المباحث الاصولیه (محمد اسحاق فیاض کابلی) المجلد 4

اشارة

سرشناسه:فیاض، محمداسحاق، 1934 - م

عنوان و نام پدیدآور: المباحث الاصولیه/ تالیف محمداسحاق الفیاض.

مشخصات نشر:قم: دفتر آیه الله العظمی الشیخ محمداسحق الفیاض(دام ظله)

مشخصات ظاهری:15 ج.

شابک:دوره 964-06-9191-7 : ؛ ج.1 964-06-9188-7 : ؛ ج. 2 964-06-9189-5 : ؛ ج. 3 964-06-9190-9 : ؛ ج. 12 978-600-90462-1-8 : ؛ ج.14 978-964-8238-59-4 : ؛ ج.15 978-964-8238-93-8 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم: 1382.

یادداشت:ج. 1- 3 ( چاپ دوم: 1385) .

یادداشت:ج. 12 (چاپ اول: 1389).

یادداشت:ج.15 (چاپ اول: 1395).

یادداشت:جلد دوازدهم کتاب حاضر توسط انتشارات عزیزی منتشر خواهد شد.

یادداشت:جلد چهاردهم و پانزدهم کتاب توسط انتشارات صاحب الامر (عج) منتشر شده است.

یادداشت:کتابنامه.

مندرجات:.- ج.15. التعارض و الترجیح

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:دفتر آیت الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض

رده بندی کنگره:BP159/8/ف 9م 2 1300 ی

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:م 82-18593

ص :1

اشارة

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :3

المباحث الاصولیه

تالیف محمداسحاق الفیاض

ص :4

مقدّمة الواجب

اشارة

لا یخفی أنّ مسألة مقدّمة الواجب حیث إنّها ترتبط بعدّة مسائل بشکل مباشر أو غیر مباشر فیقع الکلام فی تلک المسائل فی ضمن بحوث:

البحث الأول:تقسیم المقدّمة إلی وجوبیة و وجودیة

المقدمة الوجوبیة و خروجها عن محل الکلام

أمّا الاُولی: فهی قیود مأخوذة مفروضة الوجود فی مقام الجعل والاعتبار کالاستطاعة ونحوها ولهذا تکون من قیود الوجوب فی مرحلة الجعل، واتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء.

ولا فرق فی ذلک بین أن تکون تلک القیود مقدورة للمکلّف أو غیر مقدور له.

ثمّ إنّ هذه المقدّمة خارجة عن محل الکلام فی المسألة، إذ لا یعقل ترشّح الوجوب من الواجب إلیها لا قهراً ولا جعلا، حیث إنّه لا وجوب فعلا قبل وجودها، ووجوبها بعد وجودها تحصیل الحاصل.

ص:5

المقدمة الوجودیة و فوارقها عن المقدمة الوجوبیة

وأمّا الثانیة: فهی قیود یتوقّف إیجاد الواجب علیها فی الخارج ودخیلة فی ترتّب الملاک علیه بدون أن تکون دخیلة فی وجوبه واتّصافه بالملاک.

وإن شئت قلت: إنّ المقدّمات الوجوبیة تفترق عن المقدّمات الوجودیة فی نقطتین:

الاُولی: أنّ المقدّمات الوجوبیة دخیلة فی الحکم فی مرحلة الجعل وفی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، بینما المقدّمات الوجودیة غیر دخیلة لا فی الحکم فی مرحلة الجعل ولا فی الملاک فی مرحلة المبادیء، وإنّما هی دخیلة فی ترتّب الملاک علی وجود الواجب فی الخارج.

الثانیة: أنّه لا یعقل ترشّح الوجوب إلی المقدّمات الوجوبیة کما مرّ، بینما لا یکون مانعاً عن ترشّحه إلی المقدّمات الوجودیة، ومن هنا لا یکون المکلّف مسؤولا أمام الاُولی ومکلّفاً بإیجادها، ولهذا لا فرق بین أن تکون اختیاریة أو غیر اختیاریة کالبلوغ والعقل والوقت ودخول شهر رمضان والحیض والنفاس وغیر ذلک، بینما یکون مسؤولا أمام الثانیة ومکلّفاً بإیجادها، هذا من ناحیة.

المقصود من وجوب المقدمة

ومن ناحیة اخری قد تسأل ما هو المقصود والمراد من وجوب المقدّمة؟

والجواب: أنّ هناک عدّة احتمالات:

الأول: أن یکون المراد منه اللاّبدّیة التکوینیة الخارجیة.

الثانی: أن یکون المراد منه اللاّبدّیة العقلیة، بمعنی عدم صحّة اعتذار العبد عن ترک الواجب بترک مقدّمته.

الثالث: أن یکون المراد منه ترشّح الوجوب من ذی المقدّمة إلی المقدّمة قهراً.

الرابع: أن یکون المراد منه وجوب مولوی مجعول بجعل مستقل من

ص:6

قبل المولی علی المقدّمة تبعاً لجعل وجوب ذیها.

أمّا الاحتمال الأول، فهو غیر محتمل، لأنّ اللاّبدّیة التکوینیة عین المقدّمیة فی الخارج، فإنّ معنی المقدّمة توقّف ذیها علیها تکویناً، فلا مجال للبحث عنها.

وأمّا الاحتمال الثانی: فأیضاً غیر محتمل، لوضوح أنّ العقل مستقل بلابدّیة الاتیان بالمقدّمة من أجل الاتیان بذیها، وعدم صحّة الاعتذار عن ترکه بترک مقدّمته، وعدم إمکان النقاش فیه.

وأمّا الاحتمال الثالث: فهو غیر معقول، لأنه لا یتصوّر فی الاُمور الاعتباریة التی لا واقع موضوعی لها، وإنما یتصوّر فی الاُمور التکوینیة التی یتولّد المعلول فیها من العلّة ویترشّح، والوجوب حیث إنّه أمر اعتباری قائم بالمعتبر مباشرة، فلا یعقل فرض تولّده من وجوب آخر، لأنه خلف فرض کونه أمراً اعتباریاً غیر قابل للتأثیر والتأثّر وفعلا مباشریاً للمعتبر.

وأمّا الاحتمال الرابع: فهو احتمال معقول ثبوتاً وهو محلّ النزاع فی المسألة، فإذا أمر المولی بشیء فمحل النزاع إنّما هو فی ثبوت الملازمة بین الأمر به والأمر بمقدّماته التی یتوقّف وجوده علی وجودها خارجاً هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ المقدّمات الوجودیة علی نحوین:

الأول: ما یکون قیداً للواجب شرعاً ودخیلا فی ترتّب الملاک علیه.

الثانی: ما یتوقّف وجود الواجب علیه فی الخارج بدون أن یکون قیداً له شرعاً ودخیلا فی ترتّب الملاک، کقطع المسافة مثلا إلی المیقات للبدأ بالحجّ أو العمرة، فإنه واجب علی النائی، ویسمّی النوع الأول بالمقدّمات الوجودیة الشرعیة، والثانی: بالمقدّمات الوجودیة العقلیة.

ص:7

فالمقدّمات علی ثلاثة أنواع:

النوع الأول: المقدّمات الوجوبیة کما مرّت.

النوع الثانی: المقدّمات الوجودیة الشرعیة وهی التی تکون من قیود الواجب ویتوقّف وجوده علیها فی الخارج، وهذه المقدّمات إن کانت اختیاریة کالطهارة من الحدث والخبث واستقبال القبلة والقیام والاستقرار وغیر ذلک، فالمکلّف مسؤول أمامها ومکلّف بإیجادها فی الخارج لإیجاد الواجب فیه، وإن کانت غیر اختیاریة، فلابدّ من أن تکون شرطاً وقیداً للوجوب أیضاً، إذ لو کان الوجوب مطلقاً وغیر مقیّد بها، لزم التکلیف بغیر المقدور، إذ معناه أنّه مکلّف بالاتیان بواجب مقیّد بقید غیر اختیاری.

فالنتیجة أنّ کل قید یکون دخیلا فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة الثبوت فهو قید للوجوب فی مقام الاثبات، ویؤخذ مفروض الوجود فیه، سواء أکان قیداً للواجب أیضاً أم لا، وکل قید لا یکون دخیلا فی اتّصاف الفعل بالملاک وإنّما هو دخیل فی ترتّب الملاک علی الواجب فی الخارج، فهو قیدٌ للواجب فحسب، بمعنی أنّ التقیّد به داخل فیه والقید خارج عنه، فلهذا أمّا یکون محرّکاً نحو إیجاد الواجب هو المحرّک نحو إیجاده.

النوع الثالث: المقدّمات الوجودیة العقلیة، وهی التی یتوقّف وجود الواجب علیها بدون أن تکون من قیوده شرعاً، ودخیلة فی ترتّب الملاک علیه، وبذلک تختلف المقدّمات العقلیة عن المقدّمات الشرعیة.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أنّ المقدّمات الوجوبیة خارجة عن محلّ الکلام والنزاع فی المسألة، بینما المقدّمات الوجودیة الشرعیة والعقلیة داخلتان فیه.

بقی هنا مقدّمتان اخریان:

ص:8

المقدمات العلمیة

الاُولی: المقدّمات العلمیة وهی المقدّمات التی توجب حصول العلم بإتیان الواجب وامتثاله، کالاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی وفی الشبهات الحکمیة قبل الفحص ونحوهما، فإنّه مقدّمة علمیة وموجبة لحصول العلم بالامتثال، هذا. ولکن تلک المقدّمات خارجة عن محلّ النزاع، لأنّها مقدّمة للعلم باتیان الواجب لا لوجوده فی الخارج، فإنّه لا یتوقّف علیها، فإذا صلّی المصلّی إلی أربع جهات عند اشتباه القبلة، فإنّ الصلاة إلی إحدی الجهات نفس الصلاة المأمور بها، وأمّا الصلاة إلی سائر الجهات فهی مباینة لها، فلذلک لا یعقل أن تکون تلک المقدّمات مقدّمات وجودیة، فبطبیعة الحال تکون من المقدّمات العلمیة.

المقدمات الداخلیة

الثانیة: المقدّمات الداخلیة وهی جزء الواجب، کأجزاء الصلاة ونحوها، وهل تصلح أن تکون داخلة فی محلّ النزاع أو لا؟ فیه وجهان:

الظاهر أنّها لا تصلح أن تکون داخلة فیه، لأنّ محل النزاع إنّما هو فی وجوب المقدّمة التی یتوقّف وجود الواجب علیها، ومن الواضح أن توقّف وجود شیء علی وجود آخر یقتضی الاثنینیة والتعدّد فی الوجود، لاستحالة توقّف الشیء علی نفسه کالطهارة والصلاة، فإنّ الاُولی مقدّمة للثانیة. وموجودة مستقلّة فی قبالها خارجاً، فلذلک یتوقّف وجودها علی وجود الطهارة فی الخارج، وکقطع المسافة بالنسبة إلی الحجّ وهکذا، وحیث إنّه لا إثنینیة بین وجود الواجب ووجود أجزائه فی الخارج، لأنّ وجوده فیه عین وجود أجزائه بالأسر، بداهة أنّ وجود الصلاة هو وجود أجزائها من التکبیرة إلی التسلیمة، فلا یعقل أن یکون متوقّفاً علی وجود أجزائها، لأنّ التوقّف یتطلّب التعدّد والاثنینیة فی الخارج.

وأمّا ما ذکره السیّد الاُستاذ (قدس سره) من أنّه لا مانع من اطلاق المقدّمة علی

ص:9

الأجزاء، بمعنی ما یتوقّف علیه وجود الشیء وإن لم یکن وجوده فی الخارج غیر وجود ذیّه، فإنّ وجود الواجب کالصلاة مثلا یتوقّف علی وجود أجزائه، وأمّا وجودها فلا یتوقّف علی وجوده نظیر الواحد بالنسبة إلی الاثنین، فإنّ وجود الاثنین یتوقّف علی وجود الواحد دون العکس(1).

فلا یمکن المساعدة علیه، وذلک لأنّ أجزاء الواجب کالصلاة مثلا، فتارةً تلحظ بما أنّها موجودات بوجودات مستقلّة وحقائق مختلفة کمقولة الکیف المسموع، کالتکبیرة والقرائة وسائر الأذکار، ومقولة الوضع کالرکوع والسجود ونحوهما، واُخری تلحظ بما أنّها أجزاء للصلاة فعلا، وعلی هذا فعلی الأول وإن کانت نسبتها إلی الصلاة نسبة الواحد إلی الاثنین، إلاّ أنّها بهذا اللحاظ لیست أجزاءً للصلاة، لأنّ أجزائها حصّة خاصّة منها، مثلا التکبیرة باطلاقها لیست جزءً للصلاة، فإنّ الجزء حصّة خاصّة منها وهی الحصّة المسبوقة بالفاتحة، والفاتحة باطلاقها لیست جزءً لها، فإنّ الجزء حصّة خاصّة منها وهی الحصّة المسبوقة بالرکوع والملحوقة بالتکبیرة وکذلک الرکوع والسجود ونحوهما، ونتیجة ذلک أنّ نسبة الصلاة إلی تلک الأشیاء باللحاظ الأول نسبة الاثنین إلی الواحد، فیتوقّف وجودها علیها، وأمّا نسبتها إلیها باللحاظ الثانی، فلیست نسبة الاثنین إلی الواحد، بل هی العینیة، فإنّها باللحاظ الثانی عین الصلاة، حیث إنّها عبارة عن تلک الأجزاء بالأسر وهی التکبیرة المسبوقة بالفاتحة، وهی المسبوقة بالرکوع والملحوقة بالتکبیرة والرکوع المسبوق بالسجود والملحوق بالفاتحة الملحوقة بالتکبیرة وهکذا، ومن الواضح أنّه لا یتصوّر بهذا اللحاظ توقّف وجود الصلاة علی أجزائها، فإنّه

ص:10


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2: ص 298.

من توقّف الشیء علی نفسه، ومن هنا یظهر أنّ ما أفاده السیّد الاُستاذ (قدس سره) من أنّ نسبة الصلاة إلی أجزائها نسبة الاثنین إلی الواحد، مبنیة علی الخلط بین لحاظها بالمعنی الأول ولحاظها بالمعنی الثانی، فإنّ نسبتها إلیها نسبة الاثنین إلی الواحد باللحاظ الأول دون الثانی، والمفروض أنّها باللحاظ الأول لیست أجزاءً للصلاة وتوقّفها علیها لیس من باب توقّف الواجب علی أجزائه.

فالنتیجة أنّ توقّف الواجب علی أجزائه بما هی أجزائه غیر معقول، وأمّا توقّفه علی ذواتها المطلقة وإن کان صحیحاً، إلاّ أنّها لیست أجزاءً له، فإذن ما یسمّی بالمقدّمات الداخلیة لیس بمقدّمة حتّی یکون داخلا فی محلّ النزاع.

هنا أمران:

ما ذکره المحقق الخراسانی من أنه لا یمکن أن تکون أجزاء المأمور به واجبة بالوجوب الغیری

الأول: ما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) من أنّه لا یمکن أن تکون أجزاء المأمور به واجبة بالوجوب الغیری، وإلاّ لزم اجتماع المثلین، لفرض أنّها واجبة بالوجوب النفسی، فلو کانت واجبة بالوجوب الغیری أیضاً، لزم هذا المحذور، فلذلک لا یمکن أن تکون أجزاء الواجب مقدّمة للواجب وواجبة بالوجوب الغیری(1).

ولنأخذ بالنقد علیه أمّا أولا فکان ینبغی له أن یعلّل عدم صحّة مقدّمیة الأجزاء بالاستحالة الذاتیة، باعتبار أنّ الأجزاء المرتبطة بالأسر هی نفس الواجب المرکّب، فکیف یعقل أن تکون مقدّمة له؟ لاستحالة أن یکون الشیء مقدّمة لنفسه، لأنّ مقدّمیة الشیء لنفسه کعلّیة الشیء لنفسه مستحیلة، ومع

-

ص:11


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 90.

استحالتها بالذات فلا یصل الدور إلی تعلیلها بأمر عرضی وهو لزوم اجتماع المثلین لو قلنا بوجوب المقدّمة، وأمّا لو لم نقل بوجوبها فلا محذور، أو فقل أنّ التعلیل بالأمر العرضی یدلّ بنفسه علی أنّه لا محذور ذاتاً.

وثانیاً: مع الاغماض عن ذلک وتسلیم إمکان مقدّمیتها، فما ذکره (قدس سره) من أنّها تستلزم إجتماع المثلین وهو محال، فلا یمکن المساعدة علیه، وذلک لما ذکرناه فی محلّه من أنّ استحالة اجتماع المثلین أو الضدّین إنّما هی فی الاُمور التکوینیة الخارجیة، وأمّا فی الاُمور الاعتباریة التی لا واقع موضوعی لها خارجاً غیر اعتبار المعتبر، فلا موضوع لاجتماع المثلین أو الضدّین فیها، وعلی هذا فاجتماع وجوبین نفسیین فی شیء واحد وإن کان یستلزم اجتماع ملاکین فیه، إلاّ أنّهما لمّا کانا من سنخ واحد، فیندک أحدهما فی الآخر فیصبحان ملاکاً واحداً أقوی وآکد، فلذلک لا مانع من اجتماعهما علی شیء واحد لا فی مرحلة الاعتبار والجعل ولا فی مرحلة المبادئ، ولا فی مرحلة الامتثال.

ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنّ اجتماعهما علی شیء واحد لا یمکن، علی أساس استحالة اجتماع ملاکین فیه، إلاّ أنّه لا مانع من اجتماع الوجوب النفسی مع الوجوب الغیری فی شیء واحد، علی أساس أنّ اجتماعهما فیه لا یستلزم اجتماع ملاکین فیه، لأنّ الوجوب النفسی ناشیء من ملاک قائم فی متعلّقه، وأمّا الوجوب الغیری فهو ناشیء من ملاک قائم بشیء آخر غیر متعلّقه، مثلا وجوب صلاة الظهر النفسی ناشیء من ملاک قائم بها، وأمّا وجوبها الغیری فهو ناشیء من ملاک قائم بصلاة العصر، فاجتماعهما فیها لا یستلزم اجتماع ملاکین فیها.

ما ذکره المحقق العراقی من ظهور الثمرة بین القول بتعلق الوجوب الغیری بالإجزاء و عدمه فی مسألة الأقل و الأکثر الارتباطیین

الأمر الثانی: ما ذکره المحقّق العراقی (قدس سره) من أنّ الثمرة تظهر بین القول

ص:12

بتعلّق الوجوب الغیری بالأجزاء والقول بعدم تعلّقه بها فی مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین، فعلی القول الأول یکون المرجع فی تلک المسألة أصالة الاشتغال ووجوب الاتیان بالأکثر، وعلی الثانی یکون المرجع فیها أصالة البراءة عن وجوبه وکفایة الاتیان بالأقل، وقد أفاد فی وجه ذلک أنّ العلم الاجمالی فی المسألة علی الأول لا ینحل بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل الجامع بین الوجوب النفسی والوجوب الغیری، لأنّ الانحلال منوط بأن یکون المعلوم بالتفصیل من سنخ المعلوم بالاجمال وفرد من أفراده، والمفروض أنّه غیر محرز فی المقام، لأنّ المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسی والمعلوم بالتفصیل الجامع بین النفسی والغیری، فإذن لیس هنا إلاّ احتمال انطباق المعلوم بالاجمال علی المعلوم بالتفصیل، وهذا مقوّم للعلم الاجمالی لا أنّه موجب لانحلاله، فإذا لم ینحل العلم الاجمالی فمقتضاه وجوب الاحتیاط.

وأمّا علی الثانی فحیث أنّ المکلّف یعلم تفصیلا بوجوب الأجزاء وجوباً نفسیاً فی ضمن الأقل ویشک فی تقیید وجوبها بالأکثر، فیرجع إلی أصالة البراءة عنه، فینحل العلم الاجمالی بها حکماً(1).

وغیر خفی أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ العلم التفصیلی بوجوب الأقل الجامع بین الوجوب النفسی والغیری لا یوجب انحلال العلم الاجمالی، لعدم احراز انطباق المعلوم بالاجمال علیه وإن کان صحیحاً علی المشهور، إلاّ أنّ ما أفاده (قدس سره) من التفصیل بین القول بتعلّق الوجوب الغیری بالأجزاء والقول بعدم تعلّقه بها، فعلی الأول لا تجری أصالة البراءة عن وجوب الأکثر وعلی الثانی تجری، لا یرجع إلی معنی محصّل، ضرورة أنّه لا فرق بین القولین فی

-

ص:13


1- (1) - نهایة الأفکار ج 3: ص 382.

المسألة فی جریان أصالة البراءة وعدم جریانها، لأنّ العلم التفصیلی بوجوب الأقل الجامع بین النفسی والغیری لا أثر له ولا یوجب الانحلال کما عرفت.

فإنّ الذی یوجب الانحلال حقیقة فی المقام العلم التفصیلی بالوجوب النفسی للأقل وهو غیر موجود، فإذن الرکن الأول من أرکان منجّزیة العلم الاجمالی وهو تعلّقه بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر ثابت فی المسألة، وإنّما الکلام فی توفّر الرکن الثانی وهو تساقط الاُصول المؤمنة فی أطرافه فیها ولکنّه غیر متوفّر، وذلک لأنّ أصالة البراءة لا تجری فی الأجزاء التی یکون تعلّق الوجوب النفسی بها معلوماً فی الجملة، وأمّا الجزء المشکوک فیه فلا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عنه، حیث أنّ مرجع الشکّ فیه إلی الشکّ فی تقیید الأقل به ولا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عن هذا التقیید الزائد المشکوک فیه وبها ینحل العلم الاجمالی حکماً، فإذن الرکن الثانی من أرکان منجّزیة العلم الاجمالی غیر متوفّر فی المسألة.

ص:14

البحث الثانی:تقسیم الشروط إلی المقارن و المتقدّم و المتأخّر

اشارة

تقسیم الشروط إلی المقارن و المتقدّم و المتأخّر

تقدّم فی البحث الأول الفرق بین شروط الوجوب وشروط الواجب، ویقع الکلام فی هذا البحث حول أقسام الشروط من الشرط المقارن، والمتقدّم، والمتأخّر، سواءً أکان للوجوب أم للواجب.

أمّا الأول: فهو کزوال الشمس وغروبها وطلوع الفجر، فإنّ الأول شرط مقارن لوجوب صلاتی الظهر والعصر، والثانی شرط مقارن لوجوب صلاة الفجر، کالاستطاعة، والسفر، وإقامة عشرة أیّام فی بلد وهکذا، فإنّ کل ذلک شرط مقارن للوجوب، هذا بالنسبة إلی الشروط المقارنة للوجوب، وأمّا الشروط المقارنة للواجب فهی کطهارة البدن والثوب والطهارة من الحدث واستقبال القبلة والقیام والطمأنینة وغیرها فإنّها جمیعاً شروط مقارنة للواجب.

وأمّا الثانی: کرؤیة الهلال فی شهر رمضان، فإنّها شرط متقدّم لوجوب الصوم، وغسل الجنابة فی شهر رمضان قبل طلوع الفجر، فإنّه شرط متقدّم للواجب وهو الصوم.

وأمّا الثالث کالاجارة فی العقد الفضولی علی القول بالکشف، فإنّها

ص:15

شرط متأخّر لصحّة العقد، ویوم العرفة فإنّه شرط متأخّر لوجوب الحجّ، وهکذا، وغسل المستحاضة فی اللیل الآتی، فإنّه شرط متأخّر لصحّة صومها فی الیوم الماضی علی قول، هذه هی أقسام الشروط من المقارن والمتقدّم والمتأخّر سواءً کانت للوجوب أم للواجب، ولا إشکال فی القسم الأول لا ثبوتاً ولا إثباتاً ولا کلام فیه،

و إنّما الکلام فی القسم الثانی و الثالث فهنا مقامان:

اشارة

الأول: فی إمکان الشرط المتقدّم.

الثانی: فی إمکان الشرط المتأخّر.

المقام الأول: الکلام فی الشرط المتقدم
ما ذکره صاحب الکفایة من استحالة الشرط المتقدم

أمّا الکلام فی المقام الأول فقد ذهب المحقّق صاحب الکفایة (قدس سره) إلی استحالة الشرط المتقدّم، وقد أفاد فی وجه ذلک أن الشرط حیث إنه من اجزاء العلة التامة، فلابد أن یکون معاصراً مع المشروط ضرورة کما إنّه لا یعقل أن یکون الشرط متأخّراً عنه زماناً، کذلک لا یعقل أن یکون متقدّماً علیه کذلک، ولا وجه لتخصیص الاشکال بالشرط المتأخّر کما هو المشهور فی الألسنة، بل یعمّ الشرط والمقتضی المتقدّمین المنصرمین حین وجود الأثر کالعقد فی باب الوصیة وفی باب الصرف والسلم، بل فی کل عقد بالنسبة إلی غالب أجزائه لتصرّمها حین تأثیره وتحقّق أثره(1).

وقد أورد علیه السیّد الاُستاذ (قدس سره) بتقریب، أنّ تقدّم الشرط علی المشروط فی التکوینیات غیر عزیز فضلا عن التشریعیات، وقد أفاد فی وجه ذلک أنّ مردّ الشرط فی طرف الفاعل إلی مصحّح فاعلیته وفی طرف القابل إلی متمّم قابلیته، ومن الطبیعی أنّه لا مانع من تقدّم الشرط بهذا المعنی علی

-

ص:16


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 92.

المشروط زماناً، فإنّ ما لا یمکن أن یکون متقدّماً علی أثره هو العلّة التامّة دون سائر أجزائها(1).

هذا ولکن الظاهر أنّ هذا الإیراد غیر وارد، وذلک لأنّ مقصود صاحب الکفایة علی ما یظهر من کلامه أنّ الشرط بوجوده المتقدّم لا یمکن أن یکون مؤثّراً فی المشروط بوجوده المتأخّر وهذا بدیهی، وأمّا ما ذکره السیّد الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الشرط جزء العلّة التامّة وهو دائماً مقدّم علی المشروط والمعلول، علی أساس أنّ المعلول یوجد بعد تمامیة العلّة، فیرد علیه أنّ الشرط الذی هو جزء العلّة لیس مؤثّراً فی وجود المعلول من حین تحقّقه ووجوده، بل هو من هذا الحین یؤثّر فی فاعلیة المقتضی ویعطی له هذه الصفة التی کان فاقداً لها قبل تحقّق الشرط، فتصبح فاعلیته تامّة فی نفسه لولا وجود المانع فی البین، فإذا لم یکن هناک مانع أثّر المقتضی أثره بنحو العلّة التامّة، وعلی هذا فأثر الشرط هو إعطاء صفة الفالعیة للمقتضی لولا المانع، وهذا الأثر یتحقّق من حین تحقّقه، فلا یکون الشرط متقدّماً علیه زماناً، وحیث إنّ هذه الصفة ثابتة للمقتضی بثبوت الشرط، فإذا لم یکن هناک مانع تمّت العلّة التامّة فتؤثّر فی إیجاد المعلول، ومن الواضح أنّ العلّة التامّة بکل أجزائها منها الشرط معاصرة لمعلولها، فلا یکون الشرط الذی هو جزء العلّة التامّة من الشرط المتقدّم فإنّ معنی الشرط المتقدّم هو أنّه فی الزمن المتقدّم مؤثّر فی المشروط فی الزمن المتأخّر علی الرغم من أنّه معدوم فی زمن المشروط، وما نحن فیه لیس کذلک، فإنّ حدوثه وإن کان متقدّماً، إلاّ أنّ تأثیره فی وجود المعلول مقارن.

-

ص:17


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2: ص 305.
علاج الشرط المتقدم بإرجاعه إلی الشرط المقارن لباً و واقعاً

ومن هنا یظهر أنّ ما أفاده السیّد الاُستاذ (قدس سره)(1) من أنّ الشرط الذی هو جزء العلّة التامّة من الشرط المتقدّم غیر تام، لما عرفت من أنّه لیس من الشرط المتقدّم لا بالنسبة إلی أثره الخاص وهو إعطاء صفة الفاعلیة للمقتضی ولا بالنسبة إلی أثر العلّة التامّة، وهذا هو مراد صاحب الکفایة (قدس سره) من الشرط المتقدّم کما یظهر ذلک من الأمثلة التی ذکرها (قدس سره) فی هذا الباب. إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أنّ العلّة التامّة مرکّبة من أجزاء ثلاثة: المقتضی، ووجود الشرط، وعدم المانع، فإذا توفّرت هذه الأجزاء الثلاثة جمیعاً تحقّقت العلّة التامّة وأثّرت أثرها، ومن الطبیعی أنّ العلّة التامّة بتمام أجزائها معاصرة لمعلولها وأثرها الذی یتولّد منها، مثلا ذات النار مقتضی للإحراق والمماسّة بینها وبین الحطب شرط لفاعلیة النار ورطوبة الحطب مانعة عن فاعلیتها وتأثیرها، فإذا کان المقتضی مع الشرط موجوداً ولکن هناک مانع یمنع عن تأثیره وفاعلیته فلا أثر له، و أمّا إذا انتفی المانع کما إذا کان الحطب المماس للنار یابساً، فیکون مؤثّرة فی الإحراق بنحو العلّة التامّة لتوفّر جمیع أرکانها وأجزائها ولا حالة منتظرة فی البین، فالشرط الذی یعطی صفة الفاعلیة للمقتضی، فلابدّ أن یکون باقیاً إلی أن تتمّ العلّة بکافّة أجزائها، ضرورة أنّ الشرط لو لم یبق لم تبق صفة الفاعلیة للمقتضی أیضاً، لأنّها أثر الشرط ومعلولة له، فکیف یعقل بقاؤها مع إنتفاء الشرط، هذا کلّه فی التکوینیات.

وأمّا فی التشریعیات فالمعروف والمشهور بین الأصحاب أنّها لا تقاس بالتکوینیّات، باعتبار أنّها امور اعتباریة وأمرها وضعاً ورفعاً وإطلاقاً وتقییداً بید الشارع، فإنّ له أن یجعل الحکم لشیء وله أن لا یجعل، کما أنّه إذا جعل

-

ص:18


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2: ص 306.

حکماً لشیء فله أن یقیّده بقید مقارن أو متقدّم أو متأخّر، من هنا کان له أن یجعل وجوب صوم شهر رمضان عند طلوع الفجر مشروطاً بشرط متقدّم وهو رؤیة الهلال فی اللیل وصحّة العقد الفضولی من حین وقوعه مشروطاً بشرط متأخّر وهو اجازة المالک وهکذا. فإذن لا مانع من تقیید الأحکام الشرعیة بقید متقدّم أو متأخّر هذا، ولکن هذه الشهرة لا تبنی علی نکتة مبرّرة لها لأنّ الأحکام الشرعیة وإن کانت اموراً اعتباریة، إلاّ أنّ جعل المولی الحکم مشروطاً بشیء لا یمکن أن یکون جزافاً وبلا نکتة، مثلا جعل الاستطاعة شرطاً لوجوب الحجّ والسفر لوجوب القصر وهکذا، لا یمکن أن یکون جزافاً وبدون ملاک.

ومن هنا قلنا أنّ کل قید مأخوذ فی لسان الدلیل شرعاً ظاهر فی أنّه دخیل فی الحکم فی مرتبة الجعل واتّصاف الفعل بالملاک فی مرتبة المبادیء، فإذن نکتة جعل الحکم مشروطاً بشیء کونه دخیلا فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، ومن الواضح أنّ هذا الاتّصاف أمر واقعی ولیس باعتباری، کما أنّ جعل شیء قیداً للمأمور به إنّما هو بنکتة أنّه دخیل فی ترتّب الملاک علیه، وعلی هذا الأساس فلا فرق بین التکوینیات والتشریعیات، باعتبار أنّ الشروط فی التشریعیات ترجع فی الحقیقة إلی شروط للاُمور الواقعیة، فإنّها إن کانت للوجوب إثباتاً فهی شروط فی الحقیقة للاتّصاف فی مرحلة المبادیء ثبوتاً، وإن کانت للواجب کذلک، فهی شروط فی الحقیقة لترتّب الملاک علیه فی الخارج، فما ذکره صاحب الکفایة (قدس سره) من البرهان وهو أنّ العلّة التامّة لا یمکن تقدّمها بتمام أجزائها علی المعلول، کما لا یمکن تأخّرها کذلک عن المعلول متین جدّاً، إلاّ أنّه یمکن علاج الشرط المتقدّم بإرجاعه إلی الشرط المقارن لبّاً وواقعاً وإن کان منه صورة، بتقریب أنّ الشرط إن کان شرطاً للوجوب

ص:19

فهو فی الحقیقة شرط لإیجاد الاستعداد والقابلیة فی الفعل للاتّصاف بالملاک، ویبقی هذا الاستعداد والقابلیة فیه إلی أن تأتی سائر أجزاء العلّة التامّة، فإذا أتت تمّت العلّة فأثّرت فی اتّصاف الفعل بالملاک ووجوبه، وإن کان شرطاً للواجب فهو فی الحقیقة شرط ومؤثّر فی إیجاد الاستعداد والصلاحیة فی الفعل لترتّب الملاک علیه، ویبقی الفعل علی هذا الاستعداد إلی أن یتحقّق سائر أجزاء العلّة التامّة، مثلا رؤیة هلال شهر رمضان تؤثّر فی إیجاد الاستعداد فی الصوم لیوم الغد ویبقی الصوم من اللیل علی هذا الاستعداد إلی أن تتحقّق سائر أجزاء العلّة التامّة، فإذا تحقّقت تمّت العلّة فأثّرت حینئذ فی اتّصافه بالملاک ووجوبه، ولولا هذه الرؤیة لم تکن للصوم قابلیة الاتّصاف بالملاک، کما أنّ غسل الجنابة قبل الفجر فی شهر رمضان یؤثّر فی إیجاد الاستعداد فی صوم الغد لترتّب الملاک علیه ویبقی علی هذا الاستعداد إلی أن تمت سائر أجزاء العلّة التامّة.

ویمکن أن یکون هذا المعنی هو مراد المحقّق الأصفهانی (قدس سره) من مقالته فی المقام، وحاصل هذه المقالة أنّ الشرط إن کان متمّماً لفاعلیة الفاعل أو قابلیة القابل، فلابدّ أن یکون مقارناً مع المعلول، وأمّا إذا کان معدّاً، فشأنه أن یقرّب المعلول إلی حیث یمکن صدوره عن العلّة، ومثله لا یعتبر مقارنته مع المعلول فی الزمان، والخلاصة أنّ ما کان من الشرائط شرطاً للتأثیر کان حاله حال ذات المؤثّر، فلا یمکن أن یکون متقدّماً علی المشروط، وما کان شرطاً لتقریب الأثر کان حاله حال المعدّ(1).

وعلی هذا فلا یرد علیه ما أورده بعض المحقّقین (قدس سره) من أنّه إن ارید بتقریب الشیء من الامتناع إلی الامکان تقریب الشیء الممتنع بالذات

-

ص:20


1- (1) - نهایة الدرایة ج 2: ص 32.

کإجتماع النقیضین إلی الإمکان، فهو خلف فرض کونه ممتنعاً بالذات، وإن ارید به تقریبه من الامتناع بالغیر أی الامتناع من ناحیة عدم وجود علّته إلی الامکان، فهذا لا یعقل إلاّ بتقریب المعلول إلی علّته بأن یکون شرطاً دخیلا فی وجوده، وحینئذ یقال بأنّه کیف یکون دخیلا فی وجوده وهو متقدّم علیه فی الوجود، وذلک(1):

أمّا عدم ورود الشقّ الأول من الإیراد فهو واضح، لأنّه مجرّد فرض لا واقع له، ضرورة إنّه لم یرد من المقرّب تقریب الشیء من الامتناع بالذات إلی الامکان، وأمّا عدم ورود الشقّ الثانی فلأنّ الظاهر أنّ مراده (قدس سره) من المقرّب لیس تقریب المعلول إلی العلّة بمعنی أنّه شرط دخیل فی وجوده بقرینة أنّه جعل المعدّ والمقرّب فی مقابل المؤثّر فی الوجود، فلو کان مراده المؤثّر فیه فلا معنی لجعله فی مقابله، فإذن هذه المقابلة تدلّ علی أنّ مراده من المعد والمقرّب أنّه أوجد الاستعداد فی الفعل والتهیّؤ له للاتّصاف بالملاک أو لترتّبه علیه خارجاً، مثلا رؤیة الهلال فی شهر رمضان تقرّب الصوم وتهیّؤه للاتّصاف بالملاک وتوجد فیه الاستعداد لذلک ویبقی علی هذا التهیّؤ والاستعداد إلی اکتمال بقیّة الشروط، فإذن لیست الرؤیة حینئذ من الشروط المتقدّمة إلاّ صورة، وأمّا واقعاً ولبّاً فهی من الشروط المقارنة، فالنتیجة أنّه لا مناص من الالتزام بهذا التوجیه فی الشرط المتقدّم علی مستوی الملاک بلا فرق بین أن یکون من شروط الوجوب أو الواجب ونظیر ذلک کثیر فی الاُمور التکوینیة، مثلا البیضة إنّما تصبح فرخ دجاجة لما فیها من الاستعدادات والمؤهّلات الذاتیة التی هی تعطی لها صفة الحرکة الجوهریة من النقص إلی الکمال ومن الامکان إلی الوجود ومن القوّة إلی

-

ص:21


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول ج 2: ص 185.

الفعلیة إلی أن تصبح فرخاً، وکذلک المنی فإنّ فیه استعدادات ومؤهّلات ذاتیة وهی تعطی له صفة الحرکة نحو الکمال إلی أن یصبح إنساناً کاملا وهکذا.

فالنتیجة أنّ الشرط المتقدّم لا یمکن أن یکون مؤثّراً فی إیجاد المشروط المتأخّر، علی أساس إستحالة تقدّم العلّة بتمام أجزائها علی المعلول، ولکن قد عرفت أنّ الشرط المتقدّم وإن کان متقدّماً صورة إلاّ أنّه مقارن فی الحقیقة وبحسب اللبّ والواقع.

المقام الثانی: الکلام فی الشرط المتأخر
اشارة

وأمّا الکلام فی المقام الثانی وهو الشرط المتأخّر، فتارةً یقع فی الشرط المتأخّر للوجوب واُخری فی الشرط المتأخّر للواجب.

الکلام فی الشرط المتأخر للوجوب

أمّا الکلام فی الأول فهل یمکن أن یکون الوجوب مشروطاً بشرط متأخّر، فیه قولان: فذهب جماعة من المحقّقین إلی أنّه مستحیل، بتقریب أنّ الشرط المتأخّر إن کان مؤثّراً بوجوده المتأخّر فی إیجاد المشروط فی الزمن المتقدّم لزم تأثیر المعدوم فی الموجود، لفرض أنّه معدوم حین وجود المشروط، وإن کان مؤثّراً من حین وجوده لزم انقلاب الواقع عمّا وقع علیه، لفرض أنّ المشروط قد وقع فی زمن متقدّم، فلو کان الشرط المتأخّر مؤثّراً فی إیجاده فی زمانه المتأخّر لزم انقلاب وقوعه من زمن متقدّم إلی زمن متأخّر وهو کما تری، وإن لم یکن مؤثّراً فیه أصلا، فمعناه أنّه لیس بشرط، وهنا خلف فرض کونه شرطاً، وفی حلّ هذا الاشکال ودفعه عدّة محاولات:

محاولة صاحب الکفایة لدفع الإشکال

الاُولی: ما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) وملخّصه، إنّ شرط الحکم إنّما هو شرط له بوجوده اللحاظی الذهنی التصوّری لا بوجوده الخارجی الواقعی، فالاستطاعة بوجودها الواقعی الخارجی لیست شرطاً لوجوب الحجّ بل هی شرط بوجودها اللحاظی التصوّری، ورؤیة الهلال فی شهر رمضان شرط لوجوب صوم الغد بوجودها اللحاظی وهو مقارن له لا متقدّم، لأنّ المتأخّر

ص:22

إنّما هو وجودها الخارجی دون الذهنی وهکذا(1).

والخلاصة أنّ نتیجة هذه المحاولة لیست دفع الإشکال عن الشرط المتأخّر للحکم بل هی إنکار لکون الشرط متأخّراً، فإنّ ما هو شرط وهو الوجود الذهنی لیس بمتأخّر وما هو متأخّر وهو الوجود الخارجی لیس بشرط هذا.

وقد أورد علی هذه المحاولة السیّد الاُستاذ (قدس سره) بتقریب أنّها مبنیّة علی الخلط بین شرائط الحکم فی مرتبة الجعل وشرائط الحکم فی مرتبة المجعول، فإنّ الوجود التصوّری من مبادیء الجعل بلحاظ أنّه فعل اختیاری للمولی وقائم به قیام صدوری، ومن الواضح أنّ صدوره من المولی بحاجة إلی ما یتوقّف علیه من مبادیء الفعل الاختیاری کتصوّره وتصوّر موضوعه وشرائطه وما یرتبط به وهذا خارج عن محل الکلام، فإنّ محلّ الکلام إنّما هو فی شرائط المجعول وهی امور واقعیة لا ذهنیة، مثلا رؤیة الهلال بوجودها الذهنی شرط لجعل وجوب الصوم بنحو القضیة الحقیقیة وبوجودها الخارجی شرط للحکم المجعول فی مرحلة الفعلیة، والکلام إنّما هو فی شرطیة رؤیة الهلال بوجودها الخارجی للثانی، فإذن یبقی الإشکال بلا حل.

وبکلمة أنّ جعل الحکم الشرعی کقضیة حقیقیة التی ترجع إلی قضیة شرطیة مقدّمها وجود الموضوع وتالیها ثبوت المحمول له لا یتوقّف علی وجود الموضوع والشرط فی الخارج، علی أساس أنّه مجعول علی الموضوع المفروض الوجود فیه لا علی الموضوع المحقّق وجوده، وأمّا المجعول فهو یتوقّف علی فعلیة الموضوع فی الخارج وتحقّقه فیه، وعلیه فإذا کان الشرط

-

ص:23


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 93.

متأخّراً عنه لزم محذور تأثیر المتأخّر فی المتقدّم(1) هذا، ویمکن نقد ذلک بما ذکرناه موسّعاً فی مبحث القطع وملخّصه، أنّ الإشکال فی المقام مبنی علی ما بنی علیه (قدس سره) من أنّ للحکم مرتبتین:

1 - مرتبة الجعل.

2 - مرتبة المجعول.

وهی مرتبة فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه، ولکن هذا المبنی بالتحلیل لا یرجع إلی معنی محصّل، وذلک لأنّ حقیقة الحکم أمر اعتباری لا واقع موضوعی له ما عدا وجوده فی عالم الاعتبار والذهن ولا یمکن تحقّقه فی عالم الخارج هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ الحکم یتحقّق باعتبار المعتبر وجعله، ولا یمکن أن یؤثّر فیه شیء من موجود خارجی باسم الموضوع والشرط وإلاّ لکان خارجیاً لا اعتباریاً وهو کما تری، فإذن الحکم الشرعی فعلی بمجرد الجعل والاعتبار، لأنّ معنی فعلیته هو وجوده الاعتباری فی عالم الذهن والاعتبار ولا یعقل فیه التأثیر والتأثّر لأمرین:

الأول: أنّه لا واقع موضوعی له فی الخارج حتّی یقبل ذلک.

الثانی: أنّ أمره بید المعتبر مباشرة، فلو کان یقبل التأثّر بشیء آخر ومتولّداً منه لزم خلف فرض کون أمره بیده کذلک.

ومن هنا یظهر أنّه لیس للحکم عالم آخر غیر عالم الاعتبار والجعل وأمّا المجعول فهو عین الجعل فلا اختلاف بینهما ذاتاً کالایجاد والوجود، وأمّا تفسیره بفعلیة الحکم بفعلیة موضوعه فی الخارج فهو مبنیْ علی التسامح ولا

-

ص:24


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2: ص 313.

واقع له، ضرورة أنّه لیس للحکم فعلیة اخری غیر فعلیته بالاعتبار والجعل فی عالم الذهن، ولا یمکن أن یراد من المجعول ما هو مسبّب عن الجعل ومعلول له وقد یتأخّر وجوده عن وجوده، أمّا أوّلا فلأنّ السببیة والمسبّبیة لا تتصوّران فی الاُمور الاعتباریة.

وثانیاً أنّه لا یمکن أن یکون مسبّباً عنه فی الخارج وإلاّ لزم أن یکون خارجیاً لا شرعیاً، وثالثاً أنّه ینافی کونه فعلا إختیاریاً للمعتبر مباشرة.

والخلاصة أنّ للحکم الشرعی مرتبة واحدة وهی مرتبة الجعل والاعتبار وهو یوجد فی هذا العالم ویصبح فعلیاً فیه بنفس الجعل والاعتبار ولا یعقل تأثّره بالاُمور الخارجیة ولا تتوقّف فعلیته علی فعلیة موضوعه فی الخارج، لأنّه فعلی فی عالمه وهو عالم الاعتبار والذهن، سواءً أکان موضوعه فعلیاً فیه أم لا، ضرورة أنّه لا یتأثّر بوجود موضوعه خارجاً کما عرفت، وعلی هذا فشرائط المجعول هی شرائط الجعل باعتبار أنّه عینه ولا اختلاف بینهما، ولا یمکن القول بأنّ شرائط المجعول الوجودات الواقعیة الخارجیة وشرائط الجعل الوجودات اللحاظیة التصوّریة، لما مرّ من استحالة أن یکون الحکم متأثّراً بالموجودات الخارجیة وإلاّ لکان خارجیاً، فإذن لا یتصوّر أن یکون الحکم مشروطاً بشرط متأخّر، لأنّ التأخّر إنّما یکون فی الوجودات الخارجیة لا فی الوجودات اللحاظیة التصوّریة، والمفروض أنّها بوجوداتها اللحاظیة شروط للحکم، نعم أنّ وجود الشرط فی الخارج سبب لفعلیة فاعلیة الحکم لا لفعلیّته نفسه ولکنّها لیست من مراتب الحکم فإنّها أمر تکوینی، فإذا أوجدت الاستطاعة مثلا فی الخارج أصبح وجوب الحجّ فاعلا ومحرّکاً للمکلّف فعلا من جهة إدراک العقل حینئذ العقوبة علی مخالفته والمثوبة علی موافقته.

والخلاصة أنّ شرائط الحکم کالاستطاعة ونحوها لا یمکن أن تکون

ص:25

شرائط له بوجوداتها الواقعیة الخارجیة، لاستحالة أن یتأثّر الحکم الشرعی بها، نعم إنّها بوجوداتها الخارجیة شروط لفعلیة فاعلیته ومحرّکیته فی الخارج، والمفروض أنّها أمر تکوینی، فلا یعقل أن یکون من مراتب الحکم.

تحصّل أنّ شرائط الحکم حیث إنّها متمثّلة فی وجوداتها اللحاظیة، فلا یمکن فرض الشرط المتأخّر فیها، وأمّا شرائط فاعلیة الحکم ومحرکیته فعلا، فبما أنّها وجوداتها الخارجیة فیمکن تصویر الشرط المتأخّر فیها، ولکنّه مستحیل وقوعه فی الخارج لاستحالة أن تکون الشیء المتأخّر فی ظرفه مؤثّراً فی فاعلیته ومحرّکیته فی الزمن المتقدّم، لما مرّ من أنّ مردّه إمّا إلی تأثیر المعدوم أو قلب الواقع عمّا وقع علیه أو عدم التأثیر أصلا، کل ذلک لا یمکن کما تقدّمت، ودعوی أنّ محرّکیة وجوب الحج وفاعلیته إمّا أن تکون من حین تحقّق الاستطاعة وإن کان قبل أشهر الحج أو بعد دخولها مع إنّها مشروطة بحضور یوم عرفة بنحو الشرط المتأخّر، مدفوعة بأنّ حضور یوم عرفة شرط لوجوب الوقوف فیها الذی هو رکن للحج لا لوجوب الحجّ أعمّ من عمرة التمتع والحج، فإنّ وجوبه فاعل من حین دخول أشهر الحجّ.

وأمّا شرائط اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء فهی امور تکوینیة واقعیة، علی أساس أنّ المشروط بها أمر تکوینی وهو الاتّصاف به، وعلی هذا فلا یمکن أن یکون الاتّصاف مشروطاً بشرط متأخّر لنفس المحذور المتقدّم.

محاولة بعض المحققین لدفع الإشکال

المحاولة الثانیة ما ذکره بعض المحقّقین (قدس سره) بتقریب، أنّه یمکن أن یفترض دخل الشرط المتأخّر فی اتّصاف الفعل بالملاک بأحد نحوین:

الأول: أن یکون الشرط المذکور دخیلا فی احتیاج الملاک إلی الفعل المتقدّم لا فی الزمن المتقدّم بل فی زمن الشرط، ولکن الفعل المحتاج إلیه إمّا

ص:26

أن یکون الجامع بین الزمن المتقدّم والزمن المتأخّر، وهذا الجامع هو المتّصف بالملاک، وأمّا وجوبه فبما أنّه ثابت من أوّل أزمنته، فیکون متقدّماً علی الشرط أو خصوص الفعل المتقدّم لخصوصیته فیه التی تفوت علی المکلّف إذا لم یفعله فی الیوم المتقدّم کما إذا رأی المولی أنّ عبده سیحتاج فی الشتاء إلی شراء الفحم مثلا إلاّ أنّه لا یمکنه شرائه إذا جاء وقت الشتاء، فیوجب شراء الفحم فی الصیف شریطة بقائه حیّاً فی الشتاء.

الثانی: أن یکون الاحتیاج حاصلا فی زمان الواجب المتقدّم، والشرط المتأخّر لیس هو الذی یولّد الاحتیاج، إلاّ أن یکون عدم تحقّقه فی زمانه المتأخّر موجباً لمفسدة أشدّ مثلا لو کان فی شرب الدواء فائدة ولکن تلک الفائدة مشروطة بعدم ابتلاء الإنسان بالبرد بعد ذلک وإلاّ کان شربه مضرّاً له، ومعنی هذا أنّه یشترط فی شرب الدواء فی الزمن المتقدّم عدم تعرّضه للبرد فی المستقبل(1).

ویمکن المناقشة فی کلا النحوین:

أمّا النحو الأول فلأنّ الفعل الوافی بالملاک المتأخّر إاذا کان الجامع بین الفعل المتقدّم والفعل المتأخّر وهو الفعل فی زمن الشرط، فبطبیعة الحال کان الوجوب متعلّقاً بالجامع لا بالفعل من أول أزمنته کما هو المفروض فی کلامه، لأنّ معناه التعلّق بالحصّة الطولیة مع أنّه یتبع الفعل الوافی بالملاک وهو فی المقام الجامع بلا خصوصیة لهذه الحصّة أو تلک ولا یمکن فرض تخلّفه عنه، هذا إضافة إلی أنّ المثال أو ما شاکله یختلف عمّا هو محلّ الکلام فی المسألة فی نقطة، وهی أنّ الواجب الحقیقی فی المثال أو ما شاکله مقارن زماناً

-

ص:27


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول ج 2: ص 181-182.

للشروط، وحیث أنّ ملاکه تامّ فی ظرفه وملزم فهو یؤثّر فی حکم العقل بالحفاظ علیه بأی وسیلة ممکنة، وإن کانت بحفظ القدرة علیه قبل وقته، ولا یجوز تفویته ولو بتفویت القدرة قبل الوقت أو التقصیر فی تحصیلها، لأنّ القدرة المعتبرة فیه قدرة مطلقة، لا قدرة خاصّة وهی القدرة فی الوقت، وعلی هذا فإن تمکّن المکلّف من الحفاظ علیه بتحصیل القدرة فی الوقت لم یجب علیه تحصیلها قبل الوقت، بل هو حینئذ مخیّر بین تحصیلها قبل الوقت والحفاظ علیها إلی أن جاء الوقت وبین تحصیلها فی الوقت، فإذن الواجب هو الجامع بین الفعل فی الزمن المتقدّم والفعل فی الزمن المتأخّر، ولکن وجوب الجامع عندئذ وجوب مقدّمی والحاکم به العقل من باب حکمه بوجوب الاتیان بالمقدّمات المفوّتة، وإن لم یتمکّن المکلّف من تحصیل القدرة علیه فی الوقت، وجب علیه تحصیلها قبل الوقت بالإتیان بکل مقدّمة لها دخل فی القدرة علیه، وهذا لا من جهة خصوصیة فی هذه المقدّمة، بل من جهة أنّه لو لم یأت بها لفات الملاک الملزم عنه فی ظرفه کما هو الحال فی جمیع المقدّمات المفوتة، والمثال من هذا القبیل، فإنّ المکلّف إن کان متمکّناً من تهیئة الفحم أو بدیله فی وقت الشتاء لم یجب علیه شرائه أو شراء بدیله فی الصیف، بل هو حینئذ مخیّر بین أن یقوم بشرائه فی الصیف أو فی الشتاء، فالواجب علیه من باب المقدّمة الجامع بین الفعل المتقدّم والفعل المتأخّر، وإن لم یتمکّن من تهیئة الفحم أو بدیله فی وقت الشتاء، وجب علیه شرائه فی الصیف حتّی لا یفوت عنه الملاک الملزم فی ظرفه، فوجوب شراء الفحم فی الصیف إذا لم یتمکّن منه فی الشتاء لیس لخصوصیة فیه، بل من أجل التحفّظ علی الملاک الملزم فی ظرفه وعدم جواز تفویته ولو بتفویت القدرة قبل الوقت.

إلی هنا قد تبیّن أنّ المثال أو ما شاکله لیس من صغریات المسألة فی

ص:28

محل الکلام، فإنّ محل الکلام فی المسألة إنّما هو فی أنّ اتّصاف الواجب بالملاک فی مرحلة المبادیء، هل یمکن أن یکون مشروطاً بشرط متأخّر أو لا، وأمّا فی المثال أو ما شاکله فالواجب بما له من الملاک مقارن للشرط والمتقدّم زماناً إنّما هو مقدّماته المفوّتة، وفی مثل ذلک إذا أحرز أنّ ملاک الواجب تامّ فی ظرفه ولا یجوز تفویته فی أیّ حال وإن کان بتفویت القدرة علیه قبل الوقت، یستقل العقل بلزوم الاتیان بمقدّماته المفوّتة قبل الوقت لتحصیل القدرة علیه إذا لم یتمکّن من تحصیلها فی الوقت، فالنتیجة أنّ هذا لیس توجیهاً لتأثیر الشرط المتأخّر فی اتّصاف الواجب بالملاک فی الزمن المتقدّم، بل هو بیان أنّ ملاک الواجب إذا کان تامّاً فی ظرفه ومهمّاً بحیث لا یجوز تفویته ولو بترک تحصیل القدرة علیه قبل الوقت، کان یؤثّر فی إیجاب مقدّماته المفوّتة قبل الوقت عقلا.

وأمّا النحو الثانی فهو أیضاً غیر تامّ حتّی فی المثال المذکور، لأنّ تأثیر الدواء فی بدن المریض منوط بتوفّر شروط منها استعداد بدنه للبرء وقبوله الصحّة وعدم تدهور صحّته بشکل إنتهی مفعوله ومنها غیر ذلک، فإذا توفّرت شروطه أثّر الدواء تدریجاً مرحلة بعد مرحلة بقدر مفعوله، شریطة أن لا یکون هناک مانع، فإذا کان مانع، فإن کان من الأول فهو مانع عن تأثیره حدوثاً، وإن حدث بعد ذلک بسبب أو آخر فهو مانع عن تأثیره بقاءً، وقد یؤثّر فی تدهور صحّته أکثر من السابق ویبطل مفعول الدواء الأول نهائیاً، کل ذلک لا صلة بتأثیر الشرط المتأخّر، لوضوح أنّ حدوث المانع فی زمن متأخّر لا یکشف عن عدم تأثیر الدواء من الأول، بل هو یمنع عن تأثیره بقاءً، وعلی هذا فمعنی أنّ فائدة شرب الدواء مشروطة بعدم تعرّض المریض للبَرء، مثلا أنّ تأثیره فی رفع المرض عن المریض منوط بعدم تعرّضه له حدوثاً وبقاءً،

ص:29

فعلی الأول فهو مانع عن تأثیره حدوثاً، وعلی الثانی فهو مانع عن تأثیره بقاءً.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّ الشروط إذا کانت شروطاً للحکم، فقد تقدّم أنّها شروط له بوجوداتها اللحاظیة التصوّریة، فلذلک لا یتصوّر فیها الشرط المتأخّر، وإذا کانت شروطاً لفاعلیة الحکم ومحرّکیته فی الخارج فهی بطبیعة الحال شروط لها بوجوداتها الخارجیة بملاک أنّ المشروط أمر خارجی، وحینئذ فالشرط المتأخّر وإن کان متصوّراً فیها، إلاّ أنّکم عرفتم استحالة ذلک وعدم إمکان کونها مشروطة به، وإذا کانت شروطاً لاتّصاف الفعل بالملاک فهی أیضاً شروط لها بوجوداتها الخارجیة، علی أساس أنّ المشروط أمر تکوینی، وقد مرّ استحالة کونه مشروطاً بشرط متأخّر، وما سبق من المحاولة لتصحیح ذلک فقد تقدّم ما فیها.

الکلام فی الشرط المتأخر للواجب

وأمّا الکلام فی الثانی وهو الشرط المتأخّر للواجب، فتارةً یقع فی شروط الواجب واُخری فی شروط الملاک المترتّب علیه خارجاً.

شروط الواجب

أمّا الاُولی فلا مانع من أن یکون الواجب مقیّداً بقید متأخّر، کما أنّه لا مانع من أن یکون مقیّداً بقید متقدّم أو مقارن، إذ لیس هذا من باب تأثیر الشرط المتأخّر فی المتقدّم، لکی یقال أنّه محال بل هو من باب تخصیص الواجب بحصّة خاصّة وهی الحصّة المقیّدة بقید متأخّر، إذ کما أنّه لا مانع من تقییده بقید مقارن أو متقدّم، کذلک لا مانع من تقییده بقید متأخّر کتقیید صحّة صوم المستحاضة یوم الخمیس مثلا بغسلها لیلة الجمعة، فالواجب علیها حصّة خاصّة من الصوم وهی الحصّة المقیّدة بغسلها فی اللیلة القادمة، ومعنی ذلک أنّ هذه الحصّة المأمور بها لا تتحقّق إلاّ بتحقّق قیدها الأخیر، باعتبار أنّ التقیّد به جزئها.

شروط الملاک المترتب علی الواجب خارجا

وأمّا الثانیة فهی عکس الاُولی، لأنّ الشرط فیها بمعناه الحقیقی أی کونه

ص:30

مؤثّراً فی المشروط وهو ترتّب الملاک علی الواجب، وعلی هذا فلا یمکن أن یکون مشروطاً بشرط متأخّر لاستحالة تأثیر المتأخّر فی شیء فی زمن متقدّم، وعلی کلا التقدیرین فهو من الشرط المقارن لا المتأخّر.

کلام المحقق الخراسانی فی المقام

وقد أجاب عن ذلک المحقّق الخراسانی (قدس سره) بما إلیک نصّه:

وهو أنّ کون الشیء شرطاً للمأمور به لیس إلاّ ما یحصل لذات المأمور به بالاضافة إلیه وجهُ عنوان به یکون حسناً أو متعلّقاً للغرض، بحیث لولاها لما کان کذلک، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الاضافات ممّا لا شبهة فیه ولا شکّ یعتریه، والإضافة کما تکون إلی المقارن تکون إلی المتأخّر أو المتقدّم بلا تفاوت أصلا، کما لا یخفی علی المتأمّل، فکما تکون إضافة شیء إلی مقارن له موجباً لکونه معنوناً بعنوان یکون بذلک العنوان حسناً ومتعلّقاً للغرض، کذلک إضافته إلی متأخّر أو متقدّم، بداهة أنّ الاضافة إلی أحدهما ربما توجب ذلک أیضاً، فلولا حدوث المتأخّر فی محلّه لما کان للمتقدّم تلک الاضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والأمر به، کما هو الحال فی المقارن أیضاً، ولذلک أطلق علیه الشرط مثله بلا انخرام للقاعدة أصلا، لأنّ المتقدّم أو المتأخّر کالمقارن لیس إلاّ طرف الاضافة الموجبة للخصوصیة الموجبة للحسن، وقد حقّق فی محلّه أنّه بالوجوه والاعتبارات، ومن الواضح أنّها تکون بالإضافات. فمنشأ توهم الانخرام إطلاق الشرط علی المتأخّر، وقد عرفت أنّ إطلاقه علیه فیه کإطلاقه علی المقارن إنّما یکون لأجل کونه طرفاً للاضافة الموجبة للوجه الذی یکون بذاک الوجه مرغوباً ومطلوباً کما کان فی الحکم لأجل دخل تصوّره فیه کدخل تصوّر سائر الأطراف والحدود التی لولا لحاظها لما حصل له الرغبة فی

ص:31

التکلیف ولما صحّ عنده الوضع(1).

ما أفاده (قدس سره) یرجع إلی عدّة نقاط:

الاُولی: أنّ الحسن والقبح العقلیین من العناوین الاعتباریة التی تختلف باختلاف الوجوه والاعتبارات والاضافات.

الثانیة: أنّ المأمور به کما یتعنون بعنوان حسن بإضافته إلی قید مقارن، کذلک یتعنون بعنوان حسن بإضافته إلی قید متقدّم أو متأخّر ولا فرق بینهما فی ذلک.

الثالثة: أنّ الشرط للمأمور به إنّما هو إضافته إلی قید ما وهی مقارنة له، سواءً کان طرفها أیضا مقارناً أو متقدّماً أو متأخّراً، ولنأخذ بالنظر إلی هذه النقاط.

أمّا النقطة الاُولی فهی صحیحة، فإنّ حسن الأفعال أو قبحها یختلف باختلاف الوجوه والاعتبارات، فإذا کان الفعل مصداقاً للظلم فهو قبیح، وإذا کان مصداقاً للعدل فهو حسن، فالعدل تمام الموضوع للحسن بنحو العلّة التامّة والظلم تمام الموضوع للقبح کذلک، ومن هنا تکون قضیة قبح الظلم وحسن العدل من القضایا الأوّلیة الرئیسیة لسائر القضایا العقلیة العملیة، علی أساس إن کلّما بالغیر لابدّ وأن یرجع إلی ما بالذات، وعلی هذا فطالما یکون عنوان الظلم أو العدل صادقاً علی عمل، فلا یمکن إفتراض مزاحم له، بداهة أنّه لا یمکن لأی فرد أن یسمح لنفسه الاعتراف بعدم قبح الظلم أو حسن العدل مع الاعتراف بأنّه ظلم أو عدل، فإنّه بذلک یکذب وجدانه ویکابر نفسه.

نعم ما یکون موضوعاً للحسن أو القبح بنحو الاقتضاء کالصدق والکذب،

-

ص:32


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 93-94.

فإنّ فی الأول اقتضاء للحسن وفی الثانی إقتضاء للقبح، فقد یقع التزاحم بین هذه المقتضیات، کما إذا لزم من الصدق الخیانة فإنّها تزاحم مثلا اقتضاء الصدق للحسن.

والخلاصة أنّه لا شبهة فی أنّ الأفعال تختلف حسناً وقبحاً باختلاف العناوین والاعتبارات والتفصیل فی محلّه.

وأمّا النقطة الثانیة، فکما أنّ حسن الأفعال أو قبحها یختلف باختلاف الاضافة فکذلک مصلحتها أو مفسدتها، فإنّها تختلف باختلاف الاضافة ونقصد بالإضافة هنا تقیّد تلک الأفعال بقیود، مثلا المصلحة القائمة بالصلاة لا تترتّب علیها مطلقاً بل ترتّبها علیها منوط بتقیّدها بالطهارة من الحدث والخبث واستقبال القبلة والقیام والطمأنینة وما شاکل ذلک، ونتیجة هذا أنّ المصلحة مترتّبة علی حصّة خاصّة من الصلاة وهی الصلاة المقیّدة بقیودها وشروطها جمیعاً، وهذا معنی أنّ الإضافة دخیلة فیها، ومن هنا إذا صلّی المصلّی فی الأرض المباحة فصلاته صحیحة وإذا صلّی فی الأرض المغصوبة فصلاته باطلة ومشتملة علی مفسدة، والنکتة فی ذلک أنّ تقیید الشارع المأمور به بقیود لا یمکن أن یکون جزافاً وبلا نکتة، ومن الواضح أنّ النکتة المبرّرة کذلک إنّما هی دخالة تلک القیود فی الملاک المترتّب علی المأمور به، وعلی هذا فکل قید مأخوذ فیه من قبل الشارع فهو کما أنّه قید له کذلک قید دخیل فی ترتّب الملاک، فإنّ القید کما یوجب تخصیص المأمور به بحصّة خاصّة، کذلک یوجب تخصیص الملاک بها، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون القید مقارناً للمأمور به أو متأخّراً عنه، علی أساس أنّ التقیّد به جزئه ودخیل فی ترتّب الملاک علیه کسائر أجزائه، وتحقّق هذا الجزء إنّما هو بتحقّق طرفیه هما ذات المقیّد وذات القید باعتبار أنّه متقوّم بهما ذاتاً وحقیقة ولا ذات له إلاّ

ص:33

ذاتهما، فإذا فرضنا أنّ صوم المستحاضة فی الیوم الخمیس مثلا مشروط بغسلها فی لیلة الجمعة، فمعناه أنّ الواجب حصّة خاصّة من الصوم وهی الصوم المقیّد بالغسل فی اللیل والملاک قائم به ومترتّب علیه فی الخارج، والمفروض أنّ الحصّة لا تتحقّق إلاّ بتحقّق الغسل فی اللیل، بلحاظ أنّ جزئه وهو التقیّد لا یتحقّق إلاّ بتحقّقه، وعلی هذا فلا موضوع للشرط المتأخّر فی شروط المأمور به إلاّ صورة لا لبّاً وواقعاً.

کلام بعض المحققین فی المقام

وأمّا النقطة الثالثة، فیرد علیها أنّ إضافة المأمور به إلی قید ما لیست شرطاً له، بل هی جزئه کسائر أجزائه، فما ذکره (قدس سره) من أنّها شرط للمأمور به غیر دقیق، إلی هنا قد تبیّن أنّ ما أفاده المحقّق صاحب الکفایة (قدس سره) من الجواب غیر تامّ هذا، و قد أجاب عن الإشکال بعض المحقّقین (قدس سرهم) ببیان آخر وهو أنّ الإشکال فی المقام نشأ من إفتراض أنّ المأمور به هو المقتضی للمصلحة المطلوبة کصحّة المزاج مثلا فی مثال المریض، وأنّ الأمر المتأخّر هو الشرط فی تحقّق تلک المصلحة، فیقال لو فرض تحقّق المصلحة حین المقتضی وهو وجود المأمور به لزم تأثیر المتأخّر فی المتقدّم، ولو فرض تحقّقها حین الشرط لزم تأثیر المقتضی بعد إنقضائه وکلاهما محال ولکن هناک فرض آخر ینحل به الإشکال، وهذا الفرض عبارة عن أنّ المقتضی للمصلحة المطلوبة لیس مقتضیاً لها بالمباشرة، بل إنّه یوجد أثراً معیّناً ویکون ذلک الأثر هو الحلقة المفقودة بین المقتضی وهو المأمور به والمصلحة المطلوبة، وهذا الأثر یبقی إلی زمان تحقّق الشرط المتأخّر، فإذا بقی إلی ذلک الزمان فبمجموعهما تکتمل أجزاء علّة التامّة للمصلحة المتوخّاة فتحصل المصلحة، فشرب الدواء مثلا یولّد حرارة معیّنة فی الجسم وتلک الحرارة تبقی إلی زمان المشی أو الامتناع عن الطعام مثلا فتؤثّر فی صحّة المزاج المطلوبة، و هذا شیء مطّرد فی کل المقتضیات التی یظهر أثرها بعد انضمام شرط متأخّر

ص:34

یحصل بعد فقدان ذلک المقتضی، و هذا الأثر الذی یبقی بعد فقدان المقتضی هو المقتضی للنتیجة المطلوبة، و امّا بقاء هذا الأثر بعد زوال مؤثّره إنّما هو بمؤثّر آخر، فإنّ علّة حدوثه غیر علّة بقائه وهذا لا مانع منه، فإنّ فی کثیر من الأشیاء علّة حدوثها غیر علّة بقائها کالعمارات والبنایات مثلا، فإنّ علّة حدوثها حرکة أیدی العمّال والفنّانین، وأمّا علّة بقائها فهی تماسک أجزائها بعضها مع بعضها الآخر من ناحیة، والقوّة الجاذبیة العامّة التی تحفظ علی وضعها من ناحیة اخری.

ونتیجة هذا البیان أنّ ما هو الشرط فی الحقیقة مقارن للمأمور به ولیس بمتأخّر، فإذا صحّ ذلک فی الاُمور التکوینیة فلیکن الأمر کذلک فی الاُمور التعبّدیة(1).

ویمکن المناقشة فیه بتقریب أنّ هذا البیان وإن کان تامّاً فی کل المقتضیات من الاُمور التکوینیة التی یظهر أثرها فی زمان تحقّق الشرط المتأخّر وبعد فقدان المقتضی کشرب الدواء، فإنّه یوجد أثراً فی جسم المریض، وهذا الأثر یبقی بعد انقضاء شرب الدواء ویرفع المرض بالتدریج شریطة أن لا یصادم بالمانع عن تأثیره کتعرّضه للبرد أو أکله الحامض أو غیر ذلک، ولکن لا یمکن تطبیق ذلک علی الاُمور التعبّدیة، وذلک لأنّ فرض أنّ صوم المستحاضة مثلا أوجد أثراً وذلک الأثر یبقی بعد إنقضاء الصوم إلی زمان غسلها فی اللیل وهو بمثابة المقتضی، فإذا ظلّ إلی زمان الشرط فبالمجموع تکتمل العلّة التامّة للمصلحة المطلوبة مجرد فرض کانیاب الاغوال، والنکتة فیه أنّ الصوم الذی مضی وإنقضی، قد تسأل هل هو وقع صحیحاً أو باطلا وکلاهما لا یمکن، أمّا الأول فلأنّه خلف فرض کون صحّته مشروطة بالغسل

-

ص:35


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول ج 2: ص 183.

فی اللیل، وأمّا الثانی فلأنّه خلف فرض کون المصلحة قائمة به ومترتّبة علیه إذا وقع صحیحاً لا مطلقاً.

ودعوی أنّ صحّته معلّقة علی تحقّق الشرط فی ظرفه، فإذا تحقّق صحّ وإلاّ لم یصحّ، وإن کانت صحیحة إلاّ أنّ معنی ذلک هو أنّ المأمور به حصّة خاصة من الصوم وهی الصوم المقیّد بالغسل فی اللیل اللاحق، بحیث یکون التقیید به جزئه والقید خارج، ونتیجة ذلک أنّ الصوم المأمور به لم یتحقّق طالما لم یتحقّق الشرط فی ظرفه، باعتبار أنّ التقیّد به جزئه لا أنّه تحقّق ومضی وأثره یبقی، فالنتیجة أنّه لا یمکن تطبیق هذه الفرضیة علی الواجبات الشرعیة، فإنّ موردها إنّما هو المقتضیات التکوینیة کشرب الدواء ونحوه هذا، والتحقیق فی المنقام أن یقال أنّ أخذ شیء فی لسان الدلیل قیداً للمأمور به کما یکون ظاهراً فی أنّه دخیل فیه ویوجب تقییده بحصّة خاصّه وهی الحصّة المقیّدة به، کذلک ظاهراً فی أنّه دخیل فی ملاکه وترتّبه علیه خارجاً، ولا فرق فی ذلک بین القید المقارن والمتقدّم والمتأخّر، إذ علی جمیع التقاریر یکون التقیّد به جزء المأمور به والقید خارج، وعلی هذا فالمأمور به الحصّة والملاک قائم بها ومترتّب علیها خارجاً، وبکلمة واضحة کما أنّه لا إشکال من ناحیة کون الشرط المتأخّر قیداً للمأمور به علی أساس أنّه یوجب تخصیصه بحصّة خاصّة وهی الحصّة المقیّدة بقید متأخّر کذلک لا إشکال من ناحیة کونه شرطاً للملاک ودخیلا فیه، لأنّ دخله فیه کدخل سائر أجزاء المأمور به وقیوده بمعنی أنّ کل واحد منها جزء العلّة فالحصّة بجمیع أجزائها وقیودها منها قیدها المتأخّر تمام العلّة لحصول الملاک ومترتّب علیها غرض المولی، ومن الواضح أنّ هذه الحصّة لا تتحقّق طالما لم یتحقّق قیدها المتأخّر لغرض أنّ التقیّد به جزئها، فإذن یکون القید المتأخّر بمثابة الجزء الأخیر من العلّة

ص:36

التامّة، إذ کما أنّ صحّة الحصّة المأمور بها تتوقّف علی الاتیان بها بتمام أجزائها وقیودها منها قیدها المتأخّر، کذلک ترتّب الملاک علیها یتوقّف علی الاتیان بها کذلک، وعلیه فلو ثبت أنّ غسل المستحاضة فی اللیل المقبل قید لصومها فی الیوم بنحو القید المتأخّر، کان الواجب علیها حصّة خاصّة من الصوم وهی الصوم المقیّد بالغسل فی اللیل اللاحق وهو تمام العلّة للصحّة وترتّب الملاک وکل جزء منه جزء العلّة وتأثیره منوط بتأثیر الآخر لا مستقلا.

ودعوی أنّ العلّة التامّة إنّما تکون مؤثّرة إذا توفّرت جمیع أجزائها فی آن التأثیر وموجودة فی هذا الآن وإلاّ فلا یعقل تأثیرها، وفی المقام لیس کذلک، لأنّ الصوم قد إنقضی وانعدم فی زمان القید المتأخّر فکیف یعقل أن یکون المجموع مؤثّراً کعلّة تامّة مع أنّ المقتضی معدوم.

مدفوعة بأنّ المقتضی لیس هو طبیعی الصوم فی المثال بل هو حصة خاصة وهی الحصة المقیّدة بالقید المتأخّر، فالمعدوم إنّما هو طبیعی الصوم وأمّا الحصّة فهی بعد لم توجد وإنّما توجد بإیجاد قیدها الأخیر المتأخّر باعتبار أنّ التقیّد به جزء الحصة ومقوّم لها والقید خارج، ولهذا یکون بمثابة الجزء الأخیر من العلّة التامّة، فتمام الموضوع للأمر والملاک هو الحصّة، فإذا وجدت سقط الأمر وحصل الملاک، ومن الواضح أنّ الحصّة لم توجد إلاّ بإیجاد قیدها المتأخّر، فإذا وجد، وجدت الحصّة بتمام أجزائها طولا هذا نظیر الواجبات المرکّبة من الأجزاء الطولیة کالصلاة والصیام والحج وما شاکل ذلک، فالصلاة بما أنّ أجزائها تدریجیة فلا یمکن إجتماعها فی آن واحد، فکل جزء منها یوجد بعد انقضاء الجزء السابق وهکذا، هذا بلحاظ ذوات الأجزاء، وأمّا بلحاظ جزئیتها فکل واحد منها مرتبط بالآخر ثبوتاً وسقوطاً، فالسابق یرتبط باللاحق وبالعکس، فالمجموع کتلة واحدة وغیر قابلة للتجزئة

ص:37

وهی مؤثّرة فی آن واحد، وهو أنّ الانتهاء من الجزء الأخیر فی الصحّة وترتّب الملاک لا أنّ کل جزء یؤثّر فی ظرفه، فإنّه خلف فرض أنّ الجمیع واجب واحد لا أن کلّ جزء واجب مستقل، ولا أنّ الجزء السابق یؤثّر أثراً وذلک الأثر یبقی بعد انقضاء الجزء، لأنّ ذلک مبنی علی أنّ المؤثّر والمقتضی ذات الجزء مع أنّ الأمر لیس کذلک، ضرورة أنّ المؤثّر حصّة خاصّة منه وهی الحصّة المرتبطة والمتّصفة بالجزئیة، ومن الواضح أنّ هذه الحصّة لا توجد إلاّ بوجود جمیع الأجزاء من البدایة إلی النهایة ککتلة واحدة، وبذلک یظهر حال صوم المستحاضة فی المثال.

هذا إضافة إلی أنّه فرق فی ذلک بین الاُمور التعبّدیة والاُمور التکوینیة، أمّا فی الاُمور التکوینیة فلا یمکن القول بأنّ المقتضی حصة خاصة من النار مثلا، بل المقتضی ذات النار والمماسة بینها وبین الحطب شرط لفاعلیتها ورطوبة الحطب مانعة عنها، وأمّا فی الاُمور التعبّدیة فیکون الأمر بعکس ذلک تماماً، إذ لا یمکن القول بأنّ المقتضی ذات الصوم مثلا، ضرورة أنّ ما هو المقتضی والموضوع للأثر والملاک هو حصة خاصة منه وهی الحصة المقیّدة بقیود، سواءً کانت تلک القیود مقارنة أم متأخّرة ولا قیمة لذات الصوم شرعاً بدون قیوده، ومن هنا یظهر أنّ منشأ الاشکال تخیّل أنّ المقتضی ذات الصوم والقید المتأخّر شرط لفاعلیته، ولکن قد عرفت أنّه لا واقع موضوعی لهذا الخیال وأنّ المقتضی والموضوع حصّة خاصة منه وهذه الحصة لا توجد إلاّ بوجود قیدها المتأخّر الأخیر، باعتبار أنّ التقیّد به داخل فیها، فإذن لا موضوع للشرط المتأخّر فی شروط المأمور به.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة، وهی أنّ شرائط المأمور به قیود مأخوذ فیه ویوجب تخصصه بحصة خاصة وهی الحصة المقیّدة بها، ولا فرق

ص:38

بین أن تکون تلک القیود من القیود المقارنة أو المتأخّرة أو المتقدّمة، فإنّه علی جمیع التقادیر لا توجد الحصّة إلاّ بإیجادها وإن کانت متأخّرة.

کلام المحقق النائینی فی المقام

أجاب عن ذلک أیضاً المحقّق النائینی (قدس سره) وحاصله، أنّ مردّ شرطیة شیء للمأمور به هو أنّ الشارع جعل متعلّق أمره حصّة خاصّة من الفعل وهی الحصة المتقیّدة به لا مطلقاً، فإنّ معنی کون الطهارة من الحدث شرط للصلاة هو أنّ المأمور به حصّة خاصة منها وهی الحصة المقیّدة بها لا مطلقاً، فحال القید حال الجزء فکما أنّ الجزء متعلّق للأمر النفسی فکذلک الشرط، ولا فرق بینهما من هذه الناحیة، هذا من جانب، ومن جانب آخر أنّه لا مانع من أن یکون بعض أجزاء المأمور به متأخّراً عن بعض آخر ولا محذور فیه، بل هو واقع فی کثیر من الواجبات الشرعیة کالصلاة والصیام والحج ونحوها، فإنّ الصلاة مرکّبة من الأجزاء الطولیة فلا یجتمع جزءان منها فی آن واحد، وکذلک الصوم والأمر متعلّق بتلک الأجزاء المرتبطة بعضها مع بعضعها الآخر طولا، وکذا لا مانع من أن یکون بعض القیود متأخّراً عن بعضها الآخر، فإنّ مرجع ذلک إلی أنّ الواجب حصة خاصة وهی الحصة المقیّدة بتلک القیود سواءً أکانت متقدّمة أم مقارنة أم متأخّرة، فطالما لم تتحقّق شروطها جمیعاً من المتقدّم والمقارن والمتأخّر لم تتحقّق الحصة، فغسل المستحاضة فی اللیل اللاحق لو کان شرطاً لصحّة صومها الیوم وإن کان متأخّراً عن إجزاء الصوم وسائر شروطها إلاّ أنّه لیس متأخّراً عن الواجب، فإنّ الواجب حصّة خاصة منه وهی الحصة المقیّدة یغسلها فی اللیل اللاحق، فطالما لم تغتسل فیه لم یتحقّق ما هو مصداق الواجب وهو الحصة الخاصة، بل ذکر (قدس سره) أنّه لیس فی الاُمور التشریعیة التأثیر والتأثّر تکویناً وإنّما هو جعل الأحکام علی المتعلّقات ولا مانع من جعل الحکم لشیء مقیّداً بقید مقارن أو متقدّم أو متأخّر، ومعنی ذلک هو أنّ الواجب مقیّد بهذه القیود المختلفة

ص:39

و لا یمکن امتثاله بدون الاتیان بها فحال الشرط المتأخّر حال التسلیمة فی الصلاة، فکما لا یمکن إمتثال الصلاة بدون الاتیان بالتسلیمة، فکذلک لا یمکن إمتثال الواجب بدون الاتیان بشرطه المتأخّر(1).

وغیر خفی أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ مردّ قیود المأمور به إلی کونه حصّة خاصّة وهی الحصّة المقیّدة بها، بلا فرق بین أن تکون تلک القیود من القیود المقارنة أو المتقدّمة أو المتأخّرة وإن کان صحیحاً کما تقدّم تفصیله، إلاّ أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ حال الشرط کحال الجزء، فکما أنّ الجزء متعلّق للأمر النفسی فکذلک الشرط من جهة وأنّه لا تأثیر ولا تأثّر فی الاُمور التشریعیة من جهة اخری، فلا یمکن المساعدة علیه أی علی کلتا الجهتین، أمّا الجهة الاُولی فلأنّ الشرط لیس کالجزء، فإنّ الجزء متعلّق للأمر النفسی تقیّداً وقیداً معاً بینما الشرط متعلّق للأمر النفسی تقیّداً فحسب لا تقیّداً وقیداً معاً.

وأمّا الجهة الثانیة، فلأنّ ما ذکره (قدس سره) من أنّه لا تأثیر ولا تأثّر فی الاُمور الشرعیة فلا یتمّ، فإن جعل شیء قیداً للمأمور به وإن کان بید المولی وضعاً ورفعاً، إلاّ أنّ ذلک لا یمکن أن یکون جزافاً وبلا نکتة، فلا محالة یکون مبنیاً علی نکتة وهی دخل القید فی الملاک وترتّبه علی وجود المأمور به فی الخارج، والمفروض أنّه أمر تکوینی لا تشریعی.

محاولة السید الأستاذ لإثبات أنه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر فی شرط الواجب و شرط الحکم

المحاولة الثالثة: ما ذکره السیّد الاُستاذ (قدس سره) من أنّه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخّر فی کلا الموردین:

هما شرط الواجب وشرط الحکم(2).

-

.

ص:40


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 221-223
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2: ص 309.

أمّا الأول فلأنّ قید المأمور به یوجب تعنونه بعنوان خاصّ وتخصّصه بحصة مخصوصة التی یقوم بها ملاک الأمر وهو المصلحة الملزمة، فالمأمور به حصة خاصة من الکلّی من دون دخل قید فی الملاک القائم بها، ولا فرق بین أن یکون ذلک القید مقارناً للمأمور به أو متقدّماً أو متأخّراً، فإنّه علی جمیع التقادیر قید له وتوجب تقیید المأمور به بحصة خاصة، فإذا فرضنا أنّ غسل المستحاضة فی اللیلة اللاحقة شرط فی صحة صومها الیوم بنحو الشرط المتأخّر، کان المأمور به حصة خاصة من الصوم وهی الحصة المقیّدة بالغسل فی اللیلة اللاحقة.

وأفاد فی وجه ذلک أنّ باب الأحکام الشرعیة، باب الاعتبارات وهو أجنبی عن باب التأثیر والتأثّر ولا صلة لأحد البابین بالآخر أصلا، فلا مانع من تقیید المأمور به بقید متأخّر کما أنّه لا مانع من تقییده بقید مقارن أو متقدّم، لأنّ مرّد تقییده بأمر متأخّر هو أنّه یکشف بوجوده المتأخّر عن تحقّق الواجب فی ظرفه، باعتبار أنّ تقیّده به کان جزئه.

ومن هنا یظهر أنّ إطلاق لفظ الشرط علی الشرط المتأخّر هو المنشأ للاشتباه والتوهّم، بأنّ المراد منه ما له دخل فی تأثیر المقتضی وفاعلیته فیکون من أجزاء العلّة التامّة، فلا یعقل تأخّره عن وجود المعلول، ولکن قد تبیّن ممّا تقدّم أنّ المراد من الشرط هنا معنی آخر وهو ما یکون تقیّده دخیلا فی الواجب دون نفس القید.

وأمّا الثانی فلأنّ شرائط الحکم عبارة عن القیود المأخوذة فی موضوعه فی مقام الجعل وتدور فعلیة الحکم مدار فعلیته بتمام قیوده فی الخارج کالاستطاعة مثلا، فإنّها قد اخذت فی موضوع وجوب الحجّ فی مرحلة الجعل وتتوقّف فعلیته علی فعلیتها فی الخارج، وعلی هذا فکما أنّ للمولی فی مقام

ص:41

الجعل تقیید موضوع الحکم بقید مقارن فکذلک له تقییده بقید متأخّر.

وقد أفاد فی وجه ذلک أنّ الأحکام الشرعیة امور اعتباریة ولا واقع موضوعی لها ما عدا اعتبار من بیده الاعتبار ولا صلة لها بالموجودات الخارجیة المتأصّلة أبداً، لأنّها خاضعة لعلّتها الواقعیة، فلا یمکن تعلّق الجعل بها بینما الأحکام الشرعیة خاضعة لاعتبار المعتبر وصفاً ورفعاً، ولا یمکن خضوعها للموجودات الخارجیة وإلاّ لکانت خارجیة، ومن هنا یظهر أنّ موضوعات الأحکام الشرعیة وإن کانت من الاُمور التکوینیة الخارجیة إلاّ أنّه لا تأثیر لتلک الموضوعات فی الأحکام الشرعیة، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ فعلیة الأحکام وإن کانت دائرة مدار فعلیة موضوعاتها بتمام قیودها وشرائطها فی الخارج إلاّ أنّ لازم ذلک لیس تقارنهما زماناً، والسبب فیه هو أنّ ذلک تابع لکیفیة جعلها فی الخارج، فإن کان مجعولا علی موضوع مقیّد بقید مقارن کانت فعلیته مقارنة لفعلیة القید وإن کان مجعولا علی موضوع مقیّد بقید متأخّر، کانت فعلیته متقدّمة علی فعلیة القید، وکل ذلک بمکان من الإمکان بعد ما عرفت من أنّه لا واقع موضوعی للحکم الشرعی غیر اعتبار من بیده الاعتبار، فإذا کان أمره بیده وصفاً ورفعاً وسعة وضیقاً، کان له جعله بأی نحو وبشکل أراد وشاء، فلو کان جعله علی النحو الأول فلا محالة تکون فعلیة الحکم مقارنة لفعلیة موضوعه، ولو کان جعله علی النحو الثانی فلا محالة تتقدّم فعلیة الحکم علی فعلیة موضوعه وإلاّ لزم الخلف، ونتیجة ما أفاده (قدس سره) أمران:

الأول: أنّ مردّ کون شیء شرطاً للمأمور به إلی تقییده به وأنه حصة خاصة وهی الحصة المفیدة به.

الثانی: أنّ الشرط فی باب التشریعیات بمعنی آخر بینما الشرط فی باب

ص:42

التکوینیات جزء العلّة التامّة، وللنظر فی کلا الأمرین محال.

أمّا الأمر الأول فلأنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ مردّ کون الشیء شرطاً للمأمور به إلی تقییده به وصیرورته حصّة خاصة وإن کان صحیحاً إلاّ أنّ لازم ذلک عدم تصوّر الشرط المتأخّر عن المأمور به، وذلک لأنّ المولی إذا قیّد متعلّق أمره بقید، فمعناه أنّ المأمور به حصة خاصة وهی الحصة المتقیّدة به، وحیث أنّ التقیّد به جزئها فبطبیعة الحال تنتفی بانتفائه، علی أساس أنّ المرکّب ینتفی بانتفاء أحد أجزائه، وهذا التقیّد حیث إنّه متقوّم بکلا طرفیه هما ذاتی المقیّد والقید، فلا یعقل تحقّقه بدون تحقّقهما معاً، لأنّهما بمثابة الجنس والعضل له، وعلی هذا فإذا فرضنا أنّ غسل المستحاضة فی اللیلة الآتیة شرط فی صحة صومها فی الیوم، فمعناه أنّ الواجب حصة خاصة من صومها وهی الحصة المتقیّدة بغسلها فیها، وحیث إنّ التقیّد متقوّم بطرفیه معاً، فلا یمکن تحقّقه بدون تحقّقهما کذلک، ونتیجة هذا أنّ المأمور به وهو الحصة الخاصة من الصوم لا تتحقّق ما لم یتحقّق الغسل فی اللیلة الآتیة، فإذا تحقّق الغسل فیها تحقّق المأمور به بکامل أجزائه منها تقیّده به، وعلی هذا الأساس فلا یتصوّر الشرط المتأخّر فی شرائط المأمور به واقعاً، فإنّ الصوم المأمور به لو کان متحقّقاً قبل وجود إیجاد الغسل فی اللیل اللاحق، فمعناه أنّ التقیّد به لیس جزئه، وهذا خلف فرض کونه قیداً له.

ومن هنا یظهر ممّا فی کلام السیّد الاُستاذ (قدس سره) من الجمع بین کون مردّ شرط المأمور به إلی تقییده به وصیرورته حصة خاصة وبین إفتراض کونه مشروطاً بشرط متأخّر، فإنّ معنی کونه مشروطاً بشرط متأخّراً به متأخّر عنه وجوداً، وهذا لا ینسجم مع کونه قیداً له والتقیّد به جزئه، فالجمع بین الأمرین لا یمکن.

ص:43

وأمّا الأمر الثانی، فیرد علیه أنّ شرط المأمور به لیس مجرّد أخذه فیه فی لسان الدلیل شرعاً لکی یقال أنّ الشرط هنا بمعنی آخر غیر الشرط الذی هو جزء العلّة التامّة، وذلک لما تقدّم من أنّ تقیید المأمور به بقید لا یمکن أن یکون جزافاً وبدون مبرّر، فلا محالة یکون مبنیّاً علی نکتة واقعیة فی المرتبة السابقة، وهی أنّه دخیل فی الملاک القائم بالمأمور به واقعاً وترتّبه علیه خارجاً، وهذه النکتة الثبوتیة هی التی تدعو المولی إلی أخذه قیداً للمأمور به فی مقام الاثبات لیکون کاشفاً عنه فی مقام الثبوت، وحیث إنّ ترتّب الملاک الواقعی علی وجود المأمور به فی الخارج أمر تکوینی واقعی، فیکون القید شرطاً لأمر تکوینی، ومن هنا لا فرق بین الشروط فی باب التشریعات والشروط فی باب التکوینیات، فإنّ الشروط فی الاُولی فی الحقیقة شروط للاُمور الواقعیة التکوینیة کاتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء فی شروط الوجوب وترتّب الملاک علی الفعل فی الخارج فی شروط الواجب، وکلاهما أمر تکوینی لا تشریعی ودخالتها فی هذا الأمر التکوینی ثبوتاً هی الموجبة لأخذها قیداً للحکم أو المتعلّق فی مقام الاثبات لیکون کاشفاً عنها فی مقام الثبوت، ولیس شرط المأمور به مجرد کونه قیداً له فی مقام الاثبات الذی هو بید الشارع، بل هو شرط فی الحقیقة لترتّب الملاک علیه فی الواقع ومقام الثبوت، وهو لیس بید الشارع بما هو شارع لأنّه أمر تکوینی غیر قابل للجعل تشریعاً، فإذن الشرط فی کلا البابین بمعنی واحد وهو التأثیر والتأثّر فی الأمر التکوینی، وعلی هذا فکما أنّ تأخّر الشرط عن المشروط مستحیل فی التکوینیات فکذلک فی المقام، فإذا فرضنا أنّ غسل المستحاضة فی اللیلة اللاحقة شرط فی صحة صومها فی النهار علی النحو الشرط المتأخّر، فإنّ معنی ذلک هو أنّ مصلحته مترتّبة علیه فی النهار قبل تحقّق الغسل فی اللیل،

ص:44

وحینئذ فلا یخلو الحال فیه عن امور:

الأول: أنّ غسل المستحاضة فی اللیل غیر دخیل فی ترتّب الملاک علی الصوم فی النهار.

الثانی: أن یکون عدمه دخیلا فیه.

الثالث: أن یکون وجوده دخیلا فیه والکل محال، أمّا الأول فلأنّه خلف فرض کونه قیداً للصوم ودخیلا فی ترتّب الملاک علیه.

وأمّا الثانی فلأنّ تأثیر المعدوم فی شیء مستحیل، لأنّ فاقد الشیء لا یمکن أن یکون معطیاً.

وأمّا الثالث فلأنّه إن کان مؤثّراً فی إیجاد المشروط فی زمن متقدّم، لزم وجوده قبل أن تتمّ علّته وهو محال، وإن کان مؤثّراً فیه فی ظرفه، لزم وجوده بعد إنقضاء مقتضیة وهو کما تری.

وأمّا فی المقام الثانی فلأنّ جعل الحکم علی شیء سعة وضیقاً وإن کان بید المولی ولا یکون خاضعاً لأمر تکوینی، إلاّ أنّ هذا الجعل لا یمکن أن یکون جزافاً وبدون نکتة، فإذا أخذ المولی قیداً فی مرحلة الجعل فی لسان الدلیل کالاستطاعة مثلا، فلا یمکن أن یکون ذلک بدون مبرّر ثبوتی والمبرّر الثبوتی له هو دخل ذلک القید فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء ثبوتاً، فإنّه دعی المولی فی أخذه قیداً للحکم فی مرحلة الاثبات وإلاّ فلا موجب له ویکون لغواً، باعتبار أنّ الملاک هو حقیقة الحکم وروحه، وغرض المولی بیان ما له دخل فیه وشرط لاتّصاف الفعل به فی هذه المرحلة وأخذه قیداً للحکم فی مرحلة الجعل إنّما هو بالتبع وبغرض الاشارة إلیه، ومن هنا لا یعقل أن یکون الشیء شرطاً للوجوب بدون أن یکون شرطاً لاتّصاف الواجب بالملاک ورائه أی فی مرحلة المبادیء، وحیث إنّ الاتّصاف أمر تکوینی فلا

ص:45

محالة یکون تأثیره فیه من التأثیر فی الأمر التکوینی، وعلی هذا فکیف یعقل أن یکون القید المتأخّر مؤثّراً فیه فی الزمن المتقدّم، فإنّ الاتّصاف إن کان فی الزمن المتقدّم یستحیل أن یؤثّر فیه المتأخّر، وإن کان فی الزمن المتأخّر لزم خلف فرض کونه مشروطاً بشرط متأخّر، فالنتیجة إنّ ما أفاده (قدس سره) لو تمّ فإنّما یتمّ بالنسبة إلی شرط الحکم دون شرط الملاک الذی هو روح الحکم وحقیقته، والمفروض أنّ ما یکون شرطاً للحکم شرعاً ومأخوذاً فی لسان الدلیل فهو شرط للملاک أیضاً فی مرحلة المبادیء ثبوتاً، فإنّه دعی المولی فی أخذهقیداً للحکم فی مقام الاثبات لیکون کاشفاً عنه فی مقام الثبوت. هذا منناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ ما أفاده (قدس سره) مبنی علی أن یکون للحکم الشرعی مرتبتین:

الاُولی: مرتبة الجعل.

الثانیة: مرتبة المجعول.

وهی فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه، ولکن قد تقدّمت الإشارة وسیأتی تفصیله أنّ للحکم مرتبة واحدة وهی مرتبة الجعل والمجعول معاً، لأنّ المجعول عین الجعل فلا إختلاف بینهما ذاتاً، إلاّ بالاعتبار کالایجاد والوجود، وأمّا فعلیة الحکم بمعنی الاعتبار بفعلیة موضوعه فی الخارج فهی غیر معقولة، وإلاّ لزم أن یکون الحکم أمراً خارجیاً لا اعتباریاً.

والخلاصة أنّ الحکم الشرعی أمر اعتباری صرف وقائم بالمعتبر قیام صدور فی وعاء الاعتبار والذهن ولا یتصوّر له وعاء آخر وهو فعلی بنفس الاعتبار والجعل، ولا یتصوّر له فعلیة اخری ووجود ثان، کما لا یعقل تأثّره بشیء من الأمر التکوینی وإلاّ لکان تکوینیاً ومسبّباً عن سبب وهو کما تری،

ص:46

ضرورة أنّه أمر اعتباری قائم بالمعتبر مباشرة، نعم إذا تحقّق موضوعه فی الخارج کان الحکم المجعول فاعلا ومحرّکاً فعلا، ولکن هذه الفاعلیة والمحرّکیة لیست من مراتب الحکم، ولا یعقل أن تکون من مراتبه، لأنّها أمر تکوینی واقعی بحکم العقل العملی بها فی مقام الامتثال والاطاعة.

وعلی هذا فشرائط الحکم جمیعاً کما تقدّم من الاُمور اللحاظیة التصوّریة فی عالم الذهن ولا یمکن أن تکون من الاُمور الخارجیة، فإذن لا موضوع للشرط المتأخّر فی شرائط الحکم، فإنّ التصوّر واللحاظ فعلی علی کل حال وإن کان المتصوّر متأخّراً، فما ذکره السیّد الاُستاذ (قدس سره) من إمکان الشرط المتأخّر للحکم لا یتمّ إلاّ إذا فرض أنّ الشرط شرط للحکم فحسب دون ما ورائه وهو الملاک، ولکن ذلک لا یمکن، لأنّ کون شیء شرطاً للحکم إنّما هو باعتبار أنّه شرط للملاک واتّصاف الفعل به، وإلاّ فلا مبرّر لأخذه شرطاً للحکم فی مقام الاثبات.

هذا کلّه فی الحکم التکلیفی، وأمّا فی الحکم الوضعی، فحیث إنّ الملاکفیه قائم بنفس جعله فیکون الشرط دخیلا فیه ثبوتاً، وهذا هو الذیدعی المولی إلی أخذه قیداً له فی مقام الاثبات لکی یکون کاشفاً عنه فی مقام الثبوت.

فالنتیجة أنّ الشرط المتأخّر فی شروط المأمور به وقیوده غیر متصوّر لا بالنسبة إلی نفس المأمور به ولا بالنسبة إلی ترتّب الملاک علیه.

وأمّا فی شروط الحکم فلا یتصوّر فیها الشرط المتأخّر بالنسبة إلی نفس الحکم فی مرحلة الجعل، وأمّا بالنسبة إلی فاعلیة هذا الحکم ومحرّکیته فی مرحلة الفعلیة، فهو وإن کان متصوّراً إلاّ أنّک عرفت أنّه محال، وکذلک الحال بالنسبة إلی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء.

ص:47

بقی هنا شیء وهو أنّ الاستطاعة المأخوذة فی لسان الآیة الشریفة(1) والروایات(2) شرط بوجودها اللحاظی لوجوب الحجّ فی عالم الاعتبار والجعل وبوجودها الواقعی لاتّصاف الحج بالملاک فی عالم المبادیء، وحیث إنّ اتّصاف الحج بالملاک فی مرحلة المبادیء لا یمکن أن یکون مشروطاً بشرط متأخّر ولا متقدّم، فبطبیعة الحال یدور هذا الاتّصاف مدار الاستطاعة فی أشهر الحج حدوثاً وبقاءً، وعلیه فإذا استطاع المکلّف قبل أشهر الحج لم تکن استطاعته مؤثّرة فی اتّصاف الحج بالملاک فی أشهر الحج، وإلاّ لزم تأثیر المتقدّم فی المتأخّر وهو مستحیل.

وحینئذ فإن بقت إستطاعته إلی أشهر الحج، کانت مؤثّرة فیه بقاءً، ونتیجة ذلک أنّه لا یجب علی المکلّف حفظ الاستطاعة إذا استطاع قبل أشهر الحج، فیجوز له تفویت الاستطاعة ولا یکون ملزماً بحفظها، حیث لا یلزم من تفویتها، تفویت شیء لا الوجوب ولا الملاک، لفرض أنّه لا وجوب ولا ملاک للحج قبل الأشهر، نعم بعد دخولها، فلا یجوز تفویتها لاستلزامه تفویت الملاک الملزم.

وبکلمة أنّ الصحیح فی المسألة بناءً علی ما قوّیناه من إستحالة الشرط المتأخّر والمتقدّم هو ما ذهب إلیه المشهور من عدم وجوب حفظ الاستطاعة فی طول السنة، وإنّما یجب حفظها فی أشهر الحج فحسب سواءً أکانت الاستطاعة حاصلة فیها أم باقیة من السابق، فإنّه علی کلا التقدیرینیجب حفظها ولا یجوز تفویتها لأنّه تفویت للملاک الملزم. نعم بناءً علی

-

.

ص:48


1- (1) - سورة آل عمران: 97
2- (2) - راجع الوسائل ج 8: ص 3 ب 1 من وجوب الحجّ وشرائطه.

إمکان الواجب المعلّق والشرط المتأخّر، فیجب حفظها طول السنة إذاحصلت کما بنی علیه السیّد الاُستاذ (قدس سره)، وتمام الکلام فی ذلک فیمحلّه.

استعراض لنتائج البحث

نستعرض نتائج البحث فی عدّة نقاط:

النقطة الاُولی: إنّ المقدّمات الوجوبیة التی هی عبارة عن القیود المأخوذة فی موضوع الحکم فی لسان الدلیل فی مرحلة الجعل تختلف عن المقدّمات الوجودیة فی أمرین:

الأول: أنّ المقدّمات الوجوبیة دخیلة فی الحکم فی مرحلة الجعل وفی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، بینما المقدّمات الوجودیة غیر دخیلة فی شیء من ذلک وإنّما هی دخیلة فی ترتّب الملاک علی الواجب فی الخارج.

الثانی: أنّه لا یعقل ترشیح الوجوب من الواجب إلی المقدّمات الوجوبیة بینما لا یکون مانع عن ذلک فی المقدّمات الوجودیة.

النقطة الثانیة: هل یراد من وجوب المقدّمة اللاّبدّیة التکوینیة أو العقلیة أو ترشیح الوجوب من الواجب إلیها قهراً أو جعلا، فیه وجوه وإحتمالات والصحیح هو الاحتمال الأخیر کما تقدّم.

النقطة الثالثة: أنّ هنا مقدّمتین اخریین:

الاُولی: المقدّمات العلمیة وهی خارجة عن محل البحث فی المسألة.

الثانیة: إجزاء الواجب، وقد تقدّم أنّها لا تصلح أن تکون داخلة فی محل النزاع، لأنّ الدخول منوط بأن یکون وجود المقدّمة غیر وجود ذیها، والمفروض أنّ وجود الواجب لیس غیر وجود إجزائه فی الخارج بل هو هو کما تقدّم.

ص:49

النقطة الرابعة: أنّ الشروط علی أقسام:

الأول: المقارن ولا إشکال فیه ثبوتاً وإثباتاً.

الثانی: المتقدّم.

الثالث: المتأخّر، والإشکال إنّما هو فیهما ثبوتاً، أمّا فی المتقدّم فقد ذهب المحقّق صاحب الکفایة (قدس سره) إلی استحالته علی أساس أنّه من أجزاء العلّة التامّة، فلابدّ أن یکون معاصراً مع المشروط والمعلول(1) هذا، وأورد علیه السیّد الاُستاذ (قدس سره) بأنّ تقدّم الشرط علی المشروط فی التکوینیات غیر عزیز فضلا عن التشریعیات.

ولکن تقدّم موسّعاً أنّ هذا الإشکال غیر وارد، فإنّ العلّة التامّة بتمام أجزائها معاصرة لمعلولها ولا فرق فی ذلک بین التکوینیات والتشریعیات، علی ما مرّ من أنّ الشروط فی باب التشریعیات فی الحقیقة شروط للاُمور التکوینیة، فإنّها وإن کانت للوجوب فهی شروط فی الحقیقة لاتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، وإن کانت للواجب فهی فی الحقیقة شروط لترتّب الملاک علیه خارجاً، والمفروض أنّ کلیهما من الاُمور الواقعیة التکوینیة.

النقطة الخامسة: أنّه یمکن علاج الشرط المتقدّم بارجاعه إلی الشرط المقارن لبّاً وواقعاً، فإنّه إن کان للوجوب فیوجد الاستعداد فی الفعل للاتّصاف بالملاک فی ظرفه فیبقی الفعل علی هذا الاستعداد إلی أن تکتمل سائر أجزاء العلّة التامّة، وحینئذ فالشرط وإن کان متقدّماً صورة إلاّ أنّه مقارن واقعاً ولبّاً، وإن کان للواجب فهو یؤثّر فی استعداد الفعل وصلاحیته لترتّب الملاک علیه

-

ص:50


1- (1) -

فی الخارج، فیبقی الفعل علی هذا الاستعداد إلی أن تکتمل سائر أجزاء العلّة التامّة، وتمام الکلام فیه قد مرّ.

النقطة السادسة: أنّ الشرط المتأخّر للحکم بمعنی الجعل والاعتبار غیر متصوّرة، وأمّا الشرط المتأخّر لاتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء ولفاعلیته فی مرحلة الفعلیة فهو مستحیل.

النقطة السابعة: أنّ هناک عدّة محاولات لرفع الإشکال عن الشرط المتأخّر.

الاُولی: لما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) من أنّ شرط الحکم إنّما هو وجوده اللحاظی التصوّری لا وجوده الخارجی، فالاستطاعة بوجودها اللحاظی التصوّری شرط لوجوب الحجّ لا بوجودها الواقعی الخارجی، والمتأخّر إنّما هو وجوده الواقعی الخارجی لا وجوده اللحاظی التصوّری، فإذن لا موضوع للشرط المتأخّر فی شرائط الحکم.

وأورد علی هذه المحاولة السیّد الاُستاذ (قدس سره) بأنّها مبنیة علی الخلط بین شرائط الجعل وشرائط المجعول، فإنّ شرائط الجعل الوجودات اللحاظیة التصوّریة وشرائط المجعول الوجودات الخارجیة، والشرط المتأخّر إنّما لا یتصوّر فی الاُولی لا فی الثانیة هذا، وقد تقدّم أنّ الإیراد مبنی علی أن یکون للحکم مرتبتین: الجعل والمجعول، ولکن مرّ أنّ له مرتبة واحدة وهی مرتبة الجعل، لأنّ المجعول عین الجعل ولا یعقل أن تکون له مرتبة اخری وهی فعلیته بفعلیة موضوعه، لاستحالة أن یتأثّر الحکم بأمر خارجی، وإلاّ کان خارجیاً لا اعتباریاً وهذا خلف.

النقطة السابعة: أنّ ما ذکره بعض المحقّقین (قدس سره) من المحاولة لتصحیح الشرط المتأخّر للحکم فی مرحلة المبادیء، لا یمکن المساعدة علیه کما

تقدّم.

ص:51

النقطة الثامنة: أنّ محاولة المحقّق صاحب الکفایة (قدس سره) لتصحیح الشرط المتأخّر للواجب، لا یرجع إلی معنی صحیح وقد مرّ تفصیله.

النقطة التاسعة: أنّ محاولة بعض المحقّقین (قدس سره) لتصحیح الشرط المتأخّر لتحصیل الملاک المترتّب علی الواجب فی الخارج، بأنّ المقتضی وهو المأمور به لا یؤثّر فی ترتّب الملاک علیه خارجاً، وإلاّ لزم تأثیر المتأخّر فی المتقدّم بل یوجد أثراً ویبقی هذا الأثر بعد انقضاء المقتضی بسبب آخر إلی زمان تحقّق الشرط المتأخّر، فإذا تحقّق تکتمل العلّة التامّة للملاک المطلوب، ممّا لا یمکن المساعدة علیه علی تفصیل قد سبق.

النقطة العاشرة: الصحیح أنّ الشرط المتأخّر فی شرائط الواجب وقیوده غیر متصوّر إلاّ صورة، لأنّ شروط الواجب قیود له والتقیید بها جزئه والقید خارج عنه، وعلی هذا فتحقّق الواجب منوط بتحقّق تمام أجزائه وقیوده منها قیده المتأخّر، باعتبار أنّ التقیّد به جزئه.

النقطة الحادیة عشر: أنّ ما ذکره المحقّق النائینی والسیّد الاُستاذ (قدس سرهما) فی محاولتهما لرفع الاشکال عن الشرط المتأخّر، بأنّ التشریعیات تختلف عن التکوینیات، فلا تأثیر ولا تأثّر فی الاُولی دون الثانیة، لا یرجع إلی معنی صحیح کما تقدّم تفصیله.

ص:52

تنبیه:فیه أمران:

التنبیه الأول: علاج ما یظهر من الأدلة من أنّ فعلیة وجوب الحج مشروطة بحضور یوم عرفة علی نحو الشرط المتأخر مع أنّ الشرط المتأخر مستحیل

الأول: أنّ ظاهر الآیة الشریفة وهی قوله تعالی: (وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً)1 وکذا ظاهر الروایات، هو أنّ فاعلیة وجوب الحجّ تتحقّق بتحقّق الاستطاعة فی الخارج(1) هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ یوم عرفة حیث إنّه کان قیداً للواجب وهو الحج فیکون قیداً للوجوب أیضاً، علی أساس ما ذکرناه من أنّ قید الواجب إذا کان غیر اختیاری، فلابدّ أن یؤخذ قیداً للوجوب، إذ لو کان الوجوب مطلقاً لزم أن یکون محرّکاً نحو الواجب المقیّد بزمان متأخّر وهو من التکلیف بالمحال، فالنتیجة علی ضوء هاتین الناحیتین أنّ فاعلیة وجوب الحج مشروطة بحضور یوم عرفة بنحو الشرط المتأخّر، وحیث إنّ الشرط المتأخّر مستحیل فلابدّ من علاج ذلک بأحد طریقین:

الأول: أنّ الواجب، وهو الحج لیس موقّتاً بیوم عرفة، لأنّه عمل مرکّب من جزئین طولیین مرتبطین:

الأول عمرة التمتّع.

الثانی حجّ التمتّع، ویمتدّ وقت هذا العمل المرکّب من بدایة أشهر الحج إلی نهایتها، فإذا دخل الأشهر أصبح وجوب الحجّ فعلیّاً ومحرّکاً من الآن إلی أن یفرغ من العمل نظیر الصلاة، فإنّه إذا دخل وقتها أصبح وجوبها فعلیاً ومحرّکاً نحو الاتیان بها فی طول زمانها، وإنّه یکشف عن إنّ اتّصافها بالملاک

-

.

ص:53


1- (2) - راجع الوسائل ج 8: ص 3 ب 1 من وجوب الحج وشرائطه.

فعلی فی مرحلة المبادیء، وعلی الجملة فکما أنّ فاعلیة وجوب الحج فعلیة عند دخول الأشهر إذا کان مستطیعاً فکذلک اتّصافه بالملاک، ولهذا یجب الاتیان بجمیع المقدّمات التی یتوقّف امتثال الحجّ علیها، ولا یجوز التقصیر فی تحصیلها أو تفویتها لاستلزام ذلک تفویت الملاک الملزم، ومن الواضح أنّه لا مانع من تعلّق الوجوب بالحج المرکّب من عملین طولیین مرتبطین من حین دخول أشهر الحج، کما أنّه لا مانع من اتّصاف المجموع بالملاک فی طول الأشهر وترتّب هذا الملاک علیه إذا تحقّق فی الخارج کما هو الحال فی الصلاة ونحوها، فإذن لا موضوع للشرط المتأخّر.

الثانی: أنّ الروایات التی تدلّ علی وجوب تهیئة المقدّمات المفوّتة والاتیان بها قبل موسم الحجّ (1) تکشف عن اهتمام الشارع بالحج وعدم جواز تفویته ولو بترک تحصیل القدرة علیه قبل الموسم، ومعنی هذا أنّ القدرة المعتبرة فی ملاکه قدرة مطلقة لا قدرة خاصة وهی القدرة علیه بعد الموسم.

والخلاصة أنّ المکلّف المستطیع الذی تکون وظیفته حجّ التمتّع لا یتمکّن من توفیر تمام مقدّمات السفر إلی الحج والوصول إلیه فی یوم عرفة ولا سیّما فی الأزمنة القدیمة، فلهذا یجب علیه تهیئة تلک المقدّمات قبل ذلک، ولا یجوز التسامح فیها وترک تحصیلها أو تفویتها لاستلزامه تفویت الحج الذی لا یرضی الشارع بتفویته ومعاقب علیه إذا تسامح وتساهل فیه.

ومن الواضح أنّ هذا کاشف عن أنّ ملاکه تام فی ظرفه وأنّه غیر مشروط بالقدرة الخاصة، وبذلک یمتاز الحج عن مراتب الصلاة ونحوها، فإنّ القدرة المعتبرة فی اتّصاف مراتبها بالملاک قدرة خاصة وهی القدرة فی وقتها لا

-

ص:54


1- (1) - راجع الوسائل ج 8: ص 21 ب 8 من وجوب الحج وشرائطه.

مطلقاً، لأنّ القدرة علی الصلاة مع الطهارة المائیة قدرة خاصة وهی القدرة علیها فی وقتها ولا یجب علی المکلّف تحصیل هذه القدرة قبل وقتها بل یجوز له تفویتها، کما إذا کان عنده ماء یجوز إهراقه قبل الوقت مع علمه بأنّه لا یتمکّن منه بعد الوقت، وأمّا القدرة علی الصلاة نفسها فلا یبعد أن تکون مطلقة.

التنبیه الثانی: موردان استثناهما السید الأستاذ مما بناه من احتیاج وقوع الشرط المتأخر إثباتا إلی دلیل خاص
اشارة

الأمر الثانی قد تقدّم أنّ السیّد الاُستاذ (قدس سره) قد بنی علی إمکان الشرط المتأخّر ثبوتاً، وأمّا وقوعه فی مقام الاثبات فهو بحاجة إلی دلیل خاص وإلاّ فهو خلاف ظواهر الأدلّة العامّة التی تتکفّل جعل الأحکام الشرعیة بنحو القضایا الحقیقیة الظاهرة فی فعلیة الأحکام بفعلیة موضوعاتها وحملها علی فعلیة الأحکام قبل فعلیة موضوعاتها لا یمکن إلاّ بقرینة خاصّة، ولکن استثنی (قدس سره) من ذلک موردین:

الأول: أنّ شرطیة الاجازة المتأخّرة لصحة العقد الفضولی کالبیع والنکاح ونحوهما تکون علی القاعدة فلا تحتاج إلی دلیل خاص.

الثانی: أنّ شرطیة القدرة علی الجزء الأخیر للواجب المرکّب من الأجزاء الطولیة کالصلاة ونحوها لوجوب الأجزاء السابقة بنحو الشرط المتأخّر تکون علی القاعدة فلا تحتاج إلی دلیل.

المورد الأول: شرطیة الإجازة المتأخرة لصحة العقد الفضولی

أمّا فی المورد الأول فقد أفاد (قدس سره) فی وجهه أنّ العقد الفضولی من حین وقوعه لم یکن منتسباً إلی المالک حتّی یکون مشمولا لإطلاقات أدلّة الامضاء من الآیات والروایات، باعتبار أنّ موردها عقد المالک، ولکن إذا أجاز المالک العقد کانت اجازته متعلّقة بالعقد الصادر من الفضولی، وحیث إنّ الاجازة من الاُمور التعلّقیة فهی کما تتعلّق بأمر مقارن کذلک تتعلّق بأمر متقدّم أو متأخّر کالعلم مثلا، وفی المقام حیث إنّ الاجازة قد تعلّقت بالعقد السابق من حین صدوره فیکون هو الممضی والمنتسب إلی المالک، وعلی هذا فالحکم بالصحة

ص:55

والامضاء وإن کان من حین الاجازة، إلاّ أنّ المحکوم بالصحة والممضی هو العقد السابق، وإن شئت قلت أنّ شمول إطلاقات أدلّة الامضاء له وإن کان من زمن الاجازة، إلاّ أنّ المشمول لها والمجاز هو العقد السابق، فالمعیار إنّما هو بزمان الممضی لا بزمان الامضاء، ونتیجة ذلک أنّ اعتبار ملکیة المبیع للمشتری والثمن للمالک المجیز وإن کان منذ شمول إطلاقات الأدلّة وهو زمن الاجازة، إلاّ أنّ المعتبر ملکیة کل منهما للآخر من حین صدور العقد، ومن الواضح أنّه لا مانع من اعتبار المولی من الآن الملکیة فی زمن سابق وهو زمن صدور العقد، کما إنّه لا مانع من اعتبارها فی زمن متأخّر أو مقارن لأنّه خفیف المؤنة وبید المعتبر، ومن هنا یکون ذلک مقتضی القاعدة فلا یحتاج إلی دلیل خاص، لأنّ الاطلاقات الأوّلیة کافیة فی ذلک، وعلی هذا الأساس بنی (قدس سره) الاجازة فی مسألة العقد الفضولی علی الکشف الانقلابی بمعنی أنّ العقد الفضولی إلی حین الاجازة لم یکن مشمولا لاطلاق دلیل الامضاء، ولهذا لم ینتقل المبیع إلی المشتری ولا الثمن إلی المالک وبعد الاجازة کان مشمولا له وممضاً، فالشمول والامضاء وإن کان من الآن، إلاّ أنّ المشمول والممضی هو العقد السابق، فإذا کان کذلک فالانتقال من ذاک الحین لا من الآن، وهذا هو معنی الانقلاب(1) هذا.

ولکن للنظر فیه مجالا: أمّا أوّلا فلأنّ الاجازة وإن کانت من الاُمور التعلّقیة فإنّها کما تتعلّق بأمر مقارن کذلک تتعلّق بأمر متأخّر أو متقدّم، إلاّ أنّ شمول إطلاق دلیل الامضاء للعقد السابق إنّما هو من حین الاجازة، وعلیه فبطبیعة الحال یکون الحکم بصحّته وإمضائه وترتّب الأثر علیه وهو انتقال المبیع إلی المشتری والثمن إلی المالک المجیز من الآن، وفرق بین ترتّب الأثر

-

ص:56


1- (1) - المحاضرات ج 2: ص 316-318.

علیه من الآن وترتّبه علیه من حین صدوره، وحیث إنّ صحة العقد السابق وإمضائه أثر شمول إطلاق الدلیل له، فلا یمکن أن یکون متقدّماً زمناً علی المؤثّر، فإذن لا محالة یکون أثر الشمول مقارناً له ولا یعقل أن یکون الشمول من الآن وأثره من السابق، نعم متعلّقه العقد السابق لا أثره، هذا نظیر العلم المتعلّق بأمر متقدّم، کما إذا علم شخص یوم الخمیس بنجاسة ماء یوم الأربعاء، فإنّ متعلّق العلم وهو نجاسة الماء وإن کان فی زمن سابق، إلاّ أنّ أثره وهو تنجیز متعلّقه من الآن أی من حین العلم، لاستحالة إنفکاک الأثر عن المؤثّر، ففرق بین أن یکون متعلّقه أمراً سابقاً زمناً وبین أن یکون أثره سابقاً کذلک، فإنّ الثانی مستحیل والأول واقع، ولهذا یکون التنجیز من یوم الخمیس لا من یوم الأربعاء وما نحن فیه کذلک، ومن هنا قلنا أنّ مقتضی القاعدة فی مسألة العقد الفضولی النقل لا الکشف.

وثانیاً أنّ ما ذکره (قدس سره) لو تمّ فإنّما یتمّ إذا کانت الاجازة المتأخّرة شرطاً للحکم الوضعی فحسب من دون أن تکون شرطاً لشیء آخر وراؤه، ولکن قد تقدّم أنّ الأمر لیس کذلک، بداهة أنّ کون الاجازة شرطاً لصحّة عقد الفضولی إنّما هو باعتبار أنّ موضوع دلیل الامضاء عقد المالک، وعلی هذا فأخذ انتساب العقد إلی المالک فی موضوع دلیل الامضاء فی مرحلة الجعل إنّما هو علی أساس أنّه دخیل فی اتّصاف العقد بالملاک فی مرحلة المبادیء وإلاّ فلا مبرّر لأخذه فی موضوعه فی مقام الاثبات، باعتبار أنّ حکم الشارع بصحّة عقد المالک لا یمکن أن یکون جزافاً، فلا محالة یکون مبنیّاً علی نکتة وتلک النکتة هی اتّصاف عقده بالملاک فی مرحلة المبادیء، فإنّه دعی المولی إلی أخذه فی موضوع دلیل الامضاء فی مرحلة الجعل وإلاّ کان أخذه فیه بلا مبرّر ولغواً.

ص:57

والخلاصة أنّ جعل الشارع عقد المالک مملّکاً دون غیره لا یمکن أن یکون جزافاً وبلا موجب، والموجب له هو اتّصافه بالملاک فی مقام الثبوت، فإذن الاجازة فی الحقیقة شرط للاتّصاف، وحیث إنّه أمر تکوینی فلا یمکن أن یکون مشروطاً بشرط متأخّر، وعلی هذا فمضافاً إلی أنّ مقتضی القاعدة النقل دون الکشف، فلا یمکن القول بالکشف لأنّه مبنی علی الالتزام بالشرط المتأخّر وهو مستحیل کما مرّ، فإذن تکون الاجازة من الشرط المقارن.

المورد الثانی: شرطیة القدرة علی الجزء الأخیر للواجب المرکب من الأجزاء الطولیة لوجوب الأجزاء السابقة

وأمّا المورد الثانی فقد أفاد (قدس سره) أنّ وجوب کل جزء من أجزاء الصلاة مثلا کما أنّه مشروط بالقدرة علیه مباشرة، کذلک مشروط بالقدرة علی الأجزاء المتأخّرة بنحو الشرط المتأخّر، مثلا وجوب التکبیرة کما أنّه مشروط بالقدرة علیها مباشرة کذلک مشروط بالقدرة علی فاتحة الکتاب والرکوع والسجود والتشهّد والتسلیم بنحو الشرط المتأخّر، وکذلک الحال فی فاتحة الکتاب بل أنّ وجوب الفاتحة مضافاً إلی کونه مشروطاً بشرط مقارن ومتأخّر مشروط بشرط متقدّم أیضاً وهو القدرة علی التکبیرة، وهکذا الحال فی سائر الأجزاء، مثلا وجوب التسلیم وإن لم یکن مشروطاً بشرط متأخّر ولکنّه مشروط بشرط متقدّم وهو القدرة علی الأجزاء المتقدّمة(1).

فالنتیجة أنّ وقوع الشرط المتأخّر فی الواجبات المرکّبة من الأجزاء الطولیة کالصلاة ونحوها یکون علی القاعدة ومقتضی ارتباطیة بعضها مع بعضها الآخر مسبوقاً وملحوقاً ولا یحتاج إلی دلیل خاصّ.

وللنظر فیه مجال، وذلک لأنّ الوجوب المتعلّق بالصلاة وجوب واحد بسیط، لأنّه اعتبار محض من المولی ولا یعقل کونه مرکّباً، وهذا الوجوب

-

ص:58


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2: ص 318.

الواحد مجعول بجعل واحد متعلّق لها فی عالم الاعتبار، ولا یکون تعلّقه بها فی عالم الخارج لکی ینبسط علی أجزائها وینحل إلی حصص متعدّدة بعدد الأجزاء، وأمّا فی عالم الاعتبار فلا یتصوّر فیه الانحلال، إذ لیس فیه إلاّ اعتبار المولی الوجوب للصلاة فی عالم الذهن، فالانحلال إنّما هو بتحلیل من العقل بتبع إنحلال الأجزاء وتعدّدها فی عالم الخارج ولا واقع موضوعی له، ومن الواضح أنّ الوجوب إذا کان واحداً فله فاعلیة واحدة فی الخارج عند توفّر شروطه فیه، وعلی هذا فالوجوب المتعلّق بالصلاة بما أنه وجوب واحد مستقل فله فاعلیة واحدة کذلک من بدایتها إلی نهایتها، وأمّا الوجوب المتعلّق بکل جزء من أجزائها فلا یکون فاعلا، حیث لا واقع له حتّی یکون کذلک ولا أثر لمجرّد تحلیل العقل إیّاه وتقدیره وإفتراضه إذا لم یکن له واقع. هذا إضافة إلی أنّ فاعلیة الوجوب الضمنی لکل جزء إنّما هی بفاعلیة الوجوب الاستقلالی لا بنفسه، وإلاّ لم یکن وجوباً ضمنیاً وهذا خلف، لأنّ الوجوب الضمنی للأجزاء المرتبطة عین الوجوب الاستقلالی المتعلّق بالکل، باعتبار أنّ الوجوب الضمنی المتعلّق بالتکبیرة مرتبطاً بالوجوب الضمنی المتعلّق بالفاتحة وهکذا عین الوجوب الاستقلالی، ولهذا لا فاعلیة له إلاّ بفاعلیته، ومن هنا یکون إشتراط الوجوب الضمنی لکل جزء بالقدرة إنّما هو باشتراط الوجوب الاستقلالی بها لا مستقلا، وإلاّ لم یکن وجوباً ضمنیاً والمفروض أنّ اشتراط الوجوب الاستقلالی بالقدرة إنّما هو بنحو الشرط المقارن حدوثاً وبقاءً، وحیث إنّ القدرة التی یکون الوجوب الضمنی مشروطاً بها هی نفس القدرة التی یکون الوجوب الاستقلالی مشروطاً بها، فبطبیعة الحال یکون إشتراط الوجوب الضمنی بها أیضاً بنحو الشرط المقارن، وذلک لأنّ وجوب التکبیرة لیس مشروطاً بالقدرة المطلقة بل بحصة خاصة منها وهی القدرة المرتبطة

ص:59

بالقدرة علی فاتحة الکتاب المرتبطة بالقدرة علی الرکوع وهکذا إلی القدرة علی التسلیمة، وهذه القدرة المرتبطة نفس القدرة التی هی شرط للوجوب الاستقلالی، فالنتیجة أنّ اشتراط الوجوب الضمنی إنّما هو باشتراط لوجوب الاستقلالی وإطلاقه باطلاقه فلا شأن له ولا وجود إلاّ بوجوده، فما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الوجوب الضمنی لکل جزء سابق مشروطاً بالقدرة علی الجزء اللاحق بنحو الشرط المتأخّر دون الوجوب الاستقلالی لا یرجع إلی معنی صحیح، ومن هنا یظهر أنّه لا یعقل أن یکون الوجوب الاستقلالی مشروطاً بالقدرة بنحو الشرط المقارن. والوجوب الضمنی المرتبط مشروطاً بها بنحو الشرط المتأخّر، فإنّ هذا إنّما یتمّ إذا لوحظ وجوب کل جزء بحدّه ومستقلا وهذا خلف.

ص:60

البحث الثالث:فی الواجب المشروط والمطلق

اشارة

قد قسّم الواجب إلی قسمین:

1 - المشروط.

2 - المطلق.

وهذا التقسیم یکون بلحاظ الوجوب لا الواجب، فالحج واجب مشروط بلحاظ أنّ وجوبه مشروطاً بالاستطاعة، وصلاة الظهر مثلا واجب مشروط باعتبار أنّ وجوبها مشروط بالزوال وهکذا، وهذا الواجب المشروط مطلق من جهة اخری فیکون واجب واحد مشروطاً من جهة ومطلقاً من جهة اخری هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ المسألة تتطلّب البحث فی مقامین:

المقام الأول فی إمکان رجوع القید فی القضیة الشرطیة إلی مفاد الهیئة ثبوتاً وإثباتاً.

المقام الثانی بعد الفراغ عن إمکان ذلک ثبوتاً وتسلیم عدم ظهور القضیة الشرطیة فی رجوع القید إلی مفاد إحداهما معیّناً إثباتاً فیقع فی موردین:

ص:61

الأول: فی مقتضی الأصل اللفظی.

الثانی: فی مقتضی الأصل العملی.

المقام الأول: فی إمکان رجوع القید فی القضیة الشرطیة إلی مفاد الهیئة ثبوتا و إثباتا

اشارة

أمّا الکلام فی المقام الأول فیقع فی مرحلتین:

الاُولی: فی مرحلة الجعل.

الثانیة: فی مرحلة المبادیء.

المرحلة الأولی: فی مرحلة الجعل
اشارة

أمّا المرحلة الاُولی فیقع الکلام فی أنّ القید المأخوذ فی لسان الدلیل هل یمکن رجوعه إلی مفاد الهیئة أو لا، فیه قولان:

القول الأول: أنّ الشرط فی القضیة الشرطیة یرجع إلی مفاد الهیئة.

القول الثانی: أنّه یرجع إلی مفاد المادّة، وقد اختار شیخنا العلاّمة الأنصاری (قدس سره) القول الثانی، بتقریب أنّ القضیة الشرطیة وإن کانت ظاهرة عرفاً فی رجوع القید إلی مفاد الهیئة، إلاّ أنّه لابدّ من التصرّف فی هذا الظهور ورفع الید عنه بإرجاع القید إلی مفاد المادّة لأمرین:

الأول: أنّ رجوعه إلی مفاد الهیئة مستحیل.

الثانی: تعیّن رجوعه إلی مفاد المادّة لبّاً وواقعاً.

الأمر الأول: انّ رجوع القید إلی مفاد الهیئة مستحیل

أمّا الأمر الأول فیمکن تقریبه بعدّة وجوه:

الوجه الأول: ما أفاده الشیخ الأنصاری

الوجه الأول: ما أفاده الشیخ (رحمه الله) علی ما فی تقریر بحثه من أنّ الوجوب الذی هو مفاد الهیئة معنی حرفی والمعنی الحرفی جزئی، باعتبار أنّ الموضوع لها الحروف وما شابهها جزئی حقیقی والجزئی الحقیقی غیر قابل للتقیید والتضییق، فإنّ القابل لذلک إنّما هو المعنی الکلّی، فلذلک لابدّ من إرجاع القید إلی المادّة(1).

-

ص:62


1- (1) - مطارح الأنظار: ص 46 وأیضاً قد تکلّم صاحب التقریرات حول هذا المعنی فی الهدایة الخامسة حیث قال (قدس سره) إذا ثبت وجوب شیء وشکّ فی کونه مشروطاً او مطلقاً... فراجع.

والجواب: أوّلا أنّ المعنی الموضوع لها الحروف وإن کان خاصاً إلاّ أنّ خصوصیته لیست بمعنی أنّه غیر قابل للتقیید، وذلک لما ذکرناه فی بحث الحروف موسّعاً وملخّصه:

أنّ الحروف موضوعة بازاء نسب واقعیة متقوّمة ذاتاً وحقیقةً بشخص وجود طرفیها فی وعاء الذهن أو الخارج ولیست لها ماهیة متقرّرة فی المرتبة السابقة علی وجودها فی الذهن أو الخارج، ومن هنا قلنا أنّ الجامع الذاتی بین أنحاء النسب غیر متصوّر ولا یمکن فرض اشتراکها فیه، لأنّ المقوّمات الذاتیة لکل نسبة المتمثّلة بشخص طرفها مختلفة عن المقوّمات الذاتیة للنسبة الاُخری، وإذا ألغینا المقوّمات الذاتیة لکل نسبة، استحال الحصول علی جامع ذاتی بینها، ضرورة أنّ الجامع الذاتی لابدّ أن تنحفظ فیه المقوّمات الذاتیة للأفراد کأفراد الإنسان، فإنّه إذا ألغینا خصوصیاتها فالمقوّمات الذاتیة بینها وهی الحیوانیة والناطقیة محفوظة، بینما إذا ألغینا خصوصیات أشخاص النسب وهی أطرافها، فالنسب ملغیة بذاتها وذاتیاتها نهائیاً. ومن هنا یکون شخص طرفی النسبة من الذاتیات لها وبمثابة الجنس والفصل للنوع، وعلی هذا فیمکن تقیید المعنی الحرفی وهو النسبة بتقیید طرفیها، والمفروض أنّهما قابلان للتقیید وتقییدهما، تقیید للمعنی الحرفی، باعتبار أنّه لا وجود له إلاّ بوجودهما، وتمام الکلام هناک، فالنتیجة أنّ مفاد الهیئة وإن کان معنی حرفیاً وهو النسبة الطلبیة المولویة، إلاّ أنّه قابل للتقیید بتقیید طرفیه، فإذن لا مانع من رجوع القید إلی مفاد الهیئة.

وثانیاً مع الإغماض عن ذلک وتسلیم أنّ رجوع القید إلی مفاد الهیئة لا

ص:63

یمکن، إلاّ أنّ ذلک إنّما هو بالنسبة إلی مدلولها المطابقی وهو النسبة الطلبیة المولویة دون مدلولها الالتزامی وهو الوجوب الذی هو معنی اسمی، وذلک لما ذکرناه فی محلّه من أنّ صیغة الأمر تدلّ بالدلالة الوضعیة علی النسبة الطلبیة المولویة بالمطابقة وعلی الوجوب بالالتزام، علی أساس أنّه من لوازم النسبة المذکورة، وحینئذ وإن قلنا أنّ النسبة غیر قابلة للتقیید، إلاّ أنّ لازمها وهو الوجوب قابل له، باعتبار أنّه معنی اسمی، بل تقیید مفاد الهیئة لا محالة یرجع إلی تقیید الوجوب.

وثالثاً مع الاغماض عن ذلک أیضاً، إلاّ أنّ لازم هذا عدم إمکان تقیید مفاد الهیئة بالتقیید الإفرادی، علی أساس أنّه لا إطلاق له أفراداً، وأمّا تقییده بالتقیید الأحوالی فلا مانع منه، باعتبار أنّ له اطلاقاً أحوالیاً کما فی قولنا إن جاءک زید فأکرمه، أو إن کان عالماً فاسأل منه، فإنّه فی المثال الأول قد قیّد وجوب الإکرام بحالة المجییء وفی الثانی بحالة العلم.

فالنتیجة أنّ ما أفاده شیخنا الأنصاری (قدس سره) من استحالة رجوع القید إلی مفاد الهیئة لا یمکن المساعدة علیه.

الوجه الثانی: ما أفاده المحقق النائینی

الوجه الثانی: ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ المعنی الحرفی وإن کان کلّیاً فی نفسه، إلاّ أنّه حیث کان ملحوظاً باللحاظ الآلی، فلا یرد علیه الاطلاق والتقیید، لأنّهما إنّما یردان علی المعنی الملحوظ باللحاظ الاستقلالی، والنکتة فی ذلک أنّ مصبّ الاطلاق والتقیید اللحاظیین لابدّ أن یکون مورد توجّه المتکلّم ولحاظه مستقلا حتّی یحکم علیه بالاطلاق أو التقیید، وأمّا إذا لم یکن المعنی مورداً لتوجّهه ولحاظه کذلک، فلا یکون بإمکانه الحکم بأنّه مطلق أو مقیّد، وحیث إنّ مفاد الهیئة معنی حرفی وملحوظ آلة وفانیاً فی معنی آخر، فلا یصلح

ص:64

أن یکون مصبّاً للاطلاق أو التقیید(1) هذا.

وقد أجاب عن ذلک السید الاُستاذ (قدس سره) بأمرین:

الأول: أنّ المعنی الحرفی کالمعنی الاسمی فلا فرق بینهما من هذه الناحیة، فکما أنّ المعنی الاسمی ملحوظ باللحاظ الاستقلالی فکذلک المعنی الحرفی، بل ربما یکون المعنی الحرفی هو مورد اللحاظ والتوجه مستقلا دون المعنی الاسمی، کما إذا کان المعنی الاسمی معلوماً للمخاطب، فإنّ فی مثل هذه الحالة یکون التوجّه والنظر منصبّاً إلی المعنی الحرفی وتفهیمه فحسب.

الثانی: أنّ اللحاظ الآلی للمعنی إنّما یمنع عن طرو الاطلاق والتقیید علیه حال لحاظه آلیاً، فإنّ المعنی فی هذه الحالة بما أنّه لیس منظوراً إلیه، فلا یمکن الحکم بأنّه مطلق أو مقیّد، وأمّا إذا قیّد المعنی أولا بقید ثمّ لوحظ المقیّد آلیاً، فلا مانع منه ولا محذور فیه، وعلی هذا فلا مانع من ورود اللحاظ الآلی علی الطلب المقیّد بحالة خاصّة أو قید مخصوص فی المرتبة السابقة، فالنتیجة أنّه لا مانع من تقیید المعنی الحرفی کالاسمی(2) ، ولنا تعلیق علی کلا الجوابین:

أمّا علی الجواب الأول، فلأنّا قد ذکرنا فی مبحث الحروف مفصّلا أنّ الحرف موضوع بازاء النسبة الواقعیة التی هی متقوّمة ذاتاً وحقیقة بشخص وجود طرفیها فی الذهن أو الخارج، فإن کان طرفاها فی الذهن فالنسبة ذهنیة بنفسها لا بوجودها، وإن کانا فی الخارج فالنسبة خارجیة کذلک، حیث إنّها بوجودها لا یمکن أن تکون فی الذهن أو الخارج، إذ لیست لها ماهیة متقرّرة

-

.

ص:65


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 129 وفی بحث الوضع من نفس الکتاب قد ذکر ما یدلّ علی المقام فی ص 24 وکذا قد ذکر فی فوائد الاُصول ج 1: ص 181 ما یدلّ علی المقصود
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2: ص 321.

فی مرتبة سابقة علی وجودها فیه کما هو الحال فی المعنی الاسمی، ضرورة أنّه لو کانت لها ماهیة متقرّرة فی المرتبة السابقة، فبطبیعة الحال کانت مستقلّة فی وجودها وهذا خلف، ولهذا لا یمکن تصوّرها ولحاظها فی افق الذهن إلاّ بلحاظ طرفیها، ضرورة أنّ کلّما یتصوّر فیه النسبة فهو مفهومها الذی هو مفهوم إسمی لا واقعها الذی هو مفهوم حرفی، لأنّ واقع النسبة غیر قابل للتصوّر واللحاظ الذی هو وجود ذهنی، والمفروض أنّ النسبة بنفسها فی الذهن لا بوجودها کما مرّ، ومن هنا یکون الذهن أو الخارج ظرف لنفسها لا لوجودها، وعلی هذا فلا یمکن أن یکون المعنی الحرفی ملحوظاً باللحاظ الاستقلالی، بأن یکون مورداً للتوجّه والالتفات مستقلا کالمعنی الاسمی حتّی یمکن طرو الاطلاق والتقیید علیه، فالنتیجة أنّ ما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) من أنّ المعنی الحرفی کالمعنی الاسمی یقبل اللحاظ الاستقلالی غیر تامّ.

وأمّا علی الجواب الثانی، فلأنّه مبنی علی أنّ المعنی الحرفی فی ذاته مستقل وقابل لعروض الاطلاق والتقیید علیه، والمانع عن ذلک إنّما هو لحاظه آلیاً فی مقام الاستعمال، وأمّا تقییده فی المرتبة السابقة علی هذا اللحاظ فلا مانع منه، وهذا معنی أنّه فی ذاته قابل للتقیید فیقیّده المولی أولا ثمّ یلاحظ المقیّد به آلیاً ولکنّه غیر صحیح، فإنّ المعنی الحرفی بذاته غیر مستقل، حیث قد مرّ أنّه لا ذات له إلاّ ذات شخص طرفیه، فلو کان الاطلاق والتقیید من شؤون المعنی المستقل کما هو مقتضی بیان المحقّق النائینی (قدس سره)، لم یمکن تقییده نهائیاً حتّی فی المرتبة السابقة.

هذا إضافة إلی أنّا ننقل الکلام إلی التقیید فی المرتبة السابقة علی هذا اللحاظ، لأنّ التقیید بحاجة إلی لحاظ المقیّد والقید معاً، وحینئذ فإن لوحظ المقیّد فی تلک المرتبة آلیاً لزم المحذور المذکور، وإن لوحظ استقلالا لزم

ص:66

خلف فرض کونه معنی حرفیاً، فالنتیجة أنّ هذا الجواب أیضاً غیر تامّ.

فالصحیح فی الجواب أن یقال، أنّه (قدس سره) إن أراد بذلک أنّ مصب الاطلاق والتقیید لابدّ أن یکون معنی إسمیاً، بنکتة أنّ الاطلاق کالتقیید أمر وجودی متقوّم باللحاظ الاستقلالی فی مقابل التقیید، علی أساس أنّ التقابل بینهما من تقابل العدم والملکة.

فیرد علیه ما حقّقناه فی محلّه من أنّ التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل الایجاب والسلب ولیس من تقابل العدم والملکة ولا من تقابل التضادّ، لأنّ الاطلاق أمر عدمی وهو عدم لحاظ القید، فإنّ المعنی فی نفسه قابل للانطباق علی أفراده وهذه القابلیة ذاتیة، باعتبار أنّ الطبیعی عین أفراده فی الخارج وإنطباقه علیها ذاتی قهری، فلا یتوقّف علی أی مقدّمة خارجیة طالما لم یقیّده بقید، فإذا قیّده بقید فبما أنّه یحدث فیه مفهوماً جدیداً غیر المفهوم الأول وأضیق دائرة منه، فلا یمکن انطباقه إلاّ فی دائرة المقیّد والحصة فحسب هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ المعنی إن کان مستقلا بالذات کان التقیید وارداً علیه مباشرة، وإن کان غیر مستقل کذلک کالمعنی الحرفی فالاطلاق أو التقیید وارد علی مقوّماته الذاتیة وهی شخص طرفیه، فإنّ إطلاق المعنی الحرفی وهو النسبة إنّما هو باطلاق طرفیه وتقییده إنّما هو بتقییدهما، ویکفی فی إطلاقه عدم لحاظ القید فیه ولا یتوقّف علی لحاظ عدم القید هذا.

وإن أراد المحقّق النائینی (قدس سره) بذلک أنّ المعنی الحرفی حیث إنّه غیر مستقل بذاته ولحاظه معاً، فلذلک غیر قابل للتقیید، فإذا لم یکن قابلا له لم یکن قابلا للاطلاق، علی أساس أنّ التقابل بینهما من تقابل العدم والملکة، فاستحالة أحدهما یستلزم استحالة الآخر.

ص:67

فیرد علیه أنّ المعنی الحرفی فی نفسه وإن کان غیر قابل للتقیید، باعتبار أنّ شیئیته إنّما هی بشیئیة طرفیه ولا شیء بقطع النظر عنهما حتّی یقبل التقیید أو الاطلاق، ولکن لا مانع من عروض التقیید أو الاطلاق علیه بلحاظ متعلّقه کما عرفت.

الوجه الثالث: یلزم من رجوع القید إلی مفاد الهیئة التفکیک بین الإیجاب و الوجوب

الوجه الثالث: أنّ القید لو رجع إلی مفاد الهیئة، لزم منه التفکیک بین الانشاء والمنشأ والایجاب والوجوب، فإنّ المنشأ إنّما یتحقّق عند تحقّق الشرط والقدرة، وأمّا الانشاء فهو یتحقّق من حین الجعل وإن لم یکن الشرط متحقّقاً، وفی مثل قوله تعالی:(لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً) (1). یتحقّق الانشاء والایجاب بنفس الآیة الشریفة، وأمّا الوجوب والمنشأ فهو معلّق علی الاستطاعة فی الخارج ومشروط بها، فإن وجدت الاستطاعة وجد المنشأ، وإلاّ فلا وجود له مع أنّ الانشاء موجود، وهذا من تفکیک المنشأ عن الانشاء وهو مستحیل، لأنّ المنشأ عین الانشاء ذاتاً وحقیقة، فلا یعقل إنفکاکه عنه کالایجاد والوجود فی التکوینیات، وعلی هذا فرجوع القید إلی مفاد الهیئة حیث یستلزم تفکیک الانشاء عن المنشأ، بأن یکون الانشاء حالیاً والمنشأ استقبالیاً وهو مستحیل کتفکیک الایجاد عن الوجود، فلابدّ من إرجاعه إلی مفاد المادّة هذا، وقد أجاب عن ذلک المحقّق الخراسانی (قدس سره) بتقریب أنّ المنشأ فی القضیة الشرطیة الانشائیة کالآیة الشریفة ونحوها، حیث إنّه حصة خاصة من الطلب وهی الطلب علی تقدیر حصول الشرط کالاستطاعة أو نحوها لا الطلب المطلق، فبطبیعة الحال لا یتحقّق الطلب المنشأ قبل تحقّق الشرط وإلاّ لزم تخلّف المنشأ عن الانشاء وهو محال، ودعوی أنّ إنشاء الوجوب والطلب معلّقاً علی

-

ص:68


1- (1) - سورة آل عمران: 97.

شیء لا یمکن، لأنّه تعلیق فی الانشاء وهو لا یقبل.

مدفوعة بأنّه لا مانع من هذا الانشاء لأنّه لیس تعلیقاً فیه، بل هو انشاء حصة خاصة من الطلب وهی الطلب المشروط بشیء، وهذا الطلب المنشأ لا یتحقّق إلاّ بتحقّق الشرط، فیکون حال الانشاء من هذه الناحیة حال الاخبار، فکما أنّه یصحّ الاخبار عن تحقّق شیء علی تقدیر تحقّق شیء آخر، فکذلک یصح انشاء طلب شیء علی تقدیر تحقّق شیء آخر(1) هذا.

وقد علّق علیه السید الاُستاذ (قدس سره) بأنّ هذا الجواب لیس بشیء لأنّه تکرار للمدّعی فی المسألة، لا أنّه دلیل علیه فیکون مصادرة، وذلک لأنّ الکلام إنما هو فی إمکان انشاء مثل هذا الطلب المعلّق، بأن یکون الانشاء حالیاً والمنشأ أمراً استقبالیاً، واستدلاله (قدس سره) علی إمکانه تارةً بأنّه لا شبهة فی إمکانه کما فی الأخبار واُخری بأنّ المنشأ لابدّ أن لا یتحقّق إلاّ بعد تحقّق شرطه، وإلاّ لزم تخلّف المنشأ عن الانشاء، غریب جدّاً، فإنّ الأول مصادرة لأنّه من الاستدلال علی إمکان شیء بامکان نفسه، والثانی من لوازم إمکان هذا الانشاء، ومن هنا أنّ ما علّقه السیّد الاُستاذ (قدس سره) علیه فی محلّه هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری قال السید الاُستاذ (قدس سره) أنّ هذا الاشکال غیر قابل للرفع والحل علی ضوء نظریة المشهور فی باب الانشاء، من أنّه عبارة عن إیجاد المعنی باللفظ وذلک لاستحالة تفکیک الایجاد عن الوجود بأن یکون الایجاد حالیاً والوجود استقبالیاً.

وأمّا بناءً علی ضوء نظریتنا من أنّ الانشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج بمبرز ما من قول أو فعل فلا أصل لهذا

-

ص:69


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 97.

الاشکال، وذلک لأنّ المراد من الایجاب سواءً کان إبراز الأمر الاعتباری النفسانی أم کان نفس ذلک الأمر الاعتباری النفسانی، فلا یلزم من رجوع القید إلی مفاد الهیئة محذور، أمّا علی الأول فلأنّ الابراز والمبرز والبروز کلّهم فعلی فلیس شیء منها معلّقاً علی أمر متأخّر، وأمّا علی الثانی فلأنّ الاعتبار بما أنّه من الاُمور النفسانیة التعلّقیة فلا مانع من تعلّقه بأمر متأخّر، کما أنّه تعلّق بأمر مقارن نظیر العلم الذی هو من الصفات الحقیقیة ذات الاضافة، ومن هنا قد یتعلّق بأمر مقارن وقد یتعلّق بأمر متأخّر أو متقدّم، وعلی هذا فلا محذور فی أن یکون الاعتبار حالیاً والمعتبر استقبالیاً ولا مانع من التفکیک بینهما، باعتبار أنّه بید المعتبر، فله اعتبار وجوب شیء فی الحال وله اعتباره فی المستقبل، ومن هذا القبیل الوصیة التملیکیة، حیث إنّ التملیک فیها حالی والملکیة المعتبرة فیها استقبالیة، ومن هنا إستشهد (قدس سره) بها علی أنّه لا مانع من أن یکون الاعتبار حالیاً والمعتبر إستقبالیاً.

فالنتیجة أنّ ما أفاده (قدس سره) یرجع إلی نقطتین:

الاُولی: عدم صحة نظریة المشهور فی تفسیر الانشاء بایجاد المعنی باللفظ، وصحة نظریته (قدس سره) فی تفسیره وهو أنّه عبارة عن إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج بمبرز ما.

الثانیة: أنّ هذا الإشکال لا یمکن دفعه علی ضوء نظریة المشهور فی مسألة الانشاء، بینما یمکن دفعه علی ضوء نظریته (قدس سره) فی المسألة، ولنا تعلیق علی کلتا النقطتین:

أمّا علی النقطة الاُولی، فلأنّا قد ذکرنا موسّعاً فی باب الانشاء والإخبار أنّ الصحیح هو نظریة المشهور فی هذا الباب دون نظریة السید الاُستاذ (قدس سره)، وذلک لأنّ نظریة السید الاُستاذ (قدس سره) مبنیة علی مسلکه فی باب الوضع من أنّه

ص:70

عبارة عن التعهّد والالتزام النفسانی(1) ، ولازم هذا المسلک الالتزام بأنّ المدلول الوضعی للألفاظ مدلول تصدیقی لا تصوّری، وعلیه فلا مناص من تفسیر الانشاء بما یتضمّن القصد والإرادة، باعتبار أنّ مدلوله الوضعی تصدیقی لا تصوّری، و من هنا فسّر (قدس سره) الانشاء بقصد إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج، و مسلکه (قدس سره) فی باب الوضع وإن کان لا یقتضی تفسیره بذلک، فإنّه إنّما یقتضی تفسیره بما یکون مدلول الانشاء مدلولا تصدیقیّاً، وأمّا إنّه عبارة عن قصد إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فهو لا یقتضی ذلک، إذ کما یمکن تفسیره بذلک یمکن تفسیره بقصد إیجاد المعنی باللفظ، إلاّ أنّه (قدس سره) حیث یری بطلان التفسیر الثانی، فلهذا فسّره بالأول، ولکن قد ذکرنا فی باب الوضع مفصّلا أنّ تفسیر السید الاُستاذ (قدس سره) الوضع بالتعهّد والالتزام النفسانی غیر صحیح، والصحیح أنّه عبارة عن جعل اللفظ للمعنی خارجاً وکان جادّاً فی ذلک الجعل والقرن بینهما بغرض حصول العلقة والاختصاص علی تفصیل هناک، فلهذا یکون المدلول الوضعی للفظ مدلولا تصوّریاً لا تصدیقیاً، وعلی هذا فالجملة الانشائیة موضوعة بازاء معنی فانیاً فی مصداق یری بالنظر التصوّری أنّه یتحقّق بنفس الجملة، کما أنّ الجملة الخبریة موضوعة بازاء معنی فانیاً فی مصداق یری بالنظر التصوّری أنّه مفروغ عنه، وقد تقدّم تفصیله.

وأمّا النقطة الثانیة فیرد علیها أنّ إشکال تفکیک الانشاء عن المنشأ کما أنّه قابل للدفع علی ضوء نظریة السیّد الاُستاذ (قدس سره) فی باب الانشاء، کذلک قابل للدفع علی ضوء نظریة المشهور فی هذا الباب أیضاً، وذلک لأنّ المقصود من إیجاد المعنی باللفظ لیس إیجاده فی الخارج لکی یقال أنّه لا یمکن باللفظ لأنّه

-

ص:71


1- (1) - راجع المحاضرات ج 1: ص 45.

تابع لعلّته فإن وجدت وجد وإلاّ فلا، سواءً أکان هناک لفظ أم لا لأنّه لیس واقعاً فی سلسلة علله، بل المقصود منه دلالة اللفظ بالوضع علی إیجاد المعنی بالإیجاد التصوّری، علی أساس أنّ المدلول الوضعی مدلول تصوّری، فالإیجادیة من شؤون المدلول التصوّری للجملة الانشائیة، کما أنّ الحکائیة من شؤون المدلول التصوّری للجملة الخبریة، ومن هنا تکون موجدیة الجمل الانشائیة محفوظة حتّی فی موارد صدورها عن هازل أو لافظ بلا شعور واختیار، لأنّها محفوظة بالنظر التصوّری، سواءً ترتّب مصداق حقیقی للمعنی الإیجادی علی الجملة الانشائیة کما فی موارد المعاملات الواقعیة الصحیحة أم لا، کما فی موارد المعاملات الهزلیة، مثلا إذا قال أحد بعت داری مثلا، فإن کان جادّاً فی بیعها حکم بالصحة وترتّب علیها ملکیة المبیع للمشتری والثمن للبائع واقعاً، وإن کان هازلا لم تترتّب علیه الملکیة، ولکن مع هذا فالموجدیة بالنظر التصوّری موجودة بمعنی أنّ المتبادر من هذه الجملة معنی فانیاً فی مصداق یری بالنظر التصوّری إیجاده بنفس الجملة وإن کانت صادرة عن لافظ بلا شعور.

وهذا هو المراد من إیجاد المعنی باللفظ، وعلی هذا فلابدّ أن یکون معنی الجمل الانشائیة سنخ معنی نسبی قابل للایجاد لکی تدلّ الجملة علی إیجاد مصداقه تصوّراً، مثلا معنی البیع هو التملیک وهو سنخ معنی نسبی قابل للانشاء والایجاد، فلذلک تدلّ صیغة بعت علی إیجاد مصداقه وإن کانت فی مقام الهزل أو کان اللافظ بها غیر شاعر، غایة الأمر أنّها تدلّ فی هذه الحالة علی الایجاد التصوّری فحسب، وإذا کانت فی مقام الجد فتدلّ علی الایجاد التصدیقی أیضاً، وکذلک الحال فی سائر صیغ الانشائیة کصیغة النکاح والطلاق ونحوهما وصیغة الأمر والنهی وغیرهما، ولا فرق فی ذلک بین الصیغ المشترکة بین الإخبار

ص:72

والانشاء والصیغ المختصة بالانشاء، وذلک کما تقدّم فی محلّه مفصّلا من أنّ الجمل المشترکة مشترکة فی الصیغ اللفظیة فحسب لا فی المعنی، ولا فی مرحلة التصوّر ولا فی مرحلة التصدیق، فالجمل المستعملة فی مقام الانشاء تختلف عن الجمل المستعملة فی مقام الإخبار فی المدلول التصوّری والتصدیقی معاً.

والخلاصة أنّ موجدیة الجملة الانشائیة وحکائیة الجملة الخبریة کلتیهما من شؤون المدلول التصوّری لهما، فإنّ الجملة الخبریة تدلّ علی معنی نسبی فإنّ فی مصداق یری بالنظر التصوّری أنّه مفروغ عنه فی الخارج، وإن کان المتکلّم جادّاً فی ذلک، کان ثبوته مفروغ عنه واقعاً لا تصوّراً فحسب، بینما الجملة الانشائیة تدلّ بالدلالة الوضعیة علی معنی نسبی فإنّ فی مصداق یری بالنظر التصوّری إیجاده بنفس الجملة، وإن کان المتکلّم بها فی مقام الجد، تحقّق مصداقه واقعاً وترتّب علی الجملة أثرها کذلک.

ثمّ أنّ موجدیة الجملة الانشائیة لمصداق معناها لیست کموجدیة العلّة التامّة لمعلولها، فإنّها تبتنی علی العلاقة الذاتیة بینهما، بینما موجدیة الجملة تبتنی علی العلاقة الجعلیة بینهما وهی العلاقة الوضعیة.

ومن هنا یظهر أنّ ما ذکره السیّد الاُستاذ (قدس سره) من أنّ تفسیر الانشاء بإیجاد المعنی باللفظ لا یرجع إلی معنی محصّل لا یمکن المساعدة علیه، لأنّه مبنی علی الخطأ فی تفسیر مراد المشهور من الإیجاد، وقد عرفتم أنّ المراد من الایجاد فی کلماتهم لیس الایجاد التکوینی التصدیقی الخارجی ولا الذهنی، کما أنّ المراد منه لیس الایجاد الاعتباری، فإنّه بید المعتبر ولا یرتبط بالجملة الانشائیة، بل المراد منه کما مرّ إیجاد مصداق المعنی باللفظ فی مرحلة التصوّر، والجملة الانشائیة تدلّ علی ذلک بالدلالة الوضعیة بناءً علی ما هو الصحیح من أنّ المدلول الوضعی مدلول تصوّری.

ص:73

فالنتیجة أنّ الصحیح فی باب الانشاء هو مسلک المشهور دون مسلک السیّد الاُستاذ (قدس سره)، هذا کلّه فی الجمل الحملیة الانشائیة، وأمّا الجمل الشرطیة فهی موضوعة بازاء النسبة التعلیقیة وهی النسبة بین الشرط والجزاء، غایة الأمر أنّها إن کانت إخباریة فهی تدلّ علی النسبة المذکورة فانیة فی مصداق یری ثبوته مفروغاً عنه بالنظر التصوّری، وإن کانت انشائیة فهی تدلّ علی النسبة المذکورة فانیة فی مصداق یری ثبوته بالنظر التصوّری بنفس الجملة، مثلا قوله تعالی: لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً (1) یرجع إلی قضیة شرطیة مقدّمها وجود الموضوع وهو الاستطاعة، تالیها ثبوت الحکم له وهو وجوب الحجّ، وهذه القضیة الشرطیة تدلّ علی النسبة التعلیقیة بین الاستطاعة ووجوب الحج فانیة فی مصداق یری ثبوته بها بالنظر التصوّری، فالموجدیة من شؤون المدلول التصوّری فی الجمل الانشائیة، والحکائیة من شؤون المدلول التصوّری فی الجمل الإخباریة سواءً أکانتا حملیتین أم شرطیتین.

وعلی هذا الأساس فلا موضوع لاشکال تفکیک المنشأ عن الانشاء لأنّهما شیء واحد وهو إیجاد مصداق المعنی بالنظر التصوّری بنفس صیغة الانشاء، لأنّه إنشاء بعینه باعتبار ومنشأ کذلک باعتبار آخر، فلا فرق بینهما ذاتاً وحقیقة، إلاّ بالاعتبار کالإیجاد والوجود، فوجوب الحج عند الاستطاعة إنشاء باعتبار ومنشأ باعتبار آخر وکلاهما فعلی، ولیس المراد من المنشأ هو فعلیة وجوب الحج بفعلیة الاستطاعة فی الخارج، ضرورة أنّها لیست منشأة بالانشاء فی مرحلة الجعل، بل إنّها معلولة لوجود الاستطاعة فی الخارج ومستندة إلیه، وقد تقدّم أنّ المراد من فعلیة وجوب الحج فعلیة فاعلیته

-

ص:74


1- (1) - سورة آل عمران: 97.

ومحرّکیته نحو الاتیان بمتعلّقه لا فعلیة وجوبه، لأنّ الوجوب أمر إعتباری وفعلیته إنّما هی بالانشاء والجعل، ولا یعقل أن تکون مستندة إلی الاستطاعة الخارجیة وإلاّ کان خارجیاً لا اعتباریاً وهذا خلف، ومن هنا قلنا أنّ للحکم مرتبة واحدة وهی مرتبة الجعل والانشاء والمجعول وهو المنشأ عین الجعل، فلا فرق بینهما إلاّ بالاعتبار، وأمّا فعلیة المجعول فهی مستندة إلی الأسباب الخارجیة ومعلولة لها ولیست من مراتب الحکم کیف، وإلاّ فلازمه أن یکون الحکم أمراً خارجیاً وهو کما تری، فإذن ما هو متأخّر وهو فعلیة المنشأ لیس بمنشأ وما هو منشأ بالانشاء عین الانشاء ولیس بمتأخّر عنه، فلهذا لا موضوع لاشکال التفکیک بین الانشاء والمنشأ، ومن هنا یظهر أنّ هذا الاشکال نشأ من الخلط بین الوجود الانشائی لمدلول الجملة وبین فعلیته بفعلیة شرطه فی الخارج، بتخیّل أنّ المنشأ هو فعلیة وجوب الحج مثلا عند تحقّق الاستطاعة فی الخارج، وهذا التخیّل باطل ولا أصل له، ضرورة أنّ المنشأ بالانشاء فی الآیة الشریفة مثلا هو الوجوب فی مرحلة الجعل، سواءً أکانت الاستطاعة موجودة فی الخارج أم لا وهو فعلی فی هذه المرحلة، ولا تتصوّر فعلیة اخری له بما هو حکم شرعی، وأمّا فعلیته بفعلیة الاستطاعة خارجاً، فلا یعقل أن تکون منشأة بالانشاء ومجعولة بالجعل، لأنّها أمر تکوینی وعبارة عن فعلیة فاعلیته ومحرّکیته فی الخارج، ومن المعلوم أنّها لا تعقل أن تکون معلولة للانشاء ومستندة إلیه، وإلاّ لزم أن یکون الانشاء أمراً تکوینیاً وهو کما تری، فالنتیجة أنّه لا مانع من رجوع القید إلی مفاد الهیئة من هذه الناحیة.

ومن هنا یظهر أنّ ما أفاده السیّد الاُستاذ (قدس سره) من أنّه لا مانع من أن یکون الاعتبار حالیاً والمعتبر استقبالیاً، واستشهد علی ذلک بالوصیة التملیکیة بعد

ص:75

الموت، بدعوی أنّ الاعتبار فیها فعلی والمعتبر إستقبالی وهو الملکیة بعد الموت، أو فقل أنّ الإنشاء فعلی والمنشأ یوجد بعد الموت، ووجه الظهور أنّه کیف یمکن أن یکون الاعتبار فعلیاً والمعتبر به استقبالیاً مع أنّه موجود بوجوده ولا اختلاف بینهما ذاتاً وحقیقة کالایجاد والوجود فی التکوینیات، إذ کما لا یعقل الایجاد بدون الوجود کذلک لا یعقل الاعتبار بدون المعتبر والانشاء بدون المنشأ، وعلی هذا ففی الوصیة التملیکیة الاعتبار والمعتبر به کلاهما فعلی وموجود فی عالم الاعتبار والذهن ولا یعقل فیه التعلیق، والمعلّق علی ما بعد الموت إنّما هو فعلیة المعتبر والمنشأ وهی مسبّبة عن الأسباب الخارجیة کالموت ونحوه ولا یعقل أن تکون منشأة به، وإن شئت قلت أنّ المعتبر بالاعتبار عین الاعتبار علی أساس أنّه موجود بالوجود الاعتباری فی عالم الذهن، وأمّا فعلیته خارجاً فهی معلّقة علی الموت، لأنّه شرط لها والأثر الشرعی مترتّب علیها لا علی وجوده الاعتباری، وقد مرّ أنّ فعلیته بفعلیة شرطه لیست من مراتب الحکم وإلاّ فلازمه أن یکون الحکم أمراً خارجیاً(1) وهو کما تری.

فما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) مبنی علی الخلط بین المعتبر الموجود بالوجود الاعتباری وبین فعلیته خارجاً بفعلیة شرطه، فالمعتبر إنّما هو الأول الذی هو بید المعتبر دون الثانی، فإذن ما هو متأخّر عن الاعتبار فلیس بمعتبر وما هو معتبر به فهو عینه، فلا یعقل أن یکون متأخّراً عنه.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أنّه لا مانع من رجوع القید إلی مفاد الهیئة.

الأمر الثانی: تعیّن رجوع القید إلی مفاد المادة لبا و واقعا

الوجه الثانی: أنّ الإنسان إذا توجّه إلی شیء والتفت إلیه فلا یخلو من أنّه إمّا

-

ص:76


1- (1) - المحاضرات ج 2: ص 323.

أن یطلب ذلک الشیء أو لا، ولا کلام علی الثانی، أمّا علی الأول، فإن کان الملاک الذی دعی المولی إلی طلبه قائماً به علی نحو الاطلاق، فالطلب متعلّق به کذلک، وإن کان قائماً بحصة خاصة وهی الشیء المقیّد بقید مخصوص فالطلب متعلّق بها لا محالة ولا ثالث فی البین، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون القید اختیاریاً أو غیر اختیاری، فعلی الأول لا فرق بین أن یکون مطلق وجوده مأخوذاً فی الواجب کالطهارة المأخوذة قیداً للصلاة وغیرها، أو وجوده الاتّفاقی الطبعی کالاستطاعة للحج، فإنّها قید للواجب بوجودها الاتّفاقی فحسب، بمعنی أنّ المکلّف لا یکون ملزماً بإیجادها فی الخارج، وعلی الثانی فلا محالة یکون مأخوذاً مفروض الوجود فی الخارج کالوقت الذی هو قید للواجب کالصلاة ونحوها.

فالنتیجة أنّه بالتحلیل فی مقام اللب والواقع أنّ القید عند الطلب یرجع إلی المادّة دون الهیئة، وحیث إنّ مقام الاثبات تابع لمقام الثبوت، فرجوع القید فی مقام الثبوت إلی المادّة قرینة علی التصرّف فی مقام الاثبات برفع الید عن ظهور القضیة الشرطیة فی رجوع القید إلی الهیئة، هذا.

والجواب إنّنا قد أشرنا فیما تقدّم أنّ شروط الملاک علی نحوین:

الأول: أنّها شروط لاتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء.

الثانی: أنّها شروط لترتّب الملاک علی الفعل فی مرحلة الامتثال.

أمّا الاُولی، وهی شروط الاتّصاف فهی التی تدعو المولی إلی أخذها قیوداً للوجوب فی مرحلة الجعل ومفروضة الوجود فی هذه المرحلة، وعلی هذا فإذا جعل شیء فی مرحلة الجعل قیداً للحکم فهو إنّما یکون بتبع کونه قیداً للاتّصاف بالملاک فی مرحلة المبادیء، ولولاه لکان جعله قیداً للحکم لغواً. فالنتیجة أنّ شروط الاتّصاف هی شروط الوجوب ولا یمکن أن تکون

ص:77

شروطاً للواجب.

ثمّ إن جعل شیء قیداً للوجوب فی مرحلة الجعل إنّما هو بأحد ملاکین:

الأول: أن یکون ذلک الشیء شرطاً للاتّصاف فی مرحلة المبادیء وقیداً له، فإنّ ذلک هو قید الوجوب وشرطه فی مرحلة الجعل ولا یعقل أن یکون شرطاً للواجب، ولا فرق بین أن یکون ذلک الشیء اختیاریاً کالاستطاعة أو غیر اختیاری، فإنّ الاستطاعة بما أنّها دخیلة فی اتّصاف الحج بالملاک فی مرحلة المبادیء وشرط له، فلا محالة تکون شرطاً للوجوب فی مرحلة الجعل ولا یعقل أن تکون شرطاً للواجب، فما فی هذا الوجه من جعلها شرطاً للواجب فلا یرجع إلی معنی محصّل.

الثانی: أنّ قید الواجب إذا کان غیر اختیاری کالوقت، فلابدّ من أخذه قیداً للوجوب أیضاً، إذ لو کان الوجوب مطلقاً لزم التکلیف بغیر المقدور وأمّا الثانیة وهی شروط الترتّب فهی قیود للواجب ودخیلة فی حصول الملاک وترتّبه علیه خارجاً، ولهذا یکون المکلّف مسؤول أمامها وملزماً بتوفیرها، باعتبار أنّ ملاک الواجب تامّ ووجوبه فعلی ولا حالة منتظرة له.

ومن هنا یظهر أنه لا یمکن أن ترجع جمیع القیود إلی المادّة، بداهة أنّ ما کان قیداً للاتّصاف فلا یعقل أن یکون قیداً للمادّة، بل لا محالة یکون قیداً للوجوب وهو مفاد الهیئة، فالنتیجة أنّ ما ذکره شیخنا الأنصاری (قدس سره) من أنّ جمیع القیود ترجع إلی المادة دون الهیئة(1) ، لا یمکن المساعدة علیه بوجه، وعلی هذا فإذا کانت القضیة الشرطیة ظاهرة فی رجوع القید إلی مفاد الهیئة، فیؤخذ به ولا موجب لرفع الید عنه أصلا، هذا.

-

ص:78


1- (1) - مطارح الأنظار: ص 46.

وأجاب السیّد الاُستاذ (قدس سره) عن هذا الوجه بما یرجع إلی أحد أمرین:

الأول: أنّ القضیة الشرطیة ظاهرة فی رجوع القید إلی مفاد الهیئة، وهذا الظهور حجّة ولابدّ من الأخذ به ما لم تقم قرینة علی الخلاف(1).

الثانی: أنّ الملاک القائم بالواجب تارةً یکون تامّاً ولا تتوقّف تمامیته علی أی شیء فی الخارج من زمان أو زمانی، واُخری یکون غیر تامّ وأنّ تمامیته تتوقّف علی أمر متأخّر، أمّا علی الأول فمرّة یکون الاتیان به یتوقّف علی مقدّمات إختیاریة کالصلاة بعد دخول وقتها، فإنّ ملاکها تامّ وإن کان إتیانها یتوقّف علی الاتیان بمقدّماتها إذا لم تکن متوفّرة، وشرب الدواء للمریض فإنّ ملاکه تامّ له فعلا وأن کان تحقّقه فی الخارج یتوقّف علی الاتیان بعدّة مقدّمات کرجوعه إلی الطبیب وتشخیص مرضه وتعیین الدواء له وهکذا.

واُخری یکون الاتیان به یتوقّف علی مقدّمات خارجة عن اختیار المکلّف کالمریض مثلا، فإنّ ملاک شرب الدواء فی حقّه تامّ ولا حالة منتظرة له، ولکن تحصیل الدواء فعلا غیر ممکن لوجود مانع خارجی من زمان أو زمانی، وفی مثل ذلک لا مانع من الالتزام بکون الوجوب حالیاً والواجب استقبالیاً، ومن هذا القبیل وجوب الصوم بعد دخول شهر رمضان بمقتضی الآیة الشریفة: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ )(2) ، فإنّ الظاهر منها هو أنّ وجوب الصوم فعلی بعد دخول الشهر، وهذا لا یمکن إلاّ بالالتزام بتمامیة ملاکه من اللیل.

وأمّا علی الثانی فحیث أنّ ملاکه غیر تامّ فعلا وإنّما یتمّ فی ظرفه

-

.

ص:79


1- (1) - المحاضرات ج 2: ص 320
2- (2) - سورة البقرة: 185.

المتأخّر عند تحقّق قیده، فبطبیعة الحال یکون الوجوب المتعلّق به وجوب تعلیقی ولا یمکن أن یکون فعلیاً لعدم الملاک له کذلک(1).

فالنتیجة أنّ الحکم الشرعی یختلف باختلاف القیود الدخیلة فی ملاکه فقد یکون فعلیاً لفعلیة ما له دخل فی ملاکه، وقد یکون معلّقاً علی حصول ما له دخل فیه، هذا إضافة إلی ظهور القضیة الشرطیة فی رجوع القید إلی مفاد الهیئة، حیث إنّ المتفاهم العرفی منها هو تعلیق مفاد الجملة الجزائیة علی مفاد الجملة الشرطیة بلا فرق فی ذلک بین أن تکون القضیة حملیة أم شرطیة، ومن هنا فالصحیح ما ذهب إلیه المشهور من رجوع القید إلی مفاد الهیئة دون المادّة، وغیر خفی أنّ ما أفاده (قدس سره) من ظهور القضیة الشرطیة فی رجوع القید إلی مفاد الهیئة دون المادة صحیح ولا إشکال فیه، کما أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ ملاک الواجب إذا لم یکن تامّاً فعلا وتتوقّف تمامیته کذلک علی أمر متأخّر، فلا یعقل أن یکون وجوبه فعلیاً صحیح أیضاً، ولکن ما أفاده (قدس سره) من أنّه لا مانع من أن یکون الوجوب فعلیاً لفعلیة ما له دخل فی ملاکه والواجب مقیّد بقید متأخّر غیر اختیاری کصوم شهر رمضان، فإنّه مقیّد بطلوع الفجر مع أنّ وجوبه فعلی لفعلیة ملاکه من حین رؤیة الهلال لا یتمّ، لما مرّ من أنّ کون الشیء قیداً للوجوب فی مرحلة الجعل أحد أمرین:

الأول: أن یکون الشیء من شروط الاتّصاف فی مرحلة المبادیء، فإنّه لابدّ من أخذه قیداً للوجوب.

الثانی: أنّ المأمور به إذا کان مقیّداً بقید غیر اختیاری، فلابدّ من أخذه قیداً للوجوب أیضاً، إذ لو کان الوجوب مطلقاً فبطبیعة الحال یکون محرّکاً

-

ص:80


1- (1) - المحاضرات ج 2: ص 327.

نحو الاتیان بالمقیّد بقید غیر اختیاری وهو من التکلیف بالمحال، وعلی هذا فلو کان وجوب الصوم فعلیاً من اللیل ومطلقاً وکان الواجب وهو الصوم مقیّداً بطلوع الفجر، لزم التکلیف بغیر المقدور، لأنّ معنی کونه فعلیاً أنّه محرّک بالفعل وهذا لا یمکن مع کون الواجب استقبالیاً، ودعوی أنّ القید المتأخّر إذا کان تحقّقه مضموناً کطلوع الفجر فی المثال، فلا مانع من تعلّق الوجوب بالمقیّد به، لأنّ تعلّقه بالمقیّد لیس فی الحقیقة تعلّق بالقید بل تعلّق بالتقیّد وذات المقیّد وهما مقدوران للمکلّف عند تحقّق القید مدفوعة بأنّ وجوب الصوم إذا کان فعلیاً من أوّل اللیل فمعناه أنّه محرّک نحوه، وهذا من التکلیف بغیر المقدور، ومجرّد کون القید مضموناً لا یحل المشکلة، فإنّ التقیّد مقدور عند تحقّق القید المضمون لا قبل تحقّقه والمفروض أنّ الوجوب منذ اللیل فعلی.

ودعوی أنّ الوجوب وإن لم یکن مشروطاً بطلوع الفجر بنحو الشرط المتأخّر، باعتبار أنّه مضمون ولکنّه مشروط بالقدرة علیه بعد الطلوع بنحو الشرط المتأخّر، باعتبار أنّ قید القدرة لیس من القیود المضمونة وجودها فی المستقبل، فإذا کان مشروطاً بشرط متأخّر لم یکن محرّکاً نحو الاتیان بالواجب قبل تحقّق شرطه، وعلیه فهو وإن کان مطلقاً بالنسبة إلی قید طلوع الفجر ولم یکن مقیّداً به، إلاّ أنّه مع ذلک لا یکون محرّکاً نحو الصوم المقیّد بالطلوع فعلا لمکان اشتراطه بالقدرة علیه بعد الطلوع بنحو الشرط المتأخّر.

مدفوعة بما تقدّم من أنّ اشتراط الوجوب بشیء إنّما هو علی أساس أنّ ذلک الشیء شرط للاتّصاف فی مرحلة المبادیء وإلاّ فلا یمکن أن یکون الوجوب مشروطاً به فی مرحلة الجعل لأنّه لغو وبلا مبرّر، وعلی هذا فالقدرة المتأخّرة لو کانت شرطاً للوجوب بنحو الشرط المتأخّر فلا محالة تکون شرطیتها له من جهة أنّها شرط للاتّصاف فی مرحلة المبادیء بنحو الشرط

ص:81

المتأخّر، وقد تقدّم أنّ الاتّصاف بما أنّه أمر تکوینی فیستحیل أن یکون مشروطاً بشرط متأخّر لاستحالة تأثیر المتأخّر فی المتقدّم.

فالنتیجة أنّ ما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) فی المقام من أنّ الوجوب حالی والواجب استقبالی غیر تامّ، هذا تمام الکلام فی المرحلة الاُولی لها.

المرحلة الثانیة: فی مرحلة المبادیء
اشارة

وأمّا المرحلة الثانیة فیقع الکلام فیها فی موردین:

الأول: فی الملاک المشروط بشیء.

الثانی: فی الإرادة المشروطة.

المورد الأول: فی الملاک المشروط بشیء

أمّا الأول: فلا إشکال فی معقولیة إشتراط اتّصاف شیء بالملاک بتحقّق شیء آخر کاشتراط اتّصاف شرب الدواء بالملاک بالمرض واتّصاف شرب الماء به بالعطش واتّصاف الحج بالملاک بالاستطاعة وهکذا.

المورد الثانی: کیفیة تفسیر الإرادة المشروطیة

وأمّا الثانی: فیقع الکلام فی کیفیة تفسیر الإرادة المشروطة، وفیها أقوال:

القول الأول: ما ذکره السید الأستاذ من انّ الفرق بین الإرادة المطلقة و المشروطة فی المتعلّق

القول الأول: ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الشوق النفسانی المؤکّد إذا تحقّق فی افق النفس بتحقّق مبادئه فیه، فلا یختلف باختلاف المشتاق إلیه فی خارج افق النفس من ناحیة الاطلاق والتقیید تارةً، ومن ناحیة کون القید اختیاریاً وعدم کونه اختیاریاً تارةً اخری، ومن ناحیة کون القید مورداً للشوق وعدم کونه کذلک ثالثة، بل ربما یکون القید مبغوضاً فی نفسه ولکن المقیّد به مورد للشوق وذلک کالمرض مثلا، فإنّه علی الرغم من کونه مبغوضاً للإنسان المریض فمع ذلک یکون شرب الدواء النافع مطلوباً له ومورداً لشوقه(1).

ونتیجة ما أفاده (قدس سره) أنّه لا فرق بین الارادة المطلقة والارادة المشروطة إلاّ

-

ص:82


1- (1) - المحاضرات ج 2: ص 325.

فی المتعلّق فإنّ متعلّق الأول الطبیعة المطلقة ومتعلّق الثانیة حصّة خاصة منها وهی المقیّدة بقید خاص، وعلیه فاطلاق الإرادة وتقییدها إنّما هو بلحاظ متعلّقها لا بلحاظ نفسها، وقد یدّعی بأنّ هذا موافق للوجدان، فإنّ المولی إذا التفت إلی نفسه بالنسبة لشیء ما، فلا یخلو من أنّه إمّا أن یریده أو لا یریده، والثانی خارج عن محلّ الکلام، وأمّا علی الأول فالارادة موجودة منذ البدأ فی افق النفس سواءً کان متعلّقها الطبیعی المطلق أم المقیّد، فإذن کیف یقال أنّها معلّقة علی وجود شیء.

ولنا تعلیق علی هذا القول وتقریبه أنّ ما ذکره (قدس سره) من أنّ الفرق بین الارادة المطلقة والارادة المشروطة إنّما هو فی المراد لا فی نفس الارادة، فإنّ المراد تارةً یکون مطلقاً واُخری یکون مشروطاً ومقیّداً، وإنّما الارادة فهی فعلیة فی عالم النفس علی کلا التقدیرین لا یتم، لأنّ القید یختلف باختلاف الموارد، فتارةً یکون للمراد واُخری للارادة کما هو الحال فی القیود المأخوذة فی مرحلة الجعل، فإنّه قد یکون للوجوب وقد یکون للواجب و قید الوجوب هو قید الارادة فی مرحلة المبادیء، وقید الواجب هو قید المراد فی تلک المرحلة، وعلی هذا فما ذکره (قدس سره) من أنّ القید قید للمراد دائماً دون الارادة سواءً أکان إختیاریاً أم غیر اختیاری ومورداً للارادة أم لا خلاف الوجدان، لوضوح أنّ إرادة شرب الدواء وجداناً معلّقة علی المرض، وشرب الماء علی العطش، وإرادة الحج علی الاستطاعة، والصلاة علی دخول الوقت، والصوم علی دخول شهر رمضان وهکذا، ولا یمکن القول بأنّ القید دائماً یکون للمراد لا الارادة، فما ذکره (قدس سره) من أنّ المرض قید للمراد دون الارادة فإنّها فعلیة خلاف الوجدان.

والخلاصة أنّ شروط الحکم فی مرحلة الجعل شروط لارادة الفعل واتّصافه بها فی مرحلة المبادیء، کما أنّها شروط لاتّصافه بالملاک فی هذه

ص:83

المرحلة، وهذه الارادة لا تتحقّق قبل تحقّق شروطها، مثلا الاستطاعة التی هی شرط لوجوب الحج فی مرحلة الجعل شرط لارادته فی مرحلة المبادیء، کما أنّه لا وجوب للحج قبل تحقّق الاستطاعة، کذلک لا إرادة له قبل تحقّقها.

فالنتیجة أنّ ما أفاده السیّد الاُستاذ (قدس سره) من أنّه لا فرق بین الارادة المطلقة والارادة المشروطة، فإنّ کلتیهما موجودة فی افق النفس، والفرق بینهما إنّما هو فی المتعلّق، فمتعلّق الاُولی مطلق ومتعلّق الثانیة مقیّد، فالاطلاق والاشتراط بلحاظ حال المتعلّق لا بلحاظ حال نفسها(1) ، لا یمکن المساعدة علیه أصلا، بل هو خلاف الوجدان، لما عرفت من أنّ الارادة المشروطة لا تکون موجودة فی افق النفس قبل تحقّق شرطها.

ودعوی أنّ نفس تصدّی المولی طلب الفعل من العبد بنحو الواجب المشروط قبل تحقّق الشرط، دلیل علی فعلیة الارادة فی نفس المولی، لوضوح أنّ جعل الایجاب من المولی مقدّمة بحسب الحقیقة لایجاد المراد خارجاً، یدلّ علی فعلیة الارادة فی نفسه حتّی تترشّح نحو المقدّمات.

مدفوعة، أوّلا أنّ هذه الدعوی مبنیة علی إمکان الشرط المتأخّر فی مرحلة المبادیء وقد تقدّم إستحالته، وثانیاً مع الاغماض عن ذلک وتسلیم إمکان الشرط المتأخّر، إلاّ أنّ إیجاب المولی الفعل وتصدّیه طلبه قبل تحقّق الشرط، یدلّ علی أنّ ملاکه تام فی ظرفه ولا یرضی المولی بتفویته من قبل المقدّمات المفوتة، وهذا یدلّ علی أنّه مشروط بالقدرة المطلقة لا القدرة الخاصّة وهی القدرة بعد الوقت، فلهذا یجب تحصیل القدرة علیه قبل وقته إذا لم یتمکّن من تحصیلها فی وقته.

-

ص:84


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم: ص 52.
القول الثانی: ما ذکره المحقق العراقی

القول الثانی: ما ذکره المحقّق العراقی (قدس سره) من أنّ الارادة المشروطة فعلیة فی افق النفس کالارادة المطلقة، ولکن لا من جهة أنّ القید قید للمراد لا للارادة بل هو قید لها، فمع ذلک تکون فعلیة قبل تحقّق القید فی الخارج، وذلک لأنّ الارادة بما أنّها من الموجودات فی افق النفس، فلا محالة تکون شروطها أیضاً من الموجودات فی هذا الاُفق، وحیث انها بوجودها الذهنی فعلی، فالارادة المشروطة بها أیضاً کذلک، وعلی الجملة فالشرط للارادة لیس وجود القید فی الخارج بل وجوده فی عالم الذهن وهو فعلی(1) هذا.

والجواب أنّ الارادة وإن کانت من الموجودات فی عالم النفس، إلاّ أنّها موجودات واقعیة تصدیقیة فیه لا تصوّریة، فإذن بطبیعة الحال تکون شروطها أیضاً کذلک، فإنّ العطش شرط لارادة شرب الماء بوجوده التصدیقی الواقعی فی عالم النفس لا بوجوده التصوّری، إذ لا یترتّب علی وجوده التصوّری أثر، ضرورة أنّ تصوّر العطش لا یکفی لحصول إرادة شرب الماء، کما أنّ تصوّر المرض لا یوجب تحقّق الارادة نحو شرب الدواء وهکذا، فالنتیجة أنّ هذا القول مبنی علی الخلط بین کون القید شرطاً للارادة بوجوده اللحاظی التصوّری، وکونه شرطاً لها بوجوده التصدیقی الواقعی، وتخیّل أنّ الشرط هو الأول.

القول الثالث: ما ذکره المحقق النائینی من انّ الفرق بینهما فی الموجود

القول الثالث: ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ الارادة المشروطة کالارادة المطلقة فی الوجود، فکما أنّ وجود الارادة المطلقة فعلی فکذلک وجود الارادة المشروطة، فلا فرق بینهما من هذه الناحیة، وإنّما الفرق بینهما فی الموجود، فإنّه فی الارادة المشروطة معلّق وفی الارادة المطلقة منجّز وهذا

-

ص:85


1- (1) - نهایة الأفکار ج 1: ص 295.

هو الفارق بینهما(1).

وغیر خفی غرابة هذا القول من المحقّق النائینی (قدس سره)، وذلک لاستحالة تفکیک الوجود عن الموجود لأنّهما شیء واحد ذاتاً وحقیقة ولا اختلاف بینهما إلاّ بالاعتبار، فإذا کان الوجود فعلیاً فکیف یعقل أن یکون الموجود معلّقاً مع أنّه عین الوجود بل إنّ هذا غیر ممکن فی الوجودات الاعتباریة بأن یکون الجعل فعلیاً والمجعول معلّقاً فضلا عن الوجودات التکوینیة، والمفروض أنّ الارادة من الوجودات التکوینیة، وإن أراد (قدس سره) بذلک أنّ المراد فی الارادة المشروطة متعلّق وفی الارادة المطلقة منجّز، مثلا شرب الماء معلّق علی وجود العطش وشرب الدواء معلّق علی وجود المرض وهکذا، فیرد علیه أنّ وجود العطش والمرض ونحوهما یکون من قیود الامارة لا المراد، لأنّ إرادة شرب الماء معلّقة علی وجود العطش وإرادة شرب الدواء معلّقة علی وجود المرض وإرادة الحج معلّقة علی وجود الاستطاعة وهکذا، وطالما لم توجد هذه القیود فلا إرادة فی عالم النفس لا أنّها موجودة والمراد معلّق، لأنّ ذلک خلاف الوجدان والضرورة.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّ الأقوال المتقدّمة حول الفرق بین الارادة المطلقة والارادة المشروطة جمیعاً خلاف الوجدان ولا یمکن الأخذ بشیء منها، ومن هنا فالصحیح فی الفرق بینهما ما أشرنا إلیه آنفاً من أنّ الارادة المشروطة هی الارادة المعلّقة ولا وجود لها فی عالم النفس قبل وجود شرطها، فإذن یکون الفرق بین الارادتین ذاتاً وحقیقة، فإنّ الارادة المطلقة موجودة فی افق النفس دون الارادة المعلّقة، لأنّ وجودها منوط بوجود

-

ص:86


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 140.

شرطها کإرادة شرب الماء المشروطة بالعطش وإرادة شرب الدواء المشروطة بالمرض وهکذا، هذا تمام کلامنا فی المرحلة الثانیة وهی مرحلة المبادیء.

المقام الثانی: فی موارد الشک فی رجوع القید إلی مفاد المادة أو الهیئة

اشارة

وأمّا الکلام فی المقام الثانی، فیقع فی موارد الشک فی رجوع القید إلی مفاد الهیئة أو المادّة، تارةً فی مقتضی الأصل اللفظی واُخری فی مقتضی الأصل العملی.

المورد الأول: مقتضی الأصل اللفظی
ما ذهب إلیه الشیخ الأنصاری من انّ مقتضی الأصل اللفظی رجوع القید إلی المادة

أمّا الکلام فی الأول فقد ذهب شیخنا الأنصاری (قدس سره) إلی أنّ مقتضی الأصل اللفظی هو رجوع القید إلی المادّة دون الهیئة وقد استدلّ علی ذلک بوجهین:

الأول: أنّ المقام من صغریات مسألة دوران الأمر بین الاطلاق البدلی والاطلاق الشمولی، وحیث إنّه لا یمکن الأخذ بکلیهما معاً فلابدّ من الأخذ بالاطلاق الشمولی وطرح الاطلاق البدلی تطبیقاً لقاعدة تقدیم الأظهر علی الظاهر(1) وقد أفاد (قدس سره) فی مبحث التعادل والترجیح أنّ دلالة العام علی العموم تنجیزیة فلا تتوقّف علی مقدّمة خارجیة، ودلالة المطلق علی الاطلاق تعلیقیة وتتوقّف علی تمامیة مقدّمات الحکمة منها عدم القرینة، والمفروض أنّ عموم العام یصلح أن یکون قرینة(2) ، هذا.

فیه أنّ ما أفاده (قدس سره) هناک من الکبری وإن کان تامّاً إلاّ أنّ هذه الکبری تختص بما إذا کان التعارض بین العام الوضعی وبین المطلق، وتقدیم العام الوضعی علی المطلق فی مورد التعارض لا یختصّ بما إذا کان إطلاق المطلق

-

.

ص:87


1- (1) - مطارح الأنظار: ص 46 س 12
2- (2) - فرائد الاُصول: ص 457 قلت المستند فی إثبات أصالة الحقیقة... فالمطلق دلیل تعلیقی والعام دلیل تنجیزی.

بدلیاً بل هو یتقدّم علیه وإن کان شمولیاً، باعتبار أنّه یصلح أن یکون قرینة مانعة عن تمامیة المقدّمات ولا تشمل مثل المقام، فإنّه لیس من صغریات هذه الکبری، حیث إنّ التعارض فیه إنّما هو بین الاطلاق الشمولی والاطلاق البدلی لا بین العام الوضعی والمطلق، والمفروض أنّ کلا الاطلاقین هنا مستند إلی مقدّمات الحکمة، فإذن لا یکون دلالة الاطلاق الشمولی تنجیزیة بل هی کدلالة الاطلاق البدلی تعلیقیة وتتوقّف علی تمامیة مقدّمات الحکمة، وحینئذ فلا یمکن تقدیمه علیه بهذا الملاک، وهل یمکن تقدیمه علیه بملاک آخر، فهنا بحثان:

الأول فی أصل ثبوت الکبری وهی تقدیم الاطلاق الشمولی علی الاطلاق البدلی فی مورد التعارض.

الثانی: أنّ المقام هل هو داخل فی هذه الکبری أو لا؟

أمّا الکلام فی الأول فقد اختلفت کلمات الاُصولیین حول هذه الکبری نفیاً واثباتاً فی مبحث التعادل والترجیح، ولکنّا استظهرنا هناک أنّه لا یبعد ثبوت الکبری بملاک الأظهریة وتمام الکلام فی المسألة هناک.

وأمّا الکلام فی الثانی وهو أنّ المقام هل هو داخل فی تلک الکبری وهی تقدیم الاطلاق الشمولی علی الاطلاق البدلی فی مقام المعارضة أو لا، ففیه وجهان، فذهب جماعة إلی أنّه غیر داخل فیها، وقد ذکروا فی وجه ذلک وجوهاً:

الأول: ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ المقام لیس من صغریات تلک الکبری لاختصاص الکبری بما إذا کان التعارض بینهما بالذات، کما إذا ورد فی دلیل أکرم فقیراً وورد فی دلیل آخر لا تکرم فاسقاً، فإنّه یقع التعارض بینهما فی مورد الالتقاء والاجتماع وهو الفقیر الفاسق، فإنّ مقتضی إطلاق

ص:88

الدلیل الأول وجوب إکرامه علی البدل ومقتضی إطلاق الدلیل الثانی حرمة اکرامه مطلقاً، ففی مثل ذلک یمکن تقدیم إطلاق الثانی علی الأول، وأمّا فی المقام فلا تعارض بین الاطلاقین فی مورد الاجتماع بالذات وإنّما نشأ التنافی بینهما من جهة العلم الاجمالی برجوع القید إلی أحدهما فمن أجل هذا العلم الاجمالی لا یمکن الجمع بین الاطلاقین والأخذ بکلیهما معاً، والرجوع إلی قاعدة الأظهریة أو القرینیة فإنّما هو فیما إذا کان التعارض والتنافی بینهما بالذات، فعندئذ إن کان أحدهما أظهر من الآخر حکم بتقدیمه علیه بملاک الأظهریة، وإمّا إذا لم یکن التعارض بینهما بالذات وإنّما جاء ذلک بالعرض بواسطة العلم الاجمالی برجوع القید إلی أحدهما کما فی المقام، فلا ترجیح فی البین، حیث إنّ نسبة رجوعه إلی کلّ منهما نسبة واحدة، ومن الواضح أنّ أظهریة إطلاق الهیئة علی اطلاق المادّة لا تصلح أن تکون قرینة علی رجوع القید إلی المادّة لعدم صلة لأحدهما بالآخر، وذلک لأنّ القضیة الشرطیة إن کانت ظاهرة فی رجوع القید إلی أحدهما خاصّة فهو المتّبع، وإن لم تکن ظاهرة فی ذلک بأن تکون مجملة، فعندئذ یعلم إجمالا برجوعه إلی أحدهما، وعلی هذا فالحکم برجوعه إلی مفاد المادّة خاصّة أو الهیئة کذلک، تحکم وترجیح بلا مرجّح فلا یمکن، ومجرد کون إطلاق الهیئة أظهر من إطلاق المادّة لا یصلح قرینة علی رجوعه إلی المادّة، باعتبار أنّه لا یوجب رجوعه إلی المادّة أظهر من رجوعه إلی مفاد الهیئة.

فالنتیجة أنّ ما أفاده شیخنا الأنصاری (قدس سره) من أنّ اطلاق الهیئة حیث إنّه شمولی فیتقدّم علی اطلاق المادّة الذی هو بدلی، إنّما یتم إذا کان التعارض بینهما بالذات، وأمّا إذا لم یکن التعارض بینهما کذلک کما فی المقام، فلا یمکن تطبیق الجمع العرفی علیهما بتقدیم الأظهر علی الظاهر، فإذن یکون

ص:89

المرجع فی المسألة الأصل العملی، هذا غایة ما یمکن أن یقال فی وجه ما أفاده المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ کبری قاعدة الجمع العرفی بین الدلیلین تختص بالدلیلین المتعارضین بالذات لا بالعرض وبواسطة العلم الاجمالی، ولکنّه غیر تامّ وذلک لعدم اختصاص الکبری بالدلیلین المتعارضین بالذات بل تشمل الدلیلین المتعارضین بالعرض أیضاً أی بواسطة العلم الاجمالی بکذب أحدهما وعدم مطابقته للواقع، والنکتة فی ذلک أنّ قاعدة الجمع العرفی تختص بموارد الدلالات والکشوفات العرفیة وتقدیم الأقوی منهما علی غیره سواءً أکانت الاقوائیة من جهة الخصوصیة أو الانصیة أو الأظهریة أو الحکومة، ولا فرق بین أن تکون تلک الاقوائیة بالدلالة المطابقیة أو الالتزامیة هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ العلم الاجمالی بکذب أحد الدلیلین یشکّل دلالة التزامیة لکل منهما علی نفی المدلول المطابقی للآخر بنحو القضیة الشرطیة، وهی أنه لو کان هذا الدلیل صادقاً لکان الآخر کاذباً، وإن کان العکس فبالعکس، فإذن یرجع التعارض بالعرض إلی التعارض بالذات، وعلی هذا ففی المقام إذا علم إجمالا بکذب أحد الاطلاقین، أمّا إطلاق المادّة أو اطلاق الهیئة وعدم مطابقته للواقع، فهذا العلم الاجمالی یشکّل الدلالة الالتزامیة لکل منهما علی نفی الدلالة المطابقیة للاُخری، وعلی هذا فالمادّة تدلّ علی إطلاق مدلولها بالمطابقة وعلی نفی مدلول الهیئة فی مورد الاجتماع بالالتزام، والهیئة تدلّ علی إطلاق مدلولها بالمطابقة وعلی نفی مدلول المادّة فی مورد الاجتماع بالالتزام، وحیث إنّ دلالة الهیئة علی الاطلاق أقوی من دلالة المادّة علیه، فلابدّ من تقدیمها علیها فی مورد الالتقاء والاجتماع بینهما تطبیقاً لقاعدة الجمع العرفی، وقد عرفت الآن أنّه لا فرق فی ذلک بین الدلالة المطابقیة والدلالة الالتزامیة، وإن شئت قلت أنّ العلم الاجمالی بکذب أحد الاطلاقین

ص:90

فی المقام وإن کان یوجب احتمال کذب کل منهما إلاّ أنّه لا یؤثّر فی الأقوی کشفاً ولا یجعله أضعف أو المساوی للآخر، باعتبار أنّ هذا الاحتمال کما أنّه موجود فیه موجود فی الآخر أیضاً بنفس الدرجة، فإذن تبقی اقوائیة إطلاق الهیئة بالنسبة إلی اطلاق المادّة بنفس النسبة فیتقدّم علیه بملاک الاقوائیة(1).

الوجه الثانی: أنّ تقیید الهیئة یستلزم تقیید المادّة دون العکس، فإذا دار الأمر بین رفع الید عن اطلاق الهیئة والمادّة معاً وبین رفع الید عن إطلاق المادّة فقط تعیّن الثانی، لأنّ الضرورة تتقدّر بقدرها وهی فی المقام لا تقتضی أکثر من رفع الید عن إطلاق إحداهما، فرفع الید عن إطلاق کلتیهما بلا موجب وضرورة، فإذن لا مناص فی المقام من الاقتصار علی إرجاع القید إلی المادّة دون الهیئة، أو فقل أنّ إرجاعه إلی مفاد الهیئة یستلزم ارتکاب خلاف الظاهر أکثر من اللازم وهو بلا مبرّر فلا یجوز، مثال ذلک إذا ورد فی دلیل أکرم العالم الفلانی ثمّ ورد فی دلیل آخر فلیکن ذلک إذا جاء فی بلدک، وفرضنا أنّ الدلیل المقیّد لا یکون ظاهراً فی رجوع القید إلی مفاد الهیئة وهو الوجوب ولا فی رجوعه إلی مفاد المادّة وهو الاکرام، فیکون مجملا وإجماله سبب للعلم الاجمالی برجوعه إلی مفاد إحداهما لا بعینه، وحینئذ فإن قلنا برجوعه إلی مفاد الهیئة وهو الوجوب وتقیید إطلاقه فهو یستلزم تقیید إطلاق المادّة أیضاً وهو الاکرام، فإنّ وجوب إکرام العالم فی المثال إنّما هو ثابت عند المجیء لا مطلقاً، وعلیه فبطبیعة الحال یکون الواجب هو إکرامه فی هذه الحالة ولا یکون إکرامه فی غیر تلک الحالة واجباً، وأمّا إذا قلنا برجوعه إلی مفاد المادّة وتقیید إطلاقه فهو لا یستلزم تقیید اطلاق الهیئة، فإنّ الوجوب حینئذ مطلق

-

ص:91


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 163.

وغیر مشروط بهذا القید والواجب مقیّد به، ومعنی أنّ الوجوب مطلق غیر مشروط به أنّه فعلی سواءً أکان القید متحقّقاً أم لا، بینما إذا کان مشروطاً به فلا یکون فعلیاً إلاّ بفعلیته.

وقد علّق علیه المحقّق الخراسانی بتقریب أنّ هذا الوجه إنّما یتمّ فیما إذا کان القید المردّد رجوعه إلی مفاد الهیئة أو المادّة منفصلا ولا یمنع عن انعقاد ظهور کل منهما فی الاطلاق، فعندئذ یتعیّن رجوعه إلی المادّة دون الهیئة، باعتبار أنّ رجوعه إلی الهیئة کما یستلزم تقیید إطلاقها کذلک یستلزم تقیید إطلاق المادّة وهو بلا موجب وضرورة کما مرّ، وأمّا إذا کان القید المذکور متّصلا فهو بما أنّه مانع عن إنعقاد ظهور کل منهما فی الاطلاق، فلا یلزم من رجوع القید إلی مفاد الهیئة محذور مخالفتین:

مخالفة إطلاق الهیئة ومخالفة إطلاق المادّة، لأنّ السالبة حینئذ بانتفاء الموضوع فلا اطلاق فی البین حتّی یلزم خلاف الأصل، فإذن لا فرق بین رجوع القید إلی مفاد المادّة أو مفاد الهیئة ولیس فی شیء من ذلک خلاف الأصل(1) هذا.

والتحقیق فی المقام أن یقال: أنّ ما ذکره شیخنا الأنصاری (قدس سره) من أنّ رجوع القید إلی مفاد الهیئة یستلزم مخالفتین بینما یکون رجوعه إلی مفاد المادّة یستلزم مخالفة واحدة، ومن الواضح أنّه لا یجوز ارتکاب مخالفتین مع إمکان الاقتصار علی مخالفة واحدة لا یمکن المساعدة علیه.

أمّا أولا فلأنّ هذه الکبری غیر تامّة، لأنّ ارتکاب مخالفتین مع إمکان الاقتصار علی مخالفة واحدة إنّما لا یجوز إذا کان ذلک بید المکلّف واختیاره،

-

ص:92


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 96.

فإنّ الضرورة حینئذ تتقدّر بقدرها، وأمّا إذا لم یکن ذلک باختیار المکلّف وبیده فالکبری غیر تامّة والمقام من هذا القبیل، لأنّ رجوع القید إلی الهیئة أو المادّة منوط بظهوره العرفی، فإذا فرضنا أنّه ظاهر عرفاً فی رجوعه إلی الهیئة، فاستلزام تقیید إطلاقها بتقیید إطلاق المادّة لا یمنع عن هذا الظهور ولا یصلح أن یکون قرینة علی رفع الید عنه، وأمّا إذا لم یکن ظاهراً لا فی رجوعه إلی الهیئة ولا إلی المادّة، بأن تکون القضیة مجملة من هذه الناحیة، فعندئذ کما یحتمل رجوعه إلی مفاد الهیئة کذلک یحتمل رجوعه إلی مفاد المادّة، واستلزام رجوعه إلی مفاد الهیئة رجوعه لبّاً إلی مفاد المادّة أیضاً، لا یصلح أن یکون مرجّحاً لرجوعه إلی المادّة دون الهیئة، ضرورة أنّ الاستلزام المذکور لا یوجب ظهور القضیة فی رجوع القید إلی المادّة یعنی انقلابها من الاجمال إلی الظهور، لاستحالة إنقلاب الشیء عمّا کان علیه، کما أنّه لا یوجب کون رجوعه إلی المادّة أقوی من رجوعه إلی الهیئة.

وثانیاً مع الاغماض عن ذلک وتسلیم الکبری أنّ تقیید الهیئة بقید لا یستلزم تقیید المادّة به مباشرة حتّی یکون مخالفة زائدة بلا مبرّر، بل یستلزم تقیّدها علی أساس أنّ کل واجب فی مقام الثبوت والواقع مقیّد بقیود الوجوب لبّاً، ضرورة أنّه لا یتصوّر تلبّس واجب بالوجوب قبل تحقّق تلک القیود وإنّما یتلبّس به بعد تحقّقها، فالحجّ لا یکون واجباً قبل تحقّق الاستطاعة التی هی قید للوجوب وإنّما یکون واجباً بعد تحقّقها، وهذا معنی أنّ الواجب مقیّد بقیود الوجوب لبّاً وواقعاً، وعلی هذا فإذا قیّد إطلاق مفاد الهیئة بقید فقد قیّد الواجب به لبّاً أیضاً، ولکن لیس فی هذا التقیّد لبّاً مخالفة للظاهر حتّی یکون مخالفة زائدة.

الوجه الثالث: أنّ العلم الاجمالی برجوع القید إلی مفاد الهیئة أو المادّة

ص:93

ینحل إلی العلم التفصیلی بتقیید المادّة وعدم شمولها للحصة الفاقدة للقید، لأنّ إطلاق المادّة قد سقط یقیناً إمّا برجوع القید إلیها مباشرة أو برجوعه إلی الهیئة، فإنّه یوجب سقوط إطلاقها وعدم شمولها للحصة الفاقدة للقید جزماً، فإذا أمر المولی مثلا بزیارة الحسین (علیه السلام) ثمّ قال فلیکن ذلک عن قیام، وشککنا فی أنّ القیام هل هو قید للأمر أو للمأمور به وهو الزیارة، ففی مثل ذلک نعلم تفصیلا أنّ إطلاق المادّة وهی الزیارة ساقط علی کل تقدیر، أی سواءً کان القید راجعاً إلیها مباشرة أم إلی الهیئة، أمّا علی الأول فهو واضح، وأمّا علی الثانی وهو رجوع القید إلی مفاد الهیئة، فإنّه لا إطلاق لها بالنسبة إلی حصة من الزیارة الفاقدة للقیام لأنّها لیست مصداقاً للمأمور به، فالقیام فی هذا الفرض وإن لم یکن قیداً لها مباشرة إلاّ أنّها مقیّدة به لبّاً، ضرورة أنّه لا یمکن أن تکون دائرة الواجب أوسع من دائرة الوجوب، وعلی هذا فمعنی أنّ تقیید مفاد الهیئة یستلزم سقوط إطلاق المادّة أنّه لا یقعل إطلاقها وشمولها للحصة الفاقدة للقید، وعلی هذا فنعلم تفصیلا بسقوط إطلاق المادّة إمّا برجوع القید إلیها مباشرة أو بتقیّدها به لبّاً وقهراً ولا نعلم بسقوط إطلاق الهیئة، فعندئذ لا مانع من التمسّک بإطلاقها، ونتیجة ذلک أنّ الوجوب مطلق وثابت قبل تحقّق القید والواجب حصة خاصة وهی المقیّدة بالقید لبّاً أو جعلا هذا.

ویمکن المناقشة فی هذا الوجه بتقریب أنّ أثر رجوع القید إلی مفاد الهیئة عدم وجوب تحصیله علی المکلّف وعدم کونه مسؤولا أمامه لأنّه مأخوذ مفروض الوجود ودخیل فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء فلا ملاک له قبل تحقّقه، وأثر رجوع القید إلی المادّة وجوب تحصیله علی المکلّف وأنّه مسؤول أمامه، باعتبار أنّه دخیل فی ترتّب الملاک علیها خارجاً، وعلی هذا فمعنی إطلاق الهیئة أنّ الوجوب مطلق وفعلی والواجب مقیّد بقید

ص:94

فیجب تحصیل قیده، ومعنی إطلاق المادّة أنّ الواجب مطلق والوجوب مقیّد فلا یجب تحصیل القید، ومن الواضح أنّ تقیید إطلاق الهیئة لا یستلزم تقیید إطلاق المادّة بهذا المعنی بل یستلزم إطلاقها وعدم تقییدها به، وأمّا أنّ تقیید إطلاق الهیئة یوجب کون الواجب حصة خاصة وهی الحصّة بعد تحقّق الوجوب بتحقّق قیده، فإنّما هو بلحاظ أنّ الواجب لا یتّصف بهذا الوصف إلاّ بعد تحقّق الوجوب بتحقّق شرطه، لأنّ الحصة قبل تحقّق الوجوب لیست مصداقاً للواجب، باعتبار أنّ دائرة الواجب لا یمکن أن تکون أوسع من دائرة الوجوب، وهذا معنی تقیّده به لبّاً بتقیید الهیئة به، ولکن هذا لیس معنی تقیید إطلاق الواجب به فی مقابل تقیید اطلاق الوجوب، لما مرّ من أنّ معنی تقیید إطلاقه هو وجوب تحصیل القید لتحصیل الملاک، والمفروض عدم وجوب تحصیله فی هذه الصورة، وعلی هذا فما فی هذا الوجه من العلم التفصیلی بسقوط اطلاق المادّة علی کل تقدیر إمّا بالتقیید أو بالتقیّد خطأ، لأنّ إطلاق المادّة المتوخّا والمطلوب فی المقام غیر ساقط بتقیید الهیئة، إذ معنی إطلاق المادّة أنّها غیر مقیّدة بقید بحیث یکون التقیّد به جزئها والقید خارج عنها، ومعنی تقییدها به أنّ التقیّد به جزئها کسائر أجزائها ودخیل فی ترتّب الملاک علیها، ومن الواضح أنّ تقیید الهیئة بقید لا یستلزم تقیید المادّة به بهذا المعنی بأن یکون التقیّد به جزئها وذات القید خارجاً عنها، وإنّما یستلزم تقیّدها به لبّاً، ومعنی ذلک أنّ المادّة لا تتّصف بالوجوب واقعاً إلاّ بعد تحقّقه بتحقّق هذا القید، وأنّ الحصة قبل تحقّقه لیست مصداقاً للواجب، باعتبار أنّ دائرة الواجب لا یعقل أن تکون أوسع من دائرة الوجوب، وهذا معنی تقیّد المادّة لبّاً بتقیید الهیئة وهو لا ینافی إطلاقها بمعنی عدم تقییدها بقید بحیث یکون التقیّد به جزئها فی مقابل تقییدها به کذلک، ولهذا لا یترتّب علی التقیید اللبّی أثر والأثر إنّما یترتّب علی التقیید الجعلی وهو وجوب تحصیل القید، ومحلّ الکلام فی

ص:95

المسألة إنّما هو فی تقیید إطلاق المادّة بمعنی أنّ التقیّد جزئها ودخیل فی ترتّب الملاک علیها والقید خارج عنها فی مقابل إطلاقها، وتقیید إطلاق الهیئة لا یستلزم تقیید إطلاق المادّة بهذا المعنی ولهذا لا یجب تحصیله.

فإذن بطبیعة الحال تقع المعارضة بین إطلاق الهیئة وإطلاق المادّة من جهة العلم الاجمالی بتقیید أحدهما بالقید المذکور فی القضیة الذی یشکل دلالة التزامیة لکل منهما، وعلی هذا فإن کان القید للهیئة فالمادّة مطلقة وغیر مقیّدة به ولهذا لا یجب تحصیله، وإن کان للمادّة فمفاد الهیئة مطلق وغیر مقیّد به فیجب تحصیله.

ومن هنا یظهر أنّ العلم الاجمالی فی المسألة إمّا بتقیید إطلاق الهیئة أو تقیید إطلاق المادّة لا ینحلّ إلی علم تفصیلی بسقوط إطلاق المادّة وشکّ بدوی فی سقوط اطلاق الهیئة، وذلک لأنّه لا علم بسقوط إطلاق المادّة فی مقابل إطلاق الهیئة الذین نعلم إجمالا بتقیید أحدهما بالقید المردّد فی القضیة بین رجوعه إلی إطلاق الاُولی أو إطلاق الثانیة، وأمّا الاطلاق اللبّی فهو لیس محل الکلام بل لا معنی لاطلاق المادّة لبّاً إلاّ شمولها للحصة قبل تحقّق قید الوجوب وشرطه حتّی یکون تحقّق الوجوب بتحقّق القید یوجب تخصّص المادّة بخصوص الحصة بعد تحقّق القید، ومن الطبیعی أنّ هذا الاطلاق لیس مورد الکلام فی المسألة ولا طرف للعلم الاجمالی، لأنّ محل الکلام فی المسألة إنّما هو فی إطلاق الواجب وتقییده، مثلا لو شککنا فرضاً أنّ الاستطاعة فی الآیة الشریفة(1) هل هی قید للواجب أو للوجوب، فعلی الأول فتقیّد الواجب بها داخل فیه وجزئه ودخیل فی ترتّب الملاک علیه فی مقام الامتثال والوجوب مطلق ولهذا یجب

-

ص:96


1- (1) - سورة آل عمران: 97.

تحصیلها، وعلی الثانی فالوجوب مقیّد به وأنّه دخیل فیه فی مرحلة الجعل و فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، والواجب مطلق وأنّها لیست قیداً له ولهذا لا یجب تحصیلها، والعلم الاجمالی إنّما هو بین تقیید إطلاق الواجب بالاستطاعة وتقیید إطلاق الوجوب بها، وهذا من العلم الاجمالی بین أمرین متباینین ولیس بینهما قدر متیقّن حتّی یمکن إنحلال العلم الاجمالی به، وإلاّ فلا یکون علم إجمالی بین المتباینین وهذا خلف.

فالنتیجة فی نهایة المطاف أنّ تقیید اطلاق الهیئة مباین لتقیید اطلاق المادّة ملاکاً وجعلا وأثراً، أمّا الأول فلأنّ قید الهیئة دخیل فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، وقید المادة دخیل فی ترتّب الملاک علیها فی الخارج.

وأمّا الثانی فلأنّ قید الهیئة مأخوذ مفروض الوجود فی مقام الجعل دون قید المادّة.

وأمّا الثالث فلأنّ أثر قید الهیئة عدم وجوب تحصیله وأثر قید المادّة وجوب تحصیله، فلذلک لا یستلزم تقیید الهیئة تقیید المادّة، فیقع التعارض بینهما فیسقطان معاً والمرجع الأصل العملی فی المسألة.

محل النزاع هو إذا کان القید المردد: رجوع إلی الهیئة أو المادة اختیاریا

ثمّ إنّ محلّ النزاع فی المسألة إنّما هو فیما إذا کان القید المردّد رجوعه إلی الهیئة أو المادّة اختیاریاً، وأمّا إذا کان غیر اختیاری فهو خارج عن محل النزاع ویتعیّن کونه قیداً للوجوب أیضاً، وقد تقدّم أنّ ملاک کون شیء قیداً للوجوب أحد أمرین:

الأول: أن یکون دخیلا فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء.

الثانی: أن یکون قیداً للواجب رغم أنّه غیر اختیاری، فإنّه حینئذ لابدّ من أخذه قیداً للوجوب أیضاً، إذ لو کان الوجوب مطلقاً لزم التکلیف بغیر

ص:97

المقدور. إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّه لا ترجیح لتقدیم إطلاق الهیئة علی إطلاق المادّة من هذه الناحیة، نعم یمکن تقدیم إطلاقها علی إطلاق المادّة فی مورد الاجتماع بملاک الأظهریة کما تقدّم.

وهنا وجهان آخران فی المسألة:

الأول: ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره).

الثانی: ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره).

أمّا الوجه الأول فقد ذکر السید الاُستاذ (قدس سره) بیاناً مفصّلا حول هذه المسألة وتحلیلها وبیان علاجها، ونلخّص ما ذکره فی ضمن عدّة نقاط.

الاُولی: أنّ قید الهیئة مأخوذ مفروض الوجود فی مرحلة الجعل دون قید المادّة، فهما متباینان من هذه الناحیة.

الثانیة: أنّه لا فرق بین أن یکون القید اختیاریاً أو غیر اختیاری.

الثالثة: أنّ معنی تقیید مفاد الهیئة کون الوجوب حصّة خاصّة وهی الحصة المتقیّدة بالقید، ومعنی تقیید المادّة کون الواجب حصة خاصّة وهی الحصّة المتقیّدة به.

الرابعة: أنّ النسبة بین تقیید المادّة بقید وتقیید الهیئة به عموم من وجه، فیمکن أن یکون الشیء قیداً لمفاد الهیئة دون المادّة، کما إذا أمر المولی برکعتین من الصلاة مثلا فی المسجد إذا دخل فیه، فیکون الدخول شرطاً لوجوبهما بنحو صرف الوجود، فإذا دخل فیه وجب علیه رکعتان من الصلاة ولو عن جلوس، وقد یکون الشیء قیداً للمادّة دون الهیئة، وقد یکون قیداً لهما معاً.

الخامسة: أنّ المراد من إطلاق المادّة لیس عمومها وشمولها للحصة قبل تحقّق قید الوجوب وانطباقها علیها، لکی یقال أنّ تقیید مفاد الهیئة بقید

ص:98

یستلزم تقیید المادّة أیضاً بخصوص الحصة بعد تحقّق هذا القید، علی أساس أنّ دائرة الواجب لا یمکن أن یکون أوسع من دائرة الوجوب، ولا یصدق علی الحصة الفاقدة للقید، بل المراد منه عدم أخذ القید فیها فی مقام الجعل فی مقابل تقییدها به فی هذا المقام وأثره وجوب تحصیله، کما أنّ المراد من إطلاق مفاد الهیئة عدم تقییده بقید فی مقام الجعل وأنه مطلق فی مقابل تقییده فی هذا المقام بقید مأخوذ مفروض الوجود فی الخارج وأثره عدم وجوب تحصیله فیه، ومن الواضح أنّ تقیید اطلاق المادّة بالمعنی المذکور مباین لتقیید إطلاق الهیئة جعلا وأثراً، ونتیجة هذا أنّ تقیید إطلاق الهیئة لا یستلزم تقیید إطلاق المادّة بل یستحیل هذا الاستلزام، باعتبار أنّهما متباینان جعلا وأثراً کما عرفت، وعلیه فالعلم الاجمالی برجوع القید إلی المادّة أو إلی الهیئة یوجب وقوع التعارض بین إطلاق کل منهما مع اطلاق الآخر فیسقطان معاً من جهة المعارضة، فلا یمکن التمسّک بشیء منهما، ولا ینحل هذا العلم الاجمالی إلی علم تفصیلی بسقوط إطلاق المادّة وشک بدوی فی سقوط إطلاق الهیئة، لأنّه علم إجمالی بین المتباینین، فلا یمکن فرض الانحلال فیه إلاّ بافتراض القدر المتیقّن بینهما وهو خلف.

فالنتیجة أنّه (قدس سره) قد اختار فی المسألة سقوط کلا الاطلاقین معاً عن الحجّیة بمقتضی العلم الاجمالی بکذب أحدهما وعدم مطابقته للواقع، فإذن لیس فی المسألة أصل لفظی، والمرجع فیها حینئذ الاُصول العملیة(1). هذا، ولنا أن ننظر إلی هذه النقاط ومدی صحّتها أو سقمها.

أمّا النقطة الاُولی: فهی صحیحة، غایة الأمر أنّه (قدس سره) لم یبیّن فیها ما هو

-

ص:99


1- (1) - المحاضرات ج 2: ص 342-343.

نکتة الفرق بین القیدین هما قید الوجوب وقید الواجب، وقد تقدّم أنّ نکتة الفرق بینهما هی أنّ أخذ شیء قیداً للوجوب فی مرحلة الجعل إنّما هو من جهة أنّه دخیل فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، إذ لولا دخله فیه لکان أخذه قیداً للوجوب فی مرحلة الجعل لغواً بلا مبرّر، وأخذ شیء قیداً للواجب فی هذه المرحلة إنّما هو من جهة أنه دخیل فی ترتّب الملاک علیه فی الخارج وإلاّ کان أخذه قیداً له لغواً وبلا موجب، وعلی هذا فقید الوجوب یفترق عن قید الواجب ملاکاً وجعلا وأثراً، لا أنّه یفترق عنه جعلا وأثراً فقط کما فی کلامه (قدس سره).

وأمّا النقطة الثانیة: فیرد علیها ما تقدّم منّا آنفاً من أنّ محلّ الکلام فی المسألة إنّما هو فی القید الاختیاری المأخوذ فی القضیة وأنّه یرجع فیها إلی مفاد الهیئة أو المادّة، ولا یمکن أن یکون الکلام فی الأعم منه ومن غیر الاختیاری إذ لو کان القید غیر اختیاری تعیّن کونه قیداً لمفاد الهیئة دون المادّة، ولا یدور الأمر حینئذ بین کونه قیداً للهیئة أو المادّة، ولو علم من الخارج أنّه قید للواجب ودخیل فی ترتّب الملاک علیه، فلابدّ من أخذه قیداً للوجوب أیضاً، إذ لا یمکن أن یکون الوجوب مطلقاً والواجب مقیّداً بقید غیر اختیاری، وإلاّ فیلزم التکلیف بغیر المقدور.

وأمّا النقطة الثالثة: فالظاهر أنه (قدس سره) أراد منها تقیید کل من مفاد الهیئة والمادّة بقید مباشر الذی هو فی مقابل اطلاق کل منهما، ولیس مراده (قدس سره) من تقیید المادّة صیرورتها حصة خاصة ولو بتقیید الهیئة بقرینة أنّه جعل تقیید المادّة فی مقابل تقیید الهیئة، وإنّهما متباینان جعلا وأثراً. ودعوی أنّ معنی تقیید المطلق صیرورته حصة خاصة، سواءً أکان ذلک بتقییده بقید مباشرة أم بواسطة لأنّ معنی تقیید المطلق سقوط إطلاقه، ولا یعتبر فیه أن یکون ذلک

ص:100

بالقید مباشرة، وحیث إنّ تقیید الهیئة یستلزم تقیید المادّة قهراً بالحصة الواجدة للقید ولا تشمل الحصة الفاقدة له، لأنّ سعة الواجب لا یمکن أن تکون أکثر من سعة الوجوب فلا إطلاق لها.

مدفوعة أوّلا أنّه لا إطلاق للمادّة لبّاً بصفة أنّها متعلّقة للوجوب، فإنّ الکلام إنّما هو فی اطلاق متعلّقه وتقییده بحیث یکون التقیّد جزئه.

وثانیاً مع الاغماض عن ذلک وتسلیم إطلاق المادّة لبّاً للحصة الفاقدة للقید وسقوطه بتقیید الهیئة وصیرورتها حصة خاصة وهی الحصة بعد تحقّق القید، ولکن هذا الاطلاق اللبّی وتقییده کذلک لیس محل الکلام فی المسألة ولا موضوع للأثر المطلوب فیها، فإنّ ما هو محل الکلام فیها إطلاق المادّة فی مقابل تقییدها بقید مباشرة، بحیث یکون تقیّدها به جزءً لها وداخلا فیها کسائر أجزائها ودخیلا فی ترتّب الملاک علیها کغیره من الأجزاء، فإنّ هذا هو موضوع الأثر ومحلّ البحث فی المسألة، وتقیید الهیئة لا یستلزم تقیید المادّة بهذا المعنی لأنّه فی مقابل تقییدها کذلک بتقابل التباین.

وأمّا النقطة الرابعة: فالأمر فیها کما أفاده (قدس سره)، لأنّ النسبة بین تقیید الهیئة وتقیید المادّة الذی هو محل الکلام فی المسألة عموم من وجه لا عموم مطلق، فإنّ عموم المطلق إنّما هو بین تقیید الهیئة وتقیید المادّة لبّاً لا جعلا کما مرّ تفصیلا.

وأمّا النقطة الخامسة: فالأمر فیها أیضاً کما أفاده (قدس سره)، لما عرفت من أنّ ما هو محلّ الکلام فی المسألة إنّما هو اطلاق المادّة فی مقابل تقییدها بقید مباشر جعلا، غایة الأمر أنّ التقابل بینهما من تقابل التضادّ علی مسلک السید الاُستاذ (قدس سره)، ومن تقابل الایجاب والسلب علی ما قوّیناه، ولیس المراد من إطلاقها، إطلاقها للحصة الفاقدة فی مقام اللبّ والواقع کما تقدّم تفصیلا.

ص:101

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أنّ ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أنّ تقیید الهیئة لا یستلزم تقیید المادّة هو الصحیح علی تفصیل تقدّم، هذا کلّه فیما إذا کان دلیل التقیید منفصلا عن دلیل الأمر.

وأمّا إذا کان متّصلا، فهو بما أنّه یمنع عن إنعقاد ظهور کل منهما فی الاطلاق، فالحکم فیه هو الاجمال والمرجع فیه الاُصول العملیة.

وأمّا الوجه الثانی: فقد ذکر المحقّق النائینی (قدس سره) أنّ القید یرجع إلی المادّة، بلا فرق بین کونه متّصلا أو منفصلا، وقد استدلّ علی ذلک بوجهین:

الأول: أنّ رجوع القید إلی المادّة وإن کان فی ضمن المادّة المنتسبة متیقّن، وأمّا رجوعه إلیها بعد الانتساب فهو مشکوک فیه وبحاجة إلی عنایة زائدة، فإذا لم تکن عنایة ودلیل علی ذلک، فمقتضی اطلاق المادّة المنتسبة عدم رجوعه إلیها، وحینئذ فلا مانع من التمسّک باطلاقها.

الثانی: أنّه لو کان قیداً لها بعد الانتساب، فلابدّ من أخذه مفروض الوجود، وحیث إنّ أخذه کذلک بحاجة إلی قرینة، فإذا لم تکن قرینة، فمقتضی إطلاق القید عدم أخذه کذلک، لأنّه خصوصیة زائدة علی ذات القید وبحاجة إلی عنایة زائدة، ولا فرق فی ذلک بین کون القید متّصلا أو منفصلا لفظیاً کان أم لبّیاً(1) هذا.

وللمناقشة فیه مجال واسع، أمّا أولا فلأنّ دلیل التقیید إذا کان متّصلا بدلیل الأمر، کان مانعاً عن انقعاد أصل ظهور کل من ذات المادّة والمادّة المنتسبة فی الاطلاق، لمکان احتفاف الکل بما یصلح للقرینیة، فلا ظهور لا لذات المادّة ولا للمادّة المنتسبة، أو فقل أنّ المراد من المادّة المنتسبة هو الهیئة،

-

ص:102


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 165.

والمفروض فی المقام أنّ نسبة القید إلی کل من المادّة والهیئة علی حدّ سواء، وحیث إنّه متصل بدلیل الأمر، فیصلح أن یکون مانعاً عن ظهور کل واحد منهما فی الاطلاق.

ودعوی أنّ رجوع القید إلی المادّة أعم من ذاتها والمادّة المنتسبة متیقّن، وأمّا رجوعه إلی خصوص المادّة المنتسبة فهو مشکوک فیه.

مدفوعة فإنّا لو سلمنا هذه الدعوی، إلاّ أنّه یکفی فی إجمال المادّة المنتسبة وعدم إنعقاد الظهور لها فی الاطلاق الشک فی رجوع القید إلیها لمکان احتفافها به، نعم لا أثر للشک فی التقیید بالمنفصل، باعتبار أنّ إطلاق المطلق منعقد فلا یجوز رفع الید عنه ما لم یثبت تقییده.

وثانیاً أنّه (قدس سره) إن أراد بالمادّة المنتسبة ما هو مساوق لمفاد الهیئة وهو الوجوب ومن ذات المادّة ما هو مساوق للواجب، فیرد علیه أنّ مرجع ذلک إلی أنّ رجوع القید إلی الأعمّ من الواجب والوجوب متیقّن وإلی خصوص الوجوب مشکوک فیه، وفیه أنّ هذا من توضیح الواضح، ضرورة أنّ الأمر فی تمام موارد العلم الاجمالی کذلک، لأنّ الجامع بین فردین أو أفراد متیقّن وکل واحد منهما بنفسه مشکوک فیه، وفی المقام رجوع القید إلی أحدهما متیقّن وإلی خصوص کل من الواجب والوجوب مشکوک فیه، فإذن لا خصوصیة للوجوب.

وإن أراد (قدس سره) من ذات المادّة، المادّة بقطع النظر عن اتّصافها بالوجوب ومن المادّة المنتسبة، المادّة بالنظر إلی اتّصافها بالوجوب، فیرد علیه نفس ما عرفت هذا إضافة إلی أنّ رجوع القید إلی المادّة بعد انتسابها لا یجدی فی دفع المشکلة وهی أنّ المعنی الحرفی غیر قابل للتقیید، فإنّه (قدس سره) فراراً عن أنّ القید لا یرجع إلی مفاد الهیئة باعتبار أنّه معنی حرفی والمعنی الحرفی لا یقبل التقیید،

ص:103

إلتزم بأنّه یرجع إلی المادّة المنتسبة مع أنّه یقع فی نفس المحذور، لأنّ المادّة المنتسبة فی مقابل ذات المادّة عبارة عن نفس النسبة الطلبیة بین ذات المادّة والمخاطب وهی معنی حرفی.

والخلاصة أنّ المحقّق النائینی (قدس سره) حیث قد بنی علی أنّ المعنی الحرفی غیر قابل للاطلاق والتقیید، فلذلک حاول بأنّ القید یرجع إلی المادّة المنتسبة لا إلی مفاد الهیئة باعتبار أنّه معنی حرفی، ولکن قد عرفت أنّ هذه المحاولة لا تجدی، لأنّ المادّة المنتسبة أیضاً معنی حرفی فی مقابل ذات المادّة، فإنّها عبارة عن نفس النسبة الطلبیة هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ أصل المبنی وهو أنّ المعنی الحرفی غیر قابل للاطلاق والتقیید غیر صحیح، لما تقدّم من أنّه لا مانع من تقیید المعنی الحرفی بتقیید طرفیه، علی أساس أنّه متقوّم بهما ذاتاً وحقیقة، فإذن إطلاقه وتقییده إنّما هو باطلاق وتقیید طرفیه باعتبار أنّهما بمثابة الجنس والفصل للنوع، والمفروض أنّه لا مانع من إطلاق وتقییدهما.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّ بین إطلاق الهیئة وإطلاق المادّة معارضة لا بالذات بل بالعرض وبواسطة العلم الاجمالی بتقیید إطلاق إحداهما، وعلی هذا فالمقام داخل فی الکبری المتقدّمة وهی تقدیم الاطلاق الشمولی علی الاطلاق البدلی فی مورد المعارضة، فإذن لابدّ من تقدیم إطلاق الهیئة باعتبار أنّه شمولی علی إطلاق المادّة باعتبار أنّه بدلی، فلا تصل النوبة حینئذ إلی الأصل العملی فی المسألة، هذا کلّه فیما إذا کان دلیل التقیید منفصلا وغیر مانع عن انعقاد ظهور کل منهما فی الاطلاق، وأمّا إذا کان مجملا ومانعاً عن إنعقاد ظهور کل منهما فی الاطلاق فهو خارج عن محل الکلام، لأنّ موضوع البحوث المتقدّمة هو ما إذا کان لکل منهما اطلاق، وأمّا إذا کانتا

ص:104

مجملتین، فلا موضوع لتلک البحوث، فإذن یکون المرجع فی المسألة الأصل العملی.

المورد الثانی: مقتضی الأصل العملی

وأمّا الکلام فی المقام الثانی وهو ما إذا لم تکن فی المسألة اصول لفظیة إمّا من جهة أنّ دلیل التقیید متصل بدلیل الأمر فیوجب إجماله أو من جهة أنّ المولی لیس فی مقام البیان أو من جهة سقوطها بالمعارضة، فهل مقتضی الأصل العملی فیه البراءة فی المسألة أو الاحتیاط أو التفصیل فیه وجوه.

فقد یقال بالتفصیل فی المسألة بین ما إذا کان الشکّ فی وجوب المادّة قبل تحقّق القید المردّد، وما إذا کان الشک فی وجوبها بعد تحقّق ذلک القید، فالمرجع علی الأول أصالة البراءة علی أساس أنّ الشکّ فی أصل وجوبها، فإنّ القید إن کان قیداً لها فوجوبها فعلی ویجب علیه تحصیل هذا القید، وإن کان قیداً للهیئة فلا وجوب لها فعلا، فلهذا یکون الشک فی أصل وجوبها وهو مورد لأصالة البراءة، وعلی الثانی فلا موضوع لأصالة البراءة للعلم بوجوبها علی کل تقدیر أی سواءً أکان القید لها أو للهیئة هذا.

ولکن هذا التفصیل غیر سدید وذلک، لأنّ أصالة البراءة عن تقیید الواجب به وإن کانت جاریة فی نفسها، إلاّ أنّها معارضة بأصالة البراءة عن تقیید الوجوب به، لأنّ جریان کلتا الأصالتین فی المقام لا یمکن لاستلزامه المخالفة القطعیة العملیة فیه للقطع بأنّه قید لأحدهما، فإذا أتی بالمادّة الفاقدة للقید فقد علم بالمخالفة سواءً کان القید قیداً للواجب أم للوجوب، مثلا إذا أمر المولی بالصلاة رکعتین فی المسجد ثمّ قال فلتکن الصلاة عن قیام، وشککنا فرضاً فی أنّ القیام هل هو قید لمفاد الهیئة وهو وجوب الصلاة أو للمادّة وهی الصلاة، ففی مثل ذلک لا یمکن إجراء أصالة البراءة عن تقیید الصلاة بالقیام، لأنّها معارضة بأصالة البراءة عن تقیید الوجوب به وجریان کلتیهما لا یمکن،

ص:105

لأنّه یستلزم المخالفة القطعیة العملیة وهو ترک الصلاة عن قیام مع أنّ وجوبها قائماً معلوم تفصیلا سواءً کان القیام قیداً لها أم لوجوبها، ومن هذا القبیل ما إذا أمر المولی بقوله تصدّق علی الفقراء ثمّ قال فلیکن ذلک عن قیام، وشککنا فرضاً فی أنّ القیام هل هو قید للواجب أو للوجوب، ففی مثل ذلک لیس بامکاننا إجراء البراءة عن تقیید الواجب به، لأنّها معارضة بأصالة البراءة عن تقیید الوجوب به، لأنّ جریان کلتیهما معاً یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة، هو الترخیص فی ترک التصدّق عن قیام.

وإن شئت قلت أنّ مرجع الشک فی وجوب المادّة قبل تحقّق القید إلی الشکّ فی تقییدها به، ومن الواضح أنّ أصالة البراءة عن تقییدها به معارضة بأصالة البراءة عن تقیید وجوبها به فتسقطان معاً من جهة المعارضة، فالواجب حینئذ هو الاتیان بالمادّة الواحدة للقید ولا یکفی الاتیان بها فاقدة للقید لأنّها لیست بواجبة جزماً.

فالنتیجة أنّه لا یمکن الرجوع فی المسألة إلی أصالة البراءة، فالصحیح فیها هو القول الثانی أی الاحتیاط.

ثمّ أنّه هل یمکن الرجوع إلی أصالة البراءة عن وجوب تحصیل القید المشکوک المردّد بین کونه للمادّة أو للهیئة، فإنّه إن کان للأولی وجب تحصیله، وإن کان للثانیة لم یجب، والجواب أنّه لا یمکن الرجوع إلیها، لأنّ مرجع هذا الشک إن کان إلی الشک فی تقیید المادّة به، فقد عرفت أنّ أصالة البراءة عنه لا تجری من جهة المعارضة، وإن لم یرجع إلیه فلا أثر لهذا الشک، لأنّ شک فی الوجوب الغیری ولا تجری أصالة البراءة عنه، لأنّها إنّما هی لدفع المسؤولیة والمؤاخذة عن المکلّف، والمفروض أنّه لا مؤاخذة علی مخالفة الوجوب الغیری بما هو غیری ولا مثوبة علی موافقته، هذا تمام کلامنا فی

ص:106

الواجب المشروط والمطلق.

نتائج هذا البحث عدّة نقاط:

الاُولی: أنّ الحجّ حیث إنّه عمل مرکّب من عملین طولیین مرتبطین:

الأول: عمرة التمتّع.

الثانی: حجّ التمتّع.

فالظاهر هو إمتداد وقت هذا العمل المرکّب من بدایة أشهر الحج إلی نهایتها، فلهذا یجب توفیر مقدّماته من حین دخول تلک الأشهر.

الثانیة: أنّ وجوب توفیر المقدّمات المفوتة قبل موسم الحج یکشف عن أنّ ملاکه الملزم تامّ فی ظرفه، ولا یرضی الشارع بتفویته مطلقاً حتّی قبل الموسم، وهذا یدلّ علی أنّ القدرة المعتبرة فیه، قدرة مطلقة لا قدرة خاصّة.

الثالثة: أنّ السید الاُستاذ (قدس سره) قد بنی علی إمکان الشرط المتأخّر ثبوتاً، ولکن وقوعه فی مقام الاثبات بحاجة إلی دلیل واستثنی من ذلک موردین:

الأول: الاجازة المتأخّرة فی العقد الفضولی.

الثانی: شرطیة القدرة علی الجزء الثانی للواجب المرکّب، وقال أنّ وقوع الشرط المتأخّر فیهما یکون علی القاعدة هذا. وقد تقدّم نقد ما أفاده (قدس سره) فی کلا الموردین.

الرابعة: أنّ تقسیم الواجب إلی المشروط والمطلق إنّما هو بلحاظ وجوبه، فالحج واجب مشروط باعتبار أنّ وجوبه مشروط بالاستطاعة ومطلق من جهة اخری، وصلاة الظهر واجبة مشروطة بلحاظ أنّ وجوبها مشروط بالزوال ومطلقة من جهة اخری.

الخامسة: أنّ جماعة من الاُصولیین ذهبوا إلی استحالة رجوع القید فی

ص:107

القضیة الشرطیة إلی مفاد الهیئة وتعیّن رجوعه إلی المادّة، وقد ذکروا فی وجه ذلک وجوهاً:

الأول: أنّ مفاد الهیئة معنی حرفی والمعنی الحرفی جزئی والجزئی لا یقبل التقیید والتضیّق.

الثانی: أنّ المعنی الحرفی وإن کان کلّیاً إلاّ أنّه ملحوظ آلة، والاطلاق والتقیید من شؤون المعنی الملحوظ مستقلا.

الثالث: أنّ رجوع القید إلی مفاد الهیئة یستلزم التفکیک بین الانشاء والمنشأ وهو مستحیل، ولکن هذه الوجوه جمیعاً غیر سدیدة، فإنّ المعنی الحرفی وإن کان خاصاً إلاّ أنّه لمّا کان متقوّماً ذاتاً وحقیقة بشخص طرفیه، فاطلاقه وتقییده إنّما هو باطلاق وتقیید طرفیه، وتفصیل الکل قد تقدّم.

السادسة: أنّ ما ذکره شیخنا الأنصاری (قدس سره) من أنّ القید فی مقام اللبّ والواقع یرجع إلی المادّة دون الهیئة لا یتمّ، لأنّ شروط الوجوب تختلف عن شروط الواجب، فإنّ الأولی شروط للاتّصاف فی مرحلة المبادیء والثانیة شروط للترتّب فی مرحلة الامتثال، ولا یمکن أن تکون شروط الوجوب بما هی قیوداً للواجب، وإنّما هی قیود للوجوب فی مرحلة الجعل وللاتّصاف فی مرحلة المبادیء علی ما تقدّم، نعم یمکن أن یکون شیء واحد قیداً للواجب والوجوب معاً لکن کلا من جهة، وأمّا أنّ جمیع القیود یکون قیوداً للمادّة فحسب فهو خلاف الضرورة.

السابعة: أنّ ملاک کون الشیء قیداً للوجوب أحد أمرین:

الأول: أن یکون ذلک الشیء دخیلا فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء.

الثانی: أنّ قید الواجب إذا کان غیر اختیاری، فلابدّ من أخذه قیداً

ص:108

للوجوب أیضاً، إذ لو کان الوجوب مطلقاً لزم التکلیف بغیر المقدور ولا یمکن أخذ شیء قیداً للوجوب فی مرحلة الجعل بدون أحد هذین الملاکین وإلاّ لکان لغواً.

الثامنة: أنّ الفرق بین الارادة المشروطة والارادة المطلقة إنّما هو بالذات، فإنّ الارادة المشروطة هی الارادة المعلّقة مثل إرادة شرب الماء المعلّقة علی العطش وإرادة شرب الدواء المعلّقة علی المرض وهکذا، فالإرادة المشروطة غیر فعلیة فی افق النفس وإنّما هی معلّقة فیه، بینما الارادة المطلقة فعلیة فیه. وعلی هذا فما ذکره السیّد الاُستاذ (قدس سره) من أنّه لا فرق بین الارادة المشروطة والارادة المطلقة فکلتاهما موجودة فی افق النفس وإنّما الفرق بینهما فی المتعلّق(1).

فإنّه مطلق فی الارادة المطلقة ومقیّد فی الارادة المشروطة غیر تامّ بل مخالف للوجدان، کما أنّ ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ الفرق بینهما فی الموجود لا فی الوجود(2) غیر تامّ، إذ لا یمکن التفکیک بین الوجود والموجود، وکذلک ما أفاده المحقّق العراقی (قدس سره) من أنّ الارادة المشروطة فعلیة کالارادة المطلقة، من جهة أنّ شروطها من الاُمور النفسانیة وهی فعلیة وتفصیل کل ذلک تقدّم.

التاسعة: إذا دار الأمر بین رجوع القید إلی مفاد الهیئة أو المادّة، فقد رجّح شیخنا الأنصاری (قدس سره) إطلاق الهیئة علی اطلاق المادّة وإرجاع القید إلی المادّة، بدعوی أنّ اطلاق الهیئة شمولی وإطلاق المادّة بدلی، والأول یتقدّم

-

.

ص:109


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم: ص 52
2- (2) - نفس المصدر المتقدّ: ص 54.

علی الثانی فی مقام المعارضة بملاک الأظهریة(1).

وقد علّق علیه بأنّ الکبری إنّما هی ثابتة بین العام الوضعی والمطلق الثابت إطلاقه بمقدّمات الحکمة، فإنّ دلالة الأول تنجیزیة لا تتوقّف علی أی مقدّمة خارجیة ما عدا الوضع، ودلالة الثانی تعلیقیة تتوقّف علی مقدّمات الحکمة، فلذلک یتقدّم علیه فی مقام المعارضة بملاک الأظهریة، ولا فرق فی هذا التقدیم بین أن یکون المطلق بدلیاً أو شمولیاً إذا کان العام وضعیاً لا مطلقاً حتّی بین الاطلاق الشمولی والاطلاق البدلی إذا کان کلاهما ثابتاً بمقدّمات الحکمة، فلا یکون المقام من صغریات هذه الکبری هذا.

ولکن قد استظهرنا فی مبحث التعادل والترجیح، أنّه لا یبعد تقدیم الاطلاق الشمولی علی الاطلاق البدلی أیضاً فی مورد المعارضة بالأظهریة وتمام الکلام هناک.

العاشرة: إذا ثبتت قاعدة أنّ الاطلاق الشمولی یتقدّم علی الاطلاق البدلی فی مقام المعارضة، فهل المقام داخل فی هذه القاعدة ویکون من صغریاتها، باعتبار أنّ إطلاق الهیئة شمولی وإطلاق المادّة بدلی، فیه وجهان فذهب جماعة إلی أنّه غیر داخل فیها، وقد ذکروا فی وجه ذلک وجوهاً:

الأول: ما أفاده المحقّق النائینی (قدس سره) من إختصاص القاعدة بما إذا کان التعارض بینهما بالذات، وحیث إنّه لا تعارض بین إطلاق الهیئة وإطلاق المادّة بالذات وإنّما یکون بالعرض من جهة العلم الاجمالی الخارجی، فلا یکون المقام من صغریات القاعدة، ولکن تقدّم أنّ الصحیح عدم الفرق فی تطبیق قواعد الجمع العرفی بین ما إذا کان التعارض بین الدلیلین بالذات أو

-

ص:110


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم: ص 55.

بالعرض(1).

الثانی: أنّ تقیید الهیئة یستلزم تقیید المادّة وصیرورتها حصة خاصة وهی الحصة الواجدة للقید ولا تشمل الحصة الفاقدة، فإذن لا تعارض بینهما لکی یرجع إلی قواعد الجمع العرفی، ولکن قد تقدّم أنّ فیه خلطاً بین تقیید المادّة بالمعنی المطلوب فی المسألة والموضوع للأثر شرعاً فی مقابل تقیید الهیئة وبین تقیّدها بمعنی صیرورتها حصة خاصة فی مقام اللبّ والواقع بتقیید الهیئة علی أساس أنّ دائرة الواجب لا یمکن أن تکون أوسع من دائرة الوجوب، ومحلّ الکلام فی المسألة إنّما هو فی الأول دون الثانی.

الثالث: أنّ العلم الاجمالی برجوع القید إلی مفاد الهیئة أو المادّة، ینحلّ إلی علم تفصیلی بتقیید المادّة وسقوط إطلاقها علی کل تقدیر، أی سواءً کان بتقییدها مباشرة أم بتقیید الهیئة، ولکن مرّ أنّ هذا الوجه أیضاً غیر تامّ.

الحادیة عشر: أنّ محلّ الکلام فی المسألة إنّما هو فی القید الاختیاری، فإنّ أمره مردّد بین رجوعه إلی مفاد الهیئة أو إلی مفاد المادّة، وأمّا إذا کان غیر اختیاری فلا یکون أمره مردّداً کما تقدّم.

الثانیة عشر: أنّ ما ذکره السیّد الاُستاذ (قدس سره) فی المسألة من أنّ النسبة بین تقیید الهیئة وتقیید المادّة عموم من وجه فلا یستلزم تقیید الهیئة تقیید المادّة، هو الصحیح.

الثانیة عشر: أنّ ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ القید یرجع إلی المادّة بلا فرق بین کونه متّصلا أو منفصلا، غیر تامّ کما مرّ.

الثالثة عشر: قد تبیّن لحدّ الآن أنّ بین إطلاق الهیئة وإطلاق المادّة

-

ص:111


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم: ص 56.

معارضة بواسطة العلم الاجمالی بسقوط إطلاق إحداهما، وعلی هذا فالمقام داخل فی الکبری المتقدّمة وهی تقدیم الاطلاق الشمولی علی الاطلاق البدلی بملاک الأظهریة، فلا تصل النوبة حینئذ إلی الأصل العملی فی المسألة، هذا کلّه فیما إذا کان دلیل التقیید منفصلا، وأمّا إذا کان متّصلا، فهو خارج عن محلّ الکلام فی المسألة والمرجع فیها حینئذ الاُصول العملیة.

الرابعة عشر: أنّ الأصل العملی فی المسألة، أصالة الاحتیاط دون أصالة البراءة.

ص:112

البحث الرابع:فی الواجب المعلّق و المنجّز

اشارة

یقسّم الواجب إلی المعلّق والمنجّز، ونقصد بالواجب المعلّق ما یکون وجوبه حالیاً والواجب استقبالیاً، وبالواجب المنجّز ما یکون الوجوب والواجب کلاهما حالیاً.

معنی الواجب المعلّق و الواجب المنجز

أو فقل أنّ القید إن کان للوجوب فهو مشروط وإن کان للواجب ویکون الوجوب مطلقاً، فإن کان القید حینئذ مقارناً له فهو منجّز، وإن کان متأخّراً فهو معلّق.

بیان ذلک أنّ زمان الوجوب لا یمکن أن یکون بکامله متقدّماً علی زمان الواجب وإلاّ لزم خلف فرض کونه واجباً، ضرورة أنّه لا یمکن اتّصاف شیء بالواجب إلاّ أن یکون فی زمان الوجوب، وإلاّ فلا یکون موصوفاً به وهو خلف وهذا لا کلام فیه، وإنّما الکلام فی أنّ زمان الوجوب هل یمکن أن یبدأ قبل زمان الواجب، مثلا یبدأ زمان وجوب الحجّ منذ تحقّق الاستطاعة فی الخارج وزمان الواجب وهو الحجّ یکون متأخّراً وزمان وجوب الصوم یبدأ من حین رؤیة الهلال وزمان الواجب یکون منذ طلوع الفجر وهکذا،

ص:113

فهناک مجموعة من النقاط للبحث:

النقطة الأولی: فی إمکان الواجب المعلّق و استحالته
اشارة

النقطة الاُولی فی إمکان الواجب المعلّق وإستحالته.

النقطة الثانیة ولو سلّمنا إمکانه، فهل هو داخل فی الواجب المطلق أو الواجب المشروط أو أنّه نوع ثالث من الواجب لا هذا ولا ذاک.

النقطة الثالثة فی ثمرة هذه المسألة.

أمّا الکلام فی النقطة الاُولی، فقد ذهب جماعة من الاُصولیین إلی استحالة الواجب المعلّق، وقد استدلّ علیها بعدّة وجوه:

الوجه الأول: ما حکاه المحقّق الخراسانی (قدس سره) من أنّ التکلیف مشروط بالقدرة بمعنی أنّ المکلّف حین ما یکون التکلیف متّجهاً إلیه فعلا

، لابدّ أن یکون قادراً علی الامتثال وإلاّ لزم التکلیف بغیر المقدور، وعلی هذا فلو قلنا بالواجب المعلّق لم یکن المکلّف قادراً علی الامتثال حین کون التکلیف فعلیاً ومتّجهاً نحوه، ولذلک لا یمکن الالتزام به(1).

والجواب: أنّ هذا الوجه بهذا المقدار من البیان واضح البطلان، لأنّ التکلیف مشروط بالقدرة فی ظرف الامتثال لا فی ظرف الجعل والاعتبار. فإذا کان المکلّف قادراً علی الامتثال فی ظرفه، کفی ذلک فی صحة التکلیف وإن کان تقریب هذا الوجه بصورة اخری فنّیة، وهی أنّ جعل التکلیف لا یمکن أن یکون لغواً وجزافاً وبلا مبرّر، وعلی هذا فما هو المبرّر لجعل الوجوب قبل زمان الواجب رغم أنّه یظل معطّلا ما لم یأت وقت الواجب، مثلا جعل وجوب الصوم منذ رؤیة الهلال فی شهر رمضان مع أنّ زمان الواجب من حین طلوع الفجر، فإذن ما هو فائدة جعل هذا الوجوب قبل زمان الواجب، ألیس

-

ص:114


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 103.

ذلک لغواً وبلا أثر، ومن الواضح أنّ صدور اللغو من المولی الحکیم مستحیل هذا.

والجواب أنّ جعل الوجوب لشیء لا یمکن أن یکون جزافاً، فلا محالة یکون مبنیّاً علی نکتة وتلک النکتة التی تدعو المولی إلی الجعل هی اتّصاف ذلک الشیء بالملاک فی مرحلة المبادیء، وقد تقدّم سابقاً أنّ شروط الجعل هی شروط للاتّصاف فی تلک المرحلة، والجعل إنّما هو من أجل ذلک، فإنّه روح الحکم وحقیقته دون مجرّد الاعتبار، فإنّه لا قیمة له بدون الملاک، وعلی هذا فإذا تحقّق شرط اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء قام المولی بالجعل علی أساس أنّه دعاه إلیه، سواءً کان شرط ترتّب الملاک علی الفعل فی الخارج متحقّقاً أم لا، وحینئذ فإنّ تحقّق شرط الترتّب مقارناً لشرط الاتّصاف، کان زمان الوجوب مقارناً لزمان الواجب فیکون الواجب منجّزاً، وإن کان شرط الترتّب متأخّراً عن شرط الاتّصاف، بأن یکون الواجب مشروطاً بوقت متأخّر کالصوم مثلا، کان زمان الوجوب متقدّماً علی زمان الواجب فیکون الواجب معلّقاً بأنّ وجوبه حالی والواجب استقبالی هذا.

وغیر خفی أنّ هذا الجواب وإن کان فنّیاً، إلاّ أنّه لا یعالج المشکلة فإنّ المشکلة متمثّلة فی أحد أمرین:

الأول: أنّ شرط الواجب المعلّق من زمان أو زمانی إن کان شرطاً للوجوب أیضاً بنحو الشرط المتأخّر، فالوجوب حینئذ وإن کان فعلیاً قبل تحقّق شرطه، إلاّ أنّ ذلک مضافاً إلی أنّه قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخّر ولیس نوعاً آخر من الواجب فی مقابل الواجب المشروط أنّه مستحیل، لما تقدّم من أنّ شرط الوجوب، حیث إنّه شرط لاتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء وهو أمر تکوینی، فلا یعقل أن یکون مشروطاً بشرط متأخّر لاستحالة

ص:115

تأثیر المتأخّر فی ظرفه فی الزمن المتقدّم، فإنّ المؤثّر فیه حینئذ إن کان عدمه المقارن له فهو مستحیل، وإن کان وجوده فلازمه قلب المشروط عمّا وقع علیه وهو أیضاً کذلک.

الثانی: أنّ الوجوب إذا لم یکن مشروطاً به بنحو الشرط المتأخّر بأن یکون مطلقاً، لزم التکلیف بغیر المقدور، لوضوح أنّ الوجوب إذا کان فعلیاً فلا محالة یکون محرّکاً نحو الاتیان بالواجب المقیّد بقید غیر اختیاری، ومن الواضح أنّ تحریکه نحوه من التحریک نحو المحال وهو لا یمکن هذا.

وفصل بعض المحقّقین (قدس سره) فی القید غیر الاختیاری للواجب بین القید المضمون تحقّقه فی الخارج والقید غیر المضمون تحقّقه فیه، فإن کان قید الواجب من قبیل الأول کالوقت، فلا ملزم لأخذه قیداً للوجوب أیضاً، باعتبار أنّ الأمر المتعلّق بالمقیّد لیس أمراً حقیقة بالقید وإنّما هو بذات المقیّد والتقیّد والقید خارج وکلاهما مقدور إذا کان القید مضموناً، وحینئذ فلا مانع من إیجاب الفعل المقیّد بقید مضمون تحقّقه فی الخارج بنحو الواجب المعلّق أی بدون أخذه قیداً للوجوب، باعتبار أنّ متعلّق الوجوب وهو التقیّد وذات المقیّد مقدور، والقید وإن کان غیر مقدور إلاّ أنّه مضمون التحقّق خارجاً، وعلی هذا فلا محذور فی إیجاب المولی الصوم المقیّد بطلوع الفجر منذ رؤیة الهلال بنحو الواجب المعلّق، فیکون الوجوب حالیاً والواجب وهو الصوم استقبالیاً، وإن کان قید الواجب من قبیل الثانی کالقدرة مثلا فلابدّ من أخذه قیداً للوجوب أیضاً، مثلا الصوم کما أنه مقیّد بطلوع الفجر کلک مقیّد بالقدرة علیه بعد الطلوع، والقید الأول مضمون التحقّق خارجاً والقید الثانی غیر مضمون التحقّق، فإنّ المکلّف قد یکون قادراً علی الصوم بعد الطلوع وقد لا یکون قادراً علیه بعده، والقید الأول حیث إنّه مضمون التحقّق خارجاً، فلا تتصوّر

ص:116

فیه الحصة الفاقدة للقید حتّی یلزم من اطلاق الأمر التکلیف بالمحال، وأمّا القید الثانی فحیث إنّه غیر مضمون التحقّق، فنتصوّر فیه الحصة الفاقدة للقید وهی الصوم غیر المقدور بعد طلوع الفجر، وحینئذ لو لم تکن القدرة علیه بعد الطلوع قیداً للأمر أیضاً بأن یکون مطلقاً، لزم التکلیف بغیر المقدور، لأنّه باطلاقه یشمل صورة عدم القدرة فیکون محرّکاً نحو الصوم غیر المقدور وهو لا یمکن، هذا هو الفارق بین القید المضمون وغیر المضمون، فالنتیجة أنّه لا مانع من الالتزام بالواجب المعلّق فی القید المضمون تحقّقه خارجاً، ولا یمکن الالتزام به فی القید غیر المضمون کذلک(1) هذا.

ویمکن المناقشة فی هذا التفصیل بتقریب، أنّ الثمرة بین کون القید مضمون التحقّق خارجاً وبین کونه غیر مضمون التحقّق کذلک إنّما تظهر فی ظرفه المتأخّر، وأمّا بالنسبة إلی الأمر المتقدّم فلا فرق بینهما، فإنّ هذا الأمر لا یمکن أن یکون مشروطاً به بنحو الشرط المتأخّر بلا فرق بین أن یکون مضمون التحقّق فی ظرفه أو لا، وأمّا کونه مطلقاً والواجب مقیّد به فی ظرفه المتأخّر. فهو أیضاً لا یمکن، لأنّ معنی أنّ الأمر مطلق أنّه فعلی ولا حالة منتظرة له، ولازم ذلک أنّه محرّک للمکلّف نحو الاتیان بالواجب ولو بنحو الاقتضاء مع أنّه مستحیل، لاستحالة أن یکون محرّکاً ولو بنحو الداعویة الاقتضائیة قبل طلوع الفجر، وإن شئت قلت أنّ الأمر المتعلّق بالصوم المقیّد بطلوع الفجر إذا کان فعلیاً منذ رؤیة الهلال، فلا محالة یکون محرّکاً وداعیاً بنحو الاقتضاء نحو الصوم المذکور، ومن الواضح أنّه مستحیل، إذ لا یعقل أن یکون الأمر مطلقاً وفعلیاً من الآن ومتعلّقه متأخّراً، لأنّ معنی ذلک أنّ

-

ص:117


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول ج 2: ص 198.

موضوعه متحقّق فعلا باعتبار أنه مطلق وغیر مقیّد بقید الطلوع، ونتیجة هذا هی فعلیة فاعلیة الأمر ومحرّکیته قبل الفجر ومنذ اللیل وهی مستحیلة، لأنّها تحریک نحو المحال، نعم یمکن جعل وجوب الصوم بعد الطلوع من اللیل بأن یکون الجعل من الآن والمجعول بمعنی فعلیته بفعلیة موضوعه منذ الفجر، فإنّ معنی هذا أنّ قید الطلوع مأخوذ فی موضوع الوجوب أیضاً بمعنی أنّه کما یکون قیداً للواجب یکون قیداً للوجوب أیضاً، ولکن هذا خارج عن محل الکلام ولیس من الواجب المعلّق، وعلی ضوء هذا الأساس لا یمکن أن یقاس الواجب المعلّق بالواجب الموسّع، فإنّ الوجوب فی الثانی فعلی بمعنی أنّ فاعلیته تامّة، غایة الأمر أنّ الوقت بما أنّه متّسع فهو یدعو ویحرّک نحو الواجب بنحو الاقتضاء لا اللزوم، وأمّا الوجوب فی الواجب المعلّق فیستحیل أن یکون محرّکاً وداعیاً ولو بنحو الاقتضاء، فإنّ اقتضاء المحال محال هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ الوجوب فی الواجب المعلّق حیث إنّه غیر مقیّد بقیده، فمعناه أنّه لم یؤخذ فی موضوعه فی مرحلة الجعل، وعلیه فالوجوب فعلی بفعلیة موضوعه قبل تحقّق قید الواجب، فإذا کان فعلیاً کذلک، کان محرّکاً لا محالة نحو الواجب المقیّد بالقید المتأخّر. ومن الواضح أنّه لا فرق فی ذلک بین کون قید الواجب مضموناً أو غیر مضمون، ضرورة أنّ التحریک نحوه قبل تحقّق قیده تکلیف بالمحال، وإن کان القید مضموناً.

ومن ناحیة ثالثة أنّ المراد من إطلاق الوجوب فی الواجب المعلّق لیس إطلاقه فی زمان الواجب بلحاظ قیده لکی یختلف باختلاف القید المضمون وغیر المضمون، فإنّ القید إن کان مضموناً فلا تتصوّر فیه الحصّة الفاقدة له، فإذن لیس للاطلاق مصداق إلاّ الحصة الواحدة، وإن کان غیر مضمون فتتصوّر

ص:118

فیه الحصة الفاقدة، وحینئذ فإذا کان الوجوب مطلقاً وإطلاقه حیث یشمل الحصة الفاقدة فیلزم التکلیف بالمحال. ولکن قد مرّ أنّ المراد من إطلاقه هو إطلاقه قبل زمان الواجب، فإذن لا فرق بین القیدین من هذه الناحیة.

من ناحیة رابعة أنّ الواجب المعلّق إذا أمکن ثبوتاً فی القید المضمون أمکن کذلک فی القید غیر المضمون أیضاً، وذلک لما عرفت من أنّ التفصیل بینهما مبنی علی أنّ القید إذا کان مضموناً، فحیث إنّ الحصّة الفاقدة للقید فی ظرفه غیر متصوّرة فیه، فلا یستلزم اطلاق الأمر وعدم تقییده به التکلیف بغیر المقدور، باعتبار أنّ مصداق المأمور به حینئذ منحصر بالحصة الواجدة، وأمّا إذا لم یکن مضموناً کالقدرة، فحیث إنّ الحصة الفاقدة للقید متصوّرة فیه فاطلاق الأمر وعدم تقییده به یستلزم التکلیف بغیر المقدور، لأنّه یدعو حینئذ إلی الحصة الفاقدة للقدرة.

ولکن هذا البناء غیر صحیح، فإنّ إطلاق الأمر کما أنّه فی الأول لا یستلزم التکلیف بالمحال کذلک فی الثانی، لأنّ معنی إطلاقه وعدم تقییده بالقدرة، أنّها لیست من شروط الاتّصاف فی مرحلة المبادیء وقیود الأمر فی مرحلة الجعل، بل هی من شروط الترتّب وقیود المأمور به فحسب، ولیس معناه أنّه یدعو إلی الاتیان بالحصة الفاقدة للقدرة، ضرورة أنّ الأمر لا یدعو إلاّ إلی الاتیان بمتعلّقه وهو فی المثال الصوم المقیّد بالقدرة لا الجامع بینه وبین الحصة الفاقدة، مثلا الأمر المتعلّق بالصلاة تعلّق بحصّة خاصة منها وهی الصلاة المقیّدة بقیودها مع أنّ تلک القیود لیست قیوداً للأمر لأنّه مطلق بالنسبة إلیها، ومعنی إطلاقه أنّها غیر دخیلة فی الاتّصاف فی مرحلة المبادیء لا أنّه یحرّک إلی الصلاة الفاقدة لهذه القیود وهکذا، وعلی ضوء ذلک فإذا کان الصوم بعد طلوع الفجر مقیّداً بالقدرة فمعناه أنّ الواجب حصة خاصة من الصوم وهو

ص:119

الصوم المقیّد بالقدرة، بحیث یکون التقیّد بها جزءً له والقید خارج عنه، فإذن لا محالة یکون الأمر متعلّقاً بهذه الحصة ولا یدعو إلاّ إلیها، وهذا لا ینافی إطلاقه وعدم تقییده بالقدرة، فإنّ معنی إطلاقه أنّ القدرة لیست من شروط الاتّصاف فی مرحلة المبادیء حتّی تکون قیداً له فی مرحلة الجعل، إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّه لا فرق بین القید المضمون وغیر المضمون لا فی إمکان الواجب المعلّق ولا فی استحالته.

الوجه الثانی ما حکاه المحقّق الخراسانی (قدس سره) عن بعض معاصریه وملخّصه:

أنّ الإرادة لا تنفک عن المراد بلا فرق فی ذلک بین الارادة التکوینیة والارادة التشریعیة، غایة الأمر أنّ الاُولی تتعلّق بفعل نفس المرید والثانیة بفعل غیره، ومن المعلوم أنّ الایجاب والطلب إنّما هو بازاء الارادة المحرّکة للعضلات نحو المراد، فکما أنّ الارادة التکوینیة لا تنفک عن المراد زمناً باعتبار أنّها لا تنفک عن التحریک وهو لا ینفک عن التحرّک خارجاً وإن تأخّر عنه رتبة، فکذلک الارادة التشریعیة، فإنّها لا تنفک عن الایجاب زمناً وهو ینفک عن تحریک العبد فی الخارج، لأنّ حقیقة الایجاب إیجاد الداعی والباعث له نحو الفعل، وحیث إنّ الباعث والانبعاث والتحریک والتحرّک متضایفان، فإذا استحال الانبعاث والتحرّک نحو فعل استقبالی، استحال التحریک والباعث أیضاً، ونتیجة ذلک استحالة تعلّق الایجاب بأمر استقبالی(1) ، ویمکن تقریب هذا الوجه بصیغتین تالیتین:

الاُولی: أنّ الارادة التکوینیة لا تنفک عن المراد، فلا یمکن أن تکون

-

ص:120


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 102.

الارادة فعلیة وموجودة فی افق النفس بتمام مبادئها والمراد استقبالیاً، لأنّه من انفکاک المعلول عن العلّة التامّة، وعلی هذا فإذا اتّصف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء وحصلت الارادة للمولی، فلا تنفک عن الایجاب والبعث نحو الفعل فی الخارج.

الثانیة: أنّ الارادة التشریعیة التی هی عبارة عن أمر المولی عبده بفعل ما وإیجابه لا تنفک عن المراد، فإنّ حقیقة الأمر من قبل المولی هو إیجاد الداعی والباعث فی نفس المکلّف، ومن المعلوم أنّه لا ینفک عن الانبعاث والتحرّک، لأنّهما متضایفان والمتضایفان متقابلان فی القوّة والفعل، ومن الواضح أنّ الانبعاث والتحرّک بالفعل نحو أمر استقبالی مستحیل واستحالته تستلزم استحالة الداعویة والباعثیة، ولازم ذلک استحالة البعث والتحریک نحو فعل فی المستقبل هذا.

وأجاب المحقّق صاحب الکفایة (قدس سره) عن الصیغة الاُولی وحاصل جوابه، المنع عن استحالة انفکاک المراد عن الارادة التکوینیة، فإنّها مرتبة مؤکّدة من الشوق فی افق النفس المحرّک للعضلات نحو المراد، فإذا حصل هذا الشوق فی عالم النفس کان مؤثّراً شریطة أن تکون قابلیة القابل متحقّقة، کما إذا کان الفعل المشتاق إلیه مقارناً للارادة، فإنّه حینئذ تحقّق بها خارجاً، وأمّا إذا کان مقیّداً بزمان استقبالی فلا یتحقّق إلاّ أن یأتی ذلک الزمان، وهذا لیس من جهة قصور فی الارادة لأنّها تامّة بل لعدم قابلیة القابل(1).

والخلاصة أنّ الارادة کما تتعلّق بأمر مقارن کذلک تتعلّق بأمر متأخّر، ولا فرق بین الارادتین من حیث بلوغها مرتبة الکمال، ومن هنا إذا تعلّقت

-

ص:121


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم: ص 76.

الارادة بأمر متأخّر، فإن کانت له مقدّمات خارجیة، کانت محرّکاً نحو الاتیان بها، وإن لم تکن له مقدّمات کذلک غیر عمود الزمان، فالارادة بکامل مرتبتها موجودة ولکن قابلیة المحل غیر متحقّقة إلاّ بمرور الزمان، فإذن انفکاک الارادة عن المراد والشوق المؤکّد عن المشتاق إلیه خارجاً أمر مطابق للوجدان وغیر قابل للانکار.

وللنظر فی هذا الجواب مجال، أمّا أولا فلأنّه یظهر من هذا الجواب أنّ الارادة إذا بلغت مرتبتها العالیة فهی علّة تامّة لتحریک العضلات نحو المراد شریطة توفّر جمیع شروطها منها قابلیة القابل.

وقد تقدّم فی ضمن البحوث السالفة أنّ الارادة مهما بلغت من المرتبة والدرجة لا یمکن أن تکون علّة تامّة لایجاد المراد فی الخارج، فإنّ الفعل الاختیاری مسبوق بسلطنة الإنسان التی هی وراء الارادة ومستند إلیها لا إلی الارادة فیصدر منه بسلطنته وإختیاره، کانت هناک ارادة فی نفسه أم لا علی تفصیل تقدّم.

وثانیاً أنّ إمکان إنفکاک الارادة عن المراد لا یدلّ علی إمکان انفکاک الوجوب عن الواجب بتمام مراحله من المبدأ إلی المنتهی، أمّا إمکان انفکاک الارادة عن المراد، فإنّما هو بملاک أنّ الارادة بمعنی الشوق المؤکّد من الصفات النفسانیة التعلّقیة، فقد تتعلّق بأمر متأخّر زمناً کما أنّها تتعلّق بأمر مقارن کذلک، وأمّا انفکاک الوجوب عن الواجب زمناً بتمام مراتبه لا یمکن، لأنّ حقیقة الوجوب وروحه هی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء وهو أمر تکوینی فلا یمکن أن یکون مشروطاً بشرط متأخّر کطلوع الفجر مثلا، ولکن الوجوب بما له من الملاک یکون فعلیاً ومطلقاً لاستلزامه التکلیف بغیر المقدور، وقد تقدّم تفصیله، هذا کلّه فیما إذا کان المراد من الارادة الشوق

ص:122

النفسانی المؤکّد فإنّه لا استحالة فی انفکاکه عن المشتاق إلیه، وأمّا إذا کان المراد منها الاختیار وإعمال القدرة، فلا یمکن إنفکاکها عن المراد لأنّ الاختیار وإعمال القدرة لا یتعلّق إلاّ بالفعل الخارجی المقدور، ولا یمکن فرض کون إعمال القدرة من الآن والفعل المقدور فی زمن متأخّر، وقد تقدّم تفصیل ذلک ضمن البحوث السالفة.

وأجاب (قدس سره) عن الصیغة الثانیة أنّ الانبعاث والتحرّک ببعث المولی وأمره إنّما هو بحکم العقل من باب لزوم الطاعة، ومن الواضح أنّ موضوع حکم العقل بلزوم الطاعة کل شوق مؤکّد قد حمل المولی علی التصدّی لتحصیله من خلال تحریک العبد بأمره الداعی والباعث له نحو الفعل فی ظرفه وبحسب مقدّماته، فإنّ هذا المقدار کاف لحکم العقل علی العبد بلزوم الانبعاث فی وقت الواجب، وإلاّ فماذا یقال فی شأن الواجبات المنجّزة المقیّدة بقیود لابدّ أن تقع قبلها زماناً، فالصلاة مقیّدة بالوضوء قبلها وهو یستلزم مرور زمان حتّی ینتهی المکلّف منه ویبدأ بالصلاة مع أنّ الواجب لم یقیّد بالزمان المتأخّر عن فعل الوضوء بل هو فعلی من أوّل الأمر، فلو کان یشترط فی الوجوب فعلیة الانبعاث نحو الواجب، لزم المحذور فی المقام أیضاً، إذ الانبعاث فعلا نحو الصلاة المقیّدة بالوضوء غیر معقول، وإنّما المعقول الانبعاث أولا نحو الوضوء ثمّ نحو الصلاة هذا(1).

وفیه أنّ هذا الجواب لا یتمّ، وذلک لوضوح أنّ الغرض من الأمر إمکان انبعاث المکلّف نحو الواجب بما له من القیود والشروط ولا یشترط فی جعل الوجوب فعلیة الانبعاث، حیث إنّ الغرض من جعله لشیء إیجاد الداعی فی

-

ص:123


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 103.

نفس المکلّف بنحو الاقتضاء لا بنحو العلّیة.

وعلی هذا الأساس فإذا کان زمان الواجب مقارناً لزمان الوجوب کصلاة الظهر مثلا، فإنّ زمانها مقارن لزمان وجوبها، لأنّ زمان کلیهما یبدأ من الزوال، وعلیه فإذا تحقّق الزوال أمکن انبعاث المکلّف نحو الصلاة بما لها من القیود والشروط، وهذا بخلاف ما إذا کان زمان الوجوب متقدّماً علی زمان الواجب، فإنّه یستحیل أن یکون باعثاً وداعیاً من حین تحقّقه وفی فترة قبل تحقّق زمان الواجب، لأنّ فی هذه الفترة من الزمان لا یمکن داعویته وباعثیته کما لا یمکن انبعاث المکلّف فیها نحو الواجب، مثلا إذا تحقّق وجوب الصوم فی شهر رمضان منذ رؤیة الهلال، لا یمکن أن یکون داعیاً وباعثاً فی فترة زمنیة بینها وبین طلوع الفجر، کما أنه لا یمکن انبعاث المکلّف فی تلک الفترة، بینما وجوب الصلاة بعد الزوال یمکن أن یکون داعیاً وباعثاً کما یمکن انبعاث المکلّف منه بعده.

ودعوی أنّ الواجب المقیّد بقید زمانی کالصلاة مثلا وإن کان وقوعه ممکناً فی عمود الزمان کوقوع الصلاة فی طول زمانها إلاّ أنّ وقوعه دفعة واحدة فی آن تحقّق الوجوب لا یمکن ومستحیل، إذ لا یعقل وجود الواجب التدریجی کالصلاة دفعة واحدة کاستحالة وقوع الفجر فی اللیل.

مدفوعة ضرورة أنّ المراد من امکان انبعاث المکلّف امکان انبعاثه نحو الواجب فی عمود زمانه بما له من الأجزاء والقیود والشروط الطولیة، ولیس المراد منه انبعاث المکلّف نحو وقوعه دفعة واحدة حتّی یقال أنّه مستحیل، فإنّ هذا غیر محتمل، بداهة أنّ وجوب الصلاة إذا تحقّق بعد الزوال، لا یوجب تحریک المکلّف وانبعاثه نحو الاتیان بالصلاة دفعة واحدة وفی آن تحقّق الوجوب لکی یقال أنه مستحیل، بل یوجب ذلک من الزوال إلی الغروب، لوضوح أنّ العقل لا یحکم بأکثر من ذلک، فإنّ انبعاث المکلّف إنّما هو علی أساس حکم العقل بلزوم

ص:124

الطاعة وهو لا یحکم بأکثر من انبعاثه نحو الشروع فی الواجب بما له من المقدّمات فی زمانه، بل لو قلنا أنّ تحقّق الوجوب فعلا یوجب الانبعاث الفعلی فأیضاً لا إشکال، لأنّه لا یوجب الانبعاث أو لا نحو المقدّمات ثمّ إلی الواجب بل یوجب الانبعاث فعلا نحو الاتیان بالواجب بما له من القیود والمقدّمات الخارجیة التی یتوقّف إتیانه علیها، کوضوح أنّ الانبعاث إلی المقدّمات ناشیء من الانبعاث إلی الواجب بالتبع وفی طوله، فإذن لیس هنا إلاّ انبعاث واحد فعلا وهو الانبعاث نحو الاتیان بالواجب بتمام قیوده وشروطه أصالة.

وما فی هذا الجواب من أنّ فعلیة الوجوب لو کانت مشروطة بفعلیة الانبعاث، لزم المحذور فی الواجبات المنجّزة أیضاً، لأنّ الانبعاث فعلا نحو الصلاة المقیّدة بالوضوء غیر معقول، وإنّما المعقول الانبعاث أو لا نحو الوضوء ثمّ نحو الصلاة غیر تامّ، لأنّ الانبعاث نحو الوضوء من توابع الانبعاث نحو الصلاة، علی أساس أنّه من قیودها وتبعاتها فلا یکون انبعاثاً مستقلا، ضرورة أنّ فعلیة الوجوب تقتضی فعلیة الانبعاث نحو الاتیان بالصلاة المأمور بها وهی الصلاة المقیّدة بقیود منها الوضوء ولا تقتضی الانبعاث أولا نحو الوضوء ثمّ نحو الصلاة، لأنّ الانبعاث نحو الوضوء فی طول الانبعاث نحو الصلاة ومترشّح منه، فیکف تقتضی الانبعاث إلیه أولا.

وهذا بخلاف الواجب المعلّق، فإنّ وجوبه الحالی لا یمکن أن یکون داعیاً وباعثاً فی الفترة الزمنیة الفاصلة بینه وبین الواجب لا إمکاناً ولا فعلا مع أنّ فعلیة الوجوب بفعلیة موضوعه لا محالة تقتضی إمکان الانبعاث، وإلاّ فلا معنی لفعلیته.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّه لا یمکن حمل الآیة الشریفة علی الواجب المعلّق بأن یکون وجوب الصوم فعلیاً منذ شهادة الشهر والواجب

ص:125

یکون متأخّراً ویبدأ منذ الفجر، فإنّ الآیة وإن کانت ظاهرة فی أنّ الأمر بالصوم فی الغد من حین الشهادة، إلاّ أنّها لا تکون ظاهرة فی أنّ الأمر بالصوم مطلق وفعلی بفعلیة موضوعه قبل طلوع الفجر وأنّه غیر دخیل فی اتّصافه بالملاک فی مرحلة المبادیء، بل لا یبعد ظهورها فی أنّ جعله إنّما هو من حین الشهادة، وأمّا فعلیته فإنّما هی بفعلیة الفجر، فإنّه کما اخذ قیداً لمتعلّقه کذلک اخذ قیداً لموضوعه حکماً وملاکاً، فإذن لا یکون الوجوب فعلیاً قبل طلوع الفجر، فالنتیجة أنّ الآیة لا تدلّ علی أنّ فاعلیة وجوب الصوم فعلیة بفعلیة موضوعه قبل الفجر، بل لو کانت الآیة الشریفة ظاهرة فی الواجب المعلّق وهو فعلیة الوجوب قبل الفجر، فلابدّ من رفع الید عن هذا الظهور، لما عرفت من استحالة ذلک، ومن هنا یظهر حال الروایات الآمرة بتعلیق وجوب الصوم علی الرؤیة کقوله (علیه السلام) صمّ للرؤیة(1).

الوجه الثالث: ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ قیود الوجوب تختلف عن قیود الواجب

، فإنّ قیود الوجوب قد اخذت فی لسان الدلیل مفروضة الوجود خارجاً فی مرحلة الجعل، وأمّا قیود الواجب فإنّها قد اخذت فی متعلّق الوجوب تقیّداً لا قیداً، ولازم الأول أمران:

أحدهما: أنّ تحصیلها غیر واجب، إذ لا مقتضی لوجوبها بینما یجب تحصیل الثانیة.

وثانیهما: أنّ فعلیة الحکم تتبع فعلیة هذه القیود فی الخارج علی أساس أنّها بمثابة الشرط فی القضیة الشرطیة والحکم بمثابة الجزاء، ومن الطبیعی أنّ الجزاء یدور مدار الشرط وجوداً وعدماً حدوثاً وبقاءً، وعلی ذلک بنی (قدس سره) أنّ

-

ص:126


1- (1) - الوسائل ج 7: ص 184 ب 3 من أحکام شهر رمضان ح 11.

الشرط المتأخّر مستحیل، إذ لا یعقل أن یکون الحکم فعلیاً قبل فعلیة موضوعه وشرطه، وإلاّ لزم خلف فرض کونه موضوعاً له، وحیث إنّ الواجب المعلّق قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخّر فیکون مستحیلا(1) هذا.

وقد أورد علیه السید الاُستاذ (قدس سره) بتقریب أنّ الحکم المجعول وإن کان یتبع الجعل ویستحیل أن یتخلّف عنه إلاّ أنّ کیفیة الجعل بید المولی، فکما أنّ له أن یجعل الوجوب علی موضوع مقیّد بقید مقارن، فکذلک له أن یجعله علی موضوعه مقیّد بقید متأخّر، وحینئذ فلا محالة یتحقّق الوجوب قبل تحقّق قیده المتأخّر علی أساس أنه مقیّد ومشروط به بنحو الشرط المتأخّر، أو فقل أنّ کیفیة جعل الحکم واعتباره حیث إنّه بید المولی، فله جعله علی موضوع مقیّد بقید متأخّر أو متقدّم بنحو المفروض وجوده فی الخارج کما أنّ له جعله علی موضوع مقیّد بقید مقارن کذلک، فعلی الأول بطبیعة الحال یتحقّق الحکم قبل تحقّق قیده، وهذا هو معنی کون الحکم مشروطاً بشرط متأخّر، ولهذا قال (قدس سره) أنّه غیر مانع من الالتزام بامکان الشرط المتأخّر ثبوتاً بلا فرق بین أن یکون الشرط شرطاً للوجوب فقط أو شرطاً للواجب أیضاً، ویسمّی الثانی بالواجب المعلّق، ومن هنا یظهر أنّ الواجب المعلّق قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخّر(2).

والجواب: أنّ ما أفاده (قدس سره) مبنی علی أن تکون للحکم مرتبتان:

-

.

ص:127


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 146. ثمّ لا یخفی أنّه (قدس سره) قد تعرّض لکلام المحقّق النائینی فی المحاضرات ج 2: ص 353 وقال فی جوابه: ولکن قد تقدّم الکلام فی مسألة شرط المتأخّر وذلک قد تعرّض له فی ص 308 فراجع
2- (2) - المحاضرات ج 2: ص 308.

الاُولی: مرتبة الجعل.

الثانیة: مرتبة المجعول.

وهی فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه، ولکن قد تقدّم موسّعاً أنّ للحکم مرتبة واحدة وهی مرتبة الجعل والاعتبار علی أساس أنّ الحکم أمر اعتباری ولیس له واقع وراءه یتحقّق بنفس الجعل والاعتبار، والمجعول به عین الجعل ولا یمکن التفکیک بینهما کالایجاد والوجود فی التکوینیات، ولا یعقل أن تکون للمجعول به مرتبة اخری، ضرورة أنّه عین الجعل ذاتاً وحقیقة، ولا فرق بینهما إلاّ بالاعتبار، ووجود الحکم إنّما هو بنفس وجود الجعل والاعتبار ولا یتصوّر له وجود آخر، وأمّا وجوده بوجود موضوعه فی الخارج فهو بمعنی وجود فاعلیته ومحرّکیته نحو الاتیان بالمأمور به ولیس من مراتب الحکم، ضرورة أنّه لیس بید الشارع بل هو مسبّب عن الأسباب الخارجیة کوجود موضوعه فیه، فلو کان من مراتب الحکم فلازمه أن یکون الحکم من الاُمور الخارجیة وهو کما تری، إلی هنا قد تبیّن أنّ فعلیة الحکم إنّما هی بفعلیة موضوعه فی الخارج ولیست من مراتب الحکم الذی هو أمر اعتباری وبید المولی وضعاً ورفعاً ولا یتأثّر بشیء من الوجودات الخارجیة، ومعنی فعلیته، فعلیة فاعلیته ومحرّکیته لا فعلیة نفس الحکم الشرعی لأنّه فعلی بنفس الجعل فی عالم الاعتبار والذهن، ولا یعقل أن تکون تلک المرتبة من مراتب المجعول، بداهة أنّ مرتبة المجعول نفس مرتبة الجعل لأنّه عینه، ویستحیل انفکاکه عنه کاستحالة انفکاک الوجود عن الایجاد، فإذن جعل هذه المرتبة من مراتب الحکم مبنی علی ضرب من المسامحة.

ومن هنا قلنا فی ضمن البحوث السالفة أنّ شرائط الحکم هی نفس شرائط الجعل باعتبار أنّه عین الجعل ذاتاً وحقیقة، والمفروض أنّ شرائط

ص:128

الجعل هی الأشیاء بوجوداتها اللحاظیة الذهنیة لا بوجوداتها الخارجیة، إذ لا یعقل أن یکون جعل الحکم متأثّراً بالأشیاء بوجوداتها الخارجیة وإلاّ کان خارجیاً وهذا خلف، وعلی هذا فلا یتصوّر أن یکون الحکم مشروطاً بشرط متأخّر، لأنّ الشرط وجود الشیء لحاظاً وتصوّراً وهو مقارن وإن کان متأخّراً خارجاً أو متقدّماً، فإذن ما هو شرط لیس بمتأخّر وهو الوجود الذهنی وما هو متأخّر لیس بشرط وهو الوجود الخارجی هذا من ناحیة.

و من ناحیة اخری أنّ فعلیة فاعلیة الحکم ومحرّکیته نحو الاتیان بمتعلّقه، حیث إنّها تکون من الاُمور الواقعیة التکوینیة، فلا یمکن أن تکون مشروطة بشرط متأخّر، لاستحالة تأثیر المتأخّر فی المتقدّم علی تفصیل قد مرّ.

لحدّ الآن قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أنّ شروط الحکم بما أنّها من الاُمور الذهنیة اللحاظیة فلا یتصوّر فیها الشرط المتأخّر، فإنّه إنّما یتصوّر فیما إذا کان الشیء شرطاً بوجوده الخارجی، وأمّا اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، فحیث إنّه من الاُمور التکوینیة، فلا یمکن أن یکون مشروطاً بشرط متأخّر وکذلک فعلیة فاعلیة هذا الحکم فی الخارج.

وأمّا الواجب المعلّق الذی یکون مقیّداً بالوقت المتأخّر، فإن کان الوقت شرطاً لاتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء أیضاً، فقد تقدّم أنّه مستحیل لاستحالة کون الاتّصاف مشروطاً بشرط متأخّر، وإمّا إذا لم یکن شرطاً للاتّصاف ودخیلا فیه وإنّما هو شرط لترتّب الملاک علی الواجب فی الخارج، فعندئذ إن کان الفعل متّصفاً بالملاک مطلقاً فی مرحلة المبادیء ولکن ترتّبه علیه منوط بدخول الوقت، فهل یقتضی ذلک جعل الوجوب مطلقاً أو لابدّ من جعله مشروطاً بدخول الوقت بنحو الشرط المتأخّر.

والجواب أنّ کلیهما لا یمکن، أمّا الأول فقد تقدّم أنّه یستلزم التکلیف

ص:129

بغیر المقدور، وأمّا الثانی فلأنّ جعل الوجوب مشروطاً بدخول الوقت رغم أنّ ملاکه مطلق فهو بلا مبرّر، إذ لا معنی لجعل الحکم بلا ملاک، لأنّ الملاک هو حقیقة الحکم وروحه ولا قیمة للاعتبار بما هو، وأمّا بلحاظ ملاکه فلا یمکن أن یکون مشروطاً بشرط متأخّر، هذا کلّه بحسب مقام الثبوت والتصوّر، وأمّا ما أشرنا إلیه سابقاً من أنّ ملاک أخذ شیء قیداً للوجوب فی مقام الاثبات أحد أمرین:

الأول: أن یکون ذلک الشیء دخیلا فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، فإنّه حینئذ لابدّ من أخذه قیداً للوجوب فی مرحلة الجعل.

الثانی: أن یکون الواجب مقیّداً بقید طولی غیر اختیاری، ففی مثل ذلک لا محالة أخذ ذلک القید قیداً للوجوب أیضاً، فإنّما هو بلحاظ مقام الاثبات، بنکتة أنّ القید إذا کان قیداً للوجوب مباشرة فی مرحلة الجعل، فهو یکشف عن أنّه قید للاتّصاف بالملاک فی مرحلة المبادیء، وإلاّ فلا یمکن أخذه قیداً للوجوب، وأمّا إذا کان القید قیداً للواجب فی هذه المرحلة فهو لا یکشف مباشرة عن أنّه قید للاتّصاف وإنّما یکشف کذلک عن أنّه قید للترتّب، ولکنّه إذا کان طولیاً وغیر اختیاری، یکشف عن أنّه قید للوجوب والاتّصاف أیضاً بنحو الشرط المقارن حتّی لا یلزم التکلیف بغیر المقدور، مثلا قوله تعالی (فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ) ظاهر فی أنّ الأمر بالصوم منذ رؤیة الهلال، وحیث إنّه لا یمکن أن یکون ذلک بنحو الواجب المعلّق ولا الواجب المشروط بالشرط المتأخّر لاستحالتهما معاً کما تقدّم، فلابدّ حینئذ من الالتزام بأنّ طلوع الفجر کما أنّه قید للترتّب کذلک قید للاتّصاف، غایة الأمر أنّ الجعل کان منذ اللیل وأمّا المجعول وهو الوجوب الفعلی المحرّک فهو بعد الطلوع، إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّ الواجب إذا کان مقیّداً بوقت متأخّر، فإن

ص:130

کان ذلک الوقت دخیلا فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء أیضاً کان قیداً للواجب والوجوب معاً، فلا یکون الواجب معلّقاً والوجوب مطلقاً، وإن لم یکن دخیلا فیه بأن یکون الاتّصاف به مطلقاً فلا یمکن جعل الوجوب کذلک، لاستلزامه التکلیف بغیر المقدور، ولا مشروطاً لعدم الملاک له.

نتائج البحث

إلی هنا قد وصلنا إلی النتائج التالیة:

الاُولی: أنّ الواجب المعلّق وهو أن یکون الوجوب حالیاً والواجب استقبالیاً مستحیل، لأنّ الوجوب إذا کان مطلقاً وفعلیاً فهو یقتضی تحریک المکلّف نحو الاتیان بالواجب المقیّد بالوقت المتأخّر، وهذا من التکلیف بالمحال، وإذا کان وجوبه أیضاً مشروطاً بالوقت المتأخّر، فمعناه أنّه قید للوجوب بتمام مراحله من مرحلة المبادیء وهی مرحلة اتّصاف الفعل بالملاک والارادة إلی مرحلة الجعل والاعتبار، وقد تقدّم أنّه لا یمکن أن یکون الوجوب مشروطاً بشرط متأخّر بلحاظ مبادئه، لأنّها من الاُمور التکوینیة ویستحیل تأثیر المتأخّر فیها.

الثانیة: أنّ الواجب المعلّق بمعنی أن یکون الوجوب حالیاً والواجب استقبالیاً، لا یختص بما إذا کان مقیّداً بوقت متأخّر مضمون التحقّق فی الخارج بل الظاهر إناطته بالتقیید بقید متأخّر غیر اختیاری من زمان أو زمانی کالقدرة أو الحیاة أو غیرها، فإنّ التخصیص بالأول بنکتة أنّ إمکان الواجب المعلّق مبنی علی أن یکون مقیّداً بقید متأخّر مضمون التحقّق فی الخارج، فعندئذ لا مانع من أن یکون الوجوب حالیاً والواجب استقبالیاً، وأمّا إذا کان مقیّداً بقید متأخّر غیر مضمون فی الخارج کالقدرة أو الحیاة أو نحوها، فلابدّ من أخذه قیداً للوجوب أیضاً، فیکون حینئذ من الواجب المشروط لا من المعلّق، ولکن قد تقدّم المناقشة فی هذا التفصیل بشکل موسّع.

ص:131

الثالثة: أنّ الواجب إذا کان مقیّداً بقید طولی غیر اختیاری، فإن کان ذلک القید دخیلا فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء فهو قید للواجب والوجوب معاً، فإذن یکون من الواجب المشروط لا المعلّق، وإن لم یکن دخیلا فیه بأن یکون الاتّصاف بالملاک فی هذه المرحلة تامّاً وغیر مشروط بشیء، فعندئذ لا یمکن جعل الوجوب مطلقاً ومنجّزاً، لأنّه یدعو المکلّف إلی الاتیان بالواجب المقیّد بقید غیر اختیاری، وهو من الدعوة إلی الحال فلهذا لا یعقل جعله کذلک، وهذا معنی استحالة الواجب المعلّق، کما أنّه لا یمکن جعل الوجوب مشروطاً بذلک القید المتأخّر لأنّه بلا ملاک، هذا تمام کلامنا فی النقطة الاُولی.

النقطة الثانیة: لو سلمنا إمکانه، فهل هو داخل فی الواجب المطلق أو المشروط أو إنه نوع ثالث من الواجب
اشارة

وأمّا الکلام فی النقطة الثانیة وهی أنّ الواجب المعلّق هل هو داخل فی الواجب المشروط أو المطلق، أو لا هذا ولا ذاک، بل هو نوع ثالث من الواجب فی مقابل النوع الأول والثانی، ففیه وجوه والأظهر هو الوجه الثالث، وذلک لما تقدّم من أنّ الواجب المعلوم هو ما یکون الواجب مقیّداً بقید متأخّر غیر اختیاری والوجوب مطلقاً وغیر مقیّد به فلهذا یکون نوعاً ثالثاً من الواجب فی مقابل النوعین الأوّلین، أمّا أنّه فی مقابل الأول فلأنّه مباین له ثبوتاً واثباتاً، أمّا ثبوتاً فلأنّ قیده دخیل فی ترتّب الملاک علیه من دون کونه دخیلا فی اتّصافه به، بینما هو فی الواجب المشروط دخیل فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، وأمّا إثباتاً فلأنّه فی الواجب المعلّق قید للواجب فی هذا المقام، بینما هو فی الواجب المشروط قید للوجوب فیه، فإذن یختلف الواجب المعلّق عن الواجب المشروط ولا اشتراک بینهما، وأمّا أنّه فی مقابل النوع الثانی، فلأنّ الواجب المعلّق حصة خاصة وهو المقیّد بقید متأخّر، بینما الواجب المطلق مطلق من هذه الناحیة وغیر مقیّد به

ص:132

الصحیح أن الواجب المعلّق علی تقدیر إمکانه نوع ثالث من الواجب

فالنتیجة أنّ الواجب المعلّق علی تقدیر إمکانه نوع ثالث من الواجب فی الشریعة المقدّسة هذا.

وهنا قولان آخران فی المسألة:

ما اختاره المحقق الخراسانی فی انّ الواجب المعلّق قسم من المطلق

أحدهما ما إختاره المحقّق الخراسانی (قدس سره) وهو أنّ الواجب المعلّق قسم من الواجب المطلق(1).

ما اختاره الشیخ الأنصاری من أنه لا واقع لهذا التقسیم الثلاثی، بل الواجب إما مطلق أو شروط

الثانی ما اختاره شیخنا الأنصاری (قدس سره) وهو أنّه لا واقع لتقسیم الواجب إلی أنواع ثلاثة:

المطلق والمشروط والمعلّق، بل الواجب إمّا مطلق أو مشروط ولا ثالث لهما(2).

أمّا القول الأول فقد أفاد المحقّق الخراسانی (قدس سره) فی وجهه أنّ المعیار فی کون الواجب مطلقاً هو فعلیة وجوبه وإطلاقه فی مقابل تقییده وإن کان الواجب بنفسه مقیّداً، والمعیار فی کون الواجب مشروطاً تقیید وجوبه واشتراطه فی مقابل إطلاقه وإن کان الواجب بنفسه مطلقاً، فلا تنافی حینئذ بین کون الواجب بنفسه مطلقاً وغیر مقیّد بقید ووجوبه مقیّداً ومشروطاً بشیء، کما أنّه لا تنافی بین کون الواجب مقیّداً بقید ووجوبه مطلقاً وغیر مشروط به، وعلی هذا فالواجب المعلّق من الواجب المطلق، لأنّ وجوبه مطلق وإن کان الواجب مقیّداً(3).

وأمّا القول الثانی فقد أفاد شیخنا الأنصاری (قدس سره) أنّ الواجب فی الشریعة

-

.

.

ص:133


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 101
2- (2) - مطارح الأنظار: ص 51
3- (3) - کفایة الاُصول: ص 102.

المقدّسة لا یخلو إمّا أن یکون مطلقاً وغیر مشروط بشیء أو مشروطاً به.

فعلی الأول هو الواجب المطلق وعلی الثانی هو الواجب المشروط ولا ثالث فی البین، ولهذا فلا وقع لهذا التقسیم(1) هذا.

وذکر السید الاُستاذ (قدس سره) تبعاً لصاحب الکفایة أنّ مردّ کلام الشیخ (قدس سره) إلی إنکار الواجب المشروط علی مسلک المشهور دون الواجب المعلّق، حیث إنّه (قدس سره) یری استحالة رجوع القید إلی مفاد الهیئة وتعیّن رجوعه إلی مفاد المادّة فیکون مفاد الهیئة مطلقاً، وهذا هو الواجب المعلّق لأنّ وجوبه حالی والواجب استقبالی، وعلی هذا فالواجب المشروط عند الشیخ (رحمه الله) هو الواجب المعلّق عند صاحب الفصول (قدس سره) دون الواجب المشروط عند المشهور(2).

وفیه أنّ هذا التوجیه غیر سدید، وذلک لأنّ ملاک إنکاره رجوع القید إلی مفاد الهیئة فی المسألة المتقدّمة شیء وملاک إنکاره الواجب المعلّق هنا شیء آخر، أمّا الأول فقد تقدّم هناک أنّ ملاک إنکاره أمران:

أحدهما: أنّ مفاد الهیئة معنی حرفی والمعنی الحرفی جزئی حقیقی والجزئی الحقیقی لا یقبل التقیید و التضیق، والآخر أنّ القید یرجع إلی المادّة لبّاً دون الهیئة، ولکن هذا مختص بما إذا کان الوجوب مفاد الهیئة فی القضیة الشرطیة وتردّد أمر الشرط بین رجوعه إلی مفاد الهیئة أو المادّة، فإنّه فی مثل ذلک أنکر رجوع الشرط إلی مفاد الهیئة، ومن الواضح أنّ معنی ذلک لیس إنکار الواجب المشروط علی مسلک المشهور مطلقاً، لوضوح أنّه لا ینکر تقیید الوجوب إذا کان مفاد مادّة الأمر أو مفاد مادّة الوجوب أو کان الدلیل علیه الاجماع أو العقل، فإنّه

-

.

ص:134


1- (1) - مطارح الأنظار: ص 52
2- (2) - المحاضرات ج 2: ص 347 و 348.

فی جمیع هذه الصور معنی إسمی قابل للتقیید، ومن هنا لا یحتمل أنّه (قدس سره) أنکر الواجب المشروط فی الشریعة المقدّسة مطلقاً کوجوب الحج المشروط بالاستطاعة ووجوب الصلاة المشروط بالعقل والبلوغ والوقت وما شاکل ذلک وهکذا، هذا إضافة إلی أنّ مفاد الهیئة لا یکون قابلا للتقیید مباشرة ولا مانع من تقیید الوجوب المنتزع منه.

فالنتیجة أنّ انکار الشیخ (رحمه الله) رجوع القید فی القضیة الشرطیة إلی مفاد الهیئة لا یدلّ علی أنّه أنکر الواجب المشروط فی الشریعة المقدّسة مطلقاً، فإذن لا یکون الشیخ (رحمه الله) من المنکرین للواجب المشروط علی مسلک المشهور، وأمّا إنکاره الواجب المعلّق، فهو إنّما یکون بملاک أنّه لا یعقل نوع ثالث من الواجب فی مقابل الواجب المطلق والمشروط، وذلک لأنّ وجوب الواجب المسمّی بالمعلّق لا یخلو إمّا أن یکون مطلقاً وغیر مقیّد أو أنّه مقیّد بقید الواجب، فعلی الأول یکون من الواجب المطلق وعلی الثانی یکون من الواجب المشروط، فلهذا قال (قدس سره) أنّه لا وجه لتقسیم الواجب إلی المعلّق والمنجّز فی مقابل تقسیمه إلی المطلق والمشروط (1).

فالنتیجة أنّ ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) تبعاً للمحقّق الخراسانی من التوجیه لکلام الشیخ (رحمه الله) فی غیر محلّه.

کلام للمحقق العراقی فی المقام

ثمّ أنّ للمحقّق العراقی (قدس سره) فی المقام کلاماً وحاصله أنّ تقسیم الواجب إلی الواجب المنجّز والمشروط والمعلّق صحیح، فإنّ هذه الواجبات جمیعاً تشترک فی نقطة واحدة وهی فعلیة وجوبها، ویمتاز الواجب المشروط عن المنجّز والمعلّق بأنّ الشرط فیه دخیل فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة

-

ص:135


1- (1) - مطارح الأنظار: ص 51.

المبادیء، فبینما القید فیهما دخیل فی ترتّب الملاک فی مرحلة الامتثال، ویمتاز الواجب المنجّز عن المعلّق والمشروط بشرط متأخّر بفعلیته وجوباً وواجباً، بینما الواجب المعلّق بنفسه لیس بفعلی لأنّه مقیّد بقید متأخّر غیر اختیاری وإن کان وجوبه فعلیاً، والواجب المشروط وجوبه غیر فعلی ومنجّز لأنّه مقیّد بقید متأخّر وإن کان الواجب فعلیاً ومنجّزاً(1).

وذکر السید الاُستاذ (قدس سره) أنّ الواجب المعلّق هو الواجب المشروط بالشرط المتأخّر، غایة الأمر أنّ الواجب المشروط بالشرط المتأخّر قد یکون وجوبه مشروطاً بشرط متأخّر دون الواجب، وقد یکون الواجب والوجوب معاً مقیّداً ومشروطاً به(2) ، وغیر خفی أنّ ما ذکره المحقّق العراقی والسید الاُستاذ (قدس سرهما) مبنی علی إمکان الواجب المعلّق والواجب المشروط بالشرط المتأخّر، ولکن قد تقدّم استحالة کل من الواجب المعلّق والواجب المشروط بالشرط المتأخّر هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الوجوب فی الواجب المعلّق أیضاً مقیّد بقید متأخّر کالواجب فیکون القید قیداً لهما معاً، مبنی علی أن یکون القید المذکور دخیلا فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء أیضاً، کما أنّه دخیل فی ترتّب الملاک علیه فی الخارج، وأمّا إذا کان الاتّصاف بالملاک فی تلک المرحلة مطلقاً وغیر مقیّد بالقید المذکور فی الواقع، فعندئذ لا موجب لتقیید وجوبه به فإنّه بلا ملاک وموجب، وأمّا إطلاقه تبعاً لاطلاق ملاکه فهو لا یمکن، لأنّ لازم اطلاقه تحریک المکلّف نحو فعل مقیّد

-

.

ص:136


1- (1) - نهایة الأفکار ج 1: ص 303
2- (2) - المحاضرات ج 2: ص 349.

بقید غیر مقدور وهو من التکلیف بالمحال، فالنتیجة أنّ ما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) علی تقدیر إمکان الشرط المتأخّر لا یتمّ مطلقاً.

ومن ناحیة ثالثة قد مرّ أنّ الواجب المعلّق علی تقدیر إمکانه نوع آخر من الواجب فی الشریعة المقدّسة فی مقابل الواجب المطلق والمشروط.

ومن ناحیة رابعة أنّ دفع محذور التکلیف بالمحال لا یصلح أن یکون مبرّر التقیید الوجوب أیضاً بالقید المتأخّر، فإنّ ملاکه إذا کان مطلقاً فهو لا یقتضی جعله مشروطاً، وأمّا جعله مطلقاً فالمقتضی له وإن کان موجوداً فی الواقع إلاّ أنّه یستلزم التکلیف بالمحال، فإذن لا یمکن جعله لا مطلقاً ولا مقیّداً بقید متأخّر.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتیجة التالیة:

وهی أنّ الواجب المعلّق علی تقدیر إمکانه نوع ثالث من الواجب فی الشریعة المقدّسة فی مقابل الواجب المشروط والواجب المطلق، ویمتاز عن الأول فی نقطة وهی أنّ القید فی الواجب المشروط قید للاتّصاف والوجوب بینما یکون فی الواجب المعلّق قیداً للترتّب والواجب، ویمتاز عن الواجب المطلق فی نقطة وهی أنّ الواجب المطلق غیر مقیّد بقید استقبالی بینما الواجب المعلّق مقیّد به، وبذلک یظهر أنّ ما ذکره شیخنا الأنصاری والمحقّق الخراسانی (قدس سرهما) من أنّه داخل فی الواجب المطلق وفرد من أفراده، لأنّ المعیار فیه ما یکون وجوبه فعلیاً سواءً أکان الواجب أیضاً کذلک أم لا، غیر تامّ.

النقطة الثالثة: ثمرة البحث فی الواجب المعلّق

وأمّا النقطة الثالثة فعلی تقدیر إمکان الواجب المعلّق، فما هو فائدة هذا الواجب المترتّبة علیه فی الفقه، ونستعرض فائدته فی ضمن البحوث القادمة ان شاء الله تعالی هذا تمام الکلام فی البحث عن الواجب المعلّق والمنجّز.

ص:137

بحوث

اشارة

فیها أمران:

الأمر الأول: فی وجوب الإتیان بالمقدمات المفوتة قبل وقت الواجب
اشارة

الأمر الأول فی وجوب الاتیان بالمقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب، والاشکال فیه أنّه کیف یمکن تبریر هذا الوجوب مع أنّ وجوب المقدّمة یترشّح من وجوب ذیها ولا یعقل وجوبها قبل وجوبه.

والاشکال فیه أنّه کیف یمکن تبریر هذا الوجوب مع أنّ وجوب المقدّمة یترشّح من وجوب ذیها ولا یعقل وجوبها قبل وجوبه

ومن أجل حلّ هذا الاشکال ودفعه قام الاُصولیون بعدّة محاولات:

المحاولة الاُولی: الالتزام بالواجب المعلّق فی الموارد المذکورة فیکون الوجوب فعلیاً من أوّل الأمر والواجب استقبالیاً

، وحینئذ فلا مانع من ترشّح الوجوب علی مقدّماته قبل وقته، لأنّ مسؤولیة المکلّف أمام المقدّمات منوطة بفعلیة الوجوب سواءً أکان الواجب فعلیاً أیضاً أم لا ولا ترتبط بفعلیة الواجب، فإذا فرض أنّ الحجّ من الواجب المعلّق فیکون وجوبه حالیاً یبدأ من حین تحقّق الاستطاعة، فعندئذ بطبیعة الحال یجب علی المکلّف توفیر جمیع المقدّمات التی یتوقّف الاتیان بالحج علیها فی وقته ولا یجوز له التسامح

ص:138

والتساهل أمام تلک المقدّمات، فإنّ تفویتها الموجب لتفویت الحج فی ظرفه موجب لاستحقاق العقوبة بقاعدة أنّ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار.

والخلاصة أنّ الحجّ لو کان من الواجب المعلّق، کان وجوبه فعلیاً، ومقتضی فعلیته وجوب الاتیان بتمام مقدّماته المفوّتة قبل دخول وقته، وکذلک إذا فرض أنّ الصوم واجب معلّق، فإنّ وجوبه فعلی منذ رؤیة الهلال، ومقتضی فعلیته منذ اللیل وجوب الاتیان بتمام مقدّماته قبل الفجر کالغسل من الجنابة أو الحیض أو النفاس وهکذا.

والجواب:

أنّ هذه المحاولة مبنیة علی توفّر أمرین:

الأول: القول بإمکان الواجب المعلّق.

الثانی: أن لا یکون قید الواجب قیداً للوجوب أیضاً وإلاّ لم یکن وجوبه مطلقاً، ولکن کلا الأمرین غیر متوفّر.

أمّا الأمر الأول فلما تقدّم من استحالة الواجب المطلق.

وأمّا الأمر الثانی فلأنّه مبنی علی أنّ قید الواجب کما أنّه قید لترتّب الملاک علیه فی مقام الامتثال کذلک قید لاتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، فعلی الأول قید للواجب وعلی الثانی للوجوب، وحینئذ فإن کان الاتّصاف مقیّداً به بنحو القید المقارن فلا وجوب قبل تحقّقه لکی یجب الاتیان بالمقدّمات قبل ذلک، فإذن ظل الإشکال بلا حل، وإن کان مقیّداً به بنحو القید المتأخّر، فقد تقدّم أنّه مستحیل.

المحاولة الثانیة ما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) من الالتزام بالواجب المشروط بالشرط المتأخّر

، بتقریب أنّ وجوبه مشروط بالقید الاستقبالی من زمان أو زمانی بنحو الشرط المتأخّر فیکون وجوبه فعلیاً، فإذا کان فعلیاً کان المکلّف مسؤولا أمام المقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب علی أساس أنّه لیس

ص:139

بمقدوره الاتیان بها بعد الوقت، فإذن لا مانع من ترشّح الوجوب علی تلک المقدّمات التی لا یقدر علیها بعد الوقت(1).

والجواب:

أنّ هذه المحاولة مبنیة علی إمکان الشرط المتأخّر، وقد تقدّم أنّه لا یمکن أن یکون الوجوب بتمام مراحله من مرحلة الاتّصاف إلی مرحلة الجعل مشروطاً بشرط متأخّر لاستحالة تأثیر المتأخّر فی المتقدّم هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ وجوب المقدّمة إنّما هو من أثر فعلیة فاعلیة وجوب ذیها لا من أثر فعلیة الوجوب نفسه، فإنّ فعلیته إنّما هی بنفس الجعل والاعتبار ولیست له فعلیة اخری، وبتحقّق موضوعه و شرطه فی الخارج یصبح فاعلا ومحرّکاً بالفعل، وعلی هذا فالوجوب إذا کان مشروطاً بشرط متأخّر، فإنّه وإن کان فعلیاً قبل تحقّق شرطه إلا أنّ فعلیته إنّما هی بالجعل والاعتبار فحسب فی عالم الذهن ولا أثر لها، وإنّ الأثر إنّما هو لفعلیة فاعلیته ومحرّکیته وهی إنّما تکون بفعلیة موضوعه وشرطه فی الخارج، وحینئذ فإذا تحقّق شرطه فی الخارج فی ظرفه أصبحت فاعلیته فعلیة، ومن الواضح أنّ وجوب المقدّمة، إنّما هو من أثر فعلیة فاعلیة وجوب ذیها ومن شؤونها لا من أثر وجوده بالجعل والاعتبار.

المحاولة الثالثة: أنّه لا مانع من وجوب الإتیان بالمقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب علی مسلک الشیخ الأنصاری (قدس سره) بتقریب

، أنّ القیود والشروط جمیعاً علی مسلکه ترجع إلی الواجب والوجوب مطلق، فإذا کان الوجوب مطلقاً وفعلیاً فمقتضاه وجوب الاتیان بجمیع المقدّمات التی لا یتمکّن المکلّف

-

ص:140


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 93.

من الاتیان بها فی وقت الواجب(1).

والجواب:

أوّلا أنّ الشیخ (قدس سره) لا ینکر الواجب المشروط فی الشریعة المقدّسة نهائیاً، فإذا کان هناک دلیل علی أنّ الوجوب مشروط بشرط دون الواجب فهو ملتزم به، لأنّ الوجوب معنی إسمی قابل للتقیید کما أنّه قابل للاطلاق، وأمّا الدلیل اللبّی فإنّه إنّما اخذ به إذا لم یکن هناک دلیل علی خلافه، لأنّه إنّما یقتضی رجوع القید إلی المادّة بحسب الطبع الأوّلی لا مطلقاً.

وثانیاً أنّ هذا المسلک غیر صحیح کما تقدّم.

المحاولة الرابعة: أنّ وجوب المقدّمات المفوّتة وجوب نفسی تهییء ولیس معلولا لوجوب ذیها لکی یقال باستحالة وجود المعلول قبل وجود علّته

، أمّا أنّه تهییء من أجل أنّ الذی دعا المولی إلی إیجاب تلک المقدّمات قبل وقت الواجب هو تهیّؤ المکلّف وتمکّنه من الاتیان بالواجب فی وقته، فإنّ اهتمام المولی بمصلحة الوقت والحفاظ علیها وعدم جواز تفویتها فی کل حال أدّی إلی ایجابها قبل الوقت، فلذلک یکون وجوبها تهیئیاً، وأمّا أنّه نفسی فمن أجل أنّه لم ینشأ من إیجاب ذیها.

والجواب:

أنّ هذه المحاولة وإن کانت ممکنة ثبوتاً إلاّ أنّ إثباتها بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علیها، لأنّ ظاهر الأدلّة فی مسألة الحجّ والصیام ونحوهما أنّ وجوب هذه المقدّمات وجوب غیری لا نفسی بل لا یحتمل أن یکون نفسیاً.

المحاولة الخامسة: أنّ الواجب منذ الغروب فی باب الصوم لیس هو الصوم الاستقبالی فی النهار الذی هو أمر واحد

، بل الواجب هو سدّ باب عدم

-

ص:141


1- (1) - مطارح الأنظار: ص 53.

الصوم فی النهار منذ اللیل، وهذا السدّ واجب طول هذه الفترة الزمنیّة ومشروطاً بالقدرة علیه، فإذا کان المکلّف قادراً علیه فی طول هذه الفترة بالقدرة التدریجیة فعلا، کان وجوبه فعلیاً کما هو الحال فی کل واجب تدریجی، وعندئذ فلا مانع من ترشّح الوجوب منه علی مقدّماته کالغسل من الجنابة فی اللیل وقبل الفجر ومن الحیض أو النفاس، أو فقل أنّ سدّ باب عدم الصوم فی النهار منذ اللیل واجب واحد وإن کان العدم متعدّداً بتعدّد أسبابه، منها عدم غسل الجنابة قبل الفجر ومنها عدم غسل الحیض کذلک وهکذا، إلاّ أنّ هذه الاعدام واجبة بوجوب واحد ومنه یترشّح علی مقدّماته.

والجواب:

أولا أنّ هذه المحاولة مبنیة علی استحالة الواجب المعلّق والمشروط بالشرط المتأخّر معاً، وإلاّ فلا یصل الدور إلی هذه المحاولة.

وثانیاً أنّ هذه المحاولة لو تمّت فإنّما تتمّ فیما إذا کان طلوع الفجر من شروط الترتّب فحسب دون الاتّصاف بمعنی أنّ الصوم کان متّصفاً بالملاک منذ رؤیة الهلال، وعندئذ فوجوب سدّ باب عدم الصوم فی النهار منذ الغروب یکون علی القاعدة، لأنّ اتّصافه بالملاک فعلا وقبل الفجر یقتضی ذلک.

وثالثاً أنّ الصوم مثلا لو کان متّصفاً بالملاک منذ اللیل ولا یکون الفجر شرطاً له وإنّما یکون شرطاً للترتّب فحسب، فمعناه أنّ ملاکه مطلق وثابت منذ رؤیة الهلال، وحینئذ فیستقل العقل بالحفاظ علیه وعدم جواز تفویته بترک المقدّمات المفوّتة، فیکون وجوب سدّ باب العدم حینئذ غیری مقدّمی من أجل الحفاظ علی الملاک الملزم الفعلی فی الصوم لا نفسی، ولا یمکن أن یکون وجوبه نفسیاً لا فی باب الصوم ولا فی باب الحج ولا غیرهما.

أمّا فی باب الصوم فهنا صنفان من الدلیل:

ص:142

الصنف الأول: الآیة الشریفة (فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ) (1) فإنّها بضمیمة الروایات التی تنصّ علی وجوب الصوم عند الرؤیة، ظاهرة فی أنّ وجوب الصوم یتحقّق منه بشهود الهلال، وحیث إنّه لا یمکن أن یکون بنحو الواجب المعلّق ولا الواجب المشروط بشرط متأخّر لاستحالتهما معاً کما مرّ، فإذن لابدّ من أن یراد منها أنّها فی مقام بیان جعل وجوب الصوم بعد طلوع الفجر من الآن، أی منذ شهود الهلال فی اللیل فیکون الجعل منذ ذلک الآن، وأمّا المجعول بمعنی فعلیته بفعلیة موضوع فی الخارج فهو بعد الطلوع، ونتیجة ذلک أنّ الفجر کما أنّه شرط للواجب ودخیل فی الترتّب کذلک شرط لفعلیة الوجوب ودخیل فی الاتّصاف، فالنتیجة أنّ هذا الصنف لا یدلّ علی أنّ سدّ باب عدم الصوم واجب نفسی بل لا إشعار فیه علی ذلک فضلا عن الدلالة والظهور، کما أنّه لا یدلّ علی وجوب السدّ بوجوب غیری، لأنّه أثر فعلیة فاعلیة وجوب ذی المقدّمة لا من أثر فعلیة نفسه بفعلیة الجعل.

الصنف الثانی: الروایات التی تنصّ علی وجوب الغسل علی الجنب أو الحائض أو النفساء قبل طلوع الفجر، ولا یجوز له أن ینام قبل الغسل إذا لم تکن من عادته الاستیقاظ قبل الفجر فی وقت یتمکّن من الغسل فیه(2) ، فإنّ هذه الروایات تدلّ علی أنّ وجوب الغسل وجوب مقدّمتی لا نفسی وأنّه شرط لصحة الصوم، بمعنی أنّ المأمور به حصة خاصّة منه وهی الصوم المقیّد بغسل الجنابة أو الحیض أو النفاس، بحیث یکون التقیّد به جزئه والقید خارج، غایة الأمر أنّ

-

.

ص:143


1- (1) - سورة البقرة: 185
2- (2) - لاحظ الوسائل ج 7: ص 42 ب 16 من ما یمسک عنه الصائم، وص 47 ب 21 من ما یمسک عنه الصائم.

قیدیته مختصّة بحال العمد والالتفات، لأنّ المانع عنه الاصباح جنباً عامداً وملتفتاً لا مطلقاً، فإذن لا محالة یکون وجوب الغسل وجوب غیری لأنّه من المقدّمات الوجودیة التی یتوقّف وجود الواجب علیها ولا یحتمل أن یکون وجوبه وجوباً نفسیاً.

هذا إضافة إلی أنّ سدّ تمام أبواب عدم الواجب کالصوم مثلا مفهوم منتزع من الأمر به مقیّداً بقیود ومشروطاً بشروط سواءً أکانت متقدّمة أم مقارنة أم متأخّرة، فإنّ امتثال هذا الواجب یتوقّف علی سدّ جمیع أبواب العدم من ناحیة قیوده وشروطه بلا فرق بین المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة فی ذلک، فإذن لیس سدّ باب العدم متعلّقاً للتکلیف بل العقل یحکم بهذا السدّ من باب حکمه بلزوم الطاعة والامتثال فیکون من شؤون حکمه فی ذلک الباب، فالنتیجة أنّ الصنف الأول لا یدلّ علی وجوب سدّ أبواب العدم لا بوجوب نفسی ولا غیری، وأمّا الصنف الثانی فهو یدلّ علی وجوبه بوجوب غیری، وأمّا فی باب الحج فهنا أیضاً صنفان من الدلیل:

الصنف الأول: الآیة الشریفة:(وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً) (1) فإنّها بضمیمة الروایات التی تنصّ علی شرطیة الاستطاعة ظاهرة فی تحقّق وجوب الحجّ عند تحقّق الاستطاعة(2) ، وهو مبنی إمّا علی القول بالواجب المعلّق أو علی القول بالواجب المشروط بالشرط المتأخّر، ولکن قد تقدّم استحالة کلا القولین معاً وأنّه لیس بامکان المولی الخطاب فعلا إذا کان الواجب متأخّراً أو شرطه کذلک، وعلی هذا فلابدّ من حمل الآیة علی أنّها فی

-

.

ص:144


1- (1) - سورة آل عمران: 97
2- (2) - راجع الوسائل ج 8: ص 3 ب 1 من وجوب الحج وشرائطه.

مقام تشریع وجوب الحج وجعله علی المستطیع فی ظرفه، فیکون زمان الجعل متقدّماً ومنذ الاستطاعة وزمان المجعول بمعنی فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه فی الخارج متأخّر، وعلیه فلا یکون وجوب الحج فاعلا ومحرّکاً نحوه قبل أن یدخل وقته، إذ لا أثر لوجوده الانشائی الاعتباری فی عالم الاعتبار والذهن ما لم یتحقّق موضوعه بتمام قیوده فی الخارج.

فالنتیجة أنّ هذا الصنف لا یدلّ علی وجوب سدّ جمیع أبواب عدم الحجّ بوجوب نفسی بل لا إشعار فیه فضلا عن الدلالة، لأنّ الحاکم بذلک إنّما هو العقل من باب حکمه بلزوم الامتثال والاطاعة وهو لا یمکن إلاّ بسدّ تمام أبواب العدم، فلا یمکن أن یکون وجوبه شرعیاً کما أنّه لا یدلّ علی وجوبه بوجوب غیری.

الصنف الثانی: الروایات التی تدلّ علی أنّه یجب علی المستطیع أن یقوم بتوفیر جمیع المقدّمات التی یتوقّف الاتیان بالحج علیها کتهیئة الزاد والراحلة وغیرهما(1) من المقدّمات، فإنّ هذه الروایات ظاهرة فی أنّ وجوب الاتیان بتلک المقدّمات وجوب غیری لا نفسی بل لا إشعار فیها علی ذلک فضلا عن الدلالة، کما أنّه لا إشعار فیها علی وجوب سدّ باب العدم بوجوب نفسی، هذا إضافة إلی ما أشرنا إلیه آنفاً من أنّ مفهوم سدّ باب العدم مفهوم انتزاعی منتزع من الأمر بشیء مقیّداً بقیود، فإنّ العقل فی مثل ذلک یحکم بلزوم سدّ باب الاعدام من ناحیة قیود الواجب وشروطه من باب حکمه بلزوم الاطاعة، إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أنّ الصنف الأول لا یدلّ علی وجوب سدّ تمام أبواب العدم لا بوجوب نفسی ولا غیری بل الحاکم به العقل فی ظرف الامتثال، وأمّا الصنف

-

ص:145


1- (1) - راجع الوسائل ج 8: ص 21 ب 8 من وجوب الحج وشرائطه.

الثانی فهو یدلّ علی وجوب مصداقه وهو المقدّمات المفوّتة بوجوب غیری الکاشف عن تمامیة ملاک الواجب فی وقته من ناحیة هذه المقدّمات علی تفصیل یأتی فی ضمن البحوث الآتیة.

المحاولة السادسة: تبرّر مسؤولیة المکلّف أمام المقدّمات المفوّتة والزامه بتوفیرها والاتیان بها قبل وقت الواجب

التی سنشیر إلیها الآن وهی العمدة فی المسألة، فإنّها تبرّر مسؤولیة المکلّف أمام المقدّمات المفوّتة والزامه بتوفیرها والاتیان بها قبل وقت الواجب وتعالج مشکلة المسألة علی کافّة النظریات الاُصولیة العامّة دون المحاولات المتقدّمة، فإنّها لا تعالج المشکلة إلاّ علی ضوء بعض النظریات دون بعضها الآخر.

أمّا المحاولة الاُولی، فهی تعالج المشکلة علی ضوء نظریة القائل بامکان الواجب المعلّق ولا تدفع علی ضوء نظریة القائل باستحالة الواجب المعلّق.

وأمّا المحاولة الثانیة، فهی تعالج المشکلة علی ضوء نظریة القائل بامکان الواجب المشروط بالشرط المتأخّر ولا تعالجها علی ضوء نظریة القائل بامتناع ذلک.

وأمّا المحاولة الثالثة، فهی تعالج المشکلة علی ضوء نظریة القائل بأنّ القیود جمیعاً قیود للواجب دون الوجوب، فإنّه مطلق ولا تدفعها علی ضوء نظریة القائل بأنّ القیود تختلف فمنها للواجب ومنها للوجوب.

وأمّا المحاولة الرابعة فهی تعالج المشکلة علی ضوء نظریة القائل بأنّ وجوب المقدّمات المفوّتة قبل دخول وقت الواجب وجوب نفسی تهییء لا مطلقاً.

وأمّا المحاولة الخامسة فهی تعالج المشکلة علی ضوء نظریة القائل بأنّ الواجب هو سدّ تمام أبواب عدم الواجب منذ رؤیة الهلال فی باب الصوم ومنذ تحقّق الاستطاعة فی باب الحج لا مطلقاً. وهذه بخلاف هذه المحاولة، فإنّها

ص:146

تدفع الإشکال علی مستوی کافّة النظریات الاُصولیة وجمیع الأقوال فی المسألة، بیان ذلک أنّه ینبغی قبل الخوض فی المسألة تقدیم مقدّمة، وهی أنّ الواجبات الشرعیة جمیعاً مشروطة بالقدرة ویمکن تقسیم تلک الواجبات علی ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما یکون مشروطاً بالقدرة العقلیة، ونقصد بالقدرة العقلیة أنّها غیر دخیلة فی ملاک الحکم وهو اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء.

ونتیجة ذلک أنّ الفعل تامّ الملاک سواءً أکان المکلّف قادراً علیه أم عاجزاً، ومن هنا إذا أدرک العقل أنّ ملاکه تامّ فی ظرفه، استقلّ بلزوم الاتیان بجمیع المقدّمات التی یتوقّف استیفاء هذا الملاک علیها ولا یجوز التسامح والتساهل فیها بحیث یؤدّی إلی تفویت الملاک الملزم فی ظرفه، ولا فرق فی ذلک بین المقدّمات الخارجیة والمقدّمات الداخلیة.

القسم الثانی ما هو مشروط بالقدرة الشرعیة المطلقة، ونقصد بالقدرة الشرعیة أنّها مأخوذة فی لسان الدلیل فی مرحلة الجعل من قبل الشرع فیکون حالها حال سائر القیود المأخوذة فیه فی هذه المرحلة، فکما أنّ تلک القیود ظاهرة فی أنّها قیود للحکم فی مرحلة الجعل ولاتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، فکذلک القدرة الشرعیة، فإنّها ظاهرة فی أنّها قید للحکم فی هذه المرحلة ولاتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء، وهذا بخلاف القدرة العقلیة، فإنّها غیر مأخوذة فی لسان الدلیل شرعاً، لأنّ الحاکم بها إنّما هو العقل بملاک قبح تکلیف العاجز، وحیث إنّه لا طریق للعقل إلی ملاکات الأحکام الشرعیة، فلا یحکم بأنّها دخیلة فی اتّصاف الفعل بالملاک.

ونقصد بالمطلقة أنّ الدخیل فی اتّصاف الفعل بالملاک القدرة المطلقة فی

ص:147

مقابل القدرة الخاصّة وهی القدرة فی ظرف الواجب، ونتیجة ذلک أنّه لا یجب علی المکلّف تحصیل القدرة لا قبل دخول الوقت ولا بعد دخوله، نعم إذا کان قادراً قبل الوقت ولو من جهة قدرته علی الاتیان بالمقدّمات المفوّتة، فیجب علیه التحفّظ علی قدرته ولا یجوز له تفویتها بعدم الاتیان بتلک المقدّمات، لأنّ تفویتها تفویت الملاک الملزم فی ظرفه فلا یجوز.

القسم الثالث: ما هو مشروط بالقدرة الخاصّة وهی القدرة علی الواجب بعد دخول وقته، وهذه القدرة هی الدخیلة فی الملاک لا القدرة المطلقة. ونتیجة ذلک أنّه لا یجب علی المکلّف تحصیل القدرة قبل الوقت وإن علم بأنّه لو لم یقم بتحصیلها من الآن لم یتمکّن منه بعد الوقت، وحینئذ فإن تمکّن منه بعد الوقت فهو، وإلاّ فلا وجوب ولا ملاک.

فالنتیجة أنّ الواجبات الشرعیة بلحاظ اشتراطها بالقدرة تقسّم إلی هذه الأقسام الثلاثة بحسب مقام الثبوت، ولا إشکال فیها فی هذا المقام.

وإنّما الکلام فی الدلیل علی کل واحد من هذه الأقسام الثلاثة فی مقام الاثبات، أمّا القسم الأول فهو مختصّ بالواجبات التی لم یؤخذ القدرة فی لسان أدلّة جعلها فی الشریعة المقدّسة، وعلیه فلا تدلّ أدلّتها علی أنّها دخیلة فی ملاکاتها فی مرحلة المبادیء.

فإذن بطبیعته الحال یکون الحاکم بها العقل من باب قبح تکلیف العاجز، وحیث إنّه لا طریق للعقل إلی ملاکاتها فی الواقع، فلذلک لا یحکم بأنّها دخیلة فیها، وعلی ذلک فإن أحرز أنّ ملاکاتها مطلقة وغیر مقیّدة بشیء فی الواقع، فیستقلّ العقل بلزوم الحفاظ علیها وعدم جواز تفویتها ولو بترک المقدّمات المفوّتة قبل ظروف امتثالها، فإذن لابدّ من توفیر جمیع هذه المقدّمات وعدم جواز التسامح والتساهل فیها الموجب لتفویت الواجب بما له من الملاک الملزم

ص:148

فی ظرفه، فإذا علم المکلّف أنّ حفظ نفسه بعد شهر مثلا یتوقّف علی توفیر مقدّمات والاتیان بها من الآن، استقلّ العقل بلزوم توفیرها والاتیان بها قبل شهر لکی لا یفوت الواجب بعده، وکذلک إذا علم أنّ حفظ الإسلام فی المستقبل یتوقّف علی الاتیان بمقدّمات من الآن، حکم العقل بوجوب الاتیان بها لکی لا یفوت الواجب فی ظرفه وهکذا.

وأمّا القسم الثانی فهو مختصّ بالواجبات التی قد أخذ القدرة المطلقة فی لسان أدلّة جعلها فی الشریعة المقدّسة، فلذلک یختلف هذا القسم عن القسم الأول ثبوتاً وإثباتاً، أمّا ثبوتاً فلأنّ القدرة فی هذا القسم دخیلة فی الملاک فی مرحلة المبادیء بینما القدرة فی القسم الأول غیر دخیلة فیه، وأمّا إثباتاً فلأنّ القدرة فی هذا القسم مأخوذة فی لسان الدلیل بینما القدرة فی القسم الأول غیر مأخوذ فی لسان الدلیل، ولکن کون المأخوذ فیه القدرة المطلقة بحاجة إلی دلیل، وبذلک یظهر حال القسم الثالث أیضاً، هذا تمام کلامنا حول المقدّمة وبعد ذلک یقع الکلام فی المسائل:

الاُولی: فی حکم المقدّمات المفوّتة فی باب الحجّ.

الثانیة: فی حکم المقدّمات المفوّتة فی باب الصوم.

الثالثة: فی حکم المقدّمات المفوّتة فی باب الصلاة ونحوها.

حکم المقدمات المفوتة فی باب الحج

أمّا الکلام فی المسألة الاُولی فیمکن إثبات وجوب المقدّمات المفوّتة فی باب الحج بأحد امور:

الأول: أنّ آیة الاستطاعة بضمیمة سائر الأدلّة الدالّة علی أنّ حجّة التمتّع من حجّة الإسلام مجعولة علی النائی، تستبطن أنّ ملاکه تامّ فی مرحلة المبادیء فی وقته من قبل مقدّماته المفوّتة بعد الاستطاعة وإن قلنا باستحالة الواجب المعلّق والمشروط بالشرط المتأخّر، إذ لا یمکن أن تکون القدرة

ص:149

المعتبرة فیه قدرة خاصّة وهی القدرة علیه فی وقته، ضرورة أنّ لازم ذلک جواز ترک الحج فی وقته للنائی، إذ لا یجب علیه تحصیل القدرة من قبل المقدّمات المفوّتة قبل الوقت لعدم الملاک له، وأمّا بعد الوقت فهو عاجز عنه، فإذن لا یفوت عنه شیء لا قبل الوقت لعدم الملاک له ولا بعده لأنّه مشروط بالقدرة ولا قدرة علیه.

ودعوی أنّ هذه الأدلّة تدلّ بالمطابقة علی وجوب الحجّ عند الاستطاعة وبالالتزام علی ثبوت ملاکه فی الواقع واتّصافه به، وعلیه فإذا سقطت دلالتها المطابقیة علی الوجوب من جهة استحالة الواجب المطلق أو المشروط بالشرط المتأخّر، سقطت دلالتها الالتزامیة أیضاً، لأنّها تابعة لها حدوثاً وبقاءً فلا یعقل بقائها بعد سقوط الدلالة المطابقیة، لأنّه بمثابة بقاء المعلول بعد سقوط العلّة.

مدفوعة بأنّ دلالة هذه الأدلّة علی أنّ ملاکه تامّ من قبل المقدّمات المفوّتة لیست بالالتزام لکی یقال أنّها سقطت بسقوط الدلالة المطابقیة، بل من جهة أنّ ضمّ الأدلّة الدالّة علی أنّ حجّة التمتّع من حجّة الإسلام مجعولة علی النائی إلی أدلّة الاستطاعة کالآیة الشریفة وغیرها، یدلّ علی أنّ ملاکه تامّ بعد الاستطاعة من قبل المقدّمات المفوّتة، وأنّ القدرة المعتبرة فیه قدرة مطلقة وهی القدرة من قبل تلک المقدّمات قبل وقت الواجب، وإلاّ کان وجوبه علی النائی لغواً، إذ حینئذ یجوز له ترک الحجّ اختیاراً بدون أن یکون مسؤولا أمام الله تعالی حیث لم یفت منه شیء، إذ لا ملاک له قبل وقته لأنّه مشروط به، ولا بعده لأنّه مشروط بالقدرة علیه ولا قدرة بعده.

والخلاصة أنّ نفس الأدلّة التی تنصّ علی وجوب حجّ التمتّع من حجّة الإسلام علی النائی عند استطاعته قرینة واضحة علی أنّ ملاکه تامّ من هذا

ص:150

الحین، فیحکم العقل بوجوب الحفاظ علیه بالاتیان بجمیع المقدّمات التی یتوقّف الاتیان بالحج علیها فی وقته وهی المقدّمات المفوّتة، وهذا معنی أنّ القدرة المعتبرة فیه قدرة مطلقة لا قدرة خاصّة، ومن الواضح أنّ دلالة هذه الدلالة لا تتوقّف علی القول بإمکان الواجب المطلق أو المشروط بالشرط المتأخّر، فإنّه وإن کان لا یمکن للمولی الخطاب بالحج فعلا بنحو الواجب المعلّق أو المشروط بالشرط المتأخّر، إلاّ أنّه یمکنه الاشارة إلی فعلیة الملاک والارادة وتمامیتهما ولو بنحو الإخبار.

الثانی: الروایات التی تنصّ علی أنّ المکلّف إذا استطاع، وجب علیه أن یقوم بتوفیر جمیع متطلّبات السفر إلی الحج(1) من المقدّمات، ظاهرة بل ناصّة علی أنّ ملاک الحج تامّ فی ظرفه، فلهذا یجب الاتیان بجمیع المقدّمات التی یتوقّف استیفاء الملاک علیه قبل وقت الواجب، وإلاّ لفات الملاک عنه فی ظرفه وهو لا یجوز، لأنّه تفویت بالاختیار، والامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار.

الثالث: أنّ حجّ التمتّع من حجّة الإسلام عمل مرکّب من جزئین طولیین مرتبطین، الأول عمرة التمتّع من حجة التمتّع، ویدخل وقت هذا العمل المرکّب منذ دخول شهر شوال ویستمرّ إلی آخر ذی الحجّة، وعلیه فوجوبه فعلی من بدایة هذا الشهر تدریجاً إلی أن یفرغ المکلّف عن العمل کاملا شریطة القدرة علیه کذلک کما هو الحال فی جمیع الواجبات المرکّبة من الأجزاء الطولیة، وقد تقدّم سابقاً أنّ إناطة وجوب الجزء الأول بالقدرة علی الجزء الأخیر لیس من الواجب المشروط بالشرط المتأخّر، لأنّ وجوب مجموع هذه الأجزاء الطولیة وجوب واحد طولا ومشروط بالقدرة الواحدة کذلک، فإذن لا

-

ص:151


1- (1) - راجع الوسائل ج 8: ص 21 ب 8 من وجوب الحجّ.

موضوع للمقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب منذ دخول أشهر الحج، نعم لا یجب علیه تحصیل المقدّمات قبل أشهر الحج إذا کان مستطیعاً إلاّ إذا توقّف الاتیان بالحج علی تحصیل تلک المقدّمات قبل أشهر الحج، فحینئذ یجب بنفس الملاک المتقدّم فی الأمر الأول.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة، وهی أنّ المستفاد من مجموع هذه الأدلّة أنّ القدرة المعتبرة فی اتّصاف الحجّ بالملاک فی مرحلة المبادیء قدرة مطلقة وهی القدرة من قبل المقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب.

حکم المقدمات المفوتة فی باب الصوم

وأمّا الکلام فی المسألة الثانیة، وهی مسألة وجوب المقدّمات المفوّتة فی باب الصوم، فیقع فیها تارةً فی الأدلّة الواردة فی مقام تشریع الصیام عند رؤیة الهلال واُخری فی الروایات الدالّة علی وجوب الغسل علی الجنب قبل الفجر وبطلان الصوم باصباحه جنباً عامداً وملتفتاً.

أمّا الکلام فی الاُولی، فظاهر الآیة الشریفة وهی قوله تعالی (فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ) (1) وکذلک الروایات التی تنصّ علی وجوب الصوم عند رؤیة الهلال، أنّ وجوب الصوم یتحقّق منذ رؤیة الهلال، فإذن بطبیعة الحال یکون ثبوته إمّا بنحو الواجب المعلّق أو الواجب المشروط بالشرط المتأخّر، وحیث إنّ کلیهما مستحیل کما تقدّم، فإذن لابدّ من التصرّف فی هذه الأدلّة، أمّا فی الآیة الشریفة فلأنّها فی مقام تشریع وجوب الصوم مطلقاً علی شهود الشهر الذی هو کنایة عن رؤیة الهلال، وأمّا أنّ الصوم واجب من الآن أو من الفجر، فالآیة لیست فی مقام البیان من هذه الناحیة، فإنّها تدلّ علی أنّ من شهد منکم الشهر فلیصمه، إمّا أنّه یصمه من الآن أو من الفجر، فالآیة لا تدلّ علی شیء من ذلک لأنّها لیست

-

ص:152


1- (1) - سورة البقرة: 185.

فی مقام البیان من هذه النواحی وإنّما هی فی مقام أصل تشریع صوم شهر رمضان، فإذن إرادة کل من هذه الخصوصیات بحاجة إلی دلیل خارجی، ومقتضی الدلیل الخارجی أنّه واجب منذ طلوع الفجر، وعلیه فتشریع الوجوب وجعله من اللیل یکون للصوم بعد الفجر فیکون الجعل والتشریع من الآن وفعلیة المجعول منذ الفجر بفعلیة موضوعه، وعلی هذا فیکون زمان الواجب وزمان فعلیة الوجوب واحد وهو یبدأ من الفجر، وزمان الجعل والتشریع متقدّم، ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنّ الآیة ظاهرة فی أنّ وجوب الصوم فعلی منذ الرؤیة وزمان الواجب متأخّر، فلابدّ من رفع الید عن ظهورها فی ذلک وحملها علی ما ذکرناه، ومن هنا یظهر أنّ الآیة کما لا تدلّ علی أنّ الوجوب من الآن کذلک لا تدلّ علی أنّ الاتّصاف بالملاک کذلک، علی أساس أنّ الدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة، وأمّا الروایة الآمرة بالصوم عند الرؤیة، فهی أیضاً فی مقام تشریع وجوب صوم شهر رمضان ولیست فی مقام بیان أنّه واجب من الآن أو من الغد، فحالها حال الآیة الشریفة من هذه الناحیة حرفاً بحرف.

فالنتیجة أنّ أدلّة التشریع من الآیة والروایات لا تدلّ علی أنّ وجوب الصوم ثابت منذ اللیل حکماً وملاکاً.

وأمّا الکلام فی الثانیة وهی الروایات التی تدلّ علی وجوب الغسل علی الجنب فی لیالی شهر رمضان قبل طلوع الفجر ولا یجوز له أن یصبح جنباً متعمّداً وإلاّ لکان صومه باطلا(1) ، فمفاد هذه الروایات إرشاد إلی شرطیة حصة خاصة من الغسل فی اللیل للصوم منذ الفجر وأنّها شرط وقید له ودخیل فی ترتّب الملاک علیه، ونتیجة هذا أنّ الواجب حصة خاصّة من الصوم وهی الصوم المقیّد

-

ص:153


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم: ص 90.

بالغسل من الجنابة أو الحیض أو النفاس قبل طلوع الفجر، بحیث یکون التقیّد به جزئه وداخلا فیه والقید خارجاً کما هو الحال فی سائر القیود للواجب، غایة الأمر أنّ الغسل من القید المتقدّم، وعلیه فالواجب علی المکلّف هذه الحصة من الصوم وهی مقدورة له من جهة قدرته علی الغسل فی اللیل، ولا مانع من ترشّح الوجوب من هذه الحصة إلیه لفرض أنّه تعلّق بها، فإذا کان التقیّد بالغسل قبل الفجر جزء الصوم ومتعلّق الوجوب، فلا مانع من ترشّحه إلی الغسل، لأنّ وجوب الغسل حینئذ لا یکون متقدّماً علی وجوب الصوم زمناً، فإذن وجوب الغسل من الجنابة أو الحیض قبل الفجر یکون علی القاعدة ومعلولا لوجوب الصوم ومترشّحاً منه علی تقدیر القول بأنّ وجوب المقدّمة معلول ومترشّح من وجوب ذیها و لا یکون ذلک من تقدّم وجوب المقدّمة علی وجوب ذیها، فإنّ ذلک ناشیء من تخیّل أنّ متعلّق الوجوب الصوم منذ الفجر مع أنّ الأمر لیس کذلک، لأنّ متعلّقه الصوم المقیّد بالغسل من الجنابة أو الحیض قبل الفجر، فإذن لا مانع من الترشّح ولا محذور فیه، وإن شئت قلت أنّ المستفاد من روایات المسألة هو أنّ المانع من الصوم الاصباح جنباً متعمّداً، وحیث إنّ عدم المانع قید للواجب وهو فی المقام متمثّل فی الغسل من الجنابة، فیکون الغسل منها قبل الفجر قیداً للصوم، هذا إضافة إلی أنّ هذه الروایات تکفی للدلالة علی أنّ ملاک الصوم تامّ فی ظرفه، فمن أجل ذلک یجب توفیر المقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب، أو فقل أنّ هذه الروایات تدلّ علی أنّ القدرة المعتبرة فی الصوم قدرة مطلقة وهی القدرة من قبل المقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب، فلذلک یجب علی المکلّف تحصیل هذه القدرة بالاتیان بهذه المقدّمات من اللیل وقبل الفجر، ولیس القدرة المعتبرة فیه قدرة خاصّة وهی القدرة علیه بعد الفجر، وإلاّ فلا موجب لایجاب الغسل من الجنابة أو الحیض فی اللیل وقبل طلوع الفجر ولا مبرّر له أصلا، فإذن وجوبه یکشف عن تمامیة ملاکه

ص:154

فی ظرفه منذ دخول الشهر، وأما عدم فعلیة وجوبه، فإنّما هو من جهة استحالة الواجب المعلّق والمشروط بالشرط المتأخّر، وحینئذ وإن لم یکن بامکان المولی الخطاب فعلا إلیه بنحو الواجب المعلّق أو المشروط بالشرط المتأخّر، ولکن بامکانه الاشارة إلی تمامیة ملاکه فی ظرفه بلسان هذه الروایات.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة، وهی أنّ وجوب الغسل من الجنابة أو الحیض وجوب مقدّمی، ومع الاغماض عن ذلک فلا شبهة فی دلالة هذه الروایات علی تمامیة ملاک الصوم فی وقته وعدم جواز تفویته مطلقاً حتّی قبل الوقت بترک الاتیان بالمقدّمات المفوّتة، وإلاّ استحقّ العقوبة علیه بعد الوقت، لأنّ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار.

حکم المقدمات المفوتة فی باب الصلاة

وأمّا الکلام فی المسألة الثالثة وهی مسألة وجوب المقدّمات المفوّتة فی باب الصلاة، فیقع فیها تارةً فی توقّف أصل الصلاة علی مقدّمة قبل دخول وقتها واُخری فی توقّف مرتبة منها علی مقدّمة قبل دخوله دون أصل الصلاة، أمّا الکلام فی الأول، کما إذا فرض أنّ المکلّف یعلم بأنّه لو لم یقم بتحصیل الطهارة من الحدث قبل الوقت فلا یتمکّن منها بعد دخول الوقت لا من المائیة ولا من الترابیة، ففی مثل ذلک لا یبعد وجوب تحصیل الطهارة قبل الوقت، لأنّ اهتمام المولی بالصلاة وجعلها عماد الدین ونحو ذلک، یکشف عن أنّ ملاکها تام فی ظرفها وإنّ القدرة الدخیلة فیه قدرة مطلقة، فیجب علی المکلّف تحصیلها من قبل مقدّماتها المفوّتة قبل الوقت إذا لم یتمکّن منه بعد دخول وقتها، ولا یرضی الشارع بتفویتها مطلقاً حتّی بترک تحصیل القدرة علیها قبل الوقت إذا کان متمکّناً من ذلک.

وأمّا الکلام فی الثانی، فالظاهر أنّ المعتبر فی وجوب کل مرتبة من مراتبها قدرة خاصّة وهی القدرة علیها بعد دخول الوقت، کما إذا علم المکلّف بأنّه لو لم یتوضّأ قبل الوقت فلا یتمکّن من ذلک بعد الوقت، أو علم بأنّ ما

ص:155

عنده من الماء إذا اهرق لم یجد ماءً آخر بعد الوقت، ففی مثل ذلک لا یجب علیه الوضوء فی الأول ولا حفظ الماء فی الثانی، لأنّه إذا دخل علیه الوقت، فإن تمکّن من الوضوء أو الغسل فهو، وإلاّ فوظیفته التیمّم والصلاة معه.

وأمّا القسم الثالث وهو ما کان مشروطاً بالقدرة الخاصّة فمن أظهر مصادیقه مراتب الصلاة من المرتبة العلیا إلی المرتبة الدنیا، فإنّ کل مرتبة من مراتبها مشروطة بالقدرة الخاصّة، فإذا دخل وقت الصلاة فإن تمکّن من الصلاة مع الطهارة المائیة أو القیام أو غیر ذلک فهو، وإلاّ فتنتقل وظیفته إلی الصلاة مع الطهارة الترابیة أو مع الجلوس وهکذا.

فالنتیجة الظاهر وهو أنّ اتّصاف طبیعی الصلاة بالملاک فی مرحلة المبادیء تامّ مطلقاً حتّی من قبل مقدّماتها وقیودها المفوّتة، فإذا لم یتمکّن من تحصیلها فی الوقت وجب تحصیلها قبله، بینما القدرة المعتبرة فی اتّصاف کل مرتبة من مراتبها بالملاک فی مرحلة المبادیء، قدرة خاصّة من قبل مقدّماتها وقیودها وهی القدرة علیها بعد الوقت.

تحصّل ممّا ذکرناه أنّ وجوب الاتیان بالمقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب فی باب الحج والصوم والصلاة لا یتوقّف علی القول بامکان الواجب المعلّق أو المشروط بالشرط المتأخّر، بل یجب الاتیان بها مطلقاً علی جمیع المذاهب والآراء فی المسألة، سواء علی الرأی القائل بامکان الواجب المعلّق والمشروط بالشرط المتأخّر أم علی الرأی القائل باستحالتهما کما هو الصحیح، فإنّه علی هذا القول وإن لم یکن بإمکان المولی الخطاب فعلا بنحو الواجب المعلّق أو المشروط بالشرط المتأخّر، ولکن بامکانه الاشارة إلی تمامیة الملاک والارادة فی وقته مطلقاً بلسان الإخبار أو الکنایة. وعلی هذا فلا یجوز للمکلّف تعجیز نفسه بترک الاتیان بالمقدّمات المفوّتة قبل الوقت، فإنّه فی هذه الحالة إذا دخل

ص:156

علیه الوقت وعجز عن الاتیان بالواجب، إستحقّ العقوبة علی تفویت الملاک باعتبار أنّه کان بسوء اختیاره، والامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار.

ص:157

الأمر الثانی: حکم العقل بوجوب الإتیان بالمقدمات المفوتة فی الوقت هل یکون دلیلا علی ثبوت الوجوب الشرعی و کاشفا عنه بقاعدة الملازمة
اشارة

الأمر الثانی:

إنّ حکم العقل بوجوب الاتیان بالمقدّمات المفوّتة قبل الوقت، هل یصلح أن یکون دلیلا علی ثبوت الوجوب الشرعی وکاشفنا عنه بقاعدة الملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع فیه وجهان، فقد اختار المحقّق النائینی (قدس سره) الوجه الأول بتقریب، أنّ حکم العقل بوجوب الاتیان بالمقدّمات المفوّتة قبل الوقت للحفاظ علی الملاک الملزم التامّ فی ظرفه کاشف عن حکم الشارع بوجوب الاتیان بها قبل الوقت حفاظاً علی ذلک الملاک فی ظرفه، فإنّ الملاک المذکور کما أنّه منشأ لحکم العقل بلزوم الاتیان بالمقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب، کذلک یصلح أن یکون منشأ لحکم التشرع بوجوب الاتیان بها قبل الوقت(1) هذا.

ولکن ما ذکره (قدس سره) غیر سدید، بیان ذلک أنّ الملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع تارةً یکون بین حکم العقل النظری وحکم الشرع، واُخری بین حکم العقل العملی وحکم الشرع، فیقع الکلام فی مقامین:

الأول: فی الملازمة بین حکم العقل النظری وحکم الشرع.

-

ص:158


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 153.

الثانی: فی الملازمة بین حکم العقل العملی وحکم الشرع.

أمّا الکلام فی المقام الأول، فلا شبهة فی ثبوت الملازمة بینهما کبرویاً، فإذا أدرک العقل مصلحة ملزمة مثلا فی فعل غیر مزاحمه بالأقوی منها أو المساوی، فبطبیعة الحال یکشف عن ثبوت الوجوب علی أساس أنّ الأحکام الشرعیة تابعة للمصالح والمفاسد الواقعیة، وأمّا صغرویاً فهی غیر تامّة ولا واقع موضوعی لها، حیث إنّه لیس للعقل طریق إلی إدراک ملاکات الأحکام الواقعیة فضلا عن الاحاطة بها من جمیع الجهات، ومن هنا لو أدرک فی مورد وجود مصلحة ملزمة فی فعل أو مفسدة کذلک ولکن لیس بإمکانه إدراک أنّه لا مزاحم لها، فلذلک فلا یمکن أن یکون کاشفاً عن حکم الشارع.

فالنتیجة أنّ البحث عن الملازمة بین حکم العقل النظری وحکم الشرع تامّ نظریاً بحسب الکبری، وأمّا تطبیقیاً فلا توجد لها صغری.

وأمّا الکلام فی المقام الثانی، وهو الملازمة بین حکم العقل العملی وحکم الشرع، فتارةً یقع فی حقیقة حکم العقل العملی وهو الحسن والقبح، واُخری فی ثبوت الملازمة بینه وبین حکم الشرع.

أمّا الفرض الأول ففیه قولان:

القول الأوّل ما إختاره جماعة من الاُصولیین منهم المحقّق الأصفهانی (قدس سره) من أنّ قضیة الحسن والقبح قضیة مجعولة من قبل العقلاء کسائر مجعولاتهم العقلائیة فی امور معادهم ومعاشهم علی أساس ما یدرکونه من المصالح والمفاسد العامّة حفاظاً علی بقاء نوعهم(1) ، ولکن هذا التفسیر خاطیء وجداناً وبرهاناً، أمّا وجداناً فلأنّ العقل مستقلّ بقبح الظلم وحسن العدل بما هما ظلم وعدل، وإنّ ذلک -

ص:159


1- (1) - نهایة الدرایة ج 3: ص 29-30.

من القضایا الفطریة الوجدانیة ولا یتوقّف علی وجود عقلاء علی الأرض، ومن هنا ذکر السید الاُستاذ (قدس سره) إنّهما لو کانا من القضایا المجعولة من قبل العقلاء، فمعناه أنّ العاقل الأول قبل وجود العقلاء وتشریعاتهم لا یدرک قبح الظلم وحسن العدل، باعتبار أنّه لا قبح ولا حسن حتّی یدرکهما وهو کما تری، بداهة أنّه أمر فطری وجدانی فلا یمکن أن یتأثّر بجهات خارجیة، ولهذا یدرک فطرة أنّ سلب ذی الحقّ عن حقّه ظلم وقبیح کان هناک عقلاء أم لا ولا یمکن أن یکون هذا الادراک متأثّر بوجود العقلاء وتشریعاتهم، ومن هنا یدرک ذلک الصبی الذی لم ینضج عقله بعد، فالنتیجة أنّ قضایا الحسن والقبح العقلیین من القضایا الواقعیة الفطریة الموجودة فی لوح الواقع وراء موقف العقلاء لا أنّها من القضایا الانشائیة للعقلاء، فلا واقع لها ما عدا انشائها وجعلها.

وأمّا الاشکال علی أنّه من أین یعرف حال العاقل الأول وأنّه یدرک حسن العدل و قبح الظلم أولا، فلعل إحساسنا بهذا الوجدان من تأثیر بناء العقلاء فهو غریب جدّاً، لأنّ إدراک ذلک أمر وجدانی فطری ولا یمکن أن یتأثّر بعامل خارجی، لأنّ الفطرة لا تتبدّل ولا تتغیّر بتغیّر الزمان وتبدّله لأنّها ذاتیة، وأمّا برهاناً فلأن هذه النظریة تبتنی علی أنّ قضیة الحسن والقبح ترتبط بالمصالح والمفاسد الواقعیة، فإنّ العقلاء لمّا أدرکوا مصلحة فی فعل أو مفسدة فی آخر، حکموا بحسن الأول وقبح الآخر فیکون الحسن والقبح تابعین للمصلحة والمفسدة کالوجوب والحرمة شرعاً، ولکن هذا الارتباط خلاف الوجدان، إذ مضافاً إلی أنّه لا طریق للعقلاء إلی إدراک مصالح الأشیاء ومفاسدها، أنّه فی کثیر من موارد الحسن والقبح لا مصلحة فی فعل ولا مفسدة فی آخر، ولهذا یحکم العقل بقبح التجری مع أنّه لا مفسدة فی الفعل المتجرّی به، ویحکم بحسن الانقیاد مع أنّه لا مصلحة فی الفعل المنقاد به، وهذا یبرهن علی أنّ باب الحسن والقبح

ص:160

باب مستقل ولا یرتبط بباب المصلحة والمفسدة، ولهذا لا یجری باب التزاحم بین القبح والمصلحة والحسن والمفسدة، فالعدل لا یکون قبیحاً مهما ترتّبت علیه مفسدة طالما هو عدل والظلم لا یکون حسناً مهما ترتّبت علیه مصلحة طالما هو ظلم، فلو کان الحسن مجعولا من قبل العقلاء علی الفعل فیه مصلحة والقبح مجعولا علی فعل فیه مفسدة، فمعناه أنّ القبح لا یکون مجعولا علی فعل فیه مصلحة أو لا مصلحة فیه ولا مفسدة والحسن علی فعل فیه مفسدة أو لا مفسدة فیه ولا مصلحة، کما هو الحال فی حکم اشارع بالوجوب أو الحرمة، فإنّ الوجوب غیر مجعول علی فعل فیه مفسدة والحرمة علی فعل فیه مصلحة مع أنّ الأمر لیس کذلک، فإنّ القبح موجود عقلا فی باب الانقیاد کذلک مع أنّه لا مصلحة فیه بل ربما تکون فیه مفسدة، وبکلمة أنّه (قدس سره) إن أراد بجعل الحسن والقبح من قبل العقلاء، أنّ حسن کل فعل أو قبحه مجعول من قبلهم تبعاً للمصلحة أو المفسدة فیه، فیرد علیه ما تقدّم من أنّ ارتباط الحسن والقبح بالمصلحة والمفسدة خلاف الوجدان، وهذا دلیل علی أنّ باب الحسن والقبح باب مستقل لا صلة له بباب المصلحة والمفسدة، غایة الأمر قد تجمع البابان فی مورد وهذا من باب الاتّفاق لا من باب الارتباط، وإلاّ لم یکن بینهما مورد افتراق أصلا، وإن أراد (قدس سره) به أنّ حسن العدل وقبح الظلم مجعولان من قبل العقلاء علی أساس مصلحة عامة وهی تحقیق العدالة الاجتماعیة لا بقاء النوع، فیرد علیه ما تقدّم من أنّه خلاف الوجدان والضرورة أیضاً، بداهة أنّ قضیة حسن العدل وقبح الظلم من القضایا الفطریة الأوّلیة التی یدرکها العقل البشری بالفطرة والوجدان کان هناک عقلاء أم لا، ولیست من القضایا الانشائیة المجعولة من قبل العقلاء التی لا واقع لها ما عدا إنشائها وجعلها.

فالنتیجة أنّ ما أفاده المحقّق الأصفهانی (قدس سره) من أنّ قضیة الحسن والقبح من القضایا المجعولة من قبل العقلاء کسائر مجعولاتهم العقلائیة، غیر تامّ.

ص:161

القول الثانی: أنّ حسن العدل وقبح الظلم لیس من المدرکات الأوّلیة لا للعقل ولا للحس ولا للوهم، وإنّما یحصل التصدیق الجازم بهما نتیجة التأدیب والتربیة الاجتماعیة العقلائیة، ومن هنا قال ابن سینا بأنّ الإنسان لو خلق فریداً وحیداً لما أدرک بعقله حسن العدل وقبح الظلم.

وفیه أنّ هذا القول غریب جدّاً، إذ کیف یمکن إنکار ما هو مدرک بالوجدان، وقد مرّ أنّ قضیة الحسن والقبح من القضایا الفطریة الأوّلیة، والمعیار فی أوّلیة القضیة ما کان ثبوت المحمول للموضوع ضروریاً کما فی قضیة الأربعة زوج، فإنّها قضیة أوّلیة مضمونة الحقّانیة، وهذا المعیار ینطبق علی قضیتی حسن العدل وقبح الظلم، فإنّ ثبوت الحسن للعدل ضروری مضمون الحقّانی وثبوت القبح للظلم کذلک، ومن هنا یکفی مجرد إدراک الطرفین والنسبة بینهما للتصدیق الجزمی بهما، ضرورة أنّ الإنسان إذا تصوّر العدل وتصوّر الحسن والنسبة بینهما، حصل له الجزم بثبوت الحسن للعدل، وکذلک إذا تصوّر الظلم وتصوّر القبح والنسبة بینهما، تیقّن بشکل قاطع بثبوت القبح له، وهذا هو المعیار فی أوّلیة القضیة.

إلی هنا قد تبیّن أنّ الصحیح هو کون الحسن والقبح أمران واقعیان ثابتان فی لوح الواقع ویدرکهما العقل العملی بالفطرة والوجدان، فکونهما من أحکام العقل العملی، فإنّما هو بلحاظ ارتباطهما بالعمل واقتضائهما جریاً عملیاً علی طبقهما بشکل مباشر، فإنّ معنی حسن فعل هو أنّه ینبغی صدوره فی الخارج، ومعنی قبح فعل هو أنّه لا ینبغی صدوره فیه، فمن أجل ذلک یکونا من أحکام العقل العملی لا أنّهما کالأحکام الشرعیة المجعولة فی الشریعة المقدّسة، فإذن یفترق المدرک للعقل العملی عن المدرک للعقل النظری فی نقطة وتشترک معه فی نقطة اخری، أمّا نقطة الافتراق فلأنّ المدرک للعقل العملی یقتضی بطبعه

ص:162

الجری العملی علی طبقه بدون توسّط مقدّمة خارجیة، بینما المدرک للعقل النظری لا یقتضی بطبعه ذلک، ولهذا یکون الحسن والقبح من أحکام العقل العملی، والمصلحة والمفسدة من أحکام العقل النظری، فإنّ الأول یقتضی بنفسه الجری العملی علی طبقه خارجاً بینما الثانی لا یقتضی ذلک بنفسه بدون جعل الوجوب أو الحرمة، فالمقتضی هو الوجوب أو الحرمة لا المصلحة و المفسدة.

وأمّا نقطة الاشتراک، فلأنّ کلیهما من الاُمور الواقعیه الثابتة فی لوح الواقع، فالنتیجة أنّ کبری حسن العدل وقبح الظلم من القضایا الفطریة الأوّلیة ولا خلاف فیها بین العقلاء، نعم الخلاف إنّما هو فی بعض صغریاتها وفی موارد التزاحم بین مقتضیاتها.

وأمّا الکلام فی الفرض الثانی وهو ثبوت الملازمة بین حکم العقل العملی وحکم الشرع، فقد نسب إلی المشهور ثبوت الملازمة بینهما، ویمکن تقریبه بوجهین:

الأول: أنّ ملاک الوجوب والحرمة هو الحسن والقبح العقلیین، فإذا أدرک العقل حسن فعل اکتشف وجوبه من قبل الشارع، وإذا أدرک قبح فعل اکتشف حرمته وهکذا، وهذا الوجه مبنی علی أنّ الحسن والقبح أمران واقعیان یدرکهما العقل، وأمّا بناء علی القول بأنّهما حکمان مجعولان من قبل العقلاء فلا یصلح الحسن أن یکون ملاکاً للوجوب والقبح ملاکاً للحرمة، لأنّ حکم الشارع لا یمکن تابعاً لحکم العقلاء.

الثانی: أنّ الشارع حیث إنّه سید العقلاء، فإذا حکم العقلاء بما هم عقلاء بحسن فعل أو بقبح فعل آخر کان الشارع فی طلیعتهم وإنّه أوّل الحاکمین به، غایة الأمر أنّ حکم الشارع بالحسن عبارة عن حکمه بالوجوب وبالقبح عبارة

ص:163

عن حکمه بالحرمة، وهذا الوجه مبنی علی أنّ الحسن والقبح حکمان مجعولان من قبل العقلاء.

وللمناقشة فی کلا الوجهین مجال:

وأمّا الوجه الأول: فلأنّ الأحکام الشرعیة تابعة للمصالح والمفاسد فی الواقع لا للحسن والقبح العقلیین، ومن هنا قد یکون الفعل حسناً عقلا ولا مصلحة فیه کالانقیاد وقد یکون قبیحاً کذلک ولا مفسدة فیه کالتجرّی، ولکن حیث إنّ ملاک حکم الشارع بالوجوب فی الأول وبالحرمة فی الثانی غیر موجود وهو المصلحة والمفسدة فلا یکون بإمکانه الحکم بوجوب الأول وحرمة الثانی لأنّه بلا ملاک، نعم قد یلتقی الحسن مع المصلحة فی فعل والقبح مع المفسدة فی آخر وقد لا یلتقیان، فتکون النسبة بینهما عموماً من وجه، وقد تقدّم آنفاً أنّ باب الحسن والقبح لا یرتبط بباب المصلحة والمفسدة.

فالنتیجة أنّ الأحکام الشرعیة لا تدور مدار الحسن والقبح بل تدور مدار الملاکات الواقعیة من المصالح والمفاسد التی لا طریق للعقل إلیها.

وأمّا الوجه الثانی، فیرد علیه أولا ما تقدّم من أنّ الحسن والقبح أمران واقعیان ثابتان فی لوح الواقع ولیسا حکمین مجعولین من قبل العقلاء حتّی یقال أنّ الشارع حیث إنّه سید العقلاء وولیهم فهو أوّل الحاکمین بهما.

وثانیاً أنّ الشارع المقدّس یجعل الأحکام الشرعیة علی طبق ما یراه فی الواقع من المصالح والمفاسد کانت مطابقة لحکم العقل بالحسن أو القبح أم لا، لوضوح أنّ الشارع غیر ملزم بحفظ مصالح العقلاء وأنظمتهم، کیف فإنّ الله تعالی أرسل رسوله بنظام کامل یحلّ مشاکل الإنسان الکبری ویزوّده بطاقات نفسیة وبغرائز الدین، ومن الواضح أنّ هذا النظام لا یرتبط بنظام العقلاء، لأنّ نظامهم لا یمکن أن یقوم علی أساس مصالح واقعیة لعدم الطریق لهم إلیها،

ص:164

فالنتیجة أنّه لا ملازمة بین حکم العقل العملی و حکم الشرع.

و فی مقابل هذا القول قول باستحالة الملازمة بینهما، بتقریب أنّ جعل الحکم فی مورد حکم العقل بالحسن والقبح لغو، فإنّ حکم العقل بذلک یکفی لتحریک المکلّف ومسؤولیته أمام المولی، وحیث إنّ ذلک هو الغرض من جعل الحکم الشرعی ومع توفّره یکون لغواً، وإن شئت قلت أنّ الغرض من جعل الحکم الشرعی إنّما یکون بداعی تحریک المکلّف بتوسّط حکم العقل بقبح المعصیة وحسن الاطاعة، وعلیه فتنتهی داعویة الحکم الشرعی الالزامی فی نهایة المطاف إلی الحکم العقلی بقبح معصیة المولی ووجوب إطاعته، و علی هذا فإذا کان الحکم العقلی بالقبح أو الحسن فی مورد موجوداً فی المرتبة السابقة، فبطبیعة الحال یکون جعل الحکم الشرعی فیه لغواً ولا یترتّب علیه أثر هذا.

ولکن لا أساس لهذا القول أیضاً، أمّا أولا فلأنّ حکم العقل بالحسن أو القبح فی مورد إنّما یوجب التحریک عند العقلاء دون الشارع إلاّ علی القول بالملازمة بینه وبین حکم الشرع، وعلیه فلا یکون جعل الحکم الشرعی فی مورده بداعی تحریک المکلّف لغواً.

وثانیاً أنّ جعل الحکم الشرعی فی مورد حکم العقل بالحسن أو القبح یؤکّد مسؤولیة المکلّف ومحرّکیته بنحو أقوی ممّا کانت بل ربما یکون تمام العلّة، فإذا جعل الشارع الحرمة للکذب مثلا، فالحرمة هی الداعیة للمکلّف نحو الاجتناب عنه بل ربما تکون تمام الداعی علی أساس ما یدرکه المکلّف من العقوبة علی ارتکابه.

فالنتیجة أنّ هذا القول لا یرجع إلی معنی محصّل.

تتمة: ما إذا شک فی وجوب الإتیان بالمقدمات المفوتة

تتمة: وهی ما إذا شکّ فی وجوب الاتیان بالمقدّمات المفوّتة، ومنشأ هذا الشک الشک فی أنّ ملاک الواجب فی ظرفه تامّ من قبل هذه المقدّمات ومشروط

ص:165

بالقدرة المطلقة أو أنّ ملاکه فیه غیر تام من قبل تلک المقدّمات وأنّه مشروط بالقدرة الخاصة وهی القدرة علیه فی ظرفه من قبل مقدّماته لا مطلقاً، وفی مثل ذلک لا یجب علیه الاتیان بالمقدّمات المذکورة قبل وقت الواجب إذا لم یحرز أنّ ما یفوت عنه فی الوقت إذا ترک الاتیان بها هو الملاک التام الملزم، إذ کما یحتمل ذلک یحتمل أن لا یفوت منه شیء، فإذن یکون المورد من موارد قاعدة قبح العقاب بلا بیان، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون الشک فی الملاک أو الحکم، هذا تمام کلامنا فی المقدّمات المفوّتة.

نلخّص نتائج البحث فی عدّة نقاط:

الاُولی: القول بأنّ وجوب الاتیان بالمقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب منوط بالالتزام بالواجب المعلّق غیر صحیح، لما تقدّم من استحالة الواجب المعلّق ثبوتاً وعدم إمکان الالتزام به کذلک هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أنّ قید الواجب الطولی إذا کان غیر اختیاری، فلابدّ من أخذه قیداً للوجوب أیضاً وإلاّ لزم التکلیف بالمحال، فإذن لا یکون وجوبه فعلیاً لکی یترشّح منه الوجوب علی مقدّماته المفوّتة قبل وقته.

الثانیة: القول بأنّ وجوب الاتیان بتلک المقدّمات منوط بالالتزام بالشرط المتأخّر کما عن صاحب الکفایة (قدس سره) غیر تامّ، لما تقدّم من استحالة الواجب المشروط بالشرط المتأخّر وعدم امکان الالتزام به، هذا إضافة إلی أنّ مجرد وجود الوجوب قبل تحقّق الشرط لا أثر له ولا یؤثّر فی إیجاب المقدّمات، وذلک لأنّه وإن کان فعلیاً إلاّ أنه ذا فاعلیة له قبل تحقّق شرطه، فإنّ فاعلیته وتأثیره منوطة بتحقّقه فی الخارج، لأنّ إیجاب المقدّمات یکون من أثر فعلیة فاعلیة الوجوب لا من أثر فعلیة نفسه.

ص:166

الثالثة: القول بأنّ وجوب الاتیان بالمقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب مبنی علی مسلک الشیخ (رحمه الله) من إنکار الواجب المشروط و رجوع العقد إلی الواجب دون الوجوب فالوجوب مطلق، فإذا کان مطلقاً ترشّح منه الوجوب علی مقدّماته المفوّتة غیر سدید، لما تقدّم من أنّ الشیخ (رحمه الله) لا ینکر الواجب المشروط فی الشریعة المقدّسة نهائیاً وإنّما أنکر رجوع القید فی القضیة الشرطیة إلی مفاد الهیئة باعتبار أنّه معنی حرفی، وأمّا تقیید الوجوب إذا کان مفاد الجملة الاسمیة أو مادّة الأمر، فلا مانع منه لأنّه معنی إسمی، وعلیه فإذا کان هناک دلیل علی تقییده فلابدّ من الأخذ به، هذا إضافة إلی أنّ المبنی غیر صحیح.

الرابعة: القول بأنّ وجوب المقدّمات المفوّتة وجوب نفسی تهییء ناشیء إمّا من ملاک فی نفس تهییء المکلّف أو من ملاک فی الواجب الثابت قبل وقته غیر صحیح، لما تقدّم من أنّ تصویره ثبوتاً وإن کان ممکناً إلاّ أنّ إتمامه بالدلیل لا یمکن.

الخامسة: أنّ الواجب منذ الغروب لیس هو الصوم الاستقبال فی النهار بل الواجب سدّ باب عدم الصوم فی النهار منذ اللیل، وهذا السدّ واجب من اللیل، ومن الواضح أنّ مقتضی وجوبه أنّ الغسل من الجنابة فی اللیل وقبل أن یطلع الفجر واجب وکذلک الغسل من الحیض، وإلاّ لم یسدّ باب العدم منذ اللیل.

ولکن تقدّم أولا أنّ هذه المحاولة مبنیة علی استحالة الواجب المعلّق والمشروط معاً، وثانیاً أنّها لو تمّت فإنّما تتمّ إذا کان طلوع الفجر شرطاً للترتّب فقط لا له وللاتّصاف معاً، وثالثاً أنّ الصوم مثلا لو کان متّصفاً بالملاک منذ رؤیة الهلال، کان العقل مستقلا بالحفاظ علیه وسدّ جمیع أبواب العدم بالاتیان بالمقدّمات المفوّتة، وعلی هذا فوجوب السدّ غیری من أجل الحفاظ

ص:167

علی ملاک الصوم فی ظرفه لا أنّه واجب نفسی.

ورابعاً: أنّ سدّ باب العدم عنوان انتزاعی منتزع من أمر المولی بشیء مقیّداً بقیود ومشروطاً بشروط ولا یکون متعلّقاً للأمر، وحکم العقل به إنّما هو من باب حکمه بلزوم الامتثال والاطاعة، فإنّ من شؤون امتثال أمر المولی وإطاعته سدّ جمیع أبواب العدم.

السادسة: أنّ کل واحدة من المحاولات المتقدّمة إنّما تدفع الإشکال من زاویة نظر اصولی خاصّ فی المسألة لا من زاویة جمیع الأنظار والآراء الاُصولیة فیها.

السابعة: أنّ المحاولة الأخیرة فی المسألة التی هی صحیحة تدفع الإشکال علی جمیع الأنظار والأقوال فیها وفی جمیع الأبواب، کباب الحج والصوم والصلاة ونحوها، أمّا فی باب الحج فباُمور:

الأول: أنّ وجوب حجّ التمتّع علی النائی بنفسه قرینة علی أنّ ملاکه تامّ من حین الاستطاعة مطلقاً ومنذ أشهر الحجّ، وإلاّ کان وجوبه علیه لغواً.

الثانی: أنّ ما دلّ علی وجوب توفیر کل ما یتوقّف علیه الحجّ علی المستطیع من المقدّمات، کاشف عن أنّ ملاکه تامّ فی ظرفه بحیث یجب تحصیل القدرة علیه من الآن.

الثالث: أنّ حجّ التمتّع من حجّة الإسلام عمل مرکّب من جزئین طولیین مرتبطین ویدخل وقته منذ دخول شهر شوال، فإذن وجوب الاتیان بالمقدّمات بعد دخول شهر شوال یکون علی القاعدة.

وأمّا فی باب الصوم فلأنّ أدلّة التشریع من الآیة الشریفة والروایات لا تدلّ علی أنّ وجوب الصوم فعلی بفعلیة موضوعه منذ رؤیة الهلال، لأنّها فی مقام التشریع ولا نظر لها إلی أنّ وجوبه ثابت کذلک من الآن أو منذ طلوع

ص:168

الفجر، وأمّا روایات وجوب الغسل من الجنابة أو الحیض فی اللیل وقبل الفجر، فیکون مفادها الارشاد إلی أنّه قید للصوم فیکون الواجب حصة خاصة منه وهی الصوم المقیّد بالغسل من اللیل وقبل الفجر، فإذن لا یکون الاتیان بالغسل قبل الفجر من الاتیان بالمقدّمة قبل وقت الواجب، وأمّا فی باب الصلاة فبالنسبة إلی أصل الصلاة، فیجب الاتیان بالمقدّمات المفوّتة قبل وقتها إذا لم یتمکّن من الاتیان بها فی الوقت، وأمّا بالنسبة إلی مراتبها فلا یجب.

الثامنة: أنّ ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ حکم العقل بوجوب الاتیان بالمقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب، یستلزم حکم الشرع بالوجوب علی أساس الملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع، غیر تامّ لا فی العقل النظری ولا فی العقل العملی(1).

التاسعة: أنّه إذا شکّ فی وجوب الاتیان بالمقدّمات المفوّتة وعدم وجوبه، فالمرجع فیه قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

-

ص:169


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم: ص 98.

وجوب تعلّم الأحکام الشرعیة

اشارة

وهنا عدّة مقامات:

الأول: فی تعلّم الأحکام الشرعیة المطلقة أو الموقّتة بعد دخول وقتها.

الثانی: فی تعلّم الأحکام الموقّتة قبل دخول وقتها فیما إذا علم الابتلاء بها بعد دخول الوقت.

الثالث: فی تعلّم الأحکام الشرعیة قبل البلوغ فیما إذا علم بالابتلاء بعده.

الرابع: فی تعلّم الأحکام الشرعیة قبل دخول وقتها فیما إذا لم یعلم بالابتلاء بها بعده.

الخامس: فی أنّ وجوب التعلّم هل هو نفسی أو غیری.

المقام الأول: فی تعلم الأحکام الشرعیة المطلقة أو المؤقتة بعد دخولها وقتها

أمّا الکلام فی المقام الأول، فإن کان المکلّف غیر متمکّن من الامتثال التفصیلی ولا الاجمالی بدون التعلّم کتعلّم أجزاء الصلاة مثل القراءة والرکوع والسجود والتشهّد والتسلیم وما شاکل ذلک فلا شبهة فی وجوب التعلّم، لأنّه فی هذا الفرض مقدّمة وجودیة للواجب وإن کان متمکّناً من الامتثال الاجمالی دون التفصیلی، کما إذا علم المکلّف إجمالا فی یوم الجمعة مثلا إمّا بوجوب صلاة الظهر أو صلاة الجمعة، ففی مثل ذلک لا یجب علیه التعلّم مقدّمة

ص:170

للامتثال التفصیلی لکفایة الامتثال الاجمالی وهو الاحتیاط بالجمع بین الصلاتین فیه، وکذلک إذا شکّ فی وجوب السورة مثلا فإنّه لا یجب علیه التعلّم والفحص لتمکّنه من الاحتیاط، نعم إذا کانت محتملات المسألة کثیرة ولا یتمکّن من إحراز الامتثال ولو إجمالا وجب التعلّم فی هذه الحالة.

المقام الثانی: فی تعلم الأحکام المؤقتة قبل دخول وقتها فیما إذا علم الابتلاء بها بعد دخول الوقت

وأمّا الکلام فی المقام الثانی، فإن کان المکلّف متمکّناً من الاحتیاط والامتثال الاجمالی بعد الوقت لم یجب علیه التعلّم قبل الوقت، لأنّ الامتثال الاجمالی یکفی عن الامتثال التفصیلی، وأمّا إذا لم یکن متمکّناً من الاحتیاط فی الوقت، فیجب علیه التعلّم قبل الوقت وإلاّ لفات الواجب عنه فیه، وکذلک إذا أدّی ترک التعلّم قبل الوقت إلی عدم إمکان إحراز الاتیان بالواجب وامتثاله فی الوقت، وفی کلا الفرضین یکون وجوب التعلّم بملاک أنّ ترکه یؤدّی إلی تفویت الملاک الملزم فی ظرفه أو عدم إحراز استیفائه، والفرق بین الفرضین إنّما هو فی نقطة اخری وهی أنّ وجوب التعلّم من باب وجوب المقدّمات المفوّتة فی الفرض الأول، ومن باب وجوب المقدّمات العلمیة وهی إحراز الامتثال الیقینی فی الفرض الثانی، ومن هنا یظهر أنّ ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ وجوب التعلّم لیس بملاک وجوب الاتیان بالمقدّمات المفوّتة قبل الوقت، لأنّ ملاک وجوب الاتیان بها هو أنّ ترکه یؤدّی إلی تفویت الملاک التامّ فی ظرفه بینما یکون ملاک وجوب التعلّم دفع احتمال العقاب باحراز الامتثال الیقینی لا یتمّ علی إطلاقه، لأنّه إنّما یتمّ فی الفرض الثانی دون الفرض الأول، فإنّ وجوب التعلّم فیه من باب وجوب المقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب، نعم وجوب التعلّم علی الثانی یکون إرشاداً إلی حکم العقل

ص:171

بدفع العقاب المحتمل بالتعلّم لکی یحرز الامتثال إمّا تفصیلا أو اجمالا(1) ، وأمّا وجوبه علی الأول فهو وجوب طریقی کما سوف نشیر إلیه.

ولهذا أورد علیه السید الاُستاذ (قدس سره) بأنّ ما أفاده لا یتمّ باطلاقه، وقد أفاد فی وجه ذلک ما حاصله أنّ ترک التعلّم قبل الوقت تارةً یکون من جهة أنّه متمکّن منه بعد الوقت، وحینئذ فلا إشکال فی جوازه وکذلک إذا لم یؤدّ ترک التعلّم قبل الوقت إلاّ إلی عدم التمکّن من الامتثال التفصیلی مع تمکّنه من الامتثال الاجمالی، وأمّا إذا أدّی ترک التعلّم إلی عدم التمکّن من الامتثال التفصیلی والاجمالی معاً مع تمکّنه من الامتثال الاحتمالی، ففی مثل ذلک یجب علیه التعلّم قبل الوقت بملاک إحراز الامتثال الیقینی ودفع العقاب المحتمل به علی أساس أنّ ملاک التکلیف فی ظرفه تامّ والمکلّف کان ملتفتاً إلیه وعالماً بعدم جواز تفویته ومعه لا یمکن الاکتفاء بالامتثال الاحتمالی لأنّه لا یکون مؤمناً ودافعاً للعقاب المحتمل، بل لابدّ حینئذ من التعلّم لکی یتمکّن من الامتثال العلمی، وما ذکره (قدس سره) تامّ فی هذا الفرض، وأمّا إذا أدّی ترک التعلّم قبل الوقت إلی ترک الواجب نهائیاً بعد الوقت کتعلّم أجزاء الصلاة، فإنّه لو لم یتعلّمها قبل الوقت لأدی إلی ترکها بعد الوقت لا إلی عدم إحراز امتثالها فلا یتمّ فیه ما ذکره (قدس سره)، فإنّ وجوب التعلّم فیها من باب وجوب المقدّمات المفوّتة لا من باب دفع العقاب المحتمل(2) ما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) من الایراد علی المحقّق النائینی (قدس سره) تام هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ ملاک وجوب التعلّم لأحکام الصلاة والحج

-

.

ص:172


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 157
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2: ص 367.

والصیام قبل الوقت إنّما هو نفس ملاک وجوب الاتیان بالمقدّمات المفوّتة، أمّا علی القول بامکان الواجب المعلّق فیکون الوجوب فعلیاً ومحرّکاً نحو الاتیان بالمقدّمات المفوّتة کما أنّه محرّک نحو تعلّمها، لأنّ فعلیة وجوب المقدّمة تتبع فعلیة وجوب ذیها، سواءً أکان ذیها فعلیاً أیضاً أم لا، وکذلک الحال علی القول بإمکان الواجب المشروط بالشرط المتأخّر، وأمّا علی القول بعدم إمکانهما معاً کما هو الصحیح، فالوجوب حینئذ وإن لم یکن فعلیاً إلاّ أنّک عرفت أنّ ملاکات هذه الواجبات تامّة فی أوقاتها من قبل هذه المقدّمات منها التعلّم، بمعنی أنّ تلک الملاکات منوطة بالقدرة المطلقة لا بالقدرة الخاصّة وهی القدرة علیها بعد الوقت، ونتیجة ذلک وجوب تحصیل القدرة علی المکلّف قبل أوقاتها بالاتیان بالمقدّمات المفوّتة والتعلّم هذا بحسب مقام الثبوت، وقد تقدّم أنّ هذه الفرضیة هی الصحیحة والمختارة فی المسألة وینحلّ الاشکال بها علی جمیع الأقوال فیها، وأمّا فی مقام الاثبات فهی بحاجة إلی دلیل والدلیل علیها هو الآیات و الروایات(1) الدالّة علی وجوب تعلّم الأحکام الشرعیة وتحصیل معرفتها کالأدلّة الدالّة علی وجوب المقدّمات المفوّتة، وقد أشرنا فیما تقدّم أنّ ما یدلّ علی وجوب هذه المقدّمات من الآیات والروایات یدلّ علی إهتمام المولی بالأحکام الواقعیة وملاکاتها وعدم رضائه بتفویتها من قبل تلک المقدّمات، وکذلک الآیات والروایات التی تنصّ علی تعلّم الأحکام الشرعیة، فإنّها تدلّ علی تمامیة ملاکاتها فی ظرفها وعدم جواز تعجیز المکلّف نفسه عن استیفائها بترک التعلّم اختیاراً لأنّ امتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار.

-

ص:173


1- (1) - کقوله تعالی:(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) و قوله (علیه السلام): هلاّ تعلّمت وما شاکل ذلک.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّ ترک التعلّم إن کان یؤدّی إلی ترک الواجب فی ظرفه، کان التعلّم من المقدّمات الوجودیة کالمقدّمات المفوّتة، وإن کان یؤدّی إلی عدم إحراز امتثاله لا تفصیلا ولا إجمالا، کان التعلّم من المقدّمات العلمیة، وملاک وجوب التعلّم فی کلا القسمین وهو فعلیة ملاکاتها واهتمام الشارع بالحفاظ علیها وعدم جواز تفویتها فی ظرفها ولو بترک التعلّم قبل الوقت.

ومن هنا تختلف المقدّمات العلمیة فی المقام عن المقدّمات العلمیة فی سائر الموارد، فإنّ الحاکم بوجوب المقدّمات العلمیة فی سائر الموارد هو العقل، وأمّا فی المقام فهو الشرع، إذ العقل لا یحکم بوجوب التعلّم قبل وقت الواجب لا من باب المقدّمات المفوّتة ولا من باب المقدّمات العلمیة فی المرتبة السابقة لکی یکون حکم الشرع إرشاداً إلیه، وعلی هذا فحکم الشرع بوجوب التعلّم بما أنّه لا یمکن أن یکون جزافاً، فلا محالة یکون مبنیاً علی نکتة وهی أنّه یکشف عن اهتمام الشارع بالأحکام الواقعیة وملاکاتها وعدم رضائه بتفویتها فی ظرفها ولو بالتساهل والتسامح فی التعلّم قبل أوقاتها.

المقام الثالث فی تعلم الأحکام الشرعیة قبل البلوغ فیما إذا علم بالابتلاء بعده

وأمّاالکلام فی المقام الثالث، وهو التعلّم قبل البلوغ فهل هو واجب علی الشخص إذا کان واثقاً ومطمئناً بأنّه إذا لم یتعلّم قبل البلوغ لم یتمکّن منه بعد البلوغ، فیه وجهان:

فذهب السید الاُستاذ (قدس سره) إلی الوجه الثانی وهو عدم وجوبه قبل البلوغ وإن علم بعدم تمکّنه منه بعد البلوغ، وقد أفاد فی وجه ذلک أنّ مقتضی حدیث رفع القلم عن الصبی(1) أنّه لا یترتّب علی ترک التعلّم قبل بلوغه أثر، إذ لا حکم له قبل

-

ص:174


1- (1) - راجع الوسائل ج 1: ص 32 ب 4 من مقدّمة العبادات ح 11.

البلوغ ولا ملاک، لأنّ الحکم بتمام مراحله من مرحلة المبادیء إلی مرحلة الجعل مشروط بالبلوغ فلا أثر له قبله، وأمّا بعده فللعجز وعدم القدرة، فإذن لا یکون الحکم بما له من الملاک فعلیاً فی حقّه لا قبل البلوغ ولا بعده، فإذا لم یکن فعلیاً فی حقّه فلا طریق لنا إلی إحراز أنّ ملاکه فعلی، وعلیه فلا یکون الصبی مشمولا لقاعدة أنّ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ هذا الحدیث وارد علی حکم العقل بوجوب التعلّم قبل البلوغ إذا علم بأنّه لا یتمکّن منه بعده، وذلک لأنّ العقل إنّما یحکم بذلک لدفع العقاب المحتمل علی ترک التعلّم، والمفروض أنّ الحدیث المذکور رافع لاحتمال العقاب ومعه یرتفع حکم العقل بارتفاع موضوعه(1) هذا.

وذهب بعض آخر إلی الوجه الأول وهو وجوب التعلّم قبل البلوغ إذا علم بأنّه لا یتمکّن منه بعد البلوغ، مثلا من لم یتعلّم الصلاة بما لها من الأجزاء والشرائط قبل البلوغ فلا یقدر علی تعلّمها بعده فی ضمن ساعات ولا سیّما بالنسبة إلی غیر أهل اللسان، بدعوی أنّ المرفوع بحدیث الرفع الالزام کوجوب الصلاة مثلا، فإنّه قابل للرفع دون الملاک فی مرحلة المبادیء باعتبار أنّه أمر تکوینی غیر قابل لا للرفع ولا للوضع شرعاً، فالنتیجة أنّ الحدیث یدلّ علی أنّ المرفوع عن الصبی وجوب الصلاة لأملاکه، فإذا ظلّ ملاکها علی حاله لم یجز تفویته، وحیث إنّه منوط بالقدرة المطلقة فیجب علی الصبی تحصیل القدرة قبل البلوغ إذا لم یتمکّن من تحصیلها بعده هذا، والتحقیق فی المقام أن یقال أنّ المتفاهم العرفی من حدیث رفع القلم بقرینة وروده فی مقام الامتنان أنّ المقتضی للتشریع موجود، ولکن هذا المقتضی لیس بنحو یتطلّب من الصبی تحصیل القدرة

-

ص:175


1- (1) - المحاضرات ج 2: ص 274-275.

علی استیفاء الملاک فی ظرفه من الآن وقبل البلوغ إذا علم بأنّه لا یتمکّن منه بعد البلوغ، إذ لو کان المقتضی بهذه الدرجة لزم من الامتنان عدم الامتنان ولا یترتّب أثر حینئذ علی رفع القلم، لأنّ حقیقة الحکم وروحه باقیة وبکلمة أنّ المقتضی للتشریع وإن کان موجوداً إلاّ أنّ مصلحة الامتنان أقوی منه، فلهذا تصلح أن تمنع عن تأثیره قبل البلوغ ولا یتطلّب منه تحصیل القدرة من الآن.

ومن هنا یظهر حال ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الوجوب إذا کان مرفوعاً عن الصبی بالحدیث، فلا طریق إلی أنّ ملاکه ثابت فی الواقع، لأنّ الطریق إلیه منحصر بالوجوب ومع ارتفاعه یرتفع الطریق، وجه الظهور أنّ الرفع فی الحدیث حیث إنّه امتنانی فهو بنفسه قرینة علی ثبوت الملاک والمقتضی له فی الواقع وإلاّ فلا معنی للامتنان، غایة الأمر أنّ مصلحة الامتنان بما أنّها أقوی منه فهی تمنع عن تأثیره لا أنّ وجوده غیر معلوم.

کما أنّه بذلک یظهر حال القول الثانی، وجه الظهور هو أنّ المقتضی وإن کان ثابتاً إلاّ أنّه بنحو الاقتضاء، فلا تأثیر له فعلا.

المقام الرابع: فی تعلم الأحکام الشرعیة قبل دخول وقتها فیما إذا لم یعلم بالابتلاء بها بعده
اشارة

وأمّا الکلام فی المقام الرابع، فقد تقدّم أنّ تعلّم الأحکام الشرعیة واجب قبل الابتلاء بها بلا فرق بین أن تکون الأحکام من الأحکام المطلقة أو الموقّتة، شریطة العلم بالابتلاء أو الاطمئنان به، وأمّا إذا لم یعلم بالابتلاء فهل یجب التعلّم فی هذه الحالة أیضاً أو لا، فیه وجهان، المعروف والمشهور بین الأصحاب الوجه الأول، وقد استدلّ علی ذلک بأمرین:

الأول: بحکم العقل، بدعوی أنّ احتمال الابتلاء بالأحکام الواقعیة التی تکون ملاکاتها تامّة فی ظرفها مساوق لاحتمال العقاب علی تفویتها علی تقدیر ثبوتها، ومن الواضح أنّ العقل حیث إنّه مستقل بدفع العقاب المحتمل، فلذلک یحکم بوجوب تعلّمها حتّی لا تفوت عنه إذا ابتلی بها.

ص:176

الثانی: أنّ الأدلّة الدالّة علی وجوب التعلّم من الآیات(1) والروایات(2) تشمل باطلاقها صورة الشک فی الابتلاء بالأحکام الشرعیة فی ظرفها ولا تختص بصورة العلم بالابتلاء، لأنّ مقتضی إطلاقها وجوب تعلّم جمیع الأحکام الشرعیة سواء علم المکلّف بالابتلاء بها أم لم یعلم، لأنّ موضوع تلک الأدلّة الأحکام الشرعیة ومفادها وجوب تعلّمها، وأمّا کون المکلّف عالماً بالابتلاء بها أو غیر عالم به فهو أجنبی عن موضوعها ولا یکون مقیّداً بالعلم بالابتلاء بها هذا، وللمناقشة فی کلا الدلیلین مجال.

أمّا الدلیل الأول وهو حکم العقل، فالاستدلال به فی غیر محلّه، وذلک لأنّ العقل بقطع النظر عن الکتاب والسنّة الدالّین علی وجوب تعلّم الأحکام الشرعیة قبل الابتلاء بها لا طریق له إلی ملاکات الأحکام الواقعیة حتّی یحرز أنّها تامّة حتّی من ناحیة التعلّم قبل الوقت، فلذلک لا موضوع لحکم العقل فی المقام.

وأمّا الدلیل الثانی وهو إطلاق الأدلّة من الآیات والروایات، فیرد علیه أنّها لا تشمل صورة الشک فی الابتلاء لأنّها مختصّة لبّاً وواقعاً بالأحکام التی یکون مورد الابتلاء فی الواقع، ولهذا لا تدلّ علی وجوب تعلّم الأحکام المختصّة بالنساء علی الرجال وبالعکس، بل لو علم شخص من جهة عجزه البدنی کالمشلول أنّه لا یقدر علی الحج طول عمره مباشرة لم یجب علیه تعلّم أحکامه لعدم إطلاق لها من هذه الناحیة، والنکتة فی ذلک أنّ مناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة القطعیة قرینة عرفیة علی أنّها متّجة إلی من تکون

-

ص:177


1- (1) - کقوله تعالی:(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
2- (2) - کقوله (علیه السلام): هلاّ تعلّمت وما شاکل ذلک.

الأحکام الشرعیة مورد ابتلائها لا مطلقاً، إذ لا مبرّر لوجوب تعلّم ما لا یکون مورد الابتلاء أصلا.

وعلی هذا فموضوع هذه الأدلّة مقیّد فی الواقع بخصوص الأحکام التی تکون مورد الابتلاء، وحینئذ فإذا شکّ فی حکم أنّه مورد الابتلاء أو لا فلا یمکن التمسّک باطلاقها، لأنّ الشبهة موضوعیة. فلا یمکن التمسّک به فیها، وقد ذکرنا فی الاُصول أنّه لا فرق فی عدم جواز التمسّک بالعام فی الشبهات الموضوعیة بین أن یکون الدلیل المخصّص لفظیاً أو لبّیاً، کما أنّه لا فرق فی ذلک بین العام الوضعی والمطلق الثابت إطلاقه بمقدّمات الحکمة، وتمام الکلام هناک، هذا من ناحیة.

هل یمکن التمسک بالأصول العملیة النافیة فی موارد الشک فی الابتلاء

ومن ناحیة اخری هل یمکن التمسّک بالاُصول العملیة النافیة فی موارد الشکّ فی الابتلاء بعد ما لا یمکن التمسّک بالاُصول اللفظیة والجواب إنّ هنا صوراً:

الاُولی: ما إذا کانت کبری التکلیف واصلة إلی المکلّف ولکنّه یشکّ فی تحقّق صغری لها، کما إذا علم بوجوب الدعاء مثلا عند رؤیة الهلال ولکنّه یشک فی تحقّق الرؤیة.

الثانیة: عکس هذه الصورة، بأن یعلم بتحقّق الصغری ولکنّه یشک فی تحقّق الکبری، کما إذا رأی الهلال ولکنّه یشک فی وجوب قراءة الدعاء.

الثالثة: أنّ الکبری واصلة إلی المکلّف، کما إذا علم بوجوب الحجّ علی المستطیع ولکنّه یشک فی أنّه هل یستطیع فی المستقبل.

أمّا الصورة الاُولی فلا شبهة فی أنّ المرجع فیها الاُصول المؤمنة النافیة کاستصحاب عدم تحقّق الصغری، فإذا شکّ فی رؤیة الهلال وتحقّقها فمقتضی الاستصحاب عدم تحقّقها ویترتّب علیه عدم وجوب تعلّم قراءة الدعاء وهذا لا

ص:178

إشکال فیه.

وأمّا الصورة الثانیة، فحیث أنّ الشبهة فیها حکمیة وتکون قبل الفحص، فیجب فیها الاحتیاط أو الفحص وتحصیل الحجّة علی عدم وجوب التعلّم.

وأمّا الصورة الثالثة فهل یجب فیه تعلّم الأحکام کأحکام الحج إذا کان ترک التعلّم من الآن موجباً للعجز عن الامتثال فی حینه، فیه وجهان قیل بعدم وجوب التعلّم، بمقتضی استصحاب عدم الابتلاء بها فی المستقبل، أو فقل أنّ المکلّف إذا شکّ فی أنّه هل یستطیع فی المستقبل أو لا، فلا مانع من التمسّک باستصحاب عدم استطاعته فیه بنحو الاستصحاب القهقرائی، وبه ینفی الصغری للکبری الواصلة وهی وجوب الحجّ علی المستطیع ویترتّب علیه عدم وجوب تعلّم أحکام الحجّ هذا.

وقد أورد علی هذا الاستصحاب بوجوه:

الأول: أنّ هذا الاستصحاب بما أنّه استصحاب قهقرائی فلا یکون مشمولا لاطلاق روایات الاستصحاب، باعتبار أنّها ظاهرة فی فعلیة زمان الشک وتقدّم زمان الیقین، وأمّا إذا کان الأمر بالعکس فلا یکون مشمولا لاطلاقها.

الثانی: ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّه لا یمکن نفی وجوب التعلّم باستصحاب عدم الابتلاء بالواقع لأنّه من آثار نفس الشکّ والاحتمال وهو محرز بالوجدان، ولیس من آثار الواقع لکی یمکن نفیه باستصحاب عدم ثبوت الواقع عند الشک فیه، وإن شئت قلت أنّ الأثر فی کل مورد إذا کان مترتّباً علی نفس الشک والاحتمال دون الواقع فمتی شک فیه، فالموضوع محرز بالوجدان ومعه لا معنی لنفی الواقع بالاستصحاب لأنّه لغو صرف، وما نحن فیه کذلک، فإنّ الأثر فیه مترتّب علی نفس احتمال الابتلاء والشک فیه،

ص:179

والمفروض أنّه فی المقام محرز بالوجدان فلابدّ من ترتیب أثره علیه، وأمّا الابتلاء الواقعی فبما أنّه لا أثر له فلا یجری استصحاب عدمه(1).

وقد ناقش السید الاُستاذ (قدس سره) فی کلا الوجهین:

أمّا الوجه الأول، فقد ذکر (قدس سره) أنّه لا فرق فی حجّیة الاستصحاب بین أن یکون المشکوک لاحقاً والمتیقّن سابقاً کما هو الغالب أو بالعکس، فإنّ الملاک فی حجّیة الاستصحاب عدم جواز نقض الیقین بالشک ولا خصوصیة لأن یکون الشک فی بقاء الیقین السابق، لأنّ دلیل الاستصحاب دلیل ارتکازی ومفاده عدم جواز رفع الید عن الأمر المبرم بغیر المبرم، ولیس دلیلا تعبّدیاً محضاً حتّی یقال أنّه لابدّ من الاقتصار علی مورده، والخلاصة أنّه لا فرق فی جریان الاستصحاب بین أن یکون الشک فعلا فی بقاء الأمر السابق أو یکون مستقبلا فی بقاء الأمر الحالی.

وأمّا الوجه الثانی، فقد ذکر (قدس سره) أنّ الحکم العقلی وإن لم یکن قابلا للتخصیص إلاّ أنّه قابل للتخصّص والخروج الموضوعی، بمعنی أنّه قابل للرفع بارتفاع موضوعه، فإنّ رفع العقاب المحتمل وقبح العقاب بلا بیان من القواعد العقلیة التی استقلّ العقل بها ومع ذلک فهی قابلة للرفع بارتفاع موضوعها، فإنّ المولی إذا جعل الترخیص فی مورد القاعدة الاُولی إرتفعت القاعدة بارتفاع موضوعها وجداناً وهو احتمال العقاب، وإذا جعل البیان فی مورد القاعدة الثانیة ارتفعت القاعدة الثانیة بارتفاع موضوعها کذلک وهو عدم البیان(2) ، فالنتیجة أنّ القاعدة العقلیة قابلة للرفع بارتفاع موضوعها وإن لم تکن قابلة

-

ص:180


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 158.
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2: ص 371.

للتخصیص، وما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّ احتمال الابتلاء الذی هو موضوع للأثر وإن کان محرزاً بالوجدان إلاّ أنّ استصحاب عدم الابتلاء واقعاً إذا جری کان رافعاً للابتلاء الواقعی تعبّداً وبه یرتفع موضوع الأثر وهو احتمال الابتلاء، فیکون المکلّف ببرکة الاستصحاب عالماً بعدمه وهذا لیس من التخصیص فی الحکم العقلی بشیء، بل هو ارتفاعه بارتفاع موضوعه، وإن شئت قلت أنّ موضوع حکم العقل هنا احتمال العقاب علی مخالفة الواقع، ومن الطبیعی أنّه لا احتمال للعقاب بعد فرض التعبّد الاستصحابی هذا.

ولنا تعلیق علی کلا الجوابین أمّا علی الجواب الأول، فلأنّ دلیل الاستصحاب دلیل تعبّدی صرف فی مورده ولا یکون من تطبیق الکبری الکلّیة الارتکازیة علیه لکی یمکن التعدّی عنه إلی غیره من الموارد، لأنّ النهی عن نقض الیقین بالشک فیه کنایة عن العمل بالحالة السابقة تعبّداً فی حال الشک فیها، فإذن یکون مفاد دلیل الاستصحاب تعیین الوظیفة العملیة عند الشک فی بقاء الحالة السابقة من دون أن یکون هناک مرجّح للبقاء لأنّ شکّه لا یقتضی ذلک، وما قیل من أنّ الشیء إذا وجد دام لا أصل له بل هو یختلف باختلاف الأشیاء، ولیس فی مورد الاستصحاب ما یقتضی کونه طریقاً إلی الواقع ومحرزاً له، ومن هنا قلنا فی مورده أنّ الاستصحاب لیس من الاُصول المحرزة بل حاله حال الاُصول غیر المحرزة فلا فرق بینهما من هذه الناحیة، وعلی هذا فمفاد دلیل الاستصحاب تعیین وظیفة الشاکّ وهی العمل بالحالة السابقة تعبّداً بدون النظر إلی الواقع، فإذن التعدّی منه إلی ما إذا کان المکلّف متیقّناً فعلا وشاکّاً فی المستقبل بحاجة إلی قرینة من ارتکاز أو غیره، وإلاّ فلابدّ من الاقتصار علی مورده وهو ما إذا کان المکلّف شاکّاً فعلا ومتیقّناً سابقاً.

والخلاصة أنّ دلالة روایات الاستصحاب علی حجّیة الاستصحاب

ص:181

الاستقبالی بحاجة إلی قرینة داخلیة أو خارجیة، وحیث إنّها لم تکن فلا تدلّ علی حجیّته وتمام الکلام هناک.

وأمّا علی الجواب الثانی فلأنّ ما ذکره (قدس سره) من أنّ حکم العقل غیر قابل للتخصیص ولکنّه قابل للتخصّص والخروج الموضوعی وإن کان تامّاً بحسب الکبری، إلاّ أنّ المقام لیس من صغریاتها، وذلک لأنّ المکلّف إذا علم بثبوت الکبری وهی وجوب الحج علی المستطیع وشک فی إستطاعته فی المستقبل، ففی مثل ذلک وجوب التعلّم بحکم العقل علی أساس احتمال أنّه سوف یستطیع، مبنی علی إحرازه أنّ ملاک وجوب الحجّ علی المستطیع تامّ فی ظرفه من قبل المقدّمات المفوّتة منها التعلّم، ولکن لا واقع لهذا البناء، ضرورة أنّه لا طریق للعقل إلی إحراز أنّ ملاک الحج تام فی وقته من قبل المقدّمات المفوّتة منها التعلّم قبل الاستطاعة حیث لا طریق له إلی ملاکات الأحکام الشرعیة أصلا، وعلی هذا فمجرد احتمال أنّه سوف یستطیع فی المستقبل لا یبرّر حکم العقل بوجوب التعلّم طالما لم یحرز تمامیة الملاک فی ظرفه، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری قد أشرنا فیما تقدّم أنّ موضوع دلیل وجوب التعلّم الابتلاء الواقعی بالأحکام الشرعیة، فإذا شکّ فیه ولو من جهة الشکّ فی تحقّق موضوعه فلا یمکن التمسّک باطلاقه لأنّه من التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة، فإذن یکون المرجع فیه الأصل العملی وهو الاستصحاب فی المقام بناءً علی حجّیة الاستصحاب الاستقبالی، وإلاّ فالمرجع فیه قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

الوجه الثالث: ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أنّ هناک مانعاً آخر عن جریان الاستصحاب فی المقام وهو متمثّل فی أحد أمرین: الأول: أنّ کل

ص:182

مکلّف یعلم اجمالا بالابتلاء بقسم من الأحکام الشرعیة فی ظرفها، وهذا العلم الاجمالی مانع عن جریان الاُصول النافیة فی أطرافه، لأنّ جریانها فی الجمیع لا یمکن لاستلزامه الترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة وجریانها فی البعض دون الآخر ترجیح من غیر مرجّح فلا محالة تسقط فیکون العلم الاجمالی منجّزاً ومعه یستقل العقل بوجوب التعلّم والفحص.

الثانی: أنّ ما دلّ من الآیات والروایات علی وجوب التعلّم والمعرفة کقوله تعالی:(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (1). وقوله (علیه السلام): هلاّ تعلّمت(2) و ما شابه ذلک وارد فی مورد هذا الاستصحاب، وحیث إنّ فی غالب الموارد لا یعلم الإنسان بل لا یطمئن بالابتلاء، ففی تلک الموارد إذا جری الاستصحاب لم یبق تحت هذه العمومات والمطلقات إلاّ الموارد النادرة، و هذا من تقیید المطلق بالفرد النادر فلا یمکن الالتزام به، ونظیر ذلک ما ذکره (قدس سره) فی بحث الاستصحاب فی وجه تقدیم قاعدة الفراغ والتجاوز علیه(3).

ویمکن المناقشة فی کلا الأمرین:

أمّا فی الأمر الأول: فیرد علیه أولا أنّه لا یتمّ مطلقاً حتّی فیما إذا فرض غفلة المکلّف نهائیاً عن هذا العلم الاجمالی، فإنّه فی هذا الفرض لا مانع من تمسّکه بهذا الاستصحاب، حیث لا یلزم منه المحذور المزبور، إذ مع الغفلة لا وجود للعلم الاجمالی حتّی یکون مؤثّراً.

-

.

ص:183


1- (1) - سورة النحل: 46
2- (2) - تفسیر البرهان ج 1: ص 560 ح 2، ولا یخفی أنّ أصل الحدیث قد نقله الصدوق (قدس سره) فی الخصال وقد لاحظنا الوسائل والمستدرک والبحار فلم نعثر علیه فراجع.
3- (3) - المحاضرات ج 2: ص 373.

وثانیاً أنّ هذا إنّما یتمّ فیما إذا لم یتعلّم مجموعة من الأحکام التی لا تکون أقل من المعلوم بالاجمال، وإلاّ فینحلّ العلم الاجمالی وحینئذ فلا مانع من جریانه.

وثالثاً أنّ محلّ الکلام إنّما هو فی وجوب التعلّم فی موارد الشکّ فی الابتلاء بها بدواً من دون العلم به لا تفصیلا ولا إجمالا، وإلاّ کان العلم المذکور کافیاً فی وجوب تعلّمها.

وأمّا فی الأمر الثانی، فلأنّ ما أفاده (قدس سره) مبنی علی أن یکون موضوع وجوب التعلّم نفس الشکّ والاحتمال فی الابتلاء، وحینئذ فحیث إنّ موارد الشکّ فیه أکثر من موارد الیقین، فلو جری الاستصحاب فی تلک الموارد لزم تقیید إطلاق أدلّة وجوب التعلّم بالفرد النادر ولکنّه لا یتمّ، أمّا أولا فلأنّ موضوع وجوب التعلّم لیس نفس الشک فی الابتلاء بل هو الابتلاء الواقعی کما تقدّم، وحینئذ فلا یلزم من جریان الاستصحاب فیه ما ذکره (قدس سره) من المحذور.

وثانیاً علی تقدیر تسلیم أنّ موضوعه نفس الشک ولکن مع هذا لا یلزم المحذور علی ضوء ما سلکه (قدس سره) فی باب الاستصحاب من أنّ المجعول فیه الطریقیة والکاشفیة.

وعلیه فیکون الاستصحاب حاکماً علی تلک الأدلّة ورافعاً لموضوعها وهو الشک والاحتمال تعبّداً، فلا یکون تقدیمه علیها من باب التقیید والتخصیص بل من باب الحکومة وحینئذ فلا محذور، إلی هنا قد تبیّن أنّه یجب تعلّم الأحکام الشرعیة فی موارد العلم التفصیلی بالابتلاء وکذلک فی موارد العلم الاجمالی علی أساس سقوط الاُصول المؤمنة فی أطرافه أو قصور أدلّتها عن شمولها.

وأمّا فی موارد الشبهات البدویة، فقد تقدّم أنّه لا یمکن التمسّک باطلاق

ص:184

أدلّة وجوب التعلّم فیها، لأنّه من التمسّک بالعام فی الشبهات المصداقیة، وعندئذ فإن کانت الشبهة حکمیة بأن یکون الشک فی الکبری مع تحقّق الصغری، وجب الاحتیاط فیها أو الفحص وتحصیل الحجّة علی عدم ثبوت الکبری، وإن کانت الشبهة موضوعیة، وحینئذ فإن کان الشک فی تحقّق الصغری فعلا مع العلم بثبوت الکبری شرعاً، فلا مانع من الرجوع إلی الاُصول المؤمنة فیه کاستصحاب عدم تحقّق الصغری، وبذلک ینفی وجوب التعلّم، وإن کان الشک فی تحقّق الصغری فی المستقبل، کما إذا احتمل أنّه سوف یستطیع للحج، ففی مثل ذلک حیث قد تقدّم الاشکال فی جریان استصحاب عدم تحقّق الصغری فیه، فیکون المرجع قاعدة قبح العقاب بلا بیان باعتبار أنّه لم یقم بیان علی وجوب التعلّم فی المقام.

المقام الخامس: هل انّ وجوب التعلم نفسی أو غیری أو إرشادی أو طریقی

وأمّا الکلام فی المقام الخامس، وهو أنّ وجوب التعلّم هل هو نفسی أو غیری أو لا هذا ولا ذاک بل هو إرشادی أو طریقی، ففیه وجوه:

الوجه الأول: ما نسب إلی المحقّق الأردبیلی (قدس سره) وهو أنّ وجوب التعلّم نفسی(1) ، بل ربما نسب هذا القول إلی شیخنا الأنصاری (قدس سره) أیضاً بقرینة قوله فی رسالته العملیة أنّ تارک التعلّم فاسق(2) ، ولکن فی دلالة تلک الجملة علی هذا القول تأمل، وکیف کان فقد ادّعی المحقّق الأردبیلی (قدس سره) أنّه نفسی تهییء، أمّا أنّه نفسی فلأنّه مجعول من أجل ما فیه من الملاک لا من أجل ما فی واجب آخر کما هو الحال فی الوجوب الغیری، وأمّا أنّه تهییء فمن أجل أنّه یحافظ علی ملاکات الأحکام الواقعیة، وعلیه فتکون فیه جهتان:

-

.

ص:185


1- (1) - راجع مجمع الفائدة والبرهان ج 2: ص 110 مبحث مکان المصلّی
2- (2) - وقد نسبه المحقّق النائینی إلی الشیخ الأعظم فی أجود التقریرات ج 1: ص 158.

الاُولی: جهة نفسیة وهی اتّصافه بالملاک.

الثانیة: جهة غیریة وهی جعل وجوبه من أجل الحفاظ علی الملاکات الواقعیة، وکلتا الجهتین تدعو المولی إلی جعل التعلّم واجباً نفسیاً تهیئیاً.

والجواب: أنّ ذلک وإن کان ممکناً ثبوتاً إلاّ أنّه لا یمکن إثباته بدلیل، لأنّ الأدلّة الدالّة علی وجوب التعلّم لا تدلّ علی أنّ وجوبه نفسی بل لا إشعار فیها علی ذلک فضلا عن الدلالة، لوضوح أنّ وجوبه إنما هو من أجل الحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من الملاکات التامّة لا من أجل نفسه، إذ لا یحتمل أن تکون فی نفس التعلّم وتحصیل العلم مصلحة ملزمة تدعو إلی إیجابه بقطع النظر عمّا یترتّب علی الواقع المنکشف به من المصالح والآثار المطلوبة، لأنّ قیمة العلم إنّما هی بقیمة الملعوم و آثاره العامّة أو الخاصّة لا فی نفسه، بل فی قوله (علیه السلام): «هلاّ تعلّمت»(1) تصریح بأنّ التعلّم إنّما هو من أجل العمل بالواقع، ومن هنا لا یمکن الالتزام بلازم هذا القول وهو إستحقاق العقوبة علی ترک التعلّم زائداً علی استحقاق العقوبة علی ترک الواقع وتفویته.

فالنتیجة أنّه لا یمکن الالتزام بأنّ وجوب التعلّم وجوب نفسی تهییء.

وأمّا القول الثانی، وهو أنّ وجوبه غیری، فقد أورد علیه بأنّ ما یتّصف بالوجوب الغیری هو المقدّمات الوجودیة التی یتوقّف وجود الواجب علیها دون المقدّمات العلمیة التی یتوقّف العلم بالواجب علیها، والتعلّم بما أنّه من المقدّمات العلمیة فلا یتّصف بالوجوب الغیری، فلهذا لا یمکن الالتزام بهذا القول.

والجواب: أنّ هذا الإیراد لا یتمّ مطلقاً، فإنّ المقدّمة العلمیة وإن لم

-

ص:186


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم: ص 113.

تتّصف بالوجوب الغیری إلاّ أنّ التعلّم کما مرّ لیس مقدّمة علمیة مطلقاً بل هو فی بعض الموارد مقدّمة وجودیة کتعلّم الصلاة بما لها من الأجزاء والشروط. فإنّه مقدّمة وجودیة لها، وعلی هذا فإن کان ملاک عدم اتّصافه بالوجوب الغیری کونه مقدّمة علمیة، فلابدّ حینئذ من التفصیل بین الموارد التی یکون التعلّم فیها مقدّمة وجودیة والموارد التی یکون التعلّم فیها مقدّمة علمیة، فعلی الأول یتّصف بالوجوب الغیری دون الثانی.

وإن کان ملاک عدم اتّصافه به عدم الدلیل علیه وقصور المقتضی، فحینئذ لا فرق بین کونه مقدّمة وجودیة أو علمیة، فإنّه لا مقتضی لکون وجوبه غیریاً، لأنّ مفاد الأدلّة الدالّة علی وجوبه إمّا إرشادی أو طریقی ولا ثالث لهما.

وأمّا القول الثالث وهو أنّ وجوب التعلّم إرشادی، فقد أورد علیه السید الاُستاذ (قدس سره) بأنّ مفاد أدلّة وجوب التعلّم لو کان إرشادیاً، لم یکن هناک مانع من التمسّک بأصالة البراءة فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص، وقد أفاد فی وجه ذلک أنّ المقتضی للتمسّک بها موجود وهو إطلاق أدلّتها والمانع مفقود، لأنّ المانع منه إنّما هو أدلّة وجوب التعلّم، ولکن لو کان مفادها الإرشاد إلی حکم العقل بوجوب التعلّم من باب دفع العقاب المحتمل من دون أن تکون لها أثر لزم هذا المحذور، وهو جواز التمسّک بأصالة البراءة فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص، باعتبار أنّ العقل لا یمنع عن التمسّک بها فیها لأنّها رافعة لحکم العقل بارتفاع موضوعه و هو احتمال العقاب وجداناً، ضرورة أنّه مع أصالة البراءة المؤمنة لا احتمال للعقاب(1).

-

ص:187


1- (1) - المحاضرات ج 2: ص 376.

ویمکن المناقشة فیه بتقریب، أنّه لا إطلاق لأدلّة أصالة البراءة للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالی والشبهات الحکمیة قبل الفحص، لأنّها منصرفة عن تلک الشبهات عرفاً، أو أنّ هناک قرینة لبّیة عقلیة کالمتّصل مانعة عن انعقاد ظهورها فی الاطلاق وهی أنّ الرجوع إلیها فی تلک الشبهات یؤدّی فی مخالفة الواقع وتفویت الملاکات الملزمة فی ظرفها فی کثیر من الموارد، فإذن لا مانع من الالتزام بهذا القول من هذه الناحیة.

وبکلمة أنّ ما دلّ علی وجوب التعلّم من الآیات والروایات مدلولین:

الأول: المدلول المطابقی وهو وجوب التعلّم وتکون دلالته علیه بالمطابقة.

الثانی: المدلول الالتزامی وهو أنّ ملاکات الأحکام الواقعیة تامّة فی ظرفها ویدلّ علیه بالالتزام، هذا بحسب مقام الاثبات، وأمّا بحسب مقام الثبوت والواقع، فالمدلول الالتزامی هو الملاک والمنشأ لمدلوله المطابقی وهو وجوب التعلّم، لوضوح أنّه لولا تمامیة ملاکاتها فی ظرفها من قبل التعلّم لم یکن هناک مبرّر لجعل وجوبه، فالمبرّر له إنّما هو تمامیة الملاکات فیه وإلاّ فلا یکون المکلّف مسؤولا أمامها قبل الابتلاء بها، وأمّا بعده فإن تمکّن من الامتثال تفصیلا أو اجمالا فهو، وإن لم یتمکّن فهو معذور فلا شیء علیه، فإذن جعل وجوب التعلّم فی مقام الاثبات کاشف عن أنّ ملاکات الأحکام الواقعیة تامّة فی ظرفها وهی تدعو المولی إلی جعل هذا الوجوب بغرض الحفاظ علی الملاکات الواقعیة وعدم تفویتها، وعلی هذا فلابدّ من النظر إلی أنّ هذا الوجوب هل هو إرشادی أو طریقی بعد ما لا یمکن أن یکون نفسیاً أو غیریاً.

أمّا الاحتمال الأول، فلانَّه إن کان إرشادیاً فهو إرشاد لا إلی حکم العقل

ص:188

مباشرة بل إلی أنّ ملاکات الأحکام الشرعیة تامّة فی ظرفها، فإذا کانت کذلک وجب الحفاظ علیها وعدم جواز تفویتها عقلا، وعلی هذا فأدلّة وجوب التعلّم وإن کانت صورة إنشاء إلاّ أنّها فی الحقیقة إخبار عن تمامیة ملاکات الأحکام الشرعیة فی الواقع، فتکون منشأ لحکم العقل بوجوب التعلّم والفحص والحفاظ علیها وعدم جواز تفویتها.

وأمّا الاحتمال الثانی، وهو الوجوب الطریقی فإنّ الغرض من جعله هو تنجیز الواقع عند الاصابة والتعذیر عند الخطأ کحجّیة الأمارات علی الطریقیة، فإنّ شأنها تنجیز الواقع إذا أصابت والتعذیر إذا أخطأت، ومن هنا یکون وجوب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص علی تقدیر ثبوته وجوباً طریقیاً وبیاناً علی الأحکام الواقعیة وکاشفاً عن اهتمام الشارع بها حتّی فی حال الجهل بها، وأنّه لا یرضی بتفویتها حتّی فی هذه الحالة ومنجّزاً لها بمعنی أنّ العقاب علی ترکها حینئذ یکون مع البیان.

وکذلک الحال فی وجوب التعلّم الذی هو مفاد الأدلّة المذکورة فإنّه وجوب طریقی ودالّ علی اهتمام الشارع بالأحکام الواقعیة وتمامیة ملاکاتها فی ظرفها، وأنّه لا یجوز تفویتها بحال حتّی فی حال الشک والجهل بها، ووجوب تحصیل القدرة علیها قبل الوقت إن لم یتمکّن منه بعد الوقت، ومنجّز لها بمعنی أنّ العقاب علی ترکها فی وقتها معه لا یکون بلا بیان بل مع البیان کما هو مقتضی قوله (علیه السلام): «هلاّ تعلّمت»، وإن شئت قلت أنّ للوجوب الطریقی الشرعی أثرین:

الأول: أنّه بیان علی الواقع ومنجّز له ویکون العقاب علی ترکه حینئذ مع البیان لا بلا بیان.

الثانی: أنّه کاشف عن اهتمام الشارع بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة

ص:189

وملاکاتها التامّة وعدم جواز تفویتها حتّی فی حال الشک والجهل بها.

ثمّ أنّ الظاهر من أدلّة وجوب التعلّم أنّ وجوبه طریقی لا إرشادی بقرینة ظهورها فی الانشاء والجعل المولوی حقیقة، فلو کان مفادها الارشاد فهی فی الحقیقة إخبار بصورة الانشاء ولا یمکن حملها علی ذلک إلاّ بقرینة ولا قرینة لا فی نفس هذه الأدلّة ولا من الخارج، فإذن لابدّ من الأخذ بظاهرها وهو أنّها فی مقام المولویة بغرض الحفاظ علی الأحکام الواقعیة وملاکاتها فی ظروفها وأوقاتها ودلالتها علی اهتمام الشارع بها وعدم رضائه بتفویتها فی وقتها ولو بترک تحصیل القدرة علیها قبل الوقت.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّ وجوب التعلّم لیس بنفسی ولا غیری ولا إرشادی، أمّا الأول والثانی، فلأنّ معیار الوجوب النفسی والوجوب الغیری لا ینطبقان علیه، وأمّا الثالث فهو مبنی علی أن یکون مفادها الإخبار حقیقة بصورة الانشاء، ومن الواضح أنّ حملها علی ذلک بحاجة إلی قرینة ولا قرینة علیه، فإذن لابدّ من الأخذ بظاهرها وهو الوجوب المولوی الطریقی.

نتائج البحث

الاُولی: أنّ وجوب تعلّم الأحکام الشرعیة المطلقة أو الموقّتة قبل الابتلاء بها إنّما هو فیما إذا لم یتمکّن المکلّف من امتثالها بعد الابتلاء لا تفصیلا ولا إجمالا وإلاّ فلا مقتضی لوجوب تعلّمها من الآن.

الثانیة: أنّ التعلّم قد یکون من المقدّمات الوجودیة کالمقدّمات المفوّتة، فإنّ وجود الواجب یتوقّف علیه کتعلّم القراءة فی الصلاة والرکوع والسجود وسائر أجزائها، فإنّ وجود الصلاة یتوقّف علیه وقد یکون من المقدّمات

ص:190

العلمیة.

الثالثة: عدم وجوب تعلّم الأحکام الشرعیة علی الصبی قبل بلوغه، وهذا لا من جهة أنّ المقتضی للوجوب غیر موجود بالنسبة إلی الصبی الممیّز، ولکن مصلحة الامتنان حیث إنّها أقوی منه، فهی تمنع عن تأثیره.

الرابعة: أنّ المکلّف إذا لم یعلم بالابتلاء بالحکم فی المستقبل، فهل یجب علیه تعلّمه؟ الجواب: أنّ المعروف والمشهور وجوب تعلّمه، ولکن تقدّم أنّه لا یخلو عن مناقشة.

الخامسة: أنّ الشک فی الابتلاء إن کان من الشبهة الحکمیة بأن یعلم المکلّف بالصغری ویشک فی الکبری، فالمرجع فیه الاحتیاط بوجوب التعلّم وإن کان من الشبهة الموضوعیة بأن یعلم بالکبری ویشک فی الصغری، فالمرجع هو استصحاب عدم تحقّق الصغری، هذا إذا کان الشک فی تحقّق الصغری فعلا، وأمّا إذا کان الشک فی تحقّقها فی المستقبل، کما إذا علم بوجوب الحج علی المستطیع ولکنه یشک فی أنّه هل یستطیع فی المستقبل؟ ففی مثل ذلک هل یجری الاستصحاب الاستقبالی؟

والجواب: أنّ جریانه لا یخلو عن إشکال والمرجع فیه قاعدة البراءة العقلیة.

السادسة: أنّ أدلّة وجوب التعلّم لا تشمل صورة الشک فی الابتلاء واحتماله، لأنّه موضوعه مقیّد بالابتلاء واقعاً وغیر المبتلی کذلک خارج عن موضوعه، وعلیه فلا یمکن التمسّک بعمومها وإطلاقها فی موارد الشک فی الابتلاء لأنّه من التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة، فلهذا یکون المرجع فیها الاُصول العملیة.

السابعة: أنّ وجوب التعلّم لیس بنفسی ولا غیری ولا إرشادی، لأنّ

ص:191

معیار الوجوب النفسی لا ینطبق علیه وکذلک معیار الوجوب الغیری، وأمّا الوجوب الارشادی فهو بحاجة إلی قرینة ولا قرینة علیه فی المقام، فلهذا یتعیّن کونه طریقیاً وأثره أمران:

الأول: تنجیز الواقع بمعنی أنّ العقاب علی مخالفته حینئذ یکون مع البیان.

الثانی: کشفه عن اهتمام الشارع بالحفاظ علی الواقع وعدم جواز تفویته بحال.

ص:192

البحث الخامس:فی الواجب النفسی والواجب الغیری

اشارة

فی الواجب النفسی والواجب الغیری

یقع الکلام فیه فی عدّة نقاط:

الاُولی: فی نقطة الفرق بین ذاتی الواجب النفسی والواجب الغیری.

الثانیة: فی نقطة الفرق بین الواجبین فی الأصل اللفظی والأصل العملی.

الثالثة: فی ترتّب الثواب والعقاب علی الواجب الغیری وعدم ترتّبهما علیه.

أمّا الکلام فی النقطة الاُولی فقد ذکر الاُصولیون عدّة فروق بینهما.

النقطة الأولی: الفرق بین ذاتی الواجب النفسی و الواجب الغیری

الأول: أنّ الواجب النفسی هو ما وجب لنفسه لا من أجل واجب آخر کالصلاة والصیام والحج وغیرها من الواجبات النفسیة، والواجب الغیری هو ما وجب لأجل واجب آخر کالوضوء والغسل والتیمّم ونحوها، فإنّها واجبة لا من أجل نفسها بل من أجل واجب آخر.

وقد نوقش فیه بأنّ هذا الفرق لیس بجامع، فإنّ مقتضاه خروج کثیر من الواجبات النفسیة عن هذا التعریف ودخولها فی الواجب الغیری کالصلاة والصیام والحج وما شاکلها، فإنّ هذه الواجبات جمیعاً واجبة من أجل مصالح

ص:193

وملاکات لزومیة مترتّبة علیها، فیکون وجوبها من أجل تلک الملاکات والمصالح لا من أجل نفسها، فإذن تکون مشمولة لتعریف الواجب الغیری دون النفسی.

والخلاصة أنّ الواجب بالأصالة ولنفسه إنّما هو تحصیل تلک المصالح والملاکات اللزومیة، وحیث إنّه لا یمکن مباشرة فلذلک أوجب الشارع هذه الأفعال کالصلاة والصیام ونحوها مقدّمة لإیجادها وتحصیلها فی الخارج، ونتیجة هذا الفرق انحصار الواجب النفسی بمعرفة الباری عزّوجلّ فإنّها واجبة لنفسها لا من أجل الغیر، وأمّا ما عداها جمیعاً من الواجبات الغیریة سواءً کانت من الواجبات العملیة کالصلاة والصیام ونحوهما أم العقائدیة کمعرفة النبوّة والإمامة وغیرهما، فإنّها جمیعاً من أجل معرفة الباری عزّوجلّ لا بالذات.

وقد یجاب عن هذه المناقشة، بأنّ وجوب الواجب النفسی وإن کان فی الحقیقة من أجل حصول المصلحة الملزمة وترتّبها علیه لا لنفسه، إلاّ أنّ المصلحة المذکورة لما کانت خارجة عن نطاق قدرة المکلّف واختیاره لم یعقل تعلّق الوجوب بها، فإذن ینطبق علیه تعریف الواجب النفسی وهو ما وجب لنفسه لا لواجب آخر.

وقد علّق علی هذا الجواب المحقّق الخراسانی (قدس سره) بتقریب، أنّه إن ارید بذلک أنّ المصالح والملاکات اللزومیة خارجة عن قدرة المکلّف واختیاره مطلقاً، فیردّه أنّ الأمر لیس کذلک، فإنّها وإن کانت خارجة عن نطاق قدرة المکلّف مباشرة إلاّ أنّها مقدورة بالواسطة والمفروض أنّ المقدور بالواسطة مقدور ولا مانع من تعلّق التکلیف به کذلک، کما إذا أمر المولی عبده بتسخین ماء مثلا أو طبخ شیء فإنّه قادر علیه من جهة قدرته علی إیجاد سببه،

ص:194

فالنتیجة أنّ القدرة قد تتعلّق بالفعل بشکل مباشر وقد تتعلّق به بالواسطة(1) هذا.

وقد ناقش فی هذا التعلیق المحقّق الأصفهانی (قدس سره) بتقریب، أنّه فرق بین الارادة التکوینیة والارادة التشریعیة، فإنّ الارادة إذا کانت تکوینیة فإن تعلّقت بشیء فلا محالة یکون تعلّقها به بغایة، فإذا أراد الإنسان شراء لحم کان بغرض طبخه والغرض من الطبخ أکله والغرض منه إقامة البدل لما یتخلّل من البدن والغرض منه إبقاء الحیاة والغرض منه إبقاء وجوده وذاته، فهذا غایة جمیع الغایات للشوق الحیوانی، وإذا کان الشوق عقلائیاً، فغایة بقائه إطاعة ربّه والتخلّق بأخلاقه، فبالنهایة ینتهی إلی معرفة ربّه، فغایة الغایات وهی مبدأ المبادیء غایة لجمیع الغایات العقلائیة.

وهذا بخلاف ما إذا کانت الإرادة تشریعیة، فإنّها عبارة عن إرادة الفعل من الغیر، وعلی هذا فیمکن أن یکون الفعل مراداً من شخص والغرض منه لا یکون مراداً من ذلک الشخص، فإذا أراد المولی العرفی شراء لحم من زید، فإنّ الغرض منه وإن کان طبخه ولکنّه غیر مراد منه، بل لعلّه مراد من عمرو واحضاره فی المجلس مراد من بکر وهکذا، إذ لا تنافی بین کون الشیء مراداً من أحد والغرض منه غیر مراد منه وإن کان مقصوداً من الفعل لترتّبه علیه.

ومنه یعلم حال الصلاة وسائر الواجبات، فإنّ الغرض من الصلاة وإن کانت مصلحتها إلاّ أنّها غیر مرادة من المکلّف لا بالغرض ولا بالذات، بل المراد بالذات من المکلّف نفس الصلاة، فالإرادة التشریعیة متقوّمة بإرادة الفعل من الغیر لا أنّها مطلق الشوق حتّی یقال أنّ الشوق إلی الصلاة منبعث عن الشوق إلی غایتها إلی أن ینتهی إلی غایة الغایات، ومن هنا یکون جمیع آثار

-

ص:195


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 108.

الواجب النفسی الحقیقی من کونه محرّکاً ومقرّباً وموجباً لاستحقاق الثواب علی موافقته والعقاب علی مخالفته مترتّبة علی هذه الواجبات النفسیة المتعارفة، فإنّها المرادة من المکلّف بالذات فإرادتها منه هی الداعیة له فهی المقرّبة له(1).

ولکن للمناقشة فیما أفاده (قدس سره) مجالا واسعاً، إذ لا شبهة فی أنّ المصالح والملاکات اللزومیة المترتّبة علی الواجبات الشرعیة کالصلاة والصیام والحج ونحوها مقصودة ومرادة من المکلّف أولا وبالذات، لوضوح أنّ الأمر بالصلاة إنّما هو من جهة إشتمالها علی المصلحة الملزمة وترتّبها علیها، فإنّها تدعو المولی إلی إیجابه وإلاّ لکان وجوبها لغواً، والمفروض أنّ تلک المصالح والملاکات ترجع إلی العباد، فإیجاب هذه الواجبات الشرعیة إنّما هو لإدراک العباد تلک المصالح ووصولهم إلیها وأن لا تفوت عنهم، ولا یمکن فرض أنّ الصلاة مطلوبة من شخص والغرض المترتّب علیها مطلوب من آخر وهکذا، بل أنّ هذا فی نفسه غیر معقول فی الواجبات الشرعیة، باعتبار أنّ ترتّب المصالح اللزومیة علیها من قبیل ترتّب الأثر علی المؤثّر فلا یمکن أن یکون الشخص مکلّفاً به فحسب لأنّه خارج عن اختیاره وقدرته، وما أفاده (قدس سره) مبنی علی الخلط بین الواجبات العرفیة والواجبات الشرعیة، فإنّ هذا التفکیک ممکن فی الواجبات العرفیة، حیث لا مانع من أن یکون الفعل فیها مراداً من شخص وما یترتّب علیه الغرض مراداً من آخر باعتبار أنّ الغرض هناک لا یرجع إلی المأمور بل یرجع إلی الآمر، وحینئذ فیمکن التفکیک بأن یکون الفعل الذی هو بمثابة المقدّمة مطلوباً من فرد وتحصیل الغرض منه مطلوباً من

-

ص:196


1- (1) - نهایة الدرایة ج 2: ص 101-102.

فرد آخر وهکذا، وأمّا فی الواجبات الشرعیة فلا یعقل ذلک، لأنّ المصلحة فیها ترجع إلی العبد وهو مأمور بتحصیلها لا إلی المولی من جهة وعدم إمکان التفکیک بینهما خارجاً من جهة اخری، فما أفاده (قدس سره) من أنّ الغرض من الصلاة وإن کانت مصلحتها إلاّ أنّها غیر مرادة من المکلّف لا بالغرض ولا بالذات غریب جدّاً، وبکلمة أنّ ما ذکره (قدس سره) من أنّ المصلحة المترتّبة علی الصلاة مثلا غیر مرادة من المکلّف لا بالذات ولا بالغرض، إن أراد بذلک أنّ الارادة التشریعیة متعلّقة بالفعل لا بها و لا بالغرض و لا بالذات، فیرد علیه أنّها متعلّقة بها بالذات، وأمّا تعلّقها بالصلاة باعتبار أنّها مقدّمة لها هذا إذا کان المراد من الارادة التشریعیة القصد والشوق، وأمّا إذا کان المراد منها أمر المولی، فهو وإن کان متعلّقاً بالفعل کالصلاة إلاّ أنّ تعلّقه بالفعل إنّما هو لتحصیل المصلحة الملزمة المترتّبة علیه، فإنّه المقصود بالأصالة دون الفعل بما هو، ولهذا تکون تلک المصلحة هی حقیقة الأمر وروحه لا مجرد الاعتبار، وإن أراد بذلک أنّها غیر مقدورة للمکلّف، فقد تقدّم أنّها مقدورة بالواسطة وهی تکفی فی صحّة التکلیف والارادة، وإن أراد بذلک أنّها غیر قابلة لتعلّق التکلیف بها باعتبار أنّه لا طریق للمکلّف إلیها ولا یعلم بها ولا بحدودها سعة وضیقاً، ففیه أنّ هذا وإن کان صحیحاً إلاّ أنّ ذلک لا یمنع عن کونها مرادة ومقصودة بالذات من المکلّف تحصیلها.

وأمّا ما ذکره (قدس سره) من أنّ جمیع آثار الواجب النفسی مترتّبة علی الأفعال الواجبة ککونها محرّکة ومقرّبة وموجبة لاستحقاق الثواب علی موافقتها والعقوبة علی مخالفتها فهو صحیح، إلاّ أنّ ترتّب تلک الآثار علی هذه الواجبات إنّما هو باعتبار اشتمالها علی المصالح والملاکات اللزومیة التی هی الداعیة إلی إیجابها، لأنّ العقوبة فی الحقیقة إنّما هی علی تفویتها والمثوبة علی استیفائها والأمر بالصلاة إنّما هو محرّک بلحاظ ما فیها من المصلحة الملزمة،

ص:197

وإلاّ فلا قیمة للأمر بما هو اعتبار.

فالنتیجة أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ الواجبات الشرعیة کالصلاة ونحوها مقصودة بالذات من المکلّف والمصلحة المترتّبة علیها لیست مرادة منه لا بالعرض ولا بالذات لا یرجع إلی معنی صحیح، کما أنّه ظهر بما ذکرناه أنّ هذا الفرق بین الواجب النفسی والواجب الغیری غیر فارق.

الثانی: ما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) من أنّ الواجب النفسی ما یکون معنوناً بعنوان حسن فی نفسه لا من أجل واجب آخر، ویستقل العقل بمدح فاعله وذمّ تارکه وهو یدعو المولی إلی إیجابه من أجل حسنه الذاتی، ولا منافاة بین کونه حسناً فی نفسه ومتعلّقاً للوجوب کذلک، وبین کونه مقدّمة لمصلحة ملزمة مطلوبة واقعاً، بینما الواجب الغیری ما یکون کذلک من أجل واجب آخر لا من أجل حسنه الذاتی، وإن فرض أنّه حسن فی نفسه کالطهارات الثلاث، فإنّها وإن کانت معنونة بعنوان حسن إلاّ أنّ الأمر الوجوبی المتعلّق بها لیس من أجل حسنها ذاتاً بل من أجل واجب آخر کالصلاة ونحوها، فلهذا یکون وجوبها غیریاً مترشحاً من وجوب واجب آخر.

والخلاصة أنّ الضابط فی کون الواجب نفسیاً أو غیریاً هو أنّ کلّما کان وجوبه متعلّقاً به بلحاظ حسنه الذاتی فهو واجب نفسی وإن کان مقدّمة لمطلوب آخر کصلاة الظهر، فإنّها علی الرغم من کون وجوبها بلحاظ حسنها الذاتی مقدّمة لواجب آخر وهو صلاة العصر، فإنّ ذلک لا یضرّ بکونها واجبة نفسیة، وکلّما کان وجوبه متعلّقاً به من أجل واجب آخر ومترشّحاً من وجوبه فهو واجب غیری وإن کان حسناً فی نفسه هذا(1).

-

ص:198


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 108.

وقد أورد علی هذا الوجه المحقّق النائینی (قدس سره) بما یلی: وهو أنّ حسن الواجبات الشرعیة کالصلاة ونحوها إن کان بلحاظ مقدّمیة تلک الواجبات للمصالح والملاکات اللزومیة فالإشکال قد ظلّ بحاله، فإنّها فی نفسها لیست بحسنة وإنّما هی حسنة بالتبع وبالغیر لا بالذات، وإن کان ذاتیاً لها بقطع النظر عن تلک المصالح والملاکات الملزمة المترتّبة علیها، فلازم ذلک أن لا یکون شیء من الواجبات النفسیة فی الشریعة المقدّسة متمحّضاً فی الواجب النفسی وذلک لاشتمالها علی ملاکین:

أحدهما: حسنها الذاتی، فإنّه ملاک وجوبها النفسی، والآخر کونها مقدّمة لواجب آخر، فإنّه ملاک وجوبها الغیری کصلاة الظهر، فإنّها واجبة لنفسها ومقدّمة لغیرها وهی صلاة العصر، وکذلک الحال فی صلاة المغرب فإنّها واجبة لنفسها ومقدّمة لواجب آخر وهو صلاة العشاء هذا(1).

وفیه أنّ هذا الإشکال لا یرجع بالتحلیل إلی معنی صحیح، أمّا الشقّ الأول منه فهو إشکال معروف فی الألسنة وسوف یأتی الجواب عنه. وأمّا الشقّ الثانی فهو لیس بإشکال، إذ لا مانع من أن یکون الواجب النفسی مقدّمة لواجب آخر کصلاة الظهر، فإنّها علی الرغم من کونها واجبة نفسیة مقدّمة لواجب نفسی آخر وهو صلاة العصر، وکذلک الحال فی صلاة المغرب فإنّها ترغم کونها واجبة نفسیة مقدّمة لواجب نفسی آخر وهو صلاة العشاء وهکذا، والنکتة فی ذلک أنّ مقدّمیتها بملاک ونفسیتها بملاک آخر ولا یرتبط أحد الملاکین بالآخر ولا تنافی بینهما، فما ذکره (قدس سره) من أنّ الواجبات النفسیة إن کانت نفسیتها بلحاظ حسنها الذاتی بقطع النظر عن المصالح والملاکات

-

ص:199


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 167.

المترتّبة علیها، فلازم ذلک أن لا یوجد هناک واجب متمحّض فی الواجب النفسی، ففیه أنّه لیس إشکالا فی المسألة، فإنّ الکلام فیها إنّما هو فی الفرق بین الواجب النفسی والواجب الغیری وهو متحقّق فی هذه الموارد، فإنّ صلاة الظهر واجب نفسی بملاک وواجب غیری بملاک آخر ولا یمکن أن تکون واجباً نفسیاً وغیریاً بملاک واحد، ولیس الکلام فی أنّ الواجب النفسی لابدّ أن یکون متمحّضاً فی النفسیة، ضرورة أنّ الفرق بینهما لا یقتقضی ذلک هذا، والصحیح فی الجواب أن یقال أنّ دعوی الحسن الذاتی فی جمیع الواجبات النفسیة فی الشریعة المقدّسة لا تخلو عن مجازفة، ضرورة أنّ مجموعة من الواجبات النفسیة لم تکن فی ذاتها حسنة بقطع النظر عن أمر الشارع بها وکشفه عن إشتمالها علی المصالح والملاکات اللزومیة کبعض أعمال الحج کالسعی بین الصفا والمروة ورمی الجمرات والذبح والحلق والمبیت فی منی ونحو ذلک، والصوم مثلا. فإنّ الکفّ عن الأکل والشرب فی نهار شهر رمضان ولا سیّما فی فصل الصیف الحار لا یکون محبوباً فی نفسه وحسناً بذاته وهکذا، لأنّ العقل لا یدرک حسن هذه الأفعال فی نفسها حتّی بنحو الاقتضاء، فإذن کیف یمکن أن یقال أنّ ملاک الواجب النفسی حسنه الذاتی، هذا إضافة إلی أنّ مجرد حسن فعل لا یصلح أن یکون ملاکاً للوجوب، ومن هنا لا شبهة فی أنّ احترام المؤمن حسن ولکنّه غیر واجب شرعاً وهکذا، فالنتیجة أنّه لا یمکن أن یکون ملاک الوجوب النفسی حسنه الذاتی هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ ملاک الوجوب هو اتّصاف الفعل بالمصلحة الملزمة فی مرحلة المبادیء، وملاک الحرمة هو اتّصاف الفعل بالمفسدة الملزمة فی هذه المرحلة، وقد تقدّم أنّه لا ملازمة بین حکم العقل العملی وبین حکم الشرع، فإنّ هذه الکبری غیر ثابتة وإن کانت صغراها ثابتة وهی حکم العقل

ص:200

بالحسن والقبح، وأمّا الملازمة بین حکم العقل النظری وحکم الشرع فهی وإن کانت ثابتة کبرویاً إلاّ أنّه لا وجود لها فی مرحلة التطبیق صغرویاً، وتمام الکلام فی ذلک قد تقدّم.

الثالث: ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من إنّ الأمر لا یمکن أن یتعلّق بالغایات القصوی المترتّبة علی الواجبات الشرعیة، بتقریب أنّ الغایات تقسّم إلی ثلاثة أقسام، الأول ما یترتّب علی الفعل الخارجی من دون توسّط أمر اختیاری أو غیر اختیاری بینه وبین ذلک الفعل، وذلک کالزوجیة المترتّبة علی العقد والطهارة المترتّبة علی الغسل أو الوضوء والقتل المترتّب علی سببه وما شاکل ذلک، فإذا کانت الغایة من هذا القبیل فلا مانع من تعلّق التکلیف بها، لأنّها مقدورة بواسطة القدرة علی سببها.

الثانی: ما یترتّب علی الفعل الخارجی بتوسّط أمر اختیاری خاصّة، وذلک کالصعود علی السطح وطبخ اللحم وما شاکلهما، فإنّ کلّ ذلک فی الخارج یتوقّف علی عدّة مقدّمات اختیاریة، وفی هذا الصنف أیضاً لا مانع من تعلّق التکلیف بنفس الغایة والغرض علی أساس أنّ المقدور بالواسطة مقدور.

الثالث: ما یترتّب علی الفعل الخارجی بتوسط أمر خارج عن الاختیار، فتکون نسبة الفعل إلیه نسبة المعدّ إلی المعدّ له، لا نسبة السبب إلی المسبّب والعلّة إلی المعلول وذلک کحصول الثمر من الزرع، فإنّه یتوقّف زائداً علی زرع الحبّ فی الأرض وجعلها صالحة له وسقیها علی مقدّمات اخری خارجة عن اختیار الإنسان، فالمقدّمات الاختیاریة مقدّمات إعدادیة فحسب، ومثل ذلک شرب الدواء للمریض، فإن تحسّن حاله یتوقّف علی مقدّمة اخری خارجة عن اختیاره، وهذا الصنف ممّا لا یمکن تعلّق التکلیف به لأنّه تکلیف بغیر المقدور وما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّ نسبة الأفعال الواجبة إلی ما یترتّب علیها من المصالح

ص:201

والملاکات اللزومیة نسبة المعدّ إلی المعدّ له، حیث إنّ بینهما مقدّمات خارجة عن إختیار المکلّف، وعلیه فلا یمکن تعلّق التکلیف بتلک المصالح والملاکات، لفرض أنّها خارجة عن اختیار المکلّف هذا(1).

وقد أورد علیه السید الاُستاذ (قدس سره) بأنّ ما أفاده (قدس سره) وإن کان تامّاً بالنسبة إلی الغرض الأقصی لأنّه خارج عن قدرة المکلّف واختیاره کالنهی عن الفحشاء الذی هو الغایة القصوی من الصلاة، فإنّه لا یترتّب علیها ترتّب المعلول علی العلّة التامّة بل ترتّبه علیها یتوقّف علی مقدّمة اخری خارجة عن اختیار المکلّف وقدرته، إلاّ أنّه غیر تامّ بالنسبة إلی الغرض الأدنی وهو حیثیّة الإعداد والتهیّؤ للوصول إلی الغرض الأقصی، والمفروض أنّ تلک الحیثیة مترتّبة علی الواجبات الشرعیة ترتّب المسبّب علی السبب والمعلول علی العلّة التامّة، وحیث إنّ السبب مقدور للمکلّف فلا مانع من تعلّق التکلیف بالمسبّب، فیکون المقام نظیر الأمر بزرع الحبّ فی الأرض، فإنّ الغرض الأقصی منه وهو حصول النتاج وإن کان خارجاً عن اختیار المکلّف، إلاّ أنّ الغرض الأدنی المترتّب علی الزرع من دون تخلّف وهو إعداد المحل وتهیّؤه مقدور له بالقدرة علی سببه، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری حیث إنّ الغرض المترتّب علی تلک الأفعال ترتّب المسبّب علی السبب لزومیاً علی الفرض فبطبیعة الحال یتعیّن التکلیف به لکونه مقدوراً، وعلی ذلک یبقی إشکال دخول الواجبات النفسیة فی تعریف الواجب الغیری بحاله(2).

-

.

ص:202


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 167
2- (2) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2: ص 385.

وقد ناقش فیه بعض المحقّقین (قدس سره) أنّ التهیّؤ والإعداد الموصل إلی الغرض الأقصی أیضاً خارج عن قدرة المکلّف، وأمّا الاعداد والتهیّؤ الأعم من الموصل وغیر الموصل فحاله حال الفعل من حیث إنّه لیس المطلوب الحقیقی ولا النفسی ولا الغیری بناءً علی ما هو الصحیح من اختصاص الوجوب والشوق الغیریین بالمقدّمة الموصلة، وإنّما هو المطلوب بالمسامحة، ومن الواضح أنّه لا فرق فی إعمال المسامحة بین أن یطلب الإعداد أو ذات الفعل هذا.

ولکن هذه المناقشة غیر سدیدة، وذلک لأنّ أمر المولی بشیء لا یمکن أن یکون جزافاً وبدون نکتة مبرّرة له وتلک النکتة هی المصلحة المترتّبة علیه، فإنّها تدعو المولی إلی الأمر به وإیجابه، ومن الطبیعی أنّ هذه المصلحة هی مصلحة الاعداد والتهیّؤ للوصول إلی المصلحة الأقصی، فإنّ الواجبات الشرعیة العملیة کالصلاة والصیام والحج ونحوها تجعل النفس مستعدّة للوصول إلی الغایة القصوی وهی الإیمان الکامل، حیث لا شبهة فی أنّ العلاقة الإیمانیة فی النفس تنمو وتترسّخ فیها بالاستمرار علی تلک الواجبات والتداوم علیها وبالاجتناب عن المحرّمات، والخلاصة أنّ التهیّؤ والإعداد هو المطلوب من هذه الواجبات الشرعیة وهو الداعی إلی إیجابها من قبل المولی، غایة الأمر إن کان موصلا إلی الغرض الأقصی فهو نور علی نور، وإلاّ فالغرض الأولی قد حصل منها، ضرورة أنّ إعداد النفس للوصول إلی درجة عالیة من الإیمان بنفسه مطلوب باعتبار أنّه مرتبة بدائیة من الإیمان، وهذا لا ینافی کونه مقدّمة لمطلوب أقصی إذ لا یمکن القول بأنّ الإعداد والتهیّؤ لیس مطلوباً حقیقیاً لا نفسیاً ولا غیریاً إذا لم یکن موصلا إلی الغرض الأقصی، إذ لازم ذلک أن یکون

ص:203

الأمر بتلک الواجبات بلا مبرّر وهو لا یمکن(1) ، وما ذکره (قدس سره) من أنّ الإعداد والتهیّؤ لا یکون مطلوباً حقیقة وإنّما هو مطلوب مسامحة فلا یمکن المساعدة علیه، إذ لا شبهة فی أنّ الإعداد والتهیّؤ مطلوب بالذات بمرتبته لأنّه المرتبة البدایة من الإیمان، فإنّ له درجات من الدانیة إلی العالیة وما یترتّب علی الواجبات الشرعیة ترتّب الأثر علی المؤثّر والمسبّب علی السبب هو الدرجة الاُولی من الإیمان، ومن الواضح أنّها مطلوبة بالذات وفی نفس الوقت مقدّمة للدرجة الثانیة وهکذا، نعم مطلوبیتها المقدّمیة منوطة بالإیصال بناءً علی ما هو الصحیح من أنّ المقدّمة إنّما تکون مطلوبة إذا کانت موصلة لا مطلقاً، وأمّا مطلوبیتها الذاتیة فهی ثابتة مطلقاً ولا ترتبط بالإیصال.

فالنتیجة أنّ هذه المناقشة غیر تامّة، وهل یتمّ ما أفاده السیّد الاُستاذ (قدس سره) من الإیراد؟ والجواب أنّه لا یتمّ وسوف تأتی الإشارة إلی ذلک.

الرابع: ما ذکره السیّد الاُستاذ (قدس سره) من أنّ المصالح والملاکات المترتّبة علی الواجبات الشرعیة وإن کانت ملزمة بل هی الداعیة إلی الأمر بها إلاّ أنّها غیر قابلة لتعلّق التکلیف بها، لأنّ تعلّق التکلیف بشیء مبنی علی أساس أمرین:

الأول: أن یکون ذلک الشیء مقدوراً للمکلّف، لاستحالة تعلّق التکلیف بغیر المقدور.

الثانی: أن یکون ذلک الشیء أمراً عرفیاً وقابلا لأن یقع فی حیّز التکلیف لدی العرف العام، بأن یکون مفهوماً عرفیاً مجدّداً جزءً وقیداً سعة وضیقاً کالصلاة والصیام ونحوهما، وعلی هذا فالمصالح والملاکات اللزومیة

-

ص:204


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول ج 2: ص 222.

المترتّبة علی الواجبات الشرعیة کالصلاة ونحوها وإن کانت مقدورة للمکلّف من جهة قدرته علی أسبابها، إلاّ أنّها لیست من المفاهیم العرفیة المحدّدة سعة وضیقاً حتّی یمکن أخذها فی متعلّق الخطابات الشرعیة علی أساس أنّها خطابات عرفیة فلابدّ أن تکون متعلّقاتها امور عرفیة محدّدة، وحیث إنّ المصالح والملاکات المترتّبة علینا مجهولة الهویة والحدود لدی العرف، باعتبار أنّه لا طریق لهم إلیها ولا إلی حدودها سعة وضیقاً، فلا یمکن تعلّق الخطابات الشرعیة بها، ضرورة أنّ متعلّقاتها لابدّ أن تکون معلومة ومحدّدة ولا یعقل تعلّقها بالمجهول هویة وحدوداً.

فإذن لا محالة یکون متعلّق الوجوب نفس الأفعال الخارجیة بمفاهیمها العرفیة المحدّدة من حیث السعة والضیق من قبل الشرع دون المصالح والملاکات المترتّبة علیها، وعلی هذا فینطبق علیها تعریف الواجب النفسی وهو ما وجب لنفسه لا لأجل واجب آخر، فالصلاة واجبة لنفسها لا لأجل واجب آخر وهکذا، فالنتیجة أنّ الواجبات المذکورة واجبات نفسیة والمصالح المترتّبة علیها داعیة إلی الأمر بها(1) هذا.

والجواب: أنّ ما ذکره (قدس سره) من أنّ المصالح والملاکات اللزومیة المترتّبة علی الواجبات الشرعیة بما أنّها مجهولة الهویة والحدود عند العرف، فلا یمکن تعلّق الخطابات الشرعیة بها وإن کان صحیحاً، إلاّ أنّ ذلک وحده لا یجدی فی دفع الاشکال، وذلک لأنّ للواجب النفسی تفسیرین:

الأول: أن لا یکون وجوبه ناشئاً من وجوب واجب آخر.

الثانی: أن لا یکون وجوبه لأجل شیء آخر.

-

ص:205


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2: ص 386.

وما ذکره (قدس سره) إنّما یتمّ علی ضوء التفسیر الأول، فإنّ وجوب الصلاة علی أساس هذا التفسیر وجوب نفسی، باعتبار أنّ وجوبها غیر ناشیء من وجوب واجب آخر. وأمّا علی ضوء التفسیر الثانی فلا یتمّ ما أفاده (قدس سره)، لأنّ وجوب الصلاة إنّما هو لأجل شیء آخر وهو المصلحة اللزومیة المترتّبة علیها، فإنّها حقیقة الوجوب وروحه هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری الصحیح فی تفسیر الواجب النفسی هل هو الأول أو الثانی؟

والجواب الصحیح هو الثانی، ولا یجوز الاقتصار علی الأول، لأنّ لازمه أنّ المناط فی الواجب النفسی أن یکون وجوبه متعلّقاً به أولا وبالذات بأن لا یکون معلولا لوجوب واجب آخر، وإن کان معلولا لشیء آخر الذی هو أهم من الوجوب بمعنی الاعتبار وهو المصلحة الملزمة المترتّبة علیه وهذا کما تری، لأنّ لازم ذلک هو أنّ وجوب الواجب إن کان ناشئاً عن وجوب واجب آخر فهو واجب غیری، وإن کان ناشئاً عمّا هو روح الوجوب وحقیقته فلیس بواجب غیری، ولهذا فلا یمکن الاقتصار علی التفسیر الأول، وعلیه فحیث إنّ وجوب الصلاة من أجل مصلحة لزومیة قائمة بها ومترتّبة علیها فی الخارج فلا یکون نفسیاً، ومجرّد أنّ وجوبها لم ینشأ من وجوب واجب آخر لا یکفی فی کونها واجبة نفسیة طالما یکون وجوبها لأجل غیرها لا لنفسها، لعدم صدق تعریف الواجب النفسی علیها، فالمعیار فیه ما کان وجوبه لنفسه لا لأجل غیره، وفی الغیری ما کان وجوبه لأجل غیره سواءً کان ذلک الغیر واجباً أم لم یکن واجباً، إذ لا أثر لوجوبه من هذه الناحیة. وبکلمة أنّ وجوب الواجب المتعلّق به أولا وبالذات، فإن کان ناشئاً عن محبوبیة نفسه وتعلّق إرادة المولی به کذلک فی مرحلة المبادیء فهو واجب نفسی، وإن کان ناشئاً

ص:206

عن محبوبیة غیره وتعلّق إرادة المولی بذلک الغیر فی تلک المرحلة فهو واجب غیری، وما نحن فیه کذلک، فإنّ الوجوب المتعلّق بالصلاة إنّما هو لأجل المصلحة اللزومیة المترتّبة علیها لا لأجل محبوبیة نفسها، وإرادة المولی تعلّقت بتحصیل تلک المصلحة أصالة وبالصلاة تبعاً، وعدم تعلّق الوجوب إنّما هو به لمانع کما مرّ، وفی مثل ذلک لا محالة یکون وجوبها غیریاً حکماً وملاکاً، أمّا الأول فیکون لأجل غیرها لا لنفسها، وأمّا ملاکاً فلأنّ متعلّق إرادة المولی بالذات هو حصول المصلحة اللزومیة لا نفسها إلاّ تبعاً، وعلی هذا فالخطاب الوجوبی المتعلّق بالصلاة مثلا وإن لم یکن مسبوقاً بالخطاب الوجوبی بتحصیل المصلحة واستیفائها ومعلولا له إلاّ أنّه معلول لحقیقة الخطاب وهی إرادة المولی والمصلحة اللزومیة، فإذن بطبیعة الحال یکون وجوبها غیریاً، إذ لا یمکن القول بأنّ وجوبها إن کان ناشئاً عن وجوب واجب آخر فهو غیری، وإن کان ناشئاً عن ملاکه الذی هو حقیقة الوجوب وروحه لم یکن غیریاً.

هذا إضافة إلی أنّ وجوب المقدّمة لیس معلولا لوجوب ذیها بالمعنی الواقعی لأنّه أمر اعتباری وبید المعتبر وصفاً ورفعاً ولا یتصوّر فیه التأثیر والتأثّر، وعلی هذا فالوجوب حیث إنّه فعل اختیاری للشارع فلا یعقل أن یکون مترشّحاً من وجوب آخر قهراً، فإذن لا یمکن أن تکون الملازمة بین وجوب المقدّمة ووجوب ذیها تکوینیة بأن یکون وجوب المقدّمة مترشّحاً من وجوب ذیها قهراً کترشّح المعلول عن العلّة وتولّده عنها، وإلاّ فلازم ذلک أن یکون الوجوب أمراً تکوینیاً وهذا خلف، فإذن یکون المراد من الملازمة بینهما الملازمة فی الجعل بمعنی أنّ الشارع إذا جعل الوجوب لشیء بالأصالة جعل الوجوب لمقدّمته أیضاً بالتبع، وحینئذ فإذا کان هناک مانع عن جعل الوجوب لذلک الشیء بسبب أو آخر

ص:207

مع وجود ملاکه فیه الذی هو حقیقة الوجوب وروحه فلا محالة یجعل الشارع الوجوب لمقدّمته، لأنّ مراد الشارع بالأصالة ومقصوده الحقیقی تحصیل الملاک واستیفائه کان هناک وجوب بمعنی الاعتبار أم لا، فإذا کان ذلک متوقّفاً علی مقدّمة فلا محالة بأمر الشارع بها تبعاً، والمفروض أنّ الأمر بالمقدّمة لیس معلولا للأمر بذیها لکی لا یمکن فرض الأمر بالمقدّمة بدون الأمر به بل کلاهما مجعول من قبل الشارع، فإذا لم یمکن جعل الأمر الأول لمانع فلا مانع من جعل الأمر الثانی وهو الأمر بالمقدّمة، إلی هنا قد تبیّن أنّ ما ذکره السیّد الاُستاذ (قدس سره) من الفرق بین الواجب النفسی والواجب الغیری لا یمکن المساعدة علیه.

الخامس ما ذکره بعض المحقّقین (قدس سره) بتقریب أنّ ملاک النفسی والغیری فی تعریف المشهور لیس بلحاظ عالم الملاک والمبادیء بل بلحاظ عالم الالزام وتحمیل المسؤولیة من قبل المولی علی العبد، فإنّ الواجب النفسی ما یعاقب علی ترکه بما هو هو والواجب الغیری ما لا یعاقب علی ترکه بما هو هو بل بما هو یؤدّی إلی ترک شیء آخر، وعلی هذا فإذا جعل المولی نفس المصلحة فی عهدة المکلّف ابتداءً واشتغلت ذمّته بها کانت هی الواجب النفسی، والفعل بما أنّه محصّل لها فیکون وجوبه غیریاً لأنّ اشتغال الذمّة واستحقاق العقوبة یکونان بلحاظها.

وأمّا إذا جعل المولی نفس العمل کالصلاة والصیام ونحوهما فی العهدة واشتغلت الذمّة به، کان الفعل واجباً نفسیاً، لأن استحقاق العقوبة إنّما هو بلحاظه لا بلحاظ المصالح المترتّبة علیه(1) هذا.

ویمکن المناقشة فیه بتقریب أنّ متعلّق الالزام وإن کان نفس الفعل

-

ص:208


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول ج 2: ص 221.

کالصلاة والصیام ونحوهما، إلاّ أنّه لا فرق من هذه الناحیة بین الواجب النفسی والواجب الغیری، لأنّ متعلّق الوجوب فی کل منهما نفس الفعل، ولکن بما أنّ الالزام النفسی به لا یمکن أن یکون جزافاً وبلا نکتة، فالنکتة هی المصلحة اللزومیة المترتّبة علیه خارجاً، فإنّها تدعو المولی إلی إیجابه، وعلیه فالالزام لأجل الغیر لا لنفسه، وعلی هذا فإذا أمر المولی بالصلاة مثلا، فقد حمل مسؤولیة تحصیل الغرض علی العبد بفعل الصلاة باعتبار أنّها محصّلة له ومقدّمة لحصوله وترتّبه فی الخارج باعتبار أنّه حقیقة الأمر، وإلاّ فلا قیمة له بما هو اعتبار وبقطع النظر عنها، فإذن لا یکون العقاب علی ترک الصلاة بما هو هو بل علی ترکها بلحاظ أنّه یستلزم تفویت الغرض والملاک الملزم، فالعقاب إنّما هو علی ذلک، ولهذا لو فرض أنّ ترکها لا یستلزم تفویت الغرض والمصلحة الملزمة فلا عقاب علیه، فما ذکره (قدس سره) من أنّ الواجب النفسی ما یعاقب علی ترکه بما هو هو غیر واقعی، ضرورة أنّ العقاب علی ترکه إنّما هو من جهة أنه یستلزم تفویت غرض المولی الذی هو روح الحکم ودعاه إلی الأمر به، ولو لم یستلزم ذلک فلا مقتضی للعقاب، لحدّ الآن قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّ تعریف الواجب النفسی والواجب الغیری علی المشهور لا ینطبق علی شیء من الوجوه المتقدّمة هذا، والتحقیق فی المقام أن یقال أنّ هناک مسألتین.

الاُولی: مسألة الفرق بین الواجب النفسی والواجب الغیری.

الثانیة: مسألة أنّ الأحکام الشرعیة تتبع ملاکاتها الواقعیة اللزومیة وإنّها حقیقة الأحکام ولا قیمة لها بدونها، ولهذا یکون الغرض الأساسی هو تحصیلها والوصول إلیها بواسطة الواجبات الشرعیة التی هی بمثابة مقدّمة لها.

وحینئذ فإن التزمنا بتعریف المشهور للواجب النفسی والغیری، فلا

ص:209

یمکن تطبیق هذا التعریف علی شیء من الواجبات الشرعیة التی هی واجبة لأجل مصالحها وملاکاتها اللزومیة المترتّبة علیها، بل لا مصداق له إلاّ معرفة الباری عزّوجلّ، فإذن الجمع بین تعریف المشهور وبین کون هذه الواجبات واجبات نفسیة لا یمکن، ومن هنا لابدّ من التصرّف فی هذا التعریف، ولا مبر للحفاظ علی ظاهره وإلاّ فلازمه کون جمیع تلک الواجبات واجبات غیریة وهو کما تری، وعلی هذا فالصحیح فی تعریف الواجب النفسی والواجب الغیری أن یقال أنّ الواجب النفسی هو ما وجب لأجل مصلحة لزومیة قائمة بنفسه ومترتّبة علی وجوده فی الخارج، والواجب الغیری هو ما وجب لأجل مصلحة لزومیة قائمة بغیره کالطهارة من الحدث والطهارة من الخبث وهکذا، وعلی هذا فلا إشکال فی المسألة، فإنّ الصلاة والصیام والحجّ ونحوها من الواجبات، نفسیة باعتبار أنّ وجوبها ناشیء من المصلحة اللزومیة فی نفسها، وأمّا الوضوء والغسل وتطهیر البدن والثیاب ونحوها من الواجبات، غیریة باعتبار أنّ وجوبها ناشیء من المصلحة اللزومیة فی غیرها لا فی نفسها، فإذن کل واجب کان وجوبه ناشئاً من مصلحة لزومیة فی نفس متعلّقه فهو واجب نفسی وکل واجب کان وجوبه ناشئاً من مصلحة لزومیة فی غیره فهو واجب غیری.

هذا تمام الکلام فی الجهة الاُولی وهی الفرق بین الواجب النفسی والواجب الغیری.

النقطة الثانیة: ما إذا شک فی واجب أنه نفسی أو غیری

1 - مقتضی الأصل اللفظی

وأمّا الکلام فی الجهة الثانیة وهی ما إذا شک فی واجب أنّه نفسی أو غیری، فیقع تارةً فی الأصل اللفظی واُخری فی الأصل العملی، أمّا علی الأول فإذا شکّ فی واجب أنّه نفسی أو غیری فمرجعه إلی الشک فی أنّ وجوبه مطلق أو مشروط بوجوب واجب آخر، ففی مثل ذلک یکون مقتضی الأصل اللفظی من عموم أو إطلاق عدم الاشتراط، فإنّ الاشتراط بحاجة إلی مؤنة زائدة

ص:210

والاطلاق ینفیها، فإذا أمر المولی بالوضوء مثلا وشککنا فی أنّ وجوبه نفسی أو غیری وحیث إنّ هذا الشکّ یرجع إلی الشک فی أنّ وجوبه مشروط بوجوب الصلاة أو مطلق فلا مانع من التمسّک باطلاق الهیئة لاثبات عدم اشتراط وجوبه بوجوب الصلاة وأنّه مطلق، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون وجوب الصلاة فعلیاً أم لا هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری إنّه یمکن التمسّک باطلاق دلیل وجوب الصلاة أیضاً لاثبات أنّ الوضوء لیس قیداً له، بیان ذلک أنّ المولی إذا أمر بالصلاة وکان فی مقام البیان ولم یقیّدها بالوضوء ولا بدلیل متصل ولا منفصل، ففی مثل ذلک إذا شک فی تقییدها به، فلا مانع من التمسّک باطلاق دلیلها، فإنّ مقتضاه عدم التقیّد لأنّه بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علیه، ولازم ذلک أنّ الوضوء لیس قیداً لها وأنّه واجب نفسی، لأنّ مثبتات الاُصول اللفظیة حجّة، فالنتیجة أنّه إذا شکّ فی أنّ الوضوء واجب نفسی أو غیری وقید للصلاة، ففی مثل ذلک کما یمکن إثبات أنّه واجب نفسی باطلاق الهیئة کذلک یمکن إثبات أنّه واجب نفسی بالتمسّک باطلاق دلیل الصلاة، هذا کلّه بناءً علی ما هو الصحیح من جواز رجوع القید إلی مفاد الهیئة وإمکان التمسّک باطلاقها عند الشک فیه، وأمّا بناءً علی نظریة شیخنا العلاّمة الأنصاری (قدس سره) من استحالة رجوع القید إلیه ولزوم رجوعه إلی المادّة، فلا إطلاق لها حتّی یمکن التمسّک به فی حالة الشک(1) ، نعم بامکانه (قدس سره) التمسّک بالاطلاق لإثبات أنّ ما یشکّ فی کونه نفسیاً أو غیریاً نفی بأحد الطریقین:

الأول: أن یکون الوجوب مفاد الجملة الاسمیة کقولنا الوضوء فریضة

-

ص:211


1- (1) - مطارح الأنظار: ص 67.

وغسل الجنابة واجب وهکذا، ففی مثل ذلک لا مانع من التمسّک باطلاق الجملة لاثبات کون الوجوب نفسیاً، لأنّه لو کان غیریاً لکان علی المولی نصب قرینة علی ذلک، وحیث إنّه لم ینصب قرینة مع کونه فی مقام البیان فالاطلاق یقتضی أنّه نفسی.

الثانی: التمسّک باطلاق دلیل الواجب کالصلاة ونحوها، فإنّه إذا شکّ فی تقییده بالوضوء فمقتضی إطلاق الدلیل عدمه، ولازم ذلک أنّ الوضوء واجب نفسی لا غیری کما تقدّم، فالنتیجة أنّه لا مانع من التمسّک بالاطلاق فی المسألة عند الشکّ فی واجب أنّه نفسی أو غیری إذا کان هناک إطلاق.

2 - مقتضی الأصل العملی
اشارة

وأمّا علی الثانی وهو مقتضی الأصل العملی فی المسألة إذا لم یکن فیها أصل لفظی، فهنا فروض:

الأول: أنّ المکلّف لا یعلم بفعلیة التکلیف المشکوک کونه نفسیاً أو غیریاً.

الثانی: أنّه یعلم بفعلیته ولکنّه لا یدری أنّه نفسی أو غیری.

الثالث: أنّ المکلّف یعلم بوجوب فعلین فی الخارج ولکنّه لا یدری أنّه مقیّد بوجود الآخر أولا مع علمه بالتماثل بینهما فی الاطلاق والتقیید.

الرابع: نفس الفرض الثالث ولکن المکلّف لا یعلم فیه بالتماثل بین الفعلین فی الاطلاق والاشتراط، بینما هو یعلم بذلک فی الفرض الثالث.

الفرض الأول: لا یعلم المکلف بفعلیة التکیلف المشکوک کونه نفسیا أو غیریا

أمّا الفرض الأول کما إذا علم المکلّف بأنّ الوضوء واجب فی الشریعة المقدّسة ولکنّه لا یعلم أنّ وجوبه نفسی أو غیری مشروط بوجوب واجب آخر، فإن کان غیریاً لم یکن فعلیاً لعدم فعلیة وجوب ذیه کالصلاة مثلا، وإن کان نفسیاً فهو فعلی، ومثل ذلک ما إذا علمت الحائض بوجوب الغسل علیها ولکنّها لا تعلم أنّ وجوبه نفسی أو غیری، فإن کان غیریّاً لم یکن فعلیاً لعدم فعلیة وجوب ذیه

ص:212

علیها وهو وجب الصلاة، وإن کان نفسیاً فهو فعلی، ففی مثل ذلک حیث إنّ مرجع هذا الشک إلی الشک فی أصل ثبوت الوجوب النفسی فالمرجع فیه أصالة البراءة شرعاً وعقلا.

الفرض الثانی: یعلم بفعلیة التکلیف لکنه لا یدری أنه نفسی أو غیری

وأمّا الفرض الثانی وهو ما إذا علم المکلّف بوجوب الوضوء علیه فعلا ولکنّه لا یعلم أنّه نفسی أو غیری، وذلک کما إذا علم بأنّه نذر أحد فعلین ولکنّه لا یدری أنّه نذر زیارة الحسین (علیه السلام) مثلا مع الوضوء أو نذر الوضوء فحسب، وفی هذه الحالة یعلم تفصیلا بوجوب الوضوء الجامع بین النفسی والغیری، لأنّ النذر إن کان متعلّقاً بالوضوء فی الواقع فإنّه واجب نفسی، وإن کان متعلّقاً بالزیارة فهو واجب غیری فوجوبه معلوم علی کل تقدیر، وأمّا وجوب الزیارة فهو مشکوک فیه.

ففی مثل ذلک هل یمکن الرجوع إلی أصالة البراءة عن وجوب الزیارة فیه وجهان:

فذهب السید الاُستاذ (قدس سره) إلی الوجه الأول وهو الرجوع إلی أصالة البراءة عن وجوبها فی هذه المسألة وأمثالها، وقد أفاد فی وجه ذلک أنّ المکلّف فی المقام وإن علم إجمالا بوجوب نفسی مردّد بین تعلّقه بالزیارة أو الوضوء، إلاّ أنّ هذا العلم الاجمالی إنّما یکون مؤثّراً فیما إذا تعارض الاُصول المؤمنة فی أطرافه فتسقط من جهة المعارضة فیکون العلم الاجمالی منجّزاً، وأمّا إذا لم تتعارض الاُصول فیها فلا أثر له، وبما أنّ أصالة البراءة فی المقام لا تجری عن وجوب الوضوء، لفرض العلم التفصیلی به واستحقاق العقوبة علی ترکه علی کل تقدیر أی سواء کان وجوبه نفسیاً أم کان غیریاً، فلا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عن احتمال الزیارة لعدم المعارض لها.

وبکلمة أوضح أنّ العلم الاجمالی فی المقام وإن لم ینحل حقیقة، إلاّ أنّه

ص:213

منحل حکماً کما هو الحال فی مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین، ولکن ملاک الانحلال الحکمی فی هذه المسألة غیر ملاک الانحلال الحکمی هناک، بیان ذلک أمّا فی مسألة الأقل والأکثر فقد ذکرنا فیها أنّ العلم الاجمالی قد تعلّق بالماهیة المردّدة بین لا بشرط وبشرط لا. وهذا العلم الاجمالی غیر قابل للانحلال حقیقة من هذه الناحیة، حیث إنّ تعلّقه بالماهیة المذکورة مقوّم له فکیف یعقل أن یکون موجباً لانحلاله، ولکن حیث إنّ الأصل لا یجری فی أحد طرفی هذا العلم الاجمالی وهو الاطلاق فلا مانع من جریانه فی طرفه الآخر وهو التقیید ومعه لا أثر له، وهذا هو معنی انحلاله هناک حکماً، ومردّ هذا الانحلال هنا إلی التفکیک بین أجزاء الواجب الواحد فی التنجیز بعدم امکان التفکیک بینها فی مرحلتی الثبوت والسقوط.

وأمّا فی هذه المسألة فحیث إنّ المکلّف یعلم بوجوب الوضوء تفصیلا وإن لم یعلم أنّه لنفسه أو لغیره، فلا یمکن له الرجوع إلی البراءه عنه لعلمه باستحقاق العقاب علی ترکه علی کل تقدیر، وأمّا وجوب الزیارة فبما أنّه لا یعلم به فلا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عنه عقلا وشرعاً لعدم قیام بیان علی وجوبها، ومعه لا محالة یکون العقاب علی ترکها عقاباً بلا بیان، والمفروض أنّه لا معارض لها فی المسألة، لأنّ أصالة البراءة عن وجوب الوضوء لا تجری فی نفسها لکی تصلح أن تکون معارضة لها(1).

تحصّل ممّا ذکرناه أنّ العلم الاجمالی فی المقام بوجوب نفسی مردّد بین تعلّقه بالوضوء أو الزیارة فی المثال وإن لم ینحل حقیقة إلاّ أنّه ینحل حکماً من ناحیة عدم جریان الأصل المؤمن فی أحد طرفیه، فإذن لا مانع من

-

ص:214


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2: ص 390-391.

جریانه فی الطرف الآخر هذا.

وقد یناقش فیه بتقریب أنّ ما هو معلوم تفصیلا فی المقام وجوب الوضوء الجامع بین النفسی والغیری والجامع بما هو لا أثر له، ولهذا یرجع هذا العلم التفصیلی إلی العلم الاجمالی إمّا بوجوب الوضوء نفسیاً أو وجوبه غیریاً، ومعنی کونه غیریاً أنّه قید لواجب نفسی وشرط له کالصلاة مثلا، فإذا فرضنا أنّ شخصاً کان یعلم أنّه حین دخوله فی المسجد نذر ولکنّه لا یدری أنّ متعلّق نذره الصلاة رکعتین فیه أو الوضوء فحسب، ففی مثل ذلک کان یعلم إجمالا إمّا بوجوب الصلاة رکعتین فیه أو الوضوء، وحینئذ وإن کان وجوب الوضوء الجامع بین النفسی والغیری معلوماً تفصیلا، إلاّ أنّه فی الحقیقة علم بالجامع المردّد بین فردین هما النفسی والغیری، وهذا العلم الاجمالی یوجب التعارض بین أصالة البراءة عن وجوب رکعتین من الصلاة وأصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسیاً فتسقطان من جهة المعارضة.

ودعوی أنّ العقاب علی ترک الوضوء معلوم علی کل تقدیر إمّا لنفسه أو لاستلزامه ترک الصلاة فی المثال، فلذلک لا یمکن الرجوع إلی أصالة البراءة عن وجوبه فتبقی حینئذ أصالة البراءة عن وجوب الصلاة بلا معارض فینحل العلم الاجمالی بها حکماً.

مدفوعة بأنّ العقاب علی ترک الوضوء مردّد بین العقاب علی ترکه لنفسه والعقاب علی ترکه لاستلزامه ترک الصلاة فالمعلوم أحد العقابین، وعلی هذا فلو جرت أصالة البراءة عن وجوب الصلاة فهی تدفع احتمال العقاب علی ترکها، و علی هذا فلا علم بالعقاب علی ترک الوضوء علی کل تقدیر فإنّه علی تقدیر کونه قیداً للصلاة فلا عقاب علی ترکه، فالجمع بین العلم بالعقاب علی ترک الوضوء علی کل تقدیر وبین أصالة البراءة عن وجوب الصلاة لا یمکن لمکان

ص:215

التهافت والتناقض بینهما، فإذن بطبیعة الحال تکون هذه الأصالة معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسیاً.

وعلی الجملة فالعقاب لیس علی ترک الوضوء بما هو هو بل العقاب إمّا علی ترکه کذلک أو علی أنّ ترکه یستلزم ترک الصلاة، ففی الحقیقة یکون العقاب علی ترک الصلاة، فإذا کان العقاب علی ترک الصلاة مدفوعاً بأصالة البراءة عن وجوبها فلا علم بالعقاب علی ترک الوضوء علی کل تقدیر، فإذن لا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسیاً من هذه الناحیة أی من ناحیة العلم التفصیلی بالعقاب لولا معارضتها بأصالة البراءة عن وجوب الصلاة، وغیر خفی أنّ هذه المناقشة وإن کانت لها صورة فنّیة إلاّ أنّه لا واقع موضوعی لها، لأنّ أصالة البراءة فی المقام لا تجری فی نفسها عن وجوب الوضوء النفسی الذی هو أحد طرفی العلم الاجمالی، لأنّه إن ارید بها التأمین من العقوبة علی ترکه والترخیص فیه فهو لا یمکن، لأنّ العقوبة علی ترکه متیقّنة علی کل تقدیر أی سواءً کان واجباً نفسیاً أم کان قیداً لواجب آخر، والترخیص فیه ترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة کذلک، فإذن کیف تجری أصالة البراءة عنه، وإن ارید بها إثبات أنّه قید له لا کونه واجباً نفسیاً، ففیه أنّه لا یمکن إلاّ علی القول بالأصل المثبت.

والخلاصة أنّ أصالة البرائة عن الوجوب النفسی للوضوء لا تجری بنفسها وبقطع النظر عن أصالة البراءة عن تقیّد الواجب الآخر به، فلهذا لا یکون سقوطها من جهة المعارضة، فإنّ سقوط الأصالة فی أطراف العلم الاجمالی بالمعارضة إنّما هو فی فرض أنّها تجری بنفسها فی کل طرف من أطرافه وبقطع النظر عن جریانها فی الطرف الآخر. ولکنّها تسقط لمکان المعارضة. وأمّا فی المقام فحیث إنّ أصالة البراءة عن وجوب الوضوء النفسی

ص:216

لا تجری بنفسها، علی أساس ما عرفت من المحذور فلا مانع من جریانها فی الطرف الآخر وهو کونه قیداً لواجب آخر وبه ینحل العلم الاجمالی حکماً، فالضابط العام لذلک هو أنّ فی کل مورد من موارد العلم الاجمالی إذا کانت مخالفة التکلیف فیه مساوقة لمخالفة التکلیف فی الطرف الآخر فلا یجری الأصل المؤمن فیه، وحینئذ فلا مانع من جریانه فی الطرف الآخر هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ ما ذکره (قدس سره) من أنّ انحلال العلم الاجمالی فی مسألة الأقل والأکثر حکمی لا حقیقی فهو مبنی علی ما ثبتت علیه مدرسة المحقّق النائینی (قدس سره)، ولکن الصحیح هو ما حقّقناه فی محلّه من أنّ العلم الاجمالی فی هذه المسألة منحل حقیقة بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل والشک البدوی فی وجوب الزائد، والنکتة فی ذلک أنّ تعلّق الوجوب المجعول فی الشریعة المقدّسة وهو الوجوب بمفاد کان التامّة بالأقلّ معلوم تفصیلا والشکّ إنما هو فی وجوب الزائد وهو مشکوک فیه بدواً، وأمّا تعلّق الوجوب بوصف الاستقلال والضمنی الذی هو بمفاد کان الناقصة، فهو وإن کان مشکوکاً فیه إلاّ أنّه بهذا الوصف غیر مجعول فی الشریعة المقدّسة لأنّهما کوصف الإطلاق والتقیید من الأوصاف والمفاهیم الانتزاعیة التی لا واقع موضوعی لها إلاّ فی عالم الذهن ولا تکون من قیود الوجوب المقوّمة له بل هی خارجة عن حقیقته ومنتزعة من حدوده، بل قلنا هناک أنّه لیس فی المسألة علم اجمالی من الأول، لأنّ جعل الوجوب بوجوده المحمولی لذات الأقل بمفاد کان التامّة معلوم تفصیلا من حین الجعل، والشک إنّما هو فی جعله للزائد وهو بدوی.

والعلم الاجمالی إنّما یتصوّر فیها بلحاظ الأوصاف المذکورة کالعلم بوجوب الأقل الجامع بین الوجوب الاستقلالی والوجوب الضمنی أو الوجوب

ص:217

المطلق والوجوب المقیّد، وهذا العلم الاجمالی غیر قابل للانحلال حقیقة، ولکن من الواضح أنّ الوجوب بهذا الوصف الذی هو بمفاد کان الناقصة غیر مجعول فی الشریعة المقدّسة کما عرفت. ولهذا لا یدخل فی العهدة، فإنّ الداخل فیها هو الوجوب بمفاد کان التامّة ولا وجود له إلاّ فی عالم الذهن فحسب، وتمام الکلام فی ذلک یأتی فی محلّه وهو مبحث الأقل والأکثر الارتباطیین إن شاء الله تعالی.

الفرض الثالث: أن یعلم بوجوب فعلین فی الخارج و لکنه لا یدری أنه مقید بوجود الآخر أو لا مع علمه بالتماثل بینهما فی الإطلاق و التقیید

وأمّا الفرض الثالث وهو ما إذا علم المکلّف بوجوب فعلین فی الخارج وشک فی أنّ وجود أحدهما مقیّد بوجود الآخر مع علمه بتماثل وجودیهما من حیث الاطلاق والاشتراط من سائر الجهات کوجوب الوضوء والصلاة مثلا، ففی مثله قد أفاد المحقّق النائینی (قدس سره) أنّ الشک حیث إنّه متمحّض فی تقیید ما علم کونه واجباً نفسیاً کالصلاة بالواجب الآخر وهو الوضوء فی مفروض المثال، فلا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عن ذلک التقیید، وذلک لفرض أنّ وجوب الصلاة معلوم وکذا وجوب الوضوء والشک إنّما هو فی خصوص تقیید الصلاة بالوضوء، ومن الطبیعی أنّ مقتضی أصالة البراءة عدمه هذا(1).

وقد أورد علیه السید الاُستاذ (قدس سره) بتقریب أنّ أصالة البراءة عن تقیید الصلاة بالوضوء فی المثال معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسیاً، وذلک لأنّ العلم التفصیلی بوجوبه الجامع بین النفسی والغیری لا أثر له ولا یمنع عن جریان أصالة البراءة عن وجوبه النفسی فی ذاته، لأنّ مرجع هذا العلم التفصیلی إلی العلم الاجمالی إمّا بوجوبه النفسی أو الغیری، ومعنی کون وجوبه غیریاً أنّه قید للصلاة وأصالة البراءة فیه وإن کانت فی نفسها جاریة إلاّ

-

ص:218


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 170.

أنّها معارضة بأصالة البراءة عن وجوبه النفسی، إذ کما أنّ تقیید الصلاة به مشکوک کذلک وجوبه النفسی، فإذن أجزاء أصالة البراءة عن کلیهما معاً لا یمکن لاستلزامه الترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة، فالمرجع عندئذ أصالة الاحتیاط وهی الاتیان بالوضوء أولا ثمّ الصلاة معه(1) ، وهذا الإیراد من السید الاُستاذ (قدس سره)، ولکنّه ینافی ما تقدّم منه فی الفرض السابق وهو ما إذا علم اجمالا إمّا بوجوب رکعتین من الصلاة المقیّدة بالوضوء أو وجوب الوضوء نفسیاً، حیث أفاد فی هذا الفرض أنّه لا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عن وجوب رکعتین من الصلاة المذکورة ولا تعارض بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسیاً لأنّها لا تجری فی طرف الوضوء للعلم تفصیلا بوجوبه الجامع بین النفسی والغیری واستحقاق العقوبة علی ترکه علی کل تقدیر، ونفس هذا البیان تجری فی هذا الفرض، فإنّ الفرق بینه وبین الفرض السابق إنّما هو فی نقطة اخری لا ترتبط بجریان أصالة البراءة عن وجوب الوضوء وعدم جریانها فیه، وتلک النقطة هی أنّ وجوب الصلاة فی هذا الفرض معلوم والشکّ إنّما هو فی وجوب الأقل والأکثر فیدور أمر الصلاة بینهما، وأمّا فی ذاک الفرض فأصل وجوبها غیر معلوم وإنّ الشکّ فیه من الأول فی وجوب الأکثر، ومورد أصالة البراءة فی کلا الفرضین وجوب الأکثر أی وجوب الصلاة المقیّدة بالوضوء، غایة الأمر أنّ مقتضاها فی هذا الفرض عدم تقیّد الصلاة الواجبة بالوضوء، ومقتضاها فی الفرض السابق عدم وجوب الصلاة المذکورة، فالوضوء لیس قیداً لها فیه من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وهذه الأصالة فی کلا الفرضین معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسیاً فتسقطان معاً فیکون العلم الاجمالی منجّزاً فی کلا الفرضین.

-

ص:219


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 2: ص 392.

ودعوی أنّ أصالة البراءة عن التقیید تجری للتأمین عن العقوبة فی فرض الاتیان بذات الصلاة لا فی فرض ترکها، لأنّ العقوبة فی فرض ترکها معلومة علی کل حال سواءً أکان الواجب الأقل أم الأکثر، وفی فرض فعل الصلاة یعنی الأقل لا تکون أصالة البراءة جاریة عن وجوب الوضوء، لأنّ المکلّف فی هذه الحال أی حال الاتیان بذات الصلاة یعلم بأنّ فی ترک الوضوء عقوبة علی کل حال، إمّا من جهة وجوبه نفسیاً أو من جهة وجوب التقیّد به کما یعلم بأنّه لیس فی ترکه عقوبة اخری زائدة.

مدفوعة بأنّ أصالة البراءة عن تقیّد الصلاة بالوضوء فی المثال مبنیة علی جریانها فی مسألة الأقل والأکثر الارتباطیین کما هو الصحیح، لأنّ الأمر فی المقام یدور بین أنّ الواجب هو ذات الصلاة أو الصلاة المقیّدة بالوضوء فلا مانع من جریان أصالة البراءة عن تقیّدها بالوضوء، ونتیجة ذلک أنّ الوضوء لیس قیداً لها، وعلی هذا فلو لم تجر أصالة البراءة عن وجوب الوضوء النفسی، إنحلّ العلم الاجمالی بأنّه إمّا واجب نفسی أو قید للصلاة، ولکن بما أنّه لا مانع من جریانها عنه فی نفسه، فتقع المعارضة بینها وبین أصالة البراءة عن التقیّد به فتسقطان من جهة المعارضة، وإن شئت قلت أنّ العقوبة علی ترک الوضوء وإن کانت عقوبة واحدة إلاّ أنّ منشأها إمّا أنّ الوضوء قید للصلاة أو أنّه واجب نفسی، والاحتمال الأول مدفوع بأصالة البراءة عن التقیّد به، والاحتمال الثانی مدفوع بأصالة البراءة عن وجوبه النفسی، وحیث إنّ الجمع بین الأصالتین لا یمکن لاستلزامه الترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة فتسقطان معاً من جهة المعارضة فالمرجع قاعدة الاشتغال من جهة منجّزیة العلم الاجمالی ومقتضاها الاتیان بالوضوء أولا ثمّ بالصلاة هذا.

والتحقیق صحّة هذه الدعوی دون ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره)، وذلک لما

ص:220

تقدّم من أنّ أصالة البراءة عن الوجوب النفسی للوضوء لا تجری فی نفسها لنفس ما مرّ من المحذور، فإذن لا مانع من جریانها عن تقیّد الصلاة به، وعلی هذا فالصحیح هو ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) فی المسألة من أنّ أصالة البراءة عن التقیید تجری بلا معارض دون ما ذکره السیّد الاُستاذ (قدس سره) من أنّها معارضة بأصالة البراءة عن وجوبه النفسی.

فالنتیجة أنّ المکلّف فی المسألة مخیّر بین الإتیان بالصلاة أولا ثمّ الوضوء وبالعکس.

الفرض الرابع: نفس الفرض الثالث و لکن مع عدم علم المکلف بالتماثل بینهما فی الإطلاق و التقیید

وأمّا الفرض الرابع، وهو ما إذا علم المکلّف بوجوب کل من الفعلین وشکّ فی تقیید أحدهما بالآخر مع عدم العلم بالتماثل بینهما من حیث الاطلاق والاشتراط، وذلک کما إذا علم باشتراط الصلاة بالوقت وشک فی إشتراط الوضوء به من ناحیة الشک فی أنّ وجوبه نفسی أو غیری، فعلی الأول لا یکون مشروطاً به وعلی الثانی یکون مشروطاً لتبعیة الوجوب الغیری للنفسی فی الاطلاق والاشتراط ففیه یکون الشک من عدّة جهات، وقد أفاد المحقّق النائینی (قدس سره) أنّ المرجع أصالة البراءة فی جمیع تلک الجهات.

الاُولی: الشک فی تقیید الصلاة بالوضوء والمرجع فیه أصالة البراءة ونتیجة ذلک صحّة الصلاة بدون الوضوء.

الثانیة: الشکّ فی وجوب الوضوء قبل الوقت وهو مورد لأصالة البراءة أیضاً.

الثالثة: الشک فی وجوب الوضوء بعد الوقت بالإضافة إلی من أتی به قبله، ومرجع هذا الشک إلی أنّ وجوب الوضوء بعد الوقت هل هو مطلق أو مشروط بما إذا لم یؤت به قبله، وحیث إنّ وجوبه مشکوک بالنسبة إلی من أتی به قبله فلا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عنه، ونتیجة الکل هی أنّ

ص:221

المکلّف مخیّر بین الاتیان بالوضوء قبل الوقت وبعده قبل الصلاة وبعده(1) هذا.

ولکن یمکن المناقشة فیما أفاده (قدس سره) فی جمیع الجهات المذکورة.

أمّا فی الجهة الاُولی، فلأنّ أصالة البراءة عن تقیید الصلاة بالوضوء معارضة بأصالة البراءة عن الوجوب النفسی له، وذلک لأنّ العلم التفصیلی بوجوبه الجامع بین النفسی والغیری لا قیمة له، لأنّ وجوبه فی الواقع إن کان غیریاً فلا أثر له بلحاظ نفسه، وإمّا بلحاظ کون متعلّقه قیداً للصلاة وإن کان له أثر وتجری أصالة البراءة عن تقییدها به فی نفسها عند الشکّ فیه، إلاّ أنّ هذه الأصالة معارضة بأصالة البراءة عن الوجوب النفسی للوضوء، وما ذکره (قدس سره) من أنّ الشک إنّما هو فی تقیید الصلاة بالوضوء لا فی وجوب الصلاة ولا فی وجوب الوضوء غیر تامّ، لأنّ الشکّ فی تقیید الصلاة بالوضوء منشأ للشک فی أنّ وجوب الوضوء نفسی أو غیری والعلم بوجوبه الجامع بینهما فی الحقیقة یرجع إلی العلم الاجمالی بأنّه إمّا واجب مستقل أو قید للصلاة، وهذا العلم الاجمالی یمنع عن جریان الاُصول المؤمنة فی أطرافه، لأنّ أصالة البراءة عن تقیید الصلاة بالوضوء معارضة بأصالة البراءة عن وجوبه النفسی فتسقطان معاً من جهة المعارضة فیکون العلم الاجمالی منجّزاً، ومقتضی تنجیزه وجوب الاتیان بالصلاة مع الوضوء، وعندئذ یعلم بالموافقة سواءً کان وجوب الوضوء غیریاً أم نفسیاً.

وأمّا فی الجهة الثانیة فقد ظهر حالها ممّا ذکرناه الآن، وذلک لأنّ أصالة البراءة عن الوجوب النفسی للوضوء قبل الوقت معارضة بأصالة البراءة عن تقیید الصلاة به للعلم اجمالا بأنّ الوضوء إمّا واجب مستقل أو قید للصلاة

-

ص:222


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 170.

کسائر قیودها، فإذن کلتا الأصالتین لا یمکن جریانها لاستلزامه الترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة، وإحداهما دون الاُخری ترجیح من غیر مرجّح فتسقطان معاً فیکون العلم الاجمالی منجّزاً ومقتضاه وجوب الاتیان بالوضوء أولا ثمّ الاتیان بالصلاة معه، نعم لو علم بوجوبه النفسی تفصیلا ولکنّه شک فی أنّه مقیّد بإیقاعه قبل الوقت أو مطلق، فلا مانع عندئذ من جریان أصالة البراءة عن تقییده به ولا تعارض بأصالة البراءة عن إطلاقه، لأنّ الإطلاق لیس مورداً لها، باعتبار أنّ مفادها رفع الکلفة والضیق عن المکلّف ولا کلفة فی الاطلاق حتّی ترتفع بأصالة البراءة، و علی هذا فلا معارضة بین أصالة البراءة عن تقییده بإیقاعه قبل الوقت وأصالة البراءة عن تقیید الصلاة به، إذ لا مانع من جریان کلتا الأصالتین معاً ولا یلزم منه محذور، ولکن هذا الفرض خلاف فرض المسألة، فإنّ فرض المسألة فیما إذا علم بوجوب الوضوء الجامع بین النفسی والغیری لا بخصوص وجوبه النفسی.

وأمّا فی الجهة الثالثة، فلأنّ الشک فی وجوب الوضوء الغیری بعد الوقت ناشیء من الشک فی تقیید الصلاة به، وقد تقدّم أنّ أصالة البراءة عنه معارضة بأصالة البراءة عن وجوبه النفسی فتسقطان معاً من جهة المعارضة، فیکون العلم الاجمالی منجّزاً ومقتضاه الاحتیاط.

ممیّزات الوجوب الغیری عن الوجوب النفسی

النقطة الثالثة: ممیزات الوجوب الغیری عن الوجوب النفسی

اشارة

وأمّا الکلام فی الجهة الثالثة فیقع فیها وهی متمثّلة فی امور:

1 - الوجوب الغیری لیس وجوبا مولوبا قابلا للتنجیز

الأول: أنّ الوجوب الغیری لیس وجوباً مولویاً قابلا للتنجیز لکی یستحقّ العقوبة علی مخالفته بینما الوجوب النفسی وجوب مولوی قابل للتنجیز فیستحقّ العقوبة علی مخالفته، ومن هنا یکون ملاک الوجوب الغیری قائماً بغیر متعلّقه بینما

ص:223

یکون ملاک الوجوب النفسی قائماً بمتعلّقه، وإرادة الوجوب الغیری إنّما هی بالتبع بینما إرادة الوجوب النفسی تکون بالأصالة، واعتبار الوجوب الغیری یکون بالغیر بینما یکون اعتبار الوجوب النفسی بالذات، ولذلک لا تتوفّر فی الوجوب الغیری خصائص الوجوب النفسی المولوی، وهذه الخصائص هی حقیقة الوجوب المولوی وترتّب الآثار علیه إنّما هو علی أساس توفّر تلک الخصائص فیه، فإذا ترک المکلّف الصلاة مثلا استحقّ العقوبة علی ترکها لا بما هو هو بل باعتبار أنّ فیه تفویتاً للخصائص المذکورة، ومن هنا لا یستحقّ العقاب علی ترک الواجب الغیری باعتبار أنّها لا تتوفّر فیه.

والخلاصة أنّه لا عقوبة علی مخالفة الوجوب الغیری، ومن هنا لو ترک المکلّف الواجب النفسی بما له من المقدّمات لم یستحقّ إلاّ عقاباً واحداً.

2 - الوجوب الغیری لا یصلح أن یکون محرکا مستقلا عن الوجوب النفسی نحو الإتیان بمتعلقه

الثانی: إنّ الوجوب الغیری لا یصلح أن یکون محرّکاً بصورة مستقلّة عن الوجوب النفسی نحو الاتیان بمتعلّقه وإلاّ لزم خلف فرض کونه غیریاً، لأنّ إطاعة المولی إنّما هی بتحرّک المکلّف وإرادته التکوینیة علی طبق الإرادة التشریعیة من المولی، وحیث إنّ الإرادة التشریعیة لم تتعلّق بالمقدّمة إلاّ تبعاً لا حقیقة وذاتاً، فلذلک لا یکون الاتیان بها مصداقاً لطاعة المولی، وعلیه فلا یکون تحرّک المکلّف نحو الاتیان بالمقدّمة بصورة مستقلّة عن تحرّکه نحو الاتیان بذیها ولا یکون بروحیة الطاعة والانقیاد للمولی.

3 - ملاک الوجوب الغیری و حیثیة المقدمیة

الثالث: إنّ ملاک الوجوب الغیری وسببه التعلیلی إنّما هو حیثیة المقدّمیة التی هی جهة تعلیلیة لا تقییدیة، ولهذا یکون متعلّقه واقع المقدّمة بالحمل الشائع بدون أخذ شیء من الخصوصیات فیه کقصد التوصّل والتقرّب ونحوهما فإن کلّ ذلک خارج عن دائرة الواجب الغیری، لأنّ ملاک تعلّقه به إنّما هو توقّف وجود الواجب علی وجودها فی الخارج، ومن الواضح أنّ خصوصیة

ص:224

قصد التوصّل والتقرّب ونحوهما غیر دخیلة فی هذا الملاک، فإذن متعلّق الوجوب الغیری ما هو مقدّمة بالحمل الشائع بدون أخذ خصوصیة اخری فیه، ومن هنا لو تحقّق المقدّمة فی الخارج ولو بدون شعور والتفات سقط الوجوب الغیری لأنّ الغرض منه تحقّق المقدّمة والمفروض أنّها تحقّقت، ولا یتوقّف الواجب النفسی علی أن یکون تحقّقها بقصد التوصّل أو بقصد القربة، وعلیه فالوجوب الغیری وجوب توصّلی بل لا یمکن أن یکون تعبّدیاً.

4 - امتثال الوجوب الغیری لا یوجب استحقاق المثوبة فی مقابل امتثال النفسی
اشارة

الرابع: إنّ امتثال الوجوب الغیری فی مقابل امتثال الوجوب النفسی لا یوجب استحقاق المثوبة، لوضوح أنّ الوجوب الغیری بما هو لا یصلح أن یکون داعیاً ومقرّباً بنفسه وبقطع النظر عن داعویة الوجوب النفسی ومقرّبیته، وعلی هذا الأساس فإن کان تحرّک المکلّف نحو الاتیان بالواجب الغیری تبعاً لتحرّکه نحو الاتیان بالواجب النفسی وبداعی الاتیان به کان ذلک شروعاً فی امتثال الواجب النفسی باعتبار أنّه تحرّک بروحیّة الطاعة والانقیاد للمولی وإلاّ لم یکن شروعاً فی امتثاله.

فالنتیجة أنّ المکلّف إن أتی بالواجب النفسی بما له من المقدّمات استحقّ الثواب علیه، وإلاّ فلا وإن کان آتیاً بمقدّماته.

ثمّ إنّ للسیّد الاُستاذ (قدس سره) فی المقام کلاماً وحاصله أنّ المکلّف إذا أتی بالواجب الغیری بقصد الامتثال والتوصّل استحقّ الثواب، بتقریب أنّ ملاک الاستحقاق هو کون العبد بصدد الاطاعة والانقیاد والعمل بوظیفة العبودیة والرقّیة لکی یکون أهلا لذلک، ومن المعلوم أنّه باتیانه المقدّمة بداعی التوصّل والامتثال قد أصبح أهلا له، بل الأمر کذلک ولو لم نقل بوجوبها، ضرورة أنّ الاتیان بها بهذا الداعی مصداق لإظهار العبودیة والإخلاص والانقیاد والاطاعة، نعم لو أتی بها بدون قصد التوصّل والامتثال فقد فاته الثواب.

ص:225

والخلاصة أنّ ملاک ترتّب الثواب علی امتثال الواجب الغیری هو أنّه بنفسه مصداق للانقیاد والاطاعة وإظهار لمقام العبودیة مع قطع النظر عن إتیانه بالواجب النفسی، ولهذا لو جاء بالمقدّمة بقصد التوصّل ثمّ لم یتمکّن من الاتیان بذیها لمانع من الموانع استحقّ الثواب علیها بلا إشکال(1) هذا.

ولکن ما أفاده (قدس سره) غیر تامّ، وذلک لما عرفت من أنّ الوجوب الغیری بما أنّه لیس وجوباً مولویاً قابلا للتنجیز، فکما لا یستحق العقوبة علی مخالفته لا یستحقّ المثوبة علی موافقته أیضاً، وقد تقدّم أنّ الوجوب الغیری لا یصلح أن یقصد الامتثال به ولا التقرّب بقطع النظر عن الوجوب النفسی، باعتبار أنّ متعلّقه لا یکون محبوباً بنفسه حتّی یصلح أن یکون مصداقاً للاطاعة والانقیاد، وما ذکره (قدس سره) من أنّ المکلّف إذا أتی بالمقدّمة بقصد التوصّل إلی الاتیان بذیها ثمّ بعد الاتیان بها لم یتمکّن من الاتیان بذیها بسبب أو آخر استحقّ المثوبة علی الاتیان بالمقدّمة، مبنی علی الخلط بین استحقاق المثوبة علی الاتیان بالمقدّمة بما هی هی وبین استحقاق المثوبة علی الاتیان بها بعنوان أنّها مصداق للانقیاد إلی امتثال الواجب النفسی، فإنّ استحقاق المکلّف المثوبة علی الاتیان بالمقدّمة بقصد التوصّل إلی الاتیان بذیها وامتثاله إذا لم یتمکّن بعد ذلک من الاتیان بذیها إنّما هو علی أساس أنّه مصداق لإظهار العبودیة والإخلاص والانقیاد إلی إطاعة المولی، ولیس هذا الاستحقاق علی الاتیان بالمقدّمة بما هی مقدّمة.

والحاصل أنّ ما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الاتیان بالمقدّمة بقصد التوصّل منشأ لاستحقاق الثواب وإن کان المکلّف غیر آت بالواجب النفسی غیر تامّ، بل یظهر منه (قدس سره) أنّ استحقاق الثواب علی الاتیان بالمقدّمة بقصد التوصّل إنّما

-

ص:226


1- (1) - المحاضرات ج 2: ص 397.

هو بلحاظ أنّه مصداق لإظهار العبودیة والإخلاص وأنّه کان بصدد الاطاعة والعمل بوظیفة العبودیة لا بلحاظ أنّه أتی بالمقدّمة بما هی مقدّمة، ومن هنا لم یفرّق (قدس سره) بین القول بوجوب المقدّمة والقول بعدم وجوبها، باعتبار أنّ الاتیان بالمقدّمة بقصد التوصّل إلی ذیها بما أنّه نوع من الانقیاد فلهذا یستحقّ المثوبة بحکم العقل، وأمّا الاتیان بالمقدّمة بما هی وبعنوانها الأوّلی فیستحیل استحقاق المثوبة علیه لعدم کونها محبوبة وکذلک الاتیان بها بداعی وجوبها الغیری، لما مرّ من أنّه لا یصلح أن یکون داعیاً نحو الاتیان بمتعلّقه.

قد یقال کما قیل أنّ موضوع المثوبة التعظیم والانقیاد للمولی، ولا شبهة فی أنّ فعل المقدّمة بقصد الامتثال والتوصّل إلی ذی المقدّمة إنقیاد وتعظیم للمولی سواء جاء بذیها بعد ذلک أم لا، غایة الأمر إذا جاء به بعد ذلک تعدّد التعظیم فیتعدّد الثواب.

والجواب: أنّ التعظیم والانقیاد وإن کان هو موضوع الثواب إلاّ أنّ الحاکم به حیث إنّه العقل العملی فإنّه یعیّن ما هو موضوع للثواب، ومن الواضح أنّ الموضوع عنده هو التعظیم والانقیاد للمطلوب النفسی المولوی ولا یکون الاتیان بالمقدّمة بما هو موضوع للتعظیم والانقیاد للمولی، ضرورة أنّه لیس محبوباً فی نفسه حتّی یکون موضوعاً للتعظیم والانقیاد له فإنّ الموضوع له إنّما هو قصد التوصّل بها إلی الواجب النفسی لأنّ التحرّک نحو تحقیقه والسیر إلیه مطلوب من المولی وتعظیم وانقیاد له وإن لم یصل إلی تحقیق المطلوب الأصلی فی الخارج، ومن هنا إذا ترک المکلّف الاستمرار فی تحصیل المطلوب النفسی للمولی باختیاره من دون مانع خارجی لم یستحقّ ثواباً علی ما أتی به من المقدّمة، لأنّه لیس مصداقاً للتعظیم والانقیاد للمولی، فالنتیجة أنّه لا یکون استحقاق المثوبة علی الاتیان بالمقدّمة بما هو اتیان بها،

ص:227

ومن هنا یظهر أنّه لا یمکن التقرّب بالأمر الغیری، لما مرّ من أنّه لیس أمراً قابلا للتقرّب به لعدم توفّر خصائصه المقوّمة فیه.

الطهارات الثلاث

لحدّ الآن قد تبیّن أنّه لا یترتّب ثواب علی الواجب الغیری بما هو هو ولا یمکن التقرّب به کذلک، لأنّهما من الخصائص المقوّمة للواجب النفسی ولا یمکن افتراض توفّرها فی الواجب الغیری لأنّه خلف، وعلی هذا الأساس فیقع الإشکال فی الطهارات الثلاث من جهتین:

الاُولی: من جهة ترتّب الثواب علیها، بینما عرفت عدم ترتّب الثواب علی الواجب الغیری:

الثانیة: من جهة اعتبار قصد القربة فیها، بینما لا یمکن التقرّب بالواجب الغیری، ولکن یمکن علاج الإشکال فی کلتا الجهتین ببیان منشأ عبادیة الطهارات الثلاث، فإنّ ما یصلح أن یکون منشأً لعبادیتها یصلح أن یکون منشأً لترتّب الثواب علیها ولا یمکن التفکیک بینهما.

الکلام فیما هو منشأ عبادیة الطهارات الثلاث

وعلی هذا فیقع الکلام فی أنّ منشأ عبادیتها هل هو الأمر الغیری أو الاستحباب النفسی أو الأمر الضمنی أو قصد التوصّل فیه بوجوه:

فذهب المحقّق صاحب الکفایة (قدس سره) إلی أنّ منشأ عبادیتها الأمر الاستحبابی، بدعوی أنّ الطهارات الثلاث مستحبّة فی نفسها ومتعلّقة للأمر الاستحبابی النفسی وهو یصلح أن یکون منشأ لعبادیتها واستحقاق المثوبة علیها(1).

-

ص:228


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 111.

وقد أورد علیه المحقّق النائینی (قدس سره) بوجوه:

الوجه الأول: أنّ هذا الوجه لو تمّ فإنّما یتمّ فی الوضوء والغسل دون التیمّم، فإنّ استحباب الوضوء والغسل ثابت شرعاً، وأمّا التیمّم فلا دلیل علی استحبابه، فإذن لا یمکن أن یکون منشأ عبادیة التیمّم الأمر الاستحبابی(1).

وقد یجاب عن ذلک بأنّ التیمّم بدل عن الوضوء والغسل، ومن الطبیعی أنّ کلّما یکون للمبدل من الآثار والأحکام فهو ثابت للبدل أیضاً ومنها استحباب المبدل، وغیر خفی أنّ هذا الجواب لا یتضمّن أی دلیل علی أنّ کلّما للمبدل من الأحکام والآثار فهو ثابت للبدل أیضاً وإنّما هو مجرد دعوی لا أساس لها، والسبب فیه أنّ التیمّم لا یخلو من أن یکون مبیحاً للدخول فی کل ما هو مشروط بالطهارة کالصلاة ونحوها أو رافعاً للحدث.

أمّا علی الأول فمن الواضح أنّ ما یترتّب علی الوضوء والغسل من الأحکام لا یترتّب علی التیمّم، حیث یترتّب علیهما الطهارة ورفع الحدث وهی لا تترتّب علی التیمّم، ولکن هذا القول لا أساس له ولا یرجع إلی معنی محصّل کما فصّلنا الحدیث عنه فی بحث الفقه.

وأمّا علی القول بأنّه رافع للحدث فی حالة عدم تمکّن المکلّف من استعمال الماء فی الوضوء أو الغسل فأیضاً لا دلیل علی الملازمة المذکورة، وهی أنّ کلّما للمبدّل من الأحکام والآثار فهو ثابت للبدل أیضاً، وذلک لأنّ ما دلّ علی استحباب الوضوء أو الغسل بعنوانه لا یشمل التیمّم لأنّه شیء آخر ولا یصدق علیه عنوان الوضوء أو الغسل، وأمّا أدلّة البدلیة فهی ناظرة إلی أنّه رافع للحدث فی حالة عدم وجود الماء أو عدم التمکّن من استعماله کالوضوء

-

ص:229


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 174.

والغسل، وأمّا أنّه مثله حتّی فی اعتبار قصد القربة فیه فلا تدلّ أدلّة البدلیة علی ذلک، لأنّها غیر ناظرة إلی تنزیل التیمّم منزلة الوضوء أو الغسل فی جمیع الآثار حتّی فی الاستحباب النفسی واعتبار قصد القربة، لوضوح أنّ نظرها إلی التنزیل فی الرافعیة فحسب لا فی الجهات الاُخری.

فالنتیجة أنّ هذا الجواب مجرّد دعوی بلا دلیل.

فالصحیح فی المقام أن یقال أنّه یمکن إثبات استحباب التیمّم نفسیاً بضمّ الروایات التی تنصّ علی أنّ التیمّم ظهور کالوضوء والغسل إلی الآیة الشریفة وهی قوله تعالی:(إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ التَّوّابِینَ وَ یُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ) (1).

لأنّ نتیجة هذا الضم وهو تطبیق الکبری علی الصغری استحباب التیمّم، لأنّ الروایات تثبت الصغری وهی أنّ التیمّم طهور والآیة الشریفة تدلّ علی أنّ الطهور محبوب لله تعالی، فینتج أنّ التیمّم محبوب وقابل للتقرّب به، فما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّه لا دلیل علی استحباب التیمّم لا یمکن المساعدة علیه.

الوجه الثانی: أنّا لو سلّمنا أنّ الطهارات الثلاث جمیعاً مستحبّة فی أنفسها إلاّ أنّها لمّا کانت مقدّمة للصلاة فهی واجبة بالوجوب الغیری، ومع کونها واجبة بهذا الوجوب لا یمکن بقاء الأمر الاستحبابی النفسی لأنّه یندک فیه، فإذن لا یکون هناک أمر استحبابی حتّی یکون منشأً لعبادیتها(2) هذا.

وقد أجاب عن ذلک السیّد الاُستاذ (قدس سره) بوجوه ثلاثة:

الأول: أنّ الأمر الاستحبابی النفسی وإن اندک فی الأمر الوجوبی الغیری إلاّ أنّ معنی الاندکاک بینهما لیس زوال الأمر النفسی الاستحبابی نهائیاً، بل

-

.

ص:230


1- (1) - سورة البقرة: 223
2- (2) - أجود التقریرات ج 1: ص 174.

معناه زوال حدّ کل من الأمرین واکتساب کل منهما عن الآخر ما هو فاقد له، فالأمر الأستحبابی حیث إنه فاقد للوجوب فیکتسب من الأمر الوجوبی جهة الوجوب، و الأمر الوجوبی حیث إنّه فاقد لجهة العبادیة فیکتسب من الأمر الاستحبابی العبادی تلک الجهة فیصبح الأمران أمراً واحداً وجوبیاً عبادیاً بالاندکاک، وهذا هو منشأ عبادیتها، ونظیر ذلک ما إذا نذر الوضوء أو الغسل، فإنّ الأمر الجائی من قبل النذر المتعلّق به أمر توصّلی وبالاندکاک والتفاعل بینه وبین الأمر الاستحبابی المتعلّق به یکتسب کل منهما عن الآخر ما هو فاقد له، فیصبح الأمران أمراً واحداً وجوبیاً عبادیاً أقوی من کل منهما بحدّه الخاصّ، فإذن لا إشکال من هذه الناحیة.

الثانی: أنّه لا اندکاک ولا تفاعل بین الأمرین أصلا بناءً علی ما هو الصحیح من أنّ الأمر مادّة وهیئة موضوع للدلالة علی قصد إبراز الأمر الاعتباری النفسانی، بلا فرق فی ذلک بین الأمر الوجوبی والأمر الاستحبابی، باعتبار أنّ الوجوب والاستحباب کلیهما خارجان عن مدلول الأمر وضعاً، فإذا صدر أمر من المولی کان یدلّ وضعاً علی قصد إبراز الأمر الاعتباری النفسانی، وحینئذ فإن کانت هناک قرینة علی جواز الترک انتزع منه الاستحباب فیکون الأمر استحبابیاً، وإلاّ انتزع منه الوجوب فیکون الأمر وجوبیاً، وعلیه فیکون الاستحباب منتزعاً بحکم العقل من القرینة، والوجوب منتزعاً من مولویة الأمر طالما لم تکن قرینة علی الترخیص وجواز الترک، وعلی هذا فالوجوب والاستحباب کلاهما خارج عن مدلول الأمر وضعاً، فإذن لا إندکاک ولا تفاعل بین الأمرین فی المدلول الوضعی وإنّما الاندکاک والتفاعل بینهما فی الصفة الخارجیة عن المدلول الوضعی لهما وهی صفة الاستحباب فإنّها تندک فی الوجوب، علی أساس أنّ الضعیف یندک فی القوی

ص:231

وبذلک یکتسب الوجوب صفة العبادة فیصبح الأمران أمراً واحداً وجوبیاً عبادیاً، فالنتیجة نفس النتیجة والاختلاف إنّما هو فی التقریب.

الثالث: أنّ ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من الاندکاک لا یتمّ علی مبناه فی باب التعبّدی والتوصّلی وهو عدم إمکان أخذ قصد القربة فی متعلّق الأمر وعلی هذا فحیث أنّ متعلّق الأمر الاستحبابی ذات الطهارات الثلاث بدون تقیّدها بقصد القربة، ومتعلّق الأمر الغیری الطهارات الثلاث مع تقیّدها بقصد القربة، باعتبار أنّها مقدّمة بملاک کونها عبادة لا مطلقاً فلا مقتضی للاندکاک، لأنّ المقتضی له إنّما هو فیما إذا کان متعلّق کلا الأمرین واحداً ذاتاً وحقیقة، وأمّا إذا کان متعلّق أحدهما غیر متعلّق الآخر فلا موضوع له، والمقام کذلک لأنّ متعلّق الأمر الاستحبابی کما عرفت غیر متعلّق الأمر الوجوبی، وعلیه فلا مقتضی لاندکاک أحدهما فی الآخر بل هو محال، لأنّ لازم ذلک أن یکون له متعلّق واحد مع أنّه متعدّد(1) ، ولنا تعلیق علی هذه الأجوبة.

أمّا علی الجواب الأول فلأنّ الاندکاک والتفاعل بالفعل والانفعال والتأثیر والتأثّر لا یتصوّر فی الاُمور الاعتباریة التی لا واقع موضوعی لها ما عدا وجودها فی عالم الاعتبار والذهن، وحیث إنّ الأحکام الشرعیة امور اعتباریة وأمرها وضعاً ورفعاً بید الشارع مباشرة ولا وجود لها إلاّ عالم اعتبارها فلا یتصوّر فیها الاندکاک والتفاعل بالفعل والانفعال والتأثیر والتأثّر، بداهة أنّه لا یعقل اندکاک اعتبار فی اعتبار آخر وتولّد اعتبار ثالث منهما، إذ لا واقع له حتّی یعقل فیه ذلک مع أنّه خلف فرض کونه قائماً بالمعتبر مباشرة، نعم إنّ ذلک یتصوّر فی الموجودات التکوینیة الخارجیة، فإذا امتزج مائع أسود مثلا

-

ص:232


1- (1) - المحاضرات ج 2: ص 400-401.

بمائع أبیض، اندک أحدهما بالآخر قهراً وحصل التفاعل بالتأثیر والتأثّر بینهما فیکتسب کل منهما من الآخر ما هو فاقد له فلهذا یصبحان مائعاً واحداً لا هذا بحده ولا ذاک، وکذلک إذا امتزج ماء حار بماء بارد، فإنّه یتولّد منهما ماء ثالث لا حار ولا بارد وهکذا، وأمّا الاُمور الاعتباریة کالأحکام الشرعیة فلا واقع لها فی الخارج حتّی یتصوّر فیها ذلک.

نعم یتصوّر الاندکاک والتفاعل بالتأثیر والتأثّر بین الملاکین فی مرحلة المبادیء علی أساس أنّهما من الاُمور التکوینیة، فإذا اجتمع ملاک الوجوب والاستحباب فی شیء واحد فلا محالة یندک أحدهما فی الآخر بالفعل والانفعال، فیصبح الملاکان ملاکاً واحداً أقوی وآکد من کل واحد منهما بحدّه الخاص، ولکن هذا الاندکاک والتفاعل بین ملاکات الأحکام الشرعیة إنّما هو فی مرتبة فعلیة الأحکام أی فعلیة فاعلیة الحکم بفعلیة موضوعه فی الخارج لا فی مرتبة الجعل فإنّها مرتبة التقدیر والفرض، لأنّ المولی فرض وجود العالم فی الخارج وجعل وجوب الاکرام له لأجل ما یری فی اکرامه من مصلحة، وفرض وجود الهاشمی فیه وجعل وجوب الاکرام له من جهة ما یری فی اکرامه من مصلحة، فکل من الجعلین مستقل ولا یرتبط أحدهما بالآخر، وحینئذ فإذا وجد شخص فی الخارج وصدق علیه عنوان العالم والهاشمی معاً فاکرامه یکون مصداقاً لکلا الاکرامین الواجبین، فلهذا یجزی عن کلیهما معاً وقد اجتمع فیه ملاک کلا الحکمین هما وجوب اکرام العالم ووجوب اکرام الهاشمی ویندک أحدهما فی الآخر، حیث لا یمکن الحفاظ علی کل واحد منهما بحدّه، ولکن هذا الاندکاک لا یوجب وحدة الجعل والاعتبار فی مورد الاجتماع إذ لا شبهة فی تعدّد الجعل، غایة الأمر أنّ فاعلیة کلا الحکمین المجعولین فی مرتبة فعلیة موضوعهما فی الآخر ومحرّکیته

ص:233

واحدة، ولکنّها لیست من مراتب الحکم، ومن هنا یظهر أنّ ما تبنّت علیه مدرسة المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ للأحکام الشرعیة مرتبتین:

الاُولی: مرتبة الجعل.

الثانیة: مرتبة المجعول وهی مرتبة فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه فی الخارج لا یرجع إلی معنی صحیح، وذلک لأنّ المرتبة الثانیة لا یمکن أن تکون من مراتب الحکم، بداهة أنّ الحکم حیث إنّه أمر اعتباری یوجد بنفس اعتبار المولی وجعله مباشرة فی وعاء الاعتبار ولا یعقل أن یتأثّر بالاُمور الخارجیة وأن یکون معلولا لها وإلاّ لزم أن یکون أمراً خارجیاً، وهذا خلف والمجعول لیس مرتبة اخری للحکم وهی فعلیته، لأنّ المجعول عین الجعل ذاتاً وحقیقة کالإیجاد والوجود فی الاُمور التکوینیة، وفعلیته ووجوده إنّما هی بنفس جعله واعتباره من قبل المولی، ولا یعقل أن تکون له فعلیة اخری، ضرورة أنّ لکل شیء وجوداً واحداً ویوجد بإیجاد واحد سواء أکان اعتباریاً أم تکوینیاً، ولا یعقل وجود الحکم فی الخارج بوجود موضوعه فیه وإلاّ فهو خارجی بقانون مبدأ السنخیة، وأمّا فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه فمعناها فعلیة فاعلیته ومحرّکیته للمکلّف نحو الامتثال والطاعة لا فعلیة نفسه، أو فقل أنّ معنی کون الأحکام الشرعیة فعلیة بفعلیة موضوعاتها، فعلیة فاعلیتها ومحرّکیتها خارجاً لا فعلیة نفسها فی الخارج بوجود موضوعاتها فیه زائداً علی فعلیتها فی عالم الاعتبار، بداهة أنّه لا یعقل أن یکون للحکم وجودان، وجود فی عالم الخارج تبعاً لوجود موضوعه فیه ووجود فی عالم الاعتبار، فإذن لا محالة یکون المراد من فعلیته بفعلیة موضوعه فعلیة فاعلیته ومحرّکیته بحکم العقل.

وعلی ضوء هذا الأساس فقد تقدّم أنّ الاندکاک والتفاعل بین الحکمین

ص:234

فی مرحلة الجعل غیر متصوّر، إذ لیس فی هذه المرحلة إلاّ جعل الحکم واعتباره من المولی مباشرة ولا یعقل فیها تأثّر الحکم بمبادئه وکونه معلولا لها، لانها غایة لجعله وداعیة إلیه ولولاها کان جعله لغواً، ولهذا یکون أمراً اعتباریاً مع أنّ مبادئه من الاُمور التکوینیة، وقد مرّ أنّ الاندکاک والتفاعل بین الاُمور الاعتباریة التی لا واقع موضوعی لها إلاّ فی عالم الاعتبار غیر ممکن لأنّها لیست فی الخارج لکی یعقل التأثیر والتأثّر فیها، وأمّا فی مرحلة الفعلیة فلا حکم فی هذه المرحلة حتّی یندک أحدهما بالآخر ویقوله منهما حکم ثالث أقوی وآکد، وإنّما الموجود فیها فاعلیته ومحرّکیته بحکم العقل نحو الامتثال والاطاعة وهی أمر تکوینی ولیست مجعولة من قبل الشرع وعلی هذا ففی مورد الاجتماع بین الدلیلین کانت النسبة بینهما عموماً من وجه أو المطلق فی مرحلة الفعلیة لیس إلاّ فاعلیة کلا الحکمین المجعولین ومحرّکیتهما فیه بحکم العقل بنحو أقوی وآکد من فاعلیة ومحرّکیة کل منهما علی حدّه باعتبار أنّ الملاک فیه أقوی من الملاک فی موارد الافتراق، وأمّا الحکم فقد مرّ أنّه لا وجود له فی هذه المرحلة حتّی یتصوّر فیه الاندکاک.

فالنتیجة أنّ ما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) من اندکاک أحد الحکمین بالآخر فی مورد الاجتماع واکتساب کل منهما عن الآخر ما هو فاقد له لا یمکن المساعدة علیه، وعلی هذا فلا موضوع لاندکاک استحباب الطهارات الثلاث النفسی بوجوبها الغیری لا فی مرحلة الفعلیة، إذ لا وجود لهما فی هذه المرحلة لکی یندک أحدهما بالآخر. نعم الاندکاک بینهما فی هذه المرحلة إنّما هو بین فاعلیة کلّ منهما مع فاعلیة الآخر فی مورد الاجتماع ولا فی مرحلة الجعل، فإنّهما فی هذه المرحلة وإن کانا موجودین، إلاّ أنّک عرفت عدم تعقّل الاندکاک فیها.

ص:235

وأمّا التعلیق علی الجواب الثانی، فلأنّه لا فرق بین القول بأنّ الأمر موضوع مادّة وهیئة للدلالة علی الوجوب بالوضع کما هو المعروف والمشهور بین الأصحاب وهو الصحیح، والقول بأنّ الأمر موضوع للدلالة علی إبراز الأمر الاعتباری النفسانی لا علی الوجوب فإنّه بحکم العقل، وعلی کلا القولین لا یتصوّر الاندکاک بین الحکمین فی مورد الاجتماع، بلا فرق فی ذلک بین أن یکون الحکم مدلولا للأمر وضعاً أو مدلولا للعقل، فإنّه علی الأول أمر اعتباری لا واقع له حتّی یتصوّر فیه الاندکاک والتفاعل کما عرفت، وعلی الثانی أمر انتزاعی لا وجود له فی الخارج أیضاً لکی یتصوّر فیه التفاعل والاندکاک.

وأمّا التعلیق علی الجواب الثالث، فلأنّ المحقّق النائینی (قدس سره) إنّما بنی علی استحالة أخذ قصد الأمر فی متعلّقه بالأمر الأول دون الأمر الثانی علی أساس أنّه (قدس سره) یری أنّ التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة، فاستحالة التقیید تستلزم استحالة الاطلاق، وحیث إنّ الاهمال فی الواقع غیر معقول فلابدّ من الالتزام بمتمّم الجعل الذی تکون نتیجته إمّا الاطلاق أو التقیید، فإذن لا مانع من أخذ قصد القربة فی متعلّق الأمر الاستحبابی بالطهارات الثلاث بالأمر الثانی الذی هو متمّم للأمر الأول، ولهذا التزم (قدس سره) بالاندکاک فیها بتقریب أنّ متعلّق الأمر الاستحبابی والأمر الوجوبی واحد وهو حصة خاصّة من الطهارات الثلاث المقیّدة بقصد القربة، فإذن یکون الجواب المذکور فی غیر محلّه هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری أنّ الذی یرد علی المحقّق النائینی (قدس سره) زائداً علی ما تقدّم أنّه لا یتصوّر فی الطهارات الثلاث الاندکاک والتفاعل بین ملاک الاستحبابی النفسی وملاک الوجوب الغیری فی مرحلة المبادی، وذلک لأنّ

ص:236

ملاک الاستحباب قائم بالطهارات الثلاث وملاک الوجوب الغیری قائم بالصلاة مثلا لا بالطهارات الثلاث فلا موضوع حینئذ للاندکاک بینهما، ولکن حیث إنّ کلا الملاکین یقتضی الاتیان بالطهارات الثلاث فیکون الاندکاک فی فاعلیة الحکمین ومحرّکیتهما لا فی الملاک.

الوجه الثالث: أنّ الأمر الاستحبابی النفسی فی غالب الأوقات یکون مغفولا عنه، حیث إنّ أکثر الناس کانوا یعتقدون بأنّ الوضوء أو الغسل واجب غیری و غافلین عن استحبابه النفسی و کانوا یأتون به بقصد وجوبه الغیری، ومع هذا لا شبهة فی صحّته، وهذا دلیل علی أنّ الأمر الاستحبابی النفسی لا یکون منشأً لعبادیة الطهارات الثلاث، وقد أجاب عن ذلک المحقّق الخراسانی (قدس سره) بتقریب أنّ الأمر الغیری المتعلّق بالطهارات الثلاث لا محالة یدعو المکلّف إلی الاتیان بها، علی أساس أنّ کل أمر یدعو إلی الاتیان بمتعلّقه، وحیث إنّ متعلّق الأمر الغیری الطهارات الثلاث بقصد القربة، فهو یدعو إلی الاتیان بها کذلک، وعلی هذا فإذا أتی بها بداعی أمرها الغیری فقد أتی بها بقصد أمرها الاستحبابی النفسی ضمناً أی فی ضمن قصد أمرها الغیری علی أساس أنّه مأخوذ فی متعلّقه(1) هذا.

ولکن الجواب غیر سدید. وذلک لأنّ قصد الأمر الاستحبابی إذا کان مأخوذاً فی الطهارات الثلاث کما هو المفروض کان مقوّماً لعبادیتها، ومع هذا لا یمکن الحکم بصحّتها فی صورة الغفلة عنه لأنّها فاقدة لما هو معتبر فی صحّتها وهو قصد الأمر الاستحبابی النفسی، وأمّا قصد الأمر الغیری فهو بنفسه لا یکون مقرّباً، فما هو مقرّب لم یقصده لمکان الغفلة عنه وما قصده لم یکن مقرّباً.

-

ص:237


1- (1) - الکفایة: ص 111.

وأمّا ما ذکره (قدس سره) من أنّ الاتیان بالطهارات الثلاث بقصد أمرها الغیری یستلزم الاتیان بها بقصد أمرها النفسی ضمناً، باعتبار أنّه لا یدعو إلاّ إلی ما تعلّق به فلا یرجع إلی معنی محصّل، ضرورة أنّ المکلّف إذا کان غافلا عن الأمر الاستحبابی النفسی نهائیاً، فکیف یعقل أنّ قصد أمرها الغیری یستلزم قصده ضمناً فإنّه إنّما یستلزم قصده کذلک إذا کان المکلّف ملتفتاً إلیه، لأنّ الاتیان بکل جزء فی ضمن سائر أجزاء المرکّب مشروط بالقدرة، ومع الغفلة عنه لا یکون قادراً علیه، وما نحن فیه کذلک، لأنّ المکلّف إذا کان غافلا عن الأمر الاستحبابی النفسی المتعلّق بالطهارات الثلاث فلا یتمکّن من قصده فی ضمن الاتیان بها، لأنّ الالتفات إلیه شرط للتمکّن والقدرة علیه کما هو الحال فی سائر الأجزاء، وعلیه فلا یعقل أن یکون الأمر الغیری المتعلّق بها یدعو المکلّف إلی قصده مع أنّه غافل عنه، ضرورة أنّه دعوة إلی المحال، فالأمر المتعلّق بشیء سواءً کان نفسیاً أم غیریاً إنّما یدعو المکلّف إلی الاتیان به إذا کان قادراً علیه، وإلاّ فیستحیل أن یکون داعیاً ومحرّکاً نحوه.

هذا إضافة إلی أنّ الأمر الغیری لا یصلح أن یکون داعیاً بنفسه ومحرّکاً نحو الاتیان بمتعلّقه، فإنّ داعویته إنّما هی بداعویة الأمر النفسی ولولاه لم یکن داعیاً، وعلی هذا فدعوة الأمر الغیری إلی الاتیان بمتعلّقه إنّما هی بدعوة الأمر النفسی لا بذاته.

فالنتیجة أنّ ما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) من الجواب غیر تامّ هذا.

ما ذهب إلیه المحقق النائینی من انّ منشأ عبادیة الطهارات الثلاث هو الأمر النفسی الضمنی المتعلق بها

وذکر المحقّق النائینی (قدس سره) أنّ منشأ عبادیة الطهارات الثلاث لیس هو الأمر الاستحبابی ولا الأمر الغیری کما مرّ، بل هو الأمر النفسی الضمنی المتعلّق بها، علی أساس أنّ الأمر المتعلق بالصلاة ینحل إلی أوامر ضمنیة متعلقة بأجزائها وشروطها، وحیث إنّ تلک الأوامر الضمنیة أوامر عبادیة فإنّها کما تکون

ص:238

منشأً لعبادیة أجزائها کذلک تکون منشأً لعبادیة قیودها کالطهارات الثلاث ونحوها(1) ، ثمّ أورد علی نفسه بأنّ لازم ذلک أن یکون جمیع شروط الصلاة وقیودها عبادة وتتوقّف صحّتها علی الاتیان بها بقصد القربة کالطهارات الثلاث باعتبار أنّها متعلّقة للأمر الضمنی العبادی.

وأجاب عنه بأنّ الفارق بینها وبین سائر الشروط کطهارة البدن والثیاب ونحوهما هو أنّ الغرض من الطهارات الثلاث لا یحصل إلاّ بالاتیان بها بقصد القربة دون غیرها من القیود، فإنّ الغرض منها یحصل به مطلقاً ولا مانع من اختلاف شرائط الصلاة وقیودها من هذه الناحیة(2).

وللمناقشة فیما أفاده (قدس سره) مجال واسع، أمّا أولا فلأنّ الأمر المتعلّق بالصلاة لو انبسط علی شرائطها وقیودها أیضاً، فما هو الفرق حینئذ بین أجزائها وشرائطها، فإنّ الفرق الوحید بینهما هو أنّ الأجزاء بنفسها متعلّقة للأمر دون الشرائط، فإنّ متعلّق الأمر فیها هو التقیّد بها دون ذات القید لأنّه خارج عن متعلّق الأمر، فما ذکره (قدس سره) من أنّ شرائط الصلاة بنفسها متعلّقة للأمر الضمنی کأجزائها لا یرجع إلی معنی محصّل، وثانیاً أنّ الأمر الضمنی المتعلّق بالشرائط والقیود عبادی، باعتبار أنّه حصّة عن الأمر الاستقلالی العبادی، وعلی هذا فلا یسقط ذلک الأمر بالاتیان بمتعلّقه إلاّ بقصد الامتثال والتقرّب به، وعلیه فکیف یسقط بدون ذلک فی غیر الطهارات الثلاث من الشرائط مع أنّه عبادی والغرض منه لا یحصل بدونه.

هذا إضافة إلی أنّ الأمر اعتبار صرف فی عالم الذهن وهو بسیط ولا

-

.

ص:239


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 175
2- (2) - أجود التقریرات ج 1: ص 176.

یعقل إنحلاله فی هذا العالم، وإلاّ فلازمه الترکیب فیه وهو خلف ولا وجود له فی عالم الخارج لکی ینحلّ بانحلال أجزاء الواجب کالصلاة ونحوها، أجل أنّ العقل یحکم بانحلال فاعلیته فی الخارج ومحرّکیته فیه بتبع تعدّد أجزاء الواجب، ولکن من الواضح أنّ محرّکیته الضمنیة لکل جزء وإنّما هی بمحرّکیته الاستقلالیة للکل لا مستقلّة وإلاّ لزم تعدّد الوجوب وهو کما تری، وعلی هذا فلو کانت الشرائط کالأجزاء متعلّقة للأمر فلابدّ من الاتیان بکل شرط فی ضمن داعویة الأمر بالکل، کما أنّه لابدّ من الاتیان بکل جزء کذلک مع أنّ المکلّف غیر ملزم بالاتیان بالشرائط کذلک، وأمّا الطهارات الثلاث فالمکلّف یأتی بها لا بداعویة الأمر بالصلاة بل بداعویة ما فی نفس هذه الطهارات الثلاث من المحبوبیة.

فالنتیجة أنّ ما أفاده المحقّق النائینی (قدس سره) فی وجه عبادیتها لا یمکن المساعدة علیه بوجه هذا.

التحقیق فی بیان منشأ عبادیة الطهارات الثلاث

والتحقیق فی المقام أن یقال أنّ عبادیة شیء منوطة بتوفّر عنصرین فیه:

الأول: أن یکون محبوباً فی نفسه لله تعالی حتّی یکون قابلا للاضافة إلیه سبحانه.

الثانی: أن یکون المکلّف آتیاً به مضافاً إلیه تعالی، فإذا توفّر هذان العنصران فیه فهو عبادة، وعلی هذا فحیث إنّ کلا العنصرین متوفّر فی الطهارات الثلاث فهی عبادة.

أمّا العنصر الأول فلأنّ مجموعة من الروایات تنصّ علی أنّها طهور، وهذه المجموعة تحقّق صغری القیاس وهی أنّ الطهارات الثلاث طهور، وقوله تعالی:(إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ التَّوّابِینَ وَ یُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ) یحقّق کبری القیاس، وبضمّ الصغری إلی الکبری، فالنتیجة أنّ الطهارات الثلاث محبوبة عند الله تعالی، فإذا کانت

ص:240

محبوبة کانت قابلة للتقرّب بها.

وأمّا العنصر الثانی فقد ثبت أنّ صحّة الاتیان بالطهارات الثلاث منوطة بقصد القربة وهو یتحقّق بأحد امور:

الأول: الاتیان بها بداعی أمرها الاستحبابی.

الثانی: الاتیان بها بداعی کونها محبوبة عنده تعالی.

الثالث: الاتیان بها بقصد التوصّل إلی الصلاة أو نحوها، والجامع الاتیان بها مضافاً إلی المولی سبحانه وتعالی، ولا فرق فی ذلک بین القول بوجوب المقدّمة والقول بعدم وجوبها، لأنّ الوجوب الغیری لا یکون مقرّباً کما مرّ.

تحصّل من ذلک أنّ عبادیة الطهارات الثلاث من جهة محبوبیتها فی نفسها، ثمّ إنّه لا فرق فی صحة الاتیان بالطهارات الثلاث بین أن یکون قبل الوقت أو بعده، باعتبار أنّ محبوبیتها لا تکون مقیّدة بما بعد الوقت، وعلی هذا فما هو دخیل فی صحّتها لا یکون منوطاً بما بعد الوقت، وما هو منوط به غیر دخیل فی صحّتها وهو وجوبها الغیری علی تقدیر القول به.

نتائج البحث

إلی هنا قد وصلنا إلی النتائج التالیة:

الاُولی: أنّ الواجب النفسی علی المشهور ما وجب لنفسه لا لواجب آخر، والواجب الغیری ما وجب لأجل واجب آخر، وقد أورد علیه بأنّ هذا التعریف لا ینطبق علی جلّ الواجبات فی الشریعة المقدّسة لأنّها واجبة لأجل الغیر وهو المصالح والملاکات المترتّبة علیها لا لنفسها، بل علی ضوء هذا التعریف ینحصر الواجب النفسی بمعرفة الله تعالی فقط، وأمّا غیرها جمیعاً من الواجبات العملیة کالصلاة والصیام ونحوهما والواجبات العقائدیة کمعرفة الرسول (صلی الله علیه وآله) والإمام (علیه السلام) ونحوهما واجبات غیریة، وقد دافع عن ذلک المحقّق الأصفهانی والمحقّق النائینی والسید الاُستاذ (قدس سرهم) ولکن دفاعهم غیر تامّ.

ص:241

الثانیة: أنّ المحقّق الخراسانی (قدس سره) قد ذکر أنّ المعیار فی الواجب النفسی ما یکون معنوناً بعنوان حسن فی نفسه لا من أجل واجب آخر.

وفی الواجب الغیری ما یکون معنوناً کذلک من أجل واجب آخر لا فی نفسه، ولکن تقدّم أنّ هذا المعیار لا أصل له.

أولا: أنّ جمیع الواجبات النفسیة فی الشریعة المقدّسة لیست معنونة بعنوان حسن فی نفسها.

ثانیاً: أنّ الحسن العقلی لیس ملاکاً للوجوب، فإنّ ملاکه المصلحة الواقعیة التی لا طریق للعقل إلیها.

الثالثة: أنّ بعض المحقّقین (قدس سرهم) قد ذکر أنّ ملاک النفسی والغیری لیس بلحاظ عالم الملاک والمبادیء بل بلحاظ عالم الالزام والایجاب، وعلی هذا فلا یرد الإشکال علی التعریف المشهور، ولکن تقدّم المناقشة فیه.

الرابعة: أنّ المیزان فی الواجب النفسی هو ما وجب لأجل مصلحة لزومیة قائمة بنفسه ومترتّبه علیه مباشرة، وفی الواجب الغیری هو ما وجب لأجل مصلحة قائمة بغیره لا بنفسه ومترتّبة علی الغیر مباشرة دونه، وهذا المیزان هو الصحیح والمطابق للواقع، ولا موجب للالتزام بظاهر تعریف المشهور والحفاظ علیه.

الخامسة: أنّ مقتضی الأصل اللفظی فی المسألة عند الشک فی واجب هل هو نفسی أو غیری أنّه نفسی، لأنّ مرجع هذا الشک إلی الشک فی الاطلاق والاشتراط، ومقتضی الأصل عدم الاشتراط فإنّه بحاجة إلی مؤنة زائدة، فإذا شک فی وجوب الوضوء أنّه مطلق أو مشروط بوجوب الصلاة، فمقتضی إطلاق دلیله أنّه مطلق، ویمکن التمسّک باطلاق دلیل الصلاة أیضاً لاثبات أنّ الوضوء لیس قیداً لها، ولازم ذلک أنّ الوضوء واجب نفسی.

ص:242

السادسة: أنّ مقتضی الأصل العملی فی المسألة یختلف باختلاف الفروض، فإذا شکّ فی وجوب الوضوء وأنّه مطلق أو مشروط بوجوب الصلاة، ففی مثل ذلک إن لم یکن وجوب الصلاة فعلیاً فالمرجع أصالة البراءة عن وجوبه النفسی، وإن کان فعلیاً فقد ذهب السید الاُستاذ (قدس سره) إلی عدم جریان أصالة البراءة عن وجوبه للعلم التفصیلی به والعقاب علی ترکه علی کل تقدیر، وحینئذ فلا مانع من جریان أصالة البراءة عن وجوب الصلاة ولا معارض لها، ولکن تقدّم أنّها معارضة بأصالة البراءة عن وجوبه النفسی للعلم الاجمالی إمّا بوجوب حصة خاصّة من الصلاة وهی الصلاة المقیّدة بالوضوء أو وجوب الوضوء نفسیاً، وأصالة البراءة عن وجوب الاُولی معارضة مع أصالة البراءة عن وجوب الثانی، ودعوی أنّ أصالة البراءة عن وجوب الوضوء لا تجری للعلم التفصیلی بالعقاب علی ترکه علی کل تقدیر أی سواء أکان واجباً نفسیاً أم کان قیداً لواجب أخر کالصلاة، فعلی الأول یکون العقاب علی ترک نفسه، وعلی الثانی علی ترک الصلاة باعتبار أنّ ترکه یستلزم ترکها، فإذن لا مانع من جریان أصالة البراءة عن وجوب الصلاة، مدفوعة بأنّ العلم التفصیلی بالعقاب إنّما هو علی ترک الوضوء الجامع بین ترک نفسه وترک الصلاة، فإذن یرجع هذا العلم التفصیلی إلی العلم الاجمالی بالعقاب إمّا علی ترک الوضوء أو علی ترک الصلاة، فإذا فرض جریان أصالة البراءة عن وجوب الصلاة فهی تدفع احتمال العقاب علی ترکها من ناحیة کون الوضوء قیداً لها فیبقی احتمال العقاب علی ترکه من ناحیة کونه واجباً نفسیاً.

والخلاصة أنّ العلم التفصیلی بالعقاب علی ترک الوضوء علی کل تقدیر لا یجتمع مع أصالة البراءة عن وجوب الصلاة لأنّها تدفع احتمال العقاب علی تقدیر کونه قیداً.

ص:243

السابعة: إذا علم بوجوب فعلین کالوضوء والصلاة وشکّ فی تقیید أحدهما بالآخر کما إذا شکّ فی تقیید الصلاة بالوضوء، ففی مثل ذلک أصالة البراءة عن تقیید الصلاة بالوضوء معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسیاً، فتسقطان من جهة المعارضة فیکون العلم الاجمالی منجّزاً، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون الفعلان متماثلین فی الاطلاق والتقیید أولا کما تقدّم.

الثامنة: أنّ الوجوب الغیری لیس بوجوب مولوی قابل للتنجیز، فلهذا لا یستحقّ العقوبة علی مخالفته، بینما الوجوب النفسی وجوب مولوی قابل للتنجیز فیستحقّ العقوبة علی مخالفته، ویترتّب علی ذلک أنّ الوجوب الغیری لا یصلح أن یکون محرّکاً بصورة مستقلّة عن الوجوب النفسی.

الثامنة: أنّ ملاک الوجوب الغیری هو حیثیة المقدّمیة التی هی جهة تعلیلیة لا تقییدیة ولهذا یکون متعلّقه واقع المقدّمة بالحمل الشائع بدون أخذ أی خصوصیة فیه کقصد التوصّل ونحوه، بینما یکون ملاک الوجوب النفسی اتّصاف متعلّقه بالملاک فی مرحلة المبادیء.

التاسعة: أنّه لا ثواب علی الواجب الغیری والثواب إنّما هو علی الواجب النفسی، ولهذا لو أتی بالواجب النفسی بقصد التوصّل إلی امتثال الواجب النفسی بتمام مقدّماته استحقّ مثوبة واحدة، ولو شرع فی المقدّمة وأتی بها ثمّ لم یأت به، فإن کان عدم الاتیان به عامداً وملتفتاً لم یستحقّ الثواب علی المقدّمة، وإن کان لعذر استحقّ الثواب لا علی المقدّمة بل علی الانقیاد وهو قصد الامتثال.

العاشرة: أنّ الطهارات الثلاث تمتاز عن سائر الواجبات الغیریة فی أمرین:

الأول: فی ترتّب الثواب علیها بینما هو لا یترتّب علی غیرها.

ص:244

الثانی: فی اعتبار قصد القربة فیها رغم أنّه لا یعتبر فی غیرها، وکلا الأمرین غیر مرتبط بوجوبها الغیری.

الحادیة عشر: ذکر المحقّق الخراسانی (قدس سره) أنّ منشأ عبادیة الطهارات الثلاث استحبابها النفسی، وناقش فیه المحقّق النائینی (قدس سره) بوجوه ثلاثة:

الأول: أنّ استحباب الوضوء والغسل وإن کان ثابتاً، إلاّ أنّ استحباب التیمّم غیر ثابت.

الثانی: أنّ الأمر الاستحبابی یندک فی الأمر الوجوبی الغیری فلا یبقی حتی یکون مقرّباً.

الثالث: أنّه غالباً یکون مغفولا عنه، وفی هذه الحالة لا یمکن التقرّب به، وهذه الوجوه جمیعاً غیر تامّة کما تقدّم.

الثانیة عشر: ذکر السیّد الاُستاذ (قدس سره) أنّ الأمر الاستحبابی النفسی المتعلّق بالطهارات الثلاث یندک فی الأمر الوجوبی الغیری المتعلّق بها، ومعنی الاندکاک اکتساب کل من الأمرین عن الآخر ما هو فاقد له، فیصبحان أمراً وجوبیاً واحداً عبادیاً.

ولکن تقدّم أنّ الاندکاک والتفاعل بین الأحکام الشرعیة غیر معقول، أمّا فی مرحلة الجعل فهو واضح، وأمّا فی مرحلة الفعلیة فلا حکم فیها حتّی یندک بعضه فی بعض، نعم إنّ الاندکاک والتفاعل فی هذه المرحلة إنّما هو بین فاعلیة کل منهما مع فاعلیة الآخر فی مورد الاجتماع.

الثالثة عشر: ذکر المحقّق النائینی (قدس سره) أنّ منشأ عبادیة الطهارات الثلاث لیس أمرها الاستحبابی النفسی بل منشأها الأمر الضمنی المتعلّق بها(1) ، و لکن

-

ص:245


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم ص 151.

تقدّم الإشکال فیه أولا أنّ الشرائط لیست کالأجزاء.

وثانیاً: أنّها لو کانت متعلّقة للأمر الضمنی النفسی العبادی لکانت عبادة کالأجزاء بلا فرق بین الطهارات الثلاث وغیرها من الشرائط مع أنّ الأمر لیس کذلک.

الرابعة عشر: أنّ فاعلیة الأمر الضمنی إنّما هی بفاعلیة الأمر الاستقلالی وداعویته إنّما هی بداعویته، وعلی هذا فلو کانت الشرائط متعلّقة للأمر الضمنی فلازم ذلک الاتیان بکل شرط بداعویة الأمر الاستقلالی کالجزء مع أنّ الأمر لیس کذلک.

الخامسة عشر: الصحیح أنّ منشأ عبادیة الطهارات الثلاث محبوبیتها فی نفسه، وعلی هذا فالاتیان بها مضافاً إلی المولی سبحانه کفی فی صحّتها بلا حاجة إلی مؤنة اخری.

ص:246

البحث السادس:الملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها

اشارة

الملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها

هنا عدّة مقامات:

المقام الأول: هل البحث عن ثبوت الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته وعدم ثبوتها یکون من المسائل الاُصولیة أو لا.

المقام الثانی: هل هذه الملازمة ثابتة بینهما؟

المقام الثالث: علی تقدیر ثبوت هذه الملازمة یقع الکلام فی سعتها وضیقها علی أقوال:

المقام الأول: هل البحث عن ثبوت الملازمة و عدمه من المسائل الأصولیة

أمّا الکلام فی المقام الأول: فقد ذکرنا فی أوائل بحث الاُصول أنّ اصولیة مسألة مقدّمة الواجب لیست مرهونة بوجوبها الغیری لما قدّمناه هناک وأشرنا إلیه آنفاً أیضاً من أنّ الوجوب الغیری لیس بوجوب مولوی قابل للتنجیز لکی یستحقّ العقوبة علی مخالفته والمثوبة علی موافقته فلهذا لا یصلح أن تکون نتیجة فقهیة عملیة ومحرّکاً نحو طاعة المولی ومرکزاً لها.

ومن هنا ذکر السیّد الاُستاذ (قدس سره) أنّ اصولیة مسألة مقدّمة الواجب من جهة وجود أثرین منجّزین لها ولکن قد علّقنا علیهما هناک وسوف نشیر إلیهما فی

ص:247

ضمن البحوث القادمة أنّ کلا الأثرین لا یصلح أن یکون أثراً فقهیاً للمسألة الاُصولیة مباشرة ومن هنا قلنا أنّ مسألة مقدّمة الواجب لیست من المسائل الاُصولیة التی تقع فی طریق عملیة الاستنباط للحکم الفقهی الکلّی بنحو مباشر کما هو شأن المسألة الاُصولیة بل تقع بواسطة مسألة اصولیة فتکون صغری لها وتمام الکلام هناک.

المقام الثانی: هل الملازمة ثابتة

اشارة

وأمّا الکلام فی المقام الثانی فتارةً یقع فی ثبوت الملازمة فی مرحلة الارادة واُخری فی مرحلة الجعل والاعتبار.

1 - فی مرحلة الإرادة

أمّا الأول فلا شبهة فی ثبوت الملازمة فی هذه المرحلة لوضوح أنّ المولی إذا أراد شیئاً بالأصالة أراد مقدّماته أیضاً بالتبع کما أنّ حبّ شیء یستلزم حبّ مقدّماته وهذا التلازم أمر وجدانی لا برهانی فلهذا لا یمکن الزام الخصم به فالنتیجة أنّ الإیمان بالمسائل النظریة إنّما هو بالبرهان وأمّا الإیمان بالمسائل الوجدانیة فإنّما هو بشهادة الوجدان.

و دعوی أنّه لا ملازمة بین إرادة شیء وإرادة مقدّماته لأنّ إرادة المقدّمة لیست بمعنی تعلّق الحبّ والشوق بها بل بمعنی إعمال القدرة نحو الاتیان بها وما قیل من أنّ إرادة شیء تستتبع إرادة مقدّماته المستتبع لتحریک العضلات نحوها خلاف الوجدان لأنّ الإرادة والشوق إنّما هی تجاه ذی المقدّمة دونها ومن هنا إذا کانت المقدّمة محرّمة وتکون مساویة مع وجوب ذیها فی الأهمیة فلا یعقل تعلّق الحبّ والشوق بها تبعاً للحب والشوق بذیها.

مدفوعة بأنّ إرادة المقدّمة إرادة تبعیة بمعنی أنّها من شؤون إرادة ذیها ومن مراتب وجودها النازلة لأنّها متولّدة منها ولهذا لا تکون محرّکة مستقلّة فإنّ محرّکیتها إنّما هی بمحرّکیة إرادة ذیها ودعوتها إنّما هی بدعوتها لا بالذات وأمّا إذا کانت المقدّمة محرّمة مساویة لذیها فی الأهمیة ملاکاً فمع لحاظ التزاحم بینهما

ص:248

فلا إرادة فی البین لا بالنسبة إلی الاجتناب عن المقدّمة ولا بالنسبة إلی الاتیان بذیها وأمّا مع قطع النظر عن التزاحم بینهما فیکون ذو المقدّمة محبوباً ومراداً فی نفسه ومقدّماته بالتبع فعدم تعلّق الحبّ والشوق بالمقدّمة.

إذا کانت محرّمة فإنّما هو من جهة التزاحم بین حرمتها ووجوب ذیها المانع من إرادته لا إرادة المقدّمة فحسب یعنی عن ترشّحها عن إرادة ذیها.

2 - فی مرحلة الجعل

وأمّا الثانی وهو الملازمة فی مرحلة الجعل فإن ارید بها ترشّح وجوب المقدّمة من وجوب ذیها بصورة قهریة کترشّح المعلول عن العلّة التامّة فهی غیر معقولة لأنّ الوجوب أمر اعتباری وبید المعتبر مباشرة.

هذا إضافة إلی أنّ الترشّح و التولد إنّما یتصوّر فی الاُمور التکوینیة وأمّا فی الاُمور الاعتباریة التی لا واقع موضوعی لها فی الخارج فلا یتصوّر تولّد بعضها من بعض وترشّح حکم من حکم آخر قهراً إذ لیس هنا شیء حتّی یتولّد منه شیء.

فالنتیجة أنّ ترشّح وجوب المقدّمة عن وجوب ذیها قهراً غیر معقول لسببین:

الأول: أنّ الوجوب فعل اختیاری للمولی مباشرة فلا یعقل فیه التسبیب.

الثانی: أنّ ذلک إنّما یتصوّر فی الاُمور التکوینیة دون الاُمور الاعتباریة التی لا واقع لها فی الخارج حتّی یتصوّر فیها التأثیر والتأثیر وإلاّ کان خارجیاً لا اعتباریاً وهذا خلف.

وإن ارید بها أنّ المولی کما إذا أراد ذی المقدّمة أراد مقدّمته أیضاً بالتبع کذلک إذا جعل الوجوب لذیها أصالة جعل الوجوب لمقدّمته أیضاً کذلک فالملازمة ثابتة بین الجعلین بأن یکون الجعل الأول داعیاً للجعل الثانی.

ففیه أنّ ذلک وإن کان ممکناً ثبوتاً إلاّ أنّ إثباته بحاجة إلی دلیل لأنّ جعل الوجوب للمقدّمة زائداً علی الوجوب لذیها بحاجة إلی نکتة تبرّر هذا الجعل وإلاّ

ص:249

لکان لغواً وجزافاً ولا نکتة فی المقام تبرّر هذه الملازمة الجعلیة لأنّ المبرّر لجعل الحکم من قبل المولی هو اتّصاف متعلّقه بالملاک فی مرحلة المبادیء فإنّه یدعوه إلی الجعل والمفروض أنّه لا ملاک فی متعلّق الوجوب الغیری لکی یکون مبرّراً لجعله ومن هنا لا یترتّب علی الوجوب الغیری أثر ولا یکون محرّکاً وحده نحو طاعة المولی وانقیاده ولهذا لا عقوبة علی مخالفته ولا مثوبة علی موافقته کل ذلک من جهة أنّه وجوب بلا روح وحقیقة ومن الواضح أنّ الوجوب إذا کان بلا روح وحقیقة فلا یکون محرّکاً ودعوی أنّ المبرّر لجعله اتّصاف الواجب النفسی بالملاک فی مرحلة المبادیء. مدفوعة بأنّه إنّما یکون مبرّراً لجعل الوجوب النفسی ولا یصلح أن یکون مبرّراً لجعل وجوب آخر.

وإن شئت قلت: إنّ المبرّر لجعل الوجوب أحد أمرین:

الأول: أن یکون الوجوب مرکزاً لحق الطاعة والمعصیة والادانة کالأوامر الامتحانیة.

الثانی: أن یکون مبرزاً للملاک فی مرحلة المبادیء الذی هو حقیقة الوجوب وجوهره وأمّا إذا کان الوجوب خالیاً عن کلا الأمرین المذکورین فلا قیمة له والوجوب الغیری حیث إنّه خال عن کلیهما معاً باعتبار أنّه لیس مرکزاً لا للطاعة ولا للمعصیة ولا مبرزاً للملاک فی متعلّقه فلا قیمة له وعلیه فلا محالة یکون جعله لغواً وجزافاً فلا یمکن صدوره من المولی وهناک مبرّرات اخری لجعل الوجوب الغیری سوف نستعرضها فی ضمن البحوث القادمة وما فیها من النقد.

المقام الثالث: فی سعة و ضیق الملازمة علی تقدیر ثبوتها

اشارة

وأمّا الکلام فی المقام الثالث فعلی تقدیر تسلیم الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة ووجوب مقدّمته فیقع فی حدوده سعة وضیقاً بمعنی أنّ الواجب الغیری هل هو مطلق المقدّمة أو خصوص حصّة خاصّة منها وعلی الأول فهل

ص:250

الوجوب الغیری المتعلّق بها مطلق أو أنّه مشروط بالإرادة والعزم.

وعلی الثانی فهل الواجب الغیری خصوص المقدّمة المقیّدة بقصد التوصّل بها إلی ذی المقدّمة أو خصوص المقدّمة المقیّدة بالإیصال إلی ذیها فی الخارج ففیه أقوال:

القول الأول: ما اختاره المحقّق الخراسانی (قدس سره).

القول الثانی: ما اختاره صاحب المعالم (قدس سره).

القول الثالث: ما نسب إلی شیخنا الأنصاری (قدس سره).

القول الرابع: ما اختاره صاحب الفصول (قدس سره).

1 - الواجب هو مطلق المقدمة و الوجوب الغیری مطلق

أمّا القول الأول الذی اختاره صاحب الکفایة (قدس سره) فقد أفاد فی وجهه أنّ ما یدعو المولی إلی إیجاب المقدّمة هو أنّ تمکّن المکلّف من الاتیان بذیها مترتّب علی الاتیان بها فلا یتمکّن منه بدون الاتیان بها وحیث إنّ هذا الغرض مترتّب علی مطلق المقدّمة فلا محالة یدعو المولی إلی إیجابها کذلک باعتبار أنّ الوجوب یدور مدار الغرض المترتّب علیها فی السعة والضیق(1).

وقد أورد علیه السیّد الاُستاذ (قدس سره) بإیرادین:

الأول: إن تمکّن المکلّف من الاتیان بذی المقدّمة لا یترتّب علی الاتیان بالمقدّمة فی الخارج بل هو مترتّب علی قدرته وتمکّنه من الاتیان بالمقدّمة علی أساس أنّ المقدور بالواسطة مقدور فإذا کان المکلّف قادراً علی الاتیان بالمقدّمة کان قادراً علی الاتیان بذیها وعلیه فالغرض المذکور لیس غرضاً لایجاب المقدّمة لأنّه مترتّب علی قدرة المکلّف علیها وتمکّنه منها فإذا کان قادراً علیها صحّ التکلیف بذی المقدّمة سواءً أتی المکلّف بها أم لا ولیس هذا

-

ص:251


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 113-114.

من التکلیف بغیر المقدور.

الثانی: أنّ القدرة علی الاتیان بذی المقدّمة لو کانت متوقّفة علی الاتیان بالمقدّمة فی الخارج فلازم ذلک جواز تفویت الواجب اختیاراً لأنّ تحصیل القدرة غیر واجب باعتبار أنّها من شروط التکلیف ولا مقتضی لوجوب تحصیلها کالاستطاعة مثلا هذا(1).

أمّا الإیراد الأول فالأمر کما أفاده (قدس سره) لأنّ القدرة علی الاتیان بالواجب کالصلاة ونحوها متوقّفة علی القدرة علی الاتیان بالمقدّمة لوضوح أنّ إمکان ذی المقدّمة وقوعاً یتوقّف علی إمکان المقدّمة کذلک لا علی وجودها فی الخارج.

وأمّا الإیراد الثانی فالظاهر أنّه مبنی علی الخلط بین تحصیل القدرة علی الواجب من قبل شروط الوجوب وتحصیل القدرة علیه من قبل شروط الواجب فالأول غیر واجب إذ لا مقتضی له حیث إنّه لا ملاک للواجب قبل تحقّق شروط وجوبه ولهذا لا یجب تحصیل القدرة علی الحج بإیجاد الاستطاعة فی الخارج وهذا بخلاف الثانی وهو تحصیل القدرة من قبل شروط الواجب فإنّه واجب وما نحن فیه من هذا القبیل.

فإنّ الکلام فیه إنّما هو فی شروط الواجب ومقدّماته وفی مثل ذلک حیث إنّ ملاک الواجب فعلی وتامّ فیجب علی المکلّف تحصیل القدرة علیه بالاتیان بمقدّماته وشرائطه وتحصیل القدرة من قبل هذه المقدّمات علی ذیها واجب وإلاّ لزم تفویت الملاک الملزم الفعلی وبکلمة أنّ الوجوب وإنّ لم یکن فعلیاً من جهة عجز المکلّف قبل الاتیان بتلک المقدّمات إلاّ أنّ اتّصاف الفعل بالملاک فی

-

ص:252


1- (1) - المحاضرات ج 2: ص 416.

مرحلة المبادیء فعلی من جهة فعلیة شروطه فلا یجوز تفویته والخلاصة أنّه لو فرض أنّ القدرة علی الاتیان بالواجب تتوقّف علی الاتیان بمقدّماته الوجودیة فی الخارج وجب تحصیلها من قبلها علی أساس أنّ ملاکه تامّ وفعلی فلا یجوز تفویته نعم لا یجب تحصیل القدرة من قبل مقدّمات الوجوب لعدم المقتضی له.

وعلی هذا فالمقتضی لوجوب تحصیل القدرة علی الواجب من قبل مقدّماته موجود باعتبار أنّ اتّصاف الواجب بالملاک فعلی فلا حالة منتظرة من هذه الناحیة.

فالنتیجة أنّ الإشکال الثانی غیر وارد علی المحقّق الخراسانی (قدس سره) هذا إضافة إلی أنّ الغرض الداعی إلی إیجاب المقدّمة إنّما هو وجود ذی المقدّمة فی الخارج لأنّه المطلوب بالذات لا التمکّن من إیجاده.

وعلی هذا فبطبیعة الحال تکون إرادة المقدّمة ومطلوبیتها إنّما هی بغرض الوصول بها إلیه لا مطلقاً ضرورة أنّ الملازمة إنّما هی بین إرادة وجود ذی المقدّمة فی الخارج وإرادة مقدّمته فیه تبعاً ومن الواضح أنّ المطلوب بالغیر إنّما هو المقدّمة التی یترتّب علیها وجوده فیه وإلاّ لزم أن تکون دائرة المطلوب بالغیر أوسع من دائرة المطلوب بالذات وهو کما تری وعلیه فبطبیعة الحال یکون الوجوب متعلّقاً بحصّة خاصة من المقدّمة وهی المقدّمة الموصلة لأنّ الداعی إلی إیجابها هو الوصول بها إلی وجود ذیها فی الخارج.

ونتیجة ذلک أنّ المقدّمة التی لا یترتّب علیها وجود ذی المقدّمة فی الخارج فلا تکون مطلوبة وإلاّ لزم المحذور المذکور وهو أن تکون دائرة المطلوب بالغیر أوسع من دائرة المطلوب بالذات فلهذا یکون الواجب هو المقدّمة الموصلة لا مطلق المقدّمة علی تفصیل یأتی فی ضمن البحوث القادمة.

ص:253

2 - الواجب هو مطلق المقدمة و الوجوب الغیری مشروط بالعزم و إرادة الإتیان بذی المقدمة

وأمّا القول الثانی الذی اختاره صاحب المعالم (قدس سره) هو أنّ وجوب المقدّمة مشروط بالعزم وإرادة الاتیان بذی المقدّمة.

فلا یمکن الالتزام به ثبوتاً وذلک لأنّ الالتزام بالوجوب الغیری إنّما هو علی أساس ثبوت الملازمة بینه وبین الوجوب النفسی أمّا علی نحو الملازمة بین المعلول والعلّة التامّة أو علی نحو الملازمة بین جعل الوجوب النفسی لذی المقدّمة وجعل الوجوب الغیری للمقدّمة تبعاً بملاک أنّ ما یقتضی جعل الأول أصالة هو یقتضی جعل الثانی تبعاً فلذلک لا یمکن للمولی أن لا یجعل الوجوب الغیری للمقدّمة بعد جعل الوجوب النفسی لذیها وعلی کلا التقدیرین فالوجوب الغیری یتبع الوجوب النفسی فی الاطلاق والاشتراط فإذا کان الوجوب النفسی مطلقاً وغیر مشروط بالارادة والعزم فکیف یعقل أن یکون الوجوب الغیری مشروطاً بها مثلا إذا کان وجوب الصلاة مطلقاً وغیر مشروط بإرادتها وعزمها فلا یمکن أن یکون وجوب مقدّمتها مشروطاً بها فإنّ معنی ذلک نفی الملازمة بینهما وهو خلف أو فقل أنّ مرجع تقیید الوجوب الغیری بالإرادة والعزم أمّا إلی نفی الملازمة أو إلی أنّ الوجوب النفسی هو المقیّد بها وکلاهما لا یمکن أمّا الأول فهو خلف فرض ثبوتها وأمّا الثانی فلأنّ لازم ذلک أن یکون الوجوب النفسی کوجوب الصلاة مثلا مشروطاً بإرادة المکلّف وعزمه الاتیان بالواجب(1) وهو کما تری بداهة أنّ معنی ذلک عدم الوجوب شرعاً عند عدم إرادة المکلّف لأنّه تابع لإرادته ویدور مدارها وجوداً وعدماً وهذا غیر معقول.

فالنتیجة أنّ هذا القول لا یرجع إلی معنی محصّل وقد یستشکل علی هذا القول کما عن المحقّق العراقی (قدس سره) بأنّ وجوب المقدّمة مشروطاً بإرادة ذی

-

ص:254


1- (1) - معالم الدین: ص 74 فی آخر مبحث الضدّ.

المقدّمة والعزم علیه لغو لأنّ المکلّف إذا کان عازماً علی الاتیان بذی المقدّمة ومریداً له فبطبیعة الحال کان عازماً علی الاتیان بمقدّمته ومریداً له أیضاً تبعاً وحینئذ فجعل الوجوب لها مشروطاً بهذه الحالة یکون لغواً فلا أثر له أصلا لأنّ أثره إیجاد الداعی فی نفس المکلّف نحو المطلوب لتحصیله والمفروض إنّ هذا الداعی حاصل فاذن یلزم من جعله تحصیل الحاصل(1).

ولکن هذا الاشکال مبنی علی أن یکون الغرض من إیجاب المقدّمة إیجاد الداعی فی نفس المکلّف مع أنّ الأمر لیس کذلک لأنّ وجوب المقدّمة وجوب غیری تبعی لیس له داعویة فإنّ داعویته إنّما هی بداعویة الوجوب النفسی فإذن لا موضوع لإشکال اللغویة من هذه الناحیة وأمّا تعبیره (قدس سره) بأنّ وجوب المقدّمة إذا کان مشروطاً بإرادة ذیها کان من تحصیل الحاصل فهو مبنی علی التسامح لأنّ غایة ما یستلزم هذا الاشتراط إنّ إرادة ذی المقدّمة تستلزم إرادة المقدّمة لا حصولها لکی یکون من تحصیل الحاصل.

3 - الواجب حصة خاصة من المقدمة و هی المقیدة بقصد التوصل بها إلی الواجب
اشارة

وأمّا القول الثالث وهو ما نسب إلی شیخنا الأنصاری (قدس سره) علی ما فی تقریرات بحثه من أنّ الواجب حصّة خاصّة من المقدّمة وهی المقیّدة بقصد التوصّل بها إلی الواجب(2) فلا یمکن المساعدة علیه وذلک لأنّ أخذه قیداً فی المقدّمة الواجبة شرعاً لابدّ أن یکون مبنیاً علی نکتة مبرّرة له ولا یمکن أن یکون جزافاً والمفروض عدم وجود نکتة تبرّر أخذه فیها لأنّ المبرّر لأخذ شیء فی المقدّمة إنّما هو دخله فی الغرض المترتّب علیها والغرض المترتّب علیها أحد أمرین:

-

ص:255


1- (1) - نهایة الأفکار ج 1: ص 333.
2- (2) - مطارح الأنظار: ص 75.

الأول: تمکّن المکلّف من الاتیان بالواجب النفسی کالصلاة ونحوها وهو مترتّب علی الاتیان بالمقدّمة بالحمل الشائع ومن الواضح أنّ قصد التوصّل بها غیر دخیل فیه لأنّ المکلّف إذا أتی بالمقدّمة تمکّن من الاتیان بالواجب النفسی سواءً کان قاصداً التوصل بها إلیه أم لا.

الثانی: أنّ الغرض الداعی إلی إیجاب المقدّمة هو وجود ذی المقدّمة فی الخارج لا مجرّد تمکنّ المکلّف منه علی أساس أنّ کل ما بالغیر لابدّ أن ینتهی إلی ما بالذات فالوجوب الغیری لابدّ أن ینتهی إلی الوجوب النفسی لأنّه منشأ له والغرض الغیری التبعی لابدّ أن ینتهی فی نهایة المطاف إلی الغرض النفسی وحیث إنّ الغرض الأصلی الذاتی هو حصول الواجب النفسی فی الخارج وتحقّقه فیه فلا محالة یکون هو الداعی إلی إیجاب المقدّمة کما أنّه الداعی إلی إیجاب ذیها ومن الطبیعی أنّ ما یکون داعیاً للأمر النفسی هو الداعی للأمر الغیری باعتبار أنّه یتبع الأمر النفسی لا أنّه فی مقابله.

وإن شئت قلت: أنّ المطلوب بالذات والحقیقة إنّما هو وجود الواجب النفسی فی الخارج بما له من الملاک والمقدّمة مطلوبة بالعرض والتبع وقد عرفت أنّ المطلوب بالعرض والتبع لابدّ أن ینتهی إلی المطلوب بالذات ونتیجة ذلک أنّ المقدّمات إنّما تقع مطلوبة فیما إذا ترتّب الواجب النفسی علیها خارجاً لوضوح أنّه لا یمکن أن تکون دائرة المطلوب الغیری التبعی أوسع من دائرة المطلوب الذاتی وحیث إنّ المطلوب الذاتی هو إیجاد الواجب النفسی فی الخارج بما له من الملاک فبطبیعة الحال کل ما یقع فی طریق إیجاده فیه فهو المطلوب بالتبع والغیر وأمّا ما لا یقع فی طریق إیجاده فیه فلا یعقل أن یکون مطلوباً بالغیر وإلاّ لزم أن تکون دائرة المطلوب بالغیر أوسع من دائرة المطلوب بالذات وهو کما تری ومن هنا لا یعقل أن یکون الشیء مطلوباً بالغیر بدون أن

ص:256

یکون ورائه مطلوباً بالذات لأنّه مساوق لوجود المعلول بدون وجود علّته وعلی هذا فلا یمکن أن یکون قصد التوصّل قیداً للمقدّمة لأنّه غیر دخیل فی الغرض علی کلا الفرضین:

أمّا علی الفرض الأول فلأنّ الغرض وهو تمکّن المکلّف من الاتیان بذی المقدّمة مترتّب علی الاتیان بذات المقدّمة سواءً أکان قاصداً التوصّل بها أم لا.

وأمّا علی الفرض الثانی فلأنّ الفرض الداعی إلی إیجاب المقدّمة هو وجود ذی المقدّمة فی الخارج وحصوله بما له من الملاک ومن الواضح أنّ هذا الغرض إنّما یترتب علی المقدّمة الموصلة فإنّها إن کانت واقعة فی طریق إیجاده فی الخارج فقد حصل الغرض منها وإلاّ فلا ولا فرق فی ذلک أن یقصد بها التوصّل أو لا فالمعیار إنّما هو یترتّب وجود ذی المقدّمة علیها قصد بها التوصّل أم لا فالنتیجة فی نهایة الشوط أنّه لا مبرّر لأخذ قصد التوصّل قیداً للمقدّمة هذا.

ثمّ إنّ المحقّق النائینی (قدس سره) قد استظهر من تقریرات بحث العلاّمة الأنصاری (قدس سره) أنّ مراده من اعتبار قصد التوصّل إنّما هو اعتباره فی مقام الامتثال دون أخذه قیداً فی المقدّمة وعلیه فمن جاء بالمقدّمة بقصد التوصّل بها فقد امتثل وإلاّ فلا(1).

وفیه أنّ هذا لیس قولا فی وجوب المقدّمة فی مقابل سائر الأقوال فإنّ قصد التوصّل علی هذا دخیل فی الامتثال وترتّب الثواب سواءً کان الواجب فی المرتبة السابقة مطلق المقدّمة أو حصّة خاصّة منها وهی المقدّمة الموصلة لأنّ المکلّف إذا أتی بها بقصد التوصّل فقد استحقّ الثواب وإلاّ فلا.

فالنتیجة أنّ حمل کلام الشیخ (رحمه الله) علی ذلک وإن کان ممکناً بلحاظ أنّ

-

ص:257


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 234.

عبارة التقریرات مشوّشة وقابلة للتفسیر به إلاّ أنّ لازم ذلک إنّه لیس للشیخ (قدس سره) قول فی المسألة فی مقابل سائر الأقوال فیها بمعنی أنّه لا یقول بأن قصد التوصّل معتبر فی المقدّمة و قید لها.

توجیهات ذکرت لبیان مراد الشیخ الأنصاری

وقد یوجّه مراده (قدس سره) من ذلک بما یلی:

وهو إنّ الواجب الغیری الفعل بعنوان المقدّمة لا ذات الفعل وهذا یعنی أنّ عنوان المقدّمة مأخوذ فی متعلّق الوجوب الغیری وهو عبارة عن قصد التوصّل وعلیه فإذا أتی المکلّف بالمقدّمة بدون قصد التوصّل بها فالغرض وإن حصل إلاّ أنّه لم یکن آتیاً بالواجب وما أتی به لیس مصداقاً له وإن سقط الواجب به من جهة حصول غرضه ویتّفق ذلک کثیراً فی الواجبات التوصّلیة.

وفیه أنّه غریب جدّاً فإنّ أخذ قصد التوصّل قیداً فی المقدّمة لا یمکن أن یکون جزافاً فلو حصل الغرض منها بدونه فمعناه أنّ أخذه فیها لغو وجزاف وهو لا یمکن من المولی الحکیم.

هذا إضافة إلی عنوان المقدّمة جهة تعلیلیة لوجوبها فلا یمکن أن یکون مأخوذاً فیها فالواجب الغیری ذات المقدّمة بالحمل الشایع فحال عنوان المقدّمة حال الملاکات والمصالح التی تدعو المولی إلی إیجاب الأفعال التی کانت متّصفة بها فی مرحلة المبادیء غایة الأمر أنّها تدعو المولی إلی إیجابها نفسیاً بینما عنوان المقدّمة یدعوه إلی إیجابها غیریاً هذا.

وهنا توجیه ثالث وهو من المحقّق الأصفهانی (قدس سره) لمراد الشیخ (رحمه الله) بیان ذلک أنّ الجهات التقییدیة فی الأحکام الشرعیة تمتاز عن الجهات التعلیلیة لأنّ العناوین المأخوذة فی متعلّقاتها کعنوان الصلاة والصیام ونحوهما من الجهات التقییدیة ومن هنا یعتبر فی صحّة هذه الواجبات الاتیان بها بعناوینها الخاصّة وإلاّ لم یأت بها نعم الملاکات القائمة بها فی مرحلة المبادیء من الجهات

ص:258

التعلیلیة یدعو المولی إلی إیجابها والحاصل أنّ الجهات التعلیلیة فی الأحکام الشرعیة غیر الجهات التقییدیة فإنّ الاُولی خارجة عن متعلّقات الأحکام الشرعیة قیداً وتقیّداً والثانیة داخلة فیها تقیّداً وإن کانت خارجة عنها قیداً وهذا بخلاف الأحکام العقلیة فإنّ الجهات التعلیلیة فیها هی الجهات التقییدیة فلا تکون مختلفة عنها لأنّها نفس عناوین موضوعاتها بلا فرق فی ذلک بین الأحکام العقلیة النظریة والأحکام العقلیة العملیة.

وإن شئت قلت: إنّ الحیثیات التعلیلیة فی الأحکام العقلیة عناوین لموضوعاتها فإذا حکم العقل باستحالة شیء للدور أو التسلسل أو اجتماع النقیضین فالمطلوب الجدّی والموضوع الحقیقی للحکم العقلی نفس هذه العناوین من الدور أو التسلسل أو اجتماع النقیضین وهذا معنی أنّ الحیثیة التعلیلیة فیها راجعة إلی الحیثیة التقییدیة التی هی الموضوع فی الحقیقة وکذا حکم العقل بحسن ضرب الیتیم للتأدیب فإنّ الموضوع الحقیقی لحکم العقل نفس التأدیب دون الضرب وفی المقام حیث إنّ مطلوبیة المقدّمة لم تکن لذاتها بل لحیثیة مقدّمتیها والتوصّل بها فبطبیعة الحال یکون المطلوب الجدّی والموضوع الحقیقی للحکم العقلی نفس التوصّل هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أنّ الواجب سواءً کان تعبّدیاً أم کان توصّلیاً فلا تقع علی صفة الوجوب ومصداقاً للواجب بما هو واجب إلاّ إذا کان المکلّف إتیانه عن قصد وعمد لوضوح أنّ الأمر تعبّدیاً کان أم توصّلیاً لا یتعلّق إلاّ بالفعل الاختیاری فالغسل إذا صدر من شخص بدون اختیار فهو وإن کان مطابقاً لذات الواجب ومحصّلا لغرضه ولکنّه لا یقع علی صفة الوجوب ومصداقاً للواجب بما هو واجب بل یستحیل أن یتعلّق الوجوب بالفعل غیر الاختیاری حتّی یقع مصداقاً له وعلی هذا فاعتبار قصد التوصّل فی وقوع المقدّمة علی صفة الوجوب مطلقاً إنّما هو من جهة أنّ المطلوب الحقیقی بحکم

ص:259

العقل هو التوصّل.

هذا توضیح ما أفاده (قدس سره) فی تعلیقته علی الکفایة ثمّ ناقش فیه فی هامش التعلیقة بتقریب أنّ الوجه فی اعتبار قصد التوصّل فی مصداقیة المقدّمة للواجب مرکّب من أمرین، أحدهما رجوع الحیثیات التعلیلیة إلی الحیثیات التقییدیة فی الأحکام العقلیة وعلیه فالتوصّل هو الواجب بحکم العقل لا الشیء لغایة التوصّل.

وثانیهما أنّ التوصّل إذا کان بعنوانه واجباً فما لم یصدر هذا العنوان عن قصد واختیار لا یقع مصداقاً للواجب وإن حصل منه الغرض مع عدم القصد إلیه(1) ، وکلا الأمرین قابل للمناقشة:

أمّا الأمر الأول فبالفرق بین الأحکام العقلیة العملیة والأحکام العقلیة النظریة بدعوی أنّ مبادیء الاُولی بناء العقلاء علی الحسن والقبح ومدح فاعل فعل وذمّ فاعل آخر وموضوع الحسن التأدیب لا الضرب لغایة التأدیب إذ لیس هناک تشریع حکم من قبل العقلاء لغایة کما هو الحال فی الأحکام الشرعیة بل مجرّد بنائهم علی المدح والممدوح وهو التأدیب وهذا بخلاف الأحکام العقلیة النظریة فإنّها لیست إلاّ مجرد إدراک للواقع وإذعان به وعلی هذا ففی المقام لیس إلاّ إدارک العقل الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة وإرادة مقدّماته تبعاً وبین وجوبه ووجوبها کذلک ضرورة أنّه لیس للعقل حکم ابتدائی بوجوب المقدّمة حتّی یقال أنّه لا یمکن حکمه بوجوبها إلاّ من جهة حسنها وهو فی نظره التوصّل لأنّ العقل لا یکون مشرعاً فشأن القوّة العاقلة إدراک الأشیاء لا جعل الحکم لها، فالنتیجة أنّ العقل لا یحکم باعتبار قصد التوصّل فی المقدّمة.

-

ص:260


1- (1) - نهایة الدرایة ج 2: ص 133.

وأمّا الأمر الثانی فلأنّ الممدوح علیه هو التأدیب بالحمل الشائع کما أنّ الواجب هو التوصّل بالحمل الشائع إلاّ أنّ بینهما فرقاً فإنّ التأدیب عنوان قصدی فاختیاریته إنّما هی بقصد عنوانه لا باختیاریة الضرب فإذا صدر ضرب من ضارب بالاختیار بدون أن یکون قاصداً به التأدیب لم یصدر منه التأدیب بالاختیار فصدوره بالاختیار منوط بقصده ولا یکفی فی اختیاریته اختیاریة الضرب وهذا بخلاف التوصّل فإنّه بالحمل الشائع لا ینفک عن الاتیان بالمقدّمة واقعاً فإذا توضّأ المکلّف أو اغتسل کان هذا توصّلا اختیاریاً وإن لم یقصد به التوصّل فعنوان التوصّل کعنوان المقدّمة لیس من العناوین القصدیة فالواجب هو واقع التوصّل بالحمل الشائع بدون لزوم قصده هذا.

ولنأخذ بالمناقشة فیما ذکره (قدس سره) فی أصل التعلیقة ثمّ ننظر إلی ما أفاده من الإشکال فی هامشها وقبل بیان ذلک نشیر إلی مقدّمة وهی أنّ العقل سواء کان نظریاً أم کان عملیاً بشأنه إدراک الأشیاء غایة الأمر إن کان نظریاً فمدرکاته لا تقتضی فی نفسها بأنّه ینبغی أو لا ینبغی أن یتعدّاه الإنسان کاستحالة الدور أو التسلسل أو اجتماع النقیضین أو الضدّین أو الملازمة بین شیئین أو علیّة شیء لآخر وهکذا وإن کان عملیاً فمدرکاته فی نفسها تقتضی بأنّه ینبغی أو لا ینبغی فالکذب مثلا إذا لوحظ فی نفسه یحکم العقل بأنّه یقتضی أن لا یرتکب والصدق فی نفسه یقتضی أن یکون هو الصادر من الإنسان.

ثمّ إنّ القضایا النظریة التی یدرکها العقل البشری ترجع فی نهایة المطاف إلی قضایا أوّلیة کمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلّیة وإنّ الکل أعظم من الجزء ونحوها فإنّ النفس مضطرّة إلی الإیمان بها بدون أن تطالب بدلیل وبرهان علی صحّتها لأن طبیعة تلک القضایا الأوّلیة تقتضی الإیمان بها غنیّاً عن إقامة برهان علی أساس أنّ القضایا النظریة جمیعاً ترجع فی نهایة المطاف إلی القضایا

ص:261

الأوّلیة بقانون أنّ کلّ ما بالغیر لابدّ وأن ینتهی إلی ما بالذات. وبعد ذلک نقول أنّه یمکن المناقشة فیه من وجوه:

المناقشة الأول: أنّ معنی أنّ الجهات التعلیلیة ترجع إلی الجهات التقییدیة فی الأحکام العقلیة هو أنّ کل ما بالغیر لابدّ وأن ینتهی إلی ما بالذات فحکم العقل بحسن الضرب للتأدیب یرجع لبّاً وحقیقة إلی حکمه بحسن التأدیب مباشرة مع أنّه کان فی القضیة العقلیة جهة تعلیلیة کما أنّ حکمة بحسن التأدیب یرجع فی الحقیقة ونهایة المطاف إلی حسن العدل ذاتاً کما أنّ حکم العقل بقبح الضرب للإیذاء یرجع فی الحقیقة إلی حکمه بقبح الإیذاء مباشرة بقانون أنّ ما بالغیر لابدّ أن ینتهی إلی ما بالذات ومن هنا لا یقف حکم العقل بقبح الإیذاء بل ینتهی فی نهایة المطاف إلی قبح الظلم وهو ذاتی.

فالنتیجة أنّ جمیع القضایا التی یحکم العقل بالحسن والقبح فیها ترجع فی الحقیقة إلی قضیتین فطریتین هما قضیة حسن العدل وقبح الظلم.

بل إنّ هذه القاعدة الأوّلیة وهی أنّ کلّما بالغیر لابدّ أن ینتهی إلی ما بالذات تشمل الأحکام الشرعیة أیضاً بحسب مقام الثبوت والواقع فإنّ الجهات التعلیلیة فیها ترجع لبّاً وحقیقة فی هذا المقام إلی الجهات التقییدیة ضرورة أنّ مطلوبیة الواجبات الشرعیة کالصلاة ونحوها تنتهی فی نهایة المطاف إلی مطلوبیة الملاکات الواقعیة فی مرحلة المبادیء بقانون أنّ ما بالغیر لابدّ أن ینتهی إلی ما بالذات وحیث أنّ المطلوب بالذات هو الملاکات الواقعیة المترتّبة علیها فلا محالة تنتهی مطلوبیتها إلیها نعم الجهات التعلیلیة للأحکام الشرعیة فی مقام الاثبات غیر الجهات التقییدیة فیها.

فالنتیجة أنّه لا فرق فی رجوع الجهات التعلیلیة إلی الجهات التقییدیة ثبوتاً بین الأحکام العقلیة والأحکام الشرعیة علی أساس أنّ ما کان بالغیر لابدّ

ص:262

أن ینتهی إلی ما بالذات.

المناقشة الثانی: أنّ شأن العقل إدراک الواقع بلا فرق فی ذلک بین العقل النظری والعقل العملی کما مرّ وعلی هذا فهل العقل فی المقام یدرک الملازمة بین المقدّمة و ذیها والجواب قد تقدّم أنّ الملازمة بین إرادة المقدّمة تبعاً وإرادة ذیها وجدانیة وأمّا الملازمة بین وجوب المقدّمة ووجوب ذیها فهی غیر ثابتة لأنّ الملازمة بینهما بنحو الملازمة بین المعلول والعلّة بأن یترشّح وجوب المقدّمة من وجوب ذیها ویتولّد منه بصورة قهریة غیر معقولة لأنّ الوجوب أمر اعتباری لا واقع موضوعی له ما عدا وجوده فی عالم الاعتبار والذهن فلا یتصوّر فیه العلّیة والمعلولیة والسببیة والمسبّبیة وثانیاً أنّه قائم بالمعتبر مباشرة فی وعاء الاعتبار والذهن وفرض التسبیب فیه خلف وأمّا الملازمة بین جعل الشارع الوجوب لذی المقدّمة وجعله الوجوب للمقدّمة تبعاً فهی وإن کانت ممکنة ثبوتاً إلاّ أنّها لم تقع إذ لا مبرر لوقوعها کما مرّ.

وأمّا ما ذکره (قدس سره) من أنّ العقل یحکم بأنّ الواجب هو المقدّمة بعنوان المقدّمیة أی بعنوان التوصّل وحینئذ فإن أتی بالمقدّمة بقصد التوصّل فقد أتی بالواجب وإلاّ فلا لأنّ المأتی به عندئذ لیس مصداقاً له فهو غریب جدّاً لأنّ تعیین متعلّق الوجوب سعة وضیقاً بید المولی کأصل الوجوب ولیس للعقل طریق إلیه فوجوب المقدّمة إذا کان من قبل الشارع فتعیین متعلّقه سعة وضیقاً أیضاً بیده علی أساس أنّ إیجاب الشارع المقدّمة بما أنّه لا یمکن أن یکون جزافاً وبلا نکتة فالنکتة التی تدعو المولی إلی إیجابها أحد أمرین لا ثالث لهما الأول التمکّن من الاتیان بذی المقدّمة.

الثانی وجود ذی المقدّمة فی الخارج المترتّب علی الاتیان بمقدّمته فعلی الأول یکون الواجب مطلق المقدّمة وعلی الثانی خصوص المقدّمة

ص:263

الموصلة وأمّا قصد التوصّل فلا یکون دخیلا فی شیء من الأمرین فلهذا لا موجب لأخذه قیداً للمقدّمة وأمّا العقل فلا یحکم أنّ قصد التوصّل دخیل فی ملاک وجوب المقدّمة لعدم الطریق إلیه لوضوح أنّه لو کان دخیلا فیه کان الشارع أخذه قیداً لها.

الثالث: أنّ ما ذکره (قدس سره) من أنّ الواجب حصة خاصّة من المقدّمة وهی المقدّمة المقیّدة بقصد التوصّل فإذا أتی المکلّف بذات المقدّمة بدون قصد التوصّل فلا یکون المأتی به مصداقاً للواجب وإن حصل الغرض به غیر تام فإنّه لو لم یکن دخیلا فی الغرض لم یمکن أن یکون مأخوذاً فیها من قبل الشارع لأنّه لغو وجزاف والمفروض أنّ العقل لا یحکم باعتباره إذ مضافاً إلی أنّه لا یکون مشرعاً لا یمکن أن یحکم باعتبار شیء فی المقدّمة جزافاً وبدون أن یکون دخیلا فی الغرض منها إلاّ أن یقال أنّ حکم العقل باعتبار قصد التوصّل إنّما هو من جهة أنّه دخیل فی ترتّب الثواب علیها وعلی هذا فهذا القول لیس قولا فی المسألة فی مقابل سائر الأقوال بل هو ناظر إلی أنّ قصد التوصّل دخیل فی ترتّب الثواب لا أنّه دخیل فی وجوب المقدّمة والعقل یحکم بأنّه دخیل فی ترتّب الثواب علیها علی أساس أنّ من أتی بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلی ذیها فقد شرع فی الطاعة وانقاد فیستحق الثواب.

الرابع: أنّ الأمر سواءً کان تعبّدیاً أم توصّلیاً لا یتعلّق إلاّ بالفعل الاختیاری وعلی هذا فإذا أتی به المکلّف عن قصد وإرادة فهو مصداق للمأمور به وإلاّ لم یقع مصداقاً له وإن کان الغرض منه حاصلا کما إذا أتی المکلّف بذات المقدّمة غافلا عن قصد التوصّل والمقدّمیة فإنّ المأتی به حینئذ وإن لم یقع مصداقاً للواجب الغیری وهو المقدّمة بقصد التوصّل إلاّ أنّ الغرض منها حاصل إذا کانت موصلة.

وفیه أنّ متعلّق الأمر لابدّ أن یکون اختیاریاً لاستحالة التکلیف بغیر

ص:264

المقدور إلاّ أنّه لا ملزم لأن یکون متعلّقه خصوص الحصّة المقدورة بل یکفی أن یکون متعلّقه الجامع بین المقدور وغیر المقدور باعتبار أنّ الجامع بینهما مقدور ومن الواضح أنّ العقل لا یحکم بأکثر من أن یکون متعلّق الأمر مقدوراً بملاک قبح تکلیف العاجز والمفروض أنّ التکلیف بالجامع بین المقدور وغیر المقدور لیس من تکلیف العاجز حتّی یحکم العقل بقبحه هذا من ناحیة ومن ناحیة اخری أنّ القائل بأنّ متعلّق التکلیف خصوص الحصّة الاختیاریة إنّما یقول بذلک بنکتة أنّ الغرض من جعل التکلیف هو إیجاد الداعی فی نفس المکلّف وهو یقتضی أن یکون متعلّقه خصوص الحصّة الاختیاریة ولکن ذلک لا ینطبق علی وجوب المقدّمة فإنّه وإن قلنا بأنّه مجعول من قبل الشارع ولکنّه مجعول تبعاً لا بغرض إیجاد الداعی فی نفس المکلّف فإذن لا مقتضی لکون وجوب المقدّمة متعلّقاً بالحصّة الاختیاریة فحسب بل لا مانع من تعلّقه بالجامع بین الحصّة المقدورة وغیر المقدورة هذا إضافة إلی أنّ الغرض المذکور أیضاً لا یقتضی أکثر من کون متعلّق التکلیف مقدوراً و الغرض أنّ الجامع بین المقدور وغیر المقدور مقدور.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أنّ ما نسب إلی شیخنا الأنصاری (قدس سره) من القول بوجوب المقدّمة بقصد التوصّل لا یرجع إلی معنی صحیح، هذا کلّه بالنسبة إلی ما أفاده فی التعلیقة وأمّا ما أفاده (قدس سره) فی هامشها فهو صحیح إلاّ فی نقطة واحدة وهی الفرق بین الأحکام العقلیة العملیة والأحکام العقلیة النظریة علی أساس أنّ هذا الفرق مبنی علی مسلکه (قدس سره) فی مسألة التحسین والتقبیح العقلیین وقد تقدّم عدم صحّة مسلکه فی هذه المسألة.

4 - الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة
اشارة

وأمّا القول الرابع: وهو ما اختاره صاحب الفصول (قدس سره) من أنّ الواجب

ص:265

خصوص المقدّمة الموصلة بمعنی أنّ الملازمة إنّما هی بین وجوب هذه المقدّمة و وجوب ذیها(1) هذا.

مناقشات ذکرت علی القول الرابع

وقد نوقش فیه بعدّة نقاط:

الاُولی: ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ تخصیص الوجوب الغیری بالمقدّمة الموصلة یستلزم أحد محاذیر:

الأول: الدور.

الثانی: التسلسل.

الثالث: لزوم اجتماع المثلین والکل مستحیل.

أمّا الدور فلأنّ المقدّمة الموصلة متوقّفة علی وجود ذی المقدّمة وإلاّ فلا یتحقّق قیدها وهو الإیصال والمفروض أنّ وجود ذی المقدّمة متوقّف علی المقدّمة الموصلة(2).

والجواب: أنّ اتّصاف المقدّمة بالإیصال وإن کان متوقّفاً علی وجود ذی المقدّمة فی الخارج إلاّ أنّ وجوده فیه لا یتوقّف علی صفة الإیصال بل یتوقّف علی ذات المقدّمة بالحمل الشائع وحینئذ فلا دور وقد یقال کما قیل أنّ الدور إنّما هو بلحاظ عالم الوجوب فإنّ لازم وجوب المقدّمة الموصلة وجوب ذیها علی أساس أنّه قید لها مع أنّ وجوب المقدّمة ناشیء عن وجوبه ومعنی ذلک أنّ وجوب ذی المقدّمة یتوقّف علی وجوب المقدّمة وهو متوقّف علی وجوبه وهذا هو الدور والجواب عن ذلک واضح فإنّ الوجوب النفسی لذی المقدّمة لا یتوقّف علی وجوب المقدّمة ولا یتولّد منه حتّی یلزم الدور لأنّ الذی یتوقّف علی وجوب

-

.

ص:266


1- (1) - الفصول الغرویة: ص 86 فی التنبیه الأول من تنبیهات مقدّمة الواجب
2- (2) - أجود التقریرات ج 1: ص 237.

المقدّمة هو وجوبه الغیری فإذن لا دور.

وقد یستشکل فی ذلک بأنّ الوجوب الغیری لا یخلو من أن یندک فی الوجوب النفسی لذی المقدّمة أو لا وعلی کلا التقدیرین فهو مستحیل إمّا علی التقدیر الأول فلأنّ لازم الاندکاک اتّحاد المتأخّر مع المتقدّم وهو مستحیل لأنّ معناه تأخیر المتقدّم وتقدیم المتأخّر و أما علی التقدیر الثانی فیلزم فیه اجتماع المثلین والجواب إمّا عن الأول فلأنّه علی تقدیر تسلیم الوجوب الغیری واجتماعه مع الوجوب النفسی فی ذی المقدّمة فقد تقدّم موسّعاً أنّه لا أصل لاندکاک حکم مع حکم مماثل له لا فی مرحلة الجعل والاعتبار ولا فی مرحلة الفعلیة حتّی یلزم المحذور المذکور وأمّا عن الثانی فلأنّه لا یلزم من اجتماعهما فیه اجتماع مثلین لا فی مرحلة الجعل والاعتبار ولا فی مرحلة الفعلیة أمّا فی الاُولی فلأنّه لیس فیها إلاّ صرف اعتبارین هما اعتبار الوجوب النفسی واعتبار الوجوب الغیری ومن الواضح أنّه لا تنافی بینهما بل لا یتصوّر ذلک. وأمّا فی الثانیة فلا حکم فیها حتّی یلزم اجتماع المثلین فی مورد الاجتماع بل لا اندکاک فی هذه المرحلة بین فاعلیة کل منهما مع فاعلیة الآخر أیضاً حیث لا فاعلیة للوجوب الغیری فإنّ فاعلیته إنّما هی بفاعلیة الوجوب النفسی.

هذا إضافة إلی أنّ ذلک مبنی علی أنّ الوجوب المتعلّق بشیء ینحل بانحلال أجزائه وقیوده معاً وعلی هذا فالوجوب الغیری المتعلّق بالمقدّمة المقیّدة بوجود ذیها ینحل إلی وجوبین ضمنیین أحدهما متعلّق بذات المقدّمة والآخر متعلّق بقیدها وهو الواجب النفسی ولکن قد تقدّم أنّ هذا المبنی غیر صحیح لأنّ القید خارج عن متعلّق الوجوب والتقیّد به داخل فإذن لا یتّصف الواجب النفسی بالوجوب الغیری فلا یجتمع فیه وجوبان أحدهما الوجوب النفسی والآخر الوجوب الغیری.

ص:267

فالنتیجة أنّه لا یلزم من تخصیص الوجوب الغیری بالمقدّمة الموصلة محذور الدور ولا اجتماع المثلین بل لا یلزم اجتماع الوجوب الغیری مع الوجوب النفسی فی شیء واحد.

وأمّا التسلسل فلأنّ الواجب الغیری إذا کان خصوص الحصّة الموصلة فبطبیعة الحال ینحل إلی أمرین:

أحدهما ذات المقدّمة والآخر تقیّدها بالإیصال إلی ذی المقدّمة وعلی هذا فذات المقدّمة مقدّمة للمقدّمة وحیث إنّ الوجوب الغیری ثابت لمقدّمة المقدّمة أیضاً ولا تختصّ بالمقدّمة المتّصلة فیلزم حینئذ التسلسل بتقریب أنّ ذات المقدّمة إن کانت مقدّمة مطلقاً وبدون تقیّدها بالإیصال فهو خلاف الفرض وإن کانت مقدّمة مقیّدة بالإیصال فننقل الکلام حینئذ إلی ذات هذا المقیّد حرفاً بحرف وهکذا إلی ما لا نهایة له.

والجواب: أولا أنّ ذات المقدّمة لیست من المقدّمات الخارجیة التی یتوقّف وجود ذی المقدّمة علیها خارجاً لأنّ هذا هو ملاک الوجوب الغیری وترشّحه من الوجوب النفسی بل هی من المقدّمات الداخلیة وجزء من الواجب الغیری لأنّ المقدّمة الموصلة مرکّبة من جزئین:

الأول: ذات المقدّمة.

الثانی: تقیّدها بالإیصال إلی ذی المقدّمة والمفروض أنّ المقدّمة الداخلیة لا تتصف بالوجوب الغیری لانتفاء ملاکه فیها فإذن لا موضوع للتسلسل.

وثانیاً أنّ التسلسل المحال إنّما هو فی العلل والمعالیل فی الاُمور التکوینیة الخارجیة وأمّا فی الاُمور الاعتباریة فلا یکون محالا لأنّه ینقطع بانقطاع الاعتبار واللحاظ وإن شئت قلت أنّه لا معنی للتسلسل فی الاُمور الاعتباریة أو الافتراضیة لأنّها بید المعتبر رفعاً ووضعاً بنحو المباشر ولا

ص:268

تتصوّر فیها العلّیة والمعلولیة والسببیة والمسبّبیة فی الوجود ومن هنا لا یکون فی نفس الآمر إلاّ شوق وإرادة بالنسبة إلی الواجب النفسی أصالة وبالنسبة إلی مقدّماته الموصلة تبعاً ولیس فی نفسه أشواق متسلسلة واعتبار ذات کذلک إلاّ بالافتراض والاعتبار.

وثالثاً مع الاغماض عن جمیع ما ذکرناه أنّ التسلسل إنّما یلزم لو کانت ذات المقدّمة المقیّدة بالإیصال مقدّمة للمقدّمة الموصلة وهی المقدّمة الاُولی المباشرة فإذا کانت کذلک ترشّح الوجوب الغیری منها إلیها لا من الواجب النفسی ثمّ ننقل الکلام الی المقدّمة الثانیة وهکذا إلی أن تذهب الوجوبات الغیریة إلی ما لا نهایة له ولکن الأمر لیس کذلک لأنّ ذات المقدّمة المقیّدة بالإیصال مقدّمة للواجب النفسی مباشرة لأنّها نفس ذات الواجب الغیری الذی هو مقدّمة له کذلک وحینئذ فلا یعقل اتّصافها بوجوب غیری آخر جدید لفرض أنّها بلحاظ تقیّدها بالإیصال إلی الواجب النفسی متّصفة به ولا معنی لترشّح وجوب غیری جدید منه إلیها لکی یلزم التسلسل مثلا الوضوء بلحاظ تقیّده بالإیصال إلی الصلاة متّصف بالوجوب الغیری المترشّح من وجوبها إلیه وذات الوضوء المقیّدة بالإیصال إلیها مباشرة لا یعقل أن تتّصف بوجوب غیری آخر جدید لأنّها نفس الوضوء الموصل ولیست مقدّمة اخری غیره لأنّ التقیّد بوجود ذی المقدّمة أمر معنوی وذات القید خارج عن متعلّق الوجوب الغیری.

وبکلمة أنّ مرکز الوجوب الغیری واحد وهو الموصل إلی الواجب النفسی وحینئذ فإن کانت مقدّمته متعدّدة عرضاً ترشّح إلی کل منها وجوب غیری مستقل وإن کانت متعدّدة طولا ترشّح وجوب غیری واحد إلی الجمیع باعتبار إنّ الکل بمثابة مقدّمة واحدة وإن کانت واحدة فهی وإن کانت مقیّدة بالإیصال إلی الواجب النفسی إلاّ أنّ ذات المقیّد تلحظ تقیّدها بالإیصال إلی

ص:269

الواجب النفسی لا إلی الواجب الغیری باعتبار أنّها فی الواقع نفس الواجب الغیری لا أنّها غیره.

ورابعاً أنّ هذا التسلسل مبنی علی أن یکون الواجب النفسی قیداً للواجب الغیری ولکن هذا البناء خاطیء لا واقع موضوعی له وذلک لأنّ معنی الإیصال إلی الواجب النفسی لیس کونه قیداً للمقدّمة بل معناه أنّ المقدّمة قد وقعت فی طریق إیجاد الواجب النفسی فإذا جاء المکلّف بالمقدّمة ثمّ بذیها اتّصفت تلک المقدّمة بالموصلة فالإیصال عنوان انتزاعی منتزع من وقوع المقدّمة فی سلسلة علل وجود الواجب النفسی فی الخارج فإذا وجد فیه وترتّب علیها خارجاً انتزع عنوان الإیصال لها فإذن أخذ هذا العنوان لمجرّد المعرّفیة والاشارة إلی أنّ الواجب الغیری حصّة خاصّة من المقدّمة وهی الحصّة الواقعة فی سلسلة علّة وجود الواجب النفسی فإذا وقعت فی هذه السلسلة انتزع منها عنوان الموصلة. وإن شئت قلت أنّ المقدّمة فی الخارج علی نحوین:

الأول: إنّ الواجب النفسی مترتّب علیها فی الخارج کما إذا أتی المکلّف بالوضوء مثلا ثمّ بالصلاة.

الثانی: أنّ الواجب النفسی لا یترتّب علیها فیه فالمقدّمة علی الأول موصلة دون الثانی فعنوان الإیصال عنوان منتزع من ترتّب الواجب النفسی علیها خارجاً لا أنّه قید لها فی المرتبة السابقة فإذا جیی بالمقدّمة ثمّ بالواجب النفسی انتزع بها عنوان الموصّلیة وإلاّ فلا تکون موصلة.

فالنتیجة أنّ عنوان الإیصال إلی الواجب النفسی عنوان انتزاعی منتزع من ترتّب وجود الواجب النفسی علی وجود المقدّمة فی الخارج لا أنّه قید لها.

الثانیة: ما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) من أنّ الغرض الداعی إلی إیجاب المقدّمة هو ترتّب تمکّن المکلّف من الاتیان بذی المقدّمة علی الاتیان بها

ص:270

وهذا الغرض مترتّب علی مطلق المقدّمة لا علی حصّة خاصّة منها وهی المقدّمة الموصلة وعلیه فیکون الواجب مطلق المقدّمة لا خصوص الموصلة(1). ولکن قد تقدّم بشکل موسع أنّ ذلک لا یصلح أن یکون ملاکاً لایجاب المقدّمة.

المناقشة الثالثة: ما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) أیضاً بتقریب أنّ المکلّف إذا أتی بالمقدّمة ولم یأت بذیها فهل یسقط أمرها الغیری أو لا.

والجواب: أنّه لا یمکن الالتزام بالثانی وهو عدم سقوطه وإلاّ فلازمه وجوب الاتیان بها مرّة ثانیة وهو طلب الحاصل وعلی الأول وهو السقوط فلایخلو من أنّه إمّا بالعصیان أو بانتفاء الموضوع أو الموافقة والامتثال وحیث إنّ الأول والثانی منتف فیتعیّن الثالث وهذا یکشف عن أنّ الوجوب الغیری متعلّق بمطلق المقدّمة لا بخصوص المقدّمة الموصلة(2).

ولنأخذ بالنقد علی هذه المناقشة وحاصل هذا النقد أنّ الأمر الغیری حیث إنّه تبعی فلا یکون محرّکاً إلاّ بمحرّکیة الأمر النفسی وهو الأمر بذی المقدّمة ولا یسقط إلاّ بسقوطه وهذا لا من جهة أنّ سقوطه مقیّد بالاتیان به بل من جهة أنّ الغرض من الأمر بالمقدّمة لا یحصل إلاّ بإیجاد ذی المقدّمة فی الخارج فإذا أتی المکلّف بالمقدّمة کما إذا توضّأ للصلاة مثلا ثم لم یأت بها فلا یسقط الأمر بالوضوء لعدم حصول الغرض منه لأنّ الغرض الموجب للأمر به هو وجود الصلاة فی الخارج فطالما لم یأت المکلّف بها لم یسقط الأمر بالوضوء لأنّ سقوطه منوط بسقوط الأمر بها ضرورة أنّه لیس له سقوط

-

.

ص:271


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم: ص 161
2- (2) - کفایة الاُصول: ص 114.

مستقل کما أنّه لیس له امتثال مستقل فی مقابل امتثال الأمر بالصلاة ولیس معنی عدم سقوطه أنّه یدعو إلی الاتیان بمتعلّقه مرّة اخری لکی یلزم طلب الحاصل لأنّ الأمر الغیری لا یدعو إلی الاتیان بمتعلّقه إلاّ بداعویة الأمر النفسی والمفروض أنّ الأمر النفسی فی هذه الحالة لا یدعو إلی الاتیان بمتعلّق الأمر الغیری مرّة اخری وحینئذ فإذا أتی بمتعلّق الأمر النفسی فقد سقط الأمر الغیری بسقوط الأمر النفسی لمکان حصول غرضه وإلاّ فهو لیس مصداقاً للواجب الغیری فإنّ الواجب الغیری علی هذا هو ما یترتّب علیه وجود الواجب النفسی فی الخارج ویقع فی سلسلة علّة وجوده فیه فإذا أتی المکلّف بالمقدّمة ولم یأت بذیها لم ینطبق الواجب الغیری علی الفرد المأتی به فی الخارج وهو المقدّمة فلهذا لا یسقط أمرها الغیری.

والخلاصة أنّ داعویة الأمر الغیری التبعی إنّما هی بداعویة الأمر النفسی ومن الواضح أنّ الأمر النفسی إنّما یدعو إلی الاتیان بمقدّماته تبعاً إذا أتی بمتعلّقه لا مطلقاً وسقوط الأمیر الغیری التبعی إنّما هو بسقوط الأمر النفسی ومن المعلوم أنّ سقوط الأمر النفسی إنّما هو بالاتیان بمتعلّقه وبه یسقط الأمر الغیری أیضاً فالنتیجة أنّ هذه المناقشة أیضاً غیر تامّة.

المناقشة الرابعة: ما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) أیضاً وتبعه فیه المحقّق النائینی (قدس سره) وحاصل هذه المناقشة هو أنّ الغرض الداعی إلی إیجاب المقدّمة لو کان قائماً بخصوص المقدّمة الموصلة وهی ما یترتّب علیه الواجب النفسی فی الخارج فلازم ذلک تخصیص الوجوب الغیری بخصوص السبب من المقدّمة دون غیره کما عن صاحب المعالم (قدس سره) فإنّ المقدّمة إذا کانت سبباً کان ذی المقدّمة مترتّباً علیها فی الخارج فإذن لیس هذا القول فی مقابل القول بتخصیص الوجوب الغیری بخصوص السبب من المقدّمات.

ص:272

والجواب: أنّ المقدّمة الموصلة لا تکون مساوقة للسبب لما تقدّم من أنّ المراد منها ما یقع فی طریق إیجاد ذی المقدّمة فی الخارج(1) فإذا توضّأ المکلّف ثمّ صلّی کان وضوءه مقدّمة موصلة وإلاّ فلا وکذلک الحال فی طهارة البدن و الثوب ونحوهما فإنّ من قام بتطهیر بدنه أو ثوبه ثمّ صلّی فهو من المقدّمة الموصلة وإلاّ فلا ولا فرق فی ذلک بین أن تکون المقدّمة شرطاً أو سبباً أو غیره فإنّ المقدّمة إذا کانت سبباً فبما أنّ ذی المقدّمة مترتّب علیها قهراً باعتبار أنّه فعل سببی فتکون موصلة وإذا کانت شرطاً کالوضوء أو الغسل للصلاة فإذا صلّی بعده فهی مقدّمة موصلة وإلاّ لم تکن موصلة لأنّ صفة الموصلیة کما مرّ منتزعة من ترتّب الواجب علیها خارجاً من دون کونها دخیلة فی وجود ذی المقدّمة ومن هنا إذا أتی بالواجب بعدها اتّصفت بالموصلیة وإلاّ فلا.

إن قلت: أنّ المقدّمات علی قسمین:

أحدهما المقدّمات التولیدیة التی تساوق العلّة التامّة.

وثانیهما المقدّمات غیر التولیدیة وهی التی یتوقّف تحقّق ذی المقدّمة خارجاً علی إرادة المکلّف واختیاره زائداً علی المقدّمة فالمجموع مساوق مع العلّة التامّة وعلی هذا فالمقدّمة الموصلة سواءً کانت تولیدیة أم کانت غیرها تساوق العلّة التامّة.

وقد اجیب عن ذلک بأنّ الإرادة حیث أنّها غیر اختیاریة فلا یعقل أن تکون جزء المقدّمة لأنّ التکلیف لابدّ أن یتعلّق بالفعل الاختیاری.

وفیه أنّ وجوب المقدّمة حیث أنّه غیری فلا یکون مشروطاً بالقدرة والاختیار فإنّ اعتبار القدرة أمّا أن یکون علی أساس اقتضاء الخطاب أو

-

ص:273


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 113.

بحکم العقل أمّا علی الأول فلأنّ الخطاب إنّما یقتضی کون متعلّقه مقدوراً إذا کان الغرض منه إیجاد الداعی فی نفس المکلّف وتحریکه نحو الاتیان بمتعلّقه ومن الواضح أنّ إیجاد الداعی فی نفسه لا یمکن إلاّ إذا کان متعلّقه مقدوراً وإلاّ فلا یمکن إیجاده وحیث أنّ الغرض من الأمر الغیری لیس هو إیجاد الداعی فی نفس المکلّف فلا یقتضی أن یکون متعلّقه مقدوراً فإنّ داعویته إنّما هی بداعویة الأمر النفسی لا بذاته.

و أمّا علی الثانی فلأنّ حکم العقل باعتبار القدرة إنّما هو بملاک قبح تکلیف العاجز وإخراجه وإیقاعه فی العصیان واستحقاق العقوبة ومن الواضح أنّ ذلک خاصّ بالواجب النفسی لما عرفت من عدم تصوّر العصیان واستحقاق العقوبة فی الواجب الغیری المقدّمی. هذا إضافة إلی أنّ الإرادة بمعنی الشوق المؤکّد وإن کانت غیر اختیاریة لعدم اختیاریة أسبابها إلاّ أنّ الفعل الاختیاری لیس معلولا لها ومستنداً إلیها بل هو مستند إلی سلطنة النفس و أعمالها خارجاً وهی باختیارها وقد فصّلنا الحدیث عن ذلک بشکل موسّع فی مبحث الجبر والتفویض ودعوی أنّ أخذ الإرادة بهذا المعنی فی المقدّمة لا یجدی فی جعلها موصلة لأنّ المجموع المرکّب من المقدّمة والإرادة لا یکون علّة تامّة حتّی یکون مساوقاً للمقدّمة الموصلة لأنّ سلطنة النفس علی الفعل لا توجب خروجه من حدّ الإمکان إلی الوجوب بالغیر ومن هنا قلنا فی ضمن البحوث السالفة أنّ قاعدة أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد غیر منطبقه علی الأفعال الاختیاریة التی هی مسبوقة بسلطنة النفس وقدرتها وعلی هذا فبإمکان المکلّف أن یترک الفعل بمقتضی سلطنته بعد ما لم یخرج بها عن حدّ الإمکان إلی الوجوب.

مدفوعة بما تقدّم من أنّ المقدّمة الموصلة لا تکون مساوقة للعلّة التامّة بالمفهوم الفلسفی بحیث یستحیل انفکاک ذی المقدّمة عنها خارجاً بل المراد

ص:274

منها ما یقع فی طریق وجود الواجب فی الخارج فإذا أتی المکلّف بالمقدّمة باختیاره وإرادته ثمّ أتی بالواجب اتّصفت المقدّمة بالموصلیة وقد مرّ أنّ صفة الموصلیة منتزعة من ترتّب وجود الواجب علی وجود المقدّمة فی المرتبة السابقة لا أنّها جزء المقدّمة هذا من ناحیة ومن ناحیة اخری أنّ الإرادة سواء أکانت بمعنی الشوق المؤکّد أم بمعنی سلطنة النفس علی الأفعال الخارجیة الاختیاریة غیر مأخوذة فی المقدّمات التی یبحث عن وجوبها فی المسألة فإنّ هذه المقدّمات إذا وقعت فی طریق إیجاد ذیها اتّصفت بالموصلیة وإلاّ فلا ولهذا لا تکون المقدّمة الموصلة مساوقة للعلّة التامّة کما عرفت.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی عدم تمامیة شیء من المناقشات المتقدّمة علی تخصیص الوجوب الغیری بالمقدّمة الموصلة ومن هنا لو قلنا بوجوب المقدّمة فلابدّ من تخصیصه بها وقد عرفت أنّ صفة الموصّلیة إلی ذی المقدّمة لیست قیداً لها ودخیلة فیها لوضوح أنّها منتزعة من ترتّب وجود ذی المقدّمة علیها خارجاً فی المرتبة السابقة فلا یعقل أن تکون قیداً لها ثمّ إنّ المحقّق النائینی (قدس سره) لمّا کان یعتقد بأنّ المراد من المقدّمة الموصّلة ما کان الإیصال إلی وجود ذی المقدّمة قیداً لها أو لوجوبها وحیث إنّه رأی فیه محذوراً من الدور أو التسلسل فلهذا قد اختار (قدس سره) أنّ الواجب هو المقدّمة فی حال الإیصال إلی وجود ذیها لا مطلق المقدّمة إذ لا دلیل علی وجوبها کذلک ولا یحکم الوجدان السلیم بالملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته مطلقاً.

والجواب: عن ذلک قد ظهر ممّا تقدّم من أنّ المراد من المقدّمة الموصلة ما یقع فی طریق إیجاد ذی المقدّمة فی الخارج بالحمل الشائع ولا یعقل أن یکون الإیصال قیداً لها ودخیلا فی مقدّمیتها حیث إنّه لا وجود له إلاّ فی عالم الانتزاع والذهن هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أنّ حال الإیصال لیس قیداً

ص:275

للمقدّمة کما هو الحال فی القضیة الحینیة فی مقابل القضیة الشرطیة فإذا لم یکن قیداً لها فمعناه أنّ الواجب مطلق المقدّمة لا حصّة خاصة منها أو فقل أنّ حال الإیصال إن کان قیداً لها فیوجب تخصصها لا محالة بحصّة خاصّة وهی المقدّمة المقیّدة بحال الإیصال فیعود حینئذ المحذور المذکور وإن لم یکن قیداً لها کما هو المفروض استحال أن یوجب تخصصها بحصّة خاصّة وإلاّ لزم الخلف فإذن لا محالة یکون الواجب مطلق المقدّمة لا خصوص حصّة خاصّة ومن هنا لا یرجع ما أفاده (قدس سره) إلی معنی صحیح.

استدلال صاحب الفصول علی وجوب خصوص المقدمة الموصلة

ثمّ إنّ صاحب الفصول (قدس سره) قد استدلّ علی ما اختاره (قدس سره) من وجوب خصوص المقدّمة الموصلة بوجوه:

الأول: أنّ الحاکم بالملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته العقل ومن الواضح أنّه لا یحکم بها إلاّ بین وجوب شیء ووجوب مقدّماته التی تقع فی سلسلة مبادیء وجوده فی الخارج بحیث یکون وجودها فیه توأماً وملازماً لوجود الواجب وإمّا ما لا یقع فی هذه السلسلة ویکون وجوده خارجاً مفارقاً عن وجود الواجب فیه فلا یحکم العقل بالملازمة بینهما والفطرة الوجدانیة السلیمة تشهد علی ذلک ومن هنا لا یأبی العقل عن تصریح الأمر بعدم إرادة المقدّمة التی لا تکون موصلة وهذا دلیل علی أنّ الواجب خصوص المقدّمة الموصلة دون مطلق المقدّمة هذا(1) و لکن ناقش فیه المحقّق الخراسانی (قدس سره) بدعوی أنّ العقل لا یفرّق بین المقدّمة الموصلة وغیر الموصلة فی الحکم بالملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّماته علی أساس أنّ ملاک حکمه بها هو تمکّن المکلّف من الاتیان بذی المقدّمة بعد الاتیان بمقدّماته وعلی هذا

-

ص:276


1- (1) - الفصول: ص 86 ولا یأبی أن یقول الحکیم...

فلیس للمولی الحکیم غیر المجازف التصریح بعدم إرادة غیر المقدّمة الموصلة(1).

وفیه ما تقدّم من أنّ الوجدان قاض بأنّ العقل یفرّق بین المقدّمة الموصلة وغیر الموصلة ویحکم بالملازمة فی الاُولی دون الثانیة وقد تقدّم أنّ التمکّن من الاتیان بذی المقدّمة لیس ملاک وجوب المقدّمة لأنّه مترتّب علی التمکّن من المقدّمة لا علی الاتیان بها ومن هنا أنّ ما یصلح أن یکون ملاکاً لإیجابها هو وجود ذی المقدّمة فی الخارج علی تفصیل قد مرّ.

الثانی: أنّ الغرض من إیجاب المقدّمة هو إیصالها إلی الواجب النفسی فطالما لم تکن المقدّمة موصلة لم یکن داع لإیجابها أصلا والوجدان السلیم قاض بذلک وهذا الوجه کالوجه السابق موافق للوجدان فی الجملة نعم لیس بإمکانها المستدل الزام الخصم بذلک فی کلا الوجهین باعتبار أنّه تمسّک بالوجدان لا بالبرهان.

الثالث: أنّه یجوز للمولی أن ینهی عن المقدّمات التی لا تکون موصلة إلی ذیها ولا یستنکر ذلک العقل السلیم مع أنه یستحیل أن ینهی عن مطلق المقدّمة أو عن خصوص المقدّمة الموصلة وهذا الفرق شاهد علی أنّ الواجب خصوص المقدّمة الموصلة لا مطلق المقدّمة.

وأجاب عن ذلک المحقّق صاحب الکفایة (قدس سره) بوجهین:

أحدهما أنّ هذا الفرض وهو کون المقدّمة منهیاً عنها خارج عن محلّ الکلام فی المسألة فإنّه إنّما هو فی المقدّمات المباحة فی نفسها وأمّا إذا کانت المقدّمة محرّمة فعدم اتّصافها بالوجوب الغیری إنّما هو لوجود مانع لا لعدم المقتضی له وعلیه فنهی المولی عن المقدّمات غیر الموصلة لا یکشف عن أنّه لا

-

ص:277


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 118.

مقتضی لها إذ کما یحتمل ذلک یحتمل أن یکون عدم اتّصافها بالوجوب لوجود مانع وهو النهی فإذن لا یکون النهی عنها کاشفاً عن عدم ثبوت المقتضی للوجوب فیها وعلی هذا فهذا الوجه لا یدلّ علی اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة وإنّما یدل علی اختصاصه بغیر المقدّمة المحرّمة سواء أکانت موصلة أم لا نعم إذا کانت موصلة تقع المزاحمة بین حرمتها و وجوب ذیها فعندئذ لابدّ من الرجوع إلی قواعد باب المزاحمة وسوف نشیر إلی ذلک موسّعاً.

وثانیهما أنّه لا یمکن تخصیص الحرمة بالمقدّمة غیر الموصلة وذلک لأنّه یستلزم طلب الحاصل وهو مستحیل.

بیان ذلک أنّ وجوب ذی المقدّمة مشروط بالقدرة علیه عقلا وشرعاً وهی تتوقّف علی إباحة مقدّمته وإباحتها تتوقّف علی أن تکون المقدّمة موصلة والإیصال مساوق لوجود الواجب ونتیجة ذلک أنّ وجوب ذی المقدّمة یتوقّف علی وجوده فی الخارج وهو من طلب الحاصل(1).

ویمکن تقریر ذلک بصیغة اخری وهی أنّ إباحة المقدّمة منوطة بإیصالها إلی وجود الواجب فی الخارج وإلاّ کانت محرّمة ومع حرمتها لا یکون الواجب مقدوراً لأنّ القدرة علیه تتوقّف علی إباحة المقدّمة وهی تتوقّف علی وجود الواجب فی الخارج فطالما لم یوجد فیه فالمقدّمة محرّمة فلا یکون المکلّف حینئذ قادراً شرعاً علی الاتیان بالواجب وصیاغة هذا التقریر وإن کانت تختلف عن صیاغة التقریر الأول إلاّ أنّهما متلازمان لبّاً وواقعاً فلا ینفک أحدهما عن الآخر.

والجواب: أولا ما تقدّم من أنّ عنوان الإیصال عنوان انتزاعی منتزع من

-

ص:278


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 118.

ترتّب الواجب علی وجود المقدّمة فی الخارج بالحمل الشائع فی المرتبة السابقة ولا یکون قیداً لها ودخیلا فیها فإذن لا مانع من تخصیص الحرمة بالحصّة غیر الموصلة لأنّ المقدّمة الموصلة مباحة وإباحتها لا تتوقّف علی وجود الواجب فی الخارج حتّی یلزم المحذور المتقدّم.

وثانیاً مع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنّ عنوان الإیصال قید لها إلاّ أنّه قید للمقدّمة المباحة لا أنّه قید لإباحتها والمحذور المذکور إنّما یلزم لو کان الإیصال قیداً للإباحة باعتبار أنّ وجوب الواجب حینئذ یتوقّف علی إباحة المقدّمة وهی تتوقّف علی وجود الواجب فبالنتیجة یتوقّف وجوب الواجب علی وجوده وهو من طلب الحاصل أو أنّه یستلزم عجز المکلّف شرعاً عن الاتیان بالواجب کما مرّ ولکن الأمر لیس کذلک بل هو قید للمقدّمة المباحة وعلی هذا فلا محذور لأنّ المقدّمة الموصلة مباحة قبل الاتیان بالواجب فلا تتوقّف إباحتها علی وجود الواجب والاتیان به لکی یلزم المحذور.

وثالثاً مع الاغماض عن ذلک أیضاً وتسلیم أنّ الإیصال قید للإباحة فمع ذلک لا یلزم المحذور المذکور فإنّه إنّما یلزم إذا کان وجود الواجب قیداً للإباحة الفعلیة للمقدّمة ولکن الأمر لیس کذلک فإنّه قید لإباحتها اللولائیة أی إباحتها لو توصّل بها إلی وجود الواجب فی الخارج فإنّه یتوقّف علی هذه الإباحة للمقدّمة وهی لا تتوقّف علی وجوده لأنّها فعلیة قبل وجوده ووجود المقدّمة فإنّ معنی الإباحة اللولائیة هو أنّ المقدّمة مباحة لو توصّل المکلّف بها إلی ذیها فی الخارج فوجوده فیه یتوقّف علی هذه الإباحة وهی بید المکلّف واختیاره قبل وجود مقدّماته ومن الواضح أنّ المعیار فی صحّة الأمر بشیء هو مقدوریة مقدّماته وإیقاعها علی وجه شرعی والمفروض أنّ المکلّف قادر علی الاتیان بالمقدّمة متوصّلا بها إلی إیجاد ذیها فإذا أتی بالمقدّمة کذلک فقد أتی بها علی وجه

ص:279

شرعی وهذا بید المکلّف.

تحصّل ممّا ذکرناه أنّ الصحیح علی القول بوجوب المقدّمة هو ما ذهب إلیه صاحب الفصول (قدس سره) من وجوب حصّة خاصّة منها وهی المقدّمة الموصلة باعتبار أنّ الغرض من الوجوب الغیری للمقدّمة لیس إلاّ حصول ذی المقدّمة ووجوده فإنّه المراد والمطلوب بالأصالة وما یقع فی طریق وجوده فی الخارج وحصوله فیه هو المراد والمطلوب بالغرض ومن هنا یکون وجوب ذی المقدّمة أصلی ووجوب مقدّمته تبعی وإرادته فی مرحلة المبادیء بالأصالة وإرادة مقدّمته بالتبع ومن الواضح أنّه لا یمکن أن تکون دائرة المطلوب بالعرض أوسع من دائرة المطلوب بالذات لأنّ معنی ذلک أنّ دائرة المعلول أوسع من دائرة العلّة وهو کما تری فالنتیجة أنّه علی تقدیر القول بوجوب المقدّمة فهذا القول هو الصحیح دون سائر الأقوال هذا، ولکن التحقیق عدم وجوب المقدّمة مطلقاً وقد أشرنا إلی وجه ذلک فیما تقدّم وملخّصه:

أنّ الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة وإرادة مقدّمته فی مرحلة المبادیء وإن کانت ثابتة بالوجدان وکذلک الملازمة بین محبوبیته ومحبوبیتها إلاّ أنّ الملازمة فی مرحلة الاعتبار غیر ثابتة لأنّه إن ارید بها أنّ وجوب المقدّمة مترشّح من وجوب ذیها ومتولّد منه بصورة قهریة کتولّد المعلول عن العلّة التامّة فإنّه غیر معقول وذلک لأنّ الوجوب أمر اعتباری لا واقع موضوعی له خارجاً ما عدا وجوده فی عالم الاعتبار والذهن حتّی یتصوّر فیه التأثیر والتأثّر لأنّه إنّما یتصوّر فی الموجودات التکوینیة الخارجیة لا فی الاُمور الاعتباریة.

هذا إضافة إلی أنّ الاعتبار فعل مباشر للمعتبر فافتراض التسبیب فیه خلف وإن ارید بها أنّ وجوب المقدّمة مجعول تبعاً لوجوب ذیها فهو وإن کان ممکناً ثبوتاً إلاّ أنّه بحاجة إلی دلیل فی مقام الاثبات وذلک لأنّ جعل الوجوب للمقدّمة

ص:280

من قبل الشارع لا یمکن أن یکون جزافاً وبلا نکتة تبرّر هذا الجعل وتلک النکتة التی تدعو المولی إلی جعل الوجوب للمقدّمة لا تخلو إمّا أن تکون فی نفس المقدّمة أو فی ذیها والأول خلاف الفرض إذ لو کانت فی المقدّمة مصلحة تدعو المولی إلی جعل الوجوب لها لم یکن وجوبها غیریاً وهذا خلف وأمّا وجودها فی الثانی فهو لا یقتضی إلاّ إیجابه لا إیجاب مقدّمته تبعاً لأنّه یکفی فی تحریک المکلّف وبعثه نحو امتثاله والاتیان بمتعلّقه ویلزمه باتیان جمیع مقدّماته التی یتوقّف وجود الواجب علیها والمفروض أنّ الوجوب الغیری لا یصلح أن یکون داعیاً مستقلا حتّی یؤکّد داعویة الوجوب النفسی بل داعویته إنّما هی بداعویة الوجوب النفسی فیکون وجوده وعدمه من هذه الناحیة علی حدّ سواء لوضوح أنّ المحرّک نحو الطاعة والامتثال هو الوجوب النفسی فحسب کان الوجوب الغیری أم لم یکن وإن شئت قلت أنّ جعل الوجوب لشیء أمّا لإبراز وجود ملاک فیه والمفروض أنّه لا ملاک فی المقدّمة وأمّا وجود الملاک فی ذی المقدّمة فیکفی لإبرازه جعل الوجوب النفسی له بلا حاجة إلی جعل الوجوب الغیری لمقدّماته وأمّا أن یکون مرکز حقّ الطاعة والفرض أنّ الوجوب الغیری لیس مرکز الحقّ الطاعة لما تقدّم من أنّ موافقته بما هی موافقة له لیست طاعة ومخالفته بما هی لیست معصیة فمن أجل ذلک یکون جعله لغواً وجزافاً ولا یمکن صدوره من المولی الحکیم.

تلخیص لنتائج البحث

نلخّص نتائج البحث فی النقاط التالیة:

الاُولی: أنّ اصولیة المسألة مرهونة بترتّب أثر فقهی علیها مباشرة وحیث أنّه لا یترتّب علی مسألة مقدّمة الواجب أثر فقهی کذلک فلا تکون من المسائل الاُصولیة وأمّا الوجوب الغیری فهو لا یصلح أن یکون أثراً فقهیاً للمسألة الاُصولیة.

ص:281

الثانیة: أنّ الملازمة فی مرحلة المبادیء ثابتة وجداناً بین إرادة ذی المقدّمة وإرادة مقدّمته فإنّها تترشّح من إرادة ذیها وتتولّد منها بصورة قهریة کتولّد المعلول عن العلّة التامّة وکذلک الحال بین محبوبیة ذی المقدّمة ومحبوبیة مقدّمته وهذا أمر وجدانی لا برهانی وأمّا الملازمة فی مرحلة الجعل والاعتبار بین وجوب ذی المقدّمة ووجوب مقدّمته فهی غیر ثابتة فإنّها بمعنی ترشّح وجوب المقدّمة عن وجوب ذیها غیر معقولة وبمعنی جعل وجوب المقدّمة تبعاً لجعل وجوب ذیها وإن کانت ممکنة ثبوتاً إلاّ أنّه لا یمکن إثباته کما مرّ.

الثالثة: أنّ الغرض من إیجاب المقدّمة لیس ترتّب تمکّن المکلّف من إیجاد ذیها علی وجودها فی الخارج کما ذهب إلیه صاحب الکفایة (قدس سره) لأنّه مترتّب علی التمکّن من الاتیان بالمقدّمة لا علی وجودها فیه کما أنّ القول بأنّ وجوب المقدّمة مشروط بالعزم وإرادة الاتیان بذی المقدّمة لا یرجع إلی معنی صحیح(1).

الرابعة: أنّ ما نسب إلی شیخنا الأنصاری (قدس سره) من أنّ قصد التوصّل مأخوذ فی المقدّمة لا یمکن المساعدة علیه لأنّ أخذ شیء قیداً فیها لا یمکن أن یکون جزافاً بل لابدّ أن یکون دخیلا فی الغرض والمفروض أنّ قصد التوصّل غیر دخیل فیه کما تقدّم وعلیه فلا موجب لأخذه فی المقدّمة.

الخامسة: أنّ عبارة التقریرات للشیخ (قدس سره) حیث إنّها مشوّشة فلهذا قد فسّرت بعدّة تفاسیر منها ما عن المحقّق الأصفهانی (قدس سره) من أنّ مقصود الشیخ (رحمه الله) من اعتبار قصد التوصّل فی وجوب المقدّمة أنّه جهة تعلیلیة لوجوبها والجهة التعلیلیة فی الأحکام الشرعیة فإنّها غیر الجهة التقییدیة وعلی هذا فحیث أنّ قصد التوصّل جهة تعلیلیة للحکم العقلی فهو الموضوع له فی الحقیقة.

-

ص:282


1- (1) - نفس المتقدّم: ص 161.

وقد علّقنا علی هذا التفسیر بوجوه:

الأول: أنّه لا فرق فی ذلک بین الأحکام العقلیة والأحکام الشرعیة فکما أنّ الجهات التعلیلیة فی الأحکام العقلیة ترجع إلی الجهات التقییدیة فکذلک فی الأحکام العقلیّة جهة تقییدة لها و هذا بخلاف الجهة التعلیلیة فی الأحکام الشرعیة ثبوتاً بقانون أنّ کلّما بالغیر لابدّ وأن ینتهی إلی ما بالذات وجداناً لا برهاناً.

الثانی: أنّ الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة وإرادة المقدّمة ثابتة بین وجوبه ووجوب مقدّمته.

الثالث: أنّ ما ذکره (قدس سره) من أنّ الواجب حصة خاصّة من المقدّمة وهی المقدّمة المقیّدة بقصد التوصّل فإذا أتی بها بدون قصده لم یأت بالمقدّمة الواجبة غیر تامّ ضرورة أنّ الواجب هو المقدّمة بالحمل الشایع والغرض مترتّب علیها وقصد التوصّل غیر دخیل فیه.

السادسة: أنّ صاحب الفصول (قدس سره) قد اختار فی المسألة أنّ الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة وقد أورد علیه جمع من المحقّقین بعده.

مناقشات ولکن تقدّم أنّ جمیع تلک المناقشات غیر تامّة.

السابعة: أنّ عنوان الإیصال عنوان منتزع من ترتّب الواجب علی المقدّمة فی الخارج فی المرتبة السابقة ولیس قیداً لها ودخیلا فیها لأنّ الواجب هو المقدّمة بالحمل الشایع وما یقع فی طریق إیجاد الواجب فی الخارج.

الثامنة: أنّه علی تقدیر القول بوجوب المقدّمة فالصحیح هو وجوب المقدّمة الموصلة.

التاسعة: أنّ صاحب الفصول (قدس سره) قد استدلّ علی وجوب المقدّمة الموصلة بعدّة وجوه أکثرها تامّة ولکنّها مرتبطة بالوجدان لا بالبرهان.

ص:283

ثمرة المقدّمة

أنّ اصولیة مسألة مقدّمة الواجب لیست مرهونة بوجوبها الغیری لما تقدّم من أنّه لا یصلح أن یکون ثمرة للمسألة الاُصولیة لأنّ ثمرتها لابدّ أن تکون مسألة فقهیة قابلة للتنجیز والمفروض أنّ الوجوب الغیری لا یقبل التنجیز ومن هنا لا تکون موافقته طاعة ومخالفته معصیة وبذلک یظهر أنّ ما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) من أنّ أثر هذه المسألة الوجوب الغیری فلا یمکن المساعدة علیه.

فالنتیجة أنّ مسألة مقدّمة الواجب لیست من المسائل الاُصولیة بل هی من المبادیء التصدیقیة لها علی تفصیل تقدّم فی أوّل بحث الاُصول ولهذا حاول السیّد الاُستاذ (قدس سره) لإثبات کون مسألة مقدّمة الواجب من المسائل الاُصولیة بملاک آخر لا بملاک وجوبها الغیری وهو متمثّل فی مسألتین تالیتین:

1 - إذا کانت المقدمة محرمة

الارولی: ما إذا کانت المقدّمة محرّمة.

الثانیة: ما إذا کان الواجب علّة تامّة لارتکاب الحرام.

أمّا الثمرة الاُولی فقد ذکر (قدس سره) أنّه علی القول بعدم الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته یقع التزاحم بین وجوب ذی المقدّمة وحرمة مقدّمته وحینئذ فیکون المرجع مرجّحات باب المزاحمة.

وأمّا علی القول بالملازمة فیختلف الحال باختلاف الأقوال فی المسألة فعلی القول بوجوب المقدّمة مطلقاً تقع المعارضة بین وجوبها وحرمتها فإذن لابدّ من الرجوع إلی مرجّحات باب المعارضة وعلی القول بوجوب المقدّمة التی یقصد بها التوصّل إلی ذیها فی الخارج فتقع المعارضة بین وجوب هذه الحصّة وحرمتها.

وعلی القول بوجوب المقدّمة الموصلة تقع المعارضة بین وجوبها

ص:284

وحرمتها وهذه ثمرة مهمّة مترتّبة علی هذه المسألة(1).

ولنا علی ما ذکره (قدس سره) من الثمرة تعلیقان:

الأول: علی ما ذکره (قدس سره) من الفرق بین القول بالملازمة فی المسألة والقول بعدم الملازمة فیها.

الثانی: علی أنّ هذه الثمرة لیست ثمرة لهذه المسألة مباشرة بل هی ثمرة لمسألة اخری اصولیة.

أمّا التعلیق الأول فالظاهر أنّه لا فرق بین القول بعدم ثبوت الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته والقول بثبوت الملازمة بینهما.

لأنّ المسألة علی کلا القولین داخلة فی باب التزاحم أمّا علی القول بعدم ثبوت الملازمة فلأنّه لا تنافی بین جعل الحرمة للمقدّمة فی نفسها وجعل الوجوب لذیها کذلک فی مرحلة الجعل لتعدّد موضوع الحکمین وإنّما التنافی بینهما فی مرحلة الامتثال فإنّ المکلّف فی هذه المرحلة لا یقدر علی امتثال کلا الحکمین معاً فعندئذ یقع التزاحم بینهما علی أساس أمرین:

الأول: تقیید کلّ خطاب شرعی لباً بعدم الاشتغال بضدّه الواجب لا یقل عنه فی الأرجحیة.

الثانی: إمکان الترتّب وعلی ضوء هذا الأساس فالخطاب التحریمی بالمقدّمة مقیّد لبّاً بعدم الاشتغال بذیها ونتیجة ذلک تقیید إطلاق الخطاب التحریمی بالمقدّمات غیر الموصلة.

والخطاب الوجوبی بذی المقدّمة مقیّد لبّاً بالدخول فی المقدّمة المحرّمة ونتیجة ذلک تقیید إطلاق الخطاب الوجوبی بالدخول فی الحرام وأمّا إذا لم

-

ص:285


1- (1) - المحاضرات ج 2: ص 425.

یدخل فیه فلا وجوب وحینئذ فإن کانا متساویین کان الترتّب بینهما من الطرفین وإن کان أحدهما أهمّ من الآخر فالترتّب من جانب واحد، وأمّا لو لم نقل بالتقیید أو قلنا به ولم نقل بالترتّب فباب التزاحم داخل فی باب التعارض ویسری التنافی بینهما من مرحلة الامتثال إلی مرحلة الجعل ولا یمکن جعل کلا الحکمین معاً بنحو الاطلاق وإن کان موضوعهما متعدّداً.

وأمّا علی القول بثبوت الملازمة فالأمر أیضاً کذلک إذ لا تنافی بین جعل الحرمة للمقدّمة وجعل الوجوب لذیها فی مقام الجعل بنفس ما تقدّم من الملاک وعلیه فحرمة المقدّمة تزاحم وجوب ذیها وهل معارضة بین حرمتها ووجوبها الغیری؟

والجواب: أنّه لا معارضة بینهما رغم أنّ موضوعهما واحد.

وذلک لأنّ الوجوب الغیری إنّما ینافی الحرمة لا بنفسه بل بملاک أنّه من شؤون الوجوب النفسی وتوابعه وبقطع النظر عنه فلا وجود له حتّی یکون معارضاً لها ومن الواضح أنّ مجرّد الوجوب الغیری الاعتباری للمقدّمة ترشّحاً من الوجوب النفسی أو جعلا بتبعه لا یمنع عن حرمتها لا ملاکاً فی مرحلة المبادیء ولا دعوة فی مرحلة الامتثال لأنّ دعوته إنّما هی بدعوة الوجوب النفسی لا بالاستقلال ولذلک فلا معنی لکون الوجوب الغیری للمقدّمة معارضاً لحرمتها إذا لم یکن الوجوب النفسی معارضاً لها بل إنّ هذا غیر متصوّر إلاّ بافتراض أنّ الوجوب الغیری وجوب مستقل فی مقابل الوجوب النفسی وهذا خلف.

وعلی هذا فعلی القول بوجوب المقدّمة مطلقاً یقع التزاحم بین حرمة المقدّمة کذلک ووجوب ذیها وحینئذ فإن کانا متساویین فالترتّب بینهما من الجانبین فإنّ إطلاق الخطاب التحریمی مقیّد لبّاً بعدم الاشتغال بالواجب وترکه

ص:286

فی الخارج وإطلاق الخطاب الوجوبی مقیّد کذلک بالدخول فی المقدّمة المحرّمة فالنتیجة أنّ المکلّف إن أتی بالمقدّمة المحرّمة ولم یأت بالواجب وهو ذوها فقد ارتکب حراماً وترک واجباً معاً واستحقّ العقاب علی کلیهما کذلک وإن ترک الحرام وهو الاتیان بالمقدّمة فلا وجوب للواجب لأنّ وجوبه مقیّد بارتکاب الحرام وإلاّ فلا وجوب له وإن أتی بالمقدّمة المحرّمة ثمّ بالواجب فلا حرمة لها لأنّها مقیّدة بعدم الاتیان بالواجب وإن کان الواجب أهمّ من الحرام فالترتّب من جانب الحرام لأنّ حرمته مقیّدة بعدم الاتیان بالواجب وإلاّ فلا حرمة له وأمّا وجوب الواجب فهو مطلق وثابت فی کل حال الاتیان بالمقدّمة المحرّمة وترکها معاً وإن کان الحرام أهمّ من الواجب فالترتّب من جانب الواجب فحسب لأنّ وجوبه مقیّد بارتکاب الحرام وإلاّ فلا وجوب له وأمّا حرمة الحرام فهی مطلقة.

وعلی القول بوجوب حصّة خاصّة من المقدّمة وهی المقدّمة المقیّدة بقصد التوصّل یقع التزاحم بین حرمة هذه الحصّة من المقدّمة ووجوب ذیها فإن کانا متساویین کان الترتّب من کلا الجانبین فإنّ وجوب الواجب مترتّب علی الاشتغال بالمقدّمة المحرّمة وإلاّ فلا وجوب له وحرمة المقدّمة مترتّبة علی ترک الواجب وعدم الاشتغال به وإلاّ فلا حرمة لها وهذا معنی أنّ الترتّب بینهما من کلا الجانبین وإن کان الوجوب أهمّ من الحرمة فالحرمة مترتّبة علی ترک الواجب وأمّا الوجوب فهو مطلق وإن کان العکس فبالعکس.

وعلی القول بوجوب المقدّمة الموصلة یقع التزاحم بین حرمة هذه الحصّة من المقدّمة ووجوب ذیها ولکن قد یقال أنّه لا یمکن أن تکون حرمة المقدّمة الموصلة مقیّدة بعدم الاشتغال بالواجب وإلاّ لم تکن المقدّمة موصلة وهذا خلف ومن هنا لا یعقل الترتّب من جانب حرمة المقدّمة الموصلة إذا کانت مساویة مع وجوب الواجب أو کان وجوب الواجب أهم منها.

ص:287

وفیه أنّه مبنی علی أن تکون المقدّمة الموصلة محرّمة بعنوانها مع أنّ الأمر لیس کذلک فإنّ الحرام ذات المقدّمة والمقدّمة الموصلة فرد من الحرام وهذا الفرد مزاحم للواجب فعندئذ إنّ کانا متساویین فالترتّب بینهما من الجانبین وإن کان أحدهما أهم من الآخر فالترتّب من جانب واحد هذا بناءً علی ما هو الصحیح من القول بإمکان الترتّب وأمّا بناءً علی إستحالته فجمیع تلک الصور داخلة فی باب التعارض حیث أنّ التنافی حینئذ یسری من مرحلة الامتثال إلی مرحلة الجعل لأنّ باب التزاحم إنّما لا یدخل فی باب التعارض علی القول بإمکان الترتّب وأمّا علی القول باستحالته فیدخل فیه إذ لا یمکن حینئذ جعل کلا الحکمین المترتّبین من کلا الجانبین معاً أو من جانب واحد للتنافی بینهما فی مرحلة الامتثال ولا یمکن علاجه علی القول باستحالة الترتّب هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أنّ المقدّمة إذا کانت محرّمة فهل یمکن اتّصافها بالوجوب الغیری؟

والجواب: أنّ فیه تفصیلا وذلک لأنّ وجوب الواجب إن کان أهمّ من حرمة المقدّمة ترشّح منه الوجوب إلیها مطلقاً علی القول بوجوبها کذلک وإلی حصّة خاصّة منها وهی الحصّة الموصلة علی القول بوجوب هذه الحصّة فحسب وحینئذ فهل بین حرمة المقدّمة ووجوبها الغیری معارضة أو مزاحمة فیه وجهان:

فذهب جماعة إلی الوجه الأول بدعوی أنّ متعلّقهما واحد فلا یعقل أن یکون ذلک من باب التزاحم فإنّه لا یتصوّر إلاّ مع تعدّد متعلّق الحکمین وأمّا مع الوحدة فلا محالة یکون من باب التعارض هذا ولکن الصحیح هو الوجه الثانی لما تقدّم من أنّ الوجوب الغیری من شؤون الوجوب النفسی وتوابعه وعلیه فلا یعقل أن یکون معارضاً لحرمة شیء أو مزاحماً لها إلاّ بمعارضة الوجوب النفسی

ص:288

أو مزاحمته لأن معارضته انما هی بمعارضة الوجوب النفسی و مزاحمته انما هی بمزاحمته لا بذاته والمفروض أنّ بین حرمة المقدّمة ووجوب ذیها مزاحمة لا معارضة ولهذا یکون الوجوب الغیری مشروط بما هو شرط للوجوب النفسی فالوجوب النفسی مشروط بالقدرة علی الواجب النفسی والوجوب الغیری أیضاً مشروط بالقدرة علیه وحینئذ فإذ صرف المکلّف قدرته علی ترک الحرام ارتفع الوجوب النفسی بارتفاع شرطه وهو القدرة وکذلک الوجوب الغیری وهذا هو ضابط التزاحم فالنتیجة أنّه لا یعقل أن یکون بین حرمة المقدّمة ووجوب ذیها تزاحم وبینها وبین وجوبها الغیری تعارض ولا فرق فی ذلک بین القول بوجوب المقدّمة مطلقاً والقول بوجوب الحصّة الموصلة فحسب فإنّه علی کلا القولین لا تعارض بین حرمتها ووجوبها الغیری بل بینهما تزاحم تبعاً للتزاحم بینها وبین وجوب ذیها.

وعلی هذا فحرمة المقدّمة مشروطة بعصیان الواجب فإذا أتی بالمقدّمة وعصی الواجب ولم یأت به فقد فعل محرّماً وترک واجباً وإن أتی به فلا حرمة لها.

وأمّا إن کانت حرمة المقدّمة أهم من وجوب الواجب فلا وجوب عندئذ لکی یترشّح منه إلی مقدّمته إذ مع افتراض أهمیة حرمة المقدّمة لابدّ من ارتفاع الوجوب وتقییده بعصیان حرمة المقدّمة فإذ أتی بالمقدّمة تحقّق الوجوب من جهة تحقّق شرطه وهو العصیان فطالما لم یتحقّق العصیان بفعل المقدّمة المحرّمة لم یتحقّق الوجوب وحیث إنّ وجوب الواجب یتحقّق بعد فعل المقدّمة المحرّمة فلا موضوع حینئذ لترشّح الوجوب منه إلیها وإلاّ لزم طلب الحاصل ولا فرق فی ذلک بین القول بوجوب المقدّمة مطلقاً والقول بوجوب الحصة الموصلة فإنّه علی کلا القولین لا مقتضی للترشّح لا قهراً ولا جعلا أو

ص:289

فقل أنّ فعل المقدّمة حیث إنّه شرط للوجوب فلا یترشّح منه الوجوب الغیری علیها وإلاّ لزم تعلّقه بالحاصل وإن کان وجوب الواجب مساویاً مع حرمة المقدّمة فأیضاً لا موضوع لترشّح الوجوب الغیری إلی المقدّمة المحرّمة لأنّ إطلاق خطاب کل منهما مشروط بعصیان الآخر فإطلاق الخطاب الوجوب مقیّد ومشروط بعصیان الحرام وهو فعل المقدّمة وإطلاق الخطاب التحریمی مشروط بعصیان الواجب وعلی هذا فلا وجوب فی فرض عدم عصیان الحرام بفعل المقدّمة وأمّا فی فرض العصیان فالوجوب إنّما یتحقّق بعد تحقّق العصیان بالاتیان بالمقدّمة المحرّمة وحینئذ فترشّح الوجوب منه إلیها من طلب الحاصل فلهذا لا مقتضی له فی هذا الفرض أیضاً بلا فرق فی ذلک بین القول بوجوب المقدّمة مطلقاً والقول بوجوب الحصّة الموصلة فحسب، إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّ التنافی بین حرمة المقدّمة ووجوب ذیها إنّما هو من باب التزاحم ولا فرق فی ذلک بین القول بوجوب المقدّمة والقول بعدم وجوبها وعلی الأول لا فرق بین القول بوجوب المقدّمة مطلقاً والقول بتخصیص وجوبها بالحصّة الموصلة أو الحصة التی قصد بها التوصّل.

هذا کلّه علی القول بامکان تخصیص الوجوب الغیری بالمقدّمة الموصلة وأمّا علی القول باستحالة هذا التخصیص کما ذهب إلیه المحقّق النائینی (قدس سره)(1) فقد ذکر بعض المحقّقین أنّه علی هذا القول یقع التنافی بین حرمة المقدّمة غیر الموصلة ووجوب ذی المقدّمة إذ یستحیل إطلاق کلیهما معاً للتناقض والتضادّ بینهما لأنّ المقدّمة لا یمکن أن تکون محرّمة وواجبة معاً فی آن واحد وتقیید وجوبها بالموصلة مستحیل ویسری هذا التعارض والتنافی بالتبع إلی وجوب ذی المقدّمة

-

ص:290


1- (1) - راجع أجود التقریرات ج 1: ص 239.

وحرمة المقدّمة غیر الموصلة لاستحالة اجتماعهما لأنّه یستلزم التکلیف بالمحال هذا نظیر أن یأمر المولی بانقاذ الغریق مثلا و ینهی عن التصرّف فی مال الغیر علی الرغم من أنّه متوقّف علیه ولکن مع افتراض أهمیة الواجب لابدّ من ارتفاع الحرمة عن مطلق المقدّمة حتّی غیر الموصلة بحیث لو فعلها المکلّف لم یکن عاصیاً ومرتکباً للحرام وهذا من النتائج الغریبة للقول باستحالة تخصیص الوجوب بالموصلة.

ودعوی إمکان دفع هذا التنافی بالالتزام بأنّ حرمة غیر الموصلة مشروط بترک الواجب وعصیانه بناءً علی القول بإمکان الترتّب کما هو الصحیح.

مدفوعة بأنّ الترتّب إنّما یعقل فی موارد التزاحم بین الامتثالین لا فی موارد التنافی بین الجعلین کما فی المقام أو فقل أنّ المقدّمة غیر الموصلة یستحیل أن تکون حرمتها مشروط بترک ذیها لأنّ المقدّمة فی هذا الفرض أی فرض ترک ذی المقدّمة واجبة بالوجوب الغیری بعد استحالة تقییده بالموصلة فیلزم اجتماع الضدّین وهما الوجوب الغیری والحرمة بلحاظ حال ترک ذی المقدّمة فی شیء واحد وهو المقدّمة فإذن لا محیص عن الالتزام بارتفاع حرمتها مطلقاً(1).

ویمکن المناقشة فیه وذلک لما تقدّم من أنّ الوجوب الغیری حیث إنّه من شؤون الوجوب النفسی ومترشّح منه فلا یصلح أن یکون طرفاً للمعارضة مع حرمة المقدّمة بنفسه فإنّه یتبع الوجوب النفسی فی ذلک ولا یعقل أن تکون بین حرمة المقدّمة ووجوب ذیها مزاحمة وبینها وبین وجوبها الغیری معارضة

-

ص:291


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول ج 2: ص 256.

ضرورة أنّ معارضته إنّما هی بمعارضة الوجوب النفسی ومزاحمته إنّما هی بمزاحمته ولا یعقل أن یکون مستقلا فی ذلک وإلاّ لم یکن غیریاً وهذا خلف وعلی هذا.

فما یظهر منه (قدس سره) من أنّ بین حرمة المقدّمة غیر الموصلة وبین وجوب ذیها مزاحمة وبینها وبین وجوبها الغیری معارضة فإنّ لازم ذلک أن یکون وجوبها وجوباً مستقلا فی قبال وجوب ذیها لا غیریاً وهو کما تری.

وإن شئت قلت: أنّ الوجوب الغیری بما هو اعتبار مترشّح من وجوب ذی المقدّمة فلا یکون منافیاً لحرمة المقدّمة بما هی اعتبار حتّی یکون اجتماعهما علی المقدّمة من اجتماع الضدّین ضرورة إنّ المضادّة لا تتصوّر بین الاُمور الاعتباریة فی نفسها هذا إضافة إلی أنّ مضادّة الوجوب الغیری لحرمة المقدّمة إنّما هی بمضادّة الوجوب النفسی لها لا بذاتها وترشّح الوجوب الغیری منه إلیها لا یناقض حرمتها لأنّه لا یدعو إلاّ بدعوة الوجوب النفسی ولا یحرّک إلاّ بمحرّکیته فالتنافی بین حرمة المقدّمة ووجوبها الغیری إنّما هو بالتبع أی بتبع التنافی بینها وبین الوجوب النفسی وما فی کلامه (قدس سره) من أنّ التنافی بین حرمة المقدّمة ووجوبها الغیری یسری بالتبع إلی وجوب ذی المقدّمة وحرمتها غیر مطابق للواقع فإنّ الأمر بالعکس تماماً هذا مضافاً إلی أنّ هذا التنافی والتعارض إذا سری بالتبع إلی وجوب ذی المقدّمة وحرمتها کان بینهما تعارض لا تزاحم مع أنّ المفروض فی کلامه (قدس سره) أنّ بینها تزاحم.

والخلاصة أنّه لا یمکن افتراض أنّ بین حرمة المقدّمة ووجوبها الغیری تعارض وأمّا بینها وبین الوجوب النفسی تزاحم فإنّ لازم ذلک أنّ الوجوب الغیری وجوب مستقل وهو خلق وإلاّ فهو فی نفسه لا یصلح أن یکون طرفاً للمعارضة أو المزاحمة لأنّه لیس وجوباً مولویاً قابل للتنجیز حتّی یکون طرفاً

ص:292

لها.

وعلی هذا فلا مانع من أن تکون حرمة المقدّمة غیر الموصلة مشروطة بترک الواجب وعصیانه ووجوبها الغیری فی هذه الحالة بعد استحالة تقییده بالموصلة لا ینافی حرمتها کذلک لا فی مرحلة المبادیء ولا فی مرحلة الامتثال ولا بحسب الاقتضاء لأنّه لا یدعو إلاّ بدعوة الأمر النفسی فإذن لا مانع من الالتزام بالترتّب وإنّ حرمة المقدّمة مشروطة بترک الواجب فإذا أتی بالمقدّمة ولم یأت بالواجب فقد ارتکب محرّماً وإلاّ فلا.

تحصّل ممّا ذکرناه أنّ المقدّمة إذا کانت محرّمة تقع المزاحمة بینها وبین وجوب ذیها وحینئذ فلابدّ من الرجوع إلی مرجّحات باب المزاحمة وقواعده من تقدیم الأهم علی المهم وغیر ذلک ولا فرق فیه بین القول بوجوب المقدّمة أو بعدم وجوبها.

وأمّا التعلیق الثانی فلأنّ هذه الثمرة لیست ثمرة لهذه المسألة مباشرة بل هی مترتّبة علی مسألة اخری اصولیة کمسألة الترتّب وقواعد باب التزاحم لا علی هذه المسألة مباشرة بمعنی أنّ الدلیل المباشر للفقیه فی عملیة الاستنباط هو تلک القواعد دون هذه المسألة فإنّها من المبادیء التصدیقیة لها.

فالنتیجة أنّ ما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) من أنّ اصولیة مسألة مقدّمة الواجب مرهونة بترتّب هذه الثمرة الفقهیة علیها لا یتم لأنّها لا تترتّب علیها مباشرة وإنّما تترتّب علی قواعد اخری اصولیة کقاعدة الترتّب وقاعدة الترجیح فی باب التزاحم ومن هنا قلنا أنّ مسألة مقدّمة الواجب لیست من المسائل الاُصولیة.

2 - إذا کان الواجب علّة تامة لارتکاب الحرام

وأمّا الثمرة الثانیة: وهی ما إذا کان الواجب علّة تامّة للحرام فقد ذکر (قدس سره) أنّه علی القول بعدم الملازمة بین وجوب المقدّمة ووجوب ذیها تقع المزاحمة بین

ص:293

الواجب والحرام لأنّ وجوب الواجب وحرمة الحرام کلیهما مشروط بالقدرة وحیث إنّ للمکلّف قدرة واحدة فإنّ صرفها فی امتثال الواجب عجز عن ترک الحرام فتنفی حرمته حینئذ بانتفاء شرطها و هو القدرة و ان صرفها فی ترک الحرام عجز عن امتثال الواجب فینتفی وجوبه حینئذ بانتفاء شرطه وهو القدرة فإذن لا تنافی بین المجعولین فی مرحلة الجعل والتنافی بینهما إنّما هو فی مرحلة الامتثال من جهة عجز المکلّف وعدم قدرته علی امتثال کلیهما معاً وعلی هذا فإن کان الواجب أهم من الحرام فیقدم الواجب علیه فلا حرمة حینئذ وإن کان العکس فبالعکس وإن کانا متساویین فالمکلّف مخیّر بین ترک الحرام بترک الواجب وبین فعل الحرام بامتثال الواجب وأمّا علی القول بالملازمة فتقع المعارضة بین وجوب الواجب وبین حرمته الغیریة بملاک أنّه مقدّمة للحرام فلا یمکن اجتماعهما لأنّه من اجتماع الضدّین وهذه ثمرة فقهیة تظهر بین القولین فی المسألة(1) هذا لنا تعلیقان علی هذه الثمرة الفقهیة أیضاً:

الأول: أنّ المسألة علی کلا القولین داخلة فی باب المزاحمة دون المعارضة.

وأمّا علی القول بعدم الملازمة فما ذکره (قدس سره) من أنّ المسألة داخلة فی باب التزاحم فهو الصحیح کما عرفت.

وأمّا علی القول بالملازمة فما ذکره (قدس سره) من وقوع التعارض بین وجوب الواجب النفسی وحرمته الغیریة بملاک المقدّمیة فلا یمکن المساعدة علیه وذلک لأنّ حرمته الغیریة حیث کانت ناشئة عن ملاک قائم بغیر متعلّقها وکان اقتضاؤها باقتضاء الحرمة النفسیة ودعوتها بدعوتها لا بذاتها فلا تصلح أنّ

-

ص:294


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول ج 2: ص 256.

تعارض الوجوب النفسی لأنّ منشأ المعارضة إنّما هو المضادّة بینهما فی مرحلة المبادیء من جهة ومرحلة الاقتضاء والدعوة من جهة اخری وحیث أنّ الحرمة الغیریة لا تنافی الوجوب النفسی فی مرحلة المبادیء ولا فی مرحلة الاقتضاء والدعوة باعتبار أنّ دعوتها إنّما هی بدعوة الحرمة النفسیة ولهذا لا یعقل أن تکون معارضة للوجوب النفسی حیث أنّه لا شأن لها إلاّ شأن الحرمة النفسیة ولا یعقل أنّ تزاحم الوجوب إلاّ بمزاحمة الحرمة النفسیة ولا تعارضه إلاّ بمعارضتها فإذن لا یمکن افتراض أنّ بین الوجوب النفسی للواجب وحرمته الغیریة معارضة بینه وبین الحرمة النفسیة للحرام مزاحمة فإنّ لازم ذلک أن لا تکون الحرمة الغیریة من شؤون الحرمة النفسیة وهذا خلف.

فالنتیجة أنّه لا فرق بین القولین فی المسألة وإنّها علی کلا القولین داخلة فی کبری باب التزاحم والمرجع فیها قواعد هذا الباب.

التعلیق الثانی: أنّ هذه الثمرة لیست ثمرة فقهیة لهذه المسألة مباشرة بل هی ثمرة فقهیة للمسألة الاُخری الاُصولیة وهی قواعد باب التزاحم فإنّ تلک القواعد هی کبری القیاس وهذه المسألة صغری لها فما ذکره السیّد الاُستاذ (قدس سره) من أنّ اصولیة هذه المسألة مرهونة بترتّب هذه الثمرة علیها(1) فی غیر محلّه لأنّها لا تترتّب علیها مباشرة الذی هو الملاک لاُصولیة المسألة وإنّما تترتّب کذلک علی مسائل اخری وهی القواعد المذکورة فإذن تلک القواعد هی من المسائل الاُصولیة دونها. إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أنّ ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من الثمرتین لهذه المسألة وجعل اصولیتها مرهونة بها غیر تام لما عرفت من أنّ المقدّمة إذا کانت محرّمة فالمسألة وإن کانت داخلة فی باب

-

ص:295


1- (1) - المحاضرات ج 2: ص 427.

التعارض أو التزاحم إلاّ أنّ ذلک لیس ثمرة فقهیة مبرّرة لاُصولیتها فإنّ الثمرة الفقهیة مترتّبة علی مسائل اخری مباشرة وهی کبری قواعد الترجیح فی باب التعارض أو التزاحم لا علی هذه المسألة وقد ذکرنا فی أوّل بحث الاُصول أنّ الضابط لاُصولیة المسألة أن تکون ذات طابع استدلالی للفقه خاصّة کدلیل مباشر علی الجعل ومن الواضح أنّ هذا الضابط لا ینطبق علی هذه المسألة فمن أجل ذلک لا یمکن القول بأنّها مسألة اصولیة بل هی مبادئها التصدیقیة وصغریاتها.

ما ذکره المحقق الخراسانی کثمرة فقهیة للقول بوجوب المقدمة الموصلة

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی (قدس سره) ذکر ثمرة فقهیة للقول بوجوب المقدّمة الموصلة وهی صحّة العبادة إذا کان ترکها مقدّمة لواجب أهم کما إذا وقعت الصلاة فی المسجد مزاحمة مع واجب أهم کالإزالة مثلا فإنّه علی القول بوجوب المقدّمة مطلقاً تقع الصلاة فاسدة علی أساس أنّها الضدّ العام للواجب الغیری وهو ترکها والأمر به وإن کان غیریاً فهو یقتضی النهی عن ضدّه العام والنهی عن العبادة یوجب فسادها وإن کان غیریاً وأمّا إذا قلنا بأنّ الواجب المقدّمة الموصلة لا مطلق المقدّمة وحینئذ فحیث أنّ فعل الصلاة لیس ضدّاً عاماً للترک الموصل فلا یقتضی الأمر به النهی عنها حتّی تقع فاسدة فلهذا لابدّ من الحکم بصحّتها فهذه ثمرة مترتّبة علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة فحسب(1).

والجواب: أنّ صحّة العبادة وفسادها وإن کانت تصلح أن تکون ثمرة فقهیة للمسألة الاُصولیة إلاّ أنّهما لا یترتّبان علی هذه المسألة مباشرة أمّا الفساد فهو یتوقّف علی تمامیة عدّة مسائل ومقدّمات:

الاُولی: القول بثبوت الملازمة بین الأمر بشیء والنهی عن ضدّه.

الثانیة: أنّ النهی الغیری کالنهی النفسی یقتضی الفساد.

-

ص:296


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 121.

الثالثة: أن یکون ترک أحد الضدّین مقدّمة للضدّ الآخر.

وکل هذه المسائل والمقدّمات غیر ثابتة کما سوف یأتی بیانه فی مبحث الضدّ الخاص بعونه تعالی.

وأمّا صحّة العبادة کالصلاة مثلا فهی لا تترتّب علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة لأنّ الأمر بالترک الموصل وإن لم یقتض النهی عن الصلاة إلاّ أنّه فی هذه الحالة لا یمکن الأمر بها وإلاّ لزم الأمر بالضدّین هما الصلاة والازالة ومن الواضح أنّ صحة العبادة تتوقّف علی أحد أمرین:

الأول: علی وجود الأمر.

الثانی: علی إحراز وجود الملاک والمحبوبیة فیها.

وإحراز الثانی یتوقّف علی وجود الأول إذ لا طریق إلیه بدونه وعلی هذا فإذا لم یکن أمر بالصلاة کما فی المقام فلا طریق إلی إحراز أنّها محبوبة ومشتملة علی المصلحة فی هذه الحالة فلهذا تتوقّف صحّتها علی مسألة اخری وهی مسألة الترتّب إذ بها یثبت الأمر بالصلاة مشروطاً بترک الازالة.

فالنتیجة أنّ صحة العبادة لا تترتّب علی هذه المسألة مباشرة بل هی مترتّبة علی مسألة الترتّب کذلک وهی مسألة اصولیة دونها.

هذا إضافة إلی أنّا لو سلّمنا تمامیة المقدّمات المذکورة فمع ذلک لا یمکن الحکم بصحّة العبادة کالصلاة لأنّ الأمر بترکها الموصل وإن لم یقتض النهی عنها إلاّ أنّها مع ذلک تکون متعلّقة للنهی الغیری علی ضوء تلک المقدّمات فإنّ بین الضدّین تمانع فکما أنّ ترک کل منهما مقدّمة لوجود الآخر فکذلک وجود کل منهما مانع عن الآخر وعلّة لترکه وعلی هذا فوجود الصلاة مانع عن وجود الازالة وعلّة تامّة لترکها والمفروض أنّه حرام غیری باعتبار أنّه الضدّ العام لوجود الازالة وحیث أنّ فعل الصلاة علّة تامّة لترکها فیحرم

ص:297

بالحرمة الغیریة علی أساس أنّه مقدّمة موصلة فإذن لا فرق بین القولین فی المسألة فعلی کلا القولین لا یمکن الحکم بصحّة العبادة.

وهنا ثمرات اخری ذکروها لهذه المسألة، ولکنّها جمیعاً لیست ثمرة للمسألة الاُصولیة فإنّ ثمرتها إثبات الجعل الشرعی الکلّی بها مباشرة لا تطبیق الجعل الثابت علی مصداق من مصادیقه.

ص:298

البحث السابع:الملازمة بین وجوب شیء و وجوب مقدّمته

اشارة

الملازمة بین وجوب شیء و وجوب مقدّمته

قد استدلّ علی الملازمة بینهما بوجوه:

الأول: ما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) من أنّ الأوامر الغیریة کقوله تعالی (إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ...) الخ(1) و قوله (علیه السلام): اغسل ثوبک من أبوال ما یؤکل لحمه(2) وما شاکل ذلک تدلّ علی إیجاب المقدّمة وهذه الأوامر وإن وردت فی بعض المقدّمات إلاّ أنّه یستکشف منها أنّ وجوبها لا یمکن أن یکون جزافاً وبلا نکتة مبرّرة له وتلک النکتة هی ثبوت الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته إذ احتمال خصوصیة فی المقدّمات المذکورة غیر محتمل.

وفیه أنّ مفادها لیس الوجوب الغیری للمقدّمة بل مفادها الإرشاد إلی الشرطیة فإنّها کالأوامر المتعلّقة بأجزاء العبادات کالصلاة ونحوها فإنّ مفادها

-

ص:299


1- (1) - سورة المائدة: 8.
2- (2) - راجع الوسائل ج 2: ص 1009 ب 9 من النجاسات.

الإرشاد إلی جزئیتها للعبادات.

والخلاصة أنّ أوامر الأجزاء والشرائط أوامر إرشادیة فیکون مفادها الإرشاد إلی الجزئیة والشرطیة لا جعل الوجوب الغیری لها فإذن تلک الأوامر أجنبیة عن الدلالة علی جعل الوجوب الغیری للمقدّمات.

الثانی: أنّ الملازمة فی الارادة التکوینیة ثابتة بین إرادة شیء تکویناً وإرادة مقدّماته کذلک فإذا کانت ثابتة فی الارادة التکوینیة فهی ثابتة فی الارادة التشریعیة أیضاً تطبیقاً للکبری الکلّیة وهی أنّ کلّما یجوز فی الارادة التکوینیة یجوز فی الارادة التشریعیة وعلی هذا فکما أنّ من أراد شیئاً أصالة أراد مقدّماته بالتبع للحفاظ علیه فکذلک إذا أراد المولی الفعل عن المکلّف تشریعاً أراد مقدّماته أیضاً بنفس الملاک ومعنی إرادة مقدّماته إیجابها الغیری.

وفیه أنّ هذا الوجه مرکّب من مقدّمتین:

الاُولی: صغری القیاس وهی ثبوت الملازمة بین إرادة شیء تکویناً وإرادة مقدّمات تبعاً.

الثانیة: کبری القیاس وهی أنّ کلّما یجوز فی الارادة التکوینیة یجوز فی الارادة التشریعیة.

أمّا المقدّمة الاُولی فهی وإن لم تکن برهانیة إلاّ أنّها وجدانیة بمعنی أنّ إرادة شیء بالذات تستلزم قهراً إرادة مقدّمته تبعاً وبالغیر بملاک أنّ وجود المراد یتوقّف علی وجودها فی الخارج والارادة التبعیة حیث أنّها من شؤون الارادة الذاتیة فلا تنافی حرمة المقدّمة إلاّ بمنافاة الارادة الذاتیة فإنّ منافاتها إنّما هی بمنافاتها ومعارضتها إنّما هی بمعارضتها ولیست بالأصالة وعلی هذا فالمقدّمة إذا کانت محرّمة ومبغوضة فإن کانت حرمتها أهم من وجوب الواجب النفسی ومبغوضیتها أقوی من محبوبیته ففی مثل ذلک لا وجوب

ص:300

للواجب ولا محبوبیة له بلحاظ أنّها مزاحمة بمبغوضیة المقدّمة الأقوی منها وإن کان فی نفسه وبقطع النظر عن مبغوضیة المقدّمة محبوباً وکذلک مقدّمته محبوبة بالتبع بقطع النظر عن مبغوضیتها وإن کانت حرمتها مساویة مع وجوب الواجب النفسی فالأمر أیضاً کذلک.

والخلاصة أنّ حرمة المقدّمة ومبغوضیتها لا تصلح أن تکون دلیلا علی عدم الملازمة بین إرادة شیء ذاتاً وإرادة مقدّمته تبعاً وبین محبوبیة شیء أصالة ومحبوبیة مقدّمته تبعاً والإرادة التبعیة لیست إرادة مستقلّة ولها وجود کذلک فی افق النفس بل هی متولّدة من الارادة الأصیلة ومن مراتب وجودها النازلة.

وأمّا المقدّمة الثانیة: فهی غیر صحیحة إذ لا دلیل علی أنّ کلّما یجوز فی الارادة التکوینیة یجوز فی الارادة التشریعیة أیضاً وذلک لأنّ للحکم ثلاث مراحل:

الاُولی: مرحلة الملاک.

الثانیة: مرحلة الارادة والحبّ.

الثالثة: مرحلة الجعل والاعتبار.

أمّا فی المرحلة الاُولی فلا ملازمة بین اتّصاف الفعل بالملاک واتّصاف مقدّماته به وإلاّ لکان وجوبها نفسیاً لا غیریاً وهذا خلف.

وأمّا فی المرحلة الثانیة فقد عرفت ثبوت الملازمة فیها وجداناً بین إرادة شیء وإرادة مقدّماته لا برهاناً وأمّا فی المرحلة الثالثة وهی مرحلة الارادة التشریعیة التی هی متمثّلة فی إیجاب شیء فلا ملازمة بینه وبین إیجاب مقدّماته وذلک لأنّه إن ارید بالملازمة بینهما ترشّح وجوب المقدّمة وتولّده من وجوب ذیها بصورة قهریة کتولّد المعلول عن العلّة التامّة ففیه أنّه غیر معقول لأنّ الوجوب أمر اعتباری لا واقع له فی الخارج لکی یتصوّر فیه التأثیر والتأثّر والعلّیة

ص:301

والمعلولیة هذا إضافة إلی أنّه فعل اختیاری للجاعل مباشرة فلا یعقل فیه التسبیب بأن یکون سبباً لاعتبار آخر قهراً فإنّ افتراضه خلف.

وإن ارید بها الملازمة بین جعل الوجوب لشیء وجعله لمقدّمته تبعاً ففیه أنّ هذا وإن کان ممکناً ثبوتاً إلاّ أنّه لا یمکن الالتزام به إثباتاً وذلک لأنّ جعل الوجوب لا یمکن أن یکون جزافاً وبلا نکتة وتلک النکتة هی کونه داعیاً ومحرّکاً للمکلّف نحو الطاعة والامتثال والمفروض أنّ الوجوب الغیری لا یصلح أن یکون داعیاً ومحرّکاً نحوها لما تقدّم من أنّ موافقة الوجوب الغیری لا تکون طاعة ومخالفته لا تکون معصیة فلهذا لا یکون داعیاً لأنّ داعویته إنّما هی بداعویة الوجوب النفسی فإذن لا مبرّر لجعله فیکون لغواً وجزافاً.

الثالث: أنّ المقدّمة لو لم تکن واجبة لجاز ترکها فإذا جاز ترکها فهل یعاقب علی ترک ذی المقدّمة أو لا وکلاهما لا یمکن، أمّا الأول فلأنّ لازمه عدم جواز ترک المقدّمة الذی یوجب ترک ذیها.

وأمّا الثانی فلأنّ لازمه انقلاب الواجب النفسی المطلق إلی الواجب المشروط بأنّ یکون وجوبه مشروطاً بالاتیان بالمقدّمة فإذن تکون المقدّمة مقدّمة الوجوب فلا یجب تحصیلها.

وفیه أنّه إن ارید بجواز الترک جوازه مطلقاً عقلا وشرعاً فهو وإن کان یستلزم المحذور المذکور إلاّ أنّه غیر مراد جزماً وإن ارید بجوازه جوازه شرعاً بمعنی عدم إیجاب الشارع المقدّمة فهو لا یستلزم المحذور المتقدّم لأنّ العقل مستقل بوجوب الاتیان بها بملاک حکمه بوجوب الاتیان بالواجب النفسی وامتثاله لأنّه من شؤون امتثاله واطاعته.

والخلاصة أنّه لا شبهة فی استقلال العقل بوجوب الاتیان بالصلاة مثلا بتمام شروطها وقیودها وما یتوقّف وجودها علیه.

ص:302

فالنتیجة أنّ هذا الوجه أیضاً غیر تام.

الأصل العملی فی المسألة

1 - مقتضی الاصل العملی فی المسالة الاصولیة

یقع الکلام فیه تارةً فی المسألة الاُصولیة واُخری فی المسألة الفرعیة أمّا الکلام فی الاُولی فلا موضوع للأصل العملی فیها لأنّ الملازمة بنحو القضیة الشرطیة التی یدور صدقها مدار ثبوتها فی الواقع سواءً کان طرفاها من الشرط والجزاء موجودین أم لا أزلیة ولیست لها حالة سابقة.

وعلی الجملة فالملازمة فی المسألة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته بنحو القضیة الشرطیة إن کانت ثابتة فهی ثابتة من الأزل وإن لم تکن ثابتة فکذلک من الأزل فلا تتصوّر فیها الحالة السابقة لا وجوداً ولا عدماً لکی تکون من موارد التمسّک بالاستصحاب عند الشک فی بقائها نعم لو ارید بالملازمة، الملازمة الفعلیة بین الوجوب النفسی للشیء بعد تحقّقه والوجوب الغیری فهی مسبوقة بالعدم بنحو العدم الأزلی فإن قبل تحقّق الوجوب النفسی لم یکن وجوب ولا استلزامه للوجوب الغیری وبعد تحقّقه نشک فی تحقّق صفة الملازمة بینهما وحینئذ فلا مانع من استصحاب عدم تحقّقها إلاّ أنّ هذا الاستصحاب لا أثر له إذ مرجعه إلی استصحاب عدم تحقّق الوجوب الغیری وهو لا یجری لأنّ الاُصول العملیة کأصالة البراءة والاستصحاب ونحوهما إنّما تجری فیما هو قابل للتنجیز والتقدیر لا مطلقاً ولهذا یختصّ جریانها فی الأحکام التی تقبل التنجیز والتقدیر والوجوب الغیری للمقدّمة شرعاً بما أنّه غیر قابل للتنجیز فلا عقوبة فی مخالفته لکی یجری استصحاب عدم تحقّقه عند الشک فیه لدفع احتمال العقوبة علیها هذا إضافة إلی أنّه أصل فی المسألة الفرعیة لا فی الاُصولیة ومحلّ الکلام فی المقام إنّما هو فی الثانی دون الأول ونتیجة ذلک أنّه لا أصل فی

ص:303

المسألة الاُصولیة هنا.

2 - مقتضی الأصل العملی فی المسألة الفرعیة

وأمّا الکلام فی المسألة الفرعیة فقد أفاد المحقّق النائینی (قدس سره) أنّه لا مانع من الرجوع إلی أصالة عدم وجوب المقدّمة بتقریب أنّ المقدّمة قبل إیجاب ذیها لم تکن واجبة وبعد وجوبه شکّ فی وجوبها ومعه لا مانع من الرجوع إلی استصحاب عدم وجوبها أو لا أقل من أصالة البراءة هذا(1).

وقد أورد علیه السید الاُستاذ (قدس سره) بما أشرت إلیه الآن من أنّ الاُصول العملیة إنّما تجری فی الأحکام التکلیفیة الالزامیة لدفع الکلفة والمسؤولیة عن المکلّف أمامها عند الشک فی ثبوتها وقد مرّ أنّه لا عقوبة علی مخالفة الوجوب الغیری ولا مسؤولیة علی المکلّف من قبله ولا امتنان فی رفعه(2) ولهذا لا مجال لجریان الاُصول العملیة فیه لا أصالة البراءة ولا الاستصحاب لأنّها إنّما تجری فی الأحکام التکلیفیة التی تقبل التنجیز والتعذیر ویکون فی مخالفتها عقاب وفی موافقتها ثواب وقد تقدّم أنّ وجوب المقدّمة شرعاً علی القول به لیس بنفسه ممّا یقبل التنجیز والتعذیر هذا تمام کلامنا فی مقدّمة الواجب.

مقدّمة المستحب والمکروه والحرام

مقدمة المستحب

أمّا مقدّمة المستحب فهی کمقدّمة الواجب فلو قلنا بالملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته فلابدّ أن نقول بها بین استحباب شیء واستحباب مقدّمته بنفس الملاک فلا فرق بینهما لا فی مرحلة المبادیء ولا فی مرحلة الجعل.

-

.

ص:304


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 230
2- (2) - المحاضرات ج 2: ص 437.
مقدمة الحرام

وأمّا مقدّمة الحرام فقد ذکر المحقّق النائینی (قدس سره) أنّها علی ثلاثة أقسام:

الأول: ما لا یتوسّط بین المقدّمة وذیها إرادة الفاعل واختیاره بمعنی أنّ المقدّمة علّة تامّة لارتکاب الحرام وفی هذا القسم حکم (قدس سره) بحرمة المقدّمة حرمة نفسیّة بتقریب أنّ النهی المتعلّق بذی المقدّمة فهو متعلّق فی الحقیقة بالمقدّمة باعتبار أنّها مقدورة.

الثانی: ما یتوسّط بین المقدّمة وذیها إرادة المکلّف واختیاره وکان المکلّف یقصد باتیانها التوصّل إلی الحرام.

وفی هذا القسم أیضاً حکم (قدس سره) بالحرمة متردّداً بین کونها نفسیة أو غیریة فإنّها إن کانت من باب التجرّی فهی حرمة نفسیة وإن کانت من باب السرایة فهی غیریة.

الثالث: هذا الفرض ولکن المکلّف لم یأت بالمقدّمة بقصد التوصّل إلی الحرام والمفروض أنّه قادر علی ترک الحرام بعد الاتیان بها أیضاً وفی هذا القسم حکم (قدس سره) بعدم حرمتها(1).

وقد أورد علی ذلک السید الاُستاذ (قدس سره) بتقریب أنّه لا یمکن الحکم بحرمة المقدّمة فی هذین القسمین وإن قلنا بوجوب المقدّمة هناک لأنّ حکم العقل بالملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته إنّما هو بملاک أنّ الاتیان بالواجب لا یمکن بدون الاتیان بمقدّماته وهذا الملاک غیر متوفّر فیهما لأنّ ترک الحرام فی مثلهما لا یتوقّف علی ترک مقدّمته إذ بامکان المکلّف أن یترک الحرام فیه مع الاتیان بمقدّماته فإذن لا وجه للالتزام بحرمة المقدّمة فیهما وأمّا القسم الأول فحرمة المقدّمة فیه مبنیة علی القول بوجوب مقدّمة الواجب فإن

-

ص:305


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 248-249.

قلنا بوجوب المقدّمة بملاک أنّ الاتیان بالواجب یتوقّف علی الاتیان بها فلابدّ أن نقول بحرمة مقدّمة الحرام فی هذا القسم لأنّ ترک الحرام یتوقّف علی ترکها وإلاّ فلا یتمکّن من ترکه(1).

ومن هنا یظهر أنّ ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ حرمة المقدّمة فی هذا القسم حرمة نفسیة لا وجه له أصلا ضرورة أنّ ملاک الحرمة النفسیة غیر موجود فیها وهو المفسدة الملزمة لأنّها قائمة بذیها بل الموجود فیها ملاک الحرمة الغیریة وهو توقّف ترک الحرام علی ترکها.

إلی هنا قد تبیّن أنّ الصحیح ما أفاده السیّد الاُستاذ (قدس سره) دون ما أفاده المحقّق النائینی (قدس سره).

الفرق بین مقدمة الحرام و مقدمة الواجب

بقی هنا شیء وهو أنّ الفرق بین مقدّمة الواجب ومقدّمة الحرام فی نقطة واحدة وهی أنّ المطلوب فی الحرام حیث إنّه الترک فیکون المتّصف بالحرمة الغیریة مجموع مقدّماته لا جمیعها علی أساس أنّ ترکه یتوقّف علی ترک أحدها غایة الأمر أنّها إن کانت عرضیة فالمطلوب هو ترک أحدها تخییراً وإن کانت طولیة فالمطلوب هو ترک ما یقع فی آخر سلسلة علل الحرام.

وأمّا المطلوب فی الواجب فحیث أنّه الفعل فالمتّصف بالوجوب الغیری جمیع مقدّماته سواءً کانت عرضیة أم طولیة.

نتیجة البحث عدّة نقاط

الاُولی: أنّ مسألة مقدّمة الواجب لیست مسألة اصولیة لعدم توفّر ملاک الاُصولیة فیها وهو ترتّب أثر فقهی منجّز علیها مباشرة الذی هو المعیار العام

-

ص:306


1- (1) - المحاضرات ج 1: ص 439-440.

لاُصولیة المسألة والوجوب الغیری لا یصلح أن یکون ثمرة لها لأنّه غیر قابل للتنجیز الموجب لاستحقاق العقوبة علی مخالفته والمثوبة علی موافقته.

الثانیة: أنّ السیّد الاُستاذ (قدس سره) قد ذکر لها ثمرتین منجّزتین:

الاُولی: ما إذا کانت المقدّمة محرّمة.

الثانیة: ما إذا کان الواجب علّة تامّة للحرام، ولکن قد تقدّم موسّعاً أنّ هاتین الثمرتین لیست من ثمرات هذه المسألة ومترتّبتان علیها مباشرة بل هما من ثمرات مسائل اخری ومترتّبتان علیها کذلک وهی قواعد باب التزاحم والتعارض.

الثالثة: ذکر المحقّق الخراسانی (قدس سره) أنّه علی القول بوجوب المقدّمة الموصّلة تترتّب علی هذه المسألة ثمرة فقهیة وهی صحّة العبادة إذا کان ترکها مقدّمة لواجب أهم.

ولکن تقدّم أنّ صحّة العبادة وإن کانت تصلح أن تکون ثمرة فقهیة للمسألة إلاّ أنّها لا تترتّب علی هذه المسألة مباشرة بل هی مترتّبة علی مسألة الترتّب.

الرابعة: قد استدلّ المحقّق الخراسانی (قدس سره) علی الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّماته بالأوامر الغیریة کقوله تعالی:(إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ...) الخ.

ولکن قد تقدّم أنّ مفاد تلک الأوامر الإرشاد إلی شرطیة هذه المقدّمات دون وجوبها الغیری.

الخامسة: أنّ الملازمة بین إرادة شیء تکویناً وإرادة مقدّماته تبعاً ثابتة وجداناً فإذا کانت هذه الملازمة ثابتة بینهما فی الارادة التکوینیة فهی ثابتة فی الارادة التشریعیة أیضاً، ولکن قد مرّ أنّها غیر ثابتة فی الارادة التشریعیة ولا

ص:307

ملازمة بینهما وبین الارادة التکوینیة فی ذلک.

السادسة: أنّ المقدّمة لو لم تکن واجبة لجاز ترکها فإذا جاز ترکها فهل یعاقب علی ترک ذی المقدّمة أو لا وکلاهما لا یمکن.

وفیه ما تقدّم من عدم صحّة هذا الدلیل بل فیه مغالطة واضحة.

السابعة: الصحیح أنّه لا ملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته لا مطلقاً ولا فی خصوص المقدّمة الموصلة.

الثامنة: إذا شکّ فی ثبوت الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته وعدم ثبوتها بنحو القضیة الشرطیة فلا أصل فی المسألة لکی تثبت به الملازمة أو عدمها لأنّها إن کانت ثابتة فهی ثابتة من الأزل وإلاّ فعدمها کذلک فلا حالة سابقة لها.

التاسعة: ذکر المحقّق النائینی (قدس سره) أنّه لا مانع من الرجوع إلی الأصل العملی فی المسألة الفرعیة وهو استصحاب عدم وجوب المقدّمة عند الشک فیه أو أصالة البراءة عنه(1).

ولکن تقدّم أنّ الاُصول المؤمنة لا تجری فی الوجوب الغیری للمقدّمة عند الشک فیه لأنّها إنّما تجری فی الأحکام التی تقبل التنجیز والتعذیر والوجوب الغیری بما أنّه لا یقبل التنجیز والتعذیر فلا تجری فیه الاُصول العملیة.

العاشرة: أنّ مقدّمة المستحبّ کمقدّمة الواجب بدون فرق بینهما من هذه الناحیة ومقدّمة المکروه کمقدّمة الحرام.

وأمّا مقدّمة الحرام فإن کان ترکه متوقّفاً علی ترک مقدّمته فحالها حال

-

ص:308


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم: ص 197.

مقدّمة الواجب فإن قلنا بوجوب مقدّمة الواجب فلابدّ أن نقول بحرمة مقدّمة الحرام أیضاً وإن لم یکن ترک الحرام متوقّفاً علی ترک مقدّمته فلا إشکال فی عدم حرمتها وإن قلنا بوجوب مقدّمة الواجب.

هذا تمام کلامنا فی مبحث مقدّمة الواجب.

ص:309

مبحث الضدّ

اشارة

فسّر کلمة (ضدّ) لغة وعرفاً بما یعاند الشیء وینافیه سواءً کان أمراً وجودیاً کالأفعال الخاصّة أم عدمیاً کالترک.

وقد قسّم الاُصولیون الضدّ علی نوعین:

الأوّل: الضدّ الوجودی الخاص.

الثانی: الضدّ العام وهو ما یقابل الوجود بتقابل الإیجاب والسلب.

وهذا التقسیم ینسجم مع مفهوم الضدّ الجامع بین النوعین.

وعلی هذا فالکلام فی المسألة یقع فی مقامین:

الأول: فی الضدّ العام.

الثانی: فی الضدّ الخاص.

وقبل الدخول فی المسألة نبدأ بنقطتین:

النقطة الأولی: البحث عن نکتة أصولیة هذه المسألة

الاُولی: قد تقدّم فی ضمن البحوث السالفة أنّ اصولیة المسألة مرهونة بترتّب أثر فقهی علیها مباشرة وعلی هذا فیقع البحث عن نکتة اصولیة هذه المسألة عند الأصحاب، قد یقال کما قیل أنّ اصولیتها مرهونة علی القول بالملازمة بین وجوب شیء وحرمة ضدّه، فإنّ حرمته هی ثمرة هذه المسألة

ص:310

واُصولیتها مرهونة بها، ولکن قد تقدّم أنّ الحرمة الغیریة کالوجوب الغیری لا تصلح أن تکون ثمرة للمسألة الاُصولیة، لأنّ ثمرتها مسألة فقهیة قابلة للتنجیز والتعذیر، والمفروض أنّ الحرمة الغیریة لا تقبل التنجیز، ولهذا لا عقاب علی مخالفتها ولا ثواب علی موافقتها بما هی موافقة لها.

ومن هنا ذهب السید الاُستاذ (قدس سره) إلی أنّ اصولیتها مرهونة بصحّة العبادة المترتّبة علی هذه المسألة علی القول بعدم الاقتضاء(1).

ولکن قد سبق أنّها لا تترتّب علی المسألة علی هذا القول مباشرة بل هی مترتّبة علی مسألة اخری وهی مسألة الترتّب فإنّها مسألة اصولیة وهذه المسألة علی هذا القول صغری لها وتمام الکلام هناک.

النقطة الثانیة: دخول المسألة علی القول بعدم الاقتضاء فی باب التزاحم و علی القول بالاقتضاء فی باب المعارضة غیر صحیح

اشارة

الثانیة: أنّ ما ذکر من أنّ هذه المسألة علی القول بعدم الاقتضاء داخلة فی باب المزاحمة وعلی القول بالاقتضاء داخلة فی باب المعارضة غیر صحیح فإنّ المسألة علی کلا القولین داخلة فی باب المزاحمة لأنّ الحرمة الغیریة بما هی لا تصلح أن تعارض الوجوب النفسی لا فی المبدأ ولا فی المنتهی ولا فی الاقتضاء فإنّ اقتضاء الحرمة الغیریة إنّما هو باقتضاء الحرمة النفسیة لا فی نفسها ومزاحمتها إنّما هی بمزاحمتها وکذلک معارضتها وتفصیل ذلک تقدّم فی أوّل بحث الاُصول وبعد ذلک نقول أمّا الکلام فی المقام الأوّل ففیه أقوال ثلاثة:

المقام الأول: الضد العام

اشارة

القول الأول: أنّ الأمر بشیء عین النهی عن ضدّه العام وهو الترک.

القول الثانی: أنّه یدلّ علیه بالتضمّن.

القول الثالث: أنّه یدلّ علیه بالالتزام.

القول الأول: الأمر بالشیء عین النهی عن ضده العام

أمّا القول الأول: فإن ارید بذلک أنّ الأمر کما یدلّ علی وجوب متعلّقه

-

ص:311


1- (1) - محاضرات فی اصول الفقه ج 3: ص 7.

حقیقة یدلّ علی حرمة ترکه کذلک بمعنی أنّه یقتضی حکمین متباینین من مرحلة المبادیء إلی مرحلة الاعتبار أحدهما الوجوب المتعلّق بالفعل بنحو صرف الوجود والآخر الحرمة المتعلّقة بترکه.

فیرد علیه أنّ ذلک وإن کان ممکناً بحسب مقام الثبوت والواقع کما إذا فرضنا أنّ الفعل کالصلاة مثلا مشتمل علی مصلحة ملزمة تدعو المولی إلی جعل الوجوب له وترکه مشتمل علی مفسدة ملزمة تدعو المولی إلی جعل الحرمة له وفی مثل ذلک لا مانع من جعل الوجوب للفعل والحرمة للترک ولا تنافی بینهما لا فی مرحلة المبادیء ولا فی مرحلة الاعتبار إلاّ أنّه لا یمکن ذلک بحسب مقام الاثبات لأنّ الأمر یدلّ علی الطلب المولوی الذی هو مدلوله ولا یدلّ علی الزجر الذی هو مدلول النهی لا بالمطابقة ولا بالتضمّن ولا بالالتزام.

والخلاصة: أنّ هذا القول بهذه الصیغة وهی أنّ الأمر بشیء عین النهی عن ضدّه غیر معقول بداهة أنّ الأمر لا یمکن أن یکون عین النهی لا فی مرحلة المبادیء ولا فی مرحلة الجعل والاعتبار ولا فی مرحلة الفعلیة وعلی هذا فإن ارید بها الدلالة المطابقیة فقد عرفت أنّ الأمر لا یدلّ علی النهی بالمطابقة وإن ارید بها العینیة فی التأثیر بمعنی أنّ تأثیر الأمر بشیء کتأثیر النهی عن نقیضه وهو الترک فی التقریب إلی الفعل والابتعاد عن الترک وأنّهما علی مستوی واحد فلا فرق فی التأثیر بین قول المولی (صلّ) وبین قوله لا تترک الصلاة حیث أنّ لهما أثراً واحداً فی نفس المکلّف وهو تحریکه نحو الفعل وابتعاده عن الترک.

فیرد علیه أنّ معنی ذلک هو أنّ الأمر والنهی مشترکان فی الأثر وهو تحریک الأمر المکلّف نحو الفعل بنفس نسبة تحریک النهی المکلّف نحو

ص:312

الابتعاد عن ترکه لا فی المدلول والمعنی وهذا خلف الفرض.

وإن ارید بها أنّ النهی عن شیء عبارة عن طلب نقیضه ونقیض الشیء ترکه ونقیض الترک الفعل وعلیه فالنهی عن ترک الشیء معناه طلب نقیضه وهو الفعل وهذا معنی أنّ الأمر بشیء عین النهی عن ضدّه العام فإذن لیس النهی عن ترک ذلک الشیء غیر طلب فعله.

فیرد علیه أنّه مبنی علی أن یکون معنی النهی عن شیء طلب نقیضه وعلیه فالنهی عن الضدّ العام معناه طلب نقیضه وهو الفعل ولکن هذا المبنی خاطیء جدّاً وغیر صحیح فإنّ معنی النهی عن شیء هو الزجر عنه باعتبار أنّه ناشیء عن اتّصافه بالمفسدة الملزمة لا عن اتّصاف ترکه بالمصلحة کذلک لیکون معنی النهی عن شیء طلب نقیضه.

والخلاصة: أنّ معنی الأمر هو الطلب المولوی الناشیء من المصلحة فی الفعل ومعنی النهی هو الزجر المولوی الناشیء من المفسدة فیه، هذا کلّه بلحاظ عالم الاعتبار والجعل.

وأمّا بلحاظ عالم المبادیء فلا یعقل أن تکون المصلحة عین المفسدة والإرادة عین الکراهة والحبّ عین البغض، نعم لا مانع من أن یکون الفعل مشتملا علی مصلحة والترک علی مفسدة.

والأول یکون منشأً للإرادة والحبّ.

والثانی للکراهة والبغض هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أنّ الملازمة بین إرادة شیء وکراهة ترکه تبعاً وإن کانت موجودة وجداناً وکذلک بین حبّ شیء وبغض ترکه تبعاً إلاّ أنّها تدلّ علی التعدّد والاثنینیة لا علی العینیة والوحدة.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّ الأمر بشیء لا یعقل أن

ص:313

یکون عین النهی عن ضدّه العام إلاّ بناءً علی تفسیره بطلب ترک نقیضه کما هو المشهور ولکن هذا التفسیر خاطیء جدّاً أمّا أولا فلأنّه خلاف المتفاهم العرفی لأنّ المتفاهم منه عرفاً الزجر والمنع المساوق للحرمة.

وثانیاً أنّ هذا التفسیر لا ینسجم مع ما هو واقع النهی وحقیقته وروحه وهو المفسدة الملزمة القائمة بمتعلّقه فإنّها تدعو المولی إلی النهی والزجر عنه والمنع من إیجاده فی الخارج ولا تدعو إلی طلب ترکه لأنّ الطلب ناشیء عن مصلحة فی متعلّقه والمفروض أنّه لا مصلحة فیه والمفسدة فی الفعل لا تتطلّب ذلک وإنّما تتطلّب الزجر عنه، تحصّل أنّ القول بالعینیة لا یرجع إلی معنی محصّل.

القول الثانی: الأمر بالشیء یدل علی النهی عن ضده العام بالتضمن

وأمّا القول الثانی: وهو القول بالتضمّن والجزئیة فلا أساس له إلاّ دعوی أنّ الوجوب ینحل إلی اعتبارین:

اعتبار طلب الفعل واعتبار المنع من الترک.

ولکن هذه الدعوی خاطئة جدّاً وذلک لأنّه إن ارید بذلک أنّ الوجوب مرکّب من اعتبارین:

أحدهما بمثابة الجنس والآخر بمثابة الفصل.

فیردّه أنّ الوجوب أمر اعتباری وهو بسیط ولا یتعقّل له الجنس والفصل وإن ارید بذلک أنّ المولی إذا أمر بشیء فقد أنشأ أمران:

أحدهما: طلب الفعل.

والآخر: المنع من الترک.

فیردّه أنّ الأمر لا یدلّ علی المنع من الترک لا مادّة ولا هیئة لا بالمطابقة ولا بالتضمّن والالتزام وإنّما یدلّ علی الطلب المولوی المساوق للوجوب.

نعم إذا أمر المولی بشیء فالعقل یحکم بالمنع عن ترکه لا المولی.

ص:314

فالنتیجة أنّ هذا القول أیضا لا یرجع إلی معنی محصّل.

القول الثالث: الأمر بالشیء یدل علی النهی عن ضده العام بالالتزام

وأمّا القول الثالث: فالمعروف والمشهور بین الأصحاب أنّ الأمر بشیء یدلّ بالالتزام علی النهی عن ضدّه العام ولا خلاف فی ذلک وإنّما الخلاف بینهم فی أنّ هذه الملازمة هل هی بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخصّ أو البین بالمعنی الأعمّ، فذهب المحقّق النائینی (قدس سره) إلی الوجه الأول بدعوی أنّه یکفی فی تصوّر المنع من الترک تصوّر وجوب شیء بلا حاجة إلی عنایة زائدة ثمّ قال وعلی تقدیر التنزّل عن ذلک فلا شبهة فی الوجه الثانی وهو اللزوم البیّن بالمعنی الأعمّ هذا.

والتحقیق فی المقام أن یقال أنّ البحث عن وجود الملازمة فی المسألة یقع فی موردین:

الأوّل: فی مرحلة المبادیء والملاکات.

الثانی: فی مرحلة الجعل والاعتبار.

أمّا الکلام فی المورد الأول فالظاهر أنّ الملازمة بین إرادة شیء بالأصالة وکراهة ترکه بالتبع بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخصّ غیر موجودة إذ کثیر ما أراد شخص فعل شیء غافلا عن ترکه مع أنّ الملازمة لو کانت بینهما بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخصّ فمجرّد تصوّر الملزوم یستلزم تصوّر اللازم قهراً بدون منبّه آخر لاستحالة الانفکاک بینهما مع أنّ الأمر لیس کذلک وأمّا الملازمة بینهما بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأعمّ فالظاهر أنّها ثابتة وجداناً لا برهاناً إذ لیس بإمکاننا إقامة برهان علی ذلک وإیماننا بها إنّما هو بشهادة الوجدان ولهذا لا یمکن الزام الخصم بها فالنتیجة أنّ الملازمة بینهما بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخصّ غیر موجودة وأمّا بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأعمّ فهی موجودة وکذلک الحال بین حبّ شیء بالأصالة وبغض ترکه بالتبع

ص:315

فإنّ الملازمة بینهما بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخصّ غیر ثابتة وأمّا بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأعمّ فهی ثابتة وجداناً لأنّ کل من راجع إلی وجدانه یری ثبوت الملازمة بین حبّ شیء أصالة وبغض ترکه تبعاً فی نفسه.

وأمّا الکلام فی الثانی أی الملازمة بین الأمر بشیء کالصلاة مثلا والنهی عن ترکه فی مرحلة الجعل والاعتبار فلا شبهة فی عدم ثبوتها لأنّه إن ارید بها الملازمة بینهما بصورة قهریة کالملازمة بین العلّة والمعلول ففیه إنّها غیر معقولة لأنّ الحرمة أمر اعتباری لا واقع لها ما عدا اعتبار المعتبر وجعلها باختیاره وإرادته فی عالم الاعتبار والذهن فلا یعقل أن تتولّد من اعتبار آخر کتولّد المعلول من العلّة التامّة بدون اعتبار من معتبر لأنّه خلف فرض أنّه فعل اختیاری مباشرة لا تسبیباً.

هذا إضافة إلی أنّ التسبیب والتسبّب والتأثیر والتأثّر من آثار الموجودات التکوینیة الخارجیة ولا یتصوّر فی الاُمور الاعتباریة التی لا واقع موضوعی لها فی الخارج.

وإن ارید بها الملازمة بین جعل المولی الوجوب لشیء أصالة کالصلاة مثلا وبین جعله الحرمة لترکه تبعاً.

ففیه أنّها وإن کانت ممکنة ثبوتاً إلاّ أنّها مستحیلة وقوعاً وذلک لأنّ جعل الحکم من المولی لا یمکن أن یکون جزافاً وبلا نکتة تبرّر جعله ولا نکتة فی المقام تدعو إلی جعل الحرمة للترک تبعاً لجعل الوجوب للفعل لفرض أنّه لا مفسدة فیه لکی تدعو إلی الحرمة له وإلاّ لکانت الحرمة مجعولة مستقلا لا تبعاً وهذا خلف وأمّا المصلحة القائمة بالفعل فهی إنّما تدعو إلی جعل الوجوب له ولا تدعو إلی جعل الحرمة لترکه أیضاً تبعاً لأنّ الغرض من جعل الوجوب هو إیجاد الداعی فی نفس المکلّف وتحریکه نحو الفعل وهو یحصل بجعله وأمّا جعل الحرمة التبعیة

ص:316

لترکه فبما أنّ ملاکها هو المصلحة القائمة بالفعل فلا یوجب تأکیده وحینئذ فیکون وجودها وعدمها من هذه الناحیة علی حدٍّ سواء هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أنّ حرمة الترک حیث إنّها حرمة غیریة فلا تکون مورداً لاستحقاق العقوبة علی مخالفتها والمثوبة علی موافقتها لکی یکون ذلک داعیاً إلی جعلها.

فالنتیجة أنّ الملازمة بین وجوب شیء وحرمة ترکه البدیل له مستحیلة وقوعاً وإن کانت ممکنة ثبوتاً فإذن لا تصل النوبة إلی مقام الاثبات فی المسألة والبحث فیها عن أنّ الأمر بشیء هل یدلّ علی النهی عن ضدّه العام أولا فإنّه فرع إمکانه ذاتاً ووقوعاً.

إلی هنا قد تبیّن أنّه لا ملازمة بین الأمر بشیء والنهی عن ضدّه العام لا مطابقة ولا تضمّناً ولا التزاماً.

المقام الثانی: الضد الخاص

اشارة

وأمّا الکلام فی المقام الثانی وهو أنّ الأمر بشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه الخاصّ فیه قولان فذهب جماعة من الاُصولیین إلی القول الأول وقد استدلّوا علیه بوجهین:

الوجه الأول: یتوقّف علی تمامیة مقدّمات:

الاُولی: أنّ ترک أحد الضدّین مقدّمة للآخر.

الثانیة: أنّ مقدّمة الواجب واجبة وحیث إنّ ترک الضدّ الواجب کالصلاة مقدّمة للضدّ الواجب الآخر کالازالة فیکون واجباً.

الثالثة: أنّ وجوب ترک الضدّ الخاصّ العبادی کالصلاة مثلا یستلزم حرمة نقیضه وهو إیجاد الضدّ فإذا تمّت تلک المقدّمات جمیعاً فقد تمّ هذا الوجه فیثبت به القول بالاقتضاء هو الأمر بشیء یستلزم النهی عن ضدّه الخاصّ.

فإذن یقع الکلام فی تمامیة هذه المقدّمات ومدی صحّتها.

ص:317

أمّا المقدّمة الاُولی: فقد ذکر فی وجهها أنّ وجود الضدّ مانع عن وجود الضدّ الآخر فإذا کان مانعاً فعدم المانع من أجزاء العلّة التامّة علی أساس أنّ العلّة التامّة مرکّبة من ثلاثة أجزاء:

الأول: وجود المقتضی.

الثانی: وجود الشرط.

الثالث: عدم المانع مثلا وجود النار مقتضی للإحراق والمماسّة بین وجودها والحطب شرط لتأثیرها فیه باعتبار أنّها مصحّحة لفاعلیة النار ورطوبة الحطب مانعة عن فعلیة تأثیرها فیه فإذا تمّت هذه الأجزاء الثلاثة فقد تمّت العلّة التامّة وأثّرت أثرها وحیث أنّ عدم الضدّ من أجزاء العلّة التامّة فبطبیعة الحال یکون مقدّمة لوجود الضدّ الآخر من باب أنّ عدم المانع من المقدّمات وهذا معنی کون عدم أحد الضدّین مقدّمة للضدّ الآخر هذا.

ذهب جماعة من المحقّقین الاُصولیین إلی استحالة مقدّمیة عدم أحد الضدّین للضدّ الآخر
اشارة

ولکن ذهب جماعة من المحقّقین الاُصولیین إلی استحالة مقدّمیة عدم أحد الضدّین للضدّ الآخر وقد استدلّوا علی ذلک بوجوه:

الوجه الأول: وتوجیه هذا الوجه بحاجة إلی مقدّمة

وهی أنّ المعلول وإن کان مترتّباً علی العلّة بتمام أجزائها وعناصرها ومتأخّراً عنها رتبة ومعاصراً لها زمناً ولکن تأثیر کل عنصر من عناصرها فی المعلول مغایر لتأثیر الآخر فیه فإنّ المقتضی هو مبدأ المعلول مباشرة وبمثابة الاُمّ علی أساس أنّه متولّد منه کذلک ویکون من مراتب وجوده النازلة ولیس شیئاً أجنبیاً عنه وإلاّ استحال تأثیره فیه ضرورة أنّه منوط بمبدأ التناسب بین العلّة والمعلول علی أساس أنّ المعلول عین الربط بالعلّة والتعلّق بها لا ذات له الربط والتعلّق مثلا الحرارة عین الربط بالنار وتتولّد من صمیم ذاتها وإلاّ لزم تأثیر کل شیء فی کلّ شیء وهو کما تری فإنّ لازم ذلک انهیار جمیع العلوم من العلوم الطبیعیة

ص:318

والعقلیة بل إنهیار العالم بتمام نظمه الطبیعیة التی یتحرّک بها بشتّی ألوانه وأشکاله ویخرج من القوّة إلی الفعل ومن الامکان إلی الوجود فإنّ تلک النظم المتمثّلة فی الحرکة الجوهریة فی الأشیاء التی تتحرّک علی أساس مبدأ العلّیة من ناحیة وفی القوّة الجاذبة العامّة من ناحیة اخری تتحّکم علی العالم وتحتفظ به کما هو.

وأمّا الشرط فهو مؤثّر فی فعلیة فاعلیة المقتضی ولا یکون مؤثّراً فی المعلول مباشرة فمماسّة الحطب للنار مؤثّرة فی فعلیة فاعلیة النار فی إیجاد الحرارة وتولیدها بدون أن یکون لها تأثیر مباشر فی الإحراق وتولید الحرارة.

وأمّا عدم المانع فهو بنفسه لا یکون مؤثّراً فی شیء ضرورة أنّ العدم بما هو لا یعقل أن یکون مؤثّراً لما عرفت من أنّ تأثیر شیء فی شیء آخر إنّما هو علی أساس مبدأ التناسب وبدونه فلا یمکن التأثیر والعدم لیس بشیء حتّی یکون مؤثّراً وعلی هذا فعدّ عدم المانع من أجزاء العلّة التامّة إنّما هو باعتبار أنّ وجوده مانع عن تأثیر المقتضی لا أنّ عدمه من أجزائها مثلا عدم رطوبة الحطب لا یکون مؤثّراً لا فی الإحراق ولا فی فاعلیة النار له فإذن جعله من أجزاء العلّة التامّة مبنی علی المسامحة وبلحاظ أنّ نقیضه وهو الرطوبة مانع عن فاعلیة النار وتأثیرها فیه فیکون من قبیل وصف الشیء بحال متعلّقه.

إلی هنا قد تبیّن أمران:

الأول: أنّ تأثیر کل جزء من أجزاء العلّة التامّة فی المعلول یختلف عن تأثیر جزء الآخر فإنّ تأثیر المقتضی فیه یکون بنحو المباشر علی أساس مبدأ التناسب وأمّا تأثیر الشرط فیه لا یکون کذلک بل هو فی فعلیة فاعلیة المقتضی وعدم المانع بما هو العدم لا یکون مؤثّراً فی شیء لأنّه لیس بشیء حتّی یکون مؤثّراً بل تأثیره إنّما هو بلحاظ أنّ وجوده مانع عن فاعلیة المقتضی فالشرط مؤثّر

ص:319

فی فعلیة فاعلیة المقتضی مباشرةً والمانع مانع عن فعلیة تأثیره کذلک فالشرط وعدم المانع کلاهما من متمّمات فاعلیة المقتضی.

الثانی: أنّ المقتضی متقدّم رتبة علی الشرط علی أساس أنّ الشرط من متمّمات فاعلیته فلابدّ من افتراض وجوده فی المرتبة السابقة حتّی یکون متمّماً لها وإلاّ فلا یتّصف الشرط بالشرطیة فمماسّة الحطب للنار إنّما تتّصف بالشرطیة مع وجود النار لأنّها نسبة بین الحطب والنار ومتقوّمة بهما ذاتاً وحقیقة ولا یعقل وجودها بدون وجودیهما کما أنّ رطوبة الحطب إنّما تتّصف بالمانعیة مع فرض وجود الشرط وهو المماسّة فی المقام وإلاّ فلا موضوع لمانعیتها ولا معنی لاتّصافها بها.

ومن ذلک البیان یظهر طولیة أجزاء العلّة التامّة رتبة وإن کانت معاصرة زمناً کما أنّه اتّضح بذلک استحالة اتّصاف الشرط بالشرطیة إلاّ فی ظرف ثبوت المقتضی فالمماسّة إنّما تتّصف بالشرطیة إذا کانت النار موجودة وإلاّ فلا معنی لکونها شرطاً وکذلک اتّصاف المانع بالمانعیة إلاّ فی ظرف وجود المقتضی والشرط معاً مثلا الرطوبة فی الجسم القابل للاحتراق لا تتّصف بالمانعیة إلاّ فی ظرف وجود النار ومماسّتها مع ذلک الجسم فیکون عدم الاحتراق حینئذ مستنداً إلی وجود المانع وأمّا إذا لم تکن النار موجودة أو کانت ولم تکن مماسّة مع ذلک الجسم فلا یمکن أن یستند عدم الاحتراق إلی وجود المانع.

ولتوضیح ذلک نأخذ بمثال فإذا فرضنا أنّ النار موجودة والجسم القابل للاحتراق مماسّ بها ومع ذلک لم یحترق ففی مثل ذلک نفتّش عن سبب ذلک وما هو وبعد الفحص یظهر لنا أنّ سببه وجود المانع وهو الرطوبة الموجودة فی ذلک الجسم وهی التی تمنع عن احتراقه وتجعله غیر قابل له فیکون عدمه مستنداً إلی وجود المانع وإذا کانت النار موجودة ولکن الجسم المذکور لم

ص:320

یکن مماسّاً لها فعدم احتراقه مستنداً إلی انتفاء الشرط وهو المماسّة ولا یعقل أن یکون مستنداً إلی وجود المانع.

وکذلک إذا فرضنا أنّ الید الضاربة قویة والسیف حادّ ومع ذلک لا یؤثّر فی قطع الجسم فی الخارج فلا محالة یکون عدم قبول الجسم للانقطاع والتأثّر بالسیف إنّما هو من جهة وجود المانع وهو صلابة ذلک الجسم مع وجود المقتضی وهو الید الضاربة القویّة والشرط وهو حدّة السیف وأمّا إذا کانت الید الضاربة قوّیة ولکن السیف لم یکن حادّ فیکون عدم المعلول مستنداً إلی انتفاء الشرط لا إلی وجود المانع لأنّه فی هذه الحالة یستحیل أن یتّصف بالمانعیة وإذا لم تکن النار موجودة أو الید الضاربة ضعیفة أو مشلولة فعدم المعلول عندئذ مستند إلی عدم وجود المقتضی لا إلی عدم الشرط أو وجود المانع وبعد هذه المقدّمة ذکر المحقّق النائینی (قدس سره) أنّه یستحیل أن یکون وجود أحد الضدّین مانعاً عن وجود الضدّ الآخر حتّی یکون عدمه مقدّمة له لما تقدّم من أنّ المانع إنّما یتّصف بالمانعیة فی ظرف تحقّق المقتضی مع شروطه ومن الواضح أنّ عند وجود أحد الضدّین یستحیل ثبوت المقتضی للضدّ الآخر مع شرطه لکی یکون عدمه مستنداً إلی وجود ضدّه لأنّ مقتضی المحال محال فإذا کان وجود الضدّ الآخر مستحیلا لاستحالة اجتماع الضدّین فالمقتضی له أیضا محال وعلی هذا فعدم الضدّ مستند إلی عدم ثبوت مقتضیه لا إلی وجود المانع بل یستحیل اتّصاف الضدّ الموجود بالمانعیة فإذا أراد المکلّف الصلاة واشتغل بها فی حال مزاحمتها مع الازالة فعدم الازالة لا یمکن أن یکون مستنداً إلی وجود الصلاة بل هو مستند إلی عدم المقتضی لها وهو إرادة المکلّف فإنّه فی هذه الحالة إذا أراد الصلاة لم یرد الازالة فإذن یکون عدمها مستنداً إلی عدم إرادتها لا إلی وجود الصلاة المضادّة لوجود الازالة وبکلمة إنّ استحالة مانعیة أحد

ص:321

الضدّین للضدّ الآخر بالنسبة إلی إرادة شخص واحد لأحدهما دون الآخر فی غایة الوضوح بداهة استحالة تحقّق إرادة کل من الضدّین فی آن واحد من شخص واحد فلا یمکن تحقّق إرادة کل من الصلاة والازالة فی حال وقوع المزاحمة بینهما فی نفس المکلّف فإن أراد المکلّف الصلاة فی هذه الحالة فلا یمکن تحقّق إرادة الازالة فی نفسه وإن کان العکس فبالعکس فإذن ترک کل واحدة منهما عند الاشتغال بالاُخری مستند إلی عدم المقتضی لها لا إلی وجود المانع.

وأمّا بالإضافة إلی إرادة شخصین للضدّین فالأمر أیضاً کذلک لأنّ اجتماع الضدّین فی موضوع واحد مستحیل وعلی هذا الأساس فإذا أراد شخص حرکة شیء إلی جهة وأراد آخر حرکته إلی جهة ثانیة استحال تأثیر کلتا الارادتین معاً فإن کانا متساویین فی القوّة فلا یؤثّر شیء منهما فیکون عدم وجود کل من الحرکتین المتضادّتین مستند إلی عدم تمامیة المقتضی لهما معاً وإن کان أحدهما أقوی من الآخر فبطبیعة الحال یکون الآخر مغلوباً فی إرادته وعندئذ تسقط إرادة شخص المغلوب عن صفة الاقتضاء علی أساس أنّ اقتضاء المحال محال وبکلمة أنّ الارادتین إن کانتا متساویتین فلا یؤثّر شیء منهما وإن کانت إحداهما أقوی من الاُخری کانت الأقوی هی المؤثّرة دون الأضعف وعلی هذا فبطبیعة الحال یکون عدم وجود الضدّ مستنداً إلی عدم تمامیة مقتضیه وهو الارادة غیر المزاحمة لا إلی وجود الضدّ الآخر.

فالنتیجة فی نهایة المطاف أنّه یستحیل أن یتّصف وجود الضدّ بالمانعیة عن وجود الضدّ الآخر حتّی یکون عدمه مقدّمة له هذا(1).

-

ص:322


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 254-255.

وقد علّق علیه السید الاُستاذ (قدس سره) بتقریب أنّ ما ذکره (قدس سره) من طولیة أجزاء العلّة التامّة رتبة وإن کان تامّاً إلاّ أنّ ما ذکره (قدس سره) من أنّه مع وجود أحد الضدّین یستحیل ثبوت المقتضی للضدّ الآخر بدعوی أنّ مقتضی المحال محال لا یمکن المساعدة علیه وذلک لأنّه لا مانع من ثبوت المقتضی لکل واحد من الضدّین فی نفسه بقطع النظر عن ثبوت المقتضی للآخر ولا استحالة فیه والوجه فی ذلک هو أنّ کلا من المقتضیین یقتضی أثره فی الخارج فی نفسه مع قطع النظر عن الآخر ولا مانع من ذلک فإنّ المانع إنّما هو اقتضاء کل منهما أثره مقارناً لاقتضاء الآخر کذلک فإذا وقع التزاحم بین الصلاة والازالة فی مورد فالمقتضی لکل واحدة منهما موجود فی نفس المکلّف بقطع النظر عن ثبوت المقتضی للاُخری وهو إرادة الاتیان بکل منهما فی نفسه أداءً لحقّ العبودیة وقضاء لحقّ المولویة وعلی هذا فلا استحالة فی أن یکون أحد الضدّین مانعاً عن الضدّ الآخر لیستند عدمه إلیه لا إلی عدم مقتضیه لفرض إمکان ثبوته فی نفسه بحیث لولا وجود الضدّ الآخر لأثّر أثره ولکن وجوده یزاحمه فی تأثیره ویمنعه عن ذلک مثلا إذا فرض وجود مقتضی لحرکة شیء إلی جهة الشرق ووجود مقتضی لحرکته إلی جهة الغرب فکل من المقتضیین یقتضی وجود الحرکة فی نفسه إلی کل من الجانبین المتقابلین مع قطع النظر عن الآخر فعندئذ بطبیعة الحال یکون تأثیر کل واحد منهما فی حرکة إلی طرف معیّن متوقّفاً علی عدم المانع منه وحینئذ فإذا وجدت إحدی الحرکتین فیه دون الاُخری فلا محالة یکون عدم هذه مستنداً إلی وجود الحرکة الاُولی لا إلی عدم مقتضیها لفرض أنّ المقتضی لها موجود ولولا المانع لکان مؤثّراً ولکن وجود الحرکة الاُولی مانع عن تأثیره ولا فرق فی ذلک بین أن یکون ثبوت مقتضیین فی نفسهما فی موضوع واحد أو محل کذلک کإرادتین من شخص أو

ص:323

سببین فی موضوع أو فی موضوعین کإرادتین من شخصین أو سببین فی موضوعین إذ لا مانع من أن یکون فی شخص واحد مقتضی للقیام من جهة ومقتضی للجلوس من جهة اخری وکلا المقتضیین موجود فی حدّ ذاتهما فی مادّة هذا الشخص مع الغضّ عن الآخر وعندئذ فإذا وجد أحد الفعلین المتضادّین دون الآخر فعدم هذا لا محالة یکون مستنداً إلی وجود ذاک لا إلی عدم مقتضیه لفرض أنّ المقتضی له موجود وهو یؤثّر أثره لولا وجود المانع والخلاصة أنّ وجود المقتضی لکل من الضدّین فی نفسه ممّا لا شبهة فیه ولا تنطبق علیه کبری أنّ اقتضاء المحال محال فإنّ لها موردین:

الأول: ثبوت المقتضی لکل من الضدّین مقارناً لثبوت المقتضی للآخر ومجتمعاً معه فعلا.

الثانی: أن یکون هناک شیء واحد یقتضی أمرین متضادّین فی الوجود وکلاهما مستحیل هذا بحسب الوجدان ثمّ إنّه (قدس سره) أقام برهاناً علی ذلک بتقریب أنّ ثبوت المقتضی لکل من الضدّین فی نفسه وبقطع النظر عن الآخر لو کان مستحیلا لکان إستناد عدم المعلول إلی وجود مانعه مستحیلا وذلک لأنّ أثر المانع کالرطوبة فی المثال لا یخلو من أن یکون مضادّاً لوجود المعلول أو لا ولا ثالث لهما فعلی الأول یلزم استحالة استناد عدم المعلول إلی وجود مانعه علی أساس أنّ أثر المانع مضادّ لوجود المعلول وقد مرّ أنّ عدم أحد الضدّین یستحیل أن یستند إلی وجود الضدّ الآخر ونتیجة ذلک استحالة ثبوت المقتضی له مع الشرط لما عرفت من أنّه عند وجود أحد الضدّین یستحیل ثبوت المقتضی للآخر فیکون عدمه من جهة عدم المقتضی لا من جهة وجود المانع وهو وجود ضدّه لا ستحالة أن یتّصف وجوده بالمانعیة عن وجود الضدّ الآخر ویمکن تقریب هذا البرهان بصیغة اخری أکثر فنّیاً وهی أنّ إستحالة استناد

ص:324

عدم المعلول إلی وجود مانعه مخالفة للوجدان والبرهان أمّا الأول فلأنّ کثیر ما یکون فی الخارج عدم المعلول مستنداً إلی وجود مانعه کعدم إحراق الحطب عند مماسّته للنار فإنّه لا محالة مستند إلی وجود مانعه وهو الرطوبة المانعة عن إحراقه رغم توفّر المقتضی له وهو النار وشرطه وهو المماسّة وهذا أمر محسوس ومشاهد خارجاً ولا یقبل الانکار.

وأمّا الثانی: فلأنّه لو استحال استناد عدم وجود المعلول إلی وجود مانعه لزم أحد محذورین:

الأول: أنّه یلزم من فرض وجود المانع عدمه لما تقدّم من أنّ المانع إنّما یتّصف بالمانعیة فی ظرف ثبوت المقتضی ووجود الشرط علی أساس أنّه یمنع عن فعلیة فاعلیة المقتضی فلو لزم من فرض وجود المانع استحالة ثبوت المقتضی وشرطه لزم منه فرض عدم وجود المانع واستحالة اتّصافه بالمانعیة لأنّ اتّصافه بها إنّما هو فی ظرف ثبوت المقتضی وتوفّر شروطه لا مطلقاً فإذن یلزم من فرض وجوده عدم وجوده وکلّما یلزم من فرض وجوده عدمه فوجوده مستحیل.

الثانی: قد مرّ أنّ العلّة التامّة مرکّبة من ثلاثة أجزاء.

المقتضی والشرط وعدم المانع فإذا فرض استحالة استناد عدم المعلول إلی وجود مانعه کان لازمه أن لا یکون عدمه من أجزاء العلّة التامّة وهو خلف هذا وما ذکره (قدس سره) یرجع لبّاً إلی نقطتین:

الاُولی: أنّه لا مانع من وجود المقتضی والسبب لکل من الضدّین فی نفسه ولا استحالة فیه.

ونتیجة ذلک إمکان أن یکون عدم وجود الضدّ مستنداً إلی وجود الضدّ الآخر فیکون عدمه من أجزاء العلّة التامّة.

ص:325

الثانیة: ما ذکره (قدس سره) من البرهان علی ذلک(1).

ولنا تعلیق علی کلتا النقطتین:

أمّا التعلیق علی النقطة الاُولی فلأنّها تنحل إلی أمرین:

الأول: إمکان ثبوت المقتضی لکل من الضدّین فی نفسه علی نحو یصلح کل واحد منهما أن یؤثّر أثره فی ذاته وبقطع النظر عن الآخر.

الثانی: أنّ عدم أحد الضدّین فی مثل ذلک یکون مستنداً إلی وجود الضدّ الآخر لا إلی عدم المقتضی لفرض أنّه موجود فی نفسه ولا قصور فیه ذاتاً.

أمّا الأمر الأول فإن أراد (قدس سره) بثبوت المقتضی لکل من الضدّین فی نفسه ثبوته فی مرتبة الاقتضاء فهذا ممّا لا إشکال فیه وإنّه موافق للوجدان فی الأفعال الارادیة وغیرها لأنّ ثبوت المقتضی اللولائی لکل منهما ممّا لا محذور فیه ولا یکون هذا من اقتضاء المحال الذی هو محال لأنّ المحال إنّما هو اقتضاء کل منهما أثره مقترناً مع الآخر ومجتمعاً معه واقتضاء شیء واحد أثرین متضادّین والفرض أنّ المقام لیس لا من قبیل الأول ولا الثانی.

وإن أراد (قدس سره) به ثبوته فی مرتبة الفعلیة بمعنی أنّ المقتضی تامّ من ناحیة الفاعلیة ولکن عدم أثره فی الخارج مستند إلی وجود ضدّه ففیه أنّه لا یمکن ونشیر إلی وجهه فی الأمر الثانی.

وأمّا الأمر الثانی فلا یمکن الالتزام به وذلک لأنّ أحد المقتضیین إذا کان مؤثّراً وموجداً لأثره فی الخارج فبطبیعة الحال کان مستنداً إلی قوّة مقتضیه وضعف مقتضی الآخر وقوّته شرط فعلیة فاعلیته وضعف الآخر بمثابة عدم

-

ص:326


1- (1) - المحاضرات ج 3: ص 17.

المانع فإذن تمّت العلّة بکامل أجزائها وهی المقتضی والشرط وهو قوّته وعدم المانع وهو ضعف مقتضی الآخر فحینئذ أثّرت أثرها وعلیه فلا یمکن أن یکون عدم وجود الضدّ الآخر مستنداً إلی وجود ضدّه فی الخارج بل هو مستند إلی عدم تمامیة فاعلیة مقتضیه فإنّ تمامیة فاعلیته منوطة بتحقّق شروطه وهی قوّته من جهة وضعف مقتضی الآخر من جهة اخری وأمّا إذا لم تتمّ فاعلیته بأن لا یتحقّق شرطه الذی هو متمّم لها فیکون عدم وجود الضدّ مستنداً إلی انتفاء الشرط وهو قوّة مقتضیة لا إلی وجود مانعه وهو وجود ضدّه.

وبکلمة أنّه إذا وجد أحد الضدّین فی الخارج کالحرکة مثلا دون الضدّ الآخر کالسکون فلا محالة یکون وجودها مستنداً إلی تمامیة العوامل الثلاثة فی المرتبة السابقة وهی ثبوت المقتضی ووجود الشرط وعدم المانع فإذا تمّت تلک العوامل تمّت العلّة التامّة وأثّرت أثرها وهو الحرکة وعلی هذا فلا یمکن أن یستند عدم وجود السکون إلی وجود الحرکة فی الخارج مع تمامیة العامل الأول والثانی فی المرتبة السابقة بل هو مستند إلی انتفاء العامل الثانی وهو قوّة مقتضیة المتمّمة لفعلیة فاعلیته لا إلی وجود المانع وهو الحرکة مثلا إذا فرض أنّ فی نفس الانسان إرادة الحرکة فی نفسه إلی جهة وفی نفس الوقت إرادة السکون کذلک إلی جهة اخری بسب أو آخر ففی مثل ذلک إذا تحرّک الإنسان إلی تلک الجهة کأن یکشف عن تمامیة العوامل الثلاثة فی المرتبة السابقة وهی وجود الإرادة فی افق نفسه وقوّتها بالنسبة إلی الارادة المزاحمة وضعف الارادة المزاحمة بالنسبة إلیها الذی هو بمثابة عدم المانع عن تأثیرها فإذا تمّت تلک العوامل فقد تمّت العلّة التامّة وأمّا عدم السکون فلا یمکن أن یکون مستنداً إلی وجود الحرکة فی الخارج لأنّ استناده إلیه إنّما هو فی فرض ثبوت المقتضی له ووجود الشرط المتمّم لفاعلیة المقتضی وهو قوّته والمفروض عدم تحقّق

ص:327

شرطه فإذن عدمه یکون مستند إلی ضعفه وعدم قوّته لا إلی وجود الحرکة لأنّه إنّما یتّصف بالمانعیة فی فرض تحقّق المقتضی والشرط معاً وإلاّ فهو لا یکون مانعاً ولا یعقل اتّصافه بها ولا فرق بین أن تکون إرادة الضدّین بذاتها فی نفس شخص واحد أو شخصین أو فقل أنّ اقتضاء المقتضی للضدّ المعدوم إن کان مطلقاً وغیر مشروط بعدم وجود المقتضی للضدّ الموجود فهو من اقتضاء المحال وهو محال مثلا إذا کان الجسم أسود فإن کان المقتضی لبیاضه مطلقاً وغیر مشروط بعدم اقتضاء المقتضی سواده لزم اقتضاء المحال لأنّ بیاض الأسود فی حال سواده محال واقتضاؤه من اقتضاء المحال وعلی هذا فما ذکره (قدس سره) من إمکان استناد عدم الضدّ إلی وجود الضدّ الآخر لا یمکن إلاّ فی فرض المحال وهو ثبوت المقتضی له مطلقاً حتّی فی فرض اقتضاء المقتضی لوجود الضدّ الآخر وإن کان المقتضی لبیاضه مقیّداً ومشروطاً بعدم اقتضاء المقتضی سواده کان عدم البیاض مستنداً إلی اقتضاء المقتضی سواده لأنّه مانع عنه دون وجود السواد فیه باعتبار أنّه مشروط بعدم اقتضائه.

والخلاصة: أنّ السید الاُستاذ (قدس سره) إن أراد من ثبوت المقتضی لکل من الضدّین ثبوته مقیّداً بعدم اقتضاء مقتضی الآخر وجوده وبقطع النظر عنه فهو وإن کان ممکناً وجداناً وبرهاناً إلاّ أنّ عدم الضدّ فی هذا الفرض مستند إلی مانعیة اقتضاء مقتضی الضدّ الآخر وجوده لا إلی نفس وجوده وإن أراد منه ثبوته مطلقاً وغیر مقیّد بعدم اقتضاء مقتضی الآخر وجوده فهو مستحیل لأنّه من اقتضاء المحال وهو محال فلهذا لا یمکن فرض کون عدم الضدّ مستنداً إلی وجود الضدّ الآخر.

فالنتیجة أنّ ما أفاده السید الاُستاذ (قدس سره) من أنّه لا مانع من أن یکون عدم أحد الضدّین مستنداً إلی وجود الضدّ الآخر مع ثبوت المقتضی له لا یمکن

ص:328

المساعدة علیه بوجه لا وجداناً ولا برهاناً.

وأمّا التعلیق علی النقطة الثانیة فلأنّ ما ذکره (قدس سره) من البرهان النقضی وهو أنّه لو استحال استناد عدم وجود الضدّ إلی الضدّ الآخر استحال استناد عدم المعلول إلی وجود مانعه فهو غیر تامّ وذلک للفرق بین المقامین فی نقاط:

الاُولی: أنّ المانع الذی یکون عدمه من أجزاء العلّة التامّة لا یکون مانعاً عن وجود المعلول مباشرة وإنّما یکون مانعاً عن تأثیر المقتضی فیه کذلک علی أساس أنّ عدمه من أجزاء العلّة التامّة بینما یکون وجود أحد الضدّین فی الخارج مانعاً عن وجود الضدّ الآخر فیه مباشرة علی أساس أنّ بینهما تمانعا کذلک لا أنّه مانع عن تأثیر مقتضیه فیه بحیث یکون عدمه من أجزاء علّته التامّة.

الثانیة: أنّ أثر المانع هو المانع عن تأثیر المقتضی فی المعلول مباشرة رغم ثبوته وتوفّر شروطه بینما لا یکون أثر وجود الضدّ فی الخارج المنع عن تأثیر المقتضی لضدّه فیه کذلک مثلا أثر وجود الحرکة فی الخارج لیس هو المنع عن تأثیر مقتضی السکون فیه لما عرفت من أنّ المانع عن تأثیره فیه هو قوّة مقتضی الحرکة فی مقام المزاحمة فإنّها تمنع عن تأثیره فیه لا وجود الحرکة.

الثالثة: أنّ المانع الذی یکون عدمه من أجزاء العلّة التامّة مقدّم رتبة علی الممنوع قضاء لحق المانعیة والممنوع متأخّر عنه قضاء لحقّ الممنوعیة بینما الضدّان فی مرتبة واحدة فلا تقدّم لأحدهما علی الآخر ومن هنا کان بینهما تمانع وتضادّ فلا یجتمعان فی موضوع واحد لأنّ التقدّم الرتبی بحاجة إلی ملاک مبرّر له کالعلّیة والشرطیة والمانعیة لشیء وما شاکل ذلک والمفروض أنّه غیر متوفّر فی الضدّین ولهذا لا یعقل أن یکون وجود أحدهما مانعاً عن

ص:329

وجود الآخر بل بینهما تمانع وتضادّ فی مرتبة واحدة فی دار الوجود وعلی ضوء هذه النقاط الثلاث للفرق بین المانع الذی یکون عدمه من أجزاء العلّة التامّة وبین مانعیة أحد الضدّین عن وجود الضدّ الآخر وبالعکس تبیّن أنّ ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من البرهان النقضی مبنی علی الخلط بین المانع بمعنی التمانع والتضادّ فی عالم الوجود الخارجی فقط بدون أی تقدّم أو تأخّر رتبی فی البین وبین المانع الذی یکون عدمه من أجزاء العلّة التامّة فإنّه لا یتصوّر فیه التمانع بینه وبین الممنوع بداهة أنّ المانع لا یعقل أن یکون ممنوعاً وإلاّ لزم تقدّم الشیء علی نفسه وهو مستحیل کما أنّ الممنوع لا یعقل أن یکون مانعاً.

فالنتیجة فی نهایة المطاف أنّ ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من البرهان النقضی لا یتمّ ومن هنا یظهر أنّ ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من استحالة استناد عدم الضدّ إلی وجود ضدّه بل هو مستند إلی عدم وجود المقتضی له قابل للنقد من جهة وصحیح من جهة اخری أمّا من الجهة الاُولی فما ذکره (قدس سره) من أنّ عدم الضدّ عند وجود الضدّ الآخر مستنداً إلی عدم مقتضیه معلّلا بأنّ اقتضاء المحال محال غیر تامّ إذ لا مانع من ثبوته فی مرتبة الاقتضاء ولا یلزم منه اقتضاء المحال لکی یقال أنّه محال لما تقدّم من أنّ ذلک إنّما هو فی أحد الموردین الذین قد سبقت الاشارة إلی کلیهما معاً والمقام غیر داخل فی شیء منهما فلا مانع حینئذ من ثبوت المقتضی لکل من الضدّین فی نفسه وبقطع النظر عن الآخر ولا استحالة فیه بل هو من موافق للوجدان.

وأمّا من الجهة الثانیة فقد عرفت أنّه لا یمکن أن یکون عدم وجود الضدّ مستنداً إلی وجود الآخر مع ثبوت مقتضیه وتوفّر شروطه الذی هو متمّم لفعلیة فاعلیته بل لا محالة یکون مستنداً أمّا إلی انتفاء الشرط مع ثبوت المقتضی له فی نفسه أو إلی عدم ثبوت المقتضی له کذلک.

ص:330

الوجه الثانی: ما ذکره المحقّق الأصفهانی (قدس سره) وملخّصه:

أنّ عدم الضدّ عند وجود الضدّ الآخر یکون مستنداً إلی عدم قابلیة المحل لا إلی وجود ضدّه ولا إلی عدم المقتضی له فإنّه (قدس سره) قد بنی علی أنّ إمکان ثبوت المقتضی لکل من الضدّین فی نفسه أمر ظاهر ولا خفاء فیه.

أمّا الأول: فلما عرفت من استحالة أن یکون عدم الضدّ مستنداً إلی وجود الضدّ الآخر بأن یکون وجوده مانعاً عنه.

وأمّا الثانی فلأنّ إمکان ثبوت المقتضی لکل من الضدّین فی نفسه أمر ظاهر ولا خفاء فیه فإذن لیس هنا شیء یکون عدمه مستنداً إلیه إلاّ عدم قابلیة المحل بعد اشتغاله بالضدّ الأول(1).

ویمکن تقریب ذلک فنّیاً بصیغة اخری وهی أنّ عدم الضدّ عند وجود الضدّ الآخر مستند إلی ضعف مقتضیه وعدم تمامیة علّته التامّة بکامل أجزائها وضعف مقتضیه مستند إلی قوّة مقتضی الآخر وهی مانعة عن تأثیر المقتضی الأول ومانعیة قوّته عن تأثیره مستندة إلی عدم قابلیة المحل علی أساس أنّ المحل لو کان قابلا له لم تکن قوّة مقتضیه مانعة عن تأثیره فیه فإذن تنتهی السلسلة فی نهایة المطاف إلی عدم قابلیة المحلّ بقانون أنّ کلّما بالغیر لابدّ وأن ینتهی إلی ما بالذات.

فالنتیجة أنّ عدم وجود الضدّ عند وجود الضدّ الآخر مستند فی نهایة المطاف إلی عدم قابلیة المحل هذا.

ویمکن المناقشة فیه بتقریب أنّ عدم قابلیة المحل للضدّین معاً وإن کان ذاتیاً إلاّ أنّه إذا وجد أحد الضدّین فیه فهو وإن لم یقبل وجود الضدّ الآخر إلاّ

-

ص:331


1- (1) - نهایة الدرایة ج 2: ص 187-189.

أنّ عدم وجوده فیه لیس مستنداً إلی عدم قابلیة المحل للضدّین معاً بل هو مستند إلی علّة اسبق و هی عدم قوّة مقتضیه بدرجة تؤثّر فی إیجاده فیه واعدام الضدّ الموجود لأنّ المحل قابل لکل منهما شریطة ثبوت مقتضیه إذا لم یکن مزاحماً لمقتضی الآخر وشریطة اقوائیته إذا کان مزاحماً له.

وبکلمة أنّ المحل وإن لم یکن قابلا ذاتاً للجمع بین وجودی الضدّین معاً ولکنّه قابل کذلک لأحدهما وعلی هذا فإذا وجد أحدهما فیه دون الآخر فبطبیعة الحال یستند الضدّ المعدوم امّا إلی عدم ثبوت مقتضیه أو عدم قوّته وضعفه بالنسبة إلی مقتضی الضدّ الموجود لا إلی عدم قابلیة المحل لأنّ تأثیر المقتضی للضد الموجود فیه فی کل آن منوط بقوته بدرجة اکبر من قوّة مقتضی الضدّ المعدوم وإذا صار الأمر بالعکس فی الآنات التالیة فلا محالة یوجد الضدّ المعدوم فیه و یعدم الضدّ الموجود.

الوجه الثالث: أنّ الضدّ لو کان مانعاً عن الضدّ الآخر وکان عدمه من أجزاء العلّة التامّة لزم الدور

بیان ذلک أنّ وجود الحرکة مثلا لو کان مانعاً عن وجود السکون وبالعکس لکان لازمه أن یکون عدم الحرکة جزءً أخیراً للعلّة التامّة للسکون وعدم السکون جزءً أخیراً للعلّة التامّة للحرکة.

ونتیجة هذا أنّ عدم الحرکة متقدّم علی السکون رتبة باعتبار أنّ العلّة التامّة بکامل أجزائها متقدّمة علی المعلول کذلک وعدم السکون متقدّم علی الحرکة رتبة بنفس الملاک هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أنّ تقدّم عدم کل منهما رتبة علی وجود الآخر ممّا لا استحالة فیه ولا یلزم منه أی محذور إذ لا مانع من الالتزام بأنّ عدم الحرکة متقدّم رتبة علی السکون بملاک أنّه من أجزاء علّته التامّة وعدم السکون متقدّم رتبة علی الحرکة بنفس الملاک مع أنّ وجود الحرکة لا یکون متقدّماً علی وجود السکون بل هما فی مرتبة واحدة علی

ص:332

أساس أنّ التقدّم الرتبی بحاجة إلی ملاک ولا ملاک لتقدّم وجود الحرکة علی وجود السکون وبالعکس وأمّا تقدّم عدم کل منهما علی وجود الآخر رتبة فهو بملاک أنّه من أجزاء علّته التامّة وهی متقدّمة علی المعلول رتبة رغم أنّ عدمها لا یکون متقدّماً علی عدم المعلول کذلک مع أنّه فی مرتبتها ولکن من الواضح أنّ ذلک وحده لا یکفی فی مانعیة أحدهما عن الآخر فإنّها کما تستلزم ذلک تستلزم تقدّم وجود کل منهما علی عدم الآخر أیضاً بملاک تقدّم المانع علی عدم الممنوع رتبة وعلی هذا فیلزم الدور فإنّ لازم ذلک أنّ وجود السکون متوقّف علی عدم الحرکة من باب توقّف المعلول علی الجزء الأخیر من العلّة التامّة وعدم الحرکة متوقّف علی وجود السکون من باب توقّف عدم الممنوع علی وجود المانع وکذلک الحال بالنسبة إلی الحرکة فإنّها تتوقّف علی عدم السکون من باب توقّف المعلول علی علّته التامّة وعدم السکون متوقّف علی وجود الحرکة من باب توقّف عدم الممنوع علی وجود مانعه وهذا هو الدور.

فیلزم حینئذ توقّف الشیء علی نفسه فیکون محالا.

وقد اجیب عن ذلک بجوابین:

الأول: ما حکاه المحقّق النائینی (قدس سره) عن المحقّق الخونساری (قدس سره) وحاصله إنّ اتّصاف الضدّ الموجود بالمانعیة عن الضدّ المعدوم مستحیل لما تقدّم من أنّ اتّصاف المانع بالمانعیة فرع ثبوت المقتضی والشرط المتمّم له والضدّ المعدوم لا مقتضی له معلّلا بأنّ مقتضی المحال محال.

ونتیجة ذلک أنّ وجود الضدّ الموجود یتوقّف علی عدم الضدّ المعدوم من باب توقّف المعلول علی عدم مانعه وأمّا الضدّ المعدوم فهو لا یتوقّف علی عدم الضدّ الموجود فإذن لا دور مثلا إذا کان البیاض موجوداً فی موضوع فلا محالة یتوقّف وجوده فیه علی عدم وجود السواد من باب توقّف المعلول علی

ص:333

عدم المانع وأمّا وجود السواد المعدوم فیه فیستحیل أن یتوقّف علی عدم البیاض فیه من باب توقّف الشیء علی عدم المانع لاستحالة اتّصاف البیاض بالمانعیة عن وجود السواد لأنّه فرع ثبوت المقتضی للسواد ولا یمکن افتراض ثبوت المقتضی له فی هذه الحالة لأنّ مقتضی المحال محال هذا(1).

وللمناقشة فیه مجال واسع أمّا أولا فلأنّ هذا الجواب لا یرجع إلی معنی محصّل وذلک لأنّ عدم الضدّ المعدوم ولو کان من أجزاء العلّة التامّة للضدّ الموجود فبطبیعة الحال یکون وجوده مانعاً لأنّ عدم المانع من أجزائها ولا یمکن القول أنّ الضدّ طالما یکون معدوماً فعدمه من الأجزاء ووجوده مانع وإذا وجد فی الخارج استحال أن یکون مانعاً مثلا البیاض طالما یکون معدوماً فعدمه من أجزاء العلّة ووجوده مانع وإذا وجد فی الخارج استحال أن یکون عدمه من أجزاء العلّة ووجوده مانعاً وهذا کما تری.

فهذا الجواب لا مغزی له لأنّه إنّما یدفع التوقّف الفعلی لا التوقّف الواقعی وما هو ملاک استحالة الدور وهو تقدّم الشیء علی نفسه واقعاً وذلک لأنّ عدم الضدّ لو کان واجداً لملاک المقدّمیة للضدّ الآخر وهو تقدّمه علیه رتبة وکان من أجزاء العلّة التامّة بأن یکون وجوده مانعاً لم یفرّق فیه بین عدم الضدّ المعدوم وعدم الضدّ الموجود وإن لم یکن واجداً له فأیضاً لا فرق بینهما ضرورة أنّه لا یحتمل أن یکون عدم البیاض مثلا عند وجوده لا یکون من أجزاء العلّة التامّة للسواد وعند عدمه یکون من أجزائها إذ من غیر المعقول أن یکون مانعیة البیاض فی الواقع مشروطة بعدم وجوده فی الخارج وإلاّ فلا یکون مانعاً هذا من ناحیة ومن ناحیة اخری أنّ ما فی هذا الجواب من أنّ وجود الضدّ

-

ص:334


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 259.

الموجود یتوقّف علی عدم الضدّ المعدوم دون العکس غریب جدّاً لأنّ توقّف وجود الضدّ الموجود علی عدم الضدّ الآخر فلا محالة یکون مبنیاً علی توفّر ملاک التوقّف فیه وهو کونه من أجزاء علّته التامّة ضرورة أنّه لا یمکن أن یکون بلا ملاک مبرّر له وعلی هذا فمن الواضح أنّه لا فرق فی ذلک بین عدم الضدّ المعدوم وعدم الضدّ الموجود فکما أنّ الأول من أجزاء العلّة التامّة للضدّ الموجود فکذلک الثانی فإنّه من أجزاء العلّة التامّة للضدّ المعدوم وحیث أنّه لا یعقل أن یکون عدم الضدّ مقدّمة للضدّ الآخر ومن أجزاء علّته التامّة فیستحیل توقّف الضدّ الموجود علی الضدّ المعدوم وقد تقدّم أنّ وجود الضدّ مستند إلی تمامیة علّته بکامل أجزائها من المقتضی و الشرط وعدم المانع وقوّة مقتضیه شرط لفعلیة فاعلیته وعدم الضدّ الآخر مستند إمّا إلی عدم المقتضی له أو إلی ضعفه أو تقیّده بعدم اقتضاء مقتضی الأول وعلی جمیع التقادیر لا یعقل أن یکون عدم الضدّ المعدوم من أجزاء العلّة التامّة للضدّ الموجود بداهة أنّ من أجزائها إمّا عدم المقتضی للضدّ المعدوم أو ضعفه وعدم صلاحیته للمزاحمة مع مقتضی الضدّ الموجود أو تقیّده بعدم اقتضاء مقتضی الأول ولا رابع فی البین.

وثانیاً أنّ ما فی هذا الجواب من استحالة مانعیة الضدّ الموجود علی أساس أنّ مانعیته تتوقّف علی ثبوت المقتضی للضدّ المعدوم وهو محال لأنّه من مقتضی المحال لا یتمّ وذلک لأنّ ثبوت المقتضی له یتصوّر علی نحوین:

الأول: أنّه مشروط بعدم اقتضاء مقتضی الضدّ الموجود.

الثانی: أنّه مطلق وغیر مشروط بعدم اقتضاء ذلک ولا مانع من ثبوت المقتضی له علی النحو الأول ولا یکون من مقتضی المحال حتی یکون محالا فما فی هذا الجواب من أنّ ثبوت المقتضی له محال لأنّه من اقتضاء المحال لا یتمّ علی إطلاقه فإنّ المحال هو ثبوت المقتضی له علی النحو الثانی أی مطلقاً

ص:335

وغیر مشروط، هذا من ناحیة ومن ناحیة اخری أنّ اتّصاف الضدّ الموجود بالمانعیة علی کلا الاحتمالین مستحیل.

أمّا علی الاحتمال الأول فلأنه إنّما یتّصف بالمانعیة عند ثبوت المقتضی والشرط للضدّ المعدوم معاً والمفروض أنّ الشرط غیر متحقّق هنا وإن کان المقتضی له ثابتاً لأنّ اقتضائه مشروط بعدم اقتضاء مقتضی الضدّ الموجود والفرض أنّه یقتضی وجوده فإذن عدمه مستند إلی اقتضاء المقتضی للضدّ الموجود لا إلی نفس وجوده وعلیه فیستحیل أن یتّصف وجوده بالمانعیة وإلاّ لزم الخلف.

وأمّا علی الاحتمال الثانی: فلأنّ اتّصافه بالمانعیة یستلزم تمامیة فاعلیة مقتضی الضدّ المعدوم ومن المعلوم أنّ تمامیة فاعلیة مقتضیه مطلقاً وغیر مشروط بعدم اقتضاء مقتضی الضدّ الموجود مستحیلة لأنّها من اقتضاء المحال وهو اجتماع الضدّین واقتضاء المحال، محال.

مثلا إذا کان الجسم أسود فاقتضاء المقتضی بیاضه حتّی فی حال سواده من اقتضاء المحال وهو محال وحیث إنّ بیاض الأسود محال بالذات فوجود المقتضی له محال لأنّه من اقتضاء المحال واقتضاء المحال بالذات محال فبرهان استحالته استحالة اجتماع الضدّین فإذا کان المقتضی للضدّ المعدوم مستحیلا استحال فرض وجود المانع عنه بداهة أنّه لا یتصوّر إلاّ عن تأثیر المقتضی فی مقتضاه فإذا افترض استحالة ثبوته فلا یتعقّل وجود المانع عنه.

وإن شئت قلت أنّ استحالة اجتماع الضدّین بالذات فی نفسه برهان جزمی علی استحالة ثبوت المقتضی للضدّ المعدوم مطلقاً وغیر مشروط بعدم اقتضاء مقتضی الضدّ الموجود.

ونتیجة ذلک استحالة مانعیة الضدّ الموجود عن الضدّ المعدوم وکون

ص:336

عدمه من أجزاء علّته التامّة.

والجواب الثانی: ما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) من أنّه إذا وجد أحد الضدّین کان ذلک کاشفاً عن عدم تعلّق الارادة الأزلیة بالضدّ الآخر وإلاّ استحال تخلّفها عن المراد فإذن یستحیل وجود المقتضی للضدّ المعدوم حتّی یکون الضدّ الموجود مانعاً عنه(1) هذا.

ولکن الجواب ضعیف جدّاً لأنّ غایة ما یثبت به أنّ الارادة الأزلیة لم تتعلّق بأسبابه التامّة فی سلسلة علله وعدم تعلّقها بها کما یمکن أن یکون من جهة عدم المقتضی یمکن أن یکون من جهة وجود المانع.

هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری قد ذکرنا فی بحث الأمر بین الأمرین موسّعاً أنّ الأفعال الاختیاریة للإنسان تصدر منه بسلطنته وإعمال قدرته لا بالارادة بمعنی الشوق المؤکّد فإنّها مهما بلغت من القوّة لا تؤثّر فیها کتأثیر العلّة فی المعلول ولا بالارادة الأزلیة بداهة أنّها لم تتعلّق بها مباشرة وإنّما تتعلّق بمبادیها کالحیاة والقدرة والعلم وما شاکل ذلک فإنّها جمیعاً خاضعة لسلطنته تعالی المطلقة ومن الطبیعی أنّ نسبة تلک المبادیء إلی الأفعال الاختیاریة لیست نسبة العلّة التامّة إلی معلولها ولا نسبة المقتضی إلیها وعلی هذا فما ذکره (قدس سره) من أنّه إذا وجد أحد الضدّین کان ذلک کاشفاً عن عدم تعلّق الارادة الأزلیة بالضد الآخر لا یرجع الی معنی محصل لان ما ذکره (قدس سره) من ان الارادة الأزلیة تعلّقت بالضدّ الموجود ولم تتعلّق بالضدّ المعدوم مبنی علی مسلکه (قدس سره) من أنّ الفعل الاختیاری هو ما کان مسبوقاً بالارادة بمعنی الشوق المؤکّد فی افق النفس وأنّها علّة تامّة له وهی تنتهی فی نهایة المطاف إلی الارادة الأزلیة بقانون أنّ کلّما بالغیر لابدّ وأن

-

ص:337


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 131.

ینتهی إلی ما بالذات ولکن قد تقدّم هناک بشکل موسّع بطلان هذه النظریة وعدم إمکان الالتزام بها لا وجداناً ولا برهاناً ومن هنا أنّ الارادة مهما بلغت من القوّة فلا تصلح أن تکون علّة تامّة لتحریک العضلات نحو المراد بل هو مستند إلی سلطنة النفس وإعمال قدرتها وبها لا تخرج عن حدّ الإمکان إلی حدّ الضرورة.

ومن هنا قلنا أنّ الأفعال الاختیاریة خارجة عن قاعدة أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد علی تفصیل هناک وعلی هذا فعدم الضدّ المعدوم لا یمکن أن یکون من جهة عدم تعلّق الارادة الأزلیة به.

فالنتیجة فی نهایة المطاف أنّه لا یمکن أن یکون عدم الضدّ مقدّمة للضدّ الآخر للدور وتقدّم الشیء علی نفسه.

الوجه الرابع: ما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) من استحالة مقدّمیة عدم الضدّ لا ضدّ الآخر، وإلیک نصّه:

وذلک لأنّ المعاندة والمنافرة بین الشیئین لا تقتضی إلاّ عدم اجتماعهما فی التحقّق وحیث لا منافاة أصلا بین أحد العینین وما هو نقیض الآخر وبدیله بل بینهما کمال الملائمة کان أحد الضدّین مع نقیض الآخر وما هو بدیله فی مرتبة واحدة من دون أن یکون فی البین ما یقتضی تقدّم أحدهما علی الآخر کما لا یخفی فکما أنّ قضیة المنافاة بین النقیضین لا تقتضی تقدّم ارتفاع أحدهما علی ثبوت الآخر کذلک فی المتضادّین(1) هذا.

وفی هذا النصّ احتمالات:

الاحتمال الأول: أنّ غرضه (قدس سره) من ذلک أنّ التمانع بین الضدّین إنّما هو بمعنی المعاندة والمنافرة بینهما التی لا یقتضی أکثر من استحالة اجتماعهما فی

-

ص:338


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 130.

دار التحقّق والوجود فی موضوع واحد لا بمعنی مانعیة کل منهما عن الآخر بحیث یکون عدمه من أجزاء العلّة التامّة له ولهذا لا یکون عدم أحدهما متقدّماً رتبة علی وجود الآخر بل هما فی رتبة واحدة بلا تقدّم وتأخّر فی البین إذ لا موجب لذلک بعد ما کان التمانع بینهمنا بمعنی المعاندة والمنافرة فی الوجود فقط لا بمعنی المانعیة حتّی تقتضی التقدّم الرتبی ثمّ الظاهر أنّ هذا هو مراده (قدس سره) فإنّه أراد به نفی مقدّمیة عدم الضدّ للضدّ الآخر باعتبار أنّ تقدّمه علیه رتبة بحاجة إلی ملاک وجودی فإذا لم یکن فهما فی رتبة واحدة إذ یکفی فی المعیّة الرتبیة عدم الملاک للتقدّم ولا تتوقّف علی ملاک وجودی.

وهنا مناقشتان:

الاُولی: أنّ الظاهر ممّا ذکره (قدس سره) هو أنّ سبب کونهما فی رتبة واحدة عدم التنافی بینهما وکمال الملائمة لا التمانع وفیه أنّ کمال الملائمة وعدم المنافاة بینهما لا یکشف عن کونهما فی رتبة واحدة فإنّ بین العلّة والمعلول کمال الملائمة مع أنّهما فی رتبتین طولیتین وهکذا.

الثانیة: أنّ ما ذکره (قدس سره) من أنّ المنافاة بین النقیضین لا تقتضی تقدّم ارتفاع أحدهما علی ثبوت الآخر لا یرجع إلی معنی معقول لأنّ ارتفاع أحد النقیضین عین الآخر فکیف یعقل تقدّمه علیه مثلا الإنسان وعدمه نقیضان وارتفاع الإنسان عین عدمه مفهوماً وخارجاً وارتفاع عدمه أی عدم عدم الإنسان وإن کان مغایراً له مفهوماً ولکنّه عینه خارجاً فإذن کیف یتصوّر کون المنافاة بینهما تقتضی تقدّم ارتفاع أحدهما علی الآخر ولا یقاس ذلک بالضدّین فإنّ عدم الضدّ مغایر للضدّ الآخر مفهوماً ومصداقاً.

الاحتمال الثانی: ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أنّ المعاندة والمنافرة کما تقتضی استحالة اجتماعهما فی دار التحقّق والوجود فی زمان واحد کذلک

ص:339

تقتضی استحالة اجتماعهما فی رتبة واحدة فإذا استحال اجتماعهما فی مرتبة واحدة کان عدم أحدهما فی تلک المرتبة ضروریاً وإلاّ فلابدّ أن یکون وجوده فیها کذلک لاستحالة ارتفاع النقیضین عن الرتبة مثلا البیاض والسواد متضادّان وقضیة المضادّة والمعاندة بینهما استحالة اجتماعهما فی دار الوجود فی موضوع واحد وفی دار الرتبة فی رتبة واحدة لأنّ استحالة اجتماعهما فی زمان واحد تستلزم ضرورة عدم أحدهما فی ذلک الزمان کذلک استحالة اجتماعهما فی رتبة واحدة مثلا عدم البیاض فی مرتبة وجود السواد وبالعکس ضروری وإلاّ لزم أحد محذورین أمّا ارتفاع النقیضین بأن لا یکون فی تلک المرتبة وجود بیاض ولا عدمه أو اجتماع الضدّین وکلاهما مستحیل هذا ثمّ أنّه (قدس سره) قد علّق علی ذلک بأنّ التنافی والتضادّ بین الضدّین إنّما هو بلحاظ عالم الوجود واستحالة اجتماعهما فیه فی زمان واحد لا بلحاظ عالم الرتب الذی لا واقع موضوعی له فی الخارج ولذلک نجد استحالة اجتماع الضدّین خارجاً فی زمان واحد وإن کانا طولیین رتبة کما لو فرض أحدهما فی طول الآخر وعلّة له هذا.

ولکن یقع الکلام تارةً فی أصل تفسیره (قدس سره) عبارة الکفایة واُخری فی تعلیقه علیه.

أمّا الکلام فی الأول فالظاهر أنّ مراد صاحب الکفایة (قدس سره) من أنّهما فی رتبة واحدة بلا تقدّم وتأخّر أنّه لا طولیة بینهما لأنّها بحاجة إلی ملاک ولا ملاک لها إلاّ أن تکون عدم الضدّ مقدّمة للضدّ الآخر وقد تقدّم أنّ ذلک مستحیل فإذن لا محالة یکون المراد من التمانع بینهما المعاندة والمنافرة فی عالم التحقّق والوجود الخارجی واستحالة اجتماعهما فیه فی زمان واحد لا بمعنی مانعیة کل منهما عن الآخر وعلیه فیکونان فی مرتبة واحدة لأنّ الطولیة فیها بحاجة إلی مبرّر ولا یمکن أن یکون جزافاً وحیث لا مبرّر لها فی المقام فلا

ص:340

طولیة بینهما فی المرتبة ویکونا فی مرتبة واحدة ولیس مراده (قدس سره) من ذلک أنّ ثبوت الضدّ لا یمکن أن یکون فی رتبة الضدّ الآخر وإلاّ لزم اجتماع الضدّین فی رتبة واحدة وهو مستحیل فإذن لابدّ أن یکون عدمه فی رتبة الآخر وإلاّ لزم ارتفاع النقیضین عنها وهو مستحیل.

وأمّا الثانی فقد أورد علیه بعض المحقّقین (قدس سرهم) بأنّ هذا التعلیق مبنی علی الخلط بین تفسیرین لاستحالة اجتماع الضدّین فی رتبة واحدة.

الأول: أنّ المعتبر فی استحالة اجتماع الضدّین أمران:

أحدهما: وحدة الزمان والآخر وحدة الرتبة ولا یکفی فیها وحدة الزمان فقط بل لابدّ من توفّر کلتا الوحدتین معاً بمعنی أنّ استحالة اجتماع الضدّین فی زمان واحد مشروطة بوحدة رتبتهما أیضاً وإلاّ جاز الاجتماع.

الثانی: أنّ اجتماع الضدّین کما أنّه مستحیل فی زمان واحد کذلک أنّه مستحیل فی رتبة واحدة ومعنی هذا توسعة دائرة استحالة اجتماع الضدّین علی عکس السابق واسرائها لعالم الرتب أیضاً.

وهذا هو المقصود من البرهان الذی ذکره صاحب الکفایة (قدس سره) ولا یمکن ردّه بأنّ اجتماع الضدّین مستحیل فی زمان واحد ولو کانا طولیین وذلک لأنّ الخصم یسلّم ذلک ویدّعی الزیادة وهی استحالة اجتماعهما فی رتبة واحدة أیضاً فالنتیجة أنّ ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من التعلیق مبنی علی التفسیر الأول لاستحالة اجتماع الضدّین مع أنّ المقصود هو التفسیر الثانی(1).

ولنا ملاحظة فی هذا الإیراد وحاصل هذه الملاحظة أنّ التفسیر الأول لاستحالة اجتماع الضدّین غیر معقول لأنّ استحالة اجتماع الضدّین فی زمان

-

ص:341


1- (1) - بحوث فی علم الاُصول ج 2: ص 300.

واحد من البدیهیات الأوّلیة وإن کانا مختلفین رتبة ولا یعقل الحکم بالجواز فإذن دعوی إنّ استحالة اجتماع الضدّین فی زمان واحد مشروطة بوحدة رتبتهما أیضاً مخالفة للبداهة.

فالنتیجة أنّ هذا التفسیر لاستحالة اجتماع الضدّین غیر معقول.

وأمّا التفسیر الثانی فهو إنّما یصحّ إذا کانت النسبة بین وحدة الزمان ووحدة الرتبة عموماً من وجه ولکن الأمر لیس کذلک فإنّ النسبة بینهما عموم مطلق لأنّ وحدة الزمان أعمّ من وحدة الرتبة فوحدة الرتبة بین شیئین تستلزم وحدة الزمان بینهما ولا یعقل أن یکونا متّحدین رتبة ومختلفین زماناً وأمّا العکس فهو ممکن وإن شئت قلت أنّ الضدّین کالسواد والبیاض مثلا یستحیل اجتماعهما فی زمان واحد وموضوع فارد وإن کانا مختلفین رتبة ولکن لا یمکن القول باستحالة اجتماعهما فی رتبة واحدة وإن کانا مختلفین زماناً بداهة أنّهما إذا کانا مختلفین زماناً فلا إشکال فی إمکان وجودهما معاً فی الخارج ولا أثر لافتراض اتّحادهما رتبة فی عالم الرتب فرضاً فإذن اشتراط وحدة الرتبة زائداً علی اشتراط وحدة الزمان فی استحالة اجتماع الضدّین لغو محض لأنّ وحدة الرتبة لا تنفک عن وحدة الزمان ولا یعقل انفکاکها عنها.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّه لا موضوع لاجتماع الضدّین أو النقیضین فی عالم الرتب وهو عالم التحلیل العقلی إذ لا وجود للضدّ فی هذا العالم حتّی یقال باستحالة اجتماعه مع السواد فیه لوضوح أنّ الأضداد من الموجودات الزمانیة لأنّها إمّا موجودة فی عالم الزمان وهو عالم الوجود الخارجی أو معدومة فیه فعلی الأول یستحیل اجتماعهما فی موضوع واحد وزمان فارد.

وعلی الثانی فلا موضوع للاستحالة وکذلک الحال فی الاُمور المتناقضة

ص:342

فإنّ البیاض وعدمه البدیل له انماهما بلحاظ عالم الزمان وبقطع النظر عنه فلا بیاض حتّی یکون له بدیل وهو عدمه.

هذا من ناحیة ومن ناحیة اخری أنّ ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) فی توجیه عبارة الکفایة وتفسیرها غیر سدید کما مرّ(1) نعم علی تقدیر تسلیم هذا التفسیر فتعلیقه علیه فی محلّه وهو أنّ استحالة اجتماع الضدّین إنّما هی بلحاظ عالم الوجود الخارجی لا بلحاظ عالم الرتب ولا یرد علی هذا التعلیق ما أورده بعض المحقّقین (قدس سره) إلاّ بصیغة فرضیة لا واقعیة وأمّا افتراض اجتماع الضدّین فی رتبة واحدة فیما إذا کانا توأمین ومعلولین لعلّة واحدة فهو وإن کان محالا ولکن لا من جهة اتّحادهما فی رتبة واحدة بل من جهة اتّحادهما فی زمان واحد وإلاّ فلا مانع من صدورهما من علّة واحدة هذا کلّه فی تفسیر السید الاُستاذ (قدس سره)، عبارة الکفایة وتوجیهها وما علّق علیه والمناقشات حوله.

الاحتمال الثالث: ما ذکره المحقّق الأصفهانی (قدس سره) من أنّ المحقّق الخراسانی (قدس سره) أراد اثبات أنّ عدم الضدّ فی مرتبة وجود الضدّ الآخر بلا تقدّم وتأخّر بقیاس المساواة بتقریب أنّ الضدّین فی مرتبة واحدة فإنّ وجود الحرکة فی مرتبة وجود السکون ووجود البیاض فی مرتبة وجود السواد بلا تقدّم ولا تأخّر بینهما کذلک لأنّه بحاجة إلی ملاک ولا یکون جزافاً ولا ملاک فی المقام لتقدّم أحد الضدّین علی الضدّ الآخر رتبة وبالعکس وکذلک فی المتناقضین فإنّ وجود الإنسان فی مرتبة عدمه البدیل له ولا ملاک لتقدّم أحدهما علی الآخر رتبة بعد ما کانا متقارنین زماناً وعلی ضوء هذا الأساس نقول أنّ وجود الحرکة فی مرتبة وجود السکون ووجود السکون فی مرتبة عدمه البدیل له

-

ص:343


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم: ص 210.

فینتج أنّ وجود الحرکة فی مرتبة عدم السکون بقیاس المساواة وهذا معنی قوله (قدس سره) هما فی مرتبة واحدة وکذلک العکس وهو أنّ وجود السکون فی مرتبة وجود الحرکة ووجود الحرکة فی مرتبة عدمه البدیل له فینتج أنّ وجود السکون فی مرتبة عدم الحرکة وهکذا وهذا معنی قوله (قدس سره) هما فی مرتبة واحدة ونتیجة ذلک أنّ عدم أحد الضدّین فی مرتبة وجود الضدّ الآخر ولا یکون متقدّماً علیه رتبة حتّی یصلح أن یکون مقدّمة له وجزءً أخیراً لعلّته التامّة هذا(1).

وقد أورد علیه بأنّ قیاس المساواة عقیم النتیجة فی عالم الرتب علی أساس أنّ تفاوت الأشیاء فی هذا العالم إنّما هو بتحلیل من العقل واعتباره وحیث إنّ حکم العقل بتقدّم شیء علی آخر رتبة بعدما کانا متقارنین زماناً لا یمکن أن یکون جزافاً وبلا نکتة فلا محالة یدور مدارها وجوداً وعدماً ومن هنا یحکم العقل بتقدّم العلّة علی المعلول رتبة قضاءً لحقّ العلّیة ولا یحکم بأنّ عدمها الذی هو فی مرتبتها متقدّم علیه کذلک لعدم الملاک لتقدّمه علیه مع أنّه فی مرتبتها ولا نتیجة لقیاس المساواة هنا فإنّ عدم العلّة فی مرتبة العلّة والعلّة متقدّمة علی المعلول رتبة فلا ینتج أنّ عدمها متقدّم علیه کذلک لأنّ هذا التقدّم یکون بملاک مختص بها ولا یکون مشترکاً بینهما فالکبری وهی أنّ کل ما مع المتقدّم متقدّم غیر ثابتة فی عالم الرتب بینما هی ثابتة فی عالم الزمان لأنّ ما کان مع المتقدّم زماناً متقدّم وما کان مع المتأخّر کذلک متأخّر وهکذا باعتبار أنّ الملاک فیه الزمان وهو مشترک.

والخلاصة أنّ التقدّم والتأخّر أو التقارن إذا کان فی عالم الرتب فالکبری

-

ص:344


1- (1) - نهایة الدرایة ج 2: ص 180.

وهی أنّ کلّما کان مع التقدّم متقدّم ومع المتأخّر متأخّر غیر ثابتة لأنّ ملاک التقدّم أو التأخّر فی هذا العالم مختصّ به ولا یکون مشترکاً بینه وبین ما معه فی الرتبة وهذا بخلاف ما إذا کان ذلک فی عالم الزمان فالکبری ثابتة لأنّ الملاک للتقدّم أو التأخّر فیه الزمان وهو مشترک بین المتقدّم أو المتأخّر وما معه فی الزمان.

وإن شئت قلت أنّ صاحب الکفایة (قدس سره) أراد بذلک نفی مقدّمیة عدم أحد الضدّین للضدّ الآخر بأنّ النقیضین فی مرتبة واحدة مثلا البیاض وعدمه البدیل له فی مرتبة واحدة والسواد وعدمه البدیل له کذلک فلو کان وجود البیاض متوقّفاً علی عدم السواد لکان عدم السواد متقدّماً علیه رتبة وعلیه فیکون وجود السواد أیضاً متقدّماً علیه بحکم أنّه فی مرتبته وکذلک لو کان وجود السواد متوقّفاً علی عدم البیاض لکان عدم البیاض متقدّماً علیه رتبة وعلیه فیکون وجود السواد بحکم کونه فی مرتبته مقدّماً علیه أیضاً رتبة وهذا هو التناقض والتهافت فی الرتبة بین الضدّین لأنّ کلا منهما حینئذ متقدّم علی الآخر ومتأخّر عنه رتبة وهذا مستحیل.

ولکن قد مرّ أنّ هذا البیان غیر تامّ فی نفسه لأنّه مبنی علی أنّ ما یکون مع المتقدّم رتبة متقدّم أیضاً وما یکون مع المتأخّر کذلک متأخّر أیضاً وقد تقدّم أنّ هذه القاعدة غیر تامّة فی عالم الرتب وإنّما تتمّ فی عالم الزمان هذا من ناحیة ومن ناحیة اخری أنّ الظاهر من الکفایة أنّه لم یرد بذلک أی بأنّ عدم الضدّ فی مرتبة الضدّ الآخر نفی مقدّمیته بقیاس المساواة بل أراد به نفیها علی أساس أنّ المراد من التمانع بین الضدّین المعاندة والمضادّة بینهما فی دار الوجود فلا یجتمعان فی موضوع واحد فیه لا مانعیة کل منهما عن تأثیر مقتضی الآخر فلهذا یکونا فی مرتبة واحدة بلا تقدّم أو تأخّر فی البین فإنّه

ص:345

بحاجة إلی ملاک.

الوجه الرابع: أنّ الضدّین کالسواد والبیاض أو الحرکة والسکون وهکذا لا یخلوان من أن یکون المقتضی لأحدهما موجوداً دون الآخر أو لکلیهما موجوداً. وعلی الثانی فإمّا أن یکون المقتضیان متساویین أو یکون أحدهما أقوی من الآخر ولا رابع فی البین أمّا علی الفرض الأول فعدم الضدّ مستند إلی عدم ثبوت مقتضیه لا إلی وجود ضدّه الآخر وأمّا علی الفرض الثانی فاقتضاء کل منهما أثره مشروط بعدم اقتضاء الآخر له تکویناً علی أساس أنّ التزاحم بینهما بمستوی واحد ولکن هذا التساوی لا یتصوّر فیما لو کان أثرهما من الضدّین الذین لا ثالث لهما وکانا من الاُمور الطبیعیة التی تتکوّن قهراً حسب النظام العلیّ فإنّ فی ذلک لابدّ من أن یکون أحد المقتضیین أقوی وأرجح من الآخر حتّی یکون هو المؤثّر دون الآخر وأمّا إذا کانا من الاُمور الارادیة التی تتکوّن بالارادة والاختیار فلا مانع من فرض التساوی بینهما والترجیح حینئذ بید الفاعل واختیاره نعم إذا کان أثرهما من الضدّین الذین لهما ثالث فلا مانع من افتراض التساوی بین مقتضیهما بلا فرق بین أن یکونا من الاُمور الطبیعیة القهریة أو من الاُمور الارادیة الاختیاریة وعلی جمیع التقادیر فعدم الضدّ الآخر لا یکون مستنداً إلی الضدّ الموجود بل هو مستند إلی المزاحم لمقتضیه وهو المانع عن تأثیره دونه.

فالنتیجة أنّ فی هذین الفرضین لا یعقل أن یکون عدم الضدّ مستنداً إلی وجود الضدّ الآخر حتّی یکون وجوده مانعاً.

وأمّا علی الفرض الثالث فعدم وجوده مستند إلی ضعف مقتضیه وقصوره فی مقابل مقتضی الآخر فإنّه حیث کان أقوی منه فیصلح أن یکون مانعاً عن تأثیر مقتضیه وعلیه فیکون تأثیره مشروطاً بعدم اقتضاء مقتضی الآخر ومعه

ص:346

لا اقتضاء له لأنّه مقیّد بعدم المانع والمفروض أنّه مانع نعم أنّه فی نفسه تامّ وصالح للتأثیر إلاّ أنّه من جهة کونه مزاحماً بما هو أقوی منه فلا یصلح أن یکون مؤثّراً وبعبارة اخری أنّ الجسم إذا کان أسود فعلا ففی هذه الحالة إمّا أن لا یکون مقتضی البیاض موجوداً فیه أو أنّه موجود ولا کلام علی الأول وعلی الثانی فإمّا أن یکون اقتضاؤه مطلقاً وغیر مشروط بعدم اقتضاء مقتضی السواد أو أنّه مشروط بعدم اقتضائه أو أنّه مقتضی للضدّ الذی لا یوجد الضدّ الآخر معه فالأول محال لأنّه من اقتضاء المحال وهو اجتماع الضدّین وأمّا الثانی فلا اقتضاء له لأنّه مشروط بعدم اقتضاء مقتضی الضدّ الموجود ومع اقتضائه ینتفی اقتضاؤه بانتفاء شرطه ولا یمکن أن یکون اقتضائه فی هذا الفرض منوطاً بعدم وجود السواد فیه بحیث یکون وجوده مانعاً عن تأثیره وذلک لأنّ الجسم إذا کان أسود کان کاشفاً عن أنّ المقتضی له أقوی من مقتضی بیاضه فالمانع عن تأثیر مقتضیه هو أرجحیة مقتضی السواد واقوائیته وهی تمنع عن تأثیره فیه ولا یعقل أن یکون مؤثّراً فی حال کونه مزاحماً بأقوی منه وأرجح فإذن لا یمکن أن یکون وجود السواد فیه مانعاً عن تأثیره بل المانع منه فی المرتبة السابقة وهو مزاحمته بالأقوی فی هذه المرتبة وهی مرتبة المقتضی وتأثیره منوط بعدم المانع.

فبالنتیجة عدم تأثیره فی نهایة المطاف مستنداً إلی ضعفه وقصوره فی مقابل مقتضی السواد وبالإضافة إلیه لا فی نفسه.

وأمّا الفرض الثالث: ففیه أیضاً لا یمکن أن یکون وجود الضدّ کسواد الجسم مانعاً لأنّ مقتضی البیاض فیه إذا صار أقوی من مقتضی السواد فبطبیعة الحال یمنع عن تأثیر مقتضی السواد فیه بقاء وهذا معنی أنّ مقتضی البیاض کما یقتضی وجوده فیه کذلک یقتضی اعدام السواد عنه بالمنع عن تأثیر

ص:347

مقتضیه فیه بقاء لمکان مزاحمته بالأقوی والأرجح فی مرحلة البقاء فإذن ارتفاع السواد عنه لیس من جهة وجود المانع وهو وجود البیاض فیه بل من جهة ضعف مقتضیه وسقوطه عن العلّیة التامّة فإنّ من شرائط تأثیره أن لا یکون مزاحماً بالأقوی والأرجح وإلاّ فلا یکون مؤثّراً ولا فرق فی ذلک بین أن تکون مزاحمته بالأقوی والأرجح حدوثاً أو بقاءً.

إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أنّه یستحیل أن یکون عدم الضدّ مقدّمة للضدّ الآخر فإذن لا یمکن الحکم بوجوبه من باب المقدّمة.

التفصیل بین الضد الموجود و الضد المعدوم

ثمّ إنّ هنا تفصیلا بین الضدّ الموجود والضدّ المعدوم والأول لا یتوقّف علی عدم الضدّ المعدوم طالما یکون معدوماً.

والثانی یتوقّف علی عدم الضدّ الموجود وارتفاع وجوده وقد اختار هذا التفصیل المحقّق الخوانساری (قدس سره).

بتقریب أنّ المحل إذا کان مشغولا بأحد الضدّین فبطبیعة الحال یتوقّف وجود الضدّ الآخر فی هذا المحل علی ارتفاع الضدّ الموجود فیه واعدامه بینما إذا لم یکن المحل مشغولا به فلا یتوقّف وجوده فیه علی ارتفاعه عنه.

ونتیجة ذلک أنّ عدم الضدّ الموجود مقدّمة للضدّ الآخر دون عدم الضدّ المعدوم، بیان ذلک أنّ المحل لا یخلو من أن یکون خالیاً عن کل من الضدّین کالجسم الخالی عن لون الأسود والأبیض معاً أو یکون مشغولا بأحدهما دون الآخر فعلی الأول المحل قابل لکل منهما بما هو بقطع النظر عن الآخر وقابلیة المحل لذلک فعلیة ولا تتوقّف علی شیء وحینئذ فإذا وجد المقتضی للبیاض فیه مثلا صار أبیض من دون توقّفه علی عدم وجود السواد فیه فلا یکون عدمه من المقدّمات وعلی الثانی فالمحل المشغول بالضدّ کالسواد مثلا لا یقبل البیاض فی غرضه نعم یقبله بدلا عنه وعلیه فلا محالة یتوقّف وجود الضدّ

ص:348

الآخر علی ارتفاع الضدّ الموجود ضرورة أنّ الجسم الأسود لا یقبل البیاض کما أنّ الجسم الأبیض لا یقبل السواد فإذا کان المحل مشغولا بالسواد فلا محالة وجود البیاض فیه یتوقّف علی ارتفاع السواد وعدمه فیکون عدمه مقدّمة له.

فالنتیجة أنّ عدم الضدّ الموجود مقدّمة لثبوت الضدّ الآخر وأمّا عدم الضدّ المعدوم فهو لا یکون مقدّمة لثبوت الضدّ الآخر(1).

نظریة الحدوث

أقول أنّ هذا التفصیل مبنی علی نظریة الحدوث وهی أنّ سرّ حاجة الأشیاء إلی مبدأ العلّیة هو حدوثها لا إمکانها الوجودی وفقرها الذاتی ولازم ذلک أنّ الشیء إذا حدث فی الخارج فقد استغنی عن مبدأ العلّیة بقاءً وقد یستدلّ علی هذه النظریة بأمرین:

الأول: أنّ سبب حاجة الأشیاء لو کان إمکانها الوجودی دون حدوثها فهو لا ینسجم مع مجموعة من الظواهر الکونیة التی تکشف عن استمرار وجود المعلول بعد زوال علّتها کالعمارات الشاهقة والبنایات والطرق والجسور وما شاکل ذلک التی بناها البنّاؤون وأیدی آلاف من العمّال فإنّها تبقی بعد انتهاء علّتها وهی عملیة البنّا مئات من السنین من دون علّة مباشرة لها وکذلک الطائرات والسیارات والسفن والمکائن والمصانع وأنواع الأدوات المیکانیکیّة وغیرها ممّا شاده المهندسون والفنّانون فی شتّی میادین العلم فإنّها بعد انتهاء عملیتها وصنعها بید هؤلاء الفنّانون والمهندسون تبقی إلی أمد بعید بدون علّة مباشرة لها ومثلها الأشیاء الکونیة الطبیعیة کالجبال والأحجار والأشجار وما شاکلها من الموجودات الطبیعیة علی سطح الکرة الأرضیة فإنّها تبقی بدون أن

-

ص:349


1- (1) - فقد ذکره المحقّق الخونساری (قدس سره) علی ما فی مطارح الأنظار: ص 109.

تکون لها علّة مباشرة ومنها الکرات الهائلة التی تتحرّک فی الفضاء اللاّمتناهی فإنّها باقیة بعد حدوثها بدون علّة مباشرة لها.

والخلاصة أنّ قانون التعاصر بین العلّة والمعلول منقوض بظواهر الأشیاء الطبیعیة والصناعیة التی تکشف بظاهرها عن استمرار وجود المعلول بعد زوال العلّة وبقائه بعد انتهائها.

والجواب: أنّ هذا الاستدلال مبنی علی عدم فهم معنی العلّیة فی الأشیاء وعدم الوصول إلیه کما هو الواقع حیث أنّه أعمق من هذا وقد تقدّمت الاشارة إلی ذلک بشکل موسّع فی ضمن البحوث السالفة وننبّه علیه هنا بصورة موجزة وهی أنّ خطأ المناقش والمستدلّ فی المسألة نشأ من عدم تصوّر علّة بقاء هذه الأشیاء وتخیّل أنّها فی بقائها لیست بحاجة إلی علّة مباشرة ومنشأ الخطأ هو أنّ علّة حدوث هذه الأشیاء غیر علّة بقائها فإنّ علّة حدوثها حرکات أیدی المهندسین والفنّانین وآلاف من العمّال فی بناء العمارات والدور وصنع الطرق والجسور والوسائل المادّیة الاُخری کالطائرات والسفن والسیارات والمکائن والمصانع وغیرها فإنّ عملیة صنعها وإیجادها بشکلها الخاص ووضعها المخصوص نتیجة عدّة من الحرکات والجهود التی یقوم بها العمّال ونتیجة تجمیع المواد الخام من الحدید والخشب والآجر والحجر وغیرها من المواد وهذه الحرکات هی المعلولة للعمّال وهی صادرة عنهم باختیارهم ولهذا تنقطع تلک الحرکات بمجرّد اضراب العمّال عن العمل وکفّ أیدیهم عنها.

وأمّا علّة بقاء تلک الظواهر والأشیاء علی وضعها الخاصّ فهو معلول لخصائص تلک المواد الطبیعیة وحیویتها التی هی فی صمیم ذواتها وأعماق طبیعتها من ناحیة وقوّة الجاذبیة العامّة التی تفرض المحافظة علی وضعها

ص:350

الخاصّ من ناحیة اخری نظیر اتّصال الحدید بما فیه القوّة الکهربائیة فإنّها تجذب الحدید بقوّة جاذبیة طبیعیة تجرّه آناً فآناً بحیث لو سلبت منه تلک القوّة لانقطع منه الجذب لا محالة.

ومن هنا یظهر حال بقیّة الأمثلة فإنّ بقاء الجبال علی وضعها الخاص وموضعها المخصوص وکذلک الأشجار والمیاه وما شاکلها علی سطح الأرض معلول لخصائص طبیعیة کامنة فی صمیم موادها من ناحیة والقوّة الجاذبیة العامّة التی تفرض المحافظة علیها من ناحیة اخری.

فالنتیجة أنّ بقاء الأشیاء فی هذا الکون من الأشیاء الطبیعیة والصناعیة بشتّی أشکالها وألوانها معلول لأمرین:

الأول: الخصائص الذاتیة فی صمیم ذواتها.

الثانی: القوّة الجاذبة العامّة وقد صارت عمومیة القوّة الجاذبة فی یومنا هذا من الواضحات الأوّلیة وقد أودعها الله سبحانه وتعالی فی صمیم هذه الکرة الأرضیة التی تفرض المحافظة علیها وما فیها من الأشیاء الکونیة علی وضعها الخاص ونظامها المخصوص فی حین أنّها تتحرّک فی هذا الفضاء الکونی بسرعة هائلة.

إلی هنا قد تبیّن أنّ المحافظة علی الموجودات الطبیعیة علی وضعها الخاصّ وموضعها المخصوص هی خصائصها الذاتیة من الداخل والقوّة الجاذبیة من الخارج فإنّها تخضع لهما ولا تملک حرّیتها لا حدوثاً ولا بقاءً.

الثانی: أنّ الحرکة إذا حدثت لم تحتجّ فی بقائها إلی علّة مباشرة لها والمدرک لذلک هو التجربة فإنّها توضّح أنّ جهازاً میکانیکیّاً متحرّکاً بقوّة خاصّة فی طریق مبلّط مستقیم فإنّه إذا انفصلت القوّة المحرّکة عنه فهو یبقی علی حرکته مسافة ما ثمّ یسکن ومن الممکن أن یزاد فی حرکة هذا الجهاز بعد انفصال

ص:351

القوّة المحرّکة عنه بتدهین آلات الجهاز ومحرّکاته وتسویة الطریق ورفع الموانع والضغوط الخارجیة فإذا افترضنا أنّ هذه الاُمور تهیئت علی ما یرام فقد استمرّ الجهاز فی تحرّکه بعد انفصال القدرة المحرّکة عنه بسرعة معیّنة إلی غیر حدّ معیّن.

والجواب: أنّ هذا الدلیل خاطیء من ناحیتین:

الاُولی: أنّه مبنی علی عدم تصوّر معنی مبدأ العلّیة فی الأشیاء.

الثانیة: أنّ من یقوم بهذه التجربة تخیّل أنّ علّة الحرکة هی القوّة المحرّکة الخارجیة أمّا الناحیة الاُولی فسوف نشیر إلیه بعونه تعالی.

وأمّا الناحیة الثانیة فلأنّ التجربة حیث أنّ حدودها وحقلها لا تتعدّی عن الأشیاء المادّیة المحسوسة فلا تصلح أن تدلّل علی أسبابها وعللها التی هی أعمق منها وخارجة عن حدودها وحقلها لأنّها مسألة فلسفیة ولیست مادّیة فی حدود الحسّ فالتجربة توضّح أنّ الحرارة توجد عقیب النار والفلز یتمدّد بالحرارة وهکذا باعتبار أنّ ذلک واقع تحت مجهرة الحس وأمّا أنّ العلاقة بین وجود الحرارة ووجود النار وبین تمدّد الفلز وبین الحرارة وهکذا هل هی ذاتیة أو اتّفاقیة فلا یمکن إثباتها بالتجربة لأنّها خارجة عن حقلها وحدودها الحسّیة.

والخلاصة: أنّ التجربة لا تدلّل علی علل الأشیاء وأسبابها التی ورائها ومن هنا نحتاج فی إثبات علّیة النار للحرارة مثلا إلی الفلسفة وتطبیق مبدأ العلّیة العام علیها وعلی هذا فالحرکات العرضیة للجسم کالحرکات المیکانیکیة تتولّد جمیعاً عن قوّة قائمة بنفس الجسم وأمّا القوّة المحرّکة الخارجیة فهی إنّما تقوم بعملیة اثارة هذه القوّة الداخلیة وإعدادها للتأثیر خارجاً لا أنّها علّة لسببین:

الأول: أنّ المعلول لا یمکن أن ینفصل عن العلّة علی أساس مبدأ التعاصر بینهما.

ص:352

الثانی: أنّ المعلول عین الربط بالعلّة وأنّه یتولّد منها ومرتبة من مراتب وجودها النازلة هذا إضافة إلی أنّ حقیقة الحرکة حدوث بعد حدوث بنحو الاتّصال وکل مرحلة من مراحلها حدوث جدید وتغیّر عقیب تغیّر وعلیه فإذا أمکن أن تستمر الحرکة بقاءً بدون علّة مباشرة فبالامکان أن تحدث الحرکة بدون علّة وأن توجد الأشیاء بلا سبب باعتبار أنّ استمرار الحرکة فی کل آن یحتوی علی حدوث جدید دائماً ونتیجة ذلک تحریر الحدوث من العلّة وهو کما تری.

هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أنّ هذه النظریة أسرفت فی تحدید مبدأ العلّیة من حیث البدایة والنهایة أمّا من حیث البدایة فعلی ضوء نظریة الفلاسفة من أنّ وجود الممکن غیر مسبوق بالعدم فإنّه لا یحتاج إلی العلّة لأنّ سبب الحاجة إلیها الحدوث ولا حدوث له فإذن یکون فی غنی عنها فإذا کان فی غنی فهو واجب الوجود وهذا من انقلاب الممکن إلی الواجب وهو کما تری وأمّا من حیث النهایة فلأنّ سرّ حاجة الأشیاء إلی العلّة لو کان حدوثها یعنی وجوده الأول فلازم ذلک أنّها واجبة الوجود بقاء باعتبار أنّها مستغنیة عن العلّة ولا یغنی بالواجب الوجود إلاّ ذلک ونتیجة هذا هی انقلاب الممکن إلی الواجب وهو مستحیل بل إنّ هذه النظریة فی نفسها غیر معقولة وذلک لأنّ الوجود الأول للممکن علی ضوء هذه النظریة هو المعلول للعلّة فإذا کان معلوللا لها فهو عین الربط والتعلّق بها کالمعنی الحرفی وعلی هذا فلو کان وجوده الثانی مستغنیاً عن العلّة فهو کالمعنی الاسمی وواجب الوجود وهذا فی نفسه غیر معقول لأنّ معنی ذلک أنّ الممکن فی وجوده الأول المسمّی بالحدوث بحاجة إلی علّة ومربوط بها ذاتاً وحقیقة وفی وجوده الثانی غنی بالذات ونتیجة ذلک انقلاب الممکن إلی الواجب بالذات بقاء وکون وجوده

ص:353

الثانی لیس بقاء لوجوده الأول لأنّهما متباینان سنخاً باعتبار أنّ الأول ممکن والثانی واجب وکلاهما خلف.

فالنتیجة أنّ هذه النظریة باطلة ولا ترجع إلی معنی محصّل.

ومن هنا فالصحیح فی المقام أن یقال سرّ حاجة الأشیاء وهو إمکانها الوجودی وفقرها الذاتی فإنّها بالنظر الفلسفی العمیق عین التعلّق والربط بعللها لا أنّها شیء له الربط والتعلّق بها فإنّه لا ذات لها لأنّ ذاتها هی الربط والتعلّق ومن الطبیعی أنّه لا فرق فی ذلک بین الوجود الأول لها المسبوق بالعدم وبین الوجود الثانی المسبوق بالوجود الأول لأنّه ممکن والممکن عین الربط والفقر وإلاّ لزم الخلف ومن الواضح أنّ الربط لا یمکن بدون وجود ما یرتبط به والتعلّق بدون ما یتعلّق به ولهذا إذا زال ما یتعلّق به زال التعلّق إذ لا یعقل وجوده بدونه وإلاّ لزم أن یکون مستقلا فیه لا مربوطاً وهذا خلف فیکون حاله حال المعنی الحرفی ومن هنا یجب أن یکون المعلول معاصراً للعلّة لأنّه عین الربط بها ولا یعقل وجوده بدونها فیدور مدارها حدوثاً وبقاءً وهذا هو مبدأ التعاصر بین العلّة والمعلول وهذا المبدأ حتمی وضروری لأنّه ناشیء من عمق الارتباط بینهما ذاتاً ووجوداً کما أنّ مبدأ التناسب والسنخیة بینهما ضروری وحتمی باعتبار أنّ وجود المعلول من سنخ وجود العلّة ومرتبة من مراتب وجودها النازلة ولهذا یترشّح منها ویتولّد فلو کان المعلول موجوداً مستقلا أجنبیاً عن وجود العلّة استحال تأثیرها فیه بیان ذلک أنّ العلاقة بین شیئین تارةً تعبّر عن مجرّد ارتباط یعرض لهما فی الخارج بصورة عن وجودیهما ولذلک فالارتباط بینهما شیء ووجودهما فیه شیء آخر وذلک کالعلاقة بین الکاتب والقلم وبین القاریء والکتاب وبین الرسّام واللوحة وبین الجل والفرس وهکذا فإنّ ارتباط الکاتب بالقلم الذی یکتب به وارتباط القاریء

ص:354

بالکتاب الذی یقرأ فیه وارتباط الرسّام باللوحة التی یرسم علیها وهکذا سائر ألوان الارتباطات بین الأشیاء فی الخارج جمیعاً متأخّرة عن وجود المرتبطین فیه فإنّ الکاتب والقلم موجودان فی الخارج قبل أن یرتبط أحدهما بالآخر والرسّام واللوحة موجودان فیه قبل أن توجد عملیة الرسم والقاریء والکتاب موجودان قبل أن توجد عملیة القراءة وهکذا.

والخلاصة: أنّ هذه الارتباطات بجمیع ألوانها وأشکالها إنّما هی بین کیانین مستقلّین وتعرض علیهما فی مرتبة متأخّرة عن وجودیهما.

واُخری تعبّر عن تناسب ذاتی بین شیئین وسنخیة فی الوجود وهذه هی العلاقة بین العلّة والمعلول فإنّها تعبیر عن ارتباط المعلول بالعلّة ذاتاً وإنّ کیانه کیان ارتباطی وتعلّقی ولهذا کان قطع ارتباطه بالعلّة افناء له واعداماً لکیانه لأنّ کیانه یتمثّل فی ذلک الارتباط لأنّه عین الارتباط والفقر لا ذات له الارتباط ومن هنا یظهر سرّ حاجة الأشیاء إلی العلّة وهو أنّها عین التعلّقات والارتباطات بعللها وإنّ الارتباط والتعلّق مقوّم لکیانها ووجودها.

فلذلک لا یعقل انفکاکها عن العلّة وإلاّ لزم الخلف.

فالنتیجة أنّ حاجة الأشیاء إلی العلّة کامنة فی صمیم وجوداتها وأعماق ذواتها لأنّها بذاتها تعلّقات وارتباطات ولهذا تدور مدار العلّة حدوثاً وبقاءً.

وعلی ضوء هذا الأساس فلا وجه للتفصیل فی المسألة بین الضدّ الموجود والضدّ المعدوم وأنّ الأول لا یتوقّف علی عدم الضدّ المعدوم فلا یکون عدمه مقدّمة له وأمّا وجود الضدّ المعدوم فهو یتوقّف علی عدم الضدّ الموجود وارتفاعه فیکون عدمه مقدّمة له فإنّه مبنی علی أنّ الضدّ الموجود لا یحتاج فی بقائه إلی علّة وإنّما یحتاج إلیه فی حدوثه، ولکن قد مرّ فساد هذه النظریة وأنّها تبتنی علی عدم فهم معنی العلّیة فی الأشیاء.

ص:355

ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنّ عدم الضدّ مقدّمة للضدّ الآخر کالازالة إلاّ أنّه قد تقدّم فی مبحث المقدّمة عدم وجوبها وأنّه لا ملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدّماته نعم أنّها ثابتة فی مرحلة المبادیء بین إرادة شیء وإرادة مقدّماته وجداناً وأمّا بین وجوبه ووجوب مقدّمته فی مرحلة الاعتبار فهی غیر ثابتة علی تفصیل قد مرّ سابقاً.

ومع الاغماض عن ذلک أیضاً وتسلیم أنّ مقدّمة الواجب واجبة إلاّ أنّ المقدّمة الثالثة غیر صحیحة وهی أنّ وجوب ترک الضدّ کالصلاة مثلا یستلزم حرمة فعله فإنّ هذه المقدّمة غیر ثابتة فی مرحلة الاعتبار والجعل ولا ملازمة بین الأمر بشیء والنهی عن ضدّه بلا فرق فی ذلک بین الضدّ العام والخاص لأنّ ثبوتها بصورة قهریة کثبوت المعلول بثبوت علّته غیر معقولة لأنّ الحکم الشرعی أمر اعتباری صادر من المولی باختیاره مباشرة ولا یعقل فیه التسبیب علی تفصیل تقدّم وأمّا ثبوتها بصورة جعلیه فهو وإن کان ممکناً ثبوتاً إلاّ أنّه لا یمکن وقوعه فی الخارج بلحاظ أنّ هذه الملازمة الجعلیة بحاجة إلی مبرّر لها ولا مبرّر وبدونه فلا یمکن جعلها لأنّه لغو نعم أنّ الملازمة بینهما ثابتة فی مرحلة المبادیء بین إرادة ضدّ کالصلاة وکراهة فعله بالتبع وبالعکس.

وإن شئت قلت أنّ الأمر بشیء لا یدلّ علی النهی عن ضدّه العام لا بالمطابقة ولا بالتضمّن ولا بالالتزام أمّا الأوّلین فواضح لأنّ النهی عن ضدّه العام کما أنّه لیس تمام مدلول الأمر کذلک لیس جزء مدلوله.

وأمّا الثالث وهو الدلالة الالتزامیة فیتوقّف علی أن تکون الملازمة بین وجوب شیء وحرمة ضدّه العام بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخصّ و المفروض عدم ثبوت هذه الملازمة فضلاً عن کونها بنحو اللّزوم البیّن بالمعنی الاخص وذلک لأنّ الملازمة بنحو ترشّح حرمة الضدّ العام من الأمر قهراً کترشّح المعلول عن العلّة

ص:356

غیر معقولة فی الأحکام الشرعیة من سنخ واحد فضلا عمّا إذا کانت من سنخین متباینین روحاً واعتباراً وأمّا الملازمة بین جعل المولی الوجوب لشیء وجعل الحرمة لضدّه العام فهی وإن کانت ممکنة فی نفسها إلاّ أنّه یستحیل وقوعها فی الخارج لأنّ الحرمة الغیریة بما أنّه لا ملاک لها فیکون جعلها لغواً محضاً إذ لا یترتّب علیها أی أثر عملی فإذن لا یمکن صدوره من المولی الحکیم وقد تقدّم تفصیل ذلک فی الوجوب الغیری فی باب مقدّمة الواجب.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّ المقدّمات الثلاث:

1 - عدم أحد الضدّین مقدّمة للضدّ الآخر.

2 - وجوب المقدّمة.

3 - ثبوت الملازمة بین الأمر بالشیء والنهی عن ضدّه العام جمیعاً غیر تامّة وعلی هذا فالأمر بازالة النجاسة عن المسجد لا یدلّ علی وجوب ترک الصلاة من باب وجوب المقدّمة وعلی تقدیر الدلالة فوجوب ترک الصلاة لا یدلّ علی حرمة فعلها من باب أنّ الأمر بالشیء یدلّ علی النهی عن ضدّه العام.

الوجه الثانی: أنّ ترک الضدّ وإن لم یکن مقدّمة للضدّ الآخر إلاّ أنّهما متلازمان والمتلازمان لا یختلفان فی الحکم فلا یمکن أن یکون أحدهما واجباً والآخر محرّماً لاستلزام ذلک التکلیف بغیر المقدور فإذن لابدّ من أن یکونا متوافقین فی الحکم فإذا کان أحد الضدّین واجباً کان ترک الضدّ الآخر أیضاً کذلک فإذا کان ترکه واجباً کان فعله حراماً وهذا معنی أنّ الأمر بالشیء یدلّ علی النهی عن ضدّه فإذا کان حراماً کان فاسداً بملاک أنّ النهی عن العبادة یوجب فسادها.

والجواب أنّ هذا الدلیل مرکّب من مقدّمتین:

الاُولی: صغری القیاس وهی ثبوت الملازمة بین وجود شیء وعدم

ص:357

ضدّه.

الثانیة: کبراه وهی عدم جواز اختلاف المتلازمین فی الحکم ووجوب توافقهما فیه.

أمّا المقدّمة الاُولی فلا شبهة فی ثبوت الملازمة بین وجود شیء وترک ضدّه.

وأمّا المقدّمة الثانیة فیرد علیها أنّ الذی لا یمکن هو اختلاف المتلازمین فی الحکم لاستلزامه التکلیف بالمحال إذا کان اختلافهما فی الحکم الالزامی واللغویة إذا کان اختلافهما فی الحکم غیر الالزامی وأمّا لزوم توافقهما فیه فهو بلا مبرّر ولا موجب له أصلا لأنّ المحذور إنّما هو اختلافهما فی الحکم وهذا المحذور کما یندفع بتوافقهما فی الحکم کذلک یندفع بعدم ثبوت الحکم لأحدهما فإذن لا ملزم للالتزام بالأول دون الثانی بل لا یمکن الالتزام بالأول لا ثبوتاً ولا إثباتاً.

أمّا ثبوتاً فلأنّ سرایة الحکم من أحد المتلازمین إلی الملازم الآخر لا تخلو إمّا أن تکون بصورة قهریة کسرایة المعلول عن العلّة أو تکون بصورة جعلیة ولا ثالث لهما وکلاهما لا یمکن أمّا الأول فهو مستحیل لأنّ الوجوب أمر اعتباری وهو بید المولی مباشرة ولا یعقل فیه التسبیب والتولید لأنّه فعل مباشری لا تولیدی وقد مرّ تفصیل ذلک فی باب وجوب المقدّمة.

وأمّا الثانی فهو وإن کان ممکناً ذاتاً إلاّ أنّه یستحیل وقوعاً لأنّ جعل الحکم من المولی لا یمکن أن یکون جزافاً وبلا ملاک مبرّر له وعلی هذا فإذا أمر المولی بازالة النجاسة عن المسجد مثلا فلا مبرّر لأن یأمره بترک الصلاة فیه تبعاً وذلک لأنّه لا ملاک فیه علی الفرض والملاک إنّما هو قائم بالازالة وهو لا یقتضی إلاّ الأمر بها ومن هنا لا داعویة له إلاّ بداعویة الوجوب النفسی ولا

ص:358

امتثال له إلاّ بامتثاله ولهذا یکون وجوده وعدمه علی حدّ سواء وقد تقدّم تفصیل ذلک فی مبحث المقدّمة.

وأمّا إثباتاً فلأنّا لو سلّمنا إمکان الأمر بترک الصلاة تبعاً للأمر بالازالة فی مقام الثبوت وأنّه لا یکون لغواً وجزافاً إلاّ أنّه لا دلیل علیه فی مقام الاثبات وأمّا الدلیل الخارجی فهو مفروض العدم وأمّا الأمر بالازالة الذی یدلّ علی وجوبها مطابقة فهو لا یدلّ علی وجوب ترک الصلاة بالتبع التزاماً لأنّ الدلالة الالتزامیة متقوّمة بالملازمة بینهما بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخص والمفروض أنّه لا ملازمة بینهما کذلک ضرورة أنّ العرف لا یفهم من الأمر بالشیء إلاّ إیجابه دون إیجاب ما یلازمه وهو ترک ضدّه بالتبع ولا فرق فی ذلک بین أن یکون الضدّان من الضدّین الذین لا ثالث لهما کالحرکة والسکون ونحوهما أو من الضدّین الذین لهما ثالث کالسواد والبیاض والقیام والقعود ونحوهما فإنّ الملاک فی کلا القسمین واحد ثبوتاً وإثباتاً أمّا الأول فلأنّ سرایة الحکم من أحد المتلازمین إلی الآخر مستحیلة إمّا ذاتاً أو وقوعاً وأمّا الثانی فمع الاغماض عن الأول فلا دلیل علی هذه السرایة هذا. ولکن المحقّق النائینی (قدس سره) قد فصّل بین الضدّین الذین لا ثالث لهما والضدّین الذین لهما ثالث فالتزم بالسرایة فی الأول دون الثانی ولهذا قال أنّ الضدّین إذا لم یکن لهما ثالث فالأمر بأحدهما یدلّ علی النهی عن الآخر بالالتزام وإذا کان لهما ثالث فلا یدلّ علیه کذلک وإن شئت قلت: أنّه (قدس سره) قد التزم بالدلالة الالتزامیة فی النقیضین والمتقابلین بتقابل العدم والملکة والضدّین الذین لا ثالث لهما بدعوی أنّ الأمر بأحد النقیضین یدلّ علی النهی عن النقیض الآخر فإذا أمر المولی بالصلاة فهو یدلّ علی النهی عن ترکها وإذا أمر المولی بتحصیل العلم فهو یدلّ علی النهی عن الجهل المقابل للعلم بتقابل العدم والملکة وإذا أمر المولی بالحرکة فهو یدلّ علی النهی عن السکون بالالتزام

ص:359

بینما الأمر بالقیام لا یدلّ علی النهی عن القعود هذا(1).

والجواب أنّه لا وجه لهذا التفصیل إذ لا فرق فی ذلک بین الضدّین الذین لا ثالث لهما والضدّین الذین لهما ثالث أمّا أولا فلأنّ الملازمة بین الحکمین ثبوتاً غیر معقولة لا قهراً ولا جعلا ولا فرق فی ذلک بین أن یکونا بین الضدّین الذین لهما ثالث والضدّین الذین لا ثالث لهما وکذلک الحال فی النقیضین والمتقابلین بتقابل العدم والملکة فإنّ الملازمة بین الحکمین فیهما قهراً غیر معقولة فی نفسها وأمّا جعلا فهی وإن کانت معقولة إلاّ أنّها غیر واقعة جزماً بل وقوعها مستحیل لأنّها لغو وجزاف فلا یمکن صدورها من المولی الحکیم.

وأمّا ثانیا فعلی تقدیر تسلیم إمکان وقوع هذه الملازمة جزماً إلاّ أنّه لا دلیل علی وقوعها فی مقام الاثبات إلاّ دعوی أنّ الأمر المتعلّق بأحد النقیضین أو المتقابلین یدلّ بالالتزام علی حرمة الآخر ولکن هذه الدعوی لا أساس لها لأنّ تکوین الدلالة الالتزامیة له یتوقّف علی ثبوت الملازمة بینه وبین حرمة الآخر بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخص والفرض أنّه لا ملازمة بینهما کذلک عرفاً لوضوح أنّ الفرق لا یفهم من الأمر بالصلاة مثلا إلاّ وجوبها فحسب لا حکمان أحدهما وجوبها بالمطابقة والآخر حرمة ترکها بالالتزام ضرورة أنّه لا یتبادر منه فی ذهنه إلاّ الوجوب فقط فإذن کیف یمکن دعوی الدلالة الالتزامیة له مع أنّ تکوینها یتوقّف علی اللزوم البیّن بالمعنی الأخصّ والغرض أنّه لا ملازمة بینهما فی المقام فضلا عن کونها بنحو البیّن بالمعنی الأخص.

هذا إضافةً إلی أنّا لو قلنا بالدلالة الالتزامیة فی المقام فلا فرق بین الضدّین الذین لا ثالث لهما والضدّین الذین لهما ثالث غایة الأمر أنّ فی

-

ص:360


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 253.

القسم الثانی إذا تعلّق الأمر بالضدّ کالقیام مثلا دلّ علی وجوبه بالمطابقة و علی حرمة أضداده جمیعاً بالالتزام بملاک سدّ أبواب العدم من قبلها بینما هو فی القسم الأول یدلّ علی حرمة ضدّه المتمثّل فی شیء واحد بالالتزام بملاک سدّ باب العدم من قبله ومن الواضح أنّ هذا المقدار من الفرق غیر فارق بعدما کان القسمان مشترکین فی ملاک الدلالة الالتزامیة وهو سدّ باب العدم.

والخلاصة: أنّ ما بنی علیه المحقّق النائینی (قدس سره) من الالتزام بالدلالة الالتزامیة فی الموارد المذکورة من ناحیة والتفصیل بین الضدّین الذین لا ثالث لها والضدّین الذین لهما ثالث والالتزام بالدلالة الالتزامیة فی الأول دون الثانی من ناحیة اخری لا یرجع إلی معنی صحیح.

نتائج البحث

نستعرض نتائج البحث تطبیقاً وتوضیحاً فی النقاط التالیة:

النقطة الاُولی: أنّ الأمر بشیء لا یدلّ علی النهی عن ضدّه العام لا مطابقة ولا تضمّناً ولا التزاماً، أمّا الأول فإن ارید بالمطابقة، المطابقة فی مقام الاثبات والدلالة فلا ینبغی الاشکال فی صحّة استعمال الأمر بشیء کالصلاة مثلا فی مکان النهی عن ترکه وبالعکس فإنّ قولک صلّی کقولک لا تترک الصلاة من حیث المعنی لأنّ المعنی واحد وهو وجوب الصلاة ولکن قد یبرز ذلک المعنی بصیغة الأمر وقد یبرزه بصیغة النهی فالاختلاف إنّما هو فی التعبیر لا فی المعنی وإن ارید بها المطابقة فی مقام الثبوت و الواقع فلا واقع لها لأنّ النهی مختلف عن الأمر من مرحلة المبادیء إلی مرحلة الاعتبار.

النقطة الثانی: و هو الدلالة التضمّنیة فلا أصل له لأنّه مبنی علی أنّ الأمر

ص:361

ینحل إلی حکمین:

أحدهما: الوجوب.

والآخر: الحرمة.

وهذا کما تری.

وأمّا الثالث: وهو الدلالة الالتزامیة فهو ثابت فی مرحلة المبادیء بین إرادة شیء وکراهة ترکه تبعاً ومحبوبیة شیء ومبغوضیة ترکه کذلک.

وهذه الملازمة ثابتة وجداناً لا برهاناً وأمّا فی مرحلة الاعتبار فلا ملازمة بین اعتبار الوجوب لشیء واعتبار الحرمة لترکه کما مرّ.

النقطة الثانیة: أنّ العلّة التامّة مرکّبة من أجزاء ثلاثة:

1 - المقتضی.

2 - الشرط.

3 - عدم المانع.

وهذه الأجزاء الثلاثة طولیة رتبةً، فالمقتضی الجزء الأول لها لأنّه فاعل ومتقدّم علی الشرط رتبة لأنّ الشرط إنّما یکون جزءاً لها عند ثبوت المقتضی علی أساس أنّه متمّم لفاعلیته لا مطلقاً وعدم المانع إنّما یکون جزءً لها باعتبار أنّ وجوده مانع عن تأثیر المقتضی وفعلیة فاعلیته وإلاّ فالعدم بما هو عدم لا یعقل أن یکون جزءً لها فالجزئیة إنّما هی بلحاظ أنّ وجوده مانع.

ومن الواضح أنّه إنّما یتّصف بالمانعیة عند تحقّق المقتضی والشرط وإلاّ فلا یتّصف بالمانعیة هذا بلحاظ الجزئیة وأمّا بلحاظ التأثیر فالجمیع فی مرتبة واحدة فإنّ الفاعل والمؤثّر بالمباشرة المقتضی لا الشرط ولا عدم المانع غایة الأمر أنّ الشرط مصحّح لفاعلیته ومتمّم لها وعدم المانع باعتبار أنّ وجوده مانع عن فعلیة فاعلیته ولهذا یختلف تأثیر کل جزء من أجزاء العلّة التامّة فی

ص:362

المعلول عن تأثیر الآخر فیه فالمقتضی مؤثّر فیه مباشرة وأمّا الشرط فهو لا یکون مؤثّراً فیه کذلک بل هو کما عرفت متمّم لفاعلیته وعدم المانع بلحاظ أنّ وجوده مانع.

النقطة الثالثة: أنّ عدم المعلول عند عدم المقتضی مستند إلیه ولا یعقل أن یکون مستنداً إلی انتفاء الشرط لأنّ الشرط لا یتّصف بالشرطیة إلاّ عند ثبوت المقتضی وإذا تحقّق المقتضی دون الشرط فعدم المعلول مستند إلی انتفاء الشرط لا إلی وجود المانع لأنّه لا یتّصف بالمانعیة إلاّ عند ثبوت المقتضی والشرط معاً، فإذا تحقّق الشرط أیضاً فعدم المعلول حینئذ مستند إلی وجود المانع.

النقطة الرابعة: أنّ عدم الضدّ عند وجود الضدّ الآخر لا یمکن أن یکون مستنداً إلی وجوده لأنّه إنّما یتّصف بالمانعیة عند ثبوت المقتضی للآخر والشرط معاً وإلاّ فهو مستند إلی عدم ثبوت المقتضی أو عدم الشرط لا إلی وجود ضدّه لکی یتّصف وجوده بالمانعیة فهنا عدّة فروض:

الأول: أن لا یکون المقتضی للضدّ الآخر موجوداً.

الثانی: أن یکون المقتضی له موجوداً ولکنّه أضعف من مقتضی الضدّ الموجود بدرجة لا یصلح أن یزاحمه.

الثالث: أن یکون مساویاً له.

الرابع: أن یکون أقوی منه.

أمّا الفرض الرابع فهو باطل جزماً بداهة أنّ مقتضی الضدّ المعدوم لو کان أقوی من مقتضی الضدّ الموجود لکان مؤثّراً فی إیجاده ومانعاً عن تأثیره فی الأول فلا یعقل وجوده حینئذ.

وأمّا الفرض الثالث فهو أیضاً غیر معقول إذ مع افتراض تساوی المقتضی

ص:363

لکل منهما مع مقتضی الآخر عدم وجود شیء منهما فی الخارج لأنّ کلا منهما یزاحم الآخر ومانع عن تأثیره فی إیجاده والحکم بأنّ هذا مؤثّر دون ذاک ترجیح من غیر مرجّح فإذن وجود أحدهما دون الآخر کاشف عن أنّ مقتضیه تامّ ومؤثّر فی إیجاده ومانع عن تأثیر مقتضی الآخر فیه.

وأمّا علی الفرض الأول فعدمه مستند إلی عدم مقتضیه وأمّا علی الفرض الثانی فهو مستند إلی ضعف مقتضیه ونقصان فاعلیته من جهة اقوائیة مقتضی الآخر.

فالنتیجة أنّ عدم الضدّ فی جمیع هذه الفروض لا یکون مستنداً إلی وجود الضدّ الآخر بل هو مستند إمّا إلی عدم ثبوت مقتضیه نهائیاً أو إلی ضعفه ونقصان فاعلیته من جهة عدم تحقّق شرطه المتمّم لها.

النقطة الخامسة: ذکر المحقّق النائینی (قدس سره) أنّه مع وجود أحد الضدّین یستحیل ثبوت المقتضی للضدّ الآخر معلّلا بأنّ مقتضی المحال محال(1).

وأورد علیه السیّد الاُستاذ (قدس سره) بأنّه لا مانع من ثبوت المقتضی لکل من الضدّین فی نفسه ولا مانع حینئذ من أن یستند عدم أحدهما إلی وجود الآخر لا إلی عدم مقتضیه وهذا لیس من مقتضی المحال لکی یکون محالا فإنّ المحال إنّما هو ثبوت المقتضی لاجتماع الضدّین أو النقیضین فی شیء واحد فعلا والفرض أنّه لیس هناک ما یقتضی اجتماعهما فیه کذلک وقد برهن (قدس سره) ذلک بأنّ عدم الضدّ لو استحال استناده إلی وجود الضدّ الآخر استحال استناد عدم المعلول إلی وجود المانع أیضاً مع أنّ الأمر لیس کذلک(2).

-

.

ص:364


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم: ص 208
2- (2) - نفس المصدر: ص 210.

النقطة السادسة: أنّ ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من أنّه لا مانع من ثبوت المقتضی لکل من الضدّین فی نفسه وبقطع النظر عن الآخر وإن کان صحیحاً وموافقاً للوجدان إلاّ أنّ ما ذکره (قدس سره) من أنّه لا مانع من أن یکون عدم أحد الضدّین فی هذه الحالة مستنداً إلی وجود الآخر غیر تامّ لأنّه إنّما یتمّ لو کان اقتضاء المقتضی للضدّ المعدوم مطلقاً وغیر مشروط بعدم اقتضاء المقتضی للضدّ الموجود لأنّ علّته التامّة حینئذ لا تتمّ إلاّ بعد الضدّ الموجود ولکن هذا من اقتضاء المحال فإنّ معنی ذلک أنّ مقتضی البیاض یقتضی وجود البیاض حتّی فی الجسم الأسود وهو محال لأنّ بیاض الأسود محال واقتضاؤه یکون من اقتضاء المحال.

النقطة السابعة: أنّ وجود أحد الضدّین فی الخارج کاشف عن أنّ علّته التامّة بکامل أجزائها قد تحقّقت وعدم وجود الآخر کاشف عن أنّ علّته التامّة لم تتحقّق فیکون مستنداً أمّا إلی عدم ثبوت المقتضی له أصلا أو إلی أنّ فاعلیته ناقصة من جهة مزاحمته بالأقوی فعندئذ یکون مستنداً إلی نقص فاعلیته المقتضی یعنی انتفاء الشرط ولا یمکن أن یکون عدمه مستنداً إلی وجود الضدّ الآخر لأنّ معنی ذلک أنّ المقتضی له تامّ الفاعلیة والمانع عن تأثیره وجود الضدّ الآخر ولازم ذلک أنّ اقتضاء مقتضیه مطلق وفی عرض اقتضاء مقتضی الآخر وغیر مشروط بعدم اقتضائه وهذا من اقتضاء المحال فیکون محالا ولهذا فلا یمکن أن یکون عدم الضدّ من أجزاء العلّة التامّة لتکون وجوده مانعاً.

النقطة الثامنة: فرق بین المانع الذی یکون عدمه من أجزاء العلّة التامّة وبین مانعیة وجود الضدّ عن الضدّ الآخر بوجوه ثلاثة تقدّمت.

النقطة التاسعة: أنّ المحل قابل لکل من الضدّین فی نفسه وبقطع النظر عن الآخر غایة الأمر أنّه مع وجود أحدهما فیه لا یقبل الآخر فعدم قبوله إنّما

ص:365

هو من جهة وجود الضدّ الأول لا فی ذاته.

النقطة العاشرة: أنّ وجود أحد الضدّین لو کان مانعاً عن وجود الضدّ الآخر لزم الدور فإنّ لازم ذلک أنّ وجود السکون یتوقّف علی عدم الحرکة من باب توقّف المعلول علی عدم مانعه ووجود الحرکة یتوقّف علی عدم السکون بنفس الملاک وعدم الحرکة یتوقّف علی وجود السکون من باب توقّف الممنوع علی المانع وهذا هو الدور.

النقطة الحادیة عشر: أنّ ما ذکره المحقّق الخراسانی (قدس سره) من أنّه إذا وجد أحد الضدّین دون الآخر کان ذلک کاشفاً عن عدم تعلّق الإرادة الأزلیة به(1) وإلاّ لما تخلّفت عن المراد غیر سدید فإنّ الارادة الأزلیة لم تتعلّق بالضدّ المعدوم مباشرة وإنّما تتعلّق بمبادئه وبرهان عدم التخلّف علی تقدیر صحّته لا یقتضی أکثر من عدم تعلّقها بالعلّة التامّة له ومن الواضح أنّه لا یدلّ علی انتفائها بکامل أجزائها إذ کما یمکن ذلک یمکن أن یکون المنتفی الجزء الأخیر منها وهو عدم المانع.

النقطة الثانیة عشر: ذکر صاحب الکفایة (قدس سره) أنّ التمانع بین الضدّین بمعنی المعاندة والمنافرة بینهما وهی لا یتقتضی أکثر من استحالة اجتماعهما فی موضوع واحد فی عالم التحقّق بلا تقدّم وتأخّر لأحدهما علی الآخر رتبة، وقد فسّر هذه العبارة بتفسیرین:

أحدهما: من المحقّق الأصفهانی (قدس سره) والآخر من السیّد الاُستاذ (قدس سره) وتقدّم المناقشة فی ظاهر عبارة الکفایة من جهة وفی التفسیرین من جهة اخری فلاحظ.

النقطة الثالثة عشر: أنّ المقتضی للضدّین کالسواد والبیاض أو الحرکة

-

ص:366


1- (1) - نفس المصدر المتقدّم: ص 218.

والسکون لا یخلو من أن یکون موجوداً لأحدهما دون الآخر أو موجوداً لکل منهما فی نفسه وبقطع النظر عن الآخر وعلی الثانی فإمّا أن یکونا متساویین اقتضاءً ویکون أحدهما أقوی من الآخر ولا رابع فی البین فعلی الأول یکون عدم الضدّ الآخر مستنداً إلی عدم مقتضیه وعلی الثانی فاقتضاء کل منهما أثره مقیّد بعدم اقتضاء الآخر علی أساس أنّ اقتضاء کل منهما یزاحم اقتضاء الآخر بنفس المستوی فإذن لا محالة یکون تأثیر کل منهما أثره منوط بعدم تأثیر الآخر.

النقطة الرابعة عشر: أنّ ما ذکر من التفصیل بین الضدّ الموجود والضدّ المعدوم وإنّ الأول لا یتوقّف علی الثانی بینما الثانی یتوقّف علی ارتفاع الأول واعدامه مبنی علی نقطة خاطئة وهی إنّ سرّ حاجة الأشیاء إلی مبدأ العلّیة کامنة فی حدوثها وهو وجودها الأول لا فی إمکانها الوجودی وفقرها الذاتی.

وقد تقدّم أنّ نظریة الحدوث نظریة خاطئة جدّاً ولا واقع موضوعی لها لأنّها أسرفت فی تحدید مبدأ العلّیة بحدوث الأشیاء واستغنائها عنها بقاءً ومن الواضح أنّ ذلک بالتحلیل لا یرجع إلی معنی معقول بل هو خلاف الضرورة.

النقطة الخامسة عشر: قد یستدل علی نظریة الحدوث بظواهر مجموعة من الأشیاء الکونیة التی تکشف عن استمرار وجود المعلول بعد زوال العلّیة کالعمارات والبنایات وغیرهما من الأشیاء المستحدثة بجهود فنّ العمّال والفنیین فإنّها تبقی بعد انتهاء علّتها وهی عملیة البناء أو کالجبال والبحار والکواکب فی هذا الفضاء الهائل فإنّها تبقی بعد حدوثها بدون علّة مباشرة لها.

والجواب أنّ فی هذا الدلیل خلط بین علّة حدوثها وعلّة بقائها فإنّ علّة حدوثها حرکات أیدی العمّال والفنّانین والمهندسین وأمّا علّة بقائها إلی أمد بعید بعد انتهاء عملیة البناء أمران:

ص:367

الأول: الخصائص الذاتیة الموجودة فی مواد هذه الأشیاء.

الثانی: القوّة الجاذبة العامّة التی تفرض المحافظة علی وضعها الخاصّ وکذلک الحال فی الأشیاء الکونیة الطبیعیة.

النقطة السادسة عشر: أنّ ما قیل من أنّ عدم الضدّ ملازم للضدّ الآخر والمتلازمان لا یمکن أن یختلفا فی الحکم بل لابدّ من أن یکونا متوافقین فیه خاطیء فإنّ المتلازمین لا یمکن أن یختلفا فی الحکم وأمّا إنّه لابدّ أن یکونا متوافقین فیه فلا موجب له.

ثمرة المسألة:

اشارة

أمّا ثمرة المسألة فقهیاً فقد تقدّم فی أوّل بحث الاُصول موسّعاً أنّه لا یترتّب علی هذه المسألة ثمرة فقهیة مباشرة وقد تقدّم أیضاً أنّ اصولیة المسألة مرهونة بترتّب ثمرة فقهیة علیها کذلک ومن هنا قلنا هناک أنّ هذه المسألة لیست من المسائل الاُصولیة بل هی من المبادیء التصدیقیة لها فإنّ الثمرة الفقهیة مترتّبة علی مسألة اخری مباشرة کمسألة الترتّب ونحوها وهذه المسألة صغری لها هذا.

ولکن ذکر الأصحاب ثمرة لهذه المسألة فی موردین:

المورد الأول: إذا وقعت المزاحمة بین واجب موسع و واجب مضیّق
اشارة

الأول: فیما إذا وقعت المزاحمة بین واجب موسّع کالصلاة مثلا فی أوّل الوقت وواجب مضیّق کإزالة النجاسة عن المسجد فوراً.

الثانی: فیما إذا وقعت المزاحمة بین واجبین مضیّقین یکون أحدهما أهمّ من الآخر کالصلاة فی آخر الوقت مع الازالة.

ما اختاره المحقق الثانی من ظهور الثمرة بین القولین فعلی القول بالاقتضاء تقع العبادة فاسدة و علی القول بعدم الاقتضاء تقع صحیحة

أمّا فی المورد الأول: فقد اختار المحقّق الثانی (قدس سره) وتبعه فیه جماعة من الاُصولیین أنّ الثمرة تظهر فیه بین القولین فعلی القول بالاقتضاء تقع العبادة

ص:368

فاسدة وعلی القول بعدم الاقتضاء تقع صحیحة(1) ، بیان ذلک أنّ الأمر المتعلّق بالواجب الموسّع کالصلاة وإن کان متعلّقاً بالطبیعی الجامع بین افراده العرضیة والطولیة ولا مزاحمة بینه وبین الأمر المتعلّق بالواجب المضیّق لتمکّن المکلّف من امتثال کلا الأمرین معاً بدون أی مزاحمة بینهما إلاّ أنّ المزاحمة إنّما هی بین فرده والواجب المضیّق وعلی هذا فالأمر بالواجب المضیّق کالازالة وإن لم یدلّ علی النهی عن الواجب الموسّع إلاّ أنّه یدلّ علی النهی عن الفرد المقارن للواجب المضیّق زماناً والفرد وإن لم یکن بمأمور به لا بالمباشرة ولا بالسرایة لفرض أنّ الأمر لا یسری من الطبیعی إلی افراده إلاّ أنّه لا یمکن تطبیق الطبیعی المأمور به کالصلاة مثلا علی الفرد المزاحم المنهی عنه فعلا لأنّ الحرام لا یمکن أن یکون مصداقاً للواجب، وعلیه فإذا قام المکلّف وأتی بهذا الفرد المزاحم فلا یمکن الحکم بالصحّة لأنّها منتزعة من انطباق المأمور به علی الفرد المأتی به والمفروض أنّه لا ینطبق علیه فإذن لابدّ من تقیید اطلاق الواجب الموسّع کالصلاة بغیر هذا الفرد المزاحم باعتبار أنّه لا ینطبق علیه هذا علی القول بالاقتضاء.

وأمّا علی القول بعدم الاقتضاء فلا یکون الفرد المزاحم منهیّاً عنه لأنّ الأمر بالازالة حینئذ لا یقتضی إلاّ عدم الأمر بالفرد المزاحم علی أساس أنّ الأمر به یستلزم التکلیف بغیر المقدور فإذا لم یکن الفرد المزاحم منهیاً عنه فلا مانع من انطباق الصلاة المأمور بها علیه کانطباقها علی غیره من افرادها لأنّها إنّما لا تنطبق علی الفرد المحرّم والمفروض أنّ الفرد المزاحم لیس بمحرّم ومجرّد أنّه مزاحم للواجب المضیّق لا یمنع من الانطباق فإذا قام المکلّف بالاتیان بالصلاة فی هذا الوقت وترک فیه الواجب المضیّق فإنّه وإن أثم علی

-

ص:369


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 262.

ترک الواجب المضیّق إلاّ أنّ ذلک لا یمنع عن صحّة الصلاة المأتی بها لانطباق الواجب علیها إذ لا فرق فی صحّة الانطباق بین الفرد المزاحم وغیره من الأفراد لأنّه کغیره فی الوفاء بالغرض غایة الأمر أنّه لا یمکن تقیید اطلاق المأمور به بخصوص هذا الفرد لاسلتزامه طلب الجمع بین الضدّین وأمّا تقییده بغیره من الأفراد فلا مانع من هذه الناحیة.

وإن شئت قلت أنّه لا موجب لتقیید إطلاق الصلاة المأمور بها بغیر الفرد المزاحم بعد ما کان حاله حال سائر الأفراد فی الوفاء بالغرض فإذن لا مانع من انطباقها علیه فإنّ المانع عنه إنّما هو فیما إذا کان مبغوضاً ومشتملا علی مفسدة وإلاّ فلا موجب لا للتقیید بغیره من الأفراد ولا لعدم الانطباق علیه والنکتة فی ذلک أنّ متعلّق الوجوب صرف وجود الطبیعة الخالیة عن جمیع الخصوصیات الفردیة والصنفیة فإنّها جمیعاً خارجة عن متعلّق الأمر فمتعلّق الأمر الطبیعی الجامع بین جمیع افراده بلا فرق بین الفرد المزاحم وغیره من الأفراد هذا ولکن غیر خفی أنّ هذه المسألة وهی المزاحمة بین الواجب الموسّع والواجب المضیّق لیست من أفراد المسألة الضدّ لأنّ مسألة الضدّ عنوان المسألة الملازمة بین الأمر بالشیء والنهی عن ضدّه العبادی وعدم الملازمة بینهما.

ومن الواضح أنّ هذه الکبری لا تنطبق علی هذه المسألة باعتبار أنّه لا مضادّة بین الواجب الموسّع والواجب المضیّق ولا مزاحمة بینهما واقعاً لتمکّن المکلّف من امتثال کلا الواجبین معاً بدون أی مزاحمة بینهما فی هذه المرحلة أی مرحلة الامتثال وعلی هذا فلا یقتضی الأمر بالواجب المضیّق النهی عن الواجب الموسّع علی تقدیر القول بالملازمة بینه وبین النهی عن ضدّه إذ لا مانع من أن یکون الأمر بکلا الواجبین المذکورین فعلیاً فی عرض واحد فإذن لا موضوع لهذا النزاع فی هذه المسألة ولا منشأ لتوهّم هذه الملازمة فموضوع

ص:370

النزاع فی المسألة هو ما إذا کانت بین الواجبین مضادّة بحیث لا یمکن الأمر بکلیهما معاً فی عرض واحد لعدم تمکّن المکلّف من الجمع بینهما فی مرحلة الامتثال کما فی الواجبین المضیّقین بینما فی هذه المسألة یمکن الأمر بالازالة والصلاة معاً بدون أی تنافی بینهما هذا.

جواب المحقق النائینی علی ما اختاره المحقق الثانی

وقد أورد المحقّق النائینی (قدس سره) علی المحقّق الثانی فی المقام بأنّ ما ذکره یرجع إلی دعویین طولیین:

الاُولی: أنّ ما ذکره (قدس سره) من الثمرة بین القولین فی هذه المسألة مبنی علی أن یکون اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف بحکم العقل لا باقتضاء نفس التکلیف.

الثانیة: أنّه مبنی علی أن لا یکون متعلّق التکلیف حصّة خاصّة وهی الحصّة المقدورة فحسب.

أمّا الدعوی الاُولی فهی مدفوعة بأنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف إنّما هو باقتضاء نفس الخطاب الشرعی لا بحکم العقل علی أساس أنّ الغرض من جعل التکلیف شرعاً إنّما هو إیجاد الداعی فی نفس المکلّف وتحریکه نحو الاتیان بمتعلّقه ومن الطبیعی أنّ الداعی لا یتحقّق فی نفس المکلّف ولا یوجد فیها إلاّ إذا کان متعلّقه مقدوراً له وإلاّ فلا یمکن إیجاد الداعی فیها(1).

وإن شئت قلت أنّ جعل التکلیف حیث إنّه لا یمکن أن یکون جزافاً فلا محالة یکون الغرض منه إیجاد ما یمکن انبعاث المکلّف عنه وتحرّکه نحو امتثاله والاتیان بمتعلّقه ومن الواضح أنّه لا یمکن ذلک إلاّ إذا کان متعلّقه مقدوراً لاستحالة الانبعاث نحو الممتنع.

-

ص:371


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 262-263.

فإذن لا یصل الدور إلی حکم العقل باعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف من باب قبح تکلیف العاجز لأنّ العقل إنّما یحکم بذلک إذا لم یکن التکلیف بذاته مقتضیاً کون متعلّقه حصّة خاصّة وهی الحصّة المقدورة فی المرتبة السابقة لوضوح أنّ الاستناد إلی أمر ذاتی فی مرتبة سابقة علی الاستناد إلی أمر عرضی فإذا کان الغرض من البعث انبعاث المکلّف نحو الفعل فمن الطبیعی أنّه لا یمکن الانبعاث نحو الممتنع وحصول الداعی له إلی إیجاده فإذا امتنع الانبعاث والداعویة امتنع جعل التکلیف لأنّه لغو.

والخلاصة أنّ بعث المولی بذاته یقتضی کون متعلّقه مقدوراً سواءً أکان للعقل حکم فی هذا الباب أم لا فإنّه متأخّر عن ثبوت التکلیف ومتفرّع علیه.

وأمّا الدعوی الثانیة التی هی متفرّعة علی الدعوی الاُولی فلأنّ متعلّق التکلیف إذا کان حصّة خاصّة وهی الحصّة المقدورة فلا محالة تختصّ بالأفراد المقدورة ولا تعمّ غیرها وعلی هذا فلا محالة یکون متعلّق التکلیف مقیّداً بغیر الفرد المزاحم للواجب المضیّق لأنّه وإن کان مقدوراً عقلا ولکنّه غیر مقدور شرعاً علی کلا القولین فی المسألة ونتیجة ذلک أنّ المأمور به لا ینطبق علی الفرد المزاحم فإذا لم ینطبق علیه فهو محکوم بالفساد مطلقاً حتّی علی القول بعدم الاقتضاء فإذن لا تظهر الثمرة بین القولین فی المسألة.

نعم تظهر الثمرة بینهما فی المسألة علی القول بأنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف إنّما هو بحکم العقل من باب حکمه بقبح تکلیف العاجز علی أساس أنّ العقل لا یحکم بأکثر من کون متعلّق التکلیف مقدوراً والفرض أنّ الجامع بین المقدور وغیر المقدور مقدور فإذا کان الجامع بینهما مقدوراً حکم العقل بصحّة التکلیف به ولا یکون ذلک من تکلیف العاجز حتّی یحکم العقل بقبحه وعلی هذا فالمأمور به هو الصلاة الجامعة بین الفرد المزاحم وغیره من

ص:372

الأفراد ولا مانع من تعلّق الأمر بها ولا یکون من التکلیف بالمحال کیف فإنّ المکلّف متمکّن منها وعلی هذا فعلی القول بالاقتضاء حیث أنّ الفرد المزاحم منهی عنه فلابدّ من تقیید المأمور به بغیره من الأفراد لأنّ الحرام لا یمکن أن یکون مصداقاً للواجب وعلی هذا فإذا أتی المکلّف بالفرد المزاحم حکم بفساده لعدم انطباق المأمور به علیه وأمّا علی القول بعدم الاقتضاء فیحکم بصحّته لإطلاق المأمور به وانطباقه علیه ومجرد وقوع التزاحم بینه وبین الواجب المضیّق لا یوجب تقیید إطلاق الواجب الموسّع بغیره فإذن لا مانع من الحکم بالصحة هذا.

وقد أورد علی الدعوی الاُولی السیّد الاُستاذ (قدس سره) بأنّها مبنیة علی مسلک المشهور فی باب الانشاء بتقریب أنّ المنشأ بصیغة الأمر أو ما شاکلها إنّما هو الطلب والبعث نحو الفعل الاختیاری الإرادی والبعث والطلب التشریعی عبارة عن تحریک عضلات العبد نحو الفعل بإرادته واختیاره وجعل الداعی له ومن الطبیعی أنّ جعل الداعی إنّما یمکن فی خصوص الفعل الاختیاری ضرورة أنّه لا یمکن البعث نحو الفعل الممتنع وطلبه عن المکلّف فإذن لا تصل النوبة إلی حکم العقل لأنّه إنّما یحکم بذلک إذا لم یکن التکلیف بنفسه مقتضیاً ذلک فی المرتبة السابقة(1) ، ثمّ ناقش (قدس سره) أنّ ما هو المشهور بین الأصحاب من أنّ الانشاء عبارة عن إیجاد المعنی باللفظ لا أساس له أصلا فإنّه لا یمکن أن یراد به الإیجاد التکوینی ضرورة أنّ اللفظ لم یکن واقعاً فی سلسلة علل وجوده علی تفصیل تقدّم فی غیر مورد وکذلک لا یمکن أن یراد به الایجاد الاعتباری لأنّ الاعتبار خفیف المؤونة یوجد بنفس اعتبار المعتبر سواءً أکان هناک لفظ أم لم یکن.

-

ص:373


1- (1) - المحاضرات ج 3: ص 60.

فالنتیجة أنّ ما هو المشهور فی تفسیر الانشاء غیر تامّ فالصحیح أنّ الانشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج بمبرز وعلیه فحقیقة التکلیف عبارة عن اعتبار المولی الفعل علی ذمّة المکلّف وابرازه فی الخارج بمبرز ما من قول أو فعل ومن هنا ذکر أنّ صیغة الأمر لا تدلّ علی الوجوب مباشرة وإنّما تدلّ علی إبراز الأمر الاعتباری وینتزع منه العقل الوجوب طالما لم تکن هناک قرینة علی الترخیص فی الترک.

ونتیجة ذلک هی أنّ التکلیف بهذا التفسیر لا یقتضی اعتبار القدرة فی متعلّقه لوضوح أنّ اعتبار المولی الفعل علی ذمّة المکلّف وابرازه فی الخارج بمبرز لا یقتضی بنفسه أن یکون الفعل مقدوراً علی أساس أنّه لا یلزم المکلّف بالاتیان به بنفسه لکی یقتضی کونه مقدوراً فإنّ الزامه به إنّما هو بحکم العقل إذا لم تکن هناک قرینة علی الترخیص فی الترک فإذن یصل دور العقل فی ذلک وهو لا یحکم إلاّ باعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف بملاک قبح تکلیف العاجز فی مقام الامتثال فحسب لا مطلقاً حتّی فی مقام الجعل فإنّه لا مبرّر له فإذا کان المکلّف قادراً علی الامتثال فی ظرفه وإن لم یکن قادراً علیه فی ظرف الجعل کفی فی صحّة التکلّف ولا یکون جعله لغواً ولا قبیحاً.

ثمّ إنّ من الطبیعی أنّ العقل لا یحکم بأزید من کون متعلّق التکلیف مقدوراً للمکلّف والمفروض أنّ الجامع بین المقدور وغیره مقدور إذ یکفی فی القدرة علیه القدرة علی إیجاد بعض افراده فإذن لا مانع من کون متعلّق التکلیف الجامع بین المقدور وغیر المقدور ولا ملزم لتقییده بخصوص المقدور عقلا وشرعاً.

ومع الإغماض عن ذلک وتسلیم أنّ التکلیف بنفسه یقتضی کون متعلّقه مقدوراً فمن الواضح أنّه لا یقتضی أکثر من کونه مقدوراً بملاک أنّ الإنبعاث لا

ص:374

یمکن نحو الممتنع والمفروض أنّ الجامع بین المقدور وغیر المقدور مقدور ولا مانع من الإنبعاث نحوه وإیجاد الداعی إلیه.

فالنتیجة أنّ التکلیف کحکم العقل فلا یقتضی أکثر من کون متعلّقه مقدوراً حتّی لا یلزم الانبعاث نحو الممتنع ولا یقتضی کون متعلّقه خصوص الحصّة المقدورة(1).

والخلاصة أنّ فی المسألة ثلاث نظریات:

الاُولی: نظریة السیّد الاُستاذ (قدس سره).

الثانیة: نظریة المحقّق النائینی (قدس سره).

الثالثة: نظریة المحقّق الثانی (قدس سره).

ولنا تعلیق علی هذه النظریات الثلاث جمیعاً.

التعلیق علی نظریة السید الأستاذ

أمّا التعلیق علی النظریة الاُولی وهی نظریة السیّد الاُستاذ (قدس سره) فیتمثّل أولا فیما ذکرناه فی بحث الانشاء والإخبار موسّعاً.

وملخّصه: أنّ الصحیح فی باب الإنشاء هو تفسیر المشهور وهو إیجاد المعنی باللفظ فی دعائه علی أساس أنّ المقصود من الإیجاد فی هذا الباب إنّما هو الإیجاد التصوّری الذی هو معنی الانشاء وضعاً ولیس المراد منه الإیجاد التصدیقی الخارجی أو الذهنی بداهة أنّ اللفظ لیس علّة لهذا الإیجاد ولا واقعاً فی سلسلة علله إذ من غیر المحتمل أن یکون هذا هو مراد المشهور من الإیجاد کیف فإنّهم فی مقام بیان المعنی الموضوع له للإنشاء والمفروض أنّه تصوّری لا تصدیقی عندهم لأنّهم یرون الدلالة الوضعیة دلالة تصوّریة لا تصدیقیة والمدلول الوضعی مدلولا تصوّریاً لا تصدیقیاً واللفظ بسبب الوضع

-

ص:375


1- (1) - المحاضرات ج 3: ص 63.

یدلّ علیه ولا فرق فی ذلک بین الانشاء والإخبار لأنّ الجملة الإنشائیة موضوعة للدلالة علی إیجاد النسبة بإیجاد تصوّری سواءً کانت النسبة الطلبیة المولویة أم الترجّیة أو التمنیّة أو الاستفهامیة أو غیرها من النسب الإنشائیة والجملة الخبریة موضوعة للدلالة علی النسبة الحکائیة التصوّریة فإنّها مدلول وضعی للجملة الخبریة والایجادیة التصوّریة مدلول وضعی للجملة الإنشائیة ونقصد بالحکائیة التصوّریة النسبة التی تلحظ بالنظر التصوّری کافیة فی أمر مفروغ عنه فی الخارج فإذا سمع زید قائم من لافظ بغیر شعور واختیار انتقل الذهن إلی النسبة بینهما الملحوظة بالنظر التصوّری فانیة فی أمر مفروغ عنه فی الخارج تصوّراً لا واقعاً، ونقصد بالنسبة الإیجادیة النسبة التی تلحظ بالنظر التصوّری فانیة فی أمر یری ثبوته بنفس الجملة، ومن هنا قلنا فی باب الوضع أنّ الدلالة الوضعیة دائماً دلالة تصوّریة فإنّ الوضع علی غیر مسلک التعهّد لا یصلح أن یکون منشأً وعلّة لأکثر من الدلالة التصوّریة لأنّها مستندة إلی الوضع بعد ما لم تکن دلالة الألفاظ علی معانیها ذاتیة وأمّا الدلالة التصدیقیة فهی تتوقّف بتمام أقسامها زائداً علی الوضع علی عنایة اخری مثلا الدلالة الاستعمالیة فإنّها تتوقّف علی إرادة المستعمل وقصده استعمال اللفظ فی معناه والدلالة التفهیمیة تتوقّف علی إرادة المستعمل تفهیم المعنی زائداً علی إرادة استعماله فیه والدلالة الجدّیة تتوقّف زائداً علی کل ذلک علی إرادته عن جدّ.

وأمّا تفسیر السیّد الاُستاذ (قدس سره) الانشاء بإبراز الأمر الاعتباری النفسانی فهو مبنی علی مسلکه (قدس سره) فی باب الوضع من أنّه عبارة عن التعهّد والالتزام النفسانی فإنّ الوضع بهذا المعنی لا یتعلّق إلاّ بالأمر الاختیاری ضرورة أنّه لا معنی للتعهّد والالتزام بشیء ممتنع والأمر الاختیاری فی الجمل الانشائیة هو قصد إبراز الأمر الاعتباری النفسانی وفی الجمل الخبریة هو قصد الحکایة

ص:376

ومن هنا تکون الدلالة الوضعیة علی أساس هذا المسلک دلالة تصدیقیة لا تصوّریة لأنّ قصد تفهیم المعنی مأخوذ فی المعنی الموضوع له أو فی العلقة الوضعیة وبذلک یتّضح أنّ اختلاف السید الاُستاذ (قدس سره) مع المشهور فی تفسیر الانشاء إنّما هو ناشیء من الاختلاف بینهما فی حقیقة الوضع فإنّ مقتضی مسلک المشهور فی باب الوضع هو أنّ الدلالة الوضعیة دلالة تصوّریة ومقتضی مسلک السیّد الاُستاذ (قدس سره) فی هذا الباب هو أنّ الدلالة الوضعیة دلالة تصدیقیة ومنشأ هذا الاختلاف إنّما هو الاختلاف فی تفسیر الوضع.

وثانیاً أنّ الانشاء سواءً کان بمعنی إیجاد المعنی باللفظ بإیجادی تصوّری أم کان بمعنی إبراز الأمر الاعتباری النفسانی بما هو مدلول وضعی للفظ فلا یکون داعیاً ومحرّکاً والداعی حقیقة إنّما هو التکلیف المولوی بوجوده الواقعی الجدّی بلحاظ ما یترتّب علیه من التبعات وهی استحقاق العقوبة علی المخالفة والمثوبة علی الموافقة وأمّا مع قطع النظر عمّا یترتب علیه من الآثار والتبعات فلا یکون داعیاً ومحرّکاً للمکلّف نحو الفعل فوجوب الصلاة إنّما یکون محرّکاً للمکلّف نحو الاتیان بها بلحاظ ما یترتّب علی ترکها من استحقاق العقوبة وإلاّ فلا یکون محرّکاً وداعیاً وعلی هذا فلا فرق بین أن یکون مدلول الأمر وضعاً الانشاء بتفسیر المشهور أو الانشاء بتفسیر السیّد الاُستاذ (قدس سره) فإنّه بمدلوله الوضعی لا یکون محرّکاً وداعیاً بکلا التفسیرین فی المسألة فالمحرّک والداعی إنّما هو حقیقة الأمر وروحه التی تتطلّب من المکلّف امتثاله وإیجاد متعلّقه فی الخارج وإلاّ فهو عاص ومستحقّ للعقوبة، وإن شئت قلت: أنّ مفاد الأمر علی المشهور هو البعث والطلب التصوّری وهو لا یوجب إلاّ الانبعاث التصوّری ولا یوجب الانبعاث الحقیقی والتحریک الواقعی وإیجاد الداعی فی نفس المکلّف واقعاً وحقیقة ضرورة أنّ الانبعاث الحقیقی لا یمکن أن یکون معلولا للبعث التصوّری

ص:377

الذی لا وعاء له إلاّ عالم التصوّر والذهن والمفروض أنّ الانبعاث الحقیقی وعائه الواقع فالذی یوجب انبعاث المکلّف وتحریکه ودعوته إلی الفعل فی الخارج هو فعلیة فاعلیة البعث والطلب باعتبار ما یترتّب علیها من الأثر ومن الواضح أنّه لا فرق فی ذلک بین أن یکون المدلول الوضعی للأمر البعث والطلب التصوّری أو إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج بمبرز ما فإنّه طالما یکون فی عالم التصوّر فلا یصلح أن یکون داعیاً ومحرّکاً للمکلّف وإذا خرج عن هذا العالم إلی عالم الواقع والجدّ أصبح صالحاً لذلک باعتبار أنّ فاعلیته أصبحت حینئذ فعلیة فی هذا العالم ومع فعلیتها یکون داعیاً ومحرّکاً کذلک.

والخلاصة أنّ الأمر بمدلوله الوصفی مادّة وهیئة لا یکون محرّکاً وداعیاً للمکلّف نحو الاتیان بالمأمور به سواءً أکان مدلوله الوضعی إیجاد النسبة الطلبیة المولویة بالإیجاد التصوّری أم کان إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فإنّه إنّما یکون محرّکاً وداعیاً بمدلوله التصدیقی الجدّی علی أساس أنّه یتطلّب من المکلّف القیام بالعمل بالنظر إلی ما یترتّب علی عدم القیام به من التبعات وأمّا مجرّد إیجاد البعث والطلب التصوّری لا أثر له ولا یوجب انبعاث المکلّف حقیقة لأنّ إنبعاثه الحقیقی إنّما هو فیما إذا کان البعث حقیقیاً وجدّیاً بمعنی أنّ فاعلیته فعلیة وما دام لم تکن فاعلیته کذلک لم یکن محرّکاً داعیاً وکذلک إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فإنّه إنّما یکون داعیاً ومحرّکاً إذا کانت فاعلیة اعتبار الفعل فی ذمّة المکلّف فعلیة تتطلّب القیام به لا مطلقاً فإذن لا فرق بین القولین فی المسألة فی تفسیر الانشاء من هذه الناحیة.

وأمّا التعلیق علی النظریة الثانیة وهی نظریة المحقّق النائینی (قدس سره) فهو یتمثّل فی عدّة نقاط:

النقطة الاُولی أنّا لو سلّمنا أنّ التکلیف بنفسه یقتضی اعتبار القدرة فی

ص:378

متعلّقه إلاّ أنّ من الواضح أنّه لا یقتضی کونه خصوص الحصّة المقدورة وذلک لأنّ ملاک اقتضائه کون متعلّقه مقدوراً هو أنّ الغرض منه إیجاد الداعی فی نفس المکلّف ومن الطبیعی أنّه لا یقتضی أکثر من کون متعلّقه مقدوراً والمفروض أنّ الجامع بین المقدور غیر المقدور مقدور فإذا کان مقدوراً کان تعلّق التکلیف به یصلح أن یکون داعیاً ومحرّکاً للمکلّف نحو الاتیان به وإیجاده فی الخارج وعلی هذا فلا مبرّر لاقتضائه کون متعلّقه خصوص الحصّة المقدور ضرورة أنّه یکفی فی ذلک کون متعلّقه مقدوراً نحو صرف الوجود لا مطلق الوجود والمفروض أنّه کذلک وعلیه.

التعلیق علی نظریة المحقق النائینی

فما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّه یقتضی کون متعلّقه خصوص الحصّة المقدورة فلا یمکن المساعدة علیه وعلی ذلک فلا فرق بین أن یکون اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف بحکم العقل أو باقتضاء نفس التکلیف فکما أنّ العقل لا یحکم بکون متعلّق التکلیف خصوص الحصّة المقدورة فکذلک التکلیف لا یقتضی ذلک فإذن لا تظهر الثمرة بین القولین فی المنسألة فإذا أتی المکلّف بالفرد المزاحم للواجب المضیّق عصیاناً أو نسیاناً أو جهلا فلا مانع من التمسّک باطلاق دلیل الواجب لاثبات أنّ الوجوب تعلّق بالجامع بینه وبین سائر الأفراد وحینئذ فینطبق الواجب علی الفرد المأتی به وهو الفرد المزاحم فیحکم بصحّته وهذا بخلاف ما لو قلنا بأنّ التکلیف یقتضی کون متعلّقه خصوص الحصّة المقدورة فإنّه عندئذ تظهر الثمرة بین القولین کما مرّ.

النقطة الثانیة: أنّ ما ذکره (قدس سره) من أنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف إنّما هو باقتضاء نفس التکلیف لا بحکم العقل لا یمکن المساعدة علیه وذلک لأنّ ما أفاده (قدس سره) لا یرجع إلی معنی صحیح بالنظر التحلیلی.

بیان ذلک أنّه قد تقدّم فی أوّل بحث الأوامر أنّ صیغة الأمر موضوعة

ص:379

للدلالة علی النسبة الطلبیة المولویة وهذه النسبة إذا کانت متعلّقة للتصوّر فهی مدلول تصوّری للصیغة وإذا کانت متعلّقة للإرادة فهی مدلول تصدیقی لها فالمدلول التصوّری والمدلول التصدیقی واحد ذاتاً وحقیقة والاختلاف بینهما إنّما هو فیما یطرأ علیه فإن کان ما یطرأ علیه تصوّراً فهو مدلول تصوّری.

وتدلّ علیه الصیغة بالوضع وإن کان ما یطرأ علیه تصدیقاً فهو مدلول تصدیقی وتدلّ علیه الصیغة بسبب القرائن الخارجیة من الحالیة أو السیاقیة.

ونتیجة ذلک أنّ صیغة الأمر تدلّ بالوضع علی النسبة الطلبیة المولویة التصوّریة وبالقرائن الحالیة أو السیاقیة تدلّ علی إرادة تلک النسبة الطلبیة المولویة عن جدّ فإذن لا تدلّ الصیغة لا بمدلولها الوضعی ولا بمدلولها التصدیقی علی شیء زائد علی النسبة الطلبیة المولویة لکونها داعیة ومحرّکة للمکلّف نحو الاتیان بمتعلّقها لأنّ ذلک خارج عن مفاد الصیغة فلا یکشف الخطاب الشرعی من الأمر أو النهی عن أنّ داعی من وراء التکلیف هو بعث المکلّف وتحریکه نحو إیجاد الفعل المأمور به فی الخارج ومن الطبیعی أنّ هذا الکشف خارج عن مدلول الخطاب الشرعی بما هو مدلول الخطاب من التصوّری والتصدیقی ولا یدلّ إلاّ علی إرادة معناه کما هو الحال فی جمیع الألفاظ وعلیه فلا محالة یکون هذا الکشف بضمیمة حکم العقل بقبح تکلیف العاجز ولولا هذا الحکم العقلی وهو قبح تکلیف العاجز فلا مانع من تکلیفه علی أساس أنّه لیس بقبیح فحکم العقل بقبح تکلیف العاجز فی المرتبة السابقة هو الکاشف عن أنّ غرض المولی من وراء التکلیف من الوجوب أو الحرمة هو کونه داعیاً ومحرّکاً للمکلّف نحو الاتیان بالواجب فیکون هذا الکشف للخطاب الشرعی المولوی متفرّعاً علی حکم العقل به فی المرتبة السابقة ولولاه لم یکن له هذا الکشف أصلا باعتبار أنّه خارج عن مدلوله التصوّری

ص:380

والتصدیقی معاً.

وعلی الجملة فالأمر الصادر من المولی فیما أنّه لفظ فلا یدلّ إلاّ علی معناه الموضوع له تصوّراً أو تصدیقاً ولا یدلّ علی أنّ الغرض من ورائه هو إیجاد الداعی فی نفس المکلّف ضرورة أنّ هذا خارج عن مدلول اللفظ فکیف یعقل دلالته علیه ولکن حیث أنّ العقل یدرک أنّ ما صدر من المولی لا یمکن أن یکون جزافاً فلذلک یحکم بأنّ غرض المولی منه إیجاد الداعی فی نفس المکلّف وتحریکه نحو الاتیان بالمأمور به فلهذا لابدّ أن یکون متعلّقه مقدوراً لاستحالة جعل الداعی والمحرّک نحو الممتنع فإذن اقتضاء الخطاب کون متعلّقه مقدوراً إنّما هو بحکم العقل لا بنفسه ولولا حکم العقل بقبح تکلیف العاجز فلا مانع من التکلیف بغیر المقدور ولا یکون قبیحاً وعلی هذا الأساس فالحاکم باعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف إنّما هو العقل بملاک قبح تکلیف العاجز فما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّه بمقتضی الخطاب مبنی علی الغفلة عن أنّ کشف الخطاب الشرعی عن أنّ الغرض الجدّی للمولی من وراء الخطاب هو جعله داعیاً ومحرّکاً للمکلّف إنّما هو بحکم العقل بقبح تکلیف العاجز فی المرتبة السابقة لا بدلالة نفس الخطاب لوضوح أنّ الخطابات الشرعیة المولویة المتمثّلة فی الأوامر والنواهی إنّما هی تدلّ علی مدلولها التصوّریة والتصدیقیة وتکشف عنها کشفاً تصوّریاً أو تصدیقیاً ولا تکشف عن أکثر من ذلک لأنّ الکشف والدلالة بحاجة إلی سبب ولا یمکن تحقّقها بلا سبب وموجوب والفرض أنّه لا موجب لکشفها عن خصوصیة اخری فإذن بطبیعة الحال یکون کشفها عن أنّ الغرض الجدّی من وراء تلک الخطابات الشرعیة هو جعلها داعیة ومحرّکة نحو الاتیان بمتعلّقاتها إنّما هو بحکم العقل بقبح تکلیف العاجز فی المرتبة السابقة هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أنّ حکم العقل باعتبار القدرة فی

ص:381

متعلّق التکلیف إنّما هو فی ظرف الامتثال وهو ظرف فعلیة فاعلیته ولا یحکم باعتبارها فیه فی ظرف الجعل لأنّ حکم العقل بذلک إنّما هو علی أساس حکمه بقبح تکلیف العاجز ومن الواضح أنّ قبح تکلیف العاجز إنّما هو فی مرحلة فعلیة فاعلیة التکلیف بفعلیة موضوعه فی الخارج وتنجّزه لا مطلقاً فإذا کان المکلّف فی ظرف الجعل غیر قادر ولکّنه فی ظرف الامتثال قادراً فلا مانع من جعل التکلیف علیه ومن هنا تختلف القدرة المعتبرة فی صحة التکلیف بحکم العقل عن القیود المأخوذة فی موضوع الحکم شرعاً فی لسان الدلیل فی مرحلة الجعل بنحو القضیة الحقیقیة کالبلوغ والعقل والوقت والاستطاعة ونحوها فی نقطة وهی أنّ تلک القیود کما أنّها دخیلة فی الحکم فی مرحلة الجعل ومن شروطه فی هذه المرحلة کذلک أنّها دخیلة فی اتّصاف الفعل بالملاک الذی هو روح الحکم وحقیقته فی مرحلة المبادیء ومن شروطه فی هذه المرحلة بلا فرق فی ذلک بین أن تکون تلک القیود متمثّلة فی القدرة أم فی غیرها بینما القدرة المعتبرة بحکم العقل غیر دخیلة لا فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء ولا فی الحکم فی مرحلة الجعل وإنّما هی دخیلة فیه فی مرحلة الفعلیة والامتثال ومن شروطه فی هذه المرحلة، ومن ناحیة ثالثة أنّا لو سلّمنا أنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف إنّما هی باقتضاء نفس التکلیف فهل هذا یقتضی اعتبارها بنحو القیدیة له کسائر قیوده المأخوذة فیه شرعاً أو لا فیه وجهان الظاهر هو الوجه الثانی وذلک لأنّ ملاک اقتضاء الخطاب کون متعلّقه مقدوراً هو أنّ الغرض منه إیجاد الداعی فی نفس المکلّف ومن الواضح أنّه لا یقتضی أکثر من کون متعلّقه مقدوراً فی مقابل کونه غیر مقدور ولا یقتضی کون القدرة قیداً له کسائر قیوده ونتیجة ذلک أنّه لا یمکن توجیه الخطاب نحو الفعل غیر المقدور لأنّه لغو ولکن لا مانع من توجیهه نحو الفعل المقدور ولو فی ضمن بعض أفراده، هذا.

ص:382

ویظهر من المحقّق النائینی (قدس سره) الوجه الأول هو أنّ مقتضی الخطاب الشرعی کون متعلّقه خصوص الحصّة المقدورة ومعنی ذلک أنّ الخطاب یقتضی کون القدرة قیداً لمتعلّقه کسائر قیوده فإذا کانت قیداً له فبطبیعة الحال توجب تخصّصه بحصّة خاصّة وهی الحصّة المقدورة.

وفیه أنّ هذا إنّما یتمّ لو کان الخطاب الشرعی یقتضی کون القدرة قیداً لمتعلّقه کسائر قیوده ولکن ذلک لا ینسجم مع ما ذکره (قدس سره) فی وجه ذلک من أنّ اقتضاء الخطاب کون متعلّقه مقدوراً إنّما هو بملاک أنّ الغرض منه إیجاد الداعی فی نفس المکلّف وتحریکه نحو الاتیان بمتعلّقه ومن الطبیعی أنّ ذلک یتطلّب کون متعلّقه مقدوراً لاستحالة الدعوة إلی غیر المقدور لا أنّ القدرة قید له وما ذکره (قدس سره) لا یتطلّب أکثر من ذلک باعتبار أنّه فی مقابل الدعوة إلی غیر المقدور.

فالنتیجة أنّ الخطاب الشرعی لا یقتضی کون القدرة قیداً لمتعلّقه کسائر قیوده فی ظرف الجعل وإنّما یقتضی کونه مقدوراً للمکلّف فی ظرف الامتثال سواءً أکان مقدوراً له فی ظرف الجعل أیضاً أم لا وعلی هذا فلا فرق بین أن یکون اعتبار القدرة بحکم العقل أو بمقتضی الخطاب فعلی کلا التقدیرین یکون اعتبارها فی ظرف الامتثال والفعلیة علی أساس أنّ الحکم المجعول إنّما یکون داعیاً ومحرّکاً للمکلّف فی مرحلة فعلیة فاعلیته وهی مرحلة الامتثال، ومن هنا یظهر أنّا لو سلّمنا أنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف یکون بمقتضی نفس الخطاب لا حکم العقل فمع ذلک لا یتمّ ما أفاده (قدس سره) من أنّه یقتضی کون متعلّقه خصوص الحصّة المقدورة لما عرفت من أنّه لا یقتضی أکثر من اعتبارها فی ظرف الامتثال والفعلیة ولا یقتضی کونها قیداً لمتعلّقه فی مرحلة الجعل کسائر قیوده والنکتة فی ذلک هی أنّ دلالة الخطاب علی ذلک لیست بنفسه بل بضمیمة مقدّمة

ص:383

خارجیة وهی أنّ الغرض منه إیجاد الداعی فی نفس المکلّف وتحریکه نحو الاتیان بمتعلّقه واستحالة الدعوة والتحریک نحو الممتنع ومن الواضح أنّ التکلیف إنّما یکون داعیاً ومحرّکاً للمکلّف نحو الاتیان بمتعلّقه فی ظرف فعلیة فاعلیته بفعلیة موضوعه وهو ظرف الامتثال بل الأمر کذلک ولو کان الخطاب بنفسه یقتضی کون متعلّقه مقدوراً من حین الجعل لأنّه لا یقتضی کون القدرة مأخوذة فیه بل هو یقتضی کونه مقدوراً فی مقابل غیر المقدور والمفروض أنّ الجامع بین المقدور وغیر المقدور مقدور فإذن هو لا یقتضی أکثر من ذلک.

النقطة الثالثة: أنّ ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من فساد الاتیان بالفرد المزاحم مطلقاً أی سواء فیه القول بالاقتضاء والقول بعدم الاقتضاء مبنی علی أن یکون المأمور به حصّة خاصّة وهی الحصّة المقدورة عقلا وشرعاً فإذا کان المأمور به کذلک فلا ینطبق علی الفرد المأتی به وهو الفرد المزاحم حتّی یحکم بصحّته ولا فرق فیه بین القول بالاقتضاء فی المسألة والقول بعدم الاقتضاء فیها.

ولکن قد عرفت أنّ هذا المبنی غیر صحیح بل هو لا ینسجم مع ما ذکره (قدس سره) من التعلیل لذلک فإنّ مقتضاه أنّ الخطاب یقتضی اعتبار القدرة فی متعلّقه فی ظرف الامتثال وهو ظرف فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه وتنجّزه فإنّه فی هذا الظرف یکون داعیاً ومحرّکاً لا فی ظرف الجعل والمفروض أنّ التکلیف لا یقتضی ذلک فی ظرف الجعل وإنّما یقتضی ذلک فی ظرف اتّصافه بالداعویة والمحرّکیة وهو ظرف فعلیة فاعلیته بفعلیة موضوعه فی الخارج وهو ظرف التنجّز والامتثال.

ومن هنا قلنا أنّ التکلیف لو کان مقتضیاً لاعتبار القدرة فی متعلّقه لم یکن بنفسه بل بضمیمة مقدّمة خارجیة وهی أنّ الغرض منه جعل الداعی

ص:384

للمکلّف فإذن بطبیعة الحال یکون اقتضائه ذلک فی ظرف اتّصافه بالداعویة والمحرّکیة لا مطلقاً فدلالته علی ذلک إنّما تکون فعلیة إذا صار اتّصافه بالداعویة فعلیاً أو فقل أنّه یدلّ علی ذلک فی ظرف الامتثال لا مطلقاً کما هو الحال فیما إذا کان اعتبارها بحکم العقل ونتیجة ذلک أنّ المأمور به لا یکون مقیّداً بغیر الفرد المزاحم بل الجامع بینه وبین غیره من الأفراد غایة الأمر تقع المزاحمة حینئذ بین الواجب المضیّق کإزالة النجاسة عن المسجد فوراً وبین إطلاق الواجب الموسّع کالصلاة مثلا للفرد المزاحم وعلی هذا فبطبیعة الحال یکون إطلاق الواجب الموسّع مقیّداً لبّاً بعدم الاشتغال بضدّه الواجب المساوی أو الأهمّ وحینئذ فإذا اشتغل المکلّف بالازالة التی هی الأهمّ فلا إطلاق لوجوب الصلاة بالنسبة إلی الفرد المزاحم لأنّ إطلاقه مقیّد بعدم الاشتغال بها ومع الاشتغال فلا إطلاق وأمّا إذا عصی ولم یشتغل بها فلا موجب لتقیید إطلاق وجوبها بغیر الفرد المزاحم بناءً علی القول بإمکان الترتّب کما هو الصحیح، والخلاصة أنّ المزاحمة إنّما هی بین إطلاق الأمر بالصلاة والأمر بالازالة وهذه المزاحمة لا تقتضی أکثر من تقیید إطلاق الأمر بالصلاة بغیر الفرد المزاحم إذا اشتغل بالازالة لا مطلقاً وأمّا إذا لم یشتغل بها فلا موجب للتقیید ولا مانع حینئذ من الاتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر بالصلاة علی القول بالترتّب ولا فرق فی ذلک بین القول بأنّ اعتبار القدرة بحکم العقل والقول بأنّ اعتبارها بمقتضی نفس الخطاب هذا من ناحیة ومن ناحیة اخری أنّه لا مانع من الالتزام باطلاق الواجب الموسّع حتّی علی القول بعدم إمکان الترتّب من جهة وعدم التقیید اللبّی من جهة اخری والنکتة فی ذلک هی أنّ إطلاقه بدلی والاطلاق البدلی لا یزاحم الواجب المضیّق والذی یزاحمه هو الاطلاق الشمولی.

فالنتیجة أنّ ما أفاده المحقّق النائینی (قدس سره) غیر تامّ وأمّا التعلیق علی

ص:385

التعلیق علی نظریة المحقق الثانی

النظریة الثالثة وهی نظریة المحقّق الثانی (قدس سره) فهو یتمثّل فی أمرین:

الأول: أنّ هذه المسألة غیر داخلة فی باب التزاحم لأنّ التزاحم إنّما هو بین واجبین مضیّقین فی مقام الامتثال ومنشأه عدم قدرة المکلّف علی امتثال کلیهما معاً فی هذا المقام لأنّ للمکلّف قدرة واحدة فإن صرفها فی امتثال أحدها عجز عن امتثال الآخر وإن عکس فبالعکس فلذلک تقع المزاحمة بینهما فلابدّ حینئذ من الرجوع إلی مرجّحات بابها وأمّا فی هذه المسألة فلا مزاحمة بین وجوب الصلاة ووجوب الازالة لأنّ المکلّف متمکّن من امتثال کلا الواجبین معاً بدون أی مزاحمة بینهما فإذن کما أنّه لا معارضة بین الواجبین فی مرحلة الجعل کذلک لا مزاحمة بینهما فی مرحلة الامتثال ودعوی أنّ المزاحمة بین کل واحد من الواجبین مع الواجب الآخر وإن لم تکن موجودة إلاّ أنّها موجودة بین الواجب المضیّق وفرد من الواجب الموسّع وهو الفرد فی زمان الواجب المضیّق لعدم تمکّن المکلّف من الجمع بینهما فی مرحلة الامتثال مدفوعة بأنّ الفرد لیس بواجب وإنّما هو فرد الواجب لأنّ الوجوب لا یسری من الطبیعی إلی افراده باعتبار أنّ متعلّقه صرف إیجاده فإذا لم یکن واجباً فلا معنی لأن یکون مزاحماً للواجب المضیّق لأنّ التزاحم إنّما هو بین واجبین وأمّا إذا کان أحدهما واجباً والآخر غیر واجب فلا موضوع للتزاحم بینهما فالنتیجة أنّ ما هو واجب فلا تزاحم بینه وبین الواجب المضیّق وما هو مزاحم له فلا یکون واجباً.

الثانی: أنّ ما ذکره (قدس سره) من ظهور الثمرة بین القول بالاقتضاء فی المسألة والقول بعدم الاقتضاء فیها فعلی الأول یکون الفرد المزاحم محکوماً بالفساد لعدم انطباق الطبیعی المأمور به علیه وعلی الثانی یکون محکوماً بالصحة لمکان الانطباق فلا یمکن المساعدة علیه وذلک لأنّ ظهور هذه الثمرة یتوقّف علی مقدّمتین:

ص:386

الاُولی: أنّ الأمر بشیء یقتضی النهی عن ضدّه.

الثانیة: أنّ النهی الغیری مانع عن الصحّة والانطباق کالنهی النفسی ولکن کلتا المقدّمتین غیر تامّة أمّا المقدّمة الاُولی فلما تقدّم موسّعاً من أنّ الأمر بشیء لا یقتضی النهی عن ضدّه لا من باب المقدّمیة ولا من باب أنّ المتلازمین لا یختلفان فی الحکم وأمّا المقدّمة الثانیة فلأنّ النهی المتعلّق بالفرد المزاحم حیث إنّه نهی غیری فلا یکشف عن وجود مفسدة فی متعلّقه وکونه مبغوضاً فإنّ الکاشف عن ذلک إنّما هو النهی النفسی فیکون النهی الغیری کالأمر الغیری فکما أنّ الأمر الغیری المتعلّق بشیء ناشیء عن ملاک قائم بغیره ولا ملاک فی متعلّقه فکذلک النهی الغیری فإنّه ناشیء عن ملاک قائم فی غیره ولا ملاک فی متعلّقه.

وعلی هذا الأساس فالنهی الغیری المتعلّق بالفرد المزاحم فی المقام ناشیء عن ملاک ملزم فی الازالة لا عن مفسدة فیه فإذن ظلّ الفرد المزاحم علی ما هو علیه بعد تعلّق النهی الغیری به أیضاً وهو وفائه بغرض المولی وکونه محبوباً فی نفسه فإذا کان باقیاً کذلک فلا مانع من انطباق المأمور به علیه والحکم بالصحة لغرض أنّ الانطباق لا یتوقّف علی أن یکون الفرد المأتی به متعلّقاً للأمر بل هو یتوقّف علی أن لا یکون فیه مانع من الانطباق کالمبغوضیة أو وجود مفسدة فیه والمفروض أنّه لا مانع فیه کذلک من الانطباق ومجرد النهی الغیری المتعلّق به لا یمنع عن الانطباق علیه بعد ما لا یکون کاشفاً عن وجود مفسدة فی متعلّقه ولهذا قلنا أنّه لیس بحکم مولوی قابل للتنجّز واستحقاق العقوبة علی مخالفته والمثوبة علی موافقته.

وعلی هذا فلا تظهر الثمرة بین القولین فی المسألة فعلی کلا القولین لا مانع من الحکم بصحّة الفرد المزاحم لمکان انطباق المأمور به علیه.

ص:387

بقی هنا شیء وهو أنّ السید الاُستاذ (قدس سره) قد علّق علی ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من التفصیل بین ما إذا کان اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف بحکم العقل بملاک قبح تکلیف العاجز وما إذا کان اعتبارها فیه باقتضاء نفس الخطاب الشرعی فعلی الأول حکم (قدس سره) بصحّة العبادة علی القول بعدم الاقتضاء وبالفساد علی القول بالاقتضاء.

وعلی الثانی حکم (قدس سره) بالفساد مطلقاً وحاصل تعلیقه علیه أنّه بناءً علی أنّ صحّة العبادة مشروطة بقصد الأمر فلا وجه للتفصیل بین القولین فی المسألة وهو الحکم بالصحّة علی القول بعدم الاقتضاء وبالفساد علی القول بالاقتضاء بناءً علی عدم إمکان الواجب المعلّق کما هو مختاره (قدس سره) بیان ذلک أنّه بناءً علی القول بامکان الواجب المعلّق لا مانع من تعلّق الوجوب بالعبادة الموسّعة کالصلاة مثلا من أوّل الوقت فی حال مزاحمتها مع الواجب المضیّق بنحو یکون الوجوب حالیاً والواجب استقبالیاً لاستحالة تعلّق الوجوب بها بنحو یکون الواجب أیضاً حالیاً لأنّها فی تلک الحال غیر مقدورة للمکلّف بجمیع أفرادها وإن شئت قلت أنّ الأمر بالصلاة فی زمان الأمر بالازالة لا یمکن لأنّها بجمیع أفرادها ووجوداتها فیه غیر مقدورة للمکلّف فیستحیل تعلّقه بها فی هذا الزمان إلاّ علی نحو الواجب المعلّق بأن یکون الوجوب فعلیاً والواجب متأخّراً وحیث أنّ المحقّق النائینی (قدس سره) قد بنی علی استحالة الواجب المعلّق فلا یمکن تعلّق الأمر بالصلاة فی زمان الأمر بالازالة بنحو یکون کل من الأمر والمأمور به فعلیاً لأنّه من التکلیف بغیر المقدور وعلی هذا فلا یمکن الاتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر بالصلاة إذ لا أمر بها فی هذا الزمان وأمّا علی القول بامکان الواجب المعلّق فلا مانع من الاتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر بالصلاة باعتبار أنّ الأمر بها فعلی والمأمور به متأخّر فلا یلزم التکلیف

ص:388

بالمحال فالنتیجة أنّه بناءً علی استحالة الواجب المعلّق من جهة واشتراط صحّة العبادة بقصد الأمر من جهة اخری فلا یمکن الحکم بصحّة الفرد المزاحم بداعی الأمر المتعلّق بطبیعی الصلاة إذ لا أمر بها فی هذا الزمان بلا فرق فی ذلک بین القول بالاقتضاء فی المسألة والقول بعدمه فإذن لا وجه لما ذکره (قدس سره) من التفصیل بینهما والحکم بالفساد علی الأول والصحّة علی الثانی هذا.

ولکن یمکن نقد هذا التعلیق بتقریب أنّه لا مانع من تعلّق الوجوب بالجامع علی البدل حتّی فی زمن انطباقه علی الفرد المزاحم للواجب المضیّق ولا یتوقّف تعلّقه به فی هذا الزمان علی القول بامکان الواجب المعلّق بل لا مانع منه حتّی علی القول بعدم إمکانه وذلک لأنّ الوجوب المتعلّق بالجامع علی البدل فی الزمن المذکور لا یقتضی تطبیقه علیه لأنّ المکلّف مخیّر فی تطبیقه فی طول الوقت فلا یوجب الزام المکلّف فی تطبیقه لا علی الفرد المزاحم ولا علی غیره من الأفراد وعلیه فتعلّق الوجوب بالصلاة الجامعة فی طول زمانها من المبدأ إلی المنتهی حتّی فی زمان انطباقها علی الفرد المزاحم لا یستلزم محذور التکلیف بغیر المقدور کطلب الجمع بین الضدّین ضرورة أنّه لا یلزم المکلّف بتطبیقها علیه حتّی یلزم المحذور المذکور.

والخلاصة أنّه لا مانع من تعلّق التکلیف بالجامع البدلی بین الأفراد المقدورة وغیر المقدورة لأنّ متعلّقه صرف وجود الطبیعة بلا خصوصیة لأفراده ولا فرق فی ذلک بین الأفراد الطولیة والأفراد العرضیة فإذا فرضنا أنّ بعض أفراد الصلاة الطولیة غیر مقدور کالفرد المزاحم فلا یوجب ذلک تخصیصها بحصّة خاصّة وهی الحصّة المقیّدة بغیره بل متعلّق الأمر هو الجامع بین المقدور وغیر المقدور علی البدل علی أساس أنّ العموم فی المقام بدلی لا شمولی وهو لا یتطلّب الزام المکلّف بالتطبیق فی کل زمان کما هو کذلک إذا

ص:389

کان العموم شمولیاً.

ومن الواضح أنّه لا یستلزم التکلیف بغیر المقدور فإنّه إنّما یوجب ذلک إذا کان ثبوته فی زمان الفرد المزاحم موجباً لالزام المکلّف بالتطبیق علیه والفرض أنّه لا یوجب ذلک فإذن لا فرق بین القول بامکان الواجب المعلّق والقول باستحالته فإنّه علی کلا القولین لا مانع من الاتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر المتعلّق بطبیعی الصلاة فما ذکره السیّد الاُستاذ (قدس سره) من الفرق بین القولین فعلی القول بامکان الواجب المعلّق یصحّ الاتیان بالفرد المزاحم بقصد الأمر المتعلّق بالصلاة وعلی القول باستحالته لا یصحّ الاتیان به بقصد الأمر المتعلّق بها لا یمکن المساعدة علیه إذ لا مانع من الاتیان به بقصد الأمر المتعلّق بالجامع حتّی علی القول باستحالة الواجب المعلّق هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أنّ ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من التفصیل بین ما إذا کان اعتبار القدرة فی صحّة التکلیف بحکم العقل وما إذا کان باقتضاء نفس الخطاب مبنی علی نقطتین خاطئتین:

الاُولی: أنّ النهی الغیری کالنهی النفسی مانع عن انطباق المأمور به علی الفرد المنهی عنه.

الثانیة: أنّ الخطاب بنفسه یقتضی کون متعلّقه حصّة خاصّة وهی الحصّة المقدورة وکلتا النقطتین خاطئة.

أمّا النقطة الاُولی فلما مرّ من أنّ النهی الغیری بما أنّه لا یکشف عن وجود مفسدة فی متعلّقه وکونه مبغوضاً فلا أثر له من هذه الناحیة ولا یمنع من انطباق المأمور به علی الفرد المنهی عنه بهذا النهی لأنّ وجوده کعدمه فإذا کان المأمور به قابلا للانطباق علیه قبل تعلّق هذا النهی به کان قابلا للانطباق علیه بعده أیضاً.

ص:390

وأمّا النقطة الثانیة: فقد تقدّم أنّ اعتبار القدرة إذا کان باقتضاء نفس الخطاب لیس معناه أنّه یقتضی کون متعلّقه خصوص الحصّة المقدورة فی مرحلة الجعل بمعنی أنّ القدرة قید له کسائر قیوده فی هذه المرحلة بل معناه أنّه إنّما یقتضی ذلک بضمیمة مقدّمة خارجیة وهی أنّ الغرض منه إیجاد الداعی فی نفس المکلّف وتحریکه نحو الاتیان بمتعلّقه ومن الواضح أنّه إنّما یصیر داعیاً ومحرّکاً إذا صار فعلیاً بفعلیة موضوعه فی الخارج وعلی هذا فیدلّ الخطاب علی داعویته فی هذه المرحلة ولا یدلّ فی مرحلة الجعل والاعتبار علی کون متعلّقه مقدوراً فضلا عن کونه خصوص الحصّة المقدورة.

وبکلمة أنّ داعویة الأمر تتوقّف علی فعلیة فاعلیته بفعلیة موضوعه فی الخارج وطالما لم تتحقّق فاعلیته کذلک فلا یکون داعیاً ومحرّکاً وعلی هذا فاقتضاء نفس الخطاب کون متعلّقه مقدوراً إنّما هو فی مرحلة فعلیة فاعلیته ومن المعلوم أنّه لا یتطلّب فی هذه المرحلة أکثر من کون متعلّقه مقدوراً فی مقابل کونه غیر مقدور.

والمفروض أنّ الجامع بین المقدور وغیر المقدور مقدور ولا یدلّ علی کونه خصوص الحصّة المقدورة ومن هنا قلنا أنّه لا فرق من هذه الناحیة بین أن یکون اعتبار القدرة بحکم العقل أو باقتضاء نفس الخطاب إذ علی کلا التقدیرین فالواجب لیس خصوص الحصّة المقدورة بل الجامع بینها وبین غیر المقدورة وعلی هذا فلا وجه لما أفاده المحقّق النائینی (قدس سره) من التفصیل المذکور إلی هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتیجة وهی أنّه لا مانع من الاتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر المتعلّق بالجامع علی کلا القولین فی المسألة بلا فرق بین القول باعتبار القدرة بحکم العقل أو القول باقتضاء نفس الخطاب ذلک ومع الاغماض عن ذلک وتسلیم أنّه لا یمکن الاتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر

ص:391

المتعلّق بالجامع بینه وبین غیره من الأفراد إمّا مطلقاً أو علی القول بالاقتضاء فحینئذ هل یمکن الحکم بصحّة الاتیان به بداعی رجحانه فی نفسه ومحبوبیته کذلک أو اشتماله علی الملاک أو لا فیه وجهان:

لو سلّمنا عدم إمکان الاتیان بالفرد المزاحم یداعی الأمر المتعلق بالجامع بینه و بین غیره من الأفراد إما مطلقا أو علی القول بالاقتضاء فهل یمکن الحکم بصحة الإتیان به بداعی رجحانه فی نفسه أو اشتماله علی الملاک أو لا؟

الظاهر هو الوجه الأول إذ یکفی فی صحّة العبادة الاتیان بها بداعی محبوبیتها أو اشتمالها علی المصلحة التی توجب رجحانها ولا دلیل علی أنّ المعتبر فیها خصوص قصد الأمر علی أساس أنّه یکفی فیها إضافتها إلی المولی سبحانه وتعالی ومن الواضح أنّه یکفی فی تحقّق هذه الإضافة رجحانها فی نفسه وإن لم یکن هناک أمر فی البین ومن هنا قلنا فی مبحث التعبّدی والتوصّلی أنّ صحّة العبادة تتوقّف علی توفّر أمرین:

الأول: رجحانها فی نفسه ومحبوبیتها کذلک أو اشتمالها علی الملاک الراجح.

الثانی: الاتیان بها مضافاً إلیه تعالی فإذا کان الأمر الأول متوفّراً فیها وأتی بها کذلک صحّت وعلی هذا الأساس فصحّة الاتیان بالفرد المزاحم للواجب المضیّق تتوقّف علی مقدّمتین:

الاُولی: اشتماله علی الملاک وکونه راجحاً فی نفسه وهی صغری القیاس.

الثانیة: کفایة الاتیان به بداعی اشتماله علی الملاک ورجحانه فی نفسه وهی کبری القیاس فإذن یقع الکلام فی هاتین المقدّمتین أمّا المقدّمة الثانیة وهی کبری القیاس فلا إشکال فی کفایة الاتیان بالعبادة بداعی رجحانها أو اشتمالها علی الملاک.

وأمّا المقدّمة الاُولی وهی صغری القیاس فقد استدلّ علیها بوجوه:

الأول: ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ الفرد المزاحم للواجب

ص:392

المضیّق تامّ الملاک کغیره من أفراد الواجب الموسّع حتّی علی القول بالاقتضاء فی المسألة فإنّ النهی الغیری حیث أنّه لم ینشأ عن وجود مفسدة فی متعلّقه وکونه مبغوضاً فلا یکون مانعاً عن اشتماله علی الملاک حتّی لا یمکن انطباق المأمور به علیه.

ثمّ أورد علی نفسه بأنّ اعتبار القدرة إذا کانت باقتضاء نفس التکلیف فمعناه أنّها دخیلة فی الملاک ولیس حالها حینئذ کحال القدرة المعتبرة بحکم العقل لأنّ العقل إنّما یحکم باعتبارها فی مرحلة الامتثال فقط بملاک قبح تکلیف العاجز ولا یحکم بقبح جعل التکلیف علیه إذا صار قادراً فی ظرف الامتثال وعلی هذا فیکون متعلّق التکلیف مطلقاً وغیر مقیّد بالقدرة فی مقام الجعل والاعتبار وإطلاقه فی هذا المقام کاشف عن إطلاق الملاک فیه فی مقام الثبوت وهذا بخلاف القدرة التی یقتضی نفس الخطاب اعتبارها فی صحّة التکلیف فإنّها دخیلة فی الملاک فی مرحلة المبادیء وفی الحکم فی مرحلة الجعل فحالها حال القدرة المأخوذة فی لسان الدلیل فی مرحلة الجعل کقوله تعالی:(وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً) ونحوه فکما أنّ تلک القدرة دخیلة فیهما فی کلتا المرحلتین ومن شروطهما معاً فکذلک هذه القدرة المعتبرة بمقتضی نفس الخطاب فلا فرق بینهما من هذه الناحیة.

وأجاب عنه بأنّ القدرة إذا کانت مأخوذة فی موضوع الوجوب فی لسان الدلیل کآیة الوضوء وآیة الحج ونحوهما کان أخذها فیه کاشفاً عن أنّها دخیلة فی اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء وفی الحکم فی مرحلة الجعل إذ لا یحتمل أن یکون أخذها فیه جزافاً وبلا مبرّر وهذا بخلاف ما إذا کان اعتبارها باقتضاء نفس الخطاب فإنّه لا یقتضی تقیید متعلّقه فی المرتبة السابقة علیه وإنّما یقتضی تقییده بها فی مرتبته بیان ذلک أنّ الخطاب الشرعی المولوی

ص:393

إنّما یقتضی تقیید متعلّقه بها فی مرتبة الجعل والاعتبار ولا یقتضی تقییده بها فی مرتبة المبادیء والنکتة فی ذلک أنّ اقتضاء نفس الخطاب اعتبار القدرة إنّما هو بملاک أنّه داع ومحرّک للمکلّف نحو الاتیان بمتعلّقه ومن الواضح أنّ الدعوة لا یمکن نحو الممتنع فلذلک یقتضی اعتبار القدرة فی متعلّقه وأمّا تقییده بها فی مرحلة المبادی والاتّصاف فهو لا یقتضی ذلک لعدم توفّر ملاک اقتضائه فیه إذ لا یعتبر فی اتّصافه بالمبادیء فی تلک المرحلة أن یکون مقدوراً(1).

ونتیجة ذلک أنّ الصلاة بلحاظ کونها متعلّقة للوجوب مقیّدة بالقدرة وهذا یعنی أنّ الواجب حصّة خاصّة وهی الحصّة المقدورة فلا تشمل الفرد المزاحم وبلحاظ اتّصافها بالملاک فی مرحلة المبادیء مطلقة فتشمل الفرد المزاحم وعلی هذا فیکون الفرد المزاحم مشتملا علی الملاک فإذن لا مانع من الاتیان به بداعی قربی وهو داعی اشتماله علی الملاک المقرّب وإن شئت قلت إنّ الخطاب الشرعی یدلّ علی أمرین:

أحدهما وجوب المادّة والآخر وجود الملاک فیها فالخطاب من حیث دلالته علی الأمر الأول یتطلّب کون متعلّقه خصوص الحصّة المقدورة بنکتة استحالة الدعوة نحو الممتنع ومن حیث دلالته علی الأمر الثانی فلا یتطلّب ذلک إذ لا مانع من وجود الملاک فیها مطلقاً.

ولکن هذا الجواب غیر سدید: أمّا أوّلا فلأنّ الخطاب إذا اقتضی کون متعلّقه خصوص الحصّة المقدورة فی مرحلة الجعل والاعتبار فحسب فلا طریق لنا إلی إحراز إطلاقه فی مرحلة المبادی إذ لا طریق إلی إحراز الملاکات الواقعیة وسعتها وضیقها واشتمال متعلّقات الأحکام الشرعیة علیها کذلک إلاّ

-

ص:394


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 264-265.

من طریق ثبوت نفس هذه الأحکام فإذا کان متعلّق الحکم مقیّداً فی مرحلة الجعل فلا طریق لنا إلی إثبات أنّه مطلق فی مرحلة المبادیء وعلی هذا فإذا اقتضی الخطاب کون متعلّقه خصوص الحصّة المقدورة فی مرتبته فلا طریق لنا إلی أنّه مطلق فی مرتبة سابقة وهی مرتبة المبادیء فإنّ الخطاب وإن لم یقتض تقییده فی هذه المرتبة إلاّ أنّه لا طریق لنا إلی إحراز أنّه مطلق ومشتمل علی الملاک کذلک، نعم ما ذکره (قدس سره) من الفرق بین ما إذا کانت القدرة مأخوذة فی متعلّق التکلیف فی لسان الدلیل وما إذا کانت باقتضاء نفس الخطاب یتطلّب دلالة الأول علی أنّ القدرة دخیلة فی الملاک فی مرحلة المبادیء وفی الحکم فی مرحلة الجعل وعدم دلالة الثانی علی ذلک وإنّما یدلّ علی أنّ متعلّقه حصّة خاصّة وهی الحصّة المقدورة بملاک استحالة الدعوة نحو المحال وأمّا أنّ القدرة دخیلة فی الملاک فی مرحلة المبادیء أو غیر دخیلة فیه فی تلک المرحلة فلا دلالة له علی ذلک لا نفیاً ولا إثباتاً باعتبار أنّ ملاک الدلالة والاقتضاء غیر متوفّر فیه.

والخلاصة: إنّ اعتبار القدرة فی صحّة التکلیف إذا کان باقتضاء نفس الخطاب یختلف عن اعتبارها فیها إذا کان بأخذها فی لسان الدلیل فعلی الأول لا یقتضی الخطاب کون القدرة دخیلة فی الملاک فی مرحلة المبادیء وإنّما یقتضی کون متعلّقه خصوص الحصّة المقدورة فحسب وعلی الثانی یدلّ علی أنّها دخیلة فی الملاک.

إلی هنا قد تبیّن أنّ ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ متعلّق التکلیف مطلق وغیر مقیّد بالقدرة من جهة اشتماله علی الملاک غیر تامّ إذ لا طریق لنا إلی ذلک لأنّ الطریق منحصر بثبوت الحکم والمفروض أنّه مقیّد فی مرحلة الجعل لا مطلق وعلی هذا فلا طریق لنا إلی اشتمال الفرد المزاحم علی الملاک

ص:395

هذا من ناحیة ومن ناحیة اخری قد تقدّم أنّا لو سلّمنا أنّ اعتبار القدرة فی صحّة التکلیف إنّما هو باقتضاء نفس الخطاب إلاّ أنّه لا یقتضی اعتبارها فی مرحلة الجعل والاعتبار لأنّ ملاک اقتضائه ذلک إنّما هو داعویته ومحرّکیته وهذا الملاک إنّما یتحقّق فی مرحلة الامتثال والفعلیة لا مطلقاً فإنّ الحکم فی مرحلة الجعل لا یتّصف بصفة الداعویة إذ لیس من هذه المرحلة جعل الداعی فحسب ولا مانع من جعله للعاجز إذا صار قادراً فی مرحلة الامتثال ولا یقتضی الخطاب إلاّ أن یکون المکلّف قادراً من حین الجعل إلی حین الامتثال وعلی هذا فمتعلّق التکلیف مطلق فی مرحلة الجعل وإطلاقه فی هذه المرحلة کاشف عن إطلاقه فی مرحلة المبادیء ومن هنا قلنا أنّه لا فرق بین أن یکون اعتبار القدرة بحکم العقل أو باقتضاء نفس الخطاب إذ کما أنّ العقل یحکم بأنّ المکلّف لابدّ أن یکون قادراً فی ظرف الامتثال وإلاّ لکان جعل التکلیف علیه لغواً کذلک الخطاب فإنّه یقتضی بأنّ المکلّف لابدّ أن یکون قادراً فی مقام الامتثال وإلاّ لزم دعوته نحو الممتنع وهی مستحیلة. هذا.

وثانیاً أنّ ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من الوجه لإثبات أنّ الفرد المزاحم مشتمل علی الملاک غیر تامّ علی مسلکه (قدس سره) من أنّ اعتبار القدرة فی صحّة التکلیف إنّما باقتضاء نفس الخطاب.

وثالثاً أنّه بناءً علی ما هو الصحیح من أنّ اعتبار القدرة إنّما هو بحکم العقل علی أساس قبح تکلیف العاجز فیکون الفرد المزاحم مشتملا علی الملاک و وافیاً بغرض المولی وکذلک لو کان باقتضاء نفس الخطاب کما مرّ.

الوجه الثانی بالدلالة الالتزامیة بدعوی أنّها لا تتبّع الدلالة المطابقیة فی الحجیّة وتقریب الاستدلال بها من وجوه:

الوجه الأول: ما ذکره جماعة من الاُصولیین منهم المحقّق النائینی (قدس سره)

ص:396

الکلام فی تبعیة الدلالة الالتزامیة للمطابقیة ثبوتا و حجیة و عدمها

من أنّ الدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة حدوثاً فقط لا حجّة وقد أفاد (قدس سره) فی وجه ذلک أنّ هنا فردین من الدلالة:

الأول: الدلالة المطابقیة وهی دلالة الدلیل علی المدلول المطابقی وهو المدلول الوصفی له.

الثانی: الدلالة الالتزامیة وهی دلالة الدلیل علی المدلول الالتزامی وکلا الفردین من الدلالة مشمول لدلیل الحجّیة.

وإن شئت قلت: أنّ هنا ظهورین:

الأول: ظهور الدلیل فی المدلول المطابقی.

الثانی: ظهوره فی المدلول الالتزامی.

وکل من الظهورین یکون حجّة بمقتضی دلیل حجّیة الظهور والظهور الثانی وإن کان تابعاً للظهور الأول حدوثاً إلاّ أنّه مستقل فی الحجّیة ولیس تابعاً له لأنّ شمول دلیل الحجّیة للظهور.

الثانی: لیس تابعاً لشموله للظهور الأول لأنّ کلا منهما موضوع مستقل للحجّیة فلو سقط دلیل الحجّیة عن الظهور الأول وهو الظهور المطابقی من جهة المعارض أو نحوه فلا موجب لسقوطه عن الظهور الثانی وهو الظهور فی المدلول الالتزامی وإن شئت قلت أنّ عدم شمول إطلاق دلیل الحجّیة لظهور اللفظ فی المدلول المطابقی لسبب أو آخر وسقوطه بالنسبة إلیه لا یلازم عدم شمول إطلاقه لظهوره فی المدلول الالتزامی وسقوطه بالنسبة إلیه أیضاً لأنّهما ظهوران مستقلاّن کل منهما موضوع لاطلاق دلیل الحجّیة ولا ترتبط حجّیة الثانی بحجّیة الأول فإذن الساقط إنّما هو إطلاق دلیل الحجّیة لا أصل ظهور الأمر فی المدلول المطابقی لکی یستلزم سقوط ظهوره فی المدلول الالتزامی أیضاً باعتبار أنّه تابع له حدوثاً فی مرحلة التصوّر والتصدیق معاً وإنّما لا یکون تابعاً له فی مرحلة الحجّیة وحیث إنّ الساقط فی المقام هو حجّیة ظهوره

ص:397

فی المدلول المطابقی فهو لا یستلزم سقوط ظهوره عن الحجّیة فی المدلول الالتزامی لعدم الملازمة بینهما فی هذه المرحلة فإذن لا مانع من التمسّک باطلاق دلیل حجّیة الظهور بالنسبة إلی ظهوره فی المدلول الالتزامی لعدم المانع منه والمانع عن التمسّک به إنّما هو بالنسبة إلی ظهوره فی المدلول المطابقی والمفروض أنّه لا ملازمة بینهما فی ذلک.

وعلی هذا ففی المقام حیث إنّ الخطاب تعلّق بالجامع بین الحصّة المقدورة وغیر المقدورة فیدلّ علی وجوبه بالدلالة المطابقیة وعلی اشتماله علی الملاک بالدلالة الالتزامیة بناءً علی ما هو الصحیح من تبعیة الأحکام الشرعیة للمصالح والمفاسد الواقعیین فإذا دلّ دلیل علی وجوب فعل مشروطاً بالقدرة بالمطابقة دلّ علی اشتماله علی الملاک کذلک بالالتزام لأنّ المدلول الالتزامی یدور مدار المدلول المطابقی فی السعة والضیق ولا یعقل أن تکون دائرة المدلول الالتزامی أوسع أو أضیق من دائرة المدلول المطابقی وإذا دلّ دلیل علی وجوب فعل جامع بین المقدور وغیر المقدور بالمطابقة دلّ علی اشتماله کذلک علی الملاک بالالتزام.

ونتیجة ذلک أنّ الفرد المزاحم للواجب المضیّق مشتمل علی الملاک الوافی بغرض المولی مثلا الأمر المتعلّق بالصلاة یدلّ علی وجوبها بالمطابقة مطلقاً الشامل للفرد المزاحم وعلی اشتمالها علی الملاک بالالتزام کذلک وعلی هذا فیصحّ الاتیان بالفرد المزاحم بداعی اشتماله علی الملاک ووفائه بالغرض لأنّ الصغری فیه تامّة وهی اشتماله علی الملاک والکبری ثابتة وهی کفایة الاتیان بالعبادة بقصد اشتماله علی الملاک وعلی أساس ذلک فإذا سقطت الدلالة المطابقیة وهی دلالة الأمر علی وجوب الصلاة عن الحجّیة من جهة استلزامها محذور التکلیف بغیر المقدور فی المقام فلا موجب لسقوط الدلالة

ص:398

الالتزامیة وهی دلالته علی اشتمالها علی الملاک إذ لا محذور فی وجود الملاک فی غیر المقدور هذا.

وقد أورد علیه السیّد الاُستاذ (قدس سره) نقضاً وحلا.

أمّا نقضاً فبعدّة موارد:

الأول ما إذا قامت البیّنة علی ملاقاة الثوب للبول.

ثمّ علمنا من الخارج بکذب البیّنة وعدم ملاقاة الثوب للبول خارجاً جزماً ولکنّا نحتمل نجاسته من جهة اخری کملاقاته للدم أو نحوه فحینئذ هل یمکن الحکم بنجاسة الثوب من جهة البیّنة المذکورة بدعوی أنّ الإخبار عن ملاقاة الثوب للبول إخبار عن نجاسته بالدلالة الالتزامیة لأنّ نجاسته لازمة لملاقاته للبول وبعد سقوط البیّنة عن الحجّیة بالإضافة إلی الدلالة المطابقیة من جهة مانع فلا موجب لسقوطها بالإضافة إلی الدلالة الالتزامیة لعدم المانع عنها أصلا ولا نظن أن یلتزم بذلک أحد حتّی من یدّعی بأنّ سقوط الدلالة المطابقیة عن الحجّیة لا یستلزم سقوط الدلالة الالتزامیة عنها.

الثانی: ما إذا کانت الدار تحت ید زید وادّعی کل من عمرو وبکر ملکیتها له وأقام بیّنة علی مدّعاه فبیّنة عمرو تدلّ بالمطابقة علی أنّها ملکه وبالالتزام علی أنّها لیست ملک بکر وبیّنة بکر تدلّ علی عکس ذلک تماماً فإذن تقع المعارضة بین الدلالة المطابقیة لکل منهما مع الدلالة الالتزامیة للاُخری فتسقطان معاً فلم تثبت دعوی کل منهما ولکن لهما مدلول التزامی آخر مشترک بینهما وهو عدم کون الدار ملکاً لزید لأنّ کلتا البیّنتین موافقتان علی ذلک وتدلاّن علیه بالالتزام وحینئذ فهل یمکن الأخذ بالبیّنتین فی هذا المدلول الالتزامی لهما بعد سقوطهما عن الحجّیة فی مدلولهما المطابقی والالتزامی المخالف بالتعارض کلاًّ ولا نظن أن یلتزم به متفقِّة فضلا عن فقیه.

ص:399

الثالث: ما إذا شهد واحد علی أنّ الدار فی المثال المذکور لعمرو وشهد آخر علی أنّها لبکر والمفروض أنّ شهادة کل واحد منهما لیست بحجّة فی مدلولها المطابقی مع قطع النظر عن معارضة إحداهما مع الاُخری لتوقّف حجّیة شهادة الواحد علی ضمّ الیمین ففی مثل هذا الفرض هل یمکن الأخذ بمدلولهما الالتزامی وهو عدم کون هذه الدار لزید لکونهما متفقتان فیه فلا حاجة إلی ضمّ الیمین فی الحکم بأنّ الدار لیست لزید کلا ولا یمکن الأخذ به.

الرابع: ما إذا قامت البیّنة علی أنّ الدار التی فی ید عمرو لزید ولکن زید أقرّ بأنّها لیست له فلا محالة تسقط البیّنة عن الحجّیة من جهة الاقرار فإنّه مقدّم علیها وبعد سقوط البیّنة عن الحجّیة بالإضافة إلی الدلالة المطابقیة من جهة قیام الإقرار علی خلافها فهل یمکن الأخذ بها بالاضافة إلی الدلالة الالتزامیة والحکم بعدم کون الدار لعمرو کلاًّ ولا یمکن الالتزام به هذا(1).

ویمکن المناقشة فی هذه النقوض وحاصل المناقشة أنّ محل الکلام فی المسألة هو ما إذا کان هناک ظهوران:

أحدهما: ظهور الدلیل فی المدلول المطابقی والآخر ظهوره فی المدلول الالتزامی ونسبة کلا الظهورین إلی الدلیل العام للحجّیة علی حدّ سواء و کل منهما موضوع مستقل لدلیل الحجّیة وعلی ضوء ذلک فبعض هذه النقوض خارج عن محلّ الکلام وبعضها الآخر داخل فیه أمّا الخارج عن محلّ الکلام فی المسألة هو المثال الأول والثالث وأمّا المثال الثانی والرابع فهو من محلّ الکلام فی المسألة أمّا خروج المثال الأول فلأنّ الحکم بنجاسة الثوب لیس مدلولا التزامیاً للبیّنة بل هو ثابت واقعاً بدلیله وهو ما دلّ علی أنّ الملاقی للنجس نجس والبیّنة بمقتضی -

ص:400


1- (1) - المحاضرات ج 3: ص 74-75.

دلیل حجّیتها تثبت المشهود به ظاهراً وهو الملاقاة فإذا ثبتت الملاقاة تترتّب علیها آثارها وهو نجاسة الملاقی فإذن لیست نجاسة الملاقی مدلولا التزامیاً للبیّنة بل هی مدلول مطابقی لدلیلها وهو ما دلّ علی أنّ الملاقی لعین النجس نجس.

وبکلمة أنّه لیس هنا فردان من الدلالة للبیّنة:

الأول: الدلالة علی ملاقاة الثوب للبول.

الثانی: الدلالة علی نجاسة الثوب بها بل دلالة واحدة وهی الدلالة علی الملاقاة وأمّا نجاسة الثوب واقعاً فهی مدلول لدلیلها فی الشبهات الحکمیة وهو ما دلّ علی نجاسة الملاقی وأمّا نجاسته ظاهراً فهی مترتّبة علی الملاقاة بدلیل حجیّة البیّنة فإنّها إذا قامت علی ملاقاة شیء للنجس ترتّب علیها آثارها الثابتة شرعاً بدلیل نجاسة الملاقی ومن الواضح أنّ ترتّب أثر الملاقاة علیها بعد ثبوتها شرعاً بالبیّنة إنّما هو من باب ثبوت الحکم بثبوت موضوعه لا من باب الدلالة الالتزامیة ضرورة أنّه لا یرتبط بها فإنّه بمقتضی دلیل حجّیة ما دلّ علی ثبوت موضوعه لا أنّه مدلول التزامی له فالبیّنة فی المثال تدلّ علی تحقّق الملاقاة فی الخارج ولا تدلّ علی نجاسة الثوب الملاقی فإنّ الدالّ علیها دلیل آخر وهو یدلّ علی أنّ من آثار الملاقاة نجاسة الملاقی وعلیه فإذا قامت البیّنة علی الملاقاة فی الخارج ترتّب علیها آثارها ظاهراً منها نجاسة الملاقی بمقتضی دلیل حجّیتها لا أنّها مدلول التزامی للبیّنة ونظیر ذلک ما إذا قامت البیّنة علی أنّ المانع الفلانی ماء فإنّ جواز الوضوء من الماء ثابت واقعاً بدلیله فی الشبهات الحکمیة کالدلیل الدالّ علی أنّ صحّة الوضوء مشروطة بکون المائع ماءً وأمّا جواز الوضوء من هذا المائع الذی قامت البیّنة علی أنّه ماء ثابت ظاهراً بدلیل حجّیتها لا أنّه مدلول التزامی للبیّنة وهکذا فی جمیع موارد ثبوت الحکم بثبوت موضوعه شرعاً هذا کلّه فی المثال الأول.

ص:401

وأمّا المثال الثانی فلا یصحّ النقض به فإنّ للقائل بأنّ الدلالة الالتزامیة لیست تابعة للدلالة المطابقیة فی الحجّیة أن یقول بذلک فی هذا المثال أیضاً فإنّ الدلالة المطابقیة لکل من البیّنتین قد سقطت عن الحجّیة فی إثبات مدلولها المطابقی لکل من عمرو وبکر من جهة المعارضة ولکن لا موجب لسقوط دلالتهما فی إثبات مدلولهما الالتزامی بالنسبة إلی زید لعدم المعارض له.

والخلاصة: أنّ سقوط دلالتهما المطابقیة عن الحجّیة بالنسبة إلی کل من عمرو وبکر إنّما هو لمانع وهو التعارض والمفروض أنّه لا مانع عن دلالتهما الالتزامیة بالنسبة إلی زید.

وأمّا المثال الثالث فهو خارج عن محل الکلام فإنّ محل الکلام فی المسألة ما إذا کانت هناک دلالة مطابقیة حدوثاً ودلالة التزامیة کذلک ولکن دلیل الحجّیة قد سقط بالنسبة إلی الدلالة المطابقیة ولم یشملها لمانع وحینئذ فهل یمکن شموله للدلالة الالتزامیة وعدم سقوطه بالنسبة إلیها من جهة عدم وجود هذا المانع أو لا وأمّا فی هذا المثال فالدلالة المطابقیة غیر متحقّقة حدوثاً حتّی تتحقّق الدلالة الالتزامیة تبعاً لها فالنتیجة أنّه لیست هنا بیّنة علی نفی ملکیة الدار لزید لا مطابقة ولا التزاماً نعم إذا قلنا بأنّ شهادة عدل واحد حجّة فی الموضوعات أیضاً فعندئذ یدخل هذا المثال فی المثال الثانی فحاله حاله ولا فرق بینهما من هذه الناحیة.

وأمّا المثال الرابع فهو کالمثال الثانی فإنّ للقائل بأنّ الدلالة الالتزامیة لیست تابعة للدلالة المطابقیة فی الحجّیة یقول بذلک فی هذا المثال وأمثاله أیضاً فإنّ دلالة البیّنة قد سقطت بالنسبة إلی مدلولها المطابقی بسبب الإقرار علی خلافه ولکن لا موجب لسقوطها بالنسبة إلی مدلولها الالتزامی هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری أنّ هذه الأمثلة تختلف عن المسألة فی المقام إذ یمکن

ص:402

القول بعدم التبعیة فی المقام ولا یمکن القول به فی الأمثلة المذکورة کما سوف نشیر إلیه.

فالنتیجة أنّ النقض بالأمثلة المذکورة غیر صحیح.

وأمّا حلاًّ فلأنّ الدلالة الالتزامیة ترتکز علی رکیزتین:

الاُولی: ثبوت الملزوم وهی بمثابة الصغری.

الثانیة: ثبوت الملازمة بینه وبین شیء وهی بمثابة الکبری ومن ضمّ الصغری إلی الکبری تحصل النتیجة وهی ثبوت اللازم وأمّا إذا لم تثبت الصغری أو الکبری أو کلتاهما فلا یمکن إثبات اللازم.

وفی المقام بما أنّ المدلول الالتزامی لازم للمدلول المطابقی فثبوته یتوقّف علی ثبوت الملازمة وثبوت المدلول المطابقی فإذا لم یثبت المدلول المطابقی أو ثبت ولکن لم تثبت الملازمة فلا یثبت المدلول الالتزامی لا محالة ولا فرق فی ذلک بین حدوثه وبقائة أصلا وبکلمة أنّ ظهور الکلام فی مدلول الالتزامی وإن کان مغایراً لظهوره فی مدلوله المطابقی إلاّ أنّ ظهوره فی ثبوت المدلول الالتزامی لیس علی نحو الاطلاق بل هو ظاهر فی ثبوت حصة خاصة منه وهی الحصّة الملازمة للمدلول المطابقی مثلا الإخبار عن ملاقاة الثوب للبول وإن کان إخباراً عن نجاسته أیضاً إلاّ أنّه لیس إخباراً عن نجاسته علی الاطلاق وبأی سبب کان بل إخبار عن حصّة خاصّة من النجاسة وهی الحصّة الملازمة لملاقاة البول بمعنی أنّه إخبار عن نجاسته المسبّبة عن ملاقاته للبول فی مقابل نجاسته المسبّبة لملاقاته للدم أو نحوه فإذا قیل أنّ هذا الثوب نجس بالنجاسة البولیة وعندئذ فإذا ظهر کذب البیّنة فی إخبارها بملاقاة الثوب للبول فلا محالة یعلم بکذبها فی إخبارها بنجاسة الثوب المسبّبة عن ملاقاة البول و أمّا نجاسته بسبب آخر وإن کانت محتملة إلاّ أنّها نجاسة اخری أجنبیة عن

ص:403

مفاد البیّنة تماماً وعلیه فکیف یمکن الأخذ بالدلالة الالتزامیة بعد سقوط الدلالة المطابقیة ومن ذلک یظهر حال بقیّة الأمثلة وسائر الموارد ومنها ما نحن فیه فإنّ ما دلّ علی وجوب فعل غیر مقیّد بالقدرة و إن کان دالا علی کونه مشتملا علی ملاک ملزم کذلک إلاّ أنّ دلالته علی کونه ذا ملاک لیست علی نحو الاطلاق حتّی مع قطع النظر عن دلالته علی وجوبه بل هی تتبع دلالته علی وجوب ذلک فیکون دالا علی حصة خاصة من الملاک وهی الحصة الملازمة لوجوبه فی مقام الاثبات والکشف ولا یدلّ علی قیام الملاک به بنحو الاطلاق وعلیه فإذا سقطت دلالته علی الوجوب من جهة وجود مانع فلا تبقی دلالته علی الملاک المسبّبة عن دلالته علی الوجوب فإذن لا علم لنا بوجود الملاک فیه لأنّ العلم به یتبع العلم بالوجوب فإذا سقط العلم بالوجوب من جهة سقوط الوجوب سقط العلم بالملاک أیضاً لأنّه معلول له ولا یعقل بقاء المعلول مع سقوط العلّة(1).

ویمکن المناقشة فیه بتقریب أنّ ما ذکره السید الاُستاذ (قدس سره) من الجواب إنّما یتمّ فیما إذا کان المدلول الالتزامی فی الواقع حصة خاصة وهی الحصّة المقارنة والملازمة لذات المدلول المطابقی واقعاً ثبوتاً وإثباتاً ولا یمکن التفکیک بینهما کذلک وذلک کعدم السکون الملازم والمقارن للحرکة لأنّ ذات المدلول الالتزامی ملازمة لذات المدلول المطابقی لا یوصف کونه مدلولا فما ذکره (قدس سره) من الجواب الحلّی تامّ فی مثل ذلک فإذا فرضنا أنّ المولی أمر بالحرکة فإنّه یدلّ علی وجوبها بالدلالة المطابقیة وعلی عدم السکون بالدلالة الالتزامیة فالمدلول الالتزامی فی الواقع حصة خاصة وهی الحصة الملازمة للحرکة ثبوتاً وإثباتاً فإذن یدلّ الأمر علی وجوب الحرکة مطابقة وعلی الحصّة الملازمة لها -

ص:404


1- (1) - المحاضرات ج 3: ص 75.

بالالتزام فإذا سقطت دلالة الأمر علی وجوب الحرکة عن الحجّیة بسقوط دلیلها بسبب من الأسباب سقطت دلالته علی الحصة المذکورة عن الحجّیة أیضاً لاستحالة بقائها بعد سقوط المدلول المطابقی وإلاّ لزم خلف فرض کونها مقارنة وملازمة له بالذات ثبوتاً وإثباتاً مثلا إذا قامت البیّنة علی حرکة شیء فإنّها تدلّ بالمطابقة علی حرکته وبالالتزام علی عدم سکونه علی أساس أنّ المدلول الالتزامی حصّة خاصّة فی الواقع وهی الحصّة المقارنة والملازمة للمدلول المطابقی وهو الحرکة وحینئذ فإذا سقطت دلالتها المطابقیة علی الحرکة عن الحجّیة بسقوط دلیلها سقطت دلالتها الالتزامیة علی عدم السکون أیضاً فإنّ الحرکة إذا سقطت بسقوط دلیل حجّیتها ولم تثبت سقطت الحصّة المقارنة والملازمة لها ذاتاً فی الواقع أیضاً لاستحالة ثبوتها مع عدم ثبوت الحرکة وإلاّ لزم خلف فرض کونها ملازمة لها ذاتاً فلهذا لا یعقل بقاء الدلالة الالتزامیة إذ معنی بقائها أنّها تدلّ علی ثبوت الحصّة المقارنة والملازمة للحرکة مع عدم ثبوت الحرکة من جهة سقوط الدلالة علیه وهو کما تری.

والخلاصة: أنّ المدلول الالتزامی إذا کان مقارناً وملازماً لذات المدلول المطابقی فی المرتبة السابقة وبقطع النظر عن وصف الدلالة وانتزاع صفة المدلول له تمّ ما أفاده (قدس سره) وأمّا إذا لم یکن المدلول الالتزامی حصّة خاصة وهی الحصّة المقارنة والملازمة للمدلول المطابقی ذاتاً وفی المرتبة السابقة فلا یتمّ ما أفاده (قدس سره) وما نحن فیه من هذا القبیل لأنّ المدلول الالتزامی فیه الملاک وهو لیس مقارناً وملازماً ذاتاً وحقیقة للمدلول المطابقی وهو الوجوب، نعم یوجد التقارن بینهما فی مرحلة الدلالة فإذا تعلّق الأمر بالصلاة فإنّه یدلّ علی وجوبها بالمطابقة وعلی وجود الملاک فیها بالالتزام علی أساس مقدّمة خارجیة التی هی بمثابة کبری القیاس وهی أنّ الأحکام الشرعیة تابعة للملاکات الواقعیة فالمدلول الالتزامی

ص:405

لازم للمدلول المطابقی فی مرحلة الدلالة والاثبات دون مرحلة الثبوت والواقع ونتیجة ذلک أنّ حدوث الدلالة علی المدلول الالتزامی تابع لحدوث الدلالة علی المدلول المطابقی تصوّراً وتصدیقاً وکل من الدلالتین مشمول لدلیل الحجّیة العام وعلی هذا فإذا سقط دلیل الحجّیة عن شمول الدلالة المطابقیة بسقوط المدلول المطابقی بسبب أو آخر فلا موجب لسقوطه عن شمول الدلالة الالتزامیة مثلا إذا سقطت دلالة الأمر علی وجوب الصلاة عن الحجّیة من جهة اشتراطه بالقدرة فلا مبرّر لسقوط دلالته علی اشتمالها علی الملاک لفرض أنّه غیر مشروط بالقدرة.

فالنتیجة أنّ للقائل بعدم التبعیة أن یقول بالتفصیل بین هذین الفرضین بمعنی أنّ فی الفرض الأول لا یمکن القول بعدم التبعیة فلابدّ من الالتزام بسقوط الدلالة الالتزامیة تبعاً لسقوط الدلالة المطابقیة وفی الفرض الثانی یمکن القول بعدم التبعیة ولکن مع هذا فالصحیح هو أنّ الدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة حدوثاً وبقاءً فإذا سقطت الدلالة المطابقیة عن الحجّیة سقطت الدلالة الالتزامیة عنها أیضاً ولا یعقل بقائها ولکن لا بهذا الملاک بل بملاک آخر علی ما سوف نشیر إلیه.

الوجه الثانی أنّ الدلالة الالتزامیة لیست من دلالة اللفظ علی المعنی بل هی من دلالة المعنی علی المعنی علی أساس أنّ الملازمة إنّما هی بین مدلولین لا بین دلالتین لأنّ المدلول الالتزامی لا یخلو فی الواقع من أن یکون معلولا للمدلول المطابقی أو بالعکس أو کلاهما معلولان لعلّة ثالثة وعلی جمیع التقادیر فالملازمة بینهما ثابتة فإذن هناک دالاّن ومدلولان:

الأول: اللفظ وهو دالّ علی المعنی.

الثانی: المعنی المطابقی وهو دالّ علی المعنی الالتزامی باعتبار أنّ الملازمة العقلیة إنّما هی بین معنیین هما المعنی المطابقی والمعنی الالتزامی

ص:406

وعلی هذا فإذا سقطت الدلالة اللفظیة عن الحجّیة لم یثبت المدلول المطابقی فإذا لم یثبت فلا یکون هناک دالّ علی المدلول الالتزامی وهذا معنی الدلالة الالتزامیة تسقط بسقوط الدلالة المطابقیة هذا.

والجواب: أنّ الملازمة بین المعنی المطابقی والمعنی الالتزامی ملازمة واقعیة وهی الملازمة بین وجودیهما فی الواقع فثبوت المعنی المطابقی واقعاً یستلزم ثبوت المعنی الالتزامی کذلک ولا ملازمة بینهما فی الثبوت التعبّدی وعلی هذا فإن ارید أنّ الدالّ علی المعنی الالتزامی خصوص ثبوت المعنی المطابقی واقعاً فیرد علیه أنّه غیر ثابت بدلیل الحجّیة العام لأنّ الثابت به إنّما هو وجوده التعبّدی لا الواقعی والمفروض أنّه لا ملازمة بینهما فیه وإن ارید أنّ الدالّ علیه أعمّ من ثبوته واقعاً أو تعبّداً فیردّه ما عرفت من أنّه لا ملازمة بینهما فی الثبوت التعبّدی وأمّا الثبوت الواقعی فهو لیس مقتضی دلیل الحجّیة العام فإذن ما هو ثابت بدلیل الحجّیة لا ملازمة بینه وبین المدلول الالتزامی وما هو ملازمة بینه وبین المدلول الالتزامی فإنّه غیر ثابت به.

ومن هنا لا تکون الاُصول المثبتة حجّة مع أنّها تثبت مدالیلها المطابقیة تعبّداً فلو کانت الملازمة ثابتة مطلقاً حتّی بین ثبوت المعنی المطابقی تعبّداً وثبوت المعنی الالتزامی کذلک لکانت الاُصول المثبتة حجّة أیضاً ولم یکن فرق بینها وبین الأمارات من هذه الناحیة فإذا کان الأثر الشرعی مترتّب علی ثبوت المدلول المطابقی أعمّ من الوجدانی والتعبّدی کان الأصل حجّة ومثبتاً له کالأمارة وأمّا إذا کان مترتّباً علی ثبوته الواقعی فلا یمکن إثباته بالأصل العملی لأنّه لا یثبت مدلوله إلاّ تعبّداً لا واقعاً.

فالنتیجة أنّ المدلول المطابقی حیث أنّه لا یثبت بدلیل الحجّیة العام إلاّ تعبّداً لا واقعاً فلا یدلّ علی ثبوت المدلول الالتزامی کذلک لعدم الملازمة

ص:407

بینهما فیه.

قد یقال کما قیل أنّ ثبوت المدلول المطابقی تعبّداً کثبوت المدلول الالتزامی وجداناً علی أساس أنّ الأمارات تقوم مقام القطع الطریقی فإذا ثبت المدلول المطابقی بالعلم الوجدانی ترتّب علیه ثبوت المدلول الالتزامی وکذلک إذا ثبت المدلول المطابقی بالعلم التعبّدی باعتبار أنّ المدلول المطابقی بمثابة الموضوع للمدلول الالتزامی وهو بمثابة الأثر له ومن الواضح أنّ الموضوع کما یثبت بالعلم الوجدانی کذلک یثبت بالعلم التعبّدی فإذن یثبت المدلول الالتزامی بثبوت المدلول المطابقی وإن کان تعبّداً.

والجواب واضح وهو أنّ نسبة المدلول المطابقی إلی المدلول الالتزامی لیست کنسبة الموضوع إلی الحکم الشرعی حتّی یکون ذلک مصحّحاً لجعل الحجّیة للأمارات الحاکیة عن المدلول المطابقی الذی هو الموضوع له بل نسبة الملازم إلی الملازم الآخر تکویناً وواقعاً فیکون المدلول الالتزامی بوجوده الواقعی لازماً للمدلول المطابقی بوجوده کذلک فإذا ثبت واقعاً وتکویناً کان ملازماً لثبوت المدلول الالتزامی کذلک ولا أثر لثبوته تعبّداً فإنّه لا یکون ملازماً لثبوته تعبّداً لعدم الملازمة بینهما فیه وإن شئت قلت أنّ الثبوت التکوینی غیر ثابت والثبوت التعبّدی بحاجة إلی دلیل والدلیل إنّما یدلّ علی ثبوت المدلول المطابقی تعبّداً وشرعاً ولا دلیل علی ثبوت المدلول الالتزامی کذلک غایة الأمر أنّ ثبوت المدلول المطابقی تعبّداً بقیام الأمارة الظنّیة یوجب الظنّ بثبوت المدلول الالتزامی ولا دلیل علی حجّیة الظنّ، تحصّل ممّا ذکرناه أنّ هذا الوجه أیضاً غیر تامّ.

الوجه الثالث: أنّ منشأ حجّیة الظواهر فی باب الإخبار هو أصالة عدم الکذب وفی باب الانشاء أصالة الظهور فإذا أخبر ثقة عن عدالة زید بقوله أنّه

ص:408

مستقیم فی جادّة الشرع کان کلامه ظاهراً فی عدالته ودالا علیها بالمطابقة وفی جواز الاقتداء به وقبول شهادته بالالتزام ومنشأ حجّیة ظهور کلامه هو أصالة عدم الکذب لأنّ کذبه عامداً وملتفتاً خلاف فرض أنّه ثقة واشتباهاً وغفلة خلاف الأصل فمن أجل ذلک یکون ظهوره مشمولا لدلیل الحجّیة العام هذا من ناحیة، ومن ناحیة اخری إذا ظهر کذبه وبان أنّ زیداً لیس بعادل فهو کذب واحد لا متعدّد بلحاظ تعدّد مدلوله المطابقی والالتزامی فلا یقال أنّه کذب فی الإخبار عن المدلول المطابقی والإخبار عن المدلول الالتزامی معاً بل یقال إنّه کذب فی الإخبار عن عدالته والنکتة فی ذلک أنّ صدقه فی المدلول الالتزامی إنّما هو بصدقه فی المدلول المطابقی لا بنفسه ومستقلا وکذبه فیه إنّما هو بکذبه فی المدلول المطابقی کذلک ولهذا لا یمکن التمسّک بأصالة عدم الکذب فی الإخبار عن المدلول الالتزامی مع سقوطها فی الإخبار عن المدلول المطابقی لأنّ أصالة عدم الکذب فی الإخبار عن المدلول الالتزامی إنّما هی بأصالة عدم الکذب فی الإخبار عن المدلول المطابقی لا بنحو الاستقلال ونتیجة ذلک أنّ أصالة عدم الکذب فی القضیة الخبریة متمثّلة فی أصالة واحدة وهی عدم الکذب فی الإخبار فیها عن المدلول المطابقی غایة الأمر أنّ لها توابع ولوازم قهریة قائمة بها بالتبع لا بالاستقلال وعلی ضوء هذا الأساس فإذا سقط الإخبار عن المدلول المطابقی عن الحجّیة من جهة ظهور کذبه وعدم مطابقته للواقع سقط الإخبار عن المدلول الالتزامی عن الحجّیة قهراً وتبعاً ضرورة أنّه لیس فیه کذب آخر لکی یمکن التمسّک بأصالة عدم الکذب فیه.

والخلاصة أنّه لیس هنا فردان من الکذب أحدهما فی الإخبار عن المدلول المطابقی والآخر فی الإخبار عن المدلول الالتزامی بل فرد واحد و هو

ص:409

الکذب فی الإخبار عن المدلول المطابقی لما مرّ الآن من أنّ الکذب فی الإخبار عن المدلول الالتزامی إنّما هو بکذبه فی الإخبار عن المدلول المطابقی لا بنفسه ومستقلا کیف فإنّه لا وجود له إلاّ بوجوده وعلیه فإذا سقطت أصالة عدم الکذب فی الإخبار عن المدلول المطابقی سقطت فی الإخبار عن المدلول الالتزامی قهراً وتبعاً وهذا معنی أنّ الدلالة الالتزامیة تسقط بسقوط الدلالة المطابقیة عن الحجّیة.

وأمّا فی باب الانشاء فإنّه إذا سقط المدلول المطابقی من جهة عدم إرادته فی الواقع عن جدّ فلیس فی سقوط المدلول الالتزامی مخالفة زائدة علی مخالفة سقوط الأول لکی یمکن التمسّک بأصالة الظهور فیه وعدم إرادة الخلاف لاثبات عدم سقوطه فإذا کان هناک منشأ واحد لکلتا الدلالتین المطابقیة والالتزامیة وهو إرادة المولی الانشاء عن جدّ باعتبار أنّ إرادة المدلول الالتزامی إنّما هی بإرادة المدلول المطابقی بالتبع لا مستقلّه فلا یعقل بقاء إرادته مع سقوط إرادة المدلول المطابقی لأنّه خلف وعلیه فإذا تبیّن أنّ المولی لم یرد المدلول المطابقی عن جدّ فقد سقط کلتا الدلالتین معاً بسقوط منشأهما فلا یمکن حینئذ التمسّک بأصالة الظهور فی شیء منهما نعم لو کان لظهوره فی المدلول الالتزامی منشأً آخر لأمکن التمسّک به طالما ظلّ منشأه ثابتاً وغیر ساقط ولکنّه خلف الفرض والجواب أنّ هذا الوجه أیضاً غیر تامّ أمّا أولا فلأنّه لو تمّ فإنّما یتمّ فیما إذا لم یترتّب علی المدلول الالتزامی أثر شرعی زائد علی ما یترتّب علی المدلول المطابقی فعندئذ إذا سقطت الدلالة المطابقیة من جهة ظهور کذبها فلیس فی سقوط الدلالة الالتزامیة کذب زائد علی ما یترتّب علی سقوط الدلالة المطابقیة لکی یتمسّک بأصالة عدم الکذب فیها للحافظ علیها و أمّا إذا ترتّب علیه أثر زائد علی ما یترتّب علی المدلول

ص:410

المطابقی فعندئذ یکون فی سقوط الدلالة الالتزامیة کذب زائد علی ما یترتّب علی سقوط الدلالة المطابقیة وحینئذ فلا مانع من التمسّک بأصالة عدم الکذب فیها بلحاظ ما یترتّب من الأثر الزائد وبالتالی بأصالة الظهور حیث أنّ فی سقوطها مخالفة زائدة علی ما یترتّب علی سقوط الدلالة المطابقیة من المخالفة.

مثال ذلک: إذا أمر المولی بشیء فإنّه یدلّ علی وجوب ذلک الشیء بالمطابقة وعلی اشتماله علی الملاک بالالتزام وفی مثل ذلک إذا سقط ظهوره فی المدلول المطابقی عن الحجّیة فلا موجب لسقوط ظهوره عنها فی المدلول الالتزامی ولا مانع عندئذ من الأخذ به باعتبار ما یترتّب علیه من الأثر الزائد فیکون حجّة علیه وهو الحکم بصحّة ذلک الشیء إذا أتی به بداعی اشتماله علی الملاک فی فرض سقوط الأمر به بسبب أو آخر وما نحن فیه من هذا القبیل فإنّ الفرد المزاحم للواجب المضیّق لا یمکن أن یکون مشمولا لإطلاق المأمور به لمکان اشتراطه بالقدرة وأمّا اشتماله علی الملاک فی مرحلة المبادیء فلا مانع منه لمکان عدم اشتراطه بها.

فالنتیجة أنّ الاتیان بالفرد المزاحم بداعی الوجوب المتعلّق بالجامع بینه وبین غیره من الأفراد لا یمکن وأمّا الاتیان به بداعی اشتماله علی الملاک فلا مانع منه وفی مثل ذلک لا محذور من الالتزام بعدم سقوط الدلالة الالتزامیة بسقوط الدلالة المطابقیة باعتبار أنّ فی سقوطها کذب زائد بلحاظ ما یترتّب علیها من الأثر الزائد ومقتضی الأصل عدمه فلو کان منشأ حجّیة الظواهر فی باب الإخبار أصالة عدم الکذب لأمکن القول بعدم تبعیة الدلالة الالتزامیة للدلالة المطابقیة فی الحجّیة إذا کان لها أثر زائد فإذن لو تمّ الدلیل المذکور فإنّما یتمّ فی غیر هذا الفرض وأمّا فیه فلا.

وثانیاً: أنّ نکتة حجّیة الظواهر فی باب الإخبار لیست أصالة عدم

ص:411

الکذب بالمعنی الشامل للاشتباه والغفلة بل الوثوق النوعی بثبوت مضامینها فی الواقع وتدور حجّیتها مدار هذا الوثوق وجوداً وعدماً حدوثاً وبقاءً وبناء العقلاء علی العمل بالظواهر بما أنّه لا یمکن أن یکون جزافاً فلا محالة یکون مبنیاً علی الوثوق النوعی بثبوت مضامینها فی الواقع کما هو الحال فی بنائهم علی العمل بإخبار الثقة.

وبکلمة أنّ بناء العقلاء علی العلم بالظواهر فی بابی الإخبار والانشاء ثابت ومرتکز فی الأذهان وحیث أنّه لا یمکن أن یکون جزافاً وبلا نکتة مبرّرة له فبطبیعة الحال تکون النکتة المبرّرة له هی إفادة تلک الظواهر الوثوق النوعی بثبوت مضامینها إخباریة کانت أم انشائیة وعلی هذا الأساس فحجّیة الظواهر بمقتضی دلیل اعتبارها تدور مدار النکتة المذکورة وجوداً وعدماً وحیث أنّها موجودة فی ظواهر الألفاظ فی بابی الإخبار والانشاء فتکون مشمولة لدلیل حجّیتها وهو سیرة العقلاء القطعیة الارتکازیة ولا فرق فی ذلک بین ظهور اللفظ فی المدلول المطابقی وظهوره فی المدلول الالتزامی فإنّه حجّة بقیام السیرة علیه فإذا أمر المولی بشیء کصوم یوم الجمعة مثلا فإنّه ظاهر فی وجوبه مطابقة وفی ثبوت الملاک فیه التزاماً وکلا الظهورین حجّة ومشمول لدلیل الحجّة من جهة توفّر مدالیلها فیهما وهو الوثوق النوعی بمطابقة الواقع وحینئذ فإذا سقط ظهوره فی المدلول المطابقی عن الحجّیة بسبب من الأسباب فلا موجب لسقوط ظهوره فی المدلول الالتزامی عنها لأنّ ملاکها متوفّر فیه والمفروض أنّ شمول دلیل الحجّیة للظاهر یدور مدار توفّر ملاکها فیه.

والخلاصة: أنّ شمول دلیل الحجّیة العام للظاهر منوط بتوفّر ملاکها فیه وهو الکاشفیة النوعیة عن الواقع فطالما یکون هذا الملاک متوفّراً فیه فهو

مشمول لدلیل الحجّیة وإلاّ فلا وعلی هذا فإذا فرضنا أنّ هذا الملاک غیر متوفّر

ص:412

فی ظهور اللفظ فی المدلول المطابقی أو متوفّر ولکن هناک مانع عن الشمول فلا مانع من شموله لظهوره فی المدلول الالتزامی إذا کان ملاک حجّیته متوفّراً فیه لأنّه یدور مداره وجوداً وعدماً ولا یدور مدار أصالة عدم الکذب.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّ الوجوه التی استدلّ بها علی تبعیة الدلالة الالتزامیة للدلالة المطابقیة ثبوتاً وحجّیة غیر تامّ.

الصحیح التبعیة مطلقا حتی فی الحجیة

ولکن مع ذلک الصحیح هو التبعیة مطلقاً حتّی فی الحجّیة بیان ذلک أنّ الدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة من مرحلة التصوّر إلی مرحلة التصدیق علی أساس أنّها من شؤون الدلالة المطابقیة فی جمیع المراحل بدرجة واحدة ولا یمکن أن تکون درجة کشف الدلالة الألتزامیة عن ثبوت المدلول الألتزامی اقوی من درجة کشف الدلالة المطابقیة عن ثبوت المدلول المطابقی او أضعف فاذا کانت الدلالة المطابقیة قطعیة سواءً أکانت فی مقام الإخبار أم الانشاء کانت الدلالة الالتزامیة أیضاً کذلک ولا یمکن أن تکون الاُولی قطعیة والثانیة ظنّیة أو بالعکس کیف فإنّها من شؤونها ومراتب وجودها علی أساس أنّها معلولة لها فی تمام مراحل وجودها من البدایة إلی النهایة فإذا کانت ظنّیة کانت الدلالة الالتزامیة أیضاً ظنّیة وهکذا وعلی ضوء هذا الأساس فاستقرار بناء العقلاء علی العمل بظواهر الألفاظ فی مدالیلها الالتزامیة إنّما هو بتبع استقرار بنائهم علی العمل بظواهرها فی مدالیلها المطابقیة باعتبار أنّ الاُولی من شؤون الثانیة وتوابعها فدلیل الحجّیة یشمل الثانیة بما لها من التوابع هذا من ناحیة ومن ناحیة اخری أنّ شمول دلیل الحجّیة العام کالسیرة للظواهر إنّما هو بملاک واحد وهو الوثوق النوعی فی إثبات مدالیلها والوثوق النوعی بالمدالیل المطابقیة یستلزم الوثوق النوعی بالمدالیل الالتزامیة لأنّها تابعة لها تصوّراً وتصدیقاً بدرجة واحدة وعلی

ضوء هاتین الناحیتین فإذا سقط الوثوق النوعی بالنسبة إلی المدلول المطابقی

ص:413

بسبب من الأسباب کالمعارضة أو نحوهما سقط بالنسبة إلی المدلول الالتزامی أیضاً لفرض أنّ الوثوق النوعی بالمدلول الالتزامی تابع للوثوق النوعی بالنسبة إلی المدلول المطابقی وإذا سقط الوثوق النوعی بالنسبة إلی المدلول المطابقی سقط بالنسبة إلی المدلول الالتزامی أیضاً لأنّه معلول له فلا یعقل زوال العلّة وبقاء المعلول وزوال المتبوع وبقاء التابع وإن شئت قلت أنّ الدلالة الالتزامیة متقوّمة بمقدّمتین:

الاُولی: الدلالة المطابقیة.

الثانیة: الملازمة البیّنة بالمعنی الأخصّ بین المدلول المطابقی والمدلول الالتزامی فاللفظ علی أساس العلقة الوضعیة یدلّ علی المعنی المطابقی تصوّراً وبضمیمة القرائن الحالیة أو السیاقیة یدلّ علیه تصدیقاً وأمّا دلالته علی المدلول الالتزامی فهی تتوقّف علی وجود الملازمة المذکورة بینهما وبعد تمامیة هاتین المقدّمتین إذا أطلق اللفظ انتقل الذهن منه إلی المعنی المطابقی مباشرة وإلی المعنی الالتزامی بالواسطة وعلیه فلیس هنا ظهوران: أحدهما ظهور اللفظ فی المعنی المطابقی والآخر ظهوره فی المعنی الالتزامی بل له ظهور واحد مباشرة وهو ظهوره فی المدلول المطابقی وأمّا ظهوره فی المدلول الالتزامی فهو یتولّد منه بواسطة الملازمة بینهما لا أنّه ظهور له فی عرض ظهوره فی المدلول المطابقی فإذن ظهوره فی المدلول الالتزامی معلول لأمرین:

أحدهما: ظهوره فی المدلول المطابقی.

والآخر: وجوه الملازمة بینهما فلهذا یکون فی طوله ومن مراتب وجوده وحینئذ فإذا سقط الوثوق النوعی عن ظهوره فی المدلول المطابقی بسبب أو آخر کالعلم الخارجی بعدم مطابقته للواقع أو من جهة المعارضة مع

دلیل آخر وهکذا سقط الوثوق النوعی عن ظهوره فی المدلول الالتزامی أیضاً

ص:414

باعتبار أنّه معلول له ومتولّد منه.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّه لا یمکن إحراز اشتمال الفرد المزاحم علی الملاک علی القول بسقوط الأمر عن الجامع بینه وبین سائر الأفراد بالدلالة الالتزامیة فالحکم بصحّة الاتیان به مبنی علی ثبوت الأمر بالجامع، هذا من ناحیة ومن ناحیة اخری قد ذکرنا سابقاً بطلان هذا القول وأنّه لا مانع من الاتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر المتعلّق بالجامع علی کلا القولین فی المسألة هما القول بأنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف یکون بحکم العقل بملاک حکمه بقبح تکلیف العاجز، والقول بأنّ اعتبارها باقتضاء نفس الخطاب علی ما تقدّم تفصیله.

بقی هنا شیء وهو أنّ جماعة من الاُصولیین منهم المحقّق النائینی (قدس سره) قد ذکروا أنّ الثمرة تظهر بین القولین فی المسألة هما القول بأنّ الأمر بشیء یقتضی النهی عن ضدّه العبادی کالأمر بالازالة فإنّه یقتضی النهی عن الصلاة والقول بأنّه لا یقتضی النهی عنه فعلی الأول یحکم بفساد العبادة.

وعلی الثانی بصحّتها هذا والتحقیق أنّ الثمرة لا تظهر بینهما وذلک لأنّ ظهور الثمرة مبنی علی أنّ النهی الغیری کالنهی النفسی فإذا تعلّق بعبادة منع من التقرّب بها مع أنّ الأمر لیس کذلک للفرق بینهما من هذه الناحیة فإنّ النهی النفسی یکشف عن أنّ متعلّقه مبغوض ومشتمل علی مفسدة ولهذا إذا تعلّق بعبادة یقتضی فسادها بینما النهی الغیری لا یکشف عن ذلک ولا یکون ناشئاً منها وإنّما یکون ناشئاً عن ملاک قائم بغیره فالنهی الغیری المتعلّق بالصلاة إنّما هو ناشیء عن ملاک قائم بالازالة لا عن ملاک فی نفسها وإلاّ لکان نفسیاً لا غیریاً وهو خلف ولهذا لا یقتضی فسادها ولا یمنع من التقرّب بها باعتبار أنّه

لا یکشف عن أنّها مبغوضة ومن هنا لا تنافی بین النهی الغیری والأمر النفسی

ص:415

فی مرحلة المبادیء والخلاصة أنّ النهی المتعلّق بالصلاة الناشیء من المصلحة القائمة بالازالة لا یکشف عن اشتمالها علی مفسدة وکونها مبغوضة بل لا ینافی اشتمالها علی مصلحة وکونها محبوبة فی نفسها غایة الأمر أنّها دون الازالة فی المحبوبیة وحینئذ فلا مانع من الاتیان بالصلاة المزاحمة للازالة مضافة إلی الله تعالی أمّا من جهة محبوبیتها فی نفسها أو من جهة اشتمالها علی مصلحة مطلوبة عند الله تعالی ولا یکون النهی الغیری عنها مانعاً عن التقرّب بها بل لا مانع من الاتیان بها بداعی الأمر بالجامع بینها وبین سائر الأفراد کما تقدّم.

فالنتیجة أنّه لا ثمرة بین القولین فی المسألة من هذه الناحیة(1).

هذا تمام الکلام فی المقام الأول وهو التزاحم بین الواجب الموسّع والواجب الضیّق.

المورد الثانی: التزاحم بین الواجبین المضیّقین
اشارة

وأمّا الکلام فی المقام الثانی وهو التزاحم بین الواجبین المضیّقین کما إذا وقع التزاحم بین الصلاة فی آخر الوقت والازالة ویکون أحدهما أهمّ من الآخر ففی مثل ذلک لا یمکن تصحیح الواجب المهم بالأمر لاستحالة الأمر به مع فعلیة الأمر بالأهم وإلاّ لزم طلب الجمع بین الضدّین کما لا یمکن تصحیحه بالملاک لعدم الطریق إلی إحرازه فإذن تتوقّف صحّته علی القول بإمکان الترتّب فإن قلنا بإمکانه حکم بصحّته بداعی الأمر الترتّبی وإن قلنا بعدم إمکانه لم یمکن الحکم بصحّته لا من ناحیة الأمر ولا من ناحیة الملاک.

بیان ذلک یتطلّب البحث عن عدّة نقاط:

النقطة الأولی: أن یکون التزاحم بین التکلیفین المضیّقین کوجوب الصلاة فی آخر الوقت و وجوب الإزالة فیه بحیث لا یکون المکلف قادرا علی امتثالهما معا

الاُولی: أن یکون التزاحم بین التکلیفین المضیّقین کوجوب الصلاة مثلا

-

ص:416


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 264-265.

فی آخر الوقت ووجوب الازالة فیه بحیث لا یکون المکلّف قادراً علی امتثال کلا التکلیفین معاً وأمّا إذا کان أحدهما موسّعاً والآخر مضیّقاً کالصلاة فی أول الوقت والازالة فیه فهو خارج عن محلّ الکلام فی المسألة علی أساس أنّه لا تزاحم بین وجوب الصلاة فی أوّل الوقت ووجوب الازالة من جهة قدرة المکلّف علی امتثال کلیهما معاً بدون أی تنافی بینهمنا فإذن لا موضوع لمسألة الترتّب هنا هذا.

ولکن ذهب المحقّق النائینی (قدس سره) إلی أنّ بین إطلاق خطاب الواجب الموسّع وخطاب الواجب المضیّق تزاحم فلا یمکن الجمع بینهما ولابدّ من رفع الید عن أحدهما أمّا عن إطلاق خطاب الواجب الموسّع وأمّا عن وجوب الواجب المضیّق وعلی هذا فلا مانع من الالتزام بالترتّب فی المقام بتقریب أنّ إطلاق خطاب الواجب الموسّع مقیّد لبّاً بعدم الاشتغال بالواجب المضیّق وفی صورة الاشتغال به لا إطلاق له(1).

وهنا تعلیقان:

الأول: ما تقدّم من أنّه لا تزاحم بین إطلاق خطاب الواجب الموسّع وخطاب الواجب المضیّق فإنّ متعلّقه الجامع بین المقدور وغیر المقدور والمطلوب إنّما هو صرف وجوده وهو لا یسری إلی الافراد ولهذا یکون التطبیق بحکم العقل لا بحکم الشرع نعم لو کان ذلک بحکم الشرع أو کان إطلاقه شمولیاً لکان بینه وبین خطاب الواجب المضیّق تعارض لا تزاحم وعلی الجملة فالمراد من إطلاق خطاب الواجب الموسّع هو تعلّقه بالجامع بین

المقدور وغیر المقدور لا بحصّة خاصّة وهی الحصّة المقدورة ولیس المراد منه

-

ص:417


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 262.

الإطلاق الشمولی وعلی هذا فلا تزاحم بینه وبین خطاب الواجب المضیّق والتزاحم إنّما هو بین فرد الواجب الموسّع والواجب المضیّق والمفروض أنّه لیس متعلّق الخطاب مباشرة ولا بالواسطة فإذان لا موضوع للالتزام بالترتّب لأنّ الالتزام به یتوقّف علی تقیید الخطاب المهم بعدم الاشتغال بالأهم لبّاً ومن الواضح أنّ هذا التقیید منوط بالتزاحم بینهما والمفروض أنّه لا تزاحم فی المقام بین خطاب الواجب الموسّع وخطاب الواجب المضیّق حتّی یتطلّب هذا التقیید اللبّی.

التعلیق الثانی: أنّ ما ذکره السیّد الاُستاذ (قدس سره) من أنّ هذا التنافی بین إطلاق الواجب الموسّع والواجب المضیّق مبنی علی بنی علیه (قدس سره) من أنّ التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة وحیث إنّه لا یمکن تقیید إطلاق الواجب الموسّع بالفرد المزاحم فلا یمکن إطلاقه بالنسبة إلیه أیضاً علی أساس أنّ التقابل بینهما إذا کان من تقابل العدم والملکة فاستحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر.

ونتیجة ذلک أنّ إطلاق خطاب الواجب الموسّع حیث یزاحم خطاب الواجب المضیّق فمع فعلیته یستحیل إطلاقه وعلیه فلابدّ من رفع الید إمّا عن أصل وجوب المضیّق أو عن إطلاق خطاب الموسّع وتقییده بعدم الاشتغال بالواجب المضیّق وعلیه فلا یمکن الحکم بصحّة الاتیان بالفرد المزاحم بقصد الأمر المتعلّق بالجامع بینه وبین سائر الأفراد إلاّ بالالتزام بالترتّب هذا(1). وغیر خفی أنّ هذا التعلیق مبنی علی الخلط بین الإطلاق المقابل للتقیید بتقابل العدم

والملکة الذی هو بمعنی سلبی وهو عدم التقیید فی مورد قابل له والاطلاق فی

-

ص:418


1- (1) - المحاضرات ج 3: ص 64.

المقام الذی هو بمعنی ثبوتی وهو شمول إطلاق الواجب الموسّع للفرد المزاحم فی مقابل تقییده به والتقابل بینهما من تقابل التضادّ فاستحالة التقیید تستلزم ضرورة الاطلاق لا استحالته.

وبکلمة أنّ الاطلاق المقابل للتقیید بتقابل العدم و الملکة إنّما هو بمعنی عدم التقیید فی مورد قابل للتقیید علی أساس أنّ التقابل بینهما متقوّم بقابلیة المحل لکل منهما مثل العمی والبصر والعلم والجهل ونحوهما وأمّا إذا لم یکن المحل قابلا للملکة فلا یکون قابلا للعدم أیضاً بداهة أنّ المحل إذا لم یکن قابلا للاتّصاف بالبصر لم یکن قابلا للاتّصاف بالعمی أیضاً کالحجر والجدار ونحوهما ومن هنا قلنا أنّ تقیید الصلاة بقصد الأمر لو کان مستحیلا لکان عدم تقییدها به أیضاً مستحیلا لأنّ المورد کالصلاة غیر قابل للاتّصاف بقصد الأمر ولا للاتّصاف بعدمه فلهذا إذا استحال الأول استحال الثانی وأمّا إذا کان المورد قابلا للاتّصاف بشیء فیکون قابلا للاتّصاف بعدمه أیضاً لأنّ مقابل الملکة العدم الخاص لا الوجود وعلی هذا فلیس مراد المحقّق النائینی (قدس سره) من الاطلاق فی المقام الاطلاق بمعنی عدم التقیید فی مورد قابل له مراده (قدس سره) من الاطلاق فیه بمعنی شموله للفرد المزاحم وهو معنی ثبوتی لا سلبی.

فالنتیجة أنّ ما ذکره (قدس سره) من التزاحم بین الواجب المضیّق وإطلاق الواجب الموسّع لیس مبنیاً علی ما بنی علیه (قدس سره) من أنّ التقابل بین الاطلاق والتقیید من تقابل العدم والملکة هذا من ناحیة ومن ناحیة اخری أنّ من المحتمل أن یکون ما ذکره (قدس سره) مبنیاً علی أحد أمرین:

الأول: ما بنی (قدس سره) علیه من أنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف إنّما هو باقتضاء نفس الخطاب باعتبار أنّ الغرض منه إیجاد الداعی فی نفس المکلّف

وهو لا یمکن إلاّ أن یکون متعلّقه خصوص الحصّة المقدورة فحسب وعلی

ص:419

هذا فالأمر المتعلّق بالصلاة یقتضی کون متعلّقه خصوص تلک الحصّة وهی الحصّة المقیّدة بغیر الفرد المزاحم للواجب المضیّق فإذن لا یمکن أن یکون الأمر بالصلاة مطلقاً بالنسبة إلی الفرد المزاحم وهذا معنی التزاحم بین إطلاق الواجب الموسع والواجب المضیّق وإنّهما لا یجتمعان.

النقطة الثانیة: انّ محل الکلام فی المسألة إنما هو فیما إذا کان الواجبان من الضدین اللذین لهما ثالث

الثانی: أن یکون التخییر بین أفراد الواجب الموسّع شرعیاً لا عقلیاً فإذا کان شرعیاً فلا یمکن تعلّق الخطاب التخییری بالفرد المزاحم لاستحالة الأمر بالضدّین فی آن واحد ولو تخییراً فلذلک یقع التزاحم بین إطلاق خطاب الواجب الموسّع وبین وجوب الواجب المضیّق.

ولکن کلا الأمرین غیر صحیح أمّا الأمر الأول فقد تقدّم الکلام فیه موسّعاً بأنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف إنّما هو بحکم العقل علی أساس حکمه بقبح تکلیف العاجز ولولا هذا الحکم العقلی فی المرتبة السابقة فلا یمکن أن یکون الخطاب مقتضیاً ذلک لأنّ اقتضائه إنّما یکون علی أساس حکم العقل لا فی نفسه.

وأمّا الأمر الثانی: فقد تقدّم أنّ التخییر بین أفراد الواجب الموسّع عقلی لا شرعی لأنّ الوجوب متعلّق بصرف وجود الجامع القابل للانطباق علی تمام أفراده فی الخارج منها الفرد المزاحم.

تحصّل أنّ ما ذکره (قدس سره) من التزاحم بین إطلاق الواجب الموسّع والواجب المضیّق فی غیر محلّه.

النقطة الثانیة: أنّ محل الکلام فی المسألة إنّما هو فیما إذا کان الواجبان من الضدّین اللذین لهما ثالث کالصلاة والازالة أو الصلاة وانقاذ الغریق أو الحریق وأمّا إذا کانا من الضدّین اللذین لا ثالث لهما کالحرکة والسکون

ونحوهما فیکون خارجین عن باب التزاحم وداخلین فی باب التعارض لأنّ

ص:420

التنافی بینهما إنّما یکون فی مرحلة الجعل لا فی مرحلة الامتثال فقط الناشیء من عدم قدرة المکلّف علی الجمع بینهما فی هذه المرحلة وذلک لأنّ جعل التکلیف لهما معاً غیر معقول لاستلزامه التکلیف بالمحال وجعله لکل منهما مشروطاً بعدم الآخر لغو علی أساس أنّ وجود الحرکة عند عدم السکون ضروری وبالعکس ولا معنی لإیجاب أحدهما عند عدم الآخر لأنّ وجوده فی هذه الحالة ضروری ومن الواضح أنّ القدرة لا تتعلّق إلاّ بالممکن لا بالواجب وجوده فی الخارج ولا بالممتنع وجوده فیه وعلی هذا فإذا دلّ دلیل علی وجوب الحرکة ودلّ دلیل آخر علی وجوب السکون کان بینهما تعارض فلا یمکن جعل کلا الوجوبین لهما معاً بنحو الاطلاق لاستلزامه التکلیف بالمحال.

فالنتیجة أنّ محل الکلام فی المسألة فی الضدّین اللذین لهما ثالث حیث أنّ جعل التکلیف لهما ممکن ولکن قد یقع التزاحم بینهما فی مرحلة الامتثال.

النقطة الثالثة: فی تمییز باب التزاحم عن باب التعارض

النقطة الثالثة: فی تمییز باب التزاحم عن باب التعارض بیان ذلک أنّ التزاحم بین حکمین ناشیء من عدم قدرة المکلّف علی الجمع بینهما فی مرحلة الامتثال فإنّ له قدرة واحدة فإنّ صرفها فی امتثال أحدهما عجز عن امتثال الآخر وبالعکس بدون أی تنافی بینهما فی مرحلة الجعل بینما التعارض بین حکمین ناشیء عن التنافی بینهما فی مرحلة الجعل ذاتاً أو عرضاً وبذلک یختلف باب التعارض عن باب التزاحم هذا من ناحیة ومن ناحیة اخری أنّه لا یمکن جعل حکمین اللذین لا یقدر المکلّف علی الجمع بینهما فی مرحلة الامتثال لأنّه لغو صرف فلا یمکن صدوره من المولی الحکیم فإذن لا محالة یسری التنافی إلی مرحلة الجعل ولابدّ حینئذ من الرجوع إلی مرجّحات باب التعارض وعلی هذا الأساس فعدم رجوع باب التزاحم إلی باب التعارض

منوط بالالتزام بأمرین:

ص:421

الأول: أنّ کل خطاب شرعی مقیّد لبّاً بعدم الاشتغال بضدّه الواجب المساوی أو الأهم.

الثانی: الالتزام بالترتّب وأمّا فی فرض عدم الالتزام بالأول أو بالثانی فیدخل باب التزاحم فی باب التعارض أمّا علی الفرض الأول فلأنّه لا یمکن جعل حکمین للضدّین بنحو الاطلاق لاستلزامه طلب الجمع بینهما وهو مستحیل فإذن تقع المعارضة بینهما ولابدّ من الرجوع إلی مرجّحات بابها وأمّا علی الفرض الثانی وهو عدم الالتزام بالترتّب فأیضاً تقع المعارضة بینهما لأنّ فعلیة الأمر بالضدّین مستحیلة فی زمن واحد وإن کانت بنحو الترتّب حیث أنّ الالتزام بالتقیید اللبّی العام وحده لا یکفی لرفع الاستحالة طالما لا یقول بامکان الترتّب إذ حینئذ وإن کان الأمر بالصلاة مثلا مقیّداً لبّاً بعدم الاشتغال بضدّها الواجب لا یقلّ عنها فی الأهمیة کإنقاذ الغریق أو الحریق إلاّ أنّه فی حال عدم الاشتغال به یکون کلا الأمرین فعلیاً أمّا الأمر بالصلاة فلتحقّق شرطه وهو عدم الاشتغال بضدّه الواجب وأمّا الأمر به فلأنّه لا موجب لسقوطه طالما یکون المکلّف متمکّناً من الاتیان به هذا إذا کان أهمّ وأمّا إذا کان مساویاً للصلاة فلتحقّق شرطه وهو عدم الاشتغال بالصلاة.

وبکلمة واضحة أنّ کل خطاب شرعی مقیّد لبّاً بعدم الاشتغال بضدّه الواجب لا یقلّ عنه فی الأهمیة سواءً أکان الأهمّ أم المساوی مثلا الأمر المتعلّق بالصلاة مقیّد لبّاً بعدم الاشتغال بالازالة ضرورة أنّه لا یمکن جعل الأمر بالصلاة مطلقاً حتّی فی حال الاشتغال بها لاستلزامه طلب الجمع بین الضدّین وهو مستحیل ومن هنا لولا هذا التقیید اللبّی لکان بینهما تعارض ومن المعلوم أنّه یتطلّب رفع الید عن أحد الحکمین مطلقاً لا فی حالة دون اخری وعلی هذا فإذا

وقع التزاحم بین وجوب الصلاة ووجوب الازالة فی مرحلة الامتثال فتطبیق

ص:422

قواعد باب التزاحم علیهما ومرجّحاته منوط بتوفّر الأمرین المشار إلیهما آنفاً أحدهما تقیید إطلاق وجوب الصلاة بعدم الاشتغال بالازالة لبّاً وإلاّ لزم طلب الجمع بین الضدّین إذا ظلّ وجوب الصلاة علی إطلاقه وهو لا یمکن فإذن یدور الأمر بین رفع الید عن وجوب الصلاة مطلقاً ورفع الید عن إطلاقه وتقییده بعدم الاشتغال بالازالة فإذا دار الأمر بینهما تعیّن الثانی لأنّ الضرورة تتقدّر بقدرها وهی لا تتطلّب أکثر من تقیید إطلاق وجوب الصلاة بعدم الاشتغال بالازالة لا رفع الید عن وجوبها مطلقاً حتّی فی صورة عدم الاشتغال بها وهذه نکتة عامّة تتطلّب تقیید کل خطاب شرعی لبّاً بعدم الاشتغال بضدّه الواجب لا یقلّ عنه فی الأهمیة.

والخلاصة أنّ تقیید إطلاق وجوب کل واجب فی الشریعة المقدّسة لبّاً بعدم الاشتغال بضدّ واجب لا یقل عنه فی الأهمیة أمر ضروری وذلک لأنّ إطلاقه مستحیل ثبوتاً بملاک أنّ الغرض منه إن کان هو طلب الجمع بین الضدّین والتوصّل إلیه فهو مستحیل وإن کان الغرض منه صرف المکلّف عن ذلک المزاحم وترکه والاشتغال به فهو خلف فرض أنّه لا یقل عنه فی الأهمیة وهذا برهان عقلی بشکل آخر یثبت التقیید اللبّی العام فی کل خطاب شرعی وحینئذ فإن کان الخطابان متساویین کان إطلاق کل منهما مقیّداً لبّاً بعدم الاشتغال بالآخر وان کان أحدهما أهمّ من الآخر کان إطلاق المهم مقیّداً لبّاً بعدم الاشتغال بالأهم.

الثانی: إمکان القول بالترتّب فإنّه علی ضوء هذا القول لا مانع من فعلیة الأمر بالضدّین علی نحو الترتّب ولا یلزم منها طلب الجمع بین الضدّین فإذا کان الأمر بالصلاة مثلا مشروطاً بعصیان الأمر بإنقاذ الغریق وترک الاشتغال به فکلا الأمرین فعلی عند تحقّق العصیان وترک الاشتغال به أمّا الأمر بالصلاة فلتحقّق

شرطه وهو عصیان الأمر بالانقاذ وأمّا الأمر بالانقاذ فهو لا یسقط بمجرد عصیانه

ص:423

طالما یکون المکلّف متمکّناً من امتثاله ولکن مع ذلک لا یستلزم طلب الجمع بین الضدّین فإذا توفّر هذین الأمرین خرج باب التزاحم عن باب التعارض وإلاّ فلا.

والخلاصة أنّه علی القول باستحالة الترتّب کما ذهب إلیه جماعة منهم المحقّق الخراسانی (قدس سره) یدخل باب التزاحم فی باب التعارض ولا یمکن جعل الوجوب لکل منهما مشروطاً بعصیان الآخر وعدم الاشتغال به لاستحالة فعلیته ومن الواضح أنّ کل حکم إذا استحال فعلیته استحال جعله لأنّه لغو(1) ، إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنّ عدم رجوع باب التزاحم إلی باب التعارض منوط بتمامیة الأمرین المذکورین وقد مرّ أنّهما تامّان وعلی ضوء ذلک فلا مانع من جعل حکمین مشروطین للضدّین یکون کل منهما مشروطاً بعدم امتثال الآخر إذا کانا متساویین وأمّا إذا کان أحدهما أهمّ من الآخر فیکون وجوب المهمّ مشروطاً بعدم الاشتغال بالأهم دون العکس.

النقطة الرابعة: إنّ القدرة المعتبرة فی صحة التکلیف بحکم العقل إنما هی القدرة فی مرحلة الامتثال

الرابعة: أنّ القدرة المعتبرة فی صحّة التکلیف بحکم العقل إنّما هی القدرة فی مرحلة الامتثال بمعنی أنّ الأحکام المجعولة من قبل الشارع مجعولة فی الواقع علی القادر فی هذه المرحلة لأنّ العقل لا یحکم بأکثر من ذلک ومن هنا لا تکون القدرة من شروط الحکم فی مرحلة الجعل بمعنی أنّها غیر مأخوذة فی موضوعه فی هذه المرحلة ولا من شروط الاتّصاف فی مرحلة المبادیء وإنّما هی من شروط فعلیة الحکم علی أساس أنّه یستحیل فعلیته علی العاجز ولهذا لا مانع من جعل التکلیف علی المکلّف إذا کان قادراً علی امتثاله فی ظرفه وإن کان عاجزاً حین الجعل وبذلک تفترق القدرة المعتبرة بحکم العقل

عن القیود المأخوذة فی موضوع الحکم شرعاً فی مرحلة الجعل فإنّ تلک القیود

-

ص:424


1- (1) - کفایة الاُصول: ص 134.

کما تکون شروطاً لتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء کذلک تکون شروطاً للحکم فی مرحلة الجعل بینما القدرة الحاکم بها العقل غیر دخیلة فی الملاک فی مرحلة المبادیء ولا فی الحکم فی مرحلة الجعل وإنّما هی دخیلة فی فعلیة الحکم فی مرحلة الامتثال وعلی هذا تفترق القدرة العقلیة عن القدرة الشرعیة فإنّ الحاکم بالأول حیث إنّه العقل فلا تعتبر إلاّ فی مرحلة الامتثال ولا تکون من شروط الاتّصاف ولا من الحکم بینما القدرة الشرعیة مأخوذة فی موضوع الحکم فی لسان الدلیل کسائر قیوده الشرعیة فتکون من شروط اتّصاف الفعل بالملاک فی مرحلة المبادیء والحکم فی مرحلة الجعل کالاستطاعة التی هی مأخوذة فی الآیة الشریفة فی موضوع وجوب الحج هذا من ناحیة ومن ناحیة اخری أنّ القدرة الشرعیة علی أقسام:

أقسام القدرة الشرعیة و الثمرة المترتبة علی هذه الأقسام

الأول: القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی الطاریء بغیر الاختیار.

الثانی: القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی الأعمّ من أن یکون بالاختیار أو بغیر الاختیار.

الثالث: أنّها بمعنی عدم المانع التشریعی المولوی.

وتظهر الثمرة بین هذه الأقسام فی النقاط التالیة:

الاُولی: أنّ الواجب إذا کان مشروطاً بالقدرة الشرعیة بالمعنی الثالث فلا یصلح أن یزاحم أی واجب آخر سواءً أکان ذلک الواجب مشروطاً بالقدرة العقلیة أم کان مشروطاً بالقدرة الشرعیة بالمعنی الأول أو الثانی لأنّ وجوبه مشروط بعدم وجوب واجب آخر ومع وجوبه ینتفی بانتفاء شرطه ومن هنا لا یتصوّر الترتّب بینهما حیث لا أمر بالواجب المشروط بالقدرة الشرعیة بالمعنی

الثالث مع وجود الأمر بالواجب الآخر لأنّ صرف وجود الأمر به مانع عنه

ص:425

فلایتصوّر هنا أمران:

أحدهما: یکون مترتّباً علی عصیان الآخر ومن هنا لو کان کلا الواجبین مشروطاً بالقدرة الشرعیة بالمعنی الثالث فأیضاً لا یتصوّر الترتّب بینهما لاستحالة فعلیة الأمر بکلیهما معاً لأنّ فعلیته بکل منهما متوقّفة علی عدم فعلیته بالآخر من باب توقّف المشروط علی الشرط فلهذا لا تزاحم بینهما أیضاً لعدم المقتضی له.

الثانیة: أنّ الواجب إذا کان مشروطاً بالقدرة الشرعیة بالمعنی الأول فهو یصلح أن یزاحم واجب آخر وإن کان مشروطاً بالقدرة العقلیة ولا وجه لترجیح الثانی علی الأول باعتبار أنّ ملاک کلا الواجبین موجود إذ کما أنّ ملاک الواجب.

الثانی غیر مقیّد بعدم الاشتغال بالواجب الآخر کذلک ملاک الواجب الأول فإنّه غیر مقیّد بعدم الاشتغال بالثانی فإنّه مع الاشتغال به وإنّ لم یکن قادراً علی الواجب الثانی تکویناً إلاّ أنّ عدم قدرته وعجزه التکوینی مستند إلی اختیاره ومثل هذا العجز التکوینی لا یکون مانعاً عن اتّصافه بالملاک فی مرحلة المبادیء لما مرّ من المراد من القدرة الشرعیة بالمعنی الأول القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی الطاریء بغیر الاختیار فإذن لا مانع من الالتزام بالترتّب بینهما غایة الأمر ان کانا متساویین کان الترتّب بینهما من الطرفین وإن کان أحدهما أهم من الآخر کان الترتّب من أحد الطرفین وبذلک تمتاز القدرة الشرعیة بالمعنی الأول عن القدرة الشرعیة بالمعنی الثالث.

الثالثة: أنّ الواجب إذا کان مشروطاً بالقدرة الشرعیة بالمعنی الثانی فهو لا یصلح أن یزاحم الواجب المشروط بالقدرة العقلیة باعتبار أنّ ملاکه مشروط

بعدم الاشتغال بالواجب الثانی ومع الاشتغال به ارتفع وجوب الأول بارتفاع

ص:426

ملاکه باعتبار أنّ العجز التکوینی الطاریء بالاختیار مانع عن اتّصافه بالملاک وعلی هذا فالواجب المشروط بالقدرة الشرعیة بالمعنی الثانی لا یصلح أن یزاحم الواجب المشروط بالقدرة العقلیة علی أساس أنّ الاشتغال بالثانی رافع لوجوب الأول بارتفاع ملاکه دون العکس ولکن لا یمنع ذلک من الالتزام بالترتّب بینهما بأن یکون وجوب الأول مشروطاً بعدم الاشتغال بالثانی علی القول بإمکانه.

ومن هنا یظهر أنّ الواجب المشروط بالقدرة الشرعیة بالمعنی الثانی لا یصلح ان یزاحم الواجب المشروط بالقدرة الشرعیة بالمعنی الأول أیضاً فإنّ وجوب الأول مشروط بعدم الاشتغال بالثانی ومع الاشتغال به ینتفی وجوبه بانتفاء شرطه دون وجوب الثانی نعم لا بأس بالالتزام بالترتّب بینهما کما مرّ(1).

وعلی ضوء هذا البیان یظهر أنّ ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ الواجب المشروط بالقدرة العقلیة تتقدّم علی الواجب المشروط بالقدرة الشرعیة لا یتمّ باطلاقه لما عرفت من أنّه إنّما یتمّ فی المشروط بالقدرة الشرعیة بالمعنی الثانی والثالث ولا یتمّ فی المشروط بالقدرة الشرعیة بالمعنی الأول هذا کلّه بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الاثبات فالضابط لذلک هو أنّ القدرة إذا کانت مأخوذة فی لسان الدلیل من قبل الشارع بنحو من الأنحاء أی سواءً کان بنحو الدلالة المطابقیة أو الالتزامیة أو بالقرائن الحالیة أو المقالیة أو السیاقیة أو مناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة فلا محالة یکون مبنیاً علی نکتة مبرّرة لذلک

وإلاّ فحکم العقل باعتبارها فی صحّة التکلیف بملاک حکمه بقبح تکلیف

-

ص:427


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 265.

العاجز کاف فلا حاجة إلی أخذها فی لسان الدلیل وتلک النکتة هی دخلها فی الملاک فی مرحلة المبادیء وفی الحکم فی مرحلة الجعل کسائر القیود المأخوذة فی لسان الدلیل فی مقام الجعل وعلی الجملة فکل قید مأخوذ فی لسان الدلیل من قبل الشارع فی مرحلة الجعل ظاهر فی أنّه دخیل فی الملاک والحکم معاً بلا فرق بین أن یکون ذلک القید قدرة أو غیرها(1).

فالنتیجة فی نهایة المطاف أنّ المائز بین القدرة العقلیة والقدرة الشرعیة هو أنّ ملاک اعتبار الاُولی فی صحّة التکلیف حکم العقل باستحالة تکلیف العاجز وملاک اعتبار الثانیة هو دخلها فی الملاک لا أنّه تأکید لحکم العقل.

النقطة الخامسة: اختلاف التزاحم فی باب الأحکام الشرعیة عن التزاحم الملاکی

النقطة الخامسة: أنّ التزاحم قد یکون بین الملاکات والمبادیء للأحکام الشرعیة فی الواقع وهو التنافی بین ملاکین فی التأثیر کما فی موارد اجتماع الأمر والنهی علی القول بالامتناع والضدّین الذین لا ثالث لهما إذا کانا مشتملین علی ملاکین للوجوب والحرمة وهذا التزاحم مبنی علی اشتمال المجمع فی مورد الاجتماع علی القول بالامتناع علی ملاکین للوجوب والحرمة واقعاً واشتمال کل من الضدّین علیه کذلک ولا طریق لنا إلی إحراز ذلک وما ذکر من الوجوه لإحرازه فالکل غیر تامّ وتمام الکلام فی مبحث التعادل والترجیح.

ثمّ إنّ التزاحم فی باب الأحکام الشرعیة یختلف عن التزاحم الملاکی فی نقطتین:

الاُولی: ما عرفت من أنّ فی التزاحم الحکمی لا تنافی بین الحکمین

المتزاحمین فی مرحلة الجعل لأنّ کلا منهما مجعول علی الموضوع المقدّر

-

ص:428


1- (1) - أجود التقریرات ج 1: ص 265.

وجوده فی الخارج والتنافی بینهما إنّما هو فی مرحلة الامتثال وهو ناشیء من عدم قدرة المکلّف علی امتثال کلا الحکمین معاً لأنّ له قدرة واحدة فإنّ صرفها فی امتثال أحدهما عجز عن امتثال الآخر وبالعکس وأمّا التزاحم الملاکی فیکون التنافی فیه إنّما هو فی مرحلة الجعل فلا یمکن جعل کلا الحکمین معاً کما فی مسألة اجتماع الأمر والنهی علی القول بالامتناع.

الثانیة: أنّ الترجیح أو التخییر فی موارد التزاحم الحکمی یکون بید المکلّف فإنّه ینظر إلی الحکمین المتزاحمین فإن کانا متساویین فوظیفته التخییر وإن کان أحدهما أهم من الآخر فوظیفته الترجیح وأمّا فی موارد التزاحم الملاکی فالترجیح أو التخییر إنّما هو بید المولی حیث إنّه لا طریق للمکلّف إلی ملاکات الأحکام الشرعیة ومبادئها فضلا عن أنّ هذا الملاک أهم من ذاک.

نستعرض نتائج بحث الثمرة فی عدّة نقاط:

الاُولی أنّ مسألة الضدّ لیست من المسائل الاُصولیة لأنّ المیزان فی اصولیة المسألة إنّما هو بترتّب أثر فقهی علیها مباشرة وهذا المیزان غیر متوفّر فیها ولهذا تکون من المبادیء التصدیقیة لا من المسائل الاُصولیة.

الثانیة: أنّ الأصحاب قد ذکروا لهذه المسألة ثمرتین:

إحداهما: فیما إذا وقعت المزاحمة بین واجب موسع کالصلاة فی أوّل الوقت وواجب مضیّق کازالة النجاسة عن المسجد والاُخری فیما إذا وقعت المزاحمة بین واجبین مضیّقین یکون أحدهما أهمّ من الآخر.

الثالثة التزم المحقّق الثانی (قدس سره) بظهور الثمرة فی المسألة الاُولی وهی

صحّة العبادة علی القول بعدم الاقتضاء وفسادها علی القول بالاقتضاء ولکن

ص:429

یرد علیه أنّه لا تزاحم فی المسألة لأنّ المکلّف قادر علی امتثال کلا الواجبین معاً نعم ما یکون مزاحماً للواجب المضیّق هو فرد الواجب الموسّع وهو لیس بواجب وعلیه فلا یقتضی الأمر بالازالة النهی عن الصلاة ولا مانع من انطباقها علی الفرد المزاحم والنهی الغیری المتعلّق به علی القول بالاقتضاء لا یمنع عن الانطباق فإذن لا تظهر الثمرة بین القولین فی المسألة.

الرابعة: أنّ الإتیان بالفرد المزاحم محکوم بالفساد علی کلا القولین فی المسألة بناءً علی نظریة المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف إنّما هو باقتضاء نفس الخطاب دون حکم العقل وأمّا بناءً علی نظریة المشهور من أنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف إنّما هو بحکم العقل من باب قبح تکلیف العاجز فالاتیان بالفرد المزاحم صحیح علی کلا القولین فی المسألة(1).

الخامسة: ذکر السیّد الاُستاذ (قدس سره) أنّ نظریة المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ اعتبار القدرة فی صحّة التکلیف إنّما هو باقتضاء نفس الخطاب مبنیة علی مسلک المشهور فی باب الانشاء وهو إیجاد المعنی باللفظ وأمّا بناءً علی ما هو الصحیح من أنّ الانشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج فالتکلیف لا یقتضی اعتبار القدرة فی متعلّقه هذا ولکن قد تقدّم أنّه لا فرق بین المسلکین فی باب الانشاء من هذه الناحیة لأنّ التکلیف المقتضی لاعتبار القدرة فی متعلّقه إنّما هو التکلیف بوجوده التصدیقی الواقعی لا التکلیف بوجوده الانشائی بلا فرق بین أن یکون الانشاء عبارة عن إیجاد المعنی باللفظ

-

ص:430


1- (1) - المصدر المتقدّم: ص 238.

أو عن ابراز الأمر الاعتباری النفسانی(1).

السادسة: أنّ نظریة المحقّق النائینی (قدس سره) من أنّ الخطاب بنفسه یقتضی کون متعلّقه مقدوراً خاطئة ولا واقع موضوعی لها فإنّ الحاکم فی هذا الباب إنّما هو العقل من باب قبح تکلیف العاجز لا اقتضاء الخطاب هذا إضافة إلی أنّ اعتبار القدرة لو کان باقتضاء نفس الخطاب فهو لا یقتضی أکثر من کون متعلّقه مقدوراً والمفروض أنّ الجامع بین المقدور وغیر المقدور مقدور.

السابعة: أنّ السید الاُستاذ (قدس سره) قد أفاد أنّ ما ذکره المحقّق النائینی (قدس سره) من التفصیل بین القول باعتبار القدرة باقتضاء نفس الخطاب والقول باعتبارها بحکم العقل فعلی القول الأول حکم (قدس سره) بفساد الاتیان بالفرد المزاحم مطلقاً حقّ علی القول بعدم الاقتضاء فی المسألة وعلی القول الثانی فصل فی المسألة بین القولین فعلی القول بالاقتضاء حکم بالفساد وعلی القول بعدم الاقتضاء حکم بالصحّة لا یتمّ علی مسلکه (قدس سره) من استحالة الواجب المعلّق ولکن تقدّم الکلام فیه موسّعاً فلاحظ.

الثامنة: أنّ الحکم بصحّة الفرد المزاحم بداعی اشتماله علی الملاک أو رجحانه منوط بتمامیة مقدّمتین:

الاُولی: کفایة الاتیان بالعبادة بداعی رجحانها واشتمالها علی الملاک.

الثانیة: إثبات أنّه راجح أو مشتمل علی الملاک أمّا المقدّمة الاُولی فهی ثابتة لأنّ المعتبر فی صحّة العبادة قصد القربة وهو إضافتها إلی المولی.

وأمّا المقدّمة الاُولی: فقد ذکر المحقّق النائینی (قدس سره) أنّ الفرد المزاحم تامّ الملاک کغیره من الأفراد حتّی علی القول بالاقتضاء لأنّ النهی حیث إنّه لم ینشأ

-

ص:431


1- (1) - المصدر المتقدّم: ص 239.

عن وجود مفسدة فی متعلّقه فلا یکون مانعاً عن اشتماله علی الملاک ورجحانه، ولکنّه لا یتمّ علی مسلکه (قدس سره) من أنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف إنّما هو باقتضاء نفس الخطاب فإنّ متعلّقه إذا کان مقیّداً بالقدرة فلا طریق لنا إلی إحراز أنّ الفرد المزاحم مشتمل علی الملاک لأنّ الطریق إلیه منحصر بثبوت الأمر به والمفروض انه غیر ثابت.

نعم بناءً علی ما ذکرناه من أنّ متعلّقه الجامع بین المقدور وغیر المقدور حتّی علی القول بأنّ اعتبار القدرة باقتضاء نفس الخطاب. فلا فرق بینه وبین سائر الأفراد لأنّ الواجب ینطبق علیه کانطباقه علی غیره وهو یکشف عن اشتماله علی الملاک.

التاسعة: أنّ الدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة حدوثاً لا حجّة وعلی هذا فالدلیل الدالّ علی وجوب الواجب الموسّع مطلقاً بالمطابقة یدلّ علی اشتماله علی الملاک کذلک بالالتزام فإذا سقطت الدلالة المطابقیة عن الحجّیة فلا موجب لسقوط الدلالة الالتزامیة عنها فإذن یبقی إطلاقه بالنسبة إلی اشتماله علی الملاک علی حاله ونتیجة ذلک أنّ الفرد المزاحم مشتمل علی الملاک کغیره من الأفراد وناقش فیه السیّد الاُستاذ (قدس سره) نقضاً وحلا وقد تقدّم الإشکال فی النقض والحلّ معاً موسّعاً فلاحظ.

العاشرة: الصحیح أنّ الدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة حدوثاً وحجّة ولا یعقل سقوط الدلالة المطابقیة عن الحجّیة وبقاء الدلالة الالتزامیة علیها وهذا لا من جهة أنّ الدلالة الالتزامیة دلالة عقلیة وهی الملازمة بین ثبوت المدلول المطابقی وثبوت المدلول الالتزامی ولا من جهة أنّ منشأ حجّیة الظواهر أصالة عدم الکذب بل من جهة أنّ الدلالة الالتزامیة من شؤون الدلالة المطابقیة فی تمام مراتبها ومراحلها من مرحلة التصوّر إلی مرحلة التصدیق

ص:432

ومعلولة لها کذلک.

الحادیة عشر: أنّ التزاحم إذا کان بین الواجبین المضیّقین کالصلاة فی آخر الوقت والازالة فلابدّ أن یکون بین ضدّین لهما ثالث ولا یتصوّر بین ضدّین لا ثالث لهما فإن جعل الحکم لهما معاً لا یمکن ومن هنا یکونا داخلین فی باب التعارض.

الثانیة عشر: أنّ خروج باب التزاحم عن باب التعارض منوط بتوفّر أمرین:

الأول: أنّ کل خطاب شرعی مقیّد لبّاً بعدم الاشتغال بضدّه الواجب الذی لا یقلّ عنه فی الأهمیة.

الثانی: الالتزام بالترتّب ومع الالتزام بهذین الأمرین معاً خرج باب التزاحم عن باب التعارض وإلاّ فهو داخل فیه.

الثالثة عشر: أنّ القدرة العقلیة التی هی معتبرة بحکم العقل علی أساس قبح تکلیف العاجز غیر دخیلة فی الملاک فی مرحلة المبادیء ولا فی الحکم فی مرحلة الجعل وإنّما هی معتبرة فی مرحلة الامتثال فحسب بینما القدرة الشرعیة التی هی مأخوذة فی لسان الدلیل دخیلة فی الملاک فی مرحلة المبادیء وفی الحکم فی مرحلة الجعل بمعنی أنّها من شروط الاتّصاف والحکم معاً فحالها حال سائر القیود المأخوذة فی لسان الدلیل، وبذلک تمتاز القدرة الشرعیة عن القدرة العقلیة.

الرابعة عشر: أنّ القدرة الشرعیة علی أقسام:

الأول: القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی الطاریء بغیر اختیار المکلّف.

الثانی: القدرة التکوینیة فی مقابل العجز التکوینی الأعمّ من أن یکون

ص:433

بالاختیار أو بغیره.

الثالث: أنّها بمعنی عدم المانع المولوی الشرعی.

الخامسة عشر: أنّ الواجب المشروط بالقدرة الشرعیة بمعنی الثالث لایصلح أن یزاحم الواجب المشروط بالقدرة العقلیة ولا الواجب المشروط بالقدرة الشرعیة بالمعنی الأول ولا بالمعنی الثانی فإنّ وجوبه یرتفع بمجرد وجوبه وأمّا الواجب المشروط بالقدرة الشرعیة بالمعنی الأول فهو یصلح إن تزاحم الواجب المشروط بالقدرة العقلیة نعم إنّ الواجب المشروط بالقدرة الشرعیة بالمعنی الثانی فهو أیضاً لا یصلح أن یزاحم الواجب المشروط بالقدرة العقلیة ولا الواجب المشروط بالقدرة الشرعیة بالمعنی الأول لأنّ وجوبه یرتفع بارتفاع ملاکه بمجرد الاشتغال بالواجب الأول دون العکس نعم لو عصی ولم یشتغل به فلا مانع من الالتزام بوجوبه بناءً علی القول بالترتّب.

هذا تمام کلامنا فی هذا الجزء وقد تمّ بعونه تعالی وتوفیقه.

الفهرس

مقدّمة الواجب 5

البحث الأوّل: تقسیم المقدمة إلی وجوبیة و وجودیة 5

المقدمة الوجوبیة و خروجها عن محل الکلام 5

المقدمة الوجودیة و فوارقها عن المقدمة الوجوبیة 6

المقصود من وجوب المقدمة 6

المقدمات العلمیة 9

المقدمات الداخلیة 9

ما ذکره المحقق الخراسانی من أنه لا یمکن أن تکون أجزاء المأمور به واجبة بالوجوب الغیری 11

ما ذکره المحقق العراقی من ظهور الثمرة بین القول بتعلق الوجوب الغیری بالإجزاء و عدمه فی مسألة الأقل و الأکثر الارتباطیین 13

البحث الثانی: تقسیم الشروط إلی المقارن و المتقدم و المتأخر 15

تقسیم الشروط فی مقارن و متقدم و متأخر سواء أ کان للوجوب أو للواجب و عدمه 15

لا إشکال فی الشرط المقارن 16

ص:434

ص:435

المقام الأول: الکلام فی الشرط المتقدم 16

ما ذکره صاحب الکفایة من استحالة الشرط المتقدم 16

علاج الشرط المتقدم بإرجاعه إلی الشرط المقارن لبا و واقعا 18

المقام الثانی: الکلام فی الشرط المتأخر 22

الکلام فی الشرط المتأخر للوجوب 22

إشکال جماعة من المحققین علی إمکان الشرط المتأخر للوجوب 22

محاولة صاحب الکفایة لدفع الإشکال 22

محاولة بعض المحققین لدفع الإشکال 26

الکلام فی الشرط المتأخر للواجب 30

شروط الواجب 30

شروط الملاک المترتب علی الواجب خارجا 30

قلام المحقق الخراسانی فی المقام 31

قلام بعض المحققین فی المقام 34

قلام المحقق النائینی فی المقام 39

محاولة السید الأستاذ لإثبات أنه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر فی شرط الواجب و شرط الحکم 40

استعراض لنتائج البحث 49

التنبیه الأول: علاج ما یظهر من الأدلة من أنّ فاعلیة وجوب الحج مشروطة بحضور یوم عرفة علی نحو الشرط المتأخر مع أنّ الشرط المتأخر مستحیل 53

ص:436

التنبیه الثانی: موردان استثناهما السید الأستاذ مما بناه من احتیاج وقوع الشرط المتأخر إثباتا إلی دلیل خاص 55

المورد الأول: شرطیة الإجازة المتأخرة لصحة العقد الفضولی 55

المورد الثانی: شرطیة القدرة علی الجزء الأخیر للواجب المرکب من الأجزاء الطولیة لوجوب الأجزاء السابقة 58

البحث الثالث: فی الواجب المشروط و المطلق 61

التقسیم بلحاظ الوجوب لا الواجب 61

المقام الأول: فی إمکان رجوع القید فی القضیة الشرطیة إلی مفاد الهیئة ثبوتا و إثباتا 62

المرحلة الأولی: فی مرحلة الجعل 62

الأمر الأول: انّ رجوع القید إلی مفاد الهیئة مستحیل 62

الوجه الأول: ما أفاده الشیخ الأنصاری 62

الوجه الثانی: ما أفاده المحقق النائینی 64

الوجه الثالث: یلزم من رجوع القید إلی مفاد الهیئة التفکیک بین الإیجاب و الوجوب 68

الأمر الثانی: تعیّن رجوع القید إلی مفاد المادة لبا و واقعا 76

المرحلة الثانیة: فی مرحلة المبادیء 82

المورد الأول: فی الملاک المشروط بشیء 82

المورد الثانی: کیفیة تفسیر الإرادة المشروطیة 82

ص:437

القول الأول: ما ذکره السید الأستاذ من انّ الفرق بین الإرادة المطلقة و المشروطة فی المتعلّق 82

القول الثانی: ما ذکره المحقق العراقی 85

القول الثالث: ما ذکره المحقق النائینی من انّ الفرق بینهما فی الموجود 85

المقام الثانی: فی موارد الشک فی رجوع القید إلی مفاد المادة أو الهیئة 87

المورد الأول: مقتضی الأصل اللفظی 87

ما ذهب إلیه الشیخ الأنصاری من انّ مقتضی الأصل اللفظی رجوع القید إلی المادة 87

محل النزاع هو إذا کان القید المردد: رجوع إلی الهیئة أو المادة اختیاریا 97

المورد الثانی: مقتضی الأصل العملی 105

نتائج البحث 107

البحث الرابع: فی الواجب المعلّق و المنجز 113

معنی الواجب المعلّق و الواجب المنجز 113

النقطة الأولی: فی إمکان الواجب المعلّق و استحالته 114

نتائج البحث 131

النقطة الثانیة: لو سلمنا إمکانه، فهل هو داخل فی الواجب المطلق أو المشروط أو إنه نوع ثالث من الواجب 132

الصحیح أن الواجب المعلّق علی تقدیر إمکانه نوع ثالث من الواجب 132

ما اختاره المحقق الخراسانی فی انّ الواجب المعلّق قسم من المطلق 133

ص:438

ما اختاره الشیخ الأنصاری من أنه لا واقع لهذا التقسیم الثلاثی، بل الواجب إما مطلق أو شروط 133

قلام للمحقق العراقی فی المقام 135

النقطة الثالثة: ثمرة البحث فی الواجب المعلّق 137

بحوث: فیها أمران 138

الأمر الأول: فی وجوب الإتیان بالمقدمات المفوتة قبل وقت الواجب 138

حکم المقدمات المفوتة فی باب الحج 149

حکم المقدمات المفوتة فی باب الصوم 152

حکم المقدمات المفوتة فی باب الصلاة 155

الأمر الثانی: حکم العقل بوجوب الإتیان بالمقدمات المفوتة فی الوقت هل یکون دلیلا علی ثبوت الوجوب الشرعی و کاشفا عنه بقاعدة الملازمة 158

تتمة: ما إذا شک فی وجوب الإتیان بالمقدمات المفوتة 166

تلخیص لنتائج البحث 166

وجوب تعلم الأحکام الشرعیة 170

المقام الأول: فی تعلم الأحکام الشرعیة المطلقة أو المؤقتة بعد دخولها وقتها 170

المقام الثانی: فی تعلم الأحکام المؤقتة قبل دخول وقتها فیما إذا علم الابتلاء بها بعد دخول الوقت 171

المقام الثالث فی تعلم الأحکام الشرعیة قبل البلوغ فیما إذا علم بالابتلاء بعده 174

ص:439

المقام الرابع: فی تعلم الأحکام الشرعیة قبل دخول وقتها فیما إذا لم یعلم بالابتلاء بها بعده 176

هل یمکن التمسک بالأصول العملیة النافیة فی موارد الشک فی الابتلاء 178

المقام الخامس: هل انّ وجوب التعلم نفسی أو غیری أو إرشادی أو طریقی 185

نتائج البحث 190

البحث الخامس: فی الواجب النفسی و الواجب الغیری 193

النقطة الأولی: الفرق بین ذاتی الواجب النفسی و الواجب الغیری 193

النقطة الثانیة: ما إذا شک فی واجب أنه نفسی أو غیری 210

1 - مقتضی الأصل اللفظی 210

2 - مقتضی الأصل العملی 212

الفرض الأول: لا یعلم المکلف بفعلیة التکیلف المشکوک کونه نفسیا أو غیریا 212

الفرض الثانی: یعلم بفعلیة التکلیف لکنه لا یدری أنه نفسی أو غیری 212

الفرض الثالث: أن یعلم بوجوب فعلین فی الخارج و لکنه لا یدری أنه مقید بوجود الآخر أو لا مع علمه بالتماثل بینهما فی الإطلاق و التقیید 218

الفرض الرابع: نفس الفرض الثالث و لکن مع عدم علم المکلف بالتماثل بینهما فی الإطلاق و التقیید 221

النقطة الثالثة: ممیزات الوجوب الغیری عن الوجوب النفسی 223

1 - الوجوب الغیری لیس وجوبا مولوبا قابلا للتنجیز 223

2 - الوجوب الغیری لا یصلح أن یکون محرکا مستقلا عن الوجوب النفسی نحو الإتیان بمتعلقه 224

ص:440

3 - ملاک الوجوب الغیری و حیثیة المقدمیة 224

4 - امتثال الوجوب الغیری لا یوجب استحقاق المتوبة فی مقابل امتثال النفسی 225

الطهارات الثلاث 228

الکلام فیما هو منشأ عبادیة الطهارات الثلاث 228

ما ذهب إلیه المحقق النائینی من انّ منشأ عبادیة الطهارات الثلاث هو الأمر النفسی الضمنی المتعلق بها 238

التحقیق فی بیان منشأ عبادیة الطهارات الثلاث 240

نتائج البحث 241

البحث السادس: الملازمة بین وجوب المقدمة و وجوب ذیها 247

المقام الأول: هل البحث عن ثبوت الملازمة و عدمه من المسائل الأصولیة 247

المقام الثانی: هل الملازمة ثابتة 248

1 - فی مرحلة الإرادة 248

2 - فی مرحلة الجعل 248

المقام الثالث: فی سعة و ضیق الملازمة علی تقدیر ثبوتها 250

1 - الواجب هو مطلق المقدمة و الوجوب الغیری مطلق 251

2 - الواجب هو مطلق المقدمة و الوجوب الغیری مشروط بالعزم و إرادة الإتیان بذی المقدمة 254

3 - الواجب حصة خاصة من المقدمة و هی المقیدة بقصد التوصل بها إلی الواجب 255

ص:441

توجیهات ذکرت لبیان مراد الشیخ الأنصاری 257

4 - الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة 265

مناقشات ذکرت علی القول الرابع 266

استدلال صاحب الفصول علی وجوب خصوص المقدمة الموصلة 276

تلخیص لنتائج البحث 281

ثمرة المقدمة 284

1 - إذا کانت المقدمة محرمة 284

2 - إذا کان الواجب علّة تامة لارتکاب الحرام 293

ما ذکره المحقق الخراسانی کثمرة فقهیة للقول بوجوب المقدمة الموصلة 296

البحث السابع: الملازمة بین وجوب شیء و وجوب مقدمته 299

الأصل العملی فی المسألة 303

1 - مقتضی الأصل العملی فی المسألة الأصولیة 303

2 - مقتضی الأصل العملی فی المسألة الفرعیة 304

مقدمة المستحب 304

مقدمة الحرام 305

الفرق بین مقدمة الحرام و مقدمة الواجب 306

نتائج البحث 306

مبحث الضد 310

النقطة الأولی: البحث عن نکتة أصولیة هذه المسألة 310

ص:442

النقطة الثانیة: دخول المسألة علی القول بعدم الاقتضاء فی باب التزاحم و علی القول بالاقتضاء فی باب المعارضة غیر صحیح 311

المقام الأول: الضد العام 311

القول الأول: الأمر بالشیء عین النهی عن ضده العام 311

القول الثانی: الأمر بالشیء یدل علی النهی عن ضده العام بالتضمن 314

القول الثالث: الأمر بالشیء یدل علی النهی عن ضده العام بالالتزام 315

المقام الثانی: الضد الخاص 317

التفصیل بین الضد الموجود و الضد المعدوم 348

نظریة الحدوث 349

نتائج البحث 361

ثمرة المسألة 368

المورد الأول: إذا وقعت المزاحمة بین واجب موسع و واجب مضیّق 368

ما اختاره المحقق الثانی من ظهور الثمرة بین القولین فعلی القول بالاقتضاء تقع العبادة فاسدة و علی القول بعدم الاقتضاء تقع صحیحة 369

جواب المحقق النائینی علی ما اختاره المحق الثانی 371

التعلیق علی نظریة السید الأستاذ 375

التعلیق علی نظریة المحقق النائینی 379

التعلیق علی نظریة المحقق الثانی 386

لو سلّمنا عدم إمکان الاتیان بالفرد المزاحم یداعی الأمر المتعلق بالجامع بینه و بین غیره من الأفراد إما مطلقا أو علی القول بالاقتضاء فهل یمکن الحکم

ص:443

بصحة الإتیان به بداعی رجحانه فی نفسه أو اشتماله علی الملاک أو لا؟ 392

الکلام فی تبعیة الدلالة الالتزامیة للمطابقیة ثبوتا و حجیة و عدمها 397

الصحیح التبعیة مطلقا حتی فی الحجیة 413

المورد الثانی: التزاحم بین الواجبین المضیّقین 416

النقطة الأولی: أن یکون التزاحم بین التکلیفین المضیّقین کوجوب الصلاة فی آخر الوقت و وجوب الإزالة فیه بحیث لا یکون المکلف قادرا علی امتثالهما معا 417

النقطة الثانیة: انّ محل الکلام فی المسألة إنما هو فیما إذا کان الواجبان من الضدین اللذین لهما ثالث 420

النقطة الثالثة: فی تمییز باب التزاحم عن باب التعارض 421

النقطة الرابعة: إنّ القدرة المعتبرة فی صحة التکلیف بحکم العقل إنما هی القدرة فی مرحلة الامتثال 424

أقسام القدرة الشرعیة و الثمرة المترتبة علی هذه الأقسام 425

النقطة الخامسة: اختلاف التزاحم فی باب الأحکام الشرعیة عن التزاحم الملاکی 428

نتائج بحث الثمرة 429

ص:444

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.