سرشناسه : ابن سراج، محمد بن سری، - 316ق.
عنوان و نام پديدآور : الأصول في النحو / تألیف العلامة أبی بکر محمد بن السري بن سهل النحوي المعروف ب «ابن السراج»؛ تحقیق محمد عثمان
مشخصات نشر : قاهره : مکتبة الثقافة الدينية ، 1430ق = 2009م = 1387
مشخصات ظاهری : 2 ج
یادداشت : عربی
موضوع : ادبیات عرب -- نحو
توضیح : «الأصول فی النحو» اثر عربی ابن سراج ابوبکر محمد بن سری بن سهل( 316 ق / 929 م) در علم نحو و قواعد مربوط به آن می باشد.هدف نویسنده از نوشتن این کتاب، ذکر اصول و مواردی است که در کلام عرب شیوع داشته و اشاره به علتی که بعضی از قواعد تکرار می شوند.
یاقوت درباره این کتاب گفته است: «اصول و قواعد نحوی پراکنده و غیر قابل فهم بود تا اینکه ابن سراج آن ها را در کتاب اصول خود گردآورد و قابل فهم گردانید».
شرح هایی که علمای بعد از او بر این کتاب نوشته اند، مؤید ارزش و اهمیت کتاب است.
پاورقی ها مربوط به ذکر اسانید و شرح و تعلیقاتی است که محقق برای متن نوشته است.
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بسم الله الرّحمن الرّحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
أما بعد :
فإن علم النحو ، أو علم ضبط النطق اللساني ، وإعراب الكلمات بحركاتها الصحيحة الخالية من اللحن ، علم من أجلّ العلوم التي وضعت لحفظ اللغة العربية ، وضبط قواعدها ، إذ بهذا العلم يتوصل إلى أعظم مطلوبين ، ألا وهما :
1 - المحافظة على كتاب الله تعالى من اللحن.
2 - والمحافظة على كلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم من اللحن أيضا ، إذ أن ذلك قد يدخل في الكذب عليه صلّى الله عليه وسلّم.
وقد رأيت أن أقدم بمقدمة مفيدة تكون دليلا لمحبي النحو ، أتحدث فيها عن اللغة ووضعها وأصلها ، وكيفية ثبوتها ، ومباحث مختصرة في علم النحو ، ليتبينوا أهمية هذا العلم وفائدته.
وقبل الشروع في الكتاب نصدّر بمقالة ذكرها أبو الحسين أحمد بن فارس في أول كتابه فقه اللغة : قال : اعلم أن لعلم العرب أصلا وفرعا ، أمّا الفرع فمعرفة الأسماء والصفات كقولنا : رجل وفرس وطويل وقصير ، وهذا هو الذي يبدأ به عند المتّعلم.
وأمّا الأصل فالقول على وضع اللغة وأوّليتها ومنشئها ثمّ على رسوم العرب في مخاطباتها وما لها من الافتنان تحقيقا ومجازا.
ص: 5
والناس في ذلك رجلان : رجل شغل بالفرع فلا يعرف غيره ، وآخر جمع الأمرين معا ، وهذه هي الرّتبة العليا لأن بها يعلم خطاب القرآن والسّنة وعليها يعوّل أهل النظر والفتيا ، وذلك أن طالب العلم اللغوي يكتفي من أسماء الطويل باسم الطويل ، ولا يضيره ألّا يعرف الأشقّ والأمقّ وإن كان في علم ذلك زيادة فضل.
وإنما لم يضره خفاء ذلك عليه ؛ لأنه لا يكاد يجد منه في كتاب الله تعالى شيئا فيحوج إلى علمه ويقلّ مثله أيضا في ألفاظ رسول الله إذ كانت ألفاظه السّهلة العذبة.
ولو أنه لم يعلم توسّع العرب في مخاطباتها لعيّ بكثير من علم محكم الكتاب والسنة ، ألا ترى قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ ...) إلى آخر الآية [الأنعام : 52].
فسرّ هذه الآية في نظمها لا يكون بمعرفة غريب اللغة والوحشيّ من الكلام.
والفرق بين معرفة الفروع ومعرفة الأصول : أن متوسّما بالأدب لو سئل عن الجزم والتّسويد في علاج النّوق فتوقّف أو عيّ به ، أو لم يعرفه ، لم ينقصه ذلك عند أهل المعرفة نقصا شائنا ؛ لأن كلام العرب أكثر من أن يحصى ، ولو قيل له : هل تتكلم العرب في النفي بما لا تتكلم به في الإثبات؟ ثم لم يعلمه لنقصه ذلك في شريعة الأدب عند أهل الأدب ، لا أن ذلك يردّه عن دينه أو يجره لمأثم ، كما أن متوسّما بالنحو لو سئل عن قول القائل : [الطويل]
لهنّك من عبسية لوسيمة
على هنوات كاذب من يقولها
فتوقّف أو فكّر أو استمهل لكان أمره في ذلك عند أهل الفضل هيّنا ، لكن لو قيل له مكان (لهنك) : ما أصل القسم؟ وكم حروفه؟ وما الحروف المشبهة بالأفعال التي يكون الاسم بعدها منصوبا وخبره مرفوعا؟ فلم يجب لحكم عليه بأنه لم يشامّ صناعة النحو قط ، فهذا الفصل بين الأمرين.
وسوف نعرج الآن على ذكر المباحث التي نريد عرضها :
ص: 6
قال أبو الفتح ابن جني في" الخصائص" : حدّ اللغة أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم.
ثم قال : وأما تصريفها فهي (فعلة) من لغوت ، أي : تكلّمت ، وأصلها لغوة ككرة وقلة وثبة كلّها لاماتها واوات ، لقولهم : كروت بالكرة ، وقلوت بالقلة ، ولأن ثبة كأنها من مقلوب ثاب يثوب.
وقالوا : فيها لغات ولغون كثبات وثبون.
وقيل منها لغي يلغى إذا هذى ، قال : [الرجز]
وربّ أسراب حجيج كظّم
عن اللّغا ورفث التّكلّم
وكذلك اللّغو قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : 72] أي : بالباطل.
وفي الحديث : " من قال في الجمعة صه فقد لغا" (1) أي : تكلّم. انتهى كلام ابن جني.
وقال إمام الحرمين في" البرهان" : اللغة من لغي يلغى من باب رضي إذا لهج بالكلام ، وقيل : من لغى يلغى.
وقال ابن الحاجب في" مختصره" : حدّ اللغة كلّ لفظ وضع لمعنى.
وقال الأسنوي في" شرح منهاج الأصول" : اللغات : عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني
أتوقيف هي ووحي أم اصطلاح وتواطؤ؟
قال الإمام السيوطي في" المزهر" : قال أبو الحسين أحمد بن فارس في" فقه اللغة" : اعلم أنّ لغة العرب توقيف ، ودليل ذلك قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : 32].
فكان ابن عباس يقول : علّمه الأسماء كلها ، وهي هذه الأسماء التي يتعارفها الناس من دابّة وأرض وسهل وجبل وجمل وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
ص: 7
وروى خصيف عن مجاهد قال : علّمه اسم كلّ شيء.
وقال غيرهما : إنما علّمه أسماء الملائكة.
وقال آخرون : علّمه أسماء ذرّيّته أجمعين.
قال ابن فارس : والذي نذهب إليه في ذلك ما ذكرناه عن ابن عبّاس.
فإن قال قائل : لو كان ذلك كما تذهب إليه لقال : ثم عرضهنّ أو عرضها ، فلما قال :عرضهم ، علم أن ذلك لأعيان بني آدم أو الملائكة ؛ لأن موضوع الكناية في كلام العرب أن يقال لما يعقل : عرضهم ، ولما لا يعقل : عرضها أو عرضهنّ.
قيل له : إنما قال ذلك - والله أعلم - لأنه جمع ما يعقل وما لا يعقل فغلب ما يعقل ، وهي سنّة من سنن العرب - أعني : باب التغليب - وذلك كقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : 45].
فقال : (منهم) تغليبا لمن يمشي على رجلين وهم بنو آدم.
فإن قال : أفتقولون في قولنا : سيف وحسام وعضب إلى غير ذلك من أوصافه إنه توقيف حتى لا يكون شيء منه مصطلحا عليه قيل له : كذلك نقول.
والدليل على صحته إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه ثم احتجاجهم بأشعارهم ، ولو كانت اللغة مواضعة واصطلاحا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأولى منّا في الاحتجاج (بنا) لو اصطلحنا على لغة اليوم ولا فرق.
ولعل ظانا يظنّ أن اللغة التي دللنا على أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وفي زمان واحد ، وليس الأمر كذلك ، بل وقّف الله عزّ وجلّ آدم عليه السّلام على ما شاء أن يعلّمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه ، وانتشر من ذلك ما شاء الله ، ثم علّم بعد آدم من الأنبياء صلوات الله عليهم نبيّا نبيّا ما شاء الله أن يعلّمه ، حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد فآتاه الله من ذلك ما لم
ص: 8
يؤته أحدا قبله تماما على ما أحسنه من اللغة المتقدمة ، ثم قرّ الأمر قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت ، فإن تعمّل اليوم لذلك متعمّل وجد من نقّاد العلم من ينفيه ويردّه.
ولقد بلغنا عن أبي الأسود الدؤلي أن امرءا كلّمه ببعض ما أنكره أبو الأسود. فسأله أبو الأسود عنه فقال : هذه لغة لم تبلغك ، فقال له : يابن أخي إنه لا خير لك فيما لم يبلغني.
فعرّفه بلطف أن الذي تكلّم به مختلق.
وخلّة أخرى : إنه لم يبلغنا أن قوما من العرب في زمان يقارب زماننا أجمعوا على تسمية شيء من الأشياء مصطلحين عليه ، فكنا نستدلّ بذلك على اصطلاح قد كان قبلهم.
وقد كان في الصحابة رضي الله عنهم - وهم البلغاء والفصحاء - من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاء به وما علمناهم اصطلحوا على اختراع لغة أو إحداث لفظة لم تتقدمهم.
ومعلوم أن حوادث العالم لا تنقضي إلّا بانقضائه ولا تزول إلّا بزواله ، وفي كل ذلك دليل على صحّة ما ذهبنا إليه من هذا الباب. هذا كله كلام ابن فارس وكان من أهل السنة.
وقال ابن جني في" الخصائص" وكان هو وشيخه أبو عليّ الفارسي معتزليّين : باب القول على أصل اللغة إلهام هي أم اصطلاح؟
هذا موضع محوج إلى فضل تأمّل غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح ، لا وحي ولا توقيف ، إلّا أن أبا علي - رحمه الله - قال لي يوما : هي من عند الله واحتج بقوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) وهذا لا يتناول موضع الخلاف ، وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله : أقدر آدم على أن واضع عليها.
وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة فإذا كان ذلك محتملا غير مستنكر سقط الاستدلال به.
وقد كان أبو علي رحمه الله أيضا قال به في بعض كلامه ، وهذا أيضا رأي أبي الحسن على أنه لم يمنع قول من قال إنها تواضع منه ، وعلى أنه قد فسّر هذا بأن قيل : إنه تعالى علّم آدم
ص: 9
أسماء جميع المخلوقات بجميع اللّغات : العربية والفارسية والسريانية والعبرانية والرّومية وغير ذلك من سائر اللغات ، فكان آدم وولده يتكلمون بها ثم إن ولده تفرّقوا في الدنيا وعلق كلّ واحد منهم بلغة من تلك اللغات فغلبت عليه واضمحلّ عنه ما سواها لبعد عهدهم بها.
وإذا كان الخبر الصحيح قد ورد بهذا وجب تلقيه باعتقاده والانطواء على القول به.
فإن قيل : فاللغة فيها أسماء وأفعال وحروف وليس يجوز أن يكون المعلّم من ذلك الأسماء وحدها دون غيرها مما ليس بأسماء ، فكيف خصّ الأسماء وحدّها؟
قيل : اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القبل الثلاثة ، ولا بد لكل كلام مفيد منفرد من الاسم ، وقد تستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الفعل والحرف ، فلما كانت الأسماء من القوّة والأوليّة في النفس والرتبة على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها عمّا هو تال لها ومحمول في الحاجة إليه عليها.
قال : ثم لنعد فلنقل في الاعتلال لمن قال بأنّ اللغة لا تكون وحيا ، وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بدّ فيه من المواضعة.
قالوا : وذلك بأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدا فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سمة ولفظا إذا ذكر عرف به ما مسمّاه ؛ ليمتاز عن غيره وليغني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين ، فيكون ذلك أقرب وأخفّ وأسهل من تكلّف إحضاره لبلوغ الغرض في إبانة حاله ، بل قد يحتاج في كثير من الأحوال إلى ذكر ما لا يمكن إحضاره ولا إدناؤه كالفاني ، وحال اجتماع الضدّين على المحلّ الواحد ، وكيف يكون ذلك لو جاز وغير هذا مما هو جار في الاستحالة والتّعذّر مجراه ، فكأنهم جاؤوا إلى واحد من بني آدم فأومؤوا إليه وقالوا : إنسان ، فأيّ وقت سمع هذا اللفظ علم أن المراد به هذا الضرب من المخلوق ، وإن أرادوا سمة عينه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا : يد عين رأس قدم ، أو نحو ذلك ، فمتى سمعت اللفظة من هذا عرف معنيّها ، وهلمّ جرّا فيما سوى ذلك من الأسماء والأفعال والحروف.
ص: 10
ثم لك من بعد ذلك أن تنقل هذه المواضعة إلى غيرها فتقول : الذي اسمه إنسان فليجعل مكانه (مرد) ، والذي اسمه رأس فليجعل مكانه (سر) وعلى هذا بقية الكلام.
وكذلك لو بدئت اللغة الفارسيّة فوقعت المواضعة عليها لجاز أن تنقل ويولّد منها لغات كثيرة من الرومية والزّنجية وغيرهما ، وعلى هذا ما نشاهده الآن من اختراع الصّنّاع لآلات صنائعهم من الأسماء كالنّجار والصائغ والحائك والبنّاء ، وكذلك الملّاح قالوا : ولكن لا بد لأولها من أن يكون متواضعا عليه بالمشاهدة والإيماء.
قالوا : والقديم - سبحانه - لا يجوز أن يوصف بأن يواضع أحدا على شيء ؛ إذ قد ثبت أن المواضعه لا بدّ معها من إيماء وإشارة بالجارحة نحو المومأ إليه والمشار نحوه.
قالوا : والقديم - سبحانه - لا جارحة له فيصحّ الإيماء والإشارة منه بها ، فبطل عندهم أن تصحّ المواضعة على اللغة منه تقدست أسماؤه.
قالوا : ولكن يجوز أن ينقل الله تعالى اللغة التي قد وقع التواضع بين عباده عليها بان يقول : الذي كنتم تعبّرون عنه بكذا عبّروا عنه بكذا والذي كنتم تسمّونه كذا ينبغي أن تسمّوه كذا ، وجواز هذا منه - سبحانه - كجوازه من عباده ، ومن هذا الذي في الأصوات ما يتعاطاه الناس الآن من مخالفة الأشكال في حروف المعجم كالصورة التي توضع للمعميات والتراجم ، وعلى ذلك أيضا اختلفت أقلام ذوي اللغات كما اختلفت ألسن الأصوات المرتّبة على مذاهبهم في المواضعات فهذا قول من الظهور على ما تراه.
إلّا أنني سألت يوما بعض أهله فقلت : ما تنكر أن تصحّ المواضعة من الله سبحانه وإن لم يكن ذا جارحة بأن يحدث في جسم من الأجسام - خشبة أو غيرها - إقبالا على شخص من الأشخاص وتحريكا لها نحوه ويسمع - في حال تحرك الخشبة نحو ذلك الشخص - صوتا يضعه اسما له ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعات مع أنه - عزّ اسمه - قادر على أن يقنع في تعريفه ذلك بالمرّة الواحدة فتقوم الخشبة في هذا الإيماء وهذه الإشارة مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة ، وكما أن الإنسان أيضا قد يجوز إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبة نحو المراد المتواضع عليه فيقيمها في ذلك مقام يده لو أراد الإيماء بها نحوه.
ص: 11
فلم يجب عن هذا بأكثر من الاعتراف بوجوبه ، ولم يخرج من جهته شيء أصلا فأحكيه عنه وهو عندي وعلى ما تراه الآن لازم لمن قال بامتناع كون مواضعة القديم تعالى لغة مرتجلة غير ناقلة لسانا إلى لسان ، فاعرف ذلك.
وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدويّ الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونزيب الظبي ونحو ذلك. ثم ولّدت اللغات عن ذلك فيما بعد ، وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبّل.
واعلم فيما بعد أنني على تقادم الوقت دائم التّنقير والبحث عن هذا الموضع ، فأجد الدّواعي والخوالج قوية التّجاذب لي مختلفة جهات التّغول على فكري ، وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدّقّة الإرهاف والرّقّة ما يملك عليّ جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السّحر ، فمن ذلك ما نبّه عليه أصحابنا رحمهم الله ، ومنه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وآماده صحة ما وفّقوا لتقديمه منه ولطف ما أسعدوا به ، وفرق لهم ، عنه وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله تعالى فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفا من الله سبحانه وأنها وحي.
ثم أقول في ضد هذا : إنه كما وقع لأصحابنا ولنا وتنبّهوا.
وتنبهنا على تأمّل هذه الحكمة الرائعة الباهرة كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا وإن بعد مداه عنّا من كان ألطف منا أذهانا وأسرع خواطر وأجرا جنانا ، فأقف بين الخلّتين حسيرا وأكاثرهما فأنكفىء مكثورا ، وإن خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به ، هذا كله كلام ابن جني.
وقال الإمام فخر الدين الرازي في" المحصول" وتبعه تاج الدين الأرموي في" الحاصل" وسراج الدين الأرموي في" التحصيل" ما ملخّصه : النظر الثاني في الواضع : الألفاظ إما أن تدل على المعاني بذواتها أو بوضع الله إياها أو بوضع الناس ، أو بكون البعض بوضع الله والباقي بوضع الناس ، والأول مذهب عباد بن
ص: 12
سليمان ، والثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك ، والثالث مذهب أبي هاشم ، وأما الرابع فإما أن يكون الابتداء من الناس والتّتمّة من الله وهو مذهب قوم.
أو الابتداء من الله والتتمة من الناس وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني.
والمحققون متوقفون في الكل إلّا في مذهب عباد.
ودليل فساده : أن اللفظ لو دلّ بالذات لفهم كلّ واحد منهم كلّ اللغات لعدم اختلاف الدلالات الذاتية واللازم باطل فالملزوم كذلك.
واحتجّ عبّاد بأنه لو لا الدّلالة الذاتيّة لكان وضع لفظ من بين الألفاظ بإزاء معنى من بين المعاني ترجيحا بلا مرجّح وهو محال.
وجوابه : أن الواضع إن كان هو الله فتخصيصه الألفاظ بالمعاني كتخصيص العالم بالإيجاد في وقت من بين سائر الأوقات ، وإن كان هو الناس فلعلّه لتعيّن الخطران بالبال ودليل إمكان التوقّف احتمال خلق الله تعالى الألفاظ ووضعها بإزاء المعاني ، وخلق علوم ضرورية في ناس بأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني.
ودليل إمكان الاصطلاح إمكان أن يتولّى واحد أو جمع وضع الألفاظ لمعان ثم يفهموها لغيرهم بالإشارة كحال الوالدات مع أطفالهن.
وهذان الدليلان هما دليلا إمكان التوزيع.
واحتجّ القائلون بالتوقيف بوجوه :
أولها - قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) فالأسماء كلها معلّمة من عند الله بالنّص وكذا الأفعال والحروف لعدم القائل بالفصل ، ولأن الأفعال والحروف أيضا أسماء لأن الاسم ما كان علامة والتمييز من تصرّف النحاة لا من اللغة ولأنّ التكلم بالأسماء وحدها متعذّر.
وثانيها - أنه سبحانه وتعالى ذمّ قوما في إطلاقهم أسماء غير توقيفيّة في قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) [النجم : 23] وذلك يقتضي كون البواقي توقيفية.
ص: 13
وثالثها - قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم : 22] والألسنة اللّحمانية غير مرادة لعدم اختلافها ، ولأن بدائع الصّنغ في غيرها أكثر فالمراد هي اللغات.
ورابعها - وهو عقليّ - لو كانت اللغات اصطلاحية لاحتيج في التخاطب بوضعها إلى اصطلاح آخر من لغة أو كتابة ويعود إليه الكلام ويلزم إما الدّور أو التسلسل في الأوضاع وهو محال فلا بد من الانتهاء إلى التوقيف.
واحتجّ القائلون بالاصطلاح بوجهين :
أحدهما - لو كانت اللغات توقيفية لتقدّمت واسطة البعثة على التوقيف والتقدّم باطل ، وبيان الملازمة أنها إذا كانت توقيفية فلا بدّ من واسطة بين الله والبشر وهو النبيّ ؛ لاستحالة خطاب الله تعالى مع كلّ أحد وبيان بطلان التّقدّم قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم : 4] وهذا يقتضي تقدّم اللغة على البعثة.
والثاني - لو كانت اللغات توقيفية فذلك إما بأن يخلق الله تعالى علما ضروريّا في العاقل أنّه وضع الألفاظ لكذا أو في غير العاقل أو بألّا يخلق علما ضروريا أصلا.
والأول باطل ، وإلّا لكان العاقل عالما بالله بالضرورة ؛ لأنه إذا كان عالما بالضرورة بكون الله وضع كذا لكذا كان علمه بالله ضروريّا ، ولو كان كذلك لبطل التكليف.
والثاني باطل ؛ لأن غير العاقل لا يمكنه إنهاء تمام هذه الألفاظ.
والثالث باطل ؛ لأن العلم بها إذا لم يكن ضروريا احتيج إلى توقيف آخر ولزم التسلسل.
والجواب عن الأولى من حجج أصحاب التوقيف : لم لا يجوز أن يكون المراد من تعليم الأسماء الإلهام إلى وضعها؟
ولا يقال : التعليم إيجاد العلم فإنا لا نسلّم ذلك بل التعليم فعل يترتب عليه العلم ولأجله يقال : علّمته فلم يتعلّم.
ص: 14
سلمنا أن التعليم إيجاد العلم لكن قد تقرّر في الكلام أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى فعلى هذا : العلم الحاصل بها موجد لله.
سلّمناه لكنّ الأسماء هي سمات الأشياء وعلاماتها مثل أن يعلّم آدم صلاح الخيل للعدو والجمال للحمل والثيران للحرث ، فلم قلتم : إن المراد ليس ذلك وتخصيص الأسماء بالألفاظ عرف جديد.
سلمنا أن المراد هو الألفاظ ولكن لم لا يجوز أن تكون هذه الألفاظ وضعها قوم آخرون قبل آدم وعلّمها الله آدم؟
وعن الثانية أنه تعالى ذمّهم لأنهم سمّوا الأصنام آلهة واعتقدوها كذلك.
وعن الثالثة : أن اللسان هو الجارحة المخصوصة ، وهي غير مرادة بالاتفاق والمجاز الذي ذكرتموه يعارضه مجازات أخر نحو : مخارج الحروف أو القدرة عليها فلم يثبت التّرجيح.
وعن الرابعة : أن الاصطلاح لا يستدعي تقدّم اصطلاح آخر بدليل تعليم الوالدين الطفل دون سابقة اصطلاح ثمة.
والجواب عن الأولى من حجّتي أصحاب الاصطلاح : لا نسلّم توقّف التوقيف على البعثة لجواز أن يخلق الله فيهم العلم الضروري بأن الألفاظ وضعت لكذا وكذا.
وعن الثانية : لم لا يجوز أن يخلق الله العلم الضروريّ في العقلاء أن واضعا وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني وعلى هذا لا يكون العلم بالله ضروريا.
سلّمناه لكن لم لا يجوز أن يكون الإله معلوم الوجود بالضرورة لبعض العقلاء قوله :
(لبطل التكليف) قلنا : بالمعرفة أمّا بسائر التكاليف فلا. انتهى.
وقال أبو الفتح ابن برهان في كتاب" الوصول إلى الأصول" :اختلف العلماء في اللغة : هل تثبت توقيفا أو اصطلاحا؟ فذهبت المعتزلة إلى أن اللغات بأسرها تثبت اصطلاحا وذهبت طائفة إلى أنها تثبت توقيفا.
ص: 15
وزعم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني : أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التّواضع يثبت توقيفا وما عدا ذلك يجوز أن يثبت بكل واحد من الطريقين.
وقال القاضي أبو بكر : يجوز أن يثبت توقيفا ويجوز أن يثبت اصطلاحا ويجوز أن يثبت بعضه توفيقا وبعضه اصطلاحا والكلّ ممكن.
وعمدة القاضي : أن الممكن هو الذي لو قدّر موجودا لم يعرض لوجوده محال ، ويعلم أن هذه الوجوه لو قدّرت لم يعرض من وجودها محال فوجب قطع القول بإمكانها.
وعمدة المعتزلة : أن اللغات لا تدلّ على مدلولاتها كالدلالة العقلية ، ولهذا المعنى يجوز اختلافها ولو ثبتت توقيفا من جهة الله تعالى لكان ينبغي أن يخلق الله العلم بالصّيغة ، ثم يخلق العلم بالمدلول ، ثم يخلق لنا العلم بجعل الصيغة دليلا على ذلك المدلول ، ولو خلق لنا العلم بصفاته لجاز أن يخلق لنا العلم بذاته ، ولو خلق لنا العلم بذاته بطل التكليف وبطلت المحنة.
قلنا : هذا بناء على أصل فاسد فإنا نقول : يجوز أن يخلق الله لنا العلم بذاته ضرورة ، وهذه المسألة فرع ذلك الأصل.
وعمدة الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني : أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع لو ثبت اصطلاحا لافتقر إلى اصطلاح آخر يتقدّمه وهكذا فيتسلسل إلى ما لا نهاية له.
قلنا : هذا باطل فإن الإنسان يمكنه أن يفهم غيره معاني الأسامي كالطفل ينشأ غير عالم بمعاني الألفاظ ، ثم يتعلّمها من الأبوين من غير تقدّم اصطلاح.
وعمدة من قال : إنها تثبت توقيفا قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.) وهذا لا حجّة فيه من جهة القطع فإنه عموم والعموم ظاهر في الاستغراق وليس بنصّ.
قال القاضي : أما الجواز فثابت من جهة القطع بالدليل الذي قدّمته ، وأما كيفية الوقوع فأنا متوقف فإن دلّ دليل من السّمع على ذلك ثبت به.
ص: 16
وقال إمام الحرمين في" البرهان" : اختلف أرباب الأصول في مأخذ اللغات ، فذهب ذاهبون إلى أنها توقيف من الله تعالى ، وصار صائرون إلى أنها تثبت اصطلاحا وتواطؤا ، وذهب الأستاذ أبو إسحاق في طائفة من الأصحاب إلى أن القدر الذي يفهم منه قصد التواطؤ لا بدّ أن يفرض فيه التوقيف.
والمختار عندنا أن العقل يجوّز ذلك كلّه ، فأما تجويز التوقيف فلا حاجة إلى تكلّف دليل فيه ، ومعناه أن يثبت الله تعالى في الصدور علوما بديهيّة بصيغ مخصوصة بمعاني فتتبيّن العقلاء الصّيغ ومعانيها ، ومعنى التوقيف فيها أن يلقوا وضع الصيغ على حكم الإرادة والاختيار ، وأما الدليل على تجويز وقوعها اصطلاحا فهو أنه لا يبعد أن يحرك الله تعالى نفوس العقلاء لذلك ، ويعلم بعضهم مراد بعض ثم ينشئون على اختيارهم صيغا وتقترن بما يريدون أحوال لهم وإشارات إلى مسمّيات ، وهذا غير مستنكر ، وبهذا المسلك ينطلق الطفل على طوال ترديد المسمع عليه ما يريد تلقينه وإفهامه ، فإذا ثبت الجواز في الوجهين لم يبق لما تخيّله الأستاذ وجه والتعويل في التوقيف وفرض الاصطلاح على علوم تثبت في النفوس ، فإذا لم يمنع ثبوتها لم يبق لمنع التوقيف والاصطلاح بعدها معنى ، ولا أحد يمنع جواز ثبوت العلوم الضرورية على النحو المبيّن.
فإن قيل : قد أثبتّم الجواز في الوجهين عموما ، فما الذي اتفق عندكم وقوعه؟
قلنا : ليس هذا مما يتطرّق إليه بمسالك العقول ، فإن وقوع الجائز لا يستدرك إلّا بالسّمع المحض ، ولم يثبت عندنا سمع قاطع فيما كان من ذلك ، وليس في قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) دليل على أحد الجائزين ؛ فإنه لا يمتنع أن تكون اللغات لم يكن يعلمها فعلّمه الله تعالى إياها ، ولا يمتنع أن الله تعالى أثبتها ابتداء وعلّمه إياها.
وقال الغزالي في" المنخول" : قال قائلون : اللغات كلّها اصطلاحية إذ التّوقيف يثبت بقول الرسول عليه السّلام ، ولا يفهم قوله دون ثبوت اللغة.
وقال آخرون : هي توقيفية ؛ إذ الاصطلاح يعرض بعد دعاء البعض بالاصطلاح ، ولا بدّ من عبارة يفهم منها قصد الاصطلاح.
ص: 17
وقال آخرون ما يفهم منه : قصد التّواضع توقيفيّ دون ما عداه ، ونحن نجوّز كونها اصطلاحية بأن يحرّك الله رأس واحد فيفهم آخر أنه قصد الاصطلاح.
ويجوز كونها توقيفية بأن يثبت الربّ تعالى مراسم وخطوطا يفهم الناظر فيها العبارات ثم يتعلم البعض عن البعض.
وكيف لا يجوز في العقل كلّ واحد منهما ونحن نرى الصبيّ يتكلم بكلمة أبويه؟! ويفهم ذلك من قرائن أحوالهما في حالة صغره فإذن الكل جائز.
وأما وقوع أحد الجائزين فلا يستدرك بالعقل ولا دليل في السمع وقوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ظاهر في كونه توقيفيا وليس بقاطع ، ويحتمل كونها مصطلحا عليها من خلق الله تعالى قبل آدم. انتهى.
وقال ابن الحاجب في مختصره : الظاهر من هذه الأقوال قول أبي الحسن الأشعري.
قال القاضي تاج الدين السبكي في" شرح منهاج البيضاوي" : معنى قول ابن الحاجب :
القول بالوقف عن القطع بواحد من هذه الاحتمالات ، وترجيح مذهب الأشعري بغلبة الظن.
قال : وقد كان بعض الضّعفاء يقول : إن هذا الذي قاله ابن الحاجب مذهب لم يقل به أحد ؛ لأن العلماء في المسألة بين متوقّف وقاطع بمقالته ، فالقول بالظهور لا قائل به.
قال : وهذا ضعيف ؛ فإن المتوقّف لعدم قاطع قد يرجّح بالظنّ ، ثم إن كانت المسألة ظنّية اكتفى في العمل بها بذلك التّرجيح ، وإلّا توقف عن العمل بها.
ثم قال : والإنصاف أن الأدلة ظاهرة فيما قاله الأشعري ، فالمتوقّف إن توقّف لعدم القطع فهو مصيب وإن ادّعى عدم الظهور فغير مصيب.
هذا هو الحقّ الذي فاه به جماعة من المتأخرين منهم الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في" شرح العنوان".
وقال في رفع الحاجب : اعلم ان للمسألة مقامين :
ص: 18
أحدهما : الجواز فمن قائل : لا يجوز أن تكون اللغة إلّا توقيفا ، ومن قائل : لا يجوز أن تكون إلّا اصطلاحا.
والثاني : أنه ما الذي وقع على تقدير جواز كلّ من الأمرين ، والقول بتجويز كل من الأمرين هو رأي المحققين ولم أر من صرّح عن الأشعري بخلافه.
والذي أراه أنه إنما تكلم في الوقوع وأنه يجوّز صدور اللّغة اصطلاحا ، ولو منع الجواز لنقله عنه القاضي وغيره من محقّقي كلامه ، ولم أرهم نقلوه عنه ، بل لم يذكره القاضي وإمام الحرمين وابن القشيري والأشعري في مسألة مبدأ اللغات البتّة ، وذكر إمام الحرمين الاختلاف في الجواز ، ثم قال : إن الوقوع لم يثبت وتبعه القشيري وغيره.
قال التاج السبكي في" شرح منهاج البيضاوي" : الوضع عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أطلق الأوّل فهم منه الثاني.
قال : وهذا تعريف سديد ؛ فإنك إذا أطلقت قولك : (قام زيد) فهم منه صدور القيام منه.
قال : فإن قلت : مدلول قولنا : (قام زيد) صدور قيامه سواء أطلقنا هذا اللّفظ أم لم نطلقه ، فما وجه قولكم : بحيث إذا أطلق؟
قلت : الكلام قد يخرج عن كونه كلاما ، وقد يتغيّر معناه بالتّقييد فإنك إذا قلت : (قام الناس) اقتضى إطلاق هذا اللفظ إخبارك بقيام جميعهم.
فإذا قلت : (إن قام الناس) خرج عن كونه كلاما بالكليّة ، فإذا قلت : (قام الناس إلّا زيدا) لم يخرج عن كونه كلاما ، ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدا.
فعلم بهذا أن لإفادة (قام الناس) الإخبار بقيام جميعهم شرطين :
أحدهما : ألّا تبتدئه بما يخالفه.
والثاني : ألا تختمه بما يخالفه.
ص: 19
وله شرط ثالث أيضا وهو أن يكون صادرا عن قصد فلا اعتبار بكلام النائم والساهي ، فهذه ثلاثة شروط لا بدّ منها وعلى السامع التنبّه لها.
فوضح بهذا أنك لا تستفيد قيام الناس من قوله : (قام الناس) إلّا بإطلاق هذا القول فلذلك اشترطنا ما ذكرناه.
فإن قلت : من أين لنا اشتراط ذلك واللفظ وحده كاف في ذلك ؛ لأن الواضع وضعه لذلك؟
قلت : وضع الواضع له معناه أنه جعله مهيّأ لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلّم على الوجه المخصوص ، والمفيد في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظ كالآلة الموضوعة لذلك.
فإن قلت : لو سمعنا (قام الناس) ولم نعلم من قائله هل قصده أم لا؟ وهل ابتدأه أو ختمه بما يغيّره أو لا؟ هل لنا أن نخبر عنه بأنه قال : قام الناس؟
قلت : فيه نظر ؛ يحتمل أن يقال بجوازه لأن الأصل عدم الابتداء والختم بما يغيّره ويحتمل أن يقال : لا يجوز لأن العمدة ليس هو اللفظ ، ولكنّ الكلام النفساني القائم بذات المتكلم وهو حكمه واللفظ دليل عليه مشروط بشروط ولم تتحقّق.
ويحتمل أن يقال : إن العلم بالقصد لا بدّ منه لأنه شرط والشكّ في الشرط يقتضي الشّكّ في المشروط والعلم بعدم الابتداء والختم بما يخالفه لا يشترط لأنهما مانعان ، والشكّ في المانع لا يقتضي الشك في الحكم لأن الأصل عدمه.
قال : واختار والدي - رحمه الله - أنه لا بدّ من أن يعلم الثلاثة. انتهى.
قال الزّركشيّ في" البحر المحيط" : قال أبو الفضل بن عبدان في" شرائط الأحكام" وتبعه الجيلي في" الإعجاز" : لا تلزم اللغة إلّا بخمس شرائط :
أحدها - ثبوت ذلك عن العرب بسند صحيح يوجب العمل.
والثاني - عدالة الناقلين كما تعتبر عدالتهم في الشّرعيات.
ص: 20
والثالث - أن يكون النقل عمّن قوله حجة في أصل اللغة كالعرب العاربة مثل قحطان ومعدّ وعدنان فأما إذا نقلوا عمّن بعدهم بعد فساد لسانهم واختلاف المولّدين فلا.
قال الزركشي : ووقع في كلام الزمخشري وغيره الاستشهاد بشعر أبي تمام بل في الإيضاح للفارسي ، ووجّه بأنّ الاستشهاد بتقرير النّقلة كلامهم وأنه لم يخرج عن قوانين العرب.
وقال ابن جنّي : يستشهد بشعر المولّدين في المعاني كما يستشهد بشعر العرب في الألفاظ.
والرابع - أن يكون الناقل قد سمع منهم حسّا وأمّا بغيره فلا.
والخامس - أن يسمع من الناقل حسّا. انتهى.
وقال ابن جنّي في" الخصائص" : من قال : إن اللغة لا تعرف إلّا نقلا فقد أخطأ ؛ فإنها قد تعلم بالقرائن أيضا فإن الرجل إذا سمع قول الشاعر : [البسيط]
قوم إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم
طاروا إليه زرافات ووحدانا
يعلم أن الزرافات بمعنى الجماعات.
وقال عبد اللطيف البغدادي في شرح الخطب النباتية : اعلم أن اللّغوي شأنه أن ينقل ما نطقت به العرب ولا يتعدّاه ، وأما النّحوي فشأنه أن يتصرّف فيما ينقله اللّغوي ، ويقيس عليه ومثالهما المحدّث والفقيه ، فشأن المحدّث نقل الحديث برمّته ، ثم إن الفقيه يتلقّاه ويتصرّف فيه ويبسط فيه علله ويقيس عليه الأمثال والأشباه.
قال أبو علي فيما حكاه ابن جنّي : يجوز لنا أن نقيس منثورنا على منثورهم وشعرنا على شعرهم.
قال ابن فارس في" فقه اللغة" : باب القول على لغة العرب ، وهل يجوز أن يحاط بها؟
قال بعض الفقهاء : كلام العرب لا يحيط به إلّا نبيّ.
ص: 21
قال ابن فارس : وهذا كلام حريّ أن يكون صحيحا ، وما بلغنا أن أحدا ممن مضى ادّعى حفظ اللغة كلّها ، فأما الكتاب المنسوب إلى الخليل ، وما في خاتمته من قوله : هذا آخر كلام العرب ، فقد كان الخليل أورع وأتقى لله تعالى من أن يقول ذلك.
وقد سمعت عليّ بن محمد بن مهرويه يقول : سمعت هارون بن هزاري يقول : سمعت سفيان بن عيينة يقول : من أحبّ أن ينظر إلى رجل خلق من الذّهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد.
وأخبرني أبو داود سليمان بن يزيد عن ذلل المصاحفي عن النّضر بن شميل قال : كنا نميّل بين ابن عون والخليل بن أحمد أيهما نقدّم في الزهد والعبادة فلا ندري أيهما نقدّم؟
قال : وسمعت النضر بن شميل يقول : ما رأيت أحدا أعلم بالسّنّة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد.
قال : وسمعت النضر يقول : أكلت الدنيا بأدب الخليل وكتبه وهو في خصّ لا يشعر به.
قال ابن فارس : فهذا مكان الخليل من الدّين ، أفتراه يقدم على أن يقول : هذا آخر كلام العرب؟!
ثم إن في الكتاب الموسوم به من الإخلال ما لا خفاء به على علماء اللغة ، ومن نظر في سائر الأصناف الصحيحة علم صحّة ما قلناه. انتهى كلام ابن فارس.
وهذا الذى نقله عن بعض الفقهاء نصّ عليه الإمام الشافعى رضي الله عنه فقال في أوائل الرسالة : لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا ، ولا نعلم أن يحيط بجميع علمه إنسان غير نبيّ ، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامّتها حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه ، والعلم به عند العرب كالعلم بالسّنة عند أهل الفقه ، لا يعلم رجل جميع السنن فلم يذهب منها عليه شيء ، وإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السّنن ، وإذا فرّق علم كلّ واحد منهم ذهب عليه الشيء منها ، ثم ما ذهب منها عليه موجود عند غيره ، وهم في العلم طبقات منهم الجامع لأكثره وإن ذهب عليه بعضه ، ومنهم الجامع لأقلّ مما جمع غيره ، وليس قليل ما ذهب من السّنن على من جمع أكثرها ، دليلا على أن يطلب علمه عند غير أهل طبقته من أهل
ص: 22
العلم بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله - بأبي هو وأمي - ، فتفرّد جملة العلماء بجملتها وهم درجات فيما وعوا منها.
وهذا لسان العرب عند خاصّتها وعامتها لا يذهب منه شيء عليها ولا يطلب عند غيرها ولا يعلمه إلّا من قبله منها ، ولا يشركها فيه إلّا من اتّبعها وقبله منها فهو من أهل لسانها وعلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعمّ من علم أكثر السّنن في العلماء. هذا نص الشّافعي بحروفه.
وقال ابن فارس في موضع آخر : باب القول على أن لغة العرب لم تنته إلينا بكلّيتها وأن الذي جاءنا عن العرب قليل من كثير ، وأن كثيرا من الكلام ذهب بذهاب أهله.
ذهب علماؤنا أو أكثرهم إلى أنّ الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلّ ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاءنا شعر كثير وكلام كثير ، وأحر بهذا القول أن يكون صحيحا ؛ لأنّا نرى علماء اللّغة يختلفون في كثير مما قالته العرب ، فلا يكاد واحد منهم يخبر عن حقيقة ما خولف فيه ، بل يسلك طريق الاحتمال والإمكان ، ألا ترى أنّا نسألهم عن حقيقة قول العرب في الإغراء : كذبك كذا. وعما جاء في الحديث من قوله صلّى الله عليه وسلّم : " كذب عليكم الحجّ". وكذبك العسل.
وعن قول القائل : [الطويل]
كذبت عليكم أوعدوني وعلّلوا
بي الأرض والأقوام قردان موظبا
وعن قول الآخر : [الكامل]
كذب العتيق وماء شنّ بارد
إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي
ونحن نعلم أن قول : (كذب) يبعد ظاهره عن باب الإغراء.
وكذلك قولهم : عنك في الأرض ، وعنك شيئا.
وقول الأفوه : [الرمل]
عنكم في الأرض إنّا مذحج
ورويدا يفضح الليل النهار
ص: 23
ومن ذلك قولهم : أعمد من سيّد قتله قومه. أي : هل زاد على هذا ، فهذا من مشكل الكلام الذي لم يفسّر بعد ، وقال ابن ميّادة : [الطويل]
وأعمد من قوم كفاهم أخوهم
صدام الأعادي حين فلّت نيوبها
قال الخليل وغيره : معناه : هل زدنا على أن كفينا إخواننا.
وقال أبو ذؤيب : [الكامل]
صخب الشّوارب لا يزال كأنّه
عبد لآل أبي ربيعة مسبع
فقوله : (مسبع) ما فسّر حتى الآن تفسيرا شافيا.
ومن هذا الباب قولهم : يا عيد مالك ويا هيء مالك ويا شيء مالك.
ولم يفسّروا قولهم : صه ، وويهك ، وإنيه.
ثم قال : قال : وعلماء هذه الشريعة وإن كانوا اقتصروا من علم هذا على معرفة رسمه دون علم حقائقه ، فقد اعتاضوا عنه دقيق الكلام في أصول الدّين وفروعه من الفقه والفرائض ، ومن دقيق النحو وجليله ، ومن علم العروض الذي يربأ بحسنه ودقّته واستقامته على كل ما تبجّح به الناسبون أنفسهم إلى الفلسفة ، ولكلّ زمان علم وأشرف العلوم علوم زماننا ، هذا ولله الحمد. هذا كلّه كلام ابن فارس.
الكلمة : حروف الهجاء تسعة وعشرون حرفا ، (وهى : أ - ب - ت - ث - ج ...) وكل واحد منها رمز مجرد لا يدل إلا على نفسه ، ما دام مستقلا لا يتصل بحرف آخر. فإذا اتصل بحرف أو أكثر ، نشأ من هذا الاتصال ما يسمى : " الكلمة". فاتصال الفاء بالميم - مثلا - يوجد كلمة : " فم" ، واتصال العين بالياء فالنون ، يوجد كلمة : " عين" ، واتصال الميم بالنون فالزاى فاللام ، يحدث كلمة : " منزل" ... وهكذا تنشأ الكلمات الثنائية ، والثلاثية ، والرباعية - وغيرها - من انضمام بعض حروف الهجاء إلى بعض.
ص: 24
وكل كلمة من هذه الكلمات التى نشأت بالطريقة السالفة تدل على معنى ؛ لكنه معنى جزئى ؛ أى : مفرد ؛ فكلمة : " فم" حين نسمعها ، لا نفهم منها أكثر من أنها اسم شىء معين. أما حصول أمر من هذا الشىء ، أو عدم حصوله ... ، أما تكوينه ، أو وصفه ، أو دلالته على زمان أو مكان ، أو معنى آخر - فلا نفهمه من كلمة : " فم" وحدها. وكذلك الشأن فى كلمة : " عين" ، و" منزل" وغيرهما من باقى الكلمات المفردة.
ولكن الأمر يتغير حين نقول : (الفم مفيد) - (العين نافعة) - (المنزل واسع النواحى) ، فإن المعنى هنا يصير غير جزئى ؛ أى : غير مفرد ؛ لأن السامع يفهم منه فائدة وافية إلى حدّ كبير ، بسبب تعدد الكلمات ، وما يتبعه من تعدد المعانى الجزئية ، وتماسكها ، واتصال بعضها ببعض اتصالا ينشأ عنه معنى مركب. فلا سبيل للوصول إلى المعنى المركب إلا من طريق واحد ؛ هو :اجتماع المعانى الجزئية بعضها إلى بعض ، بسبب اجتماع الألفاظ المفردة.
ومن المعنى المركب تحدث تلك الفائدة التى يستطيع المتكلم أن يسكت بعدها ، ويستطيع السامع أن يكتفى بها.
وهذه الفائدة - وأشباهها - وإن شئت فقل : هذا المعنى المركب ، هو الذى يهتم به النحاة ، ويسمونه بأسماء مختلفة ، المراد منها واحد ؛ فهو : (المعنى المركب) ، أو (المعنى التام) ، أو (المعنى المفيد) ، أو (المعنى الذى يحسن السكوت عليه).
يريدون : أن المتكلم يرى المعنى قد أدى الغرض المقصود فيستحسن الصمت ، أو : أن السامع يكتفى به ؛ فلا يستزيد من الكلام. بخلاف المعنى الجزئى ، فإن المتكلم لا يقتصر عليه فى كلامه ؛ لعلمه أنه لا يعطى السامع الفائدة التى ينتظرها من الكلام. أو : لا يكتفى السامع بما فهمه من المعنى الجزئى ، وإنما يطلب المزيد. فكلاهما إذا سمع كلمة منفردة مثل : باب ، أو :ريحان ، أو : سماء ، أو : سواها ... لا يقنع بها.
لذلك لا يقال عن الكلمة الواحدة إنها تامة الفائدة ، برغم أن لها معنى جزئيّا لا تسمى (كلمة) بدونه ؛ لأن الفائدة التامة لا تكون بمعنى جزئى واحد.
ص: 25
مما تقدم نعلم أن الكلمة هى : (اللفظة الواحدة التى تتركب من بعض الحروف الهجائية ، وتدل على معنى جزئى ؛ أى : مفرد). فإن لم تدل على معنى عربى وضعت لأدائه فليست كلمة ، وإنما هى مجرد صوت.
الكلام أو الجملة هو : (ما تركب من كلمتين أو أكثر ، وله معنى مفيد مستقل). مثل : أقبل ضيف. فاز طالب نبيه. لن يهمل عاقل واجبا ...
فلا بد فى الكلام من أمرين معا ؛ هما : التركيب ، والإفادة المستقلة ، فلو قلنا : (أقبل) فقط ، أو : (فاز) فقط ، لم يكن هذا كلاما ؛ لأنه غير مركب.
ولو قلنا : أقبل صباحا ... أو : فاز فى يوم الخميس ... أو : لن يهمل واجبه ... ، لم يكن هذا كلاما أيضا ؛ لأنه - على رغم تركيبه - غير مفيدة فائدة يكتفى بها المتكلم أو السامع ...
وليس من اللازم فى التركيب المفيد أن تكون الكلمتان ظاهرتين فى النطق ؛ بل يكفى أن تكون إحداهما ظاهرة ، والأخرى مستترة ؛ كأن تقول للضيف : تفضل. فهذا كلام مركب من كلمتين ؛ إحداهما ظاهرة ، وهى : تفضل ، والأخرى مستترة ، وهى : أنت. ومثل : تفضل ، أسافر ... أو : نشكر أو : تخرج ... وكثير غيرها مما يعد فى الواقع كلاما ، وإن كان ظاهره أنه مفرد.
الكلم هو : ما تركب من ثلاث كلمات فأكثر ؛ سواء أكان لها معنى مفيد ، أم لم يكن لها معنى مفيد. فالكلم المفيد مثل : النيل ثروة مصر ، القطن محصول أساسى فى بلادنا. وغير المفيد مثل : إن تكثر الصناعات.
القول : هو كل لفظ نطق به الإنسان ؛ سواء أكان لفظا مفردا أم مركبا ، وسواء أكان تركيبه مفيدا أم غير مفيد. فهو ينطبق على : (الكلمة) كما ينطبق على : (الكلام) وعلى : (الكلم).
فكل نوع من هذه الثلاثة يدخل فى نطاق : (القول) ويصح أن يسمى : (قولا) على الصحيح ، وقد سبقت الأمثلة. كما ينطبق أيضا على كل تركيب آخر يشتمل على كلمتين لا تتم بهما الفائدة ؛ مثل : إن مصر ... أو : قد حضر ... أو : هل أنت. أو : كتاب علىّ ... فكل تركيب من هذه التراكيب لا يصح أن يسمى : (كلمة) ؛ لأنه ليس لفظا مفردا ، ولا يصح أن يسمى :
ص: 26
(كلاما) ؛ لأنه ليس مفيدا. ولا : (كلما) ؛ لأنه ليس مؤلفا من ثلاث كلمات ؛ وإنما يسمى :(قولا).
ويقول أهل اللغة : إن (الكلمة) واحد : (الكلم). ولكنها قد تستعمل أحيانا بمعنى :(الكلام) ؛ فتقول : حضرت حفل تكريم الأوائل ؛ فسمعت (كلمة) رائعة لرئيس الحفل ، و (كلمة) أخرى لأحد الحاضرين ، و (كلمة) ثالثة من أحد الأوائل يشكر المحتفلين. ومثل :اسمع منى" كلمة" غالية ؛ وهى :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
فالمراد بالكلمة فى كل ما سبق هو : (الكلام) ، وهو استعمال فصيح ، يشيع على ألسنة الأدباء وغيرهم.
وللكلمة ثلاثة أقسام ، اسم. وفعل ، وحرف.
الاسم : كلمة تدل بذاتها على شىء محسوس ، - مثل : نحاس ، بيت ، جمل ، نخلة ، عصفورة ، محمد ... ، أو شىء غير محسوس ، يعرف بالعقل ؛ مثل : شجاعة ، مروءة ، شرف ، نبل ، نبوغ ... وهو فى الحالتين لا يقترن بزمن.
علاماته : أهمها خمسة ، إذا وجدت واحدة منها كانت دليلا على أن الكلمة (اسم).
العلامة الأولى : الجر ؛ فإذا رأينا كلمة مجرورة لداع من الدواعى النحوية ، عرفنا أنها اسم ؛ مثل : كنت فى زيادة صديق كريم. فكلمة : (زيارة) اسم ؛ لأنها مجرورة بحر الجر (فى) ، وكلمة : (صديق) اسم ؛ لأنها مجرورة ؛ إذ هى (مضاف إليه) ، وكلمة : (كريم) اسم ؛ لأنها مجرورة بالتبعية لما قبلها ؛ فهى نعت لها.
العلامة الثانية : التنوين ؛ فمن الكلمات ما يقتضى أن يكون فى آخره ضمتان ، أو فتحتان ، أو كسرتان ؛ مثل : جاء حامد ، رأيت حامدا ، ذهبت إلى حامد ، طار عصفور جميل ، شاهدت عصفورا جميلا ، استمعت إلى عصفور جميل ... وهذه الكلمات لا تكون إلا أسماء.
ص: 27
وكان الأصل أن تكتب هى وأشباهها كما يكتبها علماء العروض هكذا : حامدن ، حامدن ، حامدن. عصفورن جميلن ... عصفورن جميلن ... عصفورن جميلن ... أى : بزيادة نون ساكنة فى آخر الكلمة ؛ تحدث رنينا خاصّا ؛ وتنغيما عند النطق بها. ولهذا يسمونها : (والتنوين) أى :التصويت والترنيم ؛ لأنها سببه. ولكنهم عدلوا عن هذا الأصل ، ووضعوا مكان (النون) رمزا مختصرا يغنى عنها ، ويدل - عند النطق به - على ما كانت تدل عليه ؛ وهذا الرّمز هو : الضمة الثانية ، والفتحة الثانية ، والكسرة الثانية ... على حسب الجمل ... ويسمونه : (التنوين) ، كما كانوا يسمون النون السالفة ، واستغنوا بها الرمز المختصر عن (النون) ؛ فحذفوها فى الكتابة ، ولكنها لا تزال ملحوظة ينطق بها عند وصل بعض الكلام ببعض ، دون الوقف.
ومما تقدم نعلم : أن التنوين نون ساكنة ، زائدة. تلحق آخر الأسماء لفظا ، لا خطا ولا وقفا.
العلامة الثالثة : أن تكون الكلمة مناداة ، مثل : يا محمد ، ساعد الضعيف. يا فاطمة ، أكرمى أهلك. فنحن ننادى محمدا ، وفاطمة. وكل كلمة نناديها اسم ، ونداؤها علامة اسميتها.
العلامة الرابعة : أن تكون الكلمة مبدوءة ب (أل) مثل : العدل أساس الملك.
العلامة الخامسة : أن تكون الكلمة منسوبا إليها - أى : إلى مدلولها - حصول شىء ، أو عدم حصوله ، أو مطلوبا منها إحداثه ، مثل : علىّ سافر. محمود لم يسافر. سافر يا سعيد. فقد تحدثنا عن (علىّ) بشىء نسبناه إليه. هو : السفر ، وتحدثنا عن (محمود) بشىء نسبناه إليه ؛ هو عدم السفر ، وطلبنا من (سعيد) السفر. فالحكم بالسفر ، أو بعدمه ، أو بغيرهما ، من كل ما تتم به الفائدة الأساسية يسمى : إسنادا ، وكذلك الحكم بطلب شىء من إنسان أو غيره ...
فالإسناد هو : (إثبات شىء لشىء ، أو نفيه عنه ، أو طلبه منه).
هذا ، واللفظ الذى نسب إلى صاحبه فعل شىء أو عدمه أو طلب منه ذلك ، يسمى : (مسندا إليه) ، أى : منسوبا إليه الفعل ، أو الترك ، أو طلب منه الأداء. أما الشىء الذى حصل ووقع ، أو لم يحصل ولم يقع ، أو طلب حصوله - فيسمى : (مسندا) ، ولا يكون المسند إليه اسما.
والإسناد هو العلامة التى دلت على أن المسند إليه اسم.
ص: 28
(أ) فهم الطالب. سافر الرحالة. رجع الغائب.
كل كلمة من الكلمات : (فهم ، سافر ، رجع) تدل بنفسها مباشرة من غير حاجة إلى كلمة أخرى على أمرين :
أولهما : معنى ندركه بالعقل ؛ وهو : الفهم ، أو : السفر ، أو الرجوع ، ويسمى : الحدث.
وثانيهما : زمن حصل فيه ذلك المعنى ، أى : ذلك الحدث. وانتهى قبل النطق بتلك الكلمة ؛ فهو زمن قد فات ، وانقضى قبل الكلام.
(ب) وإذا غيرنا صيغة تلك الكلمات فقلنا : (يفهم. يسافر. يرجع) دلت الكلمة فى صيغتها الجديدة على الأمرين أيضا ؛ المعنى الحدث والزمن. ولكن الزمن هنا لم يكن قد فات وانقضى ؛ وإنما هو زمن صالح للحال ، والاستقبال.
(ح) وإذا غيرنا الصيغة مرة أخرى فقلنا : (افهم ، سافر ، ارجع) دلت كل واحدة على الأمرين ؛ المعنى (الحدث) وهو : طلب الفهم ، أو : طلب السفر ، أو : طلب الرجوع. والزمن الذى يتحقق فيه الطلب. والزمن هنا مقصور على المستقبل وحده ؛ لأن الشىء الذى يطلبه إنسان من آخر لا يحصل ولا يقع إلا بعد الطلب وانتهاء الكلام ؛ أى : لا يقع إلا فى المستقبل ...
فكل واحدة من تلك الكلمات وأشباهها تسمى : فعلا.
فالفعل : كلمة تدل على أمرين معا ؛ هما : معنى ، أى : حدث ، وزمن يقترن به.
وأقسامه ثلاثة : ماض ، وهو : كلمة تدل على مجموع أمرين ؛ معنى ، وزمن فات قبل النطق بها. ومن أمثلته قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان : 61].
ومضارع : وهو : كلمة تدل على أمرين معا : معنى ، وزمن صالح للحال والاستقبال.
كقوله تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) [البقرة : 263] ، ولا بد أن يكون مبدوءا بالهمزة ، أو النون ، أو التاء ، أو الياء ... وتسمّى هذه الأحرف : (أحرف
ص: 29
المضارعة). وفتحها واجب ، إلا فى المضارع الرباعىّ فتضمّ ، وكذا فى : المضارع المبنى للمجهول. أما المضارع : (إخال) فالأفصح كسر همزته لا فتحها.
وأمر ، وهو : كلمة تدل بنفسها على أمرين مجتمعين : معنى ، وهذا المعنى مطلوب تحقيقه فى زمن مستقبل كقوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : 35] ، ولا بد فى فعل الأمر أن يدل بنفسه مباشرة على الطلب من غير زيادة على صيغته ؛ فمثل (لتخرج) ، ليس فعل أمر ؛ بل هو فعل مضارع ، مع أنه يدل على طلب شىء ليحصل فى المستقبل ؛ لأن الدلالة على الطلب جاءت من لام الأمر التى فى أوله ، لا من صيغة الفعل نفسها.
وقد اجتمعت الأفعال الثلاثة فى قوله تعالى : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) [الأحزاب : 48] ، وقول الشاعر :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمو
فطالما استعبد الإنسان إحسان
الحرف ، معناه :من ، فى ، على ، لم ، إن ، إنّ ، حتى.
لا تدل كلمة من الكلمات السابقة على معنى ، أىّ معنى ، ما دامت منفردة بنفسها. لكن إذا وضعت فى كلام ظهر لها معنى لم يكن من قبل ، مثال ذلك : (سافرت" من" القاهرة) ... فهذه جملة ؛ المراد منها : الإخبار بوقوع سفرى ، وأنه يبتدئ من القاهرة. فكأنى أقول : سافرت ، وكانت نقطة البدء فى السفر هى : (القاهرة) ، فكلمة : (من) أفادت الآن معنى جديدا ظهر على ما بعدها وهذا المعنى هو : الابتداء ، لم يفهم ولم يحدد إلا بوضعها فى جملة ؛ فلهذه الجملة الفضل فى إظهار معنى : (من).
ولو قلت : سافرت من القاهرة" إلى" العراق - لصار معنى هذه الجملة : الإخبار بسفرى الذى ابتداؤه
القاهرة ، ونهايته العراق. فكلمة : (إلى) أفادت معنى ظهر هنا على ما بعدها ؛ وهذا المعنى هو الانتهاء. ولم يظهر وهى منفردة ، وإنما ظهر بعد وضعها فى جملة ؛ كانت السبب فى إظهاره.
ص: 30
وكذلك : حضرت من البيت إلى النهر ؛ فقد أفادت الجملة كلها الإخبار بحضورى ، وأن أول هذا الحضور وابتداءه : (البيت) ، وأن نهايته وآخره : (النهر). فأفادت : (إلى) الانتهاء ، وصبّته على ما بعدها. وهذا الانتهاء لم يفهم منها إلا بسبب التركيب الذى وضعت فيه.
ص: 31
(000 - 316 ه) (000 - 929 م)
هو : محمد بن السري بن سهل البغدادي ، أبو بكر : المشهور ب (ابن السراج). أديب نحوي لغوي ، من أهل بغداد.
أخذ عن المبرد وهو من أكابر أصحابه ، وقرأ عليه كتاب سيبويه في النحو.
وأخذ عنه العلم :
1 - عبد الرحمن الزجاجي.
2 - وأبو سعيد السيرافي.
3 - وأبو علي الفارسي.
4 - وعلي بن عيسى الرمان.
- قال الذهبي : إمام النحو ، وقال : له شعر رائق ، وكان مكبا على الغناء ، واللذة ، هوي ابن يانس المطرب ، وله أخبار سامحه الله.
- قال الفيروزآبادي : أحد العلماء المشهورين باللغة والنحو والأدب.
- وقال الزركلي : أحد أئمة الأدب والعربية. وكان يلثغ بالراء فيجعلها غينا. ويقال : ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله. وكان عارفا بالموسيقى.
- عول على مسائل الأخفش والكوفيين ، وخالف أصول البصريين في مسائل كثيرة.
منه ما قاله في أم ولده وكان يحبها ، وأنفق عليها ماله وجفته :
قايست بين جمالها وفعالها
فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي
حلفت لنا ألا تخون عهودنا
فكأنما حلفت لنا ألا تفي
ص: 32
والله لا كلمتها ولو أنها
كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي
مات شابا في ذي الحجة ، سنة 316 ه.
1 - الأصول في النحو (كتابنا هذا).
2 - و (شرح كتاب سيبويه في النحو).
3 - و (الشعر والشعراء).
4 - و (الخط والهجاء).
5 - و (المواصلات والمذكرات). في الأخبار.
6 - و (الموجز في النحو - ط).
7 - و (العروض - خ).
8 - و (احتجاج القراء في القراءة).
9 - و (جمل الأصول).
10 - و (الاشتقاق).
11 - وكتاب (الرياح والهواء).
1 - طبقات النحويين واللغويين : 112 - 114.
2 - فهرست ابن النديم : 93.
3 - تاريخ بغداد : 5 - 320.
4 - الأنساب : 295 / أ.
5 - نزهة الألباء : 249 - 250.
6 - المنتظم : 6.
ص: 33
7 - معجم الأدباء : 18 - 201.
8 - الكامل في التاريخ : 8 ، 199 315 - 316.
9 - إنباه الرواة : 3 145.
10 - سير أعلام النبلاء 14.
11 - وفيات الأعيان : 4 - 340.
12 - العبر 2.
13 - الوافي بالوفيات : 3.
14 - مرآة الجنان : 2.
ص: 34
قمنا بالاستعانة بالله سبحانه وتعالى بالقيام بالتالي في تحقيقنا للكتاب :
1 - الرجوع إلى نسخة خطية للكتاب وهي من الخزانة العامة بالرباط وتقع في 362 ورقة ، ومتوسط عدد الأسطر في كل ورقة (13) سطرا ، وهي نسخة جيدة ، كتبت بقلم نسخي نفيس ، قد تعود إلى القرن السابع ، وعلى حواشيها بعض التصحيحات والتعليقات التي أفادتنا كثيرا في تحقيقنا لهذا الكتاب.
2 - مطابقة نص الكتاب مرتين مطابقة دقيقة.
3 - الاهتمام بضبط النص وتقويمه ، ووضع علامات الترقيم المناسبة.
4 - تخريج الآيات القرآنية والدلالة على مواضعها من المصحف الشريف.
5 - ضبط الشعر ضبطا كاملا.
6 - التعليق على ما يشكل أو يلبس فهمه.
7 - التعليق على بعض المواضع التي تحتاج إلى شرح أو إيضاح أو بسط.
8 - التعليق على بعض أبيات الشواهد وشرحها ، وبيان موضع الشاهد منها ونظرائها.
9 - صنع فهارس بأبواب الكتاب.
هذا هو جهد المقل ، وإني أسأل الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وفقت في إخراج هذا الكتاب ، ونسأل الله تعالى النفع به ، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم تسليما كثيرا.
ص: 35
الصورة
ص: 36
الصورة
ص: 37
الصورة
ص: 38
بسم الله الرّحمن الرّحيم
قال أبو بكر محمد بن السري النحوي :
النحو (1) إنما أريد به أن ينحو المتكلم إذا تعلمه كلام العرب ، وهو علم استخرجه المتقدمون فيه من استقراء كلام العرب حتى وقفوا منه على الغرض الذي قصده المبتدئون بهذه اللغة ، فباستقراء [كلامهم ما علم](2) أن الفاعل رفع ، والمفعول به نصب ، وأنّ فعل مما عينه ياء أو واو تقلب عينه من قولهم : [قام وباع](3).
واعتلالات النحويين على ضربين :
1 - ضرب منها هو المؤدي إلى كلام العرب [كقولنا : كل فاعل مرفوع](4).
ص: 39
2 - وضرب آخر يسمى : علّة العلة ، مثل أن يقولوا : لم صار الفاعل مرفوعا والمفعول به منصوبا [والمضاف إليه مجرورا](1) ، ولم إذا تحركت الياء والواو وكان ما قبلهما مفتوحا قلبتا ألفا ، وهذا ليس يكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب ، وإنما تستخرج منه حكمتها في الأصول التي وضعتها ، ويبيّن بها فضل هذه اللغة على غيرها من اللغات ، وقد وفّر الله تعالى من الحكمة [بحفظها](2) ، وجعل فضلها غير مدفوع.
وغرضي في هذا الكتاب [ذكر](3) العلة التي إذا طردت (4) وصل بها إلى كلامهم فقط ، وذكر الأصول والشائع لأنه كتاب إيجاز.
ص: 40
الاسم (2) : ما دل على معنى مفرد ، وذلك المعنى يكون شخصا وغير شخص.
فالشخص نحو : رجل ، وفرس ، وحجر ، وبلد ، [وعمر](3) ، وبكر.
وأما ما كان غير شخص فنحو : الضرب ، والأكل ، والظن ، والعلم ، واليوم ، والليلة ، والساعة.
وإنما قلت : (ما دل على معنى مفرد) [لأن الفرق](4) بينه وبين الفعل إذا كان الفعل يدل على معنى وزمان ، وذلك الزمان إما ماض وإما حاضر وإما مستقبل.
فإن قلت : إن في [الأسماء](5) مثل اليوم والليلة والساعة وهذه أزمنة ، فما الفرق بينها وبين الفعل؟
ص: 41
قلنا : الفرق أن الفعل ليس هو زمانا فقط كما أن اليوم زمان فقط ، فاليوم معنى مفرد للزمان ، ولم يوضع مع ذلك لمعنى آخر ، ومع ذلك أن الفعل قد قسم بأقسام الزمان الثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل ؛ فإذا كانت اللفظة تدل على زمان فقط فهي اسم ، وإذا دلت على معنى وزمان محصّل فهي فعل ، وأعني بالمحصّل : الماضي والحاضر والمستقبل.
ولما كنت لم أعمل هذا الكتاب للعالم دون المتعلم احتجت إلى أن أذكر ما يقرب على المتعلم.
فالاسم تخصه أشياء يعتبر بها ؛ منها أن يقال : أن الاسم ما جاز أن يخبر عنه نحو قولك : عمرو منطلق ، وقام بكر.
والفعل (1) : ما كان خبرا ، ولا يجوز أن يخبر عنه نحو قولك : أخوك يقوم ، وقام أخوك ، فيكون حديثا عن الأخ ، ولا يجوز أن تقول : ذهب يقوم ، ولا يقوم يجلس.
والحروف (2) : ما لا يجوز أن يخبر عنها ، ولا يجوز أن تكون خبرا نحو : من وإلى.
والاسم قد يعرف أيضا بأشياء كثيرة منها دخول الألف واللام اللتين للتعريف عليه نحو : الرجل ، والحمار ، والضرب ، والحمد ، فهذا لا يكون في الفعل ، ولا تقول : اليقوم ولا اليذهب.
ص: 42
ويعرف أيضا بدخول حرف الخفض عليه ، نحو : مررت بزيد ، وبأخيك ، وبالرجل. ولا يجوز أن تقول : مررت بيقوم ، ولا ذهبت إلى قام.
ويعرف أيضا بامتناع قد وسوف من الدخول عليه ، ألا ترى أنك لا تقول : قد الرجل ، ولا سوف الغلام ، إلا أن هذا ليس خاصا بالاسم فقط.
ولكن قد [تمتنع](1) سوف وقد من الدخول على الحروف ، ومن الدخول على فعل الأمر [والنهي](2) إذا كان بغير لام نحو : اضرب واقتل ، لا يجوز أن تقول : قد اضرب الرجل ، ولا سوف اقتل الأسد.
والاسم أيضا ينعت والفعل لا ينعت ، وكذلك الحرف لا ينعت ، تقول : مررت برجل عاقل. ولا تقول : يضرب عاقل ، فيكون (العاقل) صفة ل- (يضرب).
والاسم يضمر ويكنى عنه تقول : زيد ضربته ، والرجل لقيته.
والفعل لا يكنى عنه فتضمره ، لا تقول : (يقوم ضربته) ، ولا (أقوم تركته) إلا أن هذه الأشياء ليس يعرف بها كل اسم ، وإنما يعرف بها الأكثر ، ألا ترى أن المضمرات والمكنيّات أسماء ، ومن الأسماء ما لا يكنى عنه ، وهذا يبيّن في موضعه إن شاء الله.
ومما يقرّب [به](3) على المتعلم أن يقال له : كل ما صلح أن يكون معه (يضرّ وينفع) فهو اسم ، وكل ما لا يصلح معه (يضرّ وينفع) فليس باسم ، تقول : (الرجل ينفعني والضرب يضرني) ، ولا تقول : (يضرب ينفعني) ولا (يقوم يضرني).
ص: 43
الفعل : ما دل على معنى وزمان ، وذلك الزمان إما ماض وإما حاضر وإما مستقبل.
وقلنا : (وزمان) لنفرق بينه وبين الاسم الذي يدل على معنى فقط.
فالماضي (1) كقولك : (صلى زيد) يدل على أن الصلاة كانت فيما مضى من الزمان والحاضر نحو قولك : (يصلي) يدل على الصلاة وعلى الوقت الحاضر.
والمستقبل نحو (سيصلي) يدل على الصلاة وعلى أن ذلك يكون فيما يستقبل.
والاسم إنما هو لمعنى مجرد من هذا الأوقات أو لوقت مجرد من هذه الأحداث والأفعال وأعني بالأحداث التي يسميها النحويون المصادر نحو : الأكل والضرب والظن والعلم والشكر (2).
ص: 44
والأفعال التي يسميها النحويون (المضارعة) : هي التي في أوائلها الزوائد الأربع : الألف والتاء والياء والنون تصلح لما أنت فيه من الزمان ولما يستقبل نحو أكل وتأكل ويأكل ونأكل فجميع هذا يصلح لما أنت فيه من الزمان ولما يستقبل ولا دليل في لفظه على أي الزمانين تريد كما أنه لا دليل في قولك : رجل فعل كذا وكذا أي الرجال تريد حتى تبينه بشيء آخر فإذا قلت :سيفعل أو سوف يفعل دل على أنك تريد المستقبل وترك الحاضر على لفظه ؛ لأنه أولى به إذ كانت الحقيقة إنما هي للحاضر الموجود لا لما يتوقع أو قد مضى ولهذا ما ضارع عندهم الأسماء ومعنى ضارع : شابه ولما وجدوا هذا الفعل الذي في أوائله الزوائد الأربع يعم شيئين : المستقبل والحاضر كما يعم قولك : (رجل) زيدا وعمرا فإذا قلت : سيفعل أو سوف يفعل خص المستقبل دون الحاضر فأشبه الرجل إذا أدخلت الألف واللام عليه فخصصت به واحدا ممن له هذا الاسم فحينئذ يعلم المخاطب من تريد لأنك لا تقول : (الرجل) إلا وقد علم من تريد منهم أو كما أن الأسماء قد خصت بالخفض فلا يكون في غيرها كذلك خصت الأفعال بالجزم فلا يكون في غيرها.
وجميع الأفعال مشتقة من الأسماء التي تسمى مصادر كالضرب والقتل والحمد ألا ترى أن حمدت مأخوذ من الحمد و (ضربت) مأخوذ من الضرب وإنما لقب النحويون هذه الأحداث مصادر ؛ لأن الأفعال كأنها صدرت عنها.
وجميع ما ذكرت لك أنه يخص الاسم فهو يمتنع من الدخول على الفعل والحرف.
وما تنفرد به الأفعال دون الأسماء والأسماء دون الأفعال كثير يبين في سائر العربية إن شاء الله.
ص: 45
الحرف (1) : ما لا يجوز أن يخبر عنه كما يخبر عن الاسم ألا ترى أنك لا نقول : إلى منطلق كما تقول : (الرجل منطلق) ولا عن ذاهب كما تقول : (زيد ذاهب) ولا يجوز أن يكون خبرا لا تقول : (عمرو إلى) و (لا بكر عن) فقد بان أن الحرف من الكلم الثلاثة هو الذي لا يجوز أن تخبر عنه ولا يكون خبرا.
والحرف لا يأتلف منه مع الحرف كلام لو قلت : (أمن) تريد ألف الاستفهام (ومن) التي يجر بها لم يكن كلاما وكذلك لو قلت : ثم قد تريد (ثم) التي للعطف وقد التي تدخل على الفعل لم يكن كلاما ولا يأتلف من الحرف مع الفعل كلام لو قلت : أيقوم ولم تجد ذكر أحد ولم يعلم المخاطب أنك تشير إلى إنسان لم يكن كلاما ولا يأتلف أيضا منه مع الاسم كلام لو قلت : (أزيد) كان كلاما غير تام فأما (يا زيد) وجميع حروف النداء فتبين استغناء المنادي بحرف النداء وما يقوله النحويون : من أن ثم فعلا يراد تراه في باب النداء إن شاء الله.
والذي يأتلف منه الكلام (2) الثلاثة الاسم والفعل والحرف فالاسم قد يأتلف مع الاسم نحو قولك : (الله إلهنا) ويأتلف الاسم والفعل نحو : قام عمرو ولا يأتلف الفعل مع الفعل والحرف لا يأتلف مع الحرف فقد بان فروق ما بينهما.
ص: 46
واعلم أن الحرف لا يخلو من ثمانية مواضع إما أن يدخل على الاسم وحده مثل الرجل أو الفعل وحده مثل سوف أو ليربط اسما بإسم : جاءني زيد وعمرو أو فعلا بفعل أو مفعل باسم أو على كلام تام أو ليربط جملة بجملة أو يكون زائدا.
أما دخوله على الاسم وحده فنحو لام التعريف إذا قلت : الرجل والغلام فاللام أحدث معنى التعريف وقد كان رجل وغلام نكرتين.
أما دخوله على الفعل فنحو سوف والسين إذا قلت : سيفعل أو سوف يفعل فالسين وسوف بهما صار الفعل لما يستقبل دون الحاضر وقد بينا هذا.
وأما ربطه الاسم بالاسم فنحو قولك : جاء زيد وعمرو فالواو ربطت عمرا بزيد.
وأما ربطه الفعل بالفعل نحو قولك : قام وقعد وأكل وشرب.
وأما ربطه الاسم بالفعل فنحو : مررت بزيد ومضيت إلى عمرو.
وأما دخوله على الكلام التام والجمل فنحو قولك : أعمرو أخوك وما قام زيد ألا ترى أن الألف دخلت على قولك (عمرو أخوك) وكان خبرا فصيرته استخبارا وما دخلت على : قام زيد وهو كلام تام موجب فصار بدخولها نفيا.
وأما ربطه جملة بجملة فنحو قولك : إن يقم زيد يقعد عمرو وكان أصل الكلام يقوم زيد يقعد عمرو فيقوم زيد ليس متصلا بيقعد عمرو ولا منه في شيء فلما دخلت (إن) جعلت إحدى الجملتين شرطا والأخرى جوابا.
وأما دخوله زائدا فنحو قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : 159] والزيادة تكون لضروب سنبينها في موضعها إن شاء الله.
ص: 47
اعلم أنه إنما وقع التغيير من هذه الثلاثة في الاسم والفعل دون الحرف ؛ لأن الحروف أدوات تغير ولا تتغير فالتغيير الواقع فيهما على ضربين :
أحدهما : تغيير الاسم والفعل في ذاتهما وبنائهما فيلحقهما من التصاريف ما يزيل الاسم والفعل ونضد حروف الهجاء التي فيهما عن حاله.
وأما ما يلحق الاسم من ذلك فنحو التصغير (1) وجمع التكسير تقول في تصغير حجر : حجير فتضم الحاء وكانت مفتوحة وتحدث ياء ثالثة فقد غيرته وأزالته من وزن فعل إلى وزن (فعيل) وتجمعه فتقول : أحجار فتزيد في أوله همزة ولم تكن في الواحد وتسكن الحاء وكانت متحركة وتزيد ألفا ثالثة فتنقله من وزن فعل إلى وزن أفعال ، وأما ما يلحق الفعل فنحو : قام ويقوم وتقوم واستقام وجميع أنواع التصريف لاختلاف المعاني.
ص: 48
والضرب الثاني من التغيير : هو الذي يسمى الإعراب (1) وهو ما يلحق الاسم والفعل بعد تسليم بنائهما ونضد حروفهما. نحو قولك : هذا حكم وأحمر ورأيت حكما وأحمر ومررت بحكم وأحمر وهذان حكمان ورأيت حكمين وهؤلاء حكمون ورأيت حكمين ومررت بحكمين وهو يضرب ولن يضرب ولم يضرب وهما يضربان ولن يضربا ولم يضربا وهم يضربون ولن يضربوا ولم يضربوا ألا ترى أن (حكما ويضرب) لم يزل من حركاتهما وحروفهما شيء فسموا هذا الصنف الثاني من التغيير الذي يقع لفروق ومعان تحدث (إعرابا) وبدأوا بذكره في كتبهم ؛ لأن حاجة الناس إليه أكثر وسموا ما عدا هذا مما لا يتعاقب آخره بهذه الحركات والحروف (مبنيا).
ص: 49
الإعراب الذي يلحق الاسم المفرد السالم المتمكن وأعني بالتمكن ما لم يشبه الحرف قبل التثنية والجمع الذي على حد التثنية ويكون بحركات ثلاث : ضم وفتح وكسر فإذا كانت الضمة إعرابا تدخل في أواخر الأسماء والأفعال وتزول عنها سميت رفعان فإذا كان الفتحة كذلك سميت نصبا ، وإذا كانت الكسرة كذلك سميت خفضا وجرا هذا إذا كنّ بهذه الصفة نحو قولك : هذا زيد يا رجل ورأيت زيدا يا هذا ومررت بزيد فاعلم ألا ترى تغيير الدال واختلاف الحركات التي تلحقها.
فإن كانت الحركات ملازمة سمي الاسم مبنيا ، فإن كان مفهوما نحو : (منذ) قيل : مضموم ولم يقل : مرفوع ليفرق بينه وبين المعرب ، وإن كان مفتوحا نحو : (أين) قيل : مفتوح ولم يقل : منصوب ، وإن كان مكسورا نحو : (أمس) و (حذام) قيل : مكسور ولم يقل : مجرور.
وإذا كان الاسم متصرفا سالما غير معتل لحقه مع هذه الحركات التي ذكرنا التنوين نحو قولك : هذا مسلم ورأيت مسلما ومررت بمسلم وإنما قلت (سالم) ؛ لأن في الأسماء معتلا لا تدخله الحركة نحو : قفا ورحى تقول في الرفع : هذا قفا وفي النصب : رأيت قفا يا هذا ونظرت إلى قفا وإنما يدخله التنوين إذا كان منصرفا.
وقلت : منصرف (1) ؛ لأن ما لا ينصرف من الأسماء لا يدخله التنوين ولا الخفض ويكون خفضه كنصبه نحو : هذا أحمر ورأيت أحمر ومررت بأحمر والتنوين نون صحيحة ساكنة وإنما
ص: 50
خصها النحويون بهذا اللقب وسموها تنوينا ليفرقوا بينها وبين النون الزائدة المتحركة التي تكون في التثنية والجمع.
فإذا ثنيت الاسم المرفوع لحقه ألف ونون فقلت : المسلمان والصالحان وتلحقه في النصب والخفض ياء ونون وما قبل الياء مفتوح ليستوي النصب والجر ونون الإثنين مكسورة أبدا تقول : رأيت المسلمين والصالحين ومررت بالمسلمين والصالحين فيستوي المذكر والمؤنث في التثنية ويختلف في الجمع المسلم الذي على حد التثنية.
وإنما قلت في الجمع المسلم الذي على حد التثنية ؛ لأن الجمع جمعان جمع يقال له جمع السلامة وجمع يقال له : جمع التكسير فجمع السلامة هو الذي يسلم فيه بناء الواحد وتزيد عليه واوا ونونا أو ياء ونونا نحو مسلمين ومسلمون ألا ترى أنك سلمت فيه بناء مسلم فلم تغير شيئا من نضده وألحقته واوا ونونا أو ياء ونونا كما فعلت في التثنية.
وجمع التكسير (1) هو الذي يغير فيه بناء الواحد مثل جمل وأجمال ودرهم ودراهم.
ص: 51
فإذا جمعت الاسم المذكر على التثنية لحقته واو ونون في الرفع نحو قولك : هؤلاء المسلمون وتلحقه الياء والنون في النصب والخفض نحو : رأيت المسلمين ومررت بالمسلمين ونون هذا الجمع مفتوحة أبدا والواو مضموم ما قبلها والياء مكسورة ما قبلها.
وهذا الجمع مخصوص به من يعقل ولا يجوز أن تقول في جمل جملون ولا في جبل جبلون ومتى جاء ذلك فيما لا يعقل فهو شاذ فلشذوذه عن القياس علة سنذكرها في موضعها ولكن التثنية يستوي فيها ما يعقل وما لا يعقل.
والمذكر والمؤنث في التثنية سواء وفي الجمع مختلف فإذا جمعت المؤنث على حد التثنية زدت ألفا وتاء وحذفت الهاء إن كانت في الاسم وضممت التاء في الرفع وألحقت الضمة نونا ساكنة فقلت في جمع مسلمة (هؤلاء مسلمات).
والضمة في جمع المؤنث نظيرة الواو في جمع المذكر والتنوين نظير النون وتكسر التاء وتنون في الخفض والنصب جميعا تقول : رأيت مسلمات ومررت بمسلمات والكسرة نظيرة الياء في المذكرين والتنوين نظير النون.
وأما الإعراب الذي يكون في فعل الواحد من الأفعال المضارعة فالضمة فيه تسمى رفعا والفتحة نصبا والإسكان جزما وقد كنت بينت لك أن المعرب من الأفعال التي في أوائلها الحروف الزوائد التاء والنون والياء والألف فالألف للمتكلم مذكرا كان أو مؤنثا نحو : أنا أفعل ؛ لأن الخطاب يبينه والتاء للمخاطب المذكر والمؤنث نحو : أنت تفعل وأنت تفعلين وكذلك للمؤنث إذا كان لغائبة قلت : هي تفعل ، وإن كان الفعل للمتكلم ولأخر معه أو جماعة قلت : نحن نفعل.
ص: 52
والمذكر والمؤنث في ذا أيضا سواء ؛ لأنه يبين أيضا بالخطاب والياء للمذكر الغائب فجميع ما جعل لفظ المذكر والمؤنث فيه سواء على لفظ واحد فإنما كان ذلك ؛ لأنه غير ملبس فالمرفوع من هذه الأفعال نحو قولك : زيد يقوم وأنا أقوم وأنت تقوم وهي تقوم.
والمنصوب : لن يقوم ولن يقعدوا والمجزوم لم يقعدوا ولم يقم هذا في الفعل الصحيح اللام خاصة.
فأما المعتل فهو الذي آخره ياء أو واو أو ألف ، فإن الإعراب يمتنع من الدخول عليه إلا النصب فإنه يدخل على ما لامه واو أو ياء خاصة دون الألف ؛ لأن الألف لا يمكن تحركها تقول فيما كان معتلا من ذوات الواو في الرفع : هو يغزو ويغدو يا هذا فتسكن الواو وتقول في النصب : لن يغزو فتحرك الواو وتسقط في الجزم فتقول : لم يغز ولم يغد (1).
وكذلك ما لامه ياء نحو : يقضي ويرمي تكون في الرفع ياؤه ساكنة فتقول : هو يقضي ويرمي وتفتحها في النصب فتقول : لن يقضي ولن يرمي وتسقط في الجزم ، وأما ما لامه ألف فنحو : يخشى ويخفى تقول في الرفع : هو يخشى ويخفى وفي النصب : لن يخشى ولن يخفى وتسقط في الجزم فتقول فيه لم يخش ولم يخف فإذا صار الفعل المضارع لإثنين مذكرين مخاطبين أو غائبين زدته ألفا ونونا وكسرت النون فقلت : يقومان فالألف ضمير الإثنين الفاعلين والنون علامة الرفع.
ص: 53
واعلم أن الفعل لا يثنى ولا يجمع في الحقيقة وإنما يثنى ويجمع الفاعل الذي تضمنه الفعل فإذا قلت : يقومان فالألف ضمير الفاعلين اللذين ذكرتهما والنون علامة الرفع فإذا نصبت أو جزمت حذفتها فقلت : لن يقوما ولن يعقدا ولم يقوما ولم يقعدا فاستوى النصب والجزم فيه كما استوى النصب والخفض في تثنية الاسم وتبع النصب الجزم ؛ لأن الجزم يخص الأفعال ولا يكون إلا فيها كما تبع النصب الخفض في تثنية الأسماء وجمعها السالم إذ كان الخفض يخص الأسماء ، فإن كان الفعل المضارع لجمع مذكرين زدت في الرفع واوا مضموما ما قبلها ونونا مفتوحة كقولك : أنتم تقومون وتقعدون ونحو ذلك فالواو ضمير لجمع الفاعلين والنون علامة الرفع.
فإذا دخل عليها جازم أو ناصب (1) حذفت فقيل : لم يفعلوا كما فعلت في التثنية ، فإن كان الفعل المضارع لفاعل واحد مؤنث مخاطب زدت فيه ياء مكسورا ما قبلها ونونا مفتوحة نحو قولك : أنت تضربين وتقومين فالياء دخلت من أجل المؤنث والنون علامة الرفع ، وإذا دخل عليها ما يجزم أو ينصب سقطت نحو قولك : لم تضربي ولن تضربي.
فإن صار الفعل لجمع مؤنث زدته نونا وحدها مفتوحة وأسكنت ما قبلها نحو : هن يضربن ويقعدن فالنون عندهم ضمير الجماعة وليست علامة الرفع فلا تسقط في النصب والجزم لأنها ضمير الفاعلات فهي اسم هاهنا خاصة فأما الفعل الماضي فإذا ثنّيت المذكر أو جمعته قلت : فعلا وفعلوا ولم تأت بنون ؛ لأنه غير معرب والنون في (فعلن) إنما هي ضمير وهي لجماعة المؤنث وأسكنت اللام فيها كما أسكنتها في (فعلت) حتى لا تجتمع أربع حركات وليس ذا في أصول كلامهم.
ص: 54
والفعل عندهم مبني مع التاء (1) في (فعلت) ومع النون في (فعلن) كأنه منه ؛ لأن الفعل لا يخلو من الفاعل ، وأما لام (يفعلن) فإنما أسكنت تشبيها بلام (فعلن) ، وإن لم يجتمع فيه أربع حركات ولكن من شأنهم إذا أعلوا أحد الفعلين لعلة أعلوا الفعل الآخر ، وإن لم تكن فيه تلك العلة وسترى ذلك في مواضع كثيرة إن شاء الله.
واعلم أن الإعراب عندهم إنما حقه أن يكون للأسماء دون الأفعال والحروف وأن السكون والبناء حقهما أن يكونا لكل فعل أو حرف وأن البناء الذي وقع في الأسماء عارض فيها لعلة وأن الإعراب الذي دخل على الأفعال المستقبلة إنما دخل فيها العلة فالعلة التي بنيت لها الأسماء هي وقوعها موقع الحروف ومضارعتها لها وسنشرح ذلك في باب الأسماء المبينة إن شاء الله.
وأما الإعراب الذي وقع في الأفعال فقد ذكرنا أنه وقع في المضارع منها للأسماء وما عدا ذلك فهو مبني.
فالأسماء تنقسم قسمين : أحدهما معرب والآخر مبني ، فالمعرب يقال له : متمكن وهو ينقسم أيضا على ضربين : فقسم : لا يشبه الفعل وقسم : يشبه الفعل فالذي لا يشبه الفعل هو متمكن منصرف يرفع في موضع الرفع ويجر في موضع الجر وينصب في موضع النصب وينون
ص: 55
وقسم يضارع الفعل غير متصرف لا يدخله الجر ولا التنوين وسنبين من أين يشبه بالفعل فيما يجري وفي ما لا يجري إن شاء الله.
والمبني (1) من الأسماء ينقسم على ضربين : فضرب مبني على السكون نحو : كم ومن وإذ ، وذلك حق البناء وأصله وضرب مبني على الحركة فالمبني على الحركة ينقسم على ضربين :ضرب حركته لالتقاء الساكنين نحو أين وكيف وضرب حركته لمقاربته التمكن ومضارعته للأسماء المتمكنة نحو (يا حكم) في النداء وجئتك من عل وجميع هذا يبين في أبوابه إن شاء الله.
فأما الإعراب الذي وقع في الأفعال فقد بينا أنه إنما وقع في المضارع منها للأسماء وما عدا المضارعة فمبني والمبني من الأفعال ينقسم على ضربين : فضرب مبني على السكون والسكون أصل كل مبني ، وذلك نحو : اضرب واقتل ودحرج وانطلق وكل فعل تأمر به إذا كان بغير لام ولم يكن فيه حرف من حروف المضارعة نحو : الياء والتاء والنون والألف فهذا حكمه.
وأما الأفعال التي فيها حروف المضارعة فيدخل عليها اللام في الأمر وتكون معربة مجزومة بها نحو : ليقم زيد وليفتح بكر ولتفرح يا رجل ، وأما ما كان على لفظ الأمر مما يستعمل في التعجب.
ص: 56
فحكمه حكمه نحو قولك : أكرم بزيد و (أسمع بهم وأبصر) وزيد ما أكرمه وما أسمعهم وما أبصرهم.
والضرب الثاني مبني على الفتح (1) وهو كل فعل ماض كثرت حروفه أو قلت نحو : ضرب واستخرج وانطلق وما أشبه ذلك.
ص: 57
الاسم والفعل والحرف وما لا يعمل منها.
الاسم : يعمل في الاسم على ثلاثة أضرب :
أن يبنى عليه اسم مثله أو يبنى على اسم ويأتلف فإجتماعهما الكلام ويتم ويفقدان العوامل من غيرهما نحو قولك : (عبد الله أخوك (1)) فعبد الله مرتفع بأنه أول مبتدأ فاقد للعوامل ابتدأته لتبني عليه ما يكون حديثا عنه : (وأخوك) مرتفع بأنه الحديث المبني على الاسم الأول المبتدأ.
أن يعمل الاسم بمعنى الفعل والأسماء التي تعمل عمل الفعل أسماء الفاعلين وما شبه بها والمصادر وأسماء سموا الأفعال بها وإنما أعملوا اسم الفاعل لما ضارع الفعل وصار الفعل سببا له وشاركه في المعنى ، وإن افترقا في الزمان كما أعربوا الفعل لما ضارع الاسم فكما أعربوا هذا أعلموا ذلك والمصدر حكمه حكم اسم الفاعل أعمل كما أعمل إذا كان الفعل مشتقا منه إلا أن الفرق بينه وبين اسم الفاعل أن المصدر يجوز أن يضاف إلى الفاعل وإلى المفعول ؛ لأنه غيرهما تقول : عجبت من ضرب زيد عمرا فيكون زيد هو الفاعل في المعنى وعجبت من
ص: 58
ضرب زيد عمرو فيكون زيد هو المفعول في المعنى ولا يجوز هذا في إسم الفاعل لا يجوز أن تقول : عجبت من ضارب زيد وزيد فاعل لأنك تضيف الشيء إلى نفسه ، وذلك غير جائز.
فأما ما شبه باسم الفاعل نحو : حسن وشديد فتجوز إضافته إلى الفاعل ، وإن كان إياه لأنها إضافة غير حقيقية نحو قولك : الحسن الوجه والشديد اليد والحسن للوجه والشدة لليد وإنما دخلت الألف واللام وهي لا تجتمع مع الإضافة على الحسن الوجه وما أشبهه ؛ لأن إضافته غير حقيقية ومعنى : حسن الوجه حسن وجهه وقد أفردت بابا للأسماء التي تعمل عمل الفعل اذكره بعد ذكر الأسماء المرتفعة إن شاء الله.
أن يعمل الاسم لمعنى الحرف ، وذلك في الإضافة (1) والإضافة تكون على ضربين : تكون بمعنى اللام وتكون بمعنى (من).
فأما الإضافة التي بمعنى اللام فنحو قولك : غلام زيد ودار عمرو ألا ترى أن المعنى : غلام لزيد ودار لعمرو إلا أن الفرق بين ما أضيف بلام وما أضيف بغير لام أن الذي يضاف بغير لام يكتسي مما يضاف إليه تعريفه وتنكيره فيكون معرفة إن كان معرفة ونكرة إن كان نكرة ألا ترى أنك إذا قلت غلام زيد فقد عرف الغلام بإضافة إلى زيد وكذلك إذ قلت : دار الخليفة عرفت الدار بإضافتها إلى الخليفة.
ولو قلت : دار للخليفة لم يعلم أي دار هي ، وكذلك لو قلت : غلام لزيد لم يدر أي غلام هو وأنت لا تقول : غلام زيد فتضيف إلا وعندك أن السامع قد عرفه كما عرفته.
ص: 59
أما الإضافة التي بمعنى (من) فهو أن تضيف الاسم إلى جنسه نحو قولك : ثوب خز وباب حديد تريد ثوبا من خز وبابا من حديد فأضفت كل واحد منهما إلى جنسه الذي هو منه وهذا لا فرق فيه بين إضافته بغير (من) وبين إضافته (بمن) وإنما حذفوا (من) هنا استخفافا فلما حذفوها التقى الاسمان فخفض أحدهما الآخر إذا لم يكن الثاني خبرا عن الأول ولا صفة له ولو نصب على التفسير أو التمييز لجاز إذا نون الأول نحو قولك : ثوب خزا.
واعلم أن الاسم لا يعمل في الفعل ولا في الحرف بل هو المعرض للعوامل من الأفعال والحروف.
ص: 60
اعلم أن كل فعل لا يخلو من أن يكون عاملا وأول عمله أن يرفع الفاعل أو المفعول الذي هو حديث عنه نحو : قام زيد وضرب عمرو وكل اسم تذكره ليزيد في الفائدة بعد أن يستغني الفعل بالاسم المرفوع الذي يكون ذلك الفعل حديثا عنه فهو منصوب ونصبه ؛ لأن الكلام قد تم قبل مجيئه وفيه دليل عليه وهذه العلل التي ذكرناها هاهنا هي العلل الأول وها هنا علل ثوان أقرب منها يصحبها كل نوع من هذه الجمل إن شاء الله.
الحروف تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول منها : يدخل على الأسماء فقط دون الأفعال فما كان كذلك فهو عامل في الاسم.
والحروف العوامل في الأسماء نوعان :
نوع منها يخفض الأسماء (1) ويدخل ليصل اسما باسم أو فعلا باسم.
أما وصله أسما بإسم فنحو قولك : خاتم من فضة ، وأما وصله فعلا بإسم فنحو قولك : مررت بزيد.
والنوع الثاني : يدخل على المبتدأ والخبر فيعمل فيهما مررت الاسم ويرفع الخبر نحو (إن وأخواتها (2)) كقولك : زيد قائم وجميع هذه الحروف لا تعمل في الفعل ولا تدخل عليه لا تقول : مررت بيضرب وإلى ذهبت إلا قام ولا أن يقعد قائم.
ص: 61
ما يدخل على الأفعال فقط ولا يدخل على الأسماء وهي التي تعمل في الأفعال فتنصبها وتجزمها نحو : (أن) في قولك : أريد أن تذهب فتنصب و (لم) في قولك : لم يذهب فتجزم ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : لم زيد ولا : أريد أن عمرو.
ما يدخل على الأسماء وعلى الأفعال فلم تختص به الأسماء دون الأفعال ولا الأفعال دون الأسماء وما كان من الحروف بهذه الصفة فلا يعمل في اسم ولا فعل نحو ألف الاستفهام تقول : أيقوم زيد فيدخل حرف الاستفهام على الفعل ثم تقول : أزيد أخوك فيدخل الحرف على الاسم وكذلك (ما) إذا نفيت بها في لغة من لم
يشبهها بليس فإنه يدخلها على الاسم والفعل ولا يعملها كقولك : وما زيد قائم ما قام زيد ومن شبهها (بليس) فاعملها لم يجز أن يدخلها على الفعل إلا أن يردها إلى أصلها في ترك العمل ونحن نذكر جميع الحروف منفصلة في أبوابها إن شاء الله.
فإن قال قائل : ما بال لام المعرفة لم تعمل في الاسم وهي لا تدخل إلا على الاسم ولا يجوز أن تدخل هذه اللام على الفعل قيل : هذه اللام قد صارت من نفس الاسم ألا ترى قولك : رجل يدلك على غير ما كان يدل عليه الرجل وهي بمنزلة المضاف إليه الذي يصير مع المضاف بمنزلة اسم واحد نحو قولك : عبد الملك ولو أفردت عبدا من الملك لم يدل على ما كان عليه عبد الملك وكذلك الجواب في السين وسوف إن سأل سائل فقال : لم لم يعملوها في الأفعال إذ كانتا لا تدخلان إلا عليها فقصتهما قصة الألف واللام في الاسم ، وذلك أنها إنما هي بعض أجزاء الفعل فتفهم هذه الأصول والفصول فقد أعلنت في هذا الكتاب أسرار
ص: 62
النحو وجمعته جمعا يحضره وفصلته تفصيلا يظهره ورتبت أنواعه وصنوفه على مراتبها بأخصر ما أمكن من القول وأبينه ليسبق إلى القلوب فهمه ويسهل على متعلميه حفظه.
واعلم أنه ربما شذ الشيء عن بابه فينبغي أن تعلم : أن القياس إذا اطرد في جميع الباب لم يعن بالحرف الذي يشذ منه فلا يطرد في نظائره وهذا يستعمل في كثير من العلوم ولو اعترض بالشاذ على القياس المطرد لبطل أكثر الصناعات والعلوم فمتى وجدت حرفا مخالفا لا شك في خلافه لهذه الأصول فاعلم أنه شاذ ، فإن كان سمع ممن ترضى عربيته فلا بد من أن يكون قد حاول به مذهبا ونحا نحوا من الوجوه أو استهواه أمر غلطه.
والشاذ على ثلاثة أضرب : منه ما شذ عن بابه وقياسه ولم يشذ في استعمال العرب له نحو : استحوذ (1) ، فإن بابه وقياسه أن يعل فيقال : استحاذ مثل استقام واستعاذ وجميع ما كان على هذا المثال ولكنه جاء على الأصل واستعملته العرب كذلك ومنه ما شذ عن الاستعمال ولم يشذ عن القياس نحو ماضي يدع ، فإن قياسه وبابه أن يقال : ودع يدع إذ لا يكون فعل مستقبل إلا له ماض ولكنهم لم يستعملوا ودع استغنى عنه (بترك) فصار قول القائل الذي قال : ودعه شاذا وهذه أشياء تحفظ ومنه ما شذ عن القياس والإستعمال فهذا الذي يطرح ولا يعرج عليه نحو ما حكى من إدخال الألف واللام على اليّجدع وأنا أتبع هذا الذي ذكرت من عوامل الأسماء والأفعال والحروف بالأسماء المفعول فيها فنبدأ بالمرفوعات ثم نردفها المنصوبات ثم المخفوضات فإذا فرغنا من الأسماء وتوابعها وما يعرض فيها ذكرنا الأفعال وإعرابها وعلى الله تعالى نتوكل وبه نستعين.
ص: 63
الأسماء التي ترتفع خمسة أصناف :
الأول : مبتدأ له خبر.
والثاني : خبر لمبتدأ بنيته عليه.
والثالث : فاعل بني على فعل ذلك الفعل حديثا عنه.
والرابع : مفعول به بني على فعل فهو حديث عنه ولم تذكر من فعل به فقام مقام الفاعل.
والخامس : مشبه بالفاعل في اللفظ.
المبتدأ (1) : ما جردته من عوامل الأسماء ومن الأفعال والحروف وكان القصد فيه أن تجعله أولا لثان مبتدأ به دون الفعل يكون ثانيه خبره ولا يستغني واحد منهما عن صاحبه وهما مرفوعان أبدا فالمبتدأ رفع بالابتداء والخبر رفع بهما نحو قولك : الله ربنا ومحمد نبينا والمبتدأ لا يكون كلاما تاما إلا بخبره وهو معرض لما يعمل في الأسماء نحو : كان وأخواتها وما أشبه ذلك من العوامل تقول : عمرو أخونا ، وإن زيدا أخونا وسنذكر العوامل التي تدخل على المبتدأ وخبره فتغيره عما كان عليه في موضعها إن شاء الله.
ص: 64
والمبتدأ يبتدأ فيه بالاسم المحدث عنه قبل الحديث وكذلك حكم كل مخبر والفرق بينه وبين الفاعل : أن الفاعل مبتدأ بالحديث قبله ألا ترى أنك إذا قلت : زيد منطلق فإنما بدأت (بزيد) وهو الذي حدثت عنه بالإنطلاق والحديث عنه بعده ، وإذا قلت : ينطلق زيد فقد بدأ بالحديث وهو انطلاقه ثم ذكرت زيدا المحدث عنه بالإنطلاق بعد أن ذكرت الحديث.
فالفاعل مضارع للمبتدا من أجل أنهما جميعا محدث عنهما وإنهما جملتان لا يستغني بعضهما عن بعض وحق المبتدأ أن يكون معرفة أو ما قارب المعرفة من النكرات الموصوفة خاصة فأما المعرفة فنحو قولك : عبد الله أخوك وزيد قائم ، وأما ما قارب المعرفة من النكرات (1) فنحو قولك : رجل من تميم جاءني وخير منك لقيني. وصاحب لزيد جاءني.
وإنما امتنع الابتداء بالنكرة المفردة المحضة ؛ لأنه لا فائدة فيه وما لا فائدة فيه فلا معنى للتكلم به ألا ترى أنك لو قلت : رجل قائم أو رجل عالم لم يكن في هذا الكلام فائدة ؛ لأنه لا يستنكر أن يكون في الناس رجل قائما أو عالما فإذا قلت : رجل من بني فلان أو رجل من إخوانك أو وصفته بأي صفة كانت تقربه من معرفتك حسن لما في ذلك من الفائدة ولا يكون المبتدأ نكرة مفردة إلا في النفي خاصة ، فإن الابتداء فيه بالنكرة حسن بحصول الفائدة بها كقولك : ما أحد في الدار وما في البيت رجل ونحو ذلك في لغة بني تميم خاصة : وما أحد حاضر وإنما يراعى في هذا الباب وغيره الفائدة فمتى ظفرت بها في المبتدأ وخبره فالكلام جائز وما لم يفد فلا معنى له في كلام غيرهم.
ص: 65
وقد يجوز أن تقول : رجل قائم إذا سألك سائل فقال : أرجل قائم أم امرأة.
فتجيبه فتقول : رجل قائم وجملة هذا أنه إنما ينظر إلى ما فيه فائدة فمتى كانت فائدة بوجه من الوجوه فهو جائز وإلا فلا فإذا اجتمع اسمان معرفة ونكرة فحق المعرفة أن تكون هي المبتدأ وأن تكون النكرة الخبر لأنك إذا ابتدأت فإنما قصدك تنبيه السامع بذكر الاسم الذي تحدثه عنه ليتوقع الخبر بعده فالخبر هو الذي ينكره ولا يعرفه ويستفيده والاسم لا فائدة له لمعرفته به وإنما ذكرته لتسند إليه الخبر وقد يجوز أن تقدم الخبر على المبتدأ ما لم يكن فعلا خاصة فتقول : منطلق زيد وأنت تريد : زيد منطلق (1) ، فإن أردت أن تجعل منطلقا في موضع (ينطلق) فترفع زيدا بمنطلق على أنه فاعل كأنك قلت : ينطلق زيد قبح إلا أن يعتمد اسم الفاعل وهو (منطلق) وما أشبهه على شيء قبله وإنما يجري فجرى الفعل إذا كان صفة جرت على موصوف نحو قولك : مررت برجل قائم أبوه ارتفع (أبوه) (بقائم) أو يكون مبنيا على مبتدأ نحو قولك : زيد قائم أبوه وحسن عندهم : أقائم أبوك وأخارج أخوك تشبيها بهذا إذا اعتمد (قائم) على شيئ قبله فأما إذا قلت قائم زيد فأردت أن ترفع زيدا بقائم وليس قبله ما يعتمد عليه البتة فهو قبيح وهو جائز عندي على قبحه وكذلك المفعول لا يعمل فيه اسم الفاعل مبتدأ غير معتمد على شيء قبله نحو : ضارب وقاتل لا تقول : ضارب بكرا عمرو فتنصب بكرا (بضارب) وترفع عمرا به لا يجوز أن تعمله عمل الفعل حتى يكون محمولا على غيره فتقول : هذا ضارب بكرا جعلوا بين الاسم والفعل فرقا فإذا قلت : قائم أبوك (فقائم) مرتفع بالابتداء وأبوك رفع بفعلهما وهما قد سدا مسد الخبر ولهذا نظائر تذكر في مواضعها إن شاء الله.
فأما قولك : كيف أنت وأين زيد وما أشبهما مما يستفهم به من الأسماء (فأنت وزيد) مرتفعان بالابتداء (وكيف وأين) خبران فالمعنى في : كيف أنت على أي حال أنت وفي : (أين زيد) في أي مكان ولكن الاستفهام الذي صار فيهما جعل لهما صدر الكلام وهو في الحقيقة
ص: 66
الشيء المستفهم عنه ألا ترى أنك إذا سئلت : كيف أنت فقلت : صالح إنما أخبرت بالشيء الذي سأل عنه المستخبر وكذلك إذا قال : أين زيد فقلت : في داري فإنما أخبرت بما اقتضته أين ولكن جميع هذا ، وإن كان خبرا فلا يكون إلا مبدوءا به وقد تدخل على المبتدأ حروف ليست من عوامل الأسماء فلا تزيل المبتدأ عن حاله كلام الابتداء وحروف الاستفهام (وأما وما (1)) إذا كانت نافية في لغة بني تميم وأشباه ذلك فتقول : أعمرو (قائم) ولبكر أخوك وما زيد قائم ، وأما بكر منطلق فهذه الحروف إنما تدخل على المبتدأ وخبره لمعان فيها ألا ترى أن قولك : عمرو منطلق كان خبرا موجبا فلما أدخلت عليه (ما) صار نفيا وإنما نفيت (بما) ما أوجبه غيرك حقه أن تأتي بالكلام على لفظه وكذلك إذا استفهمت إنما تستخبر خبرا قد قيل أو ظن كأن قائلا قال : عمرو قائم فأردت أن تحقق ذلك فقلت أعمرو قائم وقع في نفسك أن ذلك يجوز وأن يكون وأن لا يكون فاستخبرت مما وقع في نفسك بمنزلة ما سمعته أذنك فحينئذ تقول : أعمرو قائم أم لا لأنك لا تستفهم عن شيء إلا وهو يجوز أن يكون عندك موجبة أو منفية واقعا ولام الابتداء تدخل لتأكيد الخبر وتحقيقه فإذا قلت : لعمرو منطلق أغنت اللام بتأكيدها عن إعادتك الكلام فلذلك احتيج إلى جميع حروف المعاني لما في ذلك من الإختصار ألا ترى أن الواو العاطفة في قولك : قام زيد وعمرو لولاها لاحتجت إلى أن تقول : قام زيد قام عمرو وكذلك جميع الحروف ويوصل بلام القسم فيقال : والله لزيد خير منك لأنك لا
ص: 67
تقسم إلا مع تحقيق الخبر (وأما) فإنما تذكرها بعد كلام قد تقدم أخبرت فيه عن اثنين أو جماعة بخبر فاختصصت بعض من ذكر وحققت الخبر عنه ألا ترى أن القائل يقول : زيد وعمرو في الدار فتقول : أما زيد ففي الدار ، وأما عمرو ففي السوق وإنما دخلت الفاء من أجل ما تقدم لأنها إنما تدخل في الكلام لتتبع شيئا بشيء وتعق ما دخلت عليه من الكلام بما قبله (ولأما) موضع تذكر فيه وما لم أذكر من سائر الحروف التي لا تعمل في الأسماء فالمبتدأ والخبر بعدها على صورتهما.
ص: 68
الاسم الذي هو خبر المبتدأ هو الذي يستفيده السامع ويصير به المبتدأ كلاما وبالخبر يقع التصديق والتكذيب (1) ألا ترى أنك إذا قلت : عبد الله جالس فإنما الصدق والكذب وقع في جلوس عبد الله لا في عبد الله ؛ لأن الفائدة هي في جلوس عبد الله وإنما ذكرت عبد الله لتسند إليه (جالسا) فإذا كان خبر المبتدأ اسما مفردا فهو رفع نحو قولك : عبد الله أخوك وزيد قائم وخبر المبتدأ ينقسم على قسمين : إما أن يكون هو الأول في المعنى غير ظاهر فيه ضميره نحو : زيد أخوك وعبد الله منطلق فالخبر هو الأول في المعنى إلا أنه لو قيل لك من أخوك هذا الذي ذكرته لقلت : زيد أو قيل لك : من المنطلق لقلت : عبد الله أو يكن غير الأول ويظهر فيه ضميره نحو قولك : عمرو ضربته وزيد رأيت أباه ، فإن لم يكن على أحد هذين فالكلام محال.
وخبر المبتدأ الذي هو الأول في المعنى على ضربين فضرب يظهر فيه الاسم الذي هو الخبر نحو ما ذكرنا من قولك : زيد أخوك ، وزيد قائم وضرب يحذف منه الخبر ويقوم مقامه ظرف له ، وذلك الظرف على ضربين : إما أن يكون من ظروف المكان وإما أن يكون من ظروف الزمان.
أما الظروف في المكان فنحو قولك : زيد خلفك وعمرو في الدار.
والمحذوف معنى الاستقرار والحلول وما أشبههما كأنك قلت : زيد مستقر خلفك وعمرو مستقر في الدار ولكن هذا المحذوف لا يظهر لدلالة الظرف عليه واستغنائهم به في الاستعمال.
وأما الظرف من الزمان فنحو قولك : القتال يوم الجمعة والشخوص يوم الخميس كأنك قلت : القتال مستقر يوم الجمعة أو وقع في يوم الجمعة والشخوص واقع في يوم الخميس فتحذف الخبر وتقيم الظرف مقام المحذوف ، فإن لم ترد هذا المعنى فالكلام محال ؛ لأن زيدا
ص: 69
الذي هو المبتدأ ليس من قولك : (خلفك) ولا في الدار شيء ؛ لأن في الدار ليس بحديث وكذلك خلفك وإنما هو موضع الخبر.
واعلم أنه لا يجوز أن تقول : زيد يوم الخميس ولا عمرو في شهر كذا ؛ لأن ظروف الزمان لا تتضمن الجثث وإنما يجوز ذلك في الأحداث نحو الضرب والحمد وما أشبه ذلك وعلة ذلك أنك لو قلت : زيد اليوم لم تكن فيه فائدة ؛ لأنه لا يخلو أحد من أهل عصرك من اليوم إذ كان الزمان لا يتضمن واحدا دون الآخر والأماكن ينتقل عنها فيجوز أن تكون خبرا عن الجثث وغيرها كذلك والظرف من الأماكن تكون إخبارا عن المعاني التي ليست بجثث يعني المصادر نحو قولك : البيع في النهار والضرب عندك ، فإن قال قائل فأنت قد تقول : الليلة الهلال (1) والهلال جثة فمن أين جاز هذا فالجواب في ذلك : أنك إنما أردت : الليلة حدوث الهلال لأنك إنما تقول ذلك عند توقع طلوعه ألا ترى أنك لا تقول : الشمس اليوم ولا القمر الليلة ؛ لأنه غير متوقع وكذلك إن قلت : اليوم زيد وأنت تريد هذا المعنى جاز وتقول : أكل يوم لك عهد ؛ لأن فيه معنى الملك ويوم الجمعة عليك ثوب إنما جاز ذلك لإستقرار الثوب عليك فيه ، وأما القسم الثاني من خبر المبتدأ : وهو الذي يكون غير الأول ويظهر يفه ضميره فلا يخلو من أن يكون الخبر فعلا فيه ضمير المبتدأ نحو : زيد يقوم والزيدان يقومان فهذا الضمير ، وإن كان لا يظهر في فعل الواحد لدلالة المبتدأ عليه يظهر في التثنية والجمع ، وذلك ضرورة خوف اللبس
ص: 70
ومضمره كظاهره وأنت إذا قلت : زيد قائم فالضمير لا يظهر في واحده ولا في تثنيته ولا في جمعه ، فإن قال قائل : فإنك قد تقول : الزيدان قائمان والزيدون قائمون قيل له : ليست الألف ولا الواو فيهما ضميرين إنما الألف تثنية الاسم والواو جمع الاسم وأنت إذا قلت : الزيدون قائمون فأنت بعد محتاج إلى أن يكون في نيتك ما يرجع إلى الزيدين ولو كانت الواو ضميرا والألف ضميرا والألف ضميرا لما جاز أن تقول القائمان الزيدان ولا القائمون الزيدون أو يكون جملة فيها ضميره والجمل المفيدة على ضربين : إما فعل وفاعل وإما مبتدأ وخبر أما الجملة التي هي مركبة من فعل وفاعل فنحو قولك : زيد ضربته وعمرو لقيت أخاه وبكر قام أبوه ، وأما الجملة التي هي مركبة من ابتداء وخبر فقولك : زيد أبوه منطلق وكل جملة تاتي بعد المبتدأ فحكمها في إعرابها كحكمها إذا لم يكن قبلها مبتدأ ألا ترى أن إعراب (أبوه منطلق) (1) بعد قولك : بكر كإعرابه لو لم يكن بكر قبله فأبوه مرتفع بالابتداء (ومنطلق) خبره فبكر مبتدأ أول وأبوه مبتدأ ثان ومنطلق خبر الأب والأب (منطلق) خبر بكر وموضع قولك : (أبوه منطلق) رفع ومعنى قولنا : الموضح أي لو وقع موقع الجملة اسم مفرد لكان مرفوعا وقد يجوز أن يأتي مبتدأ بعد مبتدأ بعد مبتدأ وأخبار كثيرة بعد مبتدأ وهذه المبتدآت إذا كثروها فإنما هي شيء قاسه النحويون ليتدرب به المتعلمون ولا أعرف له في كلام العرب نظيرا فمن ذلك قولهم : زيد هند العمران منطلقان إليهما من أجله فزيد مبتدأ أول وهند مبتدأ ثان والعمران مبتدأ ثالث وهند وما بعدها خبر لها والعمران وما بعدهما خبر لهما وجميع ذلك خبر عن زيد والراجع الهاء في قولك من أجله والراجع إلى هند (الهاء) في قولك : إليها والمنطلقان هما العمران وهما الخبر عنها.
ص: 71
وفيهما ضميرهما فكلما سئلت عنه من هذا فهذا أصله فإذا طال الحديث عن المبتدأ كل الطول وكان فيه ما يرجع ذكره إليه جاز نحو قولك : (عبد الله قام رجل كان يتحدث مع زيد في داره) صار جميع هذا خبرا عن (عبد الله) من أجل هذه الهاء التي رجعت إليه بقولك : (في داره) وموضع هذا الجملة كلها رفع من أجل أنك لو وضعت موضعها (منطلقا) وما أشبهه ما كان إلا رفعا فقد بان من جميع ما ذكرنا أنه قد يقع في خبر المبتدأ أحد أربعة أشياء الاسم أو الفعل أو الظرف أو الجملة.
واعلم أن المبتدأ أو الخبر من جهة معرفتهما أو نكرتهما أربعة :
الأول : أي يكون المبتدأ معرفة والخبر نكرة نحو : عمرو منطلق وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه الكلام.
الثاني : أن يكون المبتدأ معرفة والخبر معرفة نحو : زيد أخوك (1) وأنت تريد أنه أخوه من النسب وهذا ونحوه إنما يجوز إذا كان المخاطب يعرف زيدا على إنفراده ولا يعلم أنه أخوه لفرقة كانت بينهما أو لسبب آخر ويعلم أن له أخا ولا يدري أنه زيد هذا فتقول له : أنت زيد أخوك أي زيد هذا الذي عرفته هو أخوك الذي كنت علمته فتكون الفائدة في اجتماعهما ، وذلك هو الذي استفاده المخاطب فمتى كان الخبر عن المعرفة معرفة فإنما الفائدة في مجموعهما فأما أن يكون يعرفهما مجتمعين ، وإن هذا هذا فذا كلام لا فائدة فيه ، فإن قال قائل : فأنت تقول : الله ربنا ومحمد نبينا وهذا معلوم معروف قيل له : هذا إنما هو معروف عندنا وعند المؤمنين
ص: 72
وإنما نقوله ردا على الكفار وعلى من لا يقول به ولو لم يكن لنا مخالف على هذا القول لما قيل إلا في التعظيم والتحميد لطلب الثواب به ، فإن المسبح يسبح وليس يريد أن يفيد أحدا شيئا وإنما يريد أن يتبرر ويتقرب إلى الله بقول الحق وبذلك أمرنا وتعبدنا وأصل ذلك الإعتراف بمن الله عليه بأن عرفه نفسه وفضله على من لا يعرف ذلك وأصل الكلام موضوع للفائدة ، وإن اتسعت المذاهب فيه ولكن لو قال قائل : النار حارة والثلج بارد لكان هذا كلاما لا فائدة فيه ، وإن كان الخبر فيهما نكرة.
الثالث : أن يكون المبتدأ نكرة والخبر نكرة وقد بينا أن الجائز من ذلك ما كانت فيه فائدة.
فأما الكلام إذا كان منفيا ، فإن النكرة فيه حسنة ؛ لأن الفائدة فيه واقعة نحو قولك : ما أحد في الدار وما فيها رجل.
الرابع : أن يكون المبتدأ نكرة والخبر معرفة وهذا قلب ما وضع عليه الكلام وإنما جاء مع الأشياء التي تدخل على المبتدأ والخبر فتعمل لضرورة الشاعر نحو قوله :
كأنّ سلافة من بيت رأس
يكون مزاجها عسل وماء
فجعل اسم (كأن) عسل وهو نكرة وجعل مزاجها الخبر وهو معرفة بالإضافة إلى الضمير ومع ذلك فإنما حسن هذا عند قائله أن عسلا وماء نوعان وليسا كسائر النكرات التي تنفصل بالخلقة والعدد نحو : تمرة وجوزة والضمير الذي في (مزاجها) راجع إلى نكرة وهو قوله : سلافة فهو مثل قولك : خمرة ممزوجة بماء.
وقد يعرض الحذف في المبتدأ وفي الخبر أيضا لعلم المخاطب بما حذف والمحذوف على ثلاث جهات (1) :
ص: 73
الأولى : حذف المبتدأ وإضماره إذا تقدم من ذكره ما يعلمه السامع فمن ذلك أن ترى جماعة يتوقعون الهلال فيقول القائل : الهلال والله أي : هذا الهلال فيحذف هذا وكذلك لو كنت منتظرا رجلا فقيل : عمرو جاز على ما وصفت لك ومن ذلك : مررت برجل زيد لأنك لما قلت : مررت برجل أردت أن تبين من هو فكأنك قلت هو زيد وعلى هذا قوله تعالى : (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) [الحج : 72].
الجهة الثانية : أن تحذف الخبر لعلم السامع فمن ذلك أن يقول القائل : ما بقي لكم أحد فتقول : زيد أو عمرو أي : زيد لنا ومنه لو لا عبد الله لكان كذا وكذا فعبد الله مرتفع بالابتداء والخبر محذوف وهو في مكان كذا وكذا فكأنه قال : لو لا عبد الله بذلك المكان ولو لا القتال كان في زمان كذا وكذا ولكن حذف حين كثر استعمالهم إياه وعرف المعنى فأما قوله : لكان (كذا وكذا) فحديث متعلق بحديث (لو لا) وليس من المبتدا في شيء ومن ذلك : هل من طعام فموضع (من طعام) رفع كأنك قلت : هل طعام والمعنى : هل طعام في زمان أو مكان و (من) تزاد توكيدا مع حرف النفي وحرف الاستفهام إذا وليهما نكرة وسنذكرها في موضعها إن شاء الله.
وقد أدخلوها على الفاعل والمفعول أيضا كما أدخلوها على المبتدأ فقالوا : ما أتاني من رجل في موضع : ما أتاني رجل. (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) و (هل تحس منهم من أحد).
وكذلك قولك : هل من طعام وإنما هو : هل طعام فموضع (من طعام) رفع بالابتداء.
الجهة الثالثة : أنهم ربما حذفوا شيئا من الخبر في الجمل ، وذلك المحذوف على ضربين : إما أن يكون فيه الضمير الراجع إلى المبتدأ نحو قولهم : السمن منوان بدرهم (1) يريد : منه وإلا كان كلاما غير جائز ؛ لأنه ليس فيه ما يرجع إلى الأول وإما أن يكون المحذوف شيئا ليس فيه راجع
ص: 74
ولكنه متصل بالكلام نحو قولك : الكر بستين درهما فأمسكت عن ذكر الدرهم بعد ذكر الستين لعلم المخاطب.
وتعتبر خبرا لمبتدأ بأنك متى سألت عن الخبر جاز أن يجاب بالمبتدأ ؛ لأنه يرجع إلى أنه هو هو في المعنى.
ألا ترى أن القائل إذا قال : عمرو منطلق فقلت : من المنطلق قال : عمرو وكذلك إذا قال :عبد الله أخوك فقلت : من أخوك قال : عبد الله وكذلك لو قال : عبد الله قامت جاريته في دار أخيه فقلت : من الذي قامت جاريته في دار أخيه لقال : عبد الله وخبر المبتدأ يكون جواب (ما) واي وكيف وكم وأين ومتى يقول القائل : الدينار ما هو فتقول : حجر فتجيبه بالجنس ويقول الدينار أي الحجارة هو فتقول : ذهب فتجيبه بنوع من ذلك الجنس وهذا إنما يسأل عنه من سمع بالدينار ولم يعرفه.
ويقول : الدينار كيف هو فتقول : مدور أصفر حسن منقوش ويقول : الدينار كم قيراطا هو فتقول : الدينار عشرون قيراطا فيقول : أين هو فتقول : في بيت المال والكيس ونحو ذلك ولا يجوز أن تقول : الدينار متى هو وقد بينا أن ظروف الزمان لا تتضمن الجثث إلا على شرط الفائدة والتأول ولكن تقول : القتال متى هو فتقول : يوم كذا وكذا فأما إذا كان الخبر معرفة أو معهودا فإنما يقع في جواب (من وأي) نحو قوله : زيد من هو والمعنى : أي الناس هو وأي القوم هو فتقول : أخوك المعروف أو أبو عمرو أي الذي من أمره كذا وتقول : هذا الحمار أي الحمير هو فتقول : الأسود المعروف بكذا وما أشبهه.
واعلم أن خبر المبتدأ إذا كان اسما من أسماء الفاعلين وكان المبتدأ هو الفاعل في المعنى وكان جاريا عليه إلى جنبه أضمر فيه ما يرجع إليه وانستر الضمير نحو قولك : عمرو قائم وأنت منطلق فأنت وعمرو الفاعلان في المعنى ؛ لأن عمرا هو الذي قام وقائم جار على (عمرو) وموضوع إلى جانبه لم يحل بينه وبينه حائل فمتى كان الخبر بهذه الصفة لم يحتج إلى أن يظهر الضمير إلا مؤكدا ، فإن أردت التأكيد قلت : زيد قائم هو ، وإن لم ترد التأكيد فأنت مستغن عن ذلك وإنما احتمل (ضارب وقائم) وما أشبههما من أسماء الفاعلين ضمير الفاعل
ص: 75
ورفع الأسماء التي تبنى عليه لمضارعته الفعل فأضمروا فيه كما أضمروا في الفعل إلا أن المشبه بالشيء ليس هو ذلك الشيء بعينه فضمنوه الضمير متى كان جاريا على الاسم الذي قبله وإنما يكون كذلك في ثلاثة مواضع : إما أن يكون خبرا لمبتدأ نحو قولك : عمرو منطلق كما ذكرنا أو يكون صفة نحو : مررت برجل قائم أو حالا نحو : رأيت زيدا قائما ففي اسم الفاعل ضمير في جميع هذه المواضع ، فإن وقع بعدها اسم ظاهر ارتفع ارتفاع الفاعل بفعله ومتى جرى اسم الفاعل على غير من هو له فليس يحتمل أن يكون فيه ضمير الفاعل كما يكون في الفعل ؛ لأن انستار ضمير الفاعل إنما هو للفعل ولذلك بنيت لام (فعل) مع ضمير الفاعل المخاطب في (فعلت) والمخاطب والمخاطبة أيضا في (فعلت) وفعلت كما بينا فيما مضى.
فإن قلت : هند زيد ضاربته (1) لم يكن بد من أن تقول : هي من أجل أن قولك : (ضاربته) ليس لزيد في الفعل نصيب وإنما الضرب كان من هند ولم يعد عليها شيء من ذكرها والفعل لها فإنما (ضاربته) خبر عن زيد وفاعله هند في المعنى ولم يجز إلا إظهار الضمير فقلت حينئذ هي مرتفعة (بضاربته) كما ترتفع هند إذا قلت : زيد ضاربته هند فالمكنى هاهنا بمنزلة الظاهر ولا يجوز أن تتضمن (ضاربته) ضمير الفاعل ، فإن أردت أن تثني قلت : الهندان الزيدان ضاربتهما هما ؛ لأن (ضاربه) ليس فيه ضمير الهندين إنما هو فعل فاعله المضمر هذا على قول من قال : أقائم أخواك فأما من قال : أكلوني البراغيث فيجعل في الفعل علامة التثنية والجمع ولم يرد الضمير ليدل على أن فاعله مثنى أو مجموع كما كانت التاء في (فعلت هند) فرقا بين فعل المذكر والمؤنث فإنه يقول : الهندان الزيدان ضاربتاهما هما فإذا قلت : هند زيد ضاربته هي (فهند)
ص: 76
مرتفعة بالابتداء (وزيد) مبتدأ ثان وضاربته خبر زيد (وهي) هذه اللفظة مرتفعة بأنها فاعلة والفعل (ضاربته) والهاء ترجع إلى زيد وهي ترجع إلى هند والجملة خبر عنها ، فإن جعلت موضع فاعل يفعل فقلت : زيد هند تضربه أضمرت الفاعل ولم تظهره فهذا مما خالفت فيه الأسماء الأفعال ألا ترى أنك تقول : زيد أضربه وزيد تضربه ، فإن كان في موضع الفعل اسم الفاعل لم تقل إلا زيد ضاربه أنا أو أنت ؛ لأن في تصاريف الفعل ما يدل على المضمر ما هو كما قد ذكرنا فيما قد تقدم وليس ذلك في الأسماء وحكم اسم المفعول حكم اسم الفاعل تقول : زيد مضروب فتكون خبرا لزيد كما تكون (ضارب) ويكون فيه ضميره كما يكون في الفاعل فتقول : عمرو الجبة مكسوته ، إذ كان في (مكسوته) ضمير الجبة مستترا ، فإن كان فيه ضمير (عمرو) لم يجز حتى تقول : عمرو الجبة مكسوها هو فحكم المفعول حكم الفاعل كما أن فعل (كفعل) في عمله وحق خبر المبتدأ إذا كان جملة أن يكون خبرا كاسمه يجوز فيه التصديق والتكذيب ولا يكون استفهاما ولا أمرا ولا نهيا وما أشبه ذلك مما لا يقال فيه صدقت ولا كذبت ولكن العرب قد اتسعت في كلامها فقالت : زيد كم مرة رأيته فاستجازوا هذا لما كان زيد في المعنى والحقيقة داخلا في جملة ما استفهم عنه ؛ لأن الهاء هي زيد وكذلك كل ما اتسعوا فيه من هذا الضرب.
ص: 77
الاسم الذي يرتفع بأنه فاعل هو الذي بنيته على الفعل الذي بني للفاعل ، ويجعل الفعل حديثا عنه مقدما قبله كان فاعلا في الحقيقة أو لم يكن كقولك : جاء زيد ومات عمرو وما أشبه ذلك ومعنى قولي : بنيته على الفعل الذي بني للفاعل أي : ذكرت الفعل قبل الاسم لأنك لو أتيت بالفعل بعد الاسم لأرتفع الاسم بالابتداء وإنما قلت على الفعل الذي بني للفاعل لأفرق بينه وبين الفعل الذي بني للمفعول إذ كانوا قد فرقوا بينهما فجعلوا (ضرب) للفاعل مفتوح الفاء و (ضرب) للمفعول مضموم الفاء مكسور العين وقد جعل بينهما في جميع تصاريف الأفعال ماضيها ومستقبلها وثلاثيها ورباعيها وما فيه زائد منها فروق في الأبنية وهذا يبين لك في موضعه إن شاء الله.
وإنما قلت : كان فاعلا في الحقيقة أو لم يكن ؛ لأن الفعل ينقسم قسمين : فمنه حقيقي ومنه غير حقيقي والحقيقي ينقسم قسمين :
أحدهما : أن يكون الفعل لا يتعدى الفاعل إلى من سواه ولا يكون فيه دليل على مفعول نحو : قمت وقعدت.
والآخر : أن يكون فعلا وأصلا إلى اسم بعد اسم الفاعل.
والفعل الواصل على ضربين : فضرب واصل مؤثر نحو : ضربت زيدا وقتلت بكرا.
والضرب الآخر واصل إلى الاسم فقط غير مؤثر فيه نحو : ذكرت زيدا ومدحت عمرا وهجوت بكرا ، فإن هذه تتعدى إلى الحي والميت والشاهد والغائب ، وإن كنت إنما تمدح الذات وتذمها إلا أنها غير مؤثرة.
ومنها الأفعال الداخلة على الابتداء والخبر وإنما تنبىء عن الفاعل بما هجس في نفسه أو تيقنه غير مؤثرة بمفعول ولكن أخبار الفاعل بما وقع عنده نحو : ظننت زيدا أخاك. وعلمت زيدا خير الناس.
ص: 78
القسم الثاني : من القسمة الأولى : وهو الفعل الذي هو غير فعل حقيقي فهو على ثلاثة أضرب فالضرب الأول : أفعال مستعارة للإختصار وفيها بيان أن فاعليها في الحقيقة مفعولون نحو : مات زيد وسقط الحائط ومرض بكر.
والضرب الثاني : أفعال في اللفظ وليست بأفعال حقيقية وإنما تدل على الزمان فقط ، وذلك قولك : كان عبد الله أخاك وأصبح عبد الله عاقلا ليست تخبر بفعل فعله إنما تخبر أن عبد الله أخوك فيما مضى وأن الصباح أتى عليه وهو عاقل.
والضرب الثالث : أفعال منقولة يراد بها غير الفاعل (1) الذي جعلت له نحو قولك : لا أرينك هاهنا فالنهي إنما هو للمتكلم كأنه ينهي نفسه في اللفظ وهو للمخاطب في المعنى وتأويله : لا تكونن هاهنا ، فإن (من) حضرني رأيته ومثله قوله تعالى : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : 102] لم ينههم عن الموت في وقت ؛ لأن ذلك ليس المهم تقديمه وتأخيره ولكن معناه : كونوا على الإسلام ، فإن الموت لا بد منه فمتى صادفكم صادفكم عليه وهذا تفسير أبي العباس رحمه الله.
فالاسم الذي يرتفع بأنه فاعل هو والفعل جملة يستغني عليها السكوت وتمت بها الفائدة للمخاطب ويتم الكلام به دون مفعول والمفعول فضلة في الكلام كالذي تقدم فأما الفعل فلا بد له من فاعل وما يقوم مقام الفاعل بمنزلة الابتداء والخبر ألا ترى أنك إذا قلت : قام زيد فهو بمنزلة قولك : القائم زيد.
فالفاعل رفع إذا أخبرت عنه أنه (فعل) وسيفعل أو هو في حاذل الفعل أو استفهمت عنه هل يكون فاعلا أو نفيت أن يكون فاعلا نحو : قام عبد الله ويقوم عبد الله. وسيقوم عبد الله.
وفي الاستفهام : أيقوم عبد الله؟ وفي الجزاء : إن يذهب زيد أذهب ، وفي النفي : ما ذهب زيد ولم يقم عمرو فالعامل هو الفعل على عمله أين نقلته لا يغيره عن عمله شيء أدخلت عليه ما يعمل فيه أو لم يعمل فسواء كان الفعل مجزوما أو منصوبا أو مرفوعا أو موجبا أو منفيا أو
ص: 79
خبرا أو استخبارا هو في جميع هذه الأحوال لا بدّ من أن يرفع به الاسم الذي بني له فالأفعال كلها ماضيها وحاضرها ومستقبلها يرفع بها الفاعل بالصفة التي ذكرناها ومن الأفعال ما لا يتصرف في الأزمنة الثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل ويقتصر به على زمان واحد فلا يتصرف في جميع تصاريف الأفعال وقد أفردناها وقد أعملوا اسم الفعل وتأملت جميع ذلك فوجدت الأشياء التي ترتفع بها الأسماء ارتفاع الفاعل ستة أشياء : فعل متصرف وفعل غير متصرف وأسم الفاعل والصفة المشبهة باسم الفاعل والمصدر والأسماء التي سموا فيها الفعل في الأمر والنهي.
فأما الأول : وهو الفعل المتصرف فنحو : قام وضرب وتصرفه أنك تقول : يقوم وأقوم وتقوم ، وضرب ويضرب وأضرب ، وجميع تصاريف الأفعال جارية عليه ويشتق منه اسم الفاعل فتقول : ضارب.
والثاني : وهو الفعل الذي هو غير متصرف نحو : ليس وعسى وفعل التعجب ونعم وبئس لا تقول منه يفعل ولا فاعل ، ولا يزول عن بناء واحد وسنذكر هذه الأفعال بعد في مواضعها إن شاء الله.
الثالث : وهو اسم الفاعل (1) الجاري على فعله نحو قولك : قام يقوم فهو قائم : وضرب يضرب فهو ضارب وشرب يشرب فهو شارب فضارب وشارب وقائم أسماء الفاعلين.
وقد بينا أن اسم الفاعل لا يحسن أن يعمل إلا أن يكون معتمدا على شيء قبله ، وذكرنا ما يحسن من ذلك وما يقبح في باب خبر الابتداء.
والرابع : الصفة المشبهة باسم الفاعل نحو قولك : حسن وشديد تقول : الحسن وجه زيد والشديد ساعدك وما أشبهه.
ص: 80
والخامس : المصدر نحو قولك عجبت من ضرب زيد عمرو وتأويله : من أن ضرب زيدا عمرو.
السادس : الأسماء التي يسمى الفعل بها في الأمر والنهي نحو قولهم : تراكها ومناعها يريدون : أترك وأمنع ورويد زيدا وهلم الثريد وصه ومه يريدون : اسكت وعليك زيدا فهذه الأسماء إنما جاءت في الأمر وتحفظ حفظا ولا يقاس عليها وسنذكر جميع هذه الأسماء التي أوقعت موقع الفعل في بابها مشروحة إن شاء الله.
إذا كان الاسم مبنيا على فعل بني للمفعول ولم يذكر من فعل به فهو رفع ، وذلك قولك : ضرب بكر وأخرج خالد واستخرجت الدراهم فبني الفعل للمفعول على (فعل) نحو : (ضرب). وأفعل نحو : (أكرم). وتفعل نحو : تضرب.
ونفعل نحو : نضرب ، فخولف بينه وبين بناء الفعل الذي بني للفاعل لئلا يلتبس المفعول بالفاعل وارتفاع المفعول بالفعل الذي تحدثت به عنه كإرتفاع الفاعل إذا كان الكلام لا يتم إلا به ولا يستغني دونه ولذلك قلت : إذا كان مبنيا على فعل بني للمفعول أردت به ما أردت في الفاعل من أن الكلام لا يتم إلا به وقلت ولم تذكر من فعل به لأنك لو ذكرت الفاعل ما كان المفعول إلا نصبا وإنما ارتفع لما زال الفاعل وقام مقامه.
واعلم أن الأفعال التي لا تتعدى لا يبنى منها فعل للمفعول ؛ لأن ذلك محال نحو : قام وجلس.
لا يجوز أن تقول : قيم زيد ولا جلس عمرو إذ كنت إنما تبني الفعل للمفعول فإذا كان الفعل لا يتعدى إلى مفعول فمن أين لك مفعول تبنيه له ، فإن كان الفعل يتعدى إلى مفعول
ص: 81
واحد نحو : ضربت زيدا أزلت الفاعل وقلت : ضرب زيد فصار المفعول يقوم مقام الفاعل وبقي الكلام بغير اسم منصوب ؛ لأن الذي كان منصوبا قد ارتفع ، وإن كان الفعل يتعدى إلى مفعولين نحو : أعطيت زيدا درهما فرددته إلى ما لم يسم فاعله قلت : أعطي زيد درهما فقام أحد المفعولين مقام الفاعل وبقي منصوب واحد في الكلام وكذلك إن كان الفعل يتعدى إلى ثلاثة مفعولين نحو : أعلم الله زيدا بكرا خير الناس إذا رددته إلى ما لم يسم فاعله قلت : أعلم زيد بكرا خير الناس فقام أحد المفعولين مقام الفاعل وبقي في الكلام اسمان منصوبان فعلى هذا يجري هذا الباب.
وإن كان الفعل لا يتعدى لم يجز ذلك فيه ، وإن كان يتعدى إلى مفعول واحد بقي الفعل غير متعمد ، وإن كان يتعدى إلى اثنين بقي الفعل متعديا إلى واحد ، وإن كان يتعدى إلى ثلاثة بقي الفعل يتعدى إلى إثنين فعلى هذا فقس متى نقلت (فعل) الذي هو للفاعل مبني إلى (فعل) الذي هو مبني للمفعول فانقص من المفعولات واحدا ، وإذا نقلت (فعلت) إلى أفعلت ، فإن كان الفعل لا يتعدى في (فعلت) فعده إلى واحد إذا نقلته إلى أفعلت تقول قمت فلا يتعدى إلى مفعول ، فإن قلت أفعلت منه قلت أقمت زيدا ، وإن كان الفعل يتعدى إلى مفعول واحد فنقلته من (فعلت) إلى (أفعلت) عديته إلى إثنين نحو قولك : رأيت الهلال هو متعد إلى مفعول واحد ، فإن قلت : أريت (1) زيدا الهلال فيتعدى إلى إثنين ، وإن كان الفعل يتعدى إلى مفعولين فعلت إلى أفعلت تعدي إلى ثلاثة مفعولين تقول علمت بكرا خير الناس ، فإن قلت : أعلمت قلت : أعلمت بكرا زيدا خير الناس فتعدى إلى ثلاثة فهذان النقلان مختلفان إذا نقلت (فعلت) إلى (فعلت) نقصت من المفعولات واحدا أبدا ، وإذا نقلت (فعلت) إلى (أفعلت) زدت في
ص: 82
المفعولات واحدا أبدا فتبين ذلك فإني إنما ذكرت (فعّلت) ، وإن لم يكن من هذا الباب ؛ لأن الأشياء تتضح بضمها إلى أضدادها واسم المفعول الجاري على فعله يعمل عمل الفعل نحو قولك : مضروب ومعط يعمل على أعطى ونعطي تقول : زيد مضروب أبوه فترفع (وأبوه) بمضروب كما كنت ترفعه بضارب إذا قلت : زيد ضارب أبوه عمرا وتقول : زيد معط أبوه درهما (فترفع الأب) (بمعط) وتقول : دفع إلى زيد درهم فترفع الدرهم لأنك جررت زيدا فقام الدرهم مقام الفاعل ويجوز أن تقول : سير بزيد فتقيم (بزيد) مقام الفاعل فيكون موضعه رفعا ولا يمنعه حرف الجر من ذلك كما قال : ما جاءني من أحد فأحد فاعل ، وإن كان مجرورا (بمن) وكذلك قوله تعالى : (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : 105].
فإن أظهرت زيدا غير مجرور قلت : أعطى زيد درهما وكسى زيد ثوبا فهذا وجه الكلام ويجوز أن تقول : أعطى زيدا درهم وكسى زيدا ثوب كما كان الدرهم والثوب مفعولين وكان لا يلبس على السامع الآخذ من المأخوذ جاز ولكن لو قلت : أعطى زيد عمرا وكان زيد هو الآخذ لم يجز أن تقول : أعطى عمرو زيدا ؛ لأن هذا يلبس إذ كان يجوز أن يكون كل واحد منهما آخذا لصاحبه وهو لا يلبس في الدرهم وما أشبه ؛ لأن الدرهم لا يكون إلا مأخوذا وإنما هذا مجاز والأول الوجه.
ومن هذا : أدخل القبر زيدا وألبست الجبة زيدا ولا يجوز على هذا ضرب زيدا سوط ؛ لأن سوطا في موضع قولك : ضربة بسوط فهو مصدر.
واعلم أنه يجوز أن تقيم المصادر (1) والظروف من الأزمنة والأمكنة مقام الفاعل في هذا الباب إذا جعلتها مفعولات على السعة ، وذلك نحو قولك : سير بزيد سير شديد وضرب من
ص: 83
أجل زيد عشرون سوطا واختلف به شهران ومضى به فرسخان وقد يجوز نصبهما على الموضع ، وإن كنت لم تقم المجرور مقام الفاعل أعني قولك : بزيد على أن تحذف ما يقوم مقام الفاعل وتضمره ، وذلك المحذوف على ضربين : إما أن يكون الذي قام مقام الفعل مصدرا استغنى عن ذكره بدلالة الفعل عليه وإما أن يكون مكانا دلّ الفعل عليه أيضا إذ كان الفعل لا يخلو من أن يكون في مكان كما أنه لا بد من أن يكون مشتقا من مصدره نحو قولك : سير بزيد فرسخا أضمرت السير ؛ لأن (سير) يدل على السير فكأنك قلت : سير السير بزيد فرسخا ثم حذفت السير فلم تحتج إلى ذكره معه كما تقول : من كذب كان شرا له تريد : كان الكذب شرا له ولم تذكر الكذب ؛ لأن (كذب) قد دل عليه.
ونظيره قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) [آل عمران : 180]. يعني : البخل الذي دل عليه (يبخلون) ، وأما الذي يدل عليه الفعل من المكان فأن تضمر في هذه المسألة ما يدل عليه (سير) نحو الطريق وما أشبهه من الأمكنة.
ألا ترى أن السير لا بد أن يكون في طريق فكأنك قلت : سير عليه الطريق فرسخا ثم حذفت لعلم المخاطب بما تعني فقد صار في (سير بزيد) ثلاثة أوجه : أجودها أن تقيم (بزيد) مقام الفاعل فيكون موضعه رفعا ، وإن كان مجرورا في اللفظ وقد أريناك مثل ذلك.
والوجه الثاني : الذي يليه في الجودة أن تريد المصدر فتقيمه مقام الفاعل وتحذفه.
والوجه الثالث : وهو أبعدها أن تريد المكان فتقيمه مقام الفاعل وتحذفه.
واعلم أنك إذا قلت : سير يزيد سيرا فالوجه النصب في (سير) لأنك لم تفد بقولك (سيرا) شيئا لم يكن في (سير) أكثر من التوكيد ، فإن وصفته فقلت : شديدا أو هينا فالوجه الرفع لأنك لما نعته قربته من الأسماء وحدثت فيه فائدة لم تكن في (سير) والظروف بهذه المنزلة لو قلت : سير بزيد مكانا أو يوما لكان الوجه النصب ، فإن قلت : يوم كذا أو مكانا بعيدا أو قريبا أختير الرفع والتقديم والتأخير والإضمار والإظهار في الاسم الذي قام مقام الفاعل ولم يسم من فعل به مثله في الفاعل يجوز فيه ما جاز في ذلك لا فرق بينهما في جميع ذلك وتقول :كيف أنت إذا نحى نحوك ونحوك على ما فسرنا ، فإن قلت : نحى قصدك فالإختيار عند قوم
ص: 84
من النحويين النصب لمخالفة لفظ الفعل لفظ المصدر والمصادر والظروف من الزمان والمكان لا يجعل شيء منها مرفوعا في هذا الباب حتى يقدر فيه أنه إذا كان الفاعل معه أنه مفعول صحيح فحينئذ يجوز أن يقام مقام الفاعل إذا لم تذكر الفاعل.
فأما الحال والتمييز فلا يجوز أن يجعل واحد منهما في محل الفاعل إذا قلت : سير بزيد قائما أو تصبب بدن عمرو عرقا لا يجوز أن تقيم (قائما وعرقا) مقام الفاعل لأنهما لا يكونان إلا نكرة فالفاعل وما قام مقامه يضمر كما يظهر والمضمر لا يكون إلا معرفة وكذلك المصدر الذي يكون علة لوقوع الشيء نحو : جئتك ابتغاء الخير لا يقوم مقام الفاعل ابتغاء الخير ؛ لأن المعنى لإبتغاء الخير ومن أجل ابتغاء الخير ، فإن أقمته مقام الفاعل زال ذلك المعنى وقد أجاز قوم في (كان زيد قائما) أن يردوه إلى ما لم يسم فاعله فيقولون : كين قائم.
قال أبو بكر : وهذا عندي لا يجوز من قبل أن (كان) (1) فعل غير حقيقي وإنما يدخل على المبتدأ والخبر فالفاعل فيه غير فاعل في الحقيقة والمفعول غير مفعول على الصحة فليس فيه مفعول يقوم مقام الفاعل لأنهما غير متغايرين إذ كان إلى شيء واحد ؛ لأن الثاني هو الأول في المعنى.
وقد نطق بما لم يسم فاعله في أحرف ولم ينطق فيها بتسمية الفاعل فقالوا : أنيخت الناقة وقد وضع زيد في تجارته ووكس وأغرى به وأولع به وما كان من نحو هذا مما أخذ عنهم سماعا وليس بباب يقاس عليه.
ص: 85
المشبه بالفاعل على ضربين : ضرب منه ارتفع (بكان وأخواتها) وضرب آخر ارتفع بحروف شبهت (بكان) والفعل وأخوات (كان) : صار وأصبح وأمسى وظل وأضحى وما دام وما زال وليس وما أشبه ذلك مما يجيىء عبارة عن الزمان فقط وما كان في معناهن مما لفظه لفظ الفعل وتصاريفه تصاريف الفعل تقول : كان ويكون وسيكون وكائن فشبهوها بالفعل لذلك فأما مفارقتها للفعل الحقيقي ، فإن الفعل الحقيقي يدل على معنى وزمان نحو قولك : ضرب يدل على ما مضى من الزمان وعلى الضرب الواقع فيه وكان إنما يدل على ما مضى من الزمان فقط (ويكون) تدل على ما أنت فيه من الزمان وعلى ما يأتي فهي تدل على زمان فقط فأدخلوها على المبتدأ وخبره فرفعوا بها ما كان مبتدأ تشبيها بالفاعل ونصبوا بها الخبر تشبيها بالمفعول فقالوا : كان عبد الله أخاك كما قالوا : ضرب عبد الله أخاك إلا أن المفعول في (كان) لا بد من أن يكون هو الفاعل ؛ لأن أصله المبتدأ وخبره كما كان خبر المبتدأ لا بد من أن يكون هو المبتدأ فإذا قالوا (كان زيد قائما) فإنما معناه : زيد قام فيما مضى من الزمان فإذا قالوا : أصبح عبد الله منطلقا فإنما المعنى : أتى الصباح وعبد الله منطلق فهذا تشبيه لفظي وكثيرا ما يعملون الشيء عمل الشيء إذا أشبهه في اللفظ ، وإن لم يكن مثله في المعنى وسترى ذلك إن شاء الله فقد بان شبه (كان وأخواتها) بالفعل إذ كنت تقول : كان يكون وأصبح يصبح وأضحى ويضحى ودام يدوم وزال يزال فأما ليس فالدليل على أنها فعل ، وإن كانت لا تتصرف تصرف الفعل قولك : لست كما تقول : ضربت ولستما كضربتما ولسنا كضربنا ولسن كضربن ولستن كضربتن وليسوا كضربوا ولسيت أمة الله ذاهبة كقولك : ضربت أمة الله زيدا.
وإنما امتنعت من التصرف لأنك إذا قلت (كان) دللت على ما مضى ، وإذا قلت (يكون) دللت على ما هو فيه وعلى ما لم يقع ، وإذا قلت : ليس زيد قائما الآن أو غدا أدت ذلك المعنى
ص: 86
الذي في يكون فلما كانت تدل على ما يدل عليه المضارع استغني عن المضارع فيها ولذلك لم تبن بناء الأفعال التي هي من بنات الياء مثل باع وبات.
وإذا اجتمع في هذا الباب معرفة ونكرة فاسم (كان) المعرفة كما كان ذلك في الابتداء هو المبتدأ (1) لا فرق بينهما في ذلك تقول : كان عمرو منطلقا وكان بكر رجلا عاقلا وقد يكون الاسم معرفة والخبر معرفة كما كان ذلك في الابتداء أيضا تقول : كان عبد الله أخاك وكان أخوك عبد الله أيهما شئت جعلته اسم (كان) وجعلت الآخر خبرا لها والشعراء قد يضطرون فيجعلون الاسم نكرة والخبر معرفة لعلمهم أن المعنى يؤول إلى شيء واحد فمن ذلك قول حسان :
كأنّ سلافة من بيت رأس
يكون مزاجها عسل وماء
وقال القطامي :
قفي قبل التفرق يا ضباعا
ولا يك موقف منك الوداعا
وقد مضى تفسير هذا وقد تخبر في هذا الباب بالنكرة عن النكرة إذا كان فيه فائدة ، وذلك قولك : ما كان أحد مثلك وليس أحد خيرا منك وما كان رجل قائما مقامك وإنما صلح هذا هنا ؛ لأن قولك : (رجل) في موضع الجماعة إذا جعلوا رجلا رجلا يدلك على ذلك قولك : ما كان رجلان أفضل منهما.
والمعول في هذا الباب وغيره على الفائدة كما كان في المبتدأ والخبر.
فما كانت فيه فائدة فهو جائز فأنت إذا قلت : ليس فيها أحد فقد نفيت الواحد والإثنين وأكثر من ذلك ومثل هذا لا يقع في الإيجاب ونظير أحد عريب وكتيع وطوريء وديار قال الراجز :
ص: 87
وبلدة ليس بها ديار
ومن هذه الأسماء ما يقع بعد (كل) لعمومها تقول : يعلم هذا كل أحد ، وأما قول الشاعر :
حتى ظهرت فما تخفى على أحد
إلا على أحد لا يعرف القمرا
فقد فسر هذا البيت على ضربين : أحدهما : أن يكون (أحد) في معنى واحد كأنه قال : إلا على واحد لا يعرف القمرا فأحد هذه هي التي تقع في قولك : أحد وعشرون وتكون على قولك (أحد) التي تقع في النفي فتجريه في هذا الموضع على الحكاية لتقديم ذكره إياه ونظير ذلك أن يقول القائل : أما في الدار أحد فتقول مجيبا بلى وأحد إنما هو حكاية للفظ ورد عليه وتقول : ما كان (1) رجل صالح فمشبه زيدا في الدار إذا جعلت في الدار خبرا ومعنى هذا الكلام أن زيدا صالح فمشبهه مثله ، فإن نصبت (مشبها) فقد ذممت زيدا أو أخبرت أن ما كان صالحا غير تشبيه.
فإذا قلت : ما كان أحد مثلك وما كان مثلك أحد فكلها نكرات ؛ لأن (مثل وشبه) يكن نكرات ، وإن أضفن إلى المعارف لأنهن لا يخصصن شيئا بعينه ؛ لأن الأشياء تتشابه من وجوه وتتنافى من وجوه ، فإن أردت (بمثلك) المعروف (بشبهك) خاصة كان معرفة كأخيك.
وتقول : ما كان في الدار أحد مثل زيد إذا جعلت (في الدار) الخبر ، وإن جعلت (في الدار) لغوا نصبت المثل قال الله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : 4].
والظروف يجوز أن يفصل بها بين (كان) وما عملت فيه لإشتمالها على الأشياء فتقديمها وهي ملغاة بمنزلة تأخيرها واعلم أن جميع ما جاز في المبتدأ وخبره من التقديم والتأخير فهو
ص: 88
جائز في (كان) إلا أن يفصل بينها وبين ما عملت فيه بما لم تعمل فيه ، فإن فصلت بظرف ملغى جاز فأما ما يجوز فقولك : كان منطلقا عبد الله وكان منطلقا اليوم عبد الله وكان أخاك صاحبنا وزيد كان قائما غلامه والزيدان كان قائما غلامهما تريد كان غلامهما قائما وكذلك : أخوات (كان) قال الله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : 47].
وتقول : من كان أخاك إذا كانت (من) مرفوعة كأنك قلت : أزيد كان أخاك وتقول : من كان أخوك إذا كانت (من) منصوبة كأنك قلت : أزيدا كان أخوك وهذا كقولك : من ضرب أخاك ومن ضرب أخوك فما أجزته في المبتدأ والخبر من التقديم والتأخير فأجزه فيها ولكن لا تفصل بينها وبين ما عملت فيه بما لم تعمل فيه ولا تقل : كانت زيدا الحمى تأخذ ولا : كان غلامه زيد يضرب لا تجز هذا إذا كان (زيد والحمى) أسمين لكان.
فإن أضمرت في (كان) الأمر أو الحديث أو القصة وما أشبه ذلك وهو الذي يقال له المجهول.
كان ذلك المضمر اسم (كان) وكانت هذه الجملة خبرها فعلى ذلك يجوز كان زيدا الحمى تأخذ وعلى هذا أنشدوا :
فأصبحوا والنّوى عالي معرّسهم
وليس كلّ الّنوى يلقى المساكين (1)
ص: 89
كأنه قال : وليس الخبر يلقى المساكين كل النوى ولكن هذا المضمر لا يظهر وأصحابنا يجيزون : غلامه كان زيد يضرب فينصبون الغلام (بيضرب) ويقدمونه ؛ لأن كلّ ما جاز أن يتقدم من الأخبار جاز تقديم مفعوله فلو قلت : غلامه ضرب زيد كان جيدا فكان هذا بمنزلة : ضرب زيد غلامه.
ولو رفعت الغلام كان غير جائز ؛ لأنه إضمار قبل الذكر فلا يجوز أن ينوى به غيره ، فإن قال قائل : فأنت إذا نصبت فقد ذكرته قبل الاسم قيل له : إذا قدم ومعناه التأخير فإنما تقديره والنية فيه أن يكون مؤخرا ، وإذا كان في موضعه لم يجز أن تعني به غير موضعه ألا ترى أنك تقول : ضرب غلامه زيد ؛ لأن الغلام في المعنى مؤخرا والفاعل على الحقيقة قبل المفعول ولكن لو قلت : ضرب غلامه زيدا لم يجز ؛ لأن الغلام فاعل وهو في موضعه فلا يجوز أن تنوي به غير ذلك الموضع.
وتقول : كان زيد قائما أبوه وكان زيد منطلقة جارية يحبها والتقديم والتأخير في الأخبار المجملة بمنزلتها في الأخبار المفردة ما لم تفرقها تقول : أبوه منطلق كان زيد تريد كان زيد أبوه منطلق وقائمة جارية يحبها كان زيد تريد : كان زيد قائمة جارية يحبها وفي داره ضرب عمرو خالدا كان زيد ، فإن قلت : كان في داره زيد أبوه وأنت تريد : كان زيد في داره أبوه لم يجز ؛ لأن الظرف للأب فليس من كان في شيء وقد فصلت به بينها وبين خبرها ولو قلت : كان في داره أبوه زيد صلح لأنك قدمت الخبر بهيئته وعلى جملته فصار مثل قولك : كان منطلقا زيد ومثل ذلك : كان زيدا أخواك يضربان هذا لا يجوز ، فإن قدمت : (يضربان زيدا) جاز وتجوز هذه المسألة إذا أضمرت في (كان) مجهولا وتقول : زيد كان منطلقا أبوه فزيد مبتدأ وما بعده خبر له وفي (كان) ضمير زيد وهو اسمها ومنطلقا أبوه (خبره) ، وإن شئت رفعت (أبا) ب (كان) وجعلت (منطلقا) خبره وتقول : زيد منطلقا أبوه كان تريد : زيد كان منطلقا أبوه مثل المسألة التي قبلها.
وقال قوم : أبوه قائم كان (زيد) خطأ ؛ لأن ما لا تعمل فيه (كان) لا يتقدم قبل (كان) والقياس ما خبرتك به إذ كان قولك : أبوه قائم في موضع قولك : (منطلقا) فهو بمنزلته فإذا لم
ص: 90
يصح سماع الشيء عن العرب لجىء فيه إلى القياس ولا يجيزون أيضا : كان أبوه قائم زيد.
وكان أبوه زيد أخوك ، وكان أبوه يقوم أخوك ، هذا خطأ عندهم لتقديم المكنى على الظاهر.
وهذا جائز عندنا لأنك تقدم المكنى على الظاهر في الحقيقة وقد مضى تفسير المكنى : أنه إذا كان في غير موضعه وتقدم جاز تقدمه ؛ لأن النية فيه أن يكون متأخرا والذي لا يجوز عندنا أن يكون قد وقع في موقعه وفي مرتبته فحينئذ لا يجوز أن ينوى به غير موضعه ولأصول التقديم والتأخير موضع يذكر فيه إن شاء الله ولا يحسن عندي أن تقول : (آكلا كان زيد طعامك (1)) من أجل أنك فرقت بين آكل وبين ما عمل فيه بعامل آخر ومع ذلك فيدخل لبس في بعض الكلام وإنما يحسن مثل هذا في الظروف نحو قولك : راغبا كان زيد فيك لإتساعهم في الظروف وأنهم جعلوا لها فضلا على غيرها في هذا المعنى ولا أجيز أيضا : آكلا كان زيد أبوه طعامك أريد به : كان زيد آكلا أبوه طعامك للعلّة التي ذكرت لك بل هو هاهنا أقبح لأنك فرقت بين (آكل) وبين ما أرتفع به وفي تلك المسألة إنما فرقت بينه وبين ما انتصب به والفاعل ملازم لا بد منه والمفعول فضلة وقوم لا يجيزون : كان خلفك أبوه زيد وهو جائز عندنا وقد مضى تفسيره ويقولون : لا يتقدم (كان) فعل ماض ولا مستقبل.
ص: 91
وما جاز أن يكون خبرا فالقياس لا يمنع من تقديمه إذا كانت الأخبار تقدم إلا أني لا أعلمه مسموعا من العرب ولا يتقدم خبر (ليس) قبلها لأنها لم تصرف تصرف (كان) لأنك لا تقول : منها يفعل ولا فاعل وقد شبهها بعض العرب ب (ما) فقال : ليس الطيب إلا المسك فرفع وهذا قليل فإذا أدخلت على (ليس) ألف الاستفهام كانت تقريرا ودخلها معنى الإيجاب فلم يجىء معها أحد ؛ لأن أحدا إنما يجوز مع حقيقة النفي لا تقول : أليس أحد في الدار ؛ لأن المعنى يؤول إلى قولك : أحد في الدار وأحد لا يستعمل في الواجب ولذلك لا يجوز أن تجيء إلا مع التقرير لا يجوز أن تقول فيها ؛ لأن المعنى يؤول إلى قولك : زيد إلا فيها وذا لا يكون كلاما وقد أدخلوا الباء في خبر (ليس) توكيدا للنفي تقول : ألست بزيد ولست بقائم (1) : وقالوا : أليس إنما قمت ولا يجيء (إنما) إلا مع إدخال الألف كذا حكى وتقول : ليس عبد الله بحسن ولا كريما فتعطف (كريما) على (بحسن) ؛ لأن موضعه نصب وإنما تدخل الباء هنا تأكيدا للنفي.
وتقول : ليس عبد الله بذاهب ولا خارج عمرو على أن تجعل عمرا (مبتدأ) وخارجا خبره ولك أن تنصب فتقول : ليس عبد الله بذاهب ولا خارجا عمرو على أنه معطوف على خبر (ليس) قبل الباء ولا يحسن ليس عبد الله بذاهب ولا خارج زيد فتجر بالباء ويرتفع زيد ب (ليس) لا يجوز هذا لأنك قد عطفت بالواو على عاملين وإنما تعطف حروف العطف على عامل واحد ولكن تقول : ليس زيد بخارج ولا ذاهب أخوه فتجري (ذاهبا) على (خارج) ، وترفع الأخ ب (ذاهب) ؛ لأنه ملبس ب (زيد) وهو من سببه فكأنك قلت : ليس زيد ذاهب ولا خارج ولو حملت (الأخ) على (ليس) لم يجز من أجل أنك تعطف على عاملين على (ليس) وهي
ص: 92
عاملة وعلى (الباء) وهي عاملة وقالوا : ما كان عبد الله ليقوم ولم يكن ليقوم فأدخلوا اللام مع النفي ولا يجوز هذا في أخوات (كان) ولا تقول : ما كان ليقوم وهذا يتبع فيه السماع.
واعلم أن خبر (كان) إذا كنيت عنه جاز أن يكون منفصلا ومتصلا والأصل أن يكون منفصلا إذ كان أصله أنه خبر مبتدأ تقول : كنت إياه وكان إياي هذا الوجه ؛ لأن خبرها خبر ابتداء وحقه الإنفصال ويجوز كأنني وكنته كقولك : (ضربني وضربته) لأنها متصرفة تصرف الفعل فالأول استحسن للمعنى والثاني لتقديم اللفظ قال أبو الأسود :
فإن لا يكنها أو تكنه فإنّه
أخوها غذته أمه بلبانها (1)
و (لكان) ثلاثة مواضع :
الأول : التي يكون لها اسم وخبر.
الثاني : أن يكون بمعنى وقع وخلق فتكتفي بالاسم وحده ولا تحتاج إلى خبر ، وذلك قولك : أنا أعرفه مذ كان زيد أي : مذ خلق وقد كان الأمر أي : وقع وكذلك أمسى وأصبح تكون مرة بمنزلة (كان) التي لها خبر ومرة بمنزلة استيقظ ونام فتكون أفعالا تامة تدل على معان وأزمنة.
ولا ينكر أن يكون لفظ واحد لها معنيان وأكثر ، فإن ذلك في لغتهم كثير من ذلك قولهم وجدت عليه من الموجدة ووجدت ، يريدون وجدان الضالة وهذا أكثر من أن يذكر هنا.
الثالث : أن تكون توكيدا زائدة نحو قولك : زيد كان منطلق إنما معناه : زيد منطلق وجاز الغاؤها لاعتراضها بين المبتدأ والخبر.
ص: 93
فمن ذلك (ما) وهي تجري مجرى (ليس) في لغة أهل الحجاز شبهت بها في النفي خاصة لأنها نفي كما أنها نفي يقولون : ما عمرو منطلقا ، فإن خرج معنى الكلام إلى الإيجاب لم ينصبوا كقولك : ما زيد إلا منطلق ، وإن قدموا الخبر على الاسم رفعوا أيضا فقالوا : (ما منطلق زيد) فتجتمع اللغة الحجازية (1) والتميمية فيهما معا ؛ لأن بني تميم لا يعملونها في شيء ويدعون الكلام على ما كان عليه قبل النفي يعني الابتداء فإذا قلت : ما يقوم زيد فنفيت ما في الحال حسن.
فإن قلت : ما يقوم زيد غدا كان أقبح ؛ لأن هذا الموضع خصت به (لا) يعني نفي المستقبل.
ولو قلت : (ما قام زيد) كان حسنا كأنه قال : (قام) فقلت أنت : ما قام ، فإن أخرت فقلت : ما زيد قام أو يقوم كان حسنا أيضا وتقول : ما زيد بقائم فتدخل الباء كما أدخلتها في خبر (ليس) فيكون موضع (بقائم) نصبا ، فإن قدمت الخبر لم يجز لا تقول : ما بقائم زيد من أجل أن خبرها إذا كان منصوبا لم يتقدم والمجرور كالمنصوب ولو قلت : ما زيد بذاهب ولا بخارج أخوه : وأنت تريد أن تحمل (الأخ) على ما لم يكن كلاما ؛ لأن (ما) لا تعمل في الاسم إذا قدم خبره وتقول : ما كل يوم مقيم فيه زيد ذاهب فيه عمرة منطلقا فيه خالد تجعل (مقيما) صفة (ليوم) وذاهب فيه صفة (لكل) و (منطلقا) موضع الخبر هذا على لغة أهل الحجاز وتقول : ما كل ليلة مقيما فيها زيد ، وإذا قلت : ما طعامك زيد آكل وما فيك زيد راغب ترفع الخبر لا غير من أجل تقديم مفعوله فقد قدمته في التقدير ؛ لأن مرتبة العامل قبل المعمول فيه
ص: 94
ملفوظا به أو مقدرا وقوم يجيزون إدخال الباء في هذه المسألة فيقولون : ما طعامك زيد بآكل وما فيك زيد براغب ، إلا أنهم يرفعون الخبر إذا لم تدخل الباء ولا يجيزون نصب الخبر في هذه المسألة.
وتقول : ما زيد قائما بل قاعد لا غير ؛ لأن النفي نصبه ومن أجل النفي شبهت (ما) بليس فلا يكون بعد التحقيق إلا رفعا وتقول زيد ما قام وزيد ما يقوم ولا يجوز : زيد ما قائما ولا زيد ما قائم ولا زيد ما خلفك حتى تقول : ما هو قائما وهو خلفك ؛ لأن (ما) حقها أن يستأنف بها ولا يجوز أن تضمر فيها إذ كانت حرفا ليس بفعل وإنما يضمر في الأفعال ولا يجوز : طعامك ما زيد آكل أبوه على ما فسرت لك وقد حكي عن بعض من تقدم من الكوفيين إجازته ويجوز إدخال من على الاسم الذي بعدها إذا كان نكرة تقول : ما من أحد في الدار وما من رجل فيها.
ويجوز أن تقول : ما من رجل غيرك وغيرك بالرفع والجر ويكون موضع رجل رفعا قال الله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف : 59] وغيره على المعنى وعلى اللفظ وإنما تدخل (من) في هذا الموضع لتدل على أنه قد نفى كل رجل وكل أحد (1).
ص: 95
ص: 96
ولو قلت : ما رجل في الدار لجاز أن يكون فيها رجلان وأكثر ، وإذا قلت : ما من في الدار لم يجز أن يكون فيها أحد البتة.
وقال الأخفش : إن شئت قلت وهو رديء : ما ذاهبا إلا أخوك وما ذاهبا إلا جاريتك تريد : ما أحد ذاهبا وهذا رديء لا يحذف (أحد) وما أشبهه حتى يكون معه كلام نحو : ما منهما مات حتى رأيته يفعل كذا وكذا و (مات) في موضع نصب على مفعول (ما) في لغة أهل الحجاز.
وفي كتاب الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) [النساء : 159] والمعنى : ما من أهل الكتاب أحد (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : 71] أي : وإن أحد منكم ومعنى :
(إن) معنى : (ما) فقد بان أن في (ما) ثلاث لغات : ما زيد قائما وما زيد بقائم وما زيد قائم والقرآن جاء بالنصب وبالباء ومما شبه من الحروف ب (ليس) (لات) شبهها بها أهل الحجاز ، وذلك مع الحين خاصة قال الله تعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص : 3].
قال سيبويه : تضمر فيها مرفوعا قال : نظير (لات) في أنه لا يكون إلا مضمرا فيها (ليس) و (لا يكون) في الاستثناء إذا قلت : أتوني ليس زيدا ولا يكون بشرا قال : وليست لات ك- (ليس) في المخاطبة والإخبار عن غائب تقول : لست وليسوا وعبد الله ليس منطلقا ولا تقول : عبد الله لات منطلقا ولا قومك لاتوا منطلقين.
قال : وزعموا : أن بعضهم قرأ : (ولات حين مناص) وهو عيسى بن عمر وهي قليلة كما قال بعضهم في قول سعيد بن مالك :
من صدّ عن نيرانها
فأنا ابن قيس لا براح
فجعلها بمنزلة (ليس) قال : و (لات) بمنزلة (لا) في هذا الموضع في الرفع ولا يجاوز بها الحين يعني : إذا رفعت ما بعدها تشبيها (بليس) فلم يجاوز بها الحين أيضا وأنها لا تعمل إلا في (الحين) رفعت أو نصبت وقال الأخفش الصغير أبو الحسن سعيد بن مسعدة : إنها لا تعمل في القياس شيئا.
ص: 97
قال أبو بكر : والذي قال سيبويه : أنه يضمر في (لات (1)) إن كان يريد أن يضمر فيها كما يضمر في الأفعال فلا يجوز لأنها حرف من الحروف والحروف لا يضمر فيها ، وإن كان يريد أنه حذف الاسم بعدها وأضمره المتكلم كما فعل في قوله في (ما) ما منهما مات أراد (أحدا) فحذف وهو يريده فجائز.
وقوم يدخلون في باب (كان) عودة الفعل كقولك : لأن ضربته لتضربنه السيد الشريف وقولك : عهدي بزيد قائما وهذا يذكر مع المحذوف والمحذوفات ومما شبه ايضا بالفاعل في اللفظ أخبار الحروف التي تدخل على المبتدأ وخبره فتنصب الاسم وترفع الخبر وهي إن وأخواتها وسنذكرها مع ما ينصب وهذه الحروف أعني (إن واخواتها) خولف بين عملها وبين عمل الفعل بأن قدم فيها المنصوب على المرفوع.
وإنما أعملوا (ما) على (ليس) ؛ لأن معناها معنى ليس لأنها نفي كما أنها نفى ومع ذلك فليس كل العرب يعملها عمل (ليس) إنما روي ذلك عن أهل الحجاز وكان حق (ما) أن لا تعمل شيئا إذ كانت تدخل على الأسماء والأفعال ورأيناهم إنما أعملوا من الحروف في الأسماء ما لا يدخل على الأفعال وأعملوا منها في الأفعال ما لا يدخل على الأسماء.
فأما ما يدخل على الأسماء والأفعال منها فألغوه من العمل وقد بين هذا فيما مضى وإذ قد ذكرنا ما يرتفع من الأسماء فكان ما يرتفع منها بأنه مبتدأ وخبر ومبتدأ معنيان فقط لا يتشعب منهما فنون كما عرض في الفعل أن منه متصرفا أو غير متصرف ومنه أسماء شبهت بالفعل وقد ذكرنا الفعل المتصرف فلنذكر الفعل الذي هو غير متصرف ثم نتبعه بالأسماء إن شاء الله.
ص: 98
اعلم أن كل فعل لزم بناء واحدا فهو غير متصرف.
وقد ذكرت أن التصرف : أن يقال فيه فعل يفعل ويدخله تصاريف الفعل.
وغير المتصرف : ما لم يكن كذلك فمن الأفعال التي لم تتصرف ولزمت بناء واحدا فعل التعجب نحو : ما أحسن زيدا وأكرم بعمرو. والفعلان المبنيان للحمد والذم وهما نعم وبئس.
فهذه الأفعال وما جرى مجراها لا تتصرف ولا يدخلها حروف المضارعة ولا يبني منها اسم فاعل.
ص: 99
فعل التعجب (1) على ضربين وهو منقول من بنات الثلاثة إما إلى أفعل ويبنى على الفتح ؛ لأنه ماض وإما إلى أفعل به ويبنى على الوقف ؛ لأنه على لفظ الأمر.
فأما الضرب الأول : وهو أفعل يا هذا فلا بد من أن تلزمه (ما) تقول : ما أحسن زيدا وما أجمل خالدا وإنما لزم فعل التعجب لفظا واحدا.
ولم يصرف ليدل على التعجب ولو لا ذلك لكان كسائر الأخبار ؛ لأنه خبر ويدل على أنه خبر أنه يجوز لك أن تقول فيه صدق أو كذب فإذا قلت : ما أحسن زيدا ف- (ما) اسم مبتدأ وأحسن خبره وفيه ضمير الفاعل وزيد مفعول به و (ما) هنا اسم تام غير موصول فكأنك قلت : شيء حسن زيدا ولم تصف أن الذي حسنه شيء بعينه فلذلك لزمها أن تكون مبهمة غير مخصوصة كما قالوا : شيء جاءك أي : ما جاءك إلا شيء وكذلك : شر أهر ذا ناب أي : ما أهره إلا شر ونظير ذلك إني مما أن أفعل يريد : أني من الأمر أن أفعل فلما كان الأمر مجهولا جعلت (ما) بغير صلة ولو وصلت لصار الاسم معلوما وإنما لزمه الفعل الماضي وحده ؛ لأن التعجب إنما يكون مما وقع وثبت ليس مما يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون وإنما جاء هذا الفعل على (أفعل) نحو : أحسن وأجمل ؛ لأن فعل التعجب إنما يكون مفعولا من بنات الثلاثة فقط نحو : ضرب وعلم ومكث : لا يجوز غير ذلك نحو : ضرب زيد ثم تقول : ما أضربه وعلم ثم تقول :
ص: 100
ما أعلمه ومكث ثم تقول : ما أمكثه فتنقله من فعل أو فعل أو فعل إلى (أفعل يا هذا) كما كنت تفعل هذا في غير التعجب ألا ترى أنك تقول : حسن زيد فإذا أخبرت أن فاعلا فعل ذلك به قلت : حسن الله زيدا فصار الفاعل مفعولا وقد بينت لك كيف ينقل (فعل) إلى (فعل) فيما مضى ، وإذا قلت : ما أحسن زيدا (1) كان الأصل حسن زيد ثم نقلناه إلى (فعل) فقلنا : شيء أحسن زيدا وجعلنا (ما) موضع شيء ولزم لفظا واحدا ليدل على التعجب كما يفعل ذلك في الأمثال ، فإن قال قائل فقد قالوا : ما أعطاه وهو من (أعطى يعطي) وما أولاه بالخير ، قيل : هذا على حذف الزوائد ؛ لأن الأصل عطا يعطو إذا تناول وأعطى غيره إذا ناوله وكذلك ولي وأولى غيره وقال الأخفش : إذا قلت : ما أحسن زيدا ف- (ما) : في موضع الذي وأحسن : زيدا صلتها والخبر محذوف واحتج من يقول هذا القول بقولك : حسبك ؛ لأن فيه معنى النهي ولم يؤت له بخبر وقد طعن على هذا القول : بأن الأخبار إنما تحذف إذا كان في الكلام ما يدل عليها وهذا الباب عندي يضارع باب (كان وأخواتها) من جهة أن الفاعل فيه ليس هو شيئا غير المفعول ولهذا ذكره سيبويه بجانب باب (كان وأخواتها) إذ كان (باب كان) الفاعل فيه هو المفعول.
فإن قال قائل : فما بال هذه الأفعال تصغر نحو : ما أميلحه وأحيسنه والفعل لا يصغر فالجواب في ذلك : أن هذه الأفعال لما لزمت موضعا واحدا ولم تتصرف ضارعت الأسماء التي لا تزول إلى (يفعل) وغيره من الأمثلة فصغرت كما تصغر ونظير ذلك : دخول ألفات الوصل
ص: 101
في الأسماء نحو : ابن واسم وامريء وما أشبهه لما دخلها النقص الذي لا يوجد إلا في الأفعال والأفعال مخصوصة به فدخلت عليها ألفات الوصل لهذا السبب فأسكنت أوائلها للنقص وهذه الأسماء المنقوصة تعرفها إذا ذكرنا التصريف إن شاء الله.
وقولك : ما أحسنني يعلمك أنه فعل ولو كان اسما لكان ما أحسنني مثل ضاربي ألا ترى أنك لا تقول : ضاربني.
والضرب الثاني من التعجب : يا زيد أكرم بعمرو (1) ويا هند أكرم بعمرو ويا رجلان أكرم بعمرو ويا هندان أكرم بعمرو وكذلك جماعة الرجال والنساء قال الله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) [مريم : 38]. وإنما المعنى : ما أسمعهم وأبصرهم وما أكرمه ولست تأمرهم أن يصنعوا به شيئا فتثنيّ وتجمع وتؤنث وأفعل هو (فعل) لفظه لفظ الأمر في قطع ألفه وإسكان آخره ومعناه إذا قلت : أكرم بزيد وأحسن بزيد كرم زيد جدا وحسن زيد جدا.
فقوله : بعمرو في موضع رفع كما قالوا : كفى بالله والمعنى : كفى الله ؛ لأنه لا فعل إلا بفاعل وزيد فاعله إذا قلت : أكرم بزيد ؛ لأن زيدا هو الذي كرم وإنما لزمت الباء هنا الفاعل لمعنى التعجب وليخالف لفظه لفظ سائر الأخبار ، فإن قال قائل : كيف صار هنا فاعلا وهو في قولك : ما أكرم زيدا مفعول قلنا : قد بينا أن الفاعل في هذا الباب ليس هو شيئا غير المفعول ألا ترى أنك لو قلت : ما أحسن زيدا فقيل لك فسره وأوضح معناه وتقديره : قلت على ما قلناه :شيء حسن زيدا ، وذلك الشيء الذي حسن زيدا ليس هو شيئا غير زيد ؛ لأن الحسن لو حل في
ص: 102
غيره لم يحسن هو به فكأن ذلك الشيء مثلا وجهه أو عينه وإنما مثلت لك بوجهه وعينه تمثيلا ولا يجوز التخصيص في هذا الباب لأنك لو خصصت شيئا لزال التعجب ؛ لأنه إنما يراد به أن شيئا قد فعل فيه هذا وخالطه لا يمكن تحديده ولا يعلم تلخيصه.
والتعجب كله إنما هو مما لا يعرف سببه فأما ما عرف سببه فليس من شأن الناس أن يتعجبوا منه فكلما أبهم السبب كان أفخم وفي النفوس أعظم.
واعلم أن الأفعال التي لا يجوز أن تستعمل في التعجب على ضربين (1) :
الضرب الأول : الأفعال المشتقة من الألوان والعيوب.
الضرب الآخر : ما زاد من الفعل على ثلاثة أحرف وسواء كانت الزيادة على الثلاثة أصلا أو غير أصل.
ص: 103
فأما الألوان والعيوب فنحو : الأحمر والأصفر والأعور والأحول وما أشبه ذلك لا تقول فيه : ما أحمره ولا ما أعوره.
قال الخليل رحمه الله : وذلك أنه ما كان من هذا لونا أو عيبا فقد ضارع الأسماء وصار خلقة كاليد والرجل والرأس ونحو ذلك فلا تقل فيه : ما أفعله كما لم تقل ما أيداه وما أرجله إنما تقول : ما أشد يده وما أشد رجله وقد اعتل النحويون بعلة أخرى فقالوا : إن الفعل منه على أفعل وإفعال نحو : أحمر وإحمار وأعور وإعوار وأحول وإحوال ، فإن قال قائل : فأنت تقول : قد عورت عينه وحولت : فقل على هذا : ما أعوره وما أحوله ، فإن ذلك غير جائز ؛ لأن هذا منقول من (أفعل) والدليل على ذلك صحة الواو والياء إذا قلت : عورت عينه وحولت ولو كان غير منقول لكان : حالت وعارت وهذا يبين في بابه إن شاء الله.
وأما الضرب الثاني : وهو ما زاد من الفعل على ثلاثة أحرف نحو : دحرج وضارب واستخرج وانطلق واغدودن اغدودن الشعر : إذا تم وطال وافتقر وكل ما لم أذكره مما جاوز الثلاثة فهذا حكمه وإنما جاز : ما أعطاه وأولاه على حذف الزوائد وأنك رددته إلى الثلاثة.
فإن قلت في (افتقر) : ما أفقره فحذفت الزوائد ورددته إلى (فقر) جاز وكذلك كل ما كان مثله مما جاء اسم الفاعل منه على (فعيل) ألا ترى أنك تقول : رجل فقير وإنما جئت به على (فقر) كما تقول : كرم فهو كريم وظرف فهو ظريف ولكن تقول إذا أردت التعجب في هذه الأفعال الزائدة على ثلاثة أحرف كلها ما أشد دحرجته وما أشد استخراجه وما أقبح افتقاره ونحو ذلك واعلم أن كل ما قلت فيه : ما أفعله قلت فيه : أفعل به وهذا أفعل من هذا وما لم تقل فيه : ما أفعله لم تقل فيه : هذا أفعل من هذا ولا : أفعل به تقول : زيد أفضل من عمرو وأفضل بزيد كما تقول : ما أفضله وتقول : ما أشد حمرته وما أحسن بياضه وتقول على هذا :أشدد ببياض زيد وزيد أشد بياضا من فلان وهذا كله مجراه واحد ؛ لأن معناه المبالغة والتفضيل (1) وقد أنشد بعض الناس :
ص: 104
يا ليتني مثلك في البياض
أبيض من أخت بني إباض
قال أبو العباس : هذا معمول على فساد وليس البيت الشاذ والكلام المحفوظ بأدنى إسناد حجة على الأصل المجمع عليه في كلام ولا نحو ولا فقه وإنما يركن إلى هذا ضعفة أهل النحو ومن لا حجة معه وتأويل هذا وما أشبهه في الإعراب كتأويل ضعفه أصحاب الحديث وأتباع القصاص في الفقه.
فإن قال قائل فقد جاء في القرآن : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) [الإسراء : 72]؟قيل له : في هذا جوابان :
أحدهما : أن يكون من عمى القلب وإليه ينسب أكثر الضلال ، فعلى هذا تقول : ما أعماه ، كما تقول : ما أحمقه.
الوجه الآخر : أن يكون من عمى العين ، فيكون قوله : (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) لا يراد به : أنه أعمى من كذا وكذا ولكنه فيها أعمى كما كان في الدنيا أعمى وهو في الآخرة أضل سبيلا.
وكل فعل مزيد لا يتعب منه نحو قولك : ما أموته لمن مات إلا أن تريد : ما أموت قلبه فذلك جائز.
ص: 105
تقول : ما أحسن وأجمل زيدا إن نصبت (زيدا) ب (أجمل) ، فإن نصبته ب (أحسن) قلت : ما أحسن وأجمله زيدا تريد : ما أحسن زيدا وأجمله.
وعلى هذا مذهب إعمال الفعل الأول (1) وكذلك : ما أحسن وأجملهما أخويك وما أحسن وأجملهم أخوتك فهذا يبين لك أن أحسن وأجمل وما أشبه ذلك أفعال.
وتقول : ما أحسن ما كان زيد فالرفع الوجه و (ما) الثانية في موضع نصب بالتعجب وتقدير ذلك : ما أحسن كون زيد.
تكون (ما) مع الفعل مصدرا إذا وصلت به كما تقول : ما أحسن ما صنع زيد أي : ما أحسن صنيع زيد و (صنع زيد) من صلة (ما) وتقول : ما كان أحسن زيداص وما كان أظرف أباك فتدخل (كان) ليعلم : أن ذلك وقع فيما مضى كما تقول : من كان ضرب زيدا تريد : من ضرب زيدا (ومن كان يكلمك) تريد : من يكلمك.
(فكان) تدخل في هذه المواضع ، وإن ألغيت في الإعراب لمعناها في المستقبل والماضي من عبارة الأفعال.
وقد أجاز قوم من النحويين : ما أصبح أبردها (2) وما أمسى أدفاها واحتجوا بأن : (أصبح وأمسى) من باب (كان) فهذا عندي : غير جائز ويفسد تشبيههم ما ظنوه : أن أمسى وأصبح
ص: 106
أزمنة مؤقتة و (كان) ليست مؤقتة ولو جاز هذا في أصبح وأمسى لأنهما من باب (كان) لجاز ذلك في (أضحى) و (صار) و (ما زال) ولو قلت : ما أحسن عندك زيدا وما أجمل اليوم عبد الله لقبح ؛ لأن هذا الفعل لما لم يتصرف ولزم طريقة واحدة صار حكمه حكم الأسماء فيصغر تصغير الأسماء ويصحح المعتل منه تصحيح الأسماء تقول : ما أقوم زيدا وما أبيعه شبهوه بالأسماء ألا ترى أنك تقول في الفعل : أقام عبد الله زيدا ، فإن كان اسما قلت : هذا أقوم من هذا.
وتقول : ما أحسن ما كان زيد وأجمله وما أحسن ما كانت هند وأجمله ؛ لأن المعنى ما أحسن كون هند وأجمله فالهاء للكون ولو قلت : وأجملها لجاز على أن تجعل ذلك لها.
وإذا قلت : ما أحسن زيدا فرددت الفعل إلى (نفسك) قلت : ما أحسنني ؛ لأن (أحسن) فعل.
وظهر المفعول بعده بالنون والياء ولا يجوز : ما أحسن رجلا ؛ لأنه لا فائدة فيه ولو قلت : ما أحسن زيدا ورجلا معه جاز ولو لا قولك : (معه) لم يكن في الكلام فائدة وتقول : ما أقبح بالرجل أن يفعل كذا وكذا فالرجل شائع وليس التعجب منه ، إنما التعجب من قولك : أن يفعل كذا وكذا (1).
ولو قلت : ما أحسن رجلا إذا طلب ما عنده أعطاه كان هذا الكلام جائزا ولكن التعجب وقع على رجل وإنما تريد التعجب من فعله.
وإنما جاز ذلك ؛ لأن فعله به كان وهو المحمود عليه في الحقيقة والمذموم ، وإذا قلت : ما أكثر هبتك الدنانير وإطعامك للمساكين لكان حق هذا التعجب أن يكون قد وقع من الفعل والمفعول به ؛ لأن فعل التعجب للكثرة والتعظيم ، فإن أردت : أنّ هبته وإطعامه كثيران إلا أن الدنانير التي يهبها قليلة والمساكين الذين يطعمهم قليل جاز ووجه الكلام الأول. ولا يجوز أن تقول : ما أحسن في الدار زيدا وما أقبح عندك زيدا ؛ لأن فعل للتعجب لا يتصرف وقد مضى
ص: 107
هذا ولا يجوز : ما أحسن ما ليس زيدا. ولا ما أحسن ما زال زيد ، كما جاز لك ذلك في (كان) ولكن يجوز : ما أحسن ما ليس يذكرك زيد وما أحسن ما لا يزال يذكرنا زيد وهذا مذهب البغداديين.
ولا يجوز أن يتعدى فعل التعجب إلا إلى الذي هو فاعله في الحقيقة تقول : ما أضرب زيدا فزيد في الحقيقة هو الضارب ولا يجوز أن تقول : ما أضرب زيدا عمرا ولكن لك أن تدخل اللام فتقول : ما أضرب زيدا لعمرو.
وفعل التعجب نظير قولك : هو أفعل من كذا. فما جاز فيه جاز فيه. وقد ذكرت هذا قبل وإنما أعدته ؛ لأنه به يسير هذا الباب ويعتبر.
ولا يجوز عندي أن يشتق فعل التعجب من (كان) التي هي عبارة عن الزمان فإذا اشتققت من (كان) التي هي بمعنى (خلق ووقع) جاز وقوم يجيزون : ما أكون زيدا قائما ؛ لأنه يقع في موضعه المستقبل والصفات ويعنون بالصفات (في الدار) وما أشبه ذلك من الظروف ويجيزون ما أظنني لزيد قائما ويقوم ولا يجيزون (قام) ؛ لأنه قد مضى فهذا يدلك على أنهم إنما أرادوا (بقائم) ويقوم الحال.
وتقول : أشدد به (1) ولا يجوز الإدغام وكذلك : أجود به وأطيب به ؛ لأنه مضارع للأسماء.
وقد أجاز بعضهم : ما أعلمني بأنك قائم وأنك قائم أجاز إدخال الباء وإخراجها مع (أن) وقال قوم : لا يتعجب مما فيه الألف واللام إلا أن يكون بتأويل جنس.
لا تقول : ما أحسن الرجل ، فإن قلت : ما أهيب الأسد جاز والذي أقول أنا في هذا : إنه إذا عرف الذي يشار إليه فالتعجب جائز.
ص: 108
ولا يعمل فعل التعجب في مصدره وكذلك : أفعل منك لا تقول : عبد الله أفضل منك فضلا وتقول : ما أحسنك وجها وأنظفك ثوبا لأنك تقول : هو أحسن منك وجها وأنظف منك ثوبا.
وقد حكيت ألفاظ من أبواب مختلفة مستعملة في حال التعجب فمن ذلك : ما أنت من رجل! تعجب ، وسبحان الله! ولا إله إلا الله! وكاليوم رجلا! وسبحان الله رجلا! ومن رجل! والعظمة لله من رب! وكفاك بزيد رجلا!.
وحسبك بزيد رجلا! ومن رجل! تعجب ، والباء دخلت دليل التعجب ولك أن تسقطها وترفع وقال قوم : إن أكثر الكلام : أعجب لزيد رجلا و (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) [قريش : 1].
وإذا قلت : لله درك من رجل! ورجلا! كان إدخالها وإخراجها واحدا.
قالوا : إذا قلت : إنك من رجل لعالم! لم تسقط (من) لأنها دليل التعجب.
وإذا قلت : ويل أمه رجلا! ومن رجل! فهو تعجب.
وربما تعجبوا بالنداء تقول : يا طيبك من ليلة! ويا حسنه رجلا! ومن رجل!.
ومن ذلك قولهم : يا لك فارسا! ويا لكما! ويا للمرء!.
ولهذا موضع يذكر فيه.
ومن ذلك قولهم : كرما وصلفا!
قال سيبويه : كأنه يقول ألزمك الله كرما وأدام الله لك كرما وألزمت صلفا.
ولكنهم حذفوا الفعل هاهنا ؛ لأنه صار بدلا من قولك : أكرم به وأصلف به.
ص: 109
نعم وبئس (1) فعلان ماضيان كان أصلهما نعم وبئس فكسرت الفاءان منهما من أجل حرفي الحلق وهما : العين في (نعم) والهمزة في (بئس) فصار : نعم وبئس كما تقول : شهد فتكسر الشين من أجل إنكسار الهاء ثم أسكنوا لها العين من (نعم) والهمزة من (بئس) كما يسكنون الهاء من شهد فيقولون شهد فقالوا : نعم وبئس ولذكر حروف الحلق إذا كن عينات مكسورات وكسر الفاء لها والتسكين لعين الفعل موضع آخر ففي نعم أربع لغات : نعم ونعم ونعم ونعم فنعم وبئس وما كان في معناهما إنما يقع للجنس ويجيئان لحمد وذم وهما يشبهان التعجب في المعنى وترك التصرف وهما يجيئان على ضربين : فضرب : يرفع الأسماء الظاهرة المعرفة بالألف واللام على معنى الجنس ثم يذكر بعد ذلك الاسم المحمود أو المذموم.
الضرب الثاني : أن تضمر فيها المرفوع وهو اسم الفاعل وتفسره بنكرة منصوبة.
ص: 110
أما الظاهر فنحو قولك : نعم الرجل زيدا وبئس الرجل عبد الله ونعم الدار دارك فارتفع الرجل والدار بنعم وبئس لأنهما فعلان يرتفع بهما فاعلاهما.
أما زيد : فإن رفعه على ضربين :
أحدهما : أنك لما قلت : نعم الرجل فكأن معناه محمود في الرجال وقلت : زيد ليعلم من الذي أثنى عليه فكأنه قيل لك : من هذا المحمود قلت : هو زيد.
والوجه الآخر : أن تكون أردت التقديم فأخرته فيكون حينئذ مرفوعا بالابتداء ويكون (نعم) وما عملت فيه خبره وليس الرجل في هذا الباب واحدا بعينه إنما هو كما تقول : أنا أفرق الأسد والذئب لست تريد واحدا منهما بعينه إنما تريد : هذين الجنسين.
قال الله تعالى : (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) فهذا واقع على الجنسين يبين ذلك قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [سورة العصر].
وما أضيف إلى الألف واللام بمنزلة ما فيه الألف واللام ، وذلك قولك : نعم أخو العشيرة أنت وبئس صاحب الدار عبد الله ويجوز : نعم القائم أنت ونعم الضارب زيدا أنت ولا يجوز : نعم الذي (1) قام أنت ولا نعم الذي ضرب زيدا أنت من أجل أن الذي بصلته مقصود إليه بعينه.
قال أبو العباس رحمه الله : فإن جاءت بمعنى الجنس كقوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزمر : 33] ، فإن نعم وبئس تدخلان على (الذي) في هذا المعنى والمذهب.
فهذا الذي قاله قياس إلا أني وجدت جميع ما تدخل عليه نعم وبئس فترفعه وفيه الألف واللام فله نكرة تنصبه نعم وبئس إذا فقد المرفوع و (الذي) ليست لها نكرة البتة تنصبها.
ص: 111
ولا يجوز أن تقول : زيد نعم الرجل والرجل غير زيد ؛ لأنه خبر عنه وليس هذا بمنزلة قولك : زيد قام الرجل ؛ لأن معنى (نعم الرجل) : محمود في الرجال كما أنك إذا قلت : زيد فاره العبد لم تعن من العبيد إلا ما كان له ولو لا ذلك لم يكن فاره خبرا له.
فإن زعم زاعم : أن قولك : نعم الرجل زيد إنما زيد بدل من الرجل يرتفع بما ارتفع به كقولك : مررت بأخيك زيد وجاءني الرجل عبد الله قيل له : إن قولك : جاءني الرجل عبد الله إنما تقديره : إذا طرحت (الرجل) جاءني عبد الله فقل : نعم زيد لأنك تزعم أنه مرتفع بنعم وهذا محال ؛ لأن الرجل لست تقصد به إلى واحد بعينه.
فإن كان الاسم الذي دخلت عليه (نعم) مؤنثا أدخلت التاء في نعم وبئس فقلت : نعمت المرأة هند ونعمت المرأتان الهندان وبئست المرأة هند وبئست المرأتان الهندان ، وإن شئت ألقيت التاء فقلت : نعم المرأة وبئس المرأة وتقول : هذه الدار نعمت البلد لأنك عنيت بالبلد : دارا وكذلك : هذا البلد نعم الدار ؛ لأن قصدت إلى البلد.
وقال قوم : كل ما لم تقع عليه (أي) لم توله نعم لا تقول : نعم أفضل الرجلين أخوك ولا نعم أفضل رجل أخوك لأنك لا تقول : أي أفضل الرجلين أخوك ؛ لأنه مدح والمدح لا يقع على مدح.
فأما الضرب الثاني : فأن تضمر فيها مرفوعا يفسره ما بعده ، وذلك قولهم : نعم رجلا أنت ونعم دابة دابتك وبئس في الدار رجلا أنت ففي (نعم وبئس) مضمر يفسره ما بعده والمضمر (الرجل) استغنى عنه بالنكرة المنصوبة التي فسرته ؛ لأن كل مبهم من الأعداد وغيرها إنما تفسره النكرة المنصوبة.
واعلم أنهم لا يضمرون شيئا قبل ذكره إلا على شريطة التفسير وإنما خصوا به أبوابا بعينها.
وحق المضمر أن يكون بعد المذكور ، ويوضح لك أن نعم وبئس فعلان أنك تقول : نعم الرجل كما تقول : قام الرجل ونعمت المرأة كما تقول : قامت المرأة والنحويون يدخلون (حبذا زيد) في هذا الباب من أجل أن تأويلها حب الشيء زيد ؛ لأن ذا اسم مبهم يقع على كل شيء
ص: 112
ثم جعلت (حب وذا اسما فصار مبتدأ أو لزم طريقة واحدة تقول : حبذا (1) عبد الله وحبذا أمة الله).
ولا يجوز حبذه لأنهما جعلا بمنزلة اسم واحد في معنى المدح فانتقلا عما كانا عليه كما يكون ذلك في الأمثال نحو : (أطري فإنك ناعلة).
فأنت تقول ذلك للرجل والمرأة لأنك تريد إذا خاطبت رجلا : أنت عندي بمنزلة التي قيل لها ذلك وكذلك جميع الأمثال إنما تحكي ألفاظها كما جرت وقت جرت وما كان مثل : كرم رجلا زيد! وشرف رجلا زيد! إذا تعجبت فهو مثل : نعم رجلا زيد لأنك إنما تمدح وتذم وأنت متعجب.
ومن ذلك قول الله سبحانه : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا) [الأعراف : 177] وقوله : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) [الكهف : 5].
وقال قوم : لك أن تذهب بسائر الأفعال إلى مذهب (نعم وبئس) فتحولها إلى (فعل) فتقول : علم الرجل زيد وضربت اليد يده وجاد الثوب ثوبه وطاب الطعام طعامه وقضى الرجل زيد ودعا الرجل زيد وقد حكي عن الكسائي : أنه كان يقول في هذا : قضو الرجل ودعو الرجل.
وهو عندي قياس وذكروا أنه شذ مع هذا الباب ثلاثة أحرف سمعت وهي : سمع وعلم وجهل.
وقالوا : المضاعف تتركه مفتوحا وتنوي به فعل يفعل نحو : خف يخف.
ص: 113
وتقول : صم الرجل زيد وقالوا : كل ما كان بمعنى : نعم وبئس يجوز نقل وسطه إلى أوله.
وإن شئت تركت أوله على حاله وسكنت وسطه فتقول ظرف الرجل زيد وظرف الرجل نقلت ضم العين إلى الفاء.
وإن شئت تركت أوله على حاله وسكنت وسطه فتقول : ظرف الرجل زيد كما قال :
وحبّ بها مقتولة حين تقتل
وحبّ أيضا فإذا لم يكن بمعنى نعم وبئس لم ينقل وسطه إلى أوله.
ص: 114
اعلم أنه لا يجوز أن تقول : قومك نعموا أصحابا ولا قومك بئسوا أصحابا ولا أخواك نعما رجلين ولا بئسا رجلين.
وإذا قلت : نعم الرجل رجلا (1) زيد فقولك : (رجلا) توكيد ؛ لأنه مستغنى عنه بذكر الرجل أولا وهو بمنزلة قولك : عندي من الدراهم عشرون درهما وتقول : نعم الرجلان أخواك ونعم رجلين أخواك وبئس الرجلان أخواك وبئس رجلين أخواك وتقول : ما عبد الله نعم الرجل ولا قريبا من ذلك عطفت (قريبا) على (نعم) ؛ لأن موضعها نصب لأنها خبر (ما).
وتقول : ما نعم الرجل عبد الله ولا قريب من ذلك فترفع بالرجل ب (نعم) وعبد الله بالابتداء ونعم الرجل : خبر الابتداء وهو خبر مقدم فلم تعمل (ما) لأنك إذا فرقت بين (ما) وبين الاسم لم تعمل في شيء ورفعت (قريبا) لأنك عطفته على (نعم) ونعم في موضع رفع ؛ لأنه خبر مقدم ولا يجيز أحد من النحويين : نعم زيد الرجل وقوم يجيزون : نعم زيد رجلا ويحتجون بقوله : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : 69] وحسن ليس كنعم.
وللمتأول أن يتأول غير ما قالوا : لأنه فعل يتصرف.
وتقول : نعم القوم الزيدون ونعم رجالا الزيدون والزيدون نعم القوم والزيدون نعم قوما وقوم يجيزون : الزيدون نعموا قوما.
وهو غير جائز عندنا لما أخبرتك به من حكم نعم وصفة ما تعمل فيه.
ص: 115
ويدخلون ال (ظن) و (كان) فيقولون : نعم الرجل كان زيد ترفع زيدا ب (كان) ونعم الرجل خبر (كان) وهذا كلام صحيح وكذلك : نعم الرجل ظننت زيدا تريد : كان زيد نعم الرجل وظننت زيدا نعم الرجل.
وكان الكسائي يجيز : نعم الرجل يقوم وقام عندك فيضمر يريد : نعم الرجل رجل عندك ونعم الرجل رجل قام ويقوم ولا يجيزه مع المنصوب لا يقول : نعم رجلا قام ويقوم.
قال أبو بكر : وهذا عندي لا يجوز من قبل أن الفعل لا يجوز أن يقوم مقام الاسم وإنما تقيم من الصفات مقام الأسماء الصفات التي هي أسماء صفات يدخل عليها ما يدخل على الأسماء والفعل إذا وصفنا به فإنما هو شيء وضع في غير موضعه يقوم مقام الصفة للنكرة وإقامتهم الصفة مقام الاسم اتساع في اللغة.
وقد يستقبح ذلك في مواضع فكيف تقيم الفعل مقام الاسم وإنما يقوم مقام الصفة ، وإن جاء من هذه شيء شذ عن القياس فلا ينبغي أن يقاس عليه.
بل نقوله فيما قالوه فقط وتقول : نعم بك كفيلا زيد كما قال تعالى : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف : 50] ويجيز الكسائي : نعم فيك الراغب زيد ولا أعرفه مسموعا من كلام العرب.
فمن قدر أن (فيك) من صلة الراغب فهذا لا يجوز البتة ولا تأويل له ؛ لأنه ليس له أن يقدم الصلة على الموصول.
فإن قال : أجعل (فيك) تبينا وأقدمه كما قال : (بئس للظالمين بدلا) قيل له : هذا أقرب إلى الصواب إلا أن الفرق بين المسألتين أنك إذا قلت : نعم فيك الراغب زيد فقد فصلت بين الفعل والفاعل ونعم وبئس ليستا كسائر الأفعال لأنهما لا تتصرفان.
وإذا قلت : بئس في الدار رجلا زيد. الفاعل مضمر في (بئس) وإنما جئت برجل مفسرا فبين المسألتين فرق.
وهذا الأشياء التي جعلت كالأمثال لا ينبغي أن تستجيز فيها إلا ما أجازوه ولا يجوز عندي : نعم طعامك آكلا زيد من أجل أن الصفة إذا قامت مقام الموصوف لم يجز أن تكون
ص: 116
بمنزلة الفعل الذي تتقدم عليه ما عمل فيه وكما لا يجوز أن تقول : نعم طعامك رجلا آكلا زيد.
فتعمل الصفة فيما قبل الموصوف فكذلك إذا أقمت (آكلا) مقام رجل كان حكمه حكمه.
وتقول : نعم غلام الرجل زيد ونعم غلام رجل زيد فما أضفته إلى الألف واللام بمنزلة الألف واللام وما أضفته إلى النكرة بمنزلة النكرة.
وتقول : نعم العمر عمر بن الخطاب وبئس الحجاج حجاج بن يوسف تجعل العمر جنسا لكل من له هذا الاسم وكذلك الحجاج.
ولا تقول : نعم الرجل وصاحبا أخوك ولا نعم صاحبا والرجل أخوك من أجل أن نعم إذا نصبت تضمنت مرفوعا مضمرا فيها وفي المسألة مرفوع ظاهر فيستحيل هذا ولا يجوز توكيد المرفوع ب (نعم).
قالوا : وقد جاء في الشعر منعوتا لزهير :
نعم الفتى المرّيّ أنت إذا هم
حضروا لدى الحجرات نار الموقد (1)
وهذا يجوز أن يكون بدلا غير نعت فكأنه قال : نعم المري أنت وقد حكى قوم على جهة الشذوذ : نعم هم قوما هم.
وليس هذا مما يعرج عليه وقال الأخفش : حبذا ترفع الأسماء وتنصب الخبر إذا كان نكرة خاصة تقول : حبذا عبد الله رجلا وحبذا أخوك قائما.
ص: 117
قال : وإنما تنصب الخبر إذا كان نكرة ؛ لأنه حال قال : وتقول : حبذا عبد الله أخونا.
فأخونا رفع لأنك وصفت معرفة بمعرفة ، وإذا وصلت ب (ما) قلت : نعما زيد ونعما أخوك ونعما أخوتك وصار بمنزلة حبذاء أخوتك.
وتقول : نعم ما صنعت ونعم ما أعجبك.
قال ناس إذا قلت : مررت برجل كفاك رجلا.
وجدت (كفاك) في كل وجه وكانت بمنزلة (نعم) تقول : مررت بقوم كفاك قوما وكفاك من قوم وكفوك قوما وكفوك من قوم ، فإن جئت بالباء والهاء وجدت به لا غير تقول مررت بقوم كفاك بهم قوما.
وكذلك : مررت بقوم نعم بهم قوما ، وإن أسقطت الباء والهاء قلت : نعموا قوما ونعم قوما ولا ينبغي أن ترد (كفاك) إلى الإستقبال ولا إلى اسم الفاعل.
قال أبو بكر : قد ذكرت الفعل المتصرف والفعل غير المتصرف وبقي الأسماء التي تعمل عمل الفعل ونحن نتبعها بها إن شاء الله.
ص: 118
وهي تنقسم أربعة أقسام :
فالأول : منها اسم الفاعل والمفعول به.
والثاني : الصفة المشبهة باسم الفاعل.
والثالث : المصدر الذي صدرت عنه الأفعال واشتقت منه.
والرابع : أسماء سمّوا الأفعال بها.
اسم الفاعل الذي يعمل عمل الفعل (1) هو الذي يجري على فعله ويطرد القياس فيه ويجوز أن تنعت به اسما قبله نكرة كما تنعت بالفعل الذي اشتق منه ذلك الاسم.
ص: 119
ويذكر ويؤنث وتدخله الألف واللام ويجمع بالواو والنون كالفعل إذا قلت : يفعلون نحو : ضارب وآكل وقاتل يجري على. يضرب فهو ضارب ويقتل فهو قاتل ويأكل فهو آكل.
ص: 120
وكل اسم فاعل فهو يجري مجرى مضارعه ثلاثيا كان أو رباعيا مزيدا كان فيه أو غير مزيد فمكرم جار على أكرم ومدحرج على دحرج ومستخرج على استخرج.
وقد بيّنا أن الفعل المضارع أعرب لمضارعته الاسم إذ كان أصل الإعراب للأسماء وأن اسم الفاعل أعمل بمضارعته الفعل إذ كان أصل الأعمال للأفعال وأصل الإعراب للأسماء.
وتقول : مررت برجل ضارب أبوه زيدا كما تقول : مررت برجل يضرب أبوه زيدا ومررت برجل مدحرج أبوه كما تقول : يدحرج أبوه وتقول : زيد مكرم الناس أخوه كما تقول :زيد يكرم الناس أخوه وزيد مستخرج أبوه عمرا كما تقول : يستخرج والمفعول يجري مجرى الفاعل كما كان (يفعل) يجري مجرى (يفعل) فتقول : زيد مضروب أبوه سوطا وملبس ثوبا.
وقد بينت لك هذا فيما مضى.
ومما يجري مجرى (فاعل) مفعل نحو : قطع فهو مقطع وكسر فهو مكسر. يراد به المبالغة والتكثير.
فمعناه معنى : (فاعل) إلا أنه مرة بعد مرة.
وفعال يجري مجراه ، وإن لم يكن موازيا له ؛ لأن حق الرباعي وما زاد على الثلاثي أن يكون أول (اسم) الفاعل ميما فالأصل في هذا (مقطع) والحق به قطّاع ؛ لأنه في معناه.
ألا ترى أنك إذا قلت : زيد قتال أو : جراح لم تقل هذا لمن فعل فعلة واحدة كما أنك لا تقل : قتلت إلا وأنت تريد جماعة فمن ذلك قوله تعالى : (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) [يوسف : 23] ولو كان بابا واحدا لم يجز فيه إلا أن يكون مرة بعد مرة.
ومن كلام العرب : أما العسل فأنت شرّاب. ومثل ذلك (فعول) لأنك تريد به ما تريد (بفعّال) من المبالغة قال الشاعر (1) :
ضروب بنصل السيف سوق سمانها
إذا عدموا زادا فإنك عاقر
(وفعال) نحو : (مطعان ومطعام) ؛ لأنه في التكثير بمنزلة ما ذكرنا.
ص: 121
ومن كلام العرب : أنه لمنحاز بوائكها.
وقد أجرى سيبويه : (فعيلا) (كرحيم) و (عليم) هذا المجرى وقال : معنى ذلك المبالغة وأباه النحويون من أجل أن (فعيلا) بابه أن يكون صفة لازمة للذات وأن يجري على (فعل) نحو : ظرف فهو ظريف وكرم فهو كريم وشرف فهو شريف والقول عندي كما قالوا.
وأجاز أيضا مثل ذلك في (فعل).
وأباح النحويون إلا أبا عمر الجرمي فإنه يجيزه على بعد فيقول : أنا فرق زيدا وحذر عمرا والمعنى : أنا فرق من زيد وحذر من عمرو.
قال أبو العباس رحمه الله : لأن (فعل) الذي فاعله على لفظ ماضيه إنما معناه ما صار كالخلقة في الفاعل نحو : بطر زيد فهو بطر وخرق فهو خرق.
ص: 122
تقول : هذا ضارب زيدا إذا أردت (بضارب) ما أنت فيه أو المستقبل كمعنى الفعل المضارع له.
فإذا قلت هذا ضارب زيد تريد به معنى المضي فهن بمعنى : غلام زيد وتقول : هذا ضارب زيد أمس وهما ضاربا زيد وهن ضاربو زيد وهو ضاربات أخيك.
كل ذلك إذا أردت به معنى المضي لم يجز فيه إلا هذا يعني الإضافة (و) الخفض ؛ لأنه بمنزلة قولك : غلام عبد الله وأخو زيد.
ألا ترى أنك لو قلت : (غلام زيدا) كان محالا فكذلك اسم الفاعل إذا كان ماضيا ؛ لأنه اسم وليست فيه مضارعة للفعل لتحقيق الإضافة ، وإن الأول يتعرّف بالثاني.
ولا يجوز أن تدخل عليه الألف واللام وتضيفه كما لم يجز ذلك في (الغلام) وإنما يعمل اسم الفاعل الذي يضارع (يفعل) كما أنه يعرب من الأفعال ما ضارع اسم الفاعل الذي يكون للحاضر والمستقبل.
فأما اسم الفاعل الذي يكون لما مضى فلا يعمل كما أن الفعل الماضي لا يعرف وتقول : هؤلاء حواج بيت الله أمس ومررت برجل ضارباه الزيدان ومررت بقوم ملازموهم أخوتهم.
فيثنى ويجمع ؛ لأنه اسم كما لو تقول : مررت برجل أخواه الزيدان وأصحابه وأخوته فإذا أردت اسم الفاعل الذي في معنى المضارع جرى مجرى الفعل في عمله وتقديره فقلت : مررت برجل ضاربه الزيدان كما تقول : مررت برجل يضربه الزيدان ومررت بقوم : ملازمهم أخوتهم كما تقول : مررت بقوم يلازمهم أخوتهم وتقول : أخوآك آكلان طعامك وقومك ضاربون زيدا وجواريك ضاربات عمرا إذا أردت معنى المضارع.
وتقول مررت برجل ضارب زيدا الآن أو غدا إذا أردت الحال أو الإستقبال فتصفه به ؛ لأنه نكرة مثله أضفت أو لم تضف كما تقول : مررت برجل يضرب زيدا ولا تقول مررت برجل ضارب زيد أمس ؛ لأنه معرفة بالإضافة دالا على البدل.
ص: 123
وتقول : مررت بزيد ضاربا عمرا إذا أردت الذي يجري مجرى الفعل.
فإن أردت الأخرى أضفت فقلت : مررت بزيد ضارب عمرو. على النعت والبدل ؛ لأنه معرفة كما تقول : مررت بزيد غلام عمرو.
واعلم أنه يجوز لك أن تحذف التنوين والنون من أسماء الفاعلين التي تجري مجرى الفعل.
وتضيف استخفافا ولكن لا يكون الاسم الذي تضيفه إلا نكرة ، وإن كان مضافا إلى معرفة لأنك إنما حذفت النون استخفافا فلما ذهبت النون عاقبها الإضافة والمعنى معنى ثبات النون.
فمن ذلك قول الله سبحانه : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : 95] فلو لم يرد به التنوين لم يكن صفة (لهدي) وهو نكرة ، ومثله : (عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : 24] و (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) [القمر : 27] وأنشدوا :
هلّ أنت باعث دينار لحاجتنا
أو عبد رب أخا عون بن مخراق (1)
أراد : بباعث التنوين.
ونصب الثاني ؛ لأنه أعمل فيه الأول مقدرا تنوينه كأنه قال : أو باعث عبد رب ولو جره على ما قبله كان عربيا جيدا إلا أن الثاني كلما تباعد من الأول قوي فيه النصب واختير.
ص: 124
تقول : هذا معطي زيد الدراهم وعمرا الدنانير ولو قلت : هذا معطي زيد اليوم الدراهم وغدا عمرا الدنانير لم يصلح فيه إلا النصب لأنك لم تعطف الاسم على ما قبله وإنما أوقعت الواو على (غد) ففصل الظرف بين الواو وعمرو.
فلم يقو الجر فإذا أعملته عمل الفعل جاز ؛ لأن الناصب ينصب ما تباعد منه والجار ليس كذلك وتقول : هذا ضاربك وزيدا غدا لما لم يجز أن تعطف الظاهر على المضمر المجرور حملته على الفعل كقوله تعالى : (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) [العنكبوت : 33] كأنه قال : منجون أهلك ولم تعطف على الكاف والمجرورة.
واعلم أن اسم الفاعل إذا كان لما مضى فقلت : هذا ضارب زيد وعمرو ومعطى زيد الدراهم أمس وعمرو.
جاز لك أن تنصب (عمرا) على المعنى لبعده من الجار فكأنك قلت : وأعطى عمرا فمن ذلك قوله سبحانه : (وجاعل (اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) وتقول : مررت برجل قائم أبوه فترفع الأب وتجري (قائما) على رجل ؛ لأنه نكرة وصفته بنكرة فصار كقولك مررت برجل يقوم أبوه.
فإذا كانت الصفة لشيء من سببه فهي بمزلتها إذا خلصت لرجل.
وتقول : زيدا عمرو ضارب كما تقول : زيدا عمرو يضرب.
فإذا قلت : عبد الله جاريتك أبوها ضارب فبين النحويين فيه خلاف فبعض يكره النصب لتباعد ما بين الكلام وبعض يجيزه.
وأبو العباس يجيز ذلك ويقول : إنّ (ضاربا) يجري مجرى الفعل في جميع أحواله في العلم في التقديم والتأخير.
وإنما يكره الفصل بين العامل والمعمول فيه بما ليس منه نحو قولك : كانت زيدا الحمى تأخذ.
ص: 125
وتقول : هذا زيد ضارب أخيك إذا أردت المضي لأنك وصفت معرفة بمعرفة وتقول هذا زيد ضاربا أخاك غدا فتنصب (ضاربا) ؛ لأنه نكرة وصفت بها معرفة.
وإذا كان الاسم الذي توقع عليه (ضاربا) وما أشبهه مضمرا أسقطت النون والتنوين منه فعل أو لم يفعل ؛ لأن المضمر وما قبله كالشيء الواحد فكرهوا زيادة التنوين مع هذا الزيادة نحو قولك : هذا ضاربي وضاربك وهذان ضارباك غدا ولو كان اسما ظاهرا لقلت : ضاربان زيدا غدا ولكنك لما جئت بالمضمر أسقطت النون وأضفته وتقول : هذا الضارب زيدا أمس ، وهذا الشاتم عمرا أمس لا يكون فيه غير ذلك ؛ لأن الألف واللام بمنزلة التنوين في معنى الإضافة وأنت إذا نونت شيئا من هذا نصبت ما بعده.
وتقول : هؤلاء الضاربون زيدا وهذان الضاربان زيدا ، وإن شئت : ألقيت هذه النون وأضفت ؛ لأن النون لا تعاقب الألف واللام كما تعاقب الإضافة ألا ترى أنك تقول : هذان الضاربان وهؤلاء الضاربون فلا تسقط النون والتنوين ليس كذلك لا تقول : هذا الضارب بالتنوين فاعلم ولذلك جازت الإضافة فيما تدخله النون مع الألف واللام نحو قولك : هما الضاربا زيد ؛ لأن النون تعاقب الإضافة فكما تثبت النون مع الألف واللام كذلك تثبت الإضافة مع الألف واللام ولا يجوز : هذا الضارب زيد أمس ، فإن أضفته إلى ما فيه ألف ولام جاز كقولك : هو الضارب الرجل أمس تشبيها بالحسن الوجه فكل اسم فاعل كان في الحال أو لم يكن فعل بعد فهو نكرة نونت أو لم تنون ، وإن كان قد فعل فأضفته إلى معرفة ، وإن أضفته إلى نكرة فهو نكرة.
ص: 126
الصفات المشبهات بأسماء الفاعلين (1) : هي أسماء ينعب بها كما ينعت بأسماء الفاعلين وتذكر وتؤنث ويدخلها الالف واللام وتجمع بالواو والنون كاسم الفاعل وأفعل التفضيل كما يجمع الضمير في الفعل فإذا اجتمع في النعت هذه الأشياء التي ذكرت أو بعضها شبهوها بأسماء الفاعلين ، وذلك نحو : حسن وشديد وما أشبه تقول : مررت برجل حسن أبوه وشديد أبوه لأنك تقول : حسن وجهه وشديد وشديدة فتذكر وتؤنث وتقول : الحسن والشديد فتدخل الألف واللام وتقول حسنون كما تقول : ضارب مضاربة وضاربون والضارب والضاربة فحسن يشبه بضارب وضارب يشبه بيضرب وضاربان مثل : يضربان وضاربون مثل يضربون ولا يجوز : مررت برجل خير منه أبوه على النعت ولكن ترفعه على الابتداء والخبر ، وذلك لبعده من شبه الفعل والفاعل من أجل أن (خير منه) لا يؤنث ولا يذكر ولا تدخله الألف واللام ولا يثنى ولا يجمع فبعد من شبه الفاعل فكل (أفعل منك) بمنزلة : (خير منك) (وشر منك) وما لم يشبه اسم الفاعل فلا يجوز أن ترفع به إسما ظاهرا البتة ، وأما الصفات كلها فهي ترفع المضمر وما كان بمنزلة المضمر ألا ترى أنك إذا قلت : مررت برجل أفضل منك ففي (أفضل) ضمير الرجل ولو لا ذلك لم يكن صفة له.
ولكن لا يجوز أن تقول : مررت برجل أفضل منك أبوه لبعده من شبه اسم الفاعل والفعل ولكن لو قلت : مررت برجل حسن أبوه وشديد أبوه وبرجل قاعد عمرو إليه لكان جائزا وكذلك : مررت برجل حسن أبوه وشديد أبوه.
ص: 127
واعلم أن سائر الصفات مما ليس بإسم فاعل ولا يشبهه فهي ترفع الفاعل إذا كان مضمرا فيها وكان ضمير الأول الموصوف وترفع الظاهر أيضا إذا كان في المعنى هو الأول.
أما المضمر فقد بينته لك وهو نحو : مررت برجل خير منك وشر منك ففي (خير منك) ضمير رجل وهو رفع بأنه فاعل.
وأما الظاهر الذي هو في المعنى الأول فنحو قولك : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد ؛ لأن المعنى في الحسن لزيد فصار بمنزلة الضمير إذ كان الوصف في الحقيقة له ومثل ذلك : ما من أيام أحب إلى الله فيها الصوم منه في عشر ذي الحجة.
واعلم أن قولك : زيد حسن وكريم من حسن يحسن وكرم يكرم كما أنك إذا قلت : زيد ضارب وقاتل وقائم فهو من : ضرب وقتل وقام إلا أن هذه أسماء متعدية تنصب حقيقة.
أما إذا قلت : زيد حسن الوجه وكريم الحسب فأنت ليس تخبر أن زيدا فعل بالوجه ولا بالحسب شيئا والحسب والوجه فاعلان كما ينصب الفعل وحسن وشديد وكريم وشريف أسماء غير متعدية على الحقيقة وإنما تعديها على التشبيه ألا ترى أنك إذا قلت : زيد ضارب عمرا فالمعنى : أن الضرب قد وصل منه إلى عمرو ، وإذا قلت : زيد حسن الوجه أو كريم الأب فأنت تعلم أن زيدا لم يفعل بالوجه شيئا ولا بالأب والأب والوجه فاعلان في الحقيقة وأصل الكلام زيد حسن وجهه وكريم أبوه حسبه ؛ لأن الوجه هو الذي حسن والأب هو الذي كرم.
ص: 128
تقول : زيد كريم الحسب لأنك أضمرت اسم الفاعل في (كريم) فنصبت ما بعده على التشبيه بالمفعول والدليل على أن الضمير واقع في الأول قولك : هند كريمة الحسب ولو كان على الآخر لقلت : كريم حسبها كما تقول : قائم أبوها وإنما جاز هذا التشبيه ، وإن كان الحسب غير مفعول على الحقيقة بل هو في المعنى فاعل ؛ لأن المعنى مفهوم غير ملبس ومن قال : زيد ضارب الرجل وهو يريد التنوين إلا أنه حذفه قال : زيد حسن الوجه إلا أن الإضافة في الحسن الوجه والكريم الحسب وجميع بابهما هو الذي يختار ؛ لأن الأسماء على حدها من الإضافة إلا أن يحدث معنى المضارعة ، وإذا قلت : زيد حسن وجهه وكريم أبوه وفاره عبده فهذا هو الأصل وبعده في الحسن : زيد حسن الوجه وكريم الحسب ويجوز : زيد كريم الحسب وحسن الوجه ويجوز : زيد حسن وجها وكريم حسبا ويجوز : زيد كريم حسب وحسن وجه والأصل ما بدأنا به.
واعلم أنك إذا قلت : حسن الوجه فأضفت (حسنا) إلى الألف واللام فهو غير معرفة ، وإن كان مضافا إلى ما فيه الألف واللام من أجل أن المعنى حسن وجهه فهو نكرة فكما أن الذي هو في معناه نكرة ولذلك جاز دخول الألف واللام عليه فقلت : الحسن الوجه ولا يجوز الغلام الرجل وجاز الحسن الوجه وقولك : مررت برجل حسن الوجه يدلك على أن حسن الوجه نكرة لأنك وصفت به نكرة واعلم أن (حسنا) وما (أشبهه) إذا أعلمته عمل اسم الفاعل فليس يجوز عندي أن يكون لما مضى ولا لما يأتي فلا تريد به إلا الحال ؛ لأنه صفة وحق الصفة صحبة الموصوف ومن قال : هذا حسن وجه وكريم حسب حجته أن الأول لا يكون معرفة بالثاني أبدا فلما كان يعلم أنه لا يعني من الوجوه إلا وجهه ولم تكن الألف واللام بمعرفتين للأول كان طرحهما أخف.
ومن كلام العرب : هو حديث عهد بالوجه. قال الراجز :
لا حق بطن بقرا سمين
ص: 129
ومن قال هذا القول قال : الحسن وجها ؛ لأن الألف واللام يمنعان الإضافة (1) فلا يجوز أن تقول : هذا الحسن وجه من أجل أن هذه إضافة حقيقة على بابها لم تخرج فيه معرفة إلى نكرة ولا نكرة إلى معرفة فالألف واللام لا يجوز أن يدخلا على مضاف إلى نكرة ولو قلت ذلك لكنت قد ناقضت ما وضع عليه الكلام ؛ لأن الذي أضيف إلى نكرة يكون به نكرة وما دخلت عليه الألف واللام يصير بهما معرفة فيصير معرفة نكرة في حال ، وذلك محال.
وإنما جاز : الحسن الوجه (وما أشبهه) وإدخال الألف واللام على حسن الوجه ؛ لأن (حسنا) في المعنى منفصل فإضافته غير حقيقية والتأويل فيه التنوين فكأنك قلت : حسن وجهه فلذلك جاز فإذا قلت : حسن وجه ثم أدخلت الألف واللام قلت : الحسن وجها فتنصب الوجه الى التمييز أو الشبه بالمفعول به لّما امتنعت الإضافة كما تقول : ضارب رجل ثم تقول : الضارب رجلا وتقول هو الكريم حسبا والفاره عبدا ويجوز : الحسن الوجه ؛ لأنه مشبه بالضارب الرجل ؛ لأن الضارب بمعنى الذي ضرب والفعل واصل منه إلى الرجل على الحقيقة وقد قالوا : الضارب الرجل فشبهوه بالحسن الوجه كما شبهوا الحسن الوجه به في النصب وعلى هذا أنشد :
الواهب المائة الهجان وعبدها
عوذا تزجّي خلفها أطفالها
والوجه : النصب في هذا وتقول هو الحسن وجه العبد كما تقول هو الحسن العبد ؛ لأن ما أضيف إلى الألف واللام بمنزلة ما فيه الألف واللام وتقول : على التشبيه بهذا (الضارب أخي الرجل) كما تقول : الضارب الرجل وتقول : مررت بالحسن الوجه الجميلة ومررت بالحسن العبد النبيلة فأما قولهم : الواهب المائة الهجان وعبدها فإنما أردوا : عبد المائة كما تقول : كل شاة وسخلها بدرهم ورب رجل وأخيه لما كان المضمر هو الظاهر جرى مجراه.
وقال أبو العباس رحمه الله في إنشادهم :
ص: 130
أنا ابن التّارك البكريّ بشر
عليه الطّير ترقبه عكوفا (1)
أنه لا يجوز عنده في (بشر) إلا النصب لأنهم إنما يخفضونه على البدل وإنما البدل أن توقع الثاني موقع الأول وأنت إذا وضعت (بشرا) في موضع الأول لم يكن إلا نصبا فأما نظير هذا قولك : يا زيد أخانا على البدل.
وقال النحويون : (بشر).
واعلم أن كل ما يجمع بغير الواو والنون نحو : حسن وحسان ، فإن الأجود فيه أن تقول : مررت برجل حسان قومه من قبل أن هذا الجمع المكسر هو اسم واحد صيغ للجمع ألا ترى أنه يعرب كإعراب الواحد المفرد لا كإعراب التثنية والجمع السالم الذي على حد التثنية.
فأما ما كان يجمع مسلما بالواو والنون نحو : (منطلقين) ، فإن الأجود فيه أن تجعله بمنزلة الفعل المقدم فتقول : مررت برجل منطلق قومه وأسماء الفاعلين وما يشبهها إذا ثنيتها أو جمعتها الجمع الذي على حد التثنية بالواو والياء والنون لم تثن وتجمع إلا وفيها ضمير الفاعلين مستترا تقول : الزيدان قائمان فالألف والنون إنما جيء بهما للتثنية وتقول : الزيدون قائمون فالواو والنون إنما جيء بهما للجمع وليست بأسماء الفاعلين التي هي كناية كما هي في (يفعلان ويفعلون) ؛ لأن الألف في (يفعلان) والواو في (يفعلون) ضمير الفاعلين.
فإن قلت : الزيدان قائم أبواهما لم يجز أن تثني (قائما) ؛ لأنه في موضع (يقوم أبواهما) إلا في قول من قال : أكلوني البراغيث فإنه يجوز على قياسه مررت برجل قائمين أبوه. فاعلم.
ص: 131
اعلم أن المصدر يعمل عمل الفعل ؛ لأن الفعل اشتق منه وبني مثله للأزمنة الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل نقول من ذلك : عجبت من ضرب زيد عمرا إذا كان زيد فاعلا ، وعجبت من ضرب زيد عمرو إذا كان زيد مفعولا ، وإن شئت نونت المصدر وأعربت ما بعده بما يجب له لبطلان الإضافة فاعلا كان أو مفعولا فقلت : عجبت من ضرب زيد بكرا ومن ضرب زيدا بكر وتدخل الألف واللام على هذا فتقول عجبت من الضرب زيدا بكرا ولا يجوز أن تخفض (زيدا) من أجل الألف واللام لأنهما لا يجتمعان والإضافة كالنون والتنوين.
وقال قوم : إذا قلت : أردت الضرب زيدا إنما نصبته بإضمار فعل ؛ لأن الضرب لا ينصب وهو عندي قول حسن.
واعلم أنه لا يجوز أن يتقدم الفاعل ولا المفعول الذي مع المصدر على المصدر ؛ لأنه في صلته وكذلك إن وكد ما في الصلة أو وصف لو قلت : دارك أعجب زيدا دخول عمرو فتنصب الدار بالدخول كان خطأ.
وقال قوم إذا قلت : أعجبني ضرب زيدا فليس من كلام العرب أن ينونوا ، وإذا نونت عملت بالفاعل والمفعول ما كنت تعمل قبل التنوين قالوا : فإن أشرت إلى الفاعل نصبت فقلت : أعجبني ضرب زيدا ، وإن شئت رفعت وأردت : أعجبني أن ضرب زيد.
ص: 132
تقول : أعجب ركوبك الدابة زيدا فالكاف في قولك : (ركوبك) مخفوضة بالإضافة وموضعها رفع والتقدير : أعجب زيدا أن ركبت الدابة فالمصدر يجر ما أضيف إليه فاعلا كان أو مفعولا ويجري ما بعده على الأصل وإضافته إلى الفاعل أحسن ؛ لأنه له : كقول الله تعالى :(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)(1) [البقرة : 251] وإضافته إلى المفعول حسنة ؛ لأنه به اتصل وفيه حل وتقول : أعجبني بناء هذه الدار وترى المجلود فتقول : ما أشد جلده وما أحسن خياطة هذا الثوب فعلى هذا تقول أعجب ركوب الدابة عمرو زيدا إن أردت : أعجب أن ركب الدابة عمرو زيدا فالدابة وعمرو وركب في صلة (أن) وزيد منتصب (بأعجب) وبين خارج من الصلة فقدمه إن شئت قبل أعجب ، وإن شئت جعلته بين (أعجب) ، بين الركوب وكذلك : عجبت من دق الثوب القصار ومن أكل الخبز زيد ومن أشباع الخبز زيدا ، فإن نونت المصدر أو أدخلت فيه ألفا ولاما امتنعت الإضافة فجرى كل شيء على أصله فقلت : أعجب ركوب زيد الدابة عمرا ، فإن شئت قلت : أعجب ركوب الدابة زيد عمرا ولا يجوز أن تقدم الدابة ولا زيدا قبل الركوب لأنهما من صلته فقد صارا منه كالياء والدال من (زيد) وتقول : ما أعجب شيء شيئا إعجاب زيد ركوب الفرس عمرو ونصبت (إعجابا) ؛ لأنه مصدر وتقديره : ما أعجب شيء شيئا إعجابا مثل إعجاب زيد ورفعت الركوب بقولك : (أعجب) ؛ لأن معناه : كما أعجب زيدا أن ركب الفرس عمرو وتقول : أعجب الأكل الخبز زيد عمرا كما وصفت لك وعلى هذا قوله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) [البلد : 14 - 15]
ص: 133
فالتقدير : أو أن يطعم لقوله : وما أدراك فعلى هذا يجري ما ذكرت لك ولو قلت : عمرا أعجبني أن ضرب خالدا كان خطأ ؛ لأن عمرا من الصلة.
ومن قال : هذا الضارب الرجل لم يقل : عجبت من الضرب الرجل ؛ لأن الضرب ليس بنعت والضارب نعت كالحسن وهو اسم الفاعل من (ضرب) كما أن حسنا اسم الفاعل من (حسن) ويحسن وهما نعتان مأخوذان من الفعل للفاعل وتقول : أعجبني اليوم ضرب زيد عمرا (إن جعلت اليوم) نصبا بأعجبني فهو جيد ، وإن نصبته بالضرب كان خطأ ، وذلك ؛ لأن الضرب في معنى (أن ضرب) وزيد وعمرو من صلته فإذا كان المصدر في معنى (إن فعل) أو (أن يفعل) فلا يجوز أن ينصب ما قبله ولا يعمل إلا فيما كان من تمامه فيؤخر بعض الاسم ولا يقدم بعض الاسم على أوله ، فإن لم يكن في معنى (إن فعل) وصلتها أعملته عمل الفعل إذا كان نكرة مثله فقدمت فيه وأخرت ، وذلك قولك ضربا زيدا ، وإن شئت : زيدا ضربا ؛ لأنه ليس فيه معنى (أن) إنما هو أمر وقولك ضربا زيدا ينتصب بالأمر كأنك قلت : اضرب زيدا إلا أنه صار بدلا من الفعل لما حذفته وحكى قوم أن العرب قد وضعت الأسماء في مواضع المصادر فقالوا : عجبت من طعامك طعاما يريدون : من إطعامك وعجبت من دهنك لحيتك يريدون : من دهنك قال الشاعر :
أظليم إنّ مصابكم رجلا
أهدى السّلام تحية ظلم (1)
أراد : إن إصابتكم.
ومنه قوله :
وبعد عطائك المئة الرّتاعا ... (2)
ص: 134
أراد : بعد إعطائك وقال هؤلاء القوم : إذا جاءت الأسماء فيها المدح والذم وأصلها ما لم يسم فاعله رفعت مفعولها فقلت : عجبت من جنون بالعلم فيصير كالفاعل وإنما هو مفعول.
هذا مع المدح والذم ولا يقال ذلك في غير المدح والذم.
ص: 135
موضع هذه الأسماء من الكلام في الأمر والنهي فما كان فيها في معنى ما لا يتعدى من الأفعال فهو غير متعد وما كان منها في معنى فعل متعد تعدى وهذه الأسماء على ثلاثة أضرب : فمنها اسم مفرد واسم مضاف واسم استعمل مع حرف الجر.
فالضرب الأول : قولك : هلم زيدا وعندك زيدا. ورويد زيدا وحيّ هل الثريد وزعم أبو الخطاب : أن بعض العرب يقول : حي هل الصلاة.
ومن ذلك : تراكها ومناعها وهذه متعدية والمعنى : اتركها وامنعها ، وأما ما لا يتعدى فنحو : مه وصه وإيه.
والضرب الثاني : وهي الأسماء المضافة ومنها أيضا ما يتعدى وما لا يتعدى فأما المتعدي فنحو : دونك زيدا وذكر سيبويه : أن أبا الخطاب حدثه بذلك وحذرك زيدا وحذارك زيدا ، وأما ما لا يتعدى فمكانك وبعدك وخلفك إذا أردت تأخر وحذرته شيئا خلفه وفرطك إذا حذرته من بين يديه شيئا وأمرته أن يتقدم وأمامك ووراءك.
والضرب الثالث : ما جاء مع أحرف الجر نحو : عليك زيدا (1) وإليك إذا قلت : تنح.
وذكر سيبويه : أن أبا الخطاب حدثه : أنه سمع من يقال له إليك فيقول : (إليّ) في هذا الحرف وحده كأنه قال له : تنح فقال : أتنحى ولا يجوز مثل هذا في أخوات إليّ ؛ لأن هذا الباب إنما وضع في الأمر مع المخاطب وما أضيف فيه فإنما يضاف إلى كاف علامة المخاطب المتكلم ولا يجوز أن تقول : رويده زيدا ودونه عمرا تريد غير المخاطب.
ص: 136
وحكي أن بعضهم قال : عليه رجلا ليسي أي : غيري وهذا قليل شاذ.
وجميع هذه الأسماء لا تصرف تصرف الفعل.
وحكي أن ناسا من العرب يقولون : هلمي وهلما وهلموا فهؤلاء جعلوه فعلا والهاء للتنبيه ولا يجوز أن تقدم مفعولات هذه الأسماء من أجل أن ما لا يتصرف لا يتصرف عمله فأما قول الله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : 24] فليس هو على قوله : عليكم كتاب الله ولكنه مصدر محمول على ما قبله ؛ لأنه لما قال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : 23] فأعلمهم : أن هذا مكتوب مفروض فكان بدلا من قول : كتاب الله ذلك فنصب (كتاب الله) وجعل عليكم تبينيا.
ص: 137
تقول : رويدكم أنتم وعبد الله ؛ لأن المضمر في النية مرفوع ورويدكم وعبد الله وهو قبيح إذا لم تؤكده ورويدكم أنتم أنفسكم ورويدكم أجمعون ورويدكم أنتم أجمعون كل حسن وكذلك رويد إذا لم يلحق فيه الكاف تجري هذا المجرى وكذلك الأسماء التي للفعل جمعا إلا أن هلم إذا لحقتها (لك) ، فإن شئت حملت أجمعين ونفسك على الكاف المجرورة فقلت هلم لكم أجمعين وأنفسكم ولا يجوز أن تعطف على الكاف المجرورة الاسم ألا ترى أنه يجوز : هذا لك نفسك ولكم أجمعين ولا يجوز : لك وأخيك ، وإن شئت حملت المعطوف والتأكيد والصفة على المضمر المرفوع في النية فقلت : هلم لكم أجمعون كأنك قلت : تعالوا أجمعون وهلم لك أنت وأخوك كأنك قلت : تعالى أنت وأخوك ، فإن لم تلحق (لك) جرى مجرى رويد ورويد يتصرف على أربع جهات يكون أمرا بمعنى : أرود أي أمهل ويكون صفة نحو : ساروا سيرا رويدا أي سهلا وتكون حالا تقول : ساروا رويدا أي متمهلين وتكون مصدرا نحو : رويد نفسه وذكر سيبويه : أنه حدثه به من لا يتهم : أنه سمع العرب تقول : ضعه رويدا أي وضعا رويدا.
وتلحق (رويد) الكاف وهي في موضع (أفعل) تبينيا لا ضميرا فتقول : رويدك وريدكم وإنما تلحقها لتبين المخاطب المخصوص فقط غير ضمير ، وذلك إذ كانت تقع لكل مخاطب على لفظ واحد.
ولك أن لا تذكرها ومثلها في ذا : حيهل وحيهلك فالكاف للخطاب وليست بإسم ومثل هذا في كلامهم كثير.
قال سيبويه : وقد يجوز عليك أنفسكم وأجمعين وقال : إذا قلت : عليكم زيدا فقد أضمرت فاعلا في النية فإذا قلت : عليك أنت نفسك لم يكن إلا رفعا.
ولو قلت في : عليّ زيدا أنا نفسي لم يكن إلا جرا وإنما جاءت الياء والكاف لتفصلا بين المأمور والأمر في المخاطبة وكذلك : حذرك بمنزلة عليك والمصدر وغيره في هذا الباب سواء
ص: 138
ومن جعل : رويد مصدرا قال : رويدك نفسك إن حمله على الكاف ، وإن حمله على المضمر في النية رفع.
قال : وأما قول العرب رويدك نفسك فإنهم يجعلون النفس بمنزلة عبد الله إذا أمرته به ، وأما حيهلك وهاءك وأخواتها فلا يكون الكاف فيها إلا للخطاب ولا موضع لها من الإعراب لأنهن لم يجعلن مصادر.
أما قولك : دونك زيدا ودونكم إذا أردت تأخر فنظيرها من الأفعال جئت يا فتى يجوز أن تخبر عن مجيئك لا غير وجائز أن تعديها فتقول : جئت زيدا وكذلك تقول : عليّ زيدا وعليّ به فإذا قلت : عليّ زيدا فمعناه أعطني زيدا ، وإذا قلت : عليك زيدا فمعناه : خذ زيدا ومعنى (حيهل) أقرب وجائز أن يقع في معنى قرب فأما قولك : أقرب فكقولك : حيهل الثريد أي : أقرب منه وآته وفتح حيهل كفتح خمسة عشر لأنهما شيئان جملا شيئا واحدا.
فأما قول الشاعر :
يوم كثير تناديه وحيّ هله ... (1)
فإنه جعله إسما فصار كحضر موت ولم يأمر أحدا بشيء.
وقد توصل ب (علي) كما وصلت ب (هل) هذه فمن ذلك : حيّ على الصلاة. إنما معناه : أقربوا من الصلاة وإيتوا الصلاة.
ص: 139
وفي (حيهل) ثلاث لغات : فأجودهن أن تقول : جيّهل بعمر فإذا وقفت قلت : حيهلا الألف هاهنا لبيان الحركة كالهاء في قوله : كتابيه وحسابيه ؛ لأن الألف من مخرج الهاء ومثل ذلك قولك : أنا قلت ذاك فإذا وقفت قلت : أناه.
ويجوز : حيهلا بالتنوين تجعل نكرة ويجوز : حيهلا بعمر وهي أردأ اللغات.
قال أبو العباس : وأما (حي هلا) فليست بشيء.
(وهلم) إنما هي لمّ أي أقرب وها للتنبيه إلا أن الألف حذفت فيها لكثرة الاستعمال وأنهما جعلا شيئا واحدا فأما أهل الحجاز فيقولون للواحد والإثنين والمرأة وللجماعة من الرجال والنساء : هلم على لفظ واحد كما يفعلون ذلك في الأشياء التي هي أسماء للفعل وليس بفعل قال الله عز وجل : (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا)(1) [الأحزاب : 18] واستجازوا ذلك لإخراجهم إياها عن مجرى الأفعال حيث وصلوها بحرف التنبيه كما أخرجوا خمسة عشر من الإعراب.
فأما بنو تميم فيصرفونها فيقولون للاثنين : هلما وللأنثى هلمي كما تقول : رد وردا وردوا وارددن وردي.
ص: 140
قال أبو بكر : وقد مضى ذكر الأسماء التي تعمل عمل الفعل بعد أن ذكرنا الأسماء المرتفعة فلم يبق اسم يرتفع إلا أن يكون تابعا لإسم من الأسماء التي قدمنا ذكره وأن تكون مبنيا مشبها بالمعرب.
فأما التوابع فنحو : النعت والتأكيد والبدل والعطف ونحن نذكرها بعد ذكر الأسماء المنصوبات والمجرورات ، وأما ما كان من الأسماء مبنيا مشبها للمعرب فنداء المفرد نحو قولك : يا زيد ويا حكم العاقل والعاقل ويا حكمان ويا حكمون فهذا موضعه نصب وليس بمعرب وإنما حقه أن يذكر مع ذكر المبنيات من أجل أنه مبني وينبغي أيضا أن يذكر مع المنصوبات من أجل أن موضعه منصوب فنحن نعيده إذا ذكرنا النداء إن شاء الله.
وقبل أن نذكر المنصوبات نقدم ذكر المعرفة والنكرة للإنتفاع بذلك فيها وفي المرفوعات أيضا إن شاء الله.
ص: 141
كل اسم عم اثنين فما زاد فهو نكرة وإنما سمي نكرة من أجل أنك لا تعرف به واحدا بعينه إذا ذكر.
والنكرة (1) تنقسم قسمين : فأحد القسمين : أن يكون الاسم في أول أحواله نكرة مثل : رجل وفرس وحجر وجمل وما أشبه ذلك.
والقسم الثاني : أن يكون الاسم صار نكرة بعد أن كان معرفة وعرض ذلك في الأصل الذي وضع له غير ذلك نحو أن يسمى إنسان بعمرو فيكون معروفا بذلك في حيه ، فإن سمي باسم آخر لم نعلم إذا قال القائل : رأيت عمرا أي العمرين هو ومن أجل تنكره دخلت عليه الألف واللام إذا ثنى وجمع.
وتعتبر النكرة بأن يدخل عليها (ربّ) فيصلح ذلك فيها أو ألف ولام فيصير بعد دخول الألف واللام معرفة أو تثنيها وتجمعها بلفظها من غير إدخال ألف ولام عليها فجميع هذا وما أشبهه نكرة والنكرة قبل المعرفة ألا ترى أن الإنسان اسمه إنسان يجب له هذا الاسم بصورته قبل أن يعرف باسم وأكثر الأسماء نكرات وهذه النكرات بعضها أنكر من بعض فكلما كان أكثر عموما فهو أنكر مما هو أخص منه فشيء أنك من قولك : حي وحي أنكر من قولك : إنسان فكلما قل ما يقع عليه الاسم فهو أقرب إلى التعريف وكلما كثر كان أنكر فاعلم.
ص: 142
والمعرفة (1) خمسة أشياء : الاسم المكنى والمبهم والعلم وما فيه الألف واللام وما أضيف إليهن.
فأما المكني : فنحو قولك : هو وأنت وإياك والهاء في (غلامه وضربته) والكاف في غلامك وضربك والتاء في (قمت) وقمت وقمت يا هذا.
فأما المبهم : فنحو : هذا وتلك وأولئك المكنيات والمبهمات موضع يستقصي ذكرها فيه إن شاء الله.
وأما العلم : فنحو : زيد وعمر وعثمان.
واعلم أن اسم العلم على ثلاثة أضرب إما أن يكون منقولا من نكرة أو مشتقا منها أو أعجميا أعرب.
فأما المنقول (2) : فعلى ضربين : أحدهما من الاسم والآخر من صفة.
ص: 143
أما المنقول من الاسم النكرة فنحو : حجر وأسد فكل واحد من هذين نكرة في أصله فإذا سميت به صار معرفة ، وأما المنقول من صفة فنحو : هاشم وقاسم وعباس وأحمر ؛ لأن هذه أصولها صفات تقول : مررت برجل هاشم ورجل قاسم وبرجل عباس.
ص: 144
وأما الأسماء المشتقة : فنحو : عمر وعثمان فهذان مشتقان من عامر وعاثم وليسا بمنقولين ؛ لأنه ليس في أصول النكرات عثمان ولا عمر إلا أن تريد جمع عمرة.
فأسماء الأعلام لا تكاد تخلو من ذلك ، فإن جاء اسم عربي لا تدري ممّ نقل أو اشتق فاعلم إن أصله ذلك ، وإن لم يصل إلينا علمه قياسا على كثرة ما وجدناه من ذلك.
ولا أدفع أن يخترع بعض العرب في حال تسميته اسما غير منقول من نكرة ولا مشتق منها ، ولكن العام والجمهور ما ذكرت لك.
وأما الأعجمية فنحو : إسماعيل وإبراهيم ويعقوب فهذه أعربت من كلام العجم.
وأما ما فيه الألف واللام ، فإن الألف واللام يدخلان على الأسماء النكرات على ضربين : إمّا إشارة إلى واحد معهود بعينه أو إشارة إلى الجنس فأما الواحد المعهود : فأن يذكر شيء فتعود لذكره فتقول : الرجل وكذلك الدار والحمار وما أشبهه كأن قائلا قال : كان عندي رجل من أمره ومن قصته.
فإن أردت أن يعود إلى ذكره قلت : ما فعل الرجل للعهد الذي كان بينك وبين المخاطب من ذكره ، وأما دخولها للجنس فأن تقول : أهلك الناس الدينار والدرهم لا تريد دينارا بعينه ولا درهما بعينه ولكن كقوله عز وجل : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر]. يدلك الاستثناء على أن الإنسان في معنى الناس ، وأما ما أضيف إليهن فنحو قولك : غلامك وصاحبك وغلام ذاك وصاحب هذه وغلام زيد وصاحب عمرو وغلام الرجل وصاحب الإمام ونحو ذلك.
ص: 145
تقول : (هذا عبد الله).
ف- (هذا) اسم معرفة. و (عبد الله) اسم معرفة. و (هذا) مبتدأ. و (عبد الله) خبره.
فإن جئت بعد عبد الله بنكرة نصبتها على الحال فقلت : هذا عبد الله واقفا وكذلك كل اسم علم يجري مجرى عبد الله وتقول : هذا أخوك فهذا معرفة وأخوك فهذا معرفة بالإضافة إلى الكاف.
فإن جئت بنكرة قلت : هذا أخوك قائما قال الله تعالى : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : 72].
وأجاز أصحابنا الرفع في مثل هذه المسألة على أربعة أوجه : أحدهما : أن تجعل (أخاك) بدلا من (هذا) وتجعل قائما خبر (هذا) والآخر : أن تجعل (أخاك) خبرا ل- (هذا) وتضمر (هذا) من الأخ كأنك قلت : هذا أخوك هذا قائم ، وإن شئت أضمرت (هو) كأنك قلت : هذا أخوك هو قائم ، وإن شئت كان (أخوك) وقائم خبرا واحدا كما تقول : هذا حلو حامض أي : قد جمع الطعمين ومثل هذا لا يجوز أن يكون (حلو) الخبر وحده ولا حامض الخبر وحده حتى تجمعهما ، وإذا قلت : هذا الرجل ولم تذكر بعد ذلك شيئا وأردت بالألف واللام العهد فالرجل خبر عن (هذا) ، فإن جئت بعد (الرجل) بشيء يكون خبرا جعلت (الرجل) تابعا ل- (هذا) كالنعت ؛ لأن المبهمة توصف بالأجناس وكان ما بعده خبرا عن (هذا) فقلت : هذا الرجل عالم وهذه المرأة عاقلة هذا الباب جديد فترفع (هذا) بالابتداء وترفع ما فيه الألف واللام بأنه صفة وتجعلهما كاسم واحد.
ومنه قول النابغة الذبياني :
توهّمت آيات لها فعرفتها
لستّة أعوام وذا العام سابع
فإن أردت بالألف واللام المعهود (1) جاز نصب ما بعده فقلت : هذه المرأة عاقلة وهذا الرجل عالما فإذا كانت الألف واللام في اسم لا يراد به واحد من الجنس وهو كالصفة الغالبة
ص: 146
نصبت ما بعد الاسم على الحال ، وذلك قولك : هذا العباس مقبلا ، وإن كان الاسم ليس بعلم ولكنه واحد ليس له ثان كان أيضا الخبر منصوبا كقولك : هذا القمر منيرا وهذه الشمس طالعة وكذلك إن أردت بالاسم أن تجعله يعم الجنس كله ويكون إخبارك عن واحده كإخبارك عن جميعه كان الخبر منصوبا كقولك : هذا الأسد مهيبا وهذه العقرب مخوفة إذا لم ترد عقربا تراها ولا أسدا تشير إليه من سائر الأسد ولا يجوز : هذا أنا وهذا أنت لأنك لا تشير للإنسان إلى نفسه ولا تشير إلى نفسك ، فإن أردت التمثيل أي : هذا يقوم مقامك ويغني غناءك جاز أن تقول : هذا أنت وهذا أنا والمعنى : هذا مثلك وهذا مثلي ، وأما قولك : هذا هو فبمنزلة قولك : هذا عبد الله إذا كان هو إنما يكون كناية عن عبد الله وما أشبهه ألا ترى أنك تكون في حديث إنسان فيسألك المخاطب عن صاحب القصة من هو فتقول : هذا هو وقال قوم : إن كلام العرب أن يجعلوا هذه الأسماء المكنية بين (ها وذا) وينصبون أخبارها على الحال فيقولون : ها هو ذا قائما وها أنذا جالسا وها أنت ذا ظالما وهذا الوجه يسميه الكوفيون التقريب وهو إذا كان الاسم ظاهرا جاء بعد (هذا) مرفوعا ونصبوا الخبر معرفة كان أو نكرة فأما البصريون فلا ينصبون إلا الحال وتقول : هذا هذا على التشبيه وهذا ذاك وهذا هذه.
واعلم أن من الأسماء مضافات إلى معارف ولكنها لا تتعرف بها لأنها لا تخص شيئا بعينه فمن ذلك : مثلك وشبهك وغيرك تقول : مررت برجل مثلك وبرجل شبهك وبرجل غيرك فلو لم يكن نكرات ما وصف بهن نكرة وإنما نكرهن معانيهن ألا ترى أنك إذا قلت : مثلك.
جاز أن يكون (مثلك) في طولك أو لونك أو في علمك ولن يحاط بالأشياء التي يكون بها الشيء مثل الشيء لكثرتها وكذلك شبهك ، وأما غيرك فصار نكرة ؛ لأن كل شيء مثل الشيء عداك فهو غيرك ، فإن أردت بمثلك وشبهك المعروف بشبهك فهو معرفة ، وأما شبيهك فمعرفة ولم يستعمل كما استعمل (شبهك) المعروف بأنه يشبهك وتقول هذا واقفا زيد وهذا واقفا رجل فتنصب (واقفا) على الحال ، وإن شئت رفعت فقلت هذا واقف رجل فتجعل (واقف) خبر (هذا) ورجل بدل منه وكذلك زيد وما أشبهه وينشد هذا البيت على وجهين :
أترضى بأنّا لم تجفّ دماؤنا
وهذا عروس باليمامة خالد
فينصب (عروس) ويرفع.
ص: 147
وتقول : هذا مثلك واقف وهذا غيرك منطلق لما خبرتك به من نكرة مثلك وغيرك وقد يجوز أن تنصب فيكون النصب أحسن فيها منه في سائر النكرات لأنها في لفظ المعارف.
وإن كانت نكرات فيقول : هذا مثلك منطلقا وهذا حسن الوجه قائما وقد عرفتك أن (حسن الوجه) نكرة ولذلك جاز دخول الألف واللام عليه وأفضل منك وخير منك نكرة أيضا إلا أنه أقرب إلى المعرفة من حسن وفاضل فتقول : هذا أفضل منك قائما ، فإن قلت : (زيد هذا) فزيد مبتدأ وهذه خبره والأحسن أن تبدأ (بهذا) ؛ لأن الأعرف أولى بأن يكون مبتدأ ، فإن قلت زيد هذا عالم جاز الرفع والنصب فالرفع على أن تجعل (هذا) معطوفا على (زيد) عطف البيان وترفع (عالما) بأنه خبر الابتداء ، وإن جعلت (هذا) خبرا لزيد نصبت (عالم) على الحال.
واعلم أن (ذلك) مثل (هذا) تقول : إن ذلك الرجل عالم كما تقول : إن هذا الرجل عالم.
وإن ذلك الرجل أخوك كما تقول : إن هذا الرجل أخوك.
والكوفيون يقولون : هذا عبد الله أفضل رجل وأي رجل فيستحسنون رفع ما كان فيه مدح أو ذم ورفعه عندهم على الإستئناف وعلى ذلك يتأولون قول الشاعر :
من يك ذا بثّ فهذا بتّي
مقيّظ مصيّف مشتّي (1)
وهذه عند البصريين : من باب حلو حامض أي : قد جمع أنه مقيظ وأنه مصيف مشتي ففيه هذا الخلال.
ص: 148
واعلم أن من كلام العرب أسماء قد وضعتها موضع المعارف وليست كالمعارف التي ذكرناها وأعربوها وما بعدها إعراب المعارف ، وذلك نحو قولهم للأسد : أبو الحارث وأسامة وللثعلب : ثعالة وأبو الحصين وسمسم وللذئب : دألان وأبو جعدة وللضبع : أم عامر وحضاجر وجعار وجيأل وأم عنتل وقئام ويقال للضبعان قثم وهو الذكر منها وللغراب : ابن بريح.
قال سيبويه : فإذا قلت : هذا أبو الحارث فأنت تريد : هذا الأسد أي هذا الذي سمعت باسمه أو هو الذي عرفت أشباهه ولا تريد أن تشير إلى شيء قد عرفه بعينه قبل ذلك كمعرفته زيدا وعمرا ولكنه أراد هذا الذي كل واحد من أمته له هذا الاسم وإنما منع الأسد وما أشبهه أن يكون له اسم معناه معنى زيد أن الأسد وما أشبهها ليست بأشياء ثابتة مقيمة مع الناس ألا تراهم قد اختصوا الخيل والإبل والغنم والكلاب وما يثبت معهم بأسماء : كزيد وعمرو ومن ذلك : أبو جخادب وهو شيء يشبه الجندب غير أنه أعظم منه وهو ضرب من الجنادب كما أن بنات أوبر ضرب من الكمأة وهي معرفة وابن قترة ضرب من الحيات وابن آوى معرفة.
ويدلك على أنه معرفة أن آوى غير مصروف وابن عرس وسامّ أبرص.
وبعض العرب يقول : أبو بريص وحمار قبان : دويبة كأنه قال في كل واحد من هذا الضرب هذا الذي يعرف من أحناش الأرض بصورة كذا فاختصت العرب لكل ضرب من هذه الضروب اسما على معنى يعرفها بها فعلى هذا تقول : هذا ابن آوى مقبلا ولا تصرف آوى ؛ لأنه معرفة ولأنه على وزن (افعل) وتنصب مقبلا كما نصبته في قولك : هذا زيد مقبلا وحكم جمعها حكم زيد إلا أن منها ما ينصرف وما لا ينصرف كما تكون الأسماء المعارف وغيرها.
وقد زعموا : أن بعض العرب يقول : هذا ابن عرس مقبل فيرفعه على وجهين فوجه مثل : هذا زيد مقبل ووجه على أنه جعل عرسا نكرة فصار المضاف إليه نكرة وما ابن مخلص وابن لبون وابن ماء فنكرة لأنها تدخلها الألف واللام.
واعلم أن في كلامهم أسماء معارف بالألف واللام وبالإضافة غلبت على أشياء فصارت لها كالأسماء والأعلام مثل : زيد وعمرو نحو : النجم تعني الثريا وابن الصّعق ابن رألان وابن كراع ، فإن أخرجت الألف واللام من النجم وابن الصعق تنكر.
ص: 149
وزعم الخليل : أن الذين قالوا : الحارث والحسن والعباس إنما أرادوا أن يجعلوا الرجل هو الشيء بعينه كأنه وصف غلب عليه ومن قال : حارث وعباس فهو يجريه مجرى زيدا.
وأما السّماك والدّبران والعيّوق وهذا النحو فإنما يلزمه الألف واللام من قبل أنه عندهم الشيء بعينه كالصفات الغالبة وإنما أزيل عن لفظ السامك والدابر والعايك فقيل : سماك ودبران وعيوق للفرق كما فصل بين العدل والعديل وبناء حصين وامرأة حصان.
قال سيبويه : فكل شيء جاء قد لزمه الألف واللام فهو بهذه المنزلة ، فإن كان عربيا تعرفه ولا تعرف الذي اشتق منه فإنما ذلك لأنا جهلنا ما علم غيرنا أو يكون الآخر لم يصل إليه علم ما وصل إلى الأول المسمى.
قال : وبمنزلة هذه النجوم الأربعاء والثلاثاء يعني : أنه أريد به الثالث والرابع فأزيل لفظه كما فعل بالسماك.
وتقول : هذان زيدان منطلقان فمنطلقان صفة للزيدين وهو نكرة وصفت به نكرة قال وتقول : هؤلاء عرفات حسنة وهذان أبانان بينين والفرق بين هذا وبين زيدين أن زيدين لم يجعلا اسما لرجلين بأعينهما وليس هذا في الأناس ولا في الدواب إنما يكون هذا في الأماكن والجبال وما أشبه ذلك من قبل أن الأماكن لا تزول فصار أبانان وعرفات كالشيء الواحد.
والذي والتي : معرفة ولا يتمان إلا بصلة ومن وما يكونان معرفة ونكرة ؛ لأن الجواب فيهما يكون بالمعرفة والنكرة وأيهم وكلهم وبعضهم معارف بالإضافة وقد تترك الإضافة وفيهن معناها قائم وأجمعون وما أشبهها معارف لأنك لا تنعت بها إلا معرفة ولا يدخل عليها الألف واللام.
وقال الكسائي : سمعت : (هو أحسن الناس هاتين) يريد : عينين فجعله نكرة. وهذا شاذ غير معروف.
ويكون (ذا) في موضع الذي فتقول : ضربت هذا يقوم وليس بحاضر تريد : الذي يقوم قالوا : وقد جاء هذا في الشعر.
ص: 150
الأسماء المنصوبات تنقسم قسمة أولى على ضربين : فالضرب الأول هو العام الكثير : كل اسم تذكره بعد أن يستغني الرافع بالمرفوع وما يتبعه في رفعه إن كان له تابع وفي الكلام دليل عليه فهو نصب.
والضرب الآخر : كل اسم تذكره لفائدة بعد اسم مضاف أو فيه نون ظاهرة أو مضمرة وقد تما بالإضافة والنون وحالت النون والإضافة بينهما ولولاهما لصلح أن يضاف إليه فهو نصب.
والضرب الأول : ينقسم على قسمين : مفعول ومشبه بمفعول.
والمفعول ينقسم على خمسة أقسام : مفعول مطلق ومفعول به ومفعول فيه ومفعول له ومفعول معه.
ويعني به المصدر.
المصدر اسم كسائر الأسماء إلا أنه معنى غير شخص.
والأفعال مشتقة منه وإنما انفصلت من المصادر بما تضمنت معاني الأزمنة الثلاثة بتصرفها.
ص: 151
والمصدر : هو المفعول في الحقيقة لسائر المخلوقين فمعنى قولك : قام زيد وفعل زيد قياما سواء ، وإذا قلت : ضربت فإنما معناه أحدثت ضربا وفعلت ضربا فهو المفعول الصحيح.
ألا ترى أن القائل يقول : من فعل هذا القيام فتقول : أنا فعلته ومن ضرب هذا الضرب الشديد فتقول : أنا فعلته. تريد : أنا ضربت هذا الضرب.
وقولك : ضربت هذا الضرب ، وقولك : ضربت زيدا لا يصلح أن تغيره بأن تقول : فعلت زيدا ؛ لأنه ليس بمفعول لك فإنما هو مفعول لله تعالى فإذا قلت : ضربت زيدا فالفعل لك دون زيد وإنما أحللت الضرب به وهو المصدر فعلى هذا تقول : قمت قياما وجلست جلوسا وضربت ضربا وأعطيت إعطاء وظننت ظنا واستخرجت استخراجا وانقطعت انقطاعا واحمررت احمرارا فلا يمتنع من هذا فعل منصرف البتة.
ومصدر الفعل الذي يعمل فعله فيه يجيء على ضروب : فربما ذكر توكيدا نحو قولك :قمت قياما وجلست جلوسا فليس في هذا أكثر من أنك أكدت فعلك بذكرك مصدره وضرب ثان تذكره للفائدة نحو قولك : ضربت زيدا ضربا شديدا والضرب الذي تعرف.
وقمت قياما طويلا فقد أفدت في الضرب أنه شديد وفي القيام أنه طويل وكذلك إذا قلت : ضربت ضربتين وضربات فقد أفدت المرار وكم مرة ضربت.
وقال سيبويه : تقول : قعد قعدة سوء وقعد قعدتين لما عمل في الحدث يعني المصدر عمل في المرة منه والمرتين وما يكون ضربا منه ، وإن خالف اللفظ.
فمن ذلك : قعد القرفصاء (1) واشتمل الصمّاء ورجع القهقري ؛ لأنه ضرب من فعله الذي أخذ منه.
ص: 152
قال أبو العباس قولهم : القرفصاء واشتمل الصمّاء ورجع القهقري هذه حلى وتلقيبات لها وتقديرها : اشتمل الشمل التي تعرف بهذا الاسم وكذلك أخواتها.
قال : وجملة القول : إن الفعل لا ينصب شيئا إلا وفي الفعل دليل عليه فمن ذلك المصادر لأنك إذا قلت : قام ففي (قام) دليل على أنه : فعل قياما فلذلك قلت : قام زيد قياما فعديته إلى المصدر وكذلك تعديه إلى أسماء الزمان ؛ لأن الفعل لا يكون إلا في زمان وتعديه إلى المكان ؛
ص: 153
لأنه فيه يقع وتعديه إلى الحال ؛ لأنه لأفعل إلا في حال واحق ذلك به المصدر ؛ لأنه مشتق من لفظه ودال عليه.
واعلم أنّ (أن) تكون مع صلتها في معنى المصدر وكذلك (ما) تكون مع صلتها في معناه ، وذلك إذا وصلت بالفعل خاصة إلا أن صلة (ما) لا بد من أن تكون فيها ما يرجع إلى (ما) لأنها اسم وما في صلة (أن) لا يحتاج أن يكون معه فيه راجع ؛ لأن (أن) حرف والحروف لا يكنى عنها ولا تضمر فيكون في الكلام ما يرجع إليها والذي يوجب أن (ما) اسم وأنها ليست حرفا (كأن) : أنها لو كانت (كأن) لعملت في الفعل كما عملت (أن) لأنا وجدنا جميع الحروف التي تدخل على الأفعال ولا تدخل على الأسماء تعمل في الأفعال فلما لم نجدها عاملة حكمنا بأنها اسم وهذا مذهب أبي الحسن الأخفش وغيره من النحويين فتقول يعجبني أن يقوم زيد تريد : قيام زيد ويعجبني ما صنعت تريد : صنيعك إلا أن هذين ، وإن كانا قد يكونان في معنى المصادر فليس يجوز أن يقعا موقع المصدر في قولك : ضربت زيدا ضربا لا يجوز أن تقول : ضربت زيدا أن ضربت تريد : ضربا ولا ضربت زيدا ما ضربت تريد : معنى (ضربا) وأنت مؤكد لفعلك ويجوز : ضربت ما ضربت أي : الضرب الذي ضربت كما تقول : فعلت ما فعلت أي : مثل الفعل الذي فعلت وتقول : فعلت ما فعل زيد أي : كالفعل الذي فعل زيد ، فإن لم ترد هذا المعنى فالكلام محال ؛ لأن فعلك لا يكون فعل غيرك.
قال الله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : 69] والتأويل عندهم والله أعلم : كالخوض الذي خاضوا (1).
ص: 154
تقول : ضربته عبد الله تضمر الضرب تعني : ضربت الضرب عبد الله ولو قلت ضربت عبد الله ضربا وضربته زيدا ما كان به بأس على أن تضمر المصدر.
واعلم أنه لا يجوز أن تعمل ضمير المصدر لا تقول : سرني ضربك عمرا وهو زيدا وأنت تريد : وضربك زيدا ؛ لأنه إنما يعمل إذا كان على لفطه الذي تشتق الأفعال منه ألا ترى أن (ضرب) مشتق من الضرب فإنما يعمل الضرب وما أشبهه من المصادر إذا كان ظاهرا غير مضمر وإنما يعمل لشبهه بالفعل فكما أن الفعل لا يضمر فكذلك المصدر لا يجوز أن يقع موقع الفعل وهو مضمر وإنما جاز إضمار المصدر ؛ لأنه معنى واحد ولم يجز إضمار الفعل ؛ لأنه معنى وزمان ولو أضمر لصار اسما.
وتقول : مررت بهم جميعا إذا عنيت أنك لم تترك منهم أحدا أو : مررت بهم كلا قال الأخفش كل وجميع هاهنا بمنزلة المصادر كأنك قلت مررت بهم عما ومررت بهم كلا أي : مرورا عما وكلا فكل وجميع هاهنا بمنزلة المصادر كأنك قلت : مررت بهم عما ومررت بهم عما لهم وكأنك قلت : طررتهم طرا وليس الجميع والكل بالقوم كما أن الطر والقاطبة ليس بالقوم يعني إذا قلت : مررت بهم قاطبة وطرا فكأنك قلت : جمعتهم جمعا وكذلك في طر كأنك قلت : طررتم أي أتيت عليهم طرا.
وذكر سيبويه : هذا في باب ما ينتصب ؛ لأنه حال وقع فيه الخبر وهو اسم.
وقال : من ذلك : مررت بهم جميعا وعامة وجماعة وقال : هذه أسماء متصرفة ولا يجوز أن يدخل فيها ألألف واللام.
وزعم الخليل : أن قاطبة (1) وطرا لا يتصرفان في موضع المصدر.
ص: 155
واعلم أن في الكلام مصادر تقع موقع الحال فتغني عنها وانتصابها انتصاب المصادر نحو قولك : أتاني زيد مشيا فقولك : مشيا قد أغنى عن ماش ويمشي إلا أن التقدير : أتاني يمشي مشيا فمن ذلك : قتلته صبرا ، ولقيته فجأة ومفاجأة وكفاحا ومكافحة ولقيته عيانا وكلمته مشافهة وأتيته ركضا وعدوا وأخذت عنه سماعا وسمعا.
قال سيبويه : وليس كل مصدر يوضع هذا الموضع ألا ترى أنه لا يحسن : أتانا سرعة ولا رجلة.
قال أبو العباس : ليس يمتنع من هذا الباب شيء من المصادر أن يقع موقع الحال إذا كانت قصته هذه القصة وخالف سيبويه وقد جاء بعض هذه المصادر يغني عن ذكر الحال بالألف واللام نحو : أرسلها العراك والعراك لا يجوز أن يكون حالا ولا ينتصب انتصاب الحال وإنما انتصب عندي على تأويل : أرسلها تعترك العراك ف- (تعترك) حال والمصدر الذي عملت فيه الحال هو العراك ودل على (تعترك) فأغنى عنه وكذلك : طلبته جهدك وطاقتك كأنك قلت : طلبته تجتهد جهدك وتطيق طاقتك أي : تستفرغهما في ذلك.
ص: 156
ومذهب سيبويه أن قولهم : مررت به وحده وبهم وحدهم ومررت برجل وحده أي مفرد أقيم مقام مصدر (يقوم) مقام الحال وقال : ومثل ذلك في لغة أهل الحجاز : مررت بهم ثلاثتهم وأربعتهم إلى العشرة.
وزعم الخليل : أنه إذا نصب فكأنه قال : مررت بهؤلاء فقط مثل وحده في معناه أي :أفرقهم.
وأما بنو تميم فيجرونه على الاسم الأول ويعربونه كإعرابه توكيدا له.
قال سيبويه ومثل خمستهم قول الشماخ :
آتتني سليم قضّها بقضيضها ...
كأنه قال : انقض آخرهم على أولهم وبعض العرب يجعل (قضهم) بمنزلة كلهم يجريه على الوجوه فهذا مأخوذ من الإنقضاض فقسه على ما ذكرت لك من قبل.
وزعم يونس : أن وحده بمنزلة عنده وأن خمستهم وقضهم كقولك جميعا وكذلك طرا وقاطبة.
وجعل يونس نصب وحده كأنك قلت : مررت برجل على حياله فطرحت على فأما :(كلهم وجميعهم وعامتهم وأنفسهم وأجمعون) فلا يكون أبدا إلا صفة إذا أضفتهن إلى المضمرات وتقول : هو نسيج وحده ؛ لأنه اسم مضاف إليه.
قال الأخفش : كل مصدر قام مقام الفعل ففيه ضمير فاعل ، وذلك إذا قلت : سقيا لزيد وإنما تريد : سقى الله زيدا ولو قلت : سقيا الله زيدا كان جيدا لأنك قد جئت بما يقوم مقام الفعل ولو قلت : أكلا زيد الخبز وأنت تأمره كان جائزا كقوله :
فندلا زريق المال
ندل الثّعالب (1) ...
ص: 157
وتقول : ضربتك ضربا عمرو خالدا ومعناه : ضربتك ضرب عمرو خالدا فإذا قلت : ضربتك زيد خالدا فلا تقدم خالدا قبل الضرب ؛ لأنه في صلته.
قال أبو بكر : وليس هذا مثل قولك : ضربا زيدا وأنت تأمره ؛ لأن ذاك قد قام مقام الفعل فيجوز أن يقدم المفعول فتقول : زيدا ضربا وقد مضى تفسير هذا.
وتقول : ضربتك ضرب زيد عمرا وكذلك : ضربتك ضربك زيدا وضربا أنت زيدا إذا جعلته فاعلا وضربتك ضربا إياك زيدا إذا جعلته مفعولا تريد : ضربا زيد إياك.
وقال الأخفش : من رد عليك ضربا زيد عمرا إذا كنت تأمره أدخلت عليه سقيا له فقلت له : ألست إنما تريد سقى الله زيدا فإنه قائل : نعم فتقول.
فكما جاز سقاه له حين أقمت السقي مقام (سقا) فكذلك تقيم الضرب مقام (ليضرب) وتقول : ضرب زيد ضربا وقتل عمرو قتلا فتعدى الفعل الذي بني للمفعول إلى المصدر ن كما تعدى الفعل الذي بني للفاعل لا فرق بينهما في ذلك فأما المفعول الذي دخل عليه حرف الجر نحو : سيرا بعبد الله فأنت في المصادر والظروف بالخيار إن شئت نصبت المصادر نصبها قبل وأقمت المفعول الذي دخل عليه حرف الجر مقام الفاعل فقلت : سير بعبد الله سيرا شديدا أقمت (بعبد الله) مقام الفاعل ونصبت (سيرا) كما تنصبه إذا قلت : سار عبد الله سيرا شديدا وكذلك يجوز في أسماء الزمان والمكان أن تنصبها نصب الظروف في هذه المسألة ويجوز من أجل شغل حرف الجر بعبد الله أن تقيم المصادر والظروف معه مقام الفاعل فترفعها إلا أن الأحسن ألا ترفع إذا نعتت أو أفادت معنى سوى التوكيد وقصد الإخبار عنها فإذا لم يكن فيها إلا التوكيد نصبت والرفع بعيد جدا تقول : سير بعبد الله سير شديد ومر بعبد الله المرور الذي علمته ، وإن شئت نصبت وإنما حسن الرفع لأنك قد وصفت المصدر فصار كالأسماء المفيدة فأما النصب : فعلى أنك أقمت (بزيد) مقام الفاعل فصار كقولك : ضرب عبد الله الضرب الذي يعلم وشتم عبد الله الشتم الشديد وكذلك لو قلت : مر بعبد الله مروان وسير بعبد الله سير شديد لكان مفيدا. وقال الله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة : 13] ، فإن قلت : سير بعبد الله سير وسيرا وذهب إلى عبد الله ذهابا فالنصب الوجه ؛
ص: 158
لأن المصادر موكدة أما جواز الرفع على بعد إذا قلت : سير بعبد الله ؛ لأنه ليس في قولك : سير من الفائدة إلا ما في (سير) وجوازه على أنك إذا قلت : سير بعبد الله سير فمعناه : سير بعبد الله ضرب من السير ؛ لأنه لو اختلف لكان الوجه أن تقول : سير بعبد الله سيران أي : سير سريع وبطيء أو : قديم وحديث وهذا قول أبي العباس رحمه الله.
واعلم أن قولهم ضرب زيد سوطا أن معناه : ضرب زيد ضربة بسوط فالسوط هنا قد قام مقام المصدر ولذلك لم يجز أن تقيم السوط مقام الفاعل لا يجوز أن تقول : ضرب سوط زيدا كما تقول : أعطى درهم عمرا.
ص: 159
قد تقدّم قولنا في المفعول على الحقيقة أنه المصدر ولما كانت هذه تكون على ضربين :ضرب فيها يلاقي شيئا ويؤثر فيه.
وضرب منه لا يلاقي شيئا ولا يؤثر فيه فسمي الفعل الملاقي متعديا وما لا يلاقي غير متعد.
فأما الفعل الذي هو غير متعد فهو الذي لم يلاق مصدره مفعولا نحو : قام وأحمر وطال.
إذا أردت به ضد قصر خاصة ، وإن أردت به معنى علا كان متعديا والأفعال التي لا تتعدى هي ما كان منها خلقة أو حركة للجسم في ذاته وهيئة له أو فعلا من أفعال النفس غير متشبث بشيء خارج عنها.
أما الذي هو خلقة فنحو : أسود وأحمر وأعور وأشهاب وطال وما أشبه ذلك.
وأما حركة الجسم بغير ملاقاة لشيء آخر فنحو : قام وقعد وسار وغار ألا ترى أن هذه الأفعال مصوغة لحركة الجسم وهيئته في ذاته ، فإن قال قائل : فلا بد لهذه الأفعال من أن تلاقي المكان وأن تكون فيه قيل : هذا لا بدّ منه لكل فعل والمتعدي وغير المتعدي في هذا سواء وإنما علمنا محيط بأن ذلك كذلك ؛ لأن الفعل يصنع ليدل على المكان كما صيغ ليدل على المصدر والزمان.
وأما أفعال النفس التي لا تتعداها فنحو : كرم وظرف وفكر وغضب وخبر وبطر وملح وحسن وسمح وما أشبه ذلك.
وأما الفعل الذي يتعدى فكل حركة للجسم كانت ملاقية لغيرها وما أشبه ذلك من أفعال النفس وأفعال الحواس من الخمس كلها متعدية ملاقية نحو : نظرت وشممت وسمعت
ص: 160
وذقت ولمست وجميع ما كان في معاينهن فهو متعد وكذلك حركة الجسم إذا لاقت شيئا كان الفعل من ذلك متعديا نحو : أتيت زيدا ووطئت بلدك ودارك ، وأما قولك : فارقته وقاطعته وباريته وتاركته فإنما معناه : فعلت كما يفعل وساويت بين الفعلين والمساواة إنما تعلم بالتلاقي وتركتك في معنى تاركتك ؛ لأن كل شيء تركته فقد تركك فافهم هذا ، فإن فيه غموضا قليلا (1).
ص: 161
وقد اختلف النحويون في : (دخلت البيت) هل هو متعد أو غير متعد وإنما التبس عليهم ذلك لإستعمال العرب له بغير حرف الجر في كثير من المواضع وهو عندي غير متعد كما قدمناه وإنك لما قلت : دخلت إنما عنيت بذلك انتقالك من بسيط الأرض ومنكشفها إلى ما كان منها غير بسيط منكشف فالإنتقال ضرب واحد ، وإن اختلفت المواضع و (دخلت) مثل غرت إذا أتيت الغور ، فإن وجب أن يكون (دخلت) متعديا وجب أن يتعدى (غرت) ودليل آخر : أنك لا ترى فعلا من الأفعال يكون متعديا إلا كان مضاده متعديا ، وإن كان غير متعد كان مضاده غير متعد فمن ذلك : تحرك وسكن ، فتحرك غير متعد وسكن غير متعد وأبيض وأسود كلاهما غير متعد وخرج ضد دخل وخرج غير متعد فواجب أن يكون دخل غير متعد وهذا مذهب سيبويه.
قال سيبويه : ومثل : ذهبت الشام دخلت البيت يعني : أنه قد حذف حرف الجر من الكلام وكان الأصل عنده : ذهبت إلى الشام ودخلت في البيت.
هما مستعملان بحروف الجر فحذف حرف الجر من حذفه اتساعا واستخفافا فإذا قلت :ضربت وقتلت وأكلت وشربت وذكرت ونسيت وأحيا وأمات فهذه الأفعال ونحوها هي المتعدية إلى المفعولين نحو : ضربت زيدا وأكلت الطعام وشربت الشراب وذكرت الله واشتهيت لقاءك وهويت زيدا وما أشبه هذا من أفعال النفس المتعدية فهذا حكمه ولا تتم هذه الأفعال المتعدية ولا توجد إلا بوجود المفعول لأنك إن قلت : ذكرت ولم يكن مذكور فهو محال وكذلك. اشتهيت وما أشبهه.
واعلم أن هذا إنما قيل له مفعول به ؛ لأنه لما قال القائل : ضرب وقتل قيل له : هذا الفعل بمن وقع فقال : بزيد أو بعمرو فهذا إنما يكون في المتعدي نحو ما ذكرنا ولا يقال فيما لا يتعدى نحو : قام وقعد لا يقال هذا القيام بمن وقع ولا هذا القعود بمن حل إنما يقال : متى كان هذا القيام وفي أي وقت وأين كان وفي أي موضع والمكان والزمان لا يخلو فعل منهما متعديا كان أو غير متعد فمتى وجدت فعلا حقه أن يكون غير متعد بالصفة التي ذكرت لك ووجدت العرب قد عدته فاعلم أن ذلك اتساع في اللغة واستخفاف وأن الأصل فيه أن يكون متعديا
ص: 162
بحرف جر وإنما حذفوه استخفافا نحو ما ذكرت لك من : ذهبت الشام ودخلت البيت وسترى هذا في مواضع من هذا الكتاب.
وهذه الأفعال المتعدية تنقسم ثلاثة أقسام : منها ما يتعدى إلى مفعول واحد ومنها ما يتعدى إلى مفعولين ومنها ما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل فأما ما يتعدى إلى مفعول واحد فقد ذكرنا منه ما فيه كفاية ونحن نتبعه بما يتعدى إلى مفعولين وإلى ثلاثة بعد ذكرنا مسائل هذا الباب إن شاء الله.
ص: 163
اعلم أن الأفعال لا تثنى ولا تجمع ، وذلك لأنها أجناس كمصادرها ألا ترى أنك تقول :بلغني ضربكم زيدا كثيرا وجلوسكم إلى زيد قليلا كان الضرب والجلوس قليلا أو كثيرا وإنما يثنى الفاعل في الفعل ، فإن قلت فإنك تقول : ضربتك ضربتين وعلمت علمتين فإنما ذلك لإختلاف النوعين من ضرب يخالف ضربا في شدته وقلته أو علم يخالف علما كعلم الفقه وعلم النحو كما تقول : عندي تمور إذا اختلفت الأجناس ومع ذلك ، فإن الفعل يدل على زمان فلا يجوز أن تثنيه كما ثنيت المصدر ، وإن اختلفت أنواعه فالفعل لا بد له من الفاعل يليه بعده إما ظاهرا وإما مضمرا ولا يجوز أن يثنى ولا يجمع لما بينت لك فإذا قلت : الزيدان يقومان فهذه الألف ضمير الفاعلين والنون علامة الرفع ، وإذا قلت : الزيدون يقومون فهذه الواو ضمير الجمع والنون علامة الرفع ويجوز : قاموا الزيدون ويقومون الزيدون على لغة من قال : أكلوني البراغيث فهؤلاء إنما يجيئون بالألف والنون وبالواو والنون في : يضربان ويضربون وبالألف والواو في : ضربا وضربوا فيقولون : ضربا الزيدان وضربوا الزيدون ليعلموا أن هذا الفعل لإثنين لا لواحد ولا لجميع ولا لإثنين ولا لواحد كما أدخلت التاء في فعل المؤنث لتفصل بين فعل المذكر والمؤنث فكذلك هؤلاء زادوا بيانا ليفرقوا بين فعل الإثنين وبين الواحد والجميع وهذا لعمري هو القياس على ما أجمعوا عليه في التاء من قولهم : قامت هند وقعدت سلمى ولكن هذا أدى إلى إلباس إذ كان من كلامهم التقديم والتأخير فكأن السامع إذا سمع قاموا الزيدون لا يدري هل هو خبر مقدم والواو فيه ضمير أم الواو عمل الجمع فقط غير ضمير وكذلك الألف في (قاما الزيدان) فلهذا وغيره من العلل ما جمع على التاء ولم يجمع على الألف والواو فجاز في كل فعل لمؤنث تقول : فعلت ولا يحسن سقوطها إلا أن تفرق بين الاسم والفعل فإذا بعد منه حسن نحو قولهم : حضر اليوم القاضي امرأة.
ص: 164
وقال أبو العباس رحمه الله : إن التأنيث (1) معنى لازم غير مفارق إذا لزم المعنى لزمت علامته وليس كذا التثنية والجمع ؛ لأنه يجوز أن يفترق الإثنان والجمع فتخبر عن كل واحد منهما على حياله والتأنيث الحقيقي الذي لا يجوز فعله إلا بعلامة التأنيث هو كل مؤنث له ذكر كالحيوان نحو قولك : قامت أمة الله ونتجت فرسك والناقة إلا أن يضطر شاعر فيجوز له حذف العلامة على قبح ، فإن كان التأنيث في الاسم ولا معنى تحته فأنت مخير إن شئت جئت بالتاء لتأنيث اللفظ ، وإن شئت حذفتها.
قال الله عز وجل : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [البقرة : 275] (قالوا) ؛ لأن الموعظة والوعظ سواء.
وقال تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [هود : 67] ؛ لأن الصيحة والصوت واحد أما قوله تعالى : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) [يوسف : 30] فإنما جاء على تقدير جماعة فهو تأنيث الجمع ولا واحد لزمه التأنيث فجمع عليه فلو كان تأنيث الواحد للزمه التاء كما تقول : قامت المسلمات ؛ لأنه على (مسلمة) وتقول : قامت الرجال ؛ لأنه تأنيث الجمع.
واعلم أن الفاعل لا يجوز أن يقدم على الفعل إلا على شرط الابتداء خاصة وكذلك ما قام مقامه من المفعولين الذين لم يسم من فعل بهم فأما المفعول إذا كان الفعل متصرفا فيجوز تقديمه وتأخيره تقول : ضربت زيدا وزيدا ضربت وأكلت خبزا وخبزا أكلت وضربت هند عمرا وعمرا ضربت هند وغلامك أخرج بكرا وبكرا أخرج غلامك وتقول : أشبع الرجلين
ص: 165
الرغيفان ويكفي الرجلين الدرهمان وتقول : حرق فاه الخل ؛ لأن الخل هو الفاعل وتقول :أعجب ركوبك الدابة زيدا فالكاف في قولك : (ركوبك) مخفوضة بالإضافة وموضعها رفع والتقدير : أعجب زيدا أن ركبت الدابة فالمصدر يجر ما أضيف إليه فاعلا كان أو مفعولا ويجري ما بعده على الأصل فإضافته إلى الفاعل أحسن ؛ لأنه له كقول الله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)(1) [البقرة : 251].
وإضافته إلى المفعول حسنة ؛ لأنه به اتصل وفيه حل تقول : أعجبني بناء هذه الدار وما أحسن خياطة هذا الثوب فعلى هذا يقول : أعجب ركوب الفرس عمرو زيدا أردت : أعجب أن ركب الفرس عمرو زيدا.
فالفرس وعمرو وركب في صلة أن وزيد منتصب ب (أعجب) خارج عن لا لصلة تقدمه إن شئت قبل (أعجب) ، وإن شئت جعلته بين أعجب والركوب وكذلك : عجبت من دق الثوب القصار ، فإن نونت المصدر أو أدخلت فيه ألفا ولاما امتنعت إضافته فجرى كل شيء على أصله فقلت : أعجب ركوب زيد الفرس عمرا ، وإن شئت قلت : أعجب ركوب الفرس زيد عمرا ولا يجوز أن تقدم الفرس ولا زيدا قبل الركوب لأنهما من صلته فقد صارا منه كالياء والدال من زيد.
ص: 166
وتقول : ما أعجب شيء شيئا إعجاب زيد ركوب الفرس عمرو نصبت (إعجاب) ؛ لأنه مصدر وتقديره : ما أعجب شيء شيئا إعجابا مثل إعجاب زيد ورفعت الركوب بقولك :أعجب ؛ لأن معناه : كما أعجب زيدا أن ركب الفرس عمرو.
وتقول : أعجب الأكل الخبز زيد عمرا على ما وصفت لك وعلى ذلك قال الله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) [البلد : 14 - 15] التقدير : أو أن أطعم. لقوله وما أدراك.
وتقول : أعجب بيع طعامك رخصه المشتريه فالتقدير : أعجب أن باع طعامك رخصه الرجل المشتريه.
فالرخص هو الذي باع الطعام وتقول : أعجبني ضرب الضارب زيدا عبد الله رفعت الضرب ؛ لأنه فاعل ب (أعجبني) وأضفته إلى الضارب ونصبت زيدا ؛ لأنه مفعول في صلة الضارب ونصبت عبد الله بالضرب الأول وفاعله (الضارب) المجرور وتقديره : أعجبني أن ضرب الضارب زيدا عبد الله.
وتقول : أعجب إعطاء الدراهم أخاك غلامك أباك نصبت أباك ب (أعجب) وجعلت غلامك هو الذي أعطى الدراهم أخاك.
وتقول : ضرب الضارب عمرا المكرم زيدا أحبّ أخواك نصبت ضرب الأول ب (أحب) وجررت (الضارب) بالإضافة وعديته إلى (عمرو) ونصبت المكرم زيدا بضرب الأول ، فإن أردت أن لا تعديه إلى عمرو قلت : ضرب الضارب المكرم زيدا أحبّ أخواك وهذا كله في صلة الضرب لأنك أضفته إلى الضارب وسائر الكلام إلى قولك (أحب) متصل به.
وتقول : سر دفعك إلى المعطي زيدا دينارا درهما القائم في داره عمرو نصبت القائم (بسر) ورفعت عمرا بقيامه ولو قلت : سرّ دفعك إلى زيد درهما ضربك عمرا كان محالا ؛ لأن الضرب ليس مما يسرّ ولو قلت : وافق قيامك قعود زيد صلح ومعناه أنهما اتفقا في وقت واحد ولو أردت (بوافق) معنى الموافقة التي هي الإعجاب لم يصلح إلا في الآدميين.
ص: 167
الفعل الذي يتعدى على مفعولين ينقسم إلى قسمين (1) : فأحدهما يتعدى إلى مفعولين ولك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر.
والآخر يتعدى إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر فأما الذي يتعدى إلى مفعولين ولك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر فقولك : أعطى عبد الله زيدا درهما وكسا عبد الله بكرا ثوبا فهذا الباب الذي يجوز فيه الاقتصار على المفعول الأول ولا بد أن يكون المفعول الأول فاعلا فيه في المعنى بالمفعول الثاني ألا ترى أنك إذا قلت : أعطيت زيدا درهما فزيد المفعول الأول.
والمعنى : أنك أعطيته فأخذ الدرهم والدرهم مفعول في المعنى لزيد وكذلك : كسوت زيدا ثوبا المعنى : أنّ زيدا اكتسى الثوب ولبسه.
والأفعال التي تتعدى إلى مفعول واحد كلها إذا نقلتها من (فعل) إلى (أفعل) كتاب كان من هذا الباب تقول : ضرب زيدا عمرا ثم تقول : أضربت زيدا عمرا أي : جعلت زيدا يضرب
ص: 168
عمرا فعمرو في المعنى مفعول لزيد فهذه هي الأفعال التي يجوز لك فيها الإقتصار على المفعول الأول ؛ لأن الفائدة واقعة به وحده تقول : أعطيت زيدا ولا تذكر ما أعطيته فيكون كلاما تاما مفيدا.
وتقول : أضربت زيدا ولا تقول لمن أضربته.
واعلم أن من الأفعال ما يتعدى إلى مفعولين في اللفظ وحقه أن يتعدى إلى الثاني بحرف جر إلا أنهم استعملوا حذف خرف الجر فيه فيجوز فيه الوجهان في الكلام.
فمن ذلك قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً)(1) [الأعراف : 155] وسميته زيدا وكنيت زيدا أبا عبد الله ألا ترى أنك تقول : اخترت من الرجال وسميته بزيد وكنيته بأبي عبد الله ومن ذلك قول الشاعر :
أستغفر الله ذنبا لست محصيه
ربّ العباد إليه الوجه والعمل
وقال عمرو بن معد يكرب :
ص: 169
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
فقد تركتك ذا مال وذا نشب
أراد : استغفر الله من ذنب وأمرتك بالخير ومن ذلك : دعوته زيدا إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سميته ، وإن عنيت الدعاء إلى أمر لم يجاوز مفعولا واحدا فأصل هذا دخول الباء فإذا حذف حرف الجر عمل الفعل ومنه : نبئت زيدا تريد : عن زيد وأنشد سيبويه في حذف حرف الجر قول المتلمس :
آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه
والحبّ يأكله في القرية السّوس
وقال : تريد على حب العراق. وقد خولف في ذلك.
قال أبو العباس : إنما هو : آليت أطعم حب العراق ، أي : لا أطعم.
كما تقول : والله أبرح هاهنا أي : لا أبرح.
وخالفه أيضا في نبّأت زيدا فقال : زيدا معناه : أعلمت زيدا ونبّأت زيدا معناه : أعملت زيدا.
واعلم أنه ليس كل فعل يتعدى بحرف جر لك أن تحذف حرف الجر منه وتعدي الفعل إنما هذا يجوز فيما استعملوه وأخذ سماعا عنهم ومن ذلك قول الفرزدق :
منا الّذي أختير الرّجال سماحة
وجودا إذا هبّ الرّياح الزّعازع
والقسم الثاني : وهو الذي يتعدى إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر هذا الصنف من الأفعال التي تنفذ منك إلى غيرك ولا يكون من الأفعال المؤثرة وإنما هي أفعال تدخل على المبتدأ والخبر فتجعل الخبر يقينا أو شكا ، وذلك قولك : حسب عبد الله زيدا بكرا وظن عمرو خالدا أخاك وخال عبد الله زيدا أباك وعلمت زيدا أخاك ومثل ذلك : رأى عبد الله زيدا صاحبنا إذا لم ترد رؤية العين.
ووجد عبد الله زيدا ذا الحفاظ إذا لم ترد التي في معنى وجدان الضالة.
ألا ترى أنك إذا قلت : ظننت عمرا منطلقا فإنما شكك في إنطلاق عمرو لا في عمرو وكذلك إذا قلت : علمت زيدا قائما فالمخاطب إنما استفاد قيام زيد لا زيدا ؛ لأنه يعرف زيدا كما
ص: 170
تعرفه أنت والمخاطب والمخاطب في المفعول الأول سواء وإنما الفائدة في المفعول الثاني كما كان في المبتدأ والخبر الفائدة في الخبر لا في المبتدأ فلما كانت هذه الأفعال إنما تدخل على المبتدأ والخبر والفائدة في الخبر والمفعول الأول هو الذي كان مبتدأ والمفعول الثاني هو الذي كان الخبر بقي موضع الفائدة على حاله.
واعلم أن كل فعل متعد لك ألّا تعديه وسواء عليك أكان يتعدى إلى مفعول واحد أو إلى مفعولين أو إلا ثلاثة لك أن تقول : ضربت ولا تذكر المضروب لتفيد السامع أنه قد كان منك ضرب.
وكذلك ظننت يجوز أن تقول : ظننت وعلمت إلى أن تفيد غيرك ذلك.
واعلم أن ظننت وحسبت وعلمت وما كان نحوهن لا يجوز أن يتعدى واحد منها إلى أحد المفعولين دون الآخر لا يجوز : ظننت زيدا وتسكت حتى تقول : (قائما) وما أشبه.
من أجل أنه إنما يدخل على المبتدأ والخبر فكما لا يكون المبتدأ بغير خبر كذلك : (ظننت) لا تعمل في
المفعول الأول بغير مفعول ثان.
فأما قولهم : ظننت ذاك فإنما جاز السكوت عليه ؛ لأنه كناية عن الظن يعني المصدر فكانه قال : ظننت ذاك الظن ف- (ذاك) : إشارة إلى المصدر تعمل الظن فيه كما تعمل الأفعال التي لا تتعدى في المصدر إذا قلت : قمت قياما ويجوز إذا لم تعد : ظننت أن تقول : ظننت به تجعله موضع ظنك كما تقول : نزلت به ويجوز لك أن تلغي الظن إذا توسط الكلام أو تأخر ، وإن شئت أعملته تقول : زيد ظننت منطلق وزيد منطلق ظننت فتلغي الظن إذا تأخر ولا يحسن الإلغاء إلا مؤخرا فإذا ألغيت فكأنك قلت : زيد منطلق في ظني ولا يحسن أن تلغيه إذا تقدم.
ص: 171
تقول : ظننته أخاك قائما تريد : ظننت الظن فتكون الهاء كناية عن الظن كأنك قلت :ظننت أخاك قائما الظن ثم كنيت عن الظن وأجاز بعضهم : ظننتها أخاك قائما يريد : الظنة وكذلك إن جعلت الهاء وقتا أو مكانا على السعة تقول : ظننت زيدا منطلقا اليوم ثم تكني عن اليوم فتقول : ظننت زيدا منطلقا فيه ثم تحذف حرف الجر على السعة فتقول : ظننته زيدا منطلقا تريد : ظننت فيه والمكان كذلك وإذا ولي الظن حروف الاستفهام وجوابات القسم بطل في اللفظ عمله وعمل في الموضع تقول : علمت أزيد في الدار أم عمرو وعلمت إن زيدا لقائم وأخال لعمرو أخوك وأحسب ليقومن زيد ومن النحويين من يجعل ما ولا ك- (أن) واللام في هذا المعنى فيقول : أظن ما زيد منطلقا وأحسب لا يقوم زيد ؛ لأنه يقول : والله ما زيد محسنا وو الله لا يقوم وزيد.
وتقول : ظننته زيد قائم تريد ظننت الأمر والخبر وهذا الذي يسميه الكوفيون المجهول.
وتقول ظننته هند قائمة فتذكر لأنك تريد الأمر والخبر وظننته تقوم هند ويجوز في القياس : ظننتها زيد قائم تريد : القصة ولا أعلمه مسموعا من العرب.
فأما الكوفيون فيجيزون تأنيث المجهول وتذكيره إذا وقع بعده المؤنث يقولون : ظننته هند قائمة وظننتها هند قائمة وتقول : ظننته قائم زيد والهاء كناية عن المجهول.
والكوفيون يجيزون إذا ولي هذه الهاء فعل دائم النصب فيقولون : ظننته قائما زيد ولا أعرف لذلك وجها في القياس ولا السماع من العرب وتقول : زيد أظنّ منطلق فتلغي (أظنّ) كما عرفتك.
وتقول : خلفك أحسب عمرو قام وقائم أظن زيد فتلغي ، وإن شئت أعملت والكوفيون لا يجيزون إذا تقدمه ماض أو مستقبل أن يعملوا.
ويجيزون أن يعمل إذا تقدمه اسم أو صفة والإلغاء عندهم أحسن.
قال أبو بكر ، وذلك عندنا سواء.
ص: 172
قال الشاعر :
أبا الأراجيز يا ابن اللّؤم توعدني
وفي الأراجيز خلت اللوم والخور (1)
فألغى : (خلت) ويلغي المصدر كما يلغي الفعل وتقول : عبد الله ظني قائم وفي ظني وفيما أظن وظنا مني فهذا يلغي وهو نصب تريد : أظن ظنا ، وإذا قلت : في ظني (ففي) من صلة كلامك جعلت ذلك فيما تظن.
وحكي عن بعضهم : أنه جعله من صلة خبر عبد الله ؛ لأن قيامه فيما يظن وتقول : ظننت زيدا طعامك آكلا وطعامك ظننت زيدا آكلا.
ولا يجوز : ظننت طعامك زيدا آكلا من حيث قبح : كانت زيدا الحمّى تاخذ وهذه المسألة توافق : كانت زيدا الحمى تأخذ من جهة وتخالفها من جهة أما الجهة التي تخالفها ، فإن (كانت) خالية من الفاعل وظننت معها الفاعل والفعل لا يخلو من الفاعل.
ص: 173
والتفريق بينه وبين الفاعل أقبح منه بينه وبين المفعول.
والذي يتفقان فيه أن (كان) تدخل على مبتدأ وخبر وظننت ما عملا فيه بما لم يعملا فيه.
فإن أعملت : (ظننت) في مجهول جاز كما جاز في (كان) ورفعت زيدا وخبره فقلت : ظننته طعامك زيدا آكل ويجوز : ظننته آكل زيد طعام ويجوز في قول الكوفيين نصب آكل.
وقد أجاز قوم من النحويين : ظننت عبد الله يقوم وقاعدا وظننت عبد الله قاعدا ويقوم.
ترفع (يقوم) وأحدهما نسق على الآخر.
ولكن إعرابهما مختلف وهو عندي قبيح من أجل عطف الاسم على الفعل والفعل على الاسم ؛ لأن العطف أخو التثنية فكما لا يجوز أن ينضم فعل إلى اسم في تثنية كذلك لا يجوز في العطف ألا ترى أنك إذا قلت : زيدان فإنما معناه : زيد وزيد فلو كانت الأسماء على لفظ واحد لاستغني عن العطف.
وإنما احتيج إلى العطف لإختلاف الأسماء تقول : جاءني زيد وعمرو لما اختلف الاسمان ولو كان اسم كل واحد منهما عمرو لقلت : جاءني العمران فالتثنية نظير العطف ألا ترى أنه يجوز لك أن تقول : جاءني زيد وزيد فحق الكلم التي يعطف بعضها على بعض أن يكون متى اتفقت ألفاظها جاز تثنيتها وما ذكروا جائز في التأويل لمضارعة (يفعل) لفاعل وهو عندي قبيح لما ذكرت لك.
وتقول : ظن ظانا زيدا أخاك عمرو تريد : ظن عمرو ظانا زيدا أخاك رفعت عمرا وهو المفعول الأول إذ قام مقام الفاعل ونصبت (ظانا) ؛ لأنه المفعول الثاني فبقي على نصبه.
ويجوز أن ترفع ظانا وتنصب عمرا فتقول : ظن ظان زيدا أخاك عمرا كأنك قلت : ظن رجل ظان زيدا أخاك عمرا فترفع (ظانا) بأنه قد قام مقام الفاعل وتنصب زيدا أخاك به وتنصب عمرا ؛ لأنه مفعول (ظن).
وهو خبر ما لم يسم فاعله وتقول : ظن مظنون عمرا زيدا.
ص: 174
كأنك قلت : ظن رجل مظنون عمرا زيدا فترفع (مظنون) بأنه قام مقام الفاعل وفيه ضمير رجل والضمير مرتفع ب (مظنون) وهو الذي قام مقام الفاعل في مظنون وعمرا منصوب ب (مظنون) وزيدا منصوب ب (ظن).
وتقول : ظن مظنون عمرو أخاه زيدا كأنك قلت : ظن رجل مظنون عمرو أخاه زيدا و (مظنون) في هذا وما أشبهه من النعوت يسميه الكوفيون خلفا يعنون أنه خلف من اسم.
ولا بد من أن يكون فيه راجع إلى الاسم المحذوف.
والبصريون يقولون : صفة قامت مقام الموصوف والمعنى واحد فيرفع (مظنون) بأنه قام مقام الفاعل وهو ما لم يسم فاعله وترفع عمرا ب (مظنون) ؛ لأنه قام مقام الفاعل في مظنون.
ونصبت أخاه ب (مظنون) ورجعت الهاء إلى الاسم الموصوف الذي (مظنون) خلف منه ونصبت زيدا ب (ظن) فكأنك قلت : ظن رجل زيدا ولو قتل : ظن مظنون عمرو أخاك زيدا لم يجز ؛ لأن التأويل : ظن رجل مظنون عمرو أخاك زيدا ف- (مظنون) صفة لرجل ولا بد من أن يكون في الصفة أو فيما تشبثت به الصفة ما يرجع إلى رجل.
وليس في هذه المسألة ما يرجع إلى رجل فمن أجل ذلك لم يجز ويجوز في قول الكوفيين : ظن زيد قائما أبوه على معنى أن يقوم أبوه.
ولا يجيز هذا البصريون ؛ لأنه نقض لباب (ظن) وما عليه أصول الكلام وإنما يجيز هذا الكوفيون فيما عاد عليه ذكره.
وينشدون :
أظنّ ابن طرثوث عتيبة ذاهبا
بعاديتي تكذابه وجعائله
ص: 175
اعلم أن المفعول الأول في هذا الباب هو الذي كان فاعلا في الباب الذي قبله فنقلته من فعل إلى (أفعل) فصار الفاعل مفعولا وقد بينت هذا فيما تقدم تقول رأى زيد بشرا أخاك فإذا نقلتها إلى (أفعل) قلت : أرى الله زيدا بشرا أخاك وأعلم الله زيدا بكرا خير الناس.
وقد جاء (فعلت) في هذا النحو تقول : نبأت زيدا عمرا أبا فلان ولا يجوز الإلغاء في هذا الباب كما جاز في الباب الذي قبله لأنك إذا قلت : علمت وظننت وما أشبه ذلك فهي أفعال غير واصلة فإذا قلت : (أعلمت) كانت واصلة فمن هنا حسن الإلغاء في (ظننت وعلمت) ولم يجز إلغاء : (علمت) لأنك إذا (ظننت) فإنما هو شيء وقع في نفسك لا شيء فعلته.
وإذا قلت : (أعلمت) فقد أثرت أثرا أوقعته في نفس غيرك.
ومع ذلك فإن : (ظننت وعلمت) تدخلان على المبتدأ والخبر فإذا ألغينا بقي الكلام تاما مستغنيا بنفسه تقول : زيدا ظننت منطلقا فإذا ألغيت : (ظننت) بقي زيد ومنطلق فقلت : زيد منطلق ثم تقول (ظننت) والكلام مستغن والملغى نظير المحذوف فلا يجوز أن يلغى من الكلام ما إذا حذفته بقي الكلام غير تام ولو ألغيت : (أعلمت ورأيت) من قولك : أريت زيدا بكرا خير الناس وأعلمت بشرا خالدا شر الناس والملغى كالمحذوف لبقي زيد بكر خير الناس فزيد بغير خبر والكلام غير مؤتلف ولا تام.
ص: 176
واعلم أن هذه الأفعال المتعدية كلها ما تعدى منها إلى مفعول وما تعدى منها إلى اثنين وما تعدى منها إلى ثلاثة إذا انتهت إلى ما ذكرت لك من المفعولين فلم يكن بعد ذلك متعدي تعدت إلى جميع ما يتعدى إليه الفعل الذي لا يتعدى الفاعل إلى مفعول من المصدر والظرفين والحال ، وذلك قولك : أعطى عبد الله زيدا المال إعطاء جميلا وأعلمت هذا زيدا قائما العلم اليقين إعلاما لما انتهت صارت بمنزلة ما لا يتعدى.
ص: 177
تقول : سرقت عبد الله الثوب الليلة فتعدى (سرقت) إلى ثلاثة مفعولين على أن لا تجعل (الليلة) ظرفا ولكنك تجعلها مفعولا على السعة في اللغة كما تقول : يا سارق الليلة زيدا الثوب.
فتضيف (سارقا) إلى الليلة وإنما تكون الإضافة إلى الأسماء لا إلى الظروف وكذلك حروف الجر إنما تدخل على الأسماء لا على الظروف فكل منجر بجار عامل فيه فهو اسم وتقول : أعلمت زيدا عمرا هند معجبها هو.
كان أصل الكلام : علم زيدا عمرا هند معجبها هو.
فزيد مرفوع ب (علم) وعمرو منصوب بأنه المفعول الأول وهند مرتفعة بالابتداء (ومعجبها) هو الخبر و (هو) هذه كناية عن عمرو وراجعة إليه فلم يجز أن تقول : معجبها ولا تذكر (هو) ؛ لأن أسماء الفاعلين إذا جرت على غير من هي له لم يكن بد من إظهار الفاعل.
وقد بينا هذا فيما تقدم (وهند) وخبرها الجملة بأسرها قامت مقام المفعول الثاني وموضعها نصب فإذا نقلت (علم) إلى (أعلمت) صار زيد مفعولا فقلت : أعلمت زيدا عمرا هند معجبها هو ، فإن قيل لك أكن عن (هند معجبها هو).
قلت : أعلمت زيدا عمرا إياه ؛ لأن موضع الخبر نصب.
وهذا إذا كنيت عن معنى الجملة لا عن الجملة وتقول : أعلمته زيدا أخاك قائما تريد :أعلمت العلم فتكون الهاء كناية عن المصدر كما كانت في (ظننته زيدا أخاك) ، فإن جعلت الهاء وقتا أو مكانا على السعة جاز كما كان في (ظننته) وقد فسرته في باب مسائل (ظننت).
ومن قال : (ظننته زيد قائم) فجعل الهاء كناية عن الخبر والأمر وهو الذي يسميه الكوفيون المجهول لم يجز له أن يقول في (أعلمت زيدا عمرا خير الناس) أعلمته زيدا عمرو خير الناس لما خبرتك به من أنه يبقى زيد بلا خبر وإنما يجوز ذلك في الفعل الداخل على المبتدأ والخبر فلا يجوز هذا في (أعلمت) كما لا يجوز الإلغاء لأنك تحتاج إلى أن تذكر بعد الهاء خبرا
ص: 178
تاما يكون هو بجملته تلك الهاء والأفعال المؤثرة لا يجوز أن يضمر فيها المجهول إنما تذكر المجهول مع الأشياء التي تدخل على المبتدأ والخبر ونحو : كان وظننت وأن وما أشبه ذلك ألا ترى أن تأويل ظننته زيد قائم ظننت الأمر والخبر زيد قائم وكذلك إذا قلت : إنّه زيد قائم فالتأويل : أن الأمر زيد قائم وكذلك : كان زيد قائم إذا كان فيها مجهول التأويل كان الأمر زيد قائم ولا يجوز أن تقول : أعلمت الأمر ولا أريت الأمر هو ممتنع من جهتين : من جهة أن زيدا يكون بغير خبر يعود إليه ولو زدت في المسألة أيضا ما يرجع إليه ما جاز من الجهة الثانية.
وهي أنه لا يجوز : أعلمت الخبر خبرا إنما يعلم المستخبر وتقول : أعلمت عمرا زيدا ظانا بكرا أخاك كأنك قلت : أعلمت عمرا زيدا رجلا ظانا بكرا أخاك.
فإن رددت إلى ما لم يسم فاعله قلت : أعلم عمرو زيدا ظانا بكرا أخاك ولك أن تقيم (زيدا) مقام الفاعل وتنصب عمرا فتقول : أعلم زيد عمرا ظانا بكرا أخاك ولا يجوز : أعلم ظان بكرا أخاك عمرا زيدا.
من أجل أن حق المفعول الثالث أن يكون هو الثاني في المعنى إذ كان أصله المبتدأ والخبر وقد تقدم تفسير ذلك ، فإن كان عمرو هو زيد له إسمان جاز وجعلته هو على أن يغني غناه ويقوم مقامه كما تقول : زيد عمرو أي : أن أمره وهو يقوم مقامه جاز وإلا فالكلام محال ؛ لأن عمرا لا يكون زيدا.
ص: 179
المفعول فيه (1) ينقسم على قسمين : زمان ومكان أما الزمان ، فإن جميع الأفعال تتعدى إلى كل ضرب منه معرفة كان أو نكرة ، وذلك أن الأفعال صيغت من المصادر بأقسام الأزمنة كما بينا فيما تقدم فما نصب من أسماء الزمان فانتصابه على أنه ظرف وتعتبره بحرف الظرف أعني (في) فيحسن معه فتقول : قمت اليوم وقمت في اليوم فأنت تريد معنى (في) ، وإن لم تذكرها ولذلك سميت إذا نصبت ظروفا لأنها قامت مقام (في) ألا ترى أنك إذا قلت : قمت اليوم ثم قيل لك : أكن عن اليوم قلت : قمت فيه وكذلك : يوم الجمعة ويوم الأحد والليلة وليلة السبت وما أشبه ذلك وكذلك : نكراتها نحو قولك : قمت يوما وساعة وليلة وعشيا وعشية وصباحا ومساء.
فأما سحر إذا أردت به سحر يومك وغدوة وبكرة هذه الثلاثة الأحرف فإنها لا تتصرف تقول : جئتك اليوم سحر وغدوة وبكرة يا هذا وسنذكرها في موضعها فيما يتصرف وما لا يتصرف إن شاء الله.
ص: 180
وكل ما جاز أن يكون جواب (متى) فهو زمان ويصلح أن يكون ظرفا للفعل يقول القائل : متى قمت فتقول : يوم الجمعة ومتى صمت فتقول : يوم الخميس ومتى قدم فلان فتقول : عام كذا وكذا وكل ما كان جواب متى فالعمل يجوز أن يكون في بعضه وفي كله يقول القائل : متى سرت فتقول : يوم الجمعة فيجوز أن يكون سرت بعض ذلك اليوم.
ويجوز أن يكون قد سرت اليوم كله (وكم) من أجل أنها سؤال عن عدد تقع على كل معدود والأزمنة مما يعد فهي يسأل بها عن عدد الأزمنة فيقول القائل : كم سرت فتقول : ساعة أو يوما أو يومين ولا يسأل (بكم) إلا عن نكرة (ومتى) لا يسأل بها إلا عن معرفة أو ما قارب المعرفة يقول القائل : كم سرت فتقول : شهرين أو شهرا أو يوما ولا يجوز أن تقول : الشهر الذي تعلم ولا اليوم الذي تعلم ؛ لأن هذا من جواب (متى).
وأما قولهم : سار الليل والنهار والدهر والأبد فهو ، وإن كان لفظه لفظ المعارف فهو في جواب (كم) ولا يجوز أن يكون جواب (متى) ؛ لأنه إنما يراد به التكثير وليست بأوقات معلومة محدودة فإذا قالوا : سير عليه الليل والنهار فكأنهم قالوا : سير عليه دهرا طويلا وكذلك الأبد فإنما يراد به التكثير والعدد وإلا فالكلام محال.
وذكر سيبويه : أن المحرم وسائر أسماء الشهور أجريت مجرى الدهر والليل والنهار وقال لو قلت : شهر رمضان أو شهر ذي الحجة كان بمنزلة يوم الجمعة أو البارحة ولصار جواب (متى) فالمحرم عنده بلا ذكر (شهر) يكون في جواب (كم) ، فإن أضفت شهرا إليه صار في جواب (متى) وحجته في ذلك استعمال العرب له لذلك قال : وجميع ما ذكرت لك مما يكون مجرى على (متى) يكون مجرى على (كم) ظرفا وغير ظرف.
وبعض ما يكون في (كم) لا يكون في (متى) نحو : الدهر والليل والنهار.
واعلم أن أسماء الأزمنة تكون على ضربين : فمنها ما يكون اسما ويكون ظرفا ومنها ما لا يكون إلا ظرفا.
فكل اسم من أسماء الزمان فلك أن تجعله اسما وظرفا إلا ما خصته العرب بأن جعلته ظرفا ، وذلك ما لم تستعمله العرب مجرورا ولا مرفوعا.
ص: 181
وهذا إنما يؤخذ سماعا عنهم فمن ذلك : (سحر) إذا كان معرفة غير مصروف تعني به :سحر يومك لا يكون إلا ظرفا وإنما يتكلمون به في الرفع والنصب والجر وبالألف واللام أو نكرة وكذلك تحقير سحر إذا عنيت : سحر يومك لم يكن إلا ظرفا.
تقول : سير عليه سحيرا وتصرفه ؛ لأن (فعيلا) منصرف حيث كان.
ومثله ضحى إذا عنيت : ضحى يومك وصباحا وعشية وعشاء إذا أردت : عشاء يومك فإنه لم يستعمل إلا ظرفا وكذلك : ذات مرة وبعيدات بين وبكرا وضحوة إذا عنيت ضحوة يومك وعتمة إذا أردت : عتمة ليلتك وذات يوم وذات مرة وليل ونهار إذا أردت : ليل ليلتك ونهار نهارك وذو صباح ظرف.
قال سيبويه : أخبرنا بذلك يونس إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم : ذات ليلة وذات مرة أي جاءتا مرفوعتين فيجوز على هذا أن تنصب نصب المفعول على السعة.
واعلم أن العرب قد أقامت أسماء ليست بأزمنة مقام الأزمنة إتساعا واختصارا وهذه الأسماء تجيء على ضربين :
أحدهما : أن يكون أصل الكلام إضافة أسماء الزمان إلى مصدر مضاف فحذف اسم الزمان اتساعا نحو : جئتك مقدم الحاج وخفوق النجم وخلافة فلان وصلاة العصر فالمراد في جميع هذا : جئتك وقت مقدم الحاج ووقت خفوق النجم ووقت خلافة فلان ووقت صلاة العصر.
والآخر : أن يكون اسم الزمان موصوفا فحذفا اتساعا وأقيم الوصف مقام الموصوف نحو : طويل وحديث وكثير وقليل وقديم وجميع هذه الصفات إذا أقمتها مقام الأحيان لم يجز فيها الرفع ولم تكن إلا ظروفا وجرت مجرى ما لا يكون إلا ظرفا من الأزمنة فأما قريب ، فإن سيبويه أجاز فيه الرفع وقال : لأنهم يقولون : لقيته مذ قريب وكذلك ملى قال : والنصب عندي عربي كثير.
فإن قلت : سير عليه طويل من الدهر وشديد من السير فأطلقت الكلام ووصفته كان أحسن وأقوى وجاز.
ص: 182
قال أبو بكر : وإنما صار أحسن إذا وصف لأنمه يصير كالأسماء ؛ لأن الأسماء هي التي توصف وكل ما كان من أسماء الزمان يجوز أن يكون إسما وأن يكون ظرفا فلك أن تنصبه نصب المفعول على السعة تقول : قمت اليوم وقعدت الليلة فتنصبه نصب (زيد) إذا قلت :ضربت زيدا ويتبين لك هذا في الكناية أنك إذا قلت : قمت اليوم فتنصبه نصب المفعول على السعة فكنيت عنه قلت : قمته ، وإذا نصبته نصب الظروف قلت : قمت فيه.
وإذا وقع موقع المفعول جاز أن يقوم مقام الفاعل فيما لم يسم فاعله ، ألا تراهم قالوا :صيد عليه يومان وولد له ستون عاما.
ص: 183
تقول : يوم الجمعة القتال فيه فيوم الجمعة مرفوع بالابتداء والقتال فيه الخبر والهاء راجعة إلى يوم الجمعة ، وإذا أضمرته وشغلت الفعل عنه خرج من أن يكون ظرفا والظروف متى كني وتحدث عنها زال معنى الظرف ويجوز : يوم الجمعة القتال فيه على أن تضمر فعلا قبل يوم الجمعة يفسره القتال فيه كأنك قلت : القتال يوم الجمعة القتال فيه هذا مذهب سيبويه والبصريين فلك أن تنصبه نصب الظروف ونصب المفعول.
وتقول : اليوم الصيام واليوم القتال فترفع الصيام والقتال بالابتداء واليوم خبر الصيام والقتال واليوم منصوب بفعل محذوف كأنك قلت : الصيام يستقر اليوم أو يكون اليوم وما أشبه ذلك ولا يجوز أن تقول : زيد اليوم ويجوز أن تقول : الليلة الهلال (1).
وقد بينا هذا فيما تقدم عند ذكرنا خبر المبتدأ.
وتقول : اليوم الجمعة واليوم السبت ؛ لأنه عمل في اليوم ، فإن جعلته اسم اليوم رفعت.
فأما : اليوم الأحد واليوم الاثنان إلى الخميس فحق هذا الرفع ؛ لأن هذه كلها أسماء لليوم ولا يكون عملا فيها وإنما كان ذلك في الجمعة والسبت ؛ لأن الجمعة بمعنى الاجتماع والسبت بمعنى الانقطاع.
ص: 184
وتقول : اليوم رأس الشهر واليوم رأس الشهر أما النصب فكأنك قلت : اليوم ابتداء الشهر ، وأما الرفع فكأنك قلت : اليوم أول الشهر فتجعل اليوم هو الأول ، وإذا نصبت فالثاني غير الأول.
واعلم أن أسماء الزمان تضاف إلى الجمل وإلى الفعل والفاعل وإلى الابتداء والخبر تقول :هذا يوم يقوم زيد وأجيئك يوم يخرج الأمير وأخرج يوم عبد الله أمير وتقول : إن يوم عبد الله أمير زيدا جالس تريد : إن زيدا جالس يوم عبد الله أمير ، فإن جعلت في أول كلامك (فيه) قلت : إن يوما فيه عبد الله خارج زيدا مقيم فتنصب (زيدا) ب (أن) و (مقيم) خبره و (يوما) منتصب بأنه ظرف ل- (مقيم) و (فيه عبد الله خارج) صفة ليوم ، فإن قلت : إن يوما فيه عبد الله خارج. زيد فيه مقيم خرج اليوم من أن يكون ظرفا وصار اسما ل- (أنّ) وإنما أخرجه من أن يكون ظرفا : أنك جئت (بفيه) فأخبرت عنه : بأن إقامة زيد فيه.
ف (فيه) الثانية أخرجته عن أن يكون ظرفا لأنها شغلت مقيما عنه ولم تخرجه (فيه) الأولى من أن يكون ظرفا لأنها من صلة الكلام الذي هو صفة (لليوم) فالصفة لا تعمل في الموصوف فيكون متى شغلتها خرج الظرف عما هو عليه وإنما دخلت لتفصل بين يوم خرج فيه عبد الله وبين يوم لم يخرج فيه فقولك : يوم الجمعة قمت فيه بمنزلة قولك : زيد مررت به لا فرق فيه الإخبار عنهما وتقول : ما اليوم خارجا فيه عبد الله وما يوم خارج فيه عبد الله منطلقا فيه زيد.
وتقول : ما يوما خارجا فيه زيد منطلق عمرو فتنصب يوما بأنك جعلته ظرفا للإنطلاق ونصبت (خارجا) ؛ لأنه صفة لليوم ، وأما (منطلق) فإنما رفعته لأنك قدمت خبر (ما).
ومن قال :
يا سارق اللّيلة أهل الدّار
فجر (الليلة) وجعلها مفعولا بها على السعة فإنه يقول : أما الليلة فأنت سارقها زيدا ، وأما اليوم فأنت آكله خبزا وهذان اليومان أنا ظانهما زيدا عاقلا ؛ لأنه قد جعله مفعولا به على
ص: 185
السعة ولا تقول : اليوم أنا معلمه زيدا بشرا منطلقا ؛ لأنه لا يكون فعل يتعدى إلى أربعة مفاعيل فيشبه هذا به وقد أجازه بعض الناس.
وتقول على هذا القياس : أما الليلة فكأنها زيد منطلقا ، وأما اليوم فليسه زيد منطلقا ، وأما الليلة فليس زيد إياها منطلقا ، وأما اليوم فكأنه زيد منطلقا ، وأما اليوم فكان زيد إياه منطلقا تريد في جميع هذا : (في) فتحذف على السعة ولا تقول : أما اليوم فليته زيدا منطلق تريد : ليت فيه ؛ لأن (ليت) ليست بفعل ولا هذا موضع مفعول فيتسع فيه وجميع هذا مذهب الأخفش.
وذكر الأخفش أنه يجوز : أما الليلة فما زيد إياها منطلقا ؛ لأن (ما) مشبه بالفعل قال : لم يجوزه في (ما) فهو أقيس ؛ لأن (ما) ، وإن كانت شبهت بالفعل فليست كالفعل.
قال أبو بكر : وهو عندي لا يجوز البتة.
وتقول : الليلة أنا أنطلقها. تريد : أنا أن أنطلق فيها.
وتقول : الليلة أنا منطلقها. تريد : أنا منطلق فيها.
ولا يجوز : الليلة أنا إياها منطلق ولا : اليوم نحن إياه منطلقون. تريد : نحن منطلقون فيه.
ولا يجوز : أما اليوم فالقتال إياه. تريد : فيه ، وأما الليلة فالرحيل إياها. تريد : فيها ؛ لأن السعة والحذف لا يكونان فيه كما لا سعة فيه ولا حذف في جميع أحواله. قال الأخفش : ولو تكلمت به العرب لأجزيناه.
ص: 186
اعلم أن الأماكن ليست كالأزمنة التي يعمل فيها كل فعل فينصبها نصب الظروف ؛ لأن الأمكنة : أشخاص (1) له خلق وصور تعرف بها كالجبل والوادي وما أشبه ذلك وهن بالناس أشبه من الأزمنة لذلك وإنما الظروف منها التي يتعدى إليها الفعل الذي لا يتعدى ما كان منها مبهما خاصة ومعنى المبهم أنه هو الذي ليست له حدود معلومة تحصره.
وهو يلي الاسم من أقطاره نحو : خلف وقدام وأمام ووراء وما أشبه ذلك ألا ترى أنك إذا قلت : قمت خلف المسجد لم يكن لذلك الخلف نهاية تقف عندها وكذلك إذا قلت : قدام زيد. لم يكن لذلك حد ينتهي إليه فهذا وما أشبهه هو المبهم الذي لا اختلاف فيه أنه ظرف.
وأما مكة والمدينة والمسجد والدار والبيت فلا يجوز أن يكن ظروفا ؛ لأن لها أقطارا محدودة معلومة تقول : قمت أمامك وصليت وراءك ولا يجوز أن تقول : قمت المسجد ولا قعدت المدينة ولا ما أشبه ذلك والأمكنة تنقسم قسمين منها ما استعمل اسما يتصرف في جميع الإعراب وظرفا ومنها ما لا يرفع ولا يكون إلا ظرفا.
فأما الظروف التي تكون اسما فذكر سيبويه : أنها خلفك وقدامك وأمامك وتحتك وقبالتك. ثم قال : وما أشبه ذلك. وقال : ومن ذلك : هو ناحية من الدار ومكانا صالحا وداره ذات اليمين وشرقي كذا وكذا.
ص: 187
قال : وقالوا : منازلهم يمينا وشمالا وهو قصدك وهو حلة الغور أي قصده وهما خطان جنابتي أنفهما يعني الخطين اللذين اكتنفا أنف الظبية وهو موضعه ومكانه صددك ومعناه القصد وسقبك وهو قربك وقرابتك ثم قال : واعلم أن هذه الأشياء كلها قد تكون اسما غير ظرف بمنزلة زيد وعمرو.
وحكى : هم قريب منك وقريبا منك وهو وزن الجبل أي : ناحية منه وهو زنة الجبل أي :حذاءه وقرابتك وقربك وحواليه بنو فلان وقومك أقطار البلاد قال ومن ذلك قول أبي حية :
إذا ما نعشناه على الرّحل ينثني
مساليه عنه من وراء ومقدم
مسالاة : عطفاه.
ومما يجري مجرى ما ذكره سيبويه من الأسماء التي تكون ظروفا فرسخ وميل تقول : سرت فرسخا وفرسخين وميلا وميلين ، فإن قال قائل : ففرسخ وميل موقت معلوم فلم جعلته مبهما قيل له : إنما يراد بالمبهم ما لا يعرف له من البلاد موضع ثابت ولا حدود من الأمكنة فهذا إنا يعرف مقداره.
فالإبهام في الفرسخ والميل بعد موجود ؛ لأن كل موضع يصلح أن يكون من الفرسخ والميل فافهم الفرق بين المعروف الموضع والمعروف القدر وكذلك ما كان من الأمكنة مشتقا من الفعل نحو : ذهبت المذهب البعيد وجلست المجلس الكريم.
وأما الظروف التي لا ترفع : فعند وسوى وسواء إذا أردت بهما معنى (غير) لم تستعمل إلا ظروفا.
قال سيبويه : إن سواءك بمنزلة مكانك ولا يكون اسما إلا في الشعر.
ودل على أن سواءك ظرف أنك تقول : مررت بمن سواءك والفرق بين قولك : عندك وخلفك أن خلفك تعرف بها الجهة وعندك لما حضرك من جميع أقطارك وكذلك سواءك لا تخص مكانا من مكان فبعدا من الأسماء لإستيلاء الإبهام عليهما.
واعلم أن الظروف أصلها الأزمنة والأمكنة ثم تتسع العرب فيها للتقريب والتشبيه فمن ذلك قولك : زيد دون الدار وفوق الدار إنما تريد : مكانا دون الدار ومكانا فوق الدار ثم يتسع
ص: 188
ذلك فتقول : زيد دون عمرو وأنت تريد في الشرف أو العلم أو المال أو نحو ذلك وإنما الأصل المكان.
ومما اتسعوا فيه قولهم : (هو مني بمنزلة الولد) إنما أخبرت أنه في أقرب المواضع ، وإن لم ترد البقعة من الأرض وهو مني منزلة الشغاف ومزجر الكلب ومقعد القابلة ومناط الثريا ومعقد الإزار (1).
قال سيبويه : أجرى مجرى : هو مني مكان كذا ولكنه حذف. ودرج السيول ورجع أدراجه وقال : إنما يستعمل من هذا الباب ما استعلمت العرب ، وأما ما يرتفع من هذا الباب فقولك : هو مني فرسخان وأنت مني يومان وميلان وأنت مني عدوة الفرس وغلوة السهم هذا كله مرفوع لا يجوز فيه إلا ذاك وإنما فصله من الباب الذي قبله أنك تريد : هاهنا بيني وبينك فرسخان ولم ترد أنت من هذا المكان ؛ لأن ذلك لا معنى له فما كان في هذا المعنى فهذا مجراه نحو : أنت مني فوت اليد ودعوة الرجل.
قال سيبويه : وأما أنت مرأى ومسمع فرفع لأنهم جعلوه الأول وبعض الناس ينصب مرأى ومسمعا فأما قولهم : داري من خلف دارك فرسخا فانتصب فرسخ ؛ لأن ما خلف دارك الخبر وفرسخا على جهة التمييز ، فإن شئت قلت : داري خلف دارك فرسخان تلغي (خلف).
ص: 189
قال سيبويه : وزعم يونس : أن أبا عمرو كان يقول : داري من خلف دارك فرسخان شبهه : بدازك مني فرسخان.
قال : وتقول في البعد زيد مني مناط الثريا كما قال :
وإنّ بني حرب كما قد علمتم
مناط الثّريّا قد تعلّت نجومها (1)
واعلم أنه لا يجوز : أنت مني مربط الفرس وموضع الحمار ؛ لأن ذلك شيء غير معروف في تقريب ولا تبعيد وجميع الظروف من الأمكنة خاصة تتضمن الجثث دون ظرف الأزمنة تقول : زيد خلفك والركب أمامك والناس عندك وقد مضى تفسير هذا ذلك أن تجعل الظروف من المكان مفعولات على السعة كما فعلت ذلك في الأزمنة.
ص: 190
تقول : وسط رأسه دهن لأنك تخبر عن شيء فيه وليس به هذا إذا أسكنت السين كان ظرفا ، فإن حركت السين فقلت : وسط لم يكن ظرفا تقول : وسط رأسه صلب فترفع لأنك إنما تخبر عن بعض الرأس فوسط إذا أردت به الشيء الذي هو اسمه وجعلته بمنزلة البعض فهو اسم وحركت السين وكان كسائر الأسماء ، وإذا أردت به الظرف وأسكنت السين : تقول :ضربت وسطه ووسط الدار واسع وهذا في وسط الكتاب ؛ لأن ما كان معه حرف الجر فهو اسم بمنزلة زيد وعمرو.
وأما قول الشاعر :
هبّت شمالا فذكرى ما ذكرتكم
عند الصّفاة التي شرقيّ حورانا
فإنه جعل الصفاة في ذلك الموضع ولو رفع الشرقي لكان جيدا بجعل الصفاة هي الشرق بعينه ونقول : زيد خلفك وهو الأجود.
فإن جعلت زيدا هو الخلف قلت : زيد خلفك فرفعت.
وتقول : سير بزيد فرسخان يومين ، وإن شئت : فرسخين يومان أي : ذلك أقمته مقام الفاعل على سعة الكلام وصلح.
وتقول : ضربت زيدا يوم الجمعة عندك ضربا شديدا فالضرب مصدر ويوم الجمعة ظرف من الزمان وعندك ظرف من المكان وقولك : شديدا نعت للمصدر ليقع فيه فائدة.
فإذا بنيت الفعل لما لم يسم فاعله رفعت زيدا وأقررت الكلام على ما هو عليه ؛ لأنه لا سبيل إلى أن تجعل شيئا من هذه التي ذكرنا من ظرف أو مصدر في مكان الفاعل والاسم الصحيح معها ، فإن أدخلت (شاغلا) من حروف الإضافة كنت مخيرا بين هذه الأشياء وبينه.
فإن شئت نصبت الظرف والمصدر وأقمت الاسم الذي معه حرف الإضافة مقام الفاعل ، وإن شئت أقمت أحدها ذلك المقام إذا كان متصرفا في بابه ، فإن كان بمنزلة عند وذات مرة وما أشبه ذلك لم يقم شيء منها مقام الفاعل ولم يقع له ضمير كضمير المصادر
ص: 191
والظروف المتمكنة وأجود ذلك أن يقوم المتصرف من الظروف والمصادر مقام الفاعل إذا كان معرفة أو نكرة موصوفة لأنك بقرب ذلك من الأسماء وتقول : سير على بعيرك فرسخان يوم الجمعة ، فإن شئت نصبت (يوم الجمعة) على الظرف وهو الوجه ، وإن شئت نصبته على أنه مفعول على السعة كما رفعت الفرسخين على ذلك وتقول : الفرسخان سير بزيد يوم الجمعة ، فإن قدمت يوم الجمعة وهو ظرف قلت : يوم الجمعة سير بزيد فيه فرسخان ، وإن قدمت : يوم الجمعة على أنه مفعول قلت : يوم الجمعة سيره بزيد فرسخان ، وإن قدمت يوم الجمعة والفرسخين ويوم الجمعة ظرف قلت : الفرسخان يوم الجمعة سيرا فيه بزيد ، وإن جعلت يوم الجمعة مفعولا قلت : سيراه ، فإن أقمت يوم الجمعة مقام الفاعل قلت : الفرسخان يوم الجمعة سير بزيد فيهما ، فإن جعلت الفرسخين مفعولين على السعة قلت : الفرسخان يوم الجمعة سيرهما بزيد ، فإن زدت في المسألة خلفك قلت : سير بزيد فرسخان يوم الجمعة خلفك فإذا قدمت الخلف مع تقديمك الفرسخين واليوم وأقمت الفرسخين مقام الفاعل وجعلت الخلف واليوم ظرفين قلت : الفرسخان يوم الجمعة خلفك سيرا بزيد فيه فيه ، وإن جعلتهما مفعولين على السعة قلت : الفرسخان يوم الجمعة خلفك سيراه بزيد إياه ترد أحد الضميرين المنصوبين إلى اليوم والآخر إلى خلف وأن لا تجعل مفعولا ولا مرفوعا أحسن ، وذلك ؛ لأنه من الظروف المقاربة للإبهام وكذلك أمام ويمين وشمال فإذا قلت : عندك قام زيد فقيل لك أكن عن (عندك) لم يجز لأنك لا تقول : قمت في عندك فلذلك لم توقعه على ضمير وإنما دخلت (من) على (عند) من بين سائر حروف الجر كما دخلت على (لدن).
وقال أبو العباس وإنما خصت (من) بذلك لأنها لابتداء الغاية فهي أصل حروف الإضافة.
واعلم أنّ الأشياء التي يسميها البصريون ظروفا يسميها الكسائي صفة والفراء يسميها محال ويخلطون الأسماء بالحروف فيقولون : حروف الخفض : أمام وقدام وخلف وقبل وبعد وتلقاء وتجاه وحذاء وإزاء ووراء ممدودات ومع وعن وفي وعلى ومن وإلى وبين ودون وعند وتحت وفوق وقباله وحيال وقبل وشطر وقرب ووسط ووسط ومثل ومثل وسوى وسواء
ص: 192
ممدودة ومتى في معنى وسط والباء الزائدة والكاف الزائدة وحول وحوالي وأجل وإجل وإجلى مقصور وجلل وجلال في معناها وحذاء ممدود ومقصور وبدل وبدل ورئد وهو القرن ومكان وقراب ولدة وشبه وخدن وقرن وقرن وميتاء وميداء والمعنى واحد ممدود ومنا مقصور بمنزلة حذاء ولدى فيخلطون الحروف بالأسماء والشاذ بالشائع وقد تقدم تبيين الفرق بين الاسم والحرف وبين الشاذ والمستعمل فإذا كان الظرف غير محل للأسماء سماه الكوفيون الصفة الناقصة وجعله البصريون لغوا ولم يجز في الخبر إلا الرفع ، وذلك قولك : فيك عبد الله راغب ومنك أخواك هاربان وإليك قومك قاصدون ؛ لأن (منك وفيك وإليك) في هذه المسائل لا تكون محلا ولا يتم بها الكلام وقد أجاز الكوفيون : فيك راغبا عبد الله شبهها الفراء بالصفة التامة لتقدم (راغب) على عبد الله وذهب الكسائي إلى أن المعنى : فيك رغبة عبد الله.
واستضعفوا أن يقولوا : فيك عبد الله راغبا وقد أنشدوا بيتا جاء فيه مثل هذا منصوبا في التأخير :
فلا تلحني فيها ، فإن بحبّها
أخاك مصاب القلب جما بلابله (1)
فنصب (مصاب القلب) على التشبيه بقولك : إن بالباب أخاك واقفا وتقول : في الدار عبد الله قائما فتعيد (فيها) توكيدا ويجوز أن ترفع (قائما) فتقول : في الدار عبد الله قائم فيها ولا يجيز الكوفيون الرفع قالوا : لأن الفعل لا يوصف بصفتين متفقتين لأنك لو قلت : عبد الله قائم في الدار فيها لم يكن يحسن أن تكرر (في) مرتين بمعنى.
ص: 193
وهذا الذي اعتلوا به لازم في النصب ؛ لأنه قد أعاد (في) والتأكيد إنما هو إعادة للكلمة أو ما كان في معناها ، فإن استقبح التكرير سقط التأكيد ويجيزون في قولك : عبد الله في الدار قائم في البيت الرفع والنصب لإختلاف الصفتين وتقول : له عليّ عشرون درهما فلك أن تجعل (له) الخبر ولك أن تجعل (عليّ) الخبر وتلغي أيما شئت.
ص: 194
اعلم أن المفعول له (1) لا يكون إلا مصدرا ولكن العامل فيه فعل غير مشتق منه وإنما يذكر ؛ لأنه عذر لوقوع الأمر نحو قولك : فعلت ذاك حذار الشر وجئتك مخافة فلان (فجئتك) غير مشتق من (مخافة) فليس انتصابه هنا انتصاب المصدر بفعله الذي هو مشتق منه نحو (خفتك) مأخوذة من مخافة وجئتك ليست مأخوذة من مخافة فلما كان ليس منه أشبه المفعول به الذي ليس بينه وبين الفعل نسب.
قال سيبويه : إن هذا كله ينتصب ؛ لأنه مفعول له كأنه قيل له : لم فعلت كذا وكذا فقال :لكذا وكذا ولكنه لما طرح اللام عمل فيه ما قبله ومن ذلك : فعلت ذاك أجل كذا وكذا وصنعت ذلك ادخار فلان ، قال حاتم :
وأغفر عوراء الكريم ادّخاره
وأصفح عن شتم اللّئيم تكرّما (2)
ص: 195
وقال الحارث بن هشام :
فصفحت عنهم والأحبّة فيهم
طمعا لهم بعقاب يوم مفسد
وقال النابغة :
ص: 196
وحلّت بيوتي في يفاع ممنّع
يخال به راعي الحمولة طائرا
حذارا على أن لا تصاب مقادتي
ولا نسوتي حتّى يمتن حرائرا
وقال العجاج :
يركب كلّ عاقر جمهور
مخافة وزعل المحبور
يصف ثور الوحش والعاقر هنا : الرملة التي لا تنبت أي : يركب هذا الثور كل عاقر مخافة الرماة والزعل : النشاط أي يركب خوفا ونشاطا والمحبور : المسرور.
واعلم أن هذا المصدر الذي ينتصب ؛ لأنه مفعول له يكون معرفة ويكون نكرة كشعر حاتم ولا يصلح أن يكون حالا كما تقول : جئتك مشيا لا يجوز أن تقول : جئتك خوفا تريد : خائفا وأنت تريد معنى للخوف ومن أجل الخوف وإنما يجوز : جئتك خوفا إذا أردت الحال فقط أي : جئتك في حال خوفي أي : خائفا ولا يجوز أيضا في هذا المصدر الذي تنصبه نصب المفعول له أن تقيمه مقام ما لم يسم فاعله.
قال أبو العباس رحمه الله : أبو عمر يذهب إلى أنه ما جاء في معنى ل- (كذا) لا يقوم مقام الفاعل ولو قام مقام الفاعل لجاز : سير عليه مخافة الشر فلو جاز : سير فيه المخافة لم يكن إلا رفعا فكان مخافة وما أشبهه لم يجيء إلا نكرة ، فأشبه مع خرج مخرج مع لا يقوم مقام الفاعل نحو : الحال والتمييز ولو جاز لما أشبه (مخافة الشر) أن يقوم مقام الفاعل لجاز سير (بزيد راكب) فأقمت (راكبا) مقام الفاعل ومخافة الشر ، وإن أضفته إلى معرفة فهو بمنزلة (مثلك) وغيرك وضارب زيد غدا نكرة.
قال أبو بكر : وقرأت بخط أبي العباس في كتابه : أخطأ الرياشي في قوله : مخافة الشر ونحوه (حال) أقبح الخطأ ؛ لأن باب ل- (كذا) يكون معرفة ونكرة وهذا خلاف قول سيبويه ؛ لأن سيبويه بجعله معرفة ونكرة إذا لم تضفه أو تدخله الألف واللام كمجراه في سائر الكلام ؛ لأنه لا يكون حالا.
ص: 197
قال سيبويه : حسن فيه الألف واللام ؛ لأنه ليس بحال فيكون في موضع فاعل حالا وأنه لا يبتدأ به ولا يبنى على مبتدأ ؛ لأنه عنده تفسير لما قبله وليس منه وأنه انتصب كما انتصب الدرهم في قولك عشرون درهما.
ص: 198
اعلم أن الفعل إنما يعمل في هذا الباب في المفعول (1) بتوسط الواو والواو هي التي دلت على معنى (مع) لأنها لا تكون في العطف بمعنى (مع) وهي هاهنا لا تكون إذا عمل الفعل فيما بعدها إلا بمعنى (مع) ألزمت ذلك ولو كانت عاملة كان حقها أن تخفض.
فلما لم تكن من الحروف التي تعمل في الأسماء ولا في الأفعال وكانت تدخل على الأسماء والأفعال وصل الفعل إلى ما بعدها فعمل فيه.
ص: 199
وكان مع ذلك أنها في العطف لا تمنع الفعل الذي قبلها أن يعمل فيما بعدها فاستجازوا في هذا الباب إعمال الفعل ما بعدها في الأسماء ، وإن لم يكن قبلها ما يعطف عليه ، وذلك قوهم : ما صنعت وأباك ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها.
قال سيبويه : إنما أردت : ما صنعت مع أبيك ولو تركت الناقة مع فصيلها والفصيل مفعول معه والأب كذلك والواو لم تغير المعنى ولكنها تعمل في الاسم ما قبلها.
ومثل ذلك ك- (ما زلت وزيدا) أي : ما زلت بزيد حتى فعل فهو مفعول به فقد عمل ما قبل الواو فيما بعدها والمعنى معنى الباء ومعنى (مع) أيضا يصلح في هذه المسألة ؛ لأن الباء يقرب معناها من معنى مع إذ كانت الباء معناها الملاصقة للشيء ومعنى (مع) المصاحبة ومن ذلك : ما زلت أسير والنيل واستوى الماء والخشبة أي مع الخشبة وبالخشبة وجاء البرد والطيالسة أي مع الطيالسة وأنشد سيبويه :
وكونوا أنتم وبنى أبيكم
مكان الكليتين من الطّحال
وقال كعيب بن جعيل :
فكان وإيّاها كحرّان لم يفق
عن الماء إذ لاقاه حتّى تقدّدا (1)
ص: 200
قال : وإن قلت : ما صنعت أنت وأبوك جاز لكل الرفع والنصب لأنك أكدت التاء التي هي اسمك بأنت.
وقبيح أن تقول : ما صنعت وأبوك فتعطف على التاء وإنما قبح لأنك قد بنيتها مع الفعل وأسكنت لها ما كان في الفعل متحركا وهو لام الفعل فإذا عطفت عليها فكأنك عطفت على الفعل وهو على قبحه يجوز وكذلك لو قلت : اذهب وأخوك كان قبيحا حتى تقول : أنت ؛ لأنه قبيح أن تعطف على المرفوع المضمر.
فقد دلك استقباحهم العطف على المضمرات الاسم ليس بمعطوف على ما قبله في قولهم : ما صنعت وأباك.
ومما يدلك على أن هذاه الباب كان حقه خفض المفعول بحرف جر أنك تجد الأفعال التي لا تتعدى والأفعال التي قد تعدت إلى مفعولاتها جميعا فاستوفت ما لها تتعدى إليه فتقول :استوى الماء والخشبة وجاء البرد والطيالسة فلولا توسط الواو وإنها في معنى حرف الجر لم يجز ولكن الحرف لما كان غير عامل عمل الفعل فيما بعدها ولا يجوز التقديم للمفعول في هذا الباب لا تقول : والخشبة استوى الماء ؛ لأن الواو أصلها أن تكون للعطف وحق المعطوف أن يكون بعد العطف عليه كما أن حق الصفة أن تكون بعد الموصوف وقد أخرجت الواو في هذا الباب عن حدها ومن شأنهم إذا أخرجوا الشيء عن حده الذي كان له الزموه حالا واحدة وسنفرد فصلا في هذا الكتاب لذكر التقديم والتأخير وما يحسن منه ويجوز وما يقبح ولا يجوز إن شاء الله.
وهذا الباب والباب الذي قبله أعني : بابي المفعول له والمفعول معه كان حقهما أن لا يفارقهما حرف الجر ولكنه حذف فيهما ولم يجريا مجرى الظروف في التصرف في الإعراب وفي
ص: 201
إقامتها مقام الفاعل فيدلك ترك العرب لذلك أنهما بابان وضعا في غير موضعهما وأن ذلك اتساع منهم ؛ لأن فيهما ؛ لأن المفعولات التي تقدم ذكرها وجدناها كلها تقدم وتؤخر وتقام مقام الفاعل وتبتدأ ويخبر عنها إلا أشياء منها مخصوصة وقد تقدم تبييننا إياها في مواضعها.
ويفرق بين هذا الباب والباب الذي قبله أن باب المفعول له إذا قلت : جئتك طلب الخير إن في (جئتك) دليلا على أن ذلك لشيء.
وإذا قلت : ما صنعت وأباك فليس في (صنعت) دليل على أن ذلك مع شيء ؛ لأن لكل فاعل غرضا له فعل ذلك الفعل وليس لكل فاعل مصاحب لا بد منه ولا يجوز حذف الواو في ما صنعت وأباك كما جاز حذف اللام في قولك : فعلت ذاك حذار الشر تريد : لحذار الشر ؛ لأن حذف اللام لا يلبس وحذف الواو يلبس.
ألا ترى أنك لو قلت : ما صنعت أباك صار الأب مفعولا به.
ص: 202
وهو المشبه بالمفعول : المشبه بالمفعول ينقسم على قسمين :
فالقسم الأول قد يكون فيه المنصوب في اللفظ هو المرفوع في المعنى.
والقسم الثاني : ما يكون المنصوب في اللفظ غير المرفوع والمنصوب بعض المرفوع.
هذا النوع ينقسم على ثلاثة أضرب : فمنه ما العامل فيه فعل حقيقي ومنه ما العامل فيه شيء على وزن الفعل ويتصرف تصرفه وليس بفعل في الحقيقة ومنه ما العامل فيه حرف جامد غير متصرف.
وهو صنفان يسميها النحويون الحال (1) والتمييز :
فأما الذي يسمونه الحال فنحو قولك :جاء عبد الله راكبا وقام أخوك منتصبا وجلس بكر متكئا.
فعبد الله مرتفع (بجاء) والمعنى : جاء عبد الله في هذه الحال وراكب منتصب لشبهه بالمفعول ؛ لأنه جيء به بعد تمام الكلام واستغناء الفاعل بفعله ، وإن في الفعل دليلا عليه كما كان فيه دليل على المفعول ألا ترى أنك إذا قلت : قمت فلا بد من أن يكون قد قمت على حال من أحوال الفعل فأشبه : جاء عبد الله راكبا ، ضرب عبد الله رجلا.
وراكب هو عبد الله ليس هو غيره وجاء وقام فعل حقيقي تقول : جاء يجيء وهو جاء وقام يقوم وهو قائم والحال تعرفها وتعتبرها بإدخال (كيف) على الفعل والفاعل تقول : كيف
ص: 203
جاء عبد الله فيكون الجواب : راكبا وإنما سميت الحال ؛ لأنه لا يجوز أن يكون اسم الفاعل فيها إلا لما أنت فيه تطاول الوقت أو قصر.
ولا يجوز أن يكون لما مضى وانقطع ولا لما لم يأت من الأفعال ويبتدأ بها.
والحال إنما هي هيئة الفاعل أو المفعول أو صفته في وقت ذلك الفعل المخبر به عنه ولا يجوز أن تكون تلك الصفة إلا صفة متصفة غير ملازمة.
ولا يجوز أن تكون خلقة لا يجوز أن تقول : جاءني زيد أحمر ولا أخوك ولا جاءني عمرو طويلا ، فإن قلت : متطاولا أو متحاولا جاز ؛ لأن ذلك شيء يفعله وليس بخلقة.
ولا تكون الحال إلا نكرة لأنها زيادة في الخبر والفائدة وإنما تفيد السائل والمحدث غير ما يعرف ، فإن أدخلت الألف واللام صارت صفة للإسم المعرفة وفرقا بينه وبين غيره والفرق بين الحال وبين الصفة تفرق بين اسمين مشتركين في اللفظ والحال زيادة في الفائدة والخبر ، وإن لم يكن للإسم مشارك في لفظه.
ألا ترى أنك إذا قلت : مررت بزيد القائم فأنت لا تقول ذلك إلا وفي الناس رجل آخر اسمه زيد وهو غير قائم ففصلت بالقائم بينه وبين من له هذا الاسم وليس بقائم.
وتقول : مررت بالفرزدق قائما ، وإن لم يكن أحد اسمه الفرزدق غيره فقولك : قائما إنما ضممت به إلى الأخبار بالمرور خبرا آخر متصلا به مفيدا.
فهذا فرق ما بين الصفة والحال وهو أن الصفة لا تكون إلا لاسم مشترك فيه لمعنيين أو لمعان والحال قد تكون للاسم المشترك والاسم المفرد وكذلك الأمر في النكرة إذا قلت : جاءني رجل من أصحابك راكبا إذا أردت الزيادة في الفائدة والخبر ، وإن أردت الصفة خفضت فقلت : مررت برجل من أصحابك راكب وقبيح أن تكون الحال من نكرة ؛ لأنه كالخبر عن النكرة والإخبار عن النكرات لا فائدة فيها إلا بما قدمنا ذكره في هذا الكتاب فمتى كان في الكلام فائدة فهو جائز في الحال كما جاز في الخبر ، وإذا وصفت النكرة بشيء قربتها من المعرفة وحسن الكلام.
تقول : جاءني رجل من بني تميم راكبا. وما أشبه ذلك.
ص: 204
واعلم أن الحال يجوز أن تكون من المفعول كما تكون من الفاعل تقول : ضربت زيدا قائما فتجعل قائما لزيد.
ويجوز أن تكون الحال من التاء في (ضربت) إلا أنك إذا أزلت الحال عن صاحبها فلم تلاصقه لم يجز ذلك إلا أن يكون السامع يعلمه كما تعلمه أنت ، فإن كان غير معلوم لم يجز وتكون الحال من المجرور كما تكون من المنصوب إن كان العامل في الموضع فعلا فتقول : مررت بزيد راكبا ، فإن كان الفعل لا يصل إلا بحرف جر لم يجز أن تقدم الحال على المجرور إذا كانت له فتقول : مررت راكبا بزيد إذا كان (راكبا) حالا لك ، وإن كان لزيد لم يجز ؛ لأن العامل في (زيد) الباء فلمّا كان الفعل لا يصل إلى زيد إلا بحرف جر لم يجز أن يعمل في حاله قبل ذكر الحرف.
والبصريون يجيزون تقديم الحال (1) على الفاعل والمفعول والمكنى والظاهر إذا كان العامل فعلا يقولون : جاءني راكبا أخوك وراكبا جاءني أخوك وضربت زيدا راكبا وراكبا ضربت زيدا ، فإن كان العامل معنى لم يجز تقديم الحال تقول : زيد فيها قائما فالعالم في (قائم) معنى الفعل ؛ لأن الفعل غير موجود.
ص: 205
ولا يجوز أن تقول : قائما زيد فيها ولا زيد قائما فيهما.
والكوفيون لا يقدمون الحال في أول الكلام ؛ لأن فيها ذكرا من الأسماء ، فإن كانت لمكنى جاز تقديمها فيشبهها البصريون بنصب التمييز ويشبّهها الكسائي بالوقت.
وقال الفراء : هي بتأويل جزاء وكان الكسائي يقول : رأيت زيدا ظريفا. فينصب (ظريفا) على القطع ومعنى القطع أن يكون أراد النعت فلما كان ما قبله معرفة وهو نكرة انقطع منه وخالفه.
واعلم أنه يجوز لك أن تقيم الفعل مقام اسم الفاعل في هذا الباب إذا كان في معناه وكنت إنما تريد به الحال المصاحبة للفعل تقول : جاءني زيد يضحك. أي : ضاحكا. وضربت زيدا يقوم ، وإنما يقع من الأفعال في هذا الموضع ما كان للحاضر من الزمان.
فأما المستقبل والماضي فلا يجوز إلا أن تدخل (قد) على الماضي فيصلح حينئذ أن يكون حالا تقول : رأيت زيدا قد ركب أي : راكبا إلا أنك إنما تأتي (بقد) في هذا الموضع إذا كان ركوبه متوقعا فتأتي (بقد) ليعلم أنه قد ابتدأ بالفعل ومر منه جزء والحال معلوم منها أنها تتطاول فإنما صلح الماضي هنا لاتصاله بالحاضر فأغنى عنه ولو لا ذلك لم يجز فمتى رأيت فعلا ماضيا قد وقع موقع الحال فهذا تأويله ولا بد من أن يكون معه (قد) إما ظاهرة وإما مضمرة لتؤذن بابتداء الفعل الذي كان متوقعا.
ص: 206
تقول : زيد في الدار قائما فتنصب (قائما) بمعنى الفعل الذي وقع في الدار ؛ لأن المعنى :استقر زيد في الدار ، فإن جعلت في الدار للقيام ولم تجعله لزيد قلت : زيد في الدار قائم لأنك إنما أردت : زيد قائم في الدار فجعلت : (قائما) خبرا عن زيد وجعلت : (في الدار) ظرفا لقائم فمن قال هذا قال : إن زيدا في الدار قائم ، ومن قال الأول قال : إن زيدا في الدار قائما فيكون : (في الدار) الخبر ثم خبّر على أي حال وقع استقراره في الدار ونظير ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ) [الذاريات : 15 - 16] فالخبر قوله : (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). و (آخِذِينَ :) حال ، وقال عز وجل : (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) [التوبة : 17] ؛ لأن المعنى : وهم خالدون في النار فخالدون : الخبر. و (في النّار) : ظرف للخلود وتقول : جاء راكبا زيد كما تقول : ضرب عمرا زيد وراكبا جاء زيد كما تقول : عمرا ضرب زيد وقائما زيدا رأيت كما تقول : الدرهم زيدا أعطيت وضربت قائما زيدا.
قال أبو العباس : وقول الله تعالى عندنا : على تقدير الحال والله أعلم ، وذلك قوله : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) وكذلك هذا البيت :
مزبدا يخطر ما لم يرني
وإذا يخلو له لحمي رتح
قال : ومن كلام العرب : رأيت زيدا مصعدا منحدرا ورأيت زيدا ماشيا راكبا إذا كان أحدهما ماشيا والآخر راكبا وأحدكما مصعدا والآخر منحدرا.
تعني : أنك إذا قلت : رأيت زيدا مصعدا منحدرا أن تكون أنت المصعد وزيد المنحدر فيكون (مصعدا) حالا للتاء و (منحدرا) حالا لزيد وكيف قدرت بعد أن يعلم السامع من المصعد ومن المنحدر جاز وتقول : هذا زيد قائما وذاك عبد الله راكبا فالعامل معنى الفعل وهو التنبيه كأنك قلت : أنتبه له راكبا ، وإذا قلت : ذاك زيد قائما فإنما ذاك للإشارة كأنك قلت : أشير لك إليه راكبا ولا يجوز أن يعمل في الحال إلا فعل أو شيء في معنى الفعل لأنها كالمفعول فيها وفي كتاب الله : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : 72].
ص: 207
ولو قلت : زيد أخوك قائما وعبد الله أبوك ضاحكا كان غير جائز. وذلك أنه ليس هاهنا فعل ولا معنى فعل ولا يستقيم أن يكون أباه أو أخاه من النسب في حال ولا يكون أباه أو أخاه في أخرى ولكنك إن قلت : زيد أخوك قائما فأردت : أخاه من الصداقة جاز ؛ لأن فيه معنى فعل كأنك قلت : زيد يؤاخيك قائما فإذا كان العامل غير فعل ولكن شيء في معناه لم تقدم الحال على العامل ؛ لأن هذا لا يعمل مثله في المفعول.
وذلك قولك : زيد في الدار قائما لا تقول : زيد قائما في الدار وتقول : هذا قائما حسن ولا تقول : قائما هذا حسن وتقول : رأيت زيدا ضاربا عمرا وأنت تريد رؤية العين ثم تقدم الحال فتقول : ضاربا عمرا رأيت زيدا وتقول : أقبل عبد الله شاتما أخاه ثم تقدم الحال فتقول : شاتما أخاه أقبل عبد الله وقوم يجيزون : ضربت يقوم زيدا ولا يجيزون : ضربت قائما زيدا إلا وقائم حال من التاء ؛ لأن (قائما) يلبس ولا يعلم أهو حال من التاء أم من زيد والفعل يبين فيه لمن الحال.
والإلباس متى وقع لم يجز ؛ لأن الكلام وضع للإبانة إلا أن هذه المسألة إن علم السامع من القائم جاز التقديم كما ذكرنا فيما تقدم تقول : جاءني زيد فرسك راكبا وجاءني زيد فيك راغبا وتقول : فيها قائمين أخواك تنصب (قائمين) على الحال ولا يجوز التقديم لما أخبرتك ولا يجوز : جالسا مررت بزيد ؛ لأن العامل الباء وقد بنيته فيما مضى ومحال أن يكون : (جالس) حالا من التاء ؛ لأن المرور يناقض الجلوس إلا أن يكون محمولا في قبة أو سفينة وما أشبه ذلك تقول : لقي عبد الله زيدا راكبين ولا يجوز أن تقول : الراكبان ولا الراكبين وأنت تريد النعت ، وذلك لاختلاف إعراب المنعوتين فاعلمه.
والأخفش يذكر في باب الحال : هذا بسرا أطيب منه تمرا (1) وهذا عبد الله مقبلا أفضل منه جالسا.
ص: 208
قال : وتقول : هذا بسرا أطيب منه عنب.
فهذا : اسم مبتدأ. والبسر : خبره. وأطيب : مبتدا ثان. وعنب : خبر له.
قال : وكذلك ما كان من هذا النحو لا يتحول فهو رفع ، وما كان يتحول فهو نصب.
وإنما قلنا : لا يتحول ؛ لأن البسر لا يصير عنبا ، والذي يتحول قولك : هذا بسرا أطيب منه تمرا ، وهذا عنبا أطيب منه زبيبا.
وأما الذي لا يتحول فنحو قولك : هذا بسر أطيب منه عنب ، وهذا زبيب أطيب منه تمر (فأطيب منه) : مبتدأ. وتمر : خبره.
وإن شئت قلت : (تمر) هو المبتدأ و (أطيب منه) : خبر مقدم.
وتقول : مررت بزيد واقفا. فتنصب (واقفا) على الحال. والكوفيون يجيزون نصبه على الخبر ، يجعلونه كنصب خبر (كان) وخبر الظن ، ويجيزون فيه إدخال الألف واللام.
ويكون : (مررت) عندهم على ضربين : مررت بزيد ، فتكون تامة ، ومررت بزيد أخاك ، فتكون ناقصة إن أسقطت الأخ كنقصان (كان) إذا قلت : كان زيد أخاك ثم أسقطت الأخ كان ناقصا حتى تجيء به.
وهذا الذي أجازوه غير معروف عندي من كلام العرب ولا موجود في ما يوجبه القياس.
ص: 209
وأجاز الأخفش : إن في الدار قائمين أخويك وقال : هذه الحال ليست متقدمة لأنها حال لقولك (في الدار) ألا ترى أنك لو قلت : قائمين في الدار أخواك لم يجز لأن : (في الدار) ليس بفعل.
وتقول : جلس عبد الله آكلا طعامك فالكسائي يجيز تقديم (طعامك) على (آكل) فيقول : جلس عبد الله طعامك آكلا ولم يجزه الفراء وحكي عن أبي العباس محمد بن يزيد : أنه أجاز هذه المسألة.
ص: 210
الأسماء التي تنتصب بالتمييز (1) والعامل فيها فعل أو معنى فعل والمفعول هو فاعل في المعنى ، وذلك قولك : قد تفقا زيد شحما وتصبب عرقا وطبت بذلك نفسا وامتلأ الإناء ماء وضقت به ذرعا فالماء هو الذي ملأ الإناء والنفس هي التي طابت والعرق هو الذي تصبب فلفظه لفظ المفعول وهو في المعنى فاعل.
وكذلك : ما جاء في معنى الفعل وقام مقامه نحو قولك : زيد أفرهم عبدا وهو أحسنهم وجها فالفاره في الحقيقة هو العبد والحسن هو الوجه إلا أن قولك : أفره وأحسن في اللفظ لزيد وفيه ضميره والعبد غير زيد والوجه إنما هو بعضه إلا أن الحسن في الحقيقة للوجه والفراهة للعبد فإذا قلت : أنت أفره العبيد فأضفت فقد قدمته على العبيد ولا بدّ من أن يكون إذا أضفته واحدا منهم.
فإذا قلت : أنت أفره عبد في الناس فمعناه : أنت أفره من كل عبد إذا أفردوا عبدا عبدا كما تقول : هذا خير إثنين في الناس أي : إذا كان الناس اثنين اثنين.
واعلم أن الأسماء التي تنصب على التمييز لا تكون إلا نكرات تدل على الأجناس (2) وأن العوامل فيها إذا كن أفعالا أو في معاني الأفعال كنت بالخيار في الاسم المميز إن شئت جمعته ،
ص: 211
وإن شئت وحّدته تقول : طبتم بذلك نفسا ، وإن شئت أنفسا قال الله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) [النساء : 4] وقال تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) [الكهف : 103] فتقول على هذا : هو أفره الناس عبيدا وأجود الناس دورا.
قال أبو العباس : ولا يجوز عندي : عشرون دراهم يا فتى والفصل بينهما أنك إذا قلت :عشرون فقد أتيت على العدد فلم يحتج إلا إلى ذكر ما يدل على الجنس.
فإذا قلت : هو أفره الناس عبدا جاز أن تعني عبدا واحدا فمن ثم اختير وحسن إذا أردت الجماعة أن تقول : عبيدا ، وإذا كان العامل في الاسم المميز فعلا جاز تقديمه عند المازني وأبي العباس وكان سيبويه لا يجيزه والكوفيون في ذلك على مذهب سيبويه فيه ؛ لأنه يراه.
كقولك : عشرون درهما وهذا أفرههم عبدا فكما لا يجوز : درهما عشرون ولا : عبدا هذا أفرههم لا يجوز هذا ومن أجاز التقديم قال : ليس هذا بمنزلة ذلك ؛ لأن قولك : عشرون درهما إنما عمل في الدرهم ما لم يؤخذ من فعل.
وقال الشاعر فقدم التمييز لما كان العامل فعلا :
أتهجر سلمى للفراق حبيبها
وما كان نفسا بالفراق تطيب
فعلى هذا تقول : شحما تفقأت وعرقا تصببت وما أشبه ذلك ، وأما قولك : الحسن وجها والكريم أبا ، فإن أصحابنا يشبهونه : بالضارب رجلا وقد قدمت تفسيره في هذا الكتاب وغير ممتنع عندي أن ينتصب على التمييز أيضا بل الأصل ينبغي أن يكون هذا ، وذلك الفرع لأنك
ص: 212
قد بينت بالوجه الحسن منه كما بينت في قولك : هو أحسنهم وجها وكذلك يجري عندي قولهم : هو العقور كلبا وما أشبه فإذا نصبت هذا على تقدير التمييز لم يجز أن تدخل عليه الألف واللام فإذا نصبته على تقدير المفعول والتشبيه بقولك : الضارب رجلا جاز أن تدخل عليه الألف واللام وكان الفراء لا يجيز إدخال الالف واللام في وجه وهو منصوب إلا وفيما قبله الألف واللام نحو قولك : مررت بالرجل الحسن الوجه وهو كله جائز لك أن تنصبه تشبيها بالمفعول.
ص: 213
تقول : زيد أفضل منك أبا فالفضل في الأصل للأب كأنك قلت : زيد يفضل أبوه أباك ثم نقلت الفضل إلى زيد وجئت بالأب مفسرا ولك أن تؤخر (منك) فتقول : زيد أفضل أبا منك ، وإن حذفت (منك) وجئت بعد أفضل بشيء يصلح أن يكون مفسرا ، فإن كان هو الأول فأضف أفضل إليه واخفضه ، وإن كان غيره فانصبه واضمره نحو قولك : علمك أحسن علم تخفض (علما) لأنك تريد : أحسن العلوم وهو بعضها وتقول : زيد أحسن علما تريد : أحسن منك علما فالعلم غير زيد فلم تجز إضافته ، وإذا قلت : أنت أفره عبد في الناس فإنما معناه : أنت أحد هؤلاء العبيد الذين فضلتهم.
ولا يضاف (أفعل) إلى شيء إلا وهو بعضه كقولك : عمرو أقوى الناس ولو قلت : عمرو أقوى الأسد لم يجز وكان محالا ؛ لأنه ليس منها.
ولذلك لا يجوز أن تقول : زيد أفضل إخوته ؛ لأن هذا كلام محال يلزم منه أن يكون هو أخا نفسه ، فإن أدخلت (من) فيه جاز فقلت : عمرو أقوى من الأسد أفضل من إخوته ولكن يجوز أن تقول : زيد أفضل الإخوة إذا كان واحدا من الإخوة وتقول : هذا الثوب خير ثوب في اللباس إذا كان هذا هو الثوب ، فإن كان هذا رجلا قلت : هذا الرجل خير منك ثوبا ؛ لأن الرجل غير الثوب وتقول : ما أنت بأحسن وجها مني ولا أفره عبدا ، فإن قصدت قصد الوجه بعينه قلت : ما هذا أحسن وجه رأيته إنما تعني الوجوه إذا ميزت وجها.
وقال أبو العباس رحمه الله : فأما قلوهم : حسبك بزيد رجلا وأكرم به فارسا وما أشبه ذلك ثم تقول : حسبك به من رجل وأكرم به من فارس ولله دره من شاعر وأنت لا تقول : عشرون من درهم ولا هو أفره منك من عبد فالفصل بينهما أن الأول كان يلتبس فيه التمييز بالحال فأدخلت (من) لتخلصه للتمييز ألا ترى أنك لو قلت : أكرم به فارسا وحسبك به خطيبا لجاز أن تعني في هذه الحال وكذلك إذا قلت : كم ضربت رجلا وكم ضربت من رجل جاز ذلك ؛ لأن (كم) قد يتراخى عنها مميزها ، فإن قلت : كم ضربت رجلا لم يدر السامع أردت : كم مرة ضربت رجلا واحدا أم : كم ضربت من رجل فدخول (من) قد أزال الشك
ص: 214
وقال في قول الله تعالى : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : 67] وقوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً)(1) [النساء : 4] : أن التمييز إذا لم يسم عددا معلوما : كالعشرين والثلاثين جاز تبيينه بالواحد للدلالة على الجنس وبالجميع إذا وقع الإلباس ولا إلباس في هذا الموضع لقوله : (فإن طبن لكم) ولقوله : (ثمّ يخرجكم) وقال : وقد قال قوم (طفلا) حال وهذا أحسن إلا أن الحال إذا وقعت موقع التمييز لزمها ما لزمه كما أن المصدر إذا وقع موقع الحال لم يكن إلا نكرة تقول : جاء زيد مشيا فهو مصدر ومعناه ماشيا وهذا كقوله تعالى : (يَأْتِينَكَ سَعْياً) [البقرة : 260] ؛ لأنه في هذه الحال.
ص: 215
واعلم أن (أفعل منك) لا يثنى ولا يجمع وقد مضى ذكر هذا تقول : مررت برجل أفضل منك وبرجلين أفضل منك وبقوم أفضل منك وكذلك المؤنث.
وأفضل موضعه خفض على النعت إلا أنه لا ينصرف ، فإن أضفته جرى على وجهين إذا أردت : أنه يزيد على غيره في الفضل فهو مثل الذي معه (من) فتوحده تقول : مررت برجل أفضل الناس وأفضل رجل في معنى أفضل الرجال وكذلك التثنية والجمع تقول : مررت برجلين أفضل رجلين وبنساء أفضل نساء.
والوجه الآخر أن تجعل أفضل اسما ويثنى ويجمع في الإضافة ولا يكون فيه معنى (من كذا) فإذا كان بهذه الصفة جاز أن تدخله الألف واللام إذا لم تضفه ويثنى ويجمع ويؤنث ويعرف بالإضافة فتقول : جاءني الأفضل والأفضلان والأفضلون وهذان أفضلا أصحابك وهؤلاء أفاضل أصحابك فإذا كان على هذا لم تقع معه (من) وكانت أنثاه على (فعلى) وتثنيتها الفضليان والفضلين وتجمع الفضل والفضليات.
قال سيبويه : لا تقول : نسوة صغر ولا قوم أصاغر إلا بالألف واللام وأفعل التي معها (منك) لا تنصرف ، وإن أضفتها إلى معرفة ألا ترى أنك تقول : مررت برجل أفضل الناس فلو كانت معرفة ما جاز أن تصف بها النكرة ولا يجوز أن تسقط من أفعل (من) إذا جعلته إسما أو نعتا تقول : جاءني رجل أفضل منك ومررت برجل أفضل منك فلا تسقطها ، فإن كان خبرا جاز حذفها وأنت تريد : أفضل منك وزيد أفضل وهند أفضل.
قال أبو بكر : جاز حذف (من) ؛ لأن حذف الخبر كله جائز والصفة تبيين ولا يجوز فيه حذف (من) كما لا يجوز حذف الصفة ؛ لأن الصفة تبيين وليس لك أن تبهم إذا أردت أن تبين.
هذا الضرب العامل فيه ما كان على لفظ الفعل وتصرف تصرفه وجرى مجراه وليس به فهو خبر (كان وأخواتها) ألا ترى أنك إذا قلت : كان عبد الله منطلقا فالمنطلق هو عبد الله وقد مضى شرح ذلك في الأسماء المرفوعات إذ لم يمكن أن تخلى الأسماء من الأخبار فيها فقد غنينا عن إعادة لك في هذا الموضوع.
ص: 216
الحروف التي تعمل مثل عمل الفعل فترفع وتنصب خمسة أحرف وهي : إنّ ولكن وليت ولعلّ وكأنّ.
فإنّ : توكيد الحديث وهي موصلة للقسم لأنك لا تقول : والله زيد منطلق ، فإن أدخلت (إنّ) اتصلت بالقسم فقلت : والله إنّ زيدا منطلق ، وإذا خففت فهي كذلك إلا أنّ لام التوكيد تلزمها عوضا لما ذهب منها فتقول : إنّ زيدا لقائم ولا بدّ من اللام إذا خففت كأنهم جعلوها عوضا ولئلا تلتبس بالنفي.
ولكنّ : ثقيلة وخفيفة توجب بها عبد نفي ويستدرك بها فهي تحقيق وعطف حال على حال تخالفها.
وليت : تمن.
ولعل : معناها التوقيع لمرجو أو مخوف.
وقال سيبويه : لعل وعسى : طمع وإشفاق.
وكأنّ : معناها التشبيه إنما هي الكاف التي تكون للتشبيه دخلت على (أن).
وجميع هذه الحروف مبنية على الفتح مشبهة للفعل الواجب ألا ترى أن الفعل الماضي كله مبني على الفتح فهذه الأحرف الخمسة تدخل على المبتدأ والخبر فتنصب ما كان مبتدأ وترفع الخبر فتقول : إن زيدا أخوك ولعل بكرا منطلق ولأنّ زيدا الأسد فإنّ : تشبه من الأفعال ما قدم مفعوله نحو : ضرب زيدا رجل وأعلمت هذه الأحرف في المبتدأ والخبر كما أعلمت (كان) وفرق بين عمليهما : بأن قدم المنصوب بالحروف على المرفوع كأنهم جعلوا ذلك فرقا بين الحرف والفعل ، فإن قال قائل : إن (أنّ) إنما عملت في الاسم فقط فنصبته وتركت الخبر على حاله كما كان مع الابتداء وهو قول الكوفيين.
قيل له : الدليل على أنها هي الرافعة للخبر أن الابتداء قد زال وبه وبالمبتدأ كان يرتفع الخبر فلما زال العامل بطل أن يكون هذا معمولا فيه ومع ذلك أنا وجدنا كلما عمل في المبتدأ رفعا أو نصبا علم في خبره ألا ترى إلى ظننت وأخواتها لما عملت في المبتدأ عملت في خبره
ص: 217
وكذلك : كان وأخواتها فكما جاز لك في المبتدأ والخبر جاز مع (أن) لا فرق بينهما في ذلك إلا أن الذي كان مبتدأ ينتصب بأن وأخواتها.
ولا يجوز أن يقدم خبرها ولا أسمها عليها ولا يجوز أيضا أن تفصل بينهما وبين اسمها بخبرها إلا أن يكون ظرفا لا يجوز أن تقول : إن منطلق زيدا تريد : إن زيدا منطلق ويجوز أن تقول : إن في الدار زيدا ، وإن خلفك عمرا لأنهم اتسعوا في الظروف وخصوها بذلك وإنما حسن تقديم الظرف إذا كان خبرا ؛ لأن الظرف ليس مما تعمل فيه (إنّ) ولكثرته في الاستعمال.
وإذا اجتمع في هذه الحروف المعروفة والنكرة فالاختيار أن يكون الاسم المعرفة والخبر النكرة كما كان ذلك في المبتدأ لا فرق بينها في ذلك واللام تدخل على خبر (إن) خاصة مؤكدة له ولا تدخل في خبر أخواتها ، وإذا دخلت لم تغير الكلام عما كان عليه تقول : إنّ زيدا لقائم ، وإن زيدا لفيك راغب ، وإن عمرا لطعامك آكل ، وإن شئت قلت : إنّ زيدا فيك لراغب ، وإن عمرا طعامك لآكل ولكنه لا بدّ من أن يكون خبر (إنّ) بعد اللام ؛ لأنه كان موضعها أن تقع موقع (إن) لأنها للتأكيد ووصلة للقسم مثل إن فلما أزالتهما (إن) عن موضعها وهو المبتدأ أدخلت على الخبر فما كان بعدها فهي داخلة عليه ، فإن قدمت الخبر لم يجز أن تدخل اللام فيما بعده لا يصلح أن تقول : إنّ زيدا لفيك راغب ولا : إنّ زيدا أكل لطعامك وتدخل هذه اللام على الاسم إذا وقع موقع الخبر.
تقول : إنّ في الدار لزيدا ، وإن خلفك لعمرا قال الله تعالى : (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) [الليل : 13].
واعلم أنهم يقولون : إنه زيد منطلق يريدون أن الأمر زيد منطلق وإنما أظهروا المضمر المجهول في (إن ظننت) خاصة ولم يظهروا في (كان) ؛ لأن المرفوع ينستر في الفعل والمنصوب يظهر ضميره فمن قال : كان زيد منطلق قال : إنه زيد منطلق وإنه أمة الله ذاهبة وإنه قام عمرو والكوفيون يقولون : إنه قام عمرو هذه الهاء عماد ويسمونها المجهول.
ويجوز أن تحذف الهاء وأنت تريدها فتقول : إنّ زيدا منطلق تريد : إنه ، وإن حذفت الهاء فقبيح أن يلي إن فعل يقبح أن تقول : إن قام زيد ، وإن يقوم عمرو تريد : إنه ، فإن فصلت بينها
ص: 218
وبين الفعل بظرف جاز ذلك فقلت : إن خلفك قام زيد ويقوم عمرو ، وإن اليوم خرج أخوك ويخرج عمرو وقال الفراء : اسم إن في المعنى وقال الكسائي : هي معلقة وأصحابنا يجيزون : إن قائما زيد ، وإن قائما الزيدان ، وإن قائما الزيدون ينصبون (قائما) بإنّ ويرفعون (زيدا) بقائم على أنه فاعل.
ويقولون : الفاعل سد مسد الخبر كما أن (قائما) قام مقام الاسم.
وتدخل (ما) زائدة على (إن) على ضربين : فمرة تكون ملغاة دخولها كخروجها لا تغير إعرابا تقول : إنما زيدا منطلق وتدخل على (إن) كافة للعمل فتبنى معها بناء فيبطل شبهها بالفعل فتقول : إنما زيد منطلق (فإنما) : هاهنا بمنزلة (فعل) ملغى مثل : أشهد لزيد خير منك.
قال سيبويه : وأما ليتما زيدا منطلق ، فإن الإلغاء فيه حسن وقد كان رؤبة ينشد هذا البيت رفعا :
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا
إلى حمامتينا ونصفه فقد (1)
قال ، وأما لعلّما فهو بمنزلة كأنما قال ابن كراع :
ص: 219
تحلّل وعالج ذات نفسك وانظرن
أبا جعل لعلّما أنت حالم
قال الخليل : إنما لا تعمل في ما بعدها كما أن (أرى) إذا كانت لغوا لم تعمل ونظير (إنما) قول المرار :
أعلاقة أمّ الوليد بعد ما
أفنان رأسك كالثّغام المخلس
جعل (بعد) مع (ما) بمنزلة حرف واحد وابتدأ ما بعده والفرق بين إن وإنما في المعنى أن إنما تجيء لتحقير الخبر.
قال سيبويه تقول : إنما سرت حتى أدخلها إذا كنت محتقرا لسيرك إلى الدخول.
و (أن) المفتوحة الألف عملها كعمل (إن) المكسورة الألف إلا أن الموضع الذي تقع فيه المكسورة خلاف الموضع الذي تقع فيه المفتوحة ونحن نفرد بابا لذكر الفتح والكسر يلي هذا الباب إن شاء الله (وأن) المفتوحة مع ما بعدها بمنزلة المصدر تقول : قد علمت أن زيدا منطلق فهو بمنزلة قولك : علمت انطلاق زيد وعرفت أن زيدا قائم كقولك : عرفت قيام زيد.
واعلم أنّ (إن وأن) تخففان فإذا خففتا فلك أن تعملهما ولك أن لا تعملهما أما من لم يعملهما فالحجة له : أنه إنما أعمل لما اشبهت الفعل بأنها على ثلاثة أحرف وأنها مفتوحة.
فلما خففت زال الوزن والشبه.
والحجة لمن أعمل أن يقول : هما بمنزلة الفعل.
فإذا خففتا كانتا بمنزلة فعل محذوف.
فالفعل يعمل محذوفا عمله تاما ، وذلك قولك : لم يك زيد منطلقا فعمل عمله والنون فيه والأقيس في (أن) : أن يرفع ما بعدها إذا خففت وكان الخليل يقرأ : (إن هذا لساحران) فيؤدي خط المصحف ولا بدّ من إدخال اللام على الخبر إذا خففت إن المكسورة تقول : إن الزيدان لمنطلقان ، وإن هذا لمنطلقان كيلا يلتبس (بإن) التي تكون نفيا في قولك : إن زيد قائم تريد : ما زيد بقائم ، وإذا نصب الاسم بعدها لم يحتج إلى اللام ؛ لأن النصب دليل فكان سيبويه لا يرى في (إن) إذا كانت بمعنى (ما) إلا رفع الخبر لأنها حرف نفي دخل على ابتداء وخبر كما تدخل ألف الاستفهام ولا تغير الكلام ، وذلك مذهب بني تميم.
ص: 220
قال أبو العباس وغيره : نجيز نصب الخبر على التشبيه ب (ليس) كما فعل ذلك في ما.
قال أبو بكر : وهذا هو القول ؛ لأنه لا فصل بينهما وبين (ما) في المعنى.
قال أبو علي الفارسي : القول غير هذا ول (إن) المخففة أربعة مواضع : (إن) التي تكون في الجزاء نحو : إن تأتني آتك.
والثاني : أن تكون في معنى (ما) نفيا تقول : إن زيد منطلق تريد : ما زيد منطلق.
والثالث : أن تدخل زائدة مع (ما) فتردها إلى الابتداء كما تدخل (ما) على إن الثقيلة فتمنعها عملها ، وذلك قولك : ما إن يقوم زيد وما إن زيد منطلق ولا يكون الخبر إلا مرفوعا قال الشاعر فروة بن مسيك :
وما إن طبّنا جبن ولكن
منايانا ودوله آخرينا (1)
الرابع : أن تكون مخففة من الثقيلة فإذا رفعت ما بعدها لزمك أن تدخل اللام على الخبر ولم يجز غير ذلك لما خبرتك به وعلى هذا قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق : 4] وقوله : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) [الصافات : 167] ، وإن نصبت بها لم تحتج إلى اللام إلا أن تدخلها توكيدا كما تدخلها في (إن) الثقيلة ؛ لأن اللبس قد زال.
وأما (أن المخففة) من المفتوحة الألف إذا خففتها من أن المشددة فالإختيار أن ترفع ما بعدها على أن تضمر فيها الهاء ؛ لأن المفتوحة وما بعدها مصدر فلا معنى لها في الابتداء والمكسورة إنما دخلت على الابتداء وخبره.
وأن الخفيفة تكون في الكلام على أربعة أوجه : فوجه : أن تكون هي والفعل الذي تنصبه مصدرا نحو قولك : أريد أن تقوم : أي : أريد قيامك.
ص: 221
والثاني : أن تكون في معنى (أي) التي تقع للعبارة والتفسير ، وذلك قوله تعالى : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) [ص : 6]. ومثله : (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : 72].
والثالث : أن تكون فيه زائدة مؤكدة ، وذلك قولك : لما أن جاز زيد قمت ، والله أن لو فعلت لأكرمتك ، قال الله تعالى : (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا) [العنكبوت : 33].
والرابع : أن تكون مخففة من الثقيلة ، وذلك قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : 10]. ولو نصبت بها وهي مخففة لجاز.
قال سيبويه : لا تخففها أبدا في الكلام وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة تضمر فيها الاسم يعني الهاء قال : ولو لم يريدوا ذلك لنصبوا كما ينصبون إذ اضطروا في الشعر يريدون معنى (كأن) ولم يريدوا الإضمار ، وذلك قوله :
كأنّ وريديه رشاء خلب ... (1)
قال : وهذه الكاف إنما هي مضافة إلى (إن) فلما اضطر إلى التخفيف ولم يضمر لم يغير ذلك التخفيف أن ينصب بها كما أنك قد تحذف من الفعل فلا يتغير عن عمله نحو : لم يكن صالحا ولم يك صالحا ومثل ذلك يعني الأول قول الأعشى :
في فتية كسيوف الهند قد علموا
أن هالك كلّ من يحفى وينتعل
كأنه قال : إنه هالك ، وإن شئت رفعت في قول الشاعر : كأن وريداه رشاء خلب.
ص: 222
واعلم أنه قبيح أن يلي (إن) المخففة الفعل إذا حذفت الهاء وأنت تريدها كأنهم كرهوا أن يجمعوا على الحرف الحذف وأن يليه ما لم يكن يليه وهو مثقل قبيح أن تقول : قد عرفت أن يقوم زيد : حتى تفصل بين أن والفعل بشيء يكون عوضا من الاسم نحو : لا وقد والسين.
تقول : قد عرفت أن لا يقوم زيد وأن سيقوم زيد وأن قد قام زيد كأنه قال : عرفت أنه لا يقوم زيد وأنه سيقوم زيد وأنه قد قام زيد ونظير ذلك قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) [المزمل : 20] ، وقوله : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً)(1) [طه : 89].
وأما قولهم : أما أن جزاك الله خيرا فإنهم إنما أجازوه ؛ لأنه دعاء ولا يصلون إلى (قد) هنا ولا إلى (السين) لو قلت : أما أن يغفر الله لك لجاز ؛ لأنه دعاء ولا تصل هنا إلى السين ومع هذا كثر في كلامهم حتى حذفوا فيه : أنه وإنه لا يحذف في غير هذا الموضع.
وسمعناهم يقولون : أما أن جزاك الله خيرا شبهوه (بأنه) أضمروا فيها كما أضمروا في (أن) فلما جازت (أن) كانت هذه أجوز.
واعلم أنك إذا عطفت اسما على أن وما عملت فيه من اسم وخبر فلك أن تنصبه على الإشراك بينه وبين ما عملت فيه أن ولك أن ترفع تحمله على الابتداء يعنى موضع أن فتقول : إن زيدا منطلق وعمرا وعمرو ؛ لأن معنى : إن زيدا منطلق زيد منطلق قال الله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : 3].
ص: 223
ولك أن تحمله على الاسم المضمر في (منطلق) ، وذلك ضعيف إلا أن تأتي (بهو) توكيدا للمضمر فتقول : إن زيدا منطلق هو وعمرو ، وإن شئت حملت الكلام على الأول فقلت : إن زيدا منطلق وعمرا ظريف.
ولعل وكأن وليت : ثلاثتهن يجوز فيهن جميع ما جاز في إن إلا أنه لا يرفع بعدهن شيء على الابتداء.
وقال سيبويه : ومن ثم اختار الناس : ليت زيدا منطلق وعمرا وضعف عندهم أن يحملوا عمرا على المضمر حتى يقولوا (هو) ولم تكن ليت واجبة ولا لعل ولا كأن فقبح عندهم أن يدخلوا الكلام الواجب في موضع التمني فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس في معناه يعني أنك لو قلت : ليت زيدا منطلق وعمرو فرفعت عمرا كما ترفعه إذا قلت إن زيدا منطلق وعمرو فعطف عمرا على الموضع لم يصلح من أجل أن ليت وكأن ولعل لها معان غير معنى ا لابتداء وإن : إنما تؤكد الخبر والمعنى معنى الابتداء والخبر ولم تزل الحديث عن وجوبه وما كان عليه.
وإذا كان خبر إن فعلا ماضيا لم يجز أن تدخل عليه اللام التي تدخل على خبرها إذا كان اسما تقول : إنّ عمرا لقائم ، وإن بكرا لأخوك ولا يجوز أن تقيم (قام) مقام (قائم) فتقول : إن زيدا لقام وأنت تريد هذه اللام ؛ لأن هذه اللام لام الابتداء.
تقول : والله لزيد في الدار ولعمرو أخوك فإذا دخلت إن أزيلت إلى الخبر والدليل على ذلك قولهم : قد علمت إنّ زيدا لمنطلق فلولا اللام لانفتحت أن وإنما انكسرت ؛ لأن اللام مقدرة بين علمت ، وإن ألا ترى أنك تقول : قد علمت لزيد منطلق أقحمت اللام بين الفعل والابتداء لأنها لام الابتداء فلما أدخلت (أن) وهي تدخل على المبتدأ وخبره تأكيدا كدخول اللام للتأكيد لم يجمعوا بين تأكدين وأزالوها إلى الخبر ، فإن كان الخبر اسما كالمبتدأ أو مضارعا للاسم دخلت عليه ، وإن لم يكن كذلك لم تدخل عليه قال الله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) [النحل : 124] أي : لحاكم.
ص: 224
فإن قال قائل : أراني أقول : لأقومن ولتنطلقن فأبدأ باللام وأدخلها على الفعل قيل له : ليست هذه اللام تلك اللام هذه تلحقها النون وتلزمها وليست الأسماء داخلة في هذا الضرب فإذا سمعت : والله لقام زيد فهذه اللام هي التي إذا دخلت على المستقبل كان معها النون كما قال امرؤ القيس :
حلفت لها بالله حلفة فاجر
لناموا فما إن من حديث ولا صالي (1)
قال : ويقال : إنه أراد : لقد ناموا فلما جاء (بقد) قربت الفعل من الحاضر فهذه اللام التي تكون معها النون غير مقدر فيها الابتداء.
تقول : قد علمت أن زيدا ليقومن وأن زيدا لقائم فلا تكسر أن كما تكسرها في قولك :أشهد إن محمدا لرسول الله.
واعلم أن بكرا ليعلم ذلك ، قال سيبويه : إن هذه اللام دخلت على جهة الشذوذ.
قال سيبويه : وقد يستقيم في الكلام : إن زيدا ليضرب وليذهب ولم يقع (ضرب) والأكثر على ألسنتهم كما خبرتك في اليمين ولا يجوز أن تدخل (إنّ) على (أنّ) كما لا يدخل تأنيث على تأنيث ولا استفهام على استفهام فحرف التأكيد كذلك ولا يجوز أن يدخل حرف تأكيد على حرف مثله لا يجوز أن تقول : إن إنك منطلق يسرني تريد : إن انطلاقك يسرني.
فإن فصلت بينها فقلت : إن عندي أنك منطلق جاز (2).
ص: 225
قال الله عز وجل : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه : 118 - 119] ، فإن هي التي فتحت أن وموضع أن في قوله : (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها) وما علمت فيه نصب بأن الأولى كما تقول : إن في الدار لزيدا فحسن إذا فرقت بين التأكيدين.
ومن قرأ : (وإنّك لا تظمأ) وجعله مستأنفا كقولك : إن في الدار زيدا وعمرو منطلق ؛ لأن الكلام إذا تم فلك أن تستأنف ما بعده ، فإن قال قائل : من أين؟ قلت في قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ) أن الفعل المضارع وقع موقع (حاكم) ولم تقل إن الموضع للفعل وإنما وقع الاسم موقعه بمضارعته له قيل له : لو كان حق اللام أن تدخل على الفعل وما ضارع الفعل لكان دخولها على الماضي أولى ؛ لأنه فعل كما أن المضارع فعل ومع ذلك إنها قد تدخل على الاسم الذي لا يضارع الفعل نحو قولك : إن الله لربنا ، وإن زيدا لأخوك فليس هنا فعل ولا مضارع لفعل ولا يجوز أن تدخل هذه اللام على حرف الجزاء لا تقول : إن زيدا ؛ لأن أتاني أكرمته ولا ما أشبه ذلك.
ولا تدخل على النفي ولا على الحال ولا على الصفة ولا على التوكيد ولا على الفعل الماضي كما قلنا إلا أن يكون معه (قد).
ص: 226
ولكنّ الثقيلة التي تعمل عمل (إن) يستدرك بها بعد النفي وبعد الإيجاب يعني إذا كان بعدها جملة تامة كالذي قبلها نحو قولك : ما جاءني زيد لكن عمرا قد جاء وتكلم عمر لكن بكرا لم يتكلم.
ولكن الخفيفة إذا ابتدأت ما بعدها وقعت أيضا بعد الإيجاب والنفي للاستدراك.
فأما إذا كانت (لكن) عاطفة اسما مفردا على اسم لم يجز أن تقع إلا بعد نفي لا يجوز أن تقول : جاءني زيد لكن عمرو وأنت تريد عطف عمرو على زيد.
ص: 227
تقول : إن عبد الله الظريف منطلق ، فإن لم تذكر (منطلق) وجعلت الظريف خبرا رفعته فقلت : إن عبد الله الظريف كما كنت تقول : كان زيد الظريف ذاهبا ، وإذا لم تجي بالذاهب قلت : كان زيد الظريف وتقول : إن فيها زيدا قائما إذا جعلت (فيها) الخبر ونصبت (قائما) على الحال.
فإن جعلت (قائما) الخبر والظرف (فيها) رفعت فقلت : إن فيها زيدا قائم وكذلك إن زيدا فيها قائم وقائما تقول : إن بك زيدا مأخوذ ، وإن لك زيدا واقف لا يجوز إلا الرفع ؛ لأن (بك ولكل) لا يكونان خبرا لزيد فلو قلت : إن زيدا بك ، وإن زيدا لك لم يكن كلاما تاما وأنت تريد هذه المعاني ، فإن أردت بأن زيدا لك أي ملك لك وما اشبه ذلك جاز ومثل ذلك :إن فيك زيدا لراغب ولو قلت : إن فيك زيدا راغبا لم يصلح وإنما تنصب الحال بعد تمام الكلام وتقول : إن اليوم زيدا منطلق لا يجوز إلا الرفع ؛ لأن (اليوم) لا يكون خبرا لزيد وتقول : إن اليوم فيك زيد ذاهب فتنصب (اليوم) لا يكون خبرا لزيد وتقول : إن اليوم فيك زيد ذاهب فتنصب (اليوم) بإن ؛ لأنه ليس هنا بظرف إذ صار في الكلام ما يعود إليه.
وتقول : إن زيدا لفيها قائما. وإن شئت ألغيت (لفيها) فقلت : إن زيدا لفيها قائم واللام تدخل على الظرف خبرا كان أو ملغى مقدما على الخبر خاصة ويدلك على ذلك قول الشاعر وهو أبو زبيد :
إن أمرا خصني عمدا مودته
على التنائي لعندي غير مكفور
وإذا قلت : إن زيدا فيها لقائم فليس (فيها) إلا الرفع ؛ لأن اللام لا بدّ من أن يكون خبر إن بعدها على كل حال وكذلك : إن فيها زيدا لقائم وروى الخليل : أن ناسا يقولون : إن بك زيد مأخوذ فقال : هذا علي : إنه بك زيد مأخوذ وشبهه بما يجوز في الشعر نحو قول ابن صريم اليشكري :
ص: 228
ويوما توافينا بوجه مقسّم
كأن طبية تعطو إلى وارق السلم (1)
وقال آخر :
ووجه مشرق النّحر
كأن ثدياه حقّان
لأنه لا يحسن هاهنا إلا الإضمار.
وزعم الخليل : أن هذا يشبه قول الفرزدق :
فلو كنت ضبّيا عرفت قرابتي
ولكنّ زنجي عظيم المشافر
قال سيبويه : والنصب أكثر في كلام العرب كأنه قال : ولكن زنجيا عظيم المشافر لا يعرف قرابتي ، ولكنه أضمر هذا.
قال : والنصب أجود ؛ لأنه لو أراد الإضمار لخفف ولجعل المضمر مبتدأ كقولك : ما أنت صالحا ولكن طالح : وتقول : إن مالا ، وإن ولدا ، وإن عددا أي : إن لهم مالا والذي أضمرت (لهم) وقال الأعشى :
إنّ محلا ، وإن مرتحلا
وإنّ في السفر إذ مضوا مهلا (2)
ص: 229
وتقول : إن غيرها إبلا وشاء كأنه قال : إن لنا غيرها إبلا وشاء ، وإن عندنا غيرها إبلا وشاء فالذي يضمر هذا النحو وما أشبهه ونصبت إبلا وشاء على التمييز والتبيين كإنتصاب الفارس إذا قلت : ما مثله من الناس فارسا ومثل ذلك قول الشاعر :
يا ليت أياّم الصّبا رواجعا (1)
كأنه قال : يا ليت أيام الصبا لنا رواجعا أو أقبلت رواجعا.
وقال الكسائي : أضمر (كانت) وتقول : إن قريبا منك زيدا إذا جعلت (قريبا) ظرفا ، وإن جعلته اسما قلت : إن قريبا منك زيد فيكون الأول هو الآخر ، وإذا كان ظرفا كان غيره.
وتقول : إن بعيدا منك زيد والوجه : أن تجعل المعرفة اسم إن فتقول : إن زيدا بعيد منك.
قال سيبويه : وإن شئت قلت : إن بعيدا منك زيدا وقلما يكون بعيد منك ظرفا.
وإنما قل هذا لأنك لا تقول إن بعدك زيدا وتقول إن قربك زيدا فالدنوا أشد تمكنا من الظروف من البعد ؛ لأن حق الظرف أن يكون محيطا بالجسم من أقطاره.
وزعم يونس : أن العرب تقول : إن بدلك زيدا أي : إن مكانك زيدا ، وإن جعلت البدل بمنزلة البديل قلت : إن بدلك زيد أي إن بديلك زيد وتقول : إن ألفا في دراهمك بيض إذا جعلت : (بيضا) خبرا ، فإن وصفت بها (ألفا) قلت : إن ألفا في دراهمك بيضا يجوز لك أن
ص: 230
تفصل بين الصفة والموصوف وتقول : إن زيدا منطلق وعمرا ظريف فتعطف عمرا على (إن) ومثل ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ)(1) [لقمان : 27].
وقد رفعه قوم ولم يجعلوا الواو عاطفة على تأويل (إذ) كقولك : لو ضربت عبد الله وزيد قائم ما ضرك ، أي : لو ضربت عبد الله وزيد في هذه الحال فكأنه قال : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر هذا أمره ما نفدت كلمات الله وتقول : إن زيدا منطلق وعمرا فتعطف على زيد وتستغني بخبر الأول إذ كان الثاني في محل مثل حاله قال رؤبة :
إنّ الرّبيع الجود والخريفا
يدا أبي العباس والصيوفا
أراد : وإن الصيوف يدا أبي العباس فاكتفى بخبر الأول.
ولك أن ترفع على الموضع ؛ لأن موضع إن الابتداء فتقول : إن زيدا منطلق وعمرو ؛ لأن الموضع للابتداء وإنما دخلت إن مؤكدة للكلام.
ص: 231
وتقول : إن قومك فيها أجمعون. وإن قومك فيها كلهم ففي (فيها) اسم مضمر مرفوع كالذي يكون في الفعل إذا قلت : إن قومك ينطلقون أجمعون فإذا قلت : إن زيدا فيها ، وإن زيدا يقول ذلك ثم قلت : نفسه. فالنصب أحسن.
فإذا أردت حمله على المضمر قلت : إن زيدا يقول ذاك هو نفسه فإذا قلت : إن زيداص منطلق لا عمرو فتفسيره كتفسيره مع الواو في النصب والرفع ، وذلك قولك : إن زيدا منطلق لا عمرا ، وإن زيدا منطلق لا عمرو ولكن بمنزلة إن وتقول : إن زيدا فيها لا بل عمرو ، وإن شئت نصبت و (لا بل) تجري مجرى الواو ولا تقول : إن زيدا منطلق العاقل اللبيب إذا جعلته صفة لزيد ويجوز أن تقول : إن زيدا منطلق العاقل اللبيب فترفع.
قال سيبويه : والرفع على وجهين : على الاسم المضمر في (منطلق) كأنه بدل منه كقولك : مررت به زيد يعني أنه يجعله بدلا من المضمر في منطلق.
قال : وإن شاء رفعه على معنى : مررت به زيد إذا كان جواب من هو فتقول : زيد كأنه قيل له من هو فقال : العاقل اللبيب وقد قرأ الناس هذه الآية على وجهين : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [سبأ : 48] وعلام الغيوب (1).
وتقول : إن هذا أخاك منطلق فتنصب أخاك على ضربين من التقدير : على عطف البيان وهو كالصفة وعلى البدل فمن قال هذا قال : إن الذي رأيت أخاك ذاهب ولا يكون الأخ صفة (الذي) ؛ لأن أخاك أخص من الذي ، فلا يكون صفة وإنما حق الصفة أن تكون أعم من الموصوف.
قال الخليل : إن من أفضلهم كان زيدا على إلغاء (كان).
ص: 232
قال سيبويه : وسألت الخليل عن قوله : (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) و (وَيْكَأَنَّ اللهَ) [القصص : 82] فزعم : أنها وي (1) مقصولة من (كأن) والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو نبهوا فقيل لهم : أما يشبه أن يكون ذا عندكم هكذا والله أعلم.
قال : وأما المفسرون فقالوا : (ألم تر أن الله) وقال زيد بن عمرو بن نفيل : [الخفيف]
سألتاني الطّلاق إذ رأتاني
قلّ مالي قد جتتماني بنكر
ويكأن من يكن له نشب يحبب
ومن يفتقر يعش عيش ضرّ (2)
قال : وناس من العرب يغلطون فيقولون : إنهم أجمعون ذاهبون وإنك وزيد ذاهبان وذلك : أن معناه معنى الابتداء فيرى أنه قال هم كما قال زهير :
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى
ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (3)
ص: 233
فأضمر الباء وأعلمها ، وأما قولهم : (والصابئون) فعلى التقديم والتأخير كأنه ابتدأ فقال : والصابئون بعد ما مضى الخبر قال الشاعر :
وإلّا فاعلموا أنا وأنتم
بغاة ما بقينا في شقاق
كأنه قال : فاعلموا أنا بغاة ما بقينا وأنتم كذلك.
وتقول : إن القائم أبوه منطلقة جاريته نصبت القائم بإن ورفعت الأب بفعله وهو القيام ورفعت (منطلقة) ؛ لأنه خبر إن ورفعت الجارية بالإنطلاق ؛ لأنه فعلها.
ص: 234
ويجوز أن تكون الجارية مرفوعة بالابتداء وخبرها : (منطلقة) والجملة خبر (إن) فيكون التقدير : إن القائم أبوه جاريته منطقة إلا أنك قدمت وأخرت ويقول : إن القائم وأخوه قاعد فترفع الأخ بعطفك إياه على المضمر في (قائم) والوجه إذا أردت أن تعطفه على المضمر المرفوع أن تؤكد ذلك المضمر فتقول : إن القائم هو وأخوه قاعد.
وإنما قلت : (قاعد) ؛ لأن الأخ لم يدخل في (إن) وإنما دخل في صلة القائم فصار بمنزلة قولك : إن الذي قام مع أخيه قاعد ونظير ذلك أن المتروك هو وأخوه مريضين صحيح ولو أردت أن تدخل الأخ في (إن) لقلت : إن المتروك مريضا وأخاه صحيحان وتقول : إن زيدا كان منطلقا نصبت زيدا (بإن) وجعلت ضميره في (كان).
وكان وما عملت فيه في موضع خبر (إن) ، وإن شئت رفعت (منطلقا) على وجهين :
أحدهما : أن تلغي (كان) وقد مضى ذكر ذلك.
والوجه الثاني : أن تضمر المفعول به في (كان) وهو قبيح وتجعل منطلقا اسم (كان) فكأنك قلت : إن زيدا كأنه منطلق.
وقبحه من وجهين :
أحدهما : حذف الهاء وهو كقولك : إن زيدا ضرب عمرو تريد : ضربه.
والوجه الآخر : أنك جعلت منطلقا هو الاسم (لكان) وهو نكرة وجعلت الخبر الضمير وهو معرفة فلو كان : إن زيدا كان أخوك تريد : كأنه أخوك كان أسهل وهو مع ذلك قبيح لحذف الهاء وتقول : إن أفضلهم الضارب أخا له كان صالحا فقولك : كان (صالحا) صفة لقولك : (أخا له) ؛ لأن النكرات توصف بالجمل ولا يجوز أن تقول : إن أفضلهم الضارب أخاه كان صالحا فتجعل : (كان صالحا) صفة لأخيه وهو معرةف ، فإن قال قائل : فإنها نكرة مثلها فأجز ذلك على أن تجعله حالا فذاك قبيح والأخفش يجيزه على قبحه وقد تأولوا على ذلك قول الله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : 90] وتأويل ذلك عند أبي العباس : على الدعاء وأنه من الله تعالى إيجاب عليهم.
ص: 235
وقال : القراءة الصحيحة التي جل أهل العلم عليها إنما هي : (أو جاؤكم حصرة صدروكم).
وقال الأخفش : أقول : إن في الدار جالسا أخواك فانصب (جالسا) (بإن) وارفع (الأخوين) بفعلهما واستغنى بهما عن خبر (إن) كما أقول : أذاهب لئأخواك فارفع (أذاهب) بالابتداء وأخواك بفعلهما واستغنى عن خبر الابتداء لأن. خبر الابتداء إنما جيء به ليتم به الكلام.
قال : وكذلك تقول : إن بك واثقا أخواك ، وإن شئت (واثقين أخواك) فجعلت (واثقين) اسم (إن) ولا يجوز : أن بك واثقين أخويك فتنصب (واثقين) على الحال ؛ لأن الحال لا يجوز في هذا لأنك لا تقول : إن بك أخويك ، وتسكت وتقول : إن فيها قائما أخواك ، وإن شئت قائمين أخويك فتنصب أخويك (بأن) وقائمين على الحال وفيها خبر (إن) وهو خبر مقدم ، وإذا ولي (قائم) إن ولم يكن بينهما ظرف لم يجز توحيده عند الكوفيين وصار اسما لا يفصل بينه وبين عمله بخبر إن ، وذلك قولك : إن قائمين الزيدان ، وإن قائمين الزيدون.
وأجاز الفراء : إن قائما الزيدان ، وإن قائما الزيدون على معنى إن من قام الزيدان ، وإن من قام الزيدون.
وأجاز البصريون إن قائما الزيدان والزيدون على ما تقدم ذكره.
ولا يجيز الكوفيون : إن آكلا زيد طعامك إذا كان المنصوب بعد زيد وهذا جائز عند البصريين ، فإن قلت : إن آكلا طعامك زيد كانت المسألة جائزة في كل قول وكذلك كل منصوب من مصدر أو وقت أو حال أو ظرف ، فإن قلت : خلفك آكلا زيد استوى القولان في تأخير الطعام بعد زيد فقلت : إن خلفك آكلا زيد طعامك ولك أن تؤخر (آكلا) والظروف من الزمان في ذا كالظروف في المكان.
والفراء يجيز : إن هذا وزيد قائمان ، وإن الذي عندك وزيد قائمان وإنك وزيد قائمان إذا كان اسم (إن) لا يتبين فيه الإعراب نحو هذا وما ذكرناه في هذه المسائل وعلى ذلك ينشدون هذا البيت :
ص: 236
فيرفع (قيارا) وينصب وكذلك لو قال : الغريبان فإفراد الفعل وتثتيته في هذا عندهم سواء.
والكسائي يجيز الرفع في الاسم الثاني مع الظاهر والمكنى ، فإن نعت اسم إن أو أكدته أو أبدلت منه فالنصب عندنا لا يجوز غيره وإنما الرفع جاء عندنا على الغلط.
وقد قال الفراء : يجوز أن تقول : إنهم أجمعون قومك على الغلط لما كان معناه : هم أجمعون قومك وإنه نفسه يقوم يجوز أن ترفع توكيد ما لا يتبين فيه الإعراب وهو وأصحابه كثيرا ما يقيسون على الأشياء الشاذة.
وقال قوم : إن الإختيار مع الواو التثنية في قولك : إن زيدا وعمرا قائمان ويجوز : قائم مع ثم والفاء التوحيد ويجوز التثنية يجوز : لإن زيدا ثم عمرا قائم وقائمان. وإن زيدا فعمرا قائم وقائمان.
ومع (أو) (ولا) التوحيد لا غير أن الخبر عن أحدهما خاصة دون الآخر.
واعلم أن الهاء التي تسمى المجهولة في قولك : إنه قام بكر وفي كل موضع تستعمل فيه فهي موحدة لا ينسق عليها ولا تكون منها حال منصوبة ولا توكيد ولا تؤنث ولا تثنى ولا تجمع ولا تذكر وما بعدها مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل.
وقوم يقولون : إنها إذا كانت مع مؤنث أنثت.
وذكرت نحو قولك : إنه قائمة جاريتك وإنها قائمة جاريتك.
وقالوا إذا قلت : إنه قائم جواريك ذكرت لا غير ، فإن جئت بما يصلح للمذكر والمؤنث أنثت وذكرت نحو قولك : إنه في الدار جاريتك وإنها في الدار جاريتك.
وحكي عن الفراء أنه قال : لا أجيز : إنه قام ؛ لأن هاء العماد إنما دخلت لشيئين لإسم وخبر وكان يجيز فيما لم يسم فاعله : إنه ضرب وقال : لأن الضمة تدل على آخر.
والكسائي يجيز : إنه قام قال : والبغداديون إذا وليت أن النكرات أضمروا والهاء ولم تضمر الهاء إلا صفة متقدمة ، وإن جاؤوا بعدها بأفعال يعنون بالأفعال أسم الفاعل أتبعوها إذا كانت نكرة ورفعوها إذا كانت معرفة كقولهم : إن رجلا قائما ، وإن رجلا أخوك ، وإذا
ص: 238
أضمروا الخبر لم ينسقوا عليها بالمعرفة فلا يقولون : إن رجلا وزيدا ؛ لأن خبر المعرفة لا يضمر عندهم ويقولون : كل أداة ناصبة أو جازمة لا تدخل عليها اللام مع (إن) ، فإن كانت الأداة لا تعمل شيئا دخلت اللام عليها.
وقد أجاز الفراء حذف الخبر في : (إن الرجل) ، وإن المرأة ، وإن الفأرة ، وإن الذبابة ولا يجيزه إلا بتكرير (إن).
ويقولون : (ليت) تنصب الأسماء والأفعال أي : الأخبار نحو : ليت زيدا قائما وقال الكسائي : أضمرت : (كان).
وقالوا : (لعل) تكون بمعنى : (كي) وبمعنى : خليق وبمعنى : ظننت وقالوا : والدليل على ظننت أن تجيء بالشيئين والدليل على (عسى) أن تجيء بأن وقالوا : (ليت) قد ذهب بها إلى (لو) وأولوها الفعل الماضي وليتني أكثر من ليتي ولعلي أكثر من لعلني وإنني وإني سواء.
وذكر سيبويه : لهنك لرجل صدق قال : وهذه كلمة تتكلم بها العرب في حال اليمين وليس كل العرب تتكلم بها في (إن) ولكنهم أبدلوا الهاء مكان الألف كقولك : هرقت.
ولحقت هذه اللام (إن) كما لحقت (ما) حين قلت : (إن زيدا لما لينطلقن فلحقت) اللام في اليمين والثانية لام (إن) وفي : لما لينطلقن اللام الأولى : لام (لئن) والثانية : لام اليمين.
والدليل على ذلك النون التي معها.
وقال : قول العرب في الجواب إنه فهو بمنزلة أجل ، وإذا وصلت قلت : إنّ يا فتى.
واعلم أن (إنّ واخواتها) قد يجوز أن تفصل بينها وبين أخبارها بما يدخل لتوكيد الشيء أو لرفعه ؛ لأنه بمنزلة الصفة في الفائدة يوضح عن الشيء ويؤكده ، وذلك قولك : إن زيدا فافهم ما أقول رجل صالح ، وإن عمرا والله ظالم ، وإن زيدا هو المسكين مرجوم ؛ لأن هذا في الرفع يجري مجرى المدح والذم في النصب وعلى ذلك يتأول قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) [الكهف : 31] فأولئك هو الخبر.
ص: 239
ومذهب الكوفيين والبغداديين في (إن) التي تجاب باللام يقولون : هي بمنزلة (ما) وإلا وقد قال الفراء : إنها بمنزلة (قد) وتدخل أبدا على آخر الكلام نحو قولك : إن زيدا لقائم تريد :ما زيد إلا قائم وقد قيل : إنه يريد : قد قام زيد وكذلك : إن ضرب زيد لعمرا ، وإن أكل زيد لطعامك وكان الكسائي يقول : هي مع الأسماء والصفات يعني بالصفات والظروف إن المثقلة خففت ومع الأفعال بمعنى ما وإلا وقال الفراء : كلام العرب أن يولوها الماضي قالوا : وقد حكى : إن يزينك لنفسك ، وإن يشينك لهيه وقد حكي مع الأسماء وأنشدوا :
فقلت إن القوم الذي أنا منهم
لأهل مقامات وشاء وجامل
وكل ما كان من صلة الثاني لم تدخل اللام عليه وكل ما كان من صلة الأول أدخلت اللام عليه نحو قولك : إن ظننت زيدا لفي الدار قائما ، فإن كان في الدار من صلة الظن دخل عليها ، وإن كان من صلة (قائم) دخلت اللام على (قائم) يعنون أن اللام إنما تدخل على ما هو في الأصل خبر المبتدأ ألا ترى أنه لو خلا الكلام من (ظننت) : كان زيد في الدار قائما فزيد مبتدأ وفي الدار خبره وقائم حال والعامل فيه (في الدار) فهو من صلة (في الدار) فاستقبحوا أن يدخلوا اللام على (قائم) ؛ لأنه من صلة الثاني وهو الخبر وقالوا كل أخوات الظن وكان على هذا المذهب وكذلك صلة الثاني في قولك : إن ضربت رجلا لقائما لا يدخلون عليها اللام و (قائما) صلة رجل هذا خطأ عندهم وعند غيرهم ولا يجوز : إن زال زيد قائما ؛ لأنه لا يجوز زال زيد لقائما وتقول : إن كان زيد لقائما.
ص: 240
ألف إن تكسر (1) في كل موضع يصلح أن يقع فيه الفعل والابتداء جميعا ، وإن وقعت في موضع لا يصلح أن يقع فيه إلا أحدهما لم يجز لأنها إنما تشبه فعلا داخلا على جملة وتلك الجملة
ص: 241
مبتدأ وخبر والجملة التي بعد (إنّ) لا موضع لها من الإعراب بعامل يعمل فيها من فعل ولا حرف ألا ترى أنك تقول : إن عمرا منطلق فهذا موضع يصلح أن يبتدأ الكلام فيه فتقول : عمرو منطلق ويصلح أن يقع الفعل موقع المتبدأ فتقول : انطلق عمرو وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب لأنها غير مبنية على شيء.
و (إنّ) المكسورة تكون مبتدأة ولا يعمل فيها ما قبلها وهي كلام تام مع ما بعدها وتدخل اللام في خبرها ولا تدخل اللام في خبر (إن) إذا كانت (إن) محمولة على ما قبلها.
واللام إذا وليت الظن والعلم علقت الفعل فلم تعمل نحو قولك : قد علمت إن زيدا لمنطلق وأظن إن زيدا لقائم فهذا إنما يكون في العلم والظن ونحوه.
ولا يجوز في غير ذلك من الأفعال لا تقول : وعدتك إنك لخارج إنما تدخل في الموضع الذي تدخل فيه أيهم فتعلق الفعل ألا ترى أنك تقول : قد علمت أيهم في الدار وكل موضع تقع فيه (إن) بمعنى اليمين وصلة القسم فهي مكسورة فمن ذلك قولهم إذا أرادوا معنى
ص: 242
اليمين : أعطيته ما إن شره خير من جيد ما معك وهؤلاء الذين إن أجبتهم لأشجع من شجعائكم قال الله تعالى : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) [القصص : 76] (فإن) تدخل صلة (للذي) ؛ لأن صلة الذي لا موضع لها من الإعراب بعامل يعمل فيها من فعل ولا حرف جر.
فإذا وقعت إن بعد القول حكاية فهي أيضا مكسورة لأنك تحكي الكلام مبتدأ والحكاية لا تغير الكلام عما كان عليه تقول : قال عمرو : إن زيدا خير منك.
قال سيبويه : كان عيسى يقرأ هذا الحرف : (فدعا ربّه إنّي مغلوب) [القمر : 10]. أراد أن يحكي كما قال : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ) [الزمر : 3] كأنه قال والله اعلم قالوا : ما نعبدهم فعلى هذا عندي قراءة : (فدعا ربّه إني مغلوب) أي : دعا ربه فقال : إني مغلوب.
وتكسر أيضا بعد إلا في قولك : ما قدم علينا أمير إلا إنّه مكرم لي ؛ لأنه ليس هنا شيء يعمل في (إن) ولا يجوز أن تكون عليه.
قال : قال سيبويه : ودخول اللام هاهنا يدلك على أنه موضع ابتداء.
قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ)(1) [الفرقان : 20] ، فإن زال ما بعد إلا عن الابتداء وبنيته على شيء فتحت تقول : ما غضبت عليك إلا أنك فاسق كأنك قلت : إلا لأنك فاسق ، وأما قوله تعالى : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ) [التوبة : 54].
ص: 243
فإنما حمله على (منعهم) أي : ما منعهم إلا أنهم كفروا فموضع : أنهم كفروا رفع أي : ما منعهم لا كفرهم فلما صار لها موضع فتحت.
و (حتى) : تبتدأ بعدها الأسماء وهي معلقة لا تعمل في (إن) ، وذلك قولك : قد قاله القوم حتى إن زيدا يقوله : وانطلق الناس حتى إن عمرا لمنطلق.
وأحال سيبويه أن تقع المفتوحة هاهنا وكذلك إذا قلت : مررت فإذا إنّه يقول ذاك قال :وسمعت رجلا من العرب ينشد هذا البيت كما أخبرتك به :
وكنت أرى زيدا كما قيل سيدا
إذا إنّه عبد القفا واللهازم (1)
وإذا ذكرت (إن) بعد واو الوقت كسرت ؛ لأنه موضع ابتداء نحو قولك : رأيته شابا وإنه يومئذ يفخر.
ص: 244
أن المفتوحة الألف مع ما بعدها بتأويل المصدر وهي تجعل الكلام : شأنا وقصة وحديثا ألا ترى أنك إذا قلت : علمت أنك منطلق فإنما هو : علمت انطلاقك فكأنك قلت : علمت الحديث ويقول القائل : ما الخبر فيقول المجيب : الخبر أن الأمير قادم.
فهي لا تكون مبتدأة ولا بد من أن تكون قد عمل فيها عامل أو تكون مبنية على قبلها لا تريد بها الابتداء تقول : بلغني أنك منطلق (فأن) في موضع اسم مرفوع كأنك قلت : بلغني انطلاقك وتقول : قد عرفت أنك قادم (فأن) في موضع اسم منصوب كأنك قلت : عرفت قدومك وتقول : جئتك ؛ لأن كريم (فأن) في موضع اسم مخفوض كأنك قلت : جئت لكرمك.
و (أن) إذا كانت مكسورة بمنزلة الفعل. وإذا كانت مفتوحة بمنزلة الاسم والفعل لا يعمل في الفعل فلذلك لا يعمل الفعل في (إن) المكسورة ويعمل في (أن) المفتوحة لما صارت بمعنى المصدر والمصدر اسم.
قال سيبويه : يقبح أن تقول : أنك منطلق بلغني أو عرفت.
وإنما استقبح ذلك ، وإن أردت تقديم الفعل لامتناعهم من الابتداء بأن المفتوحة لأنها إنما هي بمنزلة (أن) الخفيفة التي هي مع الفعل بمعنى المصدر.
وما كان بمنزلة الشيء فليس هو ذلك الشيء بعينه فلا يجوز أن يتصرف تصرف (أن) الخفيفة الناصبة للفعل في جميع أحوالها.
فأما (أن) الخفيفة التي تنصب الفعل فإنها يبتدأ بها ؛ لأن الفعل صلة لها وقد نابت هي والفعل عن مصدر ذلك الفعل ولا يلي أن الخفيفة الناصبة للفعل إلا الفعل و (أنّ) الشديدة ليست كذلك ؛ لأنه لا يليها إلا الاسم وهي بعد للتأكيد كما إن (إن) المكسور للتأكيد تقول : إن يقوم زيد خير لك ولا يجوز : أن زيد قائم خير لك قال الله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : 184] وتقول : ليت أن زيدا منطلق فأصل هذا الابتداء والخبر فينوب عن خبر (ليت) ولا يجوز : أن يقوم زيد حتى يأتي بخبر وأنت مع (أن) تلفظ بالفعل ومع (أن) المشددة قد يجوز أن لا تلفظ بالفعل نحو قولك : قد علمت أن زيدا أخوك والمواضع التي تقع فيها أن المفتوحة
ص: 245
لا تقع فيها (إن) المكسورة فمتى وجدتهما يقعان في موقع واحد فاعلم أن المعنى والتأويل مختلف (1).
وإذا وقعت أن موقع المصدر الذي تدخل عليه لام الجر فتحتها نحو : جئتك أنك تريد الخير ، ويقول الرجل للرجل : لم فعلت ذلك فيقول : لم أنه ظريف ، تريد : لأنه.
قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون : 52] فقال : إنما هو على حذف اللام ، وقال عز وجل : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [هود : 25] إنما أراد : بأني ، وإذا عطفت (إن) على أن وقد عمل في الأولى الفعل ففتحها فتحت المعطوف أيضا إلا أن تريد أن تستأنف ما بعد حرف العطف وتأتي بجملة نحو قولك : قد عرفت أنه ذاهب ثم إنه معجل فتحت الثانية ؛ لأن (عرفت) قد عمل فيها وتقول قد عرفت أنه منطلق ثم إنني أخبرتك أنه معجل لأنك ابتدأت (بأني).
وإن جئت بها بعد واو الوقت كسرت كما أخبرتك وتقع بعد (لو) مفتوحة فتقول : لو أنك في الدار لجئتك.
قال سيبويه : (فأن) مبنية على (لو) كما كانت مبنية على (لو لا) تقول : لو لا أني منطلق لفعلت (فأن) مبنية على (لو لا) كما تبنى عليها الأسماء وقال في لو كأنك قلت : لو ذاك وهذا تمثيل ، وإن كانوا لا يبنون على (لو) غير أن كما كان (تسلم) في قولك بذي تسلم في موضع اسم.
ص: 246
قال أبو العباس رحمه الله : إن (لو) إنما تجيء على هيئة الجزاء فإذا قلت : لو أكرمتني لزرتك فلا بد من الجواب ؛ لأن معناها : إن الزيارة امتنعت لإمتناع الكرامة فلا بد من الجواب ؛ لأنه علة الإمتناع و (إن) المكسورة لا يجوز أن تقع هنا كما لا يجوز أن تقع بعد حروف الجزاء لأنها إنما أشبهت الفعل في اللفظ والعمل لا في المعنى و (أن) المفتوحة مع صلتها مصدر في الحقيقة فوقوعها على ضربين :
أحدهما : أن المصدر يدل على فعله فيجري منه ويعمل عمله فقد صح معناها في هذا الوجه.
فإن قال قائل إذا قلت : لو أنك جئتني لأكرمتك فلم لا تقول : لو مجيئك لأكرمتك قيل له : لأن الفعل الذي قد لفظت به من صلة (أن) والمصدر ليس كذلك ألا ترى أنك تقول :
ظننت أنك منطلق فتعديه إلى (أن) وهي وصلتها اسم واحد ؛ لأنه قد صار لها اسم وخبر فدلت بهما على المفعولين وغيرهما من الأسماء لا بد معه من مفعول ثان.
والوجه الآخر : أن الأسماء تقع بعد (لو) على تقديم الفعل الذي بعدها فقد وليتها على حال ، وإن كان ذلك من أجل ما بعدها فلذلك وليتها (أن) لأنها اسم وامتنعت المكسورة لأنها حرف جاء لمعنى التوكيد والحروف لا تلي (لو) فمما وليها من الأسماء قوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ) [الإسراء : 100].
وقال جرير :
لو غيركم علق الزّبير بحبله
أدى الجوار إلى بني العوّام
وفي المثل : لو ذات سوار لطمتني (1).
ص: 247
وكذلك : لو أنك جئت أي : لو وقع مجيئك ؛ لأن المعنى عليه.
قال سيبويه : سألته - يعني : الخليل - عن قول العرب : ما رأيته مذ أنّ الله خلقني؟
فقال : إن في موضع اسم كأنك قلت : مذ ذاك ، فإن كان الفعل أو غيره يصل باللام جاز تقديمه وتأخيره ؛ لأنه ليس هو الذي عمل فيه في المعنى ، وذلك نحو قول تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن : 18] أي : ولأن المساجد وإنما جاز ذلك ؛ لأن اللام مقدرة قبل (أن) وهي العاملة في (أن) لا الفعل وكل موضع تقع فيه (أن) تقع فيه (إنما) وما ابتدئ بعدها صلة لها كما أن ما ابتدئ بعد الذي صلة له ول تكون هي عاملة فيما بعدها كما لا يكون الذي عاملا فيما بعده فمن ذلك قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الأنبياء : 108].
فلو قلت : يوحي إلي أن إلهكم إله واحد كان حسنا فأما إنما مكسورة فلا تكون اسما وإنما هي فيما زعم الخليل بمنزلة فعل ملغى مثل : أشهد لزيد خير منك.
والموضع الذي لا يجوز أن يكون فيه (أن) لا تكون (إنما) إلا مبتدأة مكسورة مثل قولك :وجدتك إنما أنت صاحب كل خنيّ لأنك لو قلت : وجدتك أنك صاحب كل خنيّ لم يجز.
(وإنما وأن) يصيّران الكلام : شأنا وقصة وحديثا ولا يكون الحديث الرجل ولا زيدا ولا ما أشبه ذلك من الأسماء.
ويجوز أن تبدل مما قبلها إذا كان ما قبلها حديثا وقصة تقول : بلغتني قصتك أنك فاعل وقد بلغني الحديث أنهم منطلقون فقولك : (أنهم منطلقون) هو الحديث.
ص: 248
وقد تبدل من شيء ليس هو الحديث ولا القصة لإشتمال المعنى عليه نحو قول عز وجل :(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ)(1) [الأنفال : 7].
(فأن) مبدلة من إحدى الطائفتين موضوعة في مكانها كأنك قلت : وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم وهذا يتّضح إذا ذكرنا البدل في موضعه إن شاء الله.
ص: 249
ذكر المواضع التي تقع فيها إن وأن المفتوحة والمكسورة والتأويل والمعنى مختلف
تقول : إمّا أنه ذاهب وإمّا أنه منطلق. فتفتح وتكسر.
قال سيبويه : وسألت الخليل عن ذاك فقال : إذا فتحت فإنك تجعله كقولك : حقا أنه منطلق ، وإذا كسرت فكأنه قال : إلا أنه ذاهب.
وتقول : أما والله إنه ذاهب كأنك قلت : قد علمت والله إنه ذاهب.
وأما والله أنه ذاهب كقولك : إلا أنه والله ذاهب.
قال : وسألته عن قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)(1) [الأنعام : 109] ما يمنعه أن يكون كقولك : ما يدريك أنه يفعل فقال : لا يحسن ذا في هذا
ص: 250
الموضع إنما قال : وما يشعركم ثم ابتدأ فأوجب فقال : إنها إذا جاءت لا يؤمنون قال : ولو كان :(وما يشعركم أنها) كان ذلك عذرا لهم وأهل المدينة يقرأون : (أنّها).
فقال الخليل : هي بمنزلة قول العرب : ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا أي : لعلك.
فكأنه قال : لعلها إذا جاءت لا يؤمنون.
وتقول : إن لك هذا على وأنك لا تؤذي فكأنه قال : وإن لك أنك لا تؤذي ، وإن شاء ابتدأ.
وقد قرئ هذا الحرف على وجهين : (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى)(1) [طه : 119].
وتقول : إذا أردت أن تخبر ما يعني المتكلم أي : إني نجد إذا ابتدأت كما تقول : أنا نجد ، وإذا شئت قلت أي : أني نجد. كأنك قلت : أي : لأني نجد.
وتقول : ذاك ، وإن لك عندي ما أحببت قال الله تعالى : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) [الأنفال : 14]. كأنه قال : يعلى الأمر ذلك ، وإن لك.
قال سيبويه : ولو جاءت مبتدأة لجاز.
ص: 251
قال : وسألت الخليل عن قوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون : 52]. فقال : إنما هو على حذف اللام قال : ولو قرأها قارئ : (وأنّ) كان جيدا.
وتقول : لبيك إنّ الحمد والنعمة لك ، وإن شئت قلت : أنّ الحمد قال ابن الأطنابة :
أبلغ الحارث بن ظالم الموعد
والناذر النذور عليّا
إنما تقتل النّيام ولا تقتل
يقظان ذا سلاح كميا
وإن شئت قلت : إنما تقتل النيام على الابتداء زعم ذلك الخليل.
وقال الخليل : في قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) [التوبة : 63] قال : ولو قال : فإن كانت عربية جيدة.
وتقول : أول ما أقول إني أحمد الله كأنك قلت : أول ما أقول الحمد لله.
و (إن) في موضعه ، فإن أردت أن تحكي قلت : أول ما أقول : إني أحمد الله وتقول : مررت فإذا إنه عبد ، وإذا أنه عبد تريد : مررت فإذا العبودية به واللؤم.
وقد عرفت أمورك حتى إنك أحمق كأنه قال : حتى حمقكم وهذا قول الخليل.
ص: 252
تقول : قد علمت أنك إذا فعلت ذاك أنك سوف تغبط ويجوز أن تكسر تريد معنى الفاء وتقول : أحقا أنك ذاهب والحق نك ذاهب وأكبر ظنك أنك ذاهب وأجهد رأيك أنك ذاهب وكذلك هما إذا كانا خيرا غير استفهام حملوه على : أفي حق أنك ذاهب قال العبدي :
أحقّا أن جيرتنا أستقلّوا
فنيّتنا ونيّتهم فريق
قال : فريق ولم يقل فريقان كما يقال للجماعة : هم صديق.
وقال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : 17] ولم يقل : قعيدان والرفع في جميع هذا قويّ إن شئت قلت : أحق أنك ذاهب وأكبر ظني أنك ذاهب تجعل الآخر هو الأول.
قال أبو العباس : سألت أبا عثمان لم لا تقول : يوم الجمعة أنك منطلق قال : هذا يجيزه قوم وهم قليل على التقديم والتأخير يجيزون : أنك منطلق يوم الجمعة وإنما كان الوجه : يوم الجمعة أنك منطلق لأنهم يريدون : في يوم الجمعة انطلاقك قلت : فلم أجازوا : أما يوم الجمعة فإنك منطلق قال : لأن ما بعد الفاء مبتدأ ونصب (يوم الجمعة) بالمعنى الذي أحدثته أما كأنه قال : مهما يكن من شيء يوم الجمعة فإنك منطلق وهو نحو قولك : زيد في الدار (اليوم) نصبت اليوم بمعنى الاستقرار في قولك : في الدار قلت : أتجيز كيف إنك صانع على قولك : كيف أنت صانع قال : من أجازه في يوم الجمعة أجازه هاهنا.
قال أبو العباس : لا يجوز هذا في (كيف) ؛ لأن كيف لا ناصب لها قال : قال أبو عثمان : قرأ سعيد بن جبير : (إلا أنهم ليأكلون الطعام) (1) ففتح إن وجعل اللام زائدة كما زيدت في قوله :
أم الحليس لعجوز شهربه (2)
ص: 253
وتقول : قد علمت أن زيدا لينطلقن فتفتح ؛ لأن هذه لام القسم وليست لام (إن) التي في قولك : قد علمت إن زيدا ليقوم ؛ لأن هذه لام الابتداء والأولى لام اليمين فليست من (إن) في شيء.
قال أبو عثمان : في قوله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات : 23] إن (مثل) و (ما) جعلا اسما واحدا مثل : خمسة عشر ، وإن كانت ما زائدة وأنشد :
وتداعى منخراه بدم
مثل ما أثمر حماض الجبل
قال سيبويه والنحويون يقولون : إنما بناه يعني مثل ؛ لأنه أضافه إلى غير متمكن وهو قوله : إنكم ، وإن شاء أعرب (مثلا) لأنها كانت معربة قبل الإضافة فترفع فتقول : مثل ما أنكم كما تقول في (يومئذ) من النباء والإعراب فتعربه كما كان قبل الإضافة ويبينه لما أضافه إليه من أجل أنه غير متمكن وأن الأول كان مبهما فإنما حصر بالثاني.
وكذلك :
على حين عاتبت المشيب على الصّبا (1)
ص: 254
وكل المبهمات كذلك ولا يدخل في هذا : ضربني غلام خمسة عشر رجلا ؛ لأن الغلام مخصوص معلوم غير مبهم بمنزلة وحين ونحو ذلك وأبو عمرو يختار أن يكون نصب : (مثل ما أنكم تنطقون) على أنه حال للنكرة (لحق) ولا اختلاف في جوازه على ما قال.
وتقول : إن زيدا إنه منطلق. كأنك قلت : إن زيدا هو منطلق.
والمكسورة والمفتوحة مجازهما واحد قال الله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل : 119] وقال عبد الله وهب الفزاري الأسدي جاهلي :
زعمت هنيدة أنها صرمت
حبلي ووصل الغانيات غرور
إني وحالك إنّني لمشيّع
صلب القناة بصرحكن جدير
قال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن شد ما أنك ذاهب بمنزلة : حقا أنك ذاهب فقال :هذا بمنزلة حقا إنك ذاهب كما تقول : أما إنك ذاهب بمنزلة : حقا إنك وكما كانت (لو) بمنزلة (لو لا) ولا يبدأ بعدها من الأسماء سوى (إن) نحو : لو أنك ذاهب ولو لا يبتدأ بعدها الأسماء ولو بمنزلة (لو لا) ، وإن لم يجز فيها ما يجوز فيها ، وإن شئت جعلت : شد ما كنعم ما كأنك قلت : نعم العمل أنك تقول الحق قال : وسألته عن قوله.
كما أنّه لا يعلم ذلك فتجاوز الله عنه ، وذلك حق كما أنك هاهنا فزعم أنّ العاملة في (أنّ) الكاف وما لغو إلا أن (ما) لا تحذف من هاهنا كراهية أن يجيء لفظها مثل لفظ (كأن) التي للتشبيه كما ألزموا النون (لأفعلن) واللام في قولهم : إن كان ليفعل : كراهية أن يلتبس اللفظان ويدلك على أن الكاف هي العاملة قولهم : هذا حق مثل ما أنك هنا ففتحوا (أن) وبعض العرب يرفع (مثل) حدثنا به يونس فما أيضا لغو لأنك تقول : مثل ما أنك هاهنا ولو جاءت (ما) مسقطة من الكاف في الشعر جاز.
قال النابغة الجعدي :
قروم تسامى عند باب دفاعه
كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا
ص: 256
يريد : كما أنه يؤخذ المرء قال أبو عثمان : أنا لا أنشده إلا (كأن) يؤخذ المرء.
فأنصب يؤخذ لأنها (أن) التي تنصب الأفعال دخلت عليها كاف التشبيه ألا ترى أنه نسق عليه (يقتل) فنصبه لذلك.
قال سيبويه : سألته يعني الخليل هل يجوز : إنه لحق كما أنك هاهنا على حد قولك : كما أنت هاهنا فقال : لا ؛ لأن أن لا يبتدأ بها في كل موضع ألا ترى أنك لا تقول : يوم الجمعة أنك ذاهب ولا : كيف أنك صانع (فكما) بتلك المنزلة قال : وسألت الخليل عن قوله : أحقا أنه لذاهب فقال : لا يجوز كما لا يجوز يوم الجمعة أنه لذاهب.
وقال : يجوز في الشعر : أشهد أنه ذاهب يشبهه بقوله والله أنه ذاهب ؛ لأن معناه معنى اليمين كما أنه إذا قال : أشهد أنت ذاهب ولم يذكر اللام لم يكن إلا ابتداء وهو قبيح ضعيف إلا باللام ومثل ذلك في الضعف : علمت أن زيدا ذاهب كما أنه ضعيف : قد علمت عمرو خير منك ولكنه على إرادة اللام كما قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : 9] ... وهو على اليمين وكان في هذا حسن حين طال الكلام يعني أن التأويل : (والشمس وضحاها لقد أفلح).
قال أبو العباس رحمه الله والبغداديون يقولون : والله إن زيدا منطلق فيفتحون (إن) وهو عندي القياس ؛ لأنه قسم فكأنه قال : أحلف بالله على ذاك أشهد أنك منطلق.
قال : والقول عندي في قوله تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ)(1) [النحل : 62] والله أعلم أن (لا) زائدة للتوكيد وجرم فعل ماض فكأنه قال والله اعلم جرم أن لهم النار وزيادة (لا) في هذا الموضع كزيادتها في قوله تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) [فصلت : 34] وإنما
ص: 257
تقول : لا يستوي عبد الله وزيد ، وكقوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : 1] ونحوه من الفواتح.
وتقول : أما جهد رأيي فإنك راحل ، وأما يوم الجمعة فإنك سائر ؛ لأن معنى (أما) مهما يكن من شيء فإنك سائر يوم الجمعة فما بعد الفاء يقع مبتدأ ألا ترى أنك تقول : أما زيدا فضربت على التقديم ؛ لأن المعنى : مهما يكن من شيء فزيدا ضربت وفضربت.
قال أبو العباس : فيلزم سيبويه أن يقول على هذا : أما زيدا فإنك ضارب.
قال سيبويه : وإذا قلت : أما حقا فإنك قائم ، وأما أكبر ظني فإنك منطلق فعلى الفعل لا على الظرف لأنك لم تضطر إلى أن تجعلها ظرفا إذا كانت (أما) إنما وضعت على التقديم لما بعد الفاء فصار التقدير : مهما يكن من شيء فإنك ذاهب حقا وفيما قال نظر وشغب : ولا يجوز عندي على هذا أن يقول : أما هندا ، فإن عمرا ضارب ؛ لأن تقدير الاسم الذي يلي (أما) أن يلي الفاء ملاصقا لهما.
فما جاز أن يلاصق الفاء جاز أن يلي (أما) وما لم يجز أن يلاصقها لم يجز أن يلي (أما) فلا يجوز أن تقول : مهما يكن من شيء ، فإن هندا عمرا ضارب فتنصب هندا بضارب ويجوز أن تقول : مهما يكن من شيء ، فإن أكبر ظني عمرا ذاهب فيكون : أكبر ظني ظرفا (لذاهب) وهذا إنما أجازه مع إما لأنهم وضعوها في أول أحوالها على التقديم والتأخير صار حكمها حكم ما لا تأخير فيه ولو كان موضع يجوز أن يقدم فيه ولا يقدم لم يجز أن يعمل ما بعد (أن) في ما قبلها وعلى ذلك ففيه نظر كثير والأقيس في قولك : أما حقا فإنك قائم : أن تعمل معنى (أما) في (حقا) كأنك قلت : مهما يكن من شيء حقا فإنك قائم وأحسبه قول المازني.
وتقول : أيقول : إنّ عمرا منطلق إذا أردت معنى : أتظن كأنك قلت : أتظن أن عمرا منطلق ، فإن أردت الحكاية قلت : أتقول : إنّ وتقول : ظننت زيدا أنه منطلق ؛ لأن المعنى : ظننت زيدا هو منطلق ولا يجوز فيه الفتح ؛ لأنه يصير معناه : ظننت زيدا الإنطلاق ولو قلت : ظننت أمرك أنك منطلق جاز كأنك قلت : ظننت أمرك الإنطلاق والأخفش يقول : إذا حسن في موضع (إن) وما عملت فيه (ذاك) فافتحها نحو قولك : بلغني أنه ظريف لأنك تقول : بلغني
ص: 258
ذاك قال : وما لم يحسن فيه (ذاك) فاكسرها قال : وتقول : أما أنه منطلق ؛ لأنه لا يحسن هاهنا أما ذاك ثم أجازه بعد على معنى : حقا أنه منطلق وقال : لأن أما في المعنى : (حقا) لأنها تأكيد فكأنه ذكر حقا فجعلها ظرفا قال : وقد قال ناس : حقا إنك ذاهب على قولهم : إنك منطلق حقا فتنصب (حقا) على المصدر كأنه قال : أحقّ ذاك حقا قال : وهذا قبيح وهو من كلام العرب.
ص: 259
ذكر ما يكون المنصوب فيه في اللفظ غير المرفوع والمنصوب بعض المرفوع وهو المستثنى
المستثنى يشبه المفعول إذا أتى به بعد استغناء الفعل بالفاعل وبعد تمام الكلام.
تقول : جاءني القوم إلا زيدا فجاءني القوم : كلام تام وهو فعل وفاعل فلو جاز أن تذكر (زيدا) بعد هذا الكلام بغير حرف الاستثناء ما كان إلا نصبا.
لكن لا معنى لذلك إلا بتوسط شيء آخر فلما توسطت (إلا) حدث معنى الاستثناء ووصل الفعل إلى ما بعد إلا فالمستثنى بعض المستثنى منهم ألا ترى أن زيدا من القوم فهو بعضهم فتقول على ذلك : ضربت القوم إلا زيدا ومررت بالقوم إلا زيدا فكأنك قلت في جميع ذلك : أستثني زيدا فكل ما أستثنيه (بإلا) بعد كلام موجب فهو منصوب وألا تخرج الثاني مما دخل فيه الأول فهي تشبه حرف النفي فإذا قلت : قام القوم إلا زيدا فالمعنى : قام القوم لا زيد إلا أن الفرق بين الاستثناء والعطف أن الاستثناء لا يكون إلا بعضا من كلّ والمعطوف يكون غير الأول ويجوز أيضا في المعطوف أن تعطف على واحد نحو قولك : قام زيد لا عمرو ولا يجوز أن تقول في الاستثناء : قام زيد إلا عمرو.
لا يكون المستثنى إلا بعضا من كل وشيئا من أشياء و (لا) إنما تأتي لتنفي عن الثاني ما وجب للأول و (إلا) تخرج الثاني مما دخل فيه الأول موجبا كان أو منفيا ومعناها الاستثناء والاسم المستثنى منه مع ما تستثنيه منه بمنزلة اسم مضاف ألا ترى أنك إذا قلت : جاءني قومك إلا قليلا منهم فهو بمنزلة قولك : جاءني أكثر قومك فكأنه اسم مضاف لا يتم إلا بالإضافة ، فإن فرغت الفعل لما بعد إلا عمل فيما بعدها لأنك إنما تنصب المستثنى إذا كان اسما من الأسماء وهو بعضها فأما إذا فرغت الفعل لما بعد إلا عمل فيما بعد إلا وزال ما كنت تستثني منه ، وذلك نحو قولك : ما قام إلا زيد وما قعد إلا بكر فزيد مرتفع بقام وبكر مرتفع بقعد وكذلك : ما ضربت إلا زيدا وما مررت إلا بعمرو ولما فرغت الفعل لما بعد إلا عمل فيه.
فإذا قلت : ما قام أحد إلا زيد فإنما رفعت لأنك قدرت إبدال زيد من (أحد).
ص: 260
فكأنك قلت : ما قام إلا زيد وكذلك البدل من المنصوب والمخفوض تقول : ما ضربت إلا أحدا إلا زيدا وما مررت بأحد إلا زيد فالمبدل منه بمنزلة ما ليس في الكلام وهذا يبين في باب البدل ، فإن لم تقدر البدل وجعلت قولك : ما قام أحد كلاما تاما لا ينوي فيه الإبدال من (أحد) نصبت فقلت : ما قام أحد إلا زيدا.
والقياس عندي إذا قال قائل : قام القوم إلا أباك فنفيت هذا الكلام أن تقول : ما قام القوم إلا أباك ؛ لأن حق حرف النفي أن ينفي الكلام الموجب بحاله وهيئته فأما إن كان لم يقصد إلى نفي هذا الكلام الموجب بتمامه وبني كلامه على البدل قال : ما قام القوم إلا أبوك ، فإن قدمت المستثنى لم يكن إلا النصب نحو قولك : ما لي إلا أباك صديق وما فيها إلا زيدا أحدا ؛ لأنه قد بطل البدل فلم يتقدم ما يبدل فيه ؛ لأن البدل كالنعت إنما يجري على ما قبله ، فإن أوقعت استثناء بعد استثناء قلت : ما قام أحد إلا زيد إلا عمرا.
فتنصب عمرا ؛ لأنه لا يجوز أن يكون لفعل واحد فاعلان مختلفان يرتفعان به بغير حرف عطف فهذا مما يبصرك أن النصب واجب بعد استغناء الرافع بالمرفوع.
ولك أن تقول : ما أتاني أحد إلا زيد إلا عمرا وإلا زيدا إلا عمرو فتنصب أيهما شئت وترفع الآخر.
وتقول : ما أتاني إلا عمرا إلا بشرا أحد.
فإن استثنيت بعد الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين نحو : أعطيت زيدا درهما قلت : أعطيت الناس الدراهم إلا زيدا ولا يجوز أن تقول : إلا عمرا الدنانير ؛ لأن حرف الاستثناء إنما تستثني به واحدا ، فإن قلت : ما أعطيت أحدا درهما إلا عمرا دانقا وأردت الاستثناء أيضا لم يجز ، فإن أردت البدل جاز فأبدلت عمرا من أحد ودانقا من قولك : درهما فكأنك قلت : ما أعطيت إلا عمرا دانقا.
واعلم أنهم قد يحذفون المستثنى استخفافا نحو قولهم : ليس إلا وليس غير كأنه قال : ليس إلا ذاك وليس غير ذلك.
ص: 261
واعلم أيضا : أنهم ربما يحملون في هذا الباب الاسم على الموضع ، وذلك قولهم : ما أتاني من أحد إلا زيد وما رأيت من أحد إلا زيدا ؛ لأنه يقبح أن تقول : ما أتاني إلا من زيد.
فإذا قلت : لا أحد فيها إلا عبد الله فلا بد من إجرائه على الموضع ورفعه ؛ لأن أحدا مبني مع (لا) وسنذكره في بابه إن شاء الله.
ولا يجوز أن يعمل ما بعد (إلا) فيما قبلها لا يجوز ما أنا زيدا إلا ضارب تريد ما أنا إلا ضارب زيدا وقد جاءت ألفاظ قامت مقام (إلا) وأصل الاستثناء (لا لا) ونحن نفرد لها بابا إن شاء الله.
ولا يجوز أن تستثني النكرة من النكرات في الموجب لا تقول : جاءني قوم إلا رجلا ؛ لأن هذا لا فائدة من استثنائه ، فإن نعتّه أو خصصته جاز وهذا امتناعه من جهة الفائدة فمتى وقعت الفائدة جاز.
ص: 262
اعلم أنه قد جاء من الأسماء والأفعال والحروف ما فيه إلا : أما الأول من ذلك : فما جاء من الأسماء نحو : غير وسوى وقوم يحكون : سوى وسواء ويضمون إليها : بيد بمعنى : غير وحكم (غير) إذا أوقعتها موقع إلا أن تعربها بالإعراب الذي يجب للإسم الواقع بعد إلا تقول : أتاني القوم غير زيد لأنك كنت تقول : أتاني القوم إلا زيدا وتقول : ما جاءني أحد غير زيد لأنك كنت تقول أتاني القوم إلا زيدا وتقول ما جاءني أحد غير لأنك كنت تقول : ما جاءني أحد إلا زيد وما رأيت أحدا غير زيد كما تقول : ما رأيت أحدا إلا زيدا وما مررت بأحد غير زيد كما تقول : ما مررت بأحد إلا زيد فتعرب (غيرا) بإعراب زيد في هذه المسائل بعد إلا وكل موضع جاز فيه الاستثناء بإلا جاز بغير ولا يجوز أن تكون غير بمنزلة الاسم الذي تبتدأ بعد إلا في قولك : ما مررت بأحد إلا زيد خير منه لا يجوز أن تقول ما مررت بأحد غير زيد خير منه وأنت تريد ذلك المعنى وإنما أدخلوا فيها معنى الاستثناء في كل موضع يصلح أن يكون صفة وكذلك (إلا) أقاموها مقام غير إذا كانت صفة كما أقاموا غير مقام إلا إذا كانت استثناء وأصل غير في هذا الباب أن تكون صفة والاستثناء عارض فيها وأصل (إلا) الاستثناء والصفة عارضة فيها شبهت بغير لما شبهت غير بها فتقول على هذا إذا جعلت غير صفة : جاءني القوم غير زيد ومررت بالقوم غير أخويك ورأيت القوم غير أصحابك تجري غير مجرى (مثل) في الإعراب والصفة وكذلك إن جعلت إلا بمعنى غير قلت : جاءني القوم إلا زيد ومررت بالقوم إلا زيد ورأيت القوم إلا زيدا تنصبه نصب غير إلى الصفة لا على الاستثناء.
وزعم الخليل ويونس : أنه يجوز : ما أتاني غير زيد وعمرو فيجريه على موضع غير لا على ما بعد غير والوجه الجر ، وذلك أن : غير زيد في موضع إلا زيد وفي معناه حملوه على الموضع ألا ترى أنك تقول : ما أتاني غير زيد وإلا عمرو ولا يقبح : كأنك قلت : ما أتاني إلا زيد وإلا عمرو.
ص: 263
واعلم أن إلا لا يجوز أن تكون صفة إلا في الموضع الذي يجوز أن تكون في استثناء ، وذلك أن تكون بعد جماعة أو واحد في معنى الجماعة إما نكرة وإما ما فيه الألف واللام على غير معهود ؛ لأن هذا هو الموضع الذي تجتمع فيه هي وغير فضارعتها لذلك ولم تكن بمنزلتها في غير هذا الموضع لأنهما لا يجتمعان فيه كما أن غير لا تدخل في الاستثناء إلا في الموضع الذي ضارعت فيه إلا ألا ترى أنك تقول : مررت برجل غيرك ولا تقع إلا في مكانها لا يجوز أن تقول : جاءني رجل إلا زيد تريد غير زيد على الوصف والاستثناء هاهنا محال ولكن تقول : ما يحسن بالرجل إلا زيد أن يفعل كذا ؛ لأن الرجل : جنس ومعناها بالرجل الذي هو غير زيد كما قال لبيد :
إنما يجزى الفتى غير الجمل
وكذلك : مررت بالقوم إلا زيد كما قال :
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة
قليل بها الأصوات إلا بغامها (1)
وذكر سيبويه قولهم : أتاني القوم سواك وحكى عن الخليل أن هذا كقولك : أتاني القوم مكانك إلا أن في سواك معنى الاستثناء وسواء تنصب في هذا كله لأنها تجري مجرى الظروف وتخفض ما بعدها.
وأما الثاني : فما جاء في الأفعال في موضع الاستثناء وهي : لا يكون وليس وعدا وخلا فإذا جاءت وفيها معنى الاستثناء ففيها إضمار ، وذلك قولك : أتاني القوم لس زيدا وأتوني لا يكون عمرا وما أتاني أحد لا يكون زيدا كأنه قال : ليس بعضهم زيدا.
وترك (بعضا) استغناء بعلم المخاطب والخليل يجيز في ليس ولا يكون أن تجعلهما صفتني ، وذلك قولك : ما أتاني أحد ليس زيدا وما أتاني رجل لا يكون عمرا فيدلك على أنه صفة أن بعضهم يقول : ما أتاني امرأة لا تكون فلانة وما أتتني امرأة ليست فلانة.
وأما (عدا) و (خلا) فلا يكونان صفة ولكن فيهما إضمار كما كان في (ليس).
ص: 264
ولا (يكون) ، وذلك قولك : ما أتاني أحد خلا زيدا وأتاني القوم عدا عمرا ، فإن أدخلت (ما) على عدا وخلا وقلت : أتاني القوم ما عدا زيدا وأني ما خلا زيدا (فما) هنا اسم وخلا وعدا صلة له قال ولا توصل إلا بفعل.
قال سيبويه : وإذا قلت : [أتوني](1) إلا أن يكون زيد فالرفع جيد بالغ وهو كثير في كلامهم و (أن يكون) في موضع اسم مستثنى والدليل على أن (أن يكون) هنا ليس فيها معنى الاستثناء أن ليس وخلا وعدا لا يقعن هنا.
ومثل الرفع قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) [النساء : 29] وبعضهم ينصب على وجه النصب في لا يكون.
وأما الثالث : فما جاء من الحروف في معنى (إلا) قال سيبويه : من ذلك (حاشا) وذكر أنه حرف يجر ما بعده كما تجرّ (حتى) ما بعدها وفيه معنى الاستثناء قال : وبعض العرب يقول : ما أتاني القوم خلا عبد الله فيجعل خلا بمنزلة حاشا فإذا قلت : ما خلا فليس فيه إلا النصب ؛ لأن (ما) اسم ولا يكون صلتها إلا الفعل وهي (ما) التي في قولك : أفعل ما فعلت.
وحكى أبو عثمان المازني عن أبي زيد : قال : سمعت أعرابيا يقول : اللهم أغفر لي ولمن سمع حاشا الشيطان وأبا الأصبع نصب ب (حاشا).
قال أبو العباس : إنما حاشا بمنزلة خلا ولأن خلا إذا أردت به الفعل إنما معناه جاوزه من قولك : خلا يخلو وكذلك حاشا يحاشي وكذلك قولك : أنت أحب الناس إليّ ولا أحاشي أحدا أي : ولا أستثني أحدا وتصييرها فعلا بمنزلة خلا في الاستثناء قول أبي عمر الجرمي وأنشد قول النابغة :
ولا أرى فاعلا في النّاس يشبهه
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
والبغداديون أيضا يجيزون النصب والجر ب (حاشا).
واعلم أن من الاستثناء ما يكون منقطعا من الأول وليس ببعض له وهذا الذي يكون (إلا) فيه بمعنى لكن.
ونحن نفرد له بابا يلي هذا الباب إن شاء الله.
ص: 265
«إلا» في تأويل (لكن) إذا كان الاستثناء منقطعا عند البصريين.
ومعنى سوى عند الكوفيين والاختيار فيه النصب في كل وجه (1).
وربما ارتفع ما قبل إلا وهي لغة بني تميم وإنما ضارعت إلا (لكن) ؛ لأن (لكن) للإستدراك بعد النفي فأنت توجب بها للثاني ما نفيت عن الأول فمن هاهنا تشابها تقول : ما قام أحد إلا زيد فزيد قد قام ويفرق بينهما : أنّ لكن لا يجوز أن تدخل بعد واجب إلا لترك قصة إلى قصة تامة نحو قولك : جاءني عبد الله لكن زيد لم يجيء ولو قلت : مررت بعبد الله لكن عمرو لم يجز وليس منهاج الاستثناء المنقطع منهاج الاستثناء الصحيح ؛ لأن الاستثناء الصحيح إنما هو أن يقع جمع يوهم أن كل جنسه داخل فيه ويكون واحد منه أو أكثر من ذلك لم يدخل فيما دخل فيه السائر بمستثنيه منه ليعرف أنه لم يدخل فيهم نحو : جاءني القوم إلا زيدا ، فإن قال : ما جاءني زيد إلا عمرا فلا يجوز إلا على معنى لكن.
واعلم أن إلا في كل موضع على معناها في الاستثناء وأنها لا بد من أن تخرج بعضا من كل فإذا كان الاستثناء منقطعا فلا بد من أن يكون الكلام الذي قبل إلا قد دل على ما يستثنى منه فتفقد هذا فإنه يدقّ فمن ذلك قوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود : 43] فالعاصم الفاعل من رحم ليس بعاصم ولكنه دلّ على العصمة والنجاة.
ص: 266
فكأنه قال والله اعلم لكن من رحم يعصم أو معصوم ومن ذلك قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) [يونس : 98] وهذا الضرب في القرآن كثير.
ومن ذلك من الكلام : لا تكونن من فلان في شيء إلا سلاما بسلام وما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضرّ (فما نفع) مع الفعل بمنزلة اسم.
ولو لا (ما) لم يجز الفعل هنا بعد إلا وإنما حسن هذا الكلام ؛ لأنه لما قال : ما زاد دل على قوله هو على حاله فكأنه قال : هو على حاله إلا ما نقص وكذلك دل بقوله : ما نفع ما هو على أمره إلا ما ضرّ وقال الشاعر :
نجا سالم والنّفس منه بشدقه
ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
فقوله : نجا ولم ينج كقولك : أفلت ولم يفلت أي : لم يفلت إفلاتا صحيحا كقولك :تكلمت ولم أتكلم ثم قال : إلا جفن سيف ومئزرا كأنه قال : لكن جفن سيف ومئزرا وقال الآخر :
وما بالرّبع من أحد ... (1)
ص: 267
ثم قال : إلا أو آريّ.
فهذا كأنه كما قال : من أحد اجتزأ بالبعض من الكل فكأنه قال : ما بالربع من شيء واكتفى بأحد ؛ لأنه من الاستثناء فساغ ذلك له ؛ لأنه لم يلبس.
وأما قول الشاعر :
من كان أسرع في تفرّق فالج
فلبونه جربت معا وأغدّت
إلا كناشرة الّذي ضيّعتم
كالغصن في غلوائه المتنبّت
وقال الآخر :
كلّا وبيت الله حتى ينزلوا
من رأس شاهقة إلينا الأسودا
ثم قال :
إلا كخارجة المكلّف نفسه
وابنى قبيصة أن أغيب ويشهدا
فإن الكاف زائدة كزيادتها في قول الله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : 11].
وكقول رؤبة :
ص: 268
لواحق الأقراب فيها كالمقق ... (1)
والمقق : الطول وإنما المعنى : فيها طول كما يقال : فلان كذا الهيئة أي : ذو الهيئة.
ص: 269
تقول : ما مررت بأحد يقول ذاك إلا زيد. وما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيدا هذا وجه الكلام ، وإن حملته على الإضمار الذي في الفعل أعني : المضمر في (يقول) فقلت : ما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيد فعربي.
قال عديّ بن زيد :
في ليلة لا نرى بها أحدا
يحكي علينا إلا كواكبها
وإنما تكلّموا بذلك ؛ لأن (تقول) في المعنى منفي إذ كان وصفا لمنفي أو خبرا كما قالوا : قد عرفت زيدا أبو من هو ؛ لأن معناه معنى المستفهم عنه.
ويجوز : ما أظنّ أحدا فيها إلا زيد لا أحد منهم اتخذت عنده يدا إلا زيد رفعت زيدا في المسألة الأولى على البدل من المضمر في فيها المرفوع وخفضته في الثانية على البدل من الهاء المخفوضة في (عنده) وتقول : ما ضربت أحدا يقول ذاك إلا زيدا لا يكون في ذلك إلا النصب ؛ لأن القول غير منفي هنا وإنما أخبرت : أنك ضربت ممن يقول ذاك زيدا والمعنى في الأول أنك أردت أنه ليس يقول ذاك إلا زيدا لا يكون في ذلك إلا النصب ؛ لأن القول غير منفي هنا وإنما أخبرت أنك ضربت ممن يقول ذاك زيدا والمعنى في الأول أنك أردت أنه ليس يقول ذاك إلا زيد.
ولكنك قلت : رأيت أو ظننت ونحوهما لتجعل ذلك فيما رأيت وفيما ظننت ولو جعلت :رأيت من رؤية العين كان بمنزلة (ضربت).
قال الخليل : ألا ترى أنك تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيد وما أظنّه يقوله إلا عمرو فهذا يدلك على أنك إنما أنتحيت على القول وتقول : قل رجل يقول ذاك إلا زيد وليس (زيد) بدلا من الرجل في (قل).
ص: 270
قال سيبويه : لكن (قل رجل) في موضع (أقل رجل) ومعناه كمعناه وأقل رجل مبتدأ مبني عليه ، والمستثنى بدل منه ؛ لأنه يدخله في شيء يخرج منه من سواه ، وكذلك أقل من وقل من إذا جعلت من بمنزلة رجل.
قال : حدثنا بذلك يونس عن العرب يجعلونه نكرة ، يعني : من.
قال أبو العباس : إذا قلت : قل رجل يقول ذاك إلا زيد فهذا نفي كثر رجل يقول ذاك إلا زيد وليست هذه قل التي تريد بها قل الشيء وإنما تريد ما يقول ذاك إلا زيد.
والدليل على أن رجل في معنى رجال أنك لو قلت : قل زيد إلا زيد لم يجز لأنك لا تستثني واحدا من واحد هو هو وقولك : إلا زيدا يدلّ على معنى أقل رجل فهو بدل من قولك : قل رجل.
وتقول : ما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به من قبل (أن بشيء) في موضع رفع في لغة بني تميم فلما قبح أن يحمله على الباء صار كأنه بدل من اسم مرفوع وبشيء في لغة أهل الحجاز في موضع اسم منصوب ولكنك إذا قلت : ما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به استوت اللغتان وصارت (ما) على أقيس الوجهين وهي لغة تميم.
وتقول : لا أحد فيها إلا عبد الله تحمل عبد الله على موضع (لا) دون لفظه وكذلك تقول : ما أتاني من أحد إلا عبد الله ألا ترى أنك تقول : ما أتاني من أحد لا عبد الله ولا زيد من قبل أنه خطأ أن تحمل المعرفة على (من) في هذا الموضع كما تقول : لا أحد فيها إلا زيد ، لا عمرو ؛ لأن المعرفة لا تحمل على (لا).
وتقول : ما فيها إلا زيد وما علمت أن فيها إلا زيدا ولا يجوز : ما إلا زيد فيها ولا ما علمت أن إلا زيدا فيها وإنما حسن لما قدمت وفصلت بين أن وإلا لطول الكلام كأشياء تجوز في الكلام إذا طال وتحسن.
ولا يجوز أن تقول : ما علمت أن إلا زيدا فيها من أجل أنك لم تفصل بين (أن) وإلا كما فصلت في قولك ما علمت أن فيها إلا زيدا.
ص: 271
قال سيبويه : وتقول إن أحدا لا يقول ذاك وهو خبيث ضعيف فمن أجاز هذا قال : إن أحدا لا يقول هذا إلا زيدا حمله على (إن) وتقول : لا أحد رأيته إلا زيد ، وإن بنيت جعلت (رأيته) خبرا لأحد أو صفة.
وتقول : ما فيهم أحد إلا قد قال ذاك إلا زيدا كأنه قال : قد قالوا ذاك إلا زيدا.
وتقول : ما أتاني إلا أنهم قالوا كذا و (أن) في موضع اسم مرفوع قال الشاعر :
لم يمنع الشّرب منها غير أن هتفت
حمامة في غصون ذات أو قال
وناس يقولون : غير أن نطقت وقد مضى تفسيره.
وتقول : ما أتاني زيد إلا عمرو إذا أردت بذكرك زيدا : بعض من نفيت توكيدا للنفي فهي بمنزلة ما لم تذكره ولا يجوز أن تقول : ما زيد إلا قام ، فإن قلت : ما زيد إلا يقوم كان جيدا ، وذلك أن الموضع موضع خبر والخبر اسم فلو كان : ما زيدا إلا يقوم كان جيدا لمضارعة يفعل الأسماء. ولم يقولوا : أكثر من ذلك.
قال أبو العباس رحمه الله : والتقدير : ما زيد شيئا إلا ذا فلا يجوز أن يقع بعد إلا شيء إلا اسم في معنى شيء الذي هو حدّ زيد ؛ لأنه واحد من شيء ؛ لأنه شيء في معنى جماعة وتقدره : ما زيد شيئا من الأشياء إلا قائم فلا يجوز أن يقع قعد (إلا) إلا اسم أو مضارع له ومن هاهنا وجب أن تقول ما زيد إلا الجبن آكل وإلا الخبر آكله هو وفيمن قال زيدا ضربته : قال : ما زيد إلا الخبز آكله ولا يجوز : ما الخبز إلا زيد آكل.
لا يجوز أن تعمل الفعل الذي بعد إلا في الاسم الذي قبلها بوجه من الوجوه ؛ لأن الاستثناء إنما يجيء بعد مضي الابتداء ؛ لأن المعنى : ما الخبز شيئا إلا زيد آكله ، فإن حذفت الهاء من (آكله) أضمرتها ورفعت الخبز.
لا يجوز إلا ذلك ، فإن قلت : ما زيد إلا قد قام فهو أمثل ولو لم يجزه مجيز كان قاصدا فيه إلى مثل ترك إجازة ما قبله ؛ لأن (قد) إنما أكدت وصارت جوابا لتوقع خبر والفعل الماضي على حاله ومن أجازه فعلى وجه أن (قد) لما زادت ضارع الفعل بالزيادة التي قبله الأفعال المضارعة
ص: 272
والأسماء ؛ لأن الأفعال المضارعة يدخلها السين وسوف والأسماء يدخلها الألف واللام فتقول : ما زيد إلا قد قام ألا ترى أن (قد) إذا لحقت الفعل الماضي صلح أن يكون حالا نحو : جاء زيد قد ركب دابة ولو لا (قد) كان قبيحا ، فإن قيل : ألست تقول : ما جاءني زيد إلا تكلم بجميل فقد وقع الفعل الماضي بعد إلا قيل : إنما جاز وجاد ؛ لأنه ليس قبله إسم يكون خبرا له وإنما معناه : كلما جاءني زيد تكلم (بجميل) ، فإن قال : فأنت قد تقول : ما تأتيني إلا قلت حسنا وما تحدثني إلى صدقت فمن أين وقع الماضي بعد إلا والذي قبله مضارع قيل : فالمضارع الذي قبله في معنى الماضي ؛ لأنه حكاية الحال.
ألا ترى أن معناه : كلما حدثتني صدقتني وكلما جئتني قلت : حقا ولو قلت : ما زيد إلا أنا ضارب لأضمرت الهاء في (ضارب) ؛ لأن زيدا لا سبيل لضارب عليه ؛ لأن تقديره : ما زيد شيئا إلا أنا ضاربه ، فإن كانت ما الحجازية فهي الرافعة لزيد ، وإن كانت التميمية فإنما جاء الفعل بعد أن عمل الابتداء فصار بمنزلة قولك كان زيد ضربت في أنه لا بد من الهاء في (ضربت) وتقول : ما كان أخاكل إلا زيد وما ضرب أباك إلا زيد ؛ لأن الفعل فارغ لما بعده فتقديره ما كان أحد أخاك إلا عمرو وما كان أخوك أحدا إلا زيدا فما بعد (إلا) من فاعل أو مفعول مستثنيا من اسم في النية أو خبر ولا يجوز : ما منطلقا إلا كان زيد من حيث استحال ما زيدا إلا ضرب عمرو وتقول ما كان زيد قائما إلا أبوه وما زيد قائما إلا أبوه ؛ لأن (ما) في قائم منفي في المعنى والأب هو الفاعل كما تقول : ما قام إلا زيد.
فإن قلت : ما زيد قائما أحد إلا أبوه كان جيدا ؛ لأن الاستثناء معلق بما قبله غير منفصل منه ونظير ذلك : زيد ما قام أحد إلا أبوه وزيد ما كان أحد قائما إلا أبوه.
وتقول : ما أظنّ أحدا قائما إلا أبوك والنصب في الأب أجود على البدل من (أحد) ولو قلت : ما زيد قائما أحد إليه إلا أبوه كان أجود حتى يكون الاستثناء فضلة.
ويقول : إن أخويك ليسا منطلقا إلا أبوهما كما تقول : إن أخويك ليسا منطلقة جاريتهما وكذلك : إن أخويك ليسا منطلقا أحد إلا أبوهما كما تقول : مررت برجال ليسوا إلا منطلقا آباؤهم.
ص: 273
قال أبو العباس رحمه الله : يزعم البغداديون : أن قولهم : إلا في الاستثناء إنما هي إن ولا ولكنهم خففوا إن لكثرة الاستعمال ويقولون إذا قلنا : ما جاءني أحد إلا زيد.
فإنما رفعنا زيدا (بلا) ، وإن نصبنا ف- (بإن).
ونحن في ذلك مخيرون في هذا ؛ لأنه قد اجتمع عاملان (إن ولا) فنحن نعمل أيهما شئنا وكذلك يقولوا جاءني القوم إلا زيدا ولا يعرفون ما نقول نحن أن رفعه على الوصف في معنى غير فيلزمهم أن يقولون : ما جاءني إلا زيدا إذا أعملوا (إن) وهم لا يقولون به فسألناهم : لم ذلك فقالوا : لأن أحد مضمرة قلت ذاك أجدر أن يجوز النصب كما يجوز إذا أظهرت أحدا فلم يكن في ذاك وما يتولد فيه من المسائل حجة وهذا فاسد من كل وجه ذكرنا إياه يجعل له حظا فيما يلتفت إليه ويجب على قولهم أن تنصب النكرات في الاستثناء بلا تنوين لأن : لا تنصب النكرات بلا تنوين.
قال سيبويه : إذا قلت لو كان معنا زيد رجل إلا زيد لغلبنا الدليل على أنه وصف أنك لو قلت : لو كان معنا إلا زيد لهلكنا وأنت تريد الاستثناء لكنت قد أحلت ونظير ذلك قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : 22] ومثل ذلك قوله : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) [النساء : 95] ، ومثله قول لبيد :
وإذا جوزيت قرضا فأجزه
إنّما يجزي الفتى غير الجمل
قال أبو العباس رحمه الله : لو كان معنا إلا زيدا لغلبنا أجود كلام وأحسنه والدليل على جودته أنه بمنزلة النفي نحو قولك : ما جاءني أحد إلا زيد وما جاءني إلا زيد أنك لو قلت : لو كان معنا أحد إلا زيد لهلكنا فزيد معك كما قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : 22] والله تعالى فيهما.
وتقول : لو كان لنا إلا زيدا أحد لهلكنا كما تقول : ما جاءني إلا زيدا أحد والدليل على جودة الاستثناء أيضا أنه لا يجوز أن يكون إلا وما بعدها وصفا إلا في موضع لو كان فيه استثناء لجاز.
ص: 274
ألا ترى أنك تقول : ما جاءني أحد إلا زيد على الوصف إن شئت وكذلك : جاءني القوم إلا زيد على ذلك ولو قلت : جاءني رجلا إلا زيد تريد : غير زيد على الوصف لم يجز ؛ لأن الاستثناء هنا محال وتقول : ما أكل أحد إلا الخبز إلا إلا زيدا ؛ لأن معنى : ما أكل أحد إلا الخبز أنه قد أكل الخبز كل إنسان فكأنك قلت أكل الخبز كل إنسان فكأنك قلت أكل الخبز كل إنسان إلا زيدا وكذلك ما مسلوب أحد إلا ثوبا إلا زيدا لأنك أردت : كل إنسان سلب ثوبا إلا زيدا وتقول : ما ضربت أحدا إلا قائما فتنصب (قائما) على الحال وكذلك : ما مررت بأحد إلا (قائما) وما جاءني أحد إلا راكبا ، فإن قلت : ما مررت بأحد إلا قائما إلا زيدا نصبت : زيدا ولم يجز أن تبدله من (أحد) ؛ لأن المعنى : مررت بكل أحد قائم ، وإن شئت : قائما إلا زيدا وتقول : ما مر بي البعير إلا إبلك وذهب الدنانير إلا دنانيرك وفي كتاب الله تعالى : (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [العصر].
قال الأخفش : لو قلت : أين إلا زيدا قومك وكيف إلا زيدا قومك ، لجاز ؛ لأن هذا بمنزلة أهاهنا إلا زيدا قومك ويجيز ضرب إلا زيد قومك أصحابنا على أن يستثنى زيدا من الفاعلين.
وقال : لو استثنيته من المفعولين لم يحسن لأنك لم تجيء للمفعولين بذكر في أول الكلام و (ضرب) هو من ذكر الفاعلين ؛ لأن الفعل (لهم).
واعلم أنه لا يجوز أن تجمع بين حرفين من هذه الحروف إلا ويكون الثاني اسما مثل قولك : قام القوم إلا خلا زيدا هذا لا يجوز أن تجمع بين إلا وخلا ، فإن قلت : إلا ما خلا زيدا وإلا ما عدا جاز ولا يجوز إلا حاش زيدا والكسائي : يجيزه إذا خفض (بحاشا) والبغداديون يجيزون في : ما عندي إلا أباك أحدا الرفع والنصب في (أبيك) يجيزون : ما عندي إلا أبوك أحد.
وقد مضى ذكر هذا وما يجوز فيه وما لا يجوز.
وإذا قلت : ما قام القوم إلا زيد وهل قام القوم إلا زيد فالرفع عند البصريين على البدل وعند الكوفيين على العطف ويقولون : إذا اجتمعت (إلا وغيرا) فاجعل إحداهما تتبع ما قبلها وإحداهما استثناء فيقولون : ما جاءني أحد إلا زيد غير عمرو ترفع زيدا وتنصب (غير) وهذا
ص: 275
عندنا إنما انتصب الثاني ؛ لأنه لا يجوز أن يرفع بالفعل فاعلان وقد مضى تفسير ذلك ، وإذا نسقت جاز رفعهما جميعا فقلت : ما جاءني أحد إلا زيد وغير عمرو قال الشاعر :
ما بالمدينة دار غير واحدة
دار الخليفة إلا دار مروانا
ترفع (غير) وتنصب دار مروان ولك أن تنصبهما جميعا على قولك : ما جاءني أحد إلا زيدا ورفعهما جميعا لا يجوز إلا على أن تجعل (غير) نعتا فيصير الكلام كأنك قلت : ما بالمدينة دار كبيرة إلا دار مروان.
ولا يجوز أن يقع بعد إلا شيئان مختلفان على غير جهة البدل لا يجوز : ما أكل إلا عبد الله طعامك.
ولا ما أكل إلا طعامك عبد الله وقد مضى تفسير هذا ، فإن جعلت (إلا) بمعنى غير فقد أجازه قوم.
وإذا قال القائل : الذي له عندي مائة درهم إلا درهمين فقد أقر بثمانية وتسعين ، وإذا قال : الذي له عندي مائة إلا درهمان فقد أقر بمئة ؛ لأن المعنى : له عندي مائة غير درهمين.
وكذلك لو قال : له عليّ مائة غير ألف.
كان له مائة ألا ترى أنه لو قال : له عليّ مائة مثل درهمين جاز أن يكون المعنى : أن المائة درهمان.
وكذلك لو قال : له عليّ مئة مثل ألف كان عليه ألف (فغير) نقيض مثل ، وإذا قلت : ما له عندي إلا درهمين فأردت أن تقر بما بعد (إلا) رفعته لأنك إذا قلت : ما له عندي مئة إلا درهمان فإنما رفعت درهمان بأن جعلته بدلا من (مئة) فكأنك قلت : ما له عندي إلا درهمان ، وإذا نصبت فقلت : ما له عندي مئة إلا درهمين فما أقررت بشيء ؛ لأن (عندي) لم ترفع شيئا فيثبت له عندك فكأنك قلت : ما له عندي ثمانية وتسعون.
كذلك إذا قلت ما لك عليّ عشرون إلا درهما فإذا قلت : ما لك عشرون إلا خمسة فأنت تريد : ما لك إلا خمسة وتقول : لك عليّ عشرة إلا خمسة ما خلا درهما فالذي له ستة.
ص: 276
وكل استثناء فهو مما يليه والأول : حط والثاني : زيادة وكذلك جميع العدد فالدرهم مستثنى من الخمسة فصار المستثنى أربعة.
ولا ينسق على حروف الاستثناء (بلا) لا تقول : قام القوم ليس زيدا ولا عمرا. ولا : قام القوم غير زيد ولا عمرو ، والنفي في جميع العربية ينسق عليه (بلا) إلا في الاستثناء.
وقال بعضهم : (لا سيما) يجيء شبيها بالاستثناء ، وحكي : ولا سيما يوم ويوما ، من رفع جعله في صلة (ما) ومن خفض خفض ب (سي) [قياسا وليس من كلام العرب](1) هاهنا ، وجعل (ما) زائدة للتوكيد و (السي) المثل ، ومن نصب جعله ظرفا (2) وحكي عن الأحمر : أنه كان يجيز : ما قام صغير وما خلا أخاك كبير وإنما قاسه على قول الشاعر :
وبلدة ليس بها طوري
ولا خلا الجن بها إنسي
وليس كما ظن ؛ لأن إنسي مرتفع (بها) على مذهبهم ولو قلت : ما أتاني إلا زيد إلا أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله زيدا كان جيدا.
قال أبو بكر : قد كنا قلنا عند إفتتاحنا ذكرنا الأسماء المنصوبات أنها تنقسم قسمة أولى على ضربين.
وأن الضرب الأول : هو العام الكثير. وقد ذكرناه بجميع أقسامه.
وبقي الضرب الآخر وهو (إلا) ونحن ذاكرون إن شاء الله الضرب الآخر من الأسماء المنصوبة من القسمة الأولى.
ص: 277
هذا الضرب كل اسم نذكره لفائدة بعد اسم مضاف أو فيه نون ظاهرة أو مضمرة قد تما بالإضافة والنون وحالت النون بينهما أو الإضافة ولولاها لصلح أن يضاف إليه والفرق بين هذا الضرب من التمييز وبين التمييز الذي قبله أن المنصوب هنا ينتصب عند تمام الاسم ، وذلك ينتصب عند تمام الكلام وهذا الضرب أكثر ما يكون في نوعين يميزان المقادير والأعداد وقد نصبوا أشياء نصب الأسماء بعد المقادير.
ص: 278
المقدرات بالمقادير على ثلاثة أضرب : ممسوح ومكيل وموزون.
أما ما كان منها على معنى المساحة فقولهم : ما في السماء قدر راحة سحابا جعل قدر الراحة شيئا معلوما نحو : ما يمسح به ما في الأرض وكل ما كان في هذا المعنى فهذا حكمه.
وأما ما كان على معنى الكيل فقولهم : عندي قفيزان برا وما أشبه ذلك.
وأما ما كان على معنى الوزن فقولهم : عندي منوان سمنا وعندي رطل زيتا.
فالتمييز (1) إنما هو فيما يحتمل أن يكون أنواعا ألا ترى أنك إذا قلت : عندي منا ورطل وأنت تريد : مقدار منا ومقدار رطل لا الرطل والمن اللذين يوزن بهما جاز أن يكون ذلك المقدار من كل شيء يوزن من الذهب والفضة والسمن والزيت وجميع الموزونات وكذلك الذراع يجوز أن يكون مقدار الذراع من الأرضين والثياب ومن كل ما يمسح وكذلك القفيز والمكيل يصلح أن يكال به الحنطة والشعير والتراب وكل ما يكال.
فأما قولهم : لي مثله رجلا فمشبه بذلك ؛ لأن المثل مقدار فذلك الأصل ولكنهم يتسعون في الكلام فيقولون : لي مثله رجلا وهم يريدون : في شجاعته وغنائه أو غير ذلك.
فإذا قلت : لي مثله زيدا فذلك على بابه إنما يريد : مثل شيء في وزنه وقدره والهاء في مثله حالت بين مثل وبين زيد أن تضيفه إليه وكذلك النون في (منوان) فنصبته كما نصبت المفعول لما حال الفاعل بينه وبين الفعل بينه وبين الفعل.
ولو لا المضاف والنون لأضفته إليه ؛ لأن كل إسم يلي إسما ليس بخبر له ولا صفة ولا بدل منه فحقه الإضافة وسيتضح لك ذلك في باب الخفض إن شاء الله.
ص: 279
ومثل ذلك : عليه شعر كلبين دينا فالشعر مقدار وكذلك : لي ملء الدار خيرا منك ولي ملء الدار أمثالك ؛ لأن خيرا منك وأمثالك نكرتان ، وإن شئت قلت لي ملء الدار رجلا وأنت تريد : رجالا وكل مميز مفسر في المقادير والأعداد وغيرها.
(فمن) تحسن فيه إذا رددته إلى الجنس تقول : لي مثله من الرجال وما في السماء قدر راحة من السحاب ولله دره من الرجال وعندي عشرون من الدراهم ومنه ما تدخل فيه (من) وتقره على إفراده كقولك : لله دره من رجل.
قال أبو العباس رحمه الله : أما قولهم : حسبك بزيد رجلا وأكرم به فارسا ، وحسبك يزيد من رجل وأكرم به من فارس ، ولله دره من شاعر ، وأنت لا تقول : عشرون من درهم ولا هو أفره من عبد.
فالفصل بينهما : أن الأول كان يلتبس فيه التمييز بالحال فأدخلت (من) لتخلصه للتمييز ألا ترى أنك لو قلت : أكرم به فارسا وحسبك به خطيبا لجاز أن تعني في هذه الحال وكذلك إذا قلت : كم ضربت رجلا وكم ضربت من رجل ، جاز ذلك ؛ لأن (كم) قد يتراخى عنها مميزها.
وإذا قلت : كم ضربت لم يدر السامع أردت : كم مرة ضربت رجلا واحدا أم : كم ضربت من رجل فدخول (من) قد أزال الشك.
ويجوز أن تقول : عندي رطل زيت وخمسة أثواب على البدل ؛ لأنه جائز أن تقول : عندي زيت رطل وأثواب خمسة فتوخوها على هذا المعنى وجائز الرفع في : لي مثله رجل.
تريد : رجل مثله فأما الذي ينتصب إنتصاب الاسم بعد المقادير فقولك : ويحه رجلا ولله دره رجلا وحسبك به رجلا.
قال العباس بن مرداس :
ص: 280
ومرة يحميهم إذا ما تبدّدوا
ويطعنهم شزرا فأبرحت فارسا (1)
قال سيبويه : كأنه قال : فكفى بك فارسا وإنما يريد : كفيت فارسا ودخلت هذه الباء توكيدا ومن ذلك قول الأعشى :
فأبرحت ربّا وأبرحت جارا ... (2)
ومثله : أكرم به رجلا.
وإذا كان في الأول ذكر منه حسن أن تدخل (من) توكيدا لذلك الذكر تقول : ويحه من رجل ولله در زيد من فارس وحسبك به من شجاع ولا يجوز : عشرون من درهم ولا هو أفرههم من عبد ؛ لأنه لم يذكره في الأول ومعنى قولهم : ذكر منه أن رجلا هو الهاء في ويحه.
وفارس هو زيد والدرهم ليس هو العشرون والعبد ليس هو زيد ولا الأفره ؛ لأن الأفره خبر زيد.
ص: 281
اعلم أن الأعداد كالمقادير تحتاج إلى ما يميزها كحاجتها.
وهي تجيء على ضربين : منها ما حقه الإضافة إلى المعدود ، وذلك ما كان منه يلحقه التنوين ومنها ما لا يضاف وهو ما كان فيه نون أو بني إسم منه مع اسم فجعلا بمنزلة اسم واحد (1).
أما المضاف فما كان منها من الثلاثة إلا العشرة فأنت تضيفه إلى الجمع الذي بني لأدنى العدد نحو : ثلاثة أثوب وأربعة أفلس وخمسة أكلب وعشرة أجمال.
فأفعل وأفعال مما بني لأقل العدد وأقل العدد هو العشرة فما دونها ذلك أن تدخل في المضاف إليه الألف واللام ؛ لأنه يكون الأول به معرفة فتقول : ثلاث الأثواب وعشرة الأفلس.
ومن ذلك مائة وألف ؛ لأن المائة نظير عشرة لأنها عشر عشرات والألف نظير المائة ؛ لأنه عشر مئات.
ص: 282
قال أبو العباس رحمه الله : ولكنك أضفت إلى المميز : لأن التنوين غير لازم في المئة والألف والنون في عشرين لازمة لأنها تثبت في الوقف وتثبت مع الألف واللام فإذا زدت على العشرة شيئا جعل مع الأول اسما واحدا وبنيا على الفتح ويكون في موضع عدد فيه نون ، وذلك قولك : أحد عشر درهما وخمسة عشر دينارا ويدلك على أن عشر قد قامت مقام التنوين قولهم : إثنا عشر درهما ألا ترى أن عشر قد عاقبت النون فلم تجتمعا فهذا على ذلك إلى تسعة عشر فإذا ضاعفت أدنى العقود وهو عشرة كان له اسم من لفظه ولحقته الواو والنون والياء والنون نحو : عشرون وثلاثون إلى تسعين والذي يبين به هذه العقود لا يكون إلا واحدا نكرة تقول : عشرون ثوبا وتسعون غلاما.
فإذا بلغت المئة تركت التنوين وأضفت المئة إلى واحد مفسر ووجب ذلك في المئة لأنها تشبه عشرة وعشرين أما شبهها بعشرة فلأنها عشر عشرات فوجب لها من هذه الجهة الإضافة ، وأما شبهها بعشرين وتسعين فلأنها العقد الذي يلي تسعين فوجب أن يكون مميزها واحدا فأضيفت إلى واحد لذلك إلا أنك تدخل عليه الألف واللام إن شئت ؛ لأن الأول يكون به معرفة وكذلك ألف حكمه حكم مئة وتثنيتها فتقول : مئتا درهم وألفا درهم وقد جاء بعض هذا منونا منصوبا ما بعده في الشعر قال الربيع :
إذا عاش الفتى مئتين عاما
فقد ذهب البشاشة والفتاء (1)
ص: 283
قال سيبويه وثلاث : وأما تسع مائة وثلاث مائة فكان حقه مئتين أو مئات ولكنهم شبهوه بعشرين وأحد عشر.
وقال : اختص هذا إلى تسع مئة ثم ذكر : أنهم قد يختصون الشيء بما لا يكون لنظائره فذكر : لدن وغدوة وما شعرت به شعرة وليت شعري والعمر والعمر ولا يقولون إلا لعمرك في اليمين وذكر مع ذلك أنه قد جاء في الشعر الواحد يراد به الجمع وأنشد :
في حلقكم عظم وقد شجينا
يريد : في حلوقكم. وقال آخر :
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا
فإنّ زمانكم زمن خميص
واعلم أن (كم) اسم عدد مبهم فما يفسرها بمنزلة ما يفسر العدد وقد أفردت لها بابا يلي هذا الباب.
ص: 284
اعلم أن ل- (كم) موضعين (1) : تكون في أحدهما استفهاما وفي الآخر خبرا فأما إذا كانت استفهاما فهي فيه بمنزلة : عشرين وما أشبهه من الأعداد التي فيها نون تنصب ما يفسرها تقول : كم درهما لك كما تقول : أعشرون درهما لك أثلاثون درهما لك فينتصب الدرهم بعد (كم) كما انتصب بعد عشرين وثلاثين ؛ لأن (كم) اسم ينتظم العدد كله وخص الاستفهام بالنصب ليكون فرقا بينه وبين الخبر ؛ لأن العدد على ضربين : منه ما يضاف إلى المعدود ومنه ما لا يضاف كما ذكرنا فجعلت (كم) في الاستفهام بمنزلة ما لا يضاف منه ، وذلك نحو : خمسة عشر وعشرين فخمسة عشر أيضا بمنزلة اسم منون ألا ترى أنه لا يضاف إلى ما يفسره فإذا قلت : كم درهما لك فإنما أردت : كم لك من الدراهم كما أنك لما قلت : عشرون درهما إنما أردت : عشرون من الدراهم ولكنهم حذفوا (من) استخفافا كما قالوا : هذا أول فارس في الناس وإنما يريدون : هذا أول الفرسان.
قال الخليل : إن : (كم درهما لك) أقوى من قولك : (كم لك درهما) ، وذلك أن قولك :(أعشرون لك درهما) أقبح إلا أنها في (كم) عربية جيدة ، وذلك قبيح في عشرين إلا أن الشاعر قد قال :
على أنني بعد ما قد مضى
ثلاثون للهجر حولا كميلا (2)
ص: 285
واعلم أن (كم) لا تكون إلا مبتدأة في الاستفهام والخبر ولا يجوز أن تبنيها على فعل وأنها تكون فاعلة في المعنى ومفعولة ومبتدأة وظرفا كما يكون سائر الأعداد في التقدير لا يجوز أن تقول : رأيت كم رجلا فتقدم عليها ما يعمل فيها.
فأما كونها فاعلة فقولك : كم رجلا أتاني ، وأما كونها مفعولة فقولك : كم رجلا ضربت ، وأما كونها مبتدأة فقولك : كم دانقا دراهمك.
واعلم أنه لك ألا تذكر ما تفسر به (كم) كما جاز لك ذلك في العدد تقول : كم درهم لك فالتقدير : كم قيراطا درهم لك ولا تذكر القيراط.
وتقول : كم غلمانك والمعنى كم غلاما غلمانك ولا يجوز إلا الرفع في غلمانك ؛ لأنه معرفة.
ولا يكون التمييز بالمعرفة فكأنك قلت : أعشرون غلمانك ، وأما كونها ظرفا فقولك : كم ليلة سرت كأنك قلت : أعشرين ليلة سرت وكم يوما أقمت كأنك قلت : أثلاثين يوما أقمت فكم عدد.
والعدد : حكمه حكم المعدود الذي عددته به.
فإن كان المعدود زمانا فهو زمان ، وإن كان حيوانا فهو حيوان. وإن كان غير ذلك فحكمه حكمه.
ولا يجوز : كم غلمانا لك كما لا يجوز : أعشرون غلمانا لك.
قال : وحكى الأخفش : أن الكوفيين يجيزونه ، وإذا قلت : كم عبد الله ماكث (فكم) ظرف فكأنك قلت : كم يوما عبد الله ماكث فكم أيام وعبد الله يرتفع بالابتداء كما ارتفع بالفعل حين قلت : كم رجلا ضرب عبد الله وتقول : كم غلمان لك فتجعل (لك) صفة لهم والمعنى : كم غلاما غلمان لك.
قال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن قولهم : على كم جذع بيتك مبني فقال : القياس والنصب وهو قول عامة الناس يعني نصب جذع.
ص: 286
قال : فأما الذين جروا فإنهم أرادوا معنى : (من) ولكنهم حذفوا هاهنا تخفيفا على اللسان.
وصارت (على) عوضا منها أما (كم) التي تكون خبرا فهي في الكثير نظيره رب في التقليل إلا أن كم : التي اسم ورب : حرف وهي في الخبر بمنزلة اسم لعدد غير منون نحو : مئتي درهم فهي مضافة ، وذلك قولك : كم غلام لك قد ذهب جعلوها في الاستفهام بمنزلة : عشرين وفي الخبر بمنزلة : ثلاثة تجر ما بعدها ولا تعمل (كم) في الخبر إلّا فيما تعمل فيه (رب) في اسم نكرة لا يجوز أن تدخل فيه الألف واللام كما فعلت ذلك في مئة الدرهم وما أشبهها ولا تعمل إلا في نكرة نصبت أو خفضت فتقول : كم رجل قد لقيت وكم درهم قد أعطيت.
وإن شئت قلت : كم رجال قد لقيت وكم غلمان قد وهبت فيجوز الجمع إذا كانت خبرا ولا يجوز إذا كانت استفهاما أن تفسر بجميع.
وتقول العرب : كم رجل أفضل منك تجعله خبر (كم) وحكى ذلك : يونس عن أبي عمرو وكم تفسر ما وقعت عليه من العدد بالواحد المنكور كما قلت : عشرون درهما أو بجمع منكور نحو : ثلاثة أثواب.
وهذا جائز في التي تقع في الخبر ، فأما التي في الاستفهام فلا يجوز فيها إلا ما جاز في العشرين وناس من العرب يعملونها في الخبر كعملها في الاستفهام فينصبون كأنهم يقدرون التنوين ومعناها منونة وغير منونة سواء.
وبعض العرب ينشد :
كم عمة لك يا جرير وخالة
فدعاء قد حلبت عليّ عشاري (1)
ص: 287
وهم كثير منهم الفرزدق وهذا البيت ينشد على ثلاثة أوجه : رفع ونصب وخفض فإذا قلت : كم عمة فعلى معنى : ربّ ، فإن قلت : كم عمة فعلى وجهين : على ما قال سيبويه في لغة من ينصب في الخبر وعلى الاستفهام ، فإن قلت : كم عمة فرفعت أوقعت (كم) على الزمان فقلت : كم يوما عمة لك وخالة قد حلبت عليّ عشاري أو كم مرة ونحو ذلك.
واعلم أنك إذا قلت : (كم عمة) فلست تقصد إلى واحدة بعينها.
وكذلك إذا نصبت.
فإن رفعت لم يكن إلا واحدة ؛ لأن التمييز يقع واحدة في موضع الجميع.
فإذا رفعت فإنما المعنى : كم دانقا هذا الدرهم الذي أسألك عنه فالدرهم واحد ؛ لأنه خبر وليس بتمييز ، وإذا فصلت بين كم وبين الاسم وبشيء استغنى عليه السكون أو لم يستغن فاحمله على لغة الذين يجعلونها بمنزلة اسم منون وانصب ؛ لأنه قبيح أن تفصل بين الجار والمجرور قال زهير :
تؤمّ سنانا وكم دونه
من الأرض محدودبا غارها
وإن شئت رفعت فجعلت : كم مرارا وأنشد سيبويه :
كم بجود مقرف نال العلى
وكريم بخله قد وضعه
يفصل بين كم وبين مقرف بالظرف وأجاز في مقرف الرفع والنصب أيضا على ما فسرنا.
ص: 288
واعلم أنك إذا قلت : كم من درهم عندك فلا يجوز أن تقول : عندك عشرون من درهم.
وقد أجروا مجرى (كم) في الاستفهام فنصبوا قولهم : له كذا وكذا درهما كأنهم قالوا : له عدد ذا دراهم.
قال سيبويه : هو كناية للعدد بمنزلة فلان في الحيوان وهو مبهم وصار ذا من كذا بمنزلة التنوين ؛ لأن المجرور بمنزلة التنوين.
قال : وكذلك كأين رجلا قد رأيت ، قال : زعم ذلك يونس.
وكائن قد أتاني رجلا إلا أن أكثر العرب إنما تتكلم بها مع (من) قال الله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) [محمد : 13] ، فإن حذفت (من) فالكلام عربي جيد.
ص: 289
تقول : عندي رطل زيتا ورطل زيت فمن نصب فعلى التمييز ومن خفض أضاف ومن رفع اتبع وكل هذا جائز في المقادير وكذلك : بيت تبن وجرة زيت ، فإن قلت : شاة لحم وجبة خز فالإضافة لأنك لم ترد : مقدار شاة لحما ومقدار جبة خزا ، فإن أردت هذا المعنى جاز النصب وتقول : عندي زق عسل سمنا تضيف الأول وتنصب الثاني تريد مقدار زق عسل سمنا ولا يجوز عندي ملء زق عسلا سمنا إلا في بدل الغلط خاصة ؛ لأنه لا يكون عندك ملء زق عسلا سمنا إلا في بدل الغلط خاصة ؛ لأنه لا يكون عند ملء زق سمنا وملؤه عسلا ؛ لأنه من أيهما امتلأ فقد شغله عن الآخر ومن ذلك قوله جل وعز : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) و (مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) ويجوز : ملء الأرض ذهب في غير القرآن.
وتقول : عندي رطلان زيتا والرطلان زيتا ورطلا زيت ولا يجوز : الرطلا زيت ؛ لأنه لا يجمع بين الألف واللام والإضافة وكان الكسائي يضيفه ويدخل الألف واللام في كل ما كان مفسرا ويجيز أيضا : الرطل الزيت والرطل الزيت والخمسة الأثواب والخمسة الأثواب فإذا قال : رجل السوء وزن السبعة لم يجز أن تدخل عليه الألف واللام لإن إضافته صحيحة والبصريون يأبون إدخال الألف واللام في جميع هذا والفراء أيضا يأباه إلا مع الضارب الرجل والحسن الوجه وقد مضى تفسير هذا.
فإذا قلت : ماء فرات وتمر شهرير ورطب برنيّ قضيبا عوسج ونخلتا برني فكان ليس بمقدار معروف مشهور فكلام العرب الخفض والإختيار فيه الإضافة أو الإتباع ولا يجوز فيه التمييز إذ لم يكن مقدار وتقول : كم مثله لك وكم خيرا منه لك وكم غيره مثله لك انتصب (غير) بكم وانتصب المثل ؛ لأنه صفة له ومثله وغيره نكرة ، وإن كانا مضافين إلى معرفة وقد ذكر هذا.
ولم يجز يونس والخليل : كم غلمانا لك لأنك لا تقول : أعشرون غلمانا لك إلا على وجه : لك مئة بيضا وعليك راقود خلا ، فإن أردت هذا المعنى قلت : كم لك غلمانا ويقبح أن تقول :
ص: 290
كم غلمانا لك لأن : لك سبب نصب : غلمان ولا يجوز أن يتقدم عليها كما لم يجز : زيد قائما فيها وقد بينا : أن العامل إذا كان معنى لم يجز أن يتقدم مفعوله عليه.
وتقول : كم أتاني لا رجل ولا رجلان وكم عبد لك لا عبد ولا عبدان فهذا محمول على (كم) وموضعها من الإعراب لا على ما تعمل فيه كم كأنك قلت : عشرون أتوني لا رجل ولا رجلان ولو قلت : كم لا رجل ولا رجلين في الخبر والاستفهام كان غير جائز.
وتقول : كم منهم شاهد على فلان إذا جعلت شاهدا خبرا (لكم) وكذلك هو في الخبر أيضا تقول : كم مأخوذ بك إذا أردت أن تجعل : مأخوذا بك في موضع (لك) إذا قلت : كم لك ؛ لأن (لك) لا تعمل فيه (كم) ولكنه مبني عليها خبر لها وتقول : كم رجل قد رأيته أفضل من زيد لأنك جعلت (أفضل) خبرا عن (كم) ؛ لأن (كم) اسم مبتدأ.
فأما (ربّ) إذا قلت : رب رجل أفضل منك فلا يكون لها خبر لأنها حرف جر وكم لا تكون إلا اسما وتقول : كم امرأة قد قامت ولا يجوز أن تقول : كم امرأة قد قمن ؛ لأن المعنى : كم من مرة امرأة قد قامت.
فإن كانت (امرأة) مميزة فقلت : كم امرأة قد قامت جاز أن تقول : قامت وقمن لجعل الفعل مرة على لفظ المفسر ومرة على معنى (كم) وقال الله جل وعز : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) [النجم : 26] فردوه إلى معنى (كم) وقال جل ثناؤه : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً) [الأعراف : 4] فجاء على لفظ المفسر فإدخالك (من) وإخراجها واحد لأنك تريد التفسير.
وتقول : كم ناقة لك وفصيلها وفصيلها نصبا ورفعا من رفع اتبع ما في لك ومن نصب اتبع الناقة وإنما جاز في فصيلها النصب وهو مضاف إلى الضمير ؛ لأن التأويل : وفصيلا لها كما قيل : كل شاة وسخلتها بدرهم فالتأويل وسخلة لها كما قالوا : رب رجل وأخيه والمعنى : وأخ له فإذا قلت : كم ناقة وفصيلها لك فلا يجوز في الفصيل إلا النصب كأنك قلت : كم ناقة وكم فصيل ناقة لك وتقول : كم رجلا قد رايت وامرأة على لفظ (رجل) ويجوز : ونساءه ؛ لأن
ص: 291
المعنى : رجل لكل رجل امرأة والفراء يقول : كم رجلا قد رأيت ونساءه وكم رجل قد رأيت ونسائه ويقول : تأويل (رجل) جمع فلا أرد عليه بالتوحيد.
قال أبو بكر : ويجوز عندي : كم رجلا رأيت ونساءهم ؛ لأن المعنى : كم رجالا رأيت ونساء لهم.
وتقول : كم زيد قائم وبكم ثوبك مصبوغ تريد : كم مرة أو ساعة زيد قائم وما أشبه ذلك. وبكم درهما أو دينارا ثوبك مصبوغ وما أشبه ذلك.
قال الفراء : إذا قلت : عنيد خمسة أثوابا فهو أشبه شيء بقولك : مررت برجل حسن وجها.
قال أبو بكر : وليس هو عند أصحابنا كذلك ؛ لأن وجها عندهم منصوب بأنه مشبه بالمفعول ؛ لأن حسن يشبه اسم الفاعل. وقد مضى ذكر هذا.
والنصب في قولهم : خمسة أثوابا شاذ إنما يجوز مثله في ضرورة شاعر.
وقال أحمد بن يحيى رحمه الله : كل منصوب على التفسير فقد جعل ما قبله في تأويل الفعل ولذلك قلت : عندي خمسة وزنا وعددا فجعلت لها مصدرا.
فتأويله عندي ما يعد به الدرهم خمسة وكذلك في كل التفسير ترده تقديره إلى أن تقدره الفعل : فإن قال قائل : فأنت تقول : ما أحسنك من الرجال وما أحسنك من رجل فيثبتهما إذا فيه فرق إذا قلت : ما أحسنك من الرجال فإنما تريد : أنت حسن من بينهم ومن جماعتهم ، وإذا قلت : من رجل ففيها مذاهب.
أما مذهب أبي العباس محمد بن يزيد رحمه الله فيقول : فصلوا بين الحال والتمييز وقد مضى ذكر ذلك.
وقال غيره : تكون (من) هنا لابتداء الغاية كأنك قلت : ما أحسنك من أول أحوالك يوصف بها الرجل إلى غاية النهاية ومذهب آخر أن تكون (من) تبعيضا للجنس المميز برجل رجل كأنك.
ص: 292
قلت : ما أحسنك من الرجال إذا ميزوا رجلا رجلا فجعلت رجلا موحدا ليدل على تمييز الرجال بهذا الإفراد وكذلك : ما أحسنك من رجلين.
كأنك قلت : من الرجال إذا ميزوا رجلين رجلين.
والقياس على مذهب الكسائي : عندي الخمسة الألف الدرهم فيجعل الخمسة مضافة إلى الالف والألف مضافة إلى الدرهم وذا عندنا لا يجوز وتقول على مذهبهم : عندي الخمسة العشر الألف الدرهم فتفتح الخمسة والعشر وتنصب الألف على التفسير وتضيفه إلى الدرهم.
وهذا لا يجوز لما قدمنا ذكره.
وتقول : عندي عشرون رجلا صالحا وعندي عشرون رجلا صالحون ولا يجوز : صالحين على أن تجعله صفة رجل ، فإن كان جمعا على لفظ الواحد جاز فيه وجهان : تقول : عندي عشرون درهما جيادا وجياد من رفع جعله صفة للعشرين ومن نصب أتبعه المفسر وهذا البيت ينشد على وجهين :
فيها اثنتان وأربعون حلوبة
سودا كخافية الغراب الأسحم (1)
يروى : سود وتقول : عندي ثلاث نسوة وعجوزين وشابة ترده مرة على ثلاث ومرة على نسوة ، وإذا قلت : خمستك أو خمسة أثوابك لم تخرج منه مفسرا ؛ لأنه قد أضيف وعلم.
ص: 293
ويجيز البغداديون : خمسة دراهمك ودرهمك ينوي في الأول الإضافة وهذا إنما يجوز عندي مثله في ضرورة الشاعر قالوا : وقد سمع : برئت إليك من خمسة وعشري.
النخاسين قالوا : ولا يجوز مع المكنى وتقول : عندي خمسة وزنا تنصب وترفع من نصب فعلى المصدر ومن رفع جعله نعتا.
كأنه قال : خمسة موزونة ، وإذا قالوا : عندي عشرون وزن سبعة نصبوا ورفعوا مثل ذلك وكذلك إن أدخلوا الألف واللام قالوا : عندي العشرون وزن السبعة ووزن السبعة النصب والرفع وكان الأخفش يجيز : كم رجلا عندك وعبيده يعطف (عبيده) على المضمر الذي في (عندك) ويرفعه قال : ولو قلت : كم رجلا وعبيده عندك على التقديم والتأخير جاز كأنك قلت : كم رجلا عندك وعبيده قال الشاعر :
ألا يا نخلة من ذات عرق
عليك ورحمة الله السّلام
وقال يزيد بن الحكم الثقفي :
جمعت وبخلا غيبة ونميمة
ثلاث خصال لست عنها بمرعوي (1)
ص: 294
قال : وقد فسروا الآية في كتاب الله جل وعز : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : 62] والصابئون كذلك وتقول : كم يسيرك أن لك درهما.
فتنصب الدرهم وتعني : درهما واحداص ولو قلت : كم يسرك أن لك من (درهم) لم يجز ؛ لأن (أن) لا اسم لها وكذلك لو قلت : كم درهما يسرك أن لك لم يجز وتصحيح المسألة :
كم يسرك أنه لك من درهم تريد : كم من درهم يسرك أنه لك وتقول : كم تزعم أن إلى زيد درهما قد دفع تنصب درهما (بأن) ودرهم هاهنا واحد وكم مرار ترد : كم مرة تزعم وتقول : كم عندك قائما رجلا تنصب (قائما) على الحال وتجعل خبر (كم) (عندك) وهو قبيح لأنك قد فصلت بين (كم) وبين ما عملت فيه وتقول : كم مالك إلا درهمان إذا كنت تستقله وكم عطاؤك إلا خمسون كأنك قلت : كم درهما مالك إلا درهمان وكم درهما عطاؤك إلا خمسون فهذا في الاستقلال كقول القائل : هل الأمير إلا عبد الله وهل الدنيا إلا شيء زائل وتقول : كم
ص: 295
ثلاثة ستة إلا ثلاثتان وكم خمسة عشرة إلا خمستان وكم رجلا أصحابك إلا خمسون إذا كنت تستقل عددهم ويكون ما بعد إلا تفسيرا (لكم) وترفعه إذا كانت (كم) رفعا وتنصب إذا كانت (كم) نصبا وتجره إذا كانت (كم) جرا يقول : كم ثلاثة وجدت ستة إلا ثلاثين وبكم درهما أرضك إلا ألف وكذلك : كم ثلاثة ستة إلا ثلاثتان وكم عشرون خمسة إلا أربع خمسات.
هذا على الاستثناء تجعل ما بعد إلا بدلا من (كم) كأنك قلت : هل بشيء أرضك إلا ألف وهل شيئا وجدت ستة إلا ثلاثين فاعتبر هذا بهذا.
قال أبو بكر : قد فرغنا من ذكر المرفوعات والمنصوبات وذكرنا في كل باب من المسائل مقدارا كافيا فيه دربة للمتعلم ودرس للعالم بحسب ما يصلح في هذا الكتاب ؛ لأنه كتاب أصول ونحن نفرد كتابا لتفريع الأصول ومزج بعضها ببعض ونسمية كتاب الفروع ليكون فروع هذه الأصول إن أخر الله في الأجل وأعان ، وإذا فرغنا من الرفع والنصب فلنذكر الضم والفتح اللذين يضارعانهما إن شاء الله.
اعلم أن الضم الذي يضارع الرفع هو الضم الذي يطرد في الأسماء ولا يخص اسما بعينه كما أن الفعل هو الذي يرفع الأسماء ولا يخص اسما بعينه وهذا الضرب إنما يكون في النداء ، وأما الفتح الذي يشبه النصب فما كان على هذا المنهاج مطردا في الأسماء ولا يخص اسما بعينه وهذا الضرب إنما يكون في النفي (بلا) وسنذكر كل واحد منهما في بابه إن شاء الله.
ص: 296
الحروف التي ينادى بها خمسة : يا وأيا وهيا وأي وبالألف وهذه ينبه بها المدعو إلا أن أربعة غير الألف يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتهم للشيء المتراخي عنه أو للإنسان المعروض أو النائم المستثقل وقد يستعملون هذه التي للمد في موضع الألف ولا يستعملون الألف في هذه المواضع التي يمدون فيها ويجوز أن تستعمل هذه الخمسة إذا كان صاحبك قريبا مقبلا عليك توكيدا ، وإن شئت حذفتهن كلهن استغناء إلا في المبهم والنكرة فلا يحسن أن تقول : هذا وأنت تريد : يا هذا ولا رجل وأنت تريد : يا رجل ويجوز حذف : يا من النكرة في الشعر.
والندبة يلزمها : يا ووا (ووا) يخص بها المندوب.
وأصل النداء تنبيه المدعو ليقبل عليك وتعرض فيه الاستغاثة والتعجب والمدح والندبة وسنذكر ذلك في مواضعه
والأسماء المناداة تنقسم على ثلاثة أضرب : مفرد ومضاف ومضارع للمضاف بطوله.
ينقسم على ضربين : معرفة ونكرة فالمعرفة : هو المضموم في النداء والمعرفة المضمومة في النداء على ضربين : إحداهما : ما كان اسما علما قبل النداء نحو : زيد وعمرو فهو على معرفته.
وضرب كان نكرة فتعرف بالنداء نحو : يا رجل أقبل صار معرفة بالخطاب وأنه في معنى : يا أيها الرجل.
فهذان الضربان هما اللذان يضمّان في النداء تقول : يا زيد ويا عمرو ويا بكر ويا جعفر ويا رجل أقبل ويا غلام تعال.
فأما : يا زيد فزيد وما أشبهه من المعارف معارف قبل النداء وهو في النداء معرفة كما كان ولو كان تعريفه بالنداء لقدر تنكيره قبل تعريفه ويحيل قول من قال : أنه معرفة النداء فقط إنك
ص: 297
قد تنادي بإسمه من لا تعلم له فيه شريكا كما تقول : يا فرزدق أقبل ولو كنت لا تعرف أحدا له مثل هذا الاسم ولو لم يكن عرف أن هذا اسمه فيما تقدم لما أجابك إذا دعوته به.
ومن قال إذا قلت : يا زيد أنه معرفة بالنداء فهذا الكلام من وجه حسن ومن وجه قبيح عندي أما حسنة : فأن يعني : أن أول ما يوضع الاسم ليعرف به الإنسان أنه ينادي به فيقول له أبوه أو من سماه مبتدأ : يا فلان ، وإذا كرر ذلك عليه علم أنه اسمه ولو لا التكرير أيضا ما علم فمن قال : أن الاسم معرفة بالنداء أي : أصله أنه به صار يعرف المسمى فحسن ، وإن كان أراد :
أن التعريف الذي كان فيه قد زال وحدث بالنداء تعريف آخر فقد بينا وجه الإحالة فيه ويلزم قائل هذا القول شناعات أخر عندي.
وأما قولك : يا رجل. فهذا كان نكرة لا شك فيه قبل النداء وإنا صار بإختصاصك له وإقبالك عليه في معنى : يا أيها الرجل فرفع وإنما ادعى من قال : أن : يا زيد معرفة بالنداء لا بالتعريف الذي كان له.
قيل : أنه وجد الألف واللام لا يثبتان مع (يا) في التعريف في التثنية ألا ترى أنك تقول يا زيدان أقبلا ولو لا يا لقلت : الزيدان إذا أردت التعريف وإنما حذفت الألف واللام استغناء بيا عنهما إذ كانتا آلة للتعريف كما حذفنا من النكرة في النداء أيضا.
ووجدنا ما ينوب عنهما فليس ينادي شيء مما فيه الألف واللام إلا الله عز وجل.
قال سيبويه : وذلك من أجل أن هذا الاسم لا تفارقه الألف واللام وكثر من كلام العرب.
وأما الاسم النكرة الذي بقي على نكرته فلم يتعرف بتسمية ولا نداء فإذا ناديته فهو منصوب تقول : يا رجلا أقبل ويا غلاما تعال وكذلك إن قلت : يا رجلا عاقلا تعالى فالنكرة منصوبة وصفتها أو لم تصفها ومعنى هذا أنك لم تدع رجلا بعينه فمن أجابك فقد أطاعك ألا ترى أنه يقول : من هو وراء حائط ولا يدري من وراؤه من الناس : يا رجلا أغثني ويا غلاما كلمني كما يقول : الضرير يا رجلا خذ بيدي فهو ليس يقصد واحدا بعينه بل من أخذ بيده فهو بغيته قال الشاعر :
ص: 298
فيا راكبا إما عرضت فبلّغن
نداماي من نجران أن لا تلاقيا (1)
وإنما أعربت النكرة ولم تبن لأنها لم تخرج عن بابها إلى غير بابها كما خرجت المعرفة ، فإن قال قائل : ما علمنا أن قولهم : يا زيد مبني على الضم وليس بمعرب مرفوع قيل : يدل على أنه غير معرب أن موضعه نصب والدليل على ذلك أن المضاف إذا وقع موقع المفرد نصب تقول : يا عبد الله وأن الصفة قد تنصب على الموضع تقول : يا زيد الطويل فلو كانت الضمة إعرابا لما جاز أن تنصبه إذا أضفناه ولا أن تنصب وصفه لكنا نقول : أنه مضموم مضارع للمرفوع
ص: 299
ويشبهه من أجل أن كل اسم متمكن يقع في هذا الموضع يضم فأشبه من أجل ذلك المرفوع (بقام) يعني الفاعل ؛ لأن كل اسم متمكن يلي (قام) فهو مرفوع فلهذا حسن أن تتبعه النعت فتقول : يا زيد الطويل كما تقول : قام زد الطويل يا زيد وعمرو فتعطف كما تعطف على المرفوع.
وينبغي أن تعلم : أن حق كل منادى النصب من قبل أن قولك : يا فلان ينوب عن قولك : أنادي فلانا ؛ لأن قولك : (يا) هو العمل بعينه وأنه فارق سائر الكلام ؛ لأن الكلام لفظ يغني عن العمل وهذا العمل فيه هو اللفظ.
فإن قلت : ناديت زيدا بعد قولك : يا زيد وهو مثل قولك : ضربت زيدا بعد علمك ذلك به فتأمل هذا فإنه منفرد به هذا الباب.
وأما السبب الذي أوجب بناء الاسم المفرد فوقوعه موقع غير المتمكن ألا ترى أنه قد وقع موقع المضمرة والمكنيات والأسماء إنما جعلت للغيبة لا تقول : قام زيد وأنت تحذف زيدا عن نفسه إنما تقول : قمت يا هذا فلما وقع زيد وما أشبهه بعد (يا) في النداء موقع أنت والكاف وأنتم وهذه مبنيات لمضارعتها الحروف بني وسنبين أمر المبنيات في مواضعها.
وبني على الحركة في النداء ؛ لأن أصله التمكن ففرق بينه وبين ما لا أصل له في التمكن فأما تحريكه بالضم دون غيره فإنهم شبهوه بالغايات نحو قبل وبعد إذ كانت تعرب بما يجب لها من الإعراب إذا أضفتها وهو النصب والخفض دون الرفع وتقول : جئت قبلك ومن قبلك فلما حذف منها الاسم المضاف إليه بني الباقي على الضم وهي الحركة التي لم تكن له قبل البناء فعلم أنها غير إعراب.
فقالوا : جئتك من قبل ومن بعد ومن عل يا هذا فكذلك هذا المنادى لما كان مضافه منصوبا ضم مفرده ألا ترى أنك تقول : يا عبد الله فتنصب ، فإن لم تضف قلت : يا عبد ويا غلام فضممت فكذلك التقدير في كل مفرد ، وإن كنت لم تفرد عن إضافة فهذا تقديره.
واعلم أن لك أن تصف زيدا وما أشبهه في النداء وتؤكده وتبدل منه وتعطف عليه بحرف العطف وعطف البيان.
ص: 300
أما الوصف فقولك : يا زيد الطويل والطويل فترفع على اللفظ وتنصب على الموضع ، فإن وصفته بمضاف نصبت الوصف لا غير ؛ لأنه لو وقع موقع زيد لم يكن إلا منصوبا تقول : يا زيد ذا الجمة وكذلك إن أكدته تقول : يا زيد نفسه ويا تميم كلكم ويا قيس كلكم.
فأما يا تميم أجمعون فأنت فيه بالخيار إن شئت رفعت ، وإن شئت نصبت حكم التأكيد حكم النعت إلا أن الصفة يجوز فيها النصب على إضمار (أعني) ولا يجوز في أجمعين ذلك ، وأما البدل فقولك : يا زيد زيد الطويل ويا زيد أخانا ؛ لأن تقدير البدل أن يقوم الثاني مقام الأول فيعمل فيه ما عمل في الأول فقولك : يا زيد أخانا كقولك : يا أخانا.
واعلم أن عطف البيان كالنعت سواء لا يلزمك فيه طرح التنوين كما لا يلزمك في النعت طرح الألف واللام تقول : يا زيد زيدا فتعطف على الموضع ويا زيد زيد وأمر البدل وعطف البيان سنذكرهما مع ذكر توابع الأسماء وهذا البيت ينشد على ضروب :
إني وأسطار سطرن سطرا
لقائل : يا نصر نصرا نصرا (1)
فمن قال : يا نصر نصرا فإنه جعل المنصوبين تبيينا للمضموم وهو الذي يسميه النحويون عطف البيان وسأفرق لك عطف البيان من البدل في موضعه ومجرى العطف للبيان مجرى الصفة فأجريا على قولك : يا زيد الظريف وتقديره : يا رجل زيدا أقبل على قول من نصب الصفة. وينشد :
يا نصر نصرا ...
جعلهما تبيينا وأجرى أحدهما على اللفظ والآخر على الموضع كما تقول : يا زيد الظريف العاقل ولو نصبت (العاقل) على (أعني) كان جيدا ومنهم من ينشده :
يا نصر نصر نصرا ...
فجعل الثاني بدلا من الأول وتنصب الثالث على التبيين فكأنه قال :
يا نصر نصر نصرا ...
ص: 301
وأما العطف فقولك : يا زيد وعمرو أقبلا ويا هند وزيد أقبلا ولا يجوز عطف الثاني على الموضع لما ذكرناه في باب العطف وهو أن حكم الثاني حكم الأول ؛ لأنه منادى مثله وكل مفرد منادى فهو مضموم.
وقد قالوا على ذلك : يا زيد والحرث لما دخلت الألف واللام (ويا) لا تدخل عليهما فاعلم وإنما يبني الأول ؛ لأنه منادى مخاطب باسمه وعلة الثاني وما بعده كعلة الأول لا فرق بينهما في ذلك ألا ترى أنهم : يقولون : يا عبد الله وزيد فيضمون الثاني والأول منصوب لهذه العلة ولو لا ذلك لم يجز قال جميع ذلك ابن السراج أيضا ، فإن عطفت اسما فيه ألف ولام على مفرد ، فإن فيه إختلافا.
أما الخليل وسيبويه والمازني : فيختارون الرفع يقولون : يا زيد والحارث أقبلا وقرأ الأعرج وهو عبد الرحمن بن هرمز : (يا جبال اوبي معه والطّير) (1) [سبأ : 10].
وأما أبو عمرو وعيسى ويونس وأبو عمر الجرمي فيختارون النصب وهي قراءة العامة.
وكان أبو العباس يختار النصب في قولك : يا زيد والرجل ويختار الرفع في الحارث إذا قلت : يا زيد والحراث ؛ لأن الألف واللام في (الحارث) دخلت عنده للتفخيم والألف واللام في الرجل دخلتا بدلا من (يا) ؛ لأن قولك : النضر والحارث ونصر وحارث بمنزلة ومثل ذلك اختلافهم في الاسم المنادى إذا لحقه التنوين اضطرارا في الشعر ، فإن الأولين يؤثرون رفعه أيضا ويقولون : هو بمنزلة مرفوع لا ينصرف يلحقه التنوين فيبقى على لفظه وأبو عمرو بن
ص: 302
العلاء وأصحابه يلزمون النصب ويقولون هو بمنزلة قولك : مررت بعثمان يا فتى فإذا لحقه التنوين رجع إلى الخفض.
فإن كان المنادى مبهما فحكمه حكم غيره إلا أنه يوصف بالرجل وما أشبهه من الأجناس وتقول : يا أيها الرجل أقبل فيكون (أي) ورجل كاسم واحد (فأي) مدعو والرجل نعت له ولا يجوز أن يفارقه نعته ؛ لأن (أيا) اسم مبهم ولا يستعمل إلا بصلة إلا في الجزاء والاستفهام فلما لم يوصل ألزم الصفة لتبينه كما كانت تبينه الصلة.
و (ها) تبينه وكذلك إذا قلت : يا هذا الرجل فإذا قلت : يا أيها الرجل لم يصلح في (الرجل) إلا الرفع ؛ لأنه المنادى في الحقيقة و (أي) مبهم متوصل إليه به.
وكذلك : يا هذا الرجل إذا جعلت هذا سببا إلى نداء الرجل ولك أن تقيم الصفة مقام الموصوف فتقول : يا أيها الطويل ويا هذا القصير كقوله تعالى : (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) [يوسف : 88] ، فإن قدرت الوقف على هذا ولم تجعله وصلة إلى الصفة وكان مستغنيا بإفراده كنت في صفته بالخيار : إن شئت رفعت ، وإن شئت نصبت كما كان ذلك في نعت زيد فقلت : يا هذا الطويل والطويل.
وأما (أي) فلا يجوز في وصفها النصب لأنها لا تستعمل مفردة ، فإن وصفت الصفة بمضاف فهو مرفوع لأنك إنما تنصب صفة المنادى فقط.
قال الشاعر :
يا أيّها الجاهل ذو التّنزّي ... (1)
ص: 303
فوصف (الجاهل) وهو صفة ب (ذو) ويجوز النصب على أن تجعله بدلا من (أي) فتقول : يا أيها الجاهل ذا التنزي ولا يجوز أن تقول : هذا أقبل وأنت تناديه تريد : يا هذا كما تقول : زيد أقبل وأنت تريد يا زيد ولا : رجل أقبل ؛ لأن هذين نعت لأي ، فإن جاء في الشعر فهو جائز ولك أن تسقط (يا) فتقول : زيد أقبل وإنما قبح إسقاط حرف النداء من هذا ورجل لأنهما يكونان نعتا لأي فلا يجمع عليها حذف المنعوت وحرف النداء فاعلم.
فأما قولهم : اللهّم اغفر لي ، فإن الخليل كان يقول : الميم المشددة في آخره بدل من (يا) التي للنداء لأنهما حرفان مكان حرفين.
قال أبو العباس : الدليل على صحة قول الخليل : أن قولك : اللهم لا يكون إلا في النداء لا تقول : غفر اللهم لزيد ولا : سخط اللهم على زيد كما تقول : سخط الله على زيد وغفر الله لزيد وإنما تقول : اللهم اغفر لنا اللهم اهدنا وقال : فإن قال الفراء : هو نداء معه (أم) قيل : له فكيف تقول : اللهم اغفر لنا واللهم أمنا بخير فقد ذكر (أم) مرتين قال : ويجب على قوله أن تقول : يا اللهم لأنه : يا الله أمنا ولا يلزم ذلك الخليل : لأنه يقول الميم بدل من يا.
وإذا وصفت مفردا بمضاف لم يكن المضاف إلا منصوبا تقول : يا زيد ذا الجمة ، فأما : يا زيد الحسن الوجه ، فإن سيبويه : يجيز الرفع والنصب في الصفة ؛ لأن معناه عنده الإنفصال فهو كالمفرد في التقدير ؛ لأن حسن الوجه بمنزلة حسن وجهه فكما أن يجيز : يا زيد الحسن والحسن فكذلك يفعل إذا أضاف ؛ لأنه غير الإضافة يعني به وأنشد :
يا صاح يا ذا الضّامر العنس
يريد : يا ذا الضامرة عنسه وتقول : يا زيد أو عبد الله ويا زيد أو خالد وقال سيبويه : أو ولا في العطف على المنادى بمنزلة الواو.
ص: 304
اعلم أن كل اسم مضاف منادى فهو منصوب على أصل النداء الذي يجب فيه كما بينا تقول : يا عبد الله أقبل ويا غلام زيد افعل ويا عبد مرة تعال ويا رجل سوء تب المعرفة والنكرة في هذا سواء وقال عز وجل : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) [الأحقاف : 31].
وذكر سيبويه : أن ذلك منصوب على إضمار الفعل المتروك إظهاره.
وقال أبو العباس : أن (يا) بدل من قولك : أدعو أو أريد لا أنك تخبر أنك تفعل ولكن بها علم أنك قد أوقعت فعلا يا عبد الله وقع دعاؤك بعبد الله فانتصب على أنه مفعول تعدى إليه فعلك ، فإن أضفت المنادى إلى نفسك فحكم كل اسم تضيفه إلى نفسك أن تحذف إعرابه وتكسر حرف الإعراب وتأتي بالياء التي هي اسمك فتقول : يا غلامي وزيدي فإذا ناديت قلت : يا غلام أقبل لا تثبت (ياء) الإضافة كما تثبت التنوين في المفرد تشبيها به وثبات الياء فيما زعم يونس في المضاف لغة وكان أبو عمرو يقول : (يا عبادي اتقون).
وقد يبدلون مكان الياء الألف لأنها أخف عليهم نحو : يا ربا تجاوز عنا ويا غلاماه لا تفعل فإذا وقفت قلت : يا غلاما وعلى هذا يجوز : يا أباه ويا أماه.
قال سيبويه : وسألت الخليل عن قولهم : يا أبه ويا أبة لا تفعل ويا أبتاه ويا أمتاه فزعم الخليل : أن هذه الهاء مثل الهاء في عمة وخالة وزعم : أنه سمع من العرب من يقول : يا أمة لا تفعلي ويدلك على أن الهاء بمنزلة الهاء في عمة أنك تقول في الوقت : يا أمة ويا أبه كما تقول : يا خالة إنما يلزمون هذه في النداء إذا أضفت إلى نفسك خاصة كأنهم جعلوها عوضا من حذف الياء قال : وحدثنا يونس : أن بعض العرب يقول : يا أم لا تفعلي ولا يجوز ذلك في غيرها من المضاف.
وبعض العرب يقول : يا ربّ أغفر لي ويا قوم لا تفعلوا ، فإن أضفت إلى مضاف إليك قلت : يا غلام غلامي ويا ابن أخي فتثبت الياء ؛ لأن الثاني غير منادى فإنما تسقط الياء في
ص: 305
الموضع الذي يسقط فيه التنوين وقالوا : يا ابن أم ويا ابن عم فجعلوا ذلك بمنزلة اسم واحد لكثرته في كلامهم.
قال أبو العباس رحمه الله : سألت أبا عثمان عن قول من قال : يا ابن أم لا تفعل فقال :عندي فيه وجهان : أحدهما أن يكون أراد : يا ابن أمي فقلب الياء ألفا فقال : يا ابن أما ثم حذف الألف استخفافا من (أما) كما حذف الياء من (أمي).
ومثل ذلك : يا أبة لا تفعل والوجه الآخر أن يكون : ابن عمل في أم عمل خمسة عشر فبني لذلك قلت : فلم جاز في الوجه الأول قلب الياء ألفا فقال : يجوز في النداء والخبر وهو في النداء أجود قلت : وأمّ قال : لأن النداء يقرب من الندبة وهو قياس واحد ، وذلك قولك : وا أماه قلت : فنجيزه في الخبر في الشعر فقال : في الشعر وفي الكلام جيد بالغ أقول : هذا غلاما قد جاء فأقلبها ؛ لأن الألف أخف من الياء.
وقد قال الشاعر :
وقد زعموا أنّي جزعت عليهما
وهل جزع إن قلت : وا بأباهما
يريد : وا بأبي هما. وأنشد سيبويه لأبي النجم :
يا بنت عمّا لا تلومي واهجعي (1)
ص: 306
فإن أضفت اسما مثنى إليك : نحو عبدين وزيدين قلت : يا عبدي ويا زيد ففتحت الياء من قبل أن أصل الإضافة إلى نفسك الفتح تقول : هذا بني وغلامي يا فتي ثم تسكن إذا شئت استخفافا فلما التقى ساكنان في عبدي واحتجت إلى الحركة رددت ما كان للياء إليها فإذا صغرت ابنا فقلت بني ثم أضفته إلى نفسك قلت : يا بني أقبل ولم تكن هذه الياء كياء التثنية ؛ لأن هذه حرف إعراب كما يتحرك دال عبد تقول : هذا بني كما تقول : هذا عبد فإذا أضفتهما إلى نفسك كسرت حرف الإعراب إرادة للياء وكان الأصل في : يا بني أن تأتي بياء بعد الياء المشددة فحذفتها واستغنيت بالكسر عنها وتقول : يا زيد عمرو ويا زيد زيد أخينا ويا يزد زيدنا.
قال سيبويه وزعم الخليل ويونس : أن هذا كله سواء وهي لغة للعرب جيدة ، وذلك لأنهم قد علموا : أنهم لو لم يكرروا الاسم كان الأول نصبا ؛ لأنه مضاف فلما كرروه تركوه على حاله قال الشاعر :
يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم
لا يلقينّكم في سوأة عمر
وإن شئت قلت : يا تيم تيم عدي ويا زيد زيد أخينا فكل اسمين لفظهما واحد والآخر منهما مضاف فالجيد الضم في الأول والثاني منهما منصوب ؛ لأنه مضاف ، فإن شئت كان بدلا من الأول ، وإن شئت كان عطفا عليه عطف البيان والوجه الآخر نصب الأول بغير تنوين
ص: 307
لأنك أردت بالأول : يا زيد عمرو فأما أقحمت الثاني توكيدا للأول ، وأما حذفت من الأول المضاف استغناء بإضافة الثاني فكأنه في التقدير : يا زيد عمرو زيد عمرو ويا تيم عدي تيم عدي.
واعلم أن المضاف إذا وصفته بمفرد وبمضاف مثله مل يكن نعته إلا نصبا لأنك إن حملته على اللفظ فهو نصب والموضع موضع نصب فلا يزال ما كان على أصله إلى غيره ، وذلك نحو قولك : يا عبد الله العاقل ويا غلامنا الطويل والبدل يقوم مقام المبدل منه تقول : يا أخانا زيد أقبل ، فإن لم ترد البدل وأردت البيان قلت : يا أخانا زيدا أقبل ؛ لأن البيان يجري مجرى النعت.
إذا ناديت أسما موصولا بشيء هو كالتمام له فحكمه حكم المضاف إذا كان يشبهه في أنه لفظ مضموم إلى لفظ هو تمام الاسم الأول ويكون معرفة ونكرة ، وذلك قولك : يا خيرا من زيد أقبل. ويا ضاربا رجلا ، ويا عشرون رجلا ، ويا قائما في الدار وما أشبهه جميع هذا منصوب أقبلت على واحد فخاطبته وقدرت التعريف ، وإن أردت التنكير فهو أيضا منصوب وقد كنت عرفتك أن المعارف على ضربين : معرفة بالتسمية ومعرفة بالنداء.
وقال الخليل : إذا أردت النكرة فوصفت أو لم تصف فهي منصوبة ؛ لأن التنوين لحقها فطالت فجعلت بمنزلة المضاف لما طال نصب ورد إلى الأصل كما تفعل ذلك بقبل وبعد وزعموا : أن بعض العرب يصرف قبلا فيقول : أبدأ بهذا قبلا فكأنه جعلها نكرة ، وأما قول الأحوص :
سلام الله يا مطر عليها
وليس عليك يا مطر السّلام (1)
فإنما لحقه التنوين كما لحق ما لا ينصرف.
ص: 308
وكان عيسى بن عمر يقول : يا مطرا يشبهه بيا رجلا. قال سيبويه : ولم نسمع عربيا يقوله وله وجه من القياس إذا نون فطال كالنكرة فالتنوين في جميع هذا الباب كحرف في وسط الاسم وكذلك : لو سميت رجلا : بثلاثة وثلاثين لقلت : يا ثلاثة وثلاثين أقبل وليس بمنزلة قولك للجماعة : يا ثلاثة وثلاثون لأنك أردت في هذا : يا أيها الثلاثة والثلاثون ولو قلت أيضا وأنت تنادي الجماعة : يا ثلاثة والثلاثين لجاز الرفع والنصب في الثلاثين كما تقول : يا زيد والحارث والحارث ولكنك أردت في الأول : يا من يقال له ثلاثة وثلاثون.
وإن نعت الاسم المفرد بابن فلان أو ابن أبي فلان وذكرت اسمه الغالب عليه وأضفته إلى اسم أبيه أو كنيته ، فإن الاسمين قد جعلا بمنزلة اسم واحد ؛ لأنه لا ينفك منه ونصب لطوله تقول : يا زيد بن عمرو كأنك قلت : يا زيد عمرو فجعلت زيدا وابنا بمنزلة اسم واحد ولا تنون زيدا كما لم تكن تنونه قبل النداء إذا قلت : رأيت زيد بن عمرو ، فإن قلت : يا زيد ابن أخينا ضممت الدال من (زيد) ؛ لأن ابن أخينا نعت غير لازم وكذلك : يا زيد ابن ذي المال ويا رجل ابن عبد الله ؛ لأن رجلا اسم غير غالب فمتى لم يكن المنادى اسما غالبا والذي يضيف إليه ابنا سما غالبا لم يجز فيه ما ذكرنا من نصب الأول بغير تنوين ، وإذا قلت : يا رجل ابن عبد الله فكأنك قلت : يا رجل يا ابن عبد الله وعلى هذا ينشد هذا البيت :
يا حكم بن المنذر بن الجارود
ولو قلت : يا حكم بن المنذر كان جيدا وقياسا مطردا وكان أبو العباس رحمه الله يقول : إن نصب : يا حسن الوجه لطوله لا لأنه مضاف ؛ لأن معناه : حسن وجهه.
قال أبو بكر : والذي عندي أنه نصب من حيث أضيف فما جاز أن يضاف ويخفض ما أضيف إليه ، وإن كان المعنى على غير ذلك كذلك نصب كما ينصب المضاف ؛ لأنه على لفظه.
ص: 309
والزيادة في آخره والحذف فيه
أما التغيير فقولهم : يا فسق ويا لكع عدل عن فاعل إلى فعيل للتكثير والمبالغة كما عدل :عمر عن عامر ولم يستعمل فسق إلا في النداء وهو معرفة فيه ويقوى أنه كذلك ما حكى سيبويه عن يونس : أنه سمع من العرب من يقول : يا فاسق الخبيث فلو لم يكن فاسق عنده معرفة ما وصفه بما فيه الألف واللام وكذلك : يا لكاع ويا فساق ويا خباث معدول عن معرفة كما صارت جعار اسما للضبع وكما صارت : حذام ورقاش اسما للمرأة وجميع ذلك مبني على الكسر لأنك عدلته من اسم معرفة مؤنث غير منصرف وليس بعد ترك الصرف إلا البناء فبني على كسر ؛ لأن الكسرة والتاء من علامات التأنيث.
ولهذا موضع يذكر فيه إن شاء الله ، فإن لم ترد العدل قلت : يا لكع ويا لكعاء ، وأما ما لحقه الزيادة من آخره فقولهم : يا نومان ويا هناه وقال بعض المتقدمين في النحو : يا هناه هو فعال في التقدير وأصله هن فزيد هذا في النداء وبنى هذا البناء.
ويلزم قائل هذا القول أن يقول في التثنية : يا هنانان أقبلا ولا أعلم أحدا يقول هذا.
قال الأخفش : تقول : يا هناه أقبل ويا هنانيه أقبلا ويا هنوناه أقبلوا.
وإن شئت قلت : يا هن ويا هنان أقبلا ويا هنون أقبلوا ، وإن أضفت إلى نفسك لم يكن فيه إلا شيء واحد يأتي فيما بعده.
قال أبو بكر : والمنكر من ذا تحريك الهاء من هناه وإلا فالقياس مطرد كهاء الندبة وألفها.
وقال أيضا الأخفش : تقول : يا هنتاه أقبلي ويا هنتانيه أقبلا ويا هناتوه أقبلن.
وتقول للمرأة بغير زيادة يا هنت أقبلي ويا هنتان أقبلا ويا هنات أقبلن وتقول في الإضافة : إليك : ياهن أقبل وياهني أقبلا وياهنى أقبلوا.
ص: 310
وللمرأة في الإضافة يا هنت أقبلي ويا هنتي أقبلا وللجمع : يا هنات أقبلن وتزاد في آخر الاسم في النداء
الألف التي تبين بالهاء في الوقف إذا أردت أن تسمع بعيدا أو تندب هالكا ؛ لأن المندوب في غاية البعد وللندبة باب مفرد نذكره بعون الله تعالى.
تقول : يا زيداه إذا ناديت بعيدا هذا إذا وقفت على الهاء وهي ساكنة وإنما تزاد في الوقف لخفاء الألف كاتزاد لبيان الحركة في قولك غلاميه وما أشبه ذلك.
إذا وصلت ألف النداء بشيء أغنى ما بعد الألف من الهاء فقلت : يا زيدا أقبل ويا قوما تعالوا.
فأما لام الاستغاثة والتعجب فتدخل على الاسم المنادى من أوله وهي لام الجر فتخفضه ولذلك أيضا باب يذكر فيه إلا أنها تزاد إذا أردت أن تسمع بعيدا ، وأما ما حذف من آخره في النداء فقولهم في فلان : يا فل أقبل.
وذكر سيبويه أن : هناه ونومان وفل أسماء اختص بها النداء.
وقال : قول العرب : يا فل أقبل لم يجعلوه اسما حذفوا منه شيئا يثبت في غير النداء ولكنهم بنوا الاسم على حرفين وجعلوه بمنزلة دم والدليل على ذلك أنه ليس أحد يقول : يا فلا.
فإن عنوا امرأة قالوا : يا فلة وإنما بني على حرفين ؛ لأن النداء موضع تخفيف ولم يجز في غير النداء ؛ لأنه جعل اسما لا يكون إلا كناية لمنادى نحو : يا هناه ومعناه. يا رجل. ، وأما فلان.
فإنما هو كناية عن اسم سمى به المحدث عنه خاص غالب قال : وقد اضطر الشاعر فبناه على هذا المعنى قال أبو النجم :
في لجّة أمسك فلانا عن فل (1)
ص: 311
قوله : (في لجة) أي : في كثرة أصوات ومعناه : أمسك فلانا عن فلان.
فأما ما حذف آخره للترخيم فله باب وإنما أخرجنا (فل) عن الترخيم ؛ لأنه لا يجوز أن يرخم اسم ثلاثي فينقص في النداء ولم يكن منقوصا في غير النداء ولأنّه ليس باسم علم وللترخيم باب يفرد به إن شاء الله.
ص: 312
اعلم أن اللام التي تدخل للاستغاثة (1) هي لام الخفض وهي مفتوحة إذا أدخلتها على الاسم المنادى كأن المنادى كالمكنى.
وقد بينا هذا فيما مضى فانفتحت مع المنادى كما تنفتح مع المكنى إلا ترى أنك تقول : لزيد ولبكر فتكسر.
فإذا قلت : لك وله فتحت وقد تقدم قولنا في أن المبني كالمكنى فلذلك لم يتمكن في الإعراب وبني فتقول : يا لبكر ويا لزيد ويا للرجال ويا للرجلين إذا كنت تدعوهم.
ص: 313
وقال أصحابنا : إنما فتحتها لتفصل بين المدعو والمدعو إليه.
ووجب أن تفتحها ؛ لأن أصل اللام الخافضة إنما كان الفتح فكسرت مع المظهر ليفصل بينها وبين لام التوكيد ألا ترى أنك تقول : إن هذا لزيد إذا أردت : إن هذا زيد فاللام هنا مؤكدة وتقول : إن هذا لزيد إذا أردت أنه في ملكه.
ولو فتحت لالتبسا ، فإن وقعت اللام على مضمر فتحتها على أصلها فقلت : أن هذا لك ، وإن هذا لأنت ؛ لأنه ليس هنا لبس وتقول : يا للرجال للماء ويا للرجال للعجب ويا لزيد للخطب الجليل قال الشاعر :
يا للّرجال ليوم الأربعاء أما
ينفكّ يحدث لي بعد النّهى طربا
وقال آخر :
تكنّفني الوشاة فأزعجوني
فيا للناس للواشي المطاع
فالذي دخلت عليه اللام المفتوحة هو المدعو والمستغاث به والذي دخلت عليه اللام المكسورة هو الذي دعي له ومن أجله.
واعلم أنه لا يجوز أن تقول : يا لزيد لمن هو قريب منك ومقبل عليك.
وذكر سيبويه : أن هذه اللام التي للإستغاثة بمنزلة الألف التي تبين بها في الوقف إذا أردت أن تسمع بعيدا ، فإن قلت : يا لزيد ولعمرو.
كسرت اللام في (عمرو) وهو مدعو ؛ لأنه يسوغ في المعطوف على المنادى ما لا يسوغ في المنادى.
ألا ترى أن الألف واللام تدخل على المعطوف على المنادى ويجوز فيه النصب وإنما يتمكن في باب النداء ما لصق (بيا) يعني بحرف النداء.
وأما أبو العباس رحمه الله فكان يقول في قولهم : يا لزيد ولعمرو إنما فتحت اللام في (زيد) ليفصل بين المدعو والمدعى إليه فلما عطفت على (زيد) استغنيت عن الفصل لأنك إذا عطفت عليه شيئا صار في مثل حاله وقال الشاعر :
ص: 314
يبكيك ناء بعيد الدار مغترب
يا للكهول وللشّبان للعجب
وأما التي في التعجب فقول الشاعر :
لخطّاب ليلى يا لبرثن منكم
أدلّ وأمضى من سليك المقانب
وقالوا : يا للعجب ويا للماء لما رأوا عجبا أو رأوا ماء كثيرا كأنه يقول : تعال يا عجب وتعال يا ماء فإنه من أيامك وزمانك وأبانك ومثل ذلك قولهم : يا للدواهي أي : تعالين فإنه لا يستنكر لكن ؛ لأنه من أحيانكن وكل هذا في معنى التعجب والإستغاثة فلا يكون موضع (يا) سواها من حروف النداء نحو : أي وهيا وأيا.
وقد يجوز أن تدعو مستغيثا بغير لام فتقول : يا زيد وتتعجب كذلك كما أن لك أن تنادي المندوب ولا تلحق آخره ألفا ؛ لأن النداء أصل لهذه أجمع وقد تحذف العرب المنادى المستغاث به مع (يا) ؛ لأن الكلام يدل عليه فيقولون : يا للعجب ويا للماء كأنه قال : يا لقوم للماء ويا لقوم للعجب وقال أبو عمرو قولهم : يا ويل لك ويا ويح لك كأنه نبه إنسانا ثم جعل الويل له ومن ذلك قول الشاعر :
يا لعنة الله والأقوام كلّهم
والصالحين على سمعان من جار
فيا لغير اللعنة ولغير الويل كأنه قال : يا قوم لعنة الله على فلان.
ص: 315
الندبة (1) تكون بياء أو بواو ولا بد من أحدهما وتلحق الألف آخر الاسم المندوب إن شئت ، وإن شئت ندبت بغير ألف والألف أكثر من هذا الباب.
ص: 316
قال سيبويه : لأن الندبة كأنهم يترنمون فيها ومن شأنهم أن يزيدوا حرفا إذا نادوا بعيدا ولا أبعد من المندوب فإذا وقفوا قالوا : يا زيداه وا عمراه فيقفون على هاء لخفاء الألف ، فإن وصلوا النداء بكلام أسقطوا الهاء ، وإذا لم تلحق الألف قلت : وا زيد بكر والألف تفتح ما قبلها مضموما كان أو مكسورا تقول وا زيد فتضم ، فإن أدخلت الألف قلت : وا زيداه ، فإن أضفت إلى أسم ظاهر غير مكنى قلت : وا غلام زيد ، فإن أدخلت الألف قلت وا غلام زيداه وحذفت التنوين ؛ لأنه لا يلتقي ساكنان.
قال سيبويه : ولم يحركوها يعني التنوين في هذا الموضع ؛ لأن الألف زيادة فصارت تعاقب التنوين وكان أخف عليهم ، فإن أضفت إلى نفسك قتل وأزيد فكسرت الدال ، فإن أدخلت الأل قلت : وا زيداه يكون إذا أضفته إلى نفسك ، وإذا لم تضفه سواء ومن قال : يا غلامي قال :
وا زيدياه فيحرك الياء في لغة من أسكن الياء للألف التي بعدها ؛ لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا.
ص: 317
قال أبو العباس : ولك في وا غلامي في لغة من أسكن الياء وجهان : أن تحرك الياء لدخول الألف فقتول : وا غلامياه وأن تسقطها لالتقاء الساكنين فتقول : وا غلاماه كما تقول جاء غلام العاقل فتحذف الياء فأما من كان يحرك الياء قبل الندبة فليس في لغته إلا إثباتها مع الألف تقول : وا غلاماه وذكر سيبويه : أنه يجوز في الندبة : وا غلاميه فيبين الياء بالهاء كما هي في غير النداء ، فإن أضفت إلى مضاف إليك قلت : وا غلام غلامي ، فإن أدخلت الألف قلت : وا غلام غلامياه لا يكون إلا ذلك ؛ لأن المضاف الثاني غير منادى وقد بيناه لك فيما تقدم.
وكذلك وانقطاع ظهرياه لا بد من إثبات الياء ، وإذا وافقت ياء الإضافة الياء الساكنة في النداء لم يجدوا بدا من فتح ياء الإضافة ولم يكسر ما قبلها كراهية للكسرة في الياء ولكنهم يفتحون ياء الإضافة ويجمعون على ذلك لئلا يلتقي ساكنان.
فإذا ناديت فأنت في إلحاق الألف بالخيار أيضا ، وذلك قولك : وا غلامياه ووا قاضياه ووا غلاميّ في تثنية غلام ووا قاضيّ.
وإن وافقت ياء الإضافة ألفا لم تحرك الألف وأثبتوا الياء وفتحوها لئلا يلتقي ساكنان وأنت أيضا بالخيار في إلحاق الألف ، وذلك قولك وامثناي ووا مثناه.
فإن لم تضف إلى نفسك قلت : وا مثناي وتحذف الألف الأولى لئلا يلتقي ساكنان ولم يخافوا التباسا ، فإن كان الاسم المندوب مضافا إلى مخاطب مذكر قلت : وا غلامك يا هذا ، فإن ألحقت ألف الندبة قلت : وا غلامكاه ، وإن ثنيت قلت : وا غلامكاه ، وإن جمعت قلت : وغلامكموه فقلبت الف الندبة واوا كيلا يلتبس بالتثنية وتقول للمؤنث : وا غلامكيه.
وكان القياس الألف لو لا اللبس وفي التثنية وا غلامهماه والمذكر والمؤنث في التثنية سواء وتقول في الجمع : وا غلامكناه وتقول في الواحد المذكر الغائب وا غلامهوه وللاثنين وا غلامهماه وللجميع وا غلامهموه وللمؤنث : وا غلامهاه وفي التثنية : وا غلامهاه وللجميع وا غلامهمناه ، فإن كان المنادى مضافا إلى مضاف نحو : وانقطاع ظهره قلت في قول من قال :مررت بظهرهوه قيل : وانقطاع ظهرهوه وفي قول من قال : بظهر هي قال : وانقطاع ظهرهيه.
ص: 318
وقال قوم من النحويين : كل ما كان في أخره ضم أو فتح وكسر ليس يفرق بين شيء وبين شيء جاز فيه الإتباع والفتح وغير الإتباع مثل قطام تقول : وا قطاميه ويا قطاماه ويقولون : يا رجلانية ويا رجلاناه ويا مسلموناه ويقولون : يا غلام الرجلية والرجلاه فإذا كانت الحركة فرقا بين شيئين مثل : قمت وقمت فالإتباع لا غير نحو : وا قياما قمتوه وقمتاه وقمتيه وقد مر تثنية المفرد وجمعه في النداء في (هن) فقس عليه.
واعلم أن ألف الندبة لا تدخل على الصفة ولا الموصوف إذا اجتمعا ، نحو : وأزيد الظريف والظريف ؛ لأن الظريف غير منادى وليس هو بمنزلة المضاف والمضاف إليه ؛ لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد وأنت في الصفة بالخيار إن شئت وصفت ، وإن شئت لم تصف وهذا قول الخليل.
وأما يونس فيلحق الألف الصفة ويقول : وا زيد الظريفاه ولا يجوز أن تندب النكرة وذلك : وا رجلاه ويا رجلاه ولا المبهم لا تقول : وا هذاه.
قال سيبويه : إنما ينبغي أن تتفجع بأعرف الأسماء ولا تبهم وكذلك قولك : وامن في الداراه في الفتح وذكر يونس : أنه لا يستقبح : وا من حفر زمزماه ؛ لأن هذا معروف بعينه.
وقال الأخفش : الندبة لا يعرفها كل العرب وإنما هي من كلام النساء فإذا أرادوا السجع وقطع الكلام بعضه من بعض أدخلوا ألف الندبة على كلام يريدون أن يسكتوا عليه وألحقوا الهاء لا يبالون أي كلام كان.
ص: 319
الترخيم (1) حذف أواخر الأسماء المفردة الأعلام تحقيقا ولا يكون ذلك إلا في النداء إلا أن يضطر شاعر ولا يكون في مضاف إليه ولا مضاف ولا في وصف ولا اسم منون في النداء ولا يرخم مستغاث به إذا كان مجرورا ؛ لأنه بمنزلة المضاف ولا يرخم المندوب هذا قول سيبويه والمعروف من مذاهب العرب.
والترخيم يجري في الكلام على ضربين : فأجود ذلك أن ترخم الاسم فتدع ما قبل آخره على ما كان عليه وتقول في : حارث : يا حار أقبل فتترك الراء مكسورة كما كانت.
وفي مسلمة : يا مسلم أقبل وفي جعفر : يا جعف أقبل تدع الفتحة على حالها وفي يعفر : يا يعف أقبل وفي برثن : يا برث أقبل تترك الضمة على حالها وفي هرقل أقبل تدع القاف على سكونها والوجه الآخر أن تحذف من أواخر الأسماء وتدع ما بقي اسما على حياله نحو : زيد وعمرو فتقول : في حارث يا حار وفي جعفر يا جعف أقبل وفي هرقل : يا هرق أقبل.
وكذلك كل اسم جاز ترخيمه ، فإن كان آخر الاسم حرفان زيدا معا حذفتهما لأنهما بمنزلة زيادة واحدة.
ص: 320
وذلك قولك : في عثمان : يا عثم. وفي مروان : يا مرو أقبل. وفي أسماء : يا أسم أقبلي.
وكذلك كل ألفين للتأنيث نحو : حمراء وصفراء وما أشبه ذلك.
إذا سميت به وكذلك ترخيم رجل يقال له : مسلمون تحذف منه الواو والنون وكذلك رجل اسمه مسلمان.
قال سيبويه : فأما رجل اسمه بنون فلا يطرح منه إلا النّون لأنك لا تصير اسما على أقل من ثلاثة احرف ومن قال يا حار قال يا بني ، فإن رخمت اسما آخره غير زائد إلا أن قبل آخره حرفا زائدا ، وذلك الزائد واو ساكنة قبلها ضمة أو ياء ساكنة قبلها كسرة أو ألف ساكنة حذفت الزائد مع الأصلي وشبه بحذف الزائد ولم يكن ليحذف الأصل ويبقى الزائد ، وذلك قولك في منصور : يا منص أقبل تحذف الراء وهي أصل وتحذف الواو وهي زائدة وفي عمار يا عمّ أقبل وفي رجل اسمه عنتريس : يا عنتر أقبل ، فإن كان الزائد الذي قبل حرف الإعراب متحركا ملحقا كان أو زائدا جرى مجرى الأصل.
فأما الملحق فقولك في قنّور : يا قنو أقبل وفي رجل اسمه هبينح يا هبي أقبل ؛ لأن هذا ملحق بسفرجل وسنبين لك هذا في موضعه من التصريف إن شاء الله.
وأما الزائد غير الملحق فقولك في رجل سميته بحولايا وبردرايا يا حولاي أقبل ويا بردراي أقبل ؛ لأن الحرف الذي قبل آخره متحركا فأشبهت الألف التي للتأنيث الهاء التي للتأنيث فحذفت الألف وحدها كما تحذف الهاء وحدها ؛ لأن الهاء بمنزلة اسم ضم إلى إسم ولا يكون ما قبلها ألا مفتوحا والهاء لا تحذف إلا وحدها كان ما قبلها أصليا أو زائدا أو ملحقا أو منقوصا وحذف الهاء في ترخيم الاسم العلم أكثر في كلام العرب من الترخيم فيما لا هاء فيه وكذلك إن كان اسما عاما غير علم.
والعلم قولهم في سلمة : يا سلم أقبل تريد يا سلمة وقالت الجهنية في هوذة بن علي الحنفي وكان كسرى أقطعه وتوجّه بتاج :
يا هوذ ذا التّاج إنّا لا نقول سوى
يا هوذ يا هوذ إما فادح دهما
ص: 321
وأما العام فنحو قول العجاج :
جاري لا تستنكري عذيري (1)
أي : حالي ، وأما ما كان منقوصا وكان مع الهاء على ثلاثة أحرف فقولهم : يا شاء ادجني.
قال أبو علي : إذا وصلت سقطت همزة الوصل فالتقت الألف وهي ساكنة مع الراء مع ادجني وهي ساكنة أيضا فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ووليت الشين المفتوحة الراء ، وإذا وقفت قلت : يا أدجني مثل أقبلي فلم يحذف الألف رخم شاة ويا ثبت أقبلي تريد : ثبة وناس من العرب يثبتون الهاء فيقولون : يا سلمة أقبلي يقحمون الهاء ويدعون الاسم مفتوحا على لفظ الترخيم والذين يحذفون في الوصل الهاء إذا وقفوا قالوا : يا سلمه ويا طلحه لبيان الحركة ولم يجعلوا المتكلم بالخيار في حذف الهاء عند الوقف والشعراء إذا اضطروا حذفوا هذه الهاء في الوقف لأنهم إذا اضطروا يجعلون المدة التي تلحق القوافي بدلا منها قال ابن الخرع :
وكادت فزارة تشقى بنا
فأولى فزارة أولى فزارا
والضم جائز في البيت وكذلك إن رخمت اسما مركبا من اسمين قد ضم أحدهما إلى الآخر فحكم الثاني حكم الهاء في الحذف وذلك.
ص: 322
نحو : حضر موت ومعدي كرب ومار سرجس ومثل رجل سميته بخمسة عشر تحذف الثاني وتبقي الصدر على حاله فتقول : يا حضر أقبل ويا معدي أقبل ويا خمسة أقبل.
قال سيبويه : وإن وقفت قلت : يا خمسة بالهاء وإنما قال ذلك ؛ لأن تاء التأنيث لا ينطق بها إلا في الوصل.
فإذا وقفت عليها وقفت بالهاء ومما شبه بحضر موت : عمرويه زعم الخليل : أنه يحذف الكلمة التي ضمت إلى الصدر فيقول : يا عمر أقبل قال : أراه مثل الهاء لأنهما كانا بائنين فضم أحدهما إلى الآخر.
واعلم أن من قال : يا حار فإنه لا يعتد بما حذف ويجعل حكم الاسم حكم ما لم تحذف منه شيئا.
فإن كان قبل الطرف حرفا يعتل في أواخر الأسماء وينقلب أعل وقلب نحو : رجل سميته بعرقوة إن رخمت فيمن قال يا حار قلت : يا عرقي أقبل ولم يجز أن تقول : يا عرقوا ؛ لأن الاسم لا يكون آخره واوا قبلها حرف متحرك وهذا يبين في التصريف ومن قال : يا حار فإنما يجعل الراء حرف الإعراب تقدير ما لا فاء فيه فيجب عليه أن لا يفعل ذاك إلا بما مثله في الأسماء فمن رخم اسما فكان ما يبقى منه على مثال الأسماء فجائز ، وإن كان ما يبقى على غير مثال الأسماء فهو غير جائز وكذلك إن كان قبل المحذوف للترخيم شيء قد سقط لالتقاء الساكنين فإنك إذا رخمت وحذفت رجع الحرف الذي كان سقط لالتقاء الساكنين نحو : رجل سميته (بقاضون) كان الواحد (قاضي) قبل الجمع فلما جاءت واو الجمع سقطت الياء لالتقاء الساكنين ، فإن رخمت (قاضين) وهو في الأصل قلت : يا قاضي فرجع ما كان سقط لالتقاء الساكنين وشبيه بهذا وقفك على الهاء إذا رخمت رجلا اسمه : خمسة عشر ؛ لأن التاء إنما جلبها الوصل فلما زال الوصل رجعت الهاء وكذلك إن كنت أسكنت حرفا متحركا للإدغام في حرف مثله وقبله ساكن فحذفت الأخير للترخيم فإنك ترد الحركة لالتقاء الساكنين ، وذلك قولك لرجل اسمه (راد) يا راد أقبل إذا رخمت وفي محمارّ أقبل ؛ لأن الأصل : رادد ومحمارر ، وأما مفر فإذا سميت به ورخمته قلت : يا مفر أقبل ولم تحرك الراء ؛ لأن ما قبلها متحرك ، وأما
ص: 323
محمر إذا كان اسم رجل فإنك إذا رخمته تركت الراء الأولى مجزومة ؛ لأن ما قبلها متحرك فقلت : يا محمر أقبل ولقائل أن يقول : هلّا رددت الحركة فقلت : يا محمر أقبل إذ كان الأصل محمررا كما رددت الياء في (قاضي) فالجواب في ذلك : أنك إنما رددت الياء في (قاضي) لأنك لم تبن الواحد على حذفها كما بنيت (دم) على الحذف ومحمر لم تلحق الراء الأخيرة بعد إن تم بالأولى ولم يتكلم بأصله.
فإن كان آخر الاسم حرفا مدغما بعد الألف وأصل الأول منهما السكون أعني الحرفين المدغم أحدهما في الآخر حركته إذا رخمته بحركة ما قبله ، وذلك نحو : اسحارّ يا هذا تقول : يا اسحار فتحركه بحركة أقرب المتحركات منه.
وكذلك تفعل بكل ساكن احتيج إلى حركته من هذا الضرب.
قال رجل من أزد السراة :
ألا ربّ مولود وليس له أب
وذي ولد لم يلده أبوان (1)
ففتح الدال بحركة الياء لما احتاج إلى تحريكها ؛ لأن الفتحة قريبة منها وأسحار اسم وقع مدغما آخره وليس لرائه الأولى نصيب في الحركة.
واعلم أن الأسماء التي ليست في أواخرها هاء أن لا يحذف منها أكثر.
ص: 324
قال سيبويه : وليس الحذف لشيء من هذه الأسماء ألزم منه لحارث ومالك وعامر قال :وكل اسم خاص رخمته في النداء فالترخيم فيه جائز ، وإن كان في هذه الأسماء الثلاثة أكثر وكل اسم على ثلاثة أحرف لا يحذف منه شيء إذا لم يكن آخره الهاء ؛ لأن أقل الأصول ثلاثة فإنما يرخم من الأربعة وما زاد ؛ لأن ما بقي في الأسماء على عدته والفراء يرخم من ذلك ما كان محرك الثاني نحو : قدم وعضد وكتف إذا سمى به رجلا وقال : إن من الأسماء ما يكون على حرفين كدم ويد ولم يجز أن تقول في بكر : يا بك أقبل ؛ لأنه لا يكون اسم على حرفين ثانيه ساكن إلا مبهما نحو من وكم وليس من الأسماء اسم نكرة ليس في آخره هاء تحذف منه شيء إذا لم يكن اسما غالبا إلا أنهم قد قالوا : يا صاح أقبل وهم يريدون : يا صاحب ، وذلك لكثرة استعمالهم هذا الحرف والفراء إذا رخم : قمطر حذف الطاء مع الراء لأنها حرف ساكن والنحويون على خلافه في حذف الطاء وما أشبهها من السواكن الواقعة ثالثة ويجيز الفراء في حمار : يا حما أقبل يصير مثل رضا : وفي سعيد يا سعى يصير مثل عمى ولا يجيز : يا ثمود في ثمود ؛ لأنه ليس له في الأسماء نظير.
واعلم أن الشعراء يرخمون في غير النداء اضطرارا فمن ذلك قول الأسود ابن يعفر :
أودى ابن جلهم عبّاد بصرمته
إنّ ابن جلهم أمسى حيّة الوادي
أراد : جلهمه والعرب يسمون الرجل جلهمة والمرأة جلهم.
ص: 325
اعلم أن كل منادى مختص ، وإن العرب أجرت أشياء لما اختصتها مجرى المنادى كما أجروا التسوية مجرى الاستفهام إذ كان التسوية موجودة في الاستفهام ، وذلك قولهم : أما أنا فأفعل كذا وكذا أيها الرجل أو : نفعل نحن كذا وكذا أيها القوم واللهم أغفر لنا أيتها العصابة.
قال سيبويه : أراد أن يؤكذ ؛ لأنه اختص إذ قال : إنه لكنه أكد كما تقول لمن هو مقبل عليك كذا كان الأمر يا فلان ولا يدخل في هذا الباب لأنك لست تنبه غيرك.
ومن هذا الباب قول الشاعر :
إنّا بني نهشل لا ننتمي لأب
عنه ولا هو بالأبناء يشرينا (1)
نصب بني مختصا على فعل مضمر كما يفعل في النداء نحو (أعني) وما أشبه ذلك.
ص: 326
تقول : يا هذا الطويل أقبل في قول من قال : يا زيد الطويل ومن قال : يا زيد الطويل قال : يا هذا الطويل وليس الطويل بنعت لهذا ولكنه عطف عليه وهو الذي يسمى عطف البيان ؛ لأن هذا وسائر المبهمات إنما تبين بالأجناس ألا ترى أنك إذا قلت : جاءني زيد فخفت أن يلتبس الزيدان على السامع أو الزيود قلت : الطويل وما أشبه لتفصل بينه وبين غيره ممن له مثل اسمه ، وإذا قلت : جاءني هذا فق أو مأت له إلى واحد بحضرتك وبحضرتك أشياء كثيرة وإنما ينبغي لك أن تبين له عن الجنس الذي أو مأت له إليه لتفصل ذلك عن جميع ما بحضرتك من الأشياء ألا ترى أنك لو قلت له : يا هذا الطويل وبحضرتك إنسان ورمح وغيرهما لم يدر إلى أي شيء تشير.
وإن لم يكن بحضرتك إلا شيء طويل واحد وشيء قصير واحد فقلت : يا هذا الطويل جاز عندي ؛ لأنه غير ملبس والأصل ذاك وأنت في المبهمة تخص له ما يعرفه بعينه وفي غير المبهمة تخص له ما يعلمه بقلبه.
وتقول في رجل سميته بقولك : زيد وعمرو يا زيدا وعمرا أقبل تنصب لطول الاسم ولو سميته : طلحة وزيدا لقلت : يا طلحة وزيدا أقبل ، فإن أردت بطلحة الواحدة من الطلح قلت :يا طلحة وزيدا أقبل لأنك سميته بها منكورة ولم تكن ولم تكن جميع الاسم فتصير معرفة إنما هي في حشو الاسم كما كانت فيما نقلتها عنه وتقول : يا زيد الظريف على أصل النداء عند البصريين وقال الكوفيون : يراد بها يا أيها الظريف فلما لم يأت (بيا أيها) نصبته وربما نصبوا المنعوت بغير تنوين فأتبعوه نعته وينشدون :
فما كعب بن مامة وابن سعدى
بأجود منك يا عمر الجوادا (1)
ص: 327
والنصب عند الكوفيين في العطف على (أيها) كما كان في النعت فلما لم يأتي (يا أيها) نصب ويجيزون : يا عبد الله وزيدا ويقولون : يا أبا محمد زيد أقبل وهو عند البصريين بدل وهو عند الكوفيين من نداء ابن.
وإذا قلت : زيدا فهو عند الكوفيين نداء واحد ويسميه البصريون عطف البيان ويجيز الكوفيون : يا أيها الرجل العاقل على تجديد النداء كذا حكي لي عنهم ويجيز البصريون : يا رجلا ولا يجيز الكوفيون ذاك إلا فيما كان نعتا نحو قوله :
فيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن
نداماي من نجران أن لا تلاقيا
ص: 328
ولا يكادون يحذفون (يا) من النكرة ويقولون : وا زيد في النداء ويقولون : وأ أي زيد.
قال أبو العباس : إنما قالوا : هذا ابنم ورأيت ابنما ومررت بابنم فكسروا ما قبل الميم إذا انكسرت وفعلوا ذلك في الضم والنصب ؛ لأن هذه الميم زيدت على اسم كان منفردا منها وكان الإعراب يقع على آخره فلما زيدت عليه ميم أعربت الميم إذ كانت طرفا وأعربت ما قبلها إذ كانت تسقط فرجع الإعراب إليه وقولك وقد يخفف الهمز فتقول : مر فيقع الإعراب على الراء فلذلك تبعت الهمزة وكذلك إذا قلت : يا زيد بن عمرو جعلتهما بمنزلة واحدة اسم واحد واتبعت الدال حركة ابن فهو مثل ابنم وقال في قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة.
لا يجوز : اللهم اغفر لهم أيتها العصابة.
وقال : قلت لأبي عثمان : ما أنكرت من الجال للمدعو قال : لم أنكر منه إلا أن العرب لم تدع على شريطة لا يقولون يا زيد راكبا أي ندعوك في هذه الحال ونمسك عن دعائك ماشيا ؛ لأنه إذا قال : يا زيد فقد وقع الدعاء على كل حال.
قال : قلت : فإنه إن احتاج إليه راكبا ولم يحتج إليه في غير هذه الحال فقال : يا زيد راكبا أي أريدك في هذه الحال قال : ألست قد تقول : يا زيد دعاء حقا قلت : بلى قال : علام تحمل المصدر قلت ؛ لأن قولي : يا زيد كقولي : أدعو زيدا فكأني قلت : أدعو دعاء حقا قال : فلا أرى بأسا بأن تقول على هذا : يا زيد قائما وألزم القياس.
قال أبو العباس : ووجدت أنا تصديقا لهذا قول النابغة :
قالت بنو عامر خالوا بني أسد
يا بؤس للجهل ضرّارا لأقوام (1)
ص: 329
وقال الأخفش : لو قلت : يا عبد الله صالحا لم يكن كلاما.
وقال أبو إسحاق يعني الزيادي : كان الأصمعي : لا يجيز أن يوصف المنادى بصفة البتة مرفوعة ومنصوبة.
وقال أبو عثمان لا أقول : يا زيد وخيرا من عمرو أقبلا إذا أردت بخير من عمرو المعرفة لأني أدخل الألف واللام إذا تباعد المنادى من حرف النداء كما أقول : يا زيد والرجل أقبلا ولكن أقول : يا زيد والأخير أقبلا ، ويا زيد ويا خيرا من عمرو أقبلا إذا أردت حرف النداء كان ما بعده معرفة.
ولم يجىء معه الألف واللام كما تقول : يا خيرا من زيد العاقل أقبل فتنصب العاقل ؛ لأنه صفة له وكذلك : يا زيد ويا أخير أقبلا وقال أبو عثمان : أنا لا أرى أن أقول : يا زيد الطويل وذا الجمة إن عطفت على زيد والنحويون جميعا في هذا على قول.
قال : وأرى إن عطفت (ذا الجمة) على (الطويل) أن أرفعه كما فعلت في الصفة والنحويون كلهم يخالفونه ولا يجيزون إلا نصب ذي الجمة وهذا عنده كما تقول : يا زيد الطويل ذو الجمة إذا جعلته صفة للطويل.
وإن كان وصفا لزيد أو بدلا منه نصبته وكان أبو عثمان يجيز يا زيد أقبل على حذف ألف الإضافة ؛ لأنه يجوز في الإضافة : يا زيد أردت : يا زيدى فأبدلت من الياء ألفا.
ص: 330
وعلى هذا قرئ : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ) [مريم : 42] و (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ) [هود : 51](1) قال : ومن زعم أنه على حذ ألف الندبة فهذا خطأ ؛ لأن من كان من العرب لا يلحق الندبة ألفا فهي عنده نداء فلو حذفوها لصارت بدلا على غير جهة الندبة.
وقال أبو العباس : لا أرى ما قال أبو عثمان في حذف الألف إذا جعلتها مكان ياء الإضافة صوابا نحو : يا غلاما أقبل لا يجوز حذف الألف لخفتها كما تحذف الياء إذا قلت : يا غلام أقبل.
وقال : يا أبت. لا يجوز عندي إلا على الترخيم كما قال سيبويه مثل : يا طلحة أقبل وقال : زعم أبو عثمان أنه يجيز : يا زيد وعمرا أقبلا على الموضع كما أجاز : يا زيد زيدا أقبل فعطف زيد الثاني على الموضع عطف البيان وأهل بغداد يقولون : يا الرجل أقبل ويقولون لم نر موضعا يدخله التنوين يمتنع من الألف واللام وينشدون :
فيا الغلامان اللّذان فرّا
إيّاكما أن تكسبانا شرّا (2)
وقال أبو عثمان : سألت الأخفش كيف يرخم طيلسان فيمن كسر اللام على قولك : يا حار فقال : يا طيلس أقبل قلت : أرأيت فيعل اسما قط في الصحيح إنما يوجد هذا في المعتل نحو : سيد وميت.
ص: 331
قال : فقال : قد علمت أني قد أخطأت لا يجوز ترخيمه إلا على قولك يا حار قال : وكان الأخفش لا يجوز عنده ترخيم حبلوى اسم رجل فيمن قال : يا حار ، وذلك ؛ لأنه يلزمه أن يحذف يائي النسب ويقلب الواو ألفا لإنفتاح ما قبلها فيقول : يا حبلى فتصير ألف فعلى منقلبة وهذا لا يكون أبدا إلا للتأنيث.
فلهذا لا يجوز ؛ لأن ألف التأنيث لا تكون منقلبة أبدا من شيء وهذا البناء لا يكون للمذكر أبدا وقال : كان الأخفش يقول : إذا رخمت سفيرج اسم رجل في قول من قال : يا حار ..
فحذفت الجيم لزمك أن ترد اللام التي حذفتها لطول الاسم وخروجه من باب التصغير فتقول : يا سفيرل أقبل ؛ لأنه لما صار إسما على حياله فحذفت الجيم على أن يعتد بها وتجعله بمنزلة (قاضون) اسم رجل إذا قلت : يا قاضي الياء التي كانت ذهبت لالتقاء الساكنين لما حذفت ما حذفت من أجله.
قال أبو العباس : وليس هذا القول بشيء.
ووجه الغلط فيه بيّن ، وذلك لأنك لم تقصد به إلى سفرجل فتسميه به ولا هو منه في شيء إنما قصدت إلى هذا الذي هو سفيرج ولا لام فيه فهو على مثال ما يرخم فرخمته بعد أن ثبت إسما ألا ترى أنك تقول : في تصغير سفرجل : سفيرج وسفيريج للعوض ولو سميته : سفيريج لم يجز أن تقول فيه : سفرجل واسمه سفيريج لأنك لست تقصد إلى ما كان يجوز في سفرجل وكذلك فرزدق.
لو سميته بتصغيره فيمن قال : فريزد لم يجز في اسمه أن تقول : فريزق ، وإن كان ذلك يجوز في تصغير فرزدق لأنك سميته بشيء بعينه فلزمه.
وتقول : يا زيد وعمرو الطويلين والطويلان ؛ لأنه بمنزلة قولك : يا زيد الطويل وتقول بلا هؤلاء وزيد الطوال ؛ لأن كله رفع والطوال عطف عليهم ولا يجوز أن يكون صفة لإفتراق الموصوفين وتقول : يا هذا ويا هذان الطّوال ، وإن شئت قلت : الطّوال ؛ لأن هذا كله مرفوع والطوال عطف عليهم هنا وليس الطوال بمنزلة : يا هؤلاء الطوال ؛ لأن هذا يقبح من جهتين :من جهة أن المبهم إذا وصفته بمنزلة اسم واحد فلا يجوز أن تفرق بينه وبينه والجهة الأخرى
ص: 332
أن حق المبهم أن يوصف بالأجناس لا بالنعوت وتقول : يا أيها الرجل وزيد الرجلين الصالحين تنصب ولا ترفع من قبل أن رفعهما مختلف ، وذلك أن زيدا على النداء والرجل نعت (لأي) وتقول في الندبة : يا زيد زيداه ويا زيدا زيداه وقوم يجيزون : يا زيدا زيداه وقوم يجيزون :يا زيدا يا زيداه ويا زيداه يا زيداه وقد مضى تفسير ما يجوز من ذا وما لا يجوز وقالوا : من قال يا هناه ويا هناه بالرفع والجر من رفع توهم أنه طرف للإسم ويكسر ؛ لأنه جاء بعد الألف.
والتثنية : يا هنانيه ويا هناناه ويا هنوتاه في الجمع وهنتاه في المؤنث وهنتانيه في التثنية وهنتاناه ويا هناتوه في الجمع لا غير والفراء لا ينعت المرخم إلا أن يريد نداءين ونعت المرخم عندي قبيح كما قال الفراء من أجل أنه لا يرخم الاسم إلا وقد علم ما حذف منه وما يعني به.
فإن احتيج إلى النعت للفرق فرد ما سقط منه أولى كقول الشاعر :
أضمر بن ضمرة ما ذا ذكرت
من صرمة أخذت بالمرار
أراد : يا ضمر يا ابن ضمرة.
والكوفيون يجيزون : يا جرجر في جرة وفي حولايان يا حول فيحذفون الزوائد كلها وهذا إخلال بالاسم يسقطون فيه ثلاثة أحرف فيها حرف متحرك ولا نظير لهذا في كلام العرب ويقولون للمرأة : يا ذات الجمة أقبلي ويا ذواتي الجمم للإثنين وللجماعة يا ذوات الجمم بكسر التاء وقد يقال : يا ذواتي الجمة ويا ذوات الجمة.
قال أبو بكر : وذلك أن ذات إنما هي ذاة فالتاء زائدة للجمع وإنما صارت الهاء في الواحدة تاء حين أضفتها ووصلتها بغيرها.
وتقول : يا هذا الرجل. والرجل أقبل ويا هذان الرجلان والرجلين مثل : يا زيد الظريف والظريف النصب على الموضع والرفع على اللفظ وتقول : يا أخوينا زيد وعمرو على قولك يا :زيد وعمرو يعني البدل.
وقال الأخفش : وإن شئت قلت : زيد وعمرو على التعويض كأنك قلت أحدهما زيد والآخر عمرو.
ص: 333
قال أبو بكر : هذا عندي إنما يجوز إذا أراد أن يخبر بذلك بعد تمام النداء.
وتقول : يا أيها الرجل زيد ؛ لأن زيدا معطوف على الرجل عطف البيان يجري عليه كما يجري النعت للبيان ولو جاز أن لا تنون زيدا لجاز أن تقول : يا أيها الجاهل ذا التنزي.
على النعت وإنما هو ذو التنزي وتقول : يا أيها الرجل عبد الله تعطف على الرجل عطف البيان.
قال الأخفش : ولو نصبت كان في القياس جائز إلا أن العرب لا تكلم به نصبا ولكن تحمله على أن تبدله من (أي) ؛ لأن (أي) في موضع نصب على أصل النداء وقال : إذا رخمت رجلا اسمه شاة قلت : يا شا أقبل ومن قال : يا حار فرفع قال : يا شاة أقبل فرد الهاء الأصلية ؛ لأنه لا يكون الاسم على حرفين أحدهما ساكن إلا مبهما وقال : تقول في شية على ذا القياس يا وشي أقبل وفي دية : يا ودي أقبل فترد الواو في أوله لأنها ذهبت من الأول ؛ لأن الأصل : وديت ووشيت وإنما ردت الواو ؛ لأن مثل : شيء لا يكون اسما.
وذلك أن الاسم لا يكون على حرفين أحدهما ساكن قال : وتكسر الواو إذا رددتها ؛ لأن الأصل وشبه كما كانت قالت العرب : وجهة لما أتموا : وقالوا : ولدة والكوفيون وقوم يجيزون : يا رجل قام ويقولون : إن كان تعجبا نصبت كقولك : يا سيدا ما أنت من سيد ويكون مدحا كقولك : يا رجلا لم أر مثله وكذلك جميع النكرات عندهم وتقول : يا أيها الرجل ويا أيها الرجلان ويا أيها الرجال ويا أيها النساء على لفظ واحد والإختيار في الواحدة في المؤنث يا أيتها المرأة ، وإذا قلت : يا ضاربي فأردت به المعرفة كان مثل : يا صاحبي وغلامي ويجوز عندي أن تقول : يا ضارب أقبل كما تقول : يا غلام أقبل ، فإن أردت غير المعرفة لم يجز إلا إثبات الياء وتقول : يا ضاربي غدا وشاتمي لأنك تنوي الإنفصال وتقول : يا قاضي المدينة لك أن تنصبهما ولك أن ترفع الأول وتنصب الثاني والكوفيون يجيزون نصب الأول بتنوين ؛ لأنه يكون خلفا وما لا يكون خلفا فلا يجوز في الأول عندهم التنوين مثل : يا رجل رجلنا لا يجيزون النصب في الأول وقالوا كل ما كان يكون خلفا فلك الرفع بلا تنوين والنصب بتنوين ويقولون : يا قائما أقبل ويا قائم أقبل ويجيزون أن يؤكد ما فيه وينسق عليه ويقطع منه كما يصنع بالخلف
ص: 334
ويجيزون : يا رجل قائما أقبل على نداءين ، وإن شئت كان في الصلة ويجيزون : يا رجل قائم أقبل. ينوون فيها الألف واللام.
ويحكون عن العرب : يا مجنون مجنون أقبل ويجيزون : يا أيها الذي قمت أقبل ويا أيها الذي قام أقبل وهو جائز ولا يجيزونه في من وكذا ينبغي ويقولون : يا رجلا قمت أقبل ويا رجل قمت أقبل والفراء إذا خاطب رفع لا غير ويقولون : يا قاتل نفسك ويا عبد بطنك وهذا جائز قال أحمد بن يحيى : لو أجزت الرفع لم يكن خطأ قال : وكذلك : يا ضاربنا ولا شاتمنا يختار النصب مع كل ما ظهرت إضافته قال : ويجوز في القياس الرفع وأنت تنوي الألف واللام.
فإذا كان لا يجوز فيه الألف واللام لم يجز إلا النصب مثل : يا أفضل منا ويا أفضلنا ويا غلام زيد ويا غلام رجل إنما يجوز الرفع في القياس مع ضارب زيد وحسن الوجه وقال : أما مثلنا وشبهنا فالنصب لا غير.
وقال الأخفش : تقول : إذا نسبت رجلا إلى حباري وحبنطي قلت : حباريّ وحبنطيّ فإذا رخمت لم ترد الألف وكذلك إذا نسبت إلى مرمى فقلت : مرميّ لم ترد الألف لو رخمته ؛ لأن هذا لم يحذف لالتقاء الساكنين ولو كان حذف لالتقاء الساكنين لبقي الحرف مفتوحا فكان يكون حباريّ وحبنطيّ قال : وإن شئت قلت : إني أرد الألف وأقول ذهب لإجتماع الساكنين ولكنهم كسروا لأنهم رأوا جميع النسب يكسر ما قبله قال : ومن قال : احذفه على أني أبنيه بناء قال : لا أحذفه لإجتماع الساكنين وجب عليه أن لا يرد في : ناحي وقاضي إذا نسب إلى ناحية وقاض وقال : إذا سميت رجلا حبلاوي أو حمراوي إذا رخمته فيمن قال : يا حار فرفع همزت لأنها واو صارت آخرا فتهمزها وتصرفها في المعرفة والنكرة لأنها الآن ليست للتأنيث.
قال أبو بكر : وجميع ما ذكرت من المسائل فينبغي أن تعرضه على الأصول التي قدمتها فما صح في القياس فأجزه وما لم يصح فلا تجزه وإنما أذكر لك قول القائلين كيلا تكون غريبا فيمن خالفك ، فإن الحيرة تقارن الغربة وقد ذكرنا الضم الذي يضارع الرفع ونحو نتبعه الفتح الذي يشبه النصب إن شاء الله.
ص: 335
الفتح الذي يشبه النصب هو ما جاء مطردا في الأسماء النكرات المفردة ولا تخص اسما بعينه من النكرات إذا نفيتها (بلا) ، وذلك قولك : لا رجل في الدار ولا جارية فأي اسم نكرة ولي (لا) وكان جوابا لمن قال : هل من غلام فهو مفتوح ، فإن دخلت (لا) (1) على ما عمل بعضه في بعض من معرفة أو نكرة لم تعمل هي شيئا إنما تفتح الاسم الذي يليها إذا كانت قد نفت ما لم يوجبه موجب.
ص: 336
فأما إذا دخلت على كلام قد أوجبه موجب فإنها لا تعمل شيئا وإنما خولف بها إذا كانت تنفي ما لم يوجب وكل منفي فإنما ينفي بعد أن كان موجبا وأنت إذا قلت : لا رجل فيها إنما نفيت جماعة الجنس وكذلك إذا قلت : هل من رجل لم تسأل عن رجل واحد بعينه إنما سألت عن كل من له هذا الاسم ولو أسقطت (من) فقلت : هل رجل لصلح لواحد والجمع فإذا دخلت (من) لم يكن إلا للجنس.
واعلم أن (لا) إذا فتحت ما بعدها فقد يجيء الخبر محذوفا كثيرا تقول : لا رجل ولا شيء تريد في مكان أو زمان وربما لم يحذف خالفت ما وليس ألا ترى أن (ما) تنفي بها ما أوجبه الموجب و (ليس) كذلك وهما يدخلان على المعارف و (لا) في هذا الموضع ليست كذلك وقد اختلف النحويون في تقديرها إختلافا شديدا فقال سيبويه : (لا) تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين ونصبها لما بعدها كنصب (إنّ) لما بعدها وترك التنوين لما تعمل فيه لازم لأنها جعلت وما تعمل فيه بمنزلة اسم واحد نحو : خمسة عشر ، وذلك ؛ لأنه لا يشبه ما ينصب وهو الفعل ولا ما أجرى مجراه لأنها لا تعمل إلا في نكرة (ولا) ما بعدها في موضع ابتدء فلما خولف بها عن حال أخواتها خولف بلفظها كما خولف بخمسة عشر ولا تعمل إلا في نكرة كما أن : ربّ لا تعمل إلا في نكرة فجعلت وما بعدها كخمسة عشر في اللفظ وهي عاملة فيما بعدها كما قالوا : يا ابن أم فهي مثلها في اللفظ وفي أن الأول عامل في الثاني و (لا) : لا تعمل إلا في نكرة من قبل أنها جواب فيما زعم
الخليل كقولك : هل من عبد أو جارية فصار الجواب نكرة كما أنه لا يقع في هذه المسألة إلا نكرة.
(فلا) وما عملت فيه في موضع ابتداء كما أنك إذا قلت : هل من رجل فالكلام بمنزلة اسم مبتدأ والذي يبني عليه في زمان أو مكان هو الخبر ولكنك تضمره ، وإن شئت أظهرته.
قال أبو العباس محمد بن يزيد : فإن قال قائل : فهل يعمل في الاسم بعضه فالجواب في ذلك : بلغني أنك منطلق إنما هو بلغني إنطلاقك (فإن) عاملة في الكاف وفي منطلق وكذلك موقعها مفتوحة أبدا ، وكذلك (أن) الخفيفة هي عاملة في الفعل وبه تمت اسما فكذلك (لا) عملت عنده فيما بعدها وهي وما بعدها بمنزلة اسم.
ص: 337
قال : والدليل على أن (لا) وما عملت فيه اسم أنك تقول : غضبت من لا شيء وجئت بلا مال كما قال :
حنّت قلوصي حين لا حين محن (1)
فجعلها اسما واحدا فالموضع موضع نصب نصبته (لا) وسقوط التنوين ؛ لأنه جعل معها اسما واحداص والدليل على ذلك : أنه إن اتصل بها اسم مفرد سقط منه التنوين وصار اسما واحدا وموضع الاسم بأسره موضع رفع كما كان موضع ما هو جوابه كذلك.
ص: 338
وأما الكسائي : فإنه يقول : النكرات يبتدأ بأخبارها قبلها لئلا يوهمك أخبارها أنها لها صلات فلما لزمت التبرئة الاسم وتأخر الخبر أرادوا أن يفصلوا بين ما ابتدئ خبره وما لا يكون خبره إلا بعده فغيروه من الرفع إلى النصب لهذا ونصبوه بغير تنوين ؛ لأنه ليس بنصب صحيح إنما هو مغير كما فعلوا في النداء حين خالفوا به نصب المضاف فرفعوه بغير تنوين ولم يكسروه فيشبه ما أضيف إليه.
وقال الفراء : إنما أخرجت (لا) من معنى غير إلى (ليس) ولم تظهر ليس ولا إذا كانت في معنى (غير) عمل ما قبلها فيما بعدها كقولك : مررت برجل لا عالم ولا زاهد و (لا) إذا كانت تبرئة كان الخبر بعدها ففصلوا بهذا الإعراب بين معنيين.
وفي جميع هذه الأقوال نظر وإنما تضمنا في هذا الكتاب الأصول والوصول إلى الإعراب فأما عدا ذلك من النظر بين المخالفين ، فإن الكلام يطول فيه ولا يصلح في هذا الكتاب على أنا ربما ذكرنا من ذلك الشيء القليل.
ص: 339
واعلم أن المنفي في هذا الباب ينقسم أربعة أقسام : نكرة مفردة غير موصوفة ونكرة موصوفة ونكرة مضافة ومضارع للمضاف (1).
ص: 340
فنحو ما خبرتك من قولك : لا رجل عندي ولا رجل في الدار ولا صاحب لك و (لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) [التوبة : 118] ولا صنع لزيد ولا رجل ولا شيء تريد : لا رجل في مكان ولا شيء في زمان وتقول : لا غلام ظريف في الدار.
فقولك : ظريف خبر وقولك : في الدار خبر آخر ، وإن شئت جعلته لظريف خاصة ومن ذلك قول الله عز وجل : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : 43].
وقال : (الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : 1 - 2] ، وأما قول الشاعر :
لا هيثم الليلة للمطّي (1)
فإنه جعله نكرة أراد لا مثل هيثم ومثل ذلك : لا بصر لكم.
وقال ابن الزبير الأسدي :
أرى الحاجات عند أبي خبيب
نكدن ولا أميّة في البلاد
ص: 341
أراد : ولا مثل أمية ، فإن ثنيت المنفي (بلا) قلت : لا غلامين لك ولا جاريتين لا بدّ من إثبات النون في التثنية والجمع الذي هو بالواو والنون قد تثبت في المواضع التي لا تثبت فيها التنوين بل قد يثنى بعض المبنيات بالألف والنون والياء والنون. نحو : هذا والذي. تقول :هذان واللذان.
قال أبو العباس : وكان سيبويه والخليل يزعمان : أنك إذا قلت : لا غلامين لك أن غلامين مع (لا) اسم واحد النون كما تثبت مع الألف واللام في تثنية ما لا ينصرف وجمعه نحو : هذان أحمران وهذان المسلمان وقال : وليس القول عندي كذلك ؛ لأن الأسماء المثناة والمجموعة بالواو والنون لا تكون مع ما قبلها اسما واحدا لم يوجد ذلك كما لو يوجد المضاف ولا الموصول مع ما قبلهما بمنزلة اسم واحد.
اعلم أنك إذا وصفت النكرة في هذا الباب فلك فيها ثلاثة أوجه :
الأول منها : وهو الأحسن أي تجري الصفة على الموصوف وتنون الصفة ، وذلك قولك : لا رجل ظريفا في الدار فتنون ؛ لأنه صفة ويكون قولك : في الدار وهو الخبر وحجة من فعل هذا أن النعت منفصل من المنعوت مستغني عنه وإنما جيء به بعد أن مضى الاسم على حاله ، فإن لم تأت به لم تحتج إليه.
والوجه الثاني : أن تجعل المنفي ونعته اسما واحدا وتبنيه معه فتقول : لا رجل ظريف في الدار بنيت رجل مع ظريف وحجة من رأى أن يجعله مع المنعوت اسما واحدا أن يقول : لما كان موضع يصلح فيه بناء الاسمين اسما واحدا كان بناء اسم مع (اسم) أكثر وأفشى من بناء اسم مع حرف ، فإن قلت : لا رجل ظريفا عاقلا فأنت في النعت الأول بالخيار فأما الثاني : فليس فيه إلا التنوين ؛ لأنه لا يكون ثلاثة أشياء اسما واحدا وكذلك المعطوف لو قلت : لا رجل وغلاما عندك لم يصلح في (غلام) إلا التنوين من أجل واو العطف ؛ لأنه لا يكون في الأسماء مثل حضرموت اسما واحدا إذا كانت بينهما واو العطف.
ص: 342
والتكرير والنعت : بمنزلة واحدة تقول في النعت : لا رجل ظريف لك والتكرير على ذلك يجري تقول : لا ماء ماء باردا ، وإن فصلت بين الموصوف والصفة بشيء لم يجز في الصفة إلا التنوين ، وذلك قولك : لا رجل اليوم ظريفا ولا رجل فيها عاقلا من قبل أنه لا يجوز لك أن تجعل الاسم والصفة بمنزلة اسم واحد وقد فصلت بينهما كما أنه لا يجوز لك أن تفصل بين : عشر وخمسة في خمسة عشر.
والوجه الثالث : أن تجعل النعت على الموضع فترفع ؛ لأن (لا) وما علمت فيه في موضع اسم مبتدأ فتقول : لا رجل ظريف فتجري (ظريف) على الموضع فيكون موضع اسم مبتدأ والخبر محذوف ، وإن شئت جئت بخبر فقلت : (لك) أو عندك كما بينت لك فيما تقدم قال الشاعر :
وردّ جازرهم حرفا مصرّمة
ولا كريم من الولدان مصبوح
والنعت على اللفظ أحسن وكذلك إذا قلت : لا ماء ماء باردا ، وإن شئت قلت : لا ماء ماء بارد ، فإن جعلت الاسمين اسماص واحدا قلت : لا ماء ماء بارد جعلت ماء الأول والثاني اسما واحدا وجعلت (بارد) نعتا على الموضع.
ومن ذا قول العرب : لا مال له قليل ولا كثير.
قال سيبويه : والدليل على أن (لا رجل) في موضع اسم (مبتدأ) في لغة تميم قول العرب من أهل الحجاز : لا رجل أفضل منك والعطف في هذا الباب على الموضع كالنعت فمن ذلك قول الشاعر وهو رجل من مذحج (1) :
ص: 343
هذا لعمركم الصّغار بعينه
لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب
والأجود أن تعطف على اللفظ فتقول : لا حول ولا قوة هذا إذا جعلت لا الثانية مؤكدة للنفي ولم يقدر أنك ابتدأت النفي بها ، فإن قدرت ذلك كان حكمها حكم الأول فقلت : لا حول ولا قوة ، وإن شئت عطفت على الموضع كما خبرتك.
ص: 344
والنون من الأسماء المنفية فإن ثنيت فلا بد من النون تقول : لا غلامين ولا جاريتين تثبت النون هنا كما تثبت في النداء والأسماء المبنية فيها ما يبنى وتثبت فيه النون ، وإن كان المفرد مبنيا ألا ترى أنك تثني هذا فتقول : هذان وهذين وكذلك : اللذان واللذين.
وتقول : لا غلامين ظريفين لك ولا مسلمين صالحين لك ولا عشرين درهما لك ونظير هذه النون التنوين إذا لم يكن منتهى الاسم وصار كأنه حرف قبل آخر الاسم وهو قولك : لا خيرا منه ولا حسنا وجهه لك ولا ضاربا زيدا لك ؛ لأن ما بعد حسن وضارب وخير صار من تمام الاسم فقبح أن يحذفوا قبل أن ينتهوا منتهى الاسم.
وقال الخليل : كذلك : لا آمرا بالمعروف لك إذا جعلت (بالمعروف) من تمام الاسم وجعلته متصلا به كأنك قلت : لا آمرا معروفا لك.
وإن قلت : لا آمر بمعروف لك فكأنك جئت بمعروف بعد ما بنيت على الأول كلاما.
التنوين يسقط من كل مضاف في هذا الباب وغيره فإذا نصبت مضافا وأعملت (لا) نصبته ولا بد من أن يكون ذلك المضاف نكرة ؛ لأن (لا) لا تعمل في المعارف والمضاف ينقسم في هذا الباب على قسمين : مضاف لم يذكر معه لام الإضافة ومضاف ذكرت معه لام الإضافة.
فأما المضاف المطلق فقولك : لا غلام رجل لك ولا ماء سماء في دارك ولا مثل زيد لك وإنما امتنع هذا أن يكون اسما واحدا مع (لا) ؛ لأنه مضاف والمضاف لا يكون مع ما قبله اسما واحدا ألا ترى أنّك لا تجد اسمين جعلا اسما واحدا وأحدهما مضاف إنما يكونان مفردين : كحضر موت وبعلبك ألا ترى أن قوله : يا ابن أم لما جعل (أم) مع ابن اسما واحدا حذف ياء الإضافة وقال ذو الرمة :
هي الدّار إذ ميّ لأهلك جيرة
ليالي لا أمثالهن لياليا
فأمثالهن نصب ب (لا).
ص: 345
فالتنوين والنون تقع في هذا الموضع كما وقع مما قبله لما أضفته ، وذلك قولهم : لا أبا لك ولا غلام لك.
وقال الخليل : إن النون إنما ذهبت للإضافة ولذلك لحقت الألف الأب التي لا تكون إلا في الإضافة وإنما كان ذلك من قبل أن العرب قد تقول : لا أباك في موضع : لا أبالك ولو أردت الإفراد : لا أب لزيد فاللام مقحمة ليؤكد بها الإضافة كما وقع في النداء : يا بؤس للحرب هذا مقدار ما ذكره أصحابنا.
ولقائل أن يقول : إذا قلت : أنّ قولهم : لا أباك تريد به : لا أبالك فمن أين جاز هذا التقدير والمضاف إلى كاف المخاطب معرفة والمعارف لا تعمل فيها لا قيل له : إن المعنى إذا قلت : لا أبالك الانفصال كأنك قلت : لا أبا لك فتنون لطول الاسم وجعلت (لك) من تمامه وأضمرت الخبر ثم حذفت التنوين استخفافا وأضافوا وألزموا اللام لتدل على هذا المعنى فهو منفصل بدخول اللام وهو متصل بالإضافة.
وإنما فعل في هذا الباب وخصوه كما خصوا النداء بأشياء ليست في غيره.
وإنما يجوز في اللام وحدها أن تقحم بين المضاف والمضاف إليه ؛ لأن معنى الإضافة معنى اللام ألا ترى أنك إذا قلت : غلام زيد فمعناه : غلام لزيد فدخول اللام في هذا يشبه قولهم : يا تيم تيم عدي أكد هذه الإضافة بإعادة الاسم كما أكد ذلك بحرف الإضافة فكأنه قد أضافه مرتين.
والشاعر قد يضطر فيحذف اللام ويضيف قال :
أبا الموت الذي لا بدّ أنّي
ملاق لا أباك تخوّفيني (1)
ص: 346
فإن قال : لا مسلمين صالحين : لك فوصف المنفي قبل مجيئك (بلك) لم يكن بد من إثبات النون من قبل أن الصالحين نعت للمنفي وليس بمنفي وإنما جاء التخفيف في النفي.
المضارع للمضاف في هذا الباب ما كان عاملا فيما بعده كما أن المضاف عامل فيما بعده فهو منصوب كما أن المضاف منصوب وما بعده من تمامه كما أن المضاف من تمام الأول إلا أن التنوين يثبت فيه ولا يسقط منه ؛ لأنه ليس منتهى الاسم فصار كأنه حرف قبل آخر الاسم.
فالتنوين هنا والنون يثبتان إذا كان المنفي عاملا فيما بعده فهو وما عمل فيه بمنزلة اسم واحد فمن ذلك قولهم : لا خيرا منه ولا حسنا وجهه لك ولا ضاربا زيدا لك ؛ لأن ما بعد حسن وضارب وخير صار من تمام الاسم.
فجميع هذا قد عمل فيما بعده ومثل ذلك قولك : لا عشرين درهما لك لو لا درهم لجاز أن تقول : لا عشرين لك وعشرون عملت في درهم فنصبته.
وقال الخليل : كذلك : لا آمرا بالمعروف لك إذا جعلت بالمعروف من تمام الاسم وجعلته متصلا به كأنك قلت : لا آمرا معروفا لك ، وإذا قلت : لا آمر بمعروف فكأنك جئت بمعروف تبيينا بعد أن تم الكلام وتقول : لا آمر يوم الجمعة لك إذا نفيت جميع الآمريين وزعمت : أنه ليسوا له يوم الجمعة ، فإن أردت أن تنفي الأمرين يوم الجمعة خاصة قلت : لا آمر يوم الجمعة لك جعلت يوم الجمعة من تمام الاسم فصار بمنزلة قولك : لا آمرا معروفا لك.
ولو قلت : لا خير عند زيد ولا آمر عنده لم يجز إلا بحذف التنوين لأنك لم تصله بما يكمله اسما ولكنه اسم تام فجعلته مع (لا) اسما واحدا.
ص: 348
هذا الباب ينقسم على ثلاثة أقسام : اسم معرفة واسم منفي بلا بعده اسم منفي بلا وهما جواب مستفهم قد ثبت عنده أحد الشيئين واسم قد عمل فيه فعل أو هو في معنى ذلك.
وقد عرفتك أن (لا) لا تنصب المعارف ، فإن عطفت معرفة منفية على نكرة وقد عملت فيها لم تعملها في المعرفة وأعملتها في النكرة ، وذلك قولك : لا غلام لك ولا العباس لك ولا غلاملك ولا أخوة لك.
قال سيبويه : فأما من قال : كل نعجة وسخلتها بدرهم فينبغي أن يقول : لا رجل لك وأخا له ولا يحسن أن تدخل (لا) على معرفة مبتدأة غير معطوفة على كلام فقد تقدم فيه (لا) ، فإن كررت لا جاز.
فأما الذي لا يجوز فقولك : لا زيد في الدار ؛ لأن هذا موضع (ما) إلا أن يضطر شاعر فيرفع المعرفة ولا يثني (لا) قال الشاعر :
بكت حزنا واسترجعت ثمّ آذنت
ركائبها أن لا إلينا رجوعها
فأما الذي يحسن ويجوز فقولك : لا زيد في الدار ولا عمرو ولما ثنيت حسن.
وهذا الصنف إنما يجيء على لفظ السائل إذا قال : أغلام عندك أم جارية إذا ادعى أن عنده أحدهما إلا أنه لا يدري : أغلام هو أم جارية فلا يحسن في هذا إلا أن تعيد (لا) فتقول : لا غلام عندي ولا جارية ، وإذا قال : لا غلام فإنما هو جواب لقوله : هل من غلام ولم يثبت أن عنده شيئا فعملت لا فيما بعدها ، وإن كان في موضع ابتداء ومن ذلك قول الله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف : 13].
وقال الشاعر :
وما ضرمتك حتّى قلت معلنة
لا ناقة لي في هذا ولا جمل
ص: 349
وكذلك إذا فصلت بين (لا) والاسم بحشو لم يحسن إلا أن تعيد الثانية ؛ لأن جعل جواب إذا عندك. أم ذا فمن ذلك قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات : 47].
ولا يجوز : لا فيها أحد إلا على ضعف ، فإن تكلمت به لم يكن إلا رفعا ؛ لأن (لا) لا تعمل إذا فصل بينها وبين الاسم رافعة ولا ناصبة ومعنى قولي : رافعة إذا أعملت عمل ليس تقول :لا أحد أفضل منك في قول من جعلها ك- (ليس).
اعلم أن هذا يلزمك فيه تثينة (لا) كما لا تثنى لا في الأفعال ، وذلك قولك : لا مرحبا ولا أهلا ولا كرامة ولا مسرة ولا سقيا ولا رعيا ولا هنيئا ولا مريا ؛ لأن هذه الأسماء كلها عملت فيها أفعال مضمرة فالفعل مقدر بعد (لا) كأنك قلت : لا أكرمك كرامة ولا أسرك مسرة فعلى هذا جميع هذه الأسماء وما لم يجز أن يلي (لا) من الأفعال لم يجز أن يليها ما عمل فيه ذلك الفعل لا يجوز أن تقول : لا ضربا وأنت تريد الأمر ؛ لأنه لا يجوز : لا أضرب إنما تدخل على الدعاء إذا كان لفظه لفظ الخبر وأضربه على ذلك نحو : لا سقيا ولا رعيا كأنك قلت : لا سقاه الله ولا رعاه.
وكذلك إذا ولي (لا) مبتدأ في معنى الدعاء لم تعمل فيه كما لم تعمل فيما بني على الفعل ن ومعناه الدعاء ، وذلك قولهم : لا سلام عليكم.
قال سيبويه : قولهم : لا سواء إنما دخلت هاهنا لأنها عاقبت ما ارتفعت عليه ألا ترى أنك لا تقول : هذان لا سواء فجاز هذا كما جاز : لاها الله ذا حين عاقبت فلم يجز ذكر الواو يعني أن قولهم : لا سواء أصله : هذان لا سواء وهذان مبتدأ ولا سواء خبرهما كما تقول : هذان سواء ثم أدخلت (لا) للنفي وحذفت (هذان) وجعلت (لا) تعاقب (هذان).
وقال أبو العباس : وقول سيبويه : ألا ترى أنك لا تقول : هذان لا سواء أي : لا تكاد تقول ولو قلته جاز.
وقالوا : لا نولك أن تفعل جعلوه معاقبا لقولك لا ينبغي وصار بدلا منه.
ص: 350
واعلم أنه قبيح أن تقول : مررت برجل لا فارس حتى تقول : ولا شجاع وكذلك : هذا زيد فارسا لا يحسن حتى تقول : لا فارسا ولا شجاعا ، وذلك أنه جواب لمن قال : أبرجل شجاع مررت أم بفارس ولقوله : أفارس زيد أم شجاع وقد يجوز على ضعفه في الشعر.
ص: 351
الألف إذا دخلت على (لا) جاز أن يكون الكلام استفهاما وجاز أن يكون تمنيا والأصل الاستفهام فإذا كان استفهاما محضا فحالها كحالها قبل أن يلحقها ألف الاستفهام ، وذلك قولك : ألا رجل في الدار الأعلام أفضل منك ومن قال : لا رجل قائم في الدار قال : هاهنا ألا رجل قائم في الدار وكذلك من نون ومن رفع ثم رفع هاهنا وقال الشاعر :
حار بن كعب ألا أحلام تزجركم
عنّا وأنتم من الجوف الجماخير (1)
فإذا دخلها مع الاستفهام معنى التمني ، فإن النحويين مختلفون في رفع الخبر ويجرون ما سراه على ما كان عليه قبل.
فأما الخليل وسيبويه والجرمي أكثر النحويين فيقولون : ألا رجل أفضل منك ولا يجيزون رفع : أفضل وحجتهم في ذلك أنهم قالوا : كنا نقول : لا رجل أفضل منك فيرفع ؛ لأن (لا) ورجل في موضع ابتداء وأفضل : خبره فهو خبر اسم مبتدأ ، وإذا قلت متمنيا : ألا رجل أفضل منك فموضعه نصب وإنما هو كقولك : اللهم غلاما أي : هب لي غلاما فكأنك قلت : ألا أعطي ألا أصيب فهذا مفعول.
وكان المازني وحده يجيز فيه جميع ما جاز في النافية بغير الاستفهام فتقول : ألا رجل أفضل منك وتقول فيمن جعلها كليس : ألا أفضل منك ويجريها مجراها قبل ألف الاستفهام.
واعلم أن (لا) إذا جعلت ك- (ليس) لم تعمل إلا في نكرة ولا يفصل بينها وبين ما عملت فيه لأنها تجري رافعة مجراها ناصبة.
وأما قول الشاعر :
ص: 352
ألا رجلا جزاه الله خيرا
يدلّ على محصلة تبيت (1)
فزعم الخليل : أنه أراد : الفعل وأنه ليس ل- (لا) هاهنا عمل إنما أراد ألا ترونني ، وأما يونس فكان يقول : إنما تمنى ولكنه نوّن مضطرا وكان يقول في قول جرير :
فلا حسبا فخرت به لتيم
ولا جدا إذا ذكر الجدود
إنما نوّن مضطرا وكذا يقول أبو الحسن الأخفش.
ومن قال : لا رجل ولا أمراة لم يقل في التمني إلا بالنصب وعلى مذهب أبي عثمان يجوز الرفع كما كان قبل دخول الألف.
كان أبو عثمان يقول : اللفظ على ما كان عليه ، وإن كان دخله خلاف معناه ألا ترى أن قولك : غفر الله لزيد معناه الدعاء ولفظه لفظ ضرب فلم يغير لما دخله في المعنى.
وكذلك : حسبك رفع بالابتداء إن كان معناه النهي.
ص: 353
ل- (لا) في الكلام مواضع وجملتها النفي ومواضعها تختلف فتقع على الأسماء نحو قولك :ضربت زيدا لا عمرا وجاءني زيد لا أخوه وتقع على الأفعال في القسم وغيره تقول : لا يخرج زيد وأنت مخبر ولا ينطلق عبد الله ويكون للنهي في قولك : لا ينطلق عبد الله ولا يخرج زيد وتجزم بها الفعل فيكون بحذاء قولك في الأمر : ليخرج عبد الله ولتقم طائفة منهم معك.
وقد تكون من النفي في موضع آخر وهو نفي قولك : إيت وعمراظ فإذا أردت نفي هذا قلت : لا تأت زيدا وعمرا لم يكن هذا نفيه على الحقيقة ؛ لأنه إن أتى أحدهما لم يعصه ؛ لأنه نهاه عنهما جميعا ، فإن أراد أن تمتنع منهما معا فنفي ذلك : لا تأت زيدا ولا عمرا فمجيئها هاهنا لمعنى انتظام النهي بأمره ؛ لأن خروجها إخلال به.
ويقع بعدها في القسم الفعل الماضي في معنى المستقبل ، وذلك قولك : والله لا فعلت إنما المعنى : لا أفعل ؛ لأن قولك في القسم : لا أفعل إنما هو لما يقع فأما قولهم : لا أفعل نفي لقولك : لأفعلنّ ولذلك يجوز أن تحذف (لا) وأنت تريد النفي وجائز أن تقول : لا قام زيد ولا قعد عمرو تريد الدعاء عليه. وهذا مجاز.
وحق هذا الكلام أن يكون نفيا لقيامه وقعوده فيما مضى.
وقال الله عز وجل : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد : 11].
ومن هذا قول [الأعرابي] للنبي صلّى الله عليه وسلّم : (أرأيت من لا أكل ولا شرب ولا صاح فاستهلّ؟) (1) أي : من لم يأكل ولم يشرب ، يعني : الجنين.
فإذا قلت : والله أفعل ذاك فمعناه : لا أفعل فلو قلت : والله أقوم تريد : لأقومنّ كان خطأن لأنها حذفت استخفافا لاستبداد الإيجاب باللام والنون.
ص: 354
ولهذا موضع آخر يذكر فيه ويكون في موضع (ليس اقتحم العقبة) وقد مضى ذكرها وقد تكون (لا) مؤكدة كما كانت (ما) في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : 159] و (مما خطاياهم).
فمن ذلك قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : 40] إنما هو : فأقسم يدلك على ذلك قوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : 76] وكذلك قال المفسرون في قوله : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة : 1] إنما هو : أقسم فوقع القسم على قوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : 17].
قال أبو العباس : فقيل لهم في عروض ذلك : أن الزوائد من هذا الضرب إنما تقع بين كلامين أو بعد كلام كقولك : جئتك لأمر ما فكان من جوابهم : أن مجاز القرآن كله مجاز سورة واحدة بعد ابتدائه وأن بعضه متصل ببعض فمن ذلك قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ) [الحديد : 29].
وقوله : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) [فصلت : 34] وإنما هو : لا تستوي الحسنة والسيئة ومعناه ينبئك عن ذلك إنما هو : لا تساوي الحسنة السيئة.
ص: 355
تقول : لا غلامين ، ولا جاريتي لك.
إذا جعلت الآخر مضافا ولم تجعله خبرا له وصار الأول مضمرا له كأنك قلت : لا غلامين في ملكك ، ولا جاريتي لك. كأنك قلت : ولا جاريتك في التمثيل.
قال سيبويه : ولكنهم لا يتكلمون به يعني بالمضمر واختص (لا) بهذا النفي ، وإن شئت قلت : لا غلامين ولا جاريتين لك إذا جعلت (لك) خبرا لهما وهو قول أبي عمرو.
وكذلك لو قلت : لا غلامين لك وجعلت (لك) خبرا.
فإذا قلت : لا أبالك فها هنا إضمار مكان ولكنه يترك استخفافا واستغناء.
وتقول : لا غلامين ولا جاريتين لك ، وغلامين وجاريتين لك ، كأنك قلت : لا غلامين ولا جاريتين في مكان كذا وكذا.
فجاء (بلك) بعد ما بني على الكلام الأول في مكان كذا وكذا كما قال : لا يدين بها لك حين صيره كأنه جاء (بلك) بعد ما قال : لا يدين بها في الدنيا لك وقبيح أن تفصل بين الجار والمجرور فتقول لا أخا هذين اليومين لك.
قال سيبويه : وهذا يجوز في ضرورة الشعر ؛ لأن الشاعر إذا اضطر فصل بين المضاف والمضاف إليه.
قال الشاعر :
كأنّ أصوات من إيغالهنّ بنا
أواخر الميس أصوات الفراريج (1)
ص: 356
ومن قال : كم بها رجل فأضاف فلم يبال الفتح قال : لا يدري بها لك ولا أخا يوم الجمعة لك ولا أخا فاعلم لك والجر في : (كم) بها وترك النون في : لا يدي بها لك قول يونس.
واحتج بأن الكلام لا يستغني ورد ذلك عليه سيبويه بأن قال : الذي يستغني به الكلام والذي لا يستغني قبحهما واحد إذا فصلت بين الجار والمجرور وتقول : لا غلام وجارية فيها ؛ لأن (لا) إنما تجعل وما تعمل فيه اسما إذا كانت إلى جنب الاسم لكنك يجوز أن تفصل بين خمسة وعشر في قولك : خمسة عشر كذلك لا يجوز أن تفصل بين (لا) وبين ما بني معها وتقول : لا رجل ولا امرأة يا فتى.
إذا كانت (لا) بمنزلتها في (ليس) مؤكدة للنفي حين تقول : ليس لك رجل ولا امرأة قال رجل من بني سليم وهو أنس بن العباس :
ص: 357
لا نسب اليوم ولا خلّة
اتّسع الفتق على الرّاتق (1)
وتقول : لا رجل ولا امرأة فيها فتعيد (لا) الأولى كما تقول : ليس عبد الله وليس أخوه فيها فيكون حال الآخرة كحال الأولى وتقول : لا رجل اليوم ظريفا ولا رجل فيها عاقتحم العقبة). اقلا إذا جعلت (فيها) خبرا ولا رجل فيك راغبا من قبل أنه لا يجوز لك أن تجعل الاسم والصفة بمنزلة اسم واحد. وقد فصلت بينهما.
وتقول : لا ماء سماء باردا ولا مثله عاقلا من قبل أن المضاف لا يجعل مع غيره بمنزلة خمسة عشر فإذا قلت : لا ماء ولا لبن ثم وصفت اللبن فأنت بالخيار في التنوين وتركه ، فإن جعلت الصفة للماء لم يكن إلا منونا ؛ لأنه لا يفصل بين الشيئين اللذين يجعلان بمنزلة اسم واحد.
وحكى سيبويه عن العرب : لا كزيد أحدا تنون لأنك فصلت بين (لا) و (أحد).
ص: 358
وحكى سيبويه عن العرب : لا كزيد أحد ولا مثله أحد فحمله على الموضع والموضع رفع ، وإن شئت حملته على (لا) فتونته ونصبته ، وإن شئت قلت : لا مثله رجلا على التمييز كما تقول : لي مثله غلاما قال ذو الرمة :
هي الدّار إذ ميّ لأهلك جيرة
ليالي لا أمثالهنّ لياليا (1)
ص: 359
قال سيبويه : وأما قول جرير :
لا كالعشيّة زائرا ومزورا
فلا يكون إلا نصبا من قبل أن العشية ليست بالزائر وإنما أراد : لا أرى كالعشية عشية زائرا كما تقول : ما رأيت كاليوم رجلا فكاليوم كقولك : في اليوم.
لأن الكاف ليست باسم وفيه معنى التعجب كما قال : تالله رجلا ، وسبحان الله رجلا ، إنما أراد : تالله ما رأيت رجلا ، ولكنه يترك إظهار الفعل استغناء.
وتقول : لا كالعشية ولا كزيد رجل.
لأن الآخر هو الأول ولأن زيدا رجل وصار : لا كزيد كأنك قلت : لا أحد كزيد ثم قلت : رجل كما تقول : لا مال له قليل ولا كثير على الموضع قال امرؤ القيس :
ويلمها في هواء الجوّ طالبة
ولا كهذا الذي الأرض مطلوب (1)
ص: 360
لأنه قال : ولا شيء لهذا ورفع على الموضع.
وإن شئت نصبت على التفسير كأنه قال : لا أحد كزيد رجلا.
قال سيبويه : ونظير : لا كزيد في حذفهم الاسم قولهم : لا عليك وإنما يريدون : لا بأس عليك ولا شيء عليك ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه.
ومن قال : لا غلام ولا جارية قال : أغلام وألا جارية إنما دخلت في النفي لا في المعطوف عليه.
ألا تراك تقول في النداء : يا بؤس للحرب ولا تقول : يا بؤس زيد وبؤس الحرب فالنفي كالنداء وكذلك إذا قلت : لا غلامي لك ولا مسلمي لك إن كانت لا الثانية نافية غير عاطفة جاز إسقاط النون ، وإن كانت عاطفة لم يجز إلا إثبات النون فتقول : لا غلامين لك ولا مسلمين لك.
وناس يجيزون أن تقول : لا رجل ولا امرأة وهو عندي جائز على قبح لأنك إذا رفعت فحقه التكرير وتقول : لا رجل كان قائما ولا رجل ظننته قائما إن جعلت كان وظننت : صلة لرجل أضمرت الخبر ، وإن جعلتهما خبرين لم تحتج إلى مضمر.
وقوم يجيزون : لا زيد لك ولا يجيزون لا غلام الرجل لك إلا بالرفع ويجيزون : لا أبا محمد لك ولا أبا زيد لك.
يجعلونه بمنزلة اسم واحد ولا يجيزون : لا صاحب درهم لك ؛ لأن الكنية بمزلة الاسم.
ويقولون : عبد الله يجري مجرى النكرة إذ كانت الألف واللام لا يسقطان منه.
وقال الفراء : جعل الكسائي : عبد العزيز وعبد الرحمن بمنزلة عبد الله وإسقاط الألف واللام يجوز نحو قولك : عبد العزيز لك.
وقالوا : الغائب من المكنى يكون مذهب نكرة نحو قولك : لا هو ولا هي ؛ لأنه يوهمك عددا ، وإن شئت قضيت عليه بالرفع والنصب ، فإن جعلته معرفة جئت معه بما يرفعه وحكوا :
ص: 361
إن كان أحد في هذا الفخ ولا هو يا هذا وكذلك : هذا وهذان عندهم ويقولون : لا هذين لك ولا هاتين لك وكذلك ذاك ؛ لأنه غائب.
وجميع هذه الأشياء التي تخالف الأصول التي قدمتها لك لا تجوز في القياس ولا هي مسموعة من الفصحاء.
وتقول : لا رجل أخوك ولا رجل عمك لا يجوز في أخيك وعمك إلا الرفع.
وقد حكي : أنّ كلام العرب أن يدخلوا : هو مع المفرد فيقولون : لا رجل هو أخوك ولا رجل هو عمرو ويقولون : لا بنات لك كما تقول : لا مسلمي لك.
وتقول : ألا رجلا زيدا أو عمرا تريد : ألا أحد رجلا يكون زيدا أو عمرا ويجوز أن يكون بدلا من رجل فإذا جاءت أو مع (ألا) فهو طلب.
وتقول : لا رجل في الدار لا زيد ويدخل عليها ألف الاستفهام فتقول : ألا رجل في الدار ألا زيد.
وتقول : ألا رجل ألا امرأة يا هذا.
وتقول : ألا ماء ولو باردا وهو عند سيبويه : قبيح لأنه وضع النعت موضع المنعوت فلو قلت : ألا ماء ولو باردا لكان جيدا.
وذلك يجوز إلا أنك تضمر بعد (لو) فعلا ينصب ماء.
وكأنك قلت : ولو كان ماء باردا.
فإذا جئت ب (لو) كان ما بعدها أحسن ، قال أحمد بن يحيى ثعلب : كان يقال : متى كان ما بعد (لو) نعتا للأول نصب ورفع ومتى كان غير نعت رفع هذا قول المشايخ.
وقال الفراء : سمعت في غير النعت الرفع والنصب.
وإذا قال : ألا مستعدي الخليفة أو غيره وألا معدي الخليفة أو غيره فالرفع كأنك بينت فقلت : ذاك الخليفة أو غيره أو هو الخليفة أو الخليفة هو أو غيره.
ص: 362
والنصب على إضمار (يكون) كأنك قلت : يكون الخليفة. أي : يكون المعدي الخليفة أو غيره.
وقوم يجيزون : ألا قائل قولا ألا ضارب ضربا وهذا عندي لا يجوز إلا بتنوين ؛ لأنه قد أعمل في المصدر فطال وقد مضى تفسير هذا.
ويجوز أن تقول : لا قائل قول ولا ضارب ضرب فتضيف إلى المصدر.
وتقول : لا خير بخير بعده النار ولا شر بشر بعده الجنة ، لأنك قلت : لا خير في خير بعده النار ولا شر في شرّ بعده الجنة ويجوز أن تكون هذه الباء دخلت لتأكيد النفي كما تدخل في خبر (ما) وليس فتكون زائدة كأنك قلت : لا خير خير بعده النار ولا شر شرّ بعده الجنة ، فإن جعلت الهاء راجعة إلى خبر الأول الذي مع (لا) قلت : لا خير بعده النار خير.
فصار قولك : بعد النار جملة نعت بها : لا خير والنار مبتدأ وبعده : خبره والجملة صفة لخير كما تقول : لا رجل أبوه منطلق في الدار فرجل : منفي وأبوه : منطلق مبتدأ وخبر.
والجملة بأسرها صفة لرجل ، قال أبو بكر : وقد ذكرنا الأسماء المرفوعات والمنصوبات وما ضارعها بجميع أقسامها وبقيّ الأسماء المجرورة ونحن نذكرها إن شاء الله.
ص: 363
الأسماء المجرورة تنقسم قسمين : اسم مجرور بحرف جر أو مجرور بإضافة اسم مثله إليه وقولي : جر وخفض بمعنى واحد.
حروف الجر تصل ما قبلها بما بعدها فتوصل الاسم بالاسم والفعل بالاسم ولا يدخل حرف الجر إلا على الأسماء كما بينا فيما تقدم فأما إيصالها الاسم بالاسم فقولك : الدار لعمرو ، وأما وصلها الفعل بالاسم فقولك : مررت بزيد فالباء هي التي أوصلت المرور بزيد.
وحروف الجر تنقسم قسمين : فأحد القسمين : ما استعملته العرب حرفا فقط ولم يشترك في لفظه الاسم ولا الفعل مع الحرف ولم تجره في موضع من المواضع مجرى الأسماء ولا الأفعال.
والقسم الآخر : ما استعملته العرب حرفا وغير حرف.
فالقسم الأول : وهو الحرف التي استعملته حرفا فقط على ضربين : فالضرب الأول منها :ألزم عمل الجر ، والضرب الثاني : غير ملازم لعمل الجر.
فأما الحروف الملازمة لعمل الجرّ : فمن وإلى وفي والباء واللام.
ولربّ : باب يفرد به لخروجها عن منهاج أخواتها وأنا مبيّن معنى حرف حرف منها.
أما (من) : فمعناها : ابتداء الغاية.
تقول : سرت من موضع كذا إلى موضع كذا.
وفي الكتاب : من فلان إلى فلان : إنما يريد : إبتداؤه فلان.
وسيبويه يذهب إلى أنها تكون لابتداء الغاية في الأماكن وتكون للتبعيض نحو قولك : هذا من الثوب.
وهذا منهم تقول : أخذت ماله ثم تقول : أخذت من ماله فقد دلت على البعض.
ص: 364
قال أبو العباس : وليس هو كما قال عندي ؛ لأن قوله : أخذت من ماله إنما ابتداء غاية ما أخذ فدل على التبعيض من حيث صار ما بقي إنتهاء له والأصل واحد.
وكذلك : أخذت منه درهما وسمعت منه حديثا أي : أول الحديث وأول مخرج هذه الدراهم وقولك : زيد أفضل من عمرو وإنما ابتدأت في إعطائه الفضل من حيث عرفت فضل عمرو فابتداء تقديمه هذا الموضع فلم يحرج من ابتداء الغاية.
وقال في وقت آخر : من تكون على ثلاثة أضرب لابتداء الغاية كقولك : خرجت من الكوفة إلى البصرة وللتبعيض كقولك : أخذت من ماله.
والأصل يرجع إلى ابتداء الغاية لإنك إذا قلت : أخذت من المال فأخذك إنما وقع ابتداؤه من المال.
ويكون لإضافة الأنواع إلى الأسماء كقول الله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [المائدة : 90].
وكقول الله عز وجل : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) [الفتح : 29]. أي : من هؤلاء الذين آمنوا واجتنبوا الرجس من الأوثان.
فقولك : رجس جامع للأوثان وغيرها.
فإذا قلت : من الأوثان فإنما معناه الذي ابتداؤه من هذا الصنف قال : وكذلك قول سيبويه : هذا باب علم ما الكلم من العربية ؛ لأن الكلم يكون عربيا وعجميا فأضاف النوع وهو الكلم إلى اسمه الذي يبين به ما هو وهو العربية وتكون زائدة قد دخلت على ما هو مستغن من الكلام إلا أنها تجر لأنها حرف إضافة نحو قولهم : ما جاءني من أحد وما كلمت من أحد وكقوله عز وجل : (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : 105] إنما هو : خير ولكنها توكيد وكذلك : ما ضربت من رجل إنما هو : ما ضربت رجلا فهذا موضع زيادتها إلا أنه موضع دلت فيه على أنه للنكرات دون المعارف ألا ترى أنك تقول : ما جاءني من أحد وما جاءني من رجل ولا تقول : ما جاءني من عبد الله.
ص: 365
لأن رجلا في موضع الجمع ولا يقع المعروف هذا الموضع ؛ لأنه شيء قد عرف بعينه ألا ترى أنك تقول : عشرون درهما ولا تقول : عشرون الدرهم.
وقال سيبويه : إذا قلت : ما أتاني من رجل أكدت بمن ؛ لأنه موضع تبعيض فأراد أنه لم يأته بعض الرجال والناس وكذلك : ويحه من رجل إنما أراد أن يجعل التعجب من بعض الرجال وكذلك : لي ملؤه من عسل وقال كذلك : أفضل من زيد.
إنما أراد أن يفضله على بعض ولا يعم وجعل زيدا الموضع الذي ارتفع منه أو سفل منه في قولك : شر من زيد وكذلك إذا قال : أخزى الله الكاذبين مني ومنك إلا أن هذا وأفضل لا يستغني عن (من) فيهما لأنها توصل الأمر إلى ما بعدها وقال : وتقول : رأيته من ذلك الموضع فجعلته غاية رؤيتك كما جعلته غاية حيث أردت الابتداء
وأما (إلى) فهي للمنتهى تقول : سرت إلى موضع كذا فهي منتهى سيرك ، وإذا كتبت من فلان إلى فلان فهو النهاية فمن الابتداء وإلى الإنتهاء وجائز أن تقول : سرت إلى الكوفة وقد دخلت الكوفة وجائز أن تكون بلغتها ولم تدخلها ؛ لأن (إلى) نهاية فهي تقع على أول الحد وجائز أن تتوغل في المكان ولكن تمتنع من مجاوزته ؛ لأن النهاية غاية.
قال أبو بكر : وهذا كلام يخلط معنى (من) بمعنى (إلى) فإنما (إلى) للغاية و (من) لابتداء الغاية وحقيقة هذه المسألة : أنك إذا قلت : رأيت الهلال من موضعي (فمن) لك ، وإذا قلت : رأيت الهلال من خلال السحاب (فمن) للهلال والهلال غاية لرؤيتك فكذلك جعل سيبويه (من) غاية في قولك : رأيته من ذلك الموضع وهي عنده ابتداء غاية إذا كانت (إلى) معها مذكورة أو منوية فإذا استغنى الكلام عن (إلى) ولم يكن يقتضيها جعلها غاية ويدل على ذلك قوله : ما رأيته مذ يومين فجعلتها غاية كما قلت : أخذته من ذلك المكان فجعلته غاية ولم ترد منتهى أي : لم ترد ابتداء له منتهى.
أي : استغنى الكلام دون ذكر المنتهى وهذا المعنى أراد والله أعلم وهذه المسألة ونحوها إنما تكون في الأفعال المتعدية نحو : رأيت وسمعت وشممت وأخذت.
ص: 366
تقول : سمعت من بلادي الرعد من السماء ، ورأيت من موضعي البرق من السحاب ، وشممت من داري الريحان من الطريق.
(فمن) الأولى للفاعل و (من) الثانية للمفعول وعلى هذا جميع هذا الباب لا يجوز عندي غيره إنما جاز هذا ؛ لأن للمفعول حصة من الفعل كما للفاعل.
وبعض العرب يحذف الأسماء مع (من) وقد ذكرنا بعض ذلك فيما قد مضى قال الله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : 164] والتأويل عند أصحابنا : وما منا أحد إلا له.
والكوفيون يقولون إن (من) تضمر مع (من) وفي التأويل عندهم : إلا من له مقام وما كان بعده شيء لم يسم غاية ، قال سيبويه : (إلى) منتهى لابتداء الغاية يقول : من كذا إلى كذا.
ويقول : الرجل : إنما أنا إليك ، أي : أنت غايتي ، وتقول : قمت إليه فتجعله منتهاك من مكانك.
(في) : وفي معناها الوعاء.
فإذا قلت : فلان في البيت فإنما تريد : أن البيت قد حواه وكذلك : المال في الكيس ، فإن قلت : في فلان عيب فمجاز واتساع لأنك جعلت الرجل مكانا للعيب يحتويه وإنما هذا تمثيل بذاك وكذلك تقول : أتيت فلانا وهو في عنفوان شبابه أي : وهو في أمره ونهيه فهذا تشبيه وتمثيل أي : أحاطت به هذه الأمور قال : وإن اتسعت في الكلام فإنما تكون كالمثل يجاء به يقارب الشيء وليس مثله.
(الباء) : معناه الإلصاق فجائز أن يكون معه استعانة وجائز لا يكون فأما الذي معه استعانة فقولك : كتبت بالقلم وعمل الصانع بالقيدوم.
والذي لا استعانة معه فقولك : مررت بزيد ونزلت بعبد الله.
وتزاد في خبر المنفي توكيدا نحو قولك : ليس زيد بقائم وجاءت زائدة في قولك : حسبك بزيد وكفى بالله شهيدا وإنما هو كفى الله.
ص: 367
قال سيبويه : باء الجر إنما هي للإلزاق والإختلاط ، وذلك قولك : خرجت بزيد ودخلت به وضربته بالسوط ألزقت ضربك إياه بالسوط فما اتسع من هذا الكلام فهذا أصله.
(اللام) : اللام : لام الإضافة ، قال سيبويه : معناها الملك والإستحقاق ألا ترى أنك تقول : الغلام لك والعبد لك فيكون في معنى : هو عبد لك وهو أخ لك فيصير نحو : هو أخوك فيكون هو مستحقا لهذا كما يكون مستحقا لما يملك فمعنى هذا اللام معنى إضافة الاسم.
وقال أبو العباس : لام الإضافة تجعل الأول لاصقا بالثاني ويكون المعنى : ما يوجد في الأول تقول : هذا غلام لزيد وهذه دار لعبد الله.
فأما تسميتهم إياها لام الملك فليس بشيء إذا قلت : هذا غلام لعبد الله فإنما دللت على الملك من الثاني للأول فإذا قلت : هذا سيد لعبد الله دللت بقولك على أن الثاني للأول.
وإذا قلت : هذا أخ لعبد الله فإنما هي مقاربة وليس أحدهما في ملك الآخر.
ولام الاستغاثة : هي هذه اللام إلا أن هذه تكسر مع الاسم الظاهر وتلك تفتح وقد مضى ذكر ذلك في حد النداء.
فلام الإضافة حقها الكسر إلا أن تدخلها على مكنى نحو قولك : له مال ولك ولهم ولها فهي في جميع ذلك مفتوحة وهي في الاستغاثة كما عرفتك مفتوحة.
قال سيبويه : إنما أردت أن تجعل ما يعمل في المنادى مضافا إلى بكر باللام يعني بذلك الفعل المضمر الذي أغنت عن إظهاره (يا) وقد مضى تفسير هذا.
فهذه الحروف التي للجر كلها تضيف ما قبلها إلى ما بعدها.
فإذا قلت : سرت من موضع كذا فقد أضفت السبير إلى ما بعدها فإذا قلت : مررت بزيد فقد أضفت المرور إلى زيد بالباء.
ص: 368
وكذلك إذا قلت : هذا لعبد الله فإذا قلت : أنت في الدار فقد أضفت كينونتك في الدار إلى الدار (بفي) فإذا قلت : فيك خصلة سوء فقد أضفت إليه الرداءة (بفي) فهذه الحروف التي ذكرت لك تدخل على المعرفة والنكرة والظاهر والمضمر فلا تجاوز الجرّ.
واعلم أن العرب تتسع فيها فتقيم بعضها مقام بعض إذا تقاربت المعاني فمن ذلك : الباء تقول : فلان بمكة وفي مكة وإنما جازا معا لأنك إذا قلت : فلان بموضع كذا وكذا.
فقد خبرت عن اتصاله والتصاقه بذلك الموضع ، وإذا قلت : في موضع كذا فقد خبرت (بفي) عن احتوائه إياه وإحاطته به فإذا تقارب الحرفان ، فإن هذا التقارب يصلح لمعاقبة ، وإذا تباين معناهما لم يجز ألا ترى أن رجلا لو قال : مررت في زيد أو : كتبت إلى القلم لم يكن هذا يلتبس به فهذا حقيقة تعاقب حروف الخفض فمتى لم يتقارب المعنى لم يجز وقد حكي : كنت بالمال حربا وفي المال حربا وهو يستعلي الناس بكفه وفي كفه.
وقال في قول طرفة :
وإن يلتق الحيّ الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الكريم المصمد
إنّ (إلى) بمعنى (في) ولا يجوز أن يدخل حرف من هذه التي ذكرت على حرف منها فلا يجوز أن تدخل الباء على (إلى) ولا اللام على (من) ولا (في) على (إلى) ولا شيئا منها على آخر.
ص: 369
(ربّ) : حرف جر وكان حقه أن يكون بعد الفعل موصلا له إلى المجرور كأخواته إذا قلت : مررت برجل وذهبت إلى غلام لك ولكنه لما كان معناه التقليل وكان لا يعمل إلا في نكرة فصار مقابلا (لكم) إذا كانت خبرا فجعل له صدر الكلام كما جعل (لكم) وآخر الفعل والفاعل فموضع ربّ وما عملت فيه نصب كما أن موضع الباء ومن وما عملنا فيه نصب إذا قلت : مررت بزيد وأخذت من ماله.
ويدل على ذلك أن (كم) يبنى عليها وربّ : لا يجوز ذلك فيها ، وذلك قولهم : كم رجل أفضل منك فجعلوه خبرا (لكم) كذلك رواه سيبويه عن يونس عن أبي عمرو بن العلاء : أن العرب تقوله ولا يجوز أن تقول : ربّ رجل أفضل منك ولا يجوز أن تجعله خبرا لرب كما جعلته خبرا (لكم) ومما يتبين أن ربّ حرف وليست باسم (ككم).
أن (كم) يدخل عليها حرف الجر ولا يدخل على ربّ تقول : بكم رحل مررت وإنك تولي (كم) الأفعال ولا توليها ربّ.
قال أبو العباس : ربّ تنبىء عما وقعت عليه أنه قد كان وليس بكثير.
فلذلك لا تقع إلا على نكرة ولأن ما بعدها يخرج مخرج التمييز تقول : رب رجل قد جاءني فأكرمته ورب دار قد أبتنيتها وأنفقت عليها وقال في موضع آخر : رب معناها الشيء يقع قليلا ولا يكون ذلك الشيء إلا منكورا ؛ لأنه واحد يدل على أكثر منه ولا تكون رب إلا في أول الكلام لدخول هذا المعنى فيها.
وقال أبو بكر : والنحويون كالمجتمعين على أن ربّ جواب إنما تقول : ربّ رجل عالم لمن قال : رأيت رجلا عالما أو قدرت ذلك فيه فتقول : ربّ رجل عالم تريد : ربّ رجل عالم قد رأيت فضارعت أيضا حرف النفي إذا كان حرف النفي يليه الواحد المنكور وهو يراد به الجماعة.
فهذا أيضا مما جعلت له صدرا.
ص: 370
واعلم أن الفعل العامل فيها أكثر ما يستعمله العرب محذوفا ؛ لأنه جواب وقد علم فحذف وربما جيء به توكيدا وزيادة في البيان فتقول : ربّ رجل عالم قد أتيت فتجعل هذا هو الفعل الذي تعلقت به (ربّ) حتى يكون في تقديره : برجل عالم مررت وكذلك إذا قال : ربّ رجل جاءني فأكرمته وأكرمته فها هنا فعل أيضا محذوف فكأنه قال له قائل : ما جاءك رجل فأكرمته وأكرمته فقلت : ربّ رجل جاءني فأكرمته وأكرمته أي : قد كنت فعلت ذاك فيكون جاءني وما بعده صفة رجل والصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد والكلام بعد ما تم ، فإن لم تضمر : قد فعلت وما أشبه ذلك وإلا لم يجز فإذا قال : ما أحسنت إليّ.
قلت : ربّ إحسان قد تقدم إليك مني فكأنك قلت : قد فعلت من إحسان إليك قد تقدم.
فإن قال قائل : لم لزم الصفة قيل : لأنه أبلغ في باب التقليل ؛ لأن رجلا قائما أقل من رجل وحده فخصت بذلك والله أعلم.
وكذلك لو قلت : رب رجل جاهل ضربت إن جعلت : ضربت هو العامل في رب ؛ ، فإن جعلته صفة أضمرت فعلا نحو ما ذكرنا ، فصار معنى الكلام : ربّ رجل جاهل ضربت قد فعلت ذاك.
واعلم أنّه لا بد للنكرة التي تعمل فيها (ربّ) من صفة إما اسم وإما فعل لا يجوز أن تقول : ربّ رجل وتسكت حتى تقول : ربّ رجل صالح أو تقول : رجل يفهم ذاك ورب حرف قد خولف به أخواته واضطرب النحويون في الكلام فيه.
وهذا الذي خبرتك به ما خلص لي بعد مباحثة أبي العباس رحمه الله وأصحابنا المنقبين الفهماء ، وسأخبرك ما قال سيبويه والكوفيون فيه قال سيبويه : إذا قلت : رب رجل يقول ذاك فقد أضفت القول إلى الرجل برب وكذلك يقول من تابعه على هذا القول إذا قال : رب رجل ظريف قد أضافت رب الظريف إلى رجل وهذا لا معنى له ؛ لأن إتصال الصفة بالموصوف يغني عن الإضافة.
وأما الكوفيون ومن ذهب مذهبهم فيقولون : رب وضعت على التقليل نحو : ما أقل من يقول ذاك وكم وضعت على التكثير نحو قولك : ما أكثر من يقول ذاك وإنما خفضوا (لكم) ؛
ص: 371
لأن من تصحبها تقول : كم من رجل ثم تسقط من وتعمل فكذلك : ربّ ، وإن لم تر (من) معها كما قال : ألا رجل ومن رجل وهم يريدون : أمّا من رجل وحكي عن الكسائي أو غيره من القدماء : أن بعض العرب يقول : ربّ رجل ظريف فترفع ظريفا تجعله خبرا (لرب) ومن فعل هذا فقد جعلها اسما وهذا إنما يجيء على الغلط والتشبيه وفي رب لغات : ربّ وربّ يا هذا ومن النحويين من يقول : لو سكنت جاز : وربت.
واعلم أن (ربّ) تستعمل على ثلاثة وجوه :
فالوجه الأول : هو الذي قد ذكرت من دخولها على الاسم الظاهر النكرة وعملها فيه وفي صفته الجر.
والوجه الثاني : دخلوها على المضمر على شريطة التفسير فإذا أدخلوها على المضمر نصبوا الاسم الذي يذكرونه للتفسير بعد المضمر فيقولون : ربّه رجلا والمضمر هاهنا كالمضمر في (نعم) إذا قلت : نعم رجلا زيد إلا أن المضمر في (نعم) مرفوع ؛ لأنه ضمير الفاعل وهو مع ربّ مجرور وإنما جاز في ربّ وهي لا تدخل إلا على نكرة من أجل أن المعنى تؤول إلى نكرة وليس هو ضمير مذكور وحق الإضمار أن يكون بعد مذكور ولكنهم ربما خصوا أشياء بأن يضمروا فيهاه على شريطة التفسير وليس ذلك بمطرد في كل الكلام وإنما يخصون به بعضه فإذا فعلت ذلك نصبت ما بعد الهاء على التفسير فقلت : ربه رجلا وهذه الهاء على لفظ واحد ، وإن وليها المذكر أن المؤنث أو الاثنان أو الجماعة موحدة على كل حال.
الوجه الثالث : أن تصلها فتستأنف ما بعدها وتكفها عن العمل فتقول : ربما قام زيد وربما قعد وربما زيد قام وربما فعلت كذا ولما كانت رب إنما تأتي لما مضى فكذلك ربما لما وقع بعدها الفعل كان حقه أن يكون ماضيا فإذا رأيت الفعل المضارع بعدها فثم إضمار كان قالوا : في قوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر : 2] أنه لصدق الوعد كأنه قد كان كما قال : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) [سبأ : 51]. ولم يكن فكأنه قد كان لصدق الوعد.
ص: 372
ولا يجوز : ربّ رجل سيقوم وليقومن غدا إلا أن تريد : ربّ رجل يوصف بهذا تقول : رب رجل مسيء اليوم ومحسن غدا أي : يوصف بهذا ويجوز : ربما رجل عندك فتجعل : (ما) صلة ملغاة.
واعلم أنّ العرب تستعمل الواو مبتدأة بمعنى : (ربّ) فيقولون : وبلد قطعت يريدون وربّ بلد وهذا كثير.
وقال بعض النحويين : أن الواو التي تكون مع المنكرات ليست بخلف من (ربّ) ولا كم وإنما تكون مع حروف الاستفهام فتقول : وكم قد رأيت (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) [آل عمران : 101] يدل على التعجب ثم تسقط كم وتترك الواو ولا تدخل مع ربّ ولو كانت خلفا من (كم) لجاز أن يدخل عليها النسق كما فعل بواو اليمين وهي عندي : واو العطف وهذا أيضا مما يدل على أن رب جواب وعطف على كلام.
ص: 373
تقول : ربّ رجل قائم وضارب وربّ رجل يقوم ويضرب.
وتقول : رب رجل قائم نفسه وعمرو ورب رجل قائم ظريفا فتنصب على الحال من (قائم) وتقول : رب رجل ضربته وزيدا ورب رجل مررت به فتعيد الباء ؛ لأن المضمر المجرور لا ينسق عليه بالاسم الظاهر وتقول : رب رجل قائم هو وزيد فتؤكد ما في (قائم) إذا عطفت عليه ويجوز أن تقول : رب رجل قام وزيد فتعطف على المضمر من غير تأكيد وتقول : رب رجل كان قائما وظننته قائما ففي (كان) ضمير رجل وهو اسمها وقائما خبرها.
وكذلك : الهاء في (ظننته) ضمير رجل وهو مفعولها الأول. وقائما مفعولها الثاني ، وإذا قلت : رب رجل قد رأيت ورب امرأة فالإختيار أن تعيد الصفة فتقول : ورب امرأة قد رأيت لأنك قد أعدت رب وقد جاء عن العرب إدخال (ربّ) على (من) إذا كانت نكرة غير موصولة إلا أنها إذا لم توصل لم يكن بد من أن توصف لأنها مبهمة حكي عنهم : مررت بمن صالح ورب من يقوم ظريف وقال الشعر :
يا ربّ من تغتشّه لك ناصح
ومؤتمن بالغيب غير أمين
وتدخل رب على مثلك وشبهك إذ كانتا لم تتصرفا بالإضافة وهما نكرتان في المعنى.
وتقول : رب رجل تختصم وامرأة وزيد ولا يجوز الخفض ؛ لأنه لا يتم إلا بإثنين ، فإن قلت : رب رجلين مختصين وامرأتين جاز لك الخفض والرفع فتقول : وامرأتان وامرأتين أما الخفض : فبالعطف على (رجلين) والرفع : بالعطف على ما في مختصمين ولو قلت : ربّ رجلين مختصمين هما وامرأتان فأكدت ثم عطفت لكان أجود حكي عن بعضهم : أنه يقول : إذا جاء فعل يعني بالفعل اسم الفاعل بعد النعت رفع نحو قولك : رب رجل ظريف قائم والكلام الخفض وزعم الفراء : أنهم توهموا (كم) إذ كانوا يقولون : كم رجلا قائم.
وتقول : رب ضاربك قد رأيت ورب شاتمك لقد لقيت ؛ لأن التنوين في تينك يريد ضارب لك ، وإن قلت : ضاربك أمس لم يجز ؛ لأنه معرفة.
ص: 374
والأخفش يعترض بالأيمان فيقول : ربّ والله رجل قد رأيت وربّ رجل قد رأيت وهذا لا يجوز عندنا ؛ لأن حروف الجر لا يفصل بينها وبين ما عملت فيه وسائر النحويين يخالفونه.
وحكى الكوفيون : ربه رجلا قد رأيت وربهما رجلين وربهم رجالا وربهن رجالا وبهن نساء وربه نساء من وحد.
فلأنه رد كناية عن مجهول ومن لم يوحد فلأنه كلام كأنه قال : له ما لك جوار فقال : ربهن جوار قد ملكت.
وكان الكسائي يجيز : رب من قائم على أنّه استفهام ويخفض (قائما) والفراء يأباه ؛ لأن كل موضع لم تقعه المعرفة لم يستفهم بمن فيه.
وهو ما كان غير ملازم للجر ، وذلك حتى والواو.
فواو القسم وهي بدل من الباء وأبدلت لأنها من الشفة مثلها.
والتاء : تستعمل في القسم في الله عز وجل وهي بدل من الواو والتاء قد تبدل من الواو في مواضع ستراها وقد خصوا القسم بأشياء ونحن نفرد بابا للأسماء المخفوضة في القسم ، وأما الواو التي تقع موقع رب فقد مضى ذكرها.
ص: 375
(حتى) : منتهى لابتداء الغاية بمنزلة (إلى) إلا أنها تقع على ضربين :
إحداهما : أن يكون ما بعدها جزءا مما قبلها وينتهي الأمر به.
والضرب الآخر : أن ينتهي الأمر عنده ولكنها قد تكون عاطفة وتليها الأفعال.
ويستأنف الكلام بعدها ولها تصرف ليس (لإلى) و (لإلى) أيضا مواقع لا تقع (حتى) فيها.
فأما الضرب الأول : وهو ما ينتهي به الأمر فإنه لا يجوز : أن يكون الاسم بعد حتى إلا من جماعة كالاستثناء لا يجوز : أن يكون بعد واحد ولا إثنين ؛ لأنه جزء من جماعة وإنما يذكر لتحقير أو تعظيم أو قوة أو ضعف ، وذلك قولك : ضربت القوم حتى زيد فزيد من القوم وانتهى الضرب به فهو مضروب مفعول ولا يخلو أن يكون أحقر من ضربت أو أعظمهم شأنا وإلا فلا معنى لذكره وكذلك المعنى إذا كانت عاطفة كما تعطف الواو تقول : ضربت القوم حتى عمرا ، فعمرو من القوم به انتهى الضرب ، وقدم الحاج حتى المشاة والنساء.
فهذا في التحقير والضعف وتقول : مات الناس حتى الأنبياء والملوك فهذا في التعظيم والقوة ولك أن تقول : قام القوم حتى زيد جر ، وإن كان في المعنى : جاء لأنك أنتهيت بالمجيء إليه بحتى فتقدير المفعول وقد بينا فيما تقدم أن كل فعل معه فاعله تعدى بحرف جر إلى اسم فموضعه نصب.
قال أبو بكر : والأحسن عندي في هذا إذا أردت أن تخبر عن زيد بفعله أن تقول : القوم حتى زيد فإذا رفعت فحكمه حكم الفاعل في أنه لا بد منه فإذا خفضت فهو كالمنصوب الذي يستغني الفاعل دونه ، وأما قول الشاعر :
ألقى الصّحيفة كي يخفّف رحله
والزّاد حتّى نعله ألقاها (1)
ص: 376
فلك فيه الخفض والرفع والنصب فالخفض : على ما خبرتك به والنصب فيه وجهان :
فوجه أن يكون منصوبا (بألقى) ومعطوفا على ما عمل فيه (ألقى) ويكون ألقاها توكيدا.
والوجه الثاني : أن تنصبه بفعل مضمر يفسره (ألقاها) والرفع على أن يستأنف بعدها والمعنى ألقى ما في رحله حتى نعله هذه حالها ، وإذا قلت : العجب حتى زيد يشتمني فالمعنى :العجب لسبّ الناس إياي حتى زيد يشتمني.
قال الفرزدق :
ص: 377
فإذا قلت : مررت بالقوم حتى زيد ، فإن أردت العطف فينبغي أن تعيد الياء لتفرق بين ما أنجر بالباء وبين ما أنجر (بحتى).
الضرب الثاني : المجرور بحتى : وهو ما انتهى الأمر عنده وهذا الضرب لا يجوز فيه إلا الجر ؛ لأن معنى العطف قد زال ، وذلك قولك : إن فلانا ليصوم الأيام حتى يوم الفطر فأنتهت (حتى) بصوم الأيام إلى يوم الفطر ولا يجوز أن تنصب (يوم الفطر) ؛ لأنه لم يصمه فلا يعمل الفعل فيما لم يفعله وكذلك إذا خالف الاسم الذي بعدها ما قبلها نحو قولك : قام القوم اليوم حتى الليل فالتأويل : قام القوم اليوم حتى الليل.
واعلم أنك إذا قلت : سرت حتى أدخلها فحتى على حالها في عمل الجر ، وإن كان لم يظهر هنا (وإن وصلتها) اسم ، وقال سيبويه : إذا قلت : سرت حتى أدخلها فالناصب للفعل هاهنا هو الجار للإسم إذا كان غاية.
ص: 379
فالفعل إذا كان غاية منصوب والاسم كان غاية جر وهذا قول الخليل.
وقال سيبويه : إنها تجيء مثل كي التي فيها إضمار (أن) وفي معناها ، وذلك قولك : كلمتك حتى تأمر لي بشيء : قال سيبويه : لحتى في الكلام نحو ليس لإلى تقول إنما أنا إليك أي : أنت غايتي ولا تكون حتى هاهنا.
وهي أعم من (حتى) تقول : قمت إليه فجعلته منتهاك من مكانك ولا تقول : حتاه وغير سيبويه يجيز : حتاه وحتاك في الخفض ولا يجيزون في النسق ؛ لأن المضمر المتصل لا يلي حرف النسق لا تقول : ضربت زيدا وك يا هذا ولا قتلت عمرا وه إنما يقولون في مثل هذا : إياك وإياه والقول عندي ما قال سيبويه : لأنه غير معروف إتصال حتى بالكاف وهو في القياس غير ممتنع.
ص: 380
تقول : ضربت القوم حتى زيدا وأوجعت تنصب لأنك جئت بحرف نسق على الأول وكذلك : ضربت القوم حتى زيدا ثم أوجعت وقال قوم : النصب في هذا لا غير لأنك جئت بحرف نسق على الأول تريد حتى ضربت زيدا وأوجعت وثم أوجت.
قال أبو بكر : وهذا عندي على ما يقدر المتكلم أن قدر الإيجاع لزيد فالنصب هو الحسن ، وإذا كان الإيجاع للقوم جاز عندي النصب والخفض وتقول : ضربت القوم حتى زيدا أيضا وحتى زيدا زيادة وحتى زيدا فيما أظن ؛ لأن هذه دلت على المضمر : كأنك قلت : حتى ضربت زيدا فيما أظن ، وحتى ضربت زيدا أيضا ، فإن جعلت : (فيما أظن) من صلة الأول خفضت كأنك قلت : ضربت القوم فيما أظن حتى زيد وتقول : أتيتك الأيام حتى يوم الخميس ولا يجوز : حتى يوم ؛ لأنه لا فائدة فيه وكذلك لو قلت : صمت الأيام إلا يوما ، فإن وقت ما بعد إلا وما بعد (حتى) حسن وكانت فيه فائدة فقلت : صمت الأيام إلا يوم الجمعة وحتى يوم الجمعة.
وقال قوم : إن أردت مقدار يوم جاز فقلت على هذا : أتيتك الأيام حتى يوم.
وقالوا : فإن قلت : أتيتك كل وقت حتى ليلا ، وحتى نهارا وكان الأول غير موقت والثاني غير موقت نصبت الثاني كما نصبت الأول وكان الخفض قبيحا.
وقال أبو بكر : وجميع هذا إنما يراعي به الفائدة واستقامة الكلام صلحا فيه فهو جائز.
ونقول : ضربت القوم حتى إن زيدا لمضروب.
فإذا أسقطت اللام ، فإن كانت (إن) مع ما بعدها بتأويل المصدر فتحتها.
قال سيبويه : قد عرفت أمورك حتى أنك أحمق كأنه قال : حتى حمقك وقال : هذا قول الخليل فهذا ؛ لأن الحمق جاء بتأويل المصدر وقد مضى تفسير ذا.
ص: 381
وتقول : ضربت القوم حتى كان زيد مضروبا وضربت القوم حتى لا مضروب صالحا فيهم جاز في هذا كما جاز الإستئناف والابتداء بعدها فلما جاز الابتداء جاز ما كان بمنزلة الابتداء وتقول : لا آتيك إلى عشر من الشهر.
وحتى عشر من الشهر لأنك تترك الإتيان من أول العشر إلى آخر هذه فتقع هنا (حتى) وإلى ولا تقول : آتيك حتى عشر إلا أن تريد : آتيك وأواظب على إتيانك إلى عشر.
وتقول : كتبت إلى زيد ولا يجوز حتى زيد ؛ لأنه ليس هنا ما يستثني منه زيد على ما بينت لك فيما تقدم.
وقوم يجيزون : ضربت القوم حتى زيدا فضربت إن أردت كلامين وقالوا : يجوز فيه الخفض والنصب والإختيار عندهم الخفض قالوا : وإن اختلف الفعل أدخل في الثاني الفاء ولم تسقط وخفض الأول نحو قولك : ضربت القوم زيد فتركت ولا يكون ضربت القوم حتى تركت زيدا.
وتقول : جلس حتى إذا تهيأ أمرنا قام وأقام حتى ساعة تهيأ أمرنا قطع علينا وانتظر حتى يوم شخصنا مضى معنا فيوم وساعة مجروران ، وإذا في موضع جر وهذا قول الأخفش ؛ لأن قولك : جلس حتى ساعة تهيأ أمرنا ذهب إنما قولك : ذهب جواب لتهيأ وحتى واقع على الساعة وهي غاية له.
وتقول : انتظر حتى إن قسم شيء أخذته منه فقولك : اخذت منه راجع إلى : قسم وهو جوابه وقع الشرط والجواب بعدها كما استؤنف ما بعدها وكما وقع الفعل والفاعل والابتداء والخبر.
وتقول : اقم حتى متى تأكل تأكل معنا.
وأقم حتى أينا يخرج نخرج معه فأي مبتدأه لأنها للمجازاة وكذلك : أجلس حتى أي يخرج تخرج معه.
ص: 382
وقال الأخفش : يقول لك الرجل : ائتني فتقول : إما حتى الليل فلا وإما حتى الظهر فلا وإما إلى الليل فلا ولا يحسن فيه إلا الجر وقال تقول : كل القوم حتى أخيك وهو الآن غاية ، وذلك أنه لا بد لكل القوم من جر وتقول : كل القوم حتى أخيك فيها لأنك أردت : كل القوم فيها حتى أخيك.
وتقول : كل القوم حتى أخيك ضربت.
وقال الأخفش في كتابه الأوسط : إن قوما يقولون : جاءني القوم حتى أخوك يعطفون الأخ على.
(القوم) وكذلك : ضربت القوم حتى أخاك قال : وليس بالمعروف.
وتقول : ضربت القوم حتى زيد ضربته على الغاية ولو قلت : حتى زيد مضروف فجررت زيدا لم يكن كلاما ؛ لأن مضروبا وحده لا يستغني ؛ لأنه اسم واحد كما استغنى ضربته فعل وفاعل وهو كلام تام.
ص: 383
أدوات القسم والمقسم به خمس : الواو والباء والتاء واللام ومن فأكثرها الواو ثم الباء وهما يدخلان على محلوف تقول : والله لأفعلن وبالله لأفعلن فالأصل الباء كما ذكرت لك ألا ترى أنك إذا كنيت عن المقسم به رجعت إلى الأصل فقلت : به آتيك ولا يجوزوه لا آتيك ثم التاء ، وذلك قولك : تالله لأفعلن ولا تقال مع غير الله قال الله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) وقد تقول : تالله وفيها معنى التعجب وبعض العرب يقول في هذا المعنى فتجيء باللام ولا يجيء إلا أن يكون فيه معنى التعجب وقال أمية بن عائذ :
لله يبقى على الأيّام ذو حيد
بمشمخر به الظيّان والآس
يريد : والله لا يبقى إلا أن هذا مستعمل في حال تعجب.
وقد يقول بعض العرب : لله لأفعلن.
ومن العرب من يقول : من ربي لأفعلن ذاك ومن ربي إنك لا شر كذا حكاه سيبويه وقال : ولا يدخلونها في غير (ربي) ولا تدخل الضمة في (من) إلا هاهنا.
وقال الخليل : جئت بهذه الحروف لأنك تضيف حلفك إلى المحلوف به كما تضيف به بالباء إلا أن الفعل بيجيء مضمرا يعني أنك إذا قلت : والله لأفعلن وبالله لأفعلن فقد أضمرت : أحلف وأقسم وما أشبهه مما لا يتعدى إلا بحرف والقسم في الكلام إنما تجيء به للتوكيد وهو وحده لا معنى له لو قلت : والله وسكت أو بالله ووقفت لم يكن لذلك معنى حتى تقسم على أمر من الأمور وكذا إن أظهرت الفعل وأنت تريد القسم فقلت : أشهد بالله وأقسم بالله فلفظه لفظ الخبر إلا أنه مضمر بما يؤكده.
ويعرض في القسم شيئان : أحدهما : حذف حرف الجر والتعويض أو الحذف فيه بغير تعويض.
فأما ما حذف منه حرف الجر وعوض منه فقولهم : أي ها الله ثبتت ألف ها ؛ لأن الذي بعدها مدغم ومن العرب من يقول : أي هلله فيحذف الألف التي بعد الهاء.
ص: 384
قال سيبويه : فلا يكون في المقسم به هاهنا إلا الجر ؛ لأن قولهم (ها) صار عوضا من اللفظ بالواو فحذفت تخفيفا على اللسان ألا ترى أن الواو لا تظهر هاهنا.
ويقولون : أي ها الله للأمر هذا فحذف الأمر لكثرة استعمالهم وقدم (ها) كما قدم قوم : ها هو ذا وها أنذا قال زهير :
تعلمن ها لعمر الله ذا قسما
فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك (1)
ومن ذلك ألف الاستفهام قالوا : الله ليفعلن فالألف عوض من الواو ألا ترى أنك لا تقول : او الله.
وقال سيبويه : ومن ذلك ألف اللام ، وذلك قولهم : أفالله لتفعلن : وقال : ألا ترى أنك إن قلت : أفو الله لم تثبت هذا قول سيبويه وللمحتج لسيبويه أن يقول : إن الألف كما جعلت عوضا قطعت وهي لا تقطع مع الواو.
الثاني : ما يعرض في القسم وهو حذف حرف الجر بغير تعويض : اعلم أن هذا يجيء على ضربين : فربما حذفوا حرف الجر وأعملوا الفعل في المقسم فنصبوه.
وربما حذفوا حرف الجر وأعملوا الحرف في الاسم مضمرا.
فالضرب الأول قولك : الله لأفعلنّ وقال ذو الرمة :
ألا ربّ من قلبي له الله ناصح
ومن قلبه لي في الظّباء السّوانح
ص: 385
وقال الآخر :
إذا ما الخبز تأدمه بلحم
فذاك أمانة الله الثريد
أراد : وأمانة الله.
ووالله فلما حذف أعمل الفعل المضمر ولكنه لا يضمر ما يتعدى بحرف جر.
وتقول : أي الله لأفعلنّ ومنهم من يقول : أي الله لأفعلن فيحرك أي بالفتح لالتقاء الساكنين ومنهم من يدعها على سكونها ولا يحذفونها ؛ لأن الساكن الذي بعدها مدغم.
والضرب الثاني : وهو إضمار حرف الجر وهو قول بعض العرب : الله لأفعلن.
قال سيبويه : جاز حيث كثر في كلامهم فحذفوه تخفيفا كما حذف ربّ قال : وحذفوا الواو كما حذفوا اللامين من قولهم : لاه أبوك حذفوا لام الإضافة واللام الأخرى ليخفوا الحرف على اللسان ، وذلك ينوون قال : وقال بعضهم : لهي أبوك فقلب العين وجعل اللام ساكنة إذا صارت مكان العين كما كانت العين ساكنة وتركوا آخر الاسم مفتوحا كما تركوا آخر (أين) مفتوحا وإنما فعلوا ذلك به لكثرته في كلامهم فغيروا إعرابه كما غيروه.
واعلم أنه يجيء كلام عامل بعضه في بعض : إما مبتدأ وخبر وإما فعل وفاعل ومعنى ذلك القسم فالمبتدأ والخبر قولك : لعمر الله لأفعلن وبعض العرب يقول : وأيمن الكعبة وأيم الله فقولك : لعمر الله اللام : لام الابتداء وعمر الله : مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف كأنه قال :لعمر الله المقسم به وكذلك : أيم الله. وأيمن.
وتقول العرب : (عليّ عهد الله لأفعلن) ف- (عهد) مرتفعة ، و (عليّ) مستقر لها وفيها معنى اليمين وزعم يونس : أن ألف أيم موصولة وحكوا : أيم وإيم وفتحوا الألف كما فتحوا الألف التي في الرجل وكذلك أيمن قال الشاعر :
فقال فريق القوم لمّا نشدتهم
نعم وفريق ليمن الله ما ندري
وأما الفعل والفاعل فقولهم : يعلم الله لأفعلن وعلم الله لأفعلن فإعرابه كإعراب : يذهب زيد والمعنى : والله لأفعلن.
ص: 386
قال سيبويه : وسمعنا فصحاء العرب يقولون في بيت امرئ القيس :
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي (1)
قال : جعلوه بمنزلة أيمن الكعبة وأيم الله وقالوا : تتلقى اليمين بأربعة أحرف من جوابات الأيمان في القرآن وفي الكلام ما ولا ، وإن واللام فأما : ما فتقول : والله ما قام. وما يقوم وما زيد قائما.
ولا تدخل اللام على (ما) ؛ لأن اللام تحقيق وما نفي فلا يجتمعان.
قال : وقول الشاعر :
لما أغفلت شكرك فاصطنعني
فكيف ومن عطائك جلّ مالي (2)
ص: 387
فإنه توهم الذي والصلة.
وأما : لا فتقول : والله لا يقوم.
وتلغي (لا) من بين أخواتها جوابات الأيمان فتقول : والله أقوم إليك أبدا تريد : لا أقوم إليكم أبدا.
ص: 388
فإذا قلت : والله لا قمت إليك أبدا تريد : أقوم جاز ، وإن أردت : المضي كان خطأ فأما (إن) فقولك : والله إن زيدا في الدار وإنك لقائم وقوله عز وجل : (حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ) [الدخان].
قال الكسائي : إنا أنزلنا استئناف وحم والكتاب كأنه قال : حق والله.
وقال الفراء : قد يكون جوابا.
وأما اللام فتدخل على المبتدأ والخبر ، فتقول : والله لزيد في الدار هذه التي تدخل على المبتدأ والخبر.
وأما التي تدخل على الأفعال : فإن كان الفعل ماضيا قلت والله : لقد فعل وكذلك : والله لفيك رغبت.
وأما اللام التي تدخل على المستقبل ، فإن النونين : الخفيفة والثقيلة يجيئان معها نحو : والله ليقومنّ ولتقومن يا هذا ولهما باب يذكران فيه.
ص: 389
تقول : وحياتي ثم حياتك لأفعلنّ. ف- (ثم) : بمنزلة الواو.
وتقول : والله ثم الله لأفعلن ، وبالله ثم الله لأفعلن.
وإن شئت قلت : والله لآتينك ثم الله لأضربنك ، وإن شئت قلت : والله لآتينك لأضربنك.
قال سيبويه : وهذه الواو بمنزلة الواو التي في قولك : مررت بزيد وعمرو خارج يعني أن الواو في قولك : وعمرو خارج عطفت جملة على جملة كأنك قلت : بالله لآتينك الله لأضربنك ، مبتدأ ثم عطفت هذا الكلام على هذا الكلام فإذا لم تقطع جررت قلت : وإلا لآتينك ثم والله لأضربنك صارت بمنزلة قولك : مررت بزيد ثم بعمرو ، وإن قلت : والله لآتينك ثم لأضربنك الله لم يكن إلا النصب ؛ لأنه ضم الفعل إلى الفعل ثم جاء بالقسم على حدته.
وإذا قلت : والله لآتينك ثم الله فإنما أحد الاسمين مضموم إلى الآخر ، وإن كان قد أخر أحدهما ولا يجوز في هذا إلا الجر ؛ لأن الآخر معلق بالأول ؛ لأنه ليس بعده محلوف عليه.
قال سيبويه : ولو قال : وحقّك وحقّ زيد على وجه الغلط والنسيان جاز يريد بذلك أنه لا يجوز لغير كساه من عري وسقاه من العيمة فهذا بين أنها في هذا الموضع حرف لأنهم أجمعوا على أن (من) حرف وعن أيضا لفظة مشتركة للإسم والحرف.
قال أبو العباس : إذا قال قائل : على زيد نزلت وعن زيد أخذت فهما حرفان يعرف ذلك ضرورة لأنهما أوصلا الفعل إلى زيد كما تقول : بزيد مررت ، وفي الدار نزلت ، وإليك جئت ، فهذا مذهب الحروف ، وإذا قلت : جئت من عن يمينه فعن اسم ومعناها ناحية وبنيت لمضارعتها الحروف.
وأما الموضع الذي هي فيه اسم فوقلهم : من عن يمينك ؛ لأن (من) لا تعمل إلا في الأسماء.
ص: 390
قال الشاعر :
فقلت اجعلي ضوء الفراقد كلّها
يمينا ومهوى النّجم من عن شمالك
وأما كاف التشبيه فقولك : أنت كزيد ومعناها معنى : مثل وسيبويه يذهب إلى أنها حرف.
وكذلك البصريون ويستدلون على أنه حرف بقولك : جاءني الذي كزيد كما تقول : جاءني الذي في الدار ولو قلت : جاءني الذي مثل زيد لم يصلح إلا أن تقول : الذي هو مثل زيد حتى يكون لهذا الخبر ابتداء ويكون راجعا في الصلة إلى الذي ، فإن أضمرته : جاز على قبح ، وإذا قلت : جاءني الذي كزيد لم تحتج إلى هو ومما يدلك على أنها حرف مجئها زائدة.
والأسماء لا تقع موقع الزوائد إنما تزاد الحروف قال الله عز وجل : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : 11] فالكاف زائدة ؛ لأنه لم يثبت له مثلا تبارك وتعالى عن ذلك والمعنى : ليس مثله شيء.
وقد جاءت في الشعر واقعة موقع مثل موضوعة موضعها قال الشاعر :
وصاليات ككما يؤثفين ...
أراد كمثل ما.
وقال الآخر :
فصيروا مثل كعصف مأكول (1)
ص: 391
فإضافته مثل إلى الكاف يدل على أنه قدرها اسما ، وهذا إنما جاء على ضرورة الشاعر.
وذكر سيبويه : أنه لا يجوز الإضمار معها إذا قلت : أنت كزيد لم يجز أن تكني عن زيد.
استغنوا بمثل وشبه فتقول : أنت مثل زيد وقال : مثل ذلك في حتى ومذ.
وقال أبو العباس : فأما الكاف وحتى فقد خولف فيهما قال : وهذا حسن والكاف أشد تمكنا فأما امتناعهم من الكاف ومذ وحتى فلعلة واحدة.
يقولون : كل شيء من هذه الحروف غير متمكن في بابه ؛ لأن الكاف تكون اسما وتكون حرفا فلا تضيفها إلى المضمر مع قلة تمكنها وضعف المضمر إلا أن يضطر شاعر.
و (منذ) تكون اسما وتكون حرفا.
و (حتى) تكون عاطفة وتكون جارة فلم تعط نصيبها كاملا في أحد البابين وقال : الكاف معناها معنى مثل فبذلك حكم أنها اسم ؛ لأن الأسماء إنما عرفت بمعانيها وأنت إذا قلت : زيد كعمرو أو زيد مثل عمرو فالمعنى واحد فهذا باب المعنى.
قال : وأما اللفظ فقد قيل في الكلام والأشعار ما يوجب لها أنها اسم.
قال الأعشى :
ص: 392
فالكاف هي الفاعلة فإنق قال قائل : إنما هي نعت قيل له : إنما يخلف الاسم ويقوم مقامه ما كان اسما مثله نحو : جاءني عاقل ومررت بظريف وليس بالحسن.
ص: 394
القسم الثاني من الأسماء المجرورة من القسمة الأولى وهو المجرورة بالإضافة :الإضافة على ضربين : إضافة محضة ، وإضافة غير محضة.
والإضافة المحضة تنقسم إلى قسمين : إضافة اسم إلى اسم غيره بمعنى اللام ، وإضافة اسم إلى اسم هو بعضه بمعنى (من).
أما التي بمعنى اللام فتكون في الأسماء والظروف.
فالاسم نحو قولك : غلام زيد ومال عمرو وعبد بكر وضرب خالد وكل الدراهم والنكرة إذا أضيفت إلى المعرفة صارت معرفة نحو : غلام زيد ودار الخليفة والنكرة تضاف إلى النكرة وتكون نكرة نحو : راكب حمار فأما مثل وغير وسوى فإنهن إذا أضفن إلى المعارف لم يتعرفن لأنهن لم يخصّصن شيئا بعينه.
وأما الظروف فنحو : خلف وقدام ووراء وفوق وما أشبهه تقول : هو وراءك وفوق البيت وتحت السماء وعلى الأرض.
والإضافة المحضة لا تجتمع مع الألف واللام ولا تجتمع أيضا الإضافة والتنوين ولا يجتمع الألف واللام والتنوين.
الثاني : المضاف بمعنى (من) ، وذلك قولك : هذا باب ساج وثوب خزّ وكساء صوب وماء بحر بمعنى : هذا باب من ساج وكساء من صوف.
الضرب الثاني : الإضافة التي ليست بمحضة.
الأول : اسم الفاعل إذا أضفته وأنت تريد التنوين نحو : هذا ضارب زيد غدا وهو بمعنى يضرب.
والثاني : الصفة الجاري إعرابها على ما قبلها وهي في المعنى لما أضيفت إليه نحو : مررت برجل حسن الوجه المعنى : حسن وجهه.
ص: 395
إذا قلت : (زيد أفضل القوم) فقد أضفته إلى جماعة هو أحدهم تزيد صفته على صفتهم وجميعهم مشتركون في الصفة تقول : عبد الله أفضل العشيرة فهو أحد العشيرة وهم شركاء في الفضل والمفضل من بينهم يزيد فضله على فضلهم ويدلّك على أنه لا بد من أن يكون أحد ما أضيف إليه أنك لو قلت : زيد أفضل الحجارة لم يجز ، فإن قلت : الباقون أفضل الحجارة صلح وأفضل هذه لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث وهي (أفضل) التي إذا لم تضفها صحبتها (منك) تقول : فلان خير منك وأحسن منك.
وقد اختلف الناس في الإحتجاج لتركيب افعل في هذا الباب وجمعه وتأنيثه فقال بعضهم : لأن تأويل هذا يرجع إلى المصدر كأنه إذا قال : قومك أفضل أصحابنا قد قال : فضل قومك يزيد على فضل سائر أصحابنا ، وإذا قلت : هو أفضل العشيرة فالمعنى أنّ فضله يزيد على فضل كل واحد من العشيرة وكذلك إذا قلت : زيد أفضل منك فمعناه : فضله يزيد على فضلك فجعلنا موضع : يزيد فضله أفضل تضمن معنى المصدر والفعل جميعا وأضفناه إلى القوم وما أشبههم وفيهم أعداد المفضولين لأنك كنت تذكر الفضل مرتين إذا أظهرت (يزيد) فتجعل فضلا زائدا على فضل زائد فصار الذي جمع هذا المعنى مضافا وقال آخرون : (أفعل) إنما لم يثن ولم يجمع ولم يؤنث ؛ لأنه مضارع للبعض الذي يقع للتذكير والتأنيث والتثنية والجمع بلفظ واحد وقال الكوفيون وهو رأي الفراء أنه إنما وحّد أفعل هذا ؛ لأنه أضيف إلى نفسه فجرى مجرى الفعل وجرى المخفوض مجرى ما يضمّن في الفعل فكما لا يثنى ولا يجمع الفعل فكذا لا يثنى هذا ولا يجمع.
قال أبو بكر : وأشبه هذه الإحتجاجات عندي بالصواب الاحتجاج الأول والذي أقوله في ذا أن (أفعل) في المعنى لم يثن ولم يجمع ؛ لأن التثنية والجمع إنما تلحق الأسماء التي تنفرد بالمعاني (وأفعل) اسم مركب يدل على فعل وغيره فلم يجز تثنيته وجمعه كما لم يجز تثنية الفعل ولا جمعه لما كان مركبا يدل على معنى وزمان وإنما فعلت العرب هذا اختصارا للكلام وإيجازا واستغناء بقليل اللفظ الدال على كثير من المعاني ولا يجوز تأنيثه لأنك إذا قلت : هند أفضل
ص: 396
منك فكان المعنى هند يزيد فضلها على فضلك فكان أفعل ينتظم معنى الفعل والمصدر والمصدر مذكر فلا طريق إلى تأنيثه وإنما وقع (أفعل) صفة من حيث وقع (فاعل) ؛ لأن فاعل في معنى (يفعل) وقد فسر أبو العباس معنى (منك) إذا قلت : زيد أفضل من عمرو أنه ابتداء فضله في الزيادة من عمرو وقد تقدم هذا في ذكرنا معنى (من) ومواضعها من الكلام فقولك :زيد أفضل (منك) وزيد أفضلكما في المعنى سواء إلا أنك إذا أتيت (بمنك) فزيد منفصل ممن فضلته عليه ، وإذا أضفت فزيد بعض ممن فضلته عليه ، فإن أردت (بأفعل) معنى فاعل ثنيت وجمعت وأنّثت فقلت : زيد أفضلكم والزيدان أفضلاكم والزيدون أفضلوكم وأفاضلكم وهند فضلاكم والهندان فضلياكم والهندات فضلياتكم وفضلكم ، وإذا قلت : زيد الأفضل استغنى عن (من) والإضافة وعلم أنه قد بان بالفضل فهو عند بعضهم إذا أضيف على معنى (من) نكرة وهو مذهب الكوفيين ، وإذا أضيف على معنى اللام معرفة وفي قول البصريين هو معرفة بالإضافة على كل حال إلا أن يضاف إلى نكرة.
فإن يك من الصفة وأضيف إلى الاسم ، وذلك نحو : صلاة الأولى ومسجد الجامع فمن قال هذا فقد أزال الكلام عن جهته ؛ لأن معناه النعت وحده الصلاة الأولى والمسجد الجامع ومن أضاف فجواز إضافته على إرادة : هذه صلاة الساعة الأولى وهذا مسجد الوقت الجامع أو اليوم الجامع وهو قبيح بإقامته النعت مقام المنعوت ولو أراد به نعت الصلاة والمسجد كانت الإضافة إليهما مستحيلة لأنك لا تضيف الشيء إلى نفسه لا تقول : هذا زيد العاقل والعاقل هو زيد وهذا قول أبي العباس رحمه الله.
وسئل عن قولهم : جاءني زيد نفسه ورأيت القوم كلّهم وعن قول الناس : باب الحديد ودار الآخرة وحقّ اليقين وأشباه ذلك فقال : ليس من هذا شيء أضيف إلا قد جعل الأول من الثاني بمنزلة الأجنبي فإضافته راجعة إلى معنى اللام ومن فأنت قد تقول : له نفس وله حقيقة والكل عقيب البعض فهو منسوب إلى ما يتضمنه الشيء فقد صار الاجتماع فيه كالتبعيض ؛ لأنه محيط بذلك البعض الذي كان منسوبا إليه ألا ترى أنك لو قلت : اخترت من العشرة ثلاثة لكانت إضافة ثلاثة إلى العشرة بعضا صحيحا فقلت : أضفت بعضها فإذا أخذتها كلّها فالكل
ص: 397
إنما هو محيط بالأجزاء المتبعضة وكل جزء منه ما كانت إضافته إلى العشرة جائزة فصار الكل الذي يجمعها إضافته إلى العشرة ؛ لأنه اسم لجميع أجزائها كما جاز أن يضاف كل جزء منها إليها فقيل له : أفلسنا نرجع إلى أنه إذا اجتمعت الأجزاء صار الشيء المجزيء هو كل الأجزاء وصار الشيء هو الكل والكل هو الشيء فقال : لا ؛ لأن الكل منفردا لا يؤدي عن الشيء كما أن البعض منفردا لا يؤدي عن المبعض دون إضافته إليه فكذلك الكلّ الذي جمع التبعيض وليس الكل هو الشيء المجزىء إنما الكل اسم لأجزائه جميعا المضافة إليه فصار هو بأنه اسم لكل جزء منها في الحكم بمنزلتها في إضافتها إلى المجزىء.
قال أبو بكر : وهذا القول الذي قاله حسن ألا ترى أنك لا تقول : رأيت زيدا كله ولا توقع الكلّ إلا على ما كان يجوز فيه التبعيض وسئل عن قولهم : دار الآخرة لم لم نقل الآخر فقال : لأن أول الأوقات الساعة فأكثر ما يجوز في هذا التأنيث كقولهم ذات مرة ولو جرى بالتذكير كان وجها فما جرى منه بالتأنيث حمل على الساعة ألا ترى أنه يسمى يوم القيامة الساعة ؛ لأن الساعة أول الأوقات كلّها ، وأما النفس فهي بمنزلة حقيقة الشيء وكذلك عينه أما أسماؤه الموضوعة عليه الفاصلة بينه وبين خبره فلا يجوز إضافة شيء منها إلى شيء ألا ترى أن رجلا اسمه وهو شاب أو شيخ لا يجوز أن تقول : زيد الشاب فتضيف ولا زيد الشيخ ولا شيخ زيد ولا شاب زيد فقيل له : وقد رأينا العلماء إذا لقب الرجل بلقب ثم ذكر لقبه مع اسمه جاز أن تضيف اسمه إلى لقبه كقولك : زيد رأس وثابت قطنة ولا تجد بين ثابت وقطنة إذا كان قد عرفا فرقا فقال : اللقب مما يشتهر به الاسم حتى يكون هو الأعرف ويكون اسمه لو ذكر على أفراده مجهولا فصار اللقب علما والاسم مجرورا إليه كالمقطوع عن المسمى ؛ لأن الملقب إنما يراد بلقبه طرح اسمه وقد كانت تسميتهم أن يسمى الشيء بالاسم المضاف إلى شيء كقولك :عبد الدار وعبد الله فجعلوا الاسم مع لقبه بمنزلة ما أضيف ثم سمي به وكان اللقب أولى بأن يضاف الاسم إليه ؛ لأنه صار أعرف من الاسم وأصل الإضافة تعريف كقولك : جاءني غلام زيد فالغلام يتعرب بزيد فلذلك جعل الاسم مضافا إلى اللقب.
ومن الإضافة التي ليست بمحضة إضافة أسماء الزمان إلى الأفعال والجمل ونحن نفرد بابا لذلك إن شاء الله.
ص: 398
اعلم أن حق الأسماء أن تضاف إلى الأسماء وأن الأصل والقياس أن لا يضاف إسم إلى فعل ولا فعل إلى اسم ولكن العرب اتسعت في بعض ذلك فخصت أسماء الزمان بالإضافة إلى الأفعال ؛ لأن الزمان مضارع للفعل ؛ لأن الفعل له بنى فصارت إضافة الزمان إليه كإضافته إلى مصدره لما فيه من الدليل عليهما ، وذلك قولهم : أتيتك يوم قام زيد وأتيتك هو يقعد عمرو فإذا أضفت إلى فعل معرب فإعراب الاسم عندي هو الحسن تقول : هذا يوم يقوم زيد وقوم يفتحون (اليوم) ، وإذا أضفته إلى فعل مبني جاز إعرابه وبناؤه على الفتح وأن يبنى مع المبني أحسن عندي من أن يبنى مع المعرب وهذا سنعيد ذكره في موضع ذكر الأسماء المبنية إن شاء الله.
وقال الكوفيون : تضاف الأوقات إلى الأفعال وإلى كل كلام تم وتفتح في موضع الرفع والخفض والنصب فتقول : أعجبني يوم يقوم ويوم قمت ويوم زيد قائم وساعة قمت ويجوز عندهم أن يعرب إذا جعلته بمنزلة إذ ، وإذا كأنك إذا قلت : يوم قام زيد إذا قام زيد ، وإذا قلت : يوم يقوم زيد قلت : إذا يقوم ولك أن تضيف أسماء الزمان إلى المبتدأ وخبره كقولك : أتيتك زمن زيد أمير كما تقول : إذا زيد أمير والأوقات التي يجوز أن يفعل فيها هذا ما كان حينا وزمانا يكون في الدهر كله لا يختص منه به شيء دون شيء كقولك : أتيتك حين قام زيد وزمن قام ويوم قام وساعة قام وعام وليلة وأزمان وليالي قام وأيام قام ويفتح في الموقتات كقولك :شهر قام وسنة قام وقالوا : لا يضاف في هذا الباب شيء له عدد مثل يومين وجمعه ولا صباح ولا مساء ، وأما ذو تسلم وآية يفعل فقال أبو العباس : هذا من الشواذ قالوا : أفعله بذي تسلم وآية يقوم زيد فأما آية فهي علامة والعلامة تقع بالفعل وبالاسم وإنما هي إشارة إلى الشيء فجعله لك علما لتوقع فعلك بوقوعه ، وأما بذي تسلم فإنه اسم لم يكن إلا مضافا فاحتمل أن يدخل على الأفعال والتأويل : بذي سلامتك وفيه معنى الذي فصرفه إلى الفعل وليس بقياس عليه.
ص: 399
قال أبو بكر : وللسائل في هذا الباب أن يقول : إذا قلت : آتيك يوم تقوم فإنها بمعنى يوم قيامك فلم لا تنصب الفعل بأضمار (أن) كما فعل باللام ، فإن الإضافة إنما هي في الأسماء فالجواب في ذلك أنّ أن لا تصلح في هذا الموضع لو قلت : أجيئك يوم أن يقوم زيد لم يجز ؛ لأن هذا موضع يتعاقب المبتدأ والخبر والفاعل فيه ويحسن أن يقع موقع اسم إذ ، وإذا وجميع ذلك لا يصلح مع (أن) وليس كل موضع يقع فيه المصدر تصلح فيه (أن) ألا ترى أنك إذا قلت :ضربا زيدا لم يقع هذا الموضع (أن تضرب).
وحكى الكوفيون : أن العرب تضيف إلى (أنّ وأن) فتقول : أعجبني يوم أنّك محسن ويوم أن تقوم ومن أجاز هذا فينبغي أن يجيز : (يوم يقوم) فينصب ولا يجوز أن يبنى اليوم ؛ لأنه قد أضافه إضافة صحيحة وأظن أن الفراء كان ربما أجازه وربما لم يجزه أعني أن يعرب (يوم) أو يبنيه وكان يقيسه على قوله :
هل غير أن كثر الأشد وأهلكت
حرب الملوك أكاثر الأقوام
ص: 400
تقول : (هذا معطي زيد أمس الدراهم) بعد الإضافة أضفت (الدراهم).
قال أبو العباس : وليس كذلك لأنك أعملت فيها (معطي) هذه التي ذكرنا ولكن جاءت الدراهم بعد الإضافة فحملت في النصب على المعنى ؛ لأنك ذكرت اسما يدل على فعل ولا موضع لما بعده إذا كان قد استغنى بالتعريف فحملته على المعنى الذي دل عليه ما قبله وكذلك لو قلت : هذا ضارب زيد أمس وعمرا لجاز والوجه الجر لأنهما شريكان في الإضافة ولكن الحمل على المعنى يحسن إذا تراخى ما بين الجار والمجرور ومن ذلك حمل على جعل الليل سكنا قول الله عز وجل : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : 96] ؛ لأن الاسم دل على ذلك ولو قال قائل : (مررت بزيد وعمرو) لجاز ؛ لأن (بزيد) مفعول والواصل إليه الفعل بحرف في المعنى كالذي يصل إليه الفعل بذاته ؛ لأن قولك : (مررت بزيد) معناه أتيت زيدا إلا أن الجر الوجه للشركة.
وقولك : خشنت بصدره وصدر زيد وهو إذا نصبت في هذا الموضع أحسن من قولك :مررت بزيد وعمرو ؛ لأن قولك : (خشنت) يجوز فيه حذف الباء ولا يجوز في : (مررت بزيد) حذفها.
وتقول : (عبد الله الضارب زيدا) جميع النحويين على أن هذا في تقدير : الذي ضرب زيدا ولم يجيزوا الإضافة وزعم الفراء : أنه جائز في القياس على أن يكون بتأويل : (الذي هو ضارب زيد) وكذا حكم : (زيد الحسن الوجه) عنده أن يكون تأويله الذي هو حسن الوجه وقد ذكرنا أصول هذا وحقائقه فيما تقدم وتقول عبد الله الحسن وجها ولا يجوز : الحسن وجه ؛ لأنه يخالف سائر الإضافات ، وأما أهل الكوفة فيجوز في القياس عندهم إلا أنهم يقولون : (الوجه) مفسر ، وإذا دخل في الأول ألف ولام دخل في مفسره عندهم ومن قولهم : خاصة العشرون الدرهم والخمسة الدراهم والمائة الدرهم ولا يجوزّ هذا البصريون ؛ لأنه نقض لأصول الإضافة والبصريون يقولون : خمسة الدراهم ومائة الدرهم فيدخلون الألف واللام في الثاني
ص: 401
ويكون الأول معرفا به على سبيل الإضافة ويقولون : العشرون درهما والخمسة عشر درهما فيدخلون الألف واللام في الأول فيكون معرفا يقرون الثاني على حده في النكرة.
وقيل لأبي العباس رحمه الله : ألستم تقولون : عبد الله الضاربه والضاربك والضاربي فتجمعون على أن موضع الكاف والهاء خفض قال : بلى قيل له : فهذا يوجب الضارب زيد ؛ لأن المكنى على حد الظاهر ومن قولك أنت خاصة : أن كل من عمل في المظهر جائز أن يعمل في المضمر وكذلك ما عمل في المضمر جائز أن يعمل في المظهر فقال : نحو قول سيبويه : أن هذه الحروف يعني حروف الإضمار قلّت وصارت بمنزلة التنوين لأنها على حرف كما أن التنوين حرف فاستخفوا أن يضيفوا إليها الفاعل لأنها تصير في الاسم كبعض حروفه وحكى لي عنه بعد أنه قال : (الضاربه) (الهاء) في موضع نصب ؛ لأن لا تنوين هاهنا تعاقبه الهاء والضارباه (الهاء) في موضع خفض فإذا أردت النصب أثبت النون بناء على الظاهر وبه اختلف الناس في المضمر فأما الظاهر فلا أعلم أحدا يجيزه الخفض إلا الفراء وحكى لنا عنه أنه قال : وليس من كلام العرب إنما هو قياس ويقول : أعجبني يوم قام زيد ويوم قيامك نسقت بإضافة محضة على إضافة غير محضة ، فإن قلت أعجبني يوم قمته فرددت إلى (يوم) ضميرا في (قام) لم تجز الإضافة قال الله عز وجل : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : 281] والمضاف إلى غير محض لا يؤكد ولا ينعت.
ومن الكوفيين من يجيز تأكيده.
وقال الأخفش : في قول العرب : اذهب بذي تسلم وإنما هو اذهب لسلامتك أي : اذهب وأنت سالم كما تقول : قام بحمقة وقام بغصة وخرج بطلعته أي خرج وهو هكذا وهذا في موضع حال قال : وإن شئت قلت : معناه معنى سلمك الله وجاء في لفظ ما لا يستغنى وحده ألا ترى أنك تقول زيد بسلامته كما تقول : زيد سلمه الله ولا تقول : إنك بذي تسلم وتقول :إنك مسلمك الله إلا أن تدعو له ، فإن دعوت لم يحسن حتى تجيء له بخبر ؛ لأن لا بد لها من خبر وقد خرج مسلمك الله من أن يكون خبرا وقال : تقول : هذه تمرة قريثاء يا هذا ، وإن شئت قلت : كريثاء وهما لغتان وتمرتا كريثاء إذا أردت الإضافة وهاتان تمرتان قريثاء إذا أردت
ص: 402
النعت وهذه تمرة دقلة وتمرتان دقلتان إذا نعت وتمرتا دقل إذا أضفت وتقول هذه تمرة إذاذة وتمرتان إذاذتان وتمرتا إذاذ قال : وليس شيء من الأجناس يثنى ويجمع إذا وصف به إلا التمر.
قال أبو بكر : والذي عندي أن كل جنس اختلف ضروبه جاز أن يثنى ويجمع إذا أردت ضربين منه أو أكثر وتقول : هذا رجل حسن وجه الأخ جميله فتضمن الوجه لأنك قد ذكرته وتقول هذان رجلان حسنا الوجوه جميلاها تضيف (الجميلين) إلى الوجوه وإنما قلت : جميلاها فأنثت ؛ لأن الوجوه مؤنثة وتقول : هذا رجل أحمر الجارية لا أسودها فقلت أحمر وإنما الحمرة للجارية لأنك تجري التأنيث والتذكير على الأول وعطفت الأسود على الأحمر وأضفت الأسود إلى الجارية كما أضفت الأحمر إليها وتقول : هذان رجلان أحمرا الجارية لا أسوداها وهولاء رجال حمر الجواري لا سودها تجعل التثنية والجمع والتأنيث والتذكير على الأول وتقول : هذا رجل أبيض بطن الراحة لا أسوده وإنما قلت : لا أسوده ؛ لأن البطن مذكر وتقول : هذان رجلان أبيضا بطون الراح لا أسوداها وإنما قلت : الراح ؛ لأنه جمع جماعة الراحة وقلت : بطون ؛ لأن كل شيئين من شيئين فهو جماعة وتقول هؤلاء رجال حمر بطون الراح لا سودها ، وأجاز الأخفش : هذان أخواك أبيض بطوح الراح لا أسوديها وقال : لأن أخويك معرفة وأبيض بطون الراح نكرة وقال : تقول : هذه جاريتك بيضاء بطن الراحة لا سوداءه لأنك أضفت إلى البطن وهو مذكر ونصبت بيضاء وسوداء ؛ لأنه نكرة وهؤلاء رجال بيض بطون الراح لا سودها ؛ لأن هذا نكرة وصف بنكرة وتقول : هذا رجل أحمر شرك النعلين إذ جعلت الشراكين من النعلين ، وإن شئت لم تجعلهما من النعلين فقلت : هذا رجل أحمر شراكي النعلين وتقول هاتان حمراوا الشراك لا صفراواها ، وإن شئت حمراوا الشراكين لا صفراوهما وتقول : مررت بنعلك المقوطعتي إحدى الأذنين ومررت برجل مقطوع إحدى الأذنين ولا.
تقول : مررت برجلين مقطوعي إحدى الآذان ؛ لأن (إحدى) لا تثنى ولا تجمع وتقول : مررت برجل مكسور إحدى الجانبين ولا تقول : مررت برجلين مكسوري أحد الجنوب ؛ لأنه يلزمك أن تثني (أحدا) ؛ لأن جنب كل واحد منهما مكسور ولا يجوز تثنية أحد ولا إحدى ؛ لأن موضع أحد وإحدى من الكلام في الإيجاب أن يدلا على أن معهما غيرهما ألا ترى أنك إذا
ص: 403
قلت : إحداهما أو أحدهم فليس يكون إلا مضافا لا بد من أن يكون معه غيره فلو ثنيت زال هذا المعنى وكذلك (كلا وكلتا) لا يجوز أن يثنى ولا يجمع لأنهما يدلان على اثنين فلو ثنيا لزال ما وضعا له ولو قلت : مررت برجلين مكسوري أحد الجنوب وأنت تريد أن أحدهما مكسور الجنب جاز على قبح ؛ لأن تأويله : مررت برجلين مكسور أحد جنوبهما.
قال الأخفش : ولو قلت : أي النعال المقطوعة إحدى الآذان نعلك وواحدة منهن المقطوعة إحدى الأذنين لجاز على قبحه وقال : ألا ترى أنك لو قلت : ضربت أحد رؤوس القوم وإنما ضربت رأسا واحدا لكان كلاما ولو قلت : قطعت إحدى آذان هؤلاء القوم وإنما قطعت أذنا واحدة لجاز وتقول : هذا رجل لا أحمر الرأس فأقول : أحمره ولا أسوده فأقول : أسود ومررت برجلين لا أحمري الرؤوس فأقول : أحمراهما ولا أسوديهما فأقول : أسوداها ومررت برجال لا حمر الرؤوس فأقول : حمرها ولا سودها فأقول سودها ومررت بامرأة لا حمراء الرأس فأقول : حمراوة ولا سوداية فأقول : سوداية ونصبت (أقول) في كل هذا لأنها بالفاء وهو جواب النفي ورفعت ما بعد القول : لأن ما بعد القول لا يقع إلا مرفوعا وعطفت قولا وما بعده على الذي قبله وكذلك : مررت بامرأتين لا حمراوي الرؤوس فأقول حمراواهما ولا سوداويهما فأقول سوداواها وتقول : هذه امرأة أحمر ما بين عينيها لا أسود.
ترفع (بين) إذا جعلت (ما) لغوا لأنك جعلت الصفة (للبين) فرفعته بها كما ترفع بالفعل.
وقلت : أسود ولم تصف لأنك لم تضف الأول وكذلك تقول : هاتان امرأتان أحمر ما بين عينيهما لا أسود ، فإن جعلت (ما) بمنزلة (الذي) ولم تجعلها زائدة وجعلتها في موضع رفع فرفعتهما بأحمر نصبت البين لأنه ظرف ، فإن أضفت أحمر ونقلت إلى العينين قلت إذا جعلت (ما) لغوا قلت : هذه امرأة حمراء ما بين العينين لا سودائه وهذا رجل أحمر ما بين العينين لا أصفره لما أضفت أحمر إلى ما بين وأضفت أصفر إلى ضميره وتقول : هذان رجلان أحمرا ما بين الأعين لا أصفراه وهؤلاء رجال حمر ما بين الأعين لا صفره إذا ألغيت (ما) ، فإن جعلت (ما) بمنزلة (الذي) جعلتها في موضع جر وأضفت إليها الصفة وجعلت (بين) ظرفا (لما) فقلت :
ص: 404
هاتان امرأتان حمراوا ما بين الأعين لا صفراواه فهذه الهاء التي في قولك : لا صفراواه (لما) فكأنك قلت : هاتان امرأتان حمراوا الذي بين الأعين.
واعلم أنه من قال : مررت برجل حسن الوجه قال : مررت برجل أحمر الوجه ؛ لأن أحمر لا ينصرف ومن قال : مررت برجل حسن الوجه جميله لم يجد بدا من أن يضيف جميلا إلى مررت برجل حسن الوجه جميله لم يجد بدا من أن يضيف جميلا إلى ضمير الوجه فكذلك : مررت برجل أحمر الوجه لا أصفره لم يجد بدا من أن يضيف أصفر إلى ضمير الوجه ، وإذا أضافه أنجز ويشبه هذا مررت برجل ضارب أخاك لا شاتمه لا تجد بدا من أن تقول : لا شاتمه لأنك تجيء بالاسم المفعول فإذا جئت بالاسم المفعول به في هذا الباب مضمرا لم تكن الصفة إلا مضافة إليه نحو : هذان ضاربان غدا فلذلك قلت : أصفره فصرفت (أصفر) لأنك أضفته ولم تجعله يعمل كعمل الأول ؛ لأن المضمر والمظهر يختلفان في هذا الباب ألا ترى أنك تقول :مررت بنسوة ضوارب زيدا لا قواتله تجر الآخر وتفتح ضوارب لأنك أردت معنى التنوين ويدلك على ذلك أنك تقول : مررت برجلين أحمرين الوجوه ولا أصفريها ولا يجوز بوجه من الوجوه أصفرنيها ، فإن قلت : لم لا أقول : لا أصفرين ؛ لأن لم أضف الأول فلا أضيف الآخر فلأن الأول قد وقع على شيء حين صار كالمفعول به فلا بد من أن يكون الثاني أيضا له مفعول نجزت الأسماء المرفوعات والمنصوبات والمجرورات وسنذكر توابعها في إعرابها إن شاء الله.
ص: 405
التوابع خمسة : التوكيد والنعت وعطف البيان والبدل والعطف بالحروف ، وهذه الخمسة : أربعة تتبع بغير متوسط والخامس وهو العطف لا يتبع إلا بتوسط حرف فجميع هذه تجري على الثاني ما جرى على الأول من الرفع والنصب والخفض.
التوكيد يجيء على ضربين إما توكيد بتكرير الاسم وإما أن يؤكد بما يحيط به.
اعلم أنه يجيء على ضربين ضرب يعاد فيه الاسم بلفظه وضرب يعاد معناه فأما ما يعاد بلفظه فنحو قولك : رأيت زيدا زيدا ولقيت عمرا عمرا وهذا زيد زيد ومررت بزيد زيد وهذا الضرب يصلح في الأفعال والحروف والجمل وفي كل كلام تريد تأكيده فأما الفعل فتقول : قام عمرو قام وقم قم واجلس اجلس قال الشاعر :
ألا فاسلمي ثمّ اسلمي ثمّت اسلمي
ثلاث تحيّات ، وإن لم تكلّمي
وأما الحروف فنحو قولك : في الدار زيد قائم فيها.
فتعيد فيها (توكيدا) وفيك زيد راغب فيك وقال الله عز وجل : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) [هود : 108] إلا أن الحرف إنما يكرر مع ما يتصل به لا سيما إذا كان عاملا ، وأما الجمل فنحو قولك : قام عمرو قام عمرو وزيد منطلق وزيد منطلق والله أكبر الله أكبر وكل كلام تريد تأكيده فلك أن تكرره بلفظه.
الثاني : الذي هو إعادة المعنى بلفظ آخر نحو قولك : مررت بزيد نفسه وبكم أنفسكم وجاءني زيد نفسه ورأيت زيدا نفسه ومررت بهم أنفسهم فحق هذا أن يتكلم به المتكلم في عقب شك منه ومن مخاطبه فتقول : مررت بزيد نفسه كما تقول : مررت بزيد لا أشك ومررت بزيد حقا لتزيل الشك فإذا قلت : قمت نفسك فهو ضعيف ؛ لأن النفس لم تتمكن في التأكيد لأنها تكون اسما تقول : نزلت بنفس الجبل وخرجت نفسه وأخرج الله نفسه فلما وصلتها
ص: 406
الاسم المضمر في الفعل الذي قد صار كأحد حروفه فأسكنت له ما كان في الفعل متحركا ضعف ذلك من حيث ضعف العطف عليه.
فإن أكدته ظهر ما يجوز أن تحمل النفس عليه فقلت : قمت أنت نفسك وقاموا هم أنفسهم ، فإن أتبعته منصوبا أو مجرورا حسن ؛ لأن المنصوب والمجرور لا يغيران الفعل تقول : رأيتكم أنفسكم ومررت بكم أنفسكم ومررت بكم أنفسكم وتقول : إن زيدا قام هو نفسه فتؤكد المضمر الفاعل المتصل بالمكنى المنفصل وتؤكد المكنى المنفصل بالنفس كالظاهر.
إن زيدا قام نفسه فحملته على المنصوب جاز وكذلك : مررت به نفسه ورأيتك نفسك ؛ لأن المنصوب والمجرور المضمرين لا يغير لهما الفعل.
تقول : جاءني القوم أجمعون وجاءني القوم كلهم وجاءوني أجمعون وكلهم ، وإن المال لك أجمع أكتع ترفع إذا أردت أن تؤكد ما في (لك) ، وإذا أردت أن تؤكد المال بعينه نصبت وكذلك : مررت بدارك جمعاء كتعاء أو مررت بنسائك جمع كتع.
ولا يجوز بزيد أجمع ولا بزيد كله وإنما يجوز ذلك فيما جازت عليه التفرقة.
وأجمعون وما تصرف منها وكل إذا كانت مضافة إلى الضمير وجميعهن يجرين على كل مضمر إلا أجمعين لا تكون إلا تابعة لا تقول : رأيت أجمعين ولا مررت بأجمعين لا يجوز أن يلي رافعا ولا ناصبا ولا جارا فلما قويت في الإتباع تمكنت فيه وصلح ذلك في (كلّ) لأنها في معنى (أجمعين) في العموم ، وذلك قولك : إن قومك جاءوني أجمعون ومررت بكم أجمعين فمعناها العموم ، وذلك مخالف لمعنى نفسه وأنفسهم ؛ لأن أنفسهم وأخواتها تثبت بعد الشك فإذا قلت : مررت بهم كلّهم فهو بمنزلة (أجمعين) ومررت بهم جميعهم وتقول : مررت بدارك كلها ولا تقول : مررت بزيد كله ولو قلت : أخذت درهما أجمع لم يجز ؛ لأن درهما نكرة وأجمع معرفة كما لا يجوز : مررت برجل الظريف إلا على البدل ولا يجوز البدل في (أجمع) ؛ لأنه لا يلي العوامل ولكن يجوز أخذت الدرهم أجمع وأكلت الرغيف كله.
ص: 407
فأما قولهم : مررت بالرجل كلّ الرجل ، فقال أبو العباس معناه : مررت بالرجل المستحقّ ؛ لأن يكون الرجل الكامل لأنك لا تقول : ذاك إلا وأنت تريد حزمه ونفاذه أو جبنه وشجاعته وما أشبه ذلك فإذا قلت : مررت بالرجل كل الرجل فهو كقولك : مررت بالعالم حقّ العالم ومررت بالظريف حقّ الظريف ولو قلت على هذا : مررت بزيد كل الرجل لم يجز إلا ضعيفا ؛ لأن زيدا اسم علم وليس فيه معنى تقريظ ولا تخسيس وكذلك : مررت برجل كلّ رجل وبعالم حق عالم وبتاجر خير تاجر فجميع هذا ثناء مؤكد وليس بنعت يخلص واحدا من آخر ولو قلت : زيد كلّ الرجل فجعلته خبرا صلح ؛ لأنه ليس بتأكيد لشيء ولكنه ثناء خالص كما تقول : زيد حقّ العالم وزيد عين العالم لأنك لو قلت : مررت بزيد حقّ العالم لم يكن هذا موضعه وتقول : مررت بالرجلين كليهما ومررت بالمرأتين كلتيهما ولك أن تجري ثلاثتهم وأربعتهم مجرى كلهم فتقول : مررت بهم ثلاثتهم ولك أن تنصب كما تنصب (وحده) في قولك : مررت برجل وحده وكذلك المؤنث : مررت بهن ثلاثتهن وأربعتهن ولك أن تقول : أتينني ثلاثتهن وأربعتهن نصبا ورفعا قال الأخفش : فإذا جاوزت العشرة لم يكن إلا مفتوحا إلى العشرين تقول للنساء أتينني ثماني عشرهن وللرجال أتوني ثمانية عشرهم ، وأما نصبك (وحده) فعلى المصدر كأنك قلت : أوحدته إيحادا فصار وحده كقولك : إيحادا كأنك قلت :أفردته إفرادا وتقول : إنّ المال لك أجمع أكتع إذا أردت أن تؤكد ما في (لك).
وأما (كلهم) فالأحسن أن تكون جامعين وقد يجوز أن تلي العوامل وتقول إن القوم جاءوني كلهم وكلهم : النصب إذا أكدت (القوم) والرفع إذا أكدت الفاعلين المضمرين في (جاءوني) ويجوز أن تقول : إن قومك كلهم ذاهب يحسن عند الخايل أن يكون مبتدأ بعد أن تذكر (قومك) فيشبه التوكيد ؛ لأن التوكيد لا يكون إلا جاريا على ما قبله ويجوز أيضا قومك ضربت كلهم لهذه الإضافة الواقعة في (كلّ) فصار معاقبا (لبعضهم) كقولك : ضربت بعضهم وهو على ذلك ضعيف والصواب الجيد : قومك ضربتهم كلهم ؛ لأن المعنى معنى (أجمعين) في العموم والتأكيد فأما قوله عز وجل : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران : 154] فالنصب على التوكيد للأمر والرفع على قولك : إن الأمر جميعه لله.
ص: 408
واعلم أنه لا يجوز أن تقول : مررت بقومك إما بعضهم وإما أجمعين وإما كلهم وإما بعضهم ؛ لأن أجمعين لا تنفرد ولكن تقول : إما بهم كلهم وإما بهم أجمعين ، فإن قلت : مررت بقومك إما كلهم وإما بعضهم جاز على قبح فأما ما يؤكد به (أجمعون) من قولك : جاءني قومك أجمعون أكتعون ونحوه فإنما هو مبالغة ولا يجوز أن يكون أكتعون قبل (أجمعين) وكذلك سائر هذه التوكيدات نحو قولك : ويلة وعولة وهو جائع نائع وعطشان نطشان وحسن بسن وقبيح شقيح وما أشبه هذا إلا يكون المؤكّد قبل المؤكّد وكلاهما وكلتاهما وكلهن يجرين مجرى (كلهم) فأما النكرة فلا يجوز أن تؤكد بنفسه ولا أجمعين ولا كلهم ؛ لأن هذه معارف ، فإن أكدت بتكرير اللفظ بعينه لم يمتنع أن تقول : رأيت رجلا رجلا وأصبت درة درة فأما قولهم : (مررت برجل كلّ رجل) فإنما هذا على المبالغة في المدح كأنك قلت : مررت برجل كامل.
النعت ينقسم بأقسام المنعوت في معرفته ونكرته فنعت المعرفة معرفة ونعت النكرة نكرة والنعت يتبع المنعوت في رفعه ونصبه وخفضه وأصل الصفة أن يقع للنكرة دون المعرفة ؛ لأن المعرفة كان حقها أن تستغني بنفسها وإنما عرض لها ضرب من التنكير فاحتيج إلى الصفة فأما النكرات فهي المستحقة للصفات لتقرب من المعارف وتقع بها حينئذ الفائدة والصفة : كل ما فرق بين موصوفين مشتركين في اللفظ وهي تنقسم على خمسة أقسام :
القسم الأول : حلية للموصوف تكون فيه أو في شيء من سببه.
الثاني : فعل للموصوف يكون به فاعلا هو أو شيء من سببه.
الثالث : وصف ليس بعمل ولا بحلية.
الرابع : وصف ينسب إلى أب أو بلدة أو صناعة أو ضرب من الضروب.
الخامس : الوصف (بذي) التي في معنى صاحب لا بذو التي في معنى (الذي).
شرح الأول : وهو ما كان حلية للموصوف تكون فيه أو في شيء من سببه نحو الحلية :
ص: 409
نحو الزرقة والحمرة والبياض والحول والعور والطول والقصر والحسن والقبح وما أشبه هذه الأشياء تقول : مررت برجل أزرق وأحمر وطويل وقصير وأحول وأعور وبامرأة عوراء وطويلة زرقاء وبرجل حسن وبامرأة حسنة فجميع هذه الصفات قد فرقت لك بين الرجل الأزرق وغيره والأحمر وغيره والرفع والنصب مثل الخفض والرجل والجمل والحجر في الوصف سواء إذا وصفتهنّ بما هو حلية لهن فأما الموصوف بصفة ليست له في الحقيقة وإنما هي لشيء من سببه وإنما جرت على الاسم الأول لأنها تفرق بينه وبين من له اسم مثل اسمه ، وذلك قولك : مررت برجل حسن أبوه ومضيت إلى رجل طويل أخوه وقد تقدم ذكر الصفة التي تجري على الموصوف في الإعراب إذا كان لشيء من سببه عورض بها وقلنا : أنه إنما يجري على الاسم منها ما كان مشبها باسم الفاعل مما تدخله الألف واللام أو يثنى ويجمع بالواو والنون ويذكّر ويؤنث.
وهو ما كان فعلا للموصوف يكون به فاعلا أو متصلا بشيء من سببه ، وذلك نحو :(قائم) وقاعد وضارب ونائم تقول : مررت برجل قائم ، وبرجل نائم وبرجل ضارب وهذا رجل قائم ورأيت رجلا قائما فهذه صفة استحقها الموصوف بفعله ؛ لأنه لما قام وجب أن يقال له : قائم ولما ضرب وجب أن يقال له : ضارب وكذلك جميع أسماء الفاعلين على هذا نحو :مكرم ومستخرج ومدحرج كثرت حروفه أو قلت ولهذا حسن أن توصف النكرة بالفعل فتقول : مررت برجل ضرب زيدا وبرجل قام وبرجل يضرب ؛ لأنه ما قيل له ضارب إلا بعد أن ضرب أو يضرب في ذلك الوقت أو يكون مقدرا للضرب ؛ لأن اسم الفاعل إنما يجري مجرى الفعل فجميع هذا الذي ذكرت لك من أسماء الفاعلين يجري على الموصوفات التي قبلها فيفصل بين بعض المسميات وبعض إذا أخلصتها نحو : مررت برجل ضارب وقاتل ومكرم ونائم وكذلك إن كانت لما هو من سبب الأول نحو قولك : مررت برجل ضارب أبوه وبرجل قائم أخوه ورأيت رجلا ضاربا أخوه عمرا وهذا رجل شاكر أخوه زيدا ولك أن تحذف التنوين وأنت تريده من اسم وتضيف فتقول : مررت برجل ضارب زيد غدا وبرجل قاتل بكر
ص: 410
الساعة وقد بينت ذا فيما تقدم وكذا إن كان الفعل متصلا بشيء من سبب الأول تقول : مررت برجل ضارب رجلا أبوه وبرجل مخالط بدنه داء ولك أن تحذف التنوين كما حذفت فيما قبله فتقول مررت برجل ضارب رجل أبوه وبرجل مخالط بدنه داء.
وحكى سيبويه عن بعض المتقدمين من النحويين أنه كان لا يجيز إلا النصب في : مررت برجل مخالط بدنه داء فينصبون (مخالط) وردّ هذا القول وقال : العمل الذي لم يقع والعمل والواقع الثابت في هذا الباب سواء قال : وناس من النحويين يفرقون بين التنوين وغير التنوين ويفرقون إذا لم ينونوا بين العمل الثابت الذي ليس فيه علاج يرونه نحو : الآخذ واللازم والمخالط وبين ما كان علاجا نحو : الضارب والكاسر فيجعلون هذا رفعا على كل حال ويجعلون اللازم ما أشبهه نصبا إذا كان واقعا ، فإن جعلت ملازمه وضاربه وما أشبه هذا لما مضى صار اسما ولم يكن إلا رفعا تقول : مررت برجل ضاربه زيد أمس وبرجل ضارب أبيه عمرو أمس ورأيت رجلا مخالطه داء أمس.
وذلك نحو العقل والفهم والعلم والحزن والفرح وما جرى هذا المجرى تقول : مررت برجل عالم وبرجل عاقل ورجل عالم أبوه وبرجل ظريفة جاريته فجميع هذه الصفات وما أشبهها وقاربها فحكمها حكم واحد وقياسها قياس ضارب وقائم في إعرابها إذا كانت متصرفة كتصرفها.
إذا نسبت إلى أب أو بلدة أو صناعة أو ضرب من الضروب جرى مجرى النعوت التي تقدم ذكرها ، وذلك قولك : مررت برجل هاشمي وبرجل عربي منسوب إلى الجنس وكذلك عجمي وبرجل بزاز وعطار وسراج وجمّال ونجار فهذا منسوب إلى الأمور التي تعالج وبرجل بصري ومصري وكوفي وشامي فهذا منسوب إلى البلد وتقول : مررت برجل دارع ونابل أي : صاحب درع وصاحب نبل وكذلك برجل فارس فجميع هذه الأشياء إنما صارت صفات بما لها من معنى الصفة وسنبين النسب في بابه فإنه حدّ من النحو كبير إن شاء الله فأما
ص: 411
أب وأخ وابن وما جرى مجراهن فصفات ليست منسوبة إلى شيء وهي أسماء أوائل في أبوابها ولا يجوز أن تنسب إليها كنسب هاشمي المنسوب إلى هاشم ولا كعطار المنسوب إلى العطر ولا دارع المنسوب للدرع.
وذلك نحو : مررت برجل ذي إبل وذي أدب وذي عقل وذي مروءة وما أشبه ذلك ويفسر بأن معناه (صاحب) ولا يكون إلا مضافا ولا يجوز أن تضيفه إلى مضمر ، وإذا وصفت به نكرة أضفته إلى نكرة ، وإذا وصفت به معرفة أضفت إلى الألف واللام ولا يجوز أن تضيفه إلى زيد وما أشبهه وتقول للمؤنث (ذات) تقول : مررت بامرأة ذات جمال ، وإذا ثنيت قلت :مررت برجلين ذوي مال وهذان رجلان ذوا مال وهاتان امرأتان ذواتا مال وهؤلاء رجال ذوو مال ونساء ذوات مال فأما (ذو) التي بمعنى (الذي) فهي لغة طيء فحقها أن يوصف بها المعارف.
ص: 412
هذه الصفات التي ليست بصفات محضة في الوصف يجوز أن تبتدأ كما تبتدأ الأسماء ويحسن ذلك فيها وهي التي لا تجري على الأول إذا كانت لشيء من سببه وهي تنقسم ثلاثة أقسام مفرد ومضاف وموصول.
نحو قولك : مررت بثوب سبع وقول العرب : أخذ بنو فلان من بني فلان إبلا مائة.
وقال الأعشى :
لئن كنت في جبّ ثمانين قامة
ورقيت أسباب السماء بسلم (1)
ص: 413
ص: 414
ومررت بحية ذراع فإذا قلت : مررت بحية ذراع طولها رفعت (الذراع) وجعلت ما بعد (حية) مبتدأ وخبرا وكذلك مررت بثوب سبع طوله ومررت برجل مائة إبله.
ص: 415
قال سيبويه وبعض العرب يجره كما يجر الخزّ حين تقول : مررت برجل خزّ صفته وهو قليل : كما تقول : مررت برجل أسد أبوه إذا كنت تريد أن تجعله شديدا ومررت برجل مثل الأسد أبوه إذا كنت تشبهه ، فإن قلت : مررت بدابة أسد أبوها فهو رفع لأنك إنما تخبر أن أباها هذا السبع قال : فإن قلت : مررت برجل أسد أبوه على هذا المعنى رفعت لأنك لا تجعل أباه خلقته كخلقة الأسد ولا صورته هذا لا يكون ولكنه يجيء كالمثل ومن قال : مررت برجل أسد أبوه قال : مررت برجل مائة إبله وزعم يونس : أنه لم يسمعه من ثقة ولكنهم يقولون : هو نار جمرة لأنهم قد يبنون الأسماء على المبتدأ ولا يصفون بها فالرفع فيما كان بهذه الحال الوجه قال : ومن قال : مررت برجل سواء والعدم كان قبيحا حتى تقول : هو والعدم ؛ لأن في (سواء) اسما مضمرا مرفوعا كما تقول : مررت بقوم عرب أجمعون فارتفع (أجمعون) على مضمر في (عرب) في النية فالعدم هنا معطوف على المضمر الثاني المضاف ، وذلك قولهم : مررت برجل أي رجل وبرجل أيما رجل وبرجل أبي عشرة وبرجل كلّ رجل وبرجل مثلك وغيرك وبرجل أفضل رجل وما أشبهه فجميع هذا يجري على الموصوف في إعرابه في رفعه ونصبه وجره إذا أخلصتها له ، فإن جعلت شيئا من هذه الصفات رافعا لشيء من سببه لم يجز أن تصف به الأول ولا تجريه عليه ورفعته فقلت : مررت برجل أبو عشرة أبوه وبرجل أفضل رجل أبوه وبرجل مثلك أخوه وبرجل غيرك صاحبه : وكلّ ما ورد عليك من هذا النحو فقسه عليه.
وإنما أشبه المضاف ؛ لأنه غير مستعمل إلا مع صلته ، وذلك نحو : أفضل منك وأب لك وأخ لك وصاحب لك فجميع هذه لا يحسن أن تفردها من صلاتها لو قلت : مررت برجل أب وبرجل أخ لك وبرجل خير وبرجل شرّ لم يجز حتى تقول : مررت برجل أب لك وبرجل أخ لك وبرجل خير منك فجميع هذه إذا أخلصتها للموصوف ولم تعلقها بشيء من سببه أجريتها على الأول فقلت : هذا رجل خير منك وصاحب لك وأب لك ورأيت رجلا خيرا منك وأبا لك ومررت برجل خير منك وأب لك ، فإن علقتها بشيء من سببه رفعت وغلبت عليها الاسمية فقلت : مررت برجل أب لك أبوه وبرجل صاحب لك أخوه وبرجل خير منه
ص: 416
أبوه ترفع جميع هذا على الابتداء والخبر والجر لغة وليست بالجيدة وتقول : ما رأيت رجلا أبغض إليه الشرّ منه إليه وما رأيت آخر أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد فإنما جرى : (أبغض وأحسن) على (رجل) في إعرابه.
وإن كان قد وقع بهما الشر والكحل ؛ لأن الصفة في المعنى له وليس هنا موصوف غيره ؛ لأنه هو المبغض للشر وهو الحسن بالكحل فلهذا لم يشبه : مررت برجل خير منه أبوه ؛ لأن أباه غيره وليس له في الخبر الذي في (أبيه) نصيب وقد تخفض العرب هذا الكلام فتقول : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل من زيد وما رأيت أبغض إليه الشرّ منه فإذا فعلوا هذا جعلوا الهاء التي كانت في (منه) للمذكر المضمر وكانت للكحل والشرّ وما أشبههما قال الشاعر :
مررت على وادي السّباع ولا أرى
كوادي السّباع حين يظلم واديا
أقلّ به ركب أتوه تئية
وأخوف إلّا ما وقى الله ساريا (1)
ص: 417
قال سيبويه : إنما أراد : أقلّ به الركب تئية منهم ولكنه حذف ذلك استخافا كما تقول : أنت أفضل ولا تقول من أحد وتقول : الله أكبر ومعناه : أكبر من كلّ كبير وكلّ شيء.
وكما تقول : لا مال ولا تقول لك.
واعلم أن ما جرى نعتا على النكرة فإنه منصوب في المعرفة على الحال ، وذلك قولك :مررت بزيد حسنا أبوه ومررت بعبد الله ملازمك وما كان في النكرة رفعا غير صفة فهو في المعرفة رفع فمن ذلك قوله عز وجل : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) [الجاثية : 21] لأنك تقول : مررت
ص: 418
برجل سواء محياه ومماته وتقول : مررت بعبد الله خير منه أبوه ومن أجرى هذا على الأول في النكرة نصبه هنا على الحال فقال : مررت بعبد الله خيرا منه أبوه وهي لغة رديئة وقد يكون حالا ما لا يكون صفة ؛ لأن الحال زيادة في الخبر فأشبهت خبر المبتدأ الذي يجوز أن يكون صفة ويجوز أن يكون اسما والصفة ما كانت تفرق بين اسمين والحال ليست تفرق بين اسمين وقد يجوز أن يكون من اسم لا شريك له في لفظه ولكنها تفرق بين صاحب الفعل فاعلا كان أو مفعولا وبين نفسه في وقتهن فمما استعملوه حالا ولم يجز أن يكون صفة.
قولهم : مررت بزيد أسدا شدة ، قال سيبويه : إنما قال النحويون : مررت برجل أسدا شدة وجرأة إنما يريدون : مثل الأسد وهذا ضعيف قبيح ؛ لأنه لم يجعل صفة إنما قاله النحويون تشبيها بقولهم : مررت بزيد أسدا شدة وقد يكون خبرا ما لا يكون صفة واعلم أنهم ربما وصفوا بالمصدر نحو قولك : رجل عدل وعلم فإذا فعلوا هذا فحقه أن لا يثنى ولا يجمع ولا يذكّر ولا يؤنث والمعنى إنما هو ذو عدل ، فإن ثنى من هذا شيء فإنما يشبه بالصفة إذا كثر الوصف به والنكرة توصف بالجمل وبالمبتدأ والخبر والفعل والفاعل ؛ لأن كلّ جملة فهي نكرة لأنها حديث وإنما يحدث بما لا يعرف ليعيده السامع فيقول : مررت برجل أبوه منطلق فرجل صفته مبتدأ وخبره وتقول : مررت برجل قائم أبوه فهذا موصوف بفعل وفاعل ولا يجوز أن تصف المعرفة بالجمل ؛ لأن الجمل نكرات والمعرفة لا توصف إلا بمعرفة فإذا أردت ذلك أتيت (بالذي) فقلت : مررت بزيد الذي أبوه قائم وبعمرو الذي قائم أبوه.
ص: 419
وهو ينقسم بأقسام المعارف إلا المضمر فإنه لا يوصف به وأقسام الأسماء المعارف خمسة العلم الخاص والمضاف إلى المعرفة والألف واللام والأسماء المبهمة والإضمار.
فالموصوف منها أربع :
الأول : وهو العلم الخاص : يوصف بثلاثة أشياء بالمضاف إلى مثله وبالألف واللام نحو :مررت بزيد أخيك والألف واللام نحو : مررت بزيد الطويل وما أشبه هذا من الإضافة والألف واللام.
وأما المبهمة فنحو : مررت بزيد هذا وبعمرو ذاك والمرفوع والمنصوب في أتباع الأول كالمجرور.
الثاني : المضاف إلى المعرفة : يوصف بثلاثة أشياء بما أضيف كإضافته وبالألف واللام والأسماء المبهمة ، وذلك مررت بصاحبك أخي زيد ومررت بصاحبك الطويل ومررت بصاحبك هذا.
الثالث : الألف واللام : يوصف بالألف واللام وربما أضيف إلى الألف واللام ؛ لأنه بمنزلة الألف واللام ، وذلك قولك مررت بالجميل النبيل ومررت بالرجل ذي المال.
الرابع : المبهمة : توصف بالأسماء التي فيها الألف واللام والصفات التي فيها الألف واللام جميعا.
قال سيبويه : وإنما وصفت بالأسماء لأنها والمبهمة كشيء واحد.
والصفات التي فيها الألف واللام هي بمنزلة الأسماء في هذا الموضع وليست بمنزلة الصفات في زيد وعمرو يعني أنك إذا قلت : هذا الطويل فإنما تريد : الرجل الطويل أو الرمح الطويل أو ما أشبه ذلك ؛ لأن هذا مبهم يصلح أن تشير به إلى كل ما بحضرتك فإذا ألبس على السامع فلم يدر إلى الرجل تشير أم إلى الرمح وجب أن تقول : بهذا الرجل أو بهذا الرمح فالمبهم يحتاج إلى أن يميز بالأجناس عند الإلباس فلهذا صار هو وصفته بمنزلة شيء واحد
ص: 420
وخالف سائر الموصوفات لأنها لم توصف بالأجناس وإنما يجوز أن تقول بهذا الطويل إذا لم يكن بحضرتك طويلان فيقع لبس فأما إذا كان شيئان طويلان لم يجز إلا أن تذكر الاسم قبل الصفة وهذا المعنى ذكره النحويون مجملا وقد ذكرته مفصلا واعلم أن صفة المعرفة لا تكون إلا معرفة كما أن صفة النكرة لا تكون إلا نكرة ولا يجوز أن تكون الصفة أخص من الموصوف ألا ترى أنك إذا قلت : مررت بزيد الطويل فالطويل أعم من زيد وحده والأشياء الطوال كثيرة وزيد وحده أخص من الطويل وحده ، فإن قال
قائل : فكان ينبغي إذا وصفت الخاص بالعام أن تخرجه إلى العموم قيل له : هذا كان يكون واجبا لو ذكر الوصف وحده فقلت : مررت بالطويل لكان لعمري أعم من زيد ولكنك إذا قلت : بزيد الطويل كان مجموع ذلك أحسن من زيد وحده ومن الطويل وحده ولهذا صارت الصفة والموصوف كالشيء الواحد.
واعلم أنه لك أن تجمع الصفة وتفرق الموصوف إذا كانت الصفة محضة ولم تكن اسما وصفت به مبهما.
ولك أن تفرق الصفة وتجمع الموصوف في المعرفة والنكرة فتقول : مررت بزيد وعمرو وبكر الطوال تجمع النعت وتفرق المنعوت وتقول : مررت بالزيدين الراكب والجالس والضاحك فتجمع الاسم وتفرق الصفة ولكن المفرق يجب أن يكون بعدد المجموع وليس لك مثل هذا في المبهم لا يجوز أن تقول : مررت بهذين : الراكع والساجد وأنت تريد الوصف ؛ لأن المبهم اسم وصفته اسم فهما اسمان يبين أحدهما الآخر فقاما مقام اسم واحد ولا يجوز أن يفرقا لا يثني أحدهما ويفرد الآخر بل يجب أن يكون مناسبا له في توحيده وتثنيته وجمعه ليكون مطابقا له لا يفصل أحدهما عن الآخر.
ص: 421
تقول : إن خيرهم كلهم زيد ، وإن لي قبلكم كلكم خمسين درهما ، وإن خيرهما كليهما أخوك لا يكون (كليهما) من نعت (خير) ؛ لأن خيرا واحد.
وتقول : جاءني خيرهما كليهما راكبا ، وإن خيرهما كليهما نفسه زيد فيكون (نفسه) من نعت (خير) وتقول : جاءني اليوم خيرهما كليهما نفسه وقال الأخفش : أن عبد الله ساج بابه منطلق فجعل (ساج بابه) في موضع نصب على الحال ؛ لأنه كان صفة للنكرة.
وتقول : مررت بحسن أبوه تريد : رجل حسن أبوه وبأحمر أبوه ولا يجوز : رأيت ساجا بابه تريد : رأيت رجلا ساجا بابه.
وتقول : مررت بأصحاب لك أجمعون اكتعون ؛ لأن في (لك) اسما مضمرا مرفوعا.
ومررت بقوم ذاهبين أجمعون أكتعون ؛ لأن في (ذاهبين) اسما مرفوعا مضمرا وكذلك :مررت بدرهم أجمع أكتع ومررت بدار لك جمعاء كتعاء ومررت بنساء لك جمع كتع ولا يجوز أن تكون هذه الصفة للأول ؛ لأن الأول نكرة وتقول : مررت بالقوم ذاهبين أجمعين أكتعين إذا أكدت القوم ، فإن أجريته على الاسم المضمر في (ذاهبين) رفعت فقلت : أجمعون أكتعون.
وتقول : مررت برجل أيما رجل وهذا رجل أيما رجل وهذان رجلان أيما رجلين وهاتان امرأتان أيتما امرأتين ومررت بامرأتين أيتما امرأتين و (ما) في كل هذا زائدة وأضفت أيا وأية إلى ما بعدها.
وتقول : مررت برجل حسبك من رجل وبامرأة حسبك من امرأة وهذه امرأة حسبك من امرأة وهاتان امرأتان حسبك من امرأتين وتقول : هذا رجل ناهيك من رجل وهذه امرأة ناهيتك من امرأة فتذكر (ناهيا) وتؤنثه ؛ لأنه اسم فاعل ولا تفعل ذلك في (حسبك) ؛ لأنه مصدر وتقول في المعرفة : هذا عبد الله حسبك من رجل وهذا زيد أيما رجل فتنصب (حسبك) وأيما على الحال.
وهذا زيد ناهيك من رجل وهذه أمة الله أيتما جارية.
ص: 422
وتقول : مررت برجلين لا عطشاني المرأتين فأقول عطشاناهما ولا ريانيهما فأقول : رياناهما وتقول : مررت برجال لا عطاش النساء فأقول : عطاشهن ولا روائهن فأقول : رواؤهن وإنما قلت : رواء ؛ لأنه فعال من رويت.
وتقول : هاتان امرأتان عطشيا الزوجين لا ريياهما وتقول هؤلاء نساء لا عطاش الأزواج فأقول : عطاشهم ولا رواؤهم فإذا جمعت : ريّا وريان فهو على فعال.
وتقول : مررت برجل حائض جاريته ومررت بامرأة خصي غلامها ولو قلت : مررت برجل حائض الجارية لقبح لأنك إن أدخلت الألف واللام جعلت التأنيث والتذكير على الأول فأنت تريد أن تذكر حائضا ؛ لأن قبله رجلا والحائض لا يكون مذكرا أبدا وقال بعضهم : هذا كلام جائز ؛ لأن (حائضا) مذكر في الأصل وقد أجيز مررت بامرأة خصي الزوج ؛ لأن خصيا فعيل مما يكون فيه مفعوله فهذا يكون للمذكر والمؤنث سواء ولا يجوز : مررت برجل عذر الجارية إذا كان الجارية عذرا وكذلك : مررت بامرأة محتلمة الزوج ؛ لأن محتلما مما لا يكون مؤنثا وكذلك : مررت بامرأة آدر الزوج ولا يجوز : مررت برجل أعفل المرأة ؛ لأن أعفل مما لا يكون في الكلام.
ومن قال : مررت برجل كفاك به رجلا قال للجميع : كفاك بهم وللإثنين : كفاك بهما ؛ لأن اسم الفاعل هو الذي بعد الباء والباء زائدة وفي هذا لغتان : منهم من يجريه مجرى المصدر فلا يؤنثه ولا يثنيه ولا يجمعه ومنهم من يجمعه فعلا فيقول : مررت برجل هدك من رجل وبامرأة هدتك من امرأة ، وإن أردت الفعل في (حسبك) قلت : مررت برجل حسبك من رجل ، وبرجلين أحسباك من رجلين ، وبرجال أحسبوك وتقول : مررت برجلين ملازماهما رجلان أمس كما تقول : برجلين عبداهما رجلان ومررت برجل ملازموه رجال أمس ؛ لأن ملازمه هذا اسم مبتدأ ؛ لأنه بمنزلة غلام إذا كان لما مضى وقد بينا ذا فيما تقدم فإذا كان اسما صار مبتدأ ولا بدّ من أن يكون مساويا للخبر في عدته كما تقول : الزيدان قائمان وغلاماك منطلقان وتقول : مررت برجل حسبك ومررت بعبد الله حسبك فيكون حالا فإذا قلت : حسبك يلزمك فحسبك مرتفع بالابتداء والخبر محذوف وهذا قول الأخفش وغيره من النحويين.
ص: 423
وقال أبو العباس رحمه الله الخبر محذوف لعلتين : إحداهما : أنك لا تقول (حسبك) إلا بعد شيء قد قاله أو فعله ومعناه يكفيك أي ما فعلت وتقديره : كافيك ؛ لأن حسبك اسم فقد استغنيت عن الخبر بما شاهدت مما فعل قال : وكذلك أخوات حسبك نحو (هدك) والوجه الآخر : في الإقتصار على حسب بغير خبر إن معنى الأمر لما دخلها استغنت عن ذلك كما تستغني أفعال الأمر تقول : حسبك ينم الناس كما تقول : اكفف ينم الناس وكذلك (قدك) و (قطك) ؛ لأن معناهما حسبك إلا أن حسبك معربة وهاتان مبنيتان على السكون يعني قد وقط وتقول : حسبك درهمان فأنت تجريه مجرى يكفيك درهمان وتقول : إن حسبك درهمان.
قال الأخفش : إذا تكلمت (بحسب) وحدها يعني إذا لم تضفها جعلتها أمرا وحركت آخرها لسكون السين تقول : رأيت زيدا حسب يا فتى غير منون كأنك قلت : حسبي أو حسبك فأضمر هذا فلذلك لم ينون ؛ لأنه أراد الإضافة.
وقال تقول : حسبك وعبد الله درهمان على معنى يكفيك وعبد الله درهمان ، فإن جررت فهو جائز وهو قبيح وقبحه أنك لا تعطف ظاهرا على مضمر مجرور وأنشدوا :
إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا
فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد
فمنهم من ينصب (الضحاك) ومنهم من يجر ومنهم من يرفع ، فإن أظهرت قلت : حسب زيد وأخيه درهمان وقبح النصب والرفع لأنك لم تضطر إلى ذلك وتقول مررت برجل في ماء خائضه هو لا يكون إلا هو إذا أدخلت الواو لأنك قد فصلت بينه وبين ماء وتقول : مررت برجل معه صقر صائد وصائد به كما تقول : أتيت على رجل ومررت به قائما إن حملته على الرجل جررت ، وإن حملته على (مررت به) نصبت وتقول : نحن قوم ننطلق عامدون وعامدين إلى بلد كذا وتقول : مررت برجل معه باز قابض على آخر وبرجل معه جبة لابس غيرها ولابسا إن حملته على الإضمار الذي في (معه) وتقول : مررت برجل عنده صقر صائد بباز وصائدا إن حملته على ما في (عنده) من الإضمار وكأنك قلت : عنده صقر صائدا بباز وتقول : هذا رجل عاقل لبيب لم تجعل الآخر حالا وقع فيه الأول ولكنك سويت بينهما في الإجراء على الاسم والنصب فيه جائز ضعيف.
ص: 424
قال سيبويه : وإنما ضعف ؛ لأنه لم يرد أن الأول وقع وهو في هذه الحال ولكنه أراد أنهما فيه ثابتان لم يكن واحد منهما قبل صاحبه وقد يجوز في سعة الكلام وتقول مررت برجل معه كيس مختوم عليه الرفع الوجه ؛ لأنه صفة الكيس والنصب جائز على قوله : فيها رجل قائما وهذا رجل ذاهبا وتقول : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا تريد مقدرا الصيد به غدا ولو لا هذا التقدير ما جاز هذا الكلام وتقول : مررت برجل معه امرأة ضاربته فهذا بمنزلة معه كيس مختوم عليه ، فإن قلت : مررت برجل معه امرأة ضاربها جررت ونصبت على ما فسر.
وإن شئت وصفت المضمر في (ضاربها) في النصب والجر فقلت : مررت برجل معه امرأة ضاربها هو أو ضاربها هو ، فإن شئت جعلت (هو) منفصلا فيصير بمنزلة اسم ليس من علامات الإضمار فتقول : مررت برجل معه امرأة ضاربها (هو) كأنك قلت : معه ضاربها زيد وتقول : يا ذا الجارية الواطئها أبوه كما تقول يا ذا الجارية الواطئها زيد والمعنى : التي وطئها زيد.
وتقول : يا ذا الجارية الواطئها أبوه فجعل بها (الواطئها) صفة (ذا) المنادى.
ولا يجوز أن تقول : يا ذا الجارية الواطئها زيد من قبل أن (الواطئها) من صفة المنادى فإذا لم يكن هو الواطىء ولا أحد من سببه لم يكن صفة له كما لا يجوز : يا عبد الله الواطىء الجارية زيد فلم يجز هذا كما لم يجز : مررت بالرجل الحسن زيد وقد يجوز أن تقول : مررت بالرجل الحسن أبوه وتقول : يا ذا الجارية الواطئها هو جعلت (هو) منفصلا كالأجنبي لا يجوز حذفه ، وإن شئت نصبته كما تقول : يا ذا الجارية الواطئها تجريه على المنادى ، فإن قلت : يا ذا الجارية الواطئها وأنت تريد : الواطئها هو لم يجز أن تطرح (هو) كما لا يجوز بالجارية الواطئها هو أو أنت حتى تذكرهما ، فإن ذكرتهما جاز وليس هذا كقولك : مررت بالجارية التي وطئها أو التي وطئتها ؛ لأن الفعل يضمر فيه وتقع فيه علامة الإضمار وقد فسرت هذا فيما تقدم وإنما يقع في هذا إضمار الاسم رفعا إذا لم يوصف به شيء غير الأول ، وذلك قولك : يا ذا الجارية الواطئها ففي هذا إضمار (هو) وهو اسم المنادى والصفة إنما هي للأول المنادى.
ص: 425
قال سيبويه : ولو جاز هذا لجاز مررت بالرجل الآخذيه تريد : أنت ولجاز : مررت بجاريتك راضيا عنها تريد أنت ويقبح أن تقول : ربّ رجل وأخيه منطلقين حتى تقول : وأخ له ، وإذا قيل : والمنطلقين مجروران من قبل أنّ قوله : وأخيه في موضع نكرة والمعنى : وأخ له والدليل على أنه نكرة دخول (ربّ) عليه ومثل ذلك قول بعض العرب : كلّ شاة وسخلتها.
أي : وسخلة لها ولا يجوز ذلك حتى تذكر قبله نكرة فيعلم أنك لا تريد شيئا بعينه وأنشد سيبويه في نحو ذلك :
وأيّ فتى هيجاء أنت وجارها
إذا ما رجال بالرّجال استقّلت
فلو رفع لم يكن فيه معنى : أي جارها الذي هو في معنى التعجب والمعنى : أي فتى هيجاء وأي جار لها أنت قال الأعشى :
وكم دون بيتك من صفصف
ودكداك رمل وأعقادها
ووضع سقاء وأحقابه
وحلّ حلوس وأغمادها (1)
فجميع هذا حجة لرب رجل وأخيه وهذا المضاف إلى الضمير لا يكون وحده منفردا نكرة ولا يقع في موضع لا يكون فيه إلا نكرة حتى يكون أول ما يشغل به (ربّ) نكرة ثم يعطف عليه ما أضيف إلى النكرة وتقول : هذا رجل معه رجل قائمين فهذا ينتصب ؛ لأن الهاء التي في معه معرفة وانتصابه عندي بفعل مضمر ولا يجوز نصبه على الحال لإختلاف العاملين ؛ لأنه لا يجوز أن يعمل في شيء عاملان وتقول : (فوق الدار رجل وقد جئتك برجل آخر عاقلين مسلمين) فتنصب بفعل آخر مضمر وتقول : (اصنع ما سرّ أخاك وما أحب أبوك الرجلان الصالحان) فترفع على الابتداء وتنصب على المدح كقول الخزنق :
لا يبعدن قومي الّذين هم
سمّ العداة وآفة الجزر
النّازلين بكلّ معترك
والطّيّبون معاقد الأزر (2)
ص: 426
ص: 427
وسيبويه يجيز نصب : هذا رجل مع امرأة قائمين على الحال ويجيز : مررت برجل مع امرأة منطلقين على الحال أيضا ويحتج بأن الآخر قد دخل مع الأول في التنبيه والإشارة وأنك قد جعلت الآخر في مرورك فكأنك قلت : هذا رجل وامرأة ومررت برجل وامرأة وتجعل ما كان معناهما واحدا على الحال.
وإذا كان معنى ما بينهما يختلف فهو على (أعنى) والقياس المحض يوجب إذا اختلف عاملان في اسمين أو أكثر من ذلك لم يجز أن تثنى صفتهما ولا حالهما لإختلاف العاملين اللذين عملا في الاسمين وكيف يجوز أن يفترقا في الموصوفين ويجتمعا في الصفة ولكن يجوز النصب بإضمار شيء ينتظم المعنيين يجتمعان فيه.
واعلم أنه لا يجوز أن تجيز وصف المعرفة والنكرة كما لا يجوز وصف المختلفين.
وزعم الخليل : أن الرفعين أو الجرين إذا اختلفا فهما بمنزلة الجر والرفع ، وذلك قولك : (هذا رجل وفي الدار آخر كريمين) لأنهما لم يرتفعا من جهة واحدة.
ص: 428
وشبه بقوله : هذا لإبن إنسانين عندنا كراما فقال : الجر هاهنا مختلف ولم يشرك الآخر فيما جر الأول ومثل ذلك : هذا جارية أخوي ابنين لفلان كراما ؛ لأن أخوي ابنين اسم واحد والمضاف إليه الآخر منتهاه ولم يأت بشيء من حروف الإشراك ومثل ذلك : هذا فرس أخوي ابنيك العقلاء الحلماء ؛ لأن هذا في المعرفة مثل ذلك في النكرة ولا يجوز إلا النصب على (أعنى) ولا يكون الكرام العقلاء صفة للأخوين والإبنين ولا يجوز أن يجري وصفا لما انجز من وجهين كما لم يجز فيما اختلف إعرابه.
وقال سيبويه : سألت الخليل عن : مررت بزيد وأتاني أخوه أنفسهما فقال : الرفع على هما صاحباي أنفسهما والنصب على (أعنيهما) ولا مدح فيه ؛ لأنه ليس مما يمدح به وقال : تقول : هذا رجل وامرأة منطلقان وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان لأنهما ارتفعا من وجه وهما اسمان بنيا على مبتدأين وانطلق عبد الله ومضى أخوك الصالحان لأنهما ارتفعا بفعلين معناهما واحد.
والقياس عندي أن يرتفعا على (هما) ؛ لأن الذي ارتفع به الأول غير الذي ارتفع به الثاني ؛ ولكن إن قدرت في معنى التأكيد ورفعت عبد الله بالعطف من الفعل جازت عندي الصفة ولا يجوز : من عبد الله وهذا زيد الرجلين الصالحين رفعت أن نصبت لأنك لا تثني إلا على من أثبته وعرفته فلذلك لم يجز المدح في ذا ولا يجوز صفتهما لأنك من يعلم ومن لا يعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة.
قال أبو العباس في قولهم : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد وما رأيت رجلا أبغض إليه الشر منه إلى زيد قد علمنا أن الإختيار : مررت برجل أحسن منه أبوه ومررت برجل خير منه زيد فما باله لم يجز الرفع في قوله : أحسن في عينه الكحل وأبغض إليه الشر فقال : الجواب في ذلك : أنه إن أراد أن يجعل الكحل الابتداء كان الاختيار.
ما رأيت رجلا أحسن في عينه منه في عين زيد الكحل تقديره : ما رأيت رجلا الكحل أحسن في عينه منه في عين زيد وما رأيت رجلا الكحل في عينه أحسن منه في عين زيد كل جيد كما تقول : زيد أحسن في الدار منه في الطريق ، وزيد في الدار أحسن منه في الطريق فتقدم في
ص: 429
الدار ؛ لأنه ظرف والتفضيل إنما يقع بأفعل ، فإن أردت أن يكون (أحسن) هو الابتداء فمحال لأنك تضمر قبل الذكر.
لأن الهاء في قولك : (منه) هي الكحل ومنه متصلة (بأفعل) ؛ لأن (أفعل) للتفضيل فيصير التقدير ما رأيت رجلا أحسن في عينه منه في عين زيد الكحل فتضمر الكحل قبل أن تذكره ؛ لأن الكحل الآن خبر الابتداء ، وإن قدمت الكحل فقلت على أن ترفع (أحسن) بالابتداء ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين (زيد) فهو أردأ ، وذلك ؛ لأنه خبر الابتداء وقد فصلت بين (أحسن) وما يتصل به وليس منهما في شيء فلذلك لم يجز على هذه الشريطة إلا أن الجملة على مثل قولك : مررت برجل خير منه أبوه فتقول : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد فترفع الكحل (بأحسن) ويقع (منه) بعده فيكون الإضمار بعد الذكر وتقديره : ما رأيت رجلا يحسن الكحل في عينه كحسنه في عين زيد فالمعرفة والنكرة في هذا واحد إذا كان الفعل للثاني ارتفع به معرفة كان أو نكرة ، وإن كان للأول والثاني معرفة بطل ، وإن كان الثاني نكرة انتصب على التمييز ، وذلك قولك : ما رأيت رجلا أحسن وجها من زيد ولا رأيت رجلا أكرم حسبا منه ؛ لأن أكرم وأحسن للأول ؛ لأن فيه ضميره ، فإن جعلته للثاني رفعته به ورددت إلى الأول شيئا يصله بالثاني كما تقول : رأيت رجلا حسن الوجه ؛ لأن حسن الوجه (لرجل) ، فإن جعلته لغيره قلت : رأيت رجلا حسن الوجه أخوه وحسن الوجه رجل عنده ، فإن قلت : ما رأيت قوما أشبه بعض ببعض من قومك رفعت البعض ؛ لأن (أشبه) له وليس لقوم ؛ لأن المعنى : ما رأيت قوما أشبه بعضهم ببعض كما ذكر ذلك سيبويه في قوله مررت بكلّ صالحا وببعض قائما أنه محذوف من قولك : بعضهم وكلهم والمعنى يدل على ذلك ألا ترى أن تقديره : ما رأيت قوما أشبه بعضهم بعضا كما وقع ذلك في (قومك) وتقول : ما رأيت رجلا أبر أب له بأمّ من أخيك ؛ لأن الفعل للأب ووضعت الهاء في (له) إلى الرجل فلم يكن في (أمّ) ضمير ؛ لأن الأب قد ارتفع به ، فإن لم يرد هذا التقدير قلت : ما رأيت رجلا أبر أبا بأمّ من زيد كما تقول : ما رأيت رجلا أحسن وجها من زيد وكذلك : ما
ص: 430
رأيت رجلا أشبه وجه له بقفا من زيد ، فإن حذفت له قلت : ما رأيت رجلا أشبه بقفا من زيد ؛ لأن في (أشبه) ضمير رجل.
وأما قولهم : ما من أيام أحبّ إلى الله فيها الصوم منه في عشر ذي الحجة ولكنه لما قال : في الأول (إلى الله) لم يحتج إلى أن يذكر (إليه) ؛ لأن الرد إلى واحد وليس كقولك : زيد أحب إلى عمرو منه إلى خالد لأنك رددت إلى اثنين فلا تحتاج إلى أن تقول : زيد عندي أحسن من عمرو عندي ؛ لأن الخبر يرجع إلى واحد فأما قولهم : ما من أيام أحب إلى الله فيها الصوم منه في عشر ذي الحجة فإنما هو بمنزلة : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد فقوله : فيها بمنزلة قوله : في عينه وإنما أضمرت الهاء في (فيها) وفي عينه لأنك ذكرت الأيام وذكرت رجلا.
وكذلك قلت : (الله عز وجلّ ؛ ما رأيت أياما أحب إليه فيها الصوم) لأضمرته في (إليه) ومنه للصوم كما كان للكحل ، وأما قوله : إلى الله فتبيين لأحب وأحسن لا يحتاج إلى ذلك ألا ترى أنك تقول : زيد أحسن من عمرو فلا تحتاج إلى شيء وتقول : زيد أحب إلى عمرو منك فقولك : إلى عمرو كقولك إلى الله في المسألة الأولى ولو قلت : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل عند عمرو منه في عين أخيك كان بمنزلة ذلك ؛ لأن قولك عند عمرو قد صار مختصرا كقولك إلى الله في تلك المسألة ، وأما قولهم : ما رأيت رجلا أبغض إليه الشرّ من زيد وما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل من زيد فإنما هو مختصر من الأول والمعنى : إنما هو الأول لا أنك فضلت الكحل على زيد ولكنك أخبرت أن الكحل في عين زيد أحسن منه في غيرها كما أردت في الأول ولكنك حذفت لقلة التباسه وليست (من) هاهنا بمنزلتها في قولك : ما رأيت رجلا أحسن من زيد لأنك هنا تخبر أنك لم تر من يتقدم زيدا وأنت في الأول تخبر أنك لم تر من يعمل الكحل في عينه عمله في عين زيد فتقديره : ما رأيت رجلا أحسن كحلا في عين من زيد لما أضمرت رجلا في (أحسن) نصبت كحلا على التمييز ليصح معنى الاختصار.
ص: 431
اعلم أن عطف البيان كالنعت والتأكيد في إعرابهما وتقديرهما وهو مبين لما تجريه عليه كما يبينان وإنما سمي عطف البيان ولم يقل أنه نعت ؛ لأنه اسم غير مشتق من فعل ولا هو تحلية ولا ضرب من ضروب الصفات فعدل النحويون عن تسميته نعتا ، وسموه عطف البيان ؛ لأنه للبيان جيء به وهو مفرق بين الاسم الذي يجري عليه وبين ما له مثل اسمه نحو : رأيت زيدا أبا عمرو ولقيت أخاك بكرا.
والفرق بين عطف البيان والبدل أن عطف البيان تقديره النعت التابع للإسم الأول والبدل تقديره أن يوضع موضع الأول وتقول في النداء إذا أردت عطف البيان يا أخانا زيدا فتنصب وتنون ؛ لأنه غير منادى ، فإن أردت البدل قلت : يا أخانا زيد وقد بينت هذا الباب في النداء ومسائله وستزداد بيانا في باب البدل إن شاء الله.
البدل على أربعة أقسام إما أن يكون الثاني هو الأول أو بعضه أو يكون المعنى مشتملا عليه أو غلطا وحق البدل وتقديره أن يعمل العامل في الثاني كأنه خال من الأول وكان الأصل أن يكونا خبرين أو تدخل عليه واو العطف ولكنهم اجتنبوا ذلك للبس.
الأول ما ابتدلته من الأول وهو هو : وذلك نحو قولك : مررت بعبد الله زيد ومررت برجل عبد الله وكان أصل الكلام : مررت بعبد الله ومررت بزيد أو تقول : مررت بعبد الله وزيد ولو قلت ذلك لظن أن الثاني غير الأول فلذلك استعمل البدل فرارا من اللبس وطلبا للإختصار والإيجاز ويجوز إبدال المعرفة من النكرة والنكرة من المعرفة والمضمر من المظهر والمظهر من المضمر البدل في جميع ذلك سواء.
ص: 432
فأما إبدال المعرفة من النكرة فنحو : قول الله : (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللهِ) [الشورى] فهذا إبدال معرفة من نكرة فتقول على هذا : مررت برجل عبد الله ، وأما إبدال النكرة من المعرفة.
فنحو قولك : مررت بزيد رجل صالح كما قال الله عز وجل : (بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) [العلق] فهذا إبدال نكرة من معرفة ، وأما إبدال الظاهر من المضمر فنحو قولك : مررت به زيد وبهما أخويك ورأيت الذي قام زيد تبدل زيدا من الضمير الذي في (قام) ولا يجوز أن تقول : رأيت زيدا أباه والأب غير زيد لأنك لا تبينه لغيره.
الثاني ما أبدل من الأول وهو بعضه : وذلك نحو قولك : ضربت زيدا رأسه وأتيت قومك بعضهم ورأيت قومك أكثرهم ولقيت قومك ثلاثتهم ورأيت بني عمّك ناسا منهم وضربت وجوهها أولها.
قال سيبويه : فهذا يجيء على وجهين : على أنه أراد أكثر قومك وثلثي قومك وضربت وجوه أولها ولكنه ثني الاسم تأكيدا.
والوجه الآخر : أن يتكلم فيقول : رأيت قومك ثم يبدو أن يبين ما الذي رأى منهم.
فيقول : ثلاثتهم أو ناسا منهم ومن هذا قوله عز وجل : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : 97] والمستطيعون بعض الناس.
الثالث ما كان من سبب الأول : وهو مشتمل عليه نحو : سلب زيد ثوبه وسرق زيد ماله ؛ لأن المعنى : سلب ثوب زيد وسرق مال زيد ومن ذلك قول الله عزّ وجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة : 217] ؛ لأن المسألة في المعنى عن القتال في الشهر الحرام ومثله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) [البروج] وقال الأعشى :
لقد كان في حول ثواء ثويته
تفضى لبانات ويسأم سائم
وقال آخر :
وذكرت تقتد برد مائها
وعتك البول على أنسائها
ص: 433
الرابع وهو بدل الغلط والنسيان : وهو البدل الذي لا يقع في قرآن ولا شعر ، وذلك نحو قولهم : مررت برجل حمار كأنه أراد أن يقول : مررت بحمار فغلط فقال : برجل أو بشيء.
واعلم أن الفعل قد يبدل من الفعل وليس شيء من الفعل يتبع الثاني الأول في الإعراب إلا البدل والعطف والبدل نحو قول الشاعر :
إنّ على الله أن تبايعا
تؤخذ كرها أو تجيء طائعا (1)
وإنما يبدل الفعل من الفعل إذا كان ضربا منه نحو هذا البيت.
ص: 434
ونحو قولك : إن تأتني تمشي أمشي معك ؛ لأن المشي ضرب من الإتيان ولا يجوز أن تقول : أن تأتي تأكل آكل معك ؛ لأن الأكل ليس من الإتيان في شيء.
ص: 435
تقول : بعت متاعك أسفله قبل أعلاه واشتريت متاعك بعضه أعجل من بعض وسقيت إبلك صغارها أحسن من سقي كبارها ودفعت الناس بعضهم ببعض وضربت الناس بعضهم قائما وبعضهم قاعدا وتقول : مررت بمتاعك بعضه مرفوعا وبعضه مطروحا كأنك قلت مررت ببعض متاعك مرفوعا وببعض مطروحا لأنك مررت به في هذه الحال ، وإذا كان صفة للفعل لم يجز الرفع وتقول : بعت طعامك بعضه مكيلا وبعضه موزونا إذا أردت أن الكيل والوزن وقعا في حال البيع ، فإن رفعت فإلى هذا المعنى ولم يكن متعلقا بالبيع فقلت : بعت طعامك بعضه مكيل وبعضه موزون أي بعته وهو موجود كذا فيكون الوزن والكيل قد لحقاه قبل البيع وليسا بصفة للبيع وتفهم هذا بأن الرجل إذا قال : بعتك هذا الطعام مكيلا وهذا الثوب مقصورا فعليه أن يسلمه إليه مكيلا ومقصورا ، وإذا قال : بعتك وهو مكيل فإنما باعه شيئا موصوفا بالكيل ولم يتضمنه البيع تقول : خوفت الناس ضعيفهم وقويهم كأنك قلت :خوفت ضعيف الناس قويهم وكان تقدير الكلام قبل أن ينقل فعل إلى (فعلت) خافه الناس ضعيفهم قويهم فلما قلت : خوّفت صار الفاعل مفعولا وقد بينت هذا فيما تقدم ومثل ذلك ألزمت الناس بعضهم بعضا كان الأصل : لزم الناس بعضهم بعضا فلما قلت ألزمت صار الفاعل مفعولا وصار الفعل يتعدى إلى مفعولين وتقول : دفعت الناس بعضهم ببعض على قولك : دفع الناس بعضهم بعضا فإذا قلت : دفع صار ما كان يتعدى لا يتعدى إلا بحرف جر فتقول : دفع الناس بعضهم ببعض وتقول : فضلت متاعك أسفله على أعلاه كأنه في التمثيل :فضل متاعك أسفله على أعلاه فلما قلت : فضّلت صار الفاعل مفعولا ومثله : صككت الحجرين أحدهما بالآخر كان التقدير : اصطك الحجران أحدهما بالآخر فلما قلت : صككت صار الفاعل مفعولا ومثل ذلك : ولو لا دفاع الله الناس بعضهم ببعض والمعنى : لو لا أن دفع الناس بعضهم ببعض ولو قلت : دفع الناس بعضهم بعضا لم يحتج إلى الباء ؛ لأنه فعل يتعدى إلى مفعول قلت دفع الله الناس واستتر في الفعل عمله في الفاعل ولم يجز أن يتعدى إلى مفعول ثان إلا بحرف جرّ فعلى هذا جاءت الآية ولذلك دخلت الباء وتقول : عجبت من دفع الناس
ص: 436
بعضهم بعضا إذا جعلت الناس فاعلين كأنك قلت عجبت من أن دفع الناس بعضهم بعضا ، فإن جعلت الناس مفعولين قلت : عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض ؛ لأن المعنى : عجبت من أن دفع الناس بعضهم ببعض وتقول : سمعت وقع أنيابه بعضها فوق بعض جرى على قولك : وقعت أنيابه بعضها فوق بعض فأنيابه هنا فاعلة وتقول : عجبت من إيقاع أنيابه بعضها فوق بعض جرا فأنيابه هنا مفعولة قامت مقام الفاعل ولو قلت : أوقعت أنيابه بعضها فوق بعض لقلت : عجبت من إيقاعي أنيابه بعضها فوق بعض فنصبت أنيابه وتقول : رأيت متاعك بعضه فوق بعض إذا جعلت (فوق) في موضع الاسم المبني على المبتدأ وجعلت المبتدأ بعضه كأنك قلت : رأيت متاعك بعضه أجود من بعض ، فإن جعلت (فوق) وأجودها حالا نصبت (بعضه) ، وإن شئت قلت : رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض فتنصب (أحسن) على أنه مفعول ثان وبعضه منصوب بأنه بدل من متاعك.
قال سيبويه : والرفع في هذا أعرف والنصب عربي جيد فما جاء في الرفع : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : 60].
ومما جاء في النصب : (خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها) قال : حدثنا يونس أن العرب تنشد هذا البيت لعبدة بن الطبيب :
فما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكّنه بنيان قوم تهدّما (1)
ص: 437
وقال رجل من خثعم أو بجيلة :
ذريني إنّ أمرك لن يطاعا
وما ألفيتني حلمي مضاعا (1)
وتقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض كما قلت : رأيت متاعك بعضه فوق بعض وأنت تريد رؤية العين وتنصب (فوق) بأنه وقع موقع الحال فالتأويل : جعلت ورأيت متاعك
ص: 438
بعضه مستقرا فوق بعض أو راكبا فوق بعض أو مطروحا فوق بعض أو ما أشبه هذا المعنى (ففوق) ظرف نصبه الحال وقام مقام الحال كما يقوم مقام الخبر في قولك : زيد فوق الحائط إذا قلت : رأيت زيدا في الدار فقولك (في الدار) يجوز أن يكون ظرفا لرأيت ويجوز أن يكون ظرفا لزيد كما تقول : رميت من الأرض زيدا على الحائط فقولك : على الحائط ظرف يعمل فيه استقرار زيد كأنك قلت : رميت من الأرض زيدا مستقرا على الحائط ونحو هذا ما جاء في الخبر كتب عمر إلى أبي عبيدة بالشام : الغوث الغوث وأبو عبيدة وعمر رحمه الله كتب إليه من الحجاز فالكتاب لم يكن بالشام ولك أن تعدى (جعلت) إلى مفعولين فتقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض فتجعل (فوق بعض) مفعولا ثانيا كما يكون في (ظننت) متاعك بعضه فوق بعض (فجعلت) هذه إذا كانت بمعنى (علمت) تعدت إلى واحد مثل رأيت إذا كانت من رؤية العين ، وإذا كانت جعلت ليست بمعنى علمت وإنما تكلم بها عن توهم أو رأي أو قول كقول القائل : جعلت حسني قبيحا وجعلت البصرة بغداد وجعلت الحلال حراما فإذا لم ترد فجعلت العلاج والعمل في التعدي بمنزلة (رأيت) إذا أردت بها رؤية القلب ولم ترد رؤية العين ولك أن تعدي (جعلت) إلى مفعولين على ضرب آخر على أن تجعل المفعول الأول فاعلا في الثاني كما تقول : أضربت زيدا عمرا تريد أنك جعلت زيدا يضرب عمرا فيكون حينئذ قولك : فوق بعض مفعول مفعول وموضعه نصب تعدى إليه الفعل بحرف جرّ لأنك إذا قلت : مررت بزيد فموضع هذا نصب وهذا نحو : صكّ الحجران أحدهما بالآخر فإذا جعلت أنت أحدهما يفعل بالآخر قلت : صككت الحجرين أحدهما بالآخر ولم يكن بد من الباء ؛ لأن الفعل متعدّ إلى مفعول واحد فلما جعلت المفعول في المعنى فاعلا احتجت إلى مفعول فلم يتصل الكلام إلا بحرف جرّ وقد بينت ذا فيما تقدم وأوضحته فهذه ثلاثة أوجه في نصب (جعلت) متاعك بعضه على بعض وهي النصب على الحال والنصب على أنه مفعول ثان والنصب على أنه مفعول مفعول فافهمه فإنه مشكل في كتبهم ويجوز الرفع فتقول : جعلت متاعك بعضه على بعض وتقول : أبكيت قومك بعضهم على بعض فهذا كان أصله بكى قومك بعضهم على بعض فلما نقلته إلى (أبكيت) جعلت الفاعل مفعولا وهو في المعنى فاعل
ص: 439
إلا أنك أنت جعلته فاعلا وقولك : على بعض لا يجوز أن يقع موقع الحال لأنك لا تريد أنّ بعضهم مستقر على بعض ولا مطروح على بعض كما كان ذلك في المتاع.
قال سيبويه : لم ترد أن تقول : بعضهم على بعض في عون ولا أن أجسادهم بعضا على بعض وقولك : بعضهم في جميع هذه المسائل منصوب على البدل ، فإن قلت : حزنت قومك بعضهم أفضل من بعض كان الرفع حسنا ؛ لأن الآخر هو الأول ، وإن شئت نصبت على الحال يعني (أفضل) فقلت : حزنت قومك بعضهم أفضل من بعض كأنك قلت : حزنت بعض قومك فاضلين بعضهم.
قال سيبويه : إلا أن الأعرف والأكثر إذا كان الآخر هو الأول أن يبتدأ والنصب عربي جيد وتقول : ضرب عبد الله ظهره وبطنه ومطرنا سهلنا وجبلنا ومطرنا السهل والجبل وجميع هذا لك فيه البدل ولك أن يكون تأكيدا كأجمعين لأنك إذا قلت : ضرب زيد الظهر والبطن فالظهر والبطن هما جماعة زيد ، وإذا قلت : (مطرنا) فإنما تعني : مطرت بلادنا والبلاد يجمعها السهل والجبل.
قال سيبويه : وإن شئت نصبت فقلت ضرب زيد الظهر والبطن ومطرنا السهل والجبل وضرب زيد ظهره وبطنه والمعنى : حرف الجر.
وهو (في) ولكنهم حذفوه قال : وأجازوا هذا كما أجازوا دخلت البيت وإنما معناه :دخلت في البيت والعامل فيه الفعل وليس انتصابه هنا انتصاب الظروف قال : ولم يجيزوا حذف حرف الجر في غير السهل والجبل والمظهر والبطن نظير هذا في حذف حرف الجر نبئت زيدا تريد : عن زيد وزعم الخليل : أنهم يقولون مطرنا الزرع والضرع ، وإن شئت رفعت على البدل على أن تصيره بمنزلة أجمعين توكيدا.
قال سيبويه : إن قلت : ضرب زيد اليد والرجل جاز أن يكون بدلا وأن يكون توكيدا ، وإن نصبته لم يحسن والبدل كما قال جائز حسن والتوكيد عندي يقبح إذا لم يكن الاسم المؤكد هو المؤكد واليد والرجل ليستا جماعة زيد وهو في السهل والجبل عندي يحسن ؛ لأن السهل
ص: 440
والجبل هما جماعة البلاد وكذلك البطن والظهر إنما يراد بهما جماعة الشخص ، فإن أراد باليد والرجل أنه قد : ضربت جماعة واجتزأ بذكر الطرفين في ذلك جاز.
قال : وقد سمعناهم يقولون : ضربتهم ظهرا وبطنا وتقول : ضربت قومك صغيرهم وكبيرهم على البدل والتأكيد جميعا ، فإن قلت : أو كبيرهم لم يجز إلا البدل وتقول : زيد ضربته أخاك فتبدل (أخاك) من الهاء ؛ لأن الكلام الأول قد تم وقد خبرتك : أن البدل إنما هو اختصار خبرين ، فإن قلت : زيد ضربت أخاك إيّاه لم يجز ؛ لأن الكلام الأول ما تم ، فإن قلت :مررت برجل قائم رجل أبوه فجعلت أباه بدلا من رجل لم يجز ؛ لأنه لا يصلح أن تقول :مررت برجل قائم أبوه وتسكت ولا يتم بذلك الكلام ، فإن قلت : مررت برجل قائم زيد أبوه فقد أجازه الأخفش على الصفة وقال : لأن قولك أبوه من صفة زيد فصار كأنه بعض اسمه ولو كان بدلا من زيد لم يكن كلاما ونظير هذا : مررت برجل قائم رجل يحبه وبرجل قائم زيد الضاربه.
ص: 441
حروف العطف عشرة أحرف يتبعن ما بعدهن ما قبلهن من الأسماء والأفعال في إعرابها : الأول الواو : ومعناها إشراك الثاني فيما دخل فيه الأول وليس فيها دليل على أيهما كان أولا نحو قولك : جاء زيد وعمرو ولقيت بكرا وخالدا ومررت بالكوفة والبصرة فجائز أن تكون البصرة أولا وجائز أن تكون الكوفة أولا قال الله عز وجل : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : 43] والركوع قبل السجود.
الثاني (الفاء) : وهي توجب أن الثاني بعد الأول ، وإن الأمر بينهما قريب نحو قولك :رأيت زيدا فعمرا ودخلت مكة فالمدينة وجاءني زيد فعمرو ومررت بزيد فعمرو فهي تجيء لتقدم الأول واتصال الثاني فيه.
الثالث (ثمّ) : وثم مثل الفاء إلا أنها أشد تراخيا وتجيء لتعلم أن بين الثاني والأول مهلة تقول ضربت زيدا ثم عمرا وجاءني زيد ثم عمرو ومررت بزيد ثم عمرو.
الرابع (أو) : ولها ثلاثة مواضع تكون لأحد الشيئين بغير تعيينه عند شك المتكلم أو قصده أحدهما أو إباحة ، وذلك قولك : أتيت زيدا أو عمرا وجاءني رجل أو امرأة هذا إذا شك فأما إذا قصد بقوله أحدهما فنحو : كل السمك أو اشرب اللبن أي لا تجمعهما ولكن اختر أيهما شئت وكقولك : أعطني دينارا أو اكسني ثوبا والموضع الثالث الإباحة ، وذلك قولك : جالس الحسن أو ابن سيرين وأئت المسجد أو السوق أي قد أذنت لك في مجالسة هذا الضرب من الناس وعلى هذا قول الله عز وجل : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : 24].
الخامس (إما) : وإما في الشك والخبر بمنزلة (أو) وبينهما فصل ، وذلك أنك إذا قلت :جاءني زيد أو عمرو وقع الخبر في (زيد) يقينا حتى ذكرت (أو) فصار فيه وفي عمرو شك و (إما) تبتدىء به شاكا ، وذلك قولك : جاءني إما زيد وإما عمرو أي أحدهما وكذلك وقوعها للتخيير تقول : اضرب إما عبد الله وإما خالدا فالآمر لم يشك ولكنه خير المأمور كما كان ذلك
ص: 442
في (أو) ونظيره قول الله عز وجل : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : 3] وكقوله عز وجل : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : 4].
السادس (لا) : وهي تقع لإخراج الثاني مما دخل فيه الأول ، وذلك قولك : ضربت زيدا لا عمرا ومررت برجل لا امرأة وجاءني زيد لا عمرو.
السابع (بل) : ومعناها الإضراب عن الأول والإثبات للثاني نحو قولك : ضربت زيدا بل عمرا وجاءني عبد الله بل أخوه وما جاءني رجل بل امرأة.
الثامن (لكن) : وهي للإستدراك بعد النفي ولا يجوز أن تدخل بعد واجب إلا لترك قصة إلى قصة (تامة) فأما مجيئها للإستدراك بعد النفي فنحو قولك : ما جاءني زيد لكن عمرو وما رأيت رجلا لكن امرأة ومررت بزيد لكن عمرو لم يجز.
التاسع (أم) : وهي تقع في الاستفهام في موضعين : فأحدهما أن تقع عديلة الألف على معنى (أي) ، وذلك نحو قولك : أزيد في الدار أم عمرو وكقولك : أأعطيت زيدا أم أحرمته فليس جواب هذا لا ولا (نعم) كما أنه إذا قال : أيهما لقيت أو أي الأمرين فعلت لم يكن جواب هذا لا ولا (نعم) ؛ لأن المتكلم مدع أن أحد الأمرين قد وقع لا يدري أيهما هو فالجواب أن يقول : زيد أو عمرو ، فإن كان الأمر على غير دعواه فالجواب : أن تقول : لم ألق واحدا منهما أو كليهما فمن ذلك قول الله عز وجل : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : 27] ومثل ذلك : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) [الدخان : 37] فخرج هذا من الله مخرج التوقيف والتوبيخ ومخرجه من الناس يكون استفهاما ويكون توبيخا ويدخل في هذا الباب التسوية ؛ لأن كل استفهام فهو تسوية ، وذلك نحو قولك : ليت شعري أزيد في الدار أم عمرو وسواء عليّ أذهبت أم جئت فقولك : سواء عليّ تخبر أن الأمرين عندك واحد وإنما استوت التسوية والاستفهام لأنك إذا قلت مستفهما : أزيد عندك أم عمرو؟ فهما في جهلك لهما مستويان لا تدري أن زيدا في الدار كما لا تدري أن عمرا فيها ، وإذا قلت : قد علمت أزيد في الدار أم عمرو فقد استويا عند السامع كما استوى الأولان عند المستفهم وأي داخلة في كل موضع تدخل فيه أم مع الألف تقول : قد عملت أيّهما في الدار تريد أذا أم ذا قال الله عز وجل : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها
ص: 443
أَزْكى طَعاماً) [الكهف : 19] وقال : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) [الكهف : 12] فأي تنتظم معنى الألف مع أم جميعا ، وأما الموضع الثاني من موضعي (أم) ، فإن تكون منقطعة مما قبلها خبرا كان أو استفهاما ، وذلك نحو قولك فيما كان خبرا : إنّ هذا لزيد أم عمرو يا فتى ، وذلك أنك نظرت إلى شخص فتوهمته زيدا فقلت على ما سبق إليك ثم أدركك الظن أنه عمرو فانصرفت عن الأول فقلت : أم عمرو مستفهما فإنما هو إضراب على معنى (بل) إلا أن ما يقع بعد (بل) يقين وما يقع بعد (أم) مظنون مشكوك فيه ، وذلك أنك تقول : ضربت زيدا ناسيا أو غالطا ثم تذكر فتقول : بل عمرا مستدركا مثبتا للثاني تاركا للأول فهي تخرج من الغلط إلى استثبات ومن نسيان إلى ذكر و (أم) معها ظن أو استفهام وإضراب عما كان قبله ومن ذلك : هل زيد منطلق أم عمرو يا فتى قائما أضرب عن سؤاله عن انطلاق زيد وجعل السؤال عن عمرو فهذا مجرى هذا وليس على منهاج.
قولك : أزيد في الدار أم عمرو وأنت تريد : أيهما في الدار ؛ لأن (أم) عديلة الألف ولا تقع (هل) موقع الألف مع (أم) وقد تدخل (أم) على (هل).
قال الشاعر :
أم هل كبير بكى ... (1)
(1) على أنه يجوز أن تأتي هل بعد أم. وليس فيه جمع استفهامين ، فإن أم عند الشارح ، كما تقدم في حروف العطف مجردة عن الإستفهام إذا وقع بعدها أداة استفهام ، حرفا كانت أم اسما.
وأم المنقطعة عن الشارح حرف استئناف بمعنى بل فقط ، أو مع الهمزة بحسب المعنى ، وذلك فيما إذا لم يوجد بعدها أداة استئناف. وليست عاطفة عنده ، وفاقا للمغاربة.
قال المرادي في الجنى الداني : إن قلت : أم المنقطعة هل هي عاطفة أو ليست بعاطفة؟ قلت : المغاربة يقولون : إنها ليست بعاطفة ، لا في مفرد ، ولا في جملة.
وذكر ابن مالك أنها قد تعطف المفرد ، كقول العرب : إنها لإبل أم شاء. قال : فأم هنا لمجرد الإضراب عاطفة ما بعدها على ما قبلها ، كما يكون ما بعد بل فإنها بمعناها. انتهى.
قال ابن هشام في المغني : لا تدخل أم المنقطعة على مفرد ، ولهذا قدروا المبتدأ في : إنها لإبل أم شاء. وخرق ابن مالك في بعض كتبه إجماع النحويين ، فقال : لا حاجة لتقدير مبتدأ.
وزعم أنها تعطف المفردات كبل ، وقدرها ببل دون همزة. واستدل بقول بعضهم : إن هناك لإبلا أم شاء بالنصب. فإن صحت روايته فالأولى أن يقدر لشاء ناصب ، أي : أم أرى شاء. انتهى.
وممن ذهب إلى أن أم عاطفة ابن يعيش ، ثم اضطرب كلامه في نحو : أم هل ، وفي : أم كيف. فتارة ادعى تجريد أم عن الإستفهام ، وتارة ادعى التجريد عن هل.
قال في فصل حرفي الإستفهام : من المحال اجتماع حرفين بمعنى واحد. فإن قيل : فقد تدخل على هل أم ، وهي استفهام ، نحو : أم هل كبير بكى ... البيت؟ فالجواب أن أم فيها معنيان : أحدهما : الاستفهام.
والآخر : العطف ، فلما احتيج إلى معنى العطف فيها مع هل خلع منها دلالة الاستفهام ، وبقي العطف بمعنى بل للترك ، ولذلك قال سيبويه : إن أم تجيء بمعنى لا بل ، للتحويل من شيء إلى شيء. وليس كذلك الهمزة ، لأنها ليس فيها إلا دلالة واحدة. انتهى كلامه.
وقوله : من المحال اجتماع حرفين بمعنى واحد هو في هذا تابع لابن جني ، وقد ذكرنا في الشاهد السادس بعد التسعمائة : أنه لا مانع من اجتماعهما للتأكيد ، كقوله :
ولا للما بهم أبدا دواء
والعطف هنا على قوله من عطف الجمل ، وليس لها تشريك في غير الوجود.
وقال ابن يعيش أيضا في فصل الحكاية : وأما ما حكاه أبو علي من قولهم : ضرب من منا ، فهي حكاية نادرة.
ووجهها أنها جردت من الدلالة على استفهام حتى صارت اسما كسائر الأسماء ، يجوز إعرابها وتثنيتها وجمعها ، كما جردوا أيا من الاستفهام حيث وصفوا بها ، فقالوا : مررت برجل أي رجل. وقد فعلوا ذلك في مواضع. انظر خزانة الأدب 4 / 180.
ص: 444
العاشر (حتى) : تقول ضربت القوم حتّى زيدا وقد ذكرتها كيف تكون عاطفة فيما تقدم حين ذكرناها مع حروف الخفض وأفردنا لها بابا واعلم أن قوما يدخلون ليس في حروف العطف ويجعلونها كلا وهذا شاذ في كلامهم وقد حكى سيبويه أن قوما يجعلونها (كما) فيقولون : ليس الطيب إلا المسك.
واعلم أن حروف العطف لا يدخل بعضها على بعض ، فإن وجدت ذلك في كلام فقد أخرج أحدهما من حروف النسق.
ص: 445
وذلك مثل قولهم : لم يقم عمرو ولا زيد الواو نسق (ولا) توكيد للنفي وكذلك قولك :والله لا فعلت ثم والله لا فعلت ثم نسق والواو قسم وحروف العطف لا يفرق بينها وبين المعطوف بشيء مما يعترض بين العامل والمعمول فيه والأشياء التي يعترض بها : الأيمان والشكوك والشروط.
وقد يجوز ذلك في (ثم وأو ولا) لأنها تنفصل وتقوم بأنفسها وقد يجوز الوقوف عليها فتقول : قام زيد ثم والله عمرو وثم أظن عمرو و (لا) التي للعطف يصح أن تلي الماضي ؛ لأنه قد غلب عليه الدعاء وقد يجوز أن يكون مع الماضي بمنزلة (لم) ، وذلك قولك : زيد قام لا قعد فيلتبس بالدعاء ، فإن لم يلتبس جاز عندي وقد جاءت (لا) نافية مع الماضي في غير خبر كما جاءت (لم) ، وذلك قوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة : 31] وتقول : لم يقم زيد ولم يقعد ولا يجوز : ولا يقعد إلا أن ترفعه وكذلك : لن يقوم زيد ولا يقعد بواو وغير واو.
ص: 446
الأشياء التي يقال أن لها موضعا غير لفظها على ضربين : أحدهما اسم مفرد مبني والضرب الآخر اسم قد عمل فيه عامل أو جعل مع غيره بمنزلة اسم فيقال : إن الموضع للجميع ، فإن كان الاسم معربا مفردا فلا يجوز أن يكون له موضع لأنا إنما نعترف بالموضع إذا لم يظهر في اللفظ الإعراب فإذا ظهر الإعراب فلا مطلوب.
، وذلك نحو : هذا تقول : إن هذا أخوك فموضع (هذا) نصب لأنك لو جعلت موضع هذا اسما معربا قلت : إن زيدا أخوك فمن أجل هذا جاز أن تقول : إن هذا وزيدا قائمان ولهذا جاز أن تقول : يا زيد العاقل فتنصب على الموضع وإنما جاز الرفع على اللفظ ؛ لأنه مبني يشبه المعرب لاطراده في الرفع وقد بينت هذا في باب النداء وليس في قولك (هذا) حركة تشبه الإعراب فإذا قلت : يا زيد وعمرو فحكم الثاني حكم الأول ؛ لأنه منادى فهو مضموم وقد قالوا على ذلك : يا زيد والحارث كما دخلت الألف واللام و (يا) لا تدخل عليهما ومن قال : إن موضع الاسم الذي عملت فيه (إنّ) رفع فقد غلط من قبل أن المعرب لا موضع له ومن أجل أنه يلزمه أن يكون لهذا موضعان في قولك : إن هذا وزيدا أخواك ؛ لأن موضع زيد عنده إذا قال : إن زيدا رفع فيلزمه أن يكون موضع (هذا) نصبا ورفعا.
جملة قد عمل بعضها في بعض أو اسم عمل فيه حرف أو اسم بني مع غيره بناء أو اسم موصول لا يتمّ إلا بصلته.
اعلم أن الجمل على ضربين ضرب لا موضع له وضرب له موضع.
فأما الجملة التي لا موضع لها فكل جملة ابتدأتها فلا موضع لها نحو قولك : مبتدئا : زيد في الدار وعمرو عندك فهذه لا موضع لها.
ص: 447
الضرب الثاني : الجملة موقع اسم مفرد نحو قولك : زيد أبوه قائم فأبوه قائم جملة موضعها رفع لأنك لو جعلت موضعها اسما مفردا نحو : منطلق لصلح وكنت تقول : زيد منطلق فتقول على هذا هند منطلقة وأبوها قائم فيكون موضع أبوها (قائم) رفعا لأنك لو وضعت موضع هذه الجملة (قائمة) لكان رفعا ، فإن قلت : هند أبوها قائم ومنطلقة جاز والأحسن عندي أن تقدم (منطلقة) ؛ لأن الأصل للمفرد والجملة فرع ولا ينبغي أن تقدم الفرع على الأصل إلا في ضرورة شعرهم وكذلك : مررت بامرأة أبوها شريف وكريمة حقه أن يقول : بامرأة كريمة وأبوها شريف ؛ لأن الأصل للمفرد ، وإن وصفه مثله مفردا وتقديم الجملة في الصفة عندي على المفرد أقبح منه في الخبر إذا قلت : هند أبوها كريم وشريفة ؛ لأن أصل الصفة أن تكون مساوية للموصوف تابعة له في لفظها ومعرفتها ونكرتها وليس الخبر من المبتدأ بهذه المنزلة فإذا قلت : زيد أبوه قائم وكريم لزيد لم يحسن ؛ لأنه ملبس يصلح أن يكون لزيد وللأب والأولى أن يكون معطوفا على (قائم) لما خبرتك ، فإن لم يلبس صلح وكذلك حق حروف العطف أن تعطف على ما قرب منها أولى.
هذا القسم على ضربين :
ضرب يكون العامل فيه حرفا زائدا للتوكيد سقوطه لا يخل بالكلام بل يكون الإعراب على حقه والكلام
مستعمل.
والضرب الآخر أن يكون الحرف العامل غير زائد ومتى أسقط لم يتصل الكلام بعضه ببعض.
فالضرب الأول : نحو قولك : لست بقائم ولا قاعد الباء زائدة لتأكيد النفي ، ولو أسقطتها لم يخل بالكلام واتصل بعضه ببعض فموضع (بقائم) نصب ؛ لأن الكلام المستعمل قبل دخولها (لست قائما) فهذا لك أن تعطف على موضعه فتقول لست بقائم ولا قاعدا ومن ذلك : هل من رجل عندك وما من أحد في الدار فهذا لك أن تعطف على الموضع ؛ لأن موضع (من رجل) رفع وكذلك : خشّنت بصدره وصدر زيد ولو اسقطت الباء كان جيدا فقلت
ص: 448
خشنت صدره وصدر زيد وكذلك : كفى بالله إنما هو : كفى الله فعلى ذا تقول : كفى بزيد وعمرو ومن ذلك : إن زيدا في الدار وعمرا ولو أسقطت (إنّ) لكان : زيد في الدار وعمرو ، فإن مع ما عملت فيه في موضع رفع وينبغي أن تعلم أنه ليس لك أن تعطف على الموضع الذي فيه حرف عامل إلا بعد تمام الكلام من قبل أن العطف نظير التثنية والجمع ألا ترى أن معنى قولك : قام الزيدان إنما هو : قام زيد وزيد فلما كان العاملان مشتركين في الاسم ثنيا ولو اختلفا لم يصلح فيهما إلا الواو فكنت تقول : قام زيد وعمرو فالواو نظير التثنية وإنما تدخل إذا لم تكن التثنية فلما لم يكن يجوز أن يجتمع في التثنية الرفع والنصب ولا الرفع والخفض ولا أن يعمل في المثنى عاملان كذلك لم يجز في المعطوف والمعطوف عليه.
فإذا تم الكلام عطفت على العامل الأول وكنت مقدرا إعادته ، وإن كنت لا تقيده في اللفظ لأنك مستغن عنه ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : إن زيدا وعمرو منطلقان لما خبرتك به ولأن قولك (منطلقان) يضير خبرا لمرفوع ومنصوب وهذا مستحيل فإذا قلت : (إن زيدا منطلق وعمرو) صلح ؛ لأن الكلام قد تم ورفعت ؛ لأن الموضع للابتداء ، وإن زائدة فعطفت على موضع (إنّ) وأعملت الابتداء وأضمرت الخبر وحذفته اجتراء بأن الأول يدل عليه ، فإن أختلف الخبران لم يكن بد من ذكره ولم يجز حذفه نحو قولك : إن زيدا ذاهب وعمرو جالس ؛ لأن (ذاهبا) لا يدل على (جالس) فإذا تم الكلام فلك العطف على اللفظ والموضع جميعا ، وإذا لم يتم لم يجز إلا اللفظ فقط وكذلك لو قلت : (هل من رجل وحمار موجودان) ، فإن قلت : وحمار جاز كما تقول : إن عمرا وزيدا منطلقان وكذلك إذا قلت : خشنت بصدره وصدر زيد عطفت على (خشنت) ولم يعرج على الباء وجاز ؛ لأن الكلام قد تم فكأنك قد أعدت : خشنت ثانية فالفرق بين العطف على الموضع والعطف على اللفظ أن المعطوف على اللفظ كالشيء يعمل فيهما عامل واحد لأنهما كاسم واحد والمعطوف على المعنى يعمل فيها عاملان والتقدير تكرير العامل في الثاني إذا لم يظهر عمله في الأول وتصير كأنها جملة معطوفة على جملة وكل جملتين يحذف من أحدهما شيء ويقتصر بدلالة الجملة الأخرى على ما حذف فهي كالجملة الواحدة ونظير هذا قولهم : ضربت وضربني زيد اكتفوا بذكر زيد عن أن يذكروا أولا إلا أن
ص: 449
هذا حذف منه المعمول فيه وكان الثاني دليلا على الأول وذاك حذف العامل منه إلا أن حذف العامل إذا دل عليه الأول أحسن مع العطف ؛ لأن الواو تقوم مقام العامل في كل الكلام.
الضرب الآخر : أن يكون الحرف العامل غير زائد ، وذلك نحو قولك : مررت بزيد وذهبت إلى عمرو ومرّ بزيد وذهب إلى عمرو فتقول : إن موضع (بزيد) في : (مررت بزيد) منصوب وموضع إلى عمرو في ذهبت إلى عمرو نصب وموضع بزيد في مر بزيد رفع وإنما كان ذلك لأنك لو جعلت موضع : (مررت) ما يقارب معناه من الأفعال المتعدية لكان زيد منصوبا نحو : أتيت زيدا ولو أسقطت الباء في قولك : مررت بزيد لم يجز ؛ لأن الأفعال التي هي غير متعدية في الأصل لا تتعدى إلا بحرف جر وقد بينت فيما تقدم صفة الأفعال المتعدية والأفعال التي لا تتعدى فتقول على هذا إذا عطفت على الموضع : مررت بزيد وعمرا وذهبت إلى بكر وخالدا ومرّ بزيد وعمرو كأنك قلت : وأتى عمرو وأتيت عمرا ودل (مررت) على (أتيت) فاستغنيت بها وحذفت قال الشاعر :
جئني بمثل بني بدر لقومهم
أو مثل أسرة منظور بن سيار (1)
كأنه قال : أو هات مثل أسرة منظور ؛ لأن جئني بمثل بني بدر يدل على : هات أو أعطني وما أشبه هذا.
وذلك نحو : خمسة عشر وتسعة عشر فحكم هذا حكم المبني المفرد تقول : إن خمسة عشر درهما ويكفيك خمسة دنانير وخمسة دنانير النصب على (إنّ) والرفع على موضع (إنّ) وقولك :لا رجل في الدار بمنزلة : خمسة عشر في البناء إلا أن (رجل) مبني يضارع المعرفة فجاز لك أن تقول : لا رجل وغلاما لك فتعطف عليه ؛ لأن (لا) تعمل في النكرة عمل (إنّ) فبنيت مع (لا) على الفتح الذي عملته (لا) ومنعت التنوين ليدل منع التنوين على البناء ؛ لأنه اسم نكرة منصوب متمكن ودل على ذلك قولهم : لا ماء ماء باردا لك ألا تراهم بنوا ماء مع ماء فعلمت
ص: 450
بذلك أن هذا الفتح قد ضارعوا به المبني وأشبه خمسة عشر وكان هو الدليل على أن (لا) مبنية مع النكرة المفردة إذا قلت : لا ماء لك وقد بينت هذا في باب النفي فلهذا جاز أن تقول لا رجل وغلاما لك على اللفظ ولا رجل وغلام لك على موضع (لا) ويدل على بناء رجل في قولك : لا رجل أنه لا يجوز أن تقول : لا رجل وغلام لك فلو لم يعدلوا فتحة النصب إلى فتحة البناء لما جاز ؛ لأن الواو تدخل الثاني فيما دخل فيه الأول ولو وجدنا في كلامهم اسما نكرة متمكنا ينصب بغير تنوين لقلنا أنه منصوب غير مبني فكما تقول أن المنادى المفرد بني على الضم كالمعرب المرفوع تقول في هذا أنه معرب كالمبني المفتوح ولهذا لا يجوز أن ينعت الرجل على الموضع فيرفع ؛ لأن موضع (رجل) نصب ؛ لأن لو كان موضعه مضافا ما كان إلا نصبا فلهذا قلنا أنه بني على التقدير الذي كان له وموضع (لا) مع رجل رفع موضع ابتداء كما كانت إن مع ما عملت فيه إلا أن النحويين أجازوا : لا رجل ظريف وقالوا : رفعناه على موضع : لا رجل وإنما جاز هذا مع (لا) ولم يجز مع (أن) ؛ لأن (لا) مع رجل بمنزلة اسم واحد وليست (إنّ) مع ما عملت فيه بمنزلة شيء واحد لو قلت : إن زيدا العاقل منطلق لم يجز وقد ذكرت هذا في باب إنّ ويدلك أيضا على أن (لا) مع ما عملت فيه بمنزلة اسم واحد أنه لا يجوز لك أن تفصل بين (لا) والاسم ومتى فعلت ذلك لم يكن إلا الرفع ، وذلك قولك : لا لك مال ولا تقول : لا لك مال ؛ لأن (لك) قد منع البناء وقد حكي عن بعضهم : لا رجل وغلام لك فحذف التنوين من الثاني وشبهه بالعطف على النداء وهذا شاذ لا يعرج عليه وإنما حكمنا على (لا) أنها نصبت في قولك : لا رجل لقولهم : لا رجل وغلاما لك وأنه يجوز أن تقول لا رجل وغلاما منطلقان فلو لم تكن (لا) نصبت لم يجز أن تعطف على رجل منصوبا فهذا الفرق بين (لا) رجل وخمسة عشر.
وقد عرفتك من أين تشابها ومن أين افترقا ، وأما عطف المفرد على المفرد في النداء فلا يجوز أن تعطفه على الموضع لو قلت : يا زيد وعمرا لم يجز من قبل أن زيدا إنما بني ؛ لأنه منادى مخاطب باسمه.
ص: 451
والصلة التي أوجبت البناء في زيد هي التي أوجبت البناء في عمرو وهما في ذلك سواء ألا ترى أنهم يقولون : يا عبد الله وزيد فيضمون الثاني والأول منصوب لهذه العلة ولو لا ذلك لما جاز وليس مثل هذا في سائر ما يعطف عليه.
وذلك قولك : ضربت الذي في الدار وزيدا عطفت على الذي مع صلتها ولو عطفت على الذي مفردا لم يجز ولم يكن اسما معلوما وكذلك (من) إذا كانت بمعنى الذي تقول ضربت من في الدار وزيدا ومثل ذلك (ما) إذا كانت بمعنى (الذي) تقول : أخرجت ما في الدار وزيدا فالذي ومن وما مبهمات لا تتم في الإخبار إلا بصلات وما يوصل فيكون كالشيء الواحد (أن) مع صلتها تكون كالمصدر نحو قولك : يعجبني أن تقوم فموضع أن تقوم رفع ؛ لأن المعنى : يعجبني قيامك وكذلك إن قلت : كرهت أن تقوم فموضع أن تقوم نصب وعجبت من أن تقوم خفض فتقول على هذا : عجبت من أن يقوم زيد وقعودك تريد : من قيام زيد وقعودك.
ص: 452
اعلم أن العطف على عاملين لا يجوز من قبل أن حرف العطف إنما وضع لينوب عن العامل ويغني عن إعادته ، فإن قلت : قام زيد وعمرو فالواو أغنت عن إعادة (قام) فقد صارت ترفع كما يرفع قام وكذلك إذا عطفت بها على منصوب نحو قولك : إن زيدا منطلق وعمرا فالواو نصبت كما نصبت (إنّ) وكذلك في الخفض إذا قلت : مررت بزيد وعمرو فالواو جرت كما جرت الباء فلو عطفت على عاملين أحدهما يرفع والآخر ينصب لكنت قد أحلت لأنها كان تكون رافعة ناصبة في حال قد أجمعوا على أنه لا يجوز أن تقول : مرّ زيد بعمرو وبكر خالد فتعطف على الفعل والباء ولو جاز العطف على عاملين لجاز هذا واختلفوا إذا جعلوا المخفوض يلي الواو فأجاز الأخفش ومن ذهب مذهبه : مرّ زيد بعمرو وخالد بكر واحتجوا بأشياء منها قول الشاعر :
هوّن عليك ، فإن الأمور
بكفّ الإله مقاديرها (1)
فليس بآتيك منهيّها
ولا قاصر عنك مأمورها
ص: 453
وقال النابغة :
فليس بمعروف لنا أن نردّها
صحاحا ولا مستنكرا أن تعقّرا (1)
وما يحتجون به : (ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة) فعطف على كل وما ومن ذلك :
أكلّ امريء تحسبين امرأ
ونار توقّد بالليل نارا
ومذهب سيبويه في جميع هذه أن لا يعطف على عاملين ويذكر أن في جميعها تأويلا يرده إلى عمل واحد ونحن نذكر ما قاله سيبويه في باب (ما) تقول : ما أبو زينب ذاهبا ولا مقيمة أمها ترفع لأنك لو قلت : ما أبو زينب مقيمة أمها لم يجز لأنها ليست من سببه ومثل ذلك قول :الأعور الشني هوّن عليك فأنشد البيتين ورفع ولا قاصر عنك مأمورها وقال : لأنه جعل المأمور من سبب الأمور ولم يجعله من سبب المذكر وهو المنهي ومعنى كلامه أنه لو كان موضع ليس (ما) لكان الخبر إذا تقدم في (ما) على الاسم لم يجز إلا الرفع لا يجوز أن تقول : ما زيد منطلقا ولا خارجا معن ، فإن جعلت في (خارج معن) شيئا من سبب زيد جاز النصب وكان عطفا على الخبر ؛ لأنه يصير خبرا لزيد ؛ لأنه معلق بسبب له فكذلك لو قلت : فما يأتيك منهيها
ص: 454
ولا قاصر عنك مأمورها غير قولك منهيها ثم قال : وجره قوم فجعلوا المأمور للمنهي والمنهي هو الأمور ؛ لأنه من الأمور وهو بعضها فأجراه وأنثه كما قال جرير :
إذا بعض السّنين تعرّقتنا
كفى الأيتام فقد أبى اليتيم (1)
ص: 455
فصار تأويل الخبر ليس : بآتيك الأمور ولا قاصر بعضها فجعل : بعض الأمور أمورا وكذلك احتج لقول النابغة في الجر فقال : يجوز أن تجر وتحمله على الرد ؛ لأنه من الخيل يعني في قوله : أن تردها ؛ لأن (أن تردها) في موضع ردها كما قال ذو الرمة :
مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت
أعاليها مرّ الرّياح النّواسم
كأنه قال : تسفهتها الرياح فهذا بناء الكلام على الخيل ، وذلك ردّ إلى الأمور وقال : كأنه قال : ليس بآتيك منهيها وليست بمعروفة ردها حين كان من الخيل والخيل مؤنثة فأنث وهذا مثل قوله : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : 112] أجرى الأول على لفظ الواحد والآخر على المعنى هذا مثله في أنه تكلم به مذكرا ثم أنث كما جمع وهو في قوله : ليس بآتيتك منهيها كأنه قال : ليس بآتيتك الأمور وفي ليس بمعروف ردها وكأنه قال : ليست بمعروفة خيلنا صحاصا قال : وإن شئت نصبت فقلت : ولا مستنكرا ولا قاصرا.
قال أبو العباس : قال الأخفش : وليس هذان البيتان على ما زعم سيبويه يعني في الجر ؛ لأنه يجوز عند العطف وأن يكون الثاني من سبب الأول وأنكر ذلك سيبويه ؛ لأنه عطف على عاملين على السين والباء فزعم أبو الحسن : أنها غلط منه وأن العطف على عاملين جائز نحو قول الله عز وجل في قراءة بعض الناس : (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ)(1) فجر الآيات
ص: 456
وهي في موضع نصب ومثل قوله : (لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : 24] عطف على خبر (إنّ) وعلى (الكل).
قال أبو العباس : وغلط أبو الحسن في الآيتين جميعا ولكن قوله : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية : 5] وابتدأ الكلام : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ.)
بعد هذه الآية ، وإن جرّ آيات فقد عطف على عاملين وهي قراءة عطف على (إن) و (في) قال وهذا عندنا غير جائز ؛ لأن الذي تأوله سيبويه بعيد وقال : لأن الرد غير الخيل والعقر راجع إلى الخيل فليس بمتصل بشيء من الخيل ولا داخل في المعنى.
وقال : أما قوله : فليس بآتيك منهيها ولا قاصر عنك مأمورها فهو أقرب قليلا وليس منه ؛ لأن المأمور بعضها والمنهي بعضها وقربه أنهما قد أحاطا بالأمور وقال : وليس يجوز الخفض عندنا إلا على العطف على عاملين فيمن أجازه.
وأما قولهم : ما كلّ سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة فقال سيبويه : كأنك أظهرت كلّ مضمر فقلت : ولا كلّ بيضاء فمذهب سيبويه أنّ (كلّ) مضمرة هنا محذوفة وكذلك :
أكلّ امرىء تحسبين أمرأ
ونار توقّد بالليل نارا (1)
ص: 457
يذهب إلى أنه حذف (كلّ) بعد أن لفظ بها ثانية وقال : استغنيت عن تثنية (كلّ) لذكرك إياه في أول الكلام ولقلة التباسه على المخاطب قال : وجاز كما جاز في قوله : ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا أخيه ، وإن شئت قلت : ولا مثل أخيه فكما جاز في جمع الخبر كذلك يجوز في تفريقه وتفريقه أن تقول : ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا أخيه يكره ذاك قال : ومثل ذلك : ما مثل أخيك ولا أبيك يقولان ذلك فلما جاز في هذا جاز في ذاك.
ص: 458
وأبو العباس رحمه الله لا يجيز : ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا أخيه يكره ذاك والذي بدأ به سيبويه الرفع في قولك : ما كلّ سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة والنصب في (ونارا) هو الوجه وهذه الحروف شواذ فأما من ظنّ أن من جر آيات في الآية فقد عطف على عاملين فغلط منه وإنما نظير ذلك قولك : إنّ في الدار علامة للمسلمين والبيت علّامة للمؤمنين فإعادة علامة تأكيد وإنما حسنت الإعادة للتأكيد لما طال الكلام كما تعاد (إن) إذا طال الكلام وقد ذكرنا هذا في باب إنّ وأنّ ولو لا أنا ذكرنا التأكيد وأحكامه فيما تقدم لذكرنا هاهنا منه طرفا كما أنك لو قلت : إنّ في الدار الخير والسوق والمسجد والبلد الخير كان إعادته تأكيدا وحسن لما طال الكلام فآيات الأخيرة هي الأولى وإنما كانت تكون فيه حجة لو كان الثاني غير الأول حتى يصيرا خبرين ، وأما من رفع وليست (آيات) عنده مكررة للتأكيد فقد عطف أيضا على عاملين نصب أو رفع ؛ لأنه إذا قال : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فإذا رفع فقد عطف (آيات) على الابتداء وإختلافا على (في) ، وذلك عاملان ولكنه إذا قصد التكرير رفع أو نصب فقد زال العطف على عاملين فالعطف على عاملين خطأ في القياس غير مسموع من العرب ولو جاز العطف على عاملين لجاز على ثلاثة وأكثر من ذلك ولو كان الذي أجاز العطف على عاملين أي شاهد عليه بلفظ غير مكرر نحو : (إنّ في الدار زيدا والمسجد عمرا) وعمرو غير زيد لكان ذلك له شاهدا على أنه إن حكى مثله حاك ولم يوجد في كلام العرب شائعا فلا ينبغي أن تقبله وتحمل كتاب الله عز وجل عليه.
ص: 459
نقول : مررت بزيد أنيسك وصاحبك ، فإن قلت : مررت بزيد أخيك فصاحبك والصاحب زيد لم يجز وتقول : اختصم زيد وعمرو ولا يجوز أن تقتصر في هذا الفعل وما أشبهه على اسم واحد ؛ لأنه لا يكون إلا من اثنين ولا يجوز أن يقع هنا من حروف العطف إلا الواو لا يجوز أن تقول : اختصم زيد فعمرو لأنك إذا أدخلت الفاء وثم اقتصرت على الاسم الأول ؛ لأن الفاء توجب المهلة بين الأول والثاني وهذا الفعل إنما يقع من اثنين معا وكذلك قولك جمعت زيدا وعمرا ولا يجوز أن تقول جمعت زيدا فعمرا وكذلك المال بين زيد وعمرو ولا يجوز : بين زيد فعمرو وتقول : زيد راغب فيك وعمرو تعطف (عمرا) على الابتداء ، فإن عطفت على (زيد) لم يكن بد من أن تقول : زيد وعمرو راغبان فيك ، فإن عطفت عمرا على الضمير الذي في (راغب) قلت : (زيد راغب هو وعمرو فيك) ، فإن عطفت على ابتداء والمبتدأ لم يجز أن تقول : زيد راغب وعمرو فيك ؛ لأن (فيك) معلقة براغب فلا يجوز أن تفصل بينهما وقد أجازوا تقديم حرف النسق في الشعر فتقول على ذاك : قام وزيد عمرو وقام ثمّ زيد وعمرو وتقول : زيد وعمرو قاما ويجوز : زيد وعمرو قام فحذف (قام) من الأول اجتزاء بالثاني وتقول : زيد ثم عمرو قام وزيد فعمرو قام.
وقد أجازوا التثنية فتقول : زيد فعمرو قاما وزيد ثم عمرو قاما ولا يجيزون مع (أو ولا) إلا التوحيد لا غير نحو : زيد لا عمرو قام وزيد أو عمرو قام لا يجوز أن تقول : زيد لا عمرو قاما لأنك تخلط من قام بمن لم يقم وكذلك لو قلت قاما لجعلت القيام لهما إنما هو لأحدهما ومن أجاز : لقيت وزيدا عمرا لم يجز ذلك في المخفوض لا تقول : مررت وزيد بعمرو تريد :مررت بعمرو وزيد ؛ لأنه قد قدم المعطوف على العامل وإنما أجازوا للضرورة أن يقدم معمول فيه على معمول فيه والعامل قبلهما وذا ليس كذلك وقد حلت بينه وبين ما نسقته عليه بغيره وهو الباء.
وأجاز قوم : قام ثم زيد عمرو ولا يجيزون : إن وزيدا عمرا قائمان ؛ لأن (إنّ) أداة.
ص: 460
ويجيزون : (كيف وزيد عمرو) ويقولون : كلّ شيء لم يكن يرفع لم يجز أن يليه الواو نحو :(هل وزيد عمرو قائمان) محال وإنما صار العطف إذا لم يكن قبله ما يرفع أقبح ؛ لأنه يصير مبتدأ وفي موضع مبتدأ وليس أحد يجيز مبتدأ : وزيد عمرو قائمان يريد : عمرو وزيد قائمان ، وإن بمنزلة الابتداء فلذلك قبح أيضا فيها وتقول : زيد رغب فيك وعمرو وزيد فيك رغب وعمرو ، فإن أخرجت (رغب) على هذا لم يجز : أن تقول : زيد فيك وعمرو رغب لأنك قد فصلت بين المبتدأ وخبره بالمعطوف وقدمت ما هو متصل بالفعل وفرقت بينهما بالمعطوف أيضا وتقول : أنت غير قائم ولا قاعد تريد : وغير قاعد لما في (غير) من معنى النفي وتقول : أنت غير القائم ولا القاعد تريد : غير القاعد كما قال الله عز وجل : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة : 7] ولم يجىء هذا في المعرفة لا يستعملون (لا) مع المعرفة العلم في مذهب (غير) لا يجوز : أنت غير زيد ولا عمرو تقول : زيد قام أمس ولم يقعد ولا يجوز : زيد قام ويقعد وإنما جاز مع (لم) لأنها مع عملت فيه في معنى الماضي ولا يجوز أن تنسق على (لن ولم) بلا مع الأفعال لا تقول : لم يقم عبد الله لا يقعد وكذلك : لن يقوم عبد الله لا يقعد يا هذا ؛ لأن (لا) إنما تجيء في العطف لتنفي عن الثاني ما وجب للأول وتقول : ضربت عمرا وأخاه وزيد ضربت عمرا ثم أخاه وزيد ضربت عمرا أو أخاه وقوم لا يجيزون من هذه الحروف إلا الواو فقط ويقولون : لأن الواو بمعنى الاجتماع فلا يجيزون ذلك مع ثم وأو ؛ لأن مع (ثم وأو) عندهم فعلا مضمرا ، فإن قلت : (زيد ضربت عمرا وضربت أخاه) لم يجز ؛ لأن الفعل الأول والجملة الأولى قد تمت ولا وصلة لها بزيد وعطفت بفعل آخر هو المتصل لسببه وليس لأخيه في (ضربت) الأولى وصلة ، فإن أردت بقولك : وضربت إعادة للفعل الأول على التأكيد جاز ومن أجاز العطف على عاملين قال : زيد في الدار والبيت أخوه وأمرت لعبد الله بدرهم وأخيه بدينار ؛ لأن دينارا ليس إلى جانب ما عملت فيه الباء وحرف النسق مع الأخ ولا يجوز أيضا أمرت لعبد الله بدرهم ودينار أخيه ؛ لأن أخاه ليس إلى جانب ما عملت فيه اللام وحرف النسق مع دينار وتقول : ضربت زيد وعمرا ويجوز أن ترفع عمرا وهو مضروب فتقول ضربت زيدا وعمر تريد : وعمرو كذلك وإنما يجوز هذا إذا علم المحذوف ولم يلبس وتقول.
ص: 461
هذان ضارب زيدا وتاركه ؛ لأن الفعل لا يصلح هنا لو قلت : هذان يضرب زيدا ويتركه لم يجز وإنما جاز هذا في (فاعل) ؛ لأنه اسم فإذا قلت : هذان زيد وعمرو لم يجز إلا بالواو ؛ لأن الواو تقوم مقام التثنية والجمع.
واعلم أنه لا يجوز عطف الظاهر على المكني المتصل المرفوع حتى تؤكده نحو : قمت أنا وزيد وقام هو وعمرو قال الله عز وجل : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة : 24] ، فإن فصلت بين الضمير وبين المعطوف بشيء حسن نحو : ما قمت ولا عمرو ويجوز أن تعطف بغير تأكيد ولا يجوز عطف الظاهر على المكنى المخفوض نحو : مررت به وعمرو إلا أن يضطر الشاعر وتقول : أقبل إن قيل لك الحقّ والباطل إذا أمرت بالحقّ : أردت : أقبل الحقّ إن قيل لك هو والباطل.
قد ذكرنا جميع هذه الأسماء المرفوعة والمنصوبة والمجرورة وما يتبعها في إعرابها وكنت قلت في أول الكتاب أن الأسماء تنقسم قسمين : معرب ومبني ، فإن المعرب ينقسم قسمين :منصرف وغير منصرف وقد وجب أن يذكر من الأسماء ما ينصرف وما لا ينصرف ثم نتبعه المبنيات.
ص: 462
اعلم أن معنى قولهم اسم منصرف أنه يراد بذلك إعرابه بالحركات الثلاث والتنوين والذي لا ينصرف لا يدخله جر ولا تنوين ؛ لأنه مضارع عندهم للفعل والفعل لا جرّ فيه ولا تنوين وجر ما لا ينصرف كنصبه كما أن نصب الفعل كجزمه والجر في الأسماء نظير الجزم في الفعل ؛ لأن الجر يخص الأسماء والجزم يخص الأفعال وإنما منع ما لا ينصرف الصرف لشبهه بالفعل كما أعرب من الأفعال ما أشبه الاسم فجميع ما لا ينصرف إذا أدخلت عليه الألف واللام أو أضيف جرّ في موضع الجرّ وإنما فعل به ذلك ؛ لأنه دخل عليه ما لا يدخل على الأفعال وما يؤمن معه التنوين ألا ترى أن الألف واللام لا يدخلان على الفعل وكذلك الأفعال لا تضاف إلى شيء وأن التنوين لا يجتمع مع الألف واللام والإضافة وأصول الأسماء كلها الصرف وإنما في بعضها ترك الصرف وللشاعر إذا اضطر أن يصرف جميع ما لا ينصرف ونحن نذكر ما لا ينصرف منها ليعلم ما عداها منصرف.
ص: 463
متى كان في الاسم اثنان منها أو تكرر واحد في شيء منها منع الصرف ، وذلك وزن الفعل الذي يغلب على الفعل والصفة والتأنيث الذي يكون لغير فرق والألف والنون المضارعة لألفي التأنيث والتعريف والعدل والجمع والعجمة وبناء الاسم مع الاسم كالشيء الواحد.
فما جاء من الأسماء على أفعل أو يفعل أو تفعل أو نفعل أو فعل ويفعل وانضم معه سبب من الأسباب التي ذكرنا لم ينصرف فأفعل نحو أحمر وأصفر وأخضر لا ينصرف ؛ لأنه على وزن أذهب وأعلم وهي صفات فقد اجتمع فيها علتان وأحمد اسم رجل لا ينصرف ؛ لأنه على وزن أذهب فهو معرفة ففيه علتان ، فإن نكرته صرفته تقول : مررت بأحمد يا هذا وبأحمد آخر وأعصر اسم رجل لا ينصرف ؛ لأنه مثل أقتل وكذلك إن سميته بتنضب وترتب وتألب فأما تولب إذا سميت به فمصروف ؛ لأنه مثل جعفر ، فإن سميت على هذا رجلا بيضرب قلت : هذا يضرب قد جاء ومررت بيضرب ورأيت يضرب وكذلك : تضرب ونضرب واضرب ، وإن سميته بفعل قلت : هذا ضرب قد جاء ورأيت ضرب ، وإن سميته بضرب صرفته ؛ لأنه مثل حجر وجمل وليس بناؤه بناء يخص الأفعال ولا هي أولى به من الأسماء بل الأسماء والأفعال فيه مشتركة وهو كثير فيهما جميعا ، وإن سميت رجلا بنرجس لم تصرفه ؛ لأنه على مثال نصرب وليس في الأسماء شيء على مثال فعلل ولو كان فيها فعلل لصرفنا نرجس إذا سمينا به.
أما (نهشل) اسم رجل فمصروف ؛ لأنه على مثال (جعفر) وليس هو تفعل إنما هو فعلل ولكن لو سميت رجلا بتذهب لتركت صرفه فقلت : هذا تذهب ورأيت تذهب ومررت بتذهب وجميع هذه إذا نكرتها صرفتها تقول : مرت بتغلب وتغلب آخر ؛ لأنه قد زالت إحدى العلتين ، وهي التعريف ، فإن سميت بقام عمرو حكيت فقلت : هذا قام عمرو ورأيت قام
ص: 464
عمرو وكذلك كل جملة يسمى بها نحو : تأبّط شرا تقول هذا تأبّط شرا وكذلك إذا سميته (بقاما) قلت : هذا قاما ورأيت قاما ومررت بقاما وهذا قاموا ورأيت قاموا ومررت بقاموا ، وإن سميت (بقام) وفي قام ضمير الفاعل حكيته فقلت : هذا قام قد جاء ومررت بقام يا هذا تدعه على لفظه لأنك لم تنقله من فعل إلى اسم إنما سميت بالفعل مع الفاعل جميعا رجلا فوجب أن تحكيه فأما إن سميت (بقام) ولا ضمير فيه فهو مصروف ؛ لأنه مثل باب ودار وقد نقلته من الفعل إلى الاسم ولو كان فعلا لكان معه فاعل ظاهر أو مضمر وكذلك لو سميت بقولك : زيد أخوك لقلت هذا زيد أخوك قد جاء ورأيت أخوك ومررت بزيد أخوك تحكي الكلام كما كان ، فإن سميت رجلا (بضربت) ولا ضمير فيه قلت : هذا ضربه فتقف عليه بهاء ؛ لأن الأسماء المؤنثة من هذا الضرب إذا وقفت عليها أبدلت التاء هاء تقول : هذا سلمة قد جاء فإذا وقفت قلت : سلمه وكذلك (ضربت) إذا سميت بها خرجت عن لفظ الأفعال ولزمها ما يلزم الأسماء وليست التاء في (ضربت) اسما ولو كانت اسما لحكى وقد ذكرنا فيما تقدم أن هذه التاء إنما تدخل في فعل المؤنث لتفرق بينه وبين فعل المذكر ، وإذا سميت (بضربت) وفيها ضمير الفاعلة حكيت فقلت : هذا ضربت قد جاء ورأيت ضربت ومررت بضربت ؛ لأن فيه ضميرا ولو أظهرت لقلت ضربت هي وكل اسم صار علما لشيء وهو على مثال الأفعال في أوله زياداتها لا تصرفه ، فإن سميت بأضرب أو أقبل قطعت الألف ولم تصرفه فقلت : هذا أضرب قد جاء وأذهب وأقبل قد جاء ؛ لأن ألف الوصل إنما حقها الدخول على الأفعال وعلى الأسماء الجارية على تلك الأفعال نحو : استضرب استضرابا وانطلق انطلاقا فأما الأسماء التي ليست بمصادر جارية على أفعالها فألف الوصل غير داخلة عليها وإنما دخلت في أسماء قليلة نحو : ابن وامرىء واست وليس هذا بابها ، وإن سميت رجلا (بتضارب) صرفته ؛ لأنه ليس على مثال الفعل فتقول : هذا تضارب قد جاء ومررت بتضارب ، فإن صغرته وهو معرفة قلت :تضيرب فلم تصرفه ؛ لأنه قد ساوى تصغير (تضرب) وأنت لو سميت رجلا (بتضرب) ثم صغرته وأنت تريد المعرفة لم تصرفه.
ص: 465
وأفعل منك لا يصرف نحو : أفضل منك وأظرف منك ؛ لأنه على وزن الفعل وهو صفة ، فإن زال وزن الفعل انصرف ألا ترى أن العرب تقول : هو خير منك وشر منك وشر منك لما زال بناء (أفعل) صرفوه ، فإن سميت بأفعل مفردا أو معها (منك) لم تصرفها على حال ، وأما أجمع وأكتع فلا ينصرفان لأنهما على وزن الفعل وهما معرفتان لأنهما لا يوصف بهما إلا معرفة ، فإن ذكرتهما صرفتهما ، وإن سميت رجلا ضربوا فيمن قال : أكلوني البراغيث قلت : هذا ضربون قد جاء من قبل أن هذه الواو ليست بضمير فلما صار اسما صار مثل (مسلمون) والاسم لا يجمع بواو ولا نون معها ومن قال مسلمين قالت : ضربين وكذلك لو سميت (بضربا) قلت : ضربان قد جاء فيمن قال : أكلوني البراغيث ومن قال : مسلمين وعشرين لم يقل في مسلمات ملسمين ؛ لأن ذاك لما صار اسما لواحد شبه بعشرين ويبرين.
وذلك نحو : أفعل الذي له فعلاء نحو أحمر وحمراء وأصفر وصفراء وأعمى وعمياء وأحمر لا ينصرف ؛ لأنه على وزن الفعل وهو صفة وحمراء لا تتصرف ؛ لأن فيها ألف التأنيث وهي مع ذلك صفة ولو كان ألف التأنيث وحدها في غير صفة لم تنصرف ونحن نذكر ذلك في باب التأنيث والصفة لا تكون معرفة إلا بالألف واللام وكل بناء دخلته الألف واللام فهو منصرف ومتى صارت الصفة اسما فقد زال عنها الصفة فأما قائمة وقاعدة وما أشبه ذلك إذا وصفت بها فهو منصرف ؛ لأن هذه الهاء إنما دخلت فرقا بين المذكر والمؤنث وهي غير لازمة فهي مثل التاء في الفعل إذا قلت : ضربت وضربت وإنما يعتد بالتأنيث الذي لم يذكر للفرق وأجازوا مثنى وثلاث ورباع غير مصروف وذكر سيبويه أنه نكرة وهو معدول فقد اجتمع فيه علتان ، وإذا حقرت ثناء وأحاد صرفته لأنك تقول أحيد وثني فيصير مثل حمير فيخرج إلى مثال ما ينصرف.
والمؤنث على ضربين : ضرب بعلامة وضرب بغير علامة فأما المؤنث الذي بالعلامة فالعلامة للتأنيث علامتان : الهاء والألف فالأسماء التي لا تنصرف مما فيها علامة فنحو : حمدة
ص: 466
اسم امرأة وطلحة اسم رجل لا ينصرفان لأنهما معرفتان وفيهما علامة التأنيث ، فإن نكرتهما صرفتهما تقول : مررت بحمدة وحمدة أخرى وبطلحة وطلحة آخر وكل اسم معرفة فيه هاء التأنيث فهو غير مصروف فأما ألف التأنيث فتجيء على ضربين : ألف مفردة نحو بشرى وخبلى وسكرى وألف قبلها ألف زائدة نحو : صحراء وحمراء وخنفساء وكل اسم فيه ألف التأنيث ممدودة أو مقصورة فهو غير مصروف معرفة كان أو نكرة ، فإن قال قائل فما العلتان اللتان أوجبتا ترك صرف بشرى وإنما فيه ألف للتأنيث فقط قيل : هذه التي تدخلها الألف يبنى الاسم لها وهي لازمة وليست كالهاء التي تدخل بعد التذكير فصارت للملازمة والبناء كأنه تأنيث آخر وتضارع هذه الألف الألف التي تجيء زائدة للإلحاق إذا سميت بما يكون فيه ، وذلك نحو : ألف ذفرى وعلقى فيمن قال : علقاة وحبنطى ، فإن سميت بشيء منها لم تصرفه لأنها ألف زائدة كما إن ألف التأنيث زائدة وقد امتنع دخول الهاء عليها في المعرفة وأشبهت ألف التأنيث لذلك.
وحق كل ألف تجيء زائدة رابعة فما زاد أن يحكم عليها بالتأنيث حتى تقوم الحجة بأنها ملحقة ؛ لأن بابها إذا جاءت زائدة رابعة فما زاد فللتأنيث لكثرة ذلك واتساعه والإلحاق يحتاج إلى دليل لقلته والدليل الذي تعلم به الألف الملحقة أن تنون وتدخل عليها هاء نحو من جعل علقى ملحقة فنون وألحق الهاء فقال : علقاة ولهذا موضع يبين فيه وإنما شبهت ألف حبنطى بألف التأنيث كما يثبت الألف والنون في عثمان بالألف والنون في غضبان لما تعرف عثمان وصار لا يدخله التأنيث ، فإن صغرت علقى اسم رجل صرفته ، وإن سميت رجلا بمعزى لم تصرفه ، وإن صغرته لم تصرفه أيضا ؛ لأنه اسم لمؤنث فأما من ذكر معزى فهو يصرفه وتترى فيها لغتان كعلقى فأما أرطى ومعزى فليس فيه إلا لغة واحدة الإلحاق والتنوين ، فإن سميت بهما لم تصرفهما كما ذكرت لك ، وإن سميت بعلباء صرفته ؛ لأنه ملحق بسرداح تقول عليبى كما تقول : سريديح ولو كانت للتأنيث لقلت علبياء.
وأما التأنيث بغير علامة فنحو : زينب وسعاد لا ينصرفان لأنهما اسمان لمؤنث ، وإن سميت امرأة باسم على أربعة أحرف أصلية أو فيها زائدة فما زاد لم يصرف ؛ لأن الحرف الرابع
ص: 467
بمنزلة الهاء ؛ لأن الهاء لا تكون إلا رابعة فصاعدا إلا في اسم منقوص نحو : ثبة وكذلك إن سميت مذكرا باسم مؤنث لا علامة فيه ولم تصرفه نحو رجل سميته بعناق وسعاد وقالوا : إنّ أسماء اسم رجل إنما لم يصرف وهو جمع اسم على أفعال وحق هذا الجمع الصرف ؛ لأنه من أسماء النساء فلما سمي به الرجل لم يصرف ولو قال قائل : إنما هو فعلاء أرادوا أسماء وأبدلوا الواو همزة كما قال في وسادة إسادة لكان مذهبا ، فإن سميت مؤنثا باسم ثلاثي متحرك الأوسط فهو غير مصروف نحو : امرأة سميتها بقدم ، فإن كان الثلاثي ساكن الأوسط نحو : هند ودعد وجمل فمن العرب من يصرف لخفة الاسم وأنه أقل ما تكون عليه الأسماء من العدد والحركة ومنهم من يلزم القياس فلا يصرف ، فإن سميت امرأة باسم مذكر ، وإن كان ساكن الأوسط لم تصرفه نحو زيد وعمرو ؛ لأن هذه من الأخف وهو المذكر إلى الأثقل وهو المؤنث فهذا مذهب أصحابنا وهو في هذا الموضع نظير رجل سميته بسعاد وزينب وجيأل فلم تصرفه لأنها أسماء اختص بها المؤنث وهو على أربعة أحرف والرابع كحرف التأنيث ، وإن سموا رجلا بقدم وخشل صرفوه وحقروه فقالوا : قديم.
اعلم أنهما لا يضارعان ألفي التأنيث إلا إذا كانتا زائدتين زيدا معا كما زيدت ألفا التأنيث معا ، وإذا كانتا لا يدخل عليهما حرف تأنيث كما لا يدخل على ألفي التأنيث تأنيث ، وذلك نحو : سكران وغضبان لأنك لا تقول : سكرانة ولا غضبانة إنما تقول : غضبى وسكرى فلما امتنع دخول حرف التأنيث عليهما ضارعا التأنيث وكذلك كل اسم معرفة في آخره ألف ونون زائدتان زيدا معا فهو غير مصروف ، وذلك نحو : عثمان اسم رجل لا تصرفه ؛ لأنه معرفة وفي آخره ألف ونون وهما في موضع لا يدخل عليهما التأنيث ؛ لأن التسمية قد حظرت ذلك فهذا مثل حبنطى وذفرى إذا سميت بهما لما حظرت التسمية دخول الهاء اشبهت الألف ألف التأنيث فلم تصرف في المعرفة وصرف في النكرة وكذلك عثمان غير مصروف في المعرفة ، فإن نكرته صرفته ؛ لأنه في نكرته كعطشان الذي له عطشى وكذلك إذا سميته بعريان وسرحان وضبعان لم تصرفه ، فإن نكرته صرفته ، وإن حقرت سرحان اسم رجل صرفته فقلت :
ص: 468
سريحين ؛ لأنه ملحق بسرداح في نكرته ولكنك إن حقرت عثمان فقلت : عثيمان لم تصرفه وتركت الألف والنون على حالهما كما فعلت بألفي التأنيث إذا قلت : حميراء فعثمان مخالف كسرحان كأنه إنما بني هذا البناء في حال معرفته وهذا يبين في التصغير ، وإن سميت بطحان من الطحن وسمان من السمن وتبان من التبن صرفت جميع ذلك ، وإن سميت بدهقان من الدهق لم تصرفه ، وإن سميته من التدهقن صرفته.
وكذلك شيطان إن كان من التشيطن صرفته ، وإن كان من شيّط لم تصرفه.
وقال سيبويه : سألت الخليل عن رمّان فقال : لا أصرفه وأحمله على الأكثر إذا لم يكن له معنى يعرف يعني أنه إذا سمي لم يصرفه في المعرفة ؛ لأنه لا يدري من أي شيء اشتقاقه فحمله على الأكثر والأكثر زيادة الألف والنون قال : وسألته عن سعدان ومرجان.
فقال : لا أشكّ في أن هذه النون زائدة ؛ لأنه ليس في الكلام مثل : سرداح ولا فعلال إلا مضعفا ولو جاء شيء على مثال جنجان لكانت النون عندنا بمنزلة نون مرّان إلا أن يجيء أمر يبين أو يكثر في كلامهم فيدعوا صرفه.
قال أبو العباس : صرف جنجان ؛ لأن المضاعف من نفس الحرف بمنزلة خضخاض ونحوه فأما عوغاء فيختلف فيها فمنهم من يجعلها كخضخاض فيصرف ومنهم من يجعلها بمنزلة عوراء فلا يصرف.
متى ما اجتمع مع التعريف التأنيث أو وزن الفعل أو العجمة أو العدل أو الألف والنون لم يصرف فالتأنيث نحو : طلحة وحمزة وزينب اجتمع في هذه الأسماء أنها مؤنثات وأنها معارف والألف والنون مثل عثمان والعدل مثل عمر وسحر ووزن الفعل مثل أحمد ويشكر والعجمة نحو : إبراهيم وإسماعيل ويعقوب فجميع هذه لا تصرف لإجتماع العلتين فيها ، فإن سميت بيعقوب وأنت تريد ذكر القبح صرفته ؛ لأنه مثل يربوع فأما الصفة والجمع فإنهما لا يجتمعان مع التعريف بالتسمية ؛ لأن الصفة إذا سمي بها زال عنها معنى الصفة والجمع لا يكون معرفة أبدا إلا بالألف واللام ، فإن سميت بالجمع الذي لا ينصرف رجلا نحو : مساجد
ص: 469
لم تصرفه وقلت : هذا مساجد قد جاء إنما لم يصرف ؛ لأنه معرفة وإنه مثال لا يكون في الواحد فأشبه الأعجمي المعرفة ، فإن صغرته صرفته فقلت : مسيجد ؛ لأنه قد عاد البناء إلى ما يكون في الواحد مثله وصار مثل مييسر.
وقال سيبويه : سراويل واحد أعرب وهو أعجمي وأشبه من كلامهم ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة فهو مصروف في النكرة.
وإن سميت به لم تصرفه ، وإن حقرته اسم رجل لم تصرفه ؛ لأنه مؤنث مثل عناق وعناق إذا سميت به مذكرا لم تصرفه ، وأما شراحيل فمصروف في التحقير ؛ لأنه لا يكون إلا جمعا وهو عربيّ وقال الأخفش : الجمع الذي لا ينصرف إذا سميت به إن نكّرته بعد ذل لك لم تصرفه أيضا.
ومعنى العدل أن يشتق من الاسم النكرة الشائع اسم ويغير بناؤه إما لإزالة معنى إلى معنى وإما ؛ لأن يسمى به فأما الذي عدل لإزالة معنى إلى معنى فمثنى وثلاث ورباع وآحاد فهذا عدل لفظه ومعناه عدل عن معنى اثنين إلى معنى اثنين اثنين وعن لفظ اثنين إلى لفظ مثنى وكذلك أحاد عدل عن لفظ واحد إلى لفظ أحاد وعن معنى واحد إلى معنى واحد واحد وسيبويه يذكر أنه لم ينصرف ؛ لأنه معدول وأنه صفة ولو قال قائل : إنه لم ينصرف ؛ لأنه عدل في اللفظ والمعنى جميعا وجعل ذلك لكان قولا : فأما ما عدل في حال لتعريف فنحو : عمر وزفر وقثم عدلن عن عامر وزافر وقائم أما قولهم : يا فسق فإنما أرادوا : يا فاسق وقد ذكر في باب النداء وسحر إذا أردت سحر ليلتك فهو معدول عن الألف واللام فهو لا يصرف تقول :لقيته سحر يا هذا فاجتمع فيه التعريف.
والعدل عن الألف واللام ، فإن أردت سحرا من الأسحار صرفته ، وإن ذكرته بالألف واللام أيضا صرفته فأما ما عدل للمؤنث فحقه عند أهل الحجاز البناء ؛ لأنه عدل مما لا ينصرف فلم يكن بعد ترك الصرف إلا البناء.
ص: 470
ويجيء على (فعال) مكسور اللام نحو : حذام وقطام وكذلك في النداء نحو : يا فساق ويا غدار ويا لكاع ويا خباث فهذا اسم الخبيث واللكعاء والفاسقة وفعال في المؤنث نظير فعل في المذكر وقد جاء هذا البناء اسما للمصدر فقالوا : فجار يريدون : فجرة وبداد يريدون : بددا ولا مساس يريدون : المسّ ويجيء اسما للفعل نحو : مناعها أي امنعها وحذار اسم احذر ومما عدل عن الأربعة : قرقار يريدون : قرقر وعرعار وهي لعبة ونظيرها من الثلاثة : خراج أي أخرجوا وهي لعبة أيضا وجميع ما ذكر إذا سمي به امرأة فبنو تميم ترفعه وتنصبه وتجريه مجرى اسم لا ينصرف فأما ما كان آخره راء ، فإن بني تميم وأهل الحجاز يتفقون على الحجازية وذلك : سفار وهو اسم ماء وحضار اسم كوكب ، قال سيبويه : يجوز الرفع والنصب ، قال الأعشى :
ومرّ دهر على وبار
فهلكت جهرة وبار (1)
ص: 471
وجمع هذا إذا سمي به المذكر لم ينصرف ؛ لأن هذا بناء بني للتأنيث وحرك بالكسر لذلك ؛ لأن الكسرة من الياء والياء يؤنث بها وهو متصرف في النكرة ومنهم من يصرف رقاش وعلاب إذا سمي به كأنه سمي بصباح ، وإذا كان اسما على فعال لا يدري ما أصله بالقياس صرفه ؛ لأنه لم يعلم له علة توجب إخراجه عن أصله وأصل الأسماء الصرف وكل (فعال) جائز متى كانت من (فعل أو فعل أو فعل ولا يجوز من أفعلت) ؛ لأنه لم يسمع من بنات الأربعة إلا قرقار وعرعار وفعال إذا كان أمرا نصب بعده وليس يطرد (فعال) إلا في النداء وفي الأمر.
وهو الذي ينتهي إليه الجموع ولا يجوز أن يجمع وإنما منع الصرف ؛ لأنه جمع جمع لا جمع بعده ألا ترى أن أكلبا جمع كلب ، فإن جمع أكلبا قلت : أكالب فهذا قد جمع مرتين فكل ما كان من هذا النوع من الجموع التي تشبه التصغير وثالثه ألف زائدة كما أن ثالث التصغير ياء زائدة وما بعده مكسور كما أن ما بعد ثالث التصغير مكسور فهو غير منصرف ، وذلك نحو : دراهم ودنانير فدراهم في الجمع نظير دريهم في التصغير ودنانير نظير دنينير فليس بين هذا الجمع وبين التصغير إلا ضمة الأول في التصغير وفتحة في الجمع ، وإن ثالث التصغير ياء وثالث هذا ألف فهذا الجمع الذي لا ينصرف.
فإن أدخلت الهاء على هذا الجمع انصرف ، وذلك نحو : صياقلة ؛ لأن الهاء قد شبهته بالواحد فصار كمدائني لما نسبت إلى مدائن انصرف وكان قبل التسمية لا ينصرف الإعراب على الباء كما وقع على ياء النسب ، فإن كان هذا الجمع فيما لامه ياء مثل جوار نونت في الجر
ص: 472
والرفع ؛ لأن هذه الياء تحذف في الوقت في الجر والرفع فعوضت النون من ذلك ، وإذا وقعت موضع النصب بنيت الياء ولم تصرف وقلت : رأيت جواري يا هذا.
وقال أبو العباس رحمه الله : قال أبو عثمان : كان يونس وعيسى وأبو زيد والكسائي ينظرون إلى جوار وبابه أجمع فكل ما كان نظيره من غير المعتل مصروفا صرفوه وإلا لم يصرفوه وفتحوه في موضع الجر كما يفعلون بغير المعتل يسكنونه في الرفع خاصة وهو قول أهل بغداد والصرف الذي نحن عليه في الجر والرفع هو قول الخليل وأبي عمرو بن العلاء وابن أبي إسحاق وجميع البصريين.
قال أبو بكر : فأما الياء في (ثمان) فهي (ياء نسب) وكان الأصل ثمني مثل يمني فحذفت إحدى اليائين وأبدلت منها الألف كما فعل ذلك بيمني حين قالوا : يمان يا هذا وقد جعل بعض الشعراء ثماني لا ينصرف.
قال الشاعر :
يحدو ثماني مولعا بلقاحها (1) ...
ص: 473
وأما بخاتي فلا ينصرف ؛ لأن الياء لغير النسب وهي التي كانت في بختية وكذلك كرسي وكراسي وقمري وقماري.
الأسماء الأعجمية الأعلام غير مصروفة إذا كانت العرب إنما أعربتها في حال تعريفها نحو : إسحاق وإبراهيم ويعقوب ؛ لأن العرب لم تنطق بهذه إلا معارف ولم تنقلها من تنكير إلى تعريف فأما ما أعربته العرب من النكرات من كلام العجم وأدخلت عليه الألف واللام فقد أجروه مجرى ما أصل بنائه له ، وذلك نحو : ديباج وإبريسم ونيروز وفرند وزنجبيل وشهريز وآجر فهذا كله قد أعربته العرب في نكرته وأدخلت عليه الألف واللام فقالوا : الديباج والشهريز والنيروز والفرند فجميع هذا إذا سميت به مذكرا صرفته ؛ لأن حكمه حكم العربي ، فإن كان الاسم العلم ثلاثيا صرفوه لخفته نحو : نوح ولوط ينصرفان على كل حال.
والأول منهما مفتوح والثاني بمنزلة ما لا ينصرف في المعرفة ويتصرف في النكرة وهو مشبه بما فيه الهاء ؛ لأن ما قبله مفتوح كما أن ما قبل الياء مفتوح وهو مضموم إلى ما قبله كما ضمت الهاء إلى ما قبلها ، وذلك نحو : حضر موت وبعلبك ورام هرمز ومارسرجس ومنهم من يضيف ويصرف ومنهم من يضيف ولا يصرف ويجعل كرب في (معدي كرب) مؤنثا ومنهم من يقول : معد يكرب يجعله اسما واحدا إلا أنهم لا يفتحون الياء ويتركونها ساكنة يجعلونها بمنزلة الياء في دردبيس وكذلك إذا أضافوا يقولون : رأيت معدي كرب يلزمون الياء الإسكان استثقالا للحركة فيها.
ص: 474
قال أبو العباس : قال سيبويه : تصرف رجلا سميته قيل أورد اللتين تقديرهما فعل فقيل له : لم صرفتهما وفعل لا ينصرف في المعرفة ؛ لأنه مثال لا تكون عليه الأسماء فقال : لما سكنت عيناهما ذهب ذلك البناء وصارا بمنزلة فعل وفعل قيل له : فكيف تزعم أنك إذا قلت لقضو الرجل ثم أسكنت على قول من قال في عضد عضد قلت : لقضو الرجل ولم ترد الياء ، وإن كانت الضمة قد ذهبت لأنك زعمت تنويها وأنك لم تبنها على (فعل) ولكنك أسكنتها من (فعل) فذلك البناء في نيتك وكذلك تقول في (ضوء) كما ترى إذا خففت الهمزة (ضو) فأثبت واوا طرفا وقبلها حركة ومثل هذا لا يكون في الكلام فقلت : إنما جاز هذا ؛ لأن حركتها إنما هي حركة الهمز لأنها الأصل فهي في النية واشباه هذا كثير فلم لم تترك الصرف في قيل وردّ اللتين هما فعل ؛ لأن الإسكان عارض والحركات في النية قال : فالجواب في ذلك أنه حين قال لقضو الرجل فأسكن الضاد إنما سكنها من شيء مستعمل يتكلم به فالإسكان فيه عارض ؛ لأن قولهم المستعمل إنما هو لقضو ثم يسكنون وكذلك الهمزة المخففة إنما المستعمل إثباتها ثم تخفف استثقالا فيقولون : ضو وقضو استخفافا ، وأما قيل وردّ فلا يستعمل الأصل منهما البتة لا يقال : قول ثم يخفف ولا ردد فهذا يجري مجرى ما لا أصل له إلا ما يستعمل.
ولذلك قالوا في تصغير سماء سمية ؛ لأن هذه الياء لا يستعمل إلا حذفها فلذلك دخلت الهاء وصارت بمنزلة ما أصله الثلاثة وقياس هذا القول أنك إذا سميت رجلا : (ضرب) ثم أسكنت فقلت ضرب لم تصرفه ؛ لأن الأصل يستعمل ، وإن أسكنت فقلت (ضرب) التي هي فعل ثم سميت بها مسكنة وجب أن تصرف ؛ لأن الأصل لم يقع في الاسم قط وأنه لم يسم به إلا مسكنا والدليل على ذلك أنهم إذا سموا رجلا جيأل ثم خففوا الهمزة قالوا : جمل ولم يصرفوه وقال : سئل التوزي وروي عن أبي عبيدة أنه يقال للفرس الذكر لكع والأنثى لكعة فهل ينصرف لكع على هذا القول فالجواب في ذلك : أن لكعا هذه تنصرف في المعرفة ؛ لأنه ليس ذلك المعدول الذي يقال للمؤنث منه (لكاع) ولكنه بمنزلة : حطم ، وإن كان حطم صفة ؛
ص: 475
لأنه اسم ذكره من باب صرد ونغر فلم يؤخذ من مثال عامر فيعدل في حالة التعريف إلى عمر ونحوه وقال : الأسماء الأعجمية التي أعربتها العرب لا يجيء شيء منها على هيئته وأنت إذا تفقدت ذلك وجدته في إبراهيم وإسحاق ويعقوب وكذلك فرعون وهامان وما أشبهها لأنها في كلام العجم بغير هذه الألفاظ فمن ذلك أن إبراهيم بلغة اليهود منقوص الياء ذاهب الميم وأن سارة لما أعربها نقصت نقصا كبيرا وكذلك إسحاق والأسماء العربية ليس فيها تغيير ويبين ذلك أن الإشتقاق فيها غير موجود ولا يكون في العربية نعت إلا باشتقاق من لفظه أو من معناه ولو قال قائل : هل يجوز أن يصرف إسحاق كنت مشتركا إن كان مصدر إسحاق السفر إسحاقا تريد : أبعده إبعادا فهو مصروف ؛ لأنه لم يغير والسحيق : البعيد قال الله عز وجل : (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [الحج : 31] ، وإن سميته إسحاق اسم النبي تصرفه ؛ لأنه قد غير عن جهته فوقع في كلام العرب غير معروف المذهب وكذلك يعقوب الذي لم يغير وإنما هو اسم طائر معروف قال الشاعر :
عال يقصّر دونه اليعقوب (1) ...
فإذا سمينا بهذا صرفناه ، وإن سميناه يعقوب اسم النبي لم تصرفه ؛ لأنه قد غير عن جهته فوقع غير معروف المذهب وإنما جاء في القرآن في مواضع من صرف عاد وثمود وسبأ فالقول فيها : أنها أسماء عربية وأن القوم عرب في أنفسهم فقوله عز وجل : (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِ) [الفرقان : 38] وإنما هم آباء القبائل كقولك : جاءتني تميم وعامر إنما هو قبيلة تميم وقبيلة عامر فحذف قبيلة كقولك : واسأل القرية فأما عاد فمنصرف اسم رجل على كل حال ؛ لأن كل عجمي لا علامة للتأنيث فيه على ثلاثة أحرف فهو مصروف ، وأما ثمود فهو فعول من الثّمد وهو الماء القليل فمن صرفه جعله أبا للحي والحي نفسه ، وأما سبأ فهو جد بني قحطان والقول فيه كالقول في ثمود وعاد والأغلب فيه أنه الأب والأكثر في القراءة : (لَقَدْ
ص: 476
كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ)(1) [سبأ : 15] و (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [النمل : 22] وتقول :
هو اسم امرأة وهي أمهم وليس هذا بالبعيد قال النابغة الجعدي :
من سبأ الحاضرين مأرب إذ
يبنون من دون سيله العرما (2)
ص: 477
مأرب : موضع ، والعرم : هذا الذي يسمى السكر والسكر فهو من قولك : سميته سكرا.
والسّكر : اسم الموضع وتقول : كل أفعل يكون وصفا وكل أفعل يكون اسما وكل أفعل أردت به الفعل نصب أبدا ؛ لأن (كل) لا يليها اسم علم إلا أن تريد كل أجزائه فأما إذا وليها اسم مفرد يقوم مقام الجمع فلا يكون إلا نكرة وقد بنيت ذا فيما تقدم وتقول : أفعل إذا كان وصفا فقصته كذا فتترك صرفه كما تترك صرف أفعل إذا كان معرفة وإنما صار معرفة لأنك إذا أردت هذا البناء فقط وهذا الوزن فصار مثل زيد الذي يدل على شيء بعينه ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول الأفعل ، وإذا كان كذا فقضيته كذا ؛ لأنه لا ثاني له.
فإن قلت : هذا رجل أفعل فلا تصرفه ؛ لأنه موضع حكاية حكيت بها رجلا أحمر كقولك : كلّ أفعل زيد نصب أبدا إذا مثلت به الفعل خاصة وتقول : هذا رجل فعلان فتصرف ؛ لأنه قد يكون هذا البناء منصرفا إذا لم يكن له فعلى ، فإن قلت فعلان إذا كان من قصته كذا فجئت به اسما لا يشركه غيره لم تصرف وتقول : كل فعلى أو فعلى كانت ألفها لغير التأنيث انصرفت ، وإن كانت الألف جاءت للتأنيث لم تنصرف ؛ لأن ما فيه ألف التأنيث لا
ص: 478
ينصرف في معرفة ولا نكرة وقال الأخفش : لو سميت رجلا بخمسة عشر لقلت : هذا خمسة عشر قد جاء وهذا خمسة عشر آخر ومررت بخمسة عشر مقبلا وتقول : بلال اباذ : ومثل ذلك مائة دينار يعني إذا جعلت مائة مع دينار اسما واحدا.
قال أبو بكر : وما استعملته العرب مضافا وعرف ذلك في كلامها فلا يجوز عندي أن يجعل المضاف والمضاف إليه بمنزلة خمسة عشر من قبل أنهم قد فرقوا بين مائة دينار وخمسة عشر ؛ لأن خمسة عشر عددان فجعلا اسما واحدا للمعنى وهما بمنزلة عشرة لإختلاط العدد بعضه ببعض ومائة دينار ليس كذلك ؛ لأن دينارا هو مفسر المعدود والذي ذهب إليه الأخفش : أن مائة دينار إضافته غير إضافة حقيقية ؛ لأنه مميز وليس كإضافة صاحب دينار ولا إضافة عبد الله واعلم أن من أضاف معدي كرب وحضر موت يقول : هذا رامهرمز يا فتى فترفع (رام) ولا تصرف هرمز ؛ لأنه أعجمي معرفة.
واعلم أنه لا يصلح أن يجعل مثل : مدائن محاريب ولا مثل : مساجد محاريب ولا مثل :جلاجل سلاسل اسما واحدا مثل حضر موت ؛ لأنه لم يجيء شيء من هذه الأمثلة اسمان يكون منهما اسما واحدا ، فإن جاء فالقياس فيه أن يجعل كحضر موت وأن ينصرف في النكرة وقال الأخفش : إنما صرفته لأني قد حولته إلى باب ما ينصرف في النكرة وخرج من حد البناء الذي لا ينصرف لأني إنما كنت لا أصرفه ؛ لأنه على مثال لا يجيء في الواحد مثله وأنت الآن لا يمنعك البناء.
ألا ترى أنك حين أدخلت في الجمع الهاء صرفته في النكرة نحو : صياقلة وجحاجحة لما دخل في غير بابه قال : فإن قلت : ما بالي إذا سميت رجلا بمساجد لم أصرفه في النكرة قلت على بناء منعه من الصرف ولم يزل لذلك البناء حيث سميت به ، وإذا سميته بمساجد محاريب وجعلته اسما واحدا فقد صغته غير الذي كان وبنيته بناء آخر وكذلك لو سميت رجلا بواحد حمراء وواحدة بشرى أو رجل بيضاء وأنت تريد أن تجعله اسما واحدا مثل حضر موت انصرف في النكرة ؛ لأن الألف ليست للتأنيث في هذه الحال ألا ترى أنك لو رخّمته حذفت الاسم الآخر ولم تكن تحذف الهاء وينبغي في القياس إن بنيته أن تهمز فتقول واحدة حمران ورجل
ص: 479
بيضان ؛ لأن الألف ليست للتأنيث عنده في هذه الحال ولو أسميت امرأة ببنت وأخت لوجب أن يجريهما مجرى من أجرى جملا وهندا ؛ لأن هذه التاء بدل من واو وأخت في التقدير كقفل وبنت كعدل ولو كانت التاء تاء التأنيث لكان ما قبلها مفتوحا وكانت في الوقف هاء وقوم لا يجرونها في المعرفة ، فإن سميت رجلا بهنة وقد كانت في هنت ياء هذا قلت : هنه يا فتى فلم تصرف وصارت هاء في الوقف وتقول : ما في يدك إلا ثلاثة إذا أردت المعرفة والعدد فقط ؛ لأنه اسم لا ثاني له وهذا كما عرفتك في (أفعل) البناء الذي تريد به المعرفة فإذا أردت ثلاثة من الدراهم وغير ذلك تنكر وصرفته فأما إذا قلت : ثلاثة أكثر من اثنين وأقل من أربعة تريد هذا العدد فهو معرفة غير مصروف ولا يجوز : رب ثلاثة أكثر من اثنين ولو سميت امرأة بغلام زيد لصرفت زيدا ؛ لأن الاسم إنما هو غلام زيد جميعا والمقصود هو الأول كما كان قبل التسمية وكذلك : ذات عرق ؛ لأن الاسم (ذات) دون عرق وكذلك أم بكر وعمرو تجر بكرا وعمرا وكذلك أم أناس وقوم لا يصرفون أم أناس ؛ لأنه ليس بابن لها معروف فصار اسما وينشدون :
وإلى ابن أمّ أناس تعمد ناقتي
واعلم أن أسماء البلدان والمواضع ما جاء منها لا ينصرف فإنما يراد به أنه اسم للبلدة والبقعة وما أشبه ذلك وما جاء منها مصروفا فإنما يراد به البلد والمكان ووقع هذا في المواضع ؛ لأن تأنيثه ليس بحقيقي وإنما المؤنث في الحقيقة هو الذي له فرج من الحيوان فمن ذلك : واسط وهو اسم قصر ودابق وهو نهر وهجر ذكر ومنى ذكر والشام ذكر والعراق ذكر ، وأما ما يذكر ويؤنث فنحو : مصر واضاخ وقباء وحراء وحجر وحنين وبدر ماء وحمص وجور وماه : لا ينصرف ؛ لأن المؤنث من الثلاثة الأحرف الخفيفة إن كان أعجميا لم ينصرف ؛ لأن العجمة قد زادته ثقلا وإنما صرفته ومن صرفه فلأنه معرفة مؤنث فقط لخفته في الوزن : فعادل في خفة أحد الثقلين فلما حدث ثقل ثالث قاوم الخفة وتقول : قرأت هودا إذا أردت سورة هود فحذفت سورة ، وإن جعلته اسما للسورة لم تصرف لأنك سميت مؤنثا بمذكر ، وإن سميت امرأة بأم صبيان لم تصرف (صبيان) لأنك لو سميت به وحده لم تصرفه ؛ لأن الألف والنون فيه زائدتان وقد صار معرفة وهو ، وإن كان لم تتقدم التسمية به فتحكمه حكم ذلك ، وإن
ص: 480
سميت رجلا بملح وربح صرفتهما كما تصرف رجلا سميته بهند كأنك قد نقلته من الأثقل إلى الأخف وهو على ثلاثة أحرف وقد بيّنا هذا فيما تقدم وكذلك إذا سميت رجلا بخمس وست فاصرفه ، وإن سميت رجلا بطالق وطامث فالقياس صرفه لأنك قد نقلته عن الصفة وهو في الأصل مذكر وصفت به مؤنثا وحمّار جمع حمّارة القيظ مصروف إذا أردت الجمع الذي بينه وبين واحدة الهاء.
قال أبو العباس : سألت أبا عثمان عنه فصرفه فقلت : لم صرفته هلا كان بمنزلة دواب قال : لأن الأصل الباء الأولى في دواب الحركة والراء في (حمار) ساكنة على أصلها تجري مجرى الواحد ؛ لأنه ليس بين الجمع والواحد إلا الهاء بمنزلة تمرة وتمر ، وأما إذا أردت جمع التكسير فهو غير مصروف ؛ لأن التقدير حمار وكذلك في جبنة جبّان يا هذا ، وإن سميت رجلا بأفضل وأعلم بغير منك لم تصرفه في المعرفة وصرفته في النكرة ، فإن سميته بأفعل منك كله لم تصرفه على حال لأنك تحتاج إلى أن تحكي ما كان عليه ، وإذا سميت بأجمع وأكتع لم تصرفه في المعرفة وصرفته في النكرة وهما قبل التسمية إذا كانا تأكيدا لا ينصرفان لأنهما يوصف بهما المعرفة.
فأما أسماء الأحياء فمعد وقريش وثقيف وكل شيء لا يجوز لك أن تقول فيه من بني فلان ، وإذا قالوا : هذه ثقيف فإنما أرادوا جماعة ثقيف.
وقد يكون (تميم) اسما للحي ، فإن جعلت قريش وأخواتها أسماء للقبائل جاز وتقول : هؤلاء ثقيف بن قسي فتجعله اسم الحي وابن صفة فما جعلته اسما للقبيلة لم تصرفه ، وأما مجوس ويهود فلم تقع إلا اسما للقبيلة ولو سميت رجلا بمجوس لم تصرفه ، وأما قولهم : اليهود والمجوس فإنما أرادوا المجوسيين واليهوديين ولكنهم حذفوا يائي الإضافة كما قالوا :زنجي وزنج ونصارى نكرة وهو جمع نصران ونصرانة كندمان وندامى ولكن لم يستعمل نصران إلا بياء النسب.
وقال أبو العباس : إذا سميت رجلا بنساء صرفته في المعرفة والنكرة ؛ لأن نساء اسم للجماعة وليس لها تأنيث لفظ وإنما تأنيثها من جهة الجماعة فهي بمنزلة قولك كلاب إذا قلت : بني كلاب ؛ لأن تأنيث كلاب إنما هو تأنيث جماعة وإنما أنثت كل جماعة كانت لغير الآدميين
ص: 481
لأنهم قد نقصوا عن الآدميين فالحيوان الذي لا يعقل والموات متفقان في جمع التكسير وإنما خص من يعقل بجمع السلامة ؛ لأن له أسماء أعلاما يعرف بها وكان جمع السلامة يؤدي الاسم المعروف وبعده علامة الجمع فكان به أولى ولو أنك لا تخص الموات وما لا يعقل بالواو والنون وخصصت ما يعقل بالتكسير لكان السؤال واحدا وإنما قصدنا أن نفضله بمنزلة ليست لغيره وإنما قلت : هي الرجال ؛ لأن الرجال جماعة فكان هذا التأنيث تأنيث الجماعة وهو مشارك للموات في هذا الموضع إذا وافقه في جمع التكسير.
والتأنيث تأنيثان : تأنيث حقيقي فهو لازم وتأنيث غير حقيقي فهو غير لازم فللتأنيث اللازم مثل امرأة وما أشبه ذلك والتأنيث الذي هو غير لازم مثل دار وذراع فإنما هذا تأنيث لفظ فلهذا كان تذكير أفعال المؤنث في غير الآداميين أحسن منه في الآداميين قال محمد بن يزيد : ناظرت ثعلبا في هذا بحضرة محمد بن عبد الله فلم يفهمه فقلت له : أخبرني عن قولنا :دار أليس هو مؤنث اللفظ قال : نعم قلت : فإذا قلنا : منزل هل زال معنى الدار أفلا ترى التأنيث إنما هو اللفظ فلما زال اللفظ زال ذلك المعنى وكذلك قولنا : ساعد وذراع ورمح وقناة أفتراه في نفسه مؤنثا مذكرا في حال فقال له محمد بن عبد الله هذا بين جدا وليس كذلك ما كان تأنيثه لازما ألا ترى أنا لو سمينا امرأة بجعفر أو بزيد لصغرنا زبيدة فلما كان مؤنث الحقيقة لم يغير عن تأنيثه تعليقنا عليه أسماء مذكرة في اللفظ وإنما قلت : قالت النساء بمنزلة جاءت الإبل والكلاب وما أشبه ذلك وليس تأنيث النساء تأنيثا حقيقيا وإنما هو اسم للجماعة تقول : قال النساء إذا أردت الجمع وقالت النساء إذا أردت معنى الجماعة ؛ لأن قولك النساء وما أشبهه إنما هو اسم حملته للجمع وكذلك قوله عز وجل : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) [الحجرات : 14] إنما أنث ؛ لأنه أراد الجماعة وتقول : في أسماء السور هذه هود إذا أردت سورة هود ، وإن جعلت هودا اسم السورة لم تصرفه لأنها بمنزلة امرأة سميتها بعمر وكذا حكم نوح ونون ، وإذا جعلت اقتربت اسما قطعت الألف نحو : اصبع ، وإن سميت بحاميم لم ينصرف ؛ لأنه أعجمي نحو : هابيل وإنما جعلته أعجميا ؛ لأنه ليس من أسماء العرب وكذلك : طس وحسن ، وإن أردت الحكاية تركته وقفا وقد قرأ بعضهم : (يس والقرآن) و (ق والقرآن) جعله أعجميا
ص: 482
ونصب (باذكر) ، وأما صاد فلا تجعله أعجميا ؛ لأن هذا البناء والوزن في كلامهم ، فإن جعلت اسما للسورة لم تصرفه ويجوز أن يكون (يس) و (ص) مبنيين على الفتح لالتقاء الساكنين ، فإن جعلت (طسم) اسما واحدا حركت الميم بالفتح فصار مثل دراب جرد وبعل بك ، وإن حكيت تركت السواكن على حالها.
قال سيبويه : فأما : (كهيعص) و (ألم) فلا تكونان إلا حكاية وإنما أفرد بابا للحكاية إن شاء الله.
وقال سيبويه : أبو جاد وهوّار وحطّي كعمرو وهي أسماء عربية ، وأما كلمن وسعفص وقريشيات فأنهن أعجمية لا ينصرفن ولكنهن يقعن مواقع عمرو فيما ذكرنا إلّا أن قريشيات بمنزلة عرفات وأذرعات.
ص: 483
اعلم أن ما يحكى من الكلم إذا سمي به على ثلاث جهات :
إحداها : أن تكون جملة.
والثاني : أن يشبه الجملة وهو بعض لها ، وذلك البعض ليس باسم مفرد ولا مضاف ولا فيه ألف ولا مبني مع اسم ولا حرف معنى مفرد.
والثالث : أن يكون اسما مثنى أو مجموعا على حد التثنية.
تقول : هذا تأبّط شرا ورأيت تأبّط شرا ومررت بتأبّط شرا وهذه الأسماء المحكية لا تثنى ولا تجمع إلا أن تقول : كلهم تأبّط شرا أو كلاهما تأبّط شرا ولا تحقره ولا ترخمه فجميع هذه الجمل التي قد عمل بعضها في بعض وتمت كلاما لا يجوز إلا حكايتها وكذلك كل ما أشبه ما ذكرت من مبتدأ وخبره وفعل وفاعل ، وإن أدخلت عليها إنّ وأخواتها وكان وأخواتها فجميعه يحكى بلفظه قبل التسمية ، وإن سميت رجلا بو زيد أو وزيدا أو وزيد حكيت ؛ لأن الواو عاملة تقوم مقام ما عطفت عليه.
وهو على خمسة أضرب : اسم موصول واسم موصوف وحرف مع اسم وحرف مع حرف وفعل مع حرف فجميع هذا تدعه على حاله قبل التسمية من الصرف وغير الصرف لأنك لم تسم بالموصول دون الصلة ولا بشيء من هذه دون صاحبه.
الأول الاسم الموصول : نحو رجل سميته : خبرا منك ومأخوذا بك أو ضارب رجلا فتقول رأيت خيرا منك وهذا خير منك ومررت بخير منك ، فإن سميت به امرأة لم تدع التنوين وحكيته كما كان قبل التسمية من قبل أنه ليس منتهى الاسم كما أن بعض الجملة ليس بمنتهى الاسم.
الثاني الموصوف : إن سميت رجلا : زيد العاقل قلت : هذا زيدا العاقل وكذلك لو سميت امرأة لكان على هذا اللفظ ، وإن سميت رجلا (بعاقلة) لبيبة قلت : هذا
ص: 484
عاقلة لبيبة ورأيت عاقلة لبيبة فصرفته لأنك تحكيه ولو كان الاسم عاقلة وحدها لم تصرف فحكاية الشيء أن تدعه على حكمه ما لم يكن معه عاقل ، فإن كان معه عاقل أعملت العامل ونقلته بحاله.
الثالث الحرف مع الاسم : وذلك إذا سميت إنسانا كزيد وبزيد ، وإن زيدا حكيته وحيثما وأنت تحكيهما ؛ لأن (حيثما) اسم وحرف وأنت التاء للخطاب والألف والنون هما الاسم وكذلك أما التي في الاستفهام حكاية لأنها مع (ما) دخلت عليهما الف الاستفهام ومما يحكى : كذا وكأي و (ذلك) يحكى ؛ لأن الكاف للخطاب وهذا وهؤلاء يحكيان ؛ لأن ها دخلت على ذا وأولاء.
وإن سميت (زيد وعمرو) رجلا قلت في النداء : يا زيدا وعمرا فنصبت ونونت لطول الاسم.
الرابع الحرف مع الحرف : وذلك نحو : إنما وكأنما ، وأما ، وإن لا في الجزاء ولعل ؛ لأن اللام عندهم زائدة وكأن لأنها كاف التشبيه دخلت على (أن) فجميع هذا وما أشبهه يحكى لخامس الفعل مع الحرف : وذلك هلم : إذا سميت به حكيته ، وإن أخليته من الفاعل ، وإن مسيت بالذي رأيت لم تغيره عما كان عليه قبل أن يكون اسما ولو جاز أن تناديه بعد التسمية لجاز أن تناديه قبلها ولكن لو سميته : الرجل منطلق بهذه الجملة لناديتها ؛ لأن كل واحد منهما اسم تام ، وذلك غير تام وإنما يتم بصلته وهو يقوم مقام اسم مفرد ولو سميته الرجل والرجلان لم يجز فيه النداء.
من القسمة الأولى وهو التسمية بالتثنية والجمع الذي على حد التثنية ، وذلك إذا سميت رجلا بسلمان وزيدان حكيت التثنية فقلت : هو زيدان ومررت بزيدين ورأيت زيدين فتحكي التثنية ولفظها ، وإن أردت الواحد وقد أجازوا أن تقول : هذا زيدان وتجعله كفعلان ، وإن سميت بجميع على هذا الحد حكيت فقلت : هذا زيدون ورأيت زيدين ومررت بزيدين ومنهم من يجعله كقنسرين فيقول : هذا زيدون ومسلمون وقد ذكرت ذا فيما تقدم ، وإن بجمع
ص: 485
مؤنث قلت : هذا مسلمات ورأيت مسلمات ومررت بمسلمات تحكي : تقول العرب : هذه عرفات مباركا فيها فعرفات بمنزلة آبانين ومثل ذلك أذرعات قال امرؤ القيس :
تنوّرتها من أذرعات وأهلها
بيثرب أدنى دارها نظر عالي (1)
ومن العرب من لا ينون أذرعات ويقول : هذه قريشيات كما ترى شبهوها بهاء التأنيث في المعرفة لأنها لا تلحق بنات الثلاثة بالأربعة ولا الأربعة بالخمسة.
قال أبو العباس أنشدني أبو عثمان للأعشى :
تخيّرها أخو عانات شهرا (2) ...
ص: 486
فلم يصرف ذلك ، قال أبو بكر : قد ذكرت ما ينصرف وبقي ذكر المبني المضارع للمعرف ونحن نتبع ذلك الأسماء المبنيات إن شاء الله تعالى.
ص: 487
هذا الباب ينقسم ثلاثة أقسام : وهو كل اسم مبني أو مضاف ملازم للإضافة وأفردته أو فعل فارغ أو حرف قصدت التسمية به فقط فجميع هذه إذا سميت بشيء منها أعربته إعراب الأسماء الأول ، وإن نقص عما كانت عليه الأسماء.
الأول : إن سميت بكم أو بمن قلت : هذا كم قد جاء ؛ لأن في الأسماء مثل دم ويد ، وإن سميت بهو قلت : هذا هو فاعلم ، وإن سميت به مؤنثا لم تصرفه ؛ لأنه ضمير مذكر وإنما ثقلت (هو) ؛ لأنه ليس في كلامهم اسم على حرفين أحدهما ياء أو واو أو ألف وسمع منهم إذا أعربوا شيئا من هذا الضرب التثقيل ، فإن سميت بذو قلت ذوّا لأنك تقول : هاتان ذواتا مال فلما علمت الأصل رددته إلى أصله كما تكلموا به ولو لم يقولوا : ذوا ثم سمينا بذو لما قلت إلا ذو وكان الخليل يقول : ذو أصل الذال على كل قول الفتح ، وإن سميت (بفو) قلت : فم ولو لم يكن قبل فم لقلت فوه مؤنثان وأين ومتى وثم وهنا وحيث ، وإذا وعند وعن فيمن قال من عن يمينه ومنذ في لغة من رفع تصرف الجميع تحمله على التذكير حتى يتبين غيره ، وإن سميت كلمة بتحت أو خلف أو فوق لم تصرفها لأنها مذكرات يدل على تذكيرها تحت وخليف ذاك ودوين ولو كان مؤنثا دخلت الهاء كما دخلت في قديديمة ووريئة.
الثاني : التسمية بالفعل الفارغ من الفاعل والمفعول : إن سميت رجلا بضرب أو ضرب أو يضرب أعربته وقد عرفتك ما ينصرف من ذلك وما لا ينصرف وحكم نعم وبئس حكم الفعل إذا سميت به تقول هذا نعم وبئس ، وإن سميته أزمة قلت أزم ورأيت أزمى وبيغزو قلت : يغز ورأيت يغزى ، وإن سميته بعه قلت : وع ، وإن سميت بره : قلت إرأ.
ص: 488
وذلك نحو إن إذا سميت بها قلت : هذا إن وكذلك أن وكذلك ليت ، وإن سميت بأن المفتوحة لم تكسر ، وإن سميت بلو واو زدت واوا فقلت لو واو وكان بعض العرب يهمز فيقول : لؤ ، وإن سميت (بلا) زدت ألفا ثم همزت فقلت : لاء ؛ لأن الألف ساكنة ولا يجتمع ساكنان ، وإذا سميت بحرف التهجي نحو : باء وتاء وثاء وحاء مددت فقلت : هذه باء وتاء ، وإذا تهجيت قصرت ووقفت ولم تعرب وفي (زاي) لغتان : منهم من يجعلها (ككي) ومنهم من يقول : زاي ، فإن سميته بزي على لغة من يجعلها ككي قلت : زي فاعلم ، وإن سميت بها على لغة من يقول : زاي قلت : زاء وكذا واو وآء وسنبين هذا في التصريف وجميع هذه الحروف إذا أردت بالواحد منها معنى حرف فهو مذكر أردت به معنى كلمة فهو مؤنث ، وإن سميت بحرف متحرك أشبعت الحركة إن كانت فتحة جعلتها ألفا وضممت إليها ألفا أخرى ، وإن كانت كسرة أشبعتها حتى تصبر باء وتضم إليها أخرى وكذلك المضموم إذا وجدته كذلك ، وذلك أن تسمي رجلا بالكاف من قولك كزيد تقول : هذا (كا) ، وإن سميته بالباء من بزيد :قلت : بي ، فإن سميته بحرف ساكن ، فإن الحرف الساكن لا يجوز من غير كلمة فترده إلى ما أخذ منه.
واعلم أن كل اسم مفرد لا تجوز حكايته وكذلك كل مضاف ، وإن سميت رجلا عم فأردت أن تحكي به في الاستفهام تركته على حاله ، وإن جعلته اسما قلت : عن ما تمد (ما) لأنك جعلته اسما كما تركت تنوين سبعة إذا سميت فقلت : سبعة.
والمضاف بمنزلة الألف واللام لا يجعلان الاسم حكاية.
قال أبو بكر : قد ذكرنا ما لا ينصرف وقد مضى ذكر المبني المضارع للمعرب ونحن نتبع ذلك الأسماء المبنيات إن شاء الله.
ص: 489
هذه الأسماء على ضربين : مفرد ومركب فنبدأ بذكر المفرد إذ كان هو الأصل ؛ لأن التركيب إنما هو ضم مفرد إلى مفرد ولنبين أولا المعرب ما هو لنبين به المبني فنقول : إن الاسم المفرد المتمكن في الإعراب على أربعة أضرب : اسم الجنس الذي تعليله من جنس آخر والواحد من الجنس وما اشتق من الجنس ولقب الواحد من الجنس.
: الاسم الدال على كل ما له ذلك الاسم ويتساوى الجميع في المعنى نحو : الرجل والإنسان والمرأة والجمل والحمار والدينار والدرهم والضرب والأكل والنوم والحمرة والصفرة والحسن والقبح وجميع ما أردت به العموم لما يتفق في المعنى بأي لفظ كان فهو جنس ، وإذا قلت : ما هذا فقيل لك : إنسان فإنما يراد به الجنس فإذا قال : الإنسان فالألف واللام لعهد الجنس وليست لتعريف الإنسان بعينه وإنما هي فرق بين إنسان موضوع للجنس وبين إنسان هو من الجنس ، إذا قلت : (إنسان) قال الله عز وجل : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر] فدل بهذا أن الإنسان يراد به الجنس ومعنى قول النحويين :الألف واللام لعهد الجنس أنك تشير بالألف واللام إلى ما في النفس من معرفة الجنس ؛ لأنه شيء لا يدرك بالعيان والحس وكذلك إذا قلت : فضة والفضة وأرض والأرض وأسماء الأجناس إنما قيلت ليفرق بين بعضها وبعض مثل الجماد والإنسان وهذه الأسماء تكون أسماء لما له شخص ولغير شخص فالذي له شخص نحو : ما ذكرنا من الإنسان والحمار والفضة وما لا شخص له مثل الحمرة والضرب والعلم والظن.
نحو : رجل وفرس ودينار ودرهم وضربة وأكلة فتقول : إذا كان واحد من هذه معهودا بينك وبين المخاطب الرجل والفرس والدينار والضرب أي الفرس الذي تعرف والضرب الذي تعلم والفرق بين قولك : رجل وبين فضة أن رجلا يتضمن معنى
ص: 490
جنس له صورة فمتى زالت تلك الصورة زال الاسم وفضة ليس يتضمن هذا الاسم صورة فأما درهم فهو مثل رجل في أنه يتضمن معنى الفضة بصورة من الصور.
نحو : ضارب مشتق من الضرب وحسن مشتق من الحسن وقبيح مشتق من القبح وآكل مشتق من الأكل وأسود من السواد وهذه كلها صفات تجري على الموصوفين ، فإن كان الموصوف جنسا فهي أجناس وإن كان واحد منكورا من الجنس فهو واحد منكور نحو : القائم وقائم والحسن وحسن ، وإن كان معهودا فهو معهود وحكم الصفة حكم الموصوف في إعرابه.
نحو : زيد وعمرو وبكر وخالد وما أشبه ذلك من الأسماء الأعلام التي تكون للآدميين وغيرهم.
فجميع هذه الأسماء المتمكنة إلا الجنس يجوز أن تعرف النكرة منها بدخول الألف واللام عليها ويجوز أن تنكر المعرفة منها ألا ترى أنك تقول : الرجل إذا كان معهودا ثم تقول : رجل إذا لم يكن معهودا والمعنى واحد وكذلك ضرب والضرب وحسن والحسن وضارب والضارب وقبيح والقبيح وتقول : زيد عمرو فإذا تنكرا بأن يتشاركا في الاسم قلت : الزيدان والعمران تدخل الألف واللام مع التثنية ؛ لأنه لا يكون نكرة إلا ما يثنى ويجمع والأسماء المبنية بخلاف هذه الصفة لا يجوز أن تنكر المعرفة منها ولا تعرف النكرة ألا ترى أنه لا يجوز أن يتنكر (هذا) فتقول : الهذان ولا يتنكر أنا ولا أنت ولا هو فهذا من المعارف المبنيات التي لا يجوز أن يتنكر ما كان منها فيه الألف واللام فلا يجوز أن يخرج منها الألف واللام نحو : الذي والآن ، وأما النكرة التي لا يجوز أن تعرف نحو قولك : كيف وكم فجميع ما امتنع أن يعرف بالألف واللام وامتنع من نزع الألف واللام منه لتنكير فهو مبني ولا يلزم من هذا القول البناء في اسم الله عز وجل إذ كانت الألف واللام لا تفارقانه ، فإن الألف واللام ، وإن كانا غير مفارقتين فالأصل فيهما أنهما دخلتا على إله.
ص: 491
قال سيبويه : أصل هذا الاسم أن يكون إلها وتقديره (فعال) والألف واللام عوض من الهمزة التي في (إله) وهو على هذا علم.
قال أبو العباس : لأنك تذكر الآلهة الباطلة فتكون نكرات تعرف بالألف واللام وتجمع كما قال الله عز وجل : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) [يس : 23] وتعالى الله أن يعتور اسمه تعريف بعد تنكير أو إضافة بعد أن كان علما.
وقال سيبويه في موضع آخر : ويقولون : لاه أبوك يريدون لله أبوك فيقدمون اللام ويؤخرون العين والاسم كامل وهو علم وحق الألف واللام إذا كانت في الاسم ألا ينادي إلا الله عز وجل فإنك تقول : يا لله وتقطع الألف فتفارق سائر ألفات الوصل والشاعر إذا اضطر فقال : (يا التي) لم تقطع الألف فهذا الاسم مفارق لجميع الأسماء عز الله وجل.
ص: 492
اسم كنى به عن اسم واسم أشير به إلى مسمى وفيه معنى فعل واسم سمي به فعل واسم قام مقام الحرف وظرف لم يتمكن وأصوات تحكي.
الكنايات على ضربين : متصل بالفعل ومنفصل منه ، فالمتصل غير مفارق للفعل والفعل غير خال منه وعلامة المرفوع فيه خلاف علامة المنصوب والمخفوض فالتاء للفاعل المتكلم مذكرا كان أو مؤنثا فعلت : وصنعت وعلامة المخاطب المذكر فعلت والمؤنث فعلت وعلامة المضمر النائب في النية تقول : فعل وصنع فاستغنى عن إظهاره والعلامة فيه بأن كل واحد من المتكلمين والمخاطبين له علامة فصار علامة الغائب أن لا علامة له هذا في الفعل الماضي فأما الفعل المضارع فليس يظهر في فعل الواحد ضمير البتة متكلما كان أو مخاطبا إلا في فعل المؤنث المخاطب ، وذلك أنه استغنى بحروف المضارعة عن إظهار الضمير يقول المتكلم : أنا أفعل ذكرا كان أو أنثى فالمتكلم لا يحتاج إلى علامة ؛ لأنه لا يختلط بغيره وإنما أظهرت العلامة في (فعلت) للمتكلم ؛ لأنه لو أسقطها لالتبس بالغائب فصار فعل فلا يعلم لمن هو ، فإن خاطبت ذكرا قلت : أنت تفعل والغائب هو يفعل ، فإن خاطبت مؤنثا قلت : تفعلين فظهرت العلامة وهي الياء ، وإن كانت غائبة قلت : هي تفعل فيصير لفظ الغائبة كلفظ المخاطب ويفصل بينهما الخطاب وما جرى في الكلام من ذكر ومؤنث وتقول للمؤنث في الغيبة فعلت وصنعت فالتاء علامة فقط وليست باسم يدلك على ذلك قولهم : فعلت هند فأما التاء التي هي اسم فيسكن لام الفعل لها نحو فعلت وصنعت وإنما أسكن لها لام الفعل ؛ لأن ضمير الفاعل والفعل كالشيء الواحد فلو لم يسكنوا لقالوا : ضربت فجمعوا بين أربعة متحركات وهم يستثقلون ذلك ، فإن ثنيت وجمعت الضمير الذي في الفعل قال الفاعل : فعلنا في التثنية والجمع والمذكر والمؤنث في هذا اللفظ سواء وتقول في الخطاب : فعلتما للمذكر والمؤنث ولجمع المذكرين فعلتم وللمؤنث فعلتن ، فإن ثنيت الغائب قلت : قاما فظهرت العلامة وهي الألف وفي الجمع قاموا
ص: 493
وفي المضارع يقومان ويقومون تثبت النون في الفعل المعرب وتسقط من الفعل المبني وقد ذكرناه فيما تقدم وتقول في المؤنث : قامتا وقمن ويقومان ويقمن هذه علامات المضمر المتصل المرفوع فأما علامة المخفوض والمنصوب المتصل فهي واحدة فعلامة المتكلم ياء قبلها نون نحو : ضربني وجيء بالنون لتسلم الفتحة ولئلا يدخل الفعل جر وللمجرور علامته ياء بغير نون نحو : مررت بي وغلامي وهذه الياء تفتح وتسكن فمن فتح جعلها كالكاف أختها ومن أسكن فلاستثقال الحركة في الياء في أنها تكسر ما قبلها وكلهم إذا جاء بها بعد ألف فتحها نحو : عصاي ورحاي.
وإذا تكلم منه ومن غيره قال : ضربنا زيد والمؤنث في ذا كالمذكر وكذلك هو في الجر تقول : ضربنا وغلامنا فإذا خاطبت فعلامة المخاطب المذكر كاف مفتوحة والمؤنث كاف مكسورة نحو : ضربتك وكذلك المجرور تقول : مررت بك يا رجل وبك يا امرأة ، وإذا ثنيت قلت في المذكر والمؤنث : ضربتكما وللجميع المذكرين : ضربتكم وكذلك تقول : مررت بكما في التذكير والتأنيث ومررت بكم في المذكرين ومررت بكن للمؤنث.
أما علامة المرفوعين فللمتكلم أنا فالاسم الألف والنون وإنما تأتي بهذه الألف الأخيرة في الوقف ، فإن وصلت سقطت فقلت : أن فعلت ذاك ، وإن حدث عن نفسه وعن آخر قال : نحو وكذلك إن تحدث عن نفسه وعن جماعة قال : نحن ولا يقع (أنا) في موضع التاء والموضع الذي يصلح فيه المتصل لا يصلح فيه المنفصل لا تقول فعل أنا وعلامة المخاطب إن كان واحدا أنت ، وإن خاطبت اثنين فعلامتها أنتما والجميع أنتم فالاسم هو الألف والنون في (أنت) والتاء علامة المخاطب والمضمر الغائب علامته (هو) ، وإن كان مؤنثا فعلامته (هي) والإثنين والإثنتين هما والجميع هم ، وإن كان الجمع جمع مؤنث فعلامته هن ، وأما علامة المضمر المنصوب (فأيا) ، فإن كان غائبا قلت إياه ، وإن كان متكلما قلت : إياي ويانا في التثنية والجمع وللمخاطب المذكر : إياك وللمؤنث إياك وإياكما إذا ثنيت المؤنث والمذكر وإياكم للمذكرين وإياكن في التأنيث وللغائب المذكر إياه وللمؤنث إياها وإياهما للمذكر والمؤنث
ص: 494
وأياهم للمذكرين وإياهن للجميع المؤنث وقد قالوا : إن (أيا) مضاف إلى الهاء والكاف والقياس أن يكون (أيا) مثل الألف والنون التي في أنت فيكون (أيا) الاسم وما بعدها للخطاب ويقوي ذلك أن الأسماء المبهمة وسائر المكنيات لا تضاف و (أيا) مع ما يتصل بها كالشيء الواحد نحو : أنت فأما المجرور فليست له علامة منفصلة ؛ لأنه لا يفارق الجار ولا يتقدم عليه وجميع المواضع التي يقع فيها المنفصل لا يقع المتصل والموضع الذي يقع فيه لا يقع المنفصل ؛ لأن المنفصل كالظاهر تقول : إني وزيدا منطلقان ولا تقول : إن إياي وزيدا منطلقان وتقول : ما قام إلا أنت ولا تقول : إلات وتقول : إن زيدا وإياك منطلقان ولا يقول : إن زيدا إلاك منطلقان ومما يدل على (إن وأخواتها) مشبهة بالفعل أن المكنى معها كالمكنى مع الفعل تقول : إنني كما تقول : ضربني ، وأما قولهم : عجبت من ضريبك وضريبه فالأصل من ضربي إياك وضربي إياه وأقل العرب من يقول : ضريبه وإنما وقع هذا مع المصدر ؛ لأنه لم تستحكم علامات الإضمار معه ألا ترى أنهم لا يقولون : عجبت من ضربكني إذا بدأت بالمخاطب قبل المتكلم ولا من ضربهيك إذا بدأت بالبعيد قبل القريب وقالوا : عجبت من ضريبك وضربكه ولو كان هذا موضعا يصلح فيه المتصل لجاز فيه جميع هذا ألا ترى أنك تقول : ضريبك إذا جئت بالفعل ضربته وموضع ضربكه ضربته وكان الذين قالوا : ضريبه قالوا : ذلك إختصارا ؛ لأن المصدر اسم فإذا أضفته إلى مضمر فحقه إن عديته لمعنى الفعل أن تعديه إلى ظاهر أو ما أشبه الظاهر من المضمر المتصل وكان حق المضمر المتصل أن لا يصلح أن يقع موقع المنفصل والأصل في هذا : عجبت من ضربي إياك كما تقول : من ضربي زيدا ومن ضربك إياه كما تقول من ضربك عمرا والكسائي يصل جميع المؤنث فيقول : أعطيتهنه والضارباناه ؛ لأنه لم يتفق حرفان ولا أعلم بين الواحد والجمع فرقا ومن ذلك قولهم : كان إياه ؛ لأن (كانه) قليلة ولا تقول : كانني وليسني ولا كانك ؛ لأن موضعه موضع ابتداء وخبر فالمنفصل أحق به قال الشاعر :
ليت هذا اللّيل شهر
لا نرى فيه عريبا
ص: 495
وقد حكوا : ليسني وكأنني واعلم أنك إذا أكدت المرفوع المتصل والمنصوب والمخفوض المتصلين أكدته بما كان علامة المضمر المرفوع المنفصل ، وذلك قولك : قمت أنت وضربتك أنت وإنما جاز ذلك ؛ لأن الخطاب جنس واحد وليس بأسماء معربة والأصل في كل مبني أن يكون المرفوع والمنصوب والمخفوض على صيغة واحدة وإنما فرق في هذا للبيان فإذا أمنوا اللبس رجع المبني إلى أصله ومع ذلك فلو أكد المرفوع والمنصوب المتصلان بالمنفصلين اللذين لهما لبقي المجرور بغير شيء يؤكده ولا يحسن أن يعطف الاسم الظاهر على المرفوع المتصل لا يحسن أن تقول : قمت وزيد حتى تؤكد فتقول : أنا وزيد ولا تقول : قام وزيد حتى تقول : قام هو وزيد وقال عز وجل : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) [طه : 42] ربما جاء على قبحه غير مؤكد ويحتمل لضرورة الشاعر.
وإنما قبح أن تقول : قمت وزيد ؛ لأن التاء قد صارت كأنها جزء من الفعل إذ كانت لا تقوم بنفسها وقد غير الفعل لها ، فإن عوضت من التأكيد شيئا يفصل به بين المعطوف والمعطوف عليه نحو : ما قمت ولا عمرو وقعدت اليوم وزيد : حسن فأما ضمير المنصوب فيجوز أن يعطف عليه الظاهر : تقول : ضربتك وزيدا وضربت زيدا وإياك فيجوز يتقدم وتأخيره ، وأما المخفوض فلا يجوز أن يعطف عليه الظاهر لا يجوز أن تقول : مررت بك وزيد ؛ لأن المجرور ليس له اسم منفصل يقتدم ويتأخر كما للمنصوب وكل اسم معطوف عليه فهو يجوز أن يؤخر ويقدم الآخر عليه فلما خالف المجرور سائر الأسماء لم يجز أن يعطف عليه وقد حكي أنه قد جاء في الشعر :
ص: 497
فاذهب فما بك والأيّام من عجب (1)
وتقول : عجبت من ضرب زيد أنت إذا جعلت زيدا مفعولا ومن ضربكه إذا جعلت الكاف مفعولا وتقول فيما يجري من الأسماء مجرى الفعل : عليكه ورويده وعليكني ولا تقول : عليك إياي ومنهم من لا يستعمل (ني) ولا (نا) استغناء بعليك (بي) و (بنا) وهو القياس ولو قلت : عليك إياه كان جائزا ؛ لأنه ليس بفعل والشاعر إن اضطر جعل المنفصل موضع المتصل قال حميد الأرقط :
إليك حتّى بلغت إياكا (2) ...
ص: 498
يريد : حتى بلغتك ، فإن ذكرت الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين فحق هذا الباب إذا جئت بالمتصل أن تبتدأ بالأقرب قبل الأبعد وأعني بالأقرب المتكلم قبل المخاطب والمخاطب
ص: 499
قبل الغائب وتعرف القوي من غيره ، فإن الفعلين إذا اجتمعا إلى القوي فتقول : قمت وأنت ثم تقول : قمنا وقام وأنت ثم تقول : قمتما فتغلب المخاطب على الغائب وتقول : أعطانيه وأعطانيك ويجوز : أعطاكني ، فإن بدأ بالغائب قال : أعطاهوني.
وقال سيبويه : هو قبيح لا تكلم به العرب ، وقال أبو العباس : هذا كلام جيّد ليس بقبيح وقال الله عز وجل : (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) [هود : 28] فتقول على هذا أعطاه إياك وهو أحسن من أعطاهوك فإذا ذكرت مفعولين كلاهما غائب قلت : لمعطاهوه وليس بالكثير في كلامهم والأكثر المعطاه إياه والمنفصل بمنزلة الظاهر فأما المفعولان في ظننت وأخواتها فأصلها الابتداء الخبر كما جاء في (كان) فالأحسن أن نقول ظننتك إياه كما تقول : كان إياه وكنت إياه.
واعلم أنه لا يجوز أن يجتمع ضمير الفاعل والمفعول إذا كان المفعول هو الفاعل في الأفعال المتعدية والمؤثرة لا يجوز أن تقول : ضربتني ولا أضربك إذا أمرت ، فإن أردت هذا قلت : ضربت نفسي واضرب نفسك وكذلك الغائب لا يجوز أن تقول : ضربه إذا أردت ضرب نفسه ويجوز في باب ظننت وحسبت أن يتعدى المضمر إلى المضمر ولا يجوز أن يتعدى المضمر إلى الظاهر تقول : ظننتي قائما وخلتني منطلقا لأنها أفعال غير مؤثرة ولا نافذة منك إلى غيرك فتقول على هذا : زيد ظنه منطلقا فتعدى فعل المضمر في ظن إلى الهاء ولا يجوز زيدا ظن منطلقا فتعدى فعل المضمر الذي في ظن إلى زيد فتكون قد عديت في هذا الباب فعل المضمر إلى الظاهر وإنما حقه أن يتعدى فعل المضمر إلى المضمر وتكون أيضا قد جعلت المفعول الذي هو فضلة في الكلام لا بد منه وإلا بطل الكلام فهذه جميع علامات المضمر المرفوع والمنصوب قد بينتها في المنفصل والمتصل وقد خبرتك أن المجرور لا علامة له منفصلة ، وإن علامته في الإتصال كعلامة المنصوب لا فرق بينها في الكاف والهاء تقول : رأيتك كما تقول : مررت بك وتقول : ضربته كما تقول : مررت به فهذا مطرد لا زيادة فيه فإذا جاءوا إلى الياء التي هي ضمير المتكلم زادوا في الفعل نونا قبل الياء لئلا يكسروا لام الفعل والفعل لا جرّ فيه فقالوا : ضربني فسلمت الفتحة بالنون ووقع الكسر على النون وكذلك : يضربني فإذا جاءوا بالاسم لم يحتاجوا إلى النون فقالوا : الضاربي في النصب واستحسنوا الكسرة في الباء موضع ؛ لأنه يدخله الجر ولم
ص: 500
يستحسنوا ذلك في لام الفعل ؛ لأنه موضع لا يدخله الجر وقالوا : إنني ولعلني ولكنني ؛ لأن هذه حروف مشبهة بالفعل.
قال سيبويه : قلت له : يعني الخليل ما بال العرب قالت : إني وكأني ولعلي ولكني فزعم :أن هذه الحروف اجتمع فيها أنها كثيرة من كلامهم وأنهم يستثقلون في كلامهم التضعيف فلما كثر استعمالهم إياها مع تضعيف الحروف حذفوا النون التي تلي الياء قال : فإن قلت : (لعلي) ليس فيها تضعيف فإنه زعم : أن اللام قريبة من النون يعني في مخرجها من الفم وقد قال الشعراء في الضرورة : ليتي.
وقال : سألته عن قولهم : عني وقطني ولدني : ما بالهم جعلوا علامة المجرور هاهنا كعلامة المنصوب فقال : إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإضافة إلا كان متحركا مكسورا ولم يريدوا أن يحركوا الطاء التي في (قط) ولا النون التي في (من) فجاءوا بالنون ليسلم السكون وقدني بهذه المنزلة وهذه النون لا ينبغي أن نذكرها في غير ما سمع من العرب لا يجوز أن تقول : قدي كما قلت مني وقد جاء في الشعر (قدي) قال الشاعر :
قدني من نصر الخبيبين قدي (1) ...
ص: 501
فقال : قدي لما اضطر شبهه بحسبي كما قال : ليتي حيث اضطر.
وقال سيبويه : لو أضفت إلى الياء الكاف تجر بها لقلت : ما أنت كي لأنها متحركة قال الشاعر لما اضطر :
وأمّ أو عال كها أو أقربا (1) ...
ص: 502
وقال آخر لما اضطر :
فلا ترى بعلا ولا حلائلا
كه ولا كهنّ إلّا حاظلا (1)
فهذا قاله سيبويه قياسا وهو غير معروف في الكلام واستغنى عن (كي) بمثلي.
ولام الإضافة تفتح مع المضمر إلا مع الياء ؛ لأن الياء تكسر ما قبلها تقول : له ولك ثم تقول : لي فتكسر ؛ لأن هذه الياء لا يكون ما قبلها حرف متحرك إلا مكسورا وهي مفارقة لأخواتها في هذا ألا ترى أنك تقول : هذا غلامه فتصرف فإذا أضفت غلاما إلى نفسك قلت : هذا غلامي فذهب الإعراب وإنما فعلوا ذلك ؛ لأن الضم قبلها لا يصلح فلما غير لها الرفع وهو أول غير لها النصب إذا كان ثانيا وألزمت حالا واحدا فقلت : رأيت غلامي.
ص: 503
واعلم أن الذي حكي من قولهم : لولاي ولو لا شيء شذ عن القياس كان عند شيخنا يجري مجرى الغلط والكلام الفصيح ما جاء به القرآن : لو لا أنت.
كما قال عز وجل : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ : 31] والذين قالوا : لولاك ولولاي قالوا : لأنها أسماء مبنية يؤكد المرفوع منها المخفوض فكأنهم إنما يقتصرون العبارة عن المتكلم والمخاطب والغائب لا بأي لفظ كان ؛ لأنه غير ملبس ولكنهم لا يجعلون غائبا مكان مخاطب لا يقولون : لولاه مكان لولاك فأما قولهم : عساك فالكاف منصوبة لأنك تقول : عساني فعساك مثل رماك وعساني مثل رماني.
واعلم أن علامة الإضمار قد ترد أشياء إلى أصولها فمن ذلك قولك : لعبد الله مال ثم تقول : لك وله إنما كسرت مع الظاهر في قولك لزيد مال كيلا يلتبس بلام الابتداء إذا قلت :لهذا أفضل منك ألا تراهم قالوا : يا لبكر حين أمنوا الالتباس فمن ذلك : أعطيكموه في قول من قال : أعطيتكم ذاك فأسكن ردوه بالإضمار إلى أصله كما ردوا بالألف واللام حين قالوا : أعطيتكموه اليوم فكان الذين وقفوا بإسكان الميم كرهوا الوقف على الواو.
فلما وصلوا زال ما كرهوا فردوا وزعم يونس أنه يقول : أعطيتكمه بإسكان الميم كما قال في الظاهر أعطيتكم زيدا.
واعلم أنّ أنت وأنا ونحن وأخواتهن يكن فصلا ومعنى الفصل أنهن يدخلن زوائد على المبتدأ المعرفة وخبره وما كان بمنزلة الابتداء والخبر ليؤذن بأن الخبر معرفة أو بمنزلة المعرفة ولا يكون الفصل إلا ما يصلح أن يكون كناية عن الاسم المذكور فأما ما الخبر فيه معرفة واضحة فنحو قولك : زيد هو العاقل وكان زيد هو العاقل ، وأما ما الخبر فيه يقرب من المعرفة إذا أردت المعرفة وكان على لفظه فنحو قولك حسبت زيدا هو خيرا منك وكان زيد هو خيرا منك وتقول : إن زيدا هو الظريف فيكون فصل ، وإن زيدا هو الظريف وتقول : إن كان زيد لهو الظريف ، وإن كنا لنحن هي (نا) في كنا ولو قلت كان زيد أنت خيرا منه لم يجز أن تجعل أنت فصلا ؛ لأن أنت غير زيد ، فإن قلت : كنت أنت خيرا من زيد جاز أن يكون فصلا وأن يكون تأكيدا فجميع هذه لمسائل الاسم فيها معرفة والخبر معرفة أو قريب منها مما لا يجوز أن يدخل
ص: 504
عليه الألف واللام ولو قلت : ما أظن أحدا هو خير منك لم يجز أن تجعل (هو) فصلا ؛ لأن واحدا نكرة ولكن تقول : ما أظن أحدا هو خير منك فجعل : هو مبتدأ و (خير منك) خبره وهذا الباب يسميه الكوفيون العماد وقال الفراء : ادخلوا العماد ليفرقوا بين الفعل والنعت لأنك لو قلت : زيد العاقل لأشبه النعت فإذا قلت : زيد هو العاقل قطعت (هو) عن توهم النعت فهذا الذي يسميه البصريون فصلا ويسميه الكوفيون عمادا وهو ملغى من الإعراب فلا يؤكد ولا ينسق عليه ولا يحال بينه وبين الألف واللام وما قاربهما ولا يقدم قبل الاسم المبتدأ ولا قبل (كان) ولا يجوز كان هو القائم زيد ولا هو القائم كان زيد وقد حكي هذا عن الكسائي ؛ لأنه كان يجعل العماد بمنزلة الألف واللام في كل موضع يجوز وضعه معهما فإذا قلت : كنت أنت القائم جاز أن يكون أنت فصلا وجاز أن يكون تأكيدا ويجوز أن يبتدأ به فترفع القائم.
ولك أن تثني الفعل وتجمعه وتؤنثه فتقول : كان الزيدان هما القائمين وكان الزيدون هم القائمين وكانت هند هي القائمة والظن ، وإن وجميع ما يدخل على المبتدأ والخبر يجوز الفصل فيه تقول : ظننت زيدا هو العاقل ، وإن زيدا هو العاقل فإذا قلت كان زيد قائمة جاريته فأدخلت الألف واللام على (قائمة) وجعلتها لزيد قلت : كان زيدق القائمة جاريته ، فإن كانت الألف واللام للجارية صار المعنى : كان زيد التي قامت جاريته فقلت : كان زيد القائمة جاريته حينئذ وهذا لا يجوز عندي ولا عند الفراء من قبل أنه ينبغي أن يكون الألف واللام هي الفصل بعينه وأن يصلح أن يكون ضميرا للأول.
ص: 505
وفيه من أجل ذلك معنى الفعل وهي : ذا وذه وتثنى ذا وذه فتقول : ذان في الرفع وذين في النصب والجر وتثنية (تا) تان وتجمع ذا وذه وتا أولى وأولاء والمذكر والمؤنث فيه وسواء فذا اسم تشير به إلى المخاطب إلى كل ما حضر كما يدخلون عليه هاء التنبيه فيقولون : هذا زيد وهذي أمة الله فإذا وقفوا على الياء أبدلوا منها هاء في الوقف فإذا وصلوا أسقطوا الهاء وردوا الياء ويبدلون من الياء فيقولون : هذه أمة الله فإذا وصلوا قالوا : هذي أمة الله فإذا وقفوا حذفوا الهاء وردوا الياء ومنهم من يقول : هذه أمة الله.
وهؤلاء تمد وتقصر ، وإذا مدوا بنوه على الكسر لالتقاء الساكنين ، فإن أدخلوا كاف المخاطبة فأول كلامهم لما يشار إليه وآخره للمخاطب والكاف هاهنا حرف جيء به للخطاب وليس باسم ؛ لأن إضافة المبهمة محال من قبل أنها معارف فلا يجوز تنكيرها وكل مضاف فهو نكرة قبل إضافته فإذا أضيف إلى معرفة صار بالإضافة معرفة وهو قولك : ذاك ، وذلك واللام في (ذلك) زائدة والأصل (ذا) والكاف للخطاب فقط ومحال أن تكون هنا اسما لما بينت لك فإنما زدت الكاف على (ذا) وكانت (ذا) لما يومي إليه بالقرب.
فإذا قلت ذلك دلت على أن الذي يومي إليه بعيد وكذلك جميع الأسماء المبهمة إذا أردت المتراخي زدت كافا للمخاطبة لحاجتك أن تنبه بالكاف المخاطب ونظير هذا هنا وهاهنا وهناك وهنالك إذا أشرت إلى مكان ، فإن سألت رجلا عن رجل قلت : كيف ذاك الرجل ، فتحت الكاف.
فإن سألت امرأة عن رجل قلت : كيف ذاك الرجل فكسرت الكاف قال الله عز وجل : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) [آل عمران : 47] ، فإن سألت رجلا عن امرأة قلت : كيف تلك المرأة ، فإن سألت المرأة عن امرأة قلت : كيف تلك المرأة تكسر الكاف ، فإن سالت رجلا عن رجلين قلت : كيف ذانك الرجلان ومن قال في الرجل ذلك : قال في الاثنين : ذانّك بتشديد
ص: 506
النون أبدلوا من اللام نونا وأدغمت إحدى النونين في الأخرى كما قال عز وجل : (فَذانِكَ بُرْهانانِ) [القصص : 23] ، فإن سألت عن جماعة رجلا قلت : كيف أولئك الرجال وأولاك الرجال ، فإن سألت رجلا عن امرأتين قلت : كيف تانك المرأتان ، وإن سألت امرأة عن رجلين قلت : كيف ذانك الرجلان يا امرأة ، وإن سألتها عن جماعة قلت : كيف أولئك الرجال يا امرأة ، فإن سألت رجلين عن رجلين قلت : كيف ذانكما الرجلان يا رجلان ، وإن سألتهما عن جماعة قلت : كيف أولئكما الرجال يا رجلان ، وإن سألتهما عن امرأة قلت : كيف تيكما وتلكما المرأة يا رجلان ، وإن سألتهما عن امرأتين قلت : كيف تانكما المرأتان يا رجلان ، وإن سألت جماعة عن واحد قلت : كيف ذاكم الرجل يا رجال ، وإن سألتهم عن رجلين قلت : كيف ذانكم الرجلان يا رجال ، وإن سألتهم عن جماعة قلت : كيف أولئك الرجال يا رجال ، وإن سألتهم عن امرأة قلت : كيف تلكم المرأة يا رجال ، وإن سألتهم عن امرأتين قلت : كيف تانكم المرأتان يا رجال ، وإن سألت امرأتين فعلامة المرأتين والرجلين في الخطاب سواء ، فإن سألت نساء عن رجل قلت : كيف ذاكنّ الرجل يا نساء وباللام : كيف ذلكن الرجل يا نساء قال الله عز وجل : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [يوسف : 32] ، فإن سألتهن عن رجلين قلت : كيف تيكن ، وإن سألتهن عن جماعة قلت : كيف أولئكنّ النساء مثل المذكر.
واعلم أنه يجوز لك أن تجعل مخاطب الجماعة على لفظ الجنس أو تخاطب واحدا عن الجماعة فيكون الكلام له والمعنى يرجع إليهم كما قال الله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) [النساء : 3] ولم يقل : ذلكم ؛ لأن المخاطب النبي والدليل على أن في هذا معنى فعل قولهم : هذا زيد منطلقا ؛ لأن منطلقا انتصب على الحال والحال لا بد من أن يكون العامل فيها فعل أو معنى فعل.
ص: 507
وذلك قولهم : (صه ومه ورويد وإيه) وما جاء على فعال نحو : (حذار ونزال وشتان).
فمعنى صه : اسكت. ومعنى مه : أكفف. فهذان حرفان مبنيان على السكون سمى الفعل بهما فأما رويد : فمعناه : المهلة وهو مبني على الفتح ولم يسكن آخره ؛ لأن قبله ساكنا فاختير له الفتح للياء قبله تقول : رويد زيدا فتعديه فأما قولك : رويدك زيدا ، فإن الكاف زائدة للمخاطبة وليست باسم وإنما هي بمنزلة قولك : التجاءك يا فتى وأرأيتك زيدا ما فعل ويدلك على أن الكاف ليست باسم في التجاءك دخول الألف واللام والألف واللام والإضافة لا يجتمعان وكذلك الكاف في : أرأيتك زيدا زائدة للخطاب وتأكيده ألا ترى أن الفعل إنما عمل في زيد ، فإن قلت : إرودّ كان المصدر إروادا وتصرف جميع المصادر ، فإن حذفت الزوائد على هذه الشريطة صرفت : رويد فقلت : رويدا يا فتى ، وإن نعت به قلت : ضعه وضعا رويدا وتضيفه ؛ لأنه كسائر المصادر تقول : رويد زيد كما قال الله عز وجل : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : 4] ورويدا زيدا كما تقول ضربا زيدا في الأمر فأما إيه وآه فمعنى إيه الأمر بأن : يزيدك من الحديث المعهود بينكما فإذا نونت قلت : إيه والتنوين للتنكير كأنك قلت : هات حديثا وذاك كأنه قال : هات الحديث قال ذو الرمة :
وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم
وما بال تكليم الدّيار البلاقع (1)
ص: 508
فإذا فتحت فهي زجر ونهي كقولك : إيه يا رجل إني جئتك فإذا لم ينون فالتصويت يريد الزجر عن شيء معروف ، وإذا نونت فإنما تريد الزجر عن شيء منكور قال حاتم :
إيها فدى لكم أمّي وما ولدت
حاموا على مجدكم واكفوا من اتّكلا
ومن ينون إذا فتح فكثير والقليل من بفتح ولا ينون وجميع التنوين الذي يدخل في هذه الأصوات إنما يفرق بين التعريف والتنكير تقول : صه يا رجل هذا الأصل في جميع هذه المبنيات ومنها ما يستعمل بغير تنوين البتة فما دخله التنوين ؛ لأنه نكرة قولهم : فدى لك يريدون به الدعاء والدعاء حقه أن يكون على لفظ الأمر فمن العرب من يبني هذه اللفظة على الكسر وينونها لأنها نكرة يريد بها معنى الدعاء.
ومن هذا الباب قولهم : هاء يا فتى ويثنى فيقول هائما وهائم للجميع كما قال عز وجل :(هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : 19] وللمؤنث هاء بلا ياء مثل هاك والتثنية هاؤما مثل المذكرين وهاؤن تقوم الهمزة في جميع ذا مقام الكاف ولك أن تقول : هاء يا قوم كما قال عز وجل : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ) [المجادلة : 12] وأصل الكلام (ذلكم) هذا في الخطاب يجوز ؛ لأن كل واحد منهم يخاطب وقال : هاك وهاكما وهاكم والمؤنث هاك ، وأما ما كان على مثال فعال مكسور الآخر فهو على أربعة أضرب والأصل واحد.
ص: 509
واعلم أنه لا يبني شيء من هذا الباب على الكسر إلا وهو مؤنث معرفة ومعدول عن جهته وإنما يبنى على الكسر ؛ لأن الكسر مما يؤنث به تقول للمرأة : أنت فعلت وإنك فاعلة وكان أصل هذا إذا أردت به الأمر السكون فحركت لالتقاء الساكنين فجعلت الحركة الكسر للتأنيث ، وذلك قولك : نزال وتراك ومعناه : أنزل واترك فهما معدولان عن المتاركة والمنازلة قال الشاعر :
ولنعم حشو الدّرع أنت إذا
دعيت نزال ولجّ في الذّعر (1)
ص: 510
فقال : دعيت لما ذكر ذلك في التأنيث.
وقالوا : تراكها وحذار ونظار فهذا ما سمي الفعل به باسم مؤنث ويكون (فعال) صفة غالبة تحل محل الاسم نحو قولهم : للضبع جعار يا فتى وللمنية : حلاق ويكون في التأنيث نحو يا فساق.
والثالث : أن تسمي امرأة أو شيئا مؤنثا باسم مصوغ على هذا المثال نحو : حذام ورقاش.
والرابع : ما عدل من المصدر نحو قوله :
جماد لها جماد ولا تقولي
طوال الدّهر ما ذكرت حماد (1)
قال سيبويه : يريد : قولي لها جمود ولا تقولي لها حمدا ومن ذلك فجار يريدون : الفجرة ومسار يريدون : المسرة وبداو يريدون : البدو وقد جاء من بنات الأربعة معدولا مبني قرقار وعرعار وهي لغية وشتان : مبني على الفتح ؛ لأنه غير مؤنث فهو اسم للفعل إلا أن الفعل هنا غير أمر وهو خبر ومعناه : البعد المفرط ، وذلك قولك : شتان زيدق وعمرو فمعناه : بعد ما بين
ص: 511
زيد وعمرو جدا وهو مأخوذ من شتّ والتشتت التبعيد ما بين الشيئين أو الأشياء فتقدير : شتان زيد وعمرو تباعد زيد وعمرو ولأنه اسم لفعل ما تم به كلام قال الشاعر :
شتّان هذا والعناق والنّوم
والمشرب البارد في ظلّ الدّوم (1)
فجميع هذه الأسماء التي سمي بها الفعل إنما أريد بها المبالغة ولو لا ذلك لكانت الأفعال قد كفت عنها.
ص: 512
وذلك : (كم ، ومن ، وما ، وكيف ، ومتى ، وأين).
فأما (كم) فبنيت لأنها وقعت موقع حرف الاستفهام وهو الألف وأصل الاستفهام بحروف المعاني لأنها آلة إذا دخلت في الكلام أعلمت أن الخبر استخبار : و (كم) اسم لعدد مبهم.
فقالوا : كم مالك فأوقعوا (كم) موقف الألف لما في ذلك من الحكمة والإختصار إذ كان قد أغناهم عن أن يقولوا أعشرون مالك أثلاثون مالك أخمسون والعدد بلا نهاية فأتوا باسم ينتظم العدد كلّه.
وأما (من) فجعلون سؤالا عن من يعقل نحو قولك : من هذا ومن عمرو فاستغني بمن عن قولك : أزيد هذا أعمرو هذا أبكر هذا والأسماء لا تحصى فانتظم بمن جميع ذلك ووقعت أيضا موقع حرف الجزاء وهو (إن) في قولك : من يأتني آته.
وأما (ما) فيسأل بها عن الأجناس والنعوت تقول : ما هذا الشيء فيقال : إنسان أو حمار أو ذهب أو فضّة ففيها من الإختصار مثل ما كان في (من) وتسأل بها عن الصفات فتقول : ما زيد فيقال : الطويل والقصير وما أشبه ذلك ولا يكون جوابها زيد ولا عمرو ، فإن جعلت الصفة في موضع الموصوف على العموم جاز أن تقع على من يعقل.
ومن كلام العرب : سبحان ما سبح الرعد بحمده وسبحان ما سخركن لنا وقال الله عز وجل : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : 5] فقال قوم : معناه : ومن بناها وقال آخرون : إنما والسماء وبنائها كما تقول : بلغني ما صنعت : أي صنيعك ؛ لأن (ما) إذا وصلت بالفعل كانت بمعنى المصدر.
وأما (كيف) فسؤال عن حال ينتظم جميع الأحوال يقال : كيف أنت فتقول : صالح وصحيح وآكل وشارب ونائم وجالس وقاعد والأحوال أكثر من أن يحاط بها فإذا قلت :(كيف) فقد أغنى عن ذكر ذلك كله وهي مبنية على الفتح ؛ لأن قبل الياء فاء فاستثقلوا الكسر
ص: 513
مع الياء وأصل تحريك التقاء الساكنين الكسر فمتى حركوا بغير ذلك فإنما هو للإستثقال أو لإتباع اللفظ اللفظ.
فأما (متى) فسؤال عن زمان وهو اسم مبنيّ والقصة فيه كقصة (من وكيف) في أنه مغن عن جميع أسماء الزمان أيوم الجمعة القتال أم يوم السبت أم يوم الأحد أم سنة كذا أم شهر كذا فمتى يغني عن هذا كله وكذا (أيان) في معناها : كما قال الله عز وجل : (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) [القيامة : 6] وقال : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) [النازعات : 42] وبنيت على الفتح ؛ لأن قبلها ألفا فأتبعوا الفتح الفتح.
وأما (أين) فسؤال عن مكان وهي كمتى في السؤال عن الزمان إذا قلت : أين زيد قيل لك : في بغداد أو البصرة أو السوق فلا يمتنع مكان من أن يكون جوابا وإنما الجواب من جنس السؤال فإذا سئلت عن مكان لم يجز أن تخبر بزمان ، وإذا سئلت عن عدد لم يجز أن تخبر بحال ، وإذا سئلت عن معرفة لم يجز أن تخبر بنكرة ، وإذا سئلت عن نكرة لم يجز أن تخبر بمعرفة فهذه المبنيات المبهمات إنما تعرف بأخواتها وتعلم مواضعها من الإعراب بذلك.
ص: 514
وذلك نحو الآن ومذ ومنذ فأما الآن فقال أبو العباس رحمه الله : إنما بني ؛ لأنه وقع معرفة وهو مما وقعت معرفته قبل نكرته لأنك إذا قلت : الآن فإنما تعني به الوقت الذي أنت فيه من الزمان فليس له ما يشركه ليس هو آن وآن فتدخل عليه الألف واللام للمعرفة وإنما وقع معرفة لما أنت فيه من الوقت.
وأما (منذ) فإذا استعملت اسما أن يقع ما بعدها مرفوع أو جملة نحو : ما رأيته منذ يومان ، وإن المعنى : بيني وبين رؤيته يومان وقد فسرت ذلك فيما تقدم وهي مبنية على الضم وإنما حركت لذلك ؛ لأن قبلها ساكنا وبنيت على الضم لأنها غاية عند سيبويه واتبعوا الضّم الضّم وقد يستعمل حرفا يجر ، وأما (مذ) فمحذوفة من (منذ) والأغلب على (مذ) أن تستعمل اسما ولو سميت إنسانا بمذ لقلت منيذ إذا صغرته فرددت ما ذهب وصار (مذ) أغلب على الأسماء لأنها منقوصة ولدن ومن عل.
كما قال الشاعر :
وهي تنوش الحوض نوشا من علا (1)
ص: 515
وأما الأفعال فنحو : خذ وكل وع كلامي وش ثوبا ، وأما الحروف فلا يلحقها ذلك وكانت مذ ومنذ أغلب على الحروف فكل واحد منهما يصلح في مكان أختها وإنما ذكرنا منذ ومذ في الظروف لأنهما مستعملان في الزمان.
ص: 516
وذلك نحو : غاق وهي حكاية صوت الغراب وماء وهو حكاية صوت الشاة وعاء وحاء زجر ومن ذلك حروف الهجاء نحو ألف باء تاء ثاء وجميع حروف المعجم إذا تهيجت مقصورة موقوفة وكذلك كاف ميم موقوفة في التهجي أما زاي فيقال : زاي وزي والعدد مثله إذا أردت العدد فقط.
وقال سيبويه تقول : واحد اثنان فتشم الواحد ؛ لأنه اسم ليس كالصوت ومنهم من يقول : ثلاثة أربعة فيطرح حركة الهمزة على الهاء ويفتحها ولم يحولها تاء ؛ لأنه جعلها ساكنة والساكن لا يغير في الإدراج فإذا لم ترد التهجي بهذه الحروف ولم ترد أن تعد بأسماء العدد فررت منها جرت مجرى الأسماء ومددت المقصور في الهجاء فقلت : هذه الباء أحسن من هذه الباء وتقول : هذه الميم أحسن من هذه الميم وكذلك إذا عطفت بعضها على بعض أعربت لأنها قد خرجت من باب الحكاية ، وذلك نحو قولك : ميم وباء وثلاثة وأربعة إنما مددت المقصور من حروف الهجاء إذا جعلته اسما وأعربته ؛ لأن الأسماء لا يكون منها شيء على حرفين أحدهما حرف علة.
هذه الأسماء على ضربين : فضرب منها يبنى فيه الاسم مع غيره وكان الأصل أن يكون كل واحد منهما منفردا من صاحبه والضرب الثاني : أن يكون أصل الاسم الإضافة فيحذف المضاف إليه وهو في النية.
فالضرب الأول على ستة أقسم : اسم مبني مع اسم واسم مبني مع فعل واسم مبني مع حرف واسم مع صوت وحرف بني مع فعل وصوت مع صوت فأما الاسم الذي بني مع الاسم فخمسة عشر وستة عشر ، وكل كلمتين من هذا الضرب من العدد فهما مبنيان على الفتح.
ص: 517
وكان الأصل خمسة وعشرة فحذفت الواو وبني أحدهما مع الآخر اختصارا وجعلا كاسم واحد وكذلك حادي عشر وثالث عشر إلى تاسع عشر والعرب تدع خمسة عشر في الإضافة والألف واللام على حالها ومنهم من يقول : خمسة عشرك وهي رديئة ومن ذلك : حيص بيص بنيا على الفتح وهي تقال عند اختلاط الأمر وذهب شغر بغر وأيادي سبأ ومعناه الإفتراق وقالى قلا بمنزلة خمسة عشر ولكنهم كرهوا الفتح في الياء والألف لا يمكن تحريكها.
ومن ذلك : خاز باز وهو ذباب عند بعضهم وعند بعضهم داء ومنهم من يكسر فيقول خاز باز وبعض يقول : الخاز باز كحضر موت ومنهم من يقول : خاز باز فيضيف وينون ومن ذلك قولهم : بيت بيت وبين بين ومنهم من يبني هذا ومنهم من يضيف ويبني صباح مساء ويوم يوم ومنهم من يضيف جميع هذا ومن ذلك لقيته كفة كفة وكفة كفة.
واعلم أنهم لا يجعلون شيئا من هذه الأسماء بمنزلة اسم واحد إلا إذا أرادا الحال والظرف والأصل والقياس الإضافة فإذا سميت بشيء من ذا أضفته فإذا قلت : أنت تأتينا في كل صباح ومساء أضفت لا غير ؛ لأنه قد زال الظرف وصار اسما خالصا فمعنى قولهم : هو جاري بيت بيت أي ملاصقا ووقع بين بين أي وسطا ، وأما قالى قلا فبمنزلة : حضر موت ؛ لأنه اسم بلد وليس بظرف ولا حال.
وأسماء الزمان إذا أضيفت إلى اسم مبني جاز أن تعربها وجاز أن تبنيها وذاك نحو : (يومئذ) تقول : سير عليه يومئذ ويومئذ والتنوين هاهنا مقتطع ليعلم أنه ليس يراد به الإضافة والكسر في الذال من أجل سكون النون فتقرأ على هذا إن شئت : (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) و (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ)(1) [المعارج : 11] ومذهب أبي العباس رحمه الله في دخول التنوين هنا أنه عوض من حذف المضاف إليه.
ص: 518
الثاني اسم بني مع فعل : وهو قولهم : حبذا هند وحبذا زيد بني حبّ وهو فعل مع ذا وهو اسم.
ومن العرب من يقول في أحبّ : حبّ. وقولهم : محبوب إنما جاء على حبّ ولو كان على أحبّ لكان محب فإذا بنوا أحبّ مع ذا اجتمعوا على طرح الألف والدليل على أن حبذا بمنزلة اسم أنك لا تقول حبذه وأنه لا يجوز أن تقول حبذا وتقف حتى تقول : زيد أو هند فتأتي بخبر فحبذا مبتدأ وهند وزيد خبر ومما يدل على أن حبّ مع ذا بمنزلة اسم أنه لا يجوز لك أن تقول :حبّ في الدار ذا زيد فلا يجوز أن تفصل بينهما وبين (ذا) كما تفصل في باب نعم.
الثالث اسم بني مع حرف : وذلك قولك : لا رجل ولا غلام ويدلك على أن (لا) مع رجل بمنزلة اسم واحد أنه لا يجوز لك أن تفصل رجلا من (لا) لا تقول : لا فيها رحل لك يجوز القول : لا ماء ماء باردا ولا رجل رجل صالحا عندك فبني (ماء مع ماء ورجلا مع رجل).
قال أبو بكر : وقد استقصيت ذكر ذا في بابه ومن ذلك قولهم : يا زيداه ويا أيها الرجل فأي اسم وهاء حرف وهو غير مفارق لأيّ في النداء وقد بينا ذا في باب النداء.
ص: 519
الرابع اسم بني مع صوت : وذلك نحو سيبويه وعمرويه تقول : هذا سيبويه يا هذا وهذا عمرويه يا فلان وهو مبني على الكسر ، وإن قلت : مررت بعمرويه وعمرويه آخر نونت الثاني ؛ لأنه نكرة.
الخامس : الحرف الذي بني مع الفعل : وذلك : هلمّ مبنيا على الفتح وهو اسم للفعل ومعناه : تعال ويدل على أنه حرف بني مع فعل قول من قال من العرب : هلما للإثنين وهلموا للجماعة وصرفوه تصريف لمّ بكذا والمعنى يدلّ على ذلك.
السادس الصوت الذي بني مع الصوت : وذلك قولهم : حيّ هل الثريد ومعناه : إيتوا الثريد وحكى سيبويه : عن أبي الخطاب أنّ بعض العرب يقول : حيّهل الصلاة.
الضرب الثاني : من القسمة الأولى وهو ما أصله الإضافة إلى اسم فحذف المضاف إليه :فهذه المضافات على قسمين : قسم حذف المضاف إليه البتة وضرب منع الإضافة إلى الواحد وأضيف إلى جملة فأما ما حذف المضاف إليه فيجيء على ضربين : منهما ما بني على الضمة وهي التي يسميها النحويون الغايات فمصروفة عن وجهها قبل وغير وحسب فجميع هذه كان أصلها الإضافة تقول : جئت من قبل هذا ومن بعد هذا وكنت أول هذا أو فوق وغير هذا وهذا حسبك أي كافيك فلما حذف ما أضيفت إليه بنيت وإنما بنيت على الحركة ولم تبن على السكون وفي بعضها ما قبل لامه متحرك لأنها أسماء أصلها التمكن وتكون نكرات معربات فلما بنيت تجنب إسكانها وزادوها فضيلة على ما لا أصل له في التمكن فهذه علة بنائها على الحركة ، وأما بناؤها على الضم خاصة فلأنّ أكثر أحوال هذه الظروف أن تكون منصوبة ، وذلك الغالب عليها فأخرجت إلى الضم ولم تخرج إلى الكسر ؛ لأن الكسر أخو النصب وجعلوا ذلك علامة للغاية ؛ لأن الكسر حقه أن يكون لالتقاء الساكنين فتجنبوه هاهنا ؛ لأنه موضع تحرك لغير التقاء الساكنين.
الثاني : ما بني وليس بغاية من ذلك أمس مبنية على الكسر وكسرت لالتقاء الساكنين وإنما بني ؛ لأنه يقال لليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه وهو ملازم لكل يوم من أيام الجمعة ووقع في أول أحواله معرفة فمعرفته قبل نكرته فمتى نكرته أعربته وغد ليس كذلك ؛ لأنه غير
ص: 520
معلوم ؛ لأنه مستقبل لا تعرفه فإذا أضفت أمس نكرته ثم أضفته فيصير معرفة بالإضافة كما تقول : زيدك إذا جعلته من أمة كلها زيد وعرفته بالإضافة وزالت المعرفة الأولى.
وقال أبو العباس رحمه الله في قول الشاعر :
طلبوا صلحنا ولات أوان
فأجبنا أن ليس حين بقاء (1)
ص: 521
كان (أوان) مما لا يستعمل إلا مضافا فلما حذف ما يضاف إليه بنوه على الكسر لالتقاء الساكنين كما فعل بأمس وأدخل التنوين عوضا لحذف ما يضاف إليه (أوان) ألا ترى أنهم لا يكادون يقولون : أوان صدق كما يقولون في الوقت والزمن.
ولكن يدخلون الألف واللام فيقولون : كان ذلك في هذا الأوان فيكونان عوضا.
وذلك : (حيث وإذ وإذا). فأما (حيث) فإن من العرب من يبنيها على الضم ومنهم من يبنيها على الفتح ولم تجىء إلا مضافة إلى جملة نحو قولك : أقوم حيث يقوم زيد وأصلي حيث يصلي فالحركة التي في الثاء لالتقاء الساكنين فمن فتح فمن أجل الياء التي قبلها وفتح استثقالا للكسر ومن ضمّ فلشبهها بالغايات إذ كانت لا تضاف إلى واحد ومعناها الإضافة وكان الأصل فيها أن تقول : قمت حيث زيد كما تقول : قمت مكان زيد.
وأما (إذ) فمبنية على السكون ، وتضاف إلى الجمل أيضا نحو قولك : إذ قام زيد وهي تدل على ما مضى من الزمان ويستقبحون جئتك إذ زيد قام إذا كان الفعل ماضيا لم يحسن أن نفرق بينه وبين إذ ؛ لأن معناهما في المضي واحد.
وتقول : جئتك إذ زيد قام وإذ زيد يقوم فحقها أن تجيء مضافة إلى جملة فإذا لم تضف نونته قال أبو ذؤيب :
نهيتك عن طلابك أمّ عمرو
بعاقبة وأنت إذ صحيح (1)
ص: 522
وأما (إذا) فقلما تأتي من الزمان وهي مضافة إلى الجملة تقول : أجيئك إذا أحمر البسر ، وإذا قدم فلان ويدلك على أنها اسم أنها تقع موقع قولك : آتيك يوم الجمعة وآتيك زمن كذا ووقت كذا وهي لما يستأنف من الزمان ولم تستعمل إلا مضافة إلى جملة.
فأما (لدن) فجاءت مضافة ومن العرب من يحذف النون فيقول : لد كذا وقد جعل حذف النون بعضهم أن قال : لدن غدوة فنصب غدوة ؛ لأنه توهم أن هذه النون زائدة تقوم مقام التنوين فنصب كما تقول : قائم غدوة ولم يعملوا (لدن) إلا في غدوة خاصة.
قال أبو بكر : قد ذكرنا الأسماء المعربة والأسماء المبنية وقد كنا قلنا : أن الكلام اسم وفعل وحرف ونحن نتبع الأسماء والأفعال ونذكر إعرابها وبناءها إن شاء الله.
ص: 523
ص: 524
مقدمة التحقيق 5
المبحث الأول : في علم اللغة 7
المبحث الثاني : في بيان واضع اللغة 7
المبحث الثالث : في حد الوضع 19
المبحث الرابع : شروط ثبوت اللغة 20
المبحث الخامس : في سعة اللغة 21
المبحث السادس : في حد الكلمة والكلام والكلم والفرق بينهما 24
المبحث السابع : أقسام الكلام : (الاسم والفعل والحرف) 27
ترجمة المصنف 32
عملنا في الكتاب 35
مقدمة المؤلف 39
الكلام 41
شرح الاسم 41
شرح الفعل 44
شرح الحرف 46
باب مواقع الحروف 47
ذكر ما يدخله التغيير من هذه الثلاثة وما لا يتغير منها 48
باب الإعراب والمعرب والبناء والمبني 50
ذكر العوامل من الكلم 58
تفسير الأول وهو الاسم 58
ص: 525
تفسير الثاني وهو الفعل 61
تفسير الثالث وهو العامل من الحروف 61
والقسم الثاني من الحروف : 62
والقسم الثالث من الحروف : 62
ذكر الأسماء المرتفعة 64
شرح الأول : وهو المبتدأ : 64
شرح الثاني وهو خبر المبتدأ 69
شرح الثالث من الأسماء المرتفعة وهو الفاعل 78
شرح الرابع من الأسماء المرتفعة : 81
شرح الخامس 86
ذكر الضرب الثاني : وهو ما ارتفع بالحروف المشبهة بالأفعال : 94
ذكر الفعل الذي لا يتصرف 99
شرح التعجب 100
مسائل من هذا الباب 106
باب نعم وبئس 110
مسائل من هذا الباب 115
باب الأسماء التي أعملت عمل الفعل 119
مسائل من هذا الباب 123
شرح الثاني وهو : الصفة المشبهة باسم الفاعل 127
مسائل من هذا الباب 129
شرح الثالث : وهو المصدر 132
مسائل من هذا الباب 133
ص: 526
شرح الرابع 136
مسائل من هذا الباب 138
باب المعرفة والنكرة 142
ذكر المعرفة 143
مسائل في المعرفة والنكرة 146
ذكر الأسماء المنصوبات 151
مسائل من هذا الباب 155
شرح الثاني وهو المفعول به 160
مسائل من هذا الباب 164
باب الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين 168
مسائل من هذا الباب 172
باب الفعل الذي يتعدى إلى ثلاثة مفعولين 176
مسائل من هذا الباب 178
شرح الثالث : وهو المفعول فيه 180
مسائل من هذا الباب 184
ذكر المكان 187
مسائل من هذا الباب 191
شرح الرابع من المنصوبات وهو المفعول له 195
شرح الخامس وهو المفعول معه 199
القسم الثاني من الضرب الأول من المنصوبات 203
ذكر ما كان المنصوب فيه هو المرفوع في المعنى 203
ذكر ما شبه بالمفعول والعامل فيه فعل حقيقي 203
ص: 527
مسائل من هذا الباب 207
باب التمييز 211
مسائل من هذا الباب 214
مسائل من هذا الباب 228
باب كسر ألف إن وفتحها 241
ذكر أن المفتوحة 245
ذكر المواضع التي تقع فيها إن وأن 250
مسائل في فتح ألف (أن) وكسرها 253
ذكر ما يكون المنصوب فيه في اللفظ غير المرفوع 260
هذا باب ما جاء من الكلم في معنى (إلا) 263
باب الاستثناء المنقطع من الأول 226
مسائل من باب الاستثناء 270
باب تمييز المقادير 279
باب تمييز الأعداد 282
باب (كم) 285
مسائل من هذه الأبواب 290
ذكر الاسم المضموم والمفتوح اللذين يضارعان المعرب 296
باب النداء 297
شرح الاسم المنادى الثاني وهو المضاف : 305
شرح الثالث : وهو الاسم المنادى المضارع للمضاف لطوله : 308
باب ما خص به النداء من تغيير بناء الاسم المنادى والزيادة في آخره والحذف فيه 310
باب اللام التي تدخل في النداء للاستغاثة والتعجب 313
ص: 528
باب الندبة 316
باب الترخيم 320
باب مضارع للنداء 326
مسائل من هذا الباب 327
باب النفي ب (لا) 336
ذكر الأسماء المنفية في هذا الباب 340
باب ما يثبت فيه التنوين 345
باب ما إذا دخلت عليه (لا) لم تغيره عن حاله 349
باب (لا) النافية إذا دخلت عليها ألف الاستفهام 352
باب تصرف (لا) 354
مسائل من باب (لا) 356
ذكر الجر والأسماء المجرورة 364
ذكر حروف الجر 364
باب (ربّ) 370
مسائل من هذا الباب 374
باب حتى 376
مسائل من هذا الباب 381
باب الأسماء المخفوضة في القسم 384
مسائل من هذا الباب 390
المجرور بالإضافة 395
باب إضافة الأسماء إلى الأفعال والجمل 399
مسائل من هذه الأبواب 401
ص: 529
هذه توابع الأسماء في إعرابها 406
شرح الأول : وهو التوكيد : 406
الثاني من التوابع وهو النعت : 409
شرح الثالث من النعوت : وهو ما كان صفة غير عمل وتحلية : 411
شرح الرابع : وهو النسب : 411
شرح الخامس : وهو الوصف ب (ذي) : 412
ذكر الصفات التي ليست بصفات محضة 413
ذكر وصف المعرفة 420
مسائل من هذا الباب 422
الثالث من التوابع وهو عطف البيان : 432
الرابع من التوابع : وهو عطف البدل : 432
مسائل من هذا الباب 436
الخامس من التوابع : وهو العطف بحرف : 442
باب العطف على الموضع 447
باب العطف على عاملين 453
باب مسائل العطف 460
ذكر ما ينصرف من الأسماء وما لا ينصرف 463
الأسباب التي تمنع الصرف تسعة 464
مسائل من هذا الباب 475
باب ما يحكى من الكلم إذا سمي به وما لا يجوز أن يحكى 484
باب ما لا يجوز أن يحكى 488
باب التسمية بالحروف 489
ص: 530
ذكر الأسماء المبنية التي تضارع المعرب 490
أقسام الأسماء المبنيات المفردات ستة 493
باب الكنايات وهي علامات المضمرين 493
الباب الثالث من المبنيات : وهو الاسم الذي يشار به إلى المسمى 506
باب الأسماء المبنية المفردة التي سمي بها الفعل 508
باب الاسم الذي قام مقام الحرف 513
باب الظرف الذي يتمكن وهو الخامس من المبنيات 515
الباب السادس من المبنيات المفردة وهو الصوت المحكى 517
ذكر الضرب الثاني من المبنيات وهو الكلم المركب : 517
الفهرس 525
ص: 531