه الإيجادي و الاستعمال لا يقبل التعليق، فانّه إمّا يُستعمل اللفظ في معناه الإيجادي أو لا يستعمل.

ثمّ إنّ استعمال اللفظ لغاية إيجاد معناه تارة يكون المستعمل فيه الطلب المطلق كما إذا قال: أقم الصلاة، و أُخرى يكون مفاده الطلب المقيّد كما إذا قال: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) و معناه الطلب و البعث على تقدير، فلو كان هناك تعليق فإنّما هو في المنشأ لا في الإنشاء.

فإن قلت: بأنّ المنشأ الطلب المعلّق من مقولة الوجود، و هو لا يقبل التعليق، لأنّ النبي امّا موجود أو معدوم و ليس هنا قسم ثالث أي الوجود المعلق.

قلت: إنّما ذكرته إنّما يتم في الأُمور التكوينية فالوجود التكويني لا يقبل التعليق، و أمّا الوجود الاعتباري أعني الطلب فلا مانع من تعليقه فتارة يكون المنشأ فلا مانع من الطلب المطلق، و أُخرى الطلب المشروط بشرط الاستطاعة، و الاشتباه حصل من قياس الأُمور الاعتبارية بالتكوينية.

الخامس: إذا كان رجوع القيد إلى الهيئة مستلزماً لرجوع القيد إلى المنشأ يلزم تفكيك الإنشاء عن المنشأ، حيث إنّ الإنشاء قد تمّ، مع أنّ المنشأ أعني الطلب غير موجود، للاتفاق على عدم حصول الطلب قبل تحقّق الشرط، و هذا نظير القول بتحقّق الإيجاد من دون أن يتحقّق الوجود و هو محال.

يلاحظ عليه: بأنّ المنشأ غير منفك عن الإنشاء، و ذلك لأنّ المنشأ لو كان هو الطلب المطلق لكان لما ذكر وجه، و أمّا إذا كان المنشأ الطلب على تقدير حصول الشرط فهذا النوع من الطلب موجود قبل حصول الشرط.

فإذا قال: أقم الصلاة عند دلوك الشمس، فالطلب على تقدير الدلوك

ص:466

موجود و إن لم يكن هناك دلوك و ينقلب إلى الطلب المطلق بعد دلوكها.

و الحاصل: انّ الأُمور الاعتبارية رهن شيئين:

الأوّل: ترتّب الأثر عليه.

الثاني: عدم التناقض في الاعتبار.

و على ضوء هذين الأمرين لا مانع من إنشاء الطلب المطلق كما لا مانع من انشاء الطلب المقيّد، و ذلك لأنّ المولى ينظر إلى أحوال المكلّفين فيرى بعضهم واجداً للشرط فعلاً، كما يرى البعض الآخر فاقداً له لكنّه سوف يحصله أو يحصل له، فعندئذ ينشئ الوجوب المقيّد ليكون حجّة في حقّ الحائزين للشرط بالفعل و للحائزين له عند حصول الشرط.

و بكلمة قصيرة انّ الاستدلال الرابع كان مبنياً على أنّ رجوع القيد إلى الهيئة يستلزم تعليق الإنشاء، و هو لا يقبل التعليق، كما أنّ لب الدليل الخامس هو أنّ رجوع القيد إلى الهيئة يستلزم تفكيك المنشأ عن الإنشاء حيث لا طلب قبل حصول الشرط.

و الجواب عن كلا الاستدلالين بما عرفت.

أمّا الأوّل: فلأنّ الإنشاء غير معلّق و إنّما المعلّق هو المنشأ، و هو غير قابل للتعليق في التكوين دون عالم الاعتبار، فيمتنع إيجاد الوجود المعلق على شيء لم يحصل، لكنّه يجوز إنشاء طلب معلّق بشرط غير حاصل.

و أمّا الثاني: فالمنشأ غير منفك عن الإنشاء، بل هو يلازم الطلب المعلّق في مقابل عدم الطلب أصلاً أو الطلب المنجز.

و مما يرشدك إلى إمكان المنشأ) الملك (المعلق صحّة الوصية التمليكية فيما إذا قال المولى: هذه الدار لزيد بعد وفاتي، فالإنشاء فعلي مع أنّ المنشأ معلّق، و هو

ص:467

حصول الملكية للموصى له بعد وفاته أو بعد قبوله، و فائدة هذا الإنشاء انّ الدار تكون ملكاً منجّزاً له بعد الموت.

ثمّ إنّ الظاهر من متاجر الشيخ تصوّر رجوع القيد إلى الهيئة و قد صرّح بأنّه لا مانع من إنشاء الملكية المعلّقة لكن الإجماع قام على بطلان التعليق، فما أُفيد هنا يخالف ما صرّح به في متاجره.(1)

سؤال و إجابة

أمّا السؤال و هو انّه إذا كان الطلب فعلياً مطلقاً و كان القيد قيداً للواجب عند الشيخ فيجب بحكم إطلاق الوجوب تحصيل تمام قيود الواجب من غير فرق بين الوضوء و الاستطاعة، لأنّ الوجوب مطلق و الواجب مقيد و إطلاق الوجوب يدعو إلى تحصيل الواجب بعامة قيوده مع انّ الشيخ لا يقول بوجوب تحصيل الشرط في الواجب المشروط بل يعتقد بشرطية حصوله لا تحصيله.

أمّا الجواب: فقد أجاب الشيخ عن هذا السؤال بقوله: إنّ الفعل المقيّد قد يكون ذا مصلحة ملزمة على وجه يكون الفعل و القيد مورداً للإلزام، و قد يكون متعلّق التكليف ذا مصلحة، لكن على تقدير وقوع القيد، لا على وجه التكليف، ففي كلّ هذه الصور ينبغي للحاكم أن يعبّر عن المقصود بلفظ يكون وافياً بمقصوده.(2)

و إلى ذلك ينظر قول المحقّق الخراساني في تقرير رجوع القيد إلى المادة لبّاً: قد يكون القيد مأخوذاً فيه على نحو يكون مورداً للتكليف، و قد لا يكون كذلك

ص:468


1- - المتاجر، كتاب البيع، ص 100.
2- - مطارح الأنظار: 49.

على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه و الأمر به.(1)

و قوله أيضاً: فانّه جعل الشيء واجباً على تقدير حصول ذاك الشرط، فمعه كيف يترشح عليه الوجوب و يتعلّق به الطلب؟(2)يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح ثبوتاً حيث إنّ المصلحة تارة تكون قائمة بالفعل المقيد على وجه يكون القيد مورداً للإلزام و التحصيل، و أُخرى تكون قائمة بالفعل المقيّد على وجه لا يكون القيد مورداً للإلزام بل يرجى حصوله، و امّا إثباتاً فظاهر إطلاق الوجوب تحصيل عامة القيود، لأنّ الوجوب مطلق و الفعل مع قيده واقعان تحت دائرة الطلب، فكما تعلّق الطلب بنفس الفعل تعلّق بغيره، فيكون الكلّ مورداً للإلزام.

اللّهمّ إلاّ أن يدلّ دليل من خارج على أنّ القيد مطلوب الحصول لا مطلوب التحصيل.

مسائل ثلاث:

المسألة الأُولى: هل الوجوب في الواجب المشروط فعلي أو إنشائي؟ المسألة الثانية: إذا كان الوجوب إنشائياً فما فائدته؟ المسألة الثالثة: إذا شكّ في كون القيد راجعاً إلى الهيئة أو المادة فما هو المرجع؟ و إليك البحث فيها تباعاً.

المسألة الأُولى: الوجوب فعلي أو انشائي

هل الوجوب على فرض رجوع القيد إلى الهيئة فعلي أو إنشائي؟ و المراد من

ص:469


1- - كفاية الأُصول: 1/153.
2- - كفاية الأُصول: 1/158.

الفعل هو البعث على كلّ تقدير و من الانشائي هو البعث على تقدير دون تقدير، فإذا كان هذا هو المراد من الفعلي و الإنشائي، فالوجوب في الواجب المشروط، إنشائي، إذ ليس هناك بعث على كلّ تقدير بل بعث على تقدير، و المفروض عدم حصول المعلّق عليه فلا يكون هناك بعث فعلي إلاّ إنشاء البعث.

نعم لو قلنا بأنّ المراد من الفعلي كلّ حكم بيّنه الشارع على لسان نبيّه أو وصيّه من غير فرق بين الواجب المطلق و الواجب المشروط، فيكون الجميع فعلياً في مقابل الإنشائي و هو الحكم الذي يكون مخزوناً عند النبي و الوصي غير مبيّن لمصلحة في عدم البيان كالأحكام المخزونة عند صاحب الأمر صلوات اللّه عليه.

و لكن هذا المصطلح صحيح بالنسبة إلى كلّ الأحكام، فهي بين مبيّنة و مخزونة، فالمبيّنة هي الفعلية و المخزونة هي الشأنية.

و أمّا إذا لوحظ الحكم بشخصه فيعبر بالفعلي عمّا فيه البعث و التحريك فعلاً و بالإنشائي ما ليس كذلك، و على هذا الغرار فالوجوب في الواجب المشروط إنشائي لا غير.

لكن المحقّق العراقي مع اعترافه برجوع القيد إلى الهيئة دون المادة زعم كون الوجوب في الواجب المشروط فعلياً و أفاد في هذا الصدد بما يلي:

إنّ الآمر إذا التفت إلى كون فعل غيره ذا مصلحة على تقدير خاص أراده منه على ذاك التقدير، فإن لم يجد مانعاً من إظهار إرادته المذكورة أظهرها بما يجده مظهراً من قول أو فعل، فإذا أظهر إرادته التشريعية، اعتبر العرف هذا الإظهار حكماً و طلباً، و قالوا: حكم الشارع مثلاً على كذا بكذا، لأنّ جميع ما يمكن أن يصدر و يتأتى من الأمر قد حصل منه من شوقه و إرادته و إظهاره إرادته المتعلّقة

ص:470

بالفعل، الذي علم اشتماله على المصلحة إمّا مطلقاً أو على تقدير دون تقدير.

فالوجوب مطلقاً في المشروط و المطلق حكم فعلي حصل شرطه أم لم يحصل، و لا يعقل أن يكون للحكم نحوان من الوجود ليكون إنشائياً قبل تحقق شرطه و فعلياً بعده.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: انّ ما ذكره من أنّ الإرادة المظهرة بنحو من الأنحاء يعتبره العرف حكماً و طلباً له، ليس بتام، لأنّ الإرادة من مبادئ الحكم و مقدماته و ليس نفس الحكم و لا جزءاً منه و إنّما الحكم هو الإنشاء النابع عن الإرادة.

و الدليل على ذلك انّه ربّما يبعث المولى عبده و ينتزع منه الحكم مع الغفلة عن الإرادة الكامنة في ذهن المولى التي نجم منها الحكم.

و يوضح ذلك: انّا ننتزع الحكم من الأحكام الوضعية كالملكية و الزوجية المنشأتين بالإنشاء اللفظي أو الفعلي من دون ملاحظة انّ إنشاءهما نابع عن إرادة سابقة، فما أفاده من أنّ الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة، أمر لا يساعده الاعتبار.

و ثانياً: لو سلّمنا انّ الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة بفعل أو قول، و لكن يوصف الحكم بالفعلي إذا تعلق البعث بالشيء على كلّ تقدير لا إذا تعلّق به على تقدير خاص، و المفروض عدم حصول المعلّق عليه.

فإن قلت: إذا كان الحكم نابعاً عن الإرادة فهل الإرادة فعلية أو تقديرية؟ فعلى الأوّل كيف تكون المبادئ فعلية مع عدم كون الحكم فعلياً، و على الفرض الثاني يلزم التعليق في الوجود التكويني أي الإرادة و التعليق في التكوين أمر محال؟ قلت: لا شكّ أنّ الإرادة فعلية و لكن إرادة المولى لا تتعلق بفعل الغير لما

ص:471


1- - بدائع الأفكار: 1/340.

عرفت من امتناع تعلّق الإرادة بفعل الغير، لأنّ فعل الغير خارج عن اختيار المريد فكيف تتعلّق به الإرادة، بل متعلّق بفعل المريد و هو ليس إلاّ» إنشاء الحكم فالإرادة فعلية، لفعلية متعلّقه و هو إنشاء الحكم « و لكنّه لا ينافي أن يكون الحكم غير فعلي، لأنّه يكفي في فعلية الإرادة، هو فعلية نفس الإنشاء، لا فعلية متعلّقه.

و بعبارة أُخرى: الإرادة فعلية و ما تعلّقت به الإرادة، أعني: إنشاء البعث أيضاً فعلي، لأنّ المفروض أنّ المولى انشأ البعث لكن إنشاء البعث لا يلازم كون البعث فعلياً، لأنّ المفروض تعلّق البعث المنشأ على تحصيل شيء على تعدّيه.

المسألة الثانية: ما فائدة الوجوب المشروط؟

ربّما يقال بانّه إذا كان الوجوب انشائياً غير فعلي فما فائدة هذا الإنشاء؟ هذا هو الذي ذكره صاحب الكفاية بصورة السؤال و الجواب، فقال:

فإن قلت: فما فائدة الإنشاء إذا لم يكن المنشأ به طلباً فعلياً و بعثاً حالياً؟ فأجاب عنه بقوله: كفى فائدة له أنّه يصير بعثاً فعلياً بعد حصول الشرط بلا حاجة إلى خطاب آخر بحيث لولاه لما كان حينذاك متمكّناً من الخطاب، هذا مع شمول الخطاب كذلك للإيجاب فعلاً بالنسبة إلى الواجد للشرط فيكون بعثاً فعلياً بالإضافة إليه و تقديرياً بالنسبة إلى الفاقد له.

و أورد عليه المحقّق العراقي: بأنّ إنشاء التكليف من المقدّمات التي يتوصّل بها المولى إلى تحصيل المكلّف به في الخارج، و الواجب المشروط على مبنى المشهور ليس بمراد المولى قبل تحقّق شرطه في الخارج، فكيف يتصوّر أن يتوصّل العاقل إلى تحصيل ما لا يريده فعلاً؟ فلا بدّ أن يلتزم المشهور في دفع هذا الإشكال

ص:472

بوجود غرض في نفس إنشاء التكليف المشروط قبل تحقّق شرطه و هو كما ترى.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لم يتوصّل بكلامه إلى طلب الإيجاد فعلاً حتّى يقال كيف يتوصّل بكلام ما لا يريد إيجاده فعلاً، بل توصّل به إلى طلب الإيجاد على تقدير حصول الشرط و كم فرق بينهما.

ثمّ إنّ هذا السؤال يوجّه إلى الخطابات الشخصية القائمة بمخاطب واحد، فيقال ما فائدة هذا الخطاب بالنسبة إلى شخص ليس واجداً للشرط؟ و أمّا الخطابات القانونية الكلّية المتعلّقة بعنوان كالمؤمنين أو الناس فيكفي في تشريع الحكم الكلّي المشروط وجود عدّة من المكلّفين الواجدين للشرط و إن لم يكن الجميع واجداً له، فعندئذ ينشأ الحكم الكلي القانوني فيكون باعثاً فعلياً في حق الواجد و باعثاً، إنشائياً بالنسبة إلى غير الواجد و إنّما يصير فعلياً عند حصول الشرط.

المسألة الثالثة: ما هو الأصل عند الشكّ في رجوع القيد إلى الهيئة أو المادة؟

إذا لم تكن أدلّة الطرفين مقنعة و شكّ في رجوع القيد، فما هو مقتضى الأصل؟ و قد طرحها السيّد الأُستاذ تبعاً للمحقّق العراقي في هذا المقام، و لكن طرحها المحقّق الخراساني في التقسيم الثاني للواجب، أعني: تقسيمه إلى منجّز و معلّق، و نحن نرجئ البحث فيها إلى المسألة الثانية، كما نرجئ البحث عن المقدّمات المفوتة إلى ذلك البحث.

ص:473


1- - بدائع الأفكار: 1/346.
التقسيم الثاني تقسيم الواجب المطلق إلى منجّز و معلَّق
اشارة

ربّما يقسم الواجب المطلق إلى منجّز و معلّق بالبيان التالي:

إنّ الوجوب إذا تعلّق بالمكلّف به، و لم يتوقّف حصول الواجب على أمر غير مقدور، كالمعرفة يسمّى منجّزاً، و إن تعلّق به و توقّف حصول الواجب في الخارج على أمر غير مقدور، كالوقت في الحج يسمّى معلقاً، فانّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، و يتوقّف فعله على مجيء وقته و هو غير مقدور.(1)

و حاصل مرامه: إذا لم يكن وجوب الواجب و لا نفس الواجب متوقّفين على حصول أمر غير مقدور فهو الواجب المنجز كالمعرفة، و إن كان وجوبه غير متوقّف على شيء لكن كان الواجب متوقّفاً على حصول أمر غير مقدور فهو الواجب المعلّق أي علق الإتيان به على مجيء زمنه، و على ذلك فالوجوب و الواجب في المنجّز حاليّان، و في المعلّق الوجوب حاليّ و الواجب استقبالي.

و في الحقيقة أنّ ما اختاره صاحب الفصول في تفسير المعلّق هو نفس ما

ص:474


1- - الفصول: 81 بتلخيص.

فسّر به الشيخ الواجبَ المشروط حيث إنّ الوجوب في الواجب المشروط لدى الشيخ مطلق و الواجب مقيّد، غير انّ صاحب الفصول خصّ القيد في كلامه المتقدّم بغير المقدور و هو عمّمه إلى المقدور و غير المقدور. و بالتالي المعلّق قسم من الواجب المشروط لدى الشيخ.

ثمّ إنّه أورد على هذا التقسيم إشكالات ستة نذكرها تباعاً مع ما فيها من الانظار.

إشكالات ستة
الأوّل: ما أورده المحقّق الخراساني

قائلاً: بأنّه لاوجه لتخصيص المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور، بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخّر أخذ على نحو لا يكون مورداً للتكليف و يترشح عليه الوجوب من الواجب.(1)

يلاحظ عليه: أنّ صاحب الفصول لم يخصّه بغير المقدور بشهادة أنّه قال بعد العبارة المتقدمة: و اعلم انّه كما يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر غير مقدور، كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير أمر مقدور، فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله.(2)

الثاني: ما أورده هو أيضاً

بقوله: لا وقع لهذا التقسيم، لأنّه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط، و خصوصية كون الواجب حالياً أو استقبالياً لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم، و لا اختلاف فيه، فإنّ ما رتبه عليه من وجوب المقدّمة فعلاً كما يأتي إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه و حاليته لا من استقبالية الواجب.(3)

توضيحه: انّ الداعي إلى تصوير الواجب المعلّق إنّما هو دفع الإشكال عن

ص:475


1- - كفاية الأُصول: 1/164.
2- - الفصول: 81.
3- - كفاية الأُصول: 1/161.

المقدّمات المفوتة، حيث أطبق القوم على وجوب الغُسل على الجنب الصائم قبل طلوع الفجر، و قطع المسافة على المستطيع قبل زمان الحجّ، و لا يتعلّق الوجوب بهما إلاّ بجعل الوجوب فعلياً و الواجب استقبالياً، فعندئذ وجوب المقدّمة إنّما هو من آثار إطلاق الوجوب و حاليته لا من استقبالية الواجب، فلا ثمرة لهذا التقسيم، لأنّ الذي يميّز المعلّق عن المنجّز إنّما هو استقبالية الواجب في الأوّل دون الثاني و ليس لذلك القيد أثر عملي.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لم يرتب الثمرة على المعلّق في مقابل المنجّز حتّى يقال بأنّ الثمرة مشتركة بينهما، بل على المعلق في مقابل الواجب المشروط على مذهب المشهور، فالواجب المشروط بما انّ الوجوب غير حالي لا تجب مقدّماته بخلاف الواجب المعلّق فبما أنّ وجوبه حالي تجب مقدماته المفوتة.

الثالث: ما أورده المحقّق ملا علي النهاوندي

و ربّما ينسب إلى السيد العلاّمة الفشاركي و قد نقله المحقّق الخراساني بتلخيص مخل، و قال:

إنّ الطلب و الإيجاب إنّما يكون بإزاء الإرادة المحركة للعضلات نحو المراد، فكما لا يكاد تكون الارادة منفكة عن المراد فليكن الإيجاب غير منفك عمّا تتعلّق به، فكيف يتعلّق بأمر استقبالي فلا يكاد يصحّ الطلب و البعث فعلاً نحو أمر متأخّر.(2)

و حاصل هذا الإشكال: انّ تجويز الواجب المعلّق يستلزم تفكيك الإرادة عن المراد و هو محال، بتوضيح أنّ وزان الإرادة التشريعية وزان الإرادة التكوينية، غير أنّ الثانية تتعلق بفعل النفس و الأُولى بفعل الغير، فكما أنّ الإرادة في

ص:476


1- - كفاية الأُصول: 1/161.
2- - كفاية الأُصول: 1/162.

التكوينية لا تنفك عن المراد فهكذا الثانية.

أمّا التكوينية فإذا ظهرت الإرادة في لوح النفس، استعقبت حركة العضلات التي يستتبعها المراد، فهناك أُمور ثلاثة: إرادة، و تحريك للعضلات، و إيجاد للمراد.

فهكذا الأمر في الإرادة التشريعية فهناك إرادة تشريعية التي تستعقب الإيجاب على المكلّف، و هو لا ينفك عن حركة العبد و إطاعته إذا كان مطيعاً.

و لازم ذلك استحالة الواجب المعلّق، لأنّه يستلزم انفكاك الإيجاب عن حركة العبد، و هو مستحيل، فالإيجاب بمنزلة تحريك العضلات، و حركة العبد نحو المراد بمنزلة حركة الشخص نحو المراد كلمة بكلمة.

أقول: ما ذكره يتركّب من أمرين:

1. الفرق بين الإرادتين هو أنّ التكوينية تتعلّق بفعل النفس و التشريعية بفعل الغير.

2. الوجه المشترك بين الإرادتين هو امتناع انفكاك الإرادة عن المراد، فاستنتج من المقدمتين أنّ الإرادة لا تتعلّق بأمر استقبالي في التكوين و التشريع.

أقول: أمّا الوجه الأوّل و هو بيان الفرق بين الإرادتين فهو غير صحيح، لما سمعت منّا مراراً من أنّ الإرادة لا تتعلّق إلاّ بالفعل الاختياري، و الفعل الاختياري هو فعل النفس، فينتج أنّ الإرادة لا تتعلّق إلاّ بفعل النفس، و أمّا فعل الغير فهو خارج عن سلطان المريد، فكيف يريده مع أنّه ليس تحت قدرته؟ و لذلك ربّما يعصي و لا يطيع، كلّ ذلك يدلّ على أنّ التشريعية كوزان التكوينية تتعلّق بأمر اختياري غير أنّ متعلّقها في التشريعية هو إنشاء البعث و في غيرها تحريك

ص:477

الأعضاء أو انجاز المراد الخارجي كما سيوافيك.

و أمّا الوجه الثاني، أعني: تفكيك المراد عن الإرادة فنبحث عنه في مقامين:

الأوّل: في الإرادة التشريعية.

و الثاني: في الإرادة التكوينية.

أمّا الأوّل: سواء أجاز تفكيك المراد عن الإرادة أم لم يجز، فالإرادة في التشريعية مطلقاً غير منفكّة عن المراد، و ذلك لأنّ المراد فيها هو إنشاء الطلب و البعث أو إنشاء الزجر، و المفروض تحقّق الإنشاء بعد الإرادة، و كون المراد حالياً أو استقبالياً لا يضر بفعلية المراد في الإرادة التشريعية، لما عرفت من أنّ المراد فيها هو فعل المريد و هو نفس إنشاء البعث.

و أمّا فعل المكلّف فهو خارج عن حيطة الإرادة التشريعية.

فظهر من ذلك أنّ الإرادة غير منفكّة عن المراد في هذا القسم.

و أمّا المقام الثاني، أعني: عدم تفكيك المراد عن الإرادة التكوينية أو تفكيكه عنها، فهو بحث فلسفي لا يمت إلى المسائل الأُصولية بصلة، غير انّا نبحث فيه بمقدار الحاجة.

قد عرفت استدلال المحقّق النهاوندي حيث إنّه سلّم عدم الانفكاك في الإرادة التكوينية و لم يقم عليه دليلاً، غير انّ المحقّق الأصفهاني قد أقام عليه دليلاً في تعليقته على الكفاية حيث قال: إنّ النفس في وحدتها كل القوى، و في كلّ مرتبة عينها، فإذا أدركت في مرتبة العاقلة فائدة الفعل تجد في مرتبة القوة الشوقية شوقاً إليه، و إذا لم تجد مزاحماً تخرج منها إلى حدّ الكمال الذي يعبّر عنه بالقصد و الإرادة و ينبعث منها هيجان في القوة العاملة و يحرك العضلات، و من

ص:478

الواضح أنّ الشوق و إن أمكن تعلّقه بأمر استقبالي، إلاّ انّ الإرادة لا يمكن تعلّقها بأمر استقبالي، و إلاّ يلزم تفكيك العلّة التامة عن معلولها، أعني: انبعاث القوة العاملة المنبثَّة في العضلات، و أمّا الشوق المتعلّق بالمقدّمات بما هي مقدّمات فإنّما يحصل من الشوق إلى ذيها، لكنّه فيها يحصل إلى حد الباعثية لعدم المزاحمة، دون ذي المقدّمة فانّه فيه يبقى بحاله إلى أن يرفع المانع.(1)

و حاصل ما أفاد: انّ الإرادة علّة تامّة لتحريك العضلات، فلو كان المراد فعليّاً صارت الإرادة سبباً لتحريك العضلات، لأنّ تعلق الإرادة بالمراد الفعلي دليل على عدم الحوائل و الموانع لنيل المراد فتتعلق الإرادة بمعلولها، أي تحريك العضلات، و أمّا إذا كان المراد استقبالياً فبما أنّ هناك حوائل بين النفس المريد و المراد بشهادة كون المراد استقبالياً فلا تستعقب الإرادة تحريك العضلات مع أنّ الإرادة علّة تامة لتحريكها و هو بمنزلة تفكيك المعلول) تحريك العضلات (عن علته و) الإرادة (.

هذا توضيح مرامه.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبنيّ على أنّ في الأفعال الإرادية إرادة واحدة و هي تستمدّ وجودها من العلم بالفائدة إلى الشوق و منه إلى حصول القصد و الإرادة الذي يستعقب تحريك العضلات نحو الفعل الإرادي، فلو صحّ ذلك لصحّ ما ذكره من أنّ تعلّق الإرادة بأمر استقبالي يستلزم تفكيك العلة التامة) الإرادة (عن معلولها أي تحريك العضلات، لأنّ في مثل المقام لا تستعقب الإرادةُ تحريك العضلات، لعلمها بوجود حوائل بين النفس و المراد، فلا فائدة في مثله لتحريك العضلات.

ص:479


1- - نهاية الدراية: 2/72 طبعة آل البيت.

و أمّا لو قلنا بأنّ في كلّ فعل خارجي إرادي إرادتين إحداهما تتعلّق بتحريك العضلات و الأُخرى بإنجاز العمل الخارجي.

فلو كان متعلّق الإرادة الثانية أمراً فعلياً تستعقب ذلك ظهور إرادة أُخرى متعلّقة بتحريك العضلات لاستشعار النفس بعدم الموانع بشهادة أنّ الإرادة تعلّقت بأمر فعلي.

و أمّا لو كان متعلّق الإرادة الثانية أمراً استقبالياً، ففي مثله لا تحدث إرادة متعلّقة بتحريك العضلات، لأنّ تعلّقها بأمر استقبالي قرينة على وجود الحائل بين النفس و المراد، و بالتالي لا تظهر في لوح النفس إرادة محرّكة للعضلات حتى يقال: يلزم تفكيك العلة عن المعلول.

و الذي يدلّ على تعدّد الإرادة هو أنّه لو كان هناك إرادة واحدة، متعلّقة بتحريك العضلات كان الفعل الخارجي فعلاً غير إرادي لعدم تعلّق الإرادة به، و تصوّر انّ إرادة واحدة تتعلّق بتحريك العضلات و إنجاز العمل بالفعل الخارجي، أمر مرفوض، و ذلك لأنّ تشخّص الإرادة بالمراد، فإذا تعدّد المراد) تحريك العضلات و إنجاز العمل (فلا محالة تتعدد الإرادة.

و الذي يدعم تعلّق الإرادة بأمر استقبالي هو أنّ إرادته سبحانه إرادة بسيطة قديمة تعلّقت بخلق الأشياء حسب التدريج في عالم المادة فالإرادة قديمة و المراد أمر حادث.

و بذلك يعلم أنّ ما اشتهر بين الأعاظم من أنّ الإرادة علّة تامّة لا تتخلّف عن المراد بين صحيح و غير صحيح، فإن أُريد الإرادة المتعلّقة بتحريك العضلات فهو صحيح، و إن أُريد تعلّقها بالعمل الخارجي فليس بصحيح، لأنّها ليست علّة تامة فيمكن تخلّفها عن المراد إلاّ إذا كانت هناك إرادة ثانية متعلّقة بتحريك

ص:480

العضلات.

ثمّ إنّ صاحب المحاضرات فسّر إمكان تعلّق الإرادة بأمر استقبالي بأنّه إن كان المراد من الإرادة هو الشوق فلا شكّ في تعلّقها بأمر استقبالي كتعلّقها بأمر حالي، و هذا لا يحتاج إلى إقامة برهان، بل هو أمر وجداني، و إن أُريد منها الاختيار و إعمال القدرة فهي لا تتعلّق بفعل الإنسان نفسه إذا كان في زمن متأخّر فضلاً عن فعل غيره، و لذا لا يمكن تعلّقها بالمركب من أجزاء طولية كالصلاة دفعة واحدة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الإرادة ليست نفس الشوق بشهادة أنّ الإنسان يريد شرب الدواء المرّ مع عدم الشوق، و لا إعمال القدرة، فانّه من آثار الإرادة و نتائجها، بل هي عبارة عن إجماع النفس و تصميمها و جزمها بحيث لا يرى المريد في نفسه أيَّ تردد في الإتيان بالعمل، فحينئذ إذا كان المقتضي موجوداً و المانع مفقوداً، تتعقبها إرادة أُخرى بتحريك العضلات، و إن كانت هناك موانع لا تكون هناك إلاّ إرادة واحدة متعلّقة بالمطلوب بالذات إلى أن يرتفع المانع، فتنقدح إرادة أُخرى بتحريك العضلات.

و أمّا ما استشهد به في ذيل كلامه على مدّعاه) الإرادة لا تتعلّق بأمر استقبالي (بعدم تعلّقها بالمركّب من أجزاء طولية كالصلاة دفعة واحدة، فغير تام، لأنّ عدم تعلّقها به لأجل أنّه مستلزم لاجتماع النقيضين، لأنّ كون الشيء تدريجياً يستلزم التعاقب في الوجود، و كونه دفعياً يستلزم خلافه. و هذا بخلاف ما إذا تعلّقت بالمركب من أجزاء طولية على نحو التدريج فانّه في غاية الإمكان، بل لا محيص عنه، و إلاّ يلزم تعدّد الإرادة حسب تعدّد الأجزاء الكثيرة و هو كما ترى.

ص:481


1- - المحاضرات: 2/352.
الرابع ما ذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري

من أنّ إطلاق الوجوب و كون القيد راجعاً إلى الواجب، يقتضي ايجاب الفعل مع القيد و هذا إنّما يتصوّر في القيود الاختيارية، و أمّا القيود الخارجة عن قدرة المكلّف فيستحيل تعلّق الطلب بما ليس تحت قدرة المكلّف، فلا محيص عن إرجاع القيد إلى الهيئة، فيكون الطلب المتعلق بالفعل المقيد بالزمان من أقسام الطلب المشروط.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الشيء تارة يلاحظ جزءاً للواجب و أُخرى شرطاً له، ففي الأوّل يكون القيد و التقيّد داخلين في الواجب، و أمّا على الثاني فيكون التقيد داخلاً و القيد خارجاً.

إذا عرفت ذلك فانّ الإشكال إنّما يرد إذا كان الوقت جزءاً للواجب فيجب إيجاده بحكم إطلاق الوجوب مع أنّه خارج عن اختيار الإنسان.

و أمّا إذا كان شرطاً على نحو يكون ذات القيد خارجاً و التقيّد داخلاً فامتثاله أمر ممكن، مثلاً انّ الزمان و السماء خارجان عن اختيار المكلّف، إلاّ انّ إيجاد الصلاة تحت السماء مقدور و إتيانها في الوقت المزبور أمر ممكن.

الخامس: ما حكاه المحقق الخراساني من عدم القدرة على المكلّف به في حال البعث مع أنّها من الشرائط العامة.

و الإجابة عنه واضحة حيث إنّ الشرط كما ذكره المحقّق الخراساني القدرة على الواجب في زمان لا في زمان الإيجاب و التكليف.(2)

ص:482


1- - درر الفوائد: 1/76.
2- - كفاية الأُصول: 1/164.
السادس: ما ذكره المحقّق النائيني

في كلام مفصّل كما جاء في تقريراته و يتألف كلامه من أُمور ثلاثة:

1. كلّ القيود ترجع إلى الموضوع

إنّ الأحكام الشرعية موضوعة على نهج القضايا الحقيقية، و هي عبارة عن وضع الحكم على العنوان الكلي الصادق على الأفراد المتحقّقة أو المقدرة عبر الزمان على نحو يكون الإنشاء أزلياً و فعلية الحكم مشروطة بتحقّق الموضوع، فقوله سبحانه: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(1)، بمنزلة قولنا:» الإنسان العاقل البالغ المستطيع يجب عليه الحجّ «فالحكم مترتب على موضوع كلي لا تنحصر مصاديقه بالموجودين وقت التشريع بل يشمل مصاديقه عبر الزمان.

فإذا كانت القيود راجعة إلى الموضوع فلا معنى لاستثناء قيد الزمان فهو أيضاً راجع إلى الموضوع كسائر الشروط، فكأنّه يقول: الإنسان البالغ العاقل المستطيع المدرك لزمان الحج يجب عليه الحجّ، و من المعلوم أنّ كلّ حكم مشروط بوجود الموضوع فيكون الموضوع بعامّة شروطه قيداً للحكم أي الوجوب، من غير فرق بين الاستطاعة و الزمان، فكما أنّه لو لا الاستطاعة لا وجوب فهكذا لو لا الزمان لا بعث فعلي.

ص:483


1- - آل عمران: 97.
2. لا فرق بين الاستطاعة و الزمان

يقول) قدس سره (: نحن نسأل القائل بالواجب المعلّق، أيّة خصوصية في الوقت حتى يتقدّم الوجوب عليه؟ مع أنّا لم نقل بذلك في سائر القيود من البلوغ و الاستطاعة مع اشتراك الكلّ في كونه مأخوذاً قيداً للموضوع، فأيّ فرق بين الوقت و الاستطاعة، بحيث يتقدم الوجوب على الأوّل دون الثاني؟

3. الزمان أولى أن يكون قيداً للوجوب

ثمّ إنّه) قدس سره (أفاض الكلام و قال: إنّ الأمر في الوقت أوضح، لأنّه لا يمكن أخذه إلاّ مفروض الوجود، لأنّه أمر غير اختياري ينشأ من حركة الفلك، و يكون فوق دائرة الطلب، و يكون التكليف بالنسبة إليه مشروطاً، و إلاّ يلزم تكليف العاجز.(1)

يلاحظ على الأوّل: أنّ إرجاع عامّة القيود إلى الموضوع غير تام، و ذلك لما عرفت عند البحث في الواجب المطلق و المشروط انّ القيود ثبوتاً على قسمين:

قسم لها دور أساسي في ظهور الإرادة و انقداحها في النفس على نحو لولاه لما أراده المولى و إن كان المتعلق ذا مصلحة و هذا كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ، فانّ الحجّ مطلقاً ذو مصلحة من غير فرق بين المستطيع و المتسكع، لكن إيجابه على نحو الإطلاق مستلزم للحرج، و لذلك قيّد المولى الوجوب بالاستطاعة لئلا يكون حرج بالنسبة إلى غير المستطيع، فهذا القسم من القيود يرجع إلى الوجوب. و بعبارة أُخرى يرجع إلى الموضوع، و يصحّ قوله: إنّ الموضوع البالغ العاقل المستطيع.

ص:484


1- - لاحظ فوائد الكاظمي: 1/187; أجود التقريرات: 1/141.

و قسم منه يرجع إلى المتعلّق بمعنى أنّه لو لا القيد لما كان فيه أيّة مصلحة، و هذا كما في الطواف بالبيت و الصلاة مع الوضوء، فلولا البيت لا يوصف الطواف بالصلاح، كما أنّه لو لا الوضوء لا توصف الصلاة بالمصلحة، ففي هذا النوع من القيود لا محيص من القول برجوعها إلى المتعلق دون الوجوب و بالتالي دون الموضوع.

فإذا كانت القيود ثبوتاً على قسمين فكيف جعلها قسماً واحداً؟! و يلاحظ على الثاني: بوجود الفرق بين الاستطاعة و الزمان فانّ للاستطاعة دوراً في ظهور الإرادة و انقداحها في لوح النفس و لذلك يكون قيداً للوجوب و بالتالي جزء الموضوع، و أمّا الزمان فليس له مدخلية في انقداح الإرادة، بل له دور في ترتب المصلحة على الأعمال التي يقوم بها الحاج في أيّام الحج، فالأعمال إنّما تكون ذات مصلحة إذا أتى بها الحاج في الأراضي المقدّسة و الأزمنة المحددة، و لو كان له دور في ظهور الإرادة فإنّما هو بتبع تأثيره في المتعلّق، و لأجل ذلك صارت الاستطاعة قيداً للوجوب، و هذا) الزمان (قيداً للواجب.

و يلاحظ على الثالث بأنّ ما ذكره مبني على عدم الفرق بين كون الزمان جزءاً و شرطاً، و الإشكال إنّما يرد إذا كان الزمان جزءاً و هو عبارة عن كون القيد و التقيّد داخلين في المتعلّق مع أنّ الزمان فوق دائرة الطلب فكيف يقع مورد الطلب؟! و أمّا إذا قلنا إنّ الزمان شرط لا جزء، فالجزء و إن كان خارجاً عن حيّز القدرة و لكن التقيّد داخل في إطار الاختيار فللمكلّف الإتيان بالأفعال في ذلك المقطع من الزمان كما أنّ له الاختيار في الإتيان بها في غير ذلك المقطع. و هذا نظير استقبال الكعبة فانّ الكعبة خارجة عن اختيار المكلّف لكن إيقاع الصلاة نحوها

ص:485

داخل في اختياره.

و بالجملة، هذه الإشكالات لا تورد أيَّ خدشة على تقسيم الواجب المطلق إلى معلّق و منجّز، و من أوضح الأدلّة على إمكان القسمين هو وجود المعلّق و المنجّز بين العقلاء.

بقي هنا إشكال آخر و إن شئت فاجعله سابع الإشكالات، فنقول:

السادس

السابع: ما ذكره المحقّق الخوئي

من أنّ الواجب المعلّق ليس من أقسام الواجب المطلق في مقابل المشروط بل هو قسم منه، و ذلك لأنّ وجوب الحجّ مثلاً إمّا مشروط بيوم عرفة أو مطلق، و بما أنّ التكليف لم يتعلّق بذات الفعل على الإطلاق و إنّما تعلّق بإيقاعه في زمن خاص، فعلم من ذلك أنّ للزمان دخلاً في ملاكه و إلاّ فلا مقتضى لأخذه في موضوعه، وعليه فبطبيعة الحال يكون الوجوب مشروطاً به غاية الأمر على نحو الشرط المتأخر.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره مبني على عدم التفريق ثبوتاً بين القيود الراجعة إلى الإرادة و الوجوب و القيود الراجعة إلى المتعلّق، و على وفق ما ذكرنا من الضابطة، فالزمان بما له مدخلية في ترتّب المصلحة على المتعلّق على نحو لو لا إيقاع الفعل في تلك الفترة لما ترتب على الفعل أي مصلحة، فالزمان قيد للمادة.

و ما ذكره من أنّ وجوب الحجّ إمّا مشروط بيوم عرفة أو مطلق، لا يثبت مرامه، لأنّا نختار أنّ وجوبه مطلق و له مدخلية في ملاك الواجب، و ما رتّب عليه من أنّه إذا كان دخيلاً في الملاك يكون الوجوب مشروطاً به، غير تام لما فيه:

أوّلاً: بالنقض فانّ الوضوء له مدخلية تامّة في الصلاة، مع أنّ الوجوب غير مشروط به.

ص:486


1- - المحاضرات: 2/348.

و ثانياً: انّ عدم تعلّق الوجوب بغير ما فيه الملاك، ليس بمعنى اشتراط الوجوب به، بل بمعنى عدم تعلّق الوجوب بما ليس فيه الملاك و تضيّقه ذاتاً لا اشتراطه بالقيد، و هذا كتضيق كلّ حكم بالنسبة إلى موضوعه، إذ ليس كلّ حكم مشروطاً بموضوعه، و مع ذلك ليس له دعوة إلاّ إلى موضوعه.

ص:487

المقدمات المفوتة أو ثمرات الواجب المعلّق

إنّ الغاية من تقسيم الواجب المطلق إلى منجّز و معلّق هو رفع الإشكال في قسم من المقدمات الوجودية التي أفتى المشهور بوجوب المقدّمة مع عدم وجوب ذيها، و عندئذ أشكل عليهم بأنّ وجوب المقدّمة نابع عن وجوب ذيها، و معه كيف وجد المعلول دون العلة، و ذلك في الموارد التالية:

1. وجوب الاحتفاظ بالماء قبل الوقت لواجده إذا علم عدم تمكّنه منه بعد دخول الوقت.

2. وجوب الغسل للمستحاضة قبل الفجر في الصيام الواجب.

3. وجوب تحصيل المقدّمات الوجودية للحج قبل وقته.

4. تعلّم الأحكام للبالغ قبل مجيء وقت وجوب العمل، إذا ترتب على تركه فوت الواجب.

إلى غير ذلك من الموارد التي يتقدّم فيها وجوب المقدّمة على وجوب ذيها، و هو بمنزلة تقدّم المعلول على العلة.

فقد اختار كلّ مهرباً نشير إليه.

ص:488

1. ذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ القيد في الواجب المشروط يرجع إلى المادة، و الوجوب مطلق و الواجب مقيّد بقيد اختياري أو غير اختياري، ففي الموارد المذكورة وجوب المقدّمة رافق وجوب ذيها، لإطلاق الوجوب و عدم تقيّده بقيد، حتّى لا يتحقّق إلاّ بعد تحقّقه و المفروض عدم تحقّقه.

2. تخلّص صاحب الفصول بجعل هذه الموارد من قبيل الواجب المعلّق حيث إنّ الوجوب حاليّ و الواجب استقباليّ، و ما اختاره من المعلّق هو نفس ما اختاره الشيخ الأنصاري في تفسير الواجب المشروط، غير أنّ صاحب الفصول، قسّم المطلق إلى منجّز و معلّق، مع تسليمه تقسيم الواجب إلى مطلق و مشروط فهو مع القول بالواجب المشروط، أبدى ذلك التقسيم.

3. ما اختاره المحقّق الخراساني من جعل الشرط في هذه الموارد من قبيل الشرط المتأخّر الذي مرجعه عنده إلى الشرط المقارن فيكون وجوب ذيها فعلياً، و لا يلزم منه محذور وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها، و إنّما اللازم الإتيان بها قبل الإتيان به، قال) قدس سره (: لا إشكال في لزوم الإتيان بالمقدّمة قبل زمان الواجب إذا لم يقدر عليه في الموارد الثلاثة:

1. فيما إذا كان منجزاً و كان الوجوب و الواجب حاليّين.

2. فيما إذا كان معلّقاً و كان الوجوب حالياً دون الواجب.

3. أو مشروطاً بشرط متأخّر كان معلوم الوجود فيما بعد ضرورة فعلية وجوبه و تنجّزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدّمة فيترشح منه الوجوب عليها على الملازمة، و لا يلزم منه محذور وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها و إنّما اللازم الإتيان بها قبل الإتيان به.(1)

ص:489


1- - كفاية الأُصول: 1661/165.

4. ما اختاره المحقّق الأردبيلي في خصوص مسألة خصوص التعلّم قبل الوقت و هو القول بالوجوب النفسي التهيئي للجاهل البالغ الذي يعلم عدم تمكّنه من التعلّم بعد دخول الوقت فهو واجب نفسي لكن يُهيّئ الإنسان لواجب آخر.

5. ما اختاره شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في سالف الزمان و هو أنّ الوجوب هنا وجوب عقلي إرشادي إلى حفظ غرض المولى، لأنّ العقل لا يفرق في القبح بين مخالفة التكليف الشرعي و بين مخالفة التكليف العقلي حيث إنّ العقل يستقل بلزوم الإتيان بالمقدّمات المفوّتة قبل وجوب ذيها، لأنّ في ترك الإتيان تفويت للملاك و الغرض اللازم و إلى هذا الجواب أشار المحقّق الخراساني حيث قال: بل لزوم الإتيان بها عقلاً و لو لم نقل بالملازمة.

6. ما اختاره السيّد الأُستاذ و هو القول بوجوب المقدّمة غير المترشحة من وجوب ذيها، و محصله:

انّه لا مانع من فعلية وجوب المقدّمة دون فعلية وجوب ذيها، فانّ الإشكال ينشأ من توهم أنّ وجوب المقدّمة ناشئ و نابع عن وجوب ذيها. و عندئذ كيف يتصوّر وجود المعلول قبل وجود العلّة، و أمّا إذا قلنا بأنّ لكلّ من الوجوبين مبادئ مستقلة في نفس الأمر، فكما أنّ لذيها مبادئ من تصوّر الفائدة و الشوق ثمّ التصميم و الجزم، فهكذا في جانب المقدّمة حيث إنّ المولى يتصوّر فائدة المقدّمة و يشتاق إليها ثمّ يريدها بالطلب و الإيجاب و عندئذ لا مانع من إيجاب المقدّمة قبل إيجاب ذيها.

و بذلك يعلم معنى الملازمة بين وجوب المقدّمة و وجوب ذيها، فإن أُريد الملازمة في مقام الفعلية فهي غير صحيحة، و إن أُريد منها انّ وجوب المقدّمة لا يفارق وجوب ذيها و لو في موطنه و محلّه، لأنّ وجوبها غيري و مثله لا ينفك عن الوجوب النفسي و لو بعد فترة فهذا صحيح.

ص:490

و بذلك يعلم عدم تمامية ما أفاده المحقّق الخراساني من تصوير أنّ وجوب المقدّمة معلول لوجوب ذيها، و لذلك يكشف وجوبها آناً عن وجوب ذيها حيث قال: إنّ وجوب المقدّمة إنّما يكشف بطريق الإنّ عن سبق وجوب ذيها، لو كان وجوبها ناشئاً عن وجوبه، و إرادتها ناشئة من إرادته.

و لكنّك عرفت خلافه، و إنّ وجوب ذيها أو إرادته بمنزلة العلّة الغائية التي لا يعتبر إلاّ تقدّمها ذهناً لا خارجاً، و يكفي في المقام العلم بأنّه سوف يأمر به المولى.

و إن شئت قلت: إنّ وجوب المقدّمة إنّما يكشف عن وجوب ذيها إنّاً، لو كان وجوبها مترشحاً من وجوبها و إرادتها مترشحة من إرادته، و أمّا إذا كان وجوب ذيها علّة غائية لا علة فاعلية فيمكن أن يتقدّم وجوب المقدّمة على وجوب ذيها، فالخلط حصل من تصوّر أنّ وجوب ذيها علّة فاعلية مع أنّها علّة غائية.

تطبيقات

لقد عرفت انقسام الواجب إلى المطلق و المشروط، و المطلق إلى المعلّق و المنجّز، فحان البحث عن سرد تطبيقات في هذا المجال.

1. قال سبحانه: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ).(1)

قال المفسرون: المراد من شهود الشهر هو رؤية الهلال أو كون المكلّف حاضراً لا مسافراً، و الآية ظاهرة في الوجوب المعلّق حيث أوجب على الشاهد في أوّل الشهر وجوبَ صيام الشهر كلّه، فالوجوب حالي و الواجب استقبالي.

2. قال سبحانه: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ).(2)

ص:491


1- - البقرة: 185.
2- - آل عمران: 97.

فالظاهر من الآية أنّ وجوب الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة واجب مشروط و لكنّه بالنسبة إلى زمان الحجّ واجب معلق، لأنّه إذا تمكن المكلّف من الزاد و الراحلة وجب عليه الحجّ لانقلاب الواجب المشروط بعد حصول شرطه إلى المطلق فيصير الوجوب فعلياً، لكن الواجب متأخر عن زمان الوجوب فلا مانع من أن يكون وجوب الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة واجباً مشروطاً و بالنسبة إلى زمان الحجّ واجباً معلقاً.

3. روى زرارة عن أبي جعفر) عليه السلام (انّه قال:» إذا دخل الوقت وجب الطهور و الصلاة، و لا صلاة إلاّ بطهور «.(1)

و الرواية ظاهرة في كون وجوب الصلاة مشروطاً بالوقت و الواجب، واجب مشروط.

إلى غير ذلك من التطبيقات التي في وسع الباحث أن يتدبر فيها.

سؤال و إجابة

أمّا السؤال: أيّ فرق بين إراقة الماء قبل الوقت مع العلم بعدم إمكان تحصيله بعده، و إجناب الرجل نفسه اختياراً بمواقعة أهله قبل الوقت، مع علمه بعدم تمكّنه من الطهارة المائية بعده، حيث أفتوا بعدم جواز الأوّل و جواز الثاني. فهذا التفريق لا يصحّ على أيّ وجه من الوجوه المذكورة.

و أمّا الجواب: فهو ما أفاده المحقّق الخراساني بما هذا حاصله: أنّ الواجبات الشرعية مختلفة من ناحية المقدّمة، فقد تكون القدرة المعتبرة قدرة مطلقة، فعندئذ

ص:492


1- - الوسائل: 1، الباب 4 من أبواب الوضوء، الحديث 1.

يجب تحصيلها أو حفظها، و قد يكون الواجب قدرة خاصّة و هي القدرة على الصلاة مع الطهارة المائية إذا لم يقدم على مواقعة أهله. فالتجويز من الفقهاء كاشف عن كون المعتبر هو القدرة الخاصّة لا العامة.(1)

إذا دار الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة أو المادة

إنّ هنا بحثين: أحدهما ما مرّ من حكم المقدّمات المفوِّتة، و الثاني انّه إذا لم يكن دليل الطرفين مقنعاً لإثبات أحد القولين فما هو المرجع؟ و قبل الخوض في البحث نذكر أُموراً:

1. ليس البحث بحثاً علمياً صرفاً، بل له ثمرة عملية، و ذلك لأنّه إن دلّ الدليل على رجوع القيد إلى الهيئة يكون من قبيل الواجب المشروط فلا يجب تحصيل الشرط، و إن رجع إلى المادة فإنّ إطلاق الوجوب يقتضي وجوب تحصيل القيد إذا كان أمراً اختيارياً، إلاّ إذا دلّ الدليل على أنّ المطلوب حصول القيد لا تحصيله.

نعم لا تظهر الثمرة في القيود الخارجة عن الاختيار كطلوع الفجر و زوال الشمس.

2. انّ عقد هذا البحث يصحّ ممّن يرى كلاً من الهيئة و المادة صالحة للتقييد، و امّا من يرى تقييد الهيئة أمراً محالاً فلا يصلح له البحث في هذا الموضوع، و العجب من الشيخ مع اعتقاده بالامتناع، طرح هذا البحث.

3. إنّ محط البحث ما إذا كان القيد منفصلاً، و أمّا إذا كان القيد متّصلاً و دار الأمر بين رجوعه إلى الهيئة أو المادة، يصير الكلام مجملاً شأن كلّ كلام محتف

ص:493


1- - كفاية الأُصول: 1/167.

بما يصلح للقرينية مع عدم وجود ظهور لغوي أو انصراف أو قرينة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في مقتضى الأُصول اللفظية و أُخرى في مقتضى الأُصول العملية، و إليك بيان الأمرين:

مقتضى الأصل اللفظي عند الترديد

استدلّ الشيخ على أنّه إذا دار الأمر بين تقييد الهيئة و تقييد المادّة، فمقتضى الأصل اللفظي إرجاع القيد إلى المادة دون الهيئة بوجهين:

الأوّل: تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي

و حاصل هذا الوجه: انّ مفاد الهيئة إطلاق شمولي، و إطلاق المادة إطلاق بدلي، و إذا دار الأمر بين تقييد أحد الإطلاقين فتقييد البدلي أولى من تقييد الشمولي.

إنّ الدليل مؤلف من صغرى و كبرى.

أمّا الصغرى فهي أنّ إطلاق الهيئة شمولي و إطلاق المادة بدلي.

و أمّا الكبرى فهي أنّه إذا دار الأمر بين تقييد أحدهما، فتقييد البدلي أولى من تقييد الشمولي، و إليك توضيح الأمرين:

أمّا الصغرى فلانّه إذا قال: أكرم زيداً) و لم يقيّده (فمقتضى إطلاق الهيئة، وجوب الإكرام على كلّ التقادير سواء أسلّم أم لا، سواء أ جاء أم لم يجئ.

و هذا بخلاف المادّة فانّ المطلوب هو الإتيان بفرد من الطبيعة، و قد اشتهر أنّ الطبيعة توجد بفرد واحد و تنعدم بعامّة الأفراد. هذا هو بيان الصغرى.

و أمّا الكبرى فهو تقديم الإطلاق البدلي على الشمولي، لأنّ الدلالة الثانية أقوى من الدلالة الأُولى.

ص:494

و قد أورد عليه المحقّق الخراساني بما هذا حاصله: و هو انّ المقرر عند الأُصوليّين و حتّى الشيخ نفسه في باب التعادل و الترجيح(1) هو تقديم العام الشمولي على الإطلاق البدلي لا تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي، و ذلك لأنّه إذا كان الشمول بالدلالة اللفظية الوضعية) العام الشمولي (تكون دلالته تامّة غير معلقة بشيء، بخلاف ما إذا كان الإطلاق البدلي مستفاداً من الإطلاق فدلالته معلّقة على عدم ورود البيان بخلافها، و المفروض أنّ العام الشمولي الذي دلالته وضعية يصلح لأن يكون قرينة و بياناً للقيد في جانب الإطلاق البدلي.

و إن شئت قلت: إنّ الميزان في حفظ أحد المدلولين: الشمولي و البدلي و إيراد القيد على الآخر ليس هو الشمولية أو البدلية، بل الميزان هو قوّة الدلالة و هو يرجع إلى كون أحدهما مدلولاً بالدلالة اللفظية و الآخر مدلولاً بالدلالة العقلية، فاللفظية مقدّمة على العقلية، سواء كانت في جانب الشمولي أو في جانب البدلي، فإذا قال: أكرم كل العلماء، ثمّ قال: أهن فاسقاً، و بما انّ النسبة بين الدليلين عموم و خصوص من وجه يتعارضان في العالم الفاسق، فيقدّم العام الوضعي و هو الشمولي على الإطلاق و هو البدلي، و ذلك لأنّ دلالة العام دلالة تامّة و دلالة الإطلاق معلّقة على عدم القرينة على خلافه، و المفروض أنّ العام يصلح أن يكون قرينة على الإطلاق، ففي هذا المثال يقدّم الشمولي على البدلي لا بملاكهما، بل ملاك أنّ الأوّل مدلول لفظي و الآخر مدلول عقلي، و لو عُكِس، عُكِس، مثلاً إذا قال: أكرم أي واحد من العلماء، بصورة العام البدلي ثمّ قال: و لا تكرم فاسقاً، و بما أنّ بين الدليلين عموماً من وجه، يتعارضان في العالم الفاسق،

ص:495


1- - الفرائد مبحث التعادل و الترجيح ص 457 طبعة رحمة اللّه عند قوله:» و منها تعارض الإطلاق و العموم «.

فيقدّم البدلي على الشمولي بحكم أنّ دلالة البدلي دلالة وضعية و دلالة الشمولي دلالة عقلية. فدلالة اللفظ على البدل غير معلّقة على شيء بخلاف دلالته على الشمولي فانّها معلّقة على عدم ما يصلح أن يكون قرينة للخلاف.

فقد علم بذلك أنّ الميزان هو تقدّم الدلالة الوضعية على الدلالة الإطلاقية من غير فرق بين الشمولي و البدلي، و أمّا المقام فالمفروض أنّ المدلولين على شاكلة واحدة، حيث إنّ كلاً من الشمولي و البدلي مفهومان من الإطلاق، فهما سيّان في الأقوائية، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

إلى هنا تمّ الوجه الأوّل لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة، و إليك بيان الوجه الثاني.

الوجه الثاني: تقييد الهيئة يوجب تقييد المادة أيضاً و لا عكس

و حاصله: أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة و يرتفع به مورده، بخلاف العكس، و كلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك، كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى.

توضيحه: أنّ هذا الوجه كالوجه السابق مؤلّف من صغرى و كبرى.

أمّا الصغرى فلأنّ تقييد الهيئة يوجب تقييد المادة و لا عكس.

أمّا الكبرى فلأنّ الأمر إذا دار بين تقييدين أو تقييد واحد فالثاني مقدّم.

أقول: الظاهر أنّ الكبرى أمر لا سترة عليه، إنّما المهم هو بيان الصغرى. فنقول: إذا فرض أنّ المولى قال: أكرم زيداً إن جاءك يوم الجمعة، فلو فرضنا أنّ القيد يرجع إلى الوجوب الذي هو مفاد الهيئة، فبما أنّه لا وجوب قبل مجيء يوم الجمعة، يكون الواجب أيضاً هو الإكرام التوأم مع مجيء زيد، و هذا بخلاف ما

ص:496

إذا كان القيد راجعاً إلى المادة حيث يكون الإكرام المقيّد بالمجيء يومئذ واجباً، فلا يسري التقيد إلى مفاد الهيئة أعني: الوجوب لجواز أن يكون الوجوب حالياً قبل يوم الجمعة و المطلوب استقبالياً.

و أورد عليه المحقّق الخراساني: بأنّه إنّما يتمّ إذا كان القيد منفصلاً، بحيث ينعقد لكلّ من الهيئة و المادة إطلاق، فيدور الأمر بين التصرّفين و التصرّف الواحد، و أمّا إذا كان القيد متّصلاً فبما أنّه لم ينعقد للكلام أي ظهور و إطلاق، فلو رجع القيد إلى الهيئة فهو لا يستلزم تقييد المادة، بل يستلزم إبطال محلّ الإطلاق و إلغاء القابلية في المادة، و هو ليس أمراً مخالفاً للأصل.

فلو دار الأمر بين تقييد واحد كالمادة، و تقييد واحد و إبطال محلّ الإطلاق في الآخر، بمعنى أنّه لا ينعقد الإطلاق فيه من أوّل الأمر فلا دليل على الترجيح.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره خروج عن موضع النزاع لما عرفت من أنّ النزاع فيما إذا كان القيد منفصلاً، و أمّا إذا كان متّصلاً فيعود الكلام مجملاً لا يعتبر كلّ من الظهورين.

و الأولى أن يجاب بأنّ ما ذكره الشيخ وجه عقلي لا ينعقد به الظهور حتّى يكون موجباً لتقديم ما هو الأقوى دلالة و ظهوراً على الأضعف كذلك، و قد مرّ منّا القول عند البحث في تعارض الأحوال أنّ ما ذكروه من الوجوه لتقديم بعض الأحوال على بعض كالنقل المجاز مثلاً وجوه استحسانية لا يلتفت إليها العرف و لا ينعقد بها الظهور.

ثمّ إنّ هنا كلاماً للمحقّق النائيني لا يخلو من نكتة حيث قال:

إنّا لو فرضنا ثبوت أقوائية الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي، فلا

ص:497


1- - كفاية الأُصول: 1701/169.

يوجب ذلك تقديمه عليه، لأنّ الأقوائية إنّما توجب التقديم، لو كان التخالف و التكاذب بينها بالذات، كما في المثالين:» لا تكرم فاسقاً «،» أكرم عالماً «و الأوّل يفيد الشمول، و الثاني يفيد البدلية، فانّ كلّ واحد منها يكذّب الآخر، إذ لا تجتمع حرمة إكرام الفاسق على إطلاقه و لو كان عالماً مع وجوب إكرام مطلق العالم و لو كان فاسقاً، ففي مثله يقدّم الأقوى على الأضعف، و هذا هو محل الكلام في مبحث التعادل و الترجيح، لا في المقام إذ ليس بين إطلاق الهيئة و المادة في أنفسهما تكاذب في المقام إذ لا مانع من كونهما مطلقين غير مقيدين، و إنّما جاء التعارض لأجل علم إجمالي بطروء القيد على أحدهما مع تساويه بالنسبة إلى الأقوى و الأضعف، و في مثله، لا وجه لتقديم الأقوى على الأضعف لما ذكرناه من تساوي العلم الإجمالي.(1)

مقتضى الأصل العملي

قد عرفت أنّه لا أصلَ لفظي في المقام يعتمد عليه، و انّ القيد إذا كان متصلاً يلزم منه الإجمال في الكلام، و إن كان منفصلاً فالعلم الإجمالي بتقييد أحد الإطلاقين يمنع عن الأخذ بواحد منهما، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي.

و أمّا مقتضاه فلانّ الشكّ في كون القيد راجعاً إلى الهيئة) فلا يجب تحصيله (و إلى المادة) فيجب تحصيله (شكّ في وجوب تحصيل القيد و المرجع فيه البراءة.

نعم الأصل العملي، أعني: البراءة لا يثبت أحد الظهورين أي كون القيد قيداً للهيئة أو المادة.

ص:498


1- - أجود التقريرات: 1641/163.
التقسيم الثالثتقسيمه إلى نفسي و غيري
اشارة

(1)

عرّف القوم الواجب النفسي و الغيري بالتعريف التالي:

النفسي ما أُمر به لنفسه.

و الغيري ما أمر به لغيره.

و أورد عليه الشيخ الأعظم بأنّ تعريف النفسي غير جامع، كما أنّ تعريف الغيري غير مانع.

أمّا الأوّل: فلأنّ النفسي ينحصر بمعرفة اللّه تعالى التي أمر بها لنفسها، و أمّا سائر الواجبات النفسية كالصلاة و الصوم و الزكاة فتخرج عن التعريف، لأنّها لم يؤمر بها لأنفسها، بل أمر بها لغاياتها المعلومة من النهي عن الفحشاء و كونه جُنّة من النار و اختباراً للأغنياء إلى غير ذلك من الغايات.

و أمّا الثاني: فقد علم ممّا ذكر، لأنّ غير المعرفة إذا خرج عن تحت الواجب النفسي يدخل في الواجب الغيري، لأنّه أمر به لغيره، أعني: المصالح و الغايات.(2)

يلاحظ عليه: بأنّ المراد من كلمة» لنفسه «هو ما أمر به لا لبعث آخر، كما أنّ المراد من لفظة » لغيره «ما أمر به لبعث آخر، فالمقيس عليه في تسمية الأمر نفسياً

ص:499


1- - مرّ التقسيم الثاني، ص 474.
2- - مطارح الأنظار: 66.

أو غيرياً هو ملاحظة كون البعث لأجل بعث آخر و عدمه، فالأوّل هو الغيري، و الثاني هو النفسي.

و بعبارة أُخرى: الملاك في كون الواجب نفسياً أن يتعلّق به البعث في ملاك فيه لا لأجل بعث آخر، كما أنّ الملاك في كون الواجب غيرياً أن يتعلّق به البعث لأجل بعث آخر، و عندئذ تدخل الواجبات النفسية المعلومة كونها نفسية في التعريف الأوّل و لا يعمّه التعريف الثاني.

تعريف ثان للنفسي و الغيري

ثمّ إنّ الشيخ لما لم يرتض بالتعريف المتقدّم حاول التعريف بوجه آخر نقله المحقّق الخراساني في » الكفاية «، قال: فإن كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى واجب لا يكاد يمكن التوصّل بدونه إليه لتوقّفه عليه فالواجب غيري، و إلاّ فهو نفسي، سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه كالمعرفة باللّه أو محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه كأكثر الواجبات من العبادات و التوصليات.(1)

و بما أنّ الشيخ عمّم الواجب النفسي إلى ما إذا كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه كالمعرفة أو محبوبيته بما له من الغايات، أورد عليه في الكفاية، بأنّه لو كان الداعي هو اشتماله على الفائدة المترتبة عليه كان الواجب غيريّاً، فانّه لو لم تكن هذه الفائدة لازمة، لما دعا إلى إيجاب ذي الفائدة.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الإشكال نابع من عدم الإمعان في كلام الشيخ حيث إنّه جعل المعيار كون الداعي إلى الأمر التوصّل إلى واجب آخر و عدمه، لا التوصّل إلى الغايات و الأغراض و عدمها، و الأغراض و إن كانت محبوبة بالذات و لكنها ليست

ص:500


1- - كفاية الأُصول: 1/171.
2- - المصدر نفسه.

واجبة في الشريعة و لم يتعلّق بها الأمر و الطلب.

و الحاصل: انّ المعيار في الواجب الغيري كون الداعي إلى الأمر هو التوصّل إلى واجب آخر دلّ الدليل على وجوبه في الشريعة، فمثل هذا التعريف لا يشمل الصلاة و الصوم، إذ لم يكن الداعي إلى الأمر بها هو التوصّل إلى واجب ورد في الشريعة، و كون الداعي من الأمر و إن كان هو التوصّل إلى الأغراض و الغايات لكن الأغراض لما لم تقع في إطار الأمر الظاهري لا يصدق على الصلاة كون الأمر بها للتوصل إلى واجب في الشريعة، و كون الأمر بها للتوصل إلى الغاية ليس معياراً في تحديد الواجب الغيري.

و بذلك ظهر صحّة كلا التعريفين و رجوعهما إلى تعريف واحد سواء أقلنا:

النفسي ما أمر به لنفسه لا لبعث آخر.

و الغيري ما أمر به لغيره و لبعث آخر، أو قلنا:

الغيري: ما يكون الداعي إلى الأمر، التوصّل إلى واجب آخر.

النفسي: ما لا يكون الداعي التوصّل إلى واجب آخر، و إن كان الداعي إلى الأمر لبّاً هو تحصيل الغايات و الأغراض التي ليست واجبة في الشريعة الإسلامية.

فإن قلت: ينتقض التعريف بالظهر و المغرب إذ فيهما كلا الملاكين: النفسيّة و الغيرية، و بأفعال الحج، و ذلك لأنّ المتقدّم منها واجب نفسي و في الوقت نفسه وجب لبعث آخر أو لواجب آخر على اختلاف في التعبيرين.

قلت: تقدّم أنّ المقدّمة ليس هي نفس الصلاة أو نفس العمل في أعمال الحجّ، بل المقدّمة هو تقدّمه على العصر، و العمل شيء و التقدّم شيء آخر، أو الشرط تأخّر العصر عن الظهر أو تأخّر السعي عن الطواف، و تأخّرهما لا صلة له

ص:501

بالظهر و العمل المتقدّمين.

فإن قلت: ما هو حكم المقدّمات المفوتة، إذ هي ليست واجباً غيريّاً لعدم وجوب ذي المقدّمة حتّى يكون البعث بها لأجل بعث آخر، و لا نفسياً لعدم استلزام تركها العقاب، بل العقاب في مسألة اغتسال المستحاضة على ترك الصوم.

قلت: نلتزم بأنّها واجب غيري، فانّ البعث بها لأجل بعث آخر و إن لم يكن البعث. الثاني فعلياً و قد تقدّم أنّه يمكن فعلية وجوب المقدّمة قبل فعلية ذيها.(1)

دوران الوجوب بين النفسي و الغيري

إلى هنا تمّ تعريف الواجب النفسي و الغيري، فلو تبيّن كون شيء نفسيّاً أو غيرياً فهو، و إلاّ فيرجع إلى الأصل اللفظي أوّلاً، و الأصل العملي ثانياً، فيقع الكلام في إمكان التمسّك بالأصلين.

الأوّل: ما هو مقتضى الأصل اللفظي؟

إنّ مقتضى الأصل اللفظي كون الواجب نفسياً لعدم حاجة النفسي إلى القيد و حاجة الغيري إليه، فالأمر بالشيء مع السكوت عن شيء آخر آية كونه نفسياً، و أمّا الغيري فلا يكفي فيه الأمر بالشيء، بل يتوقّف على الأمر بالشيء الآخر حتّى يكون الأمر الأوّل لأجل الأمر الثاني، هذا ما لا إشكال فيه، إنّما الكلام في إمكان انعقاد الإطلاق في مفاد الهيئة، و إلاّ فلو قلنا بالإطلاق فمقتضاه هو النفسية، و المتأخّرون من الأُصوليّين في المقام بين ناف لإمكان انعقاد الإطلاق

ص:502


1- - لاحظ ص 490، حول مختار السيد الأُستاذ (قدس سره).

كالشيخ الأنصاري و مثبت كالمحقّق الخراساني.

استدلّ الشيخ على عدم إمكان انعقاد الإطلاق في مفاد الهيئة بوجهين:

الأوّل: أنّ الصيغة موضوعة لمصاديق الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب لا لمفهوم الطلب، فانّ الفعل لا يتّصف بالمطلوبية إلاّ بواسطة تعلّق واقع الإرادة و حقيقتها به لا بواسطة مفهومها، و من المعلوم أنّ الفرد الحقيقي المنقدح في نفس الطالب جزئي لا يقبل فيه التقييد و الإطلاق، فلا معنى للتمسّك بإطلاق الصيغة لكون الواجب نفسياً لا غيرياً.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني: بأنّ مفاد الهيئة ليس الفرد الحقيقي من الطلب بل مفادها هو مفهوم الطلب كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف و لا يكاد يكون مفادها، الفرد الحقيقي من الطلب، أعني: ما يكون بالحمل الشائع طلباً، و إلاّ لما صحّ إنشاؤه بها ضرورة انّه من الصفات الخارجية الناشئة من الأسباب الخاصة.

نعم ربما يكون هو) الطلب الحقيقي (هو السبب لإنشائه، بل المنشأ هو الطلب الإنشائي و الوجود الإنشائي لكلّ شيء ليس إلاّ قصد مفهومه بلفظه.(2)

الظاهر وجود الخلط في كلام العلمين.

أمّا الأوّل: فلأنّ ما ذكره الشيخ من أنّ الصيغة موضوعة لمصاديق الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب لا لمفهوم الطلب، أمر غير صحيح، فانّ الأُمور التكوينية كالطلب الحقيقي الذي هو عبارة أُخرى عن الإرادة التكوينية لاتحّاد الطلب و الإرادة الحقيقيتين غير قابلة للإنشاء، و إنّما القابل للإنشاء هو المفهوم لا المصداق الحقيقي، فالزوجية التكوينية كالعينين و الأُذنين بما انّهما ظاهرة تكوينية

ص:503


1- - مطارح الأنظار: 67.
2- - كفاية الأُصول: 1741/173.

غير قابلة للإنشاء اللفظي، و إنّما القابل للإنشاء الزوجية الاعتبارية فبالإنشاء يصيران زوجين رجل و امرأة اعتباراً، و هذا ما نبّه به المحقّق الخراساني.

و أمّا الثاني: فلأنّ المحقّق الخراساني و إن أصاب في نفي كون الموضوع له هو الطلب الحقيقي، لأنّه غير قابل للإنشاء لكنّه أخطأ في قوله في أنّ الموضوع له هو الطلب الكلي أي مفهوم الطلب الذي هو مفهوم اسمي لما عرفت من أنّ الموضوع له في الحروف و الهيئات مصاديق الطلب الكلي، فانّ القابل للإنشاء هو الفرد لا المفهوم الكلي بقيد انّه كليّ، و قد أوضحنا ذلك عند البحث عن المعاني الحرفية.

و أمّا إمكان تقييد الجزئي فقد مرّ أنّ الجزئي و إن كان غير قابل للتقييد من حيث الأفراد لكنّه قابل للتقييد من حيث الأحوال، فانّ الطلب المنشأ و إن كان جزئياً لكن لها سعة من حيث الأحوال فيقال في المقام الوجوب ثابت، سواء أوجب شيء أم لا.

الثاني: ما أفاده المحقّق العراقي: انّ المعاني الحرفية و إن كانت كلّية إلاّ أنّها ملحوظة بتبع لحاظ متعلّقاتها، أعني: المعاني الاسمية لكونها قد اتخذت آلة لملاحظة أحوال المعاني الاسمية، و ما كان هذا شأنه فهو دائماً مغفول عن ملاحظته بخصوصه، وعليه فكيف يعقل توجّه الإطلاق و التقييد إليه لاستلزامه الالتفات إليه بخصوصه في حال كونه مغفولاً عنه بخصوصه، و هذا خلف.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ كون المعاني الحرفية معان آلية غير كونها مغفولاً عنها، و قد عرفت فيما سبق أنّ الغرض ربّما يتعلّق بتفهيم المعاني الحرفية و تكون هي المقصد الأصلي في الكلام، كما في قولك:» زيد على السطح «أو» الماء في الإناء «فالغرض

ص:504


1- - بدائع الأفكار: 1/373.

الأصلي هو كينونة زيد على السطح و الماء في الإناء، فكيف يكون مفهوماً مغفولاً عنه؟ و قد تبيّن من ذلك انّ المنشأ قابل لانعقاد الإطلاق و ليست الجزئية كما في كلام الشيخ و لا الآلية كما في كلام المحقّق العراقي مانعين لانعقاد الإطلاق.

أدلّة المتمسّكين بإطلاق الهيئة

إذا كان الشيخ و المحقق العراقي قدّس سرّهما من نفاة إمكان انعقاد الإطلاق في الهيئة بالدليلين السابقين، فانّ هناك من يصحح إمكان انعقاد الإطلاق في مفاد الهيئة و انّ نتيجة الإطلاق كون الواجب نفسيّاً مستدلّين بما يلي:

الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ الهيئة و إن كانت موضوعة لما يعمهما إلاّ انّ إطلاقها يقتضي كونه نفسياً، فانّه لو كان شرطاً لغيره لوجب التنبيه على المتكلم الحكيم.

يلاحظ عليه: أنّ كلاً من الواجب الغيري و النفسي يشاركان في أصل الوجوب و يمتازان بشيء آخر، و الفصل المميّز لهما هو كون الوجوب في الأوّل» لنفسه «و في الآخر» لغيره «فكلّ منهما يحتاج إلى بيان زائد وراء بيان أصل الوجوب، و لو كان النفسي نفس الوجوب لزم كون القسم نفس المقسم.

الثاني: ما أفاده المحقّق البروجردي من أنّ الصيغ الإنشائية قد وضعت للبعث و التحريك نحو متعلّقاتها، و البعث الغيري المتعلّق بالمقدّمات ليس في الحقيقة بعثاً نحوَ المتعلّق و إنّما هو تأكيد للبعث المتعلّق بذيها، فالكلام يُحمل على ظاهره و هو البعث الحقيقي نحو ما تعلّق به.(1)

ص:505


1- - نهاية الأُصول: 1/170.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتمّ إذا كان دليل المقدّمة إرشاداً إلى الشرطية مثل قوله:» لا صلاة إلاّ بطهور «، و أمّا إذا كان بلسان الأمر المولوي بالمقدّمة فلا وجه لإنكار البعث نحوها كما في الآيتين التاليتين:

1. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ).(1)

2. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً )(2).(3)

و الآية الأُولى تؤكد على الوضوء و تبيّن كيفيته، و معه كيف يقال: ليس فيه بعث نحوه، كما أنّ الآية الثانية تأمر بحفظ الحذر و تبيّن كيفية النفر، و معه كيف يقال: ليس في الأمر الغيري بعث إلى المقدّمة؟ و كون البعث إلى المقدّمة لأجل ذيها شيء، و عدم البعث إلى المقدّمة شيء آخر، و الصحيح هو الأوّل دون الثاني.

و مما يدلّ على وجود البعث الأكيد إلى المقدّمة في الآية الثانية قوله سبحانه في سورة أُخرى:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ).(4)

الثالث: ما اخترناه و حاصله: انّ هناك فرقاً بين الثبوت و الإثبات، فالواجبان: النفسي و الغيري يشاركان في أصل الوجوب و يتميّزان بفصل قوله:

ص:506


1- - المائدة: 6.
2- - النساء: 71.
3- - و الحذر الآلة التي بها يتقى الحذر و هو كناية عن السلاح، و الثبات جمع» ثبة «جماعات في تفرقة) مجمع البيان: 2/73).
4- - التوبة: 38.

» لنفسه «و» لغيره «.

و أمّا في مقام الإثبات فكأنّ أحد القسمين في نظر العرف يحتاج إلى بيان زائد دون الآخر، فالأمر بالشيء و السكوت عن القيد) لنفسه أو لغيره (كاف في بيان الأمر النفسي، و لا منافاة بين كون الشيء مركباً في عالم الثبوت و بسيطاً في عالم الإثبات، و قد مرّ توضيح ذلك في أوائل الأوامر عند البحث في حمل الأمر على الوجوب.

الرابع: بناء العقلاء على حمل الواجب على كونه نفسياً و القيام به و إلغاء احتمال كونه غيرياً الذي لو اعتمدنا عليه لا يجب القيام بالفعل، و ذلك لأنّ الأمر عند العقلاء يحتاج إلى جواب فلا يصحّ للعبد ترك المأمور به باحتمال انّه غيري و لم يثبت وجوب ذيه بعد فلا يصحّ تقاعس العبد عن الامتثال باحتمال كونه غيرياً.

الخامس: التمسّك بإطلاق دليل الواجب كالصلاة، إذ لو كان الأمر بالوضوء واجباً غيرياً يلزم تقييد الواجب أعني: الصلاة به، بخلاف ما إذا كان نفسياً فإطلاق دليل الواجب أعني: الصلاة يثبت كون الوضوء واجباً نفسياً بناء على حجّية الأُصول المثبتة اللفظية.

و الفرق بين هذا الوجه و الوجوه الأربعة السابقة هو أنّ التمسّك فيها بإطلاق هيئة الأمر المشكوك كونه نفسياً أو غيرياً، و أمّا المقام فالتمسّك هنا بمادة الأمر الغيري الذي نحتمل أن يكون الأمر المشكوك، مقدمة له.

يلاحظ على ذلك الوجه: أنّ كون الأمر غيرياً لا يستلزم تقييد الواجب النفسي مطلقاً و إنّما يقتضيه إذا كان الأمر الغيري قيداً للواجب النفسي و مأخوذاً فيه تقيّده به كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة، و أمّا نصب السلّم و سائر المعدّات التي هي واجبات غيرية فليست مأخوذة في متعلّق الأمر النفسي.

ص:507

فتلخّص من هذا البحث الضافي أنّ مقتضى الأُصول اللفظية كون الأمر المشكوك نفسياً أو غيرياً هو النفسية، فلو اقتنع المجتهد بأحد هذه الوجوه لما تصل النوبة إلى الأصل العملي، و أمّا لو افترضنا أنّ الهيئة غير قابلة لانعقاد الإطلاق فيها كما عليه العلمان: الأنصاري و العراقي، فلا بدّ من الرجوع إلى الأُصول العملية، و هذا ما نذكره في البحث التالي:

المقام

الثاني: في مقتضى الأصل العملي

و قبل أن نذكر مقتضى الأصل العملي نشير إلى الصور الثلاث المذكورة في» الكفاية «منطوقاً و مفهوماً.

1. الشكّ في النفسية و الغيرية مع العلم بوجوب الغير.

2. الشكّ في النفسية و الغيرية مع الشكّ في وجوب الغير.

3. الشكّ في النفسية و الغيرية مع العلم بعدم وجوب الغير.

و إليك تفاصيل هذه الصور:

الأُولى: إذا تردد وجوب الوضوء أنّه نفسي لأجل النذر أو غيري لأجل الصلاة الواجبة، فلا شكّ أنّ مقتضى الأصل هو الإتيان به للعلم بوجوبه فعلاً و إن لم نعلم جهة وجوبه.

هذا ما ذكره المحقّق الخراساني، و لكنّه لم يركّز على المقصود الأصلي في هذا الفرع إذ لا شكّ في وجوب الإتيان بالوضوء، إنّما الكلام في تعيين محلّه، فهل هو مختار بين الإتيان به قبل الصلاة و بعدها كما هو مقتضى النفسية، أو انّه يأتي به قبل الصلاة قطعاً لا بعدها كما هو مقتضى النفسية؟ مقتضى الاشتغال اليقيني هو الإتيان به قبل الصلاة، لأنّ الإتيان به بعدها يلازم الشكّ في الامتثال،

ص:508

فالاشتغال اليقيني بوجوب الإتيان بالوضوء، امّا قبل الصلاة متعيّناً أو قبل الصلاة و بعدها متخيراً يقتضي الإتيان به على نحو يعلم بفراغ الذمة عمّا اشتغلت به و ليس هو إلاّ الإتيان قبلها.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني ذهب إلى أنّ المرجع في المقام هو البراءة و انّه يكون مختاراً بين الوقتين قائلاً:

بأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ في تقييد الصلاة بالوضوء و انّه شرط لصحتها، فيرجع الشك بالنسبة إلى الصلاة إلى الشك بين الأقل و الأكثر الارتباطي، و أصالة البراءة تقتضي عدم شرطية الوضوء للصلاة، فتكون النتيجة، النفسية.(1)

يلاحظ عليه بوجهين:

أوّلاً: أنّ الأصل مثبت حيث إنّ إجراء البراءة عن تقييد الصلاة بالوضوء لا يثبت كون الأمر المشكوك واجباً نفسياً إلاّ بالقول بالأصل المثبت فانّ كون الأمر المشكوك نفسياً لازم عقلي لعدم تقييد الصلاة بالوضوء.

ثانياً: انّ اجراء الأصل في ناحية المتعلّق) الصلاة (لا يؤثر في انحلال العلم الإجمالي فانّه يعلم بوجوب الوضوء إمّا غيرياً أو نفسياً، و لكلّ من الغيرية و النفسية أثر شرعي، إذ على الغيري يجب تقديمه، و على النفسي مخيّر بين الأمرين. فمقتضى هذا العلم الإجمالي هو لزوم الامتثال اليقيني و هو فرع الإتيان بالعمل قبل الصلاة.

الثانية: إذا دار أمر وجوب الوضوء بين كونه نفسيّاً أو غيرياً لكن وجوب الغير بعدُ لم يثبت فما هو مقتضى الأصل؟ و الظاهر أنّ مقتضاه هو البراءة، إذ لو كان وجوبه غيرياً لم يجب الآن لعدم وجوب ذيه فبقي كونه واجباً نفسياً و هو

ص:509


1- - فوائد الأُصول: 1/223.

مشكوك، و إلى ما ذكرنا يشير المحقّق الخراساني حيث قال:» و إلاّ فلا، لصيرورة الشكّ فيه بدوياً «(1)، إذ لو كان وجوبه غيرياً لا يجب لعدم وجوب الصلاة ظاهراً بمقتضى البراءة فيصير كونه واجباً نفسياً مشكوكاً مجرى للبراءة.

و أورد عليه المحقّق النائيني قائلاً: بأنّ الأقوى وجوبه، لأنّ المقام من قبيل العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر، إذ كما أنّ العلم بوجوب ما عدا السورة مع الشكّ في وجوبها يقتضي امتثال ما علم و لا يجوز البراءة فيه، مع أنّه يحتمل كون ما عدا السورة واجباً غيرياً و مقدّمة للصلاة مع السورة فكذلك المقام، من غير فرق بينهما سوى تعلّق العلم بمعظم الواجب في مثل الصلاة بلا سورة، و في المقام تعلّق بمقدار من الواجب كالوضوء فقط، و هذا لا يصلح لأن يكون فارقاً.(2)

يلاحظ عليه: أوّلاً: بأنّ العلم التفصيلي بأنّ الأقل واجب على كلّ تقدير معلول العلم الإجمالي بأنّ الأقلّ إمّا واجب نفسي أو واجب غيري، و عند ذلك كيف يمكن الأخذ بالأقل بادّعاء أنّه معلوم الوجوب تفصيلاً، مع إجراء البراءة عن وجوب الأكثر) الصلاة مع السورة (و القول بانحلال العلم الإجمالي إلى تفصيلي و بدوي و ليس هذا إلاّ نظير الأخذ بالمعلول مع اعدام العلة؟ و نظيره المقام فانّ الجمع بين القول بوجوب الوضوء و إجراء البراءة عن وجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء يشبه بالأخذ بالمعلول مع نفي علّته، و ذلك لأنّ العلم التفصيلي بوجوب الوضوء رهن العلم الإجمالي بكونه واجباً إمّا نفسياً أو غيريّاً، فكيف يمكن القول بوجوبه تفصيلاً مع إجراء البراءة عن الوجوب الغيري » وجوب الصلاة المقيدة بالوضوء «، مع أنّ حفظ العلم التفصيلي رهن حفظ العلم الإجمالي بكلا طرفيه لا حفظ طرف واحد؟!

ص:510


1- - كفاية الأُصول: 1/175.
2- - فوائد الأُصول: 1/223.

و ثانياً: وجود الفرق بين المقام و الأقل و الأكثر الارتباطيين، و ذلك لأنّ الأقل في الارتباطي واجب بالوجوب النفسي لما سيوافيك أنّ الأجزاء واجبة بالوجوب النفسي غير أنّ الشكّ يدور بين كون وجوبه قصيراً لقلة أجزائه أو طويلاً لكثرة أجزائه، و على كلّ تقدير فقد أحرز وجوب الأقل نفسياً.

و هذا بخلاف الوضوء في المقام فانّه إمّا واجب نفسي أو واجب غيري، و على فرض كونه قيداً للصلاة يصبح وجوبه غيرياً لا نفسياً لكونه خارجاً عن ماهيّة الصلاة، و يُعد من المقدّمات الخارجة عنها.

الثالثة: إذا تردد أمر الوضوء بين كونه نفسيّاً أو غيرياً لواجب يعلم قطعاً بعدم وجوبه، كما هو الحال في الحائض إذا دار حكم الوضوء بين كونه واجباً نفسيّاً أو غيرياً للصلاة التي تعلم أنّها غير واجبة في حقّها، فلا شكّ أنّه لا يجب عليها التوضّؤ بل هو مجرى للبراءة لكون الشكّ في وجوبه بدوي، فتلخص انّ المرجع في الفرع الأوّل هو الاحتياط، و قد عرفت أنّ معناه تقديم الوضوء على الصلاة و في الأخيرين هو البراءة.

و ينبغي التنبيه على أُمور:
الأوّل: في ترتّب الثواب على امتثال الواجب الغيري

لا شكّ في ترتّب الثواب على امتثال الواجب النفسي إذا قصد به القربة، كما أنّه لا شكّ في ترتّب العقاب على ترك الواجب النفسي، لأنّه يعدّ تمرّداً على المولى و خروجاً عن رسم العبودية و زيّ الرقية.

هذا كلّه في الواجب النفسي، و أمّا الواجب الغيري فلا شكّ أنّ تركه بما هو هو لا يوجب العقاب، نعم لما كان تركه منتهياً إلى ترك الواجب النفسي

ص:511

فالعقاب على ترك ذيه لا على نفسه.

هذا كلّه لا كلام فيه و إنّما الكلام في أمر رابع و هو ترتّب الثواب على الواجب الغيري و عدم ترتبه، و قبل الخوض في صلب الموضوع نشير إلى مسألة كلامية و هي هل الثواب في مطلق الواجبات من باب الاستحقاق أو من باب التفضّل؟ ذهب المحقّق الطوسي في» التجريد «و تبعه شارحه العلاّمة في» كشف المراد «إلى أنّ ترتّب الثواب على امتثال الواجبات من باب الاستحقاق، و ذهب الشيخ المفيد إلى أنّه من باب التفضّل، فلندرس أدلّة القولين:

أدلّة القائلين بالاستحقاق

استدلّ القائل بالاستحقاق بوجهين:

الأوّل: انّ التكليف مشقّة، و كلّ مشقة بلا عوض ظلم، فينتج أنّ التكليف بلا عوض ظلم.(1)

و يظهر من المحقّق الخراساني ارتضاؤه حيث قال: لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي و موافقته، و استحقاق العقاب على عصيانه و مخالفته عقلاً.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الصغرى و الكبرى مخدوشتان.

أمّا الصغرى، و هو انّ التكليف مشقة فلا يخلو من ضعف، فانّ التكاليف الشرعية تابعة للمصالح و المفاسد، و معها كيف يمكن وصف التكليف بالمشقة،

ص:512


1- - كشف المراد: 262، المقصد السادس في المعاد، المسألة الخامسة، في الوعد و الوعيد.
2- - كفاية الأُصول: 1/175.

فانّ التكاليف الشاقة و إن كان بظاهرها شاقة لكن وراء التكاليف مصالح لازمة التحصيل، أو مفاسد واجبة التحرّز، و مثل التكاليف الشاقة كشرب الدواء المر أو تحمّل الكي بالنار، فانّ الجميع بظاهرها شاق و لكنّها في الباطن تعدّ من أسباب السعادة و السلامة.

و أمّا الكبرى، فنمنع كلّيتها فانّه إنّما يُعد قبيحاً إذا لم يكن الغير مملوكاً للآمر و المفروض أنّه مملوك له.

و بذلك تبيّن أنّ القول بالتفضّل أوضح من القول بالاستحقاق، و ذلك لأنّ كلّ ما يملكه العبد من حول و قوّة و ما يصرفه في طريق الطاعة كلّه ملك للّه سبحانه و ليس للعبد دور سوى صرف نعمه سبحانه في موارد يرتضيها، و عندئذ كيف يكون مستحقاً للأجر مع أنّه لم يبذل في طريق الطاعة شيئاً إلاّ ما أعطاه المولى، يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ).(1)

قال العلاّمة الطباطبائي: و ما يعطيه تعالى من الثواب للعبد تفضّل منه من غير استحقاق من العبد، فإنّ العبد و ما يأتيه من عمل، ملك طلق له سبحانه ملكاً لا يقبل النقل و الانتقال، غير أنّه اعتبر اعتباراً تشريعيّاً، العبدَ مالكاً و ملّكه عمله، و هو المالك لما ملّكه و هو تفضّل آخر ثمّ اختار ما أحبّه من عمله فوعده ثواباً على عمله و سمّاه أجراً و جزاء و هو تفضّل آخر، و لا ينتفع به في الدنيا و الآخرة إلاّ العبد. قال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ )(2)، و قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ )(3)، و قال بعد وصف الجنّة

ص:513


1- - فاطر: 15.
2- - آل عمران: 172.
3- - فصّلت: 8.

و نعيمها: (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً )(1)، و ما وعده من الشكر و عدم المنّ عند إيتاء الثواب تمام التفضّل.(2)

فالقول بالتفضّل أوضح برهاناً و أوفق بالقرآن الكريم كما سيوافيك.

الدليل الثاني: ما تكرر في الذكر الحكيم من التعبير عن الثواب، بالأجر للعمل و هو آية الاستحقاق، كاستحقاق العامل لراتبه في آخر الشهر، قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ ).(3)

و قال تعالى: (وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )(4) إلى غير ذلك ممّا يعدّ الثواب أجراً و هو تعبير آخر عن الاستحقاق.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ التعبير بالأجر فيها كالتعبير بالاستقراض في قوله سبحانه: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ )(5) فانّ التعبير بالاستقراض لغاية الحثّ على ما ندب إليه القرآن من الإنفاق حتّى شبّه إنفاقه بأنّه قرض يقرضه اللّه سبحانه وعليه ان يردّه، و نظيره التعبير بما يتفضّل بالأجر، فانّه لإيجاد الرغبة إلى الإنفاق و انّه لا يذهب سدى، بل يقابل بالأجر الكريم على اللّه العزيز الذي لا يبخس أحداً.

و ثانياً: أنّ هنا آيات تدلّ على أنّ الثواب إنّما هو بالوعد و المواضعة كقوله: (وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى )(6) و قوله سبحانه: (وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ )(7) فلو كان هناك استحقاق في الثواب، لما كان هناك حاجة بالجعل، و هذا كاشف عن الثواب ليس إلاّ تفضّلاً منه سبحانه.

ص:514


1- - الإنسان: 22.
2- - الميزان: 19/176.
3- - فاطر: 7.
4- - هود: 115.
5- - الحديد: 11.
6- - النساء: 95.
7- - المائدة: 9.

نعم لا يصحّ له أن يتخلّف بعد ما وعد، لاستلزامه الكذب لو أخبر عن الثواب، أو لاستلزامه تخلّف الوعد، لو أنشأه، و كلا الأمرين قبيح.

الثواب و العقاب من لوازم الأعمال التكوينية

قد عرفت اختلاف المتكلّمين في أنّ ترتّب الثواب على العمل من باب الاستحقاق أو من باب التفضّل، و على كلا الأمرين فالثواب فعله سبحانه و عطاء منه بالنسبة إلى المطيعين من عباده استحقاقاً أو تفضّلاً، و هناك من يقول بأنّ الثواب و العقاب من لوازم الأعمال بوجوه ثلاثة:

1. الصلة بين العمل و الثواب توليدية

إنّ الصلة بين العمل و الثواب صلة توليدية، و انّ العمل الدنيوي يزرع في الدنيا و يحصد نتائجه في الآخرة، فالعمل علّة، و الثواب و العقاب ثمار العمل يترتّب عليه ترتّب الفرع على الأصل، و ربما يستظهر من قوله) عليه السلام (:» العمل الصالح حرث الآخرة «.(1)

2. الثواب تمثّل العمل بوجوده الأُخروي

إنّ صاحب القول الأوّل كان يتبنّى الاثنينية، و انّ هناك عملاً و ثواباً، و العمل بذر ينمو و يتبدّل إلى الثمر سواء أ كان حلواً أو مرّاً، لكن صاحب هذا القول ينكر الاثنينية و يقول: إنّ الثواب هو نفس العمل، غير أنّ للعمل ظهورين: ظهوراً دنيوياً و هو ما نراه من العمل الحسن و السّيّئ، و ظهوراً أُخرويّاً و هو الثواب

ص:515


1- - نهج البلاغة، الخطبة 22، ط عبده.

و العقاب، و هذا هو القول المعروف بتجسّم الأعمال و تمثّلها، و يستظهر ذلك المعنى من بعض الآيات:

1. قوله سبحانه: (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ).(1)

فقوله سبحانه: (هذا ما كَنَزْتُمْ ) يشير إلى الجزاء الذي يُواجَه به الإنسان في الآخرة، و أنّ هذا الجزاء ليس شيئاً سوى نفس العمل الدنيوي و لذلك وصفه بقوله: (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ )، فالكنز له وجودان: وجود دنيوي و هو الدنانير الصفراء التي تسرّ الناظرين، و لكنه في الآخرة نفس الدينار المحمّر الذي بها تكوى الجباه و الجنوب و غير ذلك.

2. قوله سبحانه: (وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً )(2) فما يحضر في الآخرة هو نفس ما عمله في الدنيا.

3. قوله سبحانه: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ).(3)

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ الجزاء هو التمثّل الملكوتي و انّ رابطة الثواب و العقاب مع العمل ليست رابطة توليدية كما في القول الأوّل بل من قبيل ظهور الشيء في كلّ ظرف بثوبه المناسب.

3. الثواب فعل النفس

إنّ كلا من القولين الأوّلين يتبنّى للعمل أصالة، فتارة يُتصوّر أنّ الصلة بين الفعل و الثواب من مقولة التوليد و الانتاج، و أُخرى أنّ الصلة بينهما صلة ظهور

ص:516


1- - التوبة: 35.
2- - الكهف: 49.
3- - آل عمران: 30.

الشيء بوجودين حسب اختلاف ظروف العمل، إلاّ أنّ هذا القول يتبنّى أنّ الثواب و العقاب من أفعال النفس فهي بما اكتسبت من العقائد الصحيحة أو الفاسدة و ما أتت من الأعمال الحسنة و القبيحة تكتسب استعداداً و ملكة خاصة تقدر معها على إنشاء صور مناسبة لتلك الملكة فهي إمّا تتنعّم بالصور أو تتأذّى بها.

و بالجملة: الإنسان في ظل العقائد الصحيحة و الفاسدة و الأعمال الحسنة و السيئة يكتسب ملكة خاصّة تكون مع الإنسان، خلاّقة للصور التي تناسبها، و هذا ليس أمراً بعيداً، فمن يتملّك ملكة العدالة في هذه النشأة لم يزل يتصوّر أُموراً تناسبها، و من يمتلك ملكة الفسق و الجور لم يزل يتصوّر صوراً تناسبها، فنفس هذه الملكة فعّالة في يوم القيامة فتخلق الصور البهية أو الصور الموحشة، و يعبّر عن الأوّل بالجنة و عن الثاني بالجحيم.

و هذه الآراء الثلاثة لعرفاء الإسلام، و التسليم بها رهن دراستها صحّة و فساداً في محلّها، غير أنّ القول الثالث إذا كان بصدد حصر الجنة و الجحيم بالصور المخلوقة للنفس فتعارضها الآيات و الأخبار القطعية على أنّ الجنة أمر منفصل عن النفس و كذلك الجحيم. و لو لم يكن بصدد الحصر فلا مانع من القول بالجنتين المتصلة بالنفس و المنفصلة عنها، و إن كان الظاهر من القائل هو الحصر.(1)

إلى هنا تمّت الآراء في كيفية ترتّب الثواب و العقاب. فلندخل في صلب الموضوع و هو:

ص:517


1- - الأسفار الأربعة: 9/131، فصل» في الشقاوة التي بإزاء السعادة «.
ترتّب الثواب على الواجب الغيري

هل يترتب الثواب على امتثال الواجب الغيري أو لا؟ فيه أقوال:

1. يترتّب الثواب على النفسي دون الغيري، و هو خيرة المحقّق الخراساني و السيد الإمام الخميني قدّس سرّهما.

2. يترتّب الثواب على الغيري كالنفسي، لكن إذا كان واجباً أصلياً لا تبعياً أي مدلولاً لخطاب مستقل، لا ما إذا فهم وجوبه على نحو التبعية بإحدى الدلالات: الالتزامية الإيماء و الاقتضاء، و هو خيرة المحقّق القمي.

3. يترتّب الثواب على الواجب الغيري بشرط قصد التوصّل به إلى ذيها، و هو خيرة المحقّق النائيني و تبعه صاحب المحاضرات.

4. يترتّب عليه الثواب مضافاً إلى قصد التوصّل كون المقدّمة موصلة بأن تنتهي إلى الإتيان بذيها.

و هذه الأقوال مبنيّة على القول بأنّ الثواب من باب الاستحقاق فيبحث عن حدود الاستحقاق، و انّها هل تعمّ الغيري أو تنحصر بالنفسي؟ و أمّا على القول المختار من أنّ الثواب في الواجب النفسي من باب التفضّل، فعندئذ يجب أن تتفحّص في الكتاب و السنّة هل هناك ما يدلّ على ترتّب الثواب على الواجب الغيري أو لا؟ إذ ليس عندئذ لكشف الثواب طريق وراء النقل.

إذا عرفت ذلك فلندرس أدلّة الأقوال الأربعة، و إن كان الأساس مرفوضاً.

الاستدلال على القول الأوّل

استدلّ للقول الأوّل بوجهين:

ص:518

الأوّل: ما استدلّ به المحقّق الخراساني على عدم ترتّب الثواب على الواجب الغيري باستقلال العقل بعدم الاستحقاق إلاّ لعقاب واحد أو لثواب كذلك فيما خالف الواجب و لم يأت بواحدة من مقدّماته على كثرتها، أو وافقه و أتى به بماله من المقدمات.(1)

يلاحظ عليه: كيف يستقلّ العقل بوحدة الثواب مع أنّ الموضوع لترتّب الثواب هو إطاعة المولى و المفروض وجود ذلك الملاك في امتثال الواجب الغيري أيضاً و لا يقاس الثواب بالعقاب، لأنّ الثواب على الطاعة و المفروض انّها متعدّدة حيث إنّه أطاع أمر المولى في مورد الغيري ثمّ أطاع أمره في مورد النفسي، فالطاعتان مختلفتان و يتبع تعدّدَ الطاعة، تعدّدُ الثواب، و أمّا العقاب فهو مترتب على التمرّد و الخروج عن رسم العبودية و زيّ الرقية. و ليس في ترك الواجب إلاّ تمرّد واحد حسب العقل.

فإن قلت: إنّ الثواب فرع كون العمل مقرِّباً من المولى، و هو فرع كون المتعلّق محبوباً و حسناً بالذات، و المفروض أنّ الواجب الغيري ليس محبوباً بالذات، بل محبوب بالعرض فكيف يترتب عليه الثواب؟ قلت: إنّ الثواب يترتّب على إطاعة أمر المولى سواء أ كان المتعلّق محبوباً بالذات أو محبوباً بالعرض.

و إن شئت قلت: إنّ الثواب يترتّب على كون حركة العبد حركة إلهية و عملاً يُتطلب به امتثالُ أمر المولى سواء أ كان المتعلّق محبوباً بالذات أو لا، و على ضوء ذلك يكفي في ترتّب الثواب انصباغ العمل بصبغة إلهية، و عندئذ يستقل العقل بترتّب الثواب عليها على القول بالاستحقاق.

ص:519


1- - كفاية الأُصول: 1/174.

الثاني: ما استدلّ به السيد الأُستاذ، فقال: إنّ الاستحقاق إنّما هو على الطاعة، و لا يعقل ذلك في الأوامر الغيرية، لأنّها بمعزل عن الباعثية، لأنّ المكلّف إمّا أن يكون قاصداً لامتثال الأمر النفسي أو لا.

فعلى الأوّل فالأمر النفسي داع و باعث إلى الإتيان بالمقدّمة من دون حاجة إلى باعثية الأمر الغيري، و على الثاني فلا يكون الأمر الغيري باعثاً لأنّ المفروض أنّه راغب عن ذي المقدّمة، فكيف يكون الأمر الغيري باعثاً؟ و الحاصل: انّ ملاك الاستحقاق هو الطاعة، و هي فرع كون أمره داعياً و باعثاً و المفروض انّه ليس بباعث في حالة من الحالات.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الأمر النفسي و الغيري في الباعثية و عدمها سيّان، فإن أُريد بها الباعثية التكوينية فليس واحد منهما باعثاً تكوينياً، بل الباعث إلى الطاعة هو رجاء الثواب و الخوف من العقاب.

و إن أُريد الباعثية الإنشائية فكلّ من الأمرين صالح لذلك. و ما ذكره من الاستدلال إنّما يتمُّ إذا أُريد من الباعثية، القسم التكويني منها، و قد عرفت انتفاءها فيهما معاً.

إلى هنا تبيّن أنّ القول الأوّل على القول بالاستحقاق غير تام برهاناً.

و أمّا القول الثاني(2): و هو التفصيل بين امتثال الأمر الغيري الأصلي و امتثال الأمر الغيري التبعي، فليس له دليل صالح بعد قيام الدليل على حجية خطابات المولى، أصلياً كان الخطاب أو تبعياً، و سيمرّ في باب المفاهيم أنّ دلالة الاقتضاء و الإيماء من الدلالات الصالحة للاحتجاج.

ص:520


1- - تهذيب الأُصول: 1/249.
2- - مرّ القول الأوّل، ص 518.

و أمّا القول الثالث: فهو قول متقن، و إن كان القول الرابع أتقن منه، و الجامع بين القولين هو أن يكون الباعث لامتثال الأمر الغيري هو قصد التوصّل بالواجب النفسي لكن بشرط أن يكون الامتثال موصلاً لامتثال الأمر النفسي على القول الرابع، و أمّا إذا خلا عن هذين الأمرين كما إذا امتثل الأمر الغيري لغاية الهوى و الهوس لا لقصد التوصّل أو لم يكن في الواقع موصلاً إلى ذيها للانصراف عن الامتثال عمداً فلا يعدّ ممتثلاً حتى يترتّب عليه الثواب، و هذا أشبه بمن يقوم بتناول الغذاء في السحر دون أن يصوم.

هذه الأقوال كلّها مبنية على القول بالاستحقاق و مع رفض المبنى لا يبقى للبناء قيمة، و الحقّ ما اخترناه من أنّ ترتّب الثواب على العمل الصالح من باب التفضّل، و عند ذلك لا طريق لترتّبه و عدمه إلاّ الرجوع إلى النقل من القرآن الكريم، و السنّة المطهرة.

و من حسن الحظ أنّ المصدرين صريحان في ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري إذا كان بقصد التوصّل لذيها، و إليك بعض ما يدلّ على ذلك في المصدرين.

قال سبحانه: (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ).(1)

و الآية المباركة تخبر عن أنّه سبحانه يكتب للمجاهدين في مقابل كلّ

ص:521


1- - التوبة: 120.

خطوة يخطونها إلى الجهاد و ما يقابلون من ظمأ و عطش، و نصب و تعب، و مخمصة و جوع، عملاً صالحاً لا ينفك عن الأجر كما يقول سبحانه: (كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) و من المعلوم أنّ ما وصف كلّها واجب غيري مقدمي.

و نظير الآية ما تضافر من ترتّب الثواب على كلّ خطوة يخطوها زائر الإمام الحسين بن علي) عليهما السلام (.(1)

و على ضوء ما ذكرنا يمكن الحدس بأنّ امتثال الأمر الغيري كامتثال الأمر النفسي إذا كان في سبيل التوصّل إلى امتثال الأمر النفسي يعد طاعة و يثاب الفاعل.

محاولة المحقّق الخراساني لتفسير ما دلّ على ترتّب الثواب

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لمّا أنكر ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري و واجهه ما ورد في الشرع من ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري حاول توجيه الآيات و الروايات بوجهين:

الأوّل: لا بأس بزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدّمات بما هي مقدّمات له من باب أنّه يصير حينئذ من باب أفضل الأعمال، حيث صار أشقّها وعليه ينزل ما ورد من الثواب على المقدّمات.

و حاصله: انّ كثرة المقدّمات تجعل العمل من الأعمال الشاقة و يكون الثواب المترتّب على ذيها أكثر من غير المشتمل عليها، و على هذا يكون الإتيان

ص:522


1- - كامل الزيارات: 133.

بالمقدّمة للّه علّة لترتب الثواب الكثير على ذيها.

يلاحظ عليه: بأنّ التأويل يخالف ظاهر الآية و الرواية، فالآية ظاهرة في ترتّب الثواب على نفس طي الأرض و السفر إلى أرض المعركة و ما يقابل في طريقه من الظمأ و النصب و المخمصة، يقول سبحانه:

(كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ ) لا على الجهاد، من جانب المقدّمة.

الثاني: انّ امتثال الأمر الغيري بما أنّه يُعد شروعاً في امتثال الأمر النفسي يترتّب عليه الثواب المترتب على الأمر النفسي.

يلاحظ عليه: أنّه لا يصحّ إلاّ في المقدّمات الداخلية التي قد عرفت خروجها عن حريم النزاع، لا في مثل الشرائط و المعدّات. إذ كيف يعد الوضوء شروعاً في الصلاة مع أنّ الثواب مترتّب على الإتيان بالواجب لا على الشروع فيه؟! *** و هذا البحث الضافي حول ترتّب الثواب على الأمر الغيري و عدمه يرجع إلى القولين: الاستحقاق أو التفضّل، و أمّا على القول بأنّ الثواب نتيجة العمل أو تمثّل ملكوتي له أو غيره فلا يصحّ لنا إبداء النظر فيه لعدم العلم بحدوده و خصوصياته فهل الثواب نتيجة كلّ واجب أو خصوص الواجب النفسي؟ و مثله نظرية التمثّل، فهل يعمّ كلّ الأعمال و الواجبات أو يختصّ بالواجبات النفسية؟ فالأولى على هذا المذهب هو السكوت.

ص:523

التنبيه الثاني إشكالات الطهارات الثلاث

قد وقعت الطهارات الثلاث مورداً للإشكال من جهات ثلاثة:

الأوّل: اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ الآتي بها يثاب، مع أنّ الأمر الغيري لا يترتّب عليه ثواب.

الثاني: اتّفق الفقهاء غير أبي حنيفة على أنّ الطهارات الثلاث أخذت مقدّمة للصلاة بما هي عبادة يتقرّب بها إلى اللّه تعالى، مع أنّ الأوامر المتعلّقة بها أوامر غيرية و هي توصلية دائماً لا تُصحّح عبادية متعلّقاتها، إذ ليست المقدّمة محبوبة للمولى إذ لو أمكنه الأمر بذيها بدون التوصّل بها، لأمر، فالأمر بها من باب اللابدية و مثل هذا لا يصلح للمقربية.

و إن شئت قلت: إنّ الأوامر الغيرية أوامر توصلية، و هي لا تكون منشأ لعبادية المتعلّق.

الثالث: انّ الطهارات الثلاث، إنّما أخذت مقدّمة للصلاة بما انّها عبادة، و ليس حالُها حالَ بقيّة المقدّمات في كون مطلق وجودها في الخارج مقدّمة، سواء أتي بها عبادة أم لا، فحينئذ لا إشكال في توقّف الأمر الغيري على عباديتها، فلو توقفت عباديتها على الأمر الغيري، لزم الدور.

و بعبارة أُخرى: انّ الأمر الغيري يتعلّق بما يتوقّف عليه الواجب، و المفروض

ص:524

أنّ الطهارات الثلاث بعنوان كونها عبادة، مقدّمة، وعليه فالأمر الغيري المتعلّق بها بطبيعة الحال، يتعلّق بها بعنوان انّها عبادة، و معه كيف يعقل أن يكون الأمر الغيري منشأ لعباديتها؟ و إليك دراسة الإشكالات واحداً بعد الآخر.

***

دراسة الإشكال الأوّل

إنّ الإشكال الأوّل ليس بمهم، لأنّه إن قلنا بأنّ الثواب بالاستحقاق فقد تقدّم انّه يترتّب على إطاعة أمر المولى من غير فرق بين كونه نفسياً أو غيرياً، غاية الأمر يشترط في امتثال قصد الأمر الغيري كون الامتثال بقصد التوصّل إلى ذيه.

و أمّا لو قلنا بأنّ الثواب بالتفضّل و لا طريق إلى تحقيق الحال إلاّ بالرجوع إلى الكتاب و السنّة، فلو دلّ الدليل على ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري بالطهارات الثلاث فيؤخذ به.

إنّما المهم الإشكال الثاني و الثالث حيث كان الثاني يركّز على أنّ الطهارات الثلاث أخذت مقدّمة للواجب، و ليس المقدّمة إلاّ العبادة منها، فحينئذ يُسأل عن ملاك العبادة فهل هو وجود الملاك فيها؟ فهو مردود بأنّ المقدّمة غير مطلوبة بالذات فكيف يكون فيها الملاك، أو قصد الأمر الغيري و هو أمر توصلي لا يصحّح العبادة.

كما أنّ الإشكال الثالث يركّز على الدور، لأنّ الأمر الغيري تعلّق بالوضوء العبادي، فيجب أن يوصف بالعبادة قبل تعلّق الأمر، فلو كانت عبادية الوضوء رهن قصد الأمر الغيري، فيدور.

ص:525

دراسة الإشكالين الثاني و الثالث
قد أجيب عن الإشكالين بأجوبة أربعة:
الأوّل: انّ الطهارات الثلاث بنفسها مستحبة

ذهب المحقّق الخراساني بأنّ المقدّمة فيها بنفسها مستحبة و عبادة، و غاياتها) كالصلاة و قراءة القرآن ( إنّما تكون متوقّفة على إحدى هذه العبادات، فلا بدّ أن يؤتى بها عبادة، و إلاّ فلم يؤت بما هو مقدّمة لها، فقصد القربة فيها لأجل كونها في نفسها أُموراً عبادية، و مستحبات نفسية لا لكونها مطلوبات غيرية.(1)

و هو) قدس سره (بهذا البيان دفع الإشكالين) الأخيرين (، أمّا الأوّل فلأنّ عباديتها بالأمر النفسي لا بالأمر الغيري، كما دفع إشكال الدور لأنّ عبادة الوضوء إنّما هو بالأمر النفسي المتعلّق بها، فصار الوضوء عبادة قبل تعلّق الأمر الغيري، فالأمر الغيري موقوف على الموضوع، و الموضوع) أي كون الوضوء عبادة ( غير موقوف على الأمر الغيري.

و أورد عليه المحقّق النائيني بوجوه ثلاثة:

1. انّه لا يتم في خصوص التيمّم الذي لم يدلّ على كونه مطلوباً في حدّ ذاته.

2. انّ الأمر النفسي الاستحبابي ينعدم بعروض الوجوب.

3. انّه يصحّ الإتيان بجميع الطهارات بقصد الأمر النفسي المتعلّق بذيها، من دون التفات إلى الأمر النفسي المتعلّق بها.(2)

و حاصله: انّ الأمر النفسي المتعلّق بها مغفول عند الناس، فكيف يكون

ص:526


1- - كفاية الأُصول: 1/177.
2- - أجود التقريرات: 1/175.

ملاكاً لتصحيح العبادية؟! و سيوافيك مراده من قصد الأمر النفسي في الجواب الثاني.

يلاحظ على الأوّل: بأنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة أنّ الطهارات الثلاث حتّى التيمّم عبادة في ظرف خاص.

و أمّا من حيث سعة الغاية و ضيقها فلو قلنا بأنّ التيمّم رافع للحدث فالتيمّم و الوضوء سيّان، فيجوز لفاقد الماء أن يتيمّم لأجل مسح المصحف أو المكث في المسجد و غير ذلك.

و أمّا لو قلنا بأنّه مبيح للصلاة فتكون عباديته منحصرة بهذا الظرف.

و يلاحظ على الثاني: بأنّ الأمر الوجوبي القربي لا يزاحم الأمر النفسي الاستحبابي، و ذلك لاختلاف متعلّقهما، فالأمر الاستحبابي تعلّق بذات الطهارات الثلاث، و أمّا الأمر الوجوبي الغيري فقد تعلّق بالطهارات بما هي مستحبة نفسياً.

و بعبارة أُخرى: الوضوء بما هو هو مستحب نفسي و متعلّق للأمر النفسي، و الوضوء بما أنّه مستحب نفسي متعلّق للأمر القربي.

نظير ذلك: لو نذر صلاة الليل، فالأمر الاستحبابي تعلّق بذات صلاة الليل، و الأمر النذري الوجوبي تعلّق بالوفاء بالنذر، و لا يتحقّق الوفاء إلاّ بالإتيان بصلاة الليل على وجه الاستحباب.

و يلاحظ على الثالث: بما ذكره المحقّق الخراساني بقوله: و الاكتفاء بقصد أمرها الغيري، فإنّما هو لأجل انّه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه، حيث إنّه لا يدعو إلاّ إلى ما هو مقدّمة.(1)

ص:527


1- - كفاية الأُصول: 1/178.

و حاصله: انّ الأمر النفسي المتعلّق بالوضوء مثلاً و إن كان مغفولاً عنه لكن قصد الأمر الغيري المتعلّق به يغني عن قصد الأمر النفسي، لأنّه يدعو إلى ما هو مقدّمة بالحمل الشائع، و المفروض أنّ المقدّمة بالأمر الشائع هو الوضوء الذي تعلق به الأمر النفسي.

و لكن الحقّ أنّ الإشكال الثالث للمحقّق النائيني بعد باق بحاله، لأنّه إذا كان الأمر النفسي هو المقوّم لعبادية الوضوء، فكيف يكفي قصد الأمر الغيري؟ و مجرّد كون ذاك الأمر داعياً إلى ما هو عبادة لا يكفي في عبادية الوضوء، و الشاهد على ذلك انّه لو صلّى أحد الظهرَ بنيّة الأمر الغيري أي بما انّها مقدّمة للعصر لا يغني عن قصد الأمر النفسي، مع أنّ الأمر الغيري المتعلّق بالظهر يدعو إلى ما هو مقدّمة بالحمل الشائع، و ليس هو إلاّ الظهر الواجب نفسيّاً.

إلى هنا تم الجواب الأوّل عن الإشكالين، و قد عرفت كيفية الذب عن الإشكالات التي أوردها المحقّق النائيني إلاّ ثالثها فهو باق على حاله، فلندرس سائر الأجوبة.

الثاني: انّ ملاك العبادية هو الأمر النفسي المتعلّق بذيها

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ منشأ عبادية الطهارات الثلاث هو الأمر المتعلق بالصلاة المتقيّدة بالطهارة، و حيث إنّ الطهارة ممّا أخذت في متعلّق الأمر النفسي، فيصلح أن يكون الأمر النفسي مصحّحاً للطهارات الثلاث، قال في توضيحه: لا وجه لحصر منشأ عبادية الطهارات الثلاث في الأمر الغيري، و لا في الأمر النفسي المتعلّق بالشيء) المقدّمة (، بل هناك أمر ثالث و هو الموجب لكونها عبادة، فانّ الأمر النفسي المتعلّق بالصلاة، كما أنّ له تعلّقاً بأجزائها و هو موجب

ص:528

لكونها عبادة لا يسقط أمرها إلاّ بقصد التقرّب، فكذلك له تعلّق بالشرائط المأخوذة فيها، فلها أيضاً حصة من الأمر النفسي و هو الموجب لعباديتها، فالموجب لعباديتها في الأجزاء و الشرائط واحد.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره خلط بين الجزء و الشرط، فالجزء مأخوذ في الواجب النفسي قيداً و تقيّداً، فيصحّ الإتيان به بالأمر النفسي المتعلّق بالمركب، و هذا بخلاف الشرط فالتقيّد مأخوذ في متعلّق الأمر النفسي كالطهارة في الصلاة لكن القيد من المقدمات الخارجة عن المركّب، فلا يصحّ إتيانه بالأمر النفسي المتعلّق بالمركب، لأنّ القيد خارج عن المتعلّق.

الثالث: كفاية قصد التوصّل في العبادية

ذهب المحقّق البروجردي إلى أنّه يكفي في إضفاء العبادية على الطهارات الثلاث قصد التوصّل بها إلى الأمر النفسي المتعلّق بالغاية، يقول: يكفي في عبادية الشيء أن يأتي به المكلّف تارة بقصد أمره النفسي الاستحبابي، و أُخرى أن يأتي به بقصد التوصّل به إلى إحدى غاياته. و حينئذٍ يكون الداعي إلى إيجاده هو الأمر النفسي المتعلّق بالغاية المطلوبة من الصلاة و القراءة و نحوهما.

و الحاصل: انّ المصحّح لعبادية المقدّمات هو قصد الأمر المتعلّق بذيها، من غير حاجة إلى قصد الأمر النفسي أو الغيري المتعلّق بأنفسها.(2) و لعلّه إلى ذلك الجواب يشير المحقّق الخوئي على ما في محاضراته حيث قال: إنّ منشأ عبادية الطهارات أحد أمرين على سبيل منع الخلو: أحدهما قصد امتثال الأمر النفسي، و ثانيهما قصد التوصّل بها إلى الواجب، فانّه أيضاً موجب لوقوع المقدّمة عبادة و لو

ص:529


1- - أجود التقريرات: 1/175.
2- - نهاية الأُصول: 1751/174.

لم نقل بوجوبها شرعاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّه إن أراد انّ الأمر المتعلّق بذي المقدّمة يدعو إلى الإتيان بالمقدّمة، فهو خلاف التحقيق، لأنّ كلّ أمر لا يتجافى عن متعلّقه و لا يدعو إلى الخارج عنه و الشرائط من الأُمور الخارجة عنه.

و إن أراد انّ الإتيان بالشيء للتوصّل به إلى العبادة كاف في تعنون المقدّمة بالعبادية، ففيه أنّه غير تام بشهادة أنّ الإتيان بالستر و طهارته إذا قصد به التوصّل إلى الصلاة لا يوصفان بالعبادة، فلا بدّ وراء التوصّل إلى العبادة من شيء آخر كما سيوافيك في الجواب الرابع.

الرابع: كفاية قصد الإتيان للّه

إنّ إضفاء وصف العبادية على الطهارات الثلاث و حلّ الإشكالين الأخيرين يتحقّق بوجهين آخرين:

1. انّ الشيء إذا كان صالحاً للعبادة فيكفي في إضفاء وصف العبادة عليه الإتيان به للّه سبحانه، من دون حاجة إلى قصد الأمر النفسي و لا الغيري، بل إذا كان لشيء في حدّ نفسه صالحاً للتعبّد و جاء به المكلّف للّه سبحانه يوصف بالعبادة، و الطهارات الثلاث من هذا القبيل، فقد اتّفق العلماء على كونها صالحة للعبادة، فمع إحراز هذه الصلاحية يكفي الإتيان بها للّه سبحانه في تعنونها بالعبادة من دون نظر إلى الأمر النفسي المتعلّق بها أو الأمر النفسي المتعلّق بذيها أو الأمر الغيري المتعلّق بها، و على ضوء هذا ينحل الإشكالان.

ص:530


1- - لاحظ المحاضرات: 2/401.

أمّا الثاني و هو تعيين مصحّح العبادة فقد مرّ أنّ المصحّح عبارة عن أمرين تاليين:

أ. كون الشيء صالحاً للتعبّد.

ب. الإتيان به للّه سبحانه.

و كلا الأمرين متحقّقان.

و أمّا الإشكال الثالث، و هو انّه يشترط قبل تعلّق الأمر الغيري كون الطهارات الثلاث موصوفة بالعبادة، و المفروض انّ الطهارات الثلاث قبل تعلّق الأمر الغيري موصوفة بها لما عرفت من أنّ ملاك العبادية هو صلاحية الفعل لها بشرط الإتيان به للّه سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّه لا حاجة بعد اتّصافها بالعبادية إلى الأمر الغيري حتّى يتوجّه الإشكال.

2. إضفاء وصف العبادة على الطهارات الثلاث من جانب الأمر الغيري فيمكن أن يقال انّ قصد الأمر الغيري كالأمر النفسي مصحح للعبادية، و لا فرق فيه بين قصد الأمر النفسي أو الغيري، و لا كون المتعلّق محبوباً بالذات أو محبوباً بالعرض، فما اشتهر بين الأساطين من التفريق بين النفسي و الغيري و إن الأوّل أمر قربي دون الثاني، لا يرجع إلى محصل، لأنّ الأمرين و إن كانا مختلفين في الغاية و المقصد لكن محصِّل القرب، هو كون الحركة لأجل امتثال أمره كائناً ما كان، و بذلك يظهر أنّ الإتيان بالواجب الغيري بنيّة امتثال أمره، موجب لاستحقاق الثواب على القول بأنّه أمر استحقاقي و لا يختصّ ذلك بامتثال الأمر النفسي.

و عندئذ ينحل الإشكالان: أمّا الأوّل فلما عرفت من أنّ قصد الأمر الغيري

ص:531

يضفي القربية على المتعلّق إذا أتى به امتثالاً لأمره.

و أمّا الإشكال الثاني، فيظهر حاله بما قدّمناه في أخذ قصد الأمر في متعلّقه، و حاصل ما يمكن أن يقال هنا:

إنّ الأمر الغيري يتعلّق بالوضوء بما هو صالح للعبادة و لا يعتبر فيه كونه عبادة بالفعل.

نعم إذا أتى به بقصد الأمر الغيري يكون عبادة بالفعل، فالأمر الغيري موقوف على ما هو عبادة شأناً، و العبادة الفعلية موقوفة على تعلّق الأمر الغيري و قصده.

و لكن الحقّ في الجواب ما قدّمنا من الوجه الأوّل.

تطبيقات

الأوّل: إذا توضّأ المكلّف قبل الوقت بداعي أمره النفسي على القول به صحّ وضوؤه و صلاته لو صلّى به بعد دخول الوقت، لحصول المقدّمة العباديّة.

الثاني: لو توضّأ قبل الوقت متقرباً به إلى اللّه، صحّ وضوؤه و صلاته، إذا صلى بها بعد دخول الوقت، لما عرفت من صلاحية العمل للعبادة، فإذا انضم إليها كونه للّه سبحانه تحصل المقدّمة العباديّة.

الثالث: لو توضّأ قبل الوقت بداعي التوصّل إلى امتثال أمر الواجب النفسي الذي لم يدخل وقته، فهل يصحّ وضوؤه و صلاته إذا صلّى به بعد دخول الوقت أو لا؟ اختار سيد مشايخنا المحقّق البروجردي الثاني قائلاً بأنّها لا يصحّ و لا يجوز الدخول معه إلى الصلاة، لعدم تحقّق الأمر النفسي بعد، فكيف يكون

ص:532

الأمر المعدوم داعياً؟! فليس للأمر المعدوم امتثال حتى يقال انّ المقدّمة واقعة في طريقه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه ليس الداعي وجود الأمر ثبوتاً و ان لم يعلم به المكلّف، بل الداعي هو علمه به سواء أ كان الأمر موجوداً بالفعل، أم لا، فإذا كان المكلّف على ثقة بأنّه يدرك فعلية الأمر بعد ساعة، فيكفي في الداعوية العلم بوجوده في ظرفه فيأتي بالوضوء للتوصّل إلى امتثال النفسي الذي سيتوجه إليه.

و بعبارة أُخرى: إذا لم يكن للمكلّف داع إلى إتيان الوضوء الاستحبابي قبل الوقت لكن لما رأى أنّ الصلاة بعد دخول الوقت مشروطة به، قام فتوضّأ لأجل ذلك فيكفي ذلك في الداعويّة.

و إن أبيت إلاّ عن شرطية الأمر الفعلي في الداعوية، فنقول إنّ هذا القسم يدخل في الوجه الثاني، من الوجهين لحلّ الإشكالين لأنّ التوضّؤ أعني: امتثال الواجب في المستقبل لا ينفك عن كون الحركة، حركة إلهية بداعي التقرّب إليه سبحانه بعمله، فإذا ضمّ هذا إلى وجود القابلية في العمل، تحصل المقدّمة العبادية، و مع حصولها يجوز الدخول في الصلاة بعد دخول الوقت.

الرابع: إذا توضّأ بعد دخول الوقت بقصد أمره النفسي الاستحبابي، فهل يصح وضوؤه و يجوز له الدخول في الصلاة أو لا؟ نقول:

إنّ للفرع صورتين:

أ: لو توضّأ بقصد امتثال أمره النفسي، مع القول بعدم وجوبه غيريّاً لأجل إنكار وجوب الغيري مطلقاً في عامّة المقدّمات كما سيوافيك برهانه فيصحّ

ص:533


1- - نهاية الأُصول: 176.

الوضوء و يدخل معه الصلاة، إذ لا وجه لسقوط الأمر الاستحبابي الثابت له قبل الوقت.

ب: تلك الصورة مع القول بالوجوب الغيري، كسائر المقدّمات فالصحة و عدمها مبنيّان على جواز اجتماع الأمر الاستحبابي مع الوجوب الغيري و عدم جوازه و بالتالي سقوط الأمر الاستحبابي.

و ربّما يقال بجواز الاجتماع لأنّ الأمر النفسي تعلّق بذات الوضوء و الأمر الغيري به بعنوان كونه مقدمة، فاختلف المتعلّقان.

يلاحظ عليه: بما مرّ من أنّ عنوان المقدّمة، عنوان تعليلي لا تقييدي، و في مثله يكون المتعلّق واقعاً هو ذات الوضوء، و تكون المقدّمية علّة لعروض الحكم لا موضوعاً له فيتّحد متعلق الأمر الاستحبابي و الوجوب الغيري.

الخامس: إذا توضّأ بعد دخول الوقت بنيّة الأمر الغيري صحّ وضوؤه و يصحّ معه الدخول فيها، لما عرفت من أنّ الإتيان بالشيء بنيّة امتثال أمره يضفي على العمل عنوان العبادة إذا كان الشيء في حدّ ذاته صالحاً للعبادة، من غير فرق بين الأمر النفسي و الغيري، إذ الميزان كون الحركة للّه سبحانه، أو بداعي امتثال أمره، و كون الشيء في ذاته محبوبا أو لا، لا مدخلية في تحقق التقرّب إذا أتى الشيء بامتثال أمره إذا كان المأتي به صالحاً للعبادة. و بما ذكرنا يعلم حال ما ذكره السيد الطباطبائي في الوضوءات المستحبة، المسألة 6 من العروة الوثقى فلاحظ.

ص:534

التقسيم الرابع من تقسيمات الواجب تقسيمه إلى الأصلي و التبعي
اشارة

لما كان الأمر الرابع(1) معقوداً لبيان أقسام الواجب كان اللازم على المحقّق الخراساني بيان هذا التقسيم في هذا الأمر و لكنه أخّره إلى مقام آخر و تبعه السيّد الأُستاذ) قدس سره (، في درسه الشريف.

و قد اختلفت كلمة الأُصوليّين في ملاك هذا التقسيم، فهل هو بلحاظ الثبوت أو بلحاظ الإثبات؟ و الأوّل هو خيرة المحقّق الخراساني، و الثاني مختار المحقّق القمّي.

نظرية المحقّق الخراساني

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ ملاك التقسيم هو مقام الثبوت، و انّ الشيء تارة يكون متعلّقاً للإرادة مستقلاً لأجل الالتفات إليه تفصيلاً، و أُخرى يكون متعلّقاً للإرادة تبعاً لإرادة غيره لأجل كون إرادته لازمة لإرادته، و ذلك لعدم الالتفات إليه تفصيلاً.

و على هذا فلا شكّ في أنّ الواجب الغيري يُوصف بالأصلي و التبعي، حيث إنّ المولى تارة يلتفت تفصيلاً إلى المقدّمة فيريدها كذلك، فتكون غيرياً أصلياً،

ص:535


1- - كان الأمر الثالث لبيان أقسام المقدّمة، و الرابع لتقسيم الواجب.

و أُخرى لا يلتفت إليها تفصيلاً فتتعلّق إرادته بها تبعاً لإرادة غيره فيكون غيرياً تبعياً.

و أمّا الواجب النفسي فلا يوصف إلاّ بالأصالة لا بالغيرية، ضرورة أنّ ما فيه مصلحة في نفسه تتعلق به الإرادة مستقلاً كان هنا شيء آخر أو لم يكن، فلا تكون إرادته تبعية لغيره.

يلاحظ عليه: بأنّه لو كان الملاك كون الشيء متعلّقاً للإرادة على وجه الاستقلال و عدمه يجب أن يلتزم بأحد الأمرين.

أمّا انّ النفسي كالغيري يوصف بالأصالة و التبعية أيضاً.

و أمّا أنّ الغيري لا يوصف إلاّ بالتبعية مطلقاً.

لأنّه إن أراد من الاستقلال الذي هو ملاك الأصالة، الالتفاتَ التفصيلي في مقابل الالتفات الإجمالي، ففيه انّ النفسي أيضاً تارة يكون تبعياً بهذا المعنى، كما إذا كان ولد المولى مشرفاً على الغرق و التفت إليه العبد دون المولى، فانقاذ ولده واجب تبعي لا أصلي، لعدم الالتفات إليه على وجه التفصيل حتّى تتعلّق به إرادته التفصيلية، بل تعلّقت إرادته الإجمالية في ضميره بحفظ ما يتعلّق به من النفس و النفيس و الأعراض و الأموال، فيكون إنقاذ الولد واجباً نفسياً تبعياً لعدم الالتفات إليه تفصيلاً.

و إن أراد من الاستقلال عدم تبعيّة إرادة الشيء لإرادة أُخرى في مقابل ما تكون إرادته تابعة لأُخرى ففيه انّ الواجب الغيري يكون تبعياً في جميع الأحوال لأنّ ماهيته هو التبعية لكونه مطلوباً لأجل ذيه.

و ثمة إشكال آخر و هو أنّ عامّة التقسيمات الماضية كانت بملاك الإثبات و الدلالة، فلما ذا خرج هذا التقسيم عن تحت هذه الضابطة و صار الملاك فيه إرادة الشيء مستقلاً أو غير مستقل دون مقام الدلالة؟

ص:536

نظرية المحقّق القمي

ذهب المحقّق القمي إلى أنّ ملاك التقسيم هو مقام الإثبات و الدلالة، و بيانه أنّه إذا كان الوجوب مفاد خطاب مستقل، و مدلولاً بالدلالة المطابقية، فالواجب أصلي، سواء أ كان نفسياً أم غيرياً. و إن فهم بتبع خطاب آخر، و مدلولاً بالدلالة الالتزامية، فالواجب تبعي، سواء أ كان نفسياً أم غيرياً، و على هذا ينقسم النفسي إلى الأصلي و التبعي أيضاً كالغيري، و ذلك لأنّ كون الشيء ذا مصلحة نفسية لا يستلزم أن يكون مدلولاً لخطاب مستقل و مستفاداً من الدلالة المطابقية، بل ربّما تقتضي المصلحة تفهيمه بالدلالة الالتزامية و بتبع خطاب آخر.(1)

نعم على هذا لا يكون التقسيم حاصراً، لأنّ من أقسام الواجب ما لا يكون مدلولاً لخطاب أصلاً لا أصالة و لا تبعاً، كما إذا كان مدلولاً لدليل لبّي من الإجماع و العقل.

و يمكن أن يقال انّ هذا التقسيم ليس لمطلق الواجب، بل الواجب الذي عليه دليل لفظي، فالواجب المستفاد من الإجماع و العقل خارج عن المقسم.

إذا دار أمر الواجب بين الأصلي و التبعي

إذا دار أمر الواجب بين الأصلي و التبعي، فهل يمكن إحراز أحد الأمرين بالأصل أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الأوّل و أنّ نتيجة الأصل كون المشكوك واجباً تبعياً، لأنّ الأصل عدم تعلّق إرادة مستقلّة به، و يترتّب عليه آثار التبعية لو كان له

ص:537


1- - قوانين الأُصول: 1/102.

أثر شرعي كسائر الموضوعات المتقوّمة بأُمور عدمية كالماء القليل إذا قلنا إنّه عبارة عن الماء الذي لم يكن كرّاً.

نعم لو كان الواجب التبعي أمراً وجودياً خاصّاً غير متقوّم بعدمي و إن كان يلزمه لما يثبت بالاستصحاب لأنّ الأصل مثبت.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الأصل مثبت مطلقاً حتّى و إن قلنا إنّ الواجب التبعي أمر عدمي، و ذلك لاختلاف القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة، فالمتيقّنة سالبة محصلة، و المشكوكة موجبة معدولة.

أمّا القضية المتيقّنة فبيانها أن يقال: لم يكن قبل تشريع الشرائع هناك أيّة إرادة متعلّقة بهذا الشيء، و لأجل ذلك يصدق انّه لم تتعلّق به إرادة مستقلة بهذا الشيء و لو لأجل عدم وجود الإرادة أصلاً، و هذا ما عبّرنا عنه بالسالبة المحصّلة الصادقة) عدم الاستقلال (بعدم الموضوع) عدم الإرادة (.

و أمّا المشكوك فهو يغاير المتيقّن، بل هو عبارة عن قضية، تحقَّقَ موضوعها و تعلّقت الإرادة بالشيء، إنّما الكلام في وصفها، فهل هو استقلالي أو تبعي؟ فاستصحاب القضية الأُولى التي كانت صادقة مع عدم الموضوع و إثبات وصف القضية المشكوكة) عدم الاستقلال (لموضوع محقّق من أوضح مصاديق الأصل المثبت.

و بعبارة أُخرى: القضية المتيقّنة عبارة عن الواجب الذي لم تتعلّق به إرادة مستقلة، و القضية المشكوكة عبارة عن الواجب بإرادة غير مستقلة، و صدق الأوّل لا يتوقّف على وجود الموضوع، بخلاف الثاني فهو فرع وجود الموضوع.

ص:538


1- - كفاية الأُصول: 1/195.

الأمر الخامس وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها إطلاقاً و اشتراطاً

إذا قلنا بوجوب المقدّمة، يتّبع وجوبُها وجوبَ ذيها في الإطلاق و الاشتراط; فإذا كان وجوب ذيها مشروطاً بشيء، كالوقت في الصلاة، و الاستطاعة في الحجّ، يكون وجوبها مشروطاً بها; و لو كان وجوب ذيها مطلقاً بالنسبة إلى شيء كوجوب الظهر بالنسبة إلى إتيانها بالجماعة، يكون وجوب المقدّمة كالطهارة بالنسبة إليه كذلك.

و يمكن الاستدلال على التبعية بوجهين:

الأوّل: انّ إرادة المقدّمة ناشئة من إرادة ذيها فلا محالة يكون وجوبُها في الإطلاق و الاشتراط تابعاً لكيفية وجوب ذيها.

يلاحظ عليه بما مرّ في البحوث السابقة: أنّ نشوء إرادة من إرادة أُخرى ممّا لا حقيقة له، لأنّ إرادة ذيها ليست علّة فاعليّة لإرادة المقدّمة، بل هي غاية لإرادتها، و لكلّ من الإرادتين، مبادئ و مقدّمات إذا حصلت، ظهرت الإرادة في لوح النفس، و على ذلك ففاعل الإرادة و موجدها في الذهن هو النفس، فإذا بطل نشوء إرادة عن أُخرى بطل ما رتب عليه من حديث التبعيّة.

ص:539

الثاني: انّ إرادة المقدّمة و إن لم تكن ناشئة من إرادة ذيها، لكن الثانية غاية لإرادة المقدّمة، فلا معنى لأن يكون ذو الغاية) وجوب المقدّمة (أوسع من الغاية، و قد ثبت في محلّه انّ الأفعال الاختيارية تتضيق ضيقاً ذاتياً حسب غاياتها، فلا يطلب العاقل شيئاً أوسع من الغاية التي يطلبه لأجلها.

و هذا القول غير القول بأنّ وجوب المقدّمة مشروط بوجوب ذيها، إذ هو أمر باطل، بل متضيق بالذات.

ص:540

الأمر السادس ما هو الواجب من المقدّمة؟

اشارة

لو قلنا بوجوب المقدّمة، فقد اختلفت كلمتهم في ما هو الواجب منها إلى أقوال ستة:

1. وجوب مطلق المقدّمة.

2. وجوب المقدّمة حين إرادة ذيها.

3. وجوب المقدّمة بشرط إرادة ذيها.

4. وجوب المقدّمة التي يتوصل بها إلى ذيها.

5. وجوب المقدّمة الموصلة إلى ذيها في نفس الأمر.

6. وجوب المقدّمة في حال الإيصال.

و إليك دراسة الأقوال واحداً بعد الآخر.

القول الأوّل: وجوب مطلق المقدّمة

إنّ دليل إيجاب المقدّمة لملاك رفع الاستحالة و هو موجود في عامّة المقدّمات من دون تقييد بشيء من القيود من الأقوال الخمسة.

و هذا القول هو المشهور، على القول بوجوب المقدّمة، و يُعلم حاله بدراسة سائر الأقوال.

ص:541

القول الثاني: وجوب المقدّمة حين إرادة ذيها

يظهر هذا القول من صاحب المعالم في مبحث الضد حيث قال: و أيضاً حجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما تنهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها.(1)

و إنّما صار إلى هذا القول لأجل تصحيح العبادة إذا ابتلى بالأهم كالصلاة بالنسبة إلى الإزالة، إذا ترك الثانية و أقام الأُولى.

توضيحه: أنّه استدلّ القائل ببطلان الصلاة بأنّ ترك الضد الصلاة مقدّمة لفعل الأهم) الإزالة (، فإذا كان الترك واجباً، كان الفعل محرّماً، و حرمة العبادة تلازم بطلانها.

هذا دليل القائل بالبطلان، و لكن صاحب المعالم قبل المقدّمتين، و هما:

1. انّ ترك الضد مقدّمة لفعل الضد.

2. إذا كان الترك واجباً، يكون الفعل حراماً.

و لكن منع أن يكون ترك الضد واجباً مقدّمة مطلقاً، بل إنّما يكون واجباً حين أراد أن يأتي بالأهم، و أمّا إذا كان هناك صارف بالنسبة إليه كما في المقام حيث إنّ المفروض انّ المكلّف ترك الإزالة و توجّه إلى الصلاة فلا يكون مثل هذا الترك واجباً في هذه الحالة، و بالتالي لا يكون فعله حراماً، و عندئذ تصح الصلاة لعدم حرمتها.

يلاحظ عليه: أنّ تضييق وجوب المقدّمة بما إذا أراد ذيها، يستلزم أن يكون

ص:542


1- - معالم الأُصول: 74.

إيجابها حينئذ أمراً لغواً، لأنّ الغاية من إيجاب المقدّمة إيجاد الداعي بالنسبة إلى إتيانها، فلو أراد إتيان ذيها، عن جدّ فهو لا محالة يأتي بالمقدّمة، فلا وجه لإيجاب المقدّمة.

القول الثالث: وجوب المقدّمة بشرط إرادة ذيها

و قد نسب هذا القول إلى صاحب المعالم و لم يعلم مصدره، و الفرق بين هذا و القول الثاني هو الفرق بين الحينية و المشروطة.

فلو قلت: كلّ كاتب متحرك الأصابع حين هو كاتب، فالقضية حينيّة.

و لو قلت: كلّ كاتب متحرك الأصابع ما دام كاتباً، فالقضيّة مشروطة.

و القضيتان تشتركان في أنّ تحرك الأصابع لا يعدو عن حالة الكتابة إلاّ قولنا:» حين هو كاتب «في القضية الأُولى و إن لم يكن قيداً لكن القضية لا تصدق إلاّ في هذه الصورة، فلها ضيق ذاتي بالنسبة إلى غير هذه الصورة، بخلاف إذا قلنا:» ما دام كاتباً «فهو قيد و شرط له و إيجاد ضيق في مقام الدلالة و الإثبات.

و على كلّ تقدير فالقول المزبور باطل، و ذلك:

يلاحظ عليه أوّلاً: انّه لا ينطبق على عبارة المعالم بل عبارته تنطبق على القول الثاني السابق.

و ثانياً: إنّ إرادة ذي المقدّمة إمّا شرط لوجوب المقدّمة، أو شرط لوجوب المقدّمة و وجوب ذيها.

أمّا الأوّل: فيرد عليه إشكالان:

1. انّ القول باشتراط المقدّمة بإرادة ذيها فقط يخالف ما مرّ من أنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها إطلاقاً و اشتراطاً، فكيف يكون وجوب المقدّمة مشروطاً

ص:543

بإرادة ذيها دون وجوب ذي المقدّمة.

2. يلزم التفكيك بين وجوب ذيها و وجوب المقدّمة عند عدم إرادة ذيها، حيث تلزم فعلية وجوب ذي المقدّمة في ظرف عدم وجوب المقدّمة لأجل عدم وجود شرط وجوبها و هو إرادة ذيها.

أمّا الثاني: فيرد عليه أيضاً إشكالان:

1. لو كان وجوب ذيها مشروطاً بإرادة ذي المقدّمة يلزم أن يكون إيجابه لغواً، لأنّ الإيجاب لأجل جعل الداعي إلى العمل في نفس المكلّف، فإذا كان الداعي موجوداً في نفس المكلّف حيث إنّ المفروض إرادته لفعل ذي المقدّمة، يلزم أن يكون إيجاب ذيها لغواً.

2. يلزم أن يكون وجوب الشيء تابعاً لإرادة المكلّف و هو كما ترى.

القول الرابع: وجوب المقدّمة بشرط التوصّل إلى ذيها
اشارة

قد نسب هذا القول إلى الشيخ الأعظم قدَّس سرّه، و لكن عبارة مقرّره مضطربة للغاية و محتملة لوجوه مختلفة نذكر منها ما يلي:

الأوّل: قصد التوصّل قيد لحصول الامتثال

قد استظهر السيد الأُستاذ) قدس سره (من أنّ مراد الشيخ هو أنّ قصد التوصل شرط لحصول الامتثال و تحقّقه، و ليس قيداً لوجوب المقدّمة و لا قيداً لذات المقدّمة، و على ذلك فقول الشيخ هو قول المشهور في مقدار ما هو الواجب في المقدّمة، غير أنّه أضاف بأنّ قصد الامتثال للأمر الغيري رهن قصد التوصّل و هو ليس بأمر بديع.

ص:544

و يدلّ على ذلك التفسير قول المقرر: الحق عدم تحقّق الامتثال بالواجب الغيري إذا لم يكن قاصداً للإتيان بذلك، إذ لا إشكال في لزوم قصد عنوان الواجب فيما إذا أُريد الامتثال.(1)

و من الواضح انّ قصد التوصّل يتحقّق بأحد أمرين:

أ. الإتيان بالمقدّمة كالوضوء لقصد إيقاع الصلاة.

ب: أن يأتي بالوضوء بقصد أمرها الغيري.

و هذا التفسير ينطبق مع بعض كلمات المقرّر كما تقدّم.

الثاني: قصد التوصّل شرط لرفع الحرمة عند التزاحم

و هذا القول نقله المحقّق النائيني) قدس سره (عن أُستاذه المحقّق الفشاركي) قدس سره (و هو أنّ قصد التوصّل شرط لرفع حرمة المقدّمة عند التزاحم مع واجب أهم، مثلاً: إذا توقّف إنقاذ الغريق على اجتياز أرض مغصوبة فلا توصف المقدّمة بالوجوب إلاّ إذا قصد باجتيازه انقاذَ الغريق و إلاّ فلو اجتاز لا لهذا القصد بل للتنزّه و التفرّج فلا يوصف الاجتياز بالوجوب بل يبقى على حرمته.(2)

و يؤيد ذلك قول الشيخ في بيان وجه الثمرة لمختاره:

تظهر الثمرة في جهة بقاء الفعل المقدّمي كالدخول في الأرض المغصوبة على حكمه السابق، فلو قلنا بعدم اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة على قصد الوجوب لا يحرم الدخول في ملك الغير إذا كان مقدمة لإنقاذ غريق، و إن لم يقصد إنقاذه، بخلاف ما لو اعتبرناه، فهو حرام ما لم يكن قاصد لإنقاذه.(3)

ص:545


1- - مطارح الأنظار: 7672.
2- - فوائد الأُصول: 1/289.
3- - مطارح الأنظار: 74.

يلاحظ عليه: أوّلاً: انّ كلام الشيخ أعمّ من صورة التزاحم، بشهادة أنّه أفتى فيما إذا كان على المكلّف فريضة فائتة فتوضّأ قبل الوقت غير قاصد لأدائها و لا لغاية من غايات المقدّمة انّه لا يجوز له الدخول به في الصلاة الحاضرة، و لا الفائتة، فلو كان منحصراً بصورة المزاحمة لما كان وجه لعدم صحّة الوضوء مع عدم قصد التوصّل.(1)

و ثانياً: انّه إذا كان الملاك لوجوب المقدّمة هو رفع الاستحالة و تمكين المكلّف من امتثال الأهم فلا يفرق بين كونه قاصداً للتوصّل أو غير قاصد، إذ الملاك لارتفاع الحرمة و انقلابها إلى الوجوب إنّما هو رفع الاستحالة، و هو محفوظ و موجود في كلتا الصورتين.

الثالث: قصد التوصّل جزء الموضوع

إنّ القول بأنّ الواجب هو خصوص ما أتى به بقصد التوصّل هو المعروف عن الشيخ الأعظم، و انّه ذهب إلى أنّ موضوع الوجوب مركّب من ذات المقدّمة و قصد التوصّل.

و يدلّ عليها بعض تعبيرات المقرّر حيث قال:

و هل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب أن يكون الإتيان لأجل التوصّل إلى الغير أو لا؟ وجهان، أقواهما الأول، و تظهر الثمرة فيما إذا كان على المكلّف فائتة فتوضّأ قبل الوقت غير قاصد لأدائها و لا لإحدى غاياتها، فعلى المختار لا يجوز الدخول به في الصلاة الحاضرة و لا الفائتة; و أيضاً تظهر من جهة بقاء الفعل

ص:546


1- - مطارح الأنظار: 74.

المقدّمي على حكمه السابق، فلو قلنا بعدم إنشاء قصد التوصّل في وقوع المقدمي على صفة الوجوب لا يحرم الدخول في ملك الغير إذا كانت مقدمة لإنقاذ غريق و إن لم يترتّب عليه، بخلاف ما لو اعتبرناه، فهو حرام ما لم يكن قاصداً لإنقاذه.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني: بأنّ ملاك الوجوب هو التوقّف و انّه به ترتفع الاستحالة، و على ذلك فلا فرق بين أن يقصد التوصّل أو لا يقصده، و لا معنى لأخذ ما لا مدخلية له في موضوع الوجوب.

تأييد لمقالة الشيخ

ثمّ إنّ المحقّق الاصفهاني نصر الشيخ الأعظم بالبيان التالي: و هو مبني على مقدّمتين:

أ. انّ الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية راجعة إلى الحيثيات التقييدية، فإذا كانت مطلوبية المقدّمة لا لذاتها بل لحيثية مقدّميتها و التوصّل بها، فالمطلوب الجدّي، و الموضوع الحقيقي للحكم العقلي هو نفس التوصّل.

ب. انّ الشيء لا يقع على صفة الوجوب و مصداقاً للواجب بما هو واجب، إلاّ إذا أُتي به عن قصد و عمد حتّى في التوصّليات، لأنّ البعث توصّلياً كان أم تعبّدياً لا يتعلّق إلاّ بالفعل الاختياري، فالغسل الصادر بلا اختيار، و إن كان مطابقاً لذات الواجب و محصّلاً لغرضه، و لكنّه لا يقع على صفة الوجوب و مصداقاً للواجب بما هو واجب.

ثمّ استنتج من هاتين المقدّمتين انّ اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب مطلقاً، و ذلك من جهة انّ المطلوب الحقيقي بحكم العقل،

ص:547


1- - مطارح الأنظار: 74.

هو التوصّل حسب المقدّمة الأُولى، و من جهة انّه ما لم يقع الواجب على وجهه المتعلّق به الوجوب و هو كونه عن قصد و عمد، لا يقع مصداقاً للواجب حسب المقدّمة الثانية.(1)

يلاحظ عليه: انّ ما ذكره في المقدّمة الأُولى أمر صحيح لا غبار عليه، إنّما الكلام في المقدّمة الثانية فقد أفاد فيها انّ الواجب هو نفس التوصّل الصادر من المكلّف باختياره، فنقول: إنّ الواجب في مقام التشريع و إن كان هو عنوان التوصّل لكن الامتثال يتحقّق بمصداقه و هو نفس الدخول إلى الأرض المغصوبة أو نفس الوضوء و الغسل، و يكفي في امتثال الأمر المقدّمي قصد نفس الدخول بما هو هو أو الوضوء كذلك، حتّى يكون فعلاً اختياريّاً، و أمّا القصد الزائد على هذا، أعني: قصد الدخول لغاية التوصّل إلى إنقاذ الغريق أو إيقاع الصلاة فلم يدلّ عليه دليل.

و إن شئت قلت: إنّ المكلّف في مقام الامتثال يجب أن يقصد مصداق ما يتوصّل به حتّى يكون الفعل اختيارياً، لما عرفت من أنّ المطلوب هو الفعل الصادر عن المكلّف باختيار. فعلى ضوء هذا فالواجب عليه هو الدخول و الورود عن اختيار، فلو دخل الأرض المغصوبة نائماً أو توضّأ غير قاصد للوضوء فلا يسقط الأمر المقدّمي.

و أمّا لزوم كون الدخول الاختياري لغاية الإنقاذ أو لغاية الصلاة فلا دليل عليه، فالذي يستنتج من المقدّمتين هو الإتيان بالمقدّمة عن قصد لا إتيانها منضماً إلى قصد ثان و هو التوصّل إلى الواجب.

ص:548


1- - لاحظ نهاية الدراية: 2051/204.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي اعترض على بيان المحقّق المحشّي و حاصل. اعتراضه يتلخّص في وجهين:

الوجه الأوّل: إنّا لا نسلم انّ الجهات التعليلية في الأحكام العقلية جهات تقييدية، لوضوح أنّ العقل يرى لحكمه موضوعاً و علّة.

الوجه الثاني: لو صحّ ما ذكره، فإنّما هو في الأحكام العقلية المحضة لا الشرعية المستكشفة كما في المقام، فانّ الوجوب فيه بحكم الشارع و لا دخل للعقل فيه إلاّ بنحو الكاشفية.(1)

و إلى الوجه الثاني يشير المحقّق الخوئي في تعليقته على تقريرات أُستاذه حيث قال: مغالطة نشأت من خلط الحكم الشرعي المستكشف من حكم عقلي، بالحكم العقلي الثابت لجهة تعليلية، و من الواضح انّ كون الجهات التعليلية في الأحكام العقلية، جهات تقييدية، أجنبي عن كون الجهات في الأحكام الشرعية جهات تقييدية و لو كانت مستكشفة من طريق العقلي.(2)

و الظاهر ضعف الإشكالين:

أمّا الأوّل: فانّه نابع من خلط مقام الثبوت بالإثبات، فما ذكره من أنّ للعقل حكماً و موضوعاً و علّة، صحيح في مقام الإثبات، فيقال: الكذب قبيح لأنّه مضر للمجتمع، و أمّا في مقام الثبوت فليس هناك إلاّ شيئان:

الحكم و الموضوع، و الموضوع عند العقل في مقام الثبوت هو الإضرار، و الكذب محكوم بالقبح لا بالذات بل لكونه من مصاديق الإضرار.

ص:549


1- - بدائع الأفكار: 1/387.
2- - أجود التقريرات: 1/233.

و نظيره قولنا: الظلم قبيح لكونه مفسداً للمجتمع، ففي مقام الإثبات أُمور ثلاثة، و أمّا مقام الثبوت فليس هناك إلاّ موضوع، و هو المفسد، و حكم، و هو القبح، و أمّا الظلم فليس موضوعاً للقبح بالذات، بل لأجل كونه داخلاً تحت عنوان المفسد.

و أمّا الثاني: فلا فرق بين الحكم العقلي و الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي، إذ لا معنى لأن يكون المعلول) الحكم المستكشف (أوسع من علّته أي الحكم العقلي.

نعم يمكن أن يكون ملاك الحكم الشرعي في الواقع أوسع من ملاك الحكم العقلي، إذ ليس للعقل الإحاطة بعامّة الملاكات، بخلاف الشرع فانّه محيط بعامّة الملاكات، و لكنّه لا يوجب أن يكون الحكم الشرعي المستكشف في مقام الإثبات، أوسع من الحكم العقلي الذي هو بمنزلة العلّة له.

القول الخامس: وجوب المقدّمة الموصلة
اشارة

قد اختار صاحب الفصول أنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة بقيد الإيصال، و تحليل هذا القول يتوقّف على الكلام في مقامات ثلاثة:

1. أدلّته.

2. إشكالاته.

3. ثمراته.

و قد خالف المحقّق الخراساني النظامَ الطبيعي للبحث فقدّم الإشكالات على الأدلة، و ما صنعناه أحسن.

و إليك الكلام في كلّ منها:

ص:550

المقام الأوّل أدلّة القول بوجوب الموصلة

قد استدلّ صاحب الفصول على وجوب المقدّمة الموصلة بوجوه ثلاثة ندرسها واحداً بعد الآخر.

الدليل الأوّل: انّ الحاكم بالملازمة بين الوجوبين هو العقل، و لا يرى العقل إلاّ الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب ما يقع في طريق حصول الشيء و سلسلة وجوده، و فيما سوى ذلك لا يدرك العقل أية ملازمة بينهما.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني: بأنّ العقل الحاكم بالملازمة دلّ على وجوب مطلق المقدّمة لا خصوص ما إذا ترتّب عليها الواجب فيما لم يكن هناك مانع عن وجوبه) كالأرض المغصوبة (لثبوت مناط الوجوب حينئذ في مطلقها و عدم اختصاصه بالمقيّد بذلك منها.(2)

و أجاب عن إشكال المحقّق الخراساني، تلميذُه الجليل المحقّق الاصفهاني بقوله: ليس التمكّن من ذي المقدّمة ملاكاً لوجوبها، فانّ التمكّن من ذيها حاصل بصرف التمكّن من المقدّمة و إن لم يأت بها. نعم تتوقّف فعلية ذيها على فعلية مقدّمته، و يتوقّف تحقّقه على تحقّقها، بل الملاك هو إيصالها إلى الواجب حيث إنّ الاشتياق إلى شيء لا ينفك عن الاشتياق إلى ما يقع في سلسلة علل

ص:551


1- - الفصول الغروية: 87، ط تبريز.
2- - كفاية الأُصول: 1/188.

وجوده دون ما لا يقع في سلسلتها.(1)

إنّ هذه الكلمات تدور حول محور واحد، و هو أنّ الملاك لوجوب المقدّمة هل هو التوقّف أو التوصّل؟ و كل يدّعي واحداً منهما من دون أن يقيم برهاناً عقلياً قاطعاً للنزاع.

و الذي يمكن أن يحسم به النزاع هو تشخيص الغاية الذاتية عن العرضية في المقام بما قرر في الفلسفة و هو:

إنّ الإجابة بالغاية الذاتية تقطع السؤال، بخلاف الإجابة بالغاية العرضيّة فانّها لا تقطع، بل للسائل أن يسأل عن وجه تحصيل الغاية العرضيّة أيضاً، و قبل أن نميّز الغاية العرضية عن الذاتية في المقام نطرح مثالاً لينجلي فيه الموضوع.

إنّ طالب العلم يتحمّل مشقّة و عناءً في سبيل التعلم، فلو طرحنا عليه السؤال التالي:

1. لما ذا تدرس و تتحمل كلّ هذا العناء؟ لأجاب: أدرس بغية النجاح في الامتحان.

2. و لما ذا تريد النجاح في الامتحان؟ لأجاب: لنيل الشهادة.

3. لما ذا تريد نيل الشهادة العلميّة؟ لأجاب: للارتزاق بها في حياتي.

فعندئذ تنتهي الأسئلة المتواردة، فلو سألته بقولك لما ذا تريد الارتزاق؟ يكون السؤال غلطاً، لأنّ الارتزاق من ضروريات الحياة، و هي غاية ذاتية لا تنفك عنها.

ص:552


1- - نهاية الدراية: 205.

و مثله المقام: فلو سأل سائل الآمر بقوله:

1. لما ذا أوجبت المقدّمة؟ لأجاب: لتوقّف المراد عليها سواء أ كانت موصلة أم لا.

2. إذا كانت المقدّمة غير مطلوبة بالذات فلما ذا تطلبها في صورة عدم كونها موصلة؟ و هذا دليل على أنّ التوقّف غاية عرضية و ليست ذاتية.

و هذا بخلاف ما أجاب عن السؤال الأوّل بقوله:

أوجبتها لتوصل بها إلى المقصود الذاتي.

فعندئذ ينقطع السؤال و يقتنع السائل.

و بذلك يُعلم أنّ أكثر إشكالات المحقّق الخراساني التي ساقها على صاحب الفصول و ستمرّ عليك، غير صحيحة، لأنّ أساسها أنّ الغاية من الإيجاب هي التوقّف، مع أنّك عرفت أنّ الغاية حسب التحليل هي التوصّل .

الدليل الثاني: انّ العقل لا يمنع من أن يقول الآمر الحكيم بأنّه يريد من المأمور الحجَ، و يريد منه السير الذي يتوصّل به إلى ذلك الفعل الواجب دون ما لا يتوصّل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بذلك، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقاً أو على تقدير التوصّل بها إليه. و ذلك آية عدم الملازمة بين وجوبه و وجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه.

و لما كان الملاك عند المحقّق الخراساني هو رفع الإحالة و إيجاد التمكّن أنكر هذا الدليل، قائلاً: بأنّه ليس على الحكيم ذلك، لأنّ دعوى قضاء الضرورة بذلك مجازفة، و كيف يكون ذلك بعد كون المناط موجوداً في مطلق المقدّمة الموصلة

ص:553

و غيرها.(1)

و قد عرفت أنّ الملاك هو كونها واقعة في سلسلة الغرض الأسمى و كونها موصلة لما هو المطلوب الأقصى، و على ذلك فالتصريح المذكور بمكان من الصحّة.

الدليل الثالث: صريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئاً بمجرّد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجرّداً عنه. و يلزم منه أن يكون وقوعه على وجهه المطلوب منوطاً بحصوله.

و قد أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين:

أوّلهما: انّ مطلوبية المقدّمة انّما هي لأجل عدم التمكّن من التوصّل بدونها، لا لأجل التوصّل بها، لأنّ التوصّل ليس من آثارها بل ممّا يترتب عليها أحياناً بالاختيار و لو لا إرادة ذيها لما تكون موصلة.

يلاحظ عليه: من أنّ الملاك كما عرفت التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها خارجاً، و قد أثبتنا عدم انقطاع السؤال لو كان الملاك مطلق التمكّن، سواء أ كانت موصلة أو لا، و أمّا عدم ترتّبه على المقدّمة من دون ضم إرادة ذيها فسيوافيك الجواب عنه عند ذكر الإشكالات.

ثانيهما: انّ الغاية) الصلاة (لا تكون قيداً لذي الغاية) الوضوء (بحيث كان تخلّفها موجباً لعدم وقوع ذي الغاية) الوضوء (على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، و إلاّ يلزم أن تكون الغاية) الصلاة (مطلوبة بطلب غيري كسائر قيود الواجب الغيري.

ص:554


1- - كفاية الأُصول: 1/188.

يلاحظ عليه: بما سنشير إليه في المبحث الثاني) إشكالات المقدّمة الموصلة (من أنّه لا يلزم من إيجاب المقدّمة الموصلة، كون الغاية من قيود ذي الغاية على نحو تكون الغاية واجبة بوجوب ذيها الغيري، لأنّ مدخلية الغاية في المقدّمة على نحو دخول التقيّد و خروج القيد فانتظر.

إلى هنا تمّت دراسة الأدلّة الثلاثة التي أقامها صاحب الفصول على مختاره، كما تمّت مناقشة المحقّق الخراساني لها، و وقفت على مدى صحتها، و هناك دليل آخر على وجوب المقدّمة الموصلة ينسب إلى معاصر المحقّق الخراساني أعني: السيد محمد كاظم اليزدي مؤلف العروة الوثقى و استدلّ هو بالنحو التالي:

الدليل الرابع: يصحّ للمولى تجويز الموصلة و تحريم غيرها و لا يجوز له تحريم مطلق المقدّمة أو خصوص الموصلة، و ذلك دليل على عدم وجود الملاك في غير الموصلة و إلاّ لما صحّ تحريمها.

و هذا الدليل قريب من الدليل الثاني الماضي لصاحب الفصول حيث قال: إنّ العقل لا يمنع أن يقول الآمر الحكيم بأنّه يريد من المأمور الحج و يريد منه السير الموصل دون ما لا يوصل كما عرفت. و على كلّ تقدير فتجويز الموصلة و تحريم غيرها آية وجود الملاك في الأُولى و عدمها في الثانية.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد عليه بوجهين:

1. انّ الواجب في هذه الصورة و إن كان مختصّاً بالموصلة لكن خروج غير الموصلة ليس لأجل اختصاص الوجوب بالموصلة في باب المقدّمة بل لأجل المنع من غيرها المانع من الاتّصاف بالوجوب بها هنا.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتمّ إذا كانت المقدّمة محرمة بالذات كما في

ص:555

اجتياز الأرض المغصوبة فلا تكون الحرمة فيه دليلاً على عدم الملاك، و أمّا إذا كانت حلالاً بالذات و صارت ممنوعة بعنوان غير الموصلة كنصب السلّم لغاية الرياضة، فانّ صحّة النهي آية عدم ملاك الوجوب الغيري فيه، و إلاّ لما صحّ النهي بعد اشتراك الموصلة و غيرها في الملاك، بل يكون النهي لغواً على خلاف الحكمة.

2. انّ تجويز الموصلة و تحريم غيرها يستلزم أحد المحذورين:

أ. إمّا تحصيل الحاصل.

ب. أو تفويت الواجب.

و ذلك لأنّ الإيصال إمّا أن يكون موجوداً بالفعل أو لا.

فعلى الأوّل يلزم تحصيل الحاصل، لأنّ كون المقدّمة موصلة بالفعل يلازم وجود ذيها، و معه يكون الطلب أشبه بتحصيل الحاصل.

و على الثاني أي ما إذا كان الإيصال بالقوّة لا بالفعل يكون الشروع في المقدّمة لفقدان وصفها أمراً حراماً، و الحرمة تُعجِزُ المكلّف عن امتثال الواجب عجزاً تشريعياً، و يترتّب عليه المحذور الثاني و هو تفويت الواجب.

و إلى المحذور الثاني يشير المحقّق الخراساني بقوله: إنّه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة و عصياناً لعدم التمكّن شرعاً منه لاختصاص جواز المقدّمة بصورة الإتيان به.

و إلى المحذور الأوّل يشير بقوله:» و بالجملة يلزم أن يكون الإيجاب مختصّاً بصورة الإتيان، لاختصاص جواز المقدّمة بها، و هو محال فانّه يكون من طلب الحاصل المحال «.

ص:556

يلاحظ عليه: بأنّه إنّما يرد أحد المحذورين إذا أُريد من الإيصال، هو فعليته بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن، فعلى فرض وجوده يلزم طلب الحاصل، و على فرض عدمه يلزم تفويت الواجب.

و أمّا إذا كان شرطاً متأخّراً لجواز المقدّمة فيكفي في جوازها علم الفاعل بالترتّب في المستقبل فتكون المقدّمة جائزة، و لا يلزم لا تفويت الواجب و لا تحصيل الحاصل.(1)

و يمكن أن يقال: إنّ المراد من الإيصال ليست فعلية ترتّب ذيها عليها حتّى يلزم أحد المحذورين) حيث عند الترتّب يلزم تحصيل الحاصل، و عند عدمه يلزم حرمة المقدّمة (بل المراد بالإيصال هو كون المقدّمة واقعة في صراط الإتيان بذيها حسب تشخيص المكلّف و إرادته، و يكفي في تحقّق الشرط بهذا المعنى كون المقدّمة في صراط ذيها في نيّة المكلّف.

و إن شئت قلت: ليس الإيصال قيداً لجواز المقدّمة، بل من قيود الواجب) المقدّمة (التي يجب على المكلّف تحصيلها، و ذلك بالسعي حتّى تنتهي المقدّمة إلى ذيها.

و عندئذ لا يلزم أحد المحذورين، أمّا تحصيل الحاصل فلأنّ المفروض عدم تحقّق وصف الإيصال، و أمّا تفويت الواجب فلأنّ المفروض جواز المقدّمة التي وقعت في صراط ذيها حسب نية المكلّف.

و بعبارة أُخرى: الإيصال كسائر قيود الواجب قيد اختياري يجب على المكلّف تحصيله حتّى لا يؤاخذ بترك الواجب.

ص:557


1- - نهاية الدراية: 1/207، بتوضيح منّا.

و نظير ذلك جواز تصرّف الولي في مال اليتيم بشرط أن يكون مقروناً بالغبطة، فانّ النتيجة و هي كون المعاملة لصالح اليتيم شرط يجب على الولي تحصيلها، و ليس هذا الشرط موجوداً في أوّل الأمر.

إلى هنا تمّت أدلّة المقدّمة الموصلة، و حان البحث في المقام الثاني، أعني: إشكالات القول بالمقدّمة الموصلة.

ص:558

المقام الثاني إشكالات القول بوجوب المقدّمة الموصلة

قد فرغنا من الكلام في أدلّة القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة، و بقي الكلام في البحث عن الشبهات التي وُجهت إلى تلك النظرية من قبل المتأخّرين عن صاحب النظرية، و إليك بيانها:

1. انقلاب الواجب النفسي إلى الغيري

إنّ تقييد المقدّمة بالإيصال يوجب أخذ ذي الغاية جزءاً للمقدمة، و هو يستلزم أن يكون الشيء الواحد واجباً نفسياً، و واجباً غيريّاً حيث جعل ذي المقدّمة جزءاً من المقدّمة، و مجموع المقدّمة واجب بالوجوب الغيري فيكون جزؤه أيضاً كذلك، و إلى هذا أشار في» الكفاية «بقوله:

إنّ الغاية لا تكاد تكون قيداً لذي الغاية بحيث كان تخلّفها موجباً لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، و إلاّ يلزم أن تكون الغاية مطلوبة بطلبه كسائر قيوده.(1)

و قد أجاب عنه السيد الإمام الخميني) قدس سره (بقوله: إنّ وصف الموصلية أمر

ص:559


1- - كفاية الأُصول: 1/191.

انتزاعي من وجود نفس ذي المقدّمة في الخارج، و هو منشأ انتزاعي لهذا الوصف، و ما هو قيد لوجوب المقدّمة إنّما هو ذاك الوصف الانتزاعي دون منشأ انتزاعه الذي هو نفس وجود ذي المقدّمة في الخارج، فما هو الواجب غيرياً إنّما هو رهن الانتزاع، و ما هو واجب بالوجوب النفسي إنّما هو منشأ انتزاعه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه إذا كان عنوان الموصلية أمراً انتزاعياً من وجود نفس ذي المقدّمة، فيكون الواجب النفسي كالمقدّمة لهذا الأمر الانتزاعي الذي هو جزء للموضوع فيوصف أيضاً بالوجوب الغيري بحكم انّ منشأ الانتزاع مقدّمة للعنوان المنتزع الذي هو جزء المقدّمة.

و الأولى أن يجاب: بأنّ عنوان الموصلية لا ينتزع من وجود ذي المقدّمة في الخارج و لا من ترتّب ذيها على المقدّمة، بل ينتزع من نفس المقدّمة إذا كانت في طريق ذيها و منتهية إليه، فالواجب هو إيجاد المقدّمة مع وصفها بأن يجعل المقدّمة في طريق ذيها و واصلة إليه، و عند ذاك لا يلزم انقلاب الواجب النفسي إلى الواجب الغيري.

2. سقوط المقدّمة بالإتيان بها

إذا كان الواجب هو المقدّمة بقيد الإيصال، فلو قلنا بوجوب المقدّمة يجب أن لا يسقط أمرها بالإتيان بها ما لم يترتّب عليه ذيها، مع أنّ المعلوم خلافه، و إلى هذا الإشكال أشار المحقّق الخراساني بقوله:

و لأنّه لو كان الترتّب معتبراً فيه لما كان الطلب يسقط بمجرّد الإتيان بها من دون انتظار لترتّب الواجب عليها بحيث لا يبقى في البين إلاّ طلبه و ايجابه، كما إذا

ص:560


1- - تهذيب الأُصول: 1/263.

لم تكن هذه بمقدّمة، أو كانت حاصلة من الأوّل قبل إيجابه، مع أنّ الطلب لا يكاد يسقط إلاّ بالموافقة، أو بالعصيان و المخالفة، أو بارتفاع موضوع التكليف كما في سقوط الأمر بالكفن أو الدفن بسبب غرق الميت أحياناً أو حرقه، و لا يكون الإتيان بها بالضرورة من هذه الأُمور غير الموافقة.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ الإشكال مبني على تفسير الموصلة بوجود ذي المقدّمة في جنب المقدّمة على نحو يكون الوجوب الغيري متعلّقاً بشيئين متغايرين:

1. المقدّمة.

2. ذو المقدّمة في جنبها.

و على ذلك فما لم يأت المكلّف بالجزء الثاني لا يسقط الأمر المقدّمي.

و لكنّك عرفت أنّ عنوان الإيصال ليس نفسَ الواجب النفسي و لا منتزعاً عنه، بل هو عبارة عن كون المقدّمة في الواقع في طريق ذيها و منتهية إليه.

و عند ذلك يختلف الحكم ثبوتاً و إثباتاً.

فلو كانت المقدّمة واجدة لهذا الوصف) كونها في طريق ذيها و منتهية إليه (يسقط الأمر واقعاً لا ظاهراً، لعدم علم المكلّف بالانتهاء.

و الحاصل: انّه لا مانع من أن يُحدّد الآمر موضوعَ حكمه بالمقدّمة التي تنتهي إلى ذيها و تقع في طريقها و لا يتعلّق حكم الآمر بما إذا لم يكن كذلك.

3. ما هو مقدّمة ليست بموصلة

إنّ الإتيان بذيها ليس أثر المقدّمة بما هي هي، بل يعدّ من أثره إذا انضم

ص:561


1- - كفاية الأُصول: 1/186.

إليه أمر آخر و هو إرادة المكلَّفِ امتثالَ الواجب النفسي، فعندئذ يترتّب ذو المقدّمة على المقدّمة، و على ضوء ذلك فما هو مقدّمة ليست بموصلة، و ما هو موصلة أي المقدّمة مع قيد الإرادة لا يتعلّق به التكليف، لأنّ الإرادة أمر خارج عن الاختيار و لا يتعلّق بها التكليف، و إلى ذلك أشار المحقّق الخراساني بقوله:

و أمّا ترتّب الواجب فلا يعقل أن يكون الغرضَ الداعي إلى إيجابها و الباعثَ على طلبها، فانّه ليس بأثر تمام المقدّمات فضلاً عن إحداها في غالب الواجبات، فانّ الواجب إلاّ ما قلّ في الشرعيات و العرفيات فعل اختياري يختار المكلّف تارة، اتيانَه بعد وجود تمام مقدّماته، و أُخرى عدمَ إتيانه، و من المعلوم أنّ مبادئ اختيار الفعل الاختياري لا يوصف بالوجوب لعدم كونها بالاختيار و إلاّ لتسلسل.(1)

يلاحظ عليه:

أوّلاً: بأنّ الإشكال نشأ من تفسير الموصلة بالعلّة التامة لتحقّق ذيها، و عندئذ تُصوّر أنّ المقدّمات بلا ضم الإرادة ليست بعلّة تامة، و معها و إن كانت علّة تامة لكن لا يتعلّق بها الأمر، غير انّك عرفت أنّ المراد من الموصلة عبارة عن كون المقدّمة في الواقع في طريق المقصود و منتهية إليه و لو بواسطة الإرادة، و إن كانت المقدّمة بعامّة أجزائها غير كافية في تحقّق الغاية بل محتاجة إلى توسيط الإرادة.

و على ذلك فكلّ من الشرط و المعد و السبب لو كان في الواقع في طريق ذيها فالجميع موصلة بهذا المعنى و إن لم يترتّب المقصود عليها بالفعل غير أنّه سيترتّب

ص:562


1- - كفاية الأُصول: 1/185، و قد خلط المحقّق الخراساني في المقام بين الإشكالين الثالث و السادس و لأجل ذلك أوجد تشويشاً في العبارة.

عليه بعد فترة من الزمن.

و ثانياً: نمنع عدم تعلّق الأمر بالإرادة، كيف! و قد ورد الأمر بالقصد و الإرادة في مقامات مختلفة، مثلاً:

إذا نذر الإقامة في البلد يجب عليه قصدها، و مقوّم الإقامة هو القصد و الإرادة التي تعلّق بهما الأمر.

و نظير ذلك لزوم قصد القربة في التعبّديات، فقد ورد الأمر في الشرع بإرادة الإتيان بها للّه سبحانه.

و أمّا ما هو ملاك الاختيار فقد أشبع شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه الكلام فيه في رسالة خاصّة له بالجبر و التفويض(1) فلاحظ.

4. لزوم الدور

و قد قرّر الدور بوجهين:

الأوّل: انّ وجود ذي المقدّمة يتوقّف على وجود المقدّمة، و لو قلنا بقيدية الإيصال لتوقّف وجود جزء المقدّمة على وجود ذيها.

يلاحظ عليه: أنّ الموقوف مغاير للموقوف عليه، لأنّ وجود ذيها متوقّف على وجود المقدّمة، و وصف المقدّمة أعني: الإيصال موقوف على وجود ذيها و حينئذٍ فلا دور.

الثاني: ما قرره المحقّق النائيني و هو أنّ قيد الإيصال يرجع إلى اعتبار كون الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري، فيلزم أن يكون الواجب النفسي مقدّمة

ص:563


1- - رسالة الأمر بين الأمرين نُشرت مع رسالة» لبّ الأثر في الجبر و القدر «سنة 1418 ه.

للمقدّمة و واجباً بوجوب ناش من وجوبها، و هو يستلزم الدور، فانّ وجوب المقدّمة إنّما نشأ من وجوب ذي المقدّمة، و لو ترشح وجوب من وجوبها على ذي المقدّمة للزم الدور.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ الإشكال ناشئ من تفسير خاطئ للموصلة، و هو أخذ وجود الواجب النفسي قيداً في المقدّمة، و تعلّق الأمر الغيري بالمركب منه، و قد عرفت أنّ الإيصال ليس بمعنى ترتّب واجب نفسي عليها و لا أخذ الواجب النفسي جزءاً للمقدمة، بل كون المقدّمة في طريق ذيها.

و ثانياً: لو سلّمنا التفسير المذكور لا يلزم منه إلاّ اجتماع المثلين لا الدور، و ذلك لأنّ الواجب النفسي بما هو واجب نفسي يتعلّق به الوجوب النفسي، و بما أنّه جزء للمقدمة يتعلّق بها الوجوب الغيري المتعلّق بالجميع الذي من أجزائه الواجب النفسي، و أين هذا من الدور.

5. لزوم التسلسل

لو كان الوضوء الموصل إلى الصلاة مقدّمة، أو السير الموصل إلى الحج مقدّمة، فذات الوضوء و السير يكون مقدّمة للوضوء الموصل، و السير الموصل و إن اعتبر الإيصال فيه أيضاً يكون مركّباً من شيئين: الوضوء و الإيصال، فينتقل الكلام إلى الجزء الأوّل منه، فبما انّه أيضاً مقدّمة يعتبر فيه الإيصال و هكذا يلزم التسلسل، و لا محيص من أن ينتهي الأمر إلى ما يكون الذات مقدمة، فإذا كان الأمر كذلك فلتكن الذات من أوّل الأمر مقدّمة لذيها من دون اعتبار قيد التوصّل.(2)

ص:564


1- - أجود التقريرات: 1/208.
2- - فوائد الأُصول: 1/209.

و قد أجاب عنه الإمام الخميني) قدس سره (: بأنّ الواجب بالأمر الغيري هو قيد المقدّمة الموصلة إلى الواجب النفسي لا المقدّمة الموصلة إلى المقدّمة، وعليه فالذات) الوضوء (لم تكن واجبة بقيد الإيصال إلى المقيّد، بل واجبة بقيد الإيصال إلى ذيها، و هو حاصل بلا قيد زائد، بل لا يمكن تقييد الموصلة بالإيصال.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره أشبه بتخصيص القاعدة العقلية، مع أنّ القاعدة العقلية لا تُخَصّص، لوجود ملاكها في عامة الأفراد.

مثلاً إذا كان دليل وجوب المقدّمة الموصلة ما ذكره صاحب الفصول» من أنّ الإنسان لا يطلب شيئاً لا يقع في طريق مقصوده «فهو يقتضي أن تكون المقدّمة مع أجزائها في طريق مقصوده، لأنّ العلّة كما تقتضي أن يكون الكل في طريقه كذلك تقتضي أن يكون الجزء أيضاً كذلك، فلا يقع مطلوباً إلاّ إذا كان بهذا الوصف، و عندئذ يلزم التسلسل.

و الأولى أن يجاب بأنّ وصف الإيصال ليس جزءاً خارجياً للمقدّمة، بحيث تكون مركبة في الخارج من شيئين أحدهما ذات المقدّمة و الآخر عنوان الموصلية، بل المقدّمة في الخارج شيء واحد، و أمّا الإيصال فهو أمر انتزاعي يصنعه الذهن من وقوع المقدّمة في طريق المقصود و انتهائها إليه، و على ضوء هذا فليس الوضوء مقدّمة للمقدّمة) الوضوء الموصل (حتّى يقال: يجب أن يكون هو أيضاً موصلاً. بل المقدّمة هي الوضوء و لكن يجب على المكلّف إيجاد وصف الإيصال.

6. اختصاص الوجوب بالعلل التوليدية

لو كان الملاك مطلق التوقّف فهو موجود في الموصلة و غيرها، و لو كان

ص:565


1- - تهذيب الأُصول: 1/262.

الملاك خصوص ما يستحيل انفكاكه عن الواجب في الخارج فيختص الوجوب بالعلل التوليدية كالإلقاء بالنسبة إلى الإحراق، و لا يعمّ العلل الاعدادية كالشرط و المعد و السبب، فانّ كلّ واحد منها مقدّمة، و لكن لا يستحيل انفكاك كلّ واحد منها عن الواجب.(1)

و إلى هذا الإشكال أشار المحقّق الخراساني بقوله:

إنّ القول بالمقدّمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدّمة في غالب الواجبات، و القول بوجوب خصوص العلّة التامّة في خصوص الواجبات التوليدية.(2)

يلاحظ عليه: بأنّ الملاك ليس التوقّف بما هو هو و لا خصوص ما يستحيل انفكاكه عن الواجب في الخارج، بل الملاك ما يقع في طريق المطلوب بالذات، و هذا لا يوجب اختصاص الوجوب بالعلّة التامّة بل كلّ من الشرط و المعد على قسمين موصل أي واقع في طريق المقصود، و غير موصل أي ليس كذلك.

بقيت هناك إشكالات أُخرى تعرّض لبعضها المحقّق العراقي فلاحظها.(3)

ص:566


1- - أجود التقريرات: 1/239.
2- - كفاية الأُصول: 1/185.
3- - بدائع الأفكار: 1/388.
المقام الثالث ثمرات القول بوجوب المقدّمة الموصلة

و قد فرغنا بحمد اللّه عن بيان الأدلّة لوجوب المقدّمة الموصلة و الشبهات المتوجّهة إليها، بقي الكلام في ثمرات هذا القول، فنقول: يترتّب على هذا القول ثمرتان:

الثمرة الأُولى: بقاء الحرمة في غير الموصلة

لو انحصرت المقدّمة في المحرّم منها، كما إذا توقّف إنقاذ الغريق على سلوك أرض مغصوبة، فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة، تزول عنها الحرمة و يتّصف السلوك بالوجوب، سواء أ كان موصلاً أم لم يكن كما لو كان سلوكها لأجل التنزّه.

و على القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة، لا تزول الحرمة إلاّ إذا توصّل بسلوكها إلى إنقاذ الغريق، فلو لم يتمكّن في النهاية من الإنقاذ كانت باقية على حرمتها واقعاً، جائزة له ظاهراً.

و على القول بوجوب قصد التوصّل لا تزول الحرمة إلاّ بقصد الإنقاذ.

و على القول بعدم وجوب المقدّمة من رأس، يبقى السلوك على حرمته، و لا ترتفع الحرمة إلاّ بمقدار الضرورة، و هو ما يتمكّن به من الإتيان بالواجب.

ص:567

الثمرة الثانية: صحّة الصلاة على القول بالموصلة

هذه هي الثمرة الثانية و هي انّه إذا كانت العبادة مزاحمة لواجب أهم كالصلاة عند الابتلاء بأمر أهم منها كإزالة النجاسة عن المسجد، فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة تبطل الصلاة و لا تبطل على القول بوجوب المقدمة الموصلة.

و هذه الثمرة تبتني على أُمور أربعة:

1. ترك الضد مقدّمة لفعل الضد الآخر.

2. مقدّمة الواجب واجبة.

3. انّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام، و هو النقيض.

4. انّ هذا النهي موجب لفساد العبادة.

و عندئذ يقال:

1. ترك الصلاة مقدّمة للإزالة بحكم الأمر الأوّل.

2. و ترك الصلاة واجب بحكم الأمر الثاني، أي الملازمة بين وجوب المقدّمة و ذيها.

3. و إذا كان ترك الصلاة واجباً ففعلها حرام بحكم الأمر الثالث.

4. و النهي المتعلّق بالصلاة موجب للفساد بحكم الأمر الرابع.

فإذا قلنا بوجوب مطلق المقدّمة تكون النتيجة بطلان الصلاة، حيث إنّ مقدّمية ترك الصلاة توجب وجوبها، و وجوب الترك يوجب حرمة الصلاة التي هي ضد الواجب) ترك الصلاة (و هي تستلزم بطلانها.

و أمّا إذا قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة فلا يكون ترك الصلاة واجباً، بل

ص:568

الواجب هو ترك الصلاة الموصل للإزالة، و بما أنّ المكلّف غير راغب للإزالة فلا يكون ترك الصلاة في هذا الظرف واجباً حتّى يكون نقيضه حراماً، و معه لا يكون فاسداً.

و لكن هذه الثمرة باطلة من أساسها لابتنائها على المقدّمات الأربع التي لم تُسلَّم واحدة منها كما ستظهر لك في مبحث الضد، و مع ذلك فقد اعترض الشيخ الأنصاري على الثمرة الثانية.

نظرية الشيخ في الثمرة

ذهب الشيخ الأنصاري إلى بطلان الثمرة الثانية على القول بالموصلة، و انّ الصلاة إمّا صحيحة على كلا القولين أو باطلة كذلك، و ذلك بتقديم مقدّمة.

حدّ النقيض اختلفت كلمة المنطقيّين في تعريف النقيض، فقال بعضهم:

1. نقيض كلّ شيء رفعه، فنقيض الإنسان، هو اللاإنسان، و نقيض الثاني هو رفع اللاإنسان، و على هذا يختصّ النقيض بالأمر السلبي.

2. نقيض كلّ شيء رفع أو مرفوع، فنقيض الإنسان هو اللاإنسان، و نقيض الثاني هو الإنسان الذي هو المرفوع.

و ربّما يقال أنّ من عرّف النقيض بالرفع أراد منه الأعم من الرفع و المرفوع، يقول الحكيم السبزواري:

نقيض كلّ رفع أو مرفوع تعميم رفع لهما مرجوع(1)

ص:569


1- - شرح المنظومة، قسم المنطق: 59.

و على هذا فالمقدّمة للإزالة في المقام هو» ترك الصلاة «و نقيضه الذي يطلق عليه الضد العام على التعريف الأوّل هو رفع ترك الصلاة، و على التعريف الثاني هو نفس الصلاة.

إذا عرفت هذا فإليك بيان الشيخ في بطلان الثمرة بما هذا توضيحه:

لو قلنا بأنّ نقيض كلّ شيء و ضدّه العام عبارة عن الرفع. فنقيض» ترك الصلاة «أو» ترك الصلاة الموصل «عبارة عن رفعهما لا نفس الصلاة، و تتعلّق الحرمة برفع ترك الصلاة المطلق أو المقيّد بالموصل، لا بالصلاة التي هي تقارن النقيض، غاية الأمر انّ لنقيض» الترك المطلق «أعني: رفع الترك المطلق مقارناً واحداً و هو الصلاة، و لنقيض» الترك الموصل «أعني: رفع ذلك الترك الموصل مقارنان: أوّلهما الترك المجرّد بأن لا يصلّي و لا يزيل النجاسة، و ثانيهما إقامة الصلاة، فلا يصحّ الحكم بالبطلان على الأوّل، و الصحّة على الثاني، بل يجب أن يحكم بالصحّة على كلا القولين.

و لو قلنا بالشق الثاني و انّ النقيض أعمّ من الرفع و المرفوع فنقيض ترك الصلاة المطلق، أو الترك الموصل، هو نفس الصلاة فتكون باطلة على كلا القولين لتعلّق النهي به بعنوان النقيض و الضد العام.

هذا توضيح لمقالة الشيخ.

كلام المحقّق الخراساني في ردّ الثمرة

ذهب المحقّق الخراساني إلى ترتّب الثمرة على القول بالموصلة و عدمه في صورة واحدة و هو أن يكون نقيض كلّ شيء هو رفعه فنقيض الترك المطلق أو الترك الموصل هو رفعهما لا الصلاة، و انّ الصلاة من مقارنات النقيض على كلا

ص:570

القولين، و مع ذلك، فرق عرفاً بين مقارن و مقارن.

و ذلك لأنّ نسبة الصلاة إلى الترك المطلق، كنسبة النقيض إلى العين، لما عرفت من أنّه ليس للنقيض الواقعي رفع الترك المطلق إلاّ مقارن واحد، و لذلك يعدّ ذلك المقارن للنقيض الواقعي، نقيضاً للعين ترك الصلاة عرفاً فتكون محرّمة أخذاً بالقاعدة: إذا كان الشيء واجباً ترك الصلاة المطلق يكون ضدّه العام أو نقيضه محرّماً، فتكون الصلاة باطلة لأجل حرمتها.

و هذا بخلاف نسبة الصلاة إلى الترك الموصل، فليس كلّ من الفعل و الترك المجرّد نقيضاً له عرفاً، لامتناع تعدّد النقيض، و لا الجامع بينهما نقيضاً لامتناع الجامع بين الوجود و العدم، فينحصر نقيضه برفع الترك الموصل، و يكون كلّ من الفعل و الترك المجرّد، من مقارناته، حيث إنّ رفع الترك المطلق، تارة ينطبق على الفعل، و أُخرى على الترك المجرّد، و الحرمة لا تسري من الشيء) رفع الترك الموصل (إلى مقارناته.

و الأولى ردّ الثمرة بردّ عامّة مقدّماته أو أكثرها، و لا أقلّ من إبطال أنّ وجوب شيء مقتضي لحرمة ضده العام و نقيضه، لما سيوافيك أنّ هذا النوع من النهي أمر لغو لا يصدر من الفاعل الحكيم.

***

القول السادس: وجوب المقدّمة حال الإيصال

الفرق بين هذا القول و خامس الأقوال، أنّ الإيصال في السابق قيد للواجب، و الموصل وصف له، بخلاف هذا القول فليس الإيصال قيداً، و مع هذا لا ينطبق إلاّ على المقيّد، شأن الفرق بين المشروطة و الحينية.

ص:571

و إنّما لجأ القائل إلى هذا القول، لأجل الفرار عن الإشكالات الستة المتوجّهة إلى القول الخامس، و قد قرّر بوجوه:

الأوّل: ما قرره سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي، و حاصل ما أفاده:

إنّ متعلّق الوجوب ذاتُ ما يوجد من المقدّمات مصداقاً للموصل، لا بوصف الموصلية. بمعنى أنّ الشارع رأى أنّ المقدّمات في الخارج على قسمين. قسم منها يوصل إلى ذيها و يترتّب هو عليها واقعاً، و قسم منها لا يوصل، فخصّ الوجوب بالقسم الأوّل أعني: ما يكون بالحمل الشائع مصداقاً للموصل و ليست الموصلية قيداً مأخوذاً في الواجب بنحو يجب تحصيله، بل هي عنوان مشير إلى ما هو واجب في الواقع، و إنّما خصّ الوجوب به لأنّ المقدّمة ليست مطلوبة في حدّ الذات، بل مطلوبيّتها لأجل ذيها، فيختصّ طلبُها بما هو ملازم للمطلوب بالذات.

ثمّ ردّه المحقّق البروجردي بأنّ ما ذكر من المقدّمة الموصلة ليس أمراً جديداً، بل هو نفس ما ذكره بعض القدماء من اختصاص الوجوب بالمقدّمة السببيّة، فانّ المقدّمة التي تكون موصلة في متن الواقع و يترتّب عليها ذو المقدّمة لا تنطبق إلاّ على المقدّمة السببيّة.(1)

و مع ذلك فالبيان المذكور ليس وافياً للمقصود، إذ فيه:

أوّلاً: أنّ تصوير القضية الحقيقية المتوسطة بين المشروطة و المطلقة أمر غير تام. لأنّ قوله:» حين هو كاتب «إمّا ملحوظ في ثبوت الحكم، فيكون قيداً، فترجع القضية الحينية إلى المشروطة، أو غير ملحوظ فيه، فترجع إلى المطلقة، و لا

ص:572


1- - نهاية الأُصول: 179 180.

يعقل أن لا يكون للشيء مدخلية في الحكم، و مع ذلك، لا ينطبق الحكم إلاّ على المقيّد.

فإن قلت: إذا قلت رأيت زيداً قائماً، فقد رأيته في تلك الحالة لا في غيرها، و مع ذلك ليست الحالة قيداً للرؤية و لا للمرئي، و مع ذلك أوجد ضيقاً في الرؤية حيث إنّك ما رأيته إلاّ في تلك الحالة.

قلت: إنّ الحالة، تعد من قيود ذيها فتكون جزء الموضوع، فإذا قلت: رأيت زيداً قائماً، فكأنّك قلت:

رأيت زيد القائم، و من المعلوم أنّ الحكم لا يتجاوز عن موضوعه، فعدم شمول الحكم لأوسع من حدّ الحال، لأجل كونه من قيود الموضوع لبّاً، و الحكم يتضيّق حسب ضيق الموضوع.

و على ضوء ذلك فانّ تخصيص الإيجاب بالمقدّمة التي تكون بالحمل الشائع مصداقاً للموصل لا يخلو إمّا أن يأخذ الموصل قيداً للواجب أو لا. فعلى الأوّل يرجع إلى القول الخامس، و على الثاني يعمّ ما هو مصداق له بالحمل الشائع و ما ليس كذلك.

و ثانياً: انّ المراد من الإيصال كونه واقعاً في طريق المقصود لا الموصلة بالفعل فيعمّ الشرط و المعدّ و السبب بمعنى المقتضي و ارتفاع المانع، إذ كلّ واحد منهما على قسمين تارة في طريق المقصود، و أُخرى خارجه، حتّى أنّ الخطوة الأُولى للسير إلى الحج توصف بالموصلة و غيرها.

الثاني: ما أفاده المحقّق العراقي على ما في تقريراته(1)، و هو أنّ الواجب ليس مطلقَ المقدّمة و لا خصوص المقدّمة المتقيّدة بالإيصال، بل الواجب هو الحصّة التوأمة مع وجود سائر المقدّمات، الملازمة(2)لوجود ذي المقدّمة.

ص:573


1- - بدائع الأفكار: 1/389.
2- - صفة الحصة.

و على هذا جرى المحقّق الخوئي في تعاليقه على أجوده، حيث قال: إنّ ملاك الوجوب الغيري هو خصوصُ التوقّف على ما يكون توأماً لوجود ذي المقدّمة في الخارج من جهة وقوعه في سلسلة مبادئ وجوده بالفعل، فيختصّ الوجوب الغيري حينئذ بالموصلة، و لا يعم غيرها.(1)

يلاحظ عليه: أنّ التوأمية إمّا قيد، أو لا، فعلى الأوّل، تنطبق على مذاقِ صاحب الفصول; و على الثاني، لا يختصّ الحكم بالموصلة، بل يعمّ غيرها.

و بعبارة أُخرى: انّ كلاً من المقدّمة التوأمة و المقدّمة غير التوأمة و إن كان متميزاً في نفس الأمر، حيث إنّ نصب السلّم في الخارج على قسمين:

1. قسم ينتهي إلى ذي المقدّمة، و هو المسمّى بالمقدّمة التوأمة.

2. قسم لا ينتهي بل تنفك المقدّمة عن ذيها، و هو المسمّى بغير التوأمة.

إلاّ انّ الكلام في مقام تعلّق الإرادة بأحد القسمين دون الآخر، كتعلّق الوجوب كذلك، فالتعلّق بقسم دون قسم يحتاج إلى عنوان يميّز أحد القسمين عن الآخر حتّى يكون القسم الموصل متعلّقاً للإرادة و الإيجاب، و ليس هو إلاّ عنوان التوأمة أو الإيصال و هو نفس القول بالمقدّمة الموصلة.

الثالث: ما نقله شيخنا الأُستاذ) مد ظله (عن أُستاذه السيد الإمام الخميني عن شيخه العلاّمة الحائري و نذكر المنقول في مقطعين:

1. انّ للمعاليل الخارجية ضيقاً ذاتياً من جانب علّتها، فالحرارة الصادرة عن النار الخارجية و إن كانت غير مقيّدة بعلّتها لامتناع تقييد المتأخّر بالأمر المتقدّم إلاّ أنّها ليست أيضاً مطلقة بالنسبة إليها و إلى غيرها، و إلاّ يلزم أن تكون

ص:574


1- - أجود التقريرات، قسم الهامش، ص 239.

أوسع من علّتها، بل هي على وجه لا تنطبق إلاّ على المقيّد أي الحرارة المفاضة من جانب الصلة لا الأعم منها و من غيرها.

2. العلة الغائية بما انّها متقدّمة تصوّراً، متأخرة وجوداً، فالمعلول ليس مقيّداً بوجود العلّة الغائية لتقدّم المعلول وجوداً على العلّة الغائية في الخارج لكنّه ليس أوسع من الغاية التي هي علّة لفاعلية الفاعل و سبب لبروز الإرادة في لوح النفس، و إلاّ يلزم أن تكون الإرادة بلا غاية.

و على هذا تكون الإرادة غير مقيّدة بالغاية، و لكنّها ليست بأوسع منها، وعليه فالواجب ليس مطلق المقدّمة لما عرفت من أنّ الإرادة و الوجوب يتضيق ضيقاً ذاتياً بالنسبة إلى غايتها، و لا المقيّدة بالإيصال، لما عرفت من أنّ الإرادة المتقدّمة لا يمكن أن تكون مقيّدة بغايتها المتأخّرة عنها، و مع ذلك فالإرادة لا تنطبق إلاّ على المقيد.(1)

يلاحظ على المقطع الأوّل: بأنّ ما ذكره من أنّ وجود المعلول لا يقيّد بوجود العلّة و إن كان صحيحاً، لكن عدم التقييد ليس لأجل تقدّم العلة و تأخّر المعلول، فانّ التقدّم و التأخّر فيهما ليس تقدّماً زمانياً بل رتبياً، و مثل هذا لا يضر بالتقييد، بل وجهه أنّ مصبّ الإطلاق و التقييد إنّما هو المفاهيم التي يمكن تقييد المفهوم الموسّع بقيد، و أمّا التكوين فهو غير قابل لتقييد المطلق، فانّ الشيء يتكوّن في بدو الأمر إمّا مطلقاً إلى الأبد و إمّا مقيّداً كذلك، و لا يتصوّر فيه الوجود المقيّد بعد تكونه موسعاً.

و أمّا المقطع الثاني الذي هو بيت القصيد في المقام، فما ذكره من أنّ الإرادة

ص:575


1- - فوائد، السيد الإمام الخميني، المخطوط. و قد حكى شيخنا الأُستاذ مدّ ظله انّه رأى الكتاب بخط الإمام و نقل النصّ عن خطّه (قدس سره).

و الوجوب الإنشائي يتضيّق تبعاً للعلّة الغائية دون أن تتقيّد بها و إن كان صحيحاً، و الكلام في مورد آخر، و هو انّ الفاعل إذا حاول أن يظهر إرادته المضيّقة و يضفي الإيجاب على المقدّمة المضيّقة بالذات، لا محيص له إلاّ بتعليق الوجوب على المقدّمة التي توصل إلى الغاية، و عندئذ يرجع القول السادس إلى القول الخامس.

ص:576

الأمر السابع في ثمرات القول بوجوب المقدّمة

اشارة

قد عرفت ثمرات القول بوجوب المقدّمة الموصلة، و حان الكلام عن ثمرات القول بوجوب المقدّمة على الآراء الستة، و إليك هذه الثمرات:

الثمرة الأُولى: اتّصاف المقدّمات بالوجوب الغيري

هذه الثمرة هي التي ذكرها المحقّق الخراساني و جعلها ثمرة للمسألة الأُصولية و قال: إنّه على القول بالملازمة بين الوجوبين يستنتج وجوب المقدّمات في الواجبات و حرمتها في المحرّمات، و على هذا تكون المسألة) وجوب المقدّمة (مسألة أُصولية لوقوعها في استنباط الحكم الشرعي الكلّي.

و هذه الثمرة لا بأس بها لو قلنا بوجوب المقدمة.

الثمرة الثانية: تحقّق الوفاء بالنذر

إذا تعلّق النذر بالإتيان بالواجب، فلو قلنا بوجوب المقدّمة يكفي الإتيان بها، و إلاّ فلا بدّ من الإتيان بواجب نفسي.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ عد مثل هذا ثمرة لمسألة أُصولية غير خال عن الإشكال، و قد مرّ نظيره في مبحث الصحيح و الأعم.

ص:577

و ثانياً: أنّ النتيجة ليست كلّية، لأنّ الوفاء بالنذر تابع لكيفية النذر، فإن كان متعلّقه هو الواجب النفسي فلا يتحقّق الوفاء بالنذر و إن قلنا بوجوب المقدمة.

و إن كان متعلّقه هو الواجب الأعم من الشرعي و العقلي، يصدق الوفاء بالنذر، و إن لم نقل بوجوب المقدّمة شرعاً، و ذلك لأنّ الوجوب العقلي للمقدّمة أمر غير منكر، و المفروض أنّ متعلق النذر أوسع.

نعم لو كان متعلّق النذر الأعم من الواجب الشرعي و العقلي و من الشرعي الأعم من النفسي و الغيري، فلو أتى بالمقدّمة فقد وفى بنذره.

على أنّ تلك الثمرة تترتّب على القول بوجوب مطلق المقدّمة، و أمّا على القول بوجوب المقدّمة الموصلة فحيث إنّ وصف الإيصال لا ينفك عن الإتيان بالواجب النفسي، فيصدق الوفاء سواء أقلنا بوجوب المقدّمة أم لا، لأنّ المفروض انّ الإتيان بالمقدّمة لا ينفك عن الإتيان بذيها.

الثمرة الثالثة: استحقاق الأجر

إذا أمر شخص ببناء بيت، فأتى المأمور بالمقدّمات ثمّ انصرف الآمر، فعلى القول بأنّ الأمر بالشيء أمر بمقدّمته، يصير ضامناً لها، فيجب على الآمر دفع أُجرة المقدّمات و إن انقطع العمل بعدها.

يلاحظ عليه: مع ما في عدّ هذه ثمرة لمسألة أُصولية نوع من التعسّف أوّلاً: أنّ الآمر ضامن، و إن لم يكن الأمر بالشيء أمراً بالمقدّمة، لأنّه لمّا أمر بذيها و صار ذلك الأمر مبدأ لاشتغال العامل بالمقدّمات صار ضامناً، و يكفي في الضمان كون الأمر بذيها سبباً للاشتغال بالمقدّمة و إن كان الأمر به فاقداً للدلالة على الإتيان

ص:578

بمقدّمته.

و ثانياً: انّه لا يتم على القول بوجوب المقدّمة الموصلة، لعدم الإتيان بالواجب، فلا يكون القول بوجوبها ملازماً للضمان.

و ثالثاً: ما عرفت من أنّ الاشتغال بما يسمّى بالمقدّمات، اشتغال بنفس الواجب النفسي فيما إذا كانت المقدّمات داخلية، كالمثال، إذ ليس لبناء البيت معنى سوى القيام به على نحو التدريج و إن لم يكن الحال في المقدّمات الخارجية كذلك.

الثمرة الرابعة: حرمة أخذ الأُجرة على المقدّمة

و من الثمرات المترتّبة على وجوب المقدّمة، حرمة أخذ الأُجرة على إنجازها، و الثمرة مستنبطة من صغرى و كبرى.

أمّا الأُولى: فهي عبارة عن وجوب المقدّمة وجوباً شرعيّاً.

و أمّا الثانية: فقد تقرّر في محلّه التنافي بين الوجوب و الاستئجار، أي حرمة أخذ الأُجرة على إنجاز الواجب.

فيستنتج حرمةُ أخذ الأُجرة على إنجاز مقدّمة الواجب.

يلاحظ عليه: بأنّه لا ملازمة بين وجوب الشيء و حرمة أخذ الأُجرة، و لعلّ النسبة بينهما عموم و خصوص من وجه.

توضيح ذلك: انّ الواجب إمّا توصلي لا يتوقف سقوط أمره على الإتيان به لأمره سبحانه، و أُخرى تعبّدي لا يسقط إلاّ بالإتيان به لأمره، أو للّه سبحانه.

أمّا الأُولى فتارة يكون المطلوب للمولى تحقّقه في الخارج بالمجّان بحيث تكون المصلحة قائمة به، و هذا كتجهيز الميت من تغسيله تكفينه و تدفينه، و أُخرى

ص:579

يكون المطلوب وجوده فقط، نظير الواجبات الاجتماعية التي لولاها لاختلّ النظام، سواء أتى بها بالمجّان أو في مقابل الأُجرة.

و على ضوء ذلك فالوجوب التوصّلي بالمعنى الأوّل ينافي أخذ الأُجرة لا الثاني، فلو كانت المقدّمة من قبيل القسم الأوّل يحرم أخذ الأُجرة عليه دون الثاني.

و أمّا الواجبات التعبّدية فهي أيضاً على قسمين: تارة يكون واجباً على الأجير، و أُخرى يكون واجباً على الغير، و إنّما يريد الإنسان إتيانه نيابة عنه.

أمّا الأوّل: فالظاهر بطلان عقد الإجارة بأن يؤجر نفسه من الغير ليصلّي أو يصوم شهر رمضان عن نفسه، و ذلك لأمرين:

1. عدم تمشّي قصد القربة، فلا يتمكّن من إيجاد ما استؤجر له على الوجه الصحيح.

2. عدم انتفاع الموجر من عمله، مع أنّه يشترط في صحّة الإجارة انتفاع الموجر من عمل الأجير، و إلا تكون الإجارة سفهية، و لذلك قالوا ببطلان ما لو أجّر بلا أُجرة، أو باع بلا ثمن، و انتفاعه بعمله عند اللّه، و إن كان صحيحاً لكنّه لا يصحح العقد، فمن يريده فليدفع إليه هبة و إحساناً، لا أُجرة.

و أمّا الثاني أعني: الاستئجار لإنجاز ما وجب على غيره و فات منه لعجزه أو موته فهو صحيح في مثل الحج، لأنّه عمل عبادي ماليّ، و قد تضافرت الروايات عن النبي و الأئمّة) عليهم السلام (على صحة النيابة فيه، و صحّ عن الصادق) عليه السلام (أنّه أعطى ثلاثين ديناراً يُحج بها عن إسماعيل و لم يترك من العمرة إلى الحج شيئاً إلاّ اشترط عليه، ثمّ قال:» يا هذا!! إذا أتيت هذا كان لإسماعيل حجّة بما أنفق من ماله، و كان لك تسع حجج بما أتعبت من بدنك «.(1)

ص:580


1- - الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب النيابة في الحج ص 115، الحديث 1.

و أمّا الاستئجار في غير الحج الذي يعدّ عبادياً محضاً، كالصلاة و الصوم فعقد الإجارة لإتيان ما وجب على الغير من العبادة في مقابل الأُجرة أمر مشكل، و ليس في الأخبار و الروايات أثر منه، و إنّما جرت السيرة على ذلك بين المتأخّرين فانّ قصد القربة مع أخذ الأُجرة متنافيان و إن أصرّ المتأخّرون على صحّتها، و قد نقل شيخنا الأُستاذ مدّ ظله الوجوه التي ذكرها المشايخ لتصحيح الإجارة التي أهمها ما أشار إليه المحقّق الخراساني من أنّه من قبيل الداعي إلى الداعي، و انّه يأخذ الأُجرة لأن يصلي للّه سبحانه عن جانب الغير.

و قد نقد شيخنا الأُستاذ مد ظله هذه الوجوه في بحوثه الفقهية(1) و لكنّه سلك مسلكاً آخر في تصحيح هذا النوع من النيابة، و هو نفس ما سلكه المشهور في مورد القاضي و المفتي و معلّم الأحكام الشرعية و المؤذن مما علم من الشرع حرمة أخذ الأُجرة في مقابلها، فانّ المسلك الحق فيه هو قيام الحاكم بقضاء حوائج هؤلاء بأن يموّلهم حتى يتسنّى لهم القيام بوظائفهم الشرعية من دون شائبة مادية، و قد كتب الإمام) عليه السلام (إلى عامله في مصر في حقّ القاضي و قال:

» و أفْسِحْ له في البذلِ ما يُزيلُ علَّته، و تَقلُّ معه حاجتُه إلى الناس «.(2)

و على ضوء هذا فمن يريد القيام بفرائض الغير، فعلى الوليّ أن يسدّ حاجات النائب مدة سنة أو أقل، حتّى يقوم بفرائض والده مثلاً المتوفّى، فيكون العطاء من جانب و العمل من جانب آخر من دون معاوضة، بل من باب» جزاء الإحسان بالإحسان «.

ص:581


1- - لاحظ المواهب في تحرير أحكام المكاسب، المطبوع. لاحظ ص 725 730.
2- - نهج البلاغة، قسم الرسائل، رقم 53.
الثمرة الخامسة: حصول الفسق بترك مقدّمة

لو قلنا بوجوب المقدّمة و كان للواجب مقدمات كثيرة يحصل الفسق بترك مقدّمتين، لحصول الإصرار بتركهما.

و أورد عليه المحقّق الخراساني: انّه بترك المقدّمة الأُولى يسقط وجوب ذيها بالعصيان، و مع سقوطه لا تكون الثانية أو الثالثة من المقدّمات واجبة حتّى يصدق العصيان بتركهما.

و أورد على تلك الثمرة شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة اشكالاً آخر، و حاصله:

انّه لا ملازمة بين ترك مطلق الواجب الأعم من الغيري و النفسي، و بين المعصية، إنّما الملازمة بين ترك الواجب النفسي و المعصية، لا الغيري كما في المقام، إذ ليس فعله محبوباً و لا تركه مبغوضاً، و الأمر به من باب اللابدية و مخالفة مثل هذا الأمر لا يوجب المعصية.

و قد عدل عنه مدّ ظلّه في هذه الدورة، و قال: بأنّ ملاك العصيان، مخالفة الأمر المولوي سواء أ كان المأمور به محبوباً أم لا، فإذا صدر الأمر عن مقام المولوية فعلى العبد الإتيان به، و لو خالف عدّ عاصياً، و مبغوضاً عند المولى، سواء أ كان الفعل محبوباً بالذات أم لا، و هذا يكفي في صدق العصيان.

و قد مرّ في تصحيح العبادات الثلاث بالأمر الغيري، ما يفيدك في المقام.

الثمرة السادسة: جعل المصداق لمسألة الاجتماع
اشارة

لو قلنا بوجوب المقدّمة مطلقاً، يلزم فيما إذا كانت محرّمة اجتماع الأمر النهي، بخلاف ما لو لم نقل بالوجوب، فلا يكون في المورد إلاّ النهي.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة:

ص:582

الف: عنوان المقدّمة تعليلي

إنّ واقع اجتماع الأمر و النهي عبارة عمّا إذا تعلّق كلّ من الأمر و النهي بعنوانين تقييديين على نحو يستقر كلّ من الأمر و النهي على العنوان، من دون أن يسري الحكم في مقام التشريع إلى موضوع آخر، و هذا كالصلاة و الغصب، فإذا تطابقا على مورد، يقع البحث في لزوم تقييد إطلاق أحد الدليلين بالآخر و بالتالي إخراج المورد عن تحت أحدهما أو لا، فالامتناعي على الأوّل، و الاجتماعي على الثاني.

و أمّا إذا كان أحد العنوانين تقييدياً كالغصب و الآخر تعليلياً، كعنوان المقدّمة، فتصادقا في الوضوء بالمغصوب، فعندئذ لا يستقرّ الوجوب على عنوان المقدّمة لكونه علّة للحكم لا موضوعاً له، فيسري الحكم من العلّة إلى الموضوع أي الوضوء، فيكون واقع المسألة هكذا: لا تغصب، و توضّأ بالماء المغصوب، فتكون النسبة بين متعلّق الأمر و النهي، عموماً و خصوصاً مطلقاً، و يعدّ من باب النهي في العبادات نظير قولك: صلّ و لا تصلّ في الحمام. بخلاف باب» الاجتماع «فانّ النسبة بين المتعلّقين هو العموم و الخصوص من وجه نظير قولك: صلّ و لا تغصب.

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره من أنّ عنوان المقدّمة عنوان تعليلي، لا يستقر الحكم عليه بل يسري إلى الموضوع، و إن كان صحيحاً لكن المورد مع ذلك لا يكون من قبيل النهي في العبادات، و ذلك لأنّ النهي تعلّق بالغصب و الأمر في الظاهر بالعنوان أي المقدّمة، ثمّ يسري الحكم منه إلى الموضوع و هو نفس الوضوء، أو نفس السير أو نفس الركوب، لا قسم المغصوب منها، و النسبة بين العنوانين عموم و خصوص من وجه، و لا يسري الحكم من العنوان إلى الوضوء، بالماء

ص:583

المغصوب، أو السير بالمركب المغصوب، و إلاّ لجاز ارتكاب مثل ذلك في قوله:» لا تغصب، و صلّ « . و يقال أيّ صلّ في المغصوب. و بالجملة، خصوصية المورد لا يؤخذ في لسان الدليل، و على ذلك فالثمرة صحيحة.

ب: الوجوب مختص بغير الحرام في صورة عدم الانحصار

إذا كانت المقدّمة محرّمة، فإمّا ينحصر التوصّل إلى الواجب بالمقدّمة المحرمة أو لا، و على الصورة الأولى أي انحصار المقدّمة، فالدور إمّا للحرمة، إذا قدّمنا النهي، أو للوجوب إذا قدّمنا الأمر، فلا يكون هناك اجتماع.

و على الصورة الثانية يكون الواجب هو غير المقدّمة المحرّمة، كالماء المباح، و المركب غير المغصوب فلا يكون هنا إلاّ الأمر.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح في الصورة الأُولى إذ على الانحصار يكون الدور لأحد الأمرين، لئلا يلزم التكليف بالمحال دون الثانية فانّ القائل بالاجتماع لا يقول باختصاص الوجوب بغير المحرم، بل يقول إنّ كلاً من الإطلاقين محفوظ و مصون من التقييد، فالأمر بالتوضّؤ مطلق يعم التوضّؤ بالماء المغصوب و غيره، كما أنّ النهي عن الغصب يعمّ الغصب المقدّمي و غيره.

و ما ذكره المحقّق كأنّه أشبه بفرض مذهبه في مسألة اجتماع الأمر و النهي، على المقام و على كلّ تقدير فالثمرة صحيحة.

ج: وجوب المقدّمة لا مدخلية له فيما هو المهم في باب المقدّمة

و حاصله: انّ وجوب المقدّمة و عدمه لا تأثير لهما في الامتثال بالمقدّمة إذا كانت توصّلية، لأنّ الغاية هو التوصّل بذيها، و يمكن التوصّل بها إلى ذيها، على القولين قيل بوجوب المقدّمة أو لا.

ص:584

و أمّا إذا كانت تعبّدية كالوضوء فإن قلنا بالامتناع و تقديم النهي على الأمر، فلا يمكن التوصّل بها، قلنا بوجوب المقدّمة أو لا.

و لو قلنا بالاجتماع، جاز التوصّل بها، لأنّ تصحيح العبادة لا يتوقّف على وجوبها حتّى يقال انّ قصد القربة لا يتمشّى مع كون ما يتقرّب به حراماً، بل يكفي وجود الملاك و الحسن الذاتي، كانت المقدّمة واجبة أو لا.

فتلخص أنّ القول بوجوب المقدّمة و عدمه لا دور له في المقام.

و مما ذكرنا يظهر الخلل في عبارة الكفاية في بيان الإشكال الثالث حيث قال:» إنّ الاجتماع و عدمه لا دخل له في التوصّل بالمقدّمة المحرّمة «، و الصحيح أن يقال: الوجوب و عدمه لا دخل له في التوصّل الخ.

الثمرة السابعة: تصحيح العبادات الغيرية

و من ثمرات القول بوجوب المقدّمة، تصحيح التقرّب ببعض العبادات الغيرية، كالطهارات الثلاث إذا وقعت مقدّمة للصلاة لما تقدّم من أنّ محور التقرّب لا ينحصر بالأمر النفسي(1) و لا بكون المتعلّق محبوباً بالذات(2) بل يكفي في حصول التقرّب كون الحركة و الامتثال لأجل الأمر الإلهي، سواء أ كان غيرياً أم نفسياً، فعلى القول بوجوب المقدّمة يكون قصد أمرها مصححاً للعبادة و التقرّب، بلا حاجة إلى التمسّك بوجوه أُخرى، و قد مرّ البحث عنها عند البحث في الطهارات الثلاث.

ص:585


1- - حكاه شيخنا الأُستاذ مد ظله عن درس السيد الإمام الخميني حيث كان يقول باستحباب الطهارات الثلاث بذاتها.
2- - كما عليه المحقّق الخراساني.

الأمر الثامن تأسيس الأصل في المسألة

اشارة

و الغرض من تأسيس الأصل هو تعيين المرجع عند ما لم يصل الفقيه عن طريق الأدلّة الاجتهادية إلى نتيجة واحدة في وجوب المقدّمة و عدمه، إذ لا محيص له إلاّ الأصل، و إلاّ فلو ثبت بفضل الأدلّة الاجتهادية وجوبها أو عدمه فلا موضوع للأصل، فالبحث عن الأصل بحث إعدادي إذا لم يثبت أحد الطرفين.

ثمّ إنّ مجرى الأصل إمّا المسألة الأُصولية أو المسألة الفقهية، و المراد من المسألة الأُصولية هو الملازمة بين الإرادتين أو الوجوبين، كما أنّ المراد من المسألة الفقهية هو وجوب المقدّمة و عدمه، فإليك البحث فيهما واحداً تلو الآخر.

حكم الأصل في المسألة الأُصولية

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّه لا أصل في المسألة الأُصولية، بالبيان التالي:

إنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة و وجوب ذي المقدّمة و عدمها ليست لها حالة سابقة، بل تكون الملازمة أو عدمها أزلية.

توضيحه: إنّ الاستصحاب يجري في المتيقّن الذي يحتمل أن ينتقض و لا يستمر كحياة الإنسان، و كونه على الطهارة، و أمّا الأمر الذي لو ثبت لدام إلى يوم القيامة كالملازمة بين الأربعة و الزوجية، فهذا النوع من الأُمور لا يخضع

ص:586

للاستصحاب، و الملازمة بين الوجوبين أو الإرادتين في المقام من هذا السنخ فلا يقبل الشكّ لو ثبت أحد الطرفين.

هذا ما أفاده المحقّق الخراساني.

فإن قلت: يمكن استصحاب عدم الملازمة بالنحو التالي:

لم تكن ملازمة بين وجوب الصلاة و وجوب مقدّمتها عند ما لم يكن أيّ تشريع بالنسبة إليها، و لكن نشك في بقاء عدم الملازمة بعد تشريع الوجوب لذيها و عدمه و الأصل بقاؤه.

قلت: إنّ هذا النوع من الاستصحاب مثبت لم يكتب له الحجّية، و ذلك لأنّ المستصحب هو عدم الملازمة عند ما لم يكن أيَّ وجوب للصلاة، و الحال أنّ المشكوك هو بقاء ذلك العدم بعد كتابة الوجوب عليها، فاستصحاب الأمر الأوّل و إثبات الأمر الثاني من أقسام الأصل المثبت.

و إن شئت قلت: إنّ المستصحب هو السالبة المحصّلة، كالتالي:

لم تكن الصلاة واجبة، فلم تكن هناك ملازمة بين الوجوبين لعدم الموضوع.

و المطلوب هو إثبات عدم الملازمة بعد ثبوت الموضوع أي وجوب الصلاة و يعبّر عنها بالموجبة المعدولة المحمول كالتالي:

كانت الصلاة واجبة و لم تكن ملازمة بين الوجوبين.

و من المعلوم انّه ليس للثانية حالة سابقة، فاستصحاب القضية الأُولى و إثبات القضية الثانية من الأُصول المثبتة.

و هناك دليل آخر على خروج المسألة الأُصولية عن مجرى الأصل لم يشر إليه المحقّق الخراساني في كفايته و حاصله:

إنّ الملازمة بما هي هي ليست حكماً شرعياً و لا مبدأ لحكم شرعي، فلا تقع

ص:587

مصبّاً للاستصحاب، لأنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً كوجوب الشيء أو حرمته أو موضوعاً لحكم شرعي كما في الاستصحابات الموضوعية كاستصحاب الكرّية و استصحاب حياة زيد، و الملازمة بين الوجوبين ليست من قبيل واحد منهما.

فإن قلت: إنّ الملازمة موضوع لحكم شرعي، إذ على القول بالملازمة يستكشف منه الحكم الشرعي، فلو كان المستصحب وجود الملازمة يستكشف وجود الحكم الشرعي و لو كان عدمها يستكشف منه عدمه.

قلت: ما ذكرته و إن كان صحيحاً لكن يعوزه أنّ الحاكم بترتّب النتيجة في المقام على المقدّمة، هو العقل القاطع بالملازمة بين حكمي العقل و الشرع، و مثل هذا لا يخضع للاستصحاب، و إنّما يخضع له إذا كان الحاكم بالترتّب هو الشرع، فالمستصحب) الملازمة (و استكشاف الحكم الشرعي، و الحاكم بالاستصحاب، كلّها من أفعال العقل، و ما هذا حاله لا يصلح لأن يستصحب.

بخلاف ما إذا كان الحاكم بالترتّب هو الشرع كما في استصحاب الكرّية، يترتب عليها طهارة ما غُسِل فيه، لأنّ الحاكم بالترتّب هو الشرع الذي قال: الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء.

إجراء حكم الأصل في المسألة الفقهية

قد عرفت عدم جريان الأصل في المسألة الأُصولية، و حان البحث في حكمه في المسألة الفقهية، أي وجوب المقدّمة، و عدمه.

و الأُصول المتوهّم جريانها في المقام ثلاثة:

1. البراءة العقلية، أي قبح العقاب بلا بيان.

ص:588

2. البراءة الشرعية، كقوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون «.

3. الاستصحاب، نظير قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» لا تنقض اليقين بالشك «.

و إليك الكلام في كلّ واحد تلو الآخر.

أمّا البراءة العقلية فلا تنفع في المقام، لأنّ مجراها هو احتمال العقاب، و في المقام نقطع بعدم العقاب، سواء أ كانت المقدّمة واجبة أم لا، لما قلنا من أنّ امتثال الأمر الغيري يوجب الثواب و لكن تركه لا يوجب العقاب، فمع القطع بعدم العقاب فلا موضوع للبراءة العقلية.

و أمّا البراءة الشرعية فلا موضوع لها أيضاً، لأنّ شرط جريانها هو وجود الكلفة في الإيجاب، و الامتنان في الرفع، و كلاهما منفيّان، إذ لا كلفة في إيجاب المقدّمة لعدم ترتّب العقاب على تركها، كما لا امتنان في رفعها، لحكم العقل بوجوبها و لزوم الإتيان بها.

و أمّا الاستصحاب فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المرجع هو الاستصحاب فقال: نعم نفس وجوب المقدّمة مسبوق بالعدم حيث يكون حادثاً بحدوث وجوب ذي المقدّمة، فالأصل عدم وجوبها.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الاستصحاب أصل عملي يجري فيما إذا كان هناك أثر عملي في مجراه، و لكنّه مفقود في المقام، إذ لا يترتّب على استصحاب وجوب المقدّمة أثر عملي لحكم العقل بلزوم الإتيان بها و إن لم يحكم الشرع بوجوبها.

و إن شئت قلت: إنّ الحكم بعدم وجوبها شرعاً بعد حكم العقل بوجوبها يجعل الاستصحاب عقيماً بلا أثر، و الاستصحاب من الأُصول العملية المجعولة لتعيين وظيفة المكلّف من حيث العمل، فإذا لم تكن هناك فائدة في مورد العمل

ص:589


1- - كفاية الأُصول: 1/199.

فجريانه لغو.

نعم لو كان المستصحب وجوب المقدّمة فله أثر عملي و ثمرات فرغنا عن ذكرها. و لكن المفروض أنّ المستصحب هو عدم الوجوب.

هذا هو الإشكال الواقعي المتوجّه على جريان الاستصحاب في المقام.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذكر اعتراضين لهذا الاستصحاب و أجاب عنهما، و لا بأس بالتعرّض لهما:

الأوّل: يشترط في الاستصحابات العدمية أن يتعلّق العدم بالحكم الشرعي كالوجوب و الحرمة، أو متعلّقه كالزوجية و الكرّية و غيرهما، و وجوب المقدّمة ليس موضوعاً لحكم شرعي كما هو واضح، كما أنّه ليس حكماً شرعياً مجعولاً حتى يتعلّق به العدم، و ذلك لأنّ وجوب المقدّمة على فرض وجوبها من لوازم وجوب ذيها، و اللازم ليس من المجعولات، فإذا لم يكن مجعولاً شرعياً فلا يجوز استصحاب عدم ذلك الأمر غير المجعول، و قد أشار المحقّق الخراساني إلى الإشكال بقوله:

و توهّم عدم جريانه لكون وجوبها على الملازمة من قبيل لوازم الماهية غير مجعولة، و لا أثر آخر مجعول مترتّب عليه، و لو كان لم يكن بمهم هاهنا.(1)

ثمّ أجاب عنه بما حاصله: انّ وجوب المقدّمة و إن لم يكن موضوعاً لحكم شرعي لكنّه حكم شرعي مجعول بالعرض، فالمجعول بالذات هو وجوب ذيها، و المجعول بالعرض هو وجوب نفسها، و كفى في جريان استصحاب العدم كون المتعلّق مرتبطاً بالشارع بنحو من الارتباط، و عندئذ إذا تعلّق به العدم تتم أركان الاستصحاب، و إلى هذا الجواب أشار المحقق الخراساني بقوله:

ص:590


1- - كفاية الأُصول: 1/199.

بأنّه و إن كان غير مجعول بالذات، لا بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة، و لا بالجعل التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة، إلاّ أنّه مجعول بالعرض و يتبعُ جعلَ وجوب ذي المقدّمة، و هو كاف في جريان الأصل.(1)

الثاني: كيف يجري استصحاب عدم وجوب المقدّمة مع أنّه لو كانت هناك ملازمة بين الوجوبين للزم تفكيك اللازم عن الملزوم، و احتمال التفكيك بين المتلازمين كما هو مقتضى الاستصحاب كالقطع بالتفكيك محال؟ و بعبارة أُخرى: لو لم يكن هناك ملازمة بين الوجوبين كان استصحاب عدم الوجوب موافقاً له و لو كان بينها ملازمة فيكون استصحابه مخالفاً له، فبما انّ الواقع مستور عنّا، فنحتمل وجود الملازمة و بالتالي نحتمل انّ لازم استصحاب عدم وجوب المقدّمة احتمالُ التفكيك بين المتلازمين لا يصحّ استصحاب عدمها، إذ من المعلوم انّ احتمال التفكيك كالقطع به، محال.

و أجاب عنه بأنّ لزوم التفكيك بين المتلازمين محال واقعاً و ليس بمحال ظاهراً.

و بعبارة أُخرى: لزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشكّ لا ينافي الملازمة الواقعية و إنّما ينافي الملازمة الفعلية.

نعم، لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة الفعلية لصحّ التمسّك بذلك الأصل في إثبات بطلان الملازمة الفعليّة.

و ما أشار إليه من الجواب مبني على ما أفاده الشيخ الأنصاري في آخر الاستصحاب من أنّه لا بأس بالتفكيك بين المتلازمين في الظاهر دون الواقع، و لذلك لو توضّأ بماء أحد الإناءين المشتبهين يحكم على الأعضاء بالطهارة، و على

ص:591


1- - كفاية الأُصول: 1/199.

النفس بالحدثية، مع أنّه تفكيك بين المتلازمين، فانّه إن كان الماء طاهراً فالحدث مرتفع أيضاً و إن كان غير طاهر فالأعضاء نجسة أيضاً.(1)

و على ضوء ذلك لا بأس بأخذ أحد المتلازمين في الظاهر، أي وجوب ذيها دون الآخر كوجوب مقدّمتها، و إن كان بين الوجوبين في مقام الجعل في الواقع تلازم و الملازمة الواقعية لا تنافي عدمها في الظاهر.

إشكال المحقّق البروجردي على صاحب الكفاية

ثمّ إنّ المحقّق البروجردي لم يرتض هذا الجواب من أُستاذه و أشكل عليه بما هذا حاصله:

إنّ وجوب المقدّمة على فرض ثبوته ليس وجوباً مستقلاً بملاك مستقل حتى يكون تابعاً لملاك نفسه، بل هو من اللوازم غير المنفكة لوجوب ذيها فتفكيكهما غير ممكن لا في الفعلية و لا في غيرها من المراتب.

توضيحه: انّ ما ذكره المحقّق الخراساني إنّما يصحّ إذا كان التلازم أمراً جعلياً في مراحل التكليف كما في التوضّؤ بواحد من الإناءين المشتبهين، دون ما إذا كان التلازم عقلياً كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة ففيه لا يصحّ التفكيك بينهما في الواقع و الظاهر. و على ضوء ذلك فلو كانت هناك ملازمة فانّ معناها أنّ الأمر بذي المقدّمة يستتبع الأمر بها في عامّة المراحل الواقعية و الظاهرية، كما أنّ إرادته تستتبع إرادتها في عامة المجالات، و عندئذ فلو كانت هناك ملازمة في عامة المراحل فالأمر بالمقدّمة فعليّ منجّز لا يمكن جعل حكم مخالف في موردها، و مع هذا الاحتمال كيف يمكن جعل حكم مضاد له، إذ جعل الحكم المخالف، فرع إحراز إمكانه

ص:592


1- - الفرائد: 428، ط رحمة اللّه في تعارض الاستصحابين.

و هو بعدُ غير محرز؟! و إن شئت قلت: إنّ إجراء الأصل فرع إحراز الإمكان الواقعي و هو بعدُ لم يحرز إلاّ بنسبة خمسين بالمائة، لاحتمال عدم وجود الملازمة، لا مائة بالمائة لاحتمال وجود الملازمة و مع التردد، فالإمكان الذاتي غير محرز، و معه لا يمكن جعل الحكم الظاهري على خلافه.

و على هذه الضابطة أخرج الشيخ الأنصاري الموارد الثلاثة من مجرى البراءة، أعني: موارد النفوس و الأعراض و الأموال المحتملة إباحتها و حرمتها، و ذلك لأنّه لو كان هناك حكم في حرمتها فهو فعليّ واقعاً و ظاهراً، و مع هذا العلم الجزمي و لو على وجه التعليق لا يمكن الحكم بالبراءة، لأنّ لازمه جعل حكم ظاهري يخالف الحكم الواقعي الذي لو كان واقعاً كان فعلياً قطعاً.

و بهذا تمتاز هذه الأُمور الثلاثة عن شرب التتن، إذ يمكن جعل الإباحة في شربه، فانّه لو كان هناك حكم واقعي كالحرمة فهو ليس بفعلي قطعاً، بخلاف الأُمور الثلاثة إذ لو كان هناك حكم باسم الحرمة لكان فعلياً بلا ريب.

و إن شئت قلت: إنّ مفاد جريان الاستصحاب هو نفي الوجوب الفعلي حتى على فرض الملازمة بين الوجوبين، و هو خلف، لأنّ جريان الأصل إنّما يصحّ على فرض عدم الملازمة.

هذا غاية توضيح مرام السيد المحقّق البروجردي، و قد ناقش فيه شيخنا الأُستاذ مد ظله بما هذا بيانه:

أوّلاً: بأنّ العلقة التكوينية موجودة بين الإرادتين، و أمّا العلقة بين الوجوبين فليست تكوينية، إذ من الممكن إيجاب ذي المقدّمة دون إيجابها، بخلاف الإرادتين فانّ التوالي هناك أمر لا يمكن التخلّص عنه.

و ثانيا: انّ ما ذكره مبني على شرطية إحراز الإمكان الذاتي في جريان الأصل،

ص:593

أو إحراز الإمكان الوقوعي، و هو مساوق للقطع بعدم فعلية الحكم الواقعي و لكنّهما غير محرزين، و لكن من المحتمل كفاية الإمكان الاحتمالي، و هو أعمّ من الإمكان الذاتي و موضوع الإمكان الاحتمالي هو عدم العلم بالامتناع، و المقام من هذا القبيل، فلو كان في الواقع ملازمة لا يصحّ جعل حكم ظاهري على خلاف مقتضى الملازمة، بخلاف ما إذا لم تكن ملازمة فانّه يصحّ، و بما انّ الملازمة غير محرزة فالإمكان الاحتمالي موجود و هو كاف في إجراء الأصل.

و ثالثاً: إنّ لزوم الاحتياط في الموارد الثلاثة التي حكم فيها الشيخ بالاحتياط مع كون الشكّ شبهة بدوية ليست لأجل كون الحكم فعلياً على فرض الوجود كي تكون العلة موجودة في المقام أيضاً، بل المانع هناك العلم بمذاق الشارع في عظائم الأُمور، و هو عدم التهجّم على الدماء و الأعراض و الأموال بصرف الاحتمال، و هذا المناط غير موجود في المقام، إذ ليس ترك المقدّمة من عظائم الأُمور لعدم إضرار البراءة عن الوجوب مع حكم العقل بوجوب الإتيان.

و إن شئت قلت: إنّ عدم جريان البراءة في الأُمور الثلاثة، لأنّ الحكم الطبيعي في الدماء و الأعراض و الأموال هو الحرمة و المصونية و الخروج عنه يحتاج إلى الدليل بخلاف المقام.

إلى هنا تمّت المباحث التمهيدية، و حان البحث عن صلب الموضوع و هو الدليل على وجوب المقدّمة و عدمه.

أدلّة القائلين بوجوب المقدمة
اشارة

قد عرفت حكم الأصل في المقدّمة إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي على أحد القولين، فلنذكر ما استدلّ به من العقل و النقل على وجوب المقدمة، و قبل

ص:594

الخوض في بيان أدلّتهم ينبغي تحرير محل النزاع و انّ النزاع في أيّ نوع من الوجوب، فهناك احتمالات:

1. الوجوب العقلي، بمعنى اللابدية العقلية.

يلاحظ عليه: بأنّه ليس شيئاً قابلاً للنزاع لاتّفاق العقلاء عليه.

2. الوجوب العرضي، بمعنى انّ هنا وجوباً واحداً منسوباً لذيها بالحقيقة. و للمقدّمة بالعرض و المجاز، و هذا كنسبة الجريان إلى الماء و الميزاب.

يلاحظ عليه: بأنّ البحث يصبح عندئذ بحثاً أدبياً لا أُصولياً، و بالتالي غير قابل للنزاع، لأنّ النسبة المجازية تابعة لوجود المناسبة و عدمها.

3. الوجوب المولوي الغيري الاستقلالي.

يلاحظ عليه: انّ إيجاب المقدّمة بصورة الوجوب الاستقلالي يتوقّف على الالتفات إلى المقدّمة و ربّما يكون الآمر غافلاً عن المقدّمة و عن عددها، و لو صحّ ذلك لزم اختصاص النزاع بصورة التفات المولى و هو كما ترى.

4. الوجوب المولوي الغيري التبعي، بمعنى انّه لو التفت المولى إلى المقدّمة لأمر بها و هذا هو اللائق لأن يقع موضعاً للبحث.

إذا عرفت هذا فلنذكر ما استدلّ به على وجوب المقدمة:

الأوّل: لزوم التكليف بما لا يطاق لو لم تجب

استدلّ أبو الحسين البصري مؤلف» المعتمد في أُصول الفقه «من مشايخ المعتزلة(1) بأنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها و حينئذٍ فإن بقي الواجب على وجوبه

ص:595


1- - توفّي عام 436 ه، و هو غير أبي الحسن البصري إمام الأشاعرة (المتوفّى عام 324 ه) و هما غير الحسن البصري التابعي (المتوفّى عام 89 ه) كما أنّ الثلاثة غير أبي موسى الأشعري الصحابي (المتوفّى عام 43 ه). من إفادات شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه.

لزم التكليف بما لا يطاق و إلاّ خرج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً.

يلاحظ عليه أوّلاً: بالنقض بالمتلازمين إذا كان في أحدهما ملاك الوجوب دون الآخر، فيجب أحدهما دون الآخر، و لو وجب الآخر للزم الإيجاب بلا ملاك و يجري فيهما ما ذكره من الاستدلال، فيقال: إذا لم يجب الملازم جاز تركه، و حينئذٍ فإمّا أن يبقى الملازم الآخر على وجوبه، فيلزم التكليف بما لا يطاق; أو لا، فيلزم خروج الواجب عن كونه واجباً مطلقاً.

و ثانياً: أنّه لو أراد من قوله:» لجاز تركها «الإباحة الشرعية فالملازمة باطلة، لأنّ رفع الوجوب المولوي لا يلازم ثبوت أحد الأحكام الخمسة، إذ من الممكن أن يكون المورد من قبيل عدم الحكم، لا الإباحة الشرعية، و الفرق بينهما واضح، فالإباحة الشرعية عبارة عن اقتضاء المورد التساويَ فيكون المجعول هو الإباحة الشرعية التي هي أحد الأحكام الخمسة بخلاف عدم الحكم، فانّه بمعنى عدم الاقتضاء لواحد من الأحكام.

و ثالثاً: ما ذا يريد من قوله:» حينئذ «.

فإن أراد» جواز الترك «لما ترتّب عليه التاليان من لزوم التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجباً مطلقاً، و ذلك لأنّ جواز الترك لا يلازم الترك، إذ ربّما يكون جائز الترك و لكن المكلّف يأتي به.

و إن أراد نفس الترك» لا جواز الترك «فيترتّب عليه أمر ثالث، و هو سقوط الوجوب لأجل العصيان لكونه متمكّناً من الإطاعة و قد تركها عالماً عامداً، فانّ الشرع و إن لم يُوجِب المقدمة و لكنّه لم يُحرّمها، و الرسول الباطني يبعث الإنسان إلى الإتيان بها فيكون الترك معصية بلا ريب.

ص:596

الثاني: قضاء الوجدان بالوجوب

إنّ الوجدان أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها، بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله و يقول مولويّاً: ادخل السوق و اشتر اللحم مثلاً، بداهة انّ الطلب المنشأ بخطاب: ادخل مثل المنشأ بخطاب:» اشتر «في كونه بعثاً مولويّاً و انّه حيث تعلّقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشحت منها له إرادة أُخرى بدخول السوق بعد الالتفات إليه و أنّه يكون مقدّمة له.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ الوجدان يشهد على خلافه، فانّ الإنسان لا يجد في أعماق نفسه إلاّ إرادة واحدة متعلّقة باشتراء اللحم، و أمّا أمره بدخول السوق إمّا إرشاد إلى المقدمية إذا كان العبد غير عارف على محل شرائه، أو تأكيد لطلب الاشتراء.

و الشاهد على ذلك انّه لو جعل المولى جعالة لامتثال أوامره و قال: أدخل السوق و اشتر اللحم، فدخل العبد السوق و اشترى اللحم فلا يراه العقلاء إلاّ مستحقاً لجعل واحد في مقابل شراء اللحم.

الثالث: وزان الإرادة التشريعية كالتكوينية

و حاصله: انّه لا فرق بين الإرادة التكوينية و التشريعية في جميع لوازمهما، غير أنّ التكوينية تتعلّق بفعل نفس المريد، و التشريعية تتعلّق بفعل غيره، و من الضروري أنّ تعلّق الإرادة التكوينية بشيء يستلزم تعلّقها بجميع مقدّماته قهراً.

نعم لا تكون هذه الإرادة القهرية فعلية، فيما إذا كانت المقدّمية مغفولاً

ص:597


1- - كفاية الأُصول: 1/200.

عنها، إلاّ أنّ ملاك تعلّق الإرادة بها، و هو المقدّمية، على حاله، فإذا كان هذا حال الإرادة التكوينية فتكون الإرادة التشريعية مثلها أيضاً.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ وصف الإرادة التكوينية بأنّها تتعلّق بفعل النفس و الإرادة التشريعية تتعلّق بفعل الغير، ليس بتام، بل الإرادة مطلقاً لا تتعلّق إلاّ بفعل النفس، و ذلك لأنّها لا تتعلّق إلاّ بأمر واقع في إطار اختيار المريد، و ليس هو إلاّ فعل نفسه، و أمّا فعل الغير فهو خارج عن اختيار المريد، فكيف تتعلّق به إرادته؟! و لأجل ذلك قلنا بأنّ الإرادة التشريعية تتعلّق بإنشاء البعث و هو أمر صادر عن المريد، و الغاية منه تحريك الغير إلى العمل، فتحريكه إلى العمل غاية و ليس متعلّقاً للإرادة.

و ثانياً: انّ الغاية من الإرادة التكوينية قيام نفس المريد بالفعل، و إرادته لا تنفك عن إرادة مقدّماته، فلذلك تتعلّق إرادتان تكوينيتان بالفعل و مقدّماته.

و هذا بخلاف الأوامر التشريعية فانّ الغاية هناك إيجاد الداعي و الباعث في ذهن المكلّف إلى نفس العمل، و هو حاصل بإيجاب ذيها من دون إيجاب مقدّمته.

الرابع: وجود الأوامر الغيرية في الشريعة

إنّ وجود الأوامر الغيرية في الشريعة دليل واضح على وجود المناط في المقدّمة لتعلّق الوجوب فإذا تعلّق الوجوب في مورد بهذا المناط يستكشف وجوده في عامة المقدمات لوجود المناط فيها، قال المحقّق الخراساني:

وجود الأوامر الغيرية في الشرعيات و العرفيات لوضوح انّه لا يكاد يتعلّق الأمر الغيري بمقدّمة إلاّ إذا كان فيها مناطه، فإذا تعلّق الأمر بها، بهذا المناط،

ص:598


1- - أجود التقريرات: 1/231.

يتعلّق في مثلها ممّا لم يلتفت إليه أيضاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ وجود الأوامر الغيرية في الشريعة أمر غير منكر و لكن غالبها ظاهرة في الإرشاد إلى المقدّميّة لعدم علم المكلّف بالمقدّمة، لاحظ الآيات التالية:

1. (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ).(2)

2. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ).(3)

3. (وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ).(4)

4. (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ).(5)

5. (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ).(6)

6. و قوله) عليه السلام (: اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه.(7)

فلا نشكّ في ورود الأوامر في هذه المجالات.

لكن الآيةَ الأُولى مسوقة لبيان شرطية العدلين في صحّة الطلاق، و لو لا الأمر بها لما عُلِمتْ شرطيّةُ الشهادة في صحة الطلاق. فيكون الأمر إرشاداً إلى الشرطيّة.

ص:599


1- - كفاية الأُصول: 1/201.
2- - الطلاق: 2.
3- - المائدة: 6.
4- - المائدة: 6.
5- - الحجرات: 6.
6- - الممتحنة: 10.
7- - الوسائل: 1، الباب 8 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

و الثانية و الثالثة مسوقة لبيان كيفية الوضوء و التيمّم، فيكون الأمر إرشاداً إلى الجزئيّة.

كما أنّ الآية الرابعة بيان لشرطية التبيّن للعمل بقول الفاسق.

كما أنّ الأمر بالامتحان في الآية الخامسة سيق لغاية العلم بإيمانهنّ حتّى لا يرجعن إلى الكفّار.

و بالجملة: لو لا أمر الشارع في هذه الموارد لما حصل العلم بالمأمور به و شرطه و شروطه كما مرّ.

إلى هنا تمّ ما استدلّ به القائلون بوجوب المقدّمة.

ما هو المختار في باب المقدّمة؟

الأقوى عدم وجوب المقدّمة شرعاً، لأجل انّ إيجابها مع إيجاب ذيها أمر لغو لا يصدر من العاقل الحكيم، و ذلك لأنّ الغرض من الإيجاب المولوي هو جعل الداعي و إحداثه في ضمير المكلّف، لينبعث و يأتي بالمتعلق، فإيجاب المقدّمة إمّا غير باعث، أو غير محتاج إليه، فانّ المكلّف إن كان بصدد الإتيان بذي المقدّمة، فالأمر النفسي الباعث إلى ذيها باعث إليها أيضاً، و معه لا يحتاج إلى باعث آخر بالنسبة إليها، و إن لم يكن بصدد الإتيان بذيها و كان مُعْرِضاً عنه، لما حصل له بعث بالنسبة إلى المقدّمة.

و الحاصل: انّ الأمر المقدّمي يدور أمره بين اللغوية إذا كان المكلّف بصدد الإتيان بذيها و عدم الباعثية و إحداث الداعوية أبداً إذا لم يكن بصدد الإتيان بذيها.

ص:600

إكمال تفصيلان في مقدّمة الواجب
الأوّل: التفصيل بين السبب و غيره

ربّما يفصّل بين السبب و الشرط، فيقال: انّ السبب واجب عند الأمر بالمسبّب، لأنّ المقدور هو السبب دون المسبب، ففي مسألة الإحراق، المقدور هو الإلقاء، فلو أمر المولى بالإحراق ينصرف الأمر إلى السبب، أعني: الإحراق.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ المسبب مقدور بواسطة السبب، و قد قرّر في محلّه انّ المقدور ربّما يكون مقدوراً بالمباشرة و أُخرى بسببه.

و ثانياً: أنّ لازم ما ذكره كون السبب) الإلقاء (واجباً نفسياً لا غيرياً، و هو خلاف المفروض.

الثاني: التفصيل بين الشرط الشرعي و العقلي

ربّما يفصّل بين الشرط الشرعي كالوضوء، و الشرط العقلي كمحاذاة القطن للنار عند الأمر بالإحراق، فيحكم بوجوب الأوّل دون الثاني قائلاً بأنّه لو لا وجوبه لما كان شرطاً.

يلاحظ عليه: ما ذا يريد من قوله» لو لا الوجوب لما كان شرطاً «؟، فإن أراد انّه لو لا الوجوب لما كان شرطاً في الواقع، فهو يستلزم الدور، لأنّ الوجوب فرع كون

ص:601

الشيء شرطاً في الواقع، و لو توقّفت شرطيته في الواقع على الوجوب، لزم الدور.

و إن أراد انّه» لو لا الوجوب لما عُلمت شرطيته «فيلاحظ عليه بانّ العلم بالشرطية لا ينحصر بالإيجاب، بل يعلم بالأمر الإرشادي أوّلاً كما في آية الوضوء، و بالتصريح بالشرطية ثانياً كما في قوله» لا صلاة إلاّ بطهور «، و بالأمر بالمقيّد ثالثاً كما إذا قال: صل متطهّراً.

***

مقدّمة المستحب و المكروه و الحرام
اشارة

قد عرفت عدم الملازمة بين وجوب مقدّمة الواجب و وجوب ذيها، فتكون مقدّمة المستحب و المكروه و الحرام مثل مقدّمة الواجب في عدم الحكم عليها بالاستحباب و الكراهة و الحرمة، لكن يقع الكلام على القول بالملازمة بين وجوب المقدّمة و وجوب ذيها في مقدّمة المستحب و المكروه و الحرام فهل هناك ملازمة، فيكون المشي إلى المسجد أو إلى الطلاق المكروه أو شرب الخمر الحرام، مستحباً أو مكروهاً أو حراماً حسب حكم ذيه، أو لا؟ هناك أقوال:

1. القول بالسريان مطلقاً على القول بالملازمة.

2. التفصيل بين المقدّمة التوليدية التي لا تتوسط بين المقدّمة و ذيها إرادة الإنسان، و المقدّمة الإعدادية كالسبب و الشرط، و المُعدّ، و عدم المانع، التي تتوسط بينها و بين ذيها إرادة الإنسان فلا يسري الحكم، و هذا هو الظاهر من المحقّق الخراساني.

3. التفصيل في نفس المقدّمات الإعدادية بين ما لا يتوسط بين المقدّمة و ذيها اختيار الفاعل و ارادته فيسري الحكم، و ما تتوسط فيه بين المقدّمة و ذيها إرادة

ص:602

الفاعل فلا يسري، و هو الظاهر من المحقّق النائيني.

4. سريان الحكم إلى الجزء الأخير من العلة التامّة، و هو ما ينتقض به العدم إلى الوجود، و هو الظاهر من السيد الإمام الخميني) قدس سره (، و إليك دلائل الأقوال:

الأوّل: السريان مطلقاً

لو قلنا بوجوب المقدّمة، أو المقدّمة الموصلة، لا محيص من القول به في مقدّمات الأحكام الثلاثة، لوحدة الملاك في الجميع، فانّ ملاك السريان في مقدّمة الواجب إمّا التمكّن و رفع الإحالة، أو كونه في طريق المطلوب، و هذا الملاك بعينه موجود في مقدّمات الأحكام الثلاثة، فكلّ جزء من مقدّمات المستحب أو المكروه أو الحرام يُمكِّن المكلّفَ من الإتيان بذيه، كما أنّ كلّ جزء منه يقع في طريق المطلوب) المستحب (أو المكروه أو الحرام. و على ذلك فلا معنى للتبعيض مع أنّ الجميع من باب واحد.

فإن قلت: فرق بين الواجب و الحرام، فانّ الفعل الواجب لمّا كان متوقّفاً على كلّ جزء من أجزائه، يسري الحبُّ إلى أجزاء المقدّمة كلّها و توصف بالوجوب، بخلاف الحرام فانّه يتوقف على محقّق المبغوضية، و ربّما انّ جميع الأجزاء ليس محقّقاً، بل المحقّق هو المخرج للمبغوض إلى حيز الوجود لا يسري إلى كلّ جزء من أجزاء المقدّمة، بل يتعلّق بخصوص المخرج للمبغوض عن العدم إلى الوجود.

قلت: السؤال مبني على الخلط بين مقام التشريع و مقام الامتثال و العصيان، فالكلام إنّما هو في المقام الأوّل و الحكم يتبع ملاكه فالملاك في جميع الأجزاء واحد و هو إمّا التمكّن أو الإيصال، فتجب المقدّمة المطلقة على الأوّل، و الموصلة على الثاني.

ص:603

و أمّا كون الامتثال في الواجب متوقّفاً على عامّة المقدّمات و الامتثال في باب المحرّمات يتوقّف على ترك واحدة منها إذا لم تكن المقدّمات متحقّقة، و على ترك الأخيرة إذا كانت متحقّقة، و إن كان صحيحاً لكنّه لا يرتبط بباب تعلّق الأحكام بصلة، فالبحث ليس في كيفية الامتثال، و إنّما البحث في سريان الحب و البغض في مقام التشريع إلى المقدّمة، و الملاك موجود في عامة المقدّمات إمّا مطلقة و إمّا موصلة.

الثاني: السريان في المقدّمة التوليدية

ذهب المحقّق الخراساني إلى سراية التحريم من ذي المقدّمة إلى المقدّمة التوليدية، أعني: ما لا تتوسط بين المقدّمة و ذيها إرادة المكلّف، كالإلقاء بالنسبة إلى الإحراق(1)، و أمّا في العلل الإعدادية من السبب و الشرط و المعد فبما انّ الإتيان بغير الجزء الأخير) الإرادة (لا يسلب الاختيار من المكلّف و يتمكّن المكلّف معه أيضاً من ترك الحرام فلا يترشّح التكليف إلى ما عدا الجزء الأخير.

و أمّا الجزء الأخير، أعني: الإرادة، فهو و إن كان لا يتمكّن معه من ترك الحرام لكنّه أمر خارج عن الاختيار لا يتعلّق به التكليف.

و حاصل كلامه: انّه يسري الحكم في العلل التوليدية لكونها ملازمة مع المبغوض في المكروه و الحرام، و أمّا في غيرها فالذي يقع في إطار الاختيار كما هو الحال قبل تعلّق الإرادة فهو لا يلازم المبغوض، بل يتمكّن المكلّف معه من ترك

ص:604


1- - و إلى هذا يشير في كتابه بقوله:» فلو لم يكن للحرام مقدّمة لا يبقى معه اختيار تركه «أي علّة تامّة لا يتمكّن معها من ترك ذيها. و ما في النسخة المحشّاة بتعليقة العلاّمة المشكيني من قوله:» فلم لم يكن «تصحيف.

المبغوض، و ما هو يلازم إتيانه إتيان المبغوض و لا يتمكّن المكلّف معه من تركه فهو أمر خارج عن الاختيار لا يتعلّق به التكليف.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ما ذكره من العلل التوليدية و إن كان صحيحاً، لكن ما ذكره في العلل الإعدادية مجرّدة عن الإرادة غير تام، لأنّ ملاك السريان ليس هو الملازمة أو عدم التمكّن حتّى يقال بأنّ المكلّف يتمكّن من ترك المبغوض في العلل الإعداديّة مجردة عن الإرادة، بل الملاك هو كون كلّ واحد من أجزاء العلل الإعدادية ممّا يتوقّف عليه المبغوض أو يقع في طريقه فيسري حكم المبغوض أو المحبوب إليه.

و ثانياً: أنّ ما ذكره من أنّ الجزء الأخير أعني: الإرادة خارجة عن الاختيار مبني على أساس غير صحيح، و هو أنّ الميزان في الفعل الاختياري أن يكون مسبوقاً بالإرادة، و أمّا الإرادة فبما أنّها ليست مسبوقة بها و إلاّ لزم التسلسل فهو خارج عن الاختيار.

لكنّك عرفت أنّ الميزان في كون الفعل اختيارياً أحد أمرين:

أ. أن يكون مسبوقاً بالإرادة، كما في الأفعال الصادرة عن الجوارح، المسبوقة بالإرادة.

ب. أن يكون صادراً من فاعل مختار بالذات كالإنسان و الإرادة اختيارية بالمعنى الثاني نظير أفعاله سبحانه و التفصيل في محلّه.(1)

ص:605


1- - لاحظ رسالة الأمر بين الأمرين لشيخنا الأُستاذ مدّ ظله.
الثالث: التفصيل بين ما لا يتوسط بين المقدّمة و ذيها اختيار الفاعل

و هذا التفصيل غير التفصيل السابق، لأنّ السابق كان يركّز على الفرق بين العلل التوليدية و الإعدادية، و أمّا هذا فإنّما يركز على خصوص العلل الإعدادية، لكنّه يفصّل فيه بين ما لا يبقى للمكلّف بعد العلل الإعدادية اختيار فيسري فيه، و بين ما لا يسلب منه الاختيار فلا يسري فيه.

أمّا الأوّل: فكما لو علم أنّه لو دخل المكان الفلاني لاضطرّ إلى ارتكاب الحرام قهراً دون ما إذا لو دخله لا يكون مضطرّاً إلى ارتكابه، فالسراية متحقّقة في الأوّل دون الثاني.

نعم فلو أتى في الثاني بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى الحرام تحرم للتجرّي، و أمّا إذا أتى من دون ذلك القصد فلا دليل على الحرمة.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره في الصورة الأُولى صحيح، و أمّا الصورة الثانية فقسّمه إلى ما أُتي بالمقدّمة بقصد التوصّل فحكم بالحرمة، دون ما إذا لم يكن بذلك القصد، فنقول:

أمّا أوّلاً فانّه إذا أتى بالمقدّمة التي يتمكّن مع الإتيان بها عن ترك ذيها بقصد التوصّل يكون تجرّياً، و التجرّي لو قلنا بحرمته حرام نفسي لا غيري، و الكلام في الحرمة الغيرية.

و ثانياً: فانّه إذا لم يأت بتلك المقدّمات بقصد التوصّل يكون محكوماً بحكم ذيها أيضاً، و ذلك لأنّ الميزان للسراية ليس هو عدم التمكّن من ذيها، بل الميزان كونه ممّا يتوقّف عليه المكروه و الحرام، أو ممّا يقع في طريقه، و الملاكان موجودان في هذا القسم أيضاً، أي القسم الثاني من الصورة الثانية.

ص:606

الرابع: انّ الحرام هو الجزء الأخير إذا كانت الأجزاء مترتّبة

ذهب السيد الإمام الخميني إلى أنّ الحرام هو الجزء الأخير إن كانت الأجزاء مترتبة، أو مجموع الأجزاء إذا كانت عرضية، قائلاً:

فانّ الزجر عن الفعل مستلزم للزجر عمّا يخرج الفعل من العدم إلى الوجود، لا إلى كلّ ما هو دخيل في تحقّقه، و المبغوض هو انتقاض العدم بالوجود، و السبب لذلك هو الجزء الأخير في المترتّبات، و في غيرها يكون المجموع هو السبب و عدمه بعدم جزء منه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ الملاك في السريان هو التوقّف على القول بوجوب مطلق المقدّمة و الوقوع في مسير المحبوب و المبغوض على القول بوجوب المقدّمة الموصلة.

فعلى كلا القولين يكون الحرام أو المكروه و المستحب هو جميعُ الأجزاء، غاية الأمر يكون الموضوع على القول بالموصلة أضيق من القول الأوّل.

فالبغض كما يسري إلى ناقض العدم و محقّق وجود المبغوض أعني: الجزء الأخير كذلك يسري إلى كلّ ما يمكّن المكلّف من المبغوض أو ما يقع في طريقه و مسيره.

و مما يؤيّد حرمة المقدّمة و أجزائها من ورود اللعن على عشرة أصناف في مورد الخمر، فعن جابر لعن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (في الخمر عشرة:» غارسها، و حارثها، و عاصرها، و شاربها، و ساقيها، و حاملها، و المحمولة إليه، و بائعها، و مشتريها، و آكل ثمنها «.(2)

ص:607


1- - تهذيب الأُصول: 1/284.
2- - الوسائل: 12، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4 و 5.

فالظاهر حرمة غاية المقدمات، اللّهمّ إلاّ أن يقال: بأنّ المتبادر من الرواية هو الحرمة النفسية لهذه المقدّمات، و الكلام في الحرمة المقدمية.

و منه يظهر حال حرمة السفر إذا كانت الغاية محرّمة، و ما هذا إلاّ لأنّ نفس السفر يكون حراماً إذا كانت الغاية محرّمة، اللّهمّ إلاّ أن يحمل على الحرمة النفسية.

نجز الكلام بحمد اللّه في الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ و يليه الجزء الثاني من هذه المباحث بعون اللّه و فضله و تمّ تحرير تلك المحاضرات سادس شعبان المعظم من شهور عام 1416 مصلّياً مستغفراً راجياً

ص:608

فهرس المحتويات

كلمة المحاضر أ 5 كلمة المؤلف أ 7 مقدّمة، و فيها أُمور أ 9 الأمر الأوّل: في موضوع العلوم و مسائلها و تمايزها، و فيه جهات أ 11 الجهة الأُولى: تعريف موضوع العلم أ 11 تفسير الذاتي عند القدماء أ 14 الجهة الثانية: نسبة موضوعات المسائل إلى موضوع العلم أ 20 إجابة المحقق النائيني أ 23 الجهة الثالثة: في لزوم وجود موضوع لكلّ علم أ 24 الجهة الرابعة: في تمايز العلوم أ 26 الجهة الخامسة: ما هو موضوع علم الأُصول؟ أ 30 الجهة السادسة: ما هو تعريف علم الأُصول؟ أ 35

ص:609

الجهة السابعة: الفرق بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية أ 37 الأمر الثاني: في الوضع، و فيه جهات أ 41 الجهة الأُولى: في حقيقة الوضع أ 41 الجهة الثانية: وجود العلقة الذاتية بين الألفاظ و معانيها أ 44 الجهة الثالثة: في تعيين الواضع أ 45 الجهة الرابعة: في أقسام الوضع أ 46 الجهة الخامسة: في المعاني الحرفية أ 53 1. نظرية المحقّق الرضي) المتوفّى 668 ه (أ 54 2. نظرية المحقّق الخراساني أ 55 3. النظرية الثالثة: تمايزهما بنفس الذات أ 58 أسئلة و أجوبة أ 61 الجهة السادسة: في بيان كيفية وضع الحروف أ 64 الجهة السابعة: في وضع أسماء الإشارة و الضمائر و الموصولات أ 68 1. نظرية المحقّق الخراساني أ 68 2. النظرية الثانية: نظرية المحقّق البروجردي أ 69 3. النظرية المختارة أ 70 الجهة الثامنة: في الإخبار و الإنشاء أ 72 1. نظرية المحقّق الخراساني أ 72

ص:610

2. نظرية المحقّق الخوئي أ 73 3. النظرية المختارة أ 75 الجهة التاسعة: في مفاد هيئة الجملة الاسمية أ 77 الأمر الثالث: في الحقيقة و المجاز أ 82 في تعريف المجازي و الحقيقي أ 82 الأمر الرابع: في استعمال اللفظ في اللفظ أ 87 1. إطلاق اللفظ و إرادة شخصه أ 88 2. إطلاق اللفظ و إرادة مثله أ 89 3 و 4. إطلاق اللفظ و إرادة صنفه و نوعه أ 90 الأمر الخامس: في وضع الألفاظ لمعانيها الواقعية أ 92 الأوّل: ما هو السبب لطرح المسألة؟ أ 92 الثاني: أشكال أخذ الإرادة جزءاً للمعنى أ 94 الأمر السادس: في وضع المركّبات أ 100 الأمر السابع: في علائم الوضع أو تمييز الحقيقة عن المجاز، و فيه علائم أربع أ 103 العلامة الأُولى: أ 103 1. التبادر أ 103 مشكلة الدور في التبادر أ 104 2. صحّة الحمل و صحّة السلب أ 110 3. الاطّراد أ 113

ص:611

4. تنصيص أهل اللغة أ 119 الأمر الثامن: في تعارض الأحوال أ 122 الأمر التاسع: في الحقيقة الشرعية أ 123 النظريات المطروحة في المقام أ 123 الأمر العاشر: في أنّ ألفاظ العبادات وضعت للصحيح أو الأعم، و فيه جهات أ 132 الجهة الأُولى: ما هو معنى الصحّة؟ أ 133 الجهة الثانية: ما هو المقصود من الوضع للصحيح؟ أ 135 الجهة الثالثة: ما هو الداخل في المسمّى؟ أ 135 الجهة الرابعة: في لزوم جامع على كلا القولين أ 137 التقريب الأوّل للمحقّق الخراساني أ 138 التقريب الثاني للمحقّق الاصفهاني أ 142 التقريب الثالث للمحقّق النائيني أ 144 التقريب الرابع للمحقّق البروجردي أ 145 التقريب الخامس ما ذكره السيّد الأُستاذ أ 147 التقريب السادس للمحقّق الخوئي أ 149 التقريب السابع للعلاّمة الطباطبائي أ 150 الجهة الخامسة: أدلّة القول بالصحيح أ 152 الجهة السادسة: في بيان أدلّة القول بالأعم أ 158

ص:612

الأوّل: التبادر أ 158 الثاني: عدم صحّة سلب الصلاة عن الفاسدة أ 158 الثالث: صحّة التقسيم إلى الصحيحة و الفاسدة أ 158 الرابع: حديث الولاية أ 159 الجهة السابعة: في ثمرات المسألة في مورد العبادات أ 164 جواز التمسّك بالإطلاق أ 164 الجهة الثامنة: في أسماء المعاملات أ 168 في أنّ أسماء المعاملات اسم للأسباب أو للمسببات أ 177 في أقسام الجزئية و الشرطية و... أ 178 الأمر الحادي عشر: في الاشتراك اللفظي، و فيه جهات أ 181 الجهة الأُولى: في إمكان الاشتراك اللفظي أ 181 الجهة الثانية: في منشأ الاشتراك أ 183 الجهة الثالثة: في وقوع الاشتراك في القرآن أ 184 الأمر الثاني عشر: في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى أ 186 1. جواز الاستعمال رهن لفظ و لحاظ ثان أ 187 2. اجتماع لحاظين آليّين في شيء واحد أ 187 3. اجتماع لحاظين مستقلين في صقع النفس أ 188 4. إيجاد ماهيتين مختلفتين بوجود واحد أ 189

ص:613

المانع من جهة الوضع أ 191 منهج القرآن في الهداية أ 200 الأمر الثالث عشر: في المشتق، و فيه أُمور أ 202 الأوّل: تعريف المشتق أ 202 الثاني: النزاع لغوي لا عقلي أ 203 الثالث: المشتق بين الأُدباء و الأُصوليين أ 204 الرابع: في دخول أسماء الزمان في محط النزاع أ 207 الخامس: في دلالة الأفعال على الزمان أ 210 السادس: ما هي مادة المشتقات؟ أ 215 السابع: التفصيل في بعض المشتقات و نقده أ 218 الثامن: ما هو المراد من الحال في عنوان البحث؟ أ 220 التاسع: ما هو الأصل في المسألة؟ أ 223 العاشر: نفي الملازمة بين التركّب و الوضع للأعم أ 228 المشتق موضوع للمتلبّس بالمبدإ أ 231 أدلّة القائلين بالوضع للمتلبّس أ 232 أدلّة القول بالأعم أ 235 خاتمة المطاف: في ثمرات البحث أ 239 مسائل في المشتق أ 241

ص:614

المسألة الأُولى: في خروج الذات عن مفهوم المشتق أ 241 المسألة الثانية: في الفرق بين المشتق و مبدئه أ 246 المسألة الثالثة: في ملاك الحمل أ 255 المسألة الرابعة: مغايرة المبدأ للذات أ 257 المسألة الخامسة: في قيام المبدأ بالذات أ 260 المسألة السادسة: في عدم اعتبار التلبّس الحقيقي أ 263 المقصد الأوّل: في الأوامر أ 265 الفصل الأوّل: مادة الأمر، و فيه جهات 267 الجهة الأُولى: معنى لفظ الأمر لغة أ 267 الجهة الثانية: في اعتبار العلو و الاستعلاء أ 269 الجهة الثالثة: في دلالة مادة الأمر على الوجوب أ 273 الجهة الرابعة: في أنّ الموضوع له هو الطلب الإنشائي أ 276 الأُولى: ما هو السبب لطرح هذه المسألة في علم الكلام؟ أ 279 الثانية: ما هو المراد من الكلام النفسي؟ أ 281 الثالثة: أدلّة الأشاعرة على الكلام النفسي أ 283 الرابعة: معنى كونه سبحانه متكلّماً عند العدلية أ 289 مذهب الإمامية في كونه متكلّماً أ 291

ص:615

الخامسة: موقفنا من وحدة الطلب و الإرادة أ 293 الفصل الثاني: في صيغة الأمر، و فيه مباحث أ 299 المبحث الأوّل: ما هو معنى صيغة» افعل «؟ أ 299 المبحث الثاني: في أنّ الأمر بلا قرينة يدل على الوجوب أ 302 الأوّل: تبيين حقيقة الوجوب و الندب ثبوتاً و إثباتاً. أ 302 الثاني: حمل الأمر على الوجوب إذا لم يكن قرينة أ 304 المبحث الثالث: دلالة الجملة الخبرية على الوجوب أ 309 المبحث الرابع: التوصلي و التعبدي أ 312 الأوّل: ما ذا يقصد من التوصلي؟ أ 312 الثاني: ما ذا يقصد من التعبّدي؟ أ 313 الثالث: هل هناك عبادة ذاتية؟ أ 314 الرابع: ما هو حدّ العبادة؟ أ 314 الخامس: التقسيم ثنائي لا ثلاثي أ 315 السادس: ما هو الأصل فيما شكّ أنّه توصلي أو تعبّدي؟ أ 317 أدلّة القائلين بامتناع الأخذ في المتعلّق أ 318 الأوّل: استلزامه التكليف بغير المقدور أ 318 الثاني: استلزامه داعوية الأمر إلى نفسه أ 318 الثالث: استلزامه التسلسل أ 320

ص:616

الرابع: استلزام الدور أ 322 الخامس: تقدّم الشيء على نفسه أ 322 السادس: لزوم اتحاد الحكم و الموضوع أ 323 السابع: لزوم تقدّم الشيء على نفسه في المراحل الثلاث أ 324 الثامن: استلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي و الاستقلالي أ 326 التاسع: التهافت في اللحاظ أ 326 العاشر: وجود التسلسل في المدعو إليه أ 327 تصحيح الأخذ بأمرين أ 328 الإطلاق المقامي أ 330 أدلّة القائلين بأنّ مقتضى الأصل هو التعبديّة أ 331 مقتضى الأصل العقلي أ 333 حكم الأصل الشرعي أ 336 نقل كلام عن المحقّق العراقي أ 337 المبحث الخامس: في دوران صيغة الأمر بين كونه نفسياً، تعيينياً، عينياً، و ما يقابلها، و فيه وجوه أ 340 الوجه الأوّل: الحمل مقتضى الإطلاق أ 341 الوجه الثاني: الحمل مقتضى حكم العقل في مجال العبودية أ 343 الوجه الثالث: المختص بمورد التعييني و العيني أ 343 المبحث السادس: الأمر عقيب الحظر أو توهمه أ 345

ص:617

المبحث السابع: دلالة الأمر على المرّة و التكرار أ 348 الأوّل: فيما إذا كانت هناك قرينة على أحد الأمرين أ 348 الثاني: في تحرير محلّ النزاع أ 348 الثالث: الفرق بين الدفعة و المرة و... أ 349 في دلالة الأمر على الفور أو التراخي و عدمها أ 353 أدلة القائل بالفورية أ 354 الأُولى: آية المسارعة أ 355 الفصل الثالث: في الاجزاء، و فيه أُمور أ 358 الأوّل: في عنوان المسألة أ 358 الثاني: ما هو المراد من لفظة» على وجهه «؟ أ 358 الثالث: ما هو المراد من الاقتضاء؟ أ 360 الرابع: للإجزاء حقيقة متشرعيّة؟ أ 362 الخامس: الفرق بين هذه المسألة و مسألة المرّة و التكرار أ 363 السادس: الفرق بين المقام و مسألة تبعية القضاء للأداء أ 363 مواضع ثلاثة في الإجزاء أ 365 الموضع الأوّل: امتثال كلّ أمر يجزي عن التعبّد به ثانياً أ 366 تبديل امتثال بامتثال آخر أ 367 1. ما ورد في باب الكسوف أ 368

ص:618

2. ما ورد في إعادة الصلاة مع المخالف أ 369 3. استحباب الإعادة إذا وجد جماعة أ 369 الموضع الثاني: في إجزاء الأمر الاضطراري عن الواقعي أ 372 في العذر غير المستوعب أ 373 حكم الإجزاء ثبوتاً على القول بالتعدّد أ 374 المقام الأوّل: في العذر غير المستوعب أ 377 المقام الثاني: في العذر المستوعب أ 381 الموضع الثالث: إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي أ 383 الأوّل: العمل بالأمارة لاستكشاف كيفية التكليف أ 383 أسئلة و أجوبة أ 386 الاستدلال على الإجزاء بوجه آخر أ 388 تفصيل بين الانكشاف الوجداني و غيره أ 389 التفصيل بين الطريقية و السببية أ 390 أقسام السببية أ 390 حكم الإجزاء على التفاسير الثلاثة أ 392 إذا كان وجه الحجّية غير معلوم أ 393 المورد الثاني: العمل بالأُصول العملية لاستكشاف كيفية التكليف، و فيه أُمور أ 397 1. أصالة الطهارة و الإجزاء أ 398

ص:619

2. أصالة الحلية و الإجزاء أ 399 3. الاستصحاب و الإجزاء أ 399 4. أصالة البراءة و الإجزاء أ 400 5. قاعدة التجاوز و الإجزاء أ 401 6. انكشاف الخلاف بدليل قطعي أ 402 7. تبدّل رأي المجتهد أ 403 تنبيهات ثلاثة أ 404 الأوّل: الامتثال اعتماداً على القطع بالأمر أ 404 الثاني: القول بالإجزاء لا يلازم التصويب أ 404 التنبيه الثالث: في مسائل تترتّب على الاجزاء أ 406 المسألة الأُولى: إذا اختلفت فتوى السابق مع اللاحق، و فيها موارد أ 406 1. حكم العبادات أ 408 2. حكم المعاملات أ 410 3. الموضوعات الخارجية أ 411 المسألة الثانية: لو بلغ الصبي أثناء الصلاة أ 412 المسألة الثالثة: إذا انحصر الثوب في النجس أ 413 الفصل الرابع: مقدّمة الواجب، و فيه أُمور أ 415 الأوّل: في تحرير محلّ النزاع أ 415

ص:620

الأمر الثاني: المسألة عقلية أُصولية أ 418 المسألة من مبادئ الأحكام أيضاً أ 419 الأمر الثالث: تقسيمات المقدّمة أ 423 التقسيم الأوّل إلى داخلية و خارجية أ 423 التقسيمات الداخلية، و فيها اصطلاحات و ثلاثة مقامات أ 423 أ. الداخلية بالمعنى الأخص أ 423 ب. الداخلية بالمعنى الأعم أ 423 المقام الأوّل: في صحّة عدّ الأجزاء مقدمة أ 424 الأوّل: جواب الشيخ الأعظم أ 425 الثاني: جواب المحقّق الخراساني أ 426 الثالث: جواب المحقّق البروجردي أ 427 الرابع: جواب المحقّق الخوئي أ 428 المقام الثاني: في وجود الملاك لوصف الأجزاء بالوجوب المقدّمي أ 429 المقام الثالث: في وجود المانع عن تعلّق الوجوب أ 429 الغناء عن الوجوب الغيري للإجزاء أ 431 التقسيمات الخارجية أ 432 التقسيم الثاني: تقسيمها إلى عقلية و شرعية و عادية أ 434 التقسيم الثالث: تقسيمها إلى مقدمة الوجود و الصحّة و... أ 436

ص:621

التقسيم الرابع: تقسيمها إلى السبب و الشرط و المعدّ و عدم المانع أ 438 التقسيم الخامس: تقسيمها إلى متقدمة و مقارنة و متأخرة، و فيه مقامات ثلاثة أ 440 المقام الأوّل: شرط المأمور به أ 441 المقام الثاني: شرائط التكليف أ 443 المقام الثالث: في شرائط الوضع أ 445 تصوير نتيجة الكشف الحقيقي أ 447 جواب المحقّق الخراساني أ 450 إجابة المحقّق النائيني عن الإشكال أ 453 الأمر الرابع: تقسيمات الواجب أ 456 التقسيم الأوّل: تقسيمه إلى مطلق و مشروط أ 456 الإطلاق و التقييد من الأُمور النسبية أ 460 تحليل واقع القيود ثبوتاً أ 461 أدلّة رجوع القيد إلى المادة أ 463 مسائل ثلاث أ 469 المسألة الأُولى: الوجوب فعلي أو انشائي أ 469 المسألة الثانية: ما فائدة الوجوب المشروط؟ أ 472 المسألة الثالثة: ما هو الأصل عند الشكّ في رجوع القيد إلى الهيئة أو

ص:622

المادة؟ أ 473 التقسيم الثاني: تقسيم الواجب المطلق إلى منجّز و معلَّق أ 474 إشكالات على هذا التقسيم أ 475 1. إشكال المحقّق الخراساني أ 475 2. إشكال آخر للمحقّق الخراساني أ 475 3. إشكال المحقّق ملا علي النهاوندي أ 476 4. إشكال العلاّمة الحائري أ 482 5. إشكال آخر للمحقّق الخراساني أ 482 6. إشكال المحقّق النائيني، و فيه أُمور أ 483 1. كلّ القيود ترجع إلى الموضوع أ 483 2. لا فرق بين الاستطاعة و الزمان أ 484 3. الزمان أولى أن يكون قيداً للوجوب أ 484 7. إشكال المحقّق الخوئي أ 486 المقدمات المفوتة أو ثمرات الواجب المعلّق أ 488 تطبيقات أ 491 سؤال و إجابة أ 492 إذا دار الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة أو المادة أ 493 مقتضى الأصل اللفظي عند الترديد أ 494

ص:623

الأوّل: تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي أ 494 الوجه الثاني: تقييد الهيئة يوجب تقييد المادة أيضاً و لا عكس أ 496 مقتضى الأصل العملي أ 498 التقسيم الثالث: تقسيمه إلى نفسي و غيري أ 499 تعريف ثان للنفسي و الغيري أ 500 تعريف ثان للنفسي و الغيري أ 500 دوران الوجوب بين النفسي و الغيري أ 502 الأوّل: ما هو مقتضى الأصل اللفظي؟ أ 502 أدلّة المتمسّكين بإطلاق الهيئة أ 505 المقام الثاني: في مقتضى الأصل العملي أ 508 تنبيهات أ 511 الأوّل: في ترتّب الثواب على امتثال الواجب الغيري أ 511 أدلّة القائلين بالاستحقاق أ 512 الثواب و العقاب من لوازم الأعمال التكوينية أ 515 1. الصلة بين العمل و الثواب توليدية أ 515 2. الثواب تمثّل العمل بوجوده الأُخروي أ 515 3. الثواب فعل النفس أ 516 ترتّب الثواب على الواجب الغيري أ 518

ص:624

محاولة المحقّق الخراساني لتفسير ما دلّ على ترتّب الثواب أ 522 التنبيه الثاني: إشكالات الطهارات الثلاث أ 524 دراسة الإشكال الأوّل أ 525 دراسة الإشكالين الثاني و الثالث أ 526 الأوّل: انّ الطهارات الثلاث بنفسها مستحبة أ 526 الثاني: انّ ملاك العبادية هو الأمر النفسي المتعلّق بذيها أ 528 الثالث: كفاية قصد التوصّل في العبادية أ 529 الرابع: كفاية قصد الإتيان للّه أ 530 التقسيم الرابع: الأصلي و التبعي أ 535 نظرية المحقّق الخراساني أ 535 نظرية المحقّق القمي أ 537 إذا دار أمر الواجب بين الأصلي و التبعي أ 537 الأمر الخامس: وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها إطلاقاً و اشتراطاً أ 539 الأمر السادس: ما هو الواجب من المقدّمة؟، و فيه أقوال أ 541 القول الأوّل: وجوب مطلق المقدّمة أ 541 القول الثاني: وجوب المقدّمة حين إرادة ذيها أ 542 القول الثالث: وجوب المقدّمة بشرط إرادة ذيها أ 543 القول الرابع: وجوب المقدّمة بشرط التوصّل إلى ذيها أ 544

ص:625

الأوّل: قصد التوصّل قيد لحصول الامتثال أ 544 الثاني: قصد التوصّل شرط لرفع الحرمة عند التزاحم أ 545 الثالث: قصد التوصّل جزء الموضوع أ 546 تأييد لمقالة الشيخ أ 547 القول الخامس: وجوب المقدّمة الموصلة، و فيه مقامات أ 550 المقام الأوّل: أدلّة القول بوجوب الموصلة أ 551 المقام الثاني: إشكالات القول بوجوب المقدّمة الموصلة أ 559 1. انقلاب الواجب النفسي إلى الغيري أ 559 2. سقوط المقدّمة بالإتيان بها أ 560 3. ما هو مقدّمة ليست بموصلة أ 561 4. لزوم الدور أ 563 5. لزوم التسلسل أ 564 6. اختصاص الوجوب بالعلل التوليدية أ 565 المقام الثالث: ثمرات القول بوجوب المقدّمة الموصلة أ 567 الثمرة الأُولى: بقاء الحرمة في غير الموصلة أ 567 الثمرة الثانية: صحّة الصلاة على القول بالموصلة أ 568 نظرية الشيخ في الثمرة أ 569 حدّ النقيض أ 569

ص:626

كلام المحقّق الخراساني في ردّ الثمرة أ 570 القول السادس: وجوب المقدّمة حال الإيصال أ 571 الأمر السابع: في ثمرات القول بوجوب المقدّمة أ 577 الثمرة الأُولى: اتّصاف المقدّمات بالوجوب الغيري أ 577 الثمرة الثانية: تحقّق الوفاء بالنذر أ 577 الثمرة الثالثة: استحقاق الأجر أ 578 الثمرة الرابعة: حرمة أخذ الأُجرة على المقدّمة أ 579 الثمرة الخامسة: حصول الفسق بترك مقدّمة أ 582 الثمرة السادسة: جعل المصداق لمسألة الاجتماع أ 582 الف: عنوان المقدّمة تعليلي أ 583 ب: الوجوب مختص بغير الحرام في صورة عدم الانحصار أ 584 ج: وجوب المقدّمة لا مدخلية له فيما هو المهم في باب المقدّمة أ 584 الثمرة السابعة: تصحيح العبادات الغيرية أ 585 الأمر الثامن: تأسيس الأصل في المسألة أ 586 حكم الأصل في المسألة الأُصولية أ 586 إجراء حكم الأصل في المسألة الفقهية أ 588 أدلّة القائلين بوجوب المقدمة أ 594

ص:627

الأوّل: لزوم التكليف بما لا يطاق لو لم تجب أ 595 الثاني: قضاء الوجدان بالوجوب أ 597 الثالث: وزان الإرادة التشريعية كالتكوينية أ 597 الرابع: وجود الأوامر الغيرية في الشريعة أ 598 ما هو المختار في باب المقدّمة؟ أ 600 إكمال: تفصيلان في مقدّمة الواجب أ 601 الأوّل: التفصيل بين السبب و غيره أ 601 الثاني: التفصيل بين الشرط الشرعي و العقلي أ 601 مقدّمة المستحب و المكروه و الحرام أ 602 الأوّل: السريان مطلقاً أ 603 الثاني: السريان في المقدّمة التوليدية أ 604 الثالث: التفصيل بين ما لا يتوسط بين المقدّمة و ذيها اختيار الفاعل أ 606 الرابع: انّ الحرام هو الجزء الأخير إذا كانت الأجزاء مترتّبة أ 607 فهرس المحتويات أ 609

ص:628

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.