امهات الائمه المعصومین علیهم السلام: دراسه تاریخیه،تحلیلیه،علمیه المجلد 1

اشارة

سرشناسه:أمهات الأئمة المعصومین علیهم السلام: دراسة تاریخیة تحلیلیة علمیة / تألیف الدکتور السید حسین الموسوی الصافی؛ تقدیم اللجنة العلمیة السید محمد علی الحلو. الطبعة الأولی. - کربلاء: قسم الشؤون الفکریة والثقافیة فی العتبة الحسینیة المقدسة، 1436

عنوان و نام پدیدآور:امهات الائمه المعصومین / تالیف سید حسین موسوی صافی

مشخصات نشر: العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة

محل نشر: کربلای معلی - عراق

سال نشر : 1436

مشخصات ظاهری: 2ج.

یادداشت:عربی.

موضوع:چهارده معصوم -- مادران

موضوع:زنان مقدس مسلمان -- سرگذشتنامه

ص :1

هویة الکتاب

رقم الإیداع فی دار الکتب والوثائق - وزارة الثقافة العراقیة لسنة 2013؛ 773

الموسوی الصافی، حسین.

امَّهات الأئمة المعصومین علیهم السلام: دراسة تاریخیة تحلیلیة علمیة / تألیف الدکتور السید حسین الموسوی الصافی؛ تقدیم اللجنة العلمیة السید محمد علی الحلو. الطبعة الأولی. - کربلاء: قسم الشؤون الفکریة والثقافیة فی العتبة الحسینیة المقدسة، 1436 ق. = 2015 م.

2 ج. (قسم الشؤون الفکریة والثقافیة فی العتبة الحسینیة المقدسة؛ 153)

المصادر.

1. النساء المقدسات فی الإسلام سیرة. 2. الأربعة عشر معصوم امَّهات. 3. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ ق. ه -- 11 ه -. العصمة. 4. النساء المقدسات فی الإسلام دفع مطاعن. ألف. الحلو، محمد علی، 1957 - م، مقدم. ب. العنوان. ج. السلسلة.

BP 52 . M85 2015

تمت الفهرسة فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة قبل النشر

ص:2

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:4

الإهداء

إلی أمّ أبیها وبضعة نبیها والحجة علی من یلیها

سیدة نساء العالمین أمّ الحسن والحسین علیهماالسلام...

إلی جمیع امَّهات الأنبیاء والأوصیاء المعصومین...

إلی مَن غذتنی الولاء وأسعدتنی بعد الفناء

وأبعدتنی عن الشقاء إلی والدتی الحنونة...

إلی مَن شاطرتنی الحیاة وشارکتنی المأساة

وَصَبرت علی تخطی العقبات إلی أمّ أبنائی..

ص:5

ص:6

مقدمة اللجنة العلمیة

تندرجُ کثیرٌ من البحوث فی غیاهب التحقیق الکلی، الذی لم یثبت أهمیة هذه لبحوث إلا ما وقع منها فی مطاوی السیر التحقیقی، ولعل الکثیر منها یحمل أهمیته وخطورته بشکلٍ ینسجمُ فی تثبیت الحصیلة النهائیة التی یخرجُ بها الباحث، إلاّ أن هذه البحوث لم تکن من أولویاته واهتماماته مع أهمیتها بشکلٍ یحتم علی الباحث أن لا یغفل عنها، فیعید النظر فی قراءته لبحوثٍ کهذه مع أنها غیر معنونةٍ بعنوان، ولا مندرجةٍ تحت قضیةٍ بحثیة مستقلة، ولم تزل هذه البحوث تفرض أهمیتها علی الباحث ومن ثم القارئ فهی إذن لم تکن ثانویة حقاً بل بحوث لها أهمیتها وقیمتها العلمیة، ومن تلک البحوث التی غفل عنها المحققون، البحث عن امَّهات المعصومین حیث لم یفرد لها المحققون عنواناً خاصاً بل اکتفوا بالبحوث الفرعیة التی تأتی استطراداً فی سیرة المعصومین علیهم السلام، فالباحث لا یمکن له أن یتعدی امَّهات المعصومین إذ البحث عنهن یعد جزءاً مکملاً للوقوف علی سیرتهم إلا أنه لا یتعدی الأمر عن ذکر نتفٍ عن حیاتهن دون الغور إلی عوالم التحقیق لحیاتهن الشریفة، وهذا ما یجعل البحث مخلاً غیر جادٍ فی

ص:7

أحیان أخری.. إذن لا تُعد بحوث حیاة امَّهات المعصومین من الترف الفکری الذی یتعرض إلیه بعضهم، بل فرضت هذه التحقیقات أهمیتها علی الباحث لیجد مسلکاً علمیاً خطیراً یدخلُ فی ترجمة بعض فترات الحقب التی عاشها أهل البیت علیهم السلام ولعل ما یعزز هذا الأمر هو أهمیة معالجة الکثیر من الشبهات التی تدخل فی إطار التنقیب البحثی الذی یقدّم نتائجه للباحث علی أساس المسلک العلمی الدقیق.

من هنا وجد الباحث الدکتور السید حسین الموسوی الصافی الذی أعد بحثاً مهماً فی شأن "اُمَّهات الأئمة المعصومین علیهم السلام" والذی حاول من خلاله معالجة الکثیر من القضایا المهمة التی تدخل فی معرفة مقطعٍ مهمٍ من سیرتهم علیهم السلام، وبذلک یخلص البحث إلی التعریف بأهمیة امَّهاتهم علیهم السلام کونهن الوعاء المقدس للمعصوم، فالبحث یعالج النظرة التاریخیة بأسلوبٍ تحلیلی فضلاً عن السمة العلمیة التی تُعطی بُعداً آخر لمحطات تاریخیة مهمة لا غنی للباحث عنها ومراعاتها.

عن اللجنة العلمیة

السید محمدعلی الحلو

ص:8

المقدمة

الحمد لله خالق الخلق وباسط الرزق والصلاة والسلام علی رسوله وآل بیته الطیبین الطاهرین.

إنّ الشرع الحنیف أولی اهتماماً فی بیان بعض المزایا والصفات الکمالیة العالیة التی تتمتع بها أُمّ المعصوم سواء فی المجال العلمی أم العملی, المادی أم المعنوی, فعندما یذکر القرآن الکریم السیدة مریم علیهاالسلام (امَّ نبی الله عیسی علیه السلام) فقد یکشف أنّها محدثة الملائکة ومطهرة من کل شائبة, وقد احتلت مرتبة الاصطفاء من قِبَل الله وأصبحت سیدة نساء عالمها, کما یتضح من قوله تعالی:(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاکِ وَ طَهَّرَکِ وَ اصْطَفاکِ عَلی نِساءِ الْعالَمِینَ)1 , وأیضاً قوله تعالی: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیهاً فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِینَ)2 , فإنّ الکمال الروحی والمعنوی الذی تجسّد فی کیان السیدة

ص:9

مریم علیهاالسلام قد أهّلها لکل هذه المزایا ولأن تکون وعاءً وحجراً لنبیً ّ من أنبیاء أولی العزم علیهم السلام, کما بشرها الله بهذه المنقبة العظیمة.

وهکذا الحال فی أمّ نبی الله موسی وأخیه هارون علیهماالسلام (السیدة یوخابید علیهاالسلام), فقد خصها الله بالإیحاء والیقین والإیمان, کما فی قوله تعالی (وَ أَوْحَیْنا إِلی أُمِّ مُوسی أَنْ أَرْضِعِیهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَیْهِ فَأَلْقِیهِ فِی الْیَمِّ وَ لا تَخافِی وَ لا تَحْزَنِی إِنّا رَادُّوهُ إِلَیْکِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِینَ)1 , فقد أوحی الله لها وصدقته وامتثلت أوامره بکل ثقة ویقین فی أحلک الظروف, حتی أنّ البعض قال هذا یقتضی ظهور المعجز لها من وجهین: أحدهما الوحی وهو معجز، والثانی أنها علیهاالسلام لا یجوز أن تقدم علی جعل ولدها فی التابوت وطرحه فی الیم إلا بعد الیقین بأن الآمر لها بذلک هو القدیم سبحانه ولا سبیل إلی ذلک إلا بظهور معجز تعلم به أن الخطاب المتضمن لذلک وحی منه سبحانه(1).

وقد بشّر الله امَّ نبی الله إسحاق ویعقوب علیهماالسلام (السیدة سارة علیهاالسلام) بقوله تعالی: (وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِکَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ یَعْقُوبَ * قالَتْ یا وَیْلَتی أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِی شَیْخاً إِنَّ هذا لَشَیْ ءٌ عَجِیبٌ * قالُوا أَ تَعْجَبِینَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَکاتُهُ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ إِنَّهُ حَمِیدٌ مَجِیدٌ)3 , فهنا خصّها الله بالبشارة وقد حدثتها الملائکة وحدثتهم, وأنّها من أهل

ص:10


1- (2) الکافی للحلبی, أبو الصلاح الحلبی, ص 101.

البیت الذین خصّهم الله بالرحمة. وهکذا سبیل باقی امَّهات المعصومین علیهم السلام من الأنبیاء وغیرهم.

وقد جعل الله السعی بین الصفا والمروة من مناسک الحج؛ إحیاءً لذکری سعی السیدة هاجر علیهاالسلام (أمّ نبی الله إسماعیل علیه السلام) واحتفالاً بعملها, واستحباب الهرولة فی محل الوادی الذی سعت فیه هاجر سعی الإنسان المجهود إحیاءً لذکری هرولتها هناک.

فنستفید من خلال هذه الرؤیة السماویة فی حق امَّهات الأولیاء المعصومین علیهم السلام أمرین, أولاً: أنّ هناک رابطة وعلیّة لیس فقط فی طهارة وعفاف والدة المعصوم علیه السلام, بل لابد أنّ تکون بالمستوی اللائق والمطلوب من صفات وأبعاد کمالیة عالیة تنسجم مع ما تحمل من أمانة عظیمة وهی حجة الله فی خلقه, فالأمّ لها الأثر الکبیر فی تغییر حال الابن علی المستوی المادی والمعنوی, وهذا بخلاف مجرد الزوجة فلم تکن هناک ثمة رابطة وعلیّة فی البین, فلذلک نجد القرآن الکریم قد کشف عن ذمّ وسوء عاقبة بعض أزواج الأنبیاء علیهم السلام کما فی قوله تعالی:(ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِینَ کَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ کانَتا تَحْتَ عَبْدَیْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَیْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ یُغْنِیا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَیْئاً وَ قِیلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِینَ)1 .

وثانیاً: إنّ فی إعطائه سبحانه وتعالی هذه الأهمیة فی بیان وذکر المزایا الإیجابیة لاُمَّهات المعصومین علیهم السلام یمکن أن تکون فیه إشارة فی توجیه الأنظار

ص:11

إلی الاهتمام بدراسة وبیان سیرة امّ المعصوم علیه السلام وبیان صفاتها ومدی إیمانها, لاسیما امَّهات أهل البیت علیهم السلام فإنّهن لسن أقل شأنا من امَّهات الأنبیاء علیهم السلام, لکن مع الأسف لم نجد اهتماماً بدراسة وبحث سیرة امَّهات المعصومین علیهم السلام لاسیما سیرة امَّهات ما بعد الزهراء علیهاالسلام, فقد همشت إذا لم نقل أهملت, فلم نعثر علی دراسة لا من القدماء ولا من المتأخرین ولا من المحدثین ولا من المؤرخین إلا الشتات من الروایات وغیرها, مع أنّها من المواضیع الساخنة والتی لها صلة بالاعتقادات وما إلیها. ونحن بعون الله قد وضعنا هذه الدراسة بعد ما لاحظنا أنّ هناک فراغاً فی عالم السیرة والتاریخ فی هذا الجانب, ولم نقتصر فی هذه الدراسة علی سرد التاریخ وما إلیه, بل انتحلنا النهج العلمی الاستقرائی التحلیلی, ومناقشة الآراء بالأدلة المنطقیة لاسیما فی المواضیع العقدیة والقریبة منها, والرجوع إلی المصادر المعتبرة عند الفریقین, بالإضافة إلی ذکر المواضیع التی لها صلة فی الموضوع أو القریبة منه, من قبیل ذکر أزواج المعصوم وما شاکله, ونأمل أن تکون هذه الدراسة خطوة للشروع فی دراسات معمقة وتحقیقات منتظمة من قبل المختصین وغیرهم. سائلین المولی القبول والتسدید.

المؤلف

15 / شعبان/ 1432

ص:12

التمهید

آثار الأمّ علی الجنین

تحظی الأمّ بمکانة رفیعة لا تقل أهمیة عن مکانة الأب إذا لم تزد علیها, وهذا ما أکده الشّرع الحنیف وفسّره العلم الحدیث, فهی بمثابة المنعطف الکبیر لتأهیل البشر وإعداد الأجیال, حیث أنّ المجتمعات عبارة عن شعوب وقبائل وأسر, ونواة هذه الأسر الزوج والزوجة (الأبوان) فهما أصل التکاثر البشری بما جعلته الحکمة الإلهیة لاستمرار الحیاة الإنسانیة فی عالم الدنیا, ولو لاحظنا ذلک لوجدنا الأمّ أکثر تأثیراً وانفعالاً وأنها لها الحظ الکبیر فی إعداد الأجیال علی الصعید المادی والمعنوی.

ومن هنا نری أقلام العلماء وقرائح الأدباء تصفها بمدح لا یضاهی حیث قالوا: المرأة نصف المجتمع, وانّها تهزُّ المهد فی ید والعالم فی یدها الأخری, وقول الشاعر:

الأمُّ مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طیب الأعراق(1)

ص:13


1- (1) التعدیل والتجریح, سلیمان بن خلف الباجی, ص 57.

دور الأمّ

صحیح أن رحم المرأة یکون بالنسبة إلی نطفة الرجل کالأصیص بالنسبة إلی البذرة إلا أن الأمر یختلف تماماً فی موضوع تکوین الخلیة التناسلیة، إذ لیست نطفة الرجل هی الخلیة التناسلیة الکاملة - کما کانت البذرة وإنما المرأة تکون الشریک الأهم للرجل فی الوهلة الأولی, کما أشار لذلک القرآن الکریم فی قوله:(إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ)1 .

أی أنّ الله خلق الإنسان من نطفة مرکبة وممزوجة من حویمن الرجل وبویضة المرأة کلیهما.

وکذلک رحم الأمّ یتحمل فی المرحلة الأولی نصف مسؤولیة عملیة التلقیح، ثم ینفرد فی أنه یتحمل مسؤولیة الاحتفاظ بالنطفة لمدة تسعة أشهر کاملة فی داخله حتی یصنع إنساناً کاملاً.

وجدیر بنا أن نذکر دور الأم فی هذه المرحلة بحسب ما أفادنا به العلم الحدیث: ویکون ردّاً علی هذا السؤال: من أن البویضة التی تحتویها المرأة هی أکبر خلیة فی جسم الإنسان، حیث تبلغ فی قطرها (200) میکرون, بینما الحیوان المنوی الذی یضعه الرجل لا یزید عن خمسة میکرونات (لکن مع هذا المستوی من صغر الحیوان المنوی فأنه یساهم بنصف مکونات الجنین تماماً کما تساهم البویضة)، فما هو السبب فی کبر حجم البویضة, وصغر حجم الحیوان المنوی؟

ص:14

وقد أجابوا: إنّ البویضة هی المسؤولة عن تغذیة النطفة الأمشاج، المکونة من کروموسومات الحیوان المنوی (الأب) وکروموسومات البویضة (الأم), وعلیها أن تقوم بالتغذیة حتی تعلق النطفة، وتنشب فی جدار الرحم لتصبح العلقة, فتعطیه من دمائها وتوفر له الغذاء والهواء والحمایة من السموم التی یفرزها جسمه أثناء نموه, حتی یأذن الله بخروجه متکامل البناء سوی الأعضاء(1).

فمن هنا نفهم أن دور الأُم فی التغذیة والرعایة یبدأ من أول لحظة دخول النطفة فی الحیاة, فلا غرور أن جعل لها الإسلام مکانة عظیمة، وأعطاها المقام الأول فی البر والصلة والطاعة وقدمها علی الأب ثلاثاً, وجعل الجنة تحت أقدامها, کما روی عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«الجنة تحت أقدام الاُمَّهات»(2).

وعن أبی القاسم الکوفی قال: قال رجل لرسول الله صلی الله علیه و آله: إن والدتی بلغها الکبر، وهی عندی الآن، أحملها علی ظهری، وأطعمها من کسبی، وأمیط عنها الأذی بیدی، وأصرف عنها (مع ذلک) وجهی استحیاءً منها وإعظاماً لها، فهل کافأتها؟ قال صلی الله علیه و آله:

«لا؛ لأن بطنها کان لک وعاء، وثدیها کان لک سقاء، وقدمها لک حذاء، ویدها لک وقاء، وحجرها لک حواء، وکانت تصنع ذلک لک وهی تمنی حیاتک، وأنت تصنع هذا بها وتحب مماتها»(3).

وأیضا قال صلی الله علیه و آله:

«إذا کنت فی صلاة التطوع، فان دعاک والدک فلا

ص:15


1- (1) انظر: خلق الإنسان بین الطب والقرآن: ص 164.
2- (2) مستدرک الوسائل, المیرزا النوری, ج 15 ص 180.
3- (3) المصدر نفسه.

تقطعها، وان دعتک والدتک فاقطعها»(1).

وعن الباقر علیه السلام، أنّه قال:

«قال موسی بن عمران علیه السلام: یا رب، أوصنی، قال: أوصیک بی، قال فقال: رب أوصنی، قال: أوصیک بی، ثلاثاً، قال: یا رب أوصنی، قال: أوصیک بأمک، قال: رب أوصنی، قال: أوصیک بأمک، قال: رب أوصنی، قال: أوصیک بأبیک، قال: (فکان یقال) لأجل ذلک أن للأم ثلثی البر وللأب الثلث»(2).

وعن مهر بن حکیم، عن أبیه، عن جده قال:

«قلت للنبی صلی الله علیه و آله: یا رسول الله، من أبرر؟ قال: أمک قلت: ثم من؟ قال: ثم أمک قلت: ثم من؟ قال: ثم أمک قلت: ثم من؟ قال: ثم أباک، ثم الأقرب فالأقرب»(3). وأیضا ورد عن الإمام الباقر علیه السلام:

إنّ للأم ثلثی البر وللأب الثلث(4). وغیرها من الروایات المستفیضة التی تؤکد علی برّ الوالدین لاسیما الأم بالذات, وهذا یعبّر عن مدی أهمیة الأم فی المجتمع.

الصفات الوراثیة

حُدِّدَتْ الوراثة بأنها مشابهة الفرع لأصله، ولا تقتصر علی المشابهة فی المظاهر الشکلیة وإنما تشمل الخواص الذاتیة، والمقومات الطبیعیة، کما نص علی

ص:16


1- (1) المصدر نفسه, ج 15 ص 181.
2- (2) الأمالی, الشیخ الصدوق, ص 602.
3- (3) مستدرک الوسائل, المیرزا النوری, ج 15 ص 181.
4- (4) راجع: مستدرک الوسائل, المیرزا النوری, ج 15 ص 180.

ذلک علماء الوراثة وقالوا: أن ذلک أمر بیّن فی جمیع الکائنات الحیة فبذور القطن تخرج القطن، وبذور الزهرة تخرج الزهرة، وهکذا غیرها، فالفرع یحاکی أصله ویساویه فی خواصه وأدق صفاته، کما یقول بعض العلماء: «إنّ کثیراً من الصفات الوراثیة تنتقل بدون تجزئة أو تغیر من أحد الأصلین أو منهما إلی الفرع...». وأکد هذه الظاهرة (هکسلی) بقوله: «إنه ما أثر أو خاصة لکائن عضوی إلا ویرجع إلی الوراثة أو إلی البیئة فالتکوین الوراثی یضع الحدود لما هو محتمل، والبیئة تقرر أن هذا الاحتمال سیتحقق، فالتکوین الوراثی إذن لیس إلا القدرة علی التفاعل مع أیة بیئة بطریق خاص...»(1).

ومعنی ذلک أن جمیع الآثار والخواص التی تبدو فی الأجهزة الحساسة من جسم الإنسان ترجع إلی العوامل الوراثیة وقوانینها، والبیئة تقرر وقوع تلک الممیزات وظهورها فی الخارج، فإذن لیست البیئة إلا عاملاً مساعداً للوراثة، حسب البحوث التجریبیة التی قام بها الاختصاصیون فی بحوث الوراثة.

وکیف کان قد أکد علماء الوراثة بدون تردد أن الأبناء والأحفاد یرثون معظم صفات آبائهم وأجدادهم النفسیة والجسمیة، وهی تنتقل إلیهم بغیر إرادة ولا اختیار، وقد جاء هذا المعنی صریحاً فیما کتبه الدکتور (الکسیس کارل) عن الوراثة بقوله: «یمتد الزمن مثلما یمتد فی الفرع إلی ما وراء حدوده الجسمیة, وحدوده الزمنیة لیست أکثر دقة ولا ثباتاً من حدوده الاتساعیة، فهو مرتبط بالماضی والمستقبل، علی الرغم من أن ذاته لا تمتد خارج الحاضر...

ص:17


1- (1) انظر: حیاة الإمام الحسین علیه السلام, الشیخ باقر شریف القرشی, ج 1 ص 43.

وتأتی فردیتنا کما نعلم إلی الوجود حینما یدخل الحویمن فی البویضة, ولکن عناصر الذات تکون موجودة قبل هذه اللحظة ومبعثرة فی أنسجة أبوینا وأجدادنا وأسلافنا البعیدین جداً لأننا مصنوعون من مواد آبائنا واُمَّهاتنا الخلویة, وتتوقف فی الماضی علی حالة عضویة لا تتحلل... ونحمل فی أنفسنا قطعاً ضئیلة لأعدادٍ من أجسام أسلافنا، وما صفاتنا ونقائصنا إلا امتداد لنقائصهم وصفاتهم»(1).

وقد اکتشف الإسلام - قبل غیره - هذه الظاهرة، ودلل علی فعالیتها فی التکوین النفسی والتربوی للفرد، وقد حث بإصرار بالغ علی أن تقوم الرابطة الزوجیة علی أساس وثیق من الاختیار والفحص عن سلوک الزوجین، وسلامتهما النفسیة والخلقیة من العیوب والنقص, وأشار القرآن الکریم إلی ما تنقله الوراثة من أدق الصفات. قال تعالی حکایة عن نبیه نوح علیه السلام:(وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَی الْأَرْضِ مِنَ الْکافِرِینَ دَیّاراً * إِنَّکَ إِنْ تَذَرْهُمْ یُضِلُّوا عِبادَکَ وَ لا یَلِدُوا إِلاّ فاجِراً کَفّاراً)2 . فالآیة دلت بوضوح علی انتقال الکفر والإلحاد بالوراثة من الآباء إلی الأبناء، وقد حفلت موسوعات الحدیث بکوکبة کبیرة من الأخبار التی اثِرَتْ عن أئمة أهل البیت علیهم السلام, وهی تدلل علی واقع الوراثة وقوانینها وما لها من الأهمیة البالغة فی سلوک الإنسان، وتقویم کیانه.

فإنّ ما اکتشفه علماء الوراثة الیوم، وتوصلوا إلیه بأبحاثهم الدقیقة من

ص:18


1- (1) الإنسان ذلک المجهول, الدکتور. الکسیس کارل, ص 202.

وجود موجودات صغیرة داخل الکروموسومات تنقل الصفات الوراثیة والتی أسموها (الجینات) لیس أمراً جدیداً ومبتکراً, فالقرآن والرسول الأعظم والأئمة الطاهرون علیهم السلام - الذین کانوا یکشفون الحقائق بنور الوحی والإلهام - لم یغفلوا أمر هذا القانون الدقیق. بل أشاروا إلیه وأطلق علی عامل الوراثة فیها اسم (العرق).

وبعبارة أوضح: إنّ المعنی الذی یستفیده علماء الوراثة الیوم من کلمة (الجینة) هو نفس المعنی الذی عبرت عنه الأخبار بکلمة (العرق) وعلی سبیل المثال نذکر بعض الروایات الواردة فی هذا المجال.

منها, عن النبی صلی الله علیه و آله قال:

«وانظر فی أی نصاب تضع ولدک فإن العرق دساس»(1). ومنها: عن النبی صلی الله علیه و آله:

(تزوجوا فی الحجز الصالح), أی الأصل والمنبت الصالح وهو کنایة عن العفة.

(فإن العرق دساس)(2) أی إدخال بالتشدید؛ لأنه ینزع فی خفاء ولطف, یقال دسست الشیء إذا أخفیته وأخملته, ومنه قوله تعالی:(وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَری) أی أخمل نفسه وأبخس حظها. وقیل: معنی دساس خفی قلیل وکل من أخفیته وقللته فقد دسسته(3). والمعنی: أنّ الرجل إذا تزوج فی منبت صالح یجیء الولد یشبه أهل الزوجة فی العمل والأخلاق ونحوهما وعکسه بعکسه.

ص:19


1- (1) مسند الشهاب, ابن سلامة, ج 1 ص 370.
2- (2) أنظر: النهایة فی غریب الحدیث, ابن الأثیر, ج 1 ص 345. ومیزان الحکمة, محمد الریشهری, ج 2 ص 1183.
3- (3) راجع: فیض القدیر شرح الجامع الصغیر, المناوی, ج 3 ص 317

وذلک حینما نراجع المعاجم اللغویة فی معنی کلمة (دساس) نجد أن بعضها - کالمنجد یعلق علی ذلک بالعبارة التالیة: «العرق دساس أی: أن أخلاق الآباء تنتقل إلی الأبناء»(1).

فهذان الحدیثان یتحدثان عن قانون الوراثة بصراحة, ویعبران عن العامل فیها ب - (العرق). فالنبی صلی الله علیه و آله: یوصی أصحابه بأن لا یغفلوا عن قانون الوراثة, بل یفحصوا عن التربة الصالحة التی یریدون أن یبذروا فیها، لکی لا یرث الأولاد الصفات الذمیمة.

ومنها: عن الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام قال:

«حسن الأخلاق برهان کرم الأعراق»(2).

وهذا الحدیث یثبت إمکان اکتشاف الطهارة العائلیة للفرد من السجایا الفاضلة عنده.

ومنها: حدیث محمد ابن الحنفیة ابن الإمام علی علیه السلام کان حامل اللواء فی حرب الجمل، فأمره علیٌّ علیه السلام بالهجوم، فأجهز علی العدو، لکن ضربات الأسنة ورشقات السهام منعته من التقدم فتوقف قلیلاً... وسرعان ما وصل إلیه الإمام وقال له: (احمل بین الأسنة) فتقدم قلیلاً ثم توقف ثانیة، فتأثر الإمام من ضعف ابنه بشدة فاقترب منه ووکزه بقائم سیفه وقال: أدرکک عرق من امِّک(3).

ص:20


1- (1) المنجد، مادة دس.
2- (2) غرر الحکم ودرر الکلم, للآمدی, ص 167.
3- (3) تتمة المنتهی, ص 17.

فهنا الحدیث یعطینا صورة عملیة عن الواقع الوراثی من لحاظ الجانب السلبی, وقد أثبت الإمام علیه السلام أن التراجع الذی ظهر واضحاً فی ابنه محمد لیس موروثاً منه علیه السلام؛ لأنه وآباءَهُ لم یعرفوا للتوقف معنی قط، فلا بد وأن یکون ذلک من أمه؛ لأنها لم تکن من الفضیلة بدرجة تکون معها بمنزلة الصدیقة الزهراء علیها السلام.

الصفات الوراثیة السلبیة

حذر علماء الاختصاص من انتقال الصفات الوراثیة السلبیة إلی الأبناء کالحمق والبلادة والبله فإنها تنتقل من الآباء والاُمَّهات إلی الأبناء، الأمر الذی یسبب أقسی أنواع شقاء المجتمع، فالفرد الأحمق یظل طوال سنی عمره أسیراً للحرمان العقلی وعدم النضج الفکری مما یسبب للأمة مشاکل عدیدة.

وقد توصل العلم الحدیث، بعد التجارب العدیدة والإحصائیات الدقیقة إلی خطر هذا النوع من الزواج، ولذلک أخذ العلماء یحذرون الناس منه بقولهم: «یجب أن یعلم کل فرد أن التزوج من الأسر المصابة بالجنون أو الحمق أو البلادة، أو الإدمان علی الخمرة یؤدی إلی تحطیم کیان المجتمع وهدم قانون التکاثر والتناسل، مما یجر معه سلسلة من المعایب والجرائم التی لا تحمد عقباها»(1).

ص:21


1- (1) نقلاً عن کتاب الطفل بین الوراثة والتربیة, الشیخ محمد تقی فلسفی, ج 1 ص 75.

وأیضاً لاحظ (کدار) فی إحصائیاته الدقیقة التی أجراها علی الأسر التی کان آباؤها أو امَّهاتها مصابین بضعف العقل وجود (470) طفلاً ضعیفی العقل منهم و (6) فقط سالمین وبدیهی أن إیجاد جیل منحط ومجرم وأبله یعد خیانة کبیرة(1).

وهذه الظاهرة لم یغفل عنها الشّرع الحنیف, فقد أدرک أخطارها فحذر المسلمین منها.

ولذا نری الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام یقول:

«إیاکم وتزوج الحمقاء، فأن صحبتها بلاء وولدها ضیاع»(2).

وأحسن تعبیر عن الأولاد الناتجین من آباء أو امَّهات مصابین بالحمق هو الضیاع.

وعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن الخبیثة یتزوجها الرجل،

قال: لا، ثم قال: إنّ کان له أمة وطئها ولا یتخذها أم ولده(3).

الآثار الوراثیة لشرب الخمر

لقد انتشر شرب الخمر فی کثیر من دول العالم، وتکبلوا بهذا الداء الوبیل وأسراره, وهذا السم الفاتک لا یکتفی بتوجیه ضربات قاسیة إلی المدمنین علیه فقط، بل یتعداهم إلی أطفالهم البریئین ویجعلهم یرزحون تحت کابوس

ص:22


1- (1) راه ورسم زندکی, الکسیس کارل, ص 74.
2- (2) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 5 ص 354.
3- (3) االمصدر نفسه, ج 5 ص 353.

الأمراض والعوارض المختلفة, فقد تترک الخمرة آثاراً سیئة علی أجسام المدمنین علیها، ومن تأثیراتها فیهم إیجاد اختلالات فی خلایا المخ والأعصاب مما تجعلهم أناساً غیر اعتیادیین، ومما یبعث علی الأسف أن هذا الاختلال ینتقل إلی أولادهم، والنطف الحادثة من أناس مأسورین للخمرة تنتج أطفالاً منحرفین وغیر اعتیادیین فی سلوکهم وتفکیرهم, إنّ قسماً کبیراً من المجانین الذین یقضون حیاتهم فی مستشفیات المجانین یئنون من ویلات انحراف آبائهم. کما ورد ذلک عن المختصین والمهتمین بهذا الشأن حیث قالوا: «إن قلة الذکاء واختلال القوة العاقلة تنشأ من المشروبات الروحیة والسلوک المفرط فی جمیع جوانب الحیاة، إنه لا ریب فی وجود رابطة قویة بین استعمال المشروبات الروحیة والضعف العقلی فی مجتمع ما. ومن بین الدول المتقدمة علمیاً وصناعیاً نجد فرنسا أکثرها استعمالاً للخمرة فی حین أنها أقل تلک الدول حصولاً علی جوائز نوبل»(1).

وعلیه لاحظ الإسلام جمیع العوارض والویلات الناشئة من الخمرة، ونظر إلی آثارها السیئة فی المدمنین علیها وفی أولادهم، فلم یکتف بتحریم عصرها والتعامل بها وتعاطیها علی المسلمین من الجهة القانونیة فقط، بل حذر من الاتصال الجنسی والتناکح مع شاربی الخمر بکل صراحة, وهناک جملة من الشواهد الروائیة علی ذلک.

منها: عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله: شارب الخمر لا

ص:23


1- (1) راجع: الطفل بین الوراثة والتربیة, الشیخ محمد تقی فلسفی, ج 1 ص 76.

یزوج إذا خطب(1).

ومنها: عن الإمام الصادق علیه السلام قال:

من زوج کریمته من شارب خمر، فقد قطع رحمها(2).

وبدیهی أن یعتبر إنجاب أطفال مختلین (بدنیاً وعصبیاً وروحیاً) قطعا لرحم المرأة التی بإمکانها أن تنجب أولاداً سالمین من غیره.

وغیرها من الروایات الواردة عن الأئمة المعصومین علیهم السلام فی هذا المجال، ولکن أشدها تحذیراً وأعظمها توبیخاً ما إذا حصل الاتصال الجنسی فی حالة السکر، کما یتضح ذلک من حدیث الإمام الصادق علیه السلام أنه قال:

«أیما امرأة أطاعت زوجها وهو شارب الخمر، کان لها من الخطایا بعدد نجوم السماء، وکل مولود تلد منه فهو نجس، ولا یقبل الله منها صرفاً ولا عدلاً حتی یموت زوجها، أو تخلع عنه نفسها»(3).

وقد نقل نص لأحد علماء الغرب بهذا الصدد عن الدکتور کاریل یقول: «إن سکر الزوج أو الزوجة حین الاتصال الجنسی بینهما یعتبر جریمة عظیمة، لأن الأطفال الذین ینشأون فی ظروف کهذه یشکون فی الغالب من عوارض عصبیة ونفسیة غیر قابلة للعلاج»(4).

ص:24


1- (1) تهذیب الأحکام, الشیخ الطوسی, ج 7 ص 398.
2- (2) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 5 ص 347.
3- (3) عوالی اللئالی, أبی جمهور الأحسائی, ص 267.
4- (4) راه زندکی, الکسیس کارل, ترجمة, دبیری, ص 91.

الأرحام الطاهرة

بالرغم من أن الأب والأم کلیهما یشترکان فی صنع الخلیة الأولی للطفل ویتساوی دورهما فیه (ولهذا نجد أن الأطفال یکتسبون بعض صفاتهم من آبائهم وبعضها من امَّهاتهم) لکن الرحم هو الذی یصنع الطفل ویخرج تلک الذرة الصغیرة بصورة إنسان کامل. وإن جمیع الاستعدادات التی کانت کامنة فی تلک الخلیة الأولیة تظهر إلی عالم الفعلیة فی رحم الأم کما تقدم. إذن فالمقدرات التفصیلیة للطفل من الصلاح والفساد، والجمال والقبح، والنواقص والکمالات الظاهریة والباطنیة کلها تخطط فی الرحم, فهناک مئات التفاعلات والتأثیرات الاختیاریة والاتفاقیة تمرُّ فی طریق أصلاب الآباء وأرحام الاُمَّهات، وتؤثر فی الأطفال بصورة خفیة حیث تظهر نتائجها جمیعا فی الرحم, والرحم هو آخر مراحل التأثیرات المختلفة الطارئة علی تکوین الطفل، وعند عبوره هذه المرحلة یبدأ الحیاة علی الأرض.

إذن فالسعادة والشقاء التکوینیّان للإنسان یجب البحث عنهما فی آخر المراحل وهو رحم الأم, ولهذا نجد الرسول الأعظم والأئمة الطاهرین علیهم السلام (بالرغم من عنایتهم الشدیدة بالتأثیر المشترک لأصلاب الآباء وأرحام الاُمَّهات حول سعادة الطفل وشقائه) یوجهون جل اهتمامهم إلی رحم الأم فیقولون:

«السعید سعید فی بطن أمه، والشقی شقی فی بطن أمه»(1).

ولهذا السبب اعتبرت الروایات رحم الأم هو الملاک فی السعادة والشقاء،

ص:25


1- (1) شرح أصول الکافی, صالح المازندرانی, ج 1 ص 232.

وأغفلت ذکر صلب الأب من حیث إنّه لا مندوحة لنا من القول بأن دور الأم فی بناء الطفل یفوق دور الأب بکثیر. نعم لو اکتفینا بملاحظة دور الأب والأم فی تلقیح البویضة بواسطة الحیمن لإیجاد الخلیة الأولی للطفل لکانا متساویین فی ذلک الدور، إلا أن الواقع من أن الأم تتحمل فی دور الحمل مسؤولیة کبیرة وبالخصوص فیما یتعلق بأسلوب تغذی الأم ونوعه.

فإنّ دور الآباء فی البناء الطبیعی للطفل ینتهی بعد انعقاد النطفة وحصول التلقیح، لکن دور الأم یستمر طیلة أیام الحمل، فالطفل یتغذی من الأم، ویأخذ منها جمیع ما یحتاجه فی بنائه. ولهذا فإن لسلامة الأم ومرضها، طهارتها ورذالتها، سکرها وجنونها... أثراً مباشراً فی الجنین. وأشار إلی ذلک کاریل: «إنّ الأب والأم یساهمان بقدرٍ متساوٍ فی تکوین نواة البویضة التی تولد کل خلیة من خلایا الجسم الجدید ولکن الأم تهب علاوة علی نصف المادة النوویة کل البروتویلازم المحیط بالنواة، وهکذا تلعب دوراً أهم من دور الأب فی تکوین الجنین».

وقال أیضا: «إنّ دور الرجل فی التناسل قصیر الأمد. أما دور المرأة فیطول إلی تسعة أشهر, وفی خلال هذه الفترة یغذی الجنین بمواد کیمیاویة ترشح من دم الأم من خلال أغشیة الخلاص»(1).

إنّ الطفل أشبه ما یکون بعضو من أعضاء الأم تماماً، عندما یکون فی بطنها, وجمیع العوامل التی تؤثر فی جسد الأم وروحها تؤثر فی الطفل أیضا. وهذا بخلاف ما إذا ابتلی أب بعد انعقاد النطفة - بشرب الخمرة أو العوارض الأخری

ص:26


1- (1) أنظر: الإنسان ذلک المجهول, الکسیس کارل, ص 79.

فإنها لا تؤثر فی الطفل، لأن صلة الطفل بأبیه إنما تکون ثابتة إلی حین انعقاد النطفة فقط، لکن صلة الأم تستمر لمدة تسعة أشهر، وعلیه فإذا أقدمت الأم - فی أیام الحمل - علی شرب الخمر فإن الجنین یسکر ویتسمم أیضا.

فإن أحد أسباب سلامة هیکل الطفل ورشاقة قوامه أو عدمها فی أیام الحمل یتعلق بالغذاء الذی تتناوله الأم وهی حامل. وکذلک الغذاء الذی کان یتناوله الأب قبل انعقاد النطفة.

آثار الأرحام الملوثة

توجد بین النساء الملوثات بالانحرافات الجنسیة طائفة معلنة بالفجور لا تملک الإیمان کی یراقبن الخوف من الله ولا تملک سمعة حسنة فی المجتمع کی یخفن من انفضاح الأمر، ولذلک یرتکبن الزنا من دون اکتراث, ولا یرین فرقاً بین الاتصال القانونی وغیر القانونی.

وقد حذر الإسلام الحنیف من هذه الشریحة الملوثة, کما ورد عن الحلبی قال: قال أبو عبد الله علیه السلام

«لا تتزوج المرأة المعلنة بالزنا ولا تزوج الرجل المعلن بالزنا إلا أن یعرف منهما التوبة»(1).

وهناک بعض النساء یتزوجن ولکن نفوسهن القذرة الدنیئة تمیل إلی الرجال الأجانب، ومن الممکن أن ترتکب الزنا بالرغم من أنها ذات زوج وتستفید من ذلک لأنها تجعل الزوج حصناً منیعاً أمام التهم الاجتماعیة. إن ما لا شک فیه أن

ص:27


1- (1) الاستبصار, الشیخ الطوسی, ج 3 ص 168

هذه المرأة مصابة بالانحراف النفسی وحتی إذا حملت من زوجها القانونی، فإن الطفل بالرغم من کونه قانونیاً حسب المقررات الشرعیة ولکنه من جهة الانحراف الروحی والفساد النفسی لا یقل عن ولد الزنا، إذ أن الطفل یرث الصفات الرذیلة من أمه فهو ینزع إلی الإجرام والخروج علی القانون. ونأخذ لذلک مثالاً: کان الحجاج بن یوسف الثقفی فرداً غیر طبیعی، وخطراً فی نفس الوقت، والتاریخ أحصی له جرائم وجنایات عظیمة سودت وجه البشریة, فقد بلغ عدد من قتله الحجّاج صبراً فی غیر حروبه مئة وعشرین ألفاً. وعندما توفی خلَّف فی محبسه خمسین ألف رجل, وثلاثین ألف امرأة, وکان حبسه لا یکنّهم من برد ولا حرّ, ویسقون الماء مشوباً بالرماد(1). ومن طرائفه المُبکیة قالوا عندما أخذه السل وهجره النوم أحضر منجماً فسأله: هل تری ملکاً یموت؟ قال: نعم أری ملکاً یموت ولکن أسمه کُلیب, فقال: بذلک سمّتنی أُمی, قال المنجم کذلک تدل علیه النجوم, قال الحجّاج: فلأُقدمنّک أمامی, ثم أمر به فضربت عنقه, ثم مات الحجاج(2). فإنّ مما لا شک فیه أنّ عوامل عدیدة تدخلت فی انحراف سلوک هذا الإنسان مما جعلته خطراً وشریراً إلی هذه الدرجة، ومن الممکن أن قسطاً وافراً من ذلک یرجع إلی روح أمّه المنحرفة. حیث أنّ امَّ الحجاج التی أسمها (فارغة) کانت زوجة (للمغیرة بن شعبة) قبل أن تتزوج یوسف الثقفی, وکان عمر بن الخطاب یسیر فی أزقة المدینة فی بعض اللیالی... فسمع امرأة تغنی فی أحد البیوت وتنشد البیت الآتی:

ص:28


1- (1) راجع: موسوعة التأریخ الإسلامی, الیوسفی الغروی, ج 6 ص 518.
2- (2) تاریخ مختصر الدول, ابن العربی, ص 113.

هل من سبیل إلی خمر فأشربها أم من سبیل إلی نصر بن حجاج؟

فتأثر عمر من هذا البیت، وساءه أن تکون فی عاصمة حکومته امرأة تترنم بغرام شاب أجنبی بالرغم من أنها متزوجة، فأحضر النصر بن الحجاج (وکان شاباً جمیلاً) فحلق رأسه وسفّره إلی البصرة(1).

إنّ المرأة المحصنة التی تفکر فی رجل أجنبی وتتمنی معاقرة الخمر والوصول بالنصر بن حجاج إذا حملت من زوجها القانونی نطفة فإنّ انحرافها سیؤثر فی نفس طفلها قطعاً. وأیضا المرأة التی لا تفهم لاحترام القوانین الإلهیة والتعالیم الدینیة معنی لا یستغرب منها أن تلد طفلاً مثل الحجاج فی فساده وانتهاکه حریم الناس وأرواحهم وأموالهم.

فقد أثبت الواقع الاجتماعی والواقع العلمی بدراساته المستفیضة الأثر الحاسم للوراثة والمحیط الاجتماعی فی تکوین الطفل ونشوئه، وانعکاسات الوراثة والمحیط علیه فی جمیع جوانبه الجسدیة والنفسیة، فأغلب الصفات تنتقل من الآباء والاُمَّهات والأجداد إلی الأبناء، کالذکاء والاضطراب السلوکی وانفصام الشخصیة والأمراض العقلیة والانضباط الذاتی، وصفات التسامح والمرونة، فیکونون وسطاً مساعداً للانتقال أو یکون فی الأبناء الاستعداد للاتصاف بها، إضافة إلی انعکاس العادات والتقالید علی الأبناء نتیجة لتکرر الأعمال، ومن هنا أکد الإسلام علی الزواج الانتقائی، أی بانتقاء الزوجین من أسرة صالحة وبیئة صالحة.

ص:29


1- (1) تاریخ مدینة دمشق, ابن عساکر, ج 40 ص 275.

اختیار الزوجة

راعی الإسلام فی تعلیماته لاختیار الزوجة الجانبین: الجانب الوراثی الذی انحدرت منه المرأة، والجانب الاجتماعی الذی عاشته. ولهذین الجانبین دور کبیر فی انعکاسه علی سلوکها وسیرتها، کما کشف ذلک رسول الله صلی الله علیه و آله حیث قال:

اختاروا لنطفکم فان الخال أحد الضجیعین(1).

فالرسول الأکرم یؤکد علی اختیار الزوجة من الأسر التی تحمل الصفات النبیلة، لتأثیر الوراثة علی تکوین المرأة وعلی تکوین الطفل الذی تلده، وکانت سیرته قائمة علی هذا الأساس، فاختار خدیجة فأنجبت له أفضل النساء فاطمة علیهاالسلام، وتبعه فی السیرة هذه أهل البیت علیهم السلام فاختاروا زوجاتهم من الأسر الکریمة, أو التی حظیت برعایة وتربیة إلهیة کما سیأتی. وإلی جانب الانتقاء علی أسس الوراثة، أکد الإسلام علی انتقاء الزوجة من المحیط الاجتماعی الصالح الذی أکسبها الصلاح وحسن السلوک، وفی نفس الوقت حذر من المحیط غیر الصالح الذی تعیشه، فحذر من الزواج من الحسناء المترعرعة فی منبت السوء فقال صلی الله علیه و آله:

إیاکم وخضراء الدمن(2) قیل: یا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال:

المرأة الحسناء فی منبت السوء(3).

وغیرها من الروایات الکثیرة فی هذا المجال وأکدت هذه الروایات علی

ص:30


1- (1) تهذیب الأحکام, الشیخ الطوسی, ج 7 ص 402.
2- (2) الدمن: البعر. تقول: والماء متدمن، إذا سقطت فیه أبعار الغنم والإبل. الصحاح, الجوهری, ج 5 ص 2114.
3- (3) الکافی, الکلینی, ج 5 ص 332.

أن یکون التدین مقیاساً لاختیار الزوجة، وکان رسول الله صلی الله علیه و آله یشجع علی ذلک، فقد أتاه رجل یستأمره فی الزواج فقال:

علیک بذات الدین تربت یداک(1).

وقدّم الإمام الصادق علیه السلام اختیار التدین علی المال والجمال, فقال:

إذا تزوج الرجل المرأة لجمالها أو مالها وکل إلی ذلک وإذا تزوجها لدینها رزقه الله الجمال والمال(2).

فالمرأة المنحدرة من سلالة طاهرة ومن أسرة صالحة وکان التدین صفة ملازمة لها، فانّ سیر الحرکة التربویة یتقدم أشواطاً إلی الأمام، وتکون تربیتها للأطفال منسجمة مع القواعد التی وضعها الإسلام فی شؤون التربیة، فیکون المنهج التربوی المتبع متفقاً علیه من قبل الزوجین، لا تناقض فیه ولا تضاد، وتکون الزوجة حریصة علی إنجاح العملیة التربویة وتعتبرها تکلیفاً شرعیاً قبل کل شیء، وهذا التکلیف یجنبها عن أی ممارسة سلبیة مؤثرة علی النمو العاطفی والنفسی للأطفال.

ولو نظرنا إلی صفة الکرم والجود التی احتوتها نفس حاتم الطائی لرأینا أنّه ورثها من أمه عنترة بنت عفیف بن عمرو بن امرئ القیس, فقد ذکر المؤرخون أنّها لا تمسک شیئاً, سخاءً وجوداً، وکان إخوتها یمنعونها فتأبی، وکانت امرأة موسرة، فحبسوها فی بیت سنة یطعمونها قوتها لعلها تکف عما تصنع، ثم

ص:31


1- (1) المصدر نفسه.
2- (2) المصدر نفسه, ج 5 ص 333.

أخرجوها بعد سنة، وقد ظنوا أنها قد ترکت ذلک الخلق، فدفعوا إلیها صرمة(1) من مالها وقالوا استمتعی بها. فأتتها امرأة من هوازن وکانت تغشاها فسألتها، فقالت: دونک هذه الصرمة، فقد والله مسنی من الجوع ما آلیت أن لا أمنع سائلا، ثم أنشأت تقول:

لعمری لقدما عضنی الجوع عضة فآلیت ألا أمنع الدهر جائعا

فقولا لهذا اللائمی الیوم أعفنی وإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا

فماذا عساکم أن تقولوا لأختکم سوی عذلکم أو عذل من کان مانعا

وماذا ترون الیوم إلا طبیعة فکیف بترکی یا بن أمی الطبائعا(2)

طهارة امَّهات الأئمة

نستخلص مما تقدم أنّ اهتمام الهدی السماوی فی شؤون الأم, وکشفه عن مدی أهمیتها وخطورتها وما تعکسه بالنسبة إلی الأبناء, والذی یلزم أن یکون هذا الوعاء طاهراً خالیاً من الشوائب والأدناس کی یخرج منه الجیل الصالح الذی یسعد البشریة وتتحقق منه أهداف الإنسانیة, فلا نستغرب عندما نری اختصاص امَّهات الأئمة الأطهار علیهم السلام قد حظین بالأدب والتربیة الإلهیة, وما أوعزته السماء من اهتمام کبیر فی رعایة هذه الأوعیة التی کانت مضاجع لخیر الخلق وحملة الرسالة الإلهیة, وهذا معتقد مسلّم عندنا (أشهد أنک کنت نوراً فی الأصلاب

ص:32


1- (1) الصرمة: القطیع من الإبل, والفرقة من الغنم. وقیل الصرمة: مابین العشرة الی الأربعن من الإبل. راجع: لسان العرب, ابن منظور, ج 8 ص 196.
2- (2) السیرة النبویة, ابن کثیر, ج 1 ص 114.

الشامخة والأرحام المطهرة)(1), وهذه الطهارة والصفات الایجابیة التی حوتها أمّ المعصوم علیهاالسلام لم تکن ولیدة الفترة المتأخرة أو المزامنة باقترانها بالإمام علیه السلام, حیث ربما یقال أنّه لا یشترط أن تکون أُم الإمام المعصوم علیهاالسلام طاهرة وکاملة فی بدایة أمرها, وإنما یکون ذلک بعد دخولها الإسلام وقد تابت وأحسنت توبتها وحصلت علی الطهارة والصفات العالیة.

قلنا: صحیح أنّ التائب من الذنب کمن لا ذنب له, لکن هذا لا یرفع الآثار التکوینیة والمخلفات النفسیة والجسدیة, نعم یصح أن نقول یرتفع عنه العقاب الأخروی بحسب تطبیق موازینه وإجراء أحکامه, وإنما تبقی الآثار التکوینیة فی الجسد والنفس جراء تلک الذنوب وممارسة المنکرات, ویمکن أن نقرب ذلک بمثال: من قبیل لو شرب الإنسان الخمرة وبعد الشرب مباشرة أدرکته الرحمة الإلهیة وتاب توبة نصوحة فلا تجدیه هذه التوبة عن ترتب الآثار التکوینیة (السکر) حیث یصاب بالسکر والغثیان وتترتب علیه کل الآثار الجسدیة والنفسیة, نعم کل ما هنالک یرتفع عنه العقاب الأُخروی فی حال قبول التوبة, وهنا لو فرضنا أنّ أمّ المعصوم علیه السلام کانت تزاول وتمارس المنکر قبل اقترانها بالإمام علیه السلام, بلا شک یبقی أثره فی جسمها ونفسها ولا تصلح أن تکون وعاءً وحجراً للمعصوم؛ لأنه سینعکس علیه جملة من الآثار السلبیة جراء تلوث جسد ونفس الأم, کما تقدمت الإشارة إلیه من الناحیة العلمیة والشرعیة, فعلیه لابد أن تکون أمّ المعصوم علیهاالسلام خالیة من الشوائب والآثار السلبیة لاسیما من اللحاظ الجسدی

ص:33


1- (1) مصباح المتهجد, الطوسی, ص 721.

والنفسی فی کل أطوار حیاتها, فلابد أن تکون لأم المعصوم درجة رفیعة فی مجال التکامل النفسی والطهارة الروحیة بحیث تجعلها أهلاً لحمل السر الإلهی الذی لولاه لساخت الأرض بأهلها، والنور الربانی الذی أودع فی الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، فلها إذن درجة ترتفع بصاحبها عن مردیات الهوی، ومهلکات النفس، وتسمو به عالیاً نحو المقصود الکلی والوجود الأزلی، من هنا کان اختیار أم المعصوم محفوفاً بألطاف جلیة، ورعایة إلهیة، ومعاجز ربانیة لذلک جاءت جملة من الروایات تکشف لنا اهتمام السماء فی باُمَّهات المعصومین علیهم السلام, حیث نجد أنّ من ألقاب فاطمة الزهراء علیهاالسلام (البتول): وذلک لأنها لم ترَ الحیض, کما فسّره النبی الأکرم صلی الله علیه و آله عندما سئل عن معناه فقال صلی الله علیه و آله:

هی المرأة التی لم تحض ولم تر حمرة قط وإنّ الحیض مکروه فی بنات الأنبیاء علیهم السلام(1).

وقد رُویَ عنهم علیهم السلام أن سبیل امَّهات الأئمة علیهم السلام سبیل فاطمة علیهاالسلام فی ارتفاع الحیض عنهن. وهذا مما تمیزت به امَّهات أئمتنا علیهم السلام من سائر النساء لأنه لم یصح فی واحدة من جمیع النساء حصول الولادة مع ارتفاع الحیض عنها سواهن تخصیصاً لهن لمکان أولادهن المعصومین صلوات الله علیهم أجمعین(2).

فالمتتبع لقصة أسر شهر بانویه، کما ستأتی فی محلها, واختیارها للإمام الحسین علیه السلام من دون الرجال، وتقریظ أمیر المؤمنین علیه السلام لها بقوله للحسین علیه السلام. (لیلدن لک منها خیر أهل الأرض)، لا یخفی علیه عمق التسدید الإلهی، والإعداد

ص:34


1- (1) معانی الأخبار, الصدوق, ص 64.
2- (2) تاج الموالید, الشیخ الطبرسی, ص 20

الربانی للحادثة.

ویحدثنا الصادق علیه السلام عن حمیدة أم الإمام الکاظم علیه السلام فیقول:

حمیدة مصفاة من الأدناس، کسبیکة الذهب، ما زالت الأملاک تحرسها حتی أدیت إلی، کرامة من الله لی والحجة من بعدی(1). وفی هذا الحدیث دلالة واضحة علی أنّ أمّ المعصوم علیهاالسلام تعیش تحت الحراسة والرعایة الإلهیة منذ البدء, حیث وَکَّلَ الله تعالی أملاکاً تحرسها وتدرأ عنها شوائب الأقذار؛ وذلک لکی تکون الوعاء المناسب للحجة علیه السلام.

وأیضا ذکر أبو عبد الله الصادق علیه السلام جدته أم أبیه فقال علیه السلام:

کانت صدیقة لم تدرک فی آل الحسن امرأة مثلها(2). وهذا یعنی أنها کانت منذ البدء کاملة طاهرة.

وقد ذکر ابن مهزیار عن الإمام الهادی علیه السلام یصف أمه قائلا:

أمی عارفة بحقی وهی من أهل الجنة، لا یقربها شیطان مارد، ولا ینالها کید جبار عنید، وهی مکلوءة بعین الله التی لا تنام، ولا تختلف عن امَّهات الصدیقین والصالحین(3).

وهکذا کل امَّهات الأئمة طاهرات مطهرات مصطفیات، لجلیل ما یحملن، وعظیم ما اختیر لهن.

ص:35


1- (1) الکافی, الکلینی, ج 1 ص 477.
2- (2) المصدر نفسه, ج 1 ص 469.
3- (3) الأنوار البهیة, الشیخ عباس القمی, ص 273.

من آثار الحمل بالمعصوم

من أشد المصاعب والآلام التی تمر بها الأم وتعکر علیها صفوة حیاتها, هی فی حال حملها بجنینها حیث تعتریها أزمات وأعراض جانبیة, نفسیة کانت أم جسدیة, بالإضافة إلی الثقل وغیره, نعم ربما یختلف ذلک بین امرأة وأخری اختلافاً بسیطاً, ولکنْ هناک فرقٌ شاسعٌ فی حمل امَّهات الأئمة بالمعصوم علیه السلام یختلف عن حمل باقی النساء من لحاظ الخفة والغشیان وما إلیها من الکرامات, کما نقل بأسانید معتبرة عن الصادق علیه السلام قال:

ذا حملت بهم امَّهاتهم أصابها فترة شبه الغشیة، فأقامت فی ذلک یومها ذلک إن کان نهاراً، أو لیلتها إن کان لیلاً، ثم تری فی منامها رجلاً یبشرها بغلام، علیم حلیم، فتفرح لذلک، ثم تنتبه من نومها، فتسمع من جانبها الأیمن فی جانب البیت صوتاً یقول: حملت بخیر وتصیرین إلی خیر وجئت بخیر، أبشری بغلام، حلیم علیم، وتجد خفة فی بدنها ثم لم تجد بعد ذلک امتناعاً من جنبیها وبطنها, فإذا کان لتسع من شهرها سمعت فی البیت حساً شدیداً، فإذا کانت اللیلة التی تلد فیها ظهر لها فی البیت نور تراه لا یراه غیرها إلا أبوه، فإذا ولدته ولدته قاعداً وتفتحت له حتی یخرج متربعاً یستدیر بعد وقوعه إلی الأرض، فلا یخطئ القبلة حیث کانت بوجهه، ثم یعطس ثلاثاً یشیر بأصبعه بالتحمید ویقع مسروراً مختوناً ورباعیتاه من فوق وأسفل وناباه وضاحکاه ومن بین یدیه مثل سبیکة الذهب نور ویقیم یومه ولیلته(1).

ص:36


1- (1) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 1 ص 387.

أسماء المعصومین واُمَّهاتهم فی صحیفة الزهراء علیهاالسلام

لم تکن أسماء وألقاب أهل البیت علیهم السلام وحتی ذکر أسماء امَّهاتهم ولیدة عصرها, بل هی سابقة فی علم الله ومعرفة أولیائه والمقربین لهم, وهذه واحدة من الروایات التی تذکر ذلک مفصلاً, وکان مدوناً فی صحیفة الزهراء علیهاالسلام, کما ورد عن أبی نضرة قال: لما احتضر أبو جعفر محمد بن علی الباقر علیهماالسلام عند الوفاة دعا بابنه الصادق علیه السلام لیعهد إلیه عهداً فقال له أخوه زید بن علی علیه السلام: لو امتثلت فی تمثال الحسن والحسین علیهماالسلام لرجوت أن لا تکون أتیت منکراً فقال له: یا أبا الحسن إن الأمانات لیست بالتمثال ولا العهود بالرسوم وإنما هی أمور سابقة عن حجج الله عز وجل ثم دعا بجابر بن عبد الله فقال: له یا جابر حدثنا بما عاینت من الصحیفة فقال له جابر: نعم یا أبا جعفر دخلت علی مولاتی فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله لأهنئها بمولودها الحسین علیه السلام فإذا بیدیها صحیفة بیضاء من دره فقلت لها: یا سیدة النساء ما هذه الصحیفة التی أراها معک؟ قالت: فیها أسماء الأئمة من ولدی قلت لها: ناولینی لأنظر فیها قالت: یا جابر لولا النهی لکنت افعل لکنه قد نهی أن یمسها إلا نبی أو وصی نبی أو أهل بیت نبی, ولکنه مأذون لک أن تنظر باطنها من ظاهرها قال جابر: فإذا أبو القاسم محمد بن عبد الله المصطفی أمه آمنة, أبو الحسن علی بن أبی طالب المرتضی أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف, أبو محمد الحسن بن علی البر, أبو عبد الله الحسین بن التقی, أمهما فاطمة بنت محمد, أبو محمد علی بن الحسین العدل أمه شهربانو بنت یزدجرد, أبو جعفر محمد بن علی الباقر أمه أم عبد الله بنت الحسن بن علی بن أبی طالب علیه السلام, أبو

ص:37

عبد الله جعفر بن محمد الصادق وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبی بکر, أبو إبراهیم موسی بن جعفر أمه جاریة اسمها حمیدة المصفاة, أبو الحسن علی بن موسی الرضا أمه جاریة اسمها نجمة, أبو جعفر محمد بن علی الزکی أمه جاریة اسمها خیزران, أبو الحسن علی بن محمد بن الأمین أمه جاریة اسمها سوسن, أبو محمد الحسن بن علی الرفیق أمه جاریة اسمها سمانة, وتکنی أم الحسن, أبو القاسم محمد الحسن هو حجة الله القائم أمه جاریة اسمها نرجس صلوات الله علیهم أجمعین(1).

إهمال التاریخ لاُمَّهات الأئمة علیهم السلام

هناک عدة عوامل وقفت عائقاً أمام الحدیث عن ذکر خصوصیات امَّهات الأئمة علیهم السلام بشکل مفصل، أو لا أقل بما یلیق بشأنهنَّ ومقامهنَّ السامی الذی أوصلهنَّ، بأن یکنَّ وعاءً وحجراً لخیر أهل الأرض فی زمانه, فهن یعشنَّ فی بحر من الکرامات والمعاجز, وربّما من تلک العوامل هی أن التأریخ عاش وترعرع فی أحضان أعداء أهل البیت علیهم السلام ومن الواضح لا تسنح الظروف الراهنة آنذاک فی نشر فضائل أهل البیت علیهم السلام سواء کان من جهة الآباء أو الاُمَّهات, نعم هناک مواقف وکرامات فرضت نفسها علی التاریخ واُختزلَتْ فی أذهان الناس وانتشرت فی ربوع المعمورة وغالبا ما یتأتی هذا من جهة الرجال دون النساء لما تحیطها من ظروف اجتماعیة وغیرها.

ص:38


1- (1) عیون أخبار الرضا علیه السلام, الشیخ الصدوق, ج 2 ص 47. والاحتجاج, الطبرسی, ج 2 ص 137.

وأیضاً من العوامل التی تقف حائلاً دون ذلک, تحجیم دور المرأة فی المجتمع حینذاک ولم تحظَ بمکانة بینهم فی جمیع الأصعدة, ولا نبالغ حینما نقول عانت المرأة خلال العصور التاریخیة المختلفة ألواناً من الظلم والاضطهاد والتعسف فی جمیع مراحل التاریخ، وذلک أنّ المرأة کانت فی کثیر من المجتمعات شخصیة غیر مستقلة فی جمیع الحقوق الاقتصادیة والسیاسیة والاجتماعیة، فکانت المرأة تعامل معاملة الکائن غیر المستقل، وکانوا یستثمرونها بشکل فظیع قریب من حالة التوحش, وبلغ وضع المرأة من الانحطاط بحیث إن صاحبها کان یستفید منها للارتزاق أحیاناً، فیعرضها للإیجار, بما کان یعانیه هؤلاء من فقر حضاری وفقر مادی جعل منهم قساة لا یتورعون عن ارتکاب جریمة (الوأد) بحق الأنثی. نعم مع ظهور الإسلام وانتشار تعالیمه السامیة، دخلت حیاة المرأة مرحلة جدیدة بعیدة کل البعد عما سبقها, ففی هذه المرحلة أصبحت المرأة مستقلة ومتمتعة بکل حقوقها الفردیة والاجتماعیة والإنسانیة, لکن بقیت هذه الرواسب الجاهلیة کامنة فی أذهان الکثیر لاسیما المتغطرسین والمتسلطین علی رقاب الناس ما یمنع من نشر فضائل النساء اللاتی خصَّهُنَّ الله بالکرامة والتقدیر, والتی فیها مواقف مشرّفة تبیض فیها وجه الإنسانیة والتاریخ, ولنأخذ مثالاً مختصراً علی بعض المواقف الخالدة من بعض النساء الشامخات, قال المدائنی أتی عبید الله بن زیاد بامرأة من الخوارج فقطع رجلها وقال لها کیف ترین فقالت إن فی الفکر فی هول المطلع لشغلاً عن حدیدتکم هذه ثم قطع رجلها الأخری وجذبها فوضعت یدها علی فرجها فقال لتسترینه فقالت لکن سمیة

ص:39

أمک لم تکن تستره(1).

وکذلک من العوامل المهمة أیضاً التی حالت دون وصول تاریخ وفضائل امَّهات الأئمة المعصومین علیهم السلام هی إحراق وإتلاف مکتبات وتراث الشیعة فی مرّ العصور لاسیّما فی العصور القدیمة والقریبة من عصر الأئمة علیهم السلام, کحرق مکتبة الشیخ الطوسی رحمه الله والتی تعد من أکبر المکتبات فی زمانها, وما حدث علی ید التتار عند دخولهم بغداد من إحراق المکتبات وإلقاء الکتب فی نهر دجلة حتی أسودَّ ماؤه. وأیضا ما جری فی إحراق المکتبات الشیعیة فی مصر علی أیدی الأیوبیین. ولنأخذ مثالاً لما جری علی الکتب والتراث الشیعی آنذاک, ذکروا أنّ طغرل بک أول ملوک السلاجقة لما ورد بغداد فی سنة (447 ه -) وشن حملته المشهورة علی الشیعة أمر بإحراق مکتبتهم التی أسسها أبو نصر سابور بن أردشیر وزیر بهاء الدولة البویهی فی محلة (بین السورین) فی کرخ بغداد سنة (381 ه (. وقد کانت من دور العلم المهمة فی بغداد بناها هذا الوزیر الجلیل والأدیب الفاضل علی مثال بیت الحکمة الذی بناه هارون الرشید کما ذکر فی ترجمته, وقد جمع فیها هذا الوزیر ما تفرق من کتب فارس والعراق، واستکتب تألیف أهل الصین والروم ونافت کتبها علی عشرة آلاف، من جلائل الآثار ومهام الأسفار، وأکثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلفین، ولم یکن فی الدنیا أحسن کُتباً منها، کانت کلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحررة. وکان من جملتها مئة مصحف بخط ابن مقلة(2).

ص:40


1- (1) بلاغات النساء, ابن طیفور, ص 140.
2- (2) أنظر: الصراط المستقیم, علی بن یونس العاملی, ج 2 ص 21.

فنفهم من هذا وغیره أنّ کثیراً من العلوم القیمة لاسیما المرتبطة بأهل البیت علیهم السلام (لیس فقط سیرة وفضائل امَّهات الأئمة علیهم السلام) قد اتلِفَتْ وأحرقت من قبل المجرمین وحرموا منها الإنسانیة أن تواصل مسیرها فی العلم والکمال والإرشاد نحو مستقبل زاهر, هذا إضافة ما جری علی الشیعة من سفک دمائهم ومصادرة أموالهم وما إلیه والحدیث فی ذلک ذو شجون.

فتحصل أنّ هذا هو الآخر من الأسباب التی حالت دون وصول فضائل وکرامات وتاریخ امَّهات الأئمة المعصومین علیهم السلام, فربما کانت قد أحصیت ودونت من قبل العلماء حینذاک کثیر مما یرتبط باُمَّهاتهم علیهم السلام من فضائل وسیرة وغیرهما ولکن أتلفت وأحرقت مع باقی الکتب القیمة. ویؤیده ما ذکر فی الاتهام الباطل لأم الإمام الجواد علیه السلام (کما سیأتی فی محله)... ثم قال علیه السلام:

یا عم، ألم تسمع أبی وهو یقول: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: بأبی ابن خیرة الإماء ابن النوبیة الطیبة الفم، المنتجبة الرحم... الخ(1).

فنفهم من هذا أنّ طهارة ونزاهة أم المعصوم علیه السلام کانت واضحة فی أذهان غیر المعصوم أیضاً, لذلک الإمام الرضا علیه السلام أخذ یذکر عمه بما قاله النبی صلی الله علیه و آله بحق زوجته السیدة خیزران. فهناک اهتمام من قبل النبی صلی الله علیه و آله وأهل البیت علیهم السلام فی بیان مزایا وصفات امَّهات المعصومین علیهم السلام ولکن حال دون وصوله الجهل والتخلف والطغیان.

ص:41


1- (1) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 1 ص 323.

ص:42

الفصل الأول: آمنة بنت وهب امُّ النبی الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم

اشارة

ص:43

ص:44

النسب الطاهر

هی السیدة آمنه بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن کلاب بن مرة بن کعب بن لؤی بن غالب بن فهر بن مالک بن النضر بن کنانة بن خزیمة بن مدرکة ابن إلیاس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان(1).

ووهب بن عبد مناف (أبو آمنة أم رسول الله صلی الله علیه و آله) من قریش وهو سید بنی زهرة قبل الإسلام. وکانت کنیته أبا کبشة، فلما ظهر النبی صلی الله علیه و آله وناوأته قریش کانوا ینسبونه إلیه، فیقولون: قال ابن أبی کبشة، وفعل ابن أبی کبشة. وفی وهب یقول أحد معاصریه:

یا وهب یابن الماجدین زهره سدت کلابا - کلها - ابن مره

بحسب زاک وأم حره(2)

ولا یُعلَمُ أنه أکان لآمنة أخ فیکون خالاً للنبی صلی الله علیه و آله أم لا، ولکنَّ بنی زهرة یقولون: نحن أخوال رسول الله صلی الله علیه و آله، لأن آمنة منهم وأقارب الأم أخوال، وقد کانت أفضل امرأة فی قریش نسباً وموطناً، ویؤخذ من اللهجة التی کانت تتکلم بها السیدة آمنة أن أصلها من المدینة.

ص:45


1- (1) تاریخ الموالید, الطبرسی, ص 4.
2- (2) أنظر: الأعلام, خیر الدین الزرکلی, ج 8 ص 125.

وورد فی لسان العرب: أن بنی زهرة حی من قریش أخوال النبی صلی الله علیه و آله، وهو اسم امرأة کلاب بن مرة بن کعب بن لؤی بن غالب بن فهر، نسب ولده إلیها. وقد سمت زاهراً وأزهر وزهیراً(1).

وهناک قول آخر هو أقرب للصحة, کما نقل عن ابن إسحاق والطبری وغیرهم أنّ زهرة هو جد بنی زهرة (وهو اسم رجل) اسمه زهرة بن کلاب ومن ولده الحارث وعبد مناف ومن ولد عبد مناف وهب(2) (والد آمنة بنت وهب, أم النبی صلی الله علیه و آله).

وأما نسبها من الأم: هی آمنة بنت برة بنت عبد العزی بن عثمان بن عبد الدار بن قصی بن کلاب، وأم برة أم حبیب بنت أسد بن عبد العزی بن قصی بن کلاب(3).

ونسبها قریب جداً من سلسلة النبوة، فهی متصلة من الطرفین بنسب النبی صلی الله علیه و آله بوسائط قریبة. فإن نسب النبی صلی الله علیه و آله یتحد بأبیه وأمه فی کلاب, الذی هو الجد الخامس للنبی صلی الله علیه و آله.

ومحل ولادتها مکة المکرمة, ما یقارب سنة (76) قبل الهجرة, لها من العمر (30 سنة), حیث ذکروا أنّ تاریخ وفاتها سنة (46) قبل الهجرة, وقیل سنة (576) بعد المیلاد(4).

ص:46


1- (1) لسان العرب, ابن منظور, ج 4 ص 333.
2- (2) انظر: حاشیة البدایة والنهایة, ابن کثیر, ج 2 ص 268.
3- (3) الطبقات الکبری, ابن سعد, ج 1 ص 59.
4- (4) راجع: کتاب کاروانی با سیزده کجاوه, ص 21. ومادران معصومان, أحمد أمیری بور, ص 42.

وآمنة تلی خدیجة الکبری فی جلالة القدر وفی کمالها وجمالها الصوری والمعنوی ونبل المقام فی مکة المکرمة, وشهد الکثیر بطهارتها وتکامل صفاتها, حیث قالوا: إن رحم آمنة أشرف الأرحام وأسماها وأعلاها إذ استقرت فیه نطفة کریمة عظیمة ما زالت تتقلب فی الأصلاب بتدبیر وتقدیر من الباری عز وجل حتی استفرغها عبدالله فتی قریش لکی یبقی الاصطفاء حقیقة فاعلة, وذلک لأنه حمل خاتم النبیین وإمام المرسلین مع إیماننا وإقرارنا باصطفاء مریم بنت عمران, وسیأتی الکلام عن ذلک.

نبذة عن أبناء کلاب

لا بأس أن نلقی نظرة مقتضبة فی حال أبناء کلاب کل من زهرة جد آمنة (والدة النبی صلی الله علیه و آله) وأخیه قصی جد عبدالله (والد النبی صلی الله علیه و آله) وکلهم أبناء کلاب, فقد ذکر المؤرخون أن قصیاً اسمه زید وإنما قیل له قصی؛ لان أباه کلاب بن مرة کان تزوج أم قصی فاطمة بنت سعد بن سیل, فولدت لکلاب زهرة وزیداً (قصی) فهلک کلاب وزید صغیر وقد شب زهرة وکبر, فقدم ربیعة ابن حرام وتزوج فاطمة أم زهرة وقصی, وزهرة رجل قد بلغ وقصی فطیم أو قریب من ذلک فاحتملها إلی بلاده من أرض بنی عذرة من أشراف الشأن فاحتملت معها قصیاً لصغره وتخلف زهرة فی قومه فولدت فاطمة بنت سعد بن سیل لربیعة بن حرام رزاح بن ربیعة فکان أخاه لأمه وکان لربیعة بن حرام ثلاثة نفر من امرأة أخری وهم حن بن ربیعة ومحمود بن ربیعة وجلهمة بن ربیعة وشب زید فی حجر ربیعة فسمی زید قصیاً لبعد داره عن دار قومه ولم یبرح

ص:47

زهرة مکة فبینا قصی بن کلاب بأرض قضاعة لا ینتمی فیما یزعمون إلا إلی ربیعة بن حزام إذ کان بینه وبین رجل من قضاعة شیء وقد بلغ قصی وکان رجلاً شاباً فأنبه القضاعی بالغربة وقال له ألا تلحق بقومک ونسبک فإنک لست منا فرجع قصی إلی أمه وقد وجد فی نفسه مما قال له القضاعی فسألها عما قال له ذلک الرجل فقالت له أنت والله یا بنی أکرم منه نفساً ووالداً أنت ابن کلاب ابن مرة بن کعب بن لؤی بن غالب بن فهر بن مالک بن النضر بن کنانة القرشی وقومک بمکة عند البیت الحرام وفیما حوله فأجمع قصی الخروج إلی قومه واللحوق بهم وکره الغربة بأرض قضاعة فقالت له أمه یا بنی لا تعجل بالخروج حتی یدخل علیک الشهر الحرام فتخرج فی حاج العرب فإنی أخشی علیک أن یصیبک بعض البأس فأقام قصی حتی إذا دخل الشهر الحرام خرج حاج قضاعة فخرج فیهم حتی قدم مکة فلما فرغ من الحج أقام بها وکان رجلاً جلیداً نسیباً فخطب إلی حلیل بن حبشیة الخزاعی ابنته حبی بنت حلیل فعرف حلیل النسب ورغب فیه فزوجه وحلیل یومئذ فیما یزعمون یلی الکعبة وأمر مکة فأقام قصی معه یعنی مع حلیل وولدت له ولده عبد الدار وعبد مناف وعبد العزی وعبد ابنی قصی فلما انتشر ولده وکثر ماله وعظم شرفه هلک حلیل بن حبشیة فرأی قصی أنه أولی بالکعبة وأمر مکة من خزاعة وبنی بکر وأن قریشاً فرعة إسماعیل بن إبراهیم, وصریح ولده فکلم رجالاً من قریش وبنی کنانة ودعاهم إلی إخراج خزاعة وبنی بکر من مکة فلما قبلوا منه ما دعاهم إلیه وبایعوه علیه کتب إلی أخیه من أمه رزاح بن ربیعة بن حرام وهو ببلاد قومه یدعوه إلی

ص:48

نصرته والقیام معه فقام رزاح بن ربیعة فی قضاعة فدعاهم إلی نصر أخیه والخروج معه إلیه فأجابوه إلی ما دعاهم من ذلک(1).

وبقیت هذه الأخوة المتأصلة والمودة بین بنی زهرة وابناء قصی مستمرة وکانت بنو زهرة تحمل الود والإخلاص لبنی عبد مناف وکانت معها فی حلف فی الضراء والسراء, وکانوا متجاورین لا تنفصل بیوتهم, وحینما جزأت قریش الکعبة کان شق الباب لبنی عبد مناف وبنی زهرة.

تقرش قریش

قریش فی اللغة: هو تصغیر القرش, وهی دابة فی البحر لا تدع دابة إلا أکلتها, فجمیع الدواب تخافها(2).

وفی الاصطلاح: قبیلة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، أبوهم النضر بن کنانة بن خزیمة ابن مدرکة بن إلیاس بن مضر، فکل من کان من ولد النضر، فهو قرشی دون ولد کنانة ومن فوقه، کما هو المشهور فی أنّ قریش تقرشت (أی تجمعت) من النضر ابن کنانة، وکان لکنانة ولد غیر النضر ولا یسمون قریشاً. وقیل: من فهر بن مالک ابن النضر، وسبب ذلک أن أولاد النضر کانوا قد تفرقوا فی البلاد لاستیلاء خزاعة علیهم فلما انتقل أمر مکة من خزاعة إلی قصی بن کلاب جمع أولاد النضر فی مکة فسموا قریشاً، وفی قریش بطون کثیرة(3).

ص:49


1- (1) راجع: تاریخ الطبری, الطبری, ج 2 ص 14.
2- (2) لسان العرب, ابن منظور, ج 6 ص 335.
3- (3) أنظر: شرح أصول الکافی, مولی محمد صالح المازندرانی, ج 5 ص 229.

والحاصل: سمیت بذلک لتقرشها أی تجمعها إلی مکة من حوالیها بعد تفرقها فی البلاد حین غلب علیها قصی بن کلاب، وبه سمی قصی مجمعاً.

وقیل: سموا بقریش هو مشتق من الدابة التی ذکرت وهی التی تخافها جمیع الدواب, کما فی حدیث ابن عباس فی ذکر قریش قال: هی دابة تسکن البحر تأکل دوابه(1) ، وبها سمیت قریش قریشاً. وقیل: سمیت باسم قریش بن مخلد بن غالب بن فهر, حیث کان صاحب عیرهم, فکانوا یقولون: قدمت عیر قریش وخرجت عیر قریش. وقیل: سمیت بذلک لأنهم کانوا أهل تجارة ولم یکونوا أصحاب ضرع وزرع, من قولهم: فلان یتقرش المال أی یجمعه(2).

الکمالات العالیة للسیدة آمنة

بلا شک أنّ المرأة التی تحظی بهذا الفخر العظیم وتکون وعاءً لخاتم النبیین وخیر الخلق أجمعین من الأولین والآخرین لابد وأن تکون متصفة بکمالات عالیة تؤهلها لذلک سواء علی الصعید المادی أو المعنوی کی تکون مستعدة لتقبل النور النبوی.

وعلیه قد روی فی أوصاف آمنة أم النبی صلی الله علیه و آله أنها کانت کالمرآة المضیئة، ووجهها کفلقة قمر، وکانت من أحسن النساء جمالاً وکمالاً، وأفضلهن حسباً ونسباً. قال عبد المطلب لولده عبد الله: «فوالله ما فی بنات أهل مکة مثلها، لأنها محتشمة ونفسها طاهرة مطهرة، وهی دیّنة أدیبة عاقلة فصیحة بلیغة، وقد

ص:50


1- (1) أنظر: معجم البلدان, الحموی, ج 4 ص 337.
2- (2) أنظر: لسان العرب, ابن منظور, ج 6 ص 335.

کساها الله جمالاً لا یوصف»(1). ویمکن استکشاف أدبها وفضلها وعقلها وإیمانها وبیانها الملیح من أبیاتها المنظومة وکلماتها المنثورة، ومنها ما خاطبت به النبی الخاتم صلی الله علیه و آله قبل وفاتها:

إن صح ما أبصرت فی المنام فأنت مبعوث علی الأنام

من عند ذی الجلال والإکرام تبعث فی الحل وفی الحرام

تبعث بالتحقیق والإسلام دین أبیک البر إبراهیم

فالله أنهاک عن الأصنام أن لا توالیها مع الأقوام(2)

وهذه الأبیات هل یفهم منها سوی إیمانها وتحقق إسلامها، وإتباعها لملة إبراهیم الحنیف؟ ومن ذرابة لسانها وحلاوة بیانها وحسن منطقها وعقیدتها الصحیحة, أنها قالت فی بعض نثرها عند وفاتها: کل حی میت، وکل جدید بال، وکل کثیر یفنی، وأنا میتة وذکری باق، وقد ترکت خیراً, وولدت طهراً والسلام(3).

فلا تستغرب من هذا المنطق الدقیق والنظر البعید الذی یحمل فی طیاته روح الإیمان والإخلاص بالله وبالرسول الأکرم صلی الله علیه و آله, فالله أعلم حیث یضع نور نبیه الخاتم, وعلیه فإن آمنة بنت وهب من کبار النساء، ومن أشراف النسوة المکرمات، وإنها من أعلی العرب نسباً وحسباً، سطع نور فخرها إلی السماوات

ص:51


1- (1) بحار الأنوار, المجلسی, ج 15 ص 99.
2- (2) سبل الهدی والرشاد, الصالحی الشامی, ج 2 ص 121.
3- (3) سبل الهدی والرشاد, الصالحی الشامی, ج 2 ص 121.

العلی، وهبت ریاح عطرها فی کل ذرات الهواء، فلها الفضل الجمیل، ولم یسمع لها بمثیل، أذاقنا الله من أسرار نفحاتها، وأعاد علی من آمن بها وبإیمانها من برکاتها ورحماتها.

وأن الواقدی ومن شاکله رووا أخباراً فی ولادة النبی صلی الله علیه و آله تشعر فی الغالب بجلالة قدر آمنة وصلابة إیمانها ومن فضل تلک الدرة الیتیمة والسیدة الکریمة والجوهرة الثمینة والحسناء الحصینة آمنة علیهاالسلام أنها صارت وعاءً للوجود النبوی المقدس، ونالت به شرف الأمومة، ولنعم ما قاله الحلبی: فهنیئا لآمنة الفضل الذی حصل لها بسبب ولادتها له صلی الله علیه و آله أی لا یشوب ذلک الفضل کدر ولا مشقة الذی شرفت بذلک الفضل حواء التی هی أم البشر ومن یشفع لحواء فی أنها حملت به وأنه أصابها نفاس به یوم أعطیت آمنة بنت وهب بسبب وضعه من الفخار وهو ما یمتدح به من الخصال العلیة والشیم المرضیة ما لم یعطها غیرها من النساء أی وقد أقسم الله بلیلة مولده صلی الله علیه وسلم فی قوله تعالی:(وَ الضُّحی وَ اللَّیْلِ) وقیل أراد باللیل لیلة الإسراء ولا مانع أن یکون الأقسام وقع بهما أی استعمل اللیل فیهما ویدل لکون ولادته صلی الله علیه و آله کانت لیلاً, قول بعض الیهود ممن عنده علم الکتاب لقریش هل ولد فیکم اللیلة مولود؟ قالوا لا نعلم, قال ولد اللیلة نبی هذه الأمة الأخیرة إلی آخر(1).

والأفضل منه ما قیل فی ولادته صلی الله علیه و آله وأمیر المؤمنین علیه السلام معاً: کما عن السید الحمیری المتوفی (173) قال:

ص:52


1- (1) السیرة الحلبیة, الحلبی, ج 1 ص 95.

ولدته فی حرم الإله وأمنه والبیت حیث فناؤه والمسجد

بیضاء طاهرة الثیاب کریمة طابت وطاب ولیدها والمولد

فی لیلة غابت نحوس نجومها وبدت مع القمر المنیر الأسعد

ما لُفَّ فی خرق القوابل مثله إلا ابن آمنة النبی محمد(1)

وروی أن کعب الأحبار الیهودی قال لمعاویة: إنی قد قرأت اثنین وسبعین کتاباً کلها أنزلت من السماء، وقرأت صحف دانیال کلها، ووجدت فی کلها ذکر مولده ومولد عترته، وأن اسمه لمعروف، وأنه لم یولد نبی قط فنزلت علیه الملائکة ما خلا عیسی وأحمد (صلوات الله علیهما)، وما ضرب علی آدمیة حجب الجنة غیر مریم وآمنة أم أحمد صلی الله علیه و آله، وما وکلت الملائکة بأنثی حملت غیر مریم أم المسیح وآمنة أم أحمد... الخ(2).

ولا شک أنّ الله یأبی أن یساوی بین امرأة کافرة وأخری مؤمنة مثل مریم ویکرمهما بنفس التکریم، فما الفرق بین الإیمان والکفر حینئذ؟ وأی میزان سیمیز بینهما فی العبودیة؟ وذکر هذا الشرف فی حق فاطمة أیضا التی صارت وعاءً للأئمة المعصومین علیهم السلام، ونالت فضیلة الأمومة للأولیاء الکاملین. وهکذا کان الوعاء الشریف الذی ضم الوجود المحمدی السعید، عظیماً فی ذاته، تمیز بالمزایا الذاتیة والأصالة الفطریة، فحسدتها لذلک نساء مکة وتمنین منزلتها وأثنین علیها بکل تلک الکرامات والسعادات والمواهب الجمیلة والمناقب الجلیلة، وبارکن

ص:53


1- (1) الغدیر, الشیخ الأمینی, ج 6 ص 28.
2- (2) الأمالی, الشیخ الصدوق, ص 698. وبحار الأنوار, المجلسی, ج 15 ص 261.

لأبیها بهذه النعمة المحمودة والمکرمة المسعودة، وکان الناس رجالاً ونساءً یدعون النبی بها، وینسبونه إلیها کما فعل الجارود ابن المنذر النصرانی فی عام الحدیبیة حینما أسلم، وکان عالماً بالطب والفلسفة والکتب السماویة; قال فی قصیدة:

أتیتک یا بن آمنة الرسولا لکی بک أهتدی النهج السبیلا

إلی آخر ما قال(1).

ولم تکن هذه النسبة إهانة، بل کانت علی سبیل التفخیم والجلالة.

طهارتها وإیمانها بالله

ما تجد فی سیرة آمنة بنت وهب عند أدنی متابعة إلا الکرامات والمعاجز, وذوبانها فی الله وشدة توحیدها, وهذا دیدن الأسرة الهاشمیة حسب سلسلة طهارة وتوحید آباء النبی الخاتم صلی الله علیه و آله (هذا مع غض النظر من أنها وعاء وحاضنة النبوة والذی هو بحد ذاته دلیل قاطع علی طهارتها ومدی إیمانها), وقد کشف عن مدی إیمانها وطهارتها النبی صلی الله علیه و آله والمعصومون علیهم السلام, فقد فاضت الأدلة علی ألسنة العلماء والمحدثین لدی الفریقین, فمن ذلک: ما رواه الثعلبی والواحدی وابن بطة، عن عطاء وعکرمة، عن ابن عباس فی قوله تعالی:(وَ تَقَلُّبَکَ فِی السّاجِدِینَ) یعنی ندبرک من أصلاب الموحدین من موحد إلی موحد حتی أخرجک فی هذه الأمة، وما زال رسول الله صلی الله علیه و آله، یتقلب فی أصلاب الأنبیاء والصالحین حتی ولدته أمه(2).

ص:54


1- (1) راجع: کنز الفوائد, ابو الفتح الکراکجی, ص 258.
2- (2) الدر المنثور, جلال الدین السیوطی, ج 5 ص 98.

وعن علی علیه السلام: أنّ النبی صلی الله علیه و آله قال:

«خرجت من نکاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلی أن ولدنی أبی وأمی، ولم یصبنی من سفاح الجاهلیة شیء»(1). لقد منّ الله علیه بالآباء الطاهرین الساجدین. ولو عنی سجدة الأصنام لما منّ علیه؛ لأن المنّة علی الکفر قبیح.

وقد انتهی النبی صلی الله علیه و آله إلی رسم قبر، فجلس وجلس الناس حوله، فجعل یحرک رأسه کالمخاطب, ثم بکی, فقیل: ما یبکیک یا رسول الله؟ قال هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربی فی زیارة قبرها فأذن لی، فزوروا القبور یذکرکم الموت.(2) ولو لم تکن مؤمنة لما جاز له زیارتها، ولا أذن له، لقوله تعالی:(وَ لا تُصَلِّ عَلی أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلی قَبْرِهِ)3 .

وعن أبی عبد الله علیه السلام قال: نزل جبرئیل علی النبی صلی الله علیه و آله فقال:

«یا محمد إن الله جل جلاله یقرؤک السلام ویقول: إنی قد حرمت النار علی صلب أنزلک، وبطن حملک، وحجر کفلک»(3) یعنی عبد الله وآمنة وأبا طالب وفاطمة بنت أسد.

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«لم یزل ینقلنی من أصلاب الطاهرین، إلی أرحام المطهرات حتی أخرجنی فی عالمکم هذا»(4).

ص:55


1- (1) البدایة والنهایة, ابن کثیر, ج 2 ص 255.
2- (2) راجع: صحیح مسلم, ج 2 ص 672 باب 36 من کتاب الجنائز ح 106.
3- (4) روضة الواعظین, ص 139. الکافی, ج 1 ص 446 باب مولد النبی ح 21.
4- (5) أوائل المقالات, الشیخ المفید, ص 46.

وعن الصادق جعفر بن محمد، عن أبیه، عن جده، عن أبیه علیهم السلام، قال: سئل النبی صلی الله علیه و آله أین کنت وآدم فی الجنة؟ قال:

کنت فی صلبه، وهبط بی إلی الأرض فی صلبه، ورکبت السفینة فی صلب أبی نوح، وقذف بی فی النار فی صلب أبی إبراهیم، لم یلتق لی أبوان علی سفاح قط، ولم یزل الله عز وجل ینقلنی من الأصلاب الطیبة إلی الأرحام الطاهرة هادیاً مهدیاً حتی أخذ الله بالنبوة عهدی، وبالإسلام میثاقی، وبین کل شیء من صفتی، وأثبت فی التوراة والإنجیل ذکری، ورقی بی إلی سمائه، وشق لی اسماً من أسمائه الحسنی، أمتی الحمادون، فذو العرش محمود وأنا محمد(1).

وعن الکلبی أنه قال کتبت للنبی صلی الله علیه و آله خمسمائة أم, أی من قبل أمه وأبیه فما وجدت فیهن سفاحاً والمراد بالسفاح الزنا أی فإن المرأة کانت تسافح الرجل مدة ثم یتزوجها إن أراد(2).

وقال ابن هشام: فرسول الله صلی الله علیه و آله أشرف ولد آدم حسباً وأفضلهم نسباً من قِبَل أبیه وأمه(3).

وقال الشیخ المفید, أجمعوا علی أن آمنة بنت وهب کانت علی التوحید، وأنها تحشر فی جملة المؤمنین وأن آمنة بنت وهب کانت مسلمة(4). بل من خیرة المؤمنات العالمات.

ص:56


1- (1) الأمالی, الشیخ الصدوق, ص 723.
2- (2) السیرة الحلبیة, الحلبی, ج 1 ص 65.
3- (3) السیرة النبویة, ابن هشام, ج 1 ص 127.
4- (4) أوائل المقالات, الشیخ المفید, ص 46.

مکر الیهود فی إطفاء النور المحمدی

اجتمع الأحبار بأرض الشام، وتکلموا فی مولد رسول الله صلی الله علیه و آله, فلما أیقنوا أنه قد قرب خروج صاحب السیف، وظهرت أنواره تشاوروا فیما بینهم وساروا إلی حبر لهم وکان فی قریة من قری الأردن، وکانوا یقتبسون من علمه، وکان ممن عمر فی زمانه، فقصده القوم، فلما وصلوا إلیه قال لهم: ما الذی أزعجکم؟ قالوا له: إنا نظرنا فی کتبنا فوجدنا صفة هذا الرجل السفاک الذی تقاتل معه الأملاک، وما نلقی عند ظهوره من الأهوال والهلاک، وقد جئناک نشاورک فی أمره قبل ظهوره وعلو ذکره، قال: یا قوم إن من أراد إبطال ما أراد الله فهو جاهل مغرور، وإنه لکائن بکم، وهذا الذی ذکرتم قد سبق أمره عند الله، فکیف تقدرون علی إبطاله؟ وهو مبطل کهانة الکهان، ومزیل دولة الصلبان، وسیکون له وزیر وقریب، فلما سمعوا کلامه خافوا وحاروا، فقام حبر من أحبارهم یقال له: هیوبا بن داحورا، وکان کافراً شدید البأس، فقال لهم: هذا رجل قد کبر وخرف وقل عقله فلا تسمعوا من قوله، ثم قال لهم: أرأیتم الشجرة إذا قطعت من أصلها فهل تعود خضرا؟ قالوا: لا، قال: فإن قتلتم صاحبکم هذا الذی یخرج من صلبه هذا المولود فما الذی تخافون منه؟ فقوموا هذه الساعة وخذوا معکم تجارة وسیروا إلی البلد الذی هو فیها، یعنی مکة، فإذا وصلتم دبرتم الحیلة فی هلاکه فتبعوا قوله وقالوا له: أنت سیدنا، قال لهم: افعلوا ما آمرکم به، وأنا معکم بسیفی ورمحی، ولکن ما أسیر معکم حتی تعاهدونی، فیعمد کل واحد منکم إلی سیفه لیسقیه سما فأجابوه إلی ذلک وافترقوا، ثم اجتمعوا بایلة، وخرجوا بجمالهم محملة بالتجارة، وساروا

ص:57

حتی وصلوا مکة، فکان کل من لقاهم یحدثهم بحسن عبد الله وجماله، فوقع فی قلوبهم الکمد والحسد، فجعلوا یسومون متاعهم ولا یبیعون منه شیئا، وإنما یریدون بذلک المقام بمکة والحیلة فی قتل عبد الله, فأقبل یوما عبد المطلب وهو قابض علی ید ولده عبد الله، ومرّ بالیهود، وکان عبد الله قد رأی رؤیا أفزعته، فخرج مرعوبا إلی أبیه فقال: ما أصابک یا بنی؟ قال: رؤیا هالتنی، قال: رأیت سیوفا مجردة فی أیدی قردة وهم قعود علی أدبارهم، وأنا أنظر إلیهم وهم یهزون السیوف ویشیرون بها إلی فعلوت عنها فی الهواء، فبینما أنا کذلک وإذا بنار قد نزلت من السماء فزادتنی خوفا، وقلت: کیف خلاصی منها؟ فبینما أنا کذلک وإذا بالنار قد وقعت علی القردة فأحرقتهم عن آخرهم، فزادنی ذلک رعبا، فقال له أبوه: وقاک الله یا بنی شر ما تحاذر من الحساد والأضداد، فإن الناس یحسدونک علی هذا النور الذی فی وجهک، ولکن لو اجتمعت أهل الأرض انسها وجنها لم یقدروا علی شیء، لأنه ودیعة من الله عز وجل لخاتم الأنبیاء، وهاهنا أحبار الیهود من الشام وفیهم الحکمة والمعرفة فقم معی حتی أقص علیهم رؤیاک، فقبض عبد المطلب علی ید ولده عبد الله ودخلا علیهم، فلما نظر إلیه الأحبار وهو کأنه البدر المنیر نظر بعضهم إلی بعض وقالوا: هذا الذی نطلبه، فقال لهم عبد المطلب: یا معاشر الیهود جئنا إلیکم نخبرکم برؤیا رآها ولدی هذا، فقالوا له: وماذا؟ فقص علیهم الرؤیا، فزادهم حنقاً علیه، وقال له هیوبا: أیها السید إنها أضغاث أحلام وأنتم سادات کرام، لیس لکم معاند ولا مضاد، ثم انصرف عبد المطلب بولده(1).

ص:58


1- (1) راجع: بحار الأنوار, العلامة المجلسی, ج 15 ص 92.

موقف من بسالة عبدالله

أقام الیهود أیاماً یریدون الحیلة فی اغتیال والد النبی صلی الله علیه و آله (عبدالله) فلم یجدوا إلی ذلک سبیلاً، وکان عبد الله مغرماً بالصید، وکان إذا خرج إلی الصید لا یرجع إلا لیلاً، وکان یخرج مع أبیه فلم یجدوا إلی ذلک سبیلاً حتی خرج ذات یوم وحده فخرجوا وراءه من حیث لا یشعر بهم أحد، فقال لهم هیوبا: ما انتظارکم وقد خرج الذی تطلبونه؟ فقالوا له: إنا نخاف من فتیان مکة وفرسان بنی هاشم وهم لا یطاقون وقد ذلت لهم العمالقة وغیرهم، ونخشی أن یشعروا بنا، فلما سمع هیوبا مقالتهم قال: خاب سعیکم، فإذا کنتم هکذا فما الذی أتی بکم إلی هاهنا؟ فلابد من قتل هذا الغلام، ولو طال علیکم المقام، ولم تجدوا یوماً مثل هذا الیوم، فإذا قتلناه وخفتم التهمة به فعلی دیته، وکانوا قد بعثوا عبداً من عبیدهم ینظر إلی أین یتوجه عبد الله، فرجع العبد وأخبرهم أنه قد غاب بین الجبال والشعاب، وقد خرج من العمران، ولیس عنده إنسان، فعزم القوم علی ما أملوه، وجعلوا نصفاً عند الأمتعة، والنصف الآخر أخذوا السیوف تحت ثیابهم وخرجوا قاصدین عبد الله والعبد أمامهم حتی أوقفهم علیه، وکان عبد الله قد صاد حمار وحش وهو یسلخه فنظر إلی القوم وقد أقبلوا علیه، فقال لهم هیوبا: هذا صاحبکم الذی خرجتم من أوطانکم فی طلبه، فما أحس عبد الله إلا وقد أحاطوا به، وکانوا قد افترقوا فرقتین، وقالوا للذین خلفوهم عند متاعهم: إذا دعوناکم أجیبونا مسرعین، فلما أشرفوا علی عبد الله وقد سدوا الطرقات، وزعموا أنهم قد حکموا علیه، فرفع عبد الله رأسه إلی السماء، ودعا الله تعالی وأقبل إلیهم وقال: یا قوم ما شأنکم؟

ص:59

فوالله ما بسطت یدی إلی واحد منکم بمکروه أبداً فتطالبونی به، ولا غصبت مالاً قط، ولا قتلت أحداً فاقتل به، فما حاجتکم؟ فإن یکن سبقت منی فعلة سوء إلیکم فأخبرونی حتی أعرفها، والیهود یومئذ تلثموا ولم یبین منهم إلا حمالیق الحدق، فلم یردوا علیه جواباً، وأشار بعضهم إلی بعض وهموا بالهجوم علیه، فجعل نبلة فی کبد قوسه ورمی بها نحوهم فأصابت رجلا منهم فوقع میتا، ثم رماهم بأربع نبال أصابت أربعة رجال فاشتغلوا عنه بأنفسهم(1).

یمکرون ویمکر الله

بعدما عجزوا عن مواجهة عبدالله أخذوا یدبرون الخدیعة فی قتله حیث قال له هیوبا: یا فتی احبس عنا نبالک فقد أسرفت فی فعالک، ولقد قتلت منا رجالاً من غیر ذنب ولا سابقة سبقت منا إلیک، ونحن قوم تجار، ونحن الذین وقفت علینا بالأمس مع أبیک، وکان لنا عبد قد هرب منا، فلما رأیناک أنکرناک، فعندما عرفناک أنک عبد الله فنحن ما لنا معک طلابة، وأنک لأعزُّ الخلق علینا، وأکرمهم لدینا، فامض لسبیلک فقد سمحنا لک بما فعلت فینا، فقال لهم: یا ویلکم ما الذی تبین لکم منی أنی عبدکم؟ فهل عبدکم مثلی، أو صفته صفتی، أو لهُ نور کنوری؟ فقالوا له: إنما دخلنا الشک وأنت متباعد عنا، فلما قربت منا وعرفناک، فاسمح لنا بما کان منا إلیک فإنا سمحنا لک بما کان وإن کان وأعظم من ذلک أنک قتلت منا رجالاً لا ذنب لهم، ونحن حیث أکلنا طعام أبیک وشربنا شرابه فنحن لک شاکرون، وأنت أولی بکتمان ما کان الیوم منا، فلما سمع عبد الله کلامهم زعم أنه

ص:60


1- (1) راجع: المصدر نفسه, ج 15 ص 95.

حق وهو خدیعة، ثم إنه رکب جواده وأخذ قوسه وعطف إلی ناحیة المضیق، فلما رآه القوم قد أقبل علیهم یرید الخروج بادروا إلیه بأجمعهم وجعلوا یرمونه بالحجارة وقاموا إلیه بالسیوف، فجعل یکر فیهم کرة بعد کرة، فعند ذلک صاح فیهم هیوبا فتبادروا إلیه بأجمعهم وهو یکر فیهم یمیناً وشمالاً، وکلما رمی رجل خر صریعاً ونزل عبد الله عن فرسه واستند إلی المضیق، وقد أقبلوا إلیه من کل جانب یرمونه بالحجارة، فبینما هم فی المعرکة وإذا هم برجال قد أقبلوا بأیدیهم السیوف مشهورة وهم عراة مسرعون نحوهم، فإذا هم بنو هاشم، وأبو طالب وفتیان مکة وکان فی أولهم أبو طالب وحمزة والعباس، فعند ذلک ناداه أبوه فقال: یا بنی هذا تأویل رؤیاک من قبل، فما استتم کلامه حتی أحاط بعبد الله إخوته وأقاربه(1).

زواج السیدة آمنة من عبد الله

ذکر المؤرخون أن عبد الله بن عبد المطلب تزوجها (آمنة بنت وهب) وله ثلاثون سنة, وقیل: خمس وعشرون سنة(2). وذکر الیعقوبی: وبعد حفر زمزم بعشر سنین وبعد الفداء عن عبد الله بسنة واحدة کان تزویجه بآمنة بنت وهب وکان سنّه یوم تزویجها أربعا وعشرین سنة(3).

وذلک خرج به أبوه عبد المطلب إلی وهب فزوجه ابنته. وقیل: کانت آمنة

ص:61


1- (1) راجع: المصدر نفسه, ج 15 ص 96.
2- (2) ذخائر العقبی, أحمد بن عبدالله الطبری, ص 258
3- (3) تاریخ الیعقوبی, ج 2 ص 9.

فی حجر عمها وهیب بن عبد مناف، فخطب عبد المطلب ابنته هالة بنت وهیب لنفسه, وخطب لابنه عبد الله آمنة ابنة وهب. فهو قد تزوج هالة وزوّج ابنه آمنة فی مجلس واحد. فولدت آمنة رسول الله وولدت هالة لعبد المطلب حمزة(1).

وهب یرغب فی تزویج عبد الله

ذکر أن وهب أقبل علی زوجته برة بنت عبد العزی وقال لها: یا برة لقد رأیت الیوم عجباً من عبد الله (والد النبی صلی الله علیه و آله) ما رأیته من أحد، وهو یکر علی هؤلاء القوم (یقصد الیهود الذی مرّ ذکرهم)، وکلما رماهم بنبلة قتل منهم إنساناً، وهو أجمل الناس وجهاً مما خصه الله تعالی من الضیاء الساطع، فامضی إلی أبیه واخطبیه لابنتنا واعرضیها علیه، فعسی أن یقبلها، فإن قبلها سعدنا سعادة عظیمة، قالت له یا وهب: إن رؤساء مکة وأبطال الحرم وأشراف البطحاء قد رغبوا فیه فأبی عن ذلک، وقد کاتبه ملوک الشام والعراق علی ذلک فأبی علیهم، فکیف یتزوج بابنتنا وهی قلیلة المال؟ قال لها: إن لی علیهم الید إننی أخبرتهم بأمر عبد الله مع الیهود، ثم إن برة قامت ولبست أفخر أثوابها وخرجت حتی أتت دار عبد المطلب فوجدته یحدث أولاده بالخبر، فقالت: أنعم الله مساءکم، ودامت نعماؤکم، فرد علیها عبد المطلب التحیة والإکرام، وقال لها: لقد سلف لبعلک الیوم علینا ید لا نقدر أن نکافیه أبداً، وله أیاد بالغة بذلک، وسنجازیه بما فعل إن شاء الله تعالی، فطمعت برة فی کلامه، ثم قال: بلغی بعلک عنا التحیة والإکرام وقولی له: إن کان له لدینا حاجة تقضی إن شاء الله مهما کانت، فقالت له برة: یا أبا الحارث

ص:62


1- (1) مستدرکات علم رجال الحدیث, الشیخ علی النمازی الشاهرودی, ج 8 ص 545.

قد طلبنا تعجیل المسرة، وقد علمنا أن ملوک الشام والعراق وغیرهم تطاولت إلیکم، وقد رغبوا فی ولدکم یطلبون أولادکم وأنوارکم المضیئة، ونحن أیضا طمعنا فیمن طمع فی ولدکم عبد الله، ورجوناه مثل من رجا. وقد رجا وهب أن یکون عبد الله بعلاً لابنتنا، وقد جئناکم طامعین وراغبین فی النور الذی فی وجه ولدکم عبد الله، ونسألکم أن تقبلونا، فإن کان مالها قلیلاً فعلینا ما نجملها به وهی هدیة منا لابنک عبد الله، فلما سمع عبد المطلب کلامها نظر إلی ولده وکان قبل ذلک إذا عرض علیه التزویج من بنات الملوک یظهر فی وجهه الامتناع، وقال أبوه: ما تقول یا بنی فیما سمعت؟ فوالله ما فی بنات أهل مکة مثلها، لأنها محتشمة فی نفسها طاهرة مطهرة، عاقلة دینة، فسکت عبد الله ولم یرد جواباً، فعلم أبوه أنه قد مال إلیها، فقال عبد المطلب: قد قبلنا دعوتکم، وأجبنا ورضینا بابنتکم(1).

فاطمة زوجة عبد المطلب تصف آمنة

بعد ما سمعت فاطمة زوجة عبد المطلب ما دار بین زوجة وهب وبنی هاشم فی تزویج ابنها عبد الله قالت أنا أمضی معک إلیها حتی أنظر إلی آمنة، فرجعت برة مسرورة بما سمعت، ثم سارت إلی زوجها مسرعة وبشرته وسمعت أم آمنة هاتفاً فی الطریق یقول: (بخ بخ لکم یا معشر أهل الصفا، قد قرب خروج المصطفی)، فدخلت علی زوجها فقال: وما وراءک؟ قالت: لقد سعدت سعادة علا قدرک فی جملة العالمین، اعلم أن عبد المطلب قد رضی بابنتک، ولکن مع الفرح ترحة، قال: وما هی؟ قالت: إنّ فاطمة خارجة تنظر إلی ابنتک آمنة, فأدخلوا فاطمة، فقامت لها

ص:63


1- (1) راجع: بحار الأنوار, العلامة المجلسی, ج 15 ص 98.

آمنة إجلالاً وتعظیماً ورحبت بها أحسن المرحب، فنظرت إلیها فاطمة وإذا بها قد کساها الله جمالاً لا یوصف، فلما رأت فاطمة ذلک الحسن والجمال وقد أضاء من نور وجهها ذلک المجلس، قالت فاطمة: یا برة ما کنت عهدت أن آمنة علی هذه الصورة ولقد رأیتها قبل ذلک مراراً، فقالت برة: یا فاطمة کل ذلک ببرکتهم علینا، ثم خاطبت فاطمة آمنة وإذا هی أفصح نساء أهل مکة، فقامت فاطمة وأتت إلی عبد المطلب وعبد الله، وقالت: یا ولدی ما فی بنات العرب مثلها أبداً، ولقد ارتضیتها، وإن الله تعالی لا یودع هذا النور إلا فی مثل هذه(1).

عقد القران بین عبدالله وآمنة

ولما وقع الحدیث بین وهب وبین عبد المطلب فی أمر ابنته آمنة، قال وهب: یا أبا الحارث هذه آمنة هدیة منی إلیک بغیر صداق معجل ولا مؤجل، فقال عبد المطلب جزیت خیراً ولابد من صداق، ویکون بیننا وبینک من یشهد به من قومنا، ثم وبعد ذلک خرج عبد المطلب وولده وزوجته إلی منزلهم، وقالوا: یا وهب إذا کان فی غداة غد جمعنا قومنا وقومک لیشهدوا بما یکون من الصداق، فقال: جزاک الله خیراً، فلما طلع الفجر أرسل عبد المطلب إلی بنی عمه لیحضروا خطبتهم، ولبس عبد المطلب افخر أثوابه، وجمع وهب أیضا قرابته وبنی عمه فاجتمعوا فی الأبطح، فلما أشرف علیهم الناس قاموا إجلالاً لعبد المطلب وأولاده، فلما استقر بهم المجلس خطبوا خطبتهم وعقدوا عقد النکاح، وقام عبد المطلب فیهم خطیباً فقال: (الحمد لله حمد الشاکرین حمداً استوجبه بما أنعم علینا وأعطانا،

ص:64


1- (1) راجع: المصدر نفسه, ج 15 ص 99.

وجعلنا لبیته جیراناً، ولحرمه سکاناً، وألقی محبتنا فی قلوب عباده، وشرفنا علی جمیع الأمم، ووقانا شر الآفات والنقم، والحمد لله الذی أحل لنا النکاح، وحرم علینا السفاح، وأمرنا بالاتصال وحرم علینا الحرام، اعلموا أن ولدنا عبد الله هذا الذی تعرفونه قد خطب فتاتکم آمنة بصداق معجل ومؤجل کذا وکذا، فهل رضیتم بذلک من ولدنا؟ قال وهب: قد رضینا منکم، فقال عبد المطلب: اشهدوا یا من حضر، ثم تصافحوا وتهانوا وتصافقوا وتعانقوا، وأولم عبد المطلب ولیمة عظیمة، فیها جمیع أهل مکة وأودیتها وشعابها وسوادها، فأقام الناس فی مکة أربعة أیام. قال أبو الحسن البکری: ولما تزوج عبد الله بآمنة أقامت معه زماناً، والنور فی وجهه لم یزل حتی نفذت مشیة الله تعالی وقدرته وأراد أن یخرج خیرة خلقه محمداً رسول الله(1).

وفاة زوجها عبد الله ورثاؤها علیه

اختلفوا فی تحدید زمان وفاة عبد الله والد النبی صلی الله علیه و آله, منهم من قال توفی والنبی صلی الله علیه و آله حمل کما اختاره ابن سعد فی طبقاته, فقد روی عن ابن أبی صعصعة قال: خرج عبد الله بن عبد المطلب إلی الشام إلی غزة فی عیر من عیرات قریش یحملون تجارات ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا فمروا بالمدینة و عبد الله بن عبد المطلب یومئذ مریض فقال أنا أتخلف عند أخوالی بنی عدی بن النجار فأقام عندهم مریضاً شهراً ومضی أصحابه فقدموا مکة فسألهم عبد المطلب عن عبد الله فقالوا خلفناه عند أخواله بنی عدی بن النجار وهو مریض فبعث إلیه عبد المطلب

ص:65


1- (1) راجع: المصدر نفسه, ج 15 ص 102.

أکبر ولده الحارث فوجده قد توفی ودفن فی دار النابغة وهو رجل من بنی عدی ابن النجار فی الدار التی إذا دخلتها فالدویرة عن یسارک وأخبره أخواله بمرضه وبقیامهم علیه وما ولوا من امره وإنّهم قبروه فرجع إلی أبیه فأخبره فوجد علیه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجداً شدیداً ورسول الله صلی الله علیه وسلم یومئذ حمل ولعبد الله یوم توفی خمس وعشرون سنة(1).

وأیضاً اختاره محمد بن عمر الواقدی حیث قال: هذا هو أثبت الأقاویل والروایة فی وفاة عبد الله بن عبد المطلب وسنة عندنا. قال وأخبرنا محمد بن عمر حدثنی معمر عن الزهری قال بعث عبد المطلب عبد الله إلی المدینة یمتار له تمراً فمات قال محمد بن عمر والأول أثبت(2).

وهناک أقوال أخری فی وفاة عبد الله حیث قیل: إن عبد الله توفی والنبی صلی الله علیه و آله ابن ثمانیة وعشرین شهراً, وذلک بعد ما أرسله أبوه یمتر بالمدینة(3). وقیل: وعمر النبی صلی الله علیه و آله سبعة أشهر. وقیل ابن شهرین(4).

وذکر ابن سعد عن محمد بن عمر بن واقد الأسلمی قال ترک عبد الله بن عبد المطلب أم أیمن وخمسة أجمال أوارک یعنی تأکل الأراک وقطعة غنم فورث ذلک رسول الله صلی الله علیه وسلم فکانت أم أیمن تحضنه واسمها برکة, وقالت آمنة بنت وهب ترثی زوجها عبد الله بن عبد المطلب:

ص:66


1- (1) راجع: الطبقات الکبری, محمد بن سعد, ج 1 ص 99.
2- (2) نقلا عن البدایة والنهایة, ابن کثیر, ج 2 ص 323.
3- (3) راجع: حیاة النبی ج 1 ص 26 محمد قوام الشنوی.
4- (4) راجع: الوافی بالوفیات, الصفدی, ج 1 ص 63.

عفا جانب البطحاء من ابن هاشم وجاور لحداً خارجاً فی الغماغم

دعته المنایا دعوة فأجابها وما ترکت فی الناس مثل ابن هاشم

عشیة راحوا یحملون سریره تعاوره أصحابه فی التزاحم

فان یک غالته المنایا وریبها فقد کان معطاءً کثیر التراحم(1)

آمنة وعاء نور النبی الخاتم

کان الملوک والسلاطین وأشراف مکة وصنادید قریش وسدنة البیت وخدام الحرم ورؤساء القبائل یتمنون لسنوات طویلة مصاهرة عبد المطلب، فکانوا یعرضون بناتهم الخیرات الحسان بلا مهر ولا عوض، بل کانوا یبذلون المهر وأکثر؛ لعلهم ینقلون النور الساطع اللامع فی جبینه إلی أرحام بناتهم، ویشرفون أسرهم بهذا الفخر. فلما تزوجت السیدة آمنة تکدرت منها النفوس وأعرضت عنها القلوب، ورأوا أن النور النبوی المحمدی صلی الله علیه و آله انتقل من صلب عبد الله إلی صدر آمنة بنت وهب، فحسدوها وأرادوا إطفاء ذلک النور سیما نساء مکة، حیث کانت آمنة علی مرأی ومسمع منهن، وشاهدن انتقال النور الطیب إلیها، فمات منهن أکثر من مائتی باکر نادرة الحسن والجمال فتعرین من کسوة الدنیا وتغطین بإطباق التراب وسلمن أرواحهن إلی الموت بعد أن ماتت آمالهن ویئسن من الوصال مع عبد الله عدیم المثال(2).

وقد ورد عن ابن عباس، قال: سمعت أبی العباس یحدث، قال: ولد لأبی

ص:67


1- (1) راجع: الطبقات الکبری, محمد بن سعد, ج 1 ص 99.
2- (2) الخصائص الفاطمیة, باقر الکجوری, ج 2 ص 53.

عبد المطلب عبد الله، فرأینا فی وجهه نوراً یزهر کنور الشمس، فقال أبی: إنّ لهذا الغلام شأناً عظیماً. قال: فرأیت فی منامی أنه خرج من منخره طائر أبیض، فطار فبلغ المشرق والمغرب، ثم رجع راجعاً حتی سقط علی بیت الکعبة، فسجدت له قریش کلها، فبینما الناس یتأملونه إذ صار نوراً بین السماء والأرض، وامتد حتی بلغ المشرق والمغرب. فلما انتبهت سألت کاهنة بنی مخزوم فقالت: یا عباس، لئن صدقت رؤیاک لیخرجن من صلبه ولد یصیر أهل المشرق والمغرب تبعاً له.

قال أبی: فهمنی أمر عبد الله إلی أن تزوج بآمنة، وکانت من أجمل نساء قریش، وأتمها خلقاً، فلما مات عبد الله وولدت آمنة رسول الله صلی الله علیه و آله أتیته، فرأیت النور بین عینیه یزهر، فحملته وتفرست فی وجهه، فوجدت منه ریح المسک، وصرت کأنی قطعة مسک من شدة ریحی، فحدثتنی آمنة وقالت لی: إنه لما أخذنی الطلق واشتد بی الأمر، سمعت جلبة وکلاماً لا یشبه کلام الآدمیین، ورأیت علماً من سندس علی قضیب من یاقوت قد ضرب بین السماء والأرض، ورأیت نوراً یسطع من رأسه حتی بلغ السماء، ورأیت قصور الشامات کأنها شعلة نار نوراً، ورأیت حولی من القطاة أمراً عظیماً، قد نشرت أجنحتها حولی، ورأیت شعیرة الأسدیة قد مرت وهی تقول: آمنة، ما لقیت الکهان والأصنام من ولدک؟ ورأیت رجلاً شاباً من أتم الناس طولا، وأشدهم بیاضاً، وأحسنهم ثیاباً، ما ظننته إلا عبد المطلب، قد دنا منی فأخذ المولود، فتفل فی فیه، ومعه طست من ذهب مضروب بالزمرد، ومشط من ذهب، فشق بطنه شقاً، ثم أخرج قلبه فشقه، فأخرج منه نکتة سوداء فرمی بها، ثم أخرج صرة من حریرة خضراء ففتحها، فإذا فیها

ص:68

کالذریرة البیضاء فحشاه، ثم رده إلی ما کان، ومسح علی بطنه، واستنطقه فنطق، فلم أفهم ما قال، إلا أنه قال: فی أمان الله وحفظه وکلاءته، قد حشوت قلبک إیماناً وعلماً وحلماً ویقیناً وعقلاً وشجاعة، أنت خیر البشر، طوبی لمن اتبعک، وویل لمن تخلف عنک. ثم أخرج صرة أخری من حریرة بیضاء ففتحها فإذا فیها خاتم، فضرب علی کتفیه، ثم قال: أمرنی ربی أن أنفخ فیک من روح القدس. فنفخ فیه، وألبسه قمیصاً، وقال: هذا أمانک من آفات الدنیا. فهذا ما رأیت - یا عباس - بعینی. قال العباس: وأنا یومئذ أقرأ، فکشفت عن ثوبه، فإذا خاتم النبوة بین کتفیه، فلم أزل أکتم شأنه، وأنسیت الحدیث فلم أذکره إلی یوم إسلامی حتی ذکرنی رسول الله صلی الله علیه و آله(1).

شغف النساء بنور النبی صلی الله علیه و آله

اشارة

ذکر المؤرخون وأصحاب السیر بعض القصص التی تشیر إلی أنّ بعض النساء حاولن أن یحظین بنور النبی صلی الله علیه و آله وتکون هی الوعاء لخاتم الرسل کی تحظی بسعادة الدارین, وتناسین أنّ امَّهات المعصومین أمر موکول إلی الباری عز وجل. وهذه الروایات أو القصص فی عمومها لا تنسجم مع شأن عبدالله والد النبی صلی الله علیه و آله, بل سیرة الأسرة الهاشمیة التی عرفت بالنجابة والإیمان لاسیما آباء النبی الذین خصهم الله بالطهارة واتسموا بالعفاف والتدین بحسب ما هو ثابت عقلاً ونقلاً, فهذه المرویات إمّا فیها تصحیف وزیادة أو انّها موضوعة, الغرض منها النیل من والد النبی الأکرم.

ص:69


1- (1) أنظر: الأمالی, الشیخ الصدوق, ص 335. وکمال الدین وتمام النعمة, الشیخ الصدوق, ص 176.

الروایة الأولی

ورد فی طبقات بن سعد: إنّ قتیلة ابنة نوفل (أخت ورقة) کانت تنظر وتعتاذ, فمر بها عبد الله بن عبد المطلب فدعته یستمتع منها ولزمت طرف ثوبه فأبی وقال حتی آتیک, وخرج سریعاً حتی دخل علی آمنة بنت وهب فوقع علیها فحملت برسول الله صلی الله علیه و آله, ثم رجع عبد الله بن عبد المطلب إلی المرأة فیجدها تنتظره فقال هل لک فی الذی عرضت علی فقالت لا, مررت وفی وجهک نور ساطع ثم رجعت ولیس فیه ذلک النور, وقیل: فقالت له فارقک النور الذی کان معک بالأمس فلیس لی بک الیوم حاجة, وقد کانت تسمع من أخیها ورقة بن نوفل وکان قد تنصر واتبع الکتب حتی أدرک فکان فیما طلب من ذلک أنه کائن لهذه الأمة نبی من بنی إسماعیل(1).

الروایة الثانیة

عن ابن کثیر وغیره عن ابن عباس قال: لما انطلق عبد المطلب بابنه عبد الله لیزوجه مرّ به علی کاهنة من أهل تبالة متهودة قد قرأت الکتب، یقال لها فاطمة بنت مرّ الخثعمیة، فرأت نور النبوة فی وجه عبد الله فقالت یا فتی هل لک أن تقع علیَّ الآن وأعطیک مائة من الإبل؟ فقال عبد الله:

أما الحرام فالممات دونه والحل لا حل فأستبینه

فکیف بالأمر الذی تبغینه یحمی الکریم عرضه ودینه

ثم مضی مع أبیه فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فأقام عندها

ص:70


1- (1) الطبقات الکبری, ابن سعد, ج 1 ص 98. تاریخ مدینة دمشق, ابن عساکر, ج 3 ص 406.

ثلاثاً. ثم إن نفسه دعته إلی ما دعته إلیه الکاهنة فأتاها فقالت: والله ما أنا بصاحبة ریبة، ولکنی رأیت فی وجهک نوراً فأردت أن یکون فیّ، وأبی الله إلا أن یجعله حیث أراد, فما صنعت بعدی قال زوجنی أبی آمنة بنت وهب. ثم أنشأت تقول:

إنی رأیت مخیلة لمعت فتلألأت بحناتم القطر

فلمأتها نوراً یضیء له ما حوله کإضاءة البدر

ورجوتها فخراً أبوء به ما کل قادح زنده یوری

لله ما زهریة سلبت ثوبیک ما استلبت وما تدری(1)

الروایة الثالثة

عن أبی إسحاق بن یسار أنه حدث: أنّ عبد الله إنما دخل علی امرأة کانت له مع آمنة بنت وهب، وقد عمل فی طین له، وبه آثار من الطین، فدعاها إلی نفسه فأبطأت علیه لما رأت به من أثر الطین، فخرج من عندها فتوضأ وغسل ما کان به من ذلک الطین، ثم خرج عامداً إلی آمنة فمر بها، فدعته إلی نفسها، فأبی علیها، وعمد إلی آمنة، فدخل علیها فأصابها، فحملت بمحمد صلی الله علیه و آله, ثم مرّ بامرأته تلک فقال لها: هل لک؟ قالت: لا، مررت بی وبین عینیک غرة بیضاء فدعوتک فأبیت ودخلت علی آمنة فذهبت بها. قال ابن إسحاق: فزعموا أن امرأته تلک کانت تحدث: أنه مرّ بها وبین عینیه غرة مثل غرة الفرس، فقالت: فدعوته رجاء أن تکون تلک بی فأبی علیّ، ودخل علی آمنة فأصابها، فحملت برسول الله صلی الله علیه و آله. فکان رسول الله صلی الله علیه و آله أوسط قومه نسبا،

ص:71


1- (1) السیرة النبویة, ابن کثیر, ج 1 ص 178, والکامل فی التاریخ, ابن الأثیر ج 2 ص 8.

وأعظمهم شرفا من قبل أبیه وأمه, ولذا قد ورد أن التی عرضت علیه نفسها لم تک بغیا وإنما کانت زوجه.(1)

الجمع بین الروایات

اشارة

ذهب الحلبی فی السیرة إلی إمکان الجمع بین هذه القصص وأن لکل واقعة بمعزل عن الأُخری حیث یقول: لا یخفی أن تعدد الواقعة ممکن وأن هذا السیاق یدل علی أن هذه المرأة کان عندها علم بأن عبد الله تزوج آمنة وأنه یرید الدخول بها وأنها علمت أنه کائن نبی یکون له الملک والسلطان وغیر خاف أن عرض عبد الله نفسه علی المرأة لم یکن لریبة بل لیستبین الأمر الذی دعاها إلیه بذلک القدر الکثیر من الإبل فی مقابلة هذا الشیء علی خلاف عادة النساء مع الرجال ولا یخالف ذلک بل یؤکده ما فی الوفاء من قوله, ثم تذکر الخثعمیة وجمالها وما عرضت علیه فأقبل إلیها الحدیث والله أعلم(2).

الصحیح

إنّ هذه القصص لیس حظ فی الوجود وهی بعیدة عن واقع الأسرة الهاشمیة لاسیما آباء النبی صلی الله علیه و آله الذین اصطفاهم الله وأبعدهم عن الأرجاس کما سیأتی, لذلک علماؤنا ومؤرخونا قد أعرضوا عن ذکر هذه القصص ولم یذکروها فی کتبهم, بل حتی فی کتب القوم لاسیما الروایة الأولی فقد ذکرها ابن سعد ونقلها عنه ابن عساکر ولیس علی نحو ثبوتها وانما ذکروها واحدة من تلک النصوص

ص:72


1- (1) تاریخ مدینة دمشق, ابن عساکر, ج 3 ص 406
2- (2) السیرة الحلبیة, ج 1 ص 65.

التاریخیة وفی الأغلب المحدث والمؤرخ یذکر النصوص مجرد لسرد التأریخ من دون التدقیق فی صحتها وعدمه.

ولو فرضنا ثبوت هذه النصوص التاریخیة أو هذه القصص فقد یتضح من الأبیات التی أطلقها عبد الله خیر دلیل علی إیمانه وتمسکه وابتعاده عن الفحشاء والمنکر, فهذا إما أن یکون بأمر مشروع کما یستشف من ظاهرها, أی أنه طلب منها الزواج. أو هو إضافة من بعض الرواة المنحرفین بقصد تشویه سیرة آباء النبی صلی الله علیه و آله.

مشهد من إیمان عبدالله

عندما سافر عبدالله مع أبیه نحو الیمن قبل أن یتزوج بآمنة بنت وهب، وکان نور النبی, فی وجهه، وأن الزرقاء نظرت إلیه وقد نزل بقصر من قصور الیمامة، وذهب أبوه عبد المطلب فی حاجة وترکه عند متاعه وسیفه عند رأسه، فنزلت الزرقاء مسرعة، وفی یدها کیس من الورق، فوثبت علیه ثم قالت له: یا فتی حیاک الله بالسلام، وجللک بالانعام، من أی العرب أنت؟ فما رأیت أحسن منک وجهاً، قال: أنا عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، سید الأشراف، ومطعم الأضیاف، سادات الحرم، ومن لهم السابقة فی القدم، فقالت: فهل لک یا سیدی من فرحتین عاجلتین؟ قال: وما هما؟ قالت: تجامعنی الساعة، وتأخذ هذه الدراهم، وأبذل لک مائة من الإبل محملة تمراً وبسراً وسمناً، فلما استتم کلامها قال: إلیک عنی، فما أقبح صورتک یا ویلک، أما علمت أنا قوم لا نرکب الآثام، اذهبی، وتناول سیفاً کان عنده فانهزمت ورجعت خائبة، فأقبل أبوه فوجده وسیفه مسلول

ص:73

وهو یقول شعراً:

أنرتکب الحرام بغیر حل ونحن ذووا المکارم فی الأنام

إذا ذکر الحرام فنحن قوم جوارحنا تصان عن الحرام

فقال له أبوه: یا ولدی ما جری علیک بعدی؟ فأخبره بخبره، ووصف له صفاتها فعرفها، وقال له: یا بنی هذه زرقاء الیمامة، قد نظرت إلی النور الذی فی وجهک یلوح، فعرفت أنه الشرف الوکید، والعز الذی لا یبید، فأرادت أن تسلبه منک، والحمد لله الذی عصمک عنها، ثم رحل به إلی مکة، وزوجه بآمنة بنت وهب، فلما رأته الزرقاء عرفته، وعلمت أنه تزوج، فقالت: ألست صاحبی بالیمامة فی یوم کذا؟ قال لها: نعم، فلا أهلاً بک ولا سهلاً، یا ابنة اللخناء، قالت: أین النور الذی کان فی غرتک؟ قال: فی بطن زوجتی آمنة بنت وهب، قالت: لا شک أنها لذلک أهل(1).

عملیة اغتیال فاشلة

بعدما عجزت زرقاء الیمامة من عبد الله والد النبی صلی الله علیه و آله ولم تفلح فی اختطاف النور النبوی وعلمت أنّه انتقل إلی السیدة آمنة فأخذت تخطط وتفکر فی قتل آمنة، وکیف تعمل الحیلة، فأقبلت حتی نزلت علی امرأة من الخزرج اسمها تکنا، وکانت ماشطة لآمنة، فلما أصبحت جلست بین یدی الزرقاء فقالت: ما لی أراک مغمومة؟ قالت لها: یا أختاه إن الذی نزل بی من الهموم والغموم لخروجی من الأوطان، وذهابی من البلدان، وتشتتی فی کل مکان، وتفردی عن

ص:74


1- (1) راجع: بحار الأنوار, العلامة المجلسی, ج 15 ص 313.

الخلان، قالت لها: ولم ذلک؟ قالت لها: یا ویلک من حامل مولود، یدعو إلی أکرم معبود، یکسر الأصنام، ویذل السحرة والکهان، یخرب الدیار، ولا یترک بمکة أحداً من ذوی الأبصار، وأنت تعلمین أن القعود علی النار، أیسر من الذل والصغار، فلو وجدت من یساعدنی علی قتل آمنة بذلت له المنا، وأعطیته الغنا، وعمدت إلی کیس کان معها فأفرغته بین یدی تکنا، وکان مالاً جزیلاً، فلما نظرت تکنا إلی المال لعب بقلبها، وأخذ بعقلها، وقالت لها: یا زرقاء لقد ذکرت أمراً عظیماً، وخطباً جسیماً، والوصول إلیه بعید، وإنی ماشطة لجملة نساء بنی هاشم، ولا یدخل علیهن غیری، ولکن سوف أفکر لک فیما ذکرت، وکیف أجسر علی ما وصف، والوصول إلی ما ذکرت، قالت الزرقاء: إذا دخلت علی آمنة وجلست عندها فاقبضی علی ذوائبها، واضربیها بهذا الخنجر، فإنه مسموم، فإذا اختلط الدم بالسم هلکت، فإذا وقع علیک تهمة، أو وجب علیک دیة فأنا أقوم بخلاصک، وأدفع عنک عشر دیات غیر الذی دفعته إلیک فی وقتی هذا، فما أنت قائلة؟ قالت: إنی أجبتک، لکن أرید منک الحیلة بأن تشغلی بنی هاشم عنی، قالت الزرقاء: إنی هذه الساعة آمر عبیدی أن یذبحوا الذبائح، ویطرحوها فی الجفان، فإذا أکلوا ظفرت بحاجتک، قالت لها تکنا: الآن تمت الحیلة، فافعلی ما ذکرت، فصنعت الزرقاء ما ذکرت، وأمرت عبیدها ینادون فی شوارع مکة أن یجمعوا الناس، فلم یبق أحد إلا وحضر ولیمتها من أهل مکة، فلما أکلوا وشربوا وعلمت أن القوم قد خالط عقولهم الشراب أقبلت إلی تکنا وقالت: قومی إلی حاجتک، فقامت تکنا وجاءت بالخنجر ورشت فی جوانبه السم، ودخلت علی آمنة فرحبت

ص:75

بها آمنة، وسألتها عن حالها، وقالت: یا تکنا ما عودتینی بالجفاء فقالت: اشتغلت بهمی وحزنی، ولولا أیادیکم الباسطة علینا لکنا بأقبح حال، ولا أحد أعز علیَّ منک، هلمی یا بنیة إلی حتی أزینک، فجاءت آمنة وجلست بین یدی تکنا، فلما فرغت من تسریح شعرها عمدت إلی الخنجر وهمت أن تضربها به، فحست تکنا کأن أحداً قبض علی قلبها فغشی علی بصرها، وکأن ضارباً ضرب علی یدها فسقط الخنجر من یدها إلی الأرض، فصاحت: وا حزناه، فالتفتت آمنة إلیها وإذا الخنجر قد سقط من ید تکنا، فصاحت آمنة فتبادرت النسوان إلیها، وقلن لها: ما دهاک؟ قالت: یا ویلکن أما ترین ما جری علیَّ من تکنا، کادت أن تقتلنی بهذا الخنجر، فقلن: یا تکنا ما أصابک؟ ویلک تریدین أن تقتلی آمنة علی أی جرم؟ فقالت: یا ویلکن قد أردت قتل آمنة، والحمد لله الذی صرف عنها البلاء، فقالت: الحمد لله علی السلامة من کیدک یا تکنا، فقالت لها النساء: یا تکنا ما حملک علی ذلک؟ قالت: لا تلومونی، حملنی طمع الدنیا الغرور، ثم أخبرتهن بالقصة، وقالت لهن: ویحکن دونکن الزرقاء اقتلنها قبل أن تفوتکن، ثم سقطت میتة، فصاحت النسوان صیحة عالیة، فأقبل بنو هاشم إلی منزل آمنة، فإذا بتکنا میتة، وقد تجلل نور آمنة، ونظروا إلی الخنجر، وحکوا لهم القصة، فخرج أبو طالب ینادی: أدرکوا الزرقاء وقد وصلها الخبر، فخرجت هاربة فتبعها الناس من بنی هاشم وغیرهم فلم یدرکوها ولم یلحقوها(1).

ص:76


1- (1) راجع: بحار الأنوار, العلامة المجلسی, ج 15 ص 316.

إرهاصات فی حملها وولادتها للنبی صلی الله علیه و آله

لقد کثرت المشاهدات قبل ولادته المبارکة وفی أیام حمله وبعد الولادة بفترة وجیزة، فشاهد الناس عموماً والنساء خصوصاً فی الیقظة والمنام من الآثار الأرضیة والسماویة، ومن هواتف الجن ونداءات الملائکة وأقوال السحرة والکهنة من أهل مکة وغیرها، وهذا أمر اعتادت علیه البشریة فی ولادة ذات المکانات العالیة والرفیعة عند الله, ومن الکرامات وخوارق العادات والمعجزات الباهرات لهذا المولود المبارک، حتی أذعن الأغلب بنبوته ورسالته وخاتمیته، فکیف یعقل أن لا تؤمن تلک المخدرة؟ وهل یستقیم هذا الظن الفاسد والخیال الکاسد مع ظهور کل تلک المعجزات وبروز تلک الآیات البینات؟ حاشاها من هذه العقائد الفاسدة والنیات الکاسدة.

فنقول: إذا قامت القیامة وأخرجت امَّهات الأنبیاء والأوصیاء والصدیقین والأولیاء الکاملین رؤوسهن من التراب، فکم سیکون لهذه المخدرة من حرمة خاصة ومنزلة شریفة عند فاطمة الزهراء علیها السلام لا تکون لغیرها من النساء، سیما حینما تستظل آمنة تحت لواء الولایة، وتدخل فی حمی النبوة والشفاعة، فأی امرأة تفضل علیها وتتطاول إلی مقامها.

ورد عن أبی عبد الله علیه السلام، قال:

کان حیث طلقت آمنة بنت وهب وأخذها المخاض بالنبی صلی الله علیه و آله حضرتها فاطمة بنت أسد امرأة أبی طالب، فلم تزل معها حتی وضعت، فقالت إحداهما للأخری: هل ترین ما أری؟ قالت: وما ترین؟ قالت: هذا النور الذی قد سطع ما بین المشرق والمغرب،

ص:77

فبینما هما کذلک إذ دخل علیهما أبو طالب، فقال لهما: ما لکما, من أی شیء تعجبان؟ فأخبرته فاطمة بالنور الذی قد رأت، فقال لها أبو طالب: ألا أبشرک؟ فقالت: بلی، فقال: أما إنک ستلدین غلاماً یکون وصی هذا المولود(1).

وعن ابن حمید قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال: یزعمون فیما یتحدث الناس والله أعلم أن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلی الله علیه و آله کانت تحدث أنها أتیت لما حملت برسول الله فقیل لها إنّک قد حملت بسید هذه الأمة فإذا وقع بالأرض فقولی أعیذه بالواحد من شر کل حاسد ثم سمیه محمداً ورأت حین حملت به أنه خرج منها نور رأت منه قصور بصری من أرض الشام, فلما وضعته أرسلت إلی جده عبد المطلب أنه قد ولد لک غلام فأته فانظر إلیه, فأتاه فنظر إلیه وحدثته بما رأت حین حملت به, وما قیل لها فیه, وما أمرت أن تسمیه(2).

وقال یونس بن بکیر عن ابن إسحق: وکانت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلی الله علیه و آله تحدث أنها أتیت حین حملت بمحمد صلی الله علیه و آله, فقیل لها إنک قد حملت بسید هذه الأمة، فإذا وقع علی الأرض فقولی: أعیذه بالواحد، من شر کل حاسد، من کل بر عاهد، وکل عبد رائد، یذود عنی ذائد، فإنه عند الحمید الماجد، حتی أراه قد أتی المشاهد. وقال: فإن آیة ذلک أن یخرج معه نور یملأ قصور بصری من أرض الشام، فإذا وقع فسمیه محمداً، فإن اسمه فی التوراة والإنجیل أحمد، یحمده

ص:78


1- (1) حلیة الأبرار, السید هاشم البحرانی, ج 1 ص 28.
2- (2) تاریخ الطبری, الطبری, ج 1 ص 571.

أهل السماء والأرض، واسمه فی الفرقان محمد، فسمته بذلک. فلما وضعته بعثت إلی عبد المطلب جاریتها(1).

وروی الطبرسی فی (الاحتجاج) عن الکاظم علیه السلام انه قال: إنّ آمنة بنت وهب رأت فی المنام أنّه قیل لها: إنّ ما فی بطنک سید، فإذا ولدته فسمیه محمداً. ثم قال علی علیه السلام: فاشتق الله له اسماً من أسمائه، فإن الله المحمود وهذا محمد(2).

وروی عن أمه أنّها قالت: لما وضعته رأیت نوراً ساطعاً بدا منی حتی أفزعنی، ولم أر شیئاً مما یرینه النساء. قال: وروی بعضهم: أنّها قالت: سطع منی النور حتی رأیت قصور الشام. ولما وقع إلی الأرض قبض قبضة من تراب، ثم رفع رأسه إلی السماء(3).

تاریخ ولادتها للنبی صلی الله علیه و آله

اختلف المؤرخون فی تعیین زمان ولادة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله, فقیل: ولد النبی صلی الله علیه و آله لاثنتی عشرة لیلة مضت من شهر ربیع الأول فی عام الفیل یوم الجمعة مع الزوال، وروی أیضا عند طلوع الفجر قبل أن یبعث بأربعین سنة. وحملت به أمه فی أیام التشریق عند الجمرة الوسطی وکانت فی منزل عبد الله بن عبد

ص:79


1- (1) سیرة ابن اسحاق, محمد بن اسحاق بن یسار, ج 1 ص 22.
2- (2) الاحتجاج, ج 1 ص 321.
3- (3) أنظر: موسوعة التاریخ الإسلامی, محمد هادی الیوسفی, ج 1 ص 252.

المطلب, وولدته فی شعب أبی طالب فی دار محمد بن یوسف(1), فی الزاویة القصوی عن یسارک وأنت داخل الدار، وقد أخرجت الخیزران ذلک البیت فصیرته مسجداً، یصلی الناس فیه(2).

ونقل المجلسی عن کتاب (حدائق الریاض) و (التواریخ الشرعیة) للشیخ المفید أنّه قال: السابع عشر من ربیع الأول مولد سیدنا رسول الله صلی الله علیه و آله عند طلوع الفجر من یوم الجمعة عام الفیل. وقال الطبرسی علیهم السلام: ولد یوم الجمعة عند طلوع الشمس، السابع عشر من شهر ربیع الأول عام الفیل، وذلک لأربع وثلاثین سنة مضت من ملک کسری أنوشیروان.

وقال السید ابن طاووس فی (الإقبال): إن الذین أدرکناهم من العلماء کان علمهم علی أن ولادته المقدسة صلی الله علیه و آله کانت یوم الجمعة السابع عشر من ربیع الأول فی عام الفیل عند طلوع فجره. ولذلک قال الشیخ المجلسی قدس سره: اعلم أنّه اتفقت الإمامیة (إلا من شذ منهم) علی أن ولادته صلی الله علیه و آله کانت فی السابع عشر من شهر ربیع الأول، وذهب أکثر المخالفین إلی أنها کانت فی الثانی عشر منه، واختاره الکلینی قدس سره(3).

ص:80


1- (1) قال فی هامش البحار: قال المؤرخون: کانت هذه الدار للنبی صلی الله علیه و آله فوهبها لعقیل بن أبی طالب، فباعها أولاده لمحمد بن یوسف أخ الحجاج الثقفی, فاشتهرت بدار محمد بن یوسف, فأدخلها فی قصره الذی کانوا یسمونه البیضاء وبعد انقضاء دولة بنی أمیة حجت خیزران أم الهادی والرشید فأفرزتها من القصر وجعلتها مسجدا، وهو الآن یصلی ویزار فیه. البحار ج 15 ص 250.
2- (2) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 1 ص 439.
3- (3) راجع: موسوعة التاریخ الإسلامی, محمد هادی الیوسفی, ج 1 ص 254.

وفاتها ومحل قبرها

لما أتی علی رسول الله صلی الله علیه و آله ست سنین خرجت آمنة بنت وهب زائرة لقبر زوجها عبدالله ومعها عبد المطلب, وأم أیمن حاضنة رسول الله صلی الله علیه و آله، فلما صارت بالأبواء منصرفة إلی مکة ماتت بها. وقیل توفیت وهو ابن أربعة أشهر أو أربع سنین أو ست(1).

وهذا کان السبب فی دفنها (آمنة بنت وهب) بالأبواء هناک, حیث أنّ عبد الله والد رسول الله صلی الله علیه و آله کان قد خرج إلی المدینة یمتار تمراً، فمات بالمدینة، فکانت زوجته آمنة بنت وهب، تخرج فی کل عام إلی المدینة تزور قبره.

ویقال إن أبا طالب زار أخواله بنی النجار بالمدینة وحمل معه آمنة أم رسول الله صلی الله علیه و آله، فلما رجع منصرفا إلی مکة، ماتت آمنة بالأبواء, ولها من العمر ثلاثون سنة(2).

والأبواء: الأخلاط من الناس، قال کثیر: إنما سمیت الأبواء للوباء الذی بها; ولا یصح هذا إلا علی القلب. وبوادیها من نبات الطرفاء ما لا یعرف فی واد أکثر منه. وعلی خمسة أمیال منها مسجد للنبی صلی الله علیه و آله(3).

وقیل: هی قریة من أعمال الفرع بین المدینة والجحفة بینها وبین المدینة ثلاثة وعشرون میلا؛ وقیل الأبواء جبل علی یمین آرة ویمین الطریق للمصعد إلی

ص:81


1- (1) مستدرکات علم رجال الحدیث, الشیخ علی النمازی الشاهرودی, ج 8 ص 545.
2- (2) معجم البلدان, الحموی, ج 1 ص 79.
3- (3) معجم ما استعجم, البکری الأندلسی, ج 1 ص 102.

مکة من المدینة؛ وهناک بلد ینسب إلی هذا الجبل. وقال السکری: هو جبل مشرف شامخ لیس به شیء من النبات غیر الخزم والبشام وهو لخزاعة وضمرة، وقد اختلف فی تحقیق لفظه فقیل: هو فعلاء من الأبوة، کما یدل له صنیع المصنف حیث ذکره هنا، وقیل: أفعال کأنه جمع بو: وهو الجلد، أو جمع بوی وهو السواد، وقیل: إنه مقلوب من الأوباء سمی بذلک لما فیه من الوباء. وقال ثابت اللغوی: سمی لتبوء السیول به، وهذا أحسن، وسئل عنه کثیر فقال: لأنهم تبوؤا به منزلاً(1).

لکن ذکر البعض أن مزارها فی الحجون, حیث یقول: أما مزار آمنة بنت وهب فإن قلنا أنه فی الحجون من مکة, وهی مقبرة السالفین إلی الیوم، وأهل مکة یزورونها قرب قبر خدیجة سلام الله علیها، فهو یعارض القول بدفنها فی الأبواء. والحق أن السیدة آمنة نقلت إلی الحجون. وعلی ضریحها قبة سامیة یتلألأ النور من أعلاها، وقبرها مشهور بین البقاع، یقصد لدفع المهمات، ویزار لکشف الملمات(2).

والحجون: بفتح الحاء جبل بمعلاة مکة مشرف مما یلی شعب الخرازین، فیه اعوجاج، عنده مقبرة. قال السهیلی: علی فرسخ وثلثین من مکة؛ قال الأعشی:

فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا ولا لک حق الشرب فی ماء زمزم

وقال عمرو بن مضاض الجرهمی یتأسف علی البیت:

ص:82


1- (1) تاج العروس, الزبیدی, ج 19 - ص 131.
2- (2) الخصائص الفاطمیة, ج 2 ص 70.

کأن لم یکن بین الحجون إلی الصفا أنیس ولم یسمر بمکة سامر(1)

وروی الطبرانی وابن مردویه عن عکرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلی الله علیه و آله لما أقبل من غزوة تبوک فلما هبط من ثنیة عسفان أمر أصحابه أن یستندوا إلی العقبة حتی یرجع إلیهم، فذهب فنزل علی قبر أمه فناجی ربه طویلاً، ثم إنه بکی فاشتد بکاؤه ثم عاد(2).

وأیضا روی عن عائشة أن النبی مرّ فی سفره إلی الحج بالحجون، فبکی کثیراً وبکیت لبکائه، ثم قال: خذی زمام ناقتی، وذهب إلی قبر أمه وعاد مستبشراً ضاحکاً، فسألته فقال: سألت الله أن یحیی أمی فأحیاها، فعرضت علیها الإیمان فأقرت، ثم عادت إلی نومتها(3).

وروی البیهقی فی مثله عن عائشة، وألّفَ السیوطی رسالة فی ذلک، وقال ابن حجر فیه شعراً:

الله أحیا للنبی أباه للإیمان والأم آمنة الأمینة(4)

أقول: مع غض النظر عن مراجعة سند الروایة یظهر من قول النبی صلی الله علیه و آله (فأقرت) أنّها کانت مؤمنة وهذا الإیمان الذی تشرب فیها قد أقرته وأکدته, ولو کان غیر ذلک لکان الأصح أن یقول (فآمنت) بعد ما عرض علیها الإیمان. ویؤید هذا: ما تقدم من خلال سیرتها ومدی إیمانها شعراً ونثراً, فعند نزول الوحی

ص:83


1- (1) تاج العروس, الزبیدی, ج 18 ص 132.
2- (2) المعجم الکبیر, للطبرانی, ج 11 ص 296.
3- (3) الخصائص الفاطمیة, الشیخ محمد باقر الکجوری, ج 2 ص 71.
4- (4) بحار الأنوار, المجلسی, ج 10 ص 441.

والرسالة أقرت ذلک بکل یقین.

زیارة النبی لقبرها وإحیاؤها له

ذکر المؤرخون أن النبی صلی الله علیه و آله لما فرغ من حجة الوداع لاذ بقبر قد درس فقعد عنده طویلاً ثم استعبر, فقیل له یا رسول الله ما هذا القبر؟ فقال: هذا قبر أمی آمنة بنت وهب, سألت الله فی زیارتها فأذن لی. وقال صلی الله علیه و آله: قد کنت نهیتکم عن زیارة القبور ألا فزوروها(1). وفی روایة أخری أتی قبرها وأصلحه وبکی عنده وبکی المسلمون لبکائه(2).

وعن الصدوق بسنده قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن عمرو بن علی البصری، قال: حدثنا أبو عبد الله عبد السلام ابن محمد بن هارون الهاشمی، قال: حدثنا محمد بن [محمد بن] عقبة الشیبانی، قال: حدثنا أبو القاسم الخضر بن أبان، عن أبی هدیة إبراهیم بن هدیة البصری، عن أنس بن مالک قال: أتی أبو ذر یوماً إلی مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: ما رأیت کما رأیت البارحة. قالوا: وما رأیت البارحة؟ قال: رأیت رسول الله صلی الله علیه و آله ببابه فخرج لیلاً فأخذ بید علی بن أبی طالب علیه السلام وخرجا إلی البقیع فما زلت أقفوا أثرهما إلی أن أتیا مقابر مکة فعدل إلی قبر أبیه فصلی عنده رکعتین فإذا بالقبر قد انشق وإذا بعبد الله جالس وهو

ص:84


1- (1) الفصول المختارة, الشریف المرتضی, ص 131. وغیره من الخاصة والعامة, منها الحاکم النیسابوری فی المستدرک, ج 1 ص 374, قال فقد أذن الله تعالی لنبیه صلی الله علیه و آله فی زیارة قبر أمه. ثم قال: هذا الحدیث مخرج فی الکتابین الصحیحین للشیخین.
2- (2) مستدرکات علم رجال الحدیث, الشیخ علی النمازی الشاهرودی, ج 8 ص 545. السیرة الحلبیة, ج 1 ص 172.

یقول: (أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله). فقال له: من ولیک یا أبة؟ فقال: وما الولی یا بنی؟ فقال: هو هذا علی. فقال: وأن علیاً ولیی. قال: فارجع إلی روضتک. ثم عدل إلی قبر أمه آمنة فصنع کما صنع عند قبر أبیه فإذا بالقبر قد انشق وإذا هی تقول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأنک نبی الله ورسوله). فقال لها: من ولیک یا أماه؟ فقالت: وما الولایة یا بنی؟ قال: هو هذا علی بن أبی طالب. فقالت: وأن علیاً ولیی. فقال: ارجعی إلی حفرتک وروضتک. فکذبوه ولببوه وقالوا: یا رسول الله کذب علیک الیوم. فقال: وما کان من ذلک؟ قالوا إن جندب حکی عنک کیت وکیت، فقال النبی صلی الله علیه و آله: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء علی ذی لهجة أصدق من أبی ذر. قال عبد السلام بن محمد: فعرضت هذا الخبر علی الجهمی محمد بن عبد الأعلی فقال: أما علمت أن النبی صلی الله علیه و آله قال: أتانی جبرئیل علیه السلام فقال: إن الله عز وجل حرم النار علی ظهر أنزلک، وبطن حملک، وثدی أرضعک، وحجر کفلک؟(1).

وذکر ابن طاووس قدس سره زیارتها ضمن الزیارة الخاصة بالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله.

السلام علیک وعلی أهل بیتک الطیبین الطاهرین الهادین المهدیین, السلام علی جدک عبد المطلب وعلی أبیک عبد الله، السلام علی أمک آمنة بنت وهب، السلام علی عمک حمزة سید الشهداء(2).

ص:85


1- (1) معانی الأخبار, الشیخ الصدوق, ص 178.
2- (2) إقبال الأعمال, السید ابن طاووس, ج 3 - ص 123.

تحریف الحقائق

اشارة

ذکر البعض عن ابن مسعود قال: خرج رسول الله صلی الله علیه و آله یوماً فخرجنا معه حتی انتهینا إلی المقابر، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطینا القبور حتی انتهینا إلی قبر منها، فجلس إلیه فناجاه طویلاً، ثم ارتفع نحیب رسول الله صلی الله علیه و آله باکیاً، فبکینا لبکائه، ثم إن النبی أقبل فلقیه عمر بن الخطاب فقال: ما الذی أبکاک یا رسول الله؟ قال: لقد أبکانا وأفزعنا فأخذ بید عمر، ثم أومأ إلینا فأتیناه فقال: أفزعکم بکائی؟ فقلنا: نعم، یا رسول الله قال: فإن القبر الذی رأیتمونی عنده قبر أمی آمنة بنت وهب، وإنی استأذنت ربی فی زیارتها، فأذن لی، ثم استأذنته فی الاستغفار لها، فلم یأذن لی، وأنزل قوله تعالی:(ما کانَ لِلنَّبِیِّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا أَنْ یَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِکِینَ) ، وقوله:(وَ ما کانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِیمَ لِأَبِیهِ) فأخذنی ما یأخذ الولد للوالد من الرأفة فذلک أبکانی، ألا إنی نهیتکم عن ثلاث: عن زیارة القبور، وعن أکل لحوم الأضاحی فوق ثلاث لیسعکم، وعن نبیذ الأوعیة، فزوروها فإنها تزهد فی الدنیا وتذکر الآخرة، وکلوا لحوم الأضاحی وأنفقوا منها ما شئتم، فإنما نهیتکم إذا الخیر قلیل، وتوسعة علی الناس، ألا وإن الوعاء لا یحرم شیئاً، کل مسکر حرام(1).

وهذا ما ذهب إلیه أغلب المفسرین من الجمهور, فی تفسیر قوله تعالی: (ما کانَ لِلنَّبِیِّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا أَنْ یَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِکِینَ...) ، الخ وذلک أن النبی صلی الله علیه و آله سأل بعدما افتتح مکة: أی أبویه أحدث به عهداً، قیل له: أمک آمنة بنت وهب بن عبد مناف، قال: حتی أستغفر لها، فقد استغفر إبراهیم لأبیه وهو مشرک، فهمّ

ص:86


1- (1) موارد الضمآن, الهیثمی, ص 73.

النبی صلی الله علیه و آله بذلک، فأنزل الله عز وجل قوله: (ما کانَ لِلنَّبِیِّ...) ، الخ یعنی: ما ینبغی للنبی (وَ الَّذِینَ آمَنُوا أَنْ یَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِکِینَ) ,(وَ لَوْ کانُوا أُولِی قُرْبی مِنْ بَعْدِ ما) کانوا کافرین ف -(تَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِیمِ) حین ماتوا علی الکفر، نزلت فی محمد صلی الله علیه و آله، وعلی بن أبی طالب علیه السلام. فقد استغفر إبراهیم لأبیه وکان کافراً، فبین الله کیف کانت هذه الآیة، فقال تعالی:(وَ ما کانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِیمَ لِأَبِیهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِیّاهُ) ، وذلک أنه کان وعد أباه أن یستغفر له، فلذلک استغفر له،(فَلَمّا تَبَیَّنَ) لإبراهیم (أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ) حین مات کافراً، لم یستغفر له، و تبرأ منه (إِنَّ إِبْراهِیمَ لَأَوّاهٌ)1 .

نعم ذکر السمعانی فی تفسیره أن هناک اختلافاً فی شأن نزول هذه الآیة, حیث قال: أن القوم اختلفوا فی سبب نزول قوله تعالی:(ما کانَ لِلنَّبِیِّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا أَنْ یَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِکِینَ وَ لَوْ کانُوا أُولِی قُرْبی مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِیمِ) علی ثلاثة أقوال:

الأول: ما رواه سعید بن المسیب، عن أبیه: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل علیه النبی وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبی أمیة، فقال له النبی: أی عم قل: لا إله إلا الله، کلمة أحاج لک بها عند الله.

فقال له أبو جهل وعبد الله بن [أبی] أمیة: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فما زالا یکلمانه حتی کان آخر کلمة قالها: علی ملة عبد المطلب، فقال النبی صلی الله علیه و آله: لأستغفرن لک ما لم انْهَ عنه؛ فأنزل الله تعالی هذه الآیة: (ما کانَ

ص:87

لِلنَّبِیِّ...) الخ.

والثانی: روی مسروق، عن عبد الله بن مسعود: أن النبی خرج إلی المقابر فاتبعناه، فأتی قبراً وقعد عنده، وناجاه طویلاً، ثم بکی وبکینا لبکائه، فقلنا له: یا رسول الله من صاحب هذا القبر؟ فقال: هذه أمی آمنة بنت وهب، استأذنت ربی فی زیارتها فأذن لی، ثم استأذنته فی أن أستغفر لها فلم یأذن لی، قال: فأخذنی علیها الشفقة ما یأخذ الولد للوالدة فبکیت، وأنزل الله تعالی هذه الآیة: (ما کانَ لِلنَّبِیِّ...) . الخ

والثالث: روی عن علی - رضی الله عنه -: أنه سمع رجلاً یستغفر لأبویه وهما مشرکان، فقال له علی: أتستغفر للمشرکین؟ فقال ذلک الرجل: قد استغفر إبراهیم لأبیه وهو مشرک, فأتی النبی وأخبره بذلک، فأنزل الله تعالی هذه الآیة: (ما کانَ لِلنَّبِیِّ...)1 الخ.

والصحیح

أن التحریف والتغییر فی الحقائق الحقّة والجلیّة أمر متبع ومعتاد علیه بحسب المصالح والأطماع الدنیویة للذین اشتروا الدنیا بالآخرة, لاسیما وأن التأریخ کان قد عاش وترعرع فی أحضان السیاسة الأمویة والتی طالما سعت وأجهدت نفسها وشمّرت عن ساعدها فی دفن وإطفاء النور الإلهی ولکن أبی الله إلا أن یتمم نوره.

ص:88

وعلیه فإن سیرة آمنة بنت وهب بما فیها أقوالها وأعمالها عند الفریقین تکذّب هذا الافتراء جملة وتفصیلاً, وهی لم تکن أقل شأناً من امَّهات الأنبیاء فی الطهارة والاصطفاء, وقد ذکر القرآن أمثلة علی ذلک, منها: أم نبی الله إسماعیل علیه السلام هاجر حیث یتحدث عنها القرآن بقوله تعالی:(رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ یَشْکُرُونَ) .(1) ومنها: ما ذکره سبحانه وتعالی عن أم نبی الله موسی علیه السلام وکیف أوحی لها وألهمها طریق النجاة لها ولولدها بقوله تعالی:(وَ أَوْحَیْنا إِلی أُمِّ مُوسی أَنْ أَرْضِعِیهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَیْهِ فَأَلْقِیهِ فِی الْیَمِّ وَ لا تَخافِی وَ لا تَحْزَنِی إِنّا رَادُّوهُ إِلَیْکِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِینَ)2 . ومنها: ما کشف عن مکانة أم نبی الله عیسی علیه السلام بقوله تعالی:(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاکِ وَ طَهَّرَکِ وَ اصْطَفاکِ عَلی نِساءِ الْعالَمِینَ) .(2) بالإضافة إلی کل ذلک ما ورد عند الفریقین عن النبی الأکرم والأئمة علیهم السلام فی التأکید علی طهارتها وشدة إیمانها. والتی منها: ما ورد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم لم یلتق أبوای قط علی سفاح لم یزل الله ینقلنی من الأصلاب الطیبة إلی الأرحام الطاهرة مصفیً مهذباً لا تتشعب شعبتان إلا کنت فی خیرهما(3). وقد تقدمت بعض

ص:89


1- (1) القصص: 7.
2- (3) آل عمران 42.
3- (4) الدر المنثور, جلال الدین السیوطی, ج 3 ص 294.

الروایات فی هذا المجال. مع أنه لو کانت مشرکة کیف جوز الله للنبی ولغیره زیارتها, والبکاء علیها, فالآیة بسیاقها ودلالتها بعیدة عن هذا التصور ولکن العدو أعمی البصر والبصیرة وغفل أو أغفل نفسه عن کل التناقضات الواضحة, وذلک لغایة فی قلب یعقوب.

أما شأن نزول هذه الآیة: هو أنّ المسلمین قالوا لرسول الله صلی الله علیه و آله ألا نستغفر لآبائنا الذین ماتوا فی الجاهلیة وکانوا مشرکین؟ فأنزل الله هذه الآیة, قوله تعالی:(ما کانَ لِلنَّبِیِّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا أَنْ یَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِکِینَ وَ لَوْ کانُوا أُولِی قُرْبی مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِیمِ) وبیّن أنه لا ینبغی لنبی ولا لمؤمن أن یدعو لکافر ویستغفر له.(1)

ویؤیده ما ذکره السمعانی فی القول الثالث, من أن علیاً علیه السلام سمع رجلاً یستغفر لأبویه وهما مشرکان، فقال له علی: أتستغفر للمشرکین؟ فقال (ذلک الرجل): قد استغفر إبراهیم لأبیه وهو مشرک فأتی النبی وأخبره بذلک، فأنزل الله تعالی هذه الآیة: (ما کانَ لِلنَّبِیِّ وَ الَّذِینَ...) الخ.

وقد ورد عن الحسن البصری فی قوله تعالی:(ما کانَ لِلنَّبِیِّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا أَنْ یَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِکِینَ) : أی ما کان ذلک یا محمد إلا بأمر منی، فلما أمره أن یقول:(وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما کَما رَبَّیانِی صَغِیراً) علمنا أن الله أمره(2). کما سیأتی التفصیل إن شاء الله فی طهارة آباء النبی صلی الله علیه و آله.

ص:90


1- (1) تفسیر مجمع البیان, الطبرسی ج 5 ص 132.
2- (2) الدر النظیم, ابن حاتم العاملی, ص 27.

مرضعات النبی صلی الله علیه و آله

1 - حلیمة السعدیة

اشارة

وهی حلیمة بنت أبی ذؤیب عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام ابن ناصرة بن فُصَیّة بن نصر بن سعد بن بکر بن هوازن بن منصور بن عکرمة بن حفصة بن قیس بن غیلان(1). ینتهی نسبهم إلی نزار وهو أحد أجداد النبی صلی الله علیه و آله، له أربعة أولاد ذکور: مضر وربیعة وأنار وأیاد، وتجتمع قبائل مضر فی قیس وخندف.

وقبرها بالبقیع, وقد هُدمت قبتها کغیرها من مشاهد الأئمة والصالحین(2).

والسبب فی إعطائه للمرضعة, کما هو المعتاد عن الأشراف فی مکة کانوا یسلمون أولادهم الرضع إلی المراضع اللواتی کن یقصدن مکة فی سنی العجاف, وذلک لیکتسب الشجاعة والنطق بالکلمات, وأیضا الحفاظ علیه من الوباء والأمراض التی کانت تتعرض لها مکة بسبب الوفود التی کانت تلتقی فیها من جمیع أنحاء شبه الجزیرة, وفی نفس الوقت إنّ جو الصحراء یساعد علی صفاء الفطرة ونمو الأعضاء ویزود الجسم بالقوة والمناعة, فهذا من شیم العرب وأخلاقهم إذا ولد لهم وُلِدَ یلتمسون له مرضعة فی غیر قبیلتهم لیکون أنجب للولد وأفصح له.

ص:91


1- (1) السیرة النبویة, ابن هشام, ج 1 ص 186.
2- (2) أنظر: العقد الفرید, ج 3 ص 251.

وقیل لأنهم کانوا یرون أنه عار علی المرأة أن ترضع ولدها. أی تستقل برضاعه ویدل للأول ما جاء أنه صلی الله علیه و آله کان یقول لأصحابه أنا أعربکم أی أفصحکم عربیة أنا قرشی واسترضعت فی بنی سعد(1).

وجاء أن أبا بکر لما قال للنبی صلی الله علیه و آله ما رأیت أفصح منک یا رسول الله فقال له ما یمنعنی وأنا من قریش وأرضعت من بنی سعد, فهذا کان یحمله علی دفع الرضعاء إلی المراضع الأعرابیات ومن ثم نقل عن عبد الملک بن مروان أنه کان یقول أضر بنا حبّ الولید یعنی ولده لأنه لمحبته له أبقاه مع أمه فی المصر ولم یسترضعه فی البادیة مع الأعراب فصار لحاناً لا عربیة له وأخوه سلیمان استرضع فی البادیة مع الأعراب فصار عربیاً غیر لحان(2).

وحلیمة السعدیة مرضعة الرسول من المخدرات المعروفات بالعفاف والشرف والحیاء، وکانت وسیطة فی بنی سعد کریمة من کرائم قومها لذلک اختار الله تعالی إیاها لرضاعة نبیه کما اختار له شرف البطون والأصلاب والرضاعة کالنسب لأنه یغیر الطباع. ورد عن عائشة ترفعه: لا تسترضعوا الحمقی فإن اللبن یورث(3).

وأیضا هی من البیوتات ذات الاسم والسمة المعروفة بین قبائل تهامة والحجاز، والموصوفة بالنجابة والطهر، والداخلة فی زمرة النساء الکریمات العظیمات ذوات العز والشأن, وکانت حلیمة مشهورة بین العرب بکمال الجود

ص:92


1- (1) أنظر: الطبقات الکبری, محمد بن سعد, ج 1 ص 113.
2- (2) السیرة الحلبیة, الحلبی, ج 1 ص 146.
3- (3) السیرة النبویة, ابن هشام, ج 1 ص 188.

وتمام الشرف.

یروی عندما جاءت حلیمة ابنة عبد الله أم النبی صلی الله علیه و آله من الرضاعة إلی رسول الله صلی الله علیه و آله فقام إلیها وبسط لها رداءه فجلست علیه(1).

وروی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: إن الله خلق الخلق فجعلنی فی خیر خلقه، وجعلهم فرقاً فجعلنی فی خیرهم فرقة، وجعلهم قبائل فجعلنی فی خیر قبیلة، وجعلهم بیوتاً فجعلنی فی خیر بیت، فأنا خیرکم بیتاً، وخیرکم نسباً. وقال: أنا ابن الفواطم والعواتک من سلیم، واسترضعت فی بنی سعد.

وقال: نزل القرآن بأعرب اللغات، فلکل العرب فیه لغة، ولبنی سعد بن بکر سبع لغات، وبنو سعد بن بکر بن هوازن أفصح العرب فهم من الأعجاز، وهی قبائل من مضر متفرقة(2).

زوج حلیمة السعدیة

هو الحارث بن عبد العُزّی بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن قُصیّة بن نصر بن سعد بن بکر بن هوازن السعدی.

وقد قدم مکة ودخل علی رسول الله صلی الله علیه و آله حین أنزل علیه القرآن, فقالت له قریش ألا تسمع ما یقول ابنک هذا, فقال: ما یقول؟ قالوا: یزعم أنّ الناس یبعثون بعد الموت وأنّ لله دارین یعذب فیهما من عصاه ویکرم فیهما من أطاعه, فقد شتت أمرنا وفرق جماعتنا, فأتاه فقال: أی بنی ما هذا الذی تقول؟ قال: نعم لو قد کان ذلک الیوم

ص:93


1- (1) الإصابة, ابن حجر, ج 8 ص 87.
2- (2) أنظر: العقد الفرید, ج 3 ص 250.

أخذت بیدک حتی أعرفک حدیثک الیوم, فأسلم الحارث بعد ذلک وحسن إسلامه وکان یقول لو قد أخذ ابنی بیدی لم یرسلنی حتی یدخلنی الجنة(1).

2 - ثویبة

وکانت ثویبة مولاة أبی لهب بن عبد المطلب أرضعته أیضا بلبن ابنها مسروح، وذلک قبل أن تقدم حلیمة، وکانت قد أرضعت ثویبة قبله حمزة بن عبد المطلب عمه، فلذلک قال رسول الله صلی الله علیه و آله لابنة حمزة: إنها ابنة أخی من الرضاعة، وکان حمزة أسن من رسول الله صلی الله علیه و آله بأربع سنین(2).

توفیت سنة سبع بعد مرجعه من خیبر، فقال: ما فعل ابنها مسروح؟ قالوا: مات قبلها. وکانت خدیجة تکرمها، وطلبت شراءها من أبی لهب فامتنع(3).

طهارة آباء النبی صلی الله علیه و آله

علماء السنة علی ثلاثة آراء

أختلف علماء جمهور السنة فی مسألة إیمان آباء النبی الخاتم صلی الله علیه و آله, إلی ثلاثة آراء.

الرأی الأول: ذهبوا فیه إلی طهارة وإیمان آباء النبی صلی الله علیه و آله, کما نقل عن السیوطی أنه قال فی کتابه (مسالک الخلفاء) فی والدی المصطفی: إنی استقرأت

ص:94


1- (1) الإصابة, ابن حجر, ج 1 ص 676.
2- (2) أنظر: مستدرک سفینة البحار, الشیخ النمازی, ج 4 ص 145. و بحار الأنوار, العلامة المجلسی, ج 15 ص 281.
3- (3) تاریخ الإسلام, الذهبی, ج 2 ص 445.

امَّهات الأنبیاء فلم أجد فیهن إلا مؤمنة ماتت علی الإیمان(1). وذهب القرطبی والدمیاطی وابن حجر وعلماء آخرون من أهل الخلاف إلی مذهب السیوطی، وماتوا علی هذا المذهب(2).

فقد نقل عن أبی حیان الأندلسی أنه قال: ذهبت الرافضة إلی أن آباء النبی صلی الله علیه و آله کانوا مؤمنین, أما غیر الامامیة، فذهب أکثرهم إلی کفر والدی النبی صلی الله علیه و آله وغیرهما من آبائه صلی الله علیه و آله، وذهب بعضهم إلی إیمانهم. وممن صرح بإیمان عبد المطلب، وغیره من آبائه صلی الله علیه و آله، المسعودی، والیعقوبی، وهو ظاهر کلام الماوردی، والرازی فی کتابه أسرار التنزیل، والسنوسی، والتلمسانی محشی الشفاء، والسیوطی، وقد ألّفَ هذا الأخیر عدة رسائل لإثبات ذلک. وفی المقابل قد ألَّفَ بعضهم رسائل لإثبات کفرهم، مثل إبراهیم الحلبی، وعلی القاری الذی فصل ذلک فی شرح الفقه الأکبر، واتهموا السیوطی بأنه متساهل، لا عبرة بکلامه، ما لم یوافقه کلام الأئمة النقاد(3). حتی أنّ بعضهم أخذ یأوّل فی أخبار والد نبی الله إبراهیم علیه السلام حتی انتهی إلی إیمانه کما هو الحق عندنا. فعن محمد بن کعب القرظی أنه قال: الخال والد والعم والد وتلا الآیة:(قالُوا نَعْبُدُ إِلهَکَ وَ إِلهَ آبائِکَ إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)4 . وفی الخبر

«ردوا علیّ أبی العباس», وأید بعضهم دعوی أن أبا إبراهیم علیه السلام الحقیقی

ص:95


1- (1) حاشیة البحار, ج 15 ص 118.
2- (2) الخصائص الفاطمیة, الشیخ محمد باقر الکجوری, ج 2 ص 59.
3- (3) الصحیح من سیرة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم, السید جعفر مرتضی, ج 2 ص 187.

لم یکن کافراً وإنما الکافر عمه بما أخرجه ابن المنذر فی تفسیره بسند صحیح عن سلیمان بن صرد قال: لما أرادوا أن یلقوا إبراهیم علیه السلام فی النار جعلوا یجمعون الحطب حتی إنّ کانت العجوز لتجمع الحطب فلما تحقق ذلک قال: حسبی الله تعالی ونعم الوکیل فلما ألقوه قال الله تعالی:(قُلْنا یا نارُ کُونِی بَرْداً وَ سَلاماً عَلی إِبْراهِیمَ)1 فکانت, فقال عمه من أجلی دفعه عنه فأرسل الله تعالی علیه شرارة من النار فوقعت علی قدمه فأحرقته(1).

الرأی الثانی: هو ما یختلف تماماً عن الرأی الأول حیث قالوا بکفر آباء النبی صلی الله علیه و آله, فقد ذکر الفخر الرازی فی التفسیر الکبیر، أنه قال: أن والدی رسول الله کانا کافرین، وذکر أن نص الکتاب یدل علی أن آزر کان کافراً، وکان والد إبراهیم الخلیل. فیقول: واعلم أن الرافضة ذهبوا إلی أن آباء النبی صلی الله علیه و آله کانوا مؤمنین وتمسکوا فی ذلک بهذه الآیة وبالخبر، أمّا هذه الآیة فقالوا: قوله تعالی:(وَ تَقَلُّبَکَ فِی السّاجِدِینَ)3 یحتمل الوجوه التی ذکرتم ویحتمل أن یکون المراد أن الله تعالی نقل روحه من ساجد إلی ساجد کما نقوله نحن، وإذا احتمل کل هذه الوجوه وجب حمل الآیة علی الکل ضرورة أنه لا منافاة ولا رجحان، وأما الخبر فقوله صلی الله علیه و آله:

«لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرین إلی أرحام الطاهرات» وکل من کان کافراً فهو نجس لقوله تعالی:(إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ

ص:96


1- (2) أنظر: تفسیر روح المعانی, الآلوسی, ج 7 ص 195.

نَجَسٌ)1 قالوا: فإن تمسکتم علی فساد هذا المذهب بقوله تعالی:(وَ إِذْ قالَ إِبْراهِیمُ لِأَبِیهِ آزَرَ) قلنا الجواب عنه أن لفظ الأب قد یطلق علی العم کما قال أبناء یعقوب له:(نَعْبُدُ إِلهَکَ وَ إِلهَ آبائِکَ إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ وَ إِسْحاقَ) فسموا إسماعیل أباً له مع أنه کان عمّاً له، وقال صلی الله علیه و آله:

«ردوا علی أبی» یعنی العباس، ویحتمل أیضاً أن یکون متخذاً الأصنام, أب أمه؛ فإن هذا قد یقال له الأب قال تعالی:(وَ مِنْ ذُرِّیَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَیْمانَ) إلی قوله تعالی:(وَ عِیسی) فجعل عیسی من ذریة إبراهیم مع أنّ إبراهیم کان جده من قبل الأم.

واعلم إنّا نتمسک بقوله تعالی:(لِأَبِیهِ آزَرَ) وما ذکروه صرف للفظ عن ظاهره، وأمّا حمل قوله:(وَ تَقَلُّبَکَ فِی السّاجِدِینَ) علی جمیع الوجوه فغیر جائز لما بینا أن حمل المشترک علی کل معانیه غیر جائز، وأما الحدیث فهو خبر واحد فلا یعارض القرآن(1).

وأشار إلی ذلک الآلوسی فی تفسره حیث یقول: والذی عول علیه الجم الغفیر من أهل السنة أنّ (ءازر) لم یکن والد إبراهیم علیه السلام وادعوا أنه لیس فی آباء النبی صلی الله علیه و آله کافر أصلاً لقوله صلی الله علیه و آله:

«لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرین إلی أرحام الطاهرات والمشرکون نجس». وتخصیص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دلیل له یعول علیه. والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. وقد ألّفُو فی هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا، والقول بأن ذلک قول الشیعة کما ادعاه

ص:97


1- (2) تفسیر الرازی, ج 12 ص 9.

الإمام الرازی ناشئ من قلة التتبع(1).

الرأی الثالث: قالوا: بالتوقف والإمساک فی مسألة آباء النبی, فقد جاء فی فتاوی الأزهر تحریم الإساءة لآباء النبی صلی الله علیه و آله لما فیه إیذاء له صلی الله علیه و آله فتشمله اللعنة.

سئل القاضی أبو بکر بن العربی أحد أئمة المالکیة (رحمه الله) عن رجل قال إن آباء النبی صلی الله علیه و آله فی النار فأجاب بأنه ملعون لأن الله تعالی یقول:(إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِیناً)2 , قال ولا أذی أعظم من أن یقال عن أبیه أنه فی النار وقال الإمام السهیلی (رحمه الله) فی کتاب (الروض الأنف): ولیس لنا نحن أن نقول ذلک فی أبویه صلی الله علیه و آله لقوله علیه الصلاة والسلام لا تؤذوا الأحیاء بسبِّ الأموات والله تعالی یقول:(إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِی الدُّنْیا) وقد أمرنا أن نمسک اللسان إذا ذکر أصحابه رضی الله عنهم بشیء یرجع إلی العیب والنقص فیهم.

فلأن نمسک ونکف عن أبویه أحق وأحری إذا تکرر ذلک فحق المسلم أن یمسک لسانه عما یخل بشرف نسب نبیه علیه الصلاة والسلام بوجه من الوجوه ولا خفاء فی أن إثبات الشرک فی أبویه إخلال ظاهر بشرف نسب نبیه الطاهر، وجملة هذه المسائل لیست من الاعتقادات فلا حظّ للقلب فیها، وأما اللسان فحقه الإمساک عما یتبادر منه النقصان خصوصا عند العامة لأنهم لا یقدرون علی دفعه وتدارکه.

ص:98


1- (1) تفسیر الآلوسی, ج 7 ص 388.

ومن ذلک یعلم أن الرجل الذی قال بموت أبوی النبی صلی الله علیه وسلم علی الکفر قد أخطأ خطأً بیّناً یأثم ویدخل به فیمن آذی رسول الله صلی الله علیه وسلم, ولکن لا یحکم علیه بالکفر؛ لأن المسألة لیست من ضروریات الدین التی یجب علی المکلف تفصیلها. هذا هو الحق الذی تقتضیه النصوص وعلیه المحققون من العلماء والله أعلم(1).

الشیعة الإمامیة

اشارة

إنّ ما دلت علیه أخبار الإمامیة وغیرها، واشتهر بین الاثنی عشریة، أنّ والدی رسول الله صلی الله علیه و آله ماتا علی الإیمان الکامل والإسلام الخالص، ولم یتدینا بأدیان أهل مکة طرفة عین أبداً، ولم یعبدا إلا الله, کما هو حال سلسلة آباء النبی صلی الله علیه و آله إلی آدم علیه السلام. قال الصدوق فی الاعتقادات: اعتقادنا فی آباء النبی صلی الله علیه و آله أنهم مسلمون من آدم علیه السلام إلی أبیه (النبی) عبد الله، وأن أبا طالب کان مسلماً، وآمنة بنت وهب أم رسول الله کانت مسلمة. وقال النبی صلی الله علیه و آله:

«إنی خرجت من نکاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم علیه السلام». وقد روی أن عبد المطلب کان حجة وأبو طالب کان وصیه(2). وفی النبوی أیضاً:

«لم أزل ینقلنی الله من أصلاب الطاهرین إلی أرحام المطهرات، حتی أخرجنی من عالمکم هذا ولم یدنسنی دنس الجاهلیة»(3). والحدیث عام یشمل جمیع آباء النبی وأجداده، ولو کان فیهم مشرک لأخرجه، ولو کان فیهم

ص:99


1- (1) راجع: فتاوی الأزهر, ج 7 ص 316.
2- (2) أنظر: الاعتقادات فی دین الإمامیة, الشیخ الصدوق, ص 110.
3- (3) أوائل المقالات, الشیخ المفید, ص 46.

مشرک لم یصفهم جمیعا بالطهارة مع قوله تعالی:(أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ)1 .

قال أمین الدین الطبرسی فی مجمع البیان: أجمعت الطائفة علی ذلک.(1)

وقال المجلسی: اتفقت الإمامیة علی أنّ والدی الرسول صلی الله علیه و آله وکل أجداده إلی آدم صلی الله علیه و آله کانوا مسلمین، بل کانوا من الصدیقین، أو أوصیاء معصومین. ولعل بعضهم لم یُظْهِرْ الإسلام لمصلحة دینیة ولتقیة(2).

وفی الحدیث المعتبر عند الفریقین: «نزل جبرئیل علی رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: یا محمد إن الله عز وجل: قد شفعک فی خمسة: فی بطن حملک وهی آمنة بنت وهب بن عبد مناف، وفی صلب أنزلک وهو عبد الله بن عبد المطلب وفی حجر کفلک، وهو عبد المطلب بن هاشم، وفی بیت آواک وهو عبد مناف بن عبد المطلب أبو طالب، وفی أخ کان لک فی الجاهلیة، قیل: یا رسول الله من هذا الأخ؟ فقال: کان انسی وکنت انسه، وکان سخیاً یطعم الطعام. واسم هذا الأخ الجلاس بن علقمة»(3).

وفی حدیث علل الشرائع: إن الله شفعک فی خمسة منها: فی حجر کفلک وفی بیت آواک، والمراد من الحجر عبد المطلب ومن البیت عبد مناف بن عبد المطلب. والنبی صلی الله علیه و آله لا یشفع للمشرک.

ص:100


1- (2) أنظر: تفسیر مجمع البیان, الطبرسی, ج 4 ص 90.
2- (3) البحار, المجلسی, ج 15 ص 117.
3- (4) أنظر الخصال, الشیخ الصدوق, ص 293.

وفی تهذیب الأحکام عن صفوان الجمال عن الصادق علیه السلام عن النبی صلی الله علیه و آله قال: إنی مستوهب من ربی أربعة وهو واهبهم لی إن شاء الله تعالی: آمنة بنت وهب، وعبد الله بن عبد المطلب، وأبو طالب، ورجل من الأنصار جرت بینی وبینه ملحة(1). والرسول صلی الله علیه و آله لا یستوهب مشرکاً وینجیه من النار. ولعل الرجل هو (خلاص بن علقمة)، والملحة: إما أن تکون (الحلف) أو أکل الملح، أی أنّه صلی الله علیه و آله أکل من زاده وملحه. وأیضاً من أدلتنا معاشر الشیعة علی طهارة آباء النبی صلی الله علیه و آله وأجداده من کتاب الله قوله تعالی:(الَّذِی یَراکَ حِینَ تَقُومُ * وَ تَقَلُّبَکَ فِی السّاجِدِینَ)2 أی أنّه کان ینقل روحه من ساجد إلی ساجد، فالآیة دالة علی أن جمیع آباء النبی صلی الله علیه و آله کانوا مسلمین مؤمنین: عبد المطلب وهاشم وعبد مناف وغیرهم.

ومعنی ذلک: هو أنه لیس فی آباء الرسول صلی الله علیه و آله إلا الخیر والبرکة، وهذا هو ما ورثه الرسول عنهم، ویتأکد بذلک طهارته صلی الله علیه و آله من الأرجاس، والرذائل، حتی ما یکون عن طریق الوراثة، والناس معادن کمعادن الذهب والفضة، وهو ما أثبته العلم الحدیث أیضا، حیث لم یبق ثمة أیة شبهة فی تأثیر عامل الوراثة فی تکوین شخصیة الإنسان، وفی خصاله ومزایاه.

محاولة فاشلة

ذکر ابن أبی الحدید احتمالاً لإثبات خیالات أبناء جنسه، فقال: إذا تعارض الجرح والتعدیل، فالترجیح لجانب الجرح; لأن الجارح قد اطلع علی زیادة

ص:101


1- (1) قرب الإسناد, الحمیری القمی, ص 56.

لم یطلع علیها المعدل ولا شهادة علی النفی(1).

والجواب

أولا: إننا نقول إنّ أخبارنا وصلت حد الاستفاضة، وما تروونه من أن أبا طالب قال عند موته: «أنا علی دین الأشیاخ» فالمقصود من الأشیاخ آباؤه الکرام وأجداده العظام، وعلی هذا فلا تعارض بین الدلیلین لتصل النوبة إلی الجرح والتعدیل وتقدیم الجارح علی المعدل.

وثانیاً: من البدیهی عدم إمکان إثبات کفر والدی الرسول وأبی طالب من ظاهر قوله تعالی:(وَ إِذْ قالَ إِبْراهِیمُ لِأَبِیهِ آزَرَ) لأن آزر کان عمه ولم یکن أباه الواقع فی عمود النسب النبوی، وإطلاق الأب علی العم لغة مستعملة عند العرب إلی یومنا هذا، کما أنهم یطلقون الأم علی الخالة.

وثالثا: إن ابن أبی الحدید نفسه قال أنه سأل شیخه النقیب یحیی بن أبی زید فقال: قد نقل الناس کافة عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنه قال: نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلی الأرحام الزکیة، فوجب بهذا أن یکون آباؤه کلهم منزهین عن الشرک، لأنهم لو کانوا عبدة أصنام لما کانوا طاهرین(2).

خلاصة الأدلة علی إیمان آباء النبی صلی الله علیه و آله

اشارة

أولاً: هناک روایات کثیرة تدل علی إیمان آبائه صلی الله علیه و آله، بالإضافة إلی إجماع

ص:102


1- (1) شرح النهج, ابن ابی الحدید, ج 14 ص 49.
2- (2) شرح النهج, ج 14 ص 38.

الطائفة المحقة، وهذا الإجماع وإن کان معلوم المستند، فلا بد من النظر إلی مستنده نفسه، ومستند ذلک هو الأخبار. والإحاطة بجمیعها متعسر، إن لم یکن متعذرا. وهذا هو الدلیل المعتمد(1).

من تلک الأخبار قوله صلی الله علیه و آله:

«لم یزل ینقلنی الله من أصلاب الطاهرین إلی أرحام المطهرات، حتی أخرجنی فی عالمکم، ولم یدنسنی بدنس الجاهلیة»(2). ولو کان فی آبائه صلی الله علیه و آله کافر، لم یصفهم کلهم بالطهارة، مع قوله تعالی:(إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ) . وغیرها کثیر وقد تقدم بعضها. ومنها: قال صلی الله علیه و آله:

«فأحبطنی الله تعالی إلی الأرض فی صلب آدم وجعلنی فی صلب نوح وقذفنی فی صلب إبراهیم علیهم الصلاة والسلام ثم لم یزل ینقلنی من الأصلاب الکریمة والأرحام الطاهرة حتی أخرجنی من بین أبوی لم یلتقیا علی سفاح قط»(3).

ومنها: عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت علیاً علیه السلام یقول:

والله ما عبد أبی، ولا جدی عبد المطلب، ولا هاشم، ولا عبد مناف صنماً قط. قیل: وما کانوا یعبدون؟ قال:

کانوا یصلون إلی البیت، علی دین إبراهیم، متمسکین به(4).

ثانیا: الآیات القرآنیة منها قوله تعالی:(الَّذِی یَراکَ حِینَ تَقُومُ * وَ تَقَلُّبَکَ

ص:103


1- (1) راجع الصحیح من سیرة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم, السید جعفر مرتضی, ج 2 ص 189.
2- (2) أوائل المقالات, الشیخ المفید, ص 46.
3- (3) السیرة الحلبیة, الحلبی, ج 1 ص 49.
4- (4) الخرائج والجرائح, قطب الدین الراوندی, ج 3 ص 1074.

فِی السّاجِدِینَ)1 . وقد روی عن ابن عباس، وأبی جعفر، وأبی عبد الله علیهماالسلام: أنّه صلی الله علیه و آله لم یزل ینقل من صلب نبی إلی نبی حتی صرت نبیاً(1). والروایات صریحة فی تفسیر هذه الآیة وقد تقدم بعضها.

ومنها: حکایة قوله تعالی لقول إبراهیم وإسماعیل:(رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ وَ أَرِنا مَناسِکَنا وَ تُبْ عَلَیْنا إِنَّکَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ)3 ، مع قوله تعالی:(وَ جَعَلَها کَلِمَةً باقِیَةً فِی عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ)4 ، أی فی عقب إبراهیم، فیدل علی أنه لا بد أن تبقی کلمة الله فی ذریة إبراهیم، ولا یزال ناس منهم علی الفطرة یعبدون الله تعالی حتی تقوم الساعة. ولعل ذلک استجابة منه تعالی لدعاء إبراهیم الذی قال:(وَ اجْنُبْنِی وَ بَنِیَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) وقوله:(رَبِّ اجْعَلْنِی مُقِیمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ) .

ثالثا: أمر الإمام الصادق فی الطواف لآباء النبی صلی الله علیه و آله وصلاة رکعتین, کما ورد فی الکافی عن داود الرقی قال: دخلت علی أبی عبد الله صلی الله علیه و آله ولی علی رجل مال قد خفت تواه فشکوت إلیه ذلک فقال لی:

«إذا صرت بمکة فطف عن عبد المطلب طوافاً وصلِّ رکعتین عنه وطف عن أبی طالب طوافاً وصلِّ عنه رکعتین وطف عن عبد الله طوافاً وصلِّ عنه رکعتین وطف عن آمنة طوافاً

ص:104


1- (2) مجمع الزوائد, الهیثمی, ج 8 ص 214. قال ورجاله ثقات, الطبرانی فی المعجم الکبیر, ج 11 ص 287.

وصلِّ عنها رکعتین وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصلِّ عنها رکعتین ثم ادع أن یرد علیک مالک»، قال: ففعلت ذلک ثم خرجت من باب الصفا وإذا غریمی واقف یقول: یا داود حبستنی تعال أقبض مالک(1).

فلو کانوا مشرکین کیف یأمر الإمام الصادق علیه السلام بذلک, بل نفهم من ذلک أن لهم خصوصیات زائدة علی الأیمان ومکانة عالیة عند الله.

استغفار إبراهیم علیه السلام لأبیه

اشارة

وقد اعترض علی القائلین بإیمان جمیع آبائه صلی الله علیه و آله إلی آدم، بأن القرآن الکریم ینص علی کفر (آزر) أبی إبراهیم، قال تعالی:(وَ ما کانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِیمَ لِأَبِیهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِیّاهُ فَلَمّا تَبَیَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِیمَ لَأَوّاهٌ حَلِیمٌ)2 . فیلزم من هذا خرم للقاعدة, فی أن سلسلة آباء النبی صلی الله علیه و آله إلی آدم کانوا علی الإیمان والطهر, حیث أنّ والد نبی الله إبراهیم علیه السلام (الذی هو من سلسلة آباء النبی صلی الله علیه و آله) لم یکن علی ملة الإسلام وإنّما کان من المشرکین کما فی هذه الآیة, فعلیه لا یصح القول إنّ جمیع آباء النبی صلی الله علیه و آله إلی آدم کانوا مؤمنین.

والجواب

أولا: إنّ اسم (آزر) الذی فی الآیة لیس أباً لإبراهیم علیه السلام وإنما عمه, أو جده لاُمهِ، علی اختلاف النقل واسم أبیه الحقیقی: (تارخ) وإنّما أطلق علیه لفظ الأب توسعاً، وتجوزاً, وهذا کقوله تعالی:(أَمْ کُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ یَعْقُوبَ

ص:105


1- (1) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 4 ص 544.

اَلْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِیهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِی قالُوا نَعْبُدُ إِلهَکَ وَ إِلهَ آبائِکَ إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)1 . فعد فیهم إسماعیل، ولیس من آبائه، ولکنه عمه(1). یؤیده ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام قال:

آزر کان عم إبراهیم, منجماً لنمرود(2).

وثانیاً: إن استغفار إبراهیم لأبیه قد کان فی أول عهده وفی شبابه، مع أنّنا نجد أن إبراهیم علیه السلام حین شیخوخته، وبعد أن رزق أولاداً، وبلغ من الکبر عتیاً یستغفر لوالدیه، قال تعالی حکایة عنه:(رَبَّنَا اغْفِرْ لِی وَ لِوالِدَیَّ وَ لِلْمُؤْمِنِینَ یَوْمَ یَقُومُ الْحِسابُ)4 قال هذا بعد أن وهب الله له علی الکبر إسماعیل وإسحاق حسب نص الآیات الشریفة. ومن الواضح: أنّ بین الوالد والأب فرقاً، فإن الأب یطلق علی المربی وعلی العم والجد، أمّا (الوالد) فإنما یخص الوالد بلا واسطة. فالاستغفار هنا فی الآیة إنما کان للوالد، أمّا فی الآیة: (وَ ما کانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِیمَ لِأَبِیهِ...) الخ فکان للأب الذی هو غیر والده.

إشکال وجواب

روی مسلم وغیره: أن رجلاً سأل النبی صلی الله علیه و آله: أین أبی؟ فقال: فی النار. فلما قفا دعاه، وقال له: إن أبی وأباک فی النار(3).

ص:106


1- (2) راجع: الصحیح من سیرة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم, السید جعفر مرتضی, ج 2 ص 189.
2- (3) راجع: تفسیر المیزان, السید الطباطبائی, ج 7 ص 207.
3- (5) صحیح مسلم, ج 1 ص 133. وسنن أبی داود, ج 2 ص 417.
الجواب

أولاً: إنّ هذا غیر صحیح لما تقدم. وهو ما یدل علی إیمان جمیع آبائه صلی الله علیه و آله. وأن أنوارهم محفوظة: یعنی حفظها الله عز وجل عن أقذار الجاهلیة وأنجاسها وأدناس الضلالة وأرجاسها بأن لم یودعها إلا الأصلاب الطاهرة والأرحام المطهرة, فإن اعتقادنا کما علیه الإجماع, بل الضرورة أن آباءهم الذین استودعوا تلک الأمانة الإلهیة من الخاتم إلی آدم، کانوا بأجمعهم مؤمنین طاهرین، لم یشرکوا بالله تعالی طرفة عین, وکذلک امَّهاتهم اللاتی استودعن تلک الأمانة کما فی الزیارة (لم تنجسک الجاهلیة بأنجاسها ولم تلبسک من مدلهمات ثیابها). وکما ورد عن الصادق علیه السلام قال: إن الله کان إذ لا کان فخلق الکان والمکان وخلق الأنوار وخلق نور الأنوار الذی نورت منه الأنوار، وأجری فیه من نوره الذی نورت منه الأنوار, وهو النور الذی خلق منه محمداً وعلیاً، فلم یزالا نورین أولین إذ لا شیء کون قبلهما، فلم یزالا یجریان طاهرین مطهرین فی الأصلاب الطاهرة حتی افترقا فی أطهر طاهرین فی عبد الله وأبی طالب(1).

وفی الاحتجاج عن الصادق علیه السلام فی جواب مسائل الزندیق، قال علیه السلام: وأخرج من آدم نسلاً طاهراً طیباً، أخرج منه الأنبیاء والرسل، هم صفوة الله وخالص الجوهر، طهروا فی الأصلاب وحفظوا فی الأرحام، ولم یصبهم سفاح الجاهلیة ولا شاب أنسابهم؛ لأن الله تعالی جعلهم فی موضع لا یکون أعلی درجة وشرفاً منه, فمن کان خازن علم الله، وأمین غیبه، ومستودع سره، وحجة علی

ص:107


1- (1) مکیال المکارم, میرزا محمد تقی الأصفهانی, ج 1 ص 368.

خلقه، وترجمانه، ولسانه لا یکون إلا بهذه الصفة، فالحجة لا یکون إلا من نسلهم، یقوم مقام النبی صلی الله علیه و آله فی الخلق.(1)

وثانیا: لقد روی هذه الروایة حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس. مع أننا نجد: أنّ معمراً قد روی نفس هذا الحدیث عن ثابت عن أنس، ولکن بنحو آخر لا یدل علی کفر أبیه صلی الله علیه و آله، فقد قال له صلی الله علیه و آله: (حیثما - أو إذا - مررت بقبر کافر فبشره بالنار). وقد نص علماء الجرح والتعدیل (من أصحاب هؤلاء الرواة) علی أن معمراً أثبت من حماد. وأن الناس قد تکلموا فی حفظ حماد، ووقع فی أحادیثه مناکیر، دسها ربیعة فی کتبه، وکان حماد لا یحفظ، فحدث بها، فوهم فیها(2).

وثالثا: لقد رویت هذه الروایة بسند صحیح علی شرط الشیخین عن سعد بن أبی وقاص، وجاء فیها: حیثما مررت بقبر مشرک فبشره بالنار. وکذا روی عن الزهری، بسند صحیح أیضا. وهذا نص الروایة: حدثنا محمد بن إسماعیل بن البختری الواسطی, حدثنا یزید بن هارون، عن إبراهیم بن سعد، عن الزهری، عن سالم، عن أبیه، قال: جاء أعرابی إلی النبی صلی الله علیه وسلم فقال: یا رسول الله إنّ أبی کان یصل الرحم، وکان وکان. فأین هو؟ قال صلی الله علیه و آله: (فی النار), قال فکأنه وجد من ذلک. فقال: یا رسول الله فأین أبوک؟ فقال رسول الله صلی الله علیه و آله «حیثما مررت بقبر مشرک، فبشره بالنار» قال فأسلم الأعرابی، بعد. وقال: لقد کلفنی رسول الله صلی الله علیه و آله

ص:108


1- (1) الاحتجاج, ج 2 ص 78.
2- (2) راجع الصحیح من سیرة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم, السید جعفر مرتضی, ج 2 ص 192.

تعبا. ما مررت بقبر کافر إلا بشرته بالنار. وفی الزوائد: إسناد هذا الحدیث صحیح(1).

وقد رفض الجمهور ما جاء فی المستدرک, أنّ رجلاً من الأنصار جاء إلی رسول الله صلی الله علیه و آله, فقال یا رسول الله إنّ أُمنا تحفظ علی البعل وتکرم الضیف وقد وأدت فی الجاهلیة فأین أُمنا قال أمکما فی النار, فقاما وقد شق ذلک علیهما فدعاهما رسول الله صلی الله علیه و آله فرجعا فقال: إنّ أمی مع أمکما(2).

حتی أنّ الحلبی وغیره قد أسقطوه, فقال: یجوز أن یکون قوله لشخصین أمی وأمکما فی النار علی تقدیر صحته التی ادعاها الحاکم فی المستدرک کان قبل إحیائها وإیمانها به کما تقدم, نظیر ذلک فی أبیه صلی الله علیه وسلم. وقولنا علی تقدیر صحة الحدیث إشارة لما تقرر فی علوم الحدیث أنه لا یقبل تفرد الحاکم بالتصحیح فی المستدرک لما عرف من تساهله فیه فی التصحیح وقد بین الذهبی ضعف هذا الحدیث وحلف علی عدم صحته یمینا(3).

ص:109


1- (1) سنن ابن ماجة, محمد بن یزید القزوینی, ج 1 ص 501. ومجمع الزوائد, ج 1 ص 118.
2- (2) المستدرک, الحاکم النیسابوری, ج 2 ص 364.
3- (3) راجع: السیرة الحلبیة, الحلبی ج 1 ص 174.

ص:110

الفصل الثانی: فاطمة بنت أسد أُمُّ الإمام علیٍّ علیهما السلام

اشارة

ص:111

ص:112

النسب الطاهر

هی السیدة فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصی بن کلاب بن مرة بن کعب بن لؤی بن غالب بن فهر بن مالک بن النضر بن کنانة, بن خزیمة بن مدرکة بن إلیاس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو من أولاد نبی الله إسماعیل علیه السلام.

وإنها أول هاشمیة ولدت لهاشمی(1), حیث لم یکن فی زمانها هاشمی ابن هاشمیین إلا أولادها, ثم أولاد علی علیهم السلام, وهی تکون بنت عم أبی طالب علیه السلام زوجها (عبد مناف بن عبد المطلب), حیث أنّ عبد المطلب بن هاشم (الذی هو والد أبی طالب) وأسد إخوان. کما نفهم منه أیضا قربها من النبی صلی الله علیه و آله حیث أنّ أباها أسد أخ لجد النبی صلی الله علیه و آله کما هو واضح, فهی بنت عم والد النبی صلی الله علیه و آله, وهو عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم, فتجتمع مع النبی صلی الله علیه و آله فی هاشم من جهة الأب.

وأمّا أمّها: فهی فاطمة بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معیص بن

ص:113


1- (1) الطبقات الکبری, محمد بن سعد, ج 8 ص 51.

عامر بن لؤی(1). وتلتقی فاطمة بنت أسد بنسب النبی صلی الله علیه و آله من جهة الأم فی لؤی, وهو الجد السابع لها من قبل أمها. وأمّا إخوانها: حنین بن أسد, وخالدة بنت أسد.

ومحل ولادة السیدة فاطمة بنت أسد علیهاالسلام فی مکة المکرمة, حدودا فی سنة (61 قبل الهجرة), ومدة عمرها ما یقارب (65 سنة), وفی روایة (60 سنة) وروایة أخری (70 سنة)(2). وقد توفیت سنة (4 بعد الهجرة النبویة), کما سیأتی بیانه إن شاء الله تعالی.

إیمانها بالله والرسول

لم یکن إیمان فاطمة بنت أسد متأخراً کما هو شأن عوام الناس بعد البعثة, بل کان أمره سابقاً حتی علی ولادة النبی صلی الله علیه و آله بحسب مقتضیات الأسرة الهاشمیة ودیدنها بإیمانهم بالحنیفیة الإبراهیمیة, وبمجیء البعثة المحمدیة, وهو أمر واضح عند أدنی نظرة فی سیرتها المبارکة الخالدة, وقد کشف لنا النبی صلی الله علیه و آله مدی إخلاصها وإیمانها قبل مجیء الإسلام, حیث یقول: «رحمک الله یا أمی کنت أمی بعد أمی تجوعین وتشبعینی وتعرین وتکسینی وتمنعین نفسک طیباً وتطعمینی تریدین بذلک وجه الله والدار الآخرة»(3). فکانت خدمتها ورعایتها للنبی صلی الله علیه و آله فی وقت سابق علی البعثة بدافع أیمانی مرسخ بالإخلاص والتقرب لله تعالی, ویظهر مدی إیمانها السابق أیضاً ما جری علی لسانها فی حال لجوئها إلی

ص:114


1- (1) مقاتل الطالبیین, أبو فرج الأصفهانی, ص 3.
2- (2) راجع: کتاب کاروانی با سیزده کجاوه, ص 44.
3- (3) المعجم الأوسط, الطبرانی, ج 1 ص 67.

الکعبة الشریفة لا غیر فی مخاضها بسید الوصیین أمیر المؤمنین حیث قالت: رب إنی مؤمنة بک وبما جاء من عندک من رسل وکتب، وإنی مصدقة بکلام جدی إبراهیم الخلیل علیه السلام، وإنّه بنی البیت العتیق... وهکذا إلی آخر حیاتها, لاسیما بعد البعثة المبارکة, وظهور ما کان راسخاً فی أذهانهم ومتشرباً فی عقائدهم, فقد کشفت لنا جملة من النصوص مدی ذوبانها بالإسلام, فعن عبد الله ابن یسار، عن جعفر بن محمد علیه السلام قال: کانت فاطمة بنت أسد أُم علی بن أبی طالب حادیة عشرة، یعنی فی السابقة إلی الإسلام، وکانت بدریة(1).

وعن أبی عبد الله علیه السلام

قال: إن فاطمة بنت أسد أم أمیر المؤمنین کانت أول امرأة هاجرت إلی رسول الله صلی الله علیه و آله من مکة إلی المدینة علی قدمیها وکانت من أبر الناس برسول الله(2).

وعن جریر بن عبد الحمید عن مغیرة عن إبراهیم، عن الحسن البصری عن الزبیر بن العوام قال: سمعت النبی صلی الله علیه و آله یدعو النساء إلی البیعة حین أنزلت هذه الآیة:(یا أَیُّهَا النَّبِیُّ إِذا جاءَکَ الْمُؤْمِناتُ یُبایِعْنَکَ)3 . وکانت فاطمة بنت أسد أوّل امرأة بایعت رسول الله صلی الله علیه و آله. وکانت صالحة وکان رسول الله صلی الله علیه و آله یزورها ویقیل فی بیتها(3). ولما توفت نزع رسول الله قمیصه فألبسها إیاه, کما سیأتی بیانه إن شاء الله.

ص:115


1- (1) مقاتل الطالبیین, ابی فرج الاصفهانی, ص 55.
2- (2) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 1 ص 453.
3- (4) الطبقات الکبری, محمد بن سعد, ج 8 ص 222.

مکانتها عند الله ورسوله

حظیت فاطمة بنت أسد (أُم الأمام أمیر المؤمنین علیه السلام) بمکانة عالیة عند الله وعند رسوله تمتاز بها عن غیرها من النساء, فیکفیها فخراً أنها کانت أُمّاً لخاتم النبیین وأُمّاً لسید الوصیین, وعلیه قد صحبتها کرامات ومعاجز یعجز عن تفسیرها الذهن البشری, والتی من جملتها انشقاق جدار البیت العتیق ودخولها فیه, وغیرها, لذلک ظللها النبی صلی الله علیه و آله بما یتناسب وشأنها ومکانتها المعنویة التی تتمتع بها, فقد ورد عن أبی عبد الله علیه السلام قال: إن فاطمة بنت أسد أمّ أمیر المؤمنین کانت أوّل امرأة هاجرت إلی رسول الله صلی الله علیه و آله من مکة إلی المدینة علی قدمیها وکانت من أبر الناس برسول الله صلی الله علیه و آله، فسمعت رسول الله وهو یقول: إنّ الناس یحشرون یوم القیامة عراة کما ولدوا فقالت: وآسوأتاه، فقال لها رسول الله صلی الله علیه و آله: فإنی أسأل الله أن یبعثک کآسیة. وسمعته یذکر ضغطة القبر، فقالت: وآضعفاه، فقال لها رسول الله صلی الله علیه و آله: فإنی أسأل الله أن یکفیک ذلک، وقالت لرسول الله صلی الله علیه و آله یوماً: إنی أرید أن أعتق جاریتی هذه، فقال لها: إن فعلت أعتق الله بکل عضو منها عضواً منک من النار، فلما مرضت أوصت إلی رسول الله صلی الله علیه و آله وأمرت أن یعتق خادمها، واعتقل لسانها فجعلت تومی إلی رسول الله صلی الله علیه و آله إیماء، فقبل رسول الله صلی الله علیه و آله وصیتها(1).

ویکفیها ما نزل فیها من المدح فی القرآن الکریم فی قوله تعالی:(الَّذِینَ یَذْکُرُونَ اللّهَ قِیاماً وَ قُعُوداً وَ عَلی جُنُوبِهِمْ وَ یَتَفَکَّرُونَ فِی خَلْقِ السَّماواتِ

ص:116


1- (1) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 1 ص 453.

وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَکَ فَقِنا عَذابَ النّارِ) , إلی قوله:(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّی لا أُضِیعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْکُمْ مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثی بَعْضُکُمْ مِنْ بَعْضٍ)1 .

فقد ورد الذکر علی، والأنثی الفواطم، وهن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله وفاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبیر, (بعضکم من بعض) یقول: علی من فاطمة(1).

وروی فی الذخائر أنها توفیت بالمدینة وشهدها النبی صلی الله علیه و آله وتولی دفنها ونزع قمیصه وألبسها إیاه واضطجع فی قبرها فلما سوی علیها التراب سئل عن ذلک فقال ألبستها لتلبس من ثیاب الجنة واضطجعت معها فی قبرها لأخفف عنها من ضغطة القبر إنها کانت أحسن خلق الله صنیعاً إلیّ بعد أبی طالب(2).

وبالجملة, جلالة فاطمة بنت أسد یعلم من ولادتها أمیر المؤمنین علیه السلام فی جوف الکعبة، وأنها کانت من السابقات إلی الإیمان، وکان رسول الله صلی الله علیه و آله یکرمها ویعظمها ویدعوها أمی.

وروی أنها لما ماتت بکی علیها النبی صلی الله علیه و آله وکفنها بثیابه، وصلی علیها، وکبر علیها أربعین تکبیرة، وقد صلی علیها صلاة لم یصل قبلها ولا بعدها علی أحد مثلها ودخل فی قبرها وتمدد فیه. کما سیأتی بیانه إن شاء الله.

ص:117


1- (2) الأمالی, الشیخ الطوسی, ص 471.
2- (3) أنظر: ذخائر العقبی, أحمد بن عبدالله الطبری, ص 56. مجمع الزوائد, الهیثمی, ج 9 ص 257.

فاطمة بنت أسد أُم النبی الثانیة

حازت فاطمة بنت أسد علی هذا اللقب العظیم (أم النبی) والذی یکشف عن مدی إیمانها وعظم مکانتها عند الله ورسوله؛ وذلک لرعایتها واهتمامها برسول الله صلی الله علیه و آله. لذلک: عندما سئل النبی صلی الله علیه و آله عن اهتمامه فی تجهیز ودفن فاطمة بنت أسد والذی لم یسبق له نظیر, قال: إن أبی هلک وأنا صغیر فأخذتنی هی وزوجها فکانا یوسعان علیَّ ویؤثرانی علی أولادهما فأحببت أن یوسع الله علیها قبرها.(1)

ویؤکد هذا ما ذکره الحاکم فی مستدرکه, عن علی علیه السلام قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم کفنها رسول الله صلی الله علیه و آله فی قمیصه وصلی علیها وکبر علیها سبعین تکبیرة ونزل فی قبرها فجعل یومی فی نواحی القبر کأنه یوسعه ویسوی علیها وخرج من قبرها وعیناه تذرفان وحثا فی قبرها فلما ذهب قال له عمر بن الخطاب رضی الله عنه یا رسول الله رأیتک فعلت علی هذه المرأة شیئاً لم تفعله علی أحد فقال یا عمر إنّ هذه المرأة کانت أمی التی ولدتنی إنّ أبا طالب کان یصنع الصنیع وتکون له المأدبة وکان یجمعنا علی طعامه فکانت هذه المرأة تفضل منه کله نصیبنا فأعود فیه وان جبریل علیه السلام أخبرنی عن ربی عز وجل أنّها من أهل الجنة وأخبرنی جبریل علیه السلام أنّ الله تعالی أمر سبعین ألفاً من الملائکة یصلون علیها(2).

وأیضاً روی عن فاطمة بنت أسد: أنه لما ظهرت أمارة وفاة عبد المطلب قال لأولاده: من یکفل محمداً؟ قالوا: هو أکیس منا فقل له یختار لنفسه. فقال عبد

ص:118


1- (1) علل الشرائع, الشیخ الصدوق, ج 2 ص 469
2- (2) المستدرک علی الصحیحین, الحاکم النیسابوری, ج 3 ص 108.

المطلب: یا محمد جدک علی جناح السفر إلی القیامة، أی عمومتک وعماتک ترید أن یکفلک؟ فنظر فی وجوههم، ثم زحف إلی عند أبی طالب، فقال له عبد المطلب: یا أبا طالب، إنی قد عرفت دیانتک وأمانتک، فکن له کما کنت له. قالت: فلما توفی أخذه أبو طالب، وکنت أخدمه، وکان یدعونی الأم(1).

وروی أیضاً أنه صلی الله علیه وسلم صلی علیها وتمرغ فی قبرها وبکی وقال جزاک الله من أُم خیراً فلقد کنت خیر أم، وسماها أماً؛ لأنها کانت ربته(2).

وقد ذکر الطبرانی فی المعجم الکبیر عن عاصم الأحول عن أنس بن مالک قال لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علی بن أبی طالب دخل علیها رسول الله صلی الله علیه و آله فجلس عند رأسها فقال: رحمک الله یا أمی کنت أمی بعد أمی تجوعین وتشبعینی وتعرین وتکسینی وتمنعین نفسک طیباً وتطعمینی تریدین بذلک وجه الله والدار الآخرة ثم أمر أن تغسل ثلاثاً فلما بلغ الماء الذی فیه الکافور سکبه رسول الله صلی الله علیه و آله بیده ثم خلع رسول الله صلی الله علیه و آله قمیصه فألبسها إیاه وکفنها ببرد فوقه ثم دعا رسول الله صلی الله علیه و آله أسامة بن زید وأبا أیوب الأنصاری وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود یحفرون فحفروا قبرها فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلی الله علیه و آله بیده وأخرج ترابه بیده فلما فرغ دخل رسول الله صلی الله علیه و آله فاضطجع فیه ثم قال: الله الذی یحیی ویمیت وهو حی لا یموت أغفر لأمی فاطمة بنت أسد ونکبتنا حجتها ووسع علیها مدخلها بحق نبیک والأنبیاء الذین من قبلی فإنک أرحم الراحمین وکبر علیها أربعاً وأدخلوها اللحد(3).

ص:119


1- (1) الخرائج والجرائح, قطب الدین الراوندی, ج 1 ص 138
2- (2) ذخائر العقبی, أحمد بن عبد الله الطبری, ص 55
3- (3) المعجم الکبیر, الطبرانی, ج 24 ص 351

مشهد من کرم بنی هاشم

حفلت سیرة بنی هاشم بهذه الصفة (الکرم) والتی مدحها العقل وأقرها الشرع وأثاب علی کل من تلبس بها, وکان من أجلی مصادیق ذلک الأنبیاء وأوصیاؤهم وذلک بما هو ثابت عقلاً وشرعاً أنّ المعصوم کامل الصفات لا یسبقه أحد علی ذلک, نأخذ مثالاً هنا له صلة بالبحث, وهو أن النبی صلی الله علیه و آله قبل الهجرة خرج یوماً إلی خارج مکة ورجع طالباً منزله فاجتاز بمناد ینادی من بنی تمیم (وکان لهم سید یسمی عبد الله ابن جذعان، وکان یعد من سادات قریش وأشیاخهم، وکان له منادیة ینادون فی شعاب مکة وأودیتها: من أراد الضیافة والقری فلیأت مائدة عبد الله بن جذعان، وکان من منادیه: أبو قحافة، وأجرته أربعة دوانیق، وله مناد آخر فوق سطح داره) فأخبر عبد الله بن جذعان بجواز النبی صلی الله علیه و آله علی بابه، فخرج یسعی حتی لحق به وقال: یا محمد؟ بالبیت الحرام إلا ما شرفتنی بدخولک إلی منزلی وتحرمک بزادی، وأقسم علیه برب البیت والبطحاء وبشیبة بن عبد المطلب، فأجابه النبی صلی الله علیه و آله إلی ذلک ودخل منزله وتحرم بزاده، فلما خرج النبی صلی الله علیه و آله خرج معه ابن جذعان مشیعاً له، فلما أراد الرجوع عنه قال له النبی صلی الله علیه و آله: إنی أحب أن تکون غدا فی ضیافتی أنت وتیم وأتباعها وحلفاؤها عند طلوع الغزالة(1) ، ثم افترقا ومضی النبی إلی دار عمه أبی طالب وجلس متفکراً فیما وعده لعبد الله بن جذعان، إذ دخلت علیه فاطمة بنت أسد علیهاالسلام (وکانت هی

ص:120


1- (1) فی الصحاح, ج 5 ص 1781, غزالة الضحی: أولها، یقال: جاءنا فلان فی غزالة الضحی، ثم قال: ویقال: الغزالة الشمس أیضا. وفی القاموس, ج 4 ص 24: کسحابة الشمس لأنها تمد حبالا کأنها تغزل، أو الشمس عند طلوعها، أو عند ارتفاعها، أو عین الشمس.

مربیته، وکان یسمیها الأُم) فلما رأته مهموما قالت: فداک أبی وأمی، ما لی أراک مهموماً؟ أعارضک أحد من أهل مکة؟. فقال: لا. قالت: فبحقی علیک إلا ما أخبرتنی بحالک, فقص علیها قصته مع ابن جذعان وما قاله وما وعده من الضیافة، فقالت: یا ولدی لا تضیقن صدرک، معی مشار عسل یقوم لک بکل ما ترید، فبینما هما فی الحدیث إذ دخل أبو طالب رضی الله عنه، فقال لزوجته: فیما أنتما؟. فأعلمته بذلک کله، وبما قال النبی صلی الله علیه و آله لابن جذعان، فضمه إلی صدره وقبل ما بین عینیه، وقال: یا ولدی بالله علیک لا تضیقن صدرک من ذلک، وفی نهار غد أقوم لک بجمیع ما تحتاج إلیه إن شاء الله تعالی، وأصنع ولیمة تتحدث بها الرکبان فی سائر البلدان، وعزم علی ولیمة تعم سائر القبائل...(1).

زواجها من أبی طالب

اختار أبو طالب فاطمة بنت أسد شریکة لحیاته, وذلک بما کانت تمتاز بصفات کمالیة عالیة تؤهلها لأن تکون کفؤاً له, لاسیما إن قلنا أنه وصی من الأوصیاء (کما ذکر عن أبی الحسن الأول... لأنه کان قد آمن وأقر، وکیف لا یکون کذلک والحال أن أبا طالب کان من الأوصیاء، وکان أمیناً علی وصایا الأنبیاء وحاملا لها إلیه صلی الله علیه و آله...)(2). وله المکانة والقدر العالی عند الله, ومن ناحیة أخری تکون وعاء لسید الأوصیاء, فهذه وغیرها تکشف لنا عن سبب اختیار أبی طالب لها,

ص:121


1- (1) بحار الأنوار, المجلسی, ج 30 ص 367.
2- (2) أنظر: تهذیب المقال فی تنقیح کتاب رجال النجاشی, السید محمد علی الأبطحی, ص 407. بحار الأنوار, العلامة المجلسی, ج 35 ص 74.

وقد خطب أبو طالب فی نکاح فاطمة بنت أسد حیث قال: الحمد لله رب العالمین رب العرش العظیم والمقام الکریم والمشعر والحطیم الذی اصطفانا أعلاماً وسدنة وعرفاء وخلصاء وحجیته بهالیل أطهار من الخنا والریب والأذی والعیب وأقام لنا المشاعر وفضلنا علی العشائر نخب آل إبراهیم وصفوته وزرع إسماعیل. وفی کلام له قال: وقد تزوجت بنت أسد وسقت المهر ونفذت الأمر فاسألوه واشهدوا، فقال أسد: زوجناک ورضینا بک، ثم أطعم الناس فقال أمیة بن الصلت:

اغمرنا عرس أبی طالب وکان عرساً لبن الحالب

اقرأؤه البدو بأقطاره من راجل خف ومن راکب(1)

مشهد من إیمان أبی طالب

من الهوان أن یُشکک فی إیمان رائد المسیرة الإسلامیة والقاعدة الکبری لانطلاق الإسلام واستحکامه والممهد له والرکن القویم, حتی یأتی الدانی الذی تشرّب هو وأسلافه فی محض الشرک وعبادة الأصنام وتناول النجاسات أن ینال من العالی وینکر وینفی إیمان من هو محل الإیمان, وهذا إن یعبر عن شیء فهو یعبر عن مدی الانتکاسة التی مرّ بها العالم الإسلامی, والازدواجیة القصوی فی المعاییر, فلم یکن إیمان أبی طالب بل العائلة الهاشمیة والعدنانیة إلا مصدراً للإیمان وللإسلام والممهدین لخاتمیة الرسالة, إلا من شذ کأبی لهب, لذلک نجد سیرتهم لاسیما أبی طالب علیه السلام حافلة بالتلبسات العبادیة والتضحیات الإیمانیة والتنبؤات الیقینیة, ویکفی ذلک إعجازاً أنّه أرضع النبی, کما ورد عن أبی بصیر، عن أبی عبد

ص:122


1- (1) مناقب آل أبی طالب, ابن شهر آشوب, ج 2 ص 20.

الله علیه السلام قال: لما ولد النبی صلی الله علیه و آله مکث أیاماً لیس له لبن، فألقاه أبو طالب علی ثدی نفسه، فأنزل الله فیه لبناً فرضع منه أیاماً حتی وقع أبو طالب علی حلیمة السعدیة فدفعه إلیها(1). وربما یضعف تحمل هذا الحدیث من ضعاف النفوس وقلیلی الإیمان کما أشار لذلک رسول الله صلی الله علیه و آله بقوله:

إنّ حدیث آل محمد صعب مستصعب لا یؤمن به إلا ملک مقرب أو نبی مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإیمان(2). وعن الإمام الصادق علیه السلام

إنّ حدیثنا صعب مستصعب، لا یحتمله إلا صدور منیرة أو قلوب سلیمة أو أخلاق حسنة(3). وأیضا تناسوا أو تغافلوا مما صدر عن النبی صلی الله علیه و آله من نظائر لذلک, فهم یرون الحیاة من جانب واحد أو من جانب مادی وهو الجانب الذی استولی علی حیاتهم ومشاعرهم ونفوسهم ولا یعطون للتدخلات الغیبیة والمعجزات أو الکرامات الإلهیة أی اهتمام أو قبول, فلو رجعنا إلی القرآن الکریم لرأینا کیف یفرق بین المؤمن وغیره بالإیمان بالغیب بقوله:(الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ وَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ یُنْفِقُونَ)4 , فقد شاءت حکمته تعالی أن یعطی لأنبیائه والأوصیاء والصالحین القدرة علی التحکم بما هو خارج عن نوامیس الطبیعة بأذنه سواء کان علی سبیل المعجزة أم الکرامة وقد ضرب لنا أمثلة کثیرة فی القرآن الکریم سواء کان للأنبیاء أم غیرهم من قبیل معاجز نبی الله سلیمان علیه السلام أو إحضار عرش بلقیس (قالَ الَّذِی عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ

ص:123


1- (1) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 1 ص 448.
2- (2) نفس المصدر, ج 1 ص 401.
3- (3) نفس المصدر.

اَلْکِتابِ أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ یَرْتَدَّ إِلَیْکَ طَرْفُکَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّی لِیَبْلُوَنِی أَ أَشْکُرُ أَمْ أَکْفُرُ وَ مَنْ شَکَرَ فَإِنَّما یَشْکُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ رَبِّی غَنِیٌّ کَرِیمٌ)1 , وغیر ذلک فی القرآن کثیر, إضافة إلی ما ورد فی السنة الشریفة, فلماذا نستکثر ونستغرب ما حدث عن أبی طالب علیه السلام مع النبی صلی الله علیه و آله سواء کان ذلک إکراماً لمنزلة أبی طالب عند الله أم رعایة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله. وقد ورد أیضاً عن فاطمة بنت أسد أنها قالت: لما توفی عبد المطلب أخذ أبو طالب النبی صلی الله علیه و آله عنده لوصیة أبیه به وکنت أخدمه وکان فی بستان دارنا نخلات وکان أول إدراک الرطب وکنت کل یوم ألتقط له حفنة من الرطب فما فوقها وکذلک جاریتی فاتفق یوماً أن نسیت أن التقط له شیئاً ونسیت جاریتی أیضاً، وکان محمد نائماً ودخل الصبیان وأخذوا کلما سقط من الرطب وانصرفوا فنمت ووضعت الکم علی وجهی حیاءً من محمد صلی الله علیه و آله إذا انتبه فانتبه محمد صلی الله علیه و آله ودخل البستان فلم یر رطبة علی وجه الأرض فأشار إلی نخلة وقال: أیتها الشجرة أنا جائع. فرأیت النخلة قد وضعت أغصانها التی علیها الرطب حتی أکل منها ما أراد ثم ارتفعت إلی موضعها، فتعجبت من ذلک وکان أبو طالب رضی الله عنه غائباً فلما أتی وقرع الباب عدوت إلیه حافیة وفتحت الباب وحکیت له ما رأیت فقال: هو إنما یکون نبیاً وأنت تلدین له وزیراً بعد یأس. فولدت علیاً علیه السلام کما قال(1). وهذا أیضاً یکشف عن مدی اتصال أبی طالب علیه السلام بالغیب وعن مدی إیمانه وعلمه.

ص:124


1- (2) الغدیر, الشیخ الأمینی, ج 7 ص 398.

أبو طالب رمز الإیمان

اشارة

کثرة تشویش أذهان المؤمنین والمستضعفین من قبل المغرضین والمحرّفین فی تشویه وتحریف سیرة أحد کبار ورموز المضحین والمدافعین عن بیضة الإسلام وحامل لوائه, جعلتنا أن نذکر وباختصار الأدلة الاثباتیة علی إیمانه علیه السلام, فإن الدلائل علی إیمان أبی طالب بدین ابن أخیه تبلغ من الوفرة والکثرة بحیث استقطبت اهتمام کل المحققین المنصفین والمحایدین، ولکن بعض المتعصبین توقف فی إیمان تلک الشخصیة المتفانیة العظیمة بالدعوة المحمدیة بینما تجاوز فریق هذا الحد إلی ما هو أبعد من ذلک، حیث قالوا بأنه مات غیر مؤمن. ولو صحت عشر هذه الدلائل الدالة علی إیمان أبی طالب الثابتة فی کتب التاریخ والحدیث، فی حق رجل آخر لما شک أحد فی إیمانه فضلاً عن إسلامه ولکن لا یعلم الإنسان لماذا لا تستطیع کل هذه الأدلة إقناع هذه الزمرة، وإنارة الحقیقة لهم؟ فهناک أدلة کثیرة تدل علی إیمان أبی طالب من جملتها ما یلی:

الأول: الروایات الواردة بحقه

والروایات فی هذا المجال کثیرة, منها: ما روی عن علی بن محمد الباقر علیه السلام:

«لو وضع إیمان أبی طالب فی کفه میزان، وإیمان هذا الخلق فی الکفة الأخری لرجح إیمانه». ثم قال:

(ألم تعلموا أنّ علیاً علیه السلام کان یأمر أن یحج عن أبی النبی عبد الله وعن أمه وأبیه أبی طالب فی حیاته وقد أوصی

ص:125

فی وصیته بالحج عنهم بعد مماته)(1). فهذه الروایة تکشف لنا أن إیمان أبی طالب یحظی بمرتبة عالیة.

ومنها: عن الصادق علیه السلام، عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنه قال:

«والذی بعث محمداً صلی الله علیه و آله بالحق نبیاً لو شفع أبی فی کل مذنب علی وجه الأرض لشفعه الله فیهم»(2).

ومنها: عن الأمالی: عن أبی عبد الله عن آبائه عن أمیر المؤمنین علیه السلام، قال: کان ذات یوم جالساً بالرحبة والناس حوله مجتمعون، فقام إلیه رجل فقال: یا أمیر المؤمنین، إنک بالمکان الذی أنزلک الله به وأبوک یعذب بالنار؟

فقال له: مه فض الله فاک والذی بعث محمداً بالحق نبیاً، لو شفع أبی فی کل مذنب علی وجه الأرض لشفعه الله (تعالی) فیهم، أبی یعذب بالنار وابنه قسیم النار؟ ثم قال: والذی بعث محمداً بالحق نبیاً، إن نور أبی طالب یوم القیامة لیطفئ أنوار الخلق إلا خمسة أنوار: نور محمد صلی الله علیه و آله، ونوری، ونور فاطمة، ونوری الحسن والحسین ومن ولده من الأئمة، لان نوره من نورنا الذی خلقه الله (عز وجل) من قبل خلق ادم بألفی عام(3).

ومنها: عن أبان بن محمد قال کتبت إلی الإمام علی بن موسی علیه السلام: جعلت فداک إنی شککت فی إیمان أبی طالب قال: فکتب

«بسم الله الرحمن الرحیم

ص:126


1- (1) بحار الأنوار, المجلسی, ج 35 ص 112.
2- (2) خاتمة المستدرک, المیرزا النوری, ج 5 - ص 20.
3- (3) الأمالی, الشیخ الطوسی, ص 305.

ومن یبتغ غیر سبیل المؤمنین نوله ما تولی أما إنک إن لم تقر بإیمان أبی طالب کان مصیرک إلی النار»(1).

وفی روایة أخری عن ابن علی بن بابویه بإسناد له أن عبد العظیم بن عبد الله العلوی کان مریضاً، فکتب إلی أبی الحسن الرضا علیه السلام: عرفنی یابن رسول الله عن الخبر المروی أن أبا طالب فی ضحضاح من نار یغلی منه دماغه، فکتب إلیه الرضا علیه السلام:

«بسم الله الرحمن الرحیم أما بعد فإنک إن شککت فی إیمان أبی طالب کان مصیرک إلی النار»(2).

ومنها: عن أبان، عن محمد بن یونس، عن أبیه، عن أبی عبد الله علیه السلام أنه قال: یا یونس ما یقول الناس فی أبی طالب؟ قلت: جعلت فداک یقولون هو فی ضحضاح من نار، وفی رجلیه نعلان من نار تغلی منهما أم رأسه، فقال:

کذب أعداء الله، إن أبا طالب من رفقاء النبیین والصدیقین والشهداء والصالحین وحسن أولئک رفیقاً(3).

وهذه الطائفة من الروایات تدل بصراحة علی أن القول بإیمان أبی طالب له دخل فی العقیدة سلباً وإیجاباً, وعلیه من أنکر إیمان أبی طالب فقد خرج عن العقیدة الحقّة وکان مصیره النار مع الکافرین, مع أنّ هذه الروایات لیس المراد منها إثبات إیمان أبی طالب فحسب, وإنّما تفید أیضا وبوضوح مدی عظمة أبی طالب علیه السلام

ص:127


1- (1) کنز الفوائد, ابو الفتح الکراجکی, ص 80.
2- (2) أنظر: إیمان أبی طالب, الشیخ المفید, ص 4.
3- (3) أنظر: کنز الفوائد, ابو الفتح الکراجکی, ص 80.

ومکانته عند الله فلا یقل شأنا عن الرسل والأنبیاء؛ بدلیل أنّ الشک فی إیمانه یلزم منه انحراف بالعقیدة ویستحق علی ذلک النار, وهذا ما لا یتأتی إلا لنبی أو وصی لأنّ له ارتباط بالغیب وینطق عن الله, فإذا شک به أو کذّبه فقد شک وکذّب بالله فیکون مصیره الهلاک, وإلا لو أنّ شخصاً شک فی إیمان زید من الناس ولو کان مسلماً لا یلزم خروجه من العقیدة ولا یصبح کافراً ومن ثم یکون مصیره النار.

الثانی: أشعاره فی نصرة النبی وتأییده

إنّ أشعاره علیه السلام التی تدل علی مدی إیمانه ومجابهته أعداء الإسلام, هی کثیرة وربما تبلغ أکثر من مجلد, وقد ذکر عن ابن شهر آشوب المازندرانی فی کتابه متشابهات القرآن عند قوله تعالی:(وَ لَیَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ یَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ)1 : إنّ أشعار أبی طالب الدالة علی إیمانه تزید علی ثلاثة آلاف بیت یکاشف فیها من یکاشف النبی صلی الله علیه و آله و یصحح نبوته(1). ونحن هنا نقتصر علی أنموذجٍ منها کی لا نخرج بعیداً عن موضوع الکتاب والفصل, فمن تلک الأشعار ما جاء فی وصیته بالنبی صلی الله علیه و آله:

أوصی بنصر نبی الخیر أربعة ابنی علیاً وشیخ القوم عباسا

وحمزة الأسد الحامی حقیقته وجعفراً أن تذودا دونه الناسا

کونوا فداء لکم أمی وما ولدت فی نصر أحمد دون الناس أتراسا(2)

ص:128


1- (2) إیمان أبی طالب, الشیخ الأمینی, ص 18.
2- (3) الغدیر, الشیخ الأمینی, ج 7 ص 341.

ومنها:

لیعلم خیار الناس أن محمداً نبی کموسی والمسیح بن مریم

أتانا بهدی مثلما أتیا به فکل بأمر الله یهدی ویعصم(1)

ومنها:

ألم تعلموا إنا وجدنا محمداً رسولاً کموسی خط فی أول الکتب(2)

الثالث: مواقفه من الرسول ودفاعه عنه

إنّ مواقفه من رسول الله صلی الله علیه و آله وکیفیة دفاعه وذبّه عنه لا یقتصر علی ما بعد البعثة وإنما کان ذلک والنبی صلی الله علیه و آله فی غرة حیاته وبدایة صباه, فکان أبو طالب یحفه بالرعایة والحفاظ والتکریم, وهذا یعبر عن الترجمة الإیمانیة الراسخة له, إضافة إلی جهاده والدفاع عنه ما بعد البعثة, فقد ورد عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمیر المؤمنین علیاً علیه السلام یقول: «مرّ رسول الله صلی الله علیه و آله بنفر من قریش وقد نحروا جزوراً، وکانوا یسمونها الظهیرة، ویذبحونها علی النصب، فلم یسلم علیهم، فلما انتهی إلی دار الندوة قالوا: یمر بنا یتیم أبی طالب فلا یسلم علینا، فأیکم یأتیه فیفسد علیه مصلاه؟ فقال عبد الله بن الزبعری السهمی: أنا أفعل. فأخذ الفرث والدم فانتهی به إلی النبی صلی الله علیه و آله وهو ساجد، فملأ به ثیابه ومظاهره فانصرف النبی صلی الله علیه و آله حتی أتی عمه أبا طالب فقال: یا عم من أنا؟ فقال: ولم یابن أخی؟ فقص علیه القصة، فقال وأین ترکتهم؟ فقال: بالأبطح. فنادی [أبو طالب] فی قومه:

ص:129


1- (1) الإحتجاج, الطبرسی, ج 1 ص 341.
2- (2) شرح نهج البلاغة, ابن أبی الحدید, ج 14 ص 72.

یا آل عبد المطلب یا آل هاشم یا آل عبد مناف! فأقبلوا إلیه من کل مکان ملبین، فقال: کم أنتم؟ قالوا: نحن أربعون, قال: خذوا سلاحکم, فأخذوا سلاحهم، وانطلق بهم حتی انتهی إلی أولئک النفر، فلما أرادوا أن یتفرقوا قال لهم: ورب هذه البنیة لا یقومن منکم أحد إلا جللته بالسیف, ثم أتی إلی صفاة کانت بالأبطح فضربها ثلاث ضربات حتی قطعها ثلاثة أفهار، ثم قال: یا محمد سألتنی من أنت؟ ثم أنشأ یقول ویومئ بیده إلی النبی صلی الله علیه و آله: أنت النبی محمد قرم أغر مسود... إلی آخر الأبیات, ثم قال: یا محمد أیهم الفاعل بک؟ فأشار النبی صلی الله علیه و آله إلی عبد الله بن الزبعری السهمی الشاعر، فدعاه أبو طالب، فوجأ انفه حتی أدماها، ثم أمر بالرفث والدم فأمر علی رؤوس الملأ کلهم، ثم قال: یابن أخ أرضیت؟ ثم قال: سألتنی من أنت؟ أنت محمد بن عبد الله، ثم نسبه إلی آدم علیه السلام، ثم قال: أنت والله أشرفهم حسباً، وأرفعهم منصباً. یا معشر قریش من شاء منکم یتحرک فلیفعل، أنا الذی تعرفونی(1).

وجاء فی المستدرک: عن أبی العباس محمد بن یعقوب (إلی قوله) عن هشام بن عروة عن أبیه عن عائشة رضی الله عنها عن النبی صلی الله علیه و آله قال: ما زالت قریش کاعة (أی جبانة)(2) حتی توفی أبو طالب هذا حدیث صحیح علی شرط الشیخین ولم یخرجاه(3).

ص:130


1- (1) حیاة أمیر المؤمنین علیه السلام عن لسانه, محمد محمدیان, ج 1 ص 271.
2- (2) الکاعة, جمع کاع, وهو الجبان, أراد أنهم کانوا یجبنون عن النبی صلی الله علیه و آله فی حیاة أبی طالب, فلما مات اجترؤوا علیه. أنظر لسان العرب, ابن منظور, ج 8 ص 312.
3- (3) المستدرک, الحاکم النیسابوری, ج 2 ص 622. وتاریخ الإسلام, الذهبی, ج 1 ص 233. وغیرهم.

وهذا کما یظهر من کلام أبی طالب علیه السلام لیس بدافع عاطفی أو قبلی وإنّما بدافع إیمانی إلهی بما یعرفه من حال النبی صلی الله علیه و آله ومستقبله؛ لذلک عندما عرّفه عرّفه بالنبی الأکرم وأرجع نسبه إلی آدم علیه السلام, وهذه المواقف الجریئة والباسلة لیس المراد منها الدفاع عن النبی صلی الله علیه و آله فقط وإنّما المراد منها أیضا فتح الطریق وتهیئة الأجواء المناسبة کی یتسنی للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله أن یواصل طریق التبلیغ ونشر الدعوة الإسلامیة, فلابد أن یحظی بغطاء أمنی یستطیع من خلاله أن یتحرک فی أرجاء شبه الجزیرة العربیة, لاسیما فی تلک الظروف الحرجة وبدایة الدعوة الإسلامیة, وفعلاً کان أبو طالب القاعدة الکبری والحصن الأمین لانطلاق الرسالة الإلهیة.

ومن تلک المواقف: کان أبو طالب کثیراً ما یخاف علی رسول الله صلی الله علیه و آله المبیت إذا عُرف مضجعه, فکان یقیمه لیلاً من منامه ویضجع ابنه علیاً مکانه، فقال له علی لیلة: یا أبت إنی مقتول, فقال له:

أصبرن یا بنی فالصبر أحجی کل حی مصیره لشعوب

قد بذلناک والبلاء شدید لفداء الحبیب وابن الحبیب

فأجاب علی بقوله:

أتأمرنی بالصبر فی نصر أحمد ووالله ما قلت الذی قلت جازعا

ولکننی أحببت أن تر نصرتی وتعلم أنی لم أزل لک طائعا

سأسعی لوجه الله فی نصر أحمد نبی الهدی المحمود طفلا ویافعا

ص:131

قال الأمینی: إن القرابة والرحم تبعثان إلی المحاماة إلی حد محدود، لکنه إذا بلغت حد التضحیة بولد کأمیر المؤمنین هو أحب العالمین إلی والده فهناک یقف التفانی علی موقفه، فلا یستسهل الوالد أن یعرض ابنه علی القتل کل لیلة فینیمه علی فراش المفدی، ویستعوض منه ابن أخیه، إلا أن یکون مندفعا إلی ذلک بدافع دینی وهو معنی اعتناق أبی طالب بالدین الحنیف، وهو الذی تعطیه المحاورة الشعریة بین الوالد والولد فتری الولد یسارح بالنبوة فلا ینکر علیه الوالد(1).

فان من المستحیل أن تصدر أمثال هذه التضحیات التی کان أبرزها محاصرة بنی هاشم جمیعاً فی الشعب ومقاطعتهم القاسیة، من دافع غیر الإیمان العمیق بالهدف والشغف الکبیر بالمعنویة، الذی کان یتصف به أبو طالب، إذ لا یستطیع مجرد الوشائج العشائریة، وروابط القربی، أن توجد فی الإنسان مثل هذه الروح التضحویة. لذلک ابن أبی الحدید لما لاحظ تضحیات ومواقف أبی طالب إزاء النبی والإسلام غلبت علی أهوائه ومضی یقول: ولم أستجز أن أقعد عن تعظیم أبی طالب، فإنی أعلم أنه لولاه لما قامت للإسلام دعامة. واعلم أن حقه واجب علی کل مسلم فی الدنیا إلی أن تقوم الساعة، فکتبت:

ولولا أبو طالب وابنه لما مثل الدین شخصاً فقاما

فذاک بمکة آوی وحامی وهذا بیثرب جس الحماما(2)

ص:132


1- (1) الغدیر, الشیخ الأمینی, ج 7 ص 357.
2- (2) شرح نهج البلاغة, ابن أبی الحدید, ج 14 ص 83.

الرابع: وصیة أبی طالب عند وفاته بالنبی صلی الله علیه و آله

... وإنی أوصیکم بمحمد خیراً فإنه الأمین فی قریش وهو الصدیق فی العرب وهو الجامع لکل ما أوصیکم به وقد جاء بأمر قبله الجنان وأنکره اللسان مخافة الشنآن (أی البغض وهو لغة فی الشنآن) وأیم الله کأنی أنظر إلی صعالیک العرب وأهل البر فی الأطراف والمستضعفین من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا کلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قریش وصنادیدها أذناباً ودورها خراباً وضعفاؤها أرباباً وإذا أعظمهم علیه أحوجهم إلیه وأبعدهم منه أحظاهم عنده قد محضته العرب ودادها وأعطته قیادها دونکم یا معشر قریش کونوا له ولاة ولحزبه حماة والله لا یسلک أحد منکم سبیله إلا رشد ولا یأخذ أحد بهدیه إلا سعد, (ولو کان لنفسی مدة وفی أجلی تأخیر لکفیته الکوافی ولدفعت عنه الدواهی غیر أنّی أشهد شهادته وأعظم مقالته). وجاء وفی لفظ آخر (أو روایة أخری) أنّه لما حضرته الوفاة دعا بنی عبد المطلب فقال لن تزالوا بخیر ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فأطیعوه ترشدوا(1).

الخامس: قول النبی بحقه

إنّ أبا طالب لما مات جاء علی علیه السلام إلی رسول الله صلی الله علیه و آله، فآذنه بموته، فتوجع عظیماً وحزن شدیداً، ثم قال له: امض فتول غسله، فإذا رفعته علی سریره فأعلمنی، ففعل، فاعترضه رسول الله صلی الله علیه و آله وهو محمول علی رؤوس الرجال، فقال: وصلتک رحم یا عم، وجزیت خیراً فلقد ربیت وکفلت صغیراً، ونصرت

ص:133


1- (1) راجع: السیرة الحلبیة, الحلبی, ج 2 ص 49. بحار الأنوار, المجلسی, ج 35 ص 107.

وآزرت کبیراً، ثم تبعه إلی حفرته، فوقف علیه، فقال أما والله لاستغفرن لک ولأشفعن فیک شفاعة یعجب لها الثقلان(1).

هذه ملخص الأدلة فی إثبات إیمان أبی طالب علیه السلام والذی هو فی الحقیقة دفع ضریبة إیمانه ودفاعه عن النبی صلی الله علیه و آله والإسلام والإنسانیة بأن تشوه سیرته ویُفتری علیه, ویغفلوا أو یتغافلوا عن کل الشواهد الجلیة والبیانات الواضحة, کما هو الحال فی ابنه علیه السلام الذی حمل رایة الحق وتحمل أعباء الجهاد منذ نعومة أظفاره وقد کللته السماء وحفّه النبی صلی الله علیه و آله بالوصایا والبیان بالأقوال والأفعال ما لم نجد لها نظیراً, ومع ذلک عاش مظلوماً ومات مظلوماً وافْتُری علیه, وقد کشف الله تعالی عن هذه النفوس الخبیثة بقوله:(وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِینَ)2 .

أولادها

اشارة

ولدت فاطمة بنت أسد لأبی طالب علیه السلام, طالباً وعقیلاً وجعفراً وعلیاً وأم هانی (واسمها فاختة) وجمانة(2) ، وکان علیٌّ أصغر ولد أبی طالب، وکان أصغر من جعفر بعشر سنین. وکان جعفر أصغر من عقیل بعشر سنین وکان عقیل أصغر

ص:134


1- (1) شرح نهج البلاغة, ابن أبی الحدید, ج 14 ص 76
2- (3) الفاختة: ضرب من الحمام المطوق، إذا مشی توسع فی مشیه وباعد بین جناحیه وإبطیه وتمایل. والجمانة: حبة تعمل من الفضة کالدرة، وجمعها جمان. راجع: لسان العرب, ابن منظور, ج 2 ص 65. والصحاح, الجوهری, ج 5 ص 2092.

من طالب بعشر سنین(1). فکان عند أبی طالب أربعة بنین وکان طالب أسن من علیٍّ بثلاثین سنة. وبه کان یکنی أبوه. وأمهم أجمع فاطمة بنت أسد بن هاشم، أما طالب فأکرهته قریش علی الخروج إلی بدر حتی فقد فلم یعرف له خبر, کما سیأتی الکلام عنه، ولیس لطالب عقب ولکل من إخوته عقب متصل(2).

إسلام طالب ابن أبی طالب

أسلم طالب من بدایة أمره لکن کتم إیمانه, کما هو الحال فی العباس عم النبی صلی الله علیه و آله الذی أسلم قبل واقعة بدر وقبل أن یهاجر, وأوکل إلیه النبی مهمة حمایة بعض المستضعفین من المسلمین من عادیة خصومهم من المشرکین وکان بمنزلة العین لرسول الله صلی الله علیه و آله علی قریش یوافیه بأخبارهم, وقد کتب إلی رسول الله یطلب إلیه الإذن بالهجرة فأبی علیه صلی الله علیه و آله وأمره بالإقامة بمکة لحاجة فی إقامته هناک, ولم یهاجر إلا بعد فتح خیبر بعد ما أنجز مهمته فی مکة ولم یبقَ لها موضوع, وأخرجه المشرکون معهم إلی بدر کرهاً وأسر فیمن أسروا مع المشرکین, وعامله النبی صلی الله علیه و آله معاملة المشرکین تماماً لتأدیة مهمته عندما یعود إلی مکة(3). کما أخرجوا طالباً وبعض بنی هاشم کرهاً.

الأدلة علی إیمان طالب بن أبی طالب

وأمّا الأدلة علی إسلام طالب بن أبی طالب فقد ظهرت علی لسانه من خلال

ص:135


1- (1) ذخائر العقبی, أحمد بن عبد الله الطبری, ص 55
2- (2) عمدة الطالب, ابن عنبة, ص 30.
3- (3) راجع کتاب عبدالله بن عباس, السید محمد تقی الحکیم, ص 33.

أشعاره کما هو مبثوث فی کتب الفریقین وفیها تأیید صریح لحرکة النبی صلی الله علیه و آله, بالإضافة إلی الروایات الواردة فی إسلامه, لکن مع ذلک حاول المشرکون أن یدفنوا تاریخ طالب معه حینما اغتالوه ودفنوه.

أشعاره ومواقفه تجاه النبی صلی الله علیه و آله

وهذه الأشعار منها ما یدل علی معارضته لقریش فی حربهم للنبی صلی الله علیه و آله وتأییده لحرکة النبی حتی أودی هذا المیل بحیاته, ومنها ما هو صریح فی دلالتها علی إسلامه ومدی إیمانه بالنبی صلی الله علیه و آله.

أمّا الأول: هو ما جاء فی تاریخ الطبری, وأیضا فی الکافی عن أبی عبد الله علیه السلام قال: لما خرجت قریش إلی بدر وأخرجوا بنی عبد المطلب معهم خرج طالب بن أبی طالب فنزل رجازهم وهم یرتجزون ونزل طالب بن أبی طالب یرتجز ویقول:

یا رب إما یغزون بطالب فی مقنب من هذه المقانب(1)

فی مقنب المغالب المحارب بجعله المسلوب غیر السالب

فقالت قریش: إن هذا لیغلبنا فردوه(2).

وجاء فی بعض السیر هکذا:

یارب اما أخرجوا بطالب فی مقنب من هذه المقانب

ص:136


1- (1) المقنب - بالکسر - جماعة الخیل والفرسان.
2- (2) الکافی, الکلینی, ج 8 ص 375. وتاریخ الطبری, ج 2 ص 144 وغیرهم.

فاجعلهم المغلوب غیر الغالب وارددهم المسلوب غیر السالب(1)

قال صاحب الکامل فی ذکر قصته: وکان بین طالب بن أبی طالب وهو فی القوم وبین بعض قریش محاورة, فقالوا: والله لقد عرفنا أنّ هواکم مع محمد فرجع طالب فیمن رجع إلی مکة. وقیل: انه اخرج کرهاً فلم یوجد فی الأسری ولا فی القتلی ولا فیمن رجع إلی مکة وهو الذی یقول: یا رب إمّا یغزون طالب... إلی آخر الآبیات التی تقدم ذکرها.

تحصل مما نقلناه أنه لم یکن راضیاً بهذه المقاتلة وکان یرید ظفر النبی صلی الله علیه و آله، إما لأنه قد أسلم کما تدل علیه المرسلة أو لمحبة القرابة، فالذی یخطر بالبال فی توجیه ما فی الخبر أن یکون قوله (بجعله) بدل اشتمال لقوله: (بطالب) أی أمّا تجعل الرسول غالبا بمغلوبیة طالب حال کونه فی مقانب عسکر مخالفیه الذین یطلبون الغلبة علیه بأن تجعل طالباً مسلوب الثیاب والسلاح غیر سالب لأحد من عسکر النبی صلی الله علیه و آله وبجعله مغلوباً منهم غیر غالب علیهم.

وأیضاً فی کتب العامة کان المشرکون أخرجوه وسائر بنی هاشم إلی بدر کرهاً فخرج طالب وهو یقول: اللهم أما یغزون... إلی آخر الأبیات, قال فلما انهزموا، لم یوجد فی الأسری ولا فی القتلی ولا رجع إلی مکة ولا یدری ما حاله ولیس له عقب(2).

أمّا الثانی: إن له ثمة أبیات صریحة فی دلالتها علی إسلامه ومدی إیمانه

ص:137


1- (1) الوافی بالوفیات, الصفدی, ج 16 ص 222.
2- (2) طبقات ابن سعد ج 1 ص 121, والطبری ج 2 ص 144, والکامل ج 2 ص 121.

بالنبی صلی الله علیه و آله حیث یقول فی رسول الله صلی الله علیه و آله:

وقد حل مجد بنی هاشم فکان النعامة والزهرة

ومحض بنی هاشم أحمد رسول الملیک علی فترة

عظیم المکارم نور البلاد حری الفؤاد صدی الزبرة

کریم المشاهد سمح البنان إذا ضن ذو الجود والقدرة

عفیف تقی نقی الردا طهر السراویل والازرة

جواد رفیع علی المعتقین وزین الأقارب والأسرة

واشوس کاللیث لم ینهه لدی الحرب زجرة ذی الزجرة

وکم من صریع له قد ثوی طویل التأوه والزفرة(1)

الروایات الدالة علی إسلام طالب

هناک جملة من الروایات الصریحة فی دلالتها علی إسلام طالب بن أبی طالب, وما له من مکانة عظیمة عند الله, فقد جاء فی حدیث جابر الأنصاری یقول: قلت لرسول الله صلی الله علیه و آله أکثر الناس یقولون: إنّ أبا طالب مات کافراً, قال:

یا جابر ربک اعلم بالغیب انّه کما کانت اللیلة التی اسری بی فیها إلی السماء انتهیت إلی العرش فرأیت أربعة أنوار فقلت الهی ما هذه الأنوار, فقال: یا محمد هذا عبد المطلب وهذا أبو طالب وهذا أبوک عبد الله وهذا أخوک طالب, فقلت: الهی وسیدی فیم نالوا هذه الدرجة؟ قال بکتمانهم الإیمان

ص:138


1- (1) شرح الأخبار, القاضی النعمان المغربی, ج 3 ص 235.

والصبر علی ذلک حتی ماتوا(1). ففی هذا الحدیث دلالة واضحة وجلیة علی إسلام طالب بن أبی طالب, بل علی بعد إیمانه وعظم مکانته عند الله عزّ وجلّ, کما هو واضح فی صدر الحدیث وذیله المعلل, حیث نالوا هذه المرتبة وتبوؤوا هذه المکانة العالیة التی یصعب لکل أحد الارتقاء إلیها إلا أنّهم ثابروا بشدة إیمانهم وصبرهم وتحملهم.

وفی روایة أخری عن أبی عبد الله علیه السلام أنه کان أسلم(2). کما عن مستدرک سفینة البحار: إنّ طالب بن أبی طالب: أسلم، وکان مع المؤمنین یوم بدر خرج معهم یرتجز(3). ربما المراد هنا أنّه کان بقلبه وسیفه مع المسلمین ولو أنّه أُخرج کرهاً مع المشرکین.

ویؤکد ذلک أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال یوم بدر إنی لأعرف رجالاً من بنی هاشم وغیرهم قد اخرجوا کرهاً لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقی منکم أحداً فلا یقتله ومن لقی العباس بن عبد المطلب فلا یقتله إنّما خرج مستکرهاً(4).

استشهاد طالب بن أبی طالب

قد اختلف فی موت طالب فقیل إنّه لما خرج إلی بدر فُقِد ولم یعرف خبره, وقیل: رجع إلی مکة, وقیل: أقحم فرسه فغرق(5). وهذا القول غایة فی البعد

ص:139


1- (1) روضة الواعظین, الفتال النیسابوری, ص 81.
2- (2) الکافی, الکلینی, ج 8 ص 375. وراجع البحار ج 9 ص 296.
3- (3) مستدرک سفینة البحار, الشیخ علی النمازی الشاهرودی ج 6 - ص 567.
4- (4) الکافی, الکلینی, ج 8 ص 202.
5- (5) أعیان الشیعة, محسن الأمین, ج 8 ص 125.

ولم یرتضیه المجنون فرضاً عن العاقل, حیث لم یکن هناک بحرٌ فی میدان معرکة بدر, إضافة إلی انه لم یعقل إقحام الفرس البحر وإجبار فارسها علی الغرق والانتحار, فهذا ضرب من الوهم والخیال لأجل تحریف مسیرة التاریخ حتی بالأمور التی لا تعقل, وهذا یعبر عن مدی دنائة أعداء الإسلام وإهمال محاکمة العقول, فظنوا أنّ کل ما یکتب ویدون فی التاریخ تتلقاه العقول بسعة وترحیب ویؤخذ مسلّماً؛ لان الناس فی نظرهم کالمجانین أو البلداء السُذّج, کما فی المثل (حدث العاقل بما لا یعقل فان صدق فلا عقل له), والصحیح أنّ قریشاً اغتالته حین ما عرفت منه الإسلام وعرفت مصارحته بالتفاؤل بمغلوبیتهم, ویدل علی ذلک أنّه بعد معرکة بدر لم یکن مع الأسری ولا مع القتلی ولا مع الذین رجعوا إلی مکة, فلیس من البعید أن یکون قد اغتیل ودفن, ومن ثم طرحت الأکاذیب والأوهام, ولهم فی مثل هذه الأعمال نظائر لا یسمح المقام بذکرها.

نبذة عن عقیل بن أبی طالب

أما عقیل فکان احد أغصان الشجرة الطیبة وممن رضی عنهم الرسول صلی الله علیه و آله, فإن النظرة فی التاریخ واستظهار الروایات کلها تفیدنا اعتناق عقیل الإسلام أوّل الدعوة, وهذا الذی جعله سبباً للحب النبوی, حیث اجتمعت فیه شرائط الولاء من رسوخ الإیمان فی جوانحه وعمل الخیر فی جوارحه ولزوم الطاعة فی أعماله, لذلک قال فیه النبی صلی الله علیه و آله کما عن ابن عباس قال: «قال علی علیه السلام لرسول الله صلی الله علیه و آله: یا رسول الله، إنک لتحب عقیلاً؟ قال:

إی والله إنی لأحبه حبین: حبا له، وحبا لحب أبی طالب له، وإن ولده لمقتول فی محبة ولدک، فتدمع علیه عیون

ص:140

المؤمنین، وتصلی علیه الملائکة المقربون. ثم بکی رسول الله صلی الله علیه و آله حتی جرت دموعه علی صدره، ثم قال: إلی الله أشکو ما تلقی عترتی من بعدی»(1). فهذه الصفات الایجابیة التی اجتمعت فی عقیل هی التی دعت النبی صلی الله علیه و آله أن یکشف عن هذا الحب, ولیس من المعقول (لاسیما فی النبی الذی هو ما ینطق عن الهوی إن هو إلا وحی یوحی) أن یکون حبه لغایة عاطفیة أو لشیء من عرض الدنیا, فکیف صح أن النبی یحب الکافر أو الخارج عن صراط الحق, وهکذا فی حب أبی طالب لعقیل لم یکن لمحض البنوة, فانه لم یکن ولده البکر ولا کان أشجع ولده ولا هو ولده الوحید, وقد کان ولده مثل أمیر المؤمنین وجعفر أبو المساکین وهو أکبرهم سناً, فیظهر أنّ سبب حبه لعقیل جمعه من الفضائل والفواضل الإیمانیة.

عقیل ینتصر علی معاویة

اختلفت الروایات فی سفر عقیل إلی الشام هل کان علی عهد أخیه الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام أو بعد استشهاده علیه السلام, وقد استظهر ابن أبی الحدید فی أنّ سفره بعد شهادة أمیر المؤمنین علیه السلام, وجزم به العلامة السید علی خان فی (الدرجات الرفیعة)(2), وعلیه تکون وفادته کوفود غیره من الرجال المرضیین عند أهل البیت علیهم السلام إلی معاویة فی تلک الظروف القاسیة, بعد أن اضطرتهم إلیه الحاجة, وساقهم وجه الحیلة فلا یلامون ولا یحط من کرامتهم عند الملأ الدینی,

ص:141


1- (1) الأمالی, الشیخ الصدوق, ص 191.
2- (2) الدرجات الرفیعة, السید علی خان المدنی, ص 160.

فإن للتقیة إحکاماً لا یلام فیها المضطر.

أمّا لو غضضنا النظر عن ذلک وقلنا إنّ وفوده کان فی حیاة أخیه أمیر المؤمنین علیه السلام فهو أیضاً لا یحط من شأنه, بل یکون سبباً لرفعة منزلته, حیث إنّ ذهابه (کما هو الظاهر من حواراته مع معاویة) بمنزلة الصفقة السیاسیة الإعلامیة التی یحتاجها الإسلام آنذاک, فقد قاتل معاویة من ناحیة أخری غیر المیدان والسیف, بل فی الإعلام والسیاسة وهی ما تسمی الیوم بالاصطلاح الحرب الباردة والتی لا تقل أهمیة عن غیرها, وفی کل جولة یبدؤها معاویة مع عقیل لکی یکسب الرأی العام الذی تعمد جمعهم لاسیما الشخصیات والرموز کان یخسر فیها معاویة النزال ویخیب أمله ولا یصل غایته حتی انه أجبر عقیلاً إلی الرجوع, وجدیر بنا أن نذکر شیئاً من تلک الجولات علی سبیل الاختصار:

بعدما جمع معاویة وجوه الناس ممن معه وجلس وذکر لهم قدوم عقیل، وقال: ما ظنکم برجل لم یصلح لأخیه حتی فارقه وآثرنا علیه، ودعا به, فلما دخل رحب به وقربه، وأقبل علیه، ومازحه، وقال: یا أبا یزید من خیر لک أنا أو علی؟ فقال له عقیل: أنت خیر لنا من علی، وعلی خیر لنفسه منک لنفسک. فضحک معاویة (وأراد أن یستر بضحکه ما قاله عقیل عمن حضر) وسکت عنه. فجعل عقیل ینظر إلی من فی مجلس معاویة ویضحک, فقال له معاویة: ما یضحکک یا أبا یزید؟ فقال: ضحکت والله إنی کنت عند علی، والتفت إلی جلسائه فلم أرَ غیر المهاجرین، والأنصار، والبدریین، وأهل بیعة الرضوان، وأخایر أصحاب النبی صلی الله علیه و آله، وتصفحت من فی مجلسک هذا فلم أر إلا الطلقاء وبقایا الأحزاب

ص:142

أصحابک فقال له معاویة: فلماذا جئتنا؟ قال: لطلب الدنیا. فأراد أن یقطع قوله، فالتفت إلی أهل الشام، فقال: یا أهل الشام أسمعتم قول الله عز وجل: (تبت یدا أبی لهب وتب). قالوا: نعم, قال: فأبو لهب عم هذا الشیخ المتکلم (یعنی عقیل) وضحک وضحکوا. فقال لهم عقیل: فهل سمعتم قول الله عز وجل: (وامرأته حمالة الحطب). هی عمة أمیرکم معاویة، هی ابنة حرب بن أمیة زوجة عمی أبی لهب وهما جمیعاً فی النار، فانظروا أیهما أفضل الراکب أم المرکوب؟ فلما نظر معاویة إلی جوابه قال: إن کنت إنما جئتنا یا أبا یزید للدنیا فقد أنلناک منها ما قسم لک ونحن نزیدک، والحق بأخیک، فحسبنا ما لقینا منک. فقال عقیل: والله لقد ترکت معه الدین، وأقبلت إلی دنیاک، فما أصبت من دینه، ولا نلت من دنیاک عوضاً منه، وما کثیر إعطائک إیای، وقلیله عندی إلا سواء، وإن کل ذلک عندی لقلیل فی جنب ما ترکت من علی. وانصرف إلی علی علیه السلام(1).

نبذة عن جعفر بن أبی طالب

أمّا جعفر بن أبی طالب فحسبه من العظمة أنّه من أوائل المسلمین وأسلم بعد علی مباشرة, وکان الجناح الآخر للنبی صلی الله علیه و آله کما جاء فی کتب السیر والتاریخ أنّ أبا طالب رأی النبی صلی الله علیه و آله وعلیاً یصلیان وعلی علی یمینه فقال لجعفر رضی الله تعالی عنه صل جناح ابن عمک, فصلی عن یساره وکان إسلام جعفر بعد إسلام أخیه علی بقلیل(2). هذا بالإضافة إلی شهادة الرسول الأکرم له بأنه یشبهه خَلْقاً

ص:143


1- (1) راجع: شرح الأخبار, القاضی النعمان المغربی, ج 2 ص 100.
2- (2) السیرة الحلبیة, الحلبی, ج 1 ص 433.

وخُلُقاً حیث قال له (أشبهت خَلقی وخُلقی)(1) وقد وصف الله تعالی النبی صلی الله علیه و آله فی کتابه المجید بالخلق العظیم, لا شک فی شمول جعفر بهذا النحو من الخلق. وله فضائل عدیدة فی الإسلام من جملتها الهجرة للحبشة علی رأس مجموعة من المسلمین فی أوائل البعثة, والجهاد فی سبیل الله حتی نال وسام الطیار, حیث جعل الله له جناحین یطیر بهما مع الملائکة یوم القیامة بعد ما قطعت یداه فی المعرکة. کما ورد عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی حدیث طویل إلی أن یقول:

(... ألا وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبی طالب له جناحان خضیبان یطیر بهما فی الجنة)(2).

أبو طالب یبشر زوجته بالوصی

تقدم أنّ إیمان أبی طالب وراثی وفطری, وأنه علی علم ومعرفه فی الکتب المنزلة والأنبیاء المرسلة وعلی إطلاع أیضاً فی الرسالة والنبوة الخاتمة وما تشمله من أوصیاء ووزراء, کما یتضح من بعض الروایات الواردة فی هذا الشأن, منها: ما ورد عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: لما ولد رسول الله صلی علیه وآله فتح لآمنة بیاض فارس وقصور الشام، فجاءت فاطمة بنت أسد أُم أمیر المؤمنین إلی أبی طالب ضاحکة مستبشرة، فأعلمته ما قالت آمنة، فقال لها أبو طالب: وتتعجبین من هذا إنک تحبلین وتلدین بوصیه ووزیره(3).

ص:144


1- (1) أنظر: مسند أحمد بن حنبل, ج 1 ص 108. وصحیح البخاری, ج 3 ص 168.
2- (2) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 1 ص 450.
3- (3) المصدر نفسه, ص 453.

وعن محمد بن عبد الله بن مسکان، عن أبیه قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: إن فاطمة بنت أسد جاءت إلی أبی طالب لتبشره بمولد النبی صلی الله علیه و آله فقال أبو طالب: اصبری سبتاً أبشرک بمثله إلا النبوة، وقال: السبت ثلاثون سنة وکان بین رسول الله صلی الله علیه و آله وأمیر المؤمنین علیه السلام ثلاثون سنة(1).

فاطمة بنت أسد وعاء نور الوصی

لیس من السهل أن تحظی کل امرأة فی أن تکون وعاءً لسید الأوصیاء, إلا أن تکون ذات خصائص تؤهلها لذلک وفاطمة بنت أسد هی تلک المرأة التی خصها الله واصطفاها وأکرمها بمزایا فائقة ومن جملة تلک المزایا التی حازت علیها وأصبحت وعاءً وحجراً لسید الأوصیاء. فقد ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاری قال: سألت رسول الله صلی الله علیه و آله عن میلاد أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام فقال: آه آه لقد سألتنی عن خیر مولود ولد بعدی علی سنة المسیح علیه السلام إن الله تبارک وتعالی خلقنی وعلیاً من نور واحد، قبل أن یخلق الخلق بخمسمائة ألف عام فکنا نسبح الله ونقدسه، فلما خلق الله تعالی آدم قذف بنا فی صلبه واستقررت أنا فی جنبه الأیمن، وعلی فی الأیسر ثم نقلنا من صلبه فی الأصلاب الطاهرات إلی الأرحام الطیبة، فلم نزل کذلک حتی أطلعنی الله تعالی من ظهر طاهر وهو عبد الله بن عبد المطلب فاستودعنی خیر رحم وهی آمنة، ثم أطلع الله تبارک وتعالی علیاً من ظهر طاهر وهو أبو طالب واستودعه خیر رحم، وهی فاطمة بنت أسد, ثم قال: یا جابر ومن قبل أن یقع علی فی بطن أمه کان فی زمانه رجل عابد راهب یقال له المثرم بن رعیب بن

ص:145


1- (1) معانی الأخبار, الشیخ الصدوق, ص 403. والکافی, الکلینی, ج 1 ص 453.

الشیقنام وکان مذکورا فی العبادة قد عبد الله مائة وتسعین سنة، ولم یسأل حاجة فسأل ربه أن یریه ولیاً له، فبعث الله تبارک وتعالی بأبی طالب إلیه فلما أن بصر به المثرم، قام إلیه فقبل رأسه وأجلسه بین یدیه، فقال: من أنت یرحمک الله؟ قال: رجل من تهامة، فقال من أی تهامة؟ قال من مکة، قال ممن؟ قال: من عبد مناف قال من أی عبد مناف؟ قال من بنی هاشم فوثب إلیه الراهب فقبل رأسه ثانیاً، وقال الحمد لله الذی أعطانی مسألتی، فلم یمتنی حتی أرانی ولیه، ثم قال له: أبشر یا هذا فإن العلی الأعلی قد ألهمنی إلهاماً فیه بشارتک، قال أبو طالب وما هو؟ قال: ولد یخرج من صلبک هو ولی الله تبارک وتعالی وهو إمام المتقین ووصی رسول الله، فان أدرکت ذلک الولد فأقرأه منی السلام وقل له: إنّ المثرم یقرؤک السلام، وهو یشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریک له، وأن محمداً عبده ورسوله وانک وصیه حقاً، بمحمد تتم النبوة وبک تتم الوصیة، قال: فبکی أبو طالب، وقال له: ما اسم هذا المولود؟ قال اسمه علی، فقال أبو طالب إنی لا أعلم حقیقة ما تقول إلا ببرهان بین ودلالة واضحة قال المثرم: فما ترید أن اسأل الله لک أن یعطیک فی مکانک ما یکون دلالة لک قال أبو طالب: أرید طعاماً من الجنة فی وقتی هذا فدعا الراهب بذلک فما استتم دعاؤه حتی اتی بطبق علیه من فواکه الجنة رطبة وعنبة ورمان، فتناول أبو طالب منه رمانة ونهض فرحاً من ساعته، حتی رجع إلی منزله فأکلها فتحولت ماءً فی صلبه، فجامع فاطمة بنت أسد، فحملت بعلی وارتجت الأرض وزلزلت بهم أیاماً حتی لقیت قریش من ذلک شدة وفزعوا... الخ(1).

ص:146


1- (1) روضة الواعظین, الفتال النیسابوری, ص 77.

وفی حدیث آخر عن أنس بن مالک عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: إن الله عز وجل خلقنی وعلیاً وفاطمة والحسن والحسین قبل أن یخلق الدنیا بسبعة آلاف عام قلت: وأین کنتم یا رسول الله؟ قال: قدام العرش، نسبح الله عز وجل ونقدسه ونمجده, قال: قلت: علی أی مثال؟ قال: أشباح نور حتی [إذا] أراد الله تعالی أن یخلق صورنا، صیرنا عمود نور. ثم قذفنا فی صلب آدم، ثم أخرجنا إلی أصلاب الآباء وأرحام الاُمَّهات لا یصیبنا نجس الشرک ولا سفاح الکفر، یسعد بنا قوم ویشقی بنا آخرون. فلما صیرنا إلی صلب عبد المطلب، أخرج ذلک النور فشقه نصفین، فجعل نصفه فی صلب عبد الله ونصفه فی صلب أبی طالب. ثم أخرج النصف الذی لی إلی آمنة، والنصف الآخر إلی فاطمة بنت أسد فأخرجتنی آمنة، وأخرجت فاطمة علیاً. ثم أعاد الله عز وجل العمود إلی فخرجت منی فاطمة. ثم أعاد عز وجل العمود إلی [علی] فخرج الحسن والحسین، فما کان من نور علی صار فی الحسن، وما کان من نوری صار فی ولدی الحسین، فهو ینتقل فی الأئمة من ولده إلی یوم القیامة(1).

وفی خبر طویل: إن فاطمة بنت أسد رأت النبی صلی الله علیه و آله یأکل تمراً له رائحة تزداد علی کل الأطایب من المسک والعنبر من نخلة لا شماریخ لها فقالت: ناولنی أنل منها، قال علیه السلام: لا تصلح إلا أن تشهدی معی أن لا إله إلا الله وانی محمداً رسول الله فشهدت الشهادتین فناولها فأکلت فازدادت رغبتها وطلبت أخری لأبی طالب فعاهدها أن لا تعطیه إلا بعد الشهادتین فلما جن علیها اللیل اشتم أبو طالب

ص:147


1- (1) نوادر المعجزات, محمد بن جریر الطبری (الشیعی) - ص 80.

نسماً ما اشتم مثله قط فأظهرت ما معها فالتمسه منها فأبت علیه إلا أن یشهد الشهادتین فلم یملک نفسه أن شهد الشهادتین غیر أنه سألها أن تکتم علیه لئلا تعیره قریش فعاهدته علی ذلک فأعطته ما معها وآوی إلی زوجته فعلقت بعلی فی تلک اللیلة ولما حملت بعلی ازداد حسنها فکان یتکلم فی بطنها فکانت فی الکعبة فتکلم علی مع جعفر فغشی علیه فألقیت الأصنام خرت علی وجوهها فمسحت علی بطنها وقالت: یا قرة العین سجدتک الأصنام داخلاً فکیف شأنک خارجاً، وذکرت لأبی طالب ذلک(1).

الکعبة تستقبل فاطمة بنت أسد

صحیح أنّ المولود (علی بن أبی طالب) له مکانة عظیمة عند الله, وشاءت حکمته تعالی أن یدخل هذا المولود الطاهر الدنیا من بیته تعالی ویکون معجزة خالدة, کما أنه خرج من الدنیا من بیت الله أی مسجد الکوفة, لکن فی نفس الوقت یدل علی عظمة السیدة فاطمة بنت أسد علیهاالسلام. بما أنها وعاء لخیر البشریة بعد النبی صلی الله علیه و آله وبما حظیت من صفات فریدة من نوعها, فقد ورد عن سعید بن جبیر، قال: قال یزید بن قعنب: کنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب وفریق من عبد العزی بإزاء بیت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمیر المؤمنین علیه السلام، وکانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت: ربِّ إنی مؤمنة بک وبما جاء من عندک من رسل وکتب، وإنی مصدقة بکلام جدی إبراهیم الخلیل علیه السلام، وإنه بنی البیت العتیق، فبحق الذی بنی هذا البیت، وبحق المولود الذی فی بطنی

ص:148


1- (1) مناقب آل أبی طالب, ابن شهر آشوب, ج 2 - ص 20

لما یسرت علی ولادتی. قال یزید بن قعنب: فرأینا البیت وقد انفتح عن ظهره، ودخلت فاطمة فیه، وغابت عن أبصارنا، والتزق الحائط، فرمنا أن ینفتح لنا قفل الباب فلم ینفتح، فعلمنا أنّ ذلک أمر من أمر الله عز وجل ثم خرجت بعد الرابع وبیدها أمیر المؤمنین علیه السلام، ثم قالت: إنی فضلت علی من تقدمنی من النساء، لأنَّ آسیة بنت مزاحم عبدت الله عز وجل سراً فی موضع لا یحب أن یعبد الله فیه إلا اضطراراً، وإن مریم بنت عمران هزت النخلة الیابسة بیدها حتی أکلت منها رطباً جنیاً، وإنی دخلت بیت الله الحرام فأکلت من ثمار الجنة وأرزاقها، فلما أردت أن أخرج هتف بی هاتف: یا فاطمة، سمیه علیاً، فهو علی، والله العلی الأعلی یقول: إنی شققت اسمه من اسمی، وأدبته بأدبی، ووقفته علی غامض علمی، وهو الذی یکسر الأصنام فی بیتی، وهو الذی یؤذن فوق ظهر بیتی، ویقدسنی ویمجدنی، فطوبی لمن أحبه وأطاعه، وویل لمن أبغضه وعصاه(1).

وعن الأمینی فی غدیره قال: وقد انشق جدار البیت لأمه فاطمة بنت أسد فدخلته ثم التأمت الفتحة، فلم تزل فی البیت العتیق حتی ولدت مشرف البیت بذلک الهبوط المیمون، وأکلت من ثمار الجنة، ولم ینفلق صدف الکعبة عن دره الدری إلا وأضاء الکون بنور محیاه الأبلج، وفاح فی الأجواء شذی عنصره الأقدس، وهذه حقیقة ناصعة أصفق علی إثباتها الفریقان، وتضافرت بها الأحادیث، وطفحت بها الکتب، فلا نعبأ بجلبة رماة القول علی عواهنه بعد نص

ص:149


1- (1) الأمالی, الشیخ الصدوق, ص 194. وقد ورد فی أکثر من (77) کتاباً ولادتها فی الکعبة المکرمة, کما عدهم علی محمد دخیل, فی کتابه فاطمة بنت أسد, ص 19.

جمع من أعلام الفریقین علی تواتر حدیث هذه الأثارة(1).

وقال الحاکم فی المستدرک وقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب کرم الله وجهه فی جوف الکعبة(2).

وروی عن عمارة بنت عبادة بن نضلة بن مالک بن العجلان الساعدی, أنها کانت ذات یوم فی نساء من العرب إذ أقبل أبو طالب کئیباً حزیناً، فقلت له: ما شأنک یا أبا طالب؟ قال: إن فاطمة بنت أسد فی شدة المخاض. ثم وضع یدیه علی وجهه فبینا هو کذلک، إذ أقبل محمد صلی الله علیه و آله فقال له ما شأنک یا عم؟ فقال: إن فاطمة بنت أسد تشتکی المخاض، فأخذ بیده وجاء وهی معه فجاء بها إلی الکعبة فأجلسها فی الکعبة، ثم قال: أجلسی علی اسم الله. قالت: فطلقت طلقة فولدت غلاماً مسروراً نظیفاً منظفاً لم أرَ کحسن وجهه، فسماه أبو طالب (علیاً) وحمله النبی صلی الله علیه و آله حتی أداه إلی منزلها(3).

وقد نظمت هذه الحادثة والمکرمة العظیمة بقوالب شعریة جمیلة لا بأس بذکرها:

أما سمعت خبر ابن قعنب ینطق من مقصودنا بالعجب

وانه محقق مشهور یثبته المدقق النحریر

قال جلست مع أناس شتی فی المسجد الحرام یوما حتی

مرت بنا فاطمة بنت أسد حاملة بالمرتضی ذاک الأسد

ص:150


1- (1) الغدیر, الشیخ الأمینی, ج 6 ص 21.
2- (2) المستدرک, للحاکم النیسابوری, ج 3 ص 483.
3- (3) الطرائف فی معرفة مذاهب الطوائف, السید ابن طاووس, ص 17.

فجاءها الطلق فطافت سبعا ثم دعت أکرم رب یدعا

قالت إلهی إننی آمنت بک حقا وصدقت جمیع کتبک

وما علی الخلیل جدی أنزلا وما به کل رسول أرسلا

ثم دعت خالقها بما سنح فسهل الله العسیر وانفتح

باب لها تجاه باب الکعبة وذاک مستجار أهل الرهبة

ودخلت فیه فعاد مثل ما کان وما زال مشیدا محکما

هذا وقفل الباب لم یفتح لنا من بعد جهد وعلاج واعتنا

فقلت إن ذاک أمر الله فلم أکن عن ذکره باللاهی

فمکثت ثلاثة أیاما وخرجت فأعلنت کلاما

إنی فضلت علی النساء دخلت بیت رافع السماء

ثم أکلت من ثمار الجنة ورزقها فهو علی جنه

فعندما وضعته ورمت أن أخرج نادی هاتف بی بالعلن

سمی الذی وضعته علیا فلن یزال قدره علیا(1)

فاطمة وبعلها یسألان الله فی تسمیة علی علیه السلام

لما ولدت فاطمة بنت أسد علیاً علیه السلام قال لها أبو طالب هلّمِ حتی نعلو أبا قبیس لیلاً وندعو خالق الخضراء فلعله أن ینبئنا فی اسمه, (وربما تأکید بما أنبئت به فاطمة بنت أسد) فلما أمسیا خرجا وصعدا أبا قبیس، ودعیا الله تعالی, فأنشأ یقول أبو طالب:

ص:151


1- (1) أمل الأمل, الحر العاملی, ج 1 ص 40.

یا رب هذا الغسق الدجی والفلق المبتلج المضی

بین لنا عن أمرک المقضی بما نسمی ذلک الصبی

فإذا خشخشة من السماء، فرفع أبو طالب طرفه، فإذا لوح مثل الزبرجد الأخضر فیه أربعة أسطر فأخذه بکلتا یدیه وضمه إلی صدره ضماً شدیداً فإذا مکتوب (فیه).

خصصتما بالولد الزکی والطاهر المنتجب الرضی

واسمه من قاهر علی علی اشتق من العلی

فسُرّ أبو طالب سروراً عظیماً، وخر ساجداً لله تبارک وتعالی وعق بعشرة من الإبل، وکان اللوح معلقاً فی بیت الله الحرام یفتخر به بنو هاشم علی قریش حتی غاب زمان قتال الحجاج بن الزبیر(1).

وقد نقل الأبیات الکنجی الشافعی محمد بن یوسف بن محمد فی کتابه کفایة الطالب، وفیها اختلاف فی بعض الکلمات وهذا نص ألفاظه:

یا رب هذا الغسق الدجی والقمر المنبلج المضی

بین لنا من أمرک الخفی ماذا تری فی اسم ذا الصبی

قال فسمع صوت هاتف یقول:

یا أهل بیت المصطفی النبی خصصتم بالولد الزکی

إن اسمه من شامخ علی علی اشتق من العلی(2)

ص:152


1- (1) ینابیع المودة, القندوزی, ج 2 ص 306.
2- (2) نقلا عن کتاب إیمان أبی طالب, الشیخ الأمینی, ص 25.

وفاتها ومحل دفنها

توفیت فاطمة بنت أسد فی السنة الرابعة للهجرة(1), وقالوا أنّها توفیت بعد زواج ابنها علی علیه السلام بفاطمة الزهراء علیهاالسلام, وفی کل الأحوال یظهر من التأریخ أنّها توفیت بعد میلاد الحسن علیه السلام, ومع ذلک لم نسمع بذکرها فی زفاف وزواج ابنها أمیر المؤمنین علیه السلام بفاطمة ولا حتی فی میلاد حفیدها الإمام الحسن علیه السلام, نعم نجد بدلاً عنها أسماء بنت عمیس, وهی فی الحقیقة غیر ثابتة, بل هی إمّا أختها سلمی بنت عمیس, أو أسماء بنت یزید بن سکن الأنصاریة؛ لأنّ أسماء کانت حینذاک فی الحبشة مع زوجها جعفر. وقد دفنت فاطمة بنت أسد علیهاالسلام فی المدینة المنورة بالبقیع مع الأئمة الأربعة وهم الإمام الحسن بن علی بن أبی طالب, والإمام علی بن الحسین زین العابدین, والإمام محمد الباقر, والإمام جعفر الصادق علیهم السلام. وقد ذکر الفقهاء أنّه یستحب زیارة قبرها,(2) حیث ذکر المحدثون أن لها زیارة خاصة کما سنذکرها فیما بعد. والبقیع: مقبرة فی الجهة الشرقیة للمسجد النبوی الشریف فی المدینة المنورة، وتقع فیه مراقد بعض أئمة أهل البیت علیهم السلام فی جهة الجنوب مع میل للشرق وهم (الحسن بن علی, وعلی زین العابدین, ومحمد الباقر, وجعفر الصادق، علیهم السلام) ومع قبورهم قبر العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلی الله علیه و آله(3). وقیل دفنت فاطمة بنت أسد بن هاشم بالروحاء مقابل حمام أبی قطیعة(4).

ص:153


1- (1) راجع: مستدرک سفینة البحار, الشیخ علی النمازی, ج 8 ص 256.
2- (2) راجع: مناسک الحج, السید الکلبایکانی, ص 225.
3- (3) معجم ألفاظ, الفقه الجعفری, ص 88.
4- (4) علل الشرائع, الشیخ الصدوق, ج 2 ص 469.

النبی یصلی علی فاطمة بنت أسد

وهذه المزیة الأخری قد نالتها فاطمة بنت أسد وکان لها وسام شرف خلد فی صفحات التاریخ وهی أن یهتم النبی الأکرم بتجهیزها والصلاة علیها, فقد ورد عن ابن عباس أن النبی صلی الله علیه و آله صلی علی فاطمة بنت أسد أم أمیر المؤمنین علیه السلام صلاة لم یصل علی أحد قبلها مثل تلک الصلاة، ثم کَبَّرَ علیها أربعین تکبیرة، فقال له عمار: لِمَ کبرت علیها أربعین تکبیرة یا رسول الله؟ قال: نعم یا عمار، التفت إلی یمینی فنظرت إلی أربعین صفاً من الملائکة فکبرت لکل صف تکبیرة(1).

النبی یدفن فاطمة بنت أسد

من الدلالات الساطعة علی مکانة فاطمة بنت أسد عند الله وعند رسوله هی ما رواه المؤرخون وأصحاب السیر عند الفریقین وبطرق کثیرة وألسن مختلفة, أن النبی صلی الله علیه و آله قام بتجهیزها وأجری علیها بعض الأمور ما لم یکن قد صنعها بأحد, کما ورد عن أبی عبدالله علیه السلام قال لما ماتت فاطمة بنت أسد أم أمیر المؤمنین جاء علی علیه السلام عند النبی فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله یا أبا الحسن مالک, قال: أمّی ماتت, قال فقال النبی صلی الله علیه و آله وأمّی والله, ثم بکی وقال وا أمّاه ثم قال لعلی علیه السلام هذا قمیصی فکفنها فیه وهذا ردائی فکفنها فیه فإذا فرغتم فأذنونی فلما أخرجت صلی علیها النبی صلی الله علیه و آله صلاة لم یصل قبلها ولا بعدها علی أحد مثلها, ثم نزل علی قبرها

ص:154


1- (1) وسائل الشیعة (آل البیت), الحر العاملی, ج 3 ص 82.

فاضطجع فیه, ثم قال لها یا فاطمة قالت لبیک یا رسول الله فقال فهل وجدت ما وعد ربک حقا قالت نعم فجزاک الله جزاء وطالت مناجاته فی القبر فلما خرج قیل یا رسول الله لقد صنعت بها شیئاً فی تکفینک ثیابک ودخولک فی قبرها وطول مناجاتک وطول صلواتک ما رأیتک صنعته بأحد قبلها قال أما تکفینی إیاها فإنّی لما قلت لها یعرض الناس یوم یحشرون من قبورهم فصاحت فقالت وآسوأتاه فلبستها ثیابی وسألت الله فی صلواتی علیها ان لا یبلی أکفانها حتی تدخل الجنة فأجابنی إلی ذلک واما دخولی فی قبرها فإنی قلت لها یوماً ان المیت إذا دخل قبره وانصرف الناس عنه دخل علیه ملکان منکر ونکیر فیسألانه فقالت وآغوثاه بالله فما زلت اسأل ربی فی قبرها حتی فتح لها روضة من قبرها إلی الجنة وروضة من ریاض الجنة(1).

وعن الکافی یقول: فبینما هو ذات یوم قاعد (أی رسول الله) إذ أتاه أمیر المؤمنین علیه السلام وهو یبکی فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله: ما یبکیک؟

فقال: ماتت أمی فاطمة، فقال رسول الله: وأمی والله وقام مسرعاً حتی دخل فنظر إلیها وبکی، ثم أمر النساء أن یغسلنها وقال صلی الله علیه و آله: إذا فرغتن فلا تحدثن شیئاً حتی تعلمننی، فلما فرغن أعلمنه بذلک، فأعطاهن أحد قمیصیه الذی یلی جسده وأمرهن أن یکفنها فیه وقال للمسلمین: إذا رأیتمونی قد فعلت شیئاً لم أفعله قبل ذلک فسلونی لم فعلته، فلما فرغن من غسلها وکفنها دخل صلی الله علیه و آله فحمل جنازتها علی عاتقه، فلم یزل تحت جنازتها حتی أوردها قبرها، ثم وضعها ودخل القبر

ص:155


1- (1) بصائر الدرجات, محمد بن الحسن الصفار, ص 307.

فاضطجع فیه، ثم قام فأخذها علی یدیه حتی وضعها فی القبر ثم انکب علیها طویلاً یناجیها ویقول لها: ابنک، ابنک [ابنک] ثم خرج وسوی علیها، ثم انکب علی قبرها فسمعوه یقول: لا إله إلا الله، اللهم إنی أستودعها إیاک ثم انصرف، فقال له المسلمون: إنا رأیناک فعلت أشیاء لم تفعلها قبل الیوم فقال: الیوم فقدت بر أبی طالب، إن کانت لیکون عندها الشیء فتؤثرنی به علی نفسها وولدها وإنی ذکرت القیامة وأن الناس یحشرون عراة، فقالت: وآسوأتاه، فضمنت لها أن یبعثها الله کاسیة وذکرت ضغطة القبر فقالت وآضعفاه، فضمنت لها أن یکفیها الله ذلک، فکفنتها بقمیصی واضطجعت فی قبرها لذلک، وانکببت علیها فلقنتها ما تسأل عنه، فإنها سئلت عن ربها فقالت وسئلت عن رسولها فأجابت وسئلت عن ولیها وإمامها فارتج علیها، فقلت: ابنک، ابنک(1).

وعن مستدرک الوسائل: أنه لما أهیل علیها التراب، وأراد الناس الانصراف، جعل رسول الله صلی الله علیه و آله.

یقول لها: «ابنک ابنک لا جعفر ولا عقیل، ابنک ابنک علی بن أبی طالب علیه السلام»،... إلی أن قال صلی الله علیه و آله: وأمّا قولی لها ابنک ابنک لا جعفر ولا عقیل، فإنها لما نزل علیها الملکان وسألاها عن ربها فقالت: الله ربی، وقالا: من نبیک؟ قالت: محمد نبیی فقالا: من ولیک وإمامک؟ فاستحیت أن تقول ولدی، فقلت لها: قولی: ابنک علی بن أبی طالب علیه السلام: فأقر الله بذلک عینها(2).

ص:156


1- (1) الکافی, الکلینی, ج 1 ص 453.
2- (2) مستدرک الوسائل, المیرزا النوری, ج 2 - ص 342.

زیارة خاصة لفاطمة بنت أسد

بلا شک أن صاحب المکانة السامیة والمنزلة الرفیعة عند الله هو الذی یحظی بالتکریم والترحیب ویبقی ذکره خالداً فی الدنیا والآخرة, فهذه الزیارة شاهد آخر یدل علی عظمة أُم أمیر المؤمنین ومربیة خاتم النبیین. فعندما تقف علی قبرها تقول:

السلام علی نبی الله، السلام علی رسول الله، السلام علی محمد سید المرسلین، السلام علی سید الأولین، السلام علی سید الآخرین، السلام علی من بعثه الله رحمة للعالمین، السلام علیک أیها النبی ورحمة الله وبرکاته. السلام علی فاطمة بنت أسد الهاشمیة، السلام علیک أیتها الصدیقة المرضیة، السلام علیک أیتها التقیة النقیة، السلام علیک أیتها الکریمة الرضیة، السلام علیک یا کافلة محمد خاتم النبیین. السلام علیک یا من ظهرت شفقتها علی رسول الله خاتم النبیین، السلام علیک یا من تربیتها لولی الله الأمین، السلام علیک وعلی روحک وبدنک الطاهر، السلام علیک وعلی ولدک ورحمة الله وبرکاته. اشهد انک أحسنت الکفالة وأدیت الأمانة، واجتهدت فی مرضاة الله، وبالغت فی حفظ رسول الله، عارفة بنبوته، مستبصرة بنعمته، کافلة بتربیته، مشفقة علی نفسه، واقفة علی خدمته، مختارة رضاه، مؤثرة رضاه. واشهد انک مضیت علی الإیمان والتمسک بأشرف الأدیان، راضیة مرضیة، طاهرة زکیة، تقیة نقیة، فرضی الله عنک وأرضاک، وجعل الجنة منزلک ومأواک. اللهم صل علی محمد وآل محمد وانفعنی بزیارتها، وثبتنی علی محبتها، ولا تحرمنی شفاعتها وشفاعة الأئمة من ذریتها، وارزقنی مرافقتها،

ص:157

واحشرنی معها ومع أولادها الطاهرین. اللهم لا تجعله آخر العهد من زیارتی إیاها، وارزقنی العود إلیها أبداً ما أبقیتنی، وإذا توفیتنی فاحشرنی فی زمرتها، وأدخلنی فی شفاعتها، برحمتک یا ارحم الراحمین. اللهم بحقها عندک ومنزلتها لدیک اغفر لی ولوالدی ولجمیع المؤمنین والمؤمنات، وآتنا فی الدنیا حسنة وفی الآخرة حسنة وقنا برحمتک عذاب النار. ثم تصلی رکعتین للزیارة قربة إلی الله تعالی(1).

ص:158


1- (1) بحار الأنوار, المجلسی, ج 97 ص 219.

الفصل الثالث: خدیجة بنت خویلد أم السیدة فاطمة علیهما السلام

اشارة

ص:159

ص:160

النسب الطاهر

هی السیدة خدیجة بنت خویلد بن أسد بن عبد العزی بن قصی بن کلاب بن مرة بن کعب بن لؤی بن غالب بن فهر بن مالک بن النضر. وفی قصی یجتمع نسبها مع نسب النبی صلی الله علیه و آله.

وأمها: فاطمة بنت زید بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معیص بن عامر بن لؤی بن غالب بن فهر(1).

فهی (خدیجة) تلتقی بالرسول صلی الله علیه و آله بالجد الرابع لها (قصی بن کلاب) الذی هو الجد الخامس للنبی صلی الله علیه و آله, وتلتقی به أیضاً بالجد الثامن لها من ناحیة أمها (الذی هو لؤی بن غالب).

ومن هذا النسب الزاهر الشامخ الطاهر ذکر الرواة فی أنّها ولدت فی بیت مجد وسؤدد, وکانت خدیجة بنت خویلد تسمّی الطاهرة فی الجاهلیة والإسلام. وقال البعض إنها کانت تسمّی سیدة نساء قریش(2).

ص:161


1- (1) الذریة الطاهرة النبویة, محمد بن أحمد الدولابی, ص 44. سیرة ابن هشام ج 1 ص 214.
2- (2) أنظر: السیرة النبویة, ابن هشام, ج 1 ص 212.

نعم لم تحدد لنا الروایات السنة التی ولدت فیها السیدة خدیجة علیهاالسلام, بل تعرضت لعمرها عند زواجها من رسول الله صلی الله علیه و آله, وهذا سیأتی بیانه مفصلاً إن شاء الله تعالی.

واما إخوانها فأکبرهم عدی بن خویلد, والعوام بن خویلد, قد تزوج من صفیة بنت عبد المطلب فولدت له الزبیر والسائب وأم حبیب وعبد الکعبة الذی سماه الرسول صلی الله علیه و آله عبد الرحمن(1). وأیضاً من إخوانها حزام بن خویلد, وقد تزوج فاحتة بنت زهیر بن الحارث بن أسد فأنجبت له حکیماً وخالداً وهشاماً. قتل هو وأخوه العوام فی حرب الفجار(2).

ومن إخوانها أیضاً نوفل بن خویلد, کان له ولدٌ یسمی الأسود ابن نوفل مع المسلمین الذین هاجروا إلی الحبشة, بخلاف أبیه فقد روی أنّه کان مشرکاً وکان شجاعاً ویسمی أسد قریش وکان شدید العداء للإسلام, وقد قُتل بسیف علی بن أبی طالب علیه السلام فی معرکة بدر, کما جاء فی الإرشاد بسنده عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهری قال: لما عرف رسول الله صلی الله علیه و آله حضور نوفل بن خویلد بدراً قال: (اللهم اکفنی نوفلاً) فلما انکشفت قریش رآه علی بن أبی طالب علیه السلام وقد تحیر لا یدری ما یصنع، فصمد له ثم ضربه بالسیف فنشب فی حجفته (أی

ص:162


1- (1) الوافی بالوفیات, الصفدی, ج 18 ص 95.
2- (2) سُمّی الفجار لأنهم فجروا فی شهر حرام, حیث اقتتلوا فی رجب، وکان عندهم من الأشهر الحرم الذی لا تسفک فیه الدماء, راجع: موسوعة التاریخ الإسلامی, محمد هادی الیوسفی, ج 1 ص 304. وقیل: استحلت کنانة وقیس عیلان فی الحرب من المحارم بینهم, فسمیّ حرب الفجار, راجع: تاریح الإسلام, الذهبی, ج 1 ص 61.

الترس) فانتزعه منها، ثم ضرب به ساقه (وکانت درعه مشمرة) فقطعها، ثم أجهز علیه فقتله. فلما عاد إلی النبی صلی الله علیه و آله سمعه یقول: من له علم بنوفل؟ فقال له: أنا قتلته یا رسول الله, فکبر النبی صلی الله علیه و آله وقال: الحمد لله الذی أجاب دعوتی فیه(1). ولها أیضا أخت تسمی هالة بنت خویلد زوجة أبی هند التمیمی.

الأسرة الکریمة

کانت خدیجة بنت خویلد من أسرة أصیلة، لها مکانة وشرف فی قریش، عرفت بالعلم والمعرفة، والتضحیة والفداء، وحمایة الکعبة, وحینما جاء تُبّع (ملک الیمن) لیأخذ الحجر الأسود من المسجد الحرام إلی الیمن، هبت قریش ومنهم خویلد لحمایته ومنعه عن ذلک وکان أسد بن عبد العزی (جد خدیجة) من المبرزین فی حلف الفضول الذی تداعت له قبائل من قریش، فتعاقدوا وتعاهدوا علی أن لا یجدوا بمکة مظلوماً من أهلها أو غیرهم ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه وکانوا علی من ظلمه حتی ترد مظلمته قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«لقد شهدت فی دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لی به حمر النعم، ولو أدعی به فی الإسلام لأجبت» وقد سماهم ابن إسحاق بن یسار قال: بنو هاشم بن عبد مناف, وبنو المطلب بن عبد مناف, وبنو أسد ابن عبد العزی بن قصی, وبنو زهرة بن کلاب, وبنو تیم بن مرة, فتحالفوا فی دار عبد الله بن جدعان, فسموا ذلک الحلف حلف الفضول تشبیها له بحلف کان بمکة أیام جرهم علی

ص:163


1- (1) الإرشاد, الشیخ المفید, ج 1 ص 76.

التناصف والأخذ للضعیف من القوی وللغریب من القاطن, قام به رجال من جرهم یقال لهم الفضل بن الحارث والفضل بن وداعة والفضل بن فضالة فقیل حلف الفضول جمعاً لأسماء هؤلاء(1).

وکان ورقة بن نوفل (ابن عم خدیجة) أحد الأربعة الذین رفضوا عبادة الأوثان، وبحثوا عن الدین الحق وکانوا من الأحناف، یدینون الله علی ملة إبراهیم. وهم: ورقة بن نوفل، وزید بن عمرو، وابن أبی السلط، وقس ابن ساعدة وغیرهم ممن سخروا بالأصنام وعبادتها، واعتبروا ذلک جهلاً وضلالاً قال ابن إسحاق: واجتمعت قریش یوما فی عید لهم عند صنم من أصنامهم کانوا یعظمونه وینحرون له ویعکفون عنده ویدیرون به، فخلص منهم أربعة نفر نجیا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا ولیکتم بعضکم علی بعض قالوا: أجل (وهم ورقة بن نوفل وثلاثة آخرون) کما سبق ذکرهم. فقال بعضهم لبعض: تعلموا (والله) ما قومکم علی شیء، لقد أخطأوا دین أبیهم إبراهیم، ما حجر نطیف به لا یسمع ولا یبصر، ولا یضر ولا ینفع؟ فتفرقوا فی البلدان یلتمسون الحنیفیة دین إبراهیم, فاما ورقة بن نوفل فتنصر واستحکم فی النصرانیة وتعلم الکتب(2).

ففی ظل هذه العائلة عاشت السیدة خدیجة علیهاالسلام حیاة أبناء العوائل الشریفة الکبیرة, مع ما لأبیها وأجدادها من مکانة فی قریش, ومما لاشک فیه أنّ قوة شخصیتها ومکانتها جاءت نتیجة لتأثیر هذه العائلة فیها, فضلا عن ممیزاتها الذاتیة.

ص:164


1- (1) أنظر: السنن الکبری, البیهقی, ج 6 ص 367.
2- (2) إمتاع الأسماع, المقریزی, ج 6 ص 255.

فنستطیع أن نعرف أنّ تأثیر الأسرة کان کبیراً فیها؛ لأنّها خیر قاعدة یبدأ منها الإنسان حیاته وتقرر معالم شخصیته.

دور آباء خدیجة

بعدما رجع قصی (الجد الرابع لخدیجة علیهاالسلام) إلی وطنه ومسقط رأسه مکة (کما تقدم) آلت إلیه زعامة قریش من دون منازع وأصبح زعیم مکة, وقد قام فی عدة مشاریع فی جمیع الأصعدة لاسیما الاجتماعیة منها والسیاسیة, فقد شرع فی تنظیم الحیاة فی مکة فکان أول إجراءاتهِ أن نظم سکن القرشیین فی مکة, فقسم المناطق المحیطة بالکعبة علی بطون قریش فأنزلها علی قسمین.

الأول: قریب من الکعبة, وهم بنو زهرة بن کلاب, وبنو تیم بن مرة, وبنو مخزوم بن مرة, وبنو جمح وبنو سهم وبنو عدی بن کعب, إضافة علی قصی وأبنائه.

القسم الثانی: أنزله فی مناطق بعیدة عنها(1). ویبدو من هذا التقسیم السکانی الذی قام به قصی حیث أنزل البطون القریبة منه قریب مکة والبطون البعیدة منه بعید عنها, ربما یکون الهدف من وراء ذلک التقسیم إیجاد قوة یستطیع من خلالها حمایة ما حققه من إنجازات فی مکة, کما یستفاد من قول ابن إسحاق (وجمع قومه من قریش من منازلهم إلی مکة)(2).

کما قام قصی بعد ذلک بتنظیم إدارة مکة حیث بنی دار الندوة قریب الکعبة

ص:165


1- (1) أنظر: حیاة السیدة خدیجة بنت خویلد من المهد الی اللحد, حسین علی الشرهان, ص 46.
2- (2) أنظر: البدایة والنهایة, ابن کثیر, ج 2 ص 263.

لتکون بمثابة مبنی للحکومة یتشاورون فیها هو وقومه فی الأمور الخاصة بهم. وعمل أیضاً علی الاهتمام بالکعبة والوظائف التابعة لها وهی الحجابة: أی قفل البیت الحرام وفتحه للزائرین. والسقایة: وهی توفیر میاه الشرب للحجاج فی موسم الحج. والرفادة: وهی توفیر الطعام للحجاج واستضافتهم. واللواء: وهی رایة قریش فی الحرب(1).

إمّا جد خدیجة الثالث عبد العزی فقد نال جزءاً من وظائف الکعبة وهی الرفادة, وذلک بعد وفاة قصی لم یتمکن أحد من أبنائه الأربعة (عبد الدار وعبد العزی وعبد مناف وعبد قصی) أن یجمع کل السلطان بیده کما کان علیه الحال فی عهد أبیهم قصی, بل توزعت الزعامة بینهم, کما ذکر ذلک الیعقوبی «أنّ قصیاً قسم بین ولده فجعل السقایة والرئاسة لعبد مناف, والدار لعبد الدار والرفادة لعبد العزی وحافتی الوادی لعبد قصی)(2). ومن ثمة حصل نزاع بین الأبناء والأحفاد استمر فترة طویلة, ویبدو من هذا النزاع حول وظائف الکعبة جعل أسد (جد خدیجة) بن عبد العزی یتنبه إلی ضعف موقفه فی قریش لذلک تزوج العدید من النساء وصل عددهن إلی ست نساء, أولهن زهرة بنت عمر (أم خویلد والد خدیجة) وهذه الزیجات حققت لأسد ما أراد حیث أنجبن عددا کثیراً من الأبناء تجاوزوا العشرة استطاعوا أن یثبتوا مکانة هذه الأسرة فی مجتمع مکة قبل الإسلام.

ص:166


1- (1) أنظر: السیرة النبویة, ابن هشام الحمیری, ج 1 ص 81.
2- (2) أنظر: تاریخ الیعقوبی, ج 1 ص 211.

ممیزات خویلد والد السیدة خدیجة علیهاالسلام

من الوظائف المهمة التی شغلها خویلد بن أسد وحصلت علیها أسرته هی وظیفة المشورة: وهی من أهم الوظائف الثانویة, حیث أنّ صاحبها کالمستشار العام التی تُعرض علیه القرارات التی یتوصل إلیها الملأ المکی, فهی إنْ اجتمعت قریش علی أمر عرضته علیه فإن وافق رأیهم سکت وإلا أعترض أو اختار.

وهذا المنصب لیس من صلاحیة کل أحد یستطیع أن یتصدی له, إلا من کان ذا کفاءة عالیة وله أساس عائلی متین فی قریش, من جملتها أن ینتسب إلی قصی کما هو الحال فی خویلد بن أسد. ولم تقتصر هذه الاستشارة علی مجال معین بل فی شتی المجالات سواء کانت علی الصعید الاجتماعی أم غیره. وقد أورد ابن إسحاق روایة حول تولی خویلد هذا المنصب الرفیع والتی تکون بمثابة التطبیق لما کان یتصدی له. حیث قال: فلما أراد (تبع) الشخوص إلی الیمن أراد أن یخرج حجر الرکن فیخرج به معه فاجتمعت قریش إلی خویلد بن أسد بن عبد العزی بن قصی فقالوا ما دخل علینا یا خویلد إن ذهب هذا بحجرنا قال وما ذاک قالوا تبع یرید أن یأخذ حجرنا یحمله إلی أرضه فقال خویلد الموت أحسن من ذلک, ثم أخذ السیف وخرج وخرجت معه قریش بسیوفهم حتی أتوا تبعا فقالوا: ماذا ترید یا تبع إلی الرکن فقال أردت أن أخرج به إلی قومی فقالت: قریش الموت أقرب ذاک ثم خرجوا حتی أتو الرکن فقاموا عنده فحالوا بینه وبین ما أراد من ذلک. فقال خویلد فی ذلک شعرا:

دعینی أم عمرو ولا تلومی ومهلا عاذلی لا تعذلینی

ص:167

دعینی لا أخذت الخشف منهم وبیت الله حتی یقتلونی

فما عذری وهذا السیف عندی وعضب نال قائمه یمینی

ولکن لم أحد عنها محیدا وانی راهق ما أرهقونی(1)

بالإضافة إلی هذا المنصب فقد مارس خویلد أعمالاً أخری لا تقل أهمیة عن غیرها, ومن أهمها تهنئة انتصار سیف بن ذی یزن علی الأحباش وطردهم من الیمن, ووقوع حرب الفجار. أما الحدث الأول فقد خرج مع وفد من مکة مکون من أربع شخصیات لتهنئة سیف علی الانتصار وکان هذا الوفد یضم عبد المطلب ابن هاشم وخویلد بن أسد وأمیة بن عبد شمس, وعبدالله بن جدعان, وکان لهم کلام مع الملک واستضافهم ما یقارب الشهر, ثم أرسل إلی عبد المطلب فأدنی مجلسه وأخلاه ثم قال: یا عبد المطلب إنی مفض إلیک من سر علمی ما لو یکون غیرک لم أبح به. ولکنی رأیتک معدنه فأطلعتک علیه، فلیکن عندک مطویاً حتی یأذن الله فیه، فإن الله بالغ أمره. إنی أجد فی الکتاب المکنون والعلم المخزون الذی اختزناه لأنفسنا واحتجبناه دون غیرنا خبراً عظیماً، وخطراً جسیماً فیه شرف الحیاة وفضیلة الوفاة، للناس عامة ولرهطک کافة ولک خاصة. فقال عبد المطلب: أیها الملک مثلک سر وبر، فما هو، فداؤک أهل الوبر زمراً بعد زمر؟ قال: إذا ولد بتهامة، غلام به علامة، بین کتفیه شامة، کانت له الإمامة، ولکم به الزعامة إلی یوم القیامة. قال عبد المطلب: أبیت اللعن، لقد أبت بخیر ما آب به وافد، ولولا هیبة الملک وإجلاله وإعظامه لسألته من بشارته إیای ما أزداد به سروراً.

ص:168


1- (1) أنظر: سیرة ابن إسحاق, محمد بن إسحاق بن یسار, ج 1 - ص 31.

قال ابن ذی یزن: هذا حینه الذی یولد فیه أوقد ولد، واسمه محمد، یموت أبوه وأمه، ویکفله جده وعمه، ولدناه مراراً والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، یعز بهم أولیاءه ویذل بهم أعداءه، ویضرب بهم الناس عن عرض، ویستبیح بهم کرائم الأرض، یکسر الأوثان ویخمد النیران، یعبد الرحمن ویدحر الشیطان، قوله فصل، وحکمه عدل، یأمر بالمعروف ویفعله، وینهی عن المنکر ویبطله(1).

والذی یهمنا من الکلام هنا, أولاً: أنّ خویلد من الشخصیات التی لها الثقل الأکبر سواء فی العلاقات أم فی صنع القرار. وثانیاً: أنّ هذا التحرک فیه نوع من تحسین العلاقات مع الدول المجاورة من أجل استمرار العمل التجاری أو غیره. وثالثاًً: یؤکد لنا أیضا أنّ خویلد بن أسد لا یزال إلی جنب بنی هاشم فی خط الأحلاف, وکونه أحد زعماء مکة المعروفین.

وأما دور خویلد بن أسد فی حرب الفجار التی دارت رحاها بین قریش وکنانة مع هوازن, وقد شارکت جمیع البطون القرشیة بدون استثناء, وذلک یشعر بأنّ هناک خطراً محدقاً یهدد مصالحهم التجاریة وغیرها, حتی أنّ بنی أسد تحملوا دوراً کبیراً فی هذه الحرب, وکان زعیم هذه العائلة فی الحرب خویلد بن أسد, حیث فقد فی هذه الحرب أربعة إخوان وأثنین من أبنائه إضافة إلی نفسه علی أحد الأقوال المرجحة. أما الأخوان: فهم نوفل بن أسد, وحبیب بن أسد, وطالب بن أسد, وطلیب بن أسد, وأبناؤه, العوام بن خویلد, وحزام بن خویلد.

ص:169


1- (1) أنظر: السیرة النبویة, ابن کثیر, ج 1 ص 335.

خویلد علی خط الأنبیاء

من خلال تتبع التاریخ والسیرة الخاصة بخویلد بن أسد وأسرته یظهر لنا جلیاً أنّ خویلد وعائلته کانوا من المتدینین الملتزمین المتبعین لخط الأنبیاء, کما یؤکد ذلک اعتناق اثنین من أبناء هذه الأسرة للدیانة النصرانیة, وهم ورقة, وعثمان, وهذا الاتجاه والسلوک لا یأتی من فراغ بل هناک توجه دینی وواعز خلقی فی العائلة أثر علی هؤلاء وجعلهم یسلکون طریق الأنبیاء. هذا بالإضافة إلی بعض الشواهد التاریخیة التی وردت بحق خویلد بن أسد وهی تؤکد تدینه والتزامه بطریق الأنبیاء وخط التوحید. منها ما ذکره ابن أبی الحدید: عن عبد الله ابن عثمان بن سلیمان قال: سمعت أبی یقول: لما حفرت زمزم، وأدرک منها عبد المطلب ما أدرک، وجدت قریش فی أنفسها مما أعطی عبد المطلب، فلقیه خویلد ابن أسد بن عبد العزی فقال: یا بن سلمی، لقد سقیت ماءً رغداً، ونثلت عادیة حسدا، فقال: یا بن أسد، أما إنک تشرک فی فضلها، والله لا یساعدنی أحد علیها ببر، ولا یقوم معی بارزاً إلا بذلت له خیر الصهر، فقال خویلد بن أسد:

أقول وما قولی علیهم بسبة إلیک ابن سلمی أنت حافر زمزم

حفیرة إبراهیم یوم ابن هاجر ورکضه جبریل علی عهد آدم

فقال عبد المطلب: ما وجدت أحداً ورث العلم الأقدم غیر خویلد بن أسد(1). وقد أسلفنا أنّ خویلد کان مع بنی هاشم وحلیفهم وأفکارهم متقاربة لاسیما فی الأمور المعنویة, وهذا أیضا یمکن أنّ یکون من الشواهد الذی یؤکد تدینه.

ص:170


1- (1) أنظر: شرح نهج البلاغة, ابن أبی الحدید, ج 15 ص 217.

دین السیدة خدیجة قبل الإسلام

من الأدیان السائدة فی الجزیرة العربیة حینذاک وخاصة فی مکة عبادة الأوثان ویقال لعبدتها المشرکون، ویلیهم فی الکثرة الأحناف الذین بقوا علی دین أبیهم إبراهیم الخلیل ویدینون الله سبحانه وتعالی به، ویلیهم النصاری، والیهود، والصابئة, وقلیل منهم یدینون بالرکوسیة: وهی خلیط من عقائد الصابئة والنصرانیة، کما کانت تدین بها قبیلة طی, هذا ما کان من الأدیان السائدة حینذاک، ومن الذین یدینون الله بملة إبراهیم من قریش هم بنو هاشم بن عبد مناف إلا ما شذ منهم مثل (أبی لهب) عبد العزی بن عبد المطلب، حیث صاهر بنی أمیة ودان بدینهم. وکثیر من بنی زهرة، وبنی أسد، کانوا من الأحناف یدینون الله بدین إبراهیم الخلیل، ومنهم السیدة خدیجة بنت خویلد کانت تدین الله بالحنیفیة، وکذلک ابن عمها ورقة بن نوفل الذی دان بالنصرانیة بعد أن کان حنیفیاً, وکذلک السیدة آمنة بنت وهب وأهلها من بنی زهرة والدة النبی الأقدس صلی الله علیه و آله, والسیدة فاطمة بنت أسد الهاشمیة وأهلها والدة الإمام علی أمیر المؤمنین علیه السلام(1).

الصفات الکمالیة للسیدة خدیجة

إضافة إلی الروایات التی تکشف عن بعد إیمان خدیجة وتکامل صفاتها, شهادة التاریخ لها وأنها تتمتع بصفات ومؤهلات تمتاز بها عن غیرها من النساء, فقد کانت خدیجة علیهاالسلام من خیرة نساء قریش شرفاً، وأکثرهن مالاً، وأحسنهن جمالاً. وکانت تدعی فی الجاهلیة ب) الطاهرة) ویقال لها: (سیدة قریش). وکل

ص:171


1- (1) أم المؤمنین خدیجة الطاهرة علیها السلام, حسین الشاکری ص 87.

أفراد قومها کانوا حریصین علی الاقتران بها لو یقدر علیه وقد خطبها عظماء قریش، وبذلوا لها الأموال, وممن خطبها عقبة بن أبی معیط، والصلت بن أبی یهاب، وأبو جهل، وأبو سفیان فرفضتهم جمیعاً، واختارت النبی صلی الله علیه و آله، لما عرفته فیه من کرم الأخلاق، وشرف النفس، والسجایا الکریمة العالیة. ونکاد نقطع (بسبب تضافر النصوص) بأنها هی التی قد أبدت أولاً رغبتها فی الاقتران به صلی الله علیه و آله(1). وإنما تفعل الحرة العاقلة اللبیبة ذلک، فلا تغرها زبارج الدنیا وبهارجها، ولا تبحث عن اللذة لأجل اللذة، وعن المال للشهرة، إنما تبحث عمن یخدم هدفها الأسمی فی الحیاة، وعن الأخلاق الفاضلة والسجایا الحمیدة، والواقعیة فی التعامل والسمو فی الهدف، لأن کل ذلک هو الذی یسخر المال والجاه والقوة وکل شیء لخدمة الإنسان والإنسانیة، وتکاملها فی الدرجات العلیا, لم یحفظ التاریخ فی أوراقه أن امرأة من فضلیات النساء فی دنیا النساء قد فاحت سیرتها بالعطاء کما کانت أم المؤمنین خدیجة الطاهرة, لقد تناول التاریخ سیرة نساء کثیرات، اشتهرن بجانب أو أکثر من العبقریات ولکنه لم یحدثنا کما حدثنا عن السیدة خدیجة من بلوغ قمم المکارم فی کل الفضائل، ولم یستطع أن یحصر تلک الفضائل بین دفتیه.

أصبحت خدیجة سیدة نساء قریش قبل أن تبلغ الخامسة والعشرین من عمرها، وکانت امرأة عالیة الهمة، جیاشة العواطف واسعة الأفق، مفطورة علی التدین والنقاء والطهر، حتی عرفت بین أترابها وبین نساء قریش بالطاهرة وناهیک

ص:172


1- (1) الصحیح من سیرة النبی الأعظم صلی الله علیه و آله, السید جعفر مرتضی العاملی, ج 2 ص 107.

بهذه الصفة التی حلقت بها فجعلتها فی سماء السبق إلی ساحة المعالی, وجدیر بنا أن نذکر بعض صفاتها.

من صفاتها السخاء

لقد کانت علیهاالسلام من أهل الجود والکرم وکانت معروفة بهذا الوصف, ولذا قال أبو طالب علیه السلام فی خطبته حین خطب خدیجة للنبی صلی الله علیه و آله (خاطب کریمتکم الموصوفة بالسخاء والعفة)(1).

ویدل علی هذا أیضا ما رواه ابن الأثیر: قدمت علیه حلیمة فشکت إلیه جدب البلاد فکلم لها خدیجة فأعطتها أربعین شاة وبعیراً موقعاً للظعینة(2).

وعن البیهقی: عن رسول الله صلی الله علیه و آله ما رأیت من صاحبة أجید خیراً من خدیجة ما کنا نرجع أنا وصاحبی إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبوه لنا(3).

ویکفیها شاهداً أنّها وهبت کل ما تملک إلی رسول الله صلی الله علیه و آله وجعلته تحت تصرفه, حتی قال صلی الله علیه و آله: ما نفعنی مال قط مثل ما نفعنی مال خدیجة علیهاالسلام، وکان رسول الله صلی الله علیه و آله یفک من مالها الغارم والعانی ویحمل الکل، ویعطی فی النائبة، ویرفد فقراء أصحابه إذ کان بمکة، ویحمل من أراد منهم الهجرة(4).

ص:173


1- (1) راجع: بحار الأنوار, المجلسی, ج 6 ص 70.
2- (2) النهایة فی غریب الحدیث: ج 5 ص 215. الطبقات الکبری: ج 1 ص 113. الموقع: الذی بظهره آثار الدبر لکثرة ما حمل علیه ورکب فهو ذلول مجرب. والظعینة: الهودج.
3- (3) دلائل النبوة: ج 1 ص 90.
4- (4) الأمالی, الشیخ الطوسی, ص 468.

من صفاتها العلم

لم تؤثر علی خدیجة الأجواء السائدة آنذاک (حیث کانت تحکم الجزیرة العربیة البداوة والتخلف والانحطاط وإشاعة الأمیة) فقد کانت تحوی کثیراً من العلوم, ومن تلک العلوم التی کانت تحویها خدیجة علیهاالسلام هی علومها ومعرفتها بالأدیان والرسالات, وذلک أنّ عمها وعلی قول آخر ابن عمها ورقة بن نوفل علی ما فی بعض الروایات کان من القسیسین, وکان قد قرأ الکتب کلها، وکان عنده کتاب من عهد عیسی علیه السلام فیه طلاسم وعزائم وأنّ خدیجة علیهاالسلام قد تعلمت منه هذه العلوم. ومضافا إلی هذا کله فهی قرینة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله وأول الناس قرباً منه.

وبعبارة واضحة هی قریبة من معدن العلم ومخزنه وفی بیتها یهبط الوحی والملائکة, فأول ما یصدر الحکم تکون هی علیهاالسلام علی اطلاع به وتأخذه من المصطفی صلی الله علیه و آله.

قال ابن المغازلی: أنزل الله علی رسوله القرآن والهدی وعنده خدیجة(1).

ومن علومها علیهاالسلام أنها کانت عالمة بتعبیر الأحلام وهذا العلم من العلوم الصعبة جداً والخفیة بحیث لا یتمکن الإنسان العادی أن یصل إلی مطالبه العالیة إلا بفضل من الله ورحمته. ولذا نری بالوجدان أن أهل هذا العلم بالدرجة الأولی هم الأنبیاء والأوصیاء علیهم السلام ومن بعدهم التالین من بعدهم فی العلم والعمل(2).

هذا بالإضافة إلی علمها بالتجارة ومستلزماتها, والتی لا تقل أهمیة عن

ص:174


1- (1) الأنوار الساطعة, الشیخ غالب السیلاوی, ص 324.
2- (2) المصدر نفسه.

غیرها من العلوم, بل تحتاج إلی حنکة وخبرة وتدبیر وإتقان, وخدیجة کانت المشرف العام علی الصفقات التجاریة وما یلازمها.

رؤیا نورانیة صادقة

فی لیلة غارت نجومها، واحلولک ظلامها، جلست خدیجة فی بیتها، بعد أن طافت مراراً حول الکعبة، کعادتها کل لیلة، وما أن أسلمت جنبها للرقاد حتی استسلمت للنوم وراحت فی سبات عمیق, ورأت فیما یری النائم شمساً عظیمة تهبط من سماء مکة لتستقر فی دارها، وتملأ جوانب الدار نوراً وبهاءً، ویفیض من دارها لیغمر کل ما حولها بضیاء یبهر النفوس، قبل أن یبهر الأبصار, هبت خدیجة من نومها، وراحت تدیر عینیها فیما حولها بدهشة فإذا باللیل ما یزال یسربل الدنیا بالسواد عندما غادر اللیل الدنیا، غادرت خدیجة فراشها، مع إشراقة الشمس وتسربلت جلبابها وغادرت البیت فی طریقها إلی دار ابن عمها ورقة بن نوفل، لعلها تجد عنده تفسیراً لحلمها، فألفته قد عکف علی قراءة صحیفة من صحف السماء التی شغف بها، وما أن سمع صوتها حتی هب مرحباً، وقال متعجباً: خدیجة الطاهرة؟ قالت: هی, هی، قال فی دهشة: ما جاء بک الساعة؟ جلست خدیجة، وراحت تقص علیه ما رأت فی منامها حرفاً حرفاً، ومشهداً مشهداً. وکان ورقة یصغی إلیها باهتمام، وما أن انتهت من کلامها، حتی تهلل وجهه بالبشر، وارتسمت علی شفتیه ابتسامة الرضا، ثم قال لخدیجة فی هدوء ووقار، أبشری یا ابنة العم. وهذا یدل علی أنّ خدیجة عرفت مضمون رؤیتها ولکن جاءت للتأکید

ص:175

والاطمئنان(1). والرؤی الصادقة أمر ثبت فی القرآن والسنة بشکل لا یقبل التشکیک, کما سیأتی الکلام عنها.

من صفاتها الروایة

ذکر الرجالی المعروف السید المیرزا محمد الأستر آبادی رحمه الله: باب ذکر نساء لهن روایة خدیجة بنت خویلد زوجة النبی صلی الله علیه و آله. وذکر الرجالی الخبیر الشیخ محمد الحائری رحمه الله: باب ذکر نساء لهن روایة أو صحبة خدیجة بنت خویلد زوجة النبی صلی الله علیه و آله.

وذکر المرحوم الخبیر الرجالی الأردبیلی فصل فی ذکر نساء لهن روایة: خدیجة بنت خویلد زوجة النبی صلی الله علیه و آله. وذکر ابن حزم الأندلسی فی أصحاب الواحد خدیجة أم المؤمنین.

وعن الحافظ محمد بن حبان أبی حاتم التمیمی ممن روی عن النبی من النساء: خدیجة بنت خویلد بن أسد بن عبد العزی.

ذکر البیهقی أخبرنا أبو سعید بن أبی عمرو حدثنا أبو عبد الله الصفار حدثنا أبو بکر بن أبی الدنیا حدثنا المثنی بن معاذ، حدثنا أبی عن المسعودی، حدثنی عبد الأعلی التیمی قال: قالت خدیجة بنت خویلد: یا رسول الله ما أقول وأنا أطوف بالبیت, قال: قولی اللهم اغفر لی ذنوبی وخطای وعمدی وإسرافی فی أمری إنک إنْ لا تغفر لی تهلکنی(2).

ص:176


1- (1) أم المؤمنین, خدیجة الطاهرة, الحاج حسین الشاکری, ص 133.
2- (2) راجع قی ذلک کتاب الأنوار الساطعة, الشیخ غالب السیلاوی, ص 326.

من صفاتها الشعر

یتضمن شعرها علیهاالسلام الحکمة والإیمان بالله والنبی صلی الله علیه و آله وأیضا کثیر من أشعارها فی بحث زواجها من الرسول صلی الله علیه و آله ولا یخفی أن الشعر کان وسیلة للإعلام آنذاک.

فقد ذکرها المرحوم الأمینی رحمه الله فی موکب الشعراء حیث قال: أم المؤمنین خدیجة بنت خویلد زوج النبی الطاهر صلی الله علیه و آله وکانت رقیقة الشعر جداً, ومن شعرها فی تمریغ البعیر وجهه علی قدمی النبی صلی الله علیه و آله ونطقه بفضله کرامة له صلی الله علیه و آله قولها:

نطق البعیر بفضل أحمد مخبرا هذا الذی شرفت به أم القری

هذا محمد خیر مبعوث أتی فهو الشفیع وخیر من وطئ الثری

یا حاسدیه تمزقوا من غیضکم فهو الحبیب ولا سواه فی الوری(1)

ومن شعرها للنبی صلی الله علیه و آله:

فلو أننی أمسیت فی کل نعمة ودامت لی الدنیا وملک الأکاسرة

فما سویت عندی جناح بعوضة إذا لم تکن عینی لعینک ناظرة(2)

إیمانها برسول الله قبل زواجها منه

عند مراجعة تاریخ السیدة خدیجة قبل زواجها برسول الله صلی الله علیه و آله, إضافة إلی ما تحویه من کمال مادی ومعنوی, نری أنّها تتمتع ببعد إیمانی إلهی, وقد أیقنت

ص:177


1- (1) الغدیر, الامینی: ج 2 ص 17.
2- (2) بحار الأنوار, المجلسی: ج 16 ص 52.

أنه ارتسم فی ذات محمد صلی الله علیه و آله, فمن خلال قراءتها الفاحصة ونظرتها الدقیقة والأجواء الإیمانیة التی تعیشها جعلتها أن تصل إلی معرفة منقذ البشریة وهادیها حتی آمنت به وبکل الآیات التی أجریت علی یده, ومما یؤید هذا ما ورد عنها إزاء الکرامات التی صدرت من النبی صلی الله علیه و آله, والتی منها: إنّ العباس جاء إلی النبی صلی الله علیه و آله وقال: سر معی إلی دار خدیجة بنت خویلد تکون أمیناً علی أموالها، تسیر بها حیث شئت، قال: أرید الشام، قال: ذلک إلیک، فسار النبی صلی الله علیه و آله والعباس إلی بیت خدیجة، وکان من عادته صلی الله علیه و آله إذا أراد زیارة قوم سبقه النور إلی بیتهم، فسبقه النور إلی بیت خدیجة، فقالت لعبدها میسرة: کیف غفلت عن الخیمة حتی عبرت الشمس إلی المجلس؟ قال: لست بغافل عنها، وخرج فلم یجد تغیر وتد ولا طنب، ونظر إلی العباس فوجده قد أقبل هو والنبی صلی الله علیه و آله معه، فرجع وقال لها: یا مولاتی هذا الذی رأیته من أنوار محمد صلی الله علیه و آله، فجاءت خدیجة لتنظر إلی محمد، فلما دخل المجلس نهض أعمامه إجلالاً له، وأجلسوه فی أوساطهم، فلما استقر بهم الجلوس قدمت لهم خدیجة الطعام فأکلوا، ثم قالت خدیجة: یا سیدی أنست بک الدیار، وأضاءت بک الأقدار، وأشرقت من طلعتک الأنوار، أترضی أن تکون أمیناً علی أموالی تسیر بها حیث شئت؟ قال: نعم رضیت، ثم قال: أرید الشام، قالت: ذلک إلیک، وإنی قد جعلت لمن یسیر علی أموالی مائة وقیة من الذهب الأحمر، ومائة وقیة من الفضة البیضاء، وجملین وراحلتین، فهل أنت راض؟ فقال أبو طالب رضی الله عنه، رضی ورضینا، وأنت یا خدیجة محتاجة إلیه، لأنه من حین خلق ما وقف له العرب علی صبوة، وأنه مکین أمین، قالت

ص:178

خدیجة: تحسن یا سیدی تشد علی الجمل وترفع علیه الأحمال؟ قال: نعم، قالت: یا میسرة: ایتنی ببعیر حتی أنظر کیف یشد علیه محمد، فخرج میسرة وأتی ببعیر شدید المراس، قوی الباس، لم یجسر أحد من الرعاة أن یخرجه من بین الإبل لشدة بأسه، فأدناه لیرکبه فهدر وشقشق واحمرت عیناه، فقال له العباس: ما کان عندک أهون من هذا البعیر؟ ترید أن تمتحن به ابن أخینا؟ فعند ذلک قال النبی صلی الله علیه و آله: دعه یا عم، فلما سمع البعیر کلام البشیر النذیر برک علی قدمی النبی صلی الله علیه و آله، وجعل یمرغ وجهه علی قدمی النبی صلی الله علیه و آله ونطق بکلام فصیح وقال: من مثلی وقد لمس ظهری سید المرسلین؟ فقلن النسوة اللاتی کن عند خدیجة: ما هذا إلا سحر عظیم قد أحکمه هذا الیتیم، قالت لهم خدیجة: لیس هذا سحراً، وإنما هو آیات بینات، وکرامات ظاهرات، ثم قالت: نطق البعیر بفضل أحمد مخبرا... إلی آخر الأبیات التی تقدم ذکرها(1).

زواجها من رسول الله

لم یکن اقتران خدیجة بنت خویلد بالنبی الأکرم إلا شاهد علی إیمانها وعظمة مکانتها وإنها جامعة للصفات التی تؤهلها لأن تکون شریکة حیاة النبی صلی الله علیه و آله لاسیما فی الأوقات الصعبة والحرجة والإسلام یکاد أنْ تنبثق بذرته وتعم إرجاء قریش, فکانت خدیجة تشاطر النبی صلی الله علیه و آله فی هذا الشعور وتنظر إلی مستقبل الازدهار والعدالة, فکانت شریکته قبل کل شیء بالهدف والطموح, حتی

ص:179


1- (1) أنظر: بحار الأنوار, العلامة المجلسی, ج 16 ص 26.

بلغ خضوعها لرسول الله وحبها له, أنّها بعد أن تم عقد زواجها برسول الله صلی الله علیه و آله قالت له: إلی بیتک فبیتی بیتک وأنا جاریتک(1). وذلک یعبر عن مدی معرفتها وإیمانها برسول الله صلی الله علیه و آله.

عن أبی عبد الله علیه السلام قال: لما أراد رسول الله صلی الله علیه و آله أن یتزوج خدیجة بنت خویلد أقبل أبو طالب فی أهل بیته ومعه نفر من قریش حتی دخل علی ورقة بن نوفل عم خدیجة فابتدأ أبو طالب بالکلام فقال: الحمد لرب هذا البیت، الذی جعلنا من زرع إبراهیم، وذریة إسماعیل وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحکام علی الناس، وبارک لنا فی بلدنا الذی نحن فیه، ثم إن ابن أخی هذا (یعنی رسول الله صلی الله علیه و آله) ممن لا یوزن برجل من قریش إلا رجح به ولا یقاس به رجل إلا عظم عنه ولا عدل له فی الخلق وإن کان مقلاً فی المال فإن المال رفد جار(2) وظل زائل وله فی خدیجة رغبة ولها فیه رغبة، وقد جئناک لنخطبها إلیک برضاها وأمرها والمهر علیّ فی مالی الذی سألتموه عاجله وآجله وله ورب هذا البیت حظ عظیم ودین شائع ورأی کامل، ثم سکت أبو طالب وتکلم عمها وتلجلج(3), وقصر عن جواب أبی طالب وأدرکه القطع والبُهر(4), وکان رجلاً من القسیسین فقالت خدیجة مبتدئة: یا عماه إنک وإن کنت أولی بنفسی منی فی الشهود فلست أولی بی من نفسی، قد زوجتک یا محمد نفسی، والمهر علیّ فی مالی فأمر عمک فلینحر

ص:180


1- (1) أنظر: الخرائج والجرائح, قطب الدین الراوندی, ج 1 ص 141.
2- (2) رفد جار: أی عطاء الله تعالی، أجراه علی عباده بقدر ضرورتهم واحتیاجهم.
3- (3) التلجلج: التردد فی الکلام.
4- (4) البهر (بالضم): النفس من الاعیاء.

ناقة فلیولم بها وادخل علی أهلک قال أبو طالب: أشهدوا علیها بقبولها محمداً وضمانها المهر فی مالها، فقال بعض قریش یا عجباه المهر علی النساء للرجال، فغضب أبو طالب غضباً شدیداً وقام علی قدمیه وکان ممن یهابه الرجال ویکره غضبه، فقال: إذا کانوا مثل ابن أخی هذا طلبت الرجال بأغلا الأثمان وأعظم المهر وإذا کانوا أمثالکم لم یزوجوا إلا بالمهر الغالی، ونحر أبو طالب ناقة ودخل رسول الله صلی الله علیه و آله بأهله. وقال رجل من قریش یقال له عبد الله بن غنم:

هنیئاً مریئاً یا خدیجة قد جرت لک الطیر فیما کان منک بأسعد

تزوجته خیر البریة کلها ومن ذا الذی فی الناس مثل محمّد

وبشر به البر إنّ عیسی ابن مریم وموسی بن عمران فیا قرب موعد

أقرت به الکتاب قدماً بأنه رسول من البطحاء هاد ومهتد(1)

أبو طالب خاطب خدیجة للنبی صلی الله علیه و آله

اختلف المؤرخون فی الشخصیة التی قامت فی إجراء مراسیم الخطبة من خدیجة إلی النبی صلی الله علیه و آله, المشهور والذی هو الصحیح, أنّ أبا طالب قد ذهب لخطبة خدیجة، ولیس حمزة الذی اقتصر علیه ابن هشام فی سیرته(2) ؛ لأن ذلک لا ینسجم مع ما کان لأبی طالب من المکانة والسؤدد فی قریش، من جهة؛ ومن جهة أخری لأن حمزة کان یکبر النبی صلی الله علیه و آله بسنتین أو بأربع کما قیل.

ص:181


1- (1) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 5 ص 374.
2- (2) انظر: سیرة ابن هشام, ج 1 ص 201.

هذا بالإضافة إلی مخالفة ما یذکره عامة المؤرخین فی المقام. وقد اعتذر البعض عن ذلک: بأن من الممکن أن یکون حمزة قد حضر مع أبی طالب، فنسب ذلک إلیه وهو اعتذار واه، إذ لماذا لم ینسب ذلک إلی غیر حمزة، ممن حضر مع أبی طالب من بنی هاشم وغیرهم من القرشیین. ویظهر: أن ثمة من یهتم بسلب هذه المکرمة عن أبی طالب علیه السلام، وإعطائها لأی کان من الناس سواه، حتی لحمزة, ولا ضیر فی ذلک عنده ما دام أنه قد استشهد فی وقت مبکر. وعلی کل حال فقد خطبها أبو طالب له صلی الله علیه و آله قبل البعثة بخمس عشرة سنة، علی المشهور(1).

هل تزوجت خدیجة قبل النبی صلی الله علیه و آله

اختلف المؤرخون فی مسألة زواج السیدة خدیجة قبل النبی صلی الله علیه و آله بین النفی والإثبات, قال القرطبی قد تزوجها (النبی صلی الله علیه و آله) قبل النبوة ثیباً بعد زوجین, بعد ابن هالة التمیمی, وبعد عتیق المخزومی, ثم تزوجها النبی صلی الله علیه و آله, وهی بنت أربعین سنة وأقامت معه أربعاً وعشرین سنة، وتوفیت وهی بنت أربع وستین، سنة وستة أشهر وسن رسول الله صلی الله علیه و آله حین تزوجها إحدی وعشرون سنة، وقیل: خمس وعشرون سنة, وقیل ثلاث وثلاثون سنة(2).

وعن القاضی النعمان کانت خدیجة قبل النبی عند عتیق بن عامر المخزومی، وولدت له حارثة، ومات عنها بمکة، وتزوجها بعده أبو هالة زرارة بن

ص:182


1- (1) انظر: الإصابة, ابن حجر, ج 8 ص 99.
2- (2) انظر: تفسیر القرطبی, ج 14 ص 164.

ساس الأسدی، ومات عنها بمکة وولدت له هند بنت أبی هالة(1).

والصحیح أنها (خدیجة) لم تقترن بزوج قبله والدلیل علی ذلک:

أوّلاً: ذکر ابن شهر آشوب وروی أحمد البلاذری، وأبو القاسم الکوفی فی کتابیهما، والمرتضی فی الشافی، وأبو جعفر فی التلخیص, أنّ النبی صلی الله علیه و آله تزوج بها، وکانت عذراء. وکما یؤکد ذلک ما ذکر فی کتابی الأنوار والبدع: أنّ رقیة وزینب کانتا ابنتی هالة أخت خدیجة(2), کما سیأتی بیانه.

وثانیاً: قال أبو القاسم الکوفی: إن الإجماع من الخاص والعام، من أهل الآثار ونقلة الأخبار، علی أنه لم یبق من أشراف قریش، ومن ساداتهم وذوی النجدة منهم، إلا من خطب خدیجة، ورام تزویجها، فامتنعت علی جمیعهم من ذلک، فلما تزوجها رسول الله صلی الله علیه و آله غضب علیها نساء قریش وهجرنها، وقلن لها خطبک أشراف قریش وأمراؤهم فلم تتزوجی أحداً منهم، وتزوجت محمداً یتیم أبی طالب، فقیراً، لا مال له؟ فکیف یجوز فی نظر أهل الفهم أن تکون خدیجة، یتزوجها أعرابی من تمیم، وتمتنع من سادات قریش، وأشرافها علی ما وصفناه؟

وأما الرد علی ذلک بأنّه لا یمکن أن تبقی امرأة شریفة وجمیلة هذه المدة الطویلة بلا زواج فلیس علی ما یرام؛ لأنّ ذلک لا یبرر رفضها لعظماء قریش وقبولها بأعرابی من بنی تمیم. وأما کیف یترکها أبوها أو ولیها بلا تزویج؟ ذلک أنّ أباها قد قتل فی حرب الفجار، وأما ولیها، فلم یکن له سلطة الأب لیجبرها علی الزواج ممن

ص:183


1- (1) شرح الأخبار, القاضی النعمان المغربی, ج 3 ص 15.
2- (2) مناقب آل أبی طالب, ابن شهر آشوب, ج 1 ص 138.

أراد وبقاء المرأة الشریفة والجمیلة مدة بلا زواج لیس بعزیز, إذا کانت تصبر إلی أن تجد الرجل الفاضل الکامل، الذی کان یعز وجوده فی تلک الفترة(1).

وثالثاً: کیف لم یعیرها زعماء قریش الذین خطبوها فردتهم، بزواجها من أعرابی. فهکذا کانت السیدة خدیجة حین زواجها من رسول الله صلی الله علیه و آله بکراً غیر ثیب وأجمل نسائه ولم یتزوج علیها الی أن فارقت الحیاة احتراماً لها وتعظیماً لشأنها.

سبب زواجها من النبی صلی الله علیه و آله

لیست کل امرأة تنظر الی مستقبل حیاتها لاسیما فی اختیارها الشریک الذی یشاطرها ویواکبها الحیاة فی طیلة ما تبقی من عمرها وبه تنتقل الحیاة من مرحلة الی أخری فیها یحدد المصیر فی الدنیا بین السعادة والشقاء ربما تأخذها العواطف والأهواء وتقع فی الفخ المؤلم, فخدیجة هنا تعطی درساً للفتیات اللاتی یصلن مرحلة الزواج أن تتأن فی اختیارها الزوج وأن تنظر به الصفات التی تضمن بها سعادتها وحسن المعاشرة معه, فکان اختیار خدیجة للنبی صلی الله علیه و آله لم یکن متسرعاً وانّما بعد المتابعة والسؤال وما وجدت من صفات کمالیة عالیة یتمتع بها نبی الإنسانیة, حیث کانت خدیجة ذات مال کثیر وعبید ومضاربین لها یتجرون فی مالها، ویسافرون به لها إلی الشام، فلما اتصل بها عن رسول الله صلی الله علیه و آله ما هو علیه من الأمانة والطهارة والصدق والعفاف أرسلت إلیه، وسألته أن یخرج ببضاعة إلی

ص:184


1- (1) الاستغاثة, أبو القاسم الکوفی, ج 1 ص 17.

الشام، ففعل وأرسلت معه غلاماً یقال له: میسرة فجاءها بفضل واسع لم یأتها غیره. وأخبرها غلامها بما شاهده من فضله وآیات رآها فیه. وکان لها ابن عم یقال له ورقة بن نوفل علی دین النصرانیة قد قرأ الکتب، وکان یذکر لها أن نبیاً إن بعثه یبعث من قریش، فلما أخبرها غلامها بما شاهد منه مع ما اتصل بها من آیاته وعلامات النبوة فیه ذکرت ذلک لابن عمها ورقة, فقال: والله ما أشک، إنه هو النبی المنتظر. وکان ورقة هذا قد خطب خدیجة، وهمت بتزویجه لما تبین لها أمر رسول الله صلی الله علیه و آله وأراد الله کرامتها ألهمها أن أرسلت إلی رسول الله صلی الله علیه و آله تعرض بنفسها علیه، فتزوجها وبنی بها صلی الله علیه و آله وهو ابن خمس وعشرین سنة، ولم یتزوج علیها غیرها، ولا تزوج امرأة إلا بعد أن ماتت. وکانت من أفضل نسائه وأحبهن إلیه، وکانت تنتظر نبوته، ویسألها ابن عمها عن ذلک، وعن دلائل تعرفها فیه، فتخبره بذلک، فیقول: هو والله النبی المنتظر، وله فی ذلک أشعار کثیر قالها، ومات قبل أن یبعث الله نبیه صلی الله علیه و آله. وکان رسول الله صلی الله علیه و آله یعارض خدیجة ویخبرها بما یأتیه من قبل أن ینبأ به، وما یراه فی منامه، وتخبره هی بقول ورقة، فلما أتاه الوحی من عند الله عز وجل بالرسالة أخبرها بذلک ودعاها إلی الإسلام، فأسلمت، فکانت أول من أسلم وکان رسول الله صلی الله علیه و آله فی ابتداء أمره إذا دعا قومه فکذبوه, ونالوا منه وهموا به، منعه منهم عمه أبو طالب. وکان سیداً مطاعاً فیهم، وکان یأتی خدیجة مغموماً لما یناله منهم، فتهدئه، وتصبره، وتهون علیه, وبذلت مالها له، فکان ذلک مما یعز به(1).

ص:185


1- (1) انظر: شرح الأخبار, القاضی النعمان المغربی, ج 3 ص 17.

عمر خدیجة حین زواجها

ویلاحظ هنا مدی الاختلاف والتفاوت فی عمر خدیجة حین اقترانها بالرسول الأکرم صلی الله علیه و آله وهی تتراوح ما بین ال - (25) سنة إلی ال) 46) سنة وهی علی النحو الآتی:

ألف - 25 سنة, وصححه البیهقی. ب - 28 سنة. هو ما رجحه کثیرون. ج - 30 سنة د - 35 سنة. ه - 40 سنة. و - 44 سنة. ز - 45 سنة. ح - 46 سنة.

ولا یخفی أنّ الکثیرین قد رجحوا القول الثانی، کما ذکره ابن العماد. أما البیهقی فقد صحح القول الأول، حیث قال: بلغت خدیجة خمساً وستین سنة، ویقال: خمسین سنة، وهو أصح فإذا کانت رحمها الله قد تزوجت برسول الله قبل البعثة بخمس عشرة سنة کما جزم به البیهقی نفسه فإن ذلک معناه: أن عمرها حین زواجها کان خمساً وعشرین سنة. ورجح هذا القول غیر البیهقی أیضا أما الحاکم، الذی روی لنا القول الثانی المتقدم عن ابن إسحاق، فإنه لم یوضح لنا حقیقة ما یذهب إلیه، غیر أنه حین روی عن هشام بن عروة قوله: إن خدیجة قد توفیت وعمرها خمس وستون سنة. هذا قول شاذ، فإن الذی عندی: أنها لم تبلغ ستین سنة, فکلامه هذا یدل علی أنه یعتبر القول بأنها قد تزوجت بالنبی وعمرها أربعون سنة، شاذ. ویری أنّ عمرها کان أقل من خمس وثلاثین حینئذ، ولکنه لم یبین القول الذی یذهب إلیه، هل هو ثلاثون؟ أو ثمان وعشرون؟ أو خمس وعشرون(1).

ص:186


1- (1) راجع: الصحیح من سیرة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم, السید جعفر مرتضی ج 2 - ص 117.

روی الدولابی فی کتابه: (الذریة الطاهرة) بسنده عن عمار بن أبی عمار، عن ابن عباس... ثم قال: وبلغنی أن رسول الله صلی الله علیه و آله تزوج خدیجة علی اثنتی عشرة أوقیة ذهباً، وهی یومئذ ابنة ثمان وعشرین سنة(1).

وعن ابن عباس قال: کانت خدیجة یوم تزوجها رسول الله صلی الله علیه و آله ابنة ثمان وعشرین سنة ومهرها اثنتا عشرة أوقیة(2).

مقدار مهر السیدة خدیجة

من الضروری أن یتعرف المسلمون علی مهر زوجات النبی صلی الله علیه و آله ومهر ابنته فاطمة علیهاالسلام لتکون سنة یُقتدی بها, ویرتفع الحجر الذی وقع فی طریق الشباب من التنافس فی غلاء المهور وارتفاعه, فالنبی صلی الله علیه و آله بُعث لإسعاد البشریة وحل العقد التی یواجهونها بشتی المجالات لاسیما الاجتماعیة, فینبغی أن تدرس سیرته المبارکة بشکلها العملی وتقنن دستوراً ومنهاجاً للمسلمین, من هنا جاءت الآیات والروایات تحث علی الإتباع والاقتداء بأقوال وأفعال النبی صلی الله علیه و آله, کما فی قوله تعالی:(لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)3 . وعلیه هناک جملة من الروایات الواردة فی تعیین مقدار مهر السیدة خدیجة علیهاالسلام. فقد روی الصفار عن حماد بن عیسی قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: قال أبی: ما زوج رسول الله صلی الله علیه و آله شیئاً من بناته ولا تزوج شیئاً من نسائه علی أکثر من اثنتی عشرة أوقیة

ص:187


1- (1) راجع: الذریة الطاهرة النبویة, محمد بن أحمد الدولابی, ص 52.
2- (2) راجع: الطبقات الکبری, محمد بن سعد, ج 8 ص 17.

ونش، یعنی نصف أوقیة(1).

وروی الخبر الکلینی بسنده عنه قال: سمعته یقول: قال أبی: ما زوج رسول الله صلی الله علیه و آله سایر بناته ولا تزوج شیئاً من نسائه علی أکثر من اثنتی عشرة أوقیة ونش. والأوقیة: أربعون درهماً، والنش: عشرون درهماً. ثم روی عن حماد عن إبراهیم بن أبی یحیی عن الصادق علیه السلام قال: وکانت الدراهم وزن ستة یومئذ(2).

وروی بسنده عن معاویة بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: ساق رسول الله صلی الله علیه و آله إلی أزواجه اثنتی عشرة أوقیة ونشاً، والأوقیة: أربعون درهماً، والنش: نصف الأوقیة: عشرون درهماً، فکان ذلک خمسمائة درهم. قلت: بوزننا؟ قال: نعم(3).

وروی بسنده عن أبی العباس قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الصداق هل له وقت (یعنی الحد للمهر) قال: لا، ثم قال: کان صداق النبی صلی الله علیه و آله اثنتی عشرة أوقیة ونشاً، والنش نصف الأوقیة، والأوقیة: أربعون درهماً، فذلک خمسمائة درهم(4).

أقول: لم یتضح من الروایات المتقدمة مقدار مهر خدیجة بالذات فالروایات فی هذا المورد عامة تشیر إلی صداق أزواج النبی صلی الله علیه و آله بشکل عام لیس بما قدمه النبی صلی الله علیه و آله لخدیجة علیهاالسلام, نعم خدیجة واحدة من أزواجه فینطبق علیها العنوان.

ص:188


1- (1) رسالة المهر, الشیخ المفید, ص 36.
2- (2) الکافی, الکلینی, ج 5 ص 376.
3- (3) الحدائق الناضرة, البحرانی, ج 24 ص 432.
4- (4) الکافی, الکلینی, ج 5 ص 376.

من هو الذی عَیَّنَ مهر خدیجة

لا یخفی مما تقدم أنّ أبا طالب هو الذی قد ضمن المهر فی ماله، کما هو صریح خطبته، ولکن خدیجة رضوان الله تعالی علیها عادت فضمنت المهر فی مالها من دون أن تعین مقداره، فقال البعض: یا عجبا؟ المهر علی النساء للرجال؟ فغضب أبو طالب، وقال: إذا کانوا مثل ابن أخی هذا طلبت الرجال بأغلی الأثمان، وأعظم المهر، وإن کانوا أمثالکم لم یزوجوا إلا بالمهر الغالی.

اللهم إلا أن یکون المراد: أنه صلی الله علیه و آله قد أمهرها بواسطة أبی طالب. أو قیده بعدد معین لیکن أسوة وسنة, کما یبدو ذلک من الروایات أنّ النبی صلی الله علیه و آله عیّن مقدار مهرها إلا أنّ أبا طالب قد ضمن المهر فی ماله کما هو صریح خطبته, کما ذکر ذلک الحلبی فی سیرته: «... وهو والله بعد هذا له نبأ عظیم وخطر جلیل وقد خطب إلیکم رغبة فی کریمتکم خدیجة وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله اثنتی عشرة أوقیة ونشاً (أی وهو عشرون درهماً والأوقیة أربعون درهماً أی وکانت الأواقی والنش من ذهب کما قال المحب الطبری أی فیکون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعی»(1).

وقیل: کما عن ابن هشام: وأصدقها رسول الله صلی الله علیه وسلم عشرین بکرة(2). والبکرة: الأنثی من الإبل. ویؤیده: ما ذکره ابن عباس, والدولابی. أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله تزوج خدیجة علی اثنتی عشرة أوقیة ذهباً، وهی یومئذ ابنة ثمان

ص:189


1- (1) راجع: السیرة الحلبیة, الحلبی ج 1 ص 226.
2- (2) راجع: السیرة النبویة, ابن هشام الحمیری, ج 1 ص 122.

وعشرین سنة(1).

وعن ابن عباس قال: کانت خدیجة یوم تزوجها رسول الله صلی الله علیه و آله ابنة ثمان وعشرین سنة ومهرها اثنتی عشرة أوقیة(2).

ولما رأت خدیجة ذلک سخت نفسها بضمانها المهر کله من مالها, وهذا یعبر عن مدی الخلق الذی تتمتع به السیدة خدیجة وخضوعها وتواضعها لمراسم السنة الإلهیة.

أولادها

اشارة

خدیجة هی المرأة الوحیدة التی رزق منها النبی صلی الله علیه و آله الأولاد دون غیرها من نسائه اللاتی یتجاوز عددهن أربع عشرة امرأة ماعدا ماریة القبطیة فقد ولدت له إبراهیم. وقد اختلف أهل النقل فی عدد أولاد خدیجة, فقالوا إنّها (خدیجة) ولدت له أربع بنات وکلهن أدرکن الإسلام وهاجرن: زینب وفاطمة ورقیة وأم کلثوم، وأجمعوا أنها ولدت له ولداً سماه القاسم وبه کان یکنی.

واختلفوا أیضا هل ولدت له ذکراً غیره فقیل: ولدت ثلاثة عبد الله والطیب والطاهر, والخلاف فی ذلک کثیر ومات القاسم بمکة صغیراً قبل أن یمشی وقیل: إنّه لم یعش إلا أیاماً یسیرة ولم یکن له صلی الله علیه و آله من غیر خدیجة ولد غیر إبراهیم ولدته ماریة القبطیة بالمدینة وبها توفی وهو رضیع وتوفی جمیع أولاده فی حیاته

ص:190


1- (1) راجع: الذریة الطاهرة النبویة, محمد بن أحمد الدولابی, ص 52.
2- (2) راجع: الطبقات الکبری, محمد بن سعد, ج 8 ص 17.

إلا فاطمة علیهاالسلام فإنها توفیت بعده(1).

وقول آخر: إنّه ولد له من خدیجة القاسم وبه کان یکنی, والطاهر والطیب وفاطمة وزینب ورقیة وأم کلثوم, فأما القاسم والطیب فماتا بمکة صغیرین، ومات الطاهر کذلک صغیراً, وأما إبراهیم من ماریة فولد بالمدینة بعد ثمان سنین من مقدمه صلی الله علیه و آله، وعاش سنة وعشرة أشهر وثمانیة أیام، ومات بالمدینة(2).

فاطمة البنت الوحیدة للنبی صلی الله علیه و آله

المتتبع للسیرة النبویة بما فیها أفعال النبی صلی الله علیه و آله وأقواله یدرک بوضوح أنّه لم تکن فی البین ابنة للنبی صلی الله علیه و آله غیر الزهراء علیهاالسلام, وأما ما ذکر من أنّ رقیة وزینب وأم کلثوم (قالوا أم کلثوم کنیة لرقیة) فهن بنات هالة بنت وهب أخت خدیجة, کما روی مشایخنا من أهل العلم عن الأئمة من أهل البیت علیهم السلام, وکما یقول أبو القاسم الکوفی المتوفی سنة 352 ه -: أنّه کان لخدیجة بنت خویلد زوجة رسول الله الکبری أخت لأمها یقال لها: هالة قد تزوجها رجل من بنی مخزوم فولدت له بنتاً اسمها هالة ثم خلف علیها بعد أبی هالة رجل من تمیم یقال له أبو هند فأولدها ابناً کان یسمی هندا بن أبی هند وابنتین فکانتا هاتان الابنتان منسوبتین إلی رسول الله صلی الله علیه و آله زینب ورقیة ومات أبو هند وقد بلغ ابنه مبلغ الرجال والابنتان طفلتان، فکان ذلک فی حدثان تزویج رسول الله بخدیجة بنت خویلد، وکانت هالة أخت خدیجة فقیرة وکانت خدیجة من الأغنیاء الموصوفین بکثرة المال.

ص:191


1- (1) راجع: شرح أصول الکافی, محمد صالح المازندرانی, ج 7 ص 144.
2- (2) شرح الأخبار, القاضی النعمان المغربی, ج 3 ص 15.

فأما هند بن أبی هند فإنه لحق بقومه وعشیرته بالبادیة وبقیت الطفلتان عند أمهما هالة أخت خدیجة فضمت خدیجة أختها هالة مع الطفلتین إلیها وکفلتهن جمیعاً وکانت هالة أخت خدیجة هی الرسول بین خدیجة وبین رسول الله صلی الله علیه و آله فی حال التزویج فلما تزوج رسول الله خدیجة ماتت هالة بعد ذلک بمدة یسیرة وخلفت الطفلتین زینب ورقیة فی حجر رسول الله صلی الله علیه و آله وحجر خدیجة فربیاهما، وکان من سنة العرب فی الجاهلیة من یربی یتیماً ینسب ذلک الیتیم إلیه ویدعی باسمه فلم یستحل لمن یربیها تزوجها لأنها کانت عند العرب بزعمهم بنت المربی لها ولذلک کانوا یقولون زید بن محمد صلی الله علیه و آله ویدعون یا زینب بنت محمد ویا رقیة بنت محمد وهکذا نسبتا إلیه صلی الله علیه و آله.

ولم تزل العرب علی هذا الحال إلی أن جاء الإسلام وربی بعض الصحابة یتیمة بعد الهجرة وسأل رسول الله هل یجوز فی الإسلام تزویج الیتیمة ممن رباها فأنزل الله تعالی قوله:(وَ یَسْتَفْتُونَکَ فِی النِّساءِ قُلِ اللّهُ یُفْتِیکُمْ فِیهِنَّ وَ ما یُتْلی عَلَیْکُمْ فِی الْکِتابِ فِی یَتامَی النِّساءِ اللاّتِی لا تُؤْتُونَهُنَّ ما کُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْکِحُوهُنَّ وَ الْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْیَتامی بِالْقِسْطِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَیْرٍ فَإِنَّ اللّهَ کانَ بِهِ عَلِیماً)1 .

وقوله تعالی:(وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِی الْیَتامی فَانْکِحُوا ما طابَ لَکُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنی وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ... الخ)(1), وهکذا سقط عن المربی للأیتام

ص:192


1- (2) النساء: 3.

انتسابهم إلیه شرعاً وبقی بعض العامة علی بعض السنن إلی الیوم. وکذلک نسب هند أخو زینب ورقیة إلی خدیجة ولو لم یلتحق بعشیرته فی البادیة لنسب إلی رسول الله أیضاً. ومن هنا ظن العامة لما غلب اسم خدیجة علی اسم هالة أختها أن أبا هند کان متزوجاً بخدیجة قبل رسول الله صلی الله علیه و آله، ومما یدل علی توهم العامة: أن هنداً بن أبی هند عمّر حتی لحق أیام الحسین علیه السلام فقتل بین یدیه وهو شیخ فقال الناس: قتل خال الحسین هند بن أبی هند التمیمی, فجهلوا أمه وعرفوا أباه. قلت: لو رباه رسول الله لجهلوا أمه وأباه. فکان رسول الله صلی الله علیه و آله فی نسب ابنتی أبی هند علی ما وصفناه من سنة العرب فی الجاهلیة فدرج نسبهما عند العامة کذلک، ثم نسب أخوهما أیضا هند إلی خدیجة إذ کان اسم خدیجة ثابتاً معروفاً وکان اسم أختها هالة خاملاً مجهولاً فظنوا لما غلب اسم خدیجة علی اسم هالة أختها فی نسب ابنها أن أبا هند کان متزوجاً بخدیجة قبل رسول الله صلی الله علیه و آله فانتسبوا إلیها لذلک وتحقق فی ظنهم بجهلهم بأمهم أخت خدیجة, أنّ هنداً کان قد عمّر حتی لحق أیام الحسین علیه السلام فقتل بین یدیه وهو شیخ فقال الناس قتل خال الحسین علیه السلام هند ابن أبی هند التمیمی وأنه کان هند ابن خالة فاطمة أم الحسین علیهماالسلام علی ما شرحناه فلم یمیز العوام هذا القول وقدر السامع له أن هنداً کان ابن خدیجة ولم یجعلوا أبا هند التمیمی أنه والد هند لبلوغ هند قبل موت أبی هند وجهلوا اسم هالة أختها أم هند بن أبی هند التمیمی(1), هذا أولاً.

وثانیاً: إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله زوجهن فی الجاهلیة من رجال کافرین فزوج

ص:193


1- (1) راجع: الاستغاثة, أبو القاسم الکوفی, ج 1 ص 69.

زینب من أبی العاص بن الربیع بن عبد العزی بن عبد شمس بن مناف بن قصی القرشی العبشمی، وزوج رقیة من عتبة بن أبی لهب، وزوج أم کلثوم من عتیبة بن أبی لهب علی القول به وبها. وعلیه لم یخل الحال فی ذلک من أن یکون الرسول صلی الله علیه و آله فی زمن الجاهلیة علی دین الجاهلیة أو کان مخالفاً لهم بالإیمان بالله فإن قال قائل: إنه کان علی دین الجاهلیة کفر بالله ورسوله لأن الله یقول فی کتابه الحکیم ما نصه فی شأن الإمامة من قصة إبراهیم علیه السلام:(قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ)1 .

ومن کان کافراً مشرکاً کان أکبر الظالمین لقوله تعالی:(وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ یَعِظُهُ یا بُنَیَّ لا تُشْرِکْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْکَ لَظُلْمٌ عَظِیمٌ)2 . ومن کان کذلک کان عابداً للأصنام ومن کان عابداً للأصنام کان محالاً أن یتخذه الله عز ذکره نبیاً أو رسولاً أو إماماً بحکم هذا الوجه. ولو جاز علی الله أن یتخذ کافراً أو مشرکاً نبیاً أو رسولاً أو إماماً لجاز فی حکم النظر أن یرسل کفاراً مشرکین، وکما أنه جاز أن ینقل الکافر إلی الإیمان والمؤمن إلی الکفر کذلک یجب فی حکم النظر أن یکون حال الأنبیاء والأوصیاء لو جاز علی الله ذلک. فلما فسد ذلک فی حکمة الله جل اسمه کان محالاً علی رسول الله أن یزوج بناته من کافرین مشرکین من غیر ضرورة دعت إلی ذلک، وهو مخالف لهم فی دینهم عارف بکفرهم وإلحادهم, مع ارتفاع المانع وتوفر الموجب حیث إنّ أرض الحجاز لم

ص:194

تعدم القلة من أهل الفطرة استمراراً للبقیة المتبقیة من حنیفیة إبراهیم الخلیل ولما فسد هذا بطل أن یَکُنَّ بناته.

وأما قول الله تعالی:(یا أَیُّهَا النَّبِیُّ قُلْ لِأَزْواجِکَ وَ بَناتِکَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِینَ یُدْنِینَ عَلَیْهِنَّ مِنْ جَلاَبِیبِهِنَّ ذلِکَ أَدْنی أَنْ یُعْرَفْنَ فَلا یُؤْذَیْنَ وَ کانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِیماً)1 , فالمقصود من بناته بنات المؤمنین بدلیل أنه تعالی لم یذکر هنا بنات المؤمنین، وإلا فلو کان المقصود بناته حقیقة یکون المعنی أن الله أمر نساء النبی وبناته ونساء المؤمنین بالتستر وترک بناتهم, ولا قائل به من المسلمین(1).

وثالثاً: لم نجد من خلال سیرة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أی رابطة عملیة أو لفظیة مع زینب ورقیة وأم کلثوم, بخلاف ما صدر بحق ابنته فاطمة علیهاالسلام فهناک مئات الروایات, ولم نسمع یوما أنه صلی الله علیه و آله مرّ ببیت إحداهن, بخلاف ما کان یصنعه مع الزهراء علیهاالسلام, فقد ورد عن ابن عباس قال کان رسول الله صلی الله علیه وسلم إذا قدم من سفر قبل ابنته فاطمة(2).

ورابعاً: لم یحتج عثمان فی حیاته بأنه صهر النبی صلی الله علیه و آله أبدا، ولم یقل النبی صلی الله علیه و آله: عثمان صهری؟ وقال رسول الله صلی الله علیه و آله لعلی علیه السلام: یا علی أوتیت ثلاثاً لم یؤتهن أحد ولا أنا، أوتیت صهراً مثلی ولم أوت أنا مثلی. وأوتیت صدیقة مثل

ص:195


1- (2) انظر: دفاع من وحی الشریعة ضمن دائرة السنة والشیعة, السید حسین الرجا, ص 368.
2- (3) مجمع الزوائد, الهیثمی, ج 8 ص 42.

ابنتی، ولم أوت مثلها زوجة. وأوتیت الحسن والحسین من صلبک ولم أوت من صلبی مثلهما ولکنکم منی، وأنا منکم(1). وقال عمر لقد أوتی ابن أبی طالب ثلاث خصال لئن تکون لی واحدة منهن أحب إلی من حمر النعم: زوجه النبی صلی الله علیه و آله ابنته (وولدت له). وسد الأبواب إلا بابه (فی المسجد). وأعطاه الرایة یوم خیبر. (أخرجه أحمد)(2). فهنا لم یقل الخلیفة عمر: زوجه إحدی بناته بل قال زوجه ابنته.

وخامساً: عندما سُئل عبد الله بن عمر... فما قولک فی علی وعثمان قال أما عثمان فکان الله عفا عنه, وأما أنتم فکرهتم أن تعفوا عنه, وأما علیٌّ فابن عم رسول الله صلی الله علیه وسلم وختنه, وأشار بیده فقال هذا بیته حیث ترون(3). اقتصر ابن عمر علی وصف علی علیه السلام بختن رسول الله صلی الله علیه و آله، ولو کان عثمان ختنه أیضاً لذکره. وأعتقد أنّ هذا یکفی فی إثبات أنّ الزهراء علیهاالسلام هی البنت الوحیدة للنبی صلی الله علیه و آله, مع أنّه هناک شواهد وأدلة أخری فی المقام.

سبب تصدی السیدة خدیجة للتجارة

اشارة

الطابع العام الذی عرفت به السیدة خدیجة الکبری قبل زواجها بالنبی صلی الله علیه و آله هو عملها بالتجارة, حتی أصبحت هذه المیزة الشائعة فی سیرتها, ولم یکن نشاط السیدة خدیجة بالتجارة بعیداً عن الطابع العام للحیاة الاقتصادیة والأعراف

ص:196


1- (1) الغدیر, الأمینی, ج 2 ص 312.
2- (2) ینابیع المودة لذوی القربی, القندوزی, ج 2 ص 169.
3- (3) صحیح البخاری, البخاری, ج 5 ص 157.

الاجتماعیة فی مکة, حیث کانت التجارة تمثل العمود الفقری لمکة, ومنذ أن جمع قصی قریشاً أخذت تمارس مهنة التجارة وتستمد منها الحیاة والعیش, ولذلک أجریت عدة معاهدات تجاریة قام بها هاشم وإخوته تسمی الإیلاف, وذلک لتامین الطرق التجاریة الداخلیة والخارجیة, وأصبح لقریش صلات مع العراق والشام والیمن والحبشة. وهذا إضافة إلی الانتعاش الاقتصادی الذی حظیت به قریش فقد أعطاها غطاءً واسعاً من التحضر والتعرف علی الثقافات الأخری, التی کانت تفد مع التجار الأجانب, فجعلتها تختلف عن مجتمعات الجزیرة العربیة, وتبعاً لذلک تطورت مکانة المرأة نوعاً ما فی هذا المجتمع فی شتی المجالات فاشترکت النساء فی کثیر من النشاطات لاسیما الاقتصادیة منها, ولم تبقَ حکراً علی الرجال, کما یؤکد ذلک ورود عدة روایات تذکر جملة من النساء کن یمارسن التجارة, من تلک النساء أسماء بنت مخربه (أم أبی جهل) کانت تعمل ببیع العطور التی یجلبها لها ابنها عبدالله ابن ربیعة من الیمن(1). وأیضا کانت قیلة (أم أنمار) تعمل بالتجارة. وهاله أخت خدیجة. فهذا کان أمراً شائعاً فی المجتمع المکی. ولیس ممارسة السیدة خدیجة للتجارة أمراً خارجاً عن الإطار العرفی والقانونی.

إما السبب الذی جعل السیدة خدیجة تباشر هذا العمل بعد وفاة خویلد هو لم یبق احد یرثه سوی خدیجة ونوفل ابن خویلد فلم یکن احد یقوم بإدارة هذه الأموال, لذلک قامت بنفسها فی إدارة هذه الأموال وتنظیمها للتجارة, حیث کانت ترسل الأمناء الذین من ضمنهم ابن أخیها حکیم ابن حزام, وکان یعمل معها

ص:197


1- (1) أنظر: الطبقات الکبری, محمد بن سعد, ج 8 ص 301.

بشکل منظم ومستمر وأیضا غلامها میسرة.

وکیف کان فإن السیدة خدیجة وجدت بین یدیها ثروة ومالاً بحاجة إلی عمل وتنمیة وکانت ذات نضوج عقلی وقوة فی شخصیتها الاجتماعیة قد حفزها ودفعها لتحریک هذا المال فی المجال الاقتصادی السائد آنذاک. ولکنها لم تباشر العمل بنفسها وإنما استعانت ببعض الأشخاص للعمل ومزاولة البیع والشراء والخروج مع القوافل, وهی بمثابة المشرف العام علی رؤوس هذه الأموال.

مصادر أموال السیدة خدیجة

لم یبین لنا التاریخ الموارد الأولیة التی من خلالها حصلت السیدة خدیجة علی رأس المال حتی أصبحت تضارب وتتاجر به وحازت کل هذه الثروة العظیمة التی تنافس کبار التجار من قریش, وعلیه حاول بعض الباحثین أن یحدد مصدر أموال السیدة خدیجة بافتراض بعید عن الواقع ولا ینسجم مع المنطق العام, حیث قال حصلت علی المال من أزواجها قبل الرسول صلی الله علیه و آله قال: «وقد مات عن خدیجة زوجان وترک کل منهما ثروة»(1). وهذا الکلام غیر صحیح ولا یصمد أمام النقاش من عدة أمور نستعرضها علی شکل نقاط:

أولاً: ثبت عندنا أنّ السیدة خدیجة لم تکن متزوجة قبل النبی صلی الله علیه و آله, فالافتراض منتفٍ أصلاً, أو یکون بمثابة الموجبة بانتفاء الموضوع.

ثانیاً: لو سلمنا جدلاً وقلنا لها زوج أو أزواج قبل النبی الأکرم صلی الله علیه و آله, فهم

ص:198


1- (1) نقلاً عن کتاب حیاة خدیجة من المهد الی الحد, ص 118.

کانوا فقراء لا یملکون أموالاً ولا هم من التجار, ولم توجد روایة أو نص تاریخی یؤید ذلک, بل هناک شواهد تدل علی عکس ذلک وتثبت أنهم کانوا فقراء, کما جاء عن ابن إسحاق فی أسراء بدر: (قال: وصیفی بن أبی رفاعة بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ترک فی أیدی أصحابه، فأخذوا علیه لیبعثن لهم بفدائه فخلوا سبیله ولم یف لهم)(1). فلو کان عتیق المخزومی تاجر وذا مال لکانت ابنته هند بنت عتیق أرسلت فداءً لزوجها عندما أسر فی معرکة بدر بدلاً من بقائه فی الأسر لأنه لا یمتلک فدیة.

ثالثاً: إنّ القوانین الوراثیة السائدة فی أغلب المجتمعات الجاهلیة ما قبل الإسلام کانت لا تورث الزوجة حیث یأخذ أهل الزوج أو أقرباؤه کل المال الذی یترکه زوجها, بل کانوا لا یورثون النساء والأطفال, حتی نزلت آیة المواریث لتعالج هذه المعضلة التی کان یعانیها المجتمع الجاهلی (لِلرِّجالِ نَصِیبٌ مِمّا تَرَکَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِیبٌ مِمّا تَرَکَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ کَثُرَ نَصِیباً مَفْرُوضاً)2 ، وهذه الآیة نزلت فی أوس بن مالک الأنصاری، وذلک أن أوس بن مالک الأنصاری توفی وترک امرأته أم کحة الأنصاریة، وترک ابنتین إحداهن صفیة، وترک ابنی عمه عرفطة وسوید ابنی الحارث، فلم یعطیاها ولا ولداها شیئاً من المیراث، وکان أهل الجاهلیة لا یورثون النساء ولا الولدان الصغار شیئاً، ویجعلون المیراث لذوی الإنسان منهم، فانطلقت أم کحة وبناتها إلی

ص:199


1- (1) أنظر: البدایة والنهایة ابن کثیر, ج 3 ص 380.

النبی صلی الله علیه وسلم، فقالت: إنّ أباهن توفی، وإنّ سوید بن الحارث وعرفطة منعاهن حقهن من المیراث، فأنزل الله عز وجل فی أم کحة وبناتها: قوله (لِلرِّجالِ نَصِیبٌ ...)(1). بل کان الحال أسوء من ذلک, وهو إذا کان للرجل زوجة ومات عنها فأولیاؤه أحق بها, کما ورد عن ابن عباس قال کانوا إذا مات الرجل کان أولیاؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وان شاؤوا زوجوها وان شاؤوا لم یزوجوها فهم أحق بها من أهلها, حتی نزلت هذه الآیة (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا یَحِلُّ لَکُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ کَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ)2 .

رابعا: لو فرضنا أنّها ورثتهم فإنّ لأولادهم حصة فی هذا المال, ولا یحق لها أن تستأثر بالأموال دونهم, مع أنّه کیف نتصور أنّ النبی صلی الله علیه و آله قبل هذه الأموال منها وعمل بها واستفاد منها فی نشر الدعوة الإسلامیة وهی فی الواقع بحکم المغصوبة.

فتحصل من کل ذلک أنّ السیدة خدیجة لم ترث من أزواجها الذین لا یعرف عنهم شیء سوی أسمائهم.

والصحیح أو الذی هو أقرب للواقع أنّ السیدة خدیجة ورثت هذا المال من عائلتها حیث إنّ أباها خویلد واثنین من أخوتها قتلوا فی حرب الفجار, فنالت جزءاً من هذه الأموال مع بقیة الورثة, أو أهداها أبوها فی حیاته ثم عملت به فنمی, مع أنّ أباها کان من الشخصیات المرموقة والمعروفة ومرجع الناس إلیه کما تقدم.

ص:200


1- (1) أنظر: تفسیر مقاتل بن سلیمان, مقاتل بن سلیمان, ج 1 ص 216.

هل کان النبی أجیراً عند خدیجة

اشارة

لا یسمح المقام الذی یتمتع به النبی صلی الله علیه و آله ولا العائلة الهاشمیة حینذاک أن یکون النبی صلی الله علیه و آله أجیراً بهذه الصفة لأحد کیف ما کان لاسیما وهو مؤهل لأن یکون منقذاً للبشریة, بالإضافة إلی العرف الجاهلی الذی یستهجن أن یکون أجیراً عند امرأة کیف ما کانت ولذلک لم نلحظ من التاریخ أنّ أعداء الإسلام عابوا علیه بذلک. وعلیه إنّه ما کان مما یقول الناس: إنها استأجرته بشیء، ولا کان أجیراً لأحد قط ولعل إضافة لما تقدم فی عزة نفس النبی صلی الله علیه و آله وإبائها. وأیضاً فی تسدید الله تعالی له. وأیضا فی شرف أبی طالب وسؤدده، ما یبعد کثیراً أن یکون قد صدر شیء مما نسب إلی أبی طالب منه وعلی هذا، فقد یکون سفره صلی الله علیه و آله إلی الشام، لا لکونه کان أجیراً لخدیجة، وإنما لأنه کان یضارب بأموالها، أو شریکاً لها.

وأمّا ما جاء فی روایة الیعقوبی عن عمار بن یاسر ما یفید أن خبر سفر النبی بأموال خدیجة إلی الشام وأن خدیجة أحبته حیث حدثها غلامها میسرة بأخباره، وأنها بعثت إلی النبی صلی الله علیه و آله فعرضت نفسها علیه... کان هذا قد شاع فی الناس یوم ذاک فکانوا یقولون: إنها استأجرته بشیء من أموالها، وکان عمار بن یاسر یقول: «أنا أعلم الناس بتزویج رسول الله خدیجة بنت خویلد... إنّه ما کان مما یقول الناس أنّها استأجرته بشیء، ولا کان أجیراً لأحد قط... بل کنا نمشی یوماً بین الصفا والمروة إذ بخدیجة بنت خویلد وأختها هالة، فلما رأت رسول الله جاءتنی هالة أختها فقالت: یا عمار ما لصاحبک حاجة فی خدیجة؟ قلت: والله ما أدری.

ص:201

فرجعت فذکرت ذلک له، فقال: ارجع فواضعها وعدها یوماً نأتیها فیه، ففعلت. فلما کان ذلک الیوم أرسلت إلی عمرو بن أسد (عمها) وطرحت علیه حبراً ودهنت لحیته بدهن أصفر... ثم جاء رسول الله صلی الله علیه و آله فی نفر من أعمامه، یتقدمهم أبو طالب، فخطب أبو طالب فقال: ثم روی الخطبة المذکورة ثم قال: فتزوجها وانصرف»(1).

بالإضافة إلی ما جاء فی التفسیر المنسوب إلی الإمام الحسن العسکری عن أبیه الهادی علیه السلام یصرح بذلک فیقول: «إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله کان یسافر إلی الشام مضارباً لخدیجة بنت خویلد»(2). وکذلک ابن إسحاق یقول: «کانت خدیجة بنت خویلد امرأة تاجرة ذات مال وشرف، تستأجر الرجال فی مالها وتضاربهم إیاه بشیء تجعله لهم منه... الخ»(3). وعلی هذا فقد یکون سفره صلی الله علیه و آله إلی الشام لا لکونه أجیراً لخدیجة بل مضارباً بأموالها, أو شریکاً.

والعمل لا یتنافی مع العبقریات والنبوات، ولا یضع من شأن الإنسان مهما کان، بل هو من أفضل الطاعات إذا کان فی سبیل العیال والأولاد وخیر الناس، ولکن تأریخ النبی صلی الله علیه و آله منذ ولادته إلی أن بلغ سن الرجولة وأصبح زوجاً لخیر امرأة عرفها تأریخ المرأة، ومواقف جده ثم عمه والمراحل التی عاش فیها معهما عزیزاً موفور الکرامة، لا یفارقهما فی لیل أو نهار، یبذلان فی سبیل راحته واطمئنانه الغالی ومن تتبع ذلک وأدرک أنهما منذ طفولته کانا یترقبان له مستقبلاً

ص:202


1- (1) راجع: تاریخ الیعقوبی, ج 2 ص 20.
2- (2) راجع: تفسیر الإمام العسکری, ص 155.
3- (3) راجع: سیرة ابن إسحاق, محمد بن إسحاق بن یسار, ج 2 ص 59.

یهز العالم من أقصاه إلی أقصاه ویحدث تحولاً فی تأریخ البشریة، وأنهما کانا یخافان علیه دعاة الأدیان وطواغیت العرب.

زیف القول

حاول أعداء الإسلام أو الحمقی والمغفلون تحریف مسار التاریخ واتهام نبی الإنسانیة بما لا یعقل, فقد نقل الحلبی فی سیرته أنّ النبی صلی الله علیه و آله دخل علی خدیجة قبل التزویج فأخذت یده فضمته إلی صدرها(1). وأیضا من جملة ما نقله أنّ عمها کان یأنف من أنّ یزوجها من محمد یتیم أبی طالب فاحتالت علیه حتی سقته الخمر فزوجها فی حال سکره فلما أفاق وجد نفسه أمام الأمر الواقع, فلم یجد بداً من القبول(2) ؟.

والجواب

لا ریب إنّ هذا الهراء والافتراء یتناقض مع أخلاق الرسول الکریم وخدیجة أم المؤمنین فهو لیس إلا کذباً موضوعاً لم یقصد به سوی الحط والوضع من کرامة النبی صلی الله علیه و آله وتنقیصه. إضافة إلی قدح مکانة السیدة خدیجة.

وکما أنّ کون خدیجة هی التی عرضت نفسها علی النبی صلی الله علیه و آله، وأنه لم یکن هو الذی تقدم بطلب یدها، لخیر جواب لما جاء فی کلمات بعض المستشرقین من اتهام باطل بأنه صلی الله علیه و آله إنّما تزوج خدیجة طمعاً فی مالها, مع أنّه لم

ص:203


1- (1) انظر: السیرة الحلبیة, الحلبی, ج 1 ص 140.
2- (2) انظر: المصدر السابق, ص 138.

یبق هذا التقدیر والحب من خدیجة للنبی صلی الله علیه و آله من طرف واحد، بل قابله النبی صلی الله علیه و آله بالحب والتقدیر لها فی أیام حیاتها وبعد مماتها، حتی لقد کان ذلک یثیر حفیظة بعض أزواجه اللواتی ما رأین، ولا عشن مع خدیجة، دلیل واضح علی بطلان هذا الزعم. بل إن حیاة النبی صلی الله علیه و آله من بدایتها إلی نهایتها لخیر شاهد علی أنّه ما کان یقیم للمال أی وزن وقد أنفقت خدیجة أموالها برغبتها فی سبیل الله والدعوة إلی دینه ولیس علی النبی صلی الله علیه و آله وملذاته وهکذا تفعل الحرة العاقلة اللبیبة کما فعلت خدیجة، فلا تغرها بهرجة الدنیا وزخرفها وزبرجها، ولا تبحث عن المال والشهرة، ولا عن اللذة والشهوة, وإنمّا یکون نظرها إلی الأخلاق الفاضلة والسجایا الکریمة، لأنّها هی التی تسخر المال والجاه والقوة فی سبیل الإنسانیة, والمادیون الذین ینظرون إلی کل شیء من ناحیة المال والمادة فإنّ حیاة النبی صلی الله علیه و آله من بدایتها إلی نهایتها لخیر شاهد علی أنه صلی الله علیه و آله ما کان یقیم للمال وزناً.

تصید بالماء العکر

زعم بعض المغرضین أن خدیجة بما أنها کانت ذات مال تتاجر به، کانت أحوج ما تکون إلی رجل أمین لإدارة أمور تجارتها، لذلک اندفعت للزواج بمحمد الصادق الأمین وکان النبی صلی الله علیه و آله یعلم بوضعها المالی وحیاتها الکریمة قبل خطوبتها مع ما بینهما من تفاوت العمر.

إلا أن الذی نراه فی التأریخ هو أن دوافع خدیجة للزواج بالصادق الأمین کانت دوافع معنویة لا مادیة.

ص:204

والشاهد لذلک ما رواه ابن إسحاق قال: وکانت خدیجة قد ذکرت لورقة بن نوفل بن أسد (ابن عمها) ما ذکر لها غلامها میسرة من قول الراهب، وما کان یری منه إذ کان الملکان یظلانه.

وکان ورقة نصرانیاً قد تتبع الکتب وعلم من علم الناس فقال لها: لئن کان هذا حقاً یا خدیجة فان محمداً لنبی هذه الأمة، وقد عرفت انّه کائن لهذه الأمّة نبی ینتظر وکانت أول امرأة آمنت به، لما یشهد فی صفحات التأریخ بأن زواجها کان منبعثاً من إیمانها بطهارة الصادق الأمین، وان حیاة خدیجة وما ورد بشأنها من الروایات والأحادیث لما یوضح هذا الموضوع بما لا یدع فیه أی شبهة، علی من أراد التفصیل فی ذلک أن یراجع الروایات الواردة فی فضلها وفضیلتها(1).

منزلة خدیجة عند الله

حظیت خدیجة بنت خویلد بمکانة عالیة ومقام رفیع عند الله, وهذا ما کشف عنه الوحی الإلهی الذی طالما یوصل لها التحیة والسلام المباشر من قبل الله تعالی ویبشرها بما أعد لها من النعیم فی الآخرة. کما ورد بطرق مختلفة, أتی جبرائیل النبی صلی الله علیه و آله فقال: یا رسول الله هذه خدیجة قد أتتک ومعها إناء فیه أدام أو طعام أو شراب فإذا هی أتتک فاقرأ علیها السلام من ربها، وبشرها ببیت فی الجنة من قصب لا صخب فیه ولا نصب(2).

ص:205


1- (1) راجع: موسوعة التاریخ الإسلامی, محمد هادی الیوسفی, ج 1 ص 331
2- (2) صحیح البخاری, ج 4 ص 231. والسیرة النبویة, ابن کثیر, ج 2 ص 133.

وأیضا ورد عن زرارة وحمران بن أعین ومحمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال:

حدث أبو سعید الخدری ان رسول الله صلی الله علیه و آله قال: إنّ جبرئیل قال لی لیلة اسری بی وحین رجعت فقلت: یا جبرئیل هل لک من حاجة؟ فقال: حاجتی أن تقرأ علی خدیجة من الله ومنی السلام, وحدثنا عند ذلک انها قالت حین لقیها نبی الله علیه وآله السلام فقال لها الذی قال جبرئیل، قالت: ان الله هو السلام، ومنه السلام، وإلیه السلام، وعلی جبرئیل السلام(1).

وعن وکیع، بإسناده، أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال لخدیجة:

یا خدیجة، هذا جبرائیل یخبرنی أن الله عز وجل أرسله إلیک بالسلام. فقالت خدیجة: الله السلام ولله السلام وعلی جبرائیل السلام(2).

وعن ابن عباس قال: خط رسول الله صلی الله علیه و آله أربعة خطوط فی الأرض وقال: أتدرون ما هذا: قلنا الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلی الله علیه و آله:

أفضل نساء [أهل] الجنة أربع: خدیجة بنت خویلد، وفاطمة بنت محمد، ومریم بنت عمران، وآسیة بنت مزاحم امرأة فرعون(3) ).

وغیرها من الروایات الکثیرة التی تشیر إلی عظمة مکانة السیدة خدیجة عند الله.

ص:206


1- (1) شرح الأخبار, القاضی النعمانی المغربی, ج 3 ص 21. ینابیع المودة, القندوزی, ج 2 ص 48.
2- (2) تفسیر العیاشی, محمد بن مسعود العیاشی, ج 2 ص 279.
3- (3) الخصال, الشیخ الصدوق, ص 205.

مکانتها عند النبی صلی الله علیه و آله

انفردت خدیجة عن غیرها من زوجات النبی صلی الله علیه و آله فی حبه لها, فقد نالت حب النبی صلی الله علیه و آله ورضاه وشغفه بها وما کان یقدم علیها امرأة وبقیت هی زوجته الوحیدة وشریکة حیاته إلی أن وافاها الأجل, وهذا الحب وهذه العلاقة لم تنقطع عند الموت وإنّما ظلت فی ذاکرته وهواجسه صلی الله علیه و آله, وکان یؤنسه الحدیث عنها حتی أنّهُ کان یقصد صویحباتها یحدثنه عنها وعن ذکریاتها, وکان یکثر ذکرها، ویحسن الثناء علیها، ویقول: ما نفعنی مال کمالها، ورزقه الله الولد منها، ولم یتزوج فی حیاتها إکراماً منه لها. ذات یوم اجتمعن عنده نساؤه, قالت أم سلمة: فلما ذکرنا خدیجة بکی رسول الله صلی الله علیه و آله ثم قال: خدیجة وأین مثل خدیجة، صدقتنی حین کذبنی الناس وآزرتنی علی دین الله وأعانتنی علیه بمالها، إن الله عز وجل أمرنی أن أبشر خدیجة ببیت فی الجنة من قصب [الزمرد] لا صخب فیه ولا نصب(1). ولکثرة ما کان یذکرها قالت له عائشة یوماً: تکثر من ذکر خدیجة وقد أبدلک الله من هو خیر منها؟ فقال صلی الله علیه و آله: کلا والله ما بدلت بها من هو خیر منها، صدقتنی إذ کذبنی الناس، وآوتنی إذ طردنی الناس، وأسعدتنی بمالها، ورزقنی الله الولد منها، ولم ارزق من غیرها(2).

وعن عائشة قالت ما غرت علی نساء النبی صلی الله علیه وسلم إلا علی خدیجة وإنی لم أدرکها قالت وکان رسول الله صلی الله علیه وسلم إذا ذبح الشاة فیقول أرسلوا بها إلی أصدقاء خدیجة قالت فأغضبته یوماً فقلت خدیجة فقال

ص:207


1- (1) أنظر: شرح إحقاق الحق, السید المرعشی, ج 4 ص 480. وبحار الأنوار, العلامة المجلسی, ج 43 ص 131.
2- (2) التعجب, أبو الفتح الکراجکی, ص 103.

رسول الله صلی الله علیه وسلم إنّی قد رزقت حبها(1).

وجاء عن أنس قال کان النبی صلی الله علیه وسلم إذا أتی بالشیء قال اذهبوا به إلی فلانة فإنها کانت صدیقة لخدیجة. وقالت عائشة کان رسول الله صلی الله علیه وسلم إذا ذکر خدیجة لم یکن یسأم من الثناء علیها والاستغفار لها فذکرها ذات یوم واحتملتنی الغیرة إلی أن قلت قد عوضک الله من کبیرة السن قالت فرأیت رسول الله صلی الله علیه وسلم غضب غضباً سقط فی جلدی فقلت فی نفسی اللهم إنک إن أذهبت عنی غضب رسول الله صلی الله علیه وسلم لم أذکرها بسوء ما بقیت فلما رأی رسول الله صلی الله علیه وسلم الذی قد لقیت قال کیف قلت والله لقد آمنت بی إذ کفر بی الناس وصدقتنی إذ کذبنی الناس ورزقت منی الولد إذ حرمتیه منی فغدا بها علی وراح شهراً(2).

وأیضا عن عائشة قالت کان النبی صلی الله علیه وسلم إذا ذکر خدیجة اثنی علیها فأحسن الثناء قالت فغرت یوما فقلت ما أکثر ما تذکرها حمراء الشدق قد أبدلک الله عز وجل بها خیراً منها قال ما أبدلنی الله عز وجل خیراً منها قد آمنت بی إذ کفر بی الناس وصدقتنی إذ کذبنی الناس وواستنی بمالها إذ حرمنی الناس ورزقنی الله عز وجل ولدها إذ حرمنی أولاد النساء(3). وغیر ذلک من الروایات المستفیضة عند الفریقین, ویکفیها أنّه صلی الله علیه و آله بعد ما فارقت الحیاة ومن ثم أبی طالب سمی ذلک العام عام الحزن؛ لأنه فقد عزیزین یصعب فراقهما.

ص:208


1- (1) صحیح مسلم, مسلم النیسابوری, ج 7 ص 134.
2- (2) المعجم الکبیر, الطبرانی, ج 23 ص 12.
3- (3) انظر: مسند أحمد, أحمد بن حنبل, ج 6 ص 117.

سبق إسلامها

امتازت خدیجة عن غیرها فی جملة من المواقف النبیلة التی أعطتها صبغة ممیزة أشخصتها عن أقرانها ومعاصریها من جملتها أنّها أوّل النساء اللاتی أسلمت وآمنت وضحّت وقدمت الغالی والنفیس من أجل الدین والرسالة, وقد أظهرت ما کان یختلج صدرها من إیمانها بالنبی الأکرم وما رسمه من مستقبل زاهر فی إحیاء البشریة ومجابهة الطاغوت الغاشم, مع أنّ دخول خدیجة علیهاالسلام فی الإسلام یختلف عن غیره بکثیر إذ أکثر أهل الإسلام کان إسلامهم بطیئاً ومتأخراً وربما یکون خجولاً عند بعض الأشخاص, بل متزلزلاً عند البعض الآخر, لذا نلاحظ البعض یدخل دائرة الإسلام بعد المشاورة أو بعد التأمل, أو هناک ثمة ضغوط سیاسیة أو اجتماعیة, وغیر ذلک, وأمّا خدیجة علیهاالسلام فقد کان إسلامها سریعاً وفوریاً ومنشأ هذه السرعة والفوریة فی إسلامها أمران:

الأمر الأول: علمها ومعرفتها بالأدیان والکتب وعلامات الرسل, فقد تعلمتها من عمها ورقة بن نوفل کما سوف یأتی فی الکلام حول علمها فهی علی اطلاع بأنّ محمداً صلی الله علیه و آله سوف یکون هو النبی لهذه الأمة, وکان هذا العلم یلازمه الإیمان بالله تعالی فإنها علیهاالسلام کانت علی ملة إبراهیم الخلیل علیه السلام کما تقدمت الإشارة إلیه.

الأمر الثانی: هو علمها بأنّ محمداً صلی الله علیه و آله أهل لذلک ولیس أحد فی أمته من هو أفضل منه, وعلیه فقد ذکروا أن خدیجة أوّل من أسلم حیث بُعث صلی الله علیه و آله یوم الاثنین فأسلمت هی فی ذلک الیوم, وکانت له عوناً علی حاله کله تثبته علی أمره

ص:209

وتصبره علی ما یلقی من أذی قومه, وکان رسول الله صلی الله علیه و آله یحبها ویقول: رزقت حبها، ولم یتزوج علیها حتی ماتت قبل الهجرة بسبع سنین, وقیل بخمس, وقیل بأربع, وقیل بثلاث, وهو أصح وأشهر وتوفیت هی وأبو طالب فی سنة واحدة. قیل: کان بینهما ثلاث أیام, وسیأتی الکلام عن تاریخ وفاتها إنْ شاء الله.

النبی یعلّم خدیجة الوضوء والصلاة

بعد ما علّم جبرائیل الوضوء والصلاة للنبی صلی الله علیه و آله من قبل الله, فجاء رسول الله إلی خدیجة فتوضأ لها لیریها کیفیة الطهور للصلاة کما أراه جبرائیل فتوضأت کما توضأ لها رسول الله صلی الله علیه و آله ثم صلی بها رسول الله صلی الله علیه و آله کما صلی به جبرائیل فصلت بصلاته(1). وکانت هذه الصلاة فی نفس یوم الوحی کما ورد. صلی النبی صلی الله علیه و آله یوم الاثنین وصلت خدیجة آخر یوم الاثنین. وأیضا ورد عن عفیف قال: جئت فی الجاهلیة حتی قدمت مکة لابتاع لأهلی من ثیابها وعطرها وآویت إلی العباس وکان رجلاً تاجراً فأنا جالس عنده وأنا أنظر إلی الکعبة وقد حلقت الشمس فی السماء إذ اقبل فتی شاب حتی رمی ببصره إلی السماء فنظر ثم اقبل إلی الکعبة فدنا منها فلم یلبث إلا یسیراً حتی جاء شاب فصنع کما صنع ثم قام إلی جنبه فما مکث إلا یسیراً حتی جاءت امرأة فقامت خلفهما فأهوی الشاب فرکع فرکعا فرفع فرفعا ثم أهوی إلی الأرض ساجداً (فسجدا) فقلت: یا عباس أمر والله عظیم؟ فقال: أمر والله عظیم؟ هل تدری من هذا؟ قلت: لا, قال: هذا محمد ابن عبد الله هذا ابن أخی, هل تدری من هذه المرأة؟ قلت: لا, قال: هذه خدیجة

ص:210


1- (1) السیرة النبویة, ابن هشام الحمیری, ج 1 ص 161.

بنت خویلد زوجة ابن أخی. هل تدری من هذا (الفتی؟) هذا علی بن أبی طالب ابن أخی, هذا الذی تری ذکر أن ربه رب السماوات والأرض أمره بهذا الدین فهو علیه ولا والله (ما) أعلم علی ظهر الأرض کلها أحداً علی هذا الدین غیر هؤلاء الثلاثة(1).

خدیجة وعاء لأم الأئمة

تقدم أنّ أم المعصوم لا بد وأن تحتوی علی مؤهلات وصفات کمالیة عالیة بحیث تؤهلها لأن تکون وعاءً للمعصوم وتنال هذا الوسام الرفیع, ولذلک دخل هذا الوعاء تحت الرعایة والتربیة الإلهیة وکان ذلک بمثابة الاصطفاء وأم المعصوم قد اصطفیت من قبل الله عزّ وجل. والسیدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام لم تکن حجة ومعصومة فحسب وإنما بحسب الأحادیث الثابتة أنها حجة علی الحجج الطاهرة والبراهین الزاهرة, کما أکده المعصوم علیه السلام بعبارة صریحة لا تقبل التأویل: نحن حجج الله علی الخلق وفاطمة حجة الله علینا(2). من هنا أخذت فاطمة علیهاالسلام تعرّف علیاً عن نفسها وعن عظم مکانتها وذلک من باب إیاک أعنی واسمعی یا جارة, وإلا أهل البیت علیهم السلام أعلم وأعرف ببعضهم البعض, فراحت مخاطبة علیاً علیه السلام قائلة: اعلم یا أبا الحسن إنّ الله تعالی خلق نوری وکان یسبح الله جل جلاله ثم أودعه شجرة من شجر الجنة فأضاءت فلما دخل أبی صلی الله علیه و آله إلی الجنة أوحی الله تعالی إلیه إلهاماً أن اقتطف الثمرة من تلک الشجرة وادرْها فی لهواتک ففعل

ص:211


1- (1) مناقب الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام, محمد بن سلیمان الکوفی, ج 1 ص 271
2- (2) انظر: الانتصار, العاملی, ج 7 ص 193.

فأودعنی الله تعالی صلب أبی صلی الله علیه و آله ثم أودعنی خدیجة بنت خویلد علیهاالسلام فوضعتنی وأنا من ذلک النور, اعلم ما کان وما یکون وما لم یکن, یا أبا الحسن المؤمن ینظر بنور الله تعالی(1).

وعن مجاهد، عن ابن عباس، قال: لما تزوجت خدیجة بنت خویلد، رسول الله صلی الله علیه و آله هجرها نسوان مکة، وکن لا یکلمنها، ولا یدخلن علیها، فلما حملت بالزهراء علیهاالسلام کانت إذا خرج رسول الله صلی الله علیه و آله من منزلها تکلمها فاطمة الزهراء فی بطنها من ظلمة الأحشاء، وتحدثها وتؤانسها، فدخل رسول الله صلی الله علیه و آله فقال لها: یا خدیجة من تکلمین؟ قالت: یا رسول الله، إن الجنین الذی أنا حامل به إذا أنا خلوت به فی منزلی کلمنی، وحدثنی من ظلمة الأحشاء, فتبسم رسول الله صلی الله علیه و آله ثم قال: یا خدیجة، هذا أخی جبرائیل علیه السلام یخبرنی أنها ابنتی، وأنها النسمة الطاهرة المطهرة، وأن الله تعالی أمرنی أن أسمیها (فاطمة) وسیجعل الله تعالی من ذریتها أئمة یهتدی بهم المؤمنون. ففرحت خدیجة بذلک(2). ولم نسمع بمثل هذا من أبناء السیدة خدیجة غیر السیدة الزهراء علیهاالسلام أنه کلمها وحدثها وهو فی بطنها فهذه الکرامة من اختصاص السیدة الزهراء علیها السلام بما لها من مکانة عند الله.

نساء الجنة یحضرن خدیجة فی مخاضها

نالت خدیجة مرة أخری وسام الشرف والافتخار حیث حضرن خیر نساء أهل الجنة لخدمتها والقیام بشأنها وهذا الأعجاز لا یتأتی لکل أحد إلا من خصه

ص:212


1- (1) عیون المعجزات, حسین بن عبد الوهاب, ص 47.
2- (2) الثاقب فی المناقب, ابن حمزة الطوسی, ص 285.

الله عز وجل بالفضل والاصطفاء. فلما أن حضر وقت ولادتها أرسلت إلی نسوان مکة أن یتفضلن ویحضرن ولادتی لیلین منی ما تلی النساء من النساء، فأرسلن إلیها: یا خدیجة، أنت عصیتنا ولم تقبلی منا قولنا، وتزوجت فقیراً لا مال له، فلسنا نجیء إلیک، ولا نلی منک ما تلی النساء من النساء فاغتمت خدیجة رضی الله عنها غماً (شدیداً)، فبینما هی کذلک إذ دخل علیها أربع نسوة کأنهن من نسوة قریش، فقالت إحداهن: یا خدیجة، لا تحزنی فأنا آسیة بنت مزاحم، وهذه صفیة بنت شعیب وفی روایة أخری: کلثم بنت عمران أخت موسی علیه السلام وهذه سارة زوجة إبراهیم علیه السلام، وهذه مریم بنت عمران، وقد بعثنا الله تعالی إلیک لنلی منک ما تلی النساء من النساء, وجلسن حولها، ووضعت الزهراء فاطمة علیهاالسلام طاهرة ومطهرة(1).

خدیجة مربیة لأمیر المؤمنین علیه السلام

ومن فضائلها والخصوصیات التی اختصت بها علیهاالسلام إنها ربت أمیر المؤمنین علیه السلام ویکفیها هذا الفخر العظیم حیث احتضنت مولی الموحدین الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام.

وبعبارة أخری، یحتاج أمیر المؤمنین إلی حاضنة خاصة طاهرة ومطهرة من کل شائبة ولا یحمل هذا الظرف الطاهر ولا یحتضنه أی محضن مهما کانت خصوصیاته, بل لا بد أن یکون قابلاً لهذا المعصوم أرواحنا فداه فکما أن لفاطمة بنت أسد سلام الله علیها الفخر والفضل حیث ربت الرسول صلی الله علیه و آله

ص:213


1- (1) الثاقب فی المناقب, ابن حمزة الطوسی, ص 286.

فکذلک لخدیجة علیهاالسلام هذا الفضل العظیم ویدل علی هذا ما ذکره ابن شهر آشوب حیث قال: کان أبو طالب وفاطمة بنت أسد ربیا النبی صلی الله علیه و آله وخدیجة لعلی صلوات الله علیه، ونقل تاریخ الطبری, والبلاذری, وتفسیر الثعلبی, والواحدی, وشرف النبی, وأربعین الخوارزمی, ودرجات محفوظ البستی, ومغازی محمد بن إسحاق, ومعرفة أبی یوسف النسوی, أنه قال مجاهد:... وأخذ رسول الله علیاً وهو ابن ست سنین کسنه یوم أخذه أبو طالب فربته خدیجة والمصطفی إلی أن جاء الإسلام، فکان مع النبی إلی أن مضی وبقی علیٌّ بعده(1).

وعن الباعونی الشافعی: أنّ أبا طالب قال لزوجته فاطمة بنت أسد أم علی رضی الله عنهم یا فاطمة ما لی لا أری علیاً یحضر طعامنا؟ فقالت: إن خدیجة بنت خویلد قد تألفته(2), فقال أبو طالب: والله لا أحضر طعاماً لا یحضره علی, فأرسلت أمه جعفراً أخاه وقالت: جئنی به وحدثته بما قال أبوه. قال: فانطلق جعفر إلی خدیجة فأعلمها وأخذ علیاً...(3). هذا وغیره یدل علی مدی حبها لأمیر المؤمنین علیه السلام وإیمانها به.

وذکر ابن حجر العسقلانی قوله: وعلی نشأ فی بیت خدیجة وهو صغیر, ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البیت النبوی إلی خدیجة دون غیرها...(4).

ص:214


1- (1) راجع: حلیة الأبرار, السید هاشم البحرانی, ج 2 ص 28.
2- (2) وتألف فلان فلانا إذا داراه وآنسه وقاربه وواصله حتی یستمیله إلیه. تاج العروس, ج 6 ص 45.
3- (3) راجع: جواهر المطالب فی مناقب علی بن أبی طالب علیهما السلام, ج 1 ص 39.
4- (4) فتح الباری بشرح البخاری, ج 7 ص 109.

خدیجة عند احتضارها

ذکر بعض المؤرخین حال السیدة خدیجة عند احتضارها: وقد بدأت وطأة المرض تشتد علی أم المؤمنین خدیجة علیهاالسلام ولکن لم یکن یشغلها ما تعانیه من مرض بل کان کل شغلها رسول الله صلی الله علیه و آله وأصحابه والدعوة إلی الله تعالی وتصبر علی آلامها فتبتسم له حین یدخل علیها وهموم الدعوة إلی الله ترسم آثارها علی وجه الحبیب فتشد خدیجة رضی الله عنها علیه بیدها الحانیة وتمسح عنه بهذا التأیید کل آثار التعب أو النصب.

ولبث الرسول صلی الله علیه و آله إلی جوار زوجته المریضة یرعاها ویؤنس وحشتها ویقف إلی جوارها لحظة الاحتضار هذه السیدة التی کان لها قصب السبق فی الإسلام وهی التی احتضنت الدعوة الولیدة بقلبها المؤمن المستیقن وهی التی واست النبی صلی الله علیه و آله والمسلمین بمالها وجاهها وفوق هذا کله صاحبة البشری الواعدة بأنّ لها بیتاً فی الجنة.

لقد أتی الخاصة من الأهل والأقارب یهرولون لیهونوا علی أم المؤمنین مرضها بإحاطتها بالرعایة والود وإسباغ مشاعر المحبة علیها واقترب منها المصطفی صلی الله علیه و آله أکثر أنه یری وداعها قد حان وأنها الآن أوشکت علی الفراق, ثم أسلمت الروح لبارئها وهی بین یدی رسول الله صلی الله علیه و آله وقام رسول الله صلی الله علیه و آله وهو حزین یحاول مغالبة عبراته, وهو یقول لقد ماتت خدیجة. ثم سری الخبر فی أرجاء مکة یحمل نبأ وفاة أعظم امرأة عرفها الناس فی تلک الأرض الطاهرة ووقع الخبر علی أهل مکة کالصاعقة لقد ماتت خدیجة بنت خویلد الطاهرة سیدة نساء قریش.

ص:215

وروی عن الصدوق قال: عندما دخل رسول الله صلی الله علیه و آله علی خدیجة وهی لما بها. فقال لها بالرغم منا ما نری بک یا خدیجة فإذا قدمت علی ضرائرک فأقرئیهن السلام. فقالت: من هن یا رسول الله؟ قال: مریم بنت عمران وکلثم أخت موسی وآسیة امرأة فرعون. قالت: بالرفاء یا رسول الله(1).

وروی لما مرضت مرضها الذی توفیت دخل علیها رسول الله صلی الله علیه و آله فقال لها: بالکره منی ما أری منک یا خدیجة وقد یجعل الله فی الکره خیراً کثیراً أما علمت أن الله قد زوجنی معک فی الجنة مریم بنت عمران وکلثم أخت موسی وآسیة امرأة فرعون. قالت: وقد فعل الله ذلک یا رسول الله؟ قال: نعم. قالت: بالرفاء والبنین(2).

وذکر الطبرسی رحمه الله قریباً من روایة الصدوق والبحار إلا أنه قال: دخل رسول الله صلی الله علیه و آله علی خدیجة وهی تجود بنفسها، فقال: أکره ما نزل بک یا خدیجة... الخ(3).

وعن الخوارزمی: دخل رسول الله صلی الله علیه و آله علی خدیجة بنت خویلد امرأته وهی بالموت فشکت إلیه شدة کرب الموت فبکی رسول الله صلی الله علیه و آله ودعا لها ثم قال: أقدمی خیر مقدم یا خدیجة أنت خیر امَّهات المؤمنین وأفضلهن وسیدة نساء العالمین(4).

ص:216


1- (1) من لا یحضره الفقیه, ج 1 ص 84.
2- (2) مجمع الزوائد, الهیثمی, ج 9 ص 218. وبحار الأنوار, ج 19 ص 20.
3- (3) مجمع البیان, ج 10 ص 806.
4- (4) مناقب علی بن أبی طالب علیهما السلام, ص 334.

من وصایا خدیجة للنبی صلی الله علیه و آله

لما اشتد مرضها قالت یا رسول الله اسمع وصایای, أولاً فأنی قاصرة فی حقک فأعفنی یا رسول الله. قال رسول الله صلی الله علیه و آله: حاشا وکلا ما رأیت منک تقصیراً فقد بلغت جهدک وتعبت فی داری غایة التعب وبذلت بذلک أموالک وصرفت فی سبیل الله جمیع مالک قالت: یا رسول الله الوصیة الثانیة أوصیک بهذه وأشارت إلی فاطمة فإنها غریبة من بعدی فلا یؤذیها أحد من نساء قریش، ولا یلطمن خدها ولا یصحن فی وجهها ولا یرینها مکروهاً.

الوصیة الثالثة: فإنی أقولها لابنتی فاطمة وهی تقول لک فإنی مستحیة منک یا رسول الله فقام النبی صلی الله علیه و آله وخرج من الحجرة فدعت بفاطمة وقالت یا حبیبتی وقرة عینی قولی لأبیک إن أمی تقول أنا خائفة من القبر أرید منک رداءک الذی تلبسه حین نزول الوحی تکفننی فیه فخرجت فاطمة وقالت لأبیها ما قالت أمها خدیجة فقام النبی صلی الله علیه و آله وسلم الرداء إلی فاطمة وجاءت به إلی أمها فسرت به سروراً عظیماً(1).

اهتمامها بفاطمة علیهاالسلام

کان یشغل خدیجة أمران النبی صلی الله علیه و آله وما یعانیه من مصاعب وآلام, ومستقبل ابنتها فاطمة علیهاالسلام حتی وهی فی أحلک الظروف ومعاناتها سکرات الموت, فقد ورد عن أسماء بنت عمیس قالت: لما حضرت وفاة خدیجة علیهاالسلام

ص:217


1- (1) شجرة طوبی, الشیخ محمد مهدی الحائری, ج 2 ص 234.

فبکت. فقلت: أتبکین وأنت سیدة نساء العالمین وأنت زوجة النبی صلی الله علیه و آله مبشرة علی لسانه بالجنة, فقالت: ما لهذا بکیت ولکن المرأة لیلة زفافها لا بد لها من امرأة تقضی إلیها بسرها وتستعین لها علی حوائجها وفاطمة حدیثة عهد بصبی وأخاف أن لا یکون لها من یتولی أمرها حینئذ.

فقلت: یا سیدتی لک علیَّ عهد الله إن بقیت إلی ذلک الوقت أن أقوم مقامک فی هذا الأمر. فلما کانت تلک اللیلة وجاء النبی صلی الله علیه و آله وأمر النساء فخرجن وبقیت فلما أراد الخروج رأی سوادی فقال: من أنت؟ فقلت: أسماء بنت عمیس. فقال: ألم آمرک أن تخرجی؟ فقلت: بلی یا رسول الله فداک أبی وأمی وما قصدت خلافک ولکنی أعطیت خدیجة عهداً وحدثته. فبکی فقال: بالله لهذا وقفت؟ فقلت: نعم والله. فدعا لی(1).

النبی یجهزها

لما توفت خدیجة أخذ رسول الله صلی الله علیه و آله فی تجهیزها وغسلها وحنطها, فلما أراد أن یکفنها هبط الأمین جبرئیل وقال یا رسول الله إن الله یقرئک السلام ویخصک بالتحیة والإکرام ویقول لک یا محمد إنّ کفن خدیجة من عندنا فإنها بذلت مالها فی سبیلنا فجاء جبرئیل بکفن وقال یا رسول الله هذا کفن خدیجة وهو من أکفان الجنة أهدی الله إلیها فکفنها رسول الله بردائه الشریف أولاً وبما جاء به جبرئیل ثانیاً فکان لها کفنان کفن من الله وکفن من رسول الله صلی الله علیه و آله.

ص:218


1- (1) بحار الأنوار, المجلسی, ج 43 ص 138.

وفاتها ومحل دفنها

اختلف المحدثون والمؤرخون فی تحدید زمن وفاة خدیجة علیهاالسلام وسنذکر جملة من أقوالهم فی ذلک:

ذکر ابن آشوب وغیره: أن أبا طالب رضی الله عنه توفی فی آخر السنة العاشرة من مبعث رسول الله صلی الله علیه و آله ثم توفیت خدیجة رضی الله عنها بعد أبی طالب بثلاثة أیام فسمی رسول الله ذلک العام عام الحزن. فقال: ما زالت قریش قاعدة عنی حتی مات أبو طالب(1).

وذکروا عن ابن إسحاق قال: ثم إن خدیجة بنت خویلد وأبا طالب ماتا فی عام واحد فتتابعت علی رسول الله المصائب بموتهما. وکانت خدیجة وزیرة صدق علی الإسلام کان یسکن إلیها.

وذکر الواقدی أنهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنین وأنهما توفیا فی ذلک العام وتوفیت خدیجة قبل أبی طالب بخمسة وثلاثین یوماً(2).

وعن قطب الدین الراوندی رحمه الله قال: وخرج النبی صلی الله علیه و آله ورهطه من الشعب وخالطوا الناس ومات أبو طالب بعد ذلک بشهرین وکانت خدیجة رضی الله عنها بعد ذلک وورد علی رسول الله صلی الله علیه و آله أمران عظیمان وجزع جزعاً شدیداً(3).

وعن ابن المغازلی حدثنا سعید عن قتادة قال: توفیت خدیجة قبل الهجرة

ص:219


1- (1) انظر: مناقب آل أبی طالب, ابن شهر آشوب, ج 1 ص 150.
2- (2) أنظر: تاریخ الإسلام, الذهبی, ج 1 ص 236. والسیرة النبویة, ج 1 ص 268.
3- (3) قصص الأنبیاء, القطب الراوندی, ص 337.

بثلاث سنین.

وأما أبو عبیدة معمر بن المثنی فقال: ماتت خدیجة بمکة قبل الهجرة بخمس سنین ویقال: بأربع سنین ماتت قبل تزویج النبی صلی الله علیه و آله عائشة.

وقال ابن سعید یرفعه إلی حکیم بن حزام قال: توفیت خدیجة فی شهر رمضان سنة عشر من النبوة وهی ابنة خمس وستین فخرجنا بها من منزلها حتی دفنها بالحجون(1), فنزل رسول الله صلی الله علیه و آله فی حفرتها ولم یکن یومئذ صلاة علی الجنازة. قیل: ومتی ذلک یا أبا خالد. قال: قبل الهجرة بسنوات ثلاث أو نحوها(2).

وذکر الشیخ النمازی رحمه الله أنها توفیت فی سنة عشر من النبوة فی عشر من شهر رمضان بعد أبی طالب بثلاثة أیام.

وعن الفقیه الکبیر العلامة المامقانی: أنّ أهل السیر ذکروا أن خدیجة توفت فی شهر رمضان قبل الهجرة بخمس سنین وقیل بأربع وقیل بثلاث واستصوب فی أسد الغابة الأخیر، فقال: ودفنت بالحجون(3).

وعن المسعودی: وکان وفاتها فی شوال بعد مبعثه بثلاث سنین. وعن أبی الفرج الأصفهانی: وتوفیت خدیجة رضی الله عنها قبل الهجرة بثلاث سنین. ودفنت بالحجون. وعن الیعقوبی: وتوفیت خدیجة بنت خویلد فی شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنین(4).

ص:220


1- (1) الحجون: قیل جبل بأعلی مکة عنده مدافن أهلها.
2- (2) أنظر: الأنوار الساطعة, الشیخ غالب السیلاوی, ص 383.
3- (3) تنقیح المقال, ج 3 ص 77.
4- (4) تاریخ الیعقوبی, ج 2 ص 35.

التبرک بقبر خدیجة ومنزلها

یمکن أن یستدل علی عظمة الإنسان ومدی مکانته عند الله بانشداد الناس إلی زیارة قبره وسمو مقام ضریحه, وتأکید السماء علی زیارة قبره والتبرک به فکان لخدیجة جزء من هذهِ الحبوة الإلهیة. لذلک عده (ضریحها ومنزلها) بعضهم من المستحبات حیث قال: إتیان بعض المواضع المتبرکة بمکة، کمولد رسول الله صلی الله علیه و آله، ومنزل خدیجة، وزیارة قبر خدیجة، والغار الذی بجبل حراء، الذی کان رسول الله صلی الله علیه و آله فی ابتداء الوحی یتعبد به، والغار الذی بجبل ثور، استتر فیه رسول الله صلی الله علیه و آله عن المشرکین(1).

استحباب زیارة قبر خدیجة الکبری

ذکر صاحب الأنوار الساطعة فی زیارة السیدة خدیجة علیهاالسلام جملة من الأقوال(2).

قال: ذکر سیدنا الأستاذ فقیه أهل بیت العصمة والطهارة السید التقی القمی دام ظله ما یلی: لا ریب ولا إشکال فی أن الإتیان بهذه الزیارة من القریب أو البعید رجاء لا یکون فیه خلاف فإن باب الرجاء واسع ویمکن الاستدلال علی رجحان زیارتها بأنها مقربة عند الله وعند الرسول وعند أمیر المؤمنین وفاطمة الزهراء والأئمة علیهم السلام ولکن مقتضی الاحتیاط التام أن لا یقصد بزیارتها الورود, بل یقصد الرجاء والله العالم بحقائق الأشیاء.

ص:221


1- (1) أنظر: مستند الشیعة, المحقق النراقی, ج 3 ص 95.
2- (2) الأنوار الساطعة, الشیخ غالب السیلاوی, ص 404.

وعن فقیه أهل بیت العصمة والطهارة الشیخ أحمد آل کاشف الغطاء رحمه الله ویستحب زیارة خدیجة بالحجون وعن الفقیه المقدس السید عبد الأعلی السبزواری رحمه الله: ویستحب زیارة قبر خدیجة علیهاالسلام المعروفة بالمعلی لأنها أم المسلمین ومن بر الأولاد بأمهم زیارة قبرها بعد ارتحالها مع أنها بذلت نهایة جهدها فی خدمة سید المرسلین وما لها فی نشر دعوة خاتم النبیین صلی الله علیه و آله إلی غیر ذلک من مفاخرها التی ملأت کتب الفریقین فمن شک بعد ذلک فی رجحان زیارتها فهو عاق لأمه. وذکر الزیارة المرحوم السید محسن الأمین رحمه الله: السلام علیک یا أم المؤمنین السلام علیک یا زوجة سید المرسلین السلام علیک یا أم فاطمة الزهراء سیدة نساء العالمین السلام علیک یا أول المؤمنات السلام علیک یا من أنفقت مالها فی نصرة سید الأنبیاء ونصرته ما استطاعت ودافعت عنه الأعداء السلام علیک یا من سلم علیها جبرئیل وبلغها السلام من الله الجلیل فهنیئاً لک بما أولاک الله من فضل والسلام علیک ورحمة الله وبرکاته. وذکرها فی المنتخب الحسنی(1).

وذکر السید البطحائی زیارة أخری: السلام علیک یا زوجة رسول الله سید المرسلین السلام علیک یا زوجة نبی الله خاتم النبیین السلام علیک یا أم فاطمة الزهراء السلام علیک یا أم الحسن والحسین سیدی شباب أهل الجنة أجمعین السلام علیک یا أم الأئمة الطاهرین السلام علیک یا أم المؤمنین السلام علیک یا أم المؤمنات السلام علیک یا خالصة المخلصات السلام علیک یا سیدة الحرم وملکة البطحاء السلام علیک یا أول من صدقت برسول الله من النساء السلام علیک یا من وفت بالعبودیة حق الوفاء

ص:222


1- (1) المنتخب الحسنی, ص 505.

وأسلمت نفسها وأنفقت مالها لسید الأنبیاء السلام علیک یا قرینة حبیب إله السماء المزوجة بخلاصة الأصفیاء یابنة إبراهیم الخلیل السلام علیک یا حافظة دین الله السلام علیک یا ناصرة رسول الله السلام علیک یا من تولی دفنها رسول الله واستودعها إلی رحمة الله أشهد أنک حبیبة الله وخیرة الله وأن الله جعلک فی مستقر رحمته فی قصر من الیاقوت والعقیان فی أعلی منازل الجنان صلی الله علیک ورحمة الله وبرکاته(1).

أزواج النبی صلی الله علیه و آله

تزوج رسول الله صلی الله علیه و آله بخمس عشرة امرأة، ودخل بثلاث عشرة منهن، وقبض عن تسع، فأما اللتان لم یدخل بهما فعمرة والسنی، وأما الثلاث عشرة اللاتی دخل بهن فأولهن خدیجة بنت خویلد، ثم سورة بنت زمعة، ثم أم سلمة واسمها هند بنت أبی أمیة، ثم أم عبد الله عائشة بنت أبی بکر، ثم حفصة بنت عمر، ثم زینب بنت خزیمة بن الحارث أم المساکین، ثم زینب بنت جحش، ثم أم حبیبة رملة بنت أبی سفیان، ثم میمونة بنت الحارث، ثم زینب بنت عمیس، ثم جویریة بنت الحارث، ثم صفیة بنت حیی بن أخطب. والتی وهبت نفسها للنبی صلی الله علیه و آله خولة بنت حکیم السلمی، وکان له سریتان یقسم لهما مع أزواجه: ماریة، وریحانة الخندفیة والتسع اللاتی قبض عنهن: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزینب بنت جحش، ومیمونة بنت الحارث، وأم حبیبة بنت أبی سفیان، وصفیة بنت حیی بن أخطب، وجویریة بنت الحارث، وسورة بنت زمعة(2).

ص:223


1- (1) آداب الحرمین, ص 55.
2- (2) انظر: الخصال, الشیخ الصدوق, ص 419.

ص:224

الفصل الرابع: فاطمة بنت محمد أم الحسنین علیهم السلام

اشارة

ص:225

ص:226

مولدها المبارک

ولدت السیدة فاطمة بنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب علیهم السلام بمکة یوم الجمعة, العشرین من جمادی الآخرة, بعد المبعث بسنتین, کما قاله الشیخ الطوسی فی مصباح المتهجد. وفی روایة أخری سنة خمس من المبعث. وقال الکلینی وابن شهر آشوب: ولدت بعد المبعث بخمس سنین وهو المروی عن الباقر علیه السلام وهو المشهور بین أصحابنا(1).

وفی کشف الغمة عن ابن الخشاب فی موالید ووفیات أهل البیت علیهم السلام مرفوعاً عن الباقر علیه السلام أنّها ولدت بعد النبوة بخمس سنین وقریش تبنی البیت, ولعله اشتباه من الراوی أو سهو من النساخ فبناء الکعبة کان قبل النبوة لا بعدها ویدل علیه ما فی مقاتل الطالبیین أنها ولدت قبل النبوة وقریش تبنی الکعبة(2).

وروی الحاکم فی المستدرک وابن عبد البر فی الاستیعاب أنها ولدت سنة إحدی وأربعین من مولد النبی صلی الله علیه و آله. وفی الإصابة ولدت قبل البعثة بقلیل(3).

ص:227


1- (1) راجع: أعیان الشیعة, السید محسن الأمین, ج 1 ص 347.
2- (2) راجع: موسوعة التاریخ الإسلامی, محمد هادی الیوسفی, ج 1 ص 347.
3- (3) راجع: المستدرک, ج 3 ص 162. الإصابة, ابن حجر, ج 8 ص 236.

وأکثر علماء أهل السنة تروی أنها ولدت قبل البعثة بخمس سنین(1). ولعله وقع اشتباه من الرواة بین کلمتی قبل وبعد, حیث إنّ الذی یستفاد من الأخبار والأحادیث التی وصلت إلینا من طریق أهل البیت علیهم السلام ولا یقبل الشک والتغییر أنّ فاطمة علیهاالسلام ولدت علی فطرة الإسلام وبعد نزول الوحی علی أبیها صلی الله علیه و آله خلافا لما فی بعض کتب العامة، فإلیک بعض النصوص فی ذلک:

قال علی بن الحسین علیهماالسلام فی حدیث طویل: ولم یولد لرسول الله صلی الله علیه و آله من خدیجة علیهاالسلام علی فطرة الإسلام إلا فاطمة علیهاالسلام(2).

وعن حبیب السجستانی قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: ولدت فاطمة بنت محمد بعد مبعث رسول الله صلی الله علیه و آله بخمس سنین، وتوفیت ولها ثمانی عشرة سنة وخمسة وسبعون یوماً(3).

وعن أبی بصیر، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: ولدت فاطمة فی جمادی الآخرة الیوم العشرین منها سنة خمس وأربعین من مولد النبی صلی الله علیه و آله، فأقامت بمکة ثمان سنین، وبالمدینة عشر سنین وبعد وفاة أبیها خمسة وسبعین یوماً(4).

وبالجملة کان زمان ولادتها علیهاالسلام أیام حکومة یزد جرد بن شهریار من ملوک العجم، الذی کان دار سلطنته قلعة الجولاء قرب بغداد دار السلام، وکان أمر سلطنته مستقرا فی تلک الأیام إلی أن انهزم فی عصر عمر من جیش الإسلام، ففر

ص:228


1- (1) راجع: الإصابة, ابن حجر, ج 6 ص 12.
2- (2) مختصر بصائر الدرجات, الحسن بن سلیمان الچلبی, ص 131.
3- (3) بحار الأنوار, المجلسی, ج 43 ص 9.
4- (4) دلائل الإمامة, ابن جریر الطبری الشیعی, ص 79.

بعد أن انهزم إلی بلاد العجم، وقتل بقلعة هرات أو بنیشابور أو غیر ذلک علی اختلاف الأقوال والروایات، کما سیأتی, وکان آخر ملوک العجم.

وأمّا یوم ولادتها, فقد ولدت علیهاالسلام یوم الجمعة وقت الصبح أی فی آخر جزء من لیلة الجمعة، وهی الساعة الأخیرة التی هی أفضل الساعات ومحل استجابة الدعوات، ووجه اختصاص تولدها بتلک الساعة لعله أن تکون مستورة عن عیون الأجانب، وبها علیهاالسلام فسر قوله تعالی:(إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةٍ مُبارَکَةٍ إِنّا کُنّا مُنْذِرِینَ * فِیها یُفْرَقُ کُلُّ أَمْرٍ حَکِیمٍ)1 , أی إنا أنزلنا نور فاطمة علیهاالسلام فی لیلة الجمعة، أو أنزلنا نور الإمامة فی فاطمة الزهراء علیهاالسلام، وهی اللیلة المبارکة، فالضمیر فی (إِنّا أَنْزَلْناهُ) راجع إلی نور الإمامة، ولذا ورد استحباب قراءة سورة القدر عشر مرات فی تلک الساعة من کل لیلة خصوصاً لیلة الجمعة، ولیلة القدر أیضاً هی تلک اللیلة المبارکة(1).

کیفیة ولادة فاطمة علیهاالسلام

هناک جملة من الإرهاصات والکرامات التی حصلت متزامنة فی حال ولادتها وحال حملها فی بطن أمها وهذا یعبر عن السر الإلهی الذی شاءت حکمته تعالی أن یخرجه إلی المعمورة ویزهر به المشرق والمغرب, فقد ورد عن المفضل ابن عمر، قال: قلت لأبی عبد الله الصادق علیه السلام: کیف کان ولادة فاطمة علیهاالسلام؟ فقال:

ص:229


1- (2) راجع: اللمعة البیضاء, التبریزی الأنصاری, ص 227.

نعم، إن خدیجة علیهاالسلام لما تزوج بها رسول الله صلی الله علیه و آله هجرتها نسوة مکة، فکن لا یدخلن علیها، ولا یسلمن علیها، ولا یترکن امرأة تدخل علیها، فاستوحشت خدیجة علیهاالسلام لذلک، وکان جزعها وغمها حذراً علیه صلی الله علیه و آله, فلما حملت بفاطمة کانت علیهاالسلام تحدثها من بطنها وتصبرها، وکانت تکتم ذلک من رسول الله صلی الله علیه و آله، فدخل رسول الله صلی الله علیه و آله یوماً فسمع خدیجة تحدث فاطمة علیهاالسلام، فقال لها: یا خدیجة، من تحدثین؟ قالت: الجنین الذی فی بطنی یحدثنی ویؤنسنی, قال: یا خدیجة، هذا جبرئیل یخبرنی أنها أنثی، وأنها النسلة الطاهرة المیمونة، وأنّ الله تبارک وتعالی سیجعل نسلی منها، وسیجعل من نسلها أئمة، ویجعلهم خلفاءه فی أرضه بعد انقضاء وحیه فلم تزل خدیجة علیهاالسلام علی ذلک إلی أن حضرت ولادتها، فوجهت إلی نساء قریش وبنی هاشم: أن تعالین لتلین منی ما تلی النساء من النساء، فأرسلن إلیها أنت عصیتنا، ولم تقبلی قولنا، وتزوجت محمداً یتیم أبی طالب فقیراً لا مال له، فلسنا نجئ ولا نلی من أمرک شیئاً فاغتمت خدیجة علیهاالسلام لذلک، فبینا هی کذلک، إذ دخل علیها أربع نسوة سمر طوال، کأنهن من نساء بنی هاشم، ففزعت منهن لما رأتهن، فقالت إحداهن: لا تحزنی یا خدیجة فإنا رسل ربک إلیک، ونحن أخواتک، أنا سارة، وهذه آسیة بنت مزاحم، وهی رفیقتک فی الجنة، وهذه مریم بنت عمران، وهذه کلثوم أخت موسی بن عمران، بعثنا الله إلیک لنلی منک ما تلی النساء من النساء، فجلست واحدة عن یمینها، وأخری عن یسارها، والثالثة بین یدیها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة علیهاالسلام طاهرة مطهرة، فلما سقطت إلی الأرض أشرق منها النور حتی دخل بیوتات مکة، ولم یبق فی شرق الأرض ولا

ص:230

غربها موضع إلا أشرق فیه ذلک النور ودخل عشر من الحور العین کل واحدة منهن معها طست من الجنة، وإبریق من الجنة، وفی الإبریق ماء من الکوثر، فتناولتها المرأة التی کانت بین یدیها، فغسلتها بماء الکوثر، وأخرجت خرقتین بیضاوین أشد بیاضاً من اللبن وأطیب ریحاً من المسک والعنبر، فلفتها بواحدة، وقنعتها بالثانیة، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة علیهاالسلام بالشهادتین، وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن أبی رسول الله سید الأنبیاء، وأن بعلی سید الأوصیاء، وولدی سادة الأسباط، ثم سلمت علیهن، وسمت کل واحدة منهن باسمها، وأقبلن یضحکن إلیها، وتباشرت الحور العین، وبشر أهل السماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة علیهاالسلام، وحدث فی السماء نور زاهر لم تره الملائکة قبل ذلک، وقالت النسوة: خذیها یا خدیجة طاهرة مطهرة زکیة میمونة، بورک فیها وفی نسلها، فتناولتها فرحة مستبشرة، وألقمتها ثدیها، فدر علیها، فکانت فاطمة علیهاالسلام تنمی فی الیوم کما ینمی الصبی فی الشهر، وتنمی فی الشهر کما ینمی الصبی فی السنة(1).

انعقاد نطفة فاطمة من ثمار الجنة

من جملة الکرامات التی امتازت بها فاطمة الزهراء علیهاالسلام, أنها حظیت برعایة إلهیة فی بدء تکوینها المادی (إضافة إلی ما حظیت به من کرامات عالیة روحیة), وهذا ما لم یحدُث عند أحد لا من الأنبیاء ولا من الأولیاء والصالحین فلم نسمع رعایة إلهیة بهذا المستوی مطلقاً إلا فی بدء تکوین نطفة الزهراء علیهاالسلام, حیث اهتمت بها ید الغیب اهتماماً لا نظیر له فی الوجود, وإلیک ملخص ما روی فی

ص:231


1- (1) الأمالی, الشیخ الصدوق, ص 690. الخرائج والجرائح, قطب الدین الراوندی, ج 2 ص 525.

ذلک من الفریقین: منها ما ورد, أنّ الله تعالی أمر رسول الله صلی الله علیه و آله أن یعتزل أربعین صباحاً یصوم النهار ویقوم اللیل، وبعث إلی خدیجة بعمار بن یاسر قال: قل لها: یا خدیجة لا تظنی أن انقطاعی عنک هجرة ولا قلی، ولکن ربی أمرنی بذلک، فلا تظنی إلا خیراً، وإنی فی منزل فاطمة بنت أسد. فلما تم میقات ربه الأربعین هبط الأمین جبرئیل وقال: العلی الأعلی یقرئک السلام وهو یأمرک أن تتأهب لتحیته وتحفته, فهبط میکائیل ومعه طبق مغطی بمندیل من سندس الجنة، فأکل النبی صلی الله علیه و آله منه شبعاً، وشرب من الماء، ومد یده للغسل، فأفاض الماء علیه جبرئیل وغسل یده میکائیل وتمندله إسرافیل، ثم قام النبی صلی الله علیه و آله لیصلی فأقبل علیه جبرئیل وقال: الصلاة محرمة علیک فی وقتک، حتی تأتی خدیجة فتواقعها، فإن الله عز وجل آلا علی نفسه أن یخلق من صلبک فی هذه اللیلة ذریة طیبة, فوثب رسول الله إلی منزل خدیجة وواقعها. قالت خدیجة: والذی سمک السماء وأنبع الماء، ما تباعد عنی النبی صلی الله علیه و آله حتی حسست بثقل فاطمة فی بطنی(1).

وفی روایة عن ابن عباس قال: کان النبی صلی الله علیه و آله یکثر القبل لفاطمة، فقالت له عائشة: إنک تکثر تقبیل فاطمة؟ فقال صلی الله علیه و آله: إنّ جبرئیل لیلة اسری بی أدخلنی الجنة فاطعمنی من جمیع ثمارها فصار ماء فی صلبی فحملت خدیجة بفاطمة، فإذا اشتقت لتلک الثمار قبلت فاطمة فأصبت من رائحتها جمیع تلک الثمار التی أکلتها(2).

وأخرج الطبرانی, والهیثمی عن عائشة قالت کنت أری رسول الله صلی الله

ص:232


1- (1) مستدرک سفینة البحار, الشیخ علی النمازی الشاهرودی, ج 8 ص 241.
2- (2) ذخائر العقبی, أحمد بن عبدالله الطبری, ص 36.

علیه وسلم یقبل فاطمة فقلت یا رسول الله إنی أراک تفعل شیئاً ما کنت أراک تفعله من قبل, فقال لی: یا حمیراء أنه لما کان لیلة أسری بی إلی السماء أدخلت الجنة فوقفت علی شجرة من شجر الجنة لم أرَ فی الجنة شجرة هی أحسن منها حسنا ولا أبیض منها ورقة ولا أطیب منها ثمرة, فتناولت ثمرة من ثمرتها فأکلتها فصارت نطفة فی صلبی فلما هبطت الأرض واقعت خدیجة فحملت بفاطمة, فإذا أنا اشتقت إلی رائحة الجنة شممت ریح فاطمة, یا حمیراء إن فاطمة لیست کنساء الآدمیین ولا تعتل کما یعتلون(1).

وروی الحاکم فی المستدرک بسنده عن سعد بن مالک قال: قال صلی الله علیه و آله: أتانی جبرائیل علیه السلام بسفرجلة من الجنة فأکلتها لیلة أسری بی فعلقت خدیجة بفاطمة فکنت إذا اشتقت إلی رائحة الجنة شممت رقبة فاطمة(2).

من الأدلة علی عصمة فاطمة علیهاالسلام

هناک جملة من الآیات والروایات الدالة وبصراحة علی عصمة فاطمة الزهراء علیهاالسلام, ولا نرید أن نسهب فی الموضوع هنا, فقد تفردت لذلک کثیر من الکتب المختصة, (فقد وجدت فی مکتبة واحدة ما یقارب 360 کتاباً تتحدث عن حیاة وخصائص السیدة الزهراء علیهاالسلام) علی الرغم من أنّ عصمتها واضحة من خلال الآیات والروایات إلی کل ملتفت ونقی السریرة, قد نذکر بعض الأدلة علی عصمتها وعلی نحو الإجمال, فنقول:

ص:233


1- (1) المعجم الکبیر, الطبرانی, ج 22 ص 401. مجمع الزوائد, الهیثمی, ج 9 ص 202.
2- (2) المستدرک, النیسابوری, ج 3 ص 156

أمّا الکتاب

قوله تعالی:(إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً)1 , تشمل هذه الآیة المبارکة فیمن تشمل السیدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام بل هی محور الآیة وأساسها؛ لأنها نزلت فی أهل بیت النبوة, فإن المتأمل فی کلمات الآیة یتوصل إلی أن المخاطبین بهذه الآیة مطهرون معصومون من کل رجس، وفاطمة أحدهم. کما جاء عن ابن عساکر فی إسناده إلی عمرة بنت أفعی، قالت: سمعت أم سلمة تقول: نزلت هذه الآیة فی بیتی:(إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً) . وفی البیت سبعة: جبریل ومیکائیل ورسول الله صلی الله علیه وسلم وعلی وفاطمة والحسن والحسین، قالت: وأنا علی باب البیت، فقلت: یا رسول الله ألست من أهل البیت؟ قال: إنّک علی خیر، إنک من أزواج النبی صلی الله علیه وسلم، وما قال: إنک من أهل البیت(1). وغیرها من الروایات الکثیرة عند الفریقین والتی تعیّن شأن النزول بأهل البیت علیهم السلام المعصومین دون غیرهم.

تقریب الاستدلال بالآیة

أولاً: تصدیر الآیة بأقوی أدوات الحصر علی الإطلاق (إنما) مما یعنی أن هذا الأمر خاص بجماعة معینة محددة لا یتعداهم إلی غیرهم.

ص:234


1- (2) ترجمة الإمام الحسین علیه السلام, ابن عساکر ص 100.

وثانیاً: یأتی البحث عن الإرادة الإلهیة التی ذکرت فی الآیة (إنما یرید الله) وهی إرادة المولی عز وجل:(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ)1 , فلا یمکن بحال تخلف إرادته تعالی.

وثالثاً: إنّ الرجس فی اللغة معناه کل ما یلوث الإنسان سواء کان لوثاً ظاهریاً أو باطنیاً والذی یعبر عنه بالإثم, والرجس فی هذه الآیة هو اللوث والنجاسة الباطنیة لأن الابتعاد والطهارة من النجاسة الظاهریة وظیفة دینیة عامة لجمیع المسلمین وذلک لشمول التکلیف للجمیع ولا خصوص لأهل البیت حتی ترد هذه الآیة بحصرها وتوکیدها لنفی الرجس الظاهری عن أهل البیت, إنما جاءت لبیان فضیلة لهم خصهم بها الله سبحانه وتعالی وأخبر عنها فی کتابه العزیز.

رابعاً: یأتی التأکید (وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً) وعلیه أن الآیة تجعلنا لا نشک لحظة واحدة فی عصمة أهل البیت الذین ذکروا فیها ومنهم فاطمة بنت محمد صلی الله علیه و آله فهی معصومة مطهرة من کل رجس ظاهرٍ وباطنٍ.

أما السنة

نذکر بعضاً مما قاله المصطفی فی ابنته ربیبة الوحی فاطمة الزهراء علیهاالسلام, مع أنّ النبی صلی الله علیه و آله حینما یتحدث عن فاطمة فإنه لا ینطلق من عاطفة الأبوة وهو القائل فیه البارئ عز وجل:(وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی. إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی)2 ,

ص:235

وهو صلی الله علیه و آله فی عموم حدیثه عن الأشخاص لا یعطی أحداً أکثر مما یستحقه تبعاً لعاطفته وحتی لو کان ذلک الإنسان ابنته, لأننا لو قلنا بذلک لطعنا فی نبوته وکلماته القدسیة التی نؤمن جمیعاً بأنها حجة لا زیغ فیها ولا هوی. قال عبد الله بن عمرو ابن العاص: کنت أکتب کل شیء أسمعه من رسول الله صلی الله علیه و آله فنهتنی قریش وقالوا تکتب کل شیء سمعته من رسول الله وهو بشر یتکلم فی الغضب والرضا؟ فأمسکت عن الکتابة فذکرت ذلک لرسول الله فأومأ بأصبعه إلی فیه وقال: أکتب فوالذی نفسی بیده ما خرج منه إلا حق(1). إن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله لا ینطق إلا صدقاً وعدلاً فلنضع کلماته عن الزهراء نصب أعیننا ونحن نقرأ عن موقفها بعد وفاته ولا نترک للشیطان سبیلاً یتسلل منه؛ لأنّ فهمنا لهذه النقطة یمهد لنا السبیل لفهم موقف فاطمة علیهاالسلام.

أولاً: قول الرسول صلی الله علیه و آله لها, کما أخرجه الحاکم فی مستدرکه, والطبرانی, والهیثمی وغیرهم:

«إن الله یغضب لغضبک ویرضی لرضاک»(2) ، وهذا القول الصادر من الرسول صلی الله علیه و آله بحق فاطمة علیهاالسلام تلازمه العصمة؛ لأنه من المستحیل أن یناط غضب الزهراء بغضب الله سبحانه وهی غیر معصومة؛ لأن القول بعدم عصمتها یعنی إمکانیة وقوعها فی الزلل والخطأ وربما تغضب لغیر الحق، والرسول صلی الله علیه و آله فی کلامه إطلاق بلا تقیید یعنی أن الزهراء علیهاالسلام لن تغضب إلا لشیء یغضب الله بسببه, ومن کان غضبه یعنی غضب الله فهو لن یفعل إلا الحق

ص:236


1- (1) مسند أحمد, الإمام أحمد بن حنبل, ج 2 ص 192. سنن الدارمی, ج 1 ص 125.
2- (2) المستدرک, الحاکم النیسابوری, ج 3 ص 203. مجمع الزوائد, الهیثمی, ج 9 ص 203.

ولن یخطئ أو یمیل إلی الباطل طرفة عین, وبالتالی یمثل غضبه الحق، وفی الواقع إن هذا الحدیث یدلل أنّ للزهراء مکانة عظیمة لا تدرک بالعقول ولبیان هذه العظمة التی من تجلیاتها عصمتها علیهاالسلام.

ثانیاً: قول النبی صلی الله علیه و آله, (کما هو مسلم عند الفریقین من دون خلاف):

(فاطمة بضعة منی یریبنی ما رابها ویؤذینی ما آذاها)(1), إنّ أذی الرسول یعنی أذی الرسالة، أذی القیم والمبادئ؛ لأنه صلی الله علیه و آله هو محور الحق بل هو الحق الذی یجب أن نقتبس منه، إن الرسول صلی الله علیه و آله یمثل الإرادة الإلهیة وهو قطب الرحی الذی به یعرف الموحد من المشرک والکافر إذ أن الله تعالی غیب لا ندرکه بعقولنا وأوهامنا والارتباط به تعالی یکون عبر رسله وأنبیائه؛ لذلک کان مبعث الأنبیاء وتولیة الأوصیاء, ولذلک لا یکون الرسول إلا معصوماً حتی لا یفترق عن الحق لحظة واحدة وبالتالی تکون کل تصرفاته حق وأذیته تعنی التحدی للرسالة والإرادة الإلهیة ولبیان هذه الحقیقة یقول القرآن الکریم:(إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِیناً)2 , وقد تقدم أن الرسول صلی الله علیه و آله عندما یتحدث عن شخص أو یدلی بأی حدیث فمن منطلق مسؤولیته تجاه الرسالة وبالتالی یستبعد أی مجاملات أو تقریظ بلا حق، والمتفق علیه أن قول الرسول صلی الله علیه و آله وفعله وتقریره حجة, یعنی شرع نتعبد به قربة إلی الله تعالی. وقد قال صلی الله علیه و آله: فاطمة بضعة منی یعنی هی جزء لا یتجزأ من کیانه وروحه

ص:237


1- (1) صحیح البخاری, ج 6 ص 158. صحیح مسلم, ج 7 ص 141. وغیرهم.

وهو کما قلنا محور الحق والشرع وبالتالی تکون الزهراء علیهاالسلام أیضا کذلک، لذلک جعل الرسول أذاها أذاه وکل شیء یریبها یریبه, وهو المعصوم الذی لا تمیل به الأهواء ومن یکون جزءاً منه یؤذیه ما یؤذیه فهو أیضاً مؤهل أن یکون معصوماً. وبهذا التقریب نری عصمة الزهراء علیهاالسلام جلیة وواضحة فقط تحتاج إلی وجدان صاف سلیم وعقل مستنیر.

مکانة الزهراء علیهاالسلام

لم ترقَ امرأة إلی ما وصلت إلیه فاطمة الزهراء علیهاالسلام ونالت السیادة المطلقة علی النساء من لسان الوحی وتوسمت بهذا الشرف العظیم الذی یکشف عن الأبعاد والمؤهلات التی تتمتع بها فاطمة علیهاالسلام, فلقب سیدة نساء العالمین لیس نابعاً عن عفویة وإنما هو یحکی عن واقع فعلی تعیشه الزهراء علیهاالسلام, حیث طوت مراحل من الکمال یعجز لغیرها الوصول إلیها. فقد أورد الترمذی فی سننه کتاب المناقب عن حذیفة قال: أتیت النبی صلی الله علیه و آله فصلیت معه المغرب فصلی حتی صلی العشاء ثم انفتل فتبعته فسمع صوتی فقال: من هذا حذیفة؟ قلت: نعم قال: ما حاجتک غفر الله لک ولأمک؟ ثم قال: إن هذا ملک لم ینزل الأرض قط قبل هذه اللیلة استأذن ربه أن یسلم علیَّ ویبشرنی بأن فاطمة سیدة نساء أهل الجنة وأن الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة(1).

وعن عائشة أنها کانت إذا ذکرت فاطمة بنت النبی صلی الله علیه و آله قالت: ما رأیت أحداً کان أصدق لهجة منها إلا أن یکون الذی ولدها. وقالت: وکانت إذا دخلت

ص:238


1- (1) سنن الترمذی, ج 5 ص 326.

علی النبی قام إلیها وقبلها وأجلسها فی مجلسه وکان النبی صلی الله علیه و آله إذا دخل علیها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته فی مجلسها(1).

وکان رسول الله صلی الله علیه و آله إذا سافر جعل آخر عهده فاطمة وأول من یدخل علیه إذا قدم فاطمة. وقد جاء فی مسند أحمد بن حنبل أنّه قال: نظر رسول الله صلی الله علیه و آله لعلی وفاطمة والحسن والحسین فقال: أنا سلم لمن سالمکم وحرب لمن حاربکم(2).

وأیضا عن النبی صلی الله علیه و آله قال: إذا کان یوم القیامة نادی مناد من بطنان العرش: یا أهل الجمع نکسوا رؤوسکم وغضوا أبصارکم حتی تمر فاطمة بنت محمد علی الصراط فتمر مع سبعین ألف جاریة من الحور العین کمر البرق(3).

لا یخفی أنّ هذا غیض من فیض مع کثرة أحادیث الرسول صلی الله علیه و آله حول بیان عظمة فاطمة علیهاالسلام مقارنة بما ورد فی حقها, ولکن هذا القدر یکفی للعاقل حتی یتعرف علی الزهراء علیهاالسلام التی أحاطتها العنایة الإلهیة من قبل میلادها وکانت فی جنة الخلد هنالک کان المبدأ, کما فی روایة الإسراء والجنة هی النهایة کما علمت وما بین الانطلاقة الأولی من الجنة والمنتهی, لذلک أوصی الرسول بفاطمة کثیراً وحذر الناس من غضبها الذی یعنی غضبه, بل وغضب الله عز وجل کما مرّ, وشهدت لها عائشة بأنها أصدق الناس لهجة فهی الصدیقة, کما أن العنایة الإلهیة

ص:239


1- (1) راجع: السنن الکبری, النسائی, ج 5 ص 96.
2- (2) مسند أحمد, ج 2 ص 442.
3- (3) المستدرک, الحاکم النیسابوری ج 3 ص 153

کان لها الدور المباشر فی صیاغة شخصیة الزهراء فصار أذاها أذی الرسول الذی یعنی أذی الرسالة, ونزل الوحی یجلجل بالتطهیر کما جاء فی آیة التطهیر, ورعایة الرسول صلی الله علیه و آله الخاصة بفاطمة حتی أنّه عند قدومها یقبلها ویجلسها فی مجلسه, وکذا العکس, ولا یخرج صلی الله علیه و آله فی سفر إلا أن یکون آخر من یودعه ابنته وأول من یسلم علیه عندما یعود هی سیدة نساء العالمین وسیدة نساء أهل الجنة، إذاً کل فعل تفعله هو فعل أهل الجنة وکل موقف تقفه هو موقف أهل الجنة ولو نظرت فی الجنة لرأیت نعیماً وملکاً کبیراً ویأتی المنادی غضوا أبصارکم حتی تجوز فاطمة وتستقر فی مقام محمود منه انطلقت وإلیه تعود هذه المسیرة المقدسة، وهذه العظمة ألا تدفعنا للوقوف إجلالاً وإعظاماً لشخصیة قدستها السماء وبارک مسیرتها أبوها صاحب رسالة السماء؟ لقد جسدت الزهراء تعالیم الوحی وسارت وفق هداه فکانت من الجنة إلی الجنة.

أکابر قریش تخطب فاطمة علیهاالسلام

لما کانت فاطمة علیهاالسلام ذات الشرف والمجد الرفیع والصفات الباهرة وهی تعیش فی کنف أبیها صلی الله علیه و آله، فقد اتجهت الأنظار إلیها، وکل یحدث نفسه بأن یحظی بالاقتران بها، لینال شرف الانتساب إلی أشرف خلق الله ویحظی بأفضل امرأة علی مرّ التاریخ، فهی أعظم امرأة فی شرفها ودینها وکمالها ومکانتها عند بارئها. لذلک تقدم لخطبتها مجموعة من أکابر قریش ومن جملتهم الخلیفة الأول والثانی کما روی الهیثمی فی الحدیث المسند, عن أنس بن مالک قال: جاء أبو بکر إلی النبی صلی الله علیه و آله فقعد بین یدیه فقال: یا رسول الله، قد علمت مناصحتی،

ص:240

وقدمی فی الإسلام، وأنی، وأنی... قال: (وما ذاک؟). قال: تزوجنی فاطمة. قال فسکت عنه. فرجع أبو بکر إلی عمر فقال له: هلکت وأهلکت. فقال: وما ذاک؟ قال: خطبت فاطمة إلی النبی صلی الله علیه و آله فأعرض عنی، فقال: مکانک حتی آتی النبی صلی الله علیه و آله فأطلب مثل الذی طلبت، فأتی عمر النبی صلی الله علیه و آله فقعد بین یدیه فقال: یا رسول الله قد علمت مناصحتی وقدمی فی الإسلام وأنی، وأنی... قال: (وما ذاک؟). قال: تزوجنی فاطمة. فسکت عنه.

فرجع عمر إلی أبی بکر فقال: إنه ینتظر أمر الله فیها. قم بنا إلی علی حتی نأمره یطلب مثل الذی طلبنا. قال علی: فأتیانی وأنا أعالج فسیلاً لی، فقالا: إنا جئناک من عند ابن عمک بخطبة، قال: فنبهانی لأمر، فقمت أجر ردائی حتی أتیت النبی صلی الله علیه و آله فقعدت بین یدیه، فقلت: یا رسول الله، قد علمت قدمی فی الإسلام ومناصحتی، وأنی، وأنی... قال: (وما ذاک؟). قال: تزوجنی فاطمة. قال: (وعندک شیء؟). قلت: فرسی وبدنی. قال: (أما فرسک فلا بد لک منه، وأما بدنک فبعها) قال: فبعتها بأربع مئة وثمانین، فجئت بها حتی وضعتها فی حجره، فقبض منها قبضة، فقال: (أی بلال، ابعث ابتع بها طیباً). وأمرهم أن یجهزوها(1).

وذکر الیعقوبی فی تاریخه, تقدم جماعة من المهاجرین لخطبتها إلی رسول الله صلی الله علیه و آله, فلما زوّجها علیاً قالوا فی ذلک, فقال رسول الله: ما أنا زوّجته ولکن الله زوّجه(2).

ص:241


1- (1) أنظر: موارد الظمآن, الهیثمی, ج 7 ص 170.
2- (2) أنظر: تاریخ الیعقوبی, ج 2 ص 41.

الله یأمر بتزویج فاطمة من علی علیهما السلام

کما أنّ لفاطمة علیهاالسلام النصیب الأوفر من الرعایة الإلهیة قبل مجیئها الی عالم الدنیا حسب ما أخبر عنه لسان الغیب مراراً وتکراراً, کذلک عاشت علیهاالسلام فی الدنیا برعایة الله وأمره ولم یترک موقف من مواقفها إلا وکللته القدرة بالقدسیة والإحسان, ومن جملة ذلک زواجها المیمون من علی بن أبی طالب علیه السلام, حیث تم أولاً بأمر من الله وقد أقیم لها حفل زفاف فی السماء قبل الأرض, کما تشیر إلی ذلک عدة روایات, منها: عن علی رضی الله عنه قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: أتانی ملک فقال یا محمد إنّ الله تعالی یقرأ علیک السلام ویقول لک إنّی قد زوجت فاطمة ابنتک من علی بن أبی طالب فی الملأ الأعلی فزوجها منه فی الأرض(1).

وعن أنس رضی الله عنه قال بینما رسول الله صلی الله علیه و آله فی المسجد إذ قال لعلیٍّ هذا جبریل یخبرنی أن الله زوجک فاطمة وأشهد علی تزویجها أربعین ألف ملک وأوحی إلی شجرة طوبی أن انثری علیهم الدر والیاقوت فنثرت علیهم الدر والیاقوت فابتدرت إلیه الحور العین یلتقطن فی أطباق الدر والیاقوت فهم یتهادونه بینهم إلی یوم القیامة(2).

وأیضاً عن عمر بن الخطاب، أنه ذکر علیاً، فقال صهر رسول الله صلی الله علیه و آله نزل جبرائیل علی النبی صلی الله علیه و آله فقال: یا محمد، إن الله یأمرک أن تزوج فاطمة من علی(3).

ص:242


1- (1) ذخائر العقبی, أحمد بن عبد الله الطبری, ص 31.
2- (2) ذخائر العقبی, أحمد بن عبد الله الطبری, ص 31.
3- (3) شرح الأخبار, القاضی النعمان المغربی, ج 3 - ص 28.

وقد ذکر الیعقوبی, فی ذکر زواج فاطمة علیهاالسلام, قال: زوجها رسول الله من علیٍّ بعد قدومه بشهرین، وقد کان جماعة من المهاجرین خطبوها إلی رسول الله، فلما زوجها علیاً قالوا فی ذلک، فقال رسول الله: ما أنا زوجته ولکن الله زوجه(1).

وما جاء عن الخوارزمی: أنبأنی أبو العلا الحافظ الهمدانی، ثم عنعنه إلی الحسین بن علی علیهماالسلام، قال بینا رسول الله صلی الله علیه و آله فی بیت أم سلمة إذ هبط علیه ملک له عشرون رأساً، فی کل رأس ألف لسان، یسبح الله ویقدسه بلغة لا تشبه الأخری، وراحته أوسع من سبع سماوات وسبع أرضین، فحسب النبی صلی الله علیه و آله أنه جبرائیل، فقال یا جبرئیل؟ لم تأتنی فی مثل هذه الصورة قط قال: ما أنا جبرئیل، أنا صرصائیل، بعثنی الله إلیک لتزوج النور من النور فقال النبی صلی الله علیه و آله من ممن؟ قال: ابنتک فاطمة من علی بن أبی طالب، فزوج النبی صلی الله علیه و آله فاطمة من علی بشهادة جبرائیل ومیکائیل وصرصائیل, قال: فنظر النبی صلی الله علیه و آله فإذا بین کتفی صرصائیل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علی بن أبی طالب مقیم الحجة، فقال النبی صلی الله علیه و آله: یا صرصائیل منذ کم هذا کتب بین کتفیک؟ قال: من قبل أن یخلق الله الدنیا باثنی عشر ألف سنة(2). فهذه الروایات وغیرها لا یفهم منها إلا اعتناء السماء والغیب بهذه الشخصیة العظیمة التی لا مثیل لها من النساء علی وجه البسیطة, وأنّها سر من أسرار الله تعالی.

ص:243


1- (1) تاریخ الیعقوبی, ج 2 ص 41.
2- (2) أنظر: المناقب, الموفق الخوارزمی, ص 340. وأیضا: الخصال, الشیخ الصدوق, ص 64, وغیرهم.

فلسفة زواج فاطمة من علی علیهماالسلام

هذا الموقف النبوی المرتبط بالمشیئة الإلهیة والوحی یلفت أنظارنا، ویلقی علی أسماعنا هذه الأسئلة المهمة لماذا لم یرخص لفاطمة علیهاالسلام بتزویج نفسها؟ ولِمَ لم یرخص لرسول الله صلی الله علیه و آله (وهو أبوها ونبیها) بتزویجها، والنبی أولی بالمؤمنین من أنفسهم؟ ولماذا خص زواج فاطمة علیهاالسلام بهذه المیزة؟ فلابد وأن یکون هناک سر وحکمة إلهیة، ترتبط بهذا الزواج. إن هذا السر والاعداد لم یکن غامضاً، وهذه العنایة لم تکن مجرد علاقة رحم وقرابة، فالأمر ذو علاقة بحیاة هذه الأمة، والعلاقة ترتبط بامتداد فرع النبوة والإمامة، فشاء الله أن یزوج خیرة نساء هذه الأمة بخیرة رجالها.

فقد روی عن ابن عمیر التمیمی قال: دخلت مع عمی علی عائشة فسئلت أی الناس کان أحب إلی رسول الله صلی الله علیه و آله؟ قالت: فاطمة، قیل من الرجال؟ قالت: زوجها(1).

وروی عن أبی الحمراء أنه قال: رابطت فی المدینة سبعة أشهر، فکان النبی صلی الله علیه و آله یأتی علیاً وفاطمة کل غداة، فیقول: الصلاة، الصلاة،(إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً)2 .

وروی عن ابن عباس قال: کنت أنا والعباس جالسین عند رسول الله صلی الله علیه و آله، إذ دخل علی بن أبی طالب فسلم، فرد علیه رسول الله السلام، وقام إلیه وعانقه

ص:244


1- (1) أنظر: اسُد الغابة, ابن الأثیر, ج 5 ص 522.

وقبل بین عینیه وأجلسه عن یمینه، فقال العباس: یا رسول الله أتحب هذا؟ فقال رسول الله صلی الله علیه و آله یا عم والله، لله أشد حباً له منی، إن الله جعل ذریة کل نبی فی صلبه، وجعل ذریتی فی صلب هذا(1). وعلی علیه السلام هو الذی قال رسول الله صلی الله علیه و آله أما ترضی أن تکون منی بمنزلة هارون من موسی إلا أنه لا نبی بعدی(2). وفاطمة علیهاالسلام هی التی قال لها النبی صلی الله علیه و آله: أما ترضین أن تکونی سیدة نساء العالمین وسیدة نساء المؤمنین وسیدة نساء هذه الأمة(3). هذه الرویات وغیرها تشیر إلی أنّ هناک تکافؤاً بین علی وفاطمة علیهماالسلام له أبعاد غیبیة رسمت فیها المشیئة, وألقیت الحجة.

مقدار مهر فاطمة

لم نجد هناک اختلافاً فی أنّ مهر فاطمة علیهاالسلام هو غیر درع علی علیه السلام, وإنما وقع الخلاف فی أنّه هل باعه واتی بثمنه, أو رهنه ثم فکه من حصته من الغنائم, أو أرجعه له النبی صلی الله علیه و آله بعد ذلک. کما یشهد للأول, هو عندما جاء علی علیه السلام خاطباً فاطمة سأله النبی صلی الله علیه و آله قائلا: فهل عندک شیء تستحلها به؟ فقلت: لا. فقال: ما فعلت بالدرع التی سلحتکها؟ فقلت: عندی، ولکنها - والذی نفسی بیده - لحطمیة ما ثمنها إلا أربعمائة درهم. قال: قد زوجتکها (بها) فابعث بها. فکان ذلک صداق فاطمة(4).

ص:245


1- (1) أنظر: ذخائر العقبی, أحمد بن عبد الله الطبری, ص 67.
2- (2) أنظر: مسند أحمد, أحمد بن حنبل, ج 1 ص 170.
3- (3) أنظر: کنز العمال, المتقی الهندی, ج 12 ص 110.
4- (4) أنظر: کنز العمال, المتقی الهندی, ج 13 ص 683.

وقیل: باع درعه إلی عثمان بن عفان بأربع مئة وثمانین درهماً، فصبها بین یدی النبی صلی الله علیه و آله.

ویشهد للثانی ما رواه الدولابی بسنده عن الحارث (الهمدانی) عن علی علیه السلام قال: خطب أبو بکر وعمر إلی رسول الله صلی الله علیه و آله فأبی رسول الله علیهما. فقال عمر: أنت لها یا علی. فقلت: ما لی من شیء إلا درعی أرهنها. ولعله علیه السلام أرهنها وثیقة لاستدانته مبلغ المهر وأدی دینه بعد بدر من سهمه من غنائمها(1).

ویشهد للثالث, هو بعدما سأله النبی صلی الله علیه و آله عن المهر فقال: ما عندی یا رسول الله شیءٌ إلا درعی فزوجه رسول الله صلی الله علیه و آله علی اثنتی عشرة أوقیة ونش ودفع إلیه درعه، فقال له رسول الله: هیئ منزلاً حتی تحول فاطمة إلیه(2).

وکیف کان بعد أن قرت عین الزهراء بهذه الخطبة السعیدة، وزوج الله فاطمة علیاً، أراد رسول الله، أن یعلن لعامة المسلمین هذا النبأ العظیم، فأمر أنس بن مالک أن یجمع فئة من الصحابة لیعلن علیهم نبأ تزویج فاطمة لعلی علیه السلام، قال أنس: فدعوتهم، فلما اجتمعوا عنده کلهم، وأخذوا مجالسهم، ثم قال صلی الله علیه و آله: إن الله قد أمرنی أن أزوج فاطمة علی أربعمائة مثقال فضة إن رضیت بذاک، فقال علیه السلام: قد رضیت بذلک یا رسول الله قال أنس بن مالک: فقال النبی صلی الله علیه و آله: جمع الله شملکما، وأسعد جدکما، وبارک علیکما وأخرج منکما کثیراً طیباً، قال أنس: فوالله لقد أخرج الله منهما الکثیر الطیب(3).

ص:246


1- (1) راجع: موسوعة التاریخ الإسلامی, محمد هادی الیوسفی, ج 2 ص 100.
2- (2) راجع: إعلام الوری بأعلام الهدی, الشیخ الطبرسی, ج 1 ص 160.
3- (3) أنظر: مکارم الأخلاق, الشیخ الطبرسی, ص 207.

تاریخ زواج فاطمة علیهاالسلام

ذکر المؤرخون أن الزهراء عقدت لعلی علیهماالسلام للیلتین بقیتا من شهر صفر بعد الهجرة، وبعضهم قال: بعد سنة من الهجرة، وبعضهم قال: فی شهر صفر من السنة الثانیة للهجرة وهو یقصد البدء بالسنة الثانیة من المحرم، وجاء فی الکافی عن سعید بن المسیّب قال: فقلت لعلی بن الحسین علیهماالسلام فمتی زوج رسول الله صلی الله علیه و آله فاطمة من علی علیهماالسلام فقال: بالمدینة بعد الهجرة بسنة وکان لها یومئذ تسع سنین(1).

وأما بناء علی علیه السلام بها أی الزفاف: فقد نقل الطبری عن الواقدی بسنده عن الباقر علیه السلام قال: إن علی بن أبی طالب بنی بفاطمة علیهاالسلام فی ذی الحجة علی رأس اثنین وعشرین شهراً. کما رواه الدولابی فی الذریة الطاهرة عن الصادق علیه السلام أما عن الیوم فقد عینه المفید فی مسار الشیعة والطوسی فی المصباح بالیوم الأول منه(2).

الملائکة تحضر زفاف فاطمة علیهاالسلام

إنّ زفاف فاطمة علیهاالسلام یختلف عن غیره, حیث حفته جملة من الکرامات وقد شارک فیه النبی صلی الله علیه و آله مع أفواج من الملائکة المقربین وغیرهم, فقد ورد عن أسماء بنت عمیس(3) ، أنها قالت: کنت فیمن زفت فاطمة إلی علی علیه السلام، فلما

ص:247


1- (1) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 8 ص 340.
2- (2) راجع: موسوعة التاریخ الإسلامی, محمد هادی الیوسفی, ج 2 ص 211.
3- (3) ربما المراد هنا سلمی بنت عمیس لیس أختها أسماء, لأنها کانت مهاجرة بأرض الحبشة مع زوجها جعفر بن أبی طالب علیهما السلام، ولم تعد هی ولا زوجها إلا یوم فتح خیبر وذلک فی سنة ست من الهجرة،

دخلت بیتها اقبل رسول صلی الله علیه و آله حتی دخل علیها، فدعا بماء، فذکر اسم الله علیه، ثم شرب منه، ومج من الماء فیما بین درع فاطمة وبدنها، ثم مج منه أیضاً فیما بین سربال علی وبدنه ثم قال: اللهم أحفظ أهل البیت، وبارک فیهم وبارک علیهم، واجعلهم مبارکین أین کانوا(1).

وعن الفضل بن دکین، باسناده، عن عبد الله بن عباس، أنه قال لما زفت فاطمة إلی علی علیهماالسلام کان رسول الله صلی الله علیه و آله قدامها، وجبرائیل عن یمینها، ومیکائیل عن شمالها، وسبعون ألف ملک من خلفها یسبحون الله ویقدسونه حتی طلع الفجر(2).

فاطمة المصداق الأکمل للزوجة وللأم الصالحة

لم تکن السیدة الزهراء علیهاالسلام کغیرها من النساء من أنّها امرأة عرفها التاریخ بآدابها وأدبها وبطولاتها وعاشت حیاتها ثم اندرست شخصیتها وکل معالمها, ولا یقال عنها شیء فی صفحات التاریخ إلا أنّها بنت رسول الله وحلیلة أمیر المؤمنین علیه السلام, بل تبقی السیدة الزهراء علیهاالسلام قدوة ومنهاجاً للنساء فی شتی المجالات, فهی قدوة للبنت الرشیدة اللبیبة المطیعة لوالدیها وأولیائها فعلیها أن

ص:248


1- (1) أنظر: شرح الأخبار, القاضی النعمان المغربی, ج 3 ص 28.
2- (2) أنظر: إقبال الأعمال, السید ابن طاووس, ج 3 ص 92. وتاریخ بغداد, الخطیب البغدادی, ج 5 ص 211.

تنتهج من حیاة الزهراء علیهاالسلام والتی ارتقت فیها کی تکون أمّاً لأبیها علی لسان الوحی, کما تکون قدوة للمرأة الواعیة المثقفة المؤمنة وقدوة للأم الکاملة وللزوجة الصالحة, فعلی المرأة الواعیة أن تقرأ حیاة الزهراء العلمیة والسیاسیة والمعنویة کی تتخذ منها منهاجاً ترسم به مستقبلها ومستقبل الأمة, وعلی الأم أن تقرأ حیاة الزهراء علیهاالسلام مع أولادها وکیف کانت تتعامل معهم کی تصبح أمّاً کاملة قد قدمت للأجیال من یُسعدها, وعلی الزوجة أیضاً أن تقرأ حیاة السیدة فاطمة علیهاالسلام مع زوجها وکیف کانت غایة فی حسن التبعّل والاحترام المتبادل والمحبة الدائمة لاسیما فی تلک الظروف البسیطة والألیمة حیث ذکروا عندما انتقلت فاطمة علیهاالسلام إلی بیت علی علیه السلام ذاک البیت البسیط لم یکن فیه شیء حتی من ضروریات ومستلزمات الحیاة فأخذت تعتنی بشؤون منزلها وتدیر حوائجها بالاعتماد علی جهودها فلم یکن لدیها خدم ولا عبید ولا غیر ذلک فکل حیاتها کدح وجهاد, فقد کانت تطحن الشعیر وتدیر الرحی بیدها وتصنع أقراص الخبز بنفسها وتکنس البیت وتدیر مستلزمات الأسرة وکان النبی صلی الله علیه و آله وعلی علیه السلام یشاهدان کل ذلک منها ویشارکانها العناء, بل کانا یساعدانها فی أعمال المنزل, فقد ذکر التاریخ صوراً ولو أنّها قلیلة من الحیاة العائلیة الفریدة التی کانت تعیشها فاطمة مع زوجها وأولادها, کما ورد عن جابر بن عبد الله قال دخل رسول الله صلی الله علیه وسلم علی فاطمة وهی تطحن بالرحی وعلیها کساء من حملة الإبل فلما نظر إلیها (بکی) وقال یا فاطمة تعجلی فتجرعی مرارة الدنیا لنعیم الآخرة غداً, فأنزل الله (وَ لَسَوْفَ

ص:249

یُعْطِیکَ رَبُّکَ فَتَرْضی)1 .

وأیضا دخل النبی صلی الله علیه و آله علی فاطمة وهی تطحن مع علی علیه السلام، فقال النبی صلی الله علیه و آله: لأیکما أعقب؟ فقال علی علیه السلام: لفاطمة؛ فإنها قد أعیت, فقامت فاطمة، فطحن النبی صلی الله علیه و آله مع علی لفاطمة(1).

وأیضا یذکر لنا التاریخ صورة أخری للزهراء علیهاالسلام فی معاناتها وعملها فی بیتها البسیط, فقد روی المجلسی رحمه الله بینما النبی صلی الله علیه و آله والناس فی المسجد ینتظرون بلالاً أن یأتی فیؤذن إذ أتی بعد زمان فقال له النبی صلی الله علیه و آله: ما حبسک یا بلال؟ فقال: إنی اجتزت بفاطمة علیهاالسلام وهی تطحن واضعة ابنها الحسن عند الرحی وهی تبکی، فقلت لها: أیما أحب إلیک إن شئت کفیتک ابنک، وإن شئت کفیتک الرحی، فقالت: أنا أرفق بابنی، فأخذت الرحی فطحنت فذاک الذی حبسنی، فقال النبی صلی الله علیه و آله: رحمتها رحمک الله(2).

وغیرها من الروایات التی ترینا حیاة الزهراء علیهاالسلام الاجتماعیة مع زوجها وأولادها وجیرانها, ونحن لا نرید أن نأخذ ألفاظاً جامدة أو روایات فارغة وإنّما نقف عندها مقتبسین ومستلهمین الدروس والعبر, فعلی البنت والزوجة والأم أن تجعل الزهراء علیهاالسلام وسیرتها قدوة ومنهاجاً فی حیاتها الزوجیة والاجتماعیة وغیرها کی تحظی بالسعادة الأبدیة.

ص:250


1- (2) أنظر: موسوعة الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام فی الکتاب والسنة والتاریخ, محمد الریشهری, ج 9 ص 372.
2- (3) أنظر: مسند أحمد بن حنبل, ج 3 ص 151. وذخائر العقبی, أحمد بن عبدالله الطبری, ص 51.

کذبة بیضاء

بعد ما ثبتت أذیة وغضب فاطمة علیهاالسلام فی الکتب المعتبرة والصحیحة عند القوم, بما فیها صحیح البخاری, حیث قال: عندما جاءت فاطمة تطالب بإرثها قال لها أبو بکر إن رسول الله صلی الله علیه وسلم قال لا نورث ما ترکنا صدقة, فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وسلم فهجرت أبا بکر فلم تزل مهاجرته حتی توفیت(1). ولا ریب أنّ هذا یلزم منه غضب وأذیة الرسول صلی الله علیه و آله ومن ثم أذیة الله وغضبه؛ لأنّه ثبت أیضا فی الصحاح وغیرها, من آذی فاطمة فقد آذی النبی صلی الله علیه و آله, ومن أغضبها فقد أغضب النبی صلی الله علیه و آله کما جاء عنه فی هذا المجال کثیر من الروایات من جملتها: فاطمة بضعة منّی من أغضبها فقد أغضبنی, (وفی صحیح مسلم یؤذینی ما آذاها)(2), وأذیة النبی صلی الله علیه و آله وغضبه یلزم منها أذیة الله وانتقامه بصریح الآیة فی قوله تعالی:(إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِیناً)3 . فمن هذا وغیره لم یجدوا مفراً ومهرباً إلا افتعال وسیلة للهجوم کی یلتجئوا خلفها ویتحصنوا بها, حیث قالوا إنّ علی بن أبی طالب علیه السلام خطب بنت أبی جهل فی حیاة فاطمة علیهاالسلام وحینما وصل الخبر لفاطمة غضبت وتأذت, وهذا یعنی أنّ علیاً قد أغضب وآذی فاطمة, ومن ثم یشمله الحدیث فی أنّه قد آذی فاطمة, وکأن علیاً أصبح حکراً للشیعة حتی

ص:251


1- (1) أنظر: صحیح البخاری, البخاری, ج 4 ص 42.
2- (2) أنظر: صحیح البخاری, ج 4 ص 210. وصحیح مسلم, ج 7 ص 141.

ینقضوا به, ولم یکن خلیفة وقدوة للمسلمین, ومن حسن الحظ أنّ هذه الروایة التی افتعلوها لا تنسجم مع الضوابط العامة سواء فی سندها أم دلالتها, حتی أن الصحابة ومن جملتهم ابن عباس أنکرها وقال فی محضر الخلیفة الثانی هذه من الخواطر, بل حتی المنافقین والأعداء لم یتخذوها ذریعة للتشنیع والتهویل, بالإضافة إلی أنّ بطل هذه الأسطورة والراوی لها المسور بن مخرمة لم یتجاوز عمره الست سنوات حتی أخذوا یبررون هذا النقص الفنی الذی اتضح فیما بعد بأنّه وإن لم یکن محتلماً ولکنه عاقل, فتجاوزوا الخطوط الحمراء عندهم فی علم الروایة کی یمرروا هذه الأکذوبة علی الأذهان والتاریخ ولو بالتخلی عن مبادئهم وضوابطهم, مع کل ذلک أنّ الروایات الواردة فی هذا الشأن مختلفة ومتناقضة. ولو سلمنا أن لها حظاً من الوجود ولو جدلاً فلماذا یتأذی النبی وکذا الزهراء من أمر قد شرعه الله وجعله من المستحبات, مع عدم دخول الولایة هنا حیث إنّه صلی الله علیه و آله یقول لست أحرم حلالاً ولا احل حراماً, فکیف ینهی علی بالزواج بالثانیة, ویأمر بطلاق فاطمة من علی وعصمتها بید زوجها لا غیر, ولماذا اختار الله علیاً زوجاً لفاطمة ولولاه لما کان لها کفءٌ فکیف یختار لها من یؤذیها وهو یعلم أنّه یؤذیها؟ وکیف یقدم علی علی أذیة فاطمة وهو یعلم ما قال فیها الله ورسوله, بل کیف یقدم علی معصیة الله وهو یعلم أنّ الله حرّم علیه النساء فی حیاة فاطمة علیهاالسلام کما سیأتی, وقد نص القرآن والسنة والعقل علی عصمته, وما کان فی هذه المرأة بنت أبی جهل من خصوصیات وهی بنت الطلقاء حتی یقدم علیها علی, کی یجعل النبی صلی الله علیه و آله یصعد المنبر وینشر الخبر علی الناس من دون أن یواجه الإمام

ص:252

علیاً علیه السلام, وغیرها من الأسئلة التی لا تنتهی, لکن أرید أن اختم الکلام هنا, من أنّ النبی صلی الله علیه و آله الذی لا ینطق إلا عن الوحی قال بعلی علیه السلام ما لم یقله بغیره وکشف الله عنه أنّه نفس النبی صلی الله علیه و آله وطاعته طاعة النبی ومعصیته معصیة النبی وطاعة ومعصیة النبی صلی الله علیه و آله طاعة ومعصیة الله, وقال الحق مع علی وعلی مع الحق, وغیرها من الروایات الواردة عن النبی صلی الله علیه و آله بحق علی علیه السلام وقد یصعب عدّها, وهی تؤکد أنّ علیاً علیه السلام لا یعتریه الخطأ والزلل وکل فعله حق وعین ما أراده الله ورسوله, فلو سلمنا بهذه الأسطورة ألا یلزم من ذلک إما التوهین بالنبی صلی الله علیه و آله وأنّه أخطأ فی تقییمه للإمام علی علیه السلام وهو مستحیل بعد ما ثبت أنّه لا ینطق إلا عن الله, وإمّا أنّ نکذب ونطرح کل هذه الروایات التی تکشف عن أبعاد علی علیه السلام بل حتی الآیات التی کللت الإمام علی علیه السلام بالعصمة فتکون المصیبة أعظم, فلا سبیل الی تمریر هذه الأسطورة لا من بعید ولا من قریب. ونحن قد اختصرنا الرد هنا؛ لأن المسألة لا تستحق أکثر من ذلک من حیث جلاء کذبها وضعف متنها.

حرمة الزواج علی علی فی حیاة الزهراء علیهاالسلام

اشارة

إنّ للسیدة الزهراء علیهاالسلام خصوصیات کثیرة سواء کانت فی المجال التکوینی من قبیل أنها لم ترَ دم حیض أو نفاس وغیر ذلک, أم فی المجال التشریعی من قبیل حرمة الزواج علیها فی حیاتها, کما أشار لذلک بعض الأعلام بقوله: الظاهر أنه لا خلاف بین المسلمین فی اختصاص هذا الحکم بفاطمة علیهاالسلام دون غیرها من أخواتها (أو ربائبه کما ثبت عندنا) وسایر النساء، ولم یفت أحد من أهل العلم فیما أعلم بعدم جواز النکاح علی سایر بنات رسول الله صلی الله علیه و آله, ولیس هذا إلا لما

ص:253

حازته علیهاالسلام من الفضلیة والکرامة والدرجة الرفیعة عند الله تعالی، واختصاصها بفضائلها المشهورة، دون غیرها من النساء. ولو کان علة حرمة نکاح امرأة أخری علیها، اجتماع بنت رسول الله صلی الله علیه و آله وبنت عدو الله مکاناً واحداً، لاشترکت معها فی هذا الحکم أخواتها زینب ورقیة وأم کلثوم، ولما یجوز نکاحهن من أبی العاص بن ربیع، وعتبة، وعتیبة ابنی أبی لهب فی حال کفرهم، بل لما یجوز نکاحهن بمن کان قبل الإسلام مشرکاً کافراً(1).

والدلیل علی اختصاص الزهراء علیهاالسلام بهذا الحکم, أولاً: ما ورد عن أبی بصیر عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

حرم الله النساء علی علی علیه السلام ما دامت فاطمة علیهاالسلام حیة قال: قلت کیف؟ قال:

لأنها طاهرة لا تحیض(2).

وقال المجلسی رحمه الله أنّ هذا التعلیل یحتمل وجهین: الأول أن یکون المراد أنها لما کانت لا تحیض حتی یکون له علیه السلام عذر فی مباشرة غیرها، فلذا حرم الله علیه غیرها رعایة لحرمتها. الثانی أن یکون المعنی أن جلالتها منعت من ذلک وعبر عن ذلک ببعض ما یلزمه من الصفات التی اختصت بها(3).

وثانیا: یمکن أنّ تکون الحرمة هنا من باب عدم وجود الکفء للسیدة الزهراء علیهاالسلام بما أنّها معصومة لیس لها عدل من النساء إطلاقاً, حیث لو رجعنا إلی فلسفة حرمة الزواج الدائم بالکافرة هو عدم کفئها للمسلمة فلا تستحق أن تکون

ص:254


1- (1) أنظر: لمحات, الشیخ لطف الله الصافی, ص 264.
2- (2) تهذیب الأحکام, الشیخ الطوسی, ج 7 ص 475.
3- (3) أنظر: بحار الأنوار, العلامة المجلسی, ج 43 ص 153.

عدلاً لها کی توزع بینهما الحقوق والأیام وغیر ذلک, فکذلک لا تکون للزهراء علیهاالسلام عدل ولو کانت مسلمة وهی سیدة نساء العالمین من الأولین والآخرین.

وهذا بحدّ ذاته یکون ردّاً قاطعاً علی أسطورة بنت أبی جهل المتقدم ذکرها فتکون سالبةً بانتفاء الموضوع, من حیث إنّ الزواج محرم علی علی علیه السلام کحرمة غیره من المحرمات فکیف یجوز أن یقدم علی أمر قد شرع الله حرمته علی فرض وصول الحکم إلیه, وإن لم یکن قد وصل إلیه فلا یؤاخذ بشیء من ذلک لا من جهة النبی صلی الله علیه و آله ولا من جهة الزهراء علیهاالسلام. وکیف کان قد تنزلنا وتجارینا مع القوم إلی أدنی المستویات التی لا ینبغی أن تقال وإلا علی بن أبی طالب علیه السلام أجلُّ من کل ما یقال عنه وقد وصفه المولی تعالی أنّه نفس النبی صلی الله علیه و آله ووصفه النبی أنّه لا یعرفه إلا الله ورسوله.

إشکال وجواب

ذُکر عن محمد بن أبی القاسم أنّه قال: هذا (الخبر) من جملة خبر الآحاد, وقد قال الله تعالی:(فَانْکِحُوا ما طابَ لَکُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنی وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ)1 ولا یجوز تحریم ذلک فی حق أحد إلا بسنة قاطعة أو آیة محکمة(1). وذلک لأنّ القرآن قطعی الصدور, وهو یصرح بجواز الزواج من الثانیة وحتی الرابعة لکل المسلمین بما فیهم علی بن أبی طالب علیه السلام, وهذا الخبر الواحد, الذی یحرم

ص:255


1- (2) أنظر: بشارة المصطفی, محمد بن علی الطبری, ص 381.

الزواج من علی علیه السلام فی حیاة الزهراء علیهاالسلام هو فی حد ذاته ظن ولکن الشارع جعله حجة فی المسائل الشرعیة أو العقائد الثانویة, فعندما نقارن بینه وبین الآیة تکون مقارنةً فی الحقیقة بین ظن ویقین, ولا ریب أنّ المسألة الیقینیة تبقی ثابتة ولا تخصص أو تنسخ إلا بیقین آخر ولیس بظن کما هو فی المقام.

والجواب

قد جاء عن بعض الأساطین أنّه لا یوجد خلاف بین أصحابنا فی جواز تخصیص الکتاب بخبر الواحد, نعم هناک خلاف فی المسألة عند أبناء العامّة منهم من ذهب إلی عدم جواز التخصیص والآخر الی جواز تخصیص الکتاب بخبر الواحد, ومنهم من توقف فی المسألة کالباقلانی(1).

وأمّا الدلیل علی جواز التخصیص, هو أنّ التخصیص للکتاب إنمّا هو فی الدلالة لا فی الصدور وهی ظنیة أیضاً, فیکون رفع ظنی بظنی لیس رفع یقین بظنی کما توهم المستشکل. وإنّ شئت قلت: إنّه رفع ید عن قطعی بقطعی, بتقریب أنّ خبر الواحد بعد فرض حجیته وشمولها للمقام یکون قطعی الحجیة فقد رفعنا الید عما هو قطعی الحجیة وهو الکتاب بما هو قطعی الحجیة وهو خبر الواحد.

بعبارة أوضح: أنّ العموم فی نفسه وإن کان شموله للمورد ظنیاً من قبیل قوله تعالی:(وَ حَرَّمَ الرِّبا) شمول للربا بین الوالد وولده ظنی إلا أنّ أصالة العموم جعلت شموله لکل فرد من أفراده حجة قطعیة معذرة لولا المخصص الذی جعل

ص:256


1- (1) أنظر: غایة المأمول من علم الأصول, تقریرات بحوث السید الخوئی, للشیخ محمد تقی الجواهری, ج 2 ص 670. ومحاضرات فی أصول الفقه, تقریرات بحث السید الخوئی, للفیاض, ج 5 ص 309.

الشارع له الحجة کخبر الواحد, من قبیل قول أمیر المؤمنین علیه السلام:

لیس بین الرجل وولده ربا ولیس بین السید وعبده ربا(1). فهو حجة قطعیة, فیکون المقام هنا وکذا فی مسألتنا من قبیل العام والخاص القطعییّن, فإنّ الخاص قرینة علی عدم العموم فهو مقدم علیه تقدم القرینة علی ذیها. فعندما حصل عموم أفرادی فی الآیة فی جواز أو استحباب لکل الأفراد من الزواج بالثانیة وحتی الثالثة الی الرابعة مع توفر الشروط اللازمة فی محلها خُص هذا العموم بحق علی علیه السلام فی حال حیاة الزهراء علیهاالسلام لوجود خصوصیة خاصة فیها, وربما أشارت الروایة الی هذه الخصوصیة وهی أنّها طاهرة أی معصومة ولا تحیض لا تعتریها النجاسات کما هو الحال فی النساء, فهی متکاملة من الناحیة المعنویة والمادیة.

مصحف فاطمة علیهاالسلام

من تراث فاطمة علیهاالسلام هو المصحف الخاص بها المعبر عنه فی لسان الروایات بمصحف فاطمة, وذلک بما أملته علیها الملائکة بإذن الله, کما فی المعتبرة فی الکافی: «أنّ ملکاً من الملائکة کان ینزل علی الزهراء علیهاالسلام بعد وفاة أبیها، ویسلیها ویحدثها بما یکون من الأمور، وکان علی علیه السلام یکتب ذلک الحدیث, فسمی ما کتب, مصحف فاطمة علیهاالسلام، فهو لیس قرآناً کما توهم، ولا کتاباً مشتملاً علی الأحکام، فإن هذا التوهم مخالف للنصوص. ولا غرابة فی حدیث الملائکة مع الزهراء علیهاالسلام فقد ذکر القرآن أن الملائکة حدثت مریم ابنة عمران, کما فی قوله تعالی:(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاکِ وَ طَهَّرَکِ وَ اصْطَفاکِ

ص:257


1- (1) الکافی, الکلینی, ج 5 ص 147.

عَلی نِساءِ الْعالَمِینَ)1 , ومن المعلوم أفضلیة الزهراء علی مریم ابنة عمران، کما ورد فی النصوص المعتبرة، من أنّ مریم سیدة نساء عالمها، وأنّ فاطمة سیدة نساء العالمین.

عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: تظهر الزنادقة فی سنة ثمان وعشرین ومائة, وذلک أنی نظرت فی مصحف فاطمة علیهاالسلام، قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: إن الله تعالی لما قبض نبیه صلی الله علیه و آله دخل علی فاطمة علیهاالسلام من وفاته من الحزن ما لا یعلمه إلا الله عز وجل فأرسل الله إلیها ملکاً یسلی غمها ویحدثها، فشکت ذلک إلی أمیر المؤمنین علیه السلام فقال: إذا أحسست بذلک وسمعت الصوت قولی لی فأعلمته بذلک فجعل أمیر المؤمنین علیه السلام یکتب کلما سمع حتی أثبت من ذلک مصحفاً, ثم قال أما إنه لیس فیه شیء من الحلال والحرام ولکن فیه علم ما یکون(1).

وعن أبی عبیدة قال: سأل أبا عبد الله علیه السلام بعض أصحابنا عن الجفر فقال: هو جلد ثور مملوء علماً، قال: له فالجامعة؟ قال: تلک صحیفة طولها سبعون ذراعاً فی عرض الأدیم مثل فخذ الفالج، فیها کل ما یحتاج الناس إلیه، ولیس من قضیة إلا وهی فیها، حتی أرش الخدش قال: فمصحف فاطمة علیهاالسلام؟ قال، فسکت طویلا ثم قال: إنکم لتبحثون عما تریدون وعما لا تریدون إن فاطمة مکثت بعد رسول الله صلی الله علیه و آله خمسة وسبعین یوماً وکان دخلها حزن شدید علی أبیها وکان جبرئیل علیه السلام یأتیها فیحسن عزاءها علی أبیها، ویطیب نفسها، ویخبرها عن أبیها

ص:258


1- (2) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 1 ص 240.

ومکانه، ویخبرها بما یکون بعدها فی ذریتها، وکان علی علیه السلام یکتب ذلک، فهذا مصحف فاطمة علیهاالسلام(1).

ولفظ المصحف لیس اسماً مختصاً بالقرآن، حتی تختص بنت المصطفی بقرآن خاص، وإنما کان کتاباً فیه الملاحم والأخبار. والمصحف: من أصحف، بمعنی ما جعل فیه الصحف، کما جاء فی لسان العرب, المصحف: الجامع للصحف المکتوبة بین الدفتین کأنه أصحف، والکسر والفتح فیه لغة، قال أبو عبید: تمیم تکسرها وقیس تضمها، ولم یذکر من یفتحها ولا أنها تفتح إنما ذلک عن اللحیانی عن الکسائی, قال الأزهری: وإنما سمی المصحف مصحفاً لأنه أصحف أی جعل جامعاً للصحف المکتوبة بین الدفتین، قال الفراء: یقال مِصحف ومُصحف کما یقال مِطرف ومُطرف، قال: وقوله مصحف من أصحف أی جمعت فیه الصحف وأطرف جعل فی طرفیه العلمان(2).

وعلیه إنما سمی المصحف مصحفاً، لأنه جعل جامعاً للصحف المکتوبة بین الدفتین, ولم یکن ذلک اللفظ علماً للقرآن فی عصر نزوله، وإنما صار علماً له بعد رحیل رسول الله صلی الله علیه و آله. قال السیوطی: روی ابن أشتة فی کتاب المصاحف أنه لما جمعوا القرآن فکتبوه فی الورق قال أبو بکر: التمسوا له اسماً، فقال بعضهم: السفر، وقال بعضهم: المصحف، فإن الحبشة یسمونه المصحف, قال: وکان أبو بکر أول من جمع کتاب الله وسماه المصحف(3).

ص:259


1- (1) الکافی, الشیخ الکلینی ج 1 ص 241.
2- (2) أنظر: لسان العرب, ابن منظور, ج 9 ص 186.
3- (3) أنظر: الإتقان فی علوم القرآن, السیوطی, ج 1 ص 146.

أسماء فاطمة علیهاالسلام

اشارة

إن للسیدة الزهراء علیهاالسلام أسماء نزلت من السماء، وتحت کل اسم أسرار کما نطقت بها الأخبار، ولکل منها جهة تسمیة بل جهات سمیت بها بذلک الاعتبار، ونحن نذکر قسماً منها, مع جملة من الأخبار الواردة فیها، ومرادنا من الأسماء هنا أعم من الاسم واللقب والکنیة علی نحو ما ورد فی الأخبار المرویة.

سبب تسمیتها بفاطمة

قد ورد فی سبب تسمیتها بذلک أخبار کثیرة من طرق الخاصة والعامة، فی أنها سمیت بذلک؛ لأن الله تعالی قد فطم من أحبها من النار, وغیرها من الأسرار الکامنة تحت هذا الاسم المبارک.

کما عن الشعبی، عن ابن عباس، قال: لما ولدت فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله سماها المنصورة، فنزل جبرائیل، فقال: یا محمد، الله یقرئک السلام، ویقرئ مولودک السلام، وهو یقول: ما ولد مولود أحب إلی منها، وأنها قد لقبها باسم خیر مما سمیتها، سماها فاطمة، لأنها تفطم شیعتها من النار(1).

وعن أبی الحسن الرضا علیه السلام انّه قال: سمیت فاطمة, فاطمة؛ لأن الله تبارک وتعالی علم ما کان قبل کونه، فعلم أن رسول الله صلی الله علیه و آله یتزوج فی الأحیاء، وأنهم یطمعون فی وراثة هذا الأمر من قبله، فلما ولدت فاطمة سماها الله تعالی فاطمة لما أخرج منها من ولدها، فجعل الوراثة فی أولادها، فقطع غیر أولادها عما طمعوا،

ص:260


1- (1) أنظر: میزان الاعتدال, الذهبی, ج 3 ص 439.

فبهذا سمیت فاطمة أی فطمت طمعهم وقطعت(1).

وروی یزید بن عبد الملک عن الباقر علیه السلام قال: لما ولدت فاطمة علیهاالسلام أوحی الله عز وجل إلی ملک، فأنطق به لسان محمد صلی الله علیه و آله فسماها فاطمة، وقال: إنی قد فطمتک بالعلم، وفطمتک عن الطمث، ثم قال أبو جعفر علیه السلام: والله لقد فطمها الله تعالی بالعلم وعن الطمث فی المیثاق(2).

وفی روایة: أنّه قال رسول الله صلی الله علیه و آله: یا فاطمة أتدرین لم سمیت فاطمة؟ فقال علی علیه السلام: یا رسول الله لم سمیت فاطمة؟ قال: لأنها فطمت هی وشیعتها من النار(3).

سبب تسمیتها بالزهراء

هناک عدة روایات تکشف لنا سبب تسمیتها بهذا الاسم, وانّه مقتبس من واقعٍ تتمتع وتتصف به الزهراء علیهاالسلام, کما ورد عن محمد بن عمارة، عن أبیه، قال: سألت الصادق علیه السلام عن فاطمة علیهاالسلام لم سمیت زهراء؟ فقال علیه السلام: لأنها کانت إذا قامت فی محرابها زهر نورها لأهل السماء کما یزهر نور الکواکب لأهل الأرض(4).

وعن العسکری علیه السلام: سمیت فاطمة زهراء لأنه کان نور وجهها یزهر لأمیر

ص:261


1- (1) أنظر: علل الشرائع, الشیخ الصدوق, ج 1 ص 178.
2- (2) أنظر: الکافی, الشیخ الکلینی, ج 1 ص 460.
3- (3) أنظر: علل الشرائع, الشیخ الصدوق, ج 1 ص 179.
4- (4) معانی الأخبار, الشیخ الصدوق, ص 64.

المؤمنین علیه السلام من أول النهار کالشمس الضاحیة، وعند الزوال کالقمر المنیر، وعند غروب الشمس کالکوکب الدری(1). وفی خبر آخر أنّه حدث عند ولادتها فی السماء نور ظاهر لم تره الملائکة قبل ذلک(2).

وروی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّی رأیت لیلة الإسراء امرأة فی الجنة فی غایة البهاء والجلالة قد بهر نورها جمیع الموجودات، وهی جالسة علی سریر من أسرة الجنة، وعلی رأسها تاج مکلل، وفی أذنیها قرطان یزهران لأهل الأرض والسماء، أحدهما من الزمردة الخضراء والآخر من الیاقوتة الحمراء، فسألت جبرئیل عنها فقال: هذه بنتک فاطمة الزهراء، والتاج علی رأسها هو علی بن أبی طالب علیه السلام زوجها، والقرطان فی اذنیها الحسن والحسین علیهماالسلام ولداها(3).

وروی جابر عن الصادق علیه السلام قال: قلت له: لم سمیت الزهراء زهراء؟ فقال: لأن الله تعالی خلقها من نور عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماوات والأرضین، وغشیت أبصار الملائکة، وخرت الملائکة لله تعالی ساجدین، وقالوا: إلهنا وسیدنا ما هذا النور؟ فأوحی الله إلیهم: هذا نور من نوری، أسکنته فی سمائی، خلقته من عظمتی، أخرجته من صلب نبی من أنبیائی، أفضله علی جمیع الأنبیاء، واخرج من ذلک النور أئمة یقومون بأمری، ویهدون إلی حقی، وأجعلهم خلفائی فی أرضی بعد انقضاء وصی نبیی(4).

ص:262


1- (1) مناقب آل أبی طالب, ابن شهر آشوب, ج 3 ص 110.
2- (2) الأمالی, الشیخ الصدوق, ص 692.
3- (3) اللمعة البیضاء, التبریزی الأنصاری, ص 105.
4- (4) علل الشرائع, الشیخ الصدوق, ج 1 ص 18.

سبب تسمیتها بالصدیقة

هذا الاسم معروف علی لسان أهل البیت علیهم السلام وقد سماها به الله تبارک وتعالی إجلالاً وإکراماً لمقامها السامی ولما وصلت إلیه من التصدیق بکل ما آتاه الله ورسوله صلی الله علیه و آله. والصدیقة صیغة مبالغة فی الصدق والتصدیق أی أنها سلام الله علیها کثیرة الصدق، ولقد ورد فی کتب اللغة معنی التصدیق والصدق حیث قیل: إن الصدیق أبلغ من الصدوق، وقیل: إنه الکامل فی الصدق الذی یصدق قوله بالعمل، البار، الدائم التصدیق، وقیل: إنه من لم یکذب قط، وقیل: من صدق بقوله واعتقاده، وحقق صدقه بفعله(1).

وأیاً کان منها معنی الصّدیق فإن فاطمة الزهراء علیهاالسلام تنطبق علیها جمیع الأقوال فهی سلام الله علیها کانت المداومة علی التصدیق بما یوجبه الحق جل وعلا حیث کانت المصدقة بکل ما أمر الله به وبأنبیائه ولا یدخلها فی أی شیء من ذلک أی شک کان وکانت المصداق الأفضل مع أولیائه المعصومین, لقوله تعالی:(وَ الَّذِینَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِکَ هُمُ الصِّدِّیقُونَ)2 . وقوله تعالی:(مَا الْمَسِیحُ ابْنُ مَرْیَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّیقَةٌ)3 ، حیث فسرت کلمة صدیقة فی هذا الآیة المبارکة بأنها تصدق بآیات ربها، ومنزلة والدها وتصدقه فیما أخبرها به، بدلالة قوله تعالی:(وَ صَدَّقَتْ بِکَلِماتِ رَبِّها

ص:263


1- (1) أنظر: تاج العروس, الزبیدی, ج 13 ص 36.

وَ کُتُبِهِ وَ کانَتْ مِنَ الْقانِتِینَ)1 ، وقیل: لکثرة صدقها وعظم منزلتها فیما تصدق به من أمرها وعلی کل حال فإن فاطمة الزهراء علیهاالسلام کانت الصدیقة الطیبة التی صدقت بالله ورسوله وبما جاء به من عند الله تعالی وکانت المؤمنة بکل عقائدها الربانیة والتی کانت تعمل علی ضوء تلک العقائد والمعتقدات, ولقد جاءت الروایات الکثیرة لکی تؤکد علی هذه الحقیقة الواضحة للزهراء علیهاالسلام فلقد ورد عن النبی صلی الله علیه و آله فی حدیث طویل: یا علی، إنی قد أوصیت فاطمة ابنتی بأشیاء وأمرتها أن تلقیها إلیک، فأنفذها، فهی الصادقة الصدوقة، ثم ضمها إلیه وقبل رأسها، وقال: فداک أبوک یا فاطمة(1).

وعن مفضل بن عمر قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام: من غسل فاطمة علیهاالسلام؟ قال: ذاک أمیر المؤمنین علیه السلام، فکأنما استضقت (استفظعت) ذلک من قوله، فقال لی: کأنک ضقت مما أخبرتک به، فقلت: قد کان ذلک جعلت فداک، فقال: لا تضیقن فإنها صدیقة لم یکن یغسلها إلا صدیق، أما علمت أن مریم لم یغسلها إلا عیسی؟(2). وکذلک قول رسول الله صلی الله علیه و آله إنه قال لعلی علیه السلام: أوتیت ثلاثاً لم یؤتیهن أحد ولا أنا أوتیت, صهراً مثلی ولم أوت أنا مثلک، وأوتیت زوجة صدیقة مثل ابنتی ولم أوت مثلها زوجة، وأوتیت الحسن والحسین من صلبک ولم أوت من صلبی مثلهما، ولکنکم منی(3).

ص:264


1- (2) أنظر: الصراط المستقیم, علی بن یونس العاملی, ج 2 ص 93. وبحار الأنوار, المجلسی, ج 22 ص 491.
2- (3) انظر: الکافی, الکلینی, ج 1 ص 460. ووسائل الشیعة, الحر العاملی, ج 2 ص 714.
3- (4) انظر: الغدیر, المینی, ج 2 ص 312.

وعن أبی الحسن علیه السلام قال: إنّ فاطمة علیهاالسلام صدیقة شهیدة(1). وقال الصادق علیه السلام: وهی الصدیقة الکبری، وعلی معرفتها دارت القرون الأولی(2). وغیرها من الروایات التی تبین الأبعاد المعنویة لهذه الصفة التی تتمتع بها الزهراء علیهاالسلام.

سبب تسمیتها بالمبارکة

وهو من الأسماء التی وردت أیضاً عن لسان المعصوم علیه السلام لفاطمة الزهراء علیهاالسلام عند الباری عز وجل، والظاهر من خلال سیرتها علیهاالسلام وما ترکت من ذریة طیبة من بعدها أن مسألة البرکة واضحة البرهان فی حیاتها الواقعیة، حیث نجد أن ذریة کل رسول من ولده وخصوصا الذکور إلا نبینا محمد صلی الله علیه و آله حیث کانت ذریته من ابنته المبارکة فاطمة علیهاالسلام، وهذا ما نجده من خلال المأثور الروائی فی حیاة الرسول وأهل بیته علیهم السلام. وعندما نراجع کتب اللغة لنری مدی انطباق معنی المبارکة أو البرکة علی حیاتها الشخصیة وما ترکته فی هذه الدنیا, فلقد ورد فی معنی کلمة البرکة هی النماء والزیادة، وعن الزجاج: المبارک ما یأتی من قبله الخیر الکثیر. وقیل: إن البرکة: هی النماء والسعادة والزیادة وقال الراغب: ولما کان الخیر الإلهی یصدر من حیث لا یحبس، وعلی وجه لا یحصی ولا یحصر, قیل: لکل ما یشاهد منه زیادة محسوسة هو مبارک فیه وفیه برکة(3).

ص:265


1- (1) انظر: الکافی, الشیخ الکلینی, ج 1 ص 458.
2- (2) انظر: الامالی, الشیخ الصدوق, ص 668.
3- (3) انظر: تاج العروس, الزبیدی, ج 13 ص 515.

ولا شک ولا ریب ومن خلال استقراء حیاة فاطمة علیهاالسلام قبل وبعد وفاتها أنها هی الخیر الکثیر الذی ورد فیه قوله تعالی:(إِنّا أَعْطَیْناکَ الْکَوْثَرَ) ، ولقد انطبقت علیها هذه المعانی لکثرة برکتها علی رسول الله صلی الله علیه و آله وعلی أهل بیته وعلی شیعة أمیر المؤمنین، فأی برکة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله مثل فاطمة والتی علی معرفتها دارت القرون الأولی، وأی برکة أکبر وأفضل من برکة فاطمة علیهاالسلام علی الشیعة وخاصة فی هذه الحیاة الدنیا حیث کانت الوعاء الأکبر للإمامة التی مثلت أفضل مصادیق الولایة الکبری وأی برکة أفضل منها عندما تأتی یوم القیامة وتخلص شیعتها ومحبیها من عذاب النار ولقد طفحت کتب السیرة والتاریخ دلالة علی کثرة برکة فاطمة الزهراء علیهاالسلام وکذلک الکتب الروائیة والکلامیة والتفسیریة حیث أظهرت من خلال طیات صفحاتها هذه الصفة الواردة فیها، وتصدیقاً لهذا الکلام تری فی العالم الیوم ذریة فاطمة الزهراء علیهاالسلام الذین هم ذریة رسول الله صلی الله علیه و آله منتشرین فی بقاع العالم، ففی العراق حوالی ملیون، وفی إیران حوالی ثلاثة ملایین، وفی مصر خمسة ملایین، وفی المغرب الأقصی خمسة ملایین، وفی الجزائر وتونس ولیبیا عدد کثیر، وکذلک فی الأردن وسوریا ولبنان والسودان وبلاد الخلیج والسعودیة ملایین، وفی الیمن والهند وباکستان والأفغان وجزر اندونیسیا حوالی عشرین ملیوناً، وقل أن تجد فی البلاد الإسلامیة بلدة لیس فیها أحد من نسل السیدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام، ویقدر مجموعهم بخمسة وثلاثین ملیوناً، ولو أجریت إحصائیات دقیقة وصحیحة فلعل العدد یتجاوز هذا المقدار(1).

ص:266


1- (1) انظر: الأسرار الفاطمیة, الشیخ محمد فاضل المسعودی, ص 401.

سبب تسمیتها بالطاهرة

من الأسماء الجمیلة والتی تدل علی معنی یصبو إلیه کل مؤمن, هو الطهارة الباطنیة والظاهریة، حیث سمیت به فاطمة علیهاالسلام، وقد دلت عدة روایات فی هذا الباب علی مدی طهارتها علیهاالسلام, هذا بالإضافة إلی الشواهد الأخری التی أیدت هذه المعنی، وأفضل دلیل علی طهارتها هو آیة التطهیر،(إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً)1, فهی علیهاالسلام مطهرة نقیة مبرأة من کل الأرجاس الظاهریة والباطنیة, وإلیک بعض الأحادیث والشواهد التی تدل علی أنها طاهرة سواء الطهارة الظاهریة أو الباطنیة, فقد ورد عن أبی جعفر، عن آبائه علیهم السلام قال: إنما سمیت فاطمة بنت محمد صلی الله علیه و آله الطاهرة لطهارتها من کل دنس، وطهارتها من کل رفث، وما رأت قط یوماً حمرة ولا نفاساً(1).

وعن الصادق علیه السلام قال:

إن الله حرم النساء علی علی ما دامت فاطمة حیة، لأنها طاهرة لا تحیض(2).

وقوله صلی الله علیه و آله: ألا إن مسجدی حرام علی کل حائض من النساء وکل جنب من الرجال إلا علی محمد وأهل بیته علیهم السلام علی وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام(3).

و ما جاء فی غسلها ووصیتها علیهاالسلام قبل الوفاة، وهو أدل دلیل وأقوی حجة علی

ص:267


1- (2) أنظر: مستدرک سفینة البحار, الشیخ علی النمازی الشاهرودی, ج 6 ص 608. وبحار الأنوار, المجلسی, ج 43 ص 19.
2- (3) تهذیب الأحکام, الشیخ الطوسی, ج 7 ص 175.
3- (4) انظر: السنن الکبری, البیهقی, ج 7 ص 65.

أنها کانت طاهرة میمونة فی حیاتها وبعد مماتها، ولم یحدث الموت فیها رجاسة ولا دناسة، مع أنک تعلم أنه مما لا خلاف فیه تنجس البدن بعد الموت وبعد خروج النفس عنه، ولأجل ذلک لا بد أن یغسل المیت حتی یطهر بدنه وینظف جسمه، إلا أن سیدة النساء علیهاالسلام أوصت أن لا یکشفها أحد، وأن تدفن بغسلها قبل الوفاة.

روی أحمد بن حنبل فی مسنده عن أم سلمی (زوجة أبی رافع) قالت: اشتکت فاطمة شکواها التی قبضت فیها، فکنت أمرضها، فأصبحت یوماً کأمثل ما رأیتها فی شکواها تلک، قالت: وخرج علی لبعض حاجته، فقالت: یا أمة اسکبی لی غسلاً, فسکبت لها غسلاً، فاغتسلت کأحسن ما رأیتها تغسل، ثم قالت: یا أمة أعطینی ثیابی الجدد، فأعطیتها، فلبستها، ثم قالت: یا أمة قدی لی فراشی وسط البیت، ففعلت، واضطجعت واستقبلت القبلة وجعلت یدها تحت خدها، ثم قالت: یا أمة إنی مقبوضة الآن وقد تطهرت، فلا یکشفنی أحد، فقبضت مکانها. قالت: فجاء علی فأخبرته(1).

وقال الأربلی: واتفاقهما من طرق الشیعة والسنة علی نقله مع کون الحکم علی خلافه عجیب، فإن الفقهاء من الطرفین لا یجیزون الدفن إلا بعد الغسل إلا فی موضع لیس هذا منه, ولعل هذا أمر یخصها علیهاالسلام(2). نعم إنها علیهاالسلام کأبیها فی طهارتها کما تقدم عن الصادق علیه السلام إنه لما سئل: هل اغتسل علی حین غسل رسول الله صلی الله علیه و آله؟ قال: النبی طاهر مطهر ولکن اغتسل علی علیه السلام وجرت به السنة(3).

ص:268


1- (1) انظر: مسند أحمد, الأمام أحمد بن حنبل, ج 6 ص 461.
2- (2) انظر: کشف الغمة, ابن أبی الفتح الأربلی, ج 2 ص 125.
3- (3) الحدائق الناضرة, المحقق البحرانی, ج 3 ص 231.

تسمیتها بالراضیة

من الأمور المهمة والتی تکون ذا أهمیة کبیرة فی معرفة درجة أیمان الفرد المسلم مسألة الرضا عن الله تعالی، فمقام الرضا یحتاج إلی معرفة ویقین حتی یصل إلیه الإنسان ویکون من الراضین بما قسم الله تعالی حتی یصل فی النهایة إلی مرحلة إیمانیة عالیة جداً، وکما ورد فی دعاء کمیل: (وتجعلنی بقسمک راضیاً قانعاً) أی أن الإنسان المؤمن یطلب من الله تعالی أن یوصله إلی مقام الرضا منه جل وعلا فی کل ما یقسمه له سواء من خیر أو بلاء أو غیر ذلک، وعلی غرار هذا وردت عدة أحادیث مرویة عن أهل بیت العصمة علیهم السلام: من جملتها ما جاء فی الحدیث الشریف عن علی بن الحسین علیهاالسلام أنّه قال:

الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله، ومن صبر ورضی عن الله فیما قضی علیه فیما أحب أو کره، لم یقض الله عز وجل له فیما أحب أو کره إلا ما هو خیر له(1). لأنّ الله سبحانه لا یختار لعبده إلا ما فیه خیره ومصلحته، وإن خفیت تلک المصلحة علی العبد لمحدودیته وقصوره عن الإحاطة بمصالحه ومفاسده.

وجاء فی حدیث آخر عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

إنّ أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عز وجل(2). من هنا یظهر مقام الزهراء علیهاالسلام العالی, حیث إنها کانت راضیة عن الله تعالی بکل ما قدر لها من خیر وبلاء، وبما قدر لها من مرارة الدنیا ومشقاتها ومصائبها وبلایاها, وهذا یظهر من خلال أبسط تأمل لحیاتها وما

ص:269


1- (1) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 2 ص 60.
2- (2) المصدر نفسه.

جری علیها من الظلم والأذی, فمن خلال استقراء حیاتها وسیرتها الذاتیة نجد أنها کانت راضیة بکل ما قدر الله لها، فهی کانت راضیة بقضاء الله تعالی وصابرة علی ما جری علیها من الظلم والهوان، وکانت شاکرة لله تعالی فالشکر یدل علی الرضا, وهذا ینم عن الحالة الإیمانیة عند فاطمة علیهاالسلام.

تسمیتها بالمرضیة

وأیضاً لفاطمة علیهاالسلام اسم آخر یقاربه وهو (المرضیة) والذی یظهر من خلال التأمل والتدبر فی السیرة الذاتیة لها, أنه هناک احتمالان فی معنی کونها مرضیة، أحدهما هو کون جمیع أعمالها وأفعالها وأقوالها وما صدر منها خلال مسیرة حیاتها مرضیة عند الله تبارک وتعالی فهی رضی الله عنها ورضت عنه، فهی راضیة مرضیة راضیة عن الباری عز وجل ومرضیة بما وعد الله تبارک وتعالی عباده بالرضوان الأکبر. والاحتمال الآخر أنها علیهاالسلام کانت مرضیة من جهة ما أعطاها الله تبارک وتعالی من المقامات النورانیة التی بها فضلها علی غیرها وکذلک، ومن خلال ما أعطاها تبارک وتعالی من الذریة ا لکثیرة حیث جعل منها الأئمة الهادین علیهم السلام، وکذلک هی مرضیة علیهاالسلام من جهة أن لها مقام الشفاعة الکبری, وأیاً کان تفسیر معنی المرضیة سواء کان الاحتمال الأول أو الثانی، فإن فاطمة علیهاالسلام قد حازت وفازت بهذه المنزلة الرفیعة والدرجة الراقیة فهی راضیة مرضیة أعمالها عند الله عز وجل:(یا أَیَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. اِرْجِعِی إِلی رَبِّکِ راضِیَةً مَرْضِیَّةً. فَادْخُلِی فِی عِبادِی. وَ ادْخُلِی جَنَّتِی)1 .

ص:270

تسمیتها بالمحدثة

ونقف هنا مع اسم آخر لفاطمة علیهاالسلام والذی نستفیده من خلال مراجعة جملة من الروایات, إن هذا الاسم ومن دون تحریک حرف الدال نحتمل فیه احتمالان: إما أن تکون الدال المشددة مکسورة, وأما أن تکون الدال المشددة فیه مفتوحة، وعلی الاحتمال الأول یکون معنی هذا الاسم أنّها علیهاالسلام کانت تحدث أمها خدیجة علیهاالسلام وهی فی بطنها، وأیضا الملائکة, وهذا ما یظهر من خلال مراجعة بعض الروایات، کما ورد عندما سأل رسول الله زوجته خدیجة أثناء دخوله علیها قائلاً لها مع من تتحدثین قالت: الجنین الذی فی بطنی یؤنسنی ویحدثنی(1). وعلی الاحتمال الثانی یکون معنی المحدثة هو أنها علیهاالسلام کانت تحدثها الملائکة وتؤنسها وخصوصاً بعد فقد أبیها رسول الله صلی الله علیه و آله, فقد ورد عن زید بن علی قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:

«إنما سمیت فاطمة مُحدَّثَة؛ لأن الملائکة کانت تهبط من السماء فتنادیها کما تنادی مریم بنت عمران فتقول: یا فاطمة، إن الله اصطفاک وطهرک واصطفاک علی نساء العالمین. یا فاطمة، اقنتی لربک واسجدی وارکعی مع الراکعین. فتحدثهم ویحدثونها، فقالت لهم ذات لیلة: ألیست المفضلة علی نساء العالمین مریم بنت عمران؟ فقالوا: إن مریم کانت سیدة نساء عالمها، وإن الله جعلک سیدة نساء عالمک وعالمها وسیدة نساء الأولین والآخرین»(2).

ص:271


1- (1) روضة الواعظین, الفتال النیسابوری, ص 143.
2- (2) الأمالی, الشیخ الصدوق, ص 691.

سؤال وجواب

وهنا سؤال یطرح نفسه فی المقام وینقدح فی ألأذهان, وهو هل من الممکن أن تکون الملائکة تحدث بعض الناس لاسیما بعد رحیل النبی الأکرم صلی الله علیه و آله حیث إنّ الوحی انقطع بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله، وفی حالة کون تحدیث الملائکة وإمکان وقوعه ولو علی غیر نحو الوحی هل یقع هذا مع فاطمة علیهاالسلام؟

وللإجابة: أنّ أدنی مراجعة للقرآن الکریم تفیدنا الجواب علی هذه المسألة من إمکان وقوعها فی الأمم السابقة, باعتبار أن القرآن الکریم المصدر الأول للمسلمین فی عرض الأشیاء علیه, فنجد من خلال عدة آیات قرآنیة ثبتت هذه الحقیقة, وهی أن الملائکة یمکن أن تتحدث مع البشر، وإلیک بعض هذه الآیات القرآنیة التی تثبت هذه المسألة: منها: قوله تعالی: (وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِکَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ یَعْقُوبَ)1 .

ومنها قوله تعالی:(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاکِ وَ طَهَّرَکِ وَ اصْطَفاکِ عَلی نِساءِ الْعالَمِینَ)2 . فهذا صریح القرآن یثبت هذه الحقیقة الواضحة والتی لا یبقی معها شک, فمن هذا المنطلق یکون من باب أولی ثبوته بحق سیدة نساء العالمین من الأولین والآخرین, إضافة إلی الروایات الخاصة بهذا المضمون.

ص:272

سبب تسمیتها بالبتول

اشارة

وهذا هو الاسم الآخر الذی یحکی عن الخصوصیات التی تحظی بها فاطمة علیهاالسلام وتشخصها عن غیرها سواء فی المجالات المادیة أو المعنویة, کما بینته کثیر من الروایات الواردة فی هذا الشأن, فقد سئل رسول الله صلی الله علیه و آله: لم قیل لها: البتول؟ فقال: لانقطاعها عن نساء أهل زمانها ونساء الأمة عفافاً وفضلاً ودیناً وحسباً. وقیل: لانقطاعها عن الدنیا إلی الله عز وجل(1). وقیل تبتیل خلقها انفراد کل شیء عنها بحسنه لا یتکل بعضه علی بعض. قال ابن الأعرابی: المبتلة من النساء: الحسنة الخلق، لا یقصر شیء عن شیء، لا تکون حسنة العین سمجة الأنف، ولا حسنة الأنف سمجة العین، ولکن تکون تامة(2).

وعن ابن الأثیر: وامرأة بتول: منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فیهم، وبها سمیت مریم أم المسیح علیهاالسلام. وسمیت فاطمة (البتول) لانقطاعها عن نساء زمانها فضلاً ودیناً وحسباً. وقیل: لانقطاعها عن الدنیا إلی الله تعالی(3).

وورد عن النبی صلی الله علیه و آله أنه قال: سمیت فاطمة بتولاً لأنها تبتلت وتقطعت عما هو معتاد العورات فی کل شهر، ولأنها ترجع کل لیلة بکراً. وسمیت مریم بتولا لأنها ولدت عیسی بکراً(4).

ص:273


1- (1) راجع: شرح أصول الکافی, محمد صالح المازندرانی, ج 11 ص 342, والبحار, المجلسی, ج 14, ص 300.
2- (2) راجع: لسان العرب, ابن منظور, ج 11 ص 43.
3- (3) راجع: النهایة فی غریب الحدیث, ابن الأثیر, ج 1 ص 94.
4- (4) راجع: شرح احقاق الحق, السید المرعشی, ج 5 ص 7.

وعن علی علیه السلام قال: إن النبی صلی الله علیه و آله سئل: ما البتول؟ فإنا سمعناک یا رسول الله تقول: إن مریم بتول، وفاطمة بتول؟ فقال: البتول التی لم تر حمرة قط، أی لم تحض، فإن الحیض مکروه فی بنات الأنبیاء(1).

وعن عائشة قال: إذا أقبلت فاطمة کانت مشیتها مشیة رسول الله صلی الله علیه و آله، وکانت لا تحیض قط، لأنها خلقت من تفاحة الجنة، ولقد وضعت الحسن بعد العصر، وطهرت من نفاسها، فاغتسلت وصلت المغرب وقال رسول الله صلی الله علیه و آله: إن ابنتی فاطمة حوراء، إذ لم تحض ولم تطمث(2).

وروی عن أسماء بنت عمیس قالت: قبلت: (أی ولدت) فاطمة بالحسن فلم أر لها دماً فی حیض ولا نفاس، فقال النبی صلی الله علیه و آله: أما علمت أن ابنتی طاهرة، لا یُری لها دم فی طمث ولا ولادة(3).

دم الحیض والنفاس نقص أم کمال؟

بعدما وردت الروایات الصحیحة والصریحة فی تنزیه فاطمة علیهاالسلام من دماء الحیض والنفاس وأنها تختلف عن نساء عصرها فقد طهرها الله من کل النجاسات المادیة والمعنویة فی کل الأحوال, فعلی ذلک ینبغی أن نسلط الضوء علی مسألة جدیرة بالاهتمام وهی أن دم النفاس أو دم الحیض التی تراه المرأة فی کل شهر من حین بلوغها إلی الخمسین من عمرها أو أکثر والذی یسمی بالعادة الشهریة

ص:274


1- (1) علل الشرائع, الصدوق, ج 1 ص 181.
2- (2) راجع: شرح إحقاق الحق, السید المرعشی, ج 10 ص 244.
3- (3) راجع: کشف الغمة, ابن أبی الفتح الأربلی, ج 2 ص 91.

هل هو نقص وعارض یعتری المرأة أو هو کمال بالنسبة للمرأة بحسب ترکیبتها الفسیولوجیة, وقبل الجوب یلزم أن نعرف حقیقة هذه الدماء (دماء الحیض) والحکمة من ورائها, فهی دماء فاسدة قد تخزّن فی الأوعیة والأجهزة التی جعلها الله فی جسم المرأة لیکون ذلک الدم غذاءً للجنین فإذا لم یکن جنین فی رحم المرأة سال الدم إلی الخارج وربما انقلب إلی اللبن إذا کانت المرأة مرضعة. وأمّا طبیعة هذه الظاهرة فهی مؤذیة ونقص بالنسبة للمرأة وقد صرح بذلک القرآن الکریم بقوله:(وَ یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْمَحِیضِ قُلْ هُوَ أَذیً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِی الْمَحِیضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّی یَطْهُرْنَ)1 , لذلک ثبت أن دم الحیض مادة ضارة مؤذیة فی جسم المرأة فلابد من خروجها لتنجو المرأة من أمراض وأعراض, وفی فترة العادة تعرض حوادث جسمیة وروحیة للمرأة تغیر ملامحها ولون وجهها بل وأخلاقها ونفسیتها وأیضاً تشعر بالانفعال والخجل والانکسار وإن کان هذا الأمر خارجاً عن إرادتها واختیارها ولکنها تتألم بهذا الحادث الذی لا یحسن التصریح به لکل أحد وخاصة للرجال, وغیر ذلک من السلبیات التی تلحق بالمرأة جراء الحیض والنفاس, ولهذا سقط عنها حکم الصلاة والصیام خلال فترة العادة وحرم علیها المکث بالمسجد والدخول إلیه وغیرها من الأحکام.

ولکن الله تعالی کره لسیدة نساء العالمین أن تتلوث بهذه القذارات حیث أذهب عنها الرجس وطهرها تطهیراً, نعم إنّ الله قد جعل فی مخلوقاته قوانین وسنناً وجعل تلک المخلوقات خاضعة لتلک القوانین والسنن ولکن جعل أولیاءه

ص:275

فوق تلک القوانین والسنن فی ظروف خاصة لحکمة بالغة. من قبیل التناسل لا یمکن إلا بالتلقیح وانتقال نطفة الرجل إلی رحم المرأة وتطور النطفة إلی علقة ثم مضغة ثم عظام ثم خلق آخر إلی أن یکمل الجنین خلال ستة أشهر علی أقل تقدیر وتسعة أشهر کما هو الغالب, هذه سنة الله فی قانون التناسل, لکن هذه السنة والقانون ما کان خاضعاً بالنسبة لمریم علیهاالسلام عندما حملت بنبی الله عیسی علیه السلام فلم یمسسها بشر وحملت بولدها إلی أن جاءها المخاض فوضعت بعیسی علیه السلام وکل ذلک کان خلال تسع ساعات أو ست ساعات فقط (1), وأیضا ما جری فی تعطیل هذا القانون بولادة زوجة نبی الله إبراهیم علیه السلام (سارة) حیث ولدت علی الکبر وکان هذا ما لا تسمح به العادة وأنه فوق القوانین والسنن الإلهیة (قالَتْ یا وَیْلَتی أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِی شَیْخاً إِنَّ هذا لَشَیْ ءٌ عَجِیبٌ. قالُوا أَ تَعْجَبِینَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَکاتُهُ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ إِنَّهُ حَمِیدٌ مَجِیدٌ)2 . وعلی غرار هذا تصدر المعجزات للأنبیاء والأولیاء عن طریق خرق العادة, فلا غرابة أن خرق الله العادة لسیدة النساء وجنبها هذا الأذی والنقص التی تحرم فیه من العبادة وغیرها.

کیفیة شهادتها

إضافة إلی کل الکرامات والفضائل التی حازت علیها فاطمة علیهاالسلام فقد نالت الشهادة فی خاتمة مطافها من حیاتها وهذه المنقبة لیس من السهل الوصول

ص:276


1- (1) راجع: الکافی, الکلینی, ج 8 ص 332. مجمع البیان, الطبرسی, ج 6 ص 417.

والارتقاء إلیها ولا یتسنی لکل أحد أن یتلبس بها إلا من حظا بالتوفیق والتسدید الإلهی, فقد روی عن الإمام الصادق علیه السلام فی سبب وفاتها علیهاالسلام قال: إنّ قنفذاً مولی عمر لکزها بنعل السیف بأمره فأسقطت محسناً، ومرضت من ذلک مرضاً شدیداً، وکان علی علیه السلام یمرضها بنفسه، وتعینه علی ذلک أسماء بنت عمیس(1).

وذکر الجوهری المتوفی سنة (323 ه -) بإسناده عن الحسن علیه السلام قال: فی یوم دخلت نسوة من المهاجرین والأنصار علی فاطمة بنت رسول الله یعدنها فقلن السلام علیک یا بنت رسول الله صلی الله علیه و آله کیف أصبحت؟ فقالت: أصبحت والله عائفة لدنیاکن قالیة لرجالکم, لفظتهم بعد أن عجمتهم وشنئتهم بعد أن سبرتهم فقبحاً لفلول الحد وخور القناة، وخطل الرأی، وبئسما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله علیهم وفی العذاب هم خالدون لا جرم قد قلدتهم ربقتها، وشنت علیهم غارتها، فجدعاً وعقراً، وسحقاً للقوم الظالمین، ویحهم أنّی زحزحوها عن رواسی الرسالة، وقواعد النبوة، ومهبط الروح الأمین، والطبین بأمر الدنیا والدین، ألا ذلک هو الخسران المبین، وما الذی نقموا من أبی الحسن، نقموا والله نکیر سیفه، وشدة وطأته، ونکال وقعته، وتنمره فی ذات الله... الخ(2).

وعن سلیم بن قیس الهلالی قال: عندما حالت فاطمة علیهاالسلام بین القوم وبین علی علیه السلام عند باب البیت، فضربها قنفذ بالسوط فماتت حین ماتت, وإن فی عضدها کمثل الدملج من ضربته(3).

ص:277


1- (1) راجع: دلائل الإمامة, محمد بن جریر الطبری, ص 134. وبحار الأنوار, المجلسی, ج 43 ص 170.
2- (2) راجع: السقیفة وفدک, الجوهری, ص 120. ومعانی الأخبار, الشیخ الصدوق, ص 354.
3- (3) راجع: کتاب سلیم بن قیس, تحقیق محمد باقر الأنصاری, ص 151.

وفی خبر آخر عندما حالت بینهم وبینه فاطمة عند باب البیت ضربها قنفذ بالسوط فماتت حین ماتت وأن فی عضدها کمثل الدملج من ضربته فألجأها إلی عضادة بیتها ودفعها فکسر ضلعها وألقت جنینها من بطنها فلم تزل صاحبة فراش حتی ماتت علیهاالسلام من ذلک شهیدة(1).

وقد ذکر الزرندی الحنفی, عن عمران بن دینار أن فاطمة لم تضحک بعد النبی صلی الله علیه و آله حتی قبضت لما لحقها من شدة الحزن علی أبیها صلی الله علیه و آله. (إلی أن یقول) وعن علی (رض) أنّ فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله جاءت إلی قبر النبی صلی الله علیه و آله فوقعت علیه ثم أخذت قبضة من تراب القبر فوضعتها علی عینیها وبکت وأنشأت تقول:

ماذا علی من شم تربة أحمد أن لا یشم مدی الزمان غوالیا

صبت علیّ مصائب لو أنها صبت علی الأیام صرن لیالیا(2)

وغیرها من الروایات التی تذکر وتؤکد الحالة المفجعة التی مرّت بها الزهراء علیهاالسلام فی حال شهادتها وما جری علیها, والحکم یبقی للقارئ الکریم ولکل إنسان منصف, ونحن نقتصر بهذا القدر فی ذکر شهادتها خوفاً من الإطالة.

فاطمة فی حالة الاحتضار

تتشرف الملائکة المقربون فی زیارة فاطمة علیهاالسلام عند نزع الروح وسکرات الموت وینقلون لها التحیة والسلام من الرفیق الأعلی, وهذا قلما یحدث إلا عند

ص:278


1- (1) راجع: مجمع النورین, الشیخ أبو الحسن المرندی, ص 82.
2- (2) راجع: نظم درر السمطین, الزرندی الحنفی, ص 181. والشرح الکبیر, عبد الرحمن بن قدامة, ج 2 ص 430.

النوادر من الأنبیاء والأولیاء, فقد روی أنّه لما ثقل علیها المرض، والإمام لا یفارقها، وأسماء تمرضها، والحسن والحسین وزینب عندها، وهی تفیق مرة ویغشی علیها أخری من شدة المرض، وتجیل بصرها فی أولادها.

یقول الإمام علی علیه السلام: إنها لما حضرتها الوفاة فتحت عینیها وقالت: السلام علیک یا جبریل، السلام علیک یا رسول الله، اللهم احشرنی مع رسولک، اللهم اسکنی جنتک وفی جوارک ثم قالت: هؤلاء ملائکة ربی، جبریل ورسول الله حاضرون عندی، وأبی یقول: القدوم إلینا, یقول علی علیه السلام: فلما کانت اللیلة التی أراد الله أن یکرمها ویقبضها إلیه أخذت تقول: وعلیکم السلام, یا بن عم، هذا جبریل أتانی مسلماً، وقال: السلام یقرئک السلام یا حبیبة حبیب الله وثمرة فؤاده, الیوم تلحقین بالرفیق الأعلی وجنة المأوی ثم انصرف عنی ثم أخذت تقول: وعلیکم السلام، وتقول: یا بن عم، هذا میکائیل یقول کقول صاحبه, ثم أخذت ثالثا تقول: وعلیک السلام، ثم فتحت عینیها شدیداً وقالت: یا بن عم هذا والله الحق، عزرائیل نشر جناحه فی المشرق والمغرب، وقد وصفه لی أبی وهذه صفته ثم قالت: یا قابض الأرواح عجل بی ولا تعذبنی، ثم قالت: إلیک ربی لا إلی النار، ثم غمضت عینیها، ومدت یدیها ورجلیها، وکأنها لم تکن حیة قط (1).

فاطمة تفارق الحیاة

الموت کما هو واضح یفاجئ الإنسان من دون أن یعرف زمانه ومکانه, إلا أولئک الذین خصهم الله بالمعرفة والعصمة فقد کانوا یعرفون مجاری الأمور ما

ص:279


1- (1) دلائل الإمامة, محمد بن جریر الطبری (الشیعی), ص 133. و بحار الأنوار, المجلسی, ج 43 ص 209.

ظهر منها وما خفی, ومن جملة ذلک معرفتهم للآجال, حیث إنّ فاطمة علیهاالسلام کانت عالمة بدنو أجلها ومفارقة أحبائها فقامت وتهیأت للقاء ربها وأبیها, حیث روی عن أسماء أنّ فاطمة علیهاالسلام لما حضرتها الوفاة قالت لأسماء: إن جبریل أتی النبی صلی الله علیه و آله (لما حضرته الوفاة) بکافور من الجنة فقسمه أثلاثاً، ثلثاً لنفسه، وثلثاً لعلی، وثلثاً لی، وکان أربعین درهما، فقالت یا أسماء آتینی ببقیة حنوط والدی من موضع کذا وکذا وضعیه عند رأسی، فوضعته, ثم قالت لأسماء حین توضأت وضوءها للصلاة، هاتی طیبی الذی أتطیب به، وهاتی ثیابی التی أصلی فیها، فتوضأت ثم تسجت بثوبها، ثم قالت: انتظرینی هنیئة وادعینی، فإن أجبتک وإلا فاعلمی أنی قدمت علی أبی فأرسلی إلی علی. فانتظرت هنیئة ثم نادتها، فلم تجبها، فکشفت الثوب عن وجهها فإذا بها قد فارقت الدنیا، فوقعت علیها تقبلها، فبینا هی کذلک إذ دخل الحسن والحسین فقالا لها: یا أسماء ما ینیم أمنا فی هذه الساعة، قالت: یا ابنی رسول الله لیست أمکما نائمة، قد فارقت الدنیا، فوقع علیها الحسن یقبلها مرة ویقول: یا أماه کلمینی قبل أن تفارق روحی بدنی، وأقبل الحسین یقبل رجلها ویقول: أنا ابنک الحسین کلمینی قبل أن یتصدع قلبی فأموت. قالت لهما أسماء: یا ابنی رسول الله، انطلقا إلی أبیکما علی فأخبراه بموت أمکما، فخرجا حتی إذا کانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبکاء فقالا: قد ماتت أمنا فاطمة علیهاالسلام فوقع علی علیه السلام علی وجهه یقول: بمن العزاء یا بنت محمد، کنت بک أتعزی فبمن العزاء من بعدک؟ وأنشأ یقول:

لکل اجتماع من خلیلین فرقة وکل الذی دون الممات قلیل

ص:280

وإن افتقادی فاطم بعد أحمد دلیل علی أن لا یدوم خلیل(1)

وروی أیضا أنّه علیه السلام أنشأ قائلاً:

نفسی علی زفراتها محبوسة یا لیتها خرجت مع الزفرات

لا خیر بعدک فی الحیاة وإنما أبکی مخافة أن تطول حیاتی(2)

تشییعها وإعفاء قبرها

من الأدلة القاطعة علی مظلومیة الزهراء علیهاالسلام هو تشییعها فی اللیل سراً واعفاء قبرها, کی یبقی هذا الدلیل خالداً الی ظهور العدل علی ید المصلح العالمی الموعود من قبل السماء ولو کان غیر ذلک لجاز لأحد الأئمة علیهم السلام أن یهدی الناس الی قبرها ویرشدهم لزیارته والتبرک به ولکن شاءت الحکمة الإلهیة أن یکون خافیاً کی یکون دلیلاً علی مدی مظلومیة السیدة فاطمة علیهاالسلام للأجیال المتعاقبة من جهة, ومن جهة أخری عدم اقتدار ید التحریف الی الإیهام والتعتیم علی ظلامة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله, وعلیه ذکره المؤرخون وأصحاب السّیر فی ذکر فاطمة حال وفاتها حیث قالوا: ارتفعت أصوات البکاء من بیت علی علیه السلام فصاح أهل المدینة صیحة واحدة، واجتمعت نساء بنی هاشم فی دارها، فصرخن صرخة واحدة کادت المدینة تتزعزع لها، وأقبل الناس مثل عرف الفرس إلی علی علیه السلام، وهو جالس، والحسن والحسین بین یدیه یبکیان، وخرجت أم کلثوم، وهی تقول: یا أبتاه یا رسول الله، الآن فقدناک حقاً لا لقاء بعده أبداً. واجتمع الناس فجلسوا وهم

ص:281


1- (1) بیت الأحزان, الشیخ عباس القمی, ص 179.
2- (2) أنظر: مستدرک سفینة البحار, الشیخ علی النمازی الشاهرودی, ج 4 ص 73.

یضجون، وینتظرون خروج الجنازة لیصلوا علیها، وخرج أبو ذر، وقال: انصرفوا فإن ابنة رسول الله قد اخِرَ إخراجها فی العشیة. وأقبل أبو بکر وعمر یعزیان علیاً علیه السلام، ویقولان له: یا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة علی ابنة رسول الله صلی الله علیه و آله, ولکن علیاً غسلها وکفنها هو وأسماء فی تلک اللیلة ثم نادی: یا أم کلثوم، یا زینب، یا حسن، یا حسین، هلموا تزودوا من أمکم فهذا الفراق واللقاء فی الجنة، وبعد قلیل نحاهم أمیر المؤمنین علیه السلام عنها. ثم صلی علی علیه السلام علی الجنازة، وشیعها والحسن والحسین وعقیل وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وبریدة والعباس وابنة الفضل. فلما هدأت الأصوات ونامت العیون ومضی شطر من اللیل أخرجها أمیر المؤمنین علیه السلام ودفنها سراً وأهال علیها التراب، والمشیعون من حوله یترقبون لئلا یعرف القوم، فدفنوها وعفوا تراب قبرها(1).

وروی الحاکم فی المستدرک عن عائشة أنّها قالت: دفنت فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله لیلاً ودفنها علی ولم یشعر بها أبو بکر رضی الله عنه حتی دفنت وصلی علیها علی بن أبی طالب رضی الله عنه(2).

ولها علیهاالسلام وصیة فی ذلک جاء فیها: بسم الله الرحمن الرحیم هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله: أوصت وهی تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتیة لا ریب فیها، وأن الله یبعث من فی القبور، یا علی: أنا فاطمة بنت محمد صلی الله علیه و آله، زوجنی الله منک لأکون لک فی الدنیا

ص:282


1- (1) الأنوار البهیة, الشیخ عباس القمی, ص 62.
2- (2) المستدرک, الحاکم النیسابوری, ج 3 ص 162.

والآخرة، أنت أولی بی من غیری، حنطنی وغسلنی وکفنی باللیل وصل علی وادفنی باللیل ولا تعلم أحداً، وأستودعک الله وأقرأ علی ولدی السلام إلی یوم القیامة(1).

الوداع الأخیر

بعدما انتهت مراسم الدفن بسرعة خوفاً من انکشاف أمرهم، ونفض الإمام یده من تراب القبر هاج به الحزن لفقد بضعة الرسول التی تذکر به، وزوجته الودود التی عاشت معه الصفا والطهارة والتضحیة، وتحملت من أجله الأهوال والصعاب, فأرسل دموعه علی خدیه، وحَوَّلَ وجهه إلی قبر رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: السلام علیک یا رسول الله، السلام علیک من ابنتک وحبیبتک وقرة عینک وزائرتک، والبائنة فی الثری ببقعتک، المختار الله لها سرعة اللحاق بک، قَلَّ یا رسول الله عن صفیتک صبری وضعف عن سیدة النساء تجلدی، إلا أن فی التأسی لی بسنتک، والحزن الذی حل بی لفراقک، موضع التعزی، ولقد وسدتک فی ملحودة قبرک، بعد أن فاضت نفسک علی صدری، وغمضتک بیدی وتولیت أمرک بنفسی. نعم، وفی کتاب الله أنعم القبول، إنا لله وإنا إلیه راجعون، قد استرجعت الودیعة، وأخذت الرهینة، واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء، یا رسول الله. أما حزنی فسرمد، وأما لیلی فمسهد، لا یبرح الحزن من قلبی أو یختار الله لی دارک التی أنت مقیم، کمد مقیح، وهم مهیج، سرعان ما فرق الله (بیننا)، وإلی الله أشکو، وستنبئک ابنتک بتظافر أمتک علی، وعلی هضمها حقها، فأحفها السؤال واستخبرها الحال، فکم من علیل معتلج بصدرها، لم تجد إلی بثه سبیلاً، وستقول، ویحکم الله وهو خیر الحاکمین. سلام علیک یا رسول الله، سلام

ص:283


1- (1) الأنوار البهیة, الشیخ عباس القمی, ص 61.

مودع لا سئم ولا قال، فإن أنصرف فلا عن ملالة وإن أقم فلا عن سوء ظنی بما وعد الله الصابرین، الصبر أیمن وأجمل. ولولا غلبة المستولین علینا، لجعلت المقام عند قبرک لزاماً، وللبثت عنده معکوفاً، ولأعولت إعوال الثکلی علی جلیل الرزیة، فبعین الله تدفن ابنتک سراً، ویهتضم حقها قهراً، ویمنع إرثها جهراً، ولم یطل العهد، ولم یخلق منک الذکر، فإلی الله - یا رسول الله - المشتکی وفیک أجمل العزاء، فصلوات الله علیها ورحمة الله وبرکاته(1).

تاریخ وفاتها

لا شک أنّ وفاتها علیهاالسلام کانت فی السنة الحادیة عشرة من الهجرة؛ لأن النبی صلی الله علیه و آله حج حجة الوداع فی السنة العاشرة وتوفی فی أوائل السنة الحادیة عشرة. واتفق المؤرخون علی أن فاطمة عاشت بعد أبیها أقل من سنة، إلا أنهم اختلفوا فی یوم وشهر وفاتها اختلافاً شدیداً، فروی عن أبی بصیر، عن الصادق علیه السلام قبضت فی جمادی الآخرة، یوم الثلاثاء لثلاث خلون منه, سنة إحدی عشرة من الهجرة. وهو المختار. وبه قال الطوسی والطبرسیان والسید بن طاووس والکفعمی. ویؤیده ما ورد أنها بقیت بعد أبیها خمسة وتسعین یوماً, وقریب منه ما روی أنها قبضت بعد ثلاثة أشهر من وفاة النبی صلی الله علیه و آله, أو مائة یوم, علی التسامح فی زیادة خمسة أیام أو نقصها(2).

وروی أحمد ومسلم وابن سعد وغیرهم من الجمهور: عن عائشة أنها عاشت

ص:284


1- (1) نهج البلاغة, ج 2 ص 182, الکافی, الشیخ الکلینی, ج 1 ص 459.
2- (2) راجع: موسوعة شهادة المعصومین علیهم السلام, لجنة الحدیث فی معهد باقر العلوم علیه السلام, ج 1 ص 150.

بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله ستة أشهر(1). قال ابن سعد: عن عروة أن فاطمة توفیت بعده صلی الله علیه و آله بستة أشهر. قال محمد بن عمر: وهو الثبت عندنا: وتوفیت لیلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان إحدی عشرة وهی ابنة تسع وعشرین سنة أو نحوها(2). وأمّا الساعة التی توفیت فیها علیهاالسلام هی ما بین المغرب والعشاء, وقیل فی جوف اللیل(3).

محل دفنها

تقدم أنّها علیهاالسلام دفنت لیلاً وسراً وقد أعفی قبرها فلیس من السهل أن یُشخّص قبرها ویتضح للعیان, فلذلک أختلف علماؤنا فی مکان دفنها ومحل قبرها, کما ذکره الشیخ الطوسی رحمه الله قال: إنّک تأتی الروضة فتزور فاطمة علیهاالسلام لأنّها مقبورة هناک، وقد اختلف أصحابنا فی موضع قبرها، فقال بعضهم: إنّها دفنت بالبقیع، وقال بعضهم: انها دفنت بالروضة، وقال بعضهم: إنّها دفنت فی بیتها، فلما زاد بنو أمیة فی المسجد صارت من جملة المسجد، وهاتان الروایتان کالمتقاربتین, والأفضل عندی (عند الشیخ المفید) أن یزور الإنسان من الموضعین جمیعاً فإنه لا یضره ذلک, ویحوز به أجراً عظیماً، وأما من قال إنها دفنت بالبقیع فبعید من الصواب(4).

ص:285


1- (1) راجع: مسند أحمد, ج 1 ص 6. وصحیح مسلم, ج 2 ص 144. والطبقات الکبری, ج 8 ص 23.
2- (2) راجع: الطبقات الکبری, محمد بن سعد, ج 8 ص 28.
3- (3) راجع: موسوعة التاریخ الإسلامی, الیوسفی الغروی, ج 4 ص 152.
4- (4) تهذیب الأحکام, الشیخ الطوسی, ج 6 ص 9.

وهذا بخلاف ما ذهب الیه الشیخ المفید رحمه الله حیث قال: قبرها فی البقیع، وهو القبر الذی فیه ولدها الحسن علیه السلام(1).

استحباب زیارة فاطمة علیهاالسلام

اشارة

لا ریب أنّ للزهراء علیهاالسلام مکانة عظیمة عند الله ومحبة فی قلوب المؤمنین, ولو شاءت الحکمة أن یظهر قبرها لکان مزاراً أوسع مما یتصور ولا یقل شأنا عن غیره من المعصومین علیهم السلام, ومع أخفاء قبرها لا یسقط استحباب زیارتها کما کشفت عنه الروایات, وروی فی فضل زیارتها أکثر من أن یحصی.

فقد روی ابن یزید بن عبد الملک، عن أبیه، عن جده قال: دخلت علی فاطمة علیهاالسلام فابتدأتنی بالسلام، ثم قالت: ما غدا بک؟ قلت: طلب البرکة. فقالت: أخبرنی أبی وهو ذا، هو أنه من سلم علی ثلاثة أیام أوجب [الله] له الجنة. قال: فقلت لها: فی حیاته وحیاتک؟ قالت: نعم، وبعد موتنا(2).

أما زیارتها علیهاالسلام تقف علی قبرها أو علی أحد المواضع المحتملة وتقول: السلام علیک یا ممتحنة، امتحنک الذی خلقک قبل أن یخلقک، فوجدک لما امتحنک به صابرة، ونحن لک أولیاء ومصدقون، ولکل ما أتی به أبوک صلی الله علیه و آله، وأتی به وصیه علیه السلام مسلمون. ونحن نسألک اللهم إذ کنا مصدقین لهم أن تلحقنا بتصدیقنا لهم بالدرج العلیا لنبشر أنفسنا بأنا قد طهرنا بولایتهم علیهم السلام(3).

ص:286


1- (1) المزار, الشیخ المفید, ص 177.
2- (2) تهذیب الأحکام, الشیخ الطوسی, ج 6 ص 10.
3- (3) المزار, الشیخ المفید, ص 177.

وذکرت زیارة أخری

هو أن تقف وتقول: السلام علیک یا بنت رسول الله، السلام علیک یا بنت نبی الله، السلام علیک یا بنت حبیب الله، السلام علیک یا بنت خلیل الله، السلام علیک یا بنت صفی الله السلام علیک یا بنت امین الله، السلام علیک یا بنت خیر خلق الله، السلام علیک یا بنت أفضل أنبیاء الله ورسله وملائکته، السلام علیک یا بنت خیر البریة، السلام علیک یا سیدة نساء العالمین من الأولین والآخرین، السلام علیک یا زوجة ولی الله وخیر الخلق بعد رسول الله صلی الله علیه و آله، السلام علیک یا أم الحسن والحسین سیدی شباب أهل الجنة، السلام علیک أیتها الصدیقة الشهیدة, السلام علیک أیتها الرضیة المرضیة، السلام علیک أیتها الفاضلة الزکیة، السلام علیک أیتها الحوراء الإنسیة، السلام علیک أیتها التقیة النقیة، السلام علیک أیتها المحدثة العلیمة، السلام علیک أیتها المظلومة المغصوبة، السلام علیک أیتها المضطهدة المقهورة، السلام علیک یا فاطمة بنت رسول الله ورحمة الله وبرکاته، صلی الله علیک وعلی روحک وبدنک، اشهد انک مضیت علی بینة من ربک، وان من سرک فقد سر رسول الله صلی الله علیه و آله، ومن جفاک فقد جفا رسول الله صلی الله علیه و آله، ومن آذاک فقد آذی رسول الله صلی الله علیه و آله، ومن وصلک فقد وصل رسول الله صلی الله علیه و آله، ومن قطعک فقد قطع رسول الله صلی الله علیه و آله، لأنک بضعة منه وروحه التی بین جنبیه کما قال صلی الله علیه و آله، اشْهِدُ الله ورسله وملائکته أنی راضٍ عمن رضیت عنه وساخط علی من سخطت علیه ومتبرئ ممن تبرأت منه، موالٍ لمن والیت معادٍ لمن عادیت، مبغض لمن أبغضت محب لمن أحببت وکفی بالله شهیداً وحسیباً وجازیاً ومثیباً. ثم تصلی علی النبی والأئمة علیهم السلام إن شاء الله(1).

ص:287


1- (1) تهذیب الأحکام, الشیخ الطوسی, ج 6 ص 10.

من أزواج أمیر المؤمنین

1 - خولة الحنفیة

اشارة

هی السیدة خولة بنت جعفر بن قیس بن سلمة بن ثعلبة بن یربوع بن ثعلبة بن الدول بن حنیفة بن اللحم. وأمها أسماء بنت عمرو بن أرقم بن عبید بن ثعلبة من بنی حنیفة(1). اختلف فی أمرها أنها سبیت أیام رسول الله صلی الله علیه و آله أم بعد وفاة النبی, فقد ذهب جمع من الأعلام (أمثال القطب الراوندی, والنووی, وابن عساکر وغیرهم) أنها کانت من سبی بنی حنیفة حین قتلهم خالد بن الولید وقتل رئیسهم مالک بن نویرة وتزوج بامرأته من لیلته(2). وذلک بعد وفاة النبی صلی الله علیه و آله فی زمن خلافة أبی بکر. حتی أنّه لما قدم خالد, قال له عمر بن الخطاب: یا عدو الله قتلت امرأً مسلماً ثم نزوت علی امرأته لأرجمنک، وفیه أن أبا قتادة شهد أنهم أذنوا وصلوا(3).

وقد أکثر أخوه متمم بن نویرة من بکائه ورثائه حتی ضربت بهما الأمثال, وقال متمم یخاطب ضرار بن الأزور قاتل أخیه بأمر خالد:

نعم القتیل إذا الرماح تناوحت بین البیوت قتلت یابن الأزور

ثم قال یخاطب خالداً:

أدعوته بالله ثم غدرته لو هو دعاک بذمة لم یغدر(4)

ص:288


1- (1) مناقب الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام, محمد بن سلیمان الکوفی, ج 2 ص 48.
2- (2) سیر أعلام النبلاء, الذهبی, ج 1 ص 378. وشرح مسلم, النووی, ج 1 ص 204.
3- (3) تاریخ الإسلام, الذهبی, ج 3 ص 36. أسد الغابة, ابن الأثیر, ج 4 ص 296.
4- (4) مجمع الزوائد, الهیثمی, ج 6 ص 221.

وقیل: کان مُجّاعة بن مرارة الأسدی قد خطبها منهم فمنعوه منها, فحقد علیهم, فلما توفی النبی صلی الله علیه و آله واضطربت الأمور خرج مجّاعة فی سریة یطلب ثأره منهم, حتی اختلجها منهم ورجعوا من بلاد بنی عامر وقد استخرجوا معهم خولة ابنة جعفر(1). وقیل: أنّها سبیت فی أیام رسول الله صلی الله علیه و آله، قالوا: بعث رسول الله صلی الله علیه و آله علیاً إلی الیمن، فأصاب خولة فی بنی زبید، وقد ارتدوا مع عمرو بن معدی کرب، وکانت زبید سبتها من بنی حنیفة فی غارة لهم علیهم، فصارت فی سهم علی علیه السلام، فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله: إن ولدت منک غلاماً فسمه باسمی، وکنه بکنیتی، فولدت له بعد موت فاطمة علیهاالسلام محمداً، فکناه أبا القاسم(2).

وفی الإصابة: خولة بنت ایاس بن جعفر الحافیة والدة محمد بن علی بن أبی طالب, رآها النبی صلی الله علیه و آله فی منزله فضحک ثم قال یا علی أما انک تتزوجها من بعدی فتلد لک غلاماً فسمه باسمی وکنه بکنیتی وانحله(3).

من مآسی التاریخ

عندما ادخلوا السبایا فی المسجد وفیهن خولة أم محمد ابن الحنفیة فجاءت إلی قبر رسول الله صلی الله علیه و آله والتجأت به وبکت وقالت یا رسول الله أشکو إلیک أفعال هؤلاء القوم سبونا من غیر ذنب ونحن مسلمون, ثم قالت أیها الناس لم سبیتمونا ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, فقالوا منعتم الزکاة, فقالت الأمر لیس علی ما زعمت والأمر إنما کان کذا وکذا, وهب الرجال منعوکم فما

ص:289


1- (1) أنظر: موسوعة التاریخ الإسلامی, الیوسفی الغروی, ج 4 ص 137.
2- (2) شرح نهج البلاغة, ابن أبی الحدید, ج 1 ص 244.
3- (3) الإصابة, ابن حجر, ج 8 ص 113.

بال النسوان المسلمات یسبین. ثم فقالت: ما بالکم یا معاشر العرب، تصونون حلائلکم وتهتکون حلائل غیرکم؟ فقیل لها: لأنکم قلتم: لا نصلی (ولا نصوم) ولا نزکی فقالت: لیس الأمر علی ما زعمتم، والله ما قالها أحد من بنی حنیفة وإنّا نضرب صبیاننا علی الصلاة من التسع وعلی الصیام من السبع, وإنّا لنخرج الزکاة من حیث یبقی فی جمادی الآخرة عشرة أیام ویوصی مریضنا بها لوصیة, والله یا قوم ما نکثنا ولا غیرنا ولا بدلنا حتی تقتلوا رجالنا وتسبوا حریمنا إنما قلنا: إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله کان یبعث کل سنة رجلاً یأخذ منا صدقاتنا من الأغنیاء من جملتنا، یفرقها علی فقرائنا فافعل أنت کذلک(1).

زواجها من أمیر المؤمنین

اختار کل رجل منهم واحدة من السبایا, وجاء طلحة, وخالد بن عنان, ورمیا بثوبین إلی خولة فأراد کل واحد منهما أن یأخذها من السبی, قالت: لا یکون هذا أبداً ولا یملکنی إلا من یخبرنی الکلام الذی قلته ساعة ولدت, قال أبو بکر: قد فزعت من القوم فکانت لم تر ذلک قبله فتکلم بما لا تحصیل له, فقالت والله إنّی صادقة, إذ جاء علی بن أبی طالب علیه السلام فوقف ونظر إلیهم وإلیها وقال علیه السلام: اصبروا حتی أسألها عن حالها ثم ناداها یا خولة اسمعی الکلام, ثم قال علیه السلام: لما کانت أمک حاملة بک وضربها الطلق واشتد بها الأمر نادت اللهم سلمنی من هذا المولود فسبقت تلک بالنجاة, فلما وضعتک نادیت من تحتها لا إله إلا الله محمد رسول الله, عما قلیل سیملکنی سید سیکون له ولد منی, فکتبت أمک

ص:290


1- (1) مناقب آل أبی طالب, ابن شهر آشوب, ج 2 ص 111.

ذلک الکلام فی لوح نحاس فدفنته فی الموضع الذی سقطت فیه, فلما کانت فی اللیلة التی قبضت أمک فیها أوصت إلیک بذلک, فلما کان فی وقت سبیکم لم یکن لک همٌّ إلا أخذ ذلک اللوح فأخذتیه وشددتیه علی عضدک الأیمن, هات اللوح فأنا صاحب ذلک اللوح وأنا أمیر المؤمنین وأنا أبو ذلک الغلام المیمون واسمه محمد, قال: فرأیناها وقد استقبلت القبلة وقالت إلهی أنت المتفضل المنان أوزعنی أن اشکر نعمتک التی أنعمت بها إلی ولم تعطها لأحد إلا أتممتها علیه, اللهم بصاحب من بیده التربة الناطق المنبئ بما هو کأس إلا أتممت فضلک علی, ثم أخرجت اللوح ورمت به إلیه فأخذه أبو بکر وقرأه عثمان فإنه کان أجود القوم قراءة وما ازداد ما فی اللوح علی ما قال علی علیه السلام ولا نقص, فقال أبو بکر: خذها یا أبا الحسن, ثم قالت: یا معاشر الناس، اشهدوا أنی قد جعلت نفسی له عبدة. فقال علیه السلام: لا بل قولی زوجة. فقالت: اشهدوا أنی قد زوجته نفسی کما أمرنی أهلی. فقال علیه السلام: قد قبلتک زوجة، فماج الناس. فبعث بها علی علیه السلام إلی بیت أسماء بنت عمیس فزینتها وتزوج بها وعلقت بمحمد وولدته(1).

وعن أبی سعید الخدری، قال: دخلت خولة المسجد وشرحت ما شرحت، ولم یکن علی علیه السلام حاضراً، وقد عرض علیها جماعة الصحابة، وکانت تسأل الرجل (عن) اسمه (حتی) (أتاها) رجل اسمه علی، فقالت له: من أنت؟ فقال: علی بن عبد الله الغرانی. فقالت: لو کنت ابن أبی طالب فإنی لا اسلم نفسی إلا إلیه، بذلک أمرنی والدی، فعند ذلک اعلم أمیر المؤمنین علیه السلام فجاء(2).

ص:291


1- (1) الخرائج والجرائح, قطب الدین الراوندی, ج 2 ص 565. والأنوار العلویة, الشیخ جعفر النقدی، ص 437.
2- (2) مدینة المعاجز, البحرانی, ج 2 ص 219.

2 - أم البنین الکلابیة

اشارة

هی السیدة فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربیعة بن عامر المعروف بالوحید ابن کلاب بن عامر بن ربیعة بن عامر بن صعصعة. أمها ثمامة بنت سهیل بن عامر ابن مالک بن جعفر بن کلاب(1).

والشاعر لبید: هو أبو عقیل لبید بن ربیعة العامری، عم حزام بن خالد بن ربیعة, الذی قال عنه النبی صلی الله علیه و آله: أصدق کلمة قالتها العرب، کلمة لبید:

ألا کل شیء ما خلا الله باطل وکل نعیم لا محالة زائل(2)

أما کیفیة زواجها من أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال لأخیه عقیل وکان نسابة عالماً بأخبار العرب وأنسابهم ابغ امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لی غلاماً فارساً, فقال له أین أنت عن فاطمة بنت حزام بن خالد الکلابیة, فإنه لیس فی العرب أشجع من آبائها ولا أفرس, فتزوجها أمیر المؤمنین علیه السلام فولدت له العباس, وعثمان, وجعفر الأکبر, وعبد الله, قتلوا مع الحسین علیه السلام ولا بقیة لهم إلا للعباس(3).

وکانت هذه السیدة الجلیلة من الشخصیات المتألقة فی التاریخ الإسلامی, وتنتسب إلی أسرة لا نظیر لها فی الشجاعة والشهامة والقتال. وقد ذکر أن آباءها من أشجع العرب وأثبتهم وأشدهم قتالاً وکانت أم البنین شاعرة مفوهة جلیلة.

ص:292


1- (1) العباس, المقرم, ص 125.
2- (2) مستدرک سفینة البحار, الشیخ علی النمازی الشاهرودی, ج 9 ص 217.
3- (3) أعیان الشیعة, السید محسن الأمین, ج 7 ص 429. مقاتل الطالبیین, أبو الفرج الأصفهانی, ص 7 ص 53.
أم البنین ترثی أولادها

ذکر المؤرخون أنّها کانت تخرج إلی البقیع فی کل یوم ترثیهم وتحمل ولد العباس عبید الله فیجتمع لسماع رثائها أهل المدینة وفیهم مروان بن الحکم فیبکون لشجی الندبة، من قولها رضی الله عنها, من جملة رثائها وشعرها هو:

یا من رأی العباس کر علی جماهیر النقد

ووراه من أبناء حیدر کل لیث ذی لبد

أنبئت أن ابنی أصیب برأسه مقطوع ید

ویلی علی شبلی أما ل برأسه ضرب العمد

لو کان سیفک فی ید یه لما دنا منه أحد

وقولها علیهاالسلام:

لا تدعونی ویک أم البنین تذکرینی بلیوث العرین

کانت بنون لی أدعی بهم والیوم أصبحت ولا من بنین

أربعة مثل نسور الربی قد واصلوا الموت بقطع الوتین

تنازع الخرصان أشلاءهم فکلهم أمسی صریعاً طعین

یا لیت شعری أکما أخبروا بأن عباساً قطیع الیمین(1)

موقف من إیمانها

لما دخل بشیر بن حذلم المدینة المنورة لینعی الحسین علیه السلام التقی بأم البنین

ص:293


1- (1) أبصار العین فی أنصار الحسین علیه السلام, الشیخ محمد السماوی, ص 64.

(وهی أم العباس) فقال لها عظم الله لک الأجر بولدک عبد الله قالت له: أسألک عن سیدی ومولای الحسین. قال لها: عظم الله الأجر بولدک جعفر قالت له: أسألک عن سیدی ومولای الحسین. قال لها: عظم الله لک الأجر بولدک عثمان قالت له: أسألک عن سیدی ومولای الحسین قال لها: عظم الله لک الأجر بولدک العباس قالت له: أسألک عن سیدی ومولای الحسین. فقال:

یا أهل یثرب لا مقام لکم بها قتل الحسین فأدمعی مدرار

الجسم منه بکربلاء مضرج والرأس منه علی القناة یدار

فصاحت ولطمت خدها، وشقت جیبها ونادت: وا حسیناه وا سیداه، ثم أنشدت:

لا تدعونی ویک أم البنین تذکرینی بلیوث العرین(1)

لقد کانت السیدة أم البنین تکنُّ فی نفسها من المودة والحب للحسن والحسین علیهماالسلام ما لا تکنه لأولادها الذین کانوا ملء العین فی کمالهم وآدابهم, لقد قدمت أم البنین أبناء رسول الله صلی الله علیه و آله, علی أبنائها فی الخدمة والرعایة، ولم یعرف التاریخ أن ضرة تخلص لأبناء ضرتها وتقدمهم علی أبنائها سوی هذه السیدة الزکیة، والسیدة فاطمة بنت أسد الهاشمیة لرسول الله صلی الله علیه و آله، فقد کانت تری ذلک واجبا دینیا؛ لأن الله أمر بمودتهما فی کتابه الکریم، وهما ودیعة رسول الله صلی الله علیه و آله وریحانتاه، وقد عرفت أم البنین ذلک فوفت بحقهما وقامت بخدمتهما خیر قیام.

ص:294


1- (1) المجالس الفاخرة فی مصائب العترة الطاهرة - السید شرف الدین - ص 245.
تاریخ وفاة أم البنین علیهاالسلام

اختلف المؤرخون فی تعیین زمان وفاة أم البنین علیهاالسلام, فذهب بعضهم إلی أنّها توفیت فی الثالث من جمادی الآخرة سنة 61 للهجرة, بعد مقتل الحسین علیه السلام. ویفهم منه أنّ أم البنین توفیت بعد مقتل الحسین علیه السلام بلا فصل.

وذهب البعض الآخر إلی أنّها توفیت فی الثالث عشر من جمادی الآخرة سنة 64 للهجرة, وهناک روایة تؤید هذا الرأی بخصوص توقیت الیوم والشهر دون السنة, فقد ورد عن الأعمش قال دخلت علی الإمام زین العابدین فی الثالث عشر من جمادی الآخرة وکان یوم الجمعة, فدخل الفضل بن العباس وهو باک حزین وهو یقول لقد ماتت جدتی أم البنین(1).

یقول السالکی یظهر أنّ المخبر الباکی هو الفضل, مع أنّ الفضل مات صغیراً, وإنّ أهل السیر یقولون إن إرث العباس صار إلی عبید الله بن العباس, وإنّ نسله منه فقط, فالصحیح أنّه عبیدالله, إلا أن یقال الفضل مات بعد هذا الخبر, ثم انتقل الإرث إلی عبیدالله وهم ینظرون إلی النتیجة, هی أنّ ارث العباس وصل إلی أمه والی أبنائه, وارث أخوة العباس وصل إلی أمه وورثها أبناء العباس, ثم لم یبقَ من الأبناء إلاّ عبیدالله وورث هو کل المال فهو الوارث بعدهم.

وکان عبیدالله بن العباس من العلماء ویوصف بالکمال والمروءة والجمال ومات وله خمس وخمسون سنة(2).

ص:295


1- (1) راجع: کتاب أم البنین, محمد علی السالکی, ص 201.
2- (2) المصدر نفسه, ص 205.

وقبر أم البنین علیهاالسلام بالبقیع؛ لأنها لم تخرج إلی بلد آخر بعد مقتل الحسین علیه السلام فمدفنها فی المدینة وهو المشهور الآن(1).

3 - لیلی النهشلیة

هی لیلی بنت مسعود بن جابر بن مالک بن ربعی بن سلم بن جندل بن نهشل ابن دارم بن حنظلة بن زید مناة بن تمیم.

ولدت للإمام أمیر المؤمنین علیه السلام محمداً الأصغر المکنی أبا بکر وعبیدالله, الشهیدان مع أخیهما الحسین علیه السلام بالطف(2). وقیل: قتل عبید الله مع مصعب یوم المختار(3).

4 - أسماء بنت عمیس الخثعمیة

أسماء بنت عمیس الخثعمیة رضی الله عنها, هی أخت میمونة زوج النبی صلی الله علیه و آله, وأخت لبابة زوج العباس بن عبد المطلب, وأخت سلمی بنت عمیس زوج حمزة, هاجرت مع زوجها جعفر بن أبی طالب علیه السلام إلی الحبشة, وأعقبت أسماء من جعفر بن أبی طالب الطیار ثمانیة بنین, وهم عبد الله، وعون، ومحمد الأکبر، ومحمد الأصغر، وعبد الله الأکبر، وعبد الله الأصغر، وحمید، وحسین, أما محمد الأکبر فقتل مع عمه أمیر المؤمنین علیه السلام بصفین. وأما عون ومحمد الأصغر فقتلا مع ابن عمهما الحسین علیه السلام یوم الطف, وأما عبد الله الأکبر فهو أحد أجواد

ص:296


1- (1) راجع: کتاب أعمال الحرمین, بن الشیخ منصور المرهون, ص 191.
2- (2) الإرشاد, الشیخ المفید, ج 1 ص 354.
3- (3) مناقب الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام, محمد بن سلیمان الکوفی, ج 2 ص 49.

بنی هاشم الأربعة وهم: الحسن والحسین وعبد الله بن العباس وهو الرابع علیهم السلام. ولم یبایع رسول الله صلی الله علیه و آله طفلاً غیر هؤلاء الأربعة, ولد بأرض الحبشة, وله فی الجود أخبار کثیرة حتی لقب بقطب السخاء، حضر مع عمه صفین، وعقد له یوم الجمل علی عشرة آلاف، ولیس لجعفر عقب إلا منه. فلما قتل جعفر بن أبی طالب علیه السلام تزوجها أبو بکر فأولدت له محمداً حبیب علی علیه السلام وربیب حجره ووالیه علی مصر، قتله معاویة بن أبی سفیان, وللإمام علیه السلام عند قتل محمد بن أبی بکر خطبة موجودة فی النهج ولما مات أبو بکر، تزوجها أمیر المؤمنین علیه السلام فأولدت له یحیی بإجماع، واختلف فی عون بن علی بن أبی طالب فقیل إنه منها(1). وقیل: ولدت للإمام یحیی وعون. وقیل ومحمدا الأصغر(2).

وأسماء لها مقام عظیم عند الله وأهل البیت, وکانت من أولیات النساء اللآتی آمنَّ بالنبی صلی الله علیه و آله, وقد حظیت بمدحٍ علی لسان النبی صلی الله علیه و آله وأهل البیت حتی کانت من المبشرات بالجنة, کما روی عن أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال: سمعته یقول: رحم الله الأخوات من أهل الجنة، فسماهن أسماء بنت عمیس الخثعمیة، وکانت تحت جعفر بن أبی طالب, وسلمی بنت عمیس الخثعمیة وکانت تحت حمزة، وخمس من بنی هلال(3).

وذکر ابن الأثیر: أن عمر قال لها نعم القوم لولا أننا سبقناکم إلی الهجرة، فذکرت ذلک للنبی صلی الله علیه و آله فقال: بل لکم هجرتان: إلی أرض الحبشة وإلی

ص:297


1- (1) الاحتجاج, الشیخ الطبرسی, ج 1 ص 125.
2- (2) شرح إحقاق الحق, السید المرعشی, ج 32 ص 675.
3- (3) الخصال, الشیخ الصدوق, ص 363.

المدینة(1). وکانت رفیقة الزهراء علیهاالسلام وصاحبتها وهی التی اقترحت علیها أن یضع جثمانها الطاهر فی التابوت وأعانت الإمام علیه السلام علی غسلها, وکانت من رواة الحدیث(2).

5 - أمامه بنت أبی العاص

وهی أمامه بنت أبی العاص بن الربیع بن عبد العزی بن عبد مناف القرشیة العبشمیة, وأمها زینب بنت رسول الله صلی الله علیه و آله, وکانت زینب قد تزوجت أبا العاص قبل الإسلام, وهو (أبو العاص) ابن أخت خدیجة علیهاالسلام, وزینب أنجبت ولدین هما: علی الذی مات صغیراً, وأمامه التی کان یحبها النبی صلی الله علیه و آله ویلاطفها, وتزوجها الإمام علی علیه السلام بوصیة الزهراء علیهاالسلام إذ وصته أن یتزوجها, وقالت: إنها تکون لولدی مثلی(3).

وزوجها منه الزبیر بن العوام؛ لأن أباها قد أوصاه (أوصی الزبیر) بها, فلما جرح علی علیه السلام خاف أن یتزوجها معاویة فأمر المغیرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أن یتزوجها بعده, فلما توفی علیٌّ علیه السلام وقضت العدة تزوجها المغیرة, فولدت له یحیی وبه کان یکنی, فهلکت عند المغیرة وبقیت عنده حدود الخمسین للهجرة(4).

ص:298


1- (1) اسد الغابة, ابن الأثیر, ج 5 ص 296.
2- (2) أنظر: موسوعة الإمام علی, ری شهری, ج 1 ص 111.
3- (3) أنظر: کتاب سلیم بن قیس, ج 2 ص 870. وأسد الغابة, ابن الأثیر, ج 5, ص 400.
4- (4) أنظر: أسد الغابة, ابن الأثیر, ج 5, ص 400. وأعیان الشیعة, السید محسن الأمین, ج 3 ص 473.

وقد ذکر بعض المؤرخین أنّ علیاً لما حضرته الوفاة قال لأمامه بنت أبی العاص إنی لا آمن أن یخطبک هذا الطاغیة بعد موتی (یعنی معاویة) فإن کان لک فی الرجال حاجة فقد رضیت لک المغیرة بن نوفل عشیراً, فلما انقضت عدتها کتب معاویة إلی مروان یأمره أن یخطبها علیه ویبذل لها مائة ألف دینار, فلما خطبها أرسلت إلی المغیرة بن نوفل إنّ هذا قد أرسل یخطبنی, فإن کان لک بنا حاجة فأقبل, فأقبل وخطبها من الحسن بن علی علیهماالسلام فزوجها(1).

ص:299


1- (1) أنظر: الاستیعاب, ابن عبد البر, ج 4 ص 1789.

ص:300

الفصل الخامس: شهربانو أم الإمام السجاد علیهما السلام

اشارة

ص:301

ص:302

اسمها ونسبها

اشارة

أختلف المؤرخون وأصحاب السّیر فی تشخیص اسمها علیهاالسلام, وأیضا فی نسبها, فالمشهور قالوا: هی شاه زنان, أو شهر بانو, کما مرّ ذکره فی صحیفة الزهراء علیهاالسلام... (إلی قوله) أبو محمد علی بن الحسین العدل أمه شهربانو بنت یزدجرد, بالإضافة إلی الشواهد التاریخیة التی یأتی ذکرها. ومعنی شاه زنان أی ملکة النساء, وشهر بانویه أی ملکة المدینة. وقیل: سلامة، وقیل: غزالة، وقیل: خولة علی اختلاف الروایات, وقد ذکر المجلسی عن المبرد قال: کان اسم أم علی بن الحسین علیهماالسلام سلافة من ولد یزدجرد, معروفة النسب من خیرات النساء(1). وربما یعود اختلاف الروایات فی تسمیتها إلی ما قیل: من أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام سألها یوماً عن اسمها، فقالت: شاه زنان, فقال علیه السلام: أنت شهربانو. وأظن هذا التغیر الذی صدر من الإمام لأجل اختصاص الزهراء علیهاالسلام بذلک, کما سیأتی بیانه إن شاء الله.

أمّا أبوها: هو یزدجرد بن شهریار بن شیرویه بن کسری أبرویز بن هرمز بن انوش, روان الملک العادل، وکان یزدجرد آخر ملوک الفرس(2).

ص:303


1- (1) بحار الأنوار, المجلسی, ج 46 ص 16.
2- (2) شرح أصول الکافی, مولی محمد صالح المازندرانی, ج 7 ص 236.

وقیل: هو یزدجرد بن شهریار ابن کسری بن قباذ بن فیروز بن یزدجرد بن بهرام حور بن یزدجرد بن بهرام بن سابور ذی الأکتاف وهؤلاء کلهم ملوک(1). وقیل: شاه زنان بنت شیرویه بن کسری أبرویز...(2).

اکاذیب واهیة فی نسب أم السجاد علیه السلام

ذکر ابن عنبة فی ذیل کلامه قولاً فی اختلاف نسب السیدة شهربانو, فقال قد منع البعض من انتساب أم الإمام السجاد علیه السلام إلی یزدجرد الذی هو أحد ملوک الفرس, حیث قالوا: إنّ کثیراً من النسابین والمؤرخین قالوا إن بنتی یزدجرد کانتا معه حین ذهب إلی خراسان. وقیل إن أم زین العابدین علیه السلام من غیر ولده. وقد أغنی الله تعالی علی بن الحسین علیهماالسلام بما حصل له من ولادة رسول الله صلی الله علیه و آله عن ولادة یزدجرد بن شهریار المجوسی المولود من غیر عقد علی ما جاءت به التواریخ، والعرب لا تعد للعجم فضیلة وإنْ کانوا ملوکاً ولو اعتدوا بالملک فضیلة لوجب أن یفضلوا العجم علی العرب ویفضلوا قحطان علی عدنان، ولکن لیس ذلک عندهم شیئاً یعتد به. وقد لهج بعض العوام وکثیر من بنی الحسین علیه السلام بذکر هذه النسبة وقالوا: جمع علی بن الحسین علیهماالسلام بین النبوة والملک ولیس ذلک بشیء(3).

وقد تمسک شرذمة من أصحاب الضغائن والأحقاد من الشعوبیین واللیبرالیین فی ما ذکره ابن عنبة وقاموا بتوسعة الاشکال وتغییر حقائق التاریخ,

ص:304


1- (1) المجموع, محیی الدین النووی, ج 10 ص 391.
2- (2) مناقب آل أبی طالب, ابن شهر آشوب, ج 3 ص 311.
3- (3) أنظر: عمدة الطالب, ابن عنبة ص 193.

فقد حاولوا أنّ یجعلوا الحق کذباً والکذب حقاً, حیث قالوا إنّ أمّ الإمام السجاد علیه السلام لیست أَمَة, بل جعلوها بدلاً من ذلک عدنانیة قرشیة تیمیة, فقالوا إنّها الفاضلة أم إسحاق بنت طلحة بن عبید الله التیمی. وعمدة ما استندوا إلیه هو ما ذکره صاحب عمدة الطالب (ابن عنبة) من أنّ الأمام السجاد علیه السلام وأخته فاطمة بنت الحسین أم فاطمة بنت الحسین هی أم إسحاق بنت طلحة بن عبید الله هما أشقاء من نفس الأم, وعلیه تکون هی أیضاً أم الأمام السجاد علیه السلام, وغیر ذلک کما تقدم من کلام ابن عنبة(1).

والصحیح

إنّ ابن عنبة فی أول کلامه بشکل صریح أثبت رأی المشهور أنّها شاه زنان بنت یزدجرد, حیث قال بنص عبارته: وقد اختلف فی أمه فالمشهور أنها شاه زنان بنت کسری یزدجرد بن شهریار بن أبرویزد، وقیل إن اسمها شهربانو، قیل نهبت فی فتح المدائن فنفلها عمر بن الخطاب من الحسین علیه السلام وقیل بعث حریث بن جابر الجعفی إلی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام ببنتی یزدجرد بن شهریار فأخذهما وأعطی واحدة لابنه الحسین علیه السلام فأولدها علی بن الحسین علیه السلام وأعطی الأخری لمحمد بن أبی بکر فأولدها القاسم الفقیه ابن محمد بن أبی بکر فهما ابنا خالة، وقال ابن جریر الطبری: اسمها غزالة وهی من بنات کسری. وقال المبرد: هی سلامة من ولد یزدجرد(2), هذا أولاً.

ص:305


1- (1) انظر: کتاب کذبة فارسیة یفضحها الحق العربی, عبد الحمید العلوجی.
2- (2) عمدة الطالب, ابن عنبة, ص 192.

وثانیاً: أنّه (ابن عنبة) کان یتناول الموضوع من حیث الفخر بالأنساب لیس لغرض إثبات حقیقة تاریخیة, فقال: إنه إذا کان للحسینیین فخر بولادة جدهم علی زین العابدین علیه السلام من أحدی بنات کسری فالفخر متحقق أیضاً للحسنیین لأن فاطمة بنت الحسین قد تزوجت من الحسن المثنی بن الإمام الحسن الزکی علیه السلام وولدت له أولاده الحسن المثلث وعبد الله المحض وإبراهیم وهی فیما یقال من أم علی زین العابدین علیه السلام, وأنت تری أنه لم یجزم بهذه الصلة الجدیدة للحسنیین بل أستخدم عبارة (فیما یقال), ولم ینقل هذه الصلة أحد من المؤرخین قبل ابن عنبة فی عمدة الطالب ولا بعده، ولو کانت هذه الصلة معروفة لشاعت ونقلها العدید من المؤرخین ولکن ذلک لم یحدث.

وثالثاً: أنّ المستشکل نفسه قدذکر فی قائمة مصادر کتیبه (26) مصدراً لم یحتوِ أیٌّ منها علی تصریح أو تلمیح أو أشارة أو افتراض إلی أنّ أم السجاد علیه السلام عربیة، بل الکتب التاریخیة والتراثیة متأرجحة بین کون أمّه امَة أو امَة من بنات کسری.

رابعاً: أنّ الإمام الحسن بن أمیر المؤمنین علیهماالسلام قد تزوج من أم إسحاق بنت طلحة فولدت له طلحة والحسین وفاطمة, ثم خلف علی أم إسحاق بعد الحسن علیه السلام أخیه الحسین علیه السلام، وکلمة (خلف) تحتمل معنیین الأول أنّ الحسین علیه السلام تزوج أم إسحاق بعد وفاة أخیه الحسن علیه السلام والثانی أنّه علیه السلام تزوجها بعد طلاق أخیه علیه السلام لها، والمعنی الأول هو الأکثر شیوعاً واستعمالاً عند العرب لکلمة (خلف) إضافة الی ما أثبته المؤرخون, وکیف کان فإنّ الإمام الحسن علیه السلام

ص:306

قد استشهد سنة (50) ه - وزواج الإمام الحسین علیه السلام من أم إسحاق کان بعد هذا التاریخ فیما نجد أنّ ولادة الإمام علی زین العابدین علیه السلام کانت عام (37) ه - وعلیه فإنّ أم إسحاق لا یمکن أنْ تکون أمّاً له لأنها حین ولادته کانت حلیلةً للأمام الحسن علیه السلام.

خامساً: أنّ الإمام محمداً الباقر علیه السلام هو أول من جمع ولادة الحسن والحسین علیهماالسلام؛ لأن أباه الإمام علیاً زین العابدین علیه السلام قد تزوج من ابنة عمه أم عبدالله فاطمة بنت الأمام الحسن علیه السلام وأمها أم إسحاق بنت طلحة فولدت له أبنه الإمام الباقر علیه السلام، (کما سیأتی فی محله مفصلاً) فلو کانت ام إسحاق هی التی ولدت الإمام علیاً زین العابدین علیه السلام بحسب مزاعم المستشکل لما جاز له أنْ یتزوج من فاطمة بنت الإمام الحسن علیه السلام لأنها حینئذٍ ستکون أخته من جهة الأم.

سادساً: أنّ هناک وثیقة تاریخیة فی النصف الأول للقرن الثانی الهجری تشیر إلی أنّ أم الإمام علی زین العابدین علیه السلام هی أَمَة ولیست عربیة کما زعم، وهذه الوثیقة إضافة إلی أنها قریبة من عصر الإمام علی زین العابدین علیه السلام فقد وردت بلسان شخص بعید عن شبهة التأثیر الشعوبی والدس الفارسی, وهی رسالة کتبها الخلیفة العباسی الثانی أبو جعفر الملقب بالمنصور, إلی محمد الملقب بالنفس الزکیة بن عبد الله المحض بن الحسن المثنی بن الإمام الحسن علیه السلام لما ثار الأخیر علیه، وقد ذکرها ابن خلدون فی تأریخه، جاء فیها: وما ولد قبلکم مولود بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله أفضل من علی بن الحسین وهو لأم ولد (یقصد أَمَه) ولقد کان خیراً من جدک حسن بن حسن ثم ابنه محمد خیر من أبیک وجدته أم

ص:307

ولد ثم ابنه جعفر وهو خیر منک(1).

وهناک عشرات الکتب تاریخیة وحدیثیة لدی الفریقین تذکر أنّها أمة فارسیة بنت یزدجرد, ولکنّ العداء یعمی الأبصار والبصائر, حتی جعل شریعتی هو الآخر یطعن بروایة تذکر مقام وفضل السیدة شهربانو ویتخذها سبباً لنفی زواج شهربانویة بنت یزدجرد بالإمام الحسین علیه السلام, أو أنّها أم للإمام السجاد علیه السلام, ویحول الموضوع إلی مساجلات واهیة واستنتاجات باطلة لا تستند إلی أی دلیل ولا تعبر إلا عن مجموعة أوهام أراد من إظهارها التنفیس وإثارة النعرات الطائفیة والقومیة(2), فقد تناسی ما علیه الجمهور وغیرهم من ثبوت هذه الحقیقة فی تواریخهم وأحادیثهم, ولماذا لا تکون هذه الحملات الشعواء والاستنتاجات الفاسدة علی امَّهات الأئمة الباقین الذین کانت امَّهاتهم جواریَ أیضا وغیر عربیات, فهناک سبعة أئمة امَّهاتهم جوارٍ وغیر عربیات, أمثال أم الإمام الکاظم علیه السلام (حمیدة البربریة) فلِمَ لم یقال انّهم (الشیعة) احیوا البربر کما احیوا الدولة الساسانیة, أو لهم میول للبرابرة, وغیرها من التهاترات التی لا تستحق الإطالة والوقوف عندها.

وهکذا تتکشف الحقائق ویتضح الخطأ الذی وقع فیه البعض بادعائهم النسب العربی لأم السجاد علیه السلام, وأسأل الله أنّ یبعد الأمة الإسلامیة من هذه الأمراض الخطیرة التی تجرّ الویل للإسلام والمسلمین.

ص:308


1- (1) تاریخ ابن خلدون, ابن خلدون, ج 4 ص 6.
2- (2) انظر: کتاب التشیع العلوی والتشیع الصفوی, الدکتور علی شریعتی, تحت عنوان: عروس المدائن فی المدینة, ص 124.

اشکال وجواب

وأما ما ذکر من أنّ أباها کان مولوداً من غیر عقد؛ وهذا ینافی ما علیه اعتقاد الأمامیة فی طهارة آباء المعصومین علیهم السلام. فنقول باختصار: ثبت أن لکل قوم نکاحاً, کما جاء فی الحدائق عن أبی بصیر قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: نهی رسول الله صلی الله علیه و آله أن یقال للإماء یا بنت کذا وکذا، وقال: لکل قوم نکاح. أقول: فیه دلالة علی عدم جواز قذف أصحاب الملل والأدیان والطعن فی أنسابهم بما خالف مقتضی شریعتنا إذا کان سائغاً فی شرایعهم، وعلیه تدل جملة من الأخبار(1).

ومنها, ما رواه فی التهذیب عن عبد الله بن سنان فی الحسن قال: قذف رجل رجلاً مجوسیاً عند عن أبی عبد الله علیه السلام فقال: مه، فقال الرجل: إنه ینکح أمه وأمته، فقال: ذاک عندهم نکاح فی دینهم(2).

وعن أبی بصیر عن أبی عبد الله علیه السلام قال: کل قوم یعرفون النکاح من السفاح فنکاحهم جائز(3). إلی غیر ذلک من الأخبار. مع أنّ دعواهم بعیدة عن الواقع ولم تکن ثابتة ومسلمة, وإنّما مجرد استیحاء وتوهم.

إضافة إلی ذلک یمکن أن یقال إنّها کانت فی أسرة محتشمة مراعیة لآداب العفّة ولو بحسب أعرافهم, کما یظهر ذلک من النصوص التاریخیة, منها: حین إدخالها علی الخلیفة الثانی فقد غطت وجهها وتأوهت..., کما سیأتی. وذلک

ص:309


1- (1) الحدائق الناضرة, المحقق البحرانی, ج 24 ص 330.
2- (2) تهذیب الأحکام, الشیخ الطوسی, ج 7 ص 487. والکافی, الشیخ الکلینی, ج 5 ص 574
3- (3) . تهذیب الأحکام, الشیخ الطوسی, ج 7 ص 475.

یعکس لنا أنّها عاشت فی ظروف اسریة واجتماعیة مراعیة قد أثرت بها وبسلوکها. ومنها أیضاً ما کشف عنه الإمام علی علیه السلام حین سألها قائلاً: ما حفظت عن أبیک بعد وقعة الفیل؟ قالت: حفظنا عنه أنه کان یقول: إذا غلب الله علی أمر ذلت المطامع دونه، وإذا انقضت المدة کان الحتف فی الحیلة. فقال علیه السلام: ما أحسن ما قال أبوک تذل الأمور للمقادیر حتی یکون الحتف فی التدبیر(1). فیظهر من سؤال الإمام علیه السلام وتأییده واستحسانه لقول أبیها أنّ أباها من الشخصیات ذات العلم والمکانة. وأیضا الرؤیا التی رأتها فی المنام من دخول النبی صلی الله علیه و آله وأهل البیت علیهم السلام دارهم لغرض خطبتها, کما سیأتی.

مقتل والدها یزدجرد

اشارة

ذکر ابن الأثیر فی أحداث سنة إحدی وثلاثین مقتل یزدجرد بن شهریار, حیث قال: قد اختلف الناس فی سبب قتله, فقیل إنه هرب من کرمان فی جماعة یسیرة إلی مرو ومعه خرزاد أخو رستم فرجع عنه إلی العراق ووصی به ماهویه مرزبان مرو فسأله یزدجرد مالاً فمنعه فخافه أهل مرو علی أنفسهم فأرسلوا إلی الترک یستنصروهم علیه فأتوه فبیتوه فقتلوا أصحابه فهرب یزدجرد ماشیاً إلی شط المرغاب فأوی إلی بیت رجل ینقر الأرحاء فلما نام قتله، وقیل: بل بیته أهل مرو ولم یستنصروا بالترک فقتلوا أصحابه وهرب منهم فقتله النقار وتبعوا أثره إلی بیت الذی ینقر الأرحاء فأخذوه وضربوه فأقر بقتله فقتلوه وأهله. وأخرج یزدجرد من النهر وجعل فی تابوت وحمل إلی إصطخر فوضع فی ناووس هناک. وقیل إن

ص:310


1- (1) الإرشاد, الشیخ المفید, ج 1 ص 302.

یزدجرد هرب بعد وقعة نهاوند إلی أرض أصبهان وبها رجل یقال له مطیار کان قد أصاب من العرب شیئاً یسیراً فصار له بها محل کبیر فأتی مطیار یزدجرد ذات یوم زائراً فحجبه بوابه لیستأذن له فضربه وشج أنفه وحمیة لحجبه إیاه فدخل البواب علی یزدجرد مدمی فلما نظر إلیه أفظعه ذلک فرحل عن أصبهان من ساعته فأتی الری فخرج إلیه صاحب طبرستان وعرض علیه بلاده وأخبره بحصانتها وقال له إن أنت لم تجبنی یومک هذا ثم أتیتنی بعد ذلک فلم أقبلک ولم أرک فلم یجبه. وقیل مضی من فوره ذلک إلی سجستان ثم سار إلی مرو فی ألف فارس، وقیل: بل قصد فارس فأقام بها أربع سنین ثم أتی کرمان فأقام بها سنتین أو ثلاثاً فطلب إلیه دهقانه شیئاً فلم یجبه فجره برجله وطرده عن بلاده فسار إلی سجستان فأقام بها نحواً من خمس سنین ثم عزم علی قصد خراسان لیجمع الجموع ویسیر بهم إلی العرب فسار إلی مرو ومعه الرهن من أولاد الدهاقین ومعه فی رؤسائهم فرخزاد فلما قدم مرو کاتب ملوک الصین وملک فرغانة وملک کابل وملک الخرز یستمدهم وکان الدهقان یومئذ بمرو ماهویة أبو براز فوکل ماهویه بمرو ابنه براز لیحفظها ویمنع عنها یزدجرد خوفاً من مکره فرکب یزدجرد یوماً وطاف بالمدینة وأراد دخولها من بعض أبوابها فمنعه براز فصاح به أبوه لیفتح الباب فلم یفعل وأومأ إلیه أبوه أن لا یفعل ففطن له رجل من أصحاب یزدجرد فأعلمه بذلک واستأذنه فی قتله وقال إن فعلت صفت لک الأمور بهذه الناحیة فلم یأذن له. وقیل: أراد یزدجرد صرف الدهقنة عن ماهویة إلی صنجان ابن أخیه فبلغ ذلک ماهویه فعمل فی هلاک یزدجرد فکتب إلی نیزک طرخان یخبره أن یزدجرد وقع إلیه

ص:311

مفلولاً یدعوه إلی القدوم علیه لیتفقا علی قتله ومصالحة العرب علیه وضمن له إن فعل أن یعطیه کل یوم ألف درهم فکتب نیزک إلی یزدجرد یعده المساعدة علی العرب وأنه یقدم علیه بنفسه إن أبعد عسکره وفرخزاد عنه فاستشار یزدجرد أصحابه فقال له سنجان لست أری أن تبعد عنک أصحابک وفرخزاد وقال أبو براز أری أن تتألف نیزک وتجیبه إلی ما سأل فقبل رأیه وفرق عنه جنده وأمر فرخزاد أن یأتی أجمة سرخس فصاح فرخزاد وشق جیبه وتناول عموداً بین یدیه یرید ضرب أبی براز به وقال یا قتلة الملوک قتلتم ملکین وقال أظنکم قاتلی هذا. ولم یبرح فرخزاد حتی کتب له یزدجرد بخط یده أنه آمن وأنه قد أسلم یزدجرد وأهله وما معه إلی ماهویه وأشهد بذلک. وأقبل نیزک فلقیه یزدجرد بالمزامیر والملاهی أشار علیه بذلک أبو براز فلما لقیه تأخر عنه أبو براز فاستقبله نیزک ماشیاً، فأمر له یزدجرد بجنیبة من جنائبه، فرکبها، فلما توسط عسکره توافقا فقال له نیزک فیما یقول زوجنی إحدی بناتک حتی أناصحک فی قتال عدوک. فسبه یزدجرد فضربه نیزک بمقرعته وصاح یزدجرد غدر الغادر ورکض منهزماً وقتل أصحاب نیزک أصحاب یزدجرد وانتهی یزدجرد من هزیمته إلی مکان من نواحی مرو فنزل عن فرسه ودخل إلی بیت طحان فمکث فیه ثلاثة أیام لم یأکل طعاماً فقال له الطحان أیها الشقی کل طعاماً فقد جعت. فقال لست أصل إلی ذلک إلا بزمزمة. وکان عند الطحان رجل یزمزم فکلمه الطحان فی ذلک ففعل وزمزم له فأکل فلما رجع المزمزم سمع بذکر یزدجرد فسأل عن حلیته فوصفوه له فأخبرهم به وبحلیته فأرسل إلیه أبو براز رجلاً من الأساورة وأمره بخنقه وإلقائه فی النهر وأتی الطحان

ص:312

فضربه لیدله علیه فلم یفعل وجحده فلما أراد الانصراف عنه قال له بعض أصحابه إنی لأجد ریح مسک ونظر إلی طرف ثوبه من دیباج فی الماء فجذبه فإذا هو یزدجرد فسأله أن لا یقتله ولا یدل علیه وجعل له خاتمه ومنطقته وسواره فقال له أعطنی أربعة دراهم وأخلی عنک فلم یکن معه وقال إن خاتمی لا یحصی ثمنه فخذه فأبی علیه فقال له یزدجرد قد کنت أخبر أنی سأحتاج إلی أربعة دراهم واضطر إلی أن یکون أکلی أکل الهر فقد رأیت ذلک ثم نزع أحد قرطیه فأعطاه الطحان لیستر علیه وأرادوا قتله فقال ویحکم إنا نجد فی کتبنا أنه من قتل الملوک عاقبه الله بالحریق فی الدنیا فلا تقتلونی واحملونی إلی الدهقان أو إلی العرب فإنهم یستبقون مثلی. فأخذوا ما علیه من الحلی وخنقوه بوتر القوس وألقوه فی الماء فجری به الماء حتی انتهی إلی فوهة الرزیق فتعلق بعود فأخذه أسقف مرو وجعله فی تابوت ودفنه. وقیل: بل سار یزدجرد من کرمان قبل ورود العرب إلیها نحو مرو علی الطبسین وقهستان فی أربعة آلاف فلما قارب مرو لقیه قائدان یقال لأحدهما براز وللآخر سنجان وکانا متباغضین، فسعی براز بسنجان حتی هم یزدجرد بقتله وأفشی ذلک إلی امرأة من نسائه ففشا الحدیث فجمع سنجان أصحابه وقصد قصر یزدجرد فهرب براز وخاف یزدجرد فهرب أیضاً إلی رحی علی فرسخین من مرو فدخل بیت نقار الرحی فأطعمه الطحان فطلب منه شیئاً فأعطاه منطقته فقال إنما یکفینی أربعة دراهم فلم یکن معه ثم نام یزدجرد فقتله الطحان بفأس کان معه وأخذ ما علیه وألقی جیفته فی الماء وشق بطنه وثقله. وسمع بقتله مطران کان بمرو فجمع النصاری وقال قتل ابن شهریار وإنما شهریار

ص:313

بن شیرین المؤمنة التی قد عرفتم حقها وإحسانها إلی أهل ملتنا مع ما نال النصاری فی ملک جده أنوشروان من الشرف فینبغی أن نحزن لقتله ونبنی له ناووساً فأجابوه إلی ذلک وبنوا له ناووساً وأخرجوا جثته وکفنوها ودفنوها فی الناووس. وکان ملکه عشرین سنة منها أربع سنین فی دعة وست عشرة سنة فی تعب من محاربة العرب إیاه وغلظتهم علیه وکان آخر من ملک من آل أردشیر بن بابک وصفا الملک بعده للعرب(1).

ما قاله البلاذری فی مقتل یزدجرد

ذکر البلاذری أنّ یزدجرد هرب من المدائن إلی حلوان، ثم إلی إصبهان. فلما فرغ المسلمون من أمر نهاوند هرب من إصبهان إلی إصطخر. فتوجه عبد الله ابن بدیل بن ورقاء بعد فتح إصبهان لاتباعه فلم یقدر علیه. ووافی أبو موسی الأشعری إصطخر فرام فتحها فلم یمکنه ذلک، وعاناها عثمان بن أبی العاصی الثقفی فلم یقدر علیها. وقدم عبد الله بن عامر بن کریز البصرة سنة تسع وعشرین، وقد افتتحت فارس کلها إلا إصطخر وجور، فهمَّ یزدجرد بأن یأتی طبرستان. وذلک أن مرزبانها عرض علیه وهو بإصبهان أن یأتیها وأخبره بحصانتها، ثم بدا له فهرب إلی کرمان، واتبعه ابن عامر مجاشع بن مسعود السلمی وهرم بن حیان العبدی، فمضی مجاشع فنزل بیمنذ من کرمان، فأصاب الناس الدمق، وهلک جیشه فلم ینج إلا القلیل، فسمی القصر قصر مجاشع. وانصرف مجاشع إلی ابن عامر. وکان یزدجرد جلس ذات یوم بکرمان، فدخل علیه مرزبانها فلم یکلمه تیهاً، فأمر

ص:314


1- (1) أنظر: الکامل فی التاریخ, ابن الأثیر, ج 3 ص 119.

بجر رجله وقال: ما أنت بأهل لولایة قریة فضلاً عن الملک، ولو علم الله فیک خیراً ما صیرک إلی هذه الحال. فمضی إلی سجستان، فأکرمه ملکها وأعظمه، فلما مضت علیه أیام سأله عن الخراج فتنکر له. فلما رأی یزدجرد ذلک سار إلی خراسان، فلما صار إلی حد مرو تلقاه ماهویه مرزبانها معظماً مبجلاً، وقدم علیه نیزک طرخان فحمله وخلع علیه وأکرمه، فأقام نیزک عنده شهراً، ثم شخص وکتب إلیه یخطب ابنته، فأحفظ ذلک یزدجرد وقال: اکتبوا إلیه إنما أنت عبد من عبیدی، فما جرأک علی أن تخطب إلیّ؟ وأمر بمحاسبة ماهویه مرزبان مرو، وسأله عن الأموال. فکتب ماهویه إلیّ نیزک یحرضه علیه ویقول: هذا الذی قدم مفلولاً طریداً فمننت علیه لیرد علیه ملکه، فکتب إلیه بما کتب. ثم تضافرا علی قتله. وأقبل نیزک فی الأتراک حتی نزل الجنابذ، فحاربوه، فتکافأ الترک ثم عادت الدائرة علیه، فقتل أصحابه ونهب عسکره. فأتی مدینة مرو فلم یفتح له، فنزل عن دابته ومشی حتی دخل بیت طحان علی المرغاب، ویقال إن ماهویه بعث إلیه رسله حین بلغه خبره فقتلوه فی بیت الطحان. ویقال إنه دس إلی الطحان فأمره بقتله فقتله، ثم قال: ما ینبغی لقاتل ملک أن یعیش. فأمر بالطحان فقتل. ویقال إن الطحان قدم له طعاماً فأکل، وأتاه بشراب یشرب فسکر، فلما کان المساء أخرج تاجه فوضعه علی رأسه، فبصر به الطحان فطمع فیه، فعمد إلی رحا فألقاها علیه، فلما قتله أخذ تاجه وثیابه وألقاه فی الماء. ثم عرف ماهویه خبره فقتل الطحان وأهل بیته وأخذ التاج والثیاب. ویقال إن یزدجرد نذر برسل ماهویه فهرب ونزل الماء. فطلب من الطحان فقال: قد خرج من بیتی. فوجدوه فی الماء. فقال: خلوا عنی

ص:315

أعطکم منطقتی وخاتمی وتاجی. فتغیبوا عنه. وسألهم شیئاً یأکل به خبزاً فأعطاه بعضهم أربعة دراهم. فضحک وقال: لقد قیل لی إنک ستحتاج إلی أربعة دراهم. ثم إنه هجم علیه بعد ذلک قوم وجههم ماهویه لطلبه. فقال: لا تقتلونی واحملونی إلی ملک العرب لأصالحه عنی وعنکم. فأبوا ذلک وخنقوه بوتر، ثم أخذوا ثیابه فجعلت فی جراب، وألقوا جثته فی الماء(1).

تکامل صفاتها

إنّ اقترانها بالإمام الحسین علیه السلام, وتأهلها لأن تکون وعاءً للمعصوم دون غیرها, یکشف لنا بوضوح عن مدی کمالها وبعد إیمانها, بالإضافة الی الروایات التی تتحدث عن اهتمام ید الغیب فی تربیتها واصطفائها, فقد ورد عن جابر، عن أبی جعفر علیه السلام قال: لما اقدمت بنت یزدجرد علی عمر أشرف لها عذاری المدینة وأشرق المسجد بضوئها لما دخلته، فلما نظر إلیها الخلیفة الثانی غطت وجهها وقالت: اف بیروج بادا هرمز... الخ(2). والکلام الذی نطقت به فارسی, مشتمل علی تأفیف ودعاء علی أبیها هرمز, تعنی لا کان لهرمز یوم فإن ابنته أسرت بصغر ونظر الیها الرجال.

وقیل: إن أمیر المؤمنین علیه السلام قد سماها مریم، وهذا ما یعطیها نفس المکانة. ویقال: سماها فاطمة، وکانت تدعی سیدة النساء(3).

ص:316


1- (1) فتوح البلدان, البلاذری, ج 2 ص 387. وانظر: أیضا البدایة والنهایة, ابن کثیر, ج 7 ص 178.
2- (2) راجع: الکافی, الکلینی, ج 1 ص 467.
3- (3) بحار الأنوار, المجلسی, ج 46 ص 13.

ومن کلامه علیه السلام وقد سأل شاه زنان بنت کسری حین أسرت: ما حفظت عن أبیک بعد وقعة الفیل؟ قالت: حفظنا عنه أنه کان یقول: إذا غلب الله علی أمر ذلت المطامع دونه، وإذا انقضت المدة کان الحتف فی الحیلة.

فقال علیه السلام: ما أحسن ما قال أبوک تذل الأمور للمقادیر حتی یکون الحتف فی التدبیر(1).

وأجاد الحر العاملی فی أرجوزته حین وصفها قائلاً:

أو أمه ذات العلی والمجد شاه زنان بنت یزد جرد

وهو ابن شهریار بن کسری ذو سؤدد لیس یخاف کسری(2)

علی یغیر اسمها

اهتم الأمام أمیر المؤمنین علیه السلام فی أم السجاد علیهاالسلام کثیر الاهتمام, وقد أمر فی عتقها مع جمیع من معها من السبایا, ومن ثم وصی بها وقام بتغییر اسمها حیث قال علیه السلام لها: ما اسمک؟ فقالت: جهان شاه، فقال لها بل شهر بانویه(3).

فقوله علیه السلام: بل شهر بانویه کأنه علیه السلام غیر اسمها للسنة، أو لأنه من أسماء الله تعالی, لما ورد فی الخبر فی النهی عن اللعب بالشطرنج إنه یقول مات شاهه وقتل شاهه والله شاهه ما مات وما قتل(4).

ص:317


1- (1) الإرشاد, الشیخ المفید, ج 1 - ص 302.
2- (2) نقلاً عن: الأنوار البهیة, الشیخ عباس القمی, ص 107.
3- (3) بصائر الدرجات, محمد بن حسن الصفار, ص 355.
4- (4) بحار الأنوار, المجلسی, ج 46 ص 10.

وجاء فی مجمع البحرین, أن بعض الشارحین قال: لا یخفی ما فی هذا الحدیث من الإغماض، والذی یخطر فی البال: أن الشاه المذکور هنا عبارة عن شیء یتقامر فیه یسمی بهذا الاسم یضاف إلی المتقامرین، فحین یقع النزاع بینهما ویرید الآخر إثبات ما یدعیه بالیمین یقول هذا القول وهو فی الحقیقة لا ینبغی أن یستعمل إلا فیمن له السلطنة والغلبة، وهو الله تعالی. فعلی هذا ینبغی رفع شاهه فی قوله: (والله تعالی ذکره شاهه ما مات ولا قتل) علی أنه خبر مبتدأ محذوف أی هو شاهه لا غیر، فکیف ینسب إلیه الموت والقتل(1).

ویذهب بعض المؤرخین إلی أن أمیر المؤمنین علیه السلام أبدل اسم شاه زنان ب - (شهر بانویه) لئلا تشارک الزهراء علیهاالسلام لقبها، فإن شاه زنان تعنی فی العربیة: سیدة النساء، وقد خصت فاطمة الزهراء علیهاالسلام بلقب سیدة نساء العالمین.

کما یؤیده ما ورد عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: ما اسمک؟ قالت: شاه زنان قال: نه شاه زنان نیست، مگر دختر محمد صلی الله علیه و آله وهی سیدة النساء، أنت شهربانو وأختک مروارید بنت کسری قالت: آریه(2) (یعنی نعم).

والمراد من المعنی هنا أنّ الإمام علیه السلام حینما سألها عن إسمها قالت اسمی شاه زنان أی سیدة النساء, قال علیه السلام لا لست سیدة النساء بل بنت محمد صلی الله علیه و آله سیدة النساء, أنت شهربانو أی سیدة المدینة. وهذا لا یقال فی العرف الفارسی إلا للمرأة ذات الشأن العظیم والمنزلة الرفیعة.

ص:318


1- (1) أنظر: مجمع البحرین, الشیخ الطریحی, ج 2 ص 474.
2- (2) دلائل الإمامة, محمد بن جریر الطبری (الشیعی), ص 196.

رسول الله یخطبها للحسین علیه السلام

حظیت أم الإمام السجاد علیهاالسلام بتربیة إلهیة ومراعاة غیبیة وهذا یعکس عن صفائها وطهارتها وما أعدها الله للمستقبل المنیر, فقد کشفت الروایات جملة من الکرامات التی تلبست بها هذه السیدة الجلیلة منها, اقترانها بالإمام الحسین علیه السلام حیث قالوا: إنما اختارت الحسین علیه السلام لأنّها رأت فاطمة علیهاالسلام وأسلمت قبل أن یأخذها عسکر المسلمین، ولها قصة, وهی أنها قالت رأیت فی النوم قبل ورود عسکر المسلمین کأن محمداً رسول الله صلی الله علیه و آله دخل دارنا وقعد مع الحسین علیه السلام وخطبنی له وزوجنی منه، فلما أصبحت کان ذلک یؤثر فی قلبی وما کان لی خاطر غیر هذا، فلما کان فی اللیلة الثانیة رأیت فاطمة بنت محمد صلی الله علیه و آله قد أتتنی وعرضت علی الإسلام فأسلمت ثم قالت: إن الغلبة تکون للمسلمین، وإنک تصلین عن قریب إلی ابنی الحسین سالمة لا یصیبک بسوء أحد قالت: وکان من الحال أنی خرجت إلی المدینة ما مس یدی إنسان(1).

الرؤیا فی القرآن والسنة

من الظواهر التی یلاحظها الإنسان بکل أطیافه وباستمرار علی مر التاریخ هی ظاهرة الرؤیا, وقد اهتمت بها أغلب الأمم, وإذا رجعنا الی الشریعة الإسلامیة نری أنّها تقسم الرؤیا علی ثلاثة أقسام بحسب ما ورد من النصوص الشریفة, کما عن النبی صلی الله علیه و آله قال: الرؤیا ثلاثة: رؤیا بشری من الله، ورؤیا تحزین من الشیطان،

ص:319


1- (1) أنظر: موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام, الشیخ هادی النجفی, ج 8 ص 385. وبحار الأنوار, المجلسی, ج 46 ص 11.

ورؤیا یحدث بها الإنسان نفسه فیراها فی النوم(1). وأیضا ما ورد عن أبی عبد الله علیه السلام قال: الرؤیا علی ثلاثة وجوه: بشارة من الله للمؤمن وتحذیر من الشیطان وأضغاث أحلام(2).

وجدیر بنا أن نلقی نظرة مختصرة ومقتضبة فی بیان حقیقة الرؤیا, فقد ذکروا أنّ العوالم ثلاثة:

الأوّل: عالَم الطبیعة وهو العالم الدنیوی الذی نعیش فیه, والأشیاء الموجودة فیه صور مادیة تجری علی نظام الحرکة والسکون والتغیر والتبدل, فالأشیاء فی عالم الدنیا تحتوی علی صور ومواد.

الثانی: عالم المثال, وهو فوق عالم الطبیعة وجوداً وفیه صور الأشیاء بلا مادة, منها تنزل هذه الحوادث الطبیعیة وإلیها تعود وله مقام العلیة ونسبة السببیة لحوادث عالم الطبیعة.

الثالث: عالم العقل وهو فوق عالم المثال وجوداً وفیه حقائق الأشیاء وکلیاتها من غیر مادة طبیعیة ولا صورة وله نسبة السببیة لما فی عالم المثال.

والنفس الإنسانیة لتجردها لها مسانخة مع العالمین عالم المثال وعالم العقل, فإذا نام الإنسان وتعطل الحواس انقطعت النفس طبعاً عن الأمور الطبیعیة الخارجیة ورجعت إلی عالمها المسانخ لها وشاهدت بعض ما فیها من الحقائق بحسب ما لها من الاستعداد والإمکان.

ص:320


1- (1) عوالی اللئالی, ابن أبی جمهور الأحسائی, ج 1 ص 79.
2- (2) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 8 ص 90.

فان کانت النفس کاملة متمکنة من ادراک المجردات العقلیة أدرکتها واستحضرت أسباب الکائنات علی ما هی علیها من الکلیة والنوریة وإلا حکتها حکایة خیالیة بما تأنس بها من الصور والأشکال الجزئیة الکونیة, کما نحکی نحن مفهوم السرعة الکلیة بتصور جسم سریع الحرکة ونحکی مفهوم العظمة بالجبل ومفهوم الرفعة والعلو بالسماء وما فیها من الاجرام السماویة والشجاع بالأسد إلی غیر ذلک.

وان لم تکن متمکنة من إدراک المجردات علی ما هی علیها والارتقاء إلی عالمها توقفت فی عالم المثال مرتقیة من عالم الطبیعة فربما شاهدت الحوادث بمشاهدة عللها وأسبابها من غیر أن تتصرف فیها بشیء من التغییر ویتفق ذلک غالبا فی النفوس السلیمة المتخلفة بالصدق والصفاء وهذه هی المنامات الصریحة, وربما حکت ما شاهدته منها بما عندها من الأمثلة المأنوس بها, ومن أمثلة هذا النوع من المنامات ما نقل أنّ رجلاً رأی فی المنام انّ بیده خاتما یختم به أفواه الناس وفروجهم فسأل ابن سیرین عن تأویله فقال إنک ستصیر مؤذناً فی شهر رمضان فیصوم الناس بأذانک.

وقد تبین أنّ المنامات الحقة تنقسم انقساماً أولیاً إلی منامات صریحة لم تتصرف فیها نفس النائم فتنطبق علی ما لها من التأویل من غیر مؤنة, ومنامات غیر صریحة تصرفت فیها النفس من جهة الحکایا لأمثال والانتقال من معنی إلی ما یناسبه أو یضاده وهذه هی التی تحتاج إلی التعبیر بردها إلی الأصل الذی هو المشهود الأولی للنفس.

ص:321

ثم هذا القسم الثانی ینقسم إلی قسمین أحدهما ما تتصرف فیه النفس بالحکایة فتنتقل من الشیء إلی ما یناسبه أو یضاده ووقفت فی المرة والمرتین مثلاً بحیث لا یعسر رده إلی أصله, وثانیهما ما تتصرف فیه النفس من غیر أن تقف علی حدٍ کأن تنتقل مثلاً من الشیء إلی ضده ومن الضد إلی مثله ومن مثل الضد إلی ضد المثل وهکذا بحیث یتعذر أو یتعسر للمعبر أنّ یرده إلی الأصل المشهود, وهذا النوع من المنامات هی المسماة بأضغاث الأحلام ولا تعبیر لها لتعسره أو تعذره(1).

والحاصل: إنّ المنامات ثلاثة أقسام کلیة: وهی المنامات الصریحة ولا تعبیر لها لعدم الحاجة إلیه, وأضغاث الأحلام ولا تعبیر فیها لتعذره أو تعسره, والمنامات التی تصرفت فیها النفس بالحکایة والتمثیل وهی التی تقبل التعبیر.

الرؤیا الصادقة

الرؤیا الصادقة حقیقة ثابتة کما دلت علیها شواهد کثیرة من القرآن والسنة, وقد ذکر ذلک بشکل صریح فی القرآن الکریم فی منامات عدیدة من الأنبیاء وغیرهم, کما فی سورة الصافات (رؤیا النبی إبراهیم علیه السلام), وفی سورة یوسف أربعة منامات, أحدها لیوسف علیه السلام, واثنان للشابین الذین دخلا معه السجن, ورؤیا للملک یوم ذاک, وکانت هذه الأحلام والمنامات صادقة وقد تحقق تأویلها وتعبیرها فی الخارج.

ص:322


1- (1) راجع: تفسیر المیزان, السید الطباطبائی, ج 11 ص 271.

وقد جاء فی سیرة النبی صلی الله علیه و آله أنّه رأی منامات وفسرها وکانت کما أخبر بها. والسیدة فاطمة علیهاالسلام رأت أباها فی المنام فی یوم وفاتها, فقال لها النبی صلی الله علیه و آله أنت اللیلة عندی, فتوفیت علیهاالسلام فی ذلک الیوم. وکذلک أمیر المؤمنین علیه السلام قبیل وفاته, وباقی الأئمة علیهم السلام.

ویمکن أن تقسم الرؤیا الصادقة علی عدة أقسام: منها, ما تکون تذکیر أو ناهیة وزاجرة عن فعل القبیح الذی ربما غفل عنه الإنسان فیریه رؤیة تزجره عن فعل تلک المعصیة, کما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام: إذا کان العبد علی معصیة الله عز وجل وأراد الله به خیراً أراه فی منامه رؤیا تروعه فینزجر بها عن تلک المعصیة، وإن الرؤیا الصادقة جزءٌ من سبعین جزءاً من النبوة(1).

وفی هذا الصدد ینقل أنّ رجلا قال لعلی بن الحسین علیهماالسلام: رأیت کأنی أبول فی یدی. قال: تحتک محرم. فنظروا فإذا بینه وبین امرأته رضاع(2).

ومنها: ما تحکی عن المستقبل, وتکون لها دلالات مستقبلیة وتذکر أموراً لم تتحقق بعد, کما هو مذکور فی القرآن الکریم فی عدة مواضع, والتی منها, سجود الکواکب والشمس والقمر لیوسف علیه السلام, حیث فیه دلالة إلی نبوة یوسف علیه السلام فی المستقبل, ورؤیا عزیز مصر بأن سبع بقرات عجاف تأکل سبع بقرات سمان وقد فسرها نبی الله یوسف علیه السلام بما یجری فی المستقبل.

ومنها: ما یکون ضرباً من الإیحاء وهذا ما یخص الأنبیاء والأولیاء کما ورد

ص:323


1- (1) راجع: الاختصاص, الشیخ المفید, ص 241.
2- (2) راجع: الطفل بین الوراثة والتربیة, الشیخ محمد تقی فلسفی, ج 1 ص 316.

فی القرآن الکریم عن لسان إبراهیم علیه السلام (قالَ یا بُنَیَّ إِنِّی أَری فِی الْمَنامِ أَنِّی أَذْبَحُکَ فَانْظُرْ ما ذا تَری قالَ یا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِی إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِینَ)1 , وعلی ذلک فالرؤیا التی یترتب علیها حکمٌ شرعیٌّ أو أصل عقائدیٌّ وتکون حجة مستقلة هی للأنبیاء خاصة؛ لأنه نوع من أنواع الوحی.

نعم ربما یکون إیحاء لبعض الأولیاء ولو عن طریق المکاشفة أو مکالمة من عالم ما وراء الطبیعة, کما ورد عن أم نبی الله موسی علیه السلام فی قوله تعالی:(وَ أَوْحَیْنا إِلی أُمِّ مُوسی أَنْ أَرْضِعِیهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَیْهِ فَأَلْقِیهِ فِی الْیَمِّ وَ لا تَخافِی وَ لا تَحْزَنِی إِنّا رَادُّوهُ إِلَیْکِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِینَ)2 , حیث ورد فی الروایات انّه کان رؤیا(1).

تطبیق الرؤیا فی المقام

ونقول من هذا وذاک إنّ أم المعصوم علیهاالسلام لا تقل شأناً عن أم موسی علیهاالسلام وغیرها, بأن یحبوها الله عز وجل بالإیحاء والمکاشفة والبشارة, لأن تکون وعاءً وحجراً لحجة الله علی خلقه وغیر ذلک, وعلیه کانت رؤیا السیدة شهر بانویه علیهاالسلام (أم السجاد علیه السلام) أو رؤیا السیدة نرجس علیهاالسلام (أم الإمام المهدی علیه السلام) رؤیا صادقة, بل تعتبر نوعاً من المکاشفة والمعاینة, فقد خطبها رسول الله صلی الله علیه و آله فی عالم الرؤیا, ولقنتها الزهراء علیهاالسلام الشهادتین حتی أسلمت, وبشرتها بزواجها من الحسین علیه السلام,

ص:324


1- (3) راجع: تفسیر المیزان, السید الطباطبائی, ج 11 ص 268.

وهکذا الحال فی نرجس علیهاالسلام, فلا ینبغی الشک فی مطلق الرؤی والأحلام من حیث إنّه لا ینسجم مع العصر والنهضة العلمیة, کما روج له الکثیر من الذین حصروا أنفسهم فی بوتقة التجربة وعالم المادة ولم یکن لهم نصیب فی التعرف علی ما وراء الطبیعة وعالم الغیب, مع أنّ الرؤیا شاهد قاطع علی ذلک, فأمّ المعصوم علیه السلام لها الحظ الأوفر فی احتکاکها بالغیب واطلاعها علی مجری الأمور, وذلک بما تحویه من مؤهلات ومواهب وفضائل وغیرها.

موقف من عفافها وإیمانها

صحیح أنّها عاشت فی بیئة مترفة بعیدة عن التعالیم والقیم الإسلامیة لکن لا یلزم منه انحرافها الخلقی وانحطاطها النفسی وما إلیه؛ لأنّها کانت تحت الرعایة والتخطیط الإلهی, وکل المؤشرات تؤکد إیمانها وتوحیدها ولو علی طریق الکتم والإخفاء, کما هو الحال فی أغلب الأسرة الهاشمیة فی الجاهلیة, أو زوجة فرعون حیث تحدث الله عنها بقوله:(وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِینَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِی عِنْدَکَ بَیْتاً فِی الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِی مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِی مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِینَ)1 , وغیر ذلک کثیر, لذلک نلاحظ الإمام علیاً علیه السلام اهتم بها کثیراً وعندما أنحلها ابنه الحسین علیه السلام أو هی اختارته سارع فی الإشارة والتلمیح إلی الأمر الذی خططت له السماء بقوله: احتفظ بها وأحسن إلیها، فستلد لک خیر أهل الأرض فی زمانه بعدک، وهی أم الأوصیاء الذریة الطیبة. مع الحفاظ

ص:325

والتشدد الذی کانت تعیشه داخل الأسرة, لذلک ورد عن أبی الحسن علی بن حماد العبدی بالبصرة سنة إحدی وتسعین وثلاثمائة عن رجاله أنّه قال: لما فتحت المدائن وجمعت فی مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله بالمدینة الغنائم، وأحضر عمر جمیع المسلمین لیقسموها علی ما أوجبه الله، وعرضت السبایا علیهم وهن متابعات بینهم، أبرزت شهربان بنت یزدجرد وهی مختمرة وعلیها من ثیاب الملوک شملة، فقال عمر: احبسوا عنها الخمار فلا حرمة إلا للإسلام. فقال له علی علیه السلام یجب لبنات الملوک أن تتمیزن عن غیرهن. فقال له عمر: أفیخرجن من السبی ویزول عنهن الرق؟ قال: [لا] ولکن لا یهتک خمرهن ویجعل الاختیار إلیهن فیمن یملکهن. فأجاز عمر ذلک وطیف بها علیهم (وهم جلوس مجتمعون) لیقع اختیارها علی من تملکها من المسلمین، فلم تزل تتفحصهم، ثم أشارت إلی الحسین علیه السلام من بینهم، فحصلت فی سهمه علی ما أوجب من الفرض له، فولدت علی بن الحسین زین العابدین علیه السلام. ثم حدث أبو نصر مهیار بن أدبار (وکان من رؤساء المتصرفین وعلماء المجوس المتأدبین) عن رجاله ومن أسند من رواة الطائفة إلیه: إنّ شهربان حین طیف بها عند اقتسام الغنائم علی کافة المسلمین فی المسجد لتختار من تکون من سهمه منهم، وتسیر إلی من یحصل فی ملکه من جملتهم، ووقع اختیارها علی الحسین، وصارت فی قسمه، وتقدم لحملها إلی داره، قال لها عمر: أخبرینی عنک: قد عرض علیک کافة المسلمین، وفیهم أنا وأنا أمیرهم، وما یتعذر وجود الکهول والصباح والشبان والأوضاح فیهم، وکیف اخترت هذا الفتی من بینهم؟ فقالت: الصدق أنجی وأرجی، کنت حین طیف بی

ص:326

علی الجماعة (فأنا ألحظهم لیقع اختیاری علی من یملکنی منهم) لا أری أحداً إلا یرمقنی بطرف حدید ونظر شدید غیر هذا الکهل وابنیه (وأشارت إلی علی علیه السلام) فإنهم ما لحظونی ولا التفتوا إلیّ، فرأیت النزاهة وشرف الهمة هناک، فبینت إلیهم الاختیار، وعلمت أن المروءة ملک لا یزول إذا زالت الممالک بنوائب الدهر. فقال لها: أفلا اخترت أباه فهو أفضل منه، أو أخاه فهو کبیره؟ فقالت: نزعت نفسی إلی [...] سنا لحداثته، ورغبت مع الشرف والعفاف فیما یرغب فیه أمثالی, فأعجبه ذلک منها وأثنی هو والجماعة الخیر علیها(1).

زمان سبیها

اختلف المؤرخون فی زمان سبی السیدة شهربانو وفی أی عهد من الخلفاء کان, ولکنّ المشهور کما علیه کثیر من المؤرخین هو فی زمن خلافة عمر بن الخطاب کما جاء فی وفیات الأعیان وغیره, حیث قالوا: إنّ الصحابة رضی الله عنهم لما أتوا المدینة بسبی فارس فی خلافة عمر بن الخطاب رضی الله عنه کان فیهم ثلاث بنات لیزدجرد فباعوا السبایا وأمر عمر ببیع بنات یزدجرد أیضاً, فقال له علی بن أبی طالب رضی الله عنه إن بنات الملوک لا یعاملن معاملة غیرهم من بنات السوقة, فقال کیف الطریق إلی العمل معهن, قال یُقَومنَ ومهما بلغ ثمنهن قام به من یختارهن, فقُومنَ وأخذهنّ علی رضی الله عنه فدفع واحدة لعبد الله بن عمر وأخری لولده الحسین وأخری لمحمد بن أبی بکر وکان ربیبه(2). وهناک

ص:327


1- (1) أنظر: العقد النضید والدر الفرید, محمد بن الحسن القمی, ص 145.
2- (2) راجع: وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان, ابن خلکان, ج 3 ص 267.

روایات تفید أنّه ترک لهن الخیار من بین الحاضرین فاختارت السیدة شهربانو الإمام الحسین علیه السلام.

ولکن جاء فی العیون عن الرضا علیه السلام أن عبد الله بن عامر لما افتتح خراسان أصاب ابنتین ل - (یزدجرد بن شهریار) ملک الأعاجم، فبعث بهما إلی عثمان فوهب إحداهما للحسن علیه السلام والأخری للحسین علیه السلام فماتتا عندهما نفساوین، وکانت صاحبة الحسین علیه السلام نفست بعلی بن الحسین علیهماالسلام فکفله بعض امَّهات أولاد أبیه(1).

وقیل: جاءوا بها مع أختها کیهان بانو من حدود فارس فی خلافة عثمان بن عفان فأراد أن یبیعهما، قال له علی علیه السلام لا یعامل فی بنی الملوک معاملة سائرهم. فتزوج الحسین شهربانو، فولدت له علیاً الأصغر، وتزوج محمد بن أبی بکر کیهان بانو، فولدت له القاسم. حتی قالوا: انظر إلی برکة العدل حیث جعل الله - تبارک وتعالی - الأئمة المهدیین من نسل الحسین علیه السلام من بنت یزدجرد المنتسب إلی کسری أنوش (روان الملک العادل) دون سائر زوجاته(2).

وهناک قول ثالث کما جاء فی الإرشاد إنّها سبیت فی عصر خلافة الإمام علی علیه السلام حیث قال: ولی أمیر المؤمنین علیه السلام حریث بن جابر الحنفی جانباً من المشرق، فبعث إلیه ابنتی یزدجرد بن شهریار بن کسری فنحل ابنه الحسین علیه السلام(3).

ویمکن أن یرجح أنّ سبیها فی عهد خلافة عثمان, أو زمن خلافة أمیر

ص:328


1- (1) راجع: عیون أخبار الرضا علیه السلام, الشیخ الصدوق, ج 1 ص 136.
2- (2) راجع: ینابیع المودة لذوی القربی, القندوزی, ج 3 ص 152.
3- (3) راجع: الإرشاد, الشیخ المفید, ج 2 ص 137.

المؤمنین علیه السلام إذ أنّ أسر أولاد یزدجرد الظاهر أنّه کان بعد قتله أو استئصاله، وذلک کان فی زمن عثمان, وإن أمکن أن یکون بعد فتح القادسیة أو نهاوند أخذ بعض أولاده هناک قبل مقتله وکانت من جملتهم شهربانو. وأیضاً یلاحظ علی المشهور من أنّ ولادة الإمام السجاد علیه السلام کانت سنة (38 ه -) فإذا فرضنا أنّها سبیت فی خلافة عمر بن الخطاب کما علیه المشهور فیلزم منه أنّها بقیت بدون حمل إلی ما یقارب عشرین سنة وهو عادة بعید, فالأرجح أن نقول إنّها سبیت فی خلافة عثمان أو علی علیه السلام.

ولکن هذا أیضاً لیس دلیلاً قطعیاً, حیث یمکن أنّ تتأخر المرأة عن الحمل سنین متعددة کما ثبت ذلک فی القرآن الکریم من أنّ زوجة إبراهیم علیه السلام سارة تأخرت الی ما بعد الیأس, وأیضاً کانت الفاصلة بین أولاد فاطمة بنت أسد عشر سنین, وربما الجمیع اطلع علی أنّ بعض النساء تأخر بهن الحمل إلی فترة طویلة فی مثل هذه الأیام التی اتسمت بالتطور العلمی لاسیما فی المجال الصحی والتناسلی وما إلیه.

علی ینظر إلی المستقبل

من المسلمات عند کل المسلمین أنّ الإسلام لا یختص بقومیة واحدة أو فئة خاصة وإنما هو یعم کل البشر کما عبّر عن ذلک القرآن الکریم فی قوله تعالی:(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِی أُنْزِلَ فِیهِ الْقُرْآنُ هُدیً لِلنّاسِ وَ بَیِّناتٍ مِنَ الْهُدی

ص:329

وَ الْفُرْقانِ)1 فهو نداء عام للناس جمیعاً فی کل زمان ومکان لإخراجهم من الظلمات إلی النور فی دار الدنیا والآخرة, فعلیه أنّ تُتخذ خطوات تسهل دخول الناس إلی هذا المرفأ الکریم, فالمرونة والعفو عن الغیر من السجایا التی تطمع الغیر فی الإقرار والتسلیم, فترک الإمام موقفاً لاسیما مع بنات ملوک الفرس ربما کان أحد العوامل فی دخولهم الإسلام وإخلاصهم فیه, لذلک ذکر المؤرخون أنّه لما ورد سبی الفرس إلی المدینة أراد عمر بن الخطاب (علی القول إنّها سبیت فی زمن خلافة عمر بن الخطاب) بیع النساء وأن یجعل الرجال عبیداً فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام: إن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: أکرموا کریم کل قوم، فقال عمر: قد سمعته یقول: إذا أتاکم کریم قوم فأکرموه وإن خالفکم, فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام هؤلاء قوم قد ألقوا إلیکم السلم ورغبوا فی الإسلام ولابد أن یکون لی فیهم ذریة، وأنا اشهد الله وأشهدکم أنی قد أعتقت نصیبی منهم لوجه الله تعالی، فقال جمیع بنی هاشم: قد وهبنا حقنا أیضاً لک، فقال: اللهم اشهد أنی قد أعتقت ما وهبوا لی لوجه الله، فقال المهاجرون والأنصار: وقد وهبنا حقنا لک یا أخا رسول الله، فقال: اللهم اشهد إنّهم قد وهبوا لی حقهم وقبلته وأشهدک أنی قد أعتقتهم لوجهک، فقال عمر: لم نقضت علیَّ عزمی فی الأعاجم؟ وما الذی رغبک عن رأیی فیهم، فأعاد علیه ما قال رسول الله صلی الله علیه و آله فی إکرام الکرماء فقال عمر: قد وهبت لله ولک یا أبا الحسن ما یخصنی وسائر ما لم یوهب لک، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام اللهم اشهد علی ما قالوه وعلی عتقی إیاهم(1).

ص:330


1- (2) مستدرک الوسائل, المیرزا النوری, ج 11 ص 132. و الغارات, إبراهیم بن محمد الثقفی, ج 2 ص 825.

شهربانویه تختار الحسین علیه السلام زوجاً

لم یکن اختیارها للحسین علیه السلام فی معزل عن التخطیط والإرادة الإلهیة, بل هی اقترنت به فی عالم الأرواح والغیب (کما تقدم) قبل حضورها واختیارها له فی عالم المادة والأجساد وهذا یعبر عن ارتباط الغیب فی زواجها للحسین علیه السلام, فقد ذکروا هناک رهط من قریش وغیرهم کانوا حاضرین وکانت لهم المکانة والإمرة وقد رغبوا فی زواجها لکن اعترضهم الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام قائلاً: هن لا یکرهن علی ذلک ولکن یخیرن ما اخترنه عمل به، فأشار جماعة إلی شهر بانویه بنت کسری فخیرت وخوطبت من وراء الحجاب والجمع حضور فقیل لها: من تختارین من خطابک؟ وهل أنت ممن تریدین بعلاً؟ فسکتت فقال أمیر المؤمنین قد أرادت وبقی الاختیار، فقال عمر: وما علمک بإرادتها البعل؟ فقال أمیر المؤمنین علیه السلام: إن رسول الله صلی الله علیه و آله کان إذا أتته کریمة قوم لا ولی لها - وقد خطبت - یأمر أن یقال لها: أنت راضیة بالبعل؟ فإن استحیت وسکتت جعل إذنها صماتها وأمر بتزویجها، وإن قالت: لا لم یکرهها علی ما تختاره، وإن شهر بانویه أریت الخطاب فأومأت بیدها واختارت الحسین بن علی علیهماالسلام، فأعید القول علیها فی التخییر فأشارت بیدها، وقالت: هذا إن کنت مخیرة، وجعلت أمیر المؤمنین علیه السلام ولیها، وتکلم حذیفة بالخطبة، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام: ما اسمک؟ فقالت: شاه زنان بنت کسری، قال أمیر المؤمنین علیه السلام: أنت شهر بانویه وأختک مروارید بنت کسری قالت: آریه(1).

ص:331


1- (1) الغارات, إبراهیم بن محمد الثقفی, ج 2 ص 825. جامع أحادیث الشیعة, السید البروجردی, ج 20 ص 152.

شهربانو وعاء للمعصوم

اشارة

حازت هذه السیدة الجلیلة بهذه المفخرة العظیمة حتی أصبحت وعاءً وأمّاً للإمام المعصوم علیه السلام, وهذا مما لا یتسنی لکل امرأة إلا أنّ تُصطفی وتُعد من قبل السماء, حتی تکون الوعاء السالم والصالح المناسب لهذا المخلوق العظیم, وهذا الحکم من الاصطفاء والإعداد الإلهی لا یجب فی مجرد الزوجة, حیث إنّ الأُم تختلف عن الزوجة بشکل جوهری ولذلک ذکر القرآن أنّ هناک زوجات لبعض الأنبیاء علیهم السلام کُنَّ خائنات فی عدم تمسکهن بخط النبوة والهدی الإلهی, کما جاء فی قوله تعالی:(ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِینَ کَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ کانَتا تَحْتَ عَبْدَیْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَیْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ یُغْنِیا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَیْئاً وَ قِیلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِینَ)1 , مع أنّه لم نجد أی انحراف أو غیره لأُم من الأنبیاء أو الأوصیاء بل نجد العکس من أنّها قد أُعدت من الناحیة الروحیة والنفسیة والجسدیة کی تکون وعاءً صالحاً لأشرف مخلوقات أهل زمانه, وربما السبب فی ذلک لأنّ للأُم أثراً تکوینیاً علی الجنین بخلاف مجرد الزوجة فإنّها لا تؤثر تکویناً علی الزوج ولا یلزم من انحرافها آثارٌ سلبیة تکوینیة علی الزوج وإنما یرجع علیها فقط, أمّا الأم الکافرة والملوثة أو حتی الضعیفة روحیاً ومعنویاً ترجع بآثارها علی جنینها وأسرتها, فشرط الطهارة والنقاء فی امَّهات الأنبیاء والأئمة أمر ثابت ولا غبار علیه بخلاف زوجاتهم علیهم السلام, وعندما

ص:332

نرجع الی أُم الإمام السجاد علیهاالسلام نجد أنّها حظیت باهتمام ورعایة إلهیة علی الصعید المادی والروحی, کما جاءت فی ذلک عدة روایات, منها ما روی عن جابر، عن أبی جعفر علیه السلام قال: لما قدمت ابنة یزدجرد ابن شهریار آخر ملوک الفرس وخاتمتهم علی عمر، وأدخلت المدینة استشرفت لها عذاری المدینة، وأشرق المجلس بضوء وجهها، ورأت عمر فقالت: آه بیروز باد هرمز، فغضب عمر وقال: شتمتنی هذه العلجة, وهمَّ بها, فقال له علی علیه السلام: لیس لک إنکار علی ما لا تعلمه، فأمر أن ینادی علیها، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام: لا یجوز بیع بنات الملوک، ولکن أعرض علیها أن تختار رجلا من المسلمین حتی تتزوج منه، وتحسب صداقها علیه من عطائه من بیت المال یقوم مقام الثمن، فقال عمر: أفعل، وعرض علیها أن تختار فجالت فوضعت یدها علی منکب الحسین علیه السلام, فقال أمیر المؤمنین علیه السلام: چه نام داری أی کنیزک, یعنی: ما اسمک یا صبیة؟ قالت جهان شاه، فقال بل شهر بانویه، قالت: تلک أختی قال: راست گفتی, أی صدقت ثم التفت إلی الحسین فقال: احتفظ بها وأحسن إلیها، فستلد لک خیر أهل الأرض فی زمانه بعدک، وهی أم الأوصیاء الذریة الطیبة، فولدت علی بن الحسین زین العابدین علیهماالسلام(1).

سؤال وجواب

ربما یقال إنّ الإسلام نهی عن تزویج الأمة مع أنّنا نلاحظ أنّ أغلب امَّهات الأئمة المعصومین من الإماء؟ کما سیأتی أنّ ستة أئمة إضافة إلی أم الإمام

ص:333


1- (1) راجع: الکافی, الکلینی, ج 1 ص 467.

السجاد علیه السلام امَّهاتهم إماء, نعم إنّ الزواج بالإماء إنما یجوز لمن یعانی من ضغط شدید بسبب شدة غلبة الغریزة الجنسیة علیه ولم یکن قادراً علی التزوج بالحرائر من النساء، وعلی هذا الأساس لا یجوز الزواج بالإماء لغیر هذه الطائفة.

فیمکن أن تکون فلسفة هذا الحکم فی أن الإماء خاصة فی تلک العهود لم یحظن بتربیة جیدة، ولهذا کنّ یعانین من نواقص خلقیة ونفسیة وعاطفیة، ومن الطبیعی أن یتخذ الأطفال المتولدون من هذا الزواج صفة الاُمَّهات ویکتسبوا خصوصیاتهن الخلقیة، ولهذا السبب طرح الإسلام طریقة دقیقة لتحریر العبید تدریجاً حتی لا یبتلوا بهذا المصیر السیئ، وفی نفس الوقت فسح للأرقاء أنفسهم أن یتزوجوا فیما بینهم.

والجواب

هذا الموضوع لا یتنافی مع وضع بعض الإماء اللائی حظین بوضع استثنائی وخاص من الناحیة الخلقیة والتربویة وغیرهما، فالحکم المذکور أعلاه یرتبط بأغلبیة الإماء، وکون بعض امَّهات الأئمة من أهل البیت النبوی علیهم السلام من الإماء هو من هذه الجهة کما سیتضح.

وأمّا الظروف السیاسیة والاجتماعیة التی ألجئتها الی هذا الحال من الأسر والرق لا یقلل من شأنها ولا یؤثر فی ذاتها وکیانها بل تبقی بکمالها وبعدها المعنوی, وربما تکون هذه الظروف الألیمة التی واجهتها سبباً فی اعدادها وترقیها, إضافة إلی حفظها من أیدی الغاشمین.

ص:334

فلسفة أکثر امَّهات الأئمة جوارِ

اشارة

إن مما یدعو إلی الالتفات ویثیر التساؤل هو أن أکثر امَّهات الأئمة علیهم السلام جوار من غیر العرب، فأم کل من السجاد والکاظم والرضا والجواد والهادی والعسکری والحجة علیهم السلام امَّهات أولاد، وقعن فی الأسر، واقترن بهنّ الأئمة علیهم السلام, مع أنّه لا یغیب عن بالنا ما یجری فی سوق العبید والجواری، مضافاً إلی أن مسألة الإمامة لیست من المسائل العادیة، فإنّها تستوجب الحیطة والحذر فی کل ما یرتبط بولادة الإمام المعصوم علیه السلام وتربیته ونشأته، وکما أنّ الأب ینبغی أن یکون فی أعلی درجات الکمال الممکن، فکذلک الأم وعلی ذلک قامت الأدلة. وهذا البحث جدیر بالعنایة والدراسة.

والسؤال الذی یواجهنا, هو ما هو السر فی اختیار الأئمة للجواری من دون الحرائر العربیات من البیوتات الرفیعة ذات المنزلة الاجتماعیة؟

ولماذا یقترن الأئمة علیهم السلام بالجواری لیلدن لهم أفضل الأولاد والبنات؟

وللإجابة عن ذلک لابد أن نسلط الأضواء علی بعض المفاهیم العامة والرکائز الأساسیة ذات الصلة بما نحن فیه لنخرج من خلالها بما یرفع الغموض والإبهام عن هذه المسألة.

والذی یظهر من خلال دراسة بعض المفاهیم العامة والقواعد الأساسیة أن وراء اختیار الأئمة علیهم السلام الجواری أسباباً أهمها ثلاثة.

ص:335

الأول: التربیة الإلهیة لأم المعصوم

إن مما لا شک فیه أن أئمة أهل البیت علیهم السلام - کما نعتقد وعلیه قامت الأدلة - قد أوتوا العلم بحقائق الأمور والأشیاء ومعرفة مداخلها ومخارجها، ومنها العلم بأحوال الناس وخصوصیاتهم، وقد ورثوا ذلک عن رسول الله أو أطلعهم الله تعالی علیه لنفوذ بصائرهم، وصفاء نفوسهم وطهارة ذواتهم، ولما کان الأمر یتعلق بالإمامة ومنصب الولایة فلا بد من اختیار الوعاء الطاهر، والأصل الزاکی، والحجر العفیف الذی سیکون حاملاً وحاضناً لولی الله، وخلیفته علی العباد، والحجة علی الخلق، ویعد ذلک من المسلمات البدیهیة فی عقیدة الشیعة الإمامیة، وإنما وقع اختیار الأئمة علیهم السلام علی هؤلاء الجواری من دون سائر النساء لعلمهم علیهم السلام بأنهن قد جمعن شرائط الاقتران بالمعصوم وصلاحیتهن للأمومة التی ستنجب الإمام المعصوم, إذ کما یشترط أن یکون الآباء طاهرین مطهرین فکذلک الحال بالنسبة للاُمَّهات. وقد تقدم مدی تأثیر الأم علی ولدها، فإن لعامل الوراثة مدخلاً کبیراً فی التکوین الخلقی المنعکس علی الولد من قبل أبویه لاسیما الأم، لذلک نلاحظ أنّ الإمام علیه السلام قد یختار واحدة بعینها من دون سائر الجواری اللاتی عرضن للبیع، وقد تکون غیر صالحة - بحسب المعاییر المادیة - للبیع والشراء إلا أن الإمام علیه السلام لا یختار غیرها، بل تذکر المصادر کما سیأتی ذکرها أن هذه الجاریة المعینة من قبل الله قد جعلت للإمام فقد تمتنع عن الاستسلام لأی مشترٍ یتقدم لشرائها حتی یکون الذی یشتریها هو الإمام علیه السلام، مع أنها فی ظروف لا تملک

ص:336

من أمرها شیئاً، الأمر الذی یؤکد علی أن هناک تخطیطاً إلهیاً متقناً لأن تکون هذه المرأة قرینة للإمام علیه السلام وقد أعدها الله تعالی لتصبح أمّاً ووعاءًً للمعصوم. ویدل علی ذلک ما تقدم من تحرک السماء نحو إیصال أم الإمام السجاد علیه السلام للإمام الحسین علیه السلام ولم تتعدَ بالاختیار غیره.

ولو رجعت القهقری ولاحظت کیف جعل الله إسماعیل ابن إبراهیم علیهم السلام فی بطن هاجر التی هی من الجواری کما قیل قبطیة من مصر أهداها لسارة أحد ملوک مصر(1), والذی ینحدر منه عن طریق هاجر نسب النبی الأکرم صلی الله علیه و آله, فقد ذکر أنّ نبی الله إبراهیم علیه السلام بقی فترة طویلة بلا ذریة مع زوجته سارة, ثم أشار علیها أن تبیع له هاجر تلک الجاریة لتی حظیت بتربیة إلهیة وأعدت لأن تکون وعاءً للمعصوم نبی الله إسماعیل علیه السلام, وقد ذکرها القرآن وعظّمها وجعلها سبباً لإیجاد بعض السنن الإلهیة والتی منها السعی بین الصفا والمروة, وقد دفنها ابنها إسماعیل علیه السلام مقابل البیت العتیق, بإزاء الرکنین العراقی والشامی, والذی یسمی الیوم بحِجر إسماعیل علیه السلام, وقد حجّر علیها لئلا یطأ الناس قبرها, تقدیراً لها واحتراماً, ومن ثم هو دفن فیه وتبعه مجموعة من الأنبیاء علیهم السلام, کما ورد ذلک عن أبی عبد الله علیه السلام قال: إن إسماعیل دفن أمه فی الحجر وحجر علیها لئلا یوطأ قبر أم إسماعیل فی الحجر(2). وعنه أیضا قال: الحجر بیت إسماعیل وفیه قبر هاجر وقبر إسماعیل(3).

ص:337


1- (1) أنظر: موسوعة التاریخ الإسلامی, الیوسفی, ج 1 ص 85.
2- (2) الکافی, الشیخ الکلینی, ج 4 ص 210.
3- (3) المصدر نفسه.

ومن بعض الطرائف التی تذکر عن زید بن علی الشهید مع هشام بن عبد الملک حینما قال له, بلغنی أنّک تذکر الخلافة وتتمناها ولست هناک وأنت ابن أمة؟. فقال له زید: إن الاُمَّهات لا یقعدن بالرجال عن الغایات، وقد کانت أم إسماعیل (هاجر) أمة لأم إسحق (سارة)، فلم یمنعه ذلک أن بعثه الله نبیاً وجعله أباً للعرب وأخرج من صلبه خیر الأنبیاء محمداً صلی الله علیه و آله، وأخرج من إسحق القردة والخنازیر وعبدة الطاغوت(1).

الثانی: محاربة الطبقیة والعرقیة

إنّ من أعظم الرکائز التی قام علیها الدین هو إلغاء الفوارق الطبقیة بین أبنائه والمنتسبین إلیه، وقد أکد القرآن الکریم فی آیاته، والرسول الکریم فی سیرته علی ذلک، وکانت النظرة إلی جمیع الناس علی أساسٍ من التساوی ونبذ الفوارق العرقیة والنسبیة، وأن المعیار فی التفاضل بین الناس هو مقدار ما یتحلی به الإنسان من الإیمان والتقوی ومکتسباته الشخصیة کما أشار إلیه سبحانه فی قوله (یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ)2 . لیس لأحد علی أحد فضل إلا بالتقوی ولیس للعنصر العربی فضل علی سواه، ولیس لسواه فضل علیه، ولیس ثمة ما یمیز أحدهما علی الآخر إلا مقدار قربه من الله تعالی، أو بعده عنه، ولذا رفع الإسلام من شأن سلمان الفارسی الأصل حتی غدا ینسب إلی أهل بیت

ص:338


1- (1) أنظر: تاریخ الکوفة, السید البراقی, ص 381. وأعیان الشیعة, السید محسن الأمین, ج 7 ص 115.

العصمة فقال صلی الله علیه و آله:

سلمان منا أهل البیت(1) ، ووضع الإسلام أبا لهب العربی الأصل والقرشی النسب، وهو عم النبی حتی غدا من أشد الناس عداوة لله ولرسوله، ونزل فیه قرآن یتلی, قوله تعالی:(تَبَّتْ یَدا أَبِی لَهَبٍ وَ تَبَّ * ما أَغْنی عَنْهُ مالُهُ وَ ما کَسَبَ * سَیَصْلی ناراً ذاتَ لَهَبٍ)2 .

وقد اتخذ هذا المنهج القویم صوراً وأشکالاً مختلفة، لتثبیت هذه القاعدة، حتی تکون هی المنطلق والأساس فی تقییم الأشخاص، وسعی سعیاً حثیثاً بالقول تارة، وبالفعل أخری، لبیان أن الإنسان لا یقعد به نسبه، ولا یعیقه عنصره، أو صنفه، عن تسنم أرفع الدرجات، إذا کانت علی وفق ما یرید الله ورسوله, کما فی قوله تعالی:(رَبُّهُمْ أَنِّی لا أُضِیعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْکُمْ مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثی بَعْضُکُمْ مِنْ بَعْضٍ)3 . ولم یکن الأمر یقتصر علی القضایا الرئیسیة ذات الأهمیة القصوی، بل کانت تشمل الشؤون الجانبیة الأخری، فما کان النبی یفاضل بین أحد من المسلمین فی العطاء - مثلاً -، وکان یری أن المال مال الله والناس عباد الله، وهکذا کان أمیر المؤمنین علیه السلام الذی أتخذ هذه السیرة النبویة منهاجاً له، یقتفی خطی النبی فی تطبیقها علی المسلمین معتبراً نفسه واحداً منهم، وأنهم جمیعاً أخوة فی الدین، حتی أصبح هذا المبدأ أحد الأسس التی مهدت السبیل أمام کثیر من الناس للالتحاق بهذا الدین والسیر فی رکابه.

ص:339


1- (1) شرح أصول الکافی, صالح المازندرانی, ج 7 ص 7.

روی الکلینی بسنده عن حنان، قال: سمعت أبی یروی عن أبی جعفر علیه السلام قال: کان سلمان جالساً مع نفر من قریش فی المسجد، فأقبلوا ینتسبون، ویرفعون فی أنسابهم حتی بلغوا سلمان، فقال له عمر بن الخطاب: أخبرنی من أنت؟ ومن أبوک؟ وما أصلک؟ فقال: أنا سلمان بن عبد الله، کنت ضالاً فهدانی الله عز وجل بمحمدٍ، وکنت عائلاً فأغنانی الله بمحمدٍ، وکنت مملوکاً فأعتقنی الله بمحمدٍ، هذا نسبی، وهذا حسبی، قال: فخرج النبی وسلمان (رضی الله عنه) یکلمهم، فقال له سلمان: یا رسول الله ما لقیت من هؤلاء، جلست معهم فأخذوا ینتسبون، ویرفعون فی أنسابهم حتی إذا بلغوا إلی قال عمر بن الخطاب: من أنت؟ وما أصلک؟ وما حسبک؟ فقال النبی: فما قلت له یا سلمان؟ قال: قلت له: أنا سلمان بن عبد الله، کنت ضالاً فهدانی الله عز ذکره بمحمدٍ، وکنت عائلاً فأغنانی الله عز ذکره بمحمدٍ، وکنت مملوکاً فأعتقنی الله عز ذکره بمحمدٍ، هذا نسبی، وهذا حسبی، فقال رسول الله: یا معشر قریش إن حسب الرجل دینه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، قال الله عز وجل:(إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ)1 ثم قال النبی صلی الله علیه و آله لسلمان: لیس لأحد من هؤلاء علیک فضل إلا بتقوی الله عز وجل، وإن کانت التقوی لک علیهم فأنت أفضل(1).

ولو أن هذا المبدأ أخذ مجراه کما أراد الله تعالی ورسوله، وکما سعی أمیر

ص:340


1- (2) الکافی, الکلینی, ج 8 ص 181.

المؤمنین علیه السلام وأبناؤه المعصومون علیهم السلام لتطبیقه، لما احتجنا إلی حروب الفتوحات التی یعتبرها البعض إحدی إنجازات الإسلام الکبری. وما یدرینا فلعل ما یحیق بالمسلمین من خصومهم من الکید والعدوان إنما هو عمل انتقامی واقتصاص مما جری فی سالف الزمان من حروب الفتوحات إذ ترکت حقداً دفیناً تتوارثه الأجیال، حتی إذا أمکنتهم الفرصة للانتقام شنوا حروباً لا هوادة فیها علی الدین والأخلاق وبأسالیب مختلفة. وکانت هذه السیاسة طامة کبری حرفت مسار الإسلام عن طریقه المستقیم، وأصبح الذین یرون أنفسهم من سادة القوم أن الاقتران بالجواری عارٌ لا یلیق بالأشراف. ویدل علی ذلک ما ورد من معاتبة عبد الملک بن مروان للإمام زین العابدین علیه السلام، واعتراضه علیه حین تزوج بإحدی الجواری، فقد روی الکلینی بسنده عن یزید بن حاتم، قال: کان لعبد الملک بن مروان عین بالمدینة یکتب إلیه بأخبار ما یحدث فیها، وإن علی بن الحسین علیه السلام أعتق جاریة ثم تزوجها، فکتب العین إلی عبد الملک، فکتب عبد الملک إلی علی ابن الحسین علیه السلام: أما بعد، فقد بلغنی تزویجک مولاتک، وقد علمت أنّه کان فی أکفائک من قریش من تمجد به فی الصهر، وتستنجبه فی الولد، فلا لنفسک نظرت، ولا علی ولدک أبقیت، والسلام. فکتب إلیه علی بن الحسین علیه السلام أما بعد، فقد بلغنی کتابک تعنفنی بتزویجی مولاتی، وتزعم أنّه کان فی نساء قریش من أتمجد به فی الصهر، واستنجبه فی الولد، وأنه لیس فوق رسول الله مرتقی فی مجد ولا مستزاد فی کرم، وإنما کانت ملک یمینی خرجت متی أراد الله عز وجل منی بأمر التمس به ثوابه، ثم ارتجعتها علی سنته، ومن کان زکیا فی دین الله فلیس

ص:341

یخل به شیء من أمره، وقد رفع الله بالإسلام الخسیسة، وتمم به النقیصة، وأذهب به اللؤم فلا لؤم علی امرءٍ مسلم، وإنما اللؤم لؤم الجاهلیة، والسلام. فلما قرأ الکتاب رمی به إلی ابنه سلیمان، فقرأه فقال: یا أمیر المؤمنین لشد ما فخر علیک علی بن الحسین علیه السلام، فقال: یا بنی لا تقل ذلک، فإنّه ألسن بنی هاشم التی تفلق الصخر، وتغرف من بحر، إن علی بن الحسین علیه السلام یا بنی یرتفع من حیث یتضع الناس(1). وفی روایة أخری عندما أعتق الإمام السجاد علیه السلام جاریة له وتزوجها, کتب إلیه عبد الملک بن مروان یعیره بذلک, فکتب إلیه الإمام علیه السلام قد کان لکم فی رسول الله أسوة حسنة قد أعتق رسول الله صلی الله علیه و آله صفیة بنت حیی وتزوجها وأعتق زید بن حارثة وزوجه ابنة عمته زینب بنت جحش(2). وعرض بعض المحققین صوراً من هذه السیاسة الهوجاء التی اتبعها الحکام فی احتقار کل من هو غیر عربی فقال: لقد أمر الحجاج أن لا یؤم فی الکوفة إلا عربی، وقال لرجل من أهل الکوفة: لا یصلح للقضاء إلا عربی. کما طرد غیر العرب من البصرة والبلاد المجاورة لها، واجتمعوا یندبون: وا محمدا و أحمدا، ولا یعرفون أین یذهبون، ولا عجب أن تری أهل البصرة یلحقون بهم ویشترکون معهم فی نعی ما نزل بهم من حیف وظلم, بل لقد قالوا: لا یقطع الصلاة إلا حمار، أو کلب، أو مولی. وقد أراد معاویة أن یقتل شطراً من الموالی عندما رآهم کثروا، فنهاه الأحنف عن ذلک. وتزوج رجل من الموالی بنتاً من أعراب بنی سلیم، فرکب محمد بن بشیر الخارجی إلی المدینة، ووالیها یومئذٍ إبراهیم بن هشام بن

ص:342


1- (1) الکافی, الکلینی, ج 5 ص 345.
2- (2) راجع: الطبقات الکبری, محمد بن سعد, ج 5 ص 214.

إسماعیل، فشکی إلیه ذلک، فأرسل الوالی إلی المولی، ففرق بینه وبین زوجته، وضربه مائتی سوط، وحلق رأسه وحاجبه ولحیته، فقال محمد بن بشیر فی جملة أبیات له:

قضیت بسنة وحکمت عدلا ولم ترث الخلافة من بعید

ولم تفشل ثورة المختار إلا لأنه استعان فیها بغیر العرب، فتفرق العرب عنه لذلک. ویقول أبو الفرج الأصفهانی: کان العرب إلی أن جاءت الدولة العباسیة إذا جاء العربی من السوق ومعه شیء ورأی مولی دفعه إلیه فلا یمتنع. بل کان لا یلی الخلافة أحد من أبناء المولدین الذین ولدوا من امَّهات أعجمیات(1).

وذکر أحمد أمین فی کتابه ضحی الإسلام قوله: الحق أن الحکم الأموی لم یکن حکماً إسلامیاً یسوی فیه بین الناس، ویکافئ المحسن عربیاً کان أو مولی ویعاقب المجرم عربیاً کان أو مولی، وإنّما الحکم فیه عربی، والحکام خدمة للعرب، وکانت تسود العرب فیه النزعة الجاهلیة لا النزعة الإسلامیة(2). ولما کان أهل البیت علیهم السلام هم أئمة الدین، أرادوا إظهار فساد هذه السیاسة بإجراء عملی، وبدأوا بأنفسهم، وهم وإن لم یعطوا الفرصة لیمارسوا دورهم فی تطبیق تعالیم الدین إلا أنهم لا یتخلون عن أداء وظیفتهم مهما أمکن، لذلک اختاروا امَّهات الأولاد الجواری - مع ملاحظة سائر الشرائط - لیثبتوا أن لا فرق بین أحد من الناس، وأن ما وضع من الامتیازات لبعض دون بعض لم تکن بحسب المقاییس

ص:343


1- (1) راجع: حیاة الإمام الرضا علیه السلام السید جعفر المرتضی, ص 27.
2- (2) ضحی الإسلام, ج 1 ص 187.

الإلهیة، وإذا کانت الظروف قد قهرت بعض أولئک النسوة فأصبحن یبعن فی أسواق الرقیق فلا یعنی ذلک أنهن خالیات من الشرف والفضیلة، بل قد یکون العکس صحیحاً، فرب جاریة أحاطتها العنایة الإلهیة لتکون قرینة للعصمة وأمّاً للمعصوم، وهذا ما حدث بالنسبة إلی امَّهات بعض الأئمة علیهم السلام. ولا یقاس بعد ذلک فضل هذه الجواری والإماء اللاتی أصبحن أوعیة لحمل الإمامة بأی امرأة أخری ممن لم تحظ بهذا الشرف العظیم, وإن کانت من أرقی البیوتات العربیة بحسب الظاهر.

الثالث: الإسلام لکل الناس

اشارة

إن مما لا شک فیه أنّ رسالة النبی المصطفی صلی الله علیه و آله هی الخاتمة الناسخة لجمیع الرسالات السابقة وهی الشاملة لکافة البشر، فلا دین بعد دین الإسلام،(إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ)1 ولا نبی بعد النبی محمد صلی الله علیه و آله، وإلی أن یرث الله الأرض ومن علیها, وذلک من البدیهیات المسلمة التی لا مجال للنزاع فیها، وأیدت ذلک الأدلة والبراهین.

وقد اقتضت الحکمة الإلهیة أن یبقی هذا الدین محفوظاً وإن رحل النبی إلی الرفیق الأعلی، وقد أوکلت مهمة حفظ الدین إلی ذریة النبی صلی الله علیه و آله وعترته، وهم وراث علمه ومقامه الأئمة الإثنا عشر أولهم أمیر المؤمنین علیه السلام، وآخرهم الحجة بن الحسن العسکری علیه السلام، وعلی ذلک قامت الأدلة والبراهین أیضا.

ص:344

ونتیجة ذلک أنه کما أن نبوة النبی عامة شاملة، فکذلک إمامة الأئمة علیهم السلام عامة وشاملة، ومعنی ذلک أن إمامة الأئمة علیهم السلام لیست مقتصرة علی مجتمع معین أو عنصر معین، أو فئة من الناس معینة، فکما أن النبی بعث للأبیض والأسود علی السواء، فکذلک إمامة الأئمة علیهم السلام لکافة الناس.

ومن هنا یتضح لنا وجه آخر فی اقتران بعض الأئمة بنساء غیر عربیات, بل من قومیات أخری کالفارسیة أو الرومیة أو غیرهما، کما أوردت الروایات الدالة علی ذلک. فإن أم الإمام السجاد علیه السلام کانت من أصل فارسی، وکانت أم الإمام الکاظم علیه السلام من أشراف الأعاجم، وکانت أم الإمام الرضا علیه السلام من أهل المغرب، وکانت أم الإمام الجواد علیه السلام من أهل النوبة من قبیلة ماریة القبطیة أم إبراهیم ابن رسول الله، وکانت أفضل نساء زمانها، وأشار إلیها رسول الله بقوله: بأبی ابن خیر الإماء النوبیة الطیبة، وکانت أم الإمام الهادی علیه السلام مغربیة، ولم یکن لها مثیل فی الزهد والتقوی، وکانت أم الإمام الحسن العسکری فی بلدها من الأشراف فی مصاف الملوک، وکانت أم الإمام الحجة بنت قیصر ملک الروم، وأمها من ولد الحواریین، وتنسب إلی وصی المسیح شمعون کما سیأتی کل ذلک مفصلا فی محله.

والذی نود أن نشیر إلیه فی هذا الوجه أن الإمامة لما کانت عامة وأن الإمام إمام لکل الناس علی شتی اختلاف أعراقهم وأصولهم انحدر بعض الأئمة من جهة امَّهاتهم من أصول غیر عربیة لیکون ذلک علامة بارزة علی عالمیة إمامتهم، وشمولها لجمیع أهل الأرض، وأن لکل من السلالات البشریة طرفاً یوصلها بهذا

ص:345

الدین الإلهی العظیم، وتلک حکمة بالغة ولطف عام لکل البشر، وأما العروبة فلیس لها خصوصیة فی حد ذاتها من حیث هی وإنما المدار فی الأول والأخیر التقوی.

احتمال یفرض نفسه

ولعل هناک سرّاً آخر ینطوی تحت هذا الوجه قد تکشف عنه الأیام, نورده کاحتمال لیس إلا، إذ لا نملک دلیلاً قاطعاً علیه، وإن کان فی نفسه غیر بعید.

وحاصله: أنّ الإمام المهدی الموعود به علی لسان النبی صلی الله علیه و آله، ونطق بذلک القرآن الکریم، وأکدت علیه الروایات المتواترة عن أهل البیت علیهم السلام سیکون له الشأن العظیم فی إعلاء کلمة الله تعالی، وسیملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً، وسیقوم بأداء مهمته فی أغلب أحواله بشکل طبیعی، وإن کان یأتی بالمعجزة والکرامة تأییداً من الله تعالی، ولا شک أن تلک مهمة شاقة کما شرحتها الروایات والآیات.

وإذا کانت أم الإمام المهدی علیه السلام تنحدر من سلالة أحد أوصیاء عیسی ابن مریم علیهماالسلام فما یدرینا: لعل فی ذلک تمهیداً وتسهیلاً لإنجاز مهمة الإمام علیه السلام فی خضوع النصاری والکفار وتسلیمهم له نظراً إلی أن أجداده لأمه منهم، فیحرک فی نفوسهم الجانب العاطفی للرحم القائمة بینه وبینهم، الأمر الذی یختصر علیه کثیراً من الأمور وینجزها فی سهولة ویسر. علی أن ذلک أحد أسباب اللطف العام بأولئک النصاری حیث یکونون علی مقربة من الهدایة والنجاة.

ص:346

أنا ابن الخیرتین

اشارة

یکشف الإمام السجاد علیه السلام عن أصالة نسبه من الطرفین کما روی عنه علیه السلام أنّه کان یقول أنا ابن الخیرتین, یعنی جده محمداً صلی الله علیه و آله وعلیاً علیه السلام وکسری, فهو ابن خیرة العرب والعجم(1). ولم یقل ذلک للبذخ والفخر ولکن بیاناً للواقع, وکأنه نظر إلی قول جده رسول الله صلی الله علیه و آله کما جاء فی المناقب وغیره:

إنّ لله من عباده خیرتین فخیرته من العرب قریش، ومن العجم فارس(2). ولقد أحسن أبو الأسود الدؤلی بقوله:

وإنّ ولیداً بین کسری وهاشم لأکرم من نیطت علیه التمائم

وروی أن أمیر المؤمنین علیه السلام قال للحسین علیه السلام: یا أبا عبد الله لتلدن لک منها خیر أهل الأرض، فولدت علی بن الحسین علیه السلام وکان یقال لعلی بن الحسین علیه السلام: ابن الخیرتین، فخیرة الله من العرب هاشم، ومن العجم فارس(3).

ولو لم تکن أمه علیه السلام بهذا المستوی من الفخر والسمو لکانت مندوحة لیزید ابن معاویة فی توهین وذم الإمام السجاد علیه السلام لاسیما فی المساجلات التی دارت بینهم فی الشام, وعادة الأعداء یتربصون الثغرات کیف ما کانت للنیل من الطرف الآخر, وقد لاحظنا کیف کان توهین هشام بن عبد الملک لزید بن علی علیه السلام, حیث قال له إنّک ابن أمة کیف تروم الی الخلافة, فلم یذکر لنا التاریخ أن عُیّر الإمام

ص:347


1- (1) راجع: المصدر نفسه.
2- (2) مناقب آل أبی طالب, ابن شهر آشوب, ج 3 ص 305.
3- (3) راجع: الکافی, الکلینی, ج 1 ص 467.

السجاد علیه السلام بسبب أمّه لا من یزید ولا من غیره فهذا یعبر بلا ریب من أنّ أمه علیه السلام من النساء العارفات الفاضلات ذات المکانة العالیة فی جمیع الأصعدة, وقد کشف عن ذلک المعصوم الذی ینطق عن واقعٍ لا یشوبه أدنی شک بقوله أنا ابن الخیرتین.

من کلام المغرضین

ذکروا أن من أسباب دخول الفرس للتشیع إصهار الحسین علیه السلام إلی الفرس؛ لأنّه تزوج ابنة یزدجرد وهو أحد الملوک الساسانیین واسمها شاه زنان فولدت له علی بن الحسین الذی اجتمعت فیه الخواص الوراثیة للأکاسرة وخواص الإمامة من آبائه کما یقول صاحب تاریخ الإسلام: إن زواج الحسین بن علی بشهر بانواه إحدی بنات یزدجرد آخر ملوک الأسرة الساسانیة، وان الفرس کانوا یرون فی أولاد الحسین وارثین لملوکهم الأقدمین، وهذا الشعور الوطنی یفسّر تعلق الفرس بعلی من جهة وظهور المذهب الشیعی من جهة أخری(1).

وفی ذلک تقول سمیرة اللیثی معقبة علی رأی أرنولد توینبی فی انتشار الإسلام بین الفرس, الذی أدی إلی انتشار الإسلام هو زواج الحسین من شاه بانو إحدی بنات یزدرجرد وقد رأی الفرس فی أولاد شاه بانو والحسین وارثین لملوکهم الأقدمین(2).

فزواج الحسین علی رأی هؤلاء أحد العوامل التی أدت إلی انتشار التشیع لأهل البیت علیهم السلام عند الفرس.

ص:348


1- (1) تاریخ الإسلام, لحسن إبراهیم, ج 1 ص 222.
2- (2) الزندقة والشعوبیة, ص 56.

والجواب علیه

إنّ من القواعد المسلم بها أنّ حکم الأمثال فیما یجوز أو لا یجوز واحد، وبناء علی هذا فإنّ العلة التی ذکرها هؤلاء فی اعتناق التشیع من قبل الفرس وهی إصهار الحسین علیه السلام للفرس موجودة عند عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعند محمد بن أبی بکر، فقد تقدم أنّ الصحابة لما جاؤوا بسبی فارس فی خلافة الخلیفة الثانی کان فیهم ثلاث بنات لیزدجرد فأخذهن علی, فدفع واحدة لعبد الله بن عمر, وأخری لولده الحسین, وأخری لمحمد بن أبی بکر، فأولد عبد الله بن عمر ولده سالماً، وأولد الحسین زین العابدین, وأولد محمد ولده القاسم, فهؤلاء أولاد خالة واُمَّهاتهم بنات یزدجرد(1).

وهنا نسأل إذا کانت العلة فی دخول الفرس للتشیع هی مصاهرة الحسین علیه السلام للفرس فلماذا لا تطرد هذه العلة فیتسنن الفرس لاصهار عبد الله بن عمر لهم ومحمد بن أبی بکر کذلک؟ مع أن العلة هنا أقوی وآکد حیث یجتمع اثنان بالاصهار ولیس واحداً کما هی فی الحسین علیه السلام, وکل من محمد وعبد الله أبناء خلیفة کما کان الحسین ابن خلیفة. بالإضافة لذلک إن کلاً من یزید بن الولید ابن عبد الملک وأمه شاه فرند بنت فیروز بن یزدجرد ومروان بن محمد آخر خلفاء بنی أمیة أمه أم ولد من کرد إیران فلماذا لا تطرد العلة هنا أیضاً وبالعکس لماذا لا یمیل العرب السنة لأهل البیت الذین امَّهاتهم عربیة فی حین نجد قسماً من العرب یبغض أهل البیت کالنواصب مثلا(2).

ص:349


1- (1) وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان, ابن خلکان, ج 3 ص 267. تاریخ المذاهب الإسلامیة ج 1 ص 40.
2- (2) انظر: هویة التشیع, الشیخ أحمد الوائلی, ص 76.

مأساتها فی کربلاء

ذکر بعض المؤرخین أنّ السیدة شهر بانویه کانت حاضرة فی معرکة کربلاء مع زوجها الحسین علیه السلام وأهل بیته, فقد ورد فی کلام طویل عن حال خروج الحسین علیه السلام وأهل بیته إلی کربلاء, إلی قوله... ثم خرج شاب آخر وهو یقول: تنحوا عنی یا بنی هاشم, تنحوا عن حرم أبی عبد الله علیه السلام، فتنحی عنه بنو هاشم، وإذا قد خرجت امرأة من الدار وعلیها آثار الملوک، وهی تمشی علی سکینة ووقار، وقد حفت بها إماؤها، فسألت عنها؟ فقیل لی: أما الشاب فهو زین العابدین ابن الإمام الحسین علیهماالسلام، وأما ألامرأة فهی أمه شاه زنان بنت الملک کسری, زوجة الإمام الحسین علیه السلام، فأتی بها وأرکبها علی المحمل، ثم ارکبوا بقیة الحرم والأطفال علی المحامل(1).

وأیضا التقطت لنا عدسة التأریخ ذکرها فی کربلاء فی حال براز بنی هاشم الی القتال حیث قال: وخرج غلام من خباء من أخبیة الحسین علیه السلام وفی اذنیه درتان فاخذ بعود من عیدانه وهو مذعور فجعل یلتفت یمیناً وشمالاً وقرطاه یتذبذبان فحمل علیه هانی بن ثبیت الحضرمی فضربه بالسیف فقتله, فصارت أمّه شهر بانویه تنظر إلیه ولا تتکلم کالمدهوشة(2).

کما وجاء فی المناقب عن ابن آشوب قال: ثم تقدم علی بن الحسین

ص:350


1- (1) أنظر: موسوعة کلمات الإمام الحسین علیه السلام, لجنة الحدیث فی معهد باقر العلوم علیه السلام ص 362.
2- (2) أنظر: لواعج الأشجان, السید محسن الأمین, ص 181.

الأکبر علیه السلام وهو ابن ثمان عشرة سنة، ویقال ابن خمس وعشرین، وکان یشبه رسول صلی الله علیه و آله خَلقاً وخُلقاً ونطقاً وجعل یرتجز... الی أن قال: فطعنه مرة بن منقذ العبدی علی ظهره غدراً فضربوه بالسیف، فقال الحسین: علی الدنیا بعدک العفا، وضمه إلی صدره وأتی به إلی باب الفسطاط، فصارت أمه شهر بانویه وهی تنظر إلیه ولا تتکلم، فبقی الحسین وحیداً وفی حجره علی الأصغر فرمی إلیه بسهم فأصاب حلقه، فجعل الحسین یأخذ الدم من نحره فیرمیه إلی السماء فما یرجع منه شیء... الخ(1).

ومن هنا نلاحظ أنّ بعض المحققین المعاصرین اتخذ من هذا النص التاریخی شاهداً علی جهاد الإمام السجاد علیه السلام فی کربلاء بین یدی والده علیه السلام, حیث قال: من المعلوم أنّ أم علی الشهید هی لیلی العامریة أو برة بنت عروة الثقفی (کما یراه ابن شهر آشوب) والمعروف أن (شهر بانویه) هی أم علی بن الحسین علیه السلام، فلابد أن یکون قد سقط من عبارة مناقب شهرآشوب ذکر مبارزة علی بن الحسین السجاد علیه السلام، وبهذا یکون شاهداً علی ما نحن بصدده.

(قال) ومن المحتمل أن تکون العبارة مقدمة علی موضعها فی مقتل علی الأصغر الذی ذکره ابن شهرآشوب بعد هذا النص المنقول، لأن ابن شهرآشوب ذکر أن أُم علی السجاد هی أم علی الأصغر شهربانو رضی الله عنها(2).

فعلی هذا أنّ السیدة شهر بانویه شاهدت المآسی والآلام سواء فی أحداث

ص:351


1- (1) أنظر: مناقب آل أبی طالب, ابن شهر آشوب, ج 3 ص 257.
2- (2) أنظر: جهاد الإمام السجاد ع, السید محمد رضا الجلالی, ص 43.

الطف من استشهاد زوجها الحسین علیه السلام وأهل بیته وأصحابه وما جری علیها من ترویع وعطش وما إلیه, أم فی حال سبیها مع ابنها السجاد علیه السلام من بلد الی بلد وإدخالها فی مجلس الی مجلس ولا تُعرف عاقبة مصیرهم, مع رؤیتها ابنها فی حالٍ یرثی له وهو یُؤمر بقتله بین حین وآخر, وهذا مما لا یقل مأساة عن أحداث الطف وما جری فیه.

زمان وفاتها

لم نلحظ اهتماماً فی تتبع سیرتها ومزایاها من قبل المؤرخین وأصحاب السیر إلا من القلائل لاسیما من بعض المحدثین, لذلک حصل اختلاف وخلط فی تحدید زمان وفاتها علیهاالسلام, فمنهم ذکروا أنّها علیهاالسلام توفیت قبل واقعة الطف, بل فی حال نفاسها بالإمام السجاد علیه السلام, کما جاء فی العیون عن سهل بن القاسم النوشجانی، قال: قال لی الرضا علیه السلام بخراسان: إنّ بیننا وبینکم نسباً، قلت: وما هو أیها الأمیر؟ قال: إن عبد الله بن عامر بن کریز لما افتتح خراسان أصاب ابنتین لیزدجر بن شهریار ملک الأعاجم فبعث بهما إلی عثمان بن عفان فوهب إحدیهما للحسن علیه السلام والأخری للحسین علیه السلام فماتتا عندهما نفساوین وکانت صاحبة الحسین علیه السلام نفست بعلی بن الحسین علیهماالسلام فکفل علیٌّ علیه السلام بعض امَّهات ولد أبیه فنشأ وهو لا یعرف أُمّاً غیرها, ثم علم أنّها مولاته فکان الناس یسمونها أمه وزعموا أنّه زوج أمه ومعاذ الله إنما زوج هذه علی ما ذکرناه وکان سبب ذلک أنه واقع بعض نسائه ثم خرج یغتسل فلقیته أمه هذه فقال: لها إن کان فی نفسک من هذا الأمر شیء فاتقی وأعلمینی فقالت: نعم فزوجها فقال الناس زوج علی بن

ص:352

الحسین علیه السلام أمّه. وقال لی عون قال لی سهل بن القاسم: ما بقی طالبی عندنا إلا کتب عنی هذا الحدیث عن الرضا علیه السلام(1).

وأمّا الروایات التی تدل علی اهتمام الإمام السجاد علیه السلام فی برّ أمّه (کما سیأتی ذکرها) فالمراد من أمّه - هنا - أم ولد کانت تحضنه فکان یسمیها أمّاً، وأمّا أمّه شهر بانویه فقد توفیت فی نفاسها به کما تقدم، فکفلته بعض امَّهات ولد أبیه، فنشأ لا یعرف أمّاً غیرها، ثم علم أنّها مولاته وکان الناس یسمونها أمه.

وعلیه یکون زمان وفاة السیدة شهر بانو معلوم علی هذا القول من خلال ولادة الإمام السجاد علیه السلام, فقد ولد علیه السلام فی المدینة أو الکوفة فی الخامس من شعبان سنة ست أو سبع أو ثمان وثلاثین, فکما یکون هذا الیوم أو الأیام القریبة منه تاریخ لولادة الإمام السجاد علیه السلام فکذلک یکون تاریخ لرحیل أمّه السیدة شهر بانو.

ولکن منهم قال إنّها بقیت حیة وشهدت أحداث عاشوراء, کما جاء فی الأخبار التی تقدم ذکرها فی حضورها کربلاء, بالإضافة إلی الروایات التی کانت تبین لنا حال احترام وبرّ الإمام السجاد علیه السلام لأمّه.

منها: ما روی أنه قیل له علیه السلام: إنک أبر الناس وأوصلهم إلی الرحم فکیف لا تؤاکل أمک؟ قال: إنّی أکره أن تسبق یدی إلی ما سبقت عینها إلیه فأکون عاقا لها(2).

وفی روایة وکان ابنها شدید البر بها, کما ذکره أبو العباس الفاضل الحافظ

ص:353


1- (1) عیون أخبار الرضا علیه السلام, الشیخ الصدوق, ج 1 ص 135.
2- (2) الخصال, الشیخ الصدوق, ص 518.

یرفعه، قال: ما أکل علی بن الحسین علیه السلام مع أمّه فاکهة إلا وهی مغطاة خشیة أن تمتد یده إلی ما مدت إلیه عینها(1).

محل قبرها

لم یذکر التأریخ لنا مکان قبرها, ولکن یمکن أن نثبت ذلک من خلال ولادتها للإمام زین العابدین علی القول فی أنّها ماتت فی نفاسها به علیه السلام فإذا کانت قد ولدته فی المدینة کما هو المشهور فلا ریب من أنّ یکون قبرها بالمدینة فی البقیع, أما لو قلنا ولدته فی الکوفة وذلک لأنّه ولد فی أواخر حیاة جده أمیر المؤمنین وقد عاصره سنتین ومع أنّ الأمام کان فی الکوفة بعدما تحولت العاصمة الإسلامیة من المدینة إلی الکوفة وکان الخلیفة آنذاک وقد کان الحسن والحسین علیهما السلام معه کما هو ثابت, ولم یوجد خبر أن الحسین علیه السلام ذهب إلی المدینة أو استقر هناک, فعلیه یکون قبرها بالکوفة؛ لأنّ ولادة الإمام زین العابدین علیه السلام فی الکوفة وهی ماتت فی حال نفاسها به کما تقدم, وأمّا علی القول الثانی من أنّها ماتت بعد أحداث الطف, فأیضاً یکون أقرب الأقوال من أنّ قبرها فی المدینة؛ لأنّها بقیت مع ابنها السجاد علیه السلام وهو لم یفارق مدینة جده, بل استقر فیها إلی أن وافاه الأجل وقد دفن فیها.

ولکن هناک قول ثالث ضعیف تعارف علیه الناس إلی زماننا هذا من أنّ قبرها فی طهران عاصمة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة ولها مزار یقصده الناس وتطلب حوائجها وهو إلی الیوم معلوم لقاطنیها, ولکن لم نعثر علی دلیل یثبت

ص:354


1- (1) المجدی فی أنساب الطالبین, علی بن محمد العلوی, ص 93.

ذلک لا من التاریخ ولا من غیره, إلا أنّ الناس یقولون هذا قبر أُمّ الإمام زین العابدین علیه السلام والله العالم, نعم قد ذکر البعض أنّ جماعة تعتقد أنّ السیدة شهربانو بقیت علی قید الحیاة إلی ما بعد أحداث کربلاء سنة (60) للهجرة ومن ثم جاءت نحو إیران وفیها توفیت ودفنت قریب من شهر ری(1).

السجاد یزوج حاضنته

کان الإمام السجاد علیه السلام یدعو خدمه کل شهر ویقول: إنی قد کبرت ولا أقدر علی النساء فمن أراد منکن التزویج زوجتها، أو البیع بعتها، أو العتق أعتقتها، فإذا قالت إحداهن: لا، قال: اللهم اشهد حتی یقول ثلاثاً، وإن سکتت واحدة منهن قال لنسائه: سلوها ما ترید، وعمل علی مرادها(2). ومن جملة هذه النسوة حاضنته التی کان الناس یسمونها أمه حتی زعموا أنّه زوج أمه, أو التی کانت ترعاه وتخدمه بشکل مباشر حتی عرفت کأمّه, هذا مع غض النظر عن صحة وثبوت هذه القصة, وکان سبب تزویج حاضنته أنّه واقع بعض نسائه ثم خرج یغتسل فلقیته أمة (حاضنته) هذه فقال: لها إن کان فی نفسک من هذا الأمر شیء فاتقی وأعلمینی فقالت: نعم فزوجها فقال الناس زوج علی بن الحسین علیه السلام أمّه حتی أن بعض ملوک بنی أمیة (عبد الملک بن مروان) أرسل إلیه یعاتبه فی ذلک، ولم تکن أمّه إنما کانت حاضنته. ولم یکن أهل المدینة یرغبون فی نکاح الجواری حتی ولد علی بن الحسین فرغبوا فیهن.

ص:355


1- (1) أنظر: مادران جهارده معصوم علیهم السلام, أحمد أمیر بور, ص 163.
2- (2) الأنوار البهیة, الشیخ عباس القمی, ص 116.

من أزواج الحسین علیه السلام

1 - لیلی (أم علی الأکبر)

اشارة

لیلی بنت عروة بن مسعود بن معتب بن مالک بن کعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقیف. یکنی بأبی مرة. فعروة بن مسعود الثقفی زعیم من زعماء العرب وسید ممن ساد قومه فأحسن السیادة, وهو رابع من أربعة من العرب سادوا قومهم, کما ورد ذلک عن النبی صلی الله علیه و آله فی قوله: «أربعة سادة فی الإسلام: بشر ابن هلال، وعدی بن حاتم، وسراقة المدلجی، وعروة بن مسعود الثقفی(1). وهو أحد الرجلین العظیمین الذی قالت قریش فیهما, حیث بالغوا به وتطرفوا إذ عظّموه تعظیماً علی حساب النبی صلی الله علیه و آله لیجعلوا منه شخصیة تضاهی النبی الأعظم کما حکی القرآن عن ذلک بقوله:(وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلی رَجُلٍ مِنَ الْقَرْیَتَیْنِ عَظِیمٍ)2 , والقریتان هما مکة والطائف.

نعم کان شخصیة مرموقة لکن أبی أن یکون انتهازیاً کغیره من المرتزقة, بل کان شجاعاً وجریئاً وقد صمم علی أن یدعو قومه للإسلام بعدما أسلم وأحسن علی ید الرسول صلی الله علیه و آله عندما اتبع أثره من الطائف وأدرکه قبل دخوله مکة فقد ذکروا: «لما انصرف رسول الله صلی الله علیه وسلم من الطائف اتبع أثره عروة بن مسعود بن معتب حتی أدرکه قبل أن یصل إلی المدینة فأسلم وسأل رسول الله صلی الله علیه وسلم أن یرجع إلی قومه بالإسلام فقال له رسول الله صلی الله علیه

ص:356


1- (1) میزان الاعتدال, الذهبی, ج 2 ص 422.

وسلم إن فعلت فإنهم قاتلوک فقال یا رسول الله أنا أحب إلیهم من أبصارهم وکان فیهم محبباً مطاعاً فخرج یدعو قومه إلی الإسلام فاظهر دینه رجاء ألا یخالفوه لمنزلته فیهم فلما أشرف علی قومه وقد دعاهم إلی دینه رموه بالنبل من کل وجه فأصابه سهم فقتله(1).

وفی لفظ آخر: أنّه رضی الله تعالی عنه قدم الطائف عشاءً فجاءته ثقیف یسلمون علیه فدعاهم إلی الإسلام نصح لهم فعصوه وأسمعوه من الأذی ما لم یکن یغشاه منهم فخرجوا من عنده حتی إذا کان السحر وطلع الفجر قام علی غرفة فی داره وتشهد فرماه رجل من ثقیف بسهم فقتله, فقیل له قبل أن یموت ما تری فی دمک فقال کرامة أکرمنی الله بها وشهادة ساقها الله إلی فلیس فیّ إلا ما فی الشهداء الذین قتلوا مع رسول الله صلی الله علیه وسلم قبل أنّ یرتحل عنکم فادفنونی معهم فدفنوه معهم(2).

وقد قال فی حقه النبی صلی الله علیه و آله: إنّ مثله فی قومه کمثل صاحب یس فی قومه(3). حیث دعی قومه إلی الله فقتلوه, فهنا ذکر النبی صلی الله علیه و آله حسن عاقبته وخاتمة مطافه إلی الحق تعالی.

کما قد شبَّهه صلی الله علیه و آله بالمسیح ابن مریم علیه السلام فی صورته حیث قال صلی الله علیه و آله: عرض علیّ الأنبیاء علیهم السلام فإذا موسی ضرب من الرجال کأنه من رجال شنوءة ورأیت عیسی ابن مریم فإذا أقرب من رأیت به شبهاً عروة بن مسعود ورأیت

ص:357


1- (1) راجع: الاستیعاب, ابن عبد البر ج 3 ص 1066.
2- (2) راجع: السیرة الحلبیة, الحلبی, ج 3 ص 241.
3- (3) راجع: السیرة النبویة, ابن کثیر, ج 4 ص 54.

إبراهیم علیه السلام فإذا أقرب من رأیت به شبهاً صاحبکم یعنی نفسه صلی الله علیه و آله(1).

وأمّا أمها: فهی میمونة بنت أبی سفیان صخر بن حرب ابن أمیة, أی أنّ أبا سفیان یُعد جداً للیلی, ولکن شوائب أمیة لم تمس من لیلی أو تؤثر فیها, فهی من سلالة الأمجاد والمکارم من آل مسعود, فقد ترک أبوها فی نفسها آثار الهدی والإیمان والاستقامة علی الدین الحنیف إلی أن أصبحت عضواً ممیزاً فی العائلة الهاشمیة.

وقد ولدت لیلی للإمام الحسین علیه السلام علیاً الأکبر أول شهید من بنی هاشم یوم عاشوراء, ولقد استمد الشهید (علی الأکبر) أمجاده من جهة الأب سادة قریش وزعماء العرب، ومن جهة الأم من مفاخر العرب ثقیف.

حضور لیلی فی کربلاء

هناک جملة من النصوص والقرائن تؤکد وجود لیلی (أم علی الأکبر) فی کربلاء, وکلامنا هنا لیس من باب الادعاء حتی یلزمنا الإتیان بالبینة, بل هذا یلزم الطرف الآخر الذی یدعی عدم وجودها فی کربلاء؛ لأن من المسلم والثابت أنّ الحسین علیه السلام وأهل بیته ونساءه (شاء الله أنّ یراهن سبایا)(2) وصحبه حلّوا فی کربلاء وجری ما جری, فمن أنکر حضورها معهم یلزمه البینة؛ لأنه أصبح مدّعیّاً وحینئذٍ تلزمه البینة, ومع الأسف إنّ الذین أدعوا عدم وجودها وحضورها فی کربلاء لم یبرهنوا لا من بعید ولا من قریب, نعم صادروا بقولهم: لم یذکر

ص:358


1- (1) راجع: الاستیعاب, ابن عبد البر, ج 3 ص 1067.
2- (2) راجع: مختصر بصائر الدرجات, الحسن بن سلیمان الحلی, ص 132. وغیره کثیر.

المؤرخون لیلی فی کربلاء, وربما تنزّل البعض وقال: ولم یذکر أحد فی السیر المعتبرة حیاة لیلی أم الأکبر یوم الطف فضلاً عن شهودها(1). ولا أدری هل هذا یعتبر دلیلاً یثبت فیه ما ذهبوا إلیه؟ وحتی لو سلمنا أنهم استقرأوا واطلعوا علی کل کتب التاریخ والسیرة والحدیث والأنساب وغیرها من الأولین والآخرین فهو لا یکون دلیلاً علی إثبات المدعی الذی ذهبوا إلیه؛ لأنّ عدم ذکر التاریخ لها لا یلزم منه بالضرورة عدم وجودها فی کربلاء, حتی لو قلنا إنّه ذکر بعض نساء الحسین علیه السلام وبناته, لأنّ إثبات الشیء لا ینفی ما عداه, حیث لم نجد ملازمة إطلاقاً, مع أنّ التاریخ لم یعط اهتماماً إلی ذکر المرأة علی مرّ التاریخ, لاسیما وأنّ نساء أهل البیت علیهم السلام یتمتعن بالعفّة والحشّمة ومهما أمکن یبتعدن عن الأنظار وغیرها, وربما یتعذر علی الحاضرین أن یمیزوا بینهن أو یعرفوا أسماءهنَّ إلا أن یستعینوا بأقرب الناس إلیهن. ومع هذا کله فقد ذکر التاریخ حضورها فی کربلاء ومشارکتها المآسی والآلام مع زوجها علیه السلام وأولادها وکانت جزءاً من الثورة الحسینیة فی المبادئ والأهداف والعواطف, ونذکر ذلک کی تقرّ به عین القارئ الکریم مراعین الاختصار والإیجاز؛ لأنّه لیس مورد بحثنا.

من الأدلة علی حضور لیلی فی کربلاء

إضافة إلی ما تقدم فقد ذکروا عندما أراد الإمام الحسین علیه السلام الرحیل إلی کربلاء أمر بحمل نسائه معه فکانت کل امرأة یرکبها ابنها أو المقرب لها المحمل

ص:359


1- (1) راجع: نفس المهموم, الشیخ عباس القمی, ص 167. وقاموس الرجال, المحقق التستری, ج 7 ص 422. والملحمة الحسینیة, العلامة الشهید مطهری, ج 1 ص 18.

ومن جملة هذه النسوة لیلی حیث أرکبها ابنها علی الأکبر, کما قال الراوی... ثم خرج غلام آخر کأنه البدر الطالع، ومعه امرأة، وقد حفت بها إماؤها، فأرکبها ذلک الغلام المحمل، فسألت عنها وعن الغلام، فقیل لی: أما الغلام فهو علی الأکبر ابن الحسین علیه السلام، والامرأة أمه لیلی زوجة الحسین علیه السلام(1).

وأیضاً جاء ذکرها فی جملة النساء اللاتی وقفن وشاهدن أبناءهنَّ فی کربلاء, حیث قال: علی بن الحسین علیهما السلام فإن أمه لیلی واقفة تدعو له فی الفسطاط علی ما روی فی بعض الأخبار، وتراه یقطع وتنظر إلیه(2).

وأیضاً ورد عن حکیم بن داود, عن سلمة, قال حدثنی أیوب بن سلیمان بن أیوب الفزاری, عن علی بن الحزوّر, قال: سمعت لیلی وهی تقول: سمعت نوح الجن علی الحسین بن علی علیه السلام وهی تقول:

یا عین جودی بالدموع فإنما یبکی الحزین بحرقة وتفجع

یا عین ألهاک الرقاد بطیبه من ذکر آل محمد وتوجع

باتت ثلاثاً بالصعید جسومهم بین الوحوش وکلهم فی مصرع(3)

ولا أقل نستفید من هذا النص, أنّها باقیة علی قید الحیاة إلی ما بعد استشهاد الإمام الحسین علیه السلام.

وهناک روایات وردت فی حال مصرع علی الأکبر والعزاء له تحتوی قرائن

ص:360


1- (1) راجع: موسوعة کلمات الإمام الحسین علیه السلام, لجنة الحدیث فی معهد باقر العلوم علیه السلام, ص 362.
2- (2) راجع: أبصار العین فی أنصار الحسین علیه السلام, الشیخ محمد السماوی, ص 224.
3- (3) کامل الزیارات, جعفر بن محمد بن قولویه, ص 192.

جلیة من أنّ المراد من المرأة التی خرجت ونادت وبکت هی أمه لیلی, نذکر واحدة منها وهی ما جاء عن حمید بن مسلم والذی هو أحد الذین حضروا المعرکة ونقلوا أخبارها ویعتبر فی اللسان المعاصر صُحفی أو مراسل أو شاهد عیان مع غض النظر عن طبیعة انتمائه, فقال حمید بن مسلم: فکأنی أنظر إلی امرأة خرجت مسرعة کأنها الشمس الطالعة تنادی بالویل والثبور، وتقول: یا حبیباه یا ثمرة فؤاداه، یا نور عیناه؟ فسألت عنها فقیل: هی زینب بنت علی علیهماالسلام وجاءت وانکبت علیه فجاء الحسین علیه السلام فأخذ بیدها فردها إلی الفسطاط وأقبل علیه السلام بفتیانه وقال: احملوا أخاکم، فحملوه من مصرعه فجاؤوا به حتی وضعوه عند الفسطاط الذی کانوا یقاتلون أمامه(1).

والملاحظ هنا أنّ التعبیر ب - (یا ثمرة فؤاده) یشیر إلی أنّها تندب ولدها ولیس ابن أخیها؛ لأنّ ثمرة الفؤاد تدل علی الولد, سواء فی لسان الأحادیث أم فی اللغة, کما ورد عن جابر، عن أبی جعفر علیه السلام قال: دخل رسول الله صلی الله علیه و آله علی خدیجة حین مات القاسم ابنها وهی تبکی فقال لها: ما یبکیک؟ فقالت: درت دریرة فبکیت، فقال: یا خدیجة أما ترضین إذا کان یوم القیامة أن تجیئی إلی باب الجنة وهو قائم فیأخذ بیدک فیدخلک الجنة وینزلک أفضلها وذلک لکل مؤمن، إنّ الله عز وجل أحکم وأکرم أن یسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثم یعذبه بعدها أبداً(2). وغیرها من الروایات التی تفسر ثمرة الفؤاد بالولد. وقد جاء فی اللغة کما فی تاج العروس أنّ الولد ثمرة القلب. وفی الحدیث: إذا مات ولد العبد قال الله لملائکته: قبضتم

ص:361


1- (1) راجع: أبصار العین فی أنصار الحسین, الشیخ محمد السماوی, ص 224.
2- (2) راجع: الکافی, الشیخ الکلینی, ج 3 ص 218.

ثمرة فؤاده؟ فیقولون: نعم. قیل للولد: ثمرة لأن الثمرة ما ینتجه الشجر، والولد ینتجه الأب. وقال بعض المفسرین فی قوله تعالی:(وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ) أی: الأولاد والأحفاد(1). وعلیه نقول ربما اشتبه الأمر علی الراوی فی تعیین اسم المرأة لاسیما فی ساحة الوغی حیث یصعب التأکید علی الجزئیات, بالإضافة إلی ما تقدم من عدم تمییز ومعرفة نساء أهل البیت علیهم السلام, مع أنهن محجوبات عن أنظار الناس حتی فی حال معرکة الطف, فیصعب تشخیصها ومعرفتها لا من الراوی ولا من غیره, ولعل اطلاق اسم السیدة زینب فی الجواب لکونه کان هو المعروف والمتداول لدی الجمیع, فعلی هذا لیس من البعید أنّ المراد بالمرأة هنا هی أمّه لیلی. والمحصل من کل ما تقدم أنّ حضور السیدة لیلی فی کربلاء وبقائها علی قید الحیاة الی ما بعد ذلک أمر ثابت ولا غبار علیه.

2 - الرباب (أم عبد الله الرضیع)

هی الرباب بنت امرء القیس بن عدی بن أوس بن جابر بن کعب بن علیم ابن جناب بن کلب. وکان امرء القیس زوج ثلاث بناته فی المدینة من أمیر المؤمنین والحسن والحسین علیهم السلام، المحیاة بنت أمرء القیس للإمام علی علیه السلام وسلمی بنت أمرء القیس للإمام الحسن علیه السلام, والرباب بنت أمرء القیس للإمام الحسین علیه السلام, فکانت الرباب عند الحسین علیه السلام وولدت له سکینة وعبد الله الرضیع الذی کان من جملة الشهداء فی الطف. وأمها, هند الهنود بنت الربیع بن مسعود ابن مصاد بن حصن بن کعب، کانت من خیر النساء وأفضلهن.

ص:362


1- (1) راجع: تاج العروس, الزبیدی, ج 6 ص 150.

والرباب هی التی یقول فیها أبو عبد الله الحسین علیه السلام

لعمرک إننی لأحب دارا تحل لها سکینة والرباب

أحبهما وأبذل جل مالی ولیس لعاتب عندی عتاب(1)

وقال ابن عساکر هی التی أقامت علی قبر الحسین علیه السلام حولاً, ثم قالت:

إلی الحول ثم اسم السلام علیکما ومن یبک حولاً کاملاً فقد اعتذر

وسکینة اسمها آمنة أو أمیمة وإنما سکینة لقب لقبتها أمها الرباب بنت امرئ القیس, ولما توفی الحسین خطبت الرباب وألح علیها فقالت ما کنت لأتخذ حمواً بعد ابن رسول الله علیه السلام فلم تتزوج وعاشت بعده سنة لم یظلها سقف بیت حتی بلیت وماتت کمداً وکانت من أجمل النساء وأعقلهن(2).

وقال المسعودی والإصبهانی والطبری وغیرهم: إن الحسین لما آیس من نفسه ذهب إلی فسطاطه فطلب طفلاً له لیودعه، فجاءته به أخته زینب، فتناوله من یدها ووضعه فی حجره، فبینا هو ینظر إلیه إذ أتاه سهم فوقع فی نحره فذبحه قالوا: فأخذ دمه الحسین علیه السلام بکفه ورمی به إلی السماء وقال: اللهم لا یکن أهون علیک من دم فصیل، اللهم إن حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلک لما هو خیر لنا: وانتقم لنا من هؤلاء الظالمین، فلقد هون ما بی أنه بعینک یا أرحم الراحمین قالوا: فروی عن الباقر علیه السلام: أنه لم تقع من ذلک الدم قطرة إلی الأرض(3).

ص:363


1- (1) راجع: مقاتل الطالبیین, أبو فرج الاصفهانی, ص 59.
2- (2) راجع: تاریخ مدینة دمشق, ابن عساکر, ج 69 ص 120.
3- (3) راجع: حاشیة مقتل الحسین علیه السلام, ابو مخنف الأزدی, ص 172.

محتویات الکتاب

الإهداء 4

مقدمة اللجنة العلمیة 7

المقدمة 10

التمهید 15

آثار الأم علی الجنین 15

دور الأم 16

الصفات الوراثیة 19

الصفات الوراثیة السلبیة 24

الآثار الوراثیة لشرب الخمر 25

الأرحام الطاهرة 28

آثار الأرحام الملوثة 31

اختیار الزوجة 34

ص:364

طهارة امَّهات الأئمة 36

من آثار الحمل بالمعصوم 40

أسماء المعصومین واُمَّهاتهم فی صحیفة الزهراء علیهاالسلام 41

إهمال التاریخ لاُمَّهات الأئمة علیهم السلام 43

الفصل الأول 49

آمنة بنت وهب أم النبی الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم 49

النسب الطاهر 51

نبذة عن أبناء کلاب 53

تقرش قریش 56

الکمالات العالیة للسیدة آمنة 57

طهارتها وإیمانها بالله 61

مکر الیهود فی إطفاء النور المحمدی 64

موقف من بسالة عبدالله 67

یمکرون ویمکر الله 68

زواج السیدة آمنة من عبد الله 70

وهب یرغب فی تزویج عبد الله 70

فاطمة زوجة عبد المطلب تصف آمنة 72

عقد القران بین عبدالله وآمنة 73

ص:365

وفاة زوجها عبد الله ورثاؤها علیه 75

آمنة وعاء نور النبی الخاتم 76

شغف النساء بنور النبی صلی الله علیه و آله 79

الروایة الأولی 80

الروایة الثانیة 80

الروایة الثالثة 81

الجمع بین الروایات 82

الصحیح 83

مشهد من إیمان عبدالله 84

عملیة اغتیال فاشلة 85

إرهاصات فی حملها وولادتها للنبی صلی الله علیه و آله 88

تاریخ ولادتها للنبی صلی الله علیه و آله 91

وفاتها ومحل قبرها 92

زیارة النبی لقبرها وإحیاؤها له 96

تحریف الحقائق 98

والصحیح 101

مرضعات النبی صلی الله علیه و آله 104

1 - حلیمة السعدیة 104

زوج حلیمة السعدیة 107

2 - ثویبة 107

طهارة آباء النبی صلی الله علیه و آله 108

ص:366

علماء السنة علی ثلاثة آراء 108

الشیعة الإمامیة 113

محاولة فاشلة 116

والجواب 116

خلاصة الأدلة علی إیمان آباء النبی صلی الله علیه و آله 117

استغفار إبراهیم علیه السلام لأبیه 120

والجواب 120

إشکال وجواب 121

الجواب 122

الفصل الثانی 127

فاطمة بنت أسد أم الإمام علی علیهما السلام 127

النسب الطاهر 129

إیمانها بالله والرسول 130

مکانتها عند الله ورسوله 132

فاطمة بنت أسد أُم النبی الثانیة 134

مشهد من کرم بنی هاشم 137

زواجها من أبی طالب 138

مشهد من إیمان أبی طالب 140

أبو طالب رمز الإیمان 143

الأول: الروایات الواردة بحقه 143

الثانی: أشعاره فی نصرة النبی وتأییده 146

ص:367

الثالث: مواقفه من الرسول ودفاعه عنه 147

الرابع: وصیة أبی طالب عند وفاته بالنبی صلی الله علیه و آله 151

الخامس: قول النبی بحقه 152

أولادها 153

إسلام طالب ابن أبی طالب 154

الأدلة علی إیمان طالب بن أبی طالب 155

أشعاره ومواقفه تجاه النبی صلی الله علیه و آله 155

الروایات الدالة علی إسلام طالب 158

استشهاد طالب بن أبی طالب 159

نبذة عن عقیل بن أبی طالب 160

عقیل ینتصر علی معاویة 161

نبذة عن جعفر بن أبی طالب 164

أبو طالب یبشر زوجته بالوصی 165

فاطمة بنت أسد وعاء نور الوصی 166

الکعبة تستقبل فاطمة بنت أسد 169

فاطمة وبعلها یسألان الله فی تسمیة علی علیه السلام 173

وفاتها ومحل دفنها 174

النبی یصلی علی فاطمة بنت أسد 176

النبی یدفن فاطمة بنت أسد 176

زیارة خاصة لفاطمة بنت أسد 179

الفصل الثالث 183

ص:368

خدیجة بنت خویلد أم السیدة فاطمة علیهما السلام 183

النسب الطاهر 185

الأسرة الکریمة 187

دور آباء خدیجة 189

ممیزات خویلد والد السیدة خدیجة علیهاالسلام 191

خویلد علی خط الأنبیاء 195

دین السیدة خدیجة قبل الإسلام 196

الصفات الکمالیة للسیدة خدیجة 197

من صفاتها السخاء 199

من صفاتها العلم 200

رؤیا نورانیة صادقة 201

من صفاتها الروایة 202

من صفاتها الشعر 203

إیمانها برسول الله قبل زواجها منه 204

زواجها من رسول الله 206

أبو طالب خاطب خدیجة للنبی صلی الله علیه و آله 208

هل تزوجت خدیجة قبل النبی صلی الله علیه و آله 209

سبب زواجها من النبی صلی الله علیه و آله 212

ص:369

عمر خدیجة حین زواجها 214

مقدار مهر السیدة خدیجة 215

من هو الذی عین مهر خدیجة 217

أولادها 219

فاطمة البنت الوحیدة للنبی صلی الله علیه و آله 220

سبب تصدی السیدة خدیجة للتجارة 226

مصادر أموال السیدة خدیجة 228

هل کان النبی أجیراً عند خدیجة 231

زیف القول 233

والجواب 234

تصید بالماء العکر 235

منزلة خدیجة عند الله 236

مکانتها عند النبی صلی الله علیه و آله 238

سبق إسلامها 240

النبی یعلّم خدیجة الوضوء والصلاة 242

خدیجة وعاء لأم الأئمة 243

نساء الجنة یحضرن خدیجة فی مخاضها 245

خدیجة مربیة لأمیر المؤمنین علیه السلام 246

خدیجة عند احتضارها 247

ص:370

من وصایا خدیجة للنبی صلی الله علیه و آله 249

اهتمامها بفاطمة علیهاالسلام 250

النبی یجهزها 251

وفاتها ومحل دفنها 252

التبرک بقبر خدیجة ومنزلها 254

استحباب زیارة قبر خدیجة الکبری 254

أزواج النبی صلی الله علیه و آله 256

الفصل الرابع 259

فاطمة بنت محمد أم الحسنین علیهم السلام 259

مولدها المبارک 261

کیفیة ولادة فاطمة علیهاالسلام 264

انعقاد نطفة فاطمة من ثمار الجنة 266

من الأدلة علی عصمة فاطمة علیهاالسلام 268

أمّا الکتاب 269

تقریب الاستدلال بالآیة 270

أما السنة 271

مکانة الزهراء علیهاالسلام 274

أکابر قریش تخطب فاطمة علیهاالسلام 276

ص:371

الله یأمر بتزویج فاطمة من علی علیهماالسلام 278

فلسفة زواج فاطمة من علی علیهماالسلام 280

مقدار مهر فاطمة 282

تاریخ زواج فاطمة علیهاالسلام 284

الملائکة تحضر زفاف فاطمة علیهاالسلام 284

فاطمة المصداق الأکمل للزوجة وللأم الصالحة 285

کذبة بیضاء 288

حرمة الزواج علی علی فی حیاة الزهراء علیهاالسلام 291

إشکال وجواب 294

والجواب 294

مصحف فاطمة علیهاالسلام 296

أسماء فاطمة علیهاالسلام 299

سبب تسمیتها بفاطمة 299

سبب تسمیتها بالزهراء 300

سبب تسمیتها بالصدیقة 302

سبب تسمیتها بالمبارکة 305

سبب تسمیتها بالطاهرة 307

تسمیتها بالراضیة 309

تسمیتها بالمرضیة 310

تسمیتها بالمحدثة 311

سؤال وجواب 313

ص:372

سبب تسمیتها بالبتول 314

دم الحیض والنفاس نقص أم کمال؟ 315

کیفیة شهادتها 318

فاطمة فی حالة الاحتضار 320

فاطمة تفارق الحیاة 322

تشییعها وإعفاء قبرها 323

الوداع الأخیر 326

تاریخ وفاتها 327

محل دفنها 328

استحباب زیارة فاطمة علیهاالسلام 329

وذکرت زیارة أخری 330

من أزواج أمیر المؤمنین 331

1 - خولة الحنفیة 331

من مآسی التاریخ 333

زواجها من أمیر المؤمنین 334

2 - أم البنین الکلابیة 336

أم البنین ترثی أولادها 337

موقف من إیمانها 338

تاریخ وفاة أم البنین علیهاالسلام 340

3 - لیلی النهشلیة 341

4 - أسماء بنت عمیس الخثعمیة 341

5 - أمامه بنت أبی العاص 343

ص:373

الفصل الخامس 345

شهربانو أم الإمام السجاد علیهما السلام 345

اسمها ونسبها 347

اکاذیب واهیة فی نسب أم السجاد علیه السلام 348

والصحیح 349

اشکال وجواب 354

مقتل والدها یزدجرد 355

ما قاله البلاذری فی مقتل یزدجرد 360

تکامل صفاتها 363

علی یغیر اسمها 364

رسول الله یخطبها للحسین علیه السلام 366

الرؤیا فی القرآن والسنة 366

الرؤیا الصادقة 370

تطبیق الرؤیا فی المقام 372

موقف من عفافها وإیمانها 373

زمان سبیها 376

علی ینظر إلی المستقبل 378

شهربانویه تختار الحسین علیه السلام زوجاً 380

شهربانو وعاء للمعصوم 381

ص:374

سؤال وجواب 383

والجواب 384

فلسفة أکثر امَّهات الأئمة جوارِ 384

الأول: التربیة الإلهیة لأم المعصوم 386

الثانی: محاربة الطبقیة والعرقیة 388

الثالث: الإسلام لکل الناس 395

احتمال یفرض نفسه 398

أنا ابن الخیرتین 399

من کلام المغرضین 400

والجواب علیه 401

مأساتها فی کربلاء 402

زمان وفاتها 405

محل قبرها 407

السجاد یزوج حاضنته 408

من أزواج الحسین علیه السلام 409

1 - لیلی (أم علی الأکبر) 409

حضور لیلی فی کربلاء 412

من الأدلة علی حضور لیلی فی کربلاء 414

2 - الرباب (أم عبد الله الرضیع) 417

محتویات الکتاب 419

ص:375

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.