موسوعه فی ظلال شهداء الطف المجلد 1

اشارة

سرشناسه:صمیانی، حیدر، 1336 -

عنوان و نام پدیدآور:موسوعه فی ظلال شهداء الطف/ تالیف حیدر الصمیانی.

مشخصات نشر: کربلای معلی - قم - العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة 1434

مشخصات ظاهری:4ج.

شابک:978-964-538-250-4

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

یادداشت:عربی.

یادداشت:کتابنامه: ص. [359] - 376؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع:حسین بن علی (ع)، امام سوم، 4 - 61ق.

موضوع:واقعه کربلا، 61ق.

رده بندی کنگره:BP41/5/ص8م8 1390

رده بندی دیویی:297/9534

شماره کتابشناسی ملی:2463263

ص :1

هویة الکتاب

موسوعه فی ظلال شهداء الطف

تالیف حیدر الصمیانی

ص :2

* هویة الکتاب

رقم الإیداع فی دار الکتب والوثائق - وزارة الثقافة العراقیة لسنة 337:2013

الصمیانی، حیدر

موسوعة فی ظلال شهداء الطف / تألیف حیدر الصمیانی؛ [تقدیم اللجنة العلمیة فی قسم الشؤون الفکریة والثقافیة. محمد علی الحلو]. - کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة والثقافیة 1434 ق. Í 2013 م.

4 ج. - (قسم الشؤون الفکریة والثقافیة؛ 121).

المصادر. 9789933489687: ISBN

1. الحسین بن علی (علیه السلام)، الإمام الثالث، 61 4 ه -. أصحاب السیرة. 2. الحسین بن علی (علیه السلام)، الإمام الثالث، 61 4 ه -. أصحاب صفات. 3. واقعة کربلاء، 61 ه -. شهداء. 4. التاریخ الإسلامی العصر الأموی شبهات وردود. ألف. الحلو، محمد علی، 1957 -، مقدم. ب. العنوان 2013 269 S . 3 A . 193.13 BP

تمت الفهرسة قبل النشر فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة

ص:3

تألیف

الشیخ حیدر الصمیانی

جمیع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسینیة المقدسة

الطبعة الأولی

1434 ه - 2013 م

العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسینیة المقدسة

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة - هاتف: 326499

الموقع الالکترونی: imamhussain-lib.com

البرید الالکترونی: info@imamhussain-lib.com

ص:4

قال الإمام الصادق علیه السلام

فی زیارته لأصحاب الحسین علیه السلام:

السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَوْلِیاءَ اللهِ وَأَحِبَّاءَهُ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَصْفِیاءَ اللهِ وَأَوِدَّاءَهِ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَنْصارَ دِینِ اللهِ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَنْصارَ رَسُولِ اللهِ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَنْصارَ أَمِیرِ المُؤْمِنِینَ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَنْصارَ فاطِمَةَ سَیِّدَةِ نِساءِ العالَمِینَ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یاأَنْصارَ أَبِی مُحَمَّد الحَسَنِ بْنِ عَلِیٍّ الوَلِیِّ النَّاصِحِ، السَّلامُ عَلَیْکُمْ یا أَنْصارَ أَبِی عَبْدِ اللهِ، بِأَبِی أَنْتُمْ وَاُمِّی طِبْتُمْ وَطابَتِ الأَرْضُ الَّتِی فِیها دُفِنْتُمْ وَفُزْتُمْ فَوْزاً عَظِیماً فَیالَیْتَنِی کُنْتُ مَعَکُمْ فَأَفُوزَ مَعَکُمْ.

زیارة وارث

ص:5

الإهداء

إلی ریحانة المصطفی وابن علی المرتضی وابن فاطمة الزهراء

أبی عبد الله الحسین علیه السلام.

إلی من قدموا الغالی والنفیس من أجل دین الله ورسوله.

إلی من طلقوا الدنیا وکل زینتها وزبرجها دفاعاً عن الشریعة.

إلی من قدموا دماء هم رخیصة بین یدی أبی عبد الله الحسین علیه السلام.

إلی الذین لم یسبقهم من کان قبلهم، ولم یلحقهم من جاء بعدهم.

إلی من قال الحسین علیه السلام فی حقهم:

ما رأیت أصحاباً أبر وأوفی من أصحابی.

إلی شهداء الطف جمیعاً أهدی هذا الجهد المتواضع راجیاً منهم القبول والشفاعة.

ص:6

مقدمة اللجنة العلمیّة

تُشکل مجموعة انصار الحسین علیه السلام منحیً آخر من مناحی البحث فی حرکة الإمام الحسین علیه السلام إذ التعددیة التی تمیّز مجموعة الأصحاب تنعکس علی التعددیة الفکریة والثقافیة والاجتماعیة التی عُرفت بها هذه المجموعة لکنها تشترک فی نمط أخلاقی - عقائدی یُشیر الی المستوی القیمی لهذه المجموعة، وبمعنی آخر فان تسلیط الضوء علی مجمل هذه الحرکة یُعطی بُعداً آخر من المعرفة الاجمالیة للثورة الحسینیة ومعلماً آخر من ملامح هذه النهضة، إذ التوجهات المتعددة لأنصار الإمام الحسین علیه السلام تکشف أن النهضة الحسینیة استقطبت کل التوجهات الفکریة والثقافیة وانها لم تقتصر علی اتجاه دون آخر ولا ثقافة دون أخری، بل هی متعددة التوجهات الثقافیة التی ترعرعت فی جو عقائدی واحد وهو طاعة المعصوم والتسلیم له. ان کشفاً سریعاً لهذه المجموعة من الأصحاب تعطی کشفاً حقیقیاً لنموذج عقائدی تشترک فیه جمیع المستویات الثقافیة والرؤی المختلفة، وهذا فی واقعه یُعطی بُعداً آخر لثورة الإمام الحسین علیه السلام تکشف عن قوة تأثیر الاستقطاب الذی أحرزته هذه

ص:7

الثورة والحالة الإنسانیة التی حملتها حتی راح الجمیع یستشعرون مسؤولیتهم من خلال الانضمام إلیها.

إذن فان الدراسات فی مضمار الثورة الحسینیة وتقدیم الأنموذج الأکمل لکوادرها أصحاب الحسین علیه السلام وهو فنٌ قائم بذاته، إذ محاولة البحث فی أسماء هؤلاء الأصحاب والتأشیر علی سیرتهم وتوجهاتهم یحتاج الی جهود کبیرة للوصول الی بعض النتائج، کما أن الخلط الذی صاحب بعض الأخبار فیما یتعلق بهذه الصفوة من الأصحاب یحثُ الباحث علی بذل الجهد فی تخلیص الواقع التاریخی لهؤلاء مما اکتشفته کتابات البحث.

لذا فان الدعوة قائمة الی بذل الوسع فی تحقیق هذه البحوث ونشر هذه المعارف لیتسنی لنا الوقوف علی حقائق مفقودة کثیرة.

ان ما قدمه الشیخ حیدر الصمیانی من جهد فی دراسة شهداء الطف جهدٌ یضاف الی الجهود المبذولة فی هذا الشأن، حیث سلط الأضواء علی سیرة وحیاة الشهداء رضوان الله علیهم وسعی فی إیجاد بحوث ترفع الکثیر من حالات الخلط،

دام موفقاً لبحوث أخری.

عن اللجنة العلمیة

السید محمد علی الحلو

ص:8

المقدمة

لماذا هذه الموسوعة ؟

الحدیث عن أبطال کربلاء ورجالاتها یمثل فی الواقع حدیثاً عن لبّ کربلاء ولبابها، لأن کربلاء - والتی نحتفی بها وبذکرها دائماً إنما هی فی الواقع مجموعة من المواقف العظیمة التی سطرها لنا مجموعة من الناس لم یدرکهم الأولون بعمل ولم یلحقهم الآخرون بعمل.

ولقد کُتبت عن الثورة الحسینیة المبارکة وعن رجالها الکثیر من الکتب والمقالات وألقیت العدید من المحاضرات والخطابات وأقیمت شتی البحوث والندوات، وهذا أمر مُسلَّم به ویشعر به کل واحد منها بلا أدنی شک وریب. ولکنها مع کثرتها لم تستوعب - حسب علمی - کل مجالات کربلاء لاسیما المتعلق برجالها ورموزها والتی یقول الحسین علیه السلام فی حقها:

«إنی لا أعلم أصحاباً ولا أهل بیت أبرّ ولا أوصل من أصحابی وأهل بیتی»(1).

ص:9


1- (1) الکامل فی التاریخ: 57/4.

نعم الفت فی حقهم بشکل خاص مجموعة من المؤلفات مشکورةً أمثال «أنصار الحسین» للعلامة المرحوم محمد مهدی شمس الدین و «وسیلة الدارین» للسید الزنجانی و «الحدائق الوردیة» للمؤرخ الزیدی حمید بن أحمد المحلی و «إبصار العین» للشیخ محمد السماوی وأمثال هذه الکتابات، ولکنها کانت تتحدث بشکل مقتضب عنهم (رض)، حتی أن بعض المترجم عنهم لا یتعدی الحدیث عنه السطرین أو الثلاثة، وحتی لو کُتب عنهم فإن مستوی هذه الکتابات إنما هو فی حدود واقعة کربلاء، أو ما یرتبط بها کثورة مسلم بن عقیل فی الکوفة، والذی لا یتعدی فی أفضل الأحوال عدد الأصابع من الشهداء وبقی الکمُّ الغفیر فی دائرة الظلام لا یذکرون ولا یتحدث عنهم ولا یسلط علیهم الضوء بل ولا تعرف حتی أسماؤهم، وهذا لعمرک ظلم کبیر وتعدٍّ عظیم علی مثل هذه الشخصیات الکبیرة والمهمة فی نفس الوقت، والتی ینبغی أن یُشار إلیهم وإلی ما قدموا من أعمال جلیلة وکبیرة للإسلام وللمسلمین.

من هنا فقد رأیت من اللازم علینا أن نتحدث عن هذه الشخصیات وما یرتبط بها من أمور وأحداث.

وکانت البدایة عبارة عن مجموعة من المجالس المتناثرة التی ألقیت فی الکویت حول شهداء الطف، حیث أخذتُ أتحدث عنهم بشکل مستقل فی کل لیلة فرأیت أن التفاعل بدأ یکبر والانشداد بدأ یزداد وأخذت الأسئلة تتری وتتسع حولهم (رض)، بل وأخذت الدعوات تأتینی من قبل الکثیرین من الأخوة الأعزاء والذین کانوا یحضرون مجالسنا فی ضرورة تدوین هذه المعلومات مع مصادرها

ص:10

فی کتاب حتی یمکن أن یکون مرجعاً وموئلاً للمؤمنین فی الحصول علی معلومات معینة حول أی شخصیة من شخصیات کربلاء المقدسة، فضلاً عن کلمات الشکر والامتنان التی أتحفونی بها جزاهم الله عنی خیرا، ولمّا رأیت الأمر قد وصل إلی هذا الحدّ علمت بأن أعباء المسؤولیة قد بانت معالمها علیّ (وإذا أراد اللهُ أمراً هیّأ له أسبابه).

وأخذتُ القلمَ وبدأت أکتبُ فوجدتُ ثقلَ القلمِ قد أَخَذَ یخنقنی حیث لم أتعوّد أن أکتب سابقاً إلا فی حدود المحاضرات المنبریة التی لها طراز خاص وطابع خاص یختلف کثیراً عن التألیف والکتابة لا سیما فی مواضیع من هذا القبیل کما لا یخفی علی أهل الاختصاص ذلک. ولکنی کنت عازماً ومصمماً علی المضی فی هذا الطریق وعدم الوقوف فیه أمام عثراته الأولی وأنا أعلم أنها ستکون موجودة ومتوفرة لاسیما خلال البدایة الأولی من تألیف هذا الکتاب.

فتوکلت علی الله، وبذلت الوقت والجهد فی البحث والتنقیب، والذی لم یکن بسیطاً وسهلاً أبداً کما لا یخفی علی من خاض فی هذا المجال، فلقد کانت المعلومات نادرة عنهم (رض) بل ربما کانت عن بعضهم شبه معدومة بالکامل.

وبعد أکثر من سنة ونصف من البحث والتنقیب والمطالعة استطعت أن اکْمل - بتوفیق الله وتسدیداته - الحدیث عنهم فی الجزء الأول من هذا الکتاب الذی أسمیته «موسوعة فی ظلال شهداء الطف» وإنما اخترت «فی ظلال» دون بقیة الکلمات الأخری لأنی قصدت بذلک أن أجمع کل ما یعود من معلومات عنهم (رض) وأضعها تحت خیمة واحدة أطلقت علیها کلمة «ظلال». فقد ذکرتُ

ص:11

ما أستطیع من أسماء آبائهم (رض) وأخوانهم وأبنائهم بل وعنهم (رض)، حیث کان بعضهم راویاً ثقة روت عنه صحاح المسلمین عند الفریقین، وللمثال أذکر هنا شخصیة الشهید عبد الله بن بشر الخثعمی (رض) حیث روی عنه البخاری والبیهقی وأحمد وغیرهم، الکثیر من الروایات؛ حیث ذکرتها وذکرتُ ما یمکن أن یکون محل الدرس والعظة والعبرة فیها.

وهکذا کانت شخصیة الشهید أبو الشعثاء الکندی حیث عُدّ من جملة رجالات الطبری فی تفسیره کما سیأتینا عند الحدیث عنه فی الجزء الأول من هذه الموسوعة، وهذا فیض من غیض الشهداء الکربلائیین (رض)، الذین ینبغی علینا أن نقدم للناس آثارهم وما قدموه لتکون لنا مناراً یُهتدی به.

ولقد بذلت جهدی أن أجعل هذه الموسوعة - التی ربما تمتد فی أجزائها إلی اثنی عشر جزءاً بإذن الله تعالی - سهلة سلسة فی کلماتها ومواضع العظة والعبرة بها مبتعداً قدر الاستطاعة عن التعقید والصعوبة من أجل أن تکون - وهذا ما نریده ونتأمله - أقرب إلی فهم عامة الناس لتکون الفائدة أعم، وإنی إذ أقدم هذا الجزء الأول أتمنی منه سبحانه وتعالی أن یعیننی علی إتمام بقیة الأجزاء الأخری، فإن حق هذه الفئة من الناس علینا کبیر بل لا یوجد مسلم فی شرق الأرض وغربها عَلم بذلک أم جَهِلَ إلا وفی رقبته حق لهم علیه.

ولا یفوتنی أن أدعو الله - وهذا من الواجب علیّ - لکل أولئک الذین کان لهم الفضل والمنة علیّ فی انجاز مثل هذا العمل سواءً بالفکرة والنصیحة والإرشاد أو بالحث والدفع والنصرة أو بالمراجعة والتدقیق والتصحیح أو بالدعاء لنا

ص:12

بالتوفیق، أدعوا لهم جمیعاً أن لا یحرمنی منهم ومن عطائهم وأن یجعلهم دائماً فی طریق الخیر والعمل الصالح.

وأخیراً فإن هذا العمل بذلت جهدی فیه من أجل إخراجه - علی قدر ما استطیع - مناسباً لا کاملاً فإن الکمال لله سبحانه وتعالی، وعلیه فإن کان فیه نقص فی ألفاظه ومعانیه أو فی فکرته ومضمونه فإنی أرجو من أخوانی القراء جمیعاً أن یبینوها لی من خلال وسیلة الاتصال المدونة آخر هذه المقدمة حتی یمکن لی أن أتدارک الصالح منها فی المستقبل إن شاء الله تعالی فإن النقد البناء لا یمکن أن یستغنی عنه أحدٌ مهما أوتی من العلم وغزارة المعلومات.

وقد شاءت أقدار الله سبحانه وتعالی أن تکون آخر کلمات هذا الکتاب تنتهی فی یوم ولادة الإمام الحسین علیه السلام فی الثالث من شعبان سنة 1432 ه - لتکون هذه الموسوعة قد ولدت مع ذکری ولادة سید الشهداء علیه السلام لیجتمع اللفظ مع المعنی والشکل مع المضمون سائلاً الله سبحانه وتعالی أن یتقبله منی بأحسن قبوله وأن لا یحرمنی من شفاعة الحسین وأهل بیته وأصحابه إنه أرحم الراحمین.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمین.

حیدر الصمیانی

الثالث من شهر شعبان 1432 الموافق 2011/7/1

ص:13

من هم أصحاب الحسین علیه السلام ؟

اشارة

قال ابن أبی الحدید فی شرح النهج وهو یتحدث عن الإباء والشجاعة:

«قیل لرجل شهد یوم الطف مع عمر بن سعد: ویحک، أقتلتم ذریّة رسول الله؟! فقال: عضضتُ بالجندل(1) أنک لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلناه، ثارت علینا عصابة أیدیها فی مقابض سیوفها کالأسود الضاریة، تحطم الفرسان یمیناً وشمالاً، وتلقی أنفسها علی الموت، لا تقبل الأمان ولا ترغب فی المال، ولا یحول حائل بینهما وبین الورود علی حیاض المنیّة أو الاستیلاء علی الملک، فلو کففنا عنها رویداً لأتت علی نفوس العسکر بحذافیرها، فما کنّا فاعلین لا أمّ لک!»(2).

لقد أحسن هذا الرجل فی بیان صفة، أو صفات، أصحاب الحسین علیه السلام، لقد أعطاهم جملة من الصفات العظیمة، فهم الفدائیون، وهم أصحاب الشجاعة الفریدة، وهم المشتاقون إلی الجنّة، وهم الزاهدون فی الدنیا، وهم وهم، لقد أبان فضلهم وهو العدّو، والفضل ما شهدت به الأعداءُ، إنّها عصابة الحقّ التی یصفها

ص:14


1- (1) الجندل: الحجر العظیم.
2- (2) نهج البلاغة: ج 1 ص 307.

الله عزّ وجلّ بقوله:

«أُمَّةٌ یَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ یَعْدِلُونَ 1» .

ولو أراد الإنسان أن یستقصی صفاتهم وخصائصهم وما تمیزوا به، لاحتاج الأمر إلی مجلّدات لا إلی صفحات، ولقد قال الشیخ محمد جواد مغنیة عنهم: «ومن تتبّع سیرة أصحاب الحسین علیه السلام لا یجد لإخلاصهم وعزمهم نظیراً بین الشهداء وأتباع الأنبیاء کما لا یجد شبیهاً لتضحیات الحسین علیه السلام فی التاریخ کلّه، وقد أثنی علیهم الشعراء بما هم أهل لأکثر منه. قال الشیخ حسن البحرانی یصف إیمانهم وورعهم:

إن ینطقوا ذکروا أو یسکتوا فکّروا أو یغضبوا غفروا أو یُقطعوا وصلوا

أو یُظلموا صفحوا أو یوزنوا رجحوا أو یُسألوا سمحوا أو یحکموا عدلوا(1)

ولکن وکما یقال: ما لا یدرک کلّه لا یترک جلّه، حیث سنسلّط الأضواء علی بعض الصفات المهمّة التی تمیّزوا بها رضی الله عنهم

1. إنّهم مصطفون للشهادة قبل شهادتهم

وهذا ما دلّت علیه أخبار کثیرة نذکر منها ما یلی:

أ. عن أمیر المؤمنین: «أنّه خرج یسیر بالناس، حتی إذا کان بکربلاء علی میلین أو میل، تقدم بین أیدیهم حتی طاف بمکان یقال له «المقذفان» فقال: قُتل فیها مائتا نبی ومائتا سبط کلّهم شهداء، ومناخ رکاب ومصارع عشّاق شهداء، لا

ص:15


1- (2) المجالس الحسینیة للشیخ محمد جواد مغنیة: ص 61.

یسبقهم ممن کان قبلهم ولا یلحقهم من بعدهم».(1)

ب. حینما عُنِّف ابن عباس علی عدم نصرة الإمام الحسین علیه السلام أجاب، کما فی مناقب شهر آشوب: «إنّ أصحاب الحسین لم ینقصوا رجلاً ولم یزیدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم».(2)

ج. قال الإمام الباقر علیه السلام:

«ها هنا مناخ رکابهم ومصارع عشاقهم، شهداء لا یسبقهم من کان قبلهم ولا یلحقهم من کان بعدهم».(3)

د. عن الصادق علیه السلام:

«تفاخرت قطع الأرض بعضها علی بعض، فقالت أرض کربلاء بتواضع: أنا أرض الله المبارکة المقدّسة، الشفاء فی تربتی ومائی ولا فخر، بل أنا خاضعة ذلیلة لمن فعل بی ذلک، ولا فخر علی من دونی بل شکراً، فأکرمها الله وزادها بتواضعها وشُکرها لله بالحسین وأصحابه». (4)

ه -. عن المسیّب بن نجبة الفزاری: «لمّا أتانا سلمان الفارسی قادماً فلقیناه

فسار بنا إلی أرض کربلاء، فلما رحلنا قال: هذه مصارع أخوتی؛ هذا موضع

ص:16


1- (1) بحار الأنوار: ج 41 ص 290 ب 114 ح 18.
2- (2) مناقب آل أبی طالب: ج 4 ص 53.
3- (3) الخصائص العباسیة للکلباسی النجفی: ص 344.
4- (4) وسائل الشیعة: ج 14 ص 516.

رحالهم، وهذا مناخ رکابهم، وهذا مهراق دمائهم، یقتل فیها ابن خیر النبیّین، ویقتل فیها خیر الآخرین».(1)

و. قال الإمام الصادق علیه السلام فی زیارة وارث مخاطباً أولئک الشهداء من أصحاب الحسین علیه السلام:

«السلام علیکم یا أوصیاء الله وأحبّاءه، السلام علیکم یا أصفیاء الله وأودّاءه». (2)

ز. عن جبلة المکّیة قالت: سمعت میثم التمّار یقول: «یا جبلة، اعلمی أنّ الحسین بن علی سیّد الشهداء یوم القیامة، ولأصحابه علی سائر الشهداء درجة».(3)

ح. عن ابن عباس قال: فلمّا کانت اللیلة القابلة رأیت رسول الله صلی الله علیه و آله فی منامی أشعث، فذکرت ذلک له وسألته عن شأنه فقال لی: «ألم تعلم أنّی فرغت الآن من دفن الحسین وأصحابه».(4)

2. الرحمة والشفقة علی الأعداء

وهذه مزیّة أخری من المزایا الکثیرة التی تمتّعت بها هذه الثلّة المؤمنة ألا وهی الشفقة والرحمة الملفتة للنظر والتی وصلت إلی حدّ أنّها شملت حتی

أعداءهم، حیث لم یکونوا یقاتلون انتقاماً ممّن وقفوا ضدّهم، وإنّما کانوا یقاتلون

ص:17


1- (1) فتوح البلدان: ص 406.
2- (2) مفاتیح الجنان: ص 430.
3- (3) علل الشرائع: ص 228.
4- (4) أمالی الشیخ الطوسی: ص 315.

حبّاً للخیر وانتصاراً للحقّ، وهذه هی مبادئ الإسلام التی جاء بها وطبقها رسول الله صلی الله علیه و آله فی حیاته، حتی نودی فی کتاب الله بقوله:

«وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ 1» .

فها هو التاریخ یحدّثنا أنّ النبی صلی الله علیه و آله امتنع عن قطع مجری الماء عن حصون خیبر، وهو الذی کان بأمسّ الحاجة إلی أن یسرع فی القضاء علی الیهود، أولئک الجرثومة التی بذل النبی صلی الله علیه و آله الکثیر من أجل أن یتعاملوا معه بالحسنی، ولکنهم کانوا ینقضون عهودهم ومیثاقهم مرّة بعد أخری، حتی نزل القرآن الکریم بقوله تعالی:

«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّهِ الَّذِینَ کَفَرُوا فَهُمْ لا یُؤْمِنُونَ * اَلَّذِینَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ یَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِی کُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا یَتَّقُونَ 2» .

والذی منع رسول الله من ذلک هو الرحمة، رحمة النبی صلی الله علیه و آله ورحمة القرآن ورحمة المنهج الذی جاء به علیهما السلام، بل إنّ الأعظم من ذلک هو أنّه علیهما السلام حینما فتح حصون خیبر وغنم من الیهود ما غنم من کمّیات کبیرة وهائلة من الذهب، وهم کانوا أصحاب الذهب وصاغته، وإذا به علیهما السلام یأمر أن یوزّع کلّ ذلک علی فقراء مکّة ومساکینها، رغم ما فعلته مکّة وکفّارها وأهلها به علیهما السلام حتی قیل: إنّ النبی صلی الله علیه و آله فتح قلوب أهل مکّة قبل أن یفتح مکّة، وهکذا صنع أمیر المؤمنین علیه السلام

ص:18

مع معاویة فی عدم منع الماء عن جنده فی حرب صفّین کما منعه معاویة عن جیش أمیر المؤمنین علیه السلام، وذلک لأنّ علیّاً کان ینطلق من قاعدة إنسانیة مهمة وهی:

«أنّ الناس صنفان: إمّا أخ لک فی الدین أو نظیر لک فی الخلق» (1).

فحتی لو کان أمامه عدوه فإنه یبقی یعامله کإنسان، له حقوق یجب أن لا تمنع منه، کالماء أو ما شاکل ذلک، بل لقد حرّمت الشریعة وضع السموم فی المیاه من أجل التخلّص من العدوّ والقضاء علیه، لما فی ذلک من معاملة غیر إنسانیة، ولقد سار علی هذا المنهج کل واحد من أئمّة أهل البیت علیهم السلام، والروایات والقصص فی ذلک کثیرة، ولقد وقف الحسین علیه السلام یوم العاشر من المحرم، ینظر إلی هذه الجموع الواقفة أمامه نظرة المسؤول، ونظرة الشخص الرحیم صاحب الخلق السامی العطوف الذی یمثّل الإسلام بعطفه والرسول بمحبّته، وقف یبکی فتسأله أخته زینب: لماذا کلّ هذا البکاء یا بن رسول الله؟

فقال:

«أبکی علی هؤلاء القوم، إنّهم سیدخلون النار بسببی» (2).

یا لها من إنسانیة فی أعلی صورها وأشکالها، یا لها من شفقة لا یستطیع الإنسان أن یجد لها مثیلاً إلاّ من خلال عدل القرآن وترجمانه، ألا وهم أهل البیت علیهم السلام، وقف الحسین علیهم السلام یوم العاشر من المحرّم یبکی علیهم لأنّه أراد لهم

ص:19


1- (1) شرح نهح البلاغة لابن أبی الحدید ج 17 /ص 33.
2- (2) بنور فاطمة اهتدیت لعبد المنعم حسن: ص 201

النجاة وأرادوا لأنفسهم الهلاک، فیبکی علی مصیرهم الذی سوف ینتهون إلیه، فکان تجسیداً لقوله تعالی:

«حَرِیصٌ عَلَیْکُمْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُفٌ رَحِیمٌ 1» .

ووقف أنصاره وأصحابه یعایشون ما عایشه سیّد الشهداء، لأنّهم ذابوا فی الحسین علیه السلام فلم یکن لهم من مشاعر سوی مشاعر الحسین علیه السلام، ولهذا حملوها فی نفوسهم وقلوبهم وعقولهم، یقف حنظلة بن أسعد الشبامی یوم العاشر من المحرّم متمثّلاً قوله تعالی:

«یا قَوْمِ إِنِّی أَخافُ عَلَیْکُمْ مِثْلَ یَوْمِ الْأَحْزابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِینَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللّهُ یُرِیدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ * وَ یا قَوْمِ إِنِّی أَخافُ عَلَیْکُمْ یَوْمَ التَّنادِ * یَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِینَ ما لَکُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ وَ مَنْ یُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ2» .

ویقف زهیر بن القین البجلی وهو یقول: «یا أهل الکوفة، نذار لکم من عذاب الله نذار لکم، إنّ حقّاً علی المسلم نصیحة أخیه المسلم، ونحن حتی الآن إخوة وعلی دین واحد وملّة واحدة»(1).

کلّ ذلک وغیره لیشیر وبشکل واضح إلی الرحمة العالیة والشفقة الکبیرة والقلب الواسع والصدر الرحب الذی یحمله أصحاب الحسین اتجاه أعدائهم الذین یریدون قتلهم، فضلاً عن أصحابهم ومحبیّهم.

ص:20


1- (3) إبصار العین للسماوی: ص 129.

3. المحافظة علی أوقات الصلاة

عرفوها کما هی فذابوا فیها، علموا أنّها معراجهم إلی الله فلم یتوانوا یوماً فی تعظیمها، سمعوها من أئمّة أهل البیت علیهم السلام أنّها عمود الدین فتمسکوا بها، إنّها الصلاة التی «إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها»(1) ، عاشوها مع علی علیه السلام الذی لم یترک صلاة اللیل حتی فی لیلة الهریر العظیمة فی معرکة صفین(2) ، وعاشوها مع الحسن علیه السلام الذی ینقل عنه ابن شهر آشوب قائلاً: «إنّ الحسن بن علی کان إذا توضّأ ارتعدت مفاصله واصفر لونه فقیل له فی ذلک فقال: «حقّ علی کلّ من وقف بین یدی ربّ العرش أن یصفرّ لونه وترتعد مفاصله». واذا بلغ المسجد رفع رأسه قائلاً: «إلهی، ضیفک ببابک، یا محسن قد أتاک المسیء، فتجاوز عن قبیح ما عندی بجمیل ما عندک یا کریم».(3)

وعاشوها مع الحسین الذی سمعوه یقول للعباس یوم التاسع من المحرم: «إن استطعت أن تصرفهم عنّا هذا الیوم فافعل، لعلّنا نصلی إلی ربّنا هذه اللیلة، فإنّه یعلم أنّی أحب الصلاة وتلاوة القرآن».(4)

ولهذا کلّه وقفوا یضربون أعلی المثل وأجمل الصور فی ذلک. یقف أبو ثمامة الصائدی أو سعید بن عبد الله الحنفی وقد نظر فی السماء وأخذ یقلّب وجهه فیها، ثمّ توجّه إلی الحسین علیه السلام وقال نفسی لنفسک الفداء، أری هؤلاء قد اقتربوا

ص:21


1- (1) من لا یحضره الفقیه ج 208/1-626.
2- (2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 1 / ص 27.
3- (3) مناقب آل أبی طالب: ج 4 ص 14.
4- (4) مقتل المقرّم: ص 212.

منک، لا والله لا تقتل حتی أُقتل معک، وأحب أن ألقی ربّی وقد صلّیت هذه الصلاة التی دنا وقتها، فأجابه الحسین علیه السلام:

«ذکرت الصلاة، جعلک الله من المصلین الذاکرین».

وأقاموا الصلاة.(1)

4. الیقین بالله وبثوابه

لقد نقلت لنا کتب التاریخ ألواناً من صور الإیثار والفرح التی کان أصحاب الحسین یعیشونها فی ذلک الیوم العظیم وکأنّهم واقفون علی أبواب الجنّة یریدون الدخول إلیها، وهذا لعمری یقین عظیم؛ تقول الروایة: لمّا أخبر الحسین أصحابه بأنّهم سیقتلون، قالوا بأجمعهم: «الحمد لله الذی أکرمنا وشرّفنا بالقتل معک، أولا ترضی أن نکون منک فی درجتک یا بن رسول الله»(2).

ویقول الشیخ محمد جواد مغنیة رحمه الله: «فی لیلة العاشر من المحرّم ضُرِب للحسین فسطاطًٌ لیطلی بالمسک والنورة، ولمّا دخله وقف بریر بن خضیر الهمدانی وعبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاری تختلف مناکبهما لیسبق کلّ واحد منهما صاحبه إلی فاضل المسک، فیفوز بما لمسته أنامل الطهر والقداسة، فیعرف(3) نشر المسک مع نشر الدم الزکی، دم الشهادة والتضحیة، قال راوی الحدیث: فأخذ بریر یهازل عبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاری ویضاحکه، فأجابه عبد الرحمن: دعنا،

ص:22


1- (1) معالم المدرستین ج 3 ص 11.
2- (2) نفس المهموم: ص 122.
3- (3) من العرف، وهو الرائحة الطیّبة.

فو الله ما هذه بساعة باطل، قال بریر: والله لقد علم قومی أنّی ما أحببت الباطل شابّاً ولا کهلاً، ولکنّی لمستبشر بما نحن لاقون، والله ما بیننا وبین الحور العین إلاّ أن یمیل علینا هؤلاء بأسیافهم، ووددت أنّهم مالوا علینا الساعة».(1)

5. تشخیص الأولویّات

مشکلة الکثیرین من الدعاة والعاملین لله سبحانه وتعالی تکمن فی عدم تشخیص الاولویات، فیعمل بما تکلیفه الترک ویترک بما تکلیفه العمل، ویقدّم ما تکلیفه التأخیر ویؤخّر ما تکلیفه التقدیم، وهکذا، ومثل هذا المرض قد یصیب الأمّة بکاملها بکلّ قیاداتها وزعاماتها، بحیث إنّ الجمیع یخطئون فی تقدیر ما یحسن فعله وما لا یحسن فعله فی ذلک الوقت، بینما نجد العکس عند أصحاب الحسین علیه السلام، فوضوح الرؤیة عندهم کانت بادیة للعیان بشکل کبیر تجاه الأولویّات التی ینبغی علیهم أن یفعلوها لتحقیق أهدافهم الکبری، ومن ثم ما کانوا لیعتذروا بأمور أخری أقلّ أهمّیة من أدائهم مثل هذا التکلیف، صحیح ربّما کان قیامهم بمثل هذا التکلیف یمنعهم أو یحرمهم من الوعظ والإرشاد وتبلیغ أحکام الإسلام والدفاع عن معارف أهل البیت وعلومهم، بل إنّ أداء مثل هذا التکلیف لسوف یمنع بعضهم من القیام لصلاة اللیل وطرق أبواب الفقراء والمساکین والیتامی والمحتاجین. لقد شخّص أصحاب الحسین علیه السلام من خلال قانون ومقیاس المهمّ والأهمّ فی دائرة أحکام الشریعة أن لا مجال للخوض فی أیّ جزئیة من الجزئیّات السابقة، مهما عظمت وجلّت، مع ترک النصرة والدفاع عن الإسلام

ص:23


1- (1) المجالس الحسینیة للشیخ محمد جواد مغنیة: ص 101.

وکرامته المتمثّلة بالموقف العظیم والکریم الذی وقفوه مع أبی عبد الله الحسین علیه السلام، وبتقدیری أنّ ذلک درس لنا جمیعاً لکی نتعامل مع الشریعة الإسلامیة وأحکامها علی هذا الأساس، فلا نفرّط بما لا مجال للتفریط به، ولا نتمسّک فی نفس الوقت بالقشور وندع اللبّ یسقط إلی الأرض ویداس فی الأقدام.

6. الترکیبة المتمیّزة لأصحاب الحسین علیه السلام

لقد ضمّت هذه الثلّة المبارکة الطفل الصغیر والشیخ الهرم الکبیر، والمرأة والرجل، کما ضمّت من جهة أخری الفقهاء والوجوه وذوی المراکز الاجتماعیة والعلمیة العالیة، کحبیب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة الفقیه، وبریر بن خضیر القارئ، وأنس بن الحارث، وغیرهم.

کما ضمّت هذه الترکیبة المتمیّزة مجموعة من النساء، حیث نالت الشهادة امرأة، وهی أمّ وهب.

کما ضمّت من جهة ثانیة التعدّدیة الجغرافیة إن صحّ التعبیر، فهناک البصری والکوفی والمدنی والمکّی، والحضری والأعرابی، والترکی والزنجی و... و... و.

کما ضمّت المعروف فی ولائه وإخلاصه کحبیب بن مظاهر، والعثمانی الهوی کزهیر بن القین، والخارجی کسعد بن الحرث، والمسیحی کوهب.

هذه الترکیبة فی العقیدة لم توجد لها سابقة فی أصحاب أُحد، ومن ثم فقد صارت هذه الترکیبة الإلهیة الفائقة الإتقان تذوب فیها کلّ الفوارق الأخری من أجل أن تعطی صورة رائعة من الشمولیة العالمیة فی الانتساب والانتماء.

ص:24

7. الوعی والبصیرة

وأعنی بالوعی والبصیرة شدّة إیمانهم واعتقادهم بقضیتهم، الناشئ عن الوعی والبصیرة، حیث لم یکونوا متأثّرین بالجوّ العامّ للأفکار والمواقف، إذ لا ینبغی للإنسان المؤمن الانسیاق وراء الجوّ الاجتماعی والجماهیری الذی ربّما لا یتّصف بالحکمة فی کثیر من الأحیان، وکما قال تعالی فی القرآن الکریم:

«قُلْ إِنَّما أَعِظُکُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنی وَ فُرادی ثُمَّ تَتَفَکَّرُوا ما بِصاحِبِکُمْ مِنْ جِنَّةٍ 1» .

حیث طلب منهم أن یفکّروا فرادی أو مثنی، لا مجامیع، حتی لا یسقطوا ضحیّة تحت تأثیرات الجوّ الاجتماعی العامّ علی أفکارهم وثقافاتهم ومن ثم مواقفهم.

وممّا یؤکّد هذا المعنی فی أصحاب الحسین علیه السلام، هو أنّ التأریخ لم یسجّل لهم أیّ موقف أو کلمة أو رأی مخالف لرأی الحسین علیه السلام، بینما تجد فی أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله من خالف وعصی وتمرّد(1) وکذلک الحال بالنسبة لأصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام فقد تحمّل منهم الکثیر، ولا ننسی موقفهم معه فی صفّین ورفع المصاحف(2) ، وهکذا بالنسبة لموقف الحسن علیه السلام مع أصحابه، حتی وصل ببعضهم الأمر إلی أن یخاطبه بکلمات قاسیة(3) ، بینما لا نجد فی الطف وفی

ص:25


1- (2) وقد ذکر التاریخ مواقف کثیرة لاسیما فی صلح الحدیبیة، وذلک حینما أمرهم أن ینفروا فلم یقم منهم أحد: البخاری ج 3 /ص 257.
2- (3) تذکرة الخواص لابن الجوزی ص 103.
3- (4) للمزید راجع کتاب الحسن بن علی لباقر شریف القرشی ص 267 وما بعدها.

عرصة کربلاء إلاّ صوت الحسین، وإلاّ رأی الحسین، وإلّا نهج الحسین، فلا تجد إلاّ المطابقة بین فکر الحسین وفکرهم، ومشاعر الحسین ومشاعرهم، فلا إثنینیة فی البین، إنّما هی وحدة واحدة.

8. إنّ الله تولّی قبض أرواحهم

فی حدیث للإمام زین العابدین علیه السلام عن عمّته زینب، عن أمّ أیمن مولاة رسول الله صلی الله علیه و آله أنّه قال، فی وصف ما سیجری علی سبطه الحسین علیه السلام وأصحابه:

«فإذا برزت تلک العصابة إلی مضاجعها، تولّی الله قبض أرواحها بیده» (1).

ولا شکّ ولا ریب أنّ قبض الأرواح بید الله عزّ وجلّ لا بید غیره إنّما هو للمؤمن وللکافر، وحتی حینما أعطی لملک الموت ولأعوانه من الملائکة الإذن فی هذا الأمر، لم یستطع هؤلاء القیام بعملهم إلاّ بمعیّة الله لهم، فهم لا یقدّمون أمراً یرید الله تأخیره، ولا یؤخّرون أمراً یرید الله تقدیمه.

«عِبادٌ مُکْرَمُونَ * لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ 2» .

ومن ثم فإنّ تولّی قبض أرواح أصحاب الحسین من قبل الله تعالی إنّما یحمل علی التشریف وعلوّ المنزلة لهم (رضوان الله علیهم).

ص:26


1- (1) کامل الزیارات، الباب 88 ص 173.

9. نکرانهم لذواتهم

وقد تجلّت هذه الصفة فی مواطن کثیرة، فکان الواحد منهم لیسقط إلی الأرض والدماء تسیل منه، وقد امتلأ جسمه جراحات ومع ذلک لا یهمّه ما هو فیه، وما یهمّه هو الحسین علیه السلام، وعلی سبیل المثال، فإنّ مسلم بن عوسجة قد سقط إلی الأرض فجاء إلیه الحسین ومعه حبیب بن مظاهر، وإذا بمسلم یخاطب حبیباً بصوت ضعیف: یا حبیب، أوصیک بهذا الغریب أن تموت دونه(1).

وقال آخر للحسین علیه السلام: سیّدی لوددت أنّی أُقتل ثمّ أُحرق ثمّ أُذری، یفعل بی ذلک سبعین مرّة علی أدفع عنک بذلک القتل لفعلت. سبعین مرّة یحرق ویذری ولا یهمّه ذلک، المهمّ عنده أن لا یقتل الحسین علیه السلام، فأیّ نکران للذات هذا؛ وأیّ عشق للمولی هذا؛ وأیّ عطاء الهی یمکن أن یقف بإزاء هذا العطاء!.

ص:27


1- (1) معالی السبطین للمازندرانی ج 1 / ص 348.

کم هو عدد أصحاب الحسین علیه السلام ؟

اشارة

سؤال مهمّ طالما طرحه الکثیرون من الکتاب وغیرهم، وأعتقد أنّ الإجابة عن مثل هذا السؤال لا یمکن لها أن تکشف وبشکل واضح عن عدد الشهداء فی کربلاء، فعدد أصحاب الحسین هو أعمّ من الشهداء، فلیس کلّ من صحب قد استشهد، نعم کل من استشهد عُدَّ من أصحاب الحسین ضرورة، فهاهنا کما یقول العلماء عموم وخصوص مطلق، ولهذا لابدّ لنا من السؤال عن عدد الشهداء فی کربلاء، وعدم الاکتفاء بالسؤال عن الأصحاب، ومعرفة هذه الحقیقة سوف تهدینا إلی أرقام معیّنة، وربّما تختلف هذه الأرقام فیما لو لم ینظر إلی هذه الزاویة بعین الاعتبار، وقبل أن ندخل فی هذا البحث، والذی سوف یمثّل التوطئة للدخول إلی رحاب وظلال شهداء کربلاء، أودّ أن أشیر إلی مقدّمة مهمّة فی هذا المجال.

ص:28

المقدمة

لا شکّ ولا ریب أنّ کلّ من کتب أو تحدّث عن عدد أنصار الحسین علیه السلام فی کربلاء لا یمکن له أن یصل إلی مرحلة القطع بذلک مهما کان یملک من رجاحة فی الفکر وقوّة فی التحقیق، نعم غایة ما فی الأمر یمکن أن تمیل نفسه إلی عدد معیّن دون آخر أو أن یغلب علی ظنّه رقم دون بقیة الأرقام الأخری، مستنداً فی ذلک إلی مجموعة من الأدلّة والعلامات التی یراها هو دون الآخرین، ولهذا فلا یمکن والحال هذه أن تغلق أبواب البحث فی هذا الموضوع، معتمدین فی ذلک علی ما کتبه الآخرون مهما بلغوا من العلم فی هذا المجال، فالباب مفتوح یسع الجمیع، شرط امتلاکهم مؤهّلات وآلیات تعینهم علی الدخول إلی دراسات کهذه، ولقد أعجبتنی کثیراً کلمة قرأتها للشیخ محمد مهدی شمس الدین رحمه الله وهو یتحدّث عن مسألة الخلاف فی أسماء من استشهد من بنی هاشم فی کربلاء، حیث یقول: «هؤلاء السبعة عشر الذین ثبت عندنا أنّهم استشهدوا فی کربلاء من بنی هاشم...، أمّا ما عداهم فسنعرض أسماءهم فیما یلی مع شکّنا فی کونهم ممّن رزق الشهادة مع الإمام الحسین بن علی علیه السلام فی کربلاء، ونقدّر أنّ بعضهم قد استشهد فی مواقع أخری متأخّرة، واختلط أمره علی أصحاب الأخبار والمؤرّخین، مع احتمال أن یکون رأینا فی عدد الشهداء السبعة عشر وأسمائهم خطأ أیضاً، وأن یکون العدد أکثر ممّا ذکرنا، أو أن یکون بعض الأسماء غیر ما ذکرنا»(1).

ص:29


1- (1) کتاب أنصار الحسین للعلّامة محمد مهدی شمس الدین: ص 134-135.

واعتقد جازماً أنّ کلام شمس الدین المتقدّم یتضمّن الإشارة إلی ما ذکرناه سابقاً، فهو یرید أن لا یقف القارئ لکتابه وخصوصاً أهل الاختصاص منهم، موقف الإنسان العادی الذی لا یملک شیئاً من آلیات البحث، ومن ثم یقرأه قراءةً عادیة دون أن یتدبّر فیه، بل یرید منه أن یقرأ کتابه قراءة متأنّیة فیأخذ منه ما صحّت فکرته عنده، ویناقش فیما لم یصحّ منه، کما صنع هو رضی الله عنه مع ما کتبه الآخرون والمتقدّمون علیه مهما علت درجاتهم وسمت أفکارهم وانتشرت فی الأرجاء کتبهم، وهذه - حسب تصوّری - نقطة فی غایة الأهمّیة، تأتی فی طلیعة البحوث التی تتعلّق بواقعة الطفّ بشکل عامّ، التی تتعلّق بأنصار الحسین وشهداء کربلاء بشکل خاصّ، ولا یفهم من کلامی هذا أنّ لی رأیاً فی قبال آرائهم ضرورة، بل قد أتّفق فی کثیر من النقاط مع ما طرحه العلماء والمحقّقون الذین بذلوا الجهد الکبیر للوصول إلی هذا المستوی من الدراسات الکثیرة التی تتعلّق بهذا الموضوع المهمّ، ولکن بلا شکّ تبقی هناک نقاط تحتاج إلی تأمّل أکثر وبذل جهد أکبر للخروج برؤیة ربّما تکون أکثر انسجاماً مع الواقع التأریخی ومعطیاته، خصوصاً إذا علمنا بأن العدد الذی خرج به الحسین علیه السلام من المدینة لم یکن ذاته الذی خرج به من مکّة، ولم یکن هو نفسه الذی وصل به الحسین إلی کربلاء باتّفاق من کتب فی هذا الموضوع، بل الثابت أنّ هناک مجامیع انفضّت من الرکب الحسینی، وهناک أشخاص انضمّوا إلی هذا الرکب، وحتی فی کربلاء فهناک من استشهد وهناک من لم یستشهد بل أخذ جریحاً ومات علی رأس سنة أو أقلّ، وهناک من خرج من المعرکة قبیل انتهائها کالضحّاک المشرقی، وهناک من نجا

ص:30

من القتل سواء من أهل البیت علیهم السلام أو من الأصحاب، ومن ثم فلا یمکن لنا والحال هذه إلاّ أن نبذل تمام الجهد وکامل الوسع من أجل الأخذ بما یمکن أن یکون أکثر انسجاماً مع الأحداث والوقائع، وهذا بتقدیری غیر یسیر علی کلّ خبیر.

وعلی کلّ حال، فإنّی سأذکر أقوال العلماء وآراءهم فی هذا الموضوع وما ذکروه من عدد اطمأنّوا إلی أنّه هو العدد الذی کان مع سیّد الشهداء فی کربلاء، سواء أکانوا من أرباب المقاتل الحسینیة القدیمة أم من المؤرّخین، أم من سائر العلماء الذین تعرّضوا لحادثة کربلاء وتناولوها من زوایا وجهات أدبیة أو اجتماعیة أو سیاسیة أو ما شاکل ذلک، ولقد بذلت جهداً لیس بالقلیل فی تتبّع أقوالهم وترتیبها علی أساس العدد الذی أوردته فی تلک الآراء وعزلت فی الوقت نفسه قائمة الشهداء من بنی هاشم عن قائمة الشهداء من سائر الأصحاب رضی الله عنهم.

أمّا فیما یتعلّق بالشهداء من بنی هاشم فقد ذکر العلماء ما یلی:

أنّهم کانوا (13) کما یقول المسعودی فی مروج الذهب(1) ، وهو أقلّ عدد روی فی ذلک.

أنّهم کانوا (14) کما یقول الخوارزمی فی مقتله.(2)

أنّهم کانوا (16) کما فی روایة أخری للخوارزمی فی مقتله، یذکرها عن

الحسن البصری(3) ، وروایة الحصین بن عبد الرحمن عن سعد بن عبادة.

ص:31


1- (1) مروج الذهب للمسعودی: ج 3 ص 71.
2- (2) مقتل الخوارزمی: ج 2 ص 47.
3- (3) مقتل الخوارزمی: ج 2 ص 47، أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: ص 46.

أنّهم کانوا (17) کما فی زیارة الناحیة، والإرشاد للشیخ المفید.(1)

أنّهم کانوا (19) کما عند الطبری فی تاریخه، ویعد منهم الحسین بن علی علیه السلام ومسلم بن عقیل.(2)

أنّهم کانوا (20) کما فی تسمیة من قتل مع الحسین من أصحابه وشیعته للفضیل بن الزبیر.(3)

أنّهم کانوا (22) کما یذکر أبو الفرج الأصفهانی فی مقاتل الطالبیّین.(4)

أنّهم کانوا (23) کما عند الیافعی فی مرآة الجنان.(5)

أنّهم کانوا (27) کما عند الخوارزمی فی مقتله حیث قال: «اختلف أهل النقل فی عدد المقتول یومئذ مع ما تقدّم من قتل مسلم من العترة الطاهرة، والأکثرون علی أنّهم کانوا سبعة وعشرین، منهم مسلم بن عقیل والحسین علیه السلام.(6)

أنّهم کانوا (30) کما عند السیّد الأمین فی أعیان الشیعة.(7)

أنّهم کانوا (49) کما عند السیّد الزنجانی فی وسیلة الدارین.(8)

ص:32


1- (1) الإرشاد للشیخ المفید: ص 248.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 5 ص 468.
3- (3) مجلّة تراثنا، العدد 2 تحقیق السیّد محمد رضا الجلالی: ص 127.
4- (4) مقاتل الطالبیین للأصفهانی: ص 62
5- (5) مرآة الجنان للیافعی: ج 1 ص 133.
6- (6) مقتل الخوارزمی: ج 2 ص 47.
7- (7) أعیان الشیعة: ج 4 القسم الأول ص 134.
8- (8) وسیلة الدارین: ص 94.

أمّا فیما یخصّ عدد الشهداء من أصحاب الحسین علیه السلام فقد فاق الاختلاف فیهم الاختلاف فی بنی هاشم، وها نحن نسجّل أقوالهم حسب العدد الوارد فیها وکما یلی:

أنّهم کانوا (60) رجلاً کما ذکر ذلک الدمیری فی حیاة الحیوان.(1)

أنّهم کانوا (61) راجلاً کما ذکر ذلک المسعودی فی إثبات الوصیة.(2)

أنّهم کانوا (70) فارساً خرجوا معه من المدینة.(3)

أنّهم کانوا (32) فارساً و (40) راجلاً کما ذکر ذلک الطبری وابن الأثیر والدینوری والخوارزمی.(4)

أنّهم کانوا (80) کما فی روایة الحصین بن عبد الرحمن عن سعد بن عبادة(5).

أنّهم کانوا (82) راجلاً کما فی الدمعة الساکبة.(6)

أنّهم کانوا (86) رجلاً کما ذکر ذلک الشریسی فی شرح مقامات الحریری من دون حساب علی الأکبر.(7)

ص:33


1- (1) حیاة الحیوان للدمیری: ج 1 ص 73.
2- (2) إثبات الوصیة للمسعودی: ص 35.
3- (3) مختصر تاریخ دول الإسلام للذهبی: ج 1 ص 31.
4- (4) الطبری: ج 6 ص 241؛ الکامل: ج 4 ص 24؛ الدینوری: ص 354.
5- (5) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: 46.
6- (6) الدمعة الساکبة: ص 327.
7- (7) شرح مقامات الحریری للشریسی: ج 1 ص 173.

أنّهم کانوا (82) مبارزاً، ونیّفوا علی الخمسین فی الحملة الأولی.(1)

أنّهم کانوا (45) فارساً ونحو (100) راجل کما فی تهذیب تاریخ دمشق لابن عساکر.(2)

أنّهم کانوا (45) فارساً و (100) راجل کما عند ابن نما فی مثیر الأحزان والطبری عن الباقر علیه السلام.(3)

أنّهم کانوا (87) رجلاً کما عن الفضیل بن الزبیر.(4)

أنّهم کانوا قریباً من (100) رجل کما عند الطبری.(5)

أنّهم کانوا (233) کما عند الزنجانی فی وسیلة الدارین.(6)

أنّهم کانوا (500) فارس و (100) راجل کما عند الطبری والمسعودی(7) ، ولکن یجب إسقاط عدد (19) شهیداً من أهل البیت کما یذهب إلی ذلک الطبری کما تقدم.(8)

ص:34


1- (1) مرآة الجنان للیافعی: ج 1 ص 131.
2- (2) تهذیب تاریخ دمشق لابن عساکر: ج 4 ص 337.
3- (3) مثیر الأحزان: ص 28، الطبری: ج 5 ص 381.
4- (4) مجلّة تراثنا: عدد 2 ص 151.
5- (5) الطبری: ج 5 ص 392.
6- (6) وسیلة الدارین: ص 94.
7- (7) المسعودی فی مروج الذهب: ج 3 ص 70؛ شرح مقامات الحریری للشریسی: ج 1 ص 172.
8- (8) حیث ذکر أنّ عدد الشهداء من أهل البیت علیهم السلام (19) فیکون الباقی هو (581) شهیداً من غیر أهل البیت علیهم السلام علی أساس هذا الرأی.

وممّا تقدّم یتبیّن لک بما لا یقبل الشکّ حجم الجهد الذی یتوجّب علی الباحث والدارس لهذا الموضوع بذله من أجل الخروج بنتیجة تکون هی الأقرب إلی العدد الذی کان مع الحسین علیه السلام.

وعلیه فلابد من مراجعة کلّ الروایات أو جُلِّها علی ما یتیسّر، وأقوال العلماء وما سردوه من أحادیث حول هذه الواقعة.

سؤال وجواب

وقد یقول قائل: ولم کُلّ هذا الجهد أصلاً؟ وما فائدة أن نعرف العدد الحقیقی أو ما یقاربه بالدقّة؟

أقول: إنّ معرفة أسماء الأصحاب الذین سایروا الحسین وترکوا الأهل والأولاد والأوطان، بل وطلّقوا الدنیا بکلّ ما تزخر به من إغراءات یسیل لها لعاب الکثیر من الناس، حسب تقدیری هو مسؤولیة دینیة وإنسانیة فی نفس الوقت من أجل الحفاظ علی ما قدّموه أوّلاً، وتقدیمه إلی الناس للاقتداء به ثانیاً.

ومن هنا نجد أنّ کلّ الشعوب والأمم علی اختلاف آیدیولوجیّاتها وانتماءاتها الفکریة، تبذل الغالی والنفیس من أجل الحفاظ علی عظمائها ومفکّریها وزعمائها وقادتها وشخصیّاتها شاخصةً فی أذهان أممهم وشعوبهم، وما النُصُب التی نراها ونقرأ عنها فی بلدان العالم کافة، إلاّ إشارة إلی هذه النزعة الإنسانیة اتجاه من یحملون الدرجات العالیة، ومن لهم شرف السبق فی شتّی المجالات.

ص:35

جهود العلماء

ومن هنا بذل علماؤنا الماضون ومحقّقونا وما زالوا، فی هذا الطریق - وإن قلّ ما نجده فی الوقت الحاضر - الجهد الکبیر من أجل تسلیط الضوء علی هذه الأسماء وجمعها من بطون الکتب المخطوطة، ودراستها ومقارنتها ببقیة النسخ الأخری، لمعرفة المکرّر منها والمصحّف وما شاکل ذلک، کلّ هذا من أجل الخروج - کما تقدّم فی ذکر آرائهم - بنتائج مُطَمْئِنة یمکن الرکون إلیها، سواء کانت هذه الأسماء من أهل البیت أم من الأصحاب رضی الله عنهم.

وقد استدلّوا فی الوصول إلی هذه النتائج، حسب فهمی، بمجموعة من الأدلّة لا تخرج عمّا سنذکره إلاّ نادراً:

1. الروایات التی تتحدّث عن العدد الذی خرج به الحسین من المدینة أو من مکّة أو الذی کان معه فی الطریق إلی العراق، أو حینما نزل فی کربلاء یوم الثانی من المحرّم، أو کان معه یوم التعبئة وهو یوم العاشر من المحرّم.

2. الروایات التی تحدّثت عن عدد الرؤوس المقطوعة بعد واقعة الطفّ والمحمولة علی أطراف الرماح.

3. الروایات التی تحدّثت عن عدد المستشهدین فی الحملة الأولی، والمستشهدین مبارزة بعد ذلک.

4. بعض کتب المقاتل القدیمة المعاصرة للحادثة، أو التی جاءت بعدها بمدّة وجیزة، کمقتل الفضیل بن الزبیر.

5. زیارة الناحیة وما حوته من أسماء الشهداء، وتسلیم الإمام المهدی علیها

ص:36

وذکر قاتلیها، والتی تمثّل مصدراً مهمّاً وقدیماً فی الوقت نفسه.

6. الزیارة الرجبیة، والتی تمثّل مصدراً لذکر الأسماء، وإن لم تکن أساسیة لعدم وجود السند فیها کما سیأتی.

أولاً: الروایات التی تحدثت عن العدد الذی خرج به الحسین من المدینة حتی وصوله إلی کربلاء، فخیر من تحدّث عنها وجمعها وناقشها هو المحقّق المرحوم آیة الله الشیخ محمد مهدی شمس الدین، فی کتابه القیّم «أنصار الحسین» حیث ذکر أربع روایات عبّر عنها بأنّها کانت رئیسیة فی هذا الموضوع، وهی کالتالی:

الروایة الأولی: روایة المسعودی والتی یقول فیها: «فلمّا بلغ الحسین القادسیة لقیه الحرّ بن یزید الریاحی...، فعدل إلی کربلاء وهو فی مقدار خمسمائة فارس من أهل بیته وأصحابه ونحو مائة راجل»(1).

ویقبل الشیخ شمس الدین العدد الوارد فی هذه الروایة ولکن بشرط ان نتأخّر بالروایة زماناً قلیلاً عن ملاقاة الحر ووصول خبر شهادة مسلم بن عقیل وعبد الله بن یقطر وهانی بن عروة.

أقول: إنّ توجیه العلّامة شمس الدین رحمه الله لهذه الروایة توجیه سلیم وفی محلّه، ونحن نمیل إلی ما مال إلیه، حیث تؤکّد جملة من الروایات التاریخیة أنّ مجامیع من الناس کانت تنفض عن الحسین بعد کلّ خبر یصل الیه من أهل الکوفة، أو بعد کلّ تصریح صریح للحسین فی أن النهایة التی سوف ینتهی إلیها

ص:37


1- (1) . أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: ص 44.

هو وأصحابه هی الموت لا غیر، لاسیما قولته الشهیرة: «من لحق بنا استشهد، ومن لم یلحق بنا لم یدرک الفتح»(1) وقوله: «خیر لی مصرع أنا لاقیه... إلخ».(2)

الروایة الثانیة: روایة عمّار الدهنی، عن أبی جعفر الباقر علیه السلام حیث جاء فیها: «حتی اذا کان بینه وبین القادسیة ثلاثة أمیال لقیه الحرّ بن یزید الریاحی...، فلمّا رأی ذلک عدل إلی کربلاء، فنزل وضرب أبنیته، وکان أصحابه خمسة وأربعین ومائة راجل»(3).

ویقبل الشیخ شمس الدین رحمه الله کذلک هذا العدد من حیث المبدأ، حیث إنّه یمثّل بالنسبة الیه مرحلة من مراحل المسیرة الحسینیة إلی کربلاء مع إقراره رضی الله عنه أنّ الروایة مهمّة، لأنّها تأخذ المعلومة من الصدر الصافی النقی الثقة، وهو الإمام الباقر علیه السلام ولکنّه فی الوقت نفسه یؤکّد وجود تحریف منکر فی هذه الروایة لواقعة کربلاء، خصوصاً فی أهمّ رکن منها، وهو ثبات الحسین وعدم قبوله لأیّ حلول وسطیّة یحافظ من خلالها علی حیاته التی نذرها للإسلام، حیث أکّدت الروایة فی ثنایاها أنّ الحسین علیه السلام همّ بالرجوع بعد حدیث الحرّ معه، ولکن الذی منعه من ذلک موقف إخوة مسلم بن عقیل.

أقول: لقد أورد المسعودی نفس هذه الروایة التی أوردها الطبری عن عمّار الدهنی من دون أن ینسبها إلیه، کما أنّ العدد فیها خمسمائة فارس، قال: «فلمّا بلغ الحسین القادسیة لقیه الحرّ بن یزید التمیمی فقال له: أین ترید یا بن رسول الله؟

ص:38


1- (1) کامل الزیارة: ص 75.
2- (2) مثیر الأحزان لابن نما: ص 29.
3- (3) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: ص 45.

قال: أرید هذا المصر فعَّرَفه بقتل مسلم وما کان من خبره، ثمّ قال: إرجع، فإنّی لم أدعْ خلفی خیراً أرجوه لک، فهمّ بالرجوع، فقال له إخوة مسلم: والله لا نرجع حتی نصیب بثأرنا أو نقتل کلّنا، فقال الحسین علیه السلام لا خیر فی الحیاة بعدکم...»(1).

کما أوردها بنفس هذا العدد من دون نسبة کذلک، الشریسی فی شرح مقامات الحریری(2).

ومن الواضح لکلّ ذی عینین أنّ هذه الروایات وإن اختلفت فی العدد الذی تضمّنته إلاّ أنّها اشترکت فی قضیّة واحدة، ألا وهی همّ الحسین علیه السلام بالرجوع إلی وطنه وإصرار إخوة مسلم بالاستمرار حتی أخذ الثأر، ثمّ تسلیم الحسین علیه السلام لرأیهم.

الأیادی الآثمة المحرِّفة

یعنی أنّ الأیادی الآثمة التی مُدّت إلی هذه الروایة وأرادت نشرها بأیِّ رقم وعدد، کانت تهدف من وراء ذلک إلی إثبات أنّ الحسین لم یکن جادّاً فی حرکته، والدلیل علی ذلک هو همّه بالرجوع إلی المدینة، وهذا یعنی ضمناً أنّ یزید لم یکن مستحقّاً أن یخرج علیه الحسین ولا غیره، بل کان مستحقّاً للتأیید والدعاء له بالاستقامة والثبات، هذا من جهة، ومن جهة أخری ترید أن تثبت أن الحسین علیه السلام کان مشتبهاً فی خروجه، وهذا بحدّ ذاته کان مطلباً أمویّاً کبیراً سعت الیه الدولة الأمویة بکلّ ما أوتیت من قوّة من أجل تحقیقه، وبذلوا الأموال

ص:39


1- (1) مروج الذهب للمسعودی: ج 1 ص 70.
2- (2) شرح مقامات الحریری للشریسی: ج 1 ص 173.

الطائلة من تنفیذه، ولقد قالها ابن خلدون فی مقدّمته صریحة جریئة من دون استحیاء من الله ورسوله: «فتبیّن من ذلک غلط الحسین إلاّ أنّه فی أمر دنیوی لا یضرّه الغلط فیه، وأمّا الحکم الشرعی فلم یغلط فیه لأنّه منوط بظنّه، وکان ظنّه القدرة علی ذلک»(1).

الید الآثمة فی تأریخ الثورة الحسینیة

ولم تکن هذه الید الأثیمة الوحیدة التی مدّت إلی هذه الروایة، بل هناک جملة من الروایات حاولت أن تسیء إلی شخص الحسین بشکل خاصّ، وإلی الحرکة الحسینیة بشکل عامّ.

الطبری مثالاً

وللمثال فقط أذکر ما قاله الطبری فی موضعین من تاریخه:

أما الأوّل: فیقول فیه: «کتب عبید الله بن زیاد إلی یزید بن معاویة یخبره بما حدث، ویستشیره فی شأن أبناء الحسین ونسائه فلمّا بلغ الخبر إلی یزید بن معاویة بکی وقال: کنت أرضی من طاعتهم (أی أهل العراق) بدون قتل الحسین علیه السلام...، لعن الله ابن مرجانة، لقد وجده بعید الرحم منه، أما والله لو أنّی صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسین»(2).

وثانیاً: یقول فی موضع آخر وهو ینقل حدیث یزید لعلی بن الحسین علیه السلام عند مغادرته دمشق: «لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أنّی صاحبه ما سألنی خصلة

ص:40


1- (1) مقدّمة ابن خلدون: ص 271.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 5 ص 393.

أبداً إلاّ أعطیتها إیّاه، ولدفعت عنه بکلّ ما استطعت ولو کلّفنی بعض ولدی، ولکنّ الله قضی ما رأیت، کاتبنی بکلّ حاجة تکون لک».(1)

فإذا تبیّن لنا أنّ الروایة قد مدّت لها هذه الید الأثیمة کما تقدّم، فحینئذ نرفع الید عمّا فیه تحریف وتزویر، ونأخذ بالعدد الذی ورد فی هذه الروایة، والذی یتردد بین (145-500). وبما أنّ العدد (500) مخالفة لکلّ المصادر التاریخیة فیعرض عنه، ویعمل بالعدد الآخر وهو (145)، خصوصاً إذا علمنا أنّ هناک جملة من المرجّحات التی ربّما تعین علی الأخذ بهذا العدد دون سواه، کما سیتبیّن لک فی نهایة هذا البحث.

الروایة الثالثة: روایة الحصین بن عبد الرحمن، عن سعد بن عبیدة قال: «إن أشیاخاً من أهل الکوفة لوقوف علی التلّ یبکون ویقولون: اللهمّ أنزل نصرک قال: قلت: یا أعداء الله، ألا تنزلون الیه فتنصرونه!... وإنّی لأنظر إلیهم (یعنی أصحاب الحسین) وإنّهم لقریب من مائة رجل، فیهم لصلب علی بن أبی طالب علیه السلام خمسة، ومن بنی هاشم ستة عشر، ورجل من بنی سلیم حلیف لهم، ورجل من کنانة حلیف لهم، وابن عمر بن زیاد»(2).

ویبدو أنّ الشیخ شمس الدین رحمه الله یقبل کذلک هذا الرقم الوارد فی هذه الروایة، ولکنّه یقیّده بالیوم العاشر من المحرّم وبعد الحملة الأولی، لوجود قرینة ربّما تکون فیها إشارة تؤیّد الرکون إلی مثل هذا الاعتقاد، ألا وهی رمی عمر

ص:41


1- (1) تاریخ الطبری: ج 5 ص 462.
2- (2) أنصار الحسین للشیخ شمس الدین: ص 46.

الطهوی بسهم علی الحسین وسقوطه بین کتفیه وتعلّقه بجبّته.

أقول: وهذا الحمل متین وفی محلّه، ونحن نذهب إلی ما ذهب إلیه، ولکنّ الغریب فی الأمر أنّ فضیلته بعد حمله الروایة علی هذا المحمل یضع هذا العدد الوارد فی هذه الروایة فی قبال العدد الوارد فی روایة عمّار الدهنی عن الإمام الباقر علیه السلام، وکان ینبغی أن توضع هذه الروایة - وخصوصاً مع حملها علی هذا المحمل - قرینة من جملة القرائن التی تُعین علی الأخذ بروایة عمّار الدهنی، لأنّ روایة سعد بن عبیدة تثبت وجود قرابة المائة، وقطعاً هذا التقریب من خلال النظر لا الدقّة والإحصاء، ومن ثم یکون العدد مُؤرجحاً بین (95-100) رجل، فإذا ما أضفنا إلی هذا العدد من ثبت أنّه استشهد فی الحملة الأولی من أنصار الحسین علیه السلام کما هو رأی سماحته فی حملة المتقدّم، والبالغ عددهم (50) نفراً أو یزیدون قلیلاً، فالنتیجة التی سوف تترتّب علی ذلک هو (145) أو ما یقارب هذا الرقم، وهو ما تشیر إلیه روایة عمّار المتقدّمة، ومن ثم تکون کلّ من الروایتین تشیران إلی عدد واحد بعینه کما تقدّم.

الروایة الرابعة: روایة أبی مخنف، عن الضحّاک بن عبد الله المشرقی حیث یقول: «وعبّأ الحسین أصحابه وصلّی بهم صلاة الغداة، وکان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً»(1).

ویقبل الشیخ شمس الدین رحمه الله عدد هذه الروایة، لوجود اتّفاق بینها وبین روایات مؤرّخین آخرین معاصرین له کالطبری، أو متأخّرین علیه کالدینوری

ص:42


1- (1) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 47.

والیعقوبی والخوارزمی والشیخ المفید.

أقول: ولا کلام فی حسن سمعة أبی مخنف، الذی عُدَّ من ثقات المحدّثین، حتی قال عنه ابن الندیم: «أبو مخنف بأمر العراق وأخبارها وفتوحها، یزید علی غیره»(1).

الضحّاک کان دقیقا فی تعامله

ولا کلام کذلک حول شخصیة الضحّاک الذی کان دقیقاً فی تعامله مع الحسین غایة الدقّة، حتی أنّ کلّ ما جری وحصل من مجازرٍ وسفکٍ ٍ للدماء، لم یؤثّر فی هذا الرجل الذی عاش کلّ هذه الأجواء، ولم تتغیّر قناعاته فی ذلک الاتفاق الذی أبرمه مع الحسین علیه السلام وظلّ ثابتاً علیه حتی فارقه کما هو معلوم. إنّ أمثال هؤلاء حینما ینقلون لا شکّ یوثق بنقلهم من هذه الجهة دون بقیة الجهات الأخری یقول الشیخ محمد مهدی شمس الدین رحمه الله: «الضحّاک بن عبد الله المشرقی وهو فیما یبدو رجل صارم وعملی ودقیق جدّاً، فحین طلب الحسین منه النصرة أجابه إلی ذلک، مشترطاً أن یکون فی حلّ من الانصراف عنه حین لا یعود قتاله مفیداً فی الدفع عن الحسین علیه السلام وقد أجابه الحسین إلی شرطه، فاشترک الضحّاک فی المعرکة بصدق. إنّ هذه الملاحظة تبعث علی الوثوق بدقّته».(2)

وهذه الروایة مهمّة من جهتین: أمّا الجهة الأولی، فهی أنّ الناقل لها هو أبو مخنف فی مقتله، وهذه الخصّیصة سوف نتحدّث عنها بعد ذلک حیث سیتبیّن لنا

ص:43


1- (1) الفهرست لابن الندیم: ص 158.
2- (2) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 48.

أنّ کتب المقاتل هی أقلّ من کتب التأریخ العامّة عرضة للتحریف؛ وأمّا الجهة الثانیة، فهی وجود الضحّاک إلی جانب الحسین علیه السلام منذ مروره به فی منطقة قصر بنی مقاتل(1) وحتی استشهاد جمیع أصحابه سوی اثنین کان هو ثالثاً لهما، وهذا الرجل لا شکّ حینما یروی سوف یروی الحدث کما هو، لأنّه فیه ولیس خارجاً عنه. ولکن المشکلة التی تترتّب علی الأخذ بروایة أبی مخنف هی وجود نتیجتین لا یقول بهما أحد وهما:

1. أنّ جمیع من عبّأهم الحسین علیه السلام للقتال قد قتلوا وهذا ما لا یقول به أحد، فهناک من نجا من هذه المعرکة، سواء من أهل البیت علیهم السلام أم من الأنصار، وقد نصّ العلماء علی أسمائهم بالتفصیل، اللهمّ إلاّ أن یؤخذ برأی الشیخ شمس الدین رحمه الله حینما أشار إلی أنّ هذه التعبئة لم تکن شاملة بل کانت مختصّة بالأصحاب، فلا تشمل بنی هاشم ولا الموالی، حیث قال: «وهی فی تقدیرنا تعبّر عن عدد أصحاب الحسین علیه السلام من المحاربین العرب غیر الهاشمیّین، فهی لا تشمل الهاشمیین ولا الموالی ولا الخدم»(2).

ومع إجلالنا لسماحة المحقّق شمس الدین رضی الله عنه إلاّ أنّه لم یبیّن لنا دلیل هذا التقدیر الذی ذهب الیه، حیث أرسلها من دون الإشارة إلی ما یؤیّدها من قرائن حالیّة أو مقالیّة، ومع عدم ذکر المستند والدلیل لیتسنی لنا دراسته، لا نکون ملزمین بالمیل إلی ما مال الیه ولا تقدیر ما قدّره رضی الله عنه.

ص:44


1- (1) مقتل الحسین لأبی مخنف: ص 108.
2- (2) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 53.

تعبئة الحسین علیه السلام کانت عامة ولیست خاصة بالأصحاب

اشارة

نقول: إنّ الدلیل علی أنّ التعبئة لم تکن خاصّة بأصحابه علیه السلام، یعضدها الدلیل النقلی والمعنوی إن صحّ التعبیر.

أمّا الدلیل النقلی

فقد روت کتب المقاتل والتأریخ أنّ الحسین علیه السلام حینما رتّب أصحابه إلی میمنة ومسیرة وقلب، لم یترک أهل البیت علیهم السلام بل ورتّبهم کذلک، فذکروا فی هذا المجال صورة ربّما تختزن فی داخلها مجموعة من الصور التی تتعلّق بتوزیع الحسین علیه السلام لأهل البیت علیهم السلام.

یقول أرباب المقاتل: «ثمّ إنّه صفّ أصحابه ورتّبهم میمنة ومیسرة فی مراتبهم، فجعل علی بن الحسین فی میمنته، وحبیب بن مظاهر فی میسرته، وزهیر فی جناحه الأیمن، ومسلم بن عوسجة فی جناحه الأیسر، ووقف هو فی القلب، وأعطی رایته أخاه العباس»(1).

ص:45


1- (1) مصارع الشهداء ومقاتل السعداء، للشیخ سلمان بن عبد الله آل عصفور، تحقیق الشیخ علی آل کوثر: ص 111، وبهامشه یذکر المحقّق هذه الطریقة الحسینیة فی ترتیبه علیه السلام لصفوف أصحابه؛ الإرشاد للمفید: ج 2 ص 96؛ الطبری: ج 5 ص 423.

وبتقدیری، ما ذکر هذان العلمان من بنی هاشم دون الآخرین إلاّ لقربهما من سیّد الشهداء وعظیم أثرهما علیه، کما هو واضح من تفجّع الحسین حینما وقف علی مصرعیهما، وأمّا بقیّة بنی هاشم فلا شکّ أنّه تمّ توزیعهم ضمن هذه المحاور الأساسیة، من یمین وشمال ومقدّمة ومؤخّرة وقلب.

وأمّا الدلیل المعنوی

فلک أن تتصوّره معی والحسین واضع أهل بیته، من أولاده وإخوته وأولاد عمّه وقرابته، إلی جانبه، وقد صفّ أصحابه ووزعهم للقتال، وما یترکه مثل هذا الفعل فی نفوس أصحابه علیه السلام، وإن کنّا نقطع أنّ الاصحاب إنّما التحقوا به من أجل أن یموتوا دون بنی هاشم، ولکن تبقی لمثل هذه الصورة دلالاتها، والتی حاول الحسین علیه السلام فی أکثر من مناسبة التأکید علیها، وهذه الحقیقة قد عرفها ووعاها کلّ قریب للحسین من أهل بیته ممّن کانوا معه؛ ینقل الشیخ محمد مهدی المازندرانی(1) فی کتابه معالی السبطین، عن زینب علیها السلام فی أحداث لیلة العاشر من محرّم، فی روایة طویلة أنقل منها محلّ الشاهد: «لمّا کانت لیلة عاشر من المحرّم، خرجتُ من خیمتی لأتفقّد أخی الحسین وأنصاره، وقد أفرد له خیمة، فوجدتهُ جالساً وحده یناجی ربّه ویقرأ القرآن، فقلت فی نفسی: أفی مثل هذه اللیلة یترک أخی وحده؟!

ص:46


1- (1) . شیخ الخطباء فی کربلاء، ولد سنة 1293 ه - وتوفّی 1306 ه - له مؤلّفات عدیدة، منها: شجرة طوبی، والکوکب الدرّی، ومعالی السبطین وغیرها. أنظر تاریخ الحرکة العلمیة فی کربلاء، نور الدین الشاهرودی: ص 267-268.

والله لأمضینّ إلی إخوتی وبنی عمومتی وأعاتبهم علی ذلک، فأتیت خیمة العباس فسمعت منه همهمة ودمدمة، فوقفت علی ظهرها، فنظرت فیها فوجدت بنی عمومتی وإخوتی وأولاد إخوتی مجتمعین کالحلقة، وبینهم العباس ابن أمیر المؤمنین وهو جاث علی رکبتیه کالأسد علی فریسته، فخطب فیهم خطبة ما سمعتها إلاّ من الحسین علیه السلام، مشتملة علی الحمد والثناء والصلاة علی النبی وآله، ثمّ قال فی آخر خطبته: یا إخوتی وبنی إخوتی وبنی عمومتی، إذا کان الصباح ماذا تقولون؟ قالوا: الأمر إلیک یرجع، ونحن لا نتعدّی لک قولاً، فقال العباس: إنّ هؤلاء (یعنی الأصحاب) قوم غرباء، والحمل الثقیل لا یقوم به إلاّ أهله، فإذا کان الصباح فأوّل من یبرز إلی القتال أنتم»(1).

وممّا لا ریب فیه أنّ العباس لا یخطو کهذه خطوة إلاّ لمعرفته برغبة الحسین فی ذلک، فتبیّن ممّا تقدّم بأنّ الحسین لم یعبّئ أصحابه لوحدهم حینما صفّهم للحرب، وإنّما عبّأ معهم بنی هاشم والموالی کذلک، لأنّهم جزء من أصحابه بل ومن المستشهدین بین یدیه. فقول أبی مخنف إنّه صفّهم للحرب فکانوا اثنین وسبعین، سوف تترتّب علیه نتیجة لا یقول بها أحد، کما قلنا فی أوّل هذه النقطة، وهی أنّ جمیعهم قد قتلوا ولم یبق منهم أحد،(2) لأنّ من المتّفق علیه عند المؤرّخین جمیعاً وأرباب المقاتل، أنّ عدّة مَنْ قُتِلَ من أصحاب الحسین وأهل بیته لم ینقص عن اثنین وسبعین رجلاً، وهذه النتیجة لا توجد روایة واحدة ضعیفة

ص:47


1- (1) معالی السبطین: ج 1 المجلس الثالث فی وقائع لیلة عاشوراء، کما فی ص 53.
2- (2) الغریب أنّ الشیخ شمس الدین رحمه الله فی الوقت الذی یؤکّد علی أنّ التعبئة کانت خاصّة للأصحاب فقط، کما فی ص 53، یقول فی ص 65: إنّ الهاشمیین کانوا جزءاً من القوّة المعبّأة.

فضلاً عن الصحیحة تقول بها، لتواتر الأخبار التی تفید نجاة جماعة منهم، کما تقدم قبل ذلک.

2. والنتیجة الأخری التی تترتّب علی الأخذ بروایة أبی مخنف، هی أنّ جمیع الذین عبّأهم الحسین علیه السلام قد شملتهم جریمة قطع الرؤوس وحملها فوق الرماح. وهذا کذلک لا قائل به، لتواتر النقل بأنّ هناک رؤوساً لم تقطع، کرأس الحرّ بن یزید الریاحی وآخرین، کما یؤکّد علی ذلک المحامی أحمد حسین یعقوب فی دراسته لعدد أصحاب الحسین علیه السلام(1).

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة (2) وهی جریمة قطع الرؤوس الشریفة

من الأدّلة التی ذکرها العلماء، وهی جریمة قطع الرؤوس ورفعها فوق الرماح والاستدلال من خلالها علی عدد شهداء کربلاء، فإنّ الشیخ شمس الدین رحمه الله درس هذه المسألة من خلال سؤال تحت عنوان: هل قتل الجمیع، أو بقیت منهم بقیة؟ بعد إثارته لمسألة عدد الرؤوس التی قطعت بعد واقعة الطف، ثمّ یذکر بعد ذلک جملة من الروایات التی تحدّثت عنها المصادر التاریخیة، کالطبری وأبی مخنف والشیخ المفید وغیرهم، فی عدد هذه الرؤوس المقطوعة، ثمّ یقول: وقد یقال بوجود دلالتین لعدد الرؤوس، إحداهما: دلالته علی عدد أصحاب الحسین علیه السلام، وثانیتهما: دلالته علی عدد القتلی. ویجیب الشیخ شمس الدین رحمه الله علی ذلک بقوله: «ولکنّنا لا نری لعدد الرؤوس أیّة

ص:48


1- (1) کربلاء الثورة والمأساة، المحامی أحمد حسین یعقوب: ص 39، أنصار الحسین لشمس الدین: ص 232.

دلالة من هذه الجهة، فإنّ قطع الرؤوس وحملها إلی الکوفة والشام، إجراء انتقامی ذو محتوی سیاسی، أو عمل سیاسی ذو صفة انتقامیة، وهو خاضع لاعتبار سیاسی معیّن».(1)

أقول:

إنّ قطع الرؤوس ورفعها فوق الرماح، وإن کان عملاً سیاسیّاً له صفة انتقامیة، ولکنّه یحمل فی الوقت نفسه دلالة علی عدد القتلی الذین سقطوا بین یدی الحسین علیه السلام، ولا تقاطع بین الصفة الانتقامیة لهذا العمل وبین دلالته علی العدد، مع إیماننا بأنّ هذه الدلالة حتی وإن تمّت، لا یمکن الاستدلال بها علی عدد من استشهد مع الحسین، فإنّ الرقم الذی ربّما یکون أقرب إلی عددهم رضی الله عنهم - کما سیأتینا بعد ذلک - أکبر من الرؤوس المقطوعة هذه.

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة (3) وهم المستشهدون فی الحملة الأولی وفی المبارزة

من الأدلّة التی ذکرها العلماء، وهی الروایات التی تحدّثت عن عدد المستشهدین فی الحملة الأولی، وعدد المستشهدین مبارزة، فإنّ الروایات هنا، کما فی غیرها، تختلف فی تحدید عدد المستشهدین فی الحملة الأولی والمستشهدین مبارزة، فقد ذهب المشهور إلی أنّ عدد المستشهدین فی الحملة الأولی (50) کما فی مقتل المقرّم، والمقریزی فی خططه(2) ، وغیرهما، بینما ذهب

ص:49


1- (1) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 53-56؛ کربلاء الثورة والمأساة، أحمد حسین یعقوب: ص 39 وبعدها.
2- (2) مقتل الحسین لعبد الرزاق المقرّم: ص 237؛ الخطط المقریزیة: ج 2 ص 287.

بعضهم إلی أنّ عددهم هو (40) شهیداً، کما یذکر ذلک ابن شهر آشوب فی مقتله(1) ، ویقول محمد بن أبی طالب والخوارزمی: إنّ عددهم نیّف علی الخمسین(2).

وکذلک اختلفوا فی عدد المستشهدین مبارزة، فمع أنّ الکثیر یذهب إلی أنّ من استشهد مبارزة لا یتجاوز الأربعین، یذهب الیافعی فی مرآة الجنان إلی أنّهم کانوا اثنین وثمانین مبارزاً(3). ویبدو أنّ الیافعی حینما یذکر هذا القول یرسله أرسال المسلّمات من دون تعریض، وهذه الروایة تقدیریة سوف تعیننا علی معرفة العدد الذی کان مع الحسین علیه السلام بعد ذلک.

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة (4) وهی کتب المقاتل القدیمة

اشارة

من الأدلّة التی ذکرها العلماء، وهی کتب المقاتل القدیمة، والتی رصدت هذا الحدث الألیم ونقلته الینا، وأقصد بکتب المقاتل القدیمة تلک التی لم یفصلها عن واقعة کربلاء إلاّ سنوات قلیلة، وبعبارة أخری، الواسطة فیها لنقل المعلومة لم تتعدّی فی معظم صورها وأشکالها الشخص أو الشخصین، کمقتل الفضیل بن الزبیر، وأبی مخنف، وآخرین، وسأحاول بتوفیق من الله تعالی الترکیز علی مقتل الفضیل بن الزبیر دون غیره من کتب المقاتل لقدمه، حیث توفّی صاحبه فی سنة 148 ه -، کما یؤکّد علی ذلک.

ص:50


1- (1) مقتل ابن شهر آشوب: ج 4 ص 114.
2- (2) مقتل الخوارزمی: ج 2 ص 1؛ بحار الأنوار: ج 45 ص 12، نقلاً عن محمد بن أبی طالب.
3- (3) مرآة الجنان: ج 1 ص 144.

السید الجلالی ومقتل الفضیل بن الزبیر

یقول السیّد محمد رضا الجلالی فی تحقیقه لهذا السفر القیم، والذی یقول عنه: ولقد لفت نظری فیه عدّة جهات دفعتنی إلی تحقیق نصّه، وهی:

1. أنّ روایاته مسندة إلی رجال معروفین...، وهذا ما لم تحظ به أکثر الروایات التی یتداولها المؤرّخون وأرباب المقاتل وغیرهم من المؤلّفین بهذا الصدد.

2. أنّ جامعه الفضیل بن الزبیر قصد استیعاب ما توفّر له من النقول.

3. احتواؤه علی أسماء لشهداء لم یذکروا فی موضع آخر.

4. احتواؤه علی آثار وروایات وتفصیلات، ممّا یرفع قیمته العلمیة.

5. یعتبر فریداً وجدیداً بالنسبة إلی حواضرنا العلمیة.(1)

ولکنّی وقبل أن ألج فی لجّة هذا السفر المهمّ، أودّ أن أشیر إلی أمر مهمّ أرانی مضطرّاً للحدیث عنه، لأنّه یصبّ فی صالح ما نرید أن نتحدّث عنه...

کتب المقاتل أقلّ تحریفاً من الکتب التاریخیة الرسمیة

إنّ ممّا یجب الالتفات إلیه هو أنّ المصادر التأریخیة التی وردت فیها أسماء وأرقام وأعداد أصحاب الحسین علیه السلام انقسمت إلی قسمین رئیسیین غالباً، وهما: کتب المقاتل وکتب المؤرّخین، ولا شکّ بأنّ الکتب التأریخیة تکون أکثر عرضة للتأثّر بعوامل التحریف والتزویر المتعدّدة، لاسیّما الدولة التی یعیش فیها ذلک

ص:51


1- (1) مجلّة تراثنا العدد 2: ص 127-128.

المؤرّخ، لأنّ أمثال هؤلاء یکونون تحت أنظار السلطة فیما یکتبون، ومن ثم قد تری الدولة بأنّ لیس من صالحها أن ینشر هذا المؤرّخ هذه الحادثة، أو تری العکس، بأنّ المصلحة فی أن ینشرها ولکن علی أن یبیّن فلسفتها والأسباب الکامنة وراءها، ومن هنا یکونون أکثر عرضة للضغوط التی تمارسها هذه الدولة أو تلک، وربّما حاضرنا الذی نعیش فیه یکشف لنا بشکل واضح عن مثل هذه التأثیرات، فکم من الإعلامیین الذین یعیشون الأحداث بأمّ أعینهم ویرون الحقّ ماثلاً أمامهم من خلال جملة من النقاط، ولکنّک تراهم غیر قادرین علی تسجیل ما یؤمنون به، والسرّ وراء ذلک هو الخوف من النظام الحاکم الذی ربّما تقتضی مصلحته عدم تسجیل مثل هذه الأمور، والمثال البارز فی التاریخ هو الضغوط الکبیرة التی مارستها الدولة الأمویة علی هؤلاء المؤرّخین فی عدم ذکر هذه الواقعة أصلاً، أو تزویرها علی أقل تقدیر، من خلال ذکر الروایات الکاذبة عنها، فضلاً عن رموزها وأبطالها.

یقول صادق جعفر الرّوازق وهو یتحدّث علی هامش تقریرات السیّد کاظم الحائری لمحاضرة السیّد الشهید محمد باقر الصدر، تحت عنوان «الحسین یکتب قصّته الأخیرة»: «ما لتأثیر الأسالیب السیاسیة القاهرة التی مارسها الأمویّون ومنذ عهد عثمان، ثمّ معاویة الذی قال: اقطعوا العطاء عن کلّ من یوالی أبا تراب. فقطع العطاء هو قطع الأعناق، وهو حکم إعدام سبقٍ مع وقف التنفیذ، فالسیاسة الأمویة التی لم ترحم الطفل الرضیع، فکیف الحال لمن یرید أن یؤرّخ واقعة مأساویة صنعتها دناءة النظام واستهتاره، ومن ثمّ کیف لمؤرّخٍ موالٍ أو حتی معادٍ أن

ص:52

یسترضی ضمیره وهو یذکر أسماء الشهداء من الأصحاب وفی مثل هذه الظروف السیاسیة التی لا ترحم، وکم من القبائل والبیوتات الکبیرة التی أدانها النظام الأموی لسبب اشتراک أفراد منها استشهدوا مع الحسین علیه السلام»(1).

ولقد ذکرت لک آنفاً نصّین للطبری کشاهد علی مثل هذا التزویر والدسّ، ولو أردت أن أسرد لک ما کتبه الطبری فی هذا المجال لرأیت العجب العجاب، ولثبت لک وبشکل قاطع، أنّ هذا الرجل لم یکن حرّاً فی کتابة أحداث هذه الواقعة، فضلاً عن رموزها وما جری وصنع بها، بینما لا نجد مثل هذا التأثیر الکبیر علی ما اصطلح علیه بکتب المقاتل، وخصوصاً المتقدّمة منها، کأبی مخنف الذی یُعدّ من «أصحاب الإمام الصادق علیه السلام، وله روایات عنه، وکان والده من أصحاب الإمام علی علیه السلام، وجدّه مخنف بن سلیم الأزدی من صحابة رسول الله والإمام علی، وکان عاملاً لعلی علی أصفهان وهمدان إبّان خلافته، وکان فی معرکة الجمل حامل لواء قبیلته، حتی استشهد هو واثنان من أخوته»(2).

وهکذا بالنسبة لمقتل الحسین علیه السلام للخوارزمی، فی القرن السادس الهجری، والذی ما زال الباحثون والخطباء یفیدون منه، وغالباً ما ینسب الخوارزمی روایاته إلی ذویها، وأحیاناً إلی أبی مخنف، وأحیاناً أخری إلی ابن أعثم الکوفی، ومن هنا یعدّ هذا المصدر من المصادر الموثوقة فی هذا الباب.

ص:53


1- (1) الحسین یکتب قصته الأخیرة (تقریرات السید کاظم الحائری لمحاضرة السید محمد باقر الصدر) تحقیق وتعلیق صادق جعفر الرّوازق: ص 117.
2- (2) معجم رجال الحدیث للسید الخوئی: ج 15 ص 140.

وکذلک مقتل ابن شهر آشوب فی کتابه مناقب آل أبی طالب، وابن طاووس فی اللهوف فی قتلی الطفوف، وابن نمّا فی مثیر الأحزان، إضافة إلی بقیّة کتب المقاتل الأخری. ولا شکّ أنّ هذه المصادر تمثّل الناقل الأکثر صدقاً من جهة، ومن جهة أخری أقلّ تأثّراً بالأوضاع السیاسیة للدولة، علی أساس أنّهم لا یمثّلون عنصراً رسمیّاً داخل الدولة فی تدوین الأحداث والوقائع. صحیح أنّ الطبری قد اعتمد فی حدیثه عن کربلاء علی أبی مخنف کثیراً، ولکنّه فی الوقت نفسه لم ینقل کلّ ما ذکره عنه فقط، وإنّما ذکر أحادیث وروایات أخری أسندها إلی آخرین، وما ذکرته من النصّین السابقین للطبری یعدّ دلیلاً وشاهداً علی ما نقول، وهذه حقیقة یجب علینا أن نعیها ونحن نقرأ کتاب الطبری کأقدم وأوسع کتاب تأریخی اعتمده المسلمون فی دراسة التأریخ.

أقول: إنّ کلّ ما ذکرته سابقاً یبیِّن لنا هذه الحقیقة، وهی أنَّنا اذا أردنا أن نبحث عن أسماء أصحاب الحسین علیه السلام، والشهداء منهم، علینا أن نمیل إلی کتب المقاتل أکثر من کتب المؤرّخین، وبعبارة أخری علینا أن نذهب إلی مصادر المؤرّخین أنفسهم، والتی اعتمدوها فی کتاباتهم قبل أن یخفوا فیها ما أخفوه تحت تأثیرات إرهاب الدولة، فضلاً عن العوامل الأخری التی ربّما لا یسع المجال هنا لذکرها، ومن ثم تخرج الأحداث مشوّهة عرجاء، بعیدة کلّ البعد عمّا جری وحصل بالفعل، آخذین بعین الاعتبار المصادر القریبة من الواقعة کأبی محنف والفضیل بن الزبیر، لأنّها ستکون أقلّ تحریفاً وتزویراً، وأکثر صدقاً فی ذکر الأحداث والأسماء والمواقف.

ص:54

مقتل الفضیل بن الزبیر

لقد ذکر الفضیل بن الزبیر فی کتابه القیمّ «تسمیة من قتل مع الحسین من أصحابه وأهل بیته وشیعته»(1) أنّ عدد الشهداء الذین سقطوا دفاعاً عن الحسین علیه السلام یبلغ (107)، وهو رقم ربّما تفرّد به دون بقیّة المصادر الأخری، وهذه الوثیقة لقدمها ووثاقتها، تحتاج إلی کثیر تأمل وکثیر عنایة، حتی یمکن أن یخرج الإنسان من خلالها إلی ما هو قریب إلی أرض الواقع، فقد ذکر الفضیل فی اسماء الشهداء (10) لم تذکرهم المصادر الأخری، وهم: «عبد الله بن عیّاش بن قیس» ومعه أسلم مولی لهم.

«القاسم بن شبر»، «همام بن سلمة القابضی»، «مولی لأهل شندة یدعی رافعاً»، «الضباب بن عامر»، «عمران بن کعب الأنصاری»، «سلیمان بن ربیعة»، «سوار بن أبی حمیر الفهمی الهمدانی»، «کُثیر بن عبد الله الشعبی»، «المهاجر بن أوس»، «وابن عمّه سلمان بن مضارب».

وهذه الأسماء تحتاج إلی تدقیق کبیر، لما تضمّنته من أشخاص اشتهر عند المؤرّخین وأرباب المقاتل أنّهم کانوا من عداد جیش عمر بن سعد، فضلاً عن أن یکونوا شهداء فی واقعة الطف إلی جانب الحسین، مثل کثیر بن عبد الله الشعبی والمهاجر بن أوس.

أما الأوّل: فیعبّر عنه فی الروایات بأنّه شرّ أهل الأرض وأجرأهم علی دم،

ص:55


1- (1) جزی الله خیراً المحقق البارع السید محمد رضا الجلالی علی جهده فی تحقیق هذا الکتاب، بعد أن وقع فی یده (مجلة تراثنا العدد 2) 1405 ه -.

کما فی روایة الطبری: لمّا نزل الحسین کربلاء ونزلها عمر بن سعد، بعث إلی الحسین علیه السلام کثیر بن عبد الله الشعبی، وکان فاتکاً، فقال له: إذهب إلی الحسین وسله ما الذی جاء به؟ قال: أسأله فإن شئت فتکت به، فقال: ما أرید أن تفتک به ولکن أرید أن تسأله، فأقبل إلی الحسین، فلما رآه أبو ثمامة الصائدی قال للحسین علیه السلام: أصلحک الله أبا عبد الله، قد جاءک شرّ أهل الأرض وأجرأهم علی دم وأفتکهم، ثمّ قام الیه وقال: ضع سیفک، قال: لا والله ولا کرامة، إنّما أنا رسول، فإن سمعتم منّی حتی ابلغتکم ما أرسلت به الیکم، وإن أبیتم انصرفت عنکم، فقال له أبو ثمامه: فإنّی آخذ بقائم سیفک ثمّ تکلّم بحاجتک، قال: لا والله ولا تمسّه، قال: فأخبرنی بماذا جئت؟ وأنا أبلغه عنک، ولا أدعک تدنو منه فإنّک فاجر، قال فاستبّا. ثمّ رجع کثیر إلی عمر فأخبره الخبر، فأرسل قرّة بن قیس التمیمی الحنظلی مکانه فکلم الحسین علیه السلام».

وأنت تقرأ معی فی هذه الروایة کم من الألفاظ المشینة قد وصفها له أصحاب أبی عبد الله؛ «شر أهل الأرض»، «أجرأهم علی دم»، إضافة إلی قول الطبری نفسه عنه إنه کان فاتکاً، کلّ هذا لا شکّ والحسین فی بدایة نزوله فی کربلاء، لیعطینا صورة واضحة عمّا یمکن أن یفعله هذا الفاجر فی الغد، أو ما فعله علی أرض الواقع یوم العاشر من المحرّم، حیث اشترک بشکل مباشر فی قتل خیار أهل الأرض وعبّادها، أمثال زهیر بن القین البجلی الذی کان راصداً له ولأخباره ولخطبه، وکان حریصاً علی أن یقتله هو لا غیره، فإذا کان هذا حال الرجل، فکیف یمکن له أن یهتدی، ومن ثم ینتقل إلی صفّ أبی عبد الله الحسین ویقتل

ص:56

بین یدیه، کما فعل الحرّ بن یزید الریاحی وآخرون؟! إنّ الهدایة لها دواعٍ ومقدّمات لابدّ من توفّرها أوّلاً، قال تعالی:

«أَ لَمْ تَرَ کَیْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً کَلِمَةً طَیِّبَةً کَشَجَرَةٍ طَیِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِی السَّماءِ» - إلی قوله -«وَ مَثَلُ کَلِمَةٍ خَبِیثَةٍ کَشَجَرَةٍ خَبِیثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ1» .

أمّا الثانی: وهو المهاجر بن أوس، فلم یکن أقلّ من صاحبه شرّاً وجرأة علی الله ورسوله، فقد ارتکب من الجرائم ما لا یعلم بها إلاّ الله، فقد نقل التاریخ عنه صوراً من الخسّة والحقارة، حیث انبری المهاجر بن أوس إلی الحسین مفتخراً ومتباهیاً بقطع الماء عن الحسین بقوله: «یا حسین، ألا تری الماء یلوح کأنّه بطون الحیّات، والله لا تذوقه أو تموت دونه. فقال الحسین علیه السلام إنّی لأرجو أن یوردنیه الله ویحلّئکم عنه»(1) ، وهکذا ینقل التأریخ عنه صور الإجرام، حتی أنّه اشترک فی قتل زهیر بن القین مع صاحبه کثیر بن عبد الله الشعبی، یقول المقرم فی مقتله: «وخرج بعد زهیر بن القین...، وهو یقول:

أنا زُهیرٌ وأنا ابنُ القَینِ أذُودُکُمْ بالسیف عن حسینِ

فقتل مائة وعشرین، ثمّ عطف علیه کثیر بن عبد الله الشعبی والمهاجر بن أوس فقتلاه»(2).

ص:57


1- (2) أنساب الأشراف: ج 3 ص 181، کتاب ترجمة الإمام الحسین من کتاب الفضائل لأحمد بن حنبل، تحقیق عبد العزیز الطباطبائی: ص 67.
2- (3) مقتل المقرّم: ص 247.

فإذا کان حاله کما سمعت وقرأت، فکیف یمکن أن یوفّق إلی الشهادة بین یدی ریحانة رسول الله صلی الله علیه و آله؟! فورود هذا الاسم عند الفضیل بن الزبیر فی کتابه مع أسماء الشهداء یشکّل نقطة تحیّر، کما حصل مع محقّق کتاب الملهوف علی قتلی الطفوف، الشیخ فارس تبریزیان، حیث علق بقوله: «ولا أعلم هل المهاجر بن أوس اثنان؟ أو واحد کان فی معسکر ابن سعد ثمّ التحق بمعسکر الحسین علیه السلام واستشهد معه؟»(1).

بل لابدّ من رفض هذا الاسم وعدم إدخاله فی قائمة شهداء الحسین فی کربلاء، وأعتقد جازماً بعد مراجعتی المتکرّرة لعبارة الفضیل بن الزبیر فی کتابه، أنّ هناک اسماً ساقطاً لا تستقیم العبارة من دونه، ومعه لا یکون هناک إشکال مطلقاً، فعبارة الفضیل فی کتابه وردت هکذا: «وقتل من بُجیلة، کثیر بن عبد الله الشعبی، ومهاجر بن أوس، وابن عمّه سلمان بن مضارب»(2).

وبتقدیری أن العبارة الصحیحة هکذا:

«وقتل من بُجیلة، زهیر بن القین، قتله کثیر بن عبد الله الشعبی ومهاجر بن أوس، وابن عمّه سلمان بن مضارب»(3)

ومع ما قدّمناه یکون الفضیل بن الزبیر قد أورد فی کتابه (105) من أسماء

الشهداء ولیس کما نقل فی مجلة تراثنا، العدد 2 لسنة 1405 ه -، حیث کانوا (107).

ص:58


1- (1) الملهوف علی قتلی الطفوف للسید ابن طاووس، تحقیق الشیخ فارس تبریزیان: ص 159، ویسمّی أیضاً: اللّهوف فی قتلی الطفوف.
2- (2) کما وردت فی مجلة تراثنا، العدد 2 لسنة 1405 ه -، تحقیق السید محمد رضا الجلالی.
3- (3) ومع وجود اسم زهیر بن القین یحل الإشکال فی العبارة ویفصل بین الصالح والطالح.

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة رقم (5) وهی زیارة الناحیة المقدّسة:

فإنّ هذه الزیارة من الزیارات المنسوبة إلی الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف للإمام الحسین کبقیة زیارات أئمّة أهل البیت علیهم السلام له ولکنّها تمیّزت عنها باحتوائها علی أسماء لشهداء الطفّ وأسماء من قتلهم.

وقد نقل هذه الزیارة من العلماء المتقدّمین الشیخ المفید والسیّد المرتضی وابن المشهدی(1) وابن طاووس(2) ، وبعد هؤلاء الأعلام نقلها العلماء المتأخّرون، کالمجلسی فی البحار والنوری فی مستدرک الوسائل وعباس القمی فی نفس المهموم وآخرین(3) ، حتی تسالم فی مؤلّفات الشیعة أنّ هناک زیارة تسمّی زیارة الناحیة، تنسب إلی الإمام الثانی عشر من أئمّة أهل البیت علیهم السلام ألا وهو الإمام المهدی المنتظر عج الله تعالی فرجه الشریف.

ص:59


1- (1) هو الشیخ الجلیل السعید أبو عبد الله محمد بن جعفر بن علی المشهدی الحائری، المعروف بابن المشهدی، هذا الرجل من أجلّاء العلماء من السلف الماضین واعتمد الأصحاب علی کتابه، وهو الأصل فی عدّة من الأدعیة والزیارات... قال عنه المحدّث الحرّ العاملی: «کان فاضلاً محدّثاً صدوقاً». کتاب المزار للشیخ ابن المشهدی، مقدّمة التحقیق لجواد الفیومی الأصفهانی: ص 5.
2- (2) هو السیّد علی بن موسی بن طاووس العلوی الحسنی، ینتهی نسبه إلی الحسن المثنی، ولد سنة 589 ه - وتوفّی فی بغداد 5 ذی القعدة سنة 664 ه - واختلف فی مدفنه، فبعض یذهب إلی أنّه دفن فی الحلّة وبعض یذهب إلی أنّه دفن فی النجف، له مؤلّفات کثیرة منها: فلاح السائل، والملهوف علی قتلی الطفوف، والإقبال وغیرها.
3- (3) أعیان الشیعة: ج 8 ص 219؛ بحار الأنوار: ج 98 ص 317، المزار الکبیر لابن المشهدی: ص 496-519؛ مصباح الزائر: ص 198.

نعم هناک إشکال یورده بعض علمائنا فی تاریخ الزیارة وهو سنة 252 ه - (1) حیث یقولون بأنّ هذا التاریخ لا یتّفق مطلقاً مع النسبة إلی الإمام المنتظر الذی لم یکن مولوداً فی ذلک الوقت، حیث ولد سنة 256 ه - أو 255 ه -(2).

ولذلک ذهب معظمهم إلی أنّ هذه الزیارة تنتسب إلی الإمام الحسن العسکری ولیس إلی الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف کما ذهب إلی ذلک التستری فی قاموس الرجال(3) ، بینما أصرّ آخرون علی أنّ الزیارة منسوبة إلی الإمام المهدی، غایة ما فی الأمر أنّ هناک اشتباهاً فی کتابة التأریخ، فبدلاً من 262 ه - کُتِب 252 ه - کما صرّح بذلک المجلسی فی بحاره(4).

وقد مال الشیخ محمد مهدی شمس الدین فی تحقیقه القیّم لهذه الزیارة إلی إمکانیة أن تکون الزیارة منسوبة إلی الإمام الحسن العسکری، حیث یقول: «والافتراض الثانی (النسبة إلی الإمام الحسن العسکری) أولی بالقبول من الافتراض الأوّل لولا الاعتراض علیه بأنّ مصطلح الناحیة فی الثقافة الشیعیة الإمامیة یعنی الإمام الثانی عشر محمد بن الحسن علیه السلام فی عصر غیبته الصغری، ولا نعلم أنّه استعمل للتعبیر عن غیره من الأئمة»(5).

وقد علّق سماحة الشیخ فوزی آل سیف فی کتابه «تساؤلات حول النهضة

ص:60


1- (1) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 170.
2- (2) أصول الکافی: ج 1 ص 514.
3- (3) قاموس الرجال للتستری: ج 8 ص 333-334.
4- (4) بحار الأنوار: ج 98 ص 274.
5- (5) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 171-172.

الحسینیة» بقوله: «یظهر أنّ ما ذهب الیه المحقّق التستری رحمه الله هو الأقرب بالرغم من أنّ لفظ الناحیة اذا أُطلق فإنّه یقصد منه صاحب العصر والزمان عج الله تعالی فرجه الشریف، إلاّ أنّنا وجدنا فی کتب الحدیث والمصادر الرجالیة أیضاً التعبیر عن غیر الإمام الحجّة بلفظ الناحیة، ممّا یسهّل أمر حمل اللفظ علی الاحتمال الثانی، وهو أنّها صادرة عن الإمام الحسن العسکری علیه السلام، والذی کان أیضاً فی فترات معیّنة یتعامل مع شیعته بنحو غیر مباشر، تمهیداً للمرحلة القادمة وتعویداً لهم علی التعامل مع إمام مستور.

فنحن نری أنّ هذا اللفظ قد استعمل من قبل الإمام الجواد علیه السلام للإشارة إلی أمر التشیّع فقد نقل الشیخ الطوسی عن داود أبی هاشم الجعفری قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام: ما تقول فی هشام بن الحکم؟ فقال: رحمه الله، ما کان أدبهُ عن هذه الناحیة، أی المذهب... أو الإمام.

ونقل الکلینی رضی الله عنه فی الکافی عن علی بن عبد الغفار قال: «دخل العباسیون علی صالح بن وصیف، ودخل صالح بن علی وغیره من المنحرفین عن هذه الناحیة، علی صالح بن وصیف عندما حبس أبا محمد علیه السلام، فقال لهم صالح: وما أصنع! قد وکلّت به رجلین من أشرّ من قدرت علیه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصیام إلی أمر عظیم، فقلت لهما: ما فیه؟ فقالا: ما تقول فی رجل یصوم النهار ویقوم اللیل کلّه...»

ویحتمل فیه أنّ المقصود هو انحرافه عن خطّ الإمامة، أو عن الإمام الحسن العسکری علیه السلام، وحین یتحدّث الشیخ الصدوق عن إبراهیم بن محمد الهمدانی، یصفه بأنّه وکیل الناحیة، مع أنّه لم یدرک الإمام الحجّة بل ولا العسکری، وإنّما

ص:61

هو صاحب الإمام الرضا والجواد والهادی علیهم السلام، فقد قال فی من لا یحضره الفقیه:«إبراهیم بن محمد الهمدانی، من أصحاب أبی الحسن الهادی علیه السلام، ووکیل الناحیة، ثقة جلیل، والطریق الیه حسن کالصحیح بإبراهیم بن هاشم» وأمّا العلّامة فی الخلاصة، فقد استعمل لفظ الناحیة للدلالة علی الأئمّة: الحجّة والعسکری والهادی، فقال:«حمد بن علی بن إبراهیم بن محمد الهمذانی - بالذال المعجمة - روی عن أبیه، عن جدّه، عن الرضا علیه السلام، وکان محمد وکیل الناحیة الذی لا تختلف الشیعة فیه، وقد کان من أصحاب الجواد والهادی والعسکری علیهم السلام، وکان وکیلاً لهم»(1).

وعلی هذا تکون زیارة الناحیة المقدّسة منسوبة إلی الإمام الحادی عشر من أئمّة أهل البیت علیهم السلام ألا وهو أبو محمد الحسن العسکری علیه السلام، وقد حوت هذه الزیارة علی (63) اسماً من أصحاب الحسین و (17) اسماً من أهل بیته من غیر الحسین علیه السلام ومسلم بن عقیل. وقد تحدّث العلماء عن الأسماء التی وردت فی هذه الزیارة، وهل یمکن أن تکون مرجعاً أساسیّاً فی قبال بقیّة المراجع الأساسیة الأخری؟

لقد ذهب الکثیر من علمائنا إن لم یکن کلّهم، إلی أنّ هذه الزیارة لا یمکن ان تُعدّ مصدراً أساسیّاً، نعم یمکن أن تعدّ ضمن المصادر الثانویة أو العاضدة للمصادر الأوّلیة إن صحّ التعبیر.

والسبب الرئیسی فی ذلک یعود إلی احتواء سندها علی شخصین مجهولین لا یعلم حالهما، فقد یکونان ممدوحین وقد یکونان مذمومین، ومع احتمال الذمّ

ص:62


1- (1) من قضایا النهضة الحسینیة للشیخ فوزی آل سیف: ج 1 ص 141.

یسقط الاعتبار الأساسی لهذه الزیارة(1) ، وبنفس المستوی الذی نتعامل فیه مع الادلة الأساسیة.

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة رقم (6) وهی الزیارة الرجبیة

من الأدلة التی یذکرها العلماء، وهی: الزیارة الرجبیة، التی ورد أصل هذه الزیارة فی کتاب الإقبال للسید ابن طاووس، ولها مع زیارة الناحیة أوجه تشابه فی أسماء شهداء کربلاء وأوجه اختلاف.

ویرجّح المحقّقون، ومنهم الشیخ محمد مهدی شمس الدین رحمه الله أنّ هذه الزیارة من تألیفات السیّد ابن طاووس نفسه حیث یقول: «ویبدو من هذه الکلمة أنّ السیّد ابن طاووس هو الذی ألّف هذه الزیارة، وإن لم یصرّح بذلک»(2).

ثمّ یقول فی نهایة بحثه: «ومن هنا فإنّنا لا نستطیع اعتبار الزیارة الرجبیة مصدراً أساسیاً فی بحثنا کما اعتبرنا الزیارة المنسوبة إلی الناحیة، لا لشکّنا فی وثاقة السیّد ابن طاووس رحمه الله، فهو فوق الشبهات، وإنّما لشکّنا فی دقة مصادره، ولعلمنا بتزاید التحریف والتصحیف فی هذه الفترة المتأخّرة، مع عدم العنایة بالتحقیق والتدقیق».(3)

وعلی هذا الأساس لا یمکن أن تکون هذه الزیارة معتمداً علمیّاً صحیحاً فی

ص:63


1- (1) وللمزید من الإیضاح حول هذه النقطة المهمّة راجع کتاب أنصار الحسین للعلّامة شمس الدین: ص 145 وما بعدها، ویقول عنها فی ص 72: «ونحن نعتبرها کوثیقة تاریخیة فقط، لأنّ صفتها الدینیة غیر ثابتة» ولهذا لم یکتفِ بهذه الأسماء بل أضاف علیها.
2- (2) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 175.
3- (3) المصدر السابق: ص 176.

معرفة عدد الشهداء فی واقعة الطفّ. نعم یمکن أن تکون مصدراً ثانویاً أو عاضداً للمصدر الأساسی، کما مرّ فی زیارة الناحیة.

تقدیرنا لعدد الشهداء

اشارة

حسب تتبّعنا وبذلنا للجهد بمقدار ما تبلغه الاستطاعة، وجدنا أنّ عدد الأشخاص الذین فازوا بالشهادة بین یدی ریحانة رسول الله الإمام الحسین بن علی علیه السلام یتراوح عددهم من (112) شهیداً إلی (145) شهیداً، وهی روایة الإمام الباقر علیه السلام(1) والتی نقلها لنا عمّار الدهنی، متضمّناً هذا العدد الشهداء من أهل البیت بما فیهم الحسین علیه السلام ومسلم بن عقیل علیه السلام. والیک بیان ما أجملناه.

التقدیر الأول

لا شکّ أنّ روایة الإمام الباقر علیه السلام المتقدّمة لا یمکن غضّ الطرف عنها بشکل کامل مع وجود مؤیّد لها کما سیأتیک، هذا من جهة، ومن جهة أخری بعد ما بیّناه فی مناقشتنا لها فیما تقدّم، حیث انتهینا إلی ضرورة طرح ما یتیقّن الانحراف والتزویر فیه، وأخذ ما عداه وهو الصحیح الذی ورد عن الإمام.

یقول السیّد سامی البدری: «وفی ضوء ذلک کان من الضروری التحقیق فی الروایة التأریخیة التی ظهرت فی هذه الفترة الخطیرة، سواء کانت روایة أبی مخنف أو روایة غیره، وتجزئة الروایة إلی أجزاء، واستبعاد الجزء الذی یلتقی مع الهدف الإعلامی للعباسیّین إن لم یکن لدینا غیرها».(2)

ص:64


1- (1) وإن کنّا نمیل إلی هذه الروایة وما ذکرته أکثر من الأرقام فی المصادر الأخری.
2- (2) الإمام الحسین الظلامة الفاتحة الهادیة، للسیّد سامی البدری، فقرة کتاب ابی مخنف حول مقتل الحسین.

ومن الجلی لکلّ ذی عینین أنّ روایة الإمام الباقر علیه السلام هی المصدر الموثوق من جهات متعدّدة، فوجود الإمام نفسه فی واقعة کربلاء ومشاهدة ما جری یعطی لنا صورة عمّا حمله الإمام من معاناة فی تلک الحقبة بأدق تفاصیلها، حیث یقول: «قتل جدّی الحسین، ولی من العمر أربع سنوات، وإنّی لأذکر مقتله وما نالنا فی ذلک الوقت»(1). فضلاً عمّا ورد فیه من أحادیث رسول الله صلی الله علیه و آله لاسیّما روایة جابر وسلامه علیه. إضافة إلی کلّ ذلک ما سمعه الإمام من أبیه زین العابدین، ومن عمّته زینب والهاشمیّین الذین حضروا الطفّ مع الحسین علیه السلام.

أولاً: وممّا یؤیّد ما جاء بهذه الروایة من أعداد، ما یلی:

روایة الیافعی فی مرآة الجنان حیث قال: «وقتل معه من أصحابه مبارزة (82)(2) ، فإذا أضفنا إلی هذا الرقم شهداء الحملة الأولی والبالغ عددهم (45) شهیداً وهو الوسط بین رقم (40) کما ذکره ابن شهر أشوب و (50) کما ذکرته بقیّة المصادر الأخری، إضافة إلی شهداء أهل البیت أو ما یعبّر عنهم بشهداء بنی هاشم، والبالغ عددهم کما عند المشهور (17)، فیکون المجموع (144)، أو ما یقاربه.

82 + 45 + 17 Í 144 وهی روایة الإمام الباقر أو ما یقاربها.

ثانیاً: روایة الحصین بن عبد الرحمن، عن سعد بن عبیدة(3) ، حیث یذکر بأنّهم کانوا قریباً من مئة، وهو الرقم الذی قبله الشیخ شمس الدین رحمه الله، ورجّح أنّ

ص:65


1- (1) طبقات ابن سعد: 5 ص 237-238.
2- (2) مرآة الجنان للیافعی: ج 1 ص 131.
3- (3) أنصار الحسین: ص 46.

هذا الرقم بعد الحملة الأولی، وذلک لرمی عمر الطهوی السهم علی الإمام الحسین ووقوعه بین کتفیه، وهذا ما لم یحصل إلاّ بعد نشوب الحرب وحصول الحملة الأولی، فاذا أضفنا إلی هذا الرقم وهو (100) أو ما یقاربها، عدد من استشهد فی الحملة الأولی والذی یتراوح بین (40) إلی (50) والمتوسط بینهما (45)، فستکون النتیجة (145).100 + 45 Í 145

ثالثا: روایة الخوارزمی حیث یقول: «فصل الحسین من مکّة یوم الثلاثاء، یوم الترویة، لثمان مضین من ذی الحجّة، ومعه اثنان وثمانون رجلاً من شیعته وموالیه وأهل بیته»(1).

نضیف إلیه من التحق به وهو فی طریقه إلی کربلاء، وهم قرابة (21) رجلاً کما یؤکّد ذلک محمد حسین الأعلمی فی دائرة المعارف، ثمّ یذکر بعد ذلک أسماءهم(2).

إضافة إلی ما ذکره ابن طاووس من التحاق (32) رجلاً بمعسکر الحسین علیه السلام فی کربلاء قبیل أو فی أثناء المعرکة.(3)

ص:66


1- (1) الخوارزمی فی مقتله: ج 1 ص 220.
2- (2) دائرة المعارف، محمد حسین الأعلمی: ج 23 ص 194.
3- (3) ویرفض الشیخ محمد مهدی شمس الدین هذه الروایة التی ذکرها ابن طاووس لسببین رئیسیین هما:أنّ حدثاً من هذا القبیل یجب أن یلفت نظر الرواة الآخرین فینقلوه لنا لا أن یکتفی به شخص.أنّ هذا العدد (32) عدد کبیر بالنسبة إلی عدد أنصار الحسین القلیل، فکان من الطبیعی أن تظهر آثار هذه القوة، ومع عدم ظهورها دلیل علی عدم وجود مثل هذا الالتحاق. نعم یفسرها علی فرض صحتها بأولئک الذین انحازوا ولم یقاتلوا، مثل مسروق بن وائل الحضرمی وغیره.ویعلّق الشیخ فوزی آل سیف علی ذلک بقوله: «ویمکن التعلیق علی ما ذکر آنفاً بعدم استبعاد هذا

وهناک بعض الأسماء لم یذکرها الأعلمی فی دائرة المعارف، وهی کالآتی:

1. الطرمّاح بن عدی، حیث التحق بالحسین علیه السلام منذ خروجه من مکّة، وبقی معه إلی أن استشهد بین یدیه، کما یؤکّد ذلک الشیخ الطوسی فی رجاله: «الطرماح بن عدی... من أصحاب الحسین، وهو فی غایة الجلالة والنبالة، ولولا إلاّ مکالماته مع معاویة التی أظلمت الدنیا فی عینیه لأجلها، وملازمته لسیّد الشهداء فی الطفّ إلی أن جرح وسقط بین القتلی، لکفاه شرفاً وجلالة».(1)

2. واضح الترکی، التحق مع جنادة وعمرو بن خالد ومجمع وابنه کما فی إبصار العین للسماوی.(2)

3. نافع بن هلال الجملی خرج من الکوفة ولقی الحسین فی الطریق، کما فی إبصار العین.(3)

4. سلمان بن مضارب البجلی، جاء مع ابن عمّه زهیر بن القین، کما فی

ص:67


1- (1) تنقیح المقال: ج 2 ص 109.
2- (2) إبصار العین: ص 113.
3- (3) المصدر السابق: ص 114.

إبصار العین: ص 132.

5. مجمع بن زیاد بن عمرو الجهنی، حیث تبع الحسین من منازل جهینة.(1)

6. عبّاد بن المهاجر بن أبی المهاجر الجهنی، تبع الحسین من منازل جهینة.(2)

7. عقبة بن الصلت الجهنی، تبع الحسین من منازل جهینة.(3)

فإذا حسبنا روایة الخوارزمی (82) وأضافنا إلیها ما جاء فی روایة الأعلمی فیمن التحق بالحسین فی الطریق إلی کربلاء (21)، مضافاً إلی ما جاء فی روایة ابن طاووس فیمن التحق بالحسین لیلة العاشر أو یومها (32) رجلاً زائداً الأسماء التی لم یذکرها الأعلمی وعددها (7)، فستکون النتیجة 142.

142 7 + 32 + 21 + 82 وهو العدد الأقرب لروایة الإمام الباقر علیه السلام، علماً أنّ الأعداد التی ذکرت فی الروایات لم تؤخذ بشکل إحصائی دقیق، وإنّما کانت نتیجة النظر الذی ربّما تکون فیه زیادة أو نقیصة علی الواقع.

التقدیر الثانی

والذی یشیر من خلال أدلته إلی أنّ أصحاب الحسین الذین جاءوا معه إلی کربلاء بلغ عددهم (112) زادوا عن ذلک قلیلاً أم نقصوا قلیلاً، بسبب الأخذ أو عدم الأخذ باحتمال تصحیف الأسماء، خصوصاً فیما ذکر فی مقتل الفضیل بن

ص:68


1- (1) إبصار العین: ص 152.
2- (2) إبصار العین: ص 152.
3- (3) إبصار العین: ص 152.

الزبیر علی أساس أنّه یمثّل مصدراً تاریخیاً مهمّاً فی هذا المجال لا یمکن لأیّ باحث عن شهداء کربلاء أن یتغافل عنه مع علمه به، حیث ذکر فی مقتله اسمین نحن نرجّح أنّ العبارة التی تستقیم معهما ما تقدّم فی حدیثنا عن هذا المقتل(1) ، وربّما یکون هناک تصحیف فیهما.

فتکون النتیجة مضافاً إلی ما ذکره الفضیل بن الزبیر من عدد الناجین:

105 + 10 Í 115 عدد أصحاب الحسین

التقدیر الثالث

أن نحسب عدد الرؤوس المقطوعة والتی بلغت 78 رأساً، کما عند المجلسی وابن طاووس(2) ، ونضیف الیها عدد رؤوس الموالی الذین لم ترفع رؤوسهم علی الرماح، بسبب العصبیة القبلیة من جهة، وعدم الافتخار برفعها علی الرماح کما یحصل عند رفع رؤوس الآخرین، مضافاً الیهم عدد ممّن تذکر الروایات أنه لم یقطع رأسه، وهم الحرّ بن یزید وأخوه مصعب وابنه بکیر أو علی وعبد الله الرضیع(3) ، مضافاً إلی کلّ ذلک عدد الناجین من معرکة کربلاء، فستکون النتیجة کالتالی:

11210 + 4 + 20 + 78 عدد أصحاب الحسین علیه السلام

ص:69


1- (1) فی بدایة هذا البحث، وهو ما یتعلق بالفقرة (4) من الأدلة التی ذکرها العلماء.
2- (2) بحار الأنوار: ج 45 ص 62؛ الملهوف علی قتلی الطفوف: ص 60.
3- (3) للمزید حول هذه الأسماء وما جری علیها یراجع: إبصار العین: ص 169؛ وسیلة الدارین: ص 111 وص 192، واعتقد أن العشیرة کما أبت قطع رأس الحرّ أبت کذلک قطع رأس أخیه وولده، فالملاک فی الجمیع واحد وإن کان فی الحر آکد لأنّه زعیمهم.

الشهید مسلم بن عوسجة

اشارة

صحابی جلیل من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله، ورکن من أرکان ثورة الحسین فی الکوفة مع مسلم بن عقیل وکذلک فی کربلاء، کان شریفاً سریّاً عابداً متنسّکاً کما تصفه الروایات(1) ، بذل نفسه الشریفة بسخاء من أجل الإسلام ومن أجل الدفاع عن حرمة الحسین علیه السلام، ولقد حفلت حیاة الرجل بالمواقف الکثیرة التی تحولت فیما بعد إلی أسوة یُحتذی بها، سواء أکانت هذه المواقف قبل کربلاء أم بعدها أم فیها، ولهذا نحن نحاول أن نسلّط الأضواء علیها لما لها من تأثیر کبیر علینا، من أجل أخذ العظة والعبرة والدرس منها، فی وقت عزّ فیه وجود القدوات، وکثر فیه المخادعون والدجّالون، وضاع فیه الصالح واختلط بالطالح، ولکن وقبل الدخول إلی هذه الشخصیة، نحاول أن نسلّط الأضواء علی ما قاله العلماء حول اسمه ونسبه وبعض صفاته.

ص:70


1- (1) إبصار العین للسماوی: ص 81.

أقوال العلماء فیه

1. قال النمازی: «من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله، کان رجلاً شجاعاً عابداً متنسّکاً، جملة من قضایاه مع معقل مولی ابن زیاد (فی الکوفة)».(1)

2. قال الشیخ السماوی: «هو مسلم بن عوسجة بن سعید بن ثعلبة بن دودان ابن أسد بن خزیمة، أبو حجل الأسدی السعدی، کان رجلاً شریفاً سریّاً عابداً متنسّکاً».(2)

3. قال الزنجانی: «قال ابن سعد فی طبقاته: وکان صحابیاً ممّن رأی رسول الله صلی الله علیه و آله، وروی عنه الشعبی، وکان فارساً شجاعاً، له ذکر فی المغازی والفتوحات الإسلامیة».(3)

4. قال المامقانی: «جلالة الرجل وعدالته وقوّة إیمانه وشدّة تقواه ممّا تکلّ الأقلام عن تحریر ذلک، وتعجز الألسن عن تقریره، ولو لم یکن فی حقّه إلاّ ما تضمّنته زیارة الناحیة المقدّسة لکفی».(4)

5. قال خیر الدین الزرکلی: «مسلم بن عوسجة الأسدی، بطل من أبطال الإسلام، شهد یوم أذربیجان وغیره من أیام الفتوحات، وکان مع الحسین بن علی فقصده فی الکوفة، فقتل وهو یناضل عنه».(5)

ص:71


1- (1) مستدرکات علم الرجال: ج 7 ص 414 ح 14915.
2- (2) إبصار العین: ص 81.
3- (3) وسیلة الدارین: ص 187.
4- (4) تنقیع المقال: ج 3 ص 214.
5- (5) الأعلام للزرکلی: ج 7 ص 222.

6. قال عبد الواحد المظفّر: «إذا کانت البطولة عنوان المحاسن ومجمع الکمالات ومحور الفضائل، فلا شکّ أنّ مسلم بن عوسجة الأسدی من أتمّ الرجال فی المحاسن التی یتفاخر بأقلّها عظماء الرجال، ویتمادح ببعضها الوجوه والاعیان»(1).

أسرة الشهید

یرجع نسب الشهید، کما تقدّم إلی سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزیمة، ولم یذکر أهل النسب ولم یتعرّضوا إلی کیفیة رجوع الشهید إلی سعد بن ثعلبة، علی أساس ان الفاصل الزمنی بین مسلم بن عوسجة وسعد بن ثعلبة کبیر، ومن ثم فلابدّ أن یکون بینهما لا أقل من ثلاثة أو أربعة أجداد، ولکنّهم مع ذلک ذکروا أمراً آخر ربّما من خلاله نستطیع أن نمیل إلی جهة من أجداده هم الأقرب إلی أن یکون الشهید راجعاً إلیهم.

فقد ذکر أهل الاختصاص لثعلبة هذا، الذی یرجع إلیه الشهید الکربلائی، أبناء متعدّدین، فمن هؤلاء بنو غاضرة بن مالک بن ثعلبة، ولهؤلاء تنسب الغاضریّات لأنّهم سکنوا فیها ومن هؤلاء بنو فقعس والذین یرجعون إلی الحارث بن ثعلبة(2) ومن هؤلاء بنو ناشرة، وهم الذین یرجعون إلی سعد بن ثعلبة(3) ، ومن هؤلاء بنو صیداوی،

ولیس صیدا کما یذکر بعضهم، وإلیهم یرجع قیس بن مسهر الصیداوی(4).

ص:72


1- (1) الأمالی المنتخبة للشیخ عبد الواحد المظفر/ ص 118.
2- (2) معجم قبائل العرب القدیمة والحدیثة لعمر کحالة/ باب القاف/ ص 925.
3- (3) نهایة الأرب للنویری ج 2 / ص 350؛ معجم ما استعجم للبکری ج 2 / ص 509.
4- (4) تنقیح المقال/ هامش صفحة 378؛ نهایة الأرب/ ص 422.

الشهید من بنی ناشرة

وبعد الجهد والعناء فی البحث وجدت - وهذا ما أمیل إلیه - أنّ الشهید الکربلائی ربّما یکون من بنی ناشرة، لأنّه یلتقی معهم فی جدّه الأکبر سعد بن ثعلبة، بینما الأبناء الآخرون یختلفون معه حتی بجده سعد هذا، فبعضهم ینتمی إلی مالک بن ثعلبة، وبعضهم إلی الحارث وهکذا. فمن المرجّح أن یکون أجداد الشهید هم بنی ناشرة دون غیرهم، والله أعلم بذلک فی الواقع.

وقد یسألنی أحدهم ویقول: ولم کل هذا العناء؟ أهناک ضرورة أن نعرف نسب الشهید بکلّ دقّة؟ ألا تکفی الرجل مواقفه فی کربلاء؟! فلماذا کلّ ذلک؟

وأجیب: أنّ هناک حاجة نفسیة توجد عند کلّ من تتعلّق نفسه بالعظماء والکبراء والشخصیّات الفذّة أن یعرف عنها کلّ صغیرة وکبیرة، حتی ولو کان هذا الصغیر لا یعنی شیئاً عند الناس، ولکنّه یعنی شیئاً کبیراً عند من تعلّق بهذه الشخصیة.

وربّما ولأجل ذلک نجد أنّ وسائل الإعلام تسلّط الأضواء فی بعض الأحایین علی بعض الشخصیّات السیاسیة أو الفنیّة أو العلمیة أو غیرها، حتی فی طریقة الأکل والنوم والسفر واللبس وهکذا، بل حتی فی أدقّ التفاصیل التی تتعلّق بهم، وهذا کلّه ناتج من أنّ الإنسان عندما یحبّ أحداً ویتعلّق به، خصوصاً اذا تحوّل هذا الإنسان إلی قدوة له فی حیاته، یحاول أن یعرف عنه کلّ شیء.

ومن هنا نقول إنّ معرفة النسب الحقیقی للشهید الکربلائی وتتبّعه علی وجه الدقّة، هو مطلب طبیعی لمن أحبّ تلک الشخصیة وتعلّق بها، ومن هنا فإنّ الدقّة

ص:73

فی ذکر النسب خیر من أن نذکر النسب ولکن لیس بشکل دقیق، یعنی بعبارة أخری أنّ الإنسان یحبّ أن یری من یتعلّق قلبه به فعلاً، واقعاً ملموساً، مجسّداً من خلال النسب والموقف، وهذا ما نحاول أن نرکّز علیه فی بحثنا هذا، وسیأتی فی الحدیث عن شهداء آخرین من بنی أسد بن خزیمة، التعرّض إلی هذه الأسرة العظیمة من جوانب أخری، تعمیماً للفائدة، ولکی یتحوّل هؤلاء الأفذاذ إلی قدوات فی کلّ أسرة وفی کلّ قبیلة وفی کلّ بیت.

مواقفه أیام الفتح الإسلامی

عاش مسلم بن عوسجة مع رسول الله وشارک فی غزواته وحروبه التی خاضها دفاعاً عن الإسلام، ونشراً للتوحید فی الأرض، وقد بذل مسلم بن عوسجة کلّ غالٍ ونفیس حیث تغرّب عن أهله وعن وطنه، وترک الدیار والأحبّة متسلّحاً بالإیمان بالله تعالی والحبّ للإسلام ولنبیّه الکریم، فکان مصداقاً واضحاً من مصادیق المؤمنین الذین جاهدوا وهاجروا وأنفقوا أموالهم وقدّموا أنفسهم فی سبیل الله، وبقیت مواقف هذا الرجل مناراً علی هذا الطریق وعلی هذا المنهج، لم ینکل ولم یهن ولم یضعف رغم کلّ الفتن والأهواء والمصالح والمخاوف والإغراءات، والتی کانت تعترض طریقه، وقد لزم فیها جادّة الحقّ متمسّکاً بمن رفع رسول الله یده حتی بان بیاض إبطیه، علی بن أبی طالب علیه السلام(1).

فکان الملتزم حقّاً بحقوق هذه الولایة، بحیث سخّر نفسه لخدمة إمامه کما سخّرها لخدمة نبیّه علیهما السلام، ووقف إلی جانبه فی حروبه وقتاله للناکثین والقاسطین

ص:74


1- (1) وذلک یوم غدیر خمّ، حیث قال: «من کنت مولاه فهذا علی مولاه».

والمارقین، وکان الإسلام هو الدافع الذی دفعه إلی کلّ ذلک. فقد آمن به الشهید الکربلائی أنّه الحلّ الوحید لکلّ المشاکل التی یعیشها الناس.

فتح سلق آذربیجان

ومن هنا کانت مشارکاته فی الفتوح الإسلامیة کثیرة، ولکن کان الأهمّ فیها هو فتحه «سلق أذربیجان» سنة عشرین مع حذیفة بن الیمان(1) ، تلک المعرکة التی تقابل فیها مئات الآلاف من النصاری مع عدد لا یتجاوز الثلاثین ألفاً من المسلمین، ولکنّها کانت تملک إرادة لا تقهر ولا یمکن ان تنکسر أبداً، إنّها إرادة هذا الإیمان المرتبط بالله القوی العزیز، الذی لا یخذل من یتمسّک به ولا یخیب من یلتجئ إلیه.

دور مسلم بن عوسجة المتمیز فی المعرکة

ولقد کان لمسلم بن عوسجة فی هذه المعرکة أثر بالغ فی نفوس المسلمین وإشعارهم بقوّتهم وضعف عدوّهم، وذلک حینما زحف الیهم مفرداً وحیداً لا یحمل معه إلاّ کما یحمل کلّ فارس - وهو ینزل إلی ساحة المعرکة - سلاحاً متمثّلاً بالسیف والدرع، ولکنّه سیف الإیمان ودرع الله الحصینة، وعشق الشهادة، ومن ثم أراد هو أن یکون قدوة لهم فی عدم الخوف والثقة بالله، والشوق والمحبّة لما أعدّه الله لهم من نعمٍ وخیرات فی جنّة عرضها السموات والأرض، وفعلاً نزل مسلم بن عوسجة واذا به یقتل ستة او سبعة من المشرکین الأقویاء، لأنّ الذی ینزل ویتحدّی الطرف الآخر فی البراز والقتال، لابدّ أن ینزل إلیه الشجعان وأصحاب

ص:75


1- (1) فتوح البلدان: ج 2 ص 324-325.

البأس منهم، ولکن لا یذکر التاریخ کیف قتلهم؛ هل قتلهم مجتمعین، وهو قادر علی ذلک، أم قتلهم واحداً بعد الآخر؟ وهو یمکن أن یکون کذلک، وعلی کلا التقدیرین فلقد أبلی الرجل فی ذلک الیوم بلاءً حسناً، حتی أنّ أعداءه فضلاً عن أحبائه، شهدوا له هذا الموقف وأُعجبوا به، وصاروا یذکرون لمن لم یحضر هذه المعرکة، ومن ثم تحوّل الشهید الکربلائی إلی قدوة ومثل عظیم یحتذی به.

شبث بن ربعی یشید بدور مسلم بن عوسجة فی المعرکة

فها هو شبث بن ربعی، وهو الذی کان قد عاش تلک المعرکة وقاتل فیها، ینقل عنه الطبری قوله: «لربّ موقف کریم له فی المسلمین».

وهذه نقطة مهمّة أنّ موقف مسلم بن عوسجة فی ذلک الیوم کان بدرجة من القوة وبدرجة من التأثیر، بحیث أنّ شبث بن ربعی یعترف بأنّ لمسلمٍ من خلال موقفه هذا دَیناً فی عنق کلّ مسلم ومسلمة، وقوله أیضاً: «لقد رأیته فی سلق أذربیجان قد قتل ستة أو سبعة من المشرکین قبل أن تلتام خیول المسلمین»(1).

وهنا العظمة، وهنا الفخر، وهنا الاعتزاز بأن یتقدّم قبل القوم ویقاتل قبل إخوانه المسلمین، یا لها من شجاعة ویا له من إیمان ویا له من عظیم شرف کان یحمله مسلم فی جنبات نفسه، ولا غرو أن یذکر له هذا الموقف العظیم بعد أکثر من 1400 سنة، وسیبقی هذا الموقف مدوّیاً فی عقول ونفوس المؤمنین الغیاری حتی یرث الله الأرض ومن علیها.

ص:76


1- (1) إبصار العین: ص 84.

درس کبیر من حیاة هذا الشهید

وهنا وانا أتحدث عن هذا الموقف العظیم لمسلم بن عوسجة، خطرت فی ذهنی وربما خطرت فی أذهان البعض أنّ شبثاً الذی وقف یوم العاشر یقاتل الحسین، کان ممّن اشترک یومها فی ذلک الفتح الإسلامی، وکان قد وقف إلی جانب مسلم بن عوسجة لأنّه یقول: «لقد رأیته فی سلق أذربیجان» ممّا یدلل علی أنّ الرجل کان معه یجاهد فی سبیل الله. وربّما ما کان آنذاک لیخطر فی ذهن شبث بن ربعی، وهو الذی کان وقتها یحارب من أجل الإسلام، أن سیأتی الیوم الذی سیحارب فیه الإسلام، بل ویقطع أعضاءه وینصر الباطل، لقاء الدنیا وبعض متعها، وخوفاً علی نفسه من الموت، ولقد قرأت کتاب (الحسین یکتب قصّته الاخیرة)(1) وهو عبارة عن محاضرات للسیّد الشهید الصدر، وتعلیقة السیّد کاظم الحائری، یقول فیه السیّد محمد باقر الصدر وهو خیر ما قرأت فی هذا المجال، وکان + یتحدّث عن شبث بن ربعی: «هو الرجل الذی عاش مع جهاد أمیر المؤمنین، الرجل الذی کان یعی مدلول حرب صفّین، وکان یدرک أنّ الإمام علیاً فی حرب صفّین کان یمثّل رسول الله صلی الله علیه و آله فی غزوة بدر، ولکنّ الدنیا والانهیار النفسی، ولکنّ النفس الأخیر خنقة فی البدایة»(2).

ویقول أیضاً: «إنّ عبید الله یبعث إلیه لیقاتل الحسین ابن رسول الله، فماذا یکون العذر؟ ماذا یکون الجواب؟ لا یملک أن یعتذر بعذر من الأعذار إلاّ أن یقول: أنا مریض! کلمة باردة جداً علی مستوی بروده النفسی، ثمّ یبعث الیه مرّة

ص:77


1- (1) البحار: ج 44 ص 386.
2- (2) الحسین یکتب قصّته الأخیرة: ص 71-72.

أخری لیقول له: المسألة جدّیة، لا مرض فی هذا المجال؛ إمّا أن تکون معنا وإمّا أن تکون عدوّنا، وبمجرّد أن یتلقّی هذه الرسالة، ویعرف أنّ المسألة جدّیة، یقوم شبث بن ربعی ویخرج متّجهاً إلی عبید الله بن زیاد وهو یقول: لبیک»(1).

وأعتقد أنّ هذا الدرس عظیم لنا جمیعاً، بأن نحذر من الدنیا وأن لا ندعها تؤثّر فینا بالشکل الذی نتحلل بسبب هذا التأثیر حتی من مسؤولیّاتنا أمام الله وأمام الناس وأمام هذا الدین العظیم، فهذا شبث بن ربعی لم یکن یوماً ملحداً، بل کان مسلماً، ولقد کان یصلّی ویقرأ القرآن، وکان یصوم ویجاهد فی سبیل الله، ومع کل ذلک لم یستطع أن یکبح جماح نفسه من السقوط فی تأثیرات الدنیا، فإذا کان الأمر کذلک، علینا أن لا نغترّ بما نصنع من عبادات؛ من صلاة وصیام وغیرهما؛ لأنّ الأهمّ من ذلک کلّه هو أن یکون لهذه العبادة أثر علینا، لأنّ المال والبنین والسلطة والجاه والکرسی وما شاکل ذلک، کلّها هی الاختبار الحقیقی لنجاحنا فی عباداتنا أو عدم نجاحنا، وها هو الموقف فی کربلاء یکشف عمّن جاهد وصلّی وقرأ القرآن علی نحوٍ یرید به وجه الله، ومن قام بذلک ولم یکن مریداً به وجه الله.

فهنیئاً لمسلم بن عوسجة هذا الثبات وتعساً لشبث بن ربعی(2) ومن هم علی شاکلته علی هذا الخسران فی هذه الدنیا.

«وَ لَلْآخِرَةُ أَکْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَکْبَرُ تَفْضِیلاً3» .

ص:78


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) تنقیح المقال للمامقانی: ج 2 ص 80؛ معجم رجال السیّد الخوئی: ج 10 شبث بن ربعی.

موقفه فی الکوفة

لقد کان مسلم بن عوسجة من الذین کانوا یترقّبون الأخبار، ویعیشون همَّ هذه الأمة فی کیفیة الخلاص من حکّامها وسلاطین الجور فیها، ولکنّهم کانوا صابرین مسلّمین لأمر إمامهم الذی دعاهم إلی التزام بیوتهم ما دام معاویة حیّاً، ولذلک تقول کتب السیر: إنّ شیعة أهل البیت، ومنهم الشهید مسلم بن عوسجة ما إن سمعوا بهلاک معاویة حتی کتبوا إلی الحسین علیه السلام من أجل المجیء لکی یقفوا إلی جانبه حتی آخر نفس من أجل إسقاط النظام الأموی الظالم الذی لم یرتضِ بکل الظلم الذی صنعهُ بهذه الأمة حتی ختم جرائمه شرّ ختمة، بتسلیطهم یزید الکفر والفجور علی رقاب هذه الأمة. فکتبوا إلی الحسین کتاباً، وکان بینهم حبیب وسلیمان بن صرد الخزاعی ومسلم بن عوسجة والمخلصون من شیعته، بعد أن اجتمعوا فی منزل سلیمان بن صرد الخزاعی کما یقول الشیخ المفید فی الارشاد(1) ، حیث جاء فیه:

«سلام علیک فإنّا نحرر الله الیک الذی لا إله إلاّ هو، أمّا بعد، فالحمد لله الذی قصم عدوک الجبار العتید الذی انتزی علی هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها حقّها، ألخ الکتاب».

ثمّ سرّحوا الکتاب مع عبد الله بن مسمع الهمدانی وعبد الله بن وال.

ومن هنا نفهم أنّ الشهید مسلم بن عوسجة کان متابعاً للأحداث السیاسیة عن کثب، ولقد کان الرجل صادقاً فی کلماته ولم ینطلق کما انطلق بعضهم

ص:79


1- (1) الإرشاد للمفید: ج 2.

من مصالح خاصة وأهواء معیّنة أمثال شبث بن ربعی وحجّار بن أبجر وآخرین، ولذلک ثبت مسلم علی موقفه فی کلّ الحالات سواء أکانت فی الرخاء أم الشدّة، بل جسّدها علی ثری الطف بین یدی أبی عبد الله الحسین علیه السلام، وبعد أن دخل مسلم بن عقیل إلی الکوفة سفیراً عن الحسین علیه السلام ومستقرئاً للأحداث له هناک، تقول الروایة أنّ مسلم بن عوسجة کان من أوائل الذین التحقوا به، بل کان موضع سرّه ورکن ثورته وحرکته الذی یعتمد علیه، وکان مسلم بن عوسجة من الذین تحرّکوا فی أخذ البیعة له من أهل الکوفة، وإنّ هذا لشرف عظیم کبیر حیث لم یعطِ علیه السلام هذا الوسام إلاّ لجماعة محدودة کانت تعدّ بعدد الأصابع، وهناک نصّ یذکره الشیخ عباس القمّی فی کتابه نفس المهموم، یکشف عن عظیم منزلة الشهید عند مسلم بن عقیل، حیث یقول: «مسلم بن عوسجة وکیل مسلم بن عقیل فی قبض الأموال وشراء وبیع الأسلحة وأخذ البیعة».

ولقد کان الشهید عند حسن ظنّ موکّله فیه، فلقد بالغ فی النصیحة وأعطی غایة المجهود، وتفنّن فی الدفاع عن حوزة الدین، ولقد تبیّنت الأمور السالفة فی عدّة مواقف کان فی مقدّمتها اختیار مسلم بن عقیل أن ینزل الکوفة عند دار مسلم ابن عوسجة، کما ینقل الطبری وابن کثیر(1) وغیرهما.

وإن کان هناک رأی آخر یقول إنّه نزل فی دار هانی بن عروة، ورأی ثالث یقول إنّه نزل فی دار المختار، کما یذهب إلی ذلک السیّد عبد الرزاق المقرّم فی

ص:80


1- (1) تاریخ ابن کثیر: ج 8 ص 152.

کتابه مسلم بن عقیل(1) ، وآخرون.

وکذلک حینما عقد مسلم بن عقیل له علی ربع مذحج وأسد حینما أراد أن یواجه عبید الله بن زیاد عندما دخل الکوفة، إضافة إلی عدم خروجه من الکوفة حتی آخر مرحلة من مراحل ثورة مسلم بن عقیل، ممّا یعنی أنّه کان إلی آخر اللحظات إلی جانبه مدافعاً عنه.

تنبیه حول قصة الجاسوس (معقل)

أودّ أن أشیر هنا إلی ما یذکره المؤرّخون حول قصّة الجاسوس الذی بعثه عبید الله بن زیاد إلی مسلم بن عوسجة فی مسجد الکوفة، وکیفیة کشف الأمر بعد ذلک من قبله وإخبار عبید الله بن زیاد. هذه القصّة التی وصلت إلی درجة کبیرة من الشهرة حتی أنّ الصغیر قبل الکبیر سمعها أو قرأها.(2)

وقد یرد فی ذهن کلّ من یسمعها ویقرأها جملة من الإشکالات حول کیفیة اختراق هذا الجاسوس لمسلم بن عوسجة، والذی حنّکته التجارب والحروب والغزوات بهذه السهولة! ثمّ کیف یطلعه مباشرة علی مرکز العملیات إن صح التعبیر، بحیث یکشف القائد الأکبر ومساعدیه وعملهم وکیفیة إدارة الثورة فی داخل الکوفة؟! واذا کان هذا الأمر یمکن أن نقبله أو نغضّ الطرف عنه مع مسلم بن عوسجة، فکیف بهانی بن عروة فضلاً عن الآخرین، وفضلاً عن سیّدهم ثقة الحسین مسلم بن عقیل علیه السلام؟

ص:81


1- (1) کتاب مسلم بن عقیل للمقرّم: ص 80.
2- (2) تلخیص قصّة الجاسوس معقل، تاریخ الطبری: ج 4 ص 270-272.

لا وجود لقصة الجاسوس

یذهب بعض المحقّقین، وهذا ما أمیل الیه کثیراً، إلی أنّ هذه القصّة مختلقة لا وجود لها، وکان لواضعها جملة من الفوائد التی یرید ان یجنیها بروایته هذه، والتی أهمّها تصویر أهل البیت ومن ینتسب لهم بالبلاهة، وعدم القدرة علی إدارة کفّة البلاد والعباد، وأنّ بنی أمیة هم أقدر الناس علی ذلک؛ فمن جهة یریدون أن یستصغروا أهل البیت وشیعتهم ویقلّلوا من شأنهم، ومن جهة أخری یرفعوا من شأن بنی أمیة ویعظّموهم.

ولقد حاول بنو أمیة قبل ذلک مثل هذه المحاولات مع علی بن أبی طالب، وأنّه وإن کان رجلاً صالحاً ولکنّه غیر قادر علی إدارة الحروب وإدارة البلاد، ولذا فالأفضل لهذه الأمة أن یکون علیها من هو قادر علی ذلک، وهو معاویة بن أبی سفیان، وخیر دلیل علی ذلک ما ذکره علی بن أبی طالب نفسه فی خطبة له کما فی نهج البلاغة(1):

«أمّا بعد، فإنّ الجهاد باب من أبواب الله فتحه الله لخاصة أولیائه إلی أن یقول: یا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربّات الحجال، لوددت أنّی لم أعرفکم معرفة والله جرت بذمّ وأعقبت سقماً، قاتلکم الله، لقد ملأتم قلبی قیحاً وشحنتم صدری غیظاً وجرّعتمونی نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم علیّ رأیی بالعصیان والخذلان، حتی لقد قالت قریش إنّ ابن أبی طالب رجل شجاع

ص:82


1- (1) نهج البلاغة: ج 1 ص 66-67.

ولکن لا علم له بالحرب، لله أبوهم، وهل أحد منهم أشدّ لها مراساً وأقدم فیها مقاماً منّی؟! لقد نهضت فیهم وما بلغت العشرین، وها أنا ذا قد ذرّفت علی الستّین، ولکن لا رأی لمن لا یطاع».

وها هو واقعنا الذی نعیش فیه خیر دلیل وشاهد علی ما نذهب إلیه، حیث یحاول العلمانیون بکلّ ما أوتوا من قوّة أن یصوّروا الإسلامیین ومن یعیشون خطّ الإسلام، بأنّهم أُناس فاشلون غیر قادرین علی إدارة الحیاة السیاسیة، ومن ثم فالأولی لهم تسلیم الأمر إلیهم وجلوسهم فی المساجد للذکر والصلاة وقراءة القرآن، وهذا لعمرک تسقیط کبیر لیس للإسلامیین فحسب، بل تسقیط للإسلام بأکمله، ویبدو أنّ من دسّ روایة الجاسوس معقل، أراد تحقیق نفس الأهداف والنوایا التی حملها بنو أمیّة من خلال قریش مع علی بن أبی طالب علیه السلام.

نعم، قد یعتذر بعضهم(1) عن هذا الاختراق بقوله: إنّ التعرّف علی مسلم بن عوسجة لا یحتاج إلی الکثیر من العناء، اذ کان رحمه الله وجهاً شیعیاً معروفاً، وقد کشف له معقل عن سرّ سهولة تعرّفه علیه حین قال: سمعت نفراً من الناس یقولون هذا رجل له علم بأهل هذا البیت، فأتیتک لتقبض هذا المال وتدلّنی علی صاحبک فأبایعه، وإن شئت أخذت البیعة له قبل لقائه، وقد عبّر مسلم عن استیائه من ذلک، حیث قال: لقد ساءتنی معرفتک إیّای بهذا الأمر قبل أن ینمی، مخافة هذا الطاغیة، وأنّه ظلّ أیّاماً یجتمع معه فی بیته قبل طلب الإذن، وأنّه لم یأذن له حتی أخذ إذن مسلم بن عقیل، وأنّ معقلاً عرّفهم بأنّه مولی لذی الکلاع الحمیری فی الشام،

ص:83


1- (1) کما یمیل إلی ذلک الشیخ محمد جواد الطبسی فی کتابه الرکب الحسینی: ج 3 ص 93-94.

والمعروف أنّ الموالی جلّهم لهم علاقة طیّبة بأهل البیت، ومن هنا جری الذی جری.

ولکن مع کلّ هذا التخریج، یبقی السؤال قائماً والإشکال متوجّهاً أن یأتی هذا الجاسوس فی مدّة وجیزة من الزمن، وفی مرحلة شدید الحساسیة، واختراق الجمیع بهذه الطریقة السهلة البسیطة، وهم أصحاب التجربة الکبیرة، والذین سمعوا وعلموا وعرفوا أنّ الحرب خدعة، فلابدّ من أخذ الاحتیاط کثیراً لذلک!

الخروج من الکوفة

یقول الشیخ السماوی فی إبصار العین(1) فی أنصار الحسین، «ثمّ إنّ مسلم ابن عوسجة، بعد أن قُبض علی مسلم وهانی وقُتلا، اختفی مدّة، ثمّ فرّ بأهله إلی الحسین، فوافاه بکربلاء وفداه بنفسه».

وأغلب الظنّ أنّه اختفی عند قبیلته بنی أسد، لأنّهم کانوا أصحاب نفوذ وقوة، ثمّ تمکّن بعد ذلک من الخروج من الکوفة والوصول إلی کربلاء، حیث اللقاء بسید الشهداء. وهناک من یذهب إلی أنّ مسلم بن عوسجة قد التحق بالحسین فی مکّة وهو لم یخرج بعد إلی العراق، وهذا یعنی - أو أنّ لازمه یعنی - أنّ مسلم بن عوسجة کان قد خرج من الکوفة قبل یوم 8 ذی الحجّة یوم شهادة مسلم بن عقیل، وهذا ما لا تساعد علیه القرائن، فإنّ کلّ المؤشّرات تؤکّد بقاء هذا الشهید لحین اعتقال هانی بن عروة وشهادة مسلم بن عقیل علیه السلام، ممّا یرجّح أن یکون اللقاء قد تمّ فی کربلاء مع الحسین.

ص:84


1- (1) إبصار العین: ص 82.

مسلم بن عوسجة یصحب معه زوجته وولده

وتنقل الروایات التی تتحدّث عن خروج مسلم بن عوسجة من الکوفة أنّه لم یکن قد خرج لوحده، بل کان قد صحب زوجته أمّ خلف وولده خلف معه، حیث کتب الشیخ ذبیح الله محلاتی، نقلاً عن عطاء الله الشافعی فی روضة الأحباب(1) «أنّ مسلماً حینما صرع وسمع خلف بمصرع أبیه، اندفع إلی ساحة المعرکة، فاعترضه الحسین وأعلمه أنّه إن قتل فإنّ أمّه ستبقی بعده وحیدة، فأراد خلف الرجوع امتثالاً لأمر أبی عبد الله الحسین، واذا بأمّه تعترضه وهی تقول: بنی إختر نصرة ابن بنت نبیک علی سلامة نفسک، أمّا اذا اخترت سلامتک فلن أرضی عنک ابداً. فبرز خلف وحمل علیهم وهو یسمع أمّه تنادیه وتشجعه: أبشر یا ولدی، فإنّک ستسقی من ماء الکوثر. فقتل 30 رجلاً إلی أن سقط علی أرض المعرکة شهیداً صابراً محتسباً» وتقول الروایات أنّه لما سقط إلی الأرض أقبلوا إلیه واحتزّوا رأسه ورموا به نحو أمّه، فأخذته أمّه واحتضنته ثمّ بکت وأبکت من کان معها، ثمّ أخذت أسیرة مع زینب وبنات رسول الله.

الشهید فی کربلاء

ولقد وصل مسلم بن عوسجة إلی کربلاء والتقی برکب الحسین، وأغلب الظنّ أنّه کان بعد الیوم الثانی من المحرّم، یوم وصول الحسین إلی کربلاء. وهنا بدأت مرحلة جدیدة فی حیاة هذا الشهید الکربلائی العظیم، حیث المواقف

ص:85


1- (1) ریاحین الشریعة، لذبیح الله محلاتی: ج 3 ص 305.

العظیمة وحیث التفانی فی الدفاع عن الإمام الحسین، معشوقهم الذی انتظروه کثیراً وتحمّلوا الکثیر من أجل الوصول الیه. وصل مسلم بن عوسجة لیکون من ضمن اولئک الذین عناهم الحسین بقوله:

«إنی لم أجد أصحاباً خیراً من أصحابی» (1).

ویروی أبو مخنف فی مقتله «عن الضحّاک بن عبد الله المشرقی، أنّ الحسین خطب فی أصحابه لیلة العاشر من المحرّم قائلاً: «إنّ القوم یطلبوننی، ولو أصابونی لذهلوا عن طلب غیری، وهذا اللیل قد غشیکم فاتّخذوه جملاً، ثمّ لیأخذ کلّ رجل منکم بید رجل من أهل بیتی»(2) . فأجابه العباس بن علی: لم نفعل ذلک؟ لنبقی بعدک؟ لا أرانا الله ذلک أبدا ً».

یقول أبو مخنف:

ثمّ قام مسلم بن عوسجة فقال للحسین: أنحن نخلّی عنک ولمّا تعذر إلی الله فی أداء حقک».

وهذه کلمة عظیمة أحببت أن أبیّنها قبل أن استرسل فی حدیثه رضی الله عنه، فهو یقول بلسان حاله إنّ حقّ الحسین علیه السلام فی عنق کلّ مسلم ومسلمة، وهذا الحق لا یعنی معرفته فقط، وأنه ابن رسول الله وإمام منصوب من قبل الله تعالی، بل إنّ هذا ربّما عرفه کلّ من عاش مع الحسین، بل ینقل أنّ خولّی بن یزید الأصبحی، حینما جاء برأس الحسین، جاء به وهو یقول لعبید الله بن زیاد:

ص:86


1- (1) معالم المدرسین: ج 3 ص 90.
2- (2) أبو محنف: ص 109-110.

إملأ رکابی فضّةً أو ذَهَبا إنّی قَتلتُ السیّدَ المحجّبا(1)

قَتلتُ خَیرَ الناس أُمّاً وأبا

فلا تعنی مجرّد المعرفة النسبیة بالحسین، وأنّه إمام معصوم ومنصوب من قبل الله أنّ الإنسان قد أدّی حقّه، بل إنّ حقّ الحسین کبیر وعظیم بالدرجة التی لا یستطیع الإنسان أن یؤدّیه حتی یراق دمه فی سبیل الله من أجله، بل ومع ذلک یبقی یشکّ فی نفسه؛ هل أدّی حقّه أم لا؟ کما حصل مع شهید من شهداء کربلاء، ألا وهو سعید بن عبد الله الحنفی حینما سقط إلی الأرض وجاءه الحسین وأخذ رأسه، قال له: سیّدی یا بن رسول الله، أوفیت؟ إنّه لا یقطع مع کل الذی لاقاه أنّه قد أدّی حقّ الحسین علیه السلام وهکذا نری مسلم بن عوسجة یقول للحسین: وبم نعتذر وماذا نقول إلی الله وإلی رسوله إذا قصّرنا فی أداء حقّک الواجب علینا، بأن ننصرک ونقف إلی جانبک حتی یسیل دمنا علی الأرض.

وهذا درس عظیم علینا أن نتأمّله کثیراً ونحن نعیش ونقرأ ونسمع بواقعة کربلاء والحدیث عن أصحاب الحسین علیه السلام، فلا نستکثر عملنا بعد ذلک مهما قدّمنا للحسین من خدمة ومن جهد فی سبیل تخلید مبادئ ثورته، بعد قول رسول الله له:

«یا حسین، إنّ لک فی الجنّة درجة لا تنالها إلاّ بالشهادة».

وهذا درس عظیم لنا جمیعاً نستلهمه من حیاة هذا الشهید العظیم.

ثمّ یقول مسلم بن عوسجة رضی الله عنه بعد ذلک: «أما والله، لا أبرح حتی أطعن فی

ص:87


1- (1) الشیخ السماوی، إبصار الحسین: ص 83؛ أبو محنف: ص 110.

صدورهم رمحی، وأضربهم بسیفی ما ثبت قائمه فی یدی، ولا أفارقک، ولو لم یکن معی سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونک حتی أموت معک»(1).

وهذه أعلی درجات الولاء، بل إنّ الولاء قد تجسّد من خلال هذا الموقف، وبقیة المواقف الأخری العظیمة التی صنعها أبطال کربلاء.

محاولة مسلم بن عوسجة قتل شمر

وممّا ینقل أیضا، کما فی إبصار العین للشیخ السماوی: «أنّ مسلماً تمکّن فی وقت ما قبل واقعة کربلاء - یوم العاشر - أن یقتل شمر بن ذی الجوشن، وکان مسلم رامیاً ماهراً قد تعلّم الرمایة وأتقنها فی الحروب السابقة، فرام مسلم أن یرمیه، فالتفت إلی الحسین لیأخذ منه الإذن قائلاً:

«سیّدی، إنّ الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبّارین، وقد أمکن الله منه. فقال له الحسین:

«لا ترمه، فإنّی أکره أن أبدأهم بقتال» (2).

وهنا إشارة أولاً إلی هذا اللعین، وإنّه کأمیره وسیّده یزید بن معاویة، فاسق فاجر متظاهر بالفسق، حیث وصفه العبد الصالح مسلم بن عوسجة بأنّه الفاسق، وثانیاً وهو الأعظم فی هذا المقام، أنّ الحسین کان یرید السلم لا الحرب، ویرید الجنّة لهم لا النار، وحتی حینما قاتلوه واختاروا الحرب کان علیه السلام یبکی علیهم، لأنّه کان ینطلق من منطلق القرآن والذی کان یقول:

ص:88


1- (1) إبصار العین/ ص 73.
2- (2) الشیخ المفید الإرشاد: ص 233-234.

«کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ کُرْهٌ لَکُمْ 1» .

فلم یکن القتال أمراً محبّباً عند الله ولا عند رسوله، ومع أنّه أمر غیر محبوب لما فیه من سفک للدماء وهدر للأموال، بل وتدمیر للبلاد والعباد، نجد أنّ القرآن قد أمر المسلمین بأن یقاتلوا:

«وَ قاتِلُوهُمْ حَتّی لا تَکُونَ فِتْنَةٌ وَ یَکُونَ الدِّینُ کُلُّهُ لِلّهِ 2» .

فالحرب والقتال قد یلجأ الیه حتی الأنبیاء ولکن لا عن رغبة بل إطفاءً للفتنة ودرءاً للمفسدة وحفظاً للدین والحقوق من الضیاع، وهکذا کان رسول الله صلی الله علیه و آله یبذل الجهد ویحاور ویناقش ویدافع بکلّ الوسائل المتوفّرة لدیه حتی إذا رأی بأن لا مناص من الحرب عندها یأذن بالحرب ولکن وهو یقول:

«لا تقطعوا شجرة ولا تتبعوا مدبراً... الخ»(1).

وهکذا کان أمیر المؤمنین، حیث بذل الجهود من أجل الصلح وحفظ دماء المسلمین وخصوصاً مع الخوارج، حیث وقف أمامهم بجیشه، وکان قادراً علی القضاء علیهم بشکل کامل، فقال: أخرجوا لنا القاتل، وإذا بهم یقولون له: کلنّا قتله(2) ، فلم یجد بدّاً من أن یقاتلهم بعد أن عفا عنهم مرّات ومرّات، وهم یسرحون ویمرحون فی داخل الکوفة، فالحسین علیه السلام سار علی هذا النهج القرآنی النبوی العلوی

ص:89


1- (3) وسائل الشیعة: ج 15 ص 74.
2- (4) ابو مخنف.

الإسلامی، حیث کان کارهاً للقتال محبّاً للسلام متمنّیاً أنّ القوم یرجعون عن غیّهم، وکانت هذه هی أمنیة جمیع أصحاب أبی عبد الله الحسین، حیث کان الواحد بعد الآخر یخرج فیخطب ویعظ ویدعوهم إلی نصرة الحقّ، وأن یبتعدوا عن الحرب حیث کانوا یذکّرونهم بأنّهم ما زالوا جمیعاً أمّة واحدة، علی دین الإسلام، وأنّهم ما زالوا یقفون علی صعید واحد، ولکن إذا ما وقعت الحرب فإنّ الأرض التی سوف یقفون علیها سوف تختلف عن الأرض التی سوف یقف علیها المسلمون(1).

ومن هنا نجد أنّ الحسین یقول لمسلم بن عوسجة: «لا ترمه، إنّی أکره أن أبدأهم بقتال» لیرسلها کلمةً خالدة بقیت نهجاً لنا، وطریقاً تسیر علی وفقه کلّ الأجیال من أبناء هذه الأمّة، وهذا درس عظیم آخر نستلهمه من شهیدنا الکربلائی، لنسیر علیه ونجعله أمامنا مرشداً وهادیاً إلی الله وإلی صراط مستقیم.

شهادته

لم یقبل هذا الشهید العظیم أن یتأخّر عن اللقاء بالله ورسوله کثیراً، فقد کان شدید الشوق لنیل الشهادة بین یدی الحسین علیه السلام، فکان أول شهید من شهداء کربلاء.

یقول أبو مخنف: «لمّا التحم القتال حملت میمنة ابن سعد [والتی کان فیها عمر بن الحجّاج الزبیدی]، علی میسرة الحسین والتی کان فیها مسلم بن عوسجة، فقاتل مسلم بن عوسجة قتالاً شدیداً لم یسمع بمثله. [ما أعظم هذا الرجل وهو فی سنّ الشیخوخة]، فحمل علی القوم وهو یقول:

ص:90


1- (1) ومن أراد المزید فالیرجع إلی خطبهم (رض) فی کتب المقاتل، کأبی مخنف والخوارزمی والمقرّم وغیرها.

إنْ تَسألوا عنّی فإنّی ذو لَبَدْ(1) وإنّ بَیتی فی ذُری بَنی أسَدْ

فمَنْ بَغانی حائِدٌ عن الرَشَدْ وکافرٌ بدِینِ جبّارٍ صَمَدْ

ولم یزل یقاتل ویضرب فیهم بسیفه حتی قتل منهم مقتلة عظیمة، ثمّ عطف علیه مسلم بن عبد الله الضبابی وعبد الرحمن بن أبی خشکارة البجلی، فاشترکا فی قتله، مع اشتراک هذین الفارسین - یقال: - وقعت لشدّة القتال غبرة عظیمة، فما انجلت الغبرة إلاّ ومسلم بن عوسجة صریع علی ثری الطف، فمشی إلیه الحسین وبه رمق، فقال له الحسین: رحمک الله یا مسلم، ثمّ قرأ قوله:

«فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً» (2)»(3).

وکان حبیب بن مظاهر إلی جانب الحسین فقال لمسلم وقد رأی شفتیه تتمتمان: یا أخی یا مسلم، لو لم أعلم أنّی فی الأثر لأحببت أن توصینی بجمیع ما أهمّک، فقال مسلم بن عوسجة وهو یلفظ أنفاسه الأخیرة: أوصیک بهذا - وأشار إلی الحسین علیه السلام - أن تموت دونه. إنّ الکلمات ربّما لا یمکن أن تعطی وتصوّر العظیم من المواقف، وهذا هو أحدها، فإنّ القلم تراه یکلّ، والید تقف، واللسان لا یتکلّم، وهو یری موقفاً عظیماً کهذا الموقف الذی وقفه فیه مسلم بن عوسجة فی حیاته وعند مماته. فهنیئاً لک یا مسلم بن عوسجة هذه الشهادة العظیمة بین یدی مولاک الحسین، جمعنا الله وإیاکم معه تحت ظلّ رحمته، وفی جنّته، إنّه أرحم الراحمین.

ص:91


1- (1) معنی ذو لبد: الشعر المجتمع بین کتفی الأسد ولهذا یعبر عن الأسد بأنه ذو لبدة (لسان العرب مادة لبد).
2- (2) سورة الأحزاب، الآیة: 23.
3- (3) إبصار العین: 109.

الشهید حنظلة بن سعد الشبامی

اشارة

بین یدی الشهید: أن من جملة الأمور التی ینبغی علینا أن نعیها ونحن نتکلّم عن شهداء کربلاء، هی أنّ هذا الدین وهذا المذهب لم یُقدَّم إلینا علی طبق من ذهب، بل سالت لأجله الدماء الکثیرة، والأرواح، واُنفقت الأموال، وُضحِّیَ لأجله بکلّ غالٍ ونفیس، وما إلی ذلک مما قد یطول ذکره، وتأریخنا مُلئ بهذه الشواهد الکثیرة علی ذلک، بل ربما واقعنا الذی نعیش فیه یؤکّد هذه الحقیقة التاریخیة المهمّة(1) ، وصدق الشاعر حیث یقول:

الدهرُ آخره شبهٌ بأوّله ناسٌ کناسٍ وأیّامٌ کأیّام(2)

وقد یسأل الإنسان، لماذا کلّ ذلک، وما الحکمة فیه؟ فأقول إنّ استذکار هذه القیم والمعانی السامیة، خصوصاً فیمن نتحدّث عنهم، - ألا وهم شهداء کربلاء الذین لم یکونوا فی یوم من الأیام یعیشون فی هامش الحیاة بل کانوا من

ص:92


1- (1) وهذا ما نشاهده علی صعید الواقع متمثلاً بالهجمة الشرسة علی الإسلام بشکل عام، وعلی مذهب أهل البیت علیه السلام بشکل خاص.
2- (2) البصائر والذخائر، لأبی حیّان التوحیدی.

الشخصیات الکبیرة، والمهمّة فی المجتمع وعلی کل الصُعُد(1) - سوف یَهَبُ الکائن البشری قیمةً وجودیةً جدیدة، تبعث فیه الأمل کلّما أدلهمت به الخطوب، وشطت به الدروب، فَیهبُّ من جدید للدفاع عن دینه أو وطنه أو عرضه أو ماله أو کرامته، حیث إنّ العاقل یعلم جیّداً أنّه لیس أکرم علی الله من أولئک العظماء، فإذا کان أولئک قد ضحّوا بکل ما یملکون، فلم لا یضحی هو بکل ما یملک، ومن ثم یکون ذلک دافعاً ممتازاً للتضحیة والفداء.

من هنا، ولأجل الأخذ والتزود من التأریخ وقیمه التی لا تخلو من الفوائد والعبر، دعینا إلی قراءة التاریخ والتفکّر فیه أکثر، یقول سبحانه وتعالی وهو یتحدث عن هذا الأمر بقوله:

«قُلْ سِیرُوا فِی الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُکَذِّبِینَ 2» .

ولقد کانت کربلاء بحقٍّ وصدقٍ، واحدةً من أهمِّ الکنوز التاریخیة قیماً وعظةً وعبرةً، ومبادئ سامیة، ومعانی خالدة.

«رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً3» .

ص:93


1- (1) لم أجد حسب تتبّعی واحداً من شهداء کربلاء، لا یملک وزناً أجتماعیاً أو علمیاً أو عسکریا أو جهادیاً مُمَّیزاً کما سیتبین ذلک بشکل واضح فی طیّات الحدیث عنهم (رض).

ومن أولئک الأفذاذ شهیدنا حنظلة بن أسعد الشبامی (رض)، وحتی نعیش أجواء هذه المعانی والمواقف الخالدة فی حیاة هذا الشهید، بل وحیاة أسرته، وبیئتهِ کما سیأتینا، نحاول ان نسلّط الأضواء علی ذلک من خلال هذه السطور، ولکن وقبل ان نلج فی الحدیث عن حیاته الشریفة، أود أن أشیر إلی ما قاله العلماء فی حقّه.

أقوال العلماء فی الشهید

1 - قال السید محسن الأمین: «حنظلة بن أسعد بن شبام بن عبد الله بن حاشد ابن همدان الهمدانی الشبامی، أستشهد مع الحسین سنة 61 ه -، والهمدانی نسبةً إلی شبام، بوزن کتاب بطن من همدان»(1).

2 - قال أبو مخنف: «جاء حنظلة بن أسعد الشبامی إلی الحسین علیه السلام عند نزوله کربلاء، وکان الحسین علیه السلام یرسله إلی عمر بن سعد أیام المهادنة»(2).

3 - قال العلاّمة المامقانی: «هو حنظلة بن أسعد بن جسم بن عبد الله الهمدانی الشبامی، وما فی جملة من کتب الرجال منها: رجال الشیخ رحمه الله من أبدال الشبامی بالشامی یعتبر سهو من قلم الناسخ أو قلمه قدس سره، فإنّ الرجل همدانی شبامی کوفی ولیس بشامی وشبام هی من همدان»(3).

4 - قال الشیخ السماوی: «کان وجهاً من وجوه الشیعة، ذا الفصاحة والبلاغة،

ص:94


1- (1) . أعیان الشیعة 258:6.
2- (2) . مقتل أبی مخنف: 119.
3- (3) . تنقیح المقال للعلامة المامقانی 401:4-402.

شجاعاً قارئاً للقرآن، وله ولد یدعی علیاً له ذکر فی التأریخ»(1).

5 - قال المحقق الاسترابادی: «حنظلة بن أسعد الشبامی، وشبام طائفة فی الکوفة، منهم عبد الجبار بن العباس الشبامی من أهل الکوفة وهو من أصحاب الحسین بن علی وقتل معه فی کربلاء».

الاختلاف فی اسم الشهید ونسبه

ذکر أغلب من تحدث عن الشهید الکربلائی أنّ اسمه کان «حنظلة بن أسعد الشبامی» نعم ورد فی رجال الشیخ الطوسی أسمٌ آخر وهو «أسعد بن حنظلة الشبامی»(2) ، وأغلب الظن أنه کان سهواً من قلمه الشریف کما احتمله السید الأمین حیث قال: ولم یذکر المؤرخون فی أصحاب الحسین من اسمه أسعد بن حنظلة بل فیهم حنظلة بن أسعد الشبامی کما یأتی، ولیس لحنظلة ولد اسمه أسعد بل له ولد اسمه علی، فالظاهر أنه وقع اشتباه من الشیخ هنا حیث قلب حنظلة بن أسعد إلی أسعد بن حنظلة»(3).

وفی نفس هذا السیاق تحدث العلامة المامقانی رحمة الله تعالی بقوله: «لم أقف فیه إلا علی عدِّ الشیخ رحمهُ الله إیّاه فی رجاله من أصحاب الحسین علیه السلام، ولا یخفی أنّه لیس له ذکر فی شهداء الطف، ولا ابناً لحنظلة بن أسعد قتیل الطف - الآتی ذکره - لأنّ له إبناً یدعی: علیاً، له ذکر فی التأریخ، ولا أباً لحنظلة ذاک: لأنّ

ص:95


1- (1) . إبصار العین: 101.
2- (2) . رجال الشیخ الطوسی: 100.
3- (3) . أعیان الشیعة 258:6.

أباه أسعد بن جشم بن عبد الله بن شبام الهمدانی کما یأتی»(1).

وقد احتمل بعضهم اتحاد اسم الشهید حنظلة بن أسعد الشبامی مع اسم شهید آخر من شهداء الطف وهو «سعد بن حنظلة التمیمی»، کما أشار إلی ذلک الشیخ محمد مهدی شمس الدین رحمه الله فی کتابه القیّم أنصار الحسین حیث یقول: «سعد بن حنظلة التمیمی: ذکره ابن شهراشوب، وبحار الأنوار، وقد استظهر التستری فی قاموس الرجال: أنّ هذا هو حنظلة بن أسعد الشبامی المتقدم ذکره، واستدل بأنّ ابن شهراشوب لم یذکر حنظلة المتفق علیه وهو الشبامی، ونرجحّ أنّ سعداً هذا غیر حنظلة ذاک لأنّ غیر ابن شهر آشوب قد ذکر سعداً وهو محمد بن أبی طالب الهاشمی فی مقتله کما نقل ذلک المجلسی فی البحار، وأنّ ذاک شبامی من عرب الجنوب، وهذا تمیمی من عرب الشمال، والتصحیف فی هذه الحالة بعید جداً»(2).

وأما نسبة الشهید إلی شبام فهو المشهور عند الفریقین، نعم نسبه بعضهم إلی الشیبانی(3) ، والی الشام کما أشار إلی ذلک السید التفریشی فی نقد الرجال بقوله: «حنظلة بن الاسعد الشامی»(4) ، وعلق القهبانی فی ذیل الترجمة بقوله: الشبامی - نسخة بدل، وفی نقدالرجال نقلاً عن رجال الشیخ، الشامی، وفی جامع الرواة نقلاً عن رجال الشیخ، الشامی، وفی بعض النسخ: أسعد الشبامی قبیلة فی الیمن من

ص:96


1- (1) . تنقیح المقال 283:9.
2- (2) . أنصار الحسین للعلاّمة شمس الدین: 100.
3- (3) . أنصار الحسین للعلاّمة شمس الدین: 96.
4- (4) . نقد الرجال 175:2

همدان، ومثله فی الوسیط المخطوط من نسختنا.

والصحیح: الشبامی، بدلیل أنّ فی الیمن قبیلة باسم الشبامی ولا توجد قبیلة أو مکان فی الیمن باسم الشامی»(1).

معنی شبام: أمّا شبام التی ینتمی إلیها الشهید الکربلائی، وهی شبام حضرموت، أوکما یعبّر عنها «شیکاغوا الصحراء»، هی واحدة من أربع مدنٍ سُمِّیت بهذا الاسم (شبام)، وهی شبام کوکبان، وشبام سخیم، وشبام حضرموت، وشبام حراز(2).

وهذه المدینة یبدو أنّها تعود إلی القرن الرابع قبل المیلاد، ویرجع بعضهم أصلها إلی الملک شبام(3) ، وهو الذی أنشأها، کعاصمة اقتصادیة لمملکة حضرموت، وفعلاً کانت ملتقی القوافل التجاریة، حیث کانت تعجّ بالوان من المنتجات المهمة، وفی مختلف المجالات.

أمّا نفس کلمة شبام فلم یکن لها معنی مستقلّ کما یؤکّد علی ذلک علماء اللغة.

نعم، یذهب بعضهم إلی أنّ هذه الکلمة یعود معناها إلی شیاه، ومعناه الحّد(4) ، علی أساس أنّ هذه المدن کانت حدّاً لمدن الیمن القدیمة، کحضرموت.

ص:97


1- (1) . تنقیح المقال 283:9.
2- (2) . معجم البلدان 318:3.
3- (3) . کتاب الإکلیل فی النسب للهمدان: 39.
4- (4) . معجم البلدان 318:3.

وهناک من یجعل أصل الکلمة یعود إلی (شبم) وهو البرد(1) ، وعلی کل التقادیر، فهی مدینة عربیة ترجع إلی همدان، وأنا أعتقد أن المهمّ لیس هذا، وإنّما المهمّ هو الذی جری وحصل لهذه المدینة حینما جاء الإسلام، حیث أخذت القبائل العربیة تفد علی رسول الله صلی الله علیه و آله بحفاوة کبیرة وإکبار، ومنها قبیلة شبام حیث أعلنت إسلامها وقبلها رسول الله صلی الله علیه و آله ودعا لهم، وبعث علیهم زیاد بن لبید البیاضی والیاً علیهم من قبله(2) ، فجاء هذا الصحابی الجلیل واتّخذ شبام عاصمة ومقرّاً له.

ومن هذه المدنیة انطلقت جملة من الثورات، کثورة عبد الله بن یحیی الکندی، سنة 128 ه -(3) ،علی الحکم الأموی الظالم، حیث استطاع ان یستولی علی الحکم فی قبا والمدینة سنة 130 ه -، ولکن الثورة لم تستمرّ، حیث قتل آخر المطاف(4) ، وهناک ثوارت أخری خرجت من هذه المدنیة سواء فی العصر الأموی أو العباسی ضد الظلم والظالمین.

دور قبیلة شبام فی صفین

لقد تمیّزت قبیلة شبام بدورٍ مُمیَّز جداً فی واقعة صفین، حیث قدموا الدماء رخیصة فی نصرة الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام، حتی ورد (وکما سیأتی بعد ذلک) فی کتب التأریخ، أنّ ما من بیت فی هذه القبیلة إلا وقدّم شهیداً أو أکثر فی صفین.

ص:98


1- (1) . لسان العرب، مادّة شبم: 2189.
2- (2) . الإصابة رقم (2866).
3- (3) . نتف من تاریخ حضرموت 216:1.
4- (4) . نتف من تاریخ حضرموت 216:1.

یقول نصر بن مزاحم فی کتابه «وقعة صفّین»، عن عمر قوله: «حدّثنی عبد الله بن عاصم القائشی قال: لمّا مرّ علیٌ بالثورییّن «یعنی ثوّار همدان» سمع البکاء، فقال: ما هذه الأصوات؟ قیل هذا البکاء علی من قتل فی صفّین فقال علی علیه السلام أما إنّی أشهد لمن قتل صابراً محتسباً بالشهادة» ثمّ مرّ علی حیٍّ آخر من همدان، وهم الفائشیون(1) فسمع الأصوات فقال مثل ذلک، ثمَّ مرّ بالشبامیین، فسمع رنةً شدیدة وصوتاً مرتفعاً عالیاً، فخرج إلیه حرب بن شرحبیل الشبامی(2) ، فقال علیٌ: أیغلبکم نساؤکم، ألا تنهونهن عن هذا الصیاح والرنین؟ قال: یا أمیر المؤمنین، لو کانت داراً أو دارین أو ثلاثاً قدرنا علی ذلک، ولکن من هذا الحی ثمانون ومائة قتیل، فلیس من دار إلا وفیها بکاء، أمّا نحن معشر الرجال فإنا لا نبکی، ولکن نفرح لهم ألا نفرح لهم بالشهادة؟ فقال علی علیه السلام: رحم الله قتلاکم وموتاکم. وأقبل یمشی معه وعلی راکب، فقال له علی علیه السلام: إرجع.

ووقف ثم قال له: ارجع، فإن مشی مثلک فتنة للوالی ومذلة للمؤمنین.

ثمّ مضی حتی مر بالناعطیین(3) ، فسمع رجلاً منهم یقال له عبد الرحمن بن

ص:99


1- (1) . الفائشیون: بطن من همدان القحطانیة ینسبون إلی مالک بن زید بن کهلان (الإنساب: 418، الاشتقاق: 420).
2- (2) . یقول الشیخ محمد تقی التستری: وکان من وجوه قومه، کان من التابعین وقوله له علیه السلام فی خبره «أمّا نحن معاشر الرجال فلا نبکی ونفرح لهم بالشهادة» یدلُّ علی حسن حاله نهج الصباغة فی شرح نهج البلاغة 312:10.
3- (3) . یقول ابن منظور: ناعط: بطن من همدان/ لسان العرب: ج 14 / مادة نعط وروی «حتی حدّ بالناعطیین وجلهم عثمانیة... فلما نظروا إلی علیّ علیه السلام أبلسوا» تاریخ الطبری 62:5.

مرثد(1) ، فقال: ما صنع علیّ والله شیئاً، ذهب ثمّ انصرف فی غیر شیءٍ.

فلمّا نظر إلیه أمیر المؤمنین أبلس فقال علیّ علیه السلام: وجوه قوم ما رأوا الشام العام.

ثم قال لأصحابه: قوم فارقتهم آنفاً خیر من هؤلاء، ثم قال:

أخوک الذی إن أحرضتک ملمة ولیس أخوک بالذی إن تمنعت

من الدهر لم یبرح لثبک واجماً علیک أمور ظل یلحاک لائما

ثمّ مضی، فلم یزل یذکر الله حتی دخل الکوفة(2).

وواضح من خلال هذا النصّ، أنّ قبیلة الشهید الکربلائی کان لها دور کبیرٌ فی نصرة الإمام أمیر المؤمنین فی صفّین، بل یستطیع الإنسان أن یقول، إنّ دورها کان متمیّزاً، بحیث إنّ هذا التمیّز أدّی بهم إلی أن لا توجد دار من دیارهم إلاّ وفیها شهید وجریح فی معرکة العز والکرامة، والذی بلغت النظر فی هذا النص هو قول حرب (حارب) بن شرحبیل الشبامی: أمّا نحن معاشر الرجال، فلا نبکی علیهم، ولکن نفرح لهم.

وهذا وعیٌ عمیق وعظیم وبصیرة ثاقبة، بحیث یصل الأمر إلی عدم البکاء علی شهدائهم، وإن کان البکاء فی حدِّ ذاته جائزاً(3) ، ولکنه أراد ان یعبّر عن مدی ارتباطه هو وقومه بالإمام أمیر المؤمنین، والإمام قدّر لهم هذه المزّیة، ولهذا

ص:100


1- (1) . عبد الرحمن بن مرثد (یزید) من بنی عبدی من الناعطیین/ وقعة صفّین/ تحقیق عبد السلام هارون: 532.
2- (2) . وقعة صفّین لنصر بن مزاحم/ تحقیق عبد السلام هارون: 532.
3- (3) . علماً أنّ الإمام لم یمنع من البکاء وإنما منع ارتفاع الأصوات والرنین کما مرّ فی العبارة السابقة.

أجابه بقوله: «رحم الله قتلاکم وموتاکم».

وأنا أفهم من هذه العبارة أنّ المقتول غیر المیّت، فالذی یسقط فی ساحة المعرکة بحدِّ سیفٍ أو ضربة رمح یُعبّر عنه بالمقتول، وأمّا الذی یموت حتف أنفه فهو المیت، فکأنّ الإمام یرید أن یقول بأنّ من قاتلوا معی وقتلوا کانوا یملکون درجات عالیة من البصیرة والوعی، ومن لم یقاتل معی منکم ومات حتف أنفه، کان یحمل نفس هذه البصیرة وهذا الوعی، وبعبارة أوجز إنّکم جمیعاً من أهل البصائر، فرحم الله قتلاکم وموتاکم، حتی حینما انصرف إلی غیرهم وجد بعض من نصره، ولکنّه کان یعیش ردة فعلٍ ملفتة للنظر ناتجة عن ضعف إیمانٍ وتذبذبٍ فی المواقف، قال معلقاً بقوله: قوم فارقتهم آنفاً، خیر من هؤلاء» ثمّ قال:

أخوک الذی إن أحرضَتْکَ مُلٍمّةٌ ولیسَ أخوکَ بالّذی إنْ تمنّعَتْ

من الدهر لم یَبْرح لثبک واجماً علیک أمور ظل یلحاک لائما

قرأت بخط أبی علی البردانی قال: والمشارق بطن من همدان، وهم أخوة شبام الذین قتل یوم صفین ثمانمائة، فلما رجع علی إلی الکوفة سمع النوح علیهم فقال:

مررت علی شبام فلم تجبنی وعز علی مالقیت شبام

جدُّ الشهید الکربلائی

من أجداد الشهید الکربلائی القریبین إلیه، إن لم یکن هو جدّه الأول الذی یلقب ب - «شبام» واسمه سعید، وکنیته أبو دویلة، کما یؤکّد علی ذلک عبد الرحمن ابن عبید الله السقاف فی کتابه «معجم بلدان حضرموت» والذی ینصّ هو وغیره

ص:101

بأن «شباماً کان ملکاً علی ربیعة وتغلب، فقتله بضع الأراقم من بنی تغلب غدراً، فانتقم له ولده دویلة»(1).

ویقال إنّ «دویلة بن سعید بن اسعد بن جشم الحاشدی الهمدانی الشبامی، شاعر جاهلی، سید شبام ورئیسها وصاحب ایامها ووقائعها، کان أبوه ملکاً علی ربیعة وعلی أحیاء تغلب وقد قتلته غیلة نفر من حی الأراقم التغلبیین، فاستطار الشر بین هذا الحی من تغلب وبین قبیلة شبام الهمدانیة، فسرعان ما هبَّ دویلة الشاعر منادیاً بثارات أبیه المقتول، فأجابه قومه من شبام واجتمعت إلیه خیول قبائل آخری من همدان.

ورغم ان منازل اعدائه تبعد عن منازل قومه مسیرة شهر إلا أن ذلک لم یقعده عن طلب الثأر لأبیه وتحقق له النصر والظفر علی حی الاراقم ونظم فی ذلک شعراً وصف فیه إعداده لتلک الحرب»(2).

والدلیل علی ما ذکرناه هو ما ذکره الهمدانی فی کتابه الإکلیل فی أنساب الیمن وهو یتحدث عن أنساب الیمن وعن خصوص بنی جشم حیث یقول: «فأولد

ص:102


1- (1) . کتاب الإکلیل فی أنساب الیمن للهمدانی 108:10، معجم بلدان حضرموت للسقاف: 259.
2- (2) . بغیة الطلب لابن الندیم 4762:10.

أسعد بن جسم بن حاشد عبدَ الله، فأولد عبد الله شباماً، وهو سعید، بطن من همدان»(1).

وکذلک ما ذکره الزنجانی فی وسیلة الدارین بقوله: «وقال ابن الکلبی: ولد أسعد بن جشم بن حاشد بن خیران بن نوف بن همدان عبد الله، وهو شبام، بطن من همدان، وشبام جبل سکنه بنو عبد الله منهم حنظلة بن أسعد الشبامی، الذی قتل مع الحسین علیه السلام»(2).

وبما أنّ نسب الشهید الکربلائی هو «حنظلة بن أسعد بن شبام «سعید» بن عبد الله بن أسعد بن حاشد الهمدانی»(3).

فمن ثم یکون دویلة الذی جمع هو وابوه تحتهما شبام وقبائل همدان هو من اعمام الشهید الکربلائی، والذی یقول المهلهل فیه وفی أبیه:

والحارثان کلاهما ومحرِّقُ وأبو دویلة ملک آل شبام

من هنا نعرف عظمة شخصیة هذا الشهید، والسر فی إرسال الحسین علیه السلام له رسولاً من قبله إلی عمر بن سعد کما سیأتی، حیث کان ینتمی إلی البیوتات العریقة فی التأریخ، والتی کانت لها بصمات واضحة علی الحیاة فی الجاهلیة والإسلام، وربّما اتضحت الصورة أکثر، وسوف تتّضح أکثر فأکثر ونحن نتحدّث عن شهداء کربلاء، وستثبت تلک المقولة التی تنصّ علی أنّ أصحاب الحسین علیه السلام کانوا جمیعاً من سادات المجتمع والمبرّزین فیه، ونحن نعلم کذلک أنّ للبیت والأسرة والعشیرة والبیئة التی یعیشها الإنسان تأثیراً کبیراً علی بناء شخصیته، ومن هنا نجد أنّ النبی صلی الله علیه و آله یوصینا بقوله: «تخیّروا لنطفکم فإنّ العرق دسّاس»، مما یعنی أنّ المتولّد والناشئ، من هذه الجهة سوف یکون عنده استعداد

ص:103


1- (1) . الإکلیل فی أنساب الیمن للهمدانی 108:10.
2- (2) . وسیلة الدارین: 134.
3- (3) . إبصار العین للسماوی: 101.

کبیر للخیر إن کان الآباء کذلک، واستعداد للشرّ إن کانوا عکس ذلک.

وهذا ما تجسّد واضحاً فی سیرة هذا الشهید، وغیره من الشهداء الذین کان لهم دور کبیر فی التأریخ، وأبوا إلاّ أن تکون لهم القدح المُعلَّی فی تأریخ الإسلام بشکل عام، وفی تأریخ أهل البیت علیهم السلام بشکل خاصّ، وهاهی مواقف شبام فی حروب علیّ علیه السلام واضحةٌ، فلیس غریباً أن یقف الشهید الکربلائی هذا الموقف الذی هو امتداد لمواقف قومه واسرته، وهذا ما سوف نشیر إلیه ونحن نتحدّث عن مواقفه فی کربلاء.

ولد الشهید الکربلائی

لقد تحدّث الکثیر من العلماء عن الشهید الکربلائی وذکروا أنّ له ولداً یسمی «علیاً»، یقول الشیخ السماوی: «وله ولد یدعی علی له ذکر فی التأریخ»(1).

ولئن أغفل التأریخ غفلةً أو تغافلاً أخبار هذا الولد ومآثره الجلیلة تبعاً لأبیه رضی الله عنه، فلقد أبت الحقائق ان تختفی بالکامل مهما بذل الظالمون والمبطلون الجهود من أجل طمسها واخفاء معالمها، ولقد کانت واحدة من هذه المآثر الجلیلة هی تمدُّ العلماء له راویاً ثقةً یروی عنه الخاصة والعام.

ولد الشهید یروی خطبة زهیر بن القین

روی أبو مخنف عن علی بن حنظلة بن أسعد الشبامی عن کثیر بن عبد الله الشعبی قال: «لما زحفنا قبل الحسین علیه السلام خرج إلینا زهیر بن القین علی فرسٍ له

ص:104


1- (1) . إبصار العین: ص 101.

ذنوب، وهو شاک فی السلاح، فقال: یا أهل الکوفة، نذار لکم من عذاب الله، نذار لکم إنّ حقاً علی المسلم نصیحة أخیه المسلم، ونحن الآن أخوة علی دین واحد وملّة واحدة ما لم یقع بیننا وبینکم السیف، فإذا وقع السیف انقطعت العصمة، وکنا أمة وکنتم أمة، إنّ الله ابتلانا وإیّاکم بذریة نبیه محمد علیهما السلام لینظر ما نحن وانتم عاملون، إنّا ندعوکم إلی نصرهم وخذلان الطاغیة عبید الله بن زیاد، فإنکم لا تدرکون منهما إلا سوء عمل سلطانهما کله، إنّهما یسملان أعینکم ویقطعان أیدیکم وأرجلکم، ویمثلان بکم، ویرفعانکم علی جذوع النخل، ویقتّلان أماثلکم وقراءکم، أمثال حجر بن عدی واصحابه وهانئ بن عروة واشباهه، قال فسبوه وأثنوا علی عبید الله بن زیاد وابیه وقالوا: والله لا نبرح حتی نقتل صاحبک ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلی الأمیر فقال لهم زهیر: عباد الله ولد فاطمة علیها السلام أحقّ بالودّ والنصر من ابن سمیة، فإن لم تنصروهم فأعیذکم بالله ان تقتلوهم، فخلوا بین هذا الرجل وبین یزید، فلعمری إنّه لیرضی من طاعتکم بدون قتل الحسین علیه السلام، قال: فرماه شمر بسهم وقال له: أسکت أسکت الله نأمتک، فقد أبرمتنا بکثرة کلامک، فقال زهیر: یابن البوال علی عقبیه، ما إیّاک أخاطب أنّما أنت بهیمة، والله ما أظنک تحکم من کتاب الله آیتین، فأبشر بالخزی یوم القیامة والعذاب الألیم، فقال له شمر: إن الله قاتلک وصاحبک عن ساعة، قال زهیر: أفبالموت تخوفنی؟ والله للموت معه أحب الیّ من الخلد معکم، قال: ثم أقبل علی الناس رافعاً صوته: وصاح بهم: عباد الله لا یغرنکم هذا الجلف الجافی وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمد قوماً هرقوا دماء ذریته وأهل بیته، وقتلوا من نصرهم

ص:105

وذبّ عن حریمهم قال فناداه رجل من خلفه: یا زهیر إنّ أبا عبد الله یقول لک: أقبل فلعمری لئن کان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ فی الدعاء، لقد نصحت وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ، فذهب الیهم»(1).

شبهة أن الحسین علیه السلام لم یقتل والقاء شبهه علی الشهید حنظلة

لقد وردت فی بعض المصادر «کما سنشیر إلی ذلک» بعض الروایات والکلمات التی زعمت أنّ الحسین علیه السلام لم یقتل وأنّه ألُقی شبهه علی الشهید حنظلة بن أسعد الشبامی (رض)، وعلیه فالحسین لا یزال حیاً.

وقد اعتمدوا فی دعواهم وزعمهم هذا علی مجموعة من الأدلة الواهیة (کما سنبین ذلک فی مقام الردّ علیها)، والادلة هی کما یلی:

1 - قول الامام الصادق: «حنظلة ففدی کاسمه لأنه فدی مولانا الحسین بنفسه ففداه مولاه بالضد، والقتل والدّم واقع بالضدّ»(2).

قول الله سبحانه وتعالی:

«وَ لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً3» .

حیث فهموا من هذه الآیة الکریمة أو هکذا أرادوا أن یفهموها ویفهموها إن صح التعبیر، أنّ الله آلی علی نفسه وجزم بشکل قاطع أن لا یسلّط کافرا علی

ص:106


1- (1) . تاریخ الطبری 319:3-320.
2- (2) . رواها الدکتور الطریحی فی طیّات بحثه حول «الحسین بین التألیه والتشویه» والذی القاه فی قاعة خاتم الأنبیاء فی الحضرة الحسینیة فی 17 سنة 2010.

مؤمن فینتهک حرمته، ویستبیح دمه ولاشک ولاریب أن یزید مشمول بهذه الآیة الکریمة، حیث أعلن کفره أمام الناس بقوله:

لعبت هاشم بالملک فلا خبر جاء ولا وحی نزل(1)

والحسین علیه السلام فی نفس الوقت کان یمثل الإیمان فی أعلی درجاته وأبعاده واتجاهاته، فکیف یمکن أن یسلّط یزید علیه، فینتهک حرمته، ویستبیح دمه، ولأجل ذلک جری علیه ما جری علی عیسی بن مریم علیه السلام، حیث رفعه الله عز وجل إلیه ولم یجعل للیهود علیه سبیلا، والحسین لیس أهون عند الله من السید المسیح لاسیما إذا کان الملاک فیهما واحداً.

3 - قوله تعالی:«وَ فَدَیْناهُ بِذِبْحٍ عَظِیمٍ 2» حیث رفع الله سبحانه وتعالی - کرامة لأبراهیم علیه السلام واسماعیل - الذبح عن اسماعیل وعوّضه عن ذلک الذبح بکبش عظیم، ومحمد علیهما السلام وولده الحسین علیه السلام، أعظم کرامة ومنزلة وقدراً من إبراهیم واسماعیل علیه السلام، فما جری هناک لاشک سوف یجری هنا.

ولقد أشار إلی ما ذکرناه بشکل واضح وصریح سرور بن القاسم الطبرانی(2)

ص:107


1- (1) . اللهوف فی قتلی الطفوف: 180.
2- (3) . هو سرور بن القاسم الطبرانی أبو سعید الملقب بالمیمون شیخ العلویین فی اللاذقیّة، ورئیس الطریقة المعروفة عندهم بالجنبلائیة، ولد فی طبریا وإلیها نسبته وانتقل إلی حلب فتفقه بفقه العلویین أصحاب الخصیبی والجنبلائی، وصنّف کتاباً فی مذهبهم، ثم رحل إلی اللاذقیة والتف حوله من فیها منهم واستمر إلی ان توفی ودفن بها علی شاطئ البحر فی مسجد الشعرانی. بحوث فی الملل والنحل 421:8 جعفر السبحانی.

وهو یتحدث عن یوم عاشوراء: «وهو الیوم الذی روت فیه العامة وظاهریة الشیعة وزعمت أنّ فیه مقتل مولانا الحسین منه السلام تعالی الله عما یقول الظالمون المفترون ویظنه الملحدون علواً کبیر، وذلک أنّ یزید بن معاویة لعنه الله أمر شمر ابن ذی الجوشن الضبابی لعنه الله بعد مسیر مولانا الحسین منه السلام من المدینة إلی الکوفة، فسار إلیه بالجیش وکانت الواقعة بکربلاء علی شاطئ العلقمی، وما جری من القتل والسبی وتسییر الرأس إلی یزید بن معاویة لعنه الله تعالی واظهر مولانا الحسین منه السلام الغیبة فیه جلّ من لا یغیب والقی شبهه علی حنظلة بن اسعد الشبامی، وکانت سیرته تقارب سیرة السید المسیح علی ذکره السلام وما أظهره من القتل والصلب، وکذلک اعتقدت کافة العامة من المسلمین وظاهریة الشیعة أنّ القتل صحیح، وطابقوا النصاری فی القول، فأوقع الله فیهم الحیرة والشک، وقد أخبر الله سبحانه فی کتابه عن قوله:

«وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَکاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَیْهِمْ ما یَلْبِسُونَ 1» .

ثم قال ردّاً علیهم وعلی کافتهم:

«وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لکِنْ شُبِّهَ لَهُمْ 2» .

لأنّ سیّدنا الحسین منه السلام هو المسیح والمسیح هو الحسین، والاسماء من آدم فی النبوة والرسالة والإمامة إلی القائم علی ذکره السلام، أشخاص السید محمد منه السلام واسماؤه، وکذلک ظهر فی القبة المحمدیة بالخمسة الأسماء،

ص:108

بمحمد وفاطمة والحسن والحسین ومحسن والخمسة محمد، وکان الحسین شخصاً من اشخاص السید محمود، وقال أبو عبد الله الخصیبی شرّف الله مقامه فی رسالته: وشاء المعنی ان یظهر بغیر الصورة المرئیة وهی الانزع البطین أزال الحسین وظهر کمثل صورته وکان المیم فی ذلک الوقت هو الحسین منه السلام، ثم قال أزال الحسن وهو المعنی للحسین وظهر بمثل صورته وکان المیم علی بن الحسین منه السلام والسید الحسین علی ذکره السلام علی ما قدمت هوالسید المسیح وهو داخل فی عدد الأسماء التی هی الإسم(1).

وقد أشار الخصیبی(2) إلی هذا المعنی کاملاً فی دیوانه فی أکثر من قصیدة

منها:

سلام علی أرض الحسین وحضرتهْ سلام علی أرواح أنوار فطرتهْ

سلام علی النور المضیء بکربلا بدار سلام الله فی جنب جیرتهْ

سلام علی من عظمّ الله قدره ورفّعَه فی القدس معْ خیر خیرتهْ

بموضع معراج النبی محمد وبقعة موسی والمسیح وربوتهْ

وبقعه موسی والمسیح وربوتهِ

ص:109


1- (1) جزء من بحث القاه الدکتور الطریحی فی قاعة خاتم الأنبیاء فی الحضرة الحسینیة تحت عنوان «الحسین بین التألیه والتشویه» فی 17 سنة 2010 م.
2- (2) . ترجمة (الحسین بن حمدان)قال النجاشی: «الحسین بن حمدان الخصیبی (الحصینی) الجنبلائی، أبو عبد الله، کان فاسد المذهب، له کتب، منها: کتاب الأخوان، کتاب المسائل، کتاب تاریخ الأئمة، کتاب الرسالة تخلیط» وقال الشیخ: «الحسین بن حمدان بن الخصیب، له کتاب أسماء النبی صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام» وقال ابن الغضائری: «کذّاب فاسد المذهب، صاحب مقالة ملعونة لا یلتفت إلیه» وقال ابن داود: «مات فی شهر ربیع الأول سنة 358 ه -». معجم رجال الحدیث للسید الخوئی 3381:6.

سلام علی من حجّب الله شخصه واظهر للاعداء شبهاً کصورتهْ

کعیسی وهُوْ عیسی ولا فرق بینهم ولاشک فیه انه من سریرتهْ

وقد ظن أهل الشک والزیغ أنهم یرونه مشهوراً بأحسن شهرتهْ

وقالوا قتلناه وما کان قتله ولا صلبوه بل شبیهاً لرؤیتهْ

کذاک حسیناً شبهّوه بکربلا کما شبهوا عیسی سواءً کسیرتهْ

وحاشا حسیناً ابن بنت محمد ضیاءً علیّاً نوره وسط غرَّتهْ

من السیف ان یصدا به أو یناله وحاشاه ان یدعی قتیلاً بحسرتهْ (1)

ویقول فی موضع آخر:

وباکیاً یبکی علی ربه

لستُ بحمد الله من حزبهِ وکلما ناحت له خلّة

علی الذی فرّط فی جنبهِ یبکی علی المقتول فی کربلا

لا خفف الله عن کربهِ معتذراً من سوءِ أفعاله

وغدره أعظم من ذنبهِ قلت لا تبک علی ذاک الذی

لم تطمع الأعداء فی غلبهِ ظنوا ظنونا کلها باطل

من قتله کان ومن سلبهِ وهکذا عیسی جری أمره

وما رواه القوم من صلبهِ ولم یکن قتلاً ولا صلبةً

لکنه شُبّه فی لزبهِ والقتل والصلب علی جانیٍ

بارزٍ یا بؤساه فی حربهِ فإنّ جهلتم ویلکم شخصه

فمن نفیل جا ومن لذ بهومن صهّاک ثم من حنتم

زوجة خطّابٍ وفی حقبهِ

ص:110


1- (1) . دیوان الخصیبی: 65-66.

واسمه أبلیس لا غیره

فی سالف الدهر وفی حقبهِ فجوّدوا یا أخوتی لعنه

جود الخصیبی علی سَبَّهِ (1)

ویقول صاحب کتاب «الهفت الشریف» فیما یزعمون أنّه للمفضِّل بن عمر الجعفی: فی الباب الأربعین: قال المفضل: «أخبرنی یا مولای، عن قصة الحسین کیف اشتبه علی الناس قتله وذبحه کما اشتبه علی من کان قبلهم فی قتل المسیح؟

قال الصادق: یا مفضل هذا سر من أسرار الله أشکله علی الناس فعرفوه خاصة أولیائه وعباده المؤمنون المختصون من خلقه... إنّ الإمام یدخل فی الإبدان طوعاً وکرها ًویخرج منها إذا شاء طوعاً وکرها کما ینزع أحدکم جبته وقمیصه بلا تکلف ولا ریب، فلما اجتمعوا علی الحسین علیه السلام لیذبحوه، خرج من بدنه ورفعه الله إلیه، ومنع الأعداء منه، وقد سخط سخطة جبار عنید، ولا تقوم بعظمته السموات والأرض والجبال، انه قادر سبحانه ان یعاجلهم العذاب، ولکنه حلیم ذو بأس لا یخشی القوة، ولا خلف لوعده، ولا معقب لحکمه کما وصف سبحانه، انه یقول ما یشاء ویظهر فی حجاب ما یشاء، وإنما یعجل من یخاف الفوت.

فاما الله إذا أراد ان یخلق شیئاً یقول له کن فیکون، فإنّه تعالی لا تعجل العقوبة وان الحسین لمّا خرج إلی العراق وکان الله محتجباً به وصار لا ینزل منزلاً صلوات الله علیه إلا ویأتیه جبرئیل فیحدثه حتی إذا کان الیوم الذی اجتمعت فیه العساکر علیه واصطفت الخیول لدیه وقام الحرب، حیئنذٍ دعا مولانا الحسین جبرئیل، وقال: یا أخی من أنا؟ قال: أنت الله لا إله إلاّ هو الحی القیوم

ص:111


1- (1) . دیوان الخصیبی: 85

والممیت والمحیی، انت الذی تأمر السماء فتطیعک والأرض فتنتهی لامرک والجبال فتجیبک والبحار فتسارع إلی طاعتک وانت الذی لا یصل الیک کید کائد ولا ضرر ضار.

قال الحسین: یا جبرئیل. قال جبرئیل: لبیک یا مولای قال الحسین: أفتری هذا الخلق المنکوس تحدثهم انفسهم أن یقتلوا سیدهم لضعفهم، ولکنهم لن یصلوا إلی ذلک، ولا إلی احد من أولیاء الله، کما أنهم لن یصلوا إلی عیسی والی أمیر المؤمنین علی، ولکنهم عملوا ذلک لیحل علیهم العذاب بعد الحجة والبیان.

قال الحسین: یا جبرئیل انطلق إلی هذا الملعون الضال الجاحد المنکوس، وقل له: من ترید ان تحارب؟ قال فانطلق جبرئیل فی صورة رجل غریب مجهول، فدخل علی عمر بن سعد وهو جالس علی کرسیه بین قواده وحراسه وأبوابه، فخرق صفوفهم حتی وصل إلیه ووقف بین یدیه.

فلما نظر إلیه عمر بن سعد ارتاب منه، وارتعب وقال له: من أنت؟ قال جبرئیل: أنا عبد من عبید الله جئت أسألک عمن ترید ان تحارب؟ قال: أرید ان أحارب الحسین بن علی، وهذا کتاب عبید الله بن زیاد یأمرنی فیه أن أقتل الحسین بن علی وأوجه إلیه رأسه واعتزل العسکر.

فقال له: ویحک تقتل رب العالمین وإله الأولین والآخرین وخالق السموات والأرض وما بینهما»(1).

ص:112


1- (1) . کتاب الهفت الشریف المزعوم للمفضل بن عمر الجعفی: 96-98. تحقیق وتقدیم د. مصطفی غالب دار الأندلس - بیروت.

ویقول فی موضع آخر: «وکان الحسین بن علی أکرم علی الله من أن یذیقه الحدید علی أیدی الکفرة، وحاشا أن یذیقه حرّ الحدید، وان عند الله من لطف التدبیر ما یتلطف بأولیائه، وینقذهم من أهل عداوته، ویهلک أعداءه وأعداء أولیائه بالحجة البالغة، وأنه عز وجل عادل لا یجور، وحلیم لا یمیل، ولقد فعل الله سبحانه بالحسین فعلة لم یفعلها بالمسیح ولا بزکریا ولا بیحیی ولا بأحد من الأنبیاء.

وأن الذبح فی الظاهر کان إلی اسماعیل الذی فدّی بذبحٍ عظیم، هو الحسین الذی هو عینه واسمه ونسبه، ولیس بینهما فرق کأنهما واحد، ولقد ذبح فی الظاهر أکثر من الف مرة علی ما یتوهمون أهل الکفر، وإنما الحسین مثله کمثل المسیح»(1) إلی أن تقول: «یا مفضل ما نقول شیعتی فی ذلک؟ قلت، یا مولای: یروی عن جابر عن الباقر فی قوله: «وفدیناه بذبح عظیم»(2) ، أن اسحاق هو الحسن والحسین هو اسماعیل... قال المفضل والله یا مولای اشفیتنی وأذهبت عنی کل همّ وغم، قال الصادق: ان الله تعالی شفاءٌ لما فی الصدور وهدی ورحمة للمؤمنین والباطن هو شفاء للصدور، قلت الحمد لله علی ذلک.

فقال یا مفضل هذا سبب ذبح الکبش، ألم أخبرک بتفصیل الیوم الذی اجتمعوا علی قتل الحسین. قلت: نعم. ثم البا والسلام»(3).

ص:113


1- (1) . کتاب الهفت الشریف المزعوم للمفضل بن عمر الجعفی: 93، تحقیق د. مصطفی غالب.
2- (2) . الصافات/ 107.
3- (3) . کتاب الهفت الشریف المزعوم للمفضل بن عمر الجعفی: 90، تحقیق د. مصطفی غالب.

ولاشک ولاریب لکل من یقرأ هذه الأحادیث وکلمات من تقدم یتلمس الغلو ظاهراً واضحاً لکل ذی بصیرة وبصر، مهما حاول البعض تأویل بعض الکلمات التی وردت فی هذه النصوص المتقدمة.

الرد علی هذه الشبهة

وعلیه فإن هناک جملة من الروایات التی جاءت عن طریق أهل البیت علیهم السلام لردّ مثل هذه الشبهات التی یبدو أنها بدأت بعد مصرع الحسین علیه السلام واستمرت حتی زمان الغیبة الصغری کما سیتبین لک ذلک.

ومن هذه الروایات....

1 - روایة الإمام الرضا علیه السلام: فقد روی صاحب عیون أخبار الرضا علیه السلام: «قال: قلت للرضا علیه السلام إنّ فی سواد الکوفة قوماً یزعمون أن الحسین علیه السلام لم یقتل وأنّه ألقی شبهه علی حنظلة بن أسعد الشبامی وأنه رفع إلی السماء کما رفع عیسی بن مریم، ویحتجون بهذه الآیة:

«وَ لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً1» .

فقال کذبوا علیهم غضب الله ولعنته وکفروا بتکذیبهم لنبی الله فی إخباره بأنّ الحسین بن علی سیقتل، والله لقد قتل الحسین وقتل من کان خیراً من الحسین علیه السلام أمیر المؤمنین والحسن بن علی، وما منا إلا مقتول وإنی والله لمقتول بالسم باغتیال من یغتالنی أعرف ذلک بعهد معهود إلیّ من رسول الله صلی الله علیه و آله أخبره به جبرئیل عن رب العالمین.

ص:114

وأمّا قول الله «ولن یجعل الله للکافرین علی المؤمنین سبیلاً» فإنّه یقول ولن یجعل الله لکافرٍ علی مؤمن حجة، وقد أخبر الله عز وجل عن کفار قتلوا النبیین بغیر الحق ومع قتلهم إیّاهم أن یجعل الله لهم علی أنبیائه سبیلاً من طریق الحجة»(1).

وهناک إضافة إلی هذا التفسیر الذی ذکره الإمام علیه السلام تفسیر آخر یذکره صاحب تفسیر الأمثل بأن الآیة یمکن ان تکون شاملة حتی فی خصوص التسلط العسکری وما فی شاکلته، ولکن مع تعلیق مهم من قبله أحببت إیراده لأهمیته، یقول الشیخ مکارم الشیرازی فی تفسیره، لهذه الآیة الکریمة:

«وما نشاهده من انتصار للکافرین علی المسلمین فی المیادین المختلفة، إنما هو بسبب ان المسلمین المغلوبین لم یکونوا لیمثلوا فی الحقیقة المسلمین المؤمنین الحقیقیین، بل إنهم مسلمون نسوا آدابهم وتقالیدهم الإیمانیة وتخلوا عن مسؤولیاتهم وتکالیفهم وواجباتهم الدینیة بصورة تامة، فلا کلام عن الإتحاد والتضامن والأخوة الإسلامیة بهم، ولا هم یقومون بواجب الجهاد بمعناه الحقیقی کما لم یبادروا إلی اکتساب العلم الذی اوجبه الإسلام وجعله فریضة علی کل مسلم ودعا إلی تحصیله وطلبه من الولادة حتی ساعة الوفاة حیث قال النبی: «أطلب العلم من المهد إلی اللحد».

ولما اصبحوا هکذا استحقوا ان یکونوا مغلوبین، وقد استدل جمع من الفقهاء بهذه الآیة علی أن الکفار لا یمکن ان یسلطوا علی المسلمین المؤمنین من

ص:115


1- (1) . عیون أخبار الرضا: 220:1.

الناحیة الحقوقیة والحکمیة، ونظراً للعمومیة الملحوظة فی الآیة لا یستبعدون أن تشمل هذا الأمر أیضاً»(1).

2 - روایة الإمام زین العابدین هم: کفار ومباحو الدم:

روی المجلسی فی بحاره تحت باب: أنّ مصیبته صلوات الله علیه کانت من أعظم المصائب، وذلّ الناس بقتله، وردّ قول من قال أنه علیه السلام لم یقتل ولکن شبّه لهم. جلمة من الروایات منها روایة الإمام زین العابدین علیه السلام، وهی روایة طویلة نذکر محل الحاجة منها:

قال عبد الله بن الفضل الهاشمی: فقلت له (یعنی زین العابدین): یابن رسول الله صلی الله علیه و آله فکیف سمت العامة یوم عاشوراء یوم برکة؟ فبکی علیه السلام ثم قال: لما قتل الحسین علیه السلام تقرب الناس بالشام إلی یزید، فوضعوا له الأخبار وأخذوا علیها الجوائز من الأموال، فکان مما وضعوا له أمر هذا الیوم، وأنّه یوم برکة، لیعدل الناس فیه من الجزع والبکاء والمصیبة والحزن، إلی الفرح والسرور والتبرک والاستعداد فیه، حکم الله بیننا وبینهم.

قال: ثم قال علیه السلام: یابن عم وان ذلک لأقل ضرراً علی الإسلام وأهله مما وضعه قوم انتحلوا مودتنا وزعموا أنهم یدینون بموالاتنا ویقولون بإمامتنا: زعموا أن الحسین لم یقتل وأنّه شبه للناس أمره کعیسی بن مریم، فلا لائمة إذاً علی بنی أمیة ولا عتب علی زعمهم، یابن عم من زعم ان الحسین لم یقتل فقد کذب رسول الله وعلیاً وکذب من بعده من الأئمة علیهم السلام فی إخبارهم

ص:116


1- (1) . تفسیر الأمثل 499:3.

بقتله، ومن کذبهم فهو کافر بالله العظیم، ودمه مباح لکل من سمع ذلک منه»(1).

3 - روایة الإمام المهدی: کفر وتکذیب وضلال:

فقد ذکر محمد بن یعقوب الکلینی عن اسحاق بن یعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمری ان یوصل لی کتاباً قد سُئلت فیه عن مسائل أشکلت علیّ فورد التوقیع بخط مولانا صاحب الزمان «أمّا ما سئلت عنه خیر مما أتاکم وأمّا ظهور الفرج فإنّه إلی الله وکذّب الوقاتون، وأمّا قول من زعم ان الحسین لم یقتل فکفر وتکذیب وضلال(2)...»(3).

4 - رد العلامة المجلسی:

ذکر المجلسی (رحمه الله) فی بحاره باباً بهذا العنوان (العلة التی من أجلها لم یکف الله قتلة الأئمة علیهم السلام ومن ظلمهم عن قتلهم وعلّة ابتلائهم صلوات الله علیهم أجمعین)(4).

ولاشک أن المجلسی فی ذکره لهذا الباب أراد أن یردّ علی شبهة عدم قتل الحسین علیه السلام، بشکل خاص، وما یرد فی نفس الموضوع عن أئمة أهل البیت علیهم السلام بشکل عام، وللمثال سوف اذکر روایة واحدة ذکرها المجلسی تحت هذا الباب،

ص:117


1- (1) . بحار الأنوار 270:44.
2- (2) الغیبة للشیخ الطوسی: ص 176.
3- (3) وهذا یعنی ان هذه المسألة استمرت حتی إلی زمان الغیبة الصغری، ویبدو أنها لم تکن بالمسألة الهیّنة البسیطة، حتی عبّر عنها إسحاق بن یعقوب بأنها مسائل أشکلت علیّ لکثرة من سأل عنها وأراد جوابها فتأمل.
4- (4) . بحار الأنوار 180:53.

والطبرسی فی الاحتجاج، والصدوق فی علل الشرائع وکمال الدین وهی:

محمد بن إبراهیم بن إسحاق الطالقانی قال: کنت عند الشیخ أبی القاسم الحسین بن روح قدس الله روحه مع جماعة فیهم علی بن عیسی القصری فقام إلیه رجل فقال له: أرید ان أسألک عن شیء فقال له: سل عما بدا لک فقال الرجل: أخبرنی عن الحسین بن علی صلی الله علیه و آله أهو ولیّ الله؟ قال: نعم، قال: أخبرنی عن قاتله أهو عدو الله؟ قال: نعم، قال الرجل: فهل یجوز ان یسلّط الله عدوه علی ولیه؟ فقال له أبو القاسم قدس الله روحه: أفهم عنی ما أقول لک، إعلم أنّ الله عز وجل لا یخاطب الناس بشهادة العیان، ولا یشافههم بالکلام، ولکنه عز وجل بعث إلیهم رسولاً، من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم، فلو بعث إلیهم رسلاً من غیر صنفهم وصورهم لنفروا عنهم، ولم یقبلوا منهم، فلما جاؤوهم وکانوا من جنسهم یأکلون الطعام، ویمشون فی الأسواق قالوا لهم: أنتم بشر مثلنا فلا نقبل منکم حتی تأتونا بشیء نعجز أن نأتی بمثله، فنعلم أنکم مخصوصون دوننا بما لا نقدر علیه، فجعل الله عز وجل لهم المعجزات التی یعجز الخلق عنها، فمنهم من جاء بالطوفان بعد الانذار والاعذار فغرق جمیع من طغی وتمرد، ومنهم من ألقی فی النار، فکانت علیه برداً وسلاما، ومنهم من أخرج من الحجر الصلد ناقة وأجری فی ضرعها لبناً، ومنهم من خلق له البحر وفجر له من الحجر العیون، وجعل له العصا الیابسة ثعباناً فتلقف ما یأفکون، ومنهم من أبرأ الأکمه والأبرص وأحیا الموتی بأذن الله عز وجل وأنبأهم بما یأکلون وما یدخرون فی بیوتهم، ومنهم من انشق له القمر وکلّمه البهائم مثل البعیروالذئب وغیر ذلک.

ص:118

فلما أتوا بمثل هذه المعجزات، وعجز الخلق من أممهم عن أن یأتوا بمثله کان من تقدیر الله عز وجل، ولطفه بعباده وحکمته، أن جعل انبیاءه مع هذه المعجزات فی حالٍ غالبین، وفی أخری مغلوبین، وفی حالٍ قاهرین، وفی حالٍ مقهورین، ولو جعلهم عز وجل فی جمیع أحوالهم غالبین وقاهرین، ولم یبتلهم ولم یمتحنهم لاتخذهم الناس آلهة من دون الله عز وجل، ولما عرف فضل صبرهم علی البلاء والمحن والاختبار. ولکنه عز وجل جعل أحوالهم فی ذلک کأحوال غیرهم، لیکونوا فی حال المحنة والبلوی صابرین، وفی حال العافیة والظهور علی الاعداء شاکرین ویکونوا فی جمیع احوالهم متواضعین، غیر شامخین ولا متجبرین، ولیعلم العباد أنّ لهم علیهم السلام إلهاً هو خالقهم ومدبرهم، فیعبدوه ویطیعوا رسله وتکون حجة الله ثابتة علی من تجاوز الحدّ فیهم، وادعی لهم الربوبیة، أو عاند وخالف وعصی وجحد بما أتت به الأنبیاء والرسل، ولیهلک من هلک عن بینة، ویحیی من حی عن بینة.

قال محمد بن إبراهیم بن إسحاق: فعدت إلی الشیخ أبی القاسم بن الحسین بن روح قدس الله روحه من الغد وأنا أقول فی نفسی: أتراه ذکر ما ذکر لنا یوم أمس من عند نفسه؟ فابتدأنی فقال لی: یا محمد بن إبراهیم لان أخرّ من السماء فتخطفنی الطیر، أو تهوی بی الریح فی مکان سحیق أحب الیّ من أن أقول فی دین الله تعالی ذکره برأیی ومن عند نفسی، بل ذلک عن الأصل، ومسموع عن الحجة صلوات الله علیه»(1).

ص:119


1- (1) بحار الأنوار 273:44-274، علل الشرائع 230:1، کمال الدین 184:3، الاحتجاج: ص 243.

ولا ننسی بأن هذه وامثالها بأعتقادی هی من جملة التشویهات المقصودة من قبل أعداء الإسلام وأهل البیت علیهم السلام، فی تخریب وتحریف إن صح التعبیر صورة هذا الیوم العظیم فی نفوس المؤمنین، فهناک من فرح وسُرَّ فیه لروایات ما أنزل الله بها من سلطان، وهناک من شوهه من الداخل بادعاء عدم قتل الحسین علیه السلام.

وقت وصول الشهید إلی کربلاء

لقد وصل الشهید حنظلة بن أسعد الشبامی (رض) إلی الحسین علیه السلام، فی یوم وصوله علیه السلام إلی کربلاء والذی صادف فی الیوم الثانی من محرّم سنة 61 ه -، وصل الشهید إلی الحسین علیه السلام بعد رحلة شاقة استطاع من خلالها ان یتخلص من بین فکیّ عبید الله بن زیاد الذی صار ینهش بها کل من یشمَّ منه رائحة الولاء للحسین فضلاًعن التفکیر فی الخروج والوصول إلیه، یقول السید الزنجانی فی وسیلة الدارین: «وقال أبو مخنف: حدّثنی سلیمان بن أبی راشد عن حمید بن مسلم قال: جاء حنظلة بن أسعد الشبامی إلی الحسین علیه السلام عند نزوله کربلاء»(1).

الشهید حنظلة رسول الحسین إلی ابن سعد

ما إن وصل الشهید (رض) إلی کربلاء فی الیوم الثانی من محرم، حتی أرسله الحسین علیه السلام، رسولاً من قبله إلی ابن سعد فیما عرف عند ارباب التأریخ بأیام الهدنة، یقول السید الزنجانی فی وسیلة الدارین: «وکان الحسین یرسله إلی

ص:120


1- (1) وسیلة الدارین: 135.

عمر بن سعد للمکالمة أیّام المهادنة»(1).

ومما لاشک فیه ولاریب أن اختیار الحسین علیه السلام للشهید حنظلة رسولاً من قبله إلی ابن سعد یدلل وبشکل واضح علی مدی العقل الراجح والإیمان الثابت للشهید بل والخبرة الاجتماعیة العالیة لاسیما فی مجتمع مهم کمجتمع الکوفة حیث یحمل فی جنباته الکثیر من القبائل والبیوتات المهمة.

وقدیماً قالوا: «ارسل حکیماً ولا توصه»(2) ، وفی هذا یقول الزبیر بن عبد المطلب ابیاتاً منها:

إذا کنت فی حاجةٍ مُرسِلاً وإن باب أمر علیک التوی

فأرسل حکیماً ولا توصهِ فشاور لبیباً ولا تعصهِ (3)

ویقول آخر:

إذا أرسلت فی أمرٍ رسولاً فأفهمه وأرسله حکیماً(4)

ویقول آخر:

إذا کان الرسول کذاً بلیداً تکسّرت الحوائج فی الصدورِ

فأرسل من إذا لحظتهُ عینی حکی لک طرفه ما فی ضمیریَ (5)

ویقول الدنیوری: «ثلاثة أشیاء تدل علی عقول أربابها، الکتاب یدل علی

ص:121


1- (1) وسیلة الدارین: 135.
2- (2) جمهرة الأمثال لأبی هلال العسکری 99:1.
3- (3) نفس المصدر.
4- (4) نفس المصدر.
5- (5) نفس المصدر.

عقل کاتبه والرسول یدل علی عقل مرسله والهدیة تدل علی عقل هادیها»(1).

ولقد وعی الشهید حنظلة فکر الحسین علیه السلام ونهضته واطلّع علی ما یرید بنحوٍ لا یقبل الشک والتردید، حتی صار محل اعتماد الحسین علیه السلام ولا یتصور أحد أن مهمة الشهید تقتصر علی بعث الرسالة إیصالها إلی ابن سعد فقط، بل إن مهمته لأکبر من ذلک فقد تحتاج الرسالة إلی توضیح بعض فقراتها وقد تحتاج إلی بیان رأی الحسین علیه السلام فی بعض المسائل لاسیما إذا دخل القوم معه فی حوارٍ أو نقاش، وهو أمر متوقع فی حالات کهذه.

وهذه لعمری منزلة عظیمة وکبیرة ان یکون المعصوم واثقاً من إنسانٍ بحیث یلتقی فهم المعصوم، وهو فهم السماء، مع فهم اصحاب الحسین علیه السلام، وهذا یعنی انّهم رضوان الله علیهم کان هواهم هوی الحسین، ورأیهم رأی الحسین، وفکرهم فکر الحسین، ومنهجهم منهج الحسین، بل إن التأریخ لا یذکر لنا موقفاًواحداً کان فیه - معاذ الله - أنصار الحسین علیه السلام یملکون رأیاً مخالفاً لرأی الحسین، بل العکس هو الصحیح، حیث نجد أنّهم وصلوا إلی درجة التسلیم إلی المعصوم(2) فی کل الأمور، وهذا یمثل اعلی درجات الولاء، هذا مع رفعة شأنهم وعلو منزلتهم الاجتماعیة فقد کان الرجل یملک منزلة اجتماعیة کبیرة یستطیع من خلالها ان یجالس کبار القوم فی جیش ابن سعد ویتحدّث معهم، خصوصاً فی ظروف حسّاسة کالظروف التی کان فیها الحسین علیه السلام،

ص:122


1- (1) کتاب المجالسة وجواهر العلم للدینوری: حدیث 2412.
2- (2) کما تشیر الآیة الکریمة:«فَلا وَ رَبِّکَ لا یُؤْمِنُونَ حَتّی یُحَکِّمُوکَ فِیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَیْتَ وَ یُسَلِّمُوا تَسْلِیماً» سورة النساء: 65.

ولکن ویا للأسف، لا یذکر لنا التأریخ شیئاً عمّا جری فی تلک المراسلات، وهذه واحدة من مظلومیّات کربلاء.

أسماء رسل الحسین علیه السلام وسفراءه

وختاماً نذکر أسماء بعض الشهداء الذی قاموا بدور الرسول والناقل لکلمات الإمام الحسین وتوجیهاته وهم خمسة شهداء، ما عدا الشهید حنظلة (رض).

1 - مسلم بن عقیل، رسول الإمام إلی اهل الکوفة.

2 - سلیمان بن رزین (بن أبی رزین)، وکان رسول الإمام إلی رؤساء الاخماس فی البصرة.

3 - عبد الله بن یقطر، وکان رسول الإمام إلی مسلم بن عقیل أو العکس.

4 - قیس بن مسهِّر الصیداوی، رسول الإمام إلی مسلم بن عقیل من بطن ذی الرمة (الرقة).

5 - عمرو بن قرضة الأنصاری، رسول الإمام إلی عمر بن سعد أیّام المهادنة.

الشهید حنظلة قارئا للقرآن

جاء فی الروایات، وکما یذکر المؤرخون جمیعاً وهم یتحدثون عن هذا الشهید، أنّه «کان قرائاً للقرآن» فقد ذکر السماوی فی إبصار العین وهو یترجم للشهید قوله: «کان وجهاً من وجوه الشیعة، ذا لسان وفصاحة، شجاعاً قارئاً للقرآن»(1).

ص:123


1- (1) . إبصار العین للشیخ السماوی: 101.

وهذه الفقرة تعنی الکثیر، حیث تفید أنّ الأنصار کانوا من عشّاق کتاب الله، بل ومن معلمیِّه وموصلی آیاته إلی الناس، ولا ننسی جمیعاً فی لیلة العاشر من المحرّم عندما باتوا تلک اللیلة یقرأون القرآن، عشقاً وحبّاً لتلاوته وتدبّراً لآیاته، وما أحوجنا نحن فی هذا الیوم، ان نعی هذه الحقیقة الحسینیة العاشورائیة، وهی أن الحسینی الحقیقی، هو ذلک الذی یحمل الولاء الحسینی فی قلبه، وفی نفس الوقت یحمل القرآن فی قلبه متمثلاً بذلک قول رسول الله صلی الله علیه و آله الذی یقول: «ترکت فیکم ما إن تمسکتم به لن تظلّوا من بعدی أبداً؛ کتاب الله وعترتی أهل بیتی، وإنّهما لن یفترقا حتی یردا علیَّ الحوض»(1) ، وسیأتینا إن شاء الله فی بقیّة الإجزاء لهذه الموسوعة، ونحن نتحدث عن أصحاب الحسین علیه السلام، أنّ هذه الصفة، أعنی صفة حمل القرآن وتجسیده قولاً وعملاً، کانت صفة عامة لهم، ولا ننسی فی نهایة الحدیث ان بریر بن خضیر الهمدانی کانوا یعبرون عنه بأنّه من شیوخ القراء فی مسجد الکوفة، وهی علاقة مهمة وأساسیة سوف نسلّط الأضواء علیها ونحن نتحدث عن الشهید رضی الله عنه.

خطبة الشهید حنظلة فی کربلاء

لیس کل من صحب الحسین علیه السلام واستشهد بین یدیه، کان ممن أوتی فرصة الحدیث والوعظ لجیش عمر بن سعد، فقط حدّثنا التأریخ أن جماعة تمیزوا دون غیرهم فی هذه المنقبة المهمة.

وکان من جملة هؤلاء الشهید حنظلة بن أسعد الشبامی، والذی خطب خطبة

ص:124


1- (1) . الحاکم فی المستدرک 109:3، ینابیع المودة: 25، الصواعق المحرقة: 150.

عظمیة احتوت جملة من المفاهیم المهمة نحاول ان نسلّط الأضواء علیها بعد ذکر الخطبة کاملة.

یقول أبو مخنف فی مقتله: «وجاء حنظلة بن أسعد الشبامی، فقام بین یدی الحسین علیه السلام: فأخذ ینادی: یا قوم إنّی أخاف علیکم مثل یوم الأحزاب:

«مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِینَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللّهُ یُرِیدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ * وَ یا قَوْمِ إِنِّی أَخافُ عَلَیْکُمْ یَوْمَ التَّنادِ * یَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِینَ ما لَکُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ وَ مَنْ یُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ1» .

یا قوم لا تقتلوا حسیناً علیه السلام، فیسحتکم الله بعذابٍ:

«وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَری 2» .

فقال له الحسین علیه السلام: «یا بن أسعد - رحمک الله - إنّهم قد استوجبوا العذاب حیث ردّوا علیک ما دعوتهم إلیه من الحقّ، ونهضوا إلیک لیستبیحوک وأصحابک، فکیف بهم الآن وقد قتلوا أخوانک الصالحین.

قال: صدقت، جعلت فداک! أنت أفقه منیّ وأحقّ بذلک، أفلا نروح إلی الآخرة ونلحق بأخواننا؟ فقال علیه السلام: رحُ إلی خیر من الدنیا وما فیها وإلی مُلک لا یبلی، فقال السلام علیک أبا عبد الله، صلی الله علیک وعلی أهل بیتک وعرّف بیننا وبینک فی جنته، فقال علیه السلام: آمین، آمین»(1).

ص:125


1- (3) . مقتل أبی مخنف: 235-236.

وقفات مع خطبة الشهید

أولاً: جاء فی الروایات أنّ الشهید بقی مع الحسین علیه السلام حتی لم یبقَ معه من أصحابه إلا أثنان وهما عمرو بن سوید بن أبی المطاع الخثعمی وبشر بن عمرو الحضرمی، وکان بین الفینة والاُخری یستأذن الحسین علیه السلام من أجل ان یتحدث مع القوم، علّه یکون سبباً فی هدایة واحد منهم، ومن ثم ینتسله من نار جهنم، وهذا إ، دلّ علی شیء فانما یدلّ علی وعی عمیق وکبیر لمسؤولیته الشرعیة والتی ینبغی علی الإنسان المبلّغ والداعیة إلی الله عزّ وجل أن لا یتنازل عنها بأیّ حال من الأحوال، مهما ادلهمت الخطوب حیث یتوجب علیه أن یوصل صوته إلی کلّ من یسمعه، کما تحرک علی اساس ذلک شهیدنا الکربلائی وهو یعیش آخر ساعة من حیاته علی الثری، حتی یتحول إلی قدوة یمشی خلفها کل کربلائی حسینی بالشکل الذی لا یدع الیأس یدخل إلی جوفه أبداً، بل ویظل یعیش الأمل فی أن یستنقذ ما یمکن له استنقاذه.

والقرآن الکریم ربما یعطینا درساً هامّاً فی هذا المجال، حیث یقول فی آیة من آیاته الکریمة:

«وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِکُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِیداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلی رَبِّکُمْ وَ لَعَلَّهُمْ یَتَّقُونَ 1»

وقد جاءت هذه الآیة الکریمة فی قصة أصحاب السبت وملخصها أن الله أمر أهل قریة یسکنها الیهود بعدم صید الحیتان یوم السبت وأبیح لهم فی باقی أیام

ص:126

الأسبوع، فوسوس لهم الشیطان بأن ینصبوا شباکهم یوم السبت فإذا ما جاء یوم الأحد أخذوا ما حملته شباکهم من السمک.

عند ذلک انقسم الناس إلی ثلاثة أقسام.

یقول الشیخ مکارم الشیرازی فی تفسیره الأمثل: «عندما واجهت هذه الجماعة من بنی اسرائیل هذا الامتحان الکبیر الذی کان متداخلاً مع حیاتهم تداخلاً کبیراً، انقسموا إلی ثلاث فرق:

الفریق الأول: وکانوا یشکلون الأکثریة، وهم الذین خالفوا هذا الأمر الالهی.

الفریق الثانی: وکانوا علی القاعدة، یشکلون الأقلیة، وهم الذین قاموا تجاه الفریق الأول بوظیفة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

الفریق الثالث: وهم الساکتون المحایدون الذین لم یوافقوا العصاة، ولا قاموا بوظیفة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر».

وهنا یذکر الباری عز وجل حواراً دار بین العصاة وبین الذین نهوهم عن ارتکاب هذه المخالفة «وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلکهم أو معذبهم عذاباً شدیداً» «فأجابهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنکر: بأننا ننهی عن المنکر لأننا نؤدی واجبنا اتجاه الله تعالی وحتی لا نکون مسؤولین تجاهه، هذا مضافاً إلی أننا نأمل ان یؤثر کلامنا فی قلوبهم، ویکفوا عن طغیانهم وتعنتهم «قالوا معذرة إلی ربکم ولعلهم یتقون» ویستفاد من الجملة الحاضرة أن هؤلاء الواعظین کانوا یفعلون ذلک بهدفین:

ص:127

الأول: أنهم کانوا یعظون العصاة حتی یکونوا معذورین عند الله والآخر: عسی ان یؤثروا فی نفوس العصاة، ویفهم من هذا الکلام أنهم حتی مع عدم احتمال التأثیر، فانهم کانوا لا یحجمون عن الوعظ والنصیحة فی حین أن وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر مشروطان باحتمال التأثیر».

وهذا هو عین ما صنعه الشهید حنظلة بن أسعد الشبامی فی کربلاء حینما وقف حتی آخر اللحظات وهو یتحدث معهم ویوعظهم ولسان حاله یقول لکل من یعترض علیه «معذرة إلی ربکم ولعلهم یتقّون».

وکم عشنا قصصاً وقرأنا قصصاً وسمعنا قصصاً لأناس لم یکن أحدٌ یتصوّر أنّهم سیؤثرون فی یوم ما بالموعظة، وإذا بها تغلب کیانهم بشکل کامل، فتحولوا إلی أناسٍ صالحین، وبعضهم صار من أعاظم الدعاء إلی الله، ولماذا یذهب الإنسان بعیداً، ففی نفس تلک الواقعة تأثر جماعة من جیش عمر بن سعد بمواعظ الحسین واصحابه، وانتقلوا إلی صفِّ أبی عبد الله واستشهدوا بین یدیه.

ثانیاً: اختیار الشهید حنظلة لهذه السورة «أعنی سورة المؤمن أو ما یعرف بمؤمن آل فرعون» من جانب، وتذکیر الحسین علیه السلام لزهیر بن القین حینما خطب فی أهل الکوفة بقوله: «لئن کان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ فی الدعاء، لقد نصحت وابلغت لو نفع النصح والإبلاغ»(1).

لیجعلنا أمام حقیقة مهمة ألا وهی وحدة التشخیص ووحدة الطرح من قبل المعصوم وأصحابه.

ص:128


1- (1) أدب الطف: ج 1 ص 121.

فیما أن المعرکة التی یقفون فیها فی یوم عاشوراء تمثل فی واقعها صراعاً بین الحق والباطل والهدی والضلال ناسب أن یُطرح خطاب مؤمن آل فرعون مع قومه، والذی کان محوره الحقیقی ومضمونه الأساس حق وباطل وهدی وضلال.

ولقد وقف مؤمن آل فرعون مناصراً للحق ومدافعاً عنه بکل ما یملک وما تنازل عن مبدئه قید انملة بل وقف ناصحا ًوواعظاً ومذکراً «یا قوم إنی أخاف علیکم مثل یوم الأحزاب»، وکأنه یرید أن یذکّرَهم بأن هؤلاء الذین تحزّبوا واجتمعوا وتآمروا علی قتل الأنبیاء تعرضوا لهزیمة منکرة واهلکوا من قبل الله، وها هو رسول الله یقف بعد انتهاء معرکة بدر مخاطباً کل الطغاة والمتکبرین «الذین وقفوا أمامه وحاولوا قتله» وقال لهم: «یا شیبة بن ربیعة ویا أمیة بن خلف ویا فلان ویا فلان هل وجدتم ما وعد ربکم حقاً؟ فإنی وجدت ما وعدنی ربی حقاً، لقد کذبتمونی وصدقنی الناس وأخرجتمونی وآوانی الناس وخذلتمونی ونصرنی الناس»(1).

«یا قوم إنی أخاف علیکم مثل یوم الأحزاب» قاله مؤمن آل فرعون وطبقّه الشهید علی واقعه وعلینا أن نعیشه ونطبقه علی واقعنا، فإیّانا ثم إیّانا أن نکون فی خندق معادٍ للحق واهله، إیّانا ثم إیّانا أن نتحول إلی حربٍ لله ورسوله، إیّانا ثم إیّانا أن نکون مطیّة تصل الطغاة من خلال ظهورنا إلی اهدافهم فنکون کمن باع دینه بدنیا غیره.

«ویا قوم إنی أخاف علیکم یوم التنادِ» لقد حاول الشهید تبعاً لمؤمن آل

ص:129


1- (1) السیرة النبویة لابن هشام: ج 1 ص 639.

فرعون أن یستعمل أعظم الالفاظ وأعمق المعانی لإیصال الهدایة لمن یتحدث معهم عسی ان یکون ذلک دافعاً ومحرکاً لهم فی تدبر کلماته وتعقّل الفاظه ومن ثم نجاتهم من النار وفوزهم بالجنة.

وفی ظل هذا السیاق وهذا النسق الذی تحرک علی اساسه الشهید حنظلة «جاء النداء المذکّر بالآخرة وعذابها وأهوالها وکأنهم کالمنکرین للبعث الذی لا یحسبون له حساباً»(1) ، إنّه یوم التناد، حیث تنادی الأم ابنها فلا یستجیب لها، وینادی الابن أُمّه فلا تستجیب له، وینادی الأخ اخاه فلا یستجیب له، وینادی التابع المتبوع فلا یستجیب له، وینادی الضعفاء الأقویاء فلا یستجیبون لهم.

یا قومِ إنی أخاف علیکم أهوال هذا الیوم العظیم، فارحموا أنفسکم من عذابه وسکراته من خلال الاستجابة لنداء العقل والدین فی الوقوف إلی جانب الحق والعدل أمام الباطل والجور.

ثالثاً: لقد طبق الشهید حنظلة المفاهیم القرآنیة علی مصادیقهم الواقعیة، فهذا مؤمن آل فرعون یخاطب قومه بالآیة المتقدمة وهذا حنظلة بن أسعد یخاطب أصحاب عمر بن سعد بنفس الآیة الکریمة، وهذا یعنی بعبارة آخری تطبیق القرآن علی العترة الطاهرة والتی لا تختلف فی عطائها ووظیفتها عن عطاء ووظیفة الأنبیاء، ومن هنا نجد أن الشهید حنظلة بدل أن یقول «ویلکم لا تفتروا علی الله کذباً فیسحتکم بعذابٍ وقد خاب من افتری» وهی کلمة السحرة الذین وقفوا إلی جانب موسی علیه السلام وسألته، دفاعاً عنه وعن مبادئه، تلک الکلمة التی قالوها أمام

ص:130


1- (1) . تفسیر التحریر 136:24.

عشرات الآلاف من الناس المضلّلة، فأراد حنظلة أن یطبقها علی الحسین علیه السلام وهو یدافع عن رسالة جده علیهما السلام وقد قالها مدّویة أمام کل تلک الآلاف المؤلفة من الناس المغرّر بهم الذین جاؤوا لقتال أبی عبد الله الحسین علیه السلام، قال: «یا قوم لا تقتلوا حسیناً فیسحتکم الله بعذابٍ وقد خاب من افتری» ولکنهم بدل أن یتأثّروا بها، إذا بهم یرمونه بالسهام، ورحم الله الشاعر حیث یقول:

لم أنسه إذ قامَ فیهم خاطباً فغدوا حیاری لا یرون لوعظهِ

فإذا هُمُ لا یملکون خطابا إلاّ الأسنّة والسهامَ جوابا

رابعاً: قول الحسین علیه السلام، للشهید حنظلة: «إرجع یابن أسعد فإنّهم قد استوجبوا العذاب حینما ردّوا علیک ما دعوتهم إلیه من الحقن ونهضوا الیک یستبیحوک وأصحابک فکیف بهم الآن وقد قتلوا أخوانک الصالحین»(1).

وهنا یشیر الإمام الحسین علیه السلام، فی حدیثه هذا إلی مفهوم قرآنی إیمانی، ألا وهو عقوبة ردّ الحقّ بعد معرفته، وکأن الحسین علیه السلام یرید ان یذکرّ الشهید بدعوة نوح إلی قومه وکیفیة مواجهتهم له، یقول القرآن الکریم متحدثاً عن نوح علیه السلام ودعوته لقومه:

«قالَ رَبِّ إِنِّی دَعَوْتُ قَوْمِی لَیْلاً وَ نَهاراً * فَلَمْ یَزِدْهُمْ دُعائِی إِلاّ فِراراً * وَ إِنِّی کُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِی آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِیابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَکْبَرُوا اسْتِکْباراً * ثُمَّ إِنِّی دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنِّی أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کانَ غَفّاراً2» .

ص:131


1- (1) أعیان الشیعة 26:7 للسیّد محسن الأمین.

وبعد کلّ هذا البیان والمعرفة التی واجهوها بمنتهی القسوة والتحجر وردّ الحق الذی جاءهم به نوح علیه السلام جاءت العقوبة الإلهیة.

«رَبِّ لا تَذَرْ عَلَی الْأَرْضِ مِنَ الْکافِرِینَ دَیّاراً * إِنَّکَ إِنْ تَذَرْهُمْ یُضِلُّوا عِبادَکَ وَ لا یَلِدُوا إِلاّ فاجِراً کَفّاراً1» ، وقوله «فَدَعا رَبَّهُ أَنِّی مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ * وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُیُوناً فَالْتَقَی الْماءُ عَلی أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ2» .

وهکذا حینما تحدث القرآن الکریم عن أهل الکتاب وردّهم الحق بعد ما عرفوه وما ترتب علی ذلک من عذاب وحساب.

«وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ وَ مَنْ یَکْفُرْ بِآیاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ سَرِیعُ الْحِسابِ 3» .

وقوله تعالی:

«کَیْفَ یَهْدِی اللّهُ قَوْماً کَفَرُوا بَعْدَ إِیمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَیِّناتُ وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّالِمِینَ * أُولئِکَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَیْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَ الْمَلائِکَةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِینَ * خالِدِینَ فِیها لا یُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ یُنْظَرُونَ 4» .

ص:132

کل هذا وغیره لیرشدنا إلی هذه الحقیقة القرآنیة الحسینیة العاشورائیة التی ذکرها الحسین علیه السلام للشهید حنظلة أن ردّ دعوة الحق لابد أنها سوف تترک آثارها علیهم إن عاجلاً کما حصل فی نفس الیوم العاشر من المحرّم لبعضهم(1) وإن آجلاً حینما سلط الله علیهم غلام ثقیف فسقاهم کأساً مصبّرة بحیث لم یدع قاتلاً إلا وقتله، قتلة بقتلة کما ذکر ذلک الحسین علیه السلام یوم العاشر من المحرم «اللهم احبس عنهم مطر السماء وابعث علیهم سنین کسنی یوسف وسلط علیهم غلام ثقیف، یسقیهم کأساً مصبرة فانهم کذبونا وخذلونا وانت ربنا علیک توکلنا والیک المصیر، والله لا یدع واحداً منهم إلا انتقم لی منه قلتة بقتلة، وضربة بضربة وإنه لینتصر لی ولأهل بیتی واشیاعی»(2).

خامساً: قول الشهید حنظلة «صدقت یا أبا عبد الله، سیّدی افلا نروح إلی الجنّة؟»(3).

وما أعظمها من کلمة! وما أعظم قائلها هذا الذی اشتاق إلی الجنّة بدرجة کبیرة جداً، بحیث إنّه أصبح لا یطیق البقاء فی هذه الدنیا، وخصوصاً بعد أن فارق الأحبة والأعزّة من أصحاب الحسین! إنها میزة مهمة للشهید بل ولجمیع شهداء

ص:133


1- (1) أمثال ابن حوزة التمیمی حینما قال للحسین یا حسین تعجلت بالنار قبل یوم القیامة فدعا علیه الحسین علیه السلام وقال اللهم حزه إلی النار فاضطرمت به فرسه فی جدول، فوقع فیه وتعلقت رجله بالرکاب ووقع رأسه فی الأرض ونفر الفرس فأخذه، یمر به فیضرب برأسه کل حجر وکل شجرة حتی مات. معالم المدرستین 100:3، نقلاً عن تاریخ الطبری.
2- (2) مقتل الخوارزمی 7:2، اللهوف فی قتلی الطفوف: 56.
3- (3) اللهوف فی قتلی الطفوف: 47.

الطف (رض)، منها هو بریر بن خضیر یمازح عبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاری فقال له: «دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل، فقال له بریر: والله لقد علم قومی أنّنی ما أحببت الباطل شاباً ولا کهلاً ولکن والله إنی لمستبشر بما نحن لاقون، والله إنّه لیس بیننا وبین الحور العین إلا أن یمیل هؤلاء علینا بأسیافهم، ولوددت أنهم قد مالوا علینا بأسیافهم الساعة»(1).

وهکذا کان الشهید حنظلة یتوق إلی الجنة والی حورها ونعیمها الدائم لاسیّما فی ظل رضا الله الأکبر:

«فِی مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِیکٍ مُقْتَدِرٍ2» .

لقد کان الشهید یرید أن یدخل الجنة بسرعة لیلتحق برکب من مضی قبله، ولکنه فی نفس الوقت یرید أن یدخل الجنة بإذن الحسین علیه السلام ولهذا نجده لیسأل الحسین علیه السلام مثل هذا السؤال الذی یتضمن فی حقیقته طلب الإذن من الحسین علیه السلام فی النزول إلی المعرکة والدخول إلی الجنة، سیدی أفلا نروح إلی الجنة؟.

وقت شهادة الشهید حنظلة

لقد اختلفت الروایات فی وقت شهادة حنظلة (رض)، والتی یمکن تقسیمها إلی ثلاثة أقسام:

القسم الأول: یری بأن الشهید (رض) قد التحق بالرفیق الأعلی بعد شهادة

ص:134


1- (1) ) معالم المدرستین 95:3.

الفتیین الجاریین، یقول أبو مخنف فی مقتله: «وجاء الفتیان الجابریان: سیف بن الحارث بن سریع ومالک بن عبد بن سریع وهما ابنا عمٍّ وأخوان لامٍّ، فأتیا حسیناً علیه السلام فدنیا منه، وهما یبکیان، فقال علیه السلام: أی ابنی أخی، ما یبکیکما؟ فوالله، أنا لأرجو أن تکونا قریری عین عن ساعة «قالا: جعلنا الله فداک، لا والله ما علی انفسنا نبکی ولکنّا نبکی علیک، نراک وقد أحیط بک ولا نقدر علی ان نمنعک، فقال علیه السلام: فجزاکما الله - یا ابنی أخی - بوجدکما من ذلک ومواساتکما إیایّ بأنفسکما أحسن جزاء المتّقین».

ثم استقدم الفتیان الجابریان یلتفتان إلی حسین علیه السلام، ویقولان: السلام علیک یا بن رسول الله، فقال علیه السلام: «وعلیکما السلام ورحمة الله» فقاتلا حتی قتلا.

وجاء حنظلة بن أسعد الشبامی فقام بین یدی حسین علیه السلام فأخذ ینادی...»(1).

القسم الثانی: یری أن الشهید (رض)، قد التحق بالرفیق الأعلی بعد شهادة بریر بن خضیر یقول السید المقرّم فی مقتله: «ولما رجع کعب بن جابر إلی اهله عتبت علیه امرأته النوار وقالت: أعنت علی ابن فاطمة وقتلت سیّد القراء(2) ،

لقد أتیت عظیماً من الأمر، والله لا أکلمک من رأسی کلمة أبداً... إلی یقول ونادی حنظلة بن أسعد الشبامی: یاقوم...»(3).

القسم الثالث: وهی التی تری ان شهادته (رض)، کانت بعد شهادة عمرو بن

ص:135


1- (1) مقتل أبی مخنف: 234-235 / تحقیق الشیخ الیوسفی.
2- (2) تعنی به الشهید بریر بن خضیر الهمدانی حیث کان یعرف من شیوخ القراء فی مسجد الکوفة.
3- (3) مقتل الحسین للمقرّم: 250-251.

خالد الصیداوی وقبل شهادة زهیر بن القین، یقول ابن نما فی مثیر الأحزان: «وبرز عمرو بن خالد الصیداوی(1) ، فقاتل فقال له علیه السلام: «تقدم فإنا لاحقون بک عن ساعة» فتقدم فقتل وجاء حنظلة بن أسعد الشامی(2) ، فوقف بین یدی الحسین علیه السلام یقیه الرماح والسهام والسیوف بوجهه ونحره ثم التفت إلی الحسین فقال أفلا نروح إلی ربنا ونلحق؟ فقال: رح إلی ما هو خیر لک من الدنیا وما فیها، فقاتل قتال الشجعان وصبر علی مضض الطعان حتی قتل وألحقه الله بدار الرضوان، وتقدم زهیر بن القین...»(3).

الشهید یدعو والحسین یؤمّن له

ما إن أذن الحسین للشهید أن ینزل إلی ساحة المعرکة حتی أخذ وجه حنظلة یشرق نوراً ویتلألأ فرحاً بما هو قادم علیه من نعیم لا یبلی ورضاً من رب الأرض والسما، ولکنه مع کل هذه النعم، طلب أمراً آخر من الله عز وجل وأمّن الحسین لطلبه، لقد قال حنظلة للحسین علیه السلام فی آخر کلماته: «السلام علیک یا أبا عبد الله، السلام علیک وعلی أهل بیتک، وعرّف بیننا وبینک فی الجنّة فقال الحسین: آمین آمین»(4).

وهذه الکلمات لاشک أن الشهید أراد من خلالها أن لا یکون فی الجنّة إلا

ص:136


1- (1) والصحیح الصیداوی بدل الصیدائی کما عند مشهور العلماء.
2- (2) والصحیح الشبامی بدل الشامی کما بیّنا ذلک فی بدایة الحدیث عن الشهید (رض).
3- (3) مثیر الأحزان لابن نما الحلی 12:3.
4- (4) إبصار العین: 101.

مع الحسین علیه السلام وأهل بیته علیه السلام، وأن یعَرّف الله تعالی بینه وبین الحسین علیه السلام فی الجنّة، وهذا غایة المسؤول ونهایة المأمول أن یجلس المحبوب إلی جانب حبیبه، وهکذا لم تمضِ إلا مدّة وجیزة من الزمن بعد ان قتل منهم مقتلة عظیمة حتی تعطّفوا علیه فقتلوه فی دوحة الحرب فسقط مضرجاً بدمائه إلی جانب إخوته وأحبته، وهو وإن کان قد حوی الفخر کل الفخر بموقفه هذا، ولکنّه أزاد علی الفخر فخراً، وعلی العزّ عزّاً، وعلی الرفعة رفعةً بتسلیم الإمام صاحب الزمان علیه فی زیارة الناحیة بقوله: «السلام علی حنظلة بن أسعد الشبامی ورحمة الله وبرکاته»(1) ، ونحن بدورنا نسلّم علی الشهید بعیون عبری وصدور حرّی وقلوب ملؤها الاشتیاق إلی شخصه الکریم وولائه العظیم ونسأل الله سبحانه وتعالی الذی أکرمه بهذا المقام ان یکرمنا بالسیر علی خطاه ورحمة الله وبرکاته.

ص:137


1- (1) . المزار للشهید الأول: 151.

الشهید کردوس التغلبی رحمه الله

اشارة

صحابی جلیل من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله، وقائد کبیر محنّک فی جیش علی بن أبی طالب علیه السلام، عرف عنه الثبات مع الحقّ مع شدّة الفتن وکثرة المنعطفات، والتی تزلزلت فیها أقدام قوم وثبتت فیها أقدام قوم آخرین، وعرفوا الحقّ فمالوا إلیه، إمامهم وولیّهم علی أمیر المؤمنین، وبعده الحسن، وبعده الحسین علیهم السلام ومن جملتهم الشهید کردوس، وقد عدّه الرجالیون والمؤرّخون من جملة الرواة الثقاة، إضافة إلی کونه رئیساً مطاعاً فی قومه، وهذه کلّها نقاط مشرقة فی حیاة هذا الرجل نحاول أن نسلّط علیها الأضواء علّنا نکون موفّقین فی اتّباع سیرته واقتفاء أثره.

اسم الشهید

هو کردوس یقول ابن منظور فی لسان العرب فی مادّة کردس: «الکردوس فِقرة من فقِر الکاهل، وکلّ عظم ضخم فهو کردوس، وکلّ عظم کثیر اللحم عظمت نحضته کردوس، وقالوا: الکرادیس رؤوس العظام، واحدها کردوس،

ص:138

وکلّ عظمین التقیا فی مفصل فهو کردوس»(1) فمعنی کردوس علی ما تقدّم یعنی القوی الضخم، فکأنّ الشهید کان اسماً علی مسمّی، حیث عرف بشجاعة متمیّزة، وقدرة فائقة علی مقارعته للأبطال وثباته فی ساحات القتال وعدم اکتراثه بالأسنّة والنبال.

الاختلاف فی اسمه

اسم کردوس محلّ اتّفاق فیما أعلم عند من ترجم له إلاّ ما شذّ، نعم ورد فی أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین(2) أنّه ذکر اسم کردوس، وهو المعتمد عنده، ولکنّه فی نفس الوقت وضع بین قوسین (کرش) وطبیعی لابدّ من وجود دلیل اعتمد علیه فی ذلک وإن لم نطلّع علیه، من اختلاف النسخ أو ما شاکل ذلک، ولکن ما ذکره الشیخ شمس الدین رحمه الله لم یذکره آخر، ومن ثم یکون عندنا اتّفاق، أو لا أقلّ شبه اتّفاق عند الفریقین فی أنّ اسم الشهید هو کردوس دون غیره من الأسماء.

اسم والد الشهید

وأما اسم أبیه فقد وقع الاختلاف فیه کثیراً، فقد ورد أنّ اسمه زهیر، وهذا محلّ اتفاق عند علمائنا، کما فی إبصار العین للسماوی(3) ، وابن شهر آشوب(4) فی

ص:139


1- (1) لسان العرب: ج 6 ص 195.
2- (2) أنصار الحسین: ص 107.
3- (3) إبصار العین: ص 151.
4- (4) مناقب ابن شهر آشوب: ج 4 ص 267.

المناقب، ووسیلة الدارین(1) وغیرهم.

أمّا عند الآخرین فقد ذکروا اسماءً أربعة، حیث ذکر البخاری فی التاریخ الکبیر ما نصّه: «کردوس بن عباس التغلبی، قاله أشعث بن سوار، وقال زائدة بن منصور: کردوس بن هانی التغلبی، وقال سلیمان بن حرب، عن شعبة، عن عمر بن مرّة، عن أبی وائل، عن کردوس بن عمرو: وکان یقرأ الکتب»(2).

حیث ذکر کما تقدّم أنّ اسم الأب مختلف فیه، بین عباس و هانئ و عمرو، کما هو واضح.

وأمّا الاسم الرابع وهو قیس، فقد ذُکر مع الأسماء الثلاثة الأولی مجتمعة، فی تعجیل المنفعة لابن حجر، حیث قال:(3) «کردوس بن قیس قاصّ العامّة بالکوفة، عن رجل بدری له صحبة. وعنه عبد الملک بن میسرة، أظنّه الذی قبله، یعنی الثعلبی، وکان ذکر أنّه اختُلف فی اسم ابیه، فقیل: عباس، وقیل: عمرو، وقیل: هانئ».

ونفس هذا الذی ذکره ابن حجر فی تعجیل المنفعة، ذکره فی کتابه الآخر تهذیب التهذیب (مَنْ اسمه کدام وکردوس وکرز) قال: «کردوس بن العباس الثعلبی، ویقال ابن هانئ الثعلبی، ویقال ابن عمرو الغطفانی، ویقال إنّهم ثلاثة، روی عن الأشعث بن قیس وحذیفة وابن مسعود بن شعبة وأبی مسعود الأنصاری

ص:140


1- (1) وسیلة الدارین: ص 185.
2- (2) التاریخ الکبیر: ص 557.
3- (3) تعجیل المنفعة: ج 1 ص 351 (907).

وأبی موسی الأشعری وعائشة، وروی عنه عبد الملک بن عمیر وأبو وائل وزیاد بن علامة والحارث بن سلیمان الکندی وأشعث بن أبی الشعثاء وأشعث بن سوار وابن عون ومنصور بن المعتمر وآخرون»(1).

وبعد ما تقدّم من اختلافهم فی اسم أب الشهید وما ذکروه، نود أن نثیر حوله ما یلی:

شخصیة واحدة أم شخصیات متعددة ؟

إنّهم وإن اختلفوا فی اسم أبیه ولکنّهم یشیرون فی طیّات کلماتهم إلی أنهم شخصیة واحدة ولیست شخصیّات متعدّدة، حیث وجدت بعد البحث والتمحیص وبذل الوقت أنّ کلّ ما یذکروه فی کتبهم من روایات حول واحد من هؤلاء الثلاثة یکون متطابقاً فی الغالب، ممّا یؤیّد أنّ المُتحدّث عنه واحد لا غیر.

فمثلاً حینما یتحدّثون عن أنّه کان قاصّاً فی الکوفة، فهذا الوصف قد ذکروه فی ترجمة کردوس بن العباس وکردوس بن عمرو وکردوس بن قیس، حیث ینقل صاحب کتاب الآداب الشرعیة(2) ، یقول: «حدّثنا هشام، حدّثنا شعبة، عن عبد الملک بن مسیرة: سمعت کردوس بن قیس، وکان قاص العامّة فی الکوفة» ثمّ یقول: «أخبرنی رجل من أصحاب بدر، أنّه سمع النبی صلی الله علیه و آله یقول: لأن أقعد فی مثل هذا المجلس أحبّ إلیّ من أن أعتق أربع نسمات»(3).

ص:141


1- (1) تهذیب التهذیب: ج 8، ص 387.
2- (2) الآداب الشرعیة: ج 2 ص 159.
3- (3) نفس المصدر.

وصفة القاصّ فی الکوفة وردت کذلک فی کردوس بن عمرو، حیث ینقل البزّاز فی روایته فی البحر الزخّار(1) من طریق روح بن عبادة قال: «أخبرنا شعبة قال: أخبرنا عبد الملک بن میسرة قال: سمعت کردوس بن عمرو قال: سمعت رجلاً من أهل بدر، قال شعبة: أراه علی بن أبی طالب، أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: «لأن تفصّل المفصّل أحبّ إلیّ من کذا باباً» قال شعبة: فقلت لعبد الملک: أیّ مفصّل؟ قال: القصص، ثمّ قال البزّاز: ولا نعلم روی کردوس بن عمرو عن علی إلاّ هذا الحدیث».

وقد ذکر ابن حبّان فی الثقات ما یشعر أنّ کردوس بن عمرو کان قاصّاً، حیث یقول: «کردوس بن عمرو الثعلبی، کنیته أبو نعیم، وکان یقرأ الکتب ویحکی عن الإنجیل والتوراة، روی عنه أبو وائل، وقد قیل: کنیته أبو وائل»(2).

والمتعارف علیه أنّ الحکایات التی تحکی فی تلک الحقبة إنّما کانت عبارة عن حکایات وقصص الیهود والنصاری فی الإنجیل والتوراة، ومن ثم تکون هذه الروایة التی تتحدّث عن کردوس بن عمرو هی بمضمونها نفس تلک التی تتحدّث عن کردوس بن قیس، أمّا کردوس بن العباس وکردوس بن هانئ التغلبی فقد ذکرهما البخاری فی تاریخه الکبیر، وعلق علیهما بأنّ کردوساً کان قاصّ الجماعة، وهو الکوفی، ثمّ بعد ذلک ذکر کردوس بن عمر الذی عبر عنه بالذی یقرأ الکتب، وهذا نصّ کلامه: «کردوس بن عباس التغلبی، قاله أشعث بن سوار، وقال زائدة بن منصور: کردوس بن هانئ التغلبی، وقال محمد بن بشّار، عن أزهر

ص:142


1- (1) البحر الزخّار: ج 3 ص 130.
2- (2) الثقات لابن حبّان: ح 5139.

ابن عون قال: رأیت کردوساً التغلبی وکان قاصّ الجماعة، وهو الکوفی، وقال سلیمان بن حرب، عن شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أبی وائل، عن کردوس بن عمرو: وکان یقرأ الکتب».(1)

وممّا تقدّم یتبیّن أنّ صفة القاصّ التی ذکروها للشهید الکربلائی، تارة یطلقونها لکردوس بن قیس کما فی الآداب الشرعیة، وتارة أخری لکردوس بن عمرو کما فی البحر الزخّار، ومرّة لکردوس بن العباس وکردوس بن هانئ کما یفهم ذلک من البخاری فی تاریخه، ممّا یعنی أنّهم یتحدّثون عن شخصیة واحدة، غایة ما فی الأمر اختلفت الروایات فی اسم الأب، إمّا لاختلاف النسخ أو لسبب آخر ربما لا نعرفه.

ومن أجل هذا صار بعضهم حینما یتحدّث عن الشهید یترک الحدیث عن اسم أبیه والاختلاف فیه، ویکتفی بکردوس التغلبی، لشهرته.

یقول أبو حاتم: «أمّا علی بن المدینی فجعل کردوس بن عمرو علی حدة وکردوس بن هانئ علی حدة وکردوس بن العباس علی حدة، قال ابن أبی حاتم: سألت أبی عن ذلک (یعنی عن أنهم شخصیّات ثلاثة ولیست واحدة) فقال: فیه نظر، وقال الدوری، عن ابن معین: کردوس التغلبی مشهور»(2).

وأخیراً ذکر ابن الأثیر فی أسد الغابة بعد ذکر الاختلاف فی ذکر الأب، هل هو عمرو أم غیره: «قلت: أخرج أبو موسی حدیث من أحیا لیلتی العیدین، فی هذه

ص:143


1- (1) التاریخ الکبیر: ص 557.
2- (2) تهذیب التهذیب: ص 1310 (من اسمه کدام وکردوس وکرز).

الترجمة، وأفردها عن ترجمة کردوس بن عمرو، وهذا الحدیث قد أخرجه أبو نعیم فی ترجمة کردوس بن عمرو، فدلّ ذلک علی أنّهما واحد، فلا أعلم من این علم أبو موسی أنّهما اثنان وقد جعلهما أبو نعیم واحداً، ولم یذکر إلاّ الأول، لاسیّما وهذا الاسم ممّا تقلّ به التسمیة».(1)

نسب الشهید کردوس

أمّا النسب الذی یرجع الیه، فمشهور العلماء عند الفریقین یذهب إلی أنّه تغلبی، فقد ذکره ابن سعد فی الطبقات بالتغلبی(2) وکذلک البخاری فی التاریخ الکبیر(3) وابن حِبّان فی الثقات(4) والمزّی فی تهذیب الکمال(5) وآخرون.

نعم، هناک من ذهب إلی أنّه ثعلبی، ولکن هذه النسبة إمّا تذکر بعد ذکر النسبة الأولی (بقلیل) مثلاً، فتکون ضعیفة وغیر متبنّاة، بخلاف النسبة الأولی.

وإما أنّ تذکر فی البدایة، کما ذهب إلی ذلک البعض، مثل الذهبی فی الکاشف(6) حیث ذکره أولاً ثمّ ذکر بعد ذلک مباشرة: ویقال التغلبی.

ومع ذلک فإنّ من تبنّی أنّه ثعلبی جماعة قلیلة فی قبال التغلبی الذی ذهب إلیه مشهور العلماء، هذا کلّه فی خصوص المدرسة الثانیة.

ص:144


1- (1) أسد الغابة، باب الکاف - کردوس.
2- (2) ابن سعد، الطبقات: ص 183.
3- (3) التاریخ الکبیر، باب الکاف (1035).
4- (4) ابن حبّان فی الثقات: ج 1 ص 197.
5- (5) تهذیب الکمال للمزّی: ص 1144.
6- (6) الکاشف: 4652.

وأمّا علی أساس علماء مدرسة أهل البیت فقد أجمعوا علی أنّ نسبه هو التغلبی، إلاّ اللهمّ ما ذکره صاحب الهامش علی کتاب نقد الرجال، للسید مصطفی الحسینی بقوله: فی نسختی (م) و (ت) الثعلبی(1). ممّا یقوی فی النفس أنّ الثعلبی إنّما هی تصحیف عن التغلبی، وبما أنّ الشهید قد اتّفق علی أنّ اسمه کردوس ونسبهُ التغلبی کما تقدّم، فقد ارتأینا ذکره ب - «الشهید کردوس التغلبی» فقط.

قبیلة الشهید

لقد کانت قبیلة بنی تغلب منجبة للأبطال والفرسان والشعراء والأدباء، ولقد عرفت بین العرب بأنّها قبیلة عزیزة الجانب، أبیّة عصیّة لا یکبح جماحها إلاّ متسلّط بجبروت، وکانت تحمل فی نفس الوقت أنفة وفخراً کبیرین نتیجة لما کانت تملکه من تاریخ عظیم من البطولات والأمجاد ولهذا کلّه کانت اذا ما أرادت أن تنزل فی مکان ما، لا تهاب أحداً ولا تخشی من شیء، حیث کانت تنزل حیثما هطل المطر، کلّ ذلک لعزّتها ومنعتها وقوة بأسها.

وقد اشتهر من قبیلة تغلب جماعة منهم کلیب الذی کان یحمی مواقع السحاب، وأخوه البطل المهلهل، وکلثوم بن مالک أفرس العرب، والأخطل والقطامی، وکعب وعمیر أبناء جعیل والعتابی فی الاسلام(2). فضلاً عن عمرو بن کلثوم قاتل عمرو بن هند، وهو نار علی علم، حیث عرفه کلّ صغیر وکبیر، لشعره

ص:145


1- (1) نقد الرجال: ج 4 ص 4274.
2- (2) مجلة النبأ (عدد 57) شهر صفر 1422 ه - أیار 2001 م (مقال: من أعلام الشیعة سیف الدولة الحمدانی).

ولبأسه وقوته وسداد رأیه، حیث مَلَّکه قومه وعمره 15 سنة، ولقد کان من فخر هذه القبیلة أن قال عمرو بن کلثوم فی معلّقته الرائعة:

وإنّا الحاکمون بما أردنا وإنّا النازلون بحیث شینا

وإنّا النازلون بکلّ ثغرٍ یخاف النازلون به المنونا

إذا ما الملک سام الناس خسفاً أبینا أن نقرّ الخسف فینا

ألا لا یجهلنْ أحدٌ علینا فنجهل فوق جهل الجاهلینا

ملأنا البرّ حتی ضاق عنا وموج البحر نملؤه سفینا

اذا بلغ الفطام لنا رضیعٌ تخرّ له الجبابر ساجدینا

لنا الدنیا ومن أمسی علیها ونبطش حین نبطش قادرینا

وینقل أن هذه القصیدة کانت تزید علی الألف بیت، «وکانت بنو تغلب یعظّمونها ویرویها صغارهم وکبارهم، لما حوته من الفخر والحماسة مع جزالتها وسهولة ألفاظها وحفظها»(1).

ومع کونهم من صمیم العرب إلاّ أنّهم کانوا قد تأثّروا بالروم والمسیحیة، حتی عرفت هذه القبیلة بأنّها من القبائل المسیحیة، واستمرّوا علی ذلک حتی جاء الإسلام، کما یؤکّد علی ذلک ابن قیّم الجوزیة.(2)

فعبّر عنهم فی الروایات بأنّهم نصاری العرب، إضافة إلی آخرین أمثال نصاری نجران، وهؤلاء لم یدخل منهم الکثیر فی الإسلام بل دخل منهم القلیل، وینقل أنّهم جاءوا إلی رسول الله فی عام وفود القبائل العربیة فی السنة التاسعة

ص:146


1- (1) أشعار الشعراء الستة للأعلم الشنتمری: ص 98.
2- (2) أحکام أهل الذمة لابن القیم الجوزیة: ص 26.

للهجرة أو العاشرة، حیث یقول ابن سعد فی الطبقات(1): «إنّ ستة عشر رجلاً من بنی تغلب مسلمین ونصاری، وفدوا إلی رسول الله علیهم صُلب الذهب، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، فصالح رسول الله صلی الله علیه و آله النصاری علی أن یقرّهم فی دینهم علی أن لا یصبغوا أولادهم فی النصرانیة، وأجاز المسلمین منهم بجوائزهم».

وإنّما اشترط رسول الله صلی الله علیه و آله علیهم ذلک لأنّ النصاری کانوا یغسلون أولادهم فی الماء بعد ولادتهم، بل وحتی الحوامل، ویعتقدون بذلک أنّهم سوف یتطهّرون من إثم آدم وبنیه، لأنّ هذا الماء هو الماء الذی ولد فیه عیسی علیه السلام، وتسمی هذه العملیة عند المسیح بالتعمید.

وهنا یقف القرآن الکریم موقفاً حازماً مبیّناً لهم أنّ هذه العملیة لا یمکن بأیّ حال من الأحوال أن تعطی الطهارة للإنسان، لأنّ الطهارة أمرٌ معنوی یأتی للإنسان من داخله، من خلال تفاعله مع قیم السماء وأخلاق الرسالة، ولو غمس الإنسان نفسه بالماء الأصفر الذی یعدّوه فی حوض ألف مرّة، بل فی جمیع المیاه ولو کانت میاه البحار والمحیطات، فإنّ هذا سوف لا یزیل أیّ شیء من النجاسات الخُلُقیّة عن نفس هذا الإنسان وعقله وقلبه.

ومن ثم فإنّ التطهّر بالطریقة التی یؤمنون بها هو ضرب من الخرافة وسخافة للعقل البشری، وذلک أن التخلّص من کلّ موروثه الذی یحمله خلال دقائق فی الماء هو أمر غیر عقلائی. یقول القرآن الکریم:

«قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَیْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلی إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ وَ إِسْحاقَ»

ص:147


1- (1) الطبقات: ج 1 ص 143.

«وَ یَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِیَ مُوسی وَ عِیسی وَ ما أُوتِیَ النَّبِیُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِی شِقاقٍ فَسَیَکْفِیکَهُمُ اللّهُ وَ هُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ * صِبْغَةَ اللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ 1» .

ویقول الشیخ الطبرسی فی کتابه مجمع البیان، فی تفسیر هذه الآیة: «صبغة الله مأخوذة من الصبغ، لأنّ بعض النصاری کانوا إذا ولد لهم مولود غمسوه فی ماء لهم یسمونه المعمودیة، یجعلون ذلک تطهیراً له، فقیل صبغة الله، أی تطهیر الله لا تطهیرکم بتلک الصبغة» ثمّ یقول «وإنّما سمّی الدین صبغة لأنّه هیئة تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة وغیر ذلک من الآثار الجمیلة التی هی کالصبغة»(1).

ویقول الطبری فی تفسیره: «یعنی تعالی ذکره بالصبغة، صبغة الإسلام، وذلک أنّ النصاری إذا أرادت أن تنصّر أطفالهم جعلتهم فی ماء لهم تزعم أنّ ذلک لها تقدیس بمنزلة غسل الجنابة لأهل الإسلام، وأنّه صبغة لهم فی النصرانیة، فقال الله تعالی ذکره اذ قالوا لنبیه محمد وأصحابه المؤمنین به:

«کُونُوا هُوداً أَوْ نَصاری تَهْتَدُوا» .

قل لهم یا محمد: أیّها الیهود والنصاری، بل اتّبعوا ملّة إبراهیم صبغة الله التی

ص:148


1- (2) مجمع البیان: ج 1 ص 138.

هی أحسن الصبغ، فإنّها هی الحنیفیة المسلمة، ودعوا الشرک والضلال عن محجّة هداة»(1).

ومن هنا نعرف أنّ ما طلبه رسول الله صلی الله علیه و آله منهم کان لا یؤثّر علی أهل النصرانیة ولا علی اختیارهم لها، وإنّما کان الموضوع ینصبّ علی رفع مستوی عقولهم ومستوی تفکیرهم فی جزئیة صغیرة کانوا یتمسّکون بها فی حیاتهم.

نعم وردت فی بعض الروایات أنّ النبی صلی الله علیه و آله صالحهم علی أن لا ینصّروا أبناءهم، أو بتعبیر آخر أن لا یصبغوا أولادهم فی النصرانیة، کما فی الروایة التی یذکرها ابن کثیر فی البدایة والنهایة «أنّهم کانوا ستة عشر رجلاً مسلمین ونصاری علیهم صلب الذهب، فنزلوا دار رملة بنت الحارث فصالح رسول الله صلی الله علیه و آله النصاری علی أن لا یصبغوا أولادهم فی النصرانیة، وأجاز المسلمین منهم»(2) وهذه الروایة وأمثالها فی التعبیر لا یمکن قبولها لأسباب منها:

1 - إنّ ذلک یخالف نصّاً صریحاً واضحاً فی القرآن الکریم یقول:

«لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ 3» .

وما یذکرونه فی هذه الروایة فیه اکراه لهذه الفئة فی عدم تنصیر أبنائهم، ومن ثم هم لابدّ أنّ یقبلوا من أجل أن یعیشوا، فتنتهی بهم الحال إلی دخول الإسلام، ولکن لا بشکل اختیاری وإنما جبری مفروض علیهم، وهذا ما لا یقرّه

ص:149


1- (1) تفسیر الطبری، تفسیر آیة: 138.
2- (2) البدایة والنهایة ج 5، هامش ص 108، وفیه (یضیّعوا) بدل (یصبغوا) وهو تصحیف.

الإسلام أبداً.

2 - لو صحّت هذه الروایة لکان بنو تغلب قد تحوّلوا جمیعاً إلی الإسلام ولم یبق لهم فی المسیحیة ذکر، وهذه الفرضیة لا یمکن قبولها، لأنّ المؤرّخین یجمعون علی أنّ بنی تغلب بقوا علی نصرانیتهم إلی مدّة لیست بالقلیلة، ربّما استمرت طیلة الحقبة الأمویة(1) وجزءًا من الحقبة العباسیة إلی أن حصل الانقلاب الطبیعی بحکم معیشتهم مع المسلمین وتأثّرهم بهم بشکل تدریجی، حتی آمنوا اختیاراً لا اضطراراً.

ولهذا کلّه وغیره قلنا بأنّ مثل هذا التعبیر لا یقبل فی هذه الروایة، ویقبل ما جاء فی الروایة الأولی لأنّه موافق للقرآن والسنّة وأحداث التاریخ والواقع، ولقد ذکر الطبرسی تأییداً لما ذکرنا فی تفسیر الآیة: 138 من سورة البقرة قوله: «أخذ العهد من بنی تغلب أن لا یصبغوا أولادهم، أی لا یلقّنونهم النصرانیة، لکن یدعونهم حتی یبلغوا فیختاروا لأنفسهم ما شاؤوا من الأدیان»(2).

نعم رووا نفس هذه الروایة عن عمر أنّه صالح بنی تغلب فی حیاته علی أنّ لا ینصّروا صبیانهم، وأن یدفعوا ضعف ما یدفعه المسلمون من الصدقة، حیث ینقل ابن حزم فی المحلّی(3) عن طریق هشیم، «عن المغیرة بن مقسم، عن السفّاح ابن المثنی، عن زرعة بن النعمان أو النعمان بن زرعة أنّه کلّم عمر فی بنی تغلب

ص:150


1- (1) خزانة الأدب لعبد القادر البغدادی: ص 1415.
2- (2) تفسیر الطبرسی، تفسیر آیة: 138.
3- (3) المحلّی لابن حزم: ج 2 م (701).

وقال له: إنّهم عرب یأنفون من الجزیة، فلا تعن عدوّک بهم، فصالحهم عمر علی أنّ اضعف علیهم الصدقة واشترط علیهم أن لا ینصّروا أبناءهم».

والکلام فی هذه الروایة هو عین الکلام عن الروایة السابقة حیث ذکرت تنصیر الأبناء فضلاً عن الحکم فی تضعیف الصدقة من قبل عمر علیهم، وهذا ما تفرّد به عمر ولم یقل به أحد قبله، حیث خالف صریح القرآن بقوله:

«حَتّی یُعْطُوا الْجِزْیَةَ عَنْ یَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ 1» .

وخیر ما قرأت فی ردّ حدیث عمر المتقدّم هو قول ابن حزم فی المحلی: «هذا کلّ ما موّهوا به، وهدموا به أکثر أصولهم، لأنّهم یقولون لا یقبل خبر الآحاد الثقات التی لم یجمع علیها فیما إذا کثرت فیه البلوی، وهذا أمر تکثر فیه البلوی ولا یعرفه أهل المدینة وغیرهم، فقبلوا فیه خبراً لا خیر فیه، وهم قد ردّوا بأقلّ من هذا خبر الوضوء من مسّ الذکر، ویقولون لا یقبل خبر الآحاد الثقات اذا کان زائداً علی ما فی القرآن أو مخالفاً له، وردّوا بهذا حدیث الیمین مع الشاهد وکذبوا ما هو مخالف لما فی القرآن، ولا خلاف للقرآن أکثر من قوله تعالی:

«حَتّی یُعْطُوا الْجِزْیَةَ عَنْ یَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ» .

فقالوا: هم إلاّ بنی تغلب فلا یؤدّون الجزیة ولا صغار علیهم، بل یؤدّون الصدقة مضاعفة علیهم، فخالفوا القرآن والسنن المنقولة کافة بخبر لا خیر فیه، وقالوا: لا یقبل خبر الآحاد الثقات اذا خالف الأصول، وردّوا بذلک خبر القرعة فی الأعبد الستة، وخبر المصراة، وکذّبوهما مخالفین للأصول بل هما أصلان من کبار

ص:151

الأصول، وخالفوا هاهنا جمیع الأصول فی الصدقات، وفی الجزیة بخبر لا یساوی بعرة، وتعللوا بالاضطراب فی أخبار الثقات، وردّوا بذلک خبر لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان وخبر قطع إلاّ فی ربع دینار فصاعداً، وأخذوا هاهنا بأسقط خبر وأشدّه اضطراباً، لأنه یقول مرّة عن السفّاح بن مطرف، ومرّة عن السفاح بن المثنی، ومرّة عن داود بن کردوس أنّه صالح عمر علی بنی تغلب، ومرّة عن داود بن کردوس عن عبادة بن النعمان أو زرعة بن النعمان أو النعمان بن زرعة أنّه صالح عمر، ومع شدّة الاضطراب المفرط فإنّ جمیع هؤلاء لا یدری أحد من هم من خلق الله تعالی؟

وکم قضیّة خالفوا فیها عمر ککلامه مع عثمان فی الخطبة ونفیة الزنا، وإغرامه فی السرقة قبل القطع، وغیر ذلک.

وقد صحّ عن عمر بأصحّ الطرق - من طریق عبد الرحمن بن مهدی، عن شعبة، عن الحکم بن عیینة، عن إبراهیم النخعی، عن زیاد بن حدیر قال: أمرنی عمر بن الخطاب أن آخذ من نصاری بنی تغلب العشر، ومن نصاری أهل الکتاب نصف العشر، قال أبو محمد: فکما لم یسقط أخذ نصف العشر من أهل الکتاب الجزیة عنهم، فکذلک لا یسقط اخذ العشر من بنی تغلب أیضاً الجزیة عنهم، وهذا أصحّ قیاس لو کان شیء من القیاس صحیحاً فقد خالفوا القیاس أیضاً، ثمّ لو صحّ وثبت لکانوا قد خالفوه، لأنّ جمیع من رووه عنه أولهم عن آخرهم یقولون کلّهم: إنّ بنی تغلب قد نقضوا تلک الذمة فبطل ذلک الحکم، ورووا ذلک أیضاً عن علی علیه السلام فخالفوا عمر وعلیا والخبر الذی احتجّوا به والقرآن والسنن، فی أخذ

ص:152

الجزیة من کلّ کتابی فی أرض العرب، وغیرها کهجر والیمن وغیرهما فعل الصحابة والقیاس، ونعوذ بالله من الخذلان»(1).

فقد ثبت فیما تقدّم أنّ فی هذه الروایة وأمثالها من المخالفات ما لا یمکن بأیّ حال من الأحوال قبوله، نعم ربّما تکون الروایة التی رواها ابن الشهید الکربلائی داود بن کردوس هی الأقرب إلی الواقع، والمتماشیة مع حکم رسول الله فی أن لا یصبغوا أولادهم، وأن یأخذ منهم الجزیة لا الصدقة.

وبهذا یقول السید مرتضی العسکری فی معالم المدرستین، وهو یتحدّث عن خطبة لأمیر المؤمنین ذکرها بعد تولیّه الحکم بعد الخلفاء الثلاثة، وشکواه بأنّهم خالفوا سنناً لرسول الله فأخذ الإمام فی الحدیث عنها بشکل مفصّل، وإنّه حاول أن یرجع الأمور إلی سابق عهدها، کما هی فی زمن رسول الله، فکان أن عدّد فیما عدّد «وسبیت ذراری بنی تغلب»(2).

یقول فی الهامش عن عبارة الإمام التی ذکرها «لأنّ عمر رفع عنهم الجزیة، فهم لیسوا بأهل ذمة، فیحلّ سبی ذراریهم، کما روی ذلک عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه قال: «إنّ بنی تغلب من نصاری العرب، أنفوا واستنکفوا من قبول الجزیة، وسألوا عمر أن یعفیهم عن الجزیة ویؤدّوا الزکاة مضاعفة، فخشی أن یلحقوا بالروم، فصالحهم علی أن صرف ذلک علی رؤوسهم وضاعف علیهم الصدقة»(3).

ص:153


1- (1) المحلّی: ج 2 مسألة (701).
2- (2) معالم المدرستین: ج 2 ص 353.
3- (3) الهامش رقم: 8 معالم المدرستین: ج 2 ص 353.

بنو تغلب ودولة الحمدانیین

والعجیب فی هذا الأمر أنّ هذه القبیلة التی کانت عصیّة وأبت الدخول فی الإسلام إلاّ قلیلاً منها تحولت بعد ذلک وبشکل طوعی إلی قبیلة طابعها العامّ هو الإسلام، ولیس هذا فقط، بل والولاء لأهل البیت، حیث عرفوا بعد ذلک بأنّهم من الشیعة، بل واستطاعوا أن ینشئوا دولة عرفت بدولة الحمدانیین أو ما یعرف بالدولة الحمدانیة فی الموصل وحلب.

وبالاتّفاق ینتسب الحمدانیون إلی تغلب حینما تحوّلوا فی نهایة القرن الثالث إلی مسلمین، ویذکر حسن إبراهیم حسن فی کتابه(1) «إنّه: اضطرّ قسم کبیر من بنی تغلب إلی الهجرة، فهاجروا إلی البحرین، وبقی جزء منهم فی الجزیرة وبلاد العراق، وهذا القسم هو الذی قاد لواء الیقظة الفکریة والسیاسیة فی أواخر القرن الثالث وبدایة القرن الرابع، والذی ترأس هذه الیقظة هم بنو حمدان من تغلب».

ولا یشکّ کذلک أحد فی أنّ هذه الدولة کانت شیعیة موالیة لأهل البیت علیهم السلام، ولقد ظهر مثل هذا الأمر واضحاً من خلال هجرة العلماء الشیعة الیها، إضافة إلی أنّ سیف الدولة ضرب علی سکّة الدینار لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله، علی ولیّ الله، فاطمة، حسن، حسین، وجبرئیل.

ویقول ابن الندیم(2): «کان الحمدانیون شیعة ولکن فی غیر غلوّ، وکان سیف الدولة نفسه یتشیّع، فغلب علی أهل حلب التشیع».

ص:154


1- (1) تاریخ الإسلام: ج 3 ص 122.
2- (2) بغیة الطلب فی تاریخ حلب لابن الندیم: ج 1 ص 134.

ویقول المتنبی:

یا سیف دولة ذی الجلال ومن له خیر الخلائق والأنام سمیّ

أو ما تری صفّین کیف أتیتها فانجاب عنها العسکرُ الغربیّ

فکأنّه جیش ابن حربٍ رُعْتَهُ حتی کأنّک یا علیّ علیّ (1)

حین کان اسم الخلیفة الحمدانی علی بن أبی الهیجاء، وکان شیعیاً یطرب اذا شُبِّهَ بعلی بن أبی طالب.

ثمّ أنّ أبا فراس الحمدانی، الشاعر الکبیر المعروف، کان یدلّل فی شعره علی أنّه شیعی واثنا عشری، مع أنّ الذی ربّاه وهو طفل وعلمه من خلال اختیار معلّم له، هو سیف الدولة الحمدانی.

وربما من هنا بالذات نستطیع أن نفسر وجود التشیّع فی حلب وفی مصر(2) ، کذلک کما یؤکّد علی ذلک دائرة المعارف الشیعیة(3) ، وکذلک کتاب حلب والتشیّع.(4)

ولقد کان للدولة الحمدانیة الدور الکبیر فی ازدهار الثقافیة الإسلامیة فی حلب وغیرها، من خلال نبذ التعصّب المذهبی، وتشجیعهم علی العلم والفکر، وبخاصة من قبل سیف الدولة، والتضحیات والمواقف المشرّفة التی کانت للحمدانیین فی تصدّیهم للروم.

ص:155


1- (1) نفس المصدر.
2- (2) من خلال الدولة الکبیرة التی أقیمت هناک والتی سمّیت بالدولة الفاطمیة، تیمّناً بالزهراء.
3- (3) دائرة المعارف الشیعیة: ج 4 ص 57.
4- (4) ص 87.

مواقف الشهید فی صفّین

الموقف الأول: ونلمح للشهید موقفاً عظیماً کبیراً یدلّ علی وعی وبصیرة نافذین، حیث کانت الأمور واضحة والمحجّة بیّنة عنده، فنلمح له موقفاً فی وقت عصیب فی فتنة کبیرة، وذلک حینما رفعت المصاحف من قبل جیش معاویة بن أبی سفیان من خلال مکیدة عمرو بن العاص الشهیرة، وما أن رفعت المصاحف فوق الرماح حتی انقسم القوم إلی قسمین قسم ماجوا وقالوا: اکلتنا الحرب وقتلت الرجال، وقال قوم آخرون: نقاتل علی ما قاتلناهم علیه بالأمس، ولکن کان أصحاب هذا القول هم الأقلّ، ثمّ رجعت حتی هذه القلّة عن قولها ومالت إلی الموادعة، وعندها قام أمیر المؤمنین وقال: «إنّه لم یزل أمری معکم علی ما أحبّ، إلی أن أخذت منکم الحرب، وقد والله أخذت منکم وترکت، وأخذت من عدوّکم فلم تترک، وإنّها فیهم أنکی وأنهک، ألا إنّی کنت بالأمس أمیر المؤمنین، فأصبحت الیوم مأموراً، وکنت ناهیاً فأصبحت منهیّاً، وقد أحببتم البقاء ولیس لی أن أحملکم علی ما تکرهون» فأیّ غیور لا یشعر فی قلبه الحسرة والأسف حین سماعه لهذه الکلمات وهو یری الشخصیة الأولی بعد رسول الله ++++ علیهما السلام تعیش کلّ هذا الحزن والإحباط بعد فشل مشروعه الکبیر الذی أراد من خلاله حفظ کرامة الأمّة واسترداد عزّتها وهیبتها ومجدها، وإذا بها لا تقبل إلاّ الهوان ولا ترضی إلاّ بالذل وهی تجنح إلی السلام المهین مجبرة وقد مدّت ید الصلح إلی ید طالما قطعت أوصال الاسلام إربا إربا، وهم یعلمون ذلک، ولکن ویاللأسف کانوا لا یحملون إرادة کافیة تجعلهم یقفون موقف الصلب المدافع، واذا بعلی بن أبی

ص:156

طالب یجلس وفی ذلک الوقت بالذات وهو یری التخاذل قد وصل إلی أعلی درجاته ممّا دعاه إلی الرضوخ للأمر الواقع فقد أکلت الحرب وأخذت الکثیر، ولم یعودوا قادرین حتی علی رفع السیف فضلاً عن المقاتلة به، وبعد أن جلس أمیر المؤمنین متألّماً قام رؤساء القبائل، یقول ابن مزاحم، فی قعة صفّین:

خطبة الشهید کردوس فی صفین

فأمّا ربیعة، وهی الجبهة العظمی، فقام نیابة عنها الشهید الکربلائی العظیم کردوس بن هانی فقال: «أیّها الناس، إنّا والله ما تولّینا معاویة منذ تبرّأنا منه، ولا تبرّأنا من علی منذ تولیناه، وإنّ قتلانا لشهداء وإن أحیاءنا لأبرار، وإنّ علیاً لعلی بیّنة من ربّه ما أحدث إلاّ الانصاف، وکلّ محقّ منصف، فمن سلّم له نجا ومن خالفه هلک»(1).

وهذا النصّ الکریم من الشهید الکربلائی یبیّن نقاطاً مهمّة فی ظرف هامّ ومهمّ، حیث یتحدّث عن الولاء للحقّ والبراءة من الباطل، وإنّ هذا المفهوم العظیم قد اختمر فی ذهنه وراح یطبّقه فی حیاته ضمن ما یری من مصادیق، وها هو یری الحقّ الذی یقول عنه رسول الله «علی مع الحقّ، والحقّ مع علی»، وینادی ویستغیث من أجل نصرته، فیقف إلی جانبه، ویری الباطل متمثّلاً بمعاویة والذی جاء یرید أن یفتک، هو ومن قبله أبوه وبنوه من بعده، بالإسلام، بل ونبیّ الإسلام.

ویأبی الشهید إلاّ أن یقف مع الحقّ ضدّ هذا الباطل، وقد کشف الشهید عن

ص:157


1- (1) وقعة صفّین لنصر بن مزاحم: ص 485.

مدی وعیه لهذا المبدأ ومدی تشخیصه لمصادیقه الخارجیة بقوله: «إنّا ما تولّینا معاویة منذ تبرّأنا منه» وهذه إشارة إلی البراءة من الباطل ومن أهله والمنتسبین الیه حتی ولو رفعوا شعار الحقّ ظاهراً لیموّهوا علی الناس.

ثم أشار بقوله «وما تبرّأنا من علی منذ أن تولّیناه» إلی مبدأ الولایة التی أُمرنا بالتمسّک بها مهما کانت الظروف والأحوال، لأنّ بها وفیها ومن خلالها یحفظ الإسلام والدین بمبادئه وقیمه التی أراد الله أن ینشرها بین الناس، وقد شخصت هذه الولایة من قبل الشهید الکربلائی فی صفّین بعلی بن أبی طالب ومن بعده بالحسن المجتبی ومن بعده بالحسین الشهید بکربلاء حیث انتهت حیاته بین یدیه.

ثم یقول:«وإنّ قتلانا لشهداء» لأنّهم أصحاب الحقّ، وأصحاب الحقّ دائماً هم الشهداء عند ربّهم حتی لو لم یستشهدوا، فإنّهم الأبرار الصدّیقون.

ثمّ یؤکّد علی حقیقة مهمّة وهی قوله «وإنّ علیاً علی بیّنة من ربّه» یعنی أنّ علیاً لم یتحرّک لهوی ولم یتحرّک بدوافع عصبیة أو جاهلیة أو لوجود حسّاسیة بینه وبین معاویة، وإنّما هی مواقف الإسلام ومواقف الرسالة التی وقفها قبل علی رسول الله صلی الله علیه و آله فی تصدّیه للمشرکین والمنافقین، ومصداقاً لقوله تعالی علی لسان النبی صلی الله علیه و آله:

«قُلْ إِنِّی عَلی بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّی1» .

ومن ثم فإنّ حرکة علی لا ترید لهذه الأمة إلاّ تحقیق العدالة وحفظ

ص:158

الحقوق، ولذلک یقول «ما أحدث إلاّ الإنصاف» وبما أنّ کلّ محقّ منصف، فإذاً هو لا یبالی بالجموع، وعلینا نحن کذلک أن لا نبالی بکثرة أهل الباطل اذا کنا نعیش الوعی والبصیرة، فلماذا إذاً کلّ هذا الخذلان.

ثمّ یختمها بقوله: «فمن سلّم له نجا، ومن خالفه هلک وفی الآخرة عذاب الله والخزی»

حضور الشهید کردوس الاجتماعی

ولا شکّ أنّ الشهید الکربلائی بوقوفه نیابة عن ربیعة وهی القبیلة العصیّة وصاحبة المنعة لیکشف وبشکل قاطع مدی حضوره الاجتماعی الکبیر بین قومه، بل فی المجتمع ککلّ. فلمّا بلغ معاویة مقالة کردوس لقومه تألّم ألماً شدیداً، لعلمه أنّ ربیعة لها دور کبیر فی القتال، حتی أنّه لینقل عن معاویة قوله: «ما لقیت من أحد ما لقیت من ربیعة» وهنا ینقل التاریخ لنا أبیاتاً من الشعر تکشف عن صلابة هذا الرجل ودوره فی صفّین:

لن یهلک القوم ان تبدی نصیحتهم إلّا شقیقٌ أخو ذهلٍ وکردوس

وابن المعمّر لا تنفکّ خطبته فیها البیان وأمر القوم ملبوس

أمّا حریثٌ فإن الله ضلّله إذ قام معترضاً والمرء کردوس

طأطأ خضینٌ هنا فی فتنةٍ جمحت إنّ ابن وعلة فیها کان محسوس

منّوا علینا ومنّاهم وقال لهم قولاً یهیج له البزل القناعیس

کلّ القبائل قد أدی نصیحته إلّا ربیعة رغم القوم محبوس(1)

ص:159


1- (1) وقعة صفّین لنصر بن مزاحم: ص 468.

وقال شاعر آخر وهو النجاشی:

إنّ الأراقم لا یغشاهم بوسٌ ما دافع الله عن حوباء کردوس

نمته من تغلب الغلبا فوارسها تلک الرؤوس وأبناء المرائیس

لن تدرکوا الدهرَ کردوساً وأسرته أبناء ثعلبة الحادی وذو العیس

ویقول خالد بن المعمر:

شقیقٌ وکردوس ابن سیّد تغلب وقد قام فیها خالد بن المعمّر(1)

2 - وهناک موقف آخر للشهید فی صفّین یکشف عن مدی حبّه للإمام وتمسکه به مهما کانت الظروف، وذلک فی الوقت الذی قام فیه عمرو بن العاص وتکلم وقال: إنّ هذا قد خلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه کما خلعه وأثبت صاحبی معاویة فی الخلافة، فإنّه ولیّ عثمان والطالب بدمه وأحقّ الناس بمقامه، فقال أبو موسی: مالک قد غدرت وفجرت، إنّما مثلک مثل الکلب إن تحمل علیه یلهث أو تترکه یلهث فقال عمرو: إنّما مثلک کمثل الحمار یحمل أسفاراً وحمل شریح بن هانئ علی عمرو فقنّعه بالسوط، وحمل علی شریح ابن عمرو فقنّعه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بینهم فکان شریح یقول: ما ندمت علی شیء ندامتی إلاّ أکون ضربت عمرواً بالسیف بدل السوط ولکن أتی الدهر بما أتی به. والتمس أصحاب علی علیه السلام أبا موسی فرکب ناقته ولحق بمکّة، وکان ابن عباس یقول: قبّح الله أبا موسی، لقد حذّرته وهدیته إلی الرأی فما عقل، یقول نصر: ورجع عمرو إلی منزله فی دومة الجندل فکتب إلی معاویة:

ص:160


1- (1) نفس المصدر.

أتتک الخلافة مزفوفةً هنیئاً مریئاً تقرّ العیونا

فلمّا سمع الشهید کردوس بذلک قام مغضباً وقال أبیات تدلّ علی حرصه علی الإسلام والإمام:

ألا لیت من یرضی من الناس کلّهم بعمرو وعبد الله فی لجّةِ البحر

رضینا بحکم الله لا حکم غیره وبالله ربّاً والنبیّ وبالذکر

وبالأصلع الهادی علیٍّ إمامنا رضینا بذاک الشیخ فی العسر والیسر

رضینا به حیّاً ومیتاً وإنّه إمام هدیً فی الحکم والنهی والأمرِ

فمن قال لا قلنا بلی إنّ أمره لأفضل ما نعطاه فی لیلة القدر

وما لابن هندٍ بیعةٌ فی رقابنا وما بیننا غیر المثقّفةِ السمر

وضربٌ یزیل الهام عن مستقرّه وهیهات هیهات الرضا آخر الدهر

أبت لی أشیاخ الأراقم سبّه أُسبّ بها حتی أُغیّب فی القبر(1)

ویا لها من أبیات عظیمة قد حوت علماً ومعرفة وتجربة وسلوکاً وشجاعة فی أعلی مستویاتها، فهنیئاً للشهید وعیه، فإنّ أمثال هؤلاء هم الذین حفظوا لنا الإسلام ونقلوه الینا صحیحاً معافی، وهؤلاء هم القدوات التی دعینا للاقتداء بهم والسیر علی نهجهم، ولهذا وفِّقه الله إلی أن یکون أحد الشهداء العظام فی معرکة الطفّ العظیمة، وما أحوجنا فی وقتنا هذا إلی أن نعیش الوعی والبصیرة فی مذهبنا ودیننا ونحن نری ونسمع ونقرأ ونلمس الخناجر تتری فی خاصرة الموالین والمسلمین من داخلنا وخارجنا لتسقیط هذا المذهب العظیم وتدمیر الإسلام وتشویه صورته.

ص:161


1- (1) وقعة صفین/ ص 548.

ما أحوجنا إلی أن نکون علی قدر المسؤولیة فنبذل قصاری جهدنا کلٌّ بحسبه؛ العالم بعلمه، والمؤمن بسلوکه، والشابّ بوعیه، والمرأة بالتزامها، وهکذا، ولا نسقط تحت تأثیر شبهات هؤلاء المغرضین الذین یتربّصون بنا وبأمتّنا الدوائر، أولئک الذین یصدق علیهم أنّهم خفافیش الظلام التی لا یمکن أن تعیش فی النور أبداً.

إنّنا فی الوقت الذی نستذکر سیرة هذا الشهید العظیم فی صفّین، إنّما نرید أن نوصل رسالة إلی کلّ المنصفین، بل والغیاری جمیعاً مفادها أنّکم إذا ما أردتم أن تکونوا من المؤمنین، من ذوی البصائر فعلیکم أن تفهموا هذا الشهید وتقرأوه جیّداً، وتعرفوا ما قدّم من أجل نصرة الحقّ حتی تتأسّوا به.

الموقف الثالث: ولنسمع له نصّاً آخر قاله فی صفّین: «یا أهل العراق لا یهدّئنّکم ما ترون من رفع المصاحف فإنّها مکیدة» یقول لهم شخّصوا کما شخصت أنا الموقف بدقّة، وانظروا بعین البصیرة لا البصر، ستجدون أنّها لعبة ومکیدة منهم لأنّهم لا یعرفون من القرآن شیئاً، ولو علموه ووعوه لما قاتلونا وما خالفونا.

مع الشهید فی روایاته

لقد حوت کتب المسلمین الکثیر من الروایات التی نقلها لنا الشهید الکربلائی، وفی علوم شتّی، ممّا یدلّل علی مدی اطّلاعه وحفظه، وهنا نذکر هنا بعض تلک الروایات:

ص:162

أولا: ینقل ابن سعد فی الطبقات(1) عن کردوس التغلبی، عن زوجة رسول الله صلی الله علیه و آله أنّه سمعها قالت: «إنّ آل محمد لم یشبعوا ثلاثة أیّام متوالیة من طعام برّ حتی مضی النبی إلی سبیله». وفی روایة أخری «أنّه کان یأتی علی آل محمد شهر لا نخبز فیه. قلت: یا أمّ المؤمنین، ممّا کان یأکل رسول الله؟ فقالت لنا: إنّما هو التمر والماء».

هکذا کان رسول الله وهکذا کان أهل بیته مثله، لأنّهم أکثر الناس معرفة به واتّباعاً له، کان رسول الله یجعل نفسه یعیش أدنی مستوی یمکن أن یعیشه إنسان مسلم فی مجتمعه، فیواسیه بجوعه وعطشه، ولذلک نجد أنّ النبی قد حمل آلام الناس وآمالها لأنّه عاش معهم وعاش کلّ ما یحسّون ویشعرون به، فکان یتقطّع ألماً علی کلّ فقیر وجائع ومحتاج ومسکین ویتیم، ولقد قال فی حقّ الیتیم:«أنا وکافل الیتیم کهاتین وأشار إلی إبهامه وسبابته»(2). وقد تعلّم أهل بیته ذلک منه، فقد ربّاهم المصطفی علیهما السلام علی هذا ودرجوا علیه، فخرجوا إلی الدین وهم أکثر الناس مواساةً وإحساناً للفقراء والجائعین، کانت العیون تنام وعیونهم ساهرة من أجل أن یوصلوا لقمة العیش لمن لا یملک خبزاً یسدّ به رمقه ورمق أولاده، ولا أراک تحتاج إلی ذکر قصص علی علیه السلام والحسن والحسین وزین العابدین وبقیة الأئمة علیهم السلام فی هذا المجال، والتی ملأت کتب الفریقین فی خروجهم علیهم السلام لیلاً وحمل الأکیاس المملوءة بالطعام إلی فقراء المدینة وغیرهم.

ص:163


1- (1) ابن سعد فی الطبقات: ص 183.
2- (2) صحیح مسلم: ج 14 ص 247.

فهذه الروایة من الشهید الکربلائی تحملنا مسؤولیة الشعور بالآخرین، وان لا نغمض جفوننا وحولنا أکباد جائعة تحنّ إلی لقمة من الخبز، وکذلک تحمّل المسؤولیة الکبری قائد الأمة وتدعوه إلی أن یعیش أحوال الفقیر وآلامه؛ حینما ینظر الیه یشعر بالألم والحسرة، یستشعر الفقیر أنّ هناک من یواسیه ویبذل الکثیر من أجله، ولقد قال علی علیه السلام کلمته الرائعة حینما سأله الأحنف بن قیس حینما رآه قد ختم الکیس الذی فیه کسیرات من خبز الشعیر: لم تختمه یا أمیر المؤمنین؟ قال: «أخشی أن یضع علیه أحد هذین الغلامین الحسن والحسین شیئاً من السمن فقال: سیدی، أمحرّم علیکم هذا؟ قال: لا، ولکن هکذا ینبغی علی أئمّة المسلمین أن یساووا ضعاف رعیّتهم حتی لا یتبیّغ بالفقیر فقره».(1)

ثانیاً: ینقل الدارمی فی سننه(2) قائلاً: أخبرنا یزید بن هارون، حدّثنا شعیب عن کردوس عن عبد الله قال: «إنّ للقلوب لنشاطاً وإقبالاً، وإنّ لها لتولیة وإدباراً، فحدّثوا الناس ما أقبلوا علیکم».

هذه الروایة التی رواها لنا الشهید الکربلائی، عن صحابی مثله وعی مفاهیم الشریعة، وهضم أحادیث رسول الله، فأخذت تخرج من فمه کالدرر والجواهر، ففی الحدیث قاعدة تربویة عظیمة المعانی والآثار فی مجال التعلیم والوعظ والإرشاد، حیث تشیر إلی أنّ هذه القلوب التی تحملها تعیش إقبالاً علی الله وتوجّها الیه، فتحصل نتیجة لذلک حالة نشاط وحیویة یعیشها ویشعر بها الإنسان،

ص:164


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید: ج 11 ص 32.
2- (2) سنن الدارمی: ص 448.

فینطلق من خلالها للعبادة وللقراءة وطلب العلم، بل وحتی للوعظ وللإرشاد، وللتبلیغ عن الله ورسوله؛ وقد تعیش القلوب حالة من حالات الإدبار والتولّی، ویحصل نتیجة لها ضعف فی النشاط الحیوی للإنسان، فتراه یفتر فی عبادته وعلمه ووعظه وتبلیغه ودعوته إلی الله سبحانه وتعالی.

وهنا لابدّ من الإشارة إلی أنّ حالات الإدبار والتولیة التی تعیشها قلوبنا أحیاناً، إنّما هی من أجل تنبیهنا إلی نعمة وسعادة التوجّه والإقبال وأهمّیته، والتی مرّت بنا ولم نعرف قدرها لأنّ السعادة لا تعرف إلاّ إذا فُقدت فتأتی الحکمة الإلهیة التی ترید أن تعرّفنا حلاوة التوجّه ولذة الإقبال من خلال فقدانها أحیاناً، وکلنا یشعر بوجدانه أنّه کلّما کان إقبال قلبه أکثر، کان نشاطه الروحی أکثر.

وهنا تأتی القاعدة التربویة التی تقول: إنّک ینبغی علیک أنّ تستغلّ هذه الفرصة وهذا الإقبال فی نفسک فتستفید منها استماعاً وإلقاءً، واذا حصل أن صار العکس، فعلیک أن لا تکلّف نفسک أکثر ممّا تتحمّل، ولکن اصبر حتی تزول ثمّ عد إلی حرکتک من جدید، لتجعل منها وقت راحة لتستعدّ للحرکة القادمة.

وهذا ما یحتاجه الداعی والمربّی فی حرکته، ویفیدنا هذا الحدیث کذلک أنّ المربّی والداعی الذی یجد إقبال الناس علیه، هنا یأتی فیقول له علیک أن تستثمر هذا الإقبال بأن تقبل علیهم وتحدّثهم ولا تترکهم، وتقدّم لهم ما یعود علیهم بالفائدة فی دینهم ودنیاهم، وإذا رأیتهم أدبروا فأوقف کلّ شیء حتی تعالج نقاط الضعف التی رأوها فیک، والشهید الکربلائی حینما یروی لنا هذا الحدیث فإنّما یکشف لنا عن نفائس العلوم والنظریات فی شتّی المجالات، والتی

ص:165

تحتاج منّا إلی بذل الجهد والوقت لاستخراجها والتزوّد منها.

ثالثاً: روی الشیخ الصدوق وابن حجر(1) ، عن کردوس، أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: «من أحیا لیلتی العید ولیلة النصف من شعبان لم یمت قلبه یوم تموت القلوب» وهذا الحدیث ورد فی کتب الفریقین فی فضل لیلة النصف من شعبان، وکذلک لیلتی العید، بل ورد فی الروایة عن الإمام الصادق علیه السلام:

«إنّ علیاً کان یعجبه أن یفرّغ نفسه أربع لیال من السنة؛ أول لیلة من رجب، ولیلة النحر، ولیلة الفطر، ولیلة النصف من شعبان» (2).

فقد أشارت بعض الروایات إلی أنّ فی لیلتی العید وصبیحتیهما تتمّ عملیة قطف الثمرات وأخذ الجوائز، بعد العمل الشاقّ الذی قدّمه المؤمنون فی صیام شهر رمضان وفی أداء مراسیم الحجّ وأعماله، حتی ورد فی الروایات عن سعید بن أوس الأنصاری عن أبیه: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«اذا کان یوم الفطر وقفت الملائکة علی أبواب الطریق فنادوا اغدوا یا معشر المسلمین إلی ربٍّ کریمٍ یمنّ بالخیر ثمّ یثیب علیه الجزیل، لقد أُمرتم بقیام اللیل فقمتم، وأمرتم بصیام النهار فصمتم، وأطعتم ربّکم، فاقبضوا جوائزکم، فإذا صلوا نادی منادٍ ألا إنّ ربّکم قد غفر لکم فارجعوا راشدین إلی رحالکم، فهو یوم الجائزة، ویسمی ذلک الیوم فی السماء یوم الجائزة» (3).

ص:166


1- (1) ثواب الأعمال: ص 77، الاصابة: ج 5 ص 580.
2- (2) فضائل الأشهر الثلاثة، للشیخ الصدوق: ص 46.
3- (3) المعجم الکبیر للطبرانی: ج 1 ص 226.

ومن هنا نعرف أنّ إحیاء هاتین اللیلتین إنّما هو إشارة إلی أنه ینبغی للانسان المؤمن أن یعیش حالة الترقّب لما سوف یؤول الیه أمره عند الله، فهل یکون من أصحاب الیمین وممّن ستکون جائزته الجنّة والعتق من النار أم لا؟ وهذا بحدّ ذاته یدعو الإنسان إلی أن یعود إلی الله ویلتمس منه غفران الذنوب التی لم تغفر، والتجاوز عن التقصیر الذی مضی، هذا کلّه فی خصوص هاتین اللیلتین، وأما لیلة النصف من شعبان، فقد ورد فی بعض الروایات أنّ التقدیر للإنسان من رزق وأجل وعطاء وما شاکل ذلک، کلّه یکتب له ویقدّر من خلال لیة النصف من شعبان، وأمّا فی لیلة القدر فیکون فیها الإمضاء(1) ، وهذا إن دلّ علی شیء فإنّما یدلّ علی فضل هذه اللیلة وارتباط مصیر کلّ فرد منا فیها بشکل کامل، ومن ثم لا ینبغی التهاون فیها وعدم الاهتمام بها، وعلیه فینبغی علی کلّ فرد منّا أن یستثمر کلّ ساعة فیها، بل وکلّ دقیقة، من أجل تقدیم الأفضل، من أعمال عبادیة وإخلاص وتوجّه، حتی یکون ذلک ذخیرة صالحة له؛ للتقدیر الذی یتناسب معها، ومثل هذا الأمر لا یتمّ إلاّ من خلال إحیائها ومن هنا یتّضح أهمّیة الحدیث الذی ورد عن الشهید الکربلائی فی التأکید علیها کما تقدّم.

رابعاً: روی ابن کثیر فی تفسیره(2) عند تفسیر قوله تعالی:

«وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِینَ یَخافُونَ أَنْ یُحْشَرُوا إِلی رَبِّهِمْ لَیْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِیٌّ وَ لا شَفِیعٌ 3» .

ص:167


1- (1) وللمزید یراجع کتاب إقبال الأعمال، للسیّد ابن طاووس الحسینی: ج 3 ص 422.
2- (2) تفسیر ابن کثیر: ص 51.

عن الشهید الکربلائی، عن ابن مسعود قوله: مرّ الملأ من قریش علی رسول الله وعنده خبّاب وصهیب وبلال وعمّار فقالوا: یا محمد، أرضیت بهؤلاء؟ أهؤلاء الذین منّ الله علیهم من بیننا؟ أنحن نصیر معک تبعاً لهؤلاء؟ أطردهم فلعلّک إن طردتهم أن نتّبعک، فنزل قوله تعالی:

«وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِینَ یَخافُونَ أَنْ یُحْشَرُوا إِلی رَبِّهِمْ لَیْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِیٌّ وَ لا شَفِیعٌ» .

وورد فی روایة أخری، عن الشهید، عن ابن مسعود قوله: فنزلت:

«وَ لا تَطْرُدِ الَّذِینَ یَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجْهَهُ»

(1).

هکذا ینقل الینا الشهید الکربلائی کیف عانی رسول الله من قومه، کیف أرادوا له أن یترک الفقراء والمساکین ویتوجّه الیهم فقط لأنّهم أصحاب الأموال والجاه والحظوة ولکنّه أبی إلاّ أن یبقی معهم ویثبت من أجلهم، وباعتقادی أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله لو سمع قولهم وطرد تلک الثلّة المؤمنة واتّجه إلی أصحاب الغنی والأموال، لما کانت عقیدته لتأخذ کلّ هذا المدی وتعطی کلّ هذا الأثر.

ویبدو أنّ هذا هو المنهج نفسه الذی قد اتّبعته الأقوام السابقة مع أنبیائها، حیث ینبّئنا القرآن بخبرهم ویقول عن لسانهم:

«وَ ما نَراکَ اتَّبَعَکَ إِلاَّ الَّذِینَ هُمْ أَراذِلُنا بادِیَ الرَّأْیِ 2» .

وهذا دلیل علی أنّ الأنبیاء ما کانوا لیتّبعهم سوی من عاش الألم والمعاناة

ص:168


1- (1) سورة الأنعام، الآیة: 52.

فی حیاته، وأمّا المترفون فکانوا یقفون بوجوههم، لخوفهم علی جاههم وسلطانهم الفارغ من کلّ محتوی إنسانی؛ یقول القرآن الکریم:

«وَ ما أَرْسَلْنا فِی قَرْیَةٍ مِنْ نَذِیرٍ إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ کافِرُونَ 1» .

وکأنّ الحدیث الذی رواه لنا الشهید الکربلائی یرید أن یقول لنا جمیعاً: لا تستوحشوا من قلّة أتباع الحقّ ولا تحتقروهم، فهم الذخیرة الحقیقیة فی السماء والأرض، وهم اللبنة الأساسیة لتغییر المجتمعات، وأمّا غیرهم فزَبَدٌ لا قیمة له.

خامساً: روی الشهید الکربلائی قال: أخبرنی رجل من أهل بدر أنّه سمع النبی صلی الله علیه و آله یقول: «لئن أقعد فی مثل هذا المجلس أحبّ إلیّ من أن أعتق أربع رقاب» قال شعبة: أیّ مجلس تعنی؟ قال: کان قاصّاً(1).

الشهید خطیباً وواعظاً

لقد ذکر کل من ترجم لهذا الشهید وتحدّث عنه أنّه کان قاصّاً فی الکوفة، ومعنی ذلک أنّه کان واعظاً وخطیباً، ولا ریب أنّ من یتصدّی للوعظ والإرشاد واعظا به فی مسجد الکوفة، أو الکوفة بشکل عامّ، لابدّ أنّه قد امتلک من الخصائص النفسیة والعلمیة والثقافیة ما یؤهّله لأن یقوم بهذا النشاط الاجتماعی الکبیر، فضلاً عن التزامه وورعه وتقواه، وقد عبّرت عنه الروایات بأنّه کان یقرأ الکتب (یعنی للأدیان السابقة) علی أساس أنّه کان بالأصل مسیحیاً مثقّفاً، ثمّ

ص:169


1- (2) مسند أحمد: ج 3 ح 15335.

تحوّل إلی الإسلام، وبقی علی طریقته فی طلب العلم ونشره، حیث تحوّل بعد دخوله الإسلام إلی منبر لنشر العلوم الإسلامیة والأخلاقیة.

سادساً: روی الشهید الکربلائی عن رسول الله صلی الله علیه و آله قوله: «لا یقتطع رجل مالاً إلاّ لقی الله یوم القیامة وهو أجذم»(1) ، وهذه الروایة تشیر إلی حرمة الأموال وخطرها فی نفس الوقت، حیث إنّ اقتطاع جزء بسیط من مال الآخرین یعنی إنّک ستلقی الله أجذم، یعنی أنّ هناک جزءاً من جسمک وجسدک سیقطع عوضاً عن ذلک المال الذی اقتطعته من أخیک بلا وجه حقّ، ولقد وردت فی هذا الحدیث قصّة ذکرها المؤرخون قال المزی فی تهذیب الکمال «حدثنا کردوس التغلبی عن الأشعث بن قیس الکندی، وهی أنّ رجلاً من کندة ورجلاً من حضرموت اختصما إلی النبی فی أرضٍ بالیمن، فقال الحضرمی: یا رسول الله، أرضی اغتصبها أبو هذا (وهو یشیر إلی الکندی) فقال للکندی: ما تقول؟ قال: أقول: إنّ أرضی فی یدی ورثتها من أبی. فقال للحضرمی: هل لک بیّنة؟ قال: لا، ولکن یحلف بالذی لا إله إلاّ هو، ما یعلم أنّها أرضی اغتصبها أبوه، فتهیّأ الکندی للحلف، عندها قال رسول الله صلی الله علیه و آله: "لا یقتطع الرجل مالاً إلاّ لقی الله به أجذم" فردّها الکندی»(2). وممّا یستفاد من الحدیث أنّ البیّنة علی المدّعی، والیمین علی المدّعی علیه اذا أنکر.

وبه استدلّ من یقول إنّه اذا اعترف المدّعی أنّه لا بیّنة له لم یقبل دعواه بعد

ص:170


1- (1) المزی فی تهذیب الکمال: ص 1021.
2- (2) تهذیب الکمال للمزی: ص 1021.

ذلک، ورد بأنّه لیس فیه حجّة علی ذلک، لأنّ الأشعث لم یدّع بعد ذلک أنّ له بیّنة، وفیه - أی وفی الحدیث -: أنّ للحاکم أن یطلب من المدّعی علیه عند عدم البیّنة وإن لم یطلبه صاحب الحقّ، لأنّ النبی صلی الله علیه و آله أمره بالحلف، وفیه کذلک: إبطال مسألة الظفر، لأنّه ردّده بین البیّنة والیمین، فدلّ علی عدم الأخذ بغیر ذلک.(1)

سابعاً: روی الشهید الکربلائی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «یوم عرفة الیوم الذی یعرف فیه الناس»(2).

یوم عرفة هو الیوم التاسع من شهر ذی الحجّة، وهو یوم الوقوف بأرض عرفات، وهو أحد مناسک الحجّ، وللإنسان أن یقول عرفة، کما له أن یقول عرفات، لأنّها جمع عرفة.

وقد أُختلف فی تسمیته إلی أقوال، منها: أنّه من العرف بمعنی الرائحة الزکیة، لأنّ فیها تصبح رائحتها منتشرة بشکل کبیر لکثرة الذبح.

ومنها أنّ العباد یتعرّفون علی ربّهم بالطاعات والعبادات.

ومنها الصبر، لأن العِرْف المعروف هو الصبر.

ومنها أنّ الله بعث جبرئیل علیه السلام إلی إبراهیم علیه السلام فحجّ به حتی اذا أتی عرفة قال: عرفت، وکان قد أتاها مرّة قبل ذلک. ومنها أنّ آدم وحواء تعارفا بعد الهبوط إلی الأرض علیه.

ومنها قول الشهید الکربلائی؛ «لأنّ الناس یجتمعون به فیتعارفون، وفی

ص:171


1- (1) عمدة القاری فی شرح صحیح البخاری، باب الخصومة فی البئر والبقاء فیها.
2- (2) تهذیب الکمال للمزی: ص 1144.

الروایة عن أهل البیت علیهم السلام أنّ جبرئیل قال لإبراهیم علیه السلام: هناک اعترف بذنبک واعرف مناسکک، فلذلک سمّیت عرفة».(1)

أبناء الشهید

لم تحدّثنا الروایات عن عدد أبناء الشهید، ولکنّهم ذکروا بأنّ للشهید ولداً کبیراً اسمه داود، ویبدو أنّه کان من الشخصیّات المهمة والعلمیة فی حیاة أبیه، ولقد ترجم له جملة من العلماء والمحدّثین، حتی أنّهم یروون أنّه قال: کنت أنا

الوسیط فی الصلح الذی جری بین الخلیفة الثانی عمر وبین بنی تغلب (قبیلة الشهید الکربلائی) حینما أرادوا أن یلحقوا بالروم.(2)

شهادته

لقد بقی الشهید بعد رسول الله یعیش علی مضض، وهو یری بأمّ عینیه کیف یُغتصب حقّ أصحاب الحقّ الإلهی، ومن وصّی بهم رسول الله ویُبعدون عن أماکنهم التی وضعهم الله بها. ولیس هذا فقط وإنّما تجهّز الناس من أجل القضاء علیهم، حتی وصل الأمر إلی سیّد الشهداء فأصبحت الدنیا لا تساوی عنده شیئاً إذ قد بلیت الأمة براعٍ مثل یزید.

ولئن أحجم التاریخ عن ذکر مواقف کردوس وحرکته فی داخل الکوفة مع مسلم بن عقیل وهانئ بن عروة وغیرهما، فإنّ الأحداث والمواقف التی حملها لنا التاریخ عن الرجل فی موقفه مع الحسین علیه السلام فی الطفّ، لا تدع لنا مجالاً

ص:172


1- (1) من لا یحضره الفقیه: ج 2 ص 196.
2- (2) رواه البیهقی: ج 9 ص 211 ح 11519.

للشکّ فی أنّ الشهید کانت له بطولات رائعة وصولات عظیمة، ولکنّ التاریخ قد أسدل الستار علیها، ولقد بقی الشهید فی داخل الکوفة متخفّیاً عن أعین الظالمین، مطارداً من مکان إلی مکان، إلی أن وصل الحسین إلی کربلاء، فتسلّل الیه لیلاً ومعه أخواه قاسط وعبد الله، ولم یلبثوا حتی تقدّموا بین یدیه، واذا بهم شهداء مضرّجین بالدماء فی الحملة الأولی، ولئن کانت الشهادة بین یدی الحسین شرفاً فلقد حاز هؤلاء الشهداء علی شرف مضاعف حینما جاءهم التسلیم من قبل الإمام المهدی فی زیارته للشهداء قائلاً: «السلام علی قاسط وکردوس ابنی زهیر التغلبی ورحمة الله وبرکاته».

ص:173

الشهید بشر بن عمرو الحضرمی الکندی علیه السلام

اشارة

لقد تمیّزت حیاة هذا الشهید العظیم بجملة من الخصائص نحن بأمسّ الحاجة الیها خصوصاً فی هذا الزمن الذی کثرت فیه الأعذار الزائفة والحجج الواهیة التی ما أنزل الله بها من سلطان، والتی یراد من خلالها التخلّی عن التکلیف الشرعی، کما سیتبیّن ذلک لنا فی طیّات حدیثنا عن الشهید.

واحدة من هذه الخصائص التی تمیّز بها هذا الشهید الکربلائی دون غیره، هو أنّه بقی هو وسوید بن عمرو بن أبی المطاع الخثعمی آخر رجلین مع الحسین، من أصحابه، قبل أن یبدأ أهل البیت علیهم السلام بالبراز والقتال کما ذکر ذلک الطبری(1) ، والشیخ شمس الدین(2) ، والسید الخوئی(3) ، وغیرهم.

ص:174


1- (1) تاریخ الطبری: ج 5 ص 432.
2- (2) أنصار الحسین للشیخ شمس الدین: ص 77.
3- (3) معجم رجال الحدیث: ج 3 ص 314.

أسرة الشهید

الشهید بشر بن عمرو الحضرمی الکندی یرجع فی الأصل إلی حضرموت، وهذا یعنی أنه من الیمن، ومن عرب الجنوب تحدیداً، وسوف نری ونحن نتحدّث عن شهداء کربلاء أنّ هناک عدداً کبیراً منهم یرجع أصله إلی الیمن وإلی عرب الجنوب بشکل خاصّ، حتی لقد شکّلت هذه الظاهرة والتی یمکن أن نعبّر عنها بالظاهرة الیمنیة فی أنصار الحسین أمراً یستحقّ أن یدرس وأن یسلّط علیه الضوء، لأنّ فی ذلک إبرازاً وبیاناً لمعادن هذه الصفوة من المؤمنین، وکشف ما تمتلک من قدرات وقابلیّات أخلاقیة ووراثیة کانت من جملة أسباب التوفیق ونیل السعادة فی الدارین، ولذلک نحاول أن نسلّط الأضواء وبشکل سریع علی هذه الظاهرة الیمنیة فی أنصار الحسین.

عرب الجنوب وعرب الشمال

وفی البدایة یجب أن نعرف أنّ مصطلح عرب الجنوب یقابله مصطلح عرب الشمال، وکلاهما یرجع إلی الیمن ولکنّ عرب الجنوب تمیّزوا عن الآخرین بأنّهم:

أولاً: هم أصل اللغة العربیة بل هم لبابها، کما یؤکّد علی ذلک علماء اللغة واصحاب الاختصاص، حیث یذکرون أنّ العرب ینقسمون إلی قسمین أساسیّین:

1. العرب العاربة، وهم عرب الجنوب، وینسبون إلی قحطان، وموطنهم الأصلی هو الیمن، وهؤلاء کانوا یتکلّمون اللغة العربیة بالأصل.

2. العرب المستعربة، وهم عرب الشمال، ویعبّر عنهم بعدّة تعابیر مثل:

ص:175

العدنانیون، والنزاریون، والمعدیون، وینسبون إلی عدنان.(1)

ثانیاً: إنّ عرب الیمن حینما دخلوا إلی الإسلام، وخصوصاً عرب الجنوب منهم، بعد أن دعاهم علی بن أبی طالب إلی الإسلام ودخلوا فیه، وقفوا إلی جانبه ولم یفارقوه، کهمدان والأزد وغیرهم، وکانت مواقفهم معه بمنتهی الشهامة حتی أنّ الإمام أمیر المؤمنین مدحهم فی أکثر من موقف، وخصوصاً همدان حینما قال فیهم:

دعوتُ فلبّانی مِنَ القومِ عُصْبَةٌ فوارسُ مِن همدانَ غیرُ لِئامِ

لِهمدانَ أخلاٌ کِرامٌ تَزینُهُمْ وبأسٌ إذا لاقوا وحَدُّ خِصامِ

وجِدٌّ وصِدقٌ فی الحروبِ ونَجْدَةٌ وقولٌ إذا قالوا بغیرِ أثامِ

متی تأتِهِمْ فی دارِهم تَستضیفُهمْ تَبِتْ ناعِماً فی خِدمةٍ وطَعامِ

جَزَی اللهُ همدانَ الجِنانَ فإنّها سُمامُ العِدی فی کلِّ یومِ زُحامِ

فلو کنتُ بوّاباً علی باب جنّةٍ لقلتُ لهمدانَ ادخلوا بسلامِ (2)

فکأنّها أرادت من خلال مواقفها المبدئیة مع علی علیه السلام أن تردّ له هذا الجمیل الذی صارت هی بسببه فی زمرة المسلمین، ومن هنا نجد التفانی فی أعلی درجاته فی الیمنیین بشکل عامّ، وخصوصاً عرب الجنوب منهم، وربّما هذا هو الذی یفسّر لنا معنی تلک النصائح التی أسداها عبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفیة للحسین حینما أراد الخروج من المدینة إلی العراق، بالذهاب إلی الیمن،

ص:176


1- (1) للمزید یراجع کتاب تاریخ العرب فی الجاهلیة وفی عصر الدعوة الاسلامیة د. رشیدة الجمیلی: ص 38.
2- (2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 5 / ص 217.

وعلِّل ذلک کما عند بعض العلماء، لبعد الیمن، ولوجود شیعة وموالین له ولأبیه، کما فی مقتل الحسین للخوارزمی(1) ، ومروج الذهب للمسعودی(2) ، وربما هذا هو الذی یفسّر لنا کذلک ما ورد فی بعض الروایات من أنّ أحد أرکان ثورة الإصلاح العالمی الذین یظهرون فی آخر الزمان ویکونون مع الإمام المهدی هو الیمانی، بمعنی أنّه سیکون کذلک من تلک المنطقة بالذات، ومن هنا نجد أنّ مؤشّرات مشارکة هؤلاء دون غیرهم واضحة جلیة للعیان، بل إنّ هذه الظاهرة الیمنیة تجسّدت بعد کربلاء کذلک، حینما خرجت نساء همدان وکهلان وربیعة والنخع (عرب الجنوب) متظاهرات علی تنصیب عمر بن سعد والیاً علی الکوفة بعد مقتل الحسین علیه السلام، وهنّ یقلن: «أما رضی بعمر بن سعد بقتل الحسین حتی أراد أن یکون أمیراً علینا فی الکوفة، فبکی الناس وأعرضوا عن عمر بن سعد»(3).

وکانت هذه الظاهرة الیمنیة هی السبب فی عدم تولّی ابن سعد إمارة الکوفة.

وقد یقول قائل

وقد یقول قائل وما معنی ذلک کلّه ولم یشارک من عرب الجنوب العدد الکافی والذی یتناسب مع کلّ ما یذکر من مواقف وکلمات؟

فی الحقیقة إنّ هذا السؤال مهمّ للغایة، وقد أرّقتنی الإجابة علیه، ولکن وبعد

ص:177


1- (1) مقتل الحسین للخوارزمی: ج 1 ص 187.
2- (2) مروج الذهب للمسعودی: ج 3 ص 64.
3- (3) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 199.

بذل الجهد الذی استمرّ لفترة لیست بالیسیرة، وصلت إلی قناعة من خلال النصوص والوثائق إلی أنّ هؤلاء کانوا من سادات القوم ورؤساء العشائر، ولهذا کانوا قادرین علی السیطرة علی الموقف لو قدر للثورة أن تنتصر، وتمکنوا من الاستیلاء علی الحکم، وکانوا قادرین إذا لم یتح لهم النصر - کما حدث فی الواقع - أن یفجّروا طوفاناً من الغضب ضدّ الحکم المنحرف فی قلوب جماهیر غفیرة من الناس، وأن یضعوهم علی طریق الوعی الحقیقی، وأن یجعلوا منهم جمهوراً یغذّی الثورات باستمرار، وهذا ما حدث فی الواقع»(1). وربما کان لأجل ذلک کلّه أن حصلت ردّة فعل عند السلطة الأمویة آنذاک کبیرة جداً، ربما وصلت إلی درجة الهستیریا فی التعامل مع هؤلاء الثوّار، حیث قطع رأس مسلم بن عقیل ورمی بجسده إلی الأرض، وجرّ هانی بن عروة فی الأسواق، ورمی بجسد عبد الله بن یقطر من أعلی القصر، وهکذا قیس بن مسهر الصیداوی، بل حتی قطع الرؤوس الشریفة لشهداء کربلاء وحملها علی أطراف الأسنّة والدخول بها وهی معلّقة علیها إلی المدن، وأولها الکوفة، إنّما کان لأجل إدخال الرعب علی قلوب الکوفیّین الذین یرتبطون مع هؤلاء بصلة قبلیة وعشائریة وإیمانیة من أن یتّخذوا نفس الموقف لأنّ النتائج سوف تکون کهذه النتائج؛ رؤوس معلقة علی الرماح، وأجساد ترضّها الخیول. ومن هنا نعرف لماذا کان أکثر فی أنصار الحسین من عرب الجنوب وإن کان فیهم عدداً من عرب الشمال، ولکنّ الأغلب کانوا من عرب الجنوب، ومنهم هذا الشهید الذی نتحدّث عنه.

ص:178


1- (1) نفس المصدر: ص 202.

نسب الشهید حضرمی أم کندی

وأمّا نسبة الکندی له فإنّ المؤرّخین یقولون إنّ عداده فی کندة، یعنی أنّه فی الأصل لیس من کندة، ولکنّه جاء والتحق بها فعُدّ منها، وطبیعی أنّ کلّ قبیلة لا ترضی أن یدخل إلیها غریب ویحسب منها إلاّ من خلال شروط وأسباب یذکرون منها مثلاً التحالف، بأن یحصل بینها وبین الشخص الذی یرغب فی الدخول إلیها تحالف، مثل ما حصل للمقداد بن الأسود الکندی، فمع أنّه لیس من کندة ولکنّه عُدّ منها، نتیجة تحالف حصل فیما بینه وبینهم(1). وقد ینتقل شخص من مکان إلی مکان آخر ویعیش مع قبیلة أخری، ولکونه شخصیة علمیة أو اجتماعیة کبیرة فلا تمانع القبیلة فی ذلک، ومن ثم ینسب الیها، وهناک أسباب أخری ربّما یطول شرحها.

وغرضنا من ذلک کلّه ان نقول إنّ الشهید الکربلائی لم یکن من کندة، وإنّما عُدّ منها، وإلّا فهو من حضرموت؛ إمّا هی المدینة التی عرفت واشتهرت فی الیمن، وإمّا من بنی حضرموت، فخذ من الظبی من یافع إحدی قبائل الیمن(2) وعلی کلا التقدیرین فإنّ الرجل یُعدّ من عرب الجنوب کما بیّنا.

نقطة مضیئة

فی حیاة هذا الشهید الکربلائی العظیم جملة من النقاط المهمة التی تمثّل إضاءات یستضیء بها المؤمنون، ولکن هناک نقطة مهمة جداً فی حیاته، والتی لها

ص:179


1- (1) الصحابی المقداد بن الأسود لمحمد علی أسیر: ص 15-28.
2- (2) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 78.

آثارها الکبیرة علی حیاتنا لما تحمل من مضامین عالیة وقیم سامیة ودروس فی المحبّة والعشق لله ولرسوله ولأئمة أهل البیت علیهم السلام، حیث أتیح لهذا الشهید الکربلائی أن یغادر کربلاء بعذر مقبول من قبل الإمام الحسین علیه السلام ولکنّه أبی إلاّ المشارکة والشهادة بین یدی الحسین، فما هذا العذر وما قصّة ما حدث؟

یقول المؤرّخون(1): عندما أقبل لیل العاشر من المحرّم، وبعد سقوط قرص الشمس، جاء أحدهم برسالة إلی بشر بن عمرو الحضرمی بعد ان سأل عنه، فقال له: لقد أُسر ابنک فی ثغر الریّ وهو یجاهد مع المسلمین هناک من أجل دحر الفرس الذین کانوا یحاولون منذ أن فتحت الری سنة 17 للهجرة(2) أن یغزوها بین الفینة والأخری، وعلیه فیجب أن تتصرّف فقد أوصلنا الیک الخبر، وعند ما سمع الشهید الکربلائی ذلک لم یشأ أن یخبر أحداً، ولکن یبدو أنّ الخبر وصل إلی الحسین علیه السلام فاستدعی الشهید وقال له کما فی تنقیح المقال:«بلغنی أنّ ولدک أسر فی ثغر الری، فقال: سیّدی عند الله أحتسبه ونفسی، ما کنت لأحبّ ان یؤسر ولدی وأن أبقی بعده حیّاً، فقال له الحسین: رحمک الله، أنت فی حلٍّ من بیعتی، فاعمل فی فکاک رقبة ابنک. وقَدّم الیه الحسین خمسة أثواب وبرود قیمتها ألف دینار، فقال له: سیدی أبا عبد الله، أکلتنی السباع إن أنا فارقتک واسأل عنک الرکبان مع قلّة الأعوان، لا یکون ذلک ابدا ً»(3).

ص:180


1- (1) منهم السیّد ابن طاووس فی اللهوف: ص 93 (بتصرف)؛ تنقیح المقال: ج 12 ص 293-294.
2- (2) الکامل لابن الأثیر/ج 2 / أحداث سنة 21 ه -، وقد ذکر فیها أقوالاً منها أنّ الفتح حصل سنة 18 ه - و 19 ه -..
3- (3) تنقیح المقال/ ج 2 / ص 173.

ولنا إزاء هذا الموقف العظیم جملة من النقاط:

أولاً: إنّ الحسین علیه السلام قدّمَ إلی الشهید الکربلائی قیمة الفداء أو ما یصلح أن یکون مساعداً له فی مهمّته، وذلک لعلم الحسین أنّ الحکومة والدولة آنذاک متمثّلة بیزید وبنی أمیة، لا تهتمّ بقضایا المسلمین المهمة، نعم هی مهتمّة بقضایا أخری کالفسق والفجور والمجون واللیالی الحمراء، وملاعبة القرود والفهود التی کان خلیفة المسلمین یزید بن معاویة مولعاً بتربیتها واللعب بها، هذه هی اهتمامات الدولة.

أمّا ما یعود بالخیر علی المسلمین ویقوّی شوکتهم ویرفع من معنویاتهم، کفکّ أسیرهم، فهو آخر ما یمکن أن یفکّروا فیه، وبعبارة أخری أنّ الدولة لا تشعر بالمسؤولیة أمام مواطنیها، فیما یعود علیهم بالخیر ودفع الضرّ، لعدم صلاحیتها لذلک أصلاً، ولهذا قام الحسین بذلک، أو دعا إلیه، وهذا بنفسه کاشف عن عدم شرعیة هذه الدولة.

وإن کان بعضهم یحاول أن یحمل عمل الإمام فی تقدیم المال إلی الشهید الکربلائی علی أنّ هناک مفهوماً عرفیاً یساعد علی هذا الاحتمال، وهو أنّ الأسرة أو القبیلة أو العشیرة أو حتی الأصدقاء، یمکن أن یقدّموا عوناً للأسیر فی إطلاق سراحه، وأنا أعتقد أنّ هذا الاحتمال وإن کان مقبولاً، ولکن الاحتمال الأول یبقی هو السبب الأقوی فی تقدیم المال من قبل الإمام إلیه.

ثانیاً: ان توقیت الإذن بالانصراف من قبل الحسین علیه السلام جاء، کما تؤکّد علی ذلک الروایات، غروب یوم التاسع من المحرّم (لیلة العاشر) وهذا یعنی الکثیر

ص:181

بالنسبة إلی الشهید الکربلائی، حیث إنّ کلّ المؤشّرات تدلّل علی أنّ طبول الحرب قد دقّت، وأنّها صارت قاب قوسین أو أدنی، والدلیل علی ذلک أنّ الحسین علیه السلام طلب تأجیل الحرب من یوم التاسع من المحرّم إلی یوم العاشر منه، وأن یُمهل تلک اللیلة من أجل العبادة وقراءة القرآن والاستعداد للقاء الله تعالی. ومن هنا، ومن هذه النقطة بالذات، یستطیع الشهید الکربلائی أن یغادر کربلاء بعذر مشروع، بعد أن تأکّد للجمیع أنّه موطّن نفسه علی الشهادة، حیث أنّ الشهید قد بقی إلی جانب الحسین بعد إعلان الحرب وتأکُّدها، ومضی علی ذلک وقت لیس بالقلیل، فکان باستطاعته الخروج من کربلاء دون أن یشکّ أحد بأنّه جَبُن أو آثر الحیاة الدنیا أو شیء من هذا القبیل.

وأنا علی یقین بأنّ الحسین علیه السلام کان جادّاً فی إعطائه هذا الإذن وتقدیم هذه الرخصة له، ولیس کما یقول بعضهم بأنّه کان یرید اختباره وبیان حقیقة ما یفکّر فیه وینوی فعله، لأنّ قول الإمام حجّة تبیح له عذراً شرعیاً - وهو الأهمّ - یجیز له الخروج من کربلاء، ولکنّه أبی إلاّ ترک هذه الرخصة وهذا الإذن، وأبی إلاّ الجهاد والشهادة بین یدی أبی عبد الله الحسین، وکأنّی بلسان حاله یقول: اذا کان لی أن أخرج من کربلاء برخصة شرعیة وبدون ملامة عرفیة، فإنّی سأخسر خیراً لا یقاس به کلّ خیر، ولا یمکن أن أحصل علیه بعد الیوم مهما عشت؛ سأخسر شهادة دعا رسول الله صلی الله علیه و آله قبل أکثر من 60 سنة إلی الاستعداد لها، ومن ثم فإنّی وفق هذه المقاییس ینبغی أن أقدّم کلّ هذه الامتیازات التی سوف أحصل علیها علی هذا الإذن وهذه الرخصة.

ص:182

وهذه فی تقدیری خصلة مهمة وأساسیة یتمیّز بها هذا الشهید العظیم تستحق التأمّل، وسیأتینا فی بقیة الشهداء أنّ هناک شهیداً آخر کان له عذر شرعی ولکنّه أبی إلاّ الشهادة والجهاد والدفاع عن الحسین علیه السلام، فنحن نقرأ فی تاریخ الطفّ أنّ هناک الشیخ الکبیر الذی سقط عنه التکلیف بالجهاد، الذی حینما رآه الحسین شادّاً بطنه بقطعة قماش ورافعاً حاجبیه بعصابة بکی وقال: رحمک الله یا شیخ(1) ، ونقرأ کذلک فی کربلاء أنّ هناک الصبی الذی لم یبلغ الحلم، وکان التکلیف ساقطاً عن أمثاله، وقد قال له الحسین: بنی ارجع إلی أمّک إنّی لا أحبّ أن أجمع علیها عزاءین فی آن واحد(2) ، ولکنّه أبی إلاّ الشهادة، وأیضاً أنّ هناک الأعرج الذی أبی إلاّ أن یطأ بعرجته الجنة(3) ، وهکذا آخرون ممّن شملتهم الرخصة، بل إنّ هناک رخصة عامّة تشمل جمیع شهداء کربلاء، وهو قول الحسین وخطابه لهم لیلة العاشر من المحرّم حینما قال:

«هذا اللیل قد غشیکم فاتّخذوه جملاً، ولیأخذ کلّ واحد منکم بید رجل من أهل بیتی (4) ... الخ».

بل قد وجدت فی بعض الروایات أنّ بین شهداء کربلاء من کان علیه دین، وکان مأذوناً علی أساس ذلک أن یخرج لأداء دینه، ولمّا سمع الحسین به التفت إلی منادیه فنادی بأن لا یقاتل معی من علیه دین، کما فی الروایة عن موسی بن

ص:183


1- (1) وهو الشهید أنس بن الحرث بن کاهل الأسدی (رض).
2- (2) هو الشهید عمرو بن جنادة الأنصاری (رض).
3- (3) هو الشهید مسلم بن کثیر الأزدی (رض).
4- (4) أدب الطفّ ج 1 / ص 120.

عمر عن أبیه، أنّ الحسین أمرنی أن أنادی لیلة عاشوراء «أن لا یقتل معی رجل وعلیه دین» ثمّ قال الحسین:

«فإنّی سمعت جدّی رسول الله یقول: من مات وعلیه دین أخذت حسناته یوم القیامة» (1).

وهذا لا یعنی بالطبع عدم إمکان الجهاد أصلاً، وإنّما یجب علیه أن یقدّم وفاء الدین ثمّ بعد ذلک یأتی إلی الجهاد لکی لا یخسر حسناته یوم القیامة، ومع کلّ هذا کان هذا الشهید قد رتّب أمره وعیّن من یقوم مقامه فی أداء دینه، ولمّا سمع کلام الحسین وأنّه یریده بالذات، قال له: سیّدی أبا عبد الله، إنّ علیَّ دیناً وقد ضمنته لی زوجتی، فقال له الحسین علیه السلام:

«وما ضمان امرأة».

وهنا إشارة إلی عدم القدرة غالباً عند المرأة مثل هذه الأمور، وربّما کانت هذه زیادة من الراوی، خصوصاً وقد نقل الذهبی(2) مضمون الروایة هذه عن أبی الجحّاف، عن أبیه، عن رجل، أنّ الحسین قال له:

«لا یقتل معی رجل وعلیه دین».

من دون هذه الزیادة «وما ضمان امرأة»، وعلی کلّ تقدیر فقد کان هناک شهید کربلائی یملک مسوّغاً شرعیاً بالخروج من کربلاء لأداء الدین، ولکنّه أبی إلاّ أن یرتّب أمر الدین، ویرفض العمل بهذه الرخصة الشرعیة.

ص:184


1- (1) کلمات الإمام الحسین علیه السلام / ص 417.
2- (2) سیر اعلام النبلاء: ج 3 ص، المصنف لأبی شیبة: ح 30591.

ظاهرة رفض الاعذار الشرعیة فی أصحاب الحسین علیه السلام

إذن نحن فی کربلاء أمام ظاهرة رفض الأعذار الشرعیة، والمسوغة للخروج من ساحة المعرکة، ومن قتال لا هوادة فیه، ومن موت لا ریب فیه. فی الحقیقة وأنا أقرأ هذه الروایات وأجمع وأستقرئ المواقف حول هذا الشهید وما یرتبط به، جاءت فی ذهنی الآیات الشریفة فی سورة التوبة وفی غیرها، والتی تتحدّث عن فئة لا تملک عذراً مشروعاً ومع ذلک کانت تقدّم الأعذار لرسول الله صلی الله علیه و آله من أجل أن تتخلّف عن الجهاد، ویتحدّث کذلک عن فئة أخری کانت تقدّم أعذاراً مشروعة ومقبولة من أجل البقاء فی بیوتها، فقلت فی نفسی: ما اعظم أصحاب أبی عبد الله، أولئک الذین کانوا یملکون أعذاراً مشروعة ویأذن لهم الحسین علیه السلام ویأبون إلاّ الشهادة بین یدیه، وحتی یتبیّن لک عظمة هؤلاء وجلالة قدرهم أذکر هنا بعض الآیات التی تتحدّث عن هذا الموضوع، حیث یخبرنا القرآن الکریم فی سورة التوبة عن أولئک المعذّرین:

«وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِیُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ الَّذِینَ کَذَبُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ سَیُصِیبُ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ 1» .

یقول السیّد الطباطبائی فی المیزان: «الظاهر أنّ المراد بالمعذّرین هم أهل العذر، کالذی لا یجد نفقة ولا سلاحاً، بدلیل قوله:

«وَ قَعَدَ الَّذِینَ کَذَبُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ» .

والسیاق یدلّ علی أنّ فی الکلام قیاساً لإحدی الطائفتین علی الأخری،

ص:185

لیُظهر به لؤم المنافقین وخسّتهم وفساد قلوبهم وشقاء نفوسهم، حیث إنّ فریضة الجهاد الدینیة والنصرة لله ورسوله، هیّج لذلک المعذّرین من الأعراب وجاؤوا إلی رسول الله (النبی) یستأذنونه، ولم یؤثّر فی هؤلاء الکاذبین شیئاً»(1).

ویقول مفسر آخر: «وقرأ الجمهور المعذّرون بالتشدید ففیه وجهان أحدهما أن یکون أصله المعتذرون فأدغمت التاء فی الذال، وهم الذین لهم عذر، ومنه قول لَبید:

إلی الحول ثم اسم السلام علیکما ومن یبکِ حولاً کاملاً فقد اعتذر

فالمعذرون علی هذا هم المحقون فی اعتذارهم... والمعنی: أنه جاء هؤلاء من الأعراب بما جاءوا به من الأعذار بحقٍ أو بباطل علی کلا التفسیرین لأجل أن یأذن لهم رسول الله صلی الله علیه و آله بالتخفیف عن الغزو، وطائفة لم یعتذروا، بل قعدوا عن الغزو لغیر عذر، وهم منافقو الأعراب الذین کذبوا الله ورسوله ولم یؤمنوا ولا صدقوا، ثم توعدهم الله سبحانه، فقال:

«سَیُصِیبُ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْهُمْ» .

أی من الأعراب، وهم الذین اعتذروا بالأعذار الباطلة، والذین لم یعتذروا، بل کذبوا الله ورسوله «عَذابٌ أَلِیمٌ» أی کثیر الألم، فیصدق علی عذاب الدنیا وعذاب الآخرة»(2). لعلّ الضمیر یعود إلی الأعراب الذین جاء ذکرهم فی نطاق الحدیث عن المعذّرین، وبذلک نفهم من الآیة أن الله قد أعطی العذر للفئة الأولی

ص:186


1- (1) تفسیر المیزان للسید الطباطبائی، تفسیر الآیة 90 من سورة التوبة.
2- (2) تفسیر فتح القدیر للشوکانی: ج 1 ص 590-591.

ولم یعذر الفئة الثانیة فی موقفها، لأنّها تمثّل الموقف المعاند والجاحد المتمرّد، فأنذرهم بأنّهم سیصیبهم عذاب الیم؛ إذن نحن أمام أعذار مشروعة ومقبولة، وقد قبلها ربّ العالمین ولم یعلّق علیها شیئاً، بل الوعد الوعید إنّما جاء لأولئک الذین لم یؤمنوا أصلاً بالله ورسوله.

بینما نجد فی أصحاب الحسین من کان له عذر مقبول ومأذون له من قبل الإمام وبشکل مباشر وجهاً لوجه، ومع ذلک لم یرضَ لنفسه أن یأخذ بهذه الرخصة، ومن ثم تمیّز علی أصحاب الفئة الأولی فضلاً عن الآخرین.

ومن هنا نعرف معنی حدیث الحسین علیه السلام عن أصحابه:

«ما رأیت أصحاباً أوفی وأبرّ من أصحابی» (1).

والذی منهم الشهید بشر بن عمرو الحضرمی، الذی رفض عرض الخروج من کربلاء وقال للحسین: «عند الله أحتسبه ونفسی». وهی عبارة عظیمة تکشف عن الکثرة من المعانی العظیمة، وتنمّ فی نفس الوقت عن وعی وبصیرة وفهم، حیث یرید أن یقول: اذا کان ولدی قد أسره الکافرون، فإنّی أعیش الآن کذلک الأسر، ولکن علی ید ظالمی هذه الأمّة وغاصبیها، ومن ثم فکلانا یواجه مصیره، وعلیه یجب أن نؤدّی تکلیفنا الشرعی مهما کلّف الأمر، محتسبین صابرین علی الأذی فی جنب الله تعالی، ولهذا قال: «عند الله أحتسبه ونفسی».

وقد یقول قائل: ألست أباً؟ ألا تعیش فی نفسک ما یعیشه الآباء من عاطفة تجاه أبنائهم؟ وکأنّی بالشهید الکربلائی قد تنفّس الصعداء ووقعت دمعة من

ص:187


1- (1) أمالی الشیخ المفید: ص 319.

عینیه، ثمّ أدار وجهه إلیهم وقال:

«ما کنت لأحبّ أن یؤسر ولدی وأن أبقی بعده حیّاً».

وکأنّه یرید ان یرد علی من یفکّر بمثل هذا التفکیر، وهذا فی تقدیری حال کلّ والد تجاه ولده، وکلّ أب تجاه ابنه اذا کان من الأسویاء، ولکن فی نفس الوقت هناک حبّ آخر علینا أن نفکّر فیه کما فکر فیه الشهید وکأنّی بلسان حاله یقول: إنّ فی قلبی حبّین؛ حبّاً لولدی، وحبّاً لابن بنت رسول الله، وعلیّ أن أقدّم حبّ ابن بنت رسول الله علی حبّ ولدی، وهذا مفهوم إسلامی عظیم، ومصداقه صریح القرآن الکریم یقول فی سورة التوبة:

«قُلْ إِنْ کانَ آباؤُکُمْ وَ أَبْناؤُکُمْ وَ إِخْوانُکُمْ وَ أَزْواجُکُمْ وَ عَشِیرَتُکُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ کَسادَها وَ مَساکِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَیْکُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّی یَأْتِیَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْفاسِقِینَ 1» .

یقول الشیخ محمد مهدی الآصفی، بعد ذکره لهذه الآیة الکریمة: «فلا ینهی الله تعالی عن حبّ الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشائر ما لم یعادوا الله ورسوله، ولا ینهی عن حبّ المال والتجارة والمساکن ما لم تکن من حرام، وإنّما ینهی أن یکون حبّ هذه الأمور أقوی وأشدّ عند المؤمن من حبّ الله ورسوله وجهادٍ فی سبیله»(1).

ص:188


1- (2) کتاب الدعاء: ص 229.

وفی الروایات الکثیرة ما یؤکّد علی أنّ محبّة الإنسان لنبیّه ولأهل بیت نبیّه یجب أن تکون أشدّ من محبّته لولده وأهل بیته، وهنا أودّ أن أنقل هذه القصّة المعبّرة، والتی ینقلها الشیخ الآصفی عن الشیخ حسن البنّا فی کتابه «مذکّرات الدعوة والداعیة»(1) ، یقول الشیخ حسن البنّا: «رزق الله الشیخ شلبی أحد مشایخ مصر فی العرفان والأخلاق، بنتاً فی مرحلة متأخّرة من عمره، فولع بها الشیخ ولعاً شدیداً وشغف بها حتی کاد لا یفارقها إلی أن کبرت، وکان یزداد حبّاً لها کلّما شبّت وکبرت، ولقد زاره الشیخ البنّا مع جمع من أصحابه فی إحدی اللیالی بعد انصرافهم من موکب فرح، انطلقوا فیه من دار قرب دار الشیخ شلبی فی لیلة عید میلاد رسول الله صلی الله علیه و آله، وبعد عودتهم جلسوا مع الشیخ شلبی قلیلاً، ولمّا أرادوا الانصراف قال لهم الشیخ بابتسامة رقیقة لطیفة: إن شاء الله غداً تزورونی لندفن روحیة. وروحیة هذه وحیدته التی رُزقها بعد إحدی عشرة سنة من زواجه، وکان لا یفارقها حتی فی عمله، وقد شبّت وترعرعت، وأسماها روحیة لأنّها کانت تحتلّ منه منزلة الروح، یقول البنّا: استغربنا وسألناه: متی توفیت؟ فقال: الیوم قبیل المغرب، فقلنا: ولماذا لم تخبرنا فنخرج من منزل آخر بموکب التشییع؟ فقال: وما الذی حدث؟ لقد خفّف عنّا الحزن، وانقلب المأتم فرحاً، فهل تریدون نعمة من الله أکبر من هذه النعمة؟! وانقلب الحدیث إلی درس تصوّف یلقیه الشیخ ویعلّل وفاة کریمته بغیرة الله علی قلبه؛ فإنّ الله یغار علی قلوب عباده الصالحین أن تتعلّق بغیره، أو أن تنصرف إلی سواه، واستشهد بإبراهیم علیه السلام وقد تعلّق قلبه بإسماعیل

ص:189


1- (1) نفس المصدر: ص 218-219.

فأمره الله أن یذبحه، ویعقوب علیه السلام اذ تعلّق قلبه بیوسف فأضاعه الله منه عدّة سنوات، ولهذا یجب أن لا یتعلّق قلب العبد بغیر الله تعالی وإلّا کان کاذباً فی دعوی المحبّة، وساق قصّة الفضیل بن عیاض وقد أمسک بید ابنته الصغری فقبّلها فقالت له: یا أبتاه أتحبّنی؟ فقال: نعم یا بنیة، فقالت: والله ما کنت أظنّک کذّاباً قبل الیوم! فقال: وکیف ذلک؟ وبم کذبت؟ فقالت: ظننت أنّک بحالک هذه مع الله لا تحبّ معه أحداً! فقال: بعد أن بکی: یا مولای، حتی الصغار قد اکتشفوا ریاء عبدک الفضیل. وغیرها من الأحادیث التی کان الشیخ شلبی یحاول أن یسرّی بها عنّا ویُسَکّن ما لحقنا من ألم لمصابه، وخجل لقضاء هذه اللیلة عنده، وانصرفنا وعدنا الیه فی الصباح حیث دفنّا روحیة، ولم نسمع صوت نائحة ولم ترتفع حنجرة بکلمة شکوی، ولم نرَ إلاّ مظاهر الصبر والتسلیم لله العلی الکبیر».

ومن هنا نجد أنّ شهیدنا الکربلائی قد سَما عنده حبّ ابن رسول الله حتی ما کاد لیشعر بحبّ ولده تجاه انشغاله بحبّ الحسین علیه السلام، وبهذا یقول له: «سیّدی أکلتنی السباع إن أنا فارقتک»، وظلّ هذا الشهید علی هذا الثبات إلی آخر لحظة من لحظات حیاته، حیث لم یبق معه إلاّ الضحّاک بن قیس المشرقی الذی ساوره حبّ الدنیا یوم العاشر من المحرّم فاختطف منه السعادة الأبدیة، بینما تحرّک بشر بن عمرو الحضرمی إلی ساحات الوغی وملؤه الشوق إلی دخول الجنّة، وهنا درس لنا جمیعاً، حیث إنّ الضحاک یقدّم لنا درساً فی الضعف وعدم الثبات، بینما الشهید الکربلائی یقدّم لنا درساً فی الشجاعة والیقین والثبات رغم کلّ الظروف والأحوال، متأسّیاً بإمامه الحسین علیه السلام الذی ثبتت قدماه فی الأرض کالجبل الأشمّ، لا تحرّک منه الریح شیئاً، فسلام علی بشر بن عمرو الحضرمی الکندی ورحمة الله وبرکاته.

ص:190

الشهید یزید بن زیاد بن مهاجر الکندی البهدلی أبو الشعثاء علیه السلام

بین یدی الشهید

نعیش خلال هذه الوریقات نبذة من حیاة مقاتلٍ فارسٍ، ثمّ رامٍ ثمّ راجلٍ، أبلی بلاءً حسناً یوم العاشر من المحرم بین یدی الحسین علیه السلام، حتی فاضت روحه الطاهرة وهو فی أعلی درجات الیقین والثبات إنّه الشهید أبو الشعثاء یزید بن مهاجر الکندی البهدلی.

من هم بنو بهدلة ؟

ولا نرید أن نتحدّث عن کندة هنا، فسیأتی الحدیث عنها فی طیّات هذا الکتاب، ولکننّا سوف نتحدّث عن بنی بهدلة، لنسلط الضوء علی ما یملکون من خصائص وصفات فی الجاهلیة والإسلام. یقول القلقشندی:

«بنو بهدلة، بفتح الباء والدال المهملة واللام وسکون الهاء الأولی بطن من تمیم، وهم بنو بهدلة بن عوف بن کعب بن سعد بن زید مناة بن تمیم ثمّ قال وهم

ص:191

بطن عظیم منهم الزبرقان واسمه الحصین بن بدر بن امرئ القیس»(1).

وأمّا الزبرقان، فیقول عنه ابن عبد البرّ:

«وفد علی رسول الله فی قومه وکان احد ساداتهم فأسلموا وذلک فی سنة تسع فولاه رسول الله علی صدقات قومه، وأقرّه أبو بکر وعمر علی ذلک، وله فی ذلک الیوم من قوله بین یدی رسول الله مفاخراً:

نحن الملوک فلا حیٌّ یقاومنا فینا العلاء وفینا تنصبُ البیعُ

ونحن نطعمهم فی القحط ما أکلوا من العبیط إذا لم یونسِ القزعُ

وننحر الکوم(2) عبطاً فی أرومتنا للنازلین إذا ما أنزلوا شبعوا

تلک المکارمُ حزناها مقارعةً إذا الکرام علی أمثالها اقترعوا»(3)

وحینما یتحدّث الزبرقان عن نفسه وقومه بهذا اللون من الاعتزاز والفخر القائم علی أساس الأخلاق والمکارم، فلا شکّ أنّ الشهید الکربلائی مشمول بقوله، لأنّ الشهید والزبرقان کلیهما ینتسبان إلی بهدلة، وربما کان الشهید الکربلائی قد أدرک هذا الرجل، أو أنّ أباه قد أدرک هذا الرجل، فیکون قد تأثّر به من خلال أبیه.

فبنو بهدلة کانوا معروفین بمکارم الأخلاق، بل والجمال والحُسن کذلک، ولهذا یقال إنّ الزبرقان إنّما سمّی کذلک لأنّه کان جمیلاً حسن الوجه، فشبّه بالقمر، لأنّ القمر یقال له زبرقان.

ص:192


1- (1) نهایة الأرب فی معرفة أنساب العرب: ص 9-10 رقم 6.
2- (2) الکوم: جمع کوماء، وهو البعیر الضخم السنام، یُنحر عَبطاً من غیر علّة، والأرومة: الأصل.
3- (3) الاستیعاب: ج 1 ص 104-167، الإصابة: ج 3 ص 3. أسد الغابة: ج 1 ص 375.

ما قاله العلماء فی الشهید

1. قال السمعانی: «زیاد بن یزید بن مهاجر بن النعمان بن سلمة بن شجار بن بهدلة الکندی البهدلی، قتل مع الحسین بن علی»(1).

2. قال البخاری: «یزید بن مهاجر أبو الشعثاء الکندی، کناّه محمد بن عبد الله بن نمیر»(2).

3. قال أبو حاتم: «أبو الشعثاء الکوفی، روی عن ابن عمر وابن عباس. روی عنه أبو سنان الشیبانی وسعید بن سعید التغلبی، قال سمعت أبی یقول: أبو الشعثاء الکندی اسمه یزید بن مهاجر»(3).

4. قال السماوی: «کان یزید رجلاً شریفاً شجاعاً فاتکاً، خرج إلی الحسین من الکوفة قبل أن یتّصل به الحرّ»(4).

5. قال الزنجانی: «یزید بن مهاجر - حمل علی القوم کحملة الأسد حتی قتل منهم خمسین رجلاً»(5).

6. قال شمس الدین: «یزید بن زیاد بن مهاجر أبو الشعثاء الکندی، ذکره الطبری وابن شهر أشوب والخوارزمی، والزیارة وفیها ابن المظاهر، صحفته بعض

ص:193


1- (1) الأنساب للسمعانی: ج 1 ص 420.
2- (2) التاریخ الکبیر: ح 3342.
3- (3) الجرح والتعدیل لابن أبی حاتم: ج 9 ص 287 ح 1221.
4- (4) السماوی فی أنصار الحسین: ص 134.
5- (5) وسیلة الدارین: ص 215.

المصادر فقالت ابن مهاجر»(1).

7. قال السیّد الأمین: «یزید بن زیاد بن المهاجر مهاصر الکندی، ویکنّی أبا الشعثاء...، وکان رامیاً وکلّما رمی یقول له الحسین: اللهمّ سدّد رمیته واجعل ثوابه الجنّة»(2)

اسم الشهید

ممّا سبق ذکره یُعلم أنّ اسم الشهید قد ورد فیه اختلاف حیث ذکره السمعانی بزیاد، والآخرون بیزید.

وأیضاً ورد الاخلاف فی اسم أبیه، حیث ذکره بعضهم وهم الأکثر بمهاجر، وبعضهم بمظاهر.

وأمّا نسبه «الکندی البهدلی» فیبدو أنّ هناک اتّفاقاً علیه من قبل العلماء، کما وأنّ کنیته «أبا الشعثاء» لم یرد فیها اختلاف عندهم. ولهذا نمیل إلی ان اسمه رضی الله عنه هو یزید بن مهاجر الکندی البهدلی رضی الله عنه.

مع الشهید فی روایته

لقد عُدَّ الشهید الکربلائی واحداً من جملة الرواة الثقات الذین ترجم لهم العلماء، فقد عدّه ابن جریر الطبری واحداً من جملة رجاله الذین یعتمد علیهم فی تفسیر الآیات والأحکام الواردة فیها.

ص:194


1- (1) أنصار الحسین لشمس الدین: ص 111.
2- (2) لواعج الأشجان للسید الأمین: ص 137.

وذکره ابن أبی حاتم فی کتابه الجرح والتعدیل، حیث ترجم له فی موضعین، فقال فی الأول: «یزید بن مهاجر أبو الشعثاء الکندی، ثمّ قال: روی عنه أبو إسحاق الهمدانی وأبو العنبس ویونس بن أبی إسحاق وأبو سنان الشیبانی»(1).

ثمّ عاد فترجم له بقوله: «روی عنه أبو سنان الشیبانی وسعید بن سعید الثعلبی. سمعت أبی یقول ذلک، ویقول لا یسمّی، وهو کوفی. قال علی بن المدینی: أبو الشعثاء الذی روی عنه أبو إسحاق الهمدانی ویونس بن أبی إسحاق وأبو العنبس وأبو سنان هو الکندی ولیس هو سلیم سمعت أبی یقول: أبو الشعثاء الکندی اسمه یزید بن مهاجر»(2).

کما وقد ذکره البیهقی فی السنن من طریق عبید الله بن معاذ عن أبیه عن شعبة عن أبی إسحاق عن أبی الشعثاء(3). کما وذکره علماء آخرون کابن أبی شیبة فی المصنف(4) وذکره الترکمانی فی الجوهر النقی، وشمس الدین الذهبی فی کتابه المقتنی فی سرد الکنی(5).

ومن هنا نفهم أنّ للشهید الکربلائی شخصیة علمیة وثقافیة مهمّة، جعلت العلماء یرجعون الیه فی معرفة الدین وبیان حقائقه، وسوف نذکر بعض تلک

الروایات التی رواها العلماء عنه:

ص:195


1- (1) المصدر السابق: ج 2 ص 391.
2- (2) ابن أبی حاتم فی الجرح والتعدیل: ج 4 ص 287، ج 42 ص 391.
3- (3) البیهقی: ج 5 ص 189.
4- (4) المصنّف: ج 1 ص 518.
5- (5) المقتنی فی سرد الکنی: ح 3039.

الروایة الأولی: روی البیهقی بسنده قال: «أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عمرو بن مطر، حدّثنا یحیی بن محمد، حدّثنا عبید الله بن معاذ، حدثنا شعبة عن أبی إسحاق قال: سمعت أبا الشعثاء یقول: سألت ابن عمر عن لحم الصید یهدیه الحلال للحرام قال: کان عمر یأکله، قلت: إنّما أسألک عن نفسک أتاکله؟ قال: کان عمر یأکله، قلت: إنّما عن نفسک أتأکله؟ قال: کان عمر خیراً منّی»(1).

وروی هذه الروایة الطبری فی تفسیره وابن أبی حاتم وابن أبی شیبة فی المصنّف وآخرون بألفاظ مختلفة.

سؤال مهم حول الروایة

وأول ما یتبادر إلی ذهن القارئ والسامع لهذه الروایة هذا السؤال، أ إنّ سؤال الشهید الکربلائی لابن عمر جاء لأجل أن یأخذ منه معالم الدین وأحکام الشریعة، کأیّ إنسان یبحث عن أجوبة لمسائله، کما یحثّ علی ذلک القرآن الکریم بقوله:

«فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 2» .

أم کان لأجل أن یطّلع علی رأیه فی هذه المسألة من دون أن یتّبعه فیه علی أساسه؟ وهذا الأمر ربما یکون معمولاً به کثیراً، فربّ سائل یسأل فی مسألة ما وهو یعلم جوابها، وإنّما أراد بسؤاله معرفة رأی المسؤول فیها لا غیر.

وإلاّ فإننّا أمرنا أن نأخذ الأحکام من رسول الله ومن أهل بیته، حیث ورد فی

ص:196


1- (1) البیهقی فی السنن: ج 5 ص 188.

کتب الفریقین أنّهم سفن النجاة وأنّهم مدینة العلم وانهم مع الحقّ والحقّ معهم، بینما لم یرد مثل هذا فی غیرهم.

نعم یُعمل برأی الغیر اذا وافق رأی أهل البیت، وهذا أمر غیر خافٍ علی أحد، فعلماؤنا جمیعهم یعملون برأی الراوی الثقة حتی ولو لم یکن إمامیاً اذا کان رأیه موافقاً لرأی أهل البیت علیهم السلام، أمّا اذا ورد عن غیرهم کائناً من کان ما یخالف أهل البیت علیهم السلام فی أیّ مسألة، فالمعوّل علیه هو حکم اهل البیت دون غیرهم.

قال الشیخ الطوسی کما یذکر ذلک المامقانی فی تنقیح المقال: «من شرط العمل بخبر الواحد العدالة بلا خلاف»(1).

وقال السیّد محمد تقی الحکیم فی الأصول العامّة:

«اعتبرت الشیعة الإمامیة أخبار مخالفیهم فی العقیدة حجّة اذا ثبت أنّهم من الثقات، وأسموا أخبارهم بالموثّقات»(2).

ومن ثم یمکن لأیّ إنسان أن یأخذ أحکام دینه من أیّ مسلم راوٍ إذا لم یکن هناک ما یخالفه عند أهل البیت.

وعلی هذا الأساس تحرّک الشهید الکربلائی مع عبد الله بن عمر، ومن ثم فلا یعنی سؤاله إیّاه أخذ علوم الدین وأحکامه منه، وإنّما أراد أن یعرف رأیه فی مسألة ما وقع الاختلاف فیها عندهم دون اهل البیت علیهم السلام، حیث اتّففت کلمتهم علیهم السلام علی تحریم لحم الصید علی المحرم حتی وإن صاده محلّ، والدلیل علی هذا ما یلی:

ص:197


1- (1) تنقیح المقال: ج 1 ص 73.
2- (2) الأصول العامة: ص 219.

تحریم لحم الصید علی المحرم

ألف: ذکر الحرّ العاملی فی وسائل الشیعة(1) مجموعة من الروایات تحت عنوان کبیر «تحریم أکل المحرم من صید البرّ حتی القدید وإن صاده محلّ» وذکر تحت هذا الباب بعض الروایات أذکر منها اثنتین.

الأولی: «وعنه عن إبراهیم بن أبی سمال عن معاویة بن عمّار عن أبی عبد الله قال:

لا تأکل شیئاً من الصید وانت محرم وان صاده محلّ».

الثانیة: «وبإسناده عن ابن أبی عمیر وصفوان، عن معاویة بن عمّار عن أبی عبد الله قال:

لا تأکل الصید وأنت حرام وإن کان أصابه محلّ».

باء: ذکر الطبرسی فی مجمع البیان فی تفسیر الآیة الکریمة من سورة المائدة:

«وَ حُرِّمَ عَلَیْکُمْ صَیْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً2»

فیقول:

«هذا یقتضی تحریم الاصطیاد فی حال الإحرام، وتحریم أکل ما صاده الغیر. وبه قال علی وابن عباس وابن عمر وسعید بن جبیر، وقیل: إنّ لحم الصید لا

ص:198


1- (1) وسائل الشیعة: ص 418 ح 16662 وح 16663.

یحرم علی المحرم اذا صاده غیره، عن عمر وعثمان والحسن، ثمّ یقول: ویجب حمل الآیة علی الأمرین وتحریم الجمیع»(1).

جیم: ما ذکره العلماء القدامی والمحدثون فی هذه المسألة، فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام، فقد ذکر المحقّق الحلّی فی شرائع الإسلام قوله فی باب المحرّمات والمکروهات للمحرم:«صید البرّ اصطیاداً وأکلاً ولو صاده محلٍ ّ»(2).

ومن العلماء المحدثین ذکر السیّد السیستانی فی مناسک الحجّ، طبعة النجف الأشرف، مسألة 202:

«لا یجوز للمحرم أکل شیء من الصید وإن کان قد اصطاده المحلّ فی الحلّ، کما یحرم علی المحلّ علی الأحوط وجوباً ما اصطاده المحرم فی الحلّ.

وممّا تقدّم نفهم أنّ مسألة أکل المُحِرمِ من الصید حرام علیه حتی ولو صاده محلّ أمر مجمع علیه عند فقهاء الإمامیة وعلمائهم، بینما تجد فی المدرسة المقابلة لمدرسة أهل البیت أنّ هناک نزاعاً وخلافاً فی المسألة، فبعض یذهب إلی ما ذهب الیه أئمّة أهل البیت، وبعض لا یذهب إلی ذلک، کما أشار إلی ذلک ابن حزم، حیث ذکر الرأیین معاً ثمّ مال إلی الجواز لا الحرمة، حیث قال: «وقد روینا عن عطاء، فی محرم کان بمکّة فاشتری حجلة فأمر محلاً بذبحها أنّه لا شیء علیه»(3).

ص:199


1- (1) مجمع البیان، تفسیر الآیة: 96 من سورة المائدة.
2- (2) شرائع الإسلام: ج 1 ص 183.
3- (3) المحلّی لابن حزم: ج 2، کتاب الحجّ مسألة: 892.

ومن ثم فإنّ الشهید الکربلائی أراد من سؤاله لابن عمر أن یستکشف رأیه أکان موافقاً لرأی أهل البیت أم مخالفاً له، دون إرادة المعرفة للحکم الشرعی للعمل به.

ومن هنا نفهم سرّ إعادة السؤال من قبل الشهید الکربلائی لابن عمر مرّتین بقوله: إنّما أسألک عن نفسک أتأکله؟

الروایة الثانیة: روی ابن أبی شیبة فی مصنّفه قال: «حدثنا ابو بکر، حدثنا وکیع عن سعید بن سعید البجلی عن أبی الشعثاء الکندی عن ابن عمر قوله: الأوعیة لا تحلّ شیئاً ولا تحرّم»(1).

المراد من الأوعیة الظروف، أو ما یسمّی بالأوانی التی یوضع فیها الشیء، ولا شکّ أن هذه الظروف والأوعیة لا یمکن أن تحلّ شیئاً هو بالأصل حرام ولا تحرّم شیئاً هو بالأصل حلال، وإنّما ورد التأکید من النبی صلی الله علیه و آله علی هذا الأمر لأنّ هناک بعض الظروف التی کانت تستعمل آنذاک وتکون مساعدة فی تنبیذ بعض التمور والعسل وقد ورد ذکر هذه الظروف بشکل عامّ فی أحادیث، کقول أنس: «نهی النبی صلی الله علیه و آله عن النبیذ فی هذه الظروف. ورد ذکرها مشخّصة بأسمائها کما فی قوله علیهما السلام لوفد عبد القیس:

«لا تشربوا فی نقیر ولا مقیر ولا دباء ولا حنتم ولا مزادة» (2).

«والمراد من النقیر أصل النخلة یُترک فی مکانه ثمّ ینقر جوفه ویتّخذ منه

ص:200


1- (1) المصنّف لابن أبی شیبة: ج 5 مسألة 3310.
2- (2) المصنف: ج 1 ص 518.

ظرف، والدباء القرع، والحنتم الجرار المطلیة بالأخضر»(1).

ویبدو أنّ الشهید الکربلائی یتحدث عن الحالة العامة التی عادة ما تکون فی جمیع الظروف مُطّردة، إلاّ ما ورد التخصیص فیها، کقولهم:«کلّ شیء طاهر حتی تعلم أنّه نجس»(2).

لقاء الشهید بالحسین علیه السلام ووقت التحاقه به

اختلفت الروایات فی وقت التحاق الشهید بالحسین علیه السلام، واختلفت معها آراء العلماء.

الرأی الأول

فهناک من ذهب إلی أنّ الشهید کان قد خرج مع عمر بن سعد أول الأمر فیمن خرج لحرب الحسین، ثمّ بعد ذلک تحوّل إلی الحسین لیلة العاشر من المحرّم. ویذهب إلی ذلک المقرّم(3) وأبو مخنف(4) ، والطبری(5) فی إحدی روایاته

وآخرون.

الرأی الثانی

بینما یذهب آخرون إلی أنّ لقاء الشهید بالحسین کان قبل وصول الحرّ

ص:201


1- (1) نفس المصدر.
2- (2) الفقه 1. أعیان الشیعة: ج 1، ص 73.
3- (3) مقتل المقرّم: ص 243.
4- (4) مقتل أبی مخنف: ص 158.
5- (5) الطبری: ج 5 ص 48.

ولقائه به علیه السلام فی منطقة شراف، وقد ذهب إلی هذا الرأی جملة من العلماء منهم الشیخ السماوی(1) ، والطبری(2) فی إحدی روایاته، والخوارزمی(3) وآخرون.

ملاحظة حول الرأی الأول

وقبل أن نبیّن بعض النقاط التی من خلالها یتّضح أنّ خروج الشهید ولقاءه بالحسین کان قبل وصول الحرّ الیه، وهو الرأی الذی أراه أکثر قبولاً وانسجاماً مع الأحداث، أودّ أن أبیّن أنّ الرأی الأول لا یشیر بأیّ حال من الاحوال، حتی مع فرض صحّته، إلی إدانة أو منقصة للشهید الکربلائی معاذ الله، إذ إنّ هناک جملة من الأصحاب لمّا رأوا أنّ سکک الکوفة أُغلقت وأُحکم الحصار علی البلدة من قبل ابن زیاد وجماعته، لم یجدوا بُدّاً من أن یتّخذوا الخروج لحرب الحسین مع من خرج للحرب واقعاً، طریقاً للوصول إلی الحسین علیه السلام، وهذا ما حاولنا أن نبیّنه من خلال حدیثنا عمّن تحدّثنا عنهم من الشهداء، وسوف نتحدّث عن هذه النقطة المهمّة من جوانب متعدّدة کلّما سنحت الفرصة إلی ذلک.

المرجحات علی الرأی الثانی

وأمّا الرأی الثانی، والقائل بوصول الشهید الکربلائی إلی الحسین قبل وصول الحرّ الیه فی منطقة شراف، فإنّ هناک بعض المرجّحات التی تجعلنا نمیل الیه دون الرأی الأول، ومن هذه المرجحات:

ص:202


1- (1) أنصار الحسین: ص 134.
2- (2) تاریخ الطبری: ج 5 ص 445-446.
3- (3) مقتل الخوارزمی: ج 2 ص 25.

أولاً: ذکر کثیر من المؤرّخین فی خصوص لقاء الحرّ للحسین فی منطقة شراف ما هذا نصّه:

«فلمّا أصبح نزل فصلی الغداة، ثمّ عجّل الرکوب فأخذ یتیاسر بأصحابه یرید أن یفرّقهم، فیأتیه الحرّ بن یزید فیردّهم، فیردّه، فجعل اذا ردّهم إلی الکوفة ردّاً شدیداً امتنعوا علیه، فارتفعوا فلم یزالوا یتسایرون حتی انتهوا إلی نینوی، المکان الذی نزل به الحسین. قال: فإذا راکب علی نجیب له وعلیه السلاح، متنکّب قوساً، مقبل من الکوفة، فوقفوا جمیعاً ینتظرونه، فلمّا انتهی الیهم سلّم علی الحرّ بن یزید وأصحابه ولم یسلّم علی الحسین وأصحابه، فدفع إلی الحرّ کتاباً من عبید الله بن زیاد، فإذا فیه: أمّا بعد، فجعجع بالحسین حین یبلغک کتابی ویقدم علیک رسولی، فلا تنزله إلاّ بالعراء فی غیر حصن وعلی غیر ماء، وقد أمرت رسولی أن یلزمک ولا یفارقک حتی یأتینی بإنفاذک أمری والسلام.

فلمّا قرأ الکتاب قال لهم الحرّ:

هذا کتاب الأمیر عبید الله بن زیاد یأمرنی فیه أن أجعجع بکم فی المکان الذی یأتینی فیه کتابه، وهذا رسوله وقد أمره أن لا یفارقنی حتی أنفذ رأیه وأمره، فنظر إلی رسول عبید الله بن زیاد یزید بن زیاد بن مهاجر، أبو الشعثاء الکندی ثمّ البهدلی، فعن له فقال له: أمالک بن النُسر البدّی»(1) ؟ إلی آخر ما ورد فی هذا النصّ.

ولا شکّ أنّ کلّ من قرأ هذا النصّ، یقطع بأنّ الشهید الکربلائی کان مع

ص:203


1- (1) معالم المدرسین: ج 3 ص 77-78 (نقلاً عن مقتل أبی مخنف).

الحسین علیه السلام قبل أن یأتی رسول عبید الله بن زیاد، بل ربما کان موجوداً قبل ذلک الوقت.

ثانیاً: وعی الشهید الکربلائی وبصیرته النافذة، والتی یتلمّسها الإنسان من خلال المحاورة التی جرت فیما بینه وبین مالک بن النسر، رسول عبید الله بن زیاد إلی الحرّ التی تکشف وبشکل واضح عن إیمانه بالثورة، ممّا یوحی بأنّ هذا الرجل وأمثاله کان لهم دور مهمّ فی داخل الکوفة مع مسلم بن عقیل، لأنّ من وطّن نفسه علی القتل وعزم علی الالتحاق بالحسین من أجل الشهادة، لا یمکن أن یتصوّر فی حقّه إلاّ أنّه کان من الأرکان الأساسیة فی حرکة مسلم بن عقیل.

ومن هنا فإنّ أغلب من کانت له مشارکة واضحة ومهمّة حاول أن یخرج بعد شهادة مسلم بن عقیل من الکوفة، فقسم منهم التحق بالحسین وهو فی مکّة، مثل الحجّاج بن مسروق الجعفی وأمثاله.

وبعضهم التحق بالحسین وهو فی الطریق إلی العراق، أمثال الأربعة الذین جاءوا مع الطرمّاح فی منطقة عذیب الهجانات کما تقدم.

وبعضهم قبل وبعد ذلک، وکان من بینهم الشهید الکربلائی والذی نرجّح وصوله إلی الحسین قبل منطقة اللقاء مع الحرّ.

إشکال وجواب:

وقد تقول: وماذا عمّن خرج مع جیش عمر بن سعد والتحق بعد ذلک بالحسین، ألم یکونوا اصحاب مشارکة مع حرکة مسلم بن عقیل فلماذا لم یخرجوا مبکّراً ویلتحقوا بالحسین؟ أقول: نحن نتکلّم من حیث الطابع العام، وهذا

ص:204

لا یعنی بالضرورة أنّ کلّ من التحق بالحسین خرج الیه قبل وصوله إلی کربلاء، فهناک من المؤمنین من شارک فی حرکة مسلم وأراد نصرة الحسین حقّاً، ولکنّه رأی أن لا سبیل للوصول الیه إلاّ من خلال التظاهر بأنّه ممّن یرید الخروج لحرب الحسین.

وربما أعلن توبته علی الملأ من أجل أن ینفی عن نفسه الشبهة، ولکی یُقبل فی الجیش الذی سُرِّح لحرب الحسین علیه السلام، فلمّا وصل الیه انتقل وتحوّل إلی صفّه علیه السلام، ومن ثم یمکن القول بأنّ وعی النخبة من الأصحاب الذین نالوا شرف الشهادة مع الحسین علیه السلام فی کربلاء، وحرصهم علی الشهادة، ومشارکتهم الواضحة، جعلتهم یخرجون من الکوفة بعد سقوطها بید عبید الله بن زیاد، وشهادة من استشهد وسجن من سجن، ویلتحقون بالحسین مبکّراً، ومنهم الشهید یزید بن مهاجر الکندی رضی الله عنه.

ثالثاً

لا شکّ أنّ کلّ من قرأ وسمع بالروایتین اللتین تحدّثتا عن أبی الشعثاء الکندی ووقت التحاقه بالحسین، یجد وبشکل واضح أنّ هناک تعارضاً بیّناً بینهما، لأنّ کلّ واحدة من الروایتین تتضمّن الحدیث إمّا بشکل صریح کما فی الروایة الثانیة التی تؤکّد أنّه کان ممّن خرج مع جیش عمر بن سعد فلما ردّوا الشروط مال إلی الحسین لیلة العاشر من المحرّم.

وإما بشکل ضمنی کما فی الروایة الأولی التی تحدّثت عن حدیث أبی الشعثاء مع مالک بن النسر فی مرحلة التقاء الحرّ بالحسین علیه السلام.

ص:205

تعارض روایتی الالتحاق بالحسین وطرق معالجته

وبهذا نکون أمام اضطراب حقیقی وتعارض واضح بیّن، وهذا یدعونا إلی الرجوع إلی طرق معالجة مثل هذا التعارض، فقد ذکر العلماء أنّ من جملة المرجّحات هو السبق الزمنی للروایة علی غیرها من الروایات المعارضة لها والمتأخرة عنها زمناً، وهذا المقیاس لا شکّ أنّه یرجّح عندنا الروایة الأولی دون الروایة الثانیة، وکذلک ذکر العلماء أنّ من جملة المرجّحات هو أن تکون إحدی الروایتین مفصّلة والأخری مجملة، فتقدم المفصّلة فی مقام التعارض علی المجملة، وهذا المقیاس یقدّم کذلک، ویرجّح علی أساسه الروایة الأولی دون الروایة الثانیة والغریب فی هذا الأمر هو ذکر العلماء لکلّ من الروایتین دون ترجیح واحدة علی الأخری، وهذا بتقدیری یکرّس مفهوم التناقض والتضادّ بین الأشیاء، مع أنّه کان بإمکانهم ترجیح إحداهما علی الأخری، کما رجّحنا حسب رأینا خروج الشهید الکربلائی - علی حسب الروایة الأولی - من کربلاء فی وقت مبکّر والتحاقه بالحسین علیه السلام قبل وصول الحرّ إلیه. ولقد أحسن الشیخ محمد مهدی شمس الدین حینما أشار إلی هذا الاضطراب من خلال العمل بالروایتین معاً دون الترجیح بینهما قائلاً:

«وقد اضطرب فیه کلام الطبری، فمرّة قال عنه إنّه تحوّل إلی الحسین من معسکر ابن زیاد بعدما رفضوا عروض الحسین، ومرّة قال عنه إنّه خرج إلی الحسین من الکوفة قبل أن یلاقیه الحرّ، وکذلک اضطرب فیه کلام السیّد الأمین»(1).

ص:206


1- (1) أنصار الحسین: ص 112.

بین منطق الخضوع ومنطق المسؤولیة

قال أبو مخنف:

«لمّا کاتب الحرّ ابن زیاد فی أمر الحسین وجعل یسایره، جاء إلی الحر رسول ابن زیاد مالک بن النسر البدّی ثمّ الکندی، فجاء به الحرّ وبکتابه إلی الحسین، کما یذکر فی ترجمة الحرّ، وکما قصصناه، فعنَّ مالک لیزید هذا فقال یزید: أمالک بن النسر أنت؟ قال: نعم، فقال له: ثکلتک أمّک، ماذا جئت به؟ قال: وما جئت به، أطعت إمامی ووفیت ببیعتی، فقال له أبو الشعثاء: عصیت ربّک وأطعت إمامک فی هلاک نفسک، وکسبت العار والنار. ألم تسمع قول الله تعالی:

«وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَدْعُونَ إِلَی النّارِ وَ یَوْمَ الْقِیامَةِ لا یُنْصَرُونَ 1» فهو إمامک»(1)

إنّ هذه الروایة وما دار فیها من حوار بین الشهید أبی الشعثاء وبین مالک بن النسر، لتضعنا بین منطقین؛ منطق الخضوع والاستسلام للأمر الواقع، وبین منطق تحمّل المسؤولیة الشرعیة مهما کانت الظروف والأحوال.

أمّا المنطق الأوّل، فإنّ الشهید الکربلائی لا یقبله، ولا یمکن أن یسیر علیه، بل لسان حاله یقول: إنّ منهجی ومنطقی هو منطق القرآن الذی یقول:

«یَوْمَ نَدْعُوا کُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ 3» .

ص:207


1- (2) مقتل الحسین لأبی مخنف: ص 93.

ص:

«وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا» .

لا بأمر الناس، یقدّمون الله قبل أمرهم، وحکم الله قبل حکمهم، قال:

«جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَدْعُونَ إِلَی النّارِ» .

یقدمون أمرهم قبل أمر الله، وحکمهم قبل حکم الله، ویأخذون بأهوائهم خلاف کتاب الله»(1).

وینقل الصدوق فی أمالیه کما ورد فی تفسر الثقلین عن بشر بن غالب عن الإمام الحسین، أنّه سأله عن تفسیر الآیة:

«یَوْمَ نَدْعُوا کُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» .

فقال علیه السلام: «إمام دعا إلی هدی فأجابوه الیه، وإمام دعا إلی ضلالة فأجابوه الیها، هؤلاء فی الجنّة وهؤلاء فی النار، وهو قول الله:

«فَرِیقٌ فِی الْجَنَّةِ وَ فَرِیقٌ فِی السَّعِیرِ»2» .

ولعمری لقد کان الشهید الکربلائی بصیراً فی کتاب الله، متدبّراً فی آیاته، عالماً فی أحکامه. ومن هنا نراه یستدلّ استدلال العلماء، ویتحدّث تحدّث الحکماء، وینطق عن یقین بالله تعالی، ولا غرابة فی ذلک، فهو الذی نهل من معین الإسلام الصافی، وأُشرب علوم القرآن ومفاهیمه من مورده النقی فانعکست أقوالهم وأفعالهم علیهم السلام، علی وعی الشهید نتیجة لهذه المعاشرة لأئمّة أهل البیت علیهم السلام فأدرک أنّ الخزی کلّ الخزی حینما یتخلّی الإنسان عنهم، وأنّ السعادة

ص:209


1- (1) تفسیر الصافی، تفسیر آیة: 41-42 من سورة القصص.

کلّ السعادة فی الکون معهم ونصرتهم والذبّ عنهم ولهذا نراه یقول لمالک بن النسر: عصیت ربّک وأطعت إمامک (الضالّ) فی هلاک نفسک، وکسبت العار والنار(1). یعنی أنّ سوء اختیارک باتّباعک لأئمّة الضلال، وتخلّیک عن أئمّة الهدی، هو الذی سوف یُردیک فتخسر آخرتک بدخولک النار، کما أنّ العار سوف یلاحقک، وسبّة التاریخ والأجیال سوف لا تفارقک، لأنک تخلّیت عن الحقّ ونصرت الباطل.

الشهید فی کربلاء فارساً ثم رامیاً

لقد کان للشهید الکربلائی دور ممیّز فی کربلاء، فلقد کان قتاله أول الأمر فارساً ثمّ رامیاً ثمّ راجلاً. یقول أبو مخنف: «إنّ أبا الشعثاء قاتل فارساً، فلمّا عقرت فرسه جثا علی رکبتیه بین یدی الحسین علیه السلام، فرمی بمائة سهم ما سقط منها خمسة وکان رامیاً وکان کلما رمی قال:

أنا ابن بهدلة(2) فرسان العرجلة(3)

فیقول الحسین: «اللهمّ سدّد رمیته، واجعل ثوابه الجنّة». فلمّا نفدت سهامه قام فحمل علی القوم بسیفه وقال:

أنا یزیدٌ وأبی مهاجرٌ کاننی لیث بغیلٍ خادر

یا ربّ إنّی للحسین ناصرٌ ولابن سعدٍ تارک وهاجر»(4)

ص:210


1- (1) إبصار العین للسماوی: ص 134.
2- (2) حی من کندة، إبصار العین: ص 135.
3- (3) العرجلة: القطیع من الخیل ح تاج العروس: ج 6 ص 41.
4- (4) إبصار العین للسماوی: ص 135: أبو مخنف: ص 158.

وهنا تجد التمیّز فی الجهاد والدفاع، حیث نزل أولاً فارساً حتی اذا قتل منهم عدداً عُقرت الفرس، فلم یتنازل عن جهاده بل انتقل إلی مرتبة أخری حظی فیها بدعاء الحسین علیه السلام له، ولا شکّ أنّ دعاء الحسین بحدّ ذاته فضل لأنّه مجاب علی کلّ حال، ولهذا حینما کان یرمی لم تسقط من سهامه سوی خمسة ببرکة دعاء الحسین، والبقیة أصابت أهدافها ولمّا انتهت سهامه التفت إلی الحسین مودّعاً وقائلاً له: سیدی، لو کنت أملک غیر هذه النفس لقدّمتها بین یدیک رخیصة، ثمّ نزل إلی القتال راجلاً، ومما یلفت النظر فی رجز الشهید هو قوله:

یا ربّ إنّی للحسین ناصرٌ ولابن سعدٍ تارکٌ وهاجر

رسالة الشهید إلی من یهمه الأمر

وبهذا القول أراد أن یوصل رسالة إلی من هم لا یزالون فی جیش عمر بن سعد بأنّکم علی باطل، بل وأراد ان یعلن موقفه هذا للتاریخ، ویعطی درساً للأجیال فی التضحیة والولاء، لا کما تصوّر البعض من أنّ قوله: ولابن سعد تارک وهاجر، دلیل علی أنّه کان فی صفّ عمر بن سعد ثمّ انتقل إلی صفّ الحسین بعد ذلک: فهذا استدلال خاطئ، لأنّ الشهید إنّما أراد أن یعلن براءته من النهج لا من الأشخاص، کما أنّ ولاءه للقیم والمبادئ الحقّة هو الذی دعاه لنصرة الحسین علیه السلام، وهذا هو الدرس الأکبر. ویقول أبو مخنف: «ولم یزل یقاتل راجلاً حتی قتل رضی الله عنه، وفیه یقول الکمیت الاسدی:

ومال أبو الشعثاء أشعث دامیاً وإنّ أبا حجلٍ قتیلٌ مجحّلُ»(1)

ص:211


1- (1) مقتل أبو مخنف: ص، لسان العرب لابن منظور مادة «جحل».

الشهید عمّار بن حسّان بن شریح الطائی علیه السلام

بین یدی الشهید

هذا الشهید هو واحد ممّن یصفهم البعض بأنّهم من رجال ساعة العسرة، والذین مدحهم الله سبحانه وتعالی فی قرآنه الکریم یقوله:

«لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَی النَّبِیِّ وَ الْمُهاجِرِینَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِینَ اتَّبَعُوهُ فِی ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما کادَ یَزِیغُ قُلُوبُ فَرِیقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَیْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِیمٌ 1» .

وساعة العسرة قد تمرّ فی زمن رسول الله فینزل فیها قرآنٌ، وقد تمرّ بعد زمن رسول الله، إنّ ساعة العسرة متوقعة فی أی وقت علی مدی الحیاة، لأنّ کلّ إنسان منّا قد یمرّ بساعة عصیبة لا یجد إلی جانبه من یبثّه همومه، ویلتفت یمیناً وشمالاً فلا یجد إلاّ نفسه، ومثل هذا الأمر کثیراً ما یحدث لأصحاب المبادئ والقیم.

حیث تجد أنّ حیاتهم مثقلة بالمتاعب والهموم والمشاکل، وکثیراً ما کانوا یعیشون الوحدة والغربة تحت وطأة هذه الظروف، وهذا ما کان علی بن أبی

ص:212

طالب یعانی منه بعد رحیل رسول الله صلی الله علیه و آله حینما کان یعیش تلک المحنة التی مرّت علی الإسلام بعد فقده علیهما السلام فاضطرّته للابتعاد عن تلک الأجواء، وجرّته إلی غربة حقیقیة، ووحدة ووحشة، جعلته یفضّل الموت علی البقاء فی واقعٍ کهذا:

ألا أیّها الموت الذی لیس تارکی أرحنی فقد أفنیت کلّ خلیلِ

أراک بصیراً بالذین أُحبّهم کأنّک تنحو نحوهم بدلیلِ (1)

ومن هنا نفهم تلک الروایات التی جاءت تمجّد الغرباء فی آخر الزمان، بل وتصف الإسلام بأنّه سیکون غریباً. ینقل النعمانی فی کتاب الغیبة، عن أبی عبد الله علیه السلام قوله: «إنّ الإسلام بدأ غریباً، وسیعود غریباً فطوبی للغرباء»(2). وکلّ هذا المدح للغربة وللغرباء هو فی الواقع لأنّ المتّبعین للإسلام حقیقة قلیل، ولهذا کلّه صار سیّد الشهداء «غریب الغرباء»، ولأجل ذلک کلّه صار الصدیق فی ساعة العسرة نعمة، یقول علی علیه السلام:

وما أکثر الإخوان حین تعدّهم ولکنّهم فی النائبات قلیلُ (3)

ویقول ربیعة بن عامر (مسکین الدارمی):

ولیس أخی من ودّنی رأیَ عینهِ ولکنْ أخی من ودّنی وهو غائب(4)

ولقد تجلّت أروع صور النصرة، والأخوّة فی أعلی درجاتها، فی هذه الفئة

ص:213


1- (1) المرأة العظیمة لحسن الصفار: ص 129.
2- (2) الغیبة للنعمانی: ص 336، ومثله عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فی تفسیر ابن أبی حاتم: ج 9 ص 2990 ح 2991.
3- (3) دیوان الإمام علی: ص 96.
4- (4) المستطرف فی کلّ فنّ مستطرف، الباب الرابع والعشرون، فی حسن المعاشرة والمودّة والأخوة.

الموفّقة التی التفت حول أبی عبد الله الحسین علیه السلام فی وادی کربلاء، هذا الوادی الذی جمع القلوب المؤمنة من کلّ ملّة ودین، فکان فیهم العلوی والعمری والعثمانی، والمسلم والمسیحی، وکان فیهم الطفل الصغیر وصاحب الشیبة الکبیر، وکان منهم الشهید السعید عمّار بن حسان بن شریح الطائی رضی الله عنه، هذا الرجل الذی کانت مواقفه ومواقف أبیه وأقربائه کلّها تدور فی دائرة الولاء لأهل البیت علیهم السلام کما سیأتینا خلال حدیثنا عنه، بل لقد کان فی أحفاده من عاش الولاء والإیمان حتی امتلأ قلبه بحبّهم علیهم السلام وفیض علومهم، فتحول إلی راوٍ وفقیه کبیر.

أقوال العلماء فی الشهید

1. قال الشیخ السماوی: «عمار بن حسّان بن شریح بن سعد بن حارثة بن لأم ابن عمرو بن ظریف بن عمرو بن ثمامة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن طیّ الطائی».(1)

2. قال الشیخ شمس الدین رحمه الله تعالی: «عمّار بن حسّان بن شریح الطائی، ورد ذکره فی الزیارة، وفی الرجبیة ورد ذکره عمّار بن حسّان».(2)

3. قال النجاشی «وهو یترجم لحفیده:... ابن عامر، وهو الذی قتل مع الحسین بکربلاء، ابن حسّان المقتول بصفّین مع أمیر المؤمنین، ابن شریح بن سعد...»(3).

ص:214


1- (1) إبصار العین: ص 150.
2- (2) أنصار الحسین: ص 101.
3- (3) رجال النجاشی: ص 229 ح 606.

أجداد الشهید

لقد تمتّع الشهید الکربلائی بأجداد عرفوا عند العرب بأنّهم من کبار الشخصیات وأصحاب المنزلة الاجتماعیة الکبیرة، حتی أنّ الجاحظ وهو یتحدّث عن سعد، الجدّ الثانی للشهید، یقول: قال ابن الکلبی: من الأشراف سعد الأثرم بن حارثة بن لأم، أخو أوس بن حارثة بن لأم، وکان شریفاً نبیهاً»(1).

سعد الأثرم جد الشهید الکربلائی

ولقد وصلت أسرة الشهید وأجداده إلی درجة من الشهرة عند العرب، من حیث الکرم والجود والسخاء والشجاعة وسائر الأخلاق الفاضلة، ممّا أدّی إلی أن تشرئبّ عنق ملک الحیرة یومها، النعمان بن المنذر، إلی أن یخطب منهم زوجة له، وفعلاً خطب من سعد (جدّ الشهید) ابنته فرعة، فتزوّجها وصاهر هذه الأسرة وقرّبها الیه ومنحهم الکثیر من المنزلة والحبوة عنده، وکان من جملة الأمور التی اهتمّ بها سعد هو أن یکون سبّاقاً إلی الخیر ومساعدة الناس وإجارتهم، فلم یکن لیرضی لنفسه أن یجیر أحدٌ من الناس أحداً وهو قادر علی الإجارة ولا یفعل. أمّا اذا أجار أحدهم أحداً من الناس علی أرضه أو فی بیته أو فی أیّ مکان تصل الیه یده ولم یکن هو المجیر، فذاک الیوم سیکون یوم حزنه وألمه، وسیشعر أنّ فی هذا من المهانة له لا یرضاه أبداً، فیقول أبو فرج الأصفهانی فی الأغانی وهو یتحدّث عن حاتم وعلاقته ببنی لأم(2) قائلاً:

ص:215


1- (1) کتاب البرصان والعرجان للجاحظ: ص 13.
2- (2) الأغانی لأبی الفرج الأصفهانی / ج 18 / فی أخبار حاتم ونسبه / حاتم وبنو لأم.

«خرج الحکم بن أبی العاص بن أمیة بن عبد شمس، ومعه عطر یرید الحیرة، وکان بالحیرة سوق یجتمع الیه الناس کلّ سنة، وکان النعمان بن المنذر قد جعل لبنی لأم بن عمرو بن طریف بن عمرو بن ثمامة بن مالک بن جدعان بن ذهل بن رومان بن حبیب بن خارجة بن سعد بن فطنة بن طیّئ، ربع الطریق طعمة لهم، وذلک لأنّ بنت سعد بن حارثة بن لأم کانت عند النعمان بن المنذر، وکانوا أصهاره، فمرّ الحکم بن أبی العاص بحاتم بن عبد الله، فسأله الجوار فی أرض طیّئ حتی یصیر إلی الحیرة فأجاره، ثمّ أمر حاتم بجزور فنحرت وطبخت أعضاء فأکلوا، ومع حاتم ملحان بن حارثة بن سعد بن الحشرج، وهو ابن عمّه، فلمّا فرغوا من الطعام طیّبهم الحکم من طیبه ذلک، فمرّ حاتم بسعد بن حارثة بن لأم ولیس مع حاتم من بنی أبیه غیر ملحان، وحاتم علی راحلته وفرسه تقاد، فأتاه بنو لأم فوضع حاتم سفرته وقال: أطعموا حیّاکم الله، فقالوا: من هؤلاء معک یا حاتم؟ قال: هؤلاء جیرانی، قال له سعد: فأنت تجیر علینا فی بلادنا»(1).

فلم یکن یقبل أن یجار أحد علی أرضه دون أن یکون هو المجیر، حتی ولو کان الذی أجار هو حاتم الطائی نفسه، صاحب الباع الطویلة فی الکرم والجود والعطاء، وحسب اعتقادی أنّ هذه الخصال لابدّ وأن تترک أثرها فی أبناء هذا الرجل وأحفاده، فإن لم یکونوا مثله فلا أقلّ من أن یکونوا فی درجة ممدوحة من ذلک، وعلی کلّ حال سیکون عندهم استعداد ومیول نحو هذه الخصال والصفات المحمودة.

ص:216


1- (1) الأغانی: ج 17 ص 369.

أمّا أخو سعد بن حارثة، وهو أوس بن حارثة، فقد کان ناراً علی علم، وکان من المعمّرین کذلک، حتی لینقل عنه أنّه عمّر أکثر من 200 سنة، وینقل المبرّد عن شخصیته ومنزلته قائلاً:

«إنّ النعمان بن المنذر دعا بحلَّة، وکان عنده وجوه العرب وساداتها، فقال انتظروا إلی الغد حتی ألبس هذه الحلّة أکرمکم، وفعلاً ذهب الجمیع وحضروا فی الغد ولم یتخلّف عنهم إلاّ أوس، فقیل له: لم تتخلّف؟ فقال: إن کان المراد غیری فأجمل الأشیاء ألاّ أکون حاضراً، وإن کنت أنا المراد فسأطلب وسیعرف مکانی. فلمّا جلس النعمان لم یر أوساً فقال اذهبوا إلی أوس فقولوا له: احضر أمناً مما خفت، فحضر فألبسه الحلة»(1).

ومن هنا نعرف أنّ الشهید الکربلائی کان من بیوت العزّ والشرف والمنعة والسیادة والریادة وکان وجوده قویّاً ومؤثّراً فی الساحة الاجتماعیة فلیس بعد کلّ هذا أن یُقال عنه بأنّه من الشخصیات المعروفة فی التاریخ.

والد الشهید الکربلائی

ذکر النجاشی فی رجاله، والخوئی فی معجمه(2) ، أنّ حسّان والد الشهید کان من الرجال المؤمنین الذین وقفوا إلی جانب علی بن أبی طالب وصحبوه فی کلّ من معرکة الجمل وصفّین، إلی أن استشهد فی صفّین رضی الله عنه، هذه المعرکة التی کشفت عن معادن الرجال، وبیّنت الحقائق من الدعاوی، فلم یثبت فیها سوی من

ص:217


1- (1) الکامل للمبرّد: ج 1 ص 186.
2- (2) رجال النجاشی: ص 229 (606)، معجم رجال الحدیث: ج 5 ص 2655.

کان علی بیّنة من ربّه ونبیّه علیهما السلام، فلقد تعرّض أهل صفّین إلی هزّات عنیفة من خلال الشبهات التی أُثیرت آنذاک وأثّرت فیهم، سواءٌ قبل نشوب المعرکة أو خلالها، فهناک من رفع المصاحف کذباً وبهتاناً ودعا إلی الرجوع کتاب الله، وهناک من جبن وجبّن، وهناک من کان یسیر بین الصفوف ویقول: لا قتال لا قتال.

ولم تکن هذه الشبهات قد اختصّت بها معرکة صفّین، بل کانت موجودة حتی فی معرکة الجمل، وللمثال أقول هذه الروایة لتکون شاهداً علی ذلک وإن کانت تتحدّث عن واقعة الجمل، ولکن الأمر نفسه حصل فی صفّین: «عن أبی یحیی الواسطی قال: لمّا افتتح أمیر المؤمنین (المقصود فتح البصرة) اجتمع الناس علیه، وفیهم الحسن البصری ومعه الألواح، فکان کلّما لفظ أمیر المؤمنین کلمة کتبها، فقال أمیر المؤمنین له بأعلی صوته: ما تصنع؟ فقال: نکتب آثارکم لنحدّث بها بعدکم، فقال أمیر المؤمنین: أما إنّ لکلّ قوم سامری، وهذا سامری هذه الأمّة، أما إنّه لا یقول: لا مساس ولکن یقول: لا قتال»(1).

فکم سامری ابتلی به أمیرالمؤمنین فی صفّین کان یثبّط من عزائم الناس فی القتال، ولهذا قلنا آنفاً إنّ هذه المعرکة بل والمعارک التی خاضها أمیر المؤمنین کانت مختبراً عملیاً لکلّ الادّعاءات، فمن ثبت فیها کان فی غیرها أثبت، ومن خسر فیها وتزلزل کان فی غیرها أخسر وأکثر تزلزلاً، وهذا ما یفسّر لنا ما حصل لشمر بن ذی الجوشن وشبث بن ربعی وآخرین، حیث کانوا ممّن تزلزلت اقدامهم فی معرکة صفّین بل ووقفوا ضدّ علی علیه السلام. یقول السیّد الخوئی وهو

ص:218


1- (1) العرفان الإسلامی للسید محمد تقی المدرسی: ص 39.

یتحدّث عن شبث بن ربعی: «من أصحاب أمیر المؤمنین رجع إلی الخوارج»(1).

ولهذا حینما نقرأ فی التأریخ أنّ والد الشهید قاتل فی الجمل وصفّین، ولم ینتهِ الأمر إلی هذا الحدّ بل واستشهد فی صفّین، نعرف مدی الإیمان والثبات الذی کان یتمتّع به رضی الله عنه.

ابن عمّ الشهید الکربلائی

عُرفت أسرة الشهید بالإباء وعدم الرضوخ للظلم مهما کانت النتائج، ولقد قدّمت النفوس والأرواح فی هذا المجال، وهذه کانت سیرة آبائه وأقربائه، وسأتناول للتدلیل علی هذه الحقیقة سیرة واحد من أبناء عمّه ألا وهو:

عروة بن افاق بن شریح الطائی

قال ابن حجر فی الإصابة(2): «له إدراک، وشهد قتال الخوارج مع علی، فقال علی علیه السلام: لا یفلت منهم واحد ولا یقتلون منّا عشرة وکان کذلک وکان عروة فیمن قتل من العشرة».

وفی روایة ینقلها الخوارزمی عن عبیدة السلمانی: «إنّ علیاً خطب أهل الکوفة فقال: یا أهل الکوفة، لولا أن تبطروا لحدّثتکم بما وعدکم الله علی لسان نبیّه علیهما السلام الذین تقتلونه منهم المخدج الید، وهو صاحب الثدیة، فو الله لا یقتل منکم عشرة ولا یفلت منهم عشرة»(3).

ص:219


1- (1) معجم رجال الحدیث للخوئی: ج 10 ح 5687.
2- (2) ابن حجر فی الأصابة: ج 5، ص 96.
3- (3) المناقب للخوارزمی: ص 263.

ولا شکّ أنّ علیاً حینما قال هذه الکلمة لم یکن اعتباطاً من دون أی سبب وإنّما کان وراءها سبب وهذا ما یشیر الیه الهیثمی فی مجمع الزوائد، وفتح الباری فی شرح صحیح البخاری عن جندب بن عبد الله البجلی (أخو جریر بن عبد الله البجلی) الذی کانت له مواقف مخجلة مع علی علیه السلام وانتهت إلی أن هدم أمیر المؤمنین مسجده فی الکوفة) یقول: «لمّا فارقت الخوارج علیاً، خرج فی طلبهم وخرجنا معه، فانتهینا إلی عسکرهم، فإذا لهم دویّ کدویّ النحل من قراءة القرآن، واذا فیهم أصحاب الثفنات وأصحاب البرانس (المعروفون بالزهد والعبادة) قال: فدخلنی من ذلک شکّ فنزلت عن فرسی وقمت أصلّی فقلت: اللهمّ إن کان قتال هؤلاء القوم لک طاعة فأذن لی فیه، وإن کان معصیة فأرنی براءتک، یقول: فمرّ بی علی علیه السلام فلمّا حاذانی قال: تعوّذ بالله من الشکّ یا جندب، فلمّا جئته أقبل رجل علی برذون یقول: إن کان لک بالقوم حاجة فإنّهم قد قطعوا النهر، قال: ما قطعوه، قلت: سبحان الله، ثمّ جاء آخر فقال مثل قوله، ثمّ جاء آخر بما جاء به الأولان، فی کلّ مرّة یقول: ما قطعوه ولن یقطعوه، ولیقتلنّ دونه، عهد من الله ورسوله، قلت: الله أکبر، ثمّ رکبنا فسایرته فقال لی: سأبعث الیهم رجلاً یقرأ القرآن یدعوهم إلی کتاب الله وسنّة نبیّهم، فلا یقبل علینا بوجهه حتی یرشقوه بالنبل، أما إنّه لا یقتل منّا عشرة ولا یفلت منهم عشرة، یقول: فانتهینا إلی القوم، فأرسل الیهم فتی من بنی عامر، فلمّا دنا منهم حیث یسمعون، قاموا ونشبوا الفتی، فأقبل علینا بوجهه فقعد، فقال علی: دونکم القوم. قال جندب: یکفی هذه بعد ما دخلنی ما کان دخلنی»(1).

ص:220


1- (1) مجمع الزوائد للهیثمی: ج 6، ص 241 (بتصرّف).

وفعلاً لم یقتل من جیش علی عشرة ولم یفلت منهم عشرة وکان من جملة الشهداء فی هذه المعرکة عروة بن أفاق بن شریح، ابن عمّ الشهید الکربلائی، ولحسن موقفه وثباته ذکره السیّد عبد الحسین شرف الدین فی کتابه الفصول المهمّة وترحم علیه بقوله:

«عروة بن شفاف بن شریح بن سعد بن حارثة بن لأم الطائی، الذی شهد قتال الخوارج مع أمیر المؤمنین فقال له: لا یفلت منهم عشرون ولا یقتلون منّا عشرة، فکان الأمر کذلک، وکان عروة فیمن قتل یومئذ رحمه الله تعالی».(1)

هل للشهید قریب من شهداء کربلاء؟

اشارة

لقد ذکر العلماء الذین ترجموا لأصحاب الحسین علیه السلام کلّ صغیرة وکبیرة تتعلّق بهم، لا سیما ما جری لهم فی کربلاء، حیث تحدّثوا وأشاروا إلی وقت التحاقهم بالحسین، وهل کان التحاقهم لوحدهم أم مع آخرین؟

وإذا کان برفقتهم آخرون فمن هم یا تری؟

هل کانوا من أقربائهم، وأبنائهم وإخوانهم وأبناء عمومتهم وزوجاتهم وبناتهم وأخواتهم؟

أم کانوا أصحاباً لهم وأصدقاء؟

بل لقد ذکر العلماء فی هذا المجال حتی الموالی الذین جاءوا واستشهدوا مع الشهداء، وحتی تکون الصورة واضحة أکثر سوف أذکر مثالاً علی ذلک.

ص:221


1- (1) الفصول المهمّة: ص 198.

أولاً: ذکروا أنّ الحرّ بن یزید الریاحی حینما انتقل إلی معسکر الحسین، انتقل معه ولده علی ومولی له یقال له ترکی.(1)

ثانیاً: ذکروا أنّ زهیر بن القین حینما انتقل وسایر الحسین إلی کربلاء، أقبل معه من أبناء عمومته سلمان بن مضارب البجلی.(2)

ثالثاً: ذکروا أنّ مسلم بن عوسجة حینما وصل إلی الحسین، وصل ومعه زوجته (أمّ خلف) وولده خلف.(3)

رابعاً: ذکروا أنّ جنادة بن کعب الأنصاری حینما أقبل إلی الحسین، أقبل ومعه زوجته وولده عمرو، المستشهدون بین یدی الحسین.(4)

خامساً: وذکرو من الموالی الکثیر، منهم عمرو بن خالد الصیداوی وسعد مولاه.(5)

وهناک آخرون ذکرهم العلماء، أعرضت عن ذکرهم، لأنّی أردت أن أعطی مثلاً للتدلیل علی أنّهم ذکروا هذا الأمر بکلّ تفصیلاته التی عرفوها واطّلعوا علیها، ولکنّهم وللأسف الشدید لم یذکروا أیّ شیء، لا من قریب ولا من بعید، عن الشهید الکربلائی عمّار بن حسّان الطائی، والذی کان من جملة من التحق

ص:222


1- (1) وسیلة الدارین: ص 111، مقتل الخوارزمی.
2- (2) إبصار العین: ص 132.
3- (3) ریاحین الشریعة لذبیح الله محلاتی: ج 3 ص 315.
4- (4) إبصار العین: ص 123.
5- (5) إبصار العین: ص 90.

بالحسین علیه السلام واستشهد فی کربلاء أحد أقربائه، وهو عامر بن مسلم العبدی، والذی نمیل إلی أنّه کان ابن أخی الشهید الکربلائی رضی الله عنه.

وقد ورد عن بعض علمائنا رضی الله عنه حول هذا الشهید الکربلائی (عامر بن مسلم العبدی) قولهم: مجهول فی أصحاب الحسین، کما سیأتینا خلال البحث إن شاء الله. وحینما ترجع إلی الکتب التی ترجمت وتحدّثت عنه، لا تجدهم یزیدون فی اسمه ونسبه عن هذا الذی ذکرت.

ولکنّی وجدت أنّ الشیخ النجاشی فی رجاله ذکر نسب الشهید مع تفصیل فی آبائه، حیث یقول السیّد الزنجانی فی کتابه وسیلة الدارین، نقلاً عن النجاشی: «هو عامر بن مسلم بن حسّان بن شریح بن سعد بن حارثة بن لأم بن عمرو بن طریف بن عمرو بن ثمامة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن فطرة السعدی البصری، من أصحاب الحسین قتل معه بالطفّ»(1).

وقد طابقت نسب هذا الشهید مع ما ذکره السماوی فی إبصار العین، فی ترجمة عمّار بن حسّان الطائی، حیث یقول: «عمّار بن حسّان بن شریح بن سعد بن حارثة بن لأم بن عمرو بن ظریف بن عمرو بن ثمامة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن فطرة بن طیّ ء الطائی»(2).

فوجدت أنّ هناک تطابقاً مئة بالمئة، نعم ورد الاختلاف فی «طریف» و «ظریف»، ولکن مثل هذا الأمر یحمل علی التصحیف، کما هو معروف عند

ص:223


1- (1) وسیلة الدارین: ص 161.
2- (2) ابصار العین: ص 150.

أهل هذا الفنّ، ولا یمکن أن یکون اختلافاً یوقف استدلالاً ما، نعم هناک مسألة مهمّة لابدّ من تسلیط الضوء علیها ومن مناقشتها مناقشة علمیة، وهی النسبة التی ذکرها العلماء لکلّ من الشهیدین؛ فهذا طائیّ، وذاک سعدی بصری عبدی.

أقول: إنّ نسبة السعدی التی ذکرها العلماء فی عامر بن مسلم، هی الأقرب إلی واقع نسب الشهید رضی الله عنه، لأنّ من کان نسبه حسب ما ذکره السماوی، لا یمکن أن ینتهی إلی أن یکون عبدیاً من عبد قیس.

نعم یمکن أن یکون عبدیاً ولکن من أبناء عبد جذیمة، لأنّه یرجع إلی طیّئ أو حسب تعبیر أهل هذا العلم أنّ جذیمة، بطن من طیّئ، یقول المعتری فی المنتخب فی نسب قبائل العرب، وهو من بنی لأم من طیّئ، وأعرف من غیره بأنساب طیّئ.

«وکان لطیّئ من الولد الغوث وقطرة والحارث، فولد لقطرة سعد، فتزوج سعد جدیلة بنت سبیع بن حمیر الأصغر، فعرفوا بها، ویقال لهم جدیلة، باسم أمّهم، وکان لطیّئ قبیلتان: جدیلة والغوث، ومن بطون الغوث بنو جرم، واسمه ثعلبة بن عمرو بن الغوث، ومن بطون جرم جذیمة، ذکرهم الحمدانی».

ولهذا یصحّ أن یعبّر عن أولاد بنی عبد جذیمة بالعبدی الطائی.

مع أن العبدیّین من عبد قیس، أمثال الأدهم بن أمیّة العبدی وآخرین، أصح أن یُطلق علیهم هذا اللقب وهو الطائی، دون الآخر وهو العبدی، ویمکن أن یکون شاهداً علی ذلک خروجهم جمیعاً إلی نصرة الحسین من بیت ماریة بنت منقذ

ص:224

العبدیة، التی ذکر الطبری أنّها من عبد قیس فی البصرة.(1).

وهذا الأمر متعارف علیه عند الناس قدیماً وحدیثاً، حیث یطلقون اسماً أو لقباً معیّناً علی إنسان ما، یختلف عن لقبه الأصلی، کمن یکون مثلاً کوفیاً فینتقل إلی البصرة ویسکن فیها لمدّة طویلة فیطلق علیه أو علی أولاده بصری، ولا یقال إنّ هذا الأمر یخصّ المدن ولا یشمل الأسماء والألقاب.

أقول: لا، بل یمکن ذلک، وقد الحقت ألقاب وأسماء بشخصیّات جاهلیة وإسلامیة، وعُرفت فی التاریخ بالاسم الثانی واشتهرت به، دون الاسم الحقیقی الذی یرجع الیه نفس الشخص، والمثال البارز علی ذلک هو المقداد بن الأسود الکندی، فمع أنّ اسمه هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالک بن ربیعة بن عامر ابن مطرود البهرائی، نسبه الناس إلی الکندی وإلی الأسود؛ فأمّا الکندی فلأجل أنّ أباه حالف قبیلة کندة، وأمّا الأسود فلأنّ المقداد حالف فی قریش الأسود بن عبد یغوث الزهری عندما قدم مکّة، وعرف منذ ذلک الوقت بالمقداد بن الأسود الکندی، دون الاسم الأول الذی بقی فقط فی کتب التحقیق والتألیف.

وربما کان الشهید عامر بن مسلم بن شریح العبدی نسب الیهم بسبب الصداقة الکبیرة والصحبة الولائیة التی ارتبط من خلالها بهم هو وأبوه، والتی انتهت إلی إطلاق لفظ العبدی علیها مع أنهما طائیّان.

أمّا لفظة السعدی فیمکن لکلّ طائی أن یقال عنه سعدی، لأنّ السعدی یرجع إلی طیّئ فلا یضرّ أن یقال للشخص السعدی طائی، أو أن یکتفی بذکر

ص:225


1- (1) تنقیح المقال: ج 3 ص 82، مستدرکات علم الرجال: ج 8 ص 598، تاریخ الطبری: ج 3 ص 287.

واحدة دون الأخری، لأنّهما بالنتیجة یرجعان إلی طیّئ وهو الذی نرید أن نصل الیه من حدیثنا هذا.

وللمثال فقط أقول إن ممّن أُطلق علیه اللفظان معاً السعدی والطائی، هو الصحابی مازن بن الغضوبة السعدی الطائی، وهو أول من أسلم من أهل عُمان(1) ومن هنا یمکن للانسان أن یخرج بنتیجة، وهی أنّ الشهید عامر بن مسلم لیس عبدیاً وإنّما هو طائی سعدی بصری، وممّا یؤکّد هذه النسبة التی ذهبنا الیها ما ذکره أعلامنا رضی الله عنه أمثال:

1. النمازی فی مستدرکات علم الرجال، وهو یترجم للشهید عامر، حیث قال:«عامر بن مسلم بن حسّان بن شریح البصری السعدی».(2)

2. النجاشی فی ترجمة الشهید، نقلاً عن الزنجانی فی وسیلة الدارین، حیث قال: «عامر بن مسلم بن حسّان بن شریح بن سعد بن حارثة بن لأم بن عمرو بن طریف بن عمرو بن ثمامة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن فطرة السعدی البصری».(3)

فإذا علمنا أنّ نسبهما واحد، وأنّهما یشترکان فی أسماء الأجداد واسم الأب، سوی أنّ الأول أطلق علیه الطائی، والثانی أطلق علیه السعدی والعبدی، کما بیّنا، فتکون النتیجة أنّ القرابة بینهما أمر لابدّ من القول به

ص:226


1- (1) عمان فی التاریخ وزارة الاسلام: ص 112، اتحاق الأعیان سیف بن طمود البطاشی: ج 1 ص 21.
2- (2) مستدرکات علم الرجال: ج 4 ص 322 ح 7352.
3- (3) وسیلة الدارین: ص 161.

نوع القرابة ودرجتها

أمّا ما هی هذه القرابة ودرجتها؟ فعندنا احتمالات ثلاثة لا رابع لها:

أولاً: منهم من یقول إنّ عامر بن مسلم بن حسّان الطائی لابدّ أن یکون ابن أخی الشهید عمّار بن حسّان الطائی، کما هو واضح، ومنهم النمازی فی المستدرکات ووسیلة الدارین، وآخرون.(1)

ثانیاً: منهم من یقول بأنّ عامر هو ابن حسّان بن شریح الطائی، فلابدّ أن یکون الشهیدان أخوین، لأنّ أباهما واحد، وهو حسّان، وذهب إلی ذلک المامقانی، وعلی ما نقل فی کتاب النجاشی نفسه، فی ترجمة أحمد بن عامر حفیده، حیث قال: «أحمد بن عامر بن سلیمان بن صالح بن وهب بن عامر بن حسّان بن شریح بن سعد الخ».(2)

ثالثاً: ربما یأتی احتمال أن تکون کلّ من الشخصیّتین إنّما تشیر إلی شخصیة واحدة لاشتراکهما فی النسب، وبدل أن یقال عمّار قالوا عامر، للتصحیف مثلاً، کما ورد الاختلاف فی أسماء بعض الشهداء فی کربلاء، ومن ثم لا یؤدّی الاختلاف فی الاسم إلی تعدّد الشخصیّات فی الخارج، وقد مال إلی ذلک السیّد الخوئی رضی الله عنه(3) ، وهذه الاحتمالات الثلاثة کلّ منها یمکن قبوله، وعلیه علامات ودلائل.

ص:227


1- (1) مستدرکات علم الرجال: ج 4 ص 323 ح 7352. النصرة فی شیعة البصرة: ج 2 ص 137. وسیلة الدارین: ص 161، إیضاح الاشتباه للعلاّمة الحلی: ص 191 ح 88.
2- (2) المامقانی: ج 6 ص 194-195، رجال النجاشی: ص 100 ح 250.
3- (3) معجم رجال الحدیث: ج 10 ح 6086، حیث ذکره تحت اسم عامر بن حسان بن شریح... وجاء فی المناقب عمّار، ولعلهما واحد.

ولکن اذا ما دُقق فی هذه الاحتمالات واحداً واحداً فسننتهی إلی أنّ الرأی الأول هو الأقرب من هذه الاحتمالات الثلاثة، وإن کانت جمیعها مقبولة بشکل عامّ.

ومن ثم فإنّ بعض العلماء(1) أمثال الزنجانی فی وسیلة الدارین، والعلاّمة فی إیضاح الاشتباه، والنمازی فی مستدرکات علم الرجال، والنجاشی علی قول الزنجانی فی وسیلة الدارین، والسماوی کذلک، والفضیل بن الزبیر فی کتابه تسمیة من قتل مع الحسین، وآخرین، یرجّح کفّة الاحتمال أن یکون الشهید هو ابن أخی الشهید عمّار بن حسّان الطائی رضی الله عنه.

ولکن سواء ملنا إلی الرأی الأول أو الثانی أو حتی الثالث، فإنّ الصورة تکون واضحة.

وأمّا بالنسبة إلی نسب الشهید، فسواء قلنا هو عمّار بن حسّان الطائی أو عامر ابن مسلم بن حسّان العبدی، أو عامر بن حسّان العبدی، فإنّ هذا النسب معلوم غیر مجهول.

فکیف والحال هذه یمکن أن یقال عن هذه الشخصیة کلمة تشیر إلی مجهولیّتها، مع ما أوضحنا مِن معلومیة النسب والنسبة، وعلیه فلا یسعنی أن أقول شیئاً فی مقابل عمالقة علم الرجال وفطاحل العلماء الأفذاذ أمثال السیّد الخوئی والشیخ المامقانی، سوی أن أذکر عبارتهما التی انتهیا فیها إلی أنّ عامر بن مسلم

ص:228


1- (1) مستدرکات علم الرجال: ج 4 ص 323 ح 7352، النصرة فی شیعة البصرة: ج 2 ص 137، وسیلة الدارین: ج 161. إیضاح الاشتباه للعلاّمة: ص 191 ح 88.

ابن حسّان العبدی مجهول فی اصحاب الحسین. حیث نقل السیّد الخوئی فی معجمه فی ترجمة عامر بن مسلم:«مجهول من أصحاب الحسین علیه السلام»(1).

حفید الشهید الکربلائی

لقد وُهِبَ الشهید الکربلائی ذریة صالحة مبارکة، صاحبة عطاءٍ کبیر، حملت فکر أهل البیت وعلومهم، من جیل إلی جیل، حتی لقد کتب عنهم المؤرّخون وأصحاب الحدیث والرجال، ومجّدوا شخصیاتهم، فکانوا مصداقاً للآیة الکریمة:

«وَ أَمَّا الْجِدارُ فَکانَ لِغُلامَیْنِ یَتِیمَیْنِ فِی الْمَدِینَةِ وَ کانَ تَحْتَهُ کَنْزٌ لَهُما وَ کانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّکَ أَنْ یَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ یَسْتَخْرِجا کَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّکَ 2» .

ولقد تحدّر من صلب الشهید أعلام مشهورون شهد لهم أرباب العلم والمعرفة، بالعلم والمعرفة وکان من هؤلاء أحمد بن عامر الطائی، وولده عبد الله، حیث یقول عنه المامقانی:

«أحمد بن عامر، أبو الجعد، عدّه الشیخ فی رجاله من أصحاب الرضا علیه السلام قائلاً: أحمد بن عامر بن سلیمان الطائی، روی عنه ابنه عبد الله بن أحمد وأسند عنه، انتهی. وقال النجاشی: أحمد بن عامر بن سلیمان بن صالح بن وهب بن عامر، وهو الذی قتل مع الحسین بن علی علیه السلام بکربلاء، ابن حسّان الشریح (بن شریح)

ص:229


1- (1) معجم رجال الحدیث: ج 10 ح 6113.

ابن سعد بن حارثة بن لأم بن طریف... ویکنّی أحمد بن عامر أبا الجعد»(1).

وممّا تمیّز به هذا الحفید هو أنّه کان الراوی لصحیفة الإمام الرضا علیه السلام، حیث وردت بعدة مسانید، کانت أغلب هذه المسانید ان لم نقل کلّها، تنتهی إلی حفید الشهید الکربلائی عبد الله بن أحمد بن عامر الطائی، فقد ذکرها الشیخ الصدوق(2) ، وابن جریر الطبری فی دلائل الإمامة(3) ، والنجاشی(4) ، والطوسی(5) ، وابن المغازلی فی المناقب(6) ، والخوارزمی(7) ، والکنجی فی کفایة الطالب(8) بسند

یقول عنه الزمخشری فی ربیع الأبرار(9): کان یقول یحیی بن الحسین الحسینی فی اسناد صحیفة الرضا لو قرأ هذا الاسناد فی مجنون أفاق.

ویقول أبو نعیم فی حلیة الأولیاء، بعد أن رواه بتفاوت یسیر: «هذا حدیث ثابت مشهور بهذا الإسناد من روایة الطاهرین عن آبائهم الطیّبین، وکان بعض سلفنا من المحدّثین اذا روی هذا الإسناد قال: لو قرأ هذا الإسناد علی مجنون لأفاق»(10).

ص:230


1- (1) تنقیح المقال: ج 6 ص 195-196.
2- (2) الصدوق ثواب الأعمال: ص 252 ح 3. عیون أخبار الرضا علیه السلام: ج 2 ص 8.
3- (3) دلائل الإمامة: ص 58.
4- (4) النجاشی: ص 170.
5- (5) الطوسی فی الأمالی: ص 285.
6- (6) المناقب لابن المغازلی: ص 64-69.
7- (7) المناقب للخوارزمی: ص 208-210.
8- (8) کفایة الطالب: ص 184.
9- (9) الزمخشری فی ربیع الأبرار: ص 673.
10- (10) حلیة الأولیاء: ج 3 ص 191.

وللتبرّک سوف أذکر روایة واحدة من هذه الصحیفة التی رواها لنا حفید الشهید الکربلائی عبد الله بن أحمد بن عامر.

«ینقل عبد الله بن أحمد بن عامر الطائی عن أبیه عن الرضا علیه السلام بالإسناد عن رسول قال: قال رسول الله: «یا علی، إنّی سألت ربّی فیک خمس خصال فأعطانی؛ أمّا أوّلهن فسألت ربی أن تنشق عنی الأرض وأنفض التراب عن رأسی وأنت معی فأعطانی، وأمّا الثانیة فسألت ربّی أن یوقفنی عند کفّة المیزان وأنت معی فأعطانی، وأمّا الثالثة فسألت ربی أن یجعلک حامل لوائی، وهو لواء الله الأکبر، تحته المفلحون الفائزون فی الجنّة فأعطانی، وأمّا الرابعة فسألت ربّی أن تسقی أمّتی من حوض الکوثر فأعطانی، وأمّا الخامسة فسألت ربّی أن یجعلک قائد أمّتی إلی الجنّة فأعطانی ربّی، والحمد لله الذی مَنّ علیّ بذلک».(1)

ولقد روی عنه أرباب العلم والمعرفة ألواناً من الروایات، بل لقد عدّه علماؤنا من أصحاب الفتوی. کما ورد عن الشیخ السبحانی فی کتابه «تاریخ الفقه الإسلامی وأدواره»(2) حیث ذکره فیمن کان من أصحاب الفتوی فی زمن الإمام الرضا علیه السلام، ولا یرد هنا إشکال: کیف یفتی مع وجود إمام معصوم؟ الفتوی إنّما تعنی أنّ الفقیه یکون مُلمّاً لأصول الشرعیة والقواعد، ما یستطیع من خلالها التفریع علیها واستنباط الحکم الشرعی، وقد ورد عن أهل البیت قولهم: «علینا إلقاء الأصول وعلیکم التفریع»(3).

ص:231


1- (1) صحیفة الإمام الرضا علیه السلام: ح 33.
2- (2) تاریخ الفقه الإسلامی وأدواره للشیخ السبحانی: ص 146.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 27 ص 62، میزان الحکمة: ج 1 ص 549.

ومن هنا نجد أنّ هناک جملة من أصحاب الأئمّة ألّفوا فی هذه الأصول حتی أوصلها بعضهم إلی أکثر من أربعمائة أصل (قاعدة) مثل قاعدة «کلّ شیء لک طاهر حتی تعلم أنّه نجس» أو قاعدة «کلّ شیء لک حلال حتی تعلم أنّه حرام»(1) بحیث یستطیع الفقیه من خلالها إصدار الحکم الشرعی، وکلّ هذه القواعد التی ذکرها العلماء مصدرها الأوّل هو القرآن وقول المعصوم علیه السلام وتقریره، ولذلک یقول السیّد عبد الله شبّر، فی کتابه الأصول الأصلیة والقواعد الشرعیة، فی مقدّمته: «وتضمّنت مهمّات المسائل الأصولیة التی تستنبط منها الأحکام الشرعیة الفرعیة، من الآیات القرآنیة والأخبار المعصومیة، وسمّیتها الأصول الأصلیة والقواعد الشرعیة»(2). ولقد عنی أئمّة أهل البیت بإعداد هؤلاء الأفذاذ الکبار من العلماء، وتعلیمهم قواعد الاستنباط، وتأهیلهم للفتوی، لعلمهم علیهم السلام بحاجة الأمّة إلی أمثالهم سواء فی عصرهم علیهم السلام، لتعذّر وصول المعصوم إلی کلّ مکان فی آن واحد، ممّا یستدعی وجود وکلاء یعملون ضمن قواعد معیّنة ومعطاة لهم من قبل المعصوم، هذا من جانب، ومن جانب آخر تکون مثل هذه العملیة إعداداً طبیعیاً تدریجیاً لمرحلة الغیبة الصغری والکبری، والتی سوف تعتمد الأمّة خلالها علی خلفاء المعصومین علیهم السلام، ألا وهم العلماء العاملون، کما فی التوقیع من الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف:

«وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فیها إلی رواة أحادیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم، وأنا حجّة الله».(3)

ص:232


1- (1) الفقه للمعتریین: ص 85.
2- (2) الأصول الشرعیة والقواعد الفقهیة للسیّد عبد الله شبّر: ص 5.
3- (3) کفایة الأحکام: ص 83.

فائدة

وهناک بعض الروایات التی رواها لنا حفید الشهید الکربلائی «عبد الله بن أحمد بن عامر الطائی» وردت فی الکثیر من المؤلّفات القدیمة والحدیثة لمدرسة اهل البیت وغیرها، أذکر بعضاً منها فیما یتعلق بأهمّیة التسمیة وفضلها، خصوصاً فی أیّامنا، حیث أخذ الکثیر من إخواننا یسمّون أبناءهم تسمیات ما أنزل الله بها من سلطان، بل ربما تکون مدعاة لهم ودافعاً للانحراف لا قدّر الله، فإنّ للاسم آثاراً نفسیّة ومعنویة علی الولید تصحبه إلی آخر عمره.

ینقل ابن بکیر فی کتابه «فضائل التسمیة» أحادیث عن النبی صلی الله علیه و آله والمعصومین علیهم السلام فی هذا المجال، منها:

أولاً: «حدّثنا أبو یعقوب بن یوسف بن علی بن یحیی العزّاوی، حدّثنا أبو بکر أحمد بن شاذان البزّاز ببغداد، حدّثنا أبو القاسم عبد الله بن عمّار الطائی، حدّثنا أبی، حدّثنا علی بن موسی الرضا عن أبیه عن جدّه جعفر بن محمد عن أبیه عن جدّه الحسین بن علی عن علی بن أبی طالب قال:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله: إذا سمّیتم الولد محمّداً فأکرموه وأوسعوا له المجلس، ولا تُقبّحوا له وجهاً» (1).

ثانیاً: «حدّثنا أبو یعقوب بن یوسف بن علی الفقیه، حدّثنا أبو بکر ابن شاذان ببغداد، حدّثنا أبو القاسم الطائی، حدّثنا أبی، حدّثنا أبو الحسن الرضا عن موسی ابن جعفر الصادق عن أبیه محمد الباقر عن جدّه علی زین العابدین عن أبیه

ص:233


1- (1) فضائل التسمیة لابن بکیر، تحقیق مجدی فتحی السیّد: ح 25.

الحسین عن أبیه علی بن ابی طالب قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: ما من مائدة وضعت فحضر علیها من اسمه محمد أو أحمد إلاّ قدّس ذلک المنزل فی کلّ یوم مرّتین».(1)

ثالثا: «حدّثنا أبو یعقوب یوسف بن علی الفقیه، حدّثنا أحمد بن إبراهیم بن الحسن البغدادی، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن عمّار الطائی، حدّثنا أبی، حدّثنا علی ابن موسی العلوی، حدّثنا أبی موسی بن جعفر عن أبیه عن جدّه محمد الباقر عن ابیه عن جده الحسین عن علی بن أبی طالب قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: ما من قوم کانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوا مشورته إلاّ خیر لهم فیها».(2)

وقدً ورد عن طریق حفید الشهید الکربلائی فی حقّ الزهراء روایات نذکر منها هذه الروایة: «روی الشیخ المجلسی عن عیون أخبار الرضا عن أحمد بن جعفر البیهقی عن علی الجرجانی عن إسماعیل بن أبی عبد الله القطّان عن أحمد ابن عبد الله بن عامر الطائی عن أبی أحمد بن سلمان الطائی عن علی بن موسی الرضا عن آبائه قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: تحشر ابنتی فاطمة یوم القیامة ومعها ثیاب مصبوغة بالدم تتعلّق بقائمة من قوائم العرش وتقول: یا عدل، احکم بینی وبین قاتل ولدی، قال رسول الله: فیحکم الله لابنتی وربّ الکعبة، وإنّ الله عزّ وجلّ لیغضب لغضب فاطمة ویرضی لرضاها».(3)

ص:234


1- (1) فضائل التسمیة لابن بکیر، تحقیق مجدی فتحی السیّد: ح 23.
2- (2) نفس المصدر: ح 4.
3- (3) بحار الأنوار: ج 43 ص 220.

الشهید فی کربلاء

لقد تربّی الشهید الکربلائی عمّار بن حسّان الطائی، علی نهج الولاء للحقّ وأهله، والبراءة من الباطل وأتباعه، کما کان أبوه «حسّان» علی ذلک، حتی خرّ فی صفّین شهیداً، فخرج الشهید وهو یملک إخلاصاً عالیاً، وشجاعة فی نصرة الحقّ یشار الیها بالبنان، وفهماً وبصیرة، وقد وعی قول رسول الله:

«من مات ولم یعرف إمام زمانه مات میتة جاهلیة» (1).

فعرف إمام زمانه فوالاه ولازمه، وصحبه من مکّة إلی کربلاء، ولم یتزلزل قید أنملة حتی وصل إلی کربلاء، وصار یوم العاشر من المحرّم.

وبدأ الحسین یعظ القوم وینصحهم عسی أن یجد فیهم من یتّعظ ویکفّ عن محاربة الله فی أهل بیت نبیّه، ولکنّ القوم أبوا إلاّ القتال وعندها أبت العزّة الحسینیّة إلاّ التقدّم والنزال، دفاعاً عن العرض والدین، وصوناً للمبادئ الأصیلة والقیم السامیة. وینقل أنّ الشمر حمل حملته الغادرة نحو عسکر أبی عبد الله بأصحابه، عن الیمین والشمال، رشقاً بالنبال عن بعد، فأصاب أصحاب الحسین التی بین قتیل وجریح، وهی التی عرفت بالحملة الأولی، وکان بین الشهداء آنذاک، کما یروی ابن شهر آشوب فی المناقب، عمّار بن حسّان الطائی رضی الله عنه، فحاز بذلک الفوز العظیم، وألهب الحماس والثورة فی نفوس الأحرار، وبقی ذکره خالداً مع ذکر الحسین علیه السلام وأصحابه إلی أن یرث الله الأرض ومن علیها، ونال الشرف العظیم بتسلیم الإمام المهدی عج الله تعالی فرجه الشریف علیه بقوله:

«السلام علی عمّار بن شریح الطائی».

ص:235


1- (1) الملل والنحل للشهرستانی (طبعة القاهرة): ج 1 ص 172، فی ذیل الاسماعیلیة.

الشهید عبدُ الله بن یقطر علیه السلام

اشارة

بین یدی الشهید: "قال احد الشعراء راثیاً شهداء الطف(1):

أذا العین قرّت فی الحیاة وأنتم تخافون فی الدنیا فاظلم نورها

مررتُ علی قبر الحسین بکربلا ففاض علیه من دموعی غزیرها

ومازلت أبکیه وأرثی لشجوه ویسعُد عینی دمعها وزفیرها

وبکیت من بعد الحسین عصائباً أطافت به من جانبیه قبورها

سلامٌ علی أهل القبور بکربلا وقل لها منی سلامٌ یزورها

سلامٌ بأصال العشی وبالضحی تؤدیه نکباءُ الریاح ومورها

ولا برح الوفّاد زوار قبره یفوح علیهم مسکها وعبیرها

نعم، لا یستطیع الإنسان أن یمسک زمام نفسه وعاطفتها وأن یتمالک بإسرار زفرتهِ ودمعتها، وهو یقف علی ثری الطف، فتتمثل أمامه تلک النخبة المؤمنة والصالحة مع الحسین علیه السلام، التی سطرت أعظم الملاحم الإیمانیة علیها، أولئک الذی أبوا إلا أن یعیشوا مع الحسین علیه السلام وأن یموتوا مع الحسین علیه السلام وأن یحشروا مع الحسین علیه السلام ومنهم الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، هذا الرجل الذی آلی علی

ص:236


1- (1) هو عقبة بن عمرو السهمی بن عوف بن غالب وهو أول من رثی الحسین وشهداء الطف/ أدب الطف للسید جواد شبر 52/1.

نفسه أن لا یبیع سرَّ الحسین الذی أعطاه له، وإن حصل ما حصل، بل ولو قُطِعَ رأسه، وتکسرت أضلاعه، وکأنه أراد أن یوصل رسالةً مفادها، أنّ معنی الحیاة الحقیقیة، هی أن یعیش الإنسانُ حراً کریماً، أمّا إذا فقدها، فلا خیر فی الحیاة أبداً وکما یقول الإمام أمیر المؤمنین:

«فالموت فی حیاتکم مقهورین والحیاة فی موتکم قاهرین» (1).

وهذه هی رسالةُ الحسین علیه السلام نفُسها التی أراد ان یوصلها إلی تلک الأمة المیتة، من أجل ان تعی واقعها الخطیر الذی تعیشه مع یزید وعبید الله بن زیاد، یقول الحسین علیه السلام:

«فإنی لا أری الموت إلا سعادة والحیاة مع الظالمین إلا برما» (2).

أقوال العلماء فی الشهید الکربلائی

1 - قال ابن حجر وهو یتحدث عن الشهید عبد الله بن یقطر: ذکر أبو جعفر الطبری أنه قتل مع الحسین بن علی بکربلاء وکان رضیعه(3).

2 - قال الفضیل بن الزبیر: وقُتل عبد الله بن یقطر رضیع الحسین بن علی، بالکوفة، رمی من فوق القصر فتکسر فقام إلیه عبد الملک بن عمیر اللخمی فقتله واحتز رأسه(4).

ص:237


1- (1) علی خطی الحسین/ د. أحمد راسم النفیس/ ص 58.
2- (2) العوالم، الإمام الحسین/ الشیخ عبد الله البحرانی/ ص 67.
3- (3) الاصابة لابن حجر: ج 4 ص 59.
4- (4) مقتل الفضیل بن الزبیر/ تحقیق السید محمد رضا الجلالی/ مجلة تراثنا - العدد (2) ص 152.

3 - قال العلاّمة ابنُ داود: عبدُ الله بن یقطر، یقال بالیاء المثناة تحت ویقال بالباء المضمومة المفردة تحت والقاف والطاء المهملة المضمومة، رضیعه أرسله إلی الکوفة(1).

4 - قال الراوندی: عبد الله بن یقطر بن أبی عقب اللیثی من بنی اللیث بن بکر بن عبد مناة بن کنانة(2).

5 - قال علی النمازی الشاهرودی: عبد الله بن یقطر، رضیع الحسین، وهو حامل کتاب أهل الکوفة إلی مولانا الحسین علیه السلام، وهو حامل لکتاب الحسین إلی أهل الکوفة(3).

6 - قال الشیخ محمد السماوی: عبد الله بن یقطر الحمیری، رضیع الحسین، کانت أُمّه حاضنة للحسین کأم قیس بن ذریح للحسین علیه السلام ولم یکن رضع عندها ولکنه یسمی رضیعاً لحضانة أُمّه له(4).

7 - قال الشیخ محمد مهدی شمس الدین رحمه الله: عبد الله بن یقطر، حمیری من عرب الجنوب، کانت أُمّه حاضنة للحسین علیه السلام ذکره ابن حجر فی الاصابة، قال انه کان صحابیاً لأنه لدة الحسین(5).

ص:238


1- (1) کتاب الرجال لابن داود: ج 1 ص 930/135.
2- (2) کتاب الخرائج والجرائح للراوندی ج 2 ص 550.
3- (3) مستدرکات علم الرجال للنمازی: ج 5 / ص 135.
4- (4) إبصار العین للسماوی/ ص 93-94
5- (5) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: 123.

أسم الشهید واسم أبیه

اشارة

لا یوجد خلاف عند من تحدث وکتب عن الشهید انه «عبد الله».

نعم ورد الاختلاف فی اسم ابیه رضی الله عنه حیث انقسموا فیه إلی رأیین:

أحدهما: «یقطر» وهو ما ذهب إلیه مشهور العلماء(1).

والآخر: «بقطر» وهو ما مال إلیه بعضهم(2).

وقد أشار ابن حجر فی الاصابة إلی أن والد الشهید الکربلائی عبد الله هو «یقظة»(3) ولکنه یحمل علی التصحیف ومن ثم لا یرقی إلی درجة الرأی، ونفس الحمل یمکن ان یکون علی ما ورد فی روایة تسلیة المجالس أنه «ابن یقطین»(4).

معنی یقطر وبقطر

أمّا «یقطر» فلا أشکال فی أن معناها قطر الماء والدمع وغیرهما من السیال یقطر قطرا وقطورا وقطرانا وأقطر، الاخیرة عن أبی حنیفة، وتقاطر، أنشد ابن جنی:

ص:239


1- (1) الارشاد للشیخ المفید: ج 2 ص 70، عوائد الأیام للمحقق النراقی: ص 867، الخرائج والجرائح للراوندی: ج 2 ص 550، مناقب ابن شهراشوب: ج 3 ص 232، المزار للشهید الأول: ص 153، الصراط المستقیم، علی بن یونس العاملی: ج 3 ص 145، رجال الطوسی: ص 103، خلاصة الأقوال للعلامة الحلی: ص 192، رجال ابن داود: ص 135، نقد الرجال للتفریشی: ج 3 ص 154.
2- (2) قاموس الرجال للتستری: ج 10 ص 67، الثقات لابن حبَّان: ج 2 ص 310، سیر أعلام النبلاء للذهبی: ج 3 ص 299، الاصابة لابن حجر: ج 5 ص 8 (6180)، أعیان الشیعة للسید الأمین: ج 1 ص 595.
3- (3) الاصابة: ج 4 ص 59 وربما کان تصحیف أو خطأ فی بعض طبعات الاصابة الجدیدة کما أشار إلی ذلک بعض المحققین.
4- (4) تسلیة المجالس: ج 3 ص 183.

کأنه تهتان یوم ماطر من الربیع دائم التقاطرِ(1)

وأمّا «بقطر»: یقول الزبیدی: بقطر کعصفر رجل... بلالَ بن بقطر... أبو الخطاب عثمان بن موسی بن بقطر... بقاطر الاسقف.

والبقطریة بالضم أهمله الجوهری، قال الفراء: البقطریة: الثیاب البیض الواسعة(2). وفی التهذیب: القبطری: ثیاب بیض وانشد:

کأن لون القمر فی حضورها والقبطری ألبیض فی تأزیرها

ویقول آخر:

کأن زرور القبطریة علقت بنادکها منه بجذعٍ مقومِ

ویبدو أن «بقطر» من الاسماء القبطیة التی کانت موجودة سابقاً قبل الإسلام، وما زالت إلی یومنا هذا، حیث تستعمل فی الوسط المسیحی کثیرا - أمثال الیاس بقطر وهو مصری قبطی ولد فی مصر ومات فی باریس(3) وبقطر المحاسب وهو کاتب البردیسی(4) وآخرین ولا یعنی ذلک ان الشهید عبد الله بن یقطر کان مسیحیاً أو أنه یرجع إلی قبیلة مسیحیة، وإنما یرجع مثل هذا الأمر إلی ما تعارف علیه العرب من تداخل مع الدیانة المسیحیة وانتشارها وتغلغل الأسماء المسیحیة عندهم، وتسمیة بعضهم بها.

ص:240


1- (1) لسان العرب لابن منظور: ج 12 ص 134 مادة «قطر».
2- (2) تاج العروس للزبیدی: ج 6 ص 108 «بقطر». (هامش مفقود بالمتن: لسان العرب لابن منظور: ج 12 مادة «قبطر».
3- (3) الأعلام للزرکلی: ج 2 ص 9.
4- (4) عجاب الآثار، للجبریتی: ج 2 ص 632.

کلمة إلی من یهمة الأمر

وهنا لابد لنا من الاشارة إلی أهمیة الاسم للإنسان، حیث إن من حق الولد علی أبیه کما فی الروایات عن أهل البیت ان یحسن تسمیته، فمن سُمِّی حسیناً ثم اطلع علی ما صنعه الإمام الحسین علیه السلام بعد ذلک، لا شک أنه سیعیش الفخر والاعتزاز - طبعاً إذا جرت الأمور بشکل طبیعی - بعکس ما إذا سُمی الإنسان بأسماءٍ ترکت آثارها السلبیة علی التاریخ وعلی الواقع الإنسانی فإنها سوف تترک آثارها حتی بعد بلوغه، لا سیما فی هذا الوقت الذی نعیش فیه، حیث الغزو الثقافی الذی أخذ یأتینا من کل الجهات والذی وصل إلی درجة التأثیر حتی علی تسمیة أبنائنا وفلذات أکبادنا.

والد الشهید والخدمة لرسول الله

لقد عاش رسول الله صلی الله علیه و آله حیاته کما یعیشها سائر الناس فی جمیع صورها وأشکالها، وکما یقول القرآن الکریم:

«قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُکُمْ 1» .

حیث کان یأکل الطعام ویمشی فی الأسواق، وکان له بیته کما کان للناس بیوتهم، فضلاً عما یترتب علی وجود مثل هذا البیت من تحملٍ لمسؤولیة الأزواج والذریة یقول القرآن الکریم وهو یتحدث عن هذا الجانب المهم فی حیاة الأنبیاء عموماً:

ص:241

«وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّیَّةً 1» .

ومع کل هذه المسؤولیات نجده صلی الله علیه و آله یحب ویرغب أن یباشر أعماله وأعمال بیته بنفسه، بل کان لا یرضی للآخرین أن یؤدوا بعض شؤونه، لا سیما فیما یتعلق بالطهارة والصدقة کما فی بعض الروایات، ومع ذلک فقد ذکر لنا التاریخ اسماء رجالٍ ونساءٍ تشرفوا فی خدمته صلی الله علیه و آله، ونذروا أنفسهم فی سبیل راحته صلی الله علیه و آله، لعظیم ما کانوا یرونه من أخلاقه العالیة وشفقته الممیّزة مع من یخدمه، حیث کان رافعاً لمعنویاتهم، وجابراً لخاطرهم، مبتسماً فی وجوههم، قاضیاً لحوائجهم، عائداً لمریضهم متفقداً لأحوالهم، ساداً لخلتهم، داعیاً لهم بالخیر(1) ، فضلاً عن تعلیمهم أمور دینهم ودنیاهم، حتی خرج من خدمته کبار العلماء والفقهاء والحکماء، ولقد ذکر لنا التاریخ العشرات ممن تبرعوا لخدمة رسول الله صلی الله علیه و آله، وکان منهم والد الشهید الکربلائی «عبد الله بن یقطر»، حیث ذکر السید البرقی فی تاریخ الکوفة ما نصه: «کان عبدالله بن یقطر الحمیری صحابیاً، وکان لدة الحسین، کما ذکره ابن حجر فی الاصابة، والجزری فی اسد الغابة، واللّدة: الذی ولد معک وتربی، لأن یقطر اباه کان خادماً لرسول الله صلی الله علیه و آله»(2).

ص:242


1- (2) حتی قال أحدهم «خدمت رسول الله عشر سنین، فلم یضربنی ضربة قط، ولم یسبّنی ولم یعبس فی وجهی، وکان أول ما أوصانی به ان قال: یا بنی أکتم سرّی تکن مؤمناً فما أخبرت بسرّه أحداً وإن کانت أمی، وازواج النبی صلی الله علیه و آله یسألننی أن أخبرهن بسرّه، فلا أخبرهن ولا أخبر بسرّه أحداً ابداً» المعجم الصغیر للطرانی: ج 2 / ص 100.
2- (3) تاریخ الکوفة للسید البرقی: ص 322.

ولقد کان والد الشهید مفتخراً بهذه الخدمة النبویة وبهذه التسمیة الإیمانیة، فکان یفرح ویطرب إذا ما نودی علیه بخادم رسول الله صلی الله علیه و آله ولقد اکتسب نتیجة هذه الخدمة وهذا الشرف مکانة کبیرة بین اصحاب رسول الله، بل بین المسلمین فی کل زمان ومکان حیث تحول إلی قدوة للمؤمنین یهتدون بهداه ویسیرون علی خطاه.

والدة الشهید والخدمة فی بیت علی علیه السلام

نقل السید البرقی فی کتابه القیِّم تاریخ الکوفة ان والدة الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه کان اسمها «میمونة»، وکانت خادمة فی بیت الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام، حیث عاشت فی هذا البیت الذی کانت السماء ترعاه، والملائکة تغشاه، حیث بیت النبوة وموضع الرسالة، ومختلف الملائکة، ومهبط الوحی، وأهل البیت الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهیرا، فنهلت من آدابهم وأخلاقهم وعلومهم لا سیما من سیدتها الزهراء علیها السلام والتی غرست فی نفسها معانی الکمال والفضیلة، فکانت بدرجة عالیة من التقوی والزهد والورع.

ویبدو أن بقاءها فی بیت الإمام لم یکن لمدة محدودة، بل کان وجودها منذ نشوء البیت فی أیامه الأولی، ولهذا یُنقل کما فی تاریخ الکوفة أنها ولدت الشهیدة عبد الله بن یقطر قبل ولادة الحسین علیه السلام بثلاثة أیام وکانت حاضنة له(1). ولا شک ان هذا الحضن لو لم یکن طاهراً وطیباً، لم یهیئه الله سبحانه وتعالی لإحتضان سید شباب أهل الجنة، الذی کانت ترعاه ید السماء منذ أن وطئت أقدامه هذه الدنیا.

ص:243


1- (1) تاریخ الکوفة للسید البرقی: ص 322.

روی الشیخ الصدوق بإسناده عن الحسن بن یزید، عن فاطمة بنت موسی بن جعفر عن عمر بن علی بن الحسین، عن فاطمة بنت الحسین، عن اسماء بنت أبی بکر، عن صفیة بنت عبد المطلب، قالت: «لما سقط الحسین علیه السلام من بطن أُمّه - وکنت ولیتها - قال النبی صلی الله علیه و آله یا عمة، هلمی إلی ابنی فقلت: یا رسول الله إنا لم ننظفه بعد. فقال صلی الله علیه و آله: یا عمة، أنت تنظفینه؟! إن الله تبارک وتعالی قد نظفه وطهّره»(1).

قبیلة الشهید الکربلائی

اشارة

لقد أخُتلف فی نسب الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه بین من یقول أنه «حمیریّ قحطانیّ»، وبین من یقول انه لیثیّ عدنانیّ.

وسوف نذکر القولین فیما یلی مع تعلیقتنا علی ذلک:

القول الأول

ذکر العلامة المرحوم الشیخ محمد مهدی شمس الدین الشهید عبد الله بن یقطر ثم نسبه بقوله «حمیریّ من عرب الجنوب(2)» وهکذا ذکره غیره(3) وأرسلوا ذلک إرسال المسلّمات من دون ان یبیّنوا الدلیل والمرجع الذی استقوا منه هذه النسبة. وبناءً علی هذا الرأی یکون الشهید راجعاً إلی حمیر أخی کهلان أولاد سبأ ابن یشجب بن یعرب بن قحطان(4).

ص:244


1- (1) أمالی الصدوق: ج 5 ص 117 المجلس 28.
2- (2) أنصار الحسین للشیخ محمد مهدی شمس الدین: ص 123.
3- (3) أبصار العین للشیخ السماوی: ص 93.
4- (4) التنبیه والإشراف للمسعودی: ص 233.

القول الثانی

ویذهب إلیه قطب الدین الراوندی فی کتابه الخرائج والجرائح إلی أن الشهید یرجع الی ابن أبی عقب اللیثی من بنی لیث بن بکر بن عبد مناف بن کنانة، رضیع الحسین علیه السلام(1).

وبناءً علی هذا الرأی یکون الشهید راجعاً إلی کنانة التی ینتهی نسبها إلی عدنان(2) وعلیه یکون من عرب الشمال لا الجنوب کما تقدم.

وعلی کلا الرأیین فإن کلتا القبیلتین الحمیریّة واللیثیّة کان لها دور مهم فی نصرة الإسلام ورسوله الکریم وخرّجت الکثیر من العلماء المجاهدین.

رضیعُ الحسین علیه السلام أُمّ لِدتهُ

انقسم العلماء ومن تحدث عن الشهید عبد الله بن یقطر إلی قسمین، حیث ذهب بعضهم إلی ان الشهید کان رضیعاً للحسین علیه السلام، بینما ذهب آخرون إلی أنه کان لدة الحسین علیه السلام، وسوف نتحدث عن کل من الرأیین بشیء من التفصیل.

الرأی الأول: یذهب أصحاب هذا الرأی إلی أن الشهید عبد الله بن یقطر کان رضعیاً للحسین بن علی علیه السلام(3) ، أی إن الحسین کان قد رضع من حلیب والدة الشهید عبد الله بن یقطر «میمونة». وعلیه یکون الشهید أخاً للحسین من الرضاعة.

ص:245


1- (1) الخرائج والجرائح لقطب الدین الراوندی: ج 2 ص 550.
2- (2) التنبیه والإشراف للمسعودی: ص 69، معجم قبائل العرب: ج 3 ص 1019.
3- (3) الإرشاد للشیخ المفید: ج 2 ص 70، ابن شهراشوب فی المناقب: ج 3 ص 232، رجال الشیخ الطوسی: ص 103، معجم رجال الحدیث للسید الخوئی: ج 11 ص 408، إبصار العین للسماوی: ص 93 وآخرین.

رضاعة الحسین

سوف نقف هنا قلیلاً مع هذا الموضوع المهم الذی تحدثت عنه الروایات، واخذ بعضهم یکیل - بسببه - التهم علی أتباع أهل البیت بالمغالاة وغیرها، ونحاول فی هذه الوریقات أن نتحدث عن هذا الأمر بشیء من التفصیل حتی یعلم المخالف فضلاً عن الموالف بأن ما نعتقده فیه لا یخرج عما یعتقده المسلمون ویؤمنون به.

ومن خلال مراجعة النصوص وآراء العلماء فی ذلک یتبین لنا بأن هناک ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: وهو الاتجاه الذی یؤمن بأن الحسین علیه السلام لم یرضع من ثدی امرأة سواءٌ أکانت أُمّه فاطمة أُمّ غیرها من النساء، إنما کانت رضاعته عن طریق مصِّ إبهام رسول الله صلی الله علیه و آله أو ما شاکل ذلک، وقد استُدل علی هذا الرأی بمجموعة من الروایات منها:

1 - روی المجلسی وغیره عن الصادق علیه السلام قال: «لم یرضع الحسین من فاطمة ولا من انثی، وکان یؤتی به النبی صلی الله علیه و آله فیضع إبهامه فی فیه فیمص منه ما یکفیه الیومین والثلاثة، فنبت لحم الحسین من لحم رسول الله ودمه»(1).

2 - وروی عن ثامن أئمة أهل البیت علیهم السلام وهو الإمام الرضا علیه السلام أنه قال:

«یؤتی به الحسین فیلقمه لسانه فیمصه فیجتزئ به، ولم یرضع من أنثی»(2).

ص:246


1- (1) بحار الأنوار: ج 44 ص 233 ح 17 باب 30
2- (2) بحار الأنوار: ج 36 ص 158 ح 137 باب 39.

3 - وممن ذکر هذا الأمر محمد بن العباس، قال: حدثنا همام عن عبد الله بن جعفر عن الحسن بن زید عن آبائه، قال: «نزل جبرئیل علی النبی صلی الله علیه و آله فقال: یا محمد یولد لک غلام تقتلهُ أمتک من بعدک، فقال: یا جبرئیل لا حاجة لی فیه فقال: یا محمد إن منه الأئمة والأوصیاء قال وجاء النبی صلی الله علیه و آله إلی فاطمة فقال لها إنک تلدین ولداً تقتله أمتی من بعدی فقالت لا حاجة لی فیه فخاطبها ثلاثاً ثم قال لها إن منه الأئمة والأوصیاء فقالت: نعم یا أبی فحملت بالحسین علیه السلام فحفظها الله وما فی بطنها من إبلیس فوضعته لستة أشهر، ولم یسمع بمولودٍ ولد لستة أشهر إلا الحسین علیه السلام ویحیی بن زکریا، فلما وضعته وضع النبی صلی الله علیه و آله لسانه فی فیه فمصه ولم یرضع من أنثی حتی نبت لحمه ودمه من ریق رسول الله صلی الله علیه و آله وهو قول الله تعالی:

«وَ وَصَّیْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَیْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ کُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ کُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً1,2» .

أقول: ما تقدّم یمثل أهم الروایات التی یمکن ان تُدّعی علی هذا الأمر، ولنا علیها النقاط التالیة:

أولاً: أن هذه الروایات ضعیفة السند إمّا لجهالة بعض رواتها وإمّا لإرسال البعض الآخر منها، کما أشار إلی ذلک العلّامة المجلسی فی کتابه «مرآة العقول»(1).

ص:247


1- (3) مرآة العقول: ج 5 ص 365.

ثانیاً: وعلی فرض صحة السند وتمامیته، فإمّا أن یُحمَل علی الکرامة والمعجزة لرسول الله صلی الله علیه و آله، لا سیما وقد ذکر لنا القرآن الکریم فضلاً عن الروایات، الکثیر من المعاجز والکرامات التی أجراها الله عز وجل علی یدیّ الأنبیاء السابقین، مثل التکلم بالمهد، والإحیاء للموتی، والشفاء للمرضی، والتکلم مع النمل والطیور، وما شاکل ذلک، فإذا کان مثل هذا الأمر قد حصل مع الأنبیاء السابقین، فلم یستکثر مع خاتمهم وسیدهم «محمد» مثل هذا الأمر.

وإمّا ان یحمل علی الکرامة والمعجزة للحسین علیهما السلام خصوصاً وقد امتلأت کتب الفریقین بالکثیر من معاجزه وکراماته سواءٌ عند ولادته أو بعدها إلی ساعة شهادته علیه السلام بل وبعدها، ولا أرید هنا سرد هذه الکرامات وهی کثیرة، ولکنی سوف أشیر إلی روایة واحدة، أشار الیها الخوارزمی فی مقتله، حیث یقول: «حدّثنا أمیر المؤمنین المنصور أبو جعفر قال: حدّثنی والدی، عن أبیه، عن جده قال: کنت ذات یوم جالساً عند رسول الله صلی الله علیه و آله إذ أقبلت فاطمة بنته علیه السلام فدخلت علیه، فقالت: یا أبة إن الحسن والحسین خرجا، آنفاً وما أدری أین هما؟ فقد طار عقلی وقلق فؤادی وقلّ صبری، وبکت وشهقت حتی علا بکاؤها، فرحمها ورقّ لها وقال: لا تبکی یا فاطمة فوالذی نفسی بیده إن الذی خلقهما هو الطف بهما منک، وأرحم بصغرهما منک، ثم قام من ساعته ورفع یدیه إلی السماء وقال: اللهم إنهما ولدای وقرة عینی وثمرة فؤادی وأنت أرحم بهما وأعلم بموضعهما، یالطیف بلطفک الخفی، أنت عالم الغیب والشهادة، اللهم إن کانا أخذا برّاً وبحراً فاحفظهما وسلّمهما حیث کانا، وحیث توجها. فما استتم رسول الله دعاءه حتی

ص:248

هبط جبرئیل من السماء ومعه عظماء الملائکة وهم یؤمّنون علی دعاء النبی صلی الله علیه و آله، فقال جبرئیل: یا حبیبی یا محمد! لا تحزن ولا تغتم وأبشر فإن ولدیک فاضلان فی الدنیا وفاضلان فی الآخرة، وأبوهما خیر منهما! وهما نائمان فی حظیرة بنی النجار، قد وکّل الله بهما ملکاً یحفظهما، فلما قاله له جبرئیل ذلک سرا عنه، وقام ومعه أصحابه وهو فرح حتی أتوا حظیرة بنی النجار، فإذا الحسن والحسین نائمان وإذا الحسن معانق الحسین وإذا الملک الموکّل قد وضع أحد جناحیه فی الأرض وطاءً تحتهما یقیهما من حر الأرض وجلّلهما بالجناح الآخر غطاءً یقیهما حرّ الشمس، فانکبّ علیهما النبی یقبّلهما واحداً مُوحداً، ویمسحهما بیده حتی أیقظهما من نومهما، فلما ایقظهما حمل النبی الحسن علی عاتقه وحمل جبرئیل الحسین علی ریشة من جناحه حتی خرجا بهما من الحظیرة والنبی یقول: والله لأشرّفنّکما الیوم کما شرّ فکما الله تعالی فی سماواته...»(1).

وهذا فیض من غیض کرامات الحسین علیه السلام الکثیرة، فاذا کان الأمر معه هکذا فلم یُستکثر علیه کرامة الرضاعة من إبهام جده المصطفی علیهما السلام.

ثالثا: وبغض النظر عن کل ما تقدم، فقد ذکرت کتب المسلمین وصحاحهم ما یقرب من هذه الکرامة مع نبی الله موسی علیه السلام.

فقد روی ابن عساکر فی تاریخ دمشق عن نبی الله موسی حینما کان طفلاً ورمی فی البحر وکیف وجدته أُمّه آسیة: «ففتحت التابوت فإذا هی بصبی صغیر

ص:249


1- (1) مقتل الحسین للخوارزمی: الفصل السادس/ فی فضائل الحسن والحسین والرضوان/ 101، المناقب / 284 / ج 279 بتفاوت.

فی مهده، فإذا نور بین عینیه، وقد جعل الله رزقه فی البحر فی إبهامه، وإذا إبهامه فی فیه یمصه لبناً وألقی الله لموسی المحبة فی قلب آسیة فلم یبقَ منها عضو ولا شعر ولا بشر إلا وقع فیه الاستشعار فذلک قوله:

«وَ أَلْقَیْتُ عَلَیْکَ مَحَبَّةً مِنِّی1,2» .

إضافة لما رواه الفریقان فی نبوع الماء من بین أصابعه الشریفة حتی سقی جیشاً کان یبلغ الفاً وخمسمائة رجل.

فقد روت صحاح المسلمین کالبخاری وغیره عن جابر بن عبد الله رضی الله عنه قال: «عطش الناس یوم الحدیبیة و النبی صلی الله علیه و آله بین یدیه رکوة فتوضأ، فجهش الناس نحوه، فقال: مالکم؟ قالوا: لیس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بین یدیک فوضع یده فی الرکوة، فجعل الماء یثور بین أصابعه کأمثال العیون، فشربنا وتوضأنا. قلت: کم کنتم؟ قال: لو کنا مائة ألف لکفانا، کنا عشرة مائة»(1).

أقول: إذا کانت أصابع رسول الله صلی الله علیه و آله قد سقت وأروت کل هذا العدد الکبیر من الجیش، ولم نعترض علیه، أو نری فیه محذوراً یمنعه، فلم نمنع أو نستکثر ان یتفجر من بین أصابعه الشریفة ما یمکن ان یغذی ولده الحسین علیه السلام.

الإتجاه الثانی: وهو الإتجاه الذی یؤمن أن الحسین علیه السلام رضع من أُمّه فاطمة، دون غیرها من النساء، وإبهام رسول الله صلی الله علیه و آله، کما أشار إلی ذلک بعض

ص:250


1- (3) صحیح البخاری: ج 3 ص 1105، صحیح ابن حبان: ج 14 ص 480، وغیرهما.

العلماء، یقول السماوی فی إبصار العین: کما صح فی الأخبار أنه لم یرضع من غیر ثدی أُمّه فاطمة وإبهام رسول الله صلی الله علیه و آله تارة، وریقه تارة أخری(1).

وبتقدیری أن أصحاب هذا الاتجاه، یؤمنون بأن رضاعة الحسین علیه السلام العامة کانت من ثدی أُمّه الزهراء علیها السلام، وهذا ما تتولاه بشکل طبیعی کل أُمّ بعد أن تضع ولیدها، ومن هنا نقرأ فی زیارة عرفة للإمام الحسین علیه السلام «غذتک یدُ الرحمة ورضعت من ثدی الإیمان وربیت فی حجر الإسلام»(2).

یقول توفیق بو خضر فی کتابه (عبقریة مبکرة لأطفالنا): (إن السیدة الزهراء علیها السلام تمثل الإیمان حقیقة، فقد رضع الحسین علیه السلام هذا الإیمان من أُمّه الزهراء علیها السلام)(3).

ویقول السید محمد رضا الجلالی فی کتابه الإمام الحسین سماته وسیرته: (لابد أن الحسین ارتضع بلبان المعرفة والحکمة من الزهراء أُمّه، وقد ورد فی الحدیث ان الرسول نفسه زقه بلسانه: وبإبهامه یمص منها ما ینبت اللحم)(4).

وکیف لا یرضع الحسین علیه السلام من ثدی أُمّه الزهراء علیها السلام وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله «لیس للصبی لبن خیر من لبن أُمّه»(5) ویقول أمیر المؤمنین علیه السلام «ما من

ص:251


1- (1) إبصار العین للسماوی: ص 93.
2- (2) مفاتیح الجنان، زیارة الإمام الحسین علیه السلام فی عرفة.
3- (3) عبقریة مبکرة لأطفالنا للاستاذ توفیق بو خضر: ص 101.
4- (4) الإمام الحسین سماته وسیرته للسید محمد رضا الجلالی: ص 29.
5- (5) وسائل الشعیة للحر العاملی: ج 15 ص 188.

لبن رضع به الصبی أعظم برکة علیه من لبن أُمّه»(1) ولا شک أن الزهراء أولی الناس بتطبیق کلام أبیها رسول الله صلی الله علیه و آله وکلام زوجها أمیر المؤمنین علیه السلام.

نعم، فی بعض الروایات أن الزهراء علیها السلام اعتلّت أو جف لبنها وبحث رسول الله صلی الله علیه و آله لها عن مرضعة للحسین علیه السلام فلم یجد، عندها قدم له إبهامه الشریف کما تقدم قبل ذلک، یقول ابن شهراشوب فی المناقب: اعتلّت فاطمة علیها السلام لمّا ولدت الحسین علیه السلام وجف لبنها، فطلب رسول الله صلی الله علیه و آله مرضعة فلم یجد، فکان یأتیه فیلقمه إبهامه یمصها ویجعل الله فی إبهام رسوله رزقاً یغذیه، ففعل ذلل أربعین یوماً ولیلة، فأنبت الله لحمه من لحم رسول الله صلی الله علیه و آله(2).

والذی یفهم من ظاهر نص ابن شهراشوب المتقدم، أن عملیة إرضاع رسول الله بإبهامه الشریف للحسین علیه السلام، لم تکن إلا لمدّة محدودة بسبب مرض أُمّه الزهراء علیه السلام، وإلا فمدّة الرضاعة بشکل عام کانت من ثدی أُمّه علیها السلام.

الاتجاه الثالث: یؤمن اصحاب هذا الرأی بأن الحسین علیه السلام کان قد رضع من غیر ثدی أُمّه الزهراء علیها السلام، حیث اختار له رسول الله صلی الله علیه و آله مراضع یرضعنه فی تلک المرحلة من عمره الشریف، ومثل هذا الأمر کان معمولاً به عند العرب لاسیما البیوتات الکبیرة، إذ کانوا یسترضعوا لأولادهم المرضعات ذوات الخلق الرفیع والنسب الأصیل، ممن یعشن فی البادیة، من أجل قوة البنیة والفصاحة، والبلاغة وما إلی ذلک، کما جری مثل هذا الأمر مع رسول الله صلی الله علیه و آله.

ص:252


1- (1) وسائل الشیعة: ج 15 ص 175.
2- (2) مناقب آل أبی طالب لابن شهراشوب: ج 4 ص 57.

وقد ذکرت کتب التأریخ ان الحسین علیه السلام، قد رضع من ثدی أکثر من امرأة، وهن:

أ) أُمّ الفضل لبابة بنت الحارث الهلالیة، یقول الذهبی: «وکانت ثانی امرأة أسلمت، أسلمت بعد خدیجة. قاله الکلبی(1).

ویقول ابن ماجة فی سننه: (قالت أُمّ الفضل یا رسول الله رأیت کأن فی بیتی عضواً من أعضائک قال خیراً رأیتِ تلدُ فاطمة غلاماً فترضعیه فولدت حسیناً أو حسناً فأرضعته بلبن قثم قالت فجئت به إلی النبی صلی الله علیه و آله فوضعته فی حجره...»(2) وعلیه فیکون قثم بن العباس بن عبد المطلب أخا الحسین علیه السلام من الرضاعة.

ب) أُمّ قیس بن ذریح، بنت سنة بن الذاهل بن عامر الخزاعی(3) ، وعلیه فیکون قیس بن ذریح أخا الحسین من الرضاعة(4) یقول القاضی التنوخی: وروی أبو الفرج قبل هذا فی أخبار قیس بإسناد مفرد لم أذکره ههنا فوق الاطالة أنه کان رضیع الحسین علیه السلام(5).

ج) میمونة أُمّ عبد الله بن یقطر: وقد تقدم الحدیث عنها(6).

ص:253


1- (1) سیر أعلام النبلاء للذهبی: ج 3 ص 440.
2- (2) سنن ابن ماجة، مسألة: 3923 / باب تعبیر الرؤیا: ج 2 ص 289.
3- (3) الاغانی لأبی فرج الأصبهانی: ج 8 ص 107.
4- (4) إبصار العین للشیخ السماوی: ص 93.
5- (5) الفرج بعد الشدة للقاضی التنوخی: ج 2 ص 419.
6- (6) وهناک من یری بأن أم عبد الله بن یقطر کانت حاضنة للحسین علیه السلام ولیست مرضعة، کما یذهب إلی ذلک السماوی فی إبصار العین: ص 93 وغیره، الإیام المکیة: ج 3 ص 170

لِدة الحسین علیه السلام

یذهب بعض العلماء - استناداً إلی بعض المؤشرات - أن الشهید الکربلائی لِدة الحسین علیه السلام، یقول السید محمد مهدی بحر العلوم: وما جاء فی کلام الطبری، وبعض المؤرخین، من أن عبد الله بن یقطر رضیع الحسین علیه السلام، لیس له صحة، بل کانت أُمّ عبد الله بن یقطر حاضنة للحسین علیه السلام، وکان لِدة الحسین علیه السلام، واللِّدة بکسر اللام الذی ولد مع الإنسان فی یوم واحد(1).

فخر اقتران ولادة الشهید بولادة الحسین علیه السلام

إن لمن دواعی الفخر والاعتزاز الکبیرین لدی الإنسان، أن یقترن مولده مع مولد إنسان عظیم کسید الشهداء علیه السلام، بل وتأتی ولادته فی نفس المکان الذی ولد فیه علیه السلام، ومن ثم تقترن حیاته مع حیاته منذ اللحظات الأولی مکاناً وزماناً، فلا ینادی إلا بلِدة الحسین علیه السلام، وفی ظل هذا الجو یکبر الشهید الکربلائی ویدرج، فلا یطرق سمعه إلا صوت الحسین علیه السلام والاطهار من أهل بیته ویلْعب ویمرح فلا یبصر أمامه إلا طفلاً صغیراً یتحرک فی بیت، ینزل فیه الوحی، وتتلی فیه آیات الله لیلاً ونهاراً ومهداً له یهزه جبرئیل، ویشب الشهید فی هذه الأجواء الإیمانیة والوجوه الربانیة، فتمتلئ عینه وقلبه ومشاعره من حب الحسین علیه السلام، ومن ثم یکون کظله الذی یتحرک معه، فلا یضع قدمه إلا حیث یضعها الحسین فماذا تری یمکن ان یأخذ مثل هذا الإنسان وهو یعیش مع رفیق معصوم نزل القرآن الکریم بمدحه والثناء علیه(2).

ص:254


1- (1) الفوائد الرجالیة للسید محمد مهدی بحر العلوم: ج 4 ص 32 الهامش رقم (1).
2- (2) کما فی آیة التطهیر، وآیة المودة، وآیة المباهلة، وآیة الإطعام وغیرها.

الجلیس الصالح

لقد ذکر النبی صلی الله علیه و آله وهو فی معرض حدیثه، عن الجلیس الصالح والجلیس السیئ الذی ترکن إلیه مدّة زمنیة محدودة بقوله: «إنما مثل الجلیس الصالح والجلیس السوء کحامل المسک ونافخ الکیر، فحامل المسک إمّا أن یحذیک (یعطیک)، وإمّا ان تبتاع منه، وإمّا أن تجد منه ریحاً طیبة، ونافخ الکیر إمّا ان یحرق ثیابک وإمّا ان تجد ریحاً خبیثة»(1) فإذا کان الإنسان بجلسة قصیرة مع جلیس صالح قد یحصل علی واحدة من ثلاثة فإما أن یعطیک ویهدیک أو تشتری منه أو تشم منه رائحة طیّبة، تؤثر فی نفسک وبدنک وثوبک، فما بالک بصحبة طویلة تقترن مع الولادة وتمتد لتشترک حتی فی صباها وشبابها وشیخوختها فلا ترضی لنفسها بعد ذلک إلا أن تشترک معها فی نهایةٍ شاءَ اللهُ تعالی لها أن تنتهی إلیها، ما الذی یمکن أن یأخذه مثل هذا الإنسان مع صحبة من هذا القبیل؟ لا شک أن الشهید عبد الله بن یقطر، قد أخذ من الحسین کلَّ مقومات الشخصیة الإیمانیة، فکان لا یری الحسینُ خیراً إلا ویأمره به، ولا یری سوءاً أو شراً إلا وینهاه عنه، فکان الحسینُ علیه السلام بالنسبة إلیه خیراً له من نفسه، وکما یقول أحد العلماء: (الأخ الصالح خیر لک من نفسک لأن النفس أمّارة بالسوء والأخ الصالح لا یأمر إلا بالخیر، یقول آخر: الاصدقاء ثلاثة أحدهم کالغذاء لابد منه، والثانی کالدواء یحتاج إلیه فی وقت دون وقت، والثالث کالداء لا یحتاج إلیه قط).

ولا ریب أن الحسین علیه السلام کان للِدته کالغذاء الذی لا یستغنی عنه، وقدیماً

ص:255


1- (1) صحیح مسلم: باب استحباب مجالسة الصالحین ومجانبة قرناء السوء: 2628.

قالوا «المرء علی دین خلیله فلینظر أحدکم لمن یخالل»(1) ، ولقد أحسن الشاعر بقوله:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرینه إذا کنت فی قوم فصاحب خیارهم

فکل قرین بالمقارن یقتدی ولا تصحب الأردی فتردی مع الردی(2)

وأخیراً یروی المجلسی وغیره قول رقیقة بنت صیفی فی حدیث سُقیا عبد المطلب: «ألا وفیهم إلاّ الطیب الطاهر لِداته»(3) والمراد من (لداته) یعنی أتراب النبی صلی الله علیه و آله وأقرانه، وإنما ذکروا أترابه وأقرانه کاسلوب من أسالیب تثبیتها ووجودها لهم، فإن الإنسان إذا نودی بأقرانه وأترابه الصالحین، وُذکّر بهم، فإن مثل هذا الأمر سیکون عاملاً دافعاً له للمضی خلفهم، ومن هنا قالت العرب: فلان قد أیفعت لِداته، أی أیفع هو فکُنی بإیفاع لداته عن إیفاع نفسه(4).

صحبة الشهید الکربلائی لرسول الله

لقد نصَّ کثیر من العلماء علی صحبة الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه لرسول الله صلی الله علیه و آله، وذلک اعتماداً علی الرأی المشهور للمُحدّثین الذین ذهبوا إلی تعریف الصحابی اعتماداً علی اللغة، فادخلوا بناءً علیه کل من لقی النبی صلی الله علیه و آله مؤمناً به، وإن لم تطل صحبته وجلسته معه، یقول ابن الجوزی: (وفصل الخطاب فی هذا الباب بأن الصحبة إذا اطلقت فهی فی المتعارف تنقسم إلی قسمین:

ص:256


1- (1) کتاب الاعتصام للإمام الشاطبی: ج 1 ص 172.
2- (2) الآداب الشرعیة، محمد بن مفلح بن محمد المقدسی: ج 3 ص 566.
3- (3) بحار الأنوار: ج 15 ص 404، التحریر والتنویر لابن عاشور: ج 26 ص 46.
4- (4) التحریر والتنویر لابن عاشور: ج 26 ص 46.

أحدهما: ان یکون الصاحب معاشراً مخالصاً کثیر الصحبة فیقال: هذا صاحب فلان، کما یقال: خادمه کمن تکررت خدمته لا لمن خدمه یوماً أو ساعة!!.

الثانی: أن یکون صاحباً فی مجالسة أو عشاة ولو ساعة، فحقیقة الصحبة، موجودة فی حقه وإن لم یشتهر بها(1).

وبناءً علیه یکون کل من نص علی أخوّة الشهید الکربلائی للحسین بالرضاعة، أو لِدته له، قد أشار إلی صحبة الشهید لرسول الله صلی الله علیه و آله. لا سیما ابن حجر فی الاصابة حیث نص علی ذلک بشکل واضح وصریح قال: کان صحابیاً لأنه لِدة الحسین علیه السلام(2).

الشهید عبد الله بن یقطر وحرکة الإمام المهدی: روی القطب الراوندی فی کتابه الخرائج والجرائح، شعراً منسوباً إلی الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، فی نصوص حرکة الإمام المهدی المبارکة، قال: ومنها ما روی عن عبد الله بن یقطر بن أبی عقب اللیثی من بنی اللیث بن بکر بن عبد مناف بن کنانة، رضیع الحسین علیه السلام:

إذا کملت أحدی وستون حجة إلی خمسة من بعدهن ضرائح

وقام بنو لیث بنصر إبن أحمد یهزون أطراف القنا والصفائح

تعرفنهم شعث النواصی یقودها من المنزل الأقصی شعیب بن صالح

وحدثنی إذ أعلم الناس کلهم أبو حسن أهل التقی والمدائح(3)

ص:257


1- (1) الصحبة والصحابة، للشیخ حسن بن فرحان المالکی: ص 140.
2- (2) الاصابة لابن حجر: ج 4 ص 59 وفیه عبد الله بن یقظة ویبدو أنه فیه تصحیف کما مر سابقاً.
3- (3) الخرائج والجرائح للقطب الراوندی: ج 2 ص 550.

هذه هی واحدة من الأدلة التی یذکرها العلماء فی خصوص حرکة الإمام المهدی علیه السلام، والعلامات المتعلقة بهذا الخروج، وقد ذکر الشهید الکربلائی فی طیّات أبیاته المتقدمة، واحدة من مجموعة من العلامات التی ورد ذکرها فی الروایات ان هذا الأمر لا یکون إلا بعد حصولها، فقد روی الشیخ الطوسی فی الغیبة، عن حذلم بن بشیر، قال: قلت لعلی بن الحسین علیه السلام: صف لی خروج المهدی، وعرّفنی دلائله وعلاماته؟ فقال: «یکون قبل خروجه خروج رجل یقال له عوف السلمی بأرض الجزیرة، ویکون مأواه تکریت، وقتله بمسجد دمشق، ثم یکون خروج شعیب بن صالح من سمرقند، ثمَ یخرج السفیانی الملعون من الوادی الیابس»(1).

وفی روایة النعمانی فی معتبرة البزنطی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام انه قال: «قبل هذا الأمر السفیانی والیمانی والمروانی وشعیب بن صالح، فکیف یقول هذا هذا»(2).

ویبدو أن هذا الرجل هو عبارة عن قائد عسکری کبیر ومحنک، یقف إلی جانب الإمام المهدی ویکون علی مقدمة جیشه، وأنه من بنی تمیم، وعن الحسن، قال: «یخرج بالریّ رجل ربعة، أشمّ، موالٍ لبنی تمیم، کوسج، یقال له «شعیب بن صالح» فی أربعة آلاف، ثیابهم بیض، ورایاتهم سود، یکون علی مقدمة المهدی، لا یلقاه أحدٌ إلا قتله»(3).

ص:258


1- (1) حقیقة الاعتقاد بالإمام المهدی، أحمد حسین یعقوب: ص 622.
2- (2) بحار الأنوار: ج 52 ص 233.
3- (3) عقد الدرر: ص 174-175.

وهناک من یری ان المراد بهذا الرجل، هو شعیب بن صالح النبی صلی الله علیه و آله ولیس شخصاً آخر، لا سیما وقد روت کتب المسلمین، أن هناک مجموعة من الأنبیاء سوف یخرجون مع الإمام المهدی، کالسید المسیح والخضر وإلیاس، ومن ثم یمکن ان یکون نبی الله شعیب بن صالح، نازلاً مع الأنبیاء.

وقد ورد فی تفاسیر أهل البیت، فی تفسیر الآیة الکریمة من سورة هود:

«بَقِیَّتُ اللّهِ خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ 1» .

حکایة عن حدیث شعیب مع قومه، والتی سوف یقرأها الإمام المهدی علیه السلام بعد خروجه علی قومه(1).

وعلی کلا الاتجاهین، یبدو أن الشهید الکربلائی عبد الله بن یقطر رضی الله عنه کانت الصورة عنده واضحة فی خصوص حرکة الإمام المهدی علیه السلام، وتفاصیل هذه الحرکة المبارکة، بل إن الإنسان یلمس من خلال هذه الإبیات الشعریة والکلمات التی صیغت بها، ان هذه القضیة قد لامست کل شعوره ووجدانه، حتی عبر عنها بأبیات من الشعر، بیّن بها إیمانه وتفاعله مع هذه العقیدة المقدسة، التی هی امتداد للثورة الحسینیة المبارکة، والذی یعد الشهید أحد بُناتها ومُشیّدی مجدها، من هنا نفهم سر الروایات الکثیرة التی وردت عن الإمام الحسین علیه السلام فی خصوص حرکة الإمام المهدی علیه السلام، وسُرِّ مجیء الإمام المهدی إلی کربلاء أولاً دون سواها من الأماکن المقدّسة فی العراق.

ص:259


1- (2) نور الابصار: ص 172.

واکتفی أخیراً بذکر روایة واحدة عن الحسین علیه السلام أنه قال: «لا یکون الأمر الذی تنتظرونه حتی یبرأ بعضکم من بعض، ویشهد بعضکم علی بعض، ویلعن بعضکم بعضاً، قال الروای قلت: ما فی ذلک الزمان من خیر، فقال علیه السلام: الخیر کله فی ذلک الزمان، یخرج المهدی ویرفع ذلک کله»(1).

مهمة الشهید عبد الله بن یقطر علیه السلام

اشارة

کلمة لابد منها: أبدی الکثیر من المؤرخین فضلاً عن الکُتَّاب المُحدَثین، لاسیما المحققین منهم، وهم یتحدثون عن الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، والشهید قیس بن مُسِّهر الصیداوی، عن صعوبة الخوض فی مهمة کل واحد منهما، وما ذاک إلا لتداخل مهمتیهما من جانب، وعدم وضوح الروایات التی تحدثت عنهما من جانب آخر، فضلاً عن تشابه النهایة التی انتهی إلیها کلاهما، من هنا یجد

القارئ حالة الشک والتردد واضحة عند من کتب وتحدث عنهما، یقول الشیخ المفید فی کتابه الإرشاد: «ولما بلغ الحسین علیه السلام الحاجز من بطن الرمة، بعث قیس ابن مسِّهر الصیداوی، ویقال: بل بعث أخاه من الرضاعة عبد الله بن یقطر رضی الله عنه»(2).

ویعلق السید محسن الأمین فی کتابه القیّم المجالس السنیة بقوله: «وقع اشتباه هنا من بعض المؤرخین بین قصة قیس بن مسِّهر الصیداوی رسول الحسین علیه السلام إلی أن الذی قبض علیه هو الحصین بن تمیم وأرسله إلی زیاد فأمر أن یسبَّ الحسین وأباه ففعل ضد ذلک، فألقاه من أعلی القصر، وبین قصة عبد الله

ص:260


1- (1) عقد الدرر: ص 63.
2- (2) الارشاد للشیخ المفید: ج 2 ص 70، العوالم (الإمام الحسین): ج 2 ص 229.

ابن یقطر الذی أرسله ابن عقیل إلی الحسین علیه السلام فقبض علیه الحصین أیضاً وجری علیه نظیر ما جری لقیس»(1).

ولذلک نحاول فی هذه الدراسة المتواضعة أن نسلط الأضواء علی أهم الآراء والأقوال التی ذکرها العلماء فی کتبهم أو التی یمکن ان یتلمسها الإنسان فی طیّات کلماته، والتی نحاول أن نجمعها ونرتبها إلی ما یلی:

الرأی الأول

ویری أصحابه أن الحسین علیه السلام سرّح عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، إلی مسلم بن عقیل فی جواب کتابه الذی أخبره باجتماع الناس ومبایعتهم له، وفی طریقه إلی الکوفة ألقی علیه القبض الحصین بن نمیر فی القادسیة، یقول أصحاب السیر والتواریخ: «لما بلغ الإمام الحسین الحاجز من بطن الرمّة، بعث إلی أهل الکوفة کتاباً، وقال فیه: "بسم الله الرحمن الرحیم: من الحسین بن علیّ إلی وجوه إخوانه المؤمنین والمسلمین، سلامٌ علیکم، فإنّی أحمدُ الیکم الله الذی لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد، فإنّ کتاب مسلم بن عقیل جاءنی یخبرنی فیه بحسن رأیکم، وإجماع ملئکم علی نصرنا والطلب بحقنا، فسألت الله ان یحسن لنا الصنیع، وأن یثیبکم علی ذلک أعظم الأجر. وقد شخصت الیکم من مکة یوم الثلاثاء لثمانٍ مضین من ذی الحجة یومَ الترویة، فإذا قدم علیکم رسولی فانکمشوا فی أمرکم وجدّوا، فإنی قادم علیکم فی أیامی هذه، والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته"(2).

ص:261


1- (1) المجالس السنیة: ج 1 ص 70.
2- (2) الارشاد للشیخ المفید: ج 2 ص 70. روضة الواعظین للفتّال النیسابوری: ص 177.

وطوی الإمام الکتاب وختمه بختمه، ودفعه إلی عبد الله بن یقطر، کما یذهب إلی ذلک الفتال النیسابوری فی روضة الواعظین وغیره»(1).

ویقول الشیخ السماوی: قال أهل السیر: «إنّ عبد الله بن یقطر سرحه الحسین علیه السلام إلی مسلم بن عقیل بعد خروجه من مکة فی جواب کتاب مسلم إلی الحسین علیه السلام یسأله القدوم.

ویخبره باجتماع الناس، فقبض علیه الحصین بن تمیم بالقادسیة وأرسله إلی عبید الله بن زیاد»(2).

فبناءً علی هذا الرأی یکون الشهید عبد الله بن یقطر قد القی علیه القبض وهو رسول الإمام الحسین علیه السلام إلی أهل الکوفة.

الرأی الثانی

ویذهب أصحابه إلی أن الشهید قد سرّحه الحسین علیه السلام مع مسلم بن عقیل عند مغادرته مکة إلی الکوفة، وظل معه مراقباً للاوضاع، حتی إذا حصل الانقلاب المفاجئ فی الکوفة، بعثه مسلم بن عقیل بکتاب إلی الحسین علیه السلام یشرح فیه ما جری وحصل علیه آخر الأمر، فیقول الشیخ السماوی نقلاً عن ابن قتیبة وابن مسکویه إنهما قالا: «إن عبد الله بن یقطر بعثه الحسین علیه السلام مع مسلم، فلما أن رأی مسلم الخذلان قبل ان یتم علیه ما تم، بعث عبد الله إلی الحسین علیه السلام یخبره بالأمر»(3).

ص:262


1- (1) روضة الواعظین للفتّال النیسابوری: ص 177.
2- (2) إبصار العین للشیخ السماوی: ص 93.
3- (3) إبصار العین للشیخ السماوی: ص 93.

وهناک من یختلف مع اصحاب هذا الرأی فی وقت رجوع الشهید عبد الله ابن یقطر رضی الله عنه، حیث یذهبون إلی أنه کان قبل الخذلان والانقلاب الذی حصل فی الکوفة، وتحدیداً عندما بلغ عدد المبایعین رقماً کبیراً، فُبعث لیبشر الحسین علیه السلام بذلک، فقبض علیه مالکُ بن یربوع التمیمی، یقول ابن شهراشوب فی مناقب آل أبی طالب: «أن ابن زیاد بعد أن زار شریکاً فی مرضه، فی بیت هانئ، وجری ما جری من خطة اغتیاله، فخرج، فلمّا دخل القصر أتاه مالک بن یربوع بکتاب أخذه من ید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، وفی الرسالة: «أمّا بعد، فإنی أخبرک أنه قد بایعک کذا، فإذا أتاک کتابی... الخ»(1).

وعلی کلا التفسیرین یکون الشهید عبد الله قد القی علیه القبض وهو رسول مسلم بن عقیل إلی الحسین علیه السلام.

الرأی الثالث

وهو القائل بأن الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، بعثه الحسین وهو فی طریقه إلی الکوفة، بعد أن انقطعت عنه أخبارها، وبعد أن بعث قیس بن مسِّهر الصیداوی رضی الله عنه إنقطاع اخباره عنه علیه السلام، یقول علی بن محمد الفتّال النیسابوری: «ویجوز أنه أرسل إلیهم کتابین: أحدهما مع عبد الله بن یقطر، والآخر مع قیس بن مسهِّر الصیداوی»(2).

وربما یستشف مثل هذا الرأی من ظاهر کلمات السید محسن الأمین فی

ص:263


1- (1) مناقب آل أبی طالب: ج 4 ص 94.
2- (2) روضة الواعظین للفتّال النیسابوری: ص 152.

مجالسه السنیة حیث یقول: «إن الوضع قد بلغ الحد الذی یدفع إلی المواجهة وإلی القتال الصریح مهما تکن القوة التی تجابهه؛ وقد تأکد له الموقف بعد ذلک حین أرسل قیساً بن مسهِّر الصیداوی فقُتل هو الآخر، ثمَّ عاد فارسل عبد الله بن یقطر فألُقی من شرفات القصر»(1).

ویقول سعید أیوب فی کتابه معالم الفتن: «ولکی یطوقهم الحسین علیه السلام بطوق الحجة مرة أخری، بعث إلیهم عبد الله بن یقطر، وما حدث لقیس حدث لابن یقطر فلقد تلقته خیل الحصین بن نمیر بالقادسیة، وبعث به إلی ابن زیاد...»(2).

وتبقی الاحتمالات قائمة: ما تقدم یمثل أهم الآراء التی ذکرها العلماء فی الشهید عبد الله بن یقطر رضی الله عنه، وقد حاولنا قدر استطاعتنا أن نعطی صورة للقارئ الکریم، ولو سریعة، بما ذکر وکتب عن مهمة الشهید رضی الله عنه، علی أن الأمر یحتاج إلی مزیدٍ من البحث والدراسة، وتبقی مع کل رأی من الآراء المتقدمة احتمالات الصحة والمطابقة للواقع قائمة.

وقت شهادة عبد الله بن یقطر: لقد ذکر العلماء فی کتبهم جملة من الروایات التی تحدثت عن وقت شهادة الشهید عبد الله بن یقطر، والمتتبع لهذا الروایات یجد أن کل واحدة لا تجتمع مع الآخری فی الوقت، وأهم هذه الروایات فی تقدیرنا ثلاثة:

الأولی: وهی التی تزعم أن وقت شهادة الشهید کان قبل انقلاب الأوضاع

ص:264


1- (1) المجالس السنیة للسید محسن الأمین: ج 2 ص 295.
2- (2) معالم الفتن: ج 2 ص 271.

فی الکوفة بشکل کامل، وتحدیداً فی أول لیلةٍ قدم فیها ابن زیاد إلی الکوفة کما یذکر ذلک ابن عساکر وغیره.

حیث ورد: «وأتی تلک اللیلة برسول الحسین علیه السلام وقد کان ارسله إلی مسلم ابن عقیل وکان یقال له: عبد الله بن یقطر فقتله»(1).

ومثل هذه الروایة یَبعُد قبولها، لا سیما وهی تتحدث عن اللیلة الأولی التی دخل فیها عبید الله بن زیاد إلی الکوفة، وهی اللیلة التی احتاج فیها ابن زیاد إلی کثیر من التأمل فی واقع الکوفة، وما یجری فیها، من أجل وضع الخطط المناسبة لها، والقادرة علی مواجهتها، کوضع الجاسوس معقل وغیره، ومن ثم، فإن مثل هذه الأمور تحتاج إلی وقت حتی یمکن ان تنفّذ، ومن ثم یستتب له الأمر، ثم یصنع بعد ذلک ما یشاء من ترویع وقتل.

هذا کله، إضافة إلی أن أمراً خطیراً - کقتل الشهید عبد الله بن یقطر - وبالکیفیة التی سوف نتحدث عنها لابد أنها سوف تترک أثراً کبیراً فی نفوس الناس وإذا کان مثل هذا الأمر متوقعاً فلا شک أن مسلماً وهانئاً وغیرهما من شخصیات الحرکة فی الداخل سوف یحاولون أن یتخذوا - قدر استطاعتهم - کافة الاحتیاطات لمواجهة ابن زیاد حتی لا یتحولوا إلی لقمة سائغة له، وهذا ما لم یحصل، مما یعنی ان شهادة عبد الله بن یقطر لم تحصل فی الزمان الذی ادعته هذه الروایة.

الروایة الثانیة: وهی الروایة التی یفهم من ظاهرها ان الشهید عبد الله بن

ص:265


1- (1) ابن عساکر، ترجمة الإمام الحسین: ص 327.

یقطر، قد قتل بعد شهادة مسلم بن عقیل علیه السلام، وهانیء بن عروة، یقول الطبری: «حتی إذا انتهی إلی زبالة سقط إلیه مقتل أخیه من الرضاعة عبد الله بن یقطر وکان سرحه إلی مسلم بن عقیل، فی الطریق وهو لا یدری أنه قد اصیب فتلقاه خیل الحصین بن تمیم بالقادسیة، فسرح به إلی عبید الله بن زیاد... الخ»(1).

فإن الحصین بن نمیر (تمیم) لم یُسرَّح خارج الکوفة علی الخیل إلا بعد شهادة مسلم بن عقیل علیه السلام وانقلاب الاوضاع فی الکوفة.

الروایة الثالثة: وهی الروایة التی ربما تکون هی الاقرب إلی وقت اعتقال الشهید وشهادته إلی انه رضی الله عنه اعتقل فی نفس وقت اعتقال هانیء أو قبله بقلیل، یقول ابن اعثم: «فبینا عبید الله مع القوم فی هذه المحاورة إذ دخل رجل من أصحابه، یقال له مالک بن یربوع التمیمی، فقال: أصلح الله الأمیر: ها هنا خبر، فقال ابن زیاد: ما ذاک؟ قال: کنت خارج الکوفة أجول علی فرسی، إذ نظرت رجلاً خرج من الکوفة مسرعاً یرید البادیة فأنکرته، ثم إنی لحقته وسألته عن حاله، فذکر أنه من المدینة، فنزلت عن فرسی وفتشته فأصبت معه هذا الکتاب... الخ»(2).

ومما یؤکد هذه الروایة، ما رواه ابن شهراشوب فی المناقب من أن وقت اعتقال الشهید کان بعد خروج عبید الله بن زیاد من بیت هانیء، یقول: «فتوهم ابن زیاد وخرج (من بیت هانیء) فلما دخل القصر أتاه مالک بن یربوع بکتاب أخذه من یدی عبد الله بن یقطر»(3).

ص:266


1- (1) تاریخ الطبری 303:3.
2- (2) الفتوح لابن اعثم 5: ص 45.
3- (3) المناقب لابن شهراشوب 243:3.

ومن ثم یکون الشهید قد اعتقل بوقت مقارب جداً إلی وقت اعتقال هانیء، الذی لم تکن قد سُکَّرت فیه الطرق خارج الکوفة، ولم یرسل بعد الیها الحصین ابن نمیر (تمیم)، ومن ثم یکون اعتقال الشهید قد تمّ بشکل فردی وبجهد شخصی من قبل مالک بن یربوع التمیمی ومن معه، والذی نسب وقوفه خارج الکوفة فی ذلک الوقت إلی نفسه حیث قال: «أجول علی فرسی، مما یعنی أن الأوامر لم تصدر بعد إلی الشرطة وغیرهم بالخروج خارج الکوفة وتسکیر الطرق علی الداخلین إلیها والخارجین منها).

کیفیة شهادة الشهید عبد الله بن یقطر: روی الطبری فی تاریخه، والشیخ المفید فی الارشاد وغیرهما کثیر ان ابن زیاد قال للشهید: «اصعد القصر والعن الکذّاب ابن الکذّاب! ثم انزل حتی اری فیک رأیی. فصعد القصر، فلمّا أشرف علی الناس قال: أیها الناس، أنا رسول الحسین بن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله إلیکم لتنصروه وتؤازروه علی ابن مرجانة وابن سمیة الدعیّ ابن الدعیّ، فأمر به عبید الله فألقی من فوق القصر إلی الارض، فتکسرت عظامه وبقی به رمق فأتاه عبد الملک بن عمیر اللخمی فذبحه بمدیة، فلما عیب علیه قال: إنی اردت ان أریحه»(1).

ولک ان تتصور معی، ویتصورها کل من یقرأ هذا النص، کم هی صلبة وقویة عقیدة الشهید رضی الله عنه، الذی لم یعبأ بکل طغیان ابن زیاد، وغطرسته، حتی انه ما تردد فی إیصال رسالته إلی الناس، ولک ان تتصور معی، حال ابن زیاد واقفاً وهو

ص:267


1- (1) تاریخ الطبری 303:3، الارشاد للشیخ المفید 70:2، إبصار العین: ص 93.

یسمع الصفعات تلو الصفعات، التی افقدته توازنه، حتی ان الإنسان لیتلمس انهیار ابن زیاد من خلال الأمر الذی اصدره بحق الشهید، ان یُصعد به أعلی القصر ویُرمی من سطحه إلی الارض.

ولک أن تتصور معی قاضی الکوفة ومفتیها الذی بلغ من العمر عتیا، وهو یعیش الصغار والضعة والذلة فی نفسه، فی أعلی صورها واشکالها، یبرز أمام الناس مفتخراً، إلی جهة الشهید عبد الله بن یقطر وهو یجود بنفسه علی الأرض، من أجل ان یثبت لابن سمیة مدی طاعته له ولسیده الفاجر یزید، من خلال اقدامه علی ارتکاب جریمة یندی لها جبین الإنسانیة قبل الدین، والعجیب فی أمر هذا الرجل، انه حینما ذُمَّ وعُنّف علی فعله هذا! اعتذر بقوله: انما أردت ان اریحه، عذرٌ أشد قبحاً من فعله.

الشهید عبد الله بن یقطر ومنهجیة القتل الأموی

أن من یقرأ ویتأمل فی سیرة بنی أمیة، منذ أن اعتلی معاویة بن أبی سفیان سدة الحکم ظلماً وعدواناً، وماتلاه من أقطاب هذه المدرسة الأمویة، علی صدر الأمة الإسلامیة، لیجد وبشکل واضح، أن هناک منهجاً مدروساً، وسیاسةً محکمة، اختیرت منذ الیوم الأول، وأرید لها أن تستمر فی حیاة هذه الأمة، من أجل القضاء علی هذا الدین من الداخل، بعد ان عجزت عن مواجهته من الخارج، فقد قررت هذه المدرسة منذ یومها الأول، ان تواجه من یقف أمام انحرافها وظلمها واستهتارها بمقدرات الإسلام والمسلمین، بأبشع صور الارهاب والقتل والتشرید، وربما لا یحتاج الإنسان کثیر عناءٍ من أجل إثبات هذه الحقیقة التاریخیة أو

ص:268

التدلیل علیها، فنظرة سریعة إلی ما صنعه حکام بنی أمیة واشیاعهم واتباعهم مع شخصیات هذه الأمة ورموزها الإسلامیة، من مآسٍ وویلات، یمثل أعظم دلیل یمکن أن یقدم فی هذا المجال، فهذا حجر بن عدی صاحب رسول علیهما السلام، بل من أفاضل اصحابه، کثیر الصلاة والصیام(1) ، یقتل وبأشبع صورة مع ثلة من اصحابه البررة بید معاویة بن أبی سفیان(2) ، وذاک رشید الهجری یقطع لسانه، ویصلب علی باب عمرو بن حریث(3) ، ونفس الطریق جرت مع میثم التمار وقنبر وو.. وقائمة الاسماء تطول مع اجرام بنی أمیة وظلمهم، ویبدو ان شهادة الشهید الکربلائی عبد الله بن یقطر، جاءت ضمن منهج هذه الفئة مع أبناء هذه الأمة، لا سیما أتباع أهل البیت علیهم السلام والمتمسکین بولایتهم.

ومن الغریب حقاً، ان تصوّر هذه الشخصیات الظالمة، عبر التاریخ إلی یومک هذا، علی أنها خدمت الإسلام والمسلمین، بعدلها الزائف، وحلمها الکاذب، وورعها الذی لا یمت إلی الواقع بصلة، ومن ثم یُمجَّد زیاد بن أبیه، وابنه عبید الله وبعدهم الحجاج وغیرهم من رموز الارهاب والقمع الاموی، علی اساس أنهم اصحاب قوة وحزم کبیرین فی إدارة شؤون العباد والبلاد، وینسون أویتناسون بعبارة أصح جرائمهم التی ارتکبوها عبر التاریخ والی یومک هذا، والتی ملأت کتب المسلمین، وباعتقادی ان هذا الأمر یمثل امتداداً لهذه السیاسة الأمویة السفیانیة التی ابتدعها معاویة، فی التعامل مع معارضیه والخارجین علیه وکل من

ص:269


1- (1) الاستیعاب لابن عبد الله 331:1.
2- (2) تاریخ دمشق 226:12-227.
3- (3) لسان المیزان للذهبی 461:2 (رقم 1859).

یکتم هذه السیاسة أو یتستر علیها أو حتی یقلل من مأساتها، فهو من منفذی هذه السیاسة الأمویة والداعین إلیها.

وما الترویع الذی یجری للآمنین من أتباع أهل البیت علیهم السلام، فی کل أرض یطؤوها، من قبل أتباع بنی أمیة - من الوهابیة وغیرهم - إلا اقتفاءً لأمر سیَّدهم معاویة بن أبی سفیان فی علیّ علیه السلام وفی قتل مَنْ یروی شیئاً فی فضائل أبی تراب، یقول ابن أبی الحدید المعتزلی: «کتب معاویة نسخة واحدة إلی عمّاله بعد عام الجماعة: أن قد برئت الذمة ممّن روی شیئاً من فضل أبی تراب»(1).

الحسین یؤبن الشهید عبد الله بن یقطر

ورد فی کتاب مقتل الحسین علیه السلام لأبی مخنف، أن الحسین علیه السلام لما أخبر بقتل رسوله عبد الله بن یقطر، تغرغرت عینه بالدموع، وفاضت علی خدیه، ثم قال:

«مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً2,3» .

الحسین یوسع من مفهوم الآیة: «مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجالٌ...»:

لقد أشار الحسین علیه السلام، وهو فی معرض التأبین للشهید عبد الله بن یقطر، إلی أن الآیة الکریمة لا تنحصر فی شهداء بدر فقط، کما تذهب إلی ذلک بعض الروایات، ینقل القرطبی فی تفسیره عن أنس قال: قال عمی أنس بن النضر -

ص:270


1- (1) شرح الخطبة (208)، طبعة مصر الأولی 15:3-16.

سمیت به - ولم یشهد بدراً مع رسول الله صلی الله علیه و آله، فکبر علیه فقال: أول مشهد شهده رسول الله غبت عنه، أما والله لئن أرانی الله مشهداً مع رسول الله صلی الله علیه و آله فیما بعد لیدین الله ما أصنع.

قال: فهاب ان یقول غیرها، فشهد مع رسول الله صلی الله علیه و آله یوم أحد من العام القابل إلی ان یقول فقاتل حتی قتل... ونزلت الآیة رجال صدقوا ما عاهدوا الله علیه...»(1).

ویقول الطبری: «من المؤمنین رجال صدقوا ما عاهدوا الله علیه»: أی: وفوا الله بما عاهدوه علیه «فمنهم من قضی نحبه» أی فرغ من عمله، ورجع إلی ربه، کمن استشهد یوم بدر وأحد(2). وآخرین(3).

بینما أراد الحسین علیه السلام، ان یعطی للآیة مفهوماً أوسع بحیث یشمل کل اولئک الذین سقطوا ویسقطون فی طریق الدین، والوقوف أمام الظالمین، یقول الشیخ مکارم الشیرازی فی تفسیره الأمثل: للآیة مفهوم واسع یشمل کل شهداء الإسلام الذین استشهدوا قبل معرکة الأحزاب، وکل من کان منتظراً للنصر أو الشهادة، وکان علی رأسهم رجال کحمزة سید الشهداء وعلیّ علیه السلام، ولذلک ورد فی تفسیر الصافی: أن اصحاب الحسین علیه السلام بکربلاء کان کلّ من أراد الخروج للقتال ودّع الحسین علیه السلام وقال: السلام علیک یا بن رسول الله فیجیبه: وعلیک السلام

ص:271


1- (1) تفسیر القرطبی 146:14.
2- (2) تفسیر الطبری 238:20.
3- (3) تفسیر الیعقوبی 337:6.

ونحن خلفک، ویقرأ:

«فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ» .

ویستفاد من کتب المقاتل أنّ الإمام الحسین علیه السلام تلا هذه الآیة عند أجساد شهداء آخرین کمسلم بن عوسجة، وحین بلغه خبر شهادة عبد الله بن یقطر، ومن هنا یتضح أنّ للآیة مفهوماً واسعاً یشمل کلّ المؤمنین المخلصین الصادقین فی کلّ عصر وزمان، سواء من ارتدی منهم ثوب الشهادة فی سبیل الله، أُمّ من ثبت علی عهده مع ربه، ولم یتزعزع، وکان مستعداً للجهاد والشهادة(1).

ص:272


1- (1) تفسیر الأمثل 201:13-202.

المحتویات

الإهداء 6

المقدمة 9

لماذا هذه الموسوعة؟ 9

من هم أصحاب الحسین علیه السلام

1. إنّهم مصطفون للشهادة قبل شهادتهم 15

2. الرحمة والشفقة علی الأعداء 17

3. المحافظة علی أوقات الصلاة 21

4. الیقین بالله وبثوابه 22

5. تشخیص الأولویّات 23

6. الترکیبة المتمیّزة لأصحاب الحسین علیه السلام 24

7. الوعی والبصیرة 25

8. إنّ الله تولّی قبض أرواحهم 26

9. نکرانهم لذواتهم 27

ص:273

کم هو عدد أصحاب الحسین علیه السلام؟

المقدمة 29

سؤال وجواب 35

جهود العلماء 36

الآیادی الآثمة المحرِّفة 39

الید الآثمة فی تأریخ الثورة الحسینیة 40

الطبری مثالاً 40

الضحّاک کان دقیقا فی تعامله 43

تعبئة الحسین علیه السلام کانت عامة ولیست خاصة بالاصحاب

أمّا الدلیل النقلی 45

وأمّا الدلیل المعنوی 46

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة (2) وهی جریمة قطع الرؤوس الشریفة 48

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة (3) وهم المستشهدون فی الحملة الأولی وفی المبارزة 49

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة (4) وهی کتب المقاتل القدیمة 50

السید الجلالی ومقتل الفضیل بن الزبیر 51

کتب المقاتل أقلّ تحریفاً من الکتب التاریخیة الرسمیة 51

مقتل الفضیل بن الزبیر 55

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة رقم (5) وهی زیارة الناحیة المقدّسة: 59

أمّا فیما یتعلّق بالفقرة رقم (6) وهی الزیارة الرجبیة 63

تقدیرنا لعدد الشهداء 64

التقدیر الأول 64

التقدیر الثانی 68

التقدیر الثالث 69

ص:274

الشهید مسلم بن عوسجة

أقوال العلماء فیه 71

أسرة الشهید 72

الشهید من بنی ناشرة 73

مواقفه أیام الفتح الإسلامی 74

فتح سلق آذربیجان 75

دور مسلم بن عوسجة المتمیز فی المعرکة 75

شبث بن ربعی یشید بدور مسلم بن عوسجة فی المعرکة 76

درس کبیر من حیاة هذا الشهید 77

موقفه فی الکوفة 79

تنبیه حول قصة الجاسوس (معقل) 81

لا وجود لقصة الجاسوس 82

الخروج من الکوفة 84

مسلم بن عوسجة یصحب معه زوجته وولده 85

الشهید فی کربلاء 85

محاولة مسلم بن عوسجة قتل شمر 88

شهادته 90

الشهید حنظلة بن سعد الشبامی

أقوال العلماء فی الشهید 94

الاختلاف فی اسم الشهید ونسبه 95

دور قبیلة شبام فی صفین 98

جدُّ الشهید الکربلائی 101

ولد الشهید الکربلائی 104

ولد الشهید یروی خطبة زهیر بن القین 104

ص:275

شبهة أن الحسین علیه السلام لم یقتل والقاء شبهه علی الشهید حنظلة 106

الرد علی هذه الشبهة 114

ومن هذه الروایات.... 114

الشهید حنظلة رسول الحسین إلی ابن سعد 120

الشهید حنظلة قارئا للقرآن 123

خطبة الشهید حنظلة فی کربلاء 124

وقفات مع خطبة الشهید 126

وقت شهادة الشهید حنظلة 134

الشهید یدعو والحسین یؤمّن له 136

الشهید کردوس التغلبی رحمه الله

اسم الشهید 138

الاختلاف فی اسمه 139

اسم والد الشهید 139

شخصیة واحدة أم شخصیات متعددة 141

نسب الشهید کردوس 144

قبیلة الشهید 145

بنو تغلب ودولة الحمدانیین 154

مواقف الشهید فی صفّین 156

خطبة الشهید کردوس فی صفین 157

حضور الشهید کردوس الاجتماعی 159

مع الشهید فی روایاته 162

الشهید خطیباً وواعظاً 169

أبناء الشهید 172

شهادته 172

ص:276

الشهید بشر بن عمرو الحضرمی الکندی علیه السلام

أسرة الشهید 175

عرب الجنوب وعرب الشمال 175

وقد یقول قائل 177

نسب الشهید حضرمی أم کندی 179

نقطة مضیئة 179

ظاهرة رفض الاعذار الشرعیة فی أصحاب الحسین علیه السلام 185

الشهید یزید بن زیاد بن مهاجر الکندی

البهدلی أبو الشعثاء علیه السلام

بین یدی الشهید 191

من هم بنو بهدلة؟ 191

ما قاله العلماء فی الشهید 193

اسم الشهید 194

مع الشهید فی روایته 194

تحریم لحم الصید علی المحرم 198

لقاء الشهید بالحسین علیه السلام ووقت التحاقه به 201

تعارض روایتی الالتحاق بالحسین وطرق معالجته 206

بین منطق الخضوع ومنطق المسؤولیة 207

مفهوم الإمامة عند الشهید الکربلائی 208

الشهید فی کربلاء فارساً ثم رامیاً 210

رسالة الشهید إلی من یهمه الأمر 211

ص:277

الشهید عمّار بن حسّان بن شریح الطائی علیه السلام

بین یدی الشهید 212

أقوال العلماء فی الشهید 214

أجداد الشهید 215

سعد الأثرم جد الشهید الکربلائی 215

والد الشهید الکربلائی 217

ابن عمّ الشهید الکربلائی 219

عروة بن افاق بن شریح الطائی 219

هل للشهید قریب من شهداء کربلاء؟ 221

نوع القرابة ودرجتها 227

حفید الشهید الکربلائی 229

فائدة 233

الشهید فی کربلاء 235

الشهید عبدُ الله بن یقطر علیه السلام

أقوال العلماء فی الشهید الکربلائی 237

أسم الشهید واسم أبیه 239

معنی یقطر وبقطر 239

کلمة إلی من یهمة الأمر 241

والد الشهید والخدمة لرسول الله 241

والدة الشهید والخدمة فی بیت علی علیه السلام 243

قبیلة الشهید الکربلائی 244

القول الأول 244

القول الثانی 245

رضیعُ الحسین علیه السلام أُمّ لِدتهُ 245

ص:278

رضاعة الحسین 246

لِدة الحسین علیه السلام 254

فخر أقتران ولادة الشهید بولادة الحسین علیه السلام 254

الجلیس الصالح 255

صحبة الشهید الکربلائی لرسول الله 256

مهمة الشهید عبد الله بن یقطر علیه السلام 260

الرأی الأول 261

الرأی الثانی 262

الرأی الثالث 263

الشهید عبد الله بن یقطر ومنهجیة القتل الأموی 268

الحسین یؤبن الشهید عبد الله بن یقطر 270

ص:279

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.