ص :1
«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ»
للحسن بن علی علیهما السّلام
،کتبها إلیه بحاضرین منصرفا من صفین أقول:روی جعفر بن بابویه القمیّ-رحمه اللّه-أنّ هذه الوصیّة کتبها علیه السّلام إلی ابنه محمّد بن الحنفیّة-رضی اللّه عنه-و هی من أفصح الکلام و أبلغه و أشمله[أجمعه خ] لدقایق الحکمة العملیّة و لطایفها،و أکمل عبارة یجذب بها إلی سبیل اللّه.و حاضرین:
اسم موضع بالشام .و فیها فصول:
قوله:
مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ- الْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ الذَّامِّ لِلدُّنْیَا- السَّاکِنِ مَسَاکِنَ الْمَوْتَی وَ الظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً- إِلَی الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لاَ یُدْرِکُ- السَّالِکِ سَبِیلَ مَنْ قَدْ هَلَکَ- غَرَضِ الْأَسْقَامِ وَ رَهِینَةِ الْأَیَّامِ- وَ رَمِیَّةِ الْمَصَائِبِ وَ عَبْدِ الدُّنْیَا وَ تَاجِرِ الْغُرُورِ- وَ غَرِیمِ الْمَنَایَا وَ أَسِیرِ الْمَوْتِ- وَ حَلِیفِ الْهُمُومِ وَ قَرِینِ الْأَحْزَانِ- وَ نُصُبِ الْآفَاتِ وَ صَرِیعِ الشَّهَوَاتِ وَ خَلِیفَةِ الْأَمْوَاتِ
أقول: الرهینة: ما یرهن .و الرمّیة: الهدف،و التاء لنقل الاسم من الوصفیّة
ص:2
إلی الاسمیّة الصرفة .و الحلیف: المحالف .و النصب: الشیء المنصوب .
و هذا الفصل کالعنوان للوصیّة،و قد ذکر لنفسه أوصافا سبعة،و لولده أربعة عشر فی معرض الوعظ و التنفیر عن الدنیا و الرکون إلیها،و ضاعف الأوصاف لولده لأنّه المقصود بالوصیّة و الموعظة:
مجاز تسمیة له باسم غایته فالأوّل: من الفان ،و اللفظ هنا مجاز تسمیة له باسم غایته ،و وقف علی المنقوص بحذف الیاء لمراعاة القرینة الثانیة،و قد علمت جوازه.
الثانی:المقرّ للزمان:أی بالغلبة و القهر المعترف بالعجز فی ید تصریفاته کأنّه قدّره خصما ذا بأس یقرّ الأقران له.
الثالث:المدبر العمر،و ذاک أنّه کان علیه السّلام قد ذرّف علی الستّین.
الرابع:المستسلم للدهر،و هو أبلغ من المقرّ للزمان.
الخامس:الذامّ للدنیا،و لم یزل علیه السّلام نافرا عنها و منفّرا بذکر معایبها.
السادس:الساکن مساکن الموتی،و هو تنفیر عن الرکون إلی الدنیا و المقام بها بذکر کونها مساکن الموتی.إذ من کان فی مساکنهم یوشک أن یلحقه ما نزل بهم،و تقرب فی التنفر من قوله تعالی« «وَ سَکَنْتُمْ فِی مَساکِنِ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» » (1)الآیة.
استعارة بالکنایة السابع: الظاعن عنها غدا ،و هو تذکیر بالمفارقة،و غدا کنایة عن وقتها،و لفظ الظاعن مستعار له .و أمّا أوصاف المولود:
فالأوّل:المؤمّل ما لا یدرک،و فیه تنفیر عن طول الأمل.إذ کان ینسی الآخرة،و جعل وجه التنفیر تأمیله ما لا یدرک،و ظاهر أنّ الانسان ما دام فی هذه الدار موجّه أمله نحو مطالبها کما أشار إلیه سیّد المرسلین صلّی اللّه علیه و آله:یشیب بن آدم و یشبّ فیه خصلتان:الحرص و الأمل.و ذلک یستلزم انقضاء مدّته دون بلوغها.
الثانی:السالک سبیل من قد هلک،و سبیلهم سفرهم فی الدنیا إلی الآخرة و قطعهم لمنازل الأعمار،و أضافها إلی من هلک تذکیرا بالموت.
ص:3
استعارة الثالث : غرض الأسقام ،و استعار لفظ الغرض له باعتبار کونه مرمیّا بسهام الأمراض کالغرض.
الرابع: رهینة الأیّام ،و استعار له لفظ الرهینة باعتبار أنّ وجوده مربوط بالأوقات،و داخل فی حکمها کما یرتبط الرهن بید مرتهنه.
الخامس:و رمیّة المصائب،و هو کقوله:غرض الأسقام.
استعارة السادس: و عبد الدنیا ،و لفظ العبد مستعار لأنّ طالب الدنیا منقاد بطبعه إلیها،و عامل لها کما ینقاد العبد لسیّده و یعمل له.
السابع: و تاجر الغرور :أی تجارته لها غرور و غفلة عن المکاسب الحقیقیّة الباقیة،و لفظ التاجر مستعار له باعتبار بذله لما له و أعماله فی شرّ الدنیا علی وهم أنّها هی المطالب الحقّة المربحة.
الثامن: و غریم المنایا ،و لفظ الغریم مستعار له باعتبار طلب الموت له کالمتقاضی بالرحیل کما یتقاضی الغریم.
التاسع:استعار له لفظ الأسیر باعتبار انقیاده للموت و عدم تمکینه من الخلاص .
العاشر:و حلیف الهموم.
استعارة الحادی عشر: و قرین الأحزان ،و استعار لفظی الحلیف و القرین له باعتبار عدم انفکاکه عن الهموم و الأحزان کما لا ینفکّ الحلیف و القرین عن حلیفه و قرینه .
الثانی عشر:و نصب الآفات،کقوله:و رمیّة المصائب.
استعارة الثالث عشر: و صریع الشهوات ،و لفظ الصریع مستعار له باعتبار کونه مغلوبا لشهوته مقهورا لها کالقتیل .
الرابع عشر:و خلیفة الأموات،و فیه تنفیر عن الدنیا بتذکیر الموت لأنّ خلیفة الأموات فی معرض اللحوق بهم،و نحوه قول بعض الحکماء:إنّ امرء لیس بینه و بین آدم إلاّ أب میّت لمعرق النسب فی الموت.
ص:4
قوله:
أَمَّا بَعْدُ- فَإِنَّ فِیمَا تَبَیَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْیَا عَنِّی- وَ جُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَیَّ وَ إِقْبَالِ الْآخِرَةِ إِلَیَّ- مَا یَزَعُنِی عَنْ ذِکْرِ مَنْ سِوَایَ- وَ الاِهْتِمَامِ بِمَا وَرَائِی- غَیْرَ أَنِّی حَیْثُ تَفَرَّدَ بِی دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِی- فَصَدَقَنِی رَأْیِی وَ صَرَفَنِی عَنْ هَوَایَ- وَ صَرَّحَ لِی مَحْضُ أَمْرِی- فَأَفْضَی بِی إِلَی جِدٍّ لاَ یَکُونُ فِیهِ لَعِبٌ- وَ صِدْقٍ لاَ یَشُوبُهُ کَذِبٌ وَ وَجَدْتُکَ بَعْضِی- بَلْ وَجَدْتُکَ کُلِّی- حَتَّی کَأَنَّ شَیْئاً لَوْ أَصَابَکَ أَصَابَنِی- وَ کَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاکَ أَتَانِی- فَعَنَانِی مِنْ أَمْرِکَ مَا یَعْنِینِی مِنْ أَمْرِ نَفْسِی- فَکَتَبْتُ إِلَیْکَ کِتَابِی مُسْتَظْهِراً بِهِ إِنْ أَنَا بَقِیتُ لَکَ أَوْ فَنِیتُ
أقول: جمح الفرس: إذا غلب صاحبه فلم یملکه .و یزعنی: یمنعنی .و المحض:
الخالص .و أفضی: أی انتهی .و الشوب: المزج و الخلط .
و قابل فی لفظه بین الإقبال و الادبار و الآخرة و الدنیا.
و قد أشرنا إلی معنی إدبار الدنیا و إقبال الآخرة فی قوله:ألا و إنّ الدنیا قد أدبرت، استعارة و استعار لفظ الجموح للدهر باعتبار عدم تمکّنه من ضبطه فی تغیّراته و تصریفاته الخارجة عن اختیاره کالجموح من الخیل ،و ما الاولی بمعنی الّذی، و یحتمل أن تکون مصدریّة،و علی المعنی الأوّل یکون من للتبیین،و علی الثانی لابتداء الغایة،و ما الثانیة بمعنی الّذی و محلّها الرفع بالابتداء،و فیما تبیّنت خبره،و مستظهرا حال،و مدار الفصل علی إعلامه إیّاه أنّه فی معرض الزوال عنه و أنّ ذلک الوقت هو وقت الاهتمام بحال نفسه و بحاله لینزّله منزلة نفسه و أنّه
ص:5
شدید الاهتمام بحاله لیکون ذلک أدعی لقبول وصیّته و هو کالتوطئة و التمهید لها.
ثمّ أعلمه أنّ فیما تبیّن له علیه السّلام من الأمور المذکورة قرب رحیله إلی اللّه و ذلک هو الّذی وزعه و منعه عن ذکر ما سواه و الاهتمام بما وراءه من المصالح المتعلّقة بصلاح الخلق و نظام العالم.إذ کان ذلک هو وقت التضیّق علی الإنسان فیما هو أهمّ علیه من الاستکمال بالفضایل و الاستعداد للقاء اللّه دون ما سبق من أوقات الشبیبة و استقبال العمر لاتّساعها لصلاح حال الغیر و الاشتغال بالامور المباحة،غیر أنّه حین تبیّن له ذلک و تفرّد به همّ نفسه دون غیرها ،و من صدّقه رأیه بکشفه له عمّا ینبغی أن یکون اشتغاله به من أمر نفسه و وجوب العمل لها فیما یهمّها،و صرفه عن هواه فیما یخرج عنها.إذ کان أجود الآراء و أصدقها فی الأمر عنده شدّة،الاهتمام به،و صرّح له خالص أمره و ما ینبغی له،و انتهی به إلی جدّ و صدق خالصین من شائبة اللعب و الکذب. کنایة وجده علیه السّلام بعضا منه و هو کنایة عن شدّة اتّصاله به و قربه منه و محبّته له کما قال الشاعر:
و إنّما أولادنا بیننا أکبادنا یمشی علی الأرض
بل وجده کلّه:أی عبارة عن کلّه.إذ کان هو الخلیفة له و القائم مقامه و وارث علمه و فضائله، تشبیه و دلّ علی شدّة قربه منه و أنّه بمنزلة نفسه بذکر الغایتین فی قوله:
حتّی.إلی قوله:أتانی ،و وجه التشبیه بین ما یصیب ولده و بین ذلک الشیء و إن لم یصبه علیه السّلام شدّة تألّمه به .
و اعلم أنّ ذلک الوجدان و إن کان له طبعا کما یحصل للوالد فی أمر ولده لکنّه ممّا لزم التفطّن له فی آخر العمر عند تذکیر انقطاع الدنیا لما فی طبعه من محبّة بقاء الذکر الجمیل و الحرص علی دوام الخیر و الآثار الصالحة فی العالم و لذلک جعله لازما لتفرّد همّ نفسه به و صدق رأیه فی النصیحة،و روی:محض.مرفوعا علی الفاعلیّة و منصوبا بإسقاط حرف الجرّ،و التقدیر عن محض أمری،ثمّ نبّه علی أنّ من لوازم وجدانه لما وجده من أمره أن عناه و أهمّه منه ما یهمّه من أمر نفسه فکتب إلیه هذه الوصیّة لیکون له ظهرا و مستندا یرجع إلی العمل بها فی
ص:6
حالتی بقائه له و فنائه عنه.إذ کان ما اشتملت علیه هذه الوصیّة من الحکم و الآداب و مکارم الأخلاق،و تعریف سلوک سبیل اللّه مما راض به نفسه فی مدّة عمره اقتفاء لأثر الرسول صلّی اللّه علیه و آله و اقتداء به فاقتضت عنایته به أن یحثّه علی العمل بها.و باللّه التوفیق.
قوله:
فَإِنِّی أُوصِیکَ بِتَقْوَی اللَّهِ أَیْ بُنَیَّ وَ لُزُومِ أَمْرِهِ- وَ عِمَارَةِ قَلْبِکَ بِذِکْرِهِ وَ الاِعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ- وَ أَیُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَیْنَکَ وَ بَیْنَ اللَّهِ- إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ- أَحْیِ قَلْبَکَ بِالْمَوْعِظَةِ وَ أَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ- وَ قَوِّهِ بِالْیَقِینِ وَ نَوِّرْهُ بِالْحِکْمَةِ- وَ ذَلِّلْهُ بِذِکْرِ الْمَوْتِ وَ قَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ- وَ بَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْیَا- وَ حَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَ فُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّیَالِی وَ الْأَیَّامِ- وَ اعْرِضْ عَلَیْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِینَ- وَ ذَکِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ کَانَ قَبْلَکَ مِنَ الْأَوَّلِینَ- وَ سِرْ فِی دِیَارِهِمْ وَ آثَارِهِمْ- فَانْظُرْ فِیمَا فَعَلُوا وَ عَمَّا انْتَقَلُوا وَ أَیْنَ حَلُّوا وَ نَزَلُوا- فَإِنَّکَ تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الْأَحِبَّةِ- وَ حَلُّوا دِیَارَ الْغُرْبَةِ- وَ کَأَنَّکَ عَنْ قَلِیلٍ قَدْ صِرْتَ کَأَحَدِهِمْ- فَأَصْلِحْ مَثْوَاکَ وَ لاَ تَبِعْ آخِرَتَکَ بِدُنْیَاکَ- وَ دَعِ الْقَوْلَ فِیمَا لاَ تَعْرِفُ وَ الْخِطَابَ فِیمَا لَمْ تُکَلَّفْ- وَ أَمْسِکْ عَنْ طَرِیقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلاَلَتَهُ- فَإِنَّ الْکَفَّ عِنْدَ حَیْرَةِ الضَّلاَلِ خَیْرٌ مِنْ رُکُوبِ الْأَهْوَالِ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ تَکُنْ مِنْ أَهْلِهِ- وَ أَنْکِرِ الْمُنْکَرَ بِیَدِکَ وَ لِسَانِکَ- وَ بَایِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِکَ- وَ جَاهِدْ «فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ» وَ لاَ تَأْخُذْکَ
ص:7
فِی اللَّهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ- وَ خُضِ الْغَمَرَاتِ لِلْحَقِّ حَیْثُ کَانَ وَ تَفَقَّهْ فِی الدِّینِ- وَ عَوِّدْ نَفْسَکَ التَّصَبُّرَ عَلَی الْمَکْرُوهِ- وَ نِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُرُ فِی الْحَقِّ- وَ أَلْجِئْ نَفْسَکَ فِی أُمُورِکَ کُلِّهَا إِلَی إِلَهِکَ- فَإِنَّکَ تُلْجِئُهَا إِلَی کَهْفٍ حَرِیزٍ وَ مَانِعٍ عَزِیزٍ- وَ أَخْلِصْ فِی الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّکَ- فَإِنَّ بِیَدِهِ الْعَطَاءَ وَ الْحِرْمَانَ- وَ أَکْثِرِ الاِسْتِخَارَةَ وَ تَفَهَّمْ وَصِیَّتِی- وَ لاَ تَذْهَبَنَّ عَنْکَ صَفْحاً- فَإِنَّ خَیْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ- وَ اعْلَمْ أَنَّهُ لاَ خَیْرَ فِی عِلْمٍ لاَ یَنْفَعُ- وَ لاَ یُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لاَ یَحِقُّ تَعَلُّمُهُ
أقول: الغمرات: الشدائد .و المثوی: محلّ الثواء و الإقامة .و هذا حین افتتح ما یرید أن یوصی به.
و اشتمل هذا الفصل من ذلک علی أمور:
،و قد علمت حقیقتها فیما سلف،و یشبه أن یکون المراد بها هنا الخوف منه تعالی.
و هو من لوازم تقواه.
استعارة عمارة قلبه بذکره ،و استعار لفظ العمارة لتکمیل قلبه بذکر اللّه،و إکثاره منه لأنّه روح العبادات و کمال النفس کما أنّ العمارة کمال للدار و هو داخل فی لزوم ذکره لقوله تعالی «وَ اذْکُرُوا اللّهَ کَثِیراً لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ» (1).
استعارة الاعتصام بحبله ،و استعار لفظ الحبل لما یوصل إلیه من دینه فیکون التمسّک به سببا للنجاة کالحبل، و أراد بالاعتصام الامتناع بالتمسّک به من عذاب اللّه.ثمّ استفهم عن سبب أوثق منه استفهام إنکار و تعجّب من وثاقته،و یدخل فی لزوم أمره لقوله تعالی «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً » (2).
و استعار وصف الإحیاء له باعتبار
ص:8
تکمیله لنفسه بالعلم و الاعتبار الحاصل عن الموعظة کما یکمل المرء بالحیاة.
،و الّذی یمیته هی النفس الأمّارة بالسوء،و إماتتها کسرها عن میولها المخالفة لأداء العقل بترک الدنیا و الإعراض عنها و تطویعها بذلک،و یحتمل أن یرید به النفس العاقلة أیضا،و إماتتها قطعها عن متابعة هواها.
:أی من ضعف الجهل للصعود إلی أفق علیّین و النهوض إلی مقام الأبرار،و لمّا کان الیقین درجة اشتداد و قوّة فی العلم ناسب أن یجعله تقویة للقلب.
، استعارة و أن ینوّره بالحکمة ،و استعار لفظ التنویر بالحکمة لتحمّله لها باعتبار أنّ ذلک سبب هدایته لسبیل اللّه فی ظلمات الجهل کحامل النار.و قد عرفت الحکمة و أقسامها .
و ذلک لأنّ کثرة إخطاره بالبال یستلزم الخوف و یسکن القلب عن جماحه فی میدان الشهوات،و یذلّل من عزّة الکبر و هزّة العجب و حمیّة الغضب.
:أی یحمله علی الإقرار به و یدیم ذکره له لیتأکّد علمه به.
:أی یحمله علی النظر بعین البصیرة و الاعتبار برزایا الدنیا و آفاتها .
استعارة أن یحذّره صولة الدهر و فحش تقلّب اللیالی و الأیّام ،و لفظ الصولة مستعار له ملاحظة لشبهه بالسبع فی أخذه و ما یکون بسببه من الأذی .
،و یذکّره ما أصابهم لینظر ما فعلوا و عمّا انتقلوا من الآثار العظیمة و الملک الجسیم،و یحصل من ذلک عبرة و قیاسا لحاله بحالهم، تشبیه و یستقرب لحاقه بهم و صیرورته کأحدهم فیما صاروا إلیه،و وجه التشبیه قرب حاله من حال أحدهم.و إلیه الإشارة بقوله تعالی «أَ فَلَمْ یَسِیرُوا»
ص:9
«فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرُوا» (1)الآیة .
و هو الدار الآخرة بلزوم الأعمال الصالحة و لا یبیع آخرته و ما وعد فیها من الخیرات الباقیة بما وجد فی دنیاه من اللذّات الوهمیّة الفانیة،و لفظ البیع مستعار.
إذ القول بغیر علم یستلزم رذیلتی الکذب و الجهل،و یلحق به الذمّ.و نحوه قول الرسول صلّی اللّه علیه و آله لبعض أصحابه:
کیف بک إذا بقیت فی حثالة من الناس خرجت عهودهم و أماناتهم و صاروا هکذا:-و شبّک بین أصابعه-قال:فقلت:مرنی یا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله.فقال:خذ ما تعرف و دع ما لا تعرف،و علیک بحویضة نفسک.و کذلک قوله:و الخطاب فیما لا تکلّف کقوله صلّی اللّه علیه و آله:من حسن إسلام المرء ترکه ما لا یعنیه.
و المراد التوقّف عند الشبهات و عدم التسرّع إلی سلوک طریق یشکّ فی تأدیته إلی الحقّ فإنّ توقّفه و تثبّته عند طلب الحق إلی أن یتّضح له طریقه خیر له من التعسّف و رکوب ما یخاف الضلال به من الطرق .
من فعله بقدر إمکانه
،و هو من فروض الکفایة،و علیهما مدار نظام العالم،و لذلک کان القرآن الکریم و السنّة النبویّة مشحونین بهما و استدرجه إلی ذلک بقوله:
تکن من أهله.لأنّهم أولیاء اللّه الأبرار المرغوب فی الکون منهم.
و إضافة حقّ إلی جهاده إضافة الصفة إلی الموصوف لأنّ الصفة من باب الأهمّ.
کنایة أن لا یأخذه فی اللّه لومة لائم ،و هو کنایة عن نهیه عن التقصیر فی طاعة اللّه.إذ کان من لوازم المقصّر استحقاق لؤم اللائمین .
استعارة أن یخوض الغمرات إلی الحقّ حیث کان ،و لفظ الخوض مستعار
ص:10
لمعاناة الشدائد و الدخول فیها لطلبه الحقّ .
و یتعلّم الأحکام الشرعیّة و مبادیها.
و قد علمت أنّ احتمال المکروه فضیلة تحت الشجاعة و هو من مکارم الأخلاق .
و هو أمر بالتوکّل علی اللّه و الإنابة إلیه فی کلّ مرغوب أو مرهوب،و قد علمت حقیقة التوکّل و ما یستلزمه،و استدرجه إلی ذلک بقوله:فإنّک تلجئها إلی کهف حریز و مانع عزیز، استعارة و استعار لفظ الکهف له تعالی باعتبار أنّ من توکّل علیه کفاه و منعه ممّا یخاف کما یمنع الکهف من یلتجئ إلیه .
إذ کان ذلک من شرائط الإجابة،و استدرجه إلی الاخلاص بقوله:فإنّ بیده العطاء و الحرمان لیشتدّ الانجذاب إلیه و الإعراض عن غیره.و الفئات الثلاث:فنعم،و قوله:فإنّک و قوله:فانّ بیده.جواب الأوامر الثالثة.
:أی الطلب إلی اللّه تعالی أن یخیّر له فیما یأتی و یذر.
کنایة أن یتفهّم وصیّته و لا یعرض عنها ،و کنّی عن الإعراض و ترک العمل بها بالذهاب صفحا ،و انتصب صفحا علی الحال:أی و لا تذهبنّ معرضا، و استدرجه للإقناع بها بقوله:فإنّ خیر القول ما نفع،و التقدیر فإنّ وصیّتی نافعة،و ما نفع فهو خیر القول.فإذن وصیّتی خیر القول .ثمّ نبّهه بقوله:و اعلم.
إلی قوله:تعلّمه.علی أنّ من العلوم ما لا خیر فیه لئلاّ یتشوّق إلی معرفته فیصدّه ذلک عن سلوک سبیل اللّه و العلم المؤدّی إلیه،و تلک هی العلوم الّتی نهت الشریعة عن تعلّمها کالسحر و الکهانة و النجوم و النیرنجات و نحوها ممّا لا یکون سبیلا إلی المقاصد الحقیقیّة التامّة.و تقدیر الکلام:و اعلم أنّ کلّ علم لا یحق تعلّمه:
أی لا یثبت فی الشریعة تعلّمه وجوبا و لا ندبا فهو علم لا ینتفع به فی طریق الآخرة
ص:11
فلا خیر فیه لأنّ الخیر الحقیقیّ هو المنفعة الباقیة عند اللّه فما لا منفعة فیه لا خیر، و لذلک استعاذ الرسول صلّی اللّه علیه و آله منه فقال:و أعوذ بک من علم لا ینفع.فینتج أن کلّ علم لا یحقّ تعلّمه فلا خیر فیه.و باللّه التوفیق.
قوله:
أَیْ بُنَیَّ إِنِّی لَمَّا رَأَیْتُنِی قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً- وَ رَأَیْتُنِی أَزْدَادُ وَهْناً- بَادَرْتُ بِوَصِیَّتِی إِلَیْکَ- وَ أَوْرَدْتُ خِصَالاً مِنْهَا قَبْلَ أَنْ یَعْجَلَ بِی أَجَلِی- دُونَ أَنْ أُفْضِیَ إِلَیْکَ بِمَا فِی نَفْسِی- أَوْ أَنْ أُنْقَصَ فِی رَأْیِی کَمَا نُقِصْتُ فِی جِسْمِی- أَوْ یَسْبِقَنِی إِلَیْکَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَی وَ فِتَنِ الدُّنْیَا- فَتَکُونَ کَالصَّعْبِ النَّفُورِ- وَ إِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ کَالْأَرْضِ الْخَالِیَةِ- مَا أُلْقِیَ فِیهَا مِنْ شَیْءٍ قَبِلَتْهُ- فَبَادَرْتُکَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ یَقْسُوَ قَلْبُکَ- وَ یَشْتَغِلَ لُبُّکَ لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْیِکَ مِنَ الْأَمْرِ- مَا قَدْ کَفَاکَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْیَتَهُ وَ تَجْرِبَتَهُ- فَتَکُونَ قَدْ کُفِیتَ مَئُونَةَ الطَّلَبِ- وَ عُوفِیتَ مِنْ عِلاَجِ التَّجْرِبَةِ- فَأَتَاکَ مِنْ ذَلِکَ مَا قَدْ کُنَّا نَأْتِیهِ- وَ اسْتَبَانَ لَکَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَیْنَا مِنْهُ أَیْ بُنَیَّ إِنِّی وَ إِنْ لَمْ أَکُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ کَانَ قَبْلِی- فَقَدْ نَظَرْتُ فِی أَعْمَالِهِمْ وَ فَکَّرْتُ فِی أَخْبَارِهِمْ- وَ سِرْتُ فِی آثَارِهِمْ حَتَّی عُدْتُ کَأَحَدِهِمْ- بَلْ کَأَنِّی بِمَا انْتَهَی إِلَیَّ مِنْ أُمُورِهِمْ- قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَی آخِرِهِمْ- فَعَرَفْتُ
ص:12
صَفْوَ ذَلِکَ مِنْ کَدَرِهِ وَ نَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ- فَاسْتَخْلَصْتُ لَکَ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ نَخِیلَهُ وَ تَوَخَّیْتُ لَکَ جَمِیلَهُ وَ صَرَفْتُ عَنْکَ مَجْهُولَهُ- وَ رَأَیْتُ حَیْثُ عَنَانِی مِنْ أَمْرِکَ مَا یَعْنِی الْوَالِدَ الشَّفِیقَ- وَ أَجْمَعْتُ عَلَیْهِ مِنْ أَدَبِکَ أَنْ یَکُونَ ذَلِکَ- وَ أَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ وَ مُقْتَبَلُ الدَّهْرِ- ذُو نِیَّةٍ سَلِیمَةٍ وَ نَفْسٍ صَافِیَةٍ- وَ أَنْ أَبْتَدِئَکَ بِتَعْلِیمِ کِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ- وَ تَأْوِیلِهِ وَ شَرَائِعِ الْإِسْلاَمِ وَ أَحْکَامِهِ وَ حَلاَلِهِ وَ حَرَامِهِ- لاَ أُجَاوِزُ ذَلِکَ بِکَ إِلَی غَیْرِهِ- ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ یَلْتَبِسَ عَلَیْکَ- مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِیهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَ آرَائِهِمْ- مِثْلَ الَّذِی الْتَبَسَ عَلَیْهِمْ- فَکَانَ إِحْکَامُ ذَلِکَ عَلَی مَا کَرِهْتُ مِنْ تَنْبِیهِکَ لَهُ أَحَبَّ إِلَیَّ- مِنْ إِسْلاَمِکَ إِلَی أَمْرٍ لاَ آمَنُ عَلَیْکَ فِیهِ الْهَلَکَةَ- وَ رَجَوْتُ أَنْ یُوَفِّقَکَ اللَّهُ فِیهِ لِرُشْدِکَ- وَ أَنْ یَهْدِیَکَ لِقَصْدِکَ فَعَهِدْتُ إِلَیْکَ وَصِیَّتِی هَذِهِ وَ اعْلَمْ یَا بُنَیَّ- أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَیَّ مِنْ وَصِیَّتِی تَقْوَی اللَّهِ- وَ الاِقْتِصَارُ عَلَی مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَیْکَ- وَ الْأَخْذُ بِمَا مَضَی عَلَیْهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ آبَائِکَ- وَ الصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَیْتِکَ- فَإِنَّهُمْ لَمْ یَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ کَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ- وَ فَکَّرُوا کَمَا أَنْتَ مُفَکِّرٌ- ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذَلِکَ إِلَی الْأَخْذِ بِمَا عَرَفُوا- وَ الْإِمْسَاکِ عَمَّا لَمْ یُکَلَّفُوا- فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُکَ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِکَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ کَمَا عَلِمُوا- فَلْیَکُنْ طَلَبُکَ ذَلِکَ بِتَفَهُّمٍ وَ تَعَلُّمٍ- لاَ بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ وَ عُلَوِّ الْخُصُوصِیِّاتِ- وَ ابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِکَ فِی ذَلِکَ بِالاِسْتِعَانَةِ بِإِلَهِکَ- وَ الرَّغْبَةِ إِلَیْهِ فِی تَوْفِیقِکَ- وَ تَرْکِ کُلِّ شَائِبَةٍ أَوْلَجَتْکَ فِی شُبْهَةٍ- أَوْ أَسْلَمَتْکَ إِلَی ضَلاَلَةٍ- فَإِنْ أَیْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُکَ فَخَشَعَ- وَ تَمَّ رَأْیُکَ فَاجْتَمَعَ- وَ کَانَ هَمُّکَ فِی ذَلِکَ هَمّاً وَاحِداً- فَانْظُرْ فِیمَا فَسَّرْتُ لَکَ- وَ إِنْ أَنْتَ لَمْ یَجْتَمِعْ لَکَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِکَ- وَ فَرَاغِ نَظَرِکَ وَ فِکْرِکَ- فَاعْلَمْ أَنَّکَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ وَ تَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ- وَ لَیْسَ طَالِبُ الدِّینِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَطَ- وَ الْإِمْسَاکُ عَنْ ذَلِکَ أَمْثَلُ فَتَفَهَّمْ یَا بُنَیَّ وَصِیَّتِی- وَ اعْلَمْ أَنَّ مَالِکَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِکُ الْحَیَاةِ- وَ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِیتُ- وَ أَنَّ الْمُفْنِیَ هُوَ الْمُعِیدُ وَ أَنَّ الْمُبْتَلِیَ هُوَ الْمُعَافِی- وَ أَنَّ الدُّنْیَا لَمْ تَکُنْ لِتَسْتَقِرَّ- إِلاَّ عَلَی مَا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَیْهِ مِنَ النَّعْمَاءِ وَ الاِبْتِلاَءِ- وَ الْجَزَاءِ فِی الْمَعَادِ- أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لاَ تَعْلَمُ- فَإِنْ أَشْکَلَ عَلَیْکَ شَیْءٌ مِنْ ذَلِکَ فَاحْمِلْهُ عَلَی جَهَالَتِکَ- فَإِنَّکَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ بِهِ جَاهِلاً ثُمَّ عُلِّمْتَ- وَ مَا أَکْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الْأَمْرِ وَ یَتَحَیَّرُ فِیهِ رَأْیُکَ- وَ یَضِلُّ فِیهِ بَصَرُکَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذَلِکَ فَاعْتَصِمْ بِالَّذِی خَلَقَکَ وَ رَزَقَکَ وَ سَوَّاکَ- وَ لْیَکُنْ لَهُ تَعَبُّدُکَ- وَ إِلَیْهِ رَغْبَتُکَ وَ مِنْهُ شَفَقَتُکَ-
ص:13
وَ اعْلَمْ یَا بُنَیَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ یُنْبِئْ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- کَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ الرَّسُولُ ص فَارْضَ بِهِ رَائِداً وَ إِلَی النَّجَاةِ قَائِداً- فَإِنِّی لَمْ آلُکَ نَصِیحَةً- وَ إِنَّکَ لَنْ تَبْلُغَ فِی النَّظَرِ لِنَفْسِکَ- وَ إِنِ اجْتَهَدْتَ مَبْلَغَ نَظَرِی لَکَ
أقول: الوهن : الضعف .و المبادرة : المسارعة و المسابقة .و أفضی : وصل .
و البغیة : الطلبة .و التوخّی : القصد .و أجمعت : صمّمت العزم .و أسلمته إلی کذا : خلیت بینه و بینه .و أمثل : أقرب إلی الخیر .
،و هی کونه قد بلغ سنّا عالیا و أخذ ازدیادا فی الضعف،و ذلک أنّه کان قد جاوز السّتین فلزم من ذلک خوفه لأحد الخصال المذکورة فبادرها و سابقها إلیه.و خصالا مفعول به.و عدّ من تلک الخصال ثلاثا:
الأولی:أن یعجل به أجله إلی الآخرة قبل أن یوصل إلیه ما فی نفسه من الحکمة .
الثانیة:أن ینقص فی رأیه،و ذلک أنّ القوی النفسانیّة تضعف عند علوّ السنّ لضعف الأرواح الحاملة لها فینقص بسبب ذلک تصرّف العقل و تحصیله للآراء الصالحة.
الثالثة:أن یسبقه إلیه بعض غلبات الهوی فإنّ الصبیّ إذا لم یؤخذ بالآداب فی حداثته و لم ترض قواه لمطاوعة العقل و موافقته کان بصدد أن یمیل به القوی الحیوانیّة إلی مشتهیاتها و ینجذب فی قیاد هواه إلی الاستعمال بها فیفتنه و یصرفه عن الوجهة الحقیقیّة و ما ینبغی له فیکون حینئذ کالصعب النفور من الإبل،و وجه التشبیه أنّه یعسر حمله علی الحقّ و جذبه إلیه کما یعسر قود الجمل الصعب النفور و تصریفه بحسب المنفعة.ثمّ نبّه علی وجوب المبادرة إلیه بالأدب،و زرعه فی قلبه
ص:14
ص:15
بضمیر صغراه تشبیه قوله: و إنّما قلب الحدث.إلی قوله:قبلته .
و أشار إلی وجه التشبیه بقوله:و ما ألقی فیها من شیء قبلته.و ذلک أنّ قلب المحدث لمّا کان خالیا من الانتقاش بالعقاید و غیرها مع کونه قابلا لما یلقی إلیه من خیر أو شرّ فینتقش به أشبه الأرض الخالیة من النبات و الزرع القابلة لما یلقی فیها من البذر،و تقدیر الکبری:و کلّ قلب کان کذلک فیجب أن یسبق إلیه ببذر الآداب و غرس الحکمة .فلذلک بادره بالأدب قبل أن یقسو قلبه عن الانقیاد للحقّ و الاشتغال بالأمور الباطلة .ثمّ أشار إلی العلّة الأخری من العلل الغائیّة لمبادرته بالأدب و هی أن یستقبل بجدّ رأیه و قوّة فکره ما قد کفاه أهل التجارب بغیته من العلوم و عوفی فیه من علاج التجربة و معاناتها فأتاه من ذلک العلم التجربیّ ما کان أهل التجربة یأتونه و یطلبونه،و استبان له ما ربّما أظلم علیهم منه،و فرّق بین من یأتیه العلم صفوا و یلقی إلیه بینا واضحا،و قد کفی فیه مؤنة الاکتساب،و بین من سعی إلیه و شقی فی تحصیله و خاض إلیه غمرات الشکوک و ظلمات الشبهات.و کلّ ذلک من الامور المقنعة له فی قبول الوصیّة و العمل بما اشتملت علیه من الحکم و الآداب لأنّ أهل التجارب إذا کانوا قد جدّوا فی تحصیله مع ما وجدوا فیه من المشقّة فلان یجدّ هو و یقبله خالصا من الکلفة أولی.
ثمّ إلی کونه فی غایة العنایة و الشفقّة علیه و إلی ما رآه أصلح فی تعلیمه إیّاه من العلوم غیر متجاوز إلی غیر ذلک،و غایته من الجمیع استدراجه لقبول قوله کما علمت من غرض الخطیب فی ذکر فضیلته،و ما یستدرج به للانفعال ممّا یرید أن یقنع به من الآراء و غیرها .
فنبّه علی فضیلته بقوله:أی بنیّ.إلی قوله:مجهولة.
و قوله:و إن لم أکن فی قوّة جواب اعتراض مقدّر کأنّ قائلا قال له:فکیف حصلت العلوم عن تجارب الامور مع حاجة التجربة إلی عمر طویل یشاهد فیه الإنسان تغیّرات
ص:16
الأمور و تقلّبات الدهور؟فقال:إنّی و إن لم أکن عمّرت عمر من کان قبلی و شاهدت أحوالهم لکنّی نظرت فی أعمالهم و فکّرت فی أخبارهم المأثورة و سرت فی آثارهم سیرا محسوسا و معقولا حتّی صرت کأحدهم فی عیان امورهم .
و قوله:فعرفت عطف علی قوله:و سرت.
و قوله:ذلک.
إشارة إلی ما انتهی إلیه من أمورهم.و کنّی بالصفو عن الخیر و بالکدر عن الشرّ:أی فعرفت خیر امورهم من شرّها و نفعها من ضرّها،و استخلصت لک من کلّ أمر جلیله و هو خیره و ما ینفع منه عند اللّه من العلوم و العبر النوافع،و روی:نخیلته أی خلاصته.و قصدت لک جمیله:أی الأمر الحسن منه دون قبیحه،و صرفت عنک مجهوله:أی ما اشتبه علیک أمره و ألتبس الحقّ فیه .
و قوله: و رأیت حیث عنانی .إلی آخره.
إشارة إلی کمال عنایته و شفّقته علیه و وجوه اختیاراته له ما هو أولی به من العلوم،و أجمعت عطف علی یعنی،و أن یکون فی محلّ النصب علی أنّه مفعول أوّل لرأیت،و تکون هنا تامّة،و الواو فی قوله:و أنت للحال،و أن أبتدئک عطف علی أن یکون،و المفعول الثانی لرأیت محذوف تقدیره أنفع و أصلح،و تقدیر الکلام:و رأیت حیث عنانی من أمرک ما یعنی الوالد الشفیق من أمر ولده من النظر فی مصالحه و الاهتمام بأحواله و ما صمّمت عزمی علیه من تأدیبک أن یکون ذلک التأدیب حال إقبال عمرک حال کونک ذانیّة سلیمة من الأمراض النفسانیّة و الأخلاق الذمیمة،و کونک ذا نفس صافیة من کدر الباطل،و أن أبتدئک بتعلیم کتاب اللّه و تأویله و ما یشتمل علیه من شرایع الإسلام:أی قوانینه و أحکامه و حلاله و حرامه،و أقتصر بک علی ذلک کما اقتصر علیه کثیر من السلف.
و قوله :ثمّ أشفقت.
ص:17
عطف علی رأیت:أی کنت رأیت أن أقتصر بک علی ذلک و لا اتجاوز بک إلی غیره می العلوم العقلیّة.ثمّ خفت أن یلتبس علیک ما اختلف الناس فیه من أهوائهم و آرائهم مثل ما التبس علیهم:أی التباسا مثل الالتباس علیهم فکان إحکام ذلک:أی ما اختلف الناس فیه علی ما کرهت من شبهک له أحبّ إلیّ من إسلامک إلی أمر لا آمن علیک فیه الهلکة فی الدین،و ذلک الأمر هو ما اختلف الناس فیه من المسائل العقلیّة الإلهیّة الّتی یکثر التباس الحقّ فیها بالباطل،و یکتنفها الشبهات المغلّطة الّتی هی مظنّة الخطر و الانحراف بها عن سبیل الحقّ إلی سبیل الهلاک،و إحکام ذلک الأمر ببیان وجه البرهان فیه و کیفیّة الخلاص من شبهة الباطل و مزاجه .
و قوله: و رجوت أن یوفّقک .
عطف علی أشفقت،و الضمیر المجرور بفی یعود إلی ما اختلف الناس فیه .
وصیّته،
و الإرشاد إلی کیفیّة أخذه و ما ینبغی أن یبدء قبل الشروع من الاستعانة باللّه و الرغبة إلیه فی التوفیق.إلی غیر ذلک من الآداب الّتی یتمّ بها الاستعداد للبحث و التعلّم.فمن الأحبّ إلیه تقوی اللّه الّذی هو الزاد المبلّغ إلیه .ثمّ الاقتصار علی ما افترضه اللّه علیه من النظر فی ظواهر الأدلّة دون التوغّل فی الفکر و خوض الشبهات ممّا لم یکلّف به أخذا بما مضی علیه الصالحون من أهل بیته کحمزة و جعفر و العبّاس و عبیدة بن الحرث و غیرهم من بنی هاشم.
و قوله:فانّهم إلی قوله:لم یکلّفوا ترغیب له فی الأخذ بمأخذهم،و تنفیر له عن التوغّل و التعمّق بضمیر صغراه ما ذکر،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فینبغی الاقتداء به فی الأخذ بما عرف و الإمساک عمّا لم یکلّف .
و قوله:فإن أبت.إلی آخره.
بیان للکیفیّة الّتی ینبغی أن یکون علیها طلبة العلوم العقلیّة،و التدقیق
ص:18
فیها إن أبت نفسه الاقتصار علی ما افترضه اللّه علیه:أی فلیکن طلبک لما أنت طالب له من ذلک علی وجوه:
أحدها:التفهّم للمقاصد،و التعلّم للحقّ،و الطلب له لا علی وجه تعلّم الشبهات و التورّط فیها و المشاغبة بها فإنّ ذلک ممّا یصدّ عن تعلّم الحقّ و یمنع من قبوله .
الثانی:أن یبدء قبل نظره فی ذلک الطلب بالاستعانة باللّه و الرغبة إلیه فی توفیقه لإصابة طریق الحقّ و الوصول إلیه.
الثالث:أن یترک کلّ شائبة أو لجته فی شبهة کالعادات فی نصرة المذاهب الباطلة بحسب اتّباع الهوی و الآراء الّتی یطلب بها الرئاسات فإنّ النفس إذا کانت فیها شائبة محبّة لأمر جسمانیّ لم یتّضح لها طریق الحقّ بل کانت إلی الانحراف فی طرق الضلال و الشبه المناسبة للمطالب الباطلة أقرب،و تلک الطرق أعرف عندها لمکان تلک الشائبة.فینبغی للسالک أن یحذف عن نفسه کلّ شبهة تقود إلی ضلالة، استعارة و لفظ الإسلام مستعار لإهماله و عدم جذبه عمّا یتورّط فیه من الامور المضلّة .ثمّ قال: فإذا أیقنت .إلی آخره:أی فإذا أعددت نفسک للطلب و النظر بما ذکرت لک،و تحقّقت أن قد صفا قلبک من کلّ شائبة تنافی النظر،فخشع من خشیة اللّه أن یؤاخذک بترکه،و تمّ رأیک و عزمک علیه فاجتمع متفرّقه حتّی لا یبقی لک إلی ترکه التفات،و کان همّک فیه همّا واحدا لا ینقسم إلی غیره.فانظر حینئذ فیما فسّرت لک و نبّهتک علیه من المسائل العقلیّة الإلهیّة کما سیأتی ،و إن أنت لم یجتمع لک ما تحبّ من نفسک و فراغ نظرها و فکرها عن الشوائب المنافیة للعلم و طلبه و نظرت.فاعلم أنّک فی خوضک و طلبک له إنّما تخبط خبط عشواء و تتورّط الظلماء،و کلّ من کان کذلک فلیس أهلا لطلب الدین من أصوله.و حذف المضاف إلی العشواء و أقام المضاف إلیه مقامه، استعارة و استعار وصف الخبط له باعتبار أنّه طالب للعلم من غیر استکمال شرائط الطلب و علی غیر وجهه فهو متعسّف سالک علی غیر طریق المطلوب کالناقة العشواء،و کذلک لفظ الظلماء
ص:19
للشبه باعتبار أنّ الذهن لا یهتدی فیها لطلب الحقّ کالماشی فی الظلماء .
و نبّهه علی جملة من صفات اللّه و أفعاله الّتی قد یتوهّم التضادّ و التناهی فی إسنادها إلی مبدء واحد،و أشار إلی أنّها لیست بمتضادّة،و أنّ مبدئها واحد،فأمّا الصفات فهو أنّ القادر علی الموت و من له أن یمیت فهو القادر علی الحیاة و له أن یحیی باعتبار أنّ أسباب الموت و الحیاة ینتهی إلیه،و کذلک الخالق هو الممیت فإنّ فاعل الخلق هو مقدّر الموت الّذی ینتهی إلیه أسبابهما،و إلی هذین الاعتبارین الإشارة بقوله تعالی« «یُحْیِی وَ یُمِیتُ رَبُّکُمْ وَ رَبُّ آبائِکُمُ الْأَوَّلِینَ» »فیحیی و یمیت باعتبار انّه الفاعل الأوّل لهما و باعتبار أنّه الربّ المطلق هو المالک الأوّل لهما،و کذلک المفنی هو المعید و المبتلی هو المعافی باعتبار انتهاء أسباب الفناء و الإعادة و اللابتلاء و المعافاة إلیه.
و قد علمت أنّ کلّ هذه الأمور اعتبارات عقلیّة یلحقّ معقولیّة الواجب سبحانه بالقیاس إلی مخلوقاته و آثاره کما استقصیناه فی الخطبة الأولی ،و أمّا الأفعال فهو أنّه تعالی لمّا خلق الدنیا لم یمکن خلقها و استقرار وجودها إلاّ علی ما خلقها اللّه علیه من إفاضة ما یعدّ نعمة فی حقّ بعض العبید من مال و صحّة و نحوهما، و الابتلاء بما یعدّ بلاء من الفقر و المرض و نحوهما،و إن کانت النعماء أیضا ابتلاء کما قال تعالی« «وَ نَبْلُوکُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَیْرِ فِتْنَةً وَ إِلَیْنا تُرْجَعُونَ» » (1).ثمّ لزوم الجزاء فی المعاد لنفوس المبتلین و المنعم علیهم بحسب طاعتهم و معصیتهم فی النعمة و الابتلاء،و کذلک خلقه لها علی ما شاء ممّا لا یعلم وجه الحکمة فیه،و اعلم أنّه قد ثبت فی أصول الحکمة أنّ المقصود من العنایة الإلهیّة بالذات إنّما هو الخیر،و أمّا الشرور الواقعة فی الوجود فکاینة بالعرض من حیث إنّه لا یمکن نزع الخیر و تجریده عنها.و لمّا کان الخیر أغلب فی الوجود،و کانت الشرور امورا لازمة أقلیّة لم یمکن ترک الخیر الکثیر لأجلها لأنّ ترک الخیر الکثیر لأجل الشرّ القلیل شرّ کثیر فی الجود و الحکمة،و ذلک معنی قوله علیه السّلام:و إنّ
ص:20
الدنیا لم تکن لتستقرّ إلاّ علی ما جعلها اللّه علیه ممّا عدّدناه ممّا یعلم کونه خیرا أو شرّا أولا یعلم حاله:أی لم یکن خلقها إلاّ علی ما فیها من خیر مراد بالذات و شرّ مراد بالعرض،و لزوم الجزاء علی السیّئة و عقاب النفوس فی المعاد علیها من الشرور اللازمة لما حصلت علیه من الهیئات البدنیّة و الملکات الردیئة فی الدنیا کما یعلم ذلک من موضعه .
و قوله: فإن أشکل .إلی آخره.
أی فإن أشکل علیک شیء من أسرار القدر،و خفی علیک وجه الحکمة فیه فلا تتوّهم خلوّه عن حکمة بل احمله علی جهالتک به فانّک أوّل ما خلقت جاهلا ثمّ علمت کما قال تعالی «وَ اللّهُ أَخْرَجَکُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِکُمْ لا تَعْلَمُونَ شَیْئاً» (1)الآیة.و نصب أوّل علی الظرف،و جاهلا علی الحال،و روی أوّل مرفوعا بالابتداء و جاهل بالرفع خبرا له.ثمّ نبّهه علی أکثریّة ما یسبق جهله به من الأمور ثمّ یدرکه فیما بعد لیجعل ما لا یدرک وجه الحکمة فیه من ذلک القبیل .ثمّ أمره بالاعتصام باللّه و اللجأ إلیه فی أموره،و أن یجعل له تعبّده و إلیه رغبته و منه شفقّته لأنّه تعالی أحقّ موجود بذلک و أولاه بالأمور المذکورة .
لزیادته علیهم فی إیضاح الخبر عن اللّه تعالی،و بیان المطالب الحقیقیّة الّتی اشتمل علیها الکتاب العزیز من أسرار التوحید و القضاء و القدر و أمر المعاد فإنّ أحدا من الأنبیاء السابقین علیهم السّلام لم یفصح عن هذه الأمور کإفصاحه،و لذلک کانت هدایة هذه الأمّة بتمام ما جاء به صلّی اللّه علیه و آله أتمّ و أکمل من هدایة سایر الامم السابقة عمّا جاءت به أنبیاؤها و کانت عیون بصائرهم أبسط أنوارا و أکثر انتشارا استعارة .و غایة ذکر فضیلته صلّی اللّه علیه و آله هنا أن یرضی برأیه و دلالته علی طریق النجاة فی الآخرة،و استعار له لفظ الرائد باعتبار أنّه قد اختبر ما فی الآخرة من الثواب المقیم و السعادة الباقیة،و بشّر به أمّته کما یبشّر الرائد أهله بوجود الکلاء و الماء بعد ارتیاده .ثمّ أردف ذلک ببیان أنّه لم یزل
ص:21
ناصحا له وأنیه لم یبلغ نظره لنفسه و إن اجتهد فی ذلک مبلغ نظره له لیتأکّد الإقناع برأیه و شوره علیه فیما یراه له.و نصیحة نصب علی التمیز.
قوله:
وَ اعْلَمْ یَا بُنَیَّ- أَنَّهُ لَوْ کَانَ لِرَبِّکَ شَرِیکٌ لَأَتَتْکَ رُسُلُهُ- وَ لَرَأَیْتَ آثَارَ مُلْکِهِ وَ سُلْطَانِهِ- وَ لَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَ صِفَاتِهِ- وَ لَکِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ کَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ- لاَ یُضَادُّهُ فِی مُلْکِهِ أَحَدٌ وَ لاَ یَزُولُ أَبَداً وَ لَمْ یَزَلْ- أَوَّلٌ قَبْلَ الْأَشْیَاءِ بِلاَ أَوَّلِیَّةٍ- وَ آخِرٌ بَعْدَ الْأَشْیَاءِ بِلاَ نِهَایَةٍ- عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِیَّتُهُ بِإِحَاطَةِ قَلْبٍ أَوْ بَصَرٍ- فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِکَ فَافْعَلْ- کَمَا یَنْبَغِی لِمِثْلِکَ أَنْ یَفْعَلَهُ فِی صِغَرِ خَطَرِهِ- وَ قِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ وَ کَثْرَةِ عَجْزِهِ- و عَظِیمِ حَاجَتِهِ إِلَی رَبِّهِ فِی طَلَبِ طَاعَتِهِ- وَ الْخَشْیَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ- وَ الشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ فَإِنَّهُ لَمْ یَأْمُرْکَ إِلاَّ بِحَسَنٍ- وَ لَمْ یَنْهَکَ إِلاَّ عَنْ قَبِیحٍ
جملة من صفاته.
ثمّ إلی ما ینبغی أن یفعله من ملاحظة عظمته تعالی من الصفات المذکورة فإذن هاهنا أبحاث:
،و هی شرطیّة متّصلة مقدّمها قوله:
لو کان لربّک شریک،و تالیها لأتنک رسله.إلی قوله:و لعرفت أفعاله و صفاته،و یستنتج منها استثناء نقیض أقسام التالی لینتج نقیض المقدّم.بیان الملازمة:أنّه لو کان له شریک لکان شریکه إلها مستجمعا لجمیع شرایط الإلهیّة و إلاّ لم یصلح للشرکة لکن من لوازم الإلهیّة امور:
ص:22
أحدها:الحکمة فی وجوب بعثة الرسل إلی الخلق و وصولهم إلیه لما علمت من برهان وجوب البعثة فی موضعه.
الثانی:یلزم أن یکون آثار ملکه و سلطانه و صفات أفعاله ظاهرة مشاهد.
الثالث:أن یعرف أفعاله و صفات ذاته.لکن هذه اللوازم کلّها باطلة:أمّا الأوّل فلأنّه لم یأتنا رسول ذو معجزة یدلّنا علی الثانی و یخبرنا عنه،و أمّا الثانی:فهو أنّ آثار الملک و السلطان و عظمة الملک و إحکامه إنّما یدلّ علی حکیم قادر فأمّا علی التعدد فلا و اما الثالث:فالان مجرد الافعال التی نشاهدها انما یدل علی فاعل فاما التعدد فلا و کذلک صفات الالهیه المکتسبه بواسطه الافعال من العلم و القدرة و الإرادة و غیرها إنّما یدلّ علی صانع موصوف بها فأمّا علی صانعین أو أکثر کذلک فلا.فإذن القول بأنّ لربّنا شریک قول باطل لا برهان علیه کما قال تعالی «وَ مَنْ یَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» (1)الآیة،و قوله:إله واحد کما وصف نفسه.من لوازم النتیجة لأنّه إذا بطل القول بثانی الإله ثبت أنّه إله واحد کما وصف هو نفسه بقوله« «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ» .و «هُوَ اللّهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ» »و أنّه لا یضادّه فی ملکه أحد:أی یعانده فی أفعاله و ینازعه فی ملکه کما هو عادة الملوک.و أعلم أنّ هذه الحجّة إقناعیّة کما هو غایة الخطیب من الخطابة و لیست برهانیّة لأنّه إن أرید فی الشرطیّة أنّ وجود الثانی یستلزم وجود آثار و أفعال و صفات تخصّه و یعلم اختصاصه به.فالملازمة ممنوعة لأنّ الإلهین سواء کانا متّفقی الحقیقة أو مختلفی الحقیقة لا یلزم أن یختلف أفعالهما و لوازمهما بالنوع و یتخصّص کلّ منهما بلازم خاصّ و فعل خاصّ لا یوجد للآخر بل جاز أن یتّفقا فی اللوازم و الآثار،و إنّ أرید أنّ وجوده یستلزم أن یعرف آثار و أفعال و لوازم لا یخصّه بل جاز أن یشارکه فیها الإله الآخر فهذا مسلّم لکن لا یمکن الاستدلال بطلان التالی هاهنا،و هو ظاهر لأنّا نری آثار ملک و أفعال و لوازم و صفات لا تدلّ علی أحدیّة فاعلها و الموصوف بها و لا علی إثنینیّته
ص:23
و إنّما یدلّ علی مطلق فاعل و ملزوم ما.فلا یمکن بطلانها و رفعها لأنّ رفعها یستلزم رفع وجود الإله المطلق لاستلزام عدم اللازم عدم الملزوم لا رفع التالی خاصّة.
و هو إشارة إلی دوام وجوده و ثباته أزلا و أبدا،و برهانه أنّه تعالی واجب الوجود،و کلّ واجب الوجود لذاته فهو دائم الوجود و ثابته أزلا و أبدا:أمّا الصغری فقد مرّ برهانها،و أمّا الکبری فلأنّه لو جاز علیه الزوال و العدم لما کان واجب الوجود لذاته،و فساد التالی یستلزم فساد المقدّم.فإذن هو دایم الوجود أزلا و أبدا .
بعد الأشیاء بلا نهایة لوجوده.
أمّا الأوّل:فلأنّه لو کان لوجوده أوّلیّة لکان مسبوقا بالعدم فکان محدثا فکان ممکنا.هذا خلف،و أمّا الثانی:فلأنّه لو کانت آخریّته منقطعة بنهایة لکان ملحوقا بالعدم فلم یکن واجب الوجود لذاته.هذا خلف.
تشبیه کونه أعظم من أن یثبت ربوبیّته بإحاطة قلب أو بصر :أی هو أعظم أن یطّلع أحد بقلبه أو بصره علی کمال صفات ربوبیّته و الاعتبارات المعتبرة فیها،و وجه الشبه علی ذلک أنّک علمت أنّ صفة الربوبیّة و سایر صفات الإلهیّة باعتبار الخارج نفس حقیقه تعالی،و باعتبار العقل امور یعتبرها لمعقولیّة ذاته بالقیاس إلی مخلوقاته و آثاره و علی الوجهین فهو أعظم من أن یثبت ربوبیّته بإحاطة قلب أو بصر.
أمّا فی الخارج فلأنّ صفة ربوبیّته هی نفس ذاته فکانت إحاطة العلم بها موقوفة علی إحاطته بکنه ذاته،و قد علمت أنّها بریئة عن وجوه الترکیب فیمتنع الإحاطة بها لغیرها،و أمّا فی العقل فلأنّ اعتبار صفة الربوبیّة و إحاطة العقول بها موقوفة علی الإحاطة بجمیع اعتبارات صفات الکمال و نعوت الجلال.إذ اعتبار ربوبیّته المطلقة مستلزم لاعتبار الإلهیّة المطلقة المستلزم لاعتبار جمیع ماله من صفات الإلهیّة، و قد علمت أنّ تلک الاعتبارات غیر متناهیة فهی أعظم أن یحیط بها عقل بشریّ فضلا أن یتعلّق بها إدراک بصریّ .
:اعلم أنّه لمّا نبّهه علی عظمة اللّه سبحانه و کمال ذاته فی
ص:24
الاعتبارات المذکورة أمره أن یفعل کما ینبغی أن یفعله من هو مثله فی النقصان بالنسبة إلی عظمة اللّه سبحانه فیطیعه حقّ طاعته و یعبده بکمال عبادته و کما ینبغی لکرم وجهه و عزّ جلاله،و عدّد له وجوه النقصان لیعتبر حاله فی کلّ منها بالقیاس إلی کمال ذاته تعالی لیعلم صغر منزلته بالنسبة إلی عظمته تعالی،و قلّة مقدرته و کثرة عجزه بالنسبة إلی کمال قدرته.و کذلک عظم حاجته إلی ربّه فی کلّ حال من طلب توفیقه و إعداده لطاعته و الرهبة من عقوبته و الإشفاق من سخطه کلّ ذلک بالنسبة إلی غنائه المطلق فی کلّ شیء عن کلّ شیء.
و قوله: فإنّه .إلی قوله: قبیح .
تنبیه إجمالیّ علی وجوب طاعته تعالی فی کلّ ما أمر به و نهی عنه.و جذبه إلی فعل کلّ مأمور به بکونه حسنا و إلی الانتهاء عن کلّ شیء منهیّ عنه بکونه قبیحا.
و قد علمت أنّ الغایة من بعثة الرسل و وضع الشرائع و السنن هی نظام أحوال الخلق فی معاشهم و معادهم.فلا بدّ إذن فی کلّ أمر أو نهی من سرّ و حکمة یوجب حسن المأمور به و قبح المنهیّ عنه،و لهذا الکلام و نحوه تعلّقت المعتزلة بمسألة الحسن و القبح العقلیّین،و باللّه التوفیق.
قوله:
یَا بُنَیَّ إِنِّی قَدْ أَنْبَأْتُکَ عَنِ الدُّنْیَا وَ حَالِهَا- وَ زَوَالِهَا وَ انْتِقَالِهَا- وَ أَنْبَأْتُکَ عَنِ الْآخِرَةِ وَ مَا أُعِدَّ لِأَهْلِهَا فِیهَا- وَ ضَرَبْتُ لَکَ فِیهِمَا الْأَمْثَالَ- لِتَعْتَبِرَ بِهَا وَ تَحْذُوَ عَلَیْهَا- إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْیَا کَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ- نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِیبٌ- فَأَمُّوا مَنْزِلاً خَصِیباً وَ جَنَاباً مَرِیعاً- فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِیقِ وَ فِرَاقَ الصَّدِیقِ- وَ خُشُونَةَ السَّفَرِ وَ جُشُوبَةَ المَطْعَمِ- لِیَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ وَ مَنْزِلَ قَرَارِهِمْ- فَلَیْسَ یَجِدُونَ لِشَیْءٍ مِنْ ذَلِکَ أَلَماً- وَ لاَ یَرَوْنَ نَفَقَةً فِیهِ مَغْرَماً- وَ لاَ شَیْءَ أَحَبُّ
ص:25
إِلَیْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ- وَ أَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلَّتِهِمْ- وَ مَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا کَمَثَلِ قَوْمٍ کَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِیبٍ- فَنَبَا بِهِمْ إِلَی مَنْزِلٍ جَدِیبٍ- فَلَیْسَ شَیْءٌ أَکْرَهَ إِلَیْهِمْ وَ لاَ أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ- مِنْ مُفَارَقَةِ مَا کَانُوا فِیهِ- إِلَی مَا یَهْجُمُونَ عَلَیْهِ وَ یَصِیرُونَ إِلَیْهِ یَا بُنَیَّ اجْعَلْ نَفْسَکَ مِیزَاناً فِیمَا بَیْنَکَ وَ بَیْنَ غَیْرِکَ- فَأَحْبِبْ لِغَیْرِکَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِکَ- وَ اکْرَهْ لَهُ مَا تَکْرَهُ لَهَا- وَ لاَ تَظْلِمْ کَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ- وَ أَحْسِنْ کَمَا تُحِبُّ أَنْ یُحْسَنَ إِلَیْکَ- وَ اسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِکَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَیْرِکَ- وَ ارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِکَ- وَ لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَ إِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ- وَ لاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ یُقَالَ لَکَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ وَ آفَةُ الْأَلْبَابِ- فَاسْعَ فِی کَدْحِکَ وَ لاَ تَکُنْ خَازِناً لِغَیْرِکَ- وَ إِذَا أَنْتَ هُدِیتَ لِقَصْدِکَ فَکُنْ أَخْشَعَ مَا تَکُونُ لِرَبِّکَ
أقول: یحذو : یقتدی .و السفر : المسافرون :و أمّوا : قصدوا .و الجناب:
الفناء و المنزلة .و المریع . ذو الکلاء و الخصب .و وعثاء السفر: مشقّته .و جشوبة المطعم : غلظته .و هجم : وقع بغتة .و الکدح : الکسب .
و ذکّره بما أخبره به عنهما
ص:26
من ضرورة زوال الدنیا و انتقالها و بقاء الآخرة و ما أعدّ لأهلها فیها من السعادة الباقیة الّتی اشتمل علی تعدید أنواعها الکتاب العزیز و السنّة الکریمة،و ضرب لطالبهما مثلین لیکون ممّن أعرض عن الدنیا و أقبل علی الآخرة.فالمثل الأوّل :
مثل من خبر الدنیا و عرف زوالها و انتقالها،و خبر الآخرة و عرف بقائها و ما اعدّ فیها لأهلها،و مثّلهم بقوم مسافرین فارقوا منزلا جدیبا إلی منزل خصیب،و وجه مطابقه هذا المثل أنّ النفوس البشریّة لمّا کانت فی عالم المجرّدات،و کانت الحکمة فی هبوطها إلی هذا العالم و مقارنتها لهذه الهیاکل الجسمانیّة الکثیفة فی دار الغربة و محلّ الوحشة من عالمها هو أن یحصل بواسطتها الکمالات العقلیّة الّتی إنّما تمکّن لها بواسطتها،ثمّ یرجع بعد الاستکمال عنها إلی عالمها الأعلی طاهرة عن علایق هذه الهیاکل و هیئاتها الردیئة کما أخذ علیها فی العهد القدیم کانت کلّ نفس حفظت عهد ربّها و بقیت علی صراطه المستقیم و هی المدّة المضروبة لها ناظرة بعین الاعتبار إلی أنّ الدنیا کالمنزل الجدیب خال عن المطاعم الحقیقیّة و المشارب العذبة الهنیئة فهو لذلک غیر صالح للاستیطان و الإقامة،و أنّ عالم الآخرة کالمنزل الخصیب و الجناب المریع من وصل إلیه مستقیما علی أوامر اللّه و نواهیه فاز بالمقاصد السنیّة و اللذّات الباقیة فکانت أبدا فی طریق السفر فی منازل طریق اللّه و الاستعداد للوصول إلی بهجة حضرته الشریفة محتملة لمشقّة ذلک السفر من معاناة الجوع و الظماء و مقاساة السهر قصدا إلی سعة الدار و منزل القرار لا تجد من ذلک ألما و لا تعدّ ما تنفقة من المال و العمر فیه مغرما و لا شیء أحبّ إلیها من وسیلة تقرّبها إلی ذلک المنزل الّذی أمّته و الجناب الّذی قصدته فأشبهت فی ذلک من وصل إلی منزل جدیب.ثمّ علم أنّ أمامه منزلا خصیبا فاقتضی رأیه الحسن أن یحتمل و عثاء السفر و مشقّته إلیه لیحصل علی الراحة الکبری ،و أمّا المثل الثانی:فهو مثل أهل الدنیا الّذین قادتهم نفوسهم الأمّارة بالسوء إلیها فغفلوا فیها عمّا ورائها و نسوا عهد ربّهم و أعرضوا عمّا ذکروا به من آیاته، تشبیه و شبّههم بقوم کانوا فی منزل خصیب فنبأ بهم إلی منزل جدیب ، فالمنزل الخصیب فی هذا المثل هو الدنیا لأنّها محلّ سعادة أهلها و نعیمهم،و المنزل
ص:27
الجدیب هو الآخرة.إذ لم یکونوا قد استعدّوا لدرک السعادة فیها.و وجه تشبیههم بالقوم هو ما ذکره من أنّه لیس شیء أکره إلیهم.إلی آخره:أی لیس شیء أکره إلیهم و لا أفظع عندهم من مفارقة ما هم فیه من الدنیا إلی ما یهجمون علیه بغتة من الأهوال،و یصیرون إلیه من مقاساة السلاسل و الأغلال کما أنّه لیس شیء أکره إلی القوم من مفارقة منزل خصیب کانوا فیه إلی منزل جدیب یهجمون علیه،و إلی هذین المثلین أشار الرسول صلّی اللّه علیه و آله:الدنیا سجن المؤمن و جنّة الکافر .
استعارة الوصیّة بإصلاح معاملته مع الخلق.فأشار علیه أن یجعل نفسه میزانا بینه و بین غیره ،و وجه استعارة لفظ المیزان له أنّه یکون ذا عدل بین نفسه و بین الناس کالمیزان .
میزانا باعتبارها
فمنها أمور ثبوتیّة،و منها أمور سلبیّة:
و فی الحدیث المرفوع:لا یکمل إیمان عبد حتّی یحبّ لأخیه ما یحبّ لنفسه،و یکره له ما یکره لنفسه.و سرّ الحدیث أنّ ذلک من کمال فضیله العدالة الّتی هی من کمال الإیمان.
فیسلم من رذیلتی الظلم و الانظلام.
و الإحسان فضیلة تحت العفّة.
فینزجر عن جمیع مناهی اللّه و هو من لوازم المروّة،و لذلک قال أحنف إذ سئل عن المروّة:هی أن تستقبح من نفسک ما تستقبح من غیرک .
:أی کلّ ما رضی أن یفعله بهم من خیر أو شرّ إن فعله فینبغی أن یرضی بمثله منهم،و فیه تنبیه علی أنّه لا یجوز أن یفعل الشرّ لعدم لازمه و هو الرضا منهم به.
و إنّما قال:و إن قلّ ما یعلم لأنّ تصوّر قلّة العلم قد یکون داعیة لبعض الناس إلی أن یقول بغیر علم لئلاّ ینسب
ص:28
إلی الجهل فیضلّ و یضلّ کما قال تعالی «وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یُجادِلُ فِی اللّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدیً وَ لا کِتابٍ مُنِیرٍ» (1).
کالمواجهة بالعیوب و الألقاب المکروهة و کلّ کلام موذ .
بأنّه ضدّ الصواب.و لمّا کان الصواب هو سلوک طریق اللّه باستجماع مکارم الأخلاق و کان الإعجاب من رذائل الأخلاق کان مضادّا للصواب مضادّة الرذیلة للفضیلة،و بأنّه آفة للعقول.إذ هو من أکبر أمراض العقل و آفاته المهلکة له کما أشار إلیه الرسول صلّی اللّه علیه و آله:ثلاث مهلکات:إلی أن قال:و إعجاب المرء بنفسه.
أی فیما ینبغی له من کسب الطاعات،و قیل:
أراد بالکدح ما اکتسبه من المال و ما ینبغی فیه إنفاقه فی سبیل اللّه.
و ذلک أنّ الهدایة للرشد هی العلم بالطریق إلی اللّه تعالی فی جمیع ما عدّد من مکارم الأخلاق.
و العلم بالطریق المؤدّیة إلیه حین سلوکها یستلزم ملاحظة جلاله و عظمته و هناک یکون الخشوع الحقّ و الخشیة التامّة لقوله تعالی «إِنَّما یَخْشَی اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (2).
قوله:
وَ اعْلَمْ أَنَّ أَمَامَکَ طَرِیقاً ذَا مَسَافَةٍ بَعِیدَةٍ- وَ مَشَقَّةٍ شَدِیدَةٍ- وَ أَنَّهُ لاَ غِنَی لَکَ فِیهِ عَنْ حُسْنِ الاِرْتِیَادِ- وَ قَدْرِ بَلاَغِکَ مِنَ الزَّادِ مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ- فَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَی ظَهْرِکَ فَوْقَ طَاقَتِکَ- فَیَکُونَ ثِقْلُ ذَلِکَ وَبَالاً عَلَیْکَ- وَ إِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ یَحْمِلُ لَکَ زَادَکَ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ- فَیُوَافِیکَ بِهِ غَداً حَیْثُ تَحْتَاجُ
ص:29
إِلَیْهِ- فَاغْتَنِمْهُ وَ حَمِّلْهُ إِیَّاهُ- وَ أَکْثِرْ مِنْ تَزْوِیدِهِ وَ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَیْهِ- فَلَعَلَّکَ تَطْلُبُهُ فَلاَ تَجِدُهُ- وَ اغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَکَ فِی حَالِ غِنَاکَ- لِیَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَکَ فِی یَوْمِ عُسْرَتِکَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ أَمَامَکَ عَقَبَةً کَئُوداً- الْمُخِفُّ فِیهَا أَحْسَنُ حَالاً مِنَ الْمُثْقِلِ- وَ الْمُبْطِئُ عَلَیْهَا أَقْبَحُ حَالاً مِنَ الْمُسْرِعِ- وَ أَنَّ مَهْبِطَکَ بِهَا لاَ مَحَالَةَ- عَلَی جَنَّةٍ أَوْ عَلَی نَارٍ- فَارْتَدْ لِنَفْسِکَ قَبْلَ نُزُولِکَ وَ وَطِّئِ الْمَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِکَ- فَلَیْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ وَ لاَ إِلَی الدُّنْیَا مُنْصَرَفٌ وَ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِی بِیَدِهِ «خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» قَدْ أَذِنَ لَکَ فِی الدُّعَاءِ- وَ تَکَفَّلَ لَکَ بِالْإِجَابَةِ وَ أَمَرَکَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِیُعْطِیَکَ- وَ تَسْتَرْحِمَهُ لِیَرْحَمَکَ- وَ لَمْ یَجْعَلْ بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ مَنْ یَحْجُبُکَ عَنْهُ- وَ لَمْ یُلْجِئْکَ إِلَی مَنْ یَشْفَعُ لَکَ إِلَیْهِ وَ لَمْ یَمْنَعْکَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ- وَ لَمْ یُعَاجِلْکَ بِالنِّقْمَةِ- وَ لَمْ یَفْضَحْکَ حَیْثُ الْفَضِیحَةُ بِکَ أَوْلَی- وَ لَمْ یُشَدِّدْ عَلَیْکَ فِی قَبُولِ الْإِنَابَةِ- وَ لَمْ یُنَاقِشْکَ بِالْجَرِیمَةِ- وَ لَمْ یُؤْیِسْکَ مِنَ الرَّحْمَةِ- بَلْ جَعَلَ نُزُوعَکَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنَةً- وَ حَسَبَ سَیِّئَتَکَ وَاحِدَةً- وَ حَسَبَ حَسَنَتَکَ عَشْراً- وَ فَتَحَ لَکَ بَابَ الْمَتَابِ وَ بَابَ الاِسْتِعْتَابِ- فَإِذَا نَادَیْتَهُ سَمِعَ نِدَاکَ- وَ إِذَا نَاجَیْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاکَ- فَأَفْضَیْتَ إِلَیْهِ بِحَاجَتِکَ- وَ أَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِکَ وَ شَکَوْتَ
ص:30
إِلَیْهِ هُمُومَکَ- وَ اسْتَکْشَفْتَهُ کُرُوبَکَ وَ اسْتَعَنْتَهُ عَلَی أُمُورِکَ- وَ سَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لاَ یَقْدِرُ عَلَی إِعْطَائِهِ غَیْرُهُ- مِنْ زِیَادَةِ الْأَعْمَارِ وَ صِحَّةِ الْأَبْدَانِ- وَ سَعَةِ الْأَرْزَاقِ- ثُمَّ جَعَلَ فِی یَدَیْکَ مَفَاتِیحَ خَزَائِنِهِ- بِمَا أَذِنَ لَکَ فِیهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ- فَمَتَی شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِهِ- وَ اسْتَمْطَرْتَ شَآبِیبَ رَحْمَتِهِ- فَلاَ یُقَنِّطَنَّکَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ- فَإِنَّ الْعَطِیَّةَ عَلَی قَدْرِ النِّیَّةِ- وَ رُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْکَ الْإِجَابَةُ لِیَکُونَ ذَلِکَ أَعْظَمَ لِأَجْرِ السَّائِلِ- وَ أَجْزَلَ لِعَطَاءِ الْآمِلِ- وَ رُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّیْءَ فَلاَ تُؤْتَاهُ- وَ أُوتِیتَ خَیْراً مِنْهُ عَاجِلاً أَوْ آجِلاً- أَوْ صُرِفَ عَنْکَ لِمَا هُوَ خَیْرٌ لَکَ- فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَهُ فِیهِ هَلاَکُ دِینِکَ لَوْ أُوتِیتَهُ- فَلْتَکُنْ مَسْأَلَتُکَ فِیمَا یَبْقَی لَکَ جَمَالُهُ- وَ یُنْفَی عَنْکَ وَبَالُهُ- فَالْمَالُ لاَ یَبْقَی لَکَ وَ لاَ تَبْقَی لَهُ
أقول: الارتیاد : الطلب .و الطوق و الطاقة : ما یتسع له قدرتک .و الوبال:
الهلاک .و کؤد : شاقّة المصعد .و النزوع عن الذنب. الخروج منه .و الإفضاء:
الوصول .و البثّ : النشر و الکشف .و الشآبیب : جمع شؤبوب و هو الدفعة من المطر .و القنوط : الیأس .و الاستعتاب : طلب العتبی و هی الرجوع إلی الرضا .
أحدها:الوصیّة بالسعی فی تحصیل الکمالات النفسانیّة الباقیة.
استعارة و الثانی:طرح الرذائل المنقّصة فنبّهه علی الأوّل بأن أمامه:أی فی سفره إلی اللّه طریقا طویلا شدیدا،و ظاهر أنّ الطریق الّتی یکون لذلک لابدّ لسالکه
ص:31
من حسن طلب القصد فیه إلی مطلوبه،و من قدر مبلغ له من الزاد،و استعار له لفظ الطریق لما یسیر فیه الإنسان من أحوال الدنیا و یعبر منها إلی الآخرة،و أشار بطولها و شدّتها إلی عسر النجاة فیها و السلامة من خطرها.إذ کان ذلک إنّما یکون بلزوم القصد و الثباث علی سنن العدل و الاستقامة علی حاقّ الوسط من مکارم الأخلاق.إذ علمت أنّ لکلّ من القوّة التمیزیّة و الشهویّة و الغصبیّة حدّ یجب وقوف الإنسان عنده و هو العدل،و علمت أنّه أدقّ الحدود و أصبعها.إذ هو محتوش بطرفی تفریط و إفراط قلّ ما یسلم الإنسان من الوقوع فی أحدهما،و هما طریقا جهنّم.فبالحری أن یکون طریقا ذا مسافة لا یصل الإنسان منها إلی غایته إلاّ علی بعد بعید،و لا یحصل منها علی خبیر إلاّ بجهد جهید،و استعار لفظ الزاد للتقوی و الکمالات الّتی هی بلاغ الإنسان فی تلک الطریق إلی اللّه تعالی،و بهذا یکون النجاة فیها و الخلاص من مهالکها ، استعارة و نبّهه علی الثانی بقوله: مع خفّة الظهر.إلی قوله:
وبالا علیک .و استعار لفظ الخفّة لتقلیل اکتساب الآثام و حملها علی النفس،و لفظ الحمل لاکتسابها،و وجه الاستعاره الاولی:أنّ مقلّل الآثام سریع القطع لتلک الطریق قریب إلی النجاة فیها من مخاوفها کما قال علیه السّلام:تخفّفوا تلحقوا.و کما أشار إلیه الرسول صلّی اللّه علیه و آله:نجا المخفّون.و وجه الثانیة:أنّ مکتسب الآثام یثقل بها و یبطئ عن لحوق المخفّین و یهلک بها فی طریقه،و کثرة تخلّفه تابعة لکثرة اکتسابة کما یکون حال المثقل فی الطریق البعیدة،و لفظ الظهر ترشیح المطلوب .
لمن یحتاج إلیه من أهل الفاقة،و ذلک قوله:و إذا وجدت.إلی قوله:عسرتک.و جذبه و أعدّه لذلک بأمرین:
استعارة أحدهما:کون ذلک زادا یحمله ذو الفاقة إلی یوم القیامة،و یلقاه به هناک فی موضع الحاجة إلیه.و استعار لفظ الزاد هنا لما یحصل من فضیلة السخا و الکرم بالإنفاق،و وجه الاستعارة کونه سببا لسلامة النفس من الهلاک فی طریق الآخرة و وسیلة إلی السعادة الباقیة کالزاد المخلص للمسافر فی طریقه و المبلّغ له إلی مطالبه،
ص:32
و استعار للمتصدّق علیه وصف الحامل لذلک الزاد باعتبار أنّه سبب لحصول الفضیلة بتلک الصدقة و وصول ثوابها إلی المتصدّق یوم القیامة فوجدانه لتلک الفضیلة و ظهورها فی صحیفة أعمال المتصدّق یوم القیامة هو المشار إلیه بالموافات بها غدا .
ثمّ أمره أن یغتنم ذا الفاقة عند وجدانه،و أن یحمله ذلک الزاد و یکثر من تزویده و تحمیله للزاد حینما هو قادر علی تحصیله،و جذب إلی اغتنامه و المسارعة إلی الصدقة بقوله:فلعلّک تطلبه فلا تجده.لأنّ الوسیلة إلی أمر عظیم إذا کان فی معرض أن یطلب فلا توجد ثمّ وجدت فی وقت فمن الواجب أن یغتنم تحصیلها و لا تهمل.
الثانی:کون الصدقة.علی ذی الفاقة قرضا للمتصدّق فی حال غناه بالمال یقضی له یوم عسرته و فقره،و استعار وصف المستقرض هنا للّه باعتبار أنّه هو المجازی بالثواب من أنفق ماله فی طاعته،و إلیه الإشارة بقوله تعالی «إِنْ تُقْرِضُوا اللّهَ» «مِنْ بَنِی إِسْرائِیلَ مِنْ بَعْدِ مُوسی» (1)و نبّه بکون القرض فی حال الغناء،و القضاء فی حال العسرة لیکون القضاء أفضل فیرغب فی القرض لغایة الربح المطلوب .
استعارة التنبیه علی شدّة طریق الآخرة و علی وجوب الاستعداد لها بالخفّة من حمل الآثام و السرعة فیها قبل انقضاء الأیّام،و استعار لفظ العقبة لما فیها من الصعود و الارتقاء فی درجات الکمال بالفضائل عن مهابط الرذائل،و وصفها بشدّة الصعود باعتبار ما فی ذلک الارتقاء من التعسّر و کثرة الموانع .
و جذب إلی الاستعداد بامور ثلاثة:
أحدها:کون المخفّ فیها أحسن حالا من المثقل،و هو ظاهر کما قدّمناه.
الثانی:کون المبطئ فیها أقبح حالا من المسرع و هو أیضا ظاهر.إذ کان المبطئ فیها واقفا فی أحد طرفی الإفراط و التفریط مشغولا بما یلهیه ملتفتا عمّا یعینه حتّی إذا تصرّم أجله بقی فی مهاوی الهلاک أسیرا و علی ما فاته من سرعة السیر حسیرا.
مجاز الثالث:ذکر الغایتین منها و هی الجنّة و النار.و أنّه لا بدّ من تأدیتها و هبوطها
ص:33
بسالکها علی أحدهما،و هو ظاظر.أیضا فإنّ خوض الإنسان فی أحوال الدنیا و التصرّف فیها إلی غایة انقطاعها و وصول الآخرة إمّا أن یکون علی وجه القصد،و لزوم سمت القبلة الحقیقیّة و تجنّب طریق طرفی الإفراط و التفریط و بذلک یکون هجوم تلک الطریق و هبوطها بسالکها علی الجنّة،و إمّا أن یکون علی وجه الانحراف عن ذلک القصد،و التعریج عنه إلی ما فی تلک الطریق من مناهی اللّه و أبواب محارمه،و بذلک یکون هبوطها بسالکها علی النار،و نسبة الهبوط إلیها مجاز باعتبار تأدّیها إلی إحدی الغایبین کالهابط بالشیء لیوصله إلی قراره .ثمّ أمره أن یرتاد لنفسه و یطلب ما یکون سببا لنجاته فیها و حسن حاله قبل نزول أحد المنزلین الّذین هما غایتاها لیکون هبوطها به علی الجنّة،و أن یوطّئ المنزل الّذی یرید سکناه بالاستعداد له.
و روی:یوطّن-بالنون-أی یتّخذه وطنا .
،و سرّه دوام ملاحظة جلال اللّه و الانقطاع إلیه.إذ هو مبدء کلّ محبوب و معطی کلّ مطلوب.
و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک کان أحقّ بالرغبة إلیه من کلّ أحد.
فقال «ادْعُونِی أَسْتَجِبْ لَکُمْ» (1)و تقدیر الکبری فکالأوّل.
فی قوله تعالی «وَ سْئَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ» (2)و کذلک أن یطلبوا منه الرحمة لیرحمهم،و ذلک أنّ إفاضة الرزق و الرحمة و کلّ فضل منه إنّما یوجد بعد الاستعداد له بالاخلاص فی الطلب و الاسترحام و غیره کما علم فی مظانّه،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فواجب أن یسأل و یسترحم.
و لا بوّابا لتقدّسه سبحانه
ص:34
عن الجسمیّة و الجهة و صفات المحدثات بل تجلّی فی کلّ شیء لکلّ من فتح عین بصیرته و وجّهها إلی مطالعة کبریائه و عظمته،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فهو أولی من یسئل و یسترحم.
لأنّ الشفیع إنّما یضطرّ إلیه عند تعذّر المطلوب من جهة المرغوب إلیه إمّا لبخله أو جهله باستحقاق الطالب.و الباری تعالی لا بخل فیه و لا منع من جهته،و إنّما یتوقّف فیضه علی استعداد الطالب له و لم یجعل سبحانه للراغبین إلیه ضرورة إلی الشفعاء.إذ مکّنهم من الاستعداد لنیل مطلوباتهم منه و هیّأ لهم أسبابها و فتح لهم أبواب رحمته فإن عرضت لهم حاجة إلی شفیع فلیس ذلک عن ضرورة و إلجاء منه إلی ذلک .
بل أمره بها و وعده علیها فقال:
«یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَی اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسی رَبُّکُمْ أَنْ یُکَفِّرَ عَنْکُمْ سَیِّئاتِکُمْ وَ یُدْخِلَکُمْ» الجنه و قال بعد أن عدّد الکبائر و توعّد علیها: «إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِکَ یُبَدِّلُ اللّهُ سَیِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» الآیة.
مع اطّلاعه علیه حین معصیته و لم یفضحه فی مقامه الّذی تعرّض فیه للفضیحة بل أمهله علی ظلمه و أسبل علیه ستر کرمه و حلمه.
و الرجوع إلیه کما یفعله الملوک فی حقّ من أساء و طلب الإقالة،و لم یناقشه بجریمته و ذنبه فیستقصی فی حسابه بل سهل علیه فی ذلک و قبل توبته متی شاء لأنّه تعالی لا مضرّة علیه بإساءة مسیء و لا نفع یصل إلیه من إنابة منیب.إذ هو الغنیّ المطلق.
حیث قال «یا عِبادِیَ الَّذِینَ أَسْرَفُوا عَلی أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ» .الآیة .
و توبته منه حسنة حیث قال بعد ذکر التوبة «فَأُوْلئِکَ یُبَدِّلُ اللّهُ سَیِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» ،و حسب سیّئته واحدة و حسنته عشرا حیث قال «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّیِّئَةِ فَلا یُجْزی إِلاّ مِثْلَها» .
ص:35
حیث قال: «غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ» «وَ هُوَ الَّذِی یَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ یَعْفُوا عَنِ السَّیِّئاتِ» ،و باب الاستعتاب حیث أمره و أرشده إلی طلب الرضا عنه بعد توبته .
لقوله تعالی «إِنَّ رَبِّی لَسَمِیعُ الدُّعاءِ» (1)و إذا ناجاه علم نجواه لقوله تعالی «یَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفی» (2)فأوصل إلیه حاجته إن شاء سرّا و إن شاء جهرا ،و طلب منه إعانته علی أموره،و نشر له ما کان فی نفسه من مهماته،و سأله کشف کروبه.فوهب له من خزائن رحمته ما لا یقدر علی إعطائه غیره من زیادة الأعمار،و صحّة الأبدان،و سعة الأرزاق .
استعارة أنّه جعل فی یدیه مفاتیح خزائنه بما أدّت له من مسئلته ،و استعار لفظ المفاتیح للأدعیة باعتبار أنّها أسباب لتحصیل النعمة و کمال الرحمة متی شاء استفتح بها أبواب خزائنها،و کذلک استعار لفظ الأبواب لأسباب جزئیّات النعم الواصلة إلی العبد.و خزائن نعمه هی «خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» .إذ الکلّ منه و بیده،و یحتمل أن یشیر بها إلی المعقول من سماء جوده و ما یحویه قدرته من الخیرات الممکنة ، استعارة مرشحة و استعار وصف الاستمطار لطلب نعم اللّه تعالی ملاحظة لشبهها بالمطر فی کونهما سببین للحیاة و صلاح الحال فی الدنیا و یشبه طالبیهما بالمستمطر،و رشّح بذکر الشآبیب، و تقدیر الکبری فی کلّ واحد من هذه الضمائر:و کلّ من کان کذلک فهو أحقّ بأن یرغب إلیه و یوجّه الطلب نحوه ،و أعلم أنّه لمّا رغّبه فی الدعاء بهذه الجواذب نبّهه علی أنّ الإجابة فی الدعاء قد تبطیء و تتأخّر.
لیلحظها عند تأخّرها فلا یقنط منها:
:أی أنّ الإجابة موقوفة علی الاستعداد بإخلاص النیّة فإذا تأخّرت الإجابة فلعلّ تأخّرها لأنّ النیّة لم تکن خالصة.
ص:36
و المؤمّل استعدادا أعلی لعطاء ما هو أعلی و أشرف ممّا سأل فیعطاه عند کمال استعداده لأنّه علی قدر أهل العزم یأتی العزائم،و بقدر الکدّ یکتسب المعالی .
لاشتماله علی مفسدة فی دینه لو اعطی إیّاه کالغنی و الجاه مثلا و سایر المطالب الدنیویّة الخالصة فلا یجیب اللّه سؤاله فیه بل یعطیه خیرا منه إمّا فی عاجل دنیاه أو فی آجل آخرته و یصرف ذلک الأمر عنه لما هو مصلحة له أو خیر.ثمّ ختم ذلک بتعریفه مواقع مسألته للّه و ما ینبغی أن یسأله إیّاه و هو ما یبقی له جماله و یبقی عنه وباله من التوفیق لأسباب السعادة الباقیة و جمیل الاحدوثة فی الأعقاب دون المال.
قوله:
وَ اعْلَمْ یَا بُنَیَّ أَنَّکَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلْآخِرَةِ لاَ لِلدُّنْیَا- وَ لِلْفَنَاءِ لاَ لِلْبَقَاءِ وَ لِلْمَوْتِ لاَ لِلْحَیَاةِ- وَ أَنَّکَ فِی مَنْزِلِ قُلْعَةٍ وَ دَارِ بُلْغَةٍ- وَ طَرِیقٍ إِلَی الْآخِرَةِ- وَ أَنَّکَ طَرِیدُ الْمَوْتِ الَّذِی لاَ یَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ-وَ لاَ یَفُوتُهُ طَالِبُهُ وَ لاَ بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِکُهُ فَکُنْ مِنْهُ عَلَی حَذَرِ أَنْ یُدْرِکَکَ وَ أَنْتَ عَلَی حَالٍ سَیِّئَةٍ- قَدْ کُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَکَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ- فَیَحُولَ بَیْنَکَ وَ بَیْنَ ذَلِکَ- فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَکْتَ نَفْسَکَ یَا بُنَیَّ أَکْثِرْ مِنْ ذِکْرِ الْمَوْتِ وَ ذِکْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَیْهِ- وَ تُفْضِی بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَیْهِ- حَتَّی یَأْتِیَکَ وَ قَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَکَ- وَ شَدَدْتَ لَهُ أَزْرَکَ- وَ لاَ یَأْتِیَکَ بَغْتَةً فَیَبْهَرَکَ- وَ إِیَّاکَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَی مِنْ إِخْلاَدِ أَهْلِ الدُّنْیَا إِلَیْهَا- وَ تَکَالُبِهِمْ عَلَیْهَا فَقَدْ نَبَّأَکَ اللَّهُ عَنْهَا- وَ نَعَتْ لَکَ نَفْسَهَا وَ تَکَشَّفَتْ
ص:37
لَکَ عَنْ مَسَاوِیهَا- فَإِنَّمَا أَهْلُهَا کِلاَبٌ عَاوِیَةٌ وَ سِبَاعٌ ضَارِیَةٌ- یَهِرُّ بَعْضُهَا بَعْضًا وَ یَأْکُلُ عَزِیزُهَا ذَلِیلَهَا- وَ یَقْهَرُ کَبِیرُهَا صَغِیرَهَا- نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ وَ أُخْرَی مُهْمَلَةٌ- قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا وَ رَکِبَتْ مَجْهُولَهَا- سُرُوحُ عَاهَةٍ بِوَادٍ وَعْثٍ- لَیْسَ لَهَا رَاعٍ یُقِیمُهَا وَ لاَ مُسِیمٌ یُسِیمُهَا- سَلَکَتْ بِهِمُ الدُّنْیَا طَرِیقَ الْعَمَی- وَ أَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَی- فَتَاهُوا فِی حَیْرَتِهَا وَ غَرِقُوا فِی نِعْمَتِهَا- وَ اتَّخَذُوهَا رَبّاً فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَ لَعِبُوا بِهَا- وَ نَسُوا مَا وَرَاءَهَا- رُوَیْداً یُسْفِرُ الظَّلاَمُ- کَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الْأَظْعَانُ- یُوشِکُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ یَلْحَقَ
أقول: منزل قلعة : لا یصلح للاستیطان .و البلغة : ما تبلغ به من العیش .
الأزر : القوّة .و یبهّره : غلبه و أتعبه،و أصل البهر تتایع النفس عن التعب .و أخلد إلی کذا : استند إلیه .و التکالب : التواثب .و المساوی : المعایب .و الضراوة.
تعوّد الصید و الجرأة علیه .و المعقّلة : المقیّدة .و المجهول و المجهل : المفازة الّتی لا أعلام فیها .و واد وعث : لا یثبت به خفّ و لا حافر لکثرة سهولته .و المسیم : الراعی .
و قد نبّهه فی هذه الفصل علی امور:
و الفناء دون الحیاة و البقاء،
و هذه الامور علل عرضیّة من وجود الإنسان لکونها من ضرورات وجوده،و أمّا العلّة الحقیقیّة الاولی من وجوده فهی استکماله و وصوله إلی حضرة ربّه طاهرا عن علایق الدنیا،و ذکره بهذه الغایات الّتی یجزم بالوصول إلیها لیعمل لها و لما بعد الموت،و یقلّ العرجة علی الدنیا و عمارتها و لا یرکن إلی البقاء فیها لکونها امورا عرضیّة زایلة.
ص:38
علی أنّها منزل عبور لم یخلق للاستیطان و الإقامة،و بکونها دار بلغة علی أنّها إنّما خلقت لیتّخذ منها الإنسان بلاغا للوصول إلی الآخرة و زادا لکونها طریقا إلیها.
استعارة نبّهه علی أنّه طرید الموت ،و استعار له لفظ الطرید ملاحظة لشبهه بالصید یطرده السبع و غیره .ثمّ وصف الموت بکونه لا ینجو منه هارب و لا بدّ أنّه مدرکه تحذیرا منه و جذبا إلی الاستعداد له بطاعته المقاومة لأهواله و شدایده،و لذلک قال:فکن منه علی حذر.إلی قوله:نفسک:أی ببقائک علی الحال السیّئة تحدّث نفسک فیها بالتوبة إلی أن یدرکک،و یحول عطف علی یدرکک،و إذا للمفاجاة .
فإنّ ذلک یستلزم العبرة و الانزجار و الأخذ فی الاهبّة و الاستعداد له و لما بعده،و لذلک قال:حتّی یأتیک و قد أخذت منه حذرک و شددت له قوّتک:أی بالکمالات الّتی استعددت بها و لا یأتیک بغتة فیتبعک،و قوله:و لا یأتیک عطف علی قوله:حتّی یأتیک،و الواو فی قوله:و قد للحال،و کذلک بغتة حال و یبهّرک منصوب بإضمار أن بعد الفاء فی جواب النفی .
و نبّهه علی أنّه لا ینبغی له ذلک الاغترار بقیاسات ضمیر.
فقوله: فقد نبّأک اللّه .إلی قوله: عنها .
هو صغری القیاس الأوّل کقوله تعالی «وَ مَا الْحَیاةُ الدُّنْیا إِلاّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ» (1)فی مواضع کثیرة من کتابه العزیز و قوله «إِنَّما» «الْحَیاةِ الدُّنْیا کَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ» (2)الآیة و أمثاله.
و قوله: و نعت لک نفسها .
ص:39
صغری القیاس الثانی،و روی:و نعت.بمعنی أنّ اللّه وصفها له،و معنی نعتها لنفسها وصفها بلسان حالها لنفسها،و بیان أنّها محلّ الهموم و الغموم و الأعراض و الأمراض و دار کلّ بلاء و منزل کلّ فتنة .
و قوله: و إنّما أهلها .إلی آخره.
صغری القیاس الثالث،و تقدیر الکبری فی القیاس الأوّل:و کلّ من أخبر اللّه تعالی عنه بذلک فلا ینبغی أن یغترّ به،و تقدیرها فی الثانی:و کلّ من وصف نفسه کذلک فلا ینبغی أن یغترّ به،و تقدیرها فی الثالث:و کلّ من کان کذلک فلا ینبغی أن یغترّ بفعله،و اعلم أنّه أشار فی هذین المثلین إلی قسمة أهل الدنیا أوّلا بقسمین بحسب اعتبار قواهم الغضبیّة و الشهویّة و اتّباعهم لها:أی فمنهم من اتّبع قوّته الغضبیّة و أعطاها مقتضاها،و منهم من اتّبع قوّته الشهویّة و استرسل فی قیادها و غفل عمّا خلق لأجله،و ضرب المثل للأوّلین بالکلاب العاویة و السباع الضاریة.
استعارة و أشار إلی وجه مطابقة المثل بقوله: یهرّ.إلی قوله:صغیرها .و وصف الهریر مستعار لتنازعهم علیها،و کذلک لفظ الأکل لغلبة بعضهم علی بعض.و ضرب للآخرین مثل النعم باعتبار غفلتهم عمّا یراد بهم کالبهائم ،ثمّ قسّم هؤلاء إلی قسمین:معقّلة و مهملة ، استعارة و استعار لفظ المعقّلة للذین تمسّکوا بظواهر الشریعة و الإمام العادل فقیّدهم بالدین عن الاسترسال فی اتّباع الشهوات و الانهماک فیها و إن لم یعقلوا أسرار الشریعة فهم کالنعم الّتی عقّلها راعیها ،و أشار بالمهملة إلی الّذین استرسلوا فی اتّباع شهواتهم و خرجوا عن طاعة إمامهم و لم یتعبّدوا بأوامره فهم کالبهائم المرسلة.
و أشار إلی وجه المشابهة بقوله: الّتی أضلّت عقولها .إلی آخره،و یحتمل أن یرید بعقولها عقلها جمع عقال فأشبع الضمّة و قلّبها واوا متابعة لقوله:مجهولها،و یحتمل أن یرید به جمع عقل و هو الملجأ:أی أنّها ضیّعت من یلجأ إلیه،و هو أمامها،و وجه مطابقة هذا المثل أنّ هؤلاء فی عدم انتفاعهم بعقولهم و رکوبهم لأهوائهم الفاسدة و شروعهم فی مشتهیاتهم الدنیویّة مکتسبین للرذائل و العاهات النفسانیّة لیس لهم إمام یقیمهم علی طاعة اللّه فی طرق الهدی إلی مکارم الأخلاق قد أشبهوا النعم المهملة الّتی أضلّت عقلها و رکبت
ص:40
المفازة فهی سروح متردّدة متحیّرة بواد و عث لیس لها راع یرعاها و یقیمها إلی المرعی،و روی سروح آفة:أی فهی سارحة عن آفة قد خرجت بها عن الانتفاع.
و الروایة الثانیة أقرب إلی الصواب .و أراد بطرق العمی طرق الجهل و مسالک الباطل الّتی لا یهتدی فیها لشیء کما لا یهتدی الأعمی للطریق،و نسب السلوک بهم إلیها باعتبار أنّها سبب لغرورهم و غفلتهم عمّا ورائهم،و کذلک أخذها بأبصارهم:أی بأبصار عقولهم عن منازل الهدی و هی آیات اللّه و منازل الطریق إلیه،و أشار بتیههم فی حیرتها إلی ضلالهم عن طرق الحقّ، استعارة و استعار لفظ الغرق باعتبار استیلاء نعیمها علی عقولهم و تملّکه لها کما یستولی الماء علی الغریق،و اتّخاذهم لها ربّا باعتبار خدمتهم لها.فلعبت بهم إذ کانوا عبیدا لها،و لعبوا بها إذ اشتغلوا بها غیر منتفعین،و ضیّعوا ما الأولی بهم فعله،و نسوا ما وراءها ممّا خلقوا لأجله .
قوله:
وَ اعْلَمْ یَا بُنَیَّ- أَنَّ مَنْ کَانَتْ مَطِیَّتُهُ اللَّیْلَ وَ النَّهَارَ- فَإِنَّهُ یُسَارُ بِهِ وَ إِنْ کَانَ وَاقِفاً- وَ یَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَ إِنْ کَانَ مُقِیماً وَادِعاً- وَ اعْلَمْ یَقِیناً أَنَّکَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَکَ وَ لَنْ تَعْدُوَ أَجَلَکَ- وَ أَنَّکَ فِی سَبِیلِ مَنْ کَانَ قَبْلَکَ- فَخَفِّضْ فِی الطَّلَبِ وَ أَجْمِلْ فِی الْمُکْتَسَبِ- فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَی حَرَبٍ- وَ لَیْسَ کُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ- وَ لاَ کُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ- وَ أَکْرِمْ نَفْسَکَ عَنْ کُلِّ دَنِیَّةٍ- وَ إِنْ سَاقَتْکَ إِلَی الرَّغَائِبِ- فَإِنَّکَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِکَ عِوَضاً- وَ لاَ تَکُنْ عَبْدَ غَیْرِکَ وَ قَدْ جَعَلَکَ اللَّهُ حُرّاً- وَ مَا خَیْرُ خَیْرٍ لاَ یُنَالُ إِلاَّ بِشَرٍّ- وَ یُسْرٍ لاَ یُنَالُ إِلاَّ بِعُسْرٍ-
ص:41
وَ إِیَّاکَ أَنْ تُوجِفَ بِکَ مَطَایَا الطَّمَعِ- فَتُورِدَکَ مَنَاهِلَ الْهَلَکَةِ- وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ یَکُونَ بَیْنَکَ وَ بَیْنَ اللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ- فَإِنَّکَ مُدْرِکٌ قَسْمَکَ وَ آخِذٌ سَهْمَکَ- وَ إِنَّ الْیَسِیرَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَعْظَمُ وَ أَکْرَمُ مِنَ الْکَثِیرِ مِنْ خَلْقِهِ- وَ إِنْ کَانَ کُلٌّ مِنْهُ وَ تَلاَفِیکَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِکَ- أَیْسَرُ مِنْ إِدْرَاکِکَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِکَ- وَ حِفْظُ مَا فِی الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِکَاءِ- وَ حِفْظُ مَا فِی یَدَیْکَ أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِی یَدَیْ غَیْرِکَ- وَ مَرَارَةُ الْیَأْسِ خَیْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَی النَّاسِ- وَ الْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةِ خَیْرٌ مِنَ الْغِنَی مَعَ الْفُجُورِ- وَ الْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ وَ رُبَّ سَاعٍ فِیمَا یَضُرُّهُ- مَنْ أَکْثَرَ أَهْجَرَ وَ مَنْ تَفَکَّرَ أَبْصَرَ- قَارِنْ أَهْلَ الْخَیْرِ تَکُنْ مِنْهُمْ- وَ بَایِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ- بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ- وَ ظُلْمُ الضَّعِیفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ- إِذَا کَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً کَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً- رُبَّمَا کَانَ الدَّوَاءُ دَاءً وَ الدَّاءُ دَوَاءً- وَ رُبَّمَا نَصَحَ غَیْرُ النَّاصِحِ وَ غَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ- وَ إِیَّاکَ وَ الاِتِّکَالَ عَلَی الْمُنَی فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْکَی- وَ الْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ- وَ خَیْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَکَ- بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَکُونَ غُصَّةً- لَیْسَ کُلُّ طَالِبٍ یُصِیبُ وَ لاَ کُلُّ غَائِبٍ یَئُوبُ- وَ مِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ وَ مَفْسَدَةُ الْمَعَادِ- وَ لِکُلِّ أَمْرٍ عَاقِبَةٌ
ص:42
سَوْفَ یَأْتِیکَ مَا قُدِّرَ لَکَ- التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ وَ رُبَّ یَسِیرٍ أَنْمَی مِنْ کَثِیرٍ لاَ خَیْرَ فِی مُعِینٍ مَهِینٍ وَ لاَ فِی صَدِیقٍ ظَنِینٍ- سَاهِلِ الدَّهْرَ مَا ذَلَّ لَکَ قَعُودُهُ- وَ لاَ تُخَاطِرْ بِشَیْءٍ رَجَاءَ أَکْثَرَ مِنْهُ- وَ إِیَّاکَ أَنْ تَجْمَحَ بِکَ مَطِیَّةُ اللَّجَاجِ- احْمِلْ نَفْسَکَ مِنْ أَخِیکَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَی الصِّلَةِ- وَ عِنْدَ صُدُودِهِ عَلَی اللَّطَفِ وَ الْمُقَارَبَةِ- وَ عِنْدَ جُمُودِهِ عَلَی الْبَذْلِ- وَ عِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَی الدُّنُوِّ- وَ عِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَی اللِّینِ- وَ عِنْدَ جُرْمِهِ عَلَی الْعُذْرِ- حَتَّی کَأَنَّکَ لَهُ عَبْدٌ وَ کَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَیْکَ- وَ إِیَّاکَ أَنْ تَضَعَ ذَلِکَ فِی غَیْرِ مَوْضِعِهِ- أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَیْرِ أَهْلِهِ- لاَ تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِیقِکَ صَدِیقاً فَتُعَادِیَ صَدِیقَکَ- وَ امْحَضْ أَخَاکَ النَّصِیحَةَ- حَسَنَةً کَانَتْ أَوْ قَبِیحَةً- وَ تَجَرَّعِ الْغَیْظَ فَإِنِّی لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَی مِنْهَا عَاقِبَةً- وَ لاَ أَلَذَّ مَغَبَّةً- وَ لِنْ لِمَنْ غَالَظَکَ فَإِنَّهُ یُوشِکُ أَنْ یَلِینَ لَکَ- وَ خُذْ عَلَی عَدُوِّکَ بِالْفَضْلِ فَإِنَّهُ أَحْلَی الظَّفَرَیْنِ- وَ إِنْ أَرَدْتَ قَطِیعَةَ أَخِیکَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِکَ- بَقِیَّةً یَرْجِعُ إِلَیْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذَلِکَ یَوْماً مَا- وَ مَنْ ظَنَّ بِکَ خَیْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ- وَ لاَ تُضِیعَنَّ حَقَّ أَخِیکَ اتِّکَالاً عَلَی مَا بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ- فَإِنَّهُ لَیْسَ لَکَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ- وَ لاَ یَکُنْ أَهْلُکَ أَشْقَی الْخَلْقِ بِکَ- وَ لاَ تَرْغَبَنَّ فِیمَنْ زَهِدَ عَنْکَ- وَ لاَ یَکُونَنَّ أَخُوکَ عَلَی مقَاطِعَتِکَ أَقْوَی مِنْکَ عَلَی صِلَتِهِ- وَ لاَ تَکُونَنَّ عَلَی الْإِسَاءَةِ أَقْوَی مِنْکَ عَلَی
ص:43
الْإِحْسَانِ- وَ لاَ یَکْبُرَنَّ عَلَیْکَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَکَ- فَإِنَّهُ یَسْعَی فِی مَضَرَّتِهِ وَ نَفْعِکَ- وَ لَیْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّکَ أَنْ تَسُوءَهُ
أقول: تعدوه : تجاوزه .و التخفیض : التسهیل علی النفس .و الحرب : سلب المال .و الإجمال فی الطلب : التسهیل فیه حتّی یکون جمیلا .و أوجفت: أسرعت .
و المناهل : المعاطش .و الحرفة : الضیق فی الرزق و الحرمان .و أهجر الرجل : إذا أفحش فی منطقه .و الرفق : اللین.و ضدّه الخرق .و النوکی : الحمقی،جمع أنوک .
و الفرصة : وقت الإمکان .و الظنین : المتّهم .و الصرم : القطع .و محضه النصیحة:
أخلصها له .و المغبّة : العاقبة .
الأخلاق الّتی بها ینتظم أمر المعاش و المعاد،
لیبنی علیه ما یرید أن یوصیه به من مفردات الحکم.و ذلک التنبیه بأمرین:
استعارة أنّ الإنسان فی مدّة عمره مسافر إلی الآخرة و أنّ ذلک السفر لیس علی مطایا محسوسة و لا فی طرق محسوسة بل المطیّة فیه اللیل و النهار،و استعار لفظ المطیّة باعتبار أنّهما أجزاء اعتباریّة للزمان یعقّب بعضها بعضا و ینقضی بانقضائها الزمان فینتقل الشخص بحسبها فی منازل مدّته المضروبة المقدّرة له منه إلی أن تفنی مدّته و یتمّ سفره إلی الآخرة کما ینتقل فی منازل طریقه المحسوسة إلی أن یتمّ سفره فیها،و کذلک لفظ المسافة مستعار لمدّته المضروبة،و لذلک کان سیر الزمان به سیرا اعتباریّا و إن کان واقفا وقوفه المتعارف و یقطع مسافة أجله راکبا تلک المطایا و إن کان وادعا قارّا قراره الحسّی .
و ذلک أنّ الإنسان أبدا فی توجیه أمله فی المطالب کلّما حصل مطلوب منها أو أفسد وجه أمله فیه وجّهه إلی مطلوب آخر و إن اختلفت المطالب،فالأمل أبدا متوجّه إلی مطلوب ما لیس مدرکا
ص:44
فی الحال،و الإحالة فی ذلک علی الوجدان.فإذن لیس کلّ بمدرک،و کذلک لا یمکن أن یتجاوز الإنسان أجله المضروب له و إلاّ لما کان أجلا له.و هذان الأمران فی قوّة صغریین لقیاسی ضمیر من الشکل الأوّل،و تقدیر کبری الأوّل:و کلّ من یسری به کذلک فیوشک أن ینقطع مدّته و یصل إلی الآخرة،و تقدیر کبری الثانی:و کلّ من لا یبلغ أمله و لا یتجاوز أجله و هو سالک بطریق من کان قبله فیوشک أن یلحق بهم،و لمّا نبّه علی ضرورة مفارقة الدنیا و الوصول إلی الآخرة رتّب علی ذلک الوصیّة بالحکم المذکورة، و ذکر منها جملة:
بل یجعل طلبه لها بقدر حاجته إلیها.
،و ذلک أن یضع کلّ شیء منه موضعه فیمسک منه قدر ضرورته و ینفق فاضله فی وجوه البرّ و مصارف القربة،و یحتمل أن یرید بالمکتسب الاکتساب فأطلق اسم المفعول علی المصدر مجازا،و نحوه قول الرسول صلّی اللّه علیه و آله:إنّ روح القدس نفث فی روعی أنّه لن یموت نفس حتّی یستکمل رزقها فأجملوا فی الطلب.
تنفیر عن الخوض فی الطلب بامور ثلاثة:
و ذلک کما شوهد فی وقتنا أنّ تاجرا کان رأس ماله سبعة عشر دینارا فسافر بها إلی الهند مرارا حتّی بلغت سبعة عشر ألفا فعزم حینئذ علی ترک السفر و الاکتفاء بما رزقه اللّه فسوّلت له نفسه الأمّارة بالسوء فی العود،و حبّبت إلیه الزیادة فعاود السفر فلم یلبث أن خرجت علیه السرّاق فی البحر فأخذوا جمیع ما کان معه فرجع و قد حرب ماله.و ذلک ثمرة الحرص المذموم.
و هو فی تقدیر صغری ضمیر،و تقدیر کبراه:و کلّ ما جرّ إلی الحرب فلا ینبغی أن یحرص علیه.
ص:45
،و هو تمثیل نبّه فیه علی أنّ الطلب علی الحرمان فی بعض الطالبین حتّی یقیس نفسه علیه فلا یحرس فی الطلب.
تنبیه علی تمثیل آخر کذلک نبّه فیه علی أنّ الإجمال علّة للرزق فی بعض الناس لیقیس نفسه علیه فیجمل فی الطلب .
و یتنافس علیه،و ذلک کأن یکذب مثلا أو یغدر لیصل إلی الملک و نحوه،و الإکرام لها عن ذلک یستلزم فضائل کالسخاء و المروّة و کبر الهمّة.إذ کلّ واحد من رذیلة البخل و النذالة و صغر الهمّة یستلزم مقارفة الدنیّة بقوله:فإنّک.إلی قوله:عوضا:
أی أنّ ما تبذله من نفسک من الفضیلة و تعدل عنه إلی الرذیلة لا یقاومه عند اللّه و عند أهل الفضائل من خلقه شیء و إن جلّ،و لا یکون لک عنه عوض.و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ ما لا یحصل له عوض یقابله و یساویه فلا ینبغی أن یبذل فی مقارفة الدنایا.
أی لا یجعل لغیره علیه فضل إحسان یسأله إیّاه فیسترقّه به،و یستوجب بذلک علی نفسه خدمته و الاشتغال بشکره عن اللّه.
و قوله:و قد جعله اللّه حرّا.
فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من جعله اللّه حرّا فیقبح أن یجعل نفسه عبدا لغیره، کنایة و کذلک قوله: و خیر خیره إلی قوله:إلاّ بعسر استفهام فی معنی الاستنکار:أی لا خیر فی خیر لا یوجد إلا بشّر،و یسر لا ینال بعسر،و کنّی بذلک الخیر و الیسر عمّا یطلب فی مقارفة الدنایا و یصیر الإنسان بسببه عبدا لغیره کالمال و نحوه،و بالشرّ و العسر المقارن له کبذل ماء الوجه فی السؤال و الذلّة و غیرها من الدنایا،و هو أیضا فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ ما لا خیر فیه فلا ینبغی أن یطلب و یتعبّد للغیر من أجله .
ص:46
استعارة حذّره من الطمع،و استعار لفظ المطایا لقواه الأمّارة بالسوء کالوهمیّة و الخیالیّة و الشهویّة و الغضبیّة،و وجه المشابهة کونها حاملة لنفسه العاقلة و موصلة لها إلی المشتهیات و ما یطمع فیه من متاع الدنیا کالمطایا الموصلة لراکبها إلی أغراضه،و کذلک وصف الوجیف لسرعة انقیاده معها إلی المطامع الردیئة .
استعارة و قوله: فتوردک مناهل الهلکة .
فاستعار لفظ المناهل لموارد الهلاک فی الآخرة کمنازل جهنّم و طبقاتها،و وجه المشابهة کونها موارد شراب أهل النار المهلک کما قال تعالی «فَشارِبُونَ عَلَیْهِ مِنَ الْحَمِیمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِیمِ» (1)و الفاء فی جواب النهی اللازم للتحذیر المذکور،و هو فی قوّة متّصلة هی صغری ضمیر تقدیرها فإنّک إن أوجفت بک مطایا الطمع أوردتک مناهل الهلکة،و تقدیر الکبری:و کلّ مطیّة کذلک فیحرم رکوبها.
ذلک و هو نهی عن مسئلة الغیر و التعرّض لنواله بل ینتظر قسمه من رزق اللّه المفروض له من غیر سؤال ذی نعمة یکون فیه بذل ماء الوجه و الذلّة و المنّة إن أعطی و بذله، و الحرمان و الذلّ إن حرم.و رغّبه فی ذلک بضمیرین:
أحدهما:قوله:فإنّک مدرک قسمک و آخذ سهمک:أی من رزق اللّه،و تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فلا ینبغی أن یجعل بینه و بین اللّه واسطة یطلب منه رزقه .
الثانی:قوله: و إن الیسیر .إلی قوله: خلقه :أی ما حصل من جهة یحمد حصوله منها و هی الجهة الّتی أمر اللّه تعالی بطلب الرزق منها و إن کان یسیرا أکرم عنده و أشرف من الکثیر من غیر تلک الجهة کسؤال الغیر و التعرّض له،و تقدیر الکبری و کلّ ما کان أعظم فینبغی أن یکون هو المطلوب.
و قوله: و إن کان کلّ منه .
ص:47
أی و إن کان الرزق من الخلق أیضا من اللّه إلاّ أنّه ینبغی أن یوجّه الرغبة إلیه ابتداء دون غیره.إذ هو مبدء الکلّ و عنایته بالجمیع واحدة .
تنبیه علی وجوب ترجیح الصمت و تغلیبه علی کثرة الکلام بضمیر هذه صغراه،و تقریرها أنّ الفارط من الصمت و إن استلزم الخطاء کالسکوت عمّا ینبغی أن یقال من الحکمة أو ما یترتّب علیه بعض المصالح إلاّ أنّه یمکن استدراکه غالبا بما ینبغی من القول،و أمّا فارط القول فإنّ الخطاء فیه قد لا یمکن استدراکه،و إن أمکن فعلی غایة من العسر.فلذلک کان تلافی فارط الصمت بالقول أسهل من تدارک فارط القول،و لقوّة الخطاء فی القول أکثر الناس فی ذمّ الاکثار و مدح الصمت،و المنطق هنا یحتمل أن یرید به المصدر فیکون من لبیان الجنس،أو محلّ النطق فیکون لابتداء الغایة.و تقدیر کبری الضمیر:و کلّ ما کان أیسر فهو أولی بک.ینتج أن تلافی فارط الصمت أولی بک،و ذلک مستلزم لرجحان الصمت.
الحفظ الّذی ینبغی و هو الواسطة بین التبذیر و البخل.و الکلام فی قوّة صغری ضمیر أیضا و تقدیر کبراه:و کلّ ما کان أحبّ إلیّ من طلبک ما فی یدی غیرک فهو أولی بک.
و الیأس عمّا فی أیدی الناس بضمیر أیضا صغراه مجاز إطلاقا لاسم السبب علی المسبّب قوله : و مرارة الیأس.إلی قوله:الناس ،و تقدیر کبراه:و کلّ ما کان خیرا فهو أولی أن یلزم و یکرم النفس به،و أطلق لفظ المرارة علی الألم الّذی تجده النفس بسبب الیأس من المطالب إطلاقا لاسم السبب علی المسبّب ،و کونه خیرا لما یستلزمه من إکرام النفس عن ذلّ السؤال و رذیلة المهانة.و إلیه أشار الشاعر بقوله:
و إن کان طعم الیأس مرّا فإنّه ألذ و أحلی من سؤال الأراذل
و الحرمان إذا کان مع فضیلة العفّة،و أنّ لزومه أولی من طلب الغنی المستلزم للفجور بضمیر أیضا صغراه ما ذکر،و تقدیر کبراه:و کلّ ما کان خیرا من الغنی مع الفجور
ص:48
فلزومه أولی من طلب ذلک الغنی،و إنّما کان کذلک لاستلزام تلک الحرفة الفضیلة و استلزام ذلک الغنی الرذیلة.و قد علمت أنّ العفّة فضیلة القوّة الشهویّة و أنّها بین رذیلتی تفریط یسمّی خمود الشهوة و إفراط یسمّی فجورا.
المرء،و الفرع هو المخاطب،و الحکم کونه أحفظ لسرّه،و العلّة کونه أکثر عنایة بنفسه من غیره.
إذا ضاق صدر المرء من سرّ نفسه فصدر الّذی یستودع السرّ أضیق
ارتیاد المصالح
بقوله:ربّ ساع فیما یضرّه.فالأصل هو الساعی،و الفرع هو المخاطب، و العلّة هی السعی،و الحکم هو التضرّر.
بتمثیل أیضا أصله المکثر، و فرعه المخاطب،و علّته الإکثار،و حکمه الهجر.و الغرض أن یعتبر نفسه فی لحوقها بالمکثرین فی لزوم الهجر لهم فیترک الإکثار لما یلزمه من الهجر و لحوق الذمّ به.
بقوله:من تفکّر أبصر:
أی أدرک بعین بصیرته حقائق الأمور و عواقبها .
بضمیر دلّ علی صغراه بقوله:تکن منهم،و تقدیرها أنّ مقارنتهم یستلزم الکون منهم،و تقدیر الکبری:و کلّ ما استلزم الکون منهم فواجب أن یفعل.
و مفارقته لما یستلزمه المباینة لهم من عدم العداد فی جملتهم فی الدنیا و الآخرة،و وجه الحجّة کالّذی قبله.
لغایة اجتنابه بذمّه بضمیر صغراه ما ذکر،و إنّما کان أقبح الظلم لکون الضعیف فی محلّ الرحمة فظلمه لا یصدر إلاّ عن
ص:49
قلب قاس و نفس بعیدة من الرقّة و الرحمة و العدل،و لأنّه غیر مقابل من الضعیف بمدافعة و ممانعة فکان أبعد عن العدل،و تقدیر کبراه:و کلّ ما کان أفحش الظلم کان أولی أصناف الظلم بالترک و الاجتناب .
استعارة نبّهه علی أنّ الرفق فی بعض المواضع کالخرق فی کونه مخلاّ بالمصلحة غالبا و مفوّتا للغرض فکان استعمال الخرق فی ذلک الموضع کاستعمال الرفق فی استلزامه للمصلحة و حصول الغرض غالبا فکان أولی من الرفق فی ذلک الموضع.
و لفظا الخرق الأوّل و الرفق الثانی مستعاران للرفق الأوّل و الخرق الثانی لما ذکرناه من المشابهة،و إلی هذا المعنی أشار أبو الطیّب:
و وضع الندی فی موضوع السیف بالعلی مضرّ کوضع السیف فی موضع الندی
علی مفسدة
استعارة بقوله: ربّما کان الدواء داء ،و علی أنّ بعض ما هو مفسدة فی الظاهر قد یستلزم مصلحة بقوله: و الداء دواء .و لفظا الدواء مستعاران للمصلحة،و لفظا الداء للمفسدة،و وجه الاستعارتین أنّ المصلحة من شأنها نظام حال الإنسان،و من شأن المفسدة فساده کالدواء و الداء،و إلی هذا المعنی أشار المتنبّیّ:
فربّما صحّت الأجساد بالعلل .
بأمر هو مظنّة مصلحة
و إن کان من شأنه أنّه غیر ناصح له بل ینظر فی رأیه و شوره فربّما کان نصیحة،و کذلک لا ینبغی أن یرکن إلی قول من یعتقده ناصحا.إذ من الجائز أن یغشّه .
و نفّره عنها بضمیر صغراه استعارة قوله: إنّها بضائع النوکی [الموتی خ]،و استعار لفظ البضائع لها باعتبار أنّ الأحمق یحصل منها لذّة خیالیّة من الأمور المتمنّاة و هی فرعها کما یحصل عن البضاعة الربح.و أضافها إلی النوکی لعدم الفائدة فی المنی کعدم الربح عن بضائع النوکی .
ص:50
و الإشارة إلی العقل العملیّ و هو القوّة الّتی للنفس بحسب حاجتها إلی تدبیر بدنها الموضوع لتصرّفاتها و تکمیله،و هی الّتی بها تستنبط الآراء المصلحیّة ممّا یجب أن یفعل من الامور.إذ کان الشروع فی العمل الاختیاری المختصّ بالإنسان إنّما یتأتّی بإدراک ما ینبغی أن یعمل فی کلّ باب و هو إدراک رأی کلّیّ أو جزئیّ یستنبط من مقدّمات بعضها جزئیّة محسوسة و بعضها کلّیّة أوّلیّة أو تجربیّة أو ذایعة أو ظنّیة یحکم بها العقل النظریّ من غیر أن یختصّ بجزئیّ دون غیره،و العقل العملیّ یستعین بالنظریّ فی ذلک ثمّ ینتقل منه باستعمال مقدّمات جزئیّة إلی أن ینتقل إلی الرأی الجزئیّ الحاصل فیعمل بحسبه و یحصل بعمله مقاصده فی معاشه و معاده.و إرادته لهذا العقل أظهر لأنّه المتعارف و لأنّه فی معرض الأمر بتحصیل مکارم الأخلاق الّتی هی کمال هذه القوّة.و حفظ التجارب إشارة إلی ضبط هذه العلوم المنتزعة عن مشاهدات متکرّرة منّا لأمور جزئیّة تتکرّر فیفید حکما کلّیّا ککون السقمونیا مثلا من شأنها الإسهال.و عرّف العقل بذلک لکونه من خواصّه و کمالاته.
وعظه
:أی من شأنه أن یفید موعظة و اعتبارا کالنظر فی حال من تکرّر ظلمه فأسرعت عقوبة اللّه إلیه،أو تکرّر کذبه فأدرکه المقت بضمیر صغراه ما ذکر،و تقدیرها:ما وعظک فهو خیر التجارب،و تقدیر الکبری:و خیر التجارب أولی بک.ینتج فما وعظک من التجارب أولی بک،و نحوه قول أفلاطون:إذا لم تعظک التجربة لم تجرّب بل أنت ساذج کما کنت.
فیما ینبغی أن یفعل،و نفّره عن ترکها بما یستلزمه من الأسف المغصّ،و أطلق اسم الغصّة علی الفرصة مجازا تسمیة للشیء باسم ما یؤول إلیه.
نبّه علی ما ینبغی من ترک الأسف علی ما یفوت من المطالب بضمیر صغراه ما فی قوّة هذا السلب من الایجاب،و تقدیره:بعض الطالبین
ص:51
لا یصیب مطلوبه،و تقدیر الکبری:و کلّ من لا یصیب مطلوبه فلا ینبغی أن یأسف علی فواته.لیقدّر السامع نفسه أنّه من ذلک البعض فلا یأسف علی فائت،و کذلک قوله:و لا کلّ غائب یئوب .
بضمیر تقدیر صغراه:إضاعة الزاد و مفسدة المعاد من الفساد،و تقدیر الکبری:و کلّ ما کان من الفساد وجب ترکه.
و لفظ الزاد مستعار للتقوی کما سبق.
بضمیر ذکر ما هو فی قوّة صغراه،و تقدیرها:کلّ أمر له عاقبة نافعة أو ضارّة،و تقدیر کبراه:و کلّ ما له عاقبة کذلک فینبغی أن یلمح لیفعل ما یوصل إلیها أو یجتنب.
بضمیر ذکر صغراه،و تقدیر کبراه:و کلّ ما سوف یأتیک فینبغی أن لا تحرص فی طلبه.
و نحوه
بضمیر صغراه ما ذکر،و وجه کون التاجر مخاطرا أنّه لمّا کان محبّا للمال و متوجّها إلی اکتسابه کان حال البیع فی مظنّة أن یحیف فیأخذ راجحا و یعطی ناقصا مع أنّ تکلیفه لزوم العدل و الاستقامة علی سواء الصراط فلا جرم کان علی خطر من وقوعه فی طرف التفریط و التقصیر من سواء السبیل،و تقدیر الکبری:و المخاطر یجب أن یحترز فی فعله المخاطر فیه.
:لمّا نبه علی وجوب الاحتراز فی التجارة و التحفّظ من الظلم و کان ذلک الظلم إنّما هو لغرض کثرة المال نبّه فی هذه الکلمة علی أنّ من المال الیسیر ما هو أنمی من الکبیر لیقتصر علیه،و أراد بالیسیر الحلال فإنّه أغنی للعاقل من الکثیر الحرام فی الآخرة لاستلزامه زیادة الثواب،و هی فی قوّة صغری ضمیر تقدیره:الیسیر الحلال أغنی من الکثیر الحرام و تقدیر الکبری:و کلّ ما کان أغنی من الکثیر الحرام فیجب أن یقتصر علیه .
ص:52
نبّه علی ترک الاستعانة فی المهمّات بالمهین من الناس بضمیر تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فالأولی اجتناب الاستعانة به،و الخیر المنفی عنه هو النافی فی الاستعانة به،و معلوم أنّه منتف عنه لما أنّ مهاتنه تضادّ النهوض فی مهمّات الامور و علیاتها،و لأنّ ذلّته یستلزم قهره و ضعفه عن المقاومة،و نحوه قولهم:إذا تکفّیت بغیر کاف وجدته للهمّ غیر شاف.
نبّه علی مجانبة الصدیق المتّهم بضمیر تقدیر صغراه کالّتی قبلها،و أراد أنّه لا خیر فیه لصدیقه.إذ کان من جهة الباطن مظنّة الشرّ له.
أمره أن یصبر علی ما یقتضیه الدهر و لا یتسخّط من ذلک و إن کان دون رضاه.إذ کان ذلک هو المتمکّن فی الطبیعة،و ما بمعنی المدّة، استعارة و استعار لفظ القعود للزمان الّذی تیسّر فیه رزقه و تسهل فیه بعض مهمّاته،و وجه المشابهة أنّ ذلک الزمان یمکّنه من بعض مهمّاته و حوائجه .و طلب ما لا یمکن فیه و ما لم یعدّ لحصوله من المطالب ربّما یستلزم تغیّره و امتناع ما کان ممکنا فیه کما أنّ القعود من شأنه أن یمکّن من ظهره و اقتعاده و هو بمعرض أن ینفرّ براکبه إذ استزاده و شدّ علیه، استعارة و لفظ الذلّة مستعار لسکون الزمان و إمکان المطلوب فیه ، و أراد بمساهلته الجریان معه بقدر مقتضاه من دون تشدّد و تسخّط علیه فإنّ ذلک یستلزم تعب النفس من غیر فائدة،و إلی مثله أشار القائل:
إذ الدهر أعطاک العنان فسر به رویدا و لا تعنف فیصبح شامسا
إذ کان فی مظنّة أن لا یعود فیوشک أن یضیع الأصل،و یحمل ذلک علی کون الإنسان یلقی ما فی یده للغرض المذکور مع شکّه فی سلامته أمّا مع ظنّ السلامة فلا خطر.و نحوه قولهم:من طلب الفضل حرم الأصل.
استعارة حذّره من اللجاج فی طلب الأمر عند تعسّره،و نفّره عنه بأن استعار له لفظ المطیّة الجموح ،و وجه المشابهة کونه یؤدّی بصاحبه إلی غایة لیست بمجهوده[بمحمودة خ]کالجموح من المطایا .
ص:53
أمره أن یلزم نفسه و یحملها فی حقّ صدیقه الحقّ علی أن یقابله و یجازیه برذائله فضائل کالقطیعة بالصلة،و سایر ما ذکر لیعود إلی العتبی و تدوم المودّة،و حذّره أن یضع ذلک فی غیر موضعه أو یفعله بغیر أهله من اللئام لأنّ ذلک وضع الشیء فی غیر موضعه و هو خروج عن العقل،و قد علمت أنّ الأمور المذکورة من لوازم الصداقة الحقّة.و إلی نحوه أشار الشاعر بقوله:
و إنّ الّذی بینی و بین بنی أبی و بین بنی امّی لمختلف جدّا
فإن أکلوا لحمی و فرت لحومهم و إن هدموا مجدی بنیت لهم مجدا
و إن زجروا طیرا بنحس تمرّ بی زجرت لهم طیرا یمرّ بهم سعدا
و لا أحمل الحقد القدیم علیهم و لیس رئیس القوم من یحمل الحقدا
نهاه أن یتّخذ عدوّ صدیقه صدیقا،و نبّه علی قبح ذلک بضمیر استثنائی تقدیره:فإنّک إن فعلت ذلک عادیت صدیقک،و یستدلّ فیه بقبح اللازم علی قبح ملزومه:أی لکن معاداة الصدیق قبیحة منهیّ عنها فاتّخاذ عدوّه صدیقا کذلک،و وجه الملازمة أنّ مصادقة عدوّ الصدیق یستلزم نفرة الصدیق عمّن یصادق عدوّه لنفرته عن عدوّه و توهّمه مشارکة العدوّ و موافقته فی جمیع أحواله و من جملة أحواله عداوته فهی إذن توهمه الموافقة علی عداوته فیوجب له النفرة و المجانبة،و إلیه أشار بذکر القائل:
تودّ عدوّی ثمّ تزعم أنّنی صدیقک إنّ الرأی عنک لعازب
أن یخلّص نصیحته لأخیه فی جمیع أحواله سواء کانت النصیحة حسنة أو قبیحة:أی مستقبحة فی نظر المنصوح ضارّة له فی العاجل باعتبار استحیائه و انفعاله من المواجهة بها.و نحوه قوله تعالی «وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَیِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَیْدِیهِمْ» (1)فعدّها بالنسبة إلیهم سیّئة.
أمره بفضیلة کظم الغیظ،و قد رسمت بأنّها الإمساک
ص:54
عن المبادرة إلی قضاء وطر الغضب فیمن یجنی علیه جنایة یصل مکروها إلیه.و قد یرادفه الحلم و الکرم و الصفح و التثبّت و العفو و التجاوز و الاحتمال،و ربّما فرّق بعضهم بین هذه المفهومات، استعارة و استعار وصف التجرّع للتصبّر علی مضض الألم الموجود منه ملاحظة لما یشرب من دواء مرّ ،ثمّ نبّه علی فضیلته بضمیر صغراه استعارة قوله: فإنّی لم أر.إلی قوله:مغبّة ،و استعار لفظ الحلاوة لما یستلزمه من العاقبة الحسنة،و وجه المشابهة ما یستلزمانه من اللذّة .و الضمیر فی قوله: منها یعود إلی ما دلّ علیه قوله:
تجرّع من المصدر،و تقدیر الکبری:و کلّ ما لا یری من المتجرّع أحلی منه فینبغی أن یتجرّع.و عن زین العابدین علیه السّلام وصیّة لابنه الباقر علیه السّلام یا بنیّ علیک بتجرّع الغیظ من الرجال فإنّ أباک لا تسرّه بنصیبه من تجرّع الغیظ من الرجال حمر النعم .
و خاشنه،و نبّه علی حسن ذلک بضمیر صغراه قوله:فإنّه یوشک أن یلین لک:أی بسبب لینک له حال غلظته:و تقدیر کبراه:و کلّ من قارب أن یلین لک بسبب لینک له فالأولی بک أن تلین له،و نحوه قولهم:إذا عز أخوک فمن واصله و قوله تعالی «ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ» (1).
من عوارفه.و نبّهه علی أحسنه باستلزامه لأحد الظفرین فإنّ للظفر سببین:أحدهما:الرهبة بالقوّة و الغلبة و هو الأظهر.الثانی:الرغبة بالإفضال علیه بحیث یسترق به و یدخل فی الطاعة بسببه.
و قوله: فإنّه أحد الظفرین .
صغری ضمیر،و تقدیر الکبری:و کلّ ما صدق علیه أنّه أحد الظفرین فینبغی أن یفعل .
ص:55
من صداقته و لا یفارقه مفارقة کلّیّة،و نبّه علی ذلک بضمیر أشار إلی صغراه بقوله:
یرجع إلیها :أی فإنّه یرجع إلیها لو بدا له الرجوع،و تقدیر الکبری:و کلّ ما یرجع به فواجب أن یبقیه له،و نحوه قولهم:أحبب حبیبک هونا ما عسی أن یکون بغیضک یوما ما،و أبغض بغیضک هونا ما عسی أن یکون حبیبک یوما ما،و قولهم:
إذا هویت فلا تکن غالیا،و إذا ترکت فلا تکن قالیا .
و ذلک التصدیق بفعل ما ظنّه فیه من الخیر کأن یظنّ به الجود فیفضل علیه.
و نفّره بضمیر تقدیر صغراه:
فإنّ أهلک حینئذ یکونون أسعی الخلق بک،و ذلک لملازمته لهم و قربه منهم،و تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فهو مذموم.
و نبّه علی ذلک بضمیر صغراه قوله: فإنّه .إلی قوله: حقّه ،و المعنی أنّ من أضعت حقّه لابدّ أن یفارقک لتضییعک حقّه فلا یکون أخا لک:و تقدیر کبراه:و کلّ أخ یفارقک لتضییع حقّه فلا ینبغی أن تضیّع حقّه لتسلم تلک لک مودّته و اخوّته،و نحوه قولهم:إضاعة الحقوق داعیة العقوق .
و أراد بمن زهد فیه من لیس للصنیعة موضعا،و لا للمودّة أهلا.و لیس بأخ قدیم و إلاّ لناقض ما قبله و ما بعده من الأمر بصلة من قطعه و الدنوّ ممّن تباعد عنه و الإحسان إلی من أساء إلیه.
و لا یکوننّ أخوک أقوی علی قطیعتک منک علی صلته .
إلی قوله: الإحسان .و أشار إلی وجوب ذلک بالتنفیر عن نقیضه بضمیر صغراه شرطیّة متّصلة تقدیرها فإنّک إن لا تفعل ذلک لکان أخوک أقوی علی فعل الإساءة منک إلی فعل الإحسان،و بیان الملازمة أنّ الإساءة و الشرّ له صوارف کثیرة تصرف عنه،و الإحسان و فعل الخیر له بواعث کثیرة یبعث علیه فإذا لم تفعل الإحسان مع کثرة
ص:56
البواعث علیه و أساء أخوک مع کثرة صوارفه عن الإساءة کان هو أقوی علی الإساءة منک علی الإحسان،و تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فهو عاجز مذموم .
و هونه عنده بضمیر صغراه قوله: فإنّه یسعی فی مضرّته و نفعک أی أنّ سعیه فی ظلمه یستلزم مضرّته فی الآخرة بما توعّد اللّه به الظالمین و نفعک بما وعد اللّه به الصابرین علی بلائهم،و تقدیر الکبری:
و کلّ من سعی فی مضرّته و نفعک فلا ینبغی أن یکبر علیک صنیعه فی حقّک.
نبّهه علی وجوب مقابلة الإحسان بمثله دون الکفران بقوله: لیس جزاء من سرّک أن تسوءه :و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیرها:من سرّک فلیس جزاؤه أن تسوءه،و تقدیر کبراه:و کلّ من لم یکن جزاؤه ذلک فینبغی أن لا تسوءه،و قیل:إنّ هذه الکلمة من تمام الّتی قبلها،و التقدیر لا یکبرنّ علیک ظلم من ظلمک فتقابله بسوء فإنّه یسعی فی مضرّته و نفعک و کلّ من کان کذلک فلیس جزاؤه أن تقابله بالإساءة.
قوله:
وَ اعْلَمْ یَا بُنَیَّ أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ- رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَ رِزْقٌ یَطْلُبُکَ- فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاکَ- مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ- وَ الْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَی- إِنَّمَا لَکَ مِنْ دُنْیَاکَ مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاکَ- وَ إِنْ کُنْتَ جَازِعاً عَلَی مَا تَفَلَّتَ مِنْ یَدَیْکَ- فَاجْزَعْ عَلَی کُلِّ مَا لَمْ یَصِلْ إِلَیْکَ- اسْتَدِلَّ عَلَی مَا لَمْ یَکُنْ بِمَا قَدْ کَانَ- فَإِنَّ الْأُمُورَ أَشْبَاهٌ- وَ لاَ تَکُونَنَّ مِمَّنْ لاَ تَنْفَعُهُ الْعِظَةُ إِلاَّ إِذَا بَالَغْتَ فِی إِیلاَمِهِ- فَإِنَّ الْعَاقِلَ یَتَّعِظُ بِالْآدَابِ- وَ الْبَهَائِمَ لاَ تَتَّعِظُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ-.اِطْرَحْ عَنْکَ
ص:57
وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ- وَ حُسْنِ الْیَقِینِ- مَنْ تَرَکَ الْقَصْدَ جَارَ- وَ الصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ- وَ الصَّدِیقُ مَنْ صَدَقَ غَیْبُهُ- وَ الْهَوَی شَرِیکُ الْعَنَاءِ- وَ رُبَّ بَعِیدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِیبٍ- وَ قَرِیبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِیدٍ- وَ الْغَرِیبُ مَنْ لَمْ یَکُنْ لَهُ حَبِیبٌ- مَنْ تَعَدَّی الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ- وَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَی قَدْرِهِ کَانَ أَبْقَی لَهُ- وَ أَوْثَقُ سَبَبٍ أَخَذْتَ بِهِ- سَبَبٌ بَیْنَکَ وَ بَیْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- وَ مَنْ لَمْ یُبَالِکَ فَهُوَ عَدُوُّکَ- قَدْ یَکُونُ الْیَأْسُ إِدْرَاکاً إِذَا کَانَ الطَّمَعُ هَلاَکاً- لَیْسَ کُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ وَ لاَ کُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ- وَ رُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِیرُ قَصْدَهُ وَ أَصَابَ الْأَعْمَی رُشْدَهُ- أَخِّرِ الشَّرَّ فَإِنَّکَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ- وَ قَطِیعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ- مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ وَ مَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ- لَیْسَ کُلُّ مَنْ رَمَی أَصَابَ- إِذَا تَغَیَّرَ السُّلْطَانُ تَغَیَّرَ الزَّمَانُ- سَلْ عَنِ الرَّفِیقِ قَبْلَ الطَّرِیقِ- وَ عَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ إِیَّاکَ أَنْ تَذْکُرَ مِنَ الْکَلاَمِ مَا یَکُونُ مُضْحِکاً- وَ إِنْ حَکَیْتَ ذَلِکَ عَنْ غَیْرِکَ- وَ إِیَّاکَ وَ مُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ- فَإِنَّ رَأْیَهُنَّ إِلَی أَفْنٍ وَ عَزْمَهُنَّ إِلَی وَهْنٍ- وَ اکْفُفْ عَلَیْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِکَ إِیَّاهُنَّ- فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَی عَلَیْهِنَّ- وَ لَیْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ- مِنْ إِدْخَالِکَ مَنْ لاَ یُوثَقُ بِهِ عَلَیْهِنَّ- وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ یَعْرِفْنَ غَیْرَکَ فَافْعَلْ- وَ لاَ تُمَلِّکِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ
ص:58
نَفْسَهَا- فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَیْحَانَةٌ وَ لَیْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ- وَ لاَ تَعْدُ بِکَرَامَتِهَا نَفْسَهَا وَ لاَ تُطْمِعْهَا فِی أَنْ تَشْفَعَ لِغَیْرِهَا- وَ إِیَّاکَ وَ التَّغَایُرَ فِی غَیْرِ مَوْضِعِ غَیْرَةٍ- فَإِنَّ ذَلِکَ یَدْعُو الصَّحِیحَةَ إِلَی السَّقَمِ- وَ الْبَرِیئَةَ إِلَی الرِّیَبِ- وَ اجْعَلْ لِکُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خَدَمِکَ عَمَلاً تَأْخُذُهُ بِهِ- فَإِنَّهُ أَحْرَی أَلاَّ یَتَوَاکَلُوا فِی خِدْمَتِکَ- وَ أَکْرِمْ عَشِیرَتَکَ- فَإِنَّهُمْ جَنَاحُکَ الَّذِی بِهِ تَطِیرُ- وَ أَصْلُکَ الَّذِی إِلَیْهِ تَصِیرُ وَ یَدُکَ الَّتِی بِهَا تَصُولُ اسْتَوْدِعِ اللَّهَ دِینَکَ وَ دُنْیَاکَ- وَ اسْأَلْهُ خَیْرَ الْقَضَاءِ لَکَ فِی الْعَاجِلَةِ وَ الْآجِلَةِ- وَ الدُّنْیَا وَ الْآخِرَةِ «إِنْ شاءَ اللّهُ»
أقول: المثوی : المقام .و تفلّت : تخلّص .و عزائم الصبر : ما جزمت به منه و لزمته .و العورة هنا:الاسم من أعور الصید إذا أمکنک من نفسه ،و أعور الفارس:
إذا بدا منه موضع خلل الضرب .و الأفن : الضعف .و القهرمانة : فارسی معرّب .
و أراد بالرزق المطلوب ما لم یجر فی القضاء الإلهی کونه رزقا له،و بالطالب عمّا علم اللّه أنّه رزقه و أنّه لابدّ من وصوله إلیه.و ترک بیان أحکام القسمین للعلم به إیجازا.و التقدیر فأمّا الّذی تطلبه فلا تدرکه لکون القضاء الإلهیّ لم یجر به،و کلّ ما لا تدرکه فینبغی أن لا تحرص علیه،و أمّا الّذی یطلبک فإنّه لا محالة یأتیک و إن لم تأته،و هی صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ ما کان آتیک لا محالة فینبغی أن لا تحرص فی طلبه .
ص:59
فی الغنی
بالتعجّب من قبح ضدّیهما،و هما الخضوع فی الحاجة و الجفاء فی الغنی للتقیر عنهما.إذ کانا رذیلتین،و هی فی قوّة ضمیر تقدیرها:أنّ الذلّة فی الحاجة و جفاء الأخوان فی الغنی قبیحان جدّا،و تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک وجب اجتنابه.
بقوله:إنّما لک.إلی قوله:مثواک،و أراد بما له من دنیاه ما یملک نفعه دائما و لذلک حصره بإنّما لأنّه القدر المنتفع به علی الحقیقة،و الّذی یبقی ثمرته لاستلزام بذله تحصیل الملکات الفاضلة المستلزمة للثواب الدائم و النعیم المقیم فی الآخرة،و هو صغری ضمیر تقدیرها:ما أصلحت به مثواک من دنیاک هو الّذی یبقی لک منها،و تقدیر الکبری:و کلّ ما هو الباقی لک منها فینبغی أن تحضّه بعنایتک،و یحتمل أن یکون هذه الکلمة تنبیها علی ما قبلها من المواصلة فی الغنی داخلة فی إصلاح المثوی بالمال المنبّه علیه هاهنا.
بقیاس استثنائی،و ذلک قوله:فإن جزعت.إلی قوله:إلیک.و بیان الملازمة أنّ الّذی خرج من یده کالّذی لم یصل إلیه فی أنّه لیس برزق له و لیس ممّا قضی اللّه له به.
و تقدیر الاستثناء:لکن الجزع هناک قبیح و غیر محقّق فینبغی أن لا یحصل الجزع هاهنا.
أی ما لم یحدث من امور الدنیا و أحوالها و تغیّراتها علی ما کان و حدث منها،و ذلک أن یقیس نفسه و ما ترغب فیه من متاع الدنیا علی ما سبق من أهلها و متاعها فتجده مثله فیحکم بلحوق حکمه له و هو التغیّر و الزوال فیستلزم ذلک الاعتبار الرغبة عن الدنیا و متاعها،و نبّه علی إمکان ذلک بضمیر صغراه قوله:فإنّ الامور أشباه،و تقدیر الکبری:و کلّ ما هو متشابه فیمکن قیاس بعضه علی بعض،و کأن یقال:إذا أردت أن تنظر الدنیا بعدک فانظرها بعد غیرک .
ص:60
إذا بالغت النصیحة و التوبیخ فی إیلامه
و أذاه،و روی بالغت بالتاء المخاطب:أی فی إیلامه بالقول و غیره،و ضرب له العاقل مثلا فی اتّعاظه بالأدب و تذکیره بالنصیحة لیقیس نفسه علیه فیتّعظ بالأدب،و البهائم مثلا فی عدم اتّعاظها و تذکّرها إلاّ بالضرب لیعتبر نفسه بالقیاس إلیها و قد رفعه اللّه عنها بالعقل فیجب أن ینزّه نفسه عن لازمها فلا یحتاج إلی إیلام بقول أو فعل کأن یقال:اللئیم کالعبد و العبد کالبهیمة عتبها ضربها .
و مصائب الدنیا بالصبر الجازم الثابت عن حسن الیقین باللّه تعالی و بأسرار حکمته و قضائه و قدره، و ذلک أن یعلم یقینا أنّ کلّ أمر صدر عن اللّه و ابتلی به عباده من ضیق رزق أوسعته و کلّ أمر مرهوب أو مرغوب فعلی وفق الحکمة و المصلحة بالذات،و ما عرض فی ذلک ممّا یعدّ شرّا فأمر عرضیّ لا یمکن نزع الخیر المقصود منه فإنّ ذلک إذا کان متیقّنا استعدّت النفس بعلمه للصبر و مفارقة الهوی فی الغمّ و الجزع و نحوه.و الغرض من الکلمة الأمر بالصبر و هی فی قوّة صغری ضمیر تقدیرها:أنّ عزائم الصبر و حسن الیقین باللّه یستلزمان طرح واردات الهموم و حذفها عن النفس،و تقدیر الکبری:و کلّ ما استلزم ذلک فینبغی أن تستعدّ به و تستکمل به نفسک.
بضمیر ذکر صغراه و تقدیر کبراه:و من جاز هلک.
استعارة نبّه علی حفظ الصاحب الحقّ و الرغبة فیه بضمیر ذکر صغراه،و استعار له لفظ التنسیب باعتبار مودّته و حسن معاضدته کالنسیب،و تقدیر کبراه:و المناسب ینبغی أن یحمی علیه و یصطنع عنده .
عرّف الصدیق الحقّ بعلامته لیعرف بها فیصادق،و أراد بصدقه فی غیبه صدقه فی ضمیره و ما غاب من باطنه عن غیره.
نبّهه علی مجانبة الهوی و المیول الطبیعیّة بضمیر صغراه قوله:
ص:61
الهوی شریک العمی ،و وجه کونه شریکا له استلزامه للضلال و ترک القصد کالعمی، و تقدیر الکبری:و کلّ ما هو شریک العمی فینبغی أن یجتنب،و نحوه قولهم:حبّک للشیء یعمی و یصمّ .
نبّه علی أنّ فی البعداء من هو أقرب و أنفع من النسیب،و فی الأقرباء من هو أبعد من البعید و هو مشهور،و إلی المعنی الثانی أشار القرآن الکریم بقوله تعالی «إِنَّ مِنْ أَزْواجِکُمْ وَ أَوْلادِکُمْ عَدُوًّا لَکُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» (1).
نبّه علی أنّ الحقیق باسم الغریب هو من لم یکن له نسیب:
أی محبّ یحبّه،و إلیه أشار القائل:
اسرة المرء و الداه و فی ما بین حضنیهما الحیاة تطیب
فإذا ولیّا عن المرء یوما فهو فی الناس أجنبیّ غریب
و ذلک باعتبار محبّة الوالدین له.
نبّه علی لزوم الحقّ بما یلزم نقیضه و هو تعدّیه و تجاوزه إلی الباطل من ضیق المذهب و وعارة المسلک،و ذلک أنّ طریق الحقّ واضح مأمور باتّباعه و قد نصبت علیه أعلام الهدایة،أمّا طریق الباطل فهی ضیقة و عرة علی سالکها لما فیها من التحیّر و الخبط و عدم الهدایة إلی المصلحة و المنفعة مع کونها ممنوعة بحرسة طریق الحقّ من حاد إلیها عنه أخذوا علیه مذهبه و ضیّقوا علیه مسلکه حتّی یعود إلی طریق الحقّ،و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه کما فی قوله:
من ترک القصد جار.
نبّهه علی وجوب الاقتصار علی قدره و هو مقداره و محلّه فی خلق اللّه،و اقتصاره علیه مبنیّ علی معرفته و هو أن یعلم الفطرة الّتی فطر الإنسان علیها من الضعف و الجور و النقص فیعلم أنّه کذلک فیمنع نفسه حینئذ عن الترفّع عن أبناء نوعه و الاستطالة علی أحد منهم بفضل قوّة أو إعجاب بقیة جسمانیّة أو نفسانیّة و یقتصر علی ما دون ذلک من التواضع و لین الجانب و الاعتراف بما جبّل علیه من العجز و النقص،و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیرها:من اقتصر علی قدره
ص:62
کان اقتصاره أبقی له،و ذلک أنّ المتطاول إلی قدر غیره و المتجاوز لقدره فی مظنّة أن یهلک لقصد الناس إیّاه بالمکاره و النکیر.قیل:من جهل قدره قتل نفسه.و الاقتصار علی القدر یستلزم عدم هذه الامور فکان أبقی علی صاحبه و أسلم،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان اقتصاره علی قدره أبقی له فواجب أن یقتصر علیه.
استعارة نبّهه علی لزوم سبب بینه و بین اللّه تعالی و هو کلّ ما قرّب إلیه من علم و قول و عمل،و لفظ السبب مستعار لذلک باعتبار إیصاله إلی اللّه و القرب منه کالحبل الّذی یتوصّل به إلی المقصود،و ظاهر أنّه أوثق الأسباب لثباته دائما و نجاة المتمسّک به فی الدنیا و الآخرة،و الکلمة صغری ضمیر تقدیرها السبب بینک و بین اللّه تعالی هو أوثق الأسباب المأخوذ بها،و تقدیر الکبری:و کلّ ما کان کذلک فینبغی أن یتمسّک به.و نحوه قوله تعالی «فَمَنْ یَکْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ یُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَکَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقی لاَ انْفِصامَ لَها» (1).
استعارة نبّهه علی مجانبة من لا یبالی به بضمیر ذکر صغراه،و تقدیرها:
من لم یبالک وقت حاجتک إلیه و قدرته علی نفعک فهو عدوّک،و لفظ العدوّ مستعار له باعتبار أنّ عدم المبالاة من لوازم العدوّ،و تقدیر الکبری:و کلّ عدوّ ینبغی مجانبته .
نبّه علی أنّ الیأس من بعض مطالب الدنیا قد یکون سببا للسلامة من الهلاک و إدراک النجاة منه،و ذلک عند ما یکون الطمع فی ذلک المطلوب مستلزما للهلاک کالطمع فی نیل ملک و نحوه.
استعارة نبّه بقوله: لیس کلّ عورة.إلی قوله:رشده .علی أنّ من الأمور الممکنة و الفرص ما یغفل الطالب البصیر عن وجه طلبه فلا یصیبه و لا یهتدی له،و یظفر به الأعمی،و استعار لفظ البصیر للعاقل الذکیّ،و الأعمی للجاهل الغبیّ.
و غرض الکلمة التسلیة عن الأسف و الجزع علی ما یفوت من المطالب بعد إمکانها .
أمره بتأخیر الشرّ و عدم الاستعجال فیه،و نبّه علیه بضمیر ذکر
ص:63
صغراه:و معناها:أنّک قادر علی تعجیله أیّ وقت شئت،و تقدیر الکبری:و کلّ ما کان کذلک فینبغی أن لا یعجل فیه.إذ لا یفوتک،و نحوه من الحکمة قولهم:
ابدأ بالحسنة قبل السیّئة فلست بمستطیع للحسنة فی کلّ وقت و أنت علی الإساءة متی شئت قادر.
نبّه علی وجوب قطیعة الجاهل بضمیر ذکر صغراه،و تقدیر کبراه:و کلّ ما یعدل صلة العاقل فینبغی أن یرغب فیها و یفعلها و إنّما کانت تعدلها باعتبار استلزامها للمنفعة،و منفعة قطیعة الجاهل بالقیاس إلی ما فی صحبته من المضرّة.
نبّه علی وجوب الحذر من الزمان و دوام ملاحظة تغیّراته، و الاستعداد لحوادثه قبل نزولها بالأعمال الصالحة،و استعار له لفظ الخیانة باعتبار تغیّره عند الغفلة عنه و الأمن فیه و الرکون إلیه فهو فی ذلک کالصدیق الخائن.
و الکلمة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من خانه الزمان فینبغی أن یکون منه علی حذر،و فی الحکمة:من أمن الزمان ضیّع ثغرا مخوفا.
نبّه بقوله: من أعظمه أهانه علی وجوب ترک إعظامه.
و لم یرد الزمان المجرّد بل من حیث هو مشتمل علی خیرات الدنیا و لذّاتها و معدّ لطیب العیش بالصحّة و الشباب و الأمن و نحوها،و بذلک الاعتبار یکرّم و یستعظم فیقال فی العرف:زمان طیّب و زمان عظیم.و أمّا استلزام ذلک لإهانة من یستعظمه لأنّ إعظامه له یستلزم استنامته إلیه و اشتغاله بما فیه من اللذّات الدنیویّة فغفل بسبب محبّتها عن الاستعداد لما ورائه.ثمّ إنّ الزمان مکر علیه بمقتضی طباعه فیفرّق بینه و بین ما کان یغترّ به من مال أو جاه أو رجال فیصبح حقیرا بعد أن کان خطیرا و صغیرا بعد أن کان کبیرا و قلیلا بعد أن کان کثیرا،و الکلمة فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من أهانه الزمان فینبغی له أن یستهین به و لا یعظمّه.
قوله: لیس کلّ من رمی أصاب ،و قد سبق مثله فی
ص:64
قوله: لیس کلّ طالب یصیب .و غرضه التنبیه علی ما ینبغی من ترک الاسف علی ما یفوت من المطالب و التسلّی بمن أخطأ فی طلبه،أو توبیخ الغیر و تبکیته بأنّه لیس بأهل لذلک المطلوب و أنّ له قوما آخرین.و إلی نحوه أشار أبو الطیّب:
ما کلّ من طلب المعالی نافذا فیها و لا کلّ الرجال فحولا.
نبّه علی أنّ تغیّر السلطان فی رأیه و نیّته و فعله فی رعیّته من العدل إلی الجور یستلزم تغیّر الزمان علیهم.إذ یغیّر من الإعداد للعدل إلی إلی الإعداد للجور،و روی أنّ کسری أنوشیروان جمع عمّال السواد،و بیده درّة یقلّبها.فقال:أیّ شیء أضرّ بارتفاع الأعمال و أدعی إلی محقه،و من أجابنی بما فی نفسی جعلت هذه الدرّة فی فیه.فقال کلّ منهم قولا من احتباس المطر و الجراد و اختلاف الهواء.فقال لوزیره:قل أنت فإنّی أظنّ عقلک یعادل عقول الرعیّة و یزید علیها.فقال:إنّما یضرّ بارتفاعها تغیّر رأی السلطان فی رعیّته،و إضمار الحیف لهم و الجور علیهم.فقال:للّه أبوک بهذا العقل أهّلک الملوک لما أهّلوک له.
و دفع إلیه الدرّة فجعلها فی فیه .
أمره بالسؤال عند إرادته لسلوک طریق عن الرفیق فیها لغایة أن یجتنبه إن کان شریرا،و یرافقه إن کان خیّرا.فإنّ الرفیق إمّا رحیق و إمّا حریق،و کذلک عن الجار عند إرادته لسکنی الدار للغایة المذکورة.و روی هذا الکلام مرفوعا .
حذّره أن یذکر من الکلام ما کان مضحکا سواء کان عن نفسه أو عن غیره لما یستلزم ذلک من الهوان،و قلّة الهیبة فی النفوس.
،و نبّه علی وجوب الحذر بضمیر صغراه قوله:
فإنّ رأیهنّ.إلی قوله:وهن.و ذلک لنقصان عقولهنّ،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فینبغی أن یحذر من استشارته لما أنّ ضعف الرأی مظنّة الخطاء و عدم إصابة وجه المصلحة فیما یستشار فیه .
ص:65
و هو من أفصح الکنایات عن الحجب.و من زایدة،و یحتمل أن یکون للتبعیض.و نبّه علی وجوب حجبهنّ بضمیر صغراه قوله:فإنّ شدّة الحجاب أبقی علیهنّ:أی أبقی للستر و العفّة من الخروج و التبرّج و أدوم لحفظهنّ،و تقدیر الکبری:و کلّ ما کان کذلک وجب فعله.
و هو أعمّ من الرجال و النساء،و الکلام فی قوّة صغری ضمیر دلّ به علی ذلک المنع، و تقدیرها:أنّ إدخال من لا یوثق به علیهنّ إمّا مساو لخروجهنّ فی المفسدة أو أشدّ و تقدیر الکبری:و کلّ ما کان کذلک فلا یجوز الرخصة فیه،و إنّما کان أشدّ فی بعض الصور لأنّ دخول من لا یوثق به علیهنّ أمکن لخلوته بهنّ و الحدیث معهنّ فیما یراد من الفساد.
لکون معرفتهنّ لغیره مظنّة المفسدة.و قرینة الحال یخرج غیر أولی الإربة کالوالد و المحرم،و إنّما شرط فی ذلک الاستطاعة لأنّه قد لا یمکن الإنسان دفع معرفتهنّ لغیره مطلقا .
من مأکول أو ملبوس و نحوه،و ما جاوز ذلک کالشفاعات،و نبّه علی عدم صلوحها بضمیر صغراه استعارة قوله: فإنّ المرأة ریحانة و لیست بقهرمانة .و استعار لفظ الریحانة باعتبار کونها محلاّ للّذّة و الاستمتاع بها،و لعلّ تخصیص الریحانة بالاستعارة لأنّ شأن نساء العرب استعال الطیب کثیرا ، کنایة و کنّی بکونها غیر قهرمانة عن کونها لم تخلق لتکون حاکمة متسلّطة بل من شأنها أن تکون محکوما علیها ،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فلا ینبغی أن یجاوزونه أمر نفسه،و تمکّن من التصرّف فی أمر غیره .
:أی لا تکرمها بکرامة یتعدّی صلاح نفسها،و هو کقوله:و لا یملک المرأة.إلی آخره.
لأنّ ذلک مجاوزة منها
ص:66
لحدّ نفسها،و قد نبّه علی أنّها لیست بأهل لذلک لما هی علیه من نقصان الغریزة و ضعف الرأی.
و نبّه علی ما فی ذلک من المفسدة بضمیر صغراه کنایة قوله: فإنّ ذلک.إلی قوله:السقم ،و کنّی بالصحیحة عن البریئة من الخیانة و الفساد،و بالسقم عنهما و إنّما کان کذلک لأنّ المرأة حین براءتها من الفساد یستقبح ذلک و یستنکره کره المواجهة،و یستشعر خوف الفضیحة و العقاب فإذا نسبت إلی ذلک مع براءتها منه عظم علیها فی أوّل الأمر فإذا تکرّر ذلک من الرجل هان علیها أمره و صار لومه لها فی قوّة الإغراء بها بذلک،و قد علمت ما فی الطباع الحیوانیّة من الحرص علی الأمر الممنوع منه فکانت الغیرة فی غیر موضعها و اللائمة بسبب التخیّل الفاسد علی ما لم یفعل أمرا داعیا إلی قوله،و تقدیر الکبری:
و کلّ ما کان کذلک لم یجز فعله .
أمره أن یجعل لکلّ إنسان من خدمه شغلا یخصّه،و یأخذه بفعله و یؤاخذه علی ترکه،و ذلک من الحکمة المنزلیّة.و نبّه علی سرّ ذلک بضمیر صغراه قوله:فإنّه أحری.إلی قوله:خدمتک،و ذلک أنّهم إذا شرکوا فی التکلیف بفعل واحد یقوم به کلّ واحد منهم فالغالب علیهم أن یکل کلّ واحد منهم فعله إلی الآخر فیستلزم ذلک أن لا یفعل.قال کسری أنوشیروان لولده شیرویه:و انظر إلی کتّابک فمن کان منهم ذا ضیاع قد أحسن عمارتها فولّه الخراج،و من کان منهم ذا عبید فولّه الجند،و من کان منهم ذا سراری قد أحسن القیام علیهنّ فولّه النفقات و القهرمة،و هکذا فاصنع فی خدم دارک و لا تجعل أمرک فوضی بین خدمک فیفسد علیک ملکک.
و نبّه علی ذلک بضمیر صغراه استعارة مرشحة قوله: فإنّهم.
إلی قوله:تقول .و استعار لهم لفظ الجناح باعتبار کونهم مبدء نهوضهم و قوّته علی الحرکة إلی المطالب کجناح الطائر،و رشّح بذکر الطیران،و کذلک لفظ الید باعتبار کونهم محلّ صولته علی العدوّ،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک
ص:67
وجب علیک إکرامه ثمّ ختم الوصیّة بوداعه و استودع اللّه دینه و دنیاه و سؤاله خیر القضاء له فی عاجلته و آجلته و داریه دنیاه و آخرته حسب إرادته تعالی و مشیئته و لفظ الاستیداع مجاز فی طلب الحفظ من اللّه لما استودعه إیّاه .و باللّه التوفیق و العصمة.
إلی معاویة
وَ أَرْدَیْتَ جِیلاً مِنَ النَّاسِ کَثِیراً- خَدَعْتَهُمْ بِغَیِّکَ وَ أَلْقَیْتَهُمْ فِی مَوْجِ بَحْرِکَ- تَغْشَاهُمُ الظُّلُمَاتُ وَ تَتَلاَطَمُ بِهِمُ الشُّبُهَاتُ- فَجَازُوا عَنْ وِجْهَتِهِمْ وَ نَکَصُوا عَلَی أَعْقَابِهِمْ- وَ تَوَلَّوْا عَلَی أَدْبَارِهِمْ وَ عَوَّلُوا عَلَی أَحْسَابِهِمْ- إِلاَّ مَنْ فَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ- فَإِنَّهُمْ فَارَقُوکَ بَعْدَ مَعْرِفَتِکَ- وَ هَرَبُوا إِلَی اللَّهِ مِنْ مُوَازَرَتِکَ- إِذْ حَمَلْتَهُمْ عَلَی الصَّعْبِ وَ عَدَلْتَ بِهِمْ عَنِ الْقَصْدِ- فَاتَّقِ اللَّهَ یَا؟مُعَاوِیَةُ؟ فِی نَفْسِکَ- وَ جَاذِبِ الشَّیْطَانَ قِیَادَکَ- فَإِنَّ الدُّنْیَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْکَ وَ الْآخِرَةَ قَرِیبَةٌ مِنْکَ- وَ السَّلاَمُ أقول:أوّل هذا الکتاب:من عبد اللّه أمیر المؤمنین إلی معاویة بن أبی سفیان أمّا بعد فإنّ الدنیا دار تجارة و ربحها الآخرة.فالسعید من کانت بضاعته فیها الأعمال الصالحة،و من رأی الدنیا بعینها و قدّرها بقدرها و إنّی لأعظک مع علمی بسابق العلم فیک ممّا لا مردّ له دون نفاذه،و لکنّ اللّه تعالی أخذ علی العلماء أن یردّوا الأمانة،و أن ینصحوا الغویّ و الرشید.فاتّق اللّه و لا تکن ممّن لا یرجو للّه
ص:68
وقارا،و من حقّت علیهم کلمة العذاب فإنّ اللّه بالمرصاد،و أنّ دنیاک ستدبر عنک،و ستعود حسرة علیک فانتبه من الغیّ و الضلال علی کبر سنّک و فناء عمرک فإنّ حالک الیوم کحال الثواب المهیل الّذی لا یصلح من جانب إلاّ فسد من آخر.ثمّ یتّصل به و قد أردیت.الفصل.
و المهیل : المتداعی فی التمزّق،و منه رمل مهیل:أی ینهال و یسیل .و أردیت أهلکت .و الجیل : الصنف،و روی جبلا:و هو الخلق .و جاروا : عدلوا .و الوجهة:
القصد .و النکوص : الرجوع .و عوّل علی کذا : اعتمد علیه . وفاء : رجع .و الموازرة : المعاونة .
و الغایة من التجارة فیها إمّا ربح الآخرة بصلاح البضاعة و هی الأعمال،و إمّا خسران الآخرة بفسادها.
:أی یعرفها بحقیقتها،أو یراها بالعین الّتی بها تعرف و هی عین البصیرة،و یعلم ما هی علیه من الغیر و الزوال و أنّها خلقت لغیرها لیقدّرها بمقدارها و یجعلها فی نظره لما خلقت له.
فإنّ ما علم اللّه تعالی وقوعه لا بدّ من وقوعه،و إنّما وعظه امتثالا لأمر اللّه و وفاء بعهده علی العلماء أن تؤدّوا أمانته،و تبلغوا أحکامه إلی خلقه و أن تنصحوا ضالّهم و رشیدهم.
:أی لا یتوقّع للّه عظمة فیعبده و یطیعه.و الوقار:الاسم من التوقیر:و هو التعظیم.و قیل:الرجاء هنا بمعنی الخوف فیکون مجازا إطلاقا لاسم أحد الضدّین علی الآخر،و أن یکون ممّن حقّت علیه کلمة العذاب.
و قوله:فإنّ اللّه بالمرصاد.
تنبیه له علی اطّلاعه علیه و علمه بما یفعل لیرتدع عن معصیته.
ص:69
،و عودها حسرة علیه یوم القیامة فقدها مع عشقه لها،و عدم تمسّکه فی الآخرة بعصم النجاة،و فناء زاده إلیها.
عمره
فإنّ تلک الحال أولی الأحوال بالانتباه منها،و نبّهه علی أنّه غیر قابل للإصلاح فی ذلک السنّ بعد استحکام جهله و تمکّن الهیئات البدنیّة من جوهر نفسه و نهکها له فهو کالثوب الخلق لا یمکن إصلاحه بالخیاطة بل کلّما خیط من جانب تمزّق من آخر .
استعارة أخبره فی معرض التوبیخ علی ما فعل بأهل الشام من خدعته لهم و إلقائهم فی موج بحره،و لمّا کان ضلاله عن دین اللّه و جهله بما ینبغی هو سبب خدعته لهم نسبها إلیه،و استعار لفظ البحر لأحواله و آرائه فی طلب الدنیا و الانحراف عن طریق اللّه باعتبار کثرتها و بعد غایتها،و لفظ الموج للشبه الّتی ألقاها إلیهم و غرقهم بها فیما یرید من الأغراض الباطلة،و مشابهتها للموج فی تلعّبها بأذهانهم و اضطراب أحوالهم بسببها ظاهرة،و کذلک استعار لفظ الظلمات لما حجب أبصار بصائرهم عن إدراک الحقّ من تلک الشبهات،و لفظ الغشیان لطریانها علی قلوبهم و حجبها لها.و محلّ تغشاهم نصب علی الحال.و کذلک لفظ التلاطم لتلعّب تلک الشبهات بعقولهم .
و قوله: فجازوا .
عطف علی ألقیتهم،و أراد أنّهم عدلوا عن الحقّ بسبب ما ألقاه إلیهم من الشبه و اعتمدوا فی قتالهم علی أحسابهم حمیّة الجاهلیّة فی الذبّ عن أصولهم و مفاخرهم دون مراعاة الدین و الذبّ عنه إلاّ من رجع إلی الحقّ من أهل العقول فإنّهم عرفوک و ما أنت علیه من الضلال ،فارقوک و هربوا إلی اللّه من مؤازرتک فیما تریده من هدم الدین حین حملتهم علی الامور الصعبة الهادمة له و عدلت بهم عن قصد الحقّ.و قد کان استغوی العرب بشبهة قتل عثمان و الطلب بدمه.فلمّا عرف
ص:70
عقلاؤهم و المتمسّکون بالدین منهم أنّ ذلک خدعة منه لإرادة الملک فارقوه و اعتزلوه.
استعارة مرشحة و قوله:علی أعقابهم،و علی أدبارهم.
ترشیح لاستعارة لفظی النکوص و التولّی من المحسوسین للمعقولین،و الاستثناء هنا من الجیل الذین خدعهم ، استعارة و لفظ الصعب مستعار لما حملهم علیه من الأمور المستصعبة فی الدین باعتبار أنّ رکوبهم لها یستلزم عدولهم عن صراط اللّه و وقوعهم فی مهاوی الهلاک کما یستلزم رکوب الجمل الصعب النفور العدول براکبه عن الطریق و تقحّم المهالک،و کذلک لفظ القصد مستعار للطریق المعقول إلی الحقّ من الطریق المحسوس .ثمّ کرّر علیه الأمر بتقوی اللّه،و أن یجاذب الشیطان قیاده.و استعار لفظ المجاذبة للممانعة المعقولة،و لفظ القیاد لما یقوده به من الآراء الباطلة و کواذب الآمال،و ممانعة الشیطان لذلک القیاد بتکذیب النفس الأمّارة فیما یوسوس به من تلک الآراء .
و قوله: فإنّ الدنیا .إلی آخره.
تنبیه له علی وجوب قطع الآمال الدنیویّة لانقطاع الدنیا،و علی العمل للآخرة بقربها.و هو فی قوّة صغری ضمیرین تقدیر کبری الأوّل:و کلّ ما کان منقطعا زایلا وجب أن یقطع الأمل فیه لانقطاعه و تجاذب الشیطان فی دعوته إلیه،و تقدیر کبری الثانی:و کلّ ما کان قریبا فینبعی أن یستعدّ لوصوله بالعمل.و باللّه التوفیق.
إلی قثم بن العباس،و هو عامله علی مکة
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ عَیْنِی بِالْمَغْرِبِ کَتَبَ إِلَیَّ یُعْلِمُنِی- أَنَّهُ وُجِّهَ إِلَی الْمَوْسِمِ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ؟الشَّامِ؟- الْعُمْیِ الْقُلُوبِ الصُّمِّ الْأَسْمَاعِ الْکُمْهِ
ص:71
الْأَبْصَارِ- الَّذِینَ یَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ- وَ یُطِیعُونَ الْمَخْلُوقَ فِی مَعْصِیَةِ الْخَالِقِ- وَ یَحْتَلِبُونَ الدُّنْیَا دَرَّهَا بِالدِّینِ- وَ یَشْتَرُونَ عَاجِلَهَا بِآجِلِ الْأَبْرَارِ الْمُتَّقِینَ- وَ لَنْ یَفُوزَ بِالْخَیْرِ إِلاَّ عَامِلُهُ- وَ لاَ یُجْزَی جَزَاءَ الشَّرِّ إِلاَّ فَاعِلُهُ- فَأَقِمْ عَلَی مَا فِی یَدَیْکَ قِیَامَ الْحَازِمِ الصَّلِیبِ- وَ النَّاصِحِ اللَّبِیبِ- التَّابِعِ لِسُلْطَانِهِ الْمُطِیعِ لِإِمَامِهِ- وَ إِیَّاکَ وَ مَا یُعْتَذَرُ مِنْهُ- وَ لاَ تَکُنْ عِنْدَ النَّعْمَاءِ بَطِراً- وَ لاَ عِنْدَ الْبَأْسَاءِ فَشِلاً أقول:هو قثم بن العبّاس بن عبد المطّلب،و لم یزل والیا لعلیّ علیه السّلام علی مکّة حتّی قتل علیه السّلام و استشهد بسمرقند فی زمن معاویة،و سبب هذا الکتاب أنّ معاویة کان قد بعث إلی مکّة فی موسم الحجّ و اجتماع العرب بها دعاة یدعون إلی طاعته و یثبّطون العرب من نصرة علیّ علیه السّلام،و یلقون فی أنفسهم أنّه إمّا قاتل عثمان أو خاذل له و علی التقدیرین فلا یصلح للإمامة،و ینشرون محاسن معاویة-بزعمهم- و أخلاقه و سیرته فی العطاء.فکتب علیه السّلام هذا الکتاب إلی عامله بمکّة ینبّهه علی ذلک لیعتمد علیه فیما یقتضیه السیاسة،و قیل:إنّ الذین بعثهم بعض السرایا الّتی کان یبعثها لیغیر علی أعمال علیّ علیه السّلام.
و العین : الجاسوس .و الموسم : مجمع الحاجّ .و الأکمه : الأعمی خلقة .و البطر : شدّة المرح و کثرة النشاط .و البأساء : الشدّة بنی علی فعلاء و لا أفعل له لأنّه اسم غیر صفة .و الفشل : الجبن و الضعف .
و حاصل الکتاب إعلامه أوّلا بما کتب إلیه عینه بالمغرب،و أراد الشام لأنّها من البلاد المغربیّة،و قد کان له علیه السّلام فی البلاد جواسیس یخبره بما یتجدّد من الامور عند معاویة،و لمعاویة عنده کذلک کما جرت عادة الملوک بمثله.ثمّ وصف أهل الشام بأوصاف یستلزم البعد عن اللّه لغرض التنفیر عنهم:
ص:72
أحدها:شمول الغفلة بهم من کلّ وجه عمّا خلقوا لأجله،و أستعار لقلوبهم لفظ العمی باعتبار عدم عقلیّتهم للحقّ و إدراکهم لما ینبغی من طریق الآخرة کما لا یدرک الأعمی قصده،و لفظ الصمّ لأسماعهم و الکمه لأبصارهم باعتبار عدم انتفاعهم من جهة الأسماع بالمواعظ و التذاکیر،و من جهة الأبصار بتحصیل العبرة بها من آثار اللّه سبحانه کما لا ینتفع بذلک فاقد هاتین الآلتین.
الثانی :کونهم یلبسون الحقّ بالباطل:أی یخلّطونه و یعمّونه فیه.و المراد أنّهم یعلمون أنّه علی الحقّ و أنّ معاویة علی الباطل ثم یکتمون ذلک و یغطّونه بشبهة قتل عثمان و الطلب بدمه إلی غیر ذلک من أباطیلهم،و روی یلتمسون الحقّ بالباطل.إذ کانوا یطلبون حقّا بحرکاتهم الباطلة.
الثالث:کونهم یطیعون المخلوق:أی معاویة فی معصیة خالقهم.
استعارة الرابع:کونهم یجتلبون الدنیا درّها بالدین ،و استعار لفظ الدرّ لمتاع الدنیا و طیّباتها،و لفظ الاحتلاب لاستخراج متاعها بوجوه الطلب من مظانّه ملاحظا لشبهها بالناقة .و درّها منصوب بدلا من الدنیا.و إنّما کان ذلک بالدین لأنّ إظهارهم لشعاره و تمسّکهم بظواهره لعرض تحصیل الدنیا و أخذهم ما لا یستحقّونه منها فإنّ محاربتهم له علیه السّلام إنّما کانت کما زعموا للأخذ بثار الخلیفة عثمان و إنکار المنکر علی قاتلیه و خاذلیه،و لذلک تمکّنوا من تألّف قلوب العرب و أکثر جهّال المسلمین علی حربه علیه السّلام،و أخذ البلاد.
استعارة الخامس: شراؤهم عاجل الدنیا بآجل الأبرار ،و هو ثواب الآخرة،و لفظ الشراء مستعار لاستعاضتهم ذلک العاجل من ذلک الآجل،و لمّا کان ذلک فی شعار الإسلام هو الخسران المبین ذکره فی معرض ذمّهم ،ثمّ ذکر فی مقام الوعد و الوعید لهم انحصار الفوز بالخیر ممّن عمل الخیر ترغیبا فیه و المجازاة بالشرّ فی فاعله تنفیرا عفه .ثمّ ختم بأمره و تحذیره أمّا أمره فبأن یقیم علی ما فی یدیه من العمل مقام من هو أهل ذلک و هو الحازم المتثبّت فی إرائه،الصلیب فی طاعة اللّه،الناصح اللبیب له و لأولیائه،التابع لسلطانه،المطیع لإمامه و أمّا تحذیره فممّا یعتذر منه و هو کلّ
ص:73
أمر عدّ فی الشرع معصیة و تقصیرا عن أداء حقّه،و یروی الکلمات مرفوعة.ثمّ من البطر فی النعمة و الفشل و الضعف عند البأساء و الشدّة لکون ذلک معدّ الزوال النعمة و حلول النقمة.و البطر رذیلة تستلزم رذیلتی الکبر و العجب و تقابل فضیلة التواضع،و الفشل رذیلة التفریط من فضیلة الشجاعة.و باللّه التوفیق.
إلی محمد بن أبی بکر
،لما بلغه توجده من عزله بالأشتر عن مصر ثم توفی الأشتر فی توجهه إلی مصر قبل وصوله إلیها أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِی مَوْجِدَتُکَ مِنْ تَسْرِیحِ؟الْأَشْتَرِ؟ إِلَی عَمَلِکَ- وَ إِنِّی لَمْ أَفْعَلْ ذَلِکَ اسْتِبْطَاءً لَکَ فِی الْجَهْدَ- وَ لاَ ازْدِیَاداً لَکَ فِی الْجِدِّ- وَ لَوْ نَزَعْتُ مَا تَحْتَ یَدِکَ مِنْ سُلْطَانِکَ- لَوَلَّیْتُکَ مَا هُوَ أَیْسَرُ عَلَیْکَ مَئُونَةً- وَ أَعْجَبُ إِلَیْکَ وِلاَیَةً- إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِی کُنْتُ وَلَّیْتُهُ أَمْرَ؟مِصْرَ؟- کَانَ رَجُلاً لَنَا نَاصِحاً وَ عَلَی عَدُوِّنَا شَدِیداً نَاقِماً- فَرَحِمَهُ اللَّهُ فَلَقَدِ اسْتَکْمَلَ أَیَّامَهُ- وَ لاَقَی حِمَامَهُ وَ نَحْنُ عَنْهُ رَاضُونَ- أَوْلاَهُ اللَّهُ رِضْوَانَهُ وَ ضَاعَفَ الثَّوَابَ لَهُ- فَأَصْحِرْ لِعَدُوِّکَ وَ امْضِ عَلَی بَصِیرَتِکَ- وَ شَمِّرْ لِحَرْبِ مَنْ حَارَبَکَ وَ «ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ» - وَ أَکْثِرِ الاِسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ یَکْفِکَ مَا أَهَمَّکَ- وَ یُعِنْکَ عَلَی مَا نَزَلَ بِکَ و السلام أقول:السبب أنّ محمّد بن أبی بکر کان یضعف عن لقاء العدوّ،و لم یکن فی أصحاب علیّ علیه السّلام أقوی بأسا فی الحرب من الأشتر-رحمه اللّه-و کان معاویة بعد وقایع صفّین قد تجرّد للإغارة علی أطراف بلاد المسلمین،و قد کانت مصر
ص:74
جعلت طعمة لعمرو بن العاص،و علم علیه السّلام أنّها لا تتحفّظ إلاّ بالأشتر فکتب له العهد الّذی یأتی ذکره و وجّهه إلیها فبلغه أنّ محمّدا تألّم من ذلک.ثمّ إنّ الأشتر مات قبل وصوله إلیها فکتب علیه السّلام إلی محمّد هذا الکتاب،و هو یؤذن بإقراره علی عمله و استرضائه،و تعریفه وجه عذره فی تولیة الأشتر لعمله،و أنّه لم یکن ذلک لموجدة علیه و لا تقصیر منه.
و الموجدة ما یجده الإنسان من الغضب و التألّم عنه .و التسریح:
الإرسال .و أصحر له : أی أخرج له إلی الصحراء .و البصیرة هنا:الحجّة و الهدی فی الدین .
فقد بلغنی .إلی قوله: عملک کالاعتراف له بما یشبه الإساءة فی حقّه لیرتّب علیه ما یشبه الاعتذار إلیه.
قوله: و إنّی لم أفعل ذلک .إلی قوله: ناقما .أخذ فیما یشبه العذر فنفی عنه التقصیر و الاستبطاء فی الجهاد و نحوه ممّا عساه یتوهّمه سببا لعزله.ثمّ وعده علی تقدیر تمام عزله بولایة أمر هو أسهل علیه کلفة و أحبّ إلیه ولایة تسکینا لقلبه عن مصر بالترغیب فیما هو خیر منها .ثمّ أشار إلی وجه بعثه الأشتر فی معرض ذلک الثناء علیه بما استجمعه من الخصال الحمیدة المذکورة،و هی کونه لامامه ناصحا،و علی عدوّه شدیدا ناقما:أی منکرا و مغیرا،و محمّد و إن کان له الأمر فی الأوّل إلاّ أنّه فی الثانی ضعیف.
قوله: فرحمه اللّه .إلی قوله: الثواب له .إعلام بأنّه مات و هو عنه راض لأن لا یظهر به شماتته .
قوله: فأصحر .إلی آخره أمر له بالاستعداد للعدوّ،و أمره بالإصحار لإشعاره بالقوّة دون الاستتار فی المدینة المشعر بالضعف،و أن یمضی فی محاربته علی حجّته فی الحقّ و استبصاره فیه، کنایة و کنّی وصف التشمیر عن الاستعداد للحرب ،و أن یدعو إلی سبیل ربّه «بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ» المجادلة «بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ» ،و أن یکثر الاستعانة باللّه فإنّ الرغبة إلیه،و الاستعانة به تعدّ لإفاضة النصر و کفایته ما
ص:75
أهمّ من أمر العدوّ و معونته علی ما نزل من الشدائد.و باللّه التوفیق و العصمة.
إلی عبد اللّه بن العباس،بعد مقتل محمد بن أبی بکر
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ؟مِصْرَ؟ قَدِ افْتُتِحَتْ- وَ؟مُحَمَّدُ بْنُ أَبِی بَکْرٍ؟ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدِ اسْتُشْهِدَ- فَعِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُهُ وَلَداً نَاصِحاً وَ عَامِلاً کَادِحاً- وَ سَیْفاً قَاطِعاً وَ رُکْناً دَافِعاً- وَ قَدْ کُنْتُ حَثَثْتُ النَّاسَ عَلَی لَحَاقِهِ- وَ أَمَرْتُهُمْ بِغِیَاثِهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ- وَ دَعَوْتُهُمْ سِرّاً وَ جَهْراً وَ عَوْداً وَ بَدْءاً- فَمِنْهُمُ الْآتِی کَارِهاً وَ مِنْهُمُ الْمُعْتَلُّ کَاذِباً- وَ مِنْهُمُ الْقَاعِدُ خَاذِلاً- أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَی أَنْ یَجْعَلَ لِی مِنْهُمْ فَرَجاً عَاجِلاً- فَوَاللَّهِ لَوْ لاَ طَمَعِی عِنْدَ لِقَائِی عَدُوِّی فِی الشَّهَادَةِ- وَ تَوْطِینِی نَفْسِی عَلَی الْمَنِیَّةِ- لَأَحْبَبْتُ أَلاَّ أَبْقَی مَعَ هَؤُلاَءِ یَوْماً وَاحِداً- وَ لاَ أَلْتَقِیَ بِهِمْ أَبَداً
أقول: احتسبت کذا عند اللّه : أی طلبت به الحسبة بکسر الحاء و هی الأجر .
و الشهادة : القتل فی سبیل اللّه .و استشهد : کانّه استحضر إلی اللّه .
:إعلامه بفتح مصر.
لیساهمه فی الهمّ بهذه المصیبة،و مدحه فی معرض التفجّع علیه و التوجّع له،و ولدا و عاملا و سیفا و رکنا أحوال، و تسمیته ولدا مجاز باعتبار تربیته فی حجره کالولد،و ذلک أنّه کان ربیبا له،و أمّه أسماء بنت عمیس الخثعمیّة کانت تحت جعفر بن أبی طالب و هاجرت معه إلی الحبشة فولدت له محمّدا و عونا و عبد اللّه بالحبشة،و لمّا قتل جعفر تزوّجها ابو بکر فولدت له
ص:76
محمّدا هذا.فلمّا توفّی عنها تزوّجها علی علیه السّلام فولدت له یحیی بن علیّ، استعارة مرشحة و استعار له لفظ السیف باعتبار کونه یقمع به العدوّ و یصال به علیه،و رشّح بذکر القاطع،و کذلک لفظ الرکن باعتبار کونه یستند إلیه فی الحوادث فتدفع به و رشّح بقوله:دافعا .
،و أنّه قد حثّهم علی لحاقه و إغاثته فلم یسمعوا،و أشار إلی وجه تقصیر کلّ منهم،و قد کان حاله علیه السّلام مع الناس کحال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله مع قومه فالآتون کارهین «کَأَنَّما یُساقُونَ إِلَی الْمَوْتِ وَ هُمْ یَنْظُرُونَ» ،و المعتلّون کذبا کالّذین قالوا «لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَکُمْ یُهْلِکُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللّهُ یَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَکاذِبُونَ» ،و من تأمّل حالهما و سیرتهما إلی أن قبضا تحقّق وجه الشبه بینهما فی أکثر الأحوال.و هذه القسمة لهم بحسب ما وجدهم .
و هو فی معرض التشکّی أیضا و الإشارة إلی وجه عذره فی المقام بینهم علی هذه الحال و هو طلبه للشهادة و توطینه نفسه علی الموت عند لقاء العدوّ،و لولا ذلک لفارقهم.و باللّه التوفیق.
إلی عقیل بن أبی طالب
،فی ذکر جیش انفذه إلی بعض الأعداء و هو جواب کتاب کتبه إلیه فَسَرَّحْتُ إِلَیْهِ جَیْشاً کَثِیفاً مِنَ الْمُسْلِمِینَ- فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِکَ شَمَّرَ هَارِباً وَ نَکَصَ نَادِماً- فَلَحِقُوهُ بِبَعْضِ الطَّرِیقِ- وَ قَدْ طَفَّلَتِ الشَّمْسُ لِلْإِیَابِ- فَاقْتَتَلُوا شَیْئاً کَلاَ وَ لاَ- فَمَا کَانَ إِلاَّ کَمَوْقِفِ سَاعَةٍ حَتَّی نَجَا جَرِیضاً- بَعْدَ مَا أُخِذَ مِنْهُ بِالْمُخَنَّقِ- وَ لَمْ یَبْقَ عِنْدَهُ غَیْرُ الرَّمَقِ- فَلَأْیاً بِلَأْیٍ مَا نَجَا- فَدَعْ عَنْکَ؟قُرَیْشاً؟ وَ تَرْکَاضَهُمْ فِی الضَّلاَلِ- وَ تَجْوَالَهُمْ فِی الشِّقَاقِ وَ جِمَاحَهُمْ فِی التِّیهِ- فَإِنَّهُمْ قَدْ
ص:77
أَجْمَعُوا عَلَی حَرْبِی- کَإِجْمَاعِهِمْ عَلَی حَرْبِ؟رَسُولِ اللَّهِ ص؟ قَبْلِی- فَجَزَتْ؟قُرَیْشاً؟ عَنِّی الْجَوَازِی- فَقَدْ قَطَعُوا رَحِمِی وَ سَلَبُونِی سُلْطَانَ ابْنِ أُمِّی- وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ رَأْیِی فِی الْقِتَالِ- فَإِنَّ رَأْیِی قِتَالُ الْمُحِلِّینَ حَتَّی أَلْقَی اللَّهَ- لاَ یَزِیدُنِی کَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِی عِزَّةً- وَ لاَ تَفَرُّقُهُمْ عَنِّی وَحْشَةً- وَ لاَ تَحْسَبَنَّ ابْنَ أَبِیکَ- وَ لَوْ أَسْلَمَهُ النَّاسُ مُتَضَرِّعاً مُتَخَشِّعاً- وَ لاَ مُقِرّاً لِلضَّیْمِ وَاهِناً- وَ لاَ سَلِسَ الزِّمَامِ لِلْقَائِدِ- وَ لاَ وَطِیءَ الظَّهْرِ لِلرَّاکِبِ الْمُقْتَعِدِ- وَ لَکِنَّهُ کَمَا قَالَ أَخُو؟بَنِی سَلِیمٍ؟- فَإِنْ تَسْأَلِینِی کَیْفَ أَنْتَ فَإِنَّنِی صَبُورٌ عَلَی رَیْبِ الزَّمَانِ صَلِیبُ
یَعِزُّ عَلَیَّ أَنْ تُرَی بِی کَآبَةٌ فَیَشْمَتَ عَادٍ أَوْ یُسَاءَ حَبِیبُ
أقول: طفّلت الشمس بالتشدید : إذا مالت للغیب .و آبت : لغة فی غابت .و الجریض : المغموم الّذی یبتلع ریقه علی همّ و حزن بالجهد و یکاد یموت لذلک .و المخنّق بالتشدید : هو من العنق موضع الخنق بکسر النون .و الرمق : بقیّة النفس و اللأی : الشدّة و العسر .و الاجماع : تصمیم العزم .و الجوازی : جمع جازیة و هی النفوس تجزی بالسیّئة .و المحلّین : من نقص البیعة،یقال لمن نقض عهده و بیعته:
محلّ،و لمن حفظه.محرم .و المقتعد : الراکب لاقتعاده لأظهر البعیر .
حکایة حال عدوّ و قد أغار علی بعض أعماله فنفد إلیه جیشا من المسلمین فهرب حین علم توجّههم نحوه ثمّ لحقوه
ص:78
فقاتلوه قلیلا ثمّ أفلت منهم علی شدّة و عسر من الخلاص،و ألفاظه علیه السّلام أفصح العبارات عمّا ذکره،و هاربا و نادما و جریضا أحوال.
تشبیه و قوله کلا و لا .
تشبیه بالقلیل السریع الفناء،و ذلک لأنّ لا و لا لفظان قصیران سریعا الانقطاع قلیلان فی المسموع من المتخاطبین.فشبّه بهما ما کان من محاربة العدوّ للجیش الّذی نفذه.و نحوه قول ابن هانی المغربی:
و أسرع فی العین من لحظة و أقصر فی السمع من لا و لا
و موقف مصدر أی فما کان ذلک القتال إلاّ کوقوف ساعة،و روی:لا و ذا.
و لأیا مصدر و العامل محذوف،و ما مصدریّة فی موضع الفاعل،و التقدیر:فلأیی لأیا نجاؤه أی عسرو إبطاء.
و قوله:بلأی.
أی لأیا مقرونا بلأی .
استعارة قوله: فدع عنک إلی قوله:ابن أمیّ.
کالجواب لکلام ذکر فیه قریشا و من انضمّ منهم إلی معاویة فأمره علیه السّلام بالإضراب عن ذکرهم علی سبیل الغضب منهم،و الواو فی قوله:و ترکاضهم.یشبه أن یکون بمعنی مع،و یحتمل أن تکون عاطفة،و استعار لهم لفظ الترکاض باعتبار خبط أذهانهم فی الضلال عن سبیل اللّه و خوضهم فی الباطل یتسرّع فیه من غیر توقّف، و کذلک لفظ التجوال،و لفظ إجماح باعتبار کثرة خلافهم للحقّ و حرکاتهم فی تیه الجهل و الخروج عن طریق العدل کالفرس یجمح و یجول .
و قوله. فإنّهم .إلی قوله: رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله.
فی قوة صغری ضمیر نبّه به علی أنّه لا خیر فیهم و أنّه یجب الإعراض عنهم، و تقدیر الکبری،و کلّ من کان کذلک فینبغی ترکه و الإعراض عنه إذ لا خیر فیه.
و أمّا حقیقة الصغری فظاهرة لأنّ قریشا صمّم عزمهم علی حربه منذ بویع بغضا له و حسدا و حقدا علیه و اتّفقوا علی شقاقه کما کانت حالهم فی بدو الإسلام مع رسول اللّه
ص:79
صلّی اللّه علیه و آله لم یفترق الحالان فی شیء من ذلک.
و قوله:فجزت قریشا عنّی الجوازی.
دعاء علیهم بأن یجازوا بمثل فعلهم به من قطیعة الرحم و سلبه سلطان الإسلام و الخلافة الّتی هو أولی بها.و هی تجری مجری المثل.
و قوله: فقد قطعوا رحمی .
کالتعلیل لحسن الدعاء علیهم،و هو فی قوّة صغری ضمیر أیضا،و تقدیر کبراه:
و کلّ من فعل ذلک فهو حقیق بالدعاء علیه،و أراد بابن امّه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله لأنّهما ابنا فاطمة بنت عمرو بن عمران بن عائذ بن مخزوم امّ عبد اللّه و أبی طالب،و لم یقل ابن أبی لأنّ غیر أبی طالب من الأعمام یشرکه فی النسب إلی عبد المطّلب.و قیل:
إنّ امّه فاطمة بنت أسد کانت تربّی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله حین کفّله أبو طالب یتیما فهی کالامّ له فأطلق علیه البنوّة لها مجازا .
قوله: و أمّا ما سألت عنه .إلی آخره.فهو تقریر بسؤاله و الجواب عنه،و فیه تنبیه علی فضیلته من وجوه:
الأوّل:قوّته فی الدین علی من أحلّ ذمّة اللّه و نقض عهدا من عهوده.
الثانی:شجاعته الّتی لا یزیده معها کثرة الناس حوله عزّة و لا تفرّقهم عنه وحشة،و لا یوجد معها بالصفات المذکورة من الجبن و العجز و الانقیاد للعدوّ،و لکنّه معها کالقائل.و الشعر منسوب إلی العبّاس بن مرداس السلمی و هو فی قوّة تمثیل أصله القائل،و فرعه هو علیه السّلام،و علّته ما ذکر من الأوصاف،و حکمه کونه شجاعا یجب الحذر من صولته.و باللّه التوفیق.
إلی معاویة
فَسُبْحَانَ اللَّهِ- مَا أَشَدَّ لُزُومَکَ لِلْأَهْوَاءَ الْمُبْتَدَعَةِ وَ الْحَیْرَةِ الْمُتَّبَعَةِ- مَعَ تَضْیِیعِ الْحَقَائِقِ وَ اطِّرَاحِ الْوَثَائِقِ- الَّتِی هِیَ لِلَّهِ طِلْبَةٌ وَ عَلَی عِبَادِهِ حُجَّةٌ-
ص:80
فَأَمَّا إِکْثَارُکَ الْحِجَاجَ عَلَی؟عُثْمَانَ؟ وَ قَتَلَتِهِ- فَإِنَّکَ إِنَّمَا نَصَرْتَ؟عُثْمَانَ؟ حَیْثُ کَانَ النَّصْرُ لَکَ- وَ خَذَلْتَهُ حَیْثُ کَانَ النَّصْرُ لَهُ أقول:أوّل هذا الکتاب:أمّا بعد فإنّ الدنیا حلوة خضرة ذات زینة و بهجة لم یصیب إلیها أحد إلاّ شغلته بزینتها عمّا هو أنفع له منها،و بالآخرة أمرنا و علیها حثثنا.
فدع یا معاویة ما یفنی،و اعمل لما یبقی،و احذر الموت الّذی إلیه مصیرک و الحساب الّذی إلیه عاقبتک.و أعلم أنّ اللّه إذا أراد بعبد خیرا حال بینه و بین ما یکره و وفّقه لطاعته، و إذا أراد بعبد شرّا أغراه بالدنیا و أنساه الآخرة و بسط له أمله و عاقّه عمّا فیه صلاحه.و قد وصلنی کتابک فوجدتک ترمی غیر غرضک،و تنشد غیر ضالّتک،و تخبط فی عمایة و تیه فی ضلالة،و تعتصم بغیر حجّة،و تلوذ بأضعف شبهة.فأمّا سؤالک إلیّ المشارکة و الإقرار لک علی الشام،فلو کنت فاعلا لذلک الیوم لفعلته أمس.و أمّا قولک:إنّ عمر ولاّکها.فقد عزل عمر من کان ولاّ صاحبه،و عزل عثمان من کان عمر ولاّه،و لم ینصب للناس إمام إلاّ لیری من صلاح الأمّة ما قد کان ظهر لمن کان قبله أو خفی عنهم غیبته،و الأمر یحدث بعده الأمر،و لکلّ وال رأی و اجتهاد.ثمّ یتّصل بقوله:سبحان اللّه.الفصل إلی آخره .
قصد الحقّ
.و ذلک أنّه فی کلّ وقت یوقع شبهة و یبتدع رأیا یغوی به أصحابه و یقرّر فی أذهانهم بذلک أنّ علیّا علیه السّلام لا یصلح للإمامة،فتارة یقول:إنّه قتل عثمان،و تارة یزعم أنّه خذله،و تارة یزعم أنّه قتل الصحابة و فرّق کلمة الجماعة،و تارة تصرف عنه بالعطاء و تفریق مال المسلمین علی غیر الوجه الشرعیّ،و تارة یعترف بکونه صالحا للإمامة،و یطلب إلیه الإقرار بالشام.إلی غیر ذلک ممّا یبتدعه فی الدین من الأباطیل،و یتّبع الحیرة فیها مع تضییعه لحقایق الامور الّتی ینبغی أن یعتقدها من کونه علیه السّلام الأحقّ بهذا الأمر،و إطراحه لوثایق اللّه و عهوده المطلوبة المرضیّة له
ص:81
و هی علی عباده حجّة یوم القیامة کما قال تعالی «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّکَ» الآیة .
و فخره بنصرته و تبکیته له علیه السّلام بخذلانه إیّاه.
و قوله: فإنّک :إلی آخره.
فی قوّة صغری ضمیر بیانها أنّ معاویة لمّا استصرخه عثمان تثاقل عنه و هو فی ذلک یعده حتّی إذا اشتدّ به الحصار بعث إلیه یزید بن أسد القسربی،و قال له:
إذا أتیت ذی خشب فاقم بها و لا تقل:الشاهد یری ما لا یری الغائب.فإنّی أنا الشاهد و أنت الغائب.قال:فأقام بذی خشب حتّی قتل عثمان.فاستقدمه حینئذ معاویة فعاد إلی الشام بالجیش الّذی کان معه،فکان نصره له حیث بعث لنصرته إنّما کان علی سبیل التعذیر و التقاعد عنه لیقتل فیدعو إلی نفسه فکان ذلک النصر فی الحقیقة لمعاویة.إذ کان فعله ذلک سببا لقتله،و انتصاره هو علی مطلوبه من هذا الأمر، و کان خذلانه له حیث کان محتاجا إلی النصر،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فلیس له أن یفخر بنصرته و ینسب غیره إلی خذلانه.و باللّه التوفیق.
إلی أهل مصر،لما ولی علیهم الأشتر رحمه اللّه
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟عَلِیٍّ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ؟- إِلَی الْقَوْمِ الَّذِینَ غَضِبُوا لِلَّهِ- حِینَ عُصِیَ فِی أَرْضِهِ وَ ذُهِبَ بِحَقِّهِ- فَضَرَبَ الْجَوْرُ سُرَادِقَهُ عَلَی الْبَرِّ وَ الْفَاجِرِ- وَ الْمُقِیمِ وَ الظَّاعِنِ- فَلاَ مَعْرُوفٌ یُسْتَرَاحُ إِلَیْهِ- وَ لاَ مُنْکَرٌ یُتَنَاهَی عَنْهُ- أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَیْکُمْ عَبْداً مِنْ عِبَادِ اللَّهِ- لاَ یَنَامُ أَیَّامَ الْخَوْفِ- وَ لاَ یَنْکُلُ عَنِ الْأَعْدَاءِ سَاعَاتِ الرَّوْعِ- أَشَدَّ عَلَی الْفُجَّارِ مِنْ حَرِیقِ النَّارِ-
ص:82
وَ هُوَ؟مَالِکُ بْنُ الْحَارِثِ؟ أَخُو؟مَذْحِجٍ؟- فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أَطِیعُوا أَمْرَهُ فِیمَا طَابَقَ الْحَقَّ- فَإِنَّهُ سَیْفٌ مِنْ سُیُوفِ اللَّهِ- لاَ کَلِیلُ الظُّبَةِ وَ لاَ نَابِی الضَّرِیبَةِ- فَإِنْ أَمَرَکُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فَانْفِرُوا- وَ إِنْ أَمَرَکُمْ أَنْ تُقِیمُوا فَأَقِیمُوا- فَإِنَّهُ لاَ یُقْدِمُ وَ لاَ یُحْجِمُ- وَ لاَ یُؤَخِّرُ وَ لاَ یُقَدِّمُ إِلاَّ عَنْ أَمْرِی- وَ قَدْ آثَرْتُکُمْ بِهِ عَلَی نَفْسِی لِنَصِیحَتِهِ لَکُمْ- وَ شِدَّةِ شَکِیمَتِهِ عَلَی عَدُوِّکُمْ
أقول: السرادق : البیت من القطن .و النکول : الرجوع .و الظبة بالتخفیف:
حدّ السیف ،و نبا السیف : إذا لم یقطع لضریبه .و الإحجام : التأخّر .و فلان شدید الشکیمة. إذا کان أبیّا قویّ النفس.و أصل الشکیمة:الحدیدة المعترضة فی فم الفرس .
صورة عنوانه،و وصف أهل مصر بالغضب للّه استجلابا لطباعهم،و إشارة إلی إنکارهم للأحداث الّتی نسبت إلی عثمان و مسیرهم لذلک إلی المدینة غضبا لحدود اللّه أن تعطّل.
فإن قلت:فیلزم أن یکون علیه السّلام راضیا بقتل عثمان.إذ مدح قاتله علی المسیر بقتله.
قلت:لا یلزم ذلک لجواز أن یکون مسیرهم إنّما کان للنکیر علیه دون غرض قتله.فمدحهم علی ذلک النکیر لأنّه جهة مدح،و أمّا قاتلوه و الّذین تسوّروا علیه الدار-و کانوا قوما قلیلین-لعلّه لم یک فیهم من أهل مصر إلاّ النادر، و لیس فی کلامه علیه السّلام ما یقتضی مدح أولئک باعتبار کونهم قتلوه، استعارة و استعار لفظ السرادق لما عمّ من الجور البرّ و الفاجر و المقیم و المسافر کالسرادق الحاوی لأهله ، مقابلة و قابل بین المعروف و المنکر و لم یرد نفی المنکر بل نفی صفة التناهی عنه .
ص:83
کنایة قوله: أمّا بعد إلی قوله:أخو بنی مذحج .صدر الکتاب:أعلمهم فیه ببعث الأشتر إجمالا،و وصفه بأوصاف یستلزم رغبتهم فیه،و کنّی بکونه لا ینام أیّام الخوف عن علوّ همّته و تعلّقها حین الخوف بتدبیر الحرب و الاستعداد للقاء العدوّ،و بکونه لا ینکل عن الأعداء عن شجاعته و شدّة بأسه .و أکّد ذلک بوصف کونه أشدّ علی الفجّار من حریق النار،و هو وصف صادق مع المبالغة فیه.إذ کان لقاؤه للفجّار یستلزم غلبة ظنونهم بالهلاک معه و عدم السلامة،و لا کذلک وجود الحریق لطمعهم فی الفرار من النار و إطفائها.ثمّ ذکره بعد تعدید أوصافه الحمیدة و هو أبلغ لأنّ الغرض الأهمّ وصفه لا ذکره فقط.و مذحج بفتح المیم کمسجد:أبو قبیلة من الیمن،و هو مذحج بن جابر بن مالک بن نهلان بن سبا.
و النخع:قبیلة من هذه القبیلة،و الأشتر نخعیّ .
یطابق الحقّ
و یوافقه من الأوامر،و أشار إلی حسن امتثال أمره بضمیر صغراه استعارة مرشحة بالکنایة قوله: فإنّه سیف.إلی قوله:الضریبة ،و استعار له لفظ السیف باعتبار کونه یصال به علی العدوّ فیهلکه کالسیف،و رشّح بذکر الظبة،و کنّی بکونه غیر کلیلها و غیر نابی الضریبة عن کونه ماضیا فی الحوادث غیر واقف فیها و لا راجع عنها ،و الإضافة إلی الضریبة إضافة اسم الفاعل إلی المفعول:أی و لا ناب عن الضریبه،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فیجب أن یقدّم و یمتثل أمره فیما یشیر به من الحرب و غیرها.
أمره،
و نبّه علی ذلک بضمیر صغراه کنایة قوله: فإنّه.إلی قوله:أمری .و کنّی بذلک عن کونه لا یأمر فی الحرب و غیرها بأمر إلاّ و هو فی موضعه لأنّ أوامره علیه السّلام کانت کذلک فمن کان علی وفقها فأوامره أیضا کذلک،و لم یرد علیه السّلام أنّ کلّ ما یأمر به مالک فی الأمور الکلّیّة و الجزئیّة فإنّه من أمره علیه السّلام بالتعیین و التفصیل بل أراد أنّه قد علمه بقواعد کلّیّة للسیاسات و تدابیر المدن و الحروب و
ص:84
أعدّه لذلک بحیث یمکنه أن یجتهد فیها و یستخرج جزئیّاتها .
کنایة أعلمهم أنّه قد آثرهم به علی نفسه مع حاجته إلیه فی الرأی و التدبیر فی معرض الامتنان علیهم بذلک لیشکروه،و أشار إلی علّة ایثاره لهم به و هی کونه ناصحا لهم قویّ النفس شدید الوطأة علی عدوّهم.و کنّی بشدّة الشکیمة عن ذلک فأمّا مصلحته علیه السّلام فی ذلک الایثار فهو استقامة الأمر له بصلاح حالهم .و باللّه التوفیق.
إلی عمرو بن العاص
فَإِنَّکَ قَدْ جَعَلْتَ دِینَکَ تَبَعاً لِدُنْیَا امْرِئٍ- ظَاهِرٍ غَیُّهُ مَهْتُوکٍ سِتْرُهُ- یَشِینُ الْکَرِیمَ بِمَجْلِسِهِ وَ یُسَفِّهُ الْحَلِیمَ بِخِلْطَتِهِ- فَاتَّبَعْتَ أَثَرَهُ وَ طَلَبْتَ فَضْلَهُ- اتِّبَاعَ الْکَلْبِ لِلضِّرْغَامِ یَلُوذُ بِمَخَالِبِهِ- وَ یَنْتَظِرُ مَا یُلْقَی إِلَیْهِ مِنْ فَضْلِ فَرِیسَتِهِ- فَأَذْهَبْتَ دُنْیَاکَ وَ آخِرَتَکَ- وَ لَوْ بِالْحَقِّ أَخَذْتَ أَدْرَکْتَ مَا طَلَبْتَ- فَإِنْ یُمَکِّنِّی اللَّهُ مِنْکَ وَ مِنِ ابْنِ؟أَبِی سُفْیَانَ؟- أَجْزِکُمَا بِمَا قَدَّمْتُمَا- وَ إِنْ تُعْجِزَا وَ تَبْقَیَا فَمَا أَمَامَکُمَا شَرٌّ لَکُمَا- وَ السَّلاَمُ
أقول:قد ذکر هذا الکتاب بروایة تزید علی هذه،و أوّله:من عبد اللّه علیّ أمیر المؤمنین إلی الأبتر ابن الأبتر عمرو بن العاص شانئ محمّد و آل محمّد فی الجاهلیّة و الإسلام.سلام علی من اتّبع الهدی .أمّا بعد فإنّک ترکت مروّتک لامرء فاسق مهتوک ستره یشین الکریم بمجلسه و یسفّه الحلیم بخلطته.فصار قلبک لقلبه تبعا کما وافق شنّ طبقه.فسلبک دینک و أمانتک و دنیاک و آخرتک و کان علم اللّه بالغا فیک.
فصرت کالذئب یتبع الضرغام إذا ما اللیل دجی یلتمس أن یداوسه.و کیف تنجو من
ص:85
القدر و لو بالحقّ طلبت أدرکت ما رجوت،و قد یرشد من کان قائده.فإن یمکّنّی اللّه منک و من ابن آکلة الأکباد ألحقکما بمن قتله اللّه من ظلمة قریش علی عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و إن تعجزا أو تبقیا بعدی فاللّه حسبکما و کفی بانتقامه انتقاما و بعقابه عقابا.
و مدار الکتاب علی توبیخ عمرو بمتابعته لمعاویة فی باطله و تنفیره عمّا هو علیه و وعیده لهما علی ذلک.و معنی جعله دینه تبعا لدنیا معاویة أنّه یصرفه فی مرضاته بحسب ما یتصوّر حصوله علیه من دنیاه کما أشرنا إلیه قبل من بیعه دینه فی المظاهرة علی حربه علیه السّلام بطعمة مصر.ثمّ ذمّ معاویة بأوصاف أربعة لغایة التنفیر عنه:
أحدها:کونه ظاهرا غیّه،و ضلال معاویة عن طریق اللّه أوضح أن یوضح.
الثانی:کونه مهتوکا ستره،و من المشهور عنه أنّه کان هاتکا لستر دین اللّه عنه فإنّه کان کثیر الخلاعة به و الهزل صاحب سمار و جلساء لهو و مناع و شرب و سماع،و قد کان یتستّر بذلک فی زمان عمر خوفا منه إلاّ أنّه کان یلبس الحریر و الدیباج و یشرب فی آنیة الذهب و الفضّة و أمّا فی أیّام عثمان فکان شدید التهتّک،و إنّما قارب الوقار حیث خرج علی علیّ علیه السّلام لحاجته إلی استغواء الناس بظاهر الدین.
الثالث:یشین الکریم بمجلسه،و ذاک أنّ الکریم هو الّذی یضبط نفسه و ینزّهها عمّا یشین العرض من الرذائل،و قد کان مجلس معاویة مشحونا ببنی أمیّة و رذائلهم،و مجالسة الکریم لهم یستلزم نسبته إلیهم و لحاقه بهم،و ذلک مشین لعرضه و مقبّح لذکره.
الرابع:کونه یسفّه الحلیم بخلطته،و ذلک أنّه کان دأبه هو و بنو امیّة شتم بنی هاشم و قذفهم و التعرّض بذکر الإسلام و الطعن علیه،و إن أظهروا الانتماء إلیه،و ذلک ممّا یستفزّ الحلیم و یسفّه رأیه فی الثبات عند مخالطتهم و سماعه منهم ، و کنّی باتّباعه لأثره عن متابعته له فیما یفعله،و أشار بقوله:و طلبت فضله إلی غرض اتّباعه، تشبیه و شبّه اتّباعه له باتّباع الکلب الأسد تحقیرا له و تنفیرا،و نبّهه
ص:86
علی وجه الشبه بقوله:یلوذ.إلی قوله:فریسته،و أراد أنّ اتّباعه له علی وجه الذلّة و الحقارة و دناءة الهمّة للطمع فیما یعطیه من فضل ماله و انتظار ذلک منه کاتّباع الکلب للأسد،و فی مثل هذا التشبیه بلاغ لعمرو فی التنفیر لو کان له کرم .
ثمّ نبّهه علی لازم اتّباعه له بقوله:فأذهبت دنیاک و آخرتک،و أراد بدنیاه ما کان یعیش به من الرزق و العطاء الحلال علی وجه یلتذّ به فی طیب نفس و أمن من الحروب الّتی لقیها بصفّین و الأهوال الّتی باشرها فی موافقته لمعاویة،و تلک هی الدنیا الحقّة.إذ الدنیا إنّما یراد للّذّة بها و الاستمتاع،و ذلک ممّا لم یحصل علیه عمرو.و أمّا ذهاب آخرته فظاهر.
و قوله:و لو بالحقّ أخذت.إلی قوله:طلبت.
جذب له إلی لزوم الحقّ و ترغیب فیه بذکر لازمه،و هو إدراک ما طلب من دنیا و آخرة،و ظاهر أنّه لو لزم الحقّ لوصل إلی دنیا کاملة و آخرة بالمعالی کافلة.
و قوله :فإن یمکّنّی اللّه.إلی آخره.
و عید بعذاب واقع علی تقدیر کلّ واحد من النقیضین و ذلک العذاب إمّا بواسطته فی الدنیا بتقدیر تمکین اللّه منهما و هو جزائه لهما بما قدّما من معصیة اللّه، و إمّا من اللّه فی الآخرة علی تقدیر أن یعجزاه و تبقیا بعده و هو عذاب النار،و نبّه علیه بقوله:فما أمامکما شرّ لکما لقوله تعالی «وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقی» و استعار لفظ الأمام للآخرة باعتبار استقبال النفوس لها و توجّهها نحوها.و باللّه التوفیق.
إلی بعض عماله
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّی کُنْتُ أَشْرَکْتُکَ فِی أَمَانَتِی- وَ جَعَلْتُکَ شِعَارِی وَ بِطَانَتِی- وَ لَمْ
ص:87
یَکُنْ فِی أَهْلِی رَجُلٌ أَوْثَقَ مِنْکَ فِی نَفْسِی- لِمُوَاسَاتِی وَ مُوَازَرَتِی وَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَیَّ- فَلَمَّا رَأَیْتَ الزَّمَانَ عَلَی ابْنِ عَمِّکَ قَدْ کَلِبَ- وَ الْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ وَ أَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِیَتْ- وَ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ فَنَکَتْ وَ شَغَرَتْ- قَلَبْتَ لاِبْنِ عَمِّکَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ- فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِینَ وَ خَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِینَ- وَ خُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِینَ- فَلاَ ابْنَ عَمِّکَ آسَیْتَ وَ لاَ الْأَمَانَةَ أَدَّیْتَ- وَ کَأَنَّکَ لَمْ تَکُنِ اللَّهَ تُرِیدُ بِجِهَادِکَ- وَ کَأَنَّکَ لَمْ تَکُنْ عَلَی بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّکَ- وَ کَأَنَّکَ إِنَّمَا کُنْتَ تَکِیدُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ دُنْیَاهُمْ- وَ تَنْوِی غِرَّتَهُمْ عَنْ فَیْئِهِمْ- فَلَمَّا أَمْکَنَتْکَ الشِّدَّةُ فِی خِیَانَةِ الْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ الْکَرَّةَ- وَ عَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ وَ اخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَیْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ- الْمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَ أَیْتَامِهِمُ- اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الْأَزَلِّ دَامِیَةَ الْمِعْزَی الْکَسِیرَةَ- فَحَمَلْتَهُ إِلَی؟الْحِجَازِ؟ رَحِیبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ- غَیْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ- کَأَنَّکَ لاَ أَبَا لِغَیْرِکَ- حَدَرْتَ إِلَی أَهْلِکَ تُرَاثَکَ مِنْ أَبِیکَ وَ أُمِّکَ- فَسُبْحَانَ اللَّهِ أَ مَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ- أَ وَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ- أَیُّهَا الْمَعْدُودُ کَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِی الْأَلْبَابِ- کَیْفَ تُسِیغُ شَرَاباً وَ طَعَاماً- وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّکَ تَأْکُلُ حَرَاماً وَ تَشْرَبُ حَرَاماً- وَ تَبْتَاعُ الْإِمَاءَ وَ تَنْکِحُ النِّسَاءَ- مِنْ أَمْوَالِ الْیَتَامَی وَ الْمَسَاکِینِ وَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُجَاهِدِینَ- الَّذِینَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَیْهِمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ- وَ أَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ الْبِلاَدَ-
ص:88
فَاتَّقِ اللَّهَ وَ ارْدُدْ إِلَی هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ- فَإِنَّکَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْکَنَنِی اللَّهُ مِنْکَ- لَأُعْذِرَنَّ إِلَی اللَّهِ فِیکَ- وَ لَأَضْرِبَنَّکَ بِسَیْفِی الَّذِی مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً- إِلاَّ دَخَلَ النَّارَ- وَ وَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ؟الْحَسَنَ؟ وَ؟الْحُسَیْنَ؟ فَعَلاَ مِثْلَ الَّذِی فَعَلْتَ- مَا کَانَتْ لَهُمَا عِنْدِی هَوَادَةٌ وَ لاَ ظَفِرَا مِنِّی بِإِرَادَةٍ- حَتَّی آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا وَ أُزِیحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا- وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ- مَا یَسُرُّنِی أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلاَلٌ لِی- أَتْرُکُهُ مِیرَاثاً لِمَنْ بَعْدِی فَضَحِّ رُوَیْداً- فَکَأَنَّکَ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَی وَ دُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَی- وَ عُرِضَتْ عَلَیْکَ أَعْمَالُکَ بِالْمَحَلِّ- الَّذِی یُنَادِی الظَّالِمُ فِیهِ بِالْحَسْرَةِ- وَ یَتَمَنَّی الْمُضَیِّعُ فِیهِ الرَّجْعَةَ «وَ لاتَ حِینَ مَناصٍ» أقول:المشهور أنّ هذا الکتاب إلی عبد اللّه بن عبّاس حین کان والیا له علی البصرة،و ألفاظ الکتاب تنبّه علی ذلک کقوله:قلبت لابن عمّک ظهر المجنّ و قوله:فلا ابن عمک آسیت،و کذلک ما روی أنّ ابن عبّاس کتب إلیه جوابا عن هذا الکتاب:أما بعد فقد أتانی کتابک تعظم فیه ما أصبت من بیت مال البصرة و لعمری إنّ حقّی فی بیت المال لأکثر ممّا أخذت و السّلام.فکتب علیه السّلام جواب ذلک:
أمّا بعد فإنّ من العجب أن تزیّن لک نفسک أنّ لک فی بیت المال من الحقّ أکثر ما لرجل من المسلمین فقد أفلحت إن کان تمنّیک الباطل و ادّعاک ما لا یکون تنجیک من المأثم و تحلّ لک المحارم.لأنت المهدیّ السعید إذن.و قد بلغنی أنّک اتّخذت مکّة وطنا.و ضربت بها عطنا تشتری بها مولّدات مکّة و المدینة و الطائف تختارهنّ علی عینک و تعطی فیهن مال غیرک فارجع هداک اللّه إلی رشدک و تب إلی اللّه ربّک و اخرج إلی المسلمین من أموالهم فعمّا قلیل تفارق من ألفت،و تترک
ص:89
ما جمعت و تغیب فی صدع من الأرض غیر موسّد و لا ممهّد قد فارقت الأحباب و سکنت التراب و واجهت غنیّا عمّا خلقت و فقیرا إلی ما قدّمت.و السّلام.
و أنکر قوم ذلک و قالوا:إنّ عبد اللّه بن عبّاس لم یفارق علیّا علیه السّلام و لا یجوز أن یقول فی حقّه ما قال القطب الراوندی-رحمه اللّه-یکون المکتوب إلیه هو عبید اللّه.
و حمله علی ذلک أشبه و هو به ألیق.
و اعلم أنّ هذین القولین لا مستند لهما:أمّا:الأوّل:فهو مجرّد استبعاد أن یفعل ابن عبّاس ما نسب إلیه،و معلوم أنّ ابن عبّاس لم یکن معصوما و علیّ علیه السّلام لم یکن لیراقب فی الحقّ أحدا و لو کان أعزّ أولاده کما تمثّل بالحسن و الحسین علیهما السّلام فی ذلک فکیف بابن عمّه بل یجب أن یکون الغلظة علی الأقرباء فی هذا الأمر أشدّ ثمّ إنّ غلظته علیه و عتابه له لا یوجب مفارقته إیّاه لأنّه علیه السّلام کان إذا فعل أحد من أصحابه ما یستحقّ به المؤاخذة أخذه به سواء کان عزیزا أو ذلیلا قریبا منه أو بعیدا فإذا استوفی حقّ اللّه منه أو تاب إلیه ممّا فعل عاد فی حقّه إلی ما کان علیه کما قال:العزیز عندی ذلیل حتّی آخذ الحقّ منه،و الذلیل عندی عزیز حتّی آخذ الحقّ له.فلا یلزم إذن من غلظته علی ابن عبّاس و مقابلته إیّاه بما یکره مفارقته له و شقاقه علی ما بینهما من المحبّة الوکیدة و القرابة،و أمّا القول الثانی:
فإنّ عبد اللّه کان عاملا له علیه السّلام بالیمن و لم ینقل عنه مثل ذلک.و لنرجع إلی المتن فنقول:
الشعار : ما یلی الجسد من الثیاب .و بطانة الرجل : خاصّته .و کلب الزمان:
شدّته .و حرب العدوّ : اشتدّ غضبه .و الفتک : القتل علی غرّة .و شغرت:
تفرّقت .و المجنّ : الترس .و الأزلّ : خفیف الورکین .و الهوادة: المصالحة و المصانعة .و ضحّ رویدا : کلمة یقال لمن یؤمر بالتؤودة،و أصله الرجل یطعم إبله ضحی و یسیرها مسرعا للسیر فلا یشبعها.فیقال له:ضحّ رویدا .و المناص : المهرب و المخلص .و النوص : الهرب و التخلّص .
ص:90
الأوّل:إشراکه إیّاه فی أمانته الّتی ائتمنه اللّه علیها،و هی ولایة أمر الرعیّة و القیام بإصلاح أمورهم فی معاشهم و معادهم.
استعارة الثانی:جعله من خاصّته و ملازمیه،و استعار له بذلک الاعتبار لفظ الشعار لمباشرته و ملازمته الجسد.
الثالث:کونه أوثق أهله فی نفسه و أدناهم منه لمواساته و موازرته،و أداء الأمانة إلیه .
مقابلة أنّه بعد تذکیره بإحسانه إلیه ذکر مقابلته بذلک بالإساءة إلیه فی مفارقته إیّاه و خذلانه و خیانته لما تحت یدیه من الأمانة عند رؤیته شدّة الزمان علیه و قیام العدوّ فی وجهه و تفرّق کلمة الإمامة عن الحقّ لتبیّن أنّه قابل إحسانه بالکفران لیحسن ذمّه علی ذلک و توبیخه فیذمّه و یوبّخه،و أراد مفارقته له فی الطریقة و لزوم حدّ الأمانة .
کنایة و قوله: قلبت لابن عمّک ظهر المجنّ .
یضرب مثلا لمن یکون مع أخیه فیتغیّر علیه و یصیر خصما له،و أصله أنّ الرجل إذا کان سلما لأخیه یکون بطن ترسه إلیه فإذا فارقه و صار حربا له یقلب له ظهر ترسه لیدفع به عن نفسه ما یلقاه من شرّه.فجعل ذلک کنایة عن العداوة بعد الصداقة.و ضرب مثلا لمن فعل ذلک .
و ذلک تشبیه قوله: فلا ابن عمّک.إلی قوله:هذه البلاد .و شبّهه بمن لم یرد اللّه بجهاده بل الدنیا، و بمن لم یکن علی بیّنة من ربّه بل هو جاهل به و بوعده و وعیده.و وجه الشبه مشارکته لطالبی غیر اللّه و الجاهلین به فی طلب غیره و الإعراض عنه،و کذلک شبّهه بمن لم یکن له غرض من عبادته إلاّ خدعة المسلمین عن دنیاهم،و أشار إلی وجه الشبه بقوله :فلمّا أمکنتک الشدّة.إلی قوله:الکبیرة،أی فکما أنّ عرض الّذی یکید غیره عن شیء أن یترصّد الفرصة فی أخذه و ینتهزها إذا وجدها فکذلک أنت فی إسراعک بالوثوب علی الخیانة
ص:91
و شبّه اختطافه لما أخذه من المال باختطاف الذئب الأزلّ دامیة المعزی الکسیرة، و وجه الشبه سرعة أخذه له و خفّته له فی ذلک،و خصّ الذئب الأزل لأنّ خفّة الورکین یعینه علی سرعة الوثبة و الاختطاف،و دامیة المعزی الکسیرة لأنّها أمکن للاختطاف لعدم الممانعة . کنایة ثمّ أخبر فی معرض التوبیخ أنّه حمله إلی وطنه بمکّة،و کنّی بکونه رحیب الصدر به إمّا عن سروره و فرحه به أو عن کثرة ما حمل منه لأنّ من العادة إذا أراد الإنسان حمل شیء فی صدره و باعه حوی منه ما أمکنه حمله.و نصب رحیب و غیر علی الحال،و إضافة رحیب فی تقدیر الانفصال . تشبیه ثمّ شبّهه فی معرض التوبیخ و التقریع فی حمله بمن حمل تراثه إلی أهله من والدیه ،و استفهم علی سبیل التعجّب من حاله و الإنکار علیه علی أمرین:
أحدهما:عن إیمانه بالمعاد و خوفه من مناقشة اللّه فی الحساب تذکیرا له،و نبّهه علی أنّه کان معدودا فی نظره من ذوی العقول.و أدخله فی حیّز کان تنبیها له علی أنّه لم یبق عنده کذلک.
الثانی:عن کیفیّة إساغته للشراب و الطعام مع علمه أنّ ما یأکله و یشربه و ینکح به من هذا المال حرام لکونه مال المسلمین الیتامی منهم و المساکین و المجاهدین أفاء اللّه علیهم لیحرز به عباده و بلاده استفهام إنکار و تقریع بذکر معصیة اللّه .
أمره بعد التوبیخ الطویل بتقوی اللّه و ردّ أموال المسلمین علیهم،و توعّده إن لم یفعل ثمّ أمکن اللّه منه أن یعذر إلی اللّه فیه:أی یبلغ إلیه بالعذر فیه و بقتله،و ذکر الضرب بالسیف الموصوف بالصفة المذکورة اغلظ فی الوعید و أبلغ فی الزجر .
أقسم أنّ ولدیه علی قربهما منه و کرامتهما علیه لو فعلا کفعله من الخیانة لم یراقبهما فی ذلک حتّی یأخذ الحقّ منهما و یزیح الباطل عن مظلمتهما من مال أو غیره،و مراده أنّ غیرهم بطریق أولی فی عدم المراقبة له .
ثمّ أقسم القسم البارّ أنّه ما یسرّه أن یکون ما أخذه ابن عبّاس من أموال المسلمین
ص:92
حلالا له یخلفه میراثا لمن بعده لما علمت أنّ جمع المال و ادّخاره سبب العذاب فی الآخرة کما قال تعالی «وَ الَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ» (1)الآیة،و قسمه الأوّل کالعذر له فی شدّة إنکاره علیه،و الثانی لتحقیر ما أخذه،و بیان أنّه لو کان أخذه علی وجه حلال فلا یصلح للقنیة فکیف به و هو حرام،و ذلک لیترکه و یخرج عنه إلی أهله .
أمره بالإمهال علی سبیل التهدید بقرب الوصول إلی الغایة الّتی هی الموت و الدفن و عرض أعماله علیه بالمحلّ الّذی ینادی فیه الظالم بالحسرة و یتمنّی فیه مضیّعوا أمر اللّه و العمل الصالح الرجعة إلی الدنیا حین لا مخلص لهم ممّا هم فیه.و ذلک المحلّ هو عرصة القیامة.و ذکر النداء بالحسرة حین لا رجعة لیتأکّد التخویف و التهدید بتعداد الامور المنفّرة،و أمّا قوله: «وَ لاتَ حِینَ مَناصٍ» شبّهوا لات بلیس و أضمروا فیها اسم الفاعل.و لا یستعمل لات إلاّ مع حین،و قد جاءت حین مرفوعة بأنّها اسم لات،و قیل:إنّ التاء زائدة کهی فی ثمّت و ربّت.و قد مرّ ذلک قبل.
إلی عمر بن أبی سلمة المخزومی
،و کان عامله علی البحرین فعزله،و استعمل نعمان بن عجلان الزرقی مکانه :أَمَّا بَعْدُ- فَإِنِّی قَدْ وَلَّیْتُ؟النُّعْمَانَ بْنِ عَجْلاَنَ الزُّرَقِیَّ؟ عَلَی؟الْبَحْرَیْنِ؟- وَ نَزَعْتُ یَدَکَ بِلاَ ذَمٍّ لَکَ وَ لاَ تَثْرِیبٍ عَلَیْکَ- فَلَقَدْ أَحْسَنْتَ الْوِلاَیَةَ وَ أَدَّیْتَ الْأَمَانَةَ- فَأَقْبِلْ غَیْرَ ظَنِینٍ وَ لاَ مَلُومٍ- وَ لاَ مُتَّهَمٍ وَ لاَ مَأْثُومٍ- فَلَقَدْ أَرَدْتُ الْمَسِیرَ إِلَی ظَلَمَةِ أَهْلِ؟الشَّامِ؟- وَ أَحْبَبْتُ أَنْ تَشْهَدَ مَعِی- فَإِنَّکَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَی جِهَادِ الْعَدُوِّ- وَ إِقَامَةِ عَمُودِ الدِّینِ «إِنْ شاءَ اللّهُ»
ص:93
أقول:عمر هذا هو ربیب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و امّه امّ سلمة و أبوه أبو سلمة ابن عبد الأسد بن هلال بن عمر بن مخزوم،و أمّا النعمان بن عجلان فمن سادات الأنصار من بنی زریق.
و التثریب : التعنیف و استقصاء اللوم .و الظنین: المتهمّ .
و استظهرت بفلان : اتّخذته ظهیرا .
ثمّ إعلامه بأنّ ذلک لم یکن عن ذنب صدر منه یستحقّ به الذمّ و العزل،و أنّه شاکر له بکونه أحسن ولایته و أدّی أمانته .ثمّ إعلامه بغرضه من عزله و استدعائه و هو الاستعانة به علی عدوّه کلّ ذلک لیطمئنّ قلبه و یفارق الولایة عن طیب نفس،و نبّهه علی وجه رغبته فی حضوره معه بقوله:فإنّک.إلی آخره،و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من أستظهر به علی العدوّ و إقامة عمود الدین فواجب أن أرغب فی حضوره و یشهد معی، استعارة و لفظ العمود مستعار للاصول الّتی بحفظها و قیامها یقوم کالعمود للبیت :و باللّه التوفیق.
إلی مصقلة بن هبیرة الشیبانی
،و هو عامله علی أردشیر خرة بَلَغَنِی عَنْکَ أَمْرٌ إِنْ کُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلَهَکَ- وَ عَصَیْتَ إِمَامَکَ- أَنَّکَ تَقْسِمُ فَیْءَ الْمُسْلِمِینَ- الَّذِی حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَ خُیُولُهُمْ وَ أُرِیقَتْ عَلَیْهِ دِمَاؤُهُمْ- فِیمَنِ اعْتَامَکَ مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِکَ- فَوَالَّذِی فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ- لَئِنْ کَانَ ذَلِکَ حَقّاً- لَتَجِدَنَّ لَکَ عَلَیَّ هَوَاناً وَ لَتَخِفَّنَّ عِنْدِی مِیزَاناً- فَلاَ تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّکَ- وَ لاَ تُصْلِحْ دُنْیَاکَ بِمَحْقِ دِینِکَ- فَتَکُونَ مِنَ الْأَخْسَرِینَ أَعْمَالاً-
ص:94
أَلاَ وَ إِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَکَ وَ قِبَلَنَا مِنَ الْمُسْلِمِینَ- فِی قِسْمَةِ هَذَا الْفَیْءِ سَوَاءٌ- یَرِدُونَ عِنْدِی عَلَیْهِ وَ یَصْدُرُونَ عَنْهُ وَ السَّلامُ
أقول: اعتامک : اختارک من بین الناس .
و قد أعلمه بما بلغه من الأمر الصادر عنه إجمالا لیتنبّه له،و أشعره أنّه أمر مکروه بما یلزمه و هو سخط إلهه و غضب إمامه،و نبّه بقوله:إن کنت فعلته.علی عدم تحقّقه لذلک.ثمّ بیّن له ذلک و هو عطاؤه مال المسلمین لمن اختاره رئیسا من أعراب قومه.و وصف ذلک الفیء بکونه حیازة رماحهم و خیولهم،و علیه اریقت دماؤهم لیتأکّد فی النفوس و یتبیّن وجه استحقاقهم له.و بقدر ذلک یتأکّد قبح قسمته فی غیرهم. کنایة ثمّ أقسم قسمه المعتاد فی معرض الوعید إن کان ذلک منه حقّا أن یلحقه به هو ان و حقارة عنده و یخفّ وزنه فی اعتباره، و کنّی به عن صغر منزلته .و میزانا نصب علی التمییز.ثمّ نهاه عن استهانته بحقّ ربّه و عن إصلاح دنیاه بفساد دینه تنبیها علی عظمة اللّه و وجوب المحافظة علی طاعته، و نبّهه علی ما یلزم من ذلک من دخوله فی زمرة «بِالْأَخْسَرِینَ أَعْمالاً اَلَّذِینَ ضَلَّ سَعْیُهُمْ فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ هُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً » .ثمّ نبّهه علی قبح ما فعل من تخصیص قومه بذلک المال بقوله:ألا و إنّ.إلی قوله:سواء،و هو فی قوّة صغری ضمیر،و قوله:یردون إلیه و یصدرون عنه تأکید لتساویهم فی الاستحقاق و أنّه لهم کالشریعة المشترکة،و تقدیر کبراه:و کلّ حقّ سواء بین المسلمین فلا یجوز تخصیص بعضهم به.و قد ذکرنا حال مصقلة من قبل.و باللّه التوفیق.
إلی زیاد بن أبیّه
،و قد بلغه أن معاویة کتب إلیه یرید خدیعته باستلحاقه وَ قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ؟مُعَاوِیَةَ؟ کَتَبَ إِلَیْکَ- یَسْتَزِلُّ لُبَّکَ وَ یَسْتَفِلُّ غَرْبَکَ- فَاحْذَرْهُ فَإِنَّمَا هُوَ الشَّیْطَانُ- یَأْتِی الْمَرْءَ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ- وَ عَنْ
ص:95
یَمِینِهِ وَ عَنْ شِمَالِهِ- لِیَقْتَحِمَ غَفْلَتَهُ وَ یَسْتَلِبَ غِرَّتَهُ- وَ قَدْ کَانَ مِنْ؟أَبِی سُفْیَانَ؟ فِی زَمَنِ؟عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؟ فَلْتَةٌ- مِنْ حَدِیثِ النَّفْسِ- وَ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّیْطَانِ- لاَ یَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ وَ لاَ یُسْتَحَقُّ بِهَا إِرْثٌ- وَ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا کَالْوَاغِلِ الْمُدَفَّعِ وَ النَّوْطِ الْمُذَبْذَبِ فلما قرأ زیاد الکتاب قال:شهد بها و ربِّ الکعبه،و لم تزل فی نفسه حتی ادعاه معاویة.
قال الرضی:قوله علیه السلام«الواغل»:هو الذی یهجم علی الشَّرب لیشرب معهم،و لیس منهم،فلایزال مدفَّعا محاجزا.و«النوط المذبذب»:
هو ما یناط برحل الراکب من قعب او قذح أو ما اشبه ذلک،فهو أبدا یتقلقل إذا حث ظهره و استعجل سیره.
أقول:زیاد هذا هو دعیّ أبی سفیان،و یقال:زیاد بن عبید.فمن الناس من یقول عبید بن فلان الثقفی.و الأکثرون علی أنّه کان عبدا و أنّه بقی إلی أیّام زیاد فابتاعه و أعتقه،و أمّا ادّعاء أبی سفیان له فروی أنّه تکلّم یوما بحضرة عمر فأعجب الحاضرین کلامه فقال عمرو بن العاص:للّه أبوه لو کان قرشیّا لساق العرب بعصاه.فقال أبو سفیان:أمّا و اللّه أنّه لقرشیّ و لو عرفته لعرفت أنّه من خیر أهلک.
فقال:و من أبوه؟فقال:أنا و اللّه وضعته فی رحم امّه.قال:فهلاّ تستلحقه.قال:اخاف هذا العمیر الجالس أن یخرق علیّ إهابی یعنی عمر،و لمّا ولّی علیّ علیه السّلام الخلافة ولّی زیادا فارس فضبطها ضبطا صالحا و حماها.فکتب إلیه معاویه یخدعه باستلحاقه أخا له:من أمیر المؤمنین معاویة بن أبی سفیان أمّا بعد فإنّ المرء ربّما طرحه الهوی فی مطارح العطب،و إنّک للمرء المضروب به المثل قاطع الرحم و واصل العدوّ،حملک
ص:96
سوء ظنّک بی و بغضک لی علی أن عققت قرابتی و قطعت رحمی،و ثبت نسبی و حرمتی کأنّک لست أخی و لیس صخر بن حرب أباک و أبی،و سیّان بینی و بینک أطلب بدم أبی العاص و أنت تقاتلنی،و لکن أدرکک عرق الرخاوة من قبل النساوة فکنت کتارکة بیضها بالعراء و ملحقة بیض اخری جناحا،و قد رأیت أن أعطف علیک و لا أؤاخذ بسوء سعیک و أن أصل رحمک و أبتغی الثواب فی أمرک.و اعلم أبا المغیرة أنّک لو خضت البحر فی طاعة القوم تضرب بالسیف حتّی ینقطع متنه لما ازددت منهم إلاّ بعدا فإنّ بنی عبد شمس أبغض إلی بنی هاشم من الشفرة إلی الثور الصریع و قد اوثق للذبح.فارجع رحمک اللّه إلی أصلک و اتّصل بقومک و لا تکن کالموصول یطیر بریش غیره فقد أصبحت ضالّ النسب.و لعمری ما فعل ذلک بک إلاّ اللجاج فدعه عنک فقد أصبحت علی بیّنة من أمرک و وضوح من حجّتک فإن أحببت جانبی و وثقت بی فاتمر بأمری و إن کرهت جانبی و لم تثق بقولی ففعل جمیل لا علیّ و لا لی.و السّلام.و حمل الکتاب مع المغیرة بن شعبة إلیه،و کان ذلک سبب فساده علی الحسن بعد علیّ علیهما السّلام و انضیافه إلی معاویة.و لمّا بلغ علیّا علیه السّلام ذلک کتب إلیه:أمّا بعد فإنّی ولّیتک ما ولّیتک و أنا أراک لذلک أهلا،و قد عرفت أنّ معاویة.إلی آخر الکتاب.و لنرجع إلی المتن فنقول:
غرب السیف : حدّ .و الاستقلال : طلب الفلّ و هو ثلم الحدّ .
قصده من ذلک الکتاب
،و هو أن یستزلّ عقله و یستغفله عمّا هو علیه من الرأی الصحیح فی نصرة الحقّ و ولائه له علیه السّلام و یکسر حدّته فی ذلک، استعارة و استعار لفظ الغرب لعقله و رأیه،و لفظ الاستفلال لطلب صرفه عن ذلک الرأی الصالح ملاحظة لشبهه بالسیف . تشبیه ثمّ حذّره عنه بقوله: فإنّما هو الشیطان .باعتبار وسوسته و صدّه عن الحقّ علی وجه الشبه بقوله:یأتی الإنسان.إلی قوله:شماله.و هو کقوله تعالی «لَآتِیَنَّهُمْ مِنْ بَیْنِ أَیْدِیهِمْ» .إلی قوله: «شَمائِلِهِمْ» (1)أی أنّه یأتی الإنسان من کلّ جهة کما
ص:97
یأتی الشیطان،و خصّ الجهات الأربع لأنّها الجهات الّتی یعتاد الإتیان منها .و قال بعض المفسّرین:من بین أیدیهم یطمعهم فی العفو و یغریهم بالعصیان،و من خلفهم یذکّرهم خلفهم و یحسّن لهم جمع المال و ترکه لهم،و عن أیمانهم یحسّن لهم الریاسة و الثناء،و عن شمائلهم یحبّب إلیهم اللهو و اللذّات.و عن شقیق قال:ما من صباح إلاّ و یقعد إلیّ الشیطان علی أربعة مراصد من بین یدی فیقول:لا تخف «إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ» .فأقرأ «إِنِّی لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدی» .و أمّا من خلفی فیخوّفنی الضیعة علی من خلفی فأقرء «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِی الْأَرْضِ إِلاّ عَلَی اللّهِ رِزْقُها» ،و أمّا من قبل یمینی فیأتینی من جهة الثناء فأقرء: «وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ» ،و أمّا من قبل شمالی فیأتینی من قبل الشهوات.فأقرء: «وَ حِیلَ بَیْنَهُمْ وَ بَیْنَ ما یَشْتَهُونَ » ، ثمّ نبّهه علی وجه فساد حیلة معاویة،و ذلک أنّ معاویة إنّما أراد استغفاله باستلحاقه إیّاه أخا فنبّهه علیه السّلام علی أنّ ذلک الاستلحاق إنّما یتمّ بصحّة استلحاق أبی سفیان له ابنا و لم یصحّ تلک الدعوی،و إنّما کان قوله:أنا کذا و کذا.فلتة من حدیث النفس وقع منه من غیر ثبت و لا رویّة،و إقرار بالزنا فی قوله:أنا وضعته فی رحم امّه.و ذلک نزغة من نزغات الشیطان ألقاها علی لسانه فلا یثبت بها نسب و لا یستحقّ بها إرث لقوله صلّی اللّه علیه و آله:الولد للفراش و للعاهر الحجر. تشبیه ثمّ شبّه المتعلّق فی نسبه بهذه الفلتة و النزغة بالواغل المدفّع ،و وجه الشبه کونه لا یزال مدفّعا،و بالنوط المذبذب و وجه الشبه اضطراب أمره و عدم لحوقه بنسب معیّن و عدم استقراره کما یضطرب النوط و لا یستقرّ .و باللّه التوفیق.
إلی عثمان بن حنیف الأنصاری،و هو عامله علی البصرة
و قد بلغه أنه دعی إلی ولیمة قوم من أهلها فمضی إلیها أَمَّا بَعْدُ یَا؟ابْنَ حُنَیْفٍ؟- فَقَدْ بَلَغَنِی أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْیَةِ أَهْلِ؟الْبَصْرَةِ؟- دَعَاکَ إِلَی
ص:98
مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَیْهَا- تُسْتَطَابُ لَکَ الْأَلْوَانُ وَ تُنْقَلُ إِلَیْکَ الْجِفَانُ- وَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّکَ تُجِیبُ إِلَی طَعَامِ قَوْمٍ- عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَ غَنِیُّهُمْ مَدْعُوٌّ- فَانْظُرْ إِلَی مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ- فَمَا اشْتَبَهَ عَلَیْکَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ- وَ مَا أَیْقَنْتَ بِطِیبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ- أَلاَ وَ إِنَّ لِکُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً یَقْتَدِی بِهِ- وَ یَسْتَضِیءُ بِنُورِ عِلْمِهِ- أَلاَ وَ إِنَّ إِمَامَکُمْ قَدِ اکْتَفَی مِنْ دُنْیَاهُ بِطِمْرَیْهِ- وَ مِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَیْهِ- أَلاَ وَ إِنَّکُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَی ذَلِکَ- وَ لَکِنْ أَعِینُونِی بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ- فَوَاللَّهِ مَا کَنَزْتُ مِنْ دُنْیَاکُمْ تِبْراً- وَ لاَ ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً- وَ لاَ أَعْدَدْتُ لِبَالِی ثَوْبِی طِمْراً- بَلَی کَانَتْ فِی أَیْدِینَا؟فَدَکٌ؟ مِنْ کُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ- فَشَحَّتْ عَلَیْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ- وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِینَ- وَ نِعْمَ الْحَکَمُ اللَّهُ- وَ مَا أَصْنَعُ؟بِفَدَکٍ؟ وَ غَیْرِ ؟فَدَکٍ؟- وَ النَّفْسُ مَظَانُّهَا فِی غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِی ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا- وَ تَغِیبُ أَخْبَارُهَا- وَ حُفْرَةٌ لَوْ زِیدَ فِی فُسْحَتِهَا وَ أَوْسَعَتْ یَدَا حَافِرِهَا- لَأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَ الْمَدَرُ- وَ سَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاکِمُ- وَ إِنَّمَا هِیَ نَفْسِی أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَی- لِتَأْتِیَ آمِنَةً یَوْمَ الْخَوْفِ الْأَکْبَرِ- وَ تَثْبُتَ عَلَی جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ وَ لَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَیْتُ الطَّرِیقَ إِلَی مُصَفَّی هَذَا الْعَسَلِ- وَ لُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَ نَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ-
ص:99
وَ لَکِنْ هَیْهَاتَ أَنْ یَغْلِبَنِی هَوَایَ- وَ یَقُودَنِی جَشَعِی إِلَی تَخَیُّرِ الْأَطْعِمَةِ- وَ لَعَلَّ؟بِالْحِجَازِ؟ أَوْ؟الْیَمَامَةِ؟ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِی الْقُرْصِ- وَ لاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ- أَوْ أَبِیتَ مِبْطَاناً وَ حَوْلِی بُطُونٌ غَرْثَی- وَ أَکْبَادٌ حَرَّی أَوْ أَکُونَ کَمَا قَالَ الْقَائِلُ- وَ حَسْبُکَ دَاءً أَنْ تَبِیتَ بِبِطْنَةٍ وَ حَوْلَکَ أَکْبَادٌ تَحِنُّ إِلَی الْقِدِّ
أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِی بِأَنْ یُقَالَ- هَذَا؟أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ؟- وَ لاَ أُشَارِکُهُمْ فِی مَکَارِهِ الدَّهْرِ- أَوْ أَکُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِی جُشُوبَةِ الْعَیْشِ- فَمَا خُلِقْتُ لِیَشْغَلَنِی أَکْلُ الطَّیِّبَاتِ- کَالْبَهِیمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا- أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا- تَکْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا وَ تَلْهُو عَمَّا یُرَادُ بِهَا- أَوْ أُتْرَکَ سُدًی أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً- أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِیقَ الْمَتَاهَةِ وَ کَأَنِّی بِقَائِلِکُمْ یَقُولُ- إِذَا کَانَ هَذَا قُوتُ؟ابْنِ أَبِی طَالِبٍ؟- فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ- وَ مُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ- أَلاَ وَ إِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّیَّةَ أَصْلَبُ عُوداً- وَ الرَّوَاتِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً- وَ النَّابِتَاتِ الْعِذْیَةَ أَقْوَی وَقُوداً وَ أَبْطَأُ خُمُوداً-.وَ أَنَا مِنْ؟رَسُولِ اللَّهِ؟ کَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ- وَ الذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ- وَ اللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَی قِتَالِی لَمَا وَلَّیْتُ عَنْهَا- وَ لَوْ أَمْکَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَیْهَا- وَ سَأَجْهَدُ فِی أَنْ أُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْکُوسِ- وَ الْجِسْمِ الْمَرْکُوسِ-
ص:100
حَتَّی تَخْرُجَ الْمَدَرَةُ مِنْ بَیْنِ حَبِّ الْحَصِیدِ إِلَیْکِ عَنِّی یَا دُنْیَا فَحَبْلُکِ عَلَی غَارِبِکِ- قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِکِ- وَ أَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِکِ- وَ اجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِی مَدَاحِضِکِ- أَیْنَ الْقُرُونُ الَّذِینَ غَرَرْتِهِمْ بِمَدَاعِبِکِ- أَیْنَ الْأُمَمُ الَّذِینَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِکِ- فَهَا هُمْ رَهَائِنُ الْقُبُورِ وَ مَضَامِینُ اللُّحُودِ- وَ اللَّهِ لَوْ کُنْتِ شَخْصاً مَرْئِیّاً وَ قَالَباً حِسِّیّاً- لَأَقَمْتُ عَلَیْکِ حُدُودَ اللَّهِ فِی عِبَادٍ غَرَرْتِهِمْ بِالْأَمَانِیِّ- وَ أُمَمٍ أَلْقَیْتِهِمْ فِی الْمَهَاوِی- وَ مُلُوکٍ أَسْلَمْتِهِمْ إِلَی التَّلَفِ- وَ أَوْرَدْتِهِمْ مَوَارِدَ الْبَلاَءِ إِذْ لاَ وِرْدَ وَ لاَ صَدَرَ- هَیْهَاتَ مَنْ وَطِئَ دَحْضَکِ زَلِقَ- وَ مَنْ رَکِبَ لُجَجَکِ غَرِقَ- وَ مَنِ ازْوَرَّ عَنْ حَبَائِلِکِ وُفِّقَ- وَ السَّالِمُ مِنْکِ لاَ یُبَالِی إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ- وَ الدُّنْیَا عِنْدَهُ کَیَوْمٍ حَانَ انْسِلاَخُهُ اعْزُبِی عَنِّی فَوَاللَّهِ لاَ أَذِلُّ لَکِ فَتَسْتَذِلِّینِی- وَ لاَ أَسْلَسُ لَکِ فَتَقُودِینِی- وَ ایْمُ اللَّهِ یَمِیناً أَسْتَثْنِی فِیهَا بِمَشِیئَةِ اللَّهِ- لَأَرُوضَنَّ نَفْسِی رِیَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَی الْقُرْصِ- إِذَا قَدَرْتُ عَلَیْهِ مَطْعُوماً- وَ تَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً- وَ لَأَدَعَنَّ مُقْلَتِی کَعَیْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِینُهَا- مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا- أَ تَمْتَلِئُ السَّائِمَةُ مِنْ رِعْیِهَا فَتَبْرُکَ- وَ تَشْبَعُ الرَّبِیضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ- وَ یَأْکُلُ؟عَلِیٌّ؟ مِنْ زَادِهِ فَیَهْجَعَ- قَرَّتْ إِذاً عَیْنُهُ إِذَا اقْتَدَی بَعْدَ السِّنِینَ الْمُتَطَاوِلَةِ- بِالْبَهِیمَةِ الْهَامِلَةِ
ص:101
وَ السَّائِمَةِ الْمَرْعِیَّةِ- طُوبَی لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَی رَبِّهَا فَرْضَهَا- وَ عَرَکَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا وَ هَجَرَتْ فِی اللَّیْلِ غُمْضَهَا- حَتَّی إِذَا غَلَبَ الْکَرَی عَلَیْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا- وَ تَوَسَّدَتْ کَفَّهَا- فِی مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُیُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ- وَ تَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ- وَ هَمْهَمَتْ بِذِکْرِ رَبِّهِمْ شِفَاهُهُمْ- وَ تَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ- «أُولئِکَ حِزْبُ اللّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» - فَاتَّقِ اللَّهَ یَا؟ابْنَ حُنَیْفٍ؟ وَ لْتَکْفُفْ أَقْرَاصُکَ- لِیَکُونَ مِنَ النَّارِ خَلاَصُکَ (1)
أقول: المأدبة بالضمّ : الطعام یدعی إلیه .و العائل : الفقیر .و القضم : الأکل بأدنی الفم .و الطمر : الثوب الخلق .و الوفر : المال الکثیر .و فدک : اسم قریة کانت لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله .و الجدث : القبر .و أضغطها : ضیّقها .و القمح: الحنطة .و النسائج : جمع نسجة بمعنی منسوجة .و الجشع . أشدّ الحرص علی الطعام .و المبطان:
عظیم البطن لکثرة الأکل .و غرثی : جایعة .و البطنة : الکظّة و هی الامتلاء من الطعام و التقمّم : تتبّع القمامة و هی الکناسة .و تکترش : تملأ کرشها .و اسدی : الملقی المهمل .و الروائع : الأشجار الّتی تروع بنضارتها .و البدویّة : النباتات الّتی لا یسقیها إلاّ ماء المطر .و المرکوس : المردود مقلوبا کالمنکوس .و المداحض : المزالق ،و ازورّ أخذ جانبا .و اعزبی . ابعدی.یقال:عزب الرجل-بالفتح-:إذا بعد .و سلس الرجل یسلس بکسر اللام فی المستقبل : سهل قیاده .و الریاضة : التأدیب و التعوید .و
ص:102
الربیضة: الجماعة الرابضة من الغنم .و تجافت : أی بانت و ارتفعت .و الهمهمة:
الصوت الخفیّ .
و هو إجابته إلی المأدبة مسرعا یستطاب له الألوان و تنقل إلیه الجفان،و أعلمه أنّه بلغه ذلک مقرّرا له لیحسن توبیخه،و ذلک فی قوله:أمّا بعد.إلی قوله:الجفان .
بقوله:و ما ظننت أنّک إلی کذا:أی کان ظنّی فیک من الورع أنّک تنزّه نفسک عن الإجابة إلی طعام قوم لا یلتفتون إلی فقرائهم،و یقصرون الدعوة و الکرامة علی أغنیائهم و امرائهم، و وجه الخطاء فی إجابة داعی هؤلاء أنّ تخصیصهم الأغنیاء دون الفقراء بالکرامة و الدعوة دلیل واضح علی أنّهم إنّما یریدون بذلک الدنیا و السمعة و الرئاء دون وجه اللّه تعالی،و من کان کذلک فإجابته موافقة له علی ذلک و رضی بفعله،و ذلک خطاء کبیر خصوصا من أمراء الدین المتمکّنین من إنکار المنکرات.
کنایة أمره أن یحترز فیما یتّفق له أن یقع فیه من ذلک بالنظر إلی ما یحضر من الطعام فما وجد فیه شبهة حرام و لم یحقّق حاله فلیترکه،و ما تیقّن حلّه و طیب وجه اکتسابه ببراءة عن الشبهة فینال منه،و کنّی عنه بالمقضم تحقیرا له و تقلیلا، و یفهم منه بحسب التأدیب الأوّل أنّ التنزّه عن هذا المباح أفضل له من تناوله .
نبّهه بعد ذلک بقوله: ألا و إنّ .إلی قوله: علمه .علی أنّ له إماما یجب أن یقتدی به،و هو تمثیل فی قوّة قیاس کامل حذفت صغراه.فأصل التمثیل مطلق الإمام و المأموم،و علّته کونهما إماما و مأموما،و فرعه هو علیه السّلام و عامله،و حکمه وجوب الاقتداء.و تقدیر القیاس:أنّک مأموم لإمام،و کلّ مأموم لإمام فیجب علیه أن یقتدی بإمامه،ینتج أنّه یجب علیک أن تقتدی بإمامک و یستضیء بنور علمه.
أردف ذلک بالبیّنة علی ما یجب أن یقتدی به فیه من حاله فی دنیاه
ص:103
و هو اکتفاؤه من ملبوسها بما یستر بدنه من طمریه:و من مطعومها بما یسدّ به فورة جوعه من قرصیه غیر ملتفت فیما لبسه إلی زینته فإنّ طمریه کانا عمامة و مدرعة قد استحیا من راقعها،و لا مکترث فیما طعمه بلذّة و طیب فإنّ قرصیه کانا من شعیر غیر منخول واحد بالغداة واحد بالعشیّ.
نبّه أصحابه علی أنّ ریاضته تلک لا یستطاع لهم فإنّها قوّة مشروطة باستعداد لم یصلوا إلیه.ثمّ أمرهم إذ کانت الحال کذلک أن یقصروا فی معونته علی أنفسهم و ریاضته بالورع،و أراد به هنا الکفّ عن المحارم ثمّ بالاجتهاد فی الطاعة،و یحتمل أن یرید بالورع لزوم الأعمال الجمیلة.ثمّ الاجتهاد فیها .
تشبیه نبّه بالقسم البارّ علی ردّ ما عساه یعرض لبعض الأذهان الفاسدة فی حقّه علیه السّلام أنّ زهده فی الدنیا مشوب بریاء و سمعة و أنّ وراءه محبّتها و جمعها و ادّخارها خصوصا و هو إمام الوقت و خلیفة الأرض فعدّد أنواع ما أفاء اللّه علی المسلمین منها ثمّ أقسم أنّه لم یأخذ منه إلاّ قوته،و شبّهه فی القلّة و الحقارة بقوت الأتان الدبرة ،و خصّها لأنّ ضعفها بالدبر و شغلها بألمه یقلّل قوتها .ثمّ بالغ فی وصف حقارة دنیاهم عنده فأخبر أنّها فی نظره و اعتباره أهون من عفصة مقرة،و ظاهر أنّ من کان کذلک کیف یتصوّر محبّته للدنیا و عمله لها.
أنّه لمّا قال فیما أقسم علیه من الدنیا: و لا حزت من أرضها شبرا .
استثنی من ذلک فدک بقوله: بلی قد کانت لنا فدک من کلّ ما أظلّته السماء .و ذکرها فی معرض حکایة حاله و حال القوم معه علی سبیل التشکّی و التظلّم ممن أخذها منهم إلی اللّه سبحانه و تسلیم الأمر له و الرضا بکونه حکما.
و اعلم أنّ فدک کانت خاصّة لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و ذلک أنّه لمّا فرغ من أمر خیبر قذف اللّه فی قلوب أهل فدک الرعب فبعثوا إلیه صلّی اللّه علیه و آله یصالحونه علی النصف فقبل ذلک منهم فکانت له خاصّة إذ لم یوجف علیها بخیل و لا رکاب،و روی أنّه صالحهم علی کلّها.ثمّ المشهور بین الشیعة و المتّفق علیه عندهم أنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله أعطاها فاطمة علیها السّلام،و رووا ذلک من طرق مختلفة:منها عن أبی سعید الخدری قال:
ص:104
لمّا أنزلت «وَ آتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ» أعطی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فاطمة علیها السّلام فدک فلمّا تولّی ابو بکر الخلافة عزم علی أخذها منها.فأرسلت إلیه تطالبه بمیراثها من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و تقول:إنّه أعطانی فدکا فی حیاته و استشهدت علی ذلک علیّا علیه السّلام و أمّ أیمن فشهدا لها بها.فأجابها عن المیراث بخبر رواه هو:نحن معاشر الأنبیاء لا نورّث فما ترکناه فهو صدقة،و عن دعوی فدک أنّها لم تکن للنبیّ صلّی اللّه علیه و آله و إنّما کانت مالا للمسلمین فی یده یحمل به الرجال و ینفقه فی سبیل اللّه و أنا ألیه کما کان یلیه.
فلمّا بلغها ذلک لاثت خمارها و أقبلت فی لمّة من حفدتها و نساء قومها تطأ فی ذیولها حتّی دخلت علیه و معه جلّ المهاجرین و الأنصار فضربت بینها و بینهم قطیفة.ثمّ أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبکاء.ثمّ أمهلت طویلا حتّی سکتوا من فورتهم؟ (1)و قالت:أبتدء بحمد من هو أولی بالحمد و الطول و المجد الحمد للّه علی ما أنعم و له الشکر بما ألهم.ثمّ خطبت خطبة طویلة قالت فی آخرها:ف «اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» و أطیعوه فیما أمرکم ف «إِنَّما یَخْشَی اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» ،و احمدوا اللّه الّذی بعظمته و نوره یبتغی «مَنْ فِی السَّماواتِ وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ» إلیه الوسیلة،و نحن وسیلته فی خلقه،و نحن خاصّته و محلّ قدسه،و نحن حجّته فی غیبه،و نحن ورثة أنبیائه.
ثمّ قالت أنا فاطمة بنت محمّد.أقول عودا علی بدء ما أقول ذلک شرفا و لا شططا فاسمعوا بأسماع واعیة.ثمّ قالت: «لَقَدْ جاءَکُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِکُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْکُمْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُفٌ رَحِیمٌ» .فإن تعزوه تجدوه أبی دون آبائکم و أخا ابن عمّی دون رجالکم.ثمّ قالت:ثمّ أنتم تزعمون أن لا إرث لأبی «أَ فَحُکْمَ الْجاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُکْماً لِقَوْمٍ یُوقِنُونَ» ایها معشر الملّة.أفی کتاب اللّه أن ترث یا ابن أبی قحافة أباک و لا أرث أبی؟ «لَقَدْ جِئْتِ شَیْئاً فَرِیًّا» فدونکها مخطومة مرحولة تلقاک یوم حشرک فنعم الحکم اللّه و الزعیم محمّد و الموعد القیامة،و عند
ص:105
الساعة «یَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» ،و «لِکُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ» «مَنْ یَأْتِیهِ عَذابٌ» مقیم قال:ثمّ التفتت إلی قبر أبیها فتمثّلت بقول هند بنت أمامة:
قد کان بعدک أنباء و هنبثة لو کنت شاهدها لم تکثر الخطب
أبدت رجال لنا نجوی صدورهم لمّا قضیت و حالت دونک الترب
تجهّمتنا رجال و استخفّ بنا إذ غبت عنّا فنحن الیوم مغتصب
قال فلم یر الناس أکثر باکیا و باکیة منهم یومئذ.ثمّ عدلت إلی مسجد الأنصار،و قالت:یا معشر الأنصار و أعضاد الملّة و حضنة الإسلام ما هذه الفترة عن نصرتی و الونیة عن معونتی و الغمیزة فی حقّی و السنة عن ظلامتی أمّا قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:المرء یحفظ فی ولده.سرعان ما أحدثتم،و عجلان ما آتیتم ألأن مات رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله أمتّم دینه.ها إنّ موته لعمری خطب جلیل استوسع وهیه و استنهر فتقه،و فقد راتقه،و أظلمت الأرض له،و خشعت الجبال،و أکدت الآمال.اضیع بعده الحریم و هتکت الحرمة و أزیلت المصونة،و تلک نازلة أعلن بها کتاب اللّه قبل موته و أنبأکم بها قبل وفاته فقال: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلی أَعْقابِکُمْ وَ مَنْ یَنْقَلِبْ عَلی عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللّهَ شَیْئاً وَ سَیَجْزِی اللّهُ الشّاکِرِینَ» .ایها بنی قبیلة أ اهضم تراث أبی و أنتم بمرأی و مسمع تبلغکم الدعوة و تشملکم الصوت،و فیکم العدّة و العدد،و لکم الدار و الجنن،و أنتم نجبة اللّه الّتی انتجت،و خیرة اللّه الّتی اختار.فادیتم العرب،و ناطحتم الامم،و کافحتم البهم حتّی دارت بکم رحی الإسلام،و درّ حلبه و خبت نیران الحرب،و سکنت فورة الشرک،و هدأت دعوة الهرج،و استوثق نظام الدین.أفتأخّرتم بعد الإقدام،و جبنتم بعد الشجاعة عن قوم «نَکَثُوا أَیْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ» إیمانهم «وَ طَعَنُوا فِی دِینِکُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْکُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَیْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَنْتَهُونَ» .ألا و قد أری أن قد أخلدتم إلی الخفض و رکنتم إلی الدعة و جحدتم الدین و وسّعتم الّذی سوّغتم. «إِنْ تَکْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً فَإِنَّ اللّهَ» غنیّ «حَمِیدٌ» .ألا و قد قلت ما قلت علی معرفة منّی بالخذلة الّتی خامرتکم و خور القنا و ضعف الیقین فدونکموها فاحتبقوها مدبرة الظهور ناقبة الخفّ
ص:106
باقیة العار موسومة الشنار موصولة بنار اللّه الموقدة الّتی تطّلع علی الأفئدة فبعین اللّه ما تعملون. «وَ سَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنْقَلَبٍ یَنْقَلِبُونَ» .ثمّ رجعت إلی بیتها و أقسمت أن لا تکلّم أبا بکر و لتدعونّ اللّه علیه،و لم تزل کذلک حتّی حضرتها الوفاة فأوصت أن لا یصلّی علیها فصلّی علیها العبّاس و دفنت لیلا،و روی أنّه لمّا سمع کلامها أحمد اللّه و أثنی علیه و صلّی علی رسوله،ثمّ قال:یا خیرة النساء و ابنة خیر الآباء و اللّه ما عدوت رأی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و لا عملت إلاّ بأمره،و إنّ الرائد لا یکذب أهله قد قلت فأبلغت و أغلظت فأهجرت فغفر اللّه لنا و لک أمّا بعد فقد دفعت ألّه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و دابّته و حذاه إلی علیّ علیه السّلام،و أمّا ما سوی ذلک فإنّی سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله یقول:إنّا معاشر الأنبیاء لا نورّث ذهبا و لا فضّة و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا و لکنّا نورّث الإیمان و الحکمة و العلم و السنّة،و قد عملت بما أمرنی و سمعت.فقالت:إنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله قد وهبها لی.قال:فمن یشهد بذلک.فجاء علیّ بن أبی طالب و أمّ أیمن فشهدا لها بذلک فجاء عمر بن الخطاب و عبد الرحمن بن عوف فشهدا أنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله یقسّمها.فقال:أبو بکر صدقت یا ابنة رسول اللّه و صدق علیّ و صدقت أمّ أیمن و صدق عمر و صدق عبد الرحمن، و ذلک أنّ لک ما لأبیک کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله یأخذ من فدک قوتکم و یقسّم الباقی و یحمل منه فی سبیل اللّه،و لک علی اللّه أن أصنع بها کما کان یصنع.فرضیت بذلک و أخذت العهد علیه به.و کان یأخذ غلّتها فیدفع إلیهم منها ما یکفیهم.ثمّ فعلت الخلفاء بعده کذلک إلی أن ولّی معاویة فأقطع مروان ثلثها بعد الحسن علیه السّلام.ثمّ خلصت له فی خلافته و تداولها أولاده إلی أن انتهت إلی عمر بن عبد العزیز فردّها فی خلافته علی أولاد فاطمة علیها السّلام قالت الشیعه:فکانت أوّل ظلامة ردّها.و قالت السنّة:
بل استخلصها فی ملکه ثمّ وهبها لهم.ثمّ اخذت منهم بعده إلی أن انقضت دولة بنی أمیّة فردّها علیهم أبو العبّاس السفّاح.ثمّ قبضها المنصور.فردّها ابنه المهدی.ثمّ قبضها ولداه موسی و هرون.فلم یزل فی أیدی بنی العبّاس إلی زمن المأمون فردّها إلیهم و بقبت إلی عهد المتوکّل فأقطعها عبد اللّه بن عمر البازیار،و روی أنّه کان فیها
ص:107
إحدی عشرة نخلة غرسها رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله بیده فکانت بنو فاطمة یهدون ثمرها إلی الحاجّ فیصلونهم عن ذلک بمال جلیل فبعث البازیار رجلا فصرمها و عاد إلی البصرة ففلج،و فی هذه القصّة خبط کثیر بین الشیعة و مخالفیهم،و لکلّ من الفریقین کلام طویل.و لنرجع إلی المتن.
فنقول:أشار بالنفوس الّتی شحّت بها إلی أبی بکر و عمر و أتباعهما،و بالنفوس الّتی سمحت بها إلی وجوه بنی هاشم و من مال میلهم .
استفهم عمّا یصنع بفدک و غیرها من القینات الدنیویّة استفهام إنکار لوجه حاجته إلیها تسلیة لنفسه عنها و جذبا له عن الدنیا إلی الأعمال الصالحة بذکر غایة النفوس منها،و هی صیرورتها إلی الجدث،و لوازم تلک الغایة من انقطاع الآثار و غیبة الأخبار فیها و سایر ما عدّده من صفات الجدث،و إنّما عدّد هذه الأمور لأنّ الأوهام تنفر عنها و تخشع القلوب لذکرها.فتفزع إلی اللّه تعالی و یجذب إلی الأعمال الصالحة الّتی بها الخلاص من أهوال الموت و ما بعده.
و الواو فی قوله:و النفس.للحال .
لمّا نبّه علی أنّ فدک و غیرها من قینات الدنیا لا حاجة إلیها أشار إلی حصر حاجته و غایته لنفسه و هی ریاضتها بالتقوی،و الضمیر کهو فی قوله فیما سبق:و إنّما هی الکوفة.و التقدیر:و إنّما همّتی و حاجتی ریاضة نفسی بالتقوی.
و اعلم أنّ ریاضة النفس تعود إلی نهیها عن هواها و أمرها بطاعة مولاها و هی مأخوذة من ریاضة البهیمة و هی منعها عن الإقدام علی حرکات غیر صالحة لصاحبها و لا موافقة لمراده،و تمرینها علی ما یوافق مراده من الحرکات،و القوّة الحیوانیّة الّتی هی مبدأ الإدراکات و الأفاعیل الحیوانیّة فی الإنسان إذا لم یکن لها طاعة القوّة العاقلة ملکة کانت بمنزلة بهیمة لم ترض فهی تتبع الشهوة تارة و الغضب اخری،و غالب أحوالها أن تخرج فی حرکاتها عن العدل إلی أحد طرفی الإفراط و التفریط بحسب الدواعی المختلفة المتخیّلة و المتوهّمة و یستخدم القوّة العاقلة فی تحصیل مراداتها فتکون هی أمّارة و العاقلة مؤتمرة لها.أمّا إذا راضتها القوّة العاقلة و منعتها عن
ص:108
التخیّلات و التوهّمات و الإحساسات و الأفاعیل المثیرة للشهوة و الغضب و مرّنتها علی ما یقتضیه العقل العملیّ و أدّبتها علی طاعته بحیث یأتمر بأمرها و ینتهی لها کانت العقلیّة مطمئنّة لا تفعل أفعالا مختلفة المبادی و کانت باقی القوی مؤتمرة مسالمة لها.إذا عرفت ذلک فنقول:لمّا کان الغرض الأقصی من الریاضة إنّما هو نیل الکمال الحقیقیّ،و کان ذلک موقوفا علی الاستعداد له،و کان حصول ذلک الاستعداد موقوفا علی زوال الموانع الخارجیّة و الداخلیّة کان للریاضة أغراض ثلاثة:
أحدها:حذف کلّ محبوب و مرغوب عدا الحقّ الأوّل سبحانه عن درجة الاعتبار و مستنّ الایثار.و هی الموانع الخارجیّة.
و الثانی:تطویع النفس الأمّارة للنفس المطمئنّة لیجذب التخیّل و التوهّم عن الجانب السفلی إلی العلوی و یتبعهما سایر القوی فیزول الدواعی الحیوانیّة المذکورة.و هی الموانع الداخلیّة.
الثالث:بعث السرّ و توجیهه إلی الجنّة العالیة لتلقّی السوانح الإلهیّة و تهیّئه لقبولها.و یعین علی الغرض الأوّل الزهد الحقیقی و هی الإعراض عن متاع الدنیا و طیّباتها بالقلب،و علی الثانی العبادة المشفوعة بالفکر فی ملکوت السماوات و الأرض و ما خلق اللّه من شیء و عظمة الخالق سبحانه و الأعمال الصالحة المنویّة لوجهه خالصا.و عبّر علیه السّلام بالتقوی الّتی روّض بها نفسه عن هذه الامور المعیّنة و الأسباب المعدّة،و نبّه علی غرضه الأقصی من الریاضة و هو الکمال الحقیقی و اللذّة به بذکر بعض لوازمه و هی أن یأتی نفسه آمنة من الفزع یوم الخوف الأکبر و هو یوم القیامة،و أن یثبت علی جوانب المزلق و هو الصراط المستقیم فلا تمیل به الدواعی المختلفة عنه إلی أبواب جهنّم و مهاوی الهلاک. استعارة و استعار لفظ المزالق :
لمظانّ زلل أقدام العقول فی الطریق إلی اللّه و جذب المیول الشهویّة و الغضبیّة عنها إلی الرذائل الموبقة .
علی الطمرین و القرصین
ص:109
و ترک ما سوی ذلک لیس عن عجزه عن تحصیل طیّبات مطعوماتها و ملبوساتها،و أنّه لو شاء لاهتدی إلی تحصیل تلک الطیّبات و لباب القمح و مصفّی العسل لأنّ الهریسة و العسل من أشهر الطیّبات بمکّة و الحجاز،و إنّما ترکه مع القدرة علیه ریاضة لنفسه و إعدادا لها لتحصیل الکمالات الباقیة.و استثنی هنا نقیض الملزوم و هو عدم غلبة هواه لعقله و عدم قود جشعه له إلی تخیّر الأطعمة،و نبّه عن ذلک العدم بقوله:هیهات.فإنّ ما استبعد وقوعه من نفسه و أنکره فقد نفاه عنها و حکم بعدمه.
و أمّا أنّ ذلک العدم هو نقیض الملزوم بعینه فلأنّ الملزوم هنا هو المشیئة لتخیّر الطیّبات و غلبة الهوی للعقل علی مقتضی رأیه فی ترکها و التنزّه عنها وقود الشهوة له إلی الموافقة علی استعمالها،و المستثنی هاهنا هو عدم ذلک بعینه،و أمّا جواز استثنائه لنقیض المقدّم فلأنّ مشیئة تلک شرط مسا و لتخیّر الطیّبات و الاهتداء إلیها،و کان عدمه مستلزما لعدم مشروطه و أکثر استعمال لو فی لغة العرب علی وجه أنّ الملزوم علّة للازمه أو شرط مساو له،و یستثنی نقیض الملزوم.و الواو فی قوله:و لعلّ.للحال:أی هیهات أن یغلبنی هوای إلی تخیّر الأطعمة حال ما یحتمل أن یکون بالحجاز و الیمامة من هو بصفة کذا.
و قوله :أو أبیت.
عطف علی یقودنی داخل فیما استبعده من نفسه.و الواو فی قوله:و حولی.
للحال،و العامل أبیت،و کذلک قوله:أو أن أکون.عطف علی أبیت،و هما لازمان من لوازم نتیجة القیاس الاستثنائی فإنّ عدم إرادته لتخیّر الطیّبات لمّا استلزمه هنا عدم تناولها و استمتاعه بها استلزم ذلک أن لا یبیت مبطانا و حوله أکباد جائعة و أن لا یلحقه عار بذلک.و البیت تمثیل.غرضه التنفیر عن العار اللازم عن الاستمتاع بالطیّبات مع وجود ذوی الحاجة إلی یسیر الطعام،و نبّه علی حسن هذه اللوازم بما قارن نقایضها من الأحوال المذکورة.و البیت لحاتم بن عبد اللّه الطائی من قطعة أوّلها:
أیا ابنة عبد اللّه و ابنة مالک
قصیّا بعیدا أو قریبا فإنّنی أخاف إذا متّ الأحادیث من بعدی
کفی بک عارا أن تبیت ببطنة و حولک أکباد تحنّ إلی القدّ
و إنّی لعبد الضیف ما دام نازلا و ما فیّ لولا هذه شیمة العبد
و یروی حسبک داء.و أطلق علیه اسم الداء باعتبار أنّه رذیلة تنفیرا عنه،و روی قوله:أو أبیت و قوله:أو أکون.مرفوعین،و الوجه فیه أن لا یکون أو حرف عطف بل تکون الهمزة للاستفهام.و الواو بعدها متحرّکة کالفاء فی قوله« «أَ فَأَصْفاکُمْ رَبُّکُمْ بِالْبَنِینَ» »و یکون استفهام إنکار لبیانه مبطانا و لکونه کما قال القائل،و کذلک الاستفهام فی قوله :و أقنع من نفسی.فی معرض الإنکار لرضاء نفسه بأن یدعی أمیر المؤمنین و لا یشارکهم فی مکاره الدهر و جشوبة المطعم.و الواو فی قوله:و لا.
ص:110
أیا ابنة عبد اللّه و ابنة مالک
قصیّا بعیدا أو قریبا فإنّنی أخاف إذا متّ الأحادیث من بعدی
کفی بک عارا أن تبیت ببطنة و حولک أکباد تحنّ إلی القدّ
و إنّی لعبد الضیف ما دام نازلا و ما فیّ لولا هذه شیمة العبد
و یروی حسبک داء.و أطلق علیه اسم الداء باعتبار أنّه رذیلة تنفیرا عنه،و روی قوله:أو أبیت و قوله:أو أکون.مرفوعین،و الوجه فیه أن لا یکون أو حرف عطف بل تکون الهمزة للاستفهام.و الواو بعدها متحرّکة کالفاء فی قوله« «أَ فَأَصْفاکُمْ رَبُّکُمْ بِالْبَنِینَ» »و یکون استفهام إنکار لبیانه مبطانا و لکونه کما قال القائل،و کذلک الاستفهام فی قوله :و أقنع من نفسی.فی معرض الإنکار لرضاء نفسه بأن یدعی أمیر المؤمنین و لا یشارکهم فی مکاره الدهر و جشوبة المطعم.و الواو فی قوله:و لا.
للحال.و أو أکون عطف علی اشارکهم فی حکم النفی .
الدنیا.
و هو کونه لم یخلق لیشغله أکل الطیّبات عمّا یراد منه،و ذلک فی قوله:
فما خلقت.إلی قوله:المتاهة،و نفّر عن الاشتغال بأکل الطیّبات بذکر ما یلزم المشتغل بذلک من مشابهة البهیمة،و أشار إلی وجه الشبه بقوله:همّها علفها.إلی قوله:یراد بها.و ذلک أنّ المشتغل بها إن کان غنیّا أشبه البهیمة المعلوفة فی اهتمامه بما یعتلفه من طعامه الحاضر،و إن کان فقیرا کان اهتمامه بما یکسبه و یقمّمه من حطام الدنیا ثمّ تعلیفه،و یملأ کرشه مع غفلته عمّا یراد منه کالسائمة الّتی همّها الاکتراش لقممه من الکناسات مع غفلتها عمّا یؤول إلیه حالها و یراد بها من ذبح و استخدام، استعارة بالکنایة و استعار لفظ الحبل و جرّه ،و کنّی بذلک عن الاهمال و الإرسال کما ترسل البهیمة .
و هی اعتقاد ضعفه عن قتال الأقران بسبب ذلک القوت النزر،و ذلک بقوله:و کأنّی.
إلی قوله:الشجعان.
ص:111
،قیاس نفسه علیها فی القوّة.فالأصل هو الشجرة البریّة،و الفرع هو علیه السّلام،و المشترک الجامع بینهما هو قلّة الغذاء و جشوبة المطعم کقلّة غذاء الشجرة البریّة و سوء رعیها،و الحکم عن ذلک هو صلابة أعضائه و قوّته کصلابة عود الشجرة البریّة و قوّتها.ذلک دافع للشبهة المذکورة.
و هی الأصل فی هذا التمثیل،و الفرع هو خصومه و أقرانه،و المشترک الجامع بینهما هو الخضرة و النضارة الحاصلة عن الترفّه و لین المطعم،و الحکم اللازم عن ذلک هو رقّة الجلود و لینها و الضعف عن المقاومة و قلّة الصبر علی المنازلة و المیل إلی الدعة و الرفاهیّة،و الغرض أن یعلم کون أقرانه أضعف منه.فیندفع الشبهة.
و هو کتمثیله بالشجرة البرّیّة و الحکم هنا هو کونه أقوی علی سعیر نار الحرب و أصبر علی وقدها و أبطأ فتورا فیها و خمودا کالنباتات العذیة فی النار .
و أصل هذا التمثیل هو الضوء من الضوء و فرعه نسبة نفسه من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و علّته الجامعة هی کون علومه و کمالاته النفسانیّة المشرقة مستفادة و مقتبسة من مصباح علم النبوّة و کمالاتها کالمعلول من العلّة و المصباح من الشعلة.
و الأصل فیه الذراع مع نسبته إلی العضد،و الفرع هو علیه السّلام منسوبا إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،و العلّة الجامعة هی قربه منه و قوّته به و کونه ظهیرا له و وسیلة إلی حصول مقصوده من تمام الدین و کماله، و کون الرسول صلّی اللّه علیه و آله أصلا فی ذلک کقرب الذراع من العضد،و کون العضد أصلا له،و کون الذراع وسیلة إلی التصرّف و البطش بالعضد،و الحکم فی هذین التمثیلین واحد و هو کونه علیه السّلام لا یضعف عن قتال الأقران و منازلة الشجعان،و وجه لزوم هذا الحکم عن المشترک الأوّل أنّه لمّا کانت علومه الیقینیّة و بصیرته فی الدین یناسب بصیرة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله ذلک أعظم أمر یشجّعه و یقوّیه علی قتال الأقران حمیة للدین،
ص:112
و کذلک عن المشترک الثانی.
ثمّ لمّا أثبت ذلک الحکم و نفی عنه الضعف المتوهّم فیه أکدّ ذلک بالقسم البارّ أنّه لو تعاونت العرب علی قتاله لما ولّی عنها،و لو أمکنت الفرصة من رقابها یسارع إلیها:أی حین القتال و استحقاقهم للقتل بعداوتهم للدین و قبح العفو عنهم ملاحظة تشبّهه برسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فی ذلک فی مبدء الإسلام فإنّه لم یکن لیضع العفو إلاّ فی موضعه،و روی أنّه قتل فی یوم واحد ألف إنسان صبرا فی مقام واحد لما رأی فی ذلک من مصلحة الدین .
و الجسم المرکوس
،و أراد معاویة،و إنّما قال:شخصا و جسما ترجیحا لجانب البدن علی النفس باعتبار عنایته بکمال بدنه دون کمال نفسه فکأنّه جسم و شخص فقط،و أشار بکونه معکوسا و مرکوسا إلی التفاته عن الجنبة العالیة و انتکاسه عن تلقّی الکمالات الروحانیّة إلی الجنبة السافلة و ارتکاسه فی الدنیا و انعکاس وجه عقله إلی تحصیلها لذاتها و الاعتناء بجمعها[بجمیعها خ]فإن غرض العنایة الإلهیّة من خلق الإنسان أن یترقّی فی مدارج الکمال بعد حفظ فطرته الأصلیّة عن الدنس برذائل الأخلاق فإذا جذبته دواعی الأمّارة إلی الدنیا و غرّته بحبّها حتّی التفت إلیها لم یزل ینحطّ فی درکات محبّتها و بحسب ذلک یکون انتکاسه عن مراتب الکمال و ارتکاسه فی الرذائل و مهاوی الضلال،و تقیّده فیها بالسلاسل و الأغلال.
استعارة و قوله: حتّی تخرج المدرة من بین حبّ الحصید .
إشعار لفظ المدرة لمعاویة و حبّ الحصید للمؤمنین،و وجه المشابهة أنّه مخلص المؤمنین من وجود معاویة بینهم لیزکوا إیمانهم و یستقیم دینهم.إذ کان وجوده فیهم سببا عظیما لفساد عقائدهم و هلاک دینهم کما یفعل أهل البیادر من تصفیة الغلال و إخراج ما یشوبها و یفسدها من المدر و غیره .و قال الشارح عبد الحمید بن أبی- الحدید کما أنّ الزرّاع یجتهدون فی إخراج المدر و الحجر و الشوک و نحوه من بین الزرع کیلا یفسد منابته فیفسد ثمرته.و فیه نظر لأنّه لا معنی لإخراج الطین من
ص:113
الزرع،و لأنّ لفظ حبّ الحصید لا یفهم منه ذلک .
،و خاطبها بخطاب العقلاء لیکون ذلک أوقع فی النفوس لغرابته.ثمّ أمرها بالتنحّی و البعد عنه کالمطلّق لها. کنایة و حبلک علی غاربک کنایة عن الطلاق تمثیل.و أصله:أنّ الناقة إذا أرید إهمالها لترعی وضع حبلها علی غاربها فضرب مثلا لکلّ من اهمل و اطلق عن الحکم . استعارة بالکنایة ثمّ جعلها ذات مخالب استعارة بالکنایة عن کونها کالأسد فی جذبها للإنسان بما فیها من الشهوات و القینات إلی الهلاک الأبد کما یجرّ الأسد فریسته،و کذلک جعلها ذات حبائل ،و کنّی بهذا الوصف المستعار عن کونها تصید قلوب الرجال بشهواتها الوهمیّة فهی لها کحبائل الصاید ، استعارة و استعار لفظ مداحضها لشهواتها و ملذّاتها أیضا باعتبار کونها مزالق أقدام العقول عن طریق اللّه و مصارع لها،و عبّر بجمیع ذلک عن زهده فیها و إبعادها فیها عن نفسه .ثمّ أخذ فی سؤالها عن القوم الّذین غرّتهم بمداعبها و الامم الّذین فتنتهم بزخارفها سؤالا علی سبیل التوبیخ لها و الذمّ علی فعلها ذلک بهم فی معرض التنفیر عنها،و هو من قبیل تجاهل العارف،و استعار لها لفظ المداعب جمع مدعبة بمعنی دعابة،و وجه المشابهة أنّها عند صفاء لذّاتها للخلق و اغترارهم بها ثمّ کرّها علیهم بعد ذلک بالأمر الجدّ یشبه من یمزح مع غیره و ینبسط معه بالأقوال و الأفعال اللیّنة لیغترّ به ثمّ یأتیه بعد ذلک بالأمر الجدّ فیؤذیه أو یهلکه،و إنّما نسب الغرور إلیها لکونها سببا مادّیا لذلک.و فی نسخة الرضی-رحمه اللّه-غرّرتیهم بإثبات الیاء،و وجهه أنّها حدثت من إشباع الکسرة .
استعارة أشار إلی غایتهم الّتی صاروا إلیها،و هی کونهم رهائن القبور و مضامین اللحود،و نبّه فی ذلک علی أنّ غرورهم و فتنتهم بما لم یخلصهم من هذه الغایة کلّ ذلک الغرض التنفیر عنها.و ها للتنبیه،و استعار لفظ الرهائن لهم عتبار کونهم موثّقین فی القبور بأعمالهم کالرهن،و یحتمل أن یکون حقیقة،و یکون رهینة بمعنی راهنة و هی الأشخاص المقیمة بقبورها .
أقسم أنّها لو کانت شخصا مرئیّا و قالبا حسّیّا لأقام علیها
ص:114
حدود اللّه فی عباد غرّتهم بالأمانیّ و أوردتهم موارد البلاء حیث لا ورد و لا صدر:أی أنّ تلک الموارد لیس من شأنها أن یکون إلیها ورود و عنها صدر.ثمّ لمّا کان فی هذا الخطاب کالمعلم لها أنّه قد اطّلع علی خداعها و غرورها قال کالمؤیس لها من نفسه هیهات:أی بعد اغتراری بک و رکونی إلیک .ثمّ نبّه علی بعض العلل الحاملة علی علی البعد عنها و النفرة عن قربها و هی ما یلزم وطیء دحضها من الزلق،و رکوب لججها من الغرق،و الازورار عن حبائلها من التوفیق للسلامة،و ما یلزم السالم منها من عدم مبالاته بضیق مناخه،و کلّ مناخ أناخ به من فقر و سجن و مرض و بلاء بعد السلامة منها فهو فسیح رحب بالقیاس إلی ما یستلزم التفسّح فی سعتها و الجری فی فی میادین شهواتها من العذاب الألیم فی الآخرة،و هی عنده فی القصر و عدم الالتفات إلیها کیوم حان انسلاخه. استعارة مرشحة و ألفاظ المداحض و اللجج و الحبال مستعار لشهواتها و لذّاتها.
فالأوّل:باعتبار کون شهواتها مظنّة أن تحبّ فینجرّ الإنسان عند استعمالها إلی الاستکثار منها أو تجاوز القدر المعتدل إلی المحرّم فتزّل قدم نفسه عن صراط اللّه فیقع فی مهاوی الهلاک و المئاثم.
و الثانی:باعتبار أنّ مطالبها و الآمال فیها غیر متناهیه فمن لوازم المشتغل بها و المنهمک فی الدنیا أن یغرق نفسه فی بهر لا ساحل له منها فینقطع عن قبول رحمة الله الی الهلاک الابدی کالملقی نفسه فی بحر لجی.
الثالث:باعتبار أن الانسان إذا اغترّ بها و حصل فی محبّة مشتهیاتها عاقته عن النهوض و التخلّص إلی جناب اللّه و منعته أن یطیر بجناحی قوّته العقلیّة فی حضرة قدس اللّه و منازل أولیائه الأبرار کما تعوق حبائل الصائد جناح الطائر.و لفظ الوطی و الرکوب و الزلق و الغرق ترشیح .ثمّ کرّر الأمر لها بالبعد عنه و أقسم أنّه لا یذلّ لها فیستذلّه و لا یسلس لها قیاده فیقوده،و فیه تنبیه علی أنّها لا یذلّ فیها إلاّ من أذلّ نفسه و عبّدها لها و لا یملک إلاّ قیاد من أسلس لها قیاده و هو ظاهر.إذ الإنسان ما دام قامعا لقوّته الحیوانیّة مصرفا لها بزمام عقله فإنّه من المحال أن
ص:115
یذلّه الدنیا و یستعبده أهلها و مهما اتّبع شهوته فیما تمثّل إلیه فإنّها تذلّه أشدّ إذلال و تستعبده أقوی استعباد کما قال علیه السّلام:عبد الشهوة أذلّ من عبد الرق.و استعار وصف إسلاس القیاد للتسهیل فی متابعة النفس العاقلة للنفس الأمّارة و عدم التشدّد فی ضبطها باستعمال العقل عن متابعتها.
أقسم لیوقّعن ما صمّم عزمه علیه و هو بصدده من ریاضة نفسه.
و وصف تلک الریاضة فی قوّتها باستلزام أمرین:
أحدهما:کون نفسه یهشّ معها إلی القرص و ترضی به إذا قدرت علیه مطعوما و تقنع بالملح مأدوما.و تلک ریاضة القوّة الشهویّة،و لمّا کانت عدوّا للنفس و أکثر الفساد یلحق بسبها خصّها بالذکر و قوّة العزم،و یحتمل أن یرید ریاضة جمیع القوی و إنّما وصفها بکون النفس تهش معها إلی القرص لأنّ ضبط الشهوة أعظم من ضبط سائر القوی و أصعب و کانت الإشارة إلی ضبطها إلی الحدّ المذکور أبلغ فی وصف الریاضة بالشدّة،و استثنی فی یمینه بمشیئة اللّه أدبا لقوله تعالی «لا تَقُولَنَّ لِشَیْءٍ إِنِّی فاعِلٌ ذلِکَ غَداً إِلاّ أَنْ یَشاءَ اللّهُ» (1)و تنبیها علی استناد جمیع الامور فی سلسلة الحاجة إلی اللّه تعالی .
الثانی:کونه یدع مقلته فی تلک الریاضة کعین ماء نضب ماؤها،و وجه الشبه أن یفنی دموعها و یستفرغها بالبکاء شوقا إلی الملأ الأعلی و ما اعدّ لأولیاء اللّه من السعادة الأبدیّة و خوفا من حرمانها.و من کان فی مقام الغربة و محلّ الوحشة کیف لا یشتاق إلی وطنه الأصلیّ و مقام انسه الأوّلیّ.و مطعوما و مأدوما و مستفرغة أحوال . تشبیه ثمّ أخذ فی تمثیل نفسه بالسائمة و الربیضة علی تقدیر أن یرضی بمثل حالهما و غایتهما من الدنیا فی معرض الإنکار لذلک الرضا من نفسه،و الأصل فی ذلک التمثیل البهیمة،و الفرع هو علیه السّلام،و المشترک الجامع هو الرعی و الشبع و البروک و النوم و الراحة.و لمّا کان الأصل المقیس علیه فی غایة من الخسّة بالقیاس إلی
ص:116
الإنسان الکامل استلزم ذلک التشبیه به قوّة النفرة عمّا یستلزم التشبیه من الصفات .
و قوله: قرّت إذن عینه .
إخبار فی معرض الإنکار و الاستهزاء باللذّة کقوله تعالی «ذُقْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْکَرِیمُ » (1)،
نبّه علی أنّ النفس إذا کانت بالصفات المذکورة فلها استحقاق طوبی.و جمع فی تلک الصفات أکثر مکارم الأخلاق:
فالاولی:القیام بواجب طاعة اللّه و ما افترضه علیها.
الثانیة: کنایة قوله: و عرکت بجنبها بؤسها .کنایة عن الصبر علی نزول المصائب.
یقال:عرک فلان بجنبه الأذی،إذا أغضی عمّن یؤذیه و صبر علی فعله به.و یلازم ذلک عدّة فضائل کالحلم و الکرم و العفو و الصفح و التجاوز و کظم الغیظ و احتمال المکروه و العفّة و نحوها.
الثالثة: أن تهجر باللیل غمضها ،و هو کنایة عن إحیاء لیلها بعبادة ربّها و اشتغالها بذکره حتّی إذا غلب النوم علیها افترشت أرضها و توسّدت کفّها:أی لم یکن لها کلفة فی تهیّة فراش و طیب و ساد بل کانت بریّة عن کلّ کلفة عریّة عن کلّ قینة منزّهة عن کلّ ترفة .
و قوله: فی معشر .یصلح تعلّقه بکلّ من أفعال النفس المذکورة:أی فعلت هذه الأفعال فی جملة معشر من شأنهم کذا.و عرّفهم بصفات أربع:
أحدها:کونهم أسهر عیونهم خوف معادهم.
کنایة الثانی: و تجافت جنوبهم من مضاجعهم .و هو کنایة عن اشتغالهم لیلا بعبادة ربّهم کقوله تعالی «تَتَجافی جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ » (2).
الثالث:و همهمت بذکر ربّهم شفاهم کقوله تعالی «یَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً» (3).
ص:117
استعارة الرابع: و تقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم ،و هو لازم عن الثلاثة الاولی أو ثمرة لها،و استعار لفظ التقشّع لانمحاء ذنوبهم،و وجه المشابهة أنّ الذنوب و الهیئات البدنیّة فی تسویدها لألواح النفوس و تغطیتها و حجبها لها عن قبول أنوار اللّه یشبه المتراکم الحاجب لوجه الأرض عن قبول نور الشمس و الاستعداد بها للنبات و غیره فاستعار لزوالها و انمحائها من ألواح النفوس لفظ التقشّع .کلّ ذلک للترغیب فی طاعة اللّه و الجذب إلی الدخول فی زمرة أولیائه و باللّه التوفیق.
إلی بعض عماله
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّکَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَی إِقَامَةِ الدِّینِ- وَ أَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الْأَثِیمِ- وَ أَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ- فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَی مَا أَهَمَّکَ- وَ اخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّینِ- وَ ارْفُقْ مَا کَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ- وَ اعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِینَ لاَ تُغْنِی عَنْکَ إِلاَّ الشِّدَّةُ- وَ اخْفِضْ لِلرَّعِیَّةِ جَنَاحَکَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَکَ- وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَکَ- وَ آسِ بَیْنَهُمْ فِی اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ وَ الْإِشَارَةِ وَ التَّحِیَّةِ- حَتَّی لاَ یَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِی حَیْفِکَ- وَ لاَ یَیْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِکَ
أقول: النخوة : الکبر .و الأثیم : الآثم .و الضغث : النصیب من الشیء یختلط بغیره.و أصله القبضة من الحشیش المختلط من رطبه و یابسه .و اعتزم بکذا : أی لزمه و أخذ به .
و قد استماله أوّلا بأمور ثلاثة أعلمه بها من نفسه و أعدّه لقبول أوامره،و هی کونه ممّن یستظهر به علی إقامة الدین،و یقمع به نخوة الأثیم،و یسدّ به الثغر المخوف. استعارة و استعار لفظ اللهاة لما عساه ینفتح من مفاسد الثغر فیحتاج إلی سدّه
ص:118
بالعسکر و السلاح ملاحظة الشبهه بالأسد الفاتح فاه للافتراس .
ثمّ أردف ذلک بما أمره به من مکارم الأخلاق.
من اموره فإنّ الفزع إلیه و الاستعانة به أفضل ما أعان علی حصول المهمّات.
و یضع کلامه موضعه فیرفق و یلین ما کان الرفق أولی و أوفق له و یأخذ بالشدّة حین لا یغنی إلاّ الشدّة .
و هو کنایة عن التواضع.
و هو کنایة عن لقائهم بالبشاشة و البشر و ترک العبوس و التقطیب.
کنایة أن یلین لهم جانبه ،و هو کنایة عن المساهلة معهم و عدم التشدّد علیهم .
و اللحظة أخصّ من النظرة و هو أمر بفضیلة العدل بین الرعیّة لئلاّ یطمع عظیمهم فی حیفه علی الضعیف فیتسلّط علیه،و لا ییأس الضعیف من عدله علی القویّ فیضعف نفسه و یکلّ عمّا هو بصدده من الأعمال المصلحیّة،و باللّه التوفیق.
للحسن و الحسین علیهما السّلام لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه
أُوصِیکُمَا بِتَقْوَی اللَّهِ وَ أَلاَّ تَبْغِیَا الدُّنْیَا وَ إِنْ بَغَتْکُمَا- وَ لاَ تَأْسَفَا عَلَی شَیْءٍ مِنْهَا زُوِیَ عَنْکُمَا- وَ قُولاَ بِالْحَقِّ وَ اعْمَلاَ لِلْأَجْرِ- وَ کُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً وَ لِلْمَظْلُومِ عَوْناً- أُوصِیکُمَا وَ جَمِیعَ وَلَدِی وَ أَهْلِی وَ مَنْ بَلَغَهُ کِتَابِی- بِتَقْوَی اللَّهِ وَ نَظْمِ أَمْرِکُمْ
ص:119
وَ صَلاَحِ ذَاتِ بَیْنِکُمْ- فَإِنِّی سَمِعْتُ جَدَّکُمَا ص یَقُولُ- صَلاَحُ ذَاتِ الْبَیْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاَةِ وَ الصِّیَامِ- اللَّهَ اللَّهَ فِی الْأَیْتَامِ فَلاَ تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ- وَ لاَ یَضِیعُوا بِحَضْرَتِکُمْ- وَ اللَّهَ اللَّهَ فِی جِیرَانِکُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِیَّةُ نَبِیِّکُمْ- مَا زَالَ یُوصِی بِهِمْ حَتَّی ظَنَنَّا أَنَّهُ سَیُوَرِّثُهُمْ- وَ اللَّهَ اللَّهَ فِی؟الْقُرْآنِ؟- لاَ یَسْبِقُکُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَیْرُکُمْ- وَ اللَّهَ اللَّهَ فِی الصَّلاَةِ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِینِکُمْ- وَ اللَّهَ اللَّهَ فِی بَیْتِ رَبِّکُمْ لاَ تُخَلُّوهُ مَا بَقِیتُمْ- فَإِنَّهُ إِنْ تُرِکَ لَمْ تُنَاظَرُوا- وَ اللَّهَ اللَّهَ فِی الْجِهَادِ بِأَمْوَالِکُمْ وَ أَنْفُسِکُمْ- وَ أَلْسِنَتِکُمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ- وَ عَلَیْکُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَ التَّبَاذُلِ- وَ إِیَّاکُمْ وَ التَّدَابُرَ وَ التَّقَاطُعَ- لاَ تَتْرُکُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْیَ عَنِ الْمُنْکَرِ- فَیُوَلَّی عَلَیْکُمْ شِرَارُکُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلاَ یُسْتَجَابُ لَکُمْ- ثُمَّ قَالَ یَا؟بَنِی عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟- لاَ أُلْفِیَنَّکُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِینَ خَوْضاً- تَقُولُونَ قُتِلَ؟أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ؟- أَلاَ لاَ تَقْتُلُنَّ بِی إِلاَّ قَاتِلِی- انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ- فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ- وَ لاَ تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ- فَإِنِّی سَمِعْتُ؟رَسُولَ اللَّهِ ص؟ یَقُولُ- إِیَّاکُمْ وَ الْمُثْلَةَ وَ لَوْ بِالْکَلْبِ الْعَقُورِ
أقول: بغیت کذا : أردته .و إغباب أفواههم : أن یطعموهم یوما و یترکوهم
ص:120
یوما .و المناظرة : المحافظة و المراقبة .و التدابر : التقاطع و التعادی .و المثله التنکیل .
الّتی هی رأس کلّ خیر.
استعارة الزهد فی الدنیا،و أن لا یریداها و إن أرادتهما:أی أقبلت علیهما بما یعدّ فیها[عنها خ]خیرا،و استعار لفظ البغیة لها باعتبار سهولتها علیهما عن توافق أسباب خیرها لهما فهی بذلک الاعتبار کالطالبة لها .
من خیراتها و هو من لوازم الزهد الحقیقیّ فیها.
و هو ما ینبغی قوله من أوامر اللّه و نواهیه، و أن یعملا لأجر الآخرة:أی یکون أقوالهما و أعمالهما مقصورة علی هذین.
و ذلک من لوازم قول الحقّ و العمل له.إذ من کان علی حاقّ العدل لابدّ أن یجانب الظالم المنحرف إلی طرف الجور و یخاصمه لیردّه إلی فضیلة العدل فیکون حینئذ عونا للمظلوم .
اللّه مکرّرا لها و مردفا بأوامر اخری:
و ذات کنایة عن الحالة الموجبة للبین و الافتراق.
و قیل:هی الحالة بین الرجلین و القبیلتین أو الرجل و أهله.أمر بإصلاح ما بینهما من فساد.و قیل:یحتمل أن یرید بالبین هنا الوصل،و بالذات النفس:أی أصلحوا نفس وصلکم من فساد یقع فیه.و قیل:إنّ ذات هنا مقحمة زائدة،و نحوه قوله تعالی «فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَیْنِکُمْ» (1)و صلاح ذات البین من لوازم الالفة و المحبّة فی اللّه،و هی فضیلة تحت العفّة.و رغّب فی ذلک بما رواه سماعا عن
ص:121
رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله من قوله:صلاح ذات البین أفضل من عامّة الصلاة و الصیام و وجه الأفضلیّة هنا أنّک علمت فیما سلف أنّ أهمّ المطالب للشارع صلّی اللّه علیه و آله جمع الخلق علی سلوک سبیل اللّه و انتظامهم فی سلک دینه و لن یتمّ ذلک مع تنازعهم و تنافر طباعهم و ثوران الفتنة بینهم فکان صلاح ذات البین ممّا لا یتمّ أهمّ مطالب الشارع إلاّ به، و هذا المعنی غیر موجود فی الصلاة و الصیام لإمکان المطلوب المذکور بدونهما فتحقّقت أفضلیّته من هذه الجهة.و الخبر فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:کلّما کان کذلک فواجب أن یفعل .
و کنی عنها باغباب افواههم اذ هو مظنّة جوعهم.ثمّ عن إضاعتهم و استلزم ذلک النهی أمرهما ببرّهم و الإحسان إلیهم و هو فضیلة تحت العفّة.
مجاز من باب إطلاق اسم المتعلّق الوصیّة فی الجیران و التحذیر من اللّه فیهم ،و نبّه علی حفظ قلوبهم و إکرامهم بوصیّة الرسول صلّی اللّه علیه و آله فی حقّهم،و جعلهم نفس الوصیّة تأکیدا للمحافظة علیهم کالمحافظة علی وصیّة رسول اللّه.و المجاز من باب إطلاق اسم المتعلّق .
و قوله: ما زال .إلی قوله: سیورّثهم .تفسیر للوصیّة المذکورة،و هی أیضا فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من أوصی النبیّ فی حقّه کذلک فواجب أن یحفظ .
من القوانین و القواعد،و التحذیر من اللّه سبحانه فی ترکه،و النهی عن أن یسبقهم بذلک غیرهم المستلزم للأمر بالمسارعة و السبق إلیه.
فی أمرها،و نبّه علی فضیلتها بضمیر صغراه قوله:فإنّها عمود الدین.و هو عین ما رویناه من الحدیث قبل،و تقدیر الکبری:و کلّ ما کان کذلک فواجب أن یقام الدین بإقامته.ا
،و قد سبق
ص:122
سرّه،و نبّه علی فضیلة اخری له توجب ملازمته و هو ما یستلزمه ترکه من عدم مناظرة اللّه لتارکیه و ترک محافظته علیهم و مراقبته لأنّ من لا یحفظ اللّه فی بیته و لا یراقبه فی مراعاة جانبه لم یحفظه اللّه و لم یراقبه،و یحتمل أن یرید لن یناظرکم الأعداء و لم یراقبوکم.إذ فی الإجماع إلی بیت اللّه و المحافظة علیه عزّ باللّه و اعتصام به یوجب مراقبة الخلق المعتصمین به و انفعال القلوب عنهم و عن کثرتهم و مناظرتهم.
من اللّه فی ترکه
و هو ممّا علمت فضیلته .
أی یبذل کلّ منهم النصرة لصاحبه فی سبیل اللّه.
و سرّه ظاهر.
المستلزم للأمر بهما.و نفّر عن ذلک الترک بما یستلزمه و یعدّ له من تولّی الأشرار علیهم و عدم استجابة دعاء الداعین منهم،و وجه إعداده لذلک أنّ ترک الاجتماع علی الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر یستلزم ثوران المنکر و قلّة المعروف من طباع الأشرار و یعدّ لاستیلائها و غلبتها و ولایة أهلها و ذلک یستلزم کثرة الشرّ و الأشرار و قلّة الصالحین و ضعف هممهم عن استنزال رحمة اللّه تعالی بأدعیتهم فیدعون فلا یستجاب لهم .
أمر دمه.و الوصیّة بأمور:
کنایة فقال: لا أجدنّکم تخوضون دماء المسلمین خوضا ،و کنّی عن کثرة القتل .
و قوله:تقولون:قتل أمیر المؤمنین.حکایة ما جرت به العادة أن یقوله طالب الثارحین هیاجه إظهارا لعذره و السبب الحامل له علی إثارة الفتنة.
إذ ذلک هو مقتضی العدل .
علی أنّه لا یجوز قتله بمجرّد
ص:123
ضربته إن لو حصل الموت بسبب غیرها إلاّ أن یعلم أنّ موته کان بسبها.
و ذلک مقتضی عدله علیه السّلام أیضا.
و ذلک لما فی المثلة من تعدّی الواجب و قسوة القلب و شفاء الغیظ و کلّ ذلک رذائل یجب الانتهاء عنها،و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ ما نهی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله عنه فوجب أن لا یفعل.و باللّه التوفیق.
إلی معاویة
فَإِنَّ الْبَغْیَ وَ الزُّورَ یُوتِغَانِ الْمَرْءَ فِی دِینِهِ وَ دُنْیَاهُ- وَ یُبْدِیَانِ خَلَلَهُ عِنْدَ مَنْ یَعِیبُهُ- وَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّکَ غَیْرُ مُدْرِکٍ مَا قُضِیَ فَوَاتُهُ- وَ قَدْ رَامَ أَقْوَامٌ أَمْراً بِغَیْرِ الْحَقِّ- فَتَأَلَّوْا عَلَی اللَّهِ فَأَکْذَبَهُمْ- فَاحْذَرْ یَوْماً یَغْتَبِطُ فِیهِ مَنْ أَحْمَدَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ- وَ یَنْدَمُ مَنْ أَمْکَنَ الشَّیْطَانَ مِنْ قِیَادِهِ فَلَمْ یُجَاذِبْهُ- وَ قَدْ دَعَوْتَنَا إِلَی حُکْمِ؟الْقُرْآنِ؟ وَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ- وَ لَسْنَا إِیَّاکَ أَجَبْنَا وَ لَکِنَّا أَجَبْنَا؟الْقُرْآنَ؟ فِی حُکْمِهِ- وَ السَّلاَمُ أقول:هذا الفصل من کتاب له إلیه بعد التحکیم و تمسّک معاویة بما حکم به الحکمان،و یحتمل أن یکون عند إجابته إلی التحکیم.
و الوتغ بالتحریک:
الهلاک.و أوتغ فلان دینه بالإثم:أهلکه و أفسده،و فی نسخة الرضی-رحمه اللّه- یذیعان:أی یظهران .و الغبطة : السرور،و الغبطة:تمنّی مثل حال الغیر .
و صدّر الفصل بذکر الظلم و الکذب و التنفیر عنهما بما یلزمهما من إهلاک
ص:124
دین المرء و دنیاه،و یبدیان خلله و عیبه لمن یعیبه.أمّا فی دینه فلکونهما رذیلتین مضادّتین للعدل و العفّة و مجانبتین للإیمان و الدین،و أمّا فی دنیاه فلأنّ أعظم مطالب الدنیا للعقلاء الذکر الجمیل و إنّما یحصل بظهور مکارم الأخلاق دون رذائلها،و أراد بما قضی فواته ما جعله معاویة شبهة له فی محاربته و هو المطلب بدم عثمان و هو فی قوّة صغری ضمیر احتجّ به علی وجوب ترک المشاقّة،و تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک تعیّن علیه أن یترک ذلک الطلب.ثمّ أعلمه بحال من طلب أمرا باطلا و تأوّل علی اللّه فی ذلک.و الإشارة إلی أصحاب الجمل حیت کانوا طالبین للأمر و الملک فتأوّلوا علی اللّه:أی علی سلطان اللّه و هی الخلافة الحقّة فجعلوا لخروجهم و بغیهم علیها تأویلا و هو الطلب بدم عثمان،و نحوه من الشبه الباطلة.فأکذبهم اللّه بنصره علیهم و ردّ مقتضی شبههم.و الا کذاب کما یکون بالقول کذلک یکون بالفعل.و قال القطب الراوندیّ-رحمه اللّه-:معناه و قد طلب قوم أمر هذه الامّه فتأوّلو القرآن کقوله تعالی «أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ» (1)فسمّوا من نصبوه من الامراء أولی الأمر متحکّمین علی اللّه فأکذبهم اللّه بکونهم ظالمین بغاة،و لا یکون الوالی من قبل اللّه کذلک .ثمّ حذّره یوم القیامة منبّها له علی ما فیه من سرور الّذین حمدوا عاقبة أعمالهم بما حصلوا علیه من السعادة الباقیة و اغتباط غیرهم لهم و تمنّی مثل مراتبهم،و ندم من أمکن الشیطان من قیاده فصرفه کیف شاء و لم یجاذبه، استعارة و استعار لفظ التمکین من القیاد لمطاوعة النفس الأمّارة.و غرض التحذیر أن لا یکون کمن سبق من طالبی هذا الأمر بالتأویل علی اللّه .
و قوله: و قد دعوتنا .إلی آخره.
صورة سؤاله و الجواب عنه.و کونه لیس من أهله.إذ لم یکن صالحا للإمامة کما سبق بیانه مرارا،و حیث لم یکن أهلا لأن یجاب إلی الرضی بالتحکیم
ص:125
أعلمه بذلک و أنّه إنّما أجاب القرآن إلی حکمه،و ذلک فی قوله تعالی فی حقّ الزوجین «وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَیْنِهِما فَابْعَثُوا حَکَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَکَماً مِنْ أَهْلِها» (1)الآیة فجعل علیه السّلام هذا أصلا و قاس علیه بالطریق الأولی حال الامّة عند وقوع الشقاق بینهم.و بعین ذلک احتجّ ابن عباس-رضی اللّه عنه-علی الخوارج حیث أنکروا التحکیم فقالوا:کیف یجوز لعلیّ أن یحکّم فی دین اللّه الرجال.فقال لهم:إنّ ذلک لیس بأمر علیّ علیه السّلام و إنّما هو بأمر من اللّه تعالی فی کتابه.إذ یقول فی حقّ الزوجین« «وَ إِنْ خِفْتُمْ» »الآیة أ فترون أنّه أمر تعالی بذلک فی حقّ الرجل و امراته مراعاة لمصلحتهما و لا یأمر بذلک فی حقّ الأمّة رعیا لمصلحتهم؟فرجع کثیر منهم إلی قوله.و باللّه التوفیق.
إلی غیره
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْیَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَیْرِهَا- وَ لَمْ یُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَیْئاً- إِلاَّ فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَیْهَا وَ لَهَجاً بِهَا- وَ لَنْ یَسْتَغْنِیَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِیهَا عَمَّا لَمْ یَبْلُغْهُ مِنْهَا- وَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِکَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ وَ نَقْضُ مَا أَبْرَمَ- وَ لَوِ اعْتَبَرْتَ بِمَا مَضَی حَفِظْتَ مَا بَقِیَ وَ السَّلاَمُ
أقول: اللهج : الحرص الشدید .
،و ذکر منها أمور:
أی عن الآخرة و هو ظاهر ممّا مرّ.
ص:126
اللهج بها،
و إلیه الإشارة بقوله صلّی اللّه علیه و آله:لو کان لابن آدم و ادیین من ذهب لابتغی لهما ثالثا.و لا یملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب.
و ذلک من لوازم العیب.الثانی فإنّ حصول بعضها إذا کان معدّا للفقر إلیها لم یستغن طالبها أبدا منها.
أحدها:استعقابها لفراق ما جمع منها.
الثانی:نقض ما أحکم من امورها ،ثم نبّه علی وجوب الاعتبار بما مضی من العمر أو من أحوال الدنیا و القرون الماضیة لغایة حفظ ما بقی من العمر أن یضیّع فی الباطل أو حفظ ما یبقی من السعادة الاخرویّة بالسعی فی تحصیلها.و باللّه التوفیق.
إلی أمرائه علی الجیوش
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟عَلِیِّ بْنِ أَبِی طَالِبٍ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ؟ إِلَی أَصْحَابِ الْمَسَالِحِ- أَمَّا بَعْدُ- فَإِنَّ حَقّاً عَلَی الْوَالِی أَلاَّ یُغَیِّرَهُ عَلَی رَعِیَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ- وَ لاَ طَوْلٌ خُصَّ بِهِ- وَ أَنْ یَزِیدَهُ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِهِ- وَ عَطْفاً عَلَی إِخْوَانِهِ- أَلاَ وَ إِنَّ لَکُمْ عِنْدِی أَلاَّ أَحْتَجِزَ دُونَکُمْ سِرّاً إِلاَّ فِی حَرْبٍ- وَ لاَ أَطْوِیَ دُونَکُمْ أَمْراً إِلاَّ فِی حُکْمٍ- وَ لاَ أُؤَخِّرَ لَکُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّهِ- وَ لاَ أَقِفَ بِهِ دُونَ
ص:127
مَقْطَعِهِ- وَ أَنْ تَکُونُوا عِنْدِی فِی الْحَقِّ سَوَاءً- فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِکَ وَجَبَتْ لِلَّهِ عَلَیْکُمُ النِّعْمَةُ- وَ لِی عَلَیْکُمُ الطَّاعَةُ- وَ أَلاَّ تَنْکُصُوا عَنْ دَعْوَةٍ وَ لاَ تُفَرِّطُوا فِی صَلاَحٍ- وَ أَنْ تَخُوضُوا الْغَمَرَاتِ إِلَی الْحَقِّ- فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِیمُوا لِی عَلَی ذَلِکَ- لَمْ یَکُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ عَلَیَّ مِمَّنِ اعْوَجَّ مِنْکُمْ- ثُمَّ أُعْظِمُ لَهُ الْعُقُوبَةَ وَ لاَ یَجِدُ عِنْدِی فِیهَا رُخْصَةً- فَخُذُوا هَذَا مِنْ أُمَرَائِکُمْ- وَ أَعْطُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ مَا یُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ أَمْرَکُمْ
أقول: أحتجز : أمنع .و النکوص : الرجوع علی الأعقاب .و الغمرة:
الشدّة .
و اعلم أنّه قدّم هاهنا ما یجب علی الوالی المطلق لرعیّته بوجه کلیّ کما هو عادة الخطیب.ثمّ ثنّی ببیان ما یجب علیه لهم تفصیلا لذلک الکلّیّ.ثمّ ما یجب علیهم.ثمّ أمرهم بلزوم ما أوجبه علیهم.
أمّا الأوّل:فقوله:أمّا بعد.إلی قوله:إخوانه.و أشار فیه إلی أمرین أحدهما.أن لا یغیّره عنهم ما اختصّ به من الفضل و الطول لأنّ تغیّره عنهم خروج عن شرائط الولایة.
الثانی:أن یزیده تلک النعمة من اللّه دنّوا من عباده عطفا علی إخوانه لأنّ ذلک من تمام شکر النعمة .
و أمّا الثانی:فاشترط علی نفسه لهم خمسة أمور:
أحدها:أن لا یحتجز دونهم سرّا فی الامور المصلحیّة إلاّ فی الحرب.و یحتمل ترک مشورتهم هناک أمرین:أحدهما:أنّ أکثرهم ربّما لا یختار الحرب فلو توقّف علی المشورة فیه لما استقام أمره بها.و لذلک کان علیه السّلام کثیرا ما یحملهم علی الجهاد و یتضجّر من تثاقلهم علیه،و هم له کارهون.کما سبق.الثانی:أن یکتم ذلک خوف
ص:128
انتشاره إلی العدوّ فیکون سبب استعداده و تأهّبه للحرب،و لذلک کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله إذا أراد سفرا إلی الحرب ورّی بغیره کما روی أنّه لمّا نوی غزاة بدر کتب للسریّة کتابا و أمرهم أن یخرجوا من المدینة إلی صوب مکّة یومین أو ثلاثة.ثمّ ینظروا فی الکتاب و یعملوا بما فیه فلمّا سار و المدّة نظروا فیه فإذا هو یأمرهم فیه بالخروج إلی نخلة محمود و أن یفعلوا کذا و کذا ففعلوا و خرج النبیّ صلّی اللّه علیه و آله خلفهم إلی بدر و کان الظفر لهم.و لو أعلمهم علیه السّلام حین أمرهم بالخروج أنّه یسیر إلی قریش لانتشر ذلک إلی قریش و کان استعدادهم لهم أقوی،و جاز أن یکون ذلک أیضا مانعا لبعض الصحابة عن النهوض خوفا من أهل مکّة و شوکتهم.
الثانی:أنّه لا یطوی دونهم أمرا إلاّ فی حکم. استعارة استعار لفظ الطیّ لکتمان الأمر:
أی لا یخفی عنکم أمرا إلاّ أن یکون حکما من أحکام اللّه فإنی أقضیه دونکم من غیر مراقبة و مشاورة فیه کالحدود و غیرها .
الثالث:أن لا یؤخّر لهم حقّا عن محلّه کالعطاء و سایر الحقوق اللازمة له و لا یقف به دون مقطعه کالأحکام المتعلّقة بالمتخاصمین المحتاجة إلی الفصل.
الرابع:أن یسوی بینهم فی الحقّ.و الأوّلان مقتضی فضیلة الحکمة،و الثالث و الرابع مقتضی فضیلة العدل .
و أمّا الأمر الثالث:ممّا تستحقّه علیهم فبدأ بوجوب حقّ اللّه تعالی أوّلا.إذ کان حکم قضائه بنصبه لهم إماما و فعله بهم ما ذکر من أتمّ نعمه تعالی علیهم .ثمّ ثنیّ بما یجب له و ذکر امورا:
أحدها:بذل طاعته.إذ لا حجّة لهم علیه یکون سببا لعصیانهم.
الثانیّ:أن لا ینکصوا عن دعوة له إذا دعاهم.و هو من تمام الطاعة.
الثالث:أن لا یقفوا فی حیّز التفریط فی مصلحة یراها أو یبدو لهم.
الرابع:أن یخوضوا الغمرات و یرکبوا الشدائد فی نصرة الحقّ و طلبه.
ثمّ أردف ذلک بالوعید لهم إن لم یستقیموا له علی ما وجب له علیهم ممّا عدّده و توعّد بأمرین:أحدهما:هو ان المعوّج منهم عن طاعته علیه و سقوط منزلته.و
ص:129
الثانی:إعظام العقوبة له و عدم الرخصة فیها عنده .و لمّا بیّن لهم ما وجب علیهم أمرهم أن یأخذوا ذلک البیان و النصح منه و من سایر أمراء العدل،و یعطوهم من أنفسهم ما یصلح اللّه به امورهم من الطاعة و فعل ما امروا به.و باللّه التوفیق.
إلی عماله علی الخراج
:مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟عَلِیٍّ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ؟ إِلَی أَصْحَابِ الْخَرَاجِ- أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ لَمْ یَحْذَرْ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَیْهِ- لَمْ یُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ مَا یُحْرِزُهَا- وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَا کُلِّفْتُمْ یَسِیرٌ وَ أَنَّ ثَوَابَهُ کَثِیرٌ- وَ لَوْ لَمْ یَکُنْ فِیمَا نَهَی اللَّهُ عَنْهُ- مِنَ الْبَغْیِ وَ الْعُدْوَانِ عِقَابٌ یُخَافُ- لَکَانَ فِی ثَوَابِ اجْتِنَابِهِ مَا لاَ عُذْرَ فِی تَرْکِ طَلَبِهِ- فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِکُمْ وَ اصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ- فَإِنَّکُمْ خُزَّانُ الرَّعِیَّةِ- وَ وُکَلاَءُ الْأُمَّةِ وَ سُفَرَاءُ الْأَئِمَّةِ- وَ لاَ تُحْشِمُوا أَحَداً عَنْ حَاجَتِهِ وَ لاَ تَحْبِسُوهُ عَنْ طَلِبَتِهِ- وَ لاَ تَبِیعُنَّ لِلنَّاسِ فِی الْخَرَاجِ کِسْوَةَ شِتَاءٍ وَ لاَ صَیْفٍ- وَ لاَ دَابَّةً یَعْتَمِلُونَ عَلَیْهَا وَ لاَ عَبْداً- وَ لاَ تَضْرِبُنَّ أَحَداً سَوْطاً لِمَکَانِ دِرْهَمٍ- وَ لاَ تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مُصَلٍّ وَ لاَ مُعَاهَدٍ- إِلاَّ أَنْ تَجِدُوا فَرَساً أَوْ سِلاَحاً- یُعْدَی بِهِ عَلَی أَهْلِ الْإِسْلاَمِ- فَإِنَّهُ لاَ یَنْبَغِی لِلْمُسْلِمِ أَنْ یَدَعَ ذَلِکَ فِی أَیْدِی أَعْدَاءِ الْإِسْلاَمِ- فَیَکُونَ شَوْکَةً عَلَیْهِ- وَ لاَ تَدَّخِرُوا أَنْفُسَکُمْ نَصِیحَةً وَ لاَ الْجُنْدَ حُسْنَ سِیرَةٍ-
ص:130
وَ لاَ الرَّعِیَّةَ مَعُونَةً وَ لاَ دِینَ اللَّهِ قُوَّةً- وَ أَبْلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَیْکُمْ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اصْطَنَعَ عِنْدَنَا وَ عِنْدَکُمْ- أَنْ نَشْکُرَهُ بِجُهْدِنَا- وَ أَنْ نَنْصُرَهُ بِمَا بَلَغَتْ قُوَّتُنَا- وَ «لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللّهِ»
أقول: السفیر. الرسول .و حشمته و احتشمته : بمعنی:أی أعضبته و أخجلته.
و الشوکة : القوّة .و أبلیته معروفا : أی أعطیته .
و صدّر الکتاب بمقدّمة کلّیّة،و هو أنّ من لم یحذر ما یصیر إلیه من العواقب المخوفة لم یقدّم لنفسه استعدادا یحرزها منها فإنّ الإنسان إنّما یستعدّ للأمر المرغوب أو المرهوب إذا رغب فیه أو خافه،و هی فی معرض التوبیخ علی ترک الحذر لغرض تقدیم طاعة و ما یستعدّ به الإنسان ممّا یحرز نفسه من عذاب اللّه .ثمّ أعلمهم بکون التکلیف لهم یسیرا تسهیلا له،و کون ثوابه کثیرا ترغیبا فیه.و هو فی قوّة صغری ضمیر رغبّهم به فی القیام بالامور المکلّف بها،و تقدیر کبراه:و کلّ ما کان کذلک وجب القیام به و الاجتهاد فیه.ثم أردفه بالتنبیه علی وجوب ترک البغی و الظلم بما یلزمه فعله من العقاب الألیم و ترکه من الثواب العظیم الّذی لا عذر فی ترک طلبه لو لم یکن فی فعله عقاب.و المعنی أنّه لو لم یکن فیه عقاب یخاف فیترک لأجله لکان فی ترکه ثواب یجب لأجله فکیف؟و فی فعله العقاب الألیم.فبالأولی أن یجب ترکه.و هو من أفصح الکلام،و الغرض التحذیر من الوقوع فی رذیلة الظلم ثمّ أردف ذلک بأوامر و نواهی فمن الأوامر أمران:
أحدهما:إنصاف الرعیّة من أنفسهم و میولها.
الثانی:أن یصبروا لحوائجهم لینتظم أمر مصلحتهم،و علّل ذلک بکونهم خزّان الرعیّة و وکلائهم علی بیت مالهم و سفراء أئمّتهم إلیهم،و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فعلیه النصفة و الصبر علی حوائجهم.
و من النواهی ستّة:
ص:131
أحدها:أن لا یغضبوا أحدا و لا یجبهوه فیستحیی عن حاجته.
الثانی:لا یمنعوا أحدا عن حاجته و یحتجبوا دونه .
الثالث:أن لا یحوجوا أحدا فی طلب الخراج إلی بیع ما یضطرّ إلیه من کسوة أو دابّة ینتفع بها فی عمل،و لا عبد .
الخامس:أن لا یأخذوا من مال أحد من أهل القبلة أو لمعاهدین من أهل الکتاب شیئا إلاّ أن یکون فرسا أو سلاحا یعدی به علی المسلمین و الإسلام فإنّه یجب أخذه من أیدی أعدائهم لئلاّ یکون شوکة علیهم و عونا .
السادس:أن لا یدّخروا أنفسهم عن أنفسهم نصیحة بل ینصح بعضهم لبعض، و لا عن الجند حسن سیرة،و لا عن الرعیّة معونة،و لا عن دین اللّه قوّة .ثمّ أمرهم أن یبلوا فی سبیله و یعطوا ما استوجب علیهم من شکر نعمه و طاعته.ثمّ علّل وجوب ذلک بقوله: فإنّ اللّه .إلی آخره.و هو فی قوّة صغری ضمیر.و المعنی أنّه تعالی جعل شکره بجهدنا و نصرته بما بلغت قوّتنا صنیعة عندنا.إذ کان شکره و نصرته من أعظم نعمه علینا کما سبق.و قیل:أراد لأن نشکره.و تقدیر الکبری:و کلّ من اصطنع عندنا وجب علینا شکره.و باللّه التوفیق.
إلی أمراء البلاد فی معنی الصلاة
أَمَّا بَعْدُ فَصَلُّوا بِالنَّاسِ الظُّهْرَ- حَتَّی تَفِیءَ الشَّمْسُ مِثْلَ مَرْبِضِ الْعَنْزِ- وَ صَلُّوا بِهِمُ الْعَصْرَ وَ الشَّمْسُ بَیْضَاءُ حَیَّةٌ فِی عُضْوٍ مِنَ النَّهَارِ- حِینَ یُسَارُ فِیهَا فَرْسَخَانِ- وَ صَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِینَ یُفْطِرُ الصَّائِمُ- وَ یَدْفَعُ الْحَاجُّ إِلَی؟مِنًی؟- وَ صَلُّوا بِهِمُ الْعِشَاءَ حِینَ یَتَوَارَی الشَّفَقُ إِلَی ثُلُثِ اللَّیْلِ- وَ صَلُّوا بِهِمُ الْغَدَاةَ وَ الرَّجُلُ یَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ- وَ صَلُّوا بِهِمْ صَلاَةَ أَضْعَفِهِمْ وَ لاَ تَکُونُوا فَتَّانِینَ
ص:132
:أی رجوعها و میلها إلی المغرب ثمّ نبّه بتقدیره بمربض العنز و هو أوّل وقت الظهر و ذلک ممّا یختلف باختلاف البلاد.
استعارة وقت العصر و قدّره ببقاء الشمس بیضاء لم تصفر للمغیب،و حیّة.
و استعار لفظ الحیاة لظهورها علی الأرض لمکان المشابهة،و فی عضو من النهار،و أراد القسم و القطعة منه.ثمّ قدّر ذلک العضو بمقدار أن یسافر فیه فرسخان السیر المعتاد .
و عرّفه بأمرین:أحدهما:حین یفطر الصائم،و ذلک عند سقوط القرص.و الثانی:حین یدفع الحجّاج و یفیض من عرفات.و لشهرة هاتین العلامتین و تعارفهما مع المخاطبین عرّفه بهما.
عرّفه بتواری الشفق و ذلک من ناحیة المغرب، و حدّ آخره بثلث اللیل،و إنّما حدّ آخر هذا الوقت دون أوقات سائر الفرائض لأنّ الفرائض یتبیّن آخر کلّ وقت منها ببیان أوّل وقت الاخری.و لا کذلک آخر وقت العشاء الآخرة لاتّصاله باللیل الخالی عن الفرائض،و أمّا آخر وقت الصبح فحدّه بطلوع الشمس أیضا ظاهر.
و حدّه بحین یعرف الرجل وجه صاحبه،و ذلک حین طلوع الفجر الثانی و هو الحمرة المعترضة من ناحیة المشرق،و العلامة التی ذکرها أوضح لسائر الناس .ثمّ أوصاهم بفعل و ترک:أمّا الفعل فأن یصلّوا بالناس صلاة أضعفهم،و هو أن لا یطیلوا فی القراءة و فی الفرائض کقراءة البقرة و السور الطوال فإنّ ذلک لا یستطیع القیام به کلّ الناس فیؤدّی ذلک إلی المشقّة و عجز بعضهم عن أداء الفریضة فی الجماعة و هو ضرر منفیّ فی الدین،و أمّا الترک
ص:133
فأن لا یکونوا فتّانین بإطالة الصلاة،و وجه الفتنة هنا أنّهم یکونون صارفین للناس عن الاتّفاق و التساعد علی الجماعة بإطالتها المستلزمة لتخلّف العاجزین و الضعفاء.
و اللّه أعلم.
کتبه للأشتر النخعی رحمه اللّه،لما ولاه علی مصر و اعمالها حین اضطراب أمر محمد بن أبی بکر،و هو أطول عهد و أجمع کتبه للمحاسن أقول:هو مالک بن الحرث الأشتر النخعیّ من الیمن،و کان من أکابر أصحابه علیه السّلام ذوی النجدة،و الشجاعة الّذین علیهم عمدته فی الحروب،و روی أنّ الطرمّاح لمّا دخل علی معاویة قال له:قل لابن أبی طالب:إنّی جمعت من العساکر بعدد حبّ جاورس الکوفة و ها أنا قاصده.فقال له الطرمّاح:إنّ لعلیّ علیه السّلام دیکا أشتر یلتقط جمیع ذلک.فأنکسر معاویة من قوله.و فی العهد فصول:
قوله:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ- هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ؟عَلِیٌّ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ؟- ؟مَالِکَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ؟ فِی عَهْدِهِ إِلَیْهِ- حِینَ وَلاَّهُ؟مِصْرَ؟ جِبَایَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا- وَ اسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا وَ عِمَارَةَ بِلاَدِهَا- أَمَرَهُ بِتَقْوَی اللَّهِ وَ إِیْثَارِ طَاعَتِهِ- وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِی کِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ
ص:134
وَ سُنَنِهِ- الَّتِی لاَ یَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا- وَ لاَ یَشْقَی إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا- وَ أَنْ یَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ وَ یَدِهِ وَ لِسَانِهِ- فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَکَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَ إِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ- وَ أَمَرَهُ أَنْ یَکْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ- وَ یَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ- فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ اللَّهُ
أقول: یزعها : یکفّها .
،و بها یکون نظام الأمر فمنها ما یعود إلی منفعة الوالی و هو جبوة الخراج،و منها ما یعود إلی الرعیّة و هی جهاد عدوّهم و استصلاحهم بالسیاسة و حسن الرعی،و منها ما یعود إلیهما و هو عمارة البلاد و لو احقها .
و خشیته،و قد سبق بیان کونها أصلا لکلّ فضیلة.
و رغّب فی ذلک بقوله:
لا یسعد.إلی قوله:إضاعتها.و تکرّر بیان ذلک .
فی جهاد العدوّ.و إنکار المنکرات.و رغّب فی ذلک بقوله:قد تکفّل.إلی قوله:أعزّه.کقوله تعالی «إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ یَنْصُرْکُمْ وَ یُثَبِّتْ أَقْدامَکُمْ » (1).
و هو أمر بفضیلة العفّة.
و هو أمر بفضیلة الصبر عن اتّباع الهوی و هو فضیلة تحت العفّة،و حذّر من النفس بقوله:فإنّ النفس.إلی
ص:135
آخره،و هو من قوله تعالی «إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ» (1)الآیة.و-ما-بمعنی -من-و هی نصب علی الاستثناء:أی إلاّ نفسا رحمها اللّه.
و تدبیر الملک و المدینة
و ذلک قوله:
ثُمَّ اعْلَمْ یَا؟مَالِکُ؟- أَنِّی قَدْ وَجَّهْتُکَ إِلَی بِلاَدٍ قَدْ جَرَتْ عَلَیْهَا دُوَلٌ قَبْلَکَ- مِنْ عَدْلٍ وَ جَوْرٍ- وَ أَنَّ النَّاسَ یَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِکَ- فِی مِثْلِ مَا کُنْتَ تَنْظُرُ فِیهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاَةِ قَبْلَکَ- وَ یَقُولُونَ فِیکَ مَا کُنْتَ تَقُولُ فِیهِمْ- وَ إِنَّمَا یُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحِینَ- بِمَا یُجْرِی اللَّهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ- فَلْیَکُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَیْکَ ذَخِیرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ- فَامْلِکْ هَوَاکَ وَ شُحَّ بِنَفْسِکَ عَمَّا لاَ یَحِلُّ لَکَ- فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِیمَا أَحَبَّتْ أَوْ کَرِهَتْ وَ أَشْعِرْ قَلْبَکَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیَّةِ- وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اللُّطْفَ بِهِمْ- وَ لاَ تَکُونَنَّ عَلَیْهِمْ سَبُعاً ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ- فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَکَ فِی الدِّینِ- وَ إِمَّا نَظِیرٌ لَکَ فِی الْخَلْقِ- یَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ- وَ یُؤْتَی عَلَی أَیْدِیهِمْ فِی الْعَمْدِ وَ الْخَطَإِ- فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِکَ وَ صَفْحِکَ- مِثْلِ الَّذِی تُحِبُّ وَ تَرْضَی أَنْ یُعْطِیَکَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ- فَإِنَّکَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِی الْأَمْرِ عَلَیْکَ فَوْقَکَ- وَ اللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّکَ- وَ قَدِ اسْتَکْفَاکَ أَمْرَهُمْ وَ ابْتَلاَکَ بِهِمْ- وَ لاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَکَ لِحَرْبِ اللَّهِ-
ص:136
فَإِنَّهُ لاَ یَدَیْ لَکَ بِنِقْمَتِهِ- وَ لاَ غِنَی بِکَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ- وَ لاَ تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ وَ لاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ- وَ لاَ تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً- وَ لاَ تَقُولَنَّ إِنِّی مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ- فَإِنَّ ذَلِکَ إِدْغَالٌ فِی الْقَلْبِ- وَ مَنْهَکَةٌ لِلدِّینِ وَ تَقَرُّبٌ مِنَ الْغِیَرِ- وَ إِذَا أَحْدَثَ لَکَ مَا أَنْتَ فِیهِ مِنْ سُلْطَانِکَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِیلَةً- فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْکِ اللَّهِ فَوْقَکَ- وَ قُدْرَتِهِ مِنْکَ عَلَی مَا لاَ تَقْدِرُ عَلَیْهِ مِنْ نَفْسِکَ- فَإِنَّ ذَلِکَ یُطَامِنُ إِلَیْکَ مِنْ طِمَاحِکَ- وَ یَکُفُّ عَنْکَ مِنْ غَرْبِکَ- وَ یَفِیءُ إِلَیْکَ بِمَا عَزَبَ عَنْکَ مِنْ عَقْلِکَ- إِیَّاکَ وَ مُسَامَاةَ اللَّهِ فِی عَظَمَتِهِ وَ التَّشَبُّهَ بِهِ فِی جَبَرُوتِهِ- فَإِنَّ اللَّهَ یُذِلُّ کُلَّ جَبَّارٍ وَ یُهِینُ کُلَّ مُخْتَالٍ أَنْصِفِ اللَّهَ وَ أَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِکَ- وَ مِنْ خَاصَّةِ أَهْلِکَ- وَ مَنْ لَکَ فِیهِ هَوًی مِنْ رَعِیَّتِکَ- فَإِنَّکَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ- وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ کَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ- وَ مَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ- وَ کَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّی یَنْزِعَ أَوْ یَتُوبَ- وَ لَیْسَ شَیْءٌ أَدْعَی إِلَی تَغْیِیرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَ تَعْجِیلِ نِقْمَتِهِ- مِنْ إِقَامَةٍ عَلَی ظُلْمٍ- فَإِنَّ اللَّهَ سَمِیعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِینَ- وَ هُوَ لِلظَّالِمِینَ بِالْمِرْصَادِ- وَ لْیَکُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَیْکَ أَوْسَطُهَا فِی الْحَقِّ- وَ أَعَمُّهَا فِی الْعَدْلِ وَ أَجْمَعُهَا
ص:137
لِرِضَا الرَّعِیَّةِ- فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ یُجْحِفُ بِرِضَا الْخَاصَّةِ- وَ إِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ یُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا الْعَامَّةِ- وَ لَیْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِیَّةِ أَثْقَلَ عَلَی الْوَالِی مَئُونَةً فِی الرَّخَاءِ- وَ أَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِی الْبَلاَءِ- وَ أَکْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَ أَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ- وَ أَقَلَّ شُکْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ وَ أَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ- وَ أَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ- مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ- وَ إِنَّمَا عِمَادُ الدِّینِ وَ جِمَاعُ الْمُسْلِمِینَ- وَ الْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ- فَلْیَکُنْ صِغْوُکَ لَهُمْ وَ مَیْلُکَ مَعَهُمْ وَ لْیَکُنْ أَبْعَدَ رَعِیَّتِکَ مِنْکَ وَ أَشْنَأَهُمْ عِنْدَکَ- أَطْلَبُهُمْ لِمَعَایِبِ النَّاسِ- فَإِنَّ فِی النَّاسِ عُیُوباً الْوَالِی أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا- فَلاَ تَکْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْکَ مِنْهَا- فَإِنَّمَا عَلَیْکَ تَطْهِیرُ مَا ظَهَرَ لَکَ- وَ اللَّهُ یَحْکُمُ عَلَی مَا غَابَ عَنْکَ- فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ- یَسْتُرِ اللَّهُ مِنْکَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِیَّتِکَ- أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ کُلِّ حِقْدٍ- وَ اقْطَعْ عَنْکَ سَبَبَ کُلِّ وِتْرٍ- وَ تَغَابَ عَنْ کُلِّ مَا لاَ یَضِحُ لَکَ- وَ لاَ تَعْجَلَنَّ إِلَی تَصْدِیقِ سَاعٍ- فَإِنَّ السَّاعِیَ غَاشٌّ وَ إِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِینَ- وَ لاَ تُدْخِلَنَّ فِی مَشُورَتِکَ بَخِیلاً یَعْدِلُ بِکَ عَنِ الْفَضْلِ- وَ یَعِدُکَ الْفَقْرَ- وَ لاَ جَبَاناً یُضْعِفُکَ عَنِ الْأُمُورِ- وَ لاَ حَرِیصاً یُزَیِّنُ لَکَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ- فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّی- یَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ
ص:138
إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِکَ مَنْ کَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَکَ وَزِیراً- وَ مَنْ شَرِکَهُمْ فِی الْآثَامِ فَلاَ یَکُونَنَّ لَکَ بِطَانَةً- فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ وَ إِخْوَانُ الظَّلَمَةِ- وَ أَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَیْرَ الْخَلَفِ- مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَ نَفَاذِهِمْ- وَ لَیْسَ عَلَیْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَ أَوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ- مِمَّنْ لَمْ یُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَی ظُلْمِهِ وَ لاَ آثِماً عَلَی إِثْمِهِ- أُولَئِکَ أَخَفُّ عَلَیْکَ مَئُونَةً وَ أَحْسَنُ لَکَ مَعُونَةً- وَ أَحْنَی عَلَیْکَ عَطْفاً وَ أَقَلُّ لِغَیْرِکَ إِلْفاً- فَاتَّخِذْ أُولَئِکَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِکَ وَ حَفَلاَتِکَ- ثُمَّ لْیَکُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَکَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَکَ- وَ أَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِیمَا یَکُونُ مِنْکَ مِمَّا کَرِهَ اللَّهُ لِأَوْلِیَائِهِ- وَاقِعاً ذَلِکَ مِنْ هَوَاکَ حَیْثُ وَقَعَ وَ الْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَ الصِّدْقِ- ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَی أَلاَّ یُطْرُوکَ- وَ لاَ یَبْجَحُوکَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ- فَإِنَّ کَثْرَةَ الْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وَ تُدْنِی مِنَ الْعِزَّةِ- وَ لاَ یَکُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَ الْمُسِیءُ عِنْدَکَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ- فَإِنَّ فِی ذَلِکَ تَزْهِیداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِی الْإِحْسَانِ- وَ تَدْرِیباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَی الْإِسَاءَةِ- وَ أَلْزِمْ کُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ وَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَیْسَ شَیْءٌ بِأَدْعَی- إِلَی حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِیَّتِهِ- مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَیْهِمْ وَ تَخْفِیفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَیْهِمْ- وَ تَرْکِ اسْتِکْرَاهِهِ إِیَّاهُمْ عَلَی مَا لَیْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ- فَلْیَکُنْ مِنْکَ فِی ذَلِکَ أَمْرٌ- یَجْتَمِعُ لَکَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِیَّتِکَ-
ص:139
فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ یَقْطَعُ عَنْکَ نَصَباً طَوِیلاً- وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّکَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُکَ عِنْدَهُ- وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّکَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُکَ عِنْدَهُ- وَ لاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ- وَ اجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ وَ صَلَحَتْ عَلَیْهَا الرَّعِیَّةُ- وَ لاَ تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَیْءٍ مِنْ مَاضِی تِلْکَ السُّنَنِ- فَیَکُونَ الْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا- وَ الْوِزْرُ عَلَیْکَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا- وَ أَکْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَ مُنَاقَشَةَ الْحُکَمَاءِ- فِی تَثْبِیتِ مَا صَلَحَ عَلَیْهِ أَمْرُ بِلاَدِکَ- وَ إِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَکَ
أقول: الضاری : المعتاد للصید،الجریء علیه .و الصفح: الإعراض عن الذنب .
و البجح-بسکون الجیم- : الفرح و السرور .و البادرة : الحدّة .و المندوحة : السعة .
و الإدغال : إدخال الفساد فی الأمر .و النهک : الضعف .و الأبّهة،و المخیلة : الکبر و یطامن . یسکن :و طماح النفس : جماحها .و طمح البصر : ارتفع .و غرب الفرس:
حدّته،و أوّل جریه ،و المساماة : مفاعلة من السموّ .و الجبروت : الکبر العظیم .
و أدحض حجّته : أبطلها .و ینزع : یرجع .و أجحف به : ذهب به .و الإلحاف : شدّة السؤال .و ملمّات الدهر : ما یلمّ من خطوبه .و جماع المسلمین : جمعهم .و الصغوة:
المیل .و أشنأهم : أبغضهم و الوتر : الحقد .و التغابی : التجاهل و التغافل و بطانة الرجل : خاصّته و الآصار : الآثام .و حفلاتک : أی جلساتک فی المحافل و المجامع .
و الإطراء : المدح البالغ .و الزهو : الکبر .و التدریب : التعوید .و المنافثة:
المحادثة .
و اعلم أنّ مدار هذا الفصل لمّا کان علی أمره بالعمل الصالح فی البلاد و العباد
ص:140
نبّهه أوّلا علی بعض العلل الغائیّة من ذلک،و هو الذکر الجمیل فی العقبی و الکون من الصالحین لیعمل له،و ذلک بقوله:إنّی قد وجهّتک.إلی قوله:تقول فیهم.
و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیرها:إنّک موجّه إلی بلدة حالها کذا و کذا و حال الناس فی فعلک بها کذا،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان وجّه إلی بلدة کذلک و کان الناس ینظرون من أمره مثل ما کان ینظر قبله من أمر الولاة و یقولون فیه مثل ما کان یقول فیهم فیجب علیه أن یکون أحبّ الامور إلیه العمل الصالح لیحصل منه الذکر الجمیل بین الناس الدالّ علی کون المذکور عند اللّه من الصالحین،و نبّه علی تلک الدلالة بقوله:و إنّما یستدلّ علی الصالحین بما یجری اللّه لهم علی ألسن عباده.و فی نسبة إجراء القول إلی اللّه ترغیب عظیم فی تحصیل الذکر الجمیل.
استعارة ثمّ أعقب ذلک بأمره أن یجعل العمل الصالح أحبّ الذخائر إلیه،و استعار له لفظ الذخیرة باعتبار أن یحصله فی الدنیا لغایة الانتفاع به فی العقبی کالذخیرة .
،و یشحّ بنفسه عمّا لا یحلّ لها من المحرّمات.
و قوله: فإنّ الشحّ .إلی قوله: کرهت .
تفسیر لذلک الشحّ بما یلازمه و هو الانصاف و الوقوف علی حدّ العدل فی المحبوب فلا یقوده شهوته إلی حدّ الإفراط فیقع فی رذیلة الفجور،و فی دفع المکروه فلا یقوده غضبه إلی طرف الإفراط من فضیلة العدل فیقع فی رذیلة الظلم و التهوّر.
و ظاهر أنّ ذلک شحّ بالنفس و بخل بها عن إلقائها فی مهاوی الهلاک.
استعارة أن یشعر قلبه الرحمة للرعیّة و المحبّة و اللطف بهم.و هی فضائل تحت ملکة العفّة:أی اجعل هذه الفضائل شعارا لقلبک .و لفظا الشعار و السبع مستعاران.
و أشار إلی وجه استعارة السبع بقوله:تغتنم أکلهم .
و هو فضیلة تحت الشجاعة.
و قوله:فإنّهم.إلی قوله:فی الخلق.
ص:141
بیان لسببین من أسباب الرحمة لهم و اللطف بهم.
و قوله:یفرط منهم الزلل.إلی قوله:و الخطاء.
تفسیر للمثلیّة و هی السبب الثانی،و الکلام فی قوّة صغری ضمیر فی حسن العفو و الصفح،و أراد بالعلل الّتی تعرض لهم الامور المشغلة الصارفة لهم عمّا ینبغی من إجراء أوامر الوالی علی وجوهها.
کنایة و قوله: و یؤتی علی أیدیهم .
کنایة عن کونهم غیر معصومین بل هم ممّن یؤتون من قبل العمد و الخطاء، و تأتی علی أیدیهم أوامر الولاة و المؤاخذات فیما یقع منهم من عمد أو خطاء ،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فینبغی أن یرحم و یشمل بالمحبّة ذو اللطف به و یقابل خطأه بالعفو و الصفح.و فی أمره بإعطاء العفو مثل الّذی یجب أن یعطیه اللّه من عفوه أتمّ ترغیب فی العفو و أقوی جاذب إلیه،و کذلک قوله:فإنّک فوقهم.
إلی قوله:و ابتلاک بهم.تخویف من اللّه فی معرض الأمر بالعفو و اللطف،و هو صغری ضمیر آخر فی ذلک .
کنایة نهاه أن ینصب نفسه لحرب اللّه.و کنّی بحربه عن الغلظة علی عباده و ظلمهم و مبارزته تعالی فیهم بالمعصیة .
کنایة و قوله: فإنّه لا یدی لک.إلی قوله:و رحمته .
صغری ضمیر نبّه به علی أنّه لا یجوز ظلم عباد اللّه و محاربته،و کنّی بعدم الیدین عن عدم القدرة.یقال:ما لی بهذا الأمر ید.إذا کان ممّا لا یطاق .و حذف النون من یدین لمضارعة المضاف،و قیل:لکثرة الاستعمال،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فلا یجوز أن ینصب لحرب اللّه بظلم عباده.
إلی الغضب الّذی یجد منه مندوحة
فإنّ ذلک کلّه من لوازم إعطاء القوّة الغضبیّة قیادها.و قد علمت أنّها شیطان تقود إلی النار.
،و نهی عن ما عساه
ص:142
یعرض فی النفس من وجوب طاعة الخلق لامرته فإنّ علیهم أن یسمعوا و علیه أن یأمر فإنّ ذلک فساد فی القلب و الدین،و أشار إلی ذلک الفساد بقوله:فإنّه إدغال إلی قوله:الغیر.و هو من وجوه ثلاثة:
أحدها:أنّه إدغال فی القلب و صرف له عن دین اللّه،و هو معنی إفساده.
الثانی:أنّ ذلک منهکة للدین و إضعاف له.
الثالث:أنّه مقرّب من الغیر لکون الظلم من أقوی الأسباب المعدّة باجتماع همم الخلق علی زواله،و إلیه الإشارة بقوله تعالی «إِنَّ اللّهَ لا یُغَیِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّی یُغَیِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (1)و الکلام فی قوّة ثلاث صغریات لثلاثة ضمایر،و تقدیر الکبریات فیها:و کلّ ما کان کذلک فلا یجوز ارتکابه .
الّذی عساه یعرض له فی سلطانه و ولایته،و ذلک.أن ینظر إلی عظمة اللّه تعالی فوقه و قدرته علی ما لا یملکه من نفسه و لا یستطیعه جلبا لها أو دفعا عنها فإنّ ذلک یسکّن داء الکبر الّذی یحدث له فیطفیه و یکسر حدّة غضبه و یردّه إلیه ما قهرته قوّته الغضبیّة من عقله فغرب عند جماحها،و هذه أیضا صغریات ثلاث لثلاثة ضمائر نبّه فیها علی وجوب فعل ما أرشده إلیه من الدواء،و تقدیر الکبریات فیه:و کلّما کان کذلک فیجب علیک فعله .
،و نفّر عن ذلک بکونهما مساماة و تشبّها به،و بأنّ التکبّر یستلزم أن یذلّ اللّه صاحبه و یهینه.و تقدیر الاحتجاج:فإنّک إن تجبّرت و اختلت یذلّک اللّه و یهینک و هو فی قوّة صغری ضمیر أیضا،و تقدیر کبراه:
و کلّ من کان کذلک فیجب أن یحذر من اللّه بترک التجبّر .
فإنصاف اللّه العمل بأوامره و الانتهاء عن زواجره مقابلا بذلک نعمه،و إنصاف الناس العدل فیهم و الخروج إلیهم من حقوقهم اللازمة لنفسه و لأهل خاصّته.و احتجّ علی .
ص:143
وجوب ذلک الإنصاف بقیاس مفصول صغری الأوّل قوله:فإنّک إن لا تفعل تظلم:
أی تظلم عباد اللّه .و کبراه و من ظلم عباد اللّه کان اللّه خصمه دون عباده.و تقدیر نتیجته:
فإنّک إن لا تفعل کان اللّه خصمک دون عباده و هی صغری لقیاس آخر کبراه قوله:
و من خاصمه اللّه.إلی قوله:و یتوب.و تقدیر نتیجته:فإنّک إن لا تفعل أدحض اللّه حجّتک عند مخاصمته و کنت له حربا إلی أن تنزع و تتوب من ظلمک .
و قوله: و لیس شیء .إلی قوله: علی ظلم .
تنبیه علی لازم آخر لعدم الإنصاف أو الإقامة علی الظلم،و هی کونه أدعی إلی تغییر نعم اللّه و تعجیل نقمته من کلّ شیء.
و قوله: فإنّ اللّه .إلی قوله: بالمرصاد .
بیان للزوم اللازم المذکور،و ذلک أنّ اللّه سبحانه إذا کان یسمع دعوة المظلوم و یطّلع علی فعل الظالم فإنّه یسرع إلی تغییر نعمته إذ استعدّ لذلک .
أمره أن یکون أحبّ الأمور إلیه أقربها إلی حاقّ الوسط من طرفی الإفراط و التفریط و هو الحقّ،و أعمّها للعدل،و أجمعها لرضاء الرعیّة فإنّ العدل قد یوقع علی وجه لا یعمّ العامّة بل یتّبع فیه رضاء الخاصّة.و نبّه علی لزوم العدل العامّ للرعیّة و حفظ قلوب العامّة و طلب رضاهم بوجهین:
أحدهما:أنّ سخط العامّة لکثرتهم لا یقاومه رضاء الخاصّة لقلّتهم،بل یجحف به و لا ینتفع برضاهم عند سخط العامّة،و ذلک یؤدّی إلی وهن الدین و ضعفه أمّا سخط الخاصّه فإنّه مغتفر و مستور عند رضاء العامّة فکان رضاهم أولی .
الثانی:أنّه وصف الخاصّة بصفات مذمومة تستلزم قلّة الاهتمام بهم بالنسبة إلی العامّة،و وصف العامّة بصفات محمودة توجب العنایة بهم.أمّا صفات الخاصّة:
فأحدها:کونهم أثقل مئونة علی الوالی فی الرخاء لتکلّفه لهم ما لا یتکلّفه لغیرهم.
الثانی:کونهم أقلّ معونة له فی البلاء لمحبّتهم الدنیا و عزّة جانبهم.
الثالث:کونهم أکره للانصاف لزیاده أطماعهم فی الدنیا علی العامّة.
ص:144
الرابع:و کونهم أسأل بالإحاف لأنّهم عند الحاجة إلی السؤال أشدّ جرأة علی الوالی و أطمع فی إلانة جانبه.
الخامس:کونهم أقلّ شکرا عند الإعطاء لاعتقادهم زیادة فضلهم علی العامّة و أنّهم أحقّ بما یعطونه،و اعتقادهم حاجة الوالی إلیهم و تخوّفه منهم.
السادس:کونهم أبطأ عذرا للوالی إن منعهم:أی أنّهم أقلّ مسامحة له إن اعتذر إلیهم فی أمر لاعتقادهم فضیلة أنفسهم و کونهم واجبی قضاء الحقوق.
السابع:کونهم أضعف صبرا عند ملمّات الدهر لتعوّدهم الترفّة،و جزعهم علی ما فی أیدیهم من الدنیا .و أمّا صفات العامّة:
استعارة فأحدها: کونهم عمود الدین ،و استعار لهم لفظ العمود باعتبار قیام الدین بهم کقیام البیت بعموده .
الثانی:کونهم جماع المسلمین لکونهم الأغلب و الأکثر و السواد الأعظم.
الثالث:کونهم العدّة للأعداء لکثرتهم أیضا و لأنّهم کانوا أهل الحرب فی ذلک الزمان.و هذه الصفات للفریقین یستلزم وجوب حفظ قلوب العامّة،و تقدیمه علی حفظ قلوب الخاصّة.و لذلک أمره أن یکون صغوه و میله إلی العامّة .
أمر بأن یکون أبعد رعیّته منه و أبغضهم إلیه أطلبهم لمعایب الناس،و نبّهه علی وجوب ذلک بقوله:فإنّ فی الناس إلی قوله:سترها.و إذا کان الوالی أحقّ من سترها لزمه أن لا یکشف عمّا غاب عنه منها،و ذلک بقمع أهل النمیمة و إبعادهم،و أن یلزم ما یجب علیه و هو تطهیر الخلق ممّا ظهر له من ذنوبهم دون ما غاب عنه،و أکّد ذلک بالأمر بستر العورة من الغیر بقدر الاستطاعة فإنّ کلّ عیب عورة، و نبّه علی الرغبة فی ذلک بما یستلزمه من إعداده لستر اللّه منه ما یحبّ أن یستره هو بستره علی رعیّته من الذنوب و العیوب .
أمره بنزع الحقد و عقد ما عقده فی قلبه منه لکونه من الرذائل الموبقة،و أن یقطع أسبابه من قبول السعایة و أهل النمیمة،
،أن یتغافل عن کلّ أمر لا یتّضح له و لا یقوم به برهان،و نهاه أن
ص:145
یعجل إلی تصدیق من سعی به،و نبّه علی ذلک بضمیر صغراه:قوله: فإنّ الساعی :
إلی قوله: الناصحین .و وجه غشّه کونه مثیر الأحقاد و الضغائن بین الناس و یذیع الفاحشة و الفساد فی الأرض،و تقدیر کبراه:و کلّ من کان غاشّا وجب أن لا یلتفت إلیه .
نهاه أن یدخل فی مشورته ثلاثة البخیل و الجبان و الحریص، و نبّه علی وجه المفسدة فی استشارة کلّ أحد من الثلاثة بضمیر صغری الأوّل:
قوله: یعدل بک .إلی قوله: الفقر .و ذلک أنّ البخیل لا یشیر إلاّ بما یراه مصلحة عنده و هو البخل و ما یستلزمه من التخویف بالفقر،و هو یعدل بالمستشیر عن الفضل.
و صغری الثانی قوله: لیضّعفک عن الأمور .لأنّ الجبان لا یشیر إلاّ بوجوب حفظ النفس و التخویف من العدوّ و هو المصلحة الّتی یراها،و کلّ ذلک مضعّف عن الحرب و مقاومة العدوّ.و صغری الثالث:قوله: یزیّن لک الشره بالجور .و ذلک أنّ المصلحة عنده جمع المال و حفظه و هو مستلزم للجور عن فضیلة العدل و القصد.و تقدیر الکبری فی الثلاثة:
و کلّ من کان کذلک فلا یجوز استشارته.ثمّ نفّر عن الثلاثة بضمیر آخر نبّه بصغراه علی مبدء رذائلهم الثلاث و هی البخل و الجبن و الحرص لتعرف فتجتنب و تنفر عن عن أهلها فذکر أنّها غرائز:أی أخلاق متفرّقة یحصل للنفس عن أصل واحد ینتهی إلیه و هو سوء الظنّ باللّه،و بیان ذلک أنّ مبدء سوء الظنّ باللّه عدم معرفته تعالی فالجاهل به لا یعرفه من جهة ما هو جواد فیّاض بالخیرات لمن استعدّ بطاعته لها فیسوء ظنّه به،و بأنّه لا یخلف علیه عوض ما یبذله فیمنعه ذلک مع ملاحظة الفقر من[عند] البذل و تلزمه رذیلة البخل،و کذا الجبان جاهل به تعالی من جهة لطفه بعباده و عنایته بوجودهم و غیر عالم بسرّ قدره فیسوء ظنّه بأنّه لا یحفظه من التلف و یتصوّر الهلاک فیمنعه ذلک عن الإقدام فی الحرب و نحوها فیلزمه رذیلة الجبن،و کذلک الحریص یجهله تعالی من الوجهین المذکورین فیسوء ظنّه به و یعتقد أنّه إذا لم یحرص الحرص المذموم لم یوصل إلیه تعالی ما یصلح حاله ممّا یسعی فیه و یحرص علیه فیبعثه ذلک علی الحرص.و کذلک النفس.فکانت هذه الأخلاق الثلاثة المذمومة
ص:146
راجعة إلی ما ذکره علیه السّلام .
لمّا کان من الأعمال الصالحة اختیارالوزراءو الأعوان نبّهه علی من لا ینبغی استصلاحه لذلک لیجتنبه و من ینبغی لیرغب فیه.فمن لا ینبغی هو من کان للأشرار من الولاة قبله وزیرا و مشارکا لهم فی الآثام،و نهاه عن اتّخاذه بطانة و خاصّة له،و نفّر عنهم بضمیر صغراه قوله:فإنّهم:إلی قوله:الخلف.و تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فلا تتّخذه بطانة.
و قوله: ممّن له مثل آرائهم .
تمیز لمن هو خیر الخلف من الأشرار و هم الّذین ینبغی أن یستعان بهم،و بیان لوجه خیریّتهم بالنسبة إلی الأشرار،و هو أن یکون لهم مثل آرائهم و نفاذهم فی الأمور و لیس علیهم مثل آصارهم و لم یعاون ظالما علی ظلمه.ثمّ رغّب فی اتّخاذ هؤلاء أعوانا بضمیر صغراه قوله : اولئک أخفّ .إلی قوله: إلفا .أمّا أنّهم أخفّ مئونة فلأنّ لهم رادعا من أنفسهم عمّا لا ینبغی لهم من مال أو حال فلا یحتاج فی إرضائهم أو ردعهم ممّا لا ینبغی إلی مزید کلفة بخلاف الأشرار و الطامعین فیما لا ینبغی.و بحسب قربهم إلی الحقّ و مجانبتهم للأشرار کانوا أحسن معونة و أثبت عنده قلوبا و أشدّ حنوّا علیه و عطفا و أقلّ لغیره إلفا،و تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فینبغی أن یتّخذ عونا و وزیرا و لذلک قال:فاتّخذ اولئک خاصّة لخلوتک و حفلاتک .ثمّ میّز من ینبغی أن یکون أقرب هؤلاء إلیه و أقواهم فی الاعتماد علیه بأوصاف أخصّ:
أحدها:أن یکون أقولهم بمرّ الحقّ له.
الثانی:أن یکون أقلّهم مساعدة له فیما یکون منه و یقع من الامور الّتی یکرهها اللّه لأولیائه.و انتصب قوله:واقعا علی الحال:أی فی حال وقوع ذلک القول منه و النصیحة و قلّة المساعدة حیث وقع من هواک سواء کان فی هوی عظیم أو یسیر،أو حیث وقع هواک:أی سواء کان ما تهواه عظیما أو لیس،و یحتمل أن یرید واقعا عظیما أو لیس،و یحتمل أن یرید واقعا ذلک الناصح من هواک و محبّتک حیث وقع:
ص:147
أی یجب أن یکون له من هواک موقعا .ثمّ أمره فی اعتبارهم و اختیارهم بأوامر:
أحدها:أن یلازم أهل الورع منهم و الأعمال الجمیلة و أهل الصدق.و هما فضیلتان تحت العفّة.
الثانی:أن یروضهم و یؤدّبهم بالنهی عن الإطراء له،أو یوجبوا له سرورا بقول ینسبونه فیه إلی فعل ما لم یفعله فیدخلونه فی ذمّ قوله تعالی «وَ یُحِبُّونَ أَنْ یُحْمَدُوا بِما لَمْ یَفْعَلُوا» (1)و نفّره عن کثرة الإطراء بضمیر صغراه قوله:فإن کثرة الإطراء إلی قوله:الغرّة.و استلزام الإطراء للرذیلتین المذکورتین ظاهر،و تقدیر الکبری:و کلّما کان کذلک فیجب اجتنابه .
الثانی:نهاه أن یکون المحسن و المسیء عنده بمنزلة سواء،و نفّر عن ذلک ببیان وجه المفسدة فی ضمیر صغراه قوله:فإنّ ذلک.إلی قوله:الإساءة.و سرّه أنّ أکثر فعل الإحسان إنّما یکون طلبا للمجازاة بمثله خصوصا من الولاة و طلبا لزیادة الرتبة علی الغیر و زیادة الذکر الجمیل مع أنواع من الکلفة فی ذلک.فإذا رأی المحسن مساواة منزلته لمنزلته المسیء کان ذلک صارفا عن الإحسان و داعیا إلی الراحة من تکلّفه،و کذلک أکثر التارکین للإساءة إنّما یترکون خوفا من الولاة و إشفاقا من نقصان الرتبة عن النظر.فإذا رأی المسیء مساواة مرتبته مع مرتبة المحسنین کان التقصیر به أولی:و تقدیر الکبری:و کلّ ما کان فیه تزهید للإحسان و تدریب علی الإساءة فینبغی أن یجتنب.ثمّ أکّد ذلک بأمره أن یلزم کلاّ من أهل الإحسان و الإساءة بما ألزم به نفسه من الاستعداد بالإحسان و الإساءة لهما فیلزم المحسن منزلة الإحسان و یلزم المسیء منزلة الإساءة .
و تخفیف المئونات عنهم و ترک استکراههم علی ما لیس له قبلهم بما یستلزمه ذلک من حسن ظنّه بهم المستلزم لقطع النصب عنه من قبلهم و الاستراحة إلیهم،و ذلک أنّ الوالی إذا أحسن إلی رعیّته قویت رغبتهم فیه و أقبلوا بطباعهم علی محبّته و طاعته،و ذلک یستلزم حسن ظنّه بهم
ص:148
فلا یحتاج معهم إلی کلفة فی جمع أهوائهم و الاحتراس من شرورهم،و أکّد ذلک بقوله:
و إنّ أحقّ من یحسن ظنّک به.إلی قوله:عنده .
من صدور هذه الامّة و اجتمعت بها الالفة و صلاح الرعیّة،و ذلک مفسدة ظاهرة فی الدین.
و أشار إلی وجه الفساد فیها بضمیر صغراه قوله:فیکون.إلی قوله:سنّها.و الضمیر فی منها یعود إلی السنن الّتی دخل علیها الضرر فیکون الأجر لمن سنّ السنّة الماضیة الّتی أضرّت بها سنّتک الحادثة و الوزر علیک بما نقضت منها،و تقدیر کبراه:فکلّ ما کان کذلک فینبغی أن یجتنب و ینفر عنه .
أی بأحکام الشریعة و قوانین الدین،و منافثة الحکماء:أی العارفین باللّه و بأسراره فی عباده و بلاده العاملین بالقوانین الحکمیة العملیّة التجربیّة و الاعتباریّة،و یتصفّح أنواع الأخبار فی تثبّت القواعد و القوانین الّتی یصلح علیها أمر بلاده،و إقامة ما استقام به الناس قبله منها.و باللّه التوفیق.
،و وضع کلّ علی حدّه و طبقته الّتی یقتضی الحکمة النبویّة وضعه فیها،و الإشارة إلی تعلّق کلّ طبقة بالأخری حیث لا صلاح لبعضهم إلاّ بالبعض و بذلک یکون قوام المدینة، ثمّ بالإشارة إلی من یستصلح من کلّ صنف و طبقه یکون أهلا لتلک المرتبة،و الوصیّة فی کلّ ما یلیق به.و ذلک قوله:
وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّعِیَّةَ طَبَقَاتٌ- لاَ یَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ- وَ لاَ غِنَی بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ- فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ وَ مِنْهَا کُتَّابُ الْعَامَّةِ وَ الْخَاصَّةِ- وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ- وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْیَةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ
ص:149
وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ- وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ- وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِی الْحَاجَةِ وَ الْمَسْکَنَةِ- وَ کُلٌّ قَدْ سَمَّی اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ- وَ وَضَعَ عَلَی حَدِّهِ فَرِیضَةً فِی کِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِیِّهِ ص عَهْداً- مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً- فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِیَّةِ وَ زَیْنُ الْوُلاَةِ- وَ عِزُّ الدِّینِ وَ سُبُلُ الْأَمْنِ- وَ لَیْسَ تَقُومُ الرَّعِیَّةُ إِلاَّ بِهِمْ- ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ- إِلاَّ بِمَا یُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ- الَّذِی یَقْوَوْنَ بِهِ عَلَی جِهَادِ عَدُوِّهِمْ- وَ یَعْتَمِدُونَ عَلَیْهِ فِیمَا یُصْلِحُهُمْ- وَ یَکُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ- ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِهَذَیْنِ الصِّنْفَیْنِ إِلاَّ بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ- مِنَ الْقُضَاةِ وَ الْعُمَّالِ وَ الْکُتَّابِ- لِمَا یُحْکِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ وَ یَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ- وَ یُؤْتَمَنُونَ عَلَیْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَ عَوَامِّهَا- وَ لاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِیعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِی الصِّنَاعَاتِ- فِیمَا یَجْتَمِعُونَ عَلَیْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ- وَ یُقِیمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ- وَ یَکْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَیْدِیهِمْ- مَا لاَ یَبْلُغُهُ رِفْقُ غَیْرِهِمْ- ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَ الْمَسْکَنَةِ- الَّذِینَ یَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَ مَعُونَتُهُمْ- وَ فِی اللَّهِ لِکُلٍّ سَعَةٌ- وَ لِکُلٍّ عَلَی الْوَالِی حَقٌّ بِقَدْرِ مَا یُصْلِحُهُ- فَوَلِّ مِنْ جُنُودِکَ- أَنْصَحَهُمْ فِی نَفْسِکَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِکَ- وَ أَنْقَاهُمْ جَیْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً- مِمَّنْ یُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ یَسْتَرِیحُ إِلَی الْعُذْرِ- وَ یَرْأَفُ
ص:150
بِالضُّعَفَاءِ وَ یَنْبُو عَلَی الْأَقْوِیَاءِ- وَ مِمَّنْ لاَ یُثِیرُهُ الْعُنْفُ وَ لاَ یَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ- ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِی الْمُرُوءَاتِ وَ الْأَحْسَابِ- وَ أَهْلِ الْبُیُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ- ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَ الشَّجَاعَةِ وَ السَّخَاءِ وَ السَّمَاحَةِ- فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْکَرَمِ وَ شُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ- ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا یَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا- وَ لاَ یَتَفَاقَمَنَّ فِی نَفْسِکَ شَیْءٌ قَوَّیْتَهُمْ بِهِ- وَ لاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَ إِنْ قَلَّ- فَإِنَّهُ دَاعِیَةٌ لَهُمْ إِلَی بَذْلِ النَّصِیحَةِ لَکَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ بِکَ- وَ لاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِیفِ أُمُورِهِمُ اتِّکَالاً عَلَی جَسِیمِهَا- فَإِنَّ لِلْیَسِیرِ مِنْ لُطْفِکَ مَوْضِعاً یَنْتَفِعُونَ بِهِ- وَ لِلْجَسِیمِ مَوْقِعاً لاَ یَسْتَغْنُونَ عَنْهُ- وَ لْیَکُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِکَ عِنْدَکَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِی مَعُونَتِهِ- وَ أَفْضَلَ عَلَیْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ- بِمَا یَسَعُهُمْ وَ یَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِیهِمْ- حَتَّی یَکُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِی جِهَادِ الْعَدُوِّ- فَإِنَّ عَطْفَکَ عَلَیْهِمْ یَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَیْکَ- وَ إِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَیْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِی الْبِلاَدِ وَ ظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِیَّةِ و إِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بِسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ وَ لاَ تَصِحُّ نَصِیحَتُهُمْ إِلاَّ بِحِیطَتِهِمْ عَلَی وُلاَةِ الْأُمُورِ- وَ قِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ- وَ تَرْکِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ- فَافْسَحْ فِی آمَالِهِمْ وَ وَاصِلْ فِی حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَیْهِمْ- وَ تَعْدِیدِ مَا أَبْلَی ذَوُو
ص:151
الْبَلاَءِ مِنْهُمْ- فَإِنَّ کَثْرَةَ الذِّکْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ- وَ تُحَرِّضُ النَّاکِلَ «إِنْ شاءَ اللّهُ» ثُمَّ اعْرِفْ لِکُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَی- وَ لاَ تَضُمَّنَّ بَلاَءَ امْرِئٍ إِلَی غَیْرِهِ- وَ لاَ تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَایَةِ بَلاَئِهِ- وَ لاَ یَدْعُوَنَّکَ شَرَفُ امْرِئٍ- إِلَی أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا کَانَ صَغِیراً- وَ لاَ ضَعَةُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا کَانَ عَظِیماً- وَ ارْدُدْ إِلَی اللَّهِ وَ رَسُولِهِ مَا یُضْلِعُکَ مِنَ الْخُطُوبِ- وَ یَشْتَبِهُ عَلَیْکَ مِنَ الْأُمُورِ- فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَی لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ- «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَ الرَّسُولِ» - فَالرَّدُّ إِلَی اللَّهِ الْأَخْذُ بِمُحْکَمِ کِتَابِهِ- وَ الرَّدُّ إِلَی؟الرَّسُولِ؟ الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَیْرِ الْمُفَرِّقَةِ:
ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَیْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِیَّتِکَ فِی نَفْسِکَ- مِمَّنْ لاَ تَضِیقُ بِهِ الْأُمُورُ وَ لاَ تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ- وَ لاَ یَتَمَادَی فِی الزَّلَّةِ- وَ لاَ یَحْصَرُ مِنَ الْفَیْءِ إِلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ- وَ لاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَی طَمَعٍ- وَ لاَ یَکْتَفِی بِأَدْنَی فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ- وَ أَوْقَفَهُمْ فِی الشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ- وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ- وَ أَصْبَرَهُمْ عَلَی تَکَشُّفِ الْأُمُورِ- وَ أَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ
ص:152
الْحُکْمِ- مِمَّنْ لاَ یَزْدَهِیهِ إِطْرَاءٌ وَ لاَ یَسْتَمِیلُهُ إِغْرَاءٌ- وَ أُولَئِکَ قَلِیلٌ- ثُمَّ أَکْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ- وَ افْسَحْ لَهُ فِی الْبَذْلِ مَا یُزِیلُ عِلَّتَهُ- وَ تَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَی النَّاسِ- وَ أَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَیْکَ مَا لاَ یَطْمَعُ فِیهِ غَیْرُهُ مِنْ خَاصَّتِکَ- لِیَأْمَنَ بِذَلِکَ اغْتِیَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَکَ- فَانْظُرْ فِی ذَلِکَ نَظَراً بَلِیغاً- فَإِنَّ هَذَا الدِّینَ قَدْ کَانَ أَسِیراً فِی أَیْدِی الْأَشْرَارِ- یُعْمَلُ فِیهِ بِالْهَوَی وَ تُطْلَبُ بِهِ الدُّنْیَا:
ثُمَّ انْظُرْ فِی أُمُورِ عُمَّالِکَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً- وَ لاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَ أَثَرَةً- فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَ الْخِیَانَةِ- وَ تَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَ الْحَیَاءِ- مِنْ أَهْلِ الْبُیُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ الْقَدَمِ فِی الْإِسْلاَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ- فَإِنَّهُمْ أَکْرَمُ أَخْلاَقاً وَ أَصَحُّ أَعْرَاضاً- وَ أَقَلُّ فِی الْمَطَامِعِ إِشْرَافاً وَ أَبْلَغُ فِی عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً- ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَیْهِمُ الْأَرْزَاقَ- فَإِنَّ ذَلِکَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ- وَ غِنًی لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَیْدِیهِمْ- وَ حُجَّةٌ عَلَیْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَکَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَکَ- ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ- وَ ابْعَثِ الْعُیُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَ الْوَفَاءِ عَلَیْهِمْ- فَإِنَّ تَعَاهُدَکَ فِی السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ- حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِعْمَالِ الْأَمَانَةِ وَ الرِّفْقِ بِالرَّعِیَّةِ- وَ تَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ- فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ یَدَهُ إِلَی خِیَانَةٍ- اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَیْهِ عِنْدَکَ أَخْبَارُ عُیُونِکَ- اکْتَفَیْتَ بِذَلِکَ شَاهِداً-
ص:153
فَبَسَطْتَ عَلَیْهِ الْعُقُوبَةَ فِی بَدَنِهِ- وَ أَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ- ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِیَانَةِ- وَ قَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ:
وَ تَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا یُصْلِحُ أَهْلَهُ- فَإِنَّ فِی صَلاَحِهِ وَ صَلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ- وَ لاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ- لِأَنَّ النَّاسَ کُلَّهُمْ عِیَالٌ عَلَی الْخَرَاجِ وَ أَهْلِهِ- وَ لْیَکُنْ نَظَرُکَ فِی عِمَارَةِ الْأَرْضِ- أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِکَ فِی اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ- لِأَنَّ ذَلِکَ لاَ یُدْرَکُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ- وَ مَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَیْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلاَدَ- وَ أَهْلَکَ الْعِبَادَ وَ لَمْ یَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِیلاً- فَإِنْ شَکَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ- أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ- أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ- خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ یَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ- وَ لاَ یَثْقُلَنَّ عَلَیْکَ شَیْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَئُونَةَ عَنْهُمْ- فَإِنَّهُ ذُخْرٌ یَعُودُونَ بِهِ عَلَیْکَ فِی عِمَارَةِ بِلاَدِکَ- وَ تَزْیِینِ وِلاَیَتِکَ مَعَ اسْتِجْلاَبِکَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ- وَ تَبَجُّحِکَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِیهِمْ- مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ- بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِکَ لَهُمْ- وَ الثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِکَ عَلَیْهِمْ وَ رِفْقِکَ بِهِمْ- فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الْأُمُورِ- مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِیهِ عَلَیْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ- طَیِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ- فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ- وَ إِنَّمَا یُؤْتَی خَرَابُ الْأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا- وَ إِنَّمَا یُعْوِزُ أَهْلُهَا لِإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَی
ص:154
الْجَمْعِ- وَ سُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وَ قِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ:
ثُمَّ انْظُرْ فِی حَالِ کُتَّابِکَ- فَوَلِّ عَلَی أُمُورِکَ خَیْرَهُمْ- وَ اخْصُصْ رَسَائِلَکَ الَّتِی تُدْخِلُ فِیهَا مَکَایِدَکَ وَ أَسْرَارَکَ- بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الْأَخْلاَقِ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ الْکَرَامَةُ- فَیَجْتَرِئَ بِهَا عَلَیْکَ فِی خِلاَفٍ لَکَ بِحَضْرَةِ مَلَإٍ- وَ لاَ تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِیرَادِ مُکَاتَبَاتِ عُمِّالِکَ عَلَیْکَ- وَ إِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَی الصَّوَابِ عَنْکَ- فِیمَا یَأْخُذُ لَکَ وَ یُعْطِی مِنْکَ- وَ لاَ یُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَکَ- وَ لاَ یَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَیْکَ- وَ لاَ یَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِی الْأُمُورِ- فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ یَکُونُ بِقَدْرِ غَیْرِهِ أَجْهَلَ- ثُمَّ لاَ یَکُنِ اخْتِیَارُکَ إِیَّاهُمْ عَلَی فِرَاسَتِکَ- وَ اسْتِنَامَتِکَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ مِنْکَ- فَإِنَّ الرِّجَالَ یَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاَةِ- بِتَصَنُّعِهِمْ وَ حُسْنِ خِدْمَتِهِمْ- وَ لَیْسَ وَرَاءَ ذَلِکَ مِنَ النَّصِیحَةِ وَ الْأَمَانَةِ شَیْءٌ- وَ لَکِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِینَ قَبْلَکَ- فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ کَانَ فِی الْعَامَّةِ أَثَراً- وَ أَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً- فَإِنَّ ذَلِکَ دَلِیلٌ عَلَی نَصِیحَتِکَ لِلَّهِ وَ لِمَنْ وُلِّیتَ أَمْرَهُ- وَ اجْعَلْ لِرَأْسِ کُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِکَ رَأْساً مِنْهُمْ- لاَ یَقْهَرُهُ کَبِیرُهَا وَ لاَ یَتَشَتَّتُ عَلَیْهِ کَثِیرُهَا- وَ مَهْمَا کَانَ فِی کُتَّابِکَ مِنْ عَیْبٍ فَتَغَابَیْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ:
ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِی الصِّنَاعَاتِ وَ أَوْصِ بِهِمْ خَیْراً- الْمُقِیمِ مِنْهُمْ
ص:155
وَ الْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَ الْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ- فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَ أَسْبَابُ الْمَرَافِقِ- وَ جُلاَّبُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَ الْمَطَارِحِ- فِی بَرِّکَ وَ بَحْرِکَ وَ سَهْلِکَ وَ جَبَلِکَ- وَ حَیْثُ لاَ یَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا- وَ لاَ یَجْتَرِءُونَ عَلَیْهَا- فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ- وَ صُلْحٌ لاَ تُخْشَی غَائِلَتُهُ- وَ تَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِکَ وَ فِی حَوَاشِی بِلاَدِکَ- وَ اعْلَمْ مَعَ ذَلِکَ أَنَّ فِی کَثِیرٍ مِنْهُمْ ضِیقاً فَاحِشاً- وَ شُحّاً قَبِیحاً- وَ احْتِکَاراً لِلْمَنَافِعِ وَ تَحَکُّماً فِی الْبِیَاعَاتِ- وَ ذَلِکَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ- وَ عَیْبٌ عَلَی الْوُلاَةِ فَامْنَعْ مِنَ الاِحْتِکَارِ- فَإِنَّ؟رَسُولَ اللَّهِ ص؟ مَنَعَ مِنْهُ- وَ لْیَکُنِ الْبَیْعُ بَیْعاً سَمْحاً بِمَوَازِینِ عَدْلٍ- وَ أَسْعَارٍ لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِیقَیْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَ الْمُبْتَاعِ- فَمَنْ قَارَفَ حُکْرَةً بَعْدَ نَهْیِکَ إِیَّاهُ فَنَکِّلْ بِهِ- وَ عَاقِبْهُ فِی غَیْرِ إِسْرَافٍ:
ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِی الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِینَ لاَ حِیلَةَ لَهُمْ- مِنَ الْمَسَاکِینِ وَ الْمُحْتَاجِینَ وَ أَهْلِ الْبُؤْسَی وَ الزَّمْنَی- فَإِنَّ فِی هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَ مُعْتَرّاً- وَ احْفَظِ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَکَ مِنْ حَقِّهِ فِیهِمْ- وَ اجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَیْتِ مَالِکِ- وَ قِسْماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِی الْإِسْلاَمِ فِی کُلِّ بَلَدٍ- فَإِنَّ لِلْأَقْصَی مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِی لِلْأَدْنَی- وَ کُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِیتَ حَقَّهُ- وَ لاَ یَشْغَلَنَّکَ عَنْهُمْ بَطَرٌ- فَإِنَّکَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْیِیعِکَ
ص:156
التَّافِهَ لِإِحْکَامِکَ الْکَثِیرَ الْمُهِمَّ- فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّکَ عَنْهُمْ وَ لاَ تُصَعِّرْ خَدَّکَ لَهُمْ- وَ تَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ یَصِلُ إِلَیْکَ مِنْهُمْ- مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُیُونُ وَ تَحْقِرُهُ الرِّجَالُ- فَفَرِّغْ لِأُولَئِکَ ثِقَتَکَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْیَةِ وَ التَّوَاضُعِ- فَلْیَرْفَعْ إِلَیْکَ أُمُورَهُمْ- ثُمَّ اعْمَلْ فِیهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَی اللَّهِ یَوْمَ تَلْقَاهُ- فَإِنَّ هَؤُلاَءِ مِنْ بَیْنِ الرَّعِیَّةِ أَحْوَجُ إِلَی الْإِنْصَافِ مِنْ غَیْرِهِمْ- وَ کُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی اللَّهِ فِی تَأْدِیَةِ حَقِّهِ إِلَیْهِ- وَ تَعَهَّدْ أَهْلَ الْیُتْمِ وَ ذَوِی الرِّقَّةِ فِی السِّنِّ- مِمَّنْ لاَ حِیلَةَ لَهُ وَ لاَ یَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ- وَ ذَلِکَ عَلَی الْوُلاَةِ ثَقِیلٌ- وَ الْحَقُّ کُلُّهُ ثَقِیلٌ وَ قَدْ یُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَی أَقْوَامٍ- طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ- وَ وَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ
أقول: المعاقد : جمع مقعد مصدرا .و المرافق : المنافع .و تفاقم الأمر : عظمه .
و الخلوف : المتخلّفون جمع-خلف بالفتح- .و الحیطة : الشفقّة .و یضلعک: یثقلک .
و المحک : اللجاج .و الحصر : العیّ و العجز .و التبرّم : التضجّر .و الازدهاء : افتعال من الزهو و هو الکبر .و الإطراء : کثرة المدح .و الاغتیال : الأخذ علی غرّة .
و المحاباة : المعاطاة و المقاربة فیها .و الأثرة : الاستبداد .و الجماع : الجمع .و التوخّی : التقصّد .و الحدوة : الحثّ .و الشرب : النصیب من الماء .و البالّه : القلیل من الماء یبلّ به الأرض .و أحالت الأرض : تغیّرت عمّا کانت علیه من الاستواء فلم ینحبّ زرعها و لا أثمر نخلها .و الإجمام : الإراحة .و معتمد : قاصد .و الإعواز:
الفقر .و استنام إلی کذا : سکن إلیه .و المترفّق : طالب الرفق من التجارة .و المطارح:
جمع مطرح و هی الأرض البعیدة .و البائقة الداهیة .و الغائلة: الشرّ .و الاحتکار:
حبس المنافع عن الناس عند الحاجة إلیها .و البؤسی : الشدّة .و القانع : السائل .
ص:157
و المعترّ : الّذی یتعرّض للعطاء من غیر سؤال .و الصوافی : -جمع صافیة-و هی أرض الغنیمة .و التافه : الحقیر .و أشخص همّه : رفعه .و تصعیر الحذّ: إمالته کبرا .
و تقتحمه : تزدریه .و أعذر فی الأمر : صار ذا عذر فیه .
،و حکم بأنّه لا یصلح بعضها إلاّ بالبعض علی ما بیّنه.
و قوله :من أهل الذمّة و مسلمة الناس.
تفصیل للأهل الأوّل.فأهل الذمّة تفسیر لأهل الجزیة،و مسلمة الناس تفسیر لأهل الخراج،و یجوز أن یکون تفسیرا لأهل الجزیة و الخراج لأنّ للإمام أن یقبل أرض الخراج من سائر المسلمین و أهل الذمّة ،و أراد بالسهم الّذی سمّاه اللّه لکلّ منهم الاستحقاق لکلّ من ذوی الاستحقاق فی کتابه إجمالا من الصدقات کالفقراء و المساکین و عمّال الخراج و الصدقه و فصله فی سنّة نبیّه صلّی اللّه علیه و آله.و حدّه الّذی وضع اللّه علیه عهدا منه عند أهل بیت نبیّه هو مرتبته و منزلته من أهل المدینة الّذین لا یقوم إلاّ بهم فإنّ للجندیّ منزلة و حدّا محدودا لا یجوز له تعدّیه،و فریضته وقوفه عنده و العمل بما یلزم تلک المرتبة،و کذلک الکتّاب و العمّال و القضاة و غیرهم فإنّ لکلّ منهم حدّا یقف عنده،و فریضة یلزمها علیها عهد من اللّه محفوظ عند نبیّه و أهل بیته علیهم السّلام اشتملت علیها الشریعة .
علی أنّ لکلّ من الأصناف المذکورة تعلّق بالآخر بحیث لا یقوم إلاّ به،و الحاجة إلیه ضروریّة.و بمجموعهم یقوم صورة المدینة.فبدء بالجنود لأنّهم الأصل و ذکر وجه الحاجة إلیهم فی أربعة أوصاف:
استعارة أحدها: کونهم حصون الرعیّة ،و استعار لهم لفظ الحصون باعتبار حفظهم للرعیّة و حیاطتهم لهم کالحصن .
الثانی:أنّهم زین الولاة فإنّ الوالی بلا جند کأحد الرعیّة لا یبالی به و لا یطاع له أمر.و المفسدة فیه ظاهرة.
ص:158
مجاز إطلاقا لاسم اللازم علی ملزومه الثالث: کونهم عزّ الدین ،و أطلق لفظ العزّ علیهم إطلاقا لاسم اللازم علی ملزومه إذ کان العزّ للدین لازما لوجودهم .
استعارة الرابع:استعار لفظ الأمن لهم باعتبار لزوم الأمن لوجود الجند فی الطرق و نحوها .و الکلام فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فلیس یقوم الرعیّة إلاّ به.
و قوله:و لیس یقوم الرعیّة إلاّ بهم.
نتیجة القیاس المذکور.و قال:بإذن اللّه.لینبّه علی أنّه أراد جنود الحقّ الّذین هم مقتضی الحکمة لا مطلق الجنود.
الثانی :أهل الخراج و من یؤخذ منهم،و أشار إلی وجه استلزام الحاجة إلی الجند للحاجة إلیهم بقوله:ثمّ لا قوام للجنود.إلی قوله:حاجتهم.
فقوله:لا قوام.إلی قوله:الخراج.دعوی.
و قوله:الذین یقوون.إلی قوله:حاجتهم.
فی قوّة صغری ضمیر نبّه به علیها،و تقدیر کبراه:و کلّ ما کان کذلک فلا قوام للجند إلاّ به.فینتج لا قوام للجند إلاّ بما یخرج اللّه لهم من الخراج،و لما کان الخراج إنّما یحصل من جماعة من الرعیّة و لا یقوم الجند إلاّ بهم.
الثالث :القضاة و العمّال و الکتّاب.و جمعهم.لأنّ وجه الحاجة إلیهم واحدا،و أشار إلیه بقوله:لما یحکمون به.إلی قوله:و عوامّها.فإنّهم امناء الوالی و الرعیّة علی ما یعمّهم من الامور أو یخصّ کلاّ منهم،و علی أیدیهم تکون أحکام العقود و جمع المنافع و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فحاجة الجند و الرعیّة إلیه ضروریّة.
الرابع :التجّار و ذوی الصناعات و ادّعی أنّه لا قوام للأصناف السابقة إلاّ بهم و نبّه علی ذلک بقوله:فیما یجتمعون علیه من مرافقهم فإنّ کلّ ما یفعله التجّار من جلب الأمتعة و بیعها و شرائها و یقیمونه من الأسواق بذلک و ما یفعله الصنّاع من المنفعة بأیدیهم ممّا لا یحصل من غیرهم الانتفاع به فهی مرافق و منافع للرعیّة فی مقام
ص:159
حاجتهم و ضرورتهم و هو فی قوّة صغری ضمیر کبراه ما سبق.
الخامس :الطبقة السفلی من أهل الحاجة و المسکنة،و نبّه علی وجه الحاجة إلیهم بقوله:الّذین یحقّ رفدهم و معونتهم.و بیان ذلک أنّ رفد هؤلاء و معونتهم یستلزم اجتماع هممهم و توافر دواعیهم لرافدهم و معینهم و بهم تستنزل الرحمة و تستدرّ البرکة من اللّه تعالی لأهل المدینة و یدرک الثواب الاخرویّ.فکانت الحاجة إلیهم داعیة لذلک .و لمّا أشار إلی وجه الحاجة إلی جمیعهم قال:و فی اللّه لکلّ سعة:أی فی وجود اللّه و عنایته.لیعتمد علی اللّه فی تدبیر أمورهم.إذ هو تعالی ربّ العنایة الأولی و قال:و لکلّ علی الوالی حقّ بقدر ما یصلحه.لیعلم أنّ مراعاة کلّ منهم واجبة علیه فیشتمل علیها.و باللّه.التوفیق .
و نصبه فی مقامه:
:و أشار إلی تعیین من یصلح لهذه المرتبة بأوصاف،و أمره و نهاه فیهم بأوامر و نواهی أمّا الأوصاف:
فأحدها:من کان أنصح فی نفسه للّه و لرسوله و لإمامه جیبا أی أکثرهم أمانة فی العمل بأوامر اللّه و رسوله و إمامه. کنایة و ناصح الجیب کنایة عن الأمین .
الثانی:أفضلهم حلما.ثمّ وصف ذلک الأفضل فقال:ممّن یبطیء عن الغضب و یستریح إلی العذر فیقبله إذا وجده،و یرأف بالضعفاء فلا یغلظ علیهم،و ینبو علی الأقویاء:أی یعلو علیهم و یتجنّب امیل إلیهم علی من دونهم،ممّن لا یثیره العنف:
أی لا یکون له عنف فیثیره کقوله:و لا أری الضبّ بها فینحجر.و قیل:لا یهیّجه العنف و لا یزعجه إذا فعل،و لا یقعد به الضعف عن إقامة حدود اللّه و أخذ الحقوق من الظالمین أی لا یکون له ضعف فیقعده عن ذلک.
الثالث :من کان من أهل الأحساب و البیوتات الصالحة و السوابق الحسنة من الأحوال و الأفعال و الأقوال الخیریّة.
الرابع:من یکون من أهل النجدة و الشجاعة.
ص:160
الخامس:من یکون من أهل السخاء و السماحة.
و أمّا الأوامر:
فأحدها:أن یولّی من الجند من کان بهذه الصفات.
الثانی:أن یلصق بمن ذکر منهم:أی یلزمهم فی هذه المرتبة.و رغّب فیهم بقوله:
فإنّهم.إلی قوله:من العرف مجاز إطلاقا لاسم اللازم علی ملزومه و وصفهم بکونهم جماع من الکرم و شعب من العرف إطلاقا لاسم اللازم علی ملزومه.إذ کان الجماع من الکرم و هو الفضائل المذکورة لازمة لهم.و الأمانة و السخاء و السماحة فضائل تحت العفّة.و الحلم و النجدة فضیلتان تحت الشجاعة.و یحتمل أن یکون الضمیر فی قوله:فإنّهم.عائدا إلی الفضائل المذکورة کقوله تعالی «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِی» یشیر إلی الأصنام .
کنایة الثالث : أن یتفقّد من أمورهم و مصالحهم ما یتفقّده الولدان ،و هو کنایة عن نهایة الشفقّة علیهم .
الرابع:نهاه أن یعظم فی نفسه شیء یقوّیهم به من مال أو نفع فیدعوه إلی التقاصر فی حقّهم.
الخامس:و أن لا یحتقر لطفا یتعاهدهم به فیحمله احتقاره علی ترکه.و احتجّ لأولویّة فعله و إن قلّ بقوله:فإنّه داعیة.إلی قوله:الظنّ بک.و تقدیر کبری هذا الضمیر:و کلّما کان کذلک فالأولی بک فعله.
السادس :نهاه أن یدع تفقّد الصغیر من امورهم اعتمادا علی تفقّد عظیمها و احتجّ لأولویّة فعله بقوله:فإنّ الیسیر.إلی قوله:موقعا لا یستغنون عنه.و المعنی ظاهر.فإنّ موضع الیسیر المنتفع به لا یستغنی فیه عن الجسیم.و تقدیر کبری هذا الضمیر:و کلّما کان له موضعا ینتفع به فالأولی فعله فی موضعه لینتفع به.
السابع :أمره أن یکون آثر رءوس جنده عنده من کان بالصفات المذکورة و هو الّذی یواسی من تحت یده من الجند فیما یحصل له من المعونة،و یفضل علیهم ممّا فی یده بما یسعهم و یسع من ورائهم من ضعفاء أهلیهم و خلوفهم حتّی یکون بذلک همّهم واحدا فیکونوا بمنزلة رجل واحد فی جهاد العدوّ.ثمّ رغّب فی العطف علیهم
ص:161
بما یستلزمه من عطف قلوبهم علیه و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان مستلزما لعطف قلوبهم ففعله واجب و مصلحة .و أیضا لمّا کانت صحّة محبّتهم من أهمّ المطالب بیّن أنّها لا یتمّ إلاّ بأمور ثلاثة:
أحدها:حیطهم و محافظتهم ولاة أمورهم.
الثانی:قلّة استثقال دولهم.
الثالث:أن یترکوا استبطاء انقطاع مدّة دولهم،و ذلک فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و ما لا یتمّ أهمّ المطالب إلاّ به کان من أهمّ المطالب.
الثامن :أمره أن یفسح لهم:أی یجعل لهم من نفسه طمعا یفتسح به آمالهم فیه لأنّ ذلک ممّا لا یتمّ الأمور الثلاثة المذکورة إلاّ به ولد لک رتّب هذا الأمر علیها بالفاء.
التاسع:أمره أن یواصل من حسن الثناء علیهم و تعدید ما أبلی ذوو البلاء منهم و احتجّ لوجوب ذلک بقوله:فإنّ کثرة الذکر.إلی قوله: «إِنْ شاءَ اللّهُ» .و هو ظاهر و القضیّة فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک کان واجبا.
العاشر :أمره أن یعرف لکلّ امرء ما أبلی و ینسبه إلیه لأنّه یهزّ الشجاع و یشجّع الجبان.
الحادی عشر:نهاه أن یضمّ بلاء امرء إلی غیره.
الثانی عشر:و أن یقصر به دون غایة بلائه فیذکر بعضه أو یحقّره.
الثالث عشر:و أن یدعوه شرف امرء إلی أن یعظم صغیر بلائه،أو ضعة امرء أن یستصغر کثیر بلائه فإنّ کلّ ذلک داعیة الکسل و الفتور عن الجهاد.
الرابع عشر :أمره أن یردّ إلی اللّه و رسوله ما یضلعه من الخطوب و یشتبه علیه من الامور محتجّا بالآیة .ثمّ فسّر الردّ إلی اللّه بالأخذ بمحکم کتابه،و الردّ إلی الرسول بالأخذ بسنّته.و وصف السنة بکونها جامعة لأنّ مدارها علی وجوب الألفة و اجتماع الخلق علی طاعة اللّه و سلوک سلوکه .
و عیّنهم له بأوصاف و أمره فیهم بأوامر:
ص:162
أمّا التعین فأوجب أن یکون أفضل رعیّته فی نفسه،و میّز ذلک الأفضل بصفات:
أحدها:أن یکون ممّن لا یضیق به الامور فیحار فیها حین تورد علیه.
کنایة الثانی: و ممّن لا یمحکه الخصوم:أی یغلبه علی الحقّ باللجاج .و قیل:
ذلک کنایة عن کونه ممّن یرتضیه الخصوم فلا تلاجّه و یقبل بأوّل قوله .
الثالث:أن لا یتمادی فی زلّته إذا زلّ فإنّ الرجوع إلی الحقّ خیر من التمادی فی الضلال.
الرابع:أن لا یحصر من الرجوع إلی الحقّ إذا عرفه کما یفعله قضاة السوء حفظا للجاه و خوفا من شناعة الغلط.
الخامس:أن لا یشرف نفسه علی طمع فإنّ الطمع فی الناس داعیة الحاجة إلیهم و المیل عن الحقّ.
السادس:أن لا یکتفی بأدنی فهم دون أقصاه لأنّ ذلک مظنّة الغلط.
السابع :أن یکون أوقف الناس عند الشبهات لأنّها مظنّة الوقوع فی المئاثم.
الثامن:و آخذهم بالحجج.
التاسع:و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم لما یستلزمه التبرّم من تضییع الحقوق.
العاشر:و کذلک و أصبرهم علی تکشّف الأمور.
الحادی عشر:و أصرمهم عند اتّضاح الحقّ فإنّ فی التأخیر آفات.
الثانی عشر:و ممّن لا یحدث له کثرة المدح کبرا.
الثالث عشر:و ممّن لا یستمیله إلی غیر الحقّ إغراء به ثمّ حکم بقلّة من یجتمع فیه هذه الصفات تنبیها علی أنّ فیها ما هو أولی دون أن یکون شرطا فی القضاء .
و أمّا الأوامر:
فأحدها:أن یختار من کان بالصفات المذکورة.
الثانی:أن یکثر تعاهد قضائه لیقطع طمعه فی الانحراف عن الحقّ لو خطر بباله.
کنایة الثالث: أن یفسح له فی البذل ما یزیل علّته،و هو کنایة عمّا یکفیه و یقلّ معه
ص:163
حاجته إلی الناس فلا یمیل إلیهم ،و-ما-یحتمل أن یکون بدلا من البذل،و أن یکون مفعولا لفعل محذوف دلّ علیه البذل کأنّه قال:فیبذل له ما یزیل علّته،و أن یکون مفعولا لیفسح:أی یوسّع له ما یکفیه من المال،و یحتمل أن یکون فی معنی مصدر یفسح:أی یفسح له فسحا یزیل علّته.
الرابع:أن یعطیه من المنزلة عنده ما لا یطمع فیه معها غیره من خاصّته لیأمن بذلک اغتیال الأعداء.و تقدیر کبری هذا الضمیر:و کلّ ما کان کذلک فواجب بذله للقاضی.
الخامس :أن ینظر فی اختیار من کان بهذه الصفات و فیما أمره به نظرا بالغا لیعمل بأقصاه.و علّل ذلک استعارة بقوله: فإنّ هذا الدین.إلی قوله:الدنیا .و استعار لفظ الأسیر باعتبار تصریفهم له کالأسیر .و الکلام صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فیجب النظر فی اختیار من یعمل بالحقّ و یخرجه من اسر الأشرار.و باللّه التوفیق .
و میّزهم أیضا بأوصاف و أمره فیهم بأوامره مصلحیّة.
أمّا الأوصاف:
فأحدها:أن یکون العامل من أهل التجربة للأعمال و الولایات علی علم بقواعدها.و بدء بذلک لأنّه الأصل الأکبر للعمل.
الثانی:أن یکون من أهل الحیاء فلا ینتهی فی الانفعال إلی حدّ الاستخدام و هو طرف التفریط فیضیّع به الحقوق و المصالح و لا یتجاوزه إلی حدّ القحة فیقع فی طرف الإفراط و ما یلزمه من الجفاوة و نفرة القلوب عنه.
کنایة الثالث: أن یکون من أهل البیوتات الصالحة و القدم السابقة فی الإسلام ،و هی کنایة عن البیوت المتقدّمة فی الدین و الخیر،و لهم فی ذلک أصل معرق .و أشار إلی وجه الحکمة فی تولیة من کان بهذه الصفات الثلاث بقوله:فإنّهم.إلی قوله:نظرا.
و ذلک أنّ الحیاء و صلاح البیوت و التقدّم فی الإسلام یفیدهم کرم الأخلاق و محافظة علی الأعراض من المطاعن و قلّة الإشراف و التطّلع إلی المطامع الدنیّة،و التجربة
ص:164
یفیدهم بلاغة النظر فی عواقب الأمور.و الکلام فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:
و کلّ من کان کذلک فهو أولی أن یقصد بالتولیه و العمل.
و أمّا الأوامر:
فأوّلها:أن ینظر فی امورهم فیستعملهم بعد التجربة و الاختبار و لا یولّیهم محاباة و أثرة کأن یعطونه شیئا علی الولایة فیولّیهم و یستأثر بذلک دون مشاورة فیه فإنّهما:أی المحاباة و الأثرة-کما هو مصرّح به فی بعض النسخ عوض الضمیر-جماع من شعب الجور و الخیانة أمّا الجور فللخروج بهما عن واجب العدل المأمور به شرعا و أمّا الخیانة فلأنّ التحرّی فی اختیارهم من الدین و هو أمانة فی ید الناصب لهم فکان نصبهم من دون ذلک بمجرّد المحاباة و الأثرة خروجا عن الأمانة و نوعا من الخیابة.
و ثانیها:أن یقصد بالعمل من کان بالصفات المذکورة للعلل المذکورة.
الثالث :أن یسبغ علیهم الأرزاق.و بیّن المصلحة فی ذلک من ثلاثة أوجه:
أحدها:أنّ عمومهم بالأرزاق یکون قوّة لهم علی استصلاح أنفسهم الّذی لا بدّ منه.
الثانی:أنّه غنی لهم عن تناول ما تحت أیدیهم من مال المسلمین.
استعارة الثالث:أنّه یکون حجّة له علیهم إن خالفوا أمره أو ثلموا أمانته.و استعار لفظ الثلم للخیانة.و الوجوه الثلاثة صغریات ضمایر تقدیر کبریاتها:و کلّما کان کذلک کان فعله مصلحة واجبة .
الرابع :أن یتفقّد أعمالهم و یبعث العیون و الجواسیس من أهل الصدق و الوفاء علیهم،و أشار إلی وجه المصلحة فی ذلک بقوله:فإنّ تعاهدک.إلی قوله:بالرعیّة.
فإنّ تعهّده لامورهم مع علمهم بذلک منه یبعثهم علی أداء الأمانة فیما ولّوا من الأعمال،و علی الرفق بالرعیّة.و المذکور صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فیجب فعله.
الخامس :أن یتحفّظ من خیانة الأعوان من العمّال.و أرشده استعارة بقوله: فإن أحد منهم بسط.إلی قوله:التهمة .إلی ما ینبغی من تأدیبهم و إقامة سنّة اللّه فیهم.و استعار لفظ التقلید لتعلیق نسبة التهمة إلیه ملاحظة لشبهها بما یقلّد به من الشعار المحسوس
ص:165
و اللفظ فی غایة الفصاحة،و هذه العقوبة مقدّرة بحسب العرف و رأی الإمام أو من ارتضاه .
،و أمره فیهم بأوامر:
أحدها:أن یتفقّد أمر خراجهم و یفعل فیه ما یصلح أهله مما سیشرحه.ثمّ أشار إلی وجه المصلحة فیه بضمیر صغراه:قوله:فإنّ صلاحه.إلی قوله:إلاّ بهم.
و نبّه بقوله:لا صلاح لمن سواهم إلاّ بهم علی حصر صلاح الغیر فیهم تأکیدا،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان لاصلاح للناس إلاّ به فیجب مراعاة اموره و تفقّد أحواله.
ثمّ بیّن الصغری بقوله:لأنّ الناس کلّهم عیال علی الخراج و أهله.و هو ظاهر فی ذلک الوقت.
الثانی :أن یکون نظره فی عمارة الأرض أبلغ من نظره فی طلب الخراج و استجلابه،و نبّه علی وجه الحکمة فیه بقوله:لأنّ ذلک:أی الخراج لا یدرک إلاّ بالعمارة.و هو فی قوّة صغری ضمیر.ثمّ بیّنها بقوله:و من طلب إلی قوله:قلیلا.
و هو إشارة إلی ما یلزم نقیض المدّعی و هی مفاسد ثلاث أحدها:إخراب البلاد لعدم العمارة،و الثانی:إهلاک العباد لتکلیفهم ما لیس فی وسعهم،و الثالث:عدم استقامة أمر الطالب للخراج و الوالی علی أهله.و هو لازم عن الأوّلین.و تقدیر الکبری:و کلّ ما لا یدرک إلاّ بالعمارة وجب أن یکون النظر فیها أبلغ من النظر فیه فینتج أنّ النظر فی العمارة یجب أن یکون أبلغ من النظر فی الخراج.
الثالث :أمره أن یخفّف عنهم من خراجهم ما یرجو أن یصلح به أمرهم علی تقدیر أن یشکوا من حالهم ما عساه یلحقهم من قبل أرضهم من ثقل خراج أو علّة سماویّة أو انقطاع نصیب کان لهم من الماء أو تغیّر أرض و فسادها بسبب غرق أو عطش ،ثمّ نهاه یستثقل بما یخفّف عنهم به المئونة.و أشار إلی وجه الحکمة فیه بقوله:فإنّه ذخر.
إلی قوله:العدل فیهم.و معناه ظاهر.-و معتمدا-نصب علی الحال و العامل خفّفت، و-فضل-نصب بالمفعول عن معتمدا،و قوله:و الثقة.عطف علی المفعول المذکور،و نبّه علی وجه المصلحة فی اعتماد فضل قوّتهم بإراحتهم و الثقة بینهم بما عوّدهم من عدله
ص:166
بقوله :فربّما حدث.إلی قوله:أنفسهم به.و تقدیر الکلام خفّف عنهم معتمدا فضل قوّتهم فإنّ ذلک یستلزم احتمالهم لما عساه یحدث من الأمور فیحتملونه إذا عوّلت علیهم فیه بطیب نفس،و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فواجب أن یخفّف عنهم و یعتمد فضل قوّتهم،و فی قوله:فإنّ العمران محتمل ما حمّلته.بیان الصغری لأنّ التخفیف عنهم یستلزم عمران أرضهم و هو یستلزم احتمالهم لما یرد علیهم من حوادث الامور .ثم نبّه بقوله:و إنّما یؤتی خراب الأرض.إلی قوله:أهلها.علی سبب الخراب.و بقوله:و إنّما یعوز.إلی قوله:العبر.علی ذلک السبب و هو مرکّب من ثلاثة أجراء:أحدها:إشراف نفوس الولاة علی الجمع،و الثانی:سوء ظنّ أحدهم أنّه لا یبقی فی العمل،و الثالث:عدم انتفاعهم بالعبر لقلّة التفاتهم إلیها.و ظاهر أنّ هذه الأمور إذا اجتمعت فی الوالی استلزمت جمعه للمال و استقصائه علی الرعیّة و استلزم ذلک إعوازهم و فقرهم فاستلزم ذلک خراب أرضهم و تعطیل عمارتها .
و أمره فیهم بأوامر:
أحدها:أن یولّی أموره خیرهم،و تفسیر الخیر هنا هو من کان تقیّا قیّما بما یراد منه من مصالح العمل.
الثانی:أن یخصّ رسائله و أسراره و مکائده بأجمعهم لصالح الأخلاق،و قد علمت أصولها غیر مرّة و هی العلم بوجوه الآراء المصلحیّة و التهدّی إلی وضع کلّ شیء موضعه ثمّ العفّة و الشجاعة و العدالة مع ما تحت الأربعة من الفضائل الخلقیّة ثمّ فسّر بعض الفضائل الّتی عساها أن یخفی،و ذکر منها خمسا:
إحداها:عدم البطر،و هی فضیلة تلزم الشکر و هو فضیلة تحت العفّة.و نفّر عن صاحب البطر بقوله:فیجتزئ.إلی قوله:ملأ.و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من یجترء علیک کذلک فغیر صالح لولایة أمرک.
کنایة الثانیة :الفطنة و الذکاء فیما هو بصدده من الأمور المذکورة،و کنّی عن ذلک بقوله: ممّن لا تقصر به الغفلة.إلی قوله:منک .و الذکاء:فضیلة تحت الحکمة.!168 الثالثة:أن لا یکون ممّن یضعّف عقدا یعتقده لک من الامور بل یجعله محکما.
الرابعة:أن لا یعجز عن إطلاق ما اعتقده علیک خصومک من الامور بالحیلة و الخدیعة،و هذان لازمان لأصالة الرأی و هو فضیلة تحت الحکمة.
الخامسة :أن لا یجهل مبلغ قدر نفسه فی الامور فیرفعها إلی فوق محلّها و مرتبتها و هی فضیلة تحت الحکمة الخلقیّة أیضا،و نبّه علی اجتناب الجاهل بذلک بقوله:فإنّ الجاهل.إلی قوله:أجهل،و هی صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فیجب اجتنابه.
الثالث :نهاه أن یکون اختیاره للعمّال تفرّسا منه و سکونا و حسن ظنّ بأحدهم،و أشار إلی وجه المفسدة فی ذلک بقوله:فإنّ الرجال.إلی قوله:شیء.
و المعنی أنّ الرجال قد یتصنّعون بحسن الخدمة و یتعرّضون لأنّ یتفرّس فیهم الولاة فیعرفونهم بذلک مع أنّه لیس وراء ذلک التصنّع من النصیحة و الأمانة شیء و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فینبغی أن لا یعتمد علی اختیاره بحسب الفراسة.
الرابع :لمّا نهی أن یوقع اختیارهم کذلک أمره أن یختبرهم بولایتهم لمن کان قبله من الصالحین إرشادا إلی وجه الاختیار و یعضد إلی من کان بالصفات المذکورة و هو أن یکون أحسن أثرا فی العامّة و أعرفهم بوجه الأمانة فی الدین.و رغّبه فی ذلک بضمیر صغراه قوله:فإنّ ذلک.إلی قوله:أمره.و تقدیر کبراه:
و کلّما کان کذلک وجب فعله.
الخامس :أمره أن یجعل لرأس کلّ أمر من اموره رأسا من الکتّاب الموصوفین بکونهم مناسبا له بحیث لا یکبر علیه کبیرة فیقهره و لا یکثر علیه کثیرة فیتشتّت عن ضبطه و یقصر دونه.
السادس:نهاه أن یتغافل عمّا یکون فی کتابه من عیب و نبّهه علی ذلک بقوله:
و مهما.إلی قوله:ألزمته.و هو صغری ضمیر تقدیره:فإنّ کلّ ما یتغافل عنه من
ص:167
ص:168
ذلک تلزم به،و تقدیر کبراه:و کلّ ما تلزم به فلا یجوز أن یتغافل عنه.
و أمره فیهم بأوامر:
أوّلها:أن یستوصی بهم خیرا.
الثانی:أن یوصی بهم کذلک بأصنافهم المقیم منهم و المضطرب فی تجارته بماله و المترفّق ببدنه و هم أهل الصنائع ،و أشار إلی وجه الحکمة فی الوصیّة بهم و العنایة بحالهم من وجهین:
أحدهما:منفعتهم،و ذلک قوله:فإنّهم.إلی قوله:علیها.و الضمیر فی قوله:
مواضعها و علیها.یعود إلی المنافع و حیث:أی و من حیث کان لا یجتمع الناس لمواضع تلک المنافع منه و لا یجترءون علیها فیه و ذلک الحیث کالبحار و الجبال و نحوها.
الثانی:أنّه لا مضرّة فیهم و ذلک قوله:فإنّهم.إلی قوله:غائلته.و تقدیر کبری الضمیرین:و کلّ من کان کذلک فیجب الاستیصاء به و الوصیّة بالخیر فی حقّه.
الثالث :أن یتفقّد امورهم بحضرته و فی حواشی بلاده ما عساه یعرض لهم من المظالم و الموانع لیزیلها عنهم.
الرابع:أن یعلم ما فیهم من المعائب المعدودة و هی الضیق الفاحش،و الشحّ.
و الضیق هنا البخل،ثمّ الاحتکار للمنافع الّتی یعمّ نفعها و هی الحنطة و الشعیر و التمر و الزبیب و السمن و الملح،ثمّ التحکّم فی البیاعات و هو عبارة عن البیع علی حکمه بالهوی المطلق من غیر تقیّد بشریعة أو عرف فإنّ ذلک عدول عن العدل إلی رذیلة الجور.ثمّ نبّه علی وجه المفسدة اللازمة لتلک المعایب بقوله:و ذلک.إلی قوله:
الولاة:أمّا أنّه مضرّة فظاهر،و أمّا أنّه عیب علی الولاة فلأنّ قانون العدل بأیدیهم فإذا أهملوا بترک ردّ هؤلاء عن طرق الجور توجّهت اللائمة نحوهم و العیب علیهم و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فیجب إنکاره و دفعه.
الخامس :لمّا بین له وجه المفسدة فی تلک المعایب أمره بمنع الاحتکار و احتجّ بمنع الرسول صلّی اللّه علیه و آله.
السادس:أمره بکون البیع سهلا سمحا و أن یکون بموازین عدل و أسعار
ص:169
لا تجحف بالبایع فیذهب أصل مبیعه،و لا بالمشتری فیذهب رأس ماله.
السابع :أمره بایقاع النکال علی من احتکر بعد نهیه عن ذلک،و أن یعاقبه من غیر إسراف .
و میّزهم بأوصاف و أمر فیهم بأوامر و نواهی:
أمّا تمیّزهم فالعاجزون عن الحیلة و الاکتساب و المساکین و المحتاجون و أهل البؤسی و الزمنی،و هؤلاء کلّهم و إن دخل بعضهم فی بعض إلاّ أنّه عدّدهم بحسب تعدّد صفاتهم لمزید العنایة بهم کیلا یتغافل عن أحدهم و تثاقل فیه.و أمّا الأوامر:
فأحدها:أنّه حذّر من اللّه فیهم،و أشار إلی وجه الحکمة فی ذلک التحذیر بقوله:
فإنّ فیهم قانعا و معترّا،و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فیجب أن یحذّر اللّه فیه و یحفظ له ما استحفظ من حقّه فیه.
الثانی:أن یجعل لهم قسما من بیت ماله و من صوافی الإسلام فی کلّ بلد.و أضاف بیت المال إلیه و أراد الّذی یلیه.و نبّهه علی ذلک بقوله:فإنّ للأقصی.
إلی قوله:حقّه.و تقدیر کبری هذا الضمیر:و کلّ من کان کذلک وجب أن یحسن الرعایة فی حقّه بأدائه إلیه.
الثالث:نهاه أن یشغله عنهم بطر.و نفّر عن الاشتغال عنهم بقوله:فإنّک لا تعذر.إلی قوله:المهمّ.و أراد بالتافه القلیل من امورهم و أحوالهم و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من لا یعذر بذلک فلا یجوز له الشغل عنه.
الرابع:نهاه أن یشخص همّه عنهم:أی یرفعه حتّی لا یتناولهم.
الخامس:نهاه أن یصعّر خدّه لهم،و هو کنایة عن التکبّر علیهم.
السادس :أمره أن یتفقّد امور من لا یمکنه الوصول إلیه منهم لعجزه و حقارته فی عیون الأعوان و الجند،و أن یفرّغ لهؤلاء ثقة له من أهل الخشیة و التواضع و ینصبه لهم لیرفع إلیه أمورهم.
السابع أن یعمل فیهم بالأعذار إلی اللّه سبحانه یوم یلقاه:أی یعمل فی حقّهم ما أمره اللّه به بحیث یعذر إلیه:أی یکون ذا عذر عنده إذا سأله عن فعله بهم،و
ص:170
نبّه علی وجه الحکمة فی مزید العنایة بهم بقوله:فإنّ هؤلاء.إلی قوله:غیرهم.
الثامن:أکّد الأمر بالإعذار إلی اللّه فی تأدیة حقّ کلّ واحد من المذکوین إلیه.
التاسع :أمره أن یتعهّد الأیتام و ذوی الرقّة فی السنّ:أی الّذین بلغوا فی الشیخوخة إلی أن رقّ جلدهم و ضعف حالهم عن النهوض فلا حیلة لهم،و ممّن لا ینصب نفسه للمسألة حیاء مع حاجته و فقره.ثمّ أشار إلی ثقل التکلیف بمجموع الأوامر السابقة بقوله:و ذلک علی الولاة ثقیل،و بقوله:و الحقّ کلّه ثقیل توطینا لنفسه علی ذلک.ثمّ رغّب فیه بقوله:و قد یخفّف اللّه.إلی قوله:لهم.فنسب تخفیفه إلی اللّه لیرغب إلیه،فیه و شجّعه علی فعله و استسهاله بذکر صفات الصالحین و هم الّذین طلبوا العافیة من بلاء اللّه فی الآخرة فاستسهلوا ما صعب من التکالیف الدنیویّة بالقیاس إلیه و وثقوا بصدق موعود اللّه لهم فی دار القرار.و باللّه التوفیق.
و بعضها خاصّة
یتعلّق بعمّاله و بخاصّته و ببطانته و بنفسه و أحوال عبادته إلی غیر ذلک، و هو قوله:
وَ اجْعَلْ لِذَوِی الْحَاجَاتِ مِنْکَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِیهِ شَخْصَکَ- وَ تَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً- فَتَتَوَاضَعُ فِیهِ لِلَّهِ الَّذِی خَلَقَکَ- وَ تُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَکَ وَ أَعْوَانَکَ مِنْ أَحْرَاسِکَ وَ شُرَطِکَ- حَتَّی یُکَلِّمَکَ مُتَکَلِّمُهُمْ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ- فَإِنِّی سَمِعْتُ ؟رَسُولَ اللَّهِ ص؟ یَقُولُ فِی غَیْرِ مَوْطِنٍ- لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ یُؤْخَذُ لِلضَّعِیفِ فِیهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِیِّ- غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ- ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَ الْعِیَّ- وَ نَحِّ عَنْهُمُ الضِّیقَ وَ الْأَنَفَ- یَبْسُطِ اللَّهُ عَلَیْکَ بِذَلِکَ أَکْنَافَ
ص:171
رَحْمَتِهِ- وَ یُوجِبْ لَکَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ- وَ أَعْطِ مَا أَعْطَیْتَ هَنِیئاً وَ امْنَعْ فِی إِجْمَالٍ وَ إِعْذَارٍ- ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِکَ لاَ بُدَّ لَکَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا- مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِکَ بِمَا یَعْیَا عَنْهُ کُتَّابُکَ- وَ مِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ یَوْمَ وُرُودِهَا عَلَیْکَ- بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِکَ- وَ أَمْضِ لِکُلِّ یَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِکُلِّ یَوْمٍ مَا فِیهِ:وَ اجْعَلْ لِنَفْسِکَ فِیمَا بَیْنَکَ وَ بَیْنَ اللَّهِ- أَفْضَلَ تِلْکَ الْمَوَاقِیتِ وَ أَجْزَلَ تِلْکَ الْأَقْسَامِ- وَ إِنْ کَانَتْ کُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِیهَا النِّیَّةُ- وَ سَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِیَّةُ- وَ لْیَکُنْ فِی خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِینَکَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ- الَّتِی هِیَ لَهُ خَاصَّةً- فَأَعْطِ اللَّهَ مِنْ بَدَنِکَ فِی لَیْلِکَ وَ نَهَارِکَ- وَ وَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَی اللَّهِ- مِنْ ذَلِکَ کَامِلاً غَیْرَ مَثْلُومٍ وَ لاَ مَنْقُوصٍ- بَالِغاً مِنْ بَدَنِکَ مَا بَلَغَ- وَ إِذَا قُمْتَ فِی صَلاَتِکَ لِلنَّاسِ- فَلاَ تَکُونَنَّ مُنَفِّراً وَ لاَ مُضَیِّعاً- فَإِنَّ فِی النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَ لَهُ الْحَاجَةُ- وَ قَدْ سَأَلْتُ؟رَسُولَ اللَّهِ ص؟ حِینَ وَجَّهَنِی إِلَی ؟الْیَمَنِ؟- کَیْفَ أُصَلِّی بِهِمْ- فَقَالَ صَلِّ بِهِمْ کَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ- وَ کُنْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَحِیماً وَ أَمَّا بَعْدَ فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَکَ عَنْ رَعِیَّتِکَ- فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِیَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّیقِ- وَ قِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ- وَ الاِحْتِجَابُ مِنْهُمْ یَقْطَعُ عَنْهُمْ
ص:172
عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ- فَیَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْکَبِیرُ وَ یَعْظُمُ الصَّغِیرُ- وَ یَقْبُحُ الْحَسَنُ وَ یَحْسُنُ الْقَبِیحُ- وَ یُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ- وَ إِنَّمَا الْوَالِی بَشَرٌ- لاَ یَعْرِفُ مَا تَوَارَی عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ- وَ لَیْسَتْ عَلَی الْحَقِّ سِمَاتٌ- تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْکَذِبِ- وَ إِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَیْنِ- إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُکَ بِالْبَذْلِ فِی الْحَقِّ- فَفِیمَ احْتِجَابُکَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِیهِ- أَوْ فِعْلٍ کَرِیمٍ تُسْدِیهِ أَوْ مُبْتَلًی بِالْمَنْعِ- فَمَا أَسْرَعَ کَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِکَ- إِذَا أَیِسُوا مِنْ بَذْلِکَ- مَعَ أَنَّ أَکْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَیْکَ- مِمَّا لاَ مَئُونَةَ فِیهِ عَلَیْکَ- مِنْ شَکَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِی مُعَامَلَةٍ ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِی خَاصَّةً وَ بِطَانَةً- فِیهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَ تَطَاوُلٌ وَ قِلَّةُ إِنْصَافٍ فِی مُعَامَلَةٍ- فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِکَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْکَ الْأَحْوَالِ- وَ لاَ تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِیَتِکَ وَ حَامَّتِکَ قَطِیعَةً- وَ لاَ یَطْمَعَنَّ مِنْکَ فِی اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ- تَضُرُّ بِمَنْ یَلِیهَا مِنَ النَّاسِ- فِی شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَکٍ- یَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَی غَیْرِهِمْ- فَیَکُونَ مَهْنَأُ ذَلِکَ لَهُمْ دُونَکَ- وَ عَیْبُهُ عَلَیْکَ فِی الدُّنْیَا وَ الْآخِرَةِ- وَ أَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِیبِ وَ الْبَعِیدِ- وَ کُنْ فِی ذَلِکَ صَابِراً مُحْتَسِباً- وَاقِعاً ذَلِکَ مِنْ قَرَابَتِکَ وَ خَاصَّتِکَ حَیْثُ وَقَعَ- وَ ابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا یَثْقُلُ عَلَیْکَ
ص:173
مِنْهُ- فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِکَ مَحْمُودَةٌ- وَ إِنْ ظَنَّتِ الرَّعِیَّةُ بِکَ حَیْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِکَ- وَ اعْدِلْ عَنْکَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِکَ- فَإِنَّ فِی ذَلِکَ رِیَاضَةً مِنْکَ لِنَفْسِکَ وَ رِفْقاً بِرَعِیَّتِکَ وَ إِعْذَاراً- تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَکَ مِنْ تَقْوِیمِهِمْ عَلَی الْحَقِّ:
وَ لاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاکَ إِلَیْهِ عَدُوُّکَ و لِلَّهِ فِیهِ رِضًا- فَإِنَّ فِی الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِکَ- وَ رَاحَةً مِنْ هُمُومِکَ وَ أَمْناً لِبِلاَدِکَ- وَ لَکِنِ الْحَذَرَ کُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّکَ بَعْدَ صُلْحِهِ- فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِیَتَغَفَّلَ- فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَ اتَّهِمْ فِی ذَلِکَ حُسْنَ الظَّنِّ- وَ إِنْ عَقَدْتَ بَیْنَکَ وَ بَیْنَ عَدُوِّکَ عُقْدَةً- أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْکَ ذِمَّةً- فَحُطْ عَهْدَکَ بِالْوَفَاءِ وَ ارْعَ ذِمَّتَکَ بِالْأَمَانَةِ- وَ اجْعَلْ نَفْسَکَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَیْتَ- فَإِنَّهُ لَیْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شَیْءٌ- النَّاسُ أَشَدُّ عَلَیْهِ اجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ- وَ تَشَتُّتِ آرَائِهِمْ- مِنْ تَعْظِیمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ- وَ قَدْ لَزِمَ ذَلِکَ الْمُشْرِکُونَ فِیمَا بَیْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِینَ- لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ- فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِکَ وَ لاَ تَخِیسَنَّ بِعَهْدِکَ- وَ لاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّکَ- فَإِنَّهُ لاَ یَجْتَرِئُ عَلَی اللَّهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِیٌّ- وَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَ ذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَیْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ وَ حَرِیماً یَسْکُنُونَ إِلَی مَنَعَتِهِ وَ یَسْتَفِیضُونَ إِلَی جِوَارِهِ- فَلاَ إِدْغَالَ
ص:174
وَ لاَ مُدَالَسَةَ وَ لاَ خِدَاعَ فِیهِ- وَ لاَ تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِیهِ الْعِلَلَ- وَ لاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَی لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْکِیدِ وَ التَّوْثِقَةِ- وَ لاَ یَدْعُوَنَّکَ ضِیقُ أَمْرٍ- لَزِمَکَ فِیهِ عَهْدُ اللَّهِ إِلَی طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَیْرِ الْحَقِّ- فَإِنَّ صَبْرَکَ عَلَی ضِیقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَ فَضْلَ عَاقِبَتِهِ- خَیْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ- وَ أَنْ تُحِیطَ بِکَ مِنَ اللَّهِ فِیهِ طِلْبَةٌ- لاَ تَسْتَقِیلُ فِیهَا دُنْیَاکَ وَ لاَ آخِرَتَکَ:
إِیَّاکَ وَ الدِّمَاءَ وَ سَفْکَهَا بِغَیْرِ حِلِّهَا- فَإِنَّهُ لَیْسَ شَیْءٌ أَدْعَی لِنِقْمَةٍ وَ لاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ- وَ لاَ أَحْرَی بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَ انْقِطَاعِ مُدَّةٍ- مِنْ سَفْکِ الدِّمَاءِ بِغَیْرِ حَقِّهَا- وَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُکْمِ بَیْنَ الْعِبَادِ- فِیمَا تَسَافَکُوا مِنَ الدِّمَاءِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ- فَلاَ تُقَوِّیَنَّ سُلْطَانَکَ بِسَفْکِ دَمٍ حَرَامٍ- فَإِنَّ ذَلِکَ مِمَّا یُضْعِفُهُ وَ یُوهِنُهُ بَلْ یُزِیلُهُ وَ یَنْقُلُهُ- وَ لاَ عُذْرَ لَکَ عِنْدَ اللَّهِ وَ لاَ عِنْدِی فِی قَتْلِ الْعَمْدِ- لِأَنَّ فِیهِ قَوَدَ الْبَدَنِ- وَ إِنِ ابْتُلِیتَ بِخَطَإٍ- وَ أَفْرَطَ عَلَیْکَ سَوْطُکَ أَوْ سَیْفُکَ أَوْ یَدُکَ بِالْعُقُوبَةِ- فَإِنَّ فِی الْوَکْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً- فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِکَ نَخْوَةُ سُلْطَانِکَ- عَنْ أَنْ تُؤَدِّیَ إِلَی أَوْلِیَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ:
وَ إِیَّاکَ وَ الْإِعْجَابَ بِنَفْسِکَ- وَ الثِّقَةَ بِمَا یُعْجِبُکَ مِنْهَا وَ حُبَّ الْإِطْرَاءِ- فَإِنَّ ذَلِکَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّیْطَانِ فِی نَفْسِهِ- لِیَمْحَقَ مَا یَکُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِینَ-
ص:175
وَ إِیَّاکَ وَ الْمَنَّ عَلَی رَعِیَّتِکَ بِإِحْسَانِکَ- أَوِ التَّزَیُّدَ فِیمَا کَانَ مِنْ فِعْلِکَ- أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَکَ بِخُلْفِکَ- فَإِنَّ الْمَنَّ یُبْطِلُ الْإِحْسَانَ وَ التَّزَیُّدَ یَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ- وَ الْخُلْفَ یُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ وَ النَّاسِ- قَالَ اللَّهُ تَعَالَی- «کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» وَ إِیَّاکَ وَ الْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا- أَوِ التَّسَقُّطَ فِیهَا عِنْدَ إِمْکَانِهَا- أَوِ اللَّجَاجَةَ فِیهَا إِذَا تَنَکَّرَتْ- أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ- فَضَعْ کُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وَ أَوْقِعْ کُلَّ أَمْرٍ مَوْقِعَهُ- وَ إِیَّاکَ وَ الاِسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِیهِ أُسْوَةٌ- وَ التَّغَابِیَ عَمَّا تُعْنَی بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُیُونِ- فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْکَ لِغَیْرِکَ- وَ عَمَّا قَلِیلٍ تَنْکَشِفُ عَنْکَ أَغْطِیَةُ الْأُمُورِ- وَ یُنْتَصَفُ مِنْکَ لِلْمَظْلُومِ- امْلِکْ حَمِیَّةَ أَنْفِکَ وَ سَوْرَةَ حَدِّکَ- وَ سَطْوَةَ یَدِکَ وَ غَرْبَ لِسَانِکَ- وَ احْتَرِسْ مِنْ کُلِّ ذَلِکَ بِکَفِّ الْبَادِرَةِ وَ تَأْخِیرِ السَّطْوَةِ- حَتَّی یَسْکُنَ غَضَبُکَ فَتَمْلِکَ الاِخْتِیَارَ- وَ لَنْ تَحْکُمَ ذَلِکَ مِنْ نَفْسِکَ- حَتَّی تُکْثِرَ هُمُومَکَ بِذِکْرِ الْمَعَادِ إِلَی رَبِّکَ- وَ الْوَاجِبُ عَلَیْکَ أَنْ تَتَذَکَّرَ مَا مَضَی لِمَنْ تَقَدَّمَکَ- مِنْ حُکُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ- أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِیِّنَا ص أَوْ فَرِیضَةٍ فِی کِتَابِ اللَّهِ
ص:176
فَتَقْتَدِیَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِیهَا- وَ تَجْتَهِدَ لِنَفْسِکَ فِی اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَیْکَ فِی عَهْدِی هَذَا- وَ اسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِی عَلَیْکَ- لِکَیْلاَ تَکُونَ لَکَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِکَ إِلَی هَوَاهَا
أقول: الشرط : قوم یعلمون أنفسهم بعلامات الخدمة یعرفون بها .و الخرق:
ضدّ الرفق و الأنف : الأنفة و هی خصلة تلازم الکبر .و الأکناف : الجوانب .و الإسداء : الإعطاء .و الحامّة : القرابة .و العقدة : الضیعة،و العقدة أیضا:المکان کثیر الشجر و النخل،و اعتقد الضیعة:اقتناها .و المغبّة : العاقبة .و أصحر : أی أظهر .و الدعة:
الراحة .و استوبلوا الأمر : استثقلوه ،و الوبال : الوخم،یقال:استوبلت البلد:استوخمت فلم یوافق ساکنها و خاس بالعهد : نقضه .و الختل : الخداع .و أفضاه : بسطه .و استفاض الماء : سال .و الإدغال : الإفساد.و الدغل:الفساد .و المدالسة : مفاعلة من التدلیس فی البیع و غیره کالمخادعة .و لحن القول : کالتوریة و التعریض من الأمر .و الوکزة:
الضربة و الدفعة،و قیل:هی بجمع الید علی الذقن و الفرصة : النوبة،و الممکن من الأمر .و سورة الرجل : سطوته و حدّة بأسه .و غرب اللسان : حدّته .و البادرة:
سرعة السطوة و العقوبة .
یفرّغ لهم فیه بدنه عن کلّ شاغل و یجلس لهم مجلسا عامّا فی الأسبوع أو دونه أو فوقه حسب ما یمکن.
و رغّبه فی التواضع بنسبته إلی اللّه باعتبار أنّه خالقه الّذی من شأنه أن یکون له التواضع.
و أبان وجه المصلحة فی ذلک بقوله:حتّی یکلّمک متکلّمهم غیر متتعتع ،و أشار إلی علّة وجوبه بقوله:فإنّی سمعت.إلی قوله:
القویّ.و وجه الدلیل من هذا الخبر أنّه لمّا دلّ بالمطابقة علی و عید الامّة الّتی
ص:177
لا ینتصف فیها من قویّ بعدم طهارتها المستلزم لعذابها الاخروی دلّ بالالتزام علی وجوب أن یکون فیها ذلک .ثمّ لمّا کانت الامور المأمور بها ممّا لا یتمّ ذلک الواجب إلاّ بها کانت بأسرها واجبة.
و إن عمّت مصلحتها.و أمور مبتدأ حذف خبره:
أی و هناک امور.و نحوه.منها إجابة عمّاله بما یری المصلحة فی الجواب به فقد یعجز الکتّاب عن کثیر من ذلک.و منها إصدار حوائج الناس الّتی یضیق منها صدور أعوانه عند ورورها علیه،و لا ینبغی له أن یکلها إلیهم فإنّ غایة قضائهم لها إذا قضیت أن یکون علی غیر الوجه المرضیّ .
و نبّه علی ذلک بقوله:فإنّ لکلّ یوم ما فیه.و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و إذا کان لکلّ یوم ما فیه وجب أن یقضی فیه ماله.
:أی الأوقات المفروضة للأفعال،و أجزل أقسام الأفعال الموقّتة.فأفضلها أبعدها عن الشواغل الدنیویّة و أقربها إلی الخلوة باللّه سبحانه،و نبّه بقوله:و إن کانت.إلی قوله:الرعیّة علی أن أصلح الأعمال أخلصها للّه .
بمزید عنایة منه و رعایة.
أی طاعة و عبادة فحذف المفعول الثانی للعلم به.و القرینة کون اللیل و النهار محلّین للأفعال و القرینة ذکر البدن.
:و کاملا،و غیر مثلوم،و بالغا أحوال.و ما نصب علی المصدریّة بقوله:بالغا من بدنک ما بلغ من القوّة علی الطاعة .
متوسّطا فی صلاته
بین المطوّل المنفّر للناس بتطویله و بین المقصّر المضیّع لأرکان الصلاة و فضیلتها،و احتجّ لنفی التثقیل و التطویل بالمعقول و المنقول:أمّا المعقول
ص:178
فضمیر صغراه: تشبیه قوله: فإنّ فی الناس.إلی قوله:الحاجة .و تقدیر کبراه:و کلّ من کان فیه من ذکر فیجب أن یرفق به و یخفّف عنه ،و أمّا المنقول فما رواه عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله من الخبر،و وجه التشبیه بصلاة الأضعف تخفیف الصلاة بعد حفظ أرکانها و واجباتها .
النهی عن طول الاحتجاب عن الرعیّة.و رغّب فی الانتهاء عنه من وجوه:
أحدها:أنّه نوع من أنواع الضیق علی الرعیّة.إذ کانت مشاهدتهم للوالی تفرّج عنهم ما یکرثهم من الأمور المهمّة لهم.
مجاز اطلاقا لاسم اللازم علی ملزومه الثانی:أنّه قلّة علم بالأمور :أی یلزمه ذلک فأطلق اسم اللازم علی ملزومه و أکّد ذلک بقوله:و الاحتجاب عنهم یقطع منهم:أی من الولاة علم ما احتجبوا دونه من امور الرعیّة.ثمّ أشار إلی ما یلزم عدم علمهم من المفاسد و هو أن یصغر کبیر الامور عندهم کأن یظلم بعض حاشیة الأمیر فتصغّر الأعوان جریمته عنده فیصغر و کذلک یعظم صغیرها لو وقع من ضعیف صغیر ذنب فی حقّ کبیره.و کذلک یقبح عندهم الحسن و یحسن القبیح،و یشاب الحقّ بالباطل و یلبس به،و ذلک قوله:
فیصغر.إلی قوله :بالباطل.ثمّ نبّه علی وجه لزوم قطع العلم بالأمور لطول الاحتجاب بقوله:و إنّما الوالی بشر.إلی قوله:الصدق و الکذب.و التقدیر أنّه بشر و البشر من خاصّته أنّه لا یعرف ذلک إلاّ بعلامة و لیس علی الحقّ علامات یعرف بها ضروب صدق القول من کذبه.
الثالث:أنّه رغّب فی الانتهاء عنه بضمیر صغراه شرطیّة منفصلة و هی قوله :
و إنّما أنت.إلی قوله:بذلک.و تلخیصه أنّک إمّا أن تکون مطبوعا علی السخاء بالبذل فی الحقّ أو مبتلی بالمنع منه.و تقدیر الکبری.و کلّ من کان کذلک فلا یجوز له الاحتجاب.بیان الکبری:أمّا إن کان سخیّا ببذل الحقّ فإنّه عند الطلب منه إمّا أن یعطی حقّا یجب علیه،أو یفعل فعل الکرماء و ذلک لا یجوز الاحتجاب منه،و أمّا إن کان مبتلی بالمنع فإذن یسرعون الکفّ عن مسئلته إذا أیسوا من بذله و حینئذ لا معنی
ص:179
للاحتجاب عنهم .
الرابع:قوله:مع أن أکثر.إلی قوله:معامله.و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان أکثر حاجات الناس إلیه ما لا مئونة علیه فیه من الامور المذکورة فلا معنی لاحتجابه عنهم .
فقوله:بقطع أسباب إلی قوله:مئونته.إرشاد إلی سبب قطعها،و أشار إلی وجه ذلک بذکر ما فیهم من الاستئثار علی الرعیّة بالمنافع و التطاول علیهم بالأذی و قلّة الإنصاف و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فیجب قطع مئونته عنهم.
و الأحوال الّتی أمر بقطع أسبابها هی وجوه المئونة المذکورة من الاستئثار و التطاول و قلّة الإنصاف.
و قوله:و لا تقطعنّ.إلی قوله:مشترک.
تفصیل لوجوه قطع الأسباب المذکورة فإنّ إقطاع أحدهم قطیعة و طمعه فی اقتناء ضیعة تضرّ بمن یلیها من الناس فی ماء أو عمل مشترک یحمل مئونته علی الناس کعمارة و نحوها هی أسباب الأحوال المذکورة من وجوه المئونة و قطع تلک الأحوال بقطع أسبابها.ثمّ نفّره عن أسباب المئونة علی الناس بما یلزم تلک الأسباب من المفسدة فی حقّه و هی کون مهنأ ذلک لهم دونه و عیبه علیه فی الدنیا و الآخرة،و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ ما کان مهنأه للغیر و عیبه علیک فلا یجوز فعله .
،و یکون فی ذلک الإلزام صابرا لما عساه یلحق أقاربه من مرّ الحقّ،محتسبا له:أی مدخله فی حساب ما یتقرّب به إلی اللّه تعالی و یعدّه خالصا لوجهه،واقعا ذلک الإلزام من قرابته و خواصّه حیث اتّفق وقوعه بمقتضی الشریعة،و الواو فی قوله:و لکنّ.للحال،و واقعا أیضا حال و العامل قوله:و ألزم.
ص:180
کأنّه یستفیض بفعله ما یلزمه فی العاقبة من العافیة من عیب الدنیا و عذاب الآخرة، و رغّب فی ذلک بقوله:فإنّ مغبّة ذلک محمودة و هی تلک العافیة و ما یلزمها من السعادة الباقیة،و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ ما کانت مغبّته محمودة وجبت الرغبة فی فعله .
فیما ظنّوا فیه الحیف
و یعدل عنه ظنونهم بإظهاره،و رغّب فی ذلک بضمیر صغراه قوله:فإنّ.إلی قوله:الحقّ:أی فإنّ فی إظهار عذرک لهم أن تصیر ذا عذر تبلغ به حاجتک من تقویمهم علی الحقّ من معرفتهم أنّ فعلک حقّ لا حیف فیه،و تقدیر کبراه:و کلّ ما کان کذلک فینبغی فعله .
.
و نبّه علی وجوه المصلحة فیه بضمیر صغراه.قوله:فإنّ فی الصلح.إلی قوله:
لبلادک.و هی ثلاث مصالح ظاهرة اللزوم لصلح العدوّ،و تقدیر کبراه:و کلّما کان فیه هذه المصالح فواجب قبوله .
،و أمره أن یأخذ بالحزم و یتّهم فی الصلح حسن ظنّه الّذی عساه ینشأ عن صلحه.و نبّه علی وجوب ذلک الحذر بضمیر صغراه:قوله:فإنّ العدوّ ربّما قارب لیتغفّل:أی قارب عدوّه بصلحه لیطلب غفلته فیظفر به،و له علیه السّلام فی ذلک شواهد التجربة.و حذف المفعولین للعلم بهما.و تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فواجب أن یحذر منه .
استعارة أمره علی تقدیر أن یعقد بینه و بین عدوّه عهدا أن یحوطه بالوفاء و یرعی ذمّته بالأمانة و یجعل نفسه جنّة دون ما أعطی:أی یحفظ ذلک بنفسه و لو أدّی إلی ضررها،و استعار لفظ اللبس لإدخاله فی أمان الذمّة ملاحظة لشبهها بالقمیص و نحوه.و کذلک لفظا الجنّة لنفسه ملاحظة لشبهها فی الحفظ بالترس و نحوه .
و رغّب فی ذلک بوجهین اشتمل علیهما قوله: فإنّه .إلی قوله: العذر :أحدهما:
أنّ الناس أشدّ اجتماعا علی ذلک من غیره من فرائض اللّه الواجبة علیهم مع تفرّق
ص:181
أهوائهم و تشتّت آرائهم.الثانی:أنّ المشرکین لزموا ذلک فیما بینهم و استثقلوا الغدر لما فیه من سوء العاقبة.و المذکوران صغریا ضمیر تقدیر الکبری فیهما:و کلّما کان کذلک فیجب لزومه و المحافظة علیه .ثمّ أکّد ذلک بالنهی عن الغدر فی العهد و نقض الذمّة و خداع العدوّ بمعاهدته ثمّ الغدر به،و نفّر عن ذلک بوجهین:أحدهما:
قوله:فإنّه.إلی قوله:الأشقی.و هو صغری ضمیر تلخیصها:فإنّ المجتری علی اللّه شقیّ،و تقدیر کبراه:و ناقض العهد و المدغل فیه مجتر علی اللّه،ینتج من الرابع فالشقیّ هو ناقض العهد و المدغل فیه.و یجوز أن یکون تقدیر الصغری:فإنّ ذلک جرأة علی اللّه یستلزم الشقاوة،و تقدیر الکبری:و کلّما کان کذلک وجب اجتنابه لینتج من الأوّل المطلوب . استعارة مرشحة الثانی:قوله: و قد جعل.إلی قوله:جواره .و أمنا:أی مأمنا و استعار لفظ الحریم للعهد،و رشّح بذکر السکون إلی منعته و الاستفاضة إلی جواره، و نبّه بذلک علی وجه الاستعارة و هو الاطمینان إلیه و الأمن من الفتنة بسببه فأشبه الحریم المانع،و الکلام صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فلا یجوز نقضه و الإدغال فیه .
:أی الأحداث المفسدة له و هو کنایة عن أمره بإحکام ما یعقد من الامور.
بعد أن یؤکّدها و یتوثّق من غیره فیها أو یتوثّق غیره منه فیها و مثال لحن القول ما ادّعاه طلحة و الزبیر من الولیجة و التوریة فی بیعتهما له علیه السّلام:أی لا تعتمد علی ذلک من نفسک و لا تلتفت إلیه من غیر لو ادّعاه .
إبطاله بغیر حقّ،
و رغّب فی الصبر علیه کنایة بقوله: فإنّ صبرک.إلی قوله:آخرتک .
و هو صغری ضمیر،و أراد بتبعته ما یتبعه من العقوبة،و بالطلبة ما یطالب به یوم القیامة من لزوم العهد،و إحاطتها به کنایة عن لزومها له،و بوصف الطلبة بقوله:
لا تستقبل فیها دنیاک و لا آخرتک.أراد أنّه لا یکون لک معها دنیا تستقبلها و تنتظر
ص:182
خیرها لعدم الدنیا هناک و لا آخرة تستقبلها إذ لا یستقبل فی الآخرة إلاّ الأمور الخیریّة.و من أحاطت به طلبته من اللّه فلا خیر له فی الآخرة یستقبله .و روی تستقبل بالیای:أی لا یکون لک من تلک الطلبة و التبعة إقالة فی الدنیا و لا فی الآخرة .
کنایة حذّرة من الدخول فی الدماء و سفکها بغیر حقّ و هو کنایة عن القتل ،و نفّر عنه بوجهین:
أحدهما:قوله: فإنّه .إلی قوله: حقّها ،و هو صغری ضمیر تقدیرها:فإنّ سفک الدماء بغیر حقّ أدنی الأشیاء لحلول نقمة اللّه،و أعظمها فی لحوق التبعة منه،و أولاها بزوال النعمة و انقطاع مدّة الدولة و العمر.و ظاهر أنّها أقوی المعدّات للأمور الثلاثة لما یستلزمه من تطابق همم الخلق و دواعیهم علی زوال القاتل و استنزال غضب اللّه علیه لکون القتل أعظم المصائب المنفور عنها و تقدیر الکبری:و کلّما کان کذلک فیجب أن یحذر فعله.
الثانی:قوله: و اللّه سبحانه :إلی قوله: القیامة .و نبّه بابتدائه تعالی بالحکم بین العباد فی القتل علی أنّه أعظم عنده تعالی من سائر الکبائر،و هی صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ ما ابتدء اللّه بالحکم فیه فیجب التحرّی فیه و اجتناب ما یکره منه .
و نفّر عنه بقوله:فإنّ ذلک.إلی قوله:و ینقله.و هی صغری ضمیر بیانها ما سبق فإنّ سفک الدم الحرام لمّا استلزم الأمور الثلاثة المذکورة کان ذلک مضعفا للسلطان و مزیلا له،و تقدیر الکبری:و کلّما کان کذلک وجب اجتنابه.
و نفّر عنه بأمرین:أحدهما:
أنّه لا عذر فیه عند اللّه و لا عنده.الثانی:أنّ فیه قود البدن.و هما صغریا ضمیر تقدیر الکبری فیهما:و کلّ ما کان کذلک وجب اجتنابه .
أو إفراط سوطه أو یده علیه فی عقوبة
فیأخذه عزّة الملک و الکبر علی أولیاء المقتول فلا یؤدّی إلیهم حقّهم،و نبّه بقوله:فإنّ.إلی قوله:مقتلة.علی أنّ الضرب
ص:183
بالید المسمّی وکزا قد یکون فیه القتل و هو مظنّة له .
الإطراء.
و الأخیران سببان لدوام الإعجاب و مادّة له،و نفّر عن الثلاثة بقوله:
فإنّ ذلک .إلی قوله: المحسنین .و فی نفسه متعلّق بأوثق.
و قوله: لیمحق ما یکون من إحسان المحسنین .
یحتمل وجهین:أحدهما:أنّه لمّا کان الإعجاب من الهلکات لم ینفع معه إحسان المحسن فإذا تمکّن الشیطان من الفرصة و زیّن الإعجاب للإنسان و ارتکبه محقّ لذلک ما یکون له من الإحسان.و الثانی:إنّ المعجب بنفسه لا یری لأحد عنده إحسانا فیکون إعجابه ماحقا لإحسان من أحسن إلیه.و لمّا کان مبدء الإعجاب هو الشیطان کان الماحق لإحسان المحسن أیضا هو الشیطان فلذلک نسبه إلیه،و الکلام فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان أوثق فرص الشیطان فی نفسه وجب الاحتراز عنه .
أحدها:المنّ علی الرعیّة بإحسانه إلیهم.
الثانیة:التزیّد فیما فعله فی حقّهم و هو أن ینسب إلی نفسه من الإحسان إلیهم أزید ممّا فعل.
الثالثة:أن یخلف موعوده لهم .ثمّ نفّر عن المنّ بقوله:فإنّ المنّ یبطل الإحسان،و ذلک إشارة إلی قوله تعالی «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِکُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذی» (1)و عن التزیّد بقوله: فإنّ التزیّد یذهب بنور الحقّ .و أراد بالحقّ هنا الإحسان إلیهم،أو الصدق فی ذکره فی موضع یحتاج إلیه فإنّ علی ذلک نورا عقلیّا ترتاح له النفوس و تلتذّ به.و لمّا کان التزیّد نوعا من الکذب و هو رذیلة عظیمة لا جرم کان ممّا یذهب نور ذلک الحقّ و یطفیه فلا یکون له وقع فی نفوس الخلق.و نفّر عن الخلف بقوله یوجب:المقت عند اللّه و الناس:أمّا عند الناس فظاهر
ص:184
و أمّا عند اللّه فلقوله تعالی «کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ» (1)الآیة.و الثلاثة صغریّات ضمایر تقدیر کبریاتها:و کلّما کان کذلک وجب اجتنابه .
علی أحد طرفی التفریط و الإفراط فطرف الإفراط فی الطلب العجلة بها قبل أوانها أو اللجاجة فیها عند تنکّرها و تغیّر وجوه مأخذها و عدم اتّضاحها و تسهّلها،و طرف التفریط التساقط فیها و القعود عنها إذا أمکنت و هو یقابل العجلة فیها أو الضعف عنها إذا استوضحت و هو یقابل اللجاجة فیها عند تنکّرها.و استلزم النهی عن هذین الطرفین الأمر بإیقاعها علی نقطة العدل و هی الحدّ الأوسط من الطرفین و موضعها الحقّ فلذلک قال:فیضع کلّ أمر موضعه و أوقع کلّ عمل موقعه .
کالّذی یستحسن من مال المسلمین و نحوه.
من حقوق الناس المأخوذة ظلما ممّا قد وضح للعیون إهمالک له.و نفّر عن ذلک بقوله:التغابی.إلی قوله:
للمظلوم،و أراد ما یستأثر به من حقوق الناس و یتغافل عنها،و ما فی قوله:عمّا.
زائدة،و أراد بالقلیل مدّة الحیاة الدنیا،و أشار بأغطیة الامور إلی الهیئات البدنیّة الحاجبة لحقایق الامور من أن یدرکها بصر بصیرته.و قد علمت أنّ انکشاف تلک الأغطیة عنه بطرح بدنه و حینئذ یشاهد ما أعدّ له من خیر أو شرّ کما قال تعالی «یَوْمَ تَجِدُ کُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَیْرٍ مُحْضَراً» (2)الآیة .
أی أنفته ممّا یقع من الامور المکروهة،و سورة حدّه،و حدّة لسانه و ملکه لهذه الامور إنّما یکون بالاحتراس عن تعدّی قوّته الغضبیّة و وقوفه فی فعلها علی حاقّ الوسط بحیث لا یعبر فیها إلی حدّ الإفراط فیقع فی رذیلة التهوّر و یلزمه فی تلک الرذیلة الظلم.
ص:185
و أرشده إلی أسبابه و هو کفّ البادرة و تأخیر السطوة إلی حین سکون الغضب لیحصل له بذلک الاختیار فی الفعل و الترک الّذی عساه مصلحة،و أشار إلی وجه إحکام تلک الأسباب بقوله:و لن تحکم ذلک.إلی قوله:علیک.و ذلک أنّ کثرة الهمّ عن ذکر المعاد و الفکر فی أمور الآخرة ماح للرغبة فی الامور الدنیویّة الّتی هی المشاجرات و ثوران الغضب .
:أوجب علیه أمرین فیهما جماع ما أوصاه به فی هذا العهد إجمالا:
أحدهما:أن یتذّکر ما مضی لمن تقدّمه من الحکومات العادلة للولاة قبله،أو من الآثار المنقولة عن نبیّنا صلّی اللّه علیه و آله،أو من فرائض اللّه لیقتدی بما شاهد من عمله علیه السّلام فیها .
الثانی:أن یجتهد لنفسه فی اتّباع ما عهد إلیه فی عهده هذا و استوثق به من الحجّة لنفسه علیه و هی الموعظة و التذکیر بأوامر اللّه لکیلا یکون له علیه حجّة یحتجّ بها عند تسرّع نفسه إلی هواها کما قال تعالی «لِئَلاّ یَکُونَ لِلنّاسِ عَلَی اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (1).
وَ أَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ- وَ عَظِیمِ قُدْرَتِهِ عَلَی إِعْطَاءِ کُلِّ رَغْبَةٍ- أَنْ یُوَفِّقَنِی وَ إِیَّاکَ لِمَا فِیهِ رِضَاهُ- مِنَ الْإِقَامَةِ عَلَی الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَیْهِ وَ إِلَی خَلْقِهِ- مَعَ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِی الْعِبَادِ وَ جَمِیلِ الْأَثَرِ فِی الْبِلاَدِ- وَ تَمَامِ النِّعْمَةِ وَ تَضْعِیفِ الْکَرَامَةِ- وَ أَنْ یَخْتِمَ لِی وَ لَکَ بِالسَّعَادَةِ وَ الشَّهَادَةِ- «إِنّا إِلَیْهِ راجِعُونَ» وَ السَّلاَمُ عَلَی؟رَسُولِ اللَّهِ؟- صَلَّی اللَّهِ عَلَیْهِ وَ عَلَی آلِهِ وَ سَلَّمَ تَسْلِیماً کَثِیراً
ص:186
أقول:ختم هذا العهد بسؤال اللّه عن یوفّقهما لما فیه رضاه،و أقسم علیه فی إجابة سؤاله برحمته الّتی وسعت کلّ شیء و بقدرته العظیمة علی إعطاء کلّ رغبة.و ظاهر کونهما مبدءین لإجابة السائلین ثمّ فصّل ما سأله ممّا فیه رضا اللّه و هی امور:
أحدها:الإقامة علی العذر الواضح إلی اللّه و إلی خلقه.
فإن قلت:العذر إنّما یکون عن ذنب فمن أقام علی طاعة اللّه کیف یکون فعله عذرا؟ قلت:یحتمل أن یکون العذر اسما من الإعذار إلی اللّه و هو المبالغة فی الإتیان بأوامره فکأنّه قال:من الإقامة علی المبالغة إلیه فی أداء أوامره .
الثانی:حسن الثناء فی العباد و جمیل الأثر و هو ما یؤثر من الأفعال الحمیدة فی البلاد،و ذلک ممّا سأله الأنبیاء کإبراهیم علیه السّلام «وَ اجْعَلْ لِی لِسانَ صِدْقٍ فِی الْآخِرِینَ» (1)قیل هو الذکر الجمیل فی الناس.
الثالث:أن یتمّ نعمته علیهما.
الرابع:تضعیف کرامته لهما.
الخامس:الخاتمة الحسنة بالسعادة و ما یوصل إلیها من الشهادة،و نبّه بقوله:
إنّا إلیه راغبون.علی صدق نیّته فی سؤاله ،ثمّ ختم بالسلام علی رسول اللّه و الصلاة علیه و آله.
إلی طلحة و الزبیر،مع عمران بن الحصین الخزاعی
ذکره أبو جعفر الاسکافی فی کتاب المقامات فی مناقب أمیر المؤمنین علیه السلام أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتُمَا وَ إِنْ کَتَمْتُمَا- أَنِّی لَمْ أُرِدِ النَّاسَ حَتَّی أَرَادُونِی- وَ لَمْ أُبَایِعْهُمْ حَتَّی بَایَعُونِی- وَ إِنَّکُمَا مِمَّنْ أَرَادَنِی وَ بَایَعَنِی- وَ إِنَّ الْعَامَّةَ لَمْ تُبَایِعْنِی لِسُلْطَانٍ
ص:187
غَالِبٍ وَ لاَ لِعَرَضٍ حَاضِرٍ- فَإِنْ کُنْتُمَا بَایَعْتُمَانِی طَائِعَیْنِ- فَارْجِعَا وَ تُوبَا إِلَی اللَّهِ مِنْ قَرِیبٍ- وَ إِنْ کُنْتُمَا بَایَعْتُمَانِی کَارِهَیْنِ- فَقَدْ جَعَلْتُمَا لِی عَلَیْکُمَا السَّبِیلَ بِإِظْهَارِکُمَا الطَّاعَةَ- وَ إِسْرَارِکُمَا الْمَعْصِیَةَ- وَ لَعَمْرِی مَا کُنْتُمَا بِأَحَقِّ الْمُهَاجِرِینَ- بِالتَّقِیَّةِ وَ الْکِتْمَانِ- وَ إِنَّ دَفْعَکُمَا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَدْخُلاَ فِیهِ- کَانَ أَوْسَعَ عَلَیْکُمَا مِنْ خُرُوجِکُمَا مِنْهُ- بَعْدَ إِقْرَارِکُمَا بِهِ- وَ قَدْ زَعَمْتُمَا أَنِّی قَتَلْتُ؟عُثْمَانَ؟- فَبَیْنِی وَ بَیْنَکُمَا مَنْ تَخَلَّفَ عَنِّی وَ عَنْکُمَا مِنْ أَهْلِ ؟الْمَدِینَةِ؟- ثُمَّ یُلْزَمُ کُلُّ امْرِئٍ بِقَدْرِ مَا احْتَمَلَ- فَارْجِعَا أَیُّهَا الشَّیْخَانِ عَنْ رَأْیِکُمَا- فَإِنَّ الْآنَ أَعْظَمَ أَمْرِکُمَا الْعَارُ- مِنْ قَبْلِ أَنْ یَجْتَمِعَ الْعَارُ وَ النَّارُ-
أقول: خزاعة قبیلة من الأزد .و قیل: الإسکافیّ منسوب إلی إسکاف رستاق کبیر کان بین النهروان و البصرة.و کتاب المقامات:الّذی صنّفه الشیخ المذکور فی مناقب أمیر المؤمنین علیه السّلام
و قد احتجّ علیه السّلام علیهما فی نکث بیعته بحجّتین:
إحداهما:قوله: أمّا بعد .إلی قوله: حاضر .و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من علمتما من حاله ذلک فلیس لکما أن تنکثا بیعته و تخرجا علیه.
و قوله:و إن کتمتما.
إشارة إلی أنّهما بعد نکث بیعته کتما إرادتهما لبیعته و إرادة کثیر من الناس و زعما أنّه إنّما حمّلهما علیها کرها.
الحجّة الثانیة قوله: فإن کنتما .إلی قوله: إقرارکما به .و هی شرطیّ منفصل تقدیرها:أنّه لا یخلو إمّا أن تکونوا بایعتمانی طائعین أو کارهین.و الأوّل هو المطلوب.
و یلزمکما ارتکاب المعصیة و الرجوع إلی اللّه بالتوبة إلی اللّه من قریب قبل استحکام
ص:188
المعصیة فی نفسیکما.و الثانی:باطل من ثلاثة أوجه:
أحدها:أنّه یلزمکما النفاق حیث أظهرتما لی الطاعة و أضمرتما المعصیة فجعلتما بذلک السبیل علیکما فی القول و الفعل .
الثانی:أنّکما ما کنتما بالتقیّة منّی و الکتمان لعصیانکما أحقّ من المهاجرین و ذلک لأنّهما کانا أقوی الجماعة و أعظمهم شأنا فکان غیرهما من المهاجرین أولی منهما بالتقیّة عند البیعة و نکثهما بعد ذلک.
الثالث:إنّ دفعهما لبیعته قبل الدخول فیها أوسع لعذرهما من خروجهما منها بعد إقرارهما.و هذه الأقوال الثلاثة صغریات ضمیر تقدیر الکبری فی الأوّل:و کلّ ما جعلتهما لی علیکما به السبیل فیحرم علیکما فعله و لیس لکما أن تدّعیاه، و فی الثانی:و کلّ من لا یکون أحقّ من المهاجرین بدعواه فلیس له أن یدّعیه إذا لم یدّعوه،و فی الثالث:و کلّما کان أوسع لعذرهما فلیس لهما العدول عنه إلی ما هو أضیق .
و قوله: و قد زعمتما إنّی قتلت عثمان .
إشارة:إلی شبهتهما المشهورة فی خروجهما علیه.
و قوله: فبینی :إلی قوله: احتمل .
جوابها:أی الحکم إلی من تخلّف عن نصرتی و نصرتکما من أهل المدینة ثمّ یلزم کلّ منّا من اللائمة و العقوبة بقدر ما احتمل من الإثم و البغی.و ثمّ بعد أن أقام الحجّة علیهما أمرهما بالرجوع عن رأیهما الفاسد فی اختیارهما لبیعته و رغّب فی الرجوع عن ذلک.بقوله: فإنّ الآن .إلی آخره،و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و العار أسهل من اجتماع العار و النار فی الاخرة.و أراد بالعار العار بالعذر.و الآن ظرف انتصب بأعظم الّذی هو اسم إنّ،و یجوز أن یکون هو اسمها و أعظم مبتدأ خبره العار-و الجملة خبر إنّ و العائد إلی اسمها محذوف تقدیره:فإنّ الآن أعظم أمر کما فیه العار.
ص:189
إلی معاویة
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الدُّنْیَا لِمَا بَعْدَهَا- وَ ابْتَلَی فِیهَا أَهْلَهَا لِیَعْلَمَ أَیُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً- وَ لَسْنَا لِلدُّنْیَا خُلِقْنَا وَ لاَ بِالسَّعْیِ فِیهَا أُمِرْنَا- وَ إِنَّمَا وُضِعْنَا فِیهَا لِنُبْتَلَی بِهَا- وَ قَدِ ابْتَلاَنِی اللَّهُ بِکَ وَ ابْتَلاَکَ بِی- فَجَعَلَ أَحَدَنَا حُجَّةً عَلَی الْآخَرِ- فَعَدَوْتَ عَلَی الدُّنْیَا بِتَأْوِیلِ؟الْقُرْآنِ؟- فَطَلَبْتَنِی بِمَا لَمْ تَجْنِ یَدِی وَ لاَ لِسَانِی- وَ عَصَبْتَهُ أَنْتَ وَ أَهْلُ؟الشَّامِ؟ بِی- وَ أَلَّبَ عَالِمُکُمْ جَاهِلَکُمْ وَ قَائِمُکُمْ قَاعِدَکُمْ- فَاتَّقِ اللَّهَ فِی نَفْسِکَ وَ نَازِعِ الشَّیْطَانَ قِیَادَکَ- وَ اصْرِفْ إِلَی الْآخِرَةِ وَجْهَکَ- فَهِیَ طَرِیقُنَا وَ طَرِیقُکَ- وَ احْذَرْ أَنْ یُصِیبَکَ اللَّهُ مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَةٍ- تَمَسُّ الْأَصْلَ وَ تَقْطَعُ الدَّابِرَ- فَإِنِّی أُولِی لَکَ بِاللَّهِ أَلِیَّةً غَیْرَ فَاجِرَةٍ- لَئِنْ جَمَعَتْنِی وَ إِیَّاکَ جَوَامِعُ الْأَقْدَارِ لاَ أَزَالُ بِبَاحَتِکَ- «حَتّی یَحْکُمَ اللّهُ بَیْنَنا وَ هُوَ خَیْرُ الْحاکِمِینَ»
أقول: عصبه به : علّقه به .و التألیب : التحریص .و القارعة : الداهیة .و الدابر المتأخّر من النسل .و الألیّة : الیمین .
فقوله: أمّا بعد .إلی قوله: لنبتلی بها .
إشارة إلی غرض الدنیا و غایتها لیتنبّه لذلک و یعمل له،و أراد بالسعی فیها الّذی لم یؤمر به اکتسابها لها،دون غیره ممّا یکون للضرورة فإنّ ذلک مأمور به فی
ص:190
قوله تعالی «فَامْشُوا فِی مَناکِبِها وَ کُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» (1).
و قوله :و قد ابتلانی:إلی قوله:الآخر.
تعیین لبعض أغراضها،و قد علمت کیفیّة ابتلائه بخلقه فیما قبل.و وجه ابتلائه علیه السّلام بمعاویة عصیانه و محاربته إیّاه حتّی لو قصّر فی مقاومته و لم یقم فی وجهه کان ملوما و کان معاویة حجّة اللّه علیه،و وجه ابتلاء معاویة به علیه السّلام دعوته له إلی الحقّ و تحذیره إیّاه من عواقب المعصیة حتّی إذا لم یجب داعی اللّه لحقه الذمّ و العقاب و کان علیه السّلام هو حجّة اللّه علیه.و ذلک معنی قوله:فجعل أحدنا حجّة علی الآخر.
و قوله :فعدوت.إلی قوله:قاعدکم.
إشارة إلی بعض وجوه ابتلائه علیه السّلام به،و معنی ذلک أنّه إنّما طلب بخروجه علیه الدنیا و جعل السبب إلی ذلک تأویل القرآن کقوله تعالی «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِصاصُ فِی الْقَتْلی» (2)و غیره من الآیات الدالّة علی وجوب القصاص فتأوّلها بإدخال نفسه فیها و طلب القصاص لعثمان،و إنّما کان دخوله فی ذلک بالتأویل لأنّ الخطاب خاصّ بمن قتل و قتل منه.و معاویة بمعزل عن ذلک إذ لم یکن من أولیاء دم عثمان ففسّر الآیة بالعموم لیدخل فیها.و الّذی لم تجنه یده و لسانه علیه السّلام هو ما نسبوه إلیه علیه السّلام و ألّب بعضهم بعضا علیه فیه و هو قتل عثمان.و أراد ألّب علیکم عالمکم بحالی جاهلکم به و قائمکم فی حربی قاعدکم عنه .ثمّ لمّا نبّه علی غایة الدنیا و جعل اللّه سبحانه کلاّ منهما حجّة علی الآخر لیعلم أیّهم أحسن عملا رجع إلی موعظته و تحذیره فأمره بتقوی اللّه فی نفسه أن یهلکها بعصیانه و مخالفة أمره.و أن ینازع الشیطان قیاده. استعارة و استعار لفظ القیاد للمیول الطبیعیّة و وجه الاستعارة کونها زمام الإنسان إلی المعصیة إذا سلّمها بید الشیطان و انهمک بها فی اللذّات الموبقة .و منازعته للشیطان مقاومته لنفسه الأمّارة عن طرف الإفراط إلی حاقّ الوسط فی الشهوة و الغضب،و أن یصرف إلی الآخرة وجهه:أی یولّی وجهه شطر الآخرة مطالعا
ص:191
ما اعدّ فیها من خیر و شرّ و سعادة و شقاوة بعین بصیرته لیعمل بها.
مجاز إطلاقا لاسم ذی الغایة علیها و قوله: فهی طریقنا و طریقک .
صغری ضمیر نبّه به علی وجوب صرف وجهه إلی الآخرة.و تقدیر کبراه:
و کلّما کان طریق الإنسان فواجب أن یصرف إلیها وجهه.و جعلها طریقا مجازا عن غایة الطریق إطلاقا لاسم ذی الغایة علیها .ثمّ حذّره من اللّه أن یصیبه بداهیة یصیب أصله و یقطع نسله،و أراد بها ما نهاه من نهوضه إلیه و حربه إیّاه و لذلک أقسم علی تقدیر أن یجمعهما جوامع الأقدار أن لا یزال بباحته مقیما حتّی یحکم اللّه بینهما.
و فی ذلک غلیظ الوعد بعذاب شدید.
وصی بها شریح بن هانئ،لما جعله علی مقدمته إلی الشام
اِتَّقِ اللَّهَ فِی کُلِّ صَبَاحٍ وَ مَسَاءٍ- وَ خَفْ عَلَی نَفْسِکَ الدُّنْیَا الْغَرُورَ- وَ لاَ تَأْمَنْهَا عَلَی حَالٍ- وَ اعْلَمْ أَنَّکَ إِنْ لَمْ تَرْدَعْ نَفْسَکَ عَنْ کَثِیرٍ مِمَّا تُحِبُّ- مَخَافَةَ مَکْرُوهٍ- سَمَتْ بِکَ الْأَهْوَاءُ إِلَی کَثِیرٍ مِنَ الضَّرَرِ- فَکُنْ لِنَفْسِکَ مَانِعاً رَادِعاً- وَ لِنَزْوَتِکَ عِنْدَ الْحَفِیظَةِ وَاقِماً قَامِعاً أقول:قد ذکرنا طرفا من حال إنفاذه لشریح بن هانی مع زیاد بن النضیر علی مقدّمته بالشام فی إثنی عشر ألفا.
و النزوة : الوثبة .و الحفیظة: الغضب .و الواقم : الذی یردّ الشیء أقبح الردّ،یقال:وقمه:أی ردّه بعنف و بقهر،و الوقم:
القهر و الإذلال،و کذلک القمع .
و قد أمره بتقوی اللّه دائما،و لمّا کانت یستلزم الأعمال الجمیلة أردف ذلک بتفصیلها و هی أن یحذّر علی نفسه الدنیا.و نسب الغرور إلیها لأنّها سبب مادّی له،
ص:192
و أن لا یأمنها علی حال لما تستلزم ذلک من الغفلة عن الآخرة .ثمّ أعلمه أنّه إن لم یردع نفسه الأمّارة بالسوء عن الانهماک فی کثیر من مشتهیاتها الّتی یخاف مکروها فی العاقبة و یقف بها عند حدود اللّه و یسلک بها صراطه المستقیم لم یزل یسمو به هواها و میولها حتّی تورده موارد الهلکة.ثمّ أکّد وصیّته بمنعها و قهرها عند نزواتها و توثّبها فی الغضب.و قد عرفت أنّ إهمالها مبدء کلّ شرّ یلحق فی الدنیا و الآخرة.
إلی أهل الکوفة،عند مسیره من المدینة إلی البصرة
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّی خَرَجْتُ مِنْ حَیِّی هَذَا- إِمَّا ظَالِماً وَ إِمَّا مَظْلُوماً وَ إِمَّا بَاغِیاً وَ إِمَّا مَبْغِیّاً عَلَیْهِ- وَ إِنِّی أُذَکِّرُ اللَّهَ مَنْ بَلَغَهُ کِتَابِی هَذَا لَمَّا نَفَرَ إِلَیَّ- فَإِنْ کُنْتُ مُحْسِناً أَعَانَنِی- وَ إِنْ کُنْتُ مُسِیئاً اسْتَعْتَبَنِی أقول:غرض الکتاب إعلام أهل الکوفة بخروجه من المدینة القتال أهل البصرة و استنفارهم إلیه،و قد مرّ مثل ذلک
و حیّه : قبیلته .
و قوله: إما ظالما .إلی قوله: علیه .
من باب تجاهل العارف،و لأنّ القضیّة لم تکن بعد ظهرت لأهل الکوفة و غیرهم لیعرفوا هل هو مظلوم أو غیره و لذلک ذکّرهم لینفروا إلیه فیحکموا بینه و بین خصومه فیعینوه أو یطلبوا منه العتبی و هی الرجوع إلی الحقّ.و-اذکّر-یتعدّی إلی مفعول أوّل هو المذکّر،و ثان هو المذکّر به و هو اللّه تعالی.و قد قدّمه لکونه هو المقصود من التذکیر.و-لمّا-مشدّدة بمعنی إلاّ،و مخفّفة هی ما زائدة دخل علیها لام التأکید:أی لینفرنّ إلیّ.و باللّه التوفیق.
ص:193
کتبه إلی أهل الأمصار،یقص فیه ما جری بینه و بین أهل صفین
وَ کَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَیْنَا وَ الْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ؟الشَّامِ؟- وَ الظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ وَ نَبِیَّنَا وَاحِدٌ- وَ دَعْوَتَنَا فِی الْإِسْلاَمِ وَاحِدَةٌ- وَ لاَ نَسْتَزِیدُهُمْ فِی الْإِیمَانِ بِاللَّهِ وَ التَّصْدِیقِ بِرَسُولِهِ- وَ لاَ یَسْتَزِیدُونَنَا- الْأَمْرُ وَاحِدٌ إِلاَّ مَا اخْتَلَفْنَا فِیهِ مِنْ دَمِ ؟عُثْمَانَ؟- وَ نَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ- فَقُلْنَا تَعَالَوْا نُدَاوِ مَا لاَ یُدْرَکُ الْیَوْمَ- بِإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ وَ تَسْکِینِ الْعَامَّةِ- حَتَّی یَشْتَدَّ الْأَمْرُ وَ یَسْتَجْمِعَ- فَنَقْوَی عَلَی وَضْعِ الْحَقِّ مَوَاضِعَهُ فَقَالُوا بَلْ نُدَاوِیهِ بِالْمُکَابَرَةِ- فَأَبَوْا حَتَّی جَنَحَتِ الْحَرْبُ وَ رَکَدَتْ- وَ وَقَدَتْ نِیرَانُهَا وَ حَمِشَتْ- فَلَمَّا ضَرَّسَتْنَا وَ إِیَّاهُمْ- وَ وَضَعَتْ مَخَالِبَهَا فِینَا وَ فِیهِمْ- أَجَابُوا عِنْدَ ذَلِکَ إِلَی الَّذِی دَعَوْنَاهُمْ إِلَیْهِ- فَأَجَبْنَاهُمْ إِلَی مَا دَعَوْا وَ سَارَعْنَاهُمْ إِلَی مَا طَلَبُوا- حَتَّی اسْتَبَانَتْ عَلَیْهِمُ الْحُجَّةُ- وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمُ الْمَعْذِرَةُ- فَمَنْ تَمَّ عَلَی ذَلِکَ مِنْهُمْ- فَهُوَ الَّذِی أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنَ الْهَلَکَةِ- وَ مَنْ لَجَّ وَ تَمَادَی فَهُوَ الرَّاکِسُ- الَّذِی رَانَ اللَّهُ عَلَی قَلْبِهِ- وَ صَارَتْ دَائِرَةُ السَّوْءِ عَلَی رَأْسِهِ
أقول:و بدء الأمر : أوّله.و یروی:بدیء فعیل بمعنی مبتدأ .و النائرة:
العداوة .و جنحت : مالت .و رکدت : ثبتت .و حمست : اشتدّت.و روی بالشین المعجمة:أی التهبت غضبا .و أنقذه خلّصه .و التمادی فی الشیء : الإقامة علیه و طلب الغایة فیه .و الرکس : ردّ الشیء مقلوبا.و اللّه أرکسهم:أی ردّهم إلی عقوبة
ص:194
کفرهم و الرین : التغطیة .و الدایرة : الهزیمة،یقال:علیهم الدائرة،و یؤکّد شنعتها بالإضافة إلی السوء .
و الفصل من حکایة حاله مع أهل الشام و حالهم.و القوم عطف علی الضمیر فی التقینا و فی قوله:و الظاهر.إیماء إلی تهمته لهم بضدّ ذلک کما صرّح به هو و عمّار فی صفّین فإنّه کان یقول:و اللّه ما أسلموا و لکن استسلموا و أسرّوا الکفر فلمّا وجدوا علیه أعوانا أظهروه.و الواو للحال.
و قوله :لا نستزیدهم.
أی لا نطلب منهم زیادة فی الإیمان لتمامه منهم فی الظاهر.و قد بیّن فی حکایة الحال الاتّحاد الّذی بینهم فی الامور المذکورة الّتی لا یجوز الاختلاف معها لیظهر الحجّة و استثنی من ذلک ما وقع الاختلاف فیه و هی الشبهة بدم عثمان و الجواب عنها إجمالا .ثمّ حکی وجه الرأی الأصلح فی نظام أمر الإسلام و سلامة أهله و شوره علیهم و إبائهم عن قبوله إلی الغایة المذکورة.و الباء فی قوله:بإطفاء النائرة متعلّق بقوله:نداوی ما لا یدرک:أی ما لا یمکن تلافیه بعد وقوع الحرب و لا یستدرک من القتل و هلاک المسلمین.
و قوله:فقالوا:بل نداویه بالمکابرة.
حکایة قولهم بلسان حالهم حین دعاهم إلی نظام أمر الدین بالرجوع عمّاهم علیه فکابروه و أصرّوا علی الحرب، مجاز إطلاقا لاسم المضاف علی المضاف إلیه و تجوّز باسم الجنوح إطلاقا لاسم المضاف علی المضاف إلیه ، استعارة مرشحة و استعار لفظ النیران للحرکات فی الحرب لمشابهتهما فی استلزام الأذی و الهلاک،و رشّح بذکر الوقد،و کذلک لفظ الحمس و التضریس و وضع المخالب .ثمّ حکی إجابتهم و رجوعهم إلی رأیه الّذی رآه لهم،و ذلک أنّهم صبیحة لیلة الهریر حین حملوا المصاحف علی الأرماح کانوا یقولون لأصحابه علیه السّلام:معاشر المسلمین نحن إخوانکم فی الدین اللّه اللّه فی البنات و النساء.کما حکیناه أوّلا.و ذلک عین ما کان یذکّرهم به علیه السّلام من حفظ دماء المسلمین و ذرّیّتهم ،و أمّا إجابته إلی ما دعوا فإجابته إلی تحکیم کتاب اللّه حین دعوا إلیه و ظهور الحجّة علیهم
ص:195
برجوعهم إلی عین ما کان یدعوهم إلیه من حقن الدماء،و فی ذلک انقطاع عذرهم فی المطالبة بدم عثمان إذ کان سکوتهم عن دم صحابیّ لا حقّ لهم فیه أسهل من سفک دماء سبعین ألفا من المهاجرین و الأنصار و التابعین بإحسان.
و قوله :فمن تمّ علی ذلک.أی علی الرضاء بالصلح و تحکیم کتاب اللّه و هم أکثر أهل الشام و أکثر أصحابه علیه السّلام.و الّذین لجّوا فی التمادی فهم الخوارج الّذین لجّوا فی الحرب و اعتزلوه علیه السّلام بسبب التحکیم و کانت قلوبهم فی أغشیة من الشبهات الباطلة حتّی صارت دائرة السوء علی رؤوسهم فقتلوا إلاّ أقلّهم.
إلی الأسود بن قطیبة صاحب جند حلوان
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْوَالِیَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ- مَنَعَهُ ذَلِکَ کَثِیراً مِنَ الْعَدْلِ- فَلْیَکُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَکَ فِی الْحَقِّ سَوَاءً- فَإِنَّهُ لَیْسَ فِی الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ- فَاجْتَنِبْ مَا تُنْکِرُ أَمْثَالَهُ- وَ ابْتَذِلْ نَفْسَکَ فِیمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَیْکَ- رَاجِیاً ثَوَابَهُ وَ مُتَخَوِّفاً عِقَابَهُ- وَ اعْلَمْ أَنَّ الدُّنْیَا دَارُ بَلِیَّةٍ- لَمْ یَفْرُغْ صَاحِبُهَا فِیهَا قَطُّ سَاعَةً- إِلاَّ کَانَتْ فَرْغَتُهُ عَلَیْهِ حَسْرَةً یَوْمَ الْقِیَامَةِ- وَ أَنَّهُ لَنْ یُغْنِیَکَ عَنِ الْحَقِّ شَیْءٌ أَبَداً- وَ مِنَ الْحَقِّ عَلَیْکَ حِفْظُ نَفْسِکَ- وَ الاِحْتِسَابُ عَلَی الرَّعِیَّةِ بِجُهْدِکَ- فَإِنَّ الَّذِی یَصِلُ إِلَیْکَ مِنْ ذَلِکَ- أَفْضَلُ مِنَ الَّذِی یَصِلُ بِکَ وَ السَّلاَمُ
ص:196
مختلفاتها
بما یستلزمه من المفسدة و هی الامتناع عن کثیر من العدل،و وجه الاستلزام ظاهر لأنّ اتّباع الأهویة المختلفة یوجب الانحراف عن حاقّ الوسط فی المطالب،و لمّا نبّهه علی مفسدة الجور أمره ببسط العدل و التسویة بین الخلق فی الحقّ.ثمّ نبّه علی فضیلته بضمیر صغراه قوله:فإنّه إلی قوله:العدل.و تقدیرها:
فإنّ العدل لیس فی الجور عوض عنه،و تقدیر الکبری:و کلّ ما لم یکن فی الجور عوض عنه فیجب لزومه و اتّباعه .
حقّ من یلزمه أمره
کالأذی اللاحق له مثلا أمره باجتنابه و أن لا یقع منه فی غیره ما یکره وقوع مثله فی حقّه.و العبارة وافیة بهذا المعنی،و الغرض التنفیر عنه.
لثوابه و خوفه من عقابه
لکونهما داعی العمل .
کما قال تعالی «الَّذِی خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَیاةَ لِیَبْلُوَکُمْ أَیُّکُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» (1)و لمّا کان العمل الصالح فیها هو سبب الاستعداد للسعادة الباقیة لا جرم کان الفراغ من العمل فیها ترکا لسبب سعادة لا یحصل یوم القیامة إلاّ به فکان من لوازم فرغته منه فی الدنیا الحسرة علی ثمرته یوم القیامة .
لأنّ کلّ ما عدا الحقّ باطل و الباطل سبب للفقر فی الآخرة فلا یفید غنی.
أی من زلّة القدم عن الصراط المستقیم و الوقوع فی سواء الجحیم،ثمّ الاحتساب علی رعیّته بجهده و طاقته،و الأخذ علی أیدیهم فی الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر.و قدّم حفظ
ص:197
النفس لأنّه الأهمّ،و نبّه علی وجوب الأمرین بقوله:فإنّ الّذی إلی آخره و أراد أنّ الّذی یصل إلی نفسک من الکمالات و الثواب اللازم عنها فی الآخرة بسبب لزومک للأمرین المذکورین أفضل ممّا یصل بعد لک و إحسانک إلی الخلق من النفع و دفع الضرر،و باللّه التوفیق.
إلی العمال الذین یطأ الجیش عملهم
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟عَلِیٍّ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ؟ إِلَی مَنْ مَرَّ بِهِ الْجَیْشُ- مِنْ جُبَاةِ الْخَرَاجِ وَ عُمَّالِ الْبِلاَدِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّی قَدْ سَیَّرْتُ جُنُوداً- هِیَ مَارَّةٌ بِکُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ- وَ قَدْ أَوْصَیْتُهُمْ بِمَا یَجِبُ لِلَّهِ عَلَیْهِمْ- مِنْ کَفِّ الْأَذَی وَ صَرْفِ الشَّذَا- وَ أَنَا أَبْرَأُ إِلَیْکُمْ وَ إِلَی ذِمَّتِکُمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَیْشِ- إِلاَّ مِنْ جَوْعَةِ الْمُضْطَرِّ لاَ یَجِدُ عَنْهَا مَذْهَباً إِلَی شِبَعِهِ- فَنَکِّلُوا مَنْ تَنَاوَلَ مِنْهُمْ شَیْئاً ظُلْماً عَنْ ظُلْمِهِمْ- وَ کُفُّوا أَیْدِیَ سُفَهَائِکُمْ عَنْ مُضَارَّتِهِمْ- وَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِیمَا اسْتَثْنَیْنَاهُ مِنْهُمْ- وَ أَنَا بَیْنَ أَظْهُرِ الْجَیْشِ- فَارْفَعُوا إِلَیَّ مَظَالِمَکُمْ- وَ مَا عَرَاکُمْ مِمَّا یَغْلِبُکُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ- وَ لاَ تُطِیقُونَ دَفْعَهُ إِلاَّ بِاللَّهِ وَ بِی فَأَنَا أُغَیِّرُهُ بِمَعُونَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
أقول: الشذی : الأذی .و معرّة الجیش : المضرّة الواصله منه،و عرّه معرّة:
أی سائه. و نکل ینکل بالضمّ : جبن.و نکّلوا:خوّفوا،و جبّنوا .و عراه الأمر:
غشیه .
ص:198
بمسیره علیهم
لیتنبّهوا و یحترزوا منه ،ثمّ وصیّة الجیش بما ینبغی لهم و یجب للّه علیهم من کفّ الأذی عمّن یمرّون به لیعرفوا عموم عدله و یتأدّبوا بآدابه، مجازا إطلاقا لاسم السبب علی المسبّب ثمّ إعلامهم أنّه بریء إلیهم و إلی ذمّتهم الّتی أخذها منهم من إساءة الجیش فإنّه لیس بأمره من ذلک إلاّ معرّة جوعة المضطرّ الّتی لا یجد عنها إلی شبعه مذهبا.و تقدیر الکلام:فإنّی أبرء إلیکم من معرّة الجیش إلاّ من معرّة جوعة المضطرّ منهم فأقام المضاف إلیه مقام المضاف أو أطلقه مجازا إطلاقا لاسم السبب علی المسبّب .ثمّ أمرهم أن یخوّفوا و یجبّنوا من تناول من الجیش شیئا عن ظلمه و یدفعوه الدفع الممکن لهم لئلاّ یکون بسطوتهم خراب الأعمال،ثمّ أن یکفّوا أیدی سفهائهم عن مضارّتهم و التعرّض لهم فیما استثناه من المعرّة الضروریّة لئلاّ یثور بذلک الفتنة بینهم و بین الجیش .ثمّ أعلمهم أنّه بین أظهر الجیش کنایة عن کونه مرجع أمرهم لیدفعوا إلیه مظالمهم و ما غشیهم من أمر یغلب علیهم من الجیش لا یطیقون دفعه إلاّ باللّه و به فیغیّره بمعونة اللّه و خشیته.
إلی کمیل بن زیاد النخعی
،و هو عامله علی هیت،ینکر علیه ترکه دفع من یجتاز به من جیش العدو طالبا الغارة أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ تَضْیِیعَ الْمَرْءِ مَا وُلِّیَ وَ تَکَلُّفَهُ مَا کُفِیَ- لَعَجْزٌ حَاضِرٌ وَ رَأْیٌ مُتَبَّرٌ- وَ إِنَّ تَعَاطِیَکَ الْغَارَةَ عَلَی أَهْلِ؟قِرْقِیسِیَا؟- وَ تَعْطِیلَکَ مَسَالِحَکَ الَّتِی وَلَّیْنَاکَ- لَیْسَ بِهَا مَنْ یَمْنَعُهَا وَ لاَ یَرُدُّ الْجَیْشَ عَنْهَا- لَرَأْیٌ شَعَاعٌ- فَقَدْ صِرْتَ جِسْراً لِمَنْ أَرَادَ الْغَارَةَ- مِنْ أَعْدَائِکَ عَلَی أَوْلِیَائِکَ- غَیْرَ شَدِیدِ الْمَنْکِبِ
ص:199
وَ لاَ مَهِیبِ الْجَانِبِ- وَ لاَ سَادٍّ ثُغْرَةً وَ لاَ کَاسِرٍ لِعَدُوٍّ شَوْکَةً- وَ لاَ مُغْنٍ عَنْ أَهْلِ مِصْرِهِ وَ لاَ مُجْزٍ عَنْ أَمِیرِهِ وَ السَّلامُ
أقول: المتبّر: الهالک و الفاسد .و الشعاع : المتفرّق .
و قوله: أمّا بعد .إلی قوله: متبّر .
اعلم أنّ فی صدر الکتاب إجمالا کما جرت عادة الخطیب ما یرید أن یوبخه علیه من تعاطیه أمرا مع إهماله ما هو أهمّ منه.ثمّ ذکر غرضه من الکتاب مفصّلا بقوله: و إنّ تعاطیک .إلی قوله: شعاع .ثمّ نفّره عن ذلک الرأی بما فیه من المفاسد و الرذائل:
استعارة أحدهما: کونه جسرا .و استعار لفظ الجسر له باعتبار عبور العدوّ علیه إلی غرضه ،و روی:حسرا.و هو أیضا مجاز باعتبار خلوّ مسالحه عن العسکر الّذی یبغی به العدوّ فهو کالحاسر عدیم اللامة.
کنایة الثانی: کونه غیر شدید المنکب ،و کنّی بذلک عن ضعفه،و کذلک کونه غیر مهیب الجانب .
الثالث:کونه غیر سادّ ثغرة.
الرابع:و لا کاسر شوکة عدوّه.
و الخامس:و لا مغن عن أهل مصره فی دفع عدوّهم.
السادس:و لا مجز عن أمیره فیما یریده منه.
إلی أهل مصر،مع مالک الأشتر لما ولاه إمارتها
:أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ؟مُحَمَّداً ص؟- نَذِیراً لِلْعَالَمِینَ وَ مُهَیْمِناً عَلَی الْمُرْسَلِینَ- فَلَمَّا مَضَی ع تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ
ص:200
الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ- فَوَاللَّهِ مَا کَانَ یُلْقَی فِی رُوعِی- وَ لاَ یَخْطُرُ بِبَالِی أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ- مِنْ بَعْدِهِ ص عَنْ أَهْلِ بَیْتِهِ- وَ لاَ أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّی مِنْ بَعْدِهِ- فَمَا رَاعَنِی إِلاَّ انْثِیَالُ النَّاسِ عَلَی فُلاَنٍ یُبَایِعُونَهُ- فَأَمْسَکْتُ یَدِی حَتَّی رَأَیْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ- قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلاَمِ- یَدْعُونَ إِلَی مَحْقِ دَیْنِ؟مُحَمَّدٍ ص؟- فَخَشِیتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلاَمَ وَ أَهْلَهُ- أَنْ أَرَی فِیهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً- تَکُونُ الْمُصِیبَةُ بِهِ عَلَیَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَیَتِکُمُ- الَّتِی إِنَّمَا هِیَ مَتَاعُ أَیَّامٍ قَلاَئِلَ- یَزُولُ مِنْهَا مَا کَانَ کَمَا یَزُولُ السَّرَابُ- أَوْ کَمَا یَتَقَشَّعُ السَّحَابُ- فَنَهَضْتُ فِی تِلْکَ الْأَحْدَاثِ حَتَّی زَاحَ الْبَاطِلُ وَ زَهَقَ- وَ اطْمَأَنَّ الدِّینُ وَ تَنَهْنَهَ وَ مِنْهُ إِنِّی وَ اللَّهِ لَوْ لَقِیتُهُمْ وَاحِداً وَ هُمْ طِلاَعُ الْأَرْضِ کُلِّهَا- مَا بَالَیْتُ وَ لاَ اسْتَوْحَشْتُ- وَ إِنِّی مِنْ ضَلاَلِهِمُ الَّذِی هُمْ فِیهِ- وَ الْهُدَی الَّذِی أَنَا عَلَیْهِ- لَعَلَی بَصِیرَةٍ مِنْ نَفْسِی وَ یَقِینٍ مِنْ رَبِّی- وَ إِنِّی إِلَی لِقَاءِ اللَّهِ لَمُشْتَاقٌ- وَ حُسْنِ ثَوَابِهِ لَمُنْتَظِرٌ رَاجٍ- وَ لَکِنَّنِی آسَی أَنْ یَلِیَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وَ فُجَّارُهَا- فَیَتَّخِذُوا مَالَ اللَّهِ دُوَلاً وَ عِبَادَهُ خَوَلاً- وَ الصَّالِحِینَ حَرْباً وَ الْفَاسِقِینَ حِزْباً- فَإِنَّ مِنْهُمُ الَّذِی قَدْ شَرِبَ فِیکُمُ الْحَرَامَ- وَ جُلِدَ حَدّاً فِی الْإِسْلاَمِ- وَ إِنَّ مِنْهُمْ
ص:201
مَنْ لَمْ یُسْلِمْ حَتَّی رُضِخَتْ لَهُ عَلَی الْإِسْلاَمِ الرَّضَائِخُ- فَلَوْ لاَ ذَلِکَ مَا أَکْثَرْتُ تَأْلِیبَکُمْ وَ تَأْنِیبَکُمْ- وَ جَمْعَکُمْ وَ تَحْرِیضَکُمْ- وَ لَتَرَکْتُکُمْ إِذْ أَبَیْتُمْ وَ وَنَیْتُمْ- أَ لاَ تَرَوْنَ إِلَی أَطْرَافِکُمْ قَدِ انْتَقَصَتْ- وَ إِلَی أَمْصَارِکُمْ قَدِ افْتُتِحَتْ- وَ إِلَی مَمَالِکِکُمْ تُزْوَی وَ إِلَی بِلاَدِکُمْ تُغْزَی- انْفِرُوا رَحِمَکُمُ اللَّهُ إِلَی قِتَالِ عَدُوِّکُمْ- وَ لاَ تَثَّاقَلُوا إِلَی الْأَرْضِ فَتُقِرُّوا بِالْخَسْفِ- وَ تَبُوءُوا بِالذُّلِّ وَ یَکُونَ نَصِیبُکُمُ الْأَخَسَّ- وَ إِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الْأَرِقُ وَ مَنْ نَامَ لَمْ یُنَمْ عَنْهُ وَ السَّلاَمُ
أقول: المهیمن: الشاهد .و الروع : القلب .و الانثیال : الانصباب .و راح:
ذهب .و زهق : زال و اضمحلّ .و تنهنه : اتّسع .و طلاع الأرض : ملاؤها .و آسی:
أحزن .و الدولة فی المال-بالضمّ- : أن یکون مرّة لهذا مرّة لذلک .و الخول:
العبید و الرضخ : الرشوة،و أصله الرمی .و التألیب : التحریص .و التأنیب : اللوم .
و الونی : الضعف .و تزوی : تقبض .و تبوءوا : ترجعوا .و الخسف: النقیصة .
و صدّره باقتصاص حال النبیّ صلّی اللّه علیه و آله باعتبار کونه نذیرا للعالمین بعقاب ألیم، و شاهدا علی المرسلین بکونهم مبعوثین و مصدّقا لهم فی ذلک.ثمّ اقتصاص حال المسلمین بعده فی تنازع أمر الخلافة متدرّجا من ذلک إلی شرح حاله معهم فی معرض الشکایة من إزاحة أمر الخلافة عنه مع کونه أحقّ بها و انصبابهم علی بیعة فلان-و هو کنایة عن أبی بکر-و إمساک یده عن القیام فی ذلک و الطلب للأمر إلی غایة ارتداد الناس فی زمن أبی بکر عن الإسلام و طمعهم فی محقّ الدین .ثمّ شرح حاله من الخوف علی الإسلام و أهله أن ینثلم أو ینهدم فیکون المصیبة علیه فی هدم أصل الدین أعظم من فوت الولایة القصیرة الأمد الّتی غایتها إصلاح فروع الدین و متمّماته. تشبیه و شبّه زوالها بزوال السراب و تقشّع السحاب ،و وجه الشبه سرعة الزوال و کونها لا أصل
ص:202
لثباتها کما لا ثبات لحقیقة السراب و وجود السحاب ،و قدّم ذکر الارتداد لغرض بیان فضیلته فی الإسلام،و لذلک عقّبه باقتصاص حال نهوضه فی تلک الأحداث الّتی وقعت من العرب إلی غایة زهوق الباطل و استقرار الدین و انتشاره .ثمّ أقسم أنّه لو لقیهم وحده و هم ملأ الأرض لم یکترث بهم و لم یستوحش منهم لأمرین:
أحدهما:علمه الیقین بأنّهم علی الضلال و أنّه علی الهدی.
الثانی:اشتیاقه إلی لقاء ربّه و انتظاره و رجاؤه لثوابه.و هما یجریان مجری ضمیرین تقدیر کبراهما:و کلّ من کان کذلک فلا یبالیهم و لا یستوحش منهم.
و قوله :و لکنّنی آسی.
یجری مجری جواب سؤال مقدر کأنّه قیل:فإذا کنت تعلم أنّک و إیّاهم علی الحالین المذکورین فلم تحزن من فعلهم؟فکأنّه قال:إنّی لا أحزن من لقائهم و حربهم و لکن أحزن أن تلی أمّه محمّد سفهاؤها و فجّارها.إلی قوله:حربا،و عنّی بالسفهاء بنی أمیّة و أشیاعهم .ثمّ نبّه علی أنّهم مظنّة أن یفعلوا ذلک لو ولّوا هذا الأمر بقوله:فإنّ منهم.إلی قوله:الرضائخ.و الّذی شرب منهم فی المسلمین الحرام إشارة إلی المغیرة بن شعبة لمّا شرب الخمر فی عهد عمر حین کان والیا من قبله علی الکوفة فصلّی بالناس سکران و زاد فی الرکعات و قاء الخمر فشهدوا علیه و جلد الحدّ،و کذلک عنبسة[عتبة]بن أبی سفیان جلده فی الخمر خالد بن عبید اللّه بالطائف،و الّذی لم یسلم حتّی رضخت له الرضایخ قیل:هو أبو سفیان و ابنه معاویة و ذلک أنّهما کانا من المؤلّفة قلوبهم الّذین یستمالون إلی الدین و جهاد عدوّه بالعطاء.و قیل:هو عمرو بن العاص و لم یشتهر عنه مثل ذلک إلاّ ما حکاه علیه السّلام عنه من اشتراطه علی معاویة طعمة مصر فی مساعدته بصفّین کما مرّ ذکره .ثمّ نبّههم علی أنّ ما ذکره من الأسی هو السبب التامّ لتوبیخهم و تحریضهم علی الجهاد،و لولا ذلک لترکهم إذ أبوا و ضعفوا .ثمّ نبّههم علی فعل عدوّهم بهم و افتتاحه لأمصارهم و غرورهم لیستثیر بذلک حمیّة طباعهم .و لذلک أمرهم بعده بالنفور إلی قتال عدوّهم، و نهاهم عن التثاقل فی ذلک و نفّرهم عنه بما یلزمه من الإقرار بالخسف و الرجوع إلی
ص:203
الذلّ و خسّة النصیب. کنایة ثمّ نبّههم علی من یکون أهلا للحرب و هو الأرق ،و کنّی به عن کبیر الهمّة.إذ کان من لوازمه قلّة النوم .و نفّرهم عن ضعف الهمّة و التوانی فی الجهاد بما یلزم ذلک من طمع العدوّ فیهم بسکوتهم عنه،و الرقدة عن مقاومته.
إلی أبی موسی الأشعری،و هو عامله علی الکوفة
،و قد بلغه عنه تثبیطه الناس علی الخروج إلیه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟عَلِیٍّ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ؟ إِلَی؟عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَیْسٍ؟- أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِی عَنْکَ قَوْلٌ هُوَ لَکَ وَ عَلَیْکَ- فَإِذَا قَدِمَ رَسُولِی عَلَیْکَ فَارْفَعْ ذَیْلَکَ- وَ اشْدُدْ مِئْزَرَکَ وَ اخْرُجْ مِنْ جُحْرِکَ وَ انْدُبْ مَنْ مَعَکَ- فَإِنْ حَقَّقْتَ فَانْفُذْ وَ إِنْ تَفَشَّلْتَ فَابْعُدْ- وَ ایْمُ اللَّهِ لَتُؤْتَیَنَّ مِنْ حَیْثُ أَنْتَ- وَ لاَ تُتْرَکُ حَتَّی یُخْلَطَ زُبْدُکَ بِخَاثِرِکَ- وَ ذَائِبُکَ بِجَامِدِکَ- وَ حَتَّی تُعْجَلُ عَنْ قِعْدَتِکَ- وَ تَحْذَرَ مِنْ أَمَامِکَ کَحَذَرِکَ مِنْ خَلْفِکَ- وَ مَا هِیَ بِالْهُوَیْنَی الَّتِی تَرْجُو- وَ لَکِنَّهَا الدَّاهِیَةُ الْکُبْرَی- یُرْکَبُ جَمَلُهَا وَ یُذَلُّ صَعْبُهَا وَ یُسَهَّلُ جَبَلُهَا- فَاعْقِلْ عَقْلَکَ وَ امْلِکْ أَمْرَکَ وَ خُذْ نَصِیبَکَ وَ حَظَّکَ- فَإِنْ کَرِهْتَ فَتَنَحَّ إِلَی غَیْرِ رَحْبٍ وَ لاَ فِی نَجَاةٍ- فَبِالْحَرِیِّ لَتُکْفَیَنَّ وَ أَنْتَ نَائِمٌ حَتَّی لاَ یُقَالَ أَیْنَ فُلاَنٌ- وَ اللَّهِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مَعَ مُحِقٍّ وَ مَا أُبَالِی مَا صَنَعَ الْمُلْحِدُونَ
أقول:روی عن أبی موسی أنّه کان حین مسیر علیّ علیه السّلام إلی البصرة و
ص:204
استنفاره لأهل الکوفة إلی نصرته یثبّط الناس عنه و یقول:إنّها فتنة فلا یجوز القیام فیها،و یروی عن النبیّ صلّی اللّه علیه و آله أخبارا یتضمّن وجوب القعود عن الفتنة و الاعتزال فیها.فکتب إلیه مع ابنه الحسن علیه السّلام هذا الکتاب.و القول الّذی بلغه عنه هو نهی الناس و تثبیطهم عن النهوض إلیه،و ذلک قول هو له باعتبار ظاهر الدین و نهیه عن الخوض فی الفتن،و هو علیه من وجوه:
الأوّل:کان معلوما من همّه أنّه لم یقصد بذلک إلاّ قعود الناس عنه،و فهم منه ذلک.و هو خذلان للدین فی الحقیقة و هو عائد علیه بمضرّة العقوبة منه علیه السّلام و من اللّه تعالی فی الآخرة.
الثانی:أنّه لمّا کان علیه السّلام علی الحقّ فی حربه کان تثبیط أبی موسی عنه جهلا بحاله و ما یجب من نصرته و القول بالجهل عائد علی القائل بالمضرّة.
الثالث:أنّه فی ذلک القول مناقض لغرضه لأنّه نهی عن الدخول مع الناس و مشارکتهم فی زمن الفتنة و روی خبرا یقتضی أنّه یجب القعود عنهم حینئذ مع أنّه کان أمیرا یتهافت علی الولایة و ذلک متناقض فکان علیه لاله.
ثمّ أمره عند قدوم رسوله علیه بأوامر علی سبیل الوعید و التهدید:
کنایة أحدها: أن یرفع ذیله و یشدّه مئزره .و هما کنایتان عن الاستعداد للقیام بواجب أمره و المسارعة إلی ذلک.
استعارة الثانی: أن یخرج من جحره .و أراد خروجه من الکوفة.و استعار له لفظ الجحر ملاحظة لشبهه بالثعلب و نحوه.
الثالث:أن یندب:أی یبعث من معه من العسکر و یدعوهم إلی الخروج.
و قوله:فإن حقّقت.
أی عرفت حقیقة أمری و أنّی علی الحقّ فانفذ.أی فامض فیما آمرک به،و إن تفشّلت:أی جبنت و ضعفت عن هذا الأمر و معرفته فاقعد عنه. کنایة ثمّ توعّده علی تقدیر قعوده و أقسم لیأتینّه بالمکان الّذی هو به من لا یترکه حتّی یخلط زبده بخاثره و ذائبه بجامده ،و هما مثلان کنّی بهما عن خلط أحواله الصافیة بالتکدیر کعزّته
ص:205
بذلّته و سروره بغمّه و سهولة أمره بصعوبته،و حتّی بعجله عن قعدته و هی هیئة قعوده و أراد غایة الإعجال ، استعارة بالکنایة و حتّی یکون حذره من أمامه کحذره من خلفه .و هو کنایة عن غایة الخوف.و إنّما جعل الحذر من الخلف أصلا فی التشبیه لکون الإنسان من ورائه أشدّ خوفا.و قیل:أراد حتّی یخاف من الدنیا کما یخاف من الآخرة .
و قوله :و ما هی بالهوینا.
أی و ما القصّة المعهودة لک بالهیّنة السهلة الّتی ترجو أن تکون فیها علی اختیارک و لکنّها الداهیة الکبری من دواهی الدهر و مصائبه.
و قوله:یرکب جملها.أی یرکب فیها، کنایة و یذلّ صعبها :أی یسهل الأمور الصعاب فیها.و هو کنایة عن شدّتها و صعوبتها .
ثمّ أردف وعیده و تحذیره بنصیحته و أمره بأوامر:
أحدها:أن یعقل عقله.و عقله یحتمل النصب علی المصدر و هو أمر له أن یراجع عقله و یعتبر هذا الحال العظیمة دون هواه.و قیل:هو مفعول به:أی اضبط عقلک و احبسه علی معرفة الحقّ من الباطل و لا تفرّقه فیما لا ینبغی.
الثانی:أن یملک أمره:أی شأنه و طریقته،و یصرفها علی قانون العدل و الحقّ دون الباطل.
الثالث:أن یأخذ نصیبه و حظّه من طاعته و القیام بأمره فی نصرته و الذبّ عن دین اللّه.و قیل:أراد خذ ما قسّم لک من الحظّ و لا تتجاوز إلی ما لیس لک.
ثمّ أردف ذلک بأمره بالتنحیّ عن الولایة علی تقدیر کراهته لما ذکر و عدم امتثاله لما أمر.
و قوله:فبالحریّ لتکفینّ.
أی فما أحذر أن یکفی هذه المئونة و أنت نائم عن طاعة اللّه حتّی لا یفتقد و لا یسأل عنک لعدم المبالاة بک .ثمّ أقسم أنّه لحقّ:أی الأمر المعهود الّذی فعله من حربه بالبصرة،مع محقّ:أی صاحب محقّ لما یدّعیه،عالم به،لا یکترث بما صنع الملحدون فی دین اللّه من مخالفته لمعرفته أنّه علی الحقّ دونهم.
ص:206
إلی معاویة،جوابا
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا کُنَّا نَحْنُ وَ أَنْتُمْ عَلَی مَا ذَکَرْتَ- مِنَ الْأُلْفَةِ وَ الْجَمَاعَةِ- فَفَرَّقَ بَیْنَنَا وَ بَیْنَکُمْ أَمْسِ أَنَّا آمَنَّا وَ کَفَرْتُمْ- وَ الْیَوْمَ أَنَّا اسْتَقَمْنَا وَ فُتِنْتُمْ- وَ مَا أَسْلَمَ مُسْلِمُکُمْ إِلاَّ کَرْهاً- وَ بَعْدَ أَنْ کَانَ أَنْفُ الْإِسْلاَمِ کُلُّهُ؟لِرَسُولِ اللَّهِ ص؟ حِزْباً وَ ذَکَرْتَ أَنِّی قَتَلْتُ؟طَلْحَةَ؟ وَ؟الزُّبَیْرَ؟- وَ شَرَّدْتُ؟بِعَائِشَةَ؟ وَ نَزَلْتُ بَیْنَ الْمِصْرَیْنِ- وَ ذَلِکَ أَمْرٌ غِبْتَ عَنْهُ فَلاَ عَلَیْکَ وَ لاَ الْعُذْرُ فِیهِ إِلَیْکَ- وَ ذَکَرْتَ أَنَّکَ زَائِرِی فِی الْمُهَاجِرِینَ وَ الْأَنْصَارِ- وَ قَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ یَوْمَ أُسِرَ أَخُوکَ- فَإِنْ کَانَ فِیهِ عَجَلٌ فَاسْتَرْفِهْ- فَإِنِّی إِنْ أَزُرْکَ فَذَلِکَ جَدِیرٌ- أَنْ یَکُونَ اللَّهُ إِنَّمَا بَعَثَنِی إِلَیْکَ لِلنِّقْمَةِ مِنْکَ- وَ إِنْ تَزُرْنِی فَکَمَا قَالَ أَخُو؟بَنِی أَسَدٍ؟- مُسْتَقْبِلِینَ رِیَاحَ الصَّیْفِ تَضْرِبُهُمْ بِحَاصِبٍ بَیْنَ أَغْوَارٍ وَ جُلْمُودِ
- وَ عِنْدِی السَّیْفُ الَّذِی أَعْضَضْتُهُ بِجَدِّکَ- وَ خَالِکَ وَ أَخِیکَ فِی مَقَامٍ وَاحِدٍ- وَ إِنَّکَ وَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ الْمُقَارِبُ الْعَقْلِ- وَ الْأَوْلَی أَنْ یُقَالَ لَکَ- إِنَّکَ رَقِیتَ سُلَّماً أَطْلَعَکَ مَطْلَعَ سُوءٍ عَلَیْکَ لاَ لَکَ- لِأَنَّکَ
ص:207
نَشَدْتَ غَیْرَ ضَالَّتِکَ وَ رَعَیْتَ غَیْرَ سَائِمَتِکَ- وَ طَلَبْتَ أَمْراً لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَ لاَ فِی مَعْدِنِهِ- فَمَا أَبْعَدَ قَوْلَکَ مِنْ فِعْلِکَ- وَ قَرِیبٌ مَا أَشْبَهْتَ مِنْ أَعْمَامٍ وَ أَخْوَالٍ- حَمَلَتْهُمُ الشَّقَاوَةُ وَ تَمَنِّی الْبَاطِلِ عَلَی الْجُحُودِ؟بِمُحَمَّدٍ ص؟- فَصُرِعُوا مَصَارِعَهُمْ حَیْثُ عَلِمْتَ- لَمْ یَدْفَعُوا عَظِیماً وَ لَمْ یَمْنَعُوا حَرِیماً- بِوَقْعِ سُیُوفٍ مَا خَلاَ مِنْهَا الْوَغَی- وَ لَمْ تُمَاشِهَا الْهُوَیْنَی- وَ قَدْ أَکْثَرْتَ فِی قَتَلَةِ؟عُثْمَانَ؟- فَادْخُلْ فِیمَا دَخَلَ فِیهِ النَّاسُ ثُمَّ حَاکِمِ الْقَوْمَ إِلَیَّ- أَحْمِلْکَ وَ إِیَّاهُمْ عَلَی کِتَابِ اللَّهِ تَعَالَی- وَ أَمَّا تِلْکَ الَّتِی تُرِیدُ- فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِیِّ عَنِ اللَّبَنِ فِی أَوَّلِ الْفِصَالِ- وَ السَّلاَمُ لِأَهْلِهِ
أقول: أنف الإسلام : أوّله .و التشرید : الإبعاده .و استرفه : أی نفّس عنک من الرفاهیّة و هی السعة .و الأغوار : المنخفضة من الأرض .و أغصصت السیف بفلان : أی جعلته یغصّ به و هو من المغلوب لأنّ المضروب هو الّذی یغصّ بالسیف:
أی لا یکاد یسیغه.و یروی بالضاد المعجمة:أی جعلته عاضّا لهم .و المقارب-بالکسر-:
الّذی لیس بالتمام .
و قد کان معاویة کتب إلیه علیه السّلام یذکّره ما کانوا علیه قدیما من الالفة و الجماعة،و ینسب إلیه بعد ذلک قتل طلحة و الزبیر و التشرید بعایشه و یتوعّده بالحرب و یطلب منه قتلة عثمان.فأجابه علیه السّلام عن کلّ من ذلک بجواب:
أمّا الأوّل:فسلّم دعواه من القدر المشترک بینهم و هو الألفه و الجماعة قبل الإسلام و لکنّه ذکر الفارق و هو من وجوه:
أحدها:أنّه علیه السّلام فی أوّل الإسلام آمن فی جملة من أهل بیته،و معاویة و أهل بیته حینئذ کانوا کفّارا.
ص:208
الثانی:أنّه علیه السّلام و أهل بیته فی آخر الأمر لم یزالوا مستقیمین علی الدین و معاویة و أهل بیته مفتونین جاهلین بفتنتهم.
استعارة الثالث :أنّ من أسلم من أهل بیته علیه السّلام أسلم طوعا،و مسلم أهل معاویة لم یسلم إلاّ کرها بعد أن اشتدّ الإسلام و صار للرسول صلّی اللّه علیه و آله حزب قویّ من أشراف العرب،و استعار لفظ أنف الإسلام لهم باعتبار کونهم أعزّاء أهله .و ممّن أسلم کرها أبو سفیان،و ذلک أنّه لمّا انتهی[أتی خ]رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله إلی مکّة فی غزوة الفتح أتی لیلا فنزل بالبطحاء و ما حولها فخرج العبّاس بن عبد المطّلب علی بغلة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله یدور حول مکّة فی طلب من یبعثه إلی قریش لیخرجوا إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و یعتذروا إلیه فلقی أبا سفیان فقال له:کن ردیفی لتمضی إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و نأخذ الأمان لک منه.فلمّا دخل علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله عرض علیه الإسلام فأبی.فقال عمر:ائذن لی یا رسول اللّه لأضرب عنقه.و کان العبّاس یحامی عنه للقرابة فقال:
یا رسول اللّه إنّه یسلم غدا.فلمّا جاء الغد دخل به علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فعرض علیه الإسلام فأبی فقال له العبّاس فی السرّ:یا أبا سفیان اشهد أن «لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ» و اشهد أنّ محمّدا رسول اللّه و إن لم یکن ذلک فی قلبک فإنّه یأمر الآن بقتلک إن لم تقل.
فشهد الشهادتین علی کره لخوف القتل و قد رأی أکثر من عشرة آلاف رجل حول رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله قد تحزبّوا معه و اجتمعوا إلیه.فذلک معنی قوله:أمّا بعد.إلی قوله:حزبا.
الثانی :ما ادّعاه علیه من قتل طلحة و الزبیر و تشرید عایشه و النزول بین المصرین البصرة و الکوفة،فأجاب عنه بقوله:و ذلک.إلی قوله:إلیک و هو فی قوّة ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من غاب عن أمر و لم یکن فیه مدخل فلیس تکلیفه علیه و لا العذر من التقصیر و التفریط فیه إلیه.
الثالث :ما توعّده به من زیارته فی المهاجرین و الأنصار،فأجابه بوجهین:
أحدهما:أنّه أوهم فی کلامه أنّه من المهاجرین فأکذبه بقوله:و قد انقطعت الهجرة یوم أسر أبوک:أی حین الفتح،و ذلک أنّ معاویة و أباه و جماعة من أهله
ص:209
إنّما أظهروا الإسلام بعد الفتح و قد قال صلّی اللّه علیه و آله:لا هجرة بعد الفتح فلا یصدق علیهم إذن اسم المهاجرین.و سمّی علیه السّلام أخذ العبّاس لأبی سفیان إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله غیر مختار و عرضه علی القتل أسرا.و روی یوم اسر أخوک.و قد کان اسر أخوه عمرو بن أبی سفیان یوم بدر.فعلی هذه الروایة یکون الکلام فی معرض التذکرة له بأنّ من شأنه و شأن أهله أن یؤسروا أوّلا فیسلموا فکیف یدّعون مع ذلک الهجرة فإنّ الهجرة بهذه الاعتبار منقطعة عنهم.و لا یکون-یوم اسر-ظرفا لانقطاع الهجرة لأنّ الهجرة انقطعت بعد الفتح.
الثانی :مقابلة وعیده بوعید مثله و هو فوله:فإن کان.إلی قوله:مقام واحد.و أراد إن کنت مستعجلا فی مسیرک إلیّ فاطلب الرفاهیّة علی نفسک فی ذلک فإنّک إنّما تستعجل إلی ما یضرّک،و نبّه علی ذلک تشبیه بقوله: فإنّی.إلی قوله:
واحد ،و هو فی قوّة صغری ضمیر و وجه التمثیل بالبیت أنّه شبّه استقبال معاویة فی جمعه له باستقبالهم ریاح الصیف،و شبّه نفسه بریاح الصیف و جعل وجه المشابهة کونه علیه السّلام یضرب وجوههم فی الحرب بالسیوف و الرماح کما تضرب ریاح الصیف وجوه مستقبلیها بالحصباء ،و قد بیّنا أنّه علیه السّلام قتل جدّ معاویة و هو عتبة،و خاله الولید بن عتبة،و أخاه حنظلة بن أبی سفیان.و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فمن الواجب ان یحذر منه ولایتوعد بحرب و قتال.
استعارة و قوله : و إنّک و اللّه.إلی قوله:الهوینا .
توبیخ مشوب بتهدید،و ما فی قوله:و ما علمت.موصولة،و استعار لفظ الأغلف لقلبه،و وجه الاستعارة أنّه محجوب بالهیئات البدنیّة و أغشیة الباطل عن قبول الحقّ و فهمه فکأنّه فی غلاف منها،و وصف المقاربة فی عقله لاختیاره الباطل.
استعارة مرشحة ثمّ أعلمه علی سبیل التوبیخ بما الأولی أن یقال فی حاله.و استعار لفظ السلّم للأحوال الّتی رکبها و المنزلة الّتی طلبها،و رشّح بذکر الارتقاء و الإطلاع.المطلع مصدر،و یجوز أن یکون اسم الموضع و احتجّ لصحّة قوله بقوله: لأنّک:إلی قوله:
معدنه ،و استعار الضالّة و السائمة لمرتبته الّتی ینبغی له أن یطلبها و یقف عندها.و
ص:210
ما هو غیرها هو أمر الخلافة.إذ لیس من أهلها.و رشّح بذکر النشید و الرعی.
ثمّ تعجّب من بعد ما بیّن قوله و فعله و ذلک أنّ مدار قوله فی الظاهر علی طلب قتلة عثمان و إنکار المنکر کما ادّعاه،و مدار فعله و حرکاته علی التغلیب فی الملک و البغی علی الإمام العادل و شتّان ما هما. تشبیه ثمّ حکم بقرب شبهه بأعمامه و أخواله .
و ما مصدریة و المصدر مبتدأ خبره قریب.فمن أهل الشقاوة من جهة عمومته حمّالة الحطب و من جهة خؤولته الولید بن عتبة.و إنّما أنکر الأعمام و الأخوال لأنّه لم یکن له أعمام و أخوال کثیرون و الجمع المنکر جاز أن یعبّر به عن الواحد و الاثنین للمبالغة مجازا فی معرض الشناعة،و لا کذلک الجمع المعرّف،و أشار إلی وجه الشبه بقوله:حملتهم.إلی قوله:الهوینا .و موضع قوله:حملتهم.الجرّ صفة لأخوال و أراد الشقّاوة المکتوبة علیهم فی الدنیا و الآخرة الّتی استعدّوا لها بجحود محمّد صلّی اللّه علیه و آله و تمنّی الباطل هو ما کانوا یتمنّونه و یبذلون أنفسهم و أموالهم فیه من قهر الرسول صلّی اللّه علیه و آله و إطفاء نور النبوّة و إقامة أمر الشرک.
و قوله:بوقع.
متعلّق بقوله:فصرعوا.و ما خلاصفة لسیوف. استعارة و لفظ المماشاة مستعار.و المراد أنّ تلک السیوف لم یلحق ضربها و وقعها هون و لا سهولة و لم یجر معها،و روی لم یماسّها بالسین المهملة من المماسّة:أی لم یخالطها شیء من ذلک .
الرابع:طلبه لقتلة عثمان و أجابه بقوله:فادخل.إلی آخره،و أراد فیما دخل فیه الناس من الطاعة و البیعة.و صدق الجواب ظاهر لأنّه لا بدّ للمتحاکمین من حاکم و هو علیه السّلام یومئذ الحاکم الحقّ فلیس لمعاویة أن یطلب منه إذن قوما منهم المهاجرون و الأنصار لیسلّمهم إلیه حتّی یقتلهم من غیر محاکمة بل یجب أن یدخل فی طاعته و یجری علیه أحکامه لیحاکم القوم إلیه فإمّا له و إمّا علیه.
و قوله:و أمّا تلک الّتی ترید.
أی الخدعة عن الشام لغرض إقراره علی إمارتها.و وجه مشابهتها بخدعة الصبیّ ضعفها و ظهور کونها خدعة لکلّ أحد.و إنّما قال:و السّلام لأهله.لأنّ
ص:211
معاویة لم یکن فی نظره من أهله.و باللّه التوفیق.
إلیه أیضا
أَمَّا بَعْدُ- فَقَدْ آنَ لَکَ أَنْ تَنْتَفِعَ بِاللَّمْحِ الْبَاصِرِ مِنْ عِیَانِ الْأُمُورِ- فَقَدْ سَلَکْتَ مَدَارِجَ أَسْلاَفِکَ بِادِّعَائِکَ الْأَبَاطِیلَ- وَ اقْتِحَامِکَ غُرُورَ الْمَیْنِ وَ الْأَکَاذِیبِ وَ بِانْتِحَالِکَ مَا قَدْ عَلاَ عَنْکَ- وَ ابْتِزَازِکَ لِمَا قَدِ اخْتُزِنَ دُونَکَ- فِرَاراً مِنَ الْحَقِّ- وَ جُحُوداً لِمَا هُوَ أَلْزَمُ لَکَ مِنْ لَحْمِکَ وَ دَمِکَ- مِمَّا قَدْ وَعَاهُ سَمْعُکَ- وَ مُلِئَ بِهِ صَدْرُکَ- فَمَا ذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ الْمُبِینُ- وَ بَعْدَ الْبَیَانِ إِلاَّ اللَّبْسُ- فَاحْذَرِ الشُّبْهَةَ وَ اشْتِمَالَهَا عَلَی لُبْسَتِهَا- فَإِنَّ الْفِتْنَةَ طَالَمَا أَغْدَفَتْ جَلاَبِیبَهَا- وَ أَعْشَتِ الْأَبْصَارَ ظُلْمَتُهَا- وَ قَدْ أَتَانِی کِتَابٌ مِنْکَ ذُو أَفَانِینَ مِنَ الْقَوْلِ- ضَعُفَتْ قُوَاهَا عَنِ السِّلْمِ- وَ أَسَاطِیرَ لَمْ یَحُکْهَا مِنْکَ عِلْمٌ وَ لاَ حِلْمٌ- أَصْبَحْتَ مِنْهَا کَالْخَائِضِ فِی الدَّهَاسِ- وَ الْخَابِطِ فِی الدِّیمَاسِ- وَ تَرَقَّیْتَ إِلَی مَرْقَبَةٍ بَعِیدَةِ الْمَرَامِ- نَازِحَةِ الْأَعْلاَمِ- تَقْصُرُ دُونَهَا الْأَنُوقُ- وَ یُحَاذَی بِهَا الْعَیُّوقُ- وَ حَاشَ لِلَّهِ أَنْ تَلِیَ لِلْمُسْلِمِینَ بَعْدِی صَدْراً أَوْ وِرْداً- أَوْ أُجْرِیَ لَکَ عَلَی
ص:212
أَحَدٍ مِنْهُمْ عَقْداً أَوْ عَهْداً- فَمِنَ الْآنَ فَتَدَارَکْ نَفْسَکَ وَ انْظُرْ لَهَا- فَإِنَّکَ إِنْ فَرَّطْتَ حَتَّی یَنْهَدَ إِلَیْکَ عِبَادُ اللَّهِ- أُرْتِجَتْ عَلَیْکَ الْأُمُورُ- وَ مُنِعْتَ أَمْراً هُوَ مِنْکَ الْیَوْمَ مَقْبُولٌ وَ السَّلاَمُ
أقول: المدارج : المسالک و المذاهب جمع مدرجة .و الإقحام : الدخول فی الشیء بسرعة من غیر رویّة .و انتحل الکلام : ادّعاه لنفسه و لیس له .و الابتزاز:
الاستلاب .و اغدفت المرأة جلبابها : أرسلته علی وجهها .و التفنّن: التخلیط و التنویع .و الأساطیر : الأباطیل جمع اسطورة بالضمّ و إسطارة بالکسر .و الدهاس:
المکان السهل اللیّن دون الرمل .و الدیماس : المکان شدید الظلمة،و کالسراب و نحوه.
و المرقبة : موضع مشرف یرتفع علیه الراصد و الأنوق : الرخمة .و العیّوق : نجم معروف .و تنهد : تنهض .و أرتجت : أغلقت .
و الکتاب جواب أیضا .
فقوله: أمّا بعد .إلی قوله: الأمور .
تنبیه له علی وجوب الاتّعاظ و الانزجار عن دعوی ما لیس له.و المراد أنّه قد حضر وقت انتفاعک من عیان الأمور و مشاهدتها بلمحک الباصر. استعارة و لفظ اللمح مستعار لدرک الأمور النافعة بخفّة و سرعة ،و روی عیون الأمور:أی أنفسها و حقائقها الّتی هی موارد اللمح و الاعتبار،و وصفه بالباصر مبالغة فی الإبصار کقولهم:
لیل ألیل.
و قوله:فقد سلکت.إلی قوله:اللبس.
إشارة إلی سبب حاجته إلی التنبیه المذکور و هو سلوکه طرایق أسلافه بالأمور الأربعة المذکورة فادّعاؤه الأباطیل ادّعاؤه ما لیس له بحقّ حقّا من دم عثمان و طلحة و الزبیر و غیر ذلک،و اقتحامه لغرور الأکاذیب دخوله فی الغفلة عن سوء عاقبتها.و أکاذیبه فی دعاویه ظاهرة.و ما قد علا عنه هو أمر الخلافة ،و ما اختزن
ص:213
دونه فابتزّه هو مال المسلمین و بلادهم الّتی یغلب علیها.و أراد أنّه اختزن بالاستحقاق من اللّه.و فرارا و جحودا مصدران سدّا مسدّ الحال،و ما هو ألزم له من لحمه و دمه ممّا قد وعاه سمعه عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و امتلأ به صدره علما فی مواطن کغدیر خمّ و غیره هو وجوب طاعته،و إنّما کان ألزم له من لحمه و دمه لأنّهما دائما فی التغیّر و التبدّل و وجوب طاعته أمر لازم لنفسه لا یجوز تغیّره و تبدّله، مجاز إطلاقا لاسم المتعلّق علی المتعلّق و تجوّز بلفظ الصدر فی القلب إطلاقا لاسم المتعلّق علی المتعلّق ،و أشار بالآیة إلی أنّ الحقّ الّذی علمته لی لیس وراءه لمن تعدّاه إلاّ الضلال و الهلاک لأنّ الحقّ حدّ من تجاوزه وقع فی أحد طرفی الإفراط و التفریط،و کذلک لیس بعد البیان الّذی بیّن لک فی أمری إلاّ اللبس .ثمّ حذّرة الشبهة و اشتمالها علی لبستها.و الشبهة دم عثمان. استعارة و لفظ اللبسة مستعار للداخلین فیها ملاحظة لشبهها بالقمیص و نحوه ،و علّل تحذیره إیّاه و وجوب وقوفه دونها بقوله:فإنّ الفتنة.إلی قوله:ظلمتها.و هو صغری ضمیر استعارة و استعار لفظ الجلابیب لأمورها المغطیة لبصائر أهلها عن الحقّ کما لا تبصر المرأة عند إرسال جلبابها علی وجهها . استعارة مرشحة و کذلک استعار لفظ الظلمة باعتبار التباس الأمور فیها و عدم التهدّی إلی الحقّ کالظلمة الّتی لا یهتدی فیها،و رشّح بذکر الإغداف و الإعشاء .ثمّ شرع فی أحوال کتابه فبدء بذمّه.و لمّا کان مداره علی اللفظ و المعنی أشار إلی ذمّ اللفظ بأنّه ذو أفانین من القول:أی أنّه أقوال ملفّقة لا یناسب بعضها بعضا.
و قوله: ضعفت قواها عن السلم .
أی لیس لها قوّة أن یوجب صلحا.و أشار إلی ذمّ المعنی بأنّه أباطیل غیر محکمة النسج لا من جهة العلم إذ لا علم له و لا من جهة الحلم لأنّ الکتاب کان فیه خشونة و تهوّر و ذلک ینافی الحلم و ینافی غرضه من الصلح. استعارة و لفظ الحوک مستعار لسبک الکلام .
تشبیه و قوله:أصبحت منها.
صفة لأساطیر،و وجه شبهه بالخائض و الخابط ضلاله و عدم هدایته إلی وجه
ص:214
الحقّ کما لا یهتدی حائض الدهاس و خابط الدیماس فیهما .ثمّ شرع فی جوابه و کان مقصوده فی کتابه أن ینصّ علیه بالخلافة بعده لیبایعه فوبّخه أوّلا علی طلبه أمرا لیس من أهله استعارة مرشحة بقوله: و ترقّیت.إلی قوله:العیّوق .و لفظ المرقبة مستعار لأمر الخلافة.و رشّح بلفظ الترقّی و الأوصاف الأربعة بعدها لأنّها من شأن المرقبة التامّة،و إنّما خصّ الأنوق لأنّها تقصد الأماکن العالیة الصعبة من رءوس الجبال فیبنی أو کارها هناک .ثمّ صرفه عن المطلوب بتنزیه اللّه سبحانه أن یلی من بعده للمسلمین خروجا أو دخولا فی أمر من أمورهم،أو أن یجری علی أحد منهم له عقدا أو عهدا.و العقد کالنکاح و البیوع و الإجارة،و العهد کالبیعة و الأمان و الیمین و الذمّة:أی لا یمکنه من ذلک ،و لمّا آیسه من المطلوب أمره بتدارک نفسه بالنظر لها فیما هو مصلحتها من طاعته،و توعّده علی تقصیره فی ذلک بما یلزم تقصیره من نهوض عباد اللّه إلیه و انغلاق الأمور حینئذ و منعه العذر الّذی هو منه الآن مقبول.و باللّه التوفیق.
إلی عبد اللّه بن العباس
،و قد تقدم ذکره بخلاف هذه الروایة أَمَّا بَعْدُ- فَإِنَّ الْمَرْءَ لَیَفْرَحُ بِالشَّیْءِ الَّذِی لَمْ یَکُنْ لِیَفُوتَهُ- وَ یَحْزَنُ عَلَی الشَّیْءِ الَّذِی لَمْ یَکُنْ لِیُصِیبَهُ- فَلاَ یَکُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِی نَفْسِکَ- مِنْ دُنْیَاکَ بُلُوغُ لَذَّةٍ- أَوْ شِفَاءُ غَیْظٍ- وَ لَکِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْیَاءُ حَقٍّ-وَ لْیَکُنْ سُرُورُکَ بِمَا قَدَّمْتَ- وَ أَسَفُکَ عَلَی مَا خَلَّفْتَ- وَ هَمُّکَ فِیمَا بَعْدَ الْمَوْتِ
أقول:قد سبق شرحه إلاّ کلمات یسیرة فیه :
ص:215
منها:أنّه نبّهه علی لزوم فضیلتی العفّة و الحلم بالنهی عن أن یجعل بلوغ لذّته من دنیاه أو شفاء غیظه اللذین هما طرفا الإفراط و التفریط من الفضیلتین المذکورتین أفضل ما نال منها فی نفسه .ثمّ نبّهه علی ما ینبغی أن یکون أفضل فی نفسه من دنیاه و هو إطفاء الباطل و إحیاء الحقّ.و إطفاء الباطل تنبیه علی وجه استعمال قوّتی الشهوة و الغضب و هو أن یکون الغرض من فعلها دفع الضرورة و بقدر الحاجة.
و منها :أنّه أمره فی الروایة الاولی أن یکون فرحه بما نال من آخرته،و أمره هنا أن یکون سروره بما قدّم لنفسه من زاد التقوی و هو أمر بمقدّمة الآخرة.
و أمره فی الروایة الأولی أن یکون أسفه علی ما فات من آخرته،و أمره هنا أن یکون أسفه علی ما خلّف:أی ترک من العمل.و باللّه التوفیق.
إلی قثم بن العباس،و هو عامله علی مکة
أَمَّا بَعْدُ فَأَقِمْ لِلنَّاسِ الْحَجَّ- «وَ ذَکِّرْهُمْ بِأَیّامِ اللّهِ» - وَ اجْلِسْ لَهُمُ الْعَصْرَیْنِ فَأَفْتِ الْمُسْتَفْتِیَ- وَ عَلِّمِ الْجَاهِلَ وَ ذَاکِرِ الْعَالِمَ- وَ لاَ یَکُنْ لَکَ إِلَی النَّاسِ سَفِیرٌ إِلاَّ لِسَانُکَ- وَ لاَ حَاجِبٌ إِلاَّ وَجْهُکَ- وَ لاَ تَحْجُبَنَّ ذَا حَاجَةٍ عَنْ لِقَائِکَ بِهَا- فَإِنَّهَا إِنْ ذِیدَتْ عَنْ أَبْوَابِکَ فِی أَوَّلِ وِرْدِهَا- لَمْ تُحْمَدْ فِیمَا بَعْدُ عَلَی قَضَائِهَا- وَ انْظُرْ إِلَی مَا اجْتَمَعَ عِنْدَکَ مِنْ مَالِ اللَّهِ- فَاصْرِفْهُ إِلَی مَنْ قِبَلَکَ مِنْ ذَوِی الْعِیَالِ وَ الْمَجَاعَةِ- مُصِیباً بِهِ مَوَاضِعَ الْفَاقَةِ وَ الْخَلاَّتِ- وَ مَا فَضَلَ عَنْ ذَلِکَ فَاحْمِلْهُ إِلَیْنَا لِنَقْسِمَهُ فِیمَنْ قِبَلَنَا-
ص:216
وَ مُرْ أَهْلَ؟مَکَّةَ؟ أَلاَّ یَأْخُذُوا مِنْ سَاکِنٍ أَجْراً- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ یَقُولُ- «سَواءً الْعاکِفُ فِیهِ وَ الْبادِ» - فَالْعَاکِفُ الْمُقِیمُ بِهِ- وَ الْبَادِی الَّذِی یَحُجُّ إِلَیْهِ مِنْ غَیْرِ أَهْلِهِ- وَفَّقَنَا اللَّهُ وَ إِیَّاکُمْ لِمَحَابِّهِ وَ السَّلاَمُ
أقول: ذیدت : ردّت .و الخلّة : الحاجة .
و إقامته القیام بأعماله،و تعلیم الجاهلین کیفیّته،و جمعهم علیه.
مجازا إطلاقا لاسم المتعلّق علی المتعلّق أن یذکّرهم بأیّام اللّه :أی عقوباته الّتی وقعت بمن سلف من المستحقّین لها کی یحترزوا بطاعته من أمثالها.و عبّر عنها بالأیّام مجازا إطلاقا لاسم المتعلّق علی المتعلّق .
:أی الغداة و العشیّ لکونهما أطیب الأوقات بالحجاز،و أشار إلی أعظم فوائد جلوسه فی الوقتین و هی فایدة العلم،و حصره وجوه حاجة أهلها إلیها و أمره بسدّ تلک الوجوه،و بیان الحصر أنّ الناس إمّا غیر عالم أو عالم،و غیر العالم إمّا مقلّد أو متعلّم طالب،و العالم إمّا هو أو غیره.فهذه أقسام أربعة.فوجه حاجة القسم الأوّل و هو الجاهل المقلّد أن یستفتی فأمره أن یفتیه،و وجه حاجة الثانی و هو المتعلّم الجاهل أن یتعلّم فأمره أن یعلّمه،و وجه حاجة الثالث هو مع الرابع و هو العالم أن یتذاکرا فأمره بالمذاکرة له .
نهاه أن یجعل له إلی الناس سفیرا یعبر عنه إلاّ لسانه،و لا حاجبا إلاّ وجهه لأنّ ذلک مظنّة الکبر و الجهل بأحوال الناس الّتی یجب علی الوالی الإحاطة بها بقدر الإمکان.و إلاّ للحصر و ما بعدها خبر کان.
نهاه أن یحجب أحدا عن لقائه،بحاجته مؤکّدا لما سبق،و رغبّه فی ملاقات ذی الحاجة بضمیر صغراه قوله:فإنّها.إلی قوله:قضائها:أی لم تحمد
ص:217
فیما بعد و إن قضیتها له،و تقدیر الکبری:و کلّ أمر کان کذلک فلا ینبغی أن یحجب صاحبه عن لقائک به و یذاد عن أبوابک فی أوّل ورده .
أمره أن یعتبر مال بیت المسلمین و یصرفه فی مصارفه متوخّیا بذلک الأحوج فالأحوج و یحمل الباقی إلیه.و مصیبا حال.و روی:مواضع المفاقر.
و الإضافة لتغایر اللفظین .
أمره بنهی أهل مکّة عن أخذ الاجرة ممّن یسکن بیوتهم و احتجّ لذلک بالآیة مفسّرا لها،و هی صغری ضمیر.و تقدیر کبراه:و کلّما قال اللّه فیه ذلک لم یجز مخالفته.ثمّ ختم بالدعاء لنفسه و له أن یوفّقهما لمحابّه.و به التوفیق لذلک.
إلی سلمان الفارسی رحمه اللّه قبل أیام خلافته
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا مَثَلُ الدُّنْیَا مَثَلُ الْحَیَّةِ- لَیِّنٌ مَسُّهَا قَاتِلٌ سَمُّهَا- فَأَعْرِضْ عَمَّا یُعْجِبُکَ فِیهَا- لِقِلَّةِ مَا یَصْحَبُکَ مِنْهَا- وَ ضَعْ عَنْکَ هُمُومَهَا- لِمَا أَیْقَنْتَ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا- وَ تَصَرُّفِ حَالاَتِهَا- وَ کُنْ آنَسَ مَا تَکُونُ بِهَا أَحْذَرَ مَا تَکُونُ مِنْهَا- فَإِنَّ صَاحِبَهَا کُلَّمَا اطْمَأَنَّ فِیهَا إِلَی سُرُورٍ- أَشْخَصَتْهُ عَنْهُ إِلَی مَحْذُورٍ
أقول: أشخصته : أذهبته .
و مدار الفصل علی الموعظة و ذمّ الدنیا،و ضرب لها مثلا،و ذکر من وجوه الشبه من جانب الممثّل به أمرین:
أحدهما:لیّن المسّ و تماثله من جانب الدنیا رفاهیّة العیش و لذّاته.
و الثانی:قتل سمّها و یماثله من الدنیا هلاک المنهمکین فی لذّاتها یوم القیامة ثمّ أمره فی مقامه بها بأوامر:
ص:218
أحدها:أن یعرض عمّا یعجبه منها.و علّل وجوب إعراضه بقوله:لقلّة ما یصحبک منها،و هی صغری ضمیر تقدیرها:ما یصحبک منها قلیل،و تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فینبغی أن یعرض عنه.
الثانی:أن یضع عنه هموم طلبها،و علّل وجوب ذلک بضمیر صغراه قوله:لما أیقنت من فراقها:أی لأنک متیقّن لفراقها.و تقدیر کبراه:و کلّما تیقّنت فراقه فواجب أن تضع همّک عن طلبه .
الثالث:أن یکون آنس ما یکون بها أحذر ما یکون منها.و ما مصدریّة،و آنس ینصب علی الحال،و أحذر خبر کان:أی فی حال کونک آنس بها کن أحذر ما تکون منها.و الغرض أن یحذر منها بقدر جهده و لا یأنس بها.و علّل وجوب الحذر منها بقوله:فإنّ صاحبها.إلی آخره.و هو صغری ضمیر تقدیرها:فإنّها کلّما اطمأنّ صاحبها فیها.إلی آخره.و تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فیجب أن یحذر صاحبه منه و لا یأنس إلیه ینتج فالدنیا یجب أن یحذر صاحبها منها.
إلی الحارث الهمدانی
وَ تَمَسَّکْ بِحَبْلِ؟الْقُرْآنِ؟ وَ انْتَصِحْهُ وَ أَحِلَّ حَلاَلَهُ وَ حَرِّمْ حَرَامَهُ- وَ صَدِّقْ بِمَا سَلَفَ مِنَ الْحَقِّ- وَ اعْتَبِرْ بِمَا مَضَی مِنَ الدُّنْیَا لِمَا بَقِیَ مِنْهَا- فَإِنَّ بَعْضَهَا یُشْبِهُ بَعْضاً- وَ آخِرَهَا لاَحِقٌ بِأَوَّلِهَا- وَ کُلُّهَا حَائِلٌ مُفَارِقٌ- وَ عَظِّمِ اسْمَ اللَّهِ أَنْ تَذْکُرَهُ إِلاَّ عَلَی حَقٍّ- وَ أَکْثِرْ ذِکْرَ الْمَوْتِ وَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ- وَ لاَ تَتَمَنَّ الْمَوْتَ إِلاَّ بِشَرْطٍ وَثِیقٍ- وَ احْذَرْ کُلَّ عَمَلٍ یَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ- وَ یُکْرَهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِینَ- وَ احْذَرْ کُلَّ عَمَلٍ یُعْمَلُ بِهِ فِی السِّرِّ- وَ یُسْتَحَی مِنْهُ فِی الْعَلاَنِیَةِ
ص:219
وَ احْذَرْ کُلَّ عَمَلٍ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ أَنْکَرَهُ أَوْ اعْتَذَرَ مِنْهُ- وَ لاَ تَجْعَلْ عِرْضَکَ غَرَضاً لِنِبَالِ الْقَوْلِ- وَ لاَ تُحَدِّثِ النَّاسَ بِکُلِّ مَا سَمِعْتَ بِهِ- فَکَفَی بِذَلِکَ کَذِباً- وَ لاَ تَرُدَّ عَلَی النَّاسِ کُلَّ مَا حَدَّثُوکَ بِهِ- فَکَفَی بِذَلِکَ جَهْلاً- وَ اکْظِمِ الْغَیْظَ وَ احْلُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ- وَ تَجَاوَزْ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ- وَ اصْفَحْ مَعَ الدَّوْلَةِ تَکُنْ لَکَ الْعَاقِبَةُ- وَ اسْتَصْلِحْ کُلَّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَیْکَ- وَ لاَ تُضَیِّعَنَّ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عِنْدَکَ- وَ لْیُرَ عَلَیْکَ أَثَرُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَیْکَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ الْمُؤْمِنِینَ- أَفْضَلُهُمْ تَقْدِمَةً مِنْ نَفْسِهِ وَ أَهْلِهِ وَ مَالِهِ- فَإِنَّکَ مَا تُقَدِّمْ مِنْ خَیْرٍ یَبْقَ لَکَ ذُخْرُهُ- وَ مَا تُؤَخِّرْهُ یَکُنْ لِغَیْرِکَ خَیْرُهُ- وَ احْذَرْ صَحَابَةَ مَنْ یَفِیلُ رَأْیُهُ- وَ یُنْکَرُ عَمَلُهُ فَإِنَّ الصَّاحِبَ مُعْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ- وَ اسْکُنِ الْأَمْصَارَ الْعِظَامَ فَإِنَّهَا جِمَاعُ الْمُسْلِمِینَ- وَ احْذَرْ مَنَازِلَ الْغَفْلَةِ وَ الْجَفَاءِ- وَ قِلَّةَ الْأَعْوَانِ عَلَی طَاعَةِ اللَّهِ- وَ اقْصُرْ رَأْیَکَ عَلَی مَا یَعْنِیکَ- وَ إِیَّاکَ وَ مَقَاعِدَ الْأَسْوَاقِ- فَإِنَّهَا مَحَاضِرُ الشَّیْطَانِ وَ مَعَارِیضُ الْفِتَنِ- وَ أَکْثِرْ أَنْ تَنْظُرَ إِلَی مَنْ فُضِّلْتَ عَلَیْهِ- فَإِنَّ ذَلِکَ مِنْ أَبْوَابِ الشُّکْرِ- وَ لاَ تُسَافِرْ فِی یَوْمِ جُمُعَةٍ حَتَّی تَشْهَدَ الصَّلاَةَ- إِلاَّ فَاصِلاً فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَوْ فِی أَمْرٍ تُعْذَرُ بِهِ- وَ أَطِعِ اللَّهَ فِی جَمِیعِ أُمُورِکَ- فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ فَاضِلَةٌ عَلَی مَا سِوَاهَا- وَ خَادِعْ نَفْسَکَ فِی الْعِبَادَةِ وَ ارْفُقْ
ص:220
بِهَا وَ لاَ تَقْهَرْهَا- وَ خُذْ عَفْوَهَا وَ نَشَاطَهَا- إِلاَّ مَا کَانَ مَکْتُوباً عَلَیْکَ مِنَ الْفَرِیضَةِ- فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا وَ تَعَاهُدِهَا عِنْدَ مَحَلِّهَا- وَ إِیَّاکَ أَنْ یَنْزِلَ بِکَ الْمَوْتُ- وَ أَنْتَ آبِقٌ مِنْ رَبِّکَ فِی طَلَبِ الدُّنْیَا- وَ إِیَّاکَ وَ مُصَاحَبَةَ الْفُسَّاقِ- فَإِنَّ الشَّرَّ بِالشَّرِّ مُلْحَقٌ- وَ وَقِّرِ اللَّهَ وَ أَحْبِبْ أَحِبَّاءَهُ- وَ احْذَرِ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ جُنْدٌ عَظِیمٌ مِنْ جُنُودِ؟إِبْلِیسَ؟ أقول:هذا الفصل من کتاب طویل إلیه.
و قد أمره فیه بأوامره و زجره بزواجره مدارها علی تعلیم مکارم الأخلاق و محاسن الآداب.
استعارة أن یتمسّک بحبل القرآن .و لفظ الحبل مستعار کما سبق.و أراد لزوم العمل به .
:أی یتّخذه ناصحا له بحیث یقبل أمره و شوره لأنّه یهدی إلی الحقّ و إلی صراط مستقیم.
و ذلک أن یعتقد ما فیه من الحلال و الحرام حلالا و حراما و یقف عند اعتقاده و یعمل بمقتضاه.
ممّا حکاه القرآن الکریم من أحوال القرون الماضیة و أحوال الأنبیاء مع أممهم لیصحّ منه الاعتبار.
و یقیسه به فیجعل ما مضی أصلا و ما یبقی فرعا و یحذو القدر المشترک بینهما من العلّة و هو کونها مظنّة التغیّر و الزوال فیحکم فی الفرع بحکم الأصل من وجوب الزوال،و قد نبّه علی المشترک بقوله:
فإنّ بعضها یشبه بعضا.و علی ما یلزم ذلک فی الفرع بقوله:و آخرها لاحق بأوّلها و کلّها حائل:أی زائل مفارق .
أن یذکره حالفا إلاّ علی حقّ.
ص:221
فإنّ فی ذکرهما أعظم واعظ و أشدّ زاجر عن الدنیا.
من نفسه یطمئنّ إلیه فی طاعة اللّه و ولایته فإنّ تمنّیه بدون ذلک سفه و حمق.
و هو فی المعنی نهی عن الاستیثار علیهم بالمکاره و لنفسه بالخیرات و هو کقوله:ردّ للناس ما ترید لنفسک و اکره لهم ما تکرهه لها.
و الإشارة إلی معاصی اللّه و مفارقة الدنایا من المباحات ،و کذلک کلّ عمل من شأنه أن ینکره إذا سئل عنه و یعتذر منه.
استعارة أن یحفظ عرضه و نهاه أن یجعله غرضا .و استعار لفظ الغرض و النبال لما یرمی به من القول:و قد سبق وجه الاستعارة .
علی وجه أن یقول:کان کذا و کذا دون أن یقول:سمعت فلانا یقول:کذا.فإنّ بینهما فرقا.و لذلک قال:و کفی بذلک کذبا.لأنّه جاز أن یکون ما سمع فی نفس الأمر کذبا فیکون قد کذب فی قوله:کان کذا.و قوله:سمعت کذا.لا یکون کذبا إلاّ علی وجه آخر.
و یقابله بالتکذیب و الإنکار لأنّه جاز أن یکون حقّا فیحصل من إنکاره جهل بحقّ،و قوله:فکفی.فی الموضعین صغری ضمیر تقدیر کبری الأوّل:و کلّما کفی به کذبا فینبغی أن لا یتحدّث به.
و تقدیر کبری الثانی:و کلّما کفی بردّه جهلا وجب أن لا یردّ .
هی فضائل تحت ملکة الشجاعة و شرطها بوجود الغضب و القدرة و الدولة فیسمّی حلما و تجاوزا و صفحا و إلاّ لم یصدق علیها الاسم.
و قوله:تکن لک العاقبة.
ص:222
أی العاقبة الحسنة من ذلک،و هی صغری ضمیر تقدیرها:فإنّ فاعل هذه الخصال یکون له العاقبة منها،و تقدیر الکبری:و کلّما کانت له العاقبة الحسنة منها فیجب أن یفعلها.
علیه بمداومة الشکر .
أی بالقصور عن الشکر و الغفلة عنه.
.فظهور أثرها علیه بإظهارها علی نفسه و ذویه و صرف فاضلها إلی أهل الاستحقاق.و أعلمه بدلیل وجوب ذلک من وجهین:
أحدها:قوله:إنّ أفضل المؤمنین أفضلهم تقدمة:أی صدقة تقدّمها من نفسه بأقواله و أفعاله و أمواله،و من أهله کذلک.و هو جذب له أن یجعل نفسه من أفضل المؤمنین بالصدقة.
الثانی:قوله:و إنّک.إلی قوله:خیره:أی ما تقدّمه و تؤخّره من المال و تخلّفه،و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما إذا قدّمته کان لک ذخرا و إذا أخّرته کان لغیرک خیره فواجب علیک تقدیمه.
:أی یضعف،و ینکر عمله لسوئه.
و علّل ذلک الحذر بقوله:فإنّ.إلی قوله:بصاحبه:أی فإنّک تقاس به لتنسب فعلک إلی فعله،و لأنّ الطبع مع الصحبة أطوع للفعل منه للقول فلو صحبه لشابه فعله فعله .
و الغرض الجمعیّة علی دین اللّه کقوله صلّی اللّه علیه و آله:علیکم بالسواد الأعظم و لذلک علّل بکونها مجاز جماع المسلمین :أی مجمعهم.و أطلق اسم المصدر علی المکان مجازا ،و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فینبغی أن یخصّ بالسکنی.
:أن یحذر منازل الغفلة و الجفاء لأهل طاعة اللّه .
ص:223
فإنّ فیه شغلا عمّا لا یعنیه فتجاوزه إلیه سفه.
و أشار إلی وجه المفسدة بقوله:
فإنّها .إلی قوله: الفتن .و معنی کونه محاضر الشیطان کونها مجمع الشهوات و محلّ الخصومات الّتی مبدئها الشیطان.و معاریض:جمع معرض و هو محلّ عروض الفتن.و الکلام صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فلا یجوز القعود فیه.
و علّل ذلک بقوله:فإنّ.إلی قوله:الشکر.و وجه کونه بابا للشکر أنّه یکون سببا للدخول إلیه منه.و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان من أبواب الشکر فواجب ملازمته .
واضح.
و سرّه أن صلاة الجمعة عظیمة فی الدین و هو محلّ التأهّب لها و العبادة.
فوضعه للسفر وضع للشیء فی غیر موضعه .
و رغّب فیها بضمیر صغراه قوله:فإنّ.إلی قوله:سواها.و تقدیر کبراه:و کلّما فضّل ما سواه فالأولی لزومه و ایثاره علی ما سواه.
فإنّه لمّا کان شأن النفس اتّباع الهوی و موافقة الطبیعة فبالحریّ أن تخادع عن مألوفها إلی غیره تارة بأن یذکر الوعد،و تارة الوعید،و تارة بالاستشهاد بمن هو دونها ممّن شمّر فی عبادة اللّه، و تارة باللوم لها علی التفریط فی جنب اللّه.فإذا سلک بها فینبغی أن یکون بالرفق من غیر قهرها علی العبادة لکون ذلک داعیة الملال و الانقطاع کما أشار إلیه سیّد المرسلین صلّی اللّه علیه و آله:إنّ هذا الدین متین فأوغل فیه برفق و لا تبغّض فیه إلی نفسک عبادة اللّه فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقی،بل تأخذ منها عفوها و نشاطها فی العبادة إلاّ الفریضة فإنّه لا یجوز المساهلة فیها .
ص:224
استعارة حذّره أن ینزل به الموت حال ما هو آبق من ربّه .و استعار له الآبق باعتبار خروجه عن أمره و نهیه فی طلب الدنیا .
و نفّر عن ذلک بضمیر صغراه قوله:فإنّ الشرّ بالشرّ ملحق:أی فإنّه یصیر لک شرّا کشرّهم لأنّ القرین بالمقارن یقتدی.و تقدیر کبراه:و کلّ ما صیّر لک کذلک فلا یجوز فعله.
و أولیائه،و هما أصلان متلازمان.
و نفّر عنه بقوله:فإنّه.إلی آخره،و معنی کونه جندا له لأنّه من أعظم ما یدخل به علی الإنسان فیملکه و یصیر فی تصریفه کالملک الداخل بالجند العظیم علی المدینة،و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فواجب أن یحذر منه.و باللّه التوفیق.
إلی سهل بن حنیف الأنصاری
،و هو عامله علی المدینة فی معنی قوم من أهلها لحقوا بمعاویة أَمَّا بَعْدُ- فَقَدْ بَلَغَنِی أَنَّ رِجَالاً مِمَّنْ قِبَلَکَ یَتَسَلَّلُونَ إِلَی؟مُعَاوِیَةَ؟- فَلاَ تَأْسَفْ عَلَی مَا یَفُوتُکَ مِنْ عَدَدِهِمْ- وَ یَذْهَبُ عَنْکَ مِنْ مَدَدِهِمْ- فَکَفَی لَهُمْ غَیّاً- وَ لَکَ مِنْهُمْ شَافِیاً فِرَارُهُمْ مِنَ الْهُدَی وَ الْحَقِّ- وَ إِیضَاعُهُمْ إِلَی الْعَمَی وَ الْجَهْلِ- فَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْیَا مُقْبِلُونَ عَلَیْهَا وَ مُهْطِعُونَ إِلَیْهَا- وَ قَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَ رَأَوْهُ وَ سَمِعُوهُ وَ وَعَوْهُ- وَ عَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِی الْحَقِّ
ص:225
أُسْوَةٌ- فَهَرَبُوا إِلَی الْأَثَرَةِ- فَبُعْداً لَهُمْ وَ سُحْقاً- إِنَّهُمْ وَ اللَّهِ لَمْ یَنْفِرُوا مِنْ جَوْرٍ- وَ لَمْ یَلْحَقُوا بِعَدْلٍ- وَ إِنَّا لَنَطْمَعُ فِی هَذَا الْأَمْرِ أَنْ یُذَلِّلَ اللَّهُ لَنَا صَعْبَهُ- وَ یُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ «إِنْ شاءَ اللّهُ» وَ السَّلاَمُ
أقول: التسلّل : الذهاب واحدا بعد واحد .و الایضاع : الإسراع.و کذلک الإهطاع .و الأثرة : الاستبداد .
فقوله: أمّا بعد إلی قوله: معاویة .
إعلامه بعلمه بحالهم.
و قوله: فلا تأسف .إلی قوله: مددهم .
تسلیة له عمّا فاته من عددهم و مددهم.
و قوله: فکفی .إلی قوله: العدل .
استدراج له عن الأسف علی فرارهم بذکر معایبهم فی ضمیرین صغری الأوّل:منهما قوله:فکفی.إلی قوله:الجهل.و تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فلا یجوز الأسف علیه.و فرار فاعل کفی،و غیّا و شافیا تمیز.و صغری الثانی:قوله: و إنّما هم أهل الدنیا :أی لمّا کان شأنهم ذلک و عرفوا العدل عندنا و علموا تساوی الناس عندنا فی الحقّ هربوا إلی الاستئثار و الاستبداد عند معاویة.و تقدیر کبراه:و کلّ من کان بهذه الحال فلا یجوز الأسف علیه،و لذلک دعا علیهم بالبعد و السحق و هما مصدران وضعا للدعاء .ثمّ أقسم أنّهم لم یفرّوا من جور منه و لم یلحقوا بعدل من معاویة لیتأکّد حصره لأحوالهم الّتی هربوا لأجلها.
ثمّ وعده بما یطمع من اللّه تعالی من تذلیل ما صعب من أمر الخلافة لهم،و تسهیل حزنه بمشیئته سبحانه.
ص:226
إلی المنذر بن الجارود العبدی
،و قد خان فی بعض ما ولاه من أعماله أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلاَحَ أَبِیکَ غَرَّنِی مِنْکَ- وَ ظَنَنْتُ أَنَّکَ تَتَّبِعُ هَدْیَهُ- وَ تَسْلُکُ سَبِیلَهُ- فَإِذَا أَنْتَ فِیمَا رُقِّیَ إِلَیَّ عَنْکَ لاَ تَدَعُ لِهَوَاکَ انْقِیَاداً- وَ لاَ تُبْقِی لِآخِرَتِکَ عَتَاداً- تَعْمُرُ دُنْیَاکَ بِخَرَابِ آخِرَتِکَ- وَ تَصِلُ عَشِیرَتَکَ بِقَطِیعَةِ دِینِکَ- وَ لَئِنْ کَانَ مَا بَلَغَنِی عَنْکَ حَقّاً- لَجَمَلُ أَهْلِکَ وَ شِسْعُ نَعْلِکَ خَیْرٌ مِنْکَ- وَ مَنْ کَانَ بِصِفَتِکَ فَلَیْسَ بِأَهْلٍ أَنْ یُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ- أَوْ یُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ أَوْ یُعْلَی لَهُ قَدْرٌ- أَوْ یُشْرَکَ فِی أَمَانَةٍ أَوْ یُؤْمَنَ عَلَی جِبَایَةٍ- فَأَقْبِلْ إِلَیَّ حِینَ یَصِلُ إِلَیْکَ کِتَابِی هَذَا «إِنْ شاءَ اللّهُ» قال الرضی:و المنذر هذا هو الذی قال فیه أمیر المؤمنین علیه السّلام:
إنه لنظار فی عطفیه،مختال فی بردیه،تفال فی شراکیه.
أقول: العتاد : العدّة .و الشسع : سیر بین الإصبعین فی النعل العربی .
فذکر سبب غروره و هو قیاسه فی الصلاح علی أبیه الجارود العبدی فی أنّه یتبع ما کان علیه من الهدی .ثمّ ذکر ما رقّی إلیه عنه من الفارق من أربعة أوجه:
أحدها:انقیاده لهواه فی کلّ ما یقوده إلیه.
الثانی:إعراضه عمّا یعتدّ به لآخرته من صالح الأعمال.
الثالث:کونه یعمر دنیاه بما یستلزم خراب آخرته من تناول الحرام.
ص:227
السجع الرابع: کونه یصل عشیرته بما یقطع دینه من ذلک .و راعی السجع فی القرینتین .
ثمّ أخذ فی توبیخه و الحکم بنقصانه و حقارته إن حقّ ما نسب إلیه ذلک بتفضیل جمل أهله و شسع نعله علیه.و جمل الأهل ممّا یتمثّل به فی الهوان.و أصله فیما قیل:أنّ الجمل یکون لأب القبیلة فیصیر میراثا لهم یسوقه کلّ منهم و یصرفه فی حاجته فهو ذلیل حقیر بینهم . السجع المتوازی ثمّ حکم فی معرض توبیخه علی من کان بصفته أنّه لا یصلح لولایة عمل یراد له الوالی.و راعی فی القرائن الأربع السجع المتوازی. فالقدر بإزاء الأمر و الخیانة بإزاء الأمانة .و إنّما قال:أو یشرک فی أمانة.لأنّ الخلفاء امناء اللّه فی بلاده فمن ولّوه من قبلهم فقد أشرکوه فی أمانتهم.
و قوله: أو یؤمن علی خیانة .
أی حال خیانتک.لأنّ کلمة علی تفید الحال.ثمّ بعد توبیخه استقدمه علیه عزلا له .و الّذی حکاه السیّد-رحمه اللّه-من وصف أمیر المؤمنین علیه السّلام له فکنایة عن تکبّره.و التفل فی الشراک:نفخ الغبار عنه.و الحکایة مناسبة للکتاب لاشتمالها علی الذمّ.و باللّه التوفیق.
إلی عبد اللّه بن العباس
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّکَ لَسْتَ بِسَابِقٍ أَجَلَکَ- وَ لاَ مَرْزُوقٍ مَا لَیْسَ لَکَ- وَ اعْلَمْ بِأَنَّ الدَّهْرَ یَوْمَانِ- یَوْمٌ لَکَ وَ یَوْمٌ عَلَیْکَ- وَ أَنَّ الدُّنْیَا دَارُ دُوَلٍ- فَمَا کَانَ مِنْهَا لَکَ أَتَاکَ عَلَی ضَعْفِکَ- وَ مَا کَانَ مِنْهَا عَلَیْکَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِکَ
و لمّا کان الأجل هو الوقت الّذی علم اللّه أنّ
ص:228
زیدا یموت فیه لم یمکن أن یموت زید دونه لأنّ ذلک یستلزم انقلاب علم اللّه جهلا و أنّه محال.
:أی ما علم اللّه أنّه لیس رزقا له فمحال أن یرزق إیّاه لما بیّناه .
یوم له و هو الیوم الّذی فیه المنافع کاللذّة و کمالاتها،و یوم علیه و هو ما یکون علیه فیه المضرّة کالألم و ما یستلزمه و ذلک معنی کون الدنیا دار دول کما قال تعالی «وَ تِلْکَ الْأَیّامُ نُداوِلُها بَیْنَ النّاسِ» (1).
و إن کان أمرا کبیرا لعلم اللّه سبحانه بأنّه یصل إلیه،و کذلک ما کان علیه من شرّها لم یتمکّن من دفعه و إن کان قویّا.و ذکر الضعف و القوّة لیعلم استناد الأمور و الأرزاق إلی مدبّر حکیم هو مفیضها و مبدء أسبابها و ناظم وجودها و مقسّم کمالاتها و معطی کلّ منها ما استعدّ له من خیر أو شرّ.فقد یحصل الضعف للحیوان و یرزق رزقا واسعا و یکون ضعفه من الأسباب المعدّة لسعة رزقه،و بالعکس قد تحصل له القوّة فتکون من أسباب الحرمان. «وَ اللّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِیطٌ» و «هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِینُ» .
إلی معاویة
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّی عَلَی التَّرَدُّدِ فِی جَوَابِکَ- وَ الاِسْتِمَاعِ إِلَی کِتَابِکَ- لَمُوَهِّنٌ رَأْیِی وَ مُخَطِّئٌ فِرَاسَتِی- وَ إِنَّکَ إِذْ تُحَاوِلُنِی الْأُمُورَ- وَ تُرَاجِعُنِی السُّطُورَ- کَالْمُسْتَثْقِلِ النَّائِمِ تَکْذِبُهُ أَحْلاَمُهُ- وَ الْمُتَحَیِّرِ الْقَائِمِ یَبْهَظُهُ مَقَامُهُ- لاَ یَدْرِی أَ لَهُ مَا یَأْتِی أَمْ عَلَیْهِ- وَ لَسْتَ بِهِ غَیْرَ أَنَّهُ بِکَ شَبِیهٌ- وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَوْ لاَ بَعْضُ
ص:229
الاِسْتِبْقَاءِ- لَوَصَلَتْ إِلَیْکَ مِنِّی قَوَارِعُ تَقْرَعُ الْعَظْمَ- وَ تَهْلِسُ اللَّحْمَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ الشَّیْطَانَ قَدْ ثَبَّطَکَ- عَنْ أَنْ تُرَاجِعَ أَحْسَنَ أُمُورِکَ- وَ تَأْذَنَ لِمَقَالِ نَصِیحَتِکَ
أقول: موهّن : مضعّف .و بهظه : أثقله .و القوارع: الشدائد .و تهلس اللحم.
تذهب به،و تسحبه،و تقرب منه النهس .و ثبّطه عن کذا : شغله .
فقوله:أمّا بعد.إلی قوله:فراستی:أی مضعّف رأیی و فراستی فیک لغلبة ظنّی أنّ مکاتبتک و جوابک لا فایدة فیه . تشبیه ثمّ شبّهه فی محاولته أمر الشام و ما یخدعه من جعل أمر الخلافة فیه بعده و مراجعته السطور أی الکتب فی ذلک بالمستثقل فی النوم ،الغریق فیه ،و انتصب السطور بحذف الجارّ إمّا فی أو الباء،و أشار إلی وجه الشبه بقوله:تکذبه أحلامه.و أراد أنّ تخیّلاته و أمانیه فی وصول هذا الأمر إلیه تخیّلات کاذبة صادرة عن جهل غالب کالأحلام الکاذبة للمستغرق فی نومه إذا استیقظ لم یجدها شیئا، تشبیه و کذلک شبّهه بالمتحیّر القائم ،و أشار إلی وجهه بقوله:یبهظه.
إلی قوله:علیه.و بیانه أنّ معاویة مجدّ فی هذا الأمر متحیّر فی تحصیله متهوّر فی طلبه مع جهله بعاقبة سعیه هل هی خیر أو شرّ کالقائم المتحیّر فی الأمر یتعب بطول مقامه و لا یعرف غایته من قیامه.ثمّ لم یرض له بذلک التشبیه بل زاد مبالغة فی غفلته و نومه فی مرقد طبیعته و حیرته و قال:و لست به:أی و لست بهذا شبیها فیکون هو أصلا لک فی الشبه غیر أنّه بک شبیه:أی إنّک أصل له فی ذلک الشبه .
ثمّ أقسم لولا بعض الاستبقاء:أی للامور المصلحیّة لوصلت إلیه منه قوارع.و أراد شدائد الحرب،و کنّی عن شدّتها بکونها تقرع العظم و تهلس اللحم .ثمّ أعلمه فی معرض توبیخه أنّ الشیطان قد ثبّطه عن مراجعة أحسن اموره و هو الدخول فی طاعته و ترک الفتنة و أن یأذن أی یصغی اذنه لمقال نصیحة.و هو جذب له إلیهما
ص:230
بنسبة ترکه لهما إلی تثبیط الشیطان.و باللّه التوفیق.
کتبه بین ربیعة و الیمن،و نقل من خط هشام ابن الکلبی
هَذَا مَا اجْتَمَعَ عَلَیْهِ أَهْلُ؟الْیَمَنِ؟- حَاضِرُهَا وَ بَادِیهَا- وَ؟رَبِیعَةُ؟ حَاضِرُهَا وَ بَادِیهَا- أَنَّهُمْ عَلَی کِتَابِ اللَّهِ یَدْعُونَ إِلَیْهِ- وَ یَأْمُرُونَ بِهِ وَ یُجِیبُونَ مَنْ دَعَا إِلَیْهِ وَ أَمَرَ بِهِ- لاَ یَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً- وَ لاَ یَرْضَوْنَ بِهِ بَدَلاً- وَ أَنَّهُمْ یَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَی مَنْ خَالَفَ ذَلِکَ وَ تَرَکَهُ- أَنْصَارٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ- دَعْوَتُهُمْ وَاحِدَةٌ- لاَ یَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ لِمَعْتَبَةِ عَاتِبٍ- وَ لاَ لِغَضَبِ غَاضِبٍ- وَ لاَ لاِسْتِذْلاَلِ قَوْمٍ قَوْماً- وَ لاَ لِمَسَبَّةِ قَوْمٍ قَوْماً- عَلَی ذَلِکَ شَاهِدُهُمْ وَ غَائِبُهُمْ- وَ سَفِیهُهُمْ وَ عَالِمُهُمْ وَ حَلِیمُهُمْ وَ جَاهِلُهُمْ- ثُمَّ إِنَّ عَلَیْهِمْ بِذَلِکَ عَهْدَ اللَّهِ وَ مِیثَاقَهُ- إِنَّ عَهْدَ اللَّهِ کَانَ مَسْئُولاً- وَ کَتَبَ؟عَلِیُّ بْنُ أَبِی طَالِبٍ؟
أقول: الحلف : العهد .
:قوله:هذا.مبتدأ و ما موصولة و هی صفة المبتدأ،و خبره أنّهم.
و یجوز أن یکون هذا مبتدأ خبره ما اجتمع علیه،و یکون قوله:أنّهم.تفسیرا لهذا.
کأنّه قال:ما الّذی اجتمعوا علیه؟فقیل:علی أنّهم علی کتاب اللّه:أی اجتمعوا علی ذلک،و خبر أنّهم علی کتاب اللّه،و یدعون حال،و العامل متعلّق الجارّ.و حاضرها و بادیها من أهل الیمن،و کذلک من ربیعة.
ص:231
کنایة عن لزومهم له و للعمل به .
مجازا إطلاقا لاسم السبب علی المسبّب قوله: و أنّهم ید واحدة :أی یتعاونون علی من خالفه.فأطلق اسم الید علی المتعاون مجازا إطلاقا لاسم السبب علی المسبّب ،و أنصار خبر ثان لأنّ و بعضهم فاعله.و یجوز أن یکون بعضهم مبتدأ خبره أنصار .
:أی لا ینقضون عهدهم لکون القبیلة الاخری استذلّت قومهم أو سبّتهم.و روی لمشیئة قوم قوما:أی لإرادتهم.و فی روایة-کتب علیّ بن أبو طالب-و هی المشهورة عنه علیه السّلام و وجهها أنّه جعل هذه الکنیة علما بمنزلة لفظ واحدة لا یتغیّر إعرابها.
إلی معاویة فی أول ما بویع له
ذکره الواقدی فی کتاب الجمل
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟عَلِیٍّ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ؟- إِلَی؟مُعَاوِیَةَ بْنِ أَبِی سُفْیَانَ؟ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتَ إِعْذَارِی فِیکُمْ- وَ إِعْرَاضِی عَنْکُمْ- حَتَّی کَانَ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ وَ لاَ دَفْعَ لَهُ- وَ الْحَدِیثُ طَوِیلٌ وَ الْکَلاَمُ کَثِیرٌ- وَ قَدْ أَدْبَرَ مَا أَدْبَرَ- وَ أَقْبَلَ مَا أَقْبَلَ- فَبَایِعْ مَنْ قِبَلَکَ- وَ أَقْبِلْ إِلَیَّ فِی وَفْدٍ مِنْ أَصْحَابِکَ
أقول: الوفد : الواردون علی الملک .
و أعلمه أوّلا إعذاره فیهم إلی اللّه:أی إظهار عذره و ذلک باجتهاده فی نصیحة عثمان أوّلا،و نصرة بنی امیّة بالذبّ عنه ثانیا،و إعراضه عنهم بعد إیاسه من قبول عثمان لنصیحته و عجزه عن نصرته و الدفع عنه حتّی کان ما لابدّ منه و لا دفع له من قبله.ثمّ قال:و الحدیث طویل و الکلام کثیر:أی فی أمره و من قبله.
ص:232
و قوله:و قد أدبر.إلی قوله:أقبل.
یحتمل أن یکون إخبارا له بأنّ بعض الناس أدبر عنه کطلحة و الزبیر و من تابعهما و بعضهم أقبل علیه،و یحتمل أن یکون إنشاء أی قد دخل فی الإدبار من أدبر عنّی و دخل فی الإقبال من أقبل علیّ .ثمّ أمره أن یبایع له من قبله من الجماعة و تقبل إلیه، و یحتمل أن یکون الضمیر فی قوله:فیکم و عنکم خطابا لمعاویة و سایر المسلمین علی سبیل التعتّب و التشکّی:أی قد علمت أنّی أعذرت فیکم حیث لم اعاجل مسیئکم بالعقوبة و أعرضت عنکم حتّی کان ما کان من خروج طلحة و الزبیر و من تابعهم ممّا لابدّ من وقوعه منهم و لا دفع له.و الحدیث فی شأنهم طویل،و الکلام فی شبهتهم کثیر،و قد أدبر من أدبر:أی هؤلاء الخارجون،و أقبل من أقبل.و تمام الکلام بحاله.و اللّه أعلم.
لعبد اللّه بن العباس،عند استخلافه إیاه علی البصرة
سَعِ النَّاسَ بِوَجْهِکَ وَ مَجْلِسِکَ وَ حُکْمِکَ- وَ إِیَّاکَ وَ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ طَیْرَةٌ مِنَ الشَّیْطَانِ- وَ اعْلَمْ أَنَّ مَا قَرَّبَکَ مِنَ اللَّهِ یُبَاعِدُکَ مِنَ النَّارِ- وَ مَا بَاعَدَکَ مِنَ اللَّهِ یُقَرِّبُکَ مِنَ النَّارِ
أقول: الطیرة : فعلة من الطیران،و یستعمل فی الخفّة و ما لاثبات له.و روی:
طیرة من التطیّر و هو التشأم .
کنایة أن یسع الناس بوجهه .و کنّی بذلک عن البشر و الطلاقة،و بمجلسه .و هو کنایة عن التواضع،و بحکمه .و کنّی به عن العدل لأنّ الحکم
ص:233
العدل یسع کلّ أحد،و الجور ضیّق لا یحتمله الکلّ .
حذّره من الغضب و هو أمر بفضیلة الثبات و الحلم،و نفّره بقوله:
فإنّه طیرة من الشیطان :أی خفّة ینشأ من الشیطان،أو أنّه ممّا یتشأم الناس بصاحبه و یکرهه.و نسبه إلی الشیطان لینفر عنه،و أراد الغضب المذموم.و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فواجب أن یحذر .ثمّ رغّبه فیما یقرّبه من اللّه بما یستلزمه من کونه مباعدا له من النار،و نفّره عمّا یبعّده من اللّه بما یستلزمه من کونه مقرّبا له إلی النار.و هما صغریا ضمیرین تقدیر کبری الأوّل منهما:و کلّ ما باعدک من النار فواجب أخذه،و تقدیر کبری الثانی:و کلّ ما یقرّبک من النار فواجب أن یحذره.و باللّه التوفیق.
لعبد اللّه بن العباس،لما بعثه للاحتجاج إلی الخوارج
لاَ تُخَاصِمْهُمْ؟بِالْقُرْآنِ؟- فَإِنَّ؟الْقُرْآنَ؟ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ- تَقُولُ وَ یَقُولُونَ...وَ لَکِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَّةِ- فَإِنَّهُمْ لَنْ یَجِدُوا عَنْهَا مَحِیصاً
أقول: المحیص : المعدل .
و قد نهاه أن یحاجّهم بالقرآن.و نبّهه علی ذلک بضمیر صغراه قوله: فإنّ القرآن .إلی قوله: و یقولون :أی إنّ الآیات الّتی یمکنه الاحتجاج بها غیر ناصّة فی المطلوب بل لها ظاهر و تأویلات محتملة یمکنهم أن یتعلّقوا بها عند المجادلة.
و تقدیر الکبری:و کلّ ما کان کذلک فلا یتمّ الغرض به فی مخاصمتهم.ثمّ أمره أن یحاجّهم بالسنّة.و نبّه علی ذلک بضمیر صغراه قوله:فإنّهم لا یجدون عنها معدلا لکونها ناصّة فی المطلوب کقوله صلّی اللّه علیه و آله:حربک یا علیّ حربی.و نحوه.و تقدیر الکبری:
ص:234
و کلّ ما لم یجدوا عنه معدلا فالأولی محاجّتهم به.و قد أشرنا من قبل إلی مجادلة ابن عبّاس.
إلی أبی موسی الأشعری جوابا فی أمر الحکمین
ذکره سعید بن یحیی الأموی فی کتاب المغازی فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَغَیَّرَ کَثِیرٌ مِنْهُمْ عَنْ کَثِیرٍ مِنْ حَظِّهِمْ- فَمَالُوا مَعَ الدُّنْیَا وَ نَطَقُوا بِالْهَوَی- وَ إِنِّی نَزَلْتُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَنْزِلاً مُعْجِباً- اجْتَمَعَ بِهِ أَقْوَامٌ أَعْجَبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ- وَ أَنَا أُدَاوِی مِنْهُمْ قَرْحاً أَخَافُ أَنْ یَکُونَ عَلَقاً- وَ لَیْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ عَلَی أُمَّةِ؟مُحَمَّدٍ ص؟- وَ أُلْفَتِهَا مِنِّی- أَبْتَغِی بِذَلِکَ حُسْنَ الثَّوَابِ وَ کَرَمَ الْمَآبِ- وَ سَأَفِی بِالَّذِی وَأَیْتُ عَلَی نَفْسِی- وَ إِنْ تَغَیَّرْتَ عَنْ صَالِحِ مَا فَارَقْتَنِی عَلَیْهِ- فَإِنَّ الشَّقِیَّ مَنْ حُرِمَ نَفْعَ مَا أُوتِیَ مِنَ الْعَقْلِ وَ التَّجْرِبَةِ- وَ إِنِّی لَأَعْبَدُ أَنْ یَقُولَ قَائِلٌ بِبَاطِلٍ- وَ أَنْ أُفْسِدَ أَمْراً قَدْ أَصْلَحَهُ اللَّهُ- فَدَعْ مَا لاَ تَعْرِفُ- فَإِنَّ شِرَارَ النَّاسِ طَائِرُونَ إِلَیْکَ بِأَقَاوِیلِ السُّوءِ
أقول: العلق : الدم الغلیظ . وأیت : وعدت .و أعبد : استنکف و أغضب .
و قوله: فإنّ الناس .إلی قوله: حظّهم .
أی الحظّ الّذی ینبغی لهم من الدین و الهدی.
و قوله: فمالوا .إلی قوله: الهوی .
ص:235
بیان لأنواع تغیّرهم.
و قوله: و إنّی نزلت من هذا الأمر .
أی أمر الخلافة منزلا معجبا و هو الحال الّتی انتهی إلیها مع الصحابة و صارت محل التعجّب منها و کیف صار محکوما لهم فی قبول الحکومة و الرضی بالصلح و غیره.
و قوله: اجتمع به أقوام .
صفة منزل:أی أنّ هذا المنزل الّذی أنا فیه من هذا الأمر قد اجتمع معی و شارکنی فی رأیی فیه أقوام أعجبتهم أنفسهم و آرائهم فأفسدوا علیّ الأمر فأنا اداوی منهم قرحا، استعارة و استعار لفظ القرح لما أفسد من حاله باجتماعهم علی التحکیم.و لفظ المداواة لاجتهاده فی إصلاحهم،و روی:اداری.و کذلک استعار لفظ العلق لما یخاف من تفاقم أمرهم من حاله .
و قوله: و لیس رجل أحرص منه علی الفة جماعة محمّد صلّی اللّه علیه و آله للغرض المذکور.
و قوله: فاعلم .اعتراض حسن بین لیس و خبرها و رجل یفید العموم و إن کان مفردا نکرة لکونه فی سیاق النفی علی ما بیّن فی اصول الفقه .ثمّ أخبر أنّه سیفی بما وعد علی نفسه من شرط الصلح علی ما وقع علیه،و توعّده بلزوم الشقاوة إن تغیّر عن صالح ما فارقه علیه من وجوب الحکم بکتاب اللّه و عدم اتّباع الهوی و الاغترار بمقارنة الأشرار.
و فسّر الشقیّ بمن حرم نفع ما اوتی من العقل و التجربة مشیرا بذلک إلی أنّه إن خدع أو تغیّر بأمر آخر فقد حرم نفع عقله و سابقة تجربته فلزمته الشقاوة .ثمّ نبّهه علی أنّه یأنف من قول الباطل،و أن یفسد أمرا أصلحه اللّه به و هو أمر الدین لیحترز من غضبه بلزوم الحقّ و الصدق و حفظ جانب اللّه فی حقّه ،و أکّد ذلک بقوله:فدع ما لا تعرف:أی من الحکم فی هذه القضیّة بالشبهة.
و قوله:فإنّ شرار الناس.إلی آخره.
ص:236
أراد عمرو بن العاص و نحوه فیما کان یسرع بإلقائه إلیه من الوساوس و الشبه الکاذبة الّتی هی أقاویل السوء.
لما استخلف،إلی أمراء الأجناد
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَکَ مَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ- أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ الْحَقَّ فَاشْتَرَوْهُ- وَ أَخَذُوهُمْ بِالْبَاطِلِ فَاقْتَدَوْهُ
أقول:نفّرهم عن منع الحقّ أهله،و معاملتهم الناس بالباطل،یذکّر أنّ ذلک هو سبب هلاک من کان قبلهم من أمثالهم.
و قوله: فاشتروه .
أی فباعوه و تعوّضوا عنه بالباطل لمّا منعوا منه کقوله تعالی «وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ» (1)و کذلک قوله:و أخذوهم بالباطل:أی جعلوا تصرّفاتهم معهم بالباطل فاقتدوه :أی اقتدوا الباطل و سلکوا فیه مسلک من أخذهم به کقوله تعالی «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» (2)و باللّه التوفیق.تمّ باب الکتب و الوصایا و العهود و الحمد للّه حقّ حمده.
و یدخل فی ذلک المختار من أجوبة مسائله
و الکلام القصیر الخارج فی سائر أغراضه
کُنْ فِی الْفِتْنَةِ کَابْنِ اللَّبُونِ- لاَ ظَهْرٌ فَیُرْکَبَ وَ لاَ ضَرْعٌ فَیُحْلَبَ
ص:237
أقول: ابن اللبون ولد الناقة إذا استکمل سنتین و دخل فی الثالثة لأنّ أمّه علی الأغلب قد وضعت ولدا غیره فهی ذات لبن .
تشبیه و قد أمر أصحابه فی زمن الفتنة أن یتشبّه بابن اللبون ،و أشار إلی وجه الشبه بقوله لاظهر.إلی آخره.و أراد أنّه یکون فی زمانها خامل الذکر ضعیفا غیر مستکثر من المال کیلا یصلح لمعاونة الظالمین بنفسه و لا بماله،و لا ینتفع به فی الفتنة.
کابن اللبون لا ینفع بظهره و لا لبنه .و ظهر مبتدأ خبره محذوف تقدیره:له.و یرکب عطف علی الجملة.و روی منصوبا بإضمار أن فی جواب النفی،و کذا قوله:
فیحلب.
مکارم الأخلاق و هی قوله:
أَزْرَی بِنَفْسِهِ مَنِ اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ- وَ رَضِیَ بِالذُّلِّ مَنْ کَشَفَ عَنْ ضُرِّهِ- وَ هَانَتْ عَلَیْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَیْهَا لِسَانَهُ وَ الْبُخْلُ عَارٌ وَ الْجُبْنُ مَنْقَصَةٌ- وَ الْفَقْرُ یُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِهِ-وَ الْمُقِلُّ غَرِیبٌ فِی بَلْدَتِهِ وَ الْعَجْزُ آفَةٌ وَ الصَّبْرُ شَجَاعَةٌ- وَ الزُّهْدُ ثَرْوَةٌ وَ الْوَرَعُ جُنَّةٌ- وَ نِعْمَ الْقَرِینُ الرِّضَا وَ الْعِلْمُ وِرَاثَةٌ کَرِیمَةٌ وَ الْآدَابُ حُلَلٌ مُجَدَّدَةٌ- وَ الْفِکْرُ مِرْآةٌ صَافِیَةٌ وَ صَدْرُ الْعَاقِلِ صُنْدُوقُ سِرِّهِ- وَ الْبَشَاشَةُ حِبَالَةُ الْمَوَدَّةِ- وَ الاِحْتِمَالُ قَبْرُ الْعُیُوبِ الْمُسَالَمَةُ خَبْءُ الْعُیُوبِ وَ مَنْ رَضِیَ عَنْ نَفْسِهِ کَثُرَ السَّاخِطُ عَلَیْهِ- وَ الصَّدَقَةُ دَوَاءٌ مُنْجِحٌ- وَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ نُصْبُ أَعْیُنِهِمْ فِی آجِلِهِمْ
ص:238
استعارة أزری بنفسه من استشعر الطمع .و هو تنفیر عن الطمع المضادّ لفضیلة القناعة بذکر ما یستلزمه من التهاون بالنفس و الازدراء بها،و ذلک أنّ الطمع بما فی أیدی الناس یستلزم الحاجة إلیهم و الخضوع لهم و هو یستلزم الهون علیهم و سقوط المنزلة.و استعار وصف الاستشعار لملازمة الطمع و مباشرته للقلب کالشعار للجسد .
قوله: و رضی بالذلّ من کشف عن ضرّه .و هو أیضا تنفیر للإنسان عن شکایة فقره و ضرّه للناس بذکر ما یلزم ذلک من المذلّة و الرضی به .
استعارة و هانت علیه نفسه من أمّر علیها لسانه .و هو تنفیر للإنسان عن الإکثار فی القول من غیر تدبّر و مراجعه لعقله بما یلزم ذلک من هوان نفسه علیه أمّا فی الدنیا فلأنّ زیادة القول قد یکون سببا للهلاک،و إلیه أشار القائل.
احفظ لسانک أیّها الإنسان لا یلد غنّک إنّه ثعبان
کم فی المقابر من قتیل لسانه کانت تهاب لقاءه الأقران
و أمّا فی الآخرة فلقوله صلّی اللّه علیه و آله:و هل یکبّ الناس علی مناخرهم فی النار إلاّ حصاید ألسنتهم؟و لا هون لنفس الإنسان علیه أعظم من هلاکها.و استعار وصف التأمیر لتسلیط اللسان علی ما یؤذی النفس من غیر مراجعتها فکأنّها صارت محکومة له .
قوله: و البخل عار .و ذلک لأنّه رذیلة التفریط من فضیلة الکرم.
و بقدر حمد الإنسان علی الکرم یکون ذمّه و تعییره برذیلة البخل .
و الجبن منقصة .لأنّه رذیلة التفریط من فضیلة الشجاعة و الّتی هی أصل من الکمالات النفسانیّة.فکان الجبن رذیلة و منقصة .
استعارة و الفقر یخرس الفطن عن حجّته .،و ذلک لکونه مذلّة،و له فی النفس فعل عظیم بالقبض و الفتور و الانفعال عن الغیر.و مبدء کلّ ذلک تصوّر العجز و توهّم القصور بسبب عدم المال عن مقاومة الخصوم فیحصل التخوّف من الکلام و العیّ عنه و إن کان صاحبه فطنا.و استعار لذلک وصف الخرس ملاحظة لشبهه به .
ص:239
استعارة و المقلّ غریب فی بلدته :أی الفقیر.و استعار له لفظ الغریب باعتبار عدم التفات الناس إلیه و قلّة الأعوان و الأخوان له لإقلاله فهو کالغریب الّذی لا یعرف .
و العجز آفة .العجز لفظ مهمل یحتمل العجز البدنیّ و هو عدم القدرة علی التصرّفات البدنیّة عمّا من شأنه أن یقدر،و یحتمل العجز النفسانیّ و هو عدم القدرة علی مقاومة الهوی و دفعه.و الأوّل آفة بدنیّة و نقصان فیه،و الثانی آفة فی العقل و عاهة فیه .
مجاز من باب حمل اللازم علی ملزومه و الصبر شجاعة .الصبر فضیلة تحت العفّة ترسم بأنّها مقاومة الهوی لئلاّ یقود النفس إلی قبایح اللذّات.و هو جهاد مع النفس الأمّارة یستلزم فضیلة الشجاعة فلذلک حمل الشجاعة علیه حمل اللازم علی ملزومه .
استعارة و الزهد ثروة و هو فضیلة تحت العفّة،و رسم بأنّه إعراض النفس عن متاع الدنیا و طیّباتها.و لمّا کانت الثروة فی العرف عبارة عن الغنی بالمال و کثرته استعار لفظها للزهد لمشابهته إیّاها فی استلزامهما للغنی و عدم الحاجة .
استعارة و الورع جنّة .و حقیقة الورع لزوم الأعمال الجمیلة فلذلک استعار لفظ الجنّة لمشابهتها فی الوقایة من عذاب اللّه فی الآخرة و من أکبر المصائب الدنیویّة کما تجنّن بالترس و غیره من الصلاح .
و نعم القرین الرضا .و قد علمت أنّ الرضا بقضاء اللّه و ما نزل به القدر باب عظیم من أبواب الجنّة و غایة من الملکات الفاضلة،و ظاهر أنّه نعم القرین فی الدنیا و الآخرة .
و العلم وارثة کریمة .و هو فضیلة النفس العاقلة و هو أشرف الکمالات الّتی تعتنی بها،و بحسب ذلک کان وراثة کریمة من العلماء،بل کان أکرم موروث و مکتسب.و أراد الوارثة المعنویّة کقوله تعالی «فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ» (1)أی العلم و الحکمة .
ص:240
استعارة و الآداب حلل مجدّدة .و أراد الآداب الشرعیّة و مکارم الأخلاق،و استعار لها لفظ الحلل المجدّدة باعتبار دوام زینة الإنسان بها و تجدّد بهائه و حسنه و تهذیب نفسه علی استمرار الزمان بلزومها و استخراج محاسنها کالحلل الّتی لا یزال تجدّد علی لابسها .
استعارة و الفکر مرآة صافیة .الفکر قد یراد به القوّة المفکّرة،و قد یراد به حرکة هذه القوّة مطلقا أیّة حرکة کانت،و قد یراد به معنی آخر.و عنی هنا القوّة نفسها،و استعار لها لفظ المرآة باعتبار أنّها إذا وجّهت نحو تحصیل المطالب التصوریّة و التصدیقیّة أدرکتها و تمثّلت بها کما یتمثّل فی المرآة صور ما یحاذی بها .
استعارة و صدر العاقل صندوق سرّه .استعار للصدر لفظ صندوق السرّ باعتبار حفظه کما یحفظ الصندوق ما فیه،و هو فی المعنی أمر للإنسان بکتمان سرّه .
و رغّبه فی ذلک بذکر العاقل.فکأنّه قال:العاقل من جعل صدره صندوق سرّه و حفظه .
استعارة و البشاشة حبالة المودّة .و استعار لها لفظ الحبالة باعتبار اقتناص الإنسان بها الناس و استمالتهم إلی صداقته و محبّته کحبالة الصائد الّتی یقتنص بها الطیر .
استعارة الاحتمال قبر العیوب .أراد احتمال المکروه و الأذی من الأخوان و سائر الناس و هو فضیلة عظیمة تحت الشجاعة،و استعار له لفظ قبر العیوب باعتبار ستره لمعایب صاحبه عند الناس کما یستر القبر ما فیه من جیفة المیّت قال السیّد -رحمه اللّه-:و روی أنّه علیه السّلام قال فی العبارة عن هذا لمعنی أیضا : المسالمة خباء العیوب .
قال الجوهری:الخباء:واحد الأخبیة بیت من وبر أو صوف و لا یکون من شعر و یکون علی عمودین أو ثلاثة،و ما فوق ذلک فهو بیت.و المسالمة فضیلة تحت العفّة استعار لها لفظ الخباء باعتبار أنّها فضیلة تستجلب المحبّة و تستلزم سکوت الناس عن المعایب و سترها کالخباء.و یتبیّن استلزامها تستّر العیوب باستلزام نقیضها و
ص:241
هو المخاصمة و عدم المسالمة لثوران الطباع علی ذکر المعایب و إبرازها لغرض الإهانة و التبکیت .
و من رضی من نفسه کثر الساخط علیه .و ذلک لوجهین:أحدهما:
أنّ الراضی عن نفسه معتقد لکمالها علی غیرها و ناظر إلی غیره بعین النقصان غیر موفّ للناس حقوقهم فیکثر بذلک الساخط علیه منهم.الثانی:أنّه لاعتقاده کمال نفسه یرفعها فوق قدرها و الناس یرونه بقدره فیکثر المنقّص له و الساخط علیه .
استعارة و الصدقة دواء منجح .استعار لفظ الدواء النافع للصدقة لمشابهتها الدواء أمّا فی الدنیا فلقوله صلّی اللّه علیه و آله:داووا مرضاکم بالصدقة.و سرّ ذلک أنّها تستجلب الهمم و تطابق القلوب علی محبّة المتصدّق و الرغبة إلی اللّه سبحانه فی دفع المکاره عنه لبقائه فهی فی ذلک سبب للشفاء کالدواء،و أمّا فی الآخرة فلأنّها سبب لدفع المکاره الأخرویّة کما سبق بیانه .
و أعمال العباد نصب أعینهم فی آجلهم :أی ظاهرة قائمة فی أعینهم،و سرّ ذلک ما علمته من کون النفوس ما دامت فی الدنیا فهی منتقش بملکات الخیر و الشرّ لکنّها فی أغشیة من الهیئات البدنیّة و حجب عن إدراک الامور کما هی فإذا زالت تلک الأغشیة بالمفارقة انکشفت لها الامور فأدرکت ما عملت من خیر و ما استعدّت له من شرّ کما قال تعالی «فَکَشَفْنا عَنْکَ غِطاءَکَ فَبَصَرُکَ الْیَوْمَ حَدِیدٌ» (1)و کما قال «یَوْمَ تَجِدُ کُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَیْرٍ مُحْضَراً» (2)الآیة.
اِعْجَبُوا لِهَذَا الْإِنْسَانِ یَنْظُرُ بِشَحْمٍ وَ یَتَکَلَّمُ بِلَحْمٍ- وَ یَسْمَعُ بِعَظْمٍ وَ یَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ
نبّه علی لطف خلق الإنسان ببعض أسرار حکمة اللّه فیه،و غایته من ذلک الاستدلال علی حکمة صانعه و مبدعه.و ذکر أربعة من محالّ النظر و الاعتبار و،
ص:242
هی آلة البصر و الکلام و السمع و التنفّس،و خصّها بالذکر لکونها مع ضعفها ضروریّة فی وجود الإنسان علی شرفه و علوّ رتبته فی المخلوقات و لا یقوم إلاّ بها لیکون ذلک محلّ التعجّب و اعتبار لطف الصانع الحکیم،و أراد بالشحم الّذی ینظر به الرطوبة المسمّاة فی عرف الأطبّاء بالبیضة أو الرطوبة الجلیدیّة فإنّ العین مرکّبة من سبع طبقات و ثلاث رطوبات کلّ منها یختصّ فی عرفهم باسم،و عنی باللحم اللسان فإنّه لحم أبیض رخو تلتّف به عروق صغار کثیرة فیهادم و لذلک یتبیّن أحمر و تحته عروق و شریانات و أعصاب کثیرة و تحته فوهتان یسیل منهما اللعاب ینتهیان إلی لحم غددیّ رخو موضوع فی أصله یسمیّ مولّد اللعاب و بهاتین الفوهتین یبقی للّسان و ما حوله النداوة الطبیعیّة،و أراد بالعظم الّذی یسمع به العظم المسمیّ الحجریّ و هو عظم صلب فیه مجری الاذن کثیر التعاریج و العطفات تمبرّ کذلک إلی أن یلقی العصبة النابتة من الدماغ الّتی هی مجری الروح الحامل للقوّة السامعة،و أراد بالخرم ثقب الأنف.و فی هذه و أمثالها من بدن الإنسان و سایر الحیوان عبرة لمن اعتبر و کمال شهادة بوجود الصانع الحکیم لها،و من نظر فی تشریح بدن الإنسان حضرته شواهد من الحکمة الإلهیّة یحار فیها لبّه و یدهش فیها عقله،و قرأ الصادق علیه السّلام قوله تعالی «وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِیفاً» (1)السجع المتوازی ثم قال:و کیف لا یکون ضعیفا و هو ینظر بشحم و یسمع بعظم و ینطق بلحم؟.و قد راعی فی القرائن الأربع السجع المتوازی.
إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْیَا عَلَی أَحَدٍ أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَیْرِهِ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ
استعارة یرید أنّ الدنیا إذا أقبلت بجاهها و مالها علی قوم بحسب توافق أسباب السعادة الدنیویّة لهم استلزم ذلک إقبال الناس علیهم و تقرّبهم إلیهم بکلّ ممکن لمیلهم إلی
ص:243
الدنیا و محبّتهم لها و حسنوا فی أعینهم فاستعاروا لهم الأوصاف الجمیلة الّتی کانت فی غیرهم و إن لم یکونوا فی نفس الأمر کذلک حتّی یصفوا بالعلم الجاهل،و بالکرم المبذّر،و بالشجاعة المتهوّر،و بالظرف و لطف الأخلاق الماجن.و ربّما کان إقبال الدنیا علیهم أیضا سببا لاستعدادهم لتحصیل الکمالات النفسانیّة و الملکات الفاضلة الّتی کانت محاسن لغیرهم قبلهم و إن کانوا قبل ذلک غیر أهل لشیء منها.و یحتمل أن یرید بالمحاسن محاسن الدنیا من مرکوب و ملبوس و ابّهة و حسن إیالة و تصرّف،و ذلک ظاهر .و کونه عاریة باعتبار عدم دوامه.و کذلک إذا أدبرت عنهم بحسب توافق أسباب الشقاوة فیها قبحوا فی أعین الناس حتّی یکون أحدهم ذا فضیلة فی نفسه فیجحدها الناس و یصفونه بضدّها فإن زهد فی الدنیا نسبوه إلی الریاء و السمعة، و إن حسنت أخلاقه نسبوه إلی الخلاعة و المجون،و إن شجع نسبوه إلی التهوّر و الجنون.و هو معنی سلبها لمحاسن أنفسهم،و ربما استعدّ ذو الفضیلة منهم بذلک لترکها و إهمالها و التخلّق بضدّها حتّی تسلب عنه الفضیلة بالکلّیّة.
خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَکَوْا عَلَیْکُمْ- وَ إِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَیْکُمْ
کنایة نبّه بذلک علی حسن المعاشرة للناس و معاملتهم بمکارم الأخلاق.و کنّی عن ذلک بقوله: إن متمّ.إلی آخره .إذ من لوازم حسن المعاشرة للمخالط الحنّة إلیه فی حیاته و افتقاره،و البکاء علیه بعد وفاته .و الجملة الشرطیّة فی موضع نصب صفة المخالطة.
إِذَا قَدَرْتَ عَلَی عَدُوِّکَ- فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُکْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَیْهِ
و هو تنبیه علی فضیلة العفو و جذب إلیه بکونه شکرا للقدرة:أی ملازم
ص:244
للشکر علیها،و ذلک أنّ القدرة علی العدوّ نعمة من اللّه تعالی یجب شکرها و الاعتراف للّه و الخضوع له و یلزمه الرقّة و فتور الغضب و یتبع ذلک العفو فأقامه مقام الشکر للملازمة بینهما.و لمّا کان الشکر واجبا کان العفو لازما.
أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اکْتِسَابِ الْإِخْوَانِ- وَ أَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَیَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ
الإخوان جمع أخو کخرب و خربان،و أراد الأصدقاء الصادقین .
و فی الکلمة حثّ علی مکارم الأخلاق لأنّ الإخوان لا یکتسبون إلاّ بها،و إنّما جعل العاجز عن تحصیلهم أعجز الناس لأنّ ذلک لا یحتاج إلی إتعاب قوّة بدنیّة و لا إعمال فکرة عقلیّة،و إنّما یفتقر إلی کرم الأخلاق و حسن المعاشرة و الملاقات بالبشر و الطلاقة و هی أمور طبیعیّه فی أکثر الناس و هو أهون الأشیاء علیهم فکان العاجز عنها أعجز الناس عمّا هو مقدور لهم.و إنّما جعل من ظفر به منهم ثمّ ضیّعه أعجز لأنّ المکتسب لابدّ له من کلفة ما فی اکتسابهم و أمّا الظافر فهو غیر محتاج إلی ذلک القدر من الکلفة فکان سبب حفظ الإخوان أسهل من سبب تحصیلهم فکان المضیّع لحفظهم أعجز عن اکتسابهم لعجزه عن حفظ الأمر الأسهل.
فإن قلت:فقد قال:إنّ المضیّع لهم أعجز من أعجز الناس فلا یکون أعجز الناس أعجز الناس.هذا خلف.
قلت:لفظ الناس لفظ مطلق و إنّما یلزم الخلف إن لو کان للعموم.
إِذَا وَصَلَتْ إِلَیْکُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ- فَلاَ تُنَفِّرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّکْرِ
نبّه علی وجوب الشکر علی النعمة لغرض دوامها. استعارة و نفّر عن قلّته بما یستلزمه
ص:245
من کونه تنفیرا لما یستقبل منها،و استعار لفظ التنفیر ملاحظة لشبهها بالطیر المتّصل إذا سقط أوّله اتّصل به آخره،و فیه إیماء إلی أنّ دوام الشکر مستلزم لدوامها و کثرتها کقوله تعالی و «لَئِنْ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ» (1).
مَنْ ضَیَّعَهُ الْأَقْرَبُ أُتِیحَ لَهُ الْأَبْعَدُ
أی قدّر.و أراد أنّ اللّه سبحانه جعل لکلّ شیء سببا یجب معه و به.و لمّا کانت منافع الإنسان و ضروراته فی الأغلب یقوم بها من کان أقرب إلیه من أهله و عشیرته و لم یجب فی الحکمة أن لا یکون له نفع له إلاّ من جهتهم لا جرم أنّهم إذا ضیّعوه و أهملوه لابدّ أن یقدّر اللّه له من یقوم بمصالحه و معاونته ممّن هو أبعد عنه.
مَا کُلُّ مَفْتُونٍ یُعَاتَبُ
الفتنة قد تکون فی الدین و قد تکون فی الدنیا و قد تکون فیهما،و علی التقدیرات فقد تلحق الإنسان بسبب منه من جهل بسیط أو مرکّب و قد تلحقه أسباب قدریّة خارجیّة معلومة و غیر معلومة.و الّذی یعاتب علی فتنته من هؤلاء من کانت أسباب فتنته منه أو بعضها کوقوع الفتنة لمصاحبة الفسّاق و نحوه.هذا إذا حملنا اللفظ علی ظاهره،و یحتمل أن یرید لیس کلّ مفتون ینفع معه العتاب.
تَذِلُّ الْأُمُورُ لِلْمَقَادِیرِ حَتَّی یَکُونَ الْحَتْفُ فِی التَّدْبِیرِ
استعار ذلّ الامور لمطاوعتها للقدر و جریانها علی وفق القضاء.و لمّا کان الإنسان جاهلا بأسرارا لقدر جاز أن یکون من غایات مطاوعة الأمور للقدر کون ما یعتقده الإنسان الجاهل مصلحة و یفعله تدبّرا لمنفعة سببا لحتفه و هلاکه.و
ص:246
فیه إیماء إلی وجوب إسناد الامور إلی اللّه و عدم التوکّل علی التدبیر،و الانقطاع إلیه.
«غیروا الشیب و لا تشبهوا بالیهود»فقال علیه السلام:
إِنَّمَا قَالَ ص ذَلِکَ وَ الدِّینُ قُلٌّ- فَأَمَّا الْآنَ وَ قَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ وَ ضَرَبَ بِجِرَانِهِ- فَامْرُؤٌ وَ مَا اخْتَارَ
النطاق : شقّة طویلة عریضة تنجرّ علی الأرض إذا لبست .و جران البعیر : صدره .
کنایة و کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فی أوّل الإسلام یأمر أهل الشیب من المسلمین بتغییر شیبهم و یبدئهم إلیه،و کان ینفّرهم عن ترکه بکونه تشبّها بالیهود لأنّ الیهود لم یکونوا یفعلون ذلک.
فکانوا یخضبون بالسواد.و قیل:بالحنّاء.و الغرض أن ینظر إلیهم الکفّار بعین القوّة و الشبیبة فینفعلون عنهم و لا یطمعون فیهم .فسئل علیه السّلام عن ذلک فی زمن خلافته فجعله من المباح دون المندوب،و أشار إلی أنّ تلک السنّة إنّما کانت حیث کان المسلمون قلیلین فأمّا الآن و قد کثروا و ضعف الکفّار فهو مباح،و کنّی عن ذلک بقوله: فامرء و ما اختار . استعارة و استعار لفظ النطاق لمعظمه و ما انتشر منه.و لفظ الضرب بالجران لثباته و استقراره و ملاحظة لشبههه بالبعیر البارک .و قوله:فامرء مبتدأ و ما اختار عطف علیه،و ما مصدریّة و خبر المبتدأ محذوف تقدیره مقرونان کقولهم کلّ امرء وضیعته.و باللّه التوفیق.
خَذَلُوا الْحَقَّ وَ لَمْ یَنْصُرُوا الْبَاطِلَ
منهم عبد اللّه بن عمر و جماعة من القرّاء و غیرهم کأبی موسی الأشعریّ و الأحنف بن قیس فی حرب صفّین.و یشبه أن یکون هذا إشارة إلی توسّط درجتهم
ص:247
فی الضلال و یجری مجری العذر لهم.فکأنّه قال:إنّهم و إن خذلوا الحقّ معنا لم ینصروا الباطل مع خصومنا.
مَنْ جَرَی فِی عِنَان أَمَلِهِ عَثَرَ بِأَجَلِهِ
استعارة و هو تنفیر عن تطویل الأمل بذکر قطعه بالأجل،و استعار لفظ العنان له ملاحظة لشبهه بالفرس،و لفظ الجری للاندفاع فی الأمل بحسب تطویله و لفظ العثار للامتناع عن ذلک الجری بعارض الأجل و قواطعه کعثار العادی بما یعرض له من حجر و نحوه .
أَقِیلُوا ذَوِی الْمُرُوءَاتِ عَثَرَاتِهِمْ- فَمَا یَعْثُرُ مِنْهُمْ عَاثِرٌ إِلاَّ وَ یَدُ اللَّهِ بِیَدِهِ یَرْفَعُهُ
استعارة رغّب فی إقالة ذوی المروّات عثراتهم الّتی یتّفق وقوعها نادرا کبیعهم لما یلحقهم الندم علیه و نحوه بذکر کون ید اللّه بأیدیهم یرفعهم،و استعار لفظ العثرات لما یقع منهم خطأ و من غیر تثبّت،و لفظ الید لعنایة اللّه و قدرته . کنایة و کنّی عن تعلّقاته و تدارک حاله بکون یده بیده یرفعه و ذلک أنّ المروّة فضیلة عظیمة یستجلب همم الخلق و قلوبهم و مساعداتهم،بحسب ذلک یکون استعداد العاثر من ذوی المروّات لعنایة اللّه و قیامه من عثرته .
قُرِنَتِ الْهَیْبَةُ بِالْخَیْبَةِ وَ الْحَیَاءُ بِالْحِرْمَانِ- وَ الْفُرْصَةُ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ فَانْتَهِزُوا فُرَصَ الْخَیْرِ
أراد بالهیبة الخوف من المقابل.و ظاهر أنّ ذلک یستلزم عدم قضاء الحاجة منه و الظفر بالمطلوب لعدم الانبساط فی القول معه و هو معنی اقترانها بالخیبة،و
ص:248
کذلک الحیاء بالحرمان لاستلزام الحیاء ترک الطلب و التعرّض له.و هو تنفیر عن الهیبة و الحیاء المذمومین .ثمّ أمر بانتهاز فرص الخیر:أی المبادرة إلی فعله عند حضور وقت إمکانه،و رغّب فی ذلک بضمیر صغراه قوله:الفرصة تمرّ مرّ السحاب:
أی أنّها سریعة الزوال،و تقدیر الکبری:و کلّما کان کذلک فواجب أن یبادر إلیه و یغتنم وقت إمکانه.
لَنَا حَقٌّ فَإِنْ أُعْطِینَاهُ وَ إِلاَّ رَکِبْنَا أَعْجَازَ الْإِبِلِ- وَ إِنْ طَالَ السُّرَی قال الرضی:و هذا من لطیف الکلام و فصیحه،و معناه إنا إن لم نعط حقنا کنا أذلاء،و ذلک أن الردیف یرکب عجز البعیر کالعبد و الأسیر و من یجری مجراهما.
کنایة و قال الأزهریّ فی تهذیب اللغة:قال القتیبیّ:أعجاز الإبل:مآخیرها-جمع عجز-و هو مرکب شاقّ.قال:و معناه إن منعنا حقّنا رکبنا مرکب المشقّة و صبرنا علیه و إن طال،و لم ینجز منه محلّین بحقّنا.ثمّ قال الأزهری:لم یرد علی علیه السّلام رکوب المشقّة و لکنّه ضرب أعجاز الإبل مثلا لتأخّره عن غیره فی حقّه من الإمامة و تقدّم غیره علیه فأراد إن منعنا حقّنا منها و أخّرنا عن ذلک صبرنا علی الأثرة فیها و إن طالت الأیّام.و السری:سیر اللیل.و أقول:الّذی ذکره الثلاثة احتمالات حسنة و هی متقاربة لأنّ رکوب الأعجاز مظنّه الذلّة و المشقّة و تأخّر المنزلة.و یحتمل أن یکون کلّها مرادة له.و لم یفرّق الأزهری بین المثل و الکنایة فإنّ رکوب الأعجاز کنایة عن الامور المذکورة،و کذلک طول السری کنایة عن طول المشقّة لأنّه مظنّتها و ملزومها،و یحتمل أن یکون کنایة بالمثل .
مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ یُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ
ص:249
أی من لم یکن له عمل صالح حسن فتأخّر بسبب ذلک عن معالی الرتب الدنیویّة و الاخرویّة لم یسرع به حسبه و شرف بیته إلیها إن کان ذا حسب. کنایة مقابلة و کنّی ببطؤ عمله عن عدم وصوله إلی الخیر لعدم ما یوصله إلیه من زکیّ العمل و جعل الإسراع فی مقابلة البطؤ .
مِنْ کَفَّارَاتِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ- وَ التَّنْفِیسُ عَنِ الْمَکْرُوبِ
الملهوف : المظلوم یستغیث :و التنفیس . التفریج من الغمّ الّذی یأخذ بنفسه .
و جعلها من کفّارات الذنوب العظام لکونها فضیلة عظیمة تستلزم فضایل کالرحمة و العدل و السخاء و المروّة و غیرها.و ظاهر أنّ حصول هذه الملکات فی النفس ممّا یستلزم ستر الذنوب و محوها و منافات ملکات السوء الّتی یعبّر عنها بالسیّئات و الذنوب کما سبقت الإشارة إلیه.
یَا ابْنَ آدَمَ إِذَا رَأَیْتَ رَبَّکَ سُبْحَانَهُ یُتَابِعُ عَلَیْکَ نِعَمَهُ- وَ أَنْتَ تَعْصِیهِ فَاحْذَرْهُ
نفّر الإنسان عن معصیة اللّه حال متابعة نعمه علیه بتحذیره منه،و ذلک أنّه لمّا کان دوام شکرها یعدّ للمزید منها کان کفرانها و مقابلتها بالمعصیة المستلزم لعدم الشکر مستلزما لعدم الاستعداد للمزید و معدّا للنقصان و نزول النقمة کما قال تعالی «وَ لَئِنْ کَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِی لَشَدِیدٌ» (1)و هو محلّ الحذر منه.و الواو فی قوله:و أنت.للحال.
مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَیْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِی فَلَتَاتِ لِسَانِهِ- وَ صَفَحَاتِ وَجْهِهِ
ص:250
الفلتة : الأمر یقع من غیر تروّ .و صفحة الوجه : بشرته .
و لمّا کان الإنسان إنّما یضمر فی نفسه أمرا مهمّا عنده من عداوة أو بغض أو محبّة إلی غیر ذلک،و کان الوجود اللسانی عبارة عن الوجود النفسانیّ و مظهرا له لم یتمکّن المرء أن یحفظ ما أضمره بالکلّیّة لأنّ مراعات ذلک الحفظ إنّما یکون للعقل بحسب ما یراه من المصلحة،و العقل قد یشتغل بالتصرّف فی مهمّ آخر فیغفل عن ضبط ما أضمره فینفلت الخیال به من سرّ العقل فیبعثه فی فلتات القول عن غیر تروّ،و کذلک لمّا کان التصوّرات و الامور النفسانیّة مبادئ للآثار الظاهرة کصفرة الوجل و حمرة الخجل لم ینفکّ بعض الامور المضمرة عن ظهور ما یعرف به من الآثار فی صفحات الوجه و العین.و شاهد ذلک التجربة.
اِمْشِ بِدَائِکَ مَا مَشَی بِکَ
و فی روایة:ما حملک:أی ما دام المرض لا یبهظک و یعجزک فلا تنفعل عنه و لا تتعاجز به،بل کن فی صورة الأصحّاء.و قیل:فیه إیماء إلی ما أمر به من کتمان المرض کما قال الرسول صلّی اللّه علیه و آله:من کنوز البرّ کتمان الصدقة و المرض و المصیبة.
و ربّما کانت فائدة ذلک کونه نوع تجلّد،و التجلّد معاونة للطبیعة و تقویة لها علی المرض،و من المرض ما یتحلّل بالحرکات البدنیّة.و استعاد للمرض وصف الماشی باعتبار أنّه لا یلزمه الأرض و الفراش فهو کالحامل له و الماشی به.
أَفْضَلُ الزُّهْدِ إِخْفَاءُ الزُّهْدِ
الزهد منه ظاهر و منه خفیّ و هو الزهد الحقیقیّ المنتفع به کما قال صلّی اللّه علیه و آله:
إنّ اللّه لا ینظر إلی صورکم و لا إلی أعمالکم و لکن ینظر إلی قلوبکم.فلذلک کان أفضل.و المراد الزهد الخفیّ.فأضاف الصفة إلی الموصوف و قدّمها لأنّها أهمّ و لأنّ الزهد الظاهر یکاد لا ینفکّ عن ریاء و سمعة فکان مفضولا.
إِذَا کُنْتَ فِی إِدْبَارٍ وَ الْمَوْتُ فِی إِقْبَالٍ
ص:251
فَمَا أَسْرَعَ الْمُلْتَقَی
و هو جذب بإقبال الموت و لقائه إلی الاستعداد له و لما بعده بالأعمال الصالحة، و الإدبار و الإقبال أمران اعتباریّان لأنّ الإنسان باعتبار أجزاء مدّته وقتا فوقتا فی إدبار،و بحسب ذلک یکون اعتبار فنائه فی إقباله إلیه،و بحسبهما یکون سرعة التقائهما.و الملتقی مصدر.
اَلْحَذَرَ الْحَذَرَ فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَتَرَ حَتَّی کَأَنَّهُ قَدْ غَفَرَ
حذّر من سخط اللّه بسبب معصیته لطول إمهاله و ستره إلی الغایة المذکورة.
و قوله:فو اللّه.إلی آخره صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من ستر علی عبده إلی الغایة المذکورة فواجب أن یحذر غضبه و یجتنب معصیته و یرجع إلی طاعته الّتی هی الغایة من عنایته بستره.
اَلْإِیمَانُ عَلَی أَرْبَعِ دَعَائِمَ- عَلَی الصَّبْرِ وَ الْیَقِینِ وَ الْعَدْلِ وَ الْجِهَادِ- وَ الصَّبْرُ مِنْهَا عَلَی أَرْبَعِ شُعَبٍ- عَلَی الشَّوْقِ وَ الشَّفَقِ وَ الزُّهْدِ وَ التَّرَقُّبِ- فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَی الْجَنَّةِ سَلاَ عَنِ الشَّهَوَاتِ- وَ مَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ اجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ- وَ مَنْ زَهِدَ فِی الدُّنْیَا اسْتَهَانَ بِالْمُصِیبَاتِ- وَ مَنِ ارْتَقَبَ الْمَوْتَ سَارَعَ إِلَی الْخَیْرَاتِ- وَ الْیَقِینُ مِنْهَا عَلَی أَرْبَعِ شُعَبٍ- عَلَی تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ وَ تَأَوُّلِ الْحِکْمَةِ- وَ مَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ وَ سُنَّةِ الْأَوَّلِینَ- فَمَنْ تَبَصَّرَ فِی الْفِطْنَةِ تَبَیَّنَتْ لَهُ الْحِکْمَةُ- وَ مَنْ تَبَیَّنَتْ لَهُ الْحِکْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ- وَ مَنْ
ص:252
عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَکَأَنَّمَا کَانَ فِی الْأَوَّلِینَ- وَ الْعَدْلُ مِنْهَا عَلَی أَرْبَعِ شُعَبٍ- عَلَی غَائِصِ الْفَهْمِ وَ غَوْرِ الْعِلْمِ- وَ زُهْرَةِ الْحُکْمِ وَ رَسَاخَةِ الْحِلْمِ- فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ- وَ مَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحُکْمِ-وَ مَنْ حَلُمَ لَمْ یُفَرِّطْ فِی أَمْرِهِ وَ عَاشَ فِی النَّاسِ حَمِیداً- وَ الْجِهَادُ مِنْهَا عَلَی أَرْبَعِ شُعَبٍ- عَلَی الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْیِ عَنِ الْمُنْکَرِ- وَ الصِّدْقِ فِی الْمَوَاطِنِ وَ شَنَآنِ الْفَاسِقِینَ- فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤْمِنِینَ- وَ مَنْ نَهَی عَنِ الْمُنْکَرِ أَرْغَمَ أُنُوفَ الْمُنَافِقِینَ- وَ مَنْ صَدَقَ فِی الْمَوَاطِنِ قَضَی مَا عَلَیْهِ- وَ مَنْ شَنِئَ الْفَاسِقِینَ وَ غَضِبَ لِلَّهِ غَضِبَ اللَّهُ لَهُ- وَ أَرْضَاهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ فقال ع وَ الْکُفْرُ عَلَی أَرْبَعِ دَعَائِمَ- عَلَی التَّعَمُّقِ وَ التَّنَازُعِ وَ الزَّیْغِ وَ الشِّقَاقِ- فَمَنْ تَعَمَّقَ لَمْ یُنِبْ إِلَی الْحَقِّ- وَ مَنْ کَثُرَ نِزَاعُهُ بِالْجَهْلِ دَامَ عَمَاهُ عَنِ الْحَقِّ- وَ مَنْ زَاغَ سَاءَتْ عِنْدَهُ الْحَسَنَةُ وَ حَسُنَتْ عِنْدَهُ السَّیِّئَةُ- وَ سَکِرَ سُکْرَ الضَّلاَلَةِ- وَ مَنْ شَاقَّ وَعُرَتْ عَلَیْهِ طُرُقُهُ وَ أَعْضَلَ عَلَیْهِ أَمْرُهُ- وَ ضَاقَ عَلَیْهِ مَخْرَجُهُ- وَ الشَّکُّ عَلَی أَرْبَعِ شُعَبٍ- عَلَی التَّمَارِی وَ الْهَوْلِ وَ التَّرَدُّدِ وَ الاِسْتِسْلاَمِ- فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَ دَیْدَناً لَمْ یُصْبِحْ لَیْلُهُ- وَ مَنْ هَالَهُ مَا بَیْنَ یَدَیْهِ نَکَصَ عَلَی عَقِبَیْهِ- وَ مَنْ تَرَدَّدَ فِی الرَّیْبِ وَطِئَتْهُ سَنَابِکُ الشَّیَاطِینِ-
ص:253
وَ مَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَکَةِ الدُّنْیَا وَ الْآخِرَةِ هَلَکَ فِیهِمَا قال الرضی:و بعد هذا کلام ترکنا ذکره خوف الاطالة و الخروج عن الغرض المقصود فی هذا الکتاب.
أقول: الدعائم : أعمدة البیت .و الشعبة : الغصن .و التبصّر : التعرّف .و التأویل : التفسیر .و الزهرة : النور .و الشنئان : البغض .و التعمّق : التعسّف فی معنی الکلام .و أعضل : اشتدّ .و التماری : المماراة .و الهول: الفزع .و الدیدن : العادة .و السنابک : جمع سنبک و هو طرف حافر الفرس .
و اعلم أنّ هذا الفصل من لطائف الحکمة.و مداره علی شرح قواعد الإیمان و الإشارة إلی فروع تلک القواعد ثمّ إلی ثمرات تلک الفروع.و لمّا کان الکفر مضادّا للإیمان،و الشکّ مقابلا له مقابلة العدم للملکة أشار إلی دعایم الکفر و شعب الشکّ لتبیّن بهما الایمان.إذ بضدّها یتبیّن الأشیاء:أمّا الایمان فاعلم أنّه علیه السّلام أراد الایمان الکامل و ذلک له أصل و له کمالات بها یتمّ أصله فأصله لهو التصدیق بوجود الصانع تعالی و ماله من صفات الکمال و نعوت الجلال و بما تنزّلت به کتبه و بلّغته،و کمالاته المتمّمة هی الأقوال المطابقة و مکارم الأخلاق و العبادات.
ثمّ إنّ هذا الأصل و متمّماته هو کمال النفس الإنسانیّة لأنّها ذات قوّتین علمیّة و عملیّة و کمالها بکمال هاتین القوّتین.فأصل الإیمان هو کمال القوّة العلمیّة منها و متمّماته و هی مکارم الأخلاق و العبادات هی کمال القوّة العملیّة.
إذا عرفت هذا فنقول: استعارة لمّا کانت اصول الفضائل الخلقیّة الّتی هی کمال الإیمان أربعا هی الحکمة و العفّة و الشجاعة و العدل أشار إلیها،و استعار لها لفظ الدعائم باعتبار أنّ الإیمان الکامل لا یقوم فی الوجود إلاّ بها کدعائم البیت فعبّر عن الحکمة بالیقین.و الحکمة منها علمیّة و هی استکمال القوّة النظریّة بتصوّر الأمور و التصدیق بالحقایق النظریّة و العملیّة بقدر الطاقة البشریّة.و لا تسمّی حکمة حتّی یصیر هذا
ص:254
الکمال حاصلا لها بالیقین البرهانیّ.و منها عملیّة و هی استکمال النفس بملکة العلم بوجوه الفضائل النفسانیّة الخلقیّة و کیفیّة اکتسابها،و وجوه الرذائل النفسانیّة و کیفیّة الاحتراز عنها و اجتنابها،و ظاهر أنّ العلم الّذی صار ملکة هو الیقین. مجاز و عبّر عن العفّة بالصبر .و العفّة هی الإمساک عن الشره فی فنون الشهوات المحسوسة و عدم الانقیاد للشهوة و قهرها و تصریفها بحسب الرأی الصحیح و مقتضی الحکمة المذکورة،و إنّما عبّر عنها بالصبر لأنّها لازم من لوازمه.
إذ رسمه أنّه ضبط النفس و قهرها عن الانقیاد لقبایح اللذّات .و قیل:هو ضبط النفس عن أن یقهرها ألم مکروه ینزل بها و یلزم فی العقل احتماله أو یغلبها حبّ مشتهی یتوق الإنسان إلیه و یلزم فی حکم العقل اجتنابه حتّی لا یتناوله علی غیر وجهه.و ظاهر أنّ ذلک یلازم العفّة، مجاز إطلاقا لاسم الملزوم علی لازمه و کذلک عبّر عن الشجاعة بالجهاد لاستلزامه إیّاها إطلاقا لاسم الملزوم علی لازمه.و الشجاعة هی ملکة الإقدام الواجب علی الامور الّتی یحتاج الإنسان أن یعرّض نفسه لاحتمال المکروه و الآلام الواصلة إلیه منها ،و أمّا العدل فهو ملکة فاضلة تنشأ عن الفضائل الثلاث المشهورة و تلزمها.
و قد علمت فیما سلف أنّ کلّ واحدة من هذه الفضائل محتوشة برذیلتین هما طرفا الإفراط و التفریط منها و مقابلة برذیلة هی ضدّها .و أمّا شعب هذه الدعائم:فاعلم أنّه جعل لکلّ دعامة منها أربع شعب من الفضائل یتشعّب منها و یتفرّع علیها فهی کالفروع لها و الأغصان:أمّا شعب الصبر الّذی هو عبارة عن ملکة العفّة:
فأحدها:الشوق إلی الجنّة و محبّة الخیرات الباقیة.
الثانی:الشفق و هو الخوف من النار و ما یؤدّی إلیها.
الثالث:الزهد فی الدنیا و هو الإعراض بالقلب عن متاعها و طیّباتها.
الرابع:ترقّب الموت.و هذه الأربع فضایل منبعثة عن ملکة العفّة لأنّ کلاّ منها یستلزمها .
و أمّا شعب الیقین:
فأحدها:تبصرة الفطنة و إعمالها.و الفطنة هی سرعة هجوم النفس علی
ص:255
حقایق ما تورده الحواسّ علیها.
الثانی:تأوّل الحکمة و هو تفسیرها و اکتساب الحقائق ببراهینها و استخراج وجوه الفضائل و مکارم الأخلاق من مظانّها ککلام یؤثر أو عبرة یعتبر.
الثالث:موعظة العبرة و هو أن یحصل من اعتبار العبر علی اتّعاظ و انزجار الرابع:أن یلحظ سنّة الأوّلین حتّی یصیر کأنّه فیهم.و هذه الأربع هی فضائل تحت الحکمة کالفروع لها،و بعضها کالفرع للبعض .
و أمّا شعب العدل:
فأحدها:غوص الفهم:أی الفهم الغائص فأضاف الصفة إلی الموصوف و قدّمها للاهتمام بها.و رسم هذه الفضیلة أنّها قوّة إدراک المعنی المشار إلیه بلفظ أو کتابة أو إشارة و نحوها.
الثانی:غور العلم و أقصاه و هو العلم بالشیء کما هو بحقیقته و کنهه.
الثالث:نور الحکم:أی یکون الأحکام الصادرة عنه نیّرة واضحة لا لبس و لا شبهة.
الرابع:ملکة الحلم.و عبّر عنها بالرسوخ لأنّ شأن الملکة ذلک.و الحلم هو الإمساک عن المبادرة إلی قضاء و طر الغضب فیمن یجنی علیه جنایة یصل مکروهها إلیه.و اعلم أنّ فضیلتی جودة الفهم و غور العلم و إن کانتا داخلتین تحت الحکمة و کذلک فضیلة الحلم داخلة تحت ملکة الشجاعة إلاّ أنّ العدل لمّا کان فضیلة موجودة فی الاصول الثلاثة کانت فی الحقیقة هی و فروعها شعبا للعدل.بیانه:أنّ الفضائل کلّها ملکات متوسّطة بین طرفی إفراط و تفریط و توسّطها ذلک هو معنی کونها عدلا.فهی بأسرها شعب له و جزئیّات تحته .
و أمّا شعب الشجاعة المعبّر عنها بالجهاد:
فأحدها:الأمر بالمعروف.
و الثانی:النهی عن المنکر.
و الثالث:الصدق فی المواطن المکروهة.و وجود الشجاعة فی هذه الشعب
ص:256
الثلاث ظاهر.
و الرابع:شنئان الفاسقین،و ظاهر أنّ بعضهم مستلزم لعداوتهم فی اللّه و ثوران القوّة الغضبیّة فی سبیله لجهادهم و هو مستلزم للشجاعة .
و أمّا ثمرات هذه الفضائل فأشار إلیها للترغیب فی مثمراتها:
فثمرات شعب العفّة أربع:
أحدها:ثمرة الشوق إلی الجنّة و هو السلوّ عن الشهوات و ظاهر کونه ثمرة له.إذ السالک إلی اللّه ما لم یشتق إلی ما وعد المتّقون لم یکن له صارف عن الشهوات الحاضرة مع توفّر الدواعی إلیها فلم یسلّ عنها.
الثانیة:ثمرة الخوف من النار و هو اجتناب المحرّمات.
الثالثة:ثمرة الزهد و هی الاستهانة بالمصیبات لأنّ غالبها و عامّها إنّما یلحق بسبب فقد محبوب من الامور الدنیویّة فمن أعرض عنها بقلبه کانت المصیبة بها هیّنة عنده.
الرابعة:ثمره ترقّب الموت و هی المسارعة فی الخیرات و العمل له و لما بعده .
و أمّا ثمرات الیقین فإنّ بعض شعبه ثمرة لبعض فإنّ تبیّن الحکمة و تعلّمها ثمرات لإعمال الفطنة و الفکرة و معرفة العبر و مواقع الاعتبار بالماضیین،و الاستدلال بذلک علی صانع حکیم ثمرة لتبیّن وجوه الحکمة و کیفیّة الاعتبار.
و أمّا ثمرات العدل فبعضها کذلک أیضا.و ذلک أنّ جودة الفهم و غوصه مستلزم للوقوف علی غور العلم و غامضه،و الوقوف علی غامض العلم مستلزم للوقوف علی شرائع الحکم العادل و الصدور عنها بین الخلق من القضاء الحقّ.
و أمّا ثمرة الحلم فعدم وقوع الحلیم فی طرف التفریط و التقصیر عن هذه الفضیلة و هو رذیلة الجبن،و أن یعیش فی الناس محمودا بفضیلته .
و أمّا ثمرات الجهاد:
فأحدها:ثمرة الأمر بالمعروف و هو شدّ ظهور المؤمنین و معاونتهم علی إقامة الفضیلة.
ص:257
الثانیة:ثمرة النهی عن المنکر.و هی إرغام انوف المنافقین و إذلالهم بالقهر عن ارتکاب المنکرات و إظهار الرذیلة.
الثالثة:ثمرة الصدق فی المواطن المکروهه و هی قضاء الواجب من أمر اللّه تعالی فی دفع أعدائه و الذبّ عن الحریم.
و الرابعة:ثمرة بغض الفاسقین و الغضب للّه و هی غضب اللّه لمن أبغضهم و إرضاه یوم القیامة فی دار کرامته .
و أمّا الکفر فرسمه أنّه جحد الصانع أو إنکار أحد رسله علیهم،أو ما علم مجیئهم به بالضرورة.و له أصل هو ما ذکرناه،و کمالات و متمّمات هی الرذائل الأربع الّتی جعلها دعائم له و هی الرذائل من الاصول الأربعة للفضائل الخلقیّة:
فأحدها:التعمّق و هو الغلوّ فی طلب الحقّ و التعسّف فیه بالجهل و الخروج إلی حدّ الإفراط و هو رذیلة الجور من فضیلة العدل و یعتمد الجهل بمظانّ طلب الحقّ.و نفّر عن هذه الرذیلة بذکر ثمرتها و هی عدم الإنابة إلی الحقّ و الرجوع إلیه لکون تلک الرذیلة صارت ملکة.
و الثانیة:التنازع و هو رذیلة الإفراط من فضیلة العلم و یسمّی جربزة و یعتمد الجهل المرکّب و لذلک نفّر عنه بما یلزمه عند کثرته و صیرورته ملکة من دوام العمی عن الحقّ.
و الثالثة:الزیغ و یشبه أن یکون رذیلة الإفراط من فضیلة العفّة و هو المیل عن حاق الوسط منها إلی رذیلة الفجور و یعتمد الجهل،و لذلک یلزمه قبح الحسنة و حسن السیّئة استعارة و سکر الضلالة ،و استعار لفظ السکر لغفلة الجهل باعتبار ما یلزمهما من سوء التصرّف و عدم وضع الأشیاء مواضعها،و یحتمل أن یکون إشارة إلی رذیلة التفریط من فضیلة الحکمة المسمّاة غباوة .
و الرابعة:الشقاق و هو رذیلة الإفراط من فضیلة الشجاعة المسمّاة تهوّرا أو مستلزما له.و یلزمها توعّر المسالک علی صاحبها و ضیق مخرجه من الأمور لأنّ مبدء سهولة المسالک و اتّساع المداخل و المخارج فی الأمور و هو مسالمة الناس و التجاوز
ص:258
عمّا یقع منهم و الحلم عنهم و احتمال مکروههم .
و أمّا الشکّ فعبارة عن التردّد فی اعتقاد أحد طرفی النقیض،و یقابل الیقین کما سبق.و ذکر له أربع شعب:
أحدها:التماری و ظاهر أنّ مبدء المراء الشکّ و نفّر من اتّخذه ملکة و عادة بکونه لا یصبح لیله،و ذلک کنایة عن عدم وضوح الحقّ له من ظلمة لیل الشکّ و الجهل.
الثانی:الهول لأنّ الشک فی الأمور یستلزم عدم العلم بما فیها من صلاح أو فساد،و ذلک یستلزم الفزع و الخوف من الإقدام علیها.و ثمرتها النکوص و الرجوع علی الأعقاب.
کنایة الثالث:التردّد فی الشکّ:أی الانتقال من حالة إلی حالة و من شکّ فی أمر إلی شکّ فی آخر من غیر ثقة بشیء.و ذلک دأب من تعوّد التشکّک فی الامور.و نفّر عن ذلک بما یلزمه ممّا کنّی عنه بوطیء سنابک الشیاطین و هو ملک الوهم و الخیال لأرض قلبه حتّی یکون سلطان العقل بمعزل عن الجزم بما من شأنه الجزم به .
الرابعة:الاستسلام لهلکة الدنیا و الآخرة.و لزومه عن الشکّ لأنّ الشاکّ فی الأمور الدنیویّة و الاخرویّة المتعوّد لذلک غیر عامل لشیء منها و لا مهتمّ بأسبابها و بحسب ذلک یکون استسلامه لما یرد منها علیه.و لزوم هلاکه فیهما لاستسلامه ظاهر.و باللّه التوفیق.
فَاعِلُ الْخَیْرِ خَیْرٌ مِنْهُ وَ فَاعِلُ الشَّرِّ شَرٌّ مِنْهُ
و إنّما کان کذلک لأنّ العلّة أقوی من معلولها فکان أقوی فی خیریّته و شریّته و تأثیرهما ممّا صدر عنه من خیر أو شرّ.
کُنْ سَمْحاً وَ لاَ تَکُنْ مُبَذِّراً- وَ کُنْ مُقَدِّراً وَ لاَ تَکُنْ مُقَتِّراً
ص:259
و هو أمر بفضیلة السماحة و الکرم و نهی عن الکون علی طرفی الإفراط و التفریط منها فطرف الإفراط هو التبذیر و طرف التفریط هو التقتیر.
أَشْرَفُ الْغِنَی تَرْکُ الْمُنَی
المنی:جمع منیة بمعنی التمنّی.و لمّا کان ذلک رذیلة تلزم عن رذایل کالشره و الحرص و نحوهما.و أقلّها أنّها اشتغال عمّا یعنی بما لا فائدة فیه رغّب فی ترکها بأن فسّر به أشرف الغنی حتّی جعله هو هو،و ظاهر أنّ ترک المنی یستلزم القناعة.و استلزامها للغنی النفسانیّ و عدم الحاجة ظاهر.
مَنْ أَسْرَعَ إِلَی النَّاسِ بِمَا یَکْرَهُونَ- قَالُوا فِیهِ بِمَا لاَ یَعْلَمُونَ
لمّا کان من شأن الطبع النفرة عن الأذی و بغض الموذی و عداوته کان من شأنه فی غالب الخلق تقبیح ذکره بما یمکن من قول صادق أو کاذب أو محتمل لغرض أن یوافقهم السامعون علی دفعه و أذاه.
مَنْ أَطَالَ الْأَمَلَ أَسَاءَ الْعَمَلَ
لمّا کان طول الأمل فی الدنیا مستلزما للإقبال علیها و الانهماک فی العمل لها و الغفلة عن الآخرة کان ذلک عملا سیّئا بالنسبة إلی الآخرة.
و قد لقیه عند مسیره إلی الشام دهاقین الأنبار،فترجلوا له و اشتدوا بین یدیه،فقال: مَا هَذَا الَّذِی صَنَعْتُمُوهُ فَقَالُوا خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِهِ أُمَرَاءَنَا- فَقَالَ وَ اللَّهِ مَا یَنْتَفِعُ بِهَذَا أُمَرَاؤُکُمْ- وَ إِنَّکُمْ
ص:260
لَتَشُقُّونَ عَلَی أَنْفُسِکُمْ فِی دُنْیَاکُمْ- وَ تَشْقَوْنَ بِهِ فِی آخِرَتِکُمْ-وَ مَا أَخْسَرَ الْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا الْعِقَابُ- وَ أَرْبَحَ الدَّعَةَ مَعَهَا الْأَمَانُ مِنَ النَّارِ
اشتدّوا : عدوا بین یدیه
و الشقاء فی الآخرة بذلک لأنّه تعظیم لغیر اللّه.و حاصله تنفیرهم عمّا اعتمدوه معه بضمیر صغراه قوله: و اللّه .إلی قوله: آخرتکم .و نبّه علی الکبری بقوله:و ما أخسر المشقّة ورائها العقاب و تقدیرها:و کلّما کان مشقّة علی النفس و یتبعها العقاب فی الآخرة فهو أشدّ الخسارة.و جذبهم إلی ترک ذلک بما یلزمه من الدعة و الراحة فی الدنیا مع الأمان من النار.فکأنّه قال:فینبغی أن یترکوا ذلک التکلّف فإنّه دعة و راحة مع الأمان من النار و کلّما کان کذلک فهو أعظم الأرباح.و إنّما یلزمهم الشقاء بذلک فی الآخرة لکونه تعظیما لغیر اللّه بما لا ینبغی إلاّ للّه.
یَا بُنَیَّ احْفَظْ عَنِّی أَرْبَعاً وَ أَرْبَعاً- لاَ یَضُرُّکَ مَا عَمِلْتَ مَعَهُنَّ- إِنَّ أَغْنَی الْغِنَی الْعَقْلُ وَ أَکْبَرَ الْفَقْرِ الْحُمْقُ- وَ أَوْحَشَ الْوَحْشَةِ الْعُجْبُ وَ أَکْرَمَ الْحَسَبِ حُسْنُ الْخُلُقِ- یَا بُنَیَّ إِیَّاکَ وَ مُصَادَقَةَ الْأَحْمَقِ- فَإِنَّهُ یُرِیدُ أَنْ یَنْفَعَکَ فَیَضُرَّکَ- وَ إِیَّاکَ وَ مُصَادَقَةَ الْبَخِیلِ- فَإِنَّهُ یَقْعُدُ عَنْکَ أَحْوَجَ مَا تَکُونُ إِلَیْهِ- وَ إِیَّاکَ وَ مُصَادَقَةَ الْفَاجِرِ فَإِنَّهُ یَبِیعُکَ بِالتَّافِهِ- وَ إِیَّاکَ وَ مُصَادَقَةَ الْکَذَّابِ- فَإِنَّهُ کَالسَّرَابِ یُقَرِّبُ عَلَیْکَ الْبَعِیدَ وَ یُبَعِّدُ عَلَیْکَ الْقَرِیبَ
ص:261
إنّما قال:أربعا و أربعا لأنّ الأربع الأوّل من باب واحد و هو اکتساب الفضائل الخلقیّة النفسانیّة،و الأربع الثانیة من باب المعاملة مع الخلق.و قیل:
لأنّ الاولی من باب الإثبات و الثانیة من باب النفی.أمّا الأربع الاولی:
فالاولی:العقل،و أراد المرتبة الثانیة من مراتب العقل النظریّ المسمّی عقلا بالملکة و هو أن یحصل لنفسه من العلوم البدیهیّة و الحسیّة و التجربیّة قوّة أن یتوصّل بها إلی العلوم النظریّة،و غایة ذلک أن یحصل علی ما بعد هذه المرتبة من مراتب العقل.و رغّب فیه بکونه أغنی الغنی و ذلک أنّ به یحصل الدنیا و الآخرة فهو اعظم أسباب الغنی و فیه الغنی.
الثانیة:الحمق و هو رذیلة الغباوة و طرف التفریط من العقل المذکور و نفّر عنه بکونه أکبر الفقر لأنّه سبب للفقر من الکمالات خصوصا النفسانیّة الّتی بها الغنی التامّ فکان أکبر فقر.
الثالثة:العجب و هو رذیلة الکبر،و تضادّ التواضع.و نفّر عنها بکونها أوحش الوحشة.و ظاهر کونها أقوی أسباب الوحشة و نفرة الأنیس لأنّ تواضع المتواضع لمّا استلزم انس الخلق به و شدّة میلهم إلیه کان ضدّة مستلزما لنفرتهم و توحّشهم التامّ منه.
الرابعة:حسن الخلق و رغّب فیه بکونه أکرم الحسب لکونه أشرف الکمالات الباقیة.و هذه المنفّرات و المرغّبات صغریات ضمایر .و أمّا الأربع الثانیة:
الاولی:الحذر من مصادقة الأحمق.و نفرّ عنه بما یلزم حمقه من وضع المضرّة موضع المنفعة عند إرادتها لعدم الفرق بینهما.
الثانیة:الحذر من مصادقة البخیل.و نفّر عنه بما یستلزم بخله من قعوده عن صاحبه عند الحاجة.و-أحوج-حال من الضمیر فی عنک.
الثالثة :الحذر من مصادقة الفاجر.و الفجور رذیلة الإفراط من فضیلة العفّة و نفّر عنه بما یلزم فجوره من قلّة وفائه و بیعه بالتافه و هو القلیل من المال.
ص:262
تشبیه الرابعة : الحذر من مصادقة الکذّاب .و نفّر عنه بتشبیهه بالسراب،و أشار إلی وجه الشبهه بقوله:یقرّب.إلی آخره.و بیانه أنّ الکذّاب یوهم حقیقة ما یقول فیسهّل الأمور العسرة البعیدة و یجعلها قریبة المتناول و یبعّد الأمور السهلة القریبة و یجعلها بعیدة المتناول بحسب أغراضه و کذبه مع أنّه لیس کذلک فی نفس الأمر کالسراب الّذی یظنّ ماء و لیس به .و التنفیرات الأربع المقرونة بقوله:فإنّه.
صغریات ضمایر تقدیر کبریاتها:و کلّما کان کذلک فیجب أن یحذر صحبته و یجتنب مصادقته.و باللّه التوفیق.
لاَ قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ
و الإضرار بالفرائض:تنقیص بعض أرکانها و شرائطها.و قد یفعل الإنسان ذلک لتعبه من الاشتغال بالنافلة أو لما یرید أن یستقبله منها.و لا قربة فیما یستلزم ترک الواجب لاستلزامه المعصیة و العقاب و منافاتهما للقربة.
لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ وَ قَلْبُ الْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ قال الرضی:و هذا من المعانی العجیبة الشریفة،و المراد به أن العاقل لا یطلق لسانه إلا بعد مشاورة الرویة و مؤامرة الفکرة،و الأحمق تسبق حذفات لسانه و فلتات کلامه علی مراجعة فکره و مماخضة رأیه،فکأن لسان العاقل تابع لقلبه،و کأن قلب الأحمق تابع للسانه.و روی عنه علیه السّلام هذا الکلام بلفظ آخر،و هو:قلب الأحمق فی فمه،و لسان العاقل فی قلبه.
استعارة و أقول:إنّه استعار لفظ الوراء فی الموضعین لما یعقل من تأخّر لفظ العاقل
ص:263
عن رویّته و من تأخّر رویّة الأحمق و فکره فیما یقول عن بوادر مقاله من غیر مراجعة لعقله.و المعنی ما أشار إلیه السیّد-رحمه اللّه-.و علی الروایة الاخری فأراد أنّ ما یتصوّره الأحمق هو فی فیه:أی یبرز علی لسانه من غیر فکر،و أمیا نطق العاقل فمخزون فی عقله لا یخرج إلاّ عن رویّة صادقة . مجاز و لفظ القلب فی الأوّل مجاز فیما یبرز من تصوّراته فی ألفاظه،و لفظ اللسان مجاز فی ألفاظه الذهنیّة .
جَعَلَ اللَّهُ مَا کَانَ مِنْ شَکْوَاکَ حَطّاً لِسَیِّئَاتِکَ- فَإِنَّ الْمَرَضَ لاَ أَجْرَ فِیهِ- وَ لَکِنَّهُ یَحُطُّ السَّیِّئَاتِ وَ یَحُتُّهَا حَتَّ الْأَوْرَاقِ- وَ إِنَّمَا الْأَجْرُ فِی الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ- وَ الْعَمَلِ بِالْأَیْدِی وَ الْأَقْدَامِ- وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ یُدْخِلُ بِصِدْقِ النِّیَّةِ- وَ السَّرِیرَةِ الصَّالِحَةِ مَنْ یَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْجَنَّةَ قال الرضی:و أقول صدق علیه السّلام،إن المرض لا أجر فیه،لأنه من قبیل ما یستحق علیه العوض لأن العوض یستحق علی ما کان فی مقابلة فعل اللّه تعالی بالعبد من الالام و الامراض و ما یجری مجری ذلک،و الأجر و الثواب یستحقان علی ما کان فی مقابلة فعل العبد،فبینهما فرق قد بینه علیه السّلام کما یقتضیه علمه الثاقب و رأیه الصائب.
و أقول:دعا علیه السّلام لصاحبه بما هو ممکن و هو حطّ السیّئات بسبب المرض و لم یدع له بالأجر علیه معلّلا ذلک بقوله:فإنّ المرض لا أجر فیه.و السرّ فیه أنّ الأجر و الثواب إنّما یستحقّ بالأفعال المعدّة له کما أشار إلیه بقوله:و إنّما الأجر فی القول.إلی کنایة قوله: الأقدام :و کنّی بالأقدام عن القیام بالعبادة و کذلک ما یکون کالفعل من عدمات الملکات کالصوم و نحوه علی ما بیّناه قبل فأمّا المرض فلیس هو بفعل العبد و لا عدم فعل من شأنه أن یفعله فأمّا حطّه للسیّئات فباعتبار أمرین.
ص:264
أحدهما:أنّ المریض تنکسر شهوته و غضبه اللذین هما مبدء للذنوب و المعاصی و مادّتها.
استعارة و الثانی:أنّ من شأن المرض أن یرجع الإنسان فیه إلی ربّه بالتوبة و الندم علی المعصیة و العزم علی ترک مثلها کما قال تعالی «وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ» قائِماً أَوْ قاعِداً (1)الآیة.فما کان من السیّئات حالات غیر متمکّنة من جوهر النفس فإنّه یسرع زوالها منها و ما صار ملکة فربّما یزول علی طول المرض و دوام الإنابة إلی اللّه تعالی،و استعار لزوالها لفظ الحطّ و شبّهه فی قوّة الزوال و المفارقة بحطّ الأوراق .ثمّ نبّه علیه السّلام بقوله:و إنّ اللّه.إلی آخره علی أنّ العبد إذا احتسب المشقّة فی مرضه للّه بصدق نیّته مع صلاح سریرته فقد یکون ذلک معدّا لإفاضة الأجر و الثواب علیه و دخوله الجنّة.و یدخل ذلک فی أعدام الملکات المقرونة بنیّة القربة إلی اللّه.و کلام السیّد-رحمه اللّه-مقتضی مذهب المعتزلة.
یَرْحَمُ اللَّهُ؟خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ؟ فَلَقَدْ أَسْلَمَ رَاغِباً- وَ هَاجَرَ طَائِعاً وَ عَاشَ مُجَاهِداً- طُوبَی لِمَنْ ذَکَرَ الْمَعَادَ وَ عَمِلَ لِلْحِسَابِ- وَ قَنِعَ بِالْکَفَافِ وَ رَضِیَ عَنِ اللَّهِ
خبّاب بالخاء المعجمة و الباء المشدّدة کان من المهاجرین و من أصحابه علیه السّلام و مات بعد انصرافه من صفّین بالکوفه و هو أوّل من قبره علیه السّلام.و قد مدحه بأوصاف ثلاثة من أوصاف الصالحین:
أحدها:إسلامه عن رغبة و هو الإسلام المنتفع به.
ص:265
الثانی:مهاجرته إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله طائعا و هی الهجرة التامّة عن رغبة فی اللّه و رسوله.
الثالث:کونه عاش مجاهدا أمّا مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فللکفّار،و أمّا فی وقته علیه السّلام فللبغاة و الخوارج و الناکثین.
و قوله :طوبی.إلی آخره.
فی معرض مدح خبّاب یشعر بأنّ خبّابا کان کذلک.و طوبی فعلی من الطیب.
قیل فی التفسیر:هی شجرة فی الجنّة.رغّب بها فی ذکر المعاد و الحساب المستلزم للعمل لهما و لفضیلة القناعة و الرضا عن اللّه فی قضائه و قدره.و القناعة فضیلة تحت العفّة،و الرضا فضیلة تحت العدل.
لَوْ ضَرَبْتُ خَیْشُومَ الْمُؤْمِنِ بِسَیْفِی هَذَا- عَلَی أَنْ یُبْغِضَنِی مَا أَبْغَضَنِی- وَ لَوْ صَبَبْتُ الدُّنْیَا بِجَمَّاتِهَا عَلَی الْمُنَافِقِ- عَلَی أَنْ یُحِبَّنِی مَا أَحَبَّنِی- وَ ذَلِکَ أَنَّهُ قُضِیَ فَانْقَضَی عَلَی لِسَانِ؟النَّبِیِّ الْأُمِّیِّ ص؟- أَنَّهُ قَالَ یَا؟عَلِیُّ؟ لاَ یُبْغِضُکَ مُؤْمِنٌ وَ لاَ یُحِبُّکَ مُنَافِقٌ
الخیشوم : أصل الأنف .و الجمّات : جمع جمّة و هو مجتمع الماء من الأرض .
و لمّا کان الایمان الحقّ یوجب الاتّحاد و صدق المحبّة فی اللّه بین المؤمنین لا جرم لم یجتمع معها البغض.و لمّا کان النفاق منافیا للایمان کان منافیا لما یلزمه من المحبّة فی اللّه فلا یجتمع معه و لو ببذل أجزل مال للمنافق. استعارة و استعار لفظ الجمّات لمجامع أموال الدنیا ملاحظة لمشابهته المعقولة،نعم قد یحصل بسبب ذلک محبّة عرضیّة فانیة بفناء مادّتها من بذل المال و نحوه و لیس الکلام فی ذلک النوع من المحبّة .
و ذلک سرّ قوله صلّی اللّه علیه و آله:لا یبغضک.إلی آخره.و أحال علیه السّلام ذلک علی ما قضی فانقضی أی قدّر علی لسان النبیّ صلّی اللّه علیه و آله.
ص:266
سَیِّئَةٌ تَسُوءُکَ خَیْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ حَسَنَةٍ تُعْجِبُکَ
أراد بالسیّئة الّتی تسوءه کذنب یصدر عنه فیندم علیه و یحزن لفعله،و بالحسنة الّتی تعجبه کصلاة أو صدقه یحصل بها إعجاب.فأمّا أنّ تلک السیّئة خیر عند اللّه من هذه الحسنة فلأنّ الندم المعاقب للسیّئة ماح لها و الحسنة المستعقبة للعجب مع إحباطها به یکون لها أثر هو سیّئة و رذیلة تسوّد لوح النفس فکانت السیّئة أهون فکانت خیرا عند اللّه.
قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَی قَدْرِ هِمَّتِهِ وَ صِدْقُهُ عَلَی قَدْرِ مُرُوءَتِهِ- وَ شَجَاعَتُهُ عَلَی قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَ عِفَّتُهُ عَلَی قَدْرِ غَیْرَتِهِ
أشار إلی امور أربعة و جعلها مبادی لامور أربعة:
أحدها:الهمّة و جعلها مبدءا لقدر الرجل.و قدره هو مقداره فی اعتبار الناس من رفعة رتبة و تبجیل أو خسّة و احتقار و هو من لوازم علوّ همّته أو دناءتها.
فعلوّ الهمّة هو أن لا یقتصر علی بلوغ غایة من الامور الّتی یزداد بها فضیلة و شرفا حتّی یسمو إلی ما ورائها ممّا هو أعظم قدرا و أجلّ خطرا و یلزم ذلک نبله و تعظیمه و مدحه،و صغرها أن یقتصر علی محقّرات الامور و خسایسها و یقصر عن علیّاتها و بحسب ذلک یکون صغر خطره و قلّة قدره.
الثانیة:جعل مبدء الصدق المروّة.و المروّة فضیلة یتعاطی معها الإنسان الأفعال الجمیلة و اجتناب ما یعود إلیه بالنقص و إن کان مباحا فلذلک یلزمه الصدق فی مقاله،و بقدر قوّة هذه الفضیلة و ضعفها یکون قوّة لازمها و ضعفها.
الثالثة:جعل الأنفة مبدءا للشجاعة.و الأنفة حمیّة الأنف و ثوران الغضب لما یتخیّل من مکروه یعرض استنکارا له و استنکافا من وقوعه.و ظاهر کونه مبدء
ص:267
للشجاعة و الإقدام علی الامور و بحسبها تکون قوّة الإقدام و ضعفه.
الرابعة:جعل الغیرة مبدءا للعفّة.و الغیرة نفرة طبیعیّة یکون من الإنسان عن تخیّل مشارکة الغیر فی أمر محبوب له أو معتقد لوجوب حفظه.و بحسب شدّة ذلک الاعتقاد و التخیّل و ضعفهما و تصوّر وقوع مثل ذلک الفعل فی نفسه أو حریمة مثلا یکون امتناعه عن مشارکة الغیر و وقوفه عن اتّباع الشهوة فی مشارکة الناس فی الامور المحبوبة لهم کزوجة و نحوها.و هو معنی العفّة.
اَلظَّفَرُ بِالْحَزْمِ وَ الْحَزْمُ بِإِجَالَةِ الرَّأْیِ- وَ الرَّأْیُ بِتَحْصِینِ الْأَسْرَارِ
الحزم أن یقدّم العمل فی الحوادث الواقعة فی باب الإمکان قبل وقوعها بما هو أقرب إلی السلامة و ابعد من الغرور.و إجالة الرأی:إعماله.و تحصین الأسرار:
کتمانها و حفظها.و أشار إلی المبدأ القریب للظفر و هو الحزم و إلی البعید منها و هو کتمان السرّ و إلی الوسط منها و هو إجالة الرأی.فأمّا سببیّة کتمان السرّ للرأی الصحیح فلأنّ إظهار السرّ فیما یری من الرأی فی الحرب و غیرها یستلزم ظهور العدوّ علی ذلک و العمل فیما یعارضه و یفسده و ذلک من فاسد الرأی،و أمّا سببیّة إجالة الرأی فی اختیار المصلحة للحزم فلأنّه لولاه لجاز أن یکون العمل المتقدّم فی الحوادث المستقبلة غیر موافق فلا یحصل الحزم،و أمّا أنّ الحزم سبب للظفر فظاهر.
اِحْذَرُوا صَوْلَةَ الْکَرِیمِ إِذَا جَاعَ وَ اللَّئِیمِ إِذَا شَبِعَ
أراد بالکریم شریف النفس ذا الهمّة العلیّة. کنایة و جوعه کنایة عن شدّة حاجته
ص:268
و ذلک مستلزم لثوران حمیّته و غضبه عند عدم التفات الناس إلیه،و حمل نفسه علی المبالغة فی طلب أمر کبیر یصول علیهم به و یتسلّط بواسطته علی قهرهم و مکافاتهم کالولایة علیهم و نحوها فلذلک أوجب الحذر منه و الاحتراز من صولته بالالتفات إلیه فی حاجته و أوقات ضرورته بما یدفعها.و شبع اللئیم کنایة عن غناه و عدم حاجته.و ذلک یستلزم استمراره علی مقتضی طباعه من اللؤم.و شبعه مؤکّد لذلک،و أمّا جوعه فربّما کان سببا لتغیّر أخلاقه و تجویدها لغرض.و استمرار ذی الشبع من اللئام علی مقتضی طباعه من اللؤم مستلزم لأذی من کان تحت یده و من یحتاج إلیه من الناس فمن الواجب إذن أن یحذر صولته و یحسم أسباب شبعه عند التمکّن من ذلک .
قُلُوبُ الرِّجَالِ وَحْشِیَّةٌ فَمَنْ تَأَلَّفَهَا أَقْبَلَتْ عَلَیْهِ
جعل علیه السّلام الوحشة هنا أصلیّة و ذلک باعتبار کون الالفة مکتسبة.و الوحشة عدم الألفة عمّا من شأنه أن یألف.و المعنی ظاهر.
عَیْبُکَ مَسْتُورٌ مَا أَسْعَدَکَ جَدُّکَ
سعادة الجدّ عبارة عن حسن البخت و توافق أسباب المصلحة فی حقّ الإنسان و من مصالحه ستر العیوب و الرذائل و بحسب دوام ذلک یدوم سترهما.
أَوْلَی النَّاسِ بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَی الْعُقُوبَةِ
لمّا کانت فضیلة العفو إنّما تطلق فی العرف علی من قدر علی العقوبة و لم یعاقب و کان العفو و القدرة مقولین بالأشدّ و الأضعف لا جرم کانت أولویّة العفو تابعة لأولویّة القدرة و أشدّیتها:أی من کان أشدّ قدرة علی العقوبة و عدمها کان أولی بأن یسمّی عفوا.
ص:269
اَلسَّخَاءُ مَا کَانَ ابْتِدَاءً- فَأَمَّا مَا کَانَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَحَیَاءٌ وَ تَذَمُّمٌ
التذمّم : الاستنکاف .
و السخاء:عبارة عن ملکة بذل المال لمن یستحقّه بقدر ما ینبغی ابتداءا عن طیب نفس و حسن المواساة لذوی الحاجة منه و بهذا الرسم یتبیّن أنّ ما کان من البذل عن مسئلة فخارج عن رسم السخاء.و ذکر له سببین:
أحدهما:الحیاء من السائل أو من الناس فیتکلّف البذل لذلک.
الثانی:الاستنکاف ممّا یصدر من السائل من لجاج أو مسبّة بالبخل و نحوه.
أربع کلمات:
لاَ غِنَی کَالْعَقْلِ وَ لاَ فَقْرَ کَالْجَهْلِ- وَ لاَ مِیرَاثَ کَالْأَدَبِ وَ لاَ ظَهِیرَ کَالْمُشَاوَرَةِ
لما سبق أنّه أغنی الغنی و أنّه لا یکون غنی مثله.
و ذلک لما مرّ أنّ أکبر الفقر الحمق،و المراد بالجهل هنا ما یقابل العقل بالملکة و هو الحمق أو ما یلازمه.
الأدب هو التحلّی بمکارم الأخلاق و هو أفضل من کلّ موروث من مال وقنیة.
تنتج فی غالب الأحوال الرأی الصحیح فیما یراد من الامور،و الرأی الصحیح أنفع فی التدبیر من القوّة و کثرة العدد کما قال أبو الطیّب:الرأی قبل شجاعة الشجعان.البیت.لا جرم لم یکن للمشاورة الّتی هی مظنّته ما یساویها فی المعونة علی المنفعة من الأمور الّتی یستظهر بها و یستعان.
اَلصَّبْرُ صَبْرَانِ صَبْرٌ عَلَی مَا تَکْرَهُ وَ صَبْرٌ عَمَّا تُحِبُّ
ص:270
التعدّد فی الصبر هنا تعدّد وصفیّ لأنّ حقیقته فی الموضعین واحدة علی ما عرفت حقیقته.
اَلْغِنَی فِی الْغُرْبَةِ وَطَنٌ وَ الْفَقْرُ فِی الْوَطَنِ غُرْبَةٌ
استعارة استعار لفظ الوطن للغنی فی الغربة باعتبار أنّه یسکن إلیه و یؤنس فلا یری أثر الغربة علی الإنسان معه،و استعار لفظ الغربة للفقر فی الوطن باعتبار ضیق الخلق معهما و تعسّر الامور فیهما .
اَلْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَ یَنْفَدُ
استعارة القناعة هی ضبط قوّة النفس عن الاشتغال بما یخرج عن مقدار الکفایة و مبلغ الحاجة من المعاش و الأقوات و عدم ما یشاهد من ذلک عند الغیر،و استعار لها لفظ المال بوصف عدم النفاد باعتبار دوام الغنی معها کالمال الموصوف .
اَلْمَالُ مَادَّةُ الشَّهَوَاتِ
أی منه یکون استمدادها و زیادتها،و المادّة هی الزیادة.و فی الکلمة تنفیر عن الاستکثار من المال لما یلزمه من إمداد الشهوة و تقویتها علی معصیة العقل.
مَنْ حَذَّرَکَ کَمَنْ بَشَّرَکَ
تشبیه أراد من حذرّک من الأمر کمن بشرّک بالنجاة منه،و وجه الشبه ظاهر.
و هو ترغیب فی الإقبال علی المحذّر و استماع تحذیره لغرض النجاة بتشبیهه بالمبشّر .
اَللِّسَانُ سَبُعٌ إِنْ خُلِّیَ عَنْهُ عَقَرَ
استعارة استعار لفظ السبع للّسان باعتبار أنّه إن ترک عن ضبط العقل له نطق بما فیه هلاک صاحبه کالسبع إذا لم یحفظ .
ص:271
اَلْمَرْأَةُ عَقْرَبٌ حُلْوَةُ اللَّسْبَةِ
اللبسة للعقرب : لسعها .
استعارة و استعار المرأة لفظ العقرب بالوصف المذکور باعتبار أنّ من شأنها الأذی لکن أذاها مشوب بما فیها من اللذّة بها فلا یحسّ به و هو کأذی الجرب المشوب بلذّته فی زیادة حکّته .
اَلشَّفِیعُ جَنَاحُ الطَّالِبِ
استعارة استعار له لفظ الجناح باعتبار کونه وسیلة له إلی مطلوبه کجناح الطائر .
أَهْلُ الدُّنْیَا کَرَکْبٍ یُسَارُ بِهِمْ وَ هُمْ نِیَامٌ
تشبیه و وجه الشبه قوله:یسار بهم و هم نیام.و ذلک أنّ الدنیا لأهلها طریق هم فیها سائرون إلی الآخرة حال ما هم فی غفلة عن غایتهم و العمل لها حتّی یوافوها.
فأشبهوا الرکب الذین یسیرون و هم نیام حتّی یوافوا منزلهم .
فَقْدُ الْأَحِبَّةِ غُرْبَةٌ
استعارة استعار لفظ الغربة لفقد الأحبّة باعتبار ما یلزمهما من الوحشة و عدم الانس .
فَوْتُ الْحَاجَةِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِهَا إِلَی غَیْرِ أَهْلِهَا
فغیر أهلها هم اللئام و محدثو النعمة و ساقطوا الاصول،و إنّما کانت أهون لأنّ فوتها یستلزم غمّا واحدا و أمّا طلبها إلی غیر أهلها فإنّها لا تحصل غالبا فیستلزم غمّ فوتها ثمّ ثقل الاستنکاف و الندم من رفعها إلیهم ثمّ غمّ ذلّ الحاجة إلی اللئام و له ألم
ص:272
عظیم کما قال:الموت أحلی من سؤال اللئام.ثمّ غمّ ردّهم لها.و هی غموم أربعة.و کذلک إن قضیت کان فیها غمّ ثقل الاستنکاف ثمّ ذلّ الحاجة الیهم فکان فوتها أهون علی کلّ حال.و هذا الکلمة تجذب إلی فضیلتی القناعة و علوّ الهمّة.
لاَ تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِیلِ- فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ
أراد بقوله:أقلّ منه:أی أحقر فی الاعتبار و ذلک أنّ الحرمان هو عدم العطاء عمّا من شأنه أن یعطی و لیس ذلک العدد من باب الکم لیلحقه القلّة و الکثرة.
و نفّر عن الحیاء من إعطاء القلیل بضمیر صغراه قوله:فإنّ الحرمان أقلّ منه.
و تقدیر کبراه:و کلّما کان الحرمان أقلّ منه فینبغی أن لا یستحیی منه بل من الحرمان الّذی هو أقلّ منه.
اَلْعَفَافُ زِینَةُ الْفَقْرِ وَ الشُّکْرُ زِینَةُ الْغِنَی
العفاف : العفّة .
و قد علمت أنّها فضیلة القوّة الشهویّة.و الفقیر إذا ضبط شهوته بزمام عقله عن میولها الطبیعیّة کملت نفسه بفضیلة العفّة و زان فقره بفضیلته فی أعین المعتبرین و إذا أهملها و أسلس قیادها تقحّمت به فی موارد القبح و قادته إلی الهلع و الحرص و الحسد و المنی و الکدیة و حصل بسببها فی أقبح صورة.
إِذَا لَمْ یَکُنْ مَا تُرِیدُ فَلاَ تُبَلْ مَا کُنْتَ
أی إذا فاتک مرادک من الأمر فلا تبل بأیّ حال کنت علیه فی ذلک الأمر.
و مفهوم هذه الکلمة النهی عن الاهتمام و الأسف علی ما لم یقع من الامور المطلوبة و ذلک أنّ الأسف علی فوات المراد یستلزم غمّا و ألما و هو مضرّة عاجلة لا یثمر فایدة فارتکابه سفه.
لاَ تَرَی الْجَاهِلَ إِلاَّ مُفْرِطاً أَوْ مُفَرِّطاً
ص:273
الجهل إمّا بسیط و هو طرف التفریط من فضیلة و یسمّی غباوة و إمّا مرکّب و هو طرف الإفراط منها و ذلک أنّ الجاهل جهلا مرکّبا قد بالغ فی طلب الحقّ و حصل من اجتهاده علی شبهة غطت عین بصیرته من إدراکه مع جزمه بأنّها برهان أصاب به الحقّ،و قد یسمّی هذا الطرف جربزة فکان أبدا علی أحد الوجهین،و بحسب جهله یکون حاله فی أفعاله و أقواله علی أحد طرفی الإفراط و التفریط.
إِذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْکَلاَمُ
تمام العقل یستلزم کمال قوّته علی ضبط الفوی البدنیّه و تصریفها بمقتضی الآراء المحمودة الصالحة،و وزن ما یبرز إلی الوجود الخارجیّ عنها من الأقوال و الأفعال بمیزان الاعتبار و فی ذلک من الکلفة و الشرائط ما یستلزم نقصان الکلام بخلاف ما لا یوزن و لا یعتبر من الأقوال.
اَلدَّهْرُ یُخْلِقُ الْأَبْدَانَ- وَ یُجَدِّدُ الْآمَالَ وَ یُقَرِّبُ الْمَنِیَّةَ- وَ یُبَاعِدُ الْأُمْنِیَّةَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ نَصِبَ وَ مَنْ فَاتَهُ تَعِبَ
إخلاقه للأبدان إعداده لضعفها و فسادها بمروره و ما یلحق أجزاءه و فصوله من الحرّ و البرد و المتاعب المنسوبة إلیه،و تجدیده للآمال بحسب الغرور الحاصل بالبقاء و الصحّة فیه و أکثر ما یعرض ذلک للمشایخ فإنّ طول أعمارهم و تجاربهم لما یعرض فیه من الحاجة و الفقر یغریهم بالحرص علی الجمع و مدّ الأمل فیه لتحصیل الدنیا،و تقریبه للمنیة بحسب إخلاقه للأبدان ،و تبعیده للامنیّة بحسب تقریبه للمنیة،و من ظفر به:أی بمواتاته و إعداده لما یراد فیه من متاع الدنیا نصب بها و شقی بضبطها و حفظها،و من فاته ذلک منه تعب فی تحصیلها و شقی بعدمها. السجع المتوازن-السجع المطرف-السجع المتوازی و راعی علیه السّلام فی القرینتین الاولیین السجع المتوازن و فی المتوسّطتین السجع المطرف، و فی الأخیرتین السجع المتوازی .
ص:274
مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً- فَلْیَبْدَأْ بِتَعْلِیمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِیمِ غَیْرِهِ- وَ لْیَکُنْ تَأْدِیبُهُ بِسِیرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِیبِهِ بِلِسَانِهِ- وَ مُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَ مُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلاَلِ- مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَ مُؤَدِّبِهِمْ
:أی بریاضتها بما یعلم من الآداب لیکون أفعاله و أقواله موافقة لعلمه و ذلک لأنّ الناس أقرب إلی الاقتداء بما یشاهد من الأفعال و الأحوال منهم بالأقوال فقط خصوصا مع مشاهدتهم لمخالفتها بالأفعال فإنّ ذلک یکون سببا لسوء الاعتقاد فی الأقوال المخالفة للفعل و الجرءة علی مخالفة ما اشتهر منها و إن کان ظاهر الصدق:و إلی مثل ذلک أشار القائل:
لا تنه عن خلق و تأتی مثله عار علیک إذا فعلت عظیم
و حمیدة الأفعال لما بیّنا أنّ الطباع لمشاهدة الأفعال أطوع و أسرع انفعالا منها للأقوال ثمّ یطابقها بعد ذلک بالأقوال .
ثمّ رغّب فی تأدیب النفس بکون مؤدّب نفسه أحقّ بالتعظیم و الإجلال من مؤدّب غیره و ذلک لکمال مؤدّب نفسه بالفضیلة و کون تأدیب الغیر فرعا علی تأدیب النفس و الأصل أشرف و أحقّ بالتعظیم من الفرع و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان بالإجلال أحقّ وجب علیه أن یبدء بما لأجله کان أحقّ بالتعظیم من غیره.
نَفَسُ الْمَرْءِ خُطَاهُ إِلَی أَجَلِهِ
استعارة استعار للنفس لفظ الخطا باعتبار أنّه علی التعاقب و التقضّی فهو مقرّب من الغایة الّتی هی الأجل کالخطا المتعاقبة الموصلة للإنسان إلی غایته من طریقه .
کُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ وَ کُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ
ص:275
و الکلیّتان من المشهورات الخطابیّة فی معرض الموعظة،و الاولی إشارة إلی أنفاس العباد و حرکاتهم.و الثانیة تخویف بما یتوقّع من الموت و توابعه.
إِنَّ الْأُمُورَ إِذَا اشْتَبَهَتْ اعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَا
أی إذا التبست فی مبادیها معرفة وجه تحصیلها و تعسّر الدخول فیها قیس علی ذلک آخرها و استدلّ علی أنّه کذلک فی العسر فیجب التوقّف عنها و عدم التعسّف فیها.
له عن أمیر المؤمنین
،و قال:فأشهد لقد رأیته فی بعض مواقفه و قد أرخی اللیل سدوله و هو قائم فی محرابه قابض علی لحیته یتململ تململ السلیم و یبکی بکاء الحزین،و یقول:
یَا دُنْیَا یَا دُنْیَا إِلَیْکِ عَنِّی أَ بِی تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَیَّ تَشَوَّفْتِ- لاَ حَانَ حِینُکِ هَیْهَاتَ غُرِّی غَیْرِی لاَ حَاجَةَ لِی فِیکِ- قَدْ طَلَّقْتُکِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ فِیهَا- فَعَیْشُکِ قَصِیرٌ وَ خَطَرُکِ یَسِیرٌ وَ أَمَلُکِ حَقِیرٌ- آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَ طُولِ الطَّرِیقِ- وَ بُعْدِ السَّفَرِ وَ عَظِیمِ الْمَوْرِدِ أقول:کان هذا الرجل من أصحابه علیه السّلام فدخل علی معاویة بعد موته فقال:
صف لی علیّا.فقال:أ و تعفینی عن ذلک.فقال:و اللّه لتفعلنّ.فتکلّم بهذا الفصل.فبکی معاویة حتّی اخضلّت لحیته.
و الضباء بطن من فهر بن مالک بن النضر بن کنانة .و السدول : جمع سدل و هو ما اسیل علی الهودج .و التململ : التقلقل من الألم و الهمّ .و السلیم : الملسوع .و الوله : أشدّ الحزن .
و قد نظر علیه السّلام إلی الدنیا بصورة
ص:276
امرأة تزیّنت و تعرّضت لوصوله إلیها مع کونها مکروهة إلیه.فخاطبها بهذا الخطاب.
و إلیک:من أسماء الأفعال:أی تنحّی.و عنّی متعلّق بما فیه من معنی الفعل.و استفهامه عن تعرّضها به و تشوّقها إلیه استفهام استنکار لذلک منها و استحقار لها و استبعاد لموافقته إیّاها علی ما ترید.و لا حان حینک:أی لا قرب وقتک:أی وقت انخداعی لک و غرورک لی.و قوله:هیهات:أی بعد ما تطلبین منی. کنایة ثمّ أمرها بغرور غیره و هو کنایة عن أنّه لا طمع لها فی ذلک منه لا أنّه أراد منها غرور غیره و هذا کمن یقول لمن یخدعه و قد اطّلع علی ذلک منه:اخدع غیری:أی أنّ خداعک لا یدخل علیّ .ثمّ خاطبها خطاب الزوجة المکرهة منافرا لها فأخبرها بعدم حاجته إلیها.
کنایة ثمّ أنشأ طلاقها ثلاثا لتحصل البینونة بها مؤکّدا لذلک بقوله:لا رجعة فیها.و هو کنایة عن غایة کراهیّتها،و أکّد طلاقها لمیله علیه السّلام إلی ضرّتها الّتی هی مظنّة الحسن و البهاء .ثمّ أشار إلی المعائب الّتی لأجلها کرهها و طلّقها و هی قصر العیش:أی مدّة الحیاة فیها،و یسیر الخطر:أی قلّة قدرها و محلّها فی نظره،ثمّ حقارة ما یؤمل منها.ثمّ تأوّه من امور:
أحدها:قلّة الزاد فی السفر إلی اللّه تعالی،و قد علمت أنّه التقوی و الأعمال الصالحة.و هکذا شأن العارفین فی استحقار أعمالهم.
الثانی:طول الطریق إلی اللّه و لا شیء فی الاعتبار أطول 2ممّا لا یتناهی.
الثالث:بعد السفر،و ذلک لبعد غایته و عدم تناهیها.
الرابع:عظم المورد و أوّل منازله الموت،ثمّ البرزخ،ثمّ القیامة الکبری.
«وَ اللّهُ الْمُسْتَعانُ» .و روی:و خشونة المضجع و هو القبر.
للسائل الشامی لما سأله:أ کان مسیرنا إلی الشام بقضاء من اللّه و قدر؟
بعد کلام طویل هذا مختاره:
وَیْحَکَ لَعَلَّکَ ظَنَنْتَ قَضَاءً لاَزِماً وَ قَدَراً حَاتِماً- لَوْ کَانَ ذَلِکَ کَذَلِکَ
ص:277
لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَ الْعِقَابُ- وَ سَقَطَ الْوَعْدُ وَ الْوَعِیدُ- إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ عِبَادَهُ تَخْیِیراً وَ نَهَاهُمْ تَحْذِیراً- وَ کَلَّفَ یَسِیراً وَ لَمْ یُکَلِّفْ عَسِیراً- وَ أَعْطَی عَلَی الْقَلِیلِ کَثِیراً وَ لَمْ یُعْصَ مَغْلُوباً- وَ لَمْ یُطَعْ مُکْرِهاً وَ لَمْ یُرْسِلِ الْأَنْبِیَاءَ لَعِباً- وَ لَمْ یُنْزِلِ الْکُتُبَ لِلْعِبَادِ عَبَثاً- وَ لاَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ «وَ الْأَرْضَ وَ ما بَیْنَهُما باطِلاً ذلِکَ ظَنُّ الَّذِینَ کَفَرُوا فَوَیْلٌ لِلَّذِینَ کَفَرُوا مِنَ النّارِ» أقول:روی أنّ السائل لما قال له علیه السّلام:أخبرنا عن سیرنا إلی الشام أ کان بقضاء اللّه و قدره؟قال:و الّذی فلق الحبّة و بریء النسمة ما وطئنا موطئا و لا هبطنا وادیا إلاّ بقضاء و قدر.فقال السائل:عند اللّه أحتسب:أی ما أری لی من الأجر شیئا.فقال:مه أیّها الشیخ لقد أعظم اللّه أجرکم فی مسیرکم و أنتم سائرون و فی منصرفکم و أنتم منصرفون و لم تکونوا فی شیء من حالاتکم مکرهین و إلیها مضطرّین.فقال الشیخ:
و کیف و القضاء و القدر ساقانا؟فقال:ویحک.الفصل.إلاّ أنّ بعد قوله:و الوعید قوله:و الأمر و النهی و لم تأت لائمة من اللّه لمذنب و لا محمدة لمحسن تلک مقالة عبدة الأوثان و جنود الشیاطین و شهود الزور و أهل العمی عن الصواب و هم قدریّة هذه الامّة و مجوسها لأنّ اللّه تعالی أمر عباده تخییرا إلی آخره.فقال الشیخ:فما القضاء و القدر اللذین ما سرنا إلاّ بهما؟فقال:هو الأمر من اللّه تعالی و الحکم.ثم قرء «وَ قَضی رَبُّکَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِیّاهُ» (1)فنهض الشیخ مسرورا و هو یقول:
أنت الإمام الّذی نرجو بطاعته یوم النشور من الرحمن رضوانا
أوضحت من دیننا ما کان ملتبسا جزاک ربّک عنّا فیه إحسانا
و الویح : کلمة ترحّم .و الحاتم : الواجب .
و تقریر سؤال السائل:إن کان مسیرنا
ص:278
بقضاء من اللّه و بقدر لم یکن لنا فی تعبنا ثواب و ذلک أنّ القضاء قد یراد به فی اللغة الخلق و ما خلقه اللّه تعالی فی العبد فلا اختیار له فیه و ما لا اختیار له فلا ثواب له فیما فعله.
و قوله :ویحک.إلی قوله:الوعید.
بیان لمنشأ وهمه و هو ما لعلّه یظنّه من تفسیر القضاء و القدر بمعنی العلم الملزم و الایجاد الواجب علی وفقه.
و قوله :إنّ اللّه سبحانه أمر عباده تخییرا.
إشارة إلی تفسیر القضاء بالأمر کما صرّح به فی جواب السائل عن معناه مستشهدا فی تفسیره بالأمر و الحکم بقوله تعالی «وَ قَضی رَبُّکَ» الآیة و معلوم أنّ أمر اللّه و نهیه لا ینافی اختیار العبد فی فعله.و هذا الجواب إقناعیّ بحسب فهم السائل.
و ربّما فسّر القضاء بأنّه عبارة عن ابداع الأوّل تعالی لجمیع صور الموجودات الکلیّة و الجزئیّة الّتی لا نهایة لها من حیث هی معقولة فی العالم العقلیّ ثمّ لمّا کان ایجاد ما یتعلّق منها بالمادّة فی مادّته و إخراج ما فیها من قبول تلک الصور من القوّة إلی الفعل واحدا بعد واحد کان القدر عبارة عن الایجاد لتلک الامور و تفصیلها واحدا بعد واحد کما قال تعالی «وَ إِنْ مِنْ شَیْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» (1).
و اعلم أنّه علی هذا التفسیر یمکن تقریر الجواب عن السؤال المذکور أیضا و ذلک أنّ القضاء بالمعنی المذکور لا ینافی اختیار العبد و حسن تکلیفه و ثوابه و عقابه لأنّ معنی الاختیار هو علم العبد بأنّ له قوّة صالحة للفعل و الترک الممکنین مهیّئة لهما إذا انضمّ إلیها المیل إلی الفعل المسمّی إرادة فعل أو النفرة المسمّی کراهة ترک و ذلک أمر لا ینافی علم اللّه تعالی بما یقع أولا یقع من الطرفین و إن حصل عنه وجوب فهو خارج عرضیّ.
ثمّ إنّ التکلیف لم یرد علی حسب ما فی علم اللّه تعالی بل له مبدءان:
ص:279
أحدهما:فاعلیّ و هو حکمته تعالی أعنی إیجاده الموجودات علی أحکم وجه و أتقنه،و سوق ما هو ناقص منها من مبدءها إلی کمالها سوقا ملایما لها.
و الثانی:قابلیّ و هو کون العبد بالصفة المذکورة من الاختیار،و لذلک ذکر من لوازم الاختیار و التکلیف المقصود من الحکمة لغایته امورا عشرة:
أحدها:أمره لعباده تخییرا.و تخییرا مصدر سدّ مسدّ الحال.
الثانی:نهیهم تحذیرا.و تحذیرا مفعول له.
الثالث:تکلیفهم الیسیر لیسهل علیهم العمل فیرغبوا فیه.
الرابع:عدم تکلیفهم العسیر لغرض أن یکونوا بحال الاختیار فلا یخرجون بالعسیر إلی التکلیف بما لا یطاق کما أشار إلیه تعالی «یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ» (1).
الخامس:من إعطاءه علی القلیل کثیرا فی العمل.و ذلک من لوازم اختیارهم أیضا.
السادس:أنّه تعالی لم یعص حال کونه مغلوبا عنهم.إذ هو القاهر فوق عباده بل لأنّه خلّی بینهم و بین أفعالهم و هیّأهم لها و ذلک من لوازم اختیارهم.
السابع:أنّه لم یطع مکرها أی لم یکن طاعة مطیعهم له عن إکراه منه تعالی له علیها و ذلک من لوازم اختیارهم.
الثامن :و لم یرسل الأنبیاء لعبا بل لیکونوا مبشّرین و منذرین لمن أطاع بالجنّة و لمن عصی بالنار و ذلک من لوازم الاختیار.
التاسع:و لم ینزل الکتب للعباد عبثا بل لیعرفوا منه وجوه تکلیفهم و أحکام أفعالهم الّتی امروا أن یکونوا علیها و بیان حدود اللّه الّتی أمرهم بالوقوف عندها و کلّ ذلک من لوازم اختیارهم.
العاشر:و لا خلق السماوات و الأرض و ما بینهما باطلا بل علی وجوه من الحکمة.منها:أن یحصل لعباده بما وهب لهم من الفکر فی آیاتها اعتبار فیتنبّهوا من
ص:280
ذلک للطیف حکمته و یستدلّوا علی کمال عظمته کما قال تعالی «إِنَّ فِی خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّیْلِ وَ النَّهارِ لَآیاتٍ لِأُولِی الْأَلْبابِ» (1)الآیات،و نفّر عن اعتقاد غیر ذلک«بأنّه «ظَنُّ الَّذِینَ کَفَرُوا» »و الآیة اقتباس.
خُذِ الْحِکْمَةَ أَنَّی کَانَتْ- فَإِنَّ الْحِکْمَةَ تَکُونُ فِی صَدْرِ الْمُنَافِقِ فَتَلَجْلَجُ فِی صَدْرِهِ- حَتَّی تَخْرُجَ فَتَسْکُنَ إِلَی صَوَاحِبِهَا فِی صَدْرِ الْمُؤْمِنِ
أمر بتعلّم الحکمة أین وجدت و لو من المنافقین و رغّب من عساه ینفر من أخذها من بعض المواضع أن یأخذها من کلّ موضع وجدها بضمیر صغراه قوله:فإنّ الحکمة.إلی آخره، کنایة و کنّی بتلجلجها أو اختلاجها علی الروایتین عن اضطرابها و عدم ثباتها فی صدر المنافق و کونه لیس مظنّة لها غیر مستقرّة فیه إلی أن تخرج إلی مظنّتها و هی صدر المؤمن فیسکن إلی صواحبها من الحکم فیه .و تقدیر کبراه:
و کلّ ما کان کذلک فیجب علی المؤمن أخذه إلی مظنّته و إخراجه من غیر مظنّته.
اَلْحِکْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ- فَخُذِ الْحِکْمَةَ وَ لَوْ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ
استعارة استعار الضالّة للحکمة بالنسبة إلی المؤمن باعتبار أنّها مطلوبه الّذی یبحث عنه و ینشده کما ینشد الضالّة صاحبها .
قِیمَةُ کُلِّ امْرِئٍ مَا یُحْسِنُهُ
غرض هذه الکلمة الترغیب فی أعلی ما یکتسب من الکمالات النفسانیّة و الصناعات و نحوها.و قیمة المرء مقداره فی اعتبار المعتبرین و محلّه فی نفوسهم من
ص:281
استحقاق تعظیم و تبجیل أو احتقار و انتقاص.و ظاهر أنّ ذلک تابع لما یحسنه المرء و یکتسبه من الکمالات المذکورة فأعلاهم قیمة و أرفعهم منزلة فی نفوس الناس أعظمهم کمالا،و أنقصهم درجة أخسّهم فیما هو علیه من حرفة أو صناعة و ذلک بحسب اعتبار عقول الناس للکمالات و لوازمها.
أُوصِیکُمْ بِخَمْسٍ- لَوْ ضَرَبْتُمْ إِلَیْهَا آبَاطَ الْإِبِلِ لَکَانَتْ لِذَلِکَ أَهْلاً- لاَ یَرْجُوَنَّ أَحَدٌ مِنْکُمْ إِلاَّ رَبَّهُ وَ لاَ یَخَافَنَّ إِلاَّ ذَنْبَهُ- وَ لاَ یَسْتَحِیَنَّ أَحَدٌ مِنْکُمْ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ یَعْلَمُ- أَنْ یَقُولَ لاَ أَعْلَمُ- وَ لاَ یَسْتَحِیَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ یَعْلَمِ الشَّیْءَ أَنْ یَتَعَلَّمَهُ- وَ عَلَیْکُمْ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الْإِیمَانِ کَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ- وَ لاَ خَیْرَ فِی جَسَدٍ لاَ رَأْسَ مَعَهُ- وَ لاَ فِی إِیمَانٍ لاَ صَبْرَ مَعَهُ
کنایة کنّی بضرب آباط الإبل عن الرحلة فی طلبها و ذلک أنّ الراکب للجمل یضرب إبطیه بکعبیه .
فإحدی الخمس :الرجا للّه دون غیره.و من لوازم ذلک إخلاص العمل له و دوام طاعته.
الثانیة:أن یخاف ذنبه دون غیره.و ذلک أن أعظم مخوف هو عقاب اللّه،و لمّا کان إنّما یلحق العبد بواسطة ذنبه فبالأولی أن یجعل الخوف من الذنب دون غیره.
و هو جذب إلی الهرب عنه بذکر الخوف منه.
الثالثة:عدم استحیاء من لا یعلم الشیء من قول لا أعلم.فإنّ الاستحیاء من ذلک القول یستلزم القول بغیر علم و هو ضلال و جهل یستلزم إضلال الغیر و تجهیله و فیه هلاک الآخرة.قال صلّی اللّه علیه و آله:من أفتی بغیر علم لعنته ملائکة السماء و الأرض.
و قد یکون سببا للهلاک الدنیویّ أیضا.
ص:282
الرابعة:عدم استحیاء من لا یعلم الشیء من تعلّمه.لما فی استحیاء الجاهل عن التعلّم من بقائه علی جهله و نقصانه و هلاک آخرته.
الخامسة :فضیلة الصبر.و أمر باقتنائها لأنّ کلّ الفضائل لا یخلو عنها و أقلّ ذلک الصبر علی اکتسابها ثمّ علی البقاء علیها و عن الخروج عنها و لذلک شبّهها من الایمان بالرأس من الجسد فی عدم قیامه بدونه.ثمّ أکّد التشبیه و المناسبة بینهما بقوله:لا خیر فی جسد.إلی آخره.
و قوله:فإنّ الصبر.صغری ضمیر رغّب به فیه،و تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فواجب اقتناءه و أخذه.
أَنَا دُونَ مَا تَقُولُ وَ فَوْقَ مَا فِی نَفْسِکَ
فقوله:أنا دون ما تقول.جواب إفراطه فی المدح.
و قوله:و فوق ما فی نفسک.
جواب لما فی نفسه ممّا یتّهمه به من عدم فضیلته.
بَقِیَّةُ السَّیْفِ أَبْقَی عَدَداً وَ أَکْثَرُ وَلَداً
لا أری ذلک إلاّ للعنایة الالهیّة ببقاء النوع و حفظه و إقامته و بإخلاف من قتل ممّن بقی.و اللّه أعلم.
مَنْ تَرَکَ قَوْلَ لاَ أَدْرِی أُصِیبَتْ مَقَاتِلُهُ
کنایة ترک هذا القول کنایة عن القول بغیر علم.و إصابة المقاتل کنایة عن الهلاک الحاصل بسبب القول بالجهل لما فیه من الضلال و الإضلال و ربّما یکون بسببه هلاک الدنیا و الآخرة .
ص:283
رَأْیُ الشَّیْخِ أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ جَلَدِ الْغُلاَمِ و روی«من مشهد الغلام».
جلده قوّته .
و قد مرّ أنّ الرأی مقدّم علی القوّة و الشجاعة لأصالة منفعته.و إنّما خصّ الرأی بالشیخ و الجلد بالغلام لأنّ کلاّ منهما مظنّة ما خصّه به فإنّ الشیخوخة مظنّة الرأی الصحیح لکثرة تجارب الشیخ و ممارساته للامور و الغلام مظنّة القوّة و الجلد،و علی الروایة الأخری فمشهده حضوره و المعنی ظاهر.
عَجِبْتُ لِمَنْ یَقْنَطُ وَ مَعَهُ الاِسْتِغْفَارُ
القنوط : الیأس من الرحمة .
و لمّا کان الاستغفار بإخلاص مبدءا للرحمة بشهادة القرآن الکریم کما سیأتی کان القنوط معه محلّ التعجّب.
محمد بن علی الباقر علیهما السّلام أنه قال:
کَانَ فِی الْأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ- وَ قَدْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا فَدُونَکُمُ الْآخَرَ فَتَمَسَّکُوا بِهِ- أَمَّا الْأَمَانُ الَّذِی رُفِعَ فَهُوَ؟رَسُولُ اللَّهِ ص؟- وَ أَمَّا الْأَمَانُ الْبَاقِی فَالاِسْتِغْفَارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَی- «وَ ما کانَ اللّهُ لِیُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِیهِمْ وَ ما کانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ یَسْتَغْفِرُونَ» قال الرضی:و هذا من محاسن الاستخراج و لطائف الاستنباط
کون وجود الرسول صلّی اللّه علیه و آله بین الامّة و رجوعه إلی اللّه فی رحمة امّته و کون الاستغفار بإخلاص معدّین لنزول رحمة اللّه و رفع عذابه ممّا یشهد به البحث العقلیّ.
و قد أکّد ذلک بصادق الشاهد السمعیّ کما استخرجه علیه السّلام.
ص:284
مَنْ أَصْلَحَ مَا بَیْنَهُ وَ بَیْنَ اللَّهِ- أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَیْنَهُ وَ بَیْنَ النَّاسِ- وَ مَنْ أَصْلَحَ أَمْرَ آخِرَتِهِ أَصْلَحَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَ دُنْیَاهُ- وَ مَنْ کَانَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَاعِظٌ- کَانَ عَلَیْهِ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ
فإصلاح ما بینه و بین اللّه بتقواه المستلزم لرضاه،و لمّا کان من تقواه إصلاح قوّتی الشهوة و الغضب اللّذین هما مبدءا الفساد بین الناس،و لزوم العدل فیهما کان من لوازم ذلک الإصلاح إصلاح ما بینه و بین الناس .
و کذلک من لوازم إصلاح أمر الآخرة عدم مجاذبة الناس دنیاهم و الکفّ عن الشره فیما بأیدیهم منها و ذلک مع مسالمتهم و معاملتهم بمکارم الأخلاق الّتی هی من إصلاح أمر الآخرة مستلزم انفعالهم و میلهم إلی من کان کذلک و إقبالهم علیه بالنفع و المعونة و کفّ الأذی و بحسب ذلک یکون صلاح دنیاه،و لأنّ الدنیا المطلوبة لمن أصلح أمر آخرته سهلة و هی مقدار حاجته علی الاقتصاد و ذلک أمر قد تکفّلت العنایة الإلهیّة بتهیّئه و إصلاحه مدّة الحیاة الدنیا.
و أمّا الثالثة فلأنّ واعظ النفس باعث علی تقوی اللّه و لزوم العدل فی قوّتی الشهوة و الغضب اللّذین هما مبدءا الشرّ المستلزم للهلاک فی الدارین و ذلک مستلزم لحفظ اللّه فیهما.
اَلْفَقِیهُ کُلُّ الْفَقِیهِ مَنْ لَمْ یُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ- وَ لَمْ یُؤْیِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَ لَمْ یُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَکْرِ اللَّهِ
کنایة کنّی بقوله: کلّ الفقیه عن تمامه:أی الفقیه الکامل فی فقهه.و ذلک أنّ من فقه وضع الکتاب العزیز علم أنّ غرضه الأوّل جذب الناس إلی اللّه فی سبل مخصوصة بوجوه من الترغیب و الترهیب و الوعد و الوعید و البشارة و النذارة و غیرها فمن ضرورته إذن أن لا یقنط الناس من رحمة اللّه بآیات وعیده و نذارته و لا یؤیسهم
ص:285
بذلک من روحه لما یلزم الیأس من إغراء العصاة بالمعصیة و اتّباع الهوی الحاضر الّذی لا یرجی من نهی النفس عنه ثمرة فی الآخرة و لذلک قال تعالی «یا عِبادِیَ الَّذِینَ أَسْرَفُوا عَلی أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ» (1)و قال «إِنَّهُ لا یَیْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْکافِرُونَ» (2)،و أن لا یؤمنهم من مکر اللّه بالجزم بآیات وعده و بشارته لما یستلزم السکون إلی ذلک و الاعتماد علیه من الانهماک فی المعاصی و اتّباع الهوی و لذلک قال تعالی «أَ فَأَمِنُوا مَکْرَ اللّهِ فَلا یَأْمَنُ مَکْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» (3)بل یکون تابعا فی وعظه و جذبه إلی اللّه مقاصد سنّته و وضع شریعته .
أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وُقِفَ عَلَی اللِّسَانِ- وَ أَرْفَعُهُ مَا ظَهَرَ فِی الْجَوَارِحِ وَ الْأَرْکَانِ
کنایة کنّی بالأوّل عن العلم الّذی لا عمل معه و ظهوره و وقوفه علی اللسان فقط و هو أنقص درجات العلم و أراد بالثانی العلم المقرون بالعمل فإنّ الأعمال الصالحة لمّا کانت من ثمرات العلم باللّه و ما هو أهله کان العلم فیها ظاهرا علی جوارح العبد و أرکانه ظهور العلّة فی معلولها و ذلک هو العلم المنتفع به فی الآخرة .
إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ کَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ- فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِکَمِ
النفوس قد یقع لها انصراف عن العلم الواحد و ملال للنظر فیه بسبب مشابهة بعض أجزائه لبعض فإذا اطّلعت النفس علی بعضه قاست ما لم تعلم منه علی ما علمت و لم یکن الباقی عندها من الغریب لتلتذّ به و تدوم علی النظر فیه،و لمّا کان ذلک
ص:286
الملال و الانصراف غیر محمود لها أمر بطلب طرائف الحکمة لها.و أراد لطایفها و غرایبها المعجبة للنفس اللذیذة لها لتکون أبدا فی اکتساب الحکمة و التذاذ فی انتقالها من بعض غرائبها إلی بعض و أراد بالحکمة الحکمة العملیّة و أقسامها أو أعمّ منها.
لاَ یَقُولَنَّ أَحَدُکُمْ اللَّهُمَّ إِنِّی أَعُوذُ بِکَ مِنَ الْفِتْنَةِ- لِأَنَّهُ لَیْسَ أَحَدٌ إِلاَّ وَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَی فِتْنَةٍ- وَ لَکِنْ مَنِ اسْتَعَاذَ فَلْیَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلاَّتِ الْفِتَنِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ یَقُولُ- «وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُکُمْ وَ أَوْلادُکُمْ فِتْنَةٌ» وَ مَعْنَی ذَلِکَ أَنَّهُ یَخْتَبِرُهُمْ- بِالْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلاَدِ لِیَتَبَیَّنَ السَّاخِطَ لِرِزْقِهِ- وَ الرَّاضِیَ بِقِسْمِهِ- وَ إِنْ کَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ- وَ لَکِنْ لِتَظْهَرَ الْأَفْعَالُ الَّتِی بِهَا یُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ وَ الْعِقَابُ- لِأَنَّ بَعْضَهُمْ یُحِبُّ الذُّکُورَ وَ یَکْرَهُ الْإِنَاثَ- وَ بَعْضَهُمْ یُحِبُّ تَثْمِیرَ الْمَالِ وَ یَکْرَهُ انْثِلاَمَ الْحَالِ قال الرضی:و هذا من غریب ما سمع منه فی التفسیر .
حاصل الکلام أنّ الفتنة أعمّ من الفتنة المستعاذ منها لصدقها علی المال و البنین باعتبار ابتلاء اللّه تعالی عباده و اختباره لهم بهما و هما غیر مستعاذ منهما إذا راعی العبد فیهما أمر اللّه و لزم طاعته و امّا الفتنة المستعاذ منها فهی الّتی یستلزم الوقوع فیها الضلال عن سبیل اللّه کالخروج فی المال عن واجب العدل و صرفه فی إمداد الشهوات و اتّباع الهوی.
فقال:لَیْسَ الْخَیْرُ أَنْ یَکْثُرَ مَالُکَ وَ وَلَدُکَ- وَ لَکِنَّ الْخَیْرَ أَنْ یَکْثُرَ عِلْمُکَ-
ص:287
وَ أَنْ یَعْظُمَ حِلْمُکَ وَ أَنْ تُبَاهِیَ النَّاسَ بِعِبَادَةِ رَبِّکَ- فَإِنْ أَحْسَنْتَ حَمِدْتَ اللَّهَ وَ إِنْ أَسَأْتَ اسْتَغْفَرْتَ اللَّهَ- وَ لاَ خَیْرَ فِی الدُّنْیَا إِلاَّ لِرَجُلَیْنِ- رَجُلٍ أَذْنَبَ ذُنُوباً فَهُوَ یَتَدَارَکُهَا بِالتَّوْبَةِ- وَ رَجُلٍ یُسَارِعُ فِی الْخَیْرَاتِ- وَ لاَ یَقِلُّ عَمَلٌ مَعَ التَّقْوَی وَ کَیْفَ یَقِلُّ مَا یُتَقَبَّلُ
أقول:الخیر فی العرف العامیّ هو کثرة المال و القینات الدنیویّة،و فی عرف السالکین إلی اللّه هو السعادة الاخرویّة و ما یکون وسیلة إلیها من الکمالات النفسانیّة.و ربّما فسّره قوم بما هو أعمّ من ذلک.و قد نفی علیه السّلام أن یکون الأوّل خیرا و ذلک لفناءه و مفارقته و لما عساه أن یلحق بسببه من الشرّ فی الآخرة و فسرّه بالثانی و عدّ فیه کمال القوی الإنسانیّة فکثرة العلم کمال القوی النظریّة للنفس العاقلة،و عظم الحلم من کمال القوّة العملیّة و هو فضیلة القوّة الغضبیّة،و مباهاة الناس بعبادة ربّه:أی المفاخرة بها بالکثرة و الإخلاص و حمد اللّه علی توفیقه للحسنة و استغفاره للسیّئة و ذلک من فضائل القوّة الشهویّة و کمال القوّة العملیّة .
ثمّ حصر خیر الدنیا فی أمرین،و ذلک أنّ الإنسان إمّا أن یشتغل بمحو السیّئات و إعدامها و یتدارک فارط ذنوبه فیعدّ نفسه بذلک لاکتساب الحسنات أو یشتغل بایجاد الحسنات فیها.و لا واسطة من الخیر المکتسب بین هذین الأمرین .ثمّ حکم بعدم قلّة العمل المقرون بتقوی اللّه منبّها بذلک علی أنّ تدارک الذنوب بمحوها و المسارعة فی الخیرات مستلزم للتقوی،و إنّما کان غیر قلیل لأنّه مقبول عند اللّه و المقبول عنده مستلزم لثوابه العظیم.و ذلک ترغیب فی الأمرین المذکورین.
إِنَّ أَوْلَی النَّاسِ بِالْأَنْبِیَاءِ أَعْلَمُهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ- ثُمَّ تَلاَ «إِنَّ أَوْلَی النّاسِ بِإِبْراهِیمَ لَلَّذِینَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِیُّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا»
ص:288
ثُمَّ قَالَ إِنَّ وَلِیَّ؟مُحَمَّدٍ؟ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَ إِنْ بَعُدَتْ لُحْمَتُهُ- وَ إِنَّ عَدُوَّ؟مُحَمَّدٍ؟ مَنْ عَصَی اللَّهَ وَ إِنْ قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ
و لمّا کان الغرض من الأنبیاء علیهم السّلام جذب الخلق إلی اللّه بطاعته فکلّ من کان أبلغ فی الطاعة کان أشدّ موافقة لهم و أقرب إلی قلوبهم و أقوی نسبة إلیهم.
و لمّا لم یمکن طاعتهم إلاّ بالعلم بما جاءوا به کان أعلم الناس بذلک أقربهم إلیهم و أولاهم بهم.و برهان ذلک الآیة المذکورة.و ذکر حال الأنبیاء لیعلم مراده الإجمالی ثمّ خصّص الذکر بمحمّد صلّی اللّه علیه و آله کما هو عادة الخطیب.و المراد بالولیّ هنا الأولی.و أشار إلی أنّ طاعة اللّه علّة للأولویّة بمحمّد صلّی اللّه علیه و آله،و معصیته علّة لعداوته و إن بعدت قرابة المطیع أو قربت قرابة العاصی لیعلم أنّ الطاعة و المعصیة علّتان مستقلّتان للأولویّة بمحمّد صلّی اللّه علیه و آله و العداوة له فیحصل الرغبة فی الطاعة و النفرة عن المعصیة.
وَ سَمِعَ ع رَجُلاً مِنَ؟الْحَرُورِیَّةِ؟ یَتَهَجَّدُ وَ یَقْرَأُ فَقَالَ نَوْمٌ عَلَی یَقِینٍ خَیْرٌ مِنْ صَلاَةٍ فِی شَکٍّ
الحروریّة فرقة من الخوارج نسبوا إلی حرورا-بمدّ و بقصر-قریة بالنهروان و کان أوّل اجتماعهم بها .و التهجّد : السهر فی العبادة .
و إنّما کان کذلک لأنّ نوم العالم علی یقین منه بما ینبغی تیقّنه و علمه أیضا ممّا ینبغی له،و عبادة الجاهل علی شکّ فیما ینبغی تیقّنه من أصول العبادة ممّا لا ینبغی لما فیه من إتعاب البدن من غیر فایدة فکان الأوّل أولی و خیرا من الثانی.و أراد ما هم علیه من الشکّ فی إمامة إمام الوقت الّذی هو مبدء تعلیم العبادات و کیفیّتها،و العلم به رکن من أرکان الدین فإنّ الشکّ فیه یستلزم عدم الاستفادة منه و الشکّ فی کثیر ممّا یحتاج إلیه فیه کعلم التوحید و أسرار العبادات و کیفیّة السلوک إلی اللّه تعالی بطاعته.
ص:289
اِعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَایَةٍ لاَ عَقْلَ رِوَایَةٍ- فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ کَثِیرٌ وَ رُعَاتَهُ قَلِیلٌ
عقل الرعایة : ضبطه بالفهم و رعایة العلم .و عقل الروایة : ضبط ألفاظها و سماعها دون تفهّم المعنی .
و رغّب فی ذلک بضمیر صغراه قوله:فإنّ رواة العلم.إلی آخره.و تقدیره کبراه:و کلّما کان کذلک فینبغی أن یعقل عقل رعایة لتکثر رعاته.
إِنَّ قَوْلَنَا «إِنّا لِلّهِ» إِقْرَارٌ عَلَی أَنْفُسِنَا بِالْمُلْکِ- وَ قَوْلَنَا «وَ إِنّا إِلَیْهِ راجِعُونَ» - إِقْرَارٌ عَلَی أَنْفُسِنَا بِالْهُلْکِ
و الکلمة بتفسیرها ظاهر.
اَللَّهُمَّ إِنَّکَ أَعْلَمُ بِی مِنْ نَفْسِی- وَ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِی مِنْهُمْ- اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا خَیْراً مِمَّا یَظُنُّونَ وَ اغْفِرْ لَنَا مَا لاَ یَعْلَمُونَ
هذا کسر لنفسه علیه السّلام فی مقابلة المدح الموجب للعجب .ثمّ سأل اللّه أن یعلی درجته فی الخیر فوق ما یظنّونه فیه و أن یغفر له ما لا یعملون من عیبه.
فإن قلت:إنّه معصوم فکیف یصدر عنه عیب یطلب مغفرته؟ قلت:قد بیّنا فیما سلف أنّ عیب مثله علیه السّلام و ما یسمّی ذنبا فی حقّه إنّما هو من باب ترک الأولی و لیس هو من الذنوب المتعارفة الّتی عصم عنها.
لاَ یَسْتَقِیمُ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ إِلاَّ بِثَلاَثٍ- بِاسْتِصْغَارِهَا لِتَعْظُمَ وَ بِاسْتِکْتَامِهَا لِتَظْهَرَ- وَ بِتَعْجِیلِهَا لِتَهْنُؤَ
ص:290
اشترط فی استقامة قضاء الحوائج:أی کون قضائها علی ما ینبغی من العدل ثلاث شرائط:
أحدها:استصغار قاضی الحاجة لها لیعرف بالسماحة و کبر النفس فیعظم عطاؤه و یشتهر.
الثانیة:أن یکتمها فإنّ طباع الناس أدعی إلی إظهار ما استکتم و أکثر عنایة به من غیره.
الثالث:أن یعجّلها لتهنأ:أی لتکون هنیئة.یقال:هنأ الطعام یهنأ و ذلک أنّ الإبطاء بقضاء الحاجة ینغّصها علی طالبها فتکون لذّتها مشوبة بتکدیر بطؤها.
یَأْتِی عَلَی النَّاسِ زَمَانٌ لاَ یُقَرَّبُ فِیهِ إِلاَّ الْمَاحِلُ- وَ لاَ یُظَرَّفُ فِیهِ إِلاَّ الْفَاجِرُ- وَ لاَ یُضَعَّفُ فِیهِ إِلاَّ الْمُنْصِفُ- یَعُدُّونَ الصَّدَقَةَ فِیهِ غُرْماً وَ صِلَةَ الرَّحِمِ مَنّاً- وَ الْعِبَادَةَ اسْتِطَالَةً عَلَی النَّاسِ- فَعِنْدَ ذَلِکَ یَکُونُ السُّلْطَانُ بِمَشُورَةِ النِّسَاءِ- وَ إِمَارَةِ الصِّبْیَانِ وَ تَدْبِیرِ الْخِصْیَانِ
و أقول: الماحل : الساعی بالنمیمة إلی السلطان،و أصل المحل الکید و المکر.
و روی الماجن مکان الفاجر و هو المتکلّم بما یشتهی من الباطل و الهزل و الاستهزاء .
و الغرم : الدین .
یرید أنّ ذلک الزمان لسوء أهله و بعدهم عن الدین و قوانین الشریعة تجعل فیه الرذائل مکان الفضائل و یستعمل ما لا ینبغی مکان ما ینبعی فیقرب الملوک السعاة إلیهم بالباطل مکان أصحاب الفضائل و من ینبغی تقریبه،و یعدّ الفاجر و هو صاحب رذیلة الإفراط فی قوّته الشهویّة صاحب فضیلة الظرف فی حرکاته.
و قوله:و لا یضّعف.إلی آخره.
أی إذا رأوا إنسانا عنده ورع و إنصاف فی معاملة الناس عدوّه عاجزا ضعیفا،و یحتمل أن یرید بقوله:یضعّف أی یستصغر عقله لترکه الظلم کأنّه تارک حقّ
ص:291
ینبغی له أخذه ،و تعدّ فیه الصدقة الّتی ینبغی أداءها برغبة طلبا للثواب غرما کأداء الدین فی الثقل،و کذلک تعدّ صلة الرحم منّا و فیه إبطال للفضیلة المذکورة لقوله تعالی «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِکُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذی» (1)،و یستطال بالعبادة علی الناس و یترفّع بها کالمانّ علیهم بذلک.ثمّ جعل من علامات ذلک الزمان کون السلطان و الملک یدبّر بمشورة الإماء و إمارة الصبیان و تدبیر الخصیان و هی علامات زماننا و قبله بمدّة.
وَ رُئِیَ عَلَیْهِ إِزَارٌ خَلَقٌ مَرْقُوعٌ فَقِیلَ لَهُ فِی ذَلِکَ- فَقَالَ یَخْشَعُ لَهُ الْقَلْبُ وَ تَذِلُّ بِهِ النَّفْسُ- وَ یَقْتَدِی بِهِ الْمُؤْمِنُونَ
ذکر فی لبس ذلک الخلق ثلاثة مقاصد:خشوع القلب:خضوع النفس العاقلة و انکسارها عن الفقر،و ذلّة النفس انکسار للنفس الأمّارة بالسؤ عنه،و اقتداء المؤمنین بذلک للقصدین الأوّلین.
إِنَّ الدُّنْیَا وَ الْآخِرَةَ عَدُوَّانِ مُتَفَاوِتَانِ- وَ سَبِیلاَنِ مُخْتَلِفَانِ- فَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْیَا وَ تَوَلاَّهَا أَبْغَضَ الْآخِرَةَ وَ عَادَاهَا- وَ هُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ مَاشٍ بَیْنَهُمَا- کُلَّمَا قَرُبَ مِنْ وَاحِدٍ بَعُدَ مِنَ الْآخَرِ- وَ هُمَا بَعْدُ ضَرَّتَانِ
استعارة استعار لفظ العدوّ لهما باعتبار ما بینهما من البعد لطالبهما،و ظاهر کونهما سبیلین مختلفین.و من لوازم ما بینهما من العداوة و الاختلاف کون المحبّ لإحدیهما مبغضا للاخری . تشبیه ثمّ شبّههما بالمشرق و المغرب و وجه الشبه تباینهما و اختلاف
ص:292
جهتیهما،و شبّه الطالب لهما بالماشی بینهما و وجه الشبه قوله:کلّما قرب.إلی آخره فإنّ الطالب للدنیا بقدر توجّهه فی طلبها یکون غفلته علی الآخرة و انقطاعه عنها و کلّما أمعن فی تحصیلها ازداد غفلة و بعدا عن الآخرة و بالعکس کالماشی إلی حد جهتی المشرق و المغرب.ثمّ شبهّهما بعد ذلک بالضرّتین و وجه الشبه أیضا أنّ لقرب من إحداهما یستلزم البعد عن الاخری کالزوج ذی الضرّتین .
قال:رأیت أمیر المؤمنین علیه السّلام ذات لیلة و قد خرج من فراشه فنظر فی النجوم فقال لی:یا نوف،أ راقد أنت أم رامق؟فقلت:بل رامق قال:یا نوف طُوبَی لِلزَّاهِدِینَ فِی الدُّنْیَا- الرَّاغِبِینَ فِی الْآخِرَةِ- أُولَئِکَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطاً- وَ تُرَابَهَا فِرَاشاً وَ مَاءَهَا طِیباً- وَ؟الْقُرْآنَ؟ شِعَاراً وَ الدُّعَاءَ دِثَاراً- ثُمَّ قَرَضُوا الدُّنْیَا قَرْضاً عَلَی مِنْهَاجِ؟الْمَسِیحِ؟- یَا؟نَوْفُ؟ إِنَّ؟دَاوُدَ ع؟ قَامَ فِی مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ مِنَ اللَّیْلِ- فَقَالَ إِنَّهَا لَسَاعَةٌ لاَ یَدْعُو فِیهَا عَبْدٌ إِلاَّ اسْتُجِیبَ لَهُ- إِلاَّ أَنْ یَکُونَ عَشَّاراً أَوْ عَرِیفاً أَوْ شُرْطِیّاً- أَوْ صَاحِبَ عَرْطَبَةٍ وَ هِیَ الطُّنْبُورُ أَوْ صَاحِبَ کُوبَةٍ وَ هِیَ الطَّبْلُ- وَ قَدْ قِیلَ أَیْضاً إِنَّ الْعَرْطَبَةَ الطَّبْلُ- وَ الْکُوبَةَ الطُّنْبُورُ
أقول: البکالی بکسر الباء : منسوب إلی بکاله قریة من الیمن .و الرامق:
الناظر :و العریف : نقیب الشرطة .
و کان خروجه علیه السّلام فی ذلک الوقت لما نقله عن داود علیه السّلام و لأنّه محلّ لفراغ للاعتبار و الفکر فی خلق السماوات و زینتها .ثمّ عرّف الزاهدین فی الدنیا ستّة أوصاف لغرض الاقتداء بهم:
أحدها:اتّخاذهم الأرض بساطا.
ص:293
الثانی:و ترابها فراشا.
الثالث:و ماءها طیبا،و ذلک من لوازم زهدهم فی متاعها و ترکها عن طیب نفس بذلک.
الرابع:اتّخاذهم للقرآن شعارا.
الخامس:و الدعاء دثارا، استعارة و استعار لفظ الشعار للقرآن باعتبار ملازمتهم لدرسه و تفهّم مقاصده کالشعار الملازم للجسد.و لفظ الدثار للدعاء باعتبار احتراسهم به من عذاب اللّه و الشدائد النازلة بهم کالاحتراس بالدثار عن البرد و نحوه .
السادس:قرضهم للدنیا:أی قطعها عنهم بأیسر ما یدفع ضرورتهم منها کما فعله المسیح علیه السّلام من هذه الأوصاف .و کان قیامه علیه السّلام فی النصف الأخیر من اللیل و إنّما کان مظنّة الإجابة لخلوّ النفس فیه عن الاشتغال بشواغل النهار المحسوسة و توفّرها بعد النوم علی الالتفات إلی حضرة الملأ الأعلی و استعدادها لقبول السوانح الإلهیّة.و إنّما استثنی المذکورین لملازمتهم المعصیة الّتی تحجب نفوسهم عن قبول رحمة اللّه تعالی.
إِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَیْکُمْ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَیِّعُوهَا- وَ حَدَّ لَکُمْ حُدُوداً فَلاَ تَعْتَدُوهَا- وَ نَهَاکُمْ عَنْ أَشْیَاءَ فَلاَ تَنْتَهِکُوهَا- وَ سَکَتَ لَکُمْ عَنْ أَشْیَاءَ وَ لَمْ یَدَعْهَا نِسْیَاناً فَلاَ تَتَکَلَّفُوهَا
فرائض اللّه:واجبات دینه.و حدوده:نهایات ما أباحه من نعمه و رخّص فیه.و الأشیاء المنهیّ عنها:ما جاوز حدوده من المحرّمات و الرذائل.و ما سکت عنه کتکلیف دقایق علم لا نفع له فی الآخرة فإنّه لم یسکت عنه نسیانا لتقدّسه عن ذلک بل لعدم فایدته الأخرویّة و استلزام الاشتغال به ترک الاشتغال بعلم نافع فیلزمه المضرّة.
ص:294
لاَ یَتْرُکُ النَّاسُ شَیْئاً مِنْ أَمْرِ دِینِهِمْ لاِسْتِصْلاَحِ دُنْیَاهُمْ- إِلاَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَیْهِمْ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ
لمّا کانت مطالب الناس فی الدنیا إذا فتح باب الطلب لها غیر متناهیة لکون کلّ مطلوب یحصل معدّا لطلب الزیادة فیه و الاستکثار منه و تحصیل شرایطه و لوازمه و کان بعد الإنسان عن اللّه بقدر قربه من الدنیا و بعد أمله فیها کان کلّ أمر استصلحت به الدنیا لأنّها دنیا معدّا لفتح باب من أبواب طلبها و إصلاحها و هو أضرّ من الأوّل لکونه أشدّ ایغالا فیها و إبعادا عن اللّه.
رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ وَ عِلْمُهُ مَعَهُ لاَ یَنْفَعُهُ
أراد العلماء بما لا نفع فیه من العلوم کعلم السحر و النیرنجات بل کعلم النحو و غیره من العلوم العقلیّة مثلا بمن جهل شرائع الإسلام فأفتی بغیر علم أو تعدّی حدّا و ارتکب منهیّا فکان ذلک سبب هلاکه فی الدنیا و الآخرة،أو کعلم ما لا نفع فیه فی الآخرة استلزم ترک علم مهمّ فیها فکان سبب هلاکه هناک مع عدم انتفاعه و خلاصه بما علم.
لَقَدْ عُلِّقَ بِنِیَاطِ هَذَا الْإِنْسَانِ بَضْعَةٌ- هِیَ أَعْجَبُ مَا فِیهِ وَ هُوَ الْقَلْبُ- وَ ذَلِکَ أَنَّ لَهُ مَوَادَّ مِنَ الْحِکْمَةِ وَ أَضْدَاداً مِنْ خِلاَفِهَا- فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَذَلَّهُ الطَّمَعُ- وَ إِنْ هَاجَ بِهِ الطَّمَعُ أَهْلَکَهُ الْحِرْصُ- وَ إِنْ مَلَکَهُ الْیَأْسُ قَتَلَهُ الْأَسَفُ- وَ إِنْ عَرَضَ لَهُ الْغَضَبُ اشْتَدَّ بِهِ الْغَیْظُ- وَ إِنْ أَسْعَدَهُ الرِّضَا نَسِیَ التَّحَفُّظَ- وَ إِنْ غَالَهُ الْخَوْفُ شَغَلَهُ الْحَذَرُ- وَ إِنِ اتَّسَعَ لَهُ
ص:295
الْأَمْرُ اسْتَلَبَتْهُ الْغِرَّةُ- وَ إِنْ أَصَابَتْهُ مُصِیبَةٌ فَضَحَهُ الْجَزَعُ- وَ إِنْ أَفَادَ مَالاً أَطْغَاهُ الْغِنَی وَ إِنْ عَضَّتْهُ الْفَاقَةُ شَغَلَهُ الْبَلاَءُ- وَ إِنْ جَهَدَهُ الْجُوعُ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ وَ إِنْ أَفْرَطَ بِهِ الشِّبَعُ کَظَّتْهُ الْبِطْنَةُ- فَکُلُّ تَقْصِیرٍ بِهِ مُضِرٌّ وَ کُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ
أقول: النیاط : عرق علّق به القلب .و غاله : أخذه علی غرّة .
و أراد بالموادّ من الحکمة الفضایل الخلقیّة فإنّها بأسرها من الحکمة و هی العلم ممّا ینبغی أن یفعل و هو الأصلح فی کلّ باب و هی موادّ کمال القلب، و أشار بأضدادها المخالفة لها إلی الرذائل المضادّة للفضایل و هی الّتی أطراف التفریط و الإفراط منها:
فالاولی:الطمع و هی رذیلة الإفراط من الرجاء و نفّر عنها بما یلزمها من الذلّة للمطموع فیه و بما یلزم اشتداد الطمع من الحرص المهلک فی الدارین.
الثانیة:الیأس و هو رذیلة التفریط من الرجاء و نفّر عنها بما یلزمها من شدّة الأسف القاتل.
الثالثة رذیلة الإفراط من الغضب و هی اشتداد الغیظ المسمّی طیشا.و الوسط من الغضب فضیلة الشجاعة و کظم الغیظ.
الرابعة:ترک التحفّظ و نسیانه و هو رذیلة الإفراط من رضا الإنسان بما یحصل علیه من دنیاه.
الخامسة:رذیلة الإفراط من عروض الخوف و هی الاشتغال بالحذر عمّا لا ینبغی عند عروضه و الّذی ینبغی فیه الأخذ بالحزم و ترک الإفراط فی الخوف و العمل للأمر المخوف.
السادسة:رذیلة التفریط فی عروض ضدّه و هو الأمن و هی استلاب الغرّة
ص:296
لعقل الأمن حتّی لا یفکّر فی مصلحته و حفظ ما هو علیه من الأمن.
السابعة:رذیلة التفریط من فضیلة الصبر علی المصیبة و هی الجزع و نفّر عنه بما یلزمه من الافتضاح به.
الثامنة:رذیلة الإفراط من حصول المال و هو الطغو بکثرثه و الغنی منه.
و الطغو:تجاوز الحدّ.
التاسعة:رذیلة التفریط من الصبر علی الجوع.و ذکر لازمها و هو قعود الضعف به عمّا ینبغی.و نفّر به عنها.
الحادیة عشر:رذیلة إفراط الشبع من فضیلة القصد فیه و ما یلزم تلک الرذیلة من جهد البطنة.و نفّر عنها بما یلازمها.ثمّ ختم ذلک بالتنفیر من طرف الإفراط و التفریط فیها إجمالا بما یلزم التفریط من مضرّة القلب بعدم الفضیلة و یلزم الإفراط فیها من إفساده بخروجه عنها.و باللّه العصمة.
نَحْنُ النُّمْرُقَةُ الْوُسْطَی بِهَا یَلْحَقُ التَّالِی- وَ إِلَیْهَا یَرْجِعُ الْغَالِی
النمرقة : الوسادة الصغیرة .
استعارة و استعار لفظها له و لأهل بیته بصفة الوسطی باعتبار کونهم أئمّة الحقّ و مستندا للخلق فی تدبیر معاشهم و معادهم علی وجه العدل المتوسّط بین طرفی الإفراط و التفریط و من حقّ الإمام الحقّ المتوسّط فی الامور أن یلحق به التالی أی المفرّط المقصّر،و أن یرجع إلیه الغالی أی المفرط المتجاوز لحدّ العدل .
لاَ یُقِیمُ أَمْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلاَّ مَنْ لاَ یُصَانِعُ- وَ لاَ یُضَارِعُ وَ لاَ یَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ
المصانعة : المصالحة برشوة و نحوها .و المضارعة : مفاعلة من الضرع و هو الذلّة
ص:297
کأنّ کلاّ منهما یضرع للآخر .
و ظاهر أنّ مصانعة الغیر یستلزم طلب رضاه و ذلک یمنع من إقامة حدود اللّه و أمره فی حقّه،و کذلک المضارعة و اتّباع المطامع من الغیر فإنّهما یستلزمان ترک مواجهته بما یشقّ علیه من أوامر اللّه و حدوده.
«و قد توفی سهل بن حنیف الأنصاری بالکوفة بعد مرجعه معه من صفین،و کان من أحب الناس إلیه:
لَوْ أَحَبَّنِی جَبَلٌ لَتَهَافَتَ قال الرضی:و معنی ذلک أن المحنة تغلظ علیه فتسرع المصائب إلیه و لا یفعل ذلک إلا بالأتقیاء الأبرار و المصطفین الأخیار،و هذا مثل قوله:
«و قد یؤول ذلک علی معنی آخر لیس هذا موضع ذکره».
أقول: تهافت : سقط قطعة قطعة ،
و ذلک مبالغة فی کثرة ما یلحقه و محبّیه من المصائب و الابتلاء .
و قوله: من أحبّنا فلیستعدّ للفقر جلبابا :
أی یهیّیء له ذلک. استعارة و الجلباب مستعار لتوطین النفس علی الفقر و الصبر علیه، و وجه الاستعارة کونهما ساترین للمستعدّ بهما من عوارض الفقر و ظهوره فی سوء الخلق و ضیق الصدر و التحیّر الّذی ربّما یؤدّی إلی الکفر کما یستر بالملحفة، و لمّا کانت محبّتهم علیهم السّلام بصدق یستلزم متابعتهم و الاقتداء بهم و الاستشعار بشعارهم و من شعائرهم الفقر و رفض الدنیا و الصبر علی ذلک وجب أن یکون کلّ محبّ لهم مستشعرا للفقر و مستعدّا له جلبابا من توطین النفس علیه و الصبر .و قد ذکر ابن قتیبة هذا المعنی بعبارة اخری فقال:من أحبّنا فلیقصر علی التعلّل من الدنیا و التقنّع فیها.قال:و شبّه الصبر علی الفقر بالجلباب لأنّه یستر الفقر کما یستر الجلباب
ص:298
البدن،قال:و یشهد بصحّة هذا التأویل ما روی أنّه علیه السّلام رأی قوما علی بابه فقال:
یا قنبر من هؤلاء؟فقال:شیعتک یا أمیر المؤمنین.فقال:ما لی لا أری فیهم سیما الشیعة.
قال:و ما سیما الشیعة؟قال:خمص البطون من الطوی یبس الشفاه من الظماء عمش العیون من البکاء.
و قال أبو عبید:إنّه لم یرد الفقر فی الدنیا ألا تری أنّ فیمن یحبّهم مثل ما فی سایر الناس من الغنی،و إنّما أراد الفقر یوم القیامة.و أخرج الکلام مخرج الوعظ و النصیحة و الحثّ علی الطاعات فکأنّه أراد من أحبّنا فلیعدّ لفقره یوم القیامة ما یجبره من الثواب و التقرّب إلی اللّه تعالی و الزلفة عنده.
قال السیّد المرتضی رحمه اللّه:و الوجهان جمیعا حسنان و إن کان قول ابن قتیبة أحسن.فذلک معنی قول السیّد-رضی اللّه عنه-و قد یؤوّل ذلک علی معنی آخر.
و ذکر القطب الراوندیّ احتمالا رکیکا لا یصلح محملا لهذا الکلام.
فلم نطوّل بذکره.
لاَ مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ وَ لاَ وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ- وَ لاَ عَقْلَ کَالتَّدْبِیرِ وَ لاَ کَرَمَ کَالتَّقْوَی- وَ لاَ قَرِینَ کَحُسْنِ الْخُلُقِ وَ لاَ مِیرَاثَ کَالْأَدَبِ- وَ لاَ قَائِدَ کَالتَّوْفِیقِ وَ لاَ تِجَارَةَ کَالْعَمَلِ الصَّالِحِ- وَ لاَ رِبْحَ کَالثَّوَابِ وَ لاَ وَرَعَ کَالْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ- وَ لاَ زُهْدَ کَالزُّهْدِ فِی الْحَرَامِ وَ لاَ عِلْمَ کَالتَّفَکُّرِ- وَ لاَ عِبَادَةَ کَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ- وَ لاَ إِیمَانَ کَالْحَیَاءِ وَ الصَّبْرِ وَ لاَ حَسَبَ کَالتَّوَاضُعِ- وَ لاَ شَرَفَ کَالْعِلْمِ وَ لاَ عِزَّ کَالْحِلْمِ- وَ لاَ مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ
ص:299
أی أعود بالنفع علی صاحبه استعارة و استعار لفظ المال للعقل باعتبار أنّ به غنی النفس و هو رأس مالها الّذی به یکتسب الأرباح الباقیة و الکمالات المستعدّة کالمال الّذی به الکمال الظاهر،و لمّا کان بین المالین من التفاوت فی الشرف ما علمت لا جرم لم یکن مال أعود منه بالنفع .
و جعل الوحدة من جنس العجب باعتبار ما یستلزمانه من الوحشة الموحشة و قد سبق بیان استلزام العجب لها.
مجازا إطلاقا لاسم السبب علی المسبّب و لا عقل کالتدبیر أراد بالعقل تصرّف العقل العملیّ فأطلق علیه اسمه مجازا إطلاقا لاسم السبب علی المسبّب.و ظاهر أنّ جملة تصرّفاته التدبیر و استخراج الآراء المصلحیّة فی الامور،و لمّا کان المقصود منه التدبیر لا جرم لم یکن له تصرّف یشبهه فلا عقل مثله .
و لا کرم کالتقوی .و المفهوم من الکرم بذل ما ینبغی بذله،و لمّا کان تقوی اللّه عبارة عن خشیته و کان من لوازمها الزهد فی الدنیا و الإعراض عن متاعها کان ذلک فی الحقیقة بذلا لجمیعها،و إذا کان بذل بعض قیناتها یسمّی کرما فبذلها بأسرها ممّن ینبغی له ذلک أولی أن یکون کرما لا یشبهه کرم کما قال علیه السّلام فیما سبق فی وصفها:و رأیتها محتاجة فوهبت جملتها لها.
و لا قرین کحسن الخلق .قد عرفت الأخلاق الحسنة،و ظاهر أنّه لیس فیما یعدّ قرینا أشرف منها لأنّ غایة سایر القرناء أن یستفاد من صحبتهم و محبّتهم حسن الخلق،و کون حسن الخلق بنفسه الّذی هو الغایة قرینا أشرف من ذی الغایة الّذی عساه لا یحصل منه.فلا قرین إذن یشبهه.
و لا میراث کالأدب .و قد مرّ بیانه عن قرب.
و لا قائد کالتوفیق :أی إلی المطالب.و لمّا کان التوفیق عبارة عن توافق الأسباب للشیء و شرایطه حتّی یکون بمجموعها مستلزمة لحصوله لا جرم لم یکن للمرء قائد إلی مطالبه کالتوفیق فی سرعة وصوله إلیه.
استعارة و لا تجارة کالعمل الصالح .استعار لفظ التجارة له باعتبار کونه مستلزما
ص:300
للخیر کالتجارة المستلزمة للربح.و لمّا کان شرف التجارة بشرف ثمرتها و ربحها فکلّما کان الربح أشرف کانت التجارة أشرف.و لمّا کان ربح هذه التجارة الثواب الدائم الاخرویّ الّذی لا ربح أعظم منه لم یکن لتجارة العمل الصالح ما یشبهها من التجارات .
و لا ربح کالثواب .و هو ظاهر.
و لا ورع کالوقوف عند الشبهة .قد یفسّر الورع بأنّه الوقوف عن المناهی و المحرّمات.و لمّا کان الوقوف عمّا اشتبه من الامور فی حلّه و حرمته أبلغ أصناف الورع و أکثرها تحرّزا به لم یکن فیها ما یشبهه.
و لا زهد کالزهد فی الحرام .و لمّا کان الزهد فی الحرام هو المأمور به و الواجب دون غیره من أصناف الزهد کان أفضل أفضلیّة الواجب علی المندوب .
مجازا إطلاقا لاسم السبب علی المسبّب و لا علم کالتفکّر :أی کالعلم الحاصل عن التفکّر و ذلک بالقیاس إلی ما یدّعی علما من حفظ المنقولات کالأحادیث و السیر و نحوها و إلی العلوم الحاصلة عن الحواسّ لأنّ العلم الفکری کلّیّ و هو أشرف و حکم الشارع و الخطیب أکثریّ.و أراد التفکّر فیما ینبغی من خلق السماوات و الأرض و ما خلق اللّه من شیء،و تحصیل العبرة منه.و أطلق اسم التفکّر علی العلم الحاصل عنه إطلاقا لاسم السبب علی المسبّب.و یحتمل أن یرید العلم بکیفیّة التفکّر و القوانین الّتی تعصم مراعاتها الفکر من الضلال .
و لا عبادة کأداء الفرائض. لکونها واجبة و الواجب أشرف من غیره.
مجازا إطلاقا لاسم اللازم علی ملزومه و لا ایمان کالحیاء و الصبر .أی لا ایمان کایمان کمل بالحیاء و الصبر،و ذلک أشرف هاتین الفضیلتین کما سبق و أطلقهما علی الایمان مجازا إطلاقا لاسم اللازم علی ملزومه .
و لا حسب کالتواضع .لمّا کان الحسب ما یعدّ من المآثر و
ص:301
الفضائل کان التواضع أشرف ما یعدّ بالقیاس إلی کثیر منها لما یستلزم من الخیرات کما سبق بیانه.
مجازا إطلاقا لاسم الملزوم علی لازمه و لا شرف کالعلم :أی کشرف العلم فأطلق اسم الملزوم علی لازمه مجازا،و ظاهر أنّ العلم أشرف الکمالات و لا شرف کشرفه .
و لا مظاهرة أوثق من مشاورة .أی أقوی.و قد مرّ بیانه فی قوله:و لا ظهیر کالمشورة.
و اعلم أنّ الحکم فی کثیر من هذه الکمالات أکثریّ و غرضه الترغیب فی العقل و التدبیر و التقوی و حسن الخلق و الأدب و التوفیق بالرغبة إلی اللّه فیه و العمل الصالح و الثواب و الوقوف عند الشبهة و الزهد فی الحرام و الفکر و المحافظة علی الفرائض و اقتناء الحیاء و الصبر و التواضع و العلم و المشورة فی الامور.
إِذَا اسْتَوْلَی الصَّلاَحُ عَلَی الزَّمَانِ وَ أَهْلِهِ- ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ حَوْبَةٌ فَقَدْ ظَلَمَ- وَ إِذَا اسْتَوْلَی الْفَسَادُ عَلَی الزَّمَانِ وَ أَهْلِهِ- فَأَحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ
قد مرّ انّ الزمان من جملة الأسباب المعدّة لتوافق أسباب صلاح الخلق فی معاشهم و معادهم فیسمّی زمان الصلاح و الخیر،کذلک هو من جملة الأسباب المعدّة لعدم ذلک فیقال:فسد الزمان،و زمان فاسد.و الأوّل هو الزمان الّذی استولی الصلاح علیه و علی أهله و بحسب ذلک یکون مظنّة فعل الخیر أن یحسن الظنّ بأهله فمن أساء الظنّ حینئذ فی أحد منهم یظهر منه ما یخزی به عند الناس من فعل رذیلة فقد وضع إساءة ظنّه فی غیر موضعها و هو خروج عن العدل و ظلم.و روی:حوبة:
أی إثم .و الثانی هو الزمان الّذی استولی الفساد علیه و علی أهله و بحسب ذلک یکون مظنّة فعل الشرّ و سوء الظنّ بأهله فمن أحسن الظنّ فی أحدهم حینئذ فقد غرّر:
ص:302
أی أوقع نفسه فی الغرّة به و الغفلة عن حاله.
کَیْفَ یَکُونُ حَالُ مَنْ یَفْنَی بِبَقَائِهِ- وَ یَسْقَمُ بِصِحَّتِهِ وَ یُؤْتَی مِنْ مَأْمَنِهِ
أجاب بصورة حاله علی طریق الموعظة و التشکّی.و لمّا کان البقاء عبارة عن استمرار زمان الوجود و کان استمرار الزمان و تعاقب أجزائه مقرّبا للأجل کان لبقائه سببیّة فی فنائه و کذلک لمّا کان من غایات الصحّة السقم کان لصحّته سببیّة فی سقمه و أمّا کونه یؤتی من مأمنه فیشبه أن یکون المأمن هنا مصدرا و المراد أنّ الداخل علی المرء و نزول ما یکره به من الموت و أهوال الآخرة هو أمنه فی الدنیا و سکونه إلیها و غفلته عمّا ورائها ممّا لابدّ منه و یحتمل أن یکون المأمن محلّ الأمن و هو الدنیا،و معنی کونه یؤتی من مأمنه:أی أنّ ما یدخل علیه من الأدواء الّتی تلحقه هو من أحوال الدنیا الّتی هی مأمنه و عوارضها الّتی یعرض له من مأمنه حال أمنه فیه بحیث لا یمکنه الاحتراز منه.
کَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إِلَیْهِ- وَ مَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ عَلَیْهِ وَ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِیهِ- وَ مَا ابْتَلَی اللَّهُ أَحَداً بِمِثْلِ الْإِمْلاَءِ لَهُ
المستدرج : المأخوذ علی غرّة .و الإملاء : الإمهال و تأخیر المدّة .
و قد ذکر علیه السّلام من الامور الّتی ابتلا اللّه بها عباده أربعة:
أحدها:الإحسان إلی العبد بضروب النعم.
الثانی:ستر المعصیة علیه.
الثالث:حسن القول فیه و ثناء الخلق علیه.
الرابع،تأخیر مدّته و إمهاله.و لمّا کانت غایة الابتلاء بهذه الامور الّتی
ص:303
کلّها نعم فی الحقیقة إمّا شکرها أو کفرها کما قال تعالی «لِیَبْلُوَنِی أَ أَشْکُرُ أَمْ أَکْفُرُ» (1)الآیة.و کان الشکر هو الغایة الخیریّة المطلوبة بالذات نبّه المبتلی بالنعمة الاولی علی وجوب شکرها بأنّه کثیرا ما یستدرج بها فینبغی أن لا یغفل عنها،و نبّه المبتلی بالثانیة علی أنّها کثیرا ما یکون سببا لغرّته باللّه و الأمن من مکره فینهمک فی المعاصی،و نبّه الثالث بکون نعمته قد یکون سببا لفتنته و صرفه عن شکر اللّه و ارتکابه لرذیلة العجب بنفسه،و نبّه الرابع بکون نعمته أعظم ما یبتلی به من النعم.
هَلَکَ فِیَّ رَجُلاَنِ مُحِبٌّ غَالٍ وَ مُبْغِضٌ قَالٍ
لمّا کانت محبّة أولیاء اللّه فضیلة نفسانیّة کان طرف التفریط و التقصیر فیها إلی غایة مقابلتها بالبغض و طرف الإفراط إلی غایة الغلوّ و تجاوز ما ینبغی منها رذیلتین یستلزمان هلاک صاحبهما فی الآخرة.أمّا رذیلة التفریط فلأنّ بغض أولیاء اللّه مستلزم لعداوتهم و من عادی ولیّا من أولیاء اللّه فقد عادی اللّه و کان من الهالکین،و أمّا رذیلة الغلوّ و الإفراط فلأنّ الغلاة أخرجوه عن حدّ البشریّة إلی سماء الإلهیّة و هو صریح الکفر المستلزم للهلاک.
إِضَاعَةُ الْفُرْصَةِ غُصَّةٌ
أی إنّ تضییع الأمر وقت إمکانه من نفسه یستلزم الأسف و الحزن علی تفویته.
و هو تنفیر عن تضییع الفرصة بما یلزمه.
مَثَلُ الدُّنْیَا کَمَثَلِ الْحَیَّةِ لَیِّنٌ مَسُّهَا- وَ السَّمُّ النَّاقِعُ فِی جَوْفِهَا- یَهْوِی إِلَیْهَا الْغِرُّ الْجَاهِلُ وَ یَحْذَرُهَا ذُو اللُّبِّ الْعَاقِلُ
مثّل الدنیا بالحیّة،و وجه التمثیل قوله:لیّن مسها.إلی آخره.و ذلک
ص:304
أنّ الدنیا لذیذ المتناول سهلة فی عین الناظر إلیها مع أنّ فیما یشتهیه منها و یتناوله الشقاوة الاخرویّة و العذاب الألیم.فیهوی إلیها الجاهل بما فیها من سوء العاقبة و یحذرها العاقل العارف بها کما أنّ الحیّة لیّن مسّها حسن منظرها یحسبها الجاهل سوارا من ذهب أو فضّة یهوی إلیها لغرّته بما فیها من سمّ و یحذرها من یعرفه.
أَمَّا؟بَنُو مَخْزُومٍ؟فَرَیْحَانَةُ ؟قُرَیْشٍ؟- تُحِبُّ حَدِیثَ رِجَالِهِمْ وَ النِّکَاحَ فِی نِسَائِهِمْ- وَ أَمَّا؟بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ؟ فَأَبْعَدُهَا رَأْیاً- وَ أَمْنَعُهَا لِمَا وَرَاءَ ظُهُورِهَا- وَ أَمَّا نَحْنُ فَأَبْذَلُ لِمَا فِی أَیْدِینَا- وَ أَسْمَحُ عِنْدَ الْمَوْتِ بِنُفُوسِنَا- وَ هُمْ أَکْثَرُ وَ أَمْکَرُ وَ أَنْکَرُ- وَ نَحْنُ أَفْصَحُ وَ أَنْصَحُ وَ أَصْبَحُ
بنو مخزوم بطن من قریش و هو مخزوم بن یقظة بن مرّة بن کعب لوی بن غالب.
و منهم أبو جهل بن هشام بن المغیرة و آل المغیرة و کان لمخزوم ریح طیّبة کالخزامی و لونا کلونه،و الولد یشبه الوالد غالبا،و لذلک کانت هذه البطن تسمّی بریحانة قریش،و کانت المغیرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم تسمّی بذلک.و قیل:لأنّه کان فی رجالهم کیس لذلک یحبّ الحدیث إلیهم و فی نسائهم لطف و تصنّع و تحبّب إلی الرجال و لذلک یحبّ نکاحهم.و أمّا بنو عبد شمس بن عبد مناف فمنهم ربیعة و ابناه شیبة و عتبة،و الأعیاص،و حرب بن أمیّة و ابنه أبو سفیان،و اسید بن عتاب،و مروان بن الحکم.و وصف هذا البطن ببعد الرأی و هو کنایة عن جودته یقال:فلان بعید الرأی.
إذا کان یری المصلحة من بعید لقوّة رأیه، کنایة ثمّ بکونها أمنع لما وراء ظهورها و هو کنایة عن الحمیّة .ثمّ وصف أهل بیته و هم بنو هاشم بکونهم أبذل لما فی أیدیهم:أی أسخی ثمّ بکونم أسمح عند الموت بنفوسهم:أی أشجع.ثمّ وصفهم بفضیلة خارجیّة و رذیلتین و وصف بنی هاشم بثلاث فضائل بدنیّتین و نفسانیّة و الفضیلة فیهم هی کثرة
ص:305
العدد و الرذیلتان کونهم أمکر:أی أکثر حیلة و خداعا و کونهم أنکر:أی أکثر نکرا.و النکر:المنکر،و أمّا فضائل بنی هاشم فکونهم أفصح و کونهم أصبح:أی أحسن وجوها و أجمل و هما فضیلتان یتعلّق بالبدن،و یحتمل أن یرید بالأصبح کونهم ألقی للناس بالطلاقة و البشر و مبدء ذلک فضیلة نفسانیّة،ثمّ کونهم أنصح.و النصیحة لمن ینبغی نصیحته فضیلة نفسانیّة تحت العفّة.
شَتَّانَ مَا بَیْنَ عَمَلَیْنِ- عَمَلٍ تَذْهَبُ لَذَّتُهُ وَ تَبْقَی تَبِعَتُهُ- وَ عَمَلٍ تَذْهَبُ مَئُونَتُهُ وَ یَبْقَی أَجْرُهُ
و شتّان:أی افترق بینهما.و الأوّل:العمل للدنیا.و تبعته هو ما یتبعه من الشقاوة الاخرویّة.و الثانی:عمل الآخرة.و ظاهر أنّ بینهما فرقا عظیما.
کَأَنَّ الْمَوْتَ فِیهَا عَلَی غَیْرِنَا کُتِبَ- وَ کَأَنَّ الْحَقَّ فِیهَا عَلَی غَیْرِنَا وَجَبَ- وَ کَأَنَّ الَّذِی نَرَی مِنَ الْأَمْوَاتِ سَفْرٌ عَمَّا قَلِیلٍ إِلَیْنَا رَاجِعُونَ- نُبَوِّئُهُمْ أَجْدَاثَهُمْ وَ نَأْکُلُ تُرَاثَهُمْ کَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ- قَدْ نَسِینَا کُلَّ وَاعِظٍ وَ وَاعِظَةٍ وَ رُمِینَا بِکُلِّ جَائِحَةٍ طُوبَی لِمَنْ ذَلَّ فِی نَفْسِهِ وَ طَابَ کَسْبُهُ- وَ صَلَحَتْ سَرِیرَتُهُ وَ حَسُنَتْ خَلِیقَتُهُ- وَ أَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ وَ أَمْسَکَ الْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ- وَ وَسِعَتْهُ السُّنَّةُ وَ لَمْ یُنْسَبْ إِلَی بِدْعَةٍ قال الرضی:اقول:و من الناس من ینسب هذا الکلام الی رسول الله صلی الله علیه و آله.
الأجداث : القبور .و الجائحة : الداهیة المستأصلة .
ص:306
و غرض الفصل التنفیر عن وضع الضحک فی غیر موضعه و التذکیر بأمر الآخرة.
و ذکر تشبیهات ثلاث:
تشبیه أحدها:تشبیه الموت بالمکتوب علی غیر الإنسان .
و الثانی:تشبیه الحقّ الواجب علیه بما وجب علی غیره دونه .
و الثالث:تشبیه ما یشاهد من الأموات بالمسافرین الّذین یقدمون عن قریب .
و وجه الشبه فی الثلاثة قلّة اهتمام الناس بالموت و التفاتهم إلی أداء واجب حقّ اللّه علیهم و عدم اعتبارهم بمن یموت.
و قوله:نبوّئهم.إلی قوله:جائحة.
من تمام وجه التشبیه فإنّ الفاعل مثل هذا الفعل بالأموات کأنّه لقساوة قلبه و عدم اتّعاظه لم یکتب علیه ما کتب علیهم من الموت .
و قوله طوبی.إلی آخره.ترغیب فی اقتناء الفضائل المذکورة بأنّ له طوبی و هی فی الحقیقة الحالة الشریفة الّتی لأولیاء اللّه فی الآخرة من طیب الحال و اللذّة الباقیة.و ذکر ثمان فضائل:
إحداها:ذلّة النفس للّه عن ملاحظة حاجتها و فقرها إلیه،و نظرها إلی معادها.
الثانیة:طیب الکسب بأخذه من وجوهه الّتی ینبغی.
الثالثة:صلاح السریرة للّه و إخلاص الباطن من فساد النیّات فی المعاملات مع الخلق.
الرابعة:حسن الخلق و اقتناء فضایله.
الخامسة:إنفاق الفاضل عن الحاجة من المال فیما ینبغی من وجوه القربات إلی اللّه و هی فضیلة السخاء.
السادسة:إمساک الفضل من المقال أی ما زاد منه ممّا لا ینبغی و هو السکوت فی موضعه.
السابعة:عزل الشرّ عن الناس و هو العدل أو لازمه.
ص:307
الثامنة:لزوم سنّة اللّه و رسوله و عدم الخروج عنها إلی ما یبتدع فی الدین و لا ینبغی.
غَیْرَةُ الْمَرْأَةِ کُفْرٌ وَ غَیْرَةُ الرَّجُلِ إِیمَانٌ
أمّا الأوّل:فلأنّ غیرة الرجل یستلزم سخطه لما سخط اللّه من اشتراک رجلین فی امرأة.و سخط ما سخط اللّه موافق لرضاه و مؤیّد لنهیه.و ذلک إیمان.
و أمّا الثانی:فلأنّ المرأة تقوم بغیرتها فی تحریم ما أحلّ اللّه و هو اشتراک مرأتین فما زاد فی رجل واحد و یقابله بالردّ و الإنکار.و تحریم ما أحلّ اللّه و سخطه ما رضیه ردّ علیه و هو لا محالة کفر.
لَأَنْسُبَنَّ الْإِسْلاَمَ نِسْبَةً لَمْ یَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِی- الْإِسْلاَمُ هُوَ التَّسْلِیمُ وَ التَّسْلِیمُ هُوَ الْیَقِینُ- وَ الْیَقِینُ هُوَ التَّصْدِیقُ وَ التَّصْدِیقُ هُوَ الْإِقْرَارُ- وَ الْإِقْرَارُ هُوَ الْأَدَاءُ وَ الْأَدَاءُ هُوَ الْعَمَلُ الصالح
هذا قیاس مفصول مرکّب من قیاسات طویت نتائجها.و ینتج القیاس الأوّل:أنّ الإسلام هو الیقین.و الثانی:أنّه التصدیق.و الثالث:أنّه الإقرار.و الرابع:أنّه الأداء.و الخامس:أنّه العمل.
أمّا المقدّمة الاولی:فلأنّ الإسلام هو الدخول فی الطاعة و یلزمه التسلیم للّه و عدم النزاع فی ذلک.و صدق اللازم علی ملزومه ظاهر.
مجازا إطلاقا لاسم اللازم علی ملزومه و أمّا الثانیة:فلأنّ التسلیم الحقّ إنّما یکون عن تیقّن استحقاق المطاع للتسلیم له فکان الیقین بذلک من لوازم التسلیم للّه فصدق علیه صدق اللازم علی ملزومه .
و أمّا الثالثة:فلأنّ الیقین باستحقاقه للطاعة و التسلیم مستلزم للتصدیق بما جاء به علی لسان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:من وجوب طاعته فصدق علی الیقین به أنّه تصدیق له.
ص:308
و أمّا الرابعة:فلأنّ التصدیق للّه فی وجوب طاعته إقرار بصدق اللّه.
و أمّا الخامسة:فلأنّ الإقرار و الاعتراف بوجوب أمر یستلزم أداء المقرّ المعترف لما أقرّ به فکان إقراره أداء لازما.
و أمّا السادسة:و هو أنّ الأداء هو العمل فلأنّ أداء ما اعترف به للّه من الطاعة الواجبة لا یکون إلاّ عملا.
و یؤول حاصل هذا الترتیب إلی إنتاج أنّ الإسلام هو العمل للّه بمقتضی أوامره و هو تفسیر بخاصّة من خواصّه کما سبق بیانه.
عَجِبْتُ لِلْبَخِیلِ یَسْتَعْجِلُ الْفَقْرَ الَّذِی مِنْهُ هَرَبَ- وَ یَفُوتُهُ الْغِنَی الَّذِی إِیَّاهُ طَلَبَ- فَیَعِیشُ فِی الدُّنْیَا عَیْشَ الْفُقَرَاءِ- وَ یُحَاسَبُ فِی الْآخِرَةِ حِسَابَ الْأَغْنِیَاءِ- وَ عَجِبْتُ لِلْمُتَکَبِّرِ الَّذِی کَانَ بِالْأَمْسِ نُطْفَةً- وَ یَکُونُ غَداً جِیفَةً- وَ عَجِبْتُ لِمَنْ شَکَّ فِی اللَّهِ وَ هُوَ یَرَی خَلْقَ اللَّهِ- وَ عَجِبْتُ لِمَنْ نَسِیَ الْمَوْتَ وَ هُوَ یَرَی الْمَوْتَی- وَ عَجِبْتُ لِمَنْ أَنْکَرَ النَّشْأَةَ الْأُخْرَی- وَ هُوَ یَرَی النَّشْأَةَ الْأُولَی- وَ عَجِبْتُ لِعَامِرٍ دَارَ الْفَنَاءِ وَ تَارِکٍ دَارَ الْبَقَاءِ
تعجب علیه السّلام من ستة هم محل العجب و الغرض التنفیر عن رذائلهم:
الأوّل:البخیل و جعل محلّ التعجّب منه ثلاثة امور:
أحدها:أنّه إنّما یبخل خوف الفقر فی العاقبة لو أنفق المال.و تقتیره و عدم انتفاعه به فی الحال صورة فقر حاضر فکان بذلک مستعجلا للفقر الّذی هرب منه إلی البخل.
الثانی:أنّه طالب للغنی ببخله و بخله أبدا سبب لفقره الحاضر المنافی لغناه و المفوّت له.فما یعتقده سبب الغنی هو المفوّت للغنی.
الثالث:أنّه یعیش فی الدنیا عیش الفقراء لعدم انتفاعه بماله،و یحاسب فی
ص:309
الآخرة حساب الأغنیاء لمشارکته إیّاهم فی جمع المال و محبّته الذین هما مبدءا الحساب.فکان منهم بهذا الاعتبار.
الثانی :المتکبّر و نبّه علی وجه العجب منه بذکر مبدء کونه و هو کونه نطفة فی غایة الحقارة و السخف المنافی للکبر،و غایته و هو کونه جیفة فی نهایة القذارة.فجمعه بین هذین الأمرین و بین التکبّر من العجب العجیب.
الثالث :الشاکّ فی اللّه و هو یری خلقه و ذلک جمع بین الشکّ فی وجوده و بین رؤیته ظاهرا فی وجود مخلوقاته و عجائب مصنوعاته و هو محلّ العجب.
الرابع :الناسی لموته مع رؤیته لمن یموت.و ظاهر أنّ نسیان الموت مع رؤیته دائما محلّ التعجّب.
الخامس :منکر النشأة الاخری و إعادة الأبدان بعد عدمها.و ظاهر أنّ إنکاره لذلک مع اعترافه بالنشأة الاولی و هی الوجود الأوّل للخلق من العدم الصرف محلّ التعجّب لأنّ الاخری أهون کما قال تعالی «وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَیْهِ» (1).
السادس :عامر الدنیا مع کونها فانیة زایلة مع ترکه لعمارة الآخرة الباقیة و الباقی ما فیها محلّ التعجّب.
و غرض التعجّب من هؤلاء و الاشارة إلی وجوهه تنفیر الخلق من الامور المذکورة.
مَنْ قَصَّرَ فِی الْعَمَلِ ابْتُلِیَ بِالْهَمِّ وَ لاَ حَاجَةَ لِلَّهِ فِیمَنْ لَیْسَ لِلَّهِ فِی مَالِهِ وَ نَفْسِهِ نَصِیبٌ
المقصّر فی العمل للّه یکون غالب أحواله متوفّرا علی الدنیا مفرطا فی طلبها و جمعها و بقدر التوفّر علیها یکون شدّة الهمّ فی جمعها و تحصیلها أوّلا ثمّ فی ضبطها و الخوف علی فواتها ثانیا،و فی المشهور:خذ من الدنیا ما شئت و من الهمّ ضعفه.فنفّر عن التقصیر فی الأعمال البدنیّة و المالیّة بقوله :و لا حاجة للّه.إلی آخره.و کنّی
ص:310
بعدم حاجته فیه عن إعراضه عنه و عدم النظر إلیه بعین الرحمة لعدم استعداده لذلک.
تَوَقَّوُا الْبَرْدَ فِی أَوَّلِهِ وَ تَلَقَّوْهُ فِی آخِرِهِ- فَإِنَّهُ یَفْعَلُ فِی الْأَبْدَانِ کَفِعْلِهِ فِی الْأَشْجَارِ- أَوَّلُهُ یُحْرِقُ وَ آخِرُهُ یُورِقُ
إنّما وجب اتّقاؤه فی أوّله و هو أوّل الخریف لأنّ الصیف و الخریف یشترکان فی الیبس فإذا ورد البرد و حینئذ ورد علی أبدان استعدّت بحرارة الصیف و یبسه للتخلخل و تفتّح المسامّ و الجفاف فاشتدّ انفعال البدن عنه و أسرع تأثیره فی قهر الحرارة الغریزیّة فیقوی بذلک فی البدن قوّتا البرد و الیبس اللّتان هما طبیعة الموت فیکون بذلک یبس الأشجار و احتراق الأوراق و انحسارها و ضمور الأبدان و ضعفها.و أمّا أمره بالتقائه فی آخره و هو آخر الشتاء و أوّل زمان الربیع فلأنّ الشتاء و الربیع یشترکان فی الرطوبة و یفترقان بأنّ الشتاء بارد و الربیع حارّ فالبرد المتأخّر إذا امتزج بحرارة الربیع و انکسرت سورته بها لم یکن له بعد ذلک نکایة فی الأبدان فقویت لذلک الحرارة الغریزیّة و انتعشت فکان من اعتدالها بالبرد مع الرطوبة استعداد لمزاج هو طبیعة الحیاة و کان منه النموّ و قوّة الأبدان و بروز الأوراق و الثمار.
تشبیه و قوله: فإنّه.إلی آخره .
صغری ضمیر نبّه به علی توقّیه و تلقّیه.و تقدیر کبراه:و کلّ ما کان کذلک فإنّه یجب توقّی أوّله و تلقّی آخره، و قوله:أوّله یحرق و آخره یورق.
و هو وجه التشبیه .
عِظَمُ الْخَالِقِ عِنْدَکَ یُصَغِّرُ الْمَخْلُوقَ فِی عَیْنِکَ
هذا أمر وجده العارفون باللّه فإنّ من عرف عظمة اللّه و جلاله و لحظ جمیع المخلوقات بالقیاس إلیه حتّی علم مالها من ذواتها و هو الإمکان و الحاجة و عدم استحقاق
ص:311
الوجود إلاّ منه تعالی علم أنّها فی جنب عظمته عدم و لا أحقر من العدم.و شدّة صغر المخلوق فی اعتبار العارف بحسب درجته فی عرفانه.و قیل لبعض العارفین:فلان زاهد.فقال:فیما ذا؟فقیل:فی الدنیا.فقال:الدنیا لا تزن عند اللّه جناح بعوضة فکیف یعتبر الزهد فیها؟و الزهد إنّما یکون فی شیء و الدنیا عندی لا شیء.
و قد رجع من صفین فاشرف علی القبور بظاهر الکوفة:
یَا أَهْلَ الدِّیَارِ الْمُوحِشَةِ- وَ الْمَحَالِّ الْمُقْفِرَةِ وَ الْقُبُورِ الْمُظْلِمَةِ- یَا أَهْلَ التُّرْبَةِ یَا أَهْلَ الْغُرْبَةِ- یَا أَهْلَ الْوَحْدَةِ یَا أَهْلَ الْوَحْشَةِ- أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ سَابِقٌ وَ نَحْنُ لَکُمْ تَبَعٌ لاَحِقٌ- أَمَّا الدُّورُ فَقَدْ سُکِنَتْ وَ أَمَّا الْأَزْوَاجُ فَقَدْ نُکِحَتْ- وَ أَمَّا الْأَمْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ- هَذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَکُمْ- ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَی أَصْحَابِهِ فَقَالَ- أَمَا وَ اللَّهِ لَوْ أُذِنَ لَهُمْ فِی الْکَلاَمِ- لَأَخْبَرُوکُمْ أَنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوَی
الفرط : الّذی یتقدّم الواردة فیهیّیء الإرشاء و الدلاء .
و خاطبهم علیه السّلام خطاب من یسمع إقامة لحالهم المعهودة مقام أشخاصهم الموجودة.و الدیار الموحشة و المحالّ المقفرة:القبور.و غرض الفصل ترقیق القلوب القاسیة و تنبیه النفوس الغافلة عن غایة الدنیا و متاعها لغایة العمل فیها کما ینبغی ،و لمّا کان الحقّ هو أنّ خیر الزاد التقوی کما نطق به القرآن الکریم و کان ذلک أمرا شاهد،المتّقون فی جزائهم بتقویهم و الفجّار فی حرمانهم بعدمه لا جرم لو اذن لهم فی الجواب و اعطوا آلته لکان جوابهم ما عرفوا من الحقّ.
ص:312
أَیُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْیَا الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا- الْمَخْدُوعُ بِأَبَاطِیلِهَا أَ تَغْتَرُّ بِالدُّنْیَا ثُمَّ تَذُمُّهَا- أَنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَیْهَا أَمْ هِیَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَیْکَ- مَتَی اسْتَهْوَتْکَ أَمْ مَتَی غَرَّتْکَ- أَ بِمَصَارِعِ آبَائِکَ مِنَ الْبِلَی- أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِکَ تَحْتَ الثَّرَی- کَمْ عَلَّلْتَ بِکَفَّیْکَ وَ کَمْ مَرَّضْتَ بِیَدَیْکَ- تَبْتَغِی لَهُمُ الشِّفَاءَ وَ تَسْتَوْصِفُ لَهُمُ الْأَطِبَّاءَ- غَدَاةَ لاَ یُغْنِی عَنْهُمْ دَوَاؤُکَ وَ لاَ یُجْدِی عَلَیْهِمْ بُکَاؤُکَ- لَمْ یَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُکَ وَ لَمْ تُسْعَفْ فِیهِ بِطَلِبَتِکَ- وَ لَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِکَ- وَ قَدْ مَثَّلَتْ لَکَ بِهِ الدُّنْیَا نَفْسَکَ وَ بِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَکَ- إِنَّ الدُّنْیَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا- وَ دَارُ عَافِیَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا- وَ دَارُ غِنًی لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا- وَ دَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا- مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّهِ وَ مُصَلَّی مَلاَئِکَةِ اللَّهِ- وَ مَهْبِطُ وَحْیِ اللَّهِ وَ مَتْجَرُ أَوْلِیَاءِ اللَّهِ- اکْتَسَبُوا فِیهَا الرَّحْمَةَ وَ رَبِحُوا فِیهَا الْجَنَّةَ- فَمَنْ ذَا یَذُمُّهَا وَ قَدْ آذَنَتْ بِبَیْنِهَا وَ نَادَتْ بِفِرَاقِهَا- وَ نَعَتْ نَفْسَهَا وَ أَهْلَهَا فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلاَئِهَا الْبَلاَءَ- وَ شَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَی السُّرُورِ- رَاحَتْ بِعَافِیَةٍ وَ ابْتَکَرَتْ بِفَجِیعَةٍ- تَرْغِیباً وَ تَرْهِیباً وَ تَخْوِیفاً وَ تَحْذِیراً- فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ- وَ حَمِدَهَا آخَرُونَ یَوْمَ الْقِیَامَةِ- ذَکَّرَتْهُمُ الدُّنْیَا فَذَکَّرُوافَتَذَکَّرُوا وَ حَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا- وَ وَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا
ص:313
أقول: المتجرّم : المدّعی جریمة و استهوتک : طلبت هواک إلیها و هواک فیها .
و مثّلت : صوّرت .
و قوله: أیّها الذامّ ،إلی قوله: غرّتک .
توبیخ له علی الاغترار بها و ذمّها مع ذلک و کذب دعواه أنّها هی ذات الجریمة علیه باستفهامه عن وقت استهوائها له استفهام منکر لذلک و موبّخ علیه و أکّد ذلک باستفهام أنّ ذلک الغرور له منها بأیّ شیء کان أمن مصارع الآباء أم بمضاجع الامّهات،و ذلک علی وجه الاستهزاء منه و التنبیه له علی ما یوجب النفرة منها و عدم الاغترار بها من سوء صنیعها بأهلها حتّی کأنّها قاصدة لذلک التنبیه و التنقیر عنها.
و قوله:کم علّلت.إلی قوله:مصرعک.
صغری ضمیر دلّ به علی ما ادّعاه لها من کونها منبّهة من الغفلة و لیس قصدها الغرور و تقدیرها :قد صوّرت لک الدنیا نفسک بمن أکثرت تعلیله و تمریضه من أهلک طالبا له الشفاء و مستوصفا له الأطبّاء فلم ینفعه ذلک منک،و مثّلت بمصرعه مصرعک.و تقدیر الکبری:و کلّ من مثّل لک ذلک و صوّره لک فلیس من أهل التلبیس علیک و الغرور لک بل من نصحائک و منبّهیک من غفلتک .ثمّ لمّا نفی عنها الذمّ أخذ فی مدحها و ذکر لها أوصافا ثمانیة:
أحدها:أنّها دار صدق لمن صدقها:أی فیما أخبر به بلسان حالها من فنائها و زوالها.و تصدیقه لها اعترافه بذلک منها و العمل به.
الثانی:و دار عافیة لمن فهم عنها ما أخبرت عنها من عظاتها حتّی احترز من آفاتها و عوفی می عذاب اللّه بها.
الثالث:و دار غنی لمن اتّخذ فیها التقوی زادا لسفره إلی اللّه.و ظاهر أنّ التقوی و ثمرتها فی الآخرة أعظم غنی للمتّقین.
الرابع:و دار موعظة لمن اعتبر بها فعلم وصفها و غایتها.
الخامس :کونها مسجد أحبّاء اللّه من رسله و أولیائه.
السادس:کونها مصلّی ملائکة اللّه الأرضیّة الّذین سجدوا لآدم علیه السّلام.
ص:314
السابع:کونها مهبط وحی اللّه.
الثامن:کونها متجر أولیاء اللّه الّذین اکتسبوا بعبادتهم فیها رحمته و ربحوا جنّته .
ثمّ استفهم بعد هذه الممادح عمّن یذمّها منکرا علیه و مبیّنا لأحوال اخری لها ینافی ذمّها أی فمن ذا یذمّها و لها الصفات المذکور و هی علی هذه الأحوال؟و ذکر منها ستّة:
إحداها:کونها آذنت أهلها و أعلمهم بفراقها.و الواو فی قوله.و قد.للحال.
الثانی:و نادت بفراقها.
الثالث:و نعت نفسها.کلّ ذلک بلسان حالها من التغیّر و الانتقال المؤذن.
بالزوال.
الرابع:کونها مثّلت لهم ببلائها البلاء فی الآخرة.
الخامس:و شوقّتهم بسرورها إلی السرور فی الجنّة.و إنّما کان کذلک لأنّ کلّ ما فی هذا العالم فهو صورة و مثال لما فی عالم الغیب و نسخة منه یعتبر به و یقاس إلیه و لولا ذلک لانسدّ طریق الترقّی إلی الحضرة الإلهیّة و تعذّر الوقوف علی شیء من أسرارها.فالسالکون إلی اللّه لمّا شاهدوا بلاء الآخرة من بلاء الدنیا عملوا للخلاص منه و شاهدوا سرورها من سرور الدنیا و علموا أنّ بینهما فرقا عظیما و أنّ الأشرف لا یحصل إلاّ برفض الأخسّ فاقتضت آراؤهم الصالحة بیع سرور الفانی بالباقی.
کنایة السادس : رواحها بعافیة و ابتکارها بفجیعة .و هو کنایة عن سرعة انتقال أحوالها و تبدّل أطوارها من رخاء إلی شدّة و من صحّة إلی سقم و نسب هذه الأفعال إلیها لأنّ لها سببیّة ما فی ذلک ،و لمّا نسب إلیها الأفعال الاختیاریّة جعل لها منها غایات و هی ترغیب الناس إلی اللّه و ترهیبهم منها ثمّ أشار إلی سبب ذمّها ممّن ذمّها و هو ندامة المفرّطین فی اتّخاذ زاد التقوی إلی الآخرة منها فنسبوا ذلک التفریط إلی غرورها لهم و هو باطل کما بیّنه،ثمّ إلی سبب مدحها ممّن مدحها و هو ثلاثة:
أحدها تذکّرها لهم بزوالها أنّ ورائها غایة باقیة یجب العمل لها فتذکّروا
ص:315
ما ذکّرتهم و عملوا.
الثانی:حدیثها لهم بذلک حتّی صدّقوا.
الثالث:وعظها لهم بعبرها حتّی اتّعظوا.
إِنَّ لِلَّهِ مَلَکاً یُنَادِی فِی کُلِّ یَوْمٍ- لِدُوا لِلْمَوْتِ وَ اجْمَعُوا لِلْفَنَاءِ وَ ابْنُوا لِلْخَرَابِ
ذلک النداء علی وفق ما لم من القضاء الإلهیّ فی طبیعة الدنیا و غایتها،و الامور الثلاثة و هو الموت و الفناء و الخراب غایات طبیعیّة.و اللام فیها هی المسمّاة بلام العاقبة.
اَلدُّنْیَا دَارُ مَمَرٍّ لاَ دَارُ مَقَرٍّ وَ النَّاسُ فِیهَا رَجُلاَنِ- رَجُلٌ بَاعَ فِیهَانَفْسَهُ فَأَوْبَقَهَا وَ رَجُلٌ ابْتَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَا
أوبقها : أهلکها .
و کون الدنیا دار ممرّ باعتبار أنّها طریق إلی الآخرة الّتی هی دار المقرّ . استعارة و استعار لفظ البیع لبایع نفسه باعتبار تسلیمه لها إلی الهلاک الاخروی و اعتیاضه عنها ما أصابه من اللذّة الدنیویّة،و کذلک لفظ الابتیاع لمشتری نفسه باعتبار إنقاذها من ذلک الهلاک ببذل ما قدر علیه من حاضر اللذّات و الإعراض عنه .و حصر المکلّفین فی الرجلین المذکورین ظاهر.
لاَ یَکُونُ الصَّدِیقُ صَدِیقاً حَتَّی یَحْفَظَ أَخَاهُ فِی ثَلاَثٍ- فِی نَکْبَتِهِ وَ غَیْبَتِهِ وَ وَفَاتِهِ
جعل لصدیق الصدق خاصّة یعرف بها و هو أن یحفظ صدیقه فی الامور الثلاثة.و حفظه بالقیام مقامه فیما ینبغی فعله فی صلاح حاله بقدر الإمکان.
ص:316
مَنْ أُعْطِیَ أَرْبَعاً لَمْ یُحْرَمْ أَرْبَعاً- مَنْ أُعْطِیَ الدُّعَاءَ لَمْ یُحْرَمِ الْإِجَابَةَ- وَ مَنْ أُعْطِیَ التَّوْبَةَ لَمْ یُحْرَمِ الْقَبُولَ- وَ مَنْ أُعْطِیَ الاِسْتِغْفَارَ لَمْ یُحْرَمِ الْمَغْفِرَةَ- وَ مَنْ أُعْطِیَ الشُّکْرَ لَمْ یُحْرَمِ الزِّیَادَةَ و تصدیق ذلک فی کتاب الله- قال الله فی الدعاء «ادْعُونِی أَسْتَجِبْ لَکُمْ» و قال فی الاستغفار «وَ مَنْ یَعْمَلْ سُوءاً أَوْ یَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ یَسْتَغْفِرِ اللّهَ یَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَحِیماً» - و قال فی الشکر «لَئِنْ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ» - و قال فی التوبة- «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَی اللّهِ لِلَّذِینَ یَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ یَتُوبُونَ مِنْ قَرِیبٍ فَأُولئِکَ یَتُوبُ اللّهُ عَلَیْهِمْ وَ کانَ اللّهُ عَلِیماً حَکِیماً»
أقول:الامور الأربعة الاولی إذا کانت بإخلاص کان کلّ منها سببا فی إعداد النفس لقبول صورة الرحمة الإلهیّة من واهبها.فالدعاء لإجابته،و التوبة لقبولها و إسقاط ثمرة المعصیة،و الاستغفار للمغفرة،و الشکر للزیادة.و الشواهد الإلهیّة ناطقة بذلک علی وفق مقتضی العمل.
اَلصَّلاَةُ قُرْبَانُ کُلِّ تَقِیٍّ- وَ الْحَجُّ جِهَادُ کُلِّ ضَعِیفٍ- وَ لِکُلِّ شَیْءٍ زَکَاةٌ وَ زَکَاةُ الْبَدَنِ اَلصَّوْمُ الصِّیَامُ- وَ جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ
التبعّل : معاشرة البعل و صحبته
و الکلام إشارة إلی بعض أسرار هذه العبادات:
فمن أسرار الصلاة کونها قربانا إلی اللّه تعالی و قد علمت أنّها أعظم ما یتقرّب إلیه
ص:317
المتّقون به من العبادات ،و من أسرار الحجّ کونه جهادا فی سبیل اللّه لما فیه من مشقّة السفر و مجاهدة الطبیعة و مقاومة النفس الأمّارة بالسوء مع قوّتها لشبهة عدم الاطّلاع علی أسرار الحجّ و فایدته مع ما فی کیفیّته من الأفعال الّتی یعجب منها الجاهلون.
و إنّما خصّ الضعیف بذلک جذبا له إلیه و لأنّ للقوّی جهاد آخر هو المشهور ،و من أسرار الصوم کونه زکاة للبدن لما فیه من تنقیص قوّته و کسر شهوته لغایة طاعة اللّه و الثواب الاخروی و کما أنّ الزکاة تنقیص فی المال مستلزم لزیادة الثواب فی الآخرة ،و من أسرار التبعّل حسن معاشرة البعل و طاعته فی طاعة اللّه و فی ذلک کسر النفس الأمّارة للمرأة و انقیادها فی صراط اللّه.
اِسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ
و فی الکلمة فایدتان:
إحداهما:الترغیب فی الصدقةبذکر کونها سببا لاستنزال الرزق.و قد مرّ أنّ الصدقة باب عظیم لذلک معدّ لحصوله،و من وجوه إعدادها کونها نفعا متعدّیا یستلزم تألّف قلوب أهل اللّه و الصالحین من عباده و اجتماع هممهم علی دعاء اللّه لصلاح حال المتصدّق.
الثانیة :التنبیه علی أقوی الأسباب الباعثة علیها و علی البذل فی أکثر الخلق لیعتمد فیسهل معه البذل و هو الثقه باللّه و الیقین بالخلف منه کما نطق به وعده تعالی «إِنْ تُقْرِضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً یُضاعِفْهُ لَکُمْ» (1)الآیة.
تَنْزِلُ الْمَعُونَةُ عَلَی قَدْرِ الْمَئُونَةِ
المئونة : التعب و الشدّة و هی مفعلة من الأین .
و المراد أنّ الشدّة و الثقل بالعیال و نحوهم معدّ لاستنزال معونة اللّه برزقه و قوّته علی القیام بأحوالهم و دفع المئونة من جهتهم.
ص:318
مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ
العیله : الفقر .و الاقتصاد : الإنفاق بقدر الحاجة المتعارفة .
و ذلک معدّ لعدم الحاجة لأنّ قدر الحاجة من المال أمر قد تکفلّ اللّه بإدراره مدّة البقاء و هو ما لابدّ للمقتصد منه.
قِلَّةُ الْعِیَالِ أَحَدُ الْیَسَارَیْنِ وَ التَّوَدُّدُ نِصْفُ الْعَقْلِ وَ الْهَمُّ نِصْفُ الْهَرَمِ
أمّا الأوّل:فلأنّ الغنی المتعارف یکون بحصول المال و للمال اعتباران:
أحدهما:حصوله.و الثانی:عدم إنفاقه.فحصوله یسار،و عدم إنفاقه علی العیال لقلّتهم یسار ثان. مجازا إطلاقا لاسم المسبّب علی السبب و أطلق الیسار علی قلّة العیال مجازا إطلاقا لاسم المسبّب علی السبب .
مجازا إطلاقا لاسم المسبّب علی السبب و أمّا الثانی :فأراد العقل العملیّ.و لفظه مجاز فی تصرّفاته إطلاقا لاسم السبب علی المسبّب و من جملة تصرّفاته فی التدبیر التودّد إلی الخلق.و لمّا کان الإنسان محتاجا فی إصلاح معاشه إلی غیره و کانت معاملته لهم فی ذلک إمّا علی وجه التودّد و ما یلزمه من جمیل المعاشرة و حسن الصحبة و المسامحة و الترغیب،و إمّا علی وجه القهر و الغلبة و الترهیب لا جرم کان التودّد و ما یلزمه نصف العقل:أی نصف تصرّفه فی تدبیر أمر معاشه .
و أمّا الثالث :فلأنّ الهرم إمّا طبیعیّ و إمّا لسبب من خارج و هو الهمّ و الحزن و الخوف المستلزم له فهو إذن قسیم للسبب الطبیعیّ.و قسم من أسباب الهرم کالنصف له فاستعار له لفظ النصف و أراد:و الهمّ نصف سبب الهرم.
یَنْزِلُ الصَّبْرُ عَلَی قَدْرِ الْمُصِیبَةِ- وَ مَنْ ضَرَبَ یَدَهُ عَلَی فَخِذِهِ عِنْدَ مُصِیبَتِهِ حَبِطَ أَجْرُهُ
ص:319
إنّ اللّه سبحانه جعل للإنسان قوّة استعداد لأن یصبر بمقدار مصیبته فمن تمّ استعداده افیض علیه ذلک المقدار من الصبر و من قصر فی الاستعداد لحصول هذه الفضیلة و ارتکب ضدّها و هو الجزع حبط أجره و هو ثوابه علی الصبر، کنایة و کنّی عن الجزع بما یلزمه فی العادة من ضرب الیدین علی الفخذین .و قیل:بل یحبط ثوابه السابق لأنّ شدّة الجزع یستلزم کراهیّة قضاء اللّه و سخطه و عدم الالتفات إلی ما وعد به من ثواب الصابرین و هو معدّ لمحو الحسنات من لوح النفس و سقوط ما یلزمها من ثواب الآخر:
کَمْ مِنْ صَائِمٍ لَیْسَ لَهُ مِنْ صِیَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ وَ الظَّمَأُ- وَ کَمْ مِنْ قَائِمٍ لَیْسَ لَهُ مِنْ قِیَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ وَ الْعَنَاءُ- حَبَّذَا نَوْمُ الْأَکْیَاسِ وَ إِفْطَارُهُمْ
أراد بذلک من أخلّ بشرط من شرائط صیامه و قیامه و لم یأت علی وجه الإجزاء،و أعظم شرط لهما توجّههما إلی المعبود الحقّ عزّ سلطانه،و کثرة خلل العبادة و فسادها من کثیر من الخلق إنّما یکون للجهل بهذا الشرط کنایة .و کنّی بالقیام عن الصلاة .و إنّما مدح نوم الأکیاس لأنّ الکیّس هو الّذی یستعمل ذکاه و فطنته فی طرق الخیر و علی الوجه المرضیّ للشارع و یضع کلّ شیء موضعه.و من کان کذلک کان نومه و إفطاره و جمیع تصرّفاته فی عباداته موضعة موضعها من رضاء اللّه و محبّته.
سُوسُوا إِیمَانَکُمْ بِالصَّدَقَةِ وَ حَصِّنُوا أَمْوَالَکُمْ بِالزَّکَاةِ- وَ ادْفَعُوا أَمْوَاجَ الْبَلاَءِ بِالدُّعَاءِ
سوسوا : أی املکوا .
و ذلک أنّ الصدقة من الإیمان التامّ مملکه و حفظه لا یکون بدونها ،و أمّا تحصین المال بالزکاة فلأنّ منعها إنّما یکون عن البخل و شدّة
ص:320
الحرص و ذلک باعث لمستحقّها علی ذمّه و داع للخلق إلی التسبّب فی أذاه فکان مانعها متعرّضا بذلک لتلف ماله و بأدائها محصّنا له. استعارة و استعار لفظ الأمواج للحوادث المتواترة و قد مرّ أنّ الدعاء بإخلاص مما یعدّ النفس للإجابة بالمطلوب .و غرضه الحثّ علی الصدقة و الزکاة و الدعاء.
لکمیل بن زید النخعی رحمه اللّه
قال کمیل:أخذ بیدی أمیر المؤمنین علیه السّلام فأخرجنی إلی الجبان فلما أصحر تنفس الصعداء،ثمّ قال:
یَا؟کُمَیْلَ بْنَ زِیَادٍ؟- إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِیَةٌ فَخَیْرُهَا أَوْعَاهَا- فَاحْفَظْ عَنِّی مَا أَقُولُ لَکَ- النَّاسُ ثَلاَثَةٌ- فَعَالِمٌ رَبَّانِیٌّ وَ مُتَعَلِّمٌ عَلَی سَبِیلِ نَجَاةٍ- وَ هَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ کُلِّ نَاعِقٍ یَمِیلُونَ مَعَ کُلِّ رِیحٍ- لَمْ یَسْتَضِیئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَ لَمْ یَلْجَئُوا إِلَی رُکْنٍ وَثِیقٍ- یَا؟کُمَیْلُ؟ الْعِلْمُ خَیْرٌ مِنَ الْمَالِ- الْعِلْمُ یَحْرُسُکَ وَ أَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ- وَ الْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ وَ الْعِلْمُ یَزْکُوا عَلَی الْإِنْفَاقِ- وَ صَنِیعُ الْمَالِ یَزُولُ بِزَوَالِهِ- یَا؟کُمَیْلَ بْنَ زِیَادٍ؟ مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ دِینٌ یُدَانُ بِهِ- بِهِ یَکْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِی حَیَاتِهِ- وَ جَمِیلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ- وَ الْعِلْمُ حَاکِمٌ وَ الْمَالُ مَحْکُومٌ عَلَیْهِ- یَا؟کُمَیْلُ کُمَیْلَ بْنَ زِیَادٍهَلَکَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَ هُمْ أَحْیَاءٌ- وَ الْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِیَ الدَّهْرُ
ص:321
أَعْیَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَ أَمْثَالُهُمْ فِی الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ- هَا إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً وَ أَشَارَ ع بِیَدِهِ إِلَی صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً- بَلَی أُصِیبُ أَصَبْتُ لَقِناً غَیْرَ مَأْمُونٍ عَلَیْهِ- مُسْتَعْمِلاً آلَةَ الدِّینِ لِلدُّنْیَا- وَ مُسْتَظْهِراً بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَی عِبَادِهِ وَ بِحُجَجِهِ عَلَی أَوْلِیَائِهِ- أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ لاَ بَصِیرَةَ لَهُ فِی أَحْنَائِهِ- یَنْقَدِحُ الشَّکُّ فِی قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ- أَلاَ لاَ ذَا وَ لاَ ذَاکَ- أَوْ مَنْهُوماً بِاللَّذَّةِ سَلِسَ الْقِیَادِ لِلشَّهْوَةِ- أَوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ وَ الاِدِّخَارِ- لَیْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّینِ فِی شَیْءٍ- أَقْرَبُ شَیْءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنْعَامُ السَّائِمَةُ- کَذَلِکَ یَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِیهِ- اللَّهُمَّ بَلَی لاَ تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ- إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَ إِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً- لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَ بَیِّنَاتُهُ- وَ کَمْ ذَا وَ أَیْنَ أُولَئِکَ أُولَئِکَ وَ اللَّهِ الْأَقَلُّونَ عَدَداً- وَ الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْراً- یَحْفَظُ اللَّهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَ بَیِّنَاتِهِ حَتَّی یُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ- وَ یَزْرَعُوهَا فِی قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ- هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَی حَقِیقَةِ الْبَصِیرَةِ- وَ بَاشَرُوا رُوحَ الْیَقِینِ وَ اسْتَلاَنُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ- وَ أَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ- وَ صَحِبُوا الدُّنْیَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَی- أُولَئِکَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِی أَرْضِهِ وَ الدُّعَاةُ إِلَی دِینِهِ- آهِ آهِ شَوْقاً إِلَی رُؤْیَتِهِمْ- انْصَرِفْ یَا؟کُمَیْلُ؟ إِذَا شِئْتَ
ص:322
أقول: الجبّان : الصحراء .و الصعداء : نوع من النفّس یصعده المتلهّف و الحزین .و الهمج : ذباب صغیرة کالبعوض .و الرعاع : الأحداث و العوامّ .و اللقن:
سریع الفهم .و الأحناء : الجوانب .و المنهوم باللذّة : الشره فیها الحریص علیها .
و المغرم بالجمع : شدید المحبّة له .و هجم : دخل بغتة .
بقوله:إنّ هذه القلوب.إلی قوله:لک .
و وجه القسمة أنّ الناس إمّا عالم أو لیس،و الثانی إمّا طالب للعلم أو لیس.ثمّ قیّد کلاّ من الأقسام الثلاثة بصفة أو صفات:
فالأوّل:العالم.و وصفه بالربّانیّ نسبة إلی الربّ تعالی علی غیر قیاس:أی العالم علم ربوبیّته و هو العارف باللّه تعالی و زیدت الألف و النون للمبالغة فی النسبة قال اللّه تعالی «کُونُوا رَبّانِیِّینَ» (1)و قیل:سمّوا بذلک لأنّهم یربّون المتعلّمین بصغار العلوم قبل کبارها.و قیل:لأنّهم یربّون العلم:أی یقومون بإصلاحه.
الثانی:المتعلّم.و وصفه بکونه علی سبیل النجاة.و لمّا کان العلم سببا للنجاة فی الآخرة و کان المتعلّم فی طریق تحصیله کان علی سبیل النجاة لیصل إلیها بالعلم الّذی هو غایته المطلوبة.
الثالث:العوامّ.و وصفهم بأوصاف:
استعارة أحدها:استعار لهم لفظ الهمج باعتبار حقارتهم .
الثانی:وصفهم بالعامّیّة و الحداثة لکونهما مظنّتی الجهل.
تشبیه الثالث: کونهم أتباع کلّ ناعق ملاحظة لشبههم بالغنم فی الغفلة و الغباوة .
کنایة الرابع:کنّی بکونهم یمیلون مع کلّ ریح عن ضعفهم عن التماسک فی مذهب واحد و الثبات علیه .
ص:323
الخامس:کونهم لم یستضیئوا بنور العلم و هو کونهم علی ظلمة الجهل.
السادس:و لم یلجئوا إلی رکن وثیق.و استعار الرکن الوثیق للاعتقادات الحقّة البرهانیّة الّتی یعتمد علیها فی دفع مکاره الآخرة .
من وجوه:
أحدها:أنّ العلم یحرس صاحبه من مکاره الدنیا و الآخرة و المال یحرسه صاحبه،و الفرق بین ما یکون حارسا لصاحبه و بین ما یحتاج صاحبه إلی حراسته فی الفضیلة و النفع ظاهر.
الثانی:أنّ العلم یزکو و یزید بإخراجه و إفادته لطالبیه لتذکّر العالم بتعلیمه و مذاکرته لما غفل منه و استنباطه ما لم یکن عنده،و المال تنقصه النفقة و الإخراج منه.
الثالث:أنّ صنیع المال و هو الإحسان به یزول بزوال المال،و الإحسان بالعلم باق لبقائه.و صنیع:فعیل بمعنی مفعول.
الرابع :کون معرفة العلم-أی تحصیله-دینا یدان به.و قد علمت کونه الأصل فی الدین.
الخامس:کونه یکسب الإنسان طاعة الخلق له فی حیاته و جمیل الاحدوثة بعد وفاته.و هما من فضائله الخارجیّة.
السادس:کونه حاکما علی المال و المال محکوما علیه:أی أنّ تصریفه فی جمعه و إنفاقه إنّما یکون علی وفق العلم بوجوه تحصیله و مصارفه.
السابع :من أفضلیّته علی المال کون خزّان المال هالکین فی الآخرة محکوم علیهم بذلک فی الدنیا و إن صدق علیهم أنّهم أحیاء کما قال تعالی «وَ الَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ» (1)الآیة،و أمّا العلماء فباقون أبدا،و إن فقدت أعیانهم من الدنیا فصورهم فی القلوب مشاهدة موجودة .
کثیرا.
ص:324
و إنّما یمنعه عن إظهاره عدم وجدان من یحمله عنه و-ها-للتنبیه-و جواب -لو-محذوف تقدیره لأظهرته.
العلم
،و أشار إلی أربعة أصناف منهم،و وجه القسمة أنّ غیر أهل العلم من الناس إمّا طالبون له أو غیر طالبین،و الطالبون إمّا قادرون علی القیام بالحجّة أو غیر قادرین،و غیر الطالبین له هم المشغولون بغیره عنه فاشتغالهم إمّا بالانهماک فی لذّاتهم و سهولة الانقیاد لشهواتهم،و إمّا بمحبّة جمع المال و ادّخاره:
فالأوّل:هو الخبیث الموصوف برذیلة الجربزة،و أشار إلیه بقوله:بلی اصیب لقنا.إلی قوله:علی أولیائه.
و أشار إلی وجوه عدم صلاحیّته لحمله:
أحدها:کونه غیر مأمون علیه:أی هو مظنّة أن یذیعه إلی غیر أهله[أن یدیغه -خ-]و یضعه فی غیر مواضعه.و الضمیر فی قوله:علیه.للعلم.
الثانی:کونه مستعملا لآلة الدین و هو العلم فی الدنیا و استعماله فیها کالتکسّب به،و مستظهرا بنعم اللّه و هی العلم علی عباده کالفخر علیهم و مغالبتهم و استعمال حجّة اللّه و ما علمه منها فی مقابلة أولیائه و تلبیس الحقّ بالباطل .
و أمّا الثانی ممّن لا یصلح لحمله فهو المقلّد،و أشار إلیه بقوله:و منقادا.إلی قوله:شبهة.و منقادا عطل علی لقنا،و أراد بالانقیاد للحقّ الإیمان به و تسلیمه علی سبیل الجملة،و أشار إلی کونه غیر صالح لحمله من وجهین:
أحدهما:کونه لا بصیرة له فی جوانب العلم و تفاصیله.
الثانی:کونه ینقدح الشکّ فی قلبه لأوّل عارض من شبهة.و ذلک لعدم العلم و ثباته فی نفسه بالبرهان و الحجّة الواضحة.
و قوله:لا ذا و لا ذاک.أی من حملة العلم.
الثالث :هو المشار إلیه بقوله:أو منهوما.إلی قوله:للشهوة.
و الرابع:هو المشار إلیه بقوله:أو مغرما بالجمع و الادّخار.و أتبعهما فی
ص:325
معرض الذمّ لهما بوصفین:
أحدهما:کونهما لیسا من رعاة الدین فی شیء:أی لا تعلّق لهما بالدین و أهله.
الثانی:کونهما أقرب شبها بهما الأنعام السائمة باعتبار غفلتهما عن الدین و ثمرته فی الآخرة.و قوله:کذلک:أی تقارب تلک الأحوال من عدم من یصلح لحمل العلم و وجدان من لا یصلح له موت العلم بموت حاملیه لأنّ التشبیه یفید مقاربة الأحوال،و عنی بحامله نفسه و من عساه یکون من أهله یومئذ .ثمّ استدرک بقوله:اللّهمّ بلی.عدم خلوّ الأرض من قائم للّه بحجّة إمّا ظاهرا أو مستترا مغمورا فی الناس.و أراد بالظاهر من عساه یتمکّن من إظهار العلم و العمل به من أولیاء اللّه و خلفاء أولیائه فی موضع من الأرض،و بالخائف المغمور إلی من لم یتمکّن من ذلک.
قالت الشیعة:هذا تصریح منه علیه السّلام بوجوب الإمامة بین الناس فی کلّ زمان ما دام التکلیف باقیا و أنّ الإمام قائم بحجّة اللّه علی خلقه و یجب بمقتضی حکمته.و هو إمّا أن یکون ظاهرا معروفا کالّذین سبقوا إلی الإحسان و وصلوا إلی المحلّ الأعلی من ولده الأحد عشر،و إمّا أن یکون خائفا مستورا لکثرة أعدائه و قلّة المخلص من أولیائه کالحجّة المنتظر «لِئَلاّ یَکُونَ لِلنّاسِ عَلَی اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» .
و قوله:و کم ذا.استبطاء لمدّة غیبة صاحب الأمر و تبرّم من امتداد دولة أعدائه.
و قوله:أین هم.استقلال لعدد أئمّة الدین.و لذلک نبّه بقوله:أولئک و اللّه الأقلّون عددا.و ذکر فی معرض مدحهم أوصافا:
أحدها:الأقلّون عددا الأعظمون قدرا عند اللّه.
الثانی:أنّ بهم یحفظ حججه و بیّناته المشتمل علیها دینه حتّی یودعوها أمثالهم و یزرعوها فی قلوب أشباههم بعدهم.
الثالث :کونهم:یهجم بهم العلم علی حقیقة البصیرة:أی فاجأهم و دخل علی عقولهم دفعة لأنّ علومهم لدنیّة حدسیّة،و قیل:ذلک علی المقلوب:أی هجمت
ص:326
بهم عقولهم علی حقیقة العلم.
الرابع:و باشروا روح الیقین:أی وجدوا لذّته.
الخامس:و استلانوا ما استوعر منه المترفون من الامور الشاقّة کجشوبة المطعم و خشونة المضجع و الملبس و مصابرة الصیام و السهر.و ذلک فی جنب ما وجدوه من لذّة الیقین و حلاوة العرفان هیّن لیّن عندهم.
السادس:و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون،و هو الأحوال الّتی ألفوها ممّا ذکرنا فإنّ الجاهل لجهله بثمرتها ینفر منها و یستوحش من أهلها.
السابع:و صحبوا الدنیا بأبدان أرواح معلّقة بالمحلّ الأعلی عاشقة لما شاهدته من جمال حضرة الربوبیّة و صحبة الملاء الأعلی من الملائکة .و لمّا میزّهم بالأوصاف المذکورة أشار فی معرض مدحهم أیضا إلی أنّ هؤلاء لما اشتملوا علیه من هذه الأوصاف هم خلفاء اللّه فی أرضه و الدعاة إلی دینه.ثمّ تأوّه شوقا إلی رؤیتهم و-آه-کلمة توجّع أصلها-أوه-و الفصل من أفصح ما نقل عنه علیه السّلام.
اَلْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ
أی حاله مستورة فی عدم نطقه فحذف المضاف للعلم به. کنایة و تحت لسانه کنایة عن سکوته،و ذلک أنّ مقداره بمقدار عقله و مقدار عقله یعرف من مقدار کلامه لدلالته علیه فإذا تکلّم بکلام الحکماء ظهر کونه حکیما أو بکلام السفهاء عرف کونه منهم و ما بین المرتبتین بالنسبة .
هَلَکَ امْرُؤٌ لَمْ یَعْرِفْ قَدْرَهُ
قد علمت أنّ قدره هو مقداره فی نفس الأمر و منزلته من الفضیلة و عدمها،و من لم یعرف منزلته أو شک أن یتجاوزها فیهلک.مثلا من لم یعرف محلّه من العلم أو شک أن یرفع به فوق محلّه أو یعنی بما لا یعرف لاعتقاده کما له فیقع فی الهلاک الاخرویّ و ربّما تبعه هلاک دنیاه،و لزمه من تجاوزه تلعّب ألسنة الناس و أیدیهم به و هلاکه بذلک.
ص:327
ص:328
لاَ تَکُنْ مِمَّنْ یَرْجُو الْآخِرَةَ بِغَیْرِ عَمَلٍ- وَیَرْجُویُرَجِّی اَلتَّوْبَةَ بِطُولِ الْأَمَلِ- یَقُولُ فِی الدُّنْیَا بِقَوْلِ الزَّاهِدِینَ- وَ یَعْمَلُ فِیهَا بِعَمَلِ الرَّاغِبِینَ- إِنْ أُعْطِیَ مِنْهَا لَمْ یَشْبَعْ وَ إِنْ مُنِعَ مِنْهَا لَمْ یَقْنَعْ- یَعْجِزُ عَنْ شُکْرِ مَا أُوتِیَ وَ یَبْتَغِی الزِّیَادَةَ فِیمَا بَقِیَ- یَنْهَی وَ لاَ یَنْتَهِی وَ یَأْمُرُ النَّاسَ بِمَا لَمْ یَأْتِ بِمَا لاَ یَأْتِی- یُحِبُّ الصَّالِحِینَ وَ لاَ یَعْمَلُ عَمَلَهُمْ- وَ یُبْغِضُ الْمُذْنِبِینَ وَ هُوَ أَحَدُهُمْ- یَکْرَهُ الْمَوْتَ لِکَثْرَةِ ذُنُوبِهِ- وَ یُقِیمُ عَلَی مَا یَکْرَهُ الْمَوْتَ مِنْ أَجْلِهِ- إِنْ سَقِمَ ظَلَّ نَادِماً وَ إِنْ صَحَّ أَمِنَ لاَهِیاً- یُعْجَبُ بِنَفْسِهِ إِذَا عُوفِیَ وَ یَقْنَطُ إِذَا ابْتُلِیَ- وَإِنْ أَصَابَهُ بَلاَءٌ دَعَا مُضْطَرّاً وَ إِنْ نَالَهُ رَخَاءٌ أَعْرَضَ مُغْتَرّاً- تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ عَلَی مَا یَظُنُّ وَ لاَ یَغْلِبُهَا عَلَی مَا یَسْتَیْقِنُ- یَخَافُ عَلَی غَیْرِهِ بِأَدْنَی مِنْ ذَنْبِهِ- وَ یَرْجُو لِنَفْسِهِ بِأَکْثَرَ مِنْ عَمَلِهِ- إِنِ اسْتَغْنَی بَطِرَ وَ فُتِنَ وَ إِنِ افْتَقَرَ قَنِطَ وَ وَهَنَ- یُقَصِّرُ إِذَا عَمِلَ وَ یُبَالِغُ إِذَا سَأَلَ- إِنْ عَرَضَتْ لَهُ شَهْوَةٌ أَسْلَفَ الْمَعْصِیَةَ وَ سَوَّفَ التَّوْبَةَ- وَ إِنْ عَرَتْهُ مِحْنَةٌ انْفَرَجَ عَنْ شَرَائِطِ الْمِلَّةِ- یَصِفُ الْعِبْرَةَ وَ لاَ یَعْتَبِرُ- وَ یُبَالِغُ فِی الْمَوْعِظَةِ وَ لاَ یَتَّعِظُ- فَهُوَ بِالْقَوْلِ مُدِلٌّ وَ مِنَ الْعَمَلِ مُقِلٌّ- یُنَافِسُ فِیمَا یَفْنَی وَ یُسَامِحُ فِیمَا یَبْقَی- یَرَی الْغُنْمَ مَغْرَماً وَ الْغُرْمَ مَغْنَماً- یَخْشَی الْمَوْتَ وَ لاَ یُبَادِرُ الْفَوْتَ- یَسْتَعْظِمُ مِنْ مَعْصِیَةِ غَیْرِهِ مَا یَسْتَقِلُّ أَکْثَرَ مِنْهُ مِنْ نَفْسِهِ- وَ یَسْتَکْثِرُ مِنْ طَاعَتِهِ مَا یَحْقِرُهُ مِنْ طَاعَةِ غَیْرِهِ- فَهُوَ عَلَی النَّاسِ طَاعِنٌ وَ لِنَفْسِهِ مُدَاهِنٌ- اللَّهْوُ مَعَ الْأَغْنِیَاءِ أَحَبُّ إِلَیْهِ مِنَ الذِّکْرِ مَعَ الْفُقَرَاءِ- یَحْکُمُ عَلَی غَیْرِهِ لِنَفْسِهِ وَ لاَ یَحْکُمُ عَلَیْهَا لِغَیْرِهِ- یُرْشِدُ غَیْرَهُ وَ یُغْوِی نَفْسَهُ- فَهُوَ یُطَاعُ وَ یَعْصِی وَ یَسْتَوْفِی وَ لاَ یُوفِی- وَ یَخْشَی الْخَلْقَ فِی غَیْرِ رَبِّهِ وَ لاَ یَخْشَی رَبَّهُ فِی خَلْقِهِ قال الرضی:و لو لم یکن فی هذا الکتاب إلا هذا الکلام لکفی به موعظة ناجعة،و حکمة بالغة،و بصیرة لمبصر،و عبرة لناظر مفکر.
أقول: یرجّیها : یؤخّرها.و یروی:یزجیها-بالزا المعجمة-:أی یدفعها .
القنوط : الیأس .و عرته : عرضت له .و مدلّ : أی واثق .
أحدها:رجاء الآخرة و ثوابها بغیر عمل فإنّ ذلک منی علی اللّه،و قد علمت أنّ المنی بضایع النوکی.
الثانیة:ترجیة التوبة أو إزجاؤها بطول الأمل فإنّ ذلک یستلزم البقاء علی المعصیة و العذاب بها فی الآخرة.
الثالثة:أن یجمع بین قول الزاهدین فی الدنیا و عمل الراغبین فیها،و هو خداع للّه.و عمله فیها عمل الراغبین یستلزم أن یصیبه ما أصابهم من عذاب الآخرة بها.
الرابعة:أن لا یشبع ممّا یعطی منها.و ذلک رذیلة الشره و الحرص.
الخامسة:أن لا یقنع إن منع.و ذلک رذیلة التفریط من فضیلة القناعة.
السادسة :أن یجمع بین العجز عن شکر ما اوتی من نعمة اللّه و بین طلب الزیادة من فاضلها.و هو جمع بین رذیلة التفریط من فضیلة الشکر و بین رذیلة الحرص.
ص:329
السابعة:أن یجمع بین نهیه عن المعاصی و عدم تناهیه عنها و هو نفاق و خداع اللّه.
الثامنة:أن یأمر بما یقصّر عن فعله.و هو کالّذی قبله.
التاسعة:أن یحبّ الصالحین و یقصّر عن عملهم.و تقصیره النقض علی محبّته لهم.
العاشرة:أن یبغض المذنبین و هو أحدهم.فیکون فعله کالنقض علی بعضه لهم.
الحادیة عشر:أن یکره الموت لکثرة ذنوبه و یقیم علی ما یکره الموت له من کثرة الذنوب فإقامته علی ذنوبه کالنقض علی کراهیّته للموت لأجلها مع ما یلزمها من العذاب الأخرویّ.
الثانیة عشر :أن یجمع بین ندمه حال سقمه علی تفریطه فی جنب اللّه و بین لهوه فی لذّته حال أمنه و هو أیضا کالتناقض.
الثالثة عشر:أن یعجب بنفسه حین عافیته فإنّ العجب من المهلکات.
الرابعة عشر:أن یقنط إذا ما ابتلاه ربّه و ییأس من رحمته.و ذلک کما قال تعالی «إِنَّهُ لا یَیْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْکافِرُونَ» (1).
الخامسة عشر:أن یجمع بین دعاء اللّه باضطرار إلیه عند نزول البلاء به و بین الإعراض عنه و الاغترار بالدنیا عند إصابته للرخاء فإنّ الأوّل رذیلة إفراط و الثانی رذیلة تفریط.
السادسة عشر:أن یجمع بین الانقهار لنفسه و الانقیاد لها إلی ما یظنّه فائدة من الامور الدنیویّة و بین عدم قهرها و غلبها إلی ما یستیقنه من ثواب الآخرة و عذابها فلا یلزمها العمل لذلک فإنّ ذلک عند العقل سفه و جنون.
السابعة عشر :أن یجمع بین الخوف علی غیره من ذنوب هی أقلّ من ذنوبه و بین الرجاء لنفسه ثوابا أکثر ممّا یستحقّ علی عمله فإنّ الحقّ من ذلک أن یخاف
ص:330
علی نفسه أکثر من الخوف علی غیره لأکثریّة ذنوبه و یعمل لذلک الخوف.
الثامنة عشر:أن یبطر و یفتن إن أصاب غنی فإنّ ذلک فجور.
التاسعة عشر:أن یقنط و یضعف إن یفتقر و هو رذیلة تقصیر و تفریط.
العشرون :أن یقصّر فی العمل.
الحادیة و العشرون:أن یبالغ إذا سئل و هو رذیلة الإلحاف فی السؤال.
الثانیة و العشرون:أن یقدّم المعصیة إن عرضت شهوته و یؤخّر التوبة منها.
الثالثة و العشرون:أن ینفرج عن شرائط الملّة عند نزول المحنة به:أی یخرج من فضیلة الصبر علی المصیبة الّذی هو شرط الملّة و یترکها.
الرابعة و العشرون :أن یجمع بین وصف العبرة و بین عدم الاعتبار.
الخامسة و العشرون:أن یبالغ فی الموعظة حال ما لا یتّعظ فإنّ ذلک یدخله فی مقت اللّه تعالی لقوله «کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» (1).
السادسة و العشرون:أن یجمع بین المنافسة فیما یفنی و هو الدنیا و المسامحة فیما یبقی و هو ثواب الآخرة و هو جهل وسفه ظاهر.
السابعة و العشرون:أن یری الغنم مغرما کالإنفاق فی سبیل اللّه.و الغرم مغنما کالإنفاق فی معصیته،و هو عکس مقتضی العقل.
الثامنة و العشرون.أن یجمع بین خشیة الموت و عدم مبادرته بالأعمال الصالحة المستلزمة للخلاص من أهواله و ما بعده.
التاسعة و العشرون :أن یستعظم من معصیة غیره ما یستقلّ أکثر منه من نفسه،و کذلک یستکثر من طاعته ما یحقّره من طاعة غیره.و یلزم من ذلک أن یکون طاعنا علی الناس فی أفعالهم و مداهنا لنفسه فی فعلها.
الثلاثون :أن یکون اللهو مع الأغنیاء أحبّ إلیه من ذکر اللّه مع الفقراء.
و ذلک لفرط محبّة الدنیا.
ص:331
الحادیة و الثلاثون:أن یحکم لنفسه علی غیره فیما یشتهیه و إن کان باطلا و لا یحکم علیها لغیره فی حقّ و هو ظلم.
الثانیة و الثلاثون:أن یجمع بین إرشاد غیره بالهادی من القول و بین إغواء نفسه بفعله:أی یعمل عمل الغاوین.و یلزم ذلک أن یطیعه غیره و هو یعصی اللّه.
الثالثة و الثلاثون:أن یستوفی ما له علی غیره و لا یوفی ما علیه من حقّ اللّه أو حقّ خلقه.
الرابعة و الثلاثون:أن یجمع بین خشیة الخلق فی غیر اللّه:أی فی أمر لیس للّه و بین عدم خشیة اللّه فی خلقه،و یلزم الأوّل أن یرضیهم بما یسخط اللّه،و یلزم الثانی أن یسخط اللّه بما یسخط خلقه.و أکثر هذه مشتملة من علم الفصاحة علی التقابل و التضادّ و ردّ العجز علی الصدر.
لِکُلِّ امْرِئٍ عَاقِبَةٌ حُلْوَةٌ أَوْ مُرَّةٌ
و أشار إلی غایتیه من حرکاته الخیریّة و الشریّة.فغایة الخیریّة الجنّة و لذّاتها و هی العاقبة الحلوة.و غایة الشریّة النار و عذابها و هی العاقبة المرّة. استعارة و استعار لفظی الحلوة و المرّة للّذیذ و المکروه .
لِکُلِّ مُقْبِلٍ إِدْبَارٌ وَ مَا أَدْبَرَ کَأَنْ لَمْ یَکُنْ
و أراد المقبل من لذّات الدنیا فی معرض التزهید و المقبل من شدائدها فی معرض تهوینها و تسهیلها.و کأنّ من أخوات إنّ مخفّفة و اسمها محذوف.
لاَ یَعْدَمُ الصَّبُورُ الظَّفَرَ وَ إِنْ طَالَ بِهِ الزَّمَانُ
فالصبور : کثیر الصبر .
و رغّب فیه بما یلزمه من الظفر و إن تأخّر.و ذلک عند کمال استعداد الصبور بالصبر و قوّته.
اَلرَّاضِی بِفِعْلِ قَوْمٍ کَالدَّاخِلِ فِیهِ مَعَهُمْ- وَ عَلَی کُلِّ دَاخِلٍ فِی بَاطِلٍ إِثْمَانِ- إِثْمُ الْعَمَلِ بِهِ وَ إِثْمُ الرِّضَا بِهِ
ص:332
تشبیه و وجه التشبیه اشتراکهم فی الرضا به المستلزم للمیل إلیه و مناسبته لطبعه .
و نفرّ عن الدخول فی الباطل بما یلزمه من الإثمین:أمّا إثم العمل فظاهر،و أمّا إثم الرضا فلأنّ الرضا بالباطل یستلزم محبّته و هی رذیلة و إثم.
اِعْتَصِمُوا بِالذِّمَمِ فِی أَوْتَادِهَا
فالذمم : العهود و العقود و الأیمان .
استعارة و استعار لفظ الأوتاد لشرائط العهود و أسباب إحکامها کأنّها أوتاد حافظة لها.و أراد امتنعوا من سخط اللّه و عذابه بحفظ الذمم فی أوتادها فکأنّ العصمة منه یکون فی أسباب حفظها و-فی-متعلّق باعتصموا .
و روی:استعصموا.
عَلَیْکُمْ بِطَاعَةِ مَنْ لاَ تُعْذَرُونَ فِی جَهَالَتِهِ بِجَهَالَتِهِ
یرید اللّه تعالی.و قیل:هو ایجاب لطاعة من یجب طاعته من أئمّة الحقّ الّذین یجب العلم بحقّیة إمامتهم و لا یعذر الناس فی الجهل بهم لتعلّم قوانین الدین و أحکامه منهم.
قَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ وَ قَدْ هُدِیتُمْ إِنِ اهْتَدَیْتُمْ وَ أُسْمِعْتُمْ إِنِ اسْتَمَعْتُمْ
أی قد بصّرتم سبیل الرشاد و هدیتم إلیها و اسمعتم الدلالة علیها إن کان لکم استعداد أن تبصروها و تسمعوا و تهتدوا إلیها.و قد مرّ مثله.
عَاتِبْ أَخَاکَ بِالْإِحْسَانِ إِلَیْهِ وَ ارْدُدْ شَرَّهُ بِالْإِنْعَامِ عَلَیْهِ
ص:333
أی اجعل مکان عتابه بالقول و الفعل الإحسان إلیه و الإنعام فی حقّه فإنّهما أنفع فی عطف جانبه إلیک و دفع شرّه عنک. استعارة و العتاب مستعار للإحسان لاستلزامها رجوع المعاتب .
مَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مَوَاضِعَ التُّهَمَةِ- فَلاَ یَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ
لأنّه هو السبب فی إساءة الظنّ بنفسه و لا لوم علی من أساء به الظنّ لأنّ ظنّه ذلک مستند إلی أمارة من شأنها تولید الظنّ.
مَنْ مَلَکَ اسْتَأْثَرَ وَ مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْیِهِ هَلَکَ- وَ مَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَکَهَا فِی عُقُولِهَا
:أی استبدّ.و أراد أنّ الملوک من شأنهم الاستبداد بالامور المرغوب فیها و الانفراد و ذلک لتسلّطهم و عدم المنازع لقواهم الأمّارة بالسوء فیهم.و هی کالمثل یضرب لمن غلب علی أمر فاختصّ به و منعه غیره .
مجازا إطلاقا لما بالفعل علی ما بالقوّة و من استبدّ برأیه هلک .لأنّ انفراد الإنسان برأیه و عدم قبوله للنصیحة و استشارته فی الحرب و نحوها مظنّة الخطأ فیه المستلزم للهلاک فکأنّه قال:من استبدّ برأیه فهو فی مظنة الهلاک فأقام الهلک مقام مظنّته مجازا إطلاقا لما بالفعل علی ما بالقوّة .
و من شاور الرجال شارکها فی عقولها .و ذلک أنّه یستنتج فیها الرأی الأصلح لیعمل به فکان عقول الرجال بأسرها حاصلة لانتفاعه بثمرتها و هو ترغیب فی الاستشارة.
مَنْ کَتَمَ سِرَّهُ کَانَتِ الْخِیَرَةُ فِی بِیَدِهِ
ص:334
و هو ترغیب فی کتمان السرّ:أی کان مختارا فی إذاعته و کتمانه بخلاف من أذاع سرّه فإنّه لا یتمکّن بعد ذلک من کتمانه.
اَلْفَقْرُ الْمَوْتُ الْأَکْبَرُ
استعارة استعار له لفظ الموت بوصف الأکبر.أمّا کونه موتا فلانقطاع الفقیر عن مشتهیاته و مطلوباته الّتی هی مادّة الحیاة،و تألّمه لفقدها.و أمّا أنّه أکبر فلتعاقب آلامه علی الفقیر مدّة حیاته،و أمّا ألم الموت ففی وقت واحد.و هو مبالغة فی شدّته .
مَنْ قَضَی حَقَّ مَنْ لاَ یَقْضِی حَقَّهُ فَقَدْ عَبَدَهُ
أراد قضاء الحقّ بین الإخوان.و إنّما کان کذلک لأنّ قضاء الغیر عنه لحقّ من لا یقضی حقّه لا یکون لوصول نفع منه و لا دفع مضرّة المرء،بل یکون عملا له لأنّه هو أو خوفا منه أو طمعا فیه و ذلک صورة عبادة.
لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِی مَعْصِیَةِ الْخَالِقِ
و ذلک کالوضوء بالماء المغصوب و الصلاة فی الدار المغصوبة.و یحمل النفی هنا علی نفی جواز الطاعة کما هو المنقول عنه و عن أهل بیته علیهم السّلام.و عند الشافعی قد یصحّ الطاعة و النفی لفضیلتها.
لاَ یُعَابُ الْمَرْءُ بِتَأْخِیرِ حَقِّهِ إِنَّمَا یُعَابُ مَنْ أَخَذَ مَا لَیْسَ لَهُ
أخذ الحقّ قد یکون واجبا لمن هو له و قد یکون مندوبا،و أقلّه أن یکون مباحا و لا حرج فی أمر المباح.و أمّا أخذ ما لیس له فظلم و هو من أقبح الرذائل الّتی یعاب بها المرء.
اَلْإِعْجَابُ یَمْنَعُ مِنَ الاِزْدِیَادِ
ص:335
إعجاب المرء بفضیلته الداخلة کعلمه أو الخارجة کغناه و قینته إنّما یکون عن تصوّر کماله فیها و اعتقاده أنّه قد بلغ منها الغایة،و الاعتقاد یمنعه عن طلب الزیادة منها.
اَلْأَمْرُ قَرِیبٌ وَ الاِصْطِحَابُ قَلِیلٌ
أراد أمر اللّه و هو الموت و الاصطحاب فی الدنیا.
قَدْ أَضَاءَ الصُّبْحُ لِذِی عَیْنَیْنِ
هو تمثیل. استعارة و استعار لفظ الصبح لسبیل اللّه و وصف الضیاء لوضوحها و ظهورها بوصف الشارع و دلالته علیها،و یحتمل أن یکون ذلک تمام وصف سبق منه للحقّ.
کأنّ سائلا سأله عن أمر فشرحه له مرّة أو مرارا و هو یستزیده فقال له هذا القول أی قد أوضحت لک الحقّ إن کنت تبصر .
تَرْکُ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ
الترک لا کلفة فیه لکونه عدما و طلب التوبة من اللّه یحتاج إلی استعداد شدید یصلح معه العبد لقبولها منه و إفاضة العفو علیه.
کَمْ مِنْ أَکْلَةٍ تَمْنَعُ مَنَعَتْ أَکَلاَتٍ
و هو یجری مجری المثل یضرب لمن یفعل فعلا یکون سببا لحرمانه ما کان یناله من خیر سابق.و أصله أنّ الرجل یمتلیء من الطعام فیختم و یمرض فیحتاج إلی الحمیة و الامتناع من الأکل.و فی معناه:من یعاشر ملکا و یسعد بالانبساط معه فیکون ذلک سببا لبعده عنه و زوال سعادته منه.
اَلنَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا
ص:336
الجهل بالشیء مستلزم لعدم تصوّر منفعة العلم به فیحصل الجاهل من ذلک علی اعتقاد أنّه لا فایدة فی تعلّمه فیستلزم ذلک مجانبته له،ثمّ یتأکّد تلک المجانبة و البعد بکون العلم أشرف فضیلة یفخر بها أهله علی الجهّال و یکون لهم بها الحکم علیهم و انتقاصهم و حطّهم عن درجة الاعتبار،مع اعتقاد الجهّال لکما لهم أیضا لذلک.
فیشتدّ لذلک مجانبتهم للعلم و أهله و عداوتهم لهذه الفضیلة.
مَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوهَ الْآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَإِ
لا شکّ أنّ المتصفّح لوجوه الآراء و المفکّر فی أیّها أصوب لابدّ أن یعرف مواقع الخطأ فی الامور و مظانّها.و هو ترغیب فی الاستشارة و الفکر فی استصلاح الأعمال قبل الوقوع فیها.
مَنْ أَحَدَّ سِنَانَ الْغَضَبِ لِلَّهِ قَوِیَ عَلَی قَتْلِ أَشِدَّاءِ الْبَاطِلِ
لمّا کان تعالی هو العزیز المطلق کان استناد قوّة الغضب و الحمیّة له إلی عزّته.و صولة الغاضب اعتزازا به أشدّ بکثیر من صولته بدون ذلک الاستناد و بحسب تأکّد القوّة بعزّة اللّه یکون ضعفها بالاستناد إلی الباطل المضادّ لدینه.و لذلک قهر أولیاء اللّه علی قلّتهم فی مبدء الإسلام أعداؤه علی کثرتهم،و أطاق هو علیه السّلام قلع باب خیبر علی شدّته أو قتل جبابرة العرب. استعارة مرشحة و استعار لفظ السنان لحدّة الغضب باعتبار استلزامها للنکایة فی العدوّ،و رشّح بذکر أحدّ .
إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِیهِ- فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّیهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ
ص:337
إنّ للنفوس فیما یتوقّع مکروهه انفعالا کثیرا و فکرا عظیما فی کیفیّة دفعه و الخلاص منه،و ذلک أصعب بکثیر من الوقوع فیه لطول زمان الخوف هناک و تأکّده بتوقّع الأمر المخوف.و رغّب فی الوقوع فیه بضمیر صغراه قوله:فإنّ.إلی آخره.
و تقدیر کبراه:و کلّما کان أعظم ممّا یخاف من الشیء فینبغی أن یعدل عنه إلی الوقوع فیه.ینتج أن شدّة توقّیه ینبغی أن یعدل عنها إلی الوقوع فیه.
آلَةُ الرِّیَاسَةِ سَعَةُ الصَّدْرِ
سعة الصدر فضیلة تحت الشجاعة و هی أن لا یدع الإنسان قوّة التجلّد عند ورود الأحداث المهمّة علیه و اعتلاجها و لا یحار أو یدهش فیها بل یتحمّلها و یستعمل الواجب فی معناها،و قد یسمّی ذلک رحب الذراع.و هی من أعظم لوازم الریاسة الحقّة الّتی ینبغی لها إذ الریاسة مظنّة ورود الأحداث المهمّة و الخطوب العظیمة و أحوال الخلق المختلفة.فمن لم یکن محتملا لهذه الامور وسیع الصدر بها فلا بدّ أن یحار فیها و یدهش فیما یرد علیه منها فیعجز عن تدبیرها و یلزم ذلک فساد دولته و زوال ریاسته.
اُزْجُرِ الْمُسِیءَ بِثَوَابِ الْمُحْسِنِ
تصوّر المسیء جزاء المحسن بإحسانه یدعوه إلی الإحسان و الرجوع عن الإساءة فکانت المجازاة بالإحسان کالزجر للمسیء فی استلزامها ارتداعه و انزجاره.فاستعیر لفظ الزجر لها.
اُحْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَیْرِکَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِکَ
أغلب ما ینشأ الشرّ فی صدر العدوّ بسبب ما یتخیّله فی عدوّه من إضمار الشرّ له و ظنّ ذلک فیه،و ذلک التخیّل و الظنّ لابدّ أن یکون عن أمارة حرکات عدوّه
ص:338
و فلتات لسانه بالقول فی حقّه ما دامت عداوته و إضمار الشرّ له قائما فی صدره فإذا محا ما أضمر له من العداوة و الشرّ زالت أمارات ذلک من لسانه و وجهه،و بحسب ذلک ینقص تخیّل العداوة و یضعف سوء ظنّ العدوّ به و لا یزال یتأکّد بعدم تلک الأمارات و بأمارات حالیّة أو مقالیّة تظهر منه إلی أن ینمحی ذلک الظنّ فی حقّه.و استعار لفظ الحصد لإزالته ملاحظة لشبهة بالزرع فی زیادته بسقی تلک الأمارات من عدوّه و تواترها،و نقصانه و عدمه بعدمها.
اَللَّجَاجَةُ تَسُلُّ الرَّأْیَ
استعارة-مجاز أی تأخذه و تذهب به.و ذلک أنّ الإنسان قد یطلب شیئا و الرأی الحقّ هو التأنّی فی طلبه و التثبّت فیه.فیحمله طبعه علی اللجاجة فیه حتّی یکون ذلک سببا لفواته،و استعار لفظ السلّ له و نسبه إلی اللجاجة مجازا باعتبار أنّها هی المعونة له فکأنّها أخذته و غیّبته .
اَلطَّمَعُ رِقٌّ مُؤَبَّدٌ
استعارة استعار لفظ الرقّ للطمع باعتبار ما یستلزمه من التعبّد للمطموع فیه و الخضوع له کالرقّ،و تأییده باعتبار دوام التعبّد بسببه فإنّ الطامع دائم العبودیّة لمن یطمع فیه ما دام طامعا و هو فی ذلک کالدائم من الرقّ .
ثَمَرَةُ الْحَزْمِ السَّلاَمَةُ وَ ثَمَرَةُ التَّفْرِیطِ النَّدَامَةُ
التفریط إضاعة الحزم فی الامور،و لمّا عرفت أنّ الحزم عبارة عن تقدیم العمل للحوادث الممکنة المستقبلة بما هو أقرب إلی السلامة و أبعد من الغرور لا جرم کان ذلک مظنّة السلامة منها،و کانت إضاعته و التفریط فی العمل لما یستقبل من الحوادث مظنّة الوقوع فیها و عدم السلامة من بلائها و هو مستلزم للندامة علی التفریط فیها.
فکانت الندامة من ثمراته.
ص:339
لاَ خَیْرَ فِی الصَّمْتِ عَنِ الْحُکْمِ- کَمَا أَنَّهُ لاَ خَیْرَ فِی الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ
الصمت عن النطق بالحکمة طرف تفریط من فضیلة القول،و النطق عن الجهل رذیلة مضادّة لها،و الحقّ العدل هو النطق بالحکمة و هو الفضیلة النطقیّة.
مَا اخْتَلَفَتْ دَعْوَتَانِ إِلاَّ کَانَتْ إِحْدَاهُمَا ضَلاَلَةً
الاختلاف الحقیقیّ إنّما یکون بین النقیضین.و لمّا کانت الدعوة إمّا إلی الحقّ و هو سلوک سبیل اللّه أو إلی غیره.و کان کلّ ما عدا الحقّ ممّا یدعی إلیه فهو ضلال عن الحقّ و عدول عن سبیل اللّه لا جرم لم یختلف دعوتان إلاّ کانت إحداهما حقّا و الاخری ضلالة أو مستلزمة للضلال،و هذا یستلزم بطلان کون کلّ مجتهد مصیبا.و مذهبه المنقول عنه علیه السّلام أنّ الحقّ واحد و فی جهة و المصیب له واحد.
مَا شَکَکْتُ فِی الْحَقِّ مُنْذُمُذْ أُرِیتُهُ
من کان له استعداد درک الحقّ کمثله علیه السّلام،و استاد کرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فی إعداده و تربیته،و طول صحبة لمثل ذلک الاستاد کصحبته فمحال أن یعرض له شکّ فی أمر یری برهانه و یحرم من الحقّ.
مَا کَذَبْتُ وَ لاَکُذِبْتُ کُذِّبْتُ وَ لاَ ضَلَلْتُ وَ لاَ ضُلَّ بِی
أمّا عدم کذبه و ضلاله فلتربیته من حین الطفولیّة بالصدق و مکارم الأخلاق حتّی صار ذلک ملکة له تنافی الکذب و الضلال و تعصم منهما.و أمّا کونه لم یکذّب فیما أخبر به من الحوادث المستقبلة و العلوم الغیبیّة و لم یضلّ به فلکون مخبره معصوما
ص:340
و هو الرسول صلّی اللّه علیه و آله و العصمة منافیة للأمرین و مستلزمة لهدایة المدلول و عدم زیغه.
لِلظَّالِمِ الْبَادِی غَداً بِکَفِّهِ عَضَّةٌ
احترز بالبادی عن المجازی للظلم بمثله،و کنّی بغد عن یوم القیامة و بعضّ کفّه عن ندامته علی تفریطه فی جنب اللّه کقوله تعالی «وَ یَوْمَ یَعَضُّ الظّالِمُ عَلی یَدَیْهِ» و الغرض التنفیر عن الظلم.
اَلرَّحِیلُ وَشِیکٌ
أی قریب،و أراد الرحیل إلی الآخرة فی معرض الوعظ و التخویف بالموت.
مَنْ أَبْدَی صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَکَ
أی من تجرّد لنصرة الحقّ فی مقابلة کلّ أحد هلک عند جهلة الناس لضعف الحقّ عندهم و غلبة حبّ الباطل علی نفوسهم. کنایة و کنّی بإبداء صفحته عن إظهار نفسه و نصبها لذلک.و قد مرّ بیانه .
مَنْ لَمْ یُنْجِهِ الصَّبْرُ أَهْلَکَهُ الْجَزَعُ
قد تکون المصیبة عظیمة تستلزم الجزع المهلک بسببها و حینئذ یجب أن یقابل الجزع فیها بصبر ینجی من الهلاک،و التقدیر من لم یصبر علی المصیبة لینجو فجزع هلک.و یحتمل أن یرید الهلاک الاخرویّ:أی من لم ینجه فضیلة الصبر هلک برذیلة الجزع.و هو تنفیر عن الجزع و حثّ علی الصبر.
وَا عَجَبَا أَنْ تَکُونَ الْخِلاَفَةُ بِالصَّحَابَةِ- وَ الْقَرَابَةِ قال الرضی:و روی له شعر فی هذا المعنی فإن کنت بالشوری ملکت أمورهم
ص:341
وَا عَجَبَا أَنْ تَکُونَ الْخِلاَفَةُ بِالصَّحَابَةِ- وَ الْقَرَابَةِ قال الرضی:و روی له شعر فی هذا المعنی فإن کنت بالشوری ملکت أمورهم
روی هذا القول عنه بعد بیعة عثمان و هو صورة جواب ما کان یسمعه من تعلیل استحقاق عثمان للخلافة تارة بالشوری و تارة بأنّه من أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله.
تقریره:أنّ استحقاقه للخلافة إمّا أن یکون معلّلا بالشوری أو بصحبة رسول اللّه أو بقرابته.فإن کان الأوّل فکیف یملک عثمان امور الناس للشوری و أکثر من یستحقّ الاستشارة منهم لم یکونوا حاضرین؟و ذلک معنی إشارته بقوله:
فإن کنت بالشوری.إلی تمام البیت،و إن کان الثانی فکیف یملک امورهم بالصحبة بوجود من له الصحبة التامّة و القرابة معا؟بل یکون هذا أولی،و إن کان الثالث فغیره أولی منه بالنبیّ و أقرب إلیه.و عنی نفسه فی الوجهین.و قوله:فکیف بهذا.
أی فکیف یملکه بهذا.
إِنَّمَا الْمَرْءُ فِی الدُّنْیَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِیهِ الْمَنَایَا- وَ نَهْبٌ تُبَادِرُهُ الْمَصَائِبُ- وَ مَعَ کُلِّ جُرْعَةٍ شَرَقٌ- وَ فِی کُلِّ أَکْلَةٍ غَصَصٌ- وَ لاَ یَنَالُ الْعَبْدُ نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَی- وَ لاَ یَسْتَقْبِلُ یَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ بِفِرَاقِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ- فَنَحْنُ أَعْوَانُ الْمَنُونِ وَ أَنْفُسُنَا نَصْبُ الْحُتُوفِ- فَمِنْ أَیْنَ نَرْجُو الْبَقَاءَ- وَ هَذَا اللَّیْلُ وَ النَّهَارُ لَمْ یَرْفَعَا مِنْ شَیْءٍ شَرَفاً- إِلاَّ أَسْرَعَا الْکَرَّةَ فِی هَدْمِ مَا بَنَیَا وَ تَفْرِیقِ مَا جَمَعَا
الانتضال : الرمی .
من الموعظة:
باعتبار رمیه بمقدّمات المنایا و أسبابها
ص:342
من الأمراض و الأعراض المهلکة.و وصف الانتضال لذلک الرمی کأنّ المنایا هی الرامیة.
استعارة استعار لفظ النهب بمعنی المنهوب باعتبار سرعة المصائب إلی أخذه .
کنایة کنّی عن تنغیص لذّات الدنیا بما یشوبها و یخالطها من الأعراض و الأمراض بقوله: مع کلّ جرعة.إلی قوله:غصص .
کون العبد لا ینال نعمة إلاّ بفراق اخری .إذ النعمة الحقّة هی اللذّة و ما یکون وسیلة إلیها نعمة بواسطتها.و ظاهر أنّ النفس فی الدنیا لا یمکن أن یحصل علی لذّتین دفعة بل ما لم ینتقل عن لذّة أولی و یتوجّه نحو اللذّة الحادثة لا یحصل لها الالتذاذ بها.
و لا یستقبل یوما من عمره إلاّ بفراق آخر من أجله لأنّ طبیعة الزمان التقضّی و السیلان .
کوننا أعوان المنون باعتبار أنّ کلّ نفس و حرکة من الإنسان فهی مقرّبة له إلی أجله فکأنّه ساع نحو أجله و مساعد علیه.
کون نفوسنا نصب الحتوف .و نصب بمعنی منصوبة کالغرض.
الاستفهام عن جهة رجاء البقاء استفهام إنکار لوجودها مع وجود الزمان الّذی من شأنه أنّه لم یرفع بشیء شرفا و یجمع الأمر شملا إلاّ أسرع العود فی هدم ما رفع و تفریق ما جمع:أی أعدّ للثانی کما أعدّ للأوّل.
یَا ابْنَ آدَمَ مَا کَسَبْتَ فَوْقَ قُوتِکَ- فَأَنْتَ فِیهِ خَازِنٌ لِغَیْرِکَ
إذا اکتساب الزیادة علی القوت و المئونة بقدر الحاجة و ادّخاره غیر نافع بل مضرّ للمدّخر.إذ من ضرورته مفارقة ما ادّخره و وصوله إلی الوارث و غیره.فهو إذن یشبه الخازن فاستعار لفظه له.و هو تنفیر عن البخل بالفضل من المال عن قدر الحاجة.
ص:343
إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَ إِقْبَالاً وَ إِدْبَاراً- فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَ إِقْبَالِهَا- فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أُکْرِهَ عَمِیَ
أراد بالإقبال المیل،و بالإدبار النفرة عن ملال و نحوه.و أمر بإعمال النفوس فیما ینبغی إعمالها فیه من فکر و نظر،و حملها علی ذلک حین میلها إلیه و إقبالها علیه لأنّ ذلک بنشاط فی القوی النفسانیّة و معاونة و مواتاة للنفس.و نفّر عن حملها علیه مع النفرة عنه و الکراهیّة له بضمیر صغراه استعارة قوله: فإنّ القلب إذا اکره عمی :أی إنّ إکراه النفس علی الفکر فی الشیء حین نفرتها عنه عن ملال أو ضعف قوّة و نحوه یزیدها کراهیّة له و نفرة و یقوم لها بذلک مانع من الوهم و الخیال عن إدراک ما تفکّر فیه فلا یدرکه و إن کان واضحا حتّی یکون کالأعمی و لذلک استعار له وصف الأعمی،و تقدیر کبراه:و کلّما کان عماه فی إکراهه علی الشیء فلا یجوز کراهته .
مَتَی أَشْفِی غَیْظِی إِذَا غَضِبْتُ- أَ حِینَ أَعْجِزُ عَنِ الاِنْتِقَامِ فَیُقَالُ لِی لَوْ صَبَرْتَ- أَمْ حِینَ أَقْدِرُ عَلَیْهِ فَیُقَالُ لِی لَوْ عَفَوْتَ
استفهم عن وقت جواز شفاء الغیظ استفهام إنکار لوجوده فی معرض التنفیر عن هذه الرذیلة:و نفّر عنها بقوله:أحین.إلی آخره،و ذلک أنّه إمّا حین العجز عن الانتقام أو حین القدرة علیه.و شفاء الغیظ فی الوقت الأوّل لا یجوز لأنّه یکون بالسبّ و الشناعة و تقطیع العرض و نحوه و ذلک مستلزم للائمة الخلق و تعییبهم و قولهم فی الحثّ علی فضیلة الصبر:لو صبرت لکان أولی.و فی الثانی أیضا لا یجوز لاستلزام الشروع فی العقوبة لائمة الخلق و العدول عن فضیلة العفو الّتی هی أولی،و قول الناس علیها:لو عفوت و أنّ العفو بک أولی.
هَذَا مَا بَخِلَ بِهِ الْبَاخِلُونَ- و روی فی خبر آخر أنه قال:هَذَا مَا کُنْتُمْ تَتَنَافَسُونَ فِیهِ بِالْأَمْسِ
ص:344
أشار إلیه بذلک لأنّه غایة ما بخل به الباخلون و تنافس الناس فیه من المال و الطعام إقامة للغایة مقام ذی الغایة.
لَمْ یَذْهَبْ مِنْ مَالِکَ مَا وَعَظَکَ
أی القدر الّذی یذهب من مالک علی طریق امتحان اللّه و ابتلائه لک بأمر یذهبه فیحصل لک بذهابه موعظة لا یعدّ ما لا ذاهبا بل کأنّه باق لبقاء منفعته و شرف ثمرته و هی الموعظة.
کَلِمَةُ حَقٍّ یُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ
و قد مرّ تفسیره.
هُمُ الَّذِینَ إِذَا اجْتَمَعُوا غَلَبُوا وَ إِذَا تَفَرَّقُوا لَمْ یُعْرَفُوا- و قیل:بل قال علیه السلام:هُمُ الَّذِینَ إِذَا اجْتَمَعُوا ضَرُّوا وَ إِذَا تَفَرَّقُوا نَفَعُوا-،فقیل:قد عرفناه مضرة اجتماعهم فما منفعة افتراقهم؟فقال:
یَرْجِعُ أَصْحَابُ الْمِهَنِ إِلَی مِهْنَتِهِمْ- فَیَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهِمْ کَرُجُوعِ الْبَنَّاءِ إِلَی بِنَائِهِ- وَ النَّسَّاجِ إِلَی مَنْسَجِهِ وَ الْخَبَّازِ إِلَی مَخْبَزِهِ
المهنة : الحرفة و الصناعة .
و الفصل ظاهر.
،و أتی بجان و معه غوغاء،فقال:لاَ مَرْحَباً بِوُجُوهٍ لاَ تُرَی إِلاَّ عِنْدَ کُلِّ سَوْأَةٍ
أی لا تری مجتمعة.إذ العوامّ لا یجتمع غالبا إلاّ فی مثل ذلک.فکلام الخطیب
ص:345
علی أغلب الأحوال.و السوءة:فعلة من السوء.
إِنَّ مَعَ کُلِّ إِنْسَانٍ مَلَکَیْنِ یَحْفَظَانِهِ- فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّیَا بَیْنَهُ وَ بَیْنَهُ- وَ إِنَّ الْأَجَلَ جُنَّةٌ حَصِینَةٌ
أی إذا جاء القدر بموته علی وفق القضاء الإلهیّ و هو کقوله تعالی «وَ یُرْسِلُ عَلَیْکُمْ حَفَظَةً حَتّی إِذا جاءَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ» (1)الآیة:و استعار لفظ الجنّة بوصف الحصینة للأحل،و قد بیّنا ذلک فی قوله:و إنّ علیّ من اللّه جنّة حصینة.
و قد قال له طلحة و الزبیر:نبایعک علی أنا شرکاؤک فی هذا الامر لاَ وَ لَکِنَّکُمَا شَرِیکَانِ فِی الْقُوَّةِ وَ الاِسْتِعَانَةِ- وَ عَوْنَانِ عَلَی الْعَجْزِ وَ الْأَوَدِ
الأود : الاعوجاج .
و قوله: و عونان علی العجز و الأود .
أی دفع ما یعرض منهما أو حال وجودهما لأنّ کلمة علی تفید الحال.
أَیُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِی إِنْ قُلْتُمْ سَمِعَ- وَ إِنْ أَضْمَرْتُمْ عَلِمَ- وَ بَادِرُوا الْمَوْتَ الَّذِی إِنْ هَرَبْتُمْ مِنْهُ أَدْرَکَکُمْ- وَ إِنْ أَقَمْتُمْ أَخَذَکُمْ- وَ إِنْ نَسِیتُمُوهُ ذَکَرَکُمْ
و المعنی ظاهر.رغّب فی تقوی اللّه و الخشیة منه باعتبار سمعه لما یقول العبد و علمه بضمیره.حذف المفعولین للعلم بهما:أی سمع مقالکم و علم ضمیرکم .و رغّب فی مبادرة الموت و مسابقته بالأعمال الصالحة إلی حفظ النفوس بها من عذاب الآخرة و هول الموت و نفّر منه لیسارع إلی مبادرته بکونه لا ینجو منه أحد. استعارة و استعار
ص:346
لوروده علی الإنسان لفظ الذکر فی مقابلة النسیان ملاحظة لشبهه بالقاصد له عن علم به .
لاَ یُزَهِّدَنَّکَ فِی الْمَعْرُوفِ مَنْ لاَ یَشْکُرُهُ لَکَ- فَقَدْ یَشْکُرُکَ عَلَیْهِ مَنْ لاَ یَسْتَمْتِعُ بِشَیْءٍ مِنْهُ- وَ قَدْ تُدْرِکُ یُدْرَکُ مِنْ شُکْرِ الشَّاکِرِ- أَکْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْکَافِرُ- «وَ اللّهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنِینَ»
نهی عن الزهد فی المعروف بسبب عدم شکر المحسن إلیه له و رغّب فیه بضمائر ثلاثة:صغری الأوّل قوله:فقد یشکرک علیه.إلی قوله:منه.و ذلک لمحبّة الناس للإحسان و المحسنین.و تقدیر کبراه:و کلّما یشکرک علیه من لم یستمتع بشیء منه فواجب أن تفعله،و صغری الثانی قوله :و قد تدرک.إلی قوله:الکافر:أی قد یحصل لک من شکر من لم تحسن إلیه أکثر ممّا أضاعه کافر نعمتک و من شکر إحسانک إلیه.و تقدیر کبراه:و کلّما أدرکت من شکر الشاکر بسببه أکثر ممّا أضاع الکافر فواجب أن تفعله،و صغری الثالث قوله: «وَ اللّهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنِینَ» :أی لإحسانهم.و تقدیر کبراه:و کلّ من یحبّه اللّه لفعل فواجب أن یدخل العاقل فی زمرته و یتقرّب إلی اللّه بمثل فعله.
کُلُّ وِعَاءٍ یَضِیقُ بِمَا جُعِلَ فِیهِ- إِلاَّ وِعَاءَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ یَتَّسِعُ بِهِ
الأوعیة المحسوسة لمّا کانت متناهیة الاتّساع فمن شأنها أن یضیق بما یجعل فیها،و أوعیة العلم معقولة و هی النفوس و قوّة إدراک العلوم فیها غیر متناهیة و کلّ مرتبة من إدراکها تعدّ لما بعدها إلی غیر النهایة فبالواجب أن یتّسع بالعلم و یزید بزیادته.
ص:347
أَوَّلُ عِوَضِ الْحَلِیمِ مِنْ حِلْمِهِ- أَنَّ النَّاسَ أَنْصَارُهُ عَلَی الْجَاهِلِ
و یحتمل أن یرید من عدم حلمه.إذ العوض یکون عن شیء فائت کالطیش و نحوه فحذف المضاف.و فیه ترغیب فی هذه الفضیلة بما یلزمه من نصرة الناس لصاحبها علی الجاهل عند سفهه علیه.
إِنْ لَمْ تَکُنْ حَلِیماً فَتَحَلَّمْ- فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ- إِلاَّ أَوْشَکَ أَنْ یَکُونَ مِنْهُمْ
أمر بتعلّم هذه الفضیلة فإنّ مبادی الملکات الخلقیّة حالات مکتسبة عن التعلّم و رغّب فی تعلّمها بضمیر صغراه قوله:فإنّه قلّ.إلی آخره،و الضمیر فی إنّه ضمیر الشأن.و تقدیر الکبری:و کلّ من أو شک أن یکون من أهل الحلم بتعلّمه له فواجب أن یتعلّمه.
مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ وَ مَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ- وَ مَنْ خَافَ أَمِنَ وَ مَنِ اعْتَبَرَ أَبْصَرَ- وَ مَنْ أَبْصَرَ فَهِمَ وَ مَنْ فَهِمَ عَلِمَ
من حاسب نفسه ربح .لأنّ المحاسب لنفسه علی أعمالها یعلم خسرانه من ربحه فیعمل للربح و یحترز من الترک المستلزم للخسران.
و من غفل عنها خسر ،و ذلک أنّ قربها من اللذّات الحاضرة یستلزم میلها إلیها ما لم یجذب عنها بالجواذب الإلهیّة من الزواجر و المواعظ المذکّرة فالغفلة عن جذبها و تنبیهها من مراقد الطبیعة بتذکیر وعد اللّه و وعیده یستلزم إهمالها للأعمال الصالحة الّتی یلزمها ربح السعادة الاخرویّة و الحصول علی ترکها ذلک هو الخسران .
ص:348
و من خاف أمن :أی أمن من عذاب اللّه،و عمل للخلاص منه لیأمن لحوقه.
و من أعتبر أبصر :أی من نظر مواقع العبرة بعین الفکر و الاعتبار أبصر الطریق إلی الحقّ،و من أبصرها فهم المعبور منها إلیه،و من فهم ذلک حصل له العلم النافع بالحقّ.
لَتَعْطِفَنَّ الدُّنْیَا عَلَیْنَا بَعْدَ شِمَاسِهَا- عَطْفَ الضَّرُوسِ عَلَی وَلَدِهَا- وَ تَلاَ عَقِیبَ ذَلِکَ- «وَ نُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِینَ»
الضروس : الناقة سیّئة الخلق تعضّ حالبها لیبقی لبنها لولدها
و ذلک لفرط شفقّتها علیه. استعارة و استعار لفظ الشماس للدنیا باعتبار إعدادها لمنعه علیه السّلام منها ملاحظة لشبهها بالفرس الّذی یمنع ظهره أن یرکب . تشبیه و شبّه عطفها بعد ذلک علیهم و إعدادها لتمکّنهم من الحکم فیها بعطف الضروس علی ولدها ،و وجه الشبه شدّة العطف .و الاستشهاد بالآیة ظاهر.
اِتَّقُوا اللَّهَ تَقِیَّةَتُقَاةَ مَنْ شَمَّرَ تَجْرِیداً وَ جَدَّ تَشْمِیراً- وَ أَکْمَشَ فِی مَهَلٍ وَ بَادَرَ عَنْ وَجَلٍ- وَ نَظَرَ فِی کَرَّةِ الْمَوْئِلِ- وَ عَاقِبَةِ الْمَصْدَرِ وَ مَغَبَّةِ الْمَرْجِعِ
أکمش : أسرع .و المهل : الإمهال .و الکرّة : الرجعة .و الموئل: المرجع .و المغبّة : العاقبة .
و أراد اتّقوا اللّه کتقیّة من شمّر عن ساق الجدّ فی طاعة اللّه،و جرّد نفسه لمرضاته تشمیرا،و سارع بالأعمال الصالحة ما دام فی مهلة الحیاة،و بادر مغفرته فی وجل من ثمرات سیّئاته،و فکّر فی عوده إلی الملجأ الأوّل الّذی منه بدء و هو حضرة
ص:349
الربوبیّة.و کذلک عاقبة المصدر الّذی عنه صدر فی ابتداء کونه و إلیه یعود،و مغبّة المرجع من خیر للحصول علیه أو شرّ لیعمل للخلاص منه.
اَلْجُودُ حَارِسُ الْأَعْرَاضِ- وَ الْحِلْمُ فِدَامُ السَّفِیهِ- وَ الْعَفْوُ زَکَاةُ الظَّفَرِ- وَ السُّلُوُّ عِوَضُکَ مِمَّنْ غَدَرَ- وَ الاِسْتِشَارَةُ عَیْنُ الْهِدَایَةِ- وَ قَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَی بِرَأْیِهِ- وَ الصَّبْرُ یُنَاضِلُ الْحِدْثَانَ- وَ الْجَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ الزَّمَانِ- وَ أَشْرَفُ الْغِنَی تَرْکُ الْمُنَی- وَ کَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِیرٍ تَحْتَ عِنْدَ هَوَی أَمِیرٍ- وَ مِنَ التَّوْفِیقِ حِفْظُ التَّجْرِبَةِ- وَ الْمَوَدَّةُ قَرَابَةٌ مُسْتَفَادَةٌ وَ لاَ تَأْمَنَنَّ مَلُولاً
الجود حارس الأعراض .و استعار له لفظ الحارس باعتبار أنّ الجود یقی عرض صاحبه من السبّ کالحارس .
استعارة و الحلم فدام السفیه .و الفدام:ما یسدّ به المجوسی فمه.و استعار لفظه للحلم باعتبار أنّ الحلیم إذا قابل السفیه بحمله عن عقوبته سکت عنه و أقلع عن سفه فی حقّه فأشبه الفدام له .
استعارة و العفو زکاة الظفر .استعار لفظ الزکاة للعفو باعتبار أنّه فضیلة تستلزم زیادة الثواب فی الآخرة.و لحظ فی ذلک شبه الظفر بالمال الواجبة زکاته.و هو ترغیب فی العفو .
و السلوّ عوضک ممّن غدر .و هو أمر للإنسان بالسلوّ عن الهمّ بسبب غدر من یطلب وفاه.و رغّب فیه بکونه عوضا منه و نعم العوض .
. و الاستشارة عین الهدایة .الاستشارة طلب أصلح الآراء فی الأمر و هی مستلزمة للهدایة إلیها،و جعلها عینها تأکیدا لقوّة استلزامها لها .
ص:350
و قد خاطر من استغنی برأیه :أی أشرف علی الهلاک من استبدّ برأیه لأنّ ذلک مظنّة الخطأ المستلزم للهلاک.و قد مرّ مثله .
استعارة و الصبر یناضل الحدثان .استعار لفظ المناضلة للصبر باعتبار دفعه الهلاک عن الجزع فی المصائب .
الزمان معدّ للهرم و الفناء،و الجزع معدّ لذلک فکان معینا له .
لأنّ أشرف الغنی غنی النفس بالکمالات النفسانیّة من الحکمة و مکارم الأخلاق و هو مستلزم لترک المنی و إلاّ لجاز اجتماعه مع المنی المستلزم للحمق إذ هو إشغال النفس بما لا ینبغی عمّا ینبغی و للإفراط فی محبّة الدنیا مع کثیر من الرذائل کالحرص و الحسد و الشره و نحوها.فیلزم من ذلک اجتماع الضدّین الفضیلة و الرذیلة .
العقل إمّا أن یقوی علی قهر النفس الأمّارة بالسوء و بصرفها حسب ما یراه،أو یقاومها کالمصارع لها فمرّة له و مرّة علیه،أو یکون مقهورا و مغلوبا لها.و الأوّل هو العقل المطیع للّه القویّ بأمره و یلحقه الثانی من وجه،و أمّا الثالث فهو العاصی بانقیاده لهواه فهو کالأسیر له و هو القسم الأکثر فی عالم الإنسان لحضور اللذّات الحسّیّة دون العقلیّة فلذلک أخبر عنه بکم .
:أی لزومها و مداومتها لغایة الانتفاع بها،و ظاهر أنّ ذلک من توفیق الله:أی تسهیله لأسبابها و تقدیره لتوافقها فی حقّ العبد .
لأنّ القرابة اسم من القرب و هو إمّا أن یکون أصلیّا کقرب النسب أو مستفادة اکتسب کقرب الصداقة و المودّة .
لأنّ الملول یصرفه ملاله عن الثبات علی الصداقة و العهد و کتمان السرّ و نحوها.فمن الحزم إذن أن لا یؤمن علی شیء من ذلک.
ص:351
عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ
استعارة استعار له لفظ الحاسد باعتبار أنّه یؤثّر فی منع العقل من ازدیاد الفضیلة و الاستکثار منها کما یؤثّر الحاسد بحسده فی حال المحسود و تنقیصه .
أَغْضِ عَلَی الْقَذَی وَ الْأَلَمِ تَرْضَ أَبَداً
الإغضاء علی القذی کنایة عن کظم الغیظ و احتمال المکروه و هو فضیلة تحت الشجاعة.و لمّا کانت طبیعة الدنیا معجونة بالمکاره لم یخل الإنسان فی أکثر أحواله من ورودها علیه فما لم یقابلها بالاحتمال بل بالتسخّط و الغضب و التبرّم بها لم یزل ساخطا تاعبا بغضبه لدوام ورود المکاره علیه.
مَنْ لاَنَ عُودُهُ کَثُفَتْ أَغْصَانُهُ
استعارة بالکنایة استعار لفظ العود للطبیعة،و کنّی بلینه عن التواضع،و کذلک استعار لفظ الأغصان للأعوان و الأتباع ، کنایة و کنّی بکثافتها عن اجتماعهم علیه و کثرته و قوّته بهم.و المراد أنّ من کانت له فضیلة التواضع و لین الجانب کثرت أعوانه و أتباعه و قوی باجتماعهم علیه .
اَلْخِلاَفُ یَهْدِمُ الرَّأْیَ
و أصله:أنّ رأی الجماعة یجتمع علی أمر تکون المصلحة فیه فیقع من بعضهم خلاف فیه فیهدم ما اجتمعوا علیه و رأوه من المصلحة.کما رأی علیه السّلام هو و جماعة من أصحابه عند رفع أهل الشام المصاحف صبیحة لیلة الهریر من إتمام القتال و هو المصلحة فهدم ذلک الرأی من خالف فیه من أصحابه حتّی وقع بذلک ما وقع.
مَنْ نَالَ اسْتَطَالَ
إنّ من نال ما یوجب الاستطالة من جاه و سلطان أو مال استطال بسبب ذلک:
ص:352
أی کان فی مظنّة أن یستطیل علی غیره بما ناله.فأقام ما بالفعل مقام ما بالقوّة و یصدق بالفعل أیضا.لأنّ کلام الخطیب مطلق یصدق و لو بمرّة.و الکلمة تجری مجری المثل.
فِی تَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ عِلْمُ جَوَاهِرِ الرِّجَالِ
أی تقلّب أحوال الدنیا علی المرء کرفعته بعد اتّضاعه و بالعکس،و کنزول الشدائد به یفید العلم التجربیّ بأحواله الباطنة من خیر و شرّ و جلادة و ضعف و فضیلة و رذیلة.و نحوه ما قیل:الولایات مضامیر الرجال.
حَسَدُ الصَّدِیقِ مِنْ سُقْمِ الْمَوَدَّةِ
المودّة الخالصة تستلزم أن یرید الإنسان لمن یودّه ما یرید لنفسه و یکره له ما یکره لها.و الحسد ینافی ذلک لاستلزامه إرادة زوال الخیر عن المحسود.فمودّة الحاسد إذن مدخولة غیر صحیحة و هو المراد بسقمها.
أَکْثَرُ مَصَارِعِ الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ الْمَطَامِعِ
العقل من شأنه الّذی ینبغی له أن یقاوم النفس الأمّارة و یکسرها و یصرفها بحسب آرائه الصالحة،و من شأن النفس مخادعة العقل و غروره بزینة الحیاه الدنیا و قیناتها و إطماعه بها.فالعقول الضعیفة غیر المؤیّدة من اللّه أکثر ما تنخدع و تنصرع فی حربها للنفوس الأمّارة إذا لا لها مطمع و همیّ من الدنیا. استعارة فاستعار لفظ المصارع للعقول ملاحظة لقهرها عن النفوس و انفعالها.فأشبهت فی الذلّة و الانقیاد لها و ترک مقاومتها من أخذ مصرعه من الحرب،و کذلک استعار لفظ البروق لما لاح من تصوّر المطموع فیه.و کثیرا ما تشبّه العلوم و الخواطر الذهنیّة بالبروق للطفه و ضیائه و سرعة حرکته .و إنّما قال:تحت.لأنّ المصارع من شأنها أن تکون تحت.
ص:353
لَیْسَ مِنَ الْعَدْلِ الْقَضَاءُ عَلَی الثِّقَةِ بِالظَّنِّ
أی من کان عندک ثقة معروفا بالأمانة فحکمک علیه بالخیانة عن ظنّ خروج عن العدل و هو رذیلة الجور.
بِئْسَ الزَّادُ إِلَی الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَی الْعِبَادِ
لأنّ الظلم رذیلة عظیمة متعدیّة الأذی مستلزمة للشقاء الأشقی.فهی بئس الزاد إذن. استعارة و لفظ الزاد مستعار باعتبار حمل هذه الرذیلة فی جوهر النفس إلی الآخرة کالزاد .
مِنْ أَشْرَفِ أَعْمَالِ الْکَرِیمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا یَعْلَمُ
أی تغافله و إغضاؤه عمّا یعلم من معایب الناس و من هفواتهم.لاستلزام ذلک فضایل کاحتمال المکروه و الحلم و العفو و الصفح.و کلّها فضائل یلزم الکرم لأنّه قد یراد به إمساک الإنسان عن المبادرة إلی قضاء وطر الغضب فیمن یغضبه و ما استلزم هذه الفضایل فهو من أشرف الأفعال.
مَنْ کَسَاهُ الْحَیَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ یَرَ النَّاسُ عَیْبَهُ
استعارة مرشحة استعار لفظ الثوب لما یشمل الإنسان من الحیاء،و رشّح بذکر الکسوة.
و المراد أنّ فضیلة الحیاء تستلزم ترک المعایب فلا یری فی صاحبه،أو إن ارتکب ما یعاب به من الرذائل کان علی غایة من التستّر به و الاجتهاد فی اخفائه و هو بمظنّة أن لا یراه الناس .
بِکَثْرَةِ الصَّمْتِ تَکُونُ الْهَیْبَةُ- وَ بِالنَّصَفَةِ یَکْثُرُ الْمُوَاصِلُونَ- وَ بِالْإِفْضَالِ تَعْظُمُ الْأَقْدَارُ- وَ بِالتَّوَاضُعِ تَتِمُّ النِّعْمَةُ وَ بِاحْتِمَالِ الْمُؤَنِ یَجِبُ السُّؤْدُدُ- وَ بِالسِّیرَةِ الْعَادِلَةِ یُقْهَرُ الْمُنَاوِئُ- وَ بِالْحِلْمِ عَنِ السَّفِیهِ تَکْثُرُ الْأَنْصَارُ عَلَیْهِ
ص:354
و ما یلزمها کون الصامت مهابا فی أعین الناس لأنّ الصمت من توابع العقل غالبا و مهابة أهل العقل ظاهرة.فإن عرف أنّ کثرة صمت الصامت عن عقل کانت مهابته أوکد،و إن لم تعرف حاله کانت لتجویز أن تکون عن کمال عقله.و قد یعرف أنّه لنقصان فی غریزته و عیّه فی الکلام و یحترم مع ذلک لعدم اختلاطه فی القول .
و هی فضیلة العدل.و رغّب فیها بما یلزمها من کثرة الواصلین لأنّ قلّة الإنصاف مستلزمة للفرقة و قطع الالفة کما قال أبو الطیب:
و لم تزل قلّة الإنصاف قاطعة بین الرجال و إن کانوا ذوی رحم
علی الخلق بما یحتاجون إلیه.و یلزمه علوّ الأقدار و عظمها لتعیین الحاجة إلی المتفضّل و محبّته .
و یلزم تمام النعمة بکثرة الإخوان و أهل المودّة لأنّ فضیلة التواضع نعمة و ما یلزمها کالتمام لها .
لأنّ احتمال مؤن الخلق یستلزمه فضیلة سعة الصدر و احتمال المکروه و بحسب ذلک تحصل مطالب الخلق من المتحمّل غیر مشوبة بشیء من کدر المقابلة بردّ و منّة و نحوهما.فیکثر تعبّدهم له،و یقوی أمره و سؤدده فیهم .
و یلزمها قهر المناوی.و المناواة:المعاداة.و ذلک أنّ العدوّ لا یجد لصاحب السیرة العادلة عیبا یستظهر به علیه و یسعی به فی فساد أمره فیبقی مقهورا مأمورا .
و یلزمه کثرة الأنصار علیه.و قد مرّ بیانه.
ص:355
اَلْعَجَبُ لِغَفْلَةِ الْحُسَّادِ عَنْ سَلاَمَةِ الْأَجْسَادِ
لأنّ الغالب أنّ الحسد إنّما یکون بالغنی و الجاه و سایر قینات الدنیا.
فترک الحسّاد الحسد بصحّة الجسد مع کونها أکبر نعم الدنیا محلّ التعجّب.و الفرق أنّ تلک نعم مشاهدة یقلّ الغفلة عنها و ینفرد المحسود بها و أکثر الترفّع علی حسد الحاسد یکون بها.فأمّا نعمة الصحّة فمعقولة تکثر الغفلة عنها و مشترکة.
اَلطَّامِعُ فِی وِثَاقِ الذُّلِّ
استعارة استعار لفظ الوثاق للذلّ المقیّد له فی طاعة المطموع فیه.و قد مرّ مثله فی قوله:الطمع رقّ مؤبّد .
اَلْإِیمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ- وَ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَ عَمَلٌ بِالْأَرْکَانِ
الأرکان : هی المساجد الخمسة .
و أراد الایمان الکامل.
مَنْ أَصْبَحَ عَلَی الدُّنْیَا حَزِیناً- فَقَدْ أَصْبَحَ لِقَضَاءِ اللَّهِ سَاخِطاً- وَ مَنْ أَصْبَحَ یَشْکُو مُصِیبَةً نَزَلَتْ بِهِ- فَقَدْ أَصْبَحَ فَإِنَّمَا یَشْکُو رَبَّهُ- وَ مَنْ أَتَی غَنِیّاً فَتَوَاضَعَ لَهُ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِینِهِ- وَ مَنْ قَرَأَ؟الْقُرْآنَ؟ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ- فَهُوَمِمَّنْ کَانَ مِمَّنْ یَتَّخِذُ آیَاتِ اللَّهِ هُزُواً- وَ مَنْ لَهِجَ قَلْبُهُ بِحُبِّ الدُّنْیَا الْتَاطَ قَلْبُهُ مِنْهَا بِثَلاَثٍ- هَمٍّ لاَ یُغِبُّهُ وَ حِرْصٍ لاَ یَتْرُکُهُ وَ أَمَلٍ لاَ یُدْرِکُهُ
ص:356
و یلزمه سحظ العبد لقضاء اللّه لأنّ فوت ذلک کان بقضاء منه و سحظ قضائه کفر .
.و یلزمها الشکوی من اللّه لأنّ اللّه تعالی هو المبتلی بها .
.و یلزمه ذهاب ثلثی دین المتواضع لوجوه:
أحدها:أنّ مدار الدین علی کمال النفس الإنسانیّة بالحکمة،و کمال القوّة الشهویّة بالعفّة و قوّة الغضب بالشجاعة.و لمّا کان التواضع للغنیّ من جهة غناه یستلزم زیادة محبّة الدنیا و الخروج عن فضیلة الشهوة إلی طلب الفجور حتّی کأنّه عابد لغیر اللّه،و یستلزم الخروج عن الحکمة الّتی مقتضاها وضع کلّ شیء موضعه و هی فضیلة النفس الناطقة کان خارجا عن فضیلتی هاتین القوّتین و هما ثلثا الدین.
مجازا إطلاقا لاسم الملزوم علی لازمه الثانی:أنّ مدار الدین علی الاعتقاد بالقلب و الإقرار باللسان و العمل بالأرکان.و من شأن المتواضع للغنیّ لغناه اشتغال لسانه بمدحه و شکره و اشتغال جوارحه بخدمته عن طاعة اللّه و القیام بشکره فهو مهمل لثلثی دینه.قیل:إنّ التواضع للغنیّ لغناه یستلزم حبّ الدنیا و حبّها رأس کلّ خطیئة.فاستعمل علیه السّلام لفظ الثلثین هنا فی الأکثر مجازا إطلاقا لاسم الملزوم علی لازمه .
استعارة کون قراءة القرآن مع دخول النار مستلزما لکون القاری ممّن کان یتّخذ آیات اللّه هزوا ،و ذلک أنّ قراءة القرآن للّه بالإخلاص و العمل بمقتضاه یستلزم دخول الجنّة فعدم دخولها و دخول النار یستلزم عدم الإخلاص فی قراءة القرآن و عدم العمل به فیکون فی قراءته إذن کالمستهزئ بآیات اللّه إذ شأن المستهزء أن یقول ما لا یعتقده و لا یعمل به.فاستعار له لفظ المستهزء .
:أی لصق و اختلط منها بثلاثة.
و وجه لزوم الثلاثة للحرص و الولوع بها أنّ حبّها یستلزم الجدّ فی طلبها و جمعها، و لمّا کان حصولها مشروطا بأسباب مقدورة للعباد و أسباب غیر مقدورة و المقدورة منها قد لا یکون مقدورة للطالب و إن کانت لکنّها تکون متعسّرة منه لتوقّفها علی
ص:357
أسباب کثیرة أو عسرة لا جرم یلزمه الحزن غالبا فی تحصیلها و الهمّ الّذی لا یغبّه:
أی لا یأتیه غبّا و هو یوم لا و یوم نعم ثمّ فی حفظها و خوف فوتها و الحرص علی استخراجها من وجوهها و طول الأمل فی وجوه مکاسبها و أرباحها و تجاراتها و عماراتها.و نبّه علی طوله بقوله:لا یدرکه.و نفّر عنه بذلک.
کَفَی بِالْقَنَاعَةِ مُلْکاً وَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ نَعِیماً
استعارة استعار لفظ الملک للقناعة لأنّ غایة الملک الغناء عن الخلق و الترفّع علیهم بذلک.و الالتذاذ و القناعة مستلزمة لهذه الغایات،و کذلک استعار لفظ النعیم لحسن الخلق باعتبار استلزامهما للالتذاذ .
و سئل علیه السّلام:عن قوله تعالی: «فَلَنُحْیِیَنَّهُ حَیاةً طَیِّبَةً» فقال:
هِیَ الْقَنَاعَةُ
ففسّرها بلازمها و هو الحیاة الطیّبة.
شَارِکُوا الَّذِی قَدْ أَقْبَلَ عَلَیْهِ الرِّزْقُ- فَإِنَّهُ أَخْلَقُ لِلْغِنَی وَ أَجْدَرُ بِإِقْبَالِ الْحَظِّ
أخلق و أجدر : أی أولی .
و لمّا کان إقبال الرزق بتوافق أسبابه فی حقّ من أقبل علیه کانت مشارکته مظنّة إقبال حظّ الشریک و إقبال الرزق علیه بمشارکته.
و رغّب فیها بضمیر صغراه قوله:فإنّه.إلی آخره و الضمیر فی قوله:فإنّه.یعود إلی ما دلّ علیه شارکوا من المصدر.و تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک ففعله مصلحة.
و قال علیه السّلام:فی قوله تعالی: «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ» الْعَدْلُ الْإِنْصَافُ وَ الْإِحْسَانُ التَّفَضُّلُ
ص:358
و هو تعریف لفظ بلفظ أوضح منه عند السائل.
مَنْ یُعْطِ بِالْیَدِ الْقَصِیرَةِ یُعْطَ بِالْیَدِ الطَّوِیلَةِ
و ذلک إشارة إلی قوله تعالی «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» (1)و قوله تعالی «إِنْ تُقْرِضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً یُضاعِفْهُ لَکُمْ» (2)استعارة بالکنایة و استعار لفظ الید فی الموضعین للنعمة و العطاء.و کنّی بالطول و القصر عن الکثرة و القلّة .
لاَ تَدْعُوَنَّ إِلَی مُبَارَزَةٍ وَ إِنْ فَإِنْ دُعِیتَ إِلَیْهَا فَأَجِبْ- فَإِنَّ الدَّاعِیَ إِلَیْهَا بَاغٍ وَ الْبَاغِیَ مَصْرُوعٌ
نفّر عن الدعوة إلی المبارزة بقیاس کامل من الشکل الأوّل و هو قوله:فإنّ الداعی.إلی قوله:مصروع.و بیانه أنّ الدعاء إلی المبارزة خروج عن فضیلة الشجاعة إلی طرف الإفراط منها و هو التهوّر و هو بغی و عدوان لأنّه خروج عن فضیلة العدل فی القوّة الغضبیّة،و أمّا أنّ الباغی مصروع ففی غالب الأحوال.
لاستعداده ببغیه لذلک.لأنّ المجازاة واجبة فی الطبیعة.
خِیَارُ خِصَالِ النِّسَاءِ شِرَارُ خِصَالِ الرِّجَالِ- الزَّهْوُ وَ الْجُبْنُ وَ الْبُخْلُ- فَإِذَا کَانَتِ الْمَرْأَةُ مَزْهُوَّةً لَمْ تُمَکِّنْ مِنْ نَفْسِهَا- وَ إِذَا کَانَتْ بَخِیلَةً حَفِظَتْ مَالَهَا وَ مَالَ بَعْلِهَا- وَ إِذَا کَانَتْ جَبَانَةً فَرِقَتْ مِنْ کُلِّ شَیْءٍ یَعْرِضُ لَهَا
الأخلاق الثلاثة المذکورة رذائل للرجال و هی فضائل للنساء،و بیان کونها
ص:359
فضائل هو ما ذکره علیه السّلام.و المزهوّة:المتکبّرة،و لا یبنی الفعل من الزهو إلاّ للمفعول.یقال:زهی الرجل و زهیت المرأة فهی مزهوّة.و الفرق:الخوف.
و قیل له علیه السّلام:صف لنا العاقل،فقال ع هُوَ الَّذِی یَضَعُ الشَّیْءَ مَوَاضِعَهُ- فقیل:فصف لنا الجاهل،فقال:قد فعلت قال الرضی:یعنی أن الجاهل هو الذی لا یضع الشیء مواضعه فکأن ترک صفته صفة له،إذ کان بخلاف وصف العاقل.
عرّف العاقل بخاصّة من خواصّه،و لمّا کان الجاهل عدیم ملکة العاقل کان تعریفه بما یقابل خاصّة العاقل تعریفا بالمناسب و هو خاصّة أیضا من خواصّ الجاهل.
وَ اللَّهِ لَدُنْیَاکُمْ هَذِهِ- أَهْوَنُ فِی عَیْنِی مِنْ عِرَاقِ خِنْزِیرٍ فِی یَدِ مَجْذُومٍ
عراق : جمع عرق و هو جمع غریب کتؤام و توأم و هو العظم الذی یسحت عنه اللحم ،
و ذلک مبالغة فی هون الدنیا و حقارتها فی عینه و نفرته عنها لأنّ العرق لا خیر فیه فإذا تأکّد بکونه من خنزیر ثمّ بکونه فی ید مجذوم بلغت النفرة منه الغایة.
إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَغْبَةً فَتِلْکَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ- وَ إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْکَ عِبَادَةُ الْعَبِیدِ- وَ إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ شُکْراً فَتِلْکَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ
قسّم علیه السّلام عبادة العابدین بحسب أغراضها إلی ثلاثة و هی عبادة الرغبة و
ص:360
عبادة الرهبة و عبادة الشکر،و جعل الأولی عبادة التجّار باعتبار أنّهم یستعیضون عنها ثواب الآخرة و یطلبونه بها فهم فی حکم التجّار المکتسبین للأرباح ،و الثانیة عبادة العبید فی الدنیا لأنّ خدمتهم لساداتهم أکثر ما تکون رهبة ،و الثالثة عبادة الشاکرین و هم الذین یعبدون اللّه للّه لا لرغبة و لا لرهبة بل لأنّه هو مستحقّ العبادة و هی عبادة العارفین،و أشار علیه السّلام إلیها فی موضع آخر فقال علیه السّلام:ما عبدتک خوفا من عقابک و لا طمعا فی ثوابک بل وجدتک أهلا للعبادة فعبدتک.
اَلْمَرْأَةُ شَرٌّ کُلُّهَا وَ شَرُّ مَا فِیهَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهَا
و أراد أنّ أحوالها کلّها شرّ علی الرجل:أمّا من جهة مئونتها فظاهر،و أمّا من جهة لذّتها و استمتاعه بها فلاستلزام ذلک البعد عن اللّه تعالی و الاشتغال عن طاعته.
و أسباب الشرّ شرور و إن کانت عرضیّة.و لمّا کان کونها لابدّ منها أعنی وجوب الحاجة إلیها فی طبیعة الوجود الدنیویّ هو السبب فی تحمّل الرجل للمرأة و وقوعه فی شرورها وجب أن یکون ذلک الاعتبار أقوی الشرور المتعلّقة بها لأنّ السبب أقوی من المسبّب.
مَنْ أَطَاعَ التَّوَانِیَ ضَیَّعَ الْحُقُوقَ- وَ مَنْ أَطَاعَ الْوَاشِیَ ضَیَّعَ الصَّدِیقَ
الانقیاد فی سلک التوانی عن الحقوق المطلوبة یخرجها عن وقت الفرصة لحصولها و ذلک یستلزم تضییعها و تفویتها،و کذلک لواشی مظنّة السعی بالفساد بین المتصادقین فطاعته فیما یقول مظنّة وقوع الوحشة بینهما و تضییع کلّ منهما لصاحبه.
اَلْحَجَرُ الْغَصْبُ اَلْغَصِیبُ فِی الدَّارِ رَهْنٌ عَلَی خَرَابِهَا
استعارة استعار لفظ الرهن للحجر المغصوب فی دار الظالم باعتبار کونه سببا لخرابها کما أنّ الرهن سبب لأداء ما علیه من المال و هو کنایة عن مطلق استلزام الظلم
ص:361
لهلاک الظالم و خراب ما یبنیه بظلم و إن تأخّر أمده،و قد عرفت کون الظلم معدّا لذلک.و نحوه قول الرسول صلّی اللّه علیه و آله:اتّقوا الحرام فی البنیان فإنّه أسباب الخراب .
یَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَی الظَّالِمِ- أَشَدُّ مِنْ یَوْمِ الظَّالِمِ عَلَی الْمَظْلُومِ
و أراد بیوم المظلوم یوم القیامة و خصّصه به لأنّه یوم إنصافه و أخذ حقّه و کذلک تخصیص یوم الظالم بوقت ظلمه لأنّه فی الدنیا.
اِتَّقِ اللَّهَ بَعْضَ التُّقَی وَ إِنْ قَلَّ- وَ اجْعَلْ بَیْنَکَ وَ بَیْنَ اللَّهِ سِتْراً وَ إِنْ رَقَّ
أمر بالتقوی لأنّها الزاد إلی اللّه،و لمّا کان الاستکثار منها مستلزما للقرب من اللّه و سرعة الوصول إلیه کان الأولی کثرتها و إلاّ فالبعض منها و إن قلّ لأنّ لها الأقلیّة و الأکثریّة و الأشدیّة و الأضعفیّة و لا یجوز ترک الزاد بالکلیّة فی الطریق الصعبة الطویلة. استعارة و استعار لفظ الستر لحدود اللّه الساترة من عذابه و أمر أن یجعلها بینه و بین اللّه:أی یحفظ حدوده و لا یهتکها فیقع فی مهاوی الهلاک فغلظ الستر شدّة المحافظة علی حدود اللّه و عدم استیفاء المباحات لخوف الوقوع فی الحرام و رقّته باستیفاء الامور الجائزة من المباحات و المکروهات .
إِذَا ازْدَحَمَ الْجَوَابُ خَفِیَ الصَّوَابُ
أی إذا سئل عن مسألة فأجاب جماعة کلّ بما یخطر له فی المسألة أو شخص بعدّة من الأجوبة خفی الصواب فیها لالتباس الحقّ من تلک الأجوبة و أکثر ما یکون ذلک فی المسائل الاجتهادیّة.و ازدحامه:کثرته.
إِنَّ لِلَّهِ فِی کُلِّ نِعْمَةٍ حَقّاً- فَمَنْ أَدَّاهُ زَادَهُ مِنْهَا-
ص:362
وَ مَنْ قَصَّرَ فِیهِ خَاطَرَ بِزَوَالِ نِعْمَتِهِ
حقّ اللّه فی النعمة شکرها الواجب،و أمّا استلزام أدائه للمزید منها و کون التقصیر مظنّة زوالها فلقوله تعالی «لَئِنْ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ» (1)الآیة.و رغّب فی الشکر و نفّر عن الکفران بذکر کون ذلک حقّا للّه.و قد مرّ بیانه مرارا.
إِذَا کَثُرَتِ اَلْمَقْدِرَةُ قَلَّتِ الشَّهْوَةُ
لأنّ قلیل القدرة علی ما یشتهیه لا یزال مستشعر لخوف فواته عند حصوله.
فیکون ذلک الخوف معاقبا للذّته به فلا یزال فی قلبه دغدغة نفسانیّة تحمله علی مشتهاه و تبعث شهوته علیه.أمّا إذا تمّت قدرته علیه فإنّه یأمن فوته و بحسب ذلک یضعف الباعث للشهوة فیقلّ لجاجه علیه و شهوته له.
اِحْذَرُوا نِفَارَ النِّعَمِ فَمَا کُلُّ شَارِدٍ بِمَرْدُودٍ
استعارة استعار لفظ النفار و الشرود لزوال النعم ملاحظة لشبهها بالنعم .و حذّر منه حثّا علی تقییدها بالشکر،و نبّه علی وجوب ذلک الحذر بقوله:فما کلّ.إلی آخره.و هو صغری ضمیر تقدیرها:الشارد جاز أن لا یردّ،و تقدیر کبراه:و کلّما جاز أن لا یردّ لم یجز تنفیره.
اَلْکَرَمُ أَعْطَفُ مِنَ الرَّحِمِ
أی أشدّ عطفا.و یفهم منه أحد معنیین:
الأوّل:أنّ الکریم بکرمه أعطف علی المنعم علیه من ذی الرحم علی ذی رحمه لأنّ عاطفة الکریم طبع و عاطفة ذی الرحم قد یکون تکلّفا و قد لا یکون أصلا.
الثانی:أنّ الکرم یستلزم عاطفة الخلق علی الکریم و محبّتهم له أشدّ من عاطفة ذی الرحم علی رحمه.
ص:363
مَنْ ظَنَّ بِکَ خَیْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ
أی افعل ما ظنّه فیک من خیر،و تصدیق الظنّ مطابقة الواقع الّذی ظنّ وقوعه له بوقوعه.و ذلک حثّ علی فعل الخیر.
أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مَا أَکْرَهْتَ نَفْسَکَ عَلَیْهِ
أراد من الأعمال الصالحة.و أفضلها أنفعها و أکثرها استلزاما للثواب.و إنّما کان کذلک لأنّ فائدة الأعمال الصالحة تطویع النفس الأمّارة للنفس المطمئنّة و ریاضتها بحیث تصیر مؤتمرة للعقل و إکراه النفس علی الأمر یکون لشدّته فکلّما کان أشدّ کان أقوی فی ریاضتها و أنفع فی تطویعها و کسرها و بحسب ذلک یکون أکثر منفعة فکان أفضل،و نحوه من الحدیث قوله صلّی اللّه علیه و آله:أفضل الأعمال أحمزها بالزای المعجمة:أی أشقّها.
عَرَفْتُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ- وَ حَلِّ الْعُقُودِ
أراد معرفة وجوده تعالی.و وجه الاستدلال أنّ الإنسان قد یعزم علی أمر و یعقد ضمیره علی فعله بحسب ما یتصوّره من المنفعة الداعیة إلیه.ثمّ عن قریب ینحلّ ذلک العزم و ینفسخ ذلک العقد لزوال ذلک الداعی أو لخاطر معارض له.
إذا عرفت ذلک فنقول:تلک التغیّرات و الخواطر المتعاقبة المرجّحة لفعل الأمر المعزوم علیه امور ممکنة محتاجة فی طرفی وجودها و عدمها إلی المرجّح و المؤثّر.فمرجّحها إن کان من العبد کان الکلام فیه کالکلام فی الأوّل و لزم الدور أو التسلسل و هما محالان فلا بدّ من الانتهاء إلی اللّه تعالی مقلّب القلوب و الأبصار.
و ذلک هو المطلوب.
ص:364
مَرَارَةُ الدُّنْیَا حَلاَوَةُ الْآخِرَةِ- وَ حَلاَوَةُ الدُّنْیَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ
أی مستلزمة لها. استعارة و استعار لفظی الحلاوة و المرارة للذّة و الألم،و ظاهر أنّ آلام الدنیا اللازمة عن ترک لذّاتها و عدم الالتذاذ بها طلبا للآخرة و شوقا إلی ثوابها مستلزمة لحلاوة الآخرة و لذّاتها،و کذلک الابتهاج للذّات الدنیا یستلزم الغفلة عن الآخرة و ترک العمل لها و ذلک مستلزم لعذابها و مستعقب لشقاوتها .
فَرَضَ اللَّهُ الْإِیمَانَ تَطْهِیراً مِنَ الشِّرْکِ- وَ الصَّلاَةَ تَنْزِیهاً عَنِ الْکِبْرِ- وَ الزَّکَاةَ تَسْبِیباً لِلرِّزْقِ- وَ الصِّیَامَ ابْتِلاَءً لِإِخْلاَصِ الْخَلْقِ- وَ الْحَجَّ تَقْوِیَةًتَقْرِبَةً لِلدِّینِ- وَ الْجِهَادَ عِزّاً لِلْإِسْلاَمِ- وَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَوَامِّ- وَ النَّهْیَ عَنِ الْمُنْکَرِ رَدْعاً لِلسُّفَهَاءِ- وَ صِلَةَ الرَّحِمِ مَنْمَاةً لِلْعَدَدِ- وَ الْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ- وَ إِقَامَةَ الْحُدُودِ إِعْظَاماً لِلْمَحَارِمِ- وَ تَرْکَ شُرْبِ الْخَمْرِ تَحْصِیناً لِلْعَقْلِ- وَ مُجَانَبَةَ السَّرِقَةِ إِیجَاباً لِلْعِفَّةِ- وَ تَرْکَ الزِّنَی اَلزِّنَا تَحْصِیناً لِلنَّسَبِ- وَ تَرْکَ اللِّوَاطِ تَکْثِیراً لِلنَّسْلِ- وَ الشَّهَادَاتِ اسْتِظْهَاراً عَلَی الْمُجَاحَدَاتِ- وَ تَرْکَ الْکَذِبِ تَشْرِیفاً لِلصِّدْقِ- وَ السَّلاَمَ أَمَاناً مِنَ الْمَخَاوِفِ- وَ الْأَمَانَةَ نِظَاماً لِلْأُمَّةِ- وَ الطَّاعَةَ تَعْظِیماً لِلْإِمَامَةِ
أقول:أشار علیه السّلام إلی فرائض اللّه،و نبّه علی عللها الغائیّة فی الحکمة لیکون
ص:365
أوقع لذکرها فی النفوس.و ذکر منها تسع عشرة فریضة:
لأنّه الأصل لجمیع الفرائض و السنن،و جعل من أغراضه التطهیر عن الشرک،و لمّا کان للتطهیر من الشرک غایة مطلوبة للشارع و هی کمال النفس بمعرفة اللّه تعالی کان التطهیر غایة غرضه من الایمان .
و لمّا کان وضعها لتطویع النفس الأمّارة الّتی هی مبدء الکبر للنفس المطمئنّة،و ریاضتها،و قهرها لا جرم کان من غایاتها تنزیه الإنسان عن الکبر .
و ذکر من غایات فرضها کونها سببا للرزق.إذ کان منها رزق الفقراء و المساکین و من عیّنتها الشریعة حقّا له .
و لمّا کان من الشدائد الشاقّة علی الأبدان خصّه بأنّ غایته کونه ابتلاء من اللّه لإخلاص خلقه و إن کانت هذه غایة من کلّ العبادات .
.و إنّما جعل غایته کونه تقویة للدین لأنّه عبادة تستلزم اجتماع أکثر أهل الملّة فی مجمع واحد علی غایة من الذلّة و الخضوع و الانقیاد للّه، و مشاهدة کلّ من الخلق الحاضرین لذلک الجمع العظیم من الملوک و غیرهم فیتأکّد فی قلبه قوّة الدین فی عظمته دون سایر العبادات .
و کون غایته عزّ الإسلام و قوّته ظاهر .
و غایته إصلاح أحوال العوامّ فی معاشهم و معادهم.
و خصّ العوامّ لأنّهم أغلب الخلق،و لأنّ من عداهم هم العلماء و الولاة الآمرون بالمعروف الفاعلون له .
و کون غایته ردع السفهاء ظاهر.لأنّ السفیه ما لم یکن له ردع من سلطان الدین یکثر مفسدته المضادّة لمصلحة العالم .
و من غایتها کونها منماة للعدد:أی عدد اولی الرحم.
إذ زیادة عددهم باستقامة أمر معاشهم.و صلة الرحم سبب لذلک .
و غایته حقن الدماء و الکفّ عن سفکها لخوف المکافاة
ص:366
کقوله تعالی «وَ لَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ» (1)و قولهم:القتل أنفی للقتل .
و غایتها إعظام حرمات محارم اللّه کی لا تنتهک و تنحرف الخلق إلیها عن قصد السبیل فیضیّع غرض الشارع من وضع الدین .
و غایته تحصین العقل من محاصرتها و إشغاله عمّا خلق له من طلب الاستکمال لکمال الحکمة .
و غایتها إیجاب العفّة.إذا السرقة ینشأ عن کمال طاعة الشهوة و العبور فیها إلی حدّ الإفراط و الفجور.فکان من غایات تحریمها وقوف من فی طباعه ذلک علی حدّ العفّة .
و من غایاته حفظ الأنساب و ما یتبعها من المواریث.
فإنّ الزنا یوجب اختلاط الأنساب و ضیاع الأموال الّتی هی قوام الخلق فی الدنیا.
و قد سبق سرّه .
و غایته تکثیر النسل و توفیر مادّته علی محالّه لغایة کثرة النوع و بقائه .
و غایتها استظهار المستشهد علی مجاهدة خصمه کی لا یضیّع لو لم یکن بینهما شاهد .
و من غایاته تشریف الصدق و تعظیمه بتحریم ضدّه لبناء مصلحة العالم علیه و نظام امور الخلق به.و قد سبق بیان مفاسد الکذب الموجب لتحریمه .
و من غایاته الأمن من مخاوف الدنیا لصولة الإسلام علی سائر الأدیان،و من مخاوف الآخرة و هو ظاهر.و روی:السّلام.و لمّا کان سببا للتودّد إلی الخلق کان أمنا من مخاوفهم .
و غایة فرضها کونها نظاما لأمر الامّة.إذا الخلق متی
ص:367
کان لهم رئیس منبسط الید قویّ الشوکة یردع الظالم عن ظلمه و یأخذ للمظلوم بحقّه کان بذلک صلاح أحوالهم و نظام امورهم فی معاشهم و معادهم،و لا کذلک إذا لم یکن مثل ذلک الرئیس .
الإمام لغایة امتثال الخلق لقوله،و الاقتداء به.و قد سبقت الإشارة إلی أسرار کثیر من هذه الفرائض مفصّلة.
یقول: أَحْلِفُوا الظَّالِمَ إِذَا أَرَدْتُمْ یَمِینَهُ- بِأَنَّهُ بَرِیءٌ مِنْ حَوْلِ اللَّهِ وَ قُوَّتِهِ- فَإِنَّهُ إِذَا حَلَفَ بِهَا کَاذِباً عُوجِلَ- الْعُقُوبَةَوَ إِذَا حَلَفَ بِ «اللّهُ الَّذِی لا إِلهَ إِلاّ هُوَ» لَمْ یُعَاجَلْ- لِأَنَّهُ قَدْ وَحَّدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَی
قد یری المجتهد تأکید الیمین بمثل ما ذکر علیه السّلام لغایة نکول الکاذب عنها و أداء الحقّ،و ذلک أنّ نفس الکاذب ینفعل عن مثل هذا اللفظ لعلمه بظلمه و توهّمه تصدیق اللّه تعالی و مطابقته لقوله بفعل المدعوّ به بخلاف الیمین المعتادة فیستعدّ بذلک لمعاجلته بالعقوبة.و روی أنّ واشیا سعی بالصادق علیه السّلام إلی المنصور فاستحضره و قال:إنّ فلانا ذکر عنک کذا و کذا.فقال علیه السّلام:لم یکن ذلک منّی.و أبی الساعی إلاّ کونه منه.فحلّفه الصادق بالبراءة من حول اللّه و قوّته إن کان کاذبا.فحلف.فما انقطع کلامه حتّی أصیب بالفالج فصار کقطعة لحم فجرّ برجله.
و نجا الصادق منه.
یَا ابْنَ آدَمَ کُنْ وَصِیَّ نَفْسِکَ- فِی مَالِکَ وَ اعْمَلْ فِیهِ مَا تُؤْثِرُ أَنْ یُعْمَلَ فِیهِ مِنْ بَعْدِکَ
أی کما توصی من بعدک أن یوضع مالک موضع القربات و انتفاع أهلک به فکن أنت ذلک الوصیّ وضعه تلک المواضع فی حیاتک.و هو حثّ علی بذل المال فی وجهه،
ص:368
اَلْحِدَّةُ ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ- لِأَنَّ صَاحِبَهَا یَنْدَمُ- فَإِنْ لَمْ یَنْدَمْ فَجُنُونُهُ مُسْتَحْکِمٌ
لمّا کان الجنون حالة مخصوصة تعرض للإنسان بسبب خروج القوی النفسانیّة عن قبول تصرّف العقل إلی طرفی الإفراط و التفریط کانت الحدّة خروج قوّة الغضب عن ضبط العقل لها علی قانون العدل الإلهیّ إلی طرف الإفراط کانت قسما من الجنون و ینفصل الحدّة بالرجوع فی الغضب إلی طاعة العقل.
صِحَّةُ الْجَسَدِ مِنْ قِلَّةِ الْحَسَدِ
أی أنّ الحسد قد یکون أیضا بالصحّة کما یکون بغیرها فیفعل فیها و ذلک هو الحسد البالغ.فکانت صحّة الجسد دلیلا علی أقلیّة الحسد إذ لم یتعلّق بها.
یَا؟کُمَیْلُ؟ مُرْ أَهْلَکَ أَنْ یَرُوحُوا فِی کَسْبِ الْمَکَارِمِ- وَ یُدْلِجُوا فِی حَاجَةِ مَنْ هُوَ نَائِمٌ- فَوَالَّذِی وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ- مَا مِنْ أَحَدٍ أَوْدَعَ قَلْباً سُرُوراً- إِلاَّ وَ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِکَ السُّرُورِ لُطْفاً- فَإِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَائِبَةٌ جَرَی إِلَیْهَا کَالْمَاءِ فِی انْحِدَارِهِ- حَتَّی یَطْرُدَهَا عَنْهُ کَمَا تُطْرَدُ غَرِیبَةُ الْإِبِلِ
الإدلاج : السیر باللیل .و النائبة : المصیبة
، تشبیه و أراد أنّ إدخال السرور علی قلب ذی الحاجة بقضائها یجعله اللّه سببا یلطف به لقاضی الحاجة و یقیه بها من مصیبة تعرض له،و یشبه أن یکون ذلک اللطف هو إخلاص ذی الحاجة و متعلّقیه فی إمداده و معونته بدعاء اللّه له و شکره و ثنائه و استجلاب قلوب الخلق بذلک له و کلّ ذلک لطف یعدّه اللّه لوقایته له و طرد المصائب عنه،و شبّه جری ذلک اللطف إلی دفع المکروه عنه بجری الماء فی انحداره ،و وجه الشبه سرعة الانحدار للدفع و الحفظ
ص:369
لأنّه من أمر اللّه.و ما أمرنا إلاّ واحدة کلمح بالبصر،و کذلک دفع ذلک اللطف للنائبة بطرد غریبة الإبل ،و وجه الشبه شدّة الطرد و الإبعاد،و باقی الفصل ظاهر .
إِذَا أَمْلَقْتُمْ فَتَاجِرُوا اللَّهَ بِالصَّدَقَةِ
و الإملاق : الفقر .
استعارة و قد مرّ أنّ الصدقة تعدّ للمزید من فضل اللّه.فأمر الفقراء أن یتصدّقوا بما عساه یقع فی أیدیهم و لو بشقّ تمرة لیستعدّوا بذلک لإفاضة فضل اللّه،و رغّبهم فی ذلک بذکر التجارة و هی استعارة لاستعاضة ما یحصل عمّا یبذل.و الفقراء أولی باستجلاب الرزق بالصدقة من الأغنیاء لانفعال القلوب لهم و رقّتها علیهم و لما یسبق إلی أذهان الخلق أنّ ذلک منهم عن إخلاص دون الأغنیاء .
اَلْوَفَاءُ لِأَهْلِ الْغَدْرِ غَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ- وَ الْغَدْرُ بِأَهْلِ الْغَدْرِ وَفَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ
و ذلک أنّ من عهد اللّه فی دینه الغدر و عدم الوفاء لهم إذا غدروا لقوله تعالی «وَ إِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِیانَةً فَانْبِذْ إِلَیْهِمْ عَلی سَواءٍ إِنَّ اللّهَ لا یُحِبُّ الْخائِنِینَ» (1)قیل نزلت فی یهود بنی قینقاع و کان بینهم و بین الرسول صلّی اللّه علیه و آله عهد فعزموا علی نقضه فأخبره اللّه تعالی بذلک و أمره بحربهم و مجازاتهم بنقض عهدهم فکان الوفاء لهم غدرا بعهد اللّه.و الغدر بهم إذا غدروا وفاء بعهد اللّه.
المحتاج إلی التفسیر
فَإِذَا کَانَ ذَلِکَ ضَرَبَ یَعْسُوبُ الدِّینِ بِذَنَبِهِ- فَیَجْتَمِعُونَ إِلَیْهِ کَمَا یَجْتَمِعُ
ص:370
قَزَعُ الْخَرِیفِ قال الرضی:الیعسوب:السید العظیم المالک لأمور الناس یومئذ، و القزع:قطع الغیم التی لا ماء فیها.
استعارة أقول:أومیء بقوله ذلک إلی علامات ذکرها فی آخر الزمان لظهور صاحب الأمر،و استعار له لفظ الیعسوب و هو فی الأصل أمیر النحل ملاحظة لشبهه به استعارة-کنایة فأمّا ضربه بذنبه فقیل فیه أقوال:
أحدها:أنّ الضرب هو السیر فی الأرض،و ذنبه استعارة فی أعوانه و أتباعه.
و الباء للاستصحاب.
الثانی:لمّا کان ضرب النحل بذنبه لسعه کنّی بذلک عن نصب سیوفه و سهامه فی أعدائه لقتلهم و أذاهم.
الثالث:أنّه کنایة عن ثورانه و غضبه لدین اللّه ملاحظة لشبهه بالسبع حال صولته و غضبه،و هذا الوجه أشبه الثلاثة .
تشبیه و شبّه اجتماع المؤمنین و أهل طاعة اللّه باجتماع قطع الغیم المتفرّقة .و وجه الشبه سرعة الاجتماع لأنّ قزع الخریف سریع التألیف .
هَذَا الْخَطِیبُ الشَّحْشَحُ
یرید الماهر بالخطبة الماضی فیها،و کلّ ماض فی کلام أو سیر فهو شحشح، و الشحشح فی غیر هذا الموضع:البخیل الممسک.
یروی أنّه رأی خطیبا یخطب فقال:ما هذا الخطیب الشحشح:أی الماهر فی خطبته.
ص:371
إِنَّ لِلْخُصُومَةِ قُحَماً
یرید بالقحم المهالک،لأنّها تقحم أصحابها فی المهالک و المتالف فی الأکثر، و من ذلک«قحمة الأعراب»و هو أن تصیبهم السنة فتتعرق أموالهم فذلک تقحمها فیهم.و قیل فیه وجه آخر،و هو أنها تقحمهم بلاد الریف،أی:
تحوجهم إلی دخول الحضر عند محول البدو.
هذا ما قاله السید-رحمه اللّه-و أقول:یروی أنّه علیه السّلام و کلّ أخاه فی خصومة،و قال:إنّ لها لقحما و إنّ الشیطان یحضرها.و القحم:المهالک.و ذلک أنّها مظنّة ثوران الفتنة الغضبیّة و الخروج عن حدّ العدل فیها إلی رذیلة الإفراط الّتی هی مظنّة الهلاک.
إِذَا بَلَغَ النِّسَاءُ نَصَّ الْحِقَاقِ فَالْعَصَبَةُ أَوْلَی
تشبیه-استعارة و النص :منتهی الأشیاء و مبلغ أقصاها کالنص فی السیر لأنه أقصی ما تقدر علیه الدابة.و تقول:نصصت الرجل عن الأمر،إذا استقصیت مسألته عنه لتستخرج ما عنده فیه.فنص الحقاق یرید به الادراک لأنه منتهی الصغر و الوقت الذی یخرج منه الصغیر إلی حد الکبیر،و هو من أفصح الکنایات عن هذا الأمر و أغربها.یقول،فاذا بلغ النساء ذلک فالعصبة أولی بالمرأة من أمها إذا کانوا محرما مثل الأخوة و الأعمام،و بتزویجها إن أرادوا ذلک و الحقاق محاقة الأم للعصبة فی المرأة و هو الجدال و الخصومة و قول کل واحد منهما للآخر«أنا أحق منک بهذا»یقال منه:حاققته حقاقا،مثل جادلته
ص:372
جدالا.و قد قیل:إن«نص الحقاق»بلوغ العقل،و هو الادراک،لأنه علیه السّلام إنما أراد منتهی الأمر الذی تجب فیه الحقوق و الأحکام،و من رواه«نص الحقائق»فانما أراد جمع حقیقة.
هذا معنی ما ذکره أبو عبید[القاسم بن سلام]و الذی عندی أن المراد بنص الحقاق ههنا بلوغ المرأة إلی الحد الذی یجوز فیه تزویجها و تصرفها فی حقوقها،تشبیها بالحقاق من الابل،و هی جمع حقة و حق،و هو الذی استکمل ثلاث سنین و دخل فی الرابعة،و عند ذلک یبلغ إلی الحد الذی یتمکن فیه من رکوب ظهره،و نصه فی السیر،و الحقائق أیضا:جمع حقة.فالروایتان جمیعا ترجعان إلی معنی واحد،و هذا أشبه بطریقة العرب من المعنی المذکور و أقول:الّذی ذکره السیّد أنسب إلی کلام العرب کما قال.غیر أنّ نصّ الحقاق استعارة لا تشبیه و إن کانت الاستعارة تعتمد التشبیه.و العصبة:بنو الرجل و قرابته لأبیه سمّوا بذلک لأنّهم عصبوا به و علّقوا علیه.و قیل:یحتمل أن یراد بالنصّ الارتفاع.یقال:نصّت الضبّة رأسها:إذا رفعته،و منه منصّة العروس لارتفاعها علیها.و تکون قد استعار لفظ الحقاق لأثداء الصغیرة إذ انهدت و ارتفعت لشبهها بالحقة صورة:أی إذا بلغن حدّ ارتفاع أثدائهنّ کانت العصبة أولی بهنّ من الامّ لأنّه وقت إدراکهنّ و علامة صلاحیّتهنّ للتزویج .
إِنَّ الْإِیمَانَ یَبْدُو لُمْظَةً فِی الْقَلْبِ- کُلَّمَا ازْدَادَ الْإِیمَانُ ازْدَادَتِ اللُّمْظَةُ و اللمظة مثل النکتة أو نحوها من البیاض.و منه قیل:فرس ألمظ،إذا کان بجحفلته شیء من البیاض.
ص:373
و أقول:أراد أنّ الإیمان و هو التصدیق بوجود الصانع تعالی أوّل ما یکون فی النفس یکون حالة ثمّ لا یزال یتأکّد بالبراهین و الأعمال الصالحة إلی أن یصیر ملکة تامّة، استعارة و لفظ اللمظة استعارة لما یبدو من نور الإیمان فی النفس أوّل کونه ملاحظة لشبهه باللمظة من البیاض و النکتة من نور الشمس .و نصب لمظة علی التمییز.
و الجحفلة من الفرس هی المسمّاة من الإنسان شفة.
إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا کَانَ لَهُ الدَّیْنُ الظَّنُونُ- یَجِبُ عَلَیْهِ أَنْ یُزَکِّیَهُ لِمَا مَضَی إِذَا قَبَضَهُ
فالظنون الذی لا یعلم صاحبه أیقضیه من الذی هو علیه أم لا،فکانه الذی یظن به فمرة یرجوه و مرة لا یرجوه.و هذا من أفصح الکلام،و کذلک کل أمر تطلبه و لا تدری علی أی شیء أنت منه فهو ظنون و علی ذلک قول الأعشی ما یجعل الجد الظّنون الّذی جنّب صوب اللّجب الماطر
مثل الفراتیّ إذا ما طاما یقذف بالبوصی و الماهر
و الجد:البئر و الظنون:التی لا یعلم هل فیها ماء أم لا.
قیل:یقول علیه السّلام:إذا کان لک مثلا عشرون دینارا دینا علی رجل،و قد أخذها منک و وضعها کما هی من غیر تصرّف فیها و أنت تظنّ إن استرددتها منه ردّها إلیک فإذا مضی علیها أحد عشر شهرا و استهلّ هلال الثانی عشر وجبت زکاتها علیک.و اللجب فی قول الأعشی هو السحاب المصوّت ذو الرعد.و أراد بالفراتیّ الفرات،و الیاء للتأکید کقولهم:و الدهر بالإنسان دواریّ:أی دوّار.و یحتمل أن یرید نهر الفراتیّ.و البوصیّ:ضرب من صغار السفن.و الماهر:السابح،و مراده أنّه لا یقاس البئر الّذی یتشکّک هل فیه ماء أم لا لبعده بالفرات إذا ماطما.و هو کالمثل لعدم مساواة البخیل للکریم.
ص:374
أنَّهُ شَیَّعَ جَیْشاً یُغْزِیهِ بِغَزْیَةٍ فَقَالَ اعْذِبُوا عَنِ النِّسَاءِ مَا اسْتَطَعْتُمْ
و معناه اصدفوا عن ذکر النساء و شغل القلب بهن،و امتنعوا من المقاربة لهن،لأن ذلک یفت فی عضد الحمیة و یقدح فی معاقد العزیمة، و یکسر عن العدو،و یلفت عن الابعاد فی الغزو،و کل من امتنع من شیء فقد أعذب عنه.و العاذب و العذوب:الممتنع من الأکل و الشرب.
قوله:یفتّ فی عضد الحمیّة کنایة عن کسرها.
کَالْیَاسِرِ الْفَالِجِ یَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ
الیاسرون:هم الذین یتضاربون بالقداح علی الجزور،و الفالج:القاهر و الغالب،یقال:فلج علیهم و فلجهم،و قال الراجز:
{ لما رأیت فالجا قد فلجا }
و أقول:قد مرّ شرحه فی قوله:أمّا بعد فإنّ الأمر ینزل من السماء إلی الأرض کقطر المطر.
کُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَیْنَا؟بِرَسُولِ اللَّهِ؟- ص فَلَمْ یَکُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَی الْعَدُوِّ مِنْهُ
و معنی ذلک أنّه إذا عظم الخوف من العدو و اشتد عضاض الحرب
ص:375
فزع المسلمون إلی قتال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله.
و قوله«إذا احمر الباس»کنایة عن اشتداد الأمر،و قد قیل فی ذلک أقوال أحسنها:أنه شبه حمی الحرب بالنار التی تجمع الحرارة و الحمرة بفعلها و لونها،و مما یقوی ذلک قول رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلم و قد رای مجتلد الناس یوم حنین و هی حرب هوازن:«الآن حمی الوطیس» فالوطیس:مستوقد النار،فشبه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلم ما استحر من جلاد القوم باحتدام النار و شدة التهابها.
استعارة و أقول:استعار وصف احمرار البأس لشدّته ملاحظة لشبهه بالنار الموقدة .
و قد مرّ مثل ذلک فی بعض کتبه علیه السّلام.
لما بلغه إغارة أصحاب معاویة علی الأنبار:
فخرج بنفسه ماشیا حتی أتی النخیلة فأدرکه الناس،و قالوا:یا أمیر المؤمنین، نحن نکفیکهم،فقال:مَا تَکْفُونَنِی أَنْفُسَکُمْ- فَکَیْفَ تَکْفُونَنِی غَیْرَکُمْ- إِنْ کَانَتِ الرَّعَایَا قَبْلِی لَتَشْکُو حَیْفَ رُعَاتِهَا- وَ إِنَّنِی فَإِنِّی الْیَوْمَ لَأَشْکُو حَیْفَ رَعِیَّتِی- کَأَنَّنِی الْمَقُودُ وَ هُمُ الْقَادَةُ- أَوِ الْمَوْزُوعُ وَ هُمُ الْوَزَعَةُ
فلما قال علیه السّلام هذا القول فی کلام طویل قد ذکرنا مختاره فی جملة الخطب،تقدم إلیه رجلان من أصحابه فقال أحدهما:إنی لا أملک إلا نفسی و أخی فمر بأمرک یا أمیر المؤمنین ننقد له فقال علیه السّلام: وَ أَیْنَ تَقَعَانِ مِمَّا أُرِیدُ أقول:هذا الفصل قد مرّ مشروحا فی الخطب.
ص:376
و قیل إن الحارث بن حوت أتاه علیه السّلام فقال:أ ترانی أظن أصحاب الجمل کانوا علی ضلالة؟.
فقال علیه السّلام:یَا؟حَارِثُ؟إِنَّکَ نَظَرْتَ تَحْتَکَ وَ لَمْ تَنْظُرْ فَوْقَکَ فَحِرْتَ إِنَّکَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ أَهْلَهُ- وَ لَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ فقال الحارث:فإنی أعتزل مع سعد بن مالک و عبد اللّه بن عمر؟فقال علیه السّلام:
إِنَّ؟سَعْداً؟؟سَعِیداً؟وَ؟عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ؟ لَمْ یَنْصُرَا الْحَقَّ- وَ لَمْ یَخْذُلاَ الْبَاطِلَ قوله أ ترانی .استفهام إنکار لرؤیته کذلک.و رخّم حارث فی بعض النسخ .و قیل فی قوله: إنّک نظرت تحتک و لم تنظر فوقک :أی نظرت فی أعمال الناکثین من أصحاب الجمل المتمسّکین بظاهر الإسلام الّذینهم دونک فی المرتبة لبغیهم علی إمام الحقّ فاغتررت بشبهتهم و اقتدیت بهم و لم تنظر إلی من هو فوقک و هو إمامک الواجب الطاعة و من معه من المهاجرین و الأنصار و لا سمعت حکمهم بکون خصومهم علی الباطل فکان ذلک سبب حیرتک.و یحتمل أن یکون نظره تحته کنایة عن نظره إلی باطل هؤلاء و شبهتهم المکتسبة عن محبّة الدنیا الّتی هی الجنبة السافلة، کنایة و نظره فوقه کنایة عن نظره إلی الحقّ و تلقّیه من اللّه .
و قوله: إنّک :إلی آخره.
تفصیل لسبب حیرته و هو عدم معرفته للحقّ و الباطل المستلزم لجهله بأهلهما و لو عرفهما لجزم باتّباع الحقّ و اجتناب الباطل و هو فی قوّة صغری ضمیر تقدیر کبراه:کلّ من کان کذلک وقع فی الحیرة و الضلال.و سعد بن مالک هو سعد بن أبی وقاص فإنّه لمّا قتل عثمان اشتری أغناما و انتقل إلی البادیة و کان یتعیّش بتلک الأغنام حتّی مات و لم یشهد بیعة علیّ علیه السّلام.و أمّا عبد اللّه بن عمر فالتجأ
ص:377
إلی أخته حفصة زوجة النبیّ صلّی اللّه علیه و آله بعد ما بایع لأمیر المؤمنین علیه السّلام و لکنّه لم یشهد معه حرب الجمل،و قال:قد أعجزتنی العبادة عن الفروسة و المحاربة فلست مع علیّ و لا مع أعدائه .فأمّا قوله فی جوابه: إنّ سعدا ،إلی آخره فهو صغری ضمیر نبّه فیه علی أنّه لا یجوز له متابعتهما فی الاعتزال و هی من المخیّلات المنفّرة الّتی فی صورة الذمّ و إن کانت صادقة.و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فلا یجوز متابعته.
صَاحِبُ السُّلْطَانِ کَرَاکِبِ الْأَسَدِ- یُغْبَطُ بِمَوْقِعِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِهِ
تشبیه أی یتمنّی موقعه و هو یعلم أنّه فی غایة من المخاطرة بالنفس و التغریر بها، و ذلک هو وحه الشبه براکب الأسد .
أَحْسِنُوا فِی عَقِبِ غَیْرِکُمْ تُحْفَظُوا فِی عَقِبِکُمْ
العقب من یخلفه الإنسان من الولد و أولادهم.و إنّما کان کذلک لأنّ المجازاة واجبة فی الطبیعیة و لأنّ الذکر الجمیل بذلک یعطف الناس علی عقب المحسن من بعده.
إِنَّ کَلاَمَ الْحُکَمَاءِ إِذَا کَانَ صَوَاباً کَانَ دَوَاءً- وَ إِذَا کَانَ خَطَأً کَانَ دَاءً
و ذلک لقوّة اعتقاد الخلق فیهم و شدّة قبولهم لما یقولونه فإن کان حقّا کان دواء من الجهل و إن کان باطلا أوجب للخلق داء الجهل.و لذلک قیل:زلّة العالم زلّة العالم.
ص:378
إِذَا کَانَ غَدٌ الْغَدُ- فَأْتِنِی حَتَّی أُخْبِرَکَ عَلَی أَسْمَاعِ النَّاسِ- فَإِنْ نَسِیتَ مَقَالَتِی حَفِظَهَا عَلَیْکَ غَیْرُکَ- فَإِنَّ الْکَلاَمَ کَالشَّارِدَةِ یَثْقَفُهَا هَذَا وَ یُخْطِئُهَا هَذَا
تشبیه و قد ذکرنا ما أجابه به فیما تقدم من هذا الباب و هو قوله«الایمان علی أربع شعب».
وجه تشبیه الکلام بالشاردة من الابل قوله:ینقفها:أی یجدها فی ضلالها.إلی آخره.و الفصل ظاهر .
یَا ابْنَ آدَمَ لاَ تَحْمِلْ هَمَّ یَوْمِکَ الَّذِی لَمْ یَأْتِکَ عَلَی یَوْمِکَ الَّذِی قَدْأَتَاکَ- فَإِنَّهُ إِنْ یَکُ یَکُنْ مِنْ عُمُرِکَ یَأْتِ اللَّهُ فِیهِ بِرِزْقِکَ
أی ینبغی أن یکون الاهتمام بحاجة کلّ یوم مخصوصا بذلک الیوم.و الکلمة صغری ضمیر نبّه به علی ترک الاهتمام بما لم یأته من الأیّام،و تقدیر الکبری:و کلّما کان کذلک فلا ینبغی الاهتمام له.
أَحْبِبْ حَبِیبَکَ هَوْناً مَا- عَسَی أَنْ یَکُونَ بَغِیضَکَ یَوْماً مَا- وَ أَبْغِضْ بَغِیضَکَ هَوْناً مَا- عَسَی أَنْ یَکُونَ حَبِیبَکَ یَوْماً مَا
فایدة هذه الکلمة الأمر بالاعتدال فی المحبّة و البغض و عدم الإفراط فیهما لما فی الإفراط من المفسدة.و الهون:السکینة و الوقار و هو صفة مصدر محذوف:
أی حبّا هیّنا معتدلا.و-ما-فی الموضعین یفید شیئا ما فی الهون و الیوم،و إنّ الغرض منه مقدار دون الإفراط و وقت من الأوقات و إن لم یکن معیّنا.و نبّه علی سرّ ذلک بقوله:عسی.فی الموضعین و هما صغریا ضمیرین أمّا مفسدة إفراط المحبّة فلاستلزامه
ص:379
اطّلاع المحبّ لمحبوبه علی أسراره و توقیفه علی أحواله فربّما ینقلب بعد ذلک عدوّا له فیکون أقدر علی هلاکه من غیره من الأعداء ،و کذلک مفسدة إفراط البغض و هو عدم الإبقاء علی المبغوض و ذلک یستلزم دوام المعاداة.فالاعتدال فی ذلک أولی لأنّه ربّما عاد العدوّ إلی الصداقة فکان المبغض قد أبقی للصداقة موضعا،و تقدیر کبری الأوّل:و کلّ حبیب جاز أن یکون عدوّا فی وقت ما فینبغی أن لا یفرط فی محبّته.و تقدیر کبری الثانی:و کلّ عدوّ جاز أن یکون صدیقا یوما ما فینبغی أن لا یفرط فی بغضه.
اَلنَّاسُ فِی الدُّنْیَا عَامِلاَنِ- عَامِلٌ عَمِلَ فِی الدُّنْیَا لِلدُّنْیَا- قَدْ شَغَلَتْهُ دُنْیَاهُ عَنْ آخِرَتِهِ- یَخْشَی عَلَی مَنْ یَخْلُفُهُ الْفَقْرَ وَ یَأْمَنُهُ عَلَی نَفْسِهِ- فَیُفْنِی عُمُرَهُ فِی مَنْفَعَةِ غَیْرِهِ- وَ عَامِلٌ عَمِلَ فِی الدُّنْیَا لِمَا بَعْدَهَا- فَجَاءَهُ الَّذِی لَهُ مِنَ الدُّنْیَا بِغَیْرِ عَمَلٍ- فَأَحْرَزَ الْحَظَّیْنِ مَعاً وَ مَلَکَ الدَّارَیْنِ جَمِیعاً- فَأَصْبَحَ وَجِیهاً عِنْدَ اللَّهِ- لاَ یَسْأَلُ اللَّهَ حَاجَةً فَیَمْنَعُهُ
لمّا کان العمل فی هذه الحیاة لا بدّ منه فعمل العاقل إمّا لها أو لغیرها و غیرها هو الآخرة فإذن الناس عاملان،و أشار إلی الأوّل فی معرض ذمّه بقوله: قد شغلته دنیاه .إلی قوله: غیره ،و معنی ذلک أنّه یشتغل بتحصیل الدنیا خوف الفقر علی ولده من بعده فیفنی عمره فی منفعة یتخیّلها لغیره و لا یخشی الفقر الأکبر فی الآخرة من الخیرات الباقیة علی نفسه.و ذلک ضلال مبین .و أشار إلی الثانی فی معرض مدحه بقوله: و عامل .إلی قوله: فجاءه الّذی له من الدنیا :أی المکتوب له فی اللوح المحفوظ من رزق و نحوه.
و قوله: بغیر عمل .
أی للدنیا لأنّ العمل بقدر الضرورة من الدنیا لیس من العمل لها بل للآخرة
ص:380
و هو مقصود من الدنیا بالعرض،و بذلک یحرز حظّیه من الدنیا و الآخرة،و یکون فی الدنیا ملکا بقناعته و فی الآخرة بثمرة أعماله و وجاهته عند اللّه و علوّ منزلته فی استعداده بطاعته المستلزم لقبول دعوته و إجابتها فیما سأل.
و روی أنه ذکر عند عمر بن الخطاب فی أیامه حلی الکعبة و کثرته،فقال قوم:لو أخذته فجهزت به جیوش المسلمین کان أعظم للأجر و ما تصنع الکعبة بالحلی؟فهم عمر بذلک،و سأل أمیر المؤمنین علیه السّلام فقال علیه السّلام:
إِنَّ هَذَا؟الْقُرْآنَ؟ أُنْزِلَ عَلَی؟النَّبِیِّ ص؟ وَ الْأَمْوَالُ أَرْبَعَةٌ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِینَ- فَقَسَّمَهَا بَیْنَ الْوَرَثَةِ فِی الْفَرَائِضِ- وَ الْفَیْءُ فَقَسَّمَهُ عَلَی مُسْتَحِقِّیهِ- وَاَلْخُمُسُ اَلْخُمْسُ فَوَضَعَهُ اللَّهُ حَیْثُ وَضَعَهُ- وَ الصَّدَقَاتُ فَجَعَلَهَا اللَّهُ حَیْثُ جَعَلَهَا- وَ کَانَ حَلْیُ؟الْکَعْبَةِ؟ فِیهَا یَوْمَئِذٍ- فَتَرَکَهُ اللَّهُ عَلَی حَالِهِ- وَ لَمْ یَتْرُکْهُ نِسْیَاناً وَ لَمْ یَخْفَ عَلَیْهِ عَنْهُ مَکَاناً- فَأَقِرَّهُ حَیْثُ أَقَرَّهُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ فقال له عمر:لولاک لافتضحنا،و ترک الحلی بحاله.
القصّة مشهورة و خلاصة حجّته علیه السّلام ضمیر أشار إلی صغراه و تقدیرها:
أنّ حلی الکعبة قد أقرّه اللّه علی حاله و رسوله من غیر نسیان له و لا جهل بمکانه مع تعرّضه لجمیع الأموال.و تقدیر الکبری:و کلّما أقرّه اللّه و رسوله علی حاله وجب الاقتداء بهما فی إقراره.و لذلک أمره بصورة النتیجة و هو قوله:فأقرّه اللّه و رسوله.و نسیانا نصب علی الحال،و مکانا علی التمیز.
و روی انّه علیه السّلام رفع إلیه رجلان سرقا من مال اللّه:
أحدهما عبد من مال اللّه،و الآخر من عرض الناس فقال علیه السّلام:
ص:381
أَمَّا هَذَا فَهُوَ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَ لاَ حَدَّ عَلَیْهِ- مَالُ اللَّهِ أَکَلَ بَعْضُهُ بَعْضاً- وَ أَمَّا الْآخَرُ فَعَلَیْهِ الْحَدُّ الشَّدِیدُ فَقَطَعَ یَدَهُ
عرض الناس سایرهم و عامّتهم.و احتجّ للعبد بضمیر صغراه قوله:فهو مال اللّه أکل بعضه بعضا.و تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فلا قطع علیه.و أمّا المقطوع فإنّه قد کان سرق نصابا من مال الغنیمة من حرز و لم یکن له نصیب منها،و أمّا إن کان له نصیب فإن کان المسروق فوق نصیبه نصابا قطع و إلاّ فلا.
لَوْ قَدِ اسْتَوَتْ قَدَمَایَ مِنْ هَذِهِ الْمَدَاحِضِ لَغَیَّرْتُ أَشْیَاءَ
المداحض : المزالق .
کنایة و استواء قدمیه کنایة عن ثباته و تمکّنه من إجراء الأحکام الشرعیّة علی وجوهها فی المسائل الاجتهادیّة المشکلة الّتی یخفی حکم الشرع فیها علی غیره،و ذلک أنّه فی خلافته لم یتمکّن من تغییر شیء من أحکام الخلفاء قبله و کان له فی بعضها رأی غیر ما رأوه . استعارة و استعار لتلک المسائل لفظ المداحض باعتبار أنّها مزالق أقدام العقول و مزالّها .و أومیء بقوله:لغیّرت أشیاء.إلی ما کان یری فساده من أحکام غیره فی تلک المسائل و أنّ أقدام عقولهم قد زلقت فیها عن سواء الصراط.
اِعْلَمُوا عِلْماً یَقِیناً أَنَّ اللَّهَ لَمْ یَجْعَلْ لِلْعَبْدِ- وَ إِنْ عَظُمَتْ حِیلَتُهُ وَ اشْتَدَّتْ طَلِبَتُهُ- وَ قَوِیَتْ مَکِیدَتُهُ- أَکْثَرَ مِمَّا سُمِّیَ لَهُ فِی الذِّکْرِ الْحَکِیمِ- وَ لَمْ یَحُلْ بَیْنَ الْعَبْدِ فِی ضَعْفِهِ وَ قِلَّةِ حِیلَتِهِ- وَ بَیْنَ أَنْ یَبْلُغَ مَا سُمِّیَ لَهُ فِی الذِّکْرِ الْحَکِیمِ- وَ الْعَارِفُ لِهَذَا الْعَامِلُ بِهِ- أَعْظَمُ النَّاسِ رَاحَةً
ص:382
فِی مَنْفَعَةٍ- وَ التَّارِکُ لَهُ الشَّاکُّ فِیهِ- أَعْظَمُ النَّاسِ شُغُلاًشُغْلاً فِی مَضَرَّةٍ- وَ رُبَّ مُنْعَمٍ عَلَیْهِ مُسْتَدْرَجٌ بِالنُّعْمَی- وَ رُبَّ مُبْتَلًی مَصْنُوعٌ لَهُ بِالْبَلْوَی- فَزِدْ أَیُّهَا الْمُسْتَمِعُ فِی شُکْرِکَ- وَ قَصِّرْ مِنْ عَجَلَتِکَ- وَ قِفْ عِنْدَ مُنْتَهَی رِزْقِکَ
و فی هذا الفصل لطایف.لمّا قام البرهان علی أنّ ما علم اللّه تعالی وجوده فهو واجب الوقوع و ما علم عدمه فهو ممتنع الوقوع لا جرم لم یکن لکلّ من القویّ و الضعیف من الرزق و نحوه إلاّ ما علم اللّه تعالی وصوله إلیه بقلم القضاء الإلهیّ فی الذکر الحکیم و اللوح المحفوظ و لم یبلغ عظیم الحیلة قویّ المکیدة بحیلته أکثر ممّا سمّی له،و لا قصر الضعیف بضعفه عن بلوغ ما سمّی له.و لأجل ثبوت ذلک بالبرهان أمرهم بتیقّنه،و رغّبهم فی علمه و العمل به بضمیر صغراه قوله :و العارف.إلی قوله:
فی منفعة.أمّا راحته فلعلمه أنّ ما کتب له لابدّ أن یصل إلیه فیترک لذلک شدّة الاهتمام به و الکدح له،و لمّا کانت راحته قلبیّة و بدنیّة کانت أعظم الراحات، و لمّا کانت مع منفعة بما یصل إلیه تأکّد شرفها.و کذلک نفّر عن الشکّ فی ذلک و ترک العمل به بقوله:و التارک لهذا الشاکّ فیه.إلی آخره.و هو ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فلا ینبغی له الشکّ فیه و ترکه،و إنّما کان أعظم الناس شغلا لأنّه شغل قلبه و بدنه فیما لا فایدة فیه فیلزمه مضرّة خالصة.
فإن قلت:فهذا ینافی الأمر بالدعاء و بالسعی فی طلب الرزق کقوله تعالی «فَانْتَشِرُوا فِی الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ» (1)و نحوه.
قلت:قد بیّنا أنّه لا ینافی،و ذکرنا سرّ الدعا و فایدته.و حاصله أنّه قد یکون الدعا سببا لوجود الرزق فیعلم اللّه تعالی وجوده بواسطة سببه و لا تنافی بینهما .
الثانیة:نبّه أهل النعمة و الغنی و أهل الابتلاء علی وجوب شکر اللّه تعالی علی حالیهما أمّا أهل النعمة فنبّههم بأنّ نعمتهم قد یکون استدراجا لهم لیشکروا اللّه
ص:383
علیها کیلا یستدرجهم بها،و أمّا أهل البلوی فنبّههم بأن بلواهم قد یکون صنعا من اللّه فی حقّهم لیعدّهم بها لثوابه الجزیل فیجب علیهم شکر ذلک الصنع.و المقدّمتان صغریا ضمیرین تقدیر الاولی منهما:بعض المنعم علیه مستدرج بالنعمی.و تقدیر الکبری:و کلّ مستدرج بالنعمی یجب علیه أن یحترز بشکر نعمة اللّه علیه من الاستدراج بها،و کذلک تقدیر الثانیة:و بعض المبتلی مصنوع له بالبلوی.و تقدیر الکبری:و کلّ مصنوع إلیه فیجب علیه شکر صنع اللّه فی حقّه .و لذلک أمر المستمعین مطلقا بزیادة الشکر مع أنّ فیهم المنعم علیهم و المبتلی،ثمّ أمر بالتقصیر عن العجلة فی طلب الرزق و الوقوف دون حدّ الإفراط علی حدّ العدل.
لاَ تَجْعَلُوا عِلْمَکُمْ جَهْلاً وَ یَقِینَکُمْ شَکّاً- إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا وَ إِذَا تَیَقَّنْتُمْ فَأَقْدِمُوا
نهاهم أن یجعلوا علمهم بما أهمّ علمه من أحوال الآخرة جهلا:أی فی قوّة الجهل،و یقینهم شکّا:أی فی قوّة الشکّ و بمنزلته لترکهم العمل علی وفق ما علموه و تیقّنوه.و لذلک أمرهم بالعمل علی وفق علمهم و الإقدام علیه علی وفق یقینهم.
إِنَّ الطَّمَعَ مُورِدٌ غَیْرُ مُصْدِرٍ وَ ضَامِنٌ غَیْرُ وَفِیٍّ- وَ رُبَّمَا شَرِقَ شَارِبُ الْمَاءِ قَبْلَ رِیِّهِ- وَ کُلَّمَا عَظُمَ قَدْرُ الشَّیْءِ الْمُتَنَافَسِ فِیهِ- عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ لِفَقْدِهِ- وَ الْأَمَانِیُّ تُعْمِی أَعْیُنَ الْبَصَائِرِ- وَ الْحَظُّ یَأْتِی مَنْ لاَ یَأْتِیهِ
نفّر عن الطمع فی الدنیا و الحرص فی طلبها و تمنّیها و اقتنائها بوجوه:
ضمیر صغراه قوله: إن الطمع .إلی قوله: وفیّ :أی یورد الطامع موارد الهلکة و لا یصدره عنها.و استعار له لفظ الضامن غیر الوفیّ باعتبار أنّه یرغب
ص:384
فی الطلب و یدعو إلیه مع أنّه قد یکون کاذبا کمن یضمن شیئا و یخلف فیه،و تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فلا ینبغی أن یتّبع و یوثق به .
کنایة قوله: و ربّما.إلی قوله:ریّه .و هو تنبیه علی أنّه لا یجوز الاسترسال فی طلب الدنیا بضمیر کنّی عن صغراه بذلک،و تقدیرها:أنّ المسترسل فی طلبها قد یخترم و یقتطع دون بلوغ أمله فیها.و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فلا ینبغی له الاسترسال فی طلبها .
نفّر عن المنافسة فیما عظم قدره من متاعها بضمیر صغراه قوله: و کلّما .إلی قوله: لفقده .و الرزیّة:المصیبة.و تقدیر الکبری:و کلّما عظمت الرزیّة لفقده فلا ینبغی اقتناؤه.إذ کان من ضرورته فقده و فناؤه .
نفّر عن الأمانیّ بضمیر صغراه قوله: و الأمانیّ تعمی أعین البصائر و ذلک أنّها تشغل الفکر بما لا یعنی عن طلب ما یعنی من الکمالات العقلیّة. استعارة و استعار لفظ الأعین للأفکار باعتبار إدراکهما .و تقدیر الکبری:و کلّما کان کذلک وجب اجتنابه .
نبّه علی ترک طلب الحظّ من الدنیا بقوله: و الحظّ یأتی من لا یأتیه :
أی الحظّ لمن کان له حظّ یصل إلیه و إن لم یسع فی طلبه،و هو فی قوّة صغری ضمیر، و تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فلا حاجة إلی طلبه و إتیانه.
اَللَّهُمَّ إِنِّی أَعُوذُ بِکَ- مِنْ أَنْ تُحَسِّنَ تَحْسُنَ فِی لاَمِعَةِ الْعُیُونِ عَلاَنِیَتِی- وَ تُقَبِّحَ فِیمَا أُبْطِنُ لَکَ سَرِیرَتِی- مُحَافِظاً عَلَی رِیَاءِ النَّاسِ مِنْ نَفْسِی- بِجَمِیعِ مَا أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَیْهِ مِنِّی- فَأُبْدِیَ لِلنَّاسِ حُسْنَ ظَاهِرِی- وَ أُفْضِیَ إِلَیْکَ بِسُوءِ عَمَلِی- تَقَرُّباً إِلَی عِبَادِکَ وَ تَبَاعُداً مِنْ مَرْضَاتِکَ
أفضی : أصل .
و استعاذ باللّه أن یجتمع له حسن الظنّ فی عیون الناس مع قبح
ص:385
باطنه عند اللّه بالریاء و التصنّع بالزهادة و العبادة الظاهرة لغایة طلب الدنیا.و لا معة العیون إضافة للصفة إلی الموصوف:أی العیون اللامعة.و محافظا حال.و تقرّبا و تباعدا مصدران سدّا مسدّ الحال،و یحتمل نصبهما علی المفعول.
لاَ وَ الَّذِی أَمْسَیْنَا مِنْهُ فِی غُبْرِغُبَّرِ لَیْلَةٍ دَهْمَاءَ- تَکْشِرُ عَنْ یَوْمٍ أَغَرَّ مَا کَانَ کَذَا وَ کَذَا
فغبر اللیل : بقایاه .و الدهماء : السوداء .و التکشّر : التبسّم بحیث تبدو الأسنان .و الأغرّ : الواضح .
استعارة و لفظ التکشّر مستعار للیلة باعتبار إسفارها عن ضوء یومها.فهی کالضاحکة .و الیمین فی غایة الفصاحة،و عن مثلها ینفعل الحالف و السامع.
قَلِیلٌ تَدُومُ عَلَیْهِ أَرْجَی مِنْ کَثِیرٍ مَمْلُولٍ مِنْهُ
و أراد من الأفعال.فإنّ القلیل الدائم أکثر من الکثیر المملول المنقطع و أقوی إعدادا للنفس فکان أنفع فی الآخرة.
إِذَا أَضَرَّتِ النَّوَافِلُ بِالْفَرَائِضِ فَارْفُضُوهَا
أی إذا أخلّت ببعض شرائط الفرائض وجب ترکها،و قد مرّ ذلک مشروحا.
مَنْ تَذَکَّرَ بُعْدَ السَّفَرِ اسْتَعَدَّ
و أراد أنّ المتذکّر لبعد طریق الآخرة یلزمه الاستعداد لها بالتقوی.
لَیْسَتِ الرُّؤْیَةُاَلرَّوِیَّةُ کَالْمُعَایَنَةِمَعَ الْإِبْصَارِ- فَقَدْ تَکْذِبُ الْعُیُونُ أَهْلَهَا- وَ لاَ یَغُشُّ الْعَقْلُ مَنِ اسْتَنْصَحَهُ
هذا تنبیه علی وجوب إعمال الفکر فیما ینبغی،و أنّ العقل هو مستند الحواسّ
ص:386
و هو الناقد البصیر و الناصح الشفیق الّذی لا یغشّ من استنصحه.و استعار لفظ الاستنصاح لمراجعته و إعماله بصدق و توجّهه إلی استخراج الآراء الصالحة،و لفظ الغشّ لکذبه:أی لا یکذب من استنصحه و جعله رائدا له و أمّا الحواسّ فقد تکذب أهلها.و اعلم أنّ البصر و غیره من الحواسّ الظاهرة لا حکم له،و أمّا الحکم ببعض المحسوسات علی بعض فحکم العقل بواسطة الخیال و الوهم،و کلّما عرض فی تلک الأحکام من الغلط فهو من أغلاط الوهم علی ما تبیّن فی موضعه،و حینئذ یکون قوله:و قد تکذب العیون أهلها:أی قد یکذب الأحکام الوهمیّة علی مدرکات العیون کالحکم بکون القطرة النازلة خطّا مستقیما و الشعلة الّتی تدار بسرعة کالدائرة و نحوه.
بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَ الْمَوْعِظَةِ حِجَابٌ مِنَ الْغِرَّةِ
استعارة استعار لفظ الحجاب لما یعرض للنفوس من الهیئات البدنیّة المغفلة عن النظر فی العبر و قبول الموعظة و الانتفاع بها .
جَاهِلُکُمْ مُزْدَادٌ وَ عَالِمُکُمْ مُسَوِّفٌ
مزداد أی من الإثم.مسوّف:أی بالتوبة.و روی:عالمکم مسوّف.
قَطَعَ الْعِلْمُ عُذْرَ الْمُتَعَلِّلِینَ
أی العلم بالدین و ما بلّغه الرسول صلّی اللّه علیه و آله من البشارة و النذارة فإنّ ذلک قاطع لعذر من عساه یقول: «إِنّا کُنّا عَنْ هذا غافِلِینَ» .کما قال تعالی «رُسُلاً مُبَشِّرِینَ وَ مُنْذِرِینَ» (1)الآیة.
کُلُّ مُعَاجَلٍ یَسْأَلُ الْإِنْظَارَ- وَ کُلُّ مُؤَجَّلٍ یَتَعَلَّلُ بِالتَّسْوِیفِ
ص:387
و هو توبیخ علی ترک العمل الصالح للمعاجل و المؤجّل.
مَا قَالَ النَّاسُ لِشَیْءٍ طُوبَی لَهُ- إِلاَّ وَ قَدْ خَبَأَلَهُ الدَّهْرُ یَوْمَ سَوْءٍ
أی ما استحسن الناس من الدنیا شیئا إلاّ و فی قوّة الدهر إعداد لفساده و إهلاکه یوما ما.و لابدّ من خروج ما فیه بالقوّة إلی الفعل.
و سئل علیه السّلام عن القدر فقال:
طَرِیقٌ مُظْلِمٌ فَلاَ تَسْلُکُوهُ- وَبَحْرٌ عَمِیقٌ فَلاَ تَلِجُوهُ- وَ سِرُّ اللَّهِ فَلاَ تَتَکَلَّفُوهُ
أقول:السؤال عن مهیّة القدر و کیفیّة وقوع الأفعال بحسبه.و هذه المسألة من مسائل العلم الإلهیّ و فیها خبط عظیم بین الحکماء و المتکلّمین،و قد نبّهنا علی ما هو الحقّ فیها فیما سبق و لصعوبتها کان الخوض فیها مظنّة الضلال و التیه فی بحر لا ساحل له فلذلک نفّر علیه السّلام عن الخوض فیها بضمائر ثلاثة:
استعارة أحدها:أنّها طریق مظلم ،و تقدیر الکبری:و کلّ طریق مظلم فلا یجوز سلوکه.و ینتجه قوله: لا تسلکوه .و استعار لفظ المظلم له باعتبار کونه کثیر الشبهات لا یهتدی فیه للحقّ.
الثانی:أنّه بحر عمیق .و استعار لفظ البحر بصفة العمق له باعتبار غرق الأفکار فیه،و تقدیر کبراه:و کلّ بحر عمیق فلا یجوز و لوجه.و ینتجه قوله:
فلا تلجوه .
الثالث:أنّه سرّ اللّه:أی سرّ اللّه قد أحبّ کتمه و منع من الخوض فیه،و تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فلا یجوز تکلّف الخوض فیه و هتکه.و فی معناه کلّ غامض من غوامض العلم لا یجوز کشفه إلاّ للأولیاء و أفراد العلماء فهو من أسرار اللّه.
ص:388
إِذَا أَرْذَلَ اللَّهُ عَبْداً حَظَرَ عَلَیْهِ الْعِلْمَ
و حظر العلم بإعداده لغیره و تعویق أسبابه بحیث ینصرف عنه فلا یکون له استعداده،و ظاهر أنّ الجهل من أشدّ الرذائل و أصعبها داء و هو طرف التفریط من فضیلة العلم و الأدب کما سبقت الإشارة إلیه غیر مرّة.
کَانَ لِی فِیمَا مَضَی أَخٌ فِی اللَّهِ- وَ کَانَ یُعْظِمُهُ فِی عَیْنِی صِغَرُ الدُّنْیَا فِی عَیْنِهِ- وَ کَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ- فَلاَ یَشْتَهِی مَا لاَ یَجِدُ وَ لاَ یُکْثِرُ إِذَا وَجَدَ- وَ کَانَ أَکْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً- فَإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِینَ وَ نَقَعَ غَلِیلَ السَّائِلِینَ- وَ کَانَ ضَعِیفاً مُسْتَضْعَفاً- فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَلَیْثُ غَابٍ لَیْثٌ عَادٍ وَ صِلُّ وَادٍ- لاَ یُدْلِی بِحُجَّةٍ حَتَّی یَأْتِیَ قَاضِیاً- وَکَانَ لاَ یَلُومُ أَحَداً- عَلَی مَا لاَ یَجِدُ الْعُذْرَ فِی مِثْلِهِ حَتَّی یَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ- وَ کَانَ لاَ یَشْکُو وَجَعاً إِلاَّ عِنْدَ بُرْئِهِ- وَ کَانَ یَقُولُ مَایَفْعَلُ مَا یَقُولُ وَ لاَ یَقُولُ مَا لاَ یَفْعَلُ- وَ کَانَ إِذَا غُلِبَ عَلَی الْکَلاَمِ لَمْ یُغْلَبْ عَلَی السُّکُوتِ- وَ کَانَ عَلَی أَنْ یَسْمَعَ مَا یَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَی أَنْ یَتَکَلَّمَ- وَ کَانَ إِذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ- یَنْظُرُ أَیُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَی الْهَوَی فَخَالَفَهُ- فَعَلَیْکُمْ بِهَذِهِ الْخَلاَئِقِ فَالْزَمُوهَا وَ تَنَافَسُوا فِیهَا- فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِیعُوهَا- فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقَلِیلِ خَیْرٌ مِنْ تَرْکِ الْکَثِیرِ أقول:ذکر هذا الفصل ابن المقفّع فی أدبه و نسبه إلی الحسن بن علیّ علیهما السّلام
و بد غلب :و نقع الغلیل : سکن العطش .و أدلی بحجّته : أرسلها و احتجّ بها .و بدهه
ص:389
الأمر : أتاه من غیر تأهّب له . و المشار إلیه قیل:هو أبو ذرّ الغفاری.و قیل:هو عثمان بن مظعون .
و قد وصفه باثنتی عشرة فضیلة:
،و ظاهر أنّ ذلک یستلزم عظمه فی عیون أهل اللّه .
و هو کنایة عن خروجه من أسر شهوته و خلاصه من رذیلة الفجور إلی فضیلة العفّة.فکفّ شهوته عمّا لا یجد یستلزم عدم رذیلة الحرص و الحسد و نحوهما،و عدم إکثاره ممّا یجد یستلزم نزاهته عن رذیلة الشره و النهم و نحوهما .
:أی أنّه ینطق بالحکمة فی موضعها.
و أمّا غلبة السکوت علیه فلقوّة عقله کما قال علیه السّلام فیما قبل:إذا تمّ العقل نقص الکلام .
:أی فقیرا منظورا إلیه بعین الذلّة و الفقر و ذلک من لوازم فضیلة التواضع.
کنایة فضیلة الشجاعة عند الجدّ فی الحرب و الغضب للّه،و کنّی عن ذلک بقوله: فإذا جاء الجدّ.إلی قوله:واد . استعارة و استعار لفظ اللیث باعتبار سطوته و عدوانه و لفظ الصلّ باعتبار بأسه و نکایته فی العدوّ،و المثل یضرب بحیّة الوادی فی الشجاعة و نکایة السمّ .
و هو من فضیلة العدل فی وضع الأشیاء مواضعها .
فإن کان هناک عذر قبله.و ذلک مع لوازم العدل و الإنصاف و فضیلة الثبات و احتمال المکروه .
لتسلیمه أحکام اللّه و رضاه بها بل لعلّه یحکیها بعد برئه علی سبیل الإخبار دون الشکایة.و إنّه کان یکتم مرضه
ص:390
کیلا یتکلّف الناس زیارته فیشقّ علیهم ذلک .
،و یحترز عن الکذب و الخلف .
و یعدل إلی السکوت إذا غولب فی القول،و ذلک من فضیلة الحکمة.لعلمه بمواقع السکوت و الکلام،و من فضیلته.لقهره قوّته الغضبیّة فی المغالبة .
ترجیحا لجانب الاستفادة علی الإفادة،و الأوّل أهمّ من الثانی.و ذلک من فضیلة الحکمة .
مثلا کالتزویج و عدمه فکّر فی أیّهما أقرب إلی الهوی و میل الشهوة کالتزویج فخالفه إلی ترکه.و لمّا کان غرض الفصل أن یقتدی السامعون بالفضایل المذکورة أمرهم علیه السّلام بلزومها و التنافس فیها أو فی بعضها إن لم یمکن الکلّ ،و رغّب فی ذلک بقوله: فاعلموا .إلی آخره.و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان خیرا فینبغی لزومه و التنافس فیه.
لَوْ لَمْ یَتَوَعَّدِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَی مَعْصِیَتِهِ- لَکَانَ یَجِبُ أَلاَّ یُعْصَی شُکْراً لِنِعَمِهِ
لمّا کان شکر النعمة بالاقوال و الأفعال المطابقة لها واجبا عقلا وجب ترک المعصیة الّذی هو لازم للطاعة الواجبة لأنّ لازم الواجب واجب،و مقتضی الکلمة أنّه لو لم یتوعّد اللّه علی معصیته لکان یجب ترکها شکرا له:أی لأجل شکره فکیف و قد توعّد مع ذلک علیها فبالأولی أن یجب ترکها.
یَا؟أَشْعَثُ؟ إِنْ تَحْزَنْ عَلَی ابْنِکَ- فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ ذَلِکَ مِنْکَ مِنْکَ ذَلِکَ اَلرَّحِمُ- وَ إِنْ تَصْبِرْ فَفِی اللَّهِ مِنْ کُلِّ مُصِیبَةٍ خَلَفٌ- یَا؟أَشْعَثُ؟ إِنْ صَبَرْتَ- جَرَی عَلَیْکَ الْقَدَرُ
ص:391
وَ أَنْتَ مَأْجُورٌ- وَ إِنْ جَزِعْتَ جَرَی عَلَیْکَ الْقَدَرُ وَ أَنْتَ مَأْزُورٌ- یَا؟أَشْعَثُ؟ ابْنُکَ سَرَّکَ وَ هُوَ بَلاَءٌ وَ فِتْنَةٌ- وَ حَزَنَکَ وَ هُوَ ثَوَابٌ وَ رَحْمَةٌ
استدرجه علیه السّلام أوّلا بتحسین الحزن و أنّه فی موضعه باعتبار أنّ الرحم یستحقّ من ذی رحمه ذلک.ثمّ عقّبه بما یدلّ علی قبح الجزع و الحزن بأنّ الصبر به أولی و ذلک من وجوه:
أحدها:قوله:و إن تصبر.إلی قوله:خلف.و هی متّصلة صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان فی اللّه خلف عنه فالصبر عنه أولی.و النتیجة إن تصبر علی مصیبتک فالصبر علیها أولی .
الثانی:قوله: إن صبرت .إلی قوله: و أنت مأجور :أی علی صبرک و هو صغری ضمیر أیضا تقدیر کبراه:و کلّ من جری علیه القدر و هو مأجور علی صبره فالصبر به أولی.
الثالث:نفّره عن الجزع بقوله:و إن جزعت:إلی قوله:مأزور:أی علی جزعه.و أصله موزور فهمّز لمناسبة القرینة الاولی.و هو ضمیر أیضا تقدیر کبراه:و کلّ من جری علیه القدر فهو مأزور،علی حزعه دخل النار .
الرابع:قوله: سرّک و هو بلاء و فتنة .و هو تنفیر عن إفراط السرور به.
و وجه کونه بلاءا أنّ الإفراط فی محبّته یستلزم رذایل خلقیّة کالجبن عمّا ینبغی من الجهاد خوف مفارقته،و کالبخل خوف فقره و نظرا له فی عاقبته،و کالحزن فی فی أمراضه و أعراضه کما قال صلّی اللّه علیه و آله:الولد محزنة مجبنة مبخلة.و کذلک بغضه یستلزم رذیلة العقوق و قطع الرحم و صرف المال عنه فی غیر وجهه.فبالحریّ أن یبتلی اللّه الوالد بولده و یطلب منه الوقوف علی حدّ العدل فی حقّه.و الواو فی قوله:
و هو .للحال،و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فینبغی أن لا یأسف علی ما فات من السرور.
ص:392
الخامسة:قوله: و حزنک .إلی آخره:تنفیر عن الحزن علیه بما یلزم ترکه من الصبر علی المصیبة به من ثواب اللّه و رحمته و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما هو صبر عن الحزن و هو ثواب و رحمة فینبغی أن یصبر عن الحزن علیه.
ساعة دفن:-
إِنَّ الصَّبْرَ لَجَمِیلٌ إِلاَّ عَنْکَ- وَ إِنَّ الْجَزَعَ لَقَبِیحٌ إِلاَّ عَلَیْکَ- وَ إِنَّ الْمُصَابَ بِکَ لَجَلِیلٌ وَ إِنَّهُ قَبْلَکَ وَبَعْدَکَ لَجَلَلٌ لَقَلِیلٌ
الجلل : الأمر الهیّن و الأمر العظیم و هو من الأضداد ،
و إنّما کان الصبر غیر جمیل فی المصیبة به صلّی اللّه علیه و آله،و الجزع علیه غیر قبیح لأنّه صلّی اللّه علیه و آله أصل الدین و القدوة فیه فالجزع فی المصیبة به یستلزم دوام تذکّره المستلزم لدوام ذکر أخلاقه و سننه و سیرته فکان غیر قبیح من هذا الوجه،أو لأنّ المصیبة به مصیبة عظیمة و هو أعظم فائت فیستحسن الجزع علیه،و أمّا الصبر فإنّه یؤول إلی سلوانه و الغفلة عنه فکان غیر جمیل من هذا الوجه.و قد تعرّض لفضیلة القبح من بعض الاعتبارات و لرذیلة الحسن من وجه،و ظاهر أنّ المصاب به أعظم مصاب بأحد من الناس و أنّ کلّ مصاب بأحد من قبله أو بعده فهو سهل هیّن بالنسبة إلیه.و قیل:أراد أنّ المصاب به قبله عظیم علی المسلمین لحذرهم منه،و بعده کذلک لاختلال أمرهم و أمر الدین بفقده.
و الأوّل أظهر.
لاَ تَصْحَبِ الْمَائِقَ- فَإِنَّهُ یُزَیِّنُ لَکَ فِعْلَهُ وَ یَوَدُّ أَنْ تَکُونَ مِثْلَهُ
المائق : الأحمق .
و نفّر عنه بضمیر صغراه قوله: فإنّه .إلی آخره.و ذلک لأنّه لحمقه یعتقد کمال نفسه و حسن أفعاله و وجوب الاقتداء بها فهو تزیّنها و
ص:393
یحبّ لمن یصحبه أن یکون مثله فیها،و یدعوه إلی ذلک.و تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فلا تجوز صحبته.
وَ قَدْ سُئِلَ عَنْ مَسَافَةِ مَا بَیْنَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ- فَقَالَ ع مَسِیرَةُ یَوْمٍ لِلشَّمْسِ
و هو جواب واضح مقنع.و غرض الخطابة الإقناع.فأمّا تحقیق ما بینهما باعتبار تعیین مساحة الأرض أو الفلک فأمر یرجع إلی علم الهیئة،و لعلّه علیه السّلام إنّما عدل عن الجواب بشیء من ذلک لاستبعاد بعض العوامّ له.و لا نقول:أنّه علیه السّلام ما کان یعلم ذلک.
أَصْدِقَاؤُکَ ثَلاَثَةٌ صَدِیقُکَ- وَ صَدِیقُ صَدِیقِکَ وَ عَدُوُّ عَدُوِّکَ- وَ أَعْدَاؤُکَ ثَلاَثَةٌ- عَدُوُّکَ- وَ عَدُوُّ صَدِیقِکَ وَ صَدِیقُ عَدُوِّکَ
الحکم بأنّ صدیق الصدیق و عدوّ العدوّ صدیق من القضایا المظنونة لاحتمال کون الصدیق غیر عالم بأنّ لصدیقه صدیقا و کون العدوّ غیر عالم بأنّ لعدوّه عدوّا فضلا أن یعادیه أو یصادقه،و کذلک الحکم بأنّ عدوّ الصدیق و صدیق العدوّ عدوّ للاحتمال المذکور.
إِنَّمَا أَنْتَ کَالطَّاعِنِ نَفْسَهُ لِیَقْتُلَ رِدْفَهُ
تشبیه و وجه الشبه قصده لأذی غیره بما یستلزم أذی نفسه .
مَا أَکْثَرَ الْعِبَرَ وَ أَقَلَّ الاِعْتِبَارَ
ص:394
أراد بالعبر محالّ الاعتبار و هو فی معرض التوبیخ للسامعین علی ترک الاعتبار.
مَنْ بَالَغَ فِی الْخُصُومَةِ أَثِمَ- وَ مَنْ قَصَّرَ فِیهَا ظُلِمَ- وَ لاَ یَسْتَطِیعُ أَنْ یَتَّقِیَ اللَّهَ مَنْ خَاصَمَ
نفّر عن طرفی الإفراط و التفریط فی المجادلة و المخاصمة بما یلزم رذیلة الإفراط فیها و هو الظلم من الإثم و طرف التفریط فیها من رذیلة الانظلام ،و أشار إلی صعوبة الوقوف فیها علی حدّ العدل بقوله:و لا یستطیع.إلی آخره،و هو کالتنفیر عن أصل المخاصمة لما أنّها مظنّة الرذائل.
مَا أَهَمَّنِی ذَنْبٌ أُمْهِلْتُ بَعْدَهُ- حَتَّی أُصَلِّیَ رَکْعَتَیْنِ
أی لم أحزن من ذنب أمهلنی اللّه بعده إلی أن أصلّی رکعتین و ذلک لأنّ الصلاة تکفّر الذنب فإذا أمهل إلی أن یصلّیها لم یحزن بسببه.
و سئل علیه السّلام:کیف یحاسب اللّه الخلق علی کثرتهم؟ فقال علیه السّلام:
کَمَا یَرْزُقُهُمْ عَلَی کَثْرَتِهِمْ- فقیل:کیف یحاسبهم و لا یرونه؟فقال علیه السّلام:
کَمَا یَرْزُقُهُمْ وَ لاَ یَرَوْنَهُ
تشبیه شبّه کیفیّة محاسبته تعالی للخلق علی کثرتهم بکیفیّة رزقه لهم علی کثرتهم و جعل هذا أصلا فی التشبیه لظهوره،و علم السائل به.و کذلک تشبیه کیفیّة محاسبته لهم مع عدم رؤیتهم له بکیفیّة رزقه لهم من غیر رؤیة .و وجه الشبه فی الموضعین إمکان ذلک منه تعالی لشمول قدرته و عدم حاجته فی شیء إلی شیء .
ص:395
رَسُولُکَ تَرْجُمَانُ عَقْلِکَ- وَ کِتَابُکَ أَبْلَغُ مَا یَنْطِقُ عَنْکَ
استعارة استعار للرسول لفظ الترجمان للعقل باعتبار أنّه ینبیء عنه ،و أمّا أنّ الکتاب أبلغ من ینطق عن صاحبه فلضبط مراده فیه دون لسان الرسول لأنّه ربّما لم یؤدّ الرسالة علی وجهها سهوا أو لغرض فیقع الخلل بسبب ذلک حتّی ربّما کان فیها هلاک المرسل .
مَا الْمُبْتَلَی الَّذِی قَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْبَلاَءُ- بِأَحْوَجَ إِلَی الدُّعَاءِ- مِنَ الْمُعَافَی الَّذِی لاَ یَأْمَنُ الْبَلاَءَ
أی أنّهما سواء فی الحاجة إلی دعاء اللّه فذاک لحاجته إلی الخلاص من بلائه و هذا لبقاء عافیته و أمنه من لحوق البلاء.و هو حث لأهل العافیة علی دعاء اللّه لغرض الالتفات إلیه و دوام قصده.
اَلنَّاسُ أَبْنَاءُ الدُّنْیَا- وَ لاَ یُلاَمُ الرَّجُلُ عَلَی حُبِّ أُمِّهِ
و هو توبیخ للناس علی حبّ الدنیا. استعارة و لفظ الأبناء مستعار لهم باعتبار تولّدهم منها و میلهم إلیها بالطبع .
و قوله:و لا یلام.إلی آخره.
لوم لهم.و هذا کما تقول لمن توبّخه مثلا علی اللؤم:إنّ طبیعتک اللؤم و لا لوم علیک فیما جبّلت علیه.
إِنَّ الْمِسْکِینَ رَسُولُ اللَّهِ- فَمَنْ مَنَعَهُ فَقَدْ مَنَعَ اللَّهَ- وَ مَنْ أَعْطَاهُ فَقَدْ أَعْطَی اللَّهَ
ص:396
استعارة رغّب فی إعطاء المسکین بضمیر صغراه ما ذکر،و استعار له لفظ رسول اللّه باعتبار أنّه طالب للّه و بامر اللّه.و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فیجب إعطاؤه و إرضاه .
مَا زَنَی غَیُورٌ قَطُّ
أی ألبتّه.و ذلک أنّ الغیور الحقّ إذا همّ بالزنا تخیّل مثل ذلک فی نفسه من الغیر فیعارض خیاله داعیه فیحجم عنه.
کَفَی بِالْأَجَلِ حَارِساً
استعارة استعار له لفظ الحارس باعتبار أنّ الإنسان لا یهلک ما دام أجله کالحارس .
یَنَامُ الرَّجُلُ عَلَی الثُّکْلِ وَ لاَ یَنَامُ عَلَی الْحَرَبِ قال الرضی:و معنی ذلک أنه یصبر علی قتل الأولاد و لا یصبر علی سلب الأموال.
و أقول: الحرب : سلب الأموال .
و إنّما کان کذلک و إن کان المال و الولد محبوبین للطمع فی استخلاص المال بالنهوض له و الحرب عنه،دون الثکل.
مَوَدَّةُ الْآبَاءِ قَرَابَةٌ بَیْنَ الْأَبْنَاءِ- وَ الْقَرَابَةُ إِلَی الْمَوَدَّةِ أَحْوَجُ مِنَ الْمَوَدَّةِ إِلَی الْقَرَابَةِ
استعارة استعار لفظ القرابة للمودّة المتأکّدة بین الأبناء فهی کالقرابة،و أخبر بها عن مودّة الآباء إخبارا باللازم عن ملزومه.إذ کانت صداقة الآباء و المودّة بینهم یستلزم تأکّدها بین الأبناء و شدّة اتّصالهم .ثمّ أشار إلی تفضیل المودّة علی القرابة
ص:397
بکون القرابة أکثر حاجة إلی المودّة فی الانتفاع بها بین الخلق و المودّة أکثر استغناء عن القرابة فی الانتفاع بها .
اِتَّقُوا ظُنُونَ الْمُؤْمِنِینَ- فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَی جَعَلَ الْحَقَّ عَلَی أَلْسِنَتِهِمْ
المؤمن لا یکاد یخطأ لصفاء نفسه و کمال استعدادها للفکر الصحیح القریب من الحدس و الانتفاش بنور الحقّ کما قال صلّی اللّه علیه و آله:اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ینظر بنور اللّه.فیفیض اللّه سبحانه صورة ذلک الحقّ علی لسانه فینطق به.
و قوله:فإنّه.إلی آخره.
صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فینبغی أن یتّقی ظنّه.و هو تنبیه لمن عساه ینوی شرّا للرجوع عنه خوف ظنون المؤمنین.
لاَ یَصْدُقُ إِیمَانُ عَبْدٍ- حَتَّی یَکُونَ بِمَا فِی یَدِ اللَّهِ- أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِی یَدِهِ
صدق الایمان بالشیء یقینه و کماله.و من کماله حسن الرجاء للّه و التوکّل علیه حتّی یکون أوثق بما فی ید اللّه منه بما فی یده.و ذلک لتیقّن وصول رزقه من اللّه و جزمه بذلک الاقوی من جزمه و وثوقه بما فی یده لجواز تلفه و عدم ثباته.و هی مرتبة عالیة من مراتب التوکّل.
، و قد کان بعثه إلی طلحة و الزبیر لما جاء إلی البصرة یذکرهما شیئا مما سمعه من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلم فی معناهما،فلوی عن ذلک،فرجع إلیه،فقال إِنِّی أُنْسِیتُ ذَلِکَ الْأَمْرَ فقال علیه السلام إِنْ کُنْتَ کَاذِباً- فَضَرَبَکَ اللَّهُ بِهَا بَیْضَاءَ لاَمِعَةً لاَ تُوَارِیهَا الْعِمَامَةُ
ص:398
قال الرضی:یعنی البرص،فأصاب أنسا هذا الداء فیما بعد فی وجهه فکان لا یری إلا مبرقعا.
أقول:ما کان بعثه إلیهما لیذکّرهما به هو ما سمعه من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله أنّه قال لطلحة و الزبیر:إنّکما سیقاتلان علیّا و أنتما له ظالمان.فلمّا بعثه لقی من صرفه و لوی رأیه عن ذلک فرجع.فدعا علیه و استجیبت دعوته.و بیضاء فی محلّ الجرّ بدلا من الضمیر فی بها.
إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالاً وَ إِدْبَاراً- فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَی النَّوَافِلِ- وَ إِذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِهَا عَلَی الْفَرَائِضِ
و قد مر معنی إقبالها و إدبارها.و خصّ إقبالها بالنوافل لاتّساعها فیه لها و للفرایض دون الإدبار.
وَ فِی؟الْقُرْآنِ؟ نَبَأُ مَا قَبْلَکُمْ- وَ خَبَرُ مَا بَعْدَکُمْ وَ حُکْمُ مَا بَیْنَکُمْ
فنبأ ما قبلهم أخبار القرون الماضیة،و خبر ما بعدهم ذکر أحوال الموت و القیامة و الوعد و الوعید،و حکم ما بینهم بیان الأحکام الخمسة المتعلّقة بأفعالهم.
و هو فی معرض مدح القرآن و الحثّ علی قراءته و فهمه.
رُدُّوا الْحَجَرَ مِنْ حَیْثُ جَاءَ- فَإِنَّ الشَّرَّ لاَ یَدْفَعُهُ إِلاَّ الشَّرُّ
کنایة فالحجر کنایة عن الشرّ.و ردّه من حیث جاء کنایة عن مقابلة الشرّ بمثله .
و رغّب فی ذلک بضمیر صغراه:قوله:فإنّ الشرّ:إلی آخره،و تقدیر الکبری:
ص:399
و کلّ ما لا یقطع إلاّ بالشرّ فواجب أن یقطع به.و لیس هذا أمرا عامّا.لأمره علیه السّلام بالحلم فی مواضع کثیرة.
أَلِقْ دَوَاتَکَ وَ أَطِلْ جِلْفَةَ قَلَمِکَ- وَ فَرِّجْ بَیْنَ السُّطُورِ وَ قَرْمِطْ بَیْنَ الْحُرُوفِ- فَإِنَّ ذَلِکَ أَجْدَرُ بِصَبَاحَةِ الْخَطِّ کان أبو رافع مولی لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله.
و ألقت الدواة و لقتها : أصلحتها بالمداد .
و جلفة القلم : سنانه .و القرمطة بین الحروف : تقریب بعضها من بعض .و الصباحة:
الحسن .
و فایدة القید الأوّل ظاهرة،و فایدة الثانی:أنّ الجلفة الطویلة تقبل مدادا أکثر فیستمرّ القلم فی کتابة کلمات کثیرة علی نهج واحد من غیر تقطیع بین المدّات بخلاف الجلفة القصیرة فإنّ مدادها اقلّ و المقاطع بین مدّاتها أکثر فیکثر التفاوت بین الکلمات فی أواخر کلّ مدّة و أوّل الاخری بعدها،و فایدة الثالث:
ظهور الفصل بین السطور و تمییز بعضها عن بعض،و فایدة الرابع:کون الکلمة حسن الهیئة و الحسن لها أقرب فسطا،و لعلّ بعض هذه القیود أو کلّها شرط فی حسن جنس لیس بشرط فی حسن بعض أجناس الخطّ المحدثة بعده.و رغّب فی ذلک بقوله:فإنّ ذلک:أی فإنّ هذه الشرائط.و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان أولی بصباحة الخطّ ففعله أولی.
أَنَا یَعْسُوبُ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمَالُ یَعْسُوبُ الْفُجَّارِ قال الرضی:و معنی ذلک أن المؤمنین یتبعونی و الفجار یتبعون المال کما تتبع النحل یعسوبها،و هو رئیسها.
ص:400
استعارة أقول:استعار لنفسه لفظ الیعسوب ،و وجه المشابهة ما ذکره السیّد-رحمه اللّه تعالی -.
و قال له بعض الیهود:ما دفنتم نبیکم حتی اختلفتم فیه؟فقال علیه السّلام له:إِنَّمَا اخْتَلَفْنَا عَنْهُ لاَ فِیهِ- وَ لَکِنَّکُمْ مَا جَفَّتْ أَرْجُلُکُمْ مِنَ الْبَحْرِ- حَتَّی قُلْتُمْ لِنَبِیِّکُمْ- «اجْعَلْ لَنا إِلهاً کَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّکُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ»
أراد أنّا لم نختلف فی نبوّته و لم نشّک فی ذلک و إنّما وقع خلافنا عنه:أی بسبب اشتباه بعض ما جاء عنه من کتاب و سنّة علی من لا یعلم ذلک منّا،و أما أنتم فقد اختلفتم فی أنّ لکم صانعا أم لا حتّی قلتم لنبیّکم:اجعل لنا إلها.و ذلک یستلزم الشکّ منکم فی نبوّة نبیّکم بالأولی.
بأی شیء غلبت الأقران؟فقال علیه السّلام: :وَ قِیلَ لَهُ ع بِأَیِّ شَیْءٍ غَلَبْتَ الْأَقْرَانَ- فَقَالَ ع مَا لَقِیتُ رَجُلاًأَحَداً إِلاَّ أَعَانَنِی عَلَی نَفْسِهِ قال الرضی:یومئ بذلک إلی تمکن هیبته فی القلوب .
أراد أنّ سابق هیبته،و تخیّل الأقران ما جرت به عادته من الظفر بأمثالهم و قتله یوجب لنفوسهم انفعالات و ضعفا عن مقاومته.و ذلک ممّا یعینه علیهم.
یَا بُنَیَّ إِنِّی أَخَافُ عَلَیْکَ الْفَقْرَ- فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ- فَإِنَّ الْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدِّینِ- مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ دَاعِیَةٌ لِلْمَقْتِ
أمره بالاستعاذة من الفقر لما فیه من المکاره الثلاثة:أمّا کونه منقصة للدین فللاشتغال بهمّه و تحصیل قوام البدن عن العبادة،و کونه مدهشة للعقل:أی محلّ دهشة العقل و حیرته و ضیق الصدر به ظاهر،و کذلک کونه داعیة مقت الخلق
ص:401
لصاحبه.و رغّب فی الاستعاذة منه بضمیر صغراه قوله:فإنّ الفقر.إلی آخره،و تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فیجب الاستعاذة باللّه منه.
سَلْ تَفَقُّهاً وَ لاَ تَسْأَلْ تَعَنُّتاً- فَإِنَّ الْجَاهِلَ الْمُتَعَلِّمَ شَبِیهٌ بِالْعَالِمِ- وَ إِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِیهٌ بِالْجَاهِلِ اَلْمُتَعَنِّتِ
المعضلة : المسألة المشکلة .و التعنّت : طلب الأمر الشاقّ علی من یطلب منه .
و التعسّف : الأخذ علی غیر الطریق .
و قد کان علیه السّلام فهم من السائل أنّ غرضه الامتحان فأعرض عن جوابه إلی تأدیبه و إرشاده إلی ما ینبغی من وضع السؤال و غرضه و هو التفقّه دون التعنّت لحصول الفائدة بالسؤال الأوّل.و تفقّها و تعنّتا مفعولان له أو مصدران سدّا مسدّ الحال. تشبیه و رغّب فی السؤال علی وجه التعلّم بضمیر صغراه قوله : فإنّ الجاهل المتعلّم شبیه بالعالم ،و وجه الشبه اشتراکهما فی طلب العلم و قصده.و تقدیر الکبری:و کلّ من کان شبیها بالعالم فینبغی أن یسلک مسلکه.ثمّ نفّر عن سلوک غیر طریق الحقّ فی السؤال و العدول به إلی غیر المقصود الأصلیّ بضمیر ثان صغراه قوله: فإنّ العالم.إلی قوله:بالجهل ،و وجه الشبه کون ذلک العالم یضع سؤاله فی غیر موضعه و یطلب ما لا ینبغی کالجاهل بوضع الأسئلة و مواقعها،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان شبیها بالجاهل فینبغی أن یجتنب طریقه لیخلص من هذا الشبه .
، و قد أشار علیه فی شی لم یوافق رأیه:لَکَ أَنْ تُشِیرَ عَلَیَّ وَ أَرَی فَإِنْ فَإِذَا عَصَیْتُکَ فَأَطِعْنِی
روی أنّه أشار علیه عند انصرافه من مکّة حاجّا و قد بایعه الناس،و قال:
یا أمیر المؤمنین إنّ هذا أمر عظیم یخاف غوائل الناس فیه.فاکتب لطلحة بولایة البصرة
ص:402
و للزبیر بولایة الکوفة و اکتب إلی معاویة و ذکّره القرابة و الصلة و أقرّه علی ولایة الشام حتّی یبایعک فإن بایعک و جری علی سنّتک و طاعة اللّه فاترکه علی حاله و إن خالفک فادعه إلی المدینة و أبدله بغیره،و لا تموج بحار الفتنة.فقال علیه السّلام:
معاذ اللّه أن افسد دینی بدنیا غیری،و لک یا ابن عبّاس أن تشیر،و رأی.و حذف مفعول أری للعلم به:أی أنظر فی وجه المصلحة.و أوجب طاعة نفسه لأنّه الإمام و لأنّه أفضل رأیا فإذا رأی المصلحة فی شیء فرأیه أرجح.
أنه علیه السّلام لما ورد الکوفة قادما من صفین مر بالشبامیین فسمع بکاء النساء علی قتلی صفین و خروج إلیه حرب بن شرحبیل الشبامی و کان من وجوه قومه فقال علیه السّلام له:
و أقبل یمشی معه و هو علیه السّلام راکب فقال له:أَ تَغْلِبُکُمْ نِسَاؤُکُمْ عَلَی مَا أَسْمَعُ- أَ لاَ تَنْهَوْنَهُنَّ عَنْ هَذَا الرَّنِینِ- وَ أَقْبَلَ یَمْشِی مَعَهُ وَ هُوَ ع رَاکِبٌ- فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ فَإِنَّ مَشْیَ مِثْلِکَ مَعَ مِثْلِی- فِتْنَةٌ لِلْوَالِی وَ مَذَلَّةٌ لِلْمُؤْمِنِ
شبام بکسر الشین : حیّ من العرب .
و قادما حال،و الاستفهام للإنکار دخل علی النفی،و قد علمت ما فی الجزع من الرذیلة فذلک نهی عنه،و لأنّه یجبن الرجل و یثبّطهم عن الحرب و هو فی محلّ الحاجة،و نفّره عن المشی معه بضمیر صغراه قوله:فإنّ مشی مثلک.إلی آخره،و تقدیر الکبری:و کلّما کان فتنة و مذلّة وجب ترکه.
بُؤْساً لَکُمْ لَقَدْ ضَرَّکُمْ مَنْ غَرَّکُمْ- فَقِیلَ لَهُ مَنْ غَرَّهُمْ یَا؟أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ؟- فَقَالَ الشَّیْطَانُ الْمُضِلُّ وَ الْأَنْفُسُ اَلنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ- غَرَّتْهُمْ بِالْأَمَانِیِّ وَ فَسَحَتْ لَهُمْ بِالْمَعَاصِی- وَ وَعَدَتْهُمُ الْإِظْهَارَ فَاقْتَحَمَتْ بِهِمُ النَّارَ
ص:403
البؤس : الشدّة .
و یفهم من تفسیره لمن ضرّهم و غرّهم بالشیطان المضلّ و الأنفس الأمّارة بالسوء أنّ الشیطان قد یراد به النفس الأمّارة.و إنّ العطف إنّما یقتضی التغایر فی العبارة .و الأمانی الّتی غرّتهم بها هی أمانی الغلبة و القهر،و فسحها لهم فی المعاصی ترخیصها لهم و توسیعها و تزیینها،و کذلک ما وعدتهم به من إظهارها لهم علی من غالبهم.و ظاهر أنّ ذلک مستلزم لدخول النار. استعارة و لفظ الاقتحام مستعار لسرعة إدخالها لهم النار .
اِتَّقُوا مَعَاصِیَ اللَّهِ فِی الْخَلَوَاتِ- فَإِنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْحَاکِمُ
أمر بالخشیة من معاصی اللّه.و نفّر عنها بضمیر صغراه قوله:فإنّ الشاهد هو الحاکم.و تقدیر کبراه:و کلّ من کان الشاهد علیه هو حاکمه وجب علیه أن یتّقیه.
إِنَّ حُزْنَنَا عَلَیْهِ عَلَی قَدْرِ سُرُورِهِمْ بِهِ- إِلاَّ أَنَّهُمْ نَقَصُوا بَغِیضاً وَ نَقَصْنَا حَبِیباً
قد بیّنا فیما سلف مکانه منه علیه السّلام.
و قوله:فإنّ حزننا علیه علی قدر سرورهم به.
أی بفقده.أراد أنّه یناسبه فی الشدّة،و أشار إلی الفرق بین اعتبار نقصانه منهم و نقصانه منه و ذلک فی معرض التألّم لفقده.
اَلْعُمُرُ الَّذِی أَعْذَرَ اللَّهُ فِیهِ إِلَی ابْنِ آدَمَ سِتُّونَ سَنَةً
أعذر إلیه : أتاه بالعذر
،و إعذار اللّه إلیه:إمهاله إیّاه المدّة المذکورة الّتی
ص:404
هی مظنّة تحصیل الزاد لیوم المعاد فإنّ ما بعد الستّین یضعف فیه القوی النفسانیّة و البدنیّة و تکلّ عن العمل فمن قصّر إلی تلک الغایة فقد توجّه اللوم علیه و انقطعت حجّته بالإعذار إلیه.
مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الْإِثْمُ بِهِ- وَ الْغَالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوبٌ
و هو تنفیر عن الظلم و البغی و ذلک أنّ الظافر الحقّ هو من قهر خصمه علی وجه العدل فمن لا یکون کذلک یلزمه الظلم و یقهره عند اللّه الإثم فیکون مغلوبا بظلمه و هو فی صورة غالب، استعارة و استعار وصف الظفر لأسره فی ربقة الإثم و إحاطته به .
إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ- فَرَضَ فِی أَمْوَالِ الْأَغْنِیَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ- فَمَا جَاعَ فَقِیرٌ إِلاَّ بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِیٌّ- وَ اللَّهُ تَعَالَی سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِکَ
أراد بذلک الفرض الزکاة،و ظاهر أنّ جوع الفقیر إنّما یکون بما یمنعه الغنیّ من القوت أو ما هو وسیلة إلیه.و رهّب الأغنیاء بقوله:و اللّه سائلهم عن ذلک.
و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من سائله اللّه فینبغی أن یحذّر سؤاله.
اَلاِسْتِغْنَاءُ عَنِ الْعُذْرِ أَعَزُّ مِنَ الصِّدْقِ بِهِ
أراد أنّ ترک ما یحتاج فیه إلی العذر فیستغنی بترکه عن العذر أعزّ علیک و أنفع لک من أن تأتیه و یکون لک فیه عذر صادق،و یحتمل أن یرید بقوله:أعزّ:
أی أکثر عزّة لک.إذ الإتیان بالعذر یحتاج إلی ذلّة و مهانة.
أَقَلُّ مَا یَلْزَمُکُمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ- أَلاَّ تَسْتَعِینُوا بِنِعَمِهِ عَلَی مَعَاصِیهِ
ص:405
و ذلک أنّ العدل أن تستعینوا بنعمته علی طاعته فإن لم تفعل ذلک فلا أقلّ من أن تستعمل فی الامور المباحة،دون الاستعانة بها علی معصیته فإنّ ذلک ممّا یعد لسخطه.
إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الطَّاعَةَ غَنِیمَةَ الْأَکْیَاسِ- عِنْدَ تَفْرِیطِ الْعَجَزَةِ
طاعته تعالی غنیمة الأکیاس باعتبار استلزامها للنعیم المقیم فی الآخرة و سبب الغنیمة غنیمة،و الأکیاس هم الّذین استعملوا فطنهم و حرکاتهم فی تحصیل ما ینبغی من علم و عمل،و خصّهم اللّه سبحانه بهذه الغنیمة عند تفریط العجزة و هم المقصّرون عمّا ینبغی لهم.و هو فی معرض ذمّهم علی التقصیر البالغ المشبه للعجز.
اَلسُّلْطَانُ وَزَعَةُ اللَّهِ فِی أَرْضِهِ
الوزعة : الوازع و هو الرادع المانع
:أی أنّ اللّه تعالی وضعه فی أرضه لیمنع به ما یرید منعه.و أراد السلطان العادل.
اَلْمُؤْمِنُ بِشْرُهُ فِی وَجْهِهِ وَ حُزْنُهُ فِی قَلْبِهِ- أَوْسَعُ شَیْءٍ صَدْراً وَ أَذَلُّ شَیْءٍ نَفْساً- یَکْرَهُ الرِّفْعَةَ وَ یَشْنَأُ السُّمْعَةَ- طَوِیلٌ غَمُّهُ بَعِیدٌ هَمُّهُ- کَثِیرٌ صَمْتُهُ مَشْغُولٌ وَقْتُهُ- شَکُورٌ صَبُورٌ- مَغْمُورٌ بِفِکْرَتِهِ ضَنِینٌ بِخَلَّتِهِ- سَهْلُ الْخَلِیقَةِ لَیِّنُ الْعَرِیکَةِ- نَفْسُهُ أَصْلَبُ مِنَ الصَّلْدِ- وَ هُوَ أَذَلُّ مِنَ الْعَبْدِ
یشنأ : یبغض .
ص:406
و ذلک من تمام فضیلة التواضع و لین الجانب.
.و ذلک من خشیة اللّه و نظره إلی ما عساه فرّط فی جنب اللّه.
و قد علمت أنّ سعة الصدر فضیلة للقوّة الغصبیّة،و قد یعبّر عنها برحب الذراع.أراد أنّه مستکمل لهذه الفضیلة.
:أی لتواضعه للّه و نظر نفسه إلی محلّها و مقدارها من الحاجة إلی اللّه.و صدرا و نفسا تمیزان.
.لأنّها مبدء الرذائل کالعجب و الکبر،و کذلک بغضه للسمعة احتراز من تلک الرذائل .
لنظره دائما إلی ما بین یدیه من الموت و ما بعده.
و علوّها عن دنایا الدنیا و نظره إلی المطلوب الأکمل من السعادة الاخرویّة الباقیة.
و ذلک لکمال عقله فهو لا ینطق إلاّ بما یحتاج إلیه ممّا فیه حکمة و صلاح.
:أی بعبادة ربّه.
:أی کثیر الشکر للّه.
:أی علی بلاء اللّه.
فی ملکوت السماوات و الأرض و استنباط آیات اللّه و عبره منها.
لترصّده مواقع الخلّة و أهلها الّذین هم إخوان الصدق فی اللّه و هم قلیلون فلا یضعها کیف اتّفق و مع کلّ من طلب مودّته و خلّته، و یحتمل أن یرید أنّه إذا خالّ أحدا ضنّ بخلّته أن یضیّعها أو یهمل خلیله.و روی بفتح الخاء.و الخلّة:الحاجة:أی إذا عرضت له حاجة ضنّ بها أن یسأل أحدا فیها.
:أی لا جفاوة فی طباعه و لا خشونة.
ص:407
کنایة لیّن العریکة .و هو کنایة عن سهولة تناول ما یراد منه.و أصله الجلد من الأدیم یکون لیّنا عند العرک من الدباغ،سهلا علی دابغه .
بشجاعته و ثباته فی طاعة اللّه،و هو أذلّ من العبد لتواضعه و معرفته بقدره عند قدرة باریه.و الواو للحال.
لَوْ رَأَی الْعَبْدُ الْأَجَلَ وَ مَصِیرَهُ- لَأَبْغَضَ الْأَمَلَ وَ غُرُورَهُ
استعارة استعار لفظ المسیر للأجل و هو زمان الحیاة باعتبار تقضّی أجزائه و انتهائه بفنائها کما یقطع السائر أجزاء المسافة و ینتهی إلی غایته بفنائها،و یحتمل أن یرید بالأجل غایة الحیاة،و استعار لفظ المسیر لدنوّها المعقول منه،و أراد أنّه لو کان الأجل بصورة سائر محسوس فشاهد العبد سیره به إلی الموت،و علم غایته لقطع آماله الدنیویّة و لم یغترر بها .
لِکُلِّ امْرِئٍ فِی مَالِهِ شَرِیکَانِ- الْوَارِثُ وَ الْحَوَادِثُ
نفّر عن ادّخار المال بذکر الشریکین المکروهین.
اَلدَّاعِی بِلاَ عَمَلٍ کَالرَّامِی بِلاَ وَتَرٍ
و وجه الشبه عدم إمکان الانتفاع.و نحوه قول الرسول صلّی اللّه علیه و آله:أحمق الناس من ترک العمل و تمنّی علی اللّه.
اَلْعِلْمُ عِلْمَانِ مَطْبُوعٌ وَ مَسْمُوعٌ- وَ لاَ یَنْفَعُ الْمَسْمُوعُ إِذَا لَمْ یَکُنِ الْمَطْبُوعُ
أراد بالمطبوع العقل بالملکة و هو الاستعداد بالعلوم الضروریّة للانتقال منها
ص:408
إلی العلوم المکتسبة و المسموعة من العلماء فإنّ من لا یکون له ذلک الاستعداد لا ینتفع بما یسمعه من العلوم و لا یتمکّن من اکتسابه.و قیل:أراد بالمطبوع ما یعلم من الاصول بطبیعة العقل کالتوحید و العدل،و بالمسموع العلوم الشرعیّة الّتی هی فرع العقلیّة.إذ لا ینتفع بفرع من دون أصله.
صَوَابُ الرَّأْیِ بِالدُّوَلِ- یُقْبِلُ بِإِقْبَالِهَا وَ یَذْهَبُ بِذَهَابِهَا
أی أنّ الدولة مستلزمة لصواب الرأی.إذ کان من تمام السعادة المقتضیة للدولة أن یلزمها رأی صواب یکون به تدبیرها.و تلک السعادة و الدولة معدّة لاختیار أصلح الآراء و قائدة إلیه فهو یقبل بإقبالها لإعدادها له و عند ذهابها یذهب الرأی الصواب و إن عدّ فی الظاهر صوابا.
اَلْعَفَافُ زِینَةُ الْفَقْرِ وَ الشُّکْرُ زِینَةُ الْغِنَی
العفّة:فضیلة القوّة الشهویّة.و ظاهر کونها زینة للإنسان و هی مع الفقر أجمل فإنّها یفید الفقیر بهاء محبّة فی قلوب الخلق و یکسبه المدح و الثناء منهم و یظهر أثرها علیه بسرعة.و إن فقدها الفقیر خسر الدنیا و الآخرة،و کذلک الشکر من فضائل القوّة الشهویّة أیضا و قبیح بالغنیّ مقابلة نعم اللّه بالکفران.فزینة غناه و تمامه إذن شکره له.
یَوْمُ الْعَدْلِ عَلَی الظَّالِمِ- أَشَدُّ مِنْ یَوْمِ الْجَوْرِ عَلَی الْمَظْلُومِ
فیوم العدل یوم القیامة،و یوم الجور وقت الظلم.و قد مرّ بیانه.
ص:409
اَلْأَقَاوِیلُ مَحْفُوظَةٌ وَ السَّرَائِرُ مَبْلُوَّةٌ- وَ «کُلُّ نَفْسٍ بِما کَسَبَتْ رَهِینَةٌ» وَ النَّاسُ مَنْقُوصُونَ مَدْخُولُونَ إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ- سَائِلُهُمْ مُتَعَنِّتٌ وَ مُجِیبُهُمْ مُتَکَلِّفٌ- یَکَادُ أَفْضَلُهُمْ رَأْیاً- یَرُدُّهُ عَنْ فَضْلِ رَأْیِهِ الرِّضَااَلرِّضَی وَ السُّخْطُ- وَ یَکَادُ أَصْلَبُهُمْ عُوداً تَنْکَؤُهُ اللَّحْظَةُ- وَ تَسْتَحِیلُهُ الْکَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ مَعَاشِرَ النَّاسِ اتَّقُوا اللَّهَ- فَکَمْ مِنْ مُؤَمِّلٍ مَا لاَ یَبْلُغُهُ وَ بَانٍ مَا لاَ یَسْکُنُهُ- وَ جَامِعٍ مَا سَوْفَ یَتْرُکُهُ- وَ لَعَلَّهُ مِنْ بَاطِلٍ جَمَعَهُ وَ مِنْ حَقٍّ مَنَعَهُ- أَصَابَهُ حَرَاماً وَ احْتَمَلَ بِهِ آثَاماً- فَبَاءَ بِوِزْرِهِ وَ قَدِمَ عَلَی رَبِّهِ آسِفاً لاَهِفاً- قَدْ «خَسِرَ الدُّنْیا وَ الْآخِرَةَ ذلِکَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِینُ»
مدخول و مدخل : أی فی عقله دخل و علّة .و تنکؤه : أی تؤثّر فیه .و تستحیله:
تغیّره .و باء بثقله : رجع به و حصل علیه .و اللاهف : المتحسّر .
و الفصل فی معرض الوعظ فنبّه السامعین أوّلا علی أنّ أقوالهم محفوظة و سرائرهم مختبرة بما کلّفوا به من طاعة اللّه.و السرائر ما اضمر فی القلوب من العقائد و النیّات و غیرها.و عن معاذ بن جبل قال:سألت النبیّ صلّی اللّه علیه و آله عن قوله تعالی «یَوْمَ تُبْلَی السَّرائِرُ» (1)ما هذه السرائر الّتی تبلی یوم القیامة؟فقال:سرائرکم هی أعمالکم من الصلاة و الصیام و الزکاة و الوضوء و الغسل من الجنابة و کلّ مفروض لأنّ الأعمال کلّها سرائر خفیّة فإن شاء قال:صلّیت و لم یصلّ،و إن شاء قال:توضّأت و لم یتوضّأ. استعارة و استعار لفظ الرهینة للنفس باعتبار وثوقها فی الأسر بما کسبت من الشرّ کما یوثق الرهن بما علیه من مال .و اللفظ من القرآن المجید.
و غرض ذلک التنبیه علی العدل فی القول و إضمار الخیر و اکتساب الأعمال الصالحة .
ص:410
ثمّ نبّه علی ما فیهم من النقصان الطبیعیّ المحتاج إلی التکمیل المکتسب و وصف سائلهم بأنّ سؤاله خارج عمّا ینبغی لأنّ غرضه به الامتحان دون العلم،و مجیبهم بالتکلّف فی جوابه لقلّة علمه ،و أفضلهم رأیا بأنّه یکاد أن یردّه عن فضل رأیه ما یعرض له من أمر یرضی به أو یسخط له و یرجع عنه و إن کان یشاهد فیه المصلحة،و أصلبهم عودا:أی أشدّهم فی اللّه و أقواهم فی طاعته یؤثّر فیه اللحظة:أی ممّن ینظر إلیه نظر الهیبة و تستحیله الکلمة الواحدة منه فتغیّره عن الحقّ.و یجوز أن یرید اللحظة و الکلمة ممّن یستهویه للدنیا و لذّاتها .ثمّ أمرهم بتقوی اللّه و نفّر عن تقبیح الأمل جذبا إلی التقوی بذکر کثرة من یؤمّل ما لا یبلغه و یبنی ما لا یسکنه و یجمع ما لابدّ من ترکه مع احتمال أن یکون من باطل جمعه و من حقّ منعه أهله فأصابه حراما و حمل ثقل و زره و قدم به علی ربّه حزینا متحسّرا علی ما فرّط فی جنبه قد خسر الدنیا بموته و الآخرة بتفریطه فی اکتساب خیرها و «ذلِکَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِینُ» .
مِنَ الْعِصْمَةِ تَعَذُّرُ الْمَعَاصِی
أی من أسباب العصمة،و ذلک أنّ الإنسان یتعوّد بترکها حین لا یجدها حتّی یصیر ذلک ملکة له و هی المراد بالعصمة.
مَاءُ وَجْهِکَ جَامِدٌ یُقْطِرُهُ السُّؤَالُ- فَانْظُرْ عِنْدَ مَنْ تُقْطِرُهُ
استعارة مرشحة-کنایة استعار لفظ ماء الوجه للحیاء و نوره علی الوجه الّذی یذهب من وجه السائل بسؤاله،و رشّح بذکر الجمود و التقطیر.و یحتمل أن یکون کنایة عمّا یعرض من العرق عند خجل السائل بسؤاله و استحیائه.و غرض الکلمة وضع السؤال موضعه من أهل المروّة و البیوتات،و روی:وجهک ماء جامد.فیکون استعارة للماء فی الوجه
ص:411
باعتبار بذله فکأنّه ذاب و قطر کالماء الجامد .
اَلثَّنَاءُ بِأَکْثَرَ مِنَ الاِسْتِحْقَاقِ مَلَقٌ وَ التَّقْصِیرُ عَنِ الاِسْتِحْقَاقِ عِیٌّ أَوْ حَسَدٌ
فالملق:هو التلطّف الشدید بالقول و الإفراط فی المدح.و نفّر عن طرفی الإفراط و التفریط فی الثناء فالإفراط بما یلزمه من رذیلة الملق،و التفریط بما یلزمه من العیّ عن المدح أو الحسد بالفضیلة الممدوح علیها.
أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَهَانَ بِهِ صَاحِبُهُ
و ذلک أنّ استهانته به یستلزم انهما که فیه و استکثاره منه و عدم إقلاعه عنه حتّی یصیر ملکة بخلاف ما یستصعبه من الذنوب.
مَنْ نَظَرَ فِی عَیْبِ نَفْسِهِ اشْتَغَلَ عَنْ عَیْبِ غَیْرِهِ- وَ مَنْ رَضِیَ بِرِزْقِ اللَّهِ لَمْ یَحْزَنْ عَلَی مَا فَاتَهُ- وَ مَنْ سَلَّ سَیْفَ الْبَغْیِ قُتِلَ بِهِ- وَ مَنْ کَابَدَ الْأُمُورَ عَطِبَ- وَ مَنِ اقْتَحَمَ اللُّجَجَ غَرِقَ- وَ مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ السُّوءِ اتُّهِمَ- وَ مَنْ کَثُرَ کَلاَمُهُ کَثُرَ خَطَؤُهُ- وَ مَنْ کَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَیَاؤُهُ- وَ مَنْ قَلَّ حَیَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ- وَ مَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ- وَ مَنْ مَاتَ قَلْبُهُ دَخَلَ النَّارَ- وَ مَنْ نَظَرَ فِی عُیُوبِ النَّاسِ فَأَنْکَرَهَا- ثُمَّ رَضِیَهَا لِنَفْسِهِ فَذَلِکَ الْأَحْمَقُ بِعَیْنِهِ- وَ مَنْ أَکْثَرَ مِنْ ذِکْرِ الْمَوْتِ- رَضِیَ مِنَ الدُّنْیَا بِالْیَسِیرِ- وَ مَنْ عَلِمَ أَنَّ کَلاَمَهُ مِنْ عَمَلِهِ- قَلَّ کَلاَمُهُ إِلاَّ فِیمَا یَعْنِیهِ
ص:412
من نظر فی عیب نفسه اشتغل عن غیب غیره .لأنّه إنّما یذکر عیب الغیر غالبا فی معرض الافتخار علیه بالبراءة من ذلک العیب فإذا نظر إلی مثله من نفسه شغله اعتبار ذلک النقصان فیها عن الاشتغال بنقصان غیره و النظر فیه .
و من رضی برزق اللّه لم یحزن علی ما فاته .و ذلک أنّ الحزن علی ما فات مستلزم لعدم القناعة و الرضی بالحاصل من الرزق فعدم ذلک اللازم مستلزم لعدم ملزومه و هو الحزن علی الفائت .
و من سلّ سیف البغی قتل به .و هو کنایة عن الظلم،و ظاهر أنّ الظلم سبب لهلاک الظالم.و قد سبق بیانه مرارا .
و من کابد الامور عطب :أی من قاساها بنفسه استعدّ بها للهلاک .
استعارة و من اقتحم اللجج غرق .و استعار لفظ اللجج للامور العظام کالحروب و تدبیر الدول،و لفظ الغرق للهلاک .
و من دخل مداخل السوءاتّهم .لأنّها مظنّة التهمة و دخولها من الأمارات الموجبة للظنّ کمعاشرة الفسّاق و نحوه .
و من کثر کلامه کثر خطأه .لأنّه قد مرّ أنّ کمال العقل مستلزم لقلّة الکلام فیکون کثرة الکلام مستلزما لنقصان العقل المستلزم لکثرة الخطأ و القول من غیر تروّ و تثبّت.
و من کثر خطأه قلّ حیاؤه لأنّک علمت أنّ الحیاء هو أن یحسّن الارتداع عن الامور الّتی یقبح تعاطیها و الإقدام علیها لملاحظته ما ینتج من ارتکابها من قبح الاحدوثة.و الإقدام علی الخطأ بکثرة الکلام ینافی الارتداع عن تلک الامور و هو من جملتها.
و من قلّ حیاؤه قلّ ورعه .لأنّ الورع هو لزوم الأعمال الجمیلة و الوقوف علی حدودها دون الرذائل.و الحیاء منها.فقلّة الحیاء مستلزم لقلّة الورع.و ربّما فسرّ الورع بالوقوف عن المحارم،و ظاهر أنّ قلّة الحیاء أیضا مظنّة للإقدام علی المحارم فکانت مظنّة لقلّة الورع فأقام الشیء مقام مظنّة الشیء و حکم به.
ص:413
استعارة و من قلّ ورعه مات قلبه :أی لمّا کانت الفضیلة هی حیاة القلب استعار لعدمها أو قلّتها فیه لفظ الموت باعتبار عدم انتفاعه بها کخروج المیّت عن الانتفاع بالحیاة .
و من مات قلبه دخل النار .لأنّ المزحزح له عنها إلی الجنّة هو استکماله بالفضیلة فإذا فقدها فالنار موعده،و الکلام فی صورة قیاس مفصول نتیجته أنّ من کثر کلامه دخل النار.و هو تنفیر عن کثرة الکلام .
و من نظر فی عیوب الناس فأنکرها ثمّ رضیها لنفسه فذلک الأحمق بعینه .و وجه الحمق أنّ کونه منکرا لها من غیره یستلزم کون الرأی الحقّ أن لا یفعلها،و رضاه بها لنفسه مخالفة للرأی الحقّ له و خروج عن المصلحة لنفسه و ذلک حمق و نقصان ظاهر فی العقل.و الألف و اللام فی الحمق یفید حصره فی المشار إلیه،و لذلک أکّده بعینه .
و من أکثر من ذکر الموت رضی من الدنیا بالیسیر .لأنّ الغرض من طلب الکثیر منها الاستمتاع و الالتذاذ به و ذکر الموت کاسر لذلک الالتذاذ و مبغّض له .
و من علم أنّ کلامه من عمله قلّ کلامه إلاّ فیما یعنیه .و ذلک أنّ العالم بذلک یرتّب قیاسا هکذا:الکلام عمل،و الأعمال موأخذ علی ما لا یعنی منها.فینتج أنّ الکلام مؤاخذ علی ما لا یعنی منه.و ذلک موجب للاقتصار علی ما یعنی منه.
لِلظَّالِمِ مِنَ الرِّجَالِ ثَلاَثُ عَلاَمَاتٍ- یَظْلِمُ مَنْ فَوْقَهُ بِالْمَعْصِیَةِ- وَ مَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ وَ یُظَاهِرُ الْقَوْمَ الظَّلَمَةَ
فظلمه لمن فوقه عصیان اللّه و تعدّیه لحدوده العادلة.و الثانیة مستلزمة للاولی، و الثالثة مستلزمة للاولیین.
ص:414
عِنْدَ تَنَاهِی الشِّدَّةِ تَکُونُ الْفَرْجَةُ- وَ عِنْدَ تَضَایُقِ حَلَقِ الْبَلاَءِ یَکُونُ الرَّخَاءُ
تناهی الشدّة مستلزم للخلاص منها و هو المراد بالفرج و کذلک تضایق الحلق هو وقت الفزع الخالص إلی اللّه و الرجاء الحقّ له و ذلک معدّ للفرج منه، استعارة و استعار لفظ الحلق للامور الشدیدة المحیطة بالإنسان لا یجد عنها محیصا ملاحظة لشبهها بالحلقة فی البطان و الحزام .
لاَ تَجْعَلَنَّ أَکْثَرَ شُغُلِکَ بِأَهْلِکَ وَ وَلَدِکَ- فَإِنْ یَکُنْ أَهْلُکَ وَ وَلَدُکَ أَوْلِیَاءَ اللَّهِ- فَإِنَّ اللَّهَ لاَ یُضِیعُ أَوْلِیَاءَهُ- وَ إِنْ یَکُونُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ- فَمَا هَمُّکَ وَ شُغُلُکَ بِأَعْدَاءِ اللَّهِ
نهی عن کثرة الاشتغال بالأهل و الولد لصرف ذلک عن طاعة اللّه،و نبّه علی عدم جوازه بما هو فی قوّة قیاس شرطیّ منفصل تقدیره:أنّ أهلک لا یخلو إمّا أن یکونوا من أولیاء اللّه أو أعدائه و علی التقدیرین لا یجوز الاشتغال بهم أمّا أن یکونوا من أولیاء اللّه أو أعدائه و علی التقدیرین لا یجوز الاشتغال بهم أمّا الأولیاء فلأنّ اللّه تعالی یکفیهم مئونتهم فلا حاجة بهم إلی اهتمام غیره،و أمّا أعداءه فلا یجوز الاهتمام بحالهم. استفهام علی سبیل التقریع و التوبیخ و-ما-فی قوله: فما همّک .استفهام علی سبیل التقریع و التوبیخ .
أَکْبَرُ الْعَیْبِ أَنْ تَعِیبَ مَا فِیکَ مِثْلُهُ
و قد مرّ أن ذلک حمق و هو أکبر العیوب.
و هنأ بحضرته رجل رجلا بغلام ولد له فقال له:لیهنئک الفارس فقال علیه السّلام:لاَ تَقُلْ ذَلِکَ- وَ لَکِنْ قُلْ شَکَرْتَ الْوَاهِبَ- وَ بُورِکَ لَکَ
ص:415
فِی الْمَوْهُوبِ- وَ بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ رُزِقْتَ بِرَّهُ
و هذا إرشاد منه للتهنئة بالولد فیها أربع فواید:
أحدها:تذکیر الوالد بشکر اللّه و إلفاته إلیه.
و الثانیة:استنزال البرکة منه بالدعاء فیما وهب له.
الثالثة:الدعاء للموهوب بالبقاء و بلوغ الأشدّ و هو کمال القوّة لغایة الانتفاع به.
الرابعة:الدعاء بثمرته و الانتفاع به و هی أن یرزقه برّه و نفعه.
أَطْلَعَتِ الْوَرِقُ رُءُوسَهَا- إِنَّ الْبِنَاءَ یَصِفُ لَکَ الْغِنَی
الفخم : العظیم .
کنایة و کنّی بطلوع الورق لرؤوسها عن ظهور أثرها فی البناء ملاحظة لشبهها بالحیوانات فی ظهوره ، استعارة و کذلک استعار لفظ الوصف و نسبه إلی البناء باعتبار أنّه ینبیء عن الغنی کما ینبیء الوصف عن موصوفه .
لو سد علی رجل باب بیته و ترک فیه من أین کان یأتیه رزقه؟فقال علیه السّلام:
مِنْ حَیْثُ یَأْتِیهِ أَجَلُهُ
قاس الرزق علی الأجل لاشتراکهما فی مبدء واحد و هو قدرة الصانع تعالی.
و أشار إلی ذلک بقوله:من حیث.
إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَیْسَ بِکُمْ لَکُمْ بَدَأَ- وَ لاَ إِلَیْکُمُ انْتَهَی- وَ قَدْ کَانَ صَاحِبُکُمْ هَذَا یُسَافِرُ فَعُدُّوهُ فِی بَعْضِ أَسْفَارِهِ- فَإِنْ قَدِمَ عَلَیْکُمْ وَ إِلاَّ قَدِمْتُمْ عَلَیْهِ
ص:416
فعدّوه :أی افترضوا أنّه کذلک.و التعزیة فصیحة العبارة جزیلة المعنی مفیدة للاقناع و السلو.
أَیُّهَا النَّاسُ لِیَرَاکُمُ[لَیَرَاکُمُ]لِیَرَکُمُ اللَّهُ مِنَ النِّعْمَةِ وَجِلِینَ- کَمَا یَرَاکُمْ مِنَ النِّقْمَةِ فَرِقِینَ- إِنَّهُ مَنْ وُسِّعَ عَلَیْهِ فِی ذَاتِ یَدِهِ- فَلَمْ یَرَ ذَلِکَ اسْتِدْرَاجاً فَقَدْ أَمِنَ مَخُوفاً- وَ مَنْ ضُیِّقَ عَلَیْهِ فِی ذَاتِ یَدِهِ- فَلَمْ یَرَ ذَلِکَ اخْتِبَاراً فَقَدْ ضَیَّعَ مَأْمُولاً
الاستدراج : الأخذ علی غرّة .
و أمر بالوجل من نعمة اللّه حال إفاضتها خوف الاستدراج بها کما یخاف من النقمة و ذلک أنّ النعمة بلاء یجب مقابلته بالشکر کما أنّ النقمة بلاء یجب مقابلته بالصبر.و الغرض الحثّ علی فضیلتی الشکر و الصبر .
و حذّر من الرکون إلی النعمة و الغفلة فیها عن اللّه بقوله: إنّه .إلی قوله: أمن مخوفا ،و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من أمن مخوفا فهو مغرور .و کذلک حذّر الفقیر أن یغفل عن کون فقره بلاء و اختبارا،و یعدّه لذلک بما یلزم ذلک من تضییع المأمول،و ذلک أنّه یستعدّ باعتقاد أنّه اختبار من اللّه للصبر علیه و یؤمل منه تعالی الأجر الجزیل فی الآخرة و إذا لم یعتقد ذلک بطل استعداده به فیضیّع مأموله منه.
یَا أَسْرَی الرَّغْبَةِ أَقْصِرُوا- فَإِنَّ الْمُعَرِّجَ عَلَی الدُّنْیَا لاَ یَرُوعُهُ مِنْهَا- إِلاَّ صَرِیفُ أَنْیَابِ الْحِدْثَانِ- أَیُّهَا النَّاسُ تَوَلَّوْا مِنْ أَنْفُسِکُمْ تَأْدِیبَهَا- وَ اعْدِلُوا بِهَا عَنْ ضِرَایَةِضَرَاوَةِ عَادَاتِهَا
الضراوة : الجرأة علی الصید و الولوع به.و الضرایة-بالفتح-لغة.و الضرایة
ص:417
-بالکسر-:مصدر ضری به.و الثلاث نسخ وردت بها الروایة ،
استعارة و استعار لفظ الأسری لمن ملکته رغبته فی الدنیا و حبّه لها .و أمرهم بالإقصار عن الإفراط فی طلبها و نفّر عن التعریج و الانعطاف علیها بقوله:فإنّ المعرّج،إلی قوله:و الحدثان، استعارة و استعار لفظ الصریف و الأنیاب ملاحظة لشبهه الموت عند قدومه بالبعیر الهائج .ثمّ أیّه بالناس و أمرهم أن یتولّوا من أنفسهم تأدیبها و ریاضتها و الوقوف بها علی حدّ العدل من الحرکات و الأفعال و أن یعدلوا بها عن جرأتها و إقدامها علی الانهماک فی المشتهیات.
و قد عرفت معنی الریاضة.
لاَ تَظُنَّنَّ بِکَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءاً- وَ أَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِی الْخَیْرِ مُحْتَمَلاً
أی ما دمت تجد لکلام الغیر محملا و تأویلا فلا تظنّنّ به سوء فإنّ النفوس السلیمة أقرب إلی اللّه من غیرها.و الواو للحال.
إِذَا کَانَتْ لَکَ إِلَی اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَاجَةٌ- فَابْدَأْ بِمَسْأَلَةِ الصَّلاَةِ عَلَی رَسُولِهِ ص- ثُمَّ سَلْ حَاجَتَکَ- فَإِنَّ اللَّهَ أَکْرَمُ مِنْ أَنْ یُسْأَلَ حَاجَتَیْنِ- فَیَقْضِیَ إِحْدَاهُمَا وَ یَمْنَعَ الْأُخْرَی
أمر بتقدیم سؤال الصلاة علی النبیّ صلّی اللّه علیه و آله فی طلب الحاجة للاستعداد به،و رغّب فیه بقوله:فإنّ اللّه سبحانه.إلی آخره:أی أنّ المسألة الاولی مجابة من اللّه بالاتّفاق فیجب من کرمه إجابة الثانیة و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّ من کان أکرم من ذلک فینبغی أن یسئل المسألتین لیقضی الحاجة.
مَنْ ضَنَّ بِعِرْضِهِ فَلْیَدَعِ الْمِرَاءَ
ص:418
و ذلک أنّه داعیة ثوران القوّة الغضبیّة،من الممارین و مبدء المشاتمة و المسابّة.
مِنَ الْخُرْقِ الْمُعَاجَلَةُ قَبْلَ الْإِمْکَانِ- وَ الْأَنَاةُ بَعْدَ الْفُرْصَةِ
الخرق : الحمق .
و معاجلة طلب الحاجة و الإسراع إلیها قبل وقت إمکانها إفراط فی طلبها،و الأناة فیها إذا أمکنت تفریط فیه و هما مذمومان و صاحبهما واضع للطلب فی غیر مواضعه و هو حمق ظاهر و نقصان فی عقل وجوه التدبیر.و الحقّ العدل هو وضع الطلب فی وقت الإمکان و الفرصة.
لاَ تَسْأَلْ عَمَّا لَمْ یَکُنْ لاَ یَکُونُ- فَفِی الَّذِی قَدْ کَانَ لَکَ شُغُلٌ
أمر بالسلو عن ما لا یکون من زیادة رزق و نحوه من المطالب الدنیویّة بما قد کان و وقع من المطالب الّتی اعطیها الإنسان.و رغّب فیما أمر به من السلو بقوله:
ففی الّذی.إلی آخره:أی ففی ذلک شغل لک عمّا تتوقّع من غیره،و أراد الشغل بضبط ما فی یده من النعمة و ما ینبغی من الاشتغال بشکرها و استعمالها فی طاعة اللّه و هو صغری ضمیر تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فینبغی أن یشتعل به عمّا وراءه و لا یطلب الزیادة علیه.
اَلْفِکْرُ مِرْآةٌ صَافِیَةٌ وَ الاِعْتِبَارُ مُنْذِرٌ نَاصِحٌ- وَ کَفَی أَدَباً لِنَفْسِکَ تَجَنُّبُکَ مَا کَرِهْتَهُ لِغَیْرِکَ
استعارة الفکر مرآة صافیة .
ص:419
و استعار لها له لفظ المرآة باعتبار أنّه یری به المعقولات کما یری الأشباح فی المرآة. و قد سبق بیانه .
استعارة الاعتبار منذر ناصح .استعار لفظ المنذر الناصح للاعتبار،و ذلک أنّه یذکّر الآخرة و یفید الانزجار و الاتّعاظ عن المناهی کالمنذر الناصح .
و کفی أدبا لنفسک ما کرهته لغیرک .أشار أنّ تجنّب المرء لما یکره لغیره من الرذائل المهلکة أدب کاف له.و نفّر عنه بکونه مکروها للغیر و رغّب فی تجنّبه بکونه أدبا کافیا للنفس.
اَلْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ- وَ الْعِلْمُ یَهْتِفُ بِالْعَمَلِ- فَإِنْ أَجَابَ أَجَابَهُ وَ إِلاَّ ارْتَحَلَ عَنْهُ
أراد أنّه مقرون به فی الوضع الّذی ینبغی بمقتضی الحکمة الإلهیّة،و ذلک أنّه تعالی جعل للنفس العاقلة قوّتین علمیّة و عملیّة و جعل کمالها باستکمال هاتین القوّتین بالعلم و العمل و لا کمالها بالعلم دون اقترانه بالعمل.
و قوله: فمن علم عمل .
أی من علم ما ینبغی لزمه فی الحکمة أن یعمل بمقتضی العلم و کان ذلک داعیا له إلی العمل مستلزما لوجوده منه،و یحتمل أن یکون قوله:عمل.خبرا فی معنی الأمر:أی فمن علم فلیعمل.
استعارة و قوله: و العلم یهتف بالعمل.إلی آخره .
فالهتف النداء و إن لم یر المنادی،و استعار لفظه للمعقول من طلب العلم لمقارنة العمل الّذی ینبغی له و جذبه الطبیعی له فکأنّه یصیح به و یدعوه إلی مقارنته لیکون منهما کما الإنسان .و معنی قوله: فإن أجابه و إلاّ ارتحل .أنّ العلم الّذی ینبغی إذا قارنه العمل تأکّد به حتّی یصیر العلم کأنّه برز إلی عالم الحسّ فی صورة الفعل.
مثلا إذا علم الإنسان وجود الصانع و ما ینبغی من طاعته ثمّ قرن ذلک بعبادته
ص:420
استلزمت تلک العبادة منه دوام ملاحظته تعالی و إخطار ذکره بالبال حتّی لا یصیر منسیّا له فی وقت.فأمّا إذا ترک العمل للّه فلا بدّ أن یشتغل بغیره عن ذکره و ینقطع ملاحظته له حتّی یکون ذلک سببا لنسیانه و الغفلة عنه. استعارة-مجازا إطلاقا لاسم ذی الغایة علی غایته و استعار لفظ الارتحال لزوال العلم باعتبار عدم استعداد تلک النفس و صلاحیّتها،کالراحل عن وطن لا یصلح لاستیطانه.و قیل:أراد بالارتحال عدم المنفعة مجازا إطلاقا لاسم ذی الغایة علی غایته.إذ کانت الغایة من الارتحال عدم المنفعة بالمرتحل .
یَاأَیُّهَا النَّاسُ مَتَاعُ الدُّنْیَا حُطَامٌ مُوبِئٌ- فَتَجَنَّبُوا مَرْعَاهُ قُلْعَتُهَا أَحْظَی مِنْ طُمَأْنِینَتِهَا- وَ بُلْغَتُهَا أَزْکَی مِنْ ثَرْوَتِهَا- حُکِمَ عَلَی مُکْثِرِیهَامُکْثِرٍ مِنْهَا بِالْفَاقَةِ- وَ أُعِینَ مَنْ غَنِیَ عَنْهَا بِالرَّاحَةِ- مَنْ رَاقَهُ زِبْرِجُهَا أَعْقَبَتْ نَاظِرَیْهِ کَمَهاً- وَ مَنِ اسْتَشْعَرَ الشَّغَفَ بِهَا مَلَأَتْ ضَمِیرَهُ أَشْجَاناً- لَهُنَّ رَقْصٌ عَلَی سُوَیْدَاءِ قَلْبِهِ- هَمٌّ یَحْزُنُهُ- حَتَّی یُؤْخَذَ بِکَظَمِهِ فَیُلْقَی بِالْفَضَاءِ مُنْقَطِعاً أَبْهَرَاهُ- هَیِّناً عَلَی اللَّهِ فَنَاؤُهُ وَ عَلَی الْإِخْوَانِ إِلْقَاؤُهُ- وَ إِنَّمَا یَنْظُرُ الْمُؤْمِنُ إِلَی الدُّنْیَا بِعَیْنِ الاِعْتِبَارِ- وَ یَقْتَاتُ مِنْهَا بِبَطْنِ الاِضْطِرَارِ- وَ یَسْمَعُ فِیهَا بِأُذُنِ الْمَقْتِ وَ الْإِبْغَاضِ- إِنْ قِیلَ أَثْرَی قِیلَ أَکْدَی- وَ إِنْ فُرِحَ لَهُ بِالْبَقَاءِ حُزِنَ عَلَیْهِ بِالْفَنَاءِ- هَذَا وَ لَمْ یَأْتِهِمْ یَوْمٌ فِیهِ یُبْلِسُونَ
أقول: القلعة : الرحلة .و الحظوة : المنفعة .و راقه : أعجبه و الکمه : العمی خلقة .و الأشجان : العوارض المهمّة .و الرقص : الغلیان و الاضطراب .و الأبهران عرقان متعلّقان بالقلب .و أکدی : قلّ خیره .و الإبلاس : الیأس من الرحمة .
ص:421
استعارة أحدها:أنّ حطامها موبیء :أی مهلک،و استعار لفظ الحطام لمتاعها باعتبار سرعة زواله و قلّة الانتفاع به کما قال تعالی «إِنَّما مَثَلُ الْحَیاةِ الدُّنْیا کَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ» (1)الآیة.و کونه موبئا استلزم اقتنائه و الاعتناء بجمعه للهلاک فی الآخرة و لذلک أمر بتجنّب مرعاه:أی رعیه أو محلّ رعیه و هو الدنیا.
الثانی:قلعتها و عدم القرار بها أنفع من الطمأنینة إلیهالما یستلزمه من الشقاوة فی الآخرة بمحبّتها و السکون إلیها.
الثالث:أنّ الاقتصار علی البلغة من العیش فیها أزکی من الثروة بهالما تستلزمه من الثروة بها من الشقاء الاخرویّ.فالاقتصار علی القدر الضروریّ منها أطهر و أسلم من غوائلها .
الرابع:حکم بالفاقة علی مکثرها.أمّا فیها فلأنّ کلّ زیادة منها موجبة للحاجة إلی أخری فلذلک کان أکثر الناس حاجة فیها الملوک ثمّ من دونهم علی اختلاف درجاتهم فیها،و أمّا فی الآخرة فلفقر المکثر فیها المشتغل بها من ملکات الخیر و الفضائل.
الخامس:أنّ من غنی عنها بزهده فیها اعین من اللّه بالراحة منها .
السادس:أنّ من أعجبته زینتها فأنصب إلیها عمی عمّا فیها من العبر عمّا وراءها من أحوال الآخرة، استعارة و استعار لفظ الکمه للمعقول من عمی البصیرة عن الاعتبار لأنّ ذلک أشدّ من العمی کما قال تعالی «فَإِنَّها لا تَعْمَی الْأَبْصارُ وَ لکِنْ تَعْمَی الْقُلُوبُ الَّتِی فِی الصُّدُورِ» (2).
استعارة بالکنایة السابع:أنّ من اتّخذ محبّتها شعارا ملأت قلبه هموما و غموما و أحزانا علی
ص:422
ما لم یحصل منها بطلبه،و علی ما فات منها بالأسف علیه.و استعار لفظ الرقص لتعاقب تلک الأحزان و الهموم،و اضطرابها فی قلبه إلی غایه الأخذ بکظمه،و کنّی به عن الموت،و بإلقائه بالفضاء عن دفنه .و منقطعا و هیّنا حالان .
إحداها:أنّه إنّما ینظر إلیها بعین الاعتبار لیحصل منها عبرة،و ذلک هو الّذی خلق لأجله.
الثانیة: کنایة و یقتات منها ببطن الاضطرار .و کنّی به عن کونه لا یتناول منها إلاّ بلغته و مقدار ضرورته.
الثالثة: کنایة و یسمع فیها باذن المقت و الإبغاض .و کنّی به عن بغضه لها فهو لا یسمع ما تمدح به،بل معایبها .
و قوله: إن قیل أثری .إلی قوله: الفناء .أراد أنّ الإنسان فیها منغّص اللذّة مکدّر العیشة بینا هو مثر إذ لحقه الإکداء و الفقر،و فرح ببقاء حبیب إذ لحقه الحزن علیه.و هذا الکلام لاحق بالفائدة الاولی فی وصف حال الإنسان فی الدنیا و من تمامه،و وصف المؤمن هنا اعتراض.
و قوله هذا و لم یأتهم:أی هذا البلاء و لم یأت الناس یوم القیامة الّذی لشدّة هوله ییأسون فیه من الرحمة.
إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَضَعَ الثَّوَابَ عَلَی طَاعَتِهِ- وَ الْعِقَابَ عَلَی مَعْصِیَتِهِ ذِیَادَةً لِعِبَادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ- وَ حِیَاشَةً لَهُمْ إِلَی جَنَّتِهِ
الذودة : الدفع و المنع .
و أشار إلی غایتی الحکمة الإلهیّة من وضع الثواب و العقاب و هما ردّ عباد اللّه عن نقمته و جمعهم إلی جنّته.
یَأْتِی عَلَی النَّاسِ زَمَانٌ- لاَ یَبْقَی فِیهِمْ مِنَ؟الْقُرْآنِ؟ إِلاَّ رَسْمُهُ- وَ مِنَ الْإِسْلاَمِ إِلاَّ اسْمُهُ- وَمَسَاجِدُهُمْ یَوْمَئِذٍ عَامِرَةٌ مِنَ الْبِنَاءِ- خَرَابٌ
ص:423
مِنَ الْهُدَی- سُکَّانُهَا وَ عُمَّارُهَا شَرُّ أَهْلِ الْأَرْضِ- مِنْهُمْ تَخْرُجُ الْفِتْنَةُ وَ إِلَیْهِمْ تَأْوِی الْخَطِیئَةُ- یَرُدُّونَ مَنْ شَذَّ عَنْهَا فِیهَا- وَ یَسُوقُونَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا إِلَیْهَا- یَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَبِی حَلَفْتُ- لَأَبْعَثَنَّ عَلَی أُولَئِکَ فِتْنَةً أَتْرُکُ تَتْرُکُ الْحَلِیمَ فِیهَا حَیْرَانَ- وَ قَدْ فَعَلَ وَ نَحْنُ نَسْتَقِیلُ اللَّهَ عَثْرَةَ الْغَفْلَةِ
رسم القرآن :أثره،و هو تلاوته. و لا یبقی من الإسلام إلاّ اسمه :أی دون العمل.
و سکّان المساجد و عمّارها :القرّاء السوء و أئمّة الضلال الّدین وصفهم علیه السّلام فی صدر الکتاب بقوله:إنّ أبغض الخلایق إلی اللّه رجلان.إلی آخره و بقوله فی فصل آخر ذامّا لاختلاف الناس فی الفتیا:ترد علی أحدهم القضیّة.إلی آخرة .و ظاهر أنّ أولئک و أمثالهم شرّ أهل الأرض لکونهم مبدء الفتنة فی الدین و إلیهم ترجع خطایا الخلق.إذ بهم یقتدون و عنهم یأخذون.و من کان کذلک فقد استعدّ للفتنة الّتی یحار فیها الحلیم رزین العقل،و روی:الحکیم .و إذا سأل علیه السّلام من اللّه تعالی إقالة عثرة الغفلة فیجب الاقتداء به فی ذلک السؤال.أللّهمّ أقلنا من عثرة الغفلة.
أنه علیه السّلام قلما اعتدل به المنبر إلا قال أمام الخطبة:أَیُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ- فَمَا خُلِقَ امْرُؤٌ عَبَثاً فَیَلْهُوَ- وَ لاَ تُرِکَ سُدًی فَیَلْغُوَ- وَ مَا دُنْیَاهُ الَّتِی تَحَسَّنَتْ لَهُ بِخَلَفٍ- مِنَ الْآخِرَةِ الَّتِی قَبَّحَهَا سُوءُ النَّظَرِ عِنْدَهُ- وَ مَا الْمَغْرُورُ الَّذِی ظَفِرَ مِنَ الدُّنْیَا بِأَعْلَی هِمَّتِهِ- کَالْآخَرِ الَّذِی ظَفِرَ مِنَ الْآخِرَةِ بِأَدْنَی سُهْمَتِهِ
أقول: السدی : المهمل .و السهمة النصیب .
و لمّا کان تقوی اللّه و التزوّد بها إلیه هو المطلوب من خلق الإنسان لا جرم صدّر علیه السّلام بالأمر بها عامّة خطبه،و
ص:424
و نبّه علی ذلک المطلوب و أنّ الغایة هو الآخرة منه ،و أنّه لیست الدنیا و إن تحسّنت له بخلف من غایته و إن قبّحها سوء نظره لها و معرفته بها ،و علی أنّه لا مناسبة بین من ظفر من الدنیا بأعلی مطالبه منها و بین من ظفر من الآخرة بأدنی نصیب لشرف متاع الآخرة فکیف من یظفر منها بأعلی قسط.و نفّر طالب الدنیا و المدّعی للظفر بها بکونه مغرورا.و الفصل ظاهر.
لاَ شَرَفَ أَعْلَی مِنَ الْإِسْلاَمِ- وَ لاَ عِزَّ أَعَزُّ مِنَ التَّقْوَی- وَ لاَ مَعْقِلَ أَحْسَنُ مِنَ الْوَرَعِ- وَ لاَ شَفِیعَ أَنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ- وَ لاَ کَنْزَ أَغْنَی مِنَ الْقَنَاعَةِ- وَ لاَ مَالَ أَذْهَبُ لِلْفَاقَةِ مِنَ اَلرِّضَا بِالْقُوتِ- وَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَی بُلْغَةِ الْکَفَافِ- فَقَدِ انْتَظَمَ الرَّاحَةَ وَ تَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ- وَ الرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ وَ مَطِیَّةُ التَّعَبِ- وَ الْحِرْصُ وَ الْکِبْرُ وَ الْحَسَدُ- دَوَاعٍ إِلَی التَّقَحُّمِ فِی الذُّنُوبِ- وَ الشَّرُّ جَامِعُ مَسَاوِئِ الْعُیُوبِ
لا شرف أعلی من الإسلام لاستلزامه شرف الدنیا و الآخرة.
و لا عزّ أعزّ من التقوی لأنّ التقوی تستلزم جمیع مکارم الأخلاق الجامعة لعزّ الدنیا و الآخرة فکان عزّها أکبر عزّا من غیرها.
استعارة و لا معقل أحصن من الورع .و استعار له لفظ المعقل باعتبار تحصّن الإنسان به من عذاب اللّه،و لمّا کان عبارة عن لزوم الأعمال الجمیلة فلا معقل أحصن منه .
استعارة و لا شفیع أنجح من التوبة .و ذلک لاستلزامها العفو عن جریمة التائب قطعا دون سائر الشفعاء بشفاعتهم.و لفظ الشفیع مستعار لها .
استعارة و لا کنز أعنی من القناعة .و ذلک لکونها فضیلة مستلزمة لسکون نفس الإنسان،و رضاه بما قسّم له،و غناه عمّا وراءه.و لا شیء من سائر الکنوز لأبناء
ص:425
الدنیا کذلک.و لفظ الکنز مستعار لها .
و لا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت .و هو قریب ممّا قبله.
و من اقتصر علی بلغة الکفاف فقد انتظم الراحة :أی فی سلک الراحة من الهمّ بطلب الدنیا و مجاذبة أهلها و تبوّأ خفض الدعة:أی اتّخذ لین السکون مباءة و مرجعا .
استعارة و الرغبة مفتاح النصب و مطیّة التعب .استعار للرغبة فی الدنیا لفظ المفتاح باعتبار فتحه لباب التعب علی الراغب،و کذلک لفظ المطیّة باعتبار استلزامها له کالمطیّة المتعب رکوبها .
و الحرص و الکبر و الحسد دواع إلی التقحّم فی الذنوب . التقحّم :
الدخول بسرعة.فالحرص علی الدنیا داع إلی الظلم و الکذب و الفجور و الجبن و البخل و نحوها من الرذائل،و الکبر داع إلی قلّة الإنصاف و عدم التواضع و العجب و التهوّر و عدم الاحتمال و نحوها،و الحسد داع إلی الظلم و الکذب و الفساد فی الأرض و غیرها من الآثام .
الشرّ کلّیّ کالجنس لمساوی العیوب و مقابحها.إذ کلّ منها یصدق علیه أنّه شرّ مخصوص و هو المعنیّ بکون الشرّ جامعا لها.
یَا؟جَابِرُ؟ قِوَامُ الدِّینِ وَ الدُّنْیَا بِأَرْبَعَةٍ- عَالِمٍ مُسْتَعْمِلٍ عِلْمَهُ- وَ جَاهِلٍ لاَ یَسْتَنْکِفُ أَنْ یَتَعَلَّمَ- وَ جَوَادٍ لاَ یَبْخَلُ بِمَعْرُوفِهِ- وَ فَقِیرٍ لاَ یَبِیعُ آخِرَتَهُ بِدُنْیَاهُ- فَإِذَا ضَیَّعَ الْعَالِمُ عِلْمَهُ- اسْتَنْکَفَ الْجَاهِلُ أَنْ یَتَعَلَّمَ- وَ إِذَا بَخِلَ الْغَنِیُّ بِمَعْرُوفِهِ- بَاعَ الْفَقِیرُ آخِرَتَهُ بِدُنْیَاهُ- یَا؟جَابِرُ؟ مَنْ کَثُرَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَیْهِ- کَثُرَتْ حَوَائِجُ النَّاسِ إِلَیْهِ- فَمَنْ قَامَ لِلَّهِ
ص:426
فِیهَا- بِمَا یَجِبُ فِیهَا عَرَّضَهَا لِلدَّوَامِ وَ الْبَقَاءِ وَ مَنْ لَمْ یَقُمْ فِیهَا بِمَا یَجِبُ عَرَّضَهَا لِلزَّوَالِ وَ الْفَنَاءِ
الدنیا إنّما یقوم بالمال،ثمّ بالعلم لوضعه فی مواضعه و معرفة وجوه اکتسابه الّتی ینبغی أولا ینبغی من حلال و حرام و هو علم الفقه و اصوله و تفسیر کتاب اللّه و سنّة رسوله اللذین منهما تعلّم الأحکام،ثمّ ما یلزم ذلک من علم العربیّة و نحوه.
و لمّا کان العلم لا بدّ له من حال و المال لابدّ له من قان وجب أن یکون من شرط الأوّل أن یعمل بعمله،و من شرط الثانی أن یستعمل ماله فی مصارفه الّتی ینبغی و إلاّ لم یکن لهما فائدة و لا قامت بهما أحوال الخلق الّتی هی الدنیا،و لمّا کان الموت ضروریّا للعلماء و غیرهم و وجب قیام الدنیا و بقاء نظامها أن یدوم العلم فی قرن من الناس بعد قرن وجب أن یکون هناک جهّال لا یستنکفون عن تعلّمه و لمّا کانت حاجة البعض إلی البعض فی قوام الدنیا ضروریّة و لم تجر فی نظامها أن یستغنی کلّ عن کلّ لأسباب معلومة و غیر معلومة وجب أن یکون هناک من لا مال له لیحصل الانتفاع به فیما هو بصدده و مرشّح له من الأعمال الضروریّة بالوجود علیه.فإذن قوام الدنیا لا یحصل بدون الأربعة.و إنّما شرط فی الفقیر أن لا یبیع آخرته بدنیاه لأنّ بایع آخرته بدنیاه ظالم خارج عن العدل فلا یقوم به الدنیا و لا یصلح لعمارتها .
ثمّ لمّا بیّن ما به قوام الدنیا أشار إلی ما یلزم ضدّ ذلک من الفساد تنفیرا عنه بقوله:
فإذا ضیّع.إلی قوله:بدنیاه فلأنّ تضییع العلم یستلزم عدم الانتفاع به و استنکاف الجاهل عن تعلّمه لسوء اعتقاده فی العلم و أهله لما یراه من تضییعهم له و عدم عملهم علی وفقه فیبقی علی الجهل بمنفعته،و بخل الغنی بمعروفه مستلزم لعدم المنفعة بالمال و یلزم من ذلک شدّة حاجة الفقیر و بیع آخرته بدنیاه فیلزمه الفساد المنافی لمصلحة المعاش و المعاد .ثمّ أشار إلی ما یلزم کثرة نعمة اللّه علی العبد من کثرة حوائج الخلق إلیه لیوضح له وجوب الشکر علیها و القیام بما یجب للّه فیها من الإحسان إلی
ص:427
المحتاجین إلیه.و رغّب فی ذلک بما یلزمه من تعریض العبد بذلک نعمة اللّه عنده للدوام و المزید.و نفّر عن تضییع ذلک بما یلزمه من تعریضها لزوالها.
و روی ابن جریر الطبری فی تاریخه عن عبد الرحمن بن أبی لیلی الفقیه-و کان ممن خرج لقتال الحجاج مع ابن الأشعث-انه قال فیما کان یحض به الناس علی الجهاد:إنی سمعت أمیر المؤمنین علی بن ابی طالب علیه السّلام یقول یوم لقینا أهل الشام:
أَیُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- إِنَّهُ مَنْ رَأَی عُدْوَاناً یُعْمَلُ بِهِ- وَ مُنْکَراً یُدْعَی إِلَیْهِ- فَأَنْکَرَهُ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ وَ بَرِئَ- وَ مَنْ أَنْکَرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَدْ أُجِرَ- وَ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ- وَ مَنْ أَنْکَرَهُ بِالسَّیْفِ- لِتَکُونَ «کَلِمَةُ اللّهِ هِیَ الْعُلْیا» وَ کَلِمَةُ الظَّالِمِینَ هِیَ السُّفْلَی- فَذَلِکَ الَّذِی أَصَابَ سَبِیلَ الْهُدَی- وَ قَامَ عَلَی الطَّرِیقِ وَ نَوَّرَ فِی قَلْبِهِ الْیَقِینُ
لمّا کان إنکار المنکر واجبا علی کلّ مکلّف بحسب تمکّنه و کان لتمکنّه من ذلک طرف أدنی و هو الإنکار بالقلب لإمکانه من کلّ أحد،و طرف أعلی و هو الإنکار بالید و هو الغایة،و وسط و هو الإنکار باللسان کانت درجاته فی استحقاق الأجر به مترتّبة علی درجات إنکاره،و إنّما خصّص المنکر بقلبه بالسلامة و البراءة:
أی من عذاب اللّه لأنّه لم یحمل إثما و إنّما لم یذکر له أجرا و إن کان کلّ واجب یثاب علیه لأنّ غایة إنکار المنکر دفعه و الإنکار بالقلب لیس له فی الظاهر تأثیر فی دفع المنکر فکأنّه لم یفعل ما یستحقّ به أجرا و إنّما قال:لتکون «کَلِمَةُ اللّهِ هِیَ الْعُلْیا» .لأنّه إن لم یکن ذلک مقصود المنکر بل کان مقصوده مثلا الریاء أو الغلبة الدنیویّة لا یکون قد أصاب سبیل الهدی، استعارة و استعار لفظ التنویر لوضوح الحقّ فی قلبه و جلائه من شبه الباطل .
ص:428
فَمِنْهُمُ الْمُنْکِرُ لِلْمُنْکَرِ بِیَدِهِ وَ لِسَانِهِ وَ قَلْبِهِ- فَذَلِکَ الْمُسْتَکْمِلُ لِخِصَالِ الْخَیْرِ- وَ مِنْهُمُ الْمُنْکِرُ بِلِسَانِهِ وَ قَلْبِهِ وَ التَّارِکُ بِیَدِهِ- فَذَلِکَ مُتَمَسِّکٌ بِخَصْلَتَیْنِ مِنْ خِصَالِ الْخَیْرِ- وَ مُضَیِّعٌ خَصْلَةً- وَ مِنْهُمُ الْمُنْکِرُ بِقَلْبِهِ وَ التَّارِکُ بِیَدِهِ وَ لِسَانِهِ- فَذَاکَ فَذَلِکَ الَّذِی ضَیَّعَ أَشْرَفَ الْخَصْلَتَیْنِ مِنَ الثَّلاَثِ- وَ تَمَسَّکَ بِوَاحِدَةٍ- وَ مِنْهُمْ تَارِکٌ لِإِنْکَارِ الْمُنْکَرِ بِلِسَانِهِ وَ قَلْبِهِ وَ یَدِهِ- فَذَلِکَ مَیِّتُ الْأَحْیَاءِ- وَ مَا أَعْمَالُ الْبِرِّ کُلُّهَا وَ الْجِهَادُ فِی سَبِیلِ اللَّهِ- عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْیِ عَنْ الْمُنْکَرِ- إِلاَّ کَنَفْثَةٍ فِی بَحْرٍ لُجِّیٍّ- وَ إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْیَ عَنِ الْمُنْکَرِ- لاَ یُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ وَ لاَ یَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ- وَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِکَ کَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ
أقول:إنّه علیه السّلام جری فی هذه القسمة علی الوجه الطبیعیّ المعتاد،و ذلک أنّ العادة جاریة بأن ینکر الإنسان أوّلا بقلبه،ثمّ بلسانه،ثمّ بیده إذا تمکّن.
و قد یرد القسمة علی غیر هذا الوجه فیکون الناس علی أقسام ستّة و هی المنکر بقلبه فقط أو بلسانه فقط أو بیده فقط أو بقلبه و لسانه أو بقلبه و یده أو بلسانه و یده.
و اعلم أنّ الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر متلازمان لأنّ المعروف و المنکر قد یکونان نقیضین أو فی قوّتهما فیکون النهی عن المنکر مستلزما للأمر بالمعروف و الأمر بالمعروف مستلزما للنهی عن المنکر.و استجماعهما لخصال الخیر ظاهر لأنّ کلّ خصلة منه معروف فالأمر بالمعروف مطلقا أمر بها و ترک کلّ واحدة من خصال الخیر منکر فإنکاره یستلزم الأمر بها.و لمّا کانت هذه الأنواع الثلاثة من إنکار المنکر فضایل تحت فضیلة العدل وجب عدادها من خصال الخیر،
ص:429
و لمّا کانت مستلزمة لسایر الفضایل کما أشرنا إلیه وجب أن یکون المنکر للمنکر مطلقا مستکملا لجمیع خصال الخیر و أن یکون التارک له بیده تارکا لخصلة و متمسّکا بخصلتین،و التارک بیده و لسانه مضیّعا لأشرف الخصلتین من الثلاث و إنّما کانتا أشرف لکونهما یستلزمان دفع المنکر أو بعضه غالبا بخلاف الثالثة ،و وجب أن یستحقّ تارک الثلاث اسم المیّت فی حیاته لخلوّه عن جمیع الفضایل. استعارة و لفظ المیّت استعارة .
تشبیه و قوله: و ما أعمال البرّ.إلی قوله:لجّیّ .تعظیم لهاتین الفضیلتین،و شبّه أعمال البرّ کلّها بالنسبة إلیهما بالنفثة فی البحر اللجیّ،و وجه الشبه أنّ کلّ خصلة من أعمال البرّ جزئیّ بالنسبة إلیهما کالنفثة بالنسبة إلی البحر و عموم الخیر منهما [فیهما-خ -].
و قوله فإنّ الأمر .إلی قوله: رزق .
صغری ضمیر رغّب به فیهما،و تقدیر الکبری:و کلّما لا یقرّب من أجل و لا ینقص من رزق فلا ینبغی أن یحذر منه.ثمّ أشار إلی أفضل أصنافهما و هو کلمة العدل عند الإمام الجائر لغرض ردّه عن جوره.
أَوَّلُ مَا تُغْلَبُونَ عَلَیْهِ مِنَ الْجِهَادِ- الْجِهَادُ بِأَیْدِیکُمْ ثُمَّ بِأَلْسِنَتِکُمْ ثُمَّ بِقُلُوبِکُمْ- فَمَنْ لَمْ یَعْرِفْ بِقَلْبِهِ مَعْرُوفاً وَ لَمْ یُنْکِرْ مُنْکَراً- قُلِبَ فَجُعِلَ أَعْلاَهُ أَسْفَلَهُ وَ أَسْفَلُهُ أَعْلاَهُ
الجهاد بالید و اللسان و القلب هو إنکار المنکر بها.و إنّما کان بالید أوّل مغلوب علیه لأنّ الغرض الأوّل للعدوّ إزالة سلطان الید و مقاومته فإذا تمکّن من ذلک کان زوال سلطان اللسان سهلا.
فإن قلت:لم قال:ثمّ بقلوبکم.و معلوم أنّ القلب لا یطّلع علیه العدوّ و لا یتمکّن من إزالة الجهاد به؟.
ص:430
قلت:أراد أنّهم إذا غلبوا علی الجهاد بالید و اللسان و طالت المدّة علیهم ألقوا المنکر و تکرّر علی سمعهم و أبصارهم و قلوبهم فلم یبق إنکاره و هو معنی غلبهم علیه .
استعارة و قوله: فمن لم یعرف بقلبه إلی آخره .
نفّر عن ترک الخصلتین بما یلزمه من قلب أعلی التارک أسفله،و استعار لفظ القلب للانتکاس فی مهاوی الردائل و درکات الجحیم.و إنّما خصّص إنکار القلب بذلک لإمکانه فی کلّ وقت و خلوّه عن المضارّ المخوّفة الّتی یخشی فی الإنکار بالید و اللسان .
إِنَّ الْحَقَّ ثَقِیلٌ مَرِیءٌ وَ إِنَّ الْبَاطِلَ خَفِیفٌ وَبِیءٌ
استعارة استعار للحقّ وصف الثقل باعتبار صعوبته علی من یکون علیه فیؤخذ منه، و لفظ المریء باعتبار استلزامه للراحة فی الآخرة.و للباطل وصف الخفّة باعتبار سهولته علی أهله،و لفظ الوبیء باعتبار استلزامه لإهلاکهم فی الآخرة .
لاَ تَأْمَنَنَّ عَلَی خَیْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَذَابَ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَی- «فَلا یَأْمَنُ مَکْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» - وَ لاَ تَیْأَسَنَّ لِشَرِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَی- «إِنَّهُ لا یَیْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْکافِرُونَ»
أدّب السامع بهذین الأدبین محتجّا بعموم الآیتین، استعارة و لفظ المکر مستعار لإمهال اللّه ،ثمّ أخذه فهو فی صورة المکر و الخداع.و المراد ظاهر.
اَلْبَخِیلُ جَامِعٌ لِمَسَاوِئِ الْعُیُوبِ- وَ هُوَ زِمَامٌ یُقَادُ بِهِ إِلَی کُلِّ سُوءٍ
ص:431
البخل:رذیلة التفریط من فضیلة السخاء و هی مستلزمة للجهل لأنّ البخیل غیر عالم بوضع المال موضعه،و للفجور لعبوره فی شهوته و محبّته للدنیا إلی طرف الإفراط فیها،و للجبین لأنّ من بخل بماله فهو بنفسه أبخل،و للانظلام و الظلم لقصوره عن فضیلة العدل فی ماله،ثمّ للحرص و الحسد و الشره و دناءة الهمّة و الکذب و الغدر و الخیانة و قطع الرحم و عدم المواساة.و کلّ طرف تفریط لفضیلة من الفضایل فإنّه من توابع البخل و لواحقه و هی مساوی العیوب الّتی أخبر عن استجماعه لها،و أنّه زمام إلی کلّ منها. استعارة و استعار له لفظ الزمام باعتبار أنّه یدعو إلی هذه المساوی و یقود إلیها کالزمام .
اَلرِّزْقُ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ- وَ رِزْقٌ یَطْلُبُکَ فَإِنْ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاکَ- فَلاَ تَحْمِلْ هَمَّ سَنَتِکَ عَلَی هَمِّ یَوْمِکَ- کَفَاکَ کُلُّ یَوْمٍ عَلَی مَا فِیهِ- فَإِنْ تَکُنِ السَّنَةُ مِنْ عُمُرِکَ- فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَی سَیُؤْتِیکَ فِی کُلِّ غَدٍ جَدِیدٍ مَا قَسَمَ لَکَ- وَ إِنْ لَمْ تَکُنِ السَّنَةُ مِنْ عُمُرِکَ- فَمَا تَصْنَعُ بِالْهَمِّ فِیمَا لَیْسَ لَکَ- وَ لَمْ یَسْبِقْکَ لَنْ یَسْبِقَکَ إِلَی رِزْقِکَ طَالِبٌ- وَ لَنْ یَغْلِبَکَ عَلَیْهِ غَالِبٌ- وَ لَنْ یُبْطِئَ عَنْکَ مَا قَدْ قُدِّرَ لَکَ قال الرضی:و قد مضی هذا الکلام فیما تقدم من هذا الباب،إلا أنه ههنا أوضح و أشرح،فلذلک کررناه علی القاعدة المقررة فی أول الکتاب.
و أقول:قد مضی تفسیر أکثر هذا الکلام.و غرضه التنفیر عن الاهتمام بالدنیا و الاشتغال بما یرجی منها عن ذکر اللّه و طاعته.و نهاه أن یحمل همّ السنة علی همّ الیوم لئلاّ یجتمع علیه أحزان متضاعفة یکفی واحد منها شغلا.و احتجّ لذلک بضمیرین
ص:432
صغری الأوّل:قوله:فإن یکن السنة و تقدیرها إنّ سنتک الّتی تهتمّ لها إمّا أن یکون من عمرک أو لیس،و تقدیر الکبری:و کلّما کان علی هذین التقدیرین فلا ینبغی الاهتمام به أمّا علی التقدیر الأوّل فإنّ اللّه یؤتیک فی کلّ یوم منها ما قسّم لک لا محالة و ما لا بدّ منه لا یجوز الاهتمام به،و أمّا علی التقدیر الثانی فلأنّه لیس من العقل أن یهتمّ المرء بما لیس له.و صغری الثانی :قوله:و لن یسبقک إلی قوله:قدّر لک.و تقدیرها أنّ رزقک لن یسبقک إلیه طالب،و تقدیر الکبری و کلّما کان کذلک فلا ینبغی أن یهتمّ به.
رُبَّ مُسْتَقْبِلٍ یَوْماً لَیْسَ بِمُسْتَدْبِرِهِ- وَ مَغْبُوطٍ فِی أَوَّلِ لَیْلِهِ قَامَتْ بَوَاکِیهِ فِی آخِرِهِ
و غرض الکلمة التنبیه من رقدة الغفلة عن الموت لغایة العمل و لما بعده.
و المعنی ظاهر.
اَلْکَلاَمُ فِی وَثَاقِکَ مَا لَمْ تَتَکَلَّمْ بِهِ- فَإِذَا تَکَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِی وَثَاقِهِ- فَاخْزُنْ لِسَانَکَ کَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَکَ وَ وَرِقَکَ- فَرُبَّ کَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةًوَ جَلَبَتْ نِقْمَةً
الوثاق : الحبل ،
تشبیه و أمر بخزن اللسان عمّا لا ینبغی من القول و فی غیر موضعه و شبّه خزنه بخزن الذهب ،و وجه الشبه شدّة الخزن .و نفّر عن قول ما لا ینبغی بضمیرین صغری أحدهما:قوله:الکلام.إلی قوله:وثاقه،و تقدیر الکبری:و کلّ کلام کان کذلک فلا ینبغی أن یتکلّم منه إلاّ بما ینبغی، استعارة و لفظ الوثاق مستعار ، و صغری الثانی:قوله:فربّ کلمة سلبت نعمة:و تقدیر الکبری:و کلّ کلمة کذلک فیجب الاحتراز منها بقلّة القول و التثبّت فیه.
ص:433
لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ بَلْ لاَ تَقُلْ کُلَّ مَا تَعْلَمُ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ فَرَضَ عَلَی جَوَارِحِکَ کُلِّهَا- فَرَائِضَ یَحْتَجُّ بِهَا عَلَیْکَ یَوْمَ الْقِیَامَةِ
نهی عن قول ما لا یعلم لأنّه کذب أو محتمل للکذب و لأنّه قول بالجهل فیجب الاحتراز فیه،و أمّا النهی عن قول کلّ ما یعلم فلجواز أن یکون فیه مضرّة لنفسه أو لغیره کإذاعة سرّ یستلزم أذاه أو أذی من أسرّه إلیه،و نفّر عن ذلک بقوله:
فإنّ اللّه.إلی آخره،و هو صغری ضمیر.و الفرائض الّتی افترضها اللّه علی کلّ جارحة هو ما أوجبه علی اللسان مثلا من قول ما ینبغی فی موضعه و کذلک ما یتعلّق بالعین من النظر الّذی ینبغی و نحو ذلک فی سائر الجوارح.و تقدیر الکبری:و کلّ من فرض اللّه علی جوارحه فرائض کذلک یحتجّ بها علیه یوم القیامة فی ترکها و العمل بها فیجب علیه المحافظة علیها.
اِحْذَرْ أَنْ یَرَاکَ اللَّهُ عِنْدَ مَعْصِیَتِهِ- وَ یَفْقِدَکَ عِنْدَ طَاعَتِهِ- فَتَکُونَ مِنَ الْخَاسِرِینَ- وَ إِذَا قَوِیتَ فَاقْوَ عَلَی طَاعَةِ اللَّهِ- وَ إِذَا ضَعُفْتَ فَاضْعُفْ عَنْ مَعْصِیَةِ اللَّهِ
حذّر من الأمرین بما یلزمه من دخوله فی زمرة الخاسرین لثواب اللّه یوم القیامة .ثمّ أمر بالقوّة علی طاعة اللّه لیتمّ الاستعداد بها لرحمته و بالضعف عن معصیته لیضعف الاستعداد بها عن قبول سخط اللّه و نقمته.
اَلرُّکُونُ إِلَی الدُّنْیَا مَعَ مَا تُعَایِنُ مِنْهَا جَهْلٌ- وَ التَّقْصِیرُ فِی حُسْنِ الْعَمَلِ- إِذَا وَثِقْتَ بِالثَّوَابِ عَلَیْهِ غَبْنٌ- وَ الطُّمَأْنِینَةُ إِلَی کُلِّ أَحَدٍ قَبْلَ الاِخْتِبَارِ لَهُ عَجْزٌ
ص:434
:أی بما ینبغی أن یرکن إلیه ممّا لا ینبغی .
:أی مستلزم للغبن و هو ترک ما یوفّق به من الثواب الکثیر فی مقابلة العمل الیسیر له،و فیه إیماء إلی أنّ مبدء التقصیر فی حسن العمل عدم الوثوق بالثواب الموعود فی الآخرة.
:أی عن البحث عمّن ینبغی السکون إلیه و عن وضعه موضعه.و نفّر عن الرکون إلی الدنیا بما یلزمه من الجهل،و عن التقصیر فی حسن العمل بما یلزمه من الغبن،و من الطمأنینة إلی کلّ أحد بما یلزمها من العجز.
مِنْ هَوَانِ الدُّنْیَا عَلَی اللَّهِ أَنَّهُ لاَ یُعْصَی إِلاَّ فِیهَا- وَ لاَ یُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِتَرْکِهَا
نفّر عن الدنیا بذکر هوانها علی اللّه من الوجهین المذکورین.
مَنْ طَلَبَ شَیْئاً نَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ
کقولهم:من طلب شیئا و جدّ وجد،و من قرع بابا و لجّ و لج.و ظاهر أنّ الطلب معدّ لحصول المطلوب فإن تمّ الاستعداد له نال الکلّ و إلاّ فبقدر نقصان الاستعداد یکون نقصان المطلوب.
مَا خَیْرٌ بِخَیْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ- وَ مَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ- وَ کُلُّ نَعِیمٍ دُونَ الْجَنَّةِ فَهُوَمَحْقُورٌ- وَ کُلُّ بَلاَءٍ دُونَ النَّارِ عَافِیَةٌ
نفی عمّا یقود إلی النار و إن عدّ فی الدنیا خیرا و لذّة استحقاق اسم الخیر تحقیرا له و تنفیرا عنه بما یلزمه من غایته الّتی هی النهایة فی الشرّ و هی النار ،و کذلک نفی عمّا یقود إلی الجنّة من الطاعات الشاقّة و إن عدّ فی الدنیا شرّا و ألما
ص:435
استحقاق اسم الشرّ ترغیبا فیه بما یلزمه من غایته الّتی هی دخول الجنّة.و التقدیر:
ما خیر بعده النار بخیر،و ما شرّ بعده الجنّة بشرّ.
و قوله:و کلّ نعیم دون الجنّة محقور.
تفسیر للأوّل.
و قوله:و کلّ بلاء دون النار عافیة.
تفسیر للثانی.و أراد عافیة نسبیّة.
أَلاَ وَ إِنَّ مِنَ الْبَلاَءِ الْفَاقَةَ- وَ أَشَدُّ مِنَ الْفَاقَةِ مَرَضُ الْبَدَنِ- وَ أَشَدُّ مِنْ مَرَضِ الْبَدَنِ مَرَضُ الْقَلْبِ- أَلاَ وَ إِنَّ مِنَ النِّعَمِ سَعَةَ الْمَالِ- وَ أَفْضَلُ مِنْ سَعَةِ الْمَالِ صِحَّةُ الْبَدَنِ- وَ أَفْضَلُ مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ تَقْوَی الْقَلْبِ
أشار إلی درجات البلاء و تفاوتها بالشدّة و الضعف و إلی ما یقابلها من درجات النعمة و تفاوتها کذلک.و إنّما کان مرض القلب بالرذائل أشدّ من مرض البدن لاستلزامه فی الآخرة فوات أکمل السعادات و هو الموت الّذی لا حیاة معه و بحسب ذلک کان تقوی القلب و استکماله بالفضایل أفضل من صحّة البدن لاستلزامه السعادة الباقیة و الحیاة الأبدیّة.
لِلْمُؤْمِنِ ثَلاَثُ سَاعَاتٍ فَسَاعَةٌ یُنَاجِی فِیهَا رَبَّهُ- وَ سَاعَةٌ یَرُمُّ مَعَاشَهُ- وَ سَاعَةٌ یُخَلِّی بَیْنَ نَفْسِهِ- وَ بَیْنَ لَذَّتِهَا فِیمَا یَحِلُّ وَ یَجْمُلُ- وَ لَیْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ یَکُونَ شَاخِصاً إِلاَّ فِی ثَلاَثٍ- مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ أَوْ خُطْوَةٍ فِی مَعَادٍ- أَوْ لَذَّةٍ فِی غَیْرِ مُحَرَّمٍ
أقول: رمّ المعاش : إصلاحه .و الشاخص : الذاهب من بلد إلی بلد .
و قسّم زمان المؤمن العاقل إلی ثلاثة أقسام بحسب ما ینبعی بمقتضی الحکمة العملیّة و
ص:436
الرأی الحقّ.فقسم یتوفّر فیه علی عبادة اللّه و مناجاته و هذا القسم هو المطلوب الأوّل،و قسم یصلح فیه ما لابدّ منه فی تحصیل القسم الأوّل من معاشه،و قسم یخلّی فیه بین نفسه و لذّاتها المباحة الّتی یجمل و یحسن دون المحرّمة و المباحة المستهجنة.و هذان القسمان مرادان للأوّل إذ لا یمکن بدونهما.
و قوله :و لیس للعاقل.إلی آخره.
أی لیس له بحسب مقتضی العقل العملیّ أن یستعمل نفسه إلاّ فی الامور الثلاثة.
اِزْهَدْ فِی الدُّنْیَا یُبَصِّرْکَ اللَّهُ عَوْرَاتِهَا- وَ لاَ تَغْفُلْ فَلَسْتَ بِمَغْفُولٍ عَنْکَ
لمّا کانت محبّة الدنیا مستلزمة لاستتار عیوبها عن إدراک محبّیها کما قیل:حبّک الشیء یعمی و یصمّ.کان بغضها و الزهد فیها رافعا لذلک الستر کاشفا لما تحته من عیوبها و عوراتها فأمر بالزهد فیها لهذه الغایة المنفّرة عنها .ثمّ نفّر عن الغفلة فیها عمّا ورائها بضمیر صغراه قوله:فلست بمغفول عنک،و تقدیر الکبری:و کلّ من لیس بمغفول فلا ینبغی أن یغفل عمّا یراد به.
تَکَلَّمُوا تُعْرَفُوا فَإِنَّ الْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ
و قد مرّ تفسیر هذه الکلمة،لکنّه جعلها هنا صغری ضمیر رغّب به فی الکلام عند الحاجة لغایة أن یعرفها المتکلّم،و تقدیر الکبری:و کلّ من کان مخبوءا تحت لسانه فینبغی أن یظهر نفسه فی کلامه لیعرف.
خُذْ مِنَ الدُّنْیَا مَا أَتَاکَ- وَ تَوَلَّ عَمَّا تَوَلَّی عَنْکَ- فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَأَجْمِلْ فِی الطَّلَبِ
أمر بالقناعة أوّلا بما تیسّر من الدنیا لمن تمکّن منها و قوی علیها،و بالإجمال فی الطلب لمن لم یتمکّن منها.و الإجمال فی طلب الدنیا طلبها برفق من الوجه الّذی
ص:437
ینبغی،و علی الوجه الّذی ینبغی.
رُبَّ قَوْلٍ أَنْفَذُ مِنْ صَوْلٍ
أی قد یبلغ الإنسان بالقول ما لا یبلغه بالشدّة و الصولة فیکون القول أنفذ فی غرضه.و یصلح مثلا یضرب للرفق و اللین الّذی یبلغ به ما لا یبلغ بالعنف.و روی عوض أنفذ أشدّ.و المعنی:ربّ قول یقوله الإنسان فیکون ضرره علیه أشدّ من صولة عدوّه،أو ربّ قول یسمعه من غیره کقذف أو هجر یکون أشدّ علیه من صولة العدوّ.و المعنیان منقولان عن ابن آدم الهرویّ.
کُلُّ مُقْتَصَرٍ عَلَیْهِ کَافٍ
إنّه لا یقتصر الإنسان إلاّ علی مقدار یمکنه دفع الضرورة و الحاجة به و ذلک کاف و مغنی للقانع عمّا سواه.و فیه إیماء إلی الأمر بالاقتصار علی الیسیر من الدنیا.
اَلْمَنِیَّةُ وَ لاَ الدَّنِیَّةُ وَ التَّقَلُّلُ وَ لاَ التَّوَسُّلُ وَ مَنْ لَمْ یُعْطَ قَاعِداً لَمْ یُعْطَ قَائِماً وَ الدَّهْرُ یَوْمَانِ یَوْمٌ لَکَ وَ یَوْمٌ عَلَیْکَ- فَإِذَا کَانَ لَکَ فَلاَ تَبْطَرْ- وَ إِذَا کَانَ عَلَیْکَ فَاصْبِرْ
.فالمنیّة مبتدأ دلّ علی خبره بقوله:و لا الدنیّة.
أی أسهل من الدنیّة،و یحتمل أن یکون التقدیر یحتمل المنیّة و لا یحتمل الدینّة و هی الخسیسة من الأمر ترتکب فی طلب الدنیا.و کثیر من الکرام یختارون الموت علی ذلک .
ص:438
:أی القناعة بالقلیل من العیش و التبلّغ به خیر من التوسّل إلی أهل الدنیا فی طلبها .
کنایة و من لم یعط قاعدا لم یعط قائما .کنّی بالقعود عن الطلب السهل و بالقیام عن الطلب الصعب بتعسّف:أی من لم یرزق بالطلب السهل لم ینفعه التشدید فی الطلب.و هذا الحکم أکثریّ کما هو حکم الخطیب حثّ به علی الإجمال فی الطلب .
و الدهر یومان یوم لک و یوم علیک فإذا کان لک فلا تبطر و إذا کان علیک فاصبر .فالیوم الّذی هو زمان الضیق و البلاء یجب فیه الصبر للاستعداد به لقبول رحمة اللّه تعالی کما قال «وَ بَشِّرِ الصّابِرِینَ» (1)الآیة.
مُقَارَبَةُ النَّاسِ فِی أَخْلاَقِهِمْ أَمْنٌ مِنْ غَوَائِلِهِمْ
الغایلة : الحقد ،
و ذلک أنّ مباعدة الناس فی أخلاقهم تستلزم منافرتهم و عداوتهم و أحقادهم.فالعدول عنها إلی المقاربة و المشاکلة لأخلاقهم یستلزم الأمن من ذلک منهم.
عن مثله-:
لَقَدْ طِرْتَ شَکِیراً وَ هَدَرْتَ سَقْباً
فالشکیر : هو الفرخ قبل النهوض .
استعارة و استعار له لفظ الشکیر و السقب باعتبار صغر قدره عمّا تکلّم به فی حضرته،و وصف الطیران و الهدیر له باعتبار نهوضه إلی ذلک الکلام الّذی هو فوق محلّه و لیس أهلا له کما أنّ الطیران لیس من شأن الشکیر،و لا الهدیر من شأن السقب .
مَنْ أَوْمَأَ إِلَی مُتَفَاوِتٍ خَذَلَتْهُ الْحِیَلُ
ص:439
المتفاوت : کالامور المتضادة أو الّتی یتعذّر الجمع منها فی العرف و العادة .
استعارة و استعار وصف الخذلان للحیل باعتبار أنّها لا تؤاتیه و لا یمکنه الجمع بین ما یرومه من تلک الامور .
إِنَّا لاَ نَمْلِکُ مَعَ اللَّهِ شَیْئاً وَ لاَ نَمْلِکُ إِلاَّ مَا مَلَّکَنَا- فَمَتَی مَلَّکَنَا مَا هُوَ أَمْلَکُ بِهِ مِنَّا کَلَّفَنَا- وَ مَتَی أَخَذَهُ مِنَّا وَضَعَ تَکْلِیفَهُ عَنَّا
برهان قوله: إنّا لا نملک مع اللّه شیئا .قوله تعالی «قُلْ فَمَنْ یَمْلِکُ لَکُمْ مِنَ اللّهِ شَیْئاً إِنْ أَرادَ بِکُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِکُمْ نَفْعاً» الآیة،و ظاهر أنّ التکلیف تابع لما ملّکنا إیّاه من الجوارح و القوی و العقل و سایر متعلّقات التکلیف و عند أخذه لشیء منها یضع التکلیف المتعلّق به عنّا.و سئل الصادق علیه السّلام عن هذه الکلمة فقال:لا حول علی ترک المعاصی و لا قوّة علی فعل الطاعات إلاّ باللّه.
شعبة کلاما:
دَعْهُ یَا؟عَمَّارُ؟- فَإِنَّهُ لَنْ یَأْخُذَلَمْ یَأْخُذْ مِنَ الدِّینِ إِلاَّ مَا قَارَبَهُ مِنَ الدُّنْیَا- وَ عَلَی عَمْدٍ لَبَّسَ لَبَسَ عَلَی نَفْسِهِ- لِیَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَاذِراً لِسَقَطَاتِهِ
أراد أنّه لا یعمل من الدین إلاّ بما یستلزم دنیا و یقرب به منها کعدل أو صدق یستلزم منفعة دنیویّة دون ما لیس کذلک.و هو صغری ضمیر نفّر به عن مخاطبته،تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فینبغی أن یعرض عن مراجعته و مکالمته.
مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ الْأَغْنِیَاءِ لِلْفُقَرَاءِ طَلَباً لِمَا عِنْدَ اللَّهِ- وَ أَحْسَنُ مِنْهُ تِیهُ الْفُقَرَاءِ عَلَی الْأَغْنِیَاءِ- اتِّکَالاً عَلَی اللَّهِ
ص:440
تیه الفقراء علی الأغنیاء أصعب علیهم و أشقّ من تواضع الأغنیاء لهم.إذ کان تیههم یستدعی کمال التوکّل علی اللّه و هو درجة عالیة فی الطریق إلیه فلذلک کان أفضل و أحسن لقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلم:أفضل الأعمال أحمزها.
مَا اسْتَوْدَعَ اللَّهُ امْرَأً عَقْلاً إِلاَّ اسْتَنْقَذَهُ بِهِ یَوْماً مَا
إمّا من بلاء الدنیا بالحیلة،أو من بلاء الآخرة بالطاعة.
مَنْ صَارَعَ الْحَقَّ صَرَعَهُ
استعارة استعار لفظ المصارعة للمقاومة،و ذلک أنّ اللّه سبحانه و ملائکته و کتبه و رسله و الصالحین من عباده أعوان الحقّ و لا مقاوم لهم .
اَلْقَلْبُ مُصْحَفُ الْبَصَرِ
أراد بالقلب النفس أو الذهن،و استعار له لفظ المصحف باعتبار أنّ کلّ تصوّر فی الذهن أرید التعبیر عنه فلا بدّ أن یتصوّر حروف العبارة عنه فی لوح الخیال و الحسّ البصریّ یشاهدها من هناک و یقرؤها.فالقلب إذن کالمصحف الّذی یشاهد فیه الحروف و الألفاظ و یقرأ منه بالبصر فلذلک أضافه إلی البصر.
اَلتُّقَی رَئِیسُ الْأَخْلاَقِ
استعارة استعار لفظ الرئیس للتقوی باعتبار أفضلیّته فی استلزامه لرضوان اللّه و حصول السعادة الباقیة و لا شیء من الأخلاق بانفراده یستلزم ذلک .
لاَ تَجْعَلَنَّ ذَرَبَ لِسَانِکَ عَلَی مَنْ أَنْطَقَکَ- وَ بَلاَغَةَ قَوْلِکَ عَلَی مَنْ سَدَّدَکَ
ص:441
ذرب اللسان :حدّته.و هو أدب یجری مجری المثل یضرب لمن یحصّل من إنسان علما و فائدة فیستعین بها علیه کأن یتفاصح علی من علّمه الفصاحة.
کَفَاکَ أَدَباً لِنَفْسِکَ اجْتِنَابُ مَا تَکْرَهُهُ مِنْ غَیْرِکَ
و أراد بما یکرهه من غیره الرذائل فإنّها مکروهة إلی کلّ أحد من غیره و من نفسه أیضا إذا عقل أنّها رذیلة و لذلک إذا عبّر بها أنف منها،إلاّ أنّ بعض الرذائل قد یخفی علی من هی فیه فلا یتصوّر قبحها من نفسه أو أنّه قد یتصوّر ذلک لکن یحمله علیها حامل آخر من شهوة أو غضب.و لمّا کان اجتناب الرذائل یستلزم الوقوف علی فضیلة العدل فی کلّ شیء لا جرم کان اجتنابها أدبا کافیا لمن یجتنبها.
مَنْ صَبَرَ صَبْرَ الْأَحْرَارِ وَ إِلاَّ سَلاَ سُلُوَّ الْأَغْمَارِ- و فی خبر آخر أنه علیه السّلام قال للأشعث بن قیس معزیا:
إِنْ صَبَرْتَ صَبْرَ الْأَکَارِمِ- وَ إِلاَّ سَلَوْتَ سُلُوَّ الْبَهَائِمِ
و الأغمار : الجهّال جمع غمر .
و جذب إلی فضیلة الصبر فی المصائب بإضافته إلی الأحرار و الأکارم،و بما یلزم عدمه من الغایة و هی السلوّ المشبه لسلوّ الغافلین أو البهائم.و أصل إلاّ-إن لا-أی و إن لا تصبر.
تَغُرُّ وَ تَضُرُّ وَ تَمُرُّ- إِنَّ اللَّهَ نفّر عنها بثلاثة ضمایر:
ص:442
تَعَالَی لَمْ یَرْضَهَا ثَوَاباً لِأَوْلِیَائِهِ- وَ لاَ عِقَاباً لِأَعْدَائِهِ وَ إِنَّ أَهْلَ الدُّنْیَا کَرَکْبٍ- بَیْنَا هُمْ حَلُّوا إِذْ صَاحَ بِهِمْ سَائِقُهُمْ فَارْتَحَلُوا
الدنیا تضرّ :أی بمحنتها، و تغرّ :أی بزنیتها. استعارة و تمرّ :أی بفراقها.
إذ من طبیعتها ذلک.و استعار لها وصف الإمرار باعتبار ما یستلزمه فراقها من ألم الجزع و الحزن کالمرارة ،و روی:و تمرّ-بفتح التاء-أی تذهب.
قوله: إنّ اللّه .إلی قوله: لأعدائه .إذ لو رضیها کذلک لأعطاها أولیاءه و حرّمها أعداءه .
تشبیه قوله: و إنّ أهل الدنیا.إلی آخره فقوله: بیناهم .إلی آخره.فی تقدیر صفة لرکب:أی کرکب من شأنه کذا،و وجه الشبه بالرکب الّذی شأنه ذلک سرعة ارتحالهم إلی الآخرة کسرعة ارتحال الرکب،و تقدیر الکبری فی الضمیرین الأوّلین:و کلّما کان کذلک فینبغی أن یجتنب و لا یحرص علی طلبه، و تقدیرها فی الثالث:و کلّما کان کذلک فینبغی أن یستعدّ فیه للرحیل و السفر .
لاَ تُخَلِّفَنَّ وَرَاءَکَ شَیْئاً مِنَ الدُّنْیَا- فَإِنَّکَ تَخَلِّفُهُ لِأَحَدِ رَجُلَیْنِ- إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِیهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ- فَسَعِدَ بِمَا شَقِیتَ بِهِ- وَ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِیهِ بِمَعْصِیَةِ اللَّهِ- فَکُنْتَ عَوْناً لَهُ عَلَی مَعْصِیَتِهِ- وَ لَیْسَ أَحَدُ هَذَیْنِ حَقِیقاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَی نَفْسِکَ
أدّبه علیه السّلام بالنهی عن إدّخار المال،و نفّره عن ذلک بضمیر صغراه قوله:
فإنّک .إلی آخره .
و قوله: بما شقیت به .
أی شقاء الدنیا بجمعه،و شقاء الآخرة بادّخاره لقوله تعالی «وَ الَّذِینَ یَکْنِزُونَ»
ص:443
«الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا یُنْفِقُونَها فِی سَبِیلِ اللّهِ» الآیة،و تقدیر الکبری و کلّ من یخلّف مالا لأحد هذین و لیس أحدهما حقیقا بأنّ یؤثره علی نفسه فلا یجوز أن یخلّفه.
قال الرضی:و یروی هذا الکلام علی وجه آخر و هو أَمَّا بَعْدُ- فَإِنَّ الَّذِی فِی یَدَیْکَ یَدِکَ مِنَ الدُّنْیَا- قَدْ کَانَ لَهُ أَهْلٌ قَبْلَکَ- وَ هُوَ صَائِرٌ إِلَی أَهْلٍ بَعْدَکَ- وَ إِنَّمَا أَنْتَ جَامِعٌ لِأَحَدِ رَجُلَیْنِ- رَجُلٍ عَمِلَ فِیمَا جَمَعْتَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ- فَسَعِدَ بِمَا شَقِیتَ بِهِ- أَوْ رَجُلٍ عَمِلَ فِیمَا جَمَعْتَهُ فِیهِ بِمَعْصِیَةِ اللَّهِ- فَشَقِیتَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ- وَ لَیْسَ أَحَدُ هَذَیْنِ أَهْلاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَی نَفْسِکَ- أَوْوَ لاَ أَنْ تَحْمِلَ لَهُ عَلَی ظَهْرِکَ- فَارْجُ لِمَنْ مَضَی رَحْمَةَ اللَّهِ- وَ لِمَنْ بَقِیَ رِزْقَ اللَّهِ أقول:فی هذه الروایة تنفیر عن الدنیا بضمیرین:أحدهما:قوله: فإنّ الّذی فی یدک .إلی قوله: بعدک ،و تقدیر کبراه:و کلّما کان کذلک فلیس لک أن تحبّه و تعتمد علیه .الثانی:قوله: و إنّما أنت .إلی قوله: ظهرک ،و کبراه ما مرّ فی الروایة الأولی استعارة مرشحة و استعار لفظ الحمل لاکتساب آثام جمع المال،و رشّح بذکر الظهر .ثمّ أرشده إلی ما هو خیر من المال لمن مضی و هو رجاء رحمة اللّه،و لمن بقی و هو رجاء رزق اللّه الموعود لکلّ حیّ.
ثَکِلَتْکَ أُمُّکَ أَ تَدْرِی مَا الاِسْتِغْفَارُ- الاِسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّیِّینَ- وَ هُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَی سِتَّةِ مَعَانٍ- أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَی مَا مَضَی- وَ الثَّانِی الْعَزْمُ عَلَی تَرْکِ الْعَوْدِ إِلَیْهِ أَبَداً- وَ الثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّیَ إِلَی الْمَخْلُوقِینَ حُقُوقَهُمْ- حَتَّی تَلْقَی اللَّهَ أَمْلَسَ لَیْسَ عَلَیْکَ
ص:444
تَبِعَةٌ- وَ الرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَی کُلِّ فَرِیضَةٍ عَلَیْکَ- ضَیَّعْتَهَا فَتُؤَدِّیَ حَقَّهَا- وَ الْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَی اللَّحْمِ الَّذِی نَبَتَ عَلَی السُّحْتِ- فَتُذِیبَهُ بِالْأَحْزَانِ حَتَّی تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظْمِ- وَ یَنْشَأَ بَیْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِیدٌ- وَاَلسَّادِسُ أَنْ تُذِیقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ- کَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ الْمَعْصِیَةِ- فَعِنْدَ ذَلِکَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ
أقول:ظاهر کلامه علیه السّلام یقتضی أنّ اسم الاستغفار الحقّ الّذی له درجة العلیّین و یستحقّها صاحبها به واقع علی مجموع المعانی الستّة الّتی أشار إلیها و ذکرها لیتعرّف حقیقته منها.و یکون إرادة هذا المعنی من لفظ الاستغفار بعرف جدید شرعیّ إذ مفهومه اللغویّ أنّه طلب المغفرة،إلاّ أنّه لمّا کان طلبها مشروطا بحصول المعانی المذکورة أطلق لفظ المشروط علی الشرط و استعمله فیه،و یحتمل أن لا یکون غرضه تفسیر مهیّة الاستغفار بل الإشارة إلی شرائطه الّتی لا ینبغی إیقاعه من دونها و هی المعانی الستّة و یکون معنی قوله:أ تدری ما الاستغفار:
أی الاستغفار التامّ بشرایطه و أعرض عن مهیّة للعلم بها،و أشار إلی تمامه من الشرائط و قصد بالإشارة إلی صدق لفظه علی شرائطه تأکید أنّه لا یتمّ بدونها حتّی کان مجموعها نفس حقیقة الاستغفار، استعارة و استعار لفظ الأملس لنقاء الصحیفة من الآثام .
اَلْحِلْمُ عَشِیرَةٌ
استعارة استعار لفظ العشیرة للحلم باعتبار أنّه یحمی صاحبه ممّن ینافره و یعادیه کما یحمیه عشیرته .
مِسْکِینٌ ابْنُ آدَمَ- مَکْتُومُ الْأَجَلِ مَکْنُونُ الْعِلَلِ- مَحْفُوظُ الْعَمَلِ تُؤْلِمُهُ الْبَقَّةُ- وَ تَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ وَ تُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ
ص:445
ذکر کونه مسکینا و بیّن ذلک بضمیر عدّد فیه وجوه المسکنة و الضعف صغراه قوله:مکتوم الأجل.إلی آخره و هی ظاهرة،و تقدیر کبراه:و کلّ من کان کذلک فهو مسکین.و مسکین خبر المبتدأ قدّم علیه لأنّ ذکره أهمّ،و حذف تنوینه تخفیفا.و غرض الکلام کسر النفوس من سورة الکبر و العجب و الفخر و أمثالها عن الرذائل.
کان جالسا فی أصحابه،فمرت بهم امراة جمیلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال علیه السّلام: إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ وَ إِنَّ ذَلِکَ سَبَبُ هِبَابِهَا- فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُکُمْ إِلَی امْرَأَةٍ تُعْجِبُهُ فَلْیُلاَمِسْ أَهْلَهُ- فَإِنَّمَا هِیَ امْرَأَةٌ کَامْرَأَتِهِ فقال رجل من الخوارج«قاتله اللّه کافرا ما أفقهه«فوثب القوم لیقتلوه،فقال علیه السّلام:رُوَیْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ
الرمق : النظر .و طموح البصر : ارتفاعه و الهبیب و الهباب : صوت التیس عند هیاجه و طلبه للشاة .
استعارة و استعار الفحول لهم،و لفظ الهباب لطلبهم للنکاح .و أرشدهم إلی الخلاص من فتنة النظر بملامسة الأهل.و رغّب فی ذلک بضمیر صغراه تشبیه قوله: فإنّما هی امرأة کامرأة :أی فإنّما أهل الرجل امرأة تشبه المرأة المرئیّة، و تقدیر الکبری:و کلّ من یشبهها ففیه عوض منها .و إنّما أطلق الخارجیّ لفظ الکافر علیه لأنّه علیه السّلام عند الخوارج مخطئ و کلّ خطیئة عندهم کفر.
و قوله:إنّما هو سبّ.مقتضی فضیلة العدل.
کَفَاکَ مِنْ عَقْلِکَ مَا أَوْضَحَ لَکَ سُبُلَ غَیِّکَ مِنْ رُشْدِکَ
ص:446
الغرض من العقل العملیّ هو ما ذکره علیه السّلام.و کفی به.
اِفْعَلُوا الْخَیْرَ وَ لاَ تَحْقِرُوا مِنْهُ شَیْئاً- فَإِنَّ صَغِیرَهُ کَبِیرٌ وَ قَلِیلَهُ کَثِیرٌ- وَ لاَ یَقُولَنَّ أَحَدُکُمْ إِنَّ أَحَداً أَوْلَی بِفِعْلِ الْخَیْرِ مِنِّی- فَیَکُونَ وَ اللَّهِ کَذَلِکَ إِنَّ لِلْخَیْرِ وَ الشَّرِّ أَهْلاً فَمَهْمَا تَرَکْتُمُوهُ مِنْهُمَا کَفَاکُمُوهُ أَهْلُهُ
أمر بفعل الخیر و نهی عن احتقار شیء منه و إن قلّ،و رغّب فیه بضمیر صغراه قوله:فإنّ صغیره کبیر و قلیله کثیر:أی فی الاعتبار و بالنسبة إلی من یحتاج إلیه. کنایة ثمّ نهی أن یقول أحد:إنّ غیره أولی بفعل الخیر منه .و هو کنایة عن ترک المرء الخیر اعتمادا علی أنّ غیره بفعله أولی .
و قوله:فیکون و اللّه کذلک.
لأنّ ذلک القول من القائل التارک للخیر یکون باعثا لمن توسّم فیه فعل ذلک الخیر و نسبه إلیه.فیصدّق قوله و ظنّه فیه بفعله له.فیکون أولی به منه.
و قوله:إنّ للخیر و الشر أهلا.إلی آخره.
ترغیب فی الخیر و تنفیر عن الشرّ بذکر أنّ لکلّ منهما أهلا یکتفی فیه إن ترکه من لیس أهله فیکون السامعون من أهل الخیر یفعله و یترک الشرّ لأهله.
مَنْ أَصْلَحَ سَرِیرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلاَنِیَتَهُ- وَ مَنْ عَمِلَ لِدِینِهِ کَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَ دُنْیَاهُ- وَ مَنْ أَحْسَنَ فِیمَا بَیْنَهُ وَ بَیْنَ اللَّهِ- أَحْسَنَ اللَّهُ مَا بَیْنَهُ وَ بَیْنَ النَّاسِ
فصلاح باطن الإنسان و سرّه بالأخلاق الفاضلة معدّ لإفاضة اللّه علیه صلاح أقواله و أفعاله الظاهرة لأنّها کالثمرات للباطن ،و کذلک عمل الإنسان لدینه و إقامته لحدود اللّه معدّ لصلاح حاله فی معاشه و مهیّیء لعواطف الخلق علیه لاشتغاله باللّه عن
ص:447
مجاذبتهم للدنیا.و فی معناه الکلمة الثالثة فإنّ إخلاص العبودیة للّه و إصلاح معاملته قاطع عن محبّة الدنیا و الحرص علیها الّذی هو سبب الفساد بین الناس فکان معدّا لرفع الفساد و دفعه.
اَلْحِلْمُ غِطَاءٌ سَاتِرٌ وَ الْعَقْلُ حُسَامٌ قَاطِعٌ- فَاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِکَ بِحِلْمِکَ وَ قَاتِلْ هَوَاکَ بِعَقْلِکَ
استعارة مرشحة استعار لفظ الغطاء للحلم باعتبار أنّه یستر سورة الغضب و قبیح ما یصدر عنه من الأفعال بسببها،و رشّح بذکر الساتر،و کذلک استعار لفظ الحسام للعقل باعتبار رفعه لبوادر النفس الأمّارة و إفراطها،و رشّح بذکر القاطع و لذلک أمر بمقاتلة هواه به .
إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً یَخْتَصُّهُمْ یَخْتَصُّهُمُ اللَّهُ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ- فَیُقِرُّهَا فِی أَیْدِیهِمْ مَا بَذَلُوهَا- فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَی غَیْرِهِمْ
أی من عباد اللّه من یکون مقصودا بالعنایة الإلهیّة بإفاضة النعمة علیه و إقرارها فی یدیه لوصول النفع إلی الغیر.و یکون ذلک شرطا فیها فإذا لم یوجد ذلک ارتفعت تلک النعمة بارتفاع شرطها إلی غیرهم.و غرض الکلمة الحثّ علی النفع المتعدّی لتجویز کلّ عاقل أنعم اللّه علیه أن تکون نعمته کذلک.
لاَ یَنْبَغِی لِلْعَبْدِ أَنْ یَثِقَ بِخَصْلَتَیْنِ الْعَافِیَةِ وَ الْغِنَی- بَیْنَا تَرَاهُ مُعَافًی إِذْ سَقِمَ وَ بَیْنَا تَرَاهُ غَنِیّاً إِذِ افْتَقَرَ
نهی عن الوثوق بالخصلتین المذکورتین لکونهما مع ما یقابلهما من السقم و الفقر امورا غیر مقدوره للعبد و لا معلومة الأسباب و هی فی معرض التعاقب فالوثوق بما کان کذلک جهل فلا ینبغی أن یثق بالخصلتین المذکورتین.
ص:448
مَنْ شَکَا الْحَاجَةَ إِلَی مُؤْمِنٍ فَکَأَنَّهُ شَکَاهَا إِلَی اللَّهِ- وَ مَنْ شَکَاهَا إِلَی کَافِرٍ فَکَأَنَّمَا شَکَا اللَّهَ
تشبیه شکایة المؤمن إلی المؤمن شکایة فی موضعها.إذ کانت ثمرة الشکایة المعاونة علی دفع الأمر المشکوّ منه.و المؤمن شأنه ذلک،بخلاف الشکایة إلی الکافر.و رغّب فی الأوّل بتشبیهها بالشکایة إلی اللّه ،و وجه الشبه أنّ المؤمن کالصدیق للّه فإذا شکی المؤمن إلیه أمرا من اللّه فکأنّه جعله وسیلة إلی اللّه فی شکواه فأشبه الشکوی إلیه.
و نفّر عن الثانیة بتشبیهها بشکوی اللّه ،و وجه الشبه أنّ الکافر عدّو اللّه فمن شکی إلیه أمرا فکأنّما شکی من اللّه إلی عدوّه .
إِنَّمَا هُوَ عِیدٌ لِمَنْ قَبِلَ اللَّهُ صِیَامَهُ وَ شَکَرَ قِیَامَهُ- وَ کُلُّ یَوْمٍ لاَ یُعْصَی اللَّهُ فِیهِ فَهُوَ یَوْمُ عِیدٌ
غرض الکلمة الجذب إلی عبادة اللّه و طاعته،و کسر النفوس عن الفرح بما لیس للّه فیه نصیب سواء کان زمانا أو مکانا أو غیرهما .و لمّا کان العید عبارة عن یوم تسرّ فیه الناس و تفرح فیه فکلّ یوم لا یعصی اللّه فیه فهو أولی بالفرح و السرور فیه و أن یسمّی عید از فی عرف أولیاء اللّه و الطالبین لما عنده.
إِنَّ أَعْظَمَ الْحَسَرَاتِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ- حَسْرَةُ رَجُلٍ کَسَبَ مَالاً فِی غَیْرِ طَاعَةِ اللَّهِ- فَوَرَّثَهُ رَجُلاًفَوَرِثَهُ رَجُلٌ فَأَنْفَقَهُ فِی طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- فَدَخَلَ بِهِ الْجَنَّةَ وَ دَخَلَ الْأَوَّلُ بِهِ النَّارَ
غرض الکلمة الجذب عن الکسب الحرام،و ادّخار المال و التنفیر عنه بما ذکر.
و قوله:أعظم الحسرات.
ص:449
لا یقتضی أن یکون کلّ ما هو أعظمها.و إنّما کان ذلک حسرة عظیمة لعدم منفعته بالمال فی الدنیا،و عذابه فی الآخرة،و مشاهدته لانتفاع الغیر به هناک.
إِنَّ أَخْسَرَ النَّاسِ صَفْقَةً وَ أَخْیَبَهُمْ سَعْیاً- رَجُلٌ أَخْلَقَ بَدَنَهُ فِی طَلَبِ مَالِهِ- وَ لَمْ تُسَاعِدْهُ الْمَقَادِیرُ عَلَی إِرَادَتِهِ- فَخَرَجَ مِنَ الدُّنْیَا بِحَسْرَتِهِ وَ قَدِمَ عَلَی الْآخِرَةِ بِتَبِعَتِهِ
استعارة استعار وصف الأخسر صفقة لمن ذکر باعتبار استعاضته للدنیا عن الآخرة و مع عدم موافقة القدر له فی حصول آماله الدنیویّة.و ظاهر أنّه أخسر من اتّجر.و تبعته ما یلحقه من عقوبات الآلام المکتسبة له من سعیه .
اَلرِّزْقُ رِزْقَانِ طَالِبٌ وَ مَطْلُوبٌ- فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْیَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّی یُخْرِجَهُ عَنْهَا- وَ مَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْیَا حَتَّی یَسْتَوْفِیَ مِنْهَا رِزْقَهُ مِنْهَا
استعارة استعار للرزق وصف الطالب باعتبار أنّه لا بدّ من وصوله فهو کالطالب لصاحبه .
و نفّر عن طلب الدنیا بما یلزمها من الغایة المقدّرة و هی الموت فکأنّه طالب للمرء لغایة إخراجه من الدنیا بسبب طلبه لها،و رغّب فی طلب الآخرة بما یلزمه من طلب الدنیا و أهلها لمن انقطع عنها حتّی یصل إلیه رزقه منها و هو محمود.و قد بیّنا فیما سلف وجه إقبال الناس علی من ینقطع عنهم.
إِنَّ أَوْلِیَاءَ اللَّهِ هُمُ الَّذِینَ نَظَرُوا إِلَی بَاطِنِ الدُّنْیَا- إِذَا نَظَرَ النَّاسُ إِلَی ظَاهِرِهَا- وَ اشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا إِذَا اشْتَغَلَ النَّاسُ بِعَاجِلِهَا-
ص:450
فَأَمَاتُوا مِنْهَا مَا خَشُوا أَنْ یُمِیتَهُمْ- وَ تَرَکُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أَنَّهُ سَیَتْرُکُهُمْ- وَ رَأَوُا اسْتِکْثَارَ غَیْرِهِمْ مِنْهَا اسْتِقْلاَلاً- وَ دَرَکَهُمْ لَهَا فَوْتاً- أَعْدَاءُ مَا سَالَمَ النَّاسُ وَ سَلْمٌ لِمَنْ سَلْمُ مَا عَادَی النَّاسُ- بِهِمْ عُلِمَ الْکِتَابُ وَ بِهِ عَلِمُوا- وَ بِهِمْ قَامَ الْکِتَابُ وَ هُمْ بِهِ قَامُوا- لاَ یَرَوْنَ مَرْجُوّاً فَوْقَ مَا یَرْجُونَ- وَ لاَ مَخُوفاً فَوْقَ مَا یَخَافُونَ
:أی حقیقتها،و غرض الحکمة الإلهیّة من وجودها فعملوا فیها علی حسب علمهم إذا نظر الناس إلی ظاهرها من زینتها و قیناتها.
و هو ما جعله اللّه نصب أعینهم غرضا مقصودا منها ثمرة للاستعداد بها و هو ثواب اللّه و رضوانه إذا اشتغل الناس بعاجلها و حاضر لذّاتها .
.و هو نفوسهم الأمّارة بالسوء الّتی یخشی من غلبتها و استیلائها علی العقل موته و هلاکه فی الآخرة،و یحتمل أن یرید بما أماتوه منها قیناتها استعارة.فکأنّهم لمّا رفضوها و لم یلتفتوا إلیها قد أماتوا و لم یبق لها حیاة عندهم.
و هو زینتها و قیناتها التارکة لهم بالموت عنها.و-من-فی الموضعین لبیان الجنس.
:أی استقلالا من الخیر الباقی و فوتا له إذ کان درکها و الاستکثار بها سببا لذلک .
و هی الدنیا،و سلم ما عادی الناس و هی الآخرة .
لحفظهم إیّاه و تفقّههم له و إفادتهم به،و به علموا
ص:451
لاشتهارهم به عند الناس.
:أی صارت أحکامه قائمة فی الخلق معمولا بها،و به قاموا:أی بأوامره و نواهیه و بما ینبغی له.و یحتمل أن یرید أنّ قیامهم فی معاشهم و معادهم ببرکته .
من ثواب اللّه،و لا یخافون مخوفا فوق ما یخافون من عذاب اللّه و الحجب عنه.و ذلک لعلمهم بالمرجوّ و المخوف هناک.
اُذْکُرُوا انْقِطَاعَ اللَّذَّاتِ وَ بَقَاءَ التَّبِعَاتِ
و الغرض التنفیر عن الدنیا.
اُخْبُرْ تَقْلِهِ قال الرضی:و من الناس من یروی هذا للرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلم و مما یقوی أنه من کلام أمیر المؤمنین علیه السّلام ما حکاه ثعلب عن ابن الأعرابی،و قال المأمون:لولا أن علیا قال«اخبر تقله»لقلت:
قلاه یقلیه قلی-بالکسر-و قلاء-بالفتح-أبغضه.و الهاء مزیدة للسکت و هو أمر فی معنی الخبر یجری مجری المثل،و المعنی من خبرت باطنة قلیته.و الحکم أکثریّ لکثرة ما علیه الناس من حیث السریرة و رذائل الأخلاق.و ما نقل عن المأمون من العکس یرید به أنّ إظهار البغض للشخص یکشف عنه باطنه لأنّه إمّا أن یقابل بمثل ذلک أو یترک فیعرف خیره من شرّه.و نقل مثله عن أبی بکر الأصفهانی قال:لولا أنّ الاعتراض علی السلف من الجهالة و السرف لقلت:القلی ثمّ الخبر، حتّی لا یکون الإنسان مضیّعا وقته،واضعا فی غیر موضعه مقته.
مَا کَانَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِیَفْتَحَ عَلَی عَبْدٍ بَابَ الشُّکْرِ- وَ یُغْلِقَ
ص:452
عَنْهُ بَابَ الزِّیَادَةِ- وَ لاَ لِیَفْتَحَ عَلَی عَبْدٍ بَابَ الدُّعَاءِ وَ یُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الْإِجَابَةِ- وَ لاَ لِیَفْتَحَ عَلَیْهِ لِعَبْدٍ بَابَ التَّوْبَةِ وَ یُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الْمَغْفِرَةِ
أشار إلی استلزام امور ثلاثة و هی الشکر للمزید و الدعاء للإجابة و التوبة للمغفرة.فمن فتح اللّه له باب إحدی هذه الملزومات فأعدّه له و ألهمه إیّاه وجب فی جوده أن یفتح له باب لازمه و یفیضه علیه.إذ لا بخل فی وجوده و لا منع فی سلطانه.
و وصف فتح الباب مستعار لتیسیر اللّه تعالی العبد لذلک و إعداده له.
فقال الْعَدْلُ یَضَعُ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا وَ الْجُودُ یُخْرِجُهَا مِنْ جِهَتِهَا- وَ الْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ وَ الْجُودُ عَارِضٌ خَاصٌّ- فَالْعَدْلُ أَشْرَفُهُمَا وَ أَفْضَلُهُمَا
أشار إلی أفضلیّة العدل بضمیرین صغری الأوّل:قوله:العدل إلی قوله:
جهتها.یرید أنّ طلیعة الجود یقتضی من صاحبها إخراج کلّ ما یملکه عن مواضعه و مواضع حاجته الّتی هی أولی به بمقتضی العدل.الثانی:قوله:و العدل.إلی قوله:
خاصّ.و استعار له لفظ السایس باعتبار أنّ به نظام العالم و الجود عارض خاصّ بمن یصل إلیه من بعض الناس.و تقدیر الکبری فیهما:و کلّ أمرین کانا کذلک فالعدل أشرفهما و أفضلهما.
و قوله فالعدل.إلی آخره هو النتیجة.
اَلنَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا
و قد مرّ بیانه.
اَلزُّهْدُ کُلُّهُ بَیْنَ کَلِمَتَیْنِ مِنَ؟الْقُرْآنِ؟ قَالَ اللَّهُ
ص:453
سُبْحَانَهُ- «لِکَیْلا تَأْسَوْا عَلی ما فاتَکُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاکُمْ» - وَ مَنْ لَمْ یَأْسَ عَلَی الْمَاضِی وَ لَمْ یَفْرَحْ بِالْآتِی- فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَیْهِ
الأمران المذکوران فی الآیة غایتان من الزهد و الإعراض عن الدنیا فی قوة خاصّة مرکّبة تلزم الزهد،و نبّه علیها لتعریفه بها، کنایة و کنّی بقوله: فقد أخذ الزهد بطرفیه .عن استکمال حقیقة الزهد و کمالاتها حینئذ و ظاهر أنّ وجود الخاصّة المذکورة مستلزم للإعراض عن الدنیا و طیّباتها بالقلب و هو الزهد الحقیقیّ .
اَلْوِلاَیَاتُ مَضَامِیرُ الرِّجَالِ
استعارة أراد بالمضامیر مظانّ معرفة جودة الفرس و هی الأمکنة الّتی یقرن فیها الخیل للسباق،و استعار لفظها للولایات باعتبار أنّها مظانّ ظهور جودة الوالی من خسّته و ردائته کما أنّ المضامیر للخیل کذلک .
مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْیَوْمِ
أقول:-ما-هاهنا للتعجّب.و هذه الکلمة تجری مجری المثل یضرب لمن یعزم علی أمر فیغفل عنه أو یتهاون فیه و یتراخی عن فعله حتّی ینتقض عزمه عنه.و أصله أنّ الإنسان قد ینوی السفر مثلا أو الحرکة بقطعة من اللیل لیتوفّر فی نهاره علی سیره فیغلبه النوم إلی الصباح فیفوت وقت عزمه فینتقض ما کان عزم علیه فی یومه.
لَیْسَ بَلَدٌ بِأَحَقَّ بِکَ مِنْ بَلَدٍ خَیْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَکَ
استعارة أقول: ما حملک :أی ما وجدت فیه قیام حالک و صلاح معاشک فأمکنک الإقامة به.و استعار الحمل له باعتبار حمل مئونته ملاحظة لشبهه بالجمل و نحوه .و إلی ذلک أو قریب منه أشار أبو الطیّب:و فی بلاد اختها بدل.و کذلک علیّ بن
ص:454
مقرب البحرانیّ فی قوله:
لی عن بلاد الأذی و الهون متّسع ما بین حرّ و بین الدار من نسب.
؟مَالِکٌ؟ وَ مَا؟مَالِکٌ؟ وَ اللَّهِ لَوْ کَانَ جَبَلاً لَکَانَ فِنْداً- أَوْوَ لَوْ کَانَ حَجَراً لَکَانَ صَلْداً- لاَ یَرْتَقِیهِ الْحَافِرُ وَ لاَ یُوفِی عَلَیْهِ الطَّائِرُ قال الرضی:و الفند:المنفرد من الجبال.
و مالک مبتدأ أو فاعل:أی مات مالک.و ما استفهامیّة فی معرض التعجّب من مالک-رحمه اللّه-و قوّته فی الدین.
قَلِیلٌ مَدُومٌ عَلَیْهِ خَیْرٌ مِنْ کَثِیرٍ مَمْلُولٍ مِنْهُ
و ذلک من الأمور الّتی ینبغی أن یفعل.و إنّما کان کذلک لأنّ الدوام علی القلیل منها یفید النفس ملکة الطاعة و الخیر و صیرورتهما خلقا بخلاف الکثیر المملول منه.و نحوه قول الرسول صلّی اللّه علیه و آله:إنّ هذا الدین متین فأوغل فیه برفق فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقی.و قد مرّ هذا الکلام بعینه.
إِذَا کَانَ فِی رَجُلٍ خَلَّةٌ رَائِقَةٌ فَانْتَظِرُوا أَخَوَاتِهَا
و الرائقة : المعجبة
:أی إذا کان فی الإنسان خلق فاضل فإنّ طبعه مظنّة أن یکون فیه جملة من الأخلاق الفاضلة المناسبة لذلک الخالق و یتوقّع و ینتظر منه.
کمن یکون من شأنه الصدق فإنّه ینتظر الوفاء و حسن الصحبة و بالعکس،و کمن یکون من شأنه العفّة فإنّه یتوقّع منه الکرم و المسامحة و البذل و الصداقة و المحبّة و نحوها،و کمن یکون شجاعا فإنّه یتوقّع منه عظمة الأئمّة و الحلم و الثبات،و کذلک من کان فیه ضدّ ذلک من الرذائل.
ص:455
بینهما:
مَا فَعَلَتْ إِبِلُکَ الْکَثِیرَةُ- قال:ذعذعتها الحقوق یا أمیر المؤمنین فقال علیه السلام:ذَلِکَ أَحْمَدُ سُبُلِهَا
الکلام الّذی دار بینهما أنّ غالبا دخل علی علیّ علیه السّلام و هو شیخ کبیر و معه ابنه همام الفرزدق و هو غلام یومئذ فقال له علیه السّلام:من الشیخ؟فقال:أنا غالب بن صعصعة.قال ذو الإبل الکثیرة؟قال:نعم.قال:ما فعلت أبلک؟قال ذعذعتها الحقوق و أذهبتها الحالات و النوائب.فقال:ذاک أحمد سبلها.فقال:من هذا الغلام؟فقال:
هذا ابنی همام روّیته الشعر یا أمیر المؤمنین و کلام العرب و یوشک أن یکون شاعرا مجیدا.فقال:أقرأه القرآن فهو خیر.فکان الفرزدق یروی هذا الحدیث و یقول:
ما زالت کلمته فی نفسی حتّی قیّد نفسه بقید و آلی أن لا یفکّه حتّی یحفظ القرآن فما فکّه حتّی حفظه.و ذعذعتها-بالذال المعجمة مکرّرة-:فرّقتها.
مَنِ اتَّجَرَ بِغَیْرِ فِقْهٍ فَقَدِ ارْتَطَمَ فِی الرِّبَا
استعارة ارتطم فی الوحل و نحوه:وقع فیه فلم یمکنه الخلاص.و هو وصف مستعار لغیر الفقیه باعتبار أنّه لا یتمکّن من الخلاص من الربا و ذلک لکثرة اشتباه مسائل الربا بمسائل البیع حتّی لا یفرق بینهما إلاّ أکابر الفقهاء مع وقوع الخلاف الشدید بینهم فیها کبیع لحم البقر بالغنم متفاضلا فجوّزه أبو حنیفة قائلا أنّهما جنسان مختلفان و منع منه الشافعی.إلی غیرها من المسائل .
مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللَّهُ بِکِبَارِهَا
و إنّما لزمه ذلک لاستعداده بتضجّره و تسخطّه من قضاء اللّه لزیادة البلاء و لو قد حمد اللّه علی بلائه لاستعدّ بذلک لدفعه.
ص:456
مَنْ کَرُمَتْ عَلَیْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَیْهِ شَهْوَتُهُ شَهَوَاتُهُ
و ذلک لکونهما عدوّان فإکرام أحدهما یستلزم إهانة الاخری فمن کرمت علیه نفسه لزمه حفظها و حمایتها من عذاب اللّه و ذلک مستلزم لهوان شهوته علیه و عدم مراعاتها لأنّها یقتضی ضدّ ذلک.
مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً
استعارة و ذلک لأنّ العقل یقتضی صیانة العرض و البقاء علی حدّ توقر معه صاحبه و لا یستخفّ به.و المزاح الّذی لا ینبغی یقتضی أضداد ذلک فهو مستلزم لمخالفة العقل و ترکه.فاستعار لفظ المجّ لما یطرحه الإنسان من عقله فی مزحه أو مزحاته.فکأنّه قد مجّه کما مجّ الماء من فیه و یلقیه .
زُهْدُکَ فِی رَاغِبٍ فِیکَ نُقْصَانُ حَظٍّ- وَ رَغْبَتُکَ فِی زَاهِدٍ فِیکَ ذُلُّ نَفْسٍ
أمّا الأوّل فلأنّ من تمام الحظّ کثرة الإخوان للإعانة علی صلاح أمر المعاش و المعاد.فالزهد فیهم یستلزم نقصان الحظّ،و لأنّ مجازاة الرغبة بمثلها فضیلة من تمام الخطّ النفسانیّ فعدمها یستلزم نقصانه.و أمّا الثانی فاستلزام الرغبة فی الزاهد فیک للذلّ و الخضوع له ظاهر.و الکلمتان صغریا ضمیر نفّر به عن الزهد فی الراغب فیک و الرغبة فیمن یزهدک.
مَا لاِبْنِ آدَمَ وَ الْفَخْرِ- أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ وَ آخِرُهُ جِیفَةٌ- وَلاَ یَرْزُقُ نَفْسَهُ وَ لاَ یَدْفَعُ حَتْفَهُ
استفهم تعجّبا من وجه الجمع بین الإنسان و الفخر و نبّه علی عدم المناسبة
ص:457
بینهما بضمیر صغراه قوله:أوّله.إلی آخره.و تقدیر الکبری:و کلّ من کان کذلک فلا مناسبة بینه و بین الفخر.و روی:الفخر-منصوبا-علی المفعول معه.
اَلْغِنَی وَ الْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَی اللَّهِ
و اراد الغنی الحقیقی بالثواب،و الفقر بعدمه فی الآخرة.
و سئل علیه السّلام عن أشعر الشعراء فقال علیه السّلام:إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ یَجْرُوا فِی حَلْبَةٍ- تُعْرَفُ الْغَایَةُ عِنْدَ قَصَبَتِهَا- فَإِنْ کَانَ وَ لاَ بُدَّ فَالْمَلِکُ الضِّلِّیلُ (یرید امرأ القیس).
أراد أنّهم لهم یقولوا الشعر علی منهاج واحد حتّی یفاضل بینهم بل کان لکلّ منهم حالة خاصّة یجید فیها و ینبعث فیها قریحته.فواحد یجید فی الرغبة،و آخر فی الرهبة،و آخر فی النشاط و الطرب.و لذلک قیل:أشعر العرب امرء القیس إذا رکب،و الأعشی إذا رغب،و النابغة إذا رهب. استعارة مرشحة و استعار لفظ الحلبة و هی القطعة من الخیل یقرن للسباق للطریقه الواحدة،و رشّح بذکر الإجراء و الغایة و قصبتها و ذلک أنّ عادة العرب أن یضع قصبة فی آخر المدی فمن سبق إلیها و أخذها فاز بالسبق و الغلب .
و قوله: فإن کان و لا بدّ .
أی من الحکم.و إنّما حکم له بذلک باعتبار جودة شعره فی أکثر حالاته دون غیره کما روی عنه بروایة اخری أنّ أبا الأسود سأله عن أشعر العرب.فقال:
لو رفعت للقوم غایة علمنا من السابق منهم و لکن إن لم یکن فالّذی لم یقل عن رغبة و لا رهبة و هو الملک الضلیل.و سمّی ضلیلا لکثرة ضلالته و قوّتها،و قیل:لأنّه تنصّر فی آخر عمره.و قیل:لأنّه کان کثیر التهتّک و إعلان الفسق کما فی شعره.و روی عن المتنبّی:أنّ امرء القیس استدرّ الناقة و رکبها،و أخذ طرفة ما طاب من لحمها،
ص:458
و أخذ لبید بأمعائها و أکبادها،و بقیت عظامها و أرواثها فاقتسمناها نحن.قیل للبید بن ربیعة:من أشعر العرب؟فقال:الملک الضلیل.فقیل:ثمّ من؟قال:الفتی القلیل یعنی طرفة.فقیل:ثمّ من؟فقال:الشیخ أبو عقیل یعنی نفسه.
أَلاَ حُرٌّ یَدَعُ هَذِهِ اللُّمَاظَةَ لِأَهْلِهَا- إِنَّهُ لَیْسَ لِأَنْفُسِکُمْ ثَمَنٌ إِلاَّ الْجَنَّةَ فَلاَ تَبِیعُوهَا إِلاَّ بِهَا
استعارة اللماظة :-بضمّ اللام-ما یبقی فی الفم من الطعام.و لفظها مستعار للدنیا باعتبار قلّتها و حقارتها .و دعا إلی ترکها ثمّ جذب عنها بضمیر صغراه قوله:فإنّه.إلی قوله:الجنّة.و هو کقوله تعالی «إِنَّ اللّهَ اشْتَری مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» (1)و تقدیر الکبری:و کلّما کان لیس لأنفسکم ثمن إلاّ هو فینبغی أن لا تبیعوها إلاّ به.
عَلاَمَةُ الْإِیمَانِ اَلْإِیمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَیْثُ یَضُرُّکَ- عَلَی الْکَذِبِ حَیْثُ یَنْفَعُکَ- وَ أَلاَّ یَکُونَ فِی حَدِیثِکَ فَضْلٌ عَنْ عَمَلِکَ- وَ أَنْ تَتَّقِیَ اللَّهَ فِی حَدِیثِ غَیْرِکَ
محبّة للفضیلة و کراهة للرذیلة.
و هو العدل فی القول و الاحتراز من رذیلة الکذب.
فلا تخوض فی عرضه بغیبة أو سماعها.و قیل:أراد أن یحتاط فی الروایة فیروی عنه حدیثه کما هو.
ص:459
یَغْلِبُ الْمِقْدَارُ عَلَی التَّقْدِیرِ حَتَّی تَکُونَ الْآفَةُ فِی التَّدْبِیرِ
المقدار :القدر.و لمّا کان الإنسان جاهلا بأسرار القدر کان بناء تقدیره و تدبیره لنفسه علی أوهام لاثقة بها فجاز فیما دبّره هو لنفسه و اعتقده سببا للمصلحة أن یکون من أسباب مفسدته و هلاکه.و قد مرّ بیان ذلک.
اَلْحِلْمُ وَ الْأَنَاةُ تَوْأَمَانِ یُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ
استعارة استعار لهاتین الفضیلتین لفظ التوأمین باعتبار استلزام علوّ الهمّة و صدورهما بواسطتها و ذلک أنّ عالی الهمّة یستحقر کلّ ذنب و مذنب فی حقّه فیحلم عنه و یتأنّی عن المبادرة إلی مقابلته .
اَلْغِیبَةُ جُهْدُ الْعَاجِزِ
أکثر ما یصدر الغیبة عن الأعداء و الحسّاد الّذین یعجزون عن بلوغ أغراضهم و شفاء صدورهم فیعدلون إلی إظهار معایب أعدائهم لما یجدون فیه من اللّذة.و نفّر عنها بنسبة فاعلها إلی العجز،و أنّها غایة جهده لیأنف من ذلک النقصان و لا یرضی به.
رُبَّ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِیهِ
و أصل الفتنة:الانصراف:أی ربّ مصروف عن تحصیل الفضیلة و الطاعة و إکمالها بالمدح و الإطراء کمن یمدح بکثرة العبادة مثلا فیقوده ذلک إلی الاقتصار علی ذلک القدر منها.
ص:460
و قال السیّد-رحمه اللّه-:و هذا حین انتهاء الغایة بنا إلی قطع المختار من کلام أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السّلام حامدین للّه سبحانه علی ما منّ به من توفیقنا لضمّ ما انتشر من أطرافه و تقریب ما بعد من أقطاره.و تقرّر العزم کما شرطنا أوّلا علی تفضیل أوراق من البیاض فی آخر کلّ باب من الأبواب لیکون لاقتناص الشارد و استلحاق الوارد و ما عساه أن یظهر لنا بعد الغموض و یقع إلینا بعد الشذوذ.و ما توفیقنا إلاّ باللّه علیه توکلّنا و هو حسبنا «وَ نِعْمَ الْوَکِیلُ» .
أقول:إنّه-رضوان اللّه علیه-بلغ فی اختیار کلامه علیه السّلام إلی هذه الغایة و قطعه علیها.ثمّ کتبت علی عهده زیادة من محاسن الکلمات إمّا باختیاره و هو أو بعض من کان یحضره من أهل العلم و تلک الزیادة تارة توجد خارجة عن المتن و تارة موضوعة فیه ملحقة بمنقطع اختیاره،و روی أنّها قرئت علیه و أمر بإلحاقها بالمتن.و أوّلها:
: اَلدُّنْیَا خُلِقَتْ لِغَیْرِهَا وَ لَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا
و أراد أنّها خلقت للاستعداد فیها و بها لدرک ثواب اللّه فی الآخرة لا لیلتذّ بها الجاهلون.
إِنَّ؟لِبَنِی أُمَیَّةَ؟ مِرْوَداً یَجْرُونَ فِیهِ- وَ لَوْ قَدِ اخْتَلَفُوا فِیمَا بَیْنَهُمْ- ثُمَّ لَوْ کَادَتْهُمُ الضِّبَاعُ لَغَلَبَتْهُمْ قال الرضی:و المرود هنا مفعل من الإرواد،و هو الإمهال و الإنظار، و هذا من أفصح الکلام و أغربه،فکأنه علیه السّلام شبهه المهلة التی هم فیها بالمضمار الذی یجرون فیه إلی الغایة،فاذا بلغوا منقطعها انتقض نظامهم بعدها
استعارة أقول:استعار لفظ المرود لمدّة دولتهم،و وجه المشابهة هو ما ذکره السیّد.و الکلام ظاهر الصدق فإنّ دولتهم لم تزل علی الاستقامة إلی حین اختلافهم و ذلک حین ولی الولید بن یزید فخرج علیه یزید بن الولید فخرج علیه إبراهیم بن الولید و قامت حینئذ دعاة
ص:461
بنی العباس بخراسان و أقبل مروان بن محمّد من الجزیرة یطلب الخلافة فخلع إبراهیم ابن الولید و قتل قوما من بنی أمیّة و اضطرب أمر دولتهم و کان زوالها علی ید أبی مسلم و کان فی بدو أمره أضعف خلق اللّه و أشدّهم فقرا.و فی ذلک تصدیق قوله علیه السّلام:
ثمّ کادتهم الضباع لغلبتهم.و لفظ الضباع قد یستعار للأراذل و الضعفاء.و هذا من کراماته .
هُمْ وَ اللَّهِ رَبَّوُا الْإِسْلاَمَ کَمَا یُرَبَّی الْفِلْوُ- مَعَ غَنَائِهِمْ بِأَیْدِیهِمُ السِّبَاطِ وَ أَلْسِنَتِهِمُ السِّلاَطِ
و الفلو : المهر .و السباط : السماح،و یقال للحاذق فی الطعن:إنّه لسبط الیدین یرید أنّه ثقیف فیه .و السلاط : الحدید الفصیح ،
و شبّه تربیتهم للإسلام و حمایتهم له بتربیة الفلو،و وجه الشبه شدّة عنایتهم به و حسن مراعاته إلی حین کماله.
اَلْعَیْنُ وِکَاءُ السَّهِ قال الرضی:و هذه من الاستعارات العجیبة،کأنه یشبه السه بالوعاء،و العین بالوکاء،فإذا أطلق الوکاء لم ینضبط الوعاء،و هذا القول فی الأشهر الأظهر من کلام النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلم،و قد رواه قوم لأمیر المؤمنین علیه السّلام،و ذکر ذلک المبرد فی کتاب«المقتضب»فی باب«اللفظ بالحروف» و قد تکلمنا علی هذه الاستعارة فی کتابنا الموسوم ب«مجازات الآثار النبویة»
استعارة و أقول:إنّه استعار لفظ الوکاء و هو رباط القربة للعین باعتبار حفظ الإنسان فی یقظته لنفسه من أن یخرج منه ریح و نحوها کما یحفظ الوکاء ما یوکی به،و فی ذلک ملاحظة تشبیه السه بالوعاء کالقربة.و من تمام الخبر عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:
فإذا نامت العینان استطلق الوکاء .
ص:462
وَ وَلِیَهُمْ وَالٍ فَأَقَامَ وَ اسْتَقَامَ حَتَّی ضَرَبَ الدِّینُ بِجِرَانِهِ
المنقول:أنّ الوالی هو عمر بن الخطاب.و الکلام من خطبة طویلة له علیه السّلام فی أیّام خلافته یذکر فیها قربه من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و اختصاصه له و إفضائه بأسراره إلیه إلی أن قال فیها:فاختار المسلمون بعده بآرائهم رجلا منهم فقارب و سدّد حسب استطاعته علی ضعف و جدّ کانا فیه.ثمّ ولیهم بعده وال فأقام و استقام حتّی ضرب الدین بجرانه علی عسف و عجز کانا فیه.ثمّ استخلفوا ثالثا لم یکن یملک أمر نفسه شیئا،غلب علیه أهله فقادوه إلی أهوائهم کما یقود الولیدة البعیر المحطوم،و لم یزل الأمر بینه و بین الناس یبعد تارة و یقرب أخری حتّی نزوا علیه فقتلوه.ثمّ جاءوا فی مدبّ الدبی یریدون بیعتی.فی کلام طویل.و الجران : مقدّم عنق البعیر . استعارة بالکنایة و ضربه بجرانه کنایة بالوصف المستعار عن استقراره و تمکّنه کتمکّن البعیر البارک من الأرض .
یَأْتِی عَلَی النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ- یَعَضُّ الْمُوسِرُ فِیهِ عَلَی مَا فِی یَدَیْهِ- وَ لَمْ یُؤْمَرْ بِذَلِکَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ- «وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَیْنَکُمْ» - یَنْهَدُتَنْهَدُ فِیهِ الْأَشْرَارُ وَ تُسْتَذَلُّ الْأَخْیَارُ- وَ یُبَایِعُ الْمُضْطَرُّونَ- وَ قَدْ نَهَی؟رَسُولُ اللَّهِ ص؟ عَنْ بَیْعِ الْمُضْطَرِّینَ
تنهد : أی ترتفع و تعلو .
استعارة استعار له لفظ العضوض باعتبار شدّته و أذاه کالعضوض من الحیوان.
و فعول للمبالغة .
کنایة بعضّ الموسر فیه علی ما فی یدیه .و هو کنایة عن بخله بما یملک .و
ص:463
نبّه علی صدق قوله:و لم یؤمر بذلک.بقوله تعالی «وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَیْنَکُمْ» فإنّه یفید الندب إلی بذل الفضل من المال و ذلک ینافی الأمر بالبخل .
أنّه تعلو فیه درجة الأشرار و تستذلّ الأخیار.
و یبایع فیه المضطرّون :أی کرها لأئمّة الجور.و نبّه علی قبح ذلک بنهی الرسول صلّی اللّه علیه و آله.
یَهْلِکُ فِیَّ رَجُلاَنِ مُحِبٌّ مُفْرِطٌ وَ بَاهِتٌ مُفْتَرٍ قال الرضی:و هذا مثل قوله علیه السّلام:یَهْلِکُ فِیَّ رَجُلاَنِ مُحِبٌّ غَالٍ وَ مُبْغِضٌ قَالٍ
فالمحبّ المطری بکثرة المدح کالغلاة هم فی طرف الإفراط،و الّذی یبهته و یفتری علیه بأنّه کافر و مخطئ کالخوارج هم فی طرف التفریط.و کلاهما رذیلتان خارجتان عن فضیلة العدل فیه.و قد علمت أنّ الرذائل مهاوی الهلاک الاخرویّ.
و قد سبق مثله.
اَلتَّوْحِیدُ أَلاَّ تَتَوَهَّمَهُ وَ الْعَدْلُ أَلاَّ تَتَّهِمَهُ
و هاتان الکلمتان علی و جازتهما فی غایة الشرف،و علیهما مدار العلم الإلهی.
و الکلمة الاولی أجلّ کلمة ربّی بها علی التوحید و التنزیه،و قد بیّنها مفهومها فی أوّل الخطبة الاولی من الکتاب.و جملة القول فیها هاهنا أنّه لمّا کان الوهم إنّما یدرک المعانی الجزئیّة المتعلّقة بالمحسوس و لا بدّ أن یستعین فی إدراکه و ضبطه بالقوّة المتخیّله حتّی یصوّره و یلحقه بالامور المحسوسة و کان الباری تعالی منزّها بمقتضی العقل الصرف عن المحسوسات و ما یتعلّق بها لا جرم لم یجز أن یوجّه الوهم فی تصوّره
ص:464
تعالی و یجری علی ذاته المقدّسة أحکامه.إذ لا یکون فی حقّه إلاّ کاذبة لاقتضائها کونه محسوسا أو متعلّقا بالمحسوس الّذی من شأنه الکثرة و الترکیب المنافیان للوحدة المطلقة.فیکون قد عرّف التوحید بخاصّة من خواصّه و هی لازم سلبّی.
و أمّا الکلمة الثانیة:فالمراد من العدل اعتقاد جریان العدل فی جمیع أفعاله تعالی و أقواله و من لوازم ذلک الخاصّة به أن لا یتهمّه العبد أنّه یجبره علی القبیح ثمّ یعاقبه علیه،أو أنّه یکلّفه ما لا یطیقه،و نحو ذلک من مسائل اصول الدین الّتی اعتمد فیها المعتزلة علی ظواهر کلامه تعالی.
لاَ خَیْرَ فِی الصَّمْتِ عَنِ الْحُکْمِ کَمَا أَنَّهُ لاَ خَیْرَ فِی الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ
الصمت عن الحکمة رذیلة تفریط من فضیلة القول.و القول بالجهل رذیلة إفراط و لا خیر فیهما بل فیما یتوسّطهما من القول بالحکمة.
اَللَّهُمَّ اسْقِنَا ذُلُلَ السَّحَابِ دُونَ صِعَابِهَا قال الرضی:و هذا من الکلام العجیب الفصاحة،و ذلک أنه علیه السّلام شبه السحاب ذوات الرعود و البوارق و الریاح و الصواعق بالابل الصعاب التی تقمص برحالها و تقص برکبانها،و شبه السحاب خالیة من تلک الروائع بالابل الذلل التی تحتلب طیعة و تقتعد مسمحة.
استعارة و أقول:إنّ لفظی الذلل و الصعاب مستعاران للسحاب لمکان المشابهة الّتی ذکرها السیّد .و قصت به راحلته:رمت به و تتوقّص برکبانها:أی تنزو بهم نزوا یقارب الخطو.و الروایع:الامور المخوفة.
ص:465
فقال علیه السّلام:اَلْخِضَابُ زِینَةٌ وَ نَحْنُ قَوْمٌ فِی مُصِیبَةٍ (یرید وفاة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلم).
و هو ظاهر.
مَنْهُومَانِ لاَ یَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَ طَالِبُ دُنْیَا
النهم بالفتح : إفراط الشهوة فی الطعام ،
استعارة و لفظه مستعار لشدّة طلب المتعلّم و حرصه علی العلم و طلب صاحب الدنیا،و کذلک وصف عدم الشبع بهما .و الکلمة مرویّة عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:منهومان لا یشبعان منهوم بالمال و منهوم بالعلم.
اَلْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَ یَنْفَدُ قال الرضی:و قد روی بعضهم هذا الکلام لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله
استعارة و استعار لفظ المال للقناعة بوصف عدم النفاد باعتبار أنّ بها الغنی الدائم کالمال الباقی أبدا .
و قد استخلفه لعبد اللّه بن العباس علی فارس و أعمالها،فی کلام-طویل کان بینهما نهاه فیه عن تقدم الخراج-: اِسْتَعْمِلِ الْعَدْلَ وَ احْذَرِ الْعَسْفَ وَ الْحَیْفَ- فَإِنَّ الْعَسْفَ یَعُودُ بِالْجَلاَءِ وَ الْحَیْفَ یَدْعُو إِلَی السَّیْفِ
أمره باستعمال العدل و حذّره من حیف الناس و عسفهم و هو حملهم علی مکاره.
ص:466
و نفّر عن ذلک بضمیر صغراه قوله:فإنّ العسف.إلی آخره:أی یعود بجلاء المعسوف بهم عن أوطانهم،و ظاهر أنّ الظلم معدّ لذلک،أو لقیام السیف علی الظالم من غیره.و تقدیر الکبری:و کلّما کان کذلک فیجب اجتنابه.
أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهَا صَاحِبُهُ
و ذلک أنّه یدوم علیه لاستسهاله إیّاه حتّی یصیر ملکة و خلقا لا ینفکّ عنه بخلاف ما یستصعبه فإنّه یوشک أن یقلع عنه قبل استحکامه.و قد مرّ تفسیره.
مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَی أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ یَتَعَلَّمُوا- حَتَّی أَخَذَ عَلَی أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ یُعَلِّمُوا
لمّا کان التعلّم علی الجاهل فریضة و لا یمکن إلاّ بمعلّم عالم کان وجوب التعلّم علی الجاهل مستلزما لوجوب التعلیم علی العالم،و فی الخبر المرفوع:من تعلّم علما فکتمه ألجمه اللّه یوم القیامة بلجام من نار.و روی معاذ بن جبل عن الرسول صلّی اللّه علیه و آله أنّه قال:تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه للّه حسنة،و دراسته تسبیح،و البحث عنه جهاد،و طلبه عبادة،و تعلیمه صدقة،و بذله لأهله قربة،لأنّه معالم الحلال و الحرام،و بیان سبیل الجنّة،و المونس فی الوحشة،و المحدّث فی الخلوة،و الجلیس فی الوحدة،و الصاحب فی الغربة،و الدلیل علی السرّاء،و المعین علی الضرّاء، و الزین عند الأخلاّء.و السلاح علی الأعداء.
شَرُّ الْإِخْوَانِ مَنْ تُکُلِّفَ لَهُ
أی من احوج إلی الکلفة له.و ذلک أنّ الاخوّة الصادقة تستلزم الانبساط بین الإخوان و ترک التکلّف من بعضهم لبعض.فکان عدم هذا اللازم و وجود التکلّف مستلزما لعدم ملزومه و هو صدق الإخاء و من لا یکون أخ صدق فهو شرّ الإخوان.
و الکلمة فی قوّة صغری نبّه به علی اجتناب أخ کذلک،و تقدیرها:من احوج إلی
ص:467
التکلّف له فهو شرّ الإخوان،و تقدیر الکبری:و من کان شرّا لزم مجانبته.
إِذَا احْتَشَمَ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ فَقَدْ فَارَقَهُ
حشمه،أحشمه : بمعنی أغضبه،و قیل:أخجله .
و الکلام صغری ضمیر نفّر به عن احتشام الأخ لأخیه،و ذلک أنّ احتشامه له علی کلی المعنیین یوجب نفرته و عدم انسه به و هو من دواعی مفارقته و موجباتها.
و تقدیر ما هو فی قوّة الکبری:و مفارقة الأخ لا یجوز فاحتشامه لا یجوز.و باللّه التوفیق و العصمة.
هذا آخر ما وجدنا من اختیار السیّد الرضی-رضی اللّه عنه-من کلام مولانا أمیر المؤمنین علیه السّلام و إذ و فقّنی اللّه تعالی لإتمام شرحه فله الحمد سبحانه علی ما أعدّ لی له من مننه الجزیلة و أفاضه علیّ من نعمه الجلیلة،و منه أطلب و إلیه أرغب أن یجعل ما کتبته حجّة لی لا علیّ إنّه المنّان ذو الفضل و الإحسان.و کتب عبد اللّه الملتجی إلی رحمته،المستعیذ من ذنوبه بعفوه و کرمه میثم بن علیّ بن میثم البحرانیّ فی منتصف لیلة السبت سادس شهر اللّه المبارک رمضان-عمّت برکته-من سنة سبع و سبعین و ستمائة.و الحمد للّه کما هو أهله و صلّی اللّه علی سیّدنا محمّد النبیّ الامّی و علی آله الطاهرین الأکرمین و سلّم تسلیما.
ص:468
العنوان الصفحة
الفصل الأوّل من وصیّة له لابنه الحسن علیهما السّلام 2
الفصل الثانی منها 5
الفصل الثالث منها 7
الفصل الرابع منها 12
بیان بعض العلل الحاملة له علی هذه الوصیّة 15
إشارة إلی کمال عنایته علیه و وجوه اختیاراته له ما هو أولی به من العلوم 17
شرح ما أشار إلیه من فضیلة الرسول صلّی اللّه علیه و آله علی سائر الأنبیاء 21
الفصل الخامس منها 22
الفصل السادس منها 25
الفصل السابع منها 29
الفصل الثامن منها 37
الفصل التاسع 41
الفصل العاشر 57
شرح ما نبّه علیه من مکارم الأخلاق الّتی بها ینتظم أمر المعاش و المعاد 44
کتاب له علیه السّلام إلی معاویة فی الموعظة و تذکیره بحال الدنیا 68
کتاب له علیه السّلام إلی قثم بن العباس و هو عامله علی مکّة 71
کتاب له علیه السّلام إلی محمّد بن أبی بکر لمّا بلغه موجدته من عزله بالأشتر 74
کتاب له علیه السّلام إلی عبد اللّه بن العبّاس بعد مقتل محمّد بن أبی بکر 76
کتاب له علیه السّلام إلی عقیل بن أبی طالب فی ذکر جیش أنفذه إلی بعض الأعداء 77
کتاب له علیه السّلام إلی معاویة تبکیتا له 80
کتاب له علیه السّلام إلی أهل مصر لمّا ولّی علیهم الأشتر-رحمه اللّه-82
ص:469
کتاب له علیه السّلام إلی عمرو بن العاص 85
کتاب له علیه السّلام إلی بعض عمّاله 87
کتاب له علیه السّلام إلی عمر بن أبی سلمة المخزومیّ 93
کتاب له علیه السّلام إلی مصقلة بن هبیرة الشیبانیّ 94
کتاب له علیه السّلام إلی زیاد بن أبیه حین بلغه أنّ معاویة یرید خدیعته باستلحاقه 95
کتاب له علیه السّلام إلی عثمان بن حنیف الأنصاری و فیه الإشارة إلی أمر فدک،و ما جری علی فاطمة علیها السّلام 98
کتاب له علیه السّلام إلی بعض عمّاله 118
وصیّة له علیه السّلام للحسن و الحسین علیهما السّلام لمّا ضربه ابن ملجم-لعنه اللّه-119
کتاب له علیه السّلام نبّه فیه علی معایب الدنیا 126
کتاب له علیه السّلام إلی امرائه علی الجیوش 127
کتاب له علیه السّلام إلی عمّاله علی الخراج 130
کتاب له علیه السّلام إلی امراء البلاد فی معنی الصلاة 132
عهد له علیه السّلام کتبه للأشتر النخعی-رحمه اللّه-لمّا ولاّه مصر 134
کتاب له علیه السّلام إلی طلحة و الزبیر 187
کتاب له علیه السّلام إلی معاویة أمره بتقوی اللّه 190
کلامه علیه السّلام وصّی بها شریح بن هانی لمّا جعله علی مقدّمته إلی الشام 192
کتاب له علیه السّلام إلی أهل الکوفة 193
کتاب له علیه السّلام کتبه إلی أهل الأمصار یقصّ فیه ما جری بینه و بین أهل صفّین 194
کتاب له علیه السّلام إلی الأسود بن قطیبة صاحب جند حلوان 196
کتاب له علیه السّلام إلی العمّال الّذین یطأ الجیش عملهم 198
کتاب له علیه السّلام إلی کمیل بن زیاد النخعی 199
ص:470
کتاب له علیه السّلام إلی أهل مصر مع مالک الأشتر لمّا ولاّه إمارتها 200
کتاب له علیه السّلام إلی أبی موسی الأشعری و هو عامله علی الکوفة 204
کتاب له علیه السّلام إلی معاویة جوابا 207
کتاب له علیه السّلام إلی معاویة یأمره بالتقوی و یرشده إلی الإمساک عن دعوی ما لیس له 212
کتاب له علیه السّلام إلی عبد اللّه بن العبّاس 215
کتاب له علیه السّلام إلی قثم بن العباس 216
کتاب له علیه السّلام إلی سلمان الفارسی-رحمه اللّه-قبل أیّام خلافته 218
کتاب له علیه السّلام إلی الحارث الهمدانی 219
کتاب له علیه السّلام إلی سهیل بن حنیف الأنصاری 225
کتاب له علیه السّلام إلی المنذر بن الجارود العبدی 227
کتاب له علیه السّلام إلی عبد اللّه بن العبّاس 228
کتاب له علیه السّلام إلی معاویة یوبّخه علی ترک الطاعة 229
حلفه علیه السّلام کتبه بین ربیعة و الیمن 231
کتاب له علیه السّلام إلی معاویة فی أوّل ما بویع له 232
کتاب له علیه السّلام لعبد اللّه بن العبّاس عند استخلافه إیّاه علی البصرة 233
وصیّة له علیه السّلام لعبد اللّه بن العبّاس لمّا بعثه 234
کتاب له علیه السّلام إلی أبی موسی الأشعری جوابا فی أمر الحکمین 235
کتاب له علیه السّلام لمّا استخلف إلی امراء الأجناد 237
باب المختار من حکم أمیر المؤمنین علیه السّلام 237
فهرس ما فی الجزء الخامس 469
ص:471