دراسات فی الاصول: تقریرا لابحاث آیت الله العظمی الفاضل النکرانی المجلد 4

اشارة

سرشناسه:موسوی، سیدصمدعلی، 1343 -

عنوان و نام پدیدآور:دراسات فی الاصول : تقریرا لابحاث آیت الله العظمی الفاضل النکرانی/ المولف السیدصمدعلی الموسوی.

مشخصات نشر:قم: دارالتفسیر، 1383 -

مشخصات ظاهری:3ج.

شابک:90000 ریال

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

یادداشت:عربی.

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:اصول فقه شیعه -- قرن 14

موضوع:Islamic law, shiites -- Interpretation and construction -- 20th century

موضوع:فقه جعفری -- قرن 14

موضوع:*Islamic law, Ja'fari -- 20th century

رده بندی کنگره:BP159/8/م776د4 1383

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:5106374

ص :1

اشارة

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :3

دراسات فی الاصول: تقریرا لابحاث آیت الله العظمی الفاضل النکرانی المجلد 4

السیدصمدعلی الموسوی

ص :4

خاتمة: فی شرائط الاصول

اشارة

فی شرائط الاصول

ص:5

ص:6

حسن الاحتیاط مطلقا

و بعد تمامیّة البحث فی الاصول الثلاثة-أی البراءة و التخییر و الاحتیاط- یذکرون شرائط جریانها قبل بحث الاستصحاب،و لیس للاستصحاب حکم خاصّ و شرائط خاصّة فی قبالها.

فنقول:إنّه لا یعتبر فی حسن الاحتیاط عقلا شیء زائد علی تحقّق موضوعه و عنوانه.

یمکن أن یتوهّم:أنّ الاحتیاط إن کان موجبا لاختلال النظام لا یکون حسنا،بل لعلّه یکون قبیحا.

و لکنّه لیس بصحیح،فإنّ الاحتیاط بما هو احتیاط و بعنوانه الاحتیاطی حسن علی کلّ حال،و ما هو قبیح عنوان آخر،و هو اختلال النظام،و لا معنی لسرایة الحکم من متعلّقه و عنوانه إلی متعلّق آخر،مثل عدم سرایة الوجوب عن عنوان الوفاء بالنذر إلی عنوان صلاة اللیل بعد تعلّق النذر بها،فصلاة اللیل مستحبّة أبدا،و الواجب هو الوفاء بالنذر،فلذا یلزم فی مقام الامتثال إتیانها بداعی الأمر التعبّدی الاستحبابی لا بداعی الأمر الوجوبی المتعلّق بالنذر لکونه أمرا توصّلیّا.

علی أنّه لا تتحقّق الملازمة النوعیّة و الدائمیّة بین الاحتیاط و اختلال النظام.

نعم،هنا إشکالات لا بدّ من التعرّض لها،و الجواب عنها،بعضها یرجع إلی

ص:7

مطلق الاحتیاط و لو کان فی الشبهات البدویّة،و بعضها إلی الاحتیاط فی خصوص الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی،و بعضها إلی الاحتیاط فیما إذا قامت الحجّة المعتبرة علی خلافه.

أمّا الإشکال الراجع إلی مطلق الاحتیاط فی الامور التعبّدیّة،فهو أنّه یعتبر فی العبادات صدق عنوان الإطاعة و تحقّقه،و الإطاعة عبارة عن الانبعاث عقیب بعث المولی و أن تکون إرادة العبد تبعا لإرادة المولی بانبعاثه عن بعثه، و الحال أنّ الاحتیاط فی الشبهات البدویّة یکون باحتمال الوجوب و تحقّق الأمر،و احتمال البعث عبارة عن الحالة التصوریّة الذهنیّة للمکلّف لا یرتبط بالمولی،فلا تتحقّق الإطاعة.

و یمکن توسعة دائرة هذا الإشکال بالقول بأنّ الانبعاث لا یکون عن البعث و لو فی موارد العلم بالبعث؛لأنّ المحرّک و الباعث لیس هو البعث بوجوده الواقعی،و إلاّ لکان اللازم ثبوت الملازمة بینهما و عدم انفکاک أحدهما عن الآخر،مع أنّ الضرورة قاضیة بخلافه؛لأنّه کثیرا ما لا یتحقّق الانبعاث مع تحقّق البعث فی الواقع و نفس الأمر،و کثیرا ما ینبعث المکلّف مع عدم وجود البعث فی الواقع،فهذا دلیل علی أن المحرّک و الباعث لیس هو نفس البعث،بل الصورة الذهنیّة الحاکیة عنه باعتقاد المکلّف،فوجود البعث و عدمه سواء.

و هذا لا یختصّ بالبعث،بل یجری فی جمیع أفعال الإنسان و حرکاته؛ ضرورة أنّ المؤثّر فی الإخافة و الفرار لیس هو الأسد بوجوده الواقعی،بل صورته الذهنیّة المعلومة بالذات المنکشفة لدی النفس.و لا فرق فی تأثیرها بین کونها حاکیة عن الواقع واقعا و بین عدم کونها کذلک؛لعدم الفرق فی حصول الخوف بین العالم و بین الجاهل بالجهل المرکّب،و لو کان المؤثّر هو

ص:8

الأسد بوجوده الواقعی لکان اللازم عدم تحقّق الخوف بالنسبة إلی الجاهل،مع أنّ الوجدان یشهد بخلافه.

فانقدح ممّا ذکر أنّ الانبعاث عن بعث المولی لا یتوقّف علی وجوده فی الواقع،بل یتحقّق فی صورة الجهل المرکّب به،و السرّ أنّ الانبعاث إنّما هو عن البعث بصورته الذهنیّة المعلومة بالذات،و إلاّ یلزم عدم انفکاک الانبعاث عن البعث،فلا یتحقّق الانبعاث بدونه،و لا البعث بدون الانبعاث،و لازمه عدم تحقّق العصیان أصلا.

و حینئذ یظهر عدم إمکان تحقّق الإطاعة أصلا و لو فی صورة العلم بعد کون المعتبر فی حقیقتها هو کون الانبعاث مستندا إلی نفس البعث بوجوده الواقعی.

و یمکن تصویر ذلک بصورة البرهان بنحو الشکل الأوّل الذی هو بدیهی الإنتاج بأن یقال:إنّ الإطاعة هو الانبعاث ببعث المولی،و لا شیء من الانبعاث ببعث المولی بممکن التحقّق،ینتج:فلا شیء من الإطاعة بممکن.

و الجواب عن هذا الإشکال:أوّلا:أنّه لا دلیل لاعتبار صدق الإطاعة فی العبادات،و لا منشأ له حتّی تصل النوبة إلی البحث عن المراد،و المقصود من الإطاعة المأمور بها فی قوله تعالی: أَطِیعُوا اللّهَ... (1)إلی آخره،لیس إلاّ مجرّد الموافقة و عدم المخالفة،و الدلیل علیه أنّ إطاعة الرسول و اولی الأمر لا بدّ، و أن یکون المراد منها ذلک،کما لا یخفی،فاتّحاد السیاق یقضی بکون المراد من إطاعة اللّه أیضا لیس إلاّ مجرّد الموافقة.

و ثانیا:أنّه لا یعتبر فی تحقّق الإطاعة بنظر العرف و العقلاء إلاّ وجود البعث

ص:9


1- 1) آل عمران:32.

و العلم به-أی الانطباق المعلوم بالذات مع المعلوم بالعرض لا الجهل المرکّب- فإذا تحقّق البعث و صار موجودا واقعا و علم به المکلّف بتوسّط صورته الذهنیّة فامتثل بداعی ذلک یتحقّق حینئذ عنوان الإطاعة بدون أیّ مسامحة فی البین.

و دعوی:أنّ الانبعاث لم یکن مسبّبا عن البعث،بل یکون مسبّبا عن الصورة الذهنیّة لتحقّقه فی صورة الجهل المرکّب أیضا؛مدفوعة:بأنّ الصورة الذهنیّة حیث کانت کاشفة عن الواقع و حاکیة له یکون الانبعاث معها مستندا إلی الواقع،و هی وسیلة إلی النیل به و الوصول إلیه،فالباعث فی الحقیقة هو نفس البعث لا الصورة الذهنیّة،کیف؟و هذه الصورة مغفول عنها غیر متوجّه إلیها؛لأنّ العالم بالبعث لا یری إلاّ نفس البعث،و لا یتوجّه إلی صورته المعلومة بالذات أصلا،و من هنا نری إظهار الندامة و الاشتباه من المکلّف إذا کان انبعاثه مستندا إلی تخیّل البعث و الصورة الذهنیّة فقط عند کشف الخلاف،فإذا کانت الصورة الذهنیّة مطابقة للواقع یتحقّق استناد الانبعاث إلی المعلوم بالعرض و المعلوم بالذات معا،و لا أقلّ من ذلک،ففی صورة العلم یکون الانبعاث مستندا إلی البعث بالتبع دائما.

و أمّا الإشکال الذی یختصّ بالاحتیاط فی الشبهات البدویّة و الانبعاث عن احتمال البعث،فالجواب عنه:أنّه لا شکّ فی تحقّق عنوان الإطاعة هنا،بل المنبعث عن البعث الاحتمالی یکون فی مرتبة عالیة من الإطاعة ممّن ینبعث عن العلم بالبعث فقط.

و أمّا الإشکال الذی یختصّ بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی،فتارة من جهة التکرار،و اخری من أجل اعتبار قصد القربة و الوجه و نظائرهما

ص:10

فی العبادة.

أمّا الجهة الاولی فمحصّلها:أنّ تکرار العبادة مع إمکان تحصیل العلم التفصیلی یعدّ لعبا بأمر المولی،و اللعب و البعث ینافی العبودیّة التی هی غایة الفعل العبادی،بل نقول:إنّ حصول اللعب بالتکرار لا یختصّ بالعبادة،بل یجری فی غیرها.

أ لا تری أنّه لو علم عبد بأنّ المولی طلب منه إحضار شخص مردّد بین عدّة أشخاص،و کان قادرا علی تحصیل العلم التفصیلی بمطلوب المولی،و لکن اکتفی بالامتثال الإجمالی،فاحضر عدّة من العلماء و عملة المولی و جماعة من الصنوف المختلفة،یعدّ لاعبا بأمر المولی،و أنّه فی مقام الاستهزاء و السخریة، فیستفاد منه أنّ التکرار لعب بأمر المولی فلا یجوز.

و جوابه:أوّلا:أنّ المدّعی هو کون التکرار مطلقا لعبا بأمر المولی،و هو لا یثبت بکونه لعبا فی بعض الموارد کما فی مثل المثال؛لأنّ کثیرا من موارد التکرار لا یکون فیه لعب أصلا.

أ لا تری أنّه لو کان له ثوبان أحدهما طاهر و الآخر نجس،و کان قادرا علی غسل أحدهما،و لکن کان ذلک متوقّفا علی تحمّل المشقّة و صرف وقت کثیر، فصلّی فیهما معا،هل یعدّ هذا الشخص لاعبا و لا غیا؟و کذا لو دار الواجب فی یوم الجمعة بین الظهر و صلاة الجمعة و کان قادرا علی السؤال من الفقیه -مثلا-و لکن کان له محذور عرفی فی السؤال،إمّا من ناحیته،أو من ناحیة الفقیه،فجمع بینهما،هل یعدّ لاعبا؟کلاّ.و بالجملة،فالمدّعی لا یثبت بما ذکره.

و ثانیا:لو فرض کون التکرار لعبا و عبثا،لکن نقول:إنّ المعتبر فی صحّة العبادة أن یکون أصل الإتیان بها بداعی تعلّق الأمر بها من المولی،و أمّا

ص:11

الخصوصیّات الخارجة عن حقیقة العبادة-کالمکان و الزمان و نحوهما فی مثل الصلاة-فلا یعتبر أن یکون الإتیان بها بداعی الأمر،بل لا وجه له بعد کونها خارجة عن متعلّق الأمر،کیف؟و لو اعتبر الإخلاص فیها یلزم عدم صحّة شیء من العبادات،مثل إتیانها فی فصل الحرارة فی المکان البارد،و فی فصل البرودة فی المکان الحارّ،و نحو ذلک.

و الحاصل:أنّ المراد بکون التکرار لعبا إن کان هو اللعب بأمر المولی فذلک ممنوع جدّا؛لأنّه لیس لعبا إلاّ فی کیفیّة الإطاعة،و إن کان هو اللعب و لو فی خصوصیّات العمل فنمنع کون هذا اللعب مؤثّرا فی البطلان.

و أمّا الجهة الثانیة فمحصّلها:أنّه یعتبر فی العبادة قصد القربة و الوجه و التمییز و الجزم بالنیّة،و لا یتحقّق ذلک إلاّ مع العلم التفصیلی بالمأمور به.

و جوابها:أنّه لا مانع من تحقّق قصد القربة و الوجه و التمییز فی الامتثال أیضا،بصورة التعلیق،و القول بأنّی اصلّی صلاة الجمعة لوجوبها إن کانت واجبة،و کفایة احتمال المقرّبیّة لقصد القربة و إتیان العمل بداعی احتمال المقرّبیّة لا یکون قابلا للإنکار.

نعم،الجزم بالنیّة لا یتحقّق إلاّ مع العلم التفصیلی،و لکن لا دلیل علی اعتباره فی العبادة،لعدم الدلیل علیه لا عقلا و لا شرعا.

أمّا عقلا فواضح،و أمّا شرعا فلخلوّ النصوص عن الدلالة علی اعتباره، و من الواضح أنّ الأمر بالشیء لا یقتضی إلاّ مجرّد الإتیان فی الخارج،فإطلاق دلیل الأمر دلیل علی العدم،بناء علی ما حقّقنا فی مباحث الألفاظ من إمکان تلک الامور کلّها فی متعلّق الأمر،و علی تقدیر القول بعدم الإمکان فحیث إنّه لا سبیل للعقل إلی تشخیص کونها معتبرة،بل اللازم أن یبیّنه الشارع،

ص:12

و المفروض عدم دلیل شرعی علی اعتبارها،فلا وجه للقول به قبل جریان أصالة البراءة.و من هذه الجهة أیضا لا فرق فی جریانها بین أجزاء الصلاة و بین الامور المذکورة.

نعم،قد یستدلّ بالإجماع علی بطلان العمل بالاحتیاط،کما ادّعاه السیّد الرضی (1)علی بطلان صلاة من صلّی و لا یعلم أحکامها،و مقتضی عمومه بطلان صلاة المحتاط،و کما أنّه قد ادّعی الإجماع علی بطلان عبادة تارک طریقی الاجتهاد و التقلید و الأخذ بالاحتیاط،و لکنّ الإجماع المنقول بالخبر الواحد فاقد للحجّیّة و الاعتبار کما ثبت فی محلّه،فلا إشکال فی صحّة عبادة المحتاط.

فالإشکالات الواردة علی الاحتیاط فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی و إن کان مستلزما لتکرار العبادة قابلة للدفع.

و أمّا الإشکال الراجع إلی الاحتیاط فیما إذا کان علی خلافه حجّة شرعیّة فهو ما ذکره المحقّق النائینی رحمه اللّه و محصّله:أنّه یعتبر فی حسن الاحتیاط إذا کان علی خلافه حجّة شرعیّة أن یعمل المکلّف أوّلا بمؤدّی الحجّة،ثمّ یعقّبه بالعمل علی خلاف ما اقتضته الحجّة إحرازا للواقع،و لیس للمکلّف أن یعمل بالعکس إلاّ إذا لم یستلزم الاحتیاط استئناف جملة العمل و تکراره.

و السرّ فی ذلک:أنّ معنی اعتبار الطریق إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملا و عدم الاعتناء به،و العمل أوّلا برعایة احتمال مخالفة الطریق للواقع ینافی إلقاء احتمال الخلاف،فإنّ ذلک عین الاعتناء باحتمال الخلاف،و هذا بخلاف ما إذا قدّم العمل بمؤدّی الطریق،فإنّه حیث قد أدّی المکلّف ما هو الوظیفة و عمل بما یقتضیه الطریق،فالعقل یستقلّ بحسن الاحتیاط لرعایة إصابة الواقع.هذا،

ص:13


1- 1) ذکری الشیعة 4:325،فرائد الأصول 2:508.

مضافا إلی أنّه یعتبر فی حسن الطاعة الاحتمالیّة عدم التمکّن من الطاعة التفصیلیّة،و بعد قیام الطریق المعتبر یکون المکلّف متمکّنا من الامتثال التفصیلی بمؤدّی الطریق،فلا یحسن منه الامتثال الاحتمالی (1).انتهی.

و جوابه:أوّلا:أنّ تقدّم رتبة الامتثال التفصیلی علی الامتثال الاحتمالی ممنوع،بل الظاهر کونهما فی عرض واحد و رتبة واحدة،فمع التمکّن من تحصیل العلم یجوز له الاقتصار علی الامتثال الاحتمالی.

و السرّ:أنّه لا یعتبر فی تحقّق الإطاعة أزید من الإتیان بالمأمور به مع جمیع القیود المعتبرة فیه و لو بداعی احتمال الأمر،و لا فرق بینهما فی نظر العقل أصلا.

و ثانیا:أنّ معنی حجّیّة الأمارة و اعتبارها لیس إلاّ مجرّد وجوب العمل علی طبقها و ترتیب آثار الواقع علیها فی مقام العمل،و أمّا دلالة دلیل الحجّیّة علی لزوم إلقاء احتمال الخلاف فلم نعرف لها وجها،فإنّ مفاد بناء العقلاء الذی هو الدلیل المهمّ لحجّیّة الخبر لیس إلاّ بناء العمل علی طبقه و ترتیب الأثر علیه عملا،و لا یستفاد منه إلقاء احتمال الخلاف فی مقام العمل،و علی فرض استفادته منه لا فرق فی تحقّق الاعتناء باحتمال الخلاف بین تقدّم العمل بمؤدّی الطریق و تأخّره.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا:أنّه لا یعتبر فی حسن الاحتیاط شیء زائد علی تحقّق موضوعه و هو احتمال التکلیف،هذا کلّه فی الاحتیاط.

ص:14


1- 1) فوائد الاصول 4:265.

اعتبار الفحص فی جریان البراءة

اشارة

و أمّا أصالة البراءة فیعتبر فی جریانها فی الشبهات الحکمیّة الفحص، و الکلام فیه تارة یقع فی أصل اعتبار الفحص و وجوبه،و اخری فی مقداره، و ثالثة فیما یترتّب علی العمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة و الأحکام.

أمّا الکلام فی أصل اعتبار الفحص و وجوبه فقد یقع فی البراءة العقلیّة،و قد یقع فی البراءة الشرعیّة.

أدلّة وجوب الفحص

أمّا البراءة العقلیّة التی مدرکها قبح العقاب بلا بیان و المؤاخذة بلا برهان فلا إشکال فی اعتبار الفحص فیها؛لأنّها متفرّعة علی عدم البیان،و المراد به و إن کان هو البیان الواصل إلی المکلّف جزما،إلاّ أنّ مناط الوصول لیس هو أن یعلم المولی کلّ واحد من المکلّفین بحیث یسمعه کلّ واحد منهم،بل وصوله یختلف حسب اختلاف الموالی و العبید.

فالمولی المقنّن للقوانین العامّة الثابتة علی جمیع المکلّفین إنّما یکون إیصاله للأحکام من الأوامر و النواهی بإرسال الرسل و إنزال الکتب،ثمّ الأحادیث المرویّة عن أنبیائه و أوصیائهم المحفوظة فی الکتب التی بأیدی المکلّفین،بحیث یتمکّن کلّ واحد منهم من الرجوع إلیها و الاطّلاع علی أحکام اللّه جلّ شأنه.

ص:15

و حینئذ فالملاک فی تحقّق البیان الذی لا یقبح العقاب و المؤاخذة معه هو أن أمر اللّه تعالی رسوله بتبلیغه،و قد بلّغه الرسول علی نحو المتعارف،و صار مضبوطا فی الکتب المعدّة له،و مع فقدان أحد هذه الشروط یصدق عدم البیان و یقبح العقاب معه،و حینئذ فمع احتمال المکلّف ثبوت التکلیف المبیّن الواصل بحیث لو فحص لظفر به لا یجوز الاعتماد علی البراءة التی مدرکها قبح العقاب بلا بیان،کما أنّ العبد العرفی لو وصل إلیه مکتوب من ناحیة مولاه و احتمل أن یکون المکتوب متضمّنا لبعض التکالیف لا یجوز له القعود عنه بعدم مراجعته استنادا إلی أنّ المولی لم یبیّن حکمه،و لا یکون مثل هذا العبد معذورا عند العقلاء جزما،کما لا یخفی.

ثمّ إنّه قد یستشکل فی وجوب الفحص و عدم جریان البراءة قبله بأنّ الحکم ما لم یتّصف بوصف المعلومیّة لا یکون باعثا و محرّکا؛ضرورة أنّ البعث بوجوده الواقعی لا یصلح للمحرّکیّة،و إلاّ لکان اللازم تحقّق الانبعاث بالنسبة إلی الجاهل به المعتقد عدمه،بل قد عرفت سابقا أنّه لا یعقل أن یکون الانبعاث مسبّبا عن البعث الواقعی،بل الانبعاث دائما مسبّب عن البعث بوجوده العلمی الذی هو الصورة الذهنیّة الکاشفة عنه،و الأوامر إنّما تتّصف بالباعثیّة و المحرّکیّة بالعرض،کما أنّ اتّصافها بوصف المعلومیّة أیضا کذلک؛ ضرورة أنّ المعلوم بالذات إنّما هو نفس الصورة الحاضرة عند النفس،کما حقّق فی محلّه.

و الحاصل:أنّ البعث الواقعی لا یکون باعثا ما لم یصر مکشوفا،و الکاشف عنه إنّما هو العلم و نحوه،و أمّا الاحتمال فلا یعقل أن یکون کاشفا،و إلاّ لکان اللازم أن یکشف عن طرفی الاحتمال-أی الوجود و العدم-فمع الاحتمال

ص:16

لا یکون البعث الواقعی محرّکا و باعثا،و بدون الباعثیّة لا یمکن أن یکون منجّزا،و مع عدم التنجّز لا وجه لاستحقاق العقوبة علی مخالفته،و لا فرق فی هذا بین کون المکلّف قادرا علی الفحص و عدمه.

و یرد علیه:أوّلا:النقض بما إذا قامت الحجّة المعتبرة من قبل المولی علی ثبوت التکلیف و فرض عدم إفادتها الظنّ،بل کان التکلیف مع قیام الأمارة أیضا مشکوکا أو مظنون الخلاف،فإنّه یجری فیه هذا الإشکال،و مقتضاه حینئذ عدم ثبوت العقاب علی مخالفته علی تقدیر ثبوته فی الواقع،مع أنّه واضح البطلان،و إلاّ یلزم لغویّة اعتبار الأمارة،کما هو واضح.مضافا أنّه لا یلتزم به المستشکل أیضا.

و ثانیا:الحلّ بأنّه لا نسلّم أن تکون المنجزیّة متفرّعة علی الباعثیّة؛لأنّ المنجّزیّة الراجعة إلی صحّة عقوبة المولی علی المخالفة و العصیان حکم عقلی، و قد عرفت أنّ العقل یحکم بعدم المعذّریّة،و بصحّة العقوبة لو بیّن المولی التکلیف بنحو المتعارف،بحیث کان العبد متمکّنا من الاطّلاع علیه بالمراجعة إلی مظانّ ثبوته و لم یراجع،فخالف اعتمادا علی البراءة کما عرفت فی مثال المکتوب الواصل من المولی إلی العبد،و یحتمل اشتماله علی بعض التکالیف، و الظاهر أنّ هذا من الوضوح بمکان،فلا مجال لهذا الإشکال.

ثمّ إنّه قد یقرّر وجوب الفحص بوجه آخر،و محصّله:أنّ ارتکاب التحریم قبل الفحص و مراجعة مظانّ ثبوته ظلم للمولی،و الظلم قبیح محرّم خصوصا ظلم المولی،فلو اقتحم فی المشتبه قبل الفحص یستحقّ العقوبة لأجل ظلم المولی،کما أنّه فی موارد التجرّی یستحقّ العقوبة علیه و إن کان لا یستحقّ العقوبة علی مخالفة الواقع فی المقامین.

ص:17

و یرد علیه:أنّ تحقّق عنوان الظلم فی المقام لیس إلاّ من جهة احتمال حصول المخالفة بالاقتحام فی المشتبه؛ضرورة أنّه مع العلم بعدم وجود التکلیف فی البین لا یکون مجرّد ترک الفحص من مصادیق ذلک العنوان،فترک الفحص و ارتکاب محتمل التحریم إنّما یکون ظلما لأجل احتمال تحقّق المخالفة التی هی قبیحة موجبة لاستحقاق العقوبة.

و حینئذ نقول:بعد جریان حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان و لو قبل ترک الفحص-کما هو المفروض-لا یبقی مجال لاحتمال تحقّق المخالفة القبیحة أصلا، و مع انتفاء هذا الاحتمال یخرج المقام عن تحت عنوان ظلم المولی،کما هو الواضح.

و من هنا یظهر الفرق بین المقام و بین مسألة التجرّی،فإنّ الموضوع للحکم بالقبح و الحرمة هناک علی تقدیر ثبوته هو نفس عنوان التجرّی،الراجع إلی الطغیان علی المولی و الخروج عن رسم العبودیّة،و هذا لا یتوقّف تحقّقه علی ثبوت التکلیف،بل یصدق علی کلا التقدیرین،بخلاف المقام،فإنّ تحقّق عنوان الظلم یتوقّف علی عدم حکم العقل بقبح العقاب و لو قبل الفحص،و المفروض حکمه بذلک مطلقا،فتأمّل.

هذا،و قد یقرّر حکم العقل بوجوب الفحص بوجه ثالث،و هو:أنّ کلّ من التفت إلی المبدا و الشریعة یعلم إجمالا بثبوت أحکام فیها،و مقتضی العلم الإجمالی هو الفحص عن تلک الأحکام.

و لا یخفی ضعف هذا الوجه؛لأنّ الکلام إنّما هو فی شرائط جریان أصل البراءة بعد کون المورد المفروض مجری لها،و قد عرفت أنّ مجراها هو الشکّ فی أصل التکلیف و عدم العلم به،لا إجمالا و لا تفصیلا.فلو فرض ثبوت العلم

ص:18

الإجمالی فإنّه یخرج المورد عن مجراها،فلا یبقی مجال للتمسّک بالعلم الإجمالی لاعتبار وجوب الفحص فی جریانها،کما لا یخفی،و لکن حیث إنّه وقع موردا للنقض و الإبرام بین الأعلام فلا مانع من التعرّض لحاله بما یسعه المقام، فنقول:

قد نوقش فی الاستدلال بالعلم الإجمالی لوجوب الفحص،تارة بأنّه أخصّ من المدّعی؛لأنّ المدّعی هو وجوب الفحص و الاستعلام فی کلّ مسألة تعمّ بها البلوی،و کل مورد یرجع إلی البراءة،و هذا الاستدلال إنّما یوجب الفحص قبل استعلام جملة من الأحکام بمقدار یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیه؛ لانحلال العلم الإجمالی بذلک،لا زائدا من هذا المقدار.

و اخری بأنّه أعمّ من المدّعی؛لأنّ المدّعی هو الفحص عن الأحکام فی خصوص ما بأیدینا من الکتب،و المعلوم بالإجمال معنی أعمّ من ذلک؛لأنّ متعلّق العلم هی الأحکام الثابتة فی الشریعة واقعا،لا خصوص ما بأیدینا، و الفحص فیما بأیدینا من الکتب لا یرفع أثر العلم الإجمالی،بل العلم باق علی حاله،و لو بعد الفحص التامّ عمّا بأیدینا.

هذا،و أجاب المحقّق النائینی رحمه اللّه عن المناقشة الاولی بأنّ استعلام مقدار من الأحکام یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیها لا یوجب انحلال العلم الإجمالی؛ لأنّ متعلّق العلم تارة یتردّد من أوّل الأمر بین الأقل و الأکثر،کما لو علم بأنّ فی هذا القطیع من الغنم موطوء،و تردّد بین کونه عشرة أو عشرین،و اخری:

یکون المتعلّق عنوانا لیس بنفسه مردّدا بین الأقلّ و الأکثر من أوّل الأمر،بل المعلوم بالإجمال هو العنوان بماله فی الواقع من الأفراد،کما لو علم بموطوئیّة البیض من هذا القطیع،و تردّدت البیض بین کونها عشرا أو عشرین،ففی

ص:19

الأوّل ینحلّ العلم الإجمالی،و فی الثانی لا ینحلّ،بل لا بدّ من الفحص التامّ عن کلّ ما یحتمل انطباق العنوان المعلوم بالإجمال علیه؛لأنّ العلم الإجمالی یوجب تنجیز متعلّقه بما له من العنوان.

ففی المثال:العلم الإجمالی تعلّق بعنوان البیض بما له من الأفراد فی الواقع، فکلّ ما کان من أفراد البیض واقعا قد تنجّز التکلیف به،و لازم ذلک هو الاجتناب عن کلّ ما یحتمل کونه من أفراد البیض،و المقام من هذا القبیل؛لأنّ المعلوم بالإجمال فی المقام هی الأحکام الموجودة فیما بأیدینا من الکتب،فقد تنجّزت بسبب هذا العلم الإجمالی جمیع الأحکام المثبتة فی الکتب،و لازم ذلک هو الفحص التامّ عن جمیع الکتب التی بأیدینا،و لا ینحلّ العلم الإجمالی باستعلام جملة من الأحکام یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیها.

أ لا تری أنّه لیس للمکلّف الأخذ بالأقلّ لو علم باشتغال ذمّته لزید بما فی الطومار،و تردّد ما فی الطومار بین الأقلّ و الأکثر،بل لا بدّ له من الفحص التامّ فی جمیع صفحات الطومار،کما علیه بناء العرف و العقلاء،و ما نحن فیه یکون بعینه من هذا القبیل.

و عن المناقشة الثانیة بأنّه و إن علم إجمالا بوجود أحکام فی الشریعة أعمّ ممّا بأیدینا من الکتب،إلاّ أنّه یعلم إجمالا أیضا بأنّ فیما بأیدینا من الکتب أدلّة مثبتة للأحکام مصادفة للواقع بمقدار یحتمل انطباق ما فی الشریعة علیها، فینحلّ العلم الإجمالی العامّ بالعلم الإجمالی الخاص،و یرتفع الإشکال بحذافیره و یتمّ الاستدلال لوجوب الفحص،فتدبّر جیّدا (1).انتهی.

و أورد استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه علیه:-أوّلا:أنّ ما ذکره من الفرق فی

ص:20


1- 1) فوائد الاصول 4:279-280.

الانحلال و عدمه بین ما لو کان متعلّق العلم الإجمالی بنفسه مردّدا بین الأقلّ و الأکثر،و بین ما کان عنوانا لیس مرددا بینهما من أوّل الأمر،إنّما یتمّ لو کان متعلّق العلم الإجمالی فی القسم الثانی نسبته إلی المعنون کنسبة المحصّل إلی المحصّل،و أمّا لو لم یکن من هذا القبیل کما فی المثال الذی ذکره فلا وجه لعدم الانحلال؛لانحلال التکلیف إلی التکالیف المتعدّدة المستقلّة حسب تعدّد المعنونات و تکثّرها،و حینئذ فلا یبقی فرق بین القسمین.

و ثانیا:لو قطع النظر عن ذلک نقول:إنّ تعلّق العلم الإجمالی بعنوان یوجب تنجیز متعلّقه إذا کان متعلّقه موضوعا للحکم الشرعی،و أمّا إذا لم یکن ممّا یترتّب علیه الحکم فی الشریعة فلا أثر له بالنسبة إلیه،کما فی المثال الذی ذکره،فإنّ الموضوع للحکم بالحرمة و وجوب نفی البلد-مثلا-إنّما هو الحیوان الموطوء بما أنّه موطوء،و أمّا کونه أبیض أو أسود فلا دخل له فی ترتّب الحکم،و حینئذ فالعلم الإجمالی بموطوئیّة البیض من هذا القطیع لا یؤثّر إلاّ بالنسبة إلی ما علم کونه موطوءا؛لکونه الموضوع للأثر الشرعی.

و کذا المقام،فإنّا إنّما نکون مأخوذین بالأحکام الواقعیّة الثابتة فی الشریعة، و أمّا عنوان کونها مضبوطة فی الکتب التی بأیدینا فهو ممّا لا ارتباط له بذلک أصلا،کما هو واضح.

و من المعلوم أنّ العلم الإجمالی بتلک الأحکام الثابتة فی الشریعة یکون من أوّل الأمر مردّدا بین الأقلّ و الأکثر،کما أنّ فی مثال البیض یکون العلم الإجمالی بالعنوان الموضوع للحکم الشرعی مردّدا بین الأقلّ و الأکثر بنفسه و من أوّل الأمر.

و حینئذ نقول:لو صحّ ما ادّعاه من أنّ تعلّق العلم الإجمالی بعنوان یوجب

ص:21

التّنجز بالنسبة إلی جمیع الأفراد الواقعیّة لذلک العنوان یصیر القسم الأوّل أیضا کالقسم الثانی فی عدم الانحلال،بل أولی منه؛لأنّ العنوان فیه یکون متعلّقا للحکم الشرعی بخلاف القسم الثانی.

و ثالثا:أنّ ما أجاب به عن المناقشة الثانیة لا یتمّ بناء علی مذهبه من أنّ المقام من قبیل القسم الثانی من العلم الإجمالی؛لأنّ العلم الإجمالی العامّ تعلّق بعنوان«ما فی الکتب»أعمّ من الکتب التی بأیدینا،أو بعنوان«ما فی الشریعة» و قد فرض أنّ تعلّقه به یوجب تنجّزه بجمیع أفراده الواقعیّة،و لا یعرض له الانحلال و إن تردّد بین الأقلّ و الأکثر،کما هو غیر خفی.

ثمّ إنّ مثال الطومار الذی ذکره لا یکون مرتبطا بالمقام؛لأنّ وجوب الفحص التامّ فی جمیع صفحات الطومار لیس من آثار العلم الإجمالی باشتغال ذمّته لزید،بل یجب الفحص فیها و لو بدون العلم الإجمالی و کون الشبهة بدویة،کما سیأتی أنّ هذا المحقّق یلتزم بوجوب الفحص فی مثل المثال و لو مع عدم العلم الإجمالی،فتدبّر جیّدا (1).انتهی کلامه رفع مقامه.

و لکن الجواب عن هذا الوجه ما ذکرناه من عدم ارتباطه بالمقام،و بحث شرائط جریان البراءة خارج عن دائرة العلم الإجمالی.

و الحاصل:أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بیان قاعدة عقلیّة لا تجری مع عدم الفحص،فالصحیح الاستدلال لذلک بحکم العقل بوجوب الفحص و عدم حکمه بقبح العقاب قبل المراجعة إلی مظانّ ثبوت التکلیف و بیانه،و مع ذلک لا مجال لدعوی الإجماع القطعی علی وجوبه؛ضرورة أنّه علی تقدیر ثبوته لا یکون حجّة بعد قوّة احتمال أن یکون مستند الجمعین هو هذا الحکم العقلی

ص:22


1- 1) معتمد الاصول 2:311-312.

الضروری،کما أنّ التمسّک بالکتاب و السنّة لذلک نظرا إلی اشتمالها علی الأمر بالتفقّه و التعلّم و نظائرهما ممّا لا یخلو من مناقشة؛لأنّه من البعید أن یکون المقصود منهما هو بیان حکم تأسیسی تعبّدی،بل الظاهر أنّها إرشاد إلی حکم العقل بذلک.

فالدلیل فی المقام ینحصر فی حکم العقل بعدم جواز القعود عن تکالیف المولی؛اعتمادا علی البراءة قبل الرجوع إلی مظانّ ثبوته،هذا کلّه بالنسبة إلی أصل وجوب الفحص فی جریان البراءة العقلیّة فی الشبهات الحکمیّة.

فی مقدار الفحص

و أمّا مقداره فالظاهر أنّه یجب إلی حدّ الیأس عن الظفر بالدلیل،و هو یتحقّق بمراجعة المحالّ التی یذکر فیها أدلّة الحکم غالبا،و لا یجب التفحّص فی جمیع الأبواب و إن کان قد یتّفق ذکر دلیل مسألة فی ضمن مسألة اخری لمناسبة،إلاّ أنّ ذلک لندرته لا یوجب الفحص فی جمیع المسائل لأجل الاطّلاع علی دلیل مسألة منها،کما لا یخفی.

دلیل استحقاق العقوبة علی ترک الفحص

ثمّ إنّ المکلّف بعد جریان البراءة بدون التعلّم و الفحص یستحقّ العقوبة، و لکنّ البحث فی أنّ استحقاق العقوبة یحتمل أن یکون علی مخالفة الواقع،أو علی ترک الفحص و التعلّم أو علی ترک الفحص و التعلّم فیما إذا کان الترک مؤدّیا إلی مخالفة الواقع لا مطلقا،وجوه،بل أقوال:

أمّا وجه الاحتمال الأوّل فهو أنّ لزوم الفحص و التعلّم عقلا لا یکون لزوما نفسیّا،بل کان له عنوان الطریقیّة و المقدّمیّة للإیصال إلی الأحکام الواقعیّة

ص:23

الإلهیّة،فیکون استحقاق العقوبة علی مخالفة حکم المولی من ارتکاب المحرّم أو ترک الواجب،کما هو واضح.

و أمّا وجه الاحتمال الثانی فهو عبارة عن عدّة من الروایات التی نتعرّضها فی بحث البراءة الشرعیّة إن شاء اللّه.

و أمّا وجه الاحتمال الثالث فهو أنّ بعد ملاحظة أنّه لا معنی للعقوبة علی ترک الطریق و المقدّمة،و لا معنی للعقوبة علی مخالفة الواقع المجهول للمکلّف،نقول:

أنّ استحقاق العقوبة یکون علی ترک الفحص المؤدّی إلی مخالفة الواقع لا محالة.

و الجواب عنه:أوّلا:أنّه لا یستفاد الإثبات من ضمیمة عدم إلی عدم آخر حتّی نقول بترتّب العقوبة علی ترک هذا المجموع.

و ثانیا:أنّ استحقاق العقوبة یکون علی مخالفة الواقع،فإنّ الجهل بما هو لا یکون مانعا عن تنجّز الواقع و استحقاق العقاب ما لم یستند إلی البراءة العقلیّة و قاعدة قبح العقاب بلا بیان،و المفروض عدم جریانها قبل الفحص.

فما هو المسلّم استحقاق العقوبة علی مخالفة الواقع عند تمسّک المکلّف بالبراءة و ارتکاب محتمل الحرمة،أو ترک محتمل الوجوب بدون الفحص عن بیان المولی علی التکلیف.

و لکنّ البحث فی أنّ استحقاق العقوبة علی المخالفة یکون مطلقا أو فی بعض الصور المتصوّرة فی المقام؟إذ الصور المتصوّرة ثلاثة:

الاولی:إیصال المکلّف بعد الفحص إلی بیان من المولی و أمارة معتبرة ظاهرة الدلالة علی إثبات التکلیف المحتمل.

الثانیة:عدم إیصاله إلیه نفیا أو إثباتا علی فرض تتبّعه و تفحّصه فی مظانّ

ص:24

وجود الدلیل.

الثالثة:إیصاله علی فرض الفحص و التتبّع إلی دلیل معتبر مخالف للحکم الواقعی.

ربّما یقال:بتحقّق استحقاق العقوبة فی جمیع الصور الثلاثة،فإنّ تمام الملاک له هو عدم الفحص و مخالفة الواقع و لا عذر للمکلّف فی مخالفة التکلیف الواقعی،و لا حجّة له لاستناد عمله إلیها عقلا،بل العقل یحکم فی الشبهات البدویّة قبل الفحص بالاحتیاط کحکمه به فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی،و حکم العقل بلزوم الاحتیاط بیان کأنّه صدر من المولی،فاستحقاق العقوبة أمر موجّه بلا فرق بین کون نتیجة الفحص علی تقدیر الفحص بیانا علی ثبوت التکلیف أو علی عدم التکلیف أو الیأس عن الظفر بالدلیل.

و لکنّ التحقیق أنّ استحقاق العقوبة منحصر بالصورة الاولی-أی کون نتیجة الفحص هو الإیصال إلی البیان علی التکلیف-فإنّ عدم العذر و الحجّة للمکلّف فی مقام مخالفة الواقع یتحقّق فی هذه الصورة دون غیرها؛ضرورة عدم البیان علی تقدیر الفحص،أو وجود الدلیل علی خلاف الواقع عذر للمکلّف.و إن لم یکن ملتفتا إلیه فی مقام العمل،فمع تحقّق العذر الواقعی لا یتحقّق عنوان المعصیة و مخالفة المولی حتّی یترتّب علیه استحقاق العقوبة.

نعم،یتحقّق هنا عنوان التجرّی و لکنّه خارج عن البحث،کما لا یخفی.

و أمّا حکم العقل بلزوم الاحتیاط فی الشبهات البدویّة قبل الفحص فلا إشکال فیه،و لکنّه لیس بملاک التحفّظ علی الواقع،فإنّ هذا الملاک یتحقّق بعد الفحص أیضا،بل یکون بملاک إمکان تحقّق البیان فی مظانّ ثبوته.

و من هنا یستفاد انحصار استحقاق العقوبة علی مخالفة الواقع بصورة

ص:25

مصادفة البیان علی التکلیف علی تقدیر الفحص،بخلاف الصورة الثانیة و الثالثة.هذا کلّه فی الواجبات المطلقة.

و أمّا فی الواجبات المشروطة المحتملة فیقال أیضا:هل یجب الفحص قبل تحقّق الشرط أم لا؟

ربّما یقال بعدم وجوب الفحص فیها،فإنّ وجوب الفحص وجوب مقدّمی، قد ثبت فی باب مقدمة الواجب أنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذی المقدّمة، فإذا لم یکن وجوب ذی المقدّمة فعلیّا کیف یمکن کون الوجوب الغیری المترشّح منه فعلیّا؟فلا یجب الفحص فی الواجبات المشروطة و المؤقّتة قبل تحقّق الشرط و الوقت علی القاعدة،إذ لا یجب ذی المقدّمة بعد حتّی تجب مقدّماته التی منها الفحص.

و هذا المعنی یوجب الإشکال فی باب الحجّ،فإنّ لازم ذلک عدم وجوب تحصیل المقدّمات علی المستطیع قبل الموسم،و لذا التزم الفقهاء بالواجب المعلّق هنا بمعنی کون الزمان قیدا للواجب،و من الخصوصیّات المعتبرة فی الحجّ و فعلیّة الوجوب بمجرّد تحقّق الاستطاعة،فلا إشکال فی تحصیل المقدّمات علیه.

فهل یمکن إرجاع جمیع الواجبات المشروطة و الموقّتة إلی الواجب المعلّق و القول بفعلیّة الوجوب فیها قبل تحقّق الشرط و الوقت حتّی یستفاد منه وجوب الفحص فی المقام أم لا؟

و الظاهر أنّه لا یمکن الالتزام به،فإنّه خلاف ما هو المشهور عند الفقهاء من تحقّق الواجب المشروط الاصطلاحی فی الشریعة،فلذا نقول ببطلان الوضوء قبل الوقت بداعی الأمر الوجوبی المقدّمی،کما هو واضح.

ص:26

و لکنّ التحقیق:أنّ وجوب الفحص لا یکون وجوبا مقدّمیّا؛إذ المقدّمة عبارة عن مقدّمة الوجود-کما مرّ فی بحث مقدّمة الواجب-یعنی وجود ذی المقدّمة متقوّم علی وجودها،و بدون تحقّقها لا یتحقّق ذی المقدّمة،و هذا المعنی لا یتحقق فی مسألة الفحص بالنسبة إلی الواجب المحتمل؛إذ یمکن الإتیان بالواجب المحتمل بدون الفحص احتیاطا،فلا یرتبط وجوب الفحص بمسألة وجوب المقدّمة،بل هو من الأحکام اللزومیّة العقلیّة،و لا فرق بنظر العقل بین الواجبات المطلقة و المشروطة من حیث وجوب الفحص،و قد مرّ فی باب مقدّمة الواجب أنّ البحث فی وجوب المقدّمة هو الوجوب الشرعی و إن کانت الملازمة بین المقدّمة و ذیها عقلیّة.

مضافا إلی أنّه لو فرض کون وجوب الفحص وجوبا غیریّا مقدمیّا فإنّ تلقّی توقّف وجوب المقدّمة علی وجوب ذیها بعنوان الأصل المسلّم باطل عقلا،کما مرّ فی محلّه،فإنّ المولی إذا قال لعبده:یجب علیک أن تکون علی السطح فی اللیل،و علم العبد بأنّه غیر مقدور له تحصیل السلّم فی اللیل، فلا شکّ فی حکم العقل هنا بوجوب تحصیل السلّم قبل اللیل،و لا یعدّه معذورا فی مخالفة المولی؛لعدم القدرة علی تحصیله فی اللیل،فکما أنّ العقل یحکم بوجوب تحصیل بعض المقدّمات المحرزة قبل وجوب المقدّمة،کذلک یحکم بوجوب الفحص علی فرض مقدّمیّته إذا کان ترک الفحص مؤدّیا إلی ترک الواجب المشروط المحتمل فی ظرف وجوبه،کما لا یخفی.

الواجب التهیّئی

التزم المقدّس الاردبیلی رحمه اللّه و تلمیذه صاحب المدارک رحمه اللّه للتّخلّص عن الإشکال بأنّه لا مانع من کون وجوب الفحص وجوبا نفسیّا تهیّئیّا فی

ص:27

الواجبات المشروطة،و من خصوصیّته ترتّب استحقاق العقوبة علی مخالفته، مع أنّ له محبوبیّة و مطلوبیّة للتّهیّؤ للواجب النفسی الذاتی الآخر لا لنفسه، کأنّه برزخ بین الوجوب الغیری و النفسی الذاتی،فیکون استحقاق العقوبة لترک الفحص و التبیّن فیما إذا کان مؤدّیا إلی مخالفة التکلیف الوجوبی فی ظرفه، لا لمخالفة التکلیف اللزومی المشروط أو الموقّت (1).

و التزم صاحب الکفایة رحمه اللّه بتوسعة هذا المعنی فی الواجبات المطلقة أیضا، و أنّه لا مانع من الالتزام باستحقاق العقوبة علی ترک التفحّص و التعلّم الواجب بالوجوب النفسی التهیّئی فیها (2).

و لا بدّ لنا من البحث أوّلا فی إمکان الوجوب النفسی التهیّئی ثبوتا،و علی فرض إمکانه هل تتحقّق الملازمة بین ترکه و استحقاق العقوبة أم لا؟و ثانیا:

هل الدلیل العقلی أو النقلی یدلّ علی إثباته أم لا؟

ربّما یقال بعدم إمکانه؛إذ لا یعقل اتّصاف المقدّمة بالوجوب الغیری قبل اتّصاف ذیها بالوجوب النفسی فضلا عن الوجوب النفسی التهیّئی،فلا یمکن اتّصاف التفحّص و التعلّم به بعنوان المقدّمة الواجبة کما هو المفروض.

و الجواب عنه:أوّلا:نمنع مقدّمیّة التفحّص و التعلّم للواجب.

و ثانیا:علی فرض المقدّمیّة نمنع تبعیّة وجوب المقدّمة دائما لفعلیّة وجوب ذیها،کما مرّ.فلا إشکال فی إمکانه لجعل المولی وجوبا نفسیّا تهیّئیّا للتّفحص و التعلّم قبل تحقّق شرط الواجب المشروط،و لا یکون مخالفا لأیّ حکم من الأحکام العقلیّة المسلّمة.

ص:28


1- 1) کفایة الاصول 2:258،نقلا عنهما.
2- 2) المصدر السابق.

و أمّا من حیث الملازمة بین ترکه و استحقاق العقوبة فلا یحکم العقل بها بعد ما کان الحکم باستحقاق العقوبة من الأحکام العقلیّة،فإنّ للعقل حکمان:

أحدهما الحکم باستحقاق العقاب فی مورد مخالفة التکالیف النفسیّة الأصلیّة، و الآخر الحکم بعدم استحقاق العقاب فی مورد ترک مقدّمات التکالیف و مخالفتها،و أمّا فی مورد مخالفة الواجب النفسی التهیّئی فلا حکم له باستحقاق العقاب،فإنّ تسمیته بالواجب النفسی لا یوجب کونه مقصودا بالذات،بل یکون من مقدّمات و ممهّدات الواجبات الأصلیّة،فلا یحکم العقل بترتّب استحقاق العقوبة علی ترکه،فنمنع الملازمة بینهما،کما هو واضح.

عدم الدلیل علی الوجوب النفسی التهیّئی

و اعلم أنّه علی فرض تمامیّة إمکانه و تحقّق الملازمة لا دلیل له فی مقام الإثبات عقلا و نقلا،أمّا العقل فلا طریق له لاستکشاف الحکم الوجوبی الشرعی للتفحّص بعنوان الواجب النفسی التهیّئی،مع أنّ الفحص لازم و ترکه یوجب استحقاق العقوبة عقلا،و لکن لا طریق للکشف عن الوجوب النفسی التهیّئی له عند الشارع،کما أنّ البحث فی باب المقدّمة الواجب أنّ استکشاف الحکم الشرعی الوجوبی لها بعد وجوب ذیها هل یمکن من طریق العقل أم لا؟مع أنّ اللابدیّة العقلیّة لها لا تکون قابلة للإنکار،و هکذا فی ما نحن فیه، فلا یحکم العقل باستکشاف الوجوب الشرعی النفسی التهیئی للتفحّص،کما هو واضح.

و هکذا لا یستفاد من الأدلّة النقلیّة هذا المعنی،فإنّ المستفاد من مثل آیة النفر هی المطلوبیّة النفسیة للتفقّه فی الدین و تعلّم معالم الدین-إلاّ أنّه من الواجبات الکفائیّة باعتبار قوله تعالی: مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ

ص:29

طائِفَةٌ (1)-لا المطلوبیّة النفسیّة التهیّئیّة،و هکذا من مثل قوله علیه السّلام:«الکمال کلّ الکمال التفقّه فی الدین،و الصبر علی النائبة،و تقدیر المعیشة» (2)،و ما یدلّ علی المؤاخذة لتارک العمل لترک التعلّم،و أنّ ترک التعلّم لیس بعذر،و أنّ ترک التعلّم یوجب الهلکة،و نحو ذلک،لا دلالة لها علی الحکم التعبّدی الزائد علی حکم العقل حتّی نستفاد منه الوجوب النفسی التهیئی،بل مفاد جمیعها نوع من الإرشاد إلی حکم العقل بلزوم التّفحّص و التعلّم،و عدم المعذوریّة عند اللّه فی صورة ترکه،و استحقاق العقوبة.

فمقتضی القاعدة فی مورد رجوع الجاهل المقصّر إلی البراءة إذا شکّ فی جزئیّة السورة-مثلا-قبل الفحص هو بطلان العبادة و استحقاق العقوبة علی المخالفة؛لعدم إتیانه بالمأمور به الواقعی فی مقام الامتثال.

و لکن انتقضت هذه القاعدة حسب النصّ الصحیح و الفتوی المشهورة بموردین فی الفقه:أحدهما:إتیان الصلاة تماما موضع القصر بدون الفحص، و الآخر:إتیان الصلاة جهرا فی موضع الإخفات،و إتیان الصلاة إخفاتا فی موضع الجهر بدون الفحص،و المستفاد من النصّ الصحیح و الفتوی المشهورة أوّلا:صحّة العمل و تمامیّته،و ثانیا:استحقاق العقوبة علی مخالفة الواقع،و ثالثا:

عدم کون استحقاق العقوبة قابلا للرفع،و إن التفت إلی وظیفته فی الوقت و أتی بها کما هی.

و استشکل هنا:أوّلا:بأنّه لا وجه للحکم بصحّة العمل؛لعدم مطابقة المأتی به مع المأمور به.

ص:30


1- 1) التوبة:122.
2- 2) الکافی 1:32،باب صفة العلم و فضله و فضل العلماء.

و ثانیا:أنّ العمل المأتی به إن کان متّصفا بالصحّة لا یتصوّر وجه للحکم باستحقاق العقوبة.

و ثالثا:علی فرض قبول استحقاق العقوبة فی صورة الالتفات فی خارج الوقت لا وجه له فی صورة الالتفات فی الوقت،و تمکّنه من إتیان المأمور به کما هو.

و أجاب صاحب الکفایة رحمه اللّه عن الإشکال الأوّل بأنّ صحّة العبادة لا یحتاج إلی الأمر،بل اشتمالها علی المصلحة التامّة اللازمة الاستیفاء یکفی للحکم بالصحّة و إن کانت فاقدة للأمر لجهة،کما فی عدم تعلّق الأمر بالصلاة مکان الإزالة بلحاظ أهمّیّتها و عدم نقصان الصلاة من حیث الاشتمال علی المصلحة، بخلاف ما یقول به القائل بالتّرتّب،من تعلّق الأمر المطلق بالإزالة و الأمر المشروط بالعصیان أو نیّة العصیان بالصلاة،فالمأتی به یکون صحیحا بلحاظ اشتماله علی المصلحة التامّة اللازمة الاستیفاء،و عدم تعلّق الأمر به بل بالمأمور به یکون بلحاظ اشتماله علی المصلحة الزائدة (1).

و یرد علیه:أنّ الإتیان بالمصلحة الزائدة هل یکون راجحا أم لازما؟فإن کان راجحا فلا بدّ أن یکون المأتی به أیضا مأمورا به بصورة الواجب التخییری،لا کونه خارجا من دائرة الأمر و المأمور به،و إن کان لازما لا بدّ للمکلّف من استیفائها إذا التفت إلیها فی الوقت.

و یمکن الجواب عنه:بأنّها لازمة الاستیفاء إلاّ أنّ المکلّف بعد الإتیان بالمأتی به لا یکون قادرا علی استیفائها لتحقّق التضادّ بین المأتی به و المأمور به،غایة الأمر أنّ التضادّ قد یکون محسوسا کالصلاة و الإزالة،و قد یکون

ص:31


1- 1) کفایة الاصول 2:261.

غیر محسوس کما فی المقام.

إن قلت:إنّ صلاة الإتمام سبب لتفویت المصلحة الزائدة،و تفویتها حرام، و دلیله استحقاق العقوبة لترکها،فصلاة الإتمام مقدّمة الحرام و سبب له، و سببیّته بمعنی العلّة التامّة،فهی أیضا حرام،و تعلّق الحرمة بالعبادة یقتضی فسادها،فکیف یحکم بصحّتها.

قلت:إنّ عدم أحد الضدّین لا یمکن أن تکون مقدّمة لوجود الآخر،لتحقّق اختلاف الرتبة بین المقدّمة و ذیها،و الحال أنّ اللازم اتّحاد الرتبة بین عدم أحد الضدّین و وجود الآخر،کما مرّ فی محلّه،بل التحقیق:أنّ عدم أحد الضدّین ملازم لوجود الآخر،و لا یعتبر فی المتلازمین الاتّحاد فی الحکم،و اتّصاف أحد المتلازمین بالحرمة لا یقتضی اتّصاف الآخر بها،فیمکن أن یکون أحدهما حراما و الآخر مباحا أو مکروها.

نعم،التلازم یقتضی عدم اختلافهما اختلافا غیر قابل للجمع،کحرمة أحدهما و وجوب الآخر،فالأمر فی ما نحن فیه یکون کذلک،فإنّ صلاة الإتمام ملازمة لتفویت المصلحة الزائدة؛لعدم إمکان استیفائها بعد استیفاء المصلحة الناقصة بالإتیان بصلاة الإتمام،فعدم استیفاء المصلحة الزائدة حرام یترتّب علیه استحقاق العقوبة،و لکنّ سرایة حرمته إلی صلاة الاتمام حتّی نقول:إنّ تعلّق الحرمة بالعبادة یقتضی فسادها لیس بتامّ.

إن قلت:إنّ لازم ذلک صحّة صلاة الإتمام من العالم العامد فی السفر أیضا؛ لاشتمالها علی المصلحة التامّة اللازمة الاستیفاء،و عدم الاحتیاج إلی وجود الأمر فی صحّة العبادة کما ذکره،مع أنّه لا یکون قابلا للالتزام.

قلت:إنّ الروایات تدلّ علی صحّتها و اشتمالها علی المصلحة فی الجاهل و لو

ص:32

کان مقصّرا،لا فی جمیع الحالات بالنسبة إلی جمیع المکلّفین و لو کان المکلّف عالما،و لا دلیل لاشتراک العالم و الجاهل فی هذا الحکم (1).هذا تمام کلام المحقّق الخراسانی رحمه اللّه مع التصرّف و التوضیح منّا.

و أجاب عن الإشکال أیضا الشیخ الکبیر کاشف الغطاء رحمه اللّه علی ما نسب إلیه فی کتاب أجود التقریرات:بأنّ اتّصاف صلاة الإتمام فی موضع القصر بالصّحة یکون لکونها مأمورا بها بالأمر الترتّبی و إنّ المقام من مصادیق الترتّب،بأن المأمور به فی الرتبة الاولی عبارة عن صلاة القصر بدون أیّ قید و شرط،و أمّا فی الرتبة الثانیة فهی صلاة الإتمام بصورة التعلیق کأنّه یقول:إن عصیت الأمر بالقصر و لو للجهل عن تقصیر یجب علیک الإتمام،و لا فرق بین ما نحن فیه و مسألة الصلاة و الإزالة (2).

و استشکل علیه الشیخ الأنصاری رحمه اللّه بأنّ ما ذکره رحمه اللّه مبنی علی القول بإمکان الترتّب،و لکنّه عندنا أمر مستحیل غیر قابل للالتزام (3).

و قال المحقّق النائینی رحمه اللّه:إنّه«یتحقّق الفرق بین ما نحن فیه و مسألة الصلاة و الإزالة أوّلا:بأنّ تضادّ الصلاة و الإزالة محسوس بحیث لا یمکن الاشتغال بالإزالة فی حال الصلاة و بالعکس،و لا نقص فی الصلاة من حیث الاشتمال علی المصلحة التامّة الملزمة.و لو کانت قابلة للجمع مع الإزالة لأمر بهما فی آن واحد،و لکن التضادّ و مزاحمة الأهمّ و الأقوی یقتضی الأمر بها فی الرتبة المتأخّرة،بخلاف صلاة الإتمام و القصر؛إذ یمکن للمکلّف الجمع بینهما فی

ص:33


1- 1) کفایة الاصول 2:262.
2- 2) کشف الغطاء 1:171،أجود التقریرات 3:571.
3- 3) فرائد الاصول 2:627.

الوقت،فإن کان کلّ منهما ذات مصلحة ملزمة لا بدّ للشارع من الأمر بهما فی عرض واحد،و یستفاد من عدم الأمر أنّه لا یتحقّق التضادّ و التزاحم بینهما،بل یتحقّق النقص فی صلاة الإتمام فی نفسها،و إذا کانت الناقصة تخرج من دائرة الترتّب،فإنّ الترتّب فیما لا یکون نقصا فی البین سوی المزاحمة،و هذا المعنی لا یتحقّق فی ما نحن فیه.

و ثانیا:أنّ توجّه الخطاب إلی المکلّف فی مسألة الصلاة و الإزالة یمکن للشارع أن یقول:أزل النجاسة عن المسجد،و إن عصیت الأمر بالإزالة یجب علیک الصلاة فی الرتبة الثانیة،بخلاف ما نحن فیه،فإنّ توجّه الخطاب إلی الجاهل یوجب ارتفاع جهله و ملازم لزوال جهله،مع أنّ المفروض فی البحث هو بقاء الجهل،فعلی فرض إمکان القول بالترتّب هاهنا لا یمکن الالتزام به هنا (1).

و جوابه أوّلا:أنّ تشخیص تحقّق التضادّ و عدمه فی المسائل التعبّدیّة لیس بأیدینا،و عدم إمکان استیفاء مصلحة صلاة القصر بعد إتیانها تماما فی أوّل الوقت لمن کان تکلیفه القصر هو معنی التضادّ،فکما أنّه بعد إتیان الصلاة قصرا فی أوّل الوقت لا یبقی مجال لصلاة الإتمام کذلک بعد الإتیان بها إتماما فی صورة الجهل لا یبقی مجال لاستیفاء مصلحة صلاة القصر،و هذا معنی التضادّ، و لا دلیل علی خلافه و أنّه أمر غیر معقول،بل هو أمر ممکن،و الدلیل علی وقوعه عبارة عن الروایات الدالّة علیه،فلا فرق بین ما نحن فیه و مسألة الصلاة و الإزالة،و القائل بالترتّب یقول به فی الموضعین.

و ثانیا:أنّ الأمر بالمهمّ فی باب الترتّب لا یحتاج الخطاب فضلا عن الخطاب

ص:34


1- 1) أجود التقریرات 3:572.

الشخصی،بل یمکن أن یکون بصورة الجملة الخبریّة بأن یقول:«یجب علی المکلّف فی مکان کذا القصر،و ان عصی الأمر بالقصر و لو جهلا عن تقصیر یجب علیه الإتمام»،و الجاهل فی حال الإتیان بالعمل لا یلتفت إلی الأمر،أمّا بعد إتیانه فی أوّل الوقت بالصلاة إتماما یلتفت إلی وظیفته،و فی هذا الحال ینطبق علیه عنوان الأمر بالمهمّ،فما أورده المحقّق النائینی رحمه اللّه من الإشکالین لیس بوارد.

و الإشکال الوارد علی القول بالترتّب:أولا:أنّ معنی الترتّب هو الالتزام بتعدّد الأمر،و لازم ذلک الالتزام بتعدّد استحقاق العقوبة فی صورة مخالفة کلا الأمرین،و لا یبعد الالتزام بذلک فی مسألة الصلاة و الإزالة-و إن کان بعیدا بنظر المحقّق الخراسانی رحمه اللّه-و لکن لا یمکن الالتزام بذلک هنا بأنّ تارک الصلاة رأسا یتعدّد استحقاق عقوبته بلحاظ تعدّد الأمر المتوجّه إلیه-أی الأمر بالقصر أوّلا،و الأمر بالإتمام فی الرتبة المتأخّرة-فإنّ لازم ذلک کون الجاهل المقصّر أسوأ حالا من تارک الصلاة عالما عامدا،کما لا یخفی.

و ثانیا:أنّ عصیان الأمر بالإزالة یتحقّق بمجرّد التأخیر و عدم الذهاب إلی مقدّمات الإزالة،و لا یتوقّف علی آخر الوقت؛لکونها من الواجبات الفوریّة، و أمّا عصیان الأمر بالقصر فلا یتحقّق إلاّ بعد مضی تمام الوقت.و معنی الترتّب حینئذ أنّه«إن عصیت الأمر بالقصر فی تمام الوقت یجب علیک الإتمام»و لا معنی لوجوب الإتمام فی خارج الوقت،فلا یتصوّر الترتّب هنا إلاّ بتعلیق الأمر بالقصر بنیّة عصیانه،کما هو غیر خفیّ.

و أجاب المحقّق العراقی رحمه اللّه عن أصل الإشکال بأنّه لا مانع من الالتزام بتعدّد المطلوب لتصحیح ما أتی به الجاهل المقصّر بدون الفحص بأنّ المطلوب

ص:35

المطلق للمولی هو نفس الصلاة بدون دخل أیّ خصوصیّة فیها،و أنّ الجامع الصلاتی بما هو ذو مصلحة لازمة الاستیفاء،و هذه المصلحة متقوّمة بنفس عنوان الصلاة فقط،مضافا إلی أنّ له مطلوبا آخر،و هی الصلاة المخصّصة بخصوصیّة القصریّة و المتقیّدة بقید القصریّة،و هی أیضا ذات مصلحة کاملة لازمة الاستیفاء،و لکن لا یتحقّق بینهما الترتّب و الطولیّة،بل کلاهما فی عرض واحد،و اختلافهما اختلاف الإطلاق و التقیید،و اختلاف الجامع و الخصوصیّة، و اختلاف النوع و الصنف لا التضادّ،إلاّ أنّ بعد الإتیان بالمطلوب الأوّل لا یبقی مجال للمطلوب الثانی،کما أنّه لا یبقی مجال لشرب الماء البارد بعد شرب غیره -مثلا-فالمصلحة متقوّمة بطبیعة الصلاة و عنوانها لا بصلاة الإتمام أوّلا،و لا مانع من تعلّق أمر بطبیعة الصلاة و أمر آخر بصلاة متخصّصة بخصوصیّة القصریّة ثانیا،و لا یتحقّق التضادّ بینهما ثالثا،هذا توضیح ما ذکره رحمه اللّه هنا (1).

و یمکن للقائل بامتناع اجتماع الأمر و النهی أن یقول:إنّ التضادّ الواقعی یتحقّق بین الأحکام الخمسة التکلیفیّة،کما أنّ صاحب الکفایة رحمه اللّه ینفی الریب عنه ظاهرا،فکما أنّ اجتماع الضدّین مثل الوجوب و الحرمة فی موضوع واحد محال،کذلک اجتماع المثلین فیه محال،فلا یمکن تعلّق الوجوبین بالصلاة.

و لکن ذکرنا فی مقام إنکار هذا المعنی:أنّ التضادّ لا یتحقّق فی الامور الاعتباریّة؛لانحصاره بالوجودات الواقعیّة کالسواد و البیاض،و معنی التضادّ بینهما أنّه لا یمکن أن یکون الجسم معروضا لهما فی آن واحد من أیّ طریق کان و لو من ناحیة أشخاص متعدّدین،مع أنّ هذا المعنی لا یتحقّق فی الأحکام و الامور الاعتباریّة،إذ الموضوع الواحد مثل صوم الولد یمکن أن یقع

ص:36


1- 1) نهایة الأفکار 3:484.

من ناحیة الوالد متعلّق الأمر،و من ناحیة الوالدة متعلّق النهی،و یکون معروضا للإیجاب و التحریم،و من هنا نستفید عدم تحقّق التضادّ الاصطلاحی فی الأحکام.

و أمّا عدم اجتماعها فی موضوع واحد فیمکن أن یکون مستندا إلی عدم إمکان شیء واحد متعلّقا لحبّ المولی و بغضه معا،أو کونه ذا مصلحة ملزمة و ذا مفسدة ملزمة معا.

و بالجملة،فلا إشکال فی تعلّق وجوب بالطبیعة بما هی،و وجوب آخر بالطبیعة المتخصّصة بالخصوصیّة القصریّة،و تعلّق بهما بنحو تعدّد المطلوب، مثل تعدّد مطلوب العطشان بالعطش الشدید،أحدهما:مطلوبیّة أصل رفع العطش،و الآخر:مطلوبیّة رفع العطش بالماء البارد.فهذا البیان أیضا بیان جیّد فی مقام الجواب عن الإشکال و تصحیح عمل الجاهل المقصّر، و استحقاقه العقاب بأنّ صحّة العمل مستند إلی الإتیان بطبیعة الصلاة المشتملة للمصلحة الملزمة و استیفاء المطلوب الأوّل،و استحقاق العقوبة مستند إلی تفویت المطلوب الثانی.

لزوم الفحص فی الشبهات الموضوعیّة

و أمّا الشبهات الموضوعیّة فقد یقع البحث فیها بالنسبة إلی البراءة العقلیّة، و قد یقع بالنسبة إلی البراءة الشرعیّة،أمّا البحث عن البراءة العقلیّة فلا بدّ أوّلا من ملاحظة أنّها تجری فی الشبهات الموضوعیّة أم لا؟إن قلنا بعدم جریانها فیها-کما التزم به جمع من الأعاظم-فلا یبقی مجال للبحث عن لزوم الفحص و عدمه،و إن قلنا بجریانها فیها-کما هو الحقّ-فیقع البحث فی أنّها تجری بدون الفحص أو أنّ جریانها مشروط بالفحص؟

ص:37

قال استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه:«إنّ الظاهر هو وجوب الفحص،فإنّ العقل لا یحکم بقبح العقاب إلاّ بعد الفحص و الیأس عن إحراز الصغری-أی الموضوع-و الدلیل علی ذلک مراجعة العقلاء فی امورهم.أ لا تری أنّه لو أمر المولی عبده بإکرام ضیفه و تردّد بین کون زید ضیفه أم غیره،و کان قادرا علی السؤال من المولی و العلم بذلک،هل یکون معذورا فی المخالفة مع عدم الإکرام؟ کلاّ،فاللازم بحکم العقل الفحص و التتبّع فی الشبهات الموضوعیّة أیضا» (1).

هذا ما ذکره رحمه اللّه هنا و لم یتعرّض إلی أزید من ذلک،و التحقیق:أنّه کلام جیّد و قابل للالتزام،و أمّا البراءة النقلیّة فقد یقع البحث فیها فی الشبهات الموضوعیّة التحریمیّة،و قد یقع فی الشبهات الموضوعیّة الوجوبیّة،أمّا الشبهات الموضوعیّة التحریمیّة-کالشکّ فی أنّ مائع کذا خمر أو خلّ-فقد ادّعی الشیخ الأنصاری رحمه اللّه الإجماع علی عدم وجوب الفحص فیها،و جریان قاعدة الحلّیّة بدون الفحص،و ادّعاء الإجماع من مثله لا یکون قابلا للردّ،إلاّ أنّه من الأدلّة اللبّیّة لا بدّ من الاقتصار فیها علی القدر المتیقّن،فإنّ الفحص قد یحتاج إلی تعطیل الامور و المشقّة و مراجعة أهل الفنّ حتّی یتّضح الحال،و قد لا یکون کذلک بل یتّضح الحال بأدنی السؤال مثلا،و القدر المتیقّن منه هو الأوّل،دون الثانی.نعم،المستفاد من الأدلّة و مذاق الشرع هو التسهیل و التسامح فی باب الطهارة و النجاسة،و جریان قاعدة الطهارة فی صورة الشکّ بدون أیّ نوع من التفحّص.

و أمّا الشبهات الموضوعیّة الوجوبیّة کالشکّ فی تحقّق الاستطاعة فی الحجّ و النصاب فی الزکاة و نحو ذلک فقد ذکر المحقّق النائینی رحمه اللّه هنا تفصیلا جیّدا،

ص:38


1- 1) معتمد الاصول 2:315.

و قال:«إنّ موضوع التکلیف إذا کان من الموضوعات التی لا یحصل العلم به إلاّ بالفحص عنه-کالاستطاعة فی الحجّ و النصاب فی الزکاة-فلا یبعد القول بالملازمة العرفیّة بین التکلیف-أی وجوب الحجّ مشروطا بالاستطاعة- و وجوب الفحص،فإنّ عدم لزوم الفحص هنا مستلزم للقول بعدم وجوب الحجّ علی عدد کثیر ممّن یکون مستطیعا بحسب الواقع بلحاظ عدم تفحّصهم، و هذا المعنی لا یناسب مع مشروعیّة الحجّ،فوجوب الفحص فی هذه الصورة یستفاد من أصل مشروعیّة الحکم بمعونة الملازمة العرفیّة،و إذا لم یکن الموضوع من هذا القبیل فلا یجب الفحص فیه» (1).

و هذا التفصیل فی الشبهة الوجوبیّة قابل للقبول لا یخفی أنّ مقتضی إطلاق أدلّة الحلّیّة عدم وجوب الفحص،فوجوب الفحص یحتاج إلی الدلیل،لا عدمه،و هکذا إطلاق أدلّة البراءة.

هذا تمام الکلام فی اعتبار الفحص فی جریان البراءة،خذ فاغتنم.

ص:39


1- 1) فوائد الاصول 4:301.

ص:40

قاعدة لا ضرر

لا بدّ من بحث قاعدة لا ضرر فی ذیل مباحث البراءة و الاشتغال استطرادا، مع أنّ عدم استلزام الضرر لیس من شرائط جریان الاصول؛لحکومة القاعدة علی جمیع الأدلّة الأوّلیّة،فلا تصادم بین أدلّة البراءة و القاعدة،بل هی لیست من القواعد الفقهیّة أصلا و لا من القواعد الاصولیّة،کما سیأتی؛ لارتباطها بمقام الحکومة و الولایة،و من الأحکام الصادرة عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله.

و مستند هذه القاعدة عبارة عن الجملة المنقولة عنه صلّی اللّه علیه و آله بعنوان«لا ضرر و لا ضرار»،و یمکن ادّعاء التواتر اللفظی أو المعنوی لها،فلا بدّ من ذکر متن الروایة علی ما ذکرها صاحب الوسائل فی الأبواب المختلفة:

منها:ما نقله بسند موثّق عن المشایخ الثلاثة بأسنادهم فی کتاب إحیاء الموات،الباب 12،الحدیث الثالث،عن عدّة من أصحابنا،عن أحمد بن محمّد بن خالد،عن أبیه،عن عبد اللّه بن بکیر-«و توثیق الروایة بلحاظ کونه فطحی المذهب»-عن زرارة عن أبی جعفر علیه السّلام قال:«إنّ سمرة بن جندب کان له عذق فی حائط لرجل من الأنصار،و کان منزل الأنصاری بباب البستان،فکان یمرّ به إلی نخلته و لا یستأذن،فکلّمه الأنصاری أن یستأذن إذا جاء،فأبی سمرة، فلمّا تأبّی جاء الأنصاری إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،فشکی إلیه و خبّره الخبر،فأرسل إلیه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و خبّره بقول الأنصاری و ما شکا،و قال:إذا«إن»أردت

ص:41

الدخول فاستأذن،فأبی،فلمّا أبی ساومه حتّی بلغ به من الثمن ما شاء اللّه،فأبی أن یبیع،فقال:لک بها عذق یعدّ لک فی الجنّة،فأبی أن یقبل،فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله للأنصاری:اذهب فاقلعها وارم بها إلیه،فإنّه لا ضرر و لا ضرار» (1).

و نقله مرسلا عن زرارة عن أبی جعفر علیه السّلام فی الکافی مع اختلاف یسیر، و ذکر فی ذیله:«فقال له رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:إنّک رجل مضارّ،و لا ضرر و لا ضرار علی مؤمن،ثمّ أمر بها رسول اللّه فقلعت،ثمّ رمی بها إلیه،و قال له رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:

انطلق فاغرسها حیث شئت» (2).

و نقله أیضا صاحب الوسائل (3)عن الصدوق،فی الباب المتقدّم، الحدیث الأوّل:محمّد بن علیّ بن الحسین بإسناده عن الحسین بن زیاد الصیقل-هو کثیر الروایة قابل للاعتماد-عن أبی عبیدة الحذّاء،قال:قال أبو جعفر علیه السّلام:«کان لسمرة بن جندب نخلة فی حائط ابن فلان،فکان إذا جاء إلی نخلته ینظر إلی شیء من أهل الرجل،یکره الرجل،قال:فذهب الرجل إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فشکی،فقال:یا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،إنّ سمرة یدخل علیّ بغیر إذنی،فلو أرسلت إلیه فأمرته أن یستأذن حتّی تأخذ أهلی خدرها منه،فأرسل إلیه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فدعاه،فقال:یا سمرة،ما شأن فلان یشکوک،و یقول:یدخل علیّ بغیر إذنی،فتری من أهله ما یکره ذلک،فاستأذن إذا أنت دخلت،ثمّ قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:یسرّک أن یکون عذق فی الجنّة بنخلتک؟قال:لا،قال:ثلاثة،قال:

لا،قال:ما أراک یا سمرة إلاّ مضارا،ثمّ قال:اذهب یا فلان،فاقلعها و اضرب بها وجهه».

ص:42


1- 1) وسائل الشیعة 25:428،الباب 12،من أبواب إحیاء الموات،الحدیث 3.
2- 2) الکافی 5:294،کتاب المعیشة،باب الضرر،الحدیث 8.
3- 3) وسائل الشیعة 25:427،کتاب إحیاء الاموات،الباب 12،الحدیث 1.

و نقله أیضا صاحب الوسائل (1)عن الکلینی،عن محمّد بن یحیی عن محمّد ابن الحسین،عن محمّد بن عبد اللّه بن هلال-و هو مجهول الحال-عن عقبة بن خالد-و هو إمامیّ قابل للاعتماد-عن أبی عبد اللّه علیه السّلام:«قال:قضی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله بین أهل المدینة فی مشارب النخل أنّه لا یمنع نفع شیء(نقع بئر)، و قضی بین أهل البادیة أنّه لا یمنع فضل ماء لیمنع به فضل کلاء،و قال(فقال):لا ضرر و لا ضرار».

و المستفاد من الروایة أنّه مراده صلّی اللّه علیه و آله جواز استفادة أهل المدینة من ماء البئر زائدا علی مقدار احتیاج البساتین،و لا یلزم الاستفادة منه بمقدار احتیاجها، و هکذا جواز استفادة أهل البادیة من فضل ماء المزارع لإنبات کلاء و أکل الحیوانات منه.

و یکون مستندها أیضا ما ذکره صاحب الوسائل (2)عن المشایخ الثلاثة بإسنادهم عن عقبة بن خالد عن أبی عبد اللّه علیه السّلام قال:«قضی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله بالشفعة بین الشرکاء فی الأرضین و المساکن،و قال:لا ضرر و لا ضرار،و قال:إذا أرّفت الارف و حدّدت الحدود،فلا شفعة».

و فی نقل الصدوق قال بعد ذلک«و لا شفعة إلاّ لشریک غیر مقاسم».

و نقل أیضا صاحب مستدرک الوسائل روایة عن دعائم الإسلام (3)قال:

روینا عن أبی عبد اللّه علیه السّلام أنّه سئل عن جدار الرجل،و هو سترة بینه و بین جاره سقط،فامتنع من بنیانه،قال:«لیس یجبر علی ذلک إلاّ أن یکون وجب ذلک لصاحب الدار الاخری بحقّ أو بشرط فی أصل الملک،و لکن یقال

ص:43


1- 1) وسائل الشیعة 25:420،فی کتاب إحیاء الاموات،الباب 7،الحدیث 3.
2- 2) وسائل الشیعة 25:399،فی کتاب الشفعة،الباب 5،الحدیث 1.
3- 3) مستدرک الوسائل،کتاب إحیاء الأموات،الباب 9،الحدیث 1.

لصاحب المنزل:استر علی نفسک فی حقّک إن شئت»،قیل له:فإن کان الجدار لم یسقط و لکنّه هدم أو أراد هدمه إضرارا بجاره لغیر حاجة منه إلی هدمه؟ قال:«لا یترک،و ذلک أنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله قال:لا ضرر و لا ضرار».و فی نسخة زاد کلمة«و لا ضرار»أیضا.

و نقل أیضا صاحب المستدرک عن الکتاب المذکور أنّه قال:روینا عن أبی عبد اللّه علیه السّلام عن آبائه عن أمیر المؤمنین علیه السّلام أنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله قال:«لا ضرر و لا ضرار».

و قال صاحب الوسائل فی کتاب الإرث (1)،قال الصدوق:«قال النبیّ صلّی اللّه علیه و آله الإسلام یزید و لا ینقص،قال:و قال لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام»،و أمّا جملة «لا یزیده شرّا»فی ذیل الروایة،فلا نعلم کونها من النبیّ أو من الصدوق.

و معنی الروایة أنّ کفر الوارث من موانع الإرث،و أمّا إذا کان الوارث مسلما و المورّث کافرا،فلا منع فی البین؛إذا الإسلام یوجب الزیادة و لا النقیصة،لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام.

و هذه المرسلة معتبرة بلحاظ أنّ الصدوق مع شدّة احتیاطه نسبها إلی النبیّ صلّی اللّه علیه و آله،و کونها واجدة لشرائط الحجّیّة بنظره قطعا،و هذا لا یکون أقلّ من توثیق مثل النجاشی بلا ریب.

و نقل أیضا فی الکافی (2)بسنده عن هارون بن حمزة الغنوی عن أبی عبد اللّه علیه السّلام فی رجل شهد بعیرا مریضا و هو یباع،فاشتراه رجل بعشرة دراهم،و أشرک فیه رجلا بدرهمین بالرأس و الجلد،فقضی أنّ البعیر برئ،

ص:44


1- 1) وسائل الشیعة 26:14،الباب 1،من أبواب موانع الإرث،الحدیث 9 و 10.
2- 2) الکافی 5:293،کتاب المعیشة،باب الضرار،الحدیث 4.

فبلغ ثمنه دنانیر،قال:فقال«لصاحب الدرهمین خمس ما بلغ،فإن قال:أراد الرأس و الجلد فلیس له ذلک هذا الضرار،و قد أعطی حقّه إذا أعطی الخمس».

و قال الشیخ رحمه اللّه فی کتاب الخلاف فی باب خیار الغبن:«دلیلنا:ما روی عن النبیّ صلّی اللّه علیه و آله أنّه قال:«لا ضرر و لا ضرار» (1).

و قال ابن زهرة فی باب خیار العیب:«و یحتجّ علی المخالف بقوله:«لا ضرر و لا ضرار»» (2).و قال العلاّمة فی التذکرة مرسلا:«قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:«لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام»» (3).

و هکذا ذکرت هذه الجملة فی الکتب اللغویة،مثل:مجمع البحرین و نهایة ابن الأثیر،و المستفاد من نقل ابن الأثیر-مع التزامه بنقل ما روی من طرق أهل السنة-أنّ نقلها لا ینحصر بالإمامیّة،کما أنّ أحمد بن حنبل ذکرها فی ضمن الروایة المفصّلة عن عبادة بن صامت بالنسبة إلی الأحکام الصادرة عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و قال:«و قضی أن لا ضرر و لا ضرار» (4)،فلا مناقشة فیها من حیث الاعتبار بعد نقلها إجمالا من طریق الفریقین.

و لا إشکال فی ورودها فی ذیل قضیة سمرة بن جندب،و لا إشکال فی ارتباطها فی هذه القضیّة،کما یستفاد من کثیر من الروایات،مثل:الموثّقة المنقولة عن المشایخ الثلاثة،فإنّه قال رسول اللّه فیها:«اذهب فاقلعها وارم بها إلیه،فإنّه لا ضرر و لا ضرار».و دلیل الارتباط هو بیان التعلیل مصدّرا بکلمة «فاء»،و هکذا قال فی مرسلة زرارة:«إنّک رجل مضارّ و لا ضرر و لا ضرار علی

ص:45


1- 1) الخلاف 3:42.
2- 2) غنیة النزوع إلی علمی الاصول و الفروع:224.
3- 3) تذکرة الفقهاء 11:68.
4- 4) مجمع البحرین 3:373.

مؤمن»،فإنّ تشکیل الصغری و الکبری دلیل علی الارتباط بهذه القضیّة، و هکذا قوله فی روایة اخری:«ما أراک یا سمرة إلاّ مضارّا».

و أمّا الروایات الدالّة علی ورودها فی ذیل قضیّة اخری مثل قوله:«قضی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله بالشفعة بین الشرکاء فی الأرضین و المساکن،و قال:لا ضرر و لا ضرار،و قال:إذا عرّفت العرف و حدّدت الحدود فلا شفعة»،فلا ظهور لها بالارتباط؛إذ یحتمل أن تکون هذه جملة مستقلّة فی قبال ما هو قبلها و بعدها.

و هکذا ما ذکرناه من قوله:«قضی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله بین أهل المدینة فی مشارب النخل أنّه لا یمنع نفع شیء(نقع بئر)و قضی بین أهل البادیة أنّه لا یمنع فضل ماء لیمنع به فضل کلاء،و قال(فقال):لا ضرر و لا ضرار»؛إذ النسخة فی الواقع إن کانت«فقال»یدلّ علی الارتباط و إن کانت«و قال»لا یدلّ علیه، فلا دلیل لإثبات ارتباطها بالقضیّتین.

و الظاهر بحسب بادی النظر أنّ مشروعیّة حقّ الشفعة تکون بلحاظ دفع الضرر،و أنّ قوله:«لا ضرر و لا ضرار»بمنزلة التعلیل له،و لازم ذلک دورانه مدار تحقّق الضرر و عدمه،فإذا کان المشتری مؤمنا صالحا و أفضل معاشرة من الشریک لا یتحقّق حقّ الشفعة،مع أنّه لا یمکن الالتزام به،مضافا إلی أنّه ثابت للشریکین فقط،فإن کان الشرکاء أزید منهما لا یتحقّق و إن کان فی البین ضرر للشریک،و هکذا إذا کان انتقال الملک بالهبة و الصلح و نحو ذلک؛ لاختصاصه بالبیع فقط،مع أنّه لا فرق من حیث الضرر بین البیع و سائر الانتقالات.و مضافا إلی أنّ مدار الحکم لو کان تحقّق الضرر لا بدّ من تحقّقه فیما إذا کان بیع دار الجار و أرضه موجبا لضرر جاره بدون أیّ نوع من الشرکة،مع أنّه لم یلتزم أحد بذلک.

ص:46

و هکذا إذا کان بیع الدار الشخصیّة موجبا لمشقّة شدیدة أو کسالة زوجته لشدّة علاقتها بالدار،أو فی مثل هبة الأب ثلث ماله لأحد أولاده فی حال حیاته و سلامته،لکونه ضررا لسائر أولاده،مع أنّه لا یتحقّق حقّ الشفعة فی هذین الموردین،و لا إشکال فیهما،فلا یرتبط قوله:«لا ضرر و لا ضرار» بالشفعة،و إلاّ یلزم التوالی الفاسدة المذکورة.

و أضف إلی ذلک:أنّ لحقّ الشفعة مرحلتین:الاولی:کون بیع الشریک ملکه بیعا جائز الفسخ،قابل الرجوع برجوع الثمن إلی ملک المشتری و المثمن إلی ملک البائع،کأنّه لم یقع هناک بیع و لم تتحقّق معاملة أصلا.

الثانیة:قیام الشریک مقام المشتری و انتقال ما للبائع إلی ملکه و ضمیمة نصف الآخر إلی نصفه بإعطاء الثمن للمشتری،فإن کان لقوله:«لا ضرر و لا ضرار»دخلا بعنوان التعلیل فی حقّ الشفعة،یکون مقتضاه إثبات المرحلة الاولی فقط؛لارتفاع الضرر بها قطعا،و لا یقتضی إثبات المرحلة الثانیة بقیام الشریک مقام المشتری فی هذه المعاملة أصلا.

و اختار شیخ الشریعة الأصفهانی رحمه اللّه طریقا آخر لعدم ارتباط قوله:«لا ضرر و لا ضرار»بمسألة الشفعة،و قال:إنّه تتحقّق الروایتان بالنسبة إلی قضایا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله أحدهما معروف عند أهل السنة،و الآخر معروف عند الإمامیّة.

الاولی:روایة عبادة بن صامت و عنوانها:«قضی رسول اللّه بین أهل المدینة کذا،قضی رسول اللّه بین أهل البادیة کذا،قضی رسول اللّه لا ضرر و لا ضرار،قضی رسول اللّه کذا و کذا»،و جمع فیها جمیع ما قضی به رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و نقل فیها قوله:«لا ضرر و لا ضرار»بعنوان قضیّة مستقلّة،و نقل قوله«قضی رسول اللّه بالشفعة بین الشرکاء فی الأراضی و المساکن»بدون التذیل به،

ص:47

و هکذا قوله«قضی رسول اللّه أنّه لا یمنع فضل لیمنع به فضل کلاء».

الثانیة:روایة عقبة بن خالد،و فیها نقل قضایا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فی الأبواب المختلفة،و إن کان بعض آخر مثل السکونی أیضا ناقلا لها،و لکنّ العمدة نقله لها،و یحتمل أن یکون نقله جمیع القضایا فی روایة واحدة،و تجزئتها و تقطیعها و نقل کلّ جزء منها فی الباب المناسب من قبل تلامذته و رواة الحدیث عنه بلا واسطة أو مع الواسطة،و إذا لاحظنا الروایتین فلا فرق بینهما من حیث العبارات و الألفاظ إلاّ فی جعل قوله«لا ضرر و لا ضرار»ذیلا لقضیّة الشفعة و فضل الماء فی روایة عقبة بن خالد،بخلاف روایة عبادة بن صامت.

و من هنا نستفید أنّ قوله:«لا ضرر و لا ضرار»قضیّة مستقلّة لا ترتبط بقضیّة الشفعة و فضل الماء.

و ذکر المحقّق النائینی رحمه اللّه مؤیّدا لذلک،و قال:«لا یبعد أن تکون روایة عقبة بن خالد روایة واحدة مشتملة علی قضایا متعدّدة،و الشاهد علی ذلک وحدة السند فی جمیعها کما ذکرنا عن الکلینی رحمه اللّه عن محمّد بن یحیی،عن محمّد بن الحسین،عن محمّد بن عبد اللّه بن هلال،عن عقبة بن خالد عن أبی عبد اللّه علیه السّلام:

قال:«قضی رسول اللّه بین أهل المدینة...»،و هکذا سائر روایاته،و لکن مثل الکلینی رحمه اللّه لمّا رتّب کتابه علی ترتیب أبواب الفقه نقل کلّ قضیّة منها فی باب».

و الإشکال المؤیّد علی هذا الطریق:أنّ الروایات التی نقلها عقبة بن خالد لا تکون أزید من عشرة قضایا،مع أنّ قضایا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله کثیرة،و نقل عدّة منها السکونی،و عدّة اخری بعض آخر،فلا امتیاز لعقبة بن خالد فی ذلک، بخلاف روایة عبادة بن صامت؛لاشتمالها للجمیع أو أکثر قضایا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله مضافا إلی أنّ تکرار قوله:«لا ضرر و لا ضرار»فی ذیل قضیّة الشفعة و قضیّة

ص:48

فضل الماء و الکلاء دلیل علی کونه ذیلا لهما و أنّهما معلّلان به،و إلاّ لا وجه لتکراره،فلا یصحّ الالتزام بهذا الطریق.

و الدلیل علی عدم الارتباط هو ما ذکرناه من استلزام التوالی الفاسدة،مع ضعف سند الروایتین المذکورتین فیهما القضیّتان؛لعدم إثبات توثیق محمّد بن عبد اللّه بن هلال فی الرجال،فلا یمکن الالتزام بارتباطه بالقضیّتین بعد عدم الإشکال فی صدوره عن رسول اللّه فی ذیل قضیّة سمرة بن جندب،و أمّا صدوره مستقلاّ عنه صلّی اللّه علیه و آله فلا دلیل علیه،کما لا یخفی.

و أمّا تحقّق کلمة«علی مؤمن»فی ذیله فلا دلیل علیه؛لعدم وجودها إلاّ فی المرسلة الغیر المعتبرة،مع تقدّم أصالة عدم الزیادة علی أصالة عدم النقیصة.

و أمّا کلمة«فی الإسلام»فهی مذکورة فی ذیله فی المرسلة المعتبرة للصدوق، و لکن یحتمل أن تکون هی فی الواقع:«فالإسلام»بلحاظ الجمل الواقعة بعدها،فحقیقة الروایة أنّه قال النبیّ صلّی اللّه علیه و آله:لا ضرر و لا ضرار،فالإسلام یزید خیرا و لا یوجب فیه شرّا»،و هذا الاحتمال عقلائی.و إن قیل:إنّه خلاف الظاهر بلحاظ ذکرها فی الکتب اللغویة أیضا فی ذیله،فلا بدّ له من العمل بالظاهر.

هذا تمام الکلام فی هذه الجهة.

و لا بدّ من البحث فی مفردات الحدیث بعد إثبات أصل صدوره عنه صلّی اللّه علیه و آله و أنّ«لا ضرار»المذکور بعد«لا ضرر»تأکید لما قبله أو أنّه مغایر له،و علی فرض المغایرة هل المغایرة مغایرة باب المفاعلة و الثلاثی المجرّد-أی الصدور من الاثنین أو الواحد-أو أزید من ذلک؟فلا بدّ من الرجوع إلی أهل اللغة و ملاحظة موارد استعماله فی الکتاب و السنّة،ثمّ أخذ النتیجة فی المسألة.

و أمّا من حیث اللغة ففی صحاح الجوهری أنّ:«الضرّ:خلاف النفع،و قد

ص:49

ضرّه و ضارّه بمعنی واحد».

یحتمل أن یکون المراد عدم الفرق بینهما فی استعمال کلّ واحد منها مکان الآخر،و لیس لکلمة«ضارّة»معنی المفاعلة،و یحتمل أن یکون المراد عدم الفرق بینهما بالنسبة إلی عدم النفع،و هذا لا ینافی أن یکون لأحدهما العنوان الثلاثی المجرّد و للآخر عنوان المفاعلة و الأقوی و الأقرب هو الاحتمال الأوّل.

ثمّ قال:«و الاسم الضرر»ما یتحقّق من المصدر-أی الضرّ مصدر، و الضرر اسم المصدر-ثمّ قال-:«و الضرار:المضارّة»،و المعنی:أنّ الضرار عبارة عن المضارّة التی قلنا،و قد ضرّه و ضارّه بمعنی واحد،فلا یستفاد من هذه العبارة تحقّق المغایرة بینهما حتّی المغایرة بعنوان باب المفاعلة، کما هو واضح.

و قال صاحب القاموس:«الضرر:ضدّ النفع،ضارّه یضارّه ضرارا، و الضرر:سوء الحال،الضرار:الضیق» (1).

و المستفاد منه إجمالا أنّ المغایرة بینهما لا تکون مغایرة باب المفاعلة،بل هو النوع الآخر من المغایرة،فإنّ سوء الحال یستعمل نوعا ما فی موارد الخسران و الضرر المالی و الجسمی،و الضیق یستعمل فی موارد الخسران العرضی و الروحی و المعنوی.

و قال فی المصباح المنیر:«ضرّه یضرّه إذا فعل به مکروها و أضرّ به،یتعدّی بنفسه ثلاثیّا،و الباء رباعیّا»-أی إذا کان ثلاثیّا یتعدّی بنفسه،و یقول:ضرّه و یضرّه مثل قتله یقتله،و إذا کان رباعیّا یقول:أضرّ بالرجل،لا أضرّ الرجل، فیتعدّی بالباء-ثمّ قال:«و الاسم الضرر،و قد یطلق علی نقص فی الأعیان،و ضارّه

ص:50


1- 1) القاموس المحیط 2:75.

یضارّه مضارّة و ضرارا،یعنی ضرّ».و المستفاد منه أنّه لا فرق بینهما أصلا (1).

و قال ابن الأثیر فی النهایة:«فی الحدیث:«لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام» الضرر:ضدّ النفع،ضرّه یضرّه ضرّا و ضرارا،و أضرّ به یضرّه إضرارا،فمعنی قوله«لا ضرر»:لا یضرّ الرجل أخا،فینقصه شیئا من حقّه،و الضرار فعال من الضرّ،أی لا یجازیه علی إضراره بإدخال الضرر علیه،و الضرر فعل الواحد،و الضرار فعل الاثنین،و الضرر ابتداء الفعل،و الضرار الجزاء علیه، و قیل:الضرر ما تضرّ به صاحبک و تنفع أنت به،و الضرار أن تضرّه بغیر أن تنفع،و قیل:هما بمعنی واحد و التکرار للتأکید» (2).هذا ما لاحظناه فی کتب اللغة و من الاختلاف فیها.

و لکنّ المستفاد من موارد استعمال کلمة«الضرار»فی القرآن هو ما ذکره فی القاموس من استعمال الضرر فی الخسران الجسمی و المالی،و الضرار فی الخسران الاعتقادی و الروحی،کما فی مثل قوله تعالی: وَ الَّذِینَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً... (3)،فإنّ الغرض من تأسیس المسجد المذکور إیجاد الضعف فی عقائد المسلمین و التشکیک فی إیمانهم و التفرقة بینهم،و لا یتصوّر هنا الإضرار بین الاثنین و المفاعلة.

و کما فی مثل قوله تعالی: وَ لا تُمْسِکُوهُنَّ ضِراراً (4)،و الظاهر أنّه فی قبال قوله تعالی: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساکٌ بِمَعْرُوفٍ... (5).

ص:51


1- 1) مصباح المنیر 5:328.
2- 2) النهایة فی غریب الأثر 3:172.
3- 3) التوبة:107.
4- 4) البقرة:231.
5- 5) البقرة:229.

و من الروایات الواردة فی تفسیر الآیة ما عن الصادق علیه السّلام:أنّه قال:

«لا ینبغی للرجل أن یطلّق امرأته ثمّ یراجعها و لیس له فیها حاجة ثمّ یطلّقها، فهذا الضرار الذی نهی اللّه عنه إلاّ أن یطلّق ثمّ یراجع و هو ینوی الإمساک» (1).

و المستفاد منها أنّ الإمساک بقصد التحقیر و إیجاد النقص الروحی،و مقدّمة للطلاق الثالث أو التاسع بدون الاحتیاج إلی الاستمتاع منها یکون إضرارا بها.

و هکذا فی قوله تعالی: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ (2)، و فی تفسیرها اختلاف،و یقول بعض:إنّه لا یصحّ إیقاع الوالدة موردا للضرر بالنسبة إلی ولدها،و هکذا الوالد بالنسبة إلی مولود له،و کأنّه کان عنوانان مستقلاّن:أحدهما:لا تضارّ والدة بولدها،و الآخر:لا یضارّ مولود له بولده.

هذا،و لکن یستفاد من الروایات الواردة فی تفسیرها معنی آخر،منها:ما عن أبی الصباح الکنانی،عن أبی عبد اللّه علیه السّلام قال:سألته عن قول اللّه:

لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ .فقال:«کانت المراضع ممّا تدفع إحداهنّ الرجل إذا أراد الجماع تقول:لا أدعک إنّی أخاف أن أحبل فأقتل ولدی هذا الذی أرضع،و کان الرجل تدعوه المرأة،فیقول:أخاف أن أجامعک فأقتل ولدی فیدعها و لم یجامعها،فنهی اللّه عزّ و جلّ عن ذلک أن یضارّ الرجل المرأة،و المرأة الرجل» (3).

و المراد امتناع الزوج أو الزوجة المرضعة من الجماع للخوف من الحمل الذی یوجب قلّة اللبن الموجب لهلاک الرضیع،و معلوم أنّ الضرر الموجود هنا

ص:52


1- 1) وسائل الشیعة 22:171،الباب 34 من أقسام الطلاق و أحکامه،الحدیث 1.
2- 2) البقرة:233.
3- 3) وسائل الشیعة 20:189،الباب 102 من أبواب مقدّمات النکاح و آدابه،الحدیث 1.

هو الحرمان من لذّة الجماع.

و هکذا فی قضیة سمرة بن جندب،قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:«ما أراک یا سمرة إلاّ مضارّا و لا ضرر و لا ضرار»،و معلوم أنّ انطباق عنوان المضارّ علیه من ناحیة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله لا یکون لتحقّق الضرر بین الاثنین،بل لإیجاده ضررا عرضیّا و روحیّا علی الأنصاری.

فیستفاد من ملاحظة الآیات و الرویات و کلمات جمع من اللغویّین:أوّلا:أنّه لا إشکال فی اختلاف معنی«لا ضرر»مع«لا ضرار»،و لا یکون الثانی تأکیدا للأوّل.

و ثانیا:أنّ الاختلاف بینهما لا یکون اختلاف الثلاثی المجرّد و باب المفاعلة المتحقّق بین الاثنین،بل هو اختلاف حقیقی،و أنّ الضرر عبارة عن النقص المالی و الضرر الجسمی،و الضرار عبارة عن غیره من الضرر الاعتقادی و العرضی و العاطفی و الغریزة الجنسیّة و أمثال ذلک.

و المستفاد من کلام ابن الأثیر فی النهایة کون«لا»ناهیة،فإنّه قال:«لا ضرر:یعنی لا یجوز أن یضرّ الرجل أخاه فینقصه شیئا.لا ضرار:یعنی لا یجوز أن یجاز الرجل علی ضرر»،و لکنّه لیس بصحیح،فإنّ«لا»الناهیة من مختصّات الفعل لا تدخل علی الاسم و المصدر،کما هو ثابت فی محلّه،و المصدر قد یکون بمعنی اسم الفاعل،و قد یکون بمعنی اسم المفعول،و کونه بمعنی الفعل مخالف لما علیه أهل النحو،فلا یجوز الالتزام به.

و المتّفق علیه تقریبا عند الأعاظم هو کون«لا»نافیة بنفی الجنس،إلاّ أنّ نفی الضرر عن الإسلام بالنفی الحقیقی خلاف للواقع کما قال به الشیخ الأنصاری رحمه اللّه فلا بدّ من ارتکاب المجاز هنا و الالتزام به،بأنّ معناه أنّه:«لم

ص:53

یشرّع الشارع حکما ضرریا،سواء کان حکما تکلیفیّا أو وضعیّا،فلم یشرّع الشارع الوضوء الضرری،و الصوم الضرری،و لم یحکم باللزوم فی المعاملة الغبنیّة مثلا،و لکنّ البحث فی أنّ المجاز هنا من قبیل استعمال اللفظ الموضوع للمسبّب فی السبب-أی لم یجعل الشارع ما هو سببا للضرر-أو أنّه من المجاز فی الحذف و التقدیر،أو إرجاعه إلی حقیقة ادّعائیّة،کما ذکره السکّاکی فی الاستعارة و بعض فی جمیع المجازات،و التحقیق فی محلّه.

و التزم عدّة من الأعاظم بأنّ استعمال قوله:«لا ضرر و لا ضرار»استعمال حقیقی بدون ارتکاب أیّ نوع من المجاز و العنایة کالمحقّق الحائری و النائینی رحمه اللّه و العراقی رحمه اللّه،و ذکر کلّ منهم وجها للمدّعی،إلاّ أنّ الوجوه متقاربة،و المفصّل منها ما ذکره المحقّق النائینی رحمه اللّه فإنّه ذکر للمدّعی مقدّمات ثمّ استفاد منها الاستعمال الحقیقی،و لکن لا بدّ لنا من نقل بعضها علی نحو الاختصار:

منها:أنّه قال:لا فرق بین حدیث«لا ضرر و لا ضرار»و حدیث الرفع، فإنّ ما تعلّق به الرفع من الواقعیّات الخارجیّة المتحقّقة ففی بادی النظر لا یمکن نسبة الرفع إلیها حقیقة،فلا بدّ من القول بارتکاب المجاز،و أنّ المؤاخذة فی التقدیر کأنّه قال:«رفع المؤاخذة علی ما لا یعلمون،و رفع المؤاخذة علی ما استکرهوا علیه»و أمثال ذلک.

و لکنّ الرفع فی عنوان الحدیث بحسب الدقّة و التأمّل رفع انشائی فی عالم التشریع،لا فی مقام الإخبار و الحکایة عن الواقعیّات الخارجیّة و تختلف العناوین المتعلّق بها الرفع التشریعی،فإنّ رفع بعضها یکون بنفسه،مثل:«ما لا یعلمون»إذا کان الموصول بمعنی الحکم المجهول،فالمرفوع فی عالم التشریع حقیقة هو الحکم المجهول بحسب الحکم الظاهری لا بعنوان الحکم الواقعی،

ص:54

و رفع بعضها یکون برفع أثره،مثل:«رفع النسیان»إذا کان النسیان بمعنی المنسی،و فی عالم التشریع إذا کان أثر موضوع مرفوعا معناه رفع نفس الموضوع،فلا فرق فی الاستعمال الحقیقی هنا بین أن یکون المرفوع نفس الشیء أو آثاره،فالرفع حقیقی بدون أیّ نوع من المجاز و العنایة و التقدیر.

ثمّ قال:إنّه یجری هذا المعنی بعینه فی حدیث«لا ضرر»؛إذ لا فرق فی نفی الضرر الإنشائی تشریعا فی تعلّق النفی بنفس الضرر أو آثاره من حیث الاستعمال الحقیقی.

و منها:أنّه قال إنّ الجمل قد تکون متمحّضة فی الإنشائیّة،و لا تکون فیها شائبة من الإخبار،مثل: وَ أَقِیمُوا الصَّلاةَ ،و«لا یشرب الخمر»،و أمثال ذلک،و قد تکون متمحّضة فی الخبریّة،و هی عبارة عن الجمل التی کان الموضوع فیها من الجوامد لا من المشتقّات،و لم یکن مصدّرا بکلمة«لیس» و«لا»و أمثال ذلک،و المحمول فیها لم یکن من الإیقاعات کالعتق و الطلاق و أمثال ذلک،مثل:«زید قائم»؛إذ المحمول إذا کان من الإیقاعات یکون لها عنوان الانشائیّة،مثل جملة:«الوطی فی العدّة الرجعیّة رجوع عن الطلاق»، و المحمول هنا من الإیقاعات،فإنّ الرجوع من الطلاق إیقاع باختیار الزوج، و إن کانت هذه الجملة بحسب الظاهر خبریّة،و لکن باطنها جملة إنشائیّة؛إذ الشارع ینشأ بها:أنّ ممّا یوجب الرجوع عن الطلاق هو الوطی،و قد تکون مشترکة بین الإنشائیّة و الخبریّة مثل جملة:«یعید الصلاة»فإنّها جملة خبریّة، و لکن إذا صدرت فی مقام الجواب عن السؤال تصیر إنشائیّة،و هکذا مثل کلمة«بعت»قد یستعمل فی مقام الإنشاء،و قد یستعمل فی مقام الإخبار إذا صدرت بعد الاستخبار عن وضع ملک کذا مثلا.

ص:55

و لا یخفی أنّ اختلاف الاستعمال لا یرتبط بالوضع،بل یرتبط بالمدالیل السیاقیّة،و أنّ سیاق الکلام قد یقتضی الإخباریّة إذا وقع فی الجواب عن السؤال،و قد یقتضی الإنشائیّة إذا وقع فی مقام النقل و الانتقال،و یمکن اجتماع الإنشائیّة و الإخباریّة فی جملة واحدة بلحاظ خصوصیّات المورد،فلا مانع من الالتزام بذلک فی قوله:«لا ضرر»،و أنّ المدلول السیاقی فیه یختلف بحسب اختلاف الموارد،و کون«لا»نافیة فی کثیر من الموارد و ناهیة فی بعض الموارد، و هذا لا یوجب أن لا یکون الاستعمال حقیقیّا.

ثمّ قال بعد ذکر المقدّمات:إنّ أصوب الوجوه فی معنی«لا ضرر»أنّه ینفی الحکم الضرری علی نحو الحقیقة بدون أیّ نوع من المسامحة و التجوّز.

ثمّ قال:لا یتوهّم أنّ للضرر فی الواقعیّات الخارجیّة عنوانین:أحدهما العنوان الأوّلی الأصلی،و الآخر العنوان الثانوی المتولّد و المسبّب من الأوّل،إذا تحقّق الضرب-مثلا-فی الخارج،فالضرب عنوان من العناوین الأوّلیّة، و العنوان المسبّبی المتولّد منه عبارة عن الضرر إن کان معنی«لا ضرر»النفی علی نحو البسیط فی قبال النفی المرکّب-أی کان مثل«لیس زید»لا مثل «لیس زید بعالم»-فیرتبط النفی بالامور التکوینیّة بمعنی توجّهه إلی الأفعال التی لها عنوانان،و العنوان الثانوی المتولّد من العنوان الأوّلی عبارة عن الضرر،فینطبق فی الشرعیّات بعنوان المجازی لا بعنوان الحقیقی.

فإنّا نقول:هذا توهّم فاسد؛لانطباق ما ذکر بعینه فی الشرعیّات بأنّ لزوم عقد البیع و لو فی المعاملة الغبنیّة عنوان أوّلی،و العنوان الثانوی المتولّد منه هو الضرر،و هکذا فی إیجاب الوضوء-مثلا-إن کان ضرریّا،و لا فرق بینهما إلاّ أنّ نفس الحکم و اللزوم فی المعاملة الغبنیّة مستلزم للضرر بدون أیّ واسطة فی

ص:56

البین،و أمّا الموجب للضرر فی مسألة إیجاب الوضوء لیس نفس الإیجاب،بل هو عبارة عن الوضوء الخارجی،و لکن بلحاظ مقهوریّة إرادة المکلّف لحکم الشارع یصحّ استناد الضرر إلی الحکم،و الإیجاب استناد المعلول إلی العلة، فنقول:إیجاب الوضوء یکون ضرریّا و مستلزما للضرر.

نعم،إذا کان لکلّ السبب و المسبّب وجود مستقلّ-کحرکة الید و حرکة المفتاح-لا یصحّ إطلاق أحدهما علی الآخر علی نحو الحقیقة،و أمّا إذا لم یکن کذلک فلا مانع؛لإطلاق أحدهما علی الآخر کالضرب و التألّم بدون أیّ نوع من المجازیّة،ففی ما نحن فیه یصحّ القول بأنّ الحکم الذی یتولّد منه الضرر، و الضرر لباسه لا یتحقّق فی محیط التشریع،فلزوم البیع فی المعاملة الغبنیّة لا یتحقّق،و إیجاب الوضوء الضرری لا یتحقّق،فلا إشکال فی نفی الحکم الضرری بقوله:«لا ضرر»علی نحو الحقیقة (1).هذا تمام کلامه مع التوضیح و التصرّف منا.

و لکن التحقیق:أنّ ما ذکره فی المقدّمة الاولی-من عدم مجازیّة إسناد الرفع إلی الشیء بلحاظ آثاره و إسناد النفی إلیه بلحاظ آثاره،بل هی حقیقیّة فی عالم التشریع-لیس بتامّ.

توضیح ذلک:أنّ المجاز قد یکون فی الکلمة،مثل:«رأیت أسدا یرمی»، و قد یکون فی الإسناد،مثل:«أنبت الربیع البقل»،فإنّ إسناد الإنبات إلی الربیع دون الباری تعالی مجازی،و المجاز فی حدیث الرفع عند القائل به مجاز فی الإسناد إن کان معناه أنّ شرب الخمر عن إکراه فی جوّ الشرع لا حرمة فیه و لا حدّ علیه،فلا إشکال فیه،و أمّا اسناد الرفع إلی ما استکرهوا علیه-أی

ص:57


1- 1) قاعدة لا ضرر دروس الفقیه العظیم و الاصولی محمّد حسن الغروی النائینی:110.

إلی شرب الخمر فی الواقع-بمعنی أنّ هذا لیس بشرب الخمر فکیف یکون إسنادا حقیقیّا و لو فی محیط التشریع؟مع أنّه لا فرق بین الشارع و غیره فی الاستعمالات،و لا دخل للشارع بما أنّه شارع فی کیفیّة الاستعمال،لتبعیّة استعمالاته الاستعمالات العرفیّة من حیث الحقیقة و المجاز،ففی الاستعمالات العرفیّة یمکن نفی الرجولیّة بلحاظ نفی الآثار مجازا أو بعنوان الحقیقة الادّعائیّة لا الحقیقة الواقعیّة،و هکذا فی الاستعمالات الشرعیّة بلا فرق بینهما أصلا.

و أمّا ما ذکره فی المقدّمة الثانیة-من ارتباط الإخبار و الإنشاء فی مثل کلمة «بعت»بمدالیل السیاق لا بالوضع و الموضوع له و أنّ السیاق قد یقتضی دلالتها علی الخبر،و قد یقتضی دلالتها علی الإنشاء-فلا بدّ من ملاحظته حتّی یتّضح ما هو الواقع،فنقول:إنّ مادّة کلمة«بعت»-أی البیع-وضعت للمعنی المشترک بین جمیع الهیئات المشتقّة،و أمّا هیئتها فلا إشکال فی عدم کونها من الألفاظ المهملة،بل لها أیضا وضع کسائر الألفاظ المشتقّة،و حینئذ فیحتمل أن یکون بصورة تعدّد الوضع بأنّها وضعت تارة للمعنی الإنشائی إذا استعملت فی مقام إنشاء التملیک و النقل و الانتقال،و اخری للمعنی الإخباری إذا استعملت فی مقام الحکایة عمّا مضی،کما هو الحقّ،و یحتمل أن یکون بالوضع الواحد بصورة المشترک المعنوی للقدر المشترک بین الإنشاء و الإخبار،فنحتاج إلی القرینة المعیّنة فی مقام الاستعمال،و هی قد تکون عبارة عن السیاق،و قد تکون غیره من القرائن الاخری،و لا مانع منه بحسب بادئ النظر.

و لکن قلنا:إنّ الوضع فی باب الحروف عامّ و الموضوع له خاصّ،بمعنی لحاظ الواضع کلّی الابتداء-مثلا-ثمّ وضع لفظ«من»لمصادیقه،بخلاف

ص:58

ما ذکره صاحب الکفایة رحمه اللّه،و للهیئة أیضا عنوان حرفی مثل کلمة«من» و الهیئات من ملحقات الحروف فی باب الوضع،و المعنی الحرفی مساوق الجزئیّة و الفردیّة و التشخّص و المصداقیّة الواقعیّة الخارجیّة لا الذهنیّة،فلا یمکن وضع هیئة«بعت»للقدر المشترک و الجامع بین الإنشاء و الإخبار؛إذ الجامع معنی اسمی،و لیس لمصادیق الابتداء جامع بل لا یصوّر سوی مفهوم الابتداء،و هو معنی اسمی،فالقدر المشترک من العناوین الکلّیّة الاسمیّة،و ما نشاهد فی باب الحرف بعنوان الموضوع له عبارة عن المصادیق و الأفراد، فکیف یمکن أن یکون المصداق قدر الجامع؟فلا بدّ من الالتزام بتعدّد الوضع، بأنّ الواضع بعد ملاحظة کلّی البیع الإنشائی فی المقام وضع کلمة«بعت» لمصادیقه،ثمّ لاحظ کلّی البیع الإخباری و وضعها لمصادیقه،فما ذکره من ارتباط الإنشاء و الإخبار بالمدالیل السیاقیّة لا بالوضع و الموضوع له لیس بتامّ.

و هکذا ما ذکره فی ذیل کلامه-من ارتباط العلّیّة و المعلولیّة بین إیجاب الوضوء،و الوضوء الخارجی الضرری،و أنّ إرادة العبد مقهورة لحکم المولی فی عالم التشریع-لیس بصحیح،فإنّ المشاهد فی الخارج أنّ إطاعة الأمر بالوضوء ضرری،و لا تحقّق نسبة العلیّة التامّة و المعلولیّة بین الأمر و إطاعته، و إلاّ لم یتحقّق العصیان و المخالفة أصلا،و لا العلّیّة الناقصة،فإنّ معناها إیصال المطیع العلّیّة الناقصة بمرحلة الکمال و انسداد العاصی من تأثیرها،و هو کما تری.

و التحقیق فی مسألة الإطاعة و العصیان:أنّ المکلّف بعد ملاحظة الأمر و ترتّب الثواب علی إطاعته و العقاب علی مخالفته یختار طرف الإتیان به،و قد

ص:59

یختار طرف العصیان؛لعدم مبالاته فی الدین أو اتّکالا علی العفو و الشفاعة و التوبة،فلا یرتبط العصیان و الإطاعة بالأمر،بل یتحقّق بسبب الأمر موضوع للموافقة و المخالفة فقط،و لا علّیّة له،فکیف یمکن استناد الضرر المربوط بالإطاعة إلی الأمر و إیجاب الوضوء؟

و أمّا المثال المذکور فی مسألة الإیلام و الضرب،أو القتل و الضرب و أنّ ترتّب الإیلام علی الضرب ترتّب علی،مع عدم استقلالهما فی الوجود،و إطلاق أحدهما علی الآخر شائع.

فیرد علیه:أوّلا:أنّ الاتّحاد فی الوجود لا یرتبط بعالم الألفاظ و الاستعمال، سواء کان الاتّحاد فیه علی الدوام أو أحیانا،و لا یسری الاتّحاد الوجودی إلی عالم المفاهیم،و إلاّ یجوز استعمال لفظ الإنسان مکان لفظ الضاحک أو بالعکس،لاتّحادهما من حیث الوجود دائما،و یجوز استعمال لفظ الغصب مکان الصلاة أو بالعکس،لاتّحادهما من حیث الوجود أحیانا.

و ثانیا:لو سلّمنا أنّ إطلاق أحدهما علی الآخر شائع،لکنّ الشیاع هل یکون بنحو الحقیقة أو بنحو المجاز؟و الأوّل لا طریق لإثباته،و الثانی خلاف المدّعی،فما ذکره المحقّق النائینی رحمه اللّه من دلالة«لا ضرر»علی نفی الحکم الضرری بالدلالة الحقیقیّة لا بالمسامحة و لا بالحقیقة الادّعائیّة لیس بتامّ،کما لا یخفی.

و قال صاحب الکفایة رحمه اللّه:«إنّ الأصل الأوّلی فی مثل قوله:«لا ضرر و لا ضرار»هو نفی الماهیّة و الحقیقة،إلاّ أنّه قد یکون بنحو الحقیقة کما فی مثل«لا رجل فی الدار»،و قد یکون بنحو الادّعاء و الکنایة بلحاظ عدم تحقّق الحکم أو الصفة المترقبة عن مدخول«لا»،مثل قوله:«یا أشباه الرجال و لا رجال»،

ص:60

و قوله:«لا صلاة لجار المسجد إلاّ فی المسجد».

و لا یخفی أنّ نفی أوصاف الرجولیّة-کالشجاعة و السخاوة و أمثال ذلک- و إن کان صحیحا،و لکنّه لا یکون واجدا للخصوصیّة البلاغیّة،و أمّا نفی الماهیّة و الحقیقة بلحاظ فقدان الآثار و الأوصاف فلا بأس فی واجدیّته للمرتبة الکاملة من البلاغة،و ما نحن فیه من هذا القبیل،کما إذا قلنا:لا قمار فی الإسلام،لا سرقة فی الإسلام،لا أکل مال بالباطل فی الإسلام» (1).

هذا حاصل ما یستفاد من الکفایة و حاشیة الرسائل فی المقام.

و یرد علیه:أنّ هذا البیان صحیح و قابل للالتزام فی مثل«لا صلاة،و لا رجال»،فإنّ موضوعیّة ماهیّة الصلاة للأحکام و الآثار-کالمعراجیّة مثلا- لا شبهة فیها،و هکذا موصوفیّة ماهیّة الرجل للأوصاف،فیصحّ نفی الماهیّة بنحو الحقیقة الادّعائیّة بلحاظ فقدان الآثار و الأوصاف،بخلاف مثل قوله:

«لا ضرر»؛فإنّ ماهیّة الضرر لا تکون موضوعة للآثار و الأحکام کما لا یخفی،و الموضوع لها هو الوضوء الضرری،و لزوم المعاملة الغبنیّة و نحو ذلک، و المنفی هو الضرر،بما أنّه عنوان الضرر،فلا أحکام فی البین حتّی تکون نفی الماهیّة بلحاظ فقدانها.

أمّا القول بالمجازیّة بعلاقة السببیّة و المسببیّة بإطلاق لفظ الضرر الموضوع للمسبّب فی السّبب بنحو المجاز و المسامحة،و کون المراد من نفی الضرر هو نفی الحکم الضرری،فهو أیضا لیس بصحیح بعد إنکار أصل السببیّة،کما مرّ فی الجواب عن المحقّق النائینی رحمه اللّه.

و أمّا القول بالمجاز فی الحذف و التقدیر و کون معنی قوله:«لا ضرر»أنّ کلّ

ص:61


1- 1) کفایة الاصول 2:268.

حکم ینشأ منه الضرر و یرتبط به ارتباطا ما-و لو بنحو المعدّ أو أضعف منه- منفی،فلزوم المعاملة الغبنیّة ینشأ منه الضرر،و هو منفی،و إیجاب الوضوء الضرری ینشأ منه الضرر،و هو منفی،فهو أیضا لا یخلو عن الإشکال؛فانّه تتحقّق فی الشریعة أحکام متمحّضة فی الضرر،و مع ذلک لا ینفیها قوله:«لا ضرر»مثل باب الزکاة و الخمس،و الحکم بضمان من أتلف مال الغیر،و الحکم بضمان ید العاریة،و الحکم بانفساخ المعاملة فی مورد تلف المبیع قبل قبضه و کونه علی عهدة البائع،مع أنّ الإقباض لا یکون من شرائط صحّة المعاملة، و هکذا الحدود و التعزیرات،و سلب المالیّة عن الخمر و الخنزیر،و أمثال ذلک، و خروجها عنه بصورة التخصیص یوجب تخصیص الأکثر المستهجن قطعا.

و قال الشیخ الأنصاری رحمه اللّه:إنّ تخصیص الأکثر إذا کان بدون وجود الجامع و القدر المشترک بین الموارد المخصّصة کما فی مثل:أکرم القوم،ثمّ إخراج الأکثر منه لا بمناط واحد،بل کان إخراج کلّ واحد منه بمناط مستقلّ،هذا یکون مستهجنا،و إذا کان مع وجود الجامع المشترک بینها و بمناط واحد لیس بمستهجن،کما فی مثل:أکرم الناس،ثمّ أخرج الأکثر بعنوان الفسّاق،و معلوم أنّ أفراد الفسّاق أکثر من أفراد العادل،و مع ذلک لا مانع منه؛لتحقّق العنوان الجامع،و الجامع فی ما نحن فیه و إن لم یکن معلوما بعنوانه الخاصّ و لکن تحقّقه بنحو الإجمال یکفی لعدم استهجان التخصیص (1).

و أجابه المحقّق النائینی رحمه اللّه و ذکر بعنوان مقدّمة الجواب:أنّ العموم فی القضیّة الخارجیّة یشمل الأفراد المحقّقة الوجود فی الخارج فقط،و العموم فی القضیّة الحقیقیّة یشمل الأفراد المحقّقة الوجود و المقدّرة الوجود معا،و ملاک الحکم فی

ص:62


1- 1) فرائد الاصول 2:641.

القضیّة الخارجیّة یمکن أن یکون متعدّدا بتعدّد الأفراد،و الجامع بینها هو الجامع اللفظی و العنوانی،مثل:«کلّ من کان فی هذا المحبس محکوم بالقتل»، و ملاک الحکم فی کلّ واحد غیر الملاک فی الآخر،و الجامع هو الکون فی المحبس،بخلاف القضیّة الحقیقیّة؛إذ لا بدّ فیها من وحدة الملاک و شموله لجمیع الأفراد،سواء کانت محقّقة الوجود أو مقدّرة الوجود بملاک واحد،فلا بدّ لها من الجامع الحقیقی،و تحقّق الملاک فیه حتّی یکون شاملا للأفراد بعنوان المصداقیّة له،مثل قولنا:«یجوز الاقتداء بکلّ عادل»،فإنّ ملاک الحکم عبارة عن العدالة،و هذا الملاک یکون جامعا حقیقیّا کلّیّا لها.

ثمّ قال:«إنّ التخصیص فی القضیّة الحقیقیّة قد یکون تصرّفا فی نفس الکبری و مدخول کلمة«کلّ»مثل قوله:«أکرم کلّ عالم»،و قوله:«لا تکرم الفسّاق من العلماء»،و هذا التخصیص یرجع إلی تقیید العامّ،کأنّه قال من الابتداء:«أکرم کلّ عالم غیر فاسق»،و قد یکون تصرّفا فی کلّیّة الکبری و کلمة«کلّ»،مثل قوله:«أکرم کلّ عالم»و قوله:«لا تکرم زید العالم»،و قوله:

«لا تکرم بکرا العالم»و نحو ذلک،بخلاف التخصیص فی القضیّة الخارجیّة، لانحصاره بالنوع الثانی لتصرّفه فی کلمة«کلّ»و الأداة المفیدة للعموم،مثل قوله:«کلّ من کان فی هذا المحبس صار محکوما بالقتل»،و قوله:«إنّ محبوس کذا لا یکون محکوما بالقتل».

ثمّ إنّ تخصیص الأکثر فی هذا النوع یکون مستهجنا؛لتقابل التخصیص مع أداة العموم،بخلاف النوع الأوّل؛إذ التخصیص یکون بعنوان واحد و بمنزلة تقیید مدخول کلمة«کلّ»،و لا یلاحظ فیه کثرة الأفراد و قلّتها،فلا استهجان فی البین».

ص:63

ثمّ قال بعد بیان هذه المقدّمة:«إنّ قوله«لا ضرر»یکون من قبیل القضیّة الخارجیّة لتوجّهه إلی الأحکام المجعولة المحقّقة فی الشریعة:فإنّ ظاهر إطلاقها یقتضی عدم الفرق بین کونها ضرریّا أو غیر ضرری،فینبغی بقوله:«لا ضرر»ما کان منها ضرریّا،و قد عرفت أنّ تخصیص الأکثر فی القضیّة الحقیقیّة قد یکون مستهجنا،و قد لا یکون کذلک،و أمّا فی القضیّة الخارجیّة یکون مستهجنا أبدا،سواء کان التخصیص بعنوان واحد،أو بعناوین متعدّدة؛ لتوجّهه إلی الأداة المفیدة للعموم و لا یرتبط بمدخوله،فلا محالة یکون تخصیص الأکثر مستهجنا» (1).هذا تمام الکلام فی مقام جواب ما ذکره الشیخ الأنصاری رحمه اللّه.

و لکنّه لیس بتامّ،فإنّ الاختلاف بین القضیّة الحقیقیّة و القضیّة الخارجیّة بوحدة المناط فی الأوّل و تعدّد المناط فی الثانی خلاف التحقیق؛إذ الاختلاف یکون بسعة دائرة الکلّی و العموم و ضیقها،فإنّه قد یکون من العناوین التی تشمل الأفراد المحقّقة الوجود و المقدّرة الوجود معا،و قد یکون من العناوین المنحصرة بالأفراد المحقّقة الوجود فی الخارج.

و یرد علیه-بعد الإغماض عن ذلک-:أنّه لا شکّ فی توجّه قوله:«لا ضرر» إلی جمیع الأحکام المجعولة المستلزمة للضرر بمناط واحد،و هو استلزام الحکم للضرر،سواء کان حکما تکلیفیّا أو حکما وضعیّا،فکونه من القضیّة الخارجیّة لیس بتامّ؛لعدم انطباقه علی مبناه.

و الظاهر أنّ تخصیص الأکثر مستهجن مطلقا،سواء کان بعنوان واحد أو متعدّد،کما إذا قال:«أکرم العلماء»،ثمّ قال:«لا تکرم غیر المراجع من العلماء»،

ص:64


1- 1) قاعدة لا ضرر دروس الفقیه العظیم النائینی:149-151.

إلاّ أن یکون التخصیص متّصلا،و هو فی الحقیقة لیس بتخصیص،بل إطلاق هذا العنوان علیه یکون من باب المسامحة.

و لکنّ المحقّق النائینی رحمه اللّه بعد الجواب عمّا ذکره الشیخ الأنصاری رحمه اللّه ذکر طریقین للتخلّص عن إشکال تخصیص الأکثر.

الطریق الأوّل:أنّ بعد مقایسة قوله:«لا ضرر»مع الأدلّة الأوّلیّة نلتفت إلی تخصیصه لها بعنوان الحکومة،فإنّ لسانه بالنسبة إلیها لسان التوضیح و التفسیر،و لکنّ الحکومة فیما کان الحکم بمقتضی طبعه مستلزما للضرر أحیانا لا دائما مثل حکومته علی دلیل وجوب الوضوء؛لأنّه قد یکون ضرریّا،و قد یکون غیر ضرری و صار محدودا بمورد غیر ضرری بواسطة حکومته علیه،بخلاف ما إذا کان الحکم بمقتضی طبعه متمحّضا فی الضرر،فلا تتحقّق هنا حکومة،بل النسبة بینهما عبارة عن التعارض،و کان سائر الأدلّة مقدّما علیه.

الطریق الثانی:أنّ أکثر الموارد المذکورة بعنوان المتمحّض فی الضرر لیس بصحیح،کالحکم بالضمان فی مورد إتلاف مال الغیر،فإنّ جبران ما أتلف باختیاره و مباشرته لا یکون ضرریّا،و کذا الحکم بالدیة فی مورد القتل العمدی أو الخطائی،و الحکم بإعطاء الزکاة بعد ما جعل الشارع سهما للفقراء فی الأموال،فکیف یکون الحکم بإعطاء الشریک سهم شریکه ضرریّا؟نعم، فی مثل باب الجهاد و الحجّ مستلزم للضرر و تحمّل المشقّات الکثیرة بدون أیّ عنوان آخر،و لکنّه لا یکون موجبا لتحقّق عنوان تخصیص الأکثر (1).

و أجاب سیّدنا الاستاذ الامام رحمه اللّه عن الطریق الثانی بجوابین:

ص:65


1- 1) قاعدة لا ضرر دروس الفقیه العظیم النائینی:152-153.

الأوّل:أنّه سلّمنا أنّ بعد فرض کون الفقراء شرکاء فی باب الزکاة لا یکون إعطاء سهم الشریک ضرریّا،إلاّ أنّ أصل جعل الحکم بشرکة الفقراء ضرری،و هکذا الحکم بالضمان فی مورد إتلاف مال الغیر عالما عامدا لیس بضرری،و لکنّ الحکم بالضمان علی النائم المتلف و غیر الملتفت عن غیر اختیار لا إشکال فی کونه ضرریّا،فلا یکون أکثر الموارد خارجا عن عنوان الضرر.

الثانی:أنّ العموم قد یکون قابلا و صالحا للتخصیص،و تخصیص الأکثر فیه یکون مستهجنا،و قد یکون آبیا عن التخصیص،کالقواعد الواردة فی مقام الامتثال،مثل حدیث الرفع،و قاعدة لا حرج،و غیر ذلک؛لمنافاتها مع أصل التخصیص،و قاعدة لا ضرر أیضا من هذا القبیل،و کلمة«علی مؤمن»فی بعض الروایات شاهد علی ورودها فی مقام الامتنان،فیکون سیاقها آبیا عن تخصیص فضلا عن تخصیص الأکثر (1).

أمّا الجواب عن الطریق الأوّل،فإنّ نتیجته الوقوع فیما فر منه؛إذ بعد وقوع التعارض بین دلیل نفی الضرر و دلیل وجوب الزکاة و الخمس بلحاظ نفی الأوّل جنس الحکم الضرری بعنوان المطلق،و إثبات الثانی الحکم الضرری الخاصّ فی مورد،فلا بدّ من کونه مخصّصا له،فیعود الإشکال بقوّته، فإذا کان معنی قوله:«لا ضرر»نفی الحکم الضرری یکون مستلزما لإشکال تخصیص الأکثر،و هو غیر قابل للجواب،کما لا یخفی.

و أسند الشیخ الأنصاری رحمه اللّه معنی آخر لقوله:«لا ضرر»إلی بعض الفحول، و قال:«هذا أردأ الاحتمالات و أضعفها،و هو:أنّ معناه نفی الضرر،لا نفی

ص:66


1- 1) بدائع الدّرر فی قاعدة نفی الضرر:89-90.

الضرر المطلق،و لا نفی الحکم الضرری،بل الضرر الموصوف بوصف و المقیّد بقید،و هو کونه غیر متدارک،فإن کان الضرر متدارکا مثل تدارک العباء المغصوب بالمثل أو القیمة،فلا یتحقّق الضرر،فکلّ ضرر غیر متدارک فی الإسلام منفی لتدارکه بالمثل أو القیمة أو الأرش.

ثمّ استشکل علیه بأنّ مجرّد إیجاب المثل أو القیمة أو الأرش لا یوجب تدارک الضرر فی الخارج،و ما یتدارک به الضرر واقعا یمکن أن لا یتحقّق للعصیان و النسیان،فکیف یمکن نفی حقیقة الضرر (1)؟!.

و قال المحقّق شیخ الشریعة الاصفهانی رحمه اللّه:إنّ قوله:«لا ضرر»یدلّ علی النهی عن الضرر،کأنّه قال:«لا یجوز فی الإسلام أن یضرّ رجل رجلا»،و هذا المعنی یستفاد من الأذهان العرفیّة الخالیة عن الشبهات و من الاستعمالات الکثیرة، مثل قوله تعالی: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِی الْحَجِّ (2)،و المعنی:أنّه لا یجوز الرفث و لا یجوز الفسوق،و لا یجوز الجدال فی الحجّ،و مثل الروایة الواردة فی باب السبق و الرمایة أنّه:«لا سبق إلاّ فی خفّ أو حافر أو نصل» (3)، یعنی لا تجوز المسابقة فی غیر هذه الثلاثة،و مثل قوله:«لا غشّ بین المسلمین» (4)،و نحو ذلک،مضافا إلی أنّ کلمة«علی مؤمن»فی ذیل بعض الروایات لا یکون متناسبا مع النفی،و إلاّ یکون معناه جواز المعاملة الغبنیّة إذا کان المغبون کافرا ذمّیّا،و الحال أنّ اشتراک الکافر و المسلم فی الأحکام لا إشکال فیه،و هذا دلیل علی کون«لا»ناهیة.

ص:67


1- 1) رسائل فقهیّة:114.
2- 2) البقرة:197.
3- 3) الکافی 5:48-50.
4- 4) سنن الدارمی 2:248.

و مضافا إلی أنّ ترتیب الصغری و الکبری فی بعض الروایات،مثل:قوله:

«إنّک رجل مضارّ،و لا ضرر و لا ضرار»یناسب هذا المعنی.

علی أنّه یستفاد من الکتب اللّغویّة کما ذکر فی النهایة،و المعنی:«لا یضرّ الرجل أخاه شیئا»،فالمراد من«لا ضرر»هو النهی إمّا لکون«لا»ناهیة،و إمّا للانتقال من النفی إلی النهی،فلا فرق بینهما.

و نتیجة هذا البیان کونه من الأحکام الأوّلیّة المحرّمة فی قبال سائر المحرّمات،فلا قاعدة فی البین.

و یرد علیه:أوّلا:أنّ کثرة استعمال«لا»فی النهی من استعماله فی النفی لا یکون قابلا للقبول،بل الأمر بالعکس فی الاستعمالات الفقهیّة و المحاورات العرفیّة،کما لا یخفی علی المتتبّع،مضافا إلی عدم تناسب کلمة«علی مؤمن»مع النهی أیضا؛لعدم جواز الإضرار بغیر المؤمن أیضا فی کثیر من الموارد.

و ثانیا:أنّ دخول«لا»الناهیة علی الاسم بصورة الاستعمال الحقیقی لیس بتامّ،و هکذا استعمال«لا»فی النفی و إرادة النهی منه استعمالا حقیقیّا لا یکون قابلا للتصوّر،و أمّا الاستعمال بصورة المسامحة و المجاز فلا مانع منه،و لکن حمل قوله:«لا ضرر»-مع أهمّیّته-علی المعنی المجازی لا یکون قابلا للالتزام.

و کان لاستاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه تحقیق آخر فی معنی قوله:«لا ضرر»،و هو:

أنّ«لا»ناهیة و النهی مولوی نبوی صادر من مقام الحکومة،لا یرتبط بالنواهی الالهیّة،و لا بدّ لتوضیح ذلک من بیان امور:

الأمر الأوّل:أنّه کان لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله ثلاثة مناصب و مقامات،و کان لکلّ منها أحکام خاصّة:

المقام الأوّل:هو مقام النبوّة و المخبریّة عن اللّه تعالی،و لیس له فی هذه

ص:68

المرحلة أمرا و نهیا مستقلاّ،بل کلّ ما یقول به هو من ناحیة الباری تعالی، و مخالفته مخالفة اللّه تعالی،و أوامره إرشادیّة،فالعقوبة و المثوبة من خصوصیّات المرشد إلیه،فالجعل و التقنین و التشریع لا یرتبط به صلّی اللّه علیه و آله؛ إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی (1).

المقام الثانی:هو مقام الحکومة،و الدلیل علیه قوله تعالی: أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ... (2)و معلوم أنّ الأمر فی أَطِیعُوا اللّهَ إرشادی إلی حکم العقل،بخلاف الأمر فی أَطِیعُوا اللّهَ فإنّه من الأحکام المولویّة الإلهیّة الثابتة فی الشریعة،کأنّه یقول:أیّها المسلمون،یجب علیکم إطاعته فی أوامره و نواهیه الصادرة منه صلّی اللّه علیه و آله بما أنّه رسول،و یستفاد منه أنّ اللّه جعل له مقام الحکومة و السلطنة بالنسبة إلی المسائل الاجتماعیّة،مضافا إلی مقام النبوّة.

و الشاهد علیه تکرار کلمة«أطیعوا»فی الآیة،و جعله فی مقابل إطاعة اللّه یعنی إطاعة الرسول فی الشئون المربوطة بنفسه صلّی اللّه علیه و آله،لا فی الأوامر و النواهی الإلهیّة؛ لعدم ارتباطها برسول اللّه،بل ترتبط مستقیما باللّه تعالی،فهو یدلّ بصورة الأمر المولوی علی وجوب إطاعة الرسول،فتارک حفر الخندق-مثلا-بلا عذر یعاقب لا بما أنّه خالف اللّه تعالی مستقیما،بل بما خالف الرسول،مع أنّه کان واجب الإطاعة بمقتضی قوله: أَطِیعُوا الرَّسُولَ فالمأمور به هو نفس إطاعة الرسول.

و هکذا قوله تعالی: اَلنَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُؤْمِنِینَ... (3)و معنی الأولویّة المجعولة من ناحیة اللّه تعالی له:وجوب إطاعة أوامره فی المسائل الاجتماعیّة

ص:69


1- 1) النجم:4.
2- 2) النساء:59.
3- 3) الأحزاب:6.

و الشخصیّة فإذا أمر زیدا أن یطلّق زوجته أو یبیع داره یجب علیه إطاعة أمره بمقتضی الآیة و کونه أولی بالمؤمنین من أنفسهم،و أشار إلیه فی حدیث الغدیر بقوله:«أ لست أولی بکم من أنفسکم» (1).

المقام الثالث:هو مقام القضاوة و فصل الخصومة،و هذا واضح،فإنّه صلّی اللّه علیه و آله کان ینصب القاضی و یرسله إلی البلاد،إذا کان النصب من وظائفه فیستفاد ثبوته له بطریق أولی.

الأمر الثانی:أنّ تعبیرات الروایات المنقولة عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله مختلفة؛إذ یعبّر فی بعضها بکلمة«قال»،و فی بعضها بکلمة«أمر»،و فی بعضها بکلمة «قضی أو حکم»:فإذا کان التعبیر بکلمة«قال»فلا ظهور له بارتباط مقولة القول بمقام النبوّة أو الحکومة و السلطنة،بل محتمل الوجهین،و إذا کان التعبیر بکلمة«أمر بکذا»أو«نهی عن کذا»أو«قضی و حکم بکذا»فی غیر مورد فصل الخصومة،و الظاهر أنّه یرتبط بمقام الحکومة و بما أنّه حاکم بین المسلمین.

إذا عرفت ذلک فنقول:أنّه قد مرّ ما ذکره شیخ الشریعة فی المقام من وحدة الروایات المنقولة من طرق الإمامیّة فی باب أقضیة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله لکون الراوی فی أکثرها عبارة عن عقبة بن خالد،مثل:ما نقله أهل التسنّن عن عبادة بن صامت،و لکن لم نلتزم بذلک لبعض الشواهد،إلاّ أنّ التعبیرات الموجودة فی روایة عقبة بن خالد یتحقّق أکثرها فی روایة عبادة بن صامت الجامع لأقضیة الرسول،و هذا یوجب الوثوق و الاطمئنان لأن تکون روایة عبادة بن صامت مطابقة للواقع و إن لم تکن منقولة من طرق الإمامیّة،فإنّ

ص:70


1- 1) کمال الدّین:337.

تطابق مفادها و أکثر ألفاظها و تعبیراتها مع ما نقل عن عقبة بن خالد لا بروایة واحدة،و مع کون عبادة بن صامت إمامیّا موثّقا یوجب الوثوق بذلک بیننا و بین وجداننا،و نری فی روایة عبادة بن صامت استعمال کلمة«قضی»فی مورد«لا ضرر»،و قد عرفت ظهورها فی مقام الحکومة و الولایة إن لم تکن قرینة علی الخلاف،فالظاهر أنّه مع قطع النظر عن قضیّة سمرة بن جندب یرتبط بمقام الحکومة لا بمقام النبوّة.

و أمّا قضیّة سمرة بن جندب فلا بدّ من ملاحظة خصوصیّاتها،و من المعلوم أنّ مراجعة الأنصاری إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله بعد النزاع و المکالمة مع سمرة بن جندب یکون بعنوان الاستمداد و إحقاق الحقّ عند الحاکم بما أنّه حاکم علی المسلمین،لا بعنوان الاستفهام و السؤال عن الحکم الشرعی.

و أمّا قوله:«إذا أردت الدخول فاستأذن»و مکالمته معه فی مقام المساومة و امتناعه من الاستیذان و المعاملة الدنیویّة و الاخرویّة ثمّ الأمر بالقلع،فهو لکونه نبیّ الرحمة و مظهر رحمة اللّه تعالی و عطفه،و لکنّ إباء سمرة صار مانعا عن شمولها له،فالمراجعة مربوطة بمقام الحکومة،و لا محالة یکون قوله:«لا ضرر و لا ضرار»مربوطا بهذا المقام؛فإنّ الأمر بالقلع لا شکّ فی کونه حکما حکومتیّا و قوله:«لا ضرر»یکون بمنزلة التعلیل له،و مقتضی قاعدة السنخیّة أن یکون التعلیل أیضا حکما حکومتیّا.

و الإشکال علی علّیّة قوله:«لا ضرر»لقوله:«اقلعها وارم بها إلیه»أنّ القلع و الرمی یدفع الضرر عن الأنصاری،و لکن یتوجّه إلی سمرة بن جندب،و هو لا یتناسب مع نفی جنس الضرر.

و قال الشیخ الأنصاری رحمه اللّه فی رسالة لا ضرر فی آخر المکاسب:إنّ

ص:71

الاستدلال بقوله:«لا ضرر و لا ضرار»و الاستفادة منه فی المقام باق بحاله و إن لم یمکن لنا حلّ الإشکال فرضا.

و لکنّه لیس بصحیح،فإنّ خروج مورد التعلیل عن الحکم العامّ المعلّل أمر مستهجن.

و هذا یهدینا إلی الالتزام بالمعنی الذی کان قابلا للانطباق علی مورد العلّة، فإن کان«لا ضرر»حکما إلهیّا لا مجال لدفع الإشکال؛لعدم الفرق فی الأحکام الإلهیّة بین رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و غیره و إن کان حکما حکومتیّا صادرا عنه صلّی اللّه علیه و آله-کما هو التحقیق-فلا معنی لشموله للحاکم بما أنّه حاکم،فکما أنّ الأحکام الإلهیّة لا یتصوّر شمولها للّه تعالی،کذلک الأحکام الحکومتیّة لا یتصوّر شمولها للحکم الصادر عن الحاکم بهذا العنوان،فالأمر بالقلع و الرمی و إن کان ضررا علی سمرة بن جندب و لکن لا یشمله عموم التعلیل.

و أجاب المحقّق النائینی رحمه اللّه عن الإشکال:أوّلا:بأنّ قوله:«لا ضرر و لا ضرار» لا یکون علّة لقوله:«اقلعها وارم بها إلیه»،بل یکون علّة لقوله:«إذا أردت الدخول فاستأذن»،و علّة أمره صلّی اللّه علیه و آله بالقلع و الرمی أنّه بمقتضی الولایة العامّة علی المسلمین ألغی قاعدة:«النّاس مسلّطون علی أموالهم»،و کأنّه قال:لا سلطنة له علی ماله (1).

هذا،و لکنّه خلاف الظاهر بعد فصل الجملات المتعدّدة بین القولین،و کون المخاطب فی الأوّل سمرة بن جندب،و فی الثانی الأنصاری،و ذکر قوله:«لا ضرر»عقیب قوله:«اقلعها وارم بها إلیه»و متن الحدیث:أنّه«فلمّا تأبّی جاء الأنصاری إلی رسول اللّه فشکی إلیه،فخبّره الخبر،فأرسل إلیه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله

ص:72


1- 1) قاعدة لا ضرر دروس الفقیه العظیم النائینی:142.

و خبّره بقول الأنصاری و ما شکا،و قال:إذا أردت الدخول فاستأذن،فلمّا أبی ساومه حتّی بلغ به من الثمن ما شاء اللّه،فأبی أن یبیع،فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:لک بها عذق یمدّ لک فی الجنّة فأبی أن یقبل،فقال رسول اللّه للأنصاری:اذهب و اقلعها وارم بها إلیه،فإنّه لا ضرر و لا ضرار».

مضافا إلی أنّ بعد قبول کون قوله:«اقلعها وارم بها إلیه»حکما حکومتیّا لا دلیل لعدم قوله:«لا ضرر و لا ضرار»کذلک،بل هو أیضا حکم حکومتی، فلا وجه للفرار عن هذا المعنی،و الالتزام بکونه حکما إلهیّا ثانویّا.

و مضافا إلی أنّ إلغاء مالیّة النخلة کان بمعنی جواز أنواع التصرّفات فیها من الأنصاری و سائر المسلمین کأنّه صارت النخلة بلا مالک،مع أنّه لیس بصحیح،فإنّ جواز التصرّف محدود بالقلع و الرمی بها إلیه من ناحیة الأنصاری فقط،کما لا یخفی.

و ثانیا:أنّه علی فرض کونه علّة للقلع و الرمی،و لکنّه من الأحکام الإلهیّة الثانویّة الحاکمة علی الأحکام الأوّلیّة،فکما أنّه حاکم علی أدلّة وجوب الوضوء و الغسل فی مورد الضرر کذلک حاکم علی قاعدة السلطنة،و مقتضی حکومته علیها أنّه لا حقّ للمالک أن یمنع من التصرّف فی المال فی مورد الضرر،فلا احترام لماله.

ثمّ قال:إن قلت:سلّمنا أنّ احترام مال المسلم من فروع قاعدة السلطنة و لکنّ القاعدة مرکّبة من الأمرین:الإیجابی و السلبی،الأمر الإیجابی:أنّه للمالک أن یتصرّف فی ماله بما یشاء،و الأمر السلبی:أنّ له أن یمنع من تصرّف الغیر فیه،و معلوم أنّ الضرر مربوط بالأمر الإیجابی،فإنّ إطلاقه یشمل الدخول بدون الاستئذان و یستلزم الضرر،و لا یرتبط بالأمر السلبی أصلا؛لعدم ارادة

ص:73

الأنصاری التصرّف فی النخلة،بل الضرر من ناحیة کیفیّة تصرّف المالک، و الحال أنّ جواز تصرّف الأنصاری بالقلع و الرمی معلّل بقوله:«لا ضرر»،أی الأمر السلبی لا الأمر الإیجابی المستلزم للضرر.

ثمّ أجاب عنه بأنّ انحلال القاعدة إلی الأمرین الإیجابی و السلبی یکون بالتحلیل العقلی،و مع قطع النظر عنه لا ترکیب فیها،و حینئذ فیصحّ القول بحکومة قاعدة لا ضرر علی قاعدة السلطنة و جعلها تعلیلا للقلع و الرمی،إلاّ أنّ مقتضی الدقّة و التأمّل أنّ الضرر و الدخول بدون الاستئذان ناش من حقّ إبقاء النخلة فی مکانها و متفرّع علیه،و سلب هذا الحقّ معلّل بقوله:«لا ضرر»، و الضرر مستند إلی علّة العلل،و هو نظیر تفرّع وجوب المقدّمة علی ذیها،فإذا کانت المقدّمة ضرریّة یکون نفی وجوبها بقوله:«لا ضرر»مستلزما لنفی وجوب ذیها؛لامتناع التفکیک بینهما عقلا مع حفظ المقدّمیّة علی القول بوجوب المقدّمة إلاّ أن نقول بعدم المقدّمیّة فی حال الضرر.

ثمّ قال:یمکن أن یقال:إنّ اللزوم فی المعاملة الغبنیّة متفرّع علی الصحّة مع أنّ المنفی بقوله:«لا ضرر»هو اللزوم فقط لا الصحّة،فلا فرق بینه و بین ما نحن فیه.

و أجاب عنه:أنّ مجرّد التفرّع لا یکفی للاستناد،بل اللازم هو التفرّع مع العلّیّة بین المتفرّع و المتفرّع علیه،مثل علّیّة حقّ الإبقاء لجواز الدخول بلا استیذان،و علّیّة وجوب ذی المقدّمة لوجوب المقدّمة،و لا تتحقّق العلّیّة بین صحّة المعاملة و لزومها،و إلاّ یلزم عدم تحقّق المعاملة الجائزة أصلا،و هو کما تری،فلا مانع من نفی حقّ الإبقاء بعنوان علّة العلل للضرر باستناد قوله:

«لا ضرر و لا ضرار» (1).هذا تمام کلامه مع توضیح و تصرّف.

ص:74


1- 1) قاعدة لا ضرر دروس الفقیه العظیم النائینی:143.

و یرد علیه:أوّلا:أنّ جعل احترام مال المسلم من فروع قاعدة السلطنة لیس بصحیح؛لافتراقهما من حیث العنوان و المفهوم و الدلیل،فإنّ الظاهر أنّ قاعدة السلطنة مستندة إلی قول رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:«الناس مسلّطون علی أموالهم» فی خطبة حجّة الوداع،و معناه:جواز تصرّف المالک فی ماله بما یشاء،و جواز منعه من تصرّف الغیر فیه،و أمّا قاعدة احترام مال المسلم فهی قاعدة مستقلّة،موضوعها مال الغیر بالنسبة إلی الأجنبی عنه،و أنّ مال المسلم ذا حریم لا یجوز للغیر التصرّف فیه،فلا ترتبط بقاعدة السلطنة أصلا.

و ثانیا:أنّ انحلال قاعدة السلطنة بالجزءین الإیجابی و السلبی انحلالا عقلیّا لیس بتامّ؛إذ التحقیق أنّ القاعدة لا یکون لها جزءان،بل کان لها متعلّقان:

السلطنة علی التصرّف فی ماله بما یشاء و علی منع الغیر من التصرّف فی ماله، مثل السلطنة علی الدار و الدکّان،فلا یتحقّق النوعان من السلطنة،مضافا إلی أنّ منع الغیر من التصرّف لا یکون أمرا سلبیّا و عدمیّا،بل هو أیضا أمر وجودی.

و الإشکال النقضی علیه:أنّ لازم ذلک جریان هذا الحکم فی الدار أیضا إذا کان طریقه من دار الغیر و إباء صاحبها عن الاستئذان عند الدخول،فإنّ الدخول بلا استئذان متفرّع علی حقّ إبقاء هذه الدار فی مکانها،و تتحقّق العلّیّة و المعلولیّة بینهما،فیجوز تخریب الدار بمقتضی الحکم الإلهی الساری فی هذا المورد،و هو قوله:«لا ضرر و لا ضرار»،مع أنّه لم یلتزم به أحد.

و الإشکال الأساسی:أنّ تفرّع حقّ الدخول علی حقّ الإبقاء لیس بصحیح؛إذ یتحقّق لملکیّة النخلة سبب خاصّ و لحقّ الدخول سبب آخر، فلذا یجوز هبة النخلة و بیعها بدون الطریق،و لا بدّ للموهوب إلیه و المشتری

ص:75

جلب رضایة صاحب الملک للدخول إلیها،و هذا بخلاف تفرّع وجوب المقدّمة علی وجوب ذی المقدّمة؛لتحقّق الملازمة و العلّیّة بینهما و لا علّیّة بین حقّ الإبقاء و حقّ الدخول،فلا یکون حقّ الإبقاء علّة العلل لجواز الدخول،فلا بدّ من ملاحظة ما هو منشأ الضرر،و هو الدخول بلا استئذان،فلا یکون القلع و الرمی معلّلا بقوله:«لا ضرر»فهذا البیان لیس بتامّ.

و التحقیق:أنّ الحکم بالقلع و الرمی و الحکم بنفی الضرر حکم حکومتی من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،و هو حاکم علی قاعدة السلطنة،فکان لسمرة بن جندب بملاحظة قاعدة السلطنة منع الرجل الأنصاری من التصرّف فی النخلة،و لکن بمقتضی الحکم الحکومتی منه صلّی اللّه علیه و آله یجوز للأنصاری التصرّف الخاصّ فیها،و هو القلع و الرمی بها إلیه فقط.

لا یقال:إنّ هذا المعنی یوجب بقاء نفی وجوب الوضوء الضرری-مثلا- و نفی لزوم المعاملة الغبنیّة بلا وجه و لا دلیل.

فإنّا نقول:إنّ الدلیل الخاصّ و الروایات الخاصّة ینفی الوجوب عن الوضوء الضرری و الإجماع دلیل علی تحقّق خیار الغبن فی المعاملة الغبنیّة و إن لم تکن قاعدة لا ضرر،مضافا إلی عدم إمکان إثبات الخیار بقاعدة لا ضرر؛إذ هی تمنع من الضرر و منع الضرر یتحقّق بإعطاء الغابن الأرش للمغبون،مع أنّ المتحقّق فی الخیار هو حقّ الفسخ،و هو لا یثبت بالقاعدة فلا ینطبق الدلیل علی المدّعی،و هکذا فی خیار العیب لا نحتاج إلی القاعدة بعد تحقّق الروایات المتضافرة و عدم تعیّن الأرش،بل التخییر بین الفسخ و أخذ الأرش و نحو و ذلک.

و یمکن أن یتوهّم أنّ هذا المعنی لقوله:«لا ضرر و لا ضرار»مخالف لفهم

ص:76

المشهور منه،مع أنّه دلیل و حجّة فی الاستفادة من الروایات.

و لکنّه لیس بصحیح؛إذ الحجّة هو ظاهر الروایة بعد وضوح مدارکها،و ما بأیدینا من کیفیّة استدلال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله حسب النقل المعتبر فی قضیّة سمرة بن جندب،مضافا إلی عدم اتّفاق المشهور فی المعنی،بل یتحقّق الاختلاف الشدید من کونه حکما إلهیّا أوّلیّا و دلالته علی النهی المولوی،و أنّه لا یجوز أن یضرّ أحد أحدا،و تأییده بالقول اللغوی کما التزم به شیخ الشریعة،و کون المنفی هو الضرر الغیر المتدارک،و کون«لا»ناهیة و ناظرا إلی الأحکام الأوّلیة فی مقام الإخبار عن عدم تشریع الحکم الضرری بنحو الحقیقة أو الحقیقة الادّعائیّة أو المجاز،کما ذکره الشیخ الأنصاری رحمه اللّه.

فالتحقیق:أنّه حکم حکومتی ناظر إلی قاعدة السلطنة،و أنّ الإضرار بالغیر استنادا إلی قاعدة السلطنة فی محیط الشرع ممنوع،و هذا الحکم لا یختصّ بزمان خاصّ بل هو من الأحکام الساریة فی جمیع الأعصار و الأدوار إلی یوم القیامة،و لذا نشاهد نقله فی روایات الأئمّة المعصومین علیهم السّلام فالنهی عن إیقاع الضرر و الضرار علی الغیر فی مقابل قاعدة السلطنة باق إلی الأبد،و أمّا القلع و الرمی فهو حکم خاصّ لمخاطب خاصّ.

و أمّا النقض الذی أوردناه علی المحقّق النائینی رحمه اللّه من عدم التزام أحد بهذا الحکم فیما إذا کان طریق الدار منحصرا بالدخول إلی دار الغیر و عدم الاستئذان عند الدخول،فلا یرد علی هذا المعنی؛لأنّه بعد المنع عن الدخول بلا استئذان استنادا إلی قاعدة لا ضرر،و الامتناع من الاستئذان لا بدّ من مراجعة الحاکم العادل علی القول بثبوت الولایة للفقیه،و حینئذ لا مانع له أن یحکم بمقتضی المصلحة فی مورد بتخریب الدار،و فی مورد آخر،بحکم آخر،

ص:77

و هکذا،فالحکم بالقلع و الرمی لا یکون حکما دائمیّا،بل حکم شخصی تابع لنظر الحاکم و تشخیصه،فهذا المعنی یکون ذات مزیّة و راجحا علی سائر المعانی،کما ذکره استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه (1).

ص:78


1- 1) بدائع الدرر فی قاعدة نفی الضرر:105.

تنبیهات قاعدة لا ضرر

و لا بدّ لنا من التنبیه علی امور:

الأوّل:أنّ قاعدة لا ضرر نهی مولوی صادر عن المقام الحکومی للرسول صلّی اللّه علیه و آله،و موضوع النهی هو الإضرار بالغیر،و لا یتعدّی هذا الحکم عن هذا العنوان إلی عنوان دفع الضرر عن الغیر؛لاختلافهما عنوانا و مفهوما،و إذا کان دفع الضرر مستلزما للإضرار بالغیر،فهل هو جائز أم لا؟

و التحقیق:أنّه لا بدّ من القول بالتفصیل هنا بین ما إذا انطبق عنوان الإضرار بنفس عنوان دفع الضرر،فیشمله قوله:«لا ضرر»،و بین إذا لم ینطبق بنفسه بل الإضرار مستند إلی أمر آخر،فلا یشمله ذلک،مثلا:دفع السیل المتوجّه إلی ملک شخص قد یکون بإیجاد المانع مقابل ملکه،و قد یکون برفع المانع عن مقابل ملک الجار،و الإضرار بالغیر فی الأوّل مستند إلی السیل لا بدفع الضرر،و فی الثانی مستند إلی نفس دفع الضرر،فیجوز فی الصورة الاولی دون الثانیة.

الثانی:أنّ الإکراه المتناسب بالإضرار بالغیر هل یوجب رفع حرمته بحدیث الرفع أم لا؟مع العلم بأنّ أقلّ مراتب الإکراه لا یکون مجوّزا لارتکاب أعظم المحرّمات.

ص:79

و التحقیق:أنّ حدیث الرفع کما یرفع الحرمة من المحرّمات الإلهیّة کذلک یرفعها من المحرّمات النبویّة،و إن قلنا بعدم شمول الحدیث للأحکام النبویّة لا بدّ من إرجاعها إلی الأحکام الالهیّة،و أنّ مخالفة أوامره و نواهیه بمقتضی قوله تعالی: أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ (1)مخالفة الأحکام الإلهیّة، فالإکراه بالإضرار بالغیر یرجع إلی الإکراه بمخالفة أمر اللّه تعالی بإطاعة الرسول،فلا یتحقّق استحقاق العقوبة علی مخالفته.

الثالث:إذا کان تصرّف المالک فی ملکه مستلزما للإضرار بالغیر و ترک التصرّف موجبا لتضرّر نفسه-کما إذا کان حفر البئر فی مکان موجبا للإضرار بالجار،و ترکه موجبا لتضرّر نفسه-فلا مانع من تصرّفه فی ملکه استنادا إلی دلیلین:

الأوّل:انصراف قاعدة لا ضرر عن هذا المورد.الثانی:تعارض القاعدة الجاریة بالنسبة إلی ترک تصرّف المالک مع القاعدة الجاریة بالنسبة إلی تضرّر الجارّ و تصرّفه،و الرجوع إلی الدلیل الآخر بعد تساقطهما مثل جریان الاستصحاب فی الشکّ السببی و المسبّبی و تعارضهما،إلاّ أنّ الأصل فی السبب مقدّم علی الأصل فی المسبّب بمقتضی القاعدة السببیّة،و بعد سقوطهما یحکم بجواز تصرّف المالک بمقتضی قاعدة السلطنة.

و لکن یرد علیه أنّ قوله:«لا ضرر و لا ضرار»قضیّة واحدة،و إذا کان جریانه مستلزما للضرر فینفی بنفس قوله:«لا ضرر»،و علیه یلزم أن تکون جملة واحدة حاکمة و محکومة،و هو کما تری.

هذا بخلاف الشکّ السببی و المسبّبی فإنّ بعد جریان الأصل فی السبب

ص:80


1- 1) النساء:59.

و صیرورة ماء الحوض کرّا بحسب حکم الشرع لا یبقی مجال للشکّ فی طهارة الثوب المغسول به،فلا حاکمیّة و لا محکومیّة فی البین،فالدلیل الثانی لیس بتامّ،فیکون جواز تصرف المالک فی ملکه مستندا إلی قاعدة السلطنة بعد عدم جریان قاعدة لا ضرر بلحاظ الانصراف عن المورد.

و أمّا إذا کان تصرّف المالک إضرارا بالغیر و ترکه حرجا للمالک،مثل إیجاد حدیقة صغیرة فی زاویة داره؛ضرورة أنّ منعه عن ذلک حرج علیه و إن لم یوجب ضررا مالیّا،فقال بعض بتقدّم قاعدة لا حرج علی قاعدة لا ضرر، و جواز تصرّفه فیه،و التقدّم علی المعنی الذی ذکرناه واضح؛لعدم اختصاص قوله: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ بالأحکام الإلهیّة،بل یشمل الأحکام النبویّة أیضا؛لکونها من الدین و نظارته إلیهما لیس قابلا للإنکار، فیکون حاکما فی صورة التعارض.

و أمّا علی المعنی المشهور فلا وجه للتقدّم؛لکونهما حکمین إلهیّین بالعنوان الثانوی فی مقام الإخبار،أحدهما ینفی تشریع الحکم الضرری،و الآخر ینفی تشریع الحکم الحرجی،هذا تمام الکلام فی قاعدة لا ضرر.

ص:81

ص:82

الاستصحاب

اشارة

ص:83

ص:84

تعریف الاستصحاب

اشارة

لقد ذکرت للاستصحاب تعاریف مختلفة لا تخلو من إشکال،بل إشکالات، بل یری فی نفس هذه التعاریف نوع من التناقض و التهافت؛و لا بدّ لنا قبل الورود فی التعریف من بیان موقعیّة الاستصحاب و هل هو أصل أو أمارة؟

فی أنّ الاستصحاب أصل أم إمارة:

اشارة

لا شکّ فی طریقیّة خبر الواحد و کاشفیّته و أماریّته،و لا نتوهّم أن یکون من الاصول العملیّة،إنّما الکلام فی أنّه هل یکون طریقا شرعیّا و أمارة شرعیّة أم لا؟ کما أنّه لا شکّ لنا فی کون أصالة الطهارة من الاصول العملیّة و مبیّنة لوظیفة المکلّف حین الشکّ و الحیرة،و لا نتوهّم أماریّته و کونه طریقا إلی الواقع.

و لکن الشکّ فی أنّ الاستصحاب أصل من الاصول العملیّة أو أمارة و طریق إلی الواقع أو ینطبق علیه عنوان آخر؟فلا بدّ لتوضیح ذلک من تحقیق الاحتمالات فی المسألة.

الاحتمال الأوّل:أن یکون أصلا عملیّا

جعله الشارع وظیفة للشاکّ الذی له یقین بالحالة السابقة،کما أنّه جعل أصالة الطهارة قاعدة لبیان وظیفة الشاکّ الذی لا علم له بالحالة السابقة،کذلک الاستصحاب جعل قاعدة لبیان وظیفة الشاکّ بالحالة السابقة،فلا کاشفیّة له و لا أماریّة أصلا،و علی هذا یقع الکلام فی أنّه أصل عملی شرعی کأصالة الطهارة و أصالة الحلّیّة،أم أصل عقلائی؟ بمعنی أنّ العقلاء بما هم عقلاء یبنون علی بقاء الحالة السابقة علی حالها،و لعلّ

ص:85

أصالة عدم النقل أیضا تکون من هذا القبیل.

الاحتمال الثانی:أن یکون الاستصحاب من الأمارات

،و کانت له کاشفیّة و طریقیّة إلی الواقع،مثل طریقیّة خبر الواحد إلی الواقع،و علی هذا یمکن أن یکون طریقا شرعیّا محضا من دون أیّ دخل لسیرة العقلاء،و یمکن أن یکون طریقا عقلائیّا أمضاه الشارع کما أمضی طریقیّة خبر الواحد.

الاحتمال الثالث:أن یکون الاستصحاب وظیفة مجعولة للشاکّ الکذائی

للتحفّظ علی الواقع،نظیر ما قال به الأخباریّون من الاحتیاط فی الشبهات البدویّة،و کما أنّ الاحتیاط فی شرب المشکوک بالشکّ البدوی یکون للتحفّظ علی الواقع،کذلک الاستصحاب یکون للتحفّظ علی الواقع.

الاحتمال الرابع:أن یکون الاستصحاب حکما من أحکام العقل

،و لکنّ حکم العقل قد یکون حکما عقلیّا مستقلاّ،و هو ما یعبّر عنه بالمستقلاّت العقلیّة کحکمه بأنّ الظّلم قبیح،و قد یکون حکما عقلیّا غیر مستقلّ بمعنی أنّ حکم العقل یحتاج إلی ضمیمة مقدّمة من الشارع،کحکم العقل بالملازمة بین وجوب المقدّمة و ذیها،فإنّه حکم عقلیّ غیر مستقلّ؛لاحتیاجه إلی بیان الشارع فی الأمر بالصلاة أوّلا بقوله: أَقِیمُوا الصَّلاةَ ،ثمّ حکم العقل بتحقّق الملازمة بین وجوب الشرعیّ الصلاة و وجوب شرعیّ الوضوء،من باب المقدّمة،فیمکن أن یکون الاستصحاب من هذا القبیل،فکما أنّ العقل حاکم بتحقّق الملازمة بینهما کذلک إذا تیقّنت بوجوب صلاة الجمعة-مثلا-فی عصر الحضور و شککت فی وجوبه فی عصر الغیبة یحکم العقل بتحقّق الملازمة بین وجوبها فی زمان الحضور و وجوبها فی زمان الغیبة.

و بعد الفراغ من بیان الاحتمالات فی موقعیّة الاستصحاب فلنبدأ فی بیان التعاریف المناسبة لها.

ص:86

تعریف الشیخ الأنصاری للاستصحاب

اشارة

قال الشیخ الأنصاری رحمه اللّه:«و عند الاصولیّین عرّف بتعاریف أسدّها و أخصرها:إبقاء ما کان» (1).

یحتمل أن یکون المراد من الإبقاء فی التعریف هو الإبقاء بحکم الشارع، و یحتمل أن یکون المراد منه إبقاء المکلّف و جریه علی طبق الحالة السابقة فی مقام العمل.

و علی أیّ تقدیر أنّ هذا التعریف یناسب الاستصحاب إذا کان أصلا من الاصول العملیّة ظاهرا،و لا یناسب أماریّته و کاشفیّته أصلا؛إذ لا طریقیّة لإبقاء ما کان إلی الواقع،سواء کان بحکم الشارع أو عمل المکلّف علی طبق الحالة السابقة،کما أنّ الطریقیّة فی خبر الواحد-مثلا-لا ترتبط بعمل المکلّف علی طبق خبر العادل و لا بحکم الشارع بتصدیقه،بل ترتبط بنفس خبر محمّد بن مسلم-مثلا-حیث إنّه رجل عادل یکون خبره طریقا إلی الواقع و کاشفا عنه.

فعلی القول بأماریّته لا بدّ من تعریفه بأنّه:عبارة عن الیقین السابق الملحوق بالشکّ؛فإنّ الیقین بهذا الوصف یفید الظنّ بالبقاء و کاشف عن الواقع،بمعنی

ص:87


1- 1) فرائد الاصول 3:9.

کون الشیء متحقّقا و متیقّنا فی السابق و بضمیمة الشکّ فی البقاء یفید الظنّ بالبقاء.

و أمّا علی القول بکونه وظیفة مجعولة للشاکّ للتحفّظ علی الواقع فلا بدّ من تعریفه بأنّه عبارة عن الشکّ المسبوق بالیقین،بمعنی أنّ الشکّ مع هذا الوصف یوجب تنجّز الواقع و حجّة علی الواقع،و یوجب استحقاق العقوبة علی المخالفة،کما أنّ الاحتمال فی الشبهات البدویّة علی القول بوجوب الاحتیاط یکون کذلک.

و أمّا علی القول بکونه حکما عقلیّا غیر مستقلّ فلا بدّ من تعریفه بأنّه:

عبارة عن الملازمة بین کون الشیء فی السابق متیقّنا و کونه فی اللاحق مشکوکا.

و أشار المحقّق الخراسانی قدّس سرّه إلی ما ذکرناه فی حاشیته علی الفرائد بقوله:«لا یخفی أنّ حقیقة الاستصحاب و ماهیّته یختلف بحسب اختلاف وجه حجّیّته، و ذلک لأنّه إن کان معتبرا من باب الأخبار کان عبارة عن حکم الشارع ببقاء ما لم یعلم ارتفاعه،و إن کان من باب الظنّ کان عبارة عن ظنّ خاصّ به،و إن کان من باب بناء العقلاء علیه عملا تعبّدا کان عبارة عن التزام العقل به فی مقام العمل (1).

فصرّح بأنّه لا یکون للاستصحاب تعریف جامع ینطبق علی جمیع المبانی و الاحتمالات المذکورة.

و یرد علی تعریف الاستصحاب ب«إبقاء ما کان»-کما قال به الشیخ الأنصاری قدّس سرّه-إشکالان:

ص:88


1- 1) درر الفوائد:289.

الأوّل:أنّه لا یمکن الجمع بین هذا التعریف و جعل النزاع فی هذا الباب بأنّه هل الاستصحاب حجّة أم لیس بحجّة؟فإنّ معناه أنّ إبقاء عمل المکلّف و دوامه علی إتیان صلاة الجمعة-مثلا-فی عصر الغیبة حجّة أم لا؟أو أنّ حکم الشارع ببقاء ما کان حجّة أم لا؟أو أنّ حکم العقل بالبقاء هل هو حجّة أم لا؟بناء علی الاحتمالات المذکورة،و هذا ممّا لا یصحّ و لا یمکن القول به.

فإن کان المأخوذ فی عنوان النزاع کلمة الحجّة فلا بدّ من جعل الاستصحاب من الطرق و الأمارات،و البحث بأنّ الیقین الملحوق بالشکّ هل هو حجّة أم لا؟کما أنّه علی القول بکونه قاعدة لتحفّظ الواقع یصحّ البحث بأنّ احتمال بقاء الشکّ المسبوق بالیقین حجّة أم لا؟بمعنی أنّه منجّز للواقع علی تقدیر الإصابة،و معذّر علی تقدیر عدم الإصابة،فلا مناسبة بین تعریف الاستصحاب بإبقاء ما کان و جعل النزاع فی حجّیّته.

الثانی:أنّه لا یمکن الجمع بین هذا التعریف و جعل النزاع فی باب الاستصحاب من المسائل الاصولیّة،بمعنی وقوعه فی قیاس استنباط الأحکام علی القول بکون الإبقاء بمعنی جری المکلّف و دوامه علی طبق الحالة السابقة؛ إذ لا بدّ علی هذا من تشکیل القیاس بأنّ«وجوب صلاة الجمعة مشکوک البقاء،و المکلّف یعمل و یأتی بصلاة الجمعة فی عصر الغیبة،فصلاة الجمعة واجبة فی عصر الغیبة»و ما یستفاد من هذا القیاس لا یکون حکما شرعیّا.

نعم،علی القول بکون الإبقاء حکما شرعیّا یصحّ وقوع الاستصحاب فی قیاس استنباط الحکم الشرعی،و تشکیل القیاس بأنّ«وجوب صلاة الجمعة مشکوک البقاء،و حکم الشارع ببقاء ما کان فی السابق،فوجوب صلاة الجمعة

ص:89

حکم الشارع ببقائه فی عصر الغیبة»،و علی هذا یکون النزاع و البحث فی باب الاستصحاب من المسائل الاصولیّة؛کما أنّه علی القول بکونه أمارة أو قاعدة للتحفّظ علی الواقع یکون مسألة اصولیّة،نظیر خبر الواحد،و قاعدة الاحتیاط.

و ممّا التزم به الشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه أنّ من خواصّ المسألة الاصولیّة أنّ تطبیقها فی المورد و تشخیص مواردها فعل المجتهد؛و نحن نقول:إنّه لیس بصحیح،فإنّ تشخیص موارد قاعدة«ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده» -مثلا-و قاعدة«لا ضرر»أیضا من أفعال المجتهدین،و لا یتمکّن المقلّد من تشخیصها،مع عدم کونها من المسائل الاصولیّة.

تنبیه:

و الظاهر انحصار موضوع علم الاصول بالأدلّة الأربعة،أی الکتاب بما أنّه دالّ علی الحکم الشرعی،و السنّة بما أنّها قائمة علی الحکم الشرعی،و هکذا العقل و الإجماع عبارة عن الموضوع،کما هو المعروف،فلا بدّ من جزئیّة الاستصحاب لأحدها،فیحتمل فی بادئ النظر أن یکون الاستصحاب بما أنّه سنّة من الأدلّة الأربعة،بلحاظ کون منشأ الاستصحاب و مناطه الروایات المشتملة علی کلمة«لا تنقض».

و لکنّه لیس بصحیح؛إذ لا یمکن القول بأنّ دلیل وجوب صلاة الجمعة فی عصر الغیبة-مثلا-عبارة عن السنّة علی فرض إثباته بالاستصحاب،فإنّ دلالة السنّة علی الوجوب تکون بواسطة الاستصحاب،و الدلیلیّة ترتبط بالواسطة لا بالسنّة،فإنّها دلیل لحجّیّة الاستصحاب و اعتباره لا لوجوب الصلاة؛کما أنّ ظاهر الکتاب مثل آیة النّبأ لا یکون دلیلا لحرمة شرب التتن

ص:90

المستفادة من خبر زرارة-مثلا-؛لعدم کونه دلیلا علی الحکم،بل یکون دلیلا علی الدلیل،و خبر الواحد المعتبر به دلیل علی الحکم،فلا یکون الاستصحاب من الأدلّة الأربعة،و لا بدّ لنا من القول بعدم انحصار الأدلّة بالأربعة کما قال به استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1).

تتمة

یؤیّد ما ذکرناه فی باب الاستصحاب ما ذکره السیّد بحر العلوم قدّس سرّه حیث جعل الاستصحاب دلیلا علی الحکم فی مورده،و جعل قولهم علیهم السّلام:«لا تنقض الیقین بالشکّ»دلیلا علی الدلیل،نظیر آیة النّبأ بالنّسبة إلی خبر الواحد حیث قال:«و لیس عموم قولهم علیهم السّلام:«لا تنقض الیقین بالشکّ» (2)بالقیاس إلی أفراد الاستصحاب إلاّ کعموم آیة النّبأ بالقیاس إلی آحاد الأخبار المعتبرة (3).

و اعترض علیه الشیخ الأنصاری قدّس سرّه بقوله:«معنی الاستصحاب الجزئی فی المورد الخاصّ کاستصحاب نجاسة الماء المتغیّر-لیس إلاّ الحکم بثبوت النجاسة فی ذلک الماء النجس سابقا،و هل هذا إلاّ نفس الحکم الشرعی؟! و هل الدلیل إلاّ قولهم علیهم السّلام:«لا تنقض الیقین بالشکّ؟» (4).

و لا یخفی علیک صحّة ما ذکره السیّد بحر العلوم قدّس سرّه لعدم إثبات نجاسة الماء المتغیّر مستقیما و بلا واسطة بقولهم علیهم السّلام:«لا تنقض الیقین بالشکّ»،فإنّه دلیل علی الاستصحاب المثبت للنجاسة،و هکذا فی آیة النبأ.

ص:91


1- 1) الاستصحاب:6.
2- 2) الوسائل 1:174،الباب من أبواب نواقض الوضوء،الحدیث 1.
3- 3) فوائد السیّد بحر العلوم:116.
4- 4) فرائد الاصول 3:20.

إذا فرغنا من تعریف الاستصحاب و الأقوال و الخصوصیّات المبحوثة هنا، فلنبحث فی التفصیل الذی ذکره الشیخ الأنصاری قدّس سرّه (1)بقوله:«إنّ المستصحب قد یثبت بالدلیل الشرعی و قد یثبت بالدلیل العقلی،و لم أجد من فصّل فیها،إلاّ أنّ فی تحقّق الاستصحاب مع ثبوت الحکم بالدلیل العقلی-و هو الحکم العقلی المتوصّل به إلی حکم شرعی-تأمّلا؛نظرا إلی أنّ الأحکام العقلیّة کلّها مبیّنة مفصّلة من حیث مناط الحکم،و الشکّ فی بقاء المستصحب و عدمه لا بدّ و أن یرجع إلی الشکّ فی موضوع الحکم؛لأنّ الجهات المقتضیة للحکم العقلی بالحسن و القبح کلّها راجعة إلی قیود فعل المکلّف الذی هو الموضوع.فالشکّ فی حکم العقل حتّی لأجل وجود الرافع لا یکون إلاّ للشکّ فی موضوعه، و الموضوع لا بدّ أن یکون محرزا معلوم البقاء فی الاستصحاب کما سیجیء.

و لا فرق فیما ذکرنا بین أن یکون الشکّ من جهة الشکّ فی وجود الرافع، و بین أن یکون لأجل الشکّ فی استعداد الحکم؛لأنّ ارتفاع الحکم العقلی لا یکون إلاّ بارتفاع موضوعه،فیرجع الأمر بالتالی إلی تبدّل العنوان،أ لا تری أنّ العقل إذا حکم بقبح الصدق الضارّ،فحکمه یرجع إلی أنّ الضارّ من حیث إنّه ضارّ حرام،و معلوم أنّ هذه القضیّة غیر قابلة للاستصحاب عند الشکّ فی الضرر مع العلم بتحقّقه سابقا؛لأنّ قولنا:«المضرّ قبیح»حکم دائمی لا یحتمل ارتفاعه أبدا،و لا ینفع فی إثبات القبح عند الشکّ فی بقاء الضرر،و لا یجوز أن یقال:إنّ هذا الصدق کان قبیحا سابقا فیستصحب قبحه؛لأنّ الموضوع فی حکم العقل بالقبح لیس هذا الصدق،بل عنوان المضرّ،و الحکم له مقطوع البقاء،و هذا بخلاف الأحکام الشرعیّة؛فإنّه قد یحکم الشارع علی الصدق

ص:92


1- 1) فرائد الاصول 3:37.

بکونه حراما،و لا یعلم أنّ المناط الحقیقی فیه باق فی زمان الشکّ أو مرتفع -إمّا من جهة جهل المناط أو من جهة الجهل ببقائه مع معرفته-فیستصحب الحکم الشرعی.

و حاصل کلامه التفصیل فی جریان الاستصحاب و عدمه فی الحکم الشرعی المستفاد من العقل أو الملازمة العقلیّة-مثل:کلّ ما حکم به العقل حکم به الشرع-و المستفاد من الأدلّة الثلاثة الاخری.

و استشکل علیه المحقّق النائینی قدّس سرّه بقوله (1):و لکنّ للنظر فیه مجال،أمّا أوّلا فلأنّ دعوی کون کلّ خصوصیّة أخذها العقل فی موضوع حکمه لا بدّ و أن یکون لها دخل فی مناط حکمه واقعا ممنوعة؛بداهة أنّه ربّما لا یدرک العقل دخل الخصوصیّة فی مناط الحسن و القبح واقعا،و إنّما أخذها فی الموضوع لمکان أنّ الموضوع الواجد لتلک الخصوصیّة هو المتیقّن فی قیام مناط الحسن أو القبح فیه،مع أنّه یحتمل واقعا أن لا یکون لها دخل فی المناط.

مثلا:یمکن أن یکون حکم العقل بقبح الکذب الضارّ الذی لا یترتّب علیه نفع للکاذب و لا لغیره،إنّما هو لأجل أنّ الکذب المشتمل علی هذه الخصوصیّات هو القدر المتیقّن فی قیام مناط القبح فیه،مع أنّه یحتمل أن لا یکون لخصوصیّة عدم ترتّب النفع دخل فی القبح،بل یکفی فی القبح مجرّد ترتّب الضرر علیه و إن لزم منه حصول النفع للکاذب أو لغیره؛و الحکم الشرعی المستکشف من حکم العقل إنّما یدور مدار ما یقوم به مناط القبح واقعا،فیمکن بقاء الحکم الشرعی مع انتفاء بعض الخصوصیّات التی أخذها العقل فی الموضوع من باب القدر المتیقّن؛لاحتمال أن لا یکون لتلک الخصوصیّة

ص:93


1- 1) فوائد الاصول 4:321.

دخل فیما یقوم به الملاک واقعا فیکون وزان الحکم الشرعی المستفاد من الحکم العقلی وزان الحکم الشرعی المستفاد من الکتاب و السنّة،یصحّ استصحابه عند الشکّ فی بقائه؛لأجل زوال بعض خصوصیّات الموضوع التی لا تضرّ بصدق بقاء الموضوع و اتّحاد القضیّة المشکوکة و المتیقّنة عرفا.

و التحقیق:

أنّ المراد من العقل هنا لیس عقول الأنبیاء و الأولیاء المحیطة بکلّ الأشیاء،بل المراد منه العقول البشریّة العادیّة الناقصة التی تدرک بعض الأشیاء،و بالنسبة إلی بعض الأشیاء،لها حالة الإبهام و الإجمال،و مع فقد بعض الخصوصیّات من الموضوع یحصل لها الشکّ فی البقاء،فیتحقّق مجری الاستصحاب،کما قال به المحقّق النائینی رحمه اللّه.

و الإشکال الثانی الذی أورد علیه هو ما ذکره بقوله:«و ثانیا:سلّمنا أنّ کلّ خصوصیّة أخذها العقل فی موضوع حکمه لها دخل فی مناط الحکم بنظر العقل و یکون بها قوام الموضوع،إلاّ أنّه یمکن أن یکون ملاک الحکم الشرعی قائما بالأعمّ من الواجد لبعض الخصوصیّات و الفاقد لها؛فإنّ حکم العقل بقبح الواجد لجمیع الخصوصیّات لا ینحلّ إلی حکمین:حکم إیجابی،و هو قبح الکذب الضارّ الغیر النافع،و حکم سلبی،و هو عدم قبح الکذب الفاقد لوصف الضرر؛فإنّه لیس للحکم العقلی مفهوم ینفی الملاک عمّا عدا ما استقلّ به، فیمکن أن یکون لخصوصیّة الضرر دخل فی مناط حکم العقل بقبح الکذب؛ من دون أن یکون لها دخل فی مناط الحکم الشرعی بحرمة الکذب؛إذ من الممکن أن یکون موضوع الحکم الشرعی المستکشف من الحکم العقلی أوسع من موضوع الحکم العقلی.

و حاصله:أنّه من الممکن أن یکون مناط الحکم بنظر الشارع أوسع من

ص:94

مناطه بنظر العقل بحیث یبقی حکم الشرع بحاله مع انتفاء بعض خصوصیّات المستصحب بخلاف حکم العقل؛فإنّه یدور مدار الخصوصیّات المشخّصة عنده بقاء و عدما،و نحن نستصحب الحکم الشرعی لا العقلی،فلا منافاة بین بقاء الحکم شرعا و انتفائه عقلا.

و یرد علیه:أنّ فرض الکلام فیما استکشفنا الحکم الشرعی من الحکم العقلی بقاعدة الملازمة،و معلوم أنّ الخصوصیّة دخیلة فی حکم العقل بقاء و عدما،و مع انتفائه ینتفی حکم العقل،فکیف یتصوّر بقاء الحکم الشرعی المستفاد منه بقاعدة الملازمة مع القطع بانتفاء حکم العقل لانتفاء الخصوصیّة؟ فلا یحتمل أن یکون مناط الحکم الشرعی الکذائی أوسع من مناط الحکم العقلی.

نعم،یمکن أن یتحقّق هنا حکم شرعی آخر ذا مناط أوسع غیر مناط الحکم العقلی،و لکنّه مشکوک الحدوث،فلا مجال للاستصحاب هنا.

و کان لاستاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه تحقیق جامع فی المقام،و هو قوله (1):

«و التحقیق فی المقام أن یقال:إنّه لو سلّمنا أنّ العناوین المبیّنة المفصّلة-التی یدرک العقل مناط الحسن أو القبح فیها-إنّما تکون فی نظر العقل مع التجرّد عن کافّة اللواحق و العوارض الخارجیّة،حسنة أو قبیحة ذاتا،فلا یمکن أن یشکّ العقل فی حکمه المتعلّق بذلک العنوان المدرک مناطه.

و لکن تلک العناوین الحسنة و القبیحة قد تصدق علی موضوع خارجی؛ لأنّ الوجود الخارجی قد یکون مجمع العناوین المتخالفة،فالعناوین المتکثّرة الممتازة فی الوجود العقلی التحلیلی قد تکون متّحدة غیر ممتازة فی الوجود

ص:95


1- 1) الاستصحاب:15.

الخارجی،و یکون الوجود الخارجی بوحدته مصداقا للعناوین الکثیرة، و تحمل علیه حملا شایعا،فإذا صدقت علیه العناوین الحسنة و القبیحة یقع التزاحم بین مناطاتها،و یکون الحکم العقلی فی الوجود الخارجی تابعا لما هو الأقوی بحسب المناط،مثال ذلک:أنّ الکذب بما أنّه کذب-مع قطع النظر عن عروض عنوان آخر علیه فی الوجود الخارجی-قبیح عقلا،و إنجاء المؤمن من الهلکة حسن،و کلّ من الحسن و القبح ذاتی بالنسبة إلی عنوانه بما أنّه عنوانه، و لکن قد یقع التزاحم بینهما فی الوجود الخارجی إذا صدقا علیه،فیرجّح ما هو الأقوی ملاکا و هو الإنجاء،فیحکم العقل بحسن الکلام الخارجی المنجی مع کونه کذبا.

و کذا إیذاء الحیوان بما أنّه حیوان قبیح عقلا،و دفع المؤذی حسن لازم عقلا،و فی صورة صدقهما علی الموجود الخارجی یکون الحسن و القبح تابعا لما هو الأقوی مناطا.

إذا عرفت ذلک فاعلم أنّه قد یصدق عنوان حسن علی موجود خارجی من غیر أن یصدق علیه عنوان قبیح،فیکون الموضوع الخارجی حسنا محضا حسنا ملزما،فیکشف العقل منه الوجوب الشرعی،ثمّ یشکّ فی صدق عنوان قبیح علیه ممّا هو راجح مناطا،فیقع الشکّ فی الموضوع الخارجی بأنّه حسن أو قبیح،و قد یکون بعکس ذلک.

مثال الأوّل:أنّ إنقاذ الغریق حسن عقلا،فقد یغرق مؤمن فیحکم العقل بلزوم إنقاذه،و یکشف الحکم الشرعی بوجوبه،ثمّ یشکّ فی تطبیق عنوان السابّ للّه و رسوله علیه فی حال الغرق،و حیث یکون تطبیق هذا العنوان علیه ممّا یوجب قبح إنقاذه،و یکون هذا المناط أقوی من الأوّل أو دافعا له،

ص:96

فیشکّ العقل فی حسن الإنقاذ الخارجی و قبحه،و یشکّ فی حکمه الشرعی.

مثال الثانی:أنّه قد یکون حیوان غیر مؤذ فی الخارج،فیحکم العقل بقبح قتله،ثمّ یشکّ بعد بلوغه فی صیرورته مؤذیا،فیشکّ فی حکمه الشرعی، فاستصحاب الحکم العقلی فی مثل المقامات ممّا لا مجال له؛لأنّ حکم العقل مقطوع العدم،فإنّ حکمه فرع إدراک المناط،و المفروض أنّه مشکوک فیه.

و أمّا الحکم الشرعی المستکشف منه-قبل الشکّ فی عروض العنوان المزاحم علیه-فلا مانع من استصحابه إذا کان عروض العنوان أو سلبه عن الموضوع الخارجی لا یضرّان ببقاء الموضوع عرفا،کالمثالین المتقدّمین،فإنّ عنوان السابّ و المؤذی من الطوارئ التی لا یضرّ عروضها و سلبها ببقاء الموضوع عرفا.

فتلخّص ممّا ذکرنا:جواز جریان الاستصحاب فی الأحکام المستکشفة من الحکم العقلی».

و حاصل کلامه قدّس سرّه:أنّه لا مانع من جریان الاستصحاب فی الحکم الشرعی المستکشف من الحکم العقلی و لو لم یکن للعقل من حیث البقاء حکم،کما أنّه قد یثبت الحکم الشرعی من الکتاب و السنّة أو الإجماع حدوثا،و یثبت بالاستصحاب بقاء،کذلک فی الحکم المستفاد من العقل،فما ذکره الشیخ الأنصاری قدّس سرّه من عدم وجدان الشکّ فی البقاء فی الأحکام الشرعیّة المستکشفة من العقل بعنوان السالبة الکلّیّة لیس بتامّ،فإنّا وجدناه موجبة جزئیّة.هذا کلّه بالنّسبة إلی التفصیل الأوّل للشیخ الأنصاری قدّس سرّه.

و المهمّ التفصیل الثانی الذی التزم به الشیخ الأنصاری قدّس سرّه (1)،و هو التفصیل

ص:97


1- 1) فرائد الاصول 3:47.

بین کون الشکّ من جهة المقتضی و بین کونه من جهة الرافع،فأنکر جریان الاستصحاب فی الأوّل دون الثانی،و تتحقّق ثلاثة احتمالات فی مراده من المقتضی و الرافع فی بادئ النظر:

الأوّل:أن یکون المراد من المقتضی هو مناط الحکم و ملاکه الذی اقتضی تشریع الحکم علی طبقه،و المراد من الرافع هو الحائل و المانع من تأثیر الملاک فی الحکم بعد العلم بأنّ فیه ملاک التشریع،فیکون الشکّ فی المقتضی عبارة عن الشکّ فی ثبوت ملاک الحکم عند انتفاء بعض خصوصیّات الموضوع؛ لاحتمال أن یکون لتلک الخصوصیّة دخل فی الملاک،و الشکّ فی الرافع عبارة عن الشکّ فی وجود ما یمنع من تأثیر الملاک فی الحکم بعد العلم بثبوته؛لاحتمال أن یکون لتلک الخصوصیّة المنتفیة دخل فی تأثیر الملاک.

الثانی:أن یکون المراد من المقتضی ما جعله الشارع سببا،إمضاء أو تأسیسا،مثل جعل عقد النکاح سببا للزوجیّة،و المراد من الرافع ما جعله الشارع مانعا و رافعا لتأثیر الملاک کالطلاق-مثلا-،فیکون الشکّ فی المقتضی عبارة عن الشکّ فی بقاء اقتضاء العقد للزوجیّة أو الوضوء للطّهارة عند انتفاء بعض الخصوصیّات،و الشکّ فی الرافع عبارة عن الشکّ فی رافعیّة قول الزوج:«أنت خلیّة»أو خروج المذی عقیب الطهارة-مثلا-مع العلم ببقاء المقتضی.

الثالث:أن یکون المراد من المقتضی استعداد بقاء الحکم و قابلیّته،و المراد من الرافع ما هو المانع من الاستعداد و القابلیّة.

و الظاهر من عبارة الشیخ قدّس سرّه فی الموارد المتعدّدة أنّ مراده هو الاحتمال الثالث.

ص:98

و استدلّ المحقّق النائینی رحمه اللّه لهذا المعنی بقوله (1):«فإنّ القول بعدم حجّیّة الاستصحاب عند الشکّ فی المقتضی بأحد الوجهین المتقدّمین یساوق القول بعدم حجّیّة الاستصحاب مطلقا؛فإنّه لا طریق إلی إحراز وجود ملاک الحکم أو إحراز بقاء المقتضیات الشرعیّة فی باب الأسباب و المسبّبات عند انتفاء بعض خصوصیّات الموضوع أو طروّ بعض ما یشکّ معه فی بقاء الأثر؛إذ العلم ببقاء الملاک أو الأثر یستحیل عادة لمن لا یوحی إلیه إلاّ من طریق الأدلّة الشرعیّة؛فإنّه لا یمکن إثبات کون الوضوء أو النکاح المتعقّب بالمذی أو بقول الزوج:«أنت خلیّة»مقتضیا لبقاء الطهارة و علقة الزوجیّة.

و بالجملة،لو بنینا علی عدم حجّیّة الاستصحاب عند الشکّ فی المقتضی بأحد الوجهین یلزم سدّ باب جریان الاستصحاب فی جمیع المقامات؛إذ ما من مورد إلاّ و یشکّ فی تحقّق المقتضی بمعنی الملاک أو بمعنی اقتضاء السبب، فالظاهر أنّ مراده من المقتضی هو مقدار قابلیّة المستصحب للبقاء فی الزمان».

و استشکل علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (2)بقوله:«و أنت خبیر بما فیه،فإنّ الاقتضاء بالمعنی المعروف لدی الشیخ لا طریق إلی إحرازه فی الأحکام الشرعیّة أیضا إلاّ من قبل الدلیل الشرعی،کما اعترف به فیما بعد،فلو دلّ الدلیل الشرعی علی أنّ الحکم الفلانی مستمرّ ذاتا لو لا الرافع إلی الأبد،أو إلی غایة کذائیّة،یستکشف منه المقتضی بمعنی الملاک،فلا یکون الشکّ حینئذ فی بقائه من قبل الشکّ فی المقتضی،لا بالمعنی المعروف و لا بمعنی الملاک.

و بالجملة،لمّا لا یکون حکم إلاّ عن ملاک فأصل الحکم یکشف عن أصل

ص:99


1- 1) فوائد الاصول 4:325.
2- 2) الاستصحاب:20.

الملاک،و استمراره عن استمراره،و کذا الاقتضاء فی باب الأسباب و المسبّبات إنّما یستکشف من الأدلّة الشرعیّة،فکما أنّ إحراز المقتضی للبقاء و مقدار استعداد المستصحب فی الأحکام یحتاج إلی الدلیل،کذلک إحرازه بالمعنیین الآخرین؛فالمقتضی بأیّ معنی کان لا یوجب سدّ باب الاستصحاب لو قیل بعدم جریانه إلاّ فی الشکّ فی الرافع.

و یمکن مناقشة ما ذکره الإمام قدّس سرّه بأنّه سلّمنا أنّ استمرار الحکم یکشف عن تحقّق الملاک و المناط،إلاّ أنّ الاستمرار فی باب الاستصحاب لیس بمحرز لنا، و المحرز هو قابلیّة الاستمرار و البقاء،و یستفاد من طریق الاستصحاب الاستمرار أیضا.

و معلوم أنّه لا یستکشف من قابلیّة البقاء تحقّق الملاک و المناط،و إلاّ لا نحتاج إلی الاستصحاب؛إذ یستفاد من طریق تحقّق الملاک استمرار الحکم، فالحکم کاشف عن ثبوت الملاک،لا قابلیّة بقائه و استمراره،فما ذکره قدّس سرّه بعنوان الإشکال علی المحقّق النائینی رحمه اللّه لیس بوارد علیه.

ص:100

استدلال الشیخ علی القول بالتفصیل

اشارة

ثمّ إنّه تمسّک بالأخبار المعتبرة و المستفیضة الواردة فی الباب للتفصیل بین الشکّ فی المقتضی و الشکّ فی الرافع:

الاولی منها:صحیحة زرارة قدّس سرّه قال:قلت له:الرجل ینام و هو علی وضوء، أ توجب الخفقة و الخفقتان علیه الوضوء؟قال:«یا زرارة،قد تنام العین و لا ینام القلب و الاذن،فإذا نامت العین و الاذن و القلب فقد وجب الوضوء»،قلت:فإن حرّک علی جنبه شیء و هو لا یعلم؟

قال:«لا،حتّی یستیقن أنّه قد نام،حتّی یجیء من ذلک أمر بیّن،و إلاّ فإنّه علی یقین من وضوئه،و لا ینقض الیقین أبدا بالشکّ،و لکن ینقضه بیقین آخر».

و معلوم أن إضمار مثل زرارة لا یضرّ باعتبار الحدیث،و أمّا السّؤال:الأوّل «الرجل ینام و هو علی وضوء،أ توجب الخفقة و الخفقتان علیه الوضوء؟»ففی بیان المراد منه ثلاثة احتمالات:

الأوّل:أنّ زرارة عالم بأنّ الخفقة و الخفقتین لا تکونان من النوم،کما أنّه عالم بناقضیّة النوم للوضوء بلا إشکال،مع ذلک لا یعلم أنّ الخفقة و الخفقتین مع عدم کونهما من النوم،هل یکونان ناقضین أم لا؟

الثانی:أنّ زرارة یعلم أنّ النوم ناقض فقط لا ما یشبهه،و لکن لا یعلم أنّ

ص:101

الخفقة و الخفقتین من مصادیق النوم و أنّ النوم له معنی وسیع حتّی یشمل الخفقة و الخفقتین أم لا؟

الثالث:أنّ زرارة یعلم أنّ الخفقة و الخفقتین من مصادیق النوم و مرتبة ضعیفة من مراتب النوم،و لکن لا یعلم أنّ الشارع جعل الناقضیّة لجمیع مراتب النوم أو لسائر المراتب غیر الخفقة و الخفقتین،و علی جمیع التقادیر الثلاثة یکون السؤال عن الشبهة الحکمیّة.

و فی جملة«الرجل ینام»أیضا یحتمل أن یکون المراد منه تحقّق النوم بمراتبه الضعیفة،و یعلم أنّ الرجل نام و لکن لا یعلم أنّ لهذه المرتبة من النوم ناقضیّة أم لا؟و هذا الاحتمال فی هذه الجملة مؤیّد للاحتمال الثالث المذکور.

و یحتمل أن یکون المراد منه إرادة النوم،یعنی الرجل یرید النوم و لکن قبل تحقّق النوم عرضت له الخفقة و الخفقتان،کما هو الظاهر من التعبیر بصیغة المضارع،فالشبهة شبهة حکمیّة،و قال الإمام علیه السّلام فی الجواب:«یا زرارة،قد تنام العین و لا ینام القلب و الاذن،فإذا نامت العین و الاذن و القلب فقد وجب الوضوء».و المراد من القلب فیه هو مرکز الحواسّ لا القلب الاصطلاحی؛فإنّه لا ینام و لا یسکن فی جمیع الحالات إلاّ عند الموت.

و العمدة السؤال الثانی فی الروایة،فإنّه محلّ البحث فی باب الاستصحاب، و هو قوله:«فإن حرّک علی جنبه شیء و هو لا یعلم؟»یعنی عدم التفاته إلی حرکة الأشیاء بجنبه أمارة علی تحقّق النوم؟قال:«لا،حتّی یستیقن أنّه قد نام، حتّی یجیء من ذلک أمر بیّن».و هذه الجملة بوحدها دلیل علی اعتبار الاستصحاب بعد العلم بأنّ الناقض هو النوم الواقعی،لا العلم و الیقین بالنوم، و هکذا فی سائر النواقض،فمعناها أنّ فی مورد الشکّ فی تحقّق النوم یستصحب

ص:102

عدمه إلی زمان الیقین بتحقّقه.

ثمّ قال الإمام علیه السّلام:«و إلاّ»یعنی:و إن لم یستیقن أنّه قد نام«فإنّه علی یقین من وضوئه»،و کلمة«إلاّ»بلحاظ کونها قضیّة شرطیّة و اشتمالها علی أداة الشرط تحتاج إلی الجزاء،و یحتمل أن یکون الجزاء هنا محذوفا،و یستفاد ممّا قبله، و هو جملة«فلا یجب علیه الوضوء»،و قوله علیه السّلام:«فإنّه علی یقین من وضوئه» تعلیل للجزاء المحذوف،«و لا ینقض الیقین أبدا بالشکّ»،فیکون التعلیل المشتمل علی الصغری و الکبری فی مقام إفادة القاعدة الکلّیّة الساریة فی جمیع أبواب الفقه لجریان الاستصحاب،و ذکر الوضوء إنّما هو لکونه مورد السؤال، لا لدخله فی موضوع الحکم.

و یرد علی هذا الاحتمال:أوّلا:أنّ ذکر کلمة«من وضوئه»فی الصغری، و احتمال کون«الألف و اللام»فی کلمة«الیقین»للعهد الذّکری یوجب القول بأنّ الروایة فی مقام إفادة القاعدة الکلّیّة لجریان الاستصحاب فی باب الوضوء فقط،لا فی سائر الأبواب.

و توهّم التمسّک بأصالة الإطلاق لعدم قیدیّة«من وضوئه»لکلمة«الیقین» مدفوع بأنّه لا یمکن التمسّک به فی الکلام المحفوف بما یصلح للقیدیّة،مثل عدم إمکان التمسّک بأصالة عدم التخصیص فی الاستثناء المتعقّب للجمل فی غیر الأخیرة؛لصلاحیّة رجوع الاستثناء إلی الجمیع.

و لکنّ الحقّ فی المسألة أنّ العرف بملاحظة التناسب بین الحکم و الموضوع یفهم و یستفاد من الروایة القاعدة الکلّیّة،و أنّ الشیء المبرم و المستحکم کالیقین لا ینقض بالشکّ و التردید،سواء کان فی باب الوضوء أو سائر الأبواب،و نحن بما أنّنا من العرف نفهم ذلک.

ص:103

و یرد علیه:

ثانیا:أنّ الظاهر علی هذا الاحتمال أنّ قوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه» یکون صغری لقوله:«و لا ینقض الیقین بالشکّ»،فأراد الإمام علیه السّلام إجراء استصحاب الوضوء،مع أنّه محکوم باستصحاب عدم النوم الناقض؛لأنّ الشکّ فی الوضوء ناش و مسبّب من الشکّ فی حصول النوم،و أصالة عدم حصوله مقدّمة علی استصحاب الوضوء،لتقدّم الأصل السببی علی المسبّبی.

کما أنّ الظاهر من قوله:«حتّی یستیقن أنّه قد نام»أنّه تمسّک بأصالة عدم النوم،مع أنّ جریان الأصل المحکوم-مقدّما علی الحاکم أو فی عرضه-خلاف التحقیق.

و أجاب عنه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)بقوله:«و یمکن أن یجاب بأنّه علیه السّلام کان بصدد بیان جواب المسألة،أی شبهة نقض الوضوء و عدمه،لا بنحو الصناعة العلمیّة،و أنّ نکتة عدم وجوب الوضوء-بعد کونه علی یقین من وضوئه و یقین من عدم نومه-هی جریان الأصل الحاکم أو المحکوم.

نعم،أفاد زائدا علی جواب الشبهة بأنّ هذا لیس مختصّا بباب الوضوء،بل المیزان هو عدم نقض الیقین بالشکّ،و هذا کجواب المفتی للمستفتی فی نظیر المسألة،مع إرادة المفتی إلقاء قاعدة کلّیّة تفیده فی جمیع الموارد،لا بیان المسألة العلمیّة و کیفیّة جریان الاصول،و تمییز حاکمها من محکومها،فلا محیص حینئذ إلاّ من بیان نتیجة المسألة؛و أنّ الوضوء المتیقّن لا ینقض بالشکّ فی النوم،و أمّا کون عدم نقضه لجریان أصالة بقاء الطهارة أو أصالة عدم الناقض للوضوء فهو أمر غیر مرتبط بالمستفتی،فإنّ منظوره بیان تکلیفه من حیث

ص:104


1- 1) الاستصحاب:25.

لزوم الإعادة و عدمه،لا الدلیل علیه موافقا للصناعة».

و لکن التحقیق:أنّ هذا الجواب لیس بتامّ أوّلا:أنّ موقعیّة زرارة و مقامه عند الإمام و علمه بجزئیّات المسائل لا یناسب سؤاله عن الشبهة فقط کالمستفتی.

و ثانیا:أنّ نفس الروایة أقوی شاهد علی کون الإمام بصدد بیان الصغری و الکبری و الاستدلال للحکم،و تأسیس القاعدة بقوله:«و إلاّ فإنّه علی یقین من وضوئه،و لا ینقض الیقین أبدا بالشکّ،و لکنّه ینقضه بیقین آخر»،فکیف یصحّ تمسّک الإمام فی مقام الاستدلال بالاستصحاب المحکوم و غیر الجاری؟

و کان لاستاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه بیان فی مسألة تعارض الاستصحابین یوجب حلّ الشبهة هنا،و هو قوله (1):«و التحقیق فی الجواب أن یقال:إنّ استصحاب عدم النوم لا یثبت بقاء الوضوء إلاّ علی القول بالأصل المثبت؛لما عرفت من أنّ المیزان فی تقدّم الأصل السببی علی المسبّبی هو إدراج الأصل السببی المستصحب تحت الکبری الکلّیّة الشرعیّة حتّی یترتّب علیه الحکم المترتّب علی ذاک العنوان،کاستصحاب العدالة لإدراج الموضوع تحت کبری جواز الطلاق و الشهادة و الاقتداء و القضاء و نحوها.

و أنت خبیر بأنّه لم ترد کبری شرعیّة ب«أنّ الوضوء باق مع عدم النوم»، و إنّما هو حکم عقلی مستفاد من أدلّة ناقضیّة النوم،کقول أبی عبد اللّه علیه السّلام:

«لا ینقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفیک أو النوم» (2)،فیحکم العقل بأنّ الوضوء إذا تحقّق و کانت نواقضه محصورة فی امور غیر متحقّقة وجدانا-إلاّ

ص:105


1- 1) الاستصحاب:252.
2- 2) الوسائل 1:248،الباب 2 من أبواب نواقض الوضوء،الحدیث 1.

النوم المنفی بالأصل-هو باق،فالشکّ فی بقاء الوضوء و إن کان مسبّبا عن الشکّ فی تحقّق النوم،لکنّ أصالة عدم النوم لا ترفع ذلک الشکّ إلاّ بالأصل المثبت».

و حاصل کلامه:أنّ ترتّب الوضوء علی عدم النوم لا یکون مسبّبا و أثرا شرعیّا مأخوذا فی الأدلّة الشرعیّة،بل یحکم العقل بعد عدم تحقّق النوم قطعا أو استصحابا ببقاء الوضوء،و لا بدّ فی الاستصحاب من کون المستصحب حکما شرعیّا أو ذا أثر شرعی،فلذا نحتاج إلی استصحاب بقاء الوضوء لترتّب الآثار الشرعیّة علیه،مثل جواز الدخول فی الصلاة و الطواف و أمثال ذلک.

و بذلک تندفع الشبهة عن الروایة المذکورة.

فتحصّل من ذلک:أنّ معنی الروایة علی هذا الاحتمال:«أنّه إن لم یستیقن أنّه قد نام فلا یجب علیه الوضوء؛لأنّه علی یقین منه،و کلّ من کان علی یقین من شیء لا ینقض یقینه بالشکّ أبدا».

و هذا الاحتمال اختاره و قوّاه الشیخ الأنصاری قدّس سرّه (1)و لکنّ المحقّق النائینی رحمه اللّه قائل بأنّه فی غایة الضعف،و استدلّ له بأنّه علی هذا الاحتمال یلزم التکرار فی الجواب و بیان حکم المسئول عنه مرّتین بلا فائدة؛فإنّ معنی قوله علیه السّلام:«لا، حتّی یستیقن»عقیب قول السائل:«فإن حرّک فی جنبه شیء»هو أنّه لا یجب علیه الوضوء؛فلو قدّر جزاء قوله:«و إلاّ»بمثل«فلا یجب علیه الوضوء»یلزم التکرار فی الجواب،من دون أن یتکرّر السؤال،و هو لا یخلو عن حزازة، فاحتمال أن یکون الجزاء محذوفا ضعیف غایته (2).

ص:106


1- 1) فرائد الاصول 3:56.
2- 2) فوائد الاصول 4:336.

و یمکن ردّه دفاعا عن رأی الشیخ قدّس سرّه بأنّ مراد الإمام علیه السّلام فی الذیل لا یکون بیان وظیفة خصوص المورد مکرّرا،بل هو بصدد إلقاء القاعدة و الضابطة بعنوان الاستصحاب فی جمیع أبواب الفقه،فالمراد من بیان علّة الجزاء المحذوف تأسیس قاعدة کلّیّة،لا تکرار الجواب،فالإنصاف أنّ هذا الإشکال لیس بوارد علیه.

الاحتمال الثانی فی الروایة:ما التزم به المحقّق النائینی رحمه اللّه بقوله:«أنّه لا ینبغی الإشکال فی کون الجزاء هو نفس قوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه»بتأویل الجملة الخبریّة إلی الجملة الإنشائیّة،فمعنی قوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه» هو أنّه یجب البناء و العمل علی طبق الیقین بالوضوء (1).

و یرد علیه:أوّلا:أنّ تأویل الجملة الخبریّة إلی الإنشائیّة و إرجاعها إلیها یتصوّر علی أحد وجهین:إمّا أن یکون معنی قوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه» هو:«یجب أن یکون علی یقین من وضوئه»و معناه: لابدیّة تحصیل الیقین بالوضوء للدخول فی الصلاة،و هو ینافی مدلول سائر الجمل و مراد الروایة من عدم لزوم الیقین بالوضوء،و عدم وجوب الوضوء علیه مجدّدا لإتیان الصلاة.

و إمّا أن یکون معنی قوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه»تعبّد الشارع الشاکّ فی النوم بأنّه متیقّن بالوضوء،فیجوز له إتیان الصلاة و الطواف کالمتیقّن به وجدانا؛فإنّه بنظر الشارع کان متیقّنا.

و هو أیضا ینافی جملة«لا ینقض الیقین بالشکّ»إذ مع کونه متیقّنا بنظر الشارع لا معنی لقوله:«لا ینقض الیقین بالشکّ»؛لعدم الشکّ فی البین حتّی ینقض أو لا ینقض،یعنی اعتبار إلغاء الشکّ تعبدا فی جملة و اعتبار بقائه فی

ص:107


1- 1) فوائد الاصول 4:336.

جملة اخری متضادّان.

و ثانیا:أنّ تأویل الجملة الخبریّة بالجملة الإنشائیّة بالکیفیّة المذکورة فی کلامه لا یوجد فی اللغة العربیّة؛لزیادته فی الجملة الإنشائیّة کلمة«البناء»التی لا أثر منها فی الروایة و لا خبر؛فلا ملاک لهذا التغییر و التبدیل و لا وجه له،و لا ینطبق مع الضوابط و الموازین.

و ثالثا:أنّه لو جعلنا الجزاء قوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه»لا یمکن استفادة الکبری الکلّیّة من الروایة المقصودة من الاستدلال بها؛فإنّ معناه بعد التأویل بالجملة الإنشائیّة کما ذکره«یجب البناء علی طبق الیقین بالوضوء»، و کیف تکون هذه الجملة صغری القیاس؟بل هی النتیجة المترتّبة علی القیاس؛إذ لا فرق بینه و بین القول بأنّه:«لا ینقض الیقین بالوضوء بالشکّ فی الوضوء»،مع أنّه لا بدّ من مغایرة الصغری و النتیجة،فلا محالة یصیر قوله:

«لا ینقض الیقین بالشکّ»عطفا علی الجزاء و لا یفید إلاّ مفاده؛أی یکون عبارة اخری عن قوله:«فیجب البناء علی طبق الیقین بالوضوء»و لا یصحّ جعله کبری کلّیّة؛للخروج عن قانون المحاورة و الاستدلال؛فإنّ قانون الاستدلال علی نحوین:

أحدهما:ذکر الصغری و الکبری ثمّ الاستنتاج،فیقال:«العالم متغیّر،و کلّ متغیّر حادث،فالعالم حادث»أو یقال:«إنّه علی یقین من وضوئه فشکّ،و کلّ من کان علی یقین من شیء فشکّ یجب البناء علی یقینه،فیجب علیه البناء علی یقینه من وضوئه».

و ثانیهما:ذکر النتیجة أوّلا،ثمّ الاستدلال علیها،و حینئذ لا بدّ من تخلّل کلمة«لأنّ»و أمثالها فیقال:«العالم حادث؛لأنّه متغیر»و یقال:«یجب البناء

ص:108

علی الیقین بالوضوء؛لأنّه من کان کذلک لا ینقض یقینه بالشکّ».

فلو جعلنا قوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه»جزاء یکون المعنی:«یجب علیه البناء العملی علی یقینه السابق من وضوئه»،و هذه نتیجة البرهان،فقوله:

«و لا ینقض الیقین بالشکّ»لو کان برهانا علیها لا بدّ و أن یصدّر بما یفید العلّیّة، فجعل قوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه»صغری لکبری القیاس لا یجتمع مع جعله جزاء للشرط و جملة إنشائیّة،فإنّه علی الإنشائیّة یصیر نتیجة للبرهان، لا صغری له.

و رابعا:أنّ إشکال لزوم التکرار فی الجواب من غیر تکرّر السؤال یرد علیه؛فإنّ معنی کلمة«لا»هو«لا یجب علیه الوضوء قبل الاستیقان»،و معنی قوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه»علی هذا الاحتمال هو«یجب علیه البناء علی الیقین من وضوئه»،أی لا یجب علیه الوضوء،و قوله:«لا ینقض الیقین بالشکّ» علی کونه عطفا علی الجزاء أیضا یدلّ علی هذا المعنی،فیلزم تکرار الجواب بلا موجب ثلاث مرّات.

و أمّا علی احتمال الشیخ فلم یذکر الجواب،و ذکر قوله:(و إلاّ)توطئة لإقامة البرهان و بیان القاعدة الکلّیّة،فاحتمال کون قوله:«فإنّه علی یقین»جزاء لیس بتامّ أصلا.

الاحتمال الثالث:أن یکون الجزاء قوله:«و لا ینقض الیقین أبدا بالشکّ»، و یکون قوله:«فإنّه علی یقین»توطئة للجزاء.

و قال استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه:«و هذا الاحتمال أقوی من الثانی،و أسلم من الإشکالات،و لا یرد علیه ما تقدّم من إجراء الأصل المسبّبی مع وجود الأصل السببی؛لأنّ قوله:«لا ینقض الیقین أبدا بالشکّ»لا یکون حینئذ کبری

ص:109

لقوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه»،بل لقوله:«فإن لم یستیقن أنّه قد نام» المقدّر» (1).

فالاستصحاب الجاری هنا هو استصحاب عدم النوم،لا استصحاب عدم الوضوء.

و التحقیق:أنّ هذا الاحتمال لا یکون قابلا للالتزام،و یرد علیه:أوّلا:أنّ تخلّل قوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه»بین الشرط و الجزاء،و کونه بعنوان مقدّمة الجزاء مانع من ارتباط قوله:«لا ینقض الیقین أبدا بالشکّ»بقوله:«إن لم یستیقن أنّه قد نام»،بل هو شاهد علی ارتباط الجزاء به.

و ثانیا:أنّ الروایة علی هذا الاحتمال لا تدلّ علی قاعدة کلّیّة إلاّ بالإشعار و مناسبة الحکم و الموضوع،مع أنّا بصدد استفادة القاعدة الکلّیّة الساریة فی جمیع أبواب الفقه من ظهور الروایة و دلالتها علیها،و معنی الروایة علی هذا الاحتمال یشبه قولنا:«إن لم یستیقن أنّه قد نام لا یجب علیه الوضوء»،فلا یستفاد منها قاعدة کلّیّة.

و ثالثا:أنّ خلوّ الجزاء عن الفاء،و تصدیر مقدّمته و هو قوله:«فإنّه علی یقین»بها خلاف الاسلوب الکلامی،و علی فرض صحّته لغة لا یصحّ تصدیر الجزاء ب«واو»العطف بعد تصدیر مقدّمته بالفاء،نقول:«إن جاءک زید فزید عالم أکرمه»لا نقول:«إن جاءک زید فزید عالم و أکرمه»-مثلا-و ذکر«الواو» دلیل علی عدم ارتباط قوله:«و لا ینقض الیقین»بالجملة الشرطیّة،فهذا الاحتمال خلاف الظاهر و لا یکون قابلا للالتزام.

فالمتعیّن من الاحتمالات ما اختاره الشیخ الأنصاری قدّس سرّه؛لتناسبه مع فهم

ص:110


1- 1) الاستصحاب:28.

العرف و القواعد العربیة،و خلوّه عن الإشکال فی استفادة القاعدة الکلّیّة من الروایة،و هو کون الجزاء مقدّرا أی«فلا یجب علیه الوضوء»،و قوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه»فی مقام التعلیل صغری للقیاس،و قوله«لا ینقض الیقین أبدا بالشکّ»الکبری الکلّی.

بقی هنا ما ذکره المحقّق النائینی رحمه اللّه بعنوان التوهّم،و هو:أنّ غایة ما تدلّ علیه الروایة هو سلب العموم لا عموم السلب،فلا یستفاد منها عدم جواز نقض کلّ فرد من أفراد الیقین بالشکّ،بل أقصی ما یستفاد منها هو عدم جواز نقض مجموع أفراد الیقین بالشکّ؛و هذا لا ینافی جواز نقض بعض الأفراد.

و الحقّ فی الجواب:أنّ المفرد المحلّی باللام لا یدلّ علی العموم و لا یکون ناظرا إلی الأفراد،بل یدلّ علی الماهیّة و الطبیعة،و یکون«الألف و اللام» للجنس،فالمراد أنّه لا ینقض طبیعة الیقین و ماهیّته بطبیعة الشکّ و ماهیّته، و معناه عموم السلب،و عدم تحقّق فرد من أفراد الطبیعة فی الخارج،و هذا نظیر قولنا:«لا تکرم الرجل»أو«لا تکرم رجلا»فهذا الإشکال أیضا مندفع.

تقریبات الأعلام فی اختصاص الروایة بالشکّ فی الرافع

ثمّ اعلم أنّه یظهر من الشیخ الأنصاری قدّس سرّه و من تبعه-فی اختصاص حجّیّة الاستصحاب بالشکّ فی الرافع-تقریبات فی کیفیّة استفادته منها:

أحدها:ما هو ظاهر کلامه فی الرسائل-تبعا للمحقّق الخوانساری (1)-من أنّ حقیقة النقض هو رفع الهیئة الاتّصالیّة کما فی نقض الحبل،و الأقرب إلیه -علی تقدیر مجازیّته-هو رفع الأمر الثابت الذی له استعداد البقاء

ص:111


1- 1) مشارق الشموش 76:11.

و الاستمرار،و قد یطلق علی مطلق رفع الید عن الشیء و لو لعدم المقتضی له، فالأرجح هو الحمل علی رفع الید عن الأمر المستمرّ،فعلی هذا یتقیّد الیقین بما تعلّق بالأمر المستمرّ،و المراد من الیقین هو الطریقی لا وصفه.

فمحصّل المعنی:«أنّه لا ینقض المتیقّن الثابت کالطهارة السابقة»أو«أحکام الیقین الطریقی»أی أحکام المتیقّن الکذائی المستمرّ شأنا کنفس المتیقّن.

و کیف کان،فالمراد إمّا نقض المتیقّن،و هو رفع الید عن مقتضاه،و إمّا نقض أحکام الیقین أی الثابتة للمتیقّن من جهة الیقین،و المراد حینئذ منه رفع الید عنها،لا أحکام نفس وصف الیقین؛إذ لو فرضنا حکما شرعیّا محمولا علی نفس صفة الیقین ارتفع بالشکّ قطعا،کمن نذر فعلا فی مدّة الیقین بحیاة زید.

هذا محصل کلامه قدّس سرّه (1).

و ثانیها:ما أفاده المحقّق الهمدانی قدّس سرّه و هو:أنّ النقض ضدّ الإبرام،و متعلّقه لا بدّ و أن یکون له اتّصال حقیقة أو ادّعاء،و معنی إضافة النقض إلیه رفع الهیئة الاتّصالیّة،فإضافته إلی الیقین و العهد باعتبار أنّ لهما نحو إبرام عقلی، ینتقض ذلک الإبرام بعدم الالتزام بالعهد،و بالتردید فی ذلک الاعتقاد.

فحینئذ نقول:قد یراد من نقض الیقین بالشکّ رفع الید من آثار الیقین بالسابق حقیقة فی زمان الشکّ،و هذا المعنی إنّما یتحقّق فی القاعدة،و أمّا فی الاستصحاب فلیست إضافة النقض إلی الیقین بلحاظ وجوده فی السابق،بل هی باعتبار تحقّقه فی زمان الشکّ بنحو من المسامحة و الاعتبار؛إذ لا ترفع الید عن الیقین السابق فی الاستصحاب أصلا،و إنّما ترفع الید عن حکمه فی زمان الشکّ.

ص:112


1- 1) فرائد الاصول 3:78-80.

و لیس هذا نقضا للیقین،کما أنّ الأخذ بالحالة السابقة لیس عملا به،بل هو أخذ بأحد طرفی الاحتمال،فلا بدّ من تصحیح إضافة النقض إلیه بالنسبة إلی زمان الشکّ من اعتبار وجود تقدیری له؛بحیث یصدق بهذه الملاحظة أنّ الأخذ بالحالة السابقة عمل بالیقین،و رفع الید عنه نقض له.

و معلوم أنّ تقدیر الیقین مع قیام مقتضیه هیّن عرفا،بل لوجوده التقدیری حینئذ وجود تحقیقی یطلق علیه لفظ الیقین کثیرا فی العرف،أ لا تری أنّهم یقولون:ما عملت بیقینی،و أخذت بقول هذا الشخص الکاذب،و رفعت الید عن یقینی بقوله؟

و أمّا تقدیر الیقین فی موارد الشکّ فی المقتضی فبعید جدّا،بل لا یساعد علیه استعمال العرف أصلا،فتعمیم الیقین فی قوله:«الیقین لا ینقض بالشکّ»بحیث یعمّ مثل الفرض بعید فی الغایة (1).

و ثالثها:ما ذکره المحقّق النائینی رحمه اللّه و ملخّصه مع طوله-بعد الإشکال علی الشیخ بأنّ المراد بالیقین لیس هو المتیقّن-:أنّ المراد من نقض الیقین نقضه بما أنّه یستتبع الحرکة علی وفقه،فأخذ الیقین فی الأخبار باعتبار کونه کاشفا لا صفة،فعنایة النقض إنّما تلحق الیقین من ناحیة المتیقّن،و لهذا تکون إضافته إلی الیقین شائعة،دون العلم و القطع؛و لیس ذلک إلاّ لأنّهما یستعملان غالبا فی مقابل الظنّ و الشکّ،بخلاف الیقین؛فإنّ إطلاقه غالبا بلحاظ ما یستتبعه من الجری علی ما یقتضی المتیقّن،فتختصّ أخبار الباب بما إذا کان المتیقّن ممّا یقتضی الجری العملی علی طبقه؛بحیث لو خلّی و طبعه لکان یبقی العمل علی وفق الیقین ببقاء المتیقّن،و هذا المعنی یتوقّف علی أن یکون للمتیقّن اقتضاء

ص:113


1- 1) حاشیة المحقّق الهمدانی علی الرسائل 81:16.

البقاء؛فإنّه فی مثل ذلک یصحّ ورود النقض علی الیقین بعنایة المتیقّن،و یصدق علیه نقض الیقین بالشکّ،بخلاف غیره؛فإنّ الجری العملی فیه بنفسه ینتقض، و لا تصحّ هذه العنایة فیه.

و بتقریب آخر:یتوقّف صدق نقض الیقین بالشکّ علی أن یکون زمان الشکّ ممّا تعلّق به الیقین فی زمان حدوثه؛بمعنی أنّ الزمان الذی یشکّ فی بقاء المتیقّن فیه کان متعلّق الیقین عند حدوثه،و هذا إنّما یتمّ إذا کان المتیقّن مرسلا بحسب الزمان؛لکی لا یکون الیقین بوجوده من أوّل الأمر محدودا بزمان خاصّ،مقیّدا بوقت مخصوص،و إلاّ ففیما بعد ذلک الحدّ یکون المتیقّن مشکوک الوجود من أوّل الأمر،فلا یکون من نقض الیقین بالشکّ (1).انتهی.

أمّا تقریب الشیخ الأنصاری قدّس سرّه هو کون قوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ» بمعنی«لا تنقض المتیقّن بالشکّ أو لا تنقض آثار المتیقّن بالشکّ»،فهو خلاف الظاهر؛إذ لا وجه للتفکیک بین الیقین و الشکّ من حیث المعنی،إذا کان الیقین بمعنی المتیقّن لا بدّ من کون الشکّ بمعنی المشکوک مع أنّه لا یمکن الالتزام به، و صرف کون الیقین طریقیّا لا یوجب أن یکون بمعنی المتیقّن،فکما أنّ طریقیّة القطع فی قولنا:«القطع حجّة»-أی منجّز و معذّر-لا یوجب أن یصحّ القول:

بأنّ«المقطوع حجّة»کذلک فی قوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ».

و المهمّ فی تقریب المحقّق الهمدانی قدّس سرّه هو الالتزام بالیقین التقدیری لتصحیح إسناد النقض بالیقین فی ظرف الشکّ؛إذ الیقین الحقیقی متعلّق بحالة سابقة،أی متعلّق بالنجاسة عند الزوال-مثلا-ففی ظرف الشکّ سواء حکمنا بالنجاسة أو لم نحکم بها لیس هذا عملا علی طبق ذاک الیقین و لا نقضا له،فلا بدّ لنا من

ص:114


1- 1) فوائد الاصول 4:374-376.

الیقین الفرضی و التقدیری لیکون مصحّحا للاسناد،و القول به«لا ینقض الیقین التقدیری بالشکّ»،و هذا الفرض یناسب عرفا فی الشکّ فی الرافع لا فی الشکّ فی المقتضی؛و علیه یستفاد بهذا التقریب اختصاص الروایة بالشکّ فی الرافع.

و استشکل علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه بقوله:«ففیه-مضافا إلی عدم لزوم هذا التقدیر فی صحّة نسبته إلیه؛فإنّ الیقین المحقّق فی زمان الشکّ و إن تعلّق بالحالة السابقة،لکن تصحّ نسبة النقض إلیه،و یقال:هذا الیقین المتعلّق بالطهارة السابقة لا ینتقض بالشکّ،و یبنی علیه فی زمان الشکّ-أنّ الظاهر من الروایات هو نسبة النقض إلی هذا الیقین الفعلی لا التقدیری؛لأنّ قوله فی الصحیحة المتقدّمة:«و إلاّ فإنّه علی یقین من وضوئه»مرتبط بالکبری التی بعده؛ أی قوله:«و لا ینقض الیقین أبدا بالشکّ»،سواء جعل صغری لها-کما هو الظاهر-أو توطئة لذکرها.

و لا شبهة فی أنّ المراد بالیقین فی قوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه»هو الیقین المتعلّق بالوضوء فی الزمان السابق،لا الیقین المقدّر المعتبر،فلا بدّ أن یراد من الیقین فی الکبری هو هذا الیقین،لا التقدیری؛لعدم صحّة التفرقة بینهما،ضرورة عدم صحّة أن یقال:إنّه علی یقین حقیقة من وضوئه فی الزمان السابق،و لا ینقض الیقین التقدیری بالشکّ.

هذا،مضافا إلی أنّ مناسبة الحکم و الموضوع إنّما تقتضی أن لا ینتقض الیقین الواقعی الذی له،إبرام و استحکام بالشکّ،لا الیقین التقدیری الاعتباری.

و أیضا أنّ قوله:(أبدا)لتأبید الحکم المقدّم،أی عدم نقض الیقین بالشکّ مستمرّ و مؤبّد،فلا بدّ أوّلا من جعل الحکم،ثمّ إفادة تأبیده بلفظ(أبدا)الذی

ص:115

هو قائم مقام الإطلاق،فینحلّ عرفا هذا الحکم المتقیّد بالتأبید و عدمه، و تأبیده و استمراره،فلو اعتبر الیقین فی تمام ظرف الشکّ؛أی من أوّل وجوده إلی آخره یقدّر الیقین و ینسب إلیه النقض،فلا مصحّح للتأبید،فإنّ الأمر المستمرّ الوجود إذا اعتبر من أوّل وجوده إلی آخره لا یصحّ اعتبار الاستمرار فیه ثانیا؛فإنّ الشیء المستمرّ لا یقع فیه استمرار آخر.

هذا إذا اعتبر الیقین فی تمام ظرف الشکّ،و إن اعتبر فی أوّل زمان الشکّ و ارید بیان تأبید حکمه بلفظ(أبدا)فلا مصحّح لنسبة النقض إلی ما بعد ظرف التقدیر بناء علی تحقّقه.

فتلخّص ممّا ذکرنا:أنّ الظاهر من تأبید الحکم أنّ الیقین المتعلّق بأمر سابق علی الشکّ لا ینقض فی ظرف الشکّ من أوّل زمانه إلی آخره.

و لکنّ الظاهر أنّ إشکاله الأخیر لا یکون قابلا للمساعدة،بل یمکن مناقشته بأنّ الیقین التقدیری یرتبط بإسناد النقض بالیقین،و هو الموضوع فی المقام،فیکون فرض الیقین التقدیری إلی آخر زمان الشکّ بعنوان بقاء الموضوع،و أمّا ذکر لفظ(أبدا)فهو لبیان استمرار الحکم،أی تأبید عدم جواز نقض الیقین بالشکّ،فوقع الخلط بین الحکم و الموضوع فی کلامه قدّس سرّه.

و آخر ما أورد علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1)أن قال:«و أیضا قوله فی ذیل الصحیحة:«و إنّما ینقضه بیقین آخر»لیس حکما مجعولا؛ضرورة امتناع جعل إیجاب العمل علی طبق الیقین،فإنّه بمنزلة جعل الحجّیّة و الکاشفیّة له، فلا محالة تکون هذه الجملة لتعیین الغایة للحکم المتقدّم،فتکون تأکیدا لاستمرار الحکم إلی زمان یقین آخر،أو لإفادة استمراره حتّی مع وجود

ص:116


1- 1) الاستصحاب:35.

الظنّ إن ارید بالشکّ ما هو المصطلح،لا عدم العلم،فیفهم من هذه الغایة أنّ المتکلّم اعتبر ثلاثة امور:الیقین السابق،و الشکّ المستمرّ،و الیقین المتأخّر، فقال:إنّ حکم الیقین بالأمر السابق مستمرّ فی زمان الشکّ و لا ترفع الید عنه إلی زمان الیقین بخلافه».

فاعتبار الیقین فی ظرف الشکّ ممّا لا تساعده هذه الاعتبارات.

و بالجملة،إنّ التأمّل فی الصحیحة صدرا و ذیلا ممّا یشرف بالفقیه علی القطع بأنّ الیقین فی الکبری هو الیقین المحقّق الفعلی المتعلّق بالشیء فی الزمان السابق،لا المقدّر المفروض فی زمان الشکّ.

و التحقیق:أنّ جمیع ما أورده قدّس سرّه علی المحقّق الهمدانی رحمه اللّه قابل للمساعدة إلاّ ما ذکرناه من الخلط فی کلامه.

و أمّا ما ذکره المحقّق النائینی رحمه اللّه فحاصله:أنّ المراد من الیقین نفس المتیقّن ممّا لا یمکن المساعدة علیه-کما یظهر من الشیخ-بل المراد من نقض الیقین نقضه بما أنّه یستتبع الحرکة علی وفق المتیقّن،فأخذ الیقین فی الأخبار إنّما یکون باعتبار کونه کاشفا و طریقا إلی المتیقّن،لا بما أنّه صفة قائمة فی النفس، فعنایة النقض إنّما تلحق الیقین من ناحیة المتیقّن.

ثمّ ذکر أنّه لم یعهد استعمال النقض فی العلم و القطع فإنّ إطلاق العلم و القطع یکون فی مقابل الظنّ و الشکّ غالبا،بخلاف الیقین؛فإنّ إطلاقه غالبا یکون بلحاظ ما یستتبعه من الجری علی ما یقتضیه المتیقّن و العمل علی طبقه،و هذا المعنی یتوقّف علی أن یکون للمتیقّن اقتضاء البقاء فی عمود الزمان لیتحقّق الجری العملی علی طبقه،و یصحّ ورود النقض علی الیقین بعنایة المتیقّن، بخلاف ما إذا لم یکن للمتیقّن اقتضاء البقاء فی سلسلة الزمان،فإنّ الجری

ص:117

العملی بنفسه ینتقض،و لا یصحّ ورود النقض علی الیقین بعنایة المتیقّن (1).

و یرد علیه:أوّلا:أنّه لا وجه للفرق بین الیقین و العلم و القطع و إن لم یذکر فی الروایة غیر کلمة«الیقین»،و لکنّه لا یکون مشعرا بعدم صحّة استعمال کلمة «القطع»أو«العلم»مکانه،بل ما یقرب إلی الأذهان هو لزوم الحرکة علی وفق القطع و الحجّیّة الذاتیّة کانت لهذا العنوان،فلا فرق بینها فی الاستعمالات الفقهیة و الاصولیّة؛لکونها من الألفاظ المترادفة.

و ثانیا:أنّ لزوم الحرکة و العمل علی وفق الیقین یکون من آثار الیقین و أحکامه کما أنّ الحجّیّة من آثاره،إلاّ أنّ الحجّیّة و لزوم العمل علی طبقه من أحکامه العقلیّة،و کذلک عدم نقضه بالشکّ من أحکامه و آثاره بتعبّد الشارع، و کلمة«الیقین»موضوع للجمیع،و مغایرة الحکم و الموضوع لا یخفی علی أحد،فما هو الملزم و الداعی لإتیان کلمة«الیقین»فی قوله«لا ینقض الیقین بالشکّ»مصاحبا مع بعض آثاره العقلیّة،أی لزوم الجری العملی علی وفقه؟

و ثالثا:أنّ إنکار کون الیقین بمعنی المتیقّن و القول بصحّة ورود النقض علی الیقین بعنایة المتیقّن،ثمّ تقسیم المتیقّن بالقابل للاستمرار و عدمه لیس بتامّ.

و علیه فهذا التقریب من المحقّق النائینی رحمه اللّه لا یکون قابلا للمساعدة.

و أمّا التقریب الثانی له رحمه اللّه فهو قوله:«و بتقریب آخر:یتوقّف صدق نقض الیقین بالشکّ علی أن یکون زمان الشکّ ممّا قد تعلّق الیقین به زمان حدوثه»، إلخ.

و حاصله:أنّ المتیقّن إن کان صالحا للبقاء و الاستمرار یتحقّق فی زمان الیقین بحدوثه یقین آخر ببقائه و استمراره،و أنّه خال عن الحدّ و الغایة،

ص:118


1- 1) فوائد الاصول 4:374-376.

و إن کان غیر صالح للبقاء و الاستمرار فاقتضاؤه و قابلیّته محدود و مضیّق، فیتحقّق هنا الیقین بالحدوث فقط،و معلوم أنّ النقض و عدمه فی باب الاستصحاب یرتبط بالبقاء،و إسناد النقض إلی الیقین فی قوله:«لا ینقض الیقین بالشکّ»یقتضی تحقّق الیقین بالبقاء مع تحقّق الیقین بالحدوث،و هذا المعنی یختصّ فی الشکّ فی الرافع و لا یتصوّر فی الشکّ فی المقتضی (1).

و یرد علیه:أنّ صلاحیة البقاء و الاستمرار لا یکون ملازما لتحقّق الیقین بالحدوث و الیقین بالبقاء معا حتّی فی زمان الشکّ،فإنّ تحقّق ما هو الصالح للبقاء-کالطهارة-کثیرا ما متیقّن،و لا نعلم غایة استمراره،و لا یکون استعداد بقاء الطهارة متیقّنا لنا،و لا یکون الیقین فی القابلیّة مورد النزاع حتّی نقول بنقضه أو عدم نقضه بالشکّ،بل البحث یدور مدار الیقین بالوضوء و عدم نقضه بالشکّ،و لا یتحقّق هنا یقین سوی الیقین بالحدوث.

تحقیق المسألة فی الشکّ فی الرافع و المقتضی

ذکر هنا استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (2)تحقیقا تبعا لصاحب الکفایة،و نتیجته شمول دائرة الاستصحاب للشکّ فی الرافع و المقتضی،و هو:

أنّ الیقین قد یلاحظ بما أنّه صفة قائمة بالنفس من غیر لحاظ إضافته إلی الخارج،و قس علیه الشکّ و الظن،و قد یلاحظ بما أنّه مضاف إلی الخارج، و أنّه کاشف کشفا تامّا عن متعلّقه،و الظنّ کشفا ناقصا،و الشکّ غیر کاشف أصلا،بل یضاف إلی الخارج إضافة تردیدیّة.

ص:119


1- 1) فوائد الاصول 4:376.
2- 2) الاستصحاب:32-33.

لا إشکال فی أنّ الیقین بحسب الملاحظة الاولی لا یکون ممتازا عن الظنّ و الشکّ بالإبرام و الاستحکام و عدمهما،بل الإبرام و الاستحکام-بحسب هذه الملاحظة-إنّما یکون فی کیفیّة قیامها بالنفس بحسب مبادئها المحصّلة لها فیها، فقد تکون مبادئ حصول الشکّ قویّة؛بحیث لا تزول بسهولة،و تکون مبادئ حصول القطع و الیقین ضعیفة بحیث تزول بتشکیک ما،و قد یکون الحال بخلاف ذلک.

و بالجملة،سهولة زوال تلک الأوصاف عن النفس و عسر زوالها تابعان لمبادئ حصولها،فلا یکون الیقین فی هذه الملاحظة أبرم من الشکّ،و لا الظنّ أبرم منه.

و أمّا بحسب الملاحظة الثانیة-أی إضافتها إلی الخارج-فالیقین مبرم محکم ذاتا دون الشکّ و الظنّ،فکأنّ الیقین حبل مشدود أحد طرفیه علی النفس، و طرفه الآخر علی المتیقّن،و یکون حبلا مبرما مفتولا مستحکما،و إن کانت مبادئ حصوله ضعیفة غیر مستحکمة،بخلاف الظنّ و الشکّ،فإنّهما بحسب هذه الإضافة غیر محکمین و لا مبرمین و إن کانت مبادئ حصولهما قویّة مستحکمة، و هذا الاستحکام و الإبرام لا یرتبط بالمتیقّن،بل من مقتضیات ذات الیقین، سواء تعلّق بأمر مبرم قابل للاستمرار و البقاء أو غیره.

و إسناد عدم النقض إلی الیقین یکون بهذا اللحاظ فی قوله:«لا ینقض الیقین بالشکّ»بدون فرق بین الشکّ فی الرافع و الشکّ فی المقتضی،لا باعتبار کون متعلّقه مبرما أو الجری العملی علی وفقه.

بقی هنا أمر،و هو:أنّ من المعلوم وحدة متعلّق الیقین و الشکّ فی الاستصحاب،و یمکن أن یتوهّم أنّ هذا الأمر کیف یتصوّر فی الاستصحاب

ص:120

بعد تعلّق الیقین بالحالة السابقة و الشکّ بالحالة اللاحقة مع أنّهما أمران متغایران،فکیف ینطبق هنا قوله:«لا ینقض الیقین بالشکّ»؟

و التحقیق:أنّ هذا الإشکال باعث لالتزام المحقّق الهمدانی قدّس سرّه بالیقین التقدیری و المحقّق النائینی رحمه اللّه بالیقین بالحدوث و البقاء،و لکن یتصوّر:أوّلا:أن یکون متعلّق الیقین و الشکّ شیئا واحدا فی زمان واحد،و هو ممتنع.

و ثانیا:أن یکون متعلّق الیقین طهارة الثوب-مثلا-عند الزوال،و متعلّق الشکّ أیضا طهارة الثوب عند الزوال،و لکن زمان الیقین أوّل الظهر،و زمان الشکّ ساعتین بعده،و هذه قاعدة الیقین.

و ثالثا:أن یکون متعلّق الیقین و الشکّ شیئا واحدا،مثل طهارة الثوب،إلاّ أنّ المتیقّن و المشکوک مختلفان من حیث الزمان،إذ المتیقّن طهارة الثوب عند الزوال،و المشکوک بقاؤها ساعتین بعده،و یهدینا إلی هذا المعنی التعلیل الذی بمنزلة الصغری فی الروایة،و هو قوله:«فإنّه علی یقین من وضوئه»،و هذا هو مجری الاستصحاب و إن کان خلاف الظاهر و لکن لا محیص من الالتزام به.

و یمکن أن یقال:إنّ قوله:«لا ینقض الیقین بالشکّ»لا یکون حکما تعبّدیّا محضا،بل هو ناظر إلی ما هو المرتکز عند العقلاء،سیما قوله:«لیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ»،فإنّه ناظر ظاهرا إلی أنّ نقض الیقین بالشکّ مخالف للسیرة المستمرّة بین العقلاء،و بعد الرجوع إلی ما هو المرتکز عند العقلاء یستفاد اختصاص بنائهم بذلک فی موارد الشکّ فی الرافع دون موارد الشکّ فی المقتضی.

قلنا:إنّ تمسّک العقلاء فی الجملة بالاستصحاب لا شبهة فیه،و لعلّ ما هو القدر المتیقّن من بنائهم خصوص الشکّ فی الرافع،و لم یحرز لنا بناؤهم فی الشکّ

ص:121

فی المقتضی،و لکن لا بدّ لنا من التحقیق فی ملاک بناء العقلاء فی التمسّک بالاستصحاب و ما هو الملاک فی الروایات.

و المستفاد من الأخبار الواردة فی الباب أنّ تمام الملاک هو«الیقین بالحالة السابقة و الشکّ فی اللاحقة»،و لا دخل لأیّ خصوصیّة اخری-کالظنّ و الاطمئنان بالبقاء و أمثال ذلک-فی حکم عدم جواز النقض؛فهذا حکم تعبّدی،کما عرفت أنّ العلم بالحالة السابقة غیر کاشف عن الحالة اللاحقة.

و أمّا الملاک للعمل بالاستصحاب عند العقلاء فهو الوثوق و الاطمئنان ببقاء الحالة السابقة فقط،و هذا الوثوق یوجب رجوع الإنسان بل الحیوان إلی منزله و مأواه،و لعلّ منشأ هذا الوثوق عبارة عن ندرة تحقّق الرافع،کما أنّ منشأ الوثوق فی أصالة السلامة ندرة تحقّق العیب فی الأشیاء و غلبة سلامتها، کما قال به استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1).

مع أنّ ندرة تحقّق الرافع فی الامور الشرعیّة لا یخلو من مناقشة،فإنّ قابلیّة البقاء و الدوام لا یکون مستلزما للبقاء خارجا و واقعا و ندرة تحقّق الرافع؛إذ الطهارة-مثلا-قابلة للدوام و الاستمرار إلی یوم القیامة،و لکن کثرة نواقضه خارجا لیس قابلا للإنکار.نعم،هذا المعنی فی مثل الدار صحیح.

و الحاصل:أنّ نظارة الروایات ببناء العقلاء-بعد الاختلاف فی المناط- لیس بتامّ و لا فرق بین قوله:«لیس ینبغی»بعد کونه بمعنی الحرمة و عدم الجواز،و قوله«لا تنقض الیقین»،فهذا التقریب لاختصاص الروایات فی الشکّ فی الرافع لیس بصحیح.

فالمستفاد من الروایة الصحیحة اعتبار الاستصحاب فی جمیع أبواب الفقه

ص:122


1- 1) الاستصحاب:38.

أوّلا،و اعتباره فی الشکّ فی الرافع و المقتضی ثانیا،و اعتباره بالتعبّد الشرعی بالمناط المستقلّ-أی الیقین بالحالة السابقة و الشکّ بالحالة اللاحقة-بدون الارتباط ببناء العقلاء ثالثا،فالاستصحاب حجّة سواء تحقّق الوثوق بالبقاء أم لا.

و معلوم أنّ الیقین بالحالة السابقة لا یتجاوز عن دائرة المتیقّن،و لیس له عنوان الکاشفیّة بالنسبة إلی الحالة اللاحقة و لو بالکشف الناقص،و الشکّ بالحالة اللاحقة أعمّ من الشکّ المساوی الطرفین و الظنّ بأحد الطرفین،و فی هذه الحالة جعل الشارع حکما تعبّدیا بحسب الروایة و هو عدم جواز نقض الیقین بالشکّ،نسمّیه بالاستصحاب،فهو أصل عملی مجعول بعنوان الوظیفة فی مقام الشکّ کما ذکرنا،و لا أماریّة له و لا کاشفیّة عن الواقع کما لا یخفی.إلی هنا تمّ الاستدلال بالصحیحة الاولی لزرارة.

الثانیة:ما عن الشیخ بإسناده عن زرارة مضمرا،و عن الصدوق فی «العلل»متصدّرا بأبی جعفر علیه السّلام قال:قلت له:أصاب ثوبی دم رعاف أو غیره أو شیء من منیّ،فعلّمت أثره إلی أن اصیب له الماء،فأصبت و حضرت الصلاة و نسیت أنّ بثوبی شیئا و صلّیت،ثمّ إنّی ذکرت بعد ذلک؟قال:«تعید الصلاة».

قلت:فإن لم أکن رأیت موضعه و علمت أنّه قد أصابه،فطلبته فلم أقدر علیه،فلمّا صلّیت وجدته؟قال:«تغسله و تعید».

قلت:فإن ظننت أنّه قد أصابه و لم أتیقّن ذلک،فنظرت فلم أر شیئا،ثمّ صلّیت فیه فرأیت فیه؟قال:«تغسله و لا تعید الصلاة».

قلت:لم ذلک؟قال:«لأنّک کنت علی یقین من طهارتک ثمّ شککت،فلیس

ص:123

ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ أبدا».

قلت:فإنّی قد علمت أنّه قد أصابه و لم أدر أین هو فأغسله؟قال:«تغسل من ثوبک الناحیة التی تری أنّه قد أصابها حتّی تکون علی یقین من طهارتک».

قلت:فهل علیّ إن شککت فی أنّه أصابه شیء أن انظر فیه؟قال:«لا، و لکنّک إنّما یرید أن تذهب الشکّ الذی وقع فی نفسک».

قلت:إن رأیته فی ثوبی و أنا فی الصلاة؟قال:«تنقض الصلاة و تعید إذا شککت فی موضع منه ثمّ رأیته،و إن لم تشکّ ثمّ رأیته رطبا قطعت الصلاة و غسلته،ثمّ بنیت علی الصلاة؛لأنّک لا تدری لعلّه شیء اوقع علیک،فلیس ینبغی أن تنقض الیقین بالشکّ» (1).

مورد الاستدلال بالروایة و احتمالاته

و مورد الاستدلال بالروایة فقرتان:إحداهما:قوله«فإن ظننت أنّه قد أصابه...»إلی آخرها.

و ثانیتهما:قوله:«و إن لم تشکّ ثمّ رأیته رطبا...»إلی آخرها.

أمّا الاولی منهما ففیها احتمالات:

أحدها:أنّه بعد الظنّ بالإصابة و النظر و عدم الرؤیة صلّی من غیر حصول علم أو اطمئنان له من النظر،فلمّا صلّی رأی فی ثوبه النجاسة،و علم بأنّها هی التی کانت مظنونة،فعلم أنّ صلاته وقعت فی النجس.

ثانیها:الصورة المتقدّمة،أی عدم حصول العلم له من النظر،لکن مع احتمال

ص:124


1- 1) التهذیب 1:421،الحدیث 1335؛علل الشرائع 361:1؛الوسائل 2:1006،الباب 7،الحدیث 2، و ص 1053،الباب 37،الحدیث 1،و ص 1063،الباب 42،الحدیث 2،و ص 1065،الباب 44،الحدیث 1.

حدوث النجاسة بعدها،و احتمال وقوع الصلاة فیها.

ثالثها:أنّه حصل له العلم من النظر بعدم النجاسة،فلمّا صلّی تبدّل علمه بالعلم بالخلاف،أی بأنّ النجاسة کانت من أوّل الأمر.

رابعها:هذه الصورة مع احتماله بعد الصلاة حدوث النجاسة بعدها،و احتمال وقوع الصلاة فیها.

هذا،و لکن تعلیل الجواب ینافی إرادة الثالث،و الاحتمال الرابع المنطبق علی قاعدة الیقین بعید؛لأنّه لو حصل له العلم کان علیه ذکره فی السؤال،لوضوح احتمال دخالته فی الحکم،فعدم ذکره دلیل علی عدم حصوله،و الغفلة فی مقام السؤال عن موضوعه خلاف الأصل.

مضافا إلی ظهور قوله:«لیس ینبغی لک أن تنقض الیقین»فی فعلیّة الشکّ و الیقین،تأمّل.

مع أنّ الظاهر أنّ الکبری فی هذا المورد و ذیل الروایة واحدة،و لا إشکال فی أنّ الکبری فی ذیلها منطبقة علی الاستصحاب لا القاعدة؛ضرورة أنّ قوله:

«و إن لم تشکّ»معناه أنّک إن کنت غافلا و غیر متوجّه إلی النجاسة،ثمّ رأیته رطبا،و احتملت کونها من أوّل الأمر و حدوثها فیما بعد،و لیس معناه الیقین بعدم الطهارة،فالاحتمال الرابع غیر مقصود،فبقی الاحتمالان،و هما مشترکان فی إفادة حجّیّة الاستصحاب،فلو کانت الروایة مجملة من هذه الجهة لا یضرّ بها، و أمّا الاحتمالان فلا یبعد دعوی ظهورها فی الأوّل منهما.

و الحاصل:أنّ الفقرة الثانیة لا إشکال فی دلالتها علی حجّیّة الاستصحاب.

و أمّا الفقرة الاولی فقد اورد علیها بما حاصله:أنّه کیف یصحّ أن یعلّل عدم وجوب إعادة الصلاة-بعد الالتفات و العلم بوقوعها فی الثوب النجس-بقوله:

ص:125

«لأنّک کنت علی یقین من طهارتک»مع أنّ الإعادة حینئذ لا تکون من نقض الیقین بالشکّ،بل من نقض الیقین بالیقین.

نعم،یصحّ تعلیل جواز الدخول فی الصلاة بذلک.

و جوابه:یحتاج إلی مقدّمة،و هی:أنّ الإعادة لا یمکن وقوعها موضوعا للحکم الشرعی نفیا أو إثباتا،و لا یتعلّق الحکم الشرعی الوجوبی أو التحریمی بها،بل العقل إذا لاحظ موافقة المأتی به مع المأمور به الشرعی یحکم بأنّه لا یجب علیک الإعادة و إذا لاحظ مخالفته یحکم بأنّه یجب علیک الإعادة، و أمّا استعمال الإعادة فی کلام الشارع،کما فی قوله:«یعید الصلاة»أو«لا یعید الصلاة»أو«لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس»و نحو ذلک فهو من الاستعمالات الکنائیّة من قبیل ذکر اللازم و إرادة الملزوم،و إشارة إلی المنشأ،یعنی شرطیّة الطهارة و أمثالها فی الصلاة.

إذا عرفت ذلک فنقول:إنّ الظاهر من أدلّة اعتبار الطهارة فی الصلاة هی الطهارة الواقعیّة،و لازم ذلک بطلان الصلاة فی مورد السؤال الثالث؛لوقوعها مع النجاسة،و لکنّ التعلیل فی الروایة یکون بمنزلة التفسیر للأدلّة الأوّلیّة،و أنّ الطهارة المعتبرة فیها لیست منحصرة بالطهارة الواقعیّة،فالتعلیل لا یرجع إلی عدم الإعادة،بل الحکم به إرشاد إلی موافقة المأتی به للمأمور به؛لتوسعة دائرة الشرط إلی الطهارة الاستصحابیّة.

ثمّ إنّ هاهنا إشکالا ثانیا فی الروایة،و هو لزوم التفرقة بین وقوع تمام الصلاة فی الثوب النجس،و بین وقوع بعضها فیه،حیث حکم فی الأوّل بعدم الإعادة دون الثانی کما هو ظاهر قوله بعد ذلک:«تنقض الصلاة و تعید إذا شککت فی موضع منه»،مع أنّ حمل حکم الإمام علیه السّلام بالإعادة هنا علی التعبّد خلاف

ص:126

الظاهر و بعید غایته.

و لا بدّ لنا قبل الجواب من بیان أمرین بعنوان المقدّمة:

الأوّل:أنّ مانعیّة النجاسة للصلاة مانعیّة مطلقة فی جمیع الحالات و الآنات من افتتحها إلی اختتامها.

الأمر الثانی:أنّ المستفاد من الروایات عدم مانعیّة حدوث دم رعاف فی أثناء الصلاة،بل یجوز تطهیره و الإتیان ببقیّة الصلاة بلا فصل،و کان له خصوصیّتان:إحداهما:الحدوث من غیر اختیار،و الثانیة:الحدوث فی الأثناء، و بعد ملاحظة الأدلّة یستفاد مانعیّة نجاسة الثوب و البدن إلاّ فی صورة حدوثها من غیر اختیار فی أثناء الصلاة.

و جوابه بعد ذلک:أنّ التمسّک بالاستصحاب-فیما إذا علم بعد الصلاة بأنّ النجاسة کانت موجودة حالها-ممّا لا مانع منه؛لتحقّق الطهارة الاستصحابیّة للمکلّف فی جمیع الحالات و الآنات،بخلاف ما إذا علم بها فی الأثناء؛لأنّ ما یمکن التمسّک فیه به هو حالة الشکّ،و بعد العلم بأنّ الصلاة کانت من الابتداء مع النجاسة،فلا طریق لتصحیحها،فلذا قال الإمام علیه السّلام علی طبق القاعدة:«تنقض الصلاة و تعید».

و أیضا:یرد إشکال آخر علی ذیل الروایة،و هو:لا یوجد فرق واضح بین وقوع بعض الصلاة فی النجاسة مع الشکّ فیها من الابتداء و العلم بها فی الأثناء،و بین احتمال حدوث النجاسة فی الأثناء،حیث تمسّک الإمام علیه السّلام فی الثانی بالاستصحاب دون الأوّل.

و نقول فی مقام الجواب:و الفرق بینهما:أنّه إذا علم فی الأثناء بأنّ النجاسة کانت من الأوّل لا یمکن تصحیح صلاته کما عرفت.

ص:127

و أمّا إذا احتمل عروضها فی البین فیمکن التمسّک بالاستصحاب لتصحیحها،لا لأنّ أصالة عدم عروض النجاسة إلی الآن تثبت حدوثها؛ ضرورة مثبتیّة هذا الأصل،بل لأنّ أصالة عدم عروض النجاسة إلی الآن إنّما هی لتصحیح حال الجهل بها،و حال العلم بالتلبّس یکون المصلّی شاکّا فی کون هذه النجاسة الموجودة حادثة حتّی لا تکون مانعة أو باقیة من الأوّل حتّی تکون مانعة،فیکون شاکّا فی مانعیّتها،فتجری أصالة البراءة العقلیّة و الشرعیّة کما فی اللباس المشکوک فیه.

فلا یخفی أنّ بین الصورتین فرقا بحسب الاصول و القواعد،کما فرّق بینهما الإمام علیه السّلام فدلالة الروایة علی حجّیّة الاستصحاب لا إشکال فیها.

الثالثة:صحیحة اخری لزرارة عن أحدهما علیهما السّلام قال:قلت له:من لم یدر فی أربع هو أو فی ثنتین،و قد أحرز الثنتین؟قال:«یرکع رکعتین و أربع سجدات، و هو قائم بفاتحة الکتاب و یتشهّد و لا شیء علیه،و إذا لم یدر فی ثلاث هو أو فی أربع و قد أحرز الثلاث،قام فأضاف إلیها أخری و لا شیء علیه،و لا ینقض الیقین بالشکّ،و لا یدخل الشکّ فی الیقین،و لا یخلط أحدهما بالآخر،و لکنّه ینقض الشکّ بالیقین،و یتمّ علی الیقین فیبنی علیه،و لا یعتدّ بالشکّ فی حال من الحالات» (1).

یحتمل أن یکون قوله:«یرکع رکعتین و أربع سجدات و هو قائم بفاتحة الکتاب و یتشهّد»ظاهرا فی إتیان الرکعتین مستقلاّ؛إذ الظاهر منه تعیّن الفاتحة، و إتیان الرکعة المشکوکة منفصلة موافق لمذهب الخاصّة و مخالف لمذهب

ص:128


1- 1) الوسائل 5:321،الباب 10،الحدیث 3،و الباب 11 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة و التهذیب.

العامّة؛لإتیانهم بها-بعد البناء علی الأقلّ-متّصلة.

و یحتمل أن یکون ظاهر الروایة الإتیان بالرکعتین متّصلة و صدور صدر الروایة من باب التقیّة،و لکنّه لا یناسب بیان الإمام علیه السّلام بعد جواب زرارة موضوعا آخر،و الجواب عنه أیضا من باب التقیّة،و هو قوله:«و إذا لم یدر فی ثلاث هو أو فی أربع و قد أحرز الثلاث،قام فأضاف إلیها اخری...»الظاهر منه الإتیان بها متّصلة.

و الحاصل:أنّه یظهر من هذه الصحیحة آثار التقیّة،مع عنایة الإمام علیه السّلام ببیان المذهب الحقّ فی سترة و حجاب کما سیأتی بیانه.

ص:129

ص:130

بیان احتمالات الروایة

اشارة

ثمّ إنّ فی الروایة احتمالات:

منها:أنّ قوله:«لا ینقض الیقین بالشکّ»یعنی به لا یبطل الرکعات المحرزة بسبب الشکّ فی الزائدة،بأنّ یستأنف الصلاة،بل یعتدّ بالمتیقّنة،و لا یدخل الشکّ فی الیقین،أی لا یعتدّ بالمشکوک فیها،بأن یضمّها إلی المحرزة،و یتمّ بها الصلاة من غیر تدارک.

«و لا یختلط أحدهما بالآخر»عطف تفسیر للنهی عن الإدخال.

«و لکنّه ینقض الشکّ بالیقین»أی الشکّ فی الرکعة الزائدة؛بأن لا یعتدّ بها، بل یأتی بالزیادة علی الإیقان.

«و یتمّ علی الیقین»أی یبنی علی المتیقّن فیها،و علی هذا لم یتعرّض لذکر فصل الرکعة و وصلها فی الفرعین،و هذا الاحتمال ممّا أبدأه المحدّث الکاشانی قدّس سرّه (1).

و منها:أنّ قوله«لا ینقض الیقین بالشکّ»کما أفاده المحقّق المحدّث المتقدّم، و لکن قوله:«لا یدخل الشکّ فی الیقین»،و قوله:«لا یخلط أحدهما بالآخر» یعنی بهما فصل الرکعتین أو الرکعة المضافة للاحتیاط،بأن یراد بهما عدم

ص:131


1- 1) الوافی 2:147،السطر 1،باب الشکّ فیما زاد علی الرکعتین.

إدخال المشکوک فیها فی المتیقّنة،و عدم خلط إحداهما بالاخری،فیکون المراد بالشکّ الیقین المشکوک فیها و المتیقّنة،أی أضاف الرکعتین إلی الرکعتین المحرزتین،و الرکعة إلی الثلاث المحرزة،لکن لا یدخل المشکوک فیها فی المتیقّنة، و لا یخلط إحداهما بالاخری بأن یأتی بالرکعة و الرکعتین منفصلة لا متّصلة؛ لئلاّ یتحقّق الاختلاط و إدخال المشکوک فیها فی المتیقّنة.

و لا یخفی أنّ هذا الاحتمال أظهر من الاحتمال الأوّل،حیث إنّ الظاهر من النهی عن الإدخال و الخلط أنّهما تحت اختیار المصلّی،فیمکنه الإدخال و الخلط و ترکهما،و الرکعة المشکوک فیها إمّا هی داخلة بحسب الواقع فی المتیقّنة أو لا،و لیس إدخالها فیها و خلطها بها باختیاره،بخلاف الرکعة التی یرید إضافتها إلیها،فإنّ له الإدخال و الخلط بإتیانها متّصلة،و عدمهما بإتیانها منفصلة.

کما أنّه علی هذا الاحتمال یکون ظهور قوله:«و لا یدخل الشکّ فی الیقین و لا یخلط أحدهما بالآخر»محکّما علی ظهور الصدر فی أنّ الرکعة أو الرکعتین لا بدّ أن یؤتی بها متّصلة،فکأنّه قال:«قام فأضاف إلیها اخری من غیر خلط الرکعة المضافة المشکوک فی کونها الرابعة أو الخامسة بالرکعات المتیقّنة»،و لا یکون هذا من قبیل تقیید الإطلاق کما أفاده المحقّق الخراسانی قدّس سرّه (1)و تبعه غیره (2)،بل من قبیل صرف الظهور البدوی.

و منها:ما ذکره الشیخ الأنصاری قدّس سرّه (3)فی جواب صاحب الوافیة بقوله:«إن کان المراد بقوله:«قام فأضاف إلیها اخری»القیام للرکعة الرابعة من دون

ص:132


1- 1) کفایة الاصول:450.
2- 2) فوائد الاصول 4:362 و 363.
3- 3) الرسائل 3:62 و 63.

تسلیم فی الرکعة المردّدة بین الثالثة و الرابعة حتّی یکون حاصل الجواب هو البناء علی الأقل،فهو مخالف للمذهب،و موافق لقول العامّة،و مخالف لظاهر الفقرة الاولی من قوله:«یرکع رکعتین بفاتحة الکتاب»،فإنّ ظاهرها-بقرینة تعیین الفاتحة-إرادة رکعتین منفصلتین،أعنی:صلاة الاحتیاط،فتعیّن أن یکون المراد به القیام-بعد تسلیم فی الرکعة المردّدة-إلی رکعة مستقلّة کما هو مذهب الإمامیّة.

فالمراد ب«الیقین»-کما فی«الیقین»الوارد فی الموثّقة الآتیة علی ما صرّح به السیّد المرتضی قدّس سرّه (1)،و استفید من قوله فی أخبار الاحتیاط:«إن کنت قد نقصت فکذا،و إن کنت قد أتممت فکذا» (2)-هو الیقین بالبراءة،فیکون المراد وجوب الاحتیاط و تحصیل الیقین بالبراءة،بالبناء علی الأکثر و فعل صلاة مستقلّة قابلة لتدارک ما یحتمل نقصه.

و قد ارید من«الیقین»و«الاحتیاط»فی غیر واحد من الأخبار هذا النحو من العمل،منها قوله:فی الموثّقة الآتیة:«إذا شککت فابن علی الیقین».

فهذه الأخبار الآمرة بالبناء علی الیقین و عدم نقضه،یراد منها البناء علی ما هو المتیقّن من العدد،و التسلیم علیه مع جبره بصلاة الاحتیاط،و لهذا ذکر فی غیر واحد من الأخبار ما یدلّ علی أنّ هذا العمل محرز للواقع،مثل قوله علیه السّلام:

«أ لا اعلّمک شیئا إذا صنعته،ثمّ ذکرت أنّک نقصت أو أتممت لم یکن علیک شیء» (3).

ص:133


1- 1) الانتصار:49.
2- 2) الوسائل 5:381،الباب 8 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة،الحدیث 3.
3- 3) المصدر المذکور.

و علی هذا المعنی لا ربط للروایة بالاستصحاب أصلا.

و منها:ما یستفاد من کلام صاحب الکفایة رحمه اللّه (1)و هو:أنّ الاستدلال بها علی الاستصحاب مبنیّ علی إرادة الیقین بعدم الإتیان بالرکعة الرابعة سابقا و الشکّ فی إتیانها،و قوله:«قام فأضاف إلیها اخری»مطلق لا یدلّ علی إتیان الرکعة المشکوکة متّصلة أو منفصلة،و لا مانع من تقییده بالروایات الواردة فی باب الشکّ من الاحتیاط بالبناء علی الأکثر و الإتیان بالمشکوک بعد التسلیم مفصولة،فدلالة الروایة علی الاستصحاب و موافقتها مع مذهب الخاصّة لا إشکال فیها.

و یرد علیه:أنّ معنی دلالة قوله:«لا ینقض الیقین بالشکّ»علی الاستصحاب هو عدم الإتیان بالرکعة المشکوکة فی صورة الشکّ،فلا بدّ من الإتیان بها متّصلة،و هو موافق لمذهب العامة،فکیف یمکن الجمع بین الروایة الصحیحة و الروایات الواردة فی الباب بالإطلاق و التقیید بعد منافاتهما من حیث الدلالة بالاتّصال و الانفصال؟

و منها:ما ذکره استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه بقوله:«و هو أن یراد من الیقین و الشکّ فی جمیع الجمل نفس حقیقتهما الجامعة بین الخصوصیّات و الأفراد کما هو ظاهرهما،و لا ینافی ذلک اختلاف حکمهما باختلاف الموارد.

فیقال:إنّ طبیعة الیقین لا تنقض بالشکّ،و لعدم نقضها به فیما نحن فیه مصداقان:

الأوّل:عدم نقض الیقین بالرکعات المحرزة و عدم إبطالها لأجل الشکّ فی الرکعة الزائدة.

ص:134


1- 1) کفایة الاصول 2:294.

و الثانی:عدم نقض الیقین بعدم الرکعة الرابعة بالشکّ فی إتیانها،و کلاهما داخلان تحت حقیقة عدم نقض الیقین بالشکّ.

و عدم إدخال حقیقة الشکّ فی الیقین،و عدم خلط أحدهما بالآخر له أیضا مصداقان:

أحدهما:عدم الاکتفاء بالرکعة المشکوک فیها من تدارک.

و ثانیهما:عدم إتیان الرکعة المضافة المشکوک فیها متّصلة بالرکعات المحرزة.

هذا إذا لم نقل بظهور النهی عن الإدخال و الخلط فی الفصل الاختیاری،و إلاّ یکون له مصداق واحد.

«و لکنّه ینقض الشکّ بالیقین»بالإتیان بالرکعة المتیقّنة،و عدم الاعتداد بالمشکوک فیها.

«و یتمّ علی الیقین»بإتیان الرکعة الیقینیّة،و عدم الاعتداد بالمشکوک فیها.

و«لا یعتدّ بالشکّ فی حال من الحالات»و عدم الاعتداد به فیما نحن فیه هو بالبناء علی عدم الرکعة المشکوک فیها،و الإتیان بالرکعة.

و علی هذا تکون الروایة مع تعرّضها للمذهب الحقّ-أی الإتیان بالرکعة منفصلة-متعرّضة لعدم إبطال الرکعات المحرزة،و استصحاب عدم الرکعة المشکوک فیها،و تکون علی هذا من الأدلّة العامة لحجّیّة الاستصحاب».

ثمّ ذکر قدّس سرّه مؤیّدات و مرجّحات لبیانه،و قال:«و هذا الاحتمال أرجح من سائر الاحتمالات؛أمّا أوّلا فلعدم التفکیک حینئذ بین الجمل؛لحمل الروایة علی بیان قواعد کلّیّة،هی عدم نقض الیقین بالشکّ،و عدم إدخال الشکّ فی الیقین و نقض الشکّ بالیقین،و عدم الاعتداد بالشکّ فی حال من الأحوال،

ص:135

و هی قواعد کلّیّة یفهم منها حکم المقام لانطباقها علیه.

و أمّا ثانیا فلحفظ ظهور اللام فی الجنس،و عدم حملها علی العهد،و حفظ ظهور الیقین بإرادة نفس الحقیقة،لا الخصوصیّات و الأفراد.

و أمّا ثالثا فلحفظ الظهور السیاقی؛فإنّ الظاهر أنّ قوله:«لا ینقض الیقین بالشکّ»فی جمیع الروایات یکون بمعنی واحد،هو عدم رفع الید عن الیقین بمجرّد الشکّ،و الاستصحاب أحد مصادیق هذه الکلّیّة،تأمّل.

نعم،لا یدخل الشکّ الساری فیها؛لأنّ الظاهر فعلیّة الشکّ و الیقین،کما فی الاستصحاب و فی الرکعات الغیر المنقوضة بالرکعة المشکوک فیها،و أمّا فی الشکّ الساری فلا یکون الیقین فعلیّا»هذا تمام کلامه قدّس سرّه.

و التحقیق:أنّ هذا البیان مع دقّته لا یخلو عن إشکال؛فإنّا ذکرنا أنّ قوله:

«لا تنقض الیقین بالشکّ»حکم من أحکام نفس الیقین و الشکّ بلا دخل للمتیقّن و قابلیّته للاستمرار و عدمه فی هذا الحکم،و معناه-علی ما ذکره المحدّث الکاشانی قدّس سرّه فی هذه الروایة-أن لا یبطل الرکعات المتیقّنة بالشکّ فی إتیان الرکعة الرابعة.

و لا یمکن استعمال کلمة«الیقین»فی الجملة الواحدة فی نفس الیقین بما هو یقین و فی المتیقّن-أی الرکعات المحرزة-و إن کان المراد من الیقین جنسه و طبیعته؛لعدم تحقّق قدر الجامع بین المصداقین المذکورین فی کلامه.

و منها:ما ذکره بعض الأعاظم،و هو أنّ معنی قوله:«لا ینقض الیقین بالشکّ»هو استصحاب عدم الإتیان بالرکعة الرابعة،و لازم ذلک الإتیان بها متّصلة،إلاّ أنّ المصلّی فی صورة الیقین بعدم الإتیان بها لا بدّ له من الإتیان بها متّصلة،و فی صورة الشکّ لا بدّ له من ملاحظة الروایات الواردة فی باب صلاة

ص:136

الاحتیاط الدالّة علی إتیانها منفصلة.

فیکون موضوع صلاة الاحتیاط مرکّب من الجزءین:

أحدهما:الشکّ فی إتیان الرکعة الرابعة.

و ثانیهما:عدم الإتیان بالرکعة الرابعة،و الأوّل محرز بالوجدان،و الثانی محرز بالاستصحاب،فبعد تحقّق کلا الجزءین یجب الإتیان بالرکعة المشکوکة منفصلة.

و یؤیّد هذا المعنی بظهور قوله:«لا یدخل الشکّ فی الیقین»،و قوله:

«لا یخلط أحدهما بالآخر»فی الانفصال،فلا إشکال فی دلالة الروایة علی الاستصحاب و علی مذهب الحقّ» (1).

و یرد علیه:أوّلا:-بعد ما قال فی جواب صاحب الکفایة قدّس سرّه فلیس التنافی بین الصحیحة علی تقدیر دلالتها علی الاستصحاب و بین الروایات الأخر بالإطلاق و التقیید حتّی یجمع بینهما بتقیید الصحیحة بها،بل التباین؛لدلالة الصحیحة علی وجوب الإتیان برکعة اخری متّصلة،و الروایات الأخر علی وجوب الإتیان بها منفصلة-أنّ کون عدم الإتیان بالرکعة الرابعة جزء الموضوع لانفصال الرکعة مع کونه تمام الموضوع لاتّصال الرکعة-کما هو الظاهر من الإشکال علی المحقّق الخراسانی قدّس سرّه-کیف یتصوّر؟و کیف یمکن الجمع بین کون شیء واحد جزء الموضوع لإتیان الرکعة منفصلة و تمام الموضوع لضدّه؟

و ثانیا:أنّ جعل الشکّ جزء الموضوع لصلاة الاحتیاط و استصحاب عدم الإتیان جزء آخر لیس بصحیح؛فإنّ الاستصحاب حکم مترتّب علی الشکّ

ص:137


1- 1) مصباح الاصول 3:64.

و متأخّر عنه،لا أنّه واقع فی عرضه،و معلوم أنّ الحکم و الموضوع متغایران من حیث الرتبة و لا یمکن جعلهما فی رتبة واحدة.

و التحقیق فی الروایة-بعد ملاحظة المعانی و الاحتمالات-:أنّه لا تقیّة فیها أصلا،و الشاهد علیه:أوّلا:بیان الإمام علیه السّلام-بعد الجواب عن سؤال زرارة- فرعا آخر من قبل نفسه بقوله:«و إذا لم یدر فی ثلاث أو فی أربع و قد أحرز الثلاث،قام فأضاف إلیها اخری»،و هذا لا یناسب مقام التّقیة.

و ثانیا:أنّ قوله:«قام فأضاف إلیها اخری»لیس بمعنی القیام من القعود؛إذ یمکن أن یتحقّق الشکّ بین الثلاث و الأربع فی حال القیام،بل بمعنی الابتداء فی العمل الجدید بعد الفراغ عن العمل السابق،فهذا شاهد علی الإتیان بالرکعة منفصلة.

ثمّ إنّ قوله:«و لا ینقض الیقین بالشکّ،و لا یدخل الشکّ فی الیقین،و لا یخلط أحدهما بالآخر»تعبیرات مختلفة بالنسبة إلی الاستصحاب،و توهّم ارتباط قوله:«لا یدخل»و قوله«لا یخلط»بغیر الاستصحاب لا یناسب قوله:«و لکنّه ینقض الشکّ بالیقین»؛لبداهة ارتباطه بالاستصحاب،و لا معنی لذکر الجملتین الغیر المرتبطین بین ما یرتبط به.

فالحاصل:أنّ هذه الجملات و ما فی قوله:«و یتمّ علی الیقین فیبنی علیه،و لا یعتدّ بالشکّ فی حال من الحالات»مربوط بالاستصحاب بلا اختلاف فیها،فلا شبهة فی دلالة الروایة علی الاستصحاب.

و منها:موثّقة إسحاق بن عمّار عن أبی الحسن علیه السّلام قال:«إذا شککت فابن علی الیقین».قلت:هذا أصل؟

قال:«نعم» (1).

ص:138


1- 1) وسائل الشیعة 5:318،الباب 8 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة،الحدیث 2.

و دلالتها علی الاستصحاب ظاهرة؛لظهورها فی فعلیّة الشکّ و الیقین مع وحدة المتعلّق،فلا تنطبق إلاّ علی الاستصحاب؛إذ المراد منها البناء علی المتیقّن و الإتیان بالمشکوک فیها منفصلة،لأجل الأخبار الخاصّة،و لا اختصاص لها بالشکّ فی عدد الرکعات،بل قاعدة کلّیّة فی باب الصلاة و غیرها ممّا شکّ فیه،فإنّ الاختصاص یوجب الالتزام إمّا بحملها علی التقیّة،و إمّا بدلالتها علی عدم الإتیان بالرکعة المشکوکة و إتیانها منفصلة بالأدلّة الخاصّة،و الأوّل خلاف الظاهر،و الثانی ممّا لا ینافی الاستصحاب.

و لیس المراد من الیقین هو الیقین بالبراءة بالبناء علی الأکثر،و الإتیان بالمشکوک فیها منفصلة علی ما ذکره الشیخ قدّس سرّه؛إذ مع کونه خلاف الظاهر تحقّق فی نفس الموثّقة ظهور فی أنّ المراد من الیقین هو الیقین الموجود،لا تحصیل الیقین فیما بعد؛فإنّ قوله:«فابن علی الیقین»أمر بالبناء علی الیقین،لا أمر بتحصیل الیقین.

فدلالتها علی الاستصحاب ممّا لا إشکال فیه.

و منها:ما عن الخصال بسنده عن محمّد بن مسلم عن أبی عبد اللّه علیه السّلام قال:

«قال أمیر المؤمنین علیه السّلام:من کان علی یقین فشکّ فلیمض علی یقینه؛فإنّ الشکّ لا ینقض الیقین» (1).

و فی نسخة اخری:«من کان علی یقین فأصابه شکّ فلیمض علی یقینه،فإنّ الیقین لا یدفع بالشکّ» (2).

و استشکل فی دلالتها علی حجّیّة الاستصحاب بأنّ صریحها سبق زمان

ص:139


1- 1) الخصال:619،الوسائل 1:175،الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء،الحدیث 6.
2- 2) الإرشاد للمفید:159،مستدرک الوسائل 1:228،الباب 1 من أبواب الوضوء،الحدیث 4.

الیقین علی زمان الشکّ،فهی دلیل علی قاعدة الیقین؛لاعتبار تقدّم الیقین علی الشکّ فیها،کأنّه قال:«من کان علی یقین فتبدّل یقینه إلی الشکّ»بخلاف الاستصحاب،فإنّ المعتبر فیه کون المتیقّن سابقا علی المشکوک فیه،أمّا الیقین و الشکّ فقد یکونان متقارنین فی الحدوث،کحصول الیقین عند الغروب بطهارة الثوب عند الزوال،و الشکّ فی بقائها الآن،بل قد یکون الشکّ سابقا علی الیقین کالشکّ فی نجاسة الثوب عند الغروب بدون الالتفات إلی نجاسته و طهارته عند الزوال،و بعد مضی زمان یحصل له الیقین بأنّه کان نجسا عند الزوال،فلا ترتبط الروایة بالاستصحاب.

و أجاب عنه صاحب الکفایة بما حاصله:أنّ الیقین طریق إلی المتیقّن، و المتداول فی التعبیر عن سبق المتیقّن علی المشکوک فیه هو التعبیر بسبق الیقین علی الشکّ؛لما بین الیقین و المتیقّن من نحو من الاتّحاد،فالمراد هو سبق المتیقّن علی المشکوک فیه (1).

و لکنّه لیس بتامّ؛إذ قلنا سابقا:إنّ قوله:«لا ینقض الیقین بالشکّ»فی صحیحة زرارة نظیر قولنا:«الیقین حجّة»،کما أنّ الحجّیّة وصف عارض علی نفس الیقین،لا علی المتیقّن کالطهارة و العدالة و نحو ذلک،کذلک عدم جواز النقض حکم عارض علی نفس الیقین و الشکّ،لا علی المتیقّن.و کذا فی هذه الروایة لا دلیل علی کون الیقین و الشکّ بمعنی المتیقّن و المشکوک و إن کان بینهما نحو من الاتّحاد،و الیقین هو الیقین الطریقی،و لکن لا مناسبة لأن یکون التقدّم و التأخّر الزمانی بالنسبة إلی المتیقّن و المشکوک.

و التحقیق فی الجواب أنّه:سلمنا ظهور قوله:«من کان علی یقین فشکّ»فی

ص:140


1- 1) کفایة الاصول 2:296.

تقدّم زمان الیقین علی الشکّ،و هذا یتحقّق فی قاعدة الیقین دون الاستصحاب، و لکنّه مذیّل بقوله:«فلیمض علی یقینه»،و معلّل بقوله:«فإنّ الشکّ لا ینقض الیقین»،و الحکم یدور مدار التعلیل،و الظاهر منه فعلیّة الیقین و الشکّ فی آن واحد،فکأنّه قال:«لا ینقض بالشکّ الفعلی الیقین الفعلی»،و هذا الکلام ظاهر فی الاستصحاب لا الشکّ الساری،و ظهور التعلیل مقدّم علی ظهور صدر الروایة،فلا مانع من دلالتها علی الاستصحاب.

و لکنّ الروایة ضعیفة غیر قابلة للاستدلال بها؛لکون قاسم بن یحیی فی سندها،و لم یوثّقه الرجالیّون،بل ضعّفه العلاّمة.

و منها:مکاتبة علیّ بن محمّد القاسانی،قال:کتبت إلیه و أنا بالمدینة عن الیوم الذی یشکّ فیه من رمضان،هل یصام أم لا؟فکتب:«الیقین لا یدخله الشکّ،صم للرؤیة و أفطر للرؤیة» (1).

و یرد علیها:أوّلا:کونها مضمرة مع أنّ المکاتبة بلحاظ بقائها بعنوان السند أقرب إلی التقیّة و شبهها بخلاف القول؛فإنّه یوجد و ینعدم.

و ثانیا:أنّ الراوی علیّ بن محمّد القاسانی من أصحاب الإمام الهادی علیه السّلام بلحاظ روایة محمّد بن حسن الصفّار عنه،و ضعّفه أعاظم الرجالیّین،لا علیّ بن محمّد بن شیرة القاسانی الموثّق.

قال الشیخ الأنصاری قدّس سرّه:«و الإنصاف أنّ هذه الروایة أظهر ما فی هذا الباب من أخبار الاستصحاب،إلاّ أن سندها غیر سلیم» (2).

و أنکر المحقّق الخراسانی قدّس سرّه دلالتها علیه،فضلا عن أظهریّتها (3).

ص:141


1- 1) الوسائل 7:184،الباب 3 من أبواب أحکام شهر رمضان،الحدیث 13.
2- 2) فرائد الاصول 3:71.
3- 3) کفایة الاصول 2:296.

و یحتمل أن یکون مقصود السائل من یوم الشکّ مطلق یوم الشکّ،سواء کان من آخر شعبان أو آخر رمضان،و یحتمل أن یکون المراد یوم الشکّ بین شعبان و رمضان،أو بین رمضان و شوّال،و لکنّ الظاهر من قول السائل:«هل یصام أم لا؟»هو یوم الشکّ بین شعبان و رمضان،و لو کان المراد یوم الشکّ بین رمضان و شوّال فلا بدّ من السؤال بأنّه:هل الصیام فیه واجب أم حرام؟

و استدلّ الشیخ قدّس سرّه بأنّ تفریع تحدید کلّ من الصوم و الإفطار-برؤیة هلالی رمضان و شوّال-علی قوله:«الیقین لا یدخله الشکّ»لا یستقیم،إلاّ بإرادة عدم جعل الیقین السابق مدخولا بالشکّ،أی مزاحما به،فدلالتها علی الاستصحاب أظهر من روایات الباب.

و قال المحقّق الخراسانی قدّس سرّه:إنّ مراجعة الأخبار الواردة فی یوم الشکّ یشرف القطع بأنّ المراد بالیقین هو الیقین بدخول شهر رمضان،و أنّه لا بدّ فی وجوب الصوم و وجوب الإفطار من الیقین بدخول شهر رمضان و خروجه،و أین هذا من الاستصحاب؟

فراجع ما عقد فی الوسائل (1)لذلک من الباب تجده شاهدا علیه.

و قال المحقّق النائینی رحمه اللّه تأییدا لصاحب الکفایة قدّس سرّه:أنّه یمکن أن یکون المراد من الیقین هو الیقین بدخول رمضان،فیکون المعنی:إنّ الیقین بدخول رمضان الذی یعتبر فی صحّة الصوم لا یدخله الشکّ فی دخوله،و معناه:أنّه لا یجوز صوم یوم الشکّ من رمضان،و قد تواترت الأخبار علی اعتبار الیقین بدخول رمضان فی صحّة الصوم،و علی هذا تکون الروایة أجنبیّة عن باب الاستصحاب.

و التحقیق:أن مراجعة الأخبار الواردة فی الباب یوجب القطع بموضوعیّة

ص:142


1- 1) الوسائل 7:182،الباب 3 من أبواب أحکام شهر رمضان.

الیقین بالنسبة إلی دخول شهر رمضان،لا بالنسبة إلی خروجه،و یستکشف من ذلک أنّ تفریع قوله:«صم للرؤیة و أفطر للرؤیة»فی سیاق واحد علی قوله:

«الیقین لا یدخله الشکّ»لا ینطبق إلاّ علی الاستصحاب،و أنّه لا ترتبط هذه الروایة بسائر الروایات.

و لا منافاة بین موضوعیّة الیقین بدخول شهر رمضان فی سائر الروایات و استفادة استصحاب عدم دخول شهر رمضان بعنوان القاعدة الکلّیّة من هذه الروایة،و هکذا بالنسبة إلی عدم خروجه.

و لا فرق بین قوله:«الیقین لا ینقض بالشکّ»و قوله:«الیقین لا یدخله الشکّ»،کما قلنا فی الصحیحة الثالثة أنّ قوله:«لا ینقض الیقین بالشکّ»و قوله:

«لا یدخل الشکّ فی الیقین»،و قوله«لا یخلط أحدهما بالآخر»عبارات شتّی بمعنی واحد.

فهذه الروایة مع ضعف سندها ظاهرة فی الاستصحاب،لکنّ بعض الروایات المتقدّمة مثل صحیحة زرارة الاولی أظهر منها.

تذییل

حول الاستدلال بأدلّة قاعدتی الحلّیّة و الطهارة علی الاستصحاب و جوابه:

ربما یستدلّ علی اعتبار الاستصحاب بقوله:«کلّ شیء نظیف حتّی تعلم أنّه قذر،فإذا علمت فقد قذر،و ما لم تعلم فلیس علیک» (1)،و قوله:«الماء کلّه طاهر حتّی یعلم أنّه قذر» (2)،و قوله:«کلّ شیء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه

ص:143


1- 1) الوسائل 2:1054،الباب 37 من أبواب النجاسات،الحدیث 4.
2- 2) الوسائل 1:100،الباب 1 من أبواب الماء المطلق،الحدیث 5.

فتدعه من قبل نفسک» (1).

و فی معنی الروایات احتمالات:

الأوّل:ما یستفاد من کلام المشهور،و هو أنّ الغایة فیها-أی«حتّی تعلم»- قید للموضوع-أی قوله:«کلّ شیء»و قوله:«الماء»-و الحکم فیها یترتّب علی الموضوع المقیّد،فالموضوع فی الحقیقة لیس الأشیاء بعناوینها الواقعیّة،بل بوصف کونها غیر معلومة الطهارة و الحرمة،فالمستفاد منها:أنّ کلّ شیء قبل أن یکون معلوم الحرمة فهو حلال،و کلّ شیء قبل أن یکون معلوم النجاسة فهو طاهر،و الغایة تهدینا إلی هذا المعنی،فلا ربط للروایات بالاستصحاب و لا تکون مبیّنة للأحکام الواقعیّة،فإنّها فی مقام جعل قاعدتی الطهارة و الحلّیّة فی مورد الشکّ فیهما.

الاحتمال الثانی:ما یستفاد من کلام المحقّق الخراسانی قدّس سرّه فقد ذهب فی الکفایة إلی دلالة صدر الروایات علی الحکم الواقعی،و دلالة غایتها علی الاستصحاب،و فی«تعلیقته»إلی دلالة الصدر علی الحکم الواقعی و قاعدة الطهارة و الحلّیّة،و الغایة علی الاستصحاب.

فقال فی بیان الأوّل ما حاصله:أنّ الصدر ظاهر فی بیان حکم الأشیاء بعناوینها الأوّلیّة،لا بما هی مشکوکة الحکم،و الغایة تدلّ علی استمرار ما حکم علی الموضوع واقعا من الطهارة و الحلّیّة ظاهرا،ما لم یعلم بطروّ ضدّه أو نقیضه.و معناهما أنّ کلّ شیء محکوم بالطهارة و الحلّیّة الواقعیّتین،و هما مستمرّان بالاستمرار الظاهری إلی زمان العلم بحصول النجاسة و الحرمة، فالغایة قید لقوله:«طاهر»و قوله:«حلال»،و یستفاد منها حکمان:الطهارة

ص:144


1- 1) الوسائل 12:60،الباب 4 من أبواب ما یکتسب به،الحدیث 4.

و الحلّیّة الواقعیّتان و استمرار الطهارة و الحلّیّة الظاهریّتین،و هذا المعنی ینطبق علی الاستصحاب (1).

و فی الثانی:أنّ الصدر بعمومه یدلّ علی الحکم الواقعی و بإطلاقه علی المشکوک،بل یمکن أن یقال:بعمومه یدلّ علی الحکم الواقعی و علی المشکوک فیه؛فإنّ بعض الشکوک اللازمة للموضوع داخلة فی العموم،و نحکم فی البقیة بعدم القول بالفصل،و الغایة تدلّ علی الاستصحاب کما ذکر (2).

الاحتمال الثالث:ما یستفاد من کلام صاحب الفصول (3)من عدم تعرّض الروایات للأحکام الواقعیّة،و دلالتها علی الأحکام الظاهریّة من قاعدتی الطهارة و الحلّیّة و الاستصحاب.

الاحتمال الرابع:أن یقال بدلالتها علی الاستصحاب فقط فی مقابل المشهور.هذا خلاصة الأقوال و الاحتمالات فی الروایات،و المهمّ منها ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه.

و أشکل علیه الأعاظم منهم استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه و قال (4):«و فیما أفاده نظر:أمّا أوّلا فلأنّ الطهارة و الحلّیّة الواقعیّتین لیستا من الأحکام المجعولة الشرعیّة؛للزوم إمکان کون شیء بحسب الواقع لا طاهرا و لا نجسا،و لا حلالا و لا حراما؛لأنّ النجاسة و الحرمة مجعولتان بلا إشکال و کلام،فلو فرض جعل النجاسة و الحرمة لأشیاء خاصّة،و جعل الطهارة و الحلّیّة لأشیاء اخری خاصّة یلزم أن تکون الأشیاء غیر المتعلّقة للجعلین لا طاهرة

ص:145


1- 1) کفایة الاصول 2:298.
2- 2) انظر:حاشیة الآخوند علی الرسائل:185،السطر 25.
3- 3) الفصول الغرویة:374.
4- 4) الاستصحاب:61.

و لا نجسة،و لا حلالا و لا حراما،و هذا واضح البطلان فی ارتکاز المتشرّعة.

مضافا إلی أنّ الأعیان الخارجیّة علی قسمین:

الأوّل:ما یستقذره العرف.و الثانی:ما لا یستقذره،و إنّما یستقذر الثانی بملاقاته للأوّل و تلوّثه به،و التطهیر عرفا عبارة عن إزالة التلوّث بالغسل، و إرجاع الشیء إلی حالته الأصلیّة غیر المستقذرة،لإیجاد شیء زائد علی ذاته، بل یکون طاهرا،و الظاهر أنّ نظر الشرع کالعرف فی ذلک،إلاّ فی إلحاق بعض الامور غیر المستقذرة عرفا بالنجاسات،و إخراج بعض المستقذرات عنها.

و کذا الحلّیّة لم تکن مجعولة،فإنّ الشیء إذا لم یشتمل علی المفسدة الأکیدة یکون حلالا،و إن لم یشتمل علی مصلحة فلا تکون الطهارة و الحلّیّة من المجعولات الواقعیّة.نعم،الطهارة و الحلّیّة الظاهریّتان مجعولتان.

فحینئذ نقول:إنّ قوله:«کلّ شیء حلال»أو«طاهر»لو حمل علی الواقعیّتین منهما یکون إخبارا عن ذات الأشیاء،لا إنشاء الطهارة و الحلّیّة،فالجمع بین القاعدة و الحکم الواقعی یلزم منه الجمع بین الإخبار و الإنشاء فی جملة واحدة،و هو غیر ممکن،هذا أوّلا».

و التحقیق:أنّ ما ذکره-من عدم قابلیّة الطهارة الواقعیّة و الحلّیّة الواقعیّة للجعل الشرعی؛للزوم أن تکون بعض الأشیاء لا طاهرة و لا نجسة،لا حلالا و لا حراما،و هذا واضح البطلان فی ارتکاز المتشرّعة-لیس بتامّ؛إذ المفروض جعل الشارع القاعدة الکلّیّة بلفظ«کلّ»المضاف إلی لفظ«شیء»بقوله:«کلّ شیء حلال»،و بقوله:«کلّ شیء طاهر»،فإن قام الدلیل الشرعی علی نجاسة شیء أو حرمته فهو خارج عن عموم القاعدة بعنوان التخصیص،و إن لم یقم دلیل علیهما فهو باق تحت عموم قوله:«کلّ شیء طاهر و کلّ شیء حلال»،و فی

ص:146

الموارد المشکوکة نرجع إلی عموم القاعدة نظیر ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه فی مقام الجمع بین العامّ و الخاصّ بالفرق بین الإرادة الجدّیّة و الإرادة الاستعمالیّة، فما ذکره قدّس سرّه لیس بوارد علی کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه.

و الإشکال الثانی من استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه-علی ما ذکره فی الحاشیة من دلالة الصدر علی الحکم الواقعی و الظاهری،و الغایة علی الاستصحاب-قوله:

«و أمّا ثانیا فلأنّ معنی جعل الطهارة و الحلّیّة الظاهریّتین هو الحکم بالبناء العملی علیهما،حتّی یعلم خلافهما،و معنی جعل الواقعیّتین منهما هو إنشاء ذاتهما،لا البناء علیهما،و الجمع بین هذین الجعلین ممّا لا یمکن».

و الحقّ أنّ هذا الإشکال وارد و غیر قابل للردّ.

و الإشکال الثالث ما ذکره استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه و المحقّق النائینی رحمه اللّه (1)معا، و هو:أنّ الحکم الظاهری متأخّر عن الحکم الواقعی بمرتبتین؛لتأخّره عن موضوعه-أی المشکوک الطهارة و النجاسة و المشکوک الحرمة و الحلّیّة- و تأخّر موضوعه عن الحکم الواقعی،و لا یمکن جمعهما فی اللحاظ و الاستعمال الواحد.

و الإشکال الرابع ما ذکره استاذنا السیّد بقوله:

«و أمّا رابعا فلأنّ الحکم فی قاعدة الطهارة و الحلّیّة یکون للمشکوک فیه، فلا محالة تکون غایتهما العلم بالقذارة و الحرمة،فجعل الغایة للحکم المغیّا بالغایة ذاتا لا یمکن.

اللّهمّ إلاّ أن یقال:إنّ الغایة إنّما تکون للطهارة و الحلّیّة الواقعیّتین،لأجل القرینة العقلیّة،و هی عدم إمکان جعل الغایة للحکم الظاهری،فیکون المعنی:

ص:147


1- 1) فوائد الاصول 4:368.

أنّ الطهارة و الحلّیّة الواقعیّتین مستمرّتان إلی أن یعلم خلافهما،لکن جعل الغایة للطهارة و الحلّیّة الواقعیّتین لازمه استمرار الواقعیّتین منهما فی زمن الشکّ،لا الظاهریّتین و یرجع حینئذ إلی تخصیص أدلّة النجاسات و المحرّمات الواقعیّة،فتکون النجاسات و المحرّمات فی صورة الشکّ فیهما طاهرة و حلالا واقعا،و هو کما تری باطل لو لم یکن ممتنعا».

ثمّ قال:«فتحصّل ممّا ذکرنا:أنّ الجمع بین الحکم الواقعی و القاعدة و الاستصحاب ممّا لا یمکن،فلا بدّ من إرادة واحد منها،و معلوم أنّ الروایات ظاهرة فی قاعدة الحلّ و الطهارة،بل مع فرض إمکان الجمع بینها أو بین الاثنین منها یکون ظهورها فی القاعدتین محکّما،و لیس کلّ ما یمکن یراد» (1).

و الإنصاف أنّ بین صدر کلامه و ذیله نوع من التهافت،فإنّ ظاهر کلامه فی الصدر عدم دلالة الروایات علی قاعدة الطهارة و الحلّیّة؛لعدم إمکان جعل الغایة للحکم المغیّا بها ذاتا،و صریح قوله فی الذیل بأنّ الروایات ظاهرة فی قاعدة الحلّ و الطهارة،بل مع فرض إمکان الجمع بینها أو بین الاثنین منها یکون الظهور فی القاعدتین محکما.

مع أنّ الغایة تهدینا إلی أنّ المراد من الطهارة هنا هی الطهارة الظاهریّة، و المراد من الحلّیّة هی الحلّیّة الظاهریّة؛لعدم إمکان أخذ العلم غایة فی الأحکام الواقعیّة کما التزم به المشهور.

و الإشکال الخامس:ما یستفاد من کلام المحقّق النائینی رحمه اللّه (2)و هو:أنّه لا طریق لدلالة قوله:«کلّ شیء طاهر»علی الحکم الواقعی و أخذ قوله:«حتّی

ص:148


1- 1) الاستصحاب:63.
2- 2) أجود التقریرات 4:59-62.

تعلم»غایة له إلاّ بملاحظة العلم فیها بعنوان الطریقیّة لا الموضوعیّة،لعدم دخل العلم و الجهل فی الحکم الواقعی.

و أمّا دلالته علی الحکم الظاهری و أخذ قوله:«حتّی تعلم»غایة له فلا بدّ من ملاحظة العلم فیها قیدا للموضوع أو للحکم،و لا یمکن ملاحظة العلم فی الجملة الواحدة و فی الاستعمال الواحد بعنوان الطریقیّة و الموضوعیّة معا.

و الإشکال السادس:أیضا ما یستفاد من کلامه قدّس سرّه و هو:أنّ إثبات حکم لموضوع علی نحو العموم مثل:«أکرم کلّ إنسان»یشمل جمیع الخصوصیّات الصنفیّة و الفردیّة المتحقّقة للموضوع بما أنّه صنف منه و فرد منه،فیجب إکرام زید و عمرو،و العالم و الجاهل،و الأسود و الأبیض بما أنّهم إنسان،لا بما أنّه زید أو عالم،فالملاک للحکم هو انطباق عنوان العامّ فقط بلا دخل لأیّ عنوان آخر.

و نتیجة هذه المقدّمة فیما نحن فیه أنّ المولی إذا قال:«کلّ شیء طاهر» و رتّب الطهارة علی عنوان شیء بما أنّه شیء،بدون وصف زائد،و أراد منها الطهارة الواقعیّة،فلا إشکال فی شموله لشیء شکّ فی نجاسته و طهارته بعنوان أنّه صنف من الشیء،و لا محالة تترتّب علیه الطهارة الظاهریّة،إلاّ أنّ المشکوکیّة دخیلة فی موضوع الطهارة الظاهریّة بعنوان القیدیّة،فلا یمکن شمول قوله:«کلّ شیء طاهر»للطهارة الظاهریّة،فإنّ عمومه لا یشمل ما هو زائد علی عنوان«شیء».

و الإشکال السابع:ما یستفاد أیضا من کلامه قدّس سرّه و هو:أنّ عموم قوله:«کلّ شیء طاهر»مخصّص بالمخصّصات المنفصلة،مثل:«البول نجس،و الغائط نجس،و الکلب نجس،و الکافر نجس»،و استفادة الطهارة الظاهریّة فیما هو

ص:149

مشکوک النجاسة و الطهارة من عمومه تمسّک بالعامّ فی شبهة مصداقیّة المخصّص،و عدم جوازه ممّا لا شبهة فیه (1).

هذا تمام کلام المحقّق النائینی رحمه اللّه و إن کان بحسب الظاهر بیانا جیّدا،و لکن یرد علیه إشکالان:

الأوّل:أنّه سلّمنا عدم صحّة استفادة الطهارة الظاهریّة من عموم قوله:

«کلّ شیء طاهر»و لکن ذکرنا فیما استفدناه من کلام المحقّق الخراسانی قدّس سرّه فی «الحاشیة»أن قوله:«کلّ شیء طاهر»بعمومه یشمل کلّ الأشیاء بعنوان أنّها شیء،و بإطلاقه یشمل جمیع حالات الشیء،و منها حالة الشکّ فی کون الشیء طاهرا أو نجسا،و استفادة الطهارة الظاهریّة منه بهذا الطریق لا إشکال فیها.

الثانی:أنّ من البدیهی عدم اختصاص قاعدتی الطهارة و الحلّیّة فی الشبهات الموضوعیّة حتّی نقول بعدم جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصّص،بل جریانهما فی الشبهات الحکمیّة ممّا لا شبهة فیه،و جریان أصالة العموم فی موارد الشکّ فی التخصیص لا یوجب الإشکال کالشکّ فی حلّیّة شرب التتن و حرمته و أمثال ذلک.

هذا کلّه بالنسبة إلی ما ذکره المحقّق الخراسانی قدّس سرّه فی«الحاشیة».

و أمّا ما ذکره فی الکفایة من دلالة قوله:«کلّ شیء طاهر»علی الطهارة الواقعیّة،و قوله:«حتّی تعلم أنّه قذر»علی الطهارة الظاهریّة و الاستصحاب فهو خلاف الظاهر،فإنّ التفکیک بین صدر الجملة الواحدة و ذیلها و استفادة الحکمین منها:أحدهما أصل الطهارة،و الآخر استمرار الطهارة،و نظر الأوّل إلی الحکم الواقعی و الثانی إلی الحکم الظاهری الذی یعبّر عنه بالاستصحاب،

ص:150


1- 1) أجود التقریرات 4:62.

لا دلیل علیه.

فلا دلالة للروایات إلاّ علی قاعدتی الطهارة و الحلّیّة کما استفاده المشهور منها،و لا دخل لها بالاستصحاب،بل هی أجنبیّة عنه.

و الحاصل:أنّه لا شبهة فی حجّیّة الاستصحاب کما استفدناه من الروایات الکثیرة الواردة فی الباب،و أمّا التفصیل بین الأحکام الشرعیّة المستفادة من طریق حکم العقل و الأحکام الشرعیّة المستفادة من طریق الکتاب و السنة و الإجماع فهو غیر صحیح؛لعدم الفرق فی طریق استکشاف الحکم الشرعی، کما ذکرناه ضمن المباحث الماضیّة.

و هکذا التفصیل بین الشکّ فی المقتضی و الشکّ فی الرافع کما ذکرناه فی ذیل البحث عن صحیحة زرارة الاولی.

ص:151

ص:152

التفصیل بین الأحکام التکلیفیّة و الوضعیّة و تحقیق ماهیّتها

اشارة

الحکم الشرعی إمّا تکلیفی و إمّا وضعی،و الحکم التکلیفی:ما هو مجعول من قبل الشارع بعنوان وظیفة المکلّف،و هو منحصر بالأحکام الخمسة التکلیفیّة و إن لم یتحقّق فی بعضها کلفة و مشقّة کالإباحة بالمعنی الأخصّ، و لکن یعبّر عن جمیعها بالأحکام التکلیفیّة من باب التغلیب،و معلوم أنّ الوجوب-مثلا-لا یکون بمعنی علم المولی بالمصلحة المتحقّقة فی الواجب،بل الوجوب أمر مجعول من الشارع بهیئة«افعل»أو الجملة الخبریّة،و هکذا سائر الأحکام التکلیفیّة.

و أمّا الحکم الوضعی:فهو کلّ ما کان مجعولا و مقرّرا من ناحیة الشارع و لم یکن من الأحکام الخمسة التکلیفیّة،و لا دلیل علی انحصاره فی الثلاثة-أی السببیّة و المانعیّة و الشرطیّة-أو الخمسة-أی الثلاثة المذکورة مع العلّیّة و العلامیّة-أو التسعة-أی الخمسة المذکورة مع الصحّة و الفساد،و العزیمة و الرخصة-بل یشمل مصادیق کثیرة کالزوجیّة و الملکیّة و الحرّیّة و الرقّیّة و أشباه ذلک.

و أمّا المجعولات المخترعة الشرعیّة-کالصلاة و الصوم و الحجّ و هکذا الرسالة و الإمامة و القضاوة-فقد اختلف سیّدنا الإمام قدّس سرّه و المحقّق النائینی رحمه اللّه فی أنّها

ص:153

سنخ من الأحکام التکلیفیّة أو الوضعیّة أو قسم ثالث غیرهما.

و قال المحقّق النائینی رحمه اللّه:و قد شنّع علی القائل بذلک بأنّ الصوم و الصلاة و الحجّ لیست من مقولة الحکم،فکیف تکون من الأحکام الوضعیّة؟و لکن یمکن توجیهه بأنّ عدّ الماهیّات المخترعة الشرعیّة من الأحکام الوضعیّة إنّما هو باعتبار کونها مرکّبة من الأجزاء و الشرائط و الموانع،و حیث کانت الجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة من الأحکام الوضعیّة فیصحّ عدّ جملة المرکّب من الأحکام الوضعیّة،و لیس مراد القائل بأنّ الماهیّات المخترعة من الأحکام الوضعیّة کون الصلاة-مثلا-بما هی هی حکما وضعیّا،فإنّ ذلک واضح الفساد لا یرضی المنصف أن ینسبه إلی من کان من أهل العلم (1).

و أجاب عنه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه:بأنّ الماهیّة المخترعة کالصلاة قبل تعلّق الأمر بها و إن لم تکن من الأحکام الوضعیّة،لکنّها لم تکن قبله من الماهیّات المخترعة أیضا؛لعدم کونها حینئذ من المقرّرات الشرعیّة،و إنّما تصیر مخترعات شرعیّة بعد ما قرّرها الشارع فی شریعته بجعلها متعلّقة للأوامر، و حینئذ تصیر کالجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة للمأمور به من الأحکام الوضعیّة.

و لا فرق بین الجزئیّة و الکلّیّة فی کونهما أمرین منتزعین عن تعلّق الأمر بالطبیعة،فیکون نحو تقرّرهما فی الشریعة بکونهما منتزعین من الأوامر المتعلّقة بالطبائع المرکّبة،فمن جعل الجزئیّة للمأمور به من الأحکام الوضعیّة مع اعترافه بکونها انتزاعیّة،فلیجعل الکلّیّة أیضا کذلک.

و علی هذا فلا مانع من جعل الماهیّات الاختراعیّة من الأحکام الوضعیّة، أی من المقرّرات الشرعیّة و الوضعیّات الإلهیّة،و لکن إطلاق الحکم علیها

ص:154


1- 1) فوائد الاصول 4:385.

کإطلاقه علی کثیر من الوضعیّات یحتاج إلی تأویل (1).

و قال المحقّق النائینی رحمه اللّه أیضا:«نعم،عدّ الولایة و القضاوة من الأحکام الوضعیّة لا یخلو عن تعسّف خصوصا الولایة و القضاوة الخاصّة التی کان یتفضّل بهما الإمام علیه السّلام لبعض الصحابة،کولایة مالک الأشتر،فإنّ الولایة و القضاوة الخاصّة حکمها حکم النیابة و الوکالة لا ینبغی عدّها من الأحکام الوضعیّة،و إلاّ فبناء علی هذا التعمیم کان ینبغی عدّ الإمامة و النبوّة أیضا من الأحکام الوضعیّة،و هو کما تری (2).

و قال الإمام قدّس سرّه فی مقام الجواب عنه:«فمثل الرسالة و الخلافة و الإمامة و الحکومة و الإمارة و القضاء من الأحکام الوضعیّة،قال تعالی: وَ کُلاًّ جَعَلْنا نَبِیًّا (3)،و قال تعالی: إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً (4)،و قال تعالی: إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ (5)،فقد نصب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله أمیر المؤمنین علیه السّلام إماما و أمیرا علی الناس یوم الغدیر و جعل القضاة من ناحیة السلطان-کجعل الأمیر و الحاکم-معروف و معلوم.

و بالجملة،لا إشکال فی کون النبوّة و الإمامة و الخلافة من المناصب الإلهیّة التی جعلها اللّه و قرّرها،فهی من الأحکام الوضعیّة أو من الوضعیّات و إن لم یصدق علیها الأحکام.

فاستیحاش بعض أعاظم العصر رحمه اللّه من کون أمثال ذلک من الأحکام

ص:155


1- 1) الاستصحاب:67.
2- 2) فوائد الاصول 4:385.
3- 3) مریم:49.
4- 4) البقرة:30.
5- 5) البقرة:124.

الوضعیّة فی غیر محلّه» (1).

و التحقیق:أنّ کلام المحقّق النائینی رحمه اللّه بالنسبة إلی الولایة التی ترجع إلی النیابة و الوکالة قریب إلی الذهن،و أمّا بالنسبة إلی القضاوة و سائر الموارد فالحقّ مع استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه.

کیفیّة جعل الأحکام الوضعیّة و احتمالاتها

و اختلف العلماء فی أنّ جعلها استقلالی کالأحکام التکلیفیّة،أو أنّها مجعولة لا بجعل استقلالی،بل بتبع التکلیف و تنتزع منه،کما یستفاد من کلام الشیخ الأنصاری قدّس سرّه،و یستفاد من کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه التفصیل فیها،و قال:

«و التحقیق:أنّ ما عدّ من الوضع علی أنحاء:

منها:ما لا یکاد یتطرّق إلیه الجعل تشریعا أصلا،لا استقلالا و لا تبعا،و إن کان مجعولا تکوینا عرضا بعین جعل موضوعه کذلک.

و منها:ما لا یکاد یتطرّق إلیه الجعل التشریعی إلاّ تبعا للتکلیف.

و منها:ما یمکن فیه الجعل استقلالا بإنشائه،و تبعا للتکلیف بکونه منشأ لانتزاعه و إن کان الصحیح انتزاعه من إنشائه و جعله،و کون التکلیف من آثاره و أحکامه،علی ما تأتی الإشارة إلیه.

أمّا النحو الأوّل فهو کالسببیّة و الشرطیّة و المانعیّة و الرافعیّة لما هو سبب التکلیف و شرطه و مانعة و رافعه،حیث إنّه لا یکاد یعقل انتزاع هذه العناوین لها من التکلیف المتأخّر عنها ذاتا،حدوثا أو ارتفاعا،کما أنّ اتّصافها بها لیس إلاّ لأجعل ما علیها من الخصوصیّة المستدعیة لذلک تکوینا؛للزوم أن یکون

ص:156


1- 1) الاستصحاب:66.

فی العلّة بأجزائها من ربط خاصّ،به کانت مؤثّرة فی معلولها،لا فی غیره،و لا غیرها فیه،و إلاّ لزم أن یکون کلّ شیء مؤثرا فی کلّ شیء،و تلک الخصوصیّة لا یکاد یوجد فیها بمجرّد إنشاء مفاهیم العناوین،و مثل قول:دلوک الشمس سبب لوجوب الصلاة إنشاء لا إخبارا؛ضرورة بقاء الدلوک علی ما هو علیه قبل إنشاء السّببیّة له،من کونه واجدا لخصوصیّة مقتضیة لوجوبها أو فاقدا لها،و أنّ الصلاة لا تکاد تکون واجبة عند الدلوک ما لم یکن هناک ما یدعو إلی وجوبها،و معه تکون واجبة لا محالة و إن لم ینشأ السببیّة للدلوک أصلا.

و منه انقدح أیضا عدم صحّة انتزاع السببیّة له حقیقة من إیجاب الصلاة عنده؛لعدم اتّصافه بها بذلک ضرورة.

نعم،لا بأس باتّصافه بها عنایة،و إطلاق السبب علیه مجازا،کما لا بأس بأن یعبّر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوک-مثلا-بأنّه سبب لوجوبها،فکنّی به عن الوجوب عنده.

فظهر بذلک أنّه لا منشأ لانتزاع السببیّة و سائر ما لأجزاء العلّة للتکلیف، إلاّ ما هی علیها من الخصوصیّة الموجبة لدخل کلّ فیه علی نحو غیر دخل الآخر،فتدبّر جیّدا.

و أمّا النحو الثانی:فهو کالجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة و القاطعیّة،لما هو جزء المکلّف به و شرطه و مانعة و قاطعه،حیث إنّ اتّصاف شیء بجزئیّة المأمور به أو شرطیّته أو غیرهما لا یکاد یکون إلاّ بالأمر بجملة امور مقیّدة بأمر وجودی أو عدمی،و لا یکاد یتّصف شیء بذلک-أی کونه جزء أو شرطا للمأمور به-إلاّ بتبع ملاحظة الأمر بما یشتمل علیه مقیّدا بأمر آخر،و ما لم یتعلّق به الأمر کذلک لما کاد اتّصف بالجزئیّة أو الشرطیّة،و إن أنشأ الشارع

ص:157

له الجزئیّة أو الشرطیّة،و جعل الماهیّة و اختراعها لیس إلاّ تصویر ما فیه المصلحة المهمّة الموجبة للأمر بها،فتصوّرها بأجزائها و قیودها لا یوجب اتّصاف شیء منها بجزئیّة المأمور به أو شرطه قبل الأمر بها،فالجزئیّة للمأمور به أو الشرطیّة له إنّما ینتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به، بلا حاجة إلی جعلها له،و بدون الأمر به لا اتّصاف بها أصلا و إن اتّصف بالجزئیّة أو الشرطیّة للمتصوّر أو لذی المصلحة،کما لا یخفی.

و أمّا النحو الثالث:فهو کالحجّیّة و القضاوة و الولایة و النیابة و الحرّیّة و الرّقیّة و الزّوجیّة و الملکیّة إلی غیر ذلک،حیث إنّها و إن کان من الممکن انتزاعها من الأحکام التکلیفیّة التی تکون فی مواردها-کما قیل-و من جعلها بإنشاء أنفسها،إلاّ أنّه لا یکاد یشکّ فی صحّة انتزاعها من مجرّد جعله تعالی، أو من بیده الأمر من قبله-جلّ و علا-لها بإنشائها،بحیث یترتّب علیها آثارها،کما یشهد به ضرورة صحّة انتزاع الملکیّة و الزوجیّة و الطلاق و العتاق بمجرّد العقد أو الإیقاع ممّن بیده الاختیار بلا ملاحظة التکالیف و الآثار،و لو کانت منتزعة عنها لما کاد یصحّ اعتبارها إلاّ بملاحظتها،و للزوم أن لا یقع ما قصد،و وقع ما لم یقصد.

کما لا ینبغی أن یشکّ فی عدم صحّة انتزاعها عن مجرّد التکلیف فی موردها، فلا ینتزع الملکیّة عن إباحة التصرّفات،و لا الزّوجیّة من جواز الوطء، و هکذا سائر الاعتبارات فی أبواب العقود و الإیقاعات.

فانقدح بذلک أنّ مثل هذه الاعتبارات إنّما تکون مجعولة بنفسها،یصحّ انتزاعها بمجرّد إنشائها کالتکلیف،لا مجعولة بتبعه و منتزعة عنه» (1).

ص:158


1- 1) کفایة الاصول 2:303.

و الحاصل:أنّ القسم الأوّل من الأحکام الوضعیّة خارج عن دائرة الجعل التشریعی استقلالا و تبعا،و القسم الثانی منها قابل للجعل التبعی،و القسم الثالث قابل للجعل الاستقلالی و التبعی،و الأظهر تعلّق الجعل الاستقلالی به.

و یرد علیه:أوّلا:أنّ لازم عدم تعلّق الجعل الشرعی لا أصالة و لا تبعا بالقسم الأوّل-أی السببیّة و الشرطیّة و المانعیّة و الرافعیّة للتکلیف-خروج هذا القسم من أقسام الأحکام الوضعیّة،فکیف یمکن أن ینطبق فی مورد عنوان الحکم الوضعی،و لا تکاد تناله ید الجعل تشریعا لا أصالة و لا تبعا، و ما یکون خارجا عن المقسم کیف یمکن أن یکون داخلا فی أحد الأقسام؟

و ثانیا:أنّه وقع الخلط فی کلامه فی المراد بالتکلیف و تخیّل أنّه هنا بمعنی إیجاب المولی و جعله،لا بمعنی کون الشیء واجبا.

توضیح ذلک:أنّه قد یقول:شیء کذا سبب لوجوب الصلاة-مثلا-و قد یقول:شیء کذا کان سببا لإیجاب المولی و جعله الصلاة واجبة-مثلا-نقول:

إنّ تحقّق المصلحة الملزمة فی الصلاة صار سببا لإیجابها،و تحقّق المفسدة الملزمة فی شرب الخمر صار سببا لتحریمه،و هکذا سائر الامور الدخیلة فی جعل المولی،و هذا خارج عن بحث السببیّة للتکلیف هنا؛إذ لا یقول أحد أنّ المصلحة الملزمة شرط التکلیف.

و المراد من السببیّة و الشرطیّة للتکلیفیّة هنا کما یستفاد من قوله تعالی:

لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً (1)هو شرط کون الشیء واجبا أو کونه فریضة،إلهیّة،و معلوم أنّ شرطیّة الاستطاعة و سائر الشرائط لا ترتبط بالجعل التکوینی،بل تستفاد هذه الشرطیّة من القرآن الکریم،

ص:159


1- 1) آل عمران:97.

و یستفاد من کلام الشارع فی حدیث الرفع أنّ الاضطرار رافع التکلیف، و یستفاد من قوله صلّی اللّه علیه و آله:«دعی الصلاة أیّام أقرائک» (1)أنّ الحیض مانع عن وجوب الصلاة،و کلّ ذلک یرتبط بالجعل الشرعی و هذا ممّا یستفاد من کلام صاحب الکفایة فی الواجب المشروط أیضا.

نکتة

أنّه لا نجد فی الفقه موردا یعبّر عنه فی الأحکام التکلیفیّة بالسبب،بل یعبّر عنه بالشرط،و أمّا فی الأحکام الوضعیّة فیری کثیرا ما التعبیر بالسبب،مثل:

النکاح سبب للزوجیّة،البیع سبب للملکیّة.

و أمّا سببیّة-دلوک الشمس-لوجوب الصلاة فالظاهر أنّه لا یتحقّق هذا التعبیر فی الروایات،بل الروایة هکذا«إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاتان»،و معناها شرطیّة زوال الشمس للوجوب،أو شرطیّته للواجب کالطهارة و الاستقبال.

و یمکن أن یقال:إنّ الشرطیّة کما یصحّ انتزاعها من قوله:«إن استطعتم یجب علیکم الحجّ»و جعلها بالتبع،کذلک یصحّ جعلها استقلالا،کما إذا قال الشارع بعد الأمر بالحجّ مطلقا:«جعلت الاستطاعة شرطا لوجوب الحجّ»،و نتیجة الدلیلین شرطیّة الاستطاعة للحجّ،و کون الشرطیّة مجعولة بجعل مستقلّ.هذا کلّه بالنسبة إلی القسم الأوّل.

أمّا بالنسبة إلی القسم الثانی-أی الجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة و القاطعیّة- فالظاهر من کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه انحصار الجعل الشرعی فیه بالجعل

ص:160


1- 1) وسائل الشیعة 2:287،الباب 7 من أبواب الحیض،الحدیث 2.

التبعی و الانتزاع عن تعلّق الأمر بالمرکّب.

و التحقیق:أنّ ادّعاء الانحصار لیس بصحیح؛إذ یمکن جعل الجزئیّة و الشرطیّة مستقلاّ بدون الأمر بالمرکّب،کما إذا قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله بعد قوله تعالی: أَقِیمُوا الصَّلاةَ :«لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب»،و«لا صلاة إلاّ بطهور»، و معناه أنّ فاتحة الکتاب جزء من الصلاة،و أنّ الطهور شرط لها،و لا شبهة أنّ هذا الجعل استقلالیّ.

کما أنّه یدلّ قوله تعالی: فَوَلِّ وَجْهَکَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (1)علی أنّه تعالی جعل استقبال المسجد الحرام شرطا للصلاة بالجعل الاستقلالی،و لا یکون من قبیل نسخ حکم الصلاة رأسا و إبداء حکم آخر و جعل شرطیّة الاستقبال تبعا له،بل کان الجعل متعلّقا به بالاستقلال،و هکذا فی باب المانعیّة و القاطعیّة لا مانع من قول الشارع بدلیل مستقلّ-بعد الأمر بالصلاة-إنّی جعلت الحدث قاطعا للصلاة مثلا.

و أمّا بالنسبة إلی القسم الثالث فکان لنا کلامان:الکلام الأوّل:ما هو الجواب عمّا ذکره الشیخ الأنصاری-بعد قوله بانتزاعیّة جمیع الأحکام الوضعیّة من الأحکام التکلیفیّة،و أنّ الملکیّة تنتزع من جواز التصرّف المترتّب علی عقد البیع،و هکذا فی باب الزوجیّة و الحریّة و الرقّیّة و أشباه ذلک- (2)و أنّ مراده إن کان امتناع اعتبار الملکیّة و الزوجیّة مستقلاّ عند الشارع و العقلاء،فنقول:أیّ دلیل دلّ علی امتناع اعتبارها کذلک؟

و إن کان مراده مخالفة ظاهر الأدلّة لهذا المعنی فنقول:إنّ ظاهر الأدلّة

ص:161


1- 1) البقرة:144.
2- 2) فرائد الاصول 3:125-127.

موافق له،کقوله:«من حاز ملک» (1)،و قوله:«من أحیا أرضا میتة فهی له» (2)، و الظاهر منهما جعل الملکیّة مستقلّة،و هکذا فی سائر العقود و الإیقاعات إذا قلنا:«یجوز للزوج النظر إلی زوجته»فلازم تأخّر الحکم عن موضوعه اعتبار الزوجیّة قبله،و هکذا فی قاعدة«الناس مسلّطون علی أموالهم»لا بدّ من اعتبار الملکیّة و فرض الأموال التی هی ملک لهم،ثمّ الحکم بتسلّطهم علیها،فالإنصاف بیننا و بین وجداننا-بعد ملاحظة الأدلّة-یقتضی أنّ الجعل الاستقلالی لها غیر قابل للإنکار.

الکلام الثانی:ما هو الجواب عمّا ذکره المحقّق الخراسانی قدّس سرّه-بعد قوله بأنّ السببیّة للسبب أمر ذاتی له،بلا فرق بین الأحکام التکلیفیّة و الوضعیّة،فلا تکون قابلة للجعل و العنایة،کعدم قابلیّة جعل الزّوجیّة للأربعة (3)-و أنّ السبب الشرعی غیر السبب التکوینی،و معنی قولنا:«عقد النکاح سبب للزوجیّة»هو اعتبار الزوجیّة عقیب العقد،و أنّ الشارع جعل العقد موضوعا لاعتبار الزوجیّة،لا أنّه یتحقّق فی باطن العقد خصوصیّة واقعیّة تترشّح منها الزوجیّة کترشّح الحرارة من النار،و هکذا فی قولنا:«عقد البیع سبب للملکیّة».

و قد اتّضح إلی هنا أنّ الأحکام الوضعیّة علی قسمین:قسم منها قابل للجعل الاستقلالی،و قسم منها منتزع من تعلّق الأمر بالمقیّد بالأمر الوجودی، کقوله:«صلّ مع الطهارة»أو بالأمر العدمی،کقوله:«لا تصلّ فی وبر ما لا یؤکل

ص:162


1- 1) لم نعثر علی هذه الجملة فی روایات الخاصّة و العامّة.
2- 2) الوسائل 25:412،الباب 1 من أبواب إحیاء الموات،الحدیث 4.
3- 3) کفایة الاصول 2:303.

لحمه»،و ینتزع من الأوّل شرطیّة الطهارة،و من الثانی مانعیّة أجزاء ما لا یؤکل لحمه،و لا نجد فی الشریعة حکما وضعیّا لا تناله ید الجعل،لا أصالة و لا تبعا،و إلاّ کیف یکون الحکم الشرعی أو المجعول الشرعی کما ذکرناه؟

و لا مانع من جریان الاستصحاب فی کلا القسمین منها،فکما أنّه یجری فی صورة الشکّ فی بقاء وجوب صلاة الجمعة فی عصر الغیبة-مثلا-کذلک یجری فی صورة الشکّ فی بقاء زوجیّة کذا و ملکیّة کذا،هذا فی المجعولات الاستقلالیّة.

و أمّا فی المجعولات المنتزعة فلا بدّ من جریان الاستصحاب فی المنتزع منه؛ إذ الشکّ فی بقاء شرطیّة الطهارة-مثلا-مسبب عن الشکّ فی بقاء المنتزع منه، و نتیجة جریان الأصل فی منشأ الانتزاع بقاء هذا الأمر الانتزاعی.

فما ذکره بعض الأعاظم من التفصیل بین الأحکام التکلیفیّة و الأحکام الوضعیّة بجریان الاستصحاب فی الاولی دون الثانیة لیس بتامّ،فالاستصحاب حجّة مطلقا.

ص:163

ص:164

تنبیهات الاستصحاب

اشارة

ص:165

ص:166

التنبیه الأوّل: فی اعتبار فعلیّة الیقین و الشکّ فی الاستصحاب

و أخذهما فی موضوعه علی نعت الموضوعیّة

یعتبر فی الاستصحاب فعلیّة الشکّ و الیقین بناء علی أخذهما موضوعا و رکنا فیه،و لیس المراد من فعلیّتهما تحقّقهما فی خزانة النفس و لو کان الإنسان غافلا عنهما،بل بمعنی الالتفات إلی یقینه السابق و شکّه اللاحق،فلا یجری الاستصحاب مع الغفلة؛لعدم الشکّ فعلا و لو فرض أنّه یشکّ لو التفت؛ ضرورة أنّ الاستصحاب وظیفة الشاکّ،و لا شکّ مع الغفلة أصلا.

ثمّ إنّ صاحب الکفایة قدّس سرّه رتّب علی هذا المعنی حکم الفرعین،و قال:

«فیحکم بصحّة صلاة من أحدث ثمّ غفل و صلّی،ثمّ شکّ فی أنّه تطهّر قبل الصلاة؛لقاعدة الفراغ،بخلاف من التفت قبلها و شکّ ثمّ غفل و صلّی،فیحکم بفساد صلاته فیما إذا قطع بعدم تطهیره بعد الشکّ؛لکونه محدثا قبلها بحکم الاستصحاب،مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابی.

لا یقال:نعم،و لکنّ استصحاب الحدث فی حال الصلاة بعد ما التفت بعدها یقتضی أیضا فسادها،فإنّه یقال:نعم لو لا قاعدة الفراغ المقتضیة لصحّتها

ص:167

المتقدّمة علی أصالة فسادها» (1).

و التحقیق:

أنّ جریان قاعدة الفراغ هنا لا یخلو عن إشکال؛لاختصاص ظهور أخبارها فی حدوث الشکّ بعد العمل،و هذا الشکّ لیس حادثا بل کان باقیا فی خزانة النفس،و یکون من قبیل إعادة ما سبق،أو الالتفات إلی ما کان موجودا،فالصلاة فی الفرع الأوّل باطلة؛إمّا لأجل استصحاب الحدث قبل الصلاة علی القول بعدم اعتبار فعلیّة الشکّ و الیقین،و إمّا لأجل استصحاب الحدث بعد الصلاة علی القول باعتبار فعلیّتهما و عدم جریان قاعدة الفراغ.

و أمّا الفرع الثانی فیرد علیه:أنّه لا یمکن استناد بطلان الصلاة فیه إلی استصحاب الحدث قبل الصلاة،فإنّ الاستصحاب لا یتحقّق فی حال الصلاة؛ إذ المفروض أنّه حال الغفلة و الذهول،و المعتبر فیه فعلیّة الیقین و الشکّ، و استصحاب الحدث قبل حال الغفلة لا یفید بالمقام،و لا یمکن الالتزام بصحّة الصلاة فی هذا الفرع مستندا إلی قاعدة الفراغ؛لاختصاصها فی مورد حدوث الشکّ بعد الفراغ عن الصلاة و کان الإنسان بعد الفراغ عنها غافلا عن خصوصیّاتها و کیفیّة إتیانها،و المفروض هنا تحقّق الشکّ قبل الصلاة و کون المصلّی عالما بجزئیّات صلاته و خصوصیّاتها.

و بعد عدم جریان الاستصحاب و قاعدة الفراغ فلا بدّ من إعادة الصلاة مستندا إلی قاعدة الاشتغال،فما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه بعنوان الثمرة لفعلیّة الیقین و الشکّ لیس بتامّ.

ص:168


1- 1) کفایة الاصول 2:308.

التنبیه الثانی: فی البحث عن جریان الاستصحاب

فی مؤدّیات الأمارات و الطرق الشرعیّة و عدمه

ربّما یقال:بعدم جریانه فیها؛إذ لا بدّ فی الاستصحاب من تحقّق الیقین بالحدوث و الشکّ فی البقاء،و الأمارات مطلقا لا تفید الیقین،بعد ما ذکرنا أنّ حجّیّة الأمارات بنحو الطریقیّة و الکاشفیّة،بمعنی المنجّزیّة عند موافقة الواقع و المعذّریّة عند مخالفة الواقع،و قیام الطرق و الأمارات لا یوجب جعل الحکم الظاهری علی طبق مؤدّیاتها،کما أنّ حجّیّة القطع أیضا تکون کذلک،و لازم عدم جریانه فیها انسداد باب الاستصحاب إلاّ فی بعض الموارد،و هذا الإشکال مهمّ و تترتّب علیه ثمرة فقهیّة مهمّة.

قال صاحب الکفایة قدّس سرّه:«یمکن أن یذبّ عمّا فی استصحاب الأحکام التی قامت الأمارات المعتبرة علی مجرّد ثبوتها،و قد شکّ فی بقائها علی تقدیر ثبوتها،من الإشکال:بأنّه لا یقین بالحکم الواقعی،و لا یکون هناک حکم آخر فعلی بناء علی ما هو التحقیق،من أنّ قضیّة حجّیّة الأمارة لیست إلاّ تنجّز التکالیف مع الإصابة و العذر مع المخالفة،کما هو قضیّة الحجّة المعتبرة عقلا، کالقطع و الظنّ فی حال الانسداد و علی الحکومة،لا إنشاء أحکام فعلیّة

ص:169

شرعیّة ظاهریّة،کما هو ظاهر الأصحاب،و وجه الذبّ بذلک:أنّ الحکم الواقعی الذی هو مؤدّی الطریق حین الشکّ محکوم بالبقاء،فتکون الحجّة علی ثبوته حجّة علی بقائه تعبّدا؛للملازمة بین بقائه و ثبوته واقعا.

إن قلت:کیف و قد اخذ الیقین بالشیء فی التعبّد ببقائه فی الأخبار و لا یقین فی فرض تقدیر الثبوت؟

قلت:نعم،و لکنّ الظاهر أنّه اخذ کشفا عن الحکم الواقعی و مرآتا لثبوته لیکون التّعبّد فی بقائه،و التعبّد مع فرض ثبوته إنّما یکون فی بقائه،فافهم» (1).

و یرد علیه:أوّلا:لزوم التهافت بین ما اختاره فی التنبیه الأوّل من اعتبار فعلیّة الشکّ و الیقین فی الاستصحاب،و بین ما اختاره فی التنبیه الثانی من الاکتفاء فی صحّة الاستصحاب بالشکّ فی بقاء شیء علی تقدیر ثبوته و إن لم یحرز ثبوته،کما ذکره استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (2).

و ثانیا:أنّ الیقین فی قوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ»طریقیّ بلحاظ المتعلّق و المتیقّن،و موضوعیّ بلحاظ حکم«لا تنقض»کموضوعیّته فی قولنا:«الیقین حجّة عقلا»،فلا ینافی مرآتیّة الیقین و کاشفیّته مع موضوعیّته بلحاظ حکم عدم النقض،و المفروض قوام الاستصحاب بالیقین و الشکّ و اعتبار فعلیّتهما، فلا بدّ من طریق آخر لحلّ الإشکال.

و قال المحقّق النائینی رحمه اللّه و بعض تلامذته فی مقام الجواب عن الإشکال:إنّ معنی جعل حجّیّة الأمارات هو جعل الأمارات من أفراد العلم فی عالم الاعتبار،فیکون الیقین حینئذ فردان:الیقین الوجدانی،و الیقین الجعلی الاعتباری،فکما لو علمنا بحکم من الأحکام،ثمّ شککنا فی بقائه نرجع إلی

ص:170


1- 1) کفایة الاصول 2:309-310.
2- 2) الاستصحاب:79.

الاستصحاب،کذلک إذا قامت الأمارة أو الطریق علی ثبوت حکم أو موضوع ذی حکم ثمّ شکّ فی بقائهما لا مانع من استصحاب بقاء مؤدّی الطریق و الأمارة (1).

و فیه:أنّ اعتبار الطرق و الأمارات عند الشارع کثیرا ما یکون من باب التصویب و إمضاء ما هو معتبر عند العقلاء،و ذکرنا فی باب حجّیّة خبر الواحد أنّ أدلّ دلیل علی حجّیّته هو عدم ردع الشارع بناء العقلاء فی العمل بخبر الثقة،و بعد الرجوع إلی العقلاء نستکشف أنّ خبر الثقة طریق غیر علمیّ جعل حجّة علی الواقع،بمعنی المنجّزیّة علی تقدیر الإصابة و المعذّریّة علی تقدیر المخالفة للواقع،کما أنّ القطع طریق إلی الواقع بل علی رأس الطرق و حجّة عقلا،کذلک خبر الثقة طریق إلیه و حجّة شرعا و عقلاء فی مورد فقد القطع و الیقین،فإنّ انحصار الطریق بالیقین یوجب المعضلات و المشکلات فی مسائل الفرد و المجتمع و لا یکون عندهم مؤدّی الطرق و الأمارات المتیقّن التعبّدی فی مقابل المتیقّن الوجدانی،و لا یکون مفاد خبر الثقة بنجاسة الثوب -مثلا-هو القول ب:أنّی أراک متیقّنا بالنجاسة و أنت عالم فی عالم الاعتبار»، و هکذا فی سائر الأمارات و الطرق.

و التحقیق فی الجواب:أنّ إضافة النقض إلی الیقین فی قوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ»تکون بلحاظ الإبرام و الاستحکام المتحقّق فیه،و هذا الاستحکام لا یرتبط به بما أنّه صفة قائمة بالنفس،فإنّه ربّما یزول عن النفس سریعا بخلاف الشکّ،بل یرتبط بالمتیقّن و الکشف عنه کأنّه یراه بالعیان،و ملاک الاستحکام عبارة عن حجّیّة القطع،فهو بلحاظ حجّیّته واجد للاستحکام و الإبرام،

ص:171


1- 1) فوائد الاصول 4:404،مصباح الاصول 3:99.

لا بلحاظ کشفه عن الواقع بدون التخلّف،کأنّه یقول:«لا تنقض الیقین الذی هو حجّة بالشکّ،الذی لیس بحجّة»،و هذا الملاک یتحقّق فی سائر الأمارات و الطرق المعتبرة أیضا،فالشکّ باعتبار عدم حجّیّته و عدم إحرازه للواقع لا ینقض الیقین الذی هو حجّة و محرز له؛فإنّه لا ینبغی أن ترفع الید عن الحجّة بغیر الحجّة،فیلحق الظنّ المعتبر بالیقین،و الظنّ الغیر المعتبر بالشکّ.

هذا توضیح ما ذکره استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه فی المقام،ثمّ ذکر مؤیّدات له و قال:«و یؤیّد ذلک-بل یدلّ علیه-قوله فی صحیحة زرارة الثانیة:«لأنّک کنت علی یقین من طهارتک ثمّ شککت،فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ أبدا» (1)الظاهر منه إجراء استصحاب طهارة اللباس،و لا بدّ أن تحمل الطهارة علی الواقعیّة منها؛لعدم جریان الاستصحاب فی الطهارة الظاهریّة لما ذکرنا سابقا.و معلوم أنّ العلم الوجدانی بالطهارة الواقعیّة ممّا لا یمکن عادة،بل العلم إنّما یحصل بالأمارات کأصالة الصحّة،و إخبار ذی الید،و أمثالهما،فیرجع مفاده إلی أنّه لا ترفع الید عن الحجّة القائمة بالطهارة بالشکّ.

بل یمکن أن یؤیّد بصحیحته الاولی أیضا؛فإنّ الیقین الوجدانی بالوضوء الصحیح أیضا ممّا لا یمکن عادة،بل الغالب وقوع الشکّ فی الصحة بعده، و یحکم بصحّته بقاعدة الفراغ،بل الشکّ فی طهارة ماء الوضوء یوجب الشکّ فیه،فالیقین بالوضوء أیضا لا یکون یقینا وجدانیّا غالبا،تأمّل» (2).

فلا یکون الیقین فیهما فی مقابل الأمارات المعتبرة فیستفاد منهما صحّة جریان الاستصحاب فی موارد الطرق و الأمارات المعتبرة.

ص:172


1- 1) الوسائل 3:466،الباب 37 من أبواب النجاسات،الحدیث 1.
2- 2) الاستصحاب:81-82.

التنبیه الثالث: فی تردّد المستصحب

اشارة

فی تردّد المستصحب

و أنّه قد یکون فردا معیّنا،کما إذا شککنا فی بقاء زید فی الدار بعد العلم بدخوله فیها لترتّب أثر شرعی،و قد یکون فردا مردّدا،کما إذا علمنا بتحقّق فرد فی الدار و لکنّه مردّد بین زید و عمرو،و شککنا بعد ساعة فی بقائه فیها، فلا إشکال فی جریان الاستصحاب فی هذین الموردین،إلاّ أن جریانه فی مورد الثانی یکون لترتّب الآثار المشترکة علی بقاء الفردین لا الآثار المختصّة علی بقاء أحد الفردین.

ربّما یقال:یتصوّر هنا قسم ثالث للفرد و یعبّر عنه بالفرد المنتشر،و لکنّه لیس بصحیح؛إذ الفردیّة مساوقة للتشخّص و التعیّن،و لا یمکن الجمع بین التعیّن و التشخّص الفردی و الانتشار و السعة،و هو فی الحقیقة کلّی معیّن فی الخارج،و مثاله:قول البائع للمشتری:«بعتک صاعا من هذه الصبرة»،و إن کان المستصحب من هذا القبیل فهو استصحاب الکلّی،لا استصحاب الفرد.

و قد یکون المستصحب کلّیّا و استصحاب الکلّی علی أقسام
القسم الأوّل:ما إذا علمنا بتحقّق الکلّی فی ضمن فرد معیّن

،ثمّ شککنا فی بقاء هذا الفرد و ارتفاعه،فلا محالة نشکّ فی بقاء الکلّی و ارتفاعه أیضا،فإذا

ص:173

کان الأثر للکلّی فیجری الاستصحاب فیه،مثاله المعروف:ما إذا علمنا بوجود زید فی الدار،فنعلم بوجود الإنسان فیها،ثمّ شککنا فی خروج زید عنها،فنشکّ فی بقاء الإنسان فیها،فلا إشکال فی جریان الاستصحاب ببقائه إذا کان له أثر،و جریان الاستصحاب فی الفرد و الکلّی تابع للأثر،إذا کان الأثر للفرد یجری الاستصحاب فیه،و إذا کان الأثر للکلّی یجری الاستصحاب فیه، و ما یستفاد من عبارة الکفایة (1)من التخییر فی إجراء الاستصحاب فی الکلّی و الفرد لیس بصحیح إلاّ فی الآثار المشترکة؛لمغایرتهما عند العرف و إن کان وجود الکلّی عین وجود أفراده عند أهل المنطق و الفلسفة.

القسم الثانی:ما إذا علمنا بوجود الکلّی فی ضمن فرد مردّد بین متیقّن

الارتفاع و متیقّن البقاء

،کما إذا علمنا بوجود إنسان فی الدار مع الشکّ فی کونه زیدا أو عمروا،مع العلم بأنّه لو کان زیدا فهو خارج یقینا،و لو کان عمروا فهو باق یقینا،و مثاله فی الحکم الشرعی:ما إذا رأینا رطوبة مشتبهة بین البول و المنی،فتوضّأنا،فنعلم أنّه لو کان الحدث الموجود هو الأصغر فقد ارتفع،و لو کان هو الأکبر فقد بقی،و کذا لو اغتسلنا فی المثال فنعلم أنّه لو کان الحدث هو الأکبر فقد ارتفع،و إن کان هو الأصغر فقد بقی؛لعدم ارتفاعه بالغسل،فنجری الاستصحاب فی الحدث الجامع بین الأکبر و الأصغر-أی الکلّی-و نحکم بترتّب أثره،کحرمة مس کتابة القرآن و عدم جواز الدخول فی الصلاة،و لا یجری استصحاب الفرد،فإنّ أحد الفردین متیقّن الارتفاع و الآخر متیقّن البقاء.

و استشکل صاحب الکفایة رحمه اللّه بعنوان التّوهّم فی جریان الاستصحاب فی

ص:174


1- 1) الکفایة 2:311.

هذا القسم:بأنّ الاستصحاب فیه و إن کان جاریا فی نفسه لتمامیّة موضوعه من الیقین و الشکّ،إلاّ أنّه محکوم بأصل سببیّ،فإنّ الشکّ فی بقاء الکلّی مسبّب عن الشکّ فی حدوث الفرد الطویل،و الأصل عدمه،ففی المثال یکون الشکّ فی بقاء الحدث مسبّبا عن الشکّ فی حدوث الجنایة،فتجری أصالة عدم حدوث الجنایة،و بانضمام هذا الأصل إلی الوجدان یحکم بارتفاع الحدث،فإنّ الحدث الأصغر مرتفع بالوجدان،و الحدث الأکبر منفیّ بالأصل.

ثمّ أجاب عنه بجوابین:الأوّل:بأنّ الشکّ فی بقاء الکلّی لیس مسبّبا عن الشکّ فی حدوث الفرد الطویل،بل مسبّب عن الشکّ فی کون الحادث طویلا أو قصیرا،و بعبارة اخری:الشکّ فی بقاء الکلّی مسبب عن الشکّ فی خصوصیّة الفرد الحادث،و لیس له حالة سابقة حتّی یکون موردا للأصل، فتجری فیه أصالة عدم کونه طویلا،فما هو مسبوق بالعدم-و هو حدوث الفرد الطویل-لیس الشکّ فی بقاء الکلّی مسببا عنه،و ما یکون الشکّ فیه مسببا عنه-و هو کون الحادث طویلا-لیس مسبوقا بالعدم حتّی یکون موردا للأصل.

الثانی:أنّ بقاء الکلّی عین بقاء الفرد الطویل،فإنّ الکلّی عین الفرد،لا أنّه من لوازمه،فلا تکون هناک سببیّة و مسبّبیّة (1).

و کان لاستاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه هنا إشکال مهمّ من حیث العلم لا العمل، و هو قوله:«لکنّ الإنصاف أنّه لو اغمض النظر عن وحدتهما عرفا،فلا یمکن التخلّص من الإشکال،سواء ارید إجراء استصحاب الکلّی المعرّی واقعا عن الخصوصیّة أو استصحاب الکلّی المتشخص بإحدی الخصوصیّتین-أی

ص:175


1- 1) الکفایة 2:311-312.

خصوصیّة زیدیّة أو خصوصیّة عمرویّة-أو الکلّی الخارجی مع قطع النظر عن الخصوصیّة،بدعوی أنّ الموجود الخارجی له جهتان:جهة مشترکة بینه و بین غیره من نوعه أو جنسه فی الخارج،و جهة ممیّزة و العلم بوجود أحد الفردین موجب لعلم تفصیلی بجهة مشترکة خارجیّة بینهما،و ذلک لاختلال رکنی الاستصحاب أو أحدهما علی جمیع التقادیر.

أمّا علی التقدیر الأوّل فللعلم بعدم الوجود الکلّی المعرّی واقعا عن الخصوصیّة؛لامتناع وجوده کذلک،فیختلّ رکناه.

و أمّا علی الثانی فلأن ذلک عین العلم الإجمالی بوجود أحدهما؛لأنّ الکلّی المتشخّص بکلّ خصوصیّة یغایر المتشخّص بالخصوصیّة الاخری،فتکون القضیّة المتیقّنة العلم الإجمالی بوجود أحدهما،و قضیة اعتبار وحدتها مع المشکوک فیها أن یشکّ فی بقاء المعلوم بالإجمال،و فی المقام لا یکون الشکّ فی بقاء المعلوم بالإجمال بل یعلم فی الزمان الثانی إجمالا،إمّا ببقاء الطویل،أو ارتفاع القصیر،و إنّما یکون الشکّ فی البقاء إذا احتمل ارتفاع ما هو المعلوم، طویل العمر کان أو قصیره،فاختلّ الرکن الثانی منه.

و أمّا علی التقدیر الثالث فلأنّ الجهة المشترکة بما هی مشترکة غیر موجودة فی الخارج،إلاّ علی رأی الرجل الهمدانی الذی یلزم منه مفاسد،کما حقّق فی محلّه.

و علی المسلک المنصور تکون الطبیعة فی الخارج طبیعتین،فکما لا علم تفصیلی بإحدی الخصوصیّتین لا علم تفصیلی بإحدی الطبیعتین؛لامتناع حصول العلم التفصیلی إلاّ مع وحدة الطبیعة المعلومة،فحینئذ یأتی فیه الإشکال المتقدّم.فالتخلّص عن الإشکال هو ما أشرنا إلیه من وحدة

ص:176

القضیّتین عرفا،و هی المعتبرة فی الاستصحاب» (1).

فیجری الاستصحاب إن لاحظنا وحدة القضیّتین بنظر العرف کما هو الحقّ، بخلاف ما إذا لاحظناها بالدقّة العقلیّة.

بقی هنا إشکال آخر علی استصحاب الکلّی،و هو منسوب إلی سیّد إسماعیل الصدر قدّس سرّه،و هذا الإشکال معروف بالشبهة العبائیّة.

توضیح ذلک:أنّه من المعلوم عدم جریان الاستصحاب فی الشبهة المفهومیّة،کما إذا شککنا بعد استتار القرص و قبل زوال الحمرة المشرقیّة فی انتهاء النهار و أنّه ینتهی بأیّهما،و لا یجری استصحاب بقاء النهار؛إذ الشکّ فی معنی النهار و مفهومه من حیث العرف و اللغة و أنّ اختتامه لغة و عرفا باستتار القرص أو بزوال الحمرة المشرقیة،لا فی الواقعة الخارجیّة بعد العلم باستتار القرص و عدم زوال الحمرة.

و یمکن أن یتوهّم أنّ ما نحن فیه أیضا من هذا القبیل،فإنّا نعلم بارتفاع الکلّی إن تحقّق فی ضمن الفرد القصیر،و بقائه إن تحقّق فی ضمن الفرد الطویل.

و جوابه:أنّ الشکّ هنا فی الواقعة و أنّ الکلّی تحقّق فی ضمن أیّ الفردین،لا فی المفهوم اللغوی و العرفی،فلا مانع من جریان استصحاب الکلّی.

و أمّا ما ذکره السیّد الصدر قدّس سرّه فهو أنّه:لو علمنا إجمالا بنجاسة أحد طرفی العباءة ثمّ غسلنا أحد الطرفین،فلا إشکال فی أنّه لا یحکم بنجاسة الملاقی لهذا الطرف المغسول؛للعلم بطهارته بعد الغسل،إمّا بالطهارة السابقة أو بالطهارة الحاصلة بالغسل،و کذا لا یحکم بنجاسة الملاقی للطرف الآخر؛لأنّ المفروض عدم نجاسة الملاقی لأحد أطراف الشبهة المحصورة،ثمّ لو لاقی شیء مع الطرفین

ص:177


1- 1) الاستصحاب:85-86.

فلا بدّ من الحکم بعدم نجاسته أیضا؛لأنّه لاقی طاهرا یقینا و أحد طرفی الشبهة،و المفروض أنّ ملاقاة شیء منهما لا توجب النجاسة مع أنّ مقتضی استصحاب الکلّی هو الحکم بنجاسة الملاقی للطرفین،فلا بدّ من رفع الید عن جریان الاستصحاب فی الکلّی أو القول بنجاسة الملاقی لأحد أطراف الشبهة المحصورة؛لعدم إمکان الجمع بینهما فی المقام (1).

و جوابه:أوّلا:ما یستفاد من کلام سیّدنا الإمام قدّس سرّه و المحقّق النائینی رحمه اللّه و هو:

أنّ جریان استصحاب النجاسة و إن کان ممّا لا مانع منه؛لأنّ وجود النجاسة فی الثوب کان متیقّنا،و مع تطهیر أحد طرفیه یشکّ فی بقائه فیه،إلاّ أنّه لا یترتّب علی ملاقاة الثوب أثر ملاقاة النجس،فإنّ استصحاب بقاء الکلّی أو الشخص الواقعی لا یثبت کون ملاقاة الأطراف ملاقاة النجس إلاّ بالأصل المثبت؛لأنّ ملاقاة الأطراف ملاقاة للنجس عقلا.

و لیس لأحد أن یقول:إنّه بعد استصحاب نجاسة الثوب تکون الملاقاة معها وجدانیّة؛لأنّ ما هو وجدانی هو الملاقاة مع الثوب لا مع النجس، و استصحاب بقاء النجاسة بالنحو الکلّی،و کذا استصحاب النجس الذی کان فی الثوب،-أی الشخص الواقعی-لا یثبت أنّ الملاقاة مع الثوب بجمیع أطرافه ملاقاة للنجاسة إلاّ بالاستلزام العقلی،و فرق واضح بین استصحاب نجاسة طرف معیّن من الثوب،و بین استصحاب نجاسة فیه بنحو غیر معیّن؛ فإنّ ملاقاة الطرف المعیّن المستصحب النجاسة ملاقاة للنجس المستصحب وجدانا،فإذا حکم الشارع بأنّ هذا المعیّن نجس ینسلک فی کبری شرعیّة هی:«أنّ ملاقی النجس نجس»،و أمّا کون ملاقاة جمیع الأطراف ملاقاة

ص:178


1- 1) نهایة الافکار 4:130.

للنجس الکلّی أو الواقعی،فیکون بالاستلزام العقلی (1).

و أمّا ما ذکره المحقّق النائینی رحمه اللّه کما نقله صاحب المصباح فهو:أنّ الاستصحاب المدّعی فی المقام لا یمکن جریانه فی مفاد کان الناقصة،بأن یشار إلی طرف معیّن من العباءة و یقال:إنّ هذا الطرف کان نجسا و شکّ فی بقائها، فالاستصحاب یقتضی نجاسته.و ذلک لأنّ أحد طرفی العباءة مقطوع الطهارة، و الطرف الآخر مشکوک النجاسة من أوّل الأمر،و لیس لنا یقین بنجاسة طرف معیّن یشکّ فی بقائها لیجری الاستصحاب فیها.

نعم،یمکن إجراؤه فی مفاد کان التامّة،بأن یقال:إنّ النجاسة فی العباءة کانت موجودة و شکّ فی ارتفاعها،فالآن کما کانت؛لأنّ الحکم بنجاسة الملاقی یتوقّف علی نجاسة ما لاقاه و تحقّق الملاقاة خارجا،و من الظاهر أنّ استصحاب وجود النجاسة فی العباءة لا یثبت ملاقاة النجس إلاّ علی القول بالأصل المثبت؛ضرورة أنّ الملاقاة لیست من الآثار الشرعیّة لبقاء النجاسة، بل من الآثار العقلیّة،و علیه فلا تثبت نجاسة الملاقی للعباءة.

و أجاب عنه بعض الأعلام قدّس سرّه و قال:و فی هذا الجواب أیضا مناقشة ظاهرة؛إذ یمکن جریان الاستصحاب فی مفاد کان الناقصة مع عدم تعیین موضع النجاسة بأن نشیر إلی الموضع الواقعی و نقول:خیط من هذا العباءة کان نجسا و الآن کما کان،أو نقول:طرف من هذا العباءة کان نجسا و الآن کما کان،فهذا الخیط أو الطرف محکوم بالنجاسة للاستصحاب،و الملاقاة ثابتة بالوجدان؛إذ المفروض تحقّق الملاقاة مع طرفی العباءة،فیحکم بنجاسة الملاقی لا محالة (2).

ص:179


1- 1) الاستصحاب:88،و مصباح الاصول 3:111.
2- 2) مصباح الاصول 3:112.

و جوابه:أنّ الحکم بنجاسة الملاقی فی جزء غیر معیّن یرتبط بالعقل،بل لا طریق له غیر العقل،بخلاف الجزء المعیّن،فإنّ نجاسته ثابتة بالاستصحاب و ملاقاة الید مع الرطوبة بالوجدان،فلا نحتاج إلی حکم العقل،و أمّا فی الجزء المردّد فنقول بعد الملاقاة مع جمیع أجزاء العباءة،فلا محالة لاقی الجزء غیر المعیّن المحکوم بالنجاسة،و هذا حکم العقل.

و الحاصل:أنّه إذا علمنا إجمالا بنجاسة الجزء الأعلی أو الأسفل من العباءة،و بعد تطهیر الجزء الأسفل منه و الشکّ فی بقاء النجاسة فیه، فنستصحب کلّی النجاسة فیه،و لکن ملاقاة الید مع الرطوبة فی کلا الطرفین -الأعلی و الأسفل-لا یوجب نجاسته،فإنّ المحرز بالاستصحاب هی النجاسة المتحقّقة فی العباءة بوصف الکلّی فقط،و لا دلیل لنجاسة الید،و لا یشمله:

«ملاقی النجس نجس»؛إذ لم یحرز أنّه لاقی النجس،و کون ملاقاة العباءة ملاقاة للنجس لازم عقلی لا یترتّب علی الاستصحاب.

و ثانیا:أیضا ما یستفاد من کلام المحقّق النائینی رحمه اللّه کما ذکره صاحب المصباح قدّس سرّه و هو:أنّ الاستصحاب الجاری فی مثل العباءة لیس من استصحاب الکلّی فی شیء؛لأنّ استصحاب الکلّی إنّما هو فیما إذا کان الکلّی المتیقّن مردّدا بین فرد من الصنف الطویل و فرد من الصنف القصیر،کالحیوان المردّد بین البق و الفیل علی ما هو المعروف،بخلاف المقام،فإنّ التردّد فیه فی خصوصیّة محلّ النجس مع العلم بخصوصیّة الفرد،و التردّد فی خصوصیّة المکان أو الزمان لا یوجب کلّیّة المتیقّن،فلیس الشکّ حینئذ فی بقاء الکلّی و ارتفاعه حتّی یجری الاستصحاب فیه،بل الشکّ فی بقاء الفرد الحادث المردد من حیث المکان.

و ذکر لتوضیح مراده مثالین:

ص:180

الأوّل:ما إذا علمنا بوجود زید فی الدار،فانهدم الطرف الشرقی منها،فلو کان زید فیه فقد مات بانهدامه،و لو کان فی الطرف الغربی فهو حیّ،فحیاة زید و إن کانت مشکوکا فیها إلاّ أنّه لا مجال معه لاستصحاب الکلّی،و المقام من هذا القبیل بعینه.

الثانی:ما إذا کان لزید درهم و اشتبه بین ثلاثة دراهم مثلا،ثمّ تلف أحد الدراهم،فلا معنی لاستصحاب الکلّی بالنسبة إلی درهم زید،فإنّه جزئیّ (1).

و أجاب عنه تلمیذ بعض الأعلام قدّس سرّه:بأنّ هذا الجواب غیر تامّ،فإنّ الإشکال لیس فی تسمیة الاستصحاب الجاری فی مسألة العباءة باستصحاب الکلّی،بل الإشکال إنّما هو فی أنّ جریان استصحاب النجاسة لا یجتمع مع القول بطهارة الملاقی لأحد أطراف الشبهة،سواء کان الاستصحاب من قبیل استصحاب الکلّی أو الجزئیّ،فکما أنّه لا مانع من استصحاب حیاة زید فی المثال الأوّل کذلک لا مانع من جریان الاستصحاب فی مسألة العباءة.

و أمّا المثال الثانی فالاستصحاب فیه معارض بمثله،فإنّ أصالة عدم تلف درهم زید معارض بأصالة عدم تلف درهم غیره،و لو فرض عدم الابتلاء بالمعارض لا مانع من جریان الاستصحاب فیه،کما إذا اشتبهت خشبة زید -مثلا-بین أخشاب لا مالک لها لکونها من المباحات الأصلیّة،فتلف أحدها، فتجری أصالة عدم تلف خشبة زید بلا معارض (2).

و الإنصاف أنّ هذا الجواب عجیب منه؛إذ الغرض من الشبهة العبائیّة هو جریان استصحاب الکلّی فیها حتّی یکون مانعا من جریان استصحاب الکلّی

ص:181


1- 1) المصدر السابق.
2- 2) المصدر السابق.

من القسم الثانی،و هذه الشبهة إشکال و نقض علی جریان استصحاب الکلّی، و کانت فی مقام سدّ الطریق علی جریانه فی الکلّی من القسم الثانی،و إذا کان الاستصحاب فیها جزئیّا-کما یقول سواء کان من قبیل استصحاب الکلّی أو الجزئی-فکیف یکون إشکالا و نقضا علیه؟!

و معلوم أنّ عدم جریان استصحاب الجزئی فی مورد لمانع لا یکون مانعا عن جریانه فی موارد اخری،فهذا الجواب لیس بتامّ.

و التحقیق فی الجواب عمّا ذکره المحقّق النائینی رحمه اللّه:أنّ الاستصحاب فی الشبهة العبائیّة هو استصحاب الکلّی،فإنّ نجاسة الطرف الأسفل متیقّن الارتفاع، و نجاسة الطرف الأعلی مشکوک الحدوث،فلا یقین بالنسبة إلی الفرد حتّی یستصحب فی حال الشکّ،فلا بدّ من جریان استصحاب الکلّی بدون الإضافة إلی خصوص الطرف الأسفل أو الأعلی بأنّ یقال:إنّ النجاسة فی العباءة کانت متیقّنة و الآن هی مشکوکة،فنستصحب النجاسة الکلّیّة؛إذ لا شکّ فی وحدة القضیّة المتیقّنة و المشکوکة فی هذه الصورة.

و أمّا ما ذکره المحقّق النائینی رحمه اللّه من المثال،و هو قوله:ما إذا علمنا بوجود زید فی الدار،فانهدم الطرف الشرقی منها،فلو کان زید فیها فقد مات بانهدامه،و لو کان فی الطرف الغربی فهو حیّ،فحیاة زید و إن کانت مشکوکا فیها إلاّ أنّه لا مجال معه لاستصحاب الکلّی،و المقام من هذا القبیل بعینه.

فجوابه:أوّلا:أنّ جریان استصحاب الفرد لا یکون مانعا عن جریان استصحاب الکلّی،ففی المثال کما یجری استصحاب بقاء زید فی الدار،کذلک یجری استصحاب بقاء الإنسان فی الدار،و قد ذکرنا فی القسم الأوّل من أقسام الکلّی أنّ استصحاب الکلّی لیس بمانع عن استصحاب الفرد و بالعکس،

ص:182

بل یجری کلّ منهما بلحاظ ترتّب الأثر.

و ثانیا:أنّه یتحقّق الفرق بین المثال و ما نحن فیه بأنّ کون زید فی الجانب الشرقی من الدار لا یترتّب علیه أثر،و کون زید فی الجانب الغربی من الدار لا یترتّب علیه أثر،و ما یترتّب علیه الأثر هو بقاء زید فی الدار،أو بقاء الإنسان فی الدار،و إضافة زید إلی الجانب الغربی و الشرقی لا یوجب التعدّد فیه و لا یخرجه من الجزئی الحقیقی،و ما نحن فیه لیس کذلک،فإنّ إضافة النجاسة إلی الطرف الأسفل من العباءة یترتّب علیه الأثر من وجوب الغسل حین الصلاة و وجوب الاجتناب عنه،و هکذا إضافتها إلی الطرف الأعلی منه، و معلوم أنّ ذیل العباءة متنجّس و صدر العباءة متنجّس آخر،لا أنّه نفس ذاک المتنجّس،و الأمر مردّد بینهما،و لکلّ منهما أحکام و آثار،و إذا کان الذیل متنجّسا فیجب تطهیره،و ملاقاته تکون موجبة للتنجّس،و هکذا الصدر، فقیاس المثال علی ما نحن فیه غیر تام.

و ذکر بعض الأعلام قدّس سرّه جوابا آخر عن الشبهة العبائیّة و قال:«فالإنصاف فی مثل مسألة العباءة هو الحکم بنجاسة الملاقی لا لرفع الید عن الحکم بطهارة الملاقی لأحد أطراف الشبهة المحصورة علی ما ذکره السیّد الصدر قدّس سرّه من أنّه علی القول بجریان استصحاب الکلّی لا بدّ من رفع الید عن الحکم بطهارة الملاقی لأحد أطراف الشبهة؛بل لعدم جریان القاعدة التی نحکم لأجلها بطهارة الملاقی فی المقام؛لأنّ الحکم بطهارة الملاقی إمّا أن یکون لاستصحاب الطهارة فی الملاقی،و إمّا أن یکون لجریان الاستصحاب الموضوعی،و هو أصالة عدم ملاقاته النجس.و کیف کان،یکون الأصل الجاری فی الملاقی فی مثل مسألة العباءة محکوما باستصحاب النجاسة فی العباءة،فمن آثار هذا الاستصحاب

ص:183

هو الحکم بنجاسة الملاقی.و لا منافاة بین الحکم بطهارة الملاقی فی سائر المقامات و الحکم بنجاسته فی مثل المقام؛للأصل الحاکم علی الأصل الجاری فی الملاقی،فإنّ التفکیک فی الاصول کثیر جدّا،فبعد ملاقاة الماء-مثلا-لجمیع أطراف العباءة نقول:إنّ الماء قد لاقی شیئا کان نجسا،فیحکم ببقائه علی النجاسة؛للاستصحاب،فیحکم بنجاسة الماء» (1).

و لکنّ الالتزام بنجاسة الماء و ترتّبها علی استصحاب النجاسة لیس بتامّ إلاّ علی القول بالأصل المثبت و ترتّب الآثار و اللوازم العقلیّة،و بعد ما ذکرناه فی الجواب عن الشبهة العبائیّة من مثبتیّة هذا الأصل فلا محلّ لهذا الجواب.

القسم الثالث:و هو ما إذا کان الشکّ فی بقاء الکلّی لاحتمال قیام فرد آخر

مقام الفرد المعلوم ارتفاعه

،فیتصوّر علی وجهین:

أحدهما:ما إذا کان منشأ الشکّ احتمال مقارنة فرد لوجود الفرد المعلوم، بحیث یحتمل اجتماعهما فی الوجود.

و ثانیهما:ما إذا کان منشؤه احتمال حدوث فرد مقارنا لزوال الفرد المعلوم.

و اختار الشیخ قدّس سرّه التفصیل بین الصورتین و قال بجریان الاستصحاب فی الاولی دون الثانیة،بدعوی أنّه فی الصورة الاولی یکون الکلّی المعلوم سابقا مردّدا بین أن یکون وجوده علی نحو لا یرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه، و أن یکون علی نحو یرتفع بارتفاع ذلک الفرد،فیحتمل کون الثابت فی الآن اللاحق عین الموجود سابقا،فیجری الاستصحاب فیه،بخلاف الصورة الثانیة، فإنّ الکلّی المعلوم سابقا قد ارتفع یقینا،و وجوده فی ضمن فرد آخر مشکوک الحدوث من الأوّل،فلا یمکن جریان الاستصحاب فیه (2).

ص:184


1- 1) مصباح الاصول 3:112-113.
2- 2) فرائد الاصول 2:755.

و التحقیق:أنّ هذا التفصیل لیس بتامّ؛إذ النظر فی استصحاب الکلّی لا یکون إلی الخصوصیّات الفردیّة و أنّه یتحقّق فی ضمن أیّ خصوصیّة،و لا یلزم أن تکون خصوصیّة الکلّی فی البقاء عین خصوصیّة الکلّی فی الحدوث، بل النظر متمرکز إلی عنوان الکلّی،و هو فی ما نحن فیه عنوان الإنسانیّة -مثلا-و بالنسبة إلی هذا العنوان لا فرق بین الصورتین،و القضیّة المتیقّنة و المشکوکة فی کلا الفرضین عبارة عن أنّه:کان الإنسان موجودا فی الدار قطعا و الآن نشکّ فی بقاء الإنسان فی الدار،فإن قلنا بجریان الاستصحاب فلا بدّ من القول به فیهما،و هکذا إن قلنا بعدم جریانه،بلا فرق بینهما.

و المحقّق النائینی رحمه اللّه قائل بعدم جریان الاستصحاب فی الکلّی من القسم الثالث مطلقا،و قال:«بداهة أنّ العلم بوجود الفرد الخاصّ فی الخارج إنّما یلازم العلم بوجود حصّة من الکلّی فی ضمن الفرد الخاصّ،لا أنّه یلازم العلم بوجود الکلّی بما هو هو،بل للفرد الخاصّ دخل فی وجود الحصّة حدوثا و بقاء،و الحصّة من الکلّی الموجود فی ضمن الفرد الخاصّ تغایر الحصّة الموجودة فی ضمن فرد آخر،و لذا قیل:إنّ نسبة الکلّی إلی الأفراد نسبة الآباء المتعدّدة إلی الأبناء المتعدّدة،فلکلّ فرد حصّة تغایر حصّة الآخر،و الحصّة التی تعلّق بها الیقین سابقا إنّما هی الحصّة التی کانت فی ضمن الفرد الذی علم بحدوثه و ارتفاعه،و یلزمه العلم بارتفاع الحصّة التی تخصّه أیضا،و لا علم بحدوث حصّة اخری فی ضمن فرد آخر،فأین المتیقّن الذی یشکّ فی بقائه لیستصحب؟» (1).

و قال استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه فی مقام الجواب عنه:«إنّ هذا ناش من عدم

ص:185


1- 1) فوائد الاصول 4:424-425.

تعقّل الکلّی الطبیعی و کیفیّة وجوده،و عدم الوصول إلی مغزی مراد القوم،من أنّ نسبة الکلّی إلی الأفراد نسبة الآباء؛ضرورة أنّ الکلّی الطبیعی لدی المحقّقین موجود بتمام ذاته مع کلّ فرد من الأفراد،فکلّ فرد فی الخارج بتمام هویّته عین الکلّی،لا أنّه حصّة منه و لا تعقل الحصص للکلّی،فزید إنسان،لا نصف إنسان،أو جزء إنسان،أو حصّة منه،فلا معنی للحصّة أصلا.

و بالجملة،هذا الإشکال بمکان من الضعف یغنی تصوّر الکلّی عن ردّه، و العجب أنّ بعض أعاظم العصر ادّعی البداهة لما اختاره من الحصص للکلّی مع کونه ضروری الفساد» (1).

و معلوم أنّ بعد بطلان هذا المبنی لا یصحّ ترتّب الأثر المذکور علیه،فنقول فی المثال:کان الإنسان فی الدار موجودا قطعا،و بعد خروج زید و احتمال وجود عمرو معه من الابتداء أو دخوله فی الدار مقارنا مع خروجه عنه نشکّ فی بقاء الإنسان فیه،فنستصحب کلّی الإنسان،و نرتّب آثاره الشرعیّة علیه.

ثمّ إنّ الشیخ الأنصاری قدّس سرّه بعد اختیاره التفصیل بین الفرضین من استصحاب الکلّی من القسم الثالث و القول بعدم جریانه فی الفرض الثانی استثنی موردا منه بقوله:«و یستثنی من عدم الجریان فی القسم الثانی-أی الفرض الثانی من القسم الثالث-ما یتسامح به العرف،فیعدّون الفرد اللاحق مع الفرد السابق کالمستمرّ الواحد،مثل ما لو علم السواد الشدید فی محلّ و شکّ فی تبدّله بالبیاض أو بسواد أضعف من الأوّل،فإنّه یستصحب السواد» (2).

و التحقیق:أنّ تبدّل مرتبة من العرض بمرتبة اخری لیس من القسم الثالث

ص:186


1- 1) الاستصحاب:92.
2- 2) فرائد الاصول 2:755.

رأسا؛لأنّ شخصیّة الفرد و هویّته باقیة فی جمیع المراتب عقلا و عرفا،فالسواد الشدید إذا صار ضعیفا لیس تبدّله من الکمال إلی النقص تبدّل فرد بفرد آخر، أمّا عقلا فواضح،و أمّا عرفا فلأنّ المراتب عندهم فی أمثاله من قبیل الحالات و الشئون للشیء،فشدّة السواد و ضعفه من حالات نفس السواد مع بقائه ذاتا و تشخّصا،فالاستصحاب فی مثله من استصحاب الشخصی و الجزئی،فما ذکره الشیخ قدّس سرّه من الاستثناء المنقطع.

نعم،فیما إذا علم بوجوب شیء و قطع بزواله،و احتمل تبدّله بالاستحباب یکون من القسم الثالث؛لأنّه من قبیل تبدّل فرد من الطلب بفرد آخر مغایرا عرفا و عقلا.

و قال صاحب الکفایة قدّس سرّه:«و أمّا إذا کان الشکّ فی بقاء الکلّی من جهة الشکّ فی قیام خاصّ آخر فی مقام ذاک الخاصّ الذی کان فی ضمنه بعد القطع بارتفاعه،ففی استصحابه إشکال أظهره عدم جریانه،فإنّ وجود الطبیعی و إن کان بوجود فرده إلاّ أنّ وجوده فی ضمن المتعدّد من أفراده لیس من نحو وجود واحد له،بل متعدّد حسب تعدّدها،فلو قطع بارتفاع ما علم وجوده من الأفراد لقطع بارتفاع وجود الکلّی و إن شکّ فی وجود فرد آخر مقارن لوجود ذاک الفرد أو لارتفاعه،بنفسه أو بملاکه،کما إذا شکّ فی الاستحباب بعد القطع بارتفاع الایجاب بملاک مقارن أو حادث» (1).

و قال استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه فی مقام الجواب عنه:«و أمّا ما أفاده المحقّق الخراسانی قدّس سرّه من تعدّد الطبیعی بتعدّد الفرد،و أنّ الکلّی فی ضمن فرد غیره فی آخر،و لذا اختار عدم الجریان مطلقا،فهو حقّ فی باب الکلّی الطبیعی عقلا

ص:187


1- 1) کفایة الاصول 2:312.

کما حقّق فی محلّه،لکن جریانه لا یتوقّف علی الوحدة العقلیّة،بل المیزان وحدة القضیّة المتیقّنة و المشکوک فیها عرفا،و لا إشکال فی اختلاف الکلّیّات بالنسبة إلی أفرادها لدی العرف.

و توضیحه:أنّ الأفراد قد تلاحظ بالنسبة إلی النوع التی هی تحته،کزید و عمرو بالنسبة إلی الإنسان،و قد تلاحظ بالنسبة إلی الجنس القریب کزید و حمار بالنسبة إلی الحیوان،و قد تلاحظ بالنسبة إلی الجنس المتوسّط أو البعید،و قد تلاحظ بالنسبة إلی الکلّی العرضیّ،کأفراد الکیفیّات و الکمّیات التی هی مشترکة فی العروض علی المحلّ.

و لا یخفی أنّ الأفراد بالنسبة إلی الکلّیّات مختلفة عرفا،فإذا شکّ فی بقاء نوع الإنسان إلی ألف سنة یکون الشکّ فی البقاء عرفا مع تبدّل الأفراد،لکنّ العرف یری بقاء النوع مع تبدّل أفراده،و قد یکون الجنس بالنسبة إلی أفراد الأنواع کذلک،و قد لا یساعد علیه نظر العرف،کأفراد الإنسان و الحمار بالنسبة إلی الحیوان،فإنّ العرف لا یری الإنسان من جنس الحیوان،و قد لا یساعد علیه نظر العرف فی أفراد الأجناس البعیدة،و قد یساعد علی ذلک.

و بالجملة،المیزان وحدة القضیّة المتیقّنة و المشکوک فیها عرفا،و لا ضابط لذلک (1).

فلا نقول بجریان استصحاب الکلّی فی هذا القسم مطلقا،و لا بعدم جریانه مطلقا،و لا بالتفصیل الذی ذکره الشیخ قدّس سرّه،بل جریانه و عدم جریانه تابع لوحدة القضیّتین بنظر العرف و عدمها.

و قال بعض الأعلام قدّس سرّه:«و الصحیح عدم جریان الاستصحاب فی

ص:188


1- 1) الاستصحاب:93.

الصورتین؛لأنّ الکلّی لا وجود له إلاّ فی ضمن الفرد،فهو حین وجوده متخصّص بإحدی الخصوصیّات الفردیّة،فالعلم بوجود فرد معیّن یوجب العلم بحدوث الکلّی بنحو الانحصار-أی یوجب العلم بوجود الکلّی المتخصّص بخصوصیّة هذا الفرد-و أمّا وجود الکلّی المتخصّص بخصوصیّة فرد آخر فلم یکن معلوما لنا،فما هو المعلوم لنا قد ارتفع یقینا،و ما هو محتمل للبقاء لم یکن معلوما لنا،فلا یکون الشکّ متعلّقا ببقاء ما تعلّق به الیقین،فلا یجری فیه الاستصحاب» (1).

و جوابه:أنّ احتیاج وجود الکلّی إلی الخصوصیّات الفردیّة لا بحث فیه،إلاّ أنّ الکلّی بعد التحقّق و الوجود کأنّه ینحلّ إلی أمرین أو حیثیّتین:إحداهما حیثیّة الکلّی المتحقّق،و الاخری حیثیّة الخصوصیّات الفردیّة،و الاستصحاب یجری فی الأمر الأوّل-أی الکلّی المتحقّق-و لا فرق بین زید و عمرو و سائر الأفراد فی کلّی الإنسانیّة المتحقّقة،و الفرق إنّما یرجع إمّا إلی مقالة صاحب الکفایة،و إمّا إلی ما ذکره النائینی رحمه اللّه و بعد ردّ ما ذکراه تستفاد وحدة کلّی الإنسان المتحقّق فی ضمن زید مع کلّی الإنسان المتحقّق فی ضمن عمرو -مثلا-،و الاختلاف فی الخصوصیّات الفردیّة فقط،فلا مانع من استصحاب الکلّی هنا.

و ترد علی هذا القسم من الکلّی أیضا شبهة نظیر الشبهة العبائیّة فی القسم الثانی منه،و هی:أنّه إذا قام أحد من النوم و احتمل جنابته فی حال النوم لم یجز له الدخول فی الصلاة مع الوضوء،بناء علی جریان الاستصحاب فی الصورة الاولی من القسم الثالث من استصحاب الکلّی،و ذلک لجریان استصحاب

ص:189


1- 1) مصباح الاصول 2:114-115.

الحدث حینئذ بعد الوضوء؛لاحتمال اقتران الحدث الأصغر مع الجنابة،و هی لا ترتفع بالوضوء.و لا یلتزم بهذا الحکم الشیخ قدّس سرّه و لا غیره؛فإنّ کفایة الوضوء حینئذ من الواضحات.و هذا یکشف من عدم جریان الاستصحاب فی القسم الثالث مطلقا.

و قال بعض الأعلام قدّس سرّهم فی مقام الجواب عنه:«و لکنّ الإنصاف عدم ورود هذا النقض علی الشیخ رحمه اللّه و ذلک؛لأنّ الواجب علی المحدث هو الوضوء؛لقوله تعالی: إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ (1)،و الجنب خارج من هذا العموم و یجب علیه الغسل؛لقوله تعالی: وَ إِنْ کُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (2)،فیکون وجوب الوضوء مختصّا بغیر الجنب،فإنّ التقسیم قاطع للشرکة،فالمکلّف بالوضوء هو کلّ محدث لا یکون جنبا،فهذا الذی قام من نومه و یحتمل کونه جنبا حین النوم تجری فی حقّه أصالة عدم تحقّق الجنابة،فکونه محدثا محرز بالوجدان،و کونه غیر جنب محرز بالتعبّد الشرعی،فیدخل تحت قوله تعالی:

فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ... فیکون الوضوء فی حقّه رافعا للحدث،و لا مجال لجریان الاستصحاب فی الکلّی؛لکونه محکوما بالأصل الموضوعی» (3).

و یمکن الجواب عنه بأنّ الآیة مشتملة علی قضیّتین،کأنّه قال:إذا تحقّق النوم یجب الوضوء،و إذا تحقّقت الجنابة یجب الاغتسال،و لا ارتباط بینهما و لا دلیل لتقیید موضوع وجوب الوضوء و ترکیبیه-أی النوم و عدم الجنابة-کما إذا قال المولی لعبده:«إن جاءک زید فأکرمه»،ثمّ قال:«إن جاءک عمرو فأهنه»،فمجیء زید سبب مستقلّ لوجوب إکرام زید،و لا دلیل لدخالة قید

ص:190


1- 1) المائدة:6.
2- 2) المائدة:6.
3- 3) مصباح الاصول 3:115-116.

آخر أو جزء آخر فیه-أی مجیء عمرو و عدم مجیئه-و هکذا فی القضیّة الثانیة.

و أمّا استشهاده بذیل الآیة-أی فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً (1)، و استفادته تقیید موضوع الوضوء بوجدان الماء بقرینة المقابلة بین الصدر و الذیل فلیس بصحیح؛فإنّ هذا التقیید یستفاد من نفس الأمر بالوضوء مع قطع النظر عن ذیل الآیة.

و التحقیق:أنّ هذا الجواب لیس بصحیح،بل ما ذکره بعض الأعلام قدّس سرّه فی کمال الدقّة و المتانة،فإنّ الظاهر من قوله تعالی: إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ... أنّه:

إذا قمتم من النوم إلی الصلاة فاغسلوا وجوهکم...و هذا المعنی فی القضیّة الاولی واضح.

و أمّا ارتباط القضیّة الشرطیّة الثانیة بالصلاة،فیستفاد من ذکرها عقیب القضیّة الاولی،فالقیام من النوم إلی الصلاة محفوظ فیهما،فالمستفاد من الآیة صدرا و ذیلا أنّ القائم من النوم علی قسمین:قد یکون القائم من النوم جنبا و قد یکون غیر جنب،کأنّه قال:«إذا قمتم من النوم إلی الصلاة و لم تکونوا جنبا فاغسلوا وجوهکم و أیدیکم إلی المرافق،و إذا قمتم من النوم إلی الصلاة و کنتم جنبا فاطّهروا و یجب علیکم الاغتسال»،و بهذا الاستظهار من الآیة یصحّ الجواب عن الشبهة،و أنّ موضوع الوضوء فی صدر الآیة مقیّد و مرکّب من الجزءین-أی القیام من النوم و عدم الجنابة-و الأوّل محرز بالوجدان و الثانی بالاستصحاب،فبعد جریان استصحاب الموضوع-أی عدم الجنابة-لا تصل النوبة إلی استصحاب کلّی الحدث بعد الوضوء،و لا تقاس الآیة بالمثال

ص:191


1- 1) المائدة:6.

المذکور،کما هو واضح،و نفس الآیة مع قطع النظر عن الروایات تدلّ علی کفایة الغسل للصلاة بعد الجنابة.هذا کلّه بالنسبة إلی الجواب الأوّل من الشبهة.

و الجواب الثانی:أنّ المستصحب لا بدّ من کونه مجعولا و حکما شرعیّا أو موضوعا للحکم الشرعی،و معلوم أنّ الحدث الکلّی لا یکون من الأحکام المجعولة الشرعیّة،فإنّه أمر انتزاعی انتزعه المتشرّعة لا یکون هذا العنوان فی لسان الشارع محکوما بحکم،و لا یکون موضوعا للحکم الشرعی؛إذ لا نری فی الشریعة أن یکون مطلق الحدث و العنوان الجامع بین الأصغر و الأکبر محکوما بحکم.

و لکن یمکن أن یتحقّق بعض موارد فی الشرع أن یکون عنوان المحدث محکوما بحکم،مثل:«المحدث لا یجوز له مسّ کتابة القرآن»،و هکذا،فإن کان کذلک فلیس هذا الجواب بتامّ؛إذ لا مانع من استصحاب کلّی الحدث لترتّب هذه الآثار الشرعیّة.

و أمّا القسم الرابع من الکلّی فهو ما إذا علمنا بوجود عنوانین یحتمل انطباقهما علی فرد واحد و عدمه،أو علمنا بوجود فردین و شکّ فی تعاقبهما و عدمه،و المثال للأوّل أنّه:إذا علمنا لوجود زید فی الدار لوجود متکلّم فیها یحتمل انطباقه علی زید و علی غیره،و بعد القطع بخروج زید عنها نشکّ فی بقاء المتکلّم فیها؛لاحتمال بقائه فی ضمن غیره،فنستصحب بقاء کلّی الإنسان فیها،أو أنّه:إذا علمنا بالجنابة لیلة الخمیس-مثلا-و قد اغتسلنا منها،ثمّ رأینا منیّا فی ثوبنا یوم الجمعة،فنعلم بکوننا جنبا حین خروج هذا المنی، و لکن نحتمل أن یکون هذا المنی من الجنابة التی قد اغتسلنا منها،أو یکون من غیرها،فنستصحب بقاء کلّی الجنابة.

ص:192

و المثال للثانی:ما إذا علم أحد بوضوءین و بحدث،و لکن لا یدری أنّ الوضوء الثانی کان تجدیدیّا لیکون الحدث بعدهما و باقیا فعلا،أو کان رافعا للحدث لیکون متطهّرا فعلا،فیمکن استصحاب کلّی الطهارة.

و لا شکّ فی أنّ الاستصحاب فی المثال الأوّل استصحاب الکلّی،و لا شکّ فی کونه قسما آخر فی مقابل کلّی القسم الثانی و الثالث،فإنّه قد مرّ أنّه إذا علمنا بتحقّق کلّی الحیوان فی الدار و شککنا فی کونه فی ضمن فرد قصیر العمر أو طویل العمر،فهو کلّی من القسم الثانی،و إذا علمنا بتحقّق کلّی الإنسان فی ضمن زید-مثلا-فی الدار و خروجه عنها،و شککنا فی تحقّق عمرو فیها مقارنا مع دخول زید فیها أو مقارنا لخروجه عنها،فهو کلّی من القسم الثالث.

و فی ما نحن فیه علمنا بوجود زید فی الدار و خروجه عنها و علمنا أیضا بوجود متکلّم فیها،و شککنا فی انطباق هذا العنوان الکلّی علی زید أو غیره.

و أمّا الاستصحاب فی المثال الثانی علی فرض جریانه،فلا یکون استصحابا کلّیّا،فإنّ استصحاب الجنابة الحاصلة عقیب هذا المنیّ المشخّص الموجود فی الثوب استصحاب شخصی؛إذ الجنابة بهذه الأوصاف لا یمکن أن تکون کلّیّة،و الشکّ فی زمان الجنابة لا یوجب کلّیّتها.

و هکذا استصحاب الطهارة فی المثال الثالث لیس باستصحاب الکلّی؛إذ المتیقّن و المستصحب فی الواقع عبارة عن الطهارة الحاصلة بعد الوضوء الثانی، سواء کان تجدیدیّا أو رافعا للحدث،و التردید فی سبب هذه الطهارة أنّه وضوء الأوّل و الثانی،و التردید فی سببیّتها لا یوجب کلّیّتها،فهذان المثالان خارجان عن تحت عنوان استصحاب الکلّی،فیبقی المثال الأوّل فقط،و یجری استصحاب الکلّی،فإنّا کنّا متیقّنین بوجود المتکلّم الکلّی فی الدار و بعد خروج زید نشکّ فی بقاءه فیها فنستصحب بقاءه.

ص:193

و ربّما یقال بعدم جریان الاستصحاب فی هذا القسم من أقسام استصحاب الکلّی؛نظرا إلی أنّه لا بدّ فی جریان الاستصحاب من إحراز صدق عنوان نقض الیقین بالشکّ علی رفع الید عن الیقین السابق بعد جواز إحراز عالمیّة زید-مثلا-فی صورة الشکّ فیه بالتمسّک بعموم إکرام کلّ عالم،فإنّه من التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة،و فی المقام لم یحرز هذا؛لأنّه بعد الیقین بارتفاع الفرد المتیقّن-أی زید فی المثال-و احتمال انطباق العنوان الآخر-أی المتکلّم-علیه یحتمل أن یکون رفع الید عن الیقین به من نقض الیقین بالیقین،فلا یمکن التمسّک بقوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ»،فإنّه من التّمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة.

و جوابه:أنّ احتمال الانطباق إنّما هو فی نفس العنوان لا بوصف أنّه متیقّن، فإنّه بهذا الوصف یستحیل انطباقه علی الفرد الأوّل بالضرورة،ففی المثال المتقدّم إنّما نحتمل انطباق نفس عنوان المتکلّم علی زید،إلاّ أنّه بوصف أنّه متیقّن لا یحتمل أن ینطبق علیه،فبعد الیقین بوجود المتکلّم فی الدار لا یرتفع هذا الیقین بالیقین بخروج زید منها،بل الشکّ فی بقائه فیها موجود بالوجدان، فلا مانع من جریان الاستصحاب فیه.

و بالجملة،الشبهة المصداقیّة غیر متصوّرة فی الاصول العلمیّة؛لأنّ موضوعها الیقین و الشکّ،و هما من الامور الوجدانیّة،فإمّا أن یکونا موجودین أو لا،فلا معنی لقولنا:لا نعلم أنّا نشکّ فی أمر کذا أم لا.

هذا تمام الکلام فی استصحاب الکلّی،و ذکر أعاظم الفنّ تبعا للشیخ الأنصاری قدّس سرّه فی ذیل استصحاب الکلّی من القسم الثالث مسألة اختلافیّة بین المشهور و الفاضل التونی قدّس سرّه بالنسبة إلی استصحاب عدم التذکیة و قد مرّ الکلام فیها مفصّلا فی تنبیهات أصالة البراءة،و لا نعیدها إعراضا عن التطویل.

ص:194

التنبیه الرابع: فی جریان الاستصحاب فی التدریجیّات

اشارة

فی جریان الاستصحاب فی التدریجیّات

ربّما یقال:إنّ مقتضی تعریف الاستصحاب و أخبار الباب-من اعتبار الشکّ فی البقاء فیه-عدم جریانه فی الزمان و الزمانیّات؛لعدم تصوّر البقاء فیها،فأنکر المحقّق الحائری قدّس سرّه اعتبار الشکّ فی البقاء قائلا:إنّ المیزان فیه هو مفاد الأخبار،و المعتبر فیها هو صدق نقض الیقین بالشکّ،و هو صادق فی التدریجیّات و غیرها؛ضرورة أنّها-ما لم تنقطع-وجود واحد حقیقی و إن کان متصرّما،فلو شکّ فی تحقّق الحرکة أو الزمان بعد العلم بتحقّقهما فقد شکّ فی تحقّق عین ما کان متحقّقا سابقا،فلا یحتاج فی التمسّک بالأخبار إلی المسامحة العرفیّة.

نعم،لو کان المعتبر فی الاستصحاب الشکّ فی البقاء أمکن أن یقال:مثل الزمان و الزمانیّات المتصرّمة خارج عن العنوان المذکور؛لعدم تصوّر البقاء لها إلاّ بالمسامحة العرفیّة،لکن لیس هذا العنوان فی الأدلّة (1).

و یظهر من الشیخ الأنصاری قدّس سرّه أیضا هذا المعنی حیث تفصّی عن الإشکال

ص:195


1- 1) درر الفوائد:538.

بأحد وجهین:

أوّلهما:أنّ التعبیر بالبقاء فی تعریف الاستصحاب بلحاظ صدقه فی الزمانیّات و إن لم یصدق فی نفس الزمان.

و ثانیهما:أنّ البقاء أعمّ من الحقیقی کما فی الزمانیّات،و المسامحی کما فی الزمان،و إلاّ فالعبرة بالشکّ فی وجوده العلم بتحقّقه قبل زمان الشکّ،و إن کان تحقّقه بنفس تحقّق زمان الشکّ (1).

و التحقیق بعد ملاحظة هذه المباحث:أنّه لا بدّ من البحث فی مقامین:

الأوّل:فی أنّ الشکّ فی البقاء حقیقة معتبر فی الاستصحاب أم لا؟و أنّه علی فرض اعتباره،ما الدلیل علی ذلک؟

الثانی:أنّ الاستصحاب یجری فی الزمان و الحرکة و أمثال ذلک أم لا؟

أمّا المقام الأوّل فالتحقیق:أنّ الشکّ فی البقاء معتبر فی الاستصحاب، و الدلیل علی ذلک لا یکون تعاریف القوم-بإبقاء ما کان و أمثال ذلک-إذ لا دلیل لحجّیّتها،بل یستفاد هذا المعنی من أدلّة الاستصحاب؛لأنّ مقتضی قوله:

«لا ینقض الیقین بالشکّ»أنّ الیقین الفعلی لا ینقض بالشکّ الفعلی،و لازمه أن یکون هنا شکّ فعلیّ متعلّق بعین ما تعلّق به الیقین الفعلی،و لا یتصوّر ذلک إلاّ بأن یکون الشکّ فی بقاء ما علم وجوده سابقا،فقوله:«لأنّک کنت علی یقین من طهارتک فشککت،و لیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ أبدا» (2)عبارة اخری عن الشکّ فی بقاء الطهارة.

و أمّا المقام الثانی فلا مانع من جریان الاستصحاب فی الزمان،لوحدة

ص:196


1- 1) فرائد الاصول 2:759.
2- 2) الوسائل 2:1053،الباب 37 من أبواب النجاسات،الحدیث 1.

القضیّة المتیقّنة و المشکوکة عرفا،فإذا شککنا فی بقاء النهار-مثلا-یجری استصحاب وجوده بلا إشکال،و هکذا إذا شککنا فی بقاء اللیل،أو الشهر،أو السّنة،و إن قلنا بأنّ الزمان مرکّب من الآنات الصغیرة المنصرمة،نظیر ما ذکره بعضهم من ترکیب الأجسام من الأجرام الصغیرة غیر القابلة للتجزئة، فلا مانع من جریان الاستصحاب فیه أیضا،لوحدة القضیّة المتیقّنة و المشکوکة بنظر العرف،و المدار فی جریان الاستصحاب علی وحدة الموضوع بنظر العرف لا بالدّقة العقلیّة.

و إن لاحظنا المسألة بنظر العقل،فهو یوافق نظر العرف،فإنّ الوجود علی نوعین:نوع منه وجود قارّ و مستقرّ و النوع الآخر منه الوجود المتدرّج و المتصرّم الذی یوجد و ینعدم،فإذا کانت ذات الموجود عبارة عن التدرّج و التصرّم فیتصوّر فیه الشکّ فی البقاء،فالنهار موجود مستمرّ تدریجی یبتدأ من أوّل جزء النهار و یستمرّ إلی آخره،یتحقّق فیه البقاء و لو بالدّقة العقلیّة.

و قال صاحب الکفایة قدّس سرّه:«إنّ الانصرام و التدرّج فی الوجود فی الحرکة فی الأین و غیره إنّما هو فی الحرکة القطعیّة،و هی کون الشیء فی کلّ آن فی حدّ أو مکان،لا التوسطیّة و هی کونه بین المبدأ و المنتهی،فإنّه بهذا المعنی یکون قارّا مستمرّا،فانقدح بذلک أنّه لا مجال للإشکال فی استصحاب مثل اللیل و النهار و ترتیب ما لهما من الآثار» (1).

و التحقیق:أنّ تعریف الحرکة القطعیّة بکون الشیء فی کلّ آن فی حدّ و مکان،لیس بتامّ عند أهل الفنّ،بل هو تعریف للحرکة التوسّطیّة عندهم -بمعنی انقطاع کلّ حدّ و آن عن سابقه و لا حقه،و وجود الحدّ الآخر و الآن

ص:197


1- 1) کفایة الاصول 2:315.

الآخر بعده منقطعا عن الحدّ و الآن الآخر-و لکنّه مستلزم لتوالی الفاسدة من إنکار الحرکة أوّلا،فإنّ تبادل الآنات لا یوجب وجود الحرکة،و الجزء الذی لا یتجزّأ و تتالی الآنات،و لهذا تکون الحرکة بمعنی التوسّط و الآن السیّال ممّا لا وجود لها،بل ما هو الموجود هو الحرکة القطعیّة و الزمان،لکنّ نحو وجودها یکون بالامتداد التصرّمی و الاستمرار التجدّدی،فلا إشکال فی صدق البقاء عرفا علی استمرار النهار و اللیل و کذا الحرکات،فإذا تحرّک شیء تکون حرکته موجودة باقیة عرفا إلی انقطاعها بالسکون،و لا تکون الحرکة مجموع دقائق و ساعات منضمّ بعضها إلی بعض،و هذا ممّا لا إشکال فیه.

إنّما الإشکال فی کونه مثبتا،فإنّ استصحاب بقاء النهار أو اللیل،لا یثبت کون الجزء المشکوک فیه متّصفا بکونه من النهار أو اللیل،حتّی یصدق علی الفعل الواقع فیه أنّه واقع فی اللیل أو النهار،إلاّ علی القول بالأصل المثبت،فإنّ وقوع الإمساک فی النهار أو اللیل لازم عقلی لبقاء النهار.

و لذا عدل الشیخ قدّس سرّه عن جریان الاستصحاب فی الزمان فی مثله إلی جریانه فی الحکم،بأن نقول بعد الشکّ فی بقاء النهار:إنّ وجوب الإمساک الواقع فی النهار کان ثابتا قبل هذا،فالآن کما کان (1).

و عدل صاحب الکفایة قدّس سرّه أیضا عن جریان الاستصحاب فی الزمان،و فی الحکم إلی جریانه فی فعل المکلّف المقیّد بالزمان،بأن یقال بعد الشکّ فی بقاء النهار:إنّ الإمساک قبل هذا کان واقعا فی النهار،و الآن کما کان (2).

فلا بدّ لنا من ملاحظة أنّ استصحاب بقاء النهار مثبت أم لا؟و علی فرض

ص:198


1- 1) فرائد الاصول 2:76.
2- 2) کفایة الاصول 2:317.

مثبتیّته هل یکفی ما ذکره العلمین لحلّ الإشکال أم لا؟

و التحقیق:أنّ ما ذکره الشیخ قدّس سرّه لا یکون جوابا عن الإشکال؛إذ المشکوک لنا لیس وجوب الإمساک فی النهار؛لکونه متیقّنا أبدا،و ما هو المشکوک أنّ هذا الزمان من اللیل أو النهار؟و لا یمکن باستصحاب بقاء وجوب الإمساک فی النهار إثبات کون الإمساک فی هذه اللحظة المشکوکة فی النهار؛إذ لا یمکن للحکم إثبات موضوعه؛لتقدّمه علیه رتبة.

و ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه من الاستصحاب و إن کان جاریا فی مثل الإمساک إلاّ أنّه غیر جار فی جمیع موارد الشکّ فی الزمان،فإنّ من أخّر صلاة الظهرین حتّی شکّ فی بقاء النهار لا یمکنه إجراء الاستصحاب فی الفعل،بأن یقال:الصلاة قبل هذا کانت واقعة فی النهار و الآن کما کانت؛إذ المفروض أنّ الصلاة لم تکن موجودة إلی الآن.

اللّهمّ إلاّ أن یتشبّث بذیل الاستصحاب التعلیقی،فیقال:لو أتی بالصلاة قبل هذا لکانت واقعة فی النهار،فالآن کما کانت،و لکنّ الاستصحاب التعلیقی مع عدم صحّته فی نفسه مختصّ عند قائله بالأحکام،مثل العصیر العنبی إذا غلی ینجس،فلا یجری فی الموضوعات کما یأتی التعرّض له قریبا إن شاء اللّه تعالی.

و لکن یستفاد من روایات باب الاستصحاب أنّه لا إشکال فی جریان استصحاب بقاء النهار،فإنّ استصحاب بقاء الطهارة یستفاد من قوله علیه السّلام:

«فإنّه علی یقین من وضوئه،و لا ینبغی له أن ینقض الیقین بالشکّ» (1)،مع أنّ المأمور به عبارة عن الصلاة مع الطهارة،و لا یثبت باستصحاب بقاء الطهارة وقوع الصلاة فی حال الطهارة إلاّ بالأصل المثبت،فإنّ معنی قوله:«صلّ مع

ص:199


1- 1) الوسائل 2:175،الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء،الحدیث 1.

الطهارة-مثلا-لا تکون الصلاة المتّصفة بکونها واقعة فی حال الطهارة،بل معناه أنّ الواجب هو مرکّب عن الصلاة و الطهارة فی حال الصلاة،و بعد الشکّ فی الطهارة و إتیان الصلاة بالطهارة المستصحبة یحرز أحد الجزءین بالوجدان و هو الصلاة،و الآخر بالتعبّد و هو الطهارة،و هکذا فی ما نحن فیه یحرز الإمساک بالوجدان و بقاء النهار بالاستصحاب،و قد ثبت فی محلّه کفایة کون المستصحب جزء الموضوع للحکم الشرعی؛لجریان الاستصحاب،فبقاء النهار بعنوان جزء الموضوع للحکم الشرعی یمکن جریان الاستصحاب فیه.

ثمّ إنّ ما ذکرناه فی الزمان یتحقّق فی الحرکة أیضا من تحقّق التصرّم و التدرّج فی ذاتها،و کیفیّة وجودها کذلک لا ینافی البقاء و الاستمرار،بل هی موجود قابل للبقاء و الدوام عرفا و عقلا،و لذا لا إشکال فی جریان الاستصحاب فیها فی صورة الشکّ فی بقائها،مثلا:حرکة زید من المنزل إلی المدرسة وجود واحد متصرّم و مستمرّ،ففی صورة الشکّ فیها یجری الاستصحاب لترتّب الأثر الشرعی علیها.

استصحاب الزمانیّات

قال استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه:«و أمّا غیر الحرکة من الزمانیّات المتصرّمة المتقضّیة فهی علی أقسام:

منها:ما یکون تصرّمه و تقضّیه ممّا لا یراه العرف،بل یکون بنظرهم ثابتا کسائر الثابتات،کشعلة السراج التی یراها العرف باقیة من أوّل اللیل إلی آخره من غیر تصرّم و تغیّر،مع أنّ الواقع خلافه،و کشعاع الشمس الواقع علی الجدار الذی یرونه ثابتا غیر متغیّر.

و منها:ما یری العرف تصرّمه و تغیّره،لکن یکون نحو بقائه کبقاء نفس

ص:200

الزمان و الحرکة ممّا یکون واحدا عقلا و عرفا و إن کانت وحدته و بقاؤه بعین تصرّمه و تقضّیه،کصوت ممتدّ مثل الرعد و أمثاله.

و منها:ما تکون وحدته و بقاؤه بنحو من الاعتبار،مثل ما فرضه الشیخ الأنصاری قدّس سرّه بالنسبة إلی الزمان و الزمانیّات مطلقا.

و لعلّ هذا الاعتبار محتاج إلیه فی هذا القسم،و هو مثل التکلّم و قرعات النبض و الساعة،[و الصلاة المرکّبة من المقولات المختلفة].

و لا إشکال فی جریان الاستصحاب فی الأوّل منها،سواء جری فی الزمان و الحرکة أم لا،و القسم الثانی حاله حال نفس الزمان و الحرکة،و قد عرفت جریانه فیهما من غیر احتیاج إلی الاعتبار الذی اعتبره الشیخ الأعظم.

و القسم الثالث أسوأ حالا من الزمان و الحرکة،و إن کان الأقوی جریانه فیه أیضا؛لمساعدة العرف فی صدق البقاء،و أنّ رفع الید عنه هو نقض الیقین بالشکّ،و هذا ممّا لا شبهة فیه،لکنّ الظاهر أنّه من قبیل القسم الثانی من القسم الثالث من الکلّی» (1).

و قد عرفت أنّ القسم الثانی منه ما إذا علمنا بوجود زید فی الدار و خروجه منها،و احتمال دخول عمرو فیها مقارنا لخروج زید منها،و قلنا بجریان استصحاب کلّی الإنسان فیه دون استصحاب الفرد،و هکذا فی ما نحن فیه، فإنّ التکلّم فی مجلس وعظ واحد عبارة عن وجودات و أفراد متعدّدة من التکلّم،و فی صورة الشکّ فی بقاء واعظ فی حال التکلّم و عدمه علمنا بتحقّق أفراد من التکلّم و انعدامها،و نحتمل تحقّق أفراد اخری من طبیعة التکلّم مقارنة لانعدامها،فنستصحب بقاء کلّی التکلّم دون بقاء الأفراد؛لترتّب الأثر

ص:201


1- 1) الاستصحاب:119.

الشرعی علیه.

و القسم الآخر من الزمانی و هو ما یکون له الثبات فی نفسه،و لکنّه قیّد بالزمان فی لسان الدلیل،کالإمساک المقیّد بالنهار،فقد یکون الشکّ فیه من جهة الشبهة الموضوعیّة،و قد یکون من جهة الشبهة الحکمیّة؛أمّا القسم الأوّل فتارة یکون الفعل فیه مقیّدا بعدم مجیء زمان،کما إذا کان الإمساک مقیّدا بعدم غروب الشمس أو کان جواز الأکل و الشرب فی شهر رمضان مقیّدا بعدم طلوع الفجر.

و علیه فلا إشکال فی جریان الاستصحاب العدمی،فباستصحاب عدم غروب الشمس یحکم بوجوب الإمساک،کما أنّه باستصحاب عدم طلوع الفجر یحکم بجواز الأکل و الشرب.

و اخری یکون الفعل مقیّدا فی لسان الدلیل بوجود الزمان لا بعدم ضدّه،کما إذا کان الإمساک مقیّدا بالنهار و جواز الأکل و الشرب مقیّدا باللیل،فیجری الاستصحاب فی نفس الزمان علی ما تقدّم من الإشکال و الجواب.

و أمّا القسم الثانی-و هو ما کان الشکّ فیه فی بقاء الحکم لشبهة حکمیّة- فقد یکون الشکّ فیه لشبهة مفهومیّة،کما إذا شککنا فی أنّ الغروب الذی جعل غایة لوجوب الإمساک هل هو عبارة عن استتار القرص،أو ذهاب الحمرة المشرقیّة؟

و قد یکون الشکّ فیه لتعارض الأدلّة کما فی آخر وقت العشاءین،لتردّده بین انتصاف اللیل کما هو المشهور،أو طلوع الفجر کما ذهب إلیه بعض،مع الالتزام بحرمة التأخیر عمدا عن نصف اللیل.

و کیف کان،فذهب الشیخ قدّس سرّه-و تبعه جماعة ممّن تأخّر عنه،منهم صاحب

ص:202

الکفایة قدّس سرّه-إلی أنّ الزمان إذا اخذ قیدا للفعل فلا یجری الاستصحاب فیه،و إذا اخذ ظرفا فلا مانع من جریانه.

فإذا کان الجلوس المقیّد بما قبل الزوال واجبا و شککنا بعد الزوال ببقاء الوجوب و عدمه فلا معنی لاستصحاب وجوب الجلوس؛فإنّ متعلّق الوجوب عنوان قد ارتفع و انتفی قطعا،و الجلوس بعد الزوال عنوان آخر،و إذا کان الجلوس قبل الزوال واجبا بمعنی کون ظرف وجوبه عبارة عن قبل الزوال بدون الإثبات أو النفی بالنسبة إلی ما بعد الزوال،فیمکن جریان الاستصحاب فی حال الشکّ بأنّ الجلوس کان واجبا قبل الزوال،و الآن کما کان (1).

و کان لاستاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه هنا کلام جیّد،و هو قوله:«و أمّا استصحاب نفس وجوب الجلوس بعد مضی النهار،فلیس موردا للبحث هاهنا،و مناط الإشکال فیه لیس مناطه فی الزمان و الزمانیّات حتّی یقال:إنّ الزمان إذا اخذ قیدا لا یجری الاستصحاب بعده،و إذا اخذ ظرفا یجری بعده؛لأنّ ذلک خروج عن محطّ البحث و مورد النقض و الإبرام،و هذا خلط واقع من الشیخ الأعظم و تبعه غیره» (2).

و ممّا ذکرنا یعلم أنّ ذکر کلام الفاضل النراقی قدّس سرّه فی ذیل المبحث غیر مناسب؛ لأنّ إشکاله إنّما هو معارضة الاستصحاب الوجودی بالعدمیّ فی الأحکام بعد مضیّ الزمان الذی اخذ ظرفا للواجب أو الوجوب،و لیست الشبهة مرتبطة بالشبهة التی فی الزمان و الزمانیّات (3).

ص:203


1- 1) فرائد الاصول 2:762،کفایة الاصول 2:317.
2- 2) المصدر السابق.
3- 3) الاستصحاب:120-121.
شبهة النراقی

و حاصل الشبهة:أنّ استصحاب الوجود دائما معارض باستصحاب العدم الأزلی فی الأحکام،تکلیفیّة کانت أو وضعیّة،فاستصحاب وجوب الجلوس بعد الزوال معارض باستصحاب عدم وجوب الجلوس المتقیّد بکونه بعد الزوال،فإنّ عنوان الجلوس المتقیّد بما بعد الزوال من العناوین التی یمکن أن تکون مستقلّة فی الحکم،فهو غیر محکوم بالوجوب فی الأزل،فیستصحب عدم الوجوب الأزلی،و یعارض باستصحاب وجوب الجلوس الثابت قبل الزوال.

و إشکال عدم اتّصال زمان الشکّ بالیقین مدفوع بأنّه قبل مجیء زمان وجوب الجلوس قبل الزوال-أی حینما صدر الدلیل لوجوبه-یکون الیقین و الشکّ حاصلین و متّصلا أحدهما بالآخر بالنسبة إلی الجلوس بعد الزوال (1).

و أجاب عن الشبهة الشیخ الأنصاری قدّس سرّه بأنّ الأمر الوجودی المجعول إن لوحظ الزمان قیدا له أو لمتعلّقه،بأن لوحظ وجوب الجلوس المقیّد بکونه إلی الزوال شیئا و المقیّد بکونه بعد الزوال شیئا آخر متعلّقا للوجوب،فلا مجال لاستصحاب الوجوب؛للقطع بارتفاع ما علم وجوده و الشکّ فی حدوث ما عداه،و لذا لا یجوز الاستصحاب فی مثل:«صم یوم الخمیس»إذا شکّ فی وجوب صوم یوم الجمعة.

و إن لوحظ الزمان ظرفا لوجوب الجلوس فلا مجال لاستصحاب العدم؛ لأنّه إذا انقلب العدم إلی الوجود المردّد بین کونه فی قطعة خاصّة من الزمان و کونه أزید،و المفروض تسلیم حکم الشارع بأنّ المتیقّن فی زمان لا بدّ

ص:204


1- 1) مناهج الأحکام و الاصول للمحقّق النراقی:239،السطر 9.

من إبقائه فلا وجه لاعتبار العدم السابق (1).

و استشکل علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه بقوله:«و الإنصاف عدم ورود هذا الإشکال علیه؛لأنّ فرض قیدیّة الزمان للجلوس أو الحکم غیر مذکور فی کلامه،و لا یکون دخیلا فی مدّعاه؛لأنّ دعواه تعارض استصحاب الوجود بالعدم دائما،لا جریان استصحاب الوجود دائما،حتّی یرد علیه أنّه قد لا یجری استصحاب الوجود،و ذلک فیما إذا اخذ الزمان قیدا،و هذا نظیر ادّعاء أنّ استصحاب المسبّبی محکوم لاستصحاب السببی دائما،فإنّ المدّعی لیس جریان الاستصحابین دائما،بل المدّعی أنّه علی فرض الجریان یکون أحدهما محکوما.

و بالجملة،منظوره عدم جواز التمسّک بالاستصحاب لإثبات الأحکام؛ لأنّه علی فرض جریانه معارض باستصحاب العدم الأزلی الثابت لعنوان مقیّد بالزمان المتأخّر عن ظرف الحکم،ففرض عدم جریان استصحاب الوجودی غیر مناف لدعواه.

و أمّا علی فرض ظرفیّة الزمان فجریان استصحاب العدم الأزلی للعنوان المتقیّد ممّا لا مانع منه؛لأنّ الموضوع المتقیّد غیر الموضوع الغیر المتقیّد،فلا یکون ثبوت الوجوب للجلوس نقضا لعدم وجوب الجلوس المتقیّد بما بعد الزوال؛لإمکان أن یکون نفس الجلوس واجبا و الجلوس المتقیّد غیر واجب.

و بالجملة،عنوان الجلوس بنحو الإطلاق غیر الجلوس المتقیّد بالزمان،فلا یکون الحکم المتعلّق نقضا للمقیّد بما أنّه مقیّد» (2).

ص:205


1- 1) فرائد الاصول 2:764.
2- 2) الاستصحاب:123.

و کان لصاحب الکفایة قدّس سرّه تقریر آخر لشبهة النراقی قدّس سرّه و هو قوله:«لا یقال:

إنّ الزمان لا محالة یکون من قیود الموضوع و إن اخذ ظرفا لثبوت الحکم فی دلیله؛ضرورة دخل مثل الزمان فیما هو المناط لثبوته،فلا مجال إلاّ لاستصحاب عدمه.

فإنّه یقال:نعم لو کانت العبرة فی تعیین الموضوع بالدقّة و نظر العقل،و أمّا إذا کانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة فی أنّ الفعل بهذا النظر موضوع واحد فی الزمانین،قطع بثبوت الحکم له فی الزمان الأوّل،و شکّ فی بقاء هذا الحکم له و ارتفاعه فی الزمان الثانی،فلا یکون إلاّ لاستصحاب ثبوته مجال.

لا یقال:فاستصحاب کلّ واحد من الثبوت و العدم یجری لثبوت کلا النظرین-أی العرف و العقل-و یقع التعارض بین الاستصحابین کما قیل»،هذا إشارة إلی شبهة النراقی،ثمّ قال فی مقام الجواب عنها:

فإنّه یقال:«إنّما یکون ذلک[أی تعارض الاستصحابین]لو کان فی الدلیل [أی دلیل الاستصحاب]ما بمفهومه یعمّ النظرین،و إلاّ فلا یکاد یصحّ إلاّ إذا سبق بأحدهما؛لعدم إمکان الجمع بینهما،لکمال المنافاة بینهما،و لا یکون فی أخبار الباب ما بمفهومه یعمّهما،فلا یکون هناک إلاّ استصحاب واحد،و هو استصحاب الثبوت فیما إذا اخذ الزمان ظرفا،و استصحاب العدم فیما إذا اخذ قیدا» (1).

و الفرق بین هذا التقریر من الشبهة و ما ذکرناه:أنّ هذا التقریر مبتن علی نظر العقل و العرف،بأنّ العرف قائل بالظرفیّة و العقل بالقیدیّة،فیقع التعارض بین الاستصحابین بخلاف ما ذکرناه من التقریر،فإنّه مبتن علی أخذ الزمان

ص:206


1- 1) کفایة الاصول 2:317-318.

ظرفا فقط.

و یرد علیه:أوّلا:أنّه وقع الخلط فی کلامه بین مقام الثبوت و الإثبات،فإنّ قوله:«لو کان فی الدلیل ما بمفهومه یعمّ النظرین»ناظر إلی مقام الإثبات، و قوله:«لعدم إمکان الجمع بینهما؛لکمال المنافاة بینهما»ناظر إلی مقام الثبوت، و قوله:«و لا یکون فی أخبار الباب ما بمفهومه یعمّهما»ناظر إلی مقام الإثبات.

و ثانیا:أنّ عدم إمکان کون الزمان ظرفا و قیدا للحکم بحسب الواقع ممّا لا یکون قابلا للإنکار،إلاّ أنّ شمول أخبار الباب لمواردها یکون بنحو الإطلاق،و لا یکون ناظرا إلی الخصوصیّات الفردیة من إمکان الجمع بین الاستصحابین و عدمه،فکلّما صدق«نقض الیقین بالشکّ»،یشمله قوله:

«لا تنقض الیقین بالشکّ»،فلذا نلاحظ تحقّق التعارض بین الاستصحابین فی موارد عدیدة،و علّة التعارض هی عدم إمکان الجمع بینهما،و مراد القائل فی قوله:«لا یقال»هو وقوع التعارض بین الاستصحابین،لا أنّ کلاهما متّبع بعد الجریان،و لا بدّ من العمل بهما،فکیف یوجب عدم إمکان الجمع و المنافاة انتفاء أصل تعارض الاستصحابین فی ما نحن فیه بخلاف سائر الموارد،فما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه بعنوان الجواب عن الشبهة لیس بتامّ.

و أجاب المحقّق النائینی رحمه اللّه عن الشبهة بعدم جریان استصحاب العدم أصلا، و حاصل کلامه:«أنّه إذا وجب الجلوس إلی الزوال،فالعدم الأزلی انتقض إلی الوجود قطعا،فإذا فرض ارتفاع الوجوب بعد الزوال لأخذ الزوال قیدا للوجوب،فعدم الوجوب بعد الزوال لا یکون هو العدم الأزلی؛لأنّه مقیّد بکونه بعد الزوال،و العدم المقیّد غیر العدم المطلق المعبّر عنه بالعدم الأزلی، فالمستصحب بعد الزوال لیس هو العدم المطلق؛لأنّه مقطوع الانتقاض

ص:207

بوجوب الجلوس قبل الزوال،و أمّا العدم المقیّد بما بعد الزوال بلحاظ قوامه و تحقّقه بما بعد الزوال فلا یمکن استصحابه،إلاّ إذا آن وقت الزوال و لم یثبت الوجود،ففی الآن الثانی یستصحب العدم،و المفروض أنّه فی أوّل الزوال شکّ فی الوجود و العدم،و قبل الزوال لیس العدم المقیّد بما بعد الزوال متحقّقا إلاّ علی نحو السالبة بانتفاء الموضوع،فلا مجال لاستصحاب العدم».

ثمّ قال:«نعم،یمکن جریان الاستصحاب فی الجعل بأنّه إذا شکّ فی جعل وجوب الجلوس بعد الزوال أزلا،فالأصل عدم الجعل؛لأنّ کلّ جعل شرعی مسبوق بالعدم،من غیر فرق بین أخذ الزمان قیدا أو ظرفا،و لکن یرد علیه:

أوّلا:أنّه لا أثر لاستصحاب عدم الجعل إلاّ باعتبار ما یلزمه،من عدم المجعول-أی عدم جعل الوجوب ملازم مع عدم الوجوب-و إثبات عدم الوجوب باستصحاب عدم الجعل یکون من الأصل المثبت.

و ثانیا:أنّ استصحاب البراءة الأصلیّة-المعبّر عنه باستصحاب حال العقل-لا یجری مطلقا؛لأنّ العدم الأزلی لیس هو إلاّ عبارة عن اللاحکمیّة و اللاحرجیّة،و هذا المعنی بعد وجود المکلّف و اجتماع شرائط التکلیف فیه قد انتقض قطعا و لو إلی الإباحة،فإنّ اللاحرجیّة فی الإباحة بعد اجتماع شرائط التکلیف غیر اللاحرجیّة قبل وجود المکلّف؛إذ الأوّل یستند إلی الشارع، و الثانی لا یستند إلیه،فلا مجال لجریان استصحاب العدم،و یبقی استصحاب الوجوب الثابت قبل الزوال إذا کان الزمان ظرفا للحکم أو الموضوع» (1).

و یرد علیه:أوّلا:أنّ عدم وجوب الجلوس المقیّد بما بعد الزوال عدم مطلق، له حالة سابقة لا نعلم بانتقاضه،کما أنّ عدم وجوب الجلوس بلا قید عدم

ص:208


1- 1) فوائد الاصول 4:445-448.

مطلق،لکنّه انتقض بالعلم بوجوده قبل الزوال،فعدم کلیهما عدم مطلق ذو حالة سابقة متیقّنة بلا فرق بینهما،فکما أنّ عدم الإنسان عدم مطلق،کذلک عدم الإنسان العالم عدم مطلق،و هکذا فی ما نحن فیه،فیکون عدم وجوب الجلوس المقیّد بما بعد الزوال قابلا للاستصحاب.

و ثانیا:أنّ جواب المحقّق النائینی رحمه اللّه لا ینطبق علی شبهة النراقی قدّس سرّه فإنّ المفروض فی الشبهة کون قبل الزوال ظرفا للحکم و جریان استصحاب الوجودی بلا إشکال،و إذا کان قبل الزوال قیدا له،فلا یجری استصحاب الوجودی أصلا،و أمّا عنوان ما بعد الزوال فی تقریب استصحاب العدمی فیکون قیدا،إمّا قیدا للحکم و إمّا لمتعلّقه-أی الوجوب أو الجلوس فی المثال-و لا یکون القید خارجا عن هذه الدائرة،فتتحقّق حالة سابقة عدمیّة لکلیهما.

و أمّا فی کلام المحقّق النائینی رحمه اللّه فیکون عنوان ما بعد الزوال قیدا لعدم وجوب الجلوس،و إذا کان ما بعد الزوال قیدا للعدم فلا یکون له حالة سابقة متیقّنة،فإنّ عدم وجوب الجلوس المقیّد بما بعد الزوال لا یمکن استصحابه،إلاّ إذا آن وقت الزوال و لم یثبت وجوده،ففی الآن الثانی یستصحب هذا العدم، و المفروض أنّه فی أوّل الزوال مشکوک کما ذکره قدّس سرّه و لکنّه لا یرتبط بشبهة النراقی قدّس سرّه،فوجوب الجلوس المقیّد بما بعد الزوال لم یتحقّق إلی الآن،و له حالة سابقة عدمیّة متیقّنة،و الآن بعد وجوب الجلوس قبل الزوال نشکّ فی تحقّقه، فنستصحب عدم وجوبه،فیجری استصحاب العدم و الوجود معا و تعود الشبهة.

و التحقیق فی الجواب عن شبهة النراقی قدّس سرّه:أنّه لا یتحقّق التعارض بین

ص:209

الاستصحابین،بل لا مانع من جریانهما معا.

توضیح ذلک:أنّ التعارض قد یکون بین الدلیلین بالذات،و قد یکون بالعرض،مثال الأوّل کقولنا:صلاة الجمعة واجبة،و صلاة الجمعة لیست بواجبة؛لعدم إمکان اجتماع نفی حکم عن موضوع واحد و إثباته فیه،فلا یکون مفاد الدلیلین فی أنفسهما قابلا للاجتماع،و مثال الثانی کما إذا علمنا إجمالا بنجاسة إمّا العباءة أو القباء و نجری استصحاب الطهارة فی کلیهما،و معلوم أنّه لا منافاة ذاتا بین استصحاب طهارتهما،و لکن العلم بنجاسة أحدهما،إجمالا یوجب إلقاء التعارض بینهما،و هذا یسمّی التعارض بالعرض.

و الظاهر من کلام النراقی قدّس سرّه فی الشبهة أنّ التعارض بین الاستصحابین یکون بالذات و عدم إمکان اجتماع بین مفادهما،و لکنّه لیس کذلک،فإنّ تمام الموضوع فی الاستصحاب الوجودی هو عنوان الجلوس فقط،کان الجلوس واجبا قبل الزوال و الآن یکون مشکوکا،فنستصحب وجوب الجلوس بدون أیّ قید زائد،و أمّا فی الاستصحاب العدمی فنقول:الجلوس المقیّد بما بعد الزوال لم یکن واجبا یقینا،و بعد وجوب الجلوس قبل الزوال نشکّ فی بقاء تلک الحالة السابقة العدمیّة،فنستصحب عدم وجوب الجلوس المقیّد بما بعد الزوال،و لا منافاة بین مفاد الاستصحابین،فإنّ الجلوس بما أنّه جلوس واجب،و بما أنّه مقیّد بهذا الزمان لیس بواجب،کما نقول:إنّ نفقة الزوجة علی الزوج بما أنّه زوج واجب،و بما أنّه زوج عالم لیس بواجب،بل إن قلنا بوجوبها علیه بهذا العنوان فهو بهتان علی اللّه تعالی،و هکذا فی ما نحن فیه، فلا تعارض بین الاستصحابین لا بالذات و لا بالعرض؛لتعدّد موضوعهما.

ص:210

التنبیه الخامس: فی الاستصحاب التعلیقی

اشارة

فی الاستصحاب التعلیقی

الأقوال و الاحتمالات فیه مختلفة من جریانه مطلقا،و عدم جریانه کذلک، و التفصیل بین التعلیق فی الحکم و الموضوع أو بین ما کان التعلیق شرعیّا و غیره.

و لا بدّ لنا قبل الورود فی البحث من بیان امور:
الأوّل:أنّ محطّ البحث و النقض و الإبرام فی الاستصحاب التعلیقی

هو أنّ تعلیقیّة الحکم أو الموضوع هل توجب خللا فی أرکان الاستصحاب و شرائط جریانه أم لا؟و علی الثانی هل یکون الاستصحاب التعلیقی مفیدا و منتهیا إلی العمل أم لا؛لابتلائه بالمعارضة دائما؟فلا بدّ من تمحّض البحث فی ذلک.

و أمّا قضیّة بقاء الموضوع و عدمه أو إرجاع القضیّة التعلیقیّة إلی القضیّة التنجیزیّة،فهی خارجة عن محطّ البحث و مورد النقض و الإبرام.

الثانی:أنّ التعلیقات الواقعة فی لسان الشرع و القضایا المشروطة

کقوله«إذا کان الماء قدر کرّ لا ینجّسه شیء» (1)،و قوله:«إذا نشّ العصیر أو غلی حرم» (2).

ص:211


1- 1) الوسائل 1:117،الباب 9 من أبواب الماء المطلق،الحدیث 1 و 2.
2- 2) الوسائل 17:229،الباب 3 من أبواب الاشربة المحرّمة،الحدیث 4.

تحتمل ثبوتا لامور:

منها:جعل الحکم متعلّقا بموضوعاتها علی تقدیر شیء،فیکون المجعول فی قوله:«إذا غلی العصیر حرم»هو حرمته علی تقدیر الغلیان،و فی قوله:«إذا بلغ الماء قدر کرّ لم ینجّسه شیء»هو الاعتصام علی تقدیر الکرّیّة.

و منها:جعل الحکم متعلّقا بموضوع متقیّد بعنوان،فیکون المجعول فیهما هو الحرمة المتعلّقة بالعصیر المغلی و الاعتصام للماء البالغ حدّ الکرّ،فیکون قوله:

«إذا بلغ الماء قدر کرّ لم ینجّسه شیء»عبارة اخری عن أنّ الکرّ لا ینجّسه شیء،فیکون التعبیر بذلک تفنّنا فی البیان أو تنبیها علی أنّ السرّ فی نجاسة المغلی هو غلیانه،و فی اعتصام الماء هو کرّیّته،و علی هذا یکون الموضوع مرکّبا من ذات و قید.

و منها:جعل سببیّة المعلّق علیه للمعلّق،فیکون مفاد القضیّتین أنّ الغلیان سبب للحرمة و الکرّیّة للاعتصام.

و منها:جعل الملازمة بین الکرّیّة و الاعتصام و الحرمة و الغلیان.

کلّ ذلک محتمل بحسب مقام الثبوت،أمّا الأوّلان فلا کلام فیهما،و أمّا الأخیران فقد مرّ التحقیق فی مثلهما فی الأحکام الوضعیّة و قلنا:إنّ السببیّة و الملازمة و أمثالهما قابلة للجعل،و إنّ المنکر لإمکانه فیها خلط بین التکوین و التشریع و بین السببیّة الحقیقیّة التکوینیّة و الاعتباریّة القانونیّة.

و أمّا بحسب مقام الإثبات و الاستظهار من الأدلّة فهو خارج عمّا نحن بصدده و الأدلّة مختلفة بحسب المقامات و مناسبات الأحکام و الموضوعات.

الثالث:أنّ التعلیق قد یکون فی کلام الشارع

کأمثال ما ذکرناه،و قد لا یکون فی کلامه لکن العقل یحکم به.

ص:212

مثلا:لو ورد:«أنّ الماء البالغ حدّ الکرّ لا ینجّسه شیء»،و«أنّ العصیر المغلی یحرم»یحکم العقل بأنّ الماء إذا بلغ قد کرّ لا ینجّسه شیء،و أنّ العصیر إذا غلی یحرم،لکن لیس هذا من التعلیق الشرعی،بل هو تعلیق عقلیّ یدرکه العقل من القضیّة المنجّزة.و هذا التعلیق قد یکون فی الأحکام کما عرفت،و قد یکون فی الموضوعات،کما یحکم بأنّ الماء إذا بلغت مساحته ثلاثة أشبار و نصفا طولا و عرضا و عمقا فهو کرّ،و یحکم علی الماء الناقص عن الکرّ بمنّ بأنّه إذا زید علیه منّ یصیر کرّا،و هذا تعلیق عقلی فی الموضوع،کما أنّ ما مرّ تعلیق عقلی فی الحکم،و یمکن أن یقع التعلیق فی الموضوع فی کلام الشارع و یرجع إلی التعبّد بوجود موضوع الحکم علی تقدیر کذائی و ترتیب آثاره علیه علی فرض تحقّقه.

الرابع:إذا اخذ عنوان فی موضوع حکم یکون ظاهرا فی الفعلیّة،فإذا قیل:

«الکرّ معتصم»و«المستطیع یجب علیه الحجّ»یکون ظاهرا فی أنّ الکرّ الفعلی معتصم،و المستطیع الفعلی یجب علیه الحجّ و هکذا،و هذا واضح.

لکن یقع الکلام فی قوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ»أنّ المیزان فعلیّة الیقین و الشکّ،أو فعلیّة المتیقّن؟فعلی الأوّل لا ینظر إلی المتیقّن هل هو متحقّق فعلا أم لا،بخلاف الثانی.

و قد مرّ الکلام فیه سابقا،و قلنا:إنّ الحقّ-بحسب النظر إلی أدلّة الاستصحاب،و مناسبة الحکم و الموضوع،و أنّ الیقین لإبرامه لا ینقض بالشکّ؛ لعدم إبرامه-أنّ الموضوع هو نفس الیقین و الشکّ بما أنّ الیقین طریق و کاشف، فلا یعتبر فیه إلاّ فعلیّة الشکّ و الیقین.

نعم،لا بدّ و أن یکون المستصحب ممّا یترتّب علی التعبّد به أثر عملی،فلو

ص:213

فرض أنّ الیقین بأمر تعلیقی یترتّب علیه أثر عملی لو تعبّد ببقائه لجری الاستصحاب بلا إشکال؛لفعلیّة الشکّ و الیقین،و عدم اعتبار أمر آخر،سواء کان المتیقّن وجودیّا أم لا،و فعلیّا أم لا؛لعدم الدلیل علی کونه کذلک،فإذا تعلّق الیقین بقضیّة تعلیقیّة،و فرضنا أنّ بقاءها فی زمن الشکّ یکون ذا أثر شرعی-کما لو فرض أنّ نفس القضیّة موضوعة لحکم فی زمان الشکّ-لجری الاستصحاب فیها بلا إشکال و ریب،لفعلیّة الیقین و الشکّ و کون المتیقّن ذا أثر شرعی فی زمن الشکّ أو منتهیا إلیه،و أمّا لزوم کون المتیقّن وجودیّا فعلیّا فلا یعتبر.

إذا عرفت ما ذکرناه نقول:إنّ التعلیق إذا ورد فی دلیل شرعی-کما لو ورد:

«أنّ العصیر العنبی إذا غلی یحرم»،ثمّ صار العنب زبیبا،فشکّ فی أنّ عصیره أیضا یحرم إذا غلی أو لا-فلا إشکال فی جریان استصحابه من حیث التعلیق؛ لما عرفت من أنّ المعتبر فی الاستصحاب لیس إلاّ الیقین و الشکّ الفعلیّین و کون المشکوک فیه ذا أثر شرعی أو منتهیا إلیه،و کلا الشرطین حاصلان،أمّا فعلیّتهما فواضحة،و أمّا الأثر الشرعی فلأنّ التعبّد بهذه القضیّة التعلیقیّة أثره فعلیّة الحکم لدی حصول المعلّق علیه من غیر شبهة المثبتیّة،لأنّ التعلیق إذا کان شرعیّا معناه التعبّد بفعلیّة الحکم لدی تحقّق المعلّق علیه،و إذا کان الترتّب بین الحکم و المعلّق علیه شرعیّا لا ترد شبهة المثبتیّة فتحقّق الغلیان وجدانا بمنزلة تحقّق موضوع الحکم الشرعی وجدانا.

و الحاصل:أنّ البحث متمرکز و متمحّض فی أنّ تعلیقیّة الحکم هل تکون

مانعا عن جریان الاستصحاب أم لا؟

و أمّا إرجاع الاستصحاب التعلیقی إلی التنجیزی،و القول بأنّ معنی قضیّة«العصیر العنبی إذا غلی یحرم»العصیر بعد

ص:214

الغلیان ملازم للحرمة،و الملازمة کالسببیّة و المسببیّة من الأحکام التنجیزیّة، کما یستفاد من کلام الشیخ رحمه اللّه فهو خارج عن محلّ البحث،کما أنّ القول بأنّ إثبات حکم العصیر العنبی بالاستصحاب للعصیر الزبیبی مع أنّهما عنوانان مختلفان،و المعتبر فی الاستصحاب وحدة الموضوع أیضا خارج عن البحث.

و المجعول فی القضیّة التعلیقیّة-مثل: وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً و«إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاتان»و«إن جاءک زید فاکرمه»-هو الحکم التعلیقی،و بعد تحقّق المعلّق علیه یصیر فعلیّا، فالحکم الشرعی قد یکون فعلیّا،و قد یکون تعلیقیّا-أی الحکم المعلّق فی لسان الشارع-و إذا شککنا فی بقاء الحکم التعلیقی الشرعی لتبدّل حال من حالات الموضوع لا ماهیّته،هل یکون التعلیق مانعا عن الاستصحاب أم لا؟ کما إذا قال المولی لعبده:«إن جاءک زید فأکرمه»فی حال کون زید صدیقا للمولی،و قبل تحقّق مجیء زید ذهبت صداقتهما و شکّ العبد فی بقاء الحکم فی هذا الحال،فلا مانع من جریان الاستصحاب لتمامیّة أرکانه من الیقین بالحکم التعلیقی،و الشکّ فی بقائه و وحدة الموضوع،فیشمله دلیل«لا تنقض الیقین بالشکّ»و لا دلیل لاختصاصه بما کان المتیقّن عبارة عن الحکم التنجیزی.

و یمکن أن یقال:إنّ استفادة وجوب الإکرام الفعلی بعد مجیء زید من استصحاب الحکم التعلیقی تکون من مصادیق الاصول المثبتة.

و جوابه أوّلا:أنّ الشکّ فی بقاء الحکم التعلیقی و جریان الاستصحاب قد یکون قبل تحقّق مجیء زید،فالمستفاد هو الحکم التعلیقی لا الفعلی.

و ثانیا:أنّ المستصحب إن کان الحکم الشرعی یترتّب علیه جمیع اللوازم حتّی اللوازم العقلیّة کما یترتّب حکم العقل بالإطاعة علی استصحاب وجوب

ص:215

صلاة الجمعة،کذلک یترتّب حکم العقل بفعلیّة الحکم بعد تحقّق المعلّق علیه علی استصحاب الحکم التعلیقی.

فلا مانعیّة لتعلیقیّة الحکم بما هی من جریان الاستصحاب.

و کان للمحقّق النائینی رحمه اللّه هنا کلام مفصّل،و خلاصته:أنّ المستصحب إذا کان حکما شرعیّا فإمّا أن یکون حکما جزئیّا،و إمّا أن یکون حکما کلیّا، و نعنی بالحکم الجزئی:هو الحکم الثابت لموضوعه عند تحقّق الموضوع خارجا،الموجب لفعلیّة الحکم.

ثمّ إنّ الشکّ فی بقاء الحکم الجزئی لا یتصوّر إلاّ إذا عرض لموضوعه الخارجی ما یشکّ فی بقاء الحکم معه،و لا إشکال فی استصحابه.

و أمّا الشکّ فی بقاء الحکم الکلّی فهو یتصوّر علی أحد وجوه ثلاث:

الأوّل:الشکّ فی بقائه من جهة احتمال النسخ،کما إذا شکّ فی نسخ الحکم الکلّی المجعول علی موضوعه المقدّر وجوده،و لا إشکال أیضا فی جریان استصحاب بقاء الحکم علی موضوعه و عدم نسخه عنه.

و نظیر استصحاب بقاء الحکم عند الشکّ فی النسخ استصحاب الملکیّة المنشأة فی العقود العهدیّة التعلیقیّة کعقد الجعالة و السبق و الرمایة،فإنّ العاقد ینشأ الملکیّة علی تقدیر خاصّ کرد الضالّة فی عقد الجعالة و نحو ذلک،فکانت الملکیّة المنشأة فی هذه العقود تشبه الأحکام المنشأة علی موضوعاتها المقدّر وجودها،فلو شکّ فی کون عقد الجعالة من العقود اللازمة التی لا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدین أو من العقود الجائزة التی تنفسخ بفسخ أحدهما،یجری استصحاب بقاء الملکیّة المنشأة إذا فسخ أحد المتعاقدین قبل ردّ الضالة.

الوجه الثانی:الشکّ فی بقاء الحکم الکلّی علی موضوعه المقدّر وجوده عند

ص:216

فرض تغیّر بعض حالات الموضوع،کما لو شکّ فی بقاء النجاسة فی الماء المتغیر الذی زال عنه التغیّر من قبل نفسه،و لا إشکال فی جریان استصحاب بقاء الحکم فی هذا الوجه أیضا،و لا بدّ فی هذا الوجه من فرض وجود الموضوع لیمکن حصول الشکّ فی بقاء حکمه عند فرض تبدّل بعض حالاته.

الوجه الثالث من الوجوه المتصورة فی الشکّ فی بقاء الحکم الکلّی:هو الشکّ فی بقاء الحکم المترتّب علی موضوع مرکّب من جزءین عند فرض وجود أحد جزئیّة و تبدّل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر،کما إذا شکّ فی بقاء الحرمة و النجاسة المترتّبة علی العنب علی تقدیر الغلیان عند فرض وجود العنب و تبدّله إلی الزبیب قبل غلیانه،فیستصحب بقاء النجاسة و الحرمة للعنب علی تقدیر الغلیان،و یترتّب علیه نجاسة الزبیب عند غلیانه إذا فرض أنّ وصف العنبیّة و الزبیبیّة من حالات الموضوع لا أرکانه،و هذا القسم من الاستصحاب هو المصطلح علیه بالاستصحاب التعلیقی.

ثمّ قال:و بعبارة أوضح:نعنی بالاستصحاب التعلیقی«استصحاب الحکم الثابت علی الموضوع بشرط بعض ما یلحقه من التقادیر»،فیستصحب الحکم بعد فرض وجود المشروط و تبدّل بعض حالاته قبل وجود الشرط، کاستصحاب بقاء حرمة العنب عند صیرورته زبیبا قبل فرض غلیانه.

ثمّ قال:و فی جریان استصحاب الحکم فی هذا الوجه و عدم جریانه قولان، أقواهما عدم الجریان؛لأنّ الحکم المترتّب علی الموضوع المرکّب إنّما یکون وجوده و تقرّره بوجود الموضوع بما له من الأجزاء و الشرائط؛لأنّ نسبة الموضوع إلی الحکم نسبة العلّة إلی المعلول،و لا یعقل أنّ یتقدّم الحکم علی موضوعه،و الموضوع للنجاسة و الحرمة فی مثال العنب إنّما یکون مرکّبا من

ص:217

جزءین:العنب و الغلیان،من غیر فرق بین أخذ الغلیان وصفا للعنب کقوله «العنب المغلی یحرم و ینجس»أو أخذه شرطا له کقوله«العنب إذا غلی یحرم و ینجس»؛لأنّ الشرط یرجع إلی الموضوع و یکون من قیوده لا محالة،فقبل فرض غلیان العنب لا یمکن فرض وجود الحکم،و مع عدم فرض وجود الحکم لا معنی لاستصحاب بقائه؛لما تقدّم من أنّه یعتبر فی الاستصحاب الوجودی أن یکون للمستصحب نحو وجود و تقرّر فی الوعاء المناسب له، فوجود أحد جزئی الموضوع المرکّب کعدمه لا یترتّب علیه الحکم الشرعی ما لم ینضم إلیه الجزء الآخر.

ثمّ قال:نعم،الأثر المترتّب علی أحد جزئی المرکّب هو أنّه لو انضمّ إلیه الجزء الآخر لترتّب علیه الأثر،و هذا المعنی مع أنّه عقلی مقطوع البقاء فی کلّ مرکّب وجد أحد جزئیّة،فلا معنی لاستصحابه؛إذ لا یمکن استصحاب الصحّة التأهّلیّة لجزء المرکّب عند احتمال طرو القاطع أو المانع؛لأنّ الصحّة التأهّلیّة ممّا لا شکّ فی بقائه،فإنّها عبارة عن کون الجزء علی وجه لو انضمّ إلیه الجزء الآخر لترتّب علیه الأثر،ففی ما نحن فیه لیس للعنب المجرّد عن الغلیان أثر إلاّ کونه لو انضمّ إلیه الغلیان لثبتت حرمته و عرضت علیه النجاسة،و هذا المعنی ممّا لا شکّ فی بقائه،فلا معنی لاستصحابه.

ثمّ قال:و حاصل الکلام أنّ الشکّ فی بقاء الحرمة و النجاسة المحمولین علی العنب المغلی إنّما یمکن بوجهین:أحدهما:الشکّ فی رفع الحرمة و النجاسة عنه بالنسخ.

ثانیهما:الشکّ فی بقاء الحرمة و النجاسة عند تبدّل بعض الحالات بعد فرض وجود العنب المغلی بکلا جزئیّة کما إذا شکّ فی بقائهما عند ذهاب ثلثه،

ص:218

و لا إشکال فی استصحاب بقاء الحرمة و النجاسة للعنب فی کلّ من الوجهین کما تقدّم.

و لیس هذا مراد القائل بالاستصحاب التعلیقی،و نحن لا نتصوّر للشکّ فی بقاء،النجاسة و الحرمة للعنب المغلی وجها آخر غیر الوجهین المتقدّمین، فالاستصحاب التعلیقی بمعنی المذکور لا یرجع إلی استصحاب عدم النسخ،و لا إلی استصحاب الحکم عند فرض وجود الموضوع بجمیع أجزائه و قیوده، و تبدّل بعض حالاته ممّا لا أساس له و لا یرجع إلی معنی محصّل (1).

و یرد علیه:أوّلا:أنّ کون الاستصحاب التعلیقی بمعنی الشکّ فی بقاء الحکم المترتّب علی موضوع مرکّب من جزءین عند فرض وجود أحد جزئیّة و تبدّل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر...لیس بصحیح؛إذ لا تعلیق أصلا فی بعض الموارد التی ذکرها بعنوان المثال،کقوله:«العنب المغلی یحرم و ینجس»و إن کان مفهومه أنّ«العنب غیر المغلی لیس بحرام»،و لکنّه لا یرتبط بالاستصحاب التعلیقی؛لعدم التعلیق فیه حکما و موضوعا،و هو نظیر قولنا:

«جاءنی زید العالم».

أمّا فی قوله«العنب إذا غلی یحرم و ینجس»بعد تصریحه بأنّ الشرط یرجع إلی الموضوع و یکون من قیوده،فلا تعلیق فی الحکم أصلا،و تعلیق الموضوع لا یکون ملازما لتعلیق الحکم،و الغرض فی الاستصحاب التعلیقی هو استصحاب الحکم التعلیقی و ذکرنا فی ما تقدّم أنّ محلّ النزاع فی الاستصحاب التعلیقی ما کان الحکم فی لسان الشارع و الدلیل الشرعی معلّقا علی شیء، مثل:قوله:«إن جاءک زید فأکرمه»معناه أن وجوب الإکرام معلّق علی مجیء

ص:219


1- 1) فوائد الاصول 4:460-468.

زید،و یستصحب فی صورة الشکّ هذا الحکم المعلّق.

و معلوم أنّ إنکار الواجب المشروط و عدم إرجاع القید إلی الوجوب-تبعا للشیخ رحمه اللّه فی مقابل المشهور-لا یوجب انطباق الاستصحاب التعلیقی المبحوث عنه فی کلماتهم علی طبق نظره.

و ثانیا:أنّه استدلّ لعدم جریان الاستصحاب التعلیقی بعدم تحقّق الحالة السابقة للحکم المستصحب،فإنّه قبل فرض غلیان العنب الذی هو جزء الموضوع لا یمکن فرض وجود الحکم،فکیف یمکن استصحابه مع أنّه لا بدّ للمستصحب نحو وجود و تقرّر فی الوعاء المناسب له؟

و جوابه:أنّ الوجود و التحقّق فی کلّ حکم لا بدّ و أن یکون متناسبا معه، فإن کان الحکم عبارة عن الوجوب المطلق فمعنی ثبوته و تحقّقه أن یکون فعلیّا،و إن کان عبارة عن الوجوب المشروط فمعنی ثبوته و تحقّقه جعل المولی و صدوره منه و إعلامه و بیانه للمکلّفین،کما ذکرنا أنّ قولنا:«إن جاءک زید فأکرمه»یتصوّر فیه ثلاثة أحوال:

الأوّل:حال قبل بیانه من ناحیة المولی و عدم جعله.

الثانی:حال جعله و بیانه من ناحیته قبل تحقّق مجیء زید.

الثالث:حال تحقّق المجیء و فعلیّة الحکم.

و معلوم أنّ حال الثانی غیر حال الأوّل،و لا یمکن التعبیر بأنّه لیس هنا حکم أصلا،بل للحکم تحقّق و ثبوت وجدانا،و لکنّ الثبوت المتناسب مع کونه التعلیقی و المشروط،فمعنی إرجاع الشرط إلی الحکم أنّ فعلیّته متوقّفة علی الشرط لا أصل الحکم،بحیث لو لم یتحقّق الشرط لم یتحقّق الحکم و لم یصدر من المولی أصلا،فإذا تحقّق الحکم بنحو التعلیق نتمسّک لبقائه فی صورة

ص:220

الشکّ بالاستصحاب.

ثالثا:أنّه قال بجریان الاستصحاب فی القسم الثانی من الحکم الکلّی و مثّل بقوله:«الماء المتغیّر نجس»بخلاف القسم الثالث الذی نسمّیه بالاستصحاب التعلیقی،مثل:قوله:«العنب المغلی یحرم»مع أنّه لا فرق بین هاتین العبارتین، فما الدلیل علی تحقّق الحکم الکلّی فی الأوّل و جواز استصحابه و عدم تحقّقه فی الثانی و عدم جواز استصحابه؟

و مبنی الشیخ الأنصاری رحمه اللّه هو إنکار الواجب المشروط و إرجاع جمیع القیود إلی المادّة و الموضوع دون الهیئة،و معنی قوله:«إن جاءک زید فأکرمه» عبارة عن«أکرم زیدا الجائی»فلا یبقی مجال لاستصحاب الحکم التعلیقی عنده هاهنا.

و لذلک عدل عن الاستصحاب التعلیقی فیما نحن فیه إلی جریان الاستصحاب التنجیزی بأنّ الغلیان حال العنبیّة کان سببا للحرمة، فالاستصحاب بقاء السببیّة حال الزبیبیّة أیضا أو بقاء الملازمة بین الغلیان و الحرمة حال الزبیبیّة،و هذه السببیّة متحقّقة بالفعل من دون التعلیق؛لأنّها مستفادة من حکم الشارع بأنّ العصیر العنبی یحرم إذا غلی،فیستفاد أنّ الزبیب بعد الغلیان یصیر نجسا و حراما (1).

و التحقیق:أنّ الأقوال فی الأحکام الوضعیّة ثلاثة:

الأوّل:عدم کونها قابلة للجعل،لا بالأصالة و الاستقلال و لا بالتبع،کما قال به المحقّق النائینی رحمه اللّه.

الثانی:کونها قابلة للجعل الاستقلالی،مثل:أن یقول الشارع:«جعلت

ص:221


1- 1) فوائد الاصول 2:770.

البیع سببا للملکیّة»و«جعلت النکاح سببا للزوجیّة»،و هذا المعنی یستفاد من قوله تعالی أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ کما قال به استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه،و هو الحقّ عندی.

الثالث:کونها قابلة للجعل التبعی لا الاستقلالی؛لکونها منتزعة من الأحکام التکلیفیّة،کما قال به الشیخ الأنصاری رحمه اللّه.

أمّا علی مبنی المحقّق النائینی رحمه اللّه فلا تکون السببیّة قابلة للاستصحاب؛إذ لا بدّ و أن یکون المستصحب حکما شرعیّا أو موضوعا للحکم الشرعی و السببیّة لیست کذلک،و أمّا علی المبنی التحقیق فلا مانع من استصحاب السببیّة الشرعیّة؛لترتّب المسبّب عند وجود السبب و إن کان ترتّب المسبّب عند وجود السبب أمرا عقلیّا،و مثبتا،إلاّ أنّه قد ذکرنا فیما تقدّم أنّ المستصحب إن کان المجعول الشرعی فتترتّب علیه الآثار العقلیّة کما یترتّب علی استصحاب وجوب صلاة الجمعة حکم العقل بوجوب الإطاعة.

و أمّا علی مبنی الشیخ رحمه اللّه فلا معنی-بعد الالتزام بکون الأحکام الوضعیّة منتزعة من الأحکام التکلیفیّة-للالتزام بعدم جریان الاستصحاب فی منشأ الانتزاع و هو التکلیف،و جریان الاستصحاب فی الأمر الانتزاعی و هو السببیّة؛إذ المفروض فی المقام عدم تحقّق التکلیف الفعلی حتّی تنتزع منه السببیّة.

و استشکل المحقّق النائینی و بعض الأعلام قدّس سرّهم علی الشیخ رحمه اللّه و ذکروا بأنّه لا یمکن جریان الاستصحاب فی السببیّة و لو قیل بأنّها من المجعولات المستقلّة؛ و ذلک لأنّ الشکّ فی بقاء السببیّة إن کان فی بقائها فی مرحلة الجعل لاحتمال النسخ فلا إشکال فی جریان استصحاب عدم النسخ فیه،و لکنّه خارج عن

ص:222

محلّ الکلام،و إن کان فی بقائها بالنسبة إلی مرتبة الفعلیّة فلم تتحقّق السببیّة الفعلیّة بعد حتّی نشکّ فی بقائها؛لأنّ السببیّة الفعلیّة هی بعد تمامیّة الموضوع بأجزائه،و المفروض فی المقام عدم تحقّق بعض أجزائه و هو الغلیان (1).

و أجاب عنه استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه بأنّ الشکّ لیس فی بقاء الملازمة و السببیّة بین تمام الموضوع و الحکم؛ضرورة عدم الشکّ فی حرمة العصیر العنبی المغلی،و إنّما الشکّ فی العصیر الزبیبی،و لیس منشؤه الشکّ فی نسخ الحکم الأوّل،بل فی أنّ سببیّة الغلیان للحرمة هل هی مجعولة بنحو تدور مدار العنبیّة أم لا؟و فی مثله لا یکون الشکّ فی النسخ،و لعمری إنّ هذا بمکان من الوضوح،تدبّر (2).

حال معارضة الاستصحاب التعلیقی مع التنجیزی

إن بنینا علی جریان الاستصحاب التعلیقی فی نفسه فهل یعارضه الاستصحاب التنجیزی،فیسقطان بالمعارضة أم لا؟ربما یقال بالمعارضة فلا ثمرة للقول بجریان الاستصحاب التعلیقی؛لتحقّقها دائما.

بیان المعارضة:أنّ مقتضی الاستصحاب التعلیقی فی مسألة الزبیب-مثلا- هو الحرمة الفعلیّة بعد الغلیان،و لکن مقتضی الاستصحاب التنجیزی الحلّیّة، فإنّه کان حلالا قبل الغلیان و نشکّ فی بقاء حلیّته بعده،فمقتضی الاستصحاب بقاؤها فیقع التعارض بین الاستصحابین فیسقطان.

و أجاب عنه الشیخ الأعظم رحمه اللّه بحکومة الاستصحاب التعلیقی علی

ص:223


1- 1) فوائد الاصول 4:472،مصباح الاصول 3:139.
2- 2) الاستصحاب:137.

الاستصحاب التنجیزی (1)،و لم یذکر وجهها و لذا وقع الکلام فیها،فقال المحقّق الخراسانی رحمه اللّه فی«تعلیقته»ما محصّله:

إن الشکّ فی الإباحة بعد الغلیان مسبّب عن الشکّ فی حرمته المعلّقة قبله، فاستصحاب حرمته کذلک المستلزم لنفی إباحته بعد الغلیان یکون حاکما علی استصحاب الحلّیّة و الترتّب و إن کان عقلیّا،لکن الأثر العقلی المترتّب علی الأعمّ من الحکم الواقعی و الظاهری یترتّب علی المستصحب،فیکون استصحاب الحرمة حاکما علیه بهذه الملاحظة.

و بالجملة،أنّ استصحاب الحرمة التعلیقیّة تترتّب علیه الحرمة الفعلیّة بعد الغلیان و ینفی الإباحة بعده،لأنّ نفی الإباحة لازم عقلی للحکم بالحرمة الفعلیّة،أعمّ من أن تکون واقعیّة أو ظاهریّة،فیرتفع المسبّبی (2).

و ما ذکره فی الکفایة أنّه:إن قلت:نعم-أی سلّمنا جریان الاستصحاب التعلیقی فی نفسه-و لکنّه لا مجال لاستصحاب المعلّق؛لمعارضته باستصحاب ضدّه المطلق،فیعارض استصحاب الحرمة المعلّقة للعصیر باستصحاب حلّیّته المطلقة.

قلت:لا یکاد یضرّ استصحابه علی نحو کان قبل عروض الحالة التی شکّ فی بقاء الحکم المعلّق بعده؛ضرورة أنّه-أی الحکم بالحلّیّة-کان مغیّا بعدم ما علّق علیه المعلّق،أی الغلیان؛فمفاد قوله:«العنب إذا غلی یحرم»أنّ الحلّیّة مغیّاة بالغلیان،و الحرمة معلّقة بالغلیان،و لا منافاة بینهما،و ما کان کذلک-أی إذا کانت الحلّیّة مغیّاة-لا یکاد یضرّ ثبوته-أی الحکم بالحلّیّة بعده-أی بعد

ص:224


1- 1) فرائد الاصول 2:770.
2- 2) حاشیة الآخوند علی الرسائل:208-209.

عروض الحالة-بالقطع فضلا عن الاستصحاب؛لعدم المضادّة بینهما-أی الحرمة التعلیقیّة و الحلّیّة المغیّاة-فیکونان بعد عروضها بالاستصحاب کما کانا معا بالقطع قبله بلا منافاة أصلا.

و قضیّة ذلک-أی مقتضی عدم تعارض الاستصحابین-انتفاء حکم المطلق أی الحلّیّة بمجرّد ثبوت ما علّق علیه المعلّق أی الحرمة،فالغلیان فی المثال کما کان شرطا للحرمة کان غایة للحلّیّة،فإذا شکّ فی حرمته المعلّقة بعد عروض حالة علیه شکّ فی حلّیّته المغیّاة أیضا،فیکون الشکّ فی حلّیّته أو حرمته فعلا بعد عروضها متّحدا خارجا مع الشکّ فی بقائه علی ما کان علیه من الحلّیّة و الحرمة بنحو کانتا علیه،فقضیّة استصحاب حرمته المعلّقة بعد عروضها الملازم لاستصحاب حلّیّته المغیّاة حرمته فعلا بعد غلیانه و انتفاء حلّیّته؛فإنّه قضیّة نحو ثبوتهما کان بدلیلهما أو بدلیل الاستصحاب کما لا یخفی بأدنی التفات علی ذوی الألباب،فالتفت و لا تغفل (1).

و قال فی حاشیة له فی ذیل هذه العبارة:«کیلا تقول فی مقام التفصّی عن إشکال المعارضة:إنّ الشکّ فی الحلّیّة فعلا بعد الغلیان یکون مسبّبا عن الشکّ فی الحرمة المعلّقة».

فالظاهر من کلامه صدرا و ذیلا إنکار السببیّة و المسببیّة رأسا،فما ذکره الإمام رحمه اللّه،من إرجاع ما ذکره فی الکفایة إلی ما التزم به فی الحاشیة من السببیّة و المسببیّة (2)بعید جدّا.

و کان لبعض الأعلام رحمه اللّه بیان آخر بالنسبة إلی کلام صاحب الکفایة رحمه اللّه

ص:225


1- 1) کفایة الاصول 2:322-323.
2- 2) الاستصحاب:140.

و بیانه بتوضیح منّا:أنّ الحلّیّة الثابتة للزبیب قبل الغلیان غیر قابلة للبقاء،و لا یجری فیها الاستصحاب؛لوجود أصل حاکم علیه،و ذلک لأنّ الحلّیّة فی العنب کانت مغیّاة بالغلیان؛إذ الحرمة فیه کانت معلّقة علی الغلیان،و یستحیل اجتماع الحلّیّة المطلقة مع الحرمة علی تقدیر الغلیان کما هو واضح.

و أمّا الحلّیّة فی الزبیب فهی و إن کانت متیقّنة إلاّ أنّها مردّدة بین أنّها هل هی الحلّیّة التی کانت ثابتة للعنب بعینها حتّی تکون مغیّاة بالغلیان أو أنّها حادثة للزبیب بعنوانه،فتکون باقیة و لو بالاستصحاب؟و الأصل عدم حدوث حلّیّة جدیدة و بقاء الحلّیّة السابقة المغیّاة بالغلیان،و هی ترتفع به فلا تکون قابلة للاستصحاب،فالمعارضة المتوهّمة غیر تامّة.

و نظیر ذلک ما ذکرناه فی بحث استصحاب الکلّی من أنّه إذا کان المکلّف محدثا بالحدث الأصغر و رأی بللا مردّدا بین البول و المنی فتوضّأ،لم یمکن جریان استصحاب کلّی الحدث؛لوجود أصل حاکم علیه،و هو أصالة عدم حدوث الجنابة و أصالة عدم تبدّل الحدث الأصغر بالحدث الأکبر،و المقام من هذا القبیل بعینه (1).

و التحقیق:أنّه لیس فی کلام صاحب الکفایة رحمه اللّه من أصالة عدم حدوث الحلّیّة الجدیدة أثر و لا خبر،و قد لاحظناه بدقّة بل حاصل کلامه:أنّ الشکّ فی حرمة الزبیب و حلّیّته بعد الغلیان هو الشکّ فی بقاء الحرمة المعلّقة و الحلّیّة المغیّاة،و یمکن جریان استصحابهما،و نتیجة جریانهما أنّ الزبیب بعد الغلیان یکون محرّما بالحرمة الفعلیّة،و إن کان هذا لازما عقلیّا إلاّ أنّ ترتّبه علی الأعم من الظاهری الواقعی لا إشکال فیه،فتترتّب علی استصحاب الحرمة التعلیقیّة

ص:226


1- 1) مصباح الاصول 3:142.

الحرمة الفعلیّة بعد الغلیان،بلا فرق بین إثبات الحرمة التعلیقیّة بالدلیل أو بالاستصحاب،فلا تعارض بین الاستصحابین حتّی تصل النوبة إلی بحث الحاکم و المحکوم أو السبب و المسبّب.

و الجواب عن المعارضة الدائمیّة بین الاستصحاب التعلیقی و الاستصحاب التنجیزی إمّا بعدم المنافاة بینهما کما ذکره صاحب الکفایة رحمه اللّه،و إمّا بحکومة استصحاب الحرمة التعلیقیّة علی استصحاب الحلّیّة التنجیزیّة؛لتحقّق السببیّة و المسببیّة بینهما،کما التزم به الشیخ الأعظم رحمه اللّه و اختاره المحقّق النائینی رحمه اللّه و المحقّق الخراسانی رحمه اللّه فی الحاشیة.

و یمکن أن یقال:إنّ تقدّم الاستصحاب الجاری فی السبب علی الاستصحاب الجاری فی المسبّب لا إشکال فیه،کما فی مثل تطهیر الید المتنجّسة بالماء المشکوک الکرّیّة،و یتحقّق هنا بالنظر البدوی استصحابان:

استصحاب بقاء الکرّیّة فی الماء،و استصحاب بقاء النجاسة فی الید،و لکن بعد دقّة النظر نلاحظ أنّ الأوّل حاکم علی الثانی،فإن بعد جریان استصحاب بقاء کرّیّة هذا الماء تصیر نتیجته فی الحقیقة صغری للکبری الشرعیّة،و هو أنّ کلّ شیء متنجّس طهّر بماء الکرّ یکون طاهرا،فهذه الید تکون طاهرة و هذه الکبری معارضة مع استصحاب بقاء النجاسة فی الید،و بعد انطباق هذه الکبری لا یبقی الشکّ فی عدم بقاء النجاسة فی الید،فجریان الأصل فی السبب یزیل الشکّ فی المسبّب شرعا و تعبّدا،فیعتبر فی تقدّم الأصل السببی علی الأصل المسبّبی أن یکون الحکم فی الشکّ المسبّبی من الآثار الشرعیّة للأصل السببی،کما أنّ طهارة الید من الآثار الشرعیّة لطهارة الماء.

لکن لا یتحقّق هذا المعنی فی المقام،فإنّ الشکّ فی بقاء الحلّیّة التنجیزیّة

ص:227

للزبیب و إن کان مسبّبا عن الشکّ فی بقاء الحرمة التعلیقیّة له،إلاّ أنّ جریان استصحاب الحرمة التعلیقیّة بعنوان الأصل السببی لا یوجب حرمة الزبیب بعد الغلیان شرعا و تعبّدا،فإنّها لیست من الآثار الشرعیّة لجعل الحرمة للعنب علی تقدیر الغلیان مطلقا،بلا اختصاص لها بحال کونه عنبا،بل هی من اللوازم العقلیّة،فلا مجال للحکومة،فیبقی التعارض بحاله (1).

و قال استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه:«و التحقیق فی المقام أن یقال:إنّ استصحاب الحرمة التعلیقیّة حاکم علی استصحاب الإباحة کسائر الحکومات؛لأنّ شرط حکومة أصل آخر-کما أشرنا إلیه-أمران:أحدهما:کون أحد الشکّین مسبّبا عن الآخر.

الثانی:أن یکون جریان الأصل فی السبب رافعا للشکّ عن المسبّب تعبّدا، فاستصحاب کرّیّة الماء یکون حکمه طهارة الثوب المغسول به بحسب الکبری الشرعیّة من«أنّ الکرّ مطهّر»،فیرفع الشکّ فی أنّ الثوب طاهر أو لا؛لأنّ الشکّ فی الطهارة و النجاسة متقوّم بطرفی التردید،فإذا وقع التعبّد بالبناء علی أحد طرفی التردید یرفع الشکّ قهرا.

و إن شئت قلت:إنّ الشکّ فی الطهارة و النجاسة شکّ واحد و حالة تردیدیّة واحدة یکون أحد طرفیها الطهارة و الآخر النجاسة،فإن قیست هذه الحالة التردیدیّة بالنسبة إلی وجود الطهارة و عدمها تکون شکّا فی الطهارة و عدمها، و بالنسبة إلی وجود النجاسة و عدمها تکون شکّا فی النجاسة و عدمها.

و إن قیست بالنسبة إلی الطهارة و النجاسة تکون شکّا فیهما،فلا تکون فی النفس إلاّ حالة واحدة تردیدیّة،یکون أحد طرفیها الطهارة و الآخر النجاسة،

ص:228


1- 1) مصباح الاصول 3:141.

فإذا کان مفاد أصل هو الطهارة بلسان الأصل السببی یکون رافعا للشکّ المتقوّم بطرفی التردید،فیصیر حاکما علی الأصل المسبّبی.

و ما نحن فیه یکون الحال کذلک؛لأنّ الشکّ فی بقاء الإباحة الفعلیّة للعصیر الزبیبی المغلی مسبّب عن بقاء القضیّة الشرعیّة التعلیقیّة بالنسبة إلی الزبیب قبل غلیانه،و لمّا کان التعلیق شرعیّا تکون فعلیّة الحرمة مع فعلیّة الغلیان بحکم الشرع،کما أشرنا إلیه سابقا،فترتّب الحرمة علی العصیر المغلی لیس بعقلی،بل شرعی،فحینئذ یکون استصحاب الحرمة التعلیقیّة حاکما؛لأنّ الحرمة متحقّقة بالفعل عند الغلیان،و مترتّبة علی الغلیان الفعلی،فیرفع الشکّ فی الحرمة و الاباحة الفعلیّتین؛لأنّ الشکّ فی الحرمة و الإباحة متقوّم بطرفی التردید،فإذا کان لسان جریان الأصل فی السبب هو التعبّد بحرمة المغلی یرفع التردید بین الحرمة و الحلّیّة،فیصیر الأصل السببی حاکما علی المسبّبی (1).

و الحاصل:أنّه یترتّب بحکم الشرع علی استصحاب الحرمة التعلیقیّة الشرعیّة حرمة فعلیّة شرعیّة بعد الغلیان،کأنّ الشارع حکم بأنّ الزبیب بعد الغلیان حرام،فلا مجال هنا لاستصحاب الحلّیّة المطلقة.

ثمّ قال استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه:و إن شئت قلت:إنّ استصحاب الحرمة علی تقدیر الغلیان جار قبل حصوله،فیتعبّد لأجله ببقاء المستصحب،و هو الحرمة علی تقدیر غلیان عصیر الزبیب-مثلا-و هذا الحکم التعلیقی قبل الغلیان و إن کان ثابتا لعصیر الزبیب الذی شکّ فی حکمه لکن لسان المستصحب هو حرمة العصیر علی فرض الغلیان لا حرمة المغلی المشکوک فیه،فإذا حصل الغلیان یکون لسان الدلیل الاجتهادی المستصحب بضمیمة الوجدان هو حرمة

ص:229


1- 1) الاستصحاب:143-145.

المغلی،لا المغلی المشکوک فیه،و استصحاب الحلّیّة المنجّزة متقوّم بالشکّ، فیکون لسانه إثبات الحلّیّة للمغلی المشکوک فیه بما هو کذلک،و لا ریب فی تقدیم الأوّل علی الثانی و حکومته علیه،لأنه بإثبات الحرمة لذات المغلی یرفع الشکّ الذی هو موضوع استصحاب الحلّیّة،فالاستصحاب الأوّل یجری قبل الغلیان،و بعد الغلیان یکون المستصحب-أی الحکم التعلیقی الذی یصیر فعلیّا متعلّقا بذات الموضوع و رافعا للشکّ،فلا یبقی مجال لاستصحاب الحلّیّة التنجیزیّة (1).

و التحقیق:أنّ بیان الإمام رحمه اللّه فی مقام الجواب عن المعارضة بیان دقیق لحکومة استصحاب الحرمة التعلیقیّة علی استصحاب الحلّیّة المطلقة،إلاّ أنّه صرّح بأنّ الحرمة التعلیقیّة قبل تحقّق المعلّق علیه شرعیّة،و هکذا الحرمة الفعلیّة بعد تحقّق المعلّق علیه،و هکذا ترتّبها علیها.

و هو لا یخلو عن مناقشة بأنّه کما أنّ الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة و وجوب المقدّمة فی باب مقدّمة الواجب تکون عقلیّة،کذلک لا یبعد أن یکون ترتّب الحرمة الفعلیّة الشرعیّة بعد المعلّق علیه علی الحرمة التعلیقیّة الشرعیّة عقلیّة،و لکنّه لا یوجب الخلل فی أصل غرضه من رفع الشکّ عن المسبّب تعبّدا بجریان الاستصحاب فی السبب.

أمّا ما ذکره صاحب الکفایة رحمه اللّه من ارتباط الاستصحاب التنجیزی بالحلّیّة المغیّاة فهو أجنبی عن مراد المستشکل،فإنّ مراده من الاستصحاب التنجیزی عبارة عن الحلّیّة المطلقة،و یقول:إنّ الزبیب قبل الغلیان حلال قطعا بالحلّیّة المطلقة،و بعد الغلیان نشکّ فی بقائها و زوالها فنجری استصحاب بقاء الحلّیّة.

ص:230


1- 1) الاستصحاب:145-146.

و بیان بعض الأعلام بعنوان الجواب عنه و إن لم ینطبق علی کلام صاحب الکفایة کما ذکرناه،و لکن یمکن جعله مؤیّدا لما ذکرناه فی المقام،و حاصله:أنّ بعد تبدّل العنب بالزبیب نسلّم أنّه حلال یقینا و لکن نشکّ فی أنّ هذه الحلّیّة حلّیّة جدیدة أو حلّیّة حال العنبیّة؟و بأصالة عدم تحقّق حکم جدید له ینفی استصحاب الحلّیّة بعد الغلیان،فلا مجال له أصلا،فلا مانع من جریان الاستصحاب التعلیقی.

ص:231

ص:232

التنبیه السادس: فی استصحاب عدم النسخ

فی استصحاب عدم النسخ

و المعروف صحّة جریان الاستصحاب عند الشکّ فیه،بل عدّه المحدّث الأسترآبادی من الضروریّات،و لکنّه قد استشکل فیه بإشکالین:الأوّل مشترک بین الاستصحاب فی أحکام هذه الشریعة المقدّسة و بین الاستصحاب فی أحکام الشرائع السابقة،فلو تمّ لکان مانعا عن جریان الاستصحاب فی المقامین.

الثانی مختصّ باستصحاب أحکام الشرائع السابقة.

أمّا الإشکال الأوّل فهو:أنّه یعتبر فی الاستصحاب وحدة القضیّة المتیقّنة و المشکوکة،کما مرّ مرارا،و المقام لیس کذلک؛لتعدّد الموضوع فی القضیّتین فإنّ من ثبت فی حقّه الحکم یقینا قد انعدم،و المکلّف الموجود الشاکّ فی النسخ لم یعلم ثبوت الحکم فی حقّه من الأوّل،فالشکّ بالنسبة إلیه شکّ فی ثبوت التکلیف لا فی بقائه بعد العلم بثبوته لیکون موردا للاستصحاب،فیکون إثبات الحکم له إسراء حکم من موضوع إلی موضوع آخر.

و هذا الإشکال یجری فی أحکام هذه الشریعة أیضا،فإنّ من علم بوجوب صلاة الجمعة علیه هو الذی کان موجودا فی زمان الحضور،و أمّا المعدوم فی

ص:233

زمان الحضور فهو شاکّ فی ثبوت وجوب صلاة الجمعة علیه من الأوّل.

و قد أجاب الشیخ الأنصاری رحمه اللّه عن هذا الإشکال بجوابین:

الأوّل:أنّا نفرض الشخص الواحد مدرکا للشریعتین،فإذا حرم فی حقّه شیء سابقا و شکّ فی بقاء الحرمة فی الشریعة اللاحقة فلا مانع من الاستصحاب أصلا و فرض انقراض جمیع أهل الشریعة السابقة عند تجدّد اللاحقة نادر،بل غیر واقع.

الثانی:أنّ اختلاف الأشخاص لا یمنع من الاستصحاب،و إلاّ لم یجر استصحاب عدم النسخ.

و حلّه:أنّ المستصحب هو الحکم الکلّی الثابت للجماعة علی وجه لا مدخل لأشخاصهم فیه،فإنّ الشریعة اللاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشریعة الاولی؛إذ لو فرض وجود اللاحقین فی السابق عمّهم الحکم قطعا،غایة الأمر احتمال مدخلیّة بعض أوصافهم المعتبرة فی موضوع الحکم،و مثل هذا لو أثّر فی الاستصحاب لقدح فی أکثر الاستصحابات،بل فی جمیع موارد الشکّ من غیر جهة الرافع (1).

و قال صاحب الکفایة رحمه اللّه فی مقام الجواب عن الإشکال:«بأنّ الحکم الثابت فی الشریعة السابقة حیث کان ثابتا لأفراد المکلّف کانت محقّقة وجودا أو مقدّرة کما هو قضیّة القضایا المتعارفة المتداولة،و هی قضایا حقیقیّة، لا خصوص الأفراد الخارجیّة کما هو قضیّة القضایا الخارجیّة».

ثمّ قال:«یمکن إرجاع ما أفاده شیخنا العلاّمة-أعلی اللّه فی الجنان مقامه- فی الذبّ عن إشکال تغایر الموضوع فی هذا الاستصحاب من الوجه الثانی إلی

ص:234


1- 1) فوائد الاصول 2:771-772.

ما ذکرنا،لا ما یوهمه ظاهر کلامه من أنّ الحکم ثابت للکلّی کما أنّ الملکیّة له فی مثل باب الزکاة و الوقف العامّ حیث لا مدخل للأشخاص فیها؛ضرورة أنّ التکلیف و البعث و الزجر لا یکاد یتعلّق به من حیث أنّه کلّی،بل لا بدّ من تعلّقه بالأشخاص،و کذلک الثواب و العقاب المترتّب علی الطاعة و المعصیة،و کان غرضه من عدم دخل الأشخاص عدم أشخاص خاصّة،فافهم» (1).

و قال استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه«هاهنا شبهة اخری،و هی:أنّه من الممکن أن یکون المأخوذ فی موضوع الحکم الثابت فی الشرائع السابقة عنوان علی نحو القضیّة الحقیقیّة،لا ینطبق ذلک العنوان علی الموجودین فی عصرنا کما لو اخذ عنوان الیهود و النصاری،فإنّ القضیّة و إن کانت حقیقیّة لکن لا ینطبق عنوان موضوعها علی غیر مصادیقه،ففی قوله تعالی: وَ عَلَی الَّذِینَ هادُوا حَرَّمْنا کُلَّ ذِی ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَیْهِمْ شُحُومَهُما (2)،إلی آخره کانت القضیّة حقیقیّة،لکن إذا شکّ المسلمون فی بقاء حکمها لهم لا یجری الاستصحاب،کما لو ثبت حکم للفقراء و شکّ الأغنیاء فی ثبوته لهم لا یمکن إثباته لهم بالاستصحاب،و هذا واضح جدّا» (3).

و کان لبعض الأعلام رحمه اللّه أیضا نظیر هذا الإشکال فإنّه قال:«إنّ النسخ فی الأحکام الشرعیّة إنّما هو بمعنی الدفع و بیان أمد الحکم؛لأنّ النسخ بمعنی رفع الحکم الثابت مستلزم للبداء المستحیل فی حقّه سبحانه و تعالی.

و قد ذکرنا غیر مرّة أنّ الاهمال بحسب الواقع و مقام الثبوت غیر معقول، فإمّا أن یجعل المولی حکمه بلا تقیید بزمان و یعتبره إلی الأبد،و إمّا أن یجعله

ص:235


1- 1) کفایة الاصول 2:323-325.
2- 2) الأنعام:146.
3- 3) الاستصحاب:148.

ممتدّا إلی وقت معیّن،و علیه فالشکّ فی النسخ شکّ فی سعة المجعول و ضیقه من جهة احتمال اختصاصه بالموجودین فی زمان الحضور.

و کذا الکلام فی أحکام الشرائع السابقة،فإنّ الشکّ فی نسخها شکّ فی ثبوت التکلیف بالنسبة إلی المعدومین،لا شکّ فی بقائه بعد العلم بثبوته،فإنّ احتمال البداء مستحیل فی حقّه تعالی،فلا مجال حینئذ لجریان الاستصحاب».

ثمّ قال:«و توهّم أنّ جعل الأحکام علی نحو القضایا الحقیقیّة ینافی اختصاصها بالموجودین مدفوع بأنّ جعل الأحکام علی نحو القضایا الحقیقیّة معناه عدم دخل خصوصیّة الأفراد فی ثبوت الحکم،لا عدم اختصاص الحکم بحصّة دون حصّة،فإذا شککنا فی أنّ المحرّم هو الخمر مطلقا أو خصوص الخمر المأخوذ من العنب کان الشکّ فی حرمة الخمر المأخوذ من غیر العنب شکّا فی ثبوت التکلیف،و لا مجال لجریان الاستصحاب معه.

و المقام من هذا القبیل،فإنّا نشکّ فی أنّ التکلیف مجعول لجمیع المکلّفین أو هو مختصّ بمدرکی زمان الحضور،فیکون احتمال التکلیف بالنسبة إلی غیر المدرکین شکّا فی ثبوت التکلیف لا فی بقائه».

ثمّ قال:«فالتحقیق:أنّ هذا الإشکال لا دافع له،و أنّ استصحاب عدم النسخ ممّا لا أساس له،فإن کان لدلیل الحکم عموم أو إطلاق یستفاد منه استمرار الحکم فهو المتّبع و إلاّ فإن دلّ دلیل من الخارج علی استمرار الحکم -کقوله علیه السّلام:«حلال محمّد صلّی اللّه علیه و آله حلال إلی یوم القیامة،و حرامه حرام إلی یوم القیامة»-فیؤخذ به،و إلاّ فلا یمکن إثبات الاستمرار باستصحاب عدم النسخ (1).

ص:236


1- 1) مصباح الاصول 3:148-149.

و جوابه:سلّمنا أنّ النسخ فی الحقیقة دفع،و هو عبارة عن انتهاء أمد الحکم،لا أنّه رفع استمرار الحکم،و سلّمنا أنّه لا مجال لاستصحاب أحکام الشرائع السابقة فی زماننا هذا،و لکن یمکن جریان استصحاب عدم النسخ فی الشریعة المقدّسة و یتصوّر هذا علی قسمین:

الأوّل:لو فرضنا أنّ شخصا أدرک رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و عاش فی زمانه-مثلا- و عمل بالأحکام الشرعیّة،ثمّ سافر إلی بلاد بعیدة،و حصل له الشکّ بعد مدّة فی أنّ حکم کذا الذی کان مورد عمله إلی الآن هل انتهی أمده أم لا؟و معلوم أنّه لا ملجأ له سوی استصحاب عدم النسخ.

الثانی:أنّ حکم کذا و مفاد آیة کذا التی یکون عنوانها«الذین آمنوا»و لم یصرّح من حیث الدلیل بتوقیته،إن شککنا فی زماننا هذا فی انتهاء أمده و نسخه فی زمان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فأیّ مانع یمنع من استصحاب عدم نسخه؟ فالظاهر أنّه لا مانع من جریان استصحاب عدم النسخ فی شریعتنا،کما أنّه عند الشیخ و المحقّق الخراسانی قدّس سرّهما و سائر المحقّقین مفروغ عنه.

و أمّا الإشکال الثانی علی استصحاب عدم النسخ المختصّ باستصحاب أحکام الشرائع السابقة،فهو ما یستفاد من کلام المحقّق النائینی رحمه اللّه من أنّ تبدّل الشریعة السابقة بالشریعة اللاحقة إن کان بمعنی نسخ جمیع أحکام الشریعة السابقة-بحیث لو کان حکم فی الشریعة اللاحقة موافقا لما فی الشریعة السابقة لکان الحکم المجعول فی الشریعة اللاحقة مماثلا للحکم المجعول فی الشریعة السابقة لا بقاء له-فیکون مثل إباحة شرب الماء الذی هو ثابت فی جمیع الشرائع مجعولا فی کلّ شریعة مستقلاّ،غایة الأمر أنّها أحکام متماثلة،فعدم جریان الاستصحاب عند الشکّ فی النسخ واضح؛للقطع بارتفاع جمیع أحکام

ص:237

الشریعة السابقة،فلا یبقی مجال للاستصحاب.و إن کان تبدّل الشریعة بمعنی نسخ بعض أحکامها لا جمیعها فبقاء الحکم الذی کان فی الشریعة السابقة و إن کان محتملا إلاّ أنّه یحتاج إلی الإمضاء فی الشریعة اللاحقة،و لا یمکن إثبات الإمضاء باستصحاب عدم النسخ إلاّ علی القول بالأصل المثبت (1).

و جوابه:أنّ نسخ جمیع أحکام الشریعة السابقة و إن کان مانعا عن جریان استصحاب عدم النسخ إلاّ أنّ الالتزام به بلا موجب،فإنّه لا داعی إلی جعل إباحة شرب الماء-مثلا-فی الشریعة اللاحقة مماثلة للإباحة التی کانت فی الشریعة السابقة،و النبوّة لیست ملازمة للجعل،فإنّ النبیّ هو المبلّغ للأحکام الإلهیّة.

و أمّا ما ذکره من أنّ بقاء حکم الشریعة السابقة یحتاج إلی الإمضاء فی الشریعة اللاحقة فهو صحیح،إلاّ أنّ نفس أدلّة الاستصحاب کافیة فی إثبات الإمضاء،و لیس التمسّک به من التمسّک بالأصل المثبت،فإنّ الأصل المثبت فیها إنّما هو إذا وقع التعبّد بما هو خارج عن مفاد الاستصحاب.

و فی المقام نفس دلیل الاستصحاب دلیل علی الإمضاء،فکما لو ورد دلیل خاصّ علی وجوب البناء علی بقاء أحکام الشریعة السابقة إلاّ فیما علم النسخ فیه یجب التعبّد به،فیحکم بالبقاء فی غیر ما علم نسخه،و یکون هذا الدلیل الخاصّ دلیلا علی الإمضاء.

فکذا فی المقام أدلّة الاستصحاب تدلّ علی وجوب البناء علی البقاء فی کلّ متیقّن شکّ فی بقائه،سواء کان من أحکام الشریعة السابقة أو من أحکام هذه الشریعة المقدّسة أو من الموضوعات الخارجیّة،فلا إشکال فی

ص:238


1- 1) فوائد الاصول 4:480.

استصحاب عدم النسخ من هذه الجهة.و العمدة فی منعه ما ذکرناه.

و أمّا ما قیل فی وجه المنع-من أنّ العلم الإجمالی بنسخ کثیر من الأحکام مانع عن التمسّک باستصحاب عدم النسخ-فهو مدفوع بأنّ محلّ الکلام إنّما هو بعد انحلال العلم الإجمالی بالظفر بعدّة من موارد النسخ التی یمکن انطباق المعلوم بالإجمال علیها،فتکون الشبهة فیما عدا ذلک بدویّة،و یجری فیها الاستصحاب بلا مزاحم (1).

و الإشکال من ناحیة العلم الإجمالی غیر مختصّ بالمقام فقد استشکل به فی موارد،منها:العمل بالعامّ مع العلم الإجمالی بالتخصیص،و منها:العمل بأصالة البراءة مع العلم الإجمالی بتکالیف کثیرة،و منها المقام.

و الجواب فی الجمیع هو ما ذکرناه من أنّ محلّ الکلام بعد الانحلال.

ص:239


1- 1) کفایة الاصول 2:324.

ص:240

التنبیه السابع: فی حجّیّة الأمارات المثبتة دون الاصول

اشارة

فی حجّیّة الأمارات المثبتة دون الاصول

ذهب المشهور إلی أنّ مثبتات الاصول لیست بحجّة بخلاف مثبتات الأمارات و وقع الخلاف بین المحقّقین فی دلیل ذلک،و لکن لا بدّ لنا قبل ملاحظة الآراء و أدلّتهم من بیان محلّ النزاع.

فنقول:إنّ المستصحب قد یکون موضوعا من الموضوعات الخارجیّة،و قد یکون حکما من الأحکام الشرعیّة،فإن کان من الأحکام الشرعیّة فلا شکّ فی ترتّب الآثار و اللوازم العقلیّة و العادیّة علیه،کما إذا شککنا فی وجوب صلاة الجمعة فی عصر الغیبة-مثلا-و بعد جریان الاستصحاب فیه یستفاد أنّ صلاة الجمعة واجبة بالوجوب الظاهری المماثل للحکم الواقعی،و تترتّب علیه الآثار العقلیّة،مثل:حکم العقل بوجوب الإطاعة و وجوب الوفاء بالنذر إن کان متعلّق النذر الشرکة فیها دائما فی صورة کونها واجبة.

و أمّا إن کان المستصحب موضوعا للأحکام الشرعیّة فیترتّب علیه الحکم الشرعی الذی یتوقّع ترتّبه علیه بلا واسطة،مثل:ترتّب الحرمة علی استصحاب خمریّة المائع المشکوک الخمریّة.

و أمّا إذا کان للمستصحب لازم عقلی أو عادی أیضا فی عرض الأثر

ص:241

الشرعی،و کان هذا اللازم العقلی أو العادی موضوعا للحکم الشرعی الآخر، فهل یترتّب هذا الحکم الشرعی أیضا علیه أم لا؟کما یترتّب علی استصحاب حیاة زید الآثار الشرعیّة المترتّبة بلا واسطة،مثل:حرمة التصرّف فی أمواله، و حرمة ترویج زوجته و نحو ذلک.

و أمّا ترتّب الآثار الشرعیّة المترتّبة بالنذر علی بیاض لحیته أو کونه فی السن کذا فهو محلّ البحث و النزاع،و المفروض أنّه لیست لنفس اللازم العقلی أو العادی حالة سابقة متیقّنة حتّی یجری الاستصحاب فیه مستقلاّ لترتّب لازمه الشرعی.

و المشهور بین المحقّقین من الاصولیّین التفصیل بین الأمارات و الاصول، بأنّه یترتّب علی استصحاب حیاة زید-مثلا-ما یترتّب علیه بلا واسطة من الآثار الشرعیّة فقط،و إن قامت بیّنة علی حیاته فیترتّب علیها جمیع الآثار الشرعیّة،سواء کان ترتّبها مع الواسطة أو بلا واسطة.

و إنّما الکلام فی وجه هذا التفصیل،فذهب المحقّق الخراسانی رحمه اللّه إلی أنّ وجهه إطلاق أدلّة الأمارات بالنسبة إلی جمیع الآثار دون الاصول؛لوجود القدر المتیقّن فی مقام التخاطب فیها،و هو آثار نفس المستصحب بلا توسّط شیء (1).

و فیه:أنّ حجّیّة الأمارات یمکن أنّ تکون تأسیسیّة،بمعنی تعبّد الشارع بها بالأدلّة اللفظیّة المستقلّة،و یمکن أن تکون إمضائیّة،بمعنی تأیید الشارع بنحو من الأنحاء أو عدم ردعه لما هو مورد بناء العقلاء،و الظاهر من کلام صاحب الکفایة رحمه اللّه إطلاق أدلّة حجّیّة الأمارات مع کونها أدلّة لفظیّة تعبدیّة،و لکن نقول:إنّ معنی الحجّیّة التعبّدیّة هی الکاشفیّة التعبّدیّة لا الکاشفیّة الواقعیّة

ص:242


1- 1) کفایة الاصول 2:326-327.

و التکوینیّة.

سلّمنا أنّ فی مرحلة تکوین الواقعیّات لا ینفکّ الیقین بالملزوم عن الیقین باللازم و الملازم،و هکذا الظنّ بالملزوم مساوق للظنّ باللازم،و الملازم،و أمّا فی مرحلة التعبّد فلا یصحّ التعدّی من دائرة المتعبّد به إلی اللوازم و الملزومات، بل لا بدّ من التعبّد بالمدلول المطابقی للدلیل و المخبر به،فلا فرق فی التعبّد بمفاد المطابقی و القدر المتیقّن من الدلیل بین دلیل الأصل و الأمارة،فکما أنّ قوله:

«لا تنقض الیقین بالشکّ»لا یتعدّی من القضیّة المتیقّنة و المشکوکة کذلک قوله «صدّق العادل»-مثلا-لا یتعدّی عن المخبر به.

و أمّا إن کان دلیل اعتبار الأمارات بناء العقلاء،و حجّیّتها کانت إمضائیّة -کما هو التحقیق-فلا بدّ من معاملتها معاملة بناء العقلاء من ترتّب جمیع الآثار و اللوازم بلحاظ حصول الوثوق و الاطمئنان بها.

و قال المحقّق النائینی رحمه اللّه:إنّ وجهه اختلاف المجعول فی باب الأمارات و الاصول،فإنّ المجعول فی الأوّل هو الطریقیّة و الکاشفیّة و اعتبارها علما بالتعبّد فکما أنّ العلم الوجدانی بالشیء یقتضی ترتّب آثاره و آثار لوازمه کذلک العلم التعبّدی الجعلی،و فی الثانی هو مجرّد تطبیق العمل علی مؤدّی الأصل و الجری العملی علی طبق الیقین السابق،و حیث إنّ اللازم لم یکن متیقّنا فلا وجه للتعبّدیّة (1).

و فیه:أنّه لا یمکن أن تکون الطریقیّة التعبدیّة دلیلا علی حجّیّة مثبتات الأمارات،فإنّها لا تکون طریقیّة تکوینیّة عقلائیّة حتّی یترتّب علیها جمیع الآثار و اللوازم.

ص:243


1- 1) فوائد الاصول 4:484-487.

نعم،سلّمنا أنّ العلم الوجدانی یقتضی ترتّب جمیع الآثار حتّی ما کان منها بتوسّط اللوازم العقلیّة أو العادیّة؛لأنّه من العلم بالملزوم یتولّد العلم باللازم بعد الالتفات إلی الملازمة،فترتّب آثار اللازم لیس من جهة العلم بالملزوم،بل من جهة العلم بنفس اللازم المتولّد من العلم بالملزوم،بخلاف العلم التعبّدی المجعول فإنّه لا یتولّد منه العلم الوجدانی باللازم و هو واضح،و لا العلم التعبّدی به؛لأنّ العلم التعبّدی تابع لدلیل التعبّد،و هو مختصّ بالملزوم دون لازمه؛لأنّ المخبر إنّما أخبر به عنه لا عن لازمه.

فلا وجه لحجّیّة مثبتات الأمارات إلاّ اعتبارها من طریق بناء العقلاء و إمضاء الشارع له.

و المهمّ فی الکلام عبارة عن علّة عدم حجّیّة مثبتات الاصول و عرفت ما نقلناه عن صاحب الکفایة رحمه اللّه من أنّ علّته عدم إطلاق أدلّة حجّیّة الاصول لتحقّق القدر المتیقّن فی مقام التخاطب،و هو الأثر الشرعی المترتّب علیها بلا واسطة،فلذا لا تشتمل الآثار الشرعیّة المترتّبة علی اللوازم العقلیّة و العادیّة.

و هکذا ما نقلناه عن المحقّق النائینی رحمه اللّه من أنّ علّته عدم جعل الکاشفیّة و الطریقیّة لها،بل المجعول فیها تطبیق العمل علی طبق مؤدّاها،و لا محالة یکون مقصوده أنّ مؤدّی الاستصحاب هو الأثر الشرعی المترتّب علی المستصحب بلا واسطة.

و قال الشیخ الأنصاری رحمه اللّه:«إنّ معنی عدم نقض الیقین و المضی علیه هو ترتیب آثار الیقین السابق الثابتة بواسطته للمتیقّن،و وجوب ترتیب تلک الآثار من جانب الشارع لا یعقل إلاّ فی الآثار الشرعیّة المجعولة من الشارع لذلک الشیء؛لأنّها القابلة للجعل دون غیرها من الآثار العقلیّة و العادیّة،

ص:244

فالمعقول من حکم الشارع بحیاة زید و إیجابه ترتیب آثار الحیاة فی زمان الشکّ هو حکمه بحرمة تزویج زوجته و التصرّف فی ماله،لا حکمه بنموّه و نبات لحیته؛لأنّ هذه غیر قابلة لجعل الشارع.

نعم،لو وقع نفس النموّ و نبات اللحیة موردا للاستصحاب أو غیره من التنزیلات الشرعیّة أفاد ذلک جعل آثارهما الشرعیّة دون العقلیّة و العادیّة، لکنّ المفروض ورود الحیاة موردا للاستصحاب».

ثمّ قال:«و الحاصل:أنّ تنزیل الشارع المشکوک منزلة المتیقّن کسائر التنزیلات إنّما یفید ترتیب الأحکام و الآثار الشرعیّة المحمولة علی المتیقّن السابق،فلا دلالة فیها علی جعل غیرها من الآثار العقلیّة و العادیّة؛لعدم قابلیّتها للجعل،و لا علی جعل الآثار الشرعیّة المترتّبة علی تلک الآثار؛لأنّها لیست آثار نفس المتیقّن و لم یقع ذوها موردا لتنزیل الشارع حتّی تترتّب هی علیه» (1).

و کان لاستاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه هنا بیان مفصّل و یستفاد منه دلیل آخر علی عدم حجّیّة الاصول المثبتة،و لا بدّ من ذکر مقدّمة لتوضیح مراده،و هی:أنّه یتصوّر للمستصحب-مثل حیاة زید-فی المرحلة الاولی اللازم الشرعی و اللازم العقلی و اللازم العادی،و فی المرحلة الثانیة یمکن أن یکون لکلّ واحد من هذه اللوازم أثر شرعیّ،فلا إشکال فی ترتّب الأثر الشرعی الواقع فی المرحلة الاولی علی استصحاب حیاة زید-مثلا-و أمّا الآثار الشرعیّة المتحقّقة فی المرحلة الثانیة المترتّبة علی اللازم العقلی أو العادی فهی القدر المتیقّن من مثبتات الاصول،و محلّ البحث هنا.

ص:245


1- 1) فوائد الاصول 2:776.

و یمکن أن یکون للأثر الشرعی الواقع فی المرحلة الاولی-مثل حرمة التصرّف فی أموال زید بعد استصحاب حیاته-أثر شرعیّ آخر،مثل:أن یقول القائل:إن کانت أموال زید فی هذه الشرائط محرّمة التصرّف للّه علیّ إعطاء الصدقة،و معلوم أنّ ذکر«قید فی هذه الشرائط»لما ذکرناه من أنّه لا بدّ للأثر الشرعی أنّ لا یکون قابلا للاستصحاب مستقلاّ،فیقع البحث فی جهتین:

الاولی:فی الآثار الشرعیّة المترتّبة علی اللازم العقلی أو العادی للمستصحب.

الثانیة:فی الآثار الشرعیّة المترتّبة علی الأثر الشرعی للمستصحب،و قد اختلطت الجهتان فی کلام استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه.

و بعد الفراغ من ذلک فلنبدأ بکلامه رحمه اللّه فإنّه قال:و أمّا الاصول و عمدتها الاستصحاب فالسّر فی عدم حجّیّة مثبتاتها و حجّیّة لوازمها الشرعیّة-و لو مع الوسائط إذا کان الترتّب بین الوسائط کلّها شرعیّا-یتّضح بعد التنبیه علی أمرین:

أحدهما:أنّ الیقین إذا تعلّق بشیء له لازم و ملازم و ملزوم و کان لکلّ منها أثر شرعی،یصیر تعلّق الیقین به موجبا لتعلّق یقین آخر علی لازمه،و یقین آخر علی ملازمه،و یقین آخر علی ملزومه،فتکون متعلّقات أربعة،کلّ واحد منها متعلّق لیقین مستقلّ و إن کانت ثلاثة منها معلولة للیقین المتعلّق بالملزوم لکن یکون لزوم ترتیب الأثر علی کلّ متعلّق لأجل استکشافه بالیقین به،لا الیقین المتعلّق بغیره من ملزومه أو لازمه أو ملازمه،فإذا تیقّنت بحیاة زید و حصل منه یقین بنبات لحیته و یقین آخر ببیاضها و کان لکلّ منها أثر شرعی یجب ترتیب أثر حیاته للعلم بها و نبات لحیته للعلم به لا للعلم بحیاته،

ص:246

و ترتیب أثر بیاضها للعلم به لا بنبات اللحیة أو الحیاة،فالعلم بکلّ متعلّق موضوع مستقلّ لوجوب ترتیب أثره و إن کان بعض العلوم معلولا لبعض آخر.

و ثانیهما:أنّ الکبری الکلّیّة فی الاستصحاب و هی قوله:«لا ینقض الیقین بالشکّ»:إمّا أن یکون المراد منها هو إقامة المشکوک فیه مقام المتیقّن فی ترتیب الآثار،فیکون المفاد وجوب ترتیب آثار المتیقّن علی المشکوک فیه،کما هو الظاهر من الشیخ و من بعده من الأعلام.

و إمّا أن یکون المراد منها إبقاء الیقین فی اعتبار الشارع و إطالة عمره و عدم نقضه بالشکّ؛لکونه أمرا مبرما لا ینقض بما لیس کذلک،فیکون معنی عدم نقض الیقین بالشکّ هو التعبّد ببقاء الیقین الطریقی فی مقام العمل،لما عرفت فی محلّه من أنّ الیقین السابق لا یمکن أن یکون طریقا و أمارة علی الشیء المشکوک فی زمان،فلا یمکن أن یکون اعتبار بقاء الیقین إلاّ إیجاب العمل علی طبق الیقین الطریقی،أی التعبّد ببقاء المتیقّن،فتصیر نتیجة الاعتبارین واحدة، و هی وجوب ترتیب الآثار فی زمان الشکّ و إن کان الاعتباران مختلفین و طریق التعبّد بوجوب ترتیب الأثر مختلفا کما ستأتی الإشارة إلیه.

إذا عرفت ذلک فنقول:إنّ قوله«لا ینقض الیقین بالشکّ»إن کان بمعنی تنزیل المشکوک فیه منزلة المتیقّن فی الآثار فلا یترتّب علیه بهذا الدلیل إلاّ آثار نفس المتیقّن دون آثار الآثار،أی لوازم اللوازم الشرعیّة و إن کان الترتّب شرعیّا فضلا عن آثار اللوازم و الملزومات و الملازمات العقلیّة و العادیّة،و ذلک لوجهین:

الأوّل:أنّ آثار المتیقّن لیست إلاّ ما یترتّب علیه و یکون هو موضوعا لها،

ص:247

و أمّا أثر الأثر فیکون موضوعه الأثر لا المتیقّن،کما أنّ أثر اللازم أو الملزوم أو الملازم مطلقا یکون موضوعه تلک الامور لا المتیقّن،و معنی«لا ینقض الیقین بالشکّ»بناء علیه أنّه رتّب آثار المتیقّن علی المشکوک فیه،و الفرض أنّه لم یتعلّق الیقین إلاّ بنفس المتیقّن،فاذا تعلّق الیقین بحیاة زید دون نبات لحیته و شکّ فی بقائها یکون التعبّد بلزوم ترتیب الأثر بلحاظ أثر المتیقّن،و هو ما یترتّب علی الحیاة المتیقّنة،لا ما لیس بمتیقّن کنبات اللحیة،فإنّ التنزیل لم یقع إلاّ بلحاظ المتیقّن و المشکوک فیه و ذلک من غیر فرق بین الآثار المترتّبة علی الوسائط الشرعیّة و العادیّة و العقلیّة.

و لیس ذلک من جهة انصراف الأدلّة عن الآثار الغیر الشرعیّة أو عدم إطلاقها أو عدم تعقّل جعل ما لیس تحت ید الشارع کما ذهب إلی کلّ ذاهب، بل لقصور الأدلّة و خروج تلک الآثار موضوعا و تخصّصا،و هذا الوجه یظهر من کلام الشیخ أیضا.

و الثانی:أنّ دلیل الأصل لا یمکن أن یتکفّل بآثار الآثار و آثار الوسائط و لو کانت شرعیّة؛لأنّ الأثر إنّما یکون تحقّقه بنفس التعبّد،و لا یمکن أن یکون الدلیل المتکفّل للتعبّد بالأثر متکفّلا للتعبّد،بأثر الأثر؛لأنّ أثر المتیقّن متقدّم ذاتا و اعتبارا علی أثره،أی أثر الأثر؛لکونه موضوعا له،فلا بدّ من جعل الأثر و التعبّد به أوّلا و جعل أثر ذلک الأثر و التعبّد به فی الرتبة المتأخّرة عن الجعل الأوّل،و لا یمکن أن یکون الجعل الواحد و الدلیل الفارد متکفّلا لهما؛للزوم تقدّم الشیء علی نفسه و إثبات الموضوع بالحکم.

ثمّ قال:و ممّا ذکرنا یعلم أنّه لو کان معنی«لا ینقض الیقین بالشکّ»هو التعبّد بإبقاء الیقین و إطالة عمره لما نفع فی ترتّب آثار الوسائط الشرعیّة فضلا عن

ص:248

غیرها؛لعین ما ذکرنا من الوجهین (1).

و حاصل کلامه رحمه اللّه:أنّ دلیل الاستصحاب قاصر عن شمول آثار اللوازم العقلیّة و العادیّة؛لمحدودیّته بدائرة صدق نقض الیقین بالشکّ،و لا یتحقّق هذا العنوان فیها حتّی یشملها قوله«لا تنقض الیقین بالشکّ»فلذا لو فرض تحقّق الإطلاق للدلیل لا یفید فی المقام؛إذ الإطلاق لا یوجب سرایة الحکم إلی العنوان الخارج عن دائرة لفظ المطلق،فالحکم دائر مدار صدق عنوان صدق الیقین بالشکّ،إذ انتفی العنوان انتفی الحکم.

و ما ذکره الشیخ رحمه اللّه من عدم قابلیّة تعلّق الجعل التشریعی باللوازم العقلیّة و العادیّة مع صحّته فی نفسه و متانته لا یفید فی المقام؛إذ لو فرضنا کونها قابلة للجعل التشریعی لا یکون مؤثّرا فی ما نحن فیه؛إذ لا دلیل للجعل سوی قوله:

«لا تنقض الیقین بالشکّ»،و هو لا یتعدّی من دائرة صدق عنوان نقض الیقین بالشکّ،فلا یکون الأثر العقلی العادی مصداقا له،و هذا البیان دقیق و متین و قابل للاطمئنان.

و هذا کلّه بالنسبة إلی الجهة الاولی من البحث،و أمّا الجهة الثانیة فهی عبارة عن الآثار الشرعیّة المترتّبة علی الأثر الشرعی المترتّب علی المستصحب،و المفروض أنّه لا یتحقّق للأثر الشرعی الأوّل حالة سابقة وجودیّة متیقّنة حتّی نجری الاستصحاب فیه مستقلاّ،کما إذا شککنا فی مطهّریّة ماء الحوض المغسول به الید النجسة فنستصحب المطهریّة،و الأثر الشرعی المترتّب علیها طهارة الید المغسولة بهذا الماء،و الأثر الشرعی المترتّب علی طهارة الید طهارة ملاقیه مع الرطوبة،مع أنّ استصحاب طهارة

ص:249


1- 1) الاستصحاب:152-155.

الید لا یکون جاریا؛لکونها أمرا حادثا مسبوق العدم،فهل یترتّب هذا الأثر الشرعی المترتّب علی الأثر الشرعی الأوّل علی المستصحب-أی طهارة الملاقی علی مطهریّة الماء-أم لا؟و ما ذکرناه فی عدم ترتّب الأثر الشرعی المترتّب علی اللازم العقلی و العادی ینطبق هاهنا أیضا،طابق النعل بالنعل،أی خروجه عن الدلیل تخصّصا مع تحقّق إشکال آخر فی ما نحن فیه،و هو ما ذکره استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه بعنوان الجواب الثانی من عدم إمکان کون الجعل الواحد متکفّلا للتعبّد بما فی الرتبة المتقدّمة و ما فی الرتبة المتأخّرة معا؛للزوم تقدّم الشیء علی نفسه و إثبات الموضوع بالحکم،فإنّ طهارة الید بمنزلة الموضوع لطهارة الملاقی و هی مترتّبة علیها،و لا یمکن جعل الموضوع و الحکم معا بقوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ».

و هذا الإشکال نظیر ما ورد علی أدلّة حجّیّة خبر الثقة بالنسبة إلی الأخبار مع الواسطة بأنّ شمول قوله:«صدّق العادل»لها یستلزم أن یکون متکفّلا لبیان و جعل الموضوع معا،و هذا ممتنع.

و لا یمکن دفع الإشکال هاهنا بما دفع به الإشکال هناک؛لإمکان أن یقال هناک:إنّ قوله:«صدّق العادل»قضیّة حقیقیّة تنطبق علی کلّ مصداق وجد منها و لو کان مصداقا تعبدیّا،أو أن یقال:إنّ العرف یحکم بإلغاء الخصوصیّة أو یدّعی العلم بالمناط و أنّ المصداق المتحقّق بنفس دلیل التعبّد لا بدّ و أن یترتّب علیه الأثر.

و لا یرد شیء منها فی المقام؛لأنّ التعبّد بعدم نقض الیقین بالشکّ لا یوجب حصول مصداق تعبّدی من الشکّ و الیقین حتّی ینطبق علیه عدم نقضه به،فإذا علم بمطهّریّة الماء و شکّ فیها یجب ترتیب طهارة الید المغسولة به علیه،لقوله:

ص:250

«لا تنقض الیقین بالشکّ»،فیحکم بطهارة الید به،فإذا کانت طهارة الید موضوعا لأثر شرعی فلا یمکن أن یکون دلیل لا تنقض حاکما بوجوب ترتّبه علیها؛لعدم تکفّل هذا التعبّد لإیجاد مصداق تعبّدی لقوله:«لا تنقض الیقین»حتّی یقال:إنّه قضیّة حقیقیّة تشمل ما وجد بنفس التعبّد.

کما لا یمکن دعوی إلغاء الخصوصیّة عرفا أو العلم بالمناط بعد عدم کونه مصداقا للکبری و لو تعبّدا،و بعد کون ترتّب الأثر علی الموضوع لأجل تعلّق الیقین،و هو مفقود،فدعوی وحدة المناط أو إلغاء الخصوصیّة مجازفة محضة.

إنّما الکلام فی مفاد قوله«لا تنقض الیقین بالشکّ»بالنسبة إلی الاستصحاب الجاری فی الموضوعات،مثل:استصحاب عدالة زید أو خمریّة هذا المائع، و یستفاد من کلام صاحب الکفایة رحمه اللّه أنّ مفاده جعل الحکم المماثل بلا فرق بین الاستصحاب الجاری فی الأحکام و الموضوعات،فمعنی استصحاب الخمریّة أنّ هذا المائع کان فی السابق حراما و الآن أیضا یکون حراما (1).

و التحقیق:أنّ الاستصحاب الجاری فی الموضوعات لا یکون ناظرا إلی الأحکام و الآثار،و مفاده التعبّد ببقاء المستصحب و إن کان له آثار و أحکام فی الشریعة،فمفاد استصحاب الخمریّة أنّه أیّها المنقاد للشرع،تعبّد بأنّ هذا المائع خمر،کما أنّ مفاد البیّنة أیضا یکون کذلک إلاّ أنّ حجّیّتها علی نحو الطریقیّة بلا فرق بینهما من حیث المفاد.

و القاعدة أیضا تقتضی ذلک؛إذ المشکوک فیه فعلا و المتیقّن سابقا عبارة عن نفس عنوان الموضوع بدون لحاظ الأحکام و الآثار،و ربّما لا یلتفت الشاکّ إلیها أصلا،فمفاد استصحاب الحرمة هو جعل الحکم المماثل بخلاف

ص:251


1- 1) کفایة الاصول 2:325.

استصحاب الخمریّة،و بعد التعبّد بأنّ هذا المائع خمر بالاستصحاب و إحراز الموضوع و تحقّقه ینطبق علیه حکم الشارع بأنّ الخمر حرام،کما أنّ البیّنة تکون محرزة و مبیّنة للموضوع لا تکون متکفّلة لبیان الحکم،و هکذا الاستصحاب یکون کذلک،فترتّب الحکم فی استصحاب الموضوعات لا یرتبط بالاستصحاب.

فإذا کان المستصحب هو الخمریّة و کان له لازم شرعی-أی الحرمة- و کان للازمه أیضا لازم شرعی آخر-أی ارتداد منکر حرمته-فیستفاد من قوله«لا تنقض الیقین بالشکّ»التعبّد بأنّ هذا المائع خمر و إحراز الموضوع فقط،و الحرمة تستفاد من دلیل آخر،مثل:کلّ خمر حرام،و ارتداد منکر حرمته من دلیل ثالث،فلا یرتبط حکم الأثر و حکم أثر الأثر بدلیل الاستصحاب،کما لا یخفی،بل کلّ أثر شرعی یصیر موضوعا لأثر من بعده، و هکذا إلی سائر الآثار الشرعیّة الطولیّة.

و لا یتوهّم جریان هذا المعنی فی الآثار الشرعیّة المترتّبة علی اللوازم العقلیّة و العادیّة أیضا،فإنّه لا دلیل لنا لإحراز نفس اللوازم،لا بالعلم و لا بالبیّنة و لا بالتعبّد؛لمحدودیّة دائرة دلیل التعبّد بالمتعبّد به-أی المتیقّن و المشکوک-فلا یتعدّی عمّا یترتّب علیه بلا واسطة،فإذا احرزت حیاة زید بالاستصحاب یترتّب علیها حرمة التزویج بزوجته،و حرمة تقسیم أمواله، و أمّا نبات لحیته أو بیاض لحیته أو کونه فی السنّ کذا،فلا یحرز لنا بأیّ دلیل حتّی یترتّب علیها آثارها الشرعیّة،و هذا دلیل الافتراق بین الآثار الشرعیّة المترتّبة علی الآثار الشرعیّة،و الآثار الشرعیّة المترتّبة علی اللوازم العقلیّة و العادیّة.

ص:252

و هکذا فی الاستصحاب الموضوعی إن کان لملازم المستصحب أثر شرعیّ لا ترتّب علیه؛لمحدودیّة دائرة دلیل التعبّد بأحد المتلازمین العقلیّین و لا یتعدّی عنه.

نعم،إذا کانت الملازمة شرعیّة یترتّب الأثر الشرعی لأحد المتلازمین علی استصحاب الملازم الآخر،کما أنه یترتّب فی الاستصحاب الحکمی الأثر الشرعی لأحد المتلازمین علی استصحاب الملازم الآخر.

و إن کانت الملازمة عقلیّة مثل ترتّب الأثر الشرعی للمقدّمة علی استصحاب وجوب ذی المقدّمة و هکذا إذا کان لملزوم المستصحب أثر شرعیّ لا یترتّب علی استصحاب اللازم،إذ لا دلیل لإثبات الملزوم و التعبّد به،و بعد انحصار دلیل التعبّد بالمتعبّد به فکیف تترتّب آثار الملزوم؟

تکمیل:فی استثناء الوسائط الخفیّة

من الاصول المثبتة إذا کانت الواسطة بین المستصحب و الأثر الشرعی خفیّة یجری الاستصحاب و یترتّب علیه الأثر،و لا یکون من الاصول المثبتة، و المراد من خفاء الواسطة،فإنّ العرف-و لو بالنظر الدقیق-لا یری وساطة الواسطة فی ترتّب الحکم علی الموضوع،و یکون لدی العرف ثبوت الحکم للمستصحب من غیر واسطة،و إنّما یری العقل بضرب من البرهان کون الأثر مترتّبا علی الواسطة لبّا و إن کان مترتّبا علی ذی الواسطة.

و ذکر استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه مثالا له و لکنّه خارج عن محلّ البحث إلاّ أنّه مبیّن لخفاء الواسطة و علّة جریان الاستصحاب فیه.

و هو:أنّ الشارع إذا قال:«حرّمت علیکم الخمر».یکون الموضوع للحرمة هو الخمر عرفا،لکنّ العقل یحکم بأنّ ترتّب الحرمة علی الخمر لا یمکن إلاّ

ص:253

لأجل مفسدة قائمة بها تکون تلک المفسدة علّة واقعیّة للحرمة.

ثمّ لو فرض أنّ العقل اطّلع علی جمیع الخصوصیّات الواقعیّة للخمر و حکم بالدوران و التردید أنّ العلّة الواقعیّة للحرمة هی کونها مسکرة-مثلا-فیحکم بأنّ إسکار الخمر علّة لثبوت الحکم بالحرمة،ثمّ یحکم بأنّ موضوع الحرمة لیس هو الخمر بحسب الملاکات الواقعیّة،بل الموضوع هو المسکر بما أنّه مسکر،و لمّا کان متّحدا فی الخارج مع الخمر حکم بحرمته بحسب الظاهر، و لکن الموضوع الواقعی لیس إلاّ حیثیّة المسکریّة؛لأنّ الجهات التعلیلیّة هی الموضوعات الواقعیّة لدی العقل،فإذا علم أنّ مائعا کان خمرا سابقا و شکّ فی بقاء خمریّته فلا إشکال فی جریان استصحاب الخمریّة و ثبوت الحرمة له.

و لا یصحّ أن یقال:إنّ استصحاب الخمریّة لا یثبت المسکریّة التی هی موضوع الحکم لدی العقل إلاّ بالأصل المثبت؛لأنّ ترتّب الحرمة إنّما یکون علی المسکر أوّلا و بالذات و علی الخمر ثانیا و بالواسطة،و لیس المراد بخفاء الواسطة أنّ العرف یتسامح و ینسب الحکم إلی الموضوع دون الواسطة مع رؤیتها؛لأنّ الموضوع للأحکام الشرعیّة لیس ما یتسامح فیه العرف،بل الموضوع للحکم هو الموضوع العرفی حقیقة و من غیر تسامح،فالدم الحقیقی بنظر العرف موضوع للنجاسة،فإذا تسامح و حکم علی ما لیس بدم عنده أنّه دم لا یکون موضوعا لها،کما أنّه لو حکم العقل بالبرهان بکون شیء دما أو لیس بدم لا یکون متّبعا؛لأنّ الموضوع للحکم الشرعی ما یکون موضوعا لدی العرف.

و السرّ فی ذلک:أنّ الشارع لا یکون فی إلقاء الأحکام علی الامّة إلاّ کسائر الناس،و یکون فی محاوراته و خطاباته کمحاورات بعض النّاس بعضا،فکما

ص:254

أنّ المقنّن العرفی إذا حکم بنجاسة الدّم لا یکون موضوعها إلاّ ما یفهمه العرف مفهوما و مصداقا،فلا یکون اللون دما عنده و لیس موضوعا لها،کذلک الشارع بالنسبة إلی قوانینه الملقاة إلی العرف،فالمفهومات عرفیّة و تشخیص مصادیقها أیضا کذلک (1).

و لکن عرفت خروج هذا المثال عن محلّ البحث؛لأنّ للواسطة العقلیّة-أی مسکریّة هذا المائع-حالة سابقة وجودیّة،و تکون قابلة للاستصحاب بالاستقلال و یترتّب علیه الحرمة بدون الاحتیاج إلی استصحاب الخمریّة، و محلّ البحث فیما لا یکون الأثر العقلی قابلا للاستصحاب مستقلاّ.

ثمّ إنّ الشیخ الأنصاری رحمه اللّه ذکر مثالین لخفاء الواسطة بقوله:«منها:ما إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقیین مع جفاف الآخر،فإنّه لا یبعد الحکم بنجاسته مع أنّ تنجّسه لیس من أحکام ملاقاته للنجس رطبا،بل من أحکام سرایة رطوبة النجاسة إلیه و تأثّره بها بحیث یوجد فی الثوب رطوبة متنجّسة.

و من المعلوم أنّ استصحاب رطوبة النجس الراجع إلی بقاء جزء مائیّ قابل للتأثیر لا یثبت تأثّر الثوب و تنجّسه بها» (2).

و یرد علیه:أنّ الواسطة بالنظر العرفی الدقیق جلیّة؛إذ العرف یلتفت بأدنی تأمّل إلی أنّ السّرایة مؤثّرة فی تنجّس الملاقی لا الرطوبة،و معلوم أنّ السّرایة لازم عقلی للرطوبة،فلا یمکن إثبات الأثر المترتّب علی السرایة باستصحاب الرطوبة،و هذا من موارد الاصول المثبتة.

هذا بالنسبة إلی مثاله الأوّل،و أمّا مثاله الثانی فهو ما ذکره بقوله:«و منها

ص:255


1- 1) الاستصحاب:158-159.
2- 2) فوائد الاصول 2:783.

أصالة عدم دخول هلال شوّال فی یوم الشکّ المثبت لکون غده یوم العید، فیترتّب علیه أحکام العید من الصلاة و الغسل و غیرهما،فإنّ مجرّد عدم الهلال فی یوم لا یثبت آخریّة الیوم و لا أوّلیّة غده للشهر اللاحق،لکنّ العرف لا یفهمون من وجوب ترتیب آثار عدم انقضاء رمضان و عدم دخول شوّال إلاّ ترتیب أحکام آخریّة ذلک الیوم لشهر و أولیّة غده لشهر آخر» (1).

و لکن حلّ المسألة منه رحمه اللّه بخفاء الواسطة وقع مورد البحث و الإشکال عند المحقّقین؛إذ لا یمکن باستصحاب عدم خروج شهر رمضان إثبات کون الیوم الذی بعد أوّل شهر شوّال إلاّ بالقول بترکّب عنوان الأوّلیّة من جزءین؛ أحدهما:وجودی،و هو کون هذا الیوم من شوّال،و ثانیهما:عدمی،و هو عدم مضیّ یوم آخر منه قبله فیثبت بالاستصحاب المذکور کون هذا الیوم أوّل شوّال؛لأنّ الجزء الأوّل محرز بالوجدان،و الجزء الثانی یحرز بالأصل، فبضمیمة الوجدان إلی الأصل یتمّ المطلوب.

و أمّا علی القول بکونه أمرا بسیطا منتزعا من وجود یوم من الشهر غیر مسبوق بیوم آخر منه،فلا یمکن إثبات هذا العنوان البسیط بالاستصحاب المذکور إلاّ علی القول بالأصل المثبت،فإنّ الأوّلیّة بهذا المعنی لازم عقلی للمستصحب و غیر مسبوق بالیقین،و حیث إنّ التحقیق بساطة معنی الأوّلیّة بشهادة العرف لا یمکن إثباتها بالاستصحاب المزبور.

و قد التزم المحقّق النائینی رحمه اللّه فی مقام دفع الإشکال بأنّ الیوم الأوّل فی موضوع الأحکام غیر الیوم الأوّل الواقعی،فإنّه عبارة عن یوم رؤیة الهلال أو الیوم الواحد و الثلاثین من الشهر الماضی،فالمراد من ثامن ذی الحجّة هو

ص:256


1- 1) المصدر السابق.

الثامن من رؤیة الهلال أو ما بعد انقضاء ثلاثین یوما من ذی القعدة،سواء کان مطابقا للواقع أو لا (1).

و لکنّه لا یکون طریقا مناسبا لحلّ الإشکال؛إذ ما من مسلم إلاّ و یعلم بالضرورة أنّ یوم عید الفطر هو الیوم الأوّل الواقعی من شوّال،و یوم عید الأضحی هو الیوم العاشر الواقعی من ذی الحجّة،و هکذا.

و کان لاستاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه طریق آخر لحلّ الإشکال،و هو؛أنّ بناء المسلمین من صدر الإسلام إلی الآن علی ترتیب آثار العید علی یوم رؤیة الهلال،و یجعلون یوم الرؤیة أو الیوم الذی بعد یوم الشکّ أو الذی بعد انقضاء ثلاثین یوما من الشهر السابق الیوم الأوّل،و ثانیه الثانی،و هکذا لا من جهة أنّ موضوع الحکم الشرعی غیر الموضوع الواقعی،فإنّه ضروری البطلان،بل لأنّ هذا حکم ظاهری ثابت من الصدر الأوّل إلی الآن من غیر إشکال فی جمیع الطبقات (2).

ص:257


1- 1) فوائد الاصول 4:500.
2- 2) الاستصحاب:162.

ص:258

التنبیه الثامن: فی الامور المذکورة فی ذیل البحث عن الاصول المثبتة

اشارة

فی الامور المذکورة فی ذیل البحث عن الاصول المثبتة

الأمر الأوّل: أنّ استصحاب العنوان المنطبق علی الخارج لیس بمثبت

أنّ استصحاب العنوان المنطبق علی الخارج لیس بمثبت

قال صاحب الکفایة رحمه اللّه:«إنّه لا تفاوت فی الأثر المترتّب علی الاستصحاب بین أن یکون مترتّبا علیه بلا واسطة شیء أو بواسطة عنوان کلّی ینطبق و یحمل علیه بالحمل الشائع و یتّحد معه وجودا،کان منتزعا عن مرتبة ذاته أو بملاحظة بعض عوارضه ممّا هو خارج المحمول لا بالضمیمة...».

و حاصل کلامه:أنّ الأثر الشرعی فی الاستصحابات الموضوعیّة قد یترتّب علی المستصحب بدون الواسطة،مثل ترتّب وجوب الإکرام علی استصحاب بقاء حیاة زید،و هو القدر المتیقّن من ترتّب الأثر فی الاستصحابات الموضوعیّة،و قد یترتّب علی لازم المستصحب أو ملازمه،أو ملزومه،سواء کان عقلیّا أو عادیّا،و هو القدر المتیقّن من مثبتات الاصول، و قد مرّ ذکره،و قد یترتّب علی عنوان کلّی ینطبق فی الخارج علی المستصحب و یتّحد معه وجودا.

و منشأ الانطباق و الاتّحاد إمّا أن یکون هذا العنوان من الذات و الذاتیّات

ص:259

للمستصحب کالنوع أو الجنس أو الفصل،و إمّا أن یکون من الأعراض الخارجة عن ذات المستصحب،و هی علی قسمین:

قسم منها یعبّر عنه بخارج المحمول-کالملکیّة و الغصبیّة و الزوجیّة-و قسم منها یعبّر عنه بالمحمول بالضمیمة کالأبیض و الأسود.و یستفاد من مثاله لخارج المحمول أنّه أمر انتزاعی اعتباری لا حقیقة له و لا وجود إلاّ وجود منشأ الاعتبار و الانتزاع.

و قال صاحب الکفایة رحمه اللّه بجریان الاستصحاب فیما یترتّب علی عنوان کلّی یکون من الذات و الذاتیّات للمستصحب؛لاتّحادهما من حیث الوجود،و لا حقیقة لهذا العنوان سوی المستصحب،فإنّ الطبیعی لا یتحقّق إلاّ بتحقّق مصداقه،و هکذا بجریانه فیما یترتّب علی عنوان کلّی یکون من أعراض خارج المحمول للمستصحب؛إذ لا وجود لهذا الأمر الانتزاعی إلاّ بوجود منشأ انتزاعه و اعتباره،فاستصحاب منشأ الانتزاع لترتّب الأثر الانتزاعی لا یکون بمثبت،بخلاف إذا ترتّب الأثر علی عرض المحمول بالضمیمة للمستصحب کالسواد و البیاض،فإنّهما واقعیّتان مختلفتان،و ترتّب أثر أحدهما علی الآخر یکون من الأصل المثبت (1).

و الظاهر من کلام الشیخ عدم حجّیّة الاستصحاب فی جمیع هذه الصور، حیث قال:«و لا فرق فیما ذکرنا بین کون العنوان الذی یکون واسطة متّحد الوجود مع المستصحب أو مغایرة» (2).

و ما ذکره صاحب الکفایة رحمه اللّه قابل للبحث فی مقامین:

ص:260


1- 1) کفایة الاصول 2:329-330.
2- 2) فوائد الاصول 2:777.

المقام الأوّل:فی العنوان الذاتی المنطبق علی المستصحب الشامل للنوع و الجنس و الفصل،و المقام الثانی:فی العناوین العرضیّة و قوله بالتفصیل بین خارج المحمول و المحمول بالضمیمة.

أمّا المقام الأوّل فالإشکال فیه أنّ جریان الاستصحاب فی الفرد و ترتّب أثر الکلّی علیه یکون من الاصول المثبتة؛إذ المستصحب شیء و معروض الأثر شیء آخر،و مجرّد الاتّحاد الوجودی لا یوجب أن یکون أثر الکلّی أثرا للفرد،و قد مرّ مفصّلا فی بحث استصحاب الکلّی أنّه لا یمکن ترتّب أثر الفرد علی استصحاب بقاء الکلی و بالعکس،فإنّ حیثیّة مقام الموضوع و الموضوعیّة للحکم غیر مقام الاتّحاد فی الوجود،و الاتّحاد فی الوجود الخارجی لا یوجب الاتّحاد فی الموضوعیّة.

و هذا الإشکال یجری فی جمیع الاستصحابات الموضوعیّة،و یوجب انسداد باب الاستصحاب فی الموضوعات،فإنّ استصحاب خمریّة هذا المائع المشکوک،أی الفرد الخارجی و ترتّب الحرمة علیه،و القول بأنّ الخمر حرام، أی الخمر الکلّی حرام،فهذا المائع حرام یکون من مصداق استصحاب الفرد و ترتّب أثره الکلّی علیه،مع أنّنا قلنا:إنّ استصحاب بقاء زید فی الدار لا یوجب ترتّب أثر الإنسان علیه و بالعکس؛لمغایرتهما من حیث المفهوم و الأثر.

و قال بعض الأعلام رحمه اللّه فی مقام الجواب عنه:«إنّ الأثر أثر لنفس الفرد لا للکلّی؛لأنّ الأحکام و إن کانت مجعولة علی نحو القضایا الحقیقیّة إلاّ أنّ الحکم فیها ثابت للأفراد لا محالة،غایة الأمر أنّ الخصوصیّات الفردیّة لا دخل لها فی ثبوت الحکم،و إلاّ فالکلّی بما هو لا حکم له و إنّما یؤخذ موضوع الحکم لیشار

ص:261

به إلی أفراده،مثلا:إذا حکم بحرمة الخمر فالحرام هو الخمر الخارجی لا الطبیعة الکلّیّة بما هی» (1).

و یرد علیه:أنّ تأویل قوله:«الخمر حرام»-مع کونه مصدّرا بألف و لام الجنس و وضع لفظ الخمر للطبیعة و الماهیّة-بکلّ مائع وجد فی الخارج و کان خمرا فهو حرام،و انصراف الحکم من الطبیعة و إرجاعه إلی الموجودات الخارجیّة من محقّقة الوجود أو مقدّرة الوجود لا ینطبق مع ظواهر الروایات و الآیات.

و یستفاد من کلام استاذنا السیّد طریق آخر لحلّ المسألة و حاصل کلامه:

أنّ هاهنا امورا ثلاثة:أحدها:عنوان الکلّی بما أنّه کلّی،و الثانی:عنوان الفرد الذی هو متّحد معه خارجا و مختلف اعتبارا و حیثیّة،و الثالث:عنوان الکلّی المتحقّق فی الخارج المتشخّص فی العین،و یجری الاستصحاب فی الأوّل و الثالث لترتیب آثار العنوان الکلّی دون الثانی.

أمّا فی الأوّل فلا کلام فیه،و أمّا فی الثالث فلا ینبغی الإشکال فیه،فإنّ متعلّق الحکم عنوان یسری إلی مصداقه الخارجی،فإذا شکّ فی بقاء عنوان الخمر المنطبق علی المائع الخارجی یستصحب بقاء الخمر و یترتّب علی المائع الخارجی أثر الخمر؛إذ یتحقّق الفرق بین استصحاب الفرد لترتیب آثار الکلّی و بین استصحاب العنوان المنطبق علی الخارج لترتیب أثره علیه،فإنّ ذلک استصحاب نفس العنوان المتحقّق فی الخارج،فهو کاستصحاب نفس الکلّی لترتیب آثاره،فإذا تعلّق حکم بعنوان الخمر یکون هذا الحکم متعلّقا بکلّ ما هو خمر فی الخارج بعنوان أنّه خمر،فترتیب آثار الخمریّة باستصحاب خمریّة

ص:262


1- 1) مصباح الاصول 3:171.

المائع الخارجی ممّا لا مانع منه،و أمّا استصحاب وجود المائع الخارجی أو الوجود الخارجی المتّحد مع الخمر لترتیب آثار الخمریّة فلا یجری إلاّ علی القول بالأصل المثبت (1).

فلا یکون استصحاب خمریّة هذا المائع استصحاب الفرد،بل هو استصحاب الکلّی المتشخّص فی الخارج،فلا مانع من ترتیب آثار الکلّی، و هکذا فی أکثر الاستصحابات الموضوعیّة؛لعدم الفرق بین استصحاب إنسانیّة هذا الموجود و خمریّة هذا المائع فی الکلیّة.

نعم،استصحاب بقاء وجود هذا المائع و إن کان وجوده ملازما لخمریّته إلاّ أنّه لا یوجب ترتّب آثار الخمریّة.

و هذا طریق جیّد لحلّ الإشکال.

و أمّا المقام الثانی،أی التفصیل بین ما یعبّر عنه بخارج المحمول و ما یعبّر عنه بالمحمول بالضمیمة من الأعراض،فاستشکل علیه بعض الأعلام رحمه اللّه بأنّ ما ذکره من جریان الاستصحاب فی خارج المحمول و عدم جریانه فی المحمول بالضمیمة إن کان المراد منه أنّ الاستصحاب یصحّ جریانه فی الفرد من الأمر الانتزاعی لترتیب أثر الکلّی علیه-فیصحّ استصحاب ملکیّة زید لمال؛ لترتیب آثار الملکیّة الکلّیّة،من جواز التصرّف له،و عدم جواز تصرّف الغیر فیه بدون إذنه-فالکلام فیه هو الکلام فی الأمر الأوّل،مع أنّ هذا لا یکون فارقا بین الخارج المحمول و المحمول بالضمیمة،فإذا شکّ فی بقاء فرد من أفراد المحمول بالضمیمة-کعدالة زید مثلا-فباستصحاب هذا الفرد تترتّب آثار مطلق العدالة،کجواز الاقتداء به و نحوه،فلا وجه للفرق بین الخارج المحمول

ص:263


1- 1) الاستصحاب:164.

و المحمول بالضمیمة.

و إن کان مراده أنّ الاستصحاب یجری فی منشأ الانتزاع و یترتّب علیه أثر الأمر الانتزاعی الذی یکون لازما له علی فرض بقائه،فهذا من أوضح مصادیق الأصل المثبت،فإذا علمنا بوجود جسم فی مکان ثمّ علمنا بوجود جسم آخر فی أسفل من المکان الأوّل مع الشکّ فی بقاء الجسم الأوّل فی مکانه لم یمکن ترتیب آثار فوقیّته علی الجسم الثانی باستصحاب وجوده فی مکان الأوّل،فإنّه من أوضح أنحاء الأصل المثبت.

و کذلک لا یمکن إثبات زوجیّة امرأة خاصّة لزید مع الشکّ فی حیاتها و إن علم أنّها علی تقدیر حیاتها تزوجت به یقینا (1).

و علی المبنی المختار یکون المستصحب فی الجمیع الکلّی المنطبق علی الخارج،فیجری الاستصحاب فیها بلا فرق بین استصحاب خمریّة هذا المائع و ملکیّة زید لهذا المال و عدالته إن کان مجری الاستصحاب نفس هذه العناوین.

و أمّا إن کان المجری خارجا عنها فلا یرتبط بالبحث.

الأمر الثانی: أنّه لا تفاوت فی الأثر المستصحب أو المترتّب علیه بین أن یکون مجعولا

أنّه لا تفاوت فی الأثر المستصحب أو المترتّب علیه بین أن یکون مجعولا

شرعا بالاستقلال أو بمنشإ انتزاعه

،فباستصحاب الشرط تترتّب الشرطیّة، و باستصحاب المانع تترتّب المانعیّة (2).

و الظاهر أنّ صاحب الکفایة رحمه اللّه أراد بذلک دفع الإشکال المعروف فی جریان

ص:264


1- 1) مصباح الاصول 2:171.
2- 2) کفایة الاصول 2:330.

الاستصحاب فی الشرط و المانع.

بیان الإشکال:أنّ الشرط بنفسه لیس مجعولا بالجعل التشریعی،بل لا یکون قابلا له؛لکونه من الامور الخارجیّة التکوینیّة کالاستقبال و الستر للصلاة،و لا یکون له أثر شرعی أیضا،فإنّ جواز الدخول فی الصلاة-مثلا- لیس من الآثار الشرعیّة للاستقبال،بل الأحکام العقلیّة،فإنّ المجعول الشرعی هو الأمر المتعلّق بالصلاة مقیّدة بالاستقبال بحیث یکون التقیّد داخلا و القید خارجا.

و بعد تحقّق هذا الجعل من الشارع یحکم العقل بجواز الدخول فی الصلاة مع الاستقبال و عدم جواز الدخول فیها بدونه؛لحصول الامتثال معه و عدمه بدونه،و حصول الامتثال و عدمه من الأحکام العقلیّة،فلیس الشرط بنفسه مجعولا شرعیا و لا ممّا له أثر شرعی،فلا بدّ من الحکم بعدم جریان الاستصحاب فیه.

و کذا الکلام بعینه فی المانع،فأراد صاحب الکفایة رحمه اللّه دفع هذا الإشکال بأنّ الشرطیّة من المجعولات بالتبع،فلا مانع من جریان الاستصحاب فی الشرط لترتّب الشرطیّة علیه؛لأنّ المجعولات بالتبع کالمجعولات بالاستقلال فی صحّة ترتّبها علی الاستصحاب.

و یرد علیه:أنّ جریان الاستصحاب فی جمیع الموارد یکون بداعی استفادة حکم المستصحب الذی وقع الشکّ فیه و رفع الشکّ عنه،مثل استفادة حرمة الارتکاب و الشرب من استصحاب خمریّة هذا المائع فإنّ المجهول عند الشاکّ هو الحکم.

و أمّا المجهول و المشکوک فی استصحاب الشرط فهو بقاؤه و وجوده

ص:265

الخارجی لا الشرطیّة،فکیف تترتّب الشرطیّة التی لا شکّ فیها علی استصحاب بقاء الوضوء.

مع أنّه لا ارتباط بینهما؛إذ الشرطیّة ترتبط بمرحلة جعل الحکم؛و تحقّق الشرط و عدمه یرتبط بمقام الامتثال و الخارج.

ثمّ إنّه یتحقّق إشکال مهم آخر فی جریان استصحاب الشرط،و هو:أنّ جریان استصحاب بقاء الوضوء-مثلا-یکون بداعی وقوع الصلاة لا محالة مع الوضوء و تحقّقها مع التقیّد به،و هو لیس بأثر شرعی و لا یترتّب علیه أثر شرعیّ،بل هو أثر عقلی و یترتّب علیه أثر عقلی آخر،مثل:کونها موافقة للأمر و مسقطة للتکلیف،فلا یکون من الأثر الشرعی هنا أثر و لا خبر.

مع أنّ إنکار جریان الاستصحاب فی الشرط أصلا ینافی قوله علیه السّلام فی الصحیحة الاولی لزرارة:«و إلاّ فإنّه علی یقین من وضوئه،و لا ینبغی له أن ینقض الیقین بالشکّ أبدا»،و قوله علیه السّلام فی الصحیحة الثانیة له:«لأنّک کنت علی یقین من طهارتک فشککت،و لیس ینبغی لک أنّ تنقض الیقین بالشکّ أبدا»،و لا شکّ فی دلالتهما بالصراحة علی جریان الاستصحاب فی شرائط الصلاة.

و أراد صاحب الکفایة رحمه اللّه أن یجیب عن هذا الإشکال بما ذکره من جریان الاستصحاب فی الشرط و ترتّب الشرطیّة علیه،و قلنا:إنّ الشرطیّة لیست من أثر الشرط مع عدم کونها مشکوکة.

و یمکن أن یقال فی الجواب عن الإشکال:إنّ الطهارة من شرائط المصلّی لا الصلاة،و عدم المأکولیّة من موانع الصلاة بحسب الأدلّة،فإحراز طهارة المصلّی بالاستصحاب یکفی لصحّة صلاته،لکنّ استصحاب عدم لابسیّة المصلّی لغیر المأکول لا یثبت تقیّد الصلاة بعدم کونها مع المانع إلاّ بالأصل المثبت،فلذا

ص:266

یکون جریان الاستصحاب فی الشرط ممّا لم یقع فیه الإشکال بخلاف استصحاب عدم المانع.

و الجواب عنه:أوّلا:أنّ ظاهر الأدلّة یقتضی اشتراط الصلاة بالطهارة، کقوله:«لا صلاة إلاّ بطهور» (1)،کما أنّ ظاهر الأدلّة الواردة فی النهی عن الصلاة فی النجس یقتضی مانعیّته عن الصلاة کالأدلّة الواردة فی عدم جوازها فی غیر المأکول،مثل:قوله:«لا تجوز الصلاة فی شعر و وبر ما لا یؤکل لحمه» (2)من غیر فرق بینهما.

و ثانیا:أنّ الشرطیّة للمصلّی بأیّ معنی کانت لا محالة ترجع إلی الشرطیّة للصلاة،فإنّ معنی قولنا:إنّ المصلّی بما أنّه مصلّی لا بدّ له أن یکون واجدا للطهارة أنّ الصلاة مشروطة بالطهارة،و أنّ الصلاة الفاقدة لها باطلة.

و هذا المعنی یستفاد من الصحیحتین المذکورتین أیضا.

و قال استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه:«و الذی یمکن أن یقال:إنّ المیزان فی التخلّص من الأصل المثبت-کما ذکرنا-أن یصیر المستصحب مندرجا تحت کبری شرعیّة،فإذا استصحب الطهارة الخبثیّة أو الحدثیّة یصیر الموضوع مندرجا تحت الکبری المستفادة من قوله:«لا صلاة إلاّ بطهور»،فإنّ المستفاد منه أنّ الصلاة متحقّقة بالطهور بعد حفظ سائر الجهات،فإذا قال الشارع:«إنّ الصلاة تتحقّق بالطهور»،و قال فی دلیل آخر:«إنّ الطهور متحقّق»یحکم بصحّة الصلاة المتحقّقة مع الطهور الاستصحابی و یجوز الاکتفاء بالصلاة معه» (3).

ص:267


1- 1) الوسائل 1:258،الباب 2،من أبواب الوضوء،الحدیث 3.
2- 2) الوسائل 3:251،الباب 2،من أبواب لباس المصلّی،الحدیث 7.
3- 3) الاستصحاب:167.

و جوابه-کما أشار استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه-:أنّ مثل قوله:«لا صلاة إلاّ بطهور»إنّما هو بصدد جعل شرطیّة الطهور أو الإرشاد إلیها و أمّا صحّة الصلاة أو تحقّقها مع وجود الشرط،أو فسادها و عدم تحقّقها مع وجود المانع، فعقلی لا شرعی،مع أنّ قوله:«لا صلاة إلاّ بطهور»ناظر إلی مقام الجعل و التقنین،و لا یمکن أن یکون الکبری لمقام الامتثال،و ما هو مورد الشکّ و التردید فی الخارج،فلا یمکن حلّ الإشکال بهذا الطریق أیضا.

و کلامه رحمه اللّه هاهنا لا یخلو من اضطراب.

و التحقیق فی الجواب عن الإشکال:أنّ منشأه ما هو المعروف بین المحقّقین من أنّه یعتبر فی الاستصحاب أن یکون المستصحب بنفسه مجعولا شرعیا أو موضوعا له،مع أنّه لا دلیل لاعتبار ذلک من آیة أو روایة و إنّما المعتبر فی الاستصحاب کون المستصحب مرتبطا بالشارع،بمعنی إمکان الدخل و التصرّف فیه نفیا و إثباتا من الشارع بما أنّه شارع،و هذا المعنی یتحقّق فی جمیع الشرائط،سواء کان الشرط من الامور العبادیّة أو من الأحکام الوضعیّة أو من الامور التکوینیّة فإنّا نستفید من قوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ»بعد ملاحظة فی جنب قوله:«لا صلاة إلاّ بطهور»توسعة دائرة الطهارة التی تکون من شرائط الصلاة و عدم انحصارها بالواقعیّة و کفایة الطهارة الاستصحابیّة فی مقام تحقّق الشرط،و هذه التوسعة ترتبط بمقام الجعل لا بمقام الامتثال.

و هکذا فی سائر الشرائط إذا لاحظنا دلیل الشرط مع قوله«لا تنقض الیقین بالشکّ»یستفاد هذا المعنی بلا إشکال،فیکون مفاد الدلیل الحاکم و المحکوم:أنّ الشرط فی الصلاة مطلق الطهور،أعمّ من الطهارة الظاهریّة و الواقعیّة مع أنّ

ص:268

الطهارة بما أنّها حالة نفسانیّة قابلة للدوام و البقاء حکم شرعی وضعی، و جریان الاستصحاب فیها لا یحتاج إلی حکم شرعی آخر.

و کان لبعض الأعلام رحمه اللّه بیان یشبه هذا المعنی،إلاّ أنّ إرجاعه المسألة إلی مقام الامتثال لیس بصحیح،فإنّه قال:«الظاهر أنّ الحکم بوجود الشرط قابل للتعبّد،و معنی التعبّد به هو الاکتفاء بوجوده التعبّدی و حصول الامتثال،فإنّ لزوم إحراز الامتثال و إن کان من الأحکام العقلیّة إلاّ أنّه معلّق علی عدم تصرّف الشارع بالحکم بحصوله،کما فی قاعدتی الفراغ و التجاوز،فإنّه لو لا حکم الشارع بجواز الاکتفاء بما أتی به المکلّف فیما إذا کان الشکّ بعد الفراغ أو بعد التجاوز لحکم العقل بوجوب الإعادة لإحراز الامتثال من باب وجوب دفع الضرر المحتمل،لکنّه بعد تصرّف الشارع و حکمه بجواز الاکتفاء بما أتی به ارتفع موضوع حکم العقل؛لکونه مبنیّا علی دفع الضرر المحتمل،و لا یکون هناک احتمال الضرر،فکذا الحال فی المقام فإنّ معنی جریان الاستصحاب فی الشرط هو الاکتفاء بوجوده الاحتمالی فی مقام الامتثال بالتعبّد الشرعی» (1).

و یرد علیه:أنّه لا بدّ من إرجاع الاکتفاء بوجوده الاحتمالی فی مقام الامتثال إلی التوسعة فی مقام الجعل و التقنین؛إذ لا یعقل أن یکون المعتبر لصلاة الشاکّ جزءا أو شرطا واقعیّا و لکن یکتفی الشارع بفاقده فی الواقع فی مقام الامتثال، و معناه نفی الجزئیّة أو الشرطیّة عن صلاته،فکیف یجمع بین بقاء الجزئیّة أو الشرطیّة بقوّتها و اکتفاء الشارع بما هو ناقص و باطل فی مقام الامتثال؟!و حلّ المعضلة منحصر بتوسعة دائرة الشرطیّة و الجزئیّة فی مقام الجعل و التقنین.

و هذا المعنی یجری بعینه فی استصحاب وجود المانع،فإنّ معناه توسعة

ص:269


1- 1) مصباح الاصول 3:174.

دائرة المانعیّة کما لا یخفی.

و أمّا استصحاب عدم المانع فلا یجری إلاّ علی القول بالأصل المثبت؛إذ الغرض من جریانه،إثبات أنّ الماء وصل إلی جمیع البشرة و تحقّق الوضوء أو الغسل صحیحا و تامّا،و هذا لازم عقلی لعدم المانع،فلا یترتّب علی الاستصحاب.

الأمر الثالث: أنّه لا تفاوت فی المستصحب أو الأثر المترتّب علیه بین أن یکون وجودیّا أو عدمیّا

أنّه لا تفاوت فی المستصحب أو الأثر المترتّب علیه بین أن یکون وجودیّا أو عدمیّا

،فلا مانع من جریان استصحاب عدم الحرمة أو استصحاب عدم الخمریّة لترتّب عدم الحرمة،فإنّ نفی التکلیف بید الشارع و قابل للتعبّد به کثبوته.

ثمّ إنّ صاحب الکفایة رحمه اللّه فی مقام دفع توهّم أنّ المستصحب لا بدّ و أن یکون حکما شرعیّا أو موضوعا له مع أنّ عدم الوجوب أو عدم الحرمة لیس بحکم شرعی،قال:«و عدم إطلاق الحکم علی عدمه غیر ضائر،إذ لیس هناک ما دلّ علی اعتبار إطلاق الحکم بعد صدق نقض الیقین بالشکّ برفع الید عن الحکم کصدقه برفع الید من طرف ثبوته (1)فیجری الاستصحاب العدمی مثل الاستصحاب الوجودی بلا فرق بینهما،و لا نحتاج فی جریان استصحاب عدم الوجوب أو عدم الحرمة إلی أثر شرعی آخر.

ص:270


1- 1) کفایة الاصول 2:331.

التنبیه التاسع: فی ترتّب جمیع آثار الحکم الظاهری

فی ترتّب جمیع آثار الحکم الظاهری

قال صاحب الکفایة رحمه اللّه:«لا یذهب علیک أنّ عدم ترتّب الأثر الغیر الشرعی و لا الشرعی بواسطة غیره من العادی أو العقلی بالاستصحاب إنّما هو بالنسبة إلی ما للمستصحب واقعا،فلا یکاد یثبت به من آثاره إلاّ أثره الشرعی الذی کان له بلا واسطة أو بوساطة أثر شرعی آخر حسبما عرفت فیما مرّ،لا بالنسبة إلی ما کان للأثر الشرعی مطلقا[ظاهریّا أو واقعیّا]کان بخطاب الاستصحاب أو بغیره من أنحاء الخطاب،فإنّ آثاره شرعیّة کانت أو غیرها تترتّب علیه إذا ثبت و لو بأن یستصحب أو کان من آثار المستصحب؛و ذلک لتحقّق موضوعها حینئذ حقیقة،فما للوجوب عقلا یترتّب علی الوجوب الثابت شرعا باستصحابه أو باستصحاب موضوعه،من وجوب الموافقة و حرمة المخالفة و استحقاق العقوبة إلی غیر ذلک،کما یترتّب علی الثابت بغیر الاستصحاب بلا شبهة» (1).

و التحقیق:أنّ هذا مطلب واضح و قابل للقبول،و لکن اعترض علیه استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه بقوله:«و لا یخفی ما فیه من التسامح؛لأنّ حرمة المخالفة

ص:271


1- 1) المصدر السابق.

و وجوب الموافقة و استحقاق العقوبة کلّها من آثار الحکم الواقعی عقلا،و أمّا الأحکام الظاهریّة فلیس فی موافقتها و لا مخالفتها من حیث هی شیء؛لأنّها أحکام طریقیّة للتحفّظ علی الواقع،فخطاب:«لا تنقض»کخطاب:«صدق العادل»-مثلا-لیس من الخطابات النفسیّة التی یحکم العقل بوجوب موافقتها و حرمة مخالفتها من حیث هی،و لا یکون فی موافقتها ثواب و لا فی مخالفتها عقاب إلاّ انقیادا أو تجرّیا،و إنّما یحکم العقل بلزوم الإتیان بمؤدیاتها؛لکونها حجّة علی الواقع،فیحکم العقل من باب الاحتیاط بلزوم موافقتها لا لکونها أحکاما ظاهریّة،بل لاحتمال انطباقها علی الواقع،فاستحقاق العقوبة إنّما هو علی مخالفة الواقع لا الحکم الظاهری» (1).

ص:272


1- 1) الاستصحاب:170.

التنبیه العاشر: فی عدم لزوم کون المستصحب ذا أثر شرعی قبل الاستصحاب

فی عدم لزوم کون المستصحب ذا أثر شرعی قبل الاستصحاب

قال صاحب الکفایة رحمه اللّه:«إنّه قد ظهر ممّا مرّ لزوم أن یکون المستصحب حکما شرعیّا أو ذا حکم کذلک،لکنّه لا یخفی أنّه لا بدّ أن یکون کذلک بقاء و لو لم یکن کذلک ثبوتا،فلو لم یکن المستصحب فی زمان ثبوته حکما و لا له أثر شرعا و کان فی زمان استصحابه کذلک-أی حکما أو ذا حکم-یصحّ استصحابه کما فی استصحاب عدم التکلیف،فإنّه و إن لم یکن بحکم مجعول فی الأزل و لا ذا حکم إلاّ أنّه حکم مجعول فیما لا یزال؛لما عرفت من أنّ نفیه کثبوته فی الحال مجعول شرعا،و کذا استصحاب موضوع[مثل حیاة زید]لم یکن له حکم ثبوتا[أی قبل موت أبیه]أو کان و لم یکن حکمه فعلیّا،و له حکم کذلک بقاء[مثل کونه وارثا لأبیه]و ذلک لصدق نقض الیقین بالشکّ علی رفع الید عنه و العمل کما إذا قطع بارتفاعه یقینا،و وضوح عدم دخل أثر الحالة السابقة ثبوتا فیه (1).

و هذا کلام متین لا شبهة فیه لنظارة أدلّة الاستصحاب إلی البقاء کما لا یخفی.

ص:273


1- 1) کفایة الاصول 2:332-333.

ص:274

التنبیه الحادی عشر: فی مجهولی التاریخ

اشارة

فی مجهولی التاریخ

لا إشکال فی جریان الاستصحاب فیما إذا کان الشکّ فی أصل تحقّق حکم أو موضوع،و أمّا إذا کان الشکّ فی تقدّمه و تأخّره-بعد القطع بتحقّقه و حدوثه فی زمان-مثل یوم الجمعة،فالکلام فیه تارة یقع فیما إذا لوحظ التأخّر و التقدّم بالنسبة إلی أجزاء الزمان،و اخری فیما إذا لوحظ بالنسبة إلی حادث آخر، فهنا مقامان:

أمّا المقام الأوّل فلا إشکال فیه فی جریان استصحاب عدم تحقّقه فی الزمان

الأوّل

-أی یوم الخمیس مثلا-إلی زمان العلم بالتحقّق فتترتّب آثار عدم التحقّق حینئذ،کما إذا علمنا بوجود زید یوم الجمعة و شککنا فی حدوثه یوم الخمیس أو یوم الجمعة،فیجری الاستصحاب و تترتّب آثار العدم إلی یوم الجمعة،لکن لا یثبت بهذا الاستصحاب تأخّر وجوده عن یوم الخمیس إن کان لعنوان التأخّر أثر،فإنّ التأخّر عن یوم الخمیس لازم عقلی لعدم الحدوث یوم الخمیس،فإثباته باستصحاب عدم الحدوث یوم الخمیس متوقّف علی القول بالأصل المثبت،و کذا لا یثبت به الحدوث یوم الجمعة،فإنّ الحدوث أمر بسیط،و هو الوجود المسبوق بالعدم،فإثبات الحدوث یوم الجمعة

ص:275

باستصحاب عدم الحدوث یوم الخمیس متوقّف علی القول بالأصل المثبت.

نعم،لو کان الحدوث مرکّبا من أمرین-أی الوجود یوم الجمعة-مثلا -و عدم الوجود یوم الخمیس-لترتّبت آثار الحدوث بالاستصحاب المذکور؛ لکون أحد الجزءین محرزا بالوجدان،و هو الوجود یوم الجمعة،و الجزء الآخر بالأصل،و هو عدم الوجود یوم الخمیس،لکنّه خلاف الواقع،فإنّه أمر بسیط کما قلنا.

و أمّا المقام الثانی و هو ما إذا کان الشکّ فی تقدّم حادث و تأخّره بالنسبة

إلی حادث آخر

،کما إذا علم بعروض حکمین-أی وجوب صلاة الجمعة و حرمتها مثلا-أو موت متوارثین و شکّ فی المتقدّم و المتأخّر منهما فإن کانا مجهولی التاریخ،فتارة یکون الأثر الشرعی مترتّبا علی وجود أحدهما بنحو خاصّ من التقدّم أو التأخّر أو التقارن لا للآخر و لا له بنحو آخر،مثلا:تقدّم موت الوالد الکافر علی موت الولد المسلم یکون موضوعا للإرث،لا أصل تحقّق موته و لا تأخّره و لا تقارنه،لا تقدّم موت الولد؛لکون والده ممنوع عن الإرث لکفره،و هذا الوجود الخاصّ قد یکون موضوعا للأثر بنحو کان التامّة -أی تقدّم موت الوالد علی موت الولد-و قد یکون بنحو کان الناقصة.

و اخری یکون الأثر الشرعی مترتّبا علی وجودهما بنحو خاصّ منها، مثلا:تقدّم موت الوالد یکون موضوعا لإرث الولد،و تقدّم موت الولد یکون موضوعا لإرث الوالد،و فی صورة تحقّق الأثر لوجود أحدهما قد یتحقّق لکلّ نحو من أنحاء وجوداته الثلاثة أثر خاصّ.

کان أمّا إذا کان الأثر الشرعی لوجود أحدهما بنحو خاصّ منها بنحو التامّة،مثل:تقدّم موت الوالد علی موت الولد،فیکون جریان استصحاب

ص:276

عدم التقدّم بلا معارض فینتفی الأثر الشرعی المترتّب علی التقدّم.

و أمّا إذا کان الأثر لکلّ من أنحاء وجوده بنحو کان التامّة فلا مجال لاستصحاب العدم فی واحد؛للمعارضة باستصحاب العدم فی آخر لتحقّق أرکانه فی کلّ منها،مع أنّا نعلم إجمالا ببطلان أحد الاستصحابات؛إذ لا یمکن نفی تقدّم هذا الحادث و تقارنه و تأخّره بالنسبة إلی الحادث الآخر.

و هکذا إذا کان الأثر لوجود کلّ من الحادثین بنحو خاصّ،فلا مجال لاستصحاب العدم.

و أمّا إذا کان الأثر لتقدّم أحد الحادثین و تأخّره دون تقارنه مع الحادث الآخر فلا مانع من جریان استصحاب تقدّمه و تأخّره معا؛إذ لا یتحقّق العلم الإجمالی بکذب أحد الاستصحابین.

و أمّا إذا کان الأثر لتقدّم أحد الحادثین و تقارن الآخر فیجری کلا الاستصحابین و ینفی تقدّم الحادث الأوّل و تقارن الحادث الثانی،فیستفاد تقدّم الحادث الثانی مثلا.

فالمعیار لعدم جریان الاستصحاب و جریانه فی مجهولی التاریخ تحقّق العلم الإجمالی بالکذب أو العلم بعدم قابلیّة الاجتماع فی الخارج،و عدمه.

و أمّا إن کان الأثر مترتّبا علی ما إذا کان متّصفا بالتقدم أو بأحد ضدّیه الذی کان مفاد کان الناقصة،مثل قولنا کان موت الوالد المفروض تحقّقه متقدّما علی موت الولد موضوعا للأثر الشرعی،فلا مورد هاهنا للاستصحاب؛لعدم الیقین السابق فیه بلا ارتیاب؛إذ الیقین بأنّ موت زید کان متّصفا بالتقدّم،أو غیر متّصف به لا یمکن تحقّقه حتّی یجری استصحاب العدم أو الوجود،إلاّ علی القول بصحّة جریان استصحاب العدم فی القضیّة السالبة

ص:277

بانتفاء الموضوع،کقولنا:لیس موت الوالد متقدّما علی موت الولد قبل تحقّق الحادثة و عدم الموت،و نستصحب بعد تحقّق الموضوع-أی الموت-و زمان الشکّ فی التقدّم و التأخّر عدم التقدّم السابق الآن.

کما قال صاحب الکفایة رحمه اللّه فی باب العامّ و الخاصّ بجریان استصحاب عدم قرشیة المرأة علی هذا الأساس،لکنّه فی ما نحن فیه عدل عن هذا المبنی و اختار عدم جریانه فی مفاد کان الناقصة و القضیّة السالبة بانتفاء الموضوع؛ لعدم صدق اتّحاد القضیّة المتیقّنة و المشکوکة،کما هو التحقیق.

هذا کلّه بالنسبة إلی الأثر المترتّب علی وجود خاصّ لأحد الحادثین أو کلیهما.

و أمّا إذا کان الأثر الشرعی لعدم أحد الحادثین فی زمان وجود الآخر، و کان العدم موضوعا للأثر بنحو مفاد لیس الناقصة الذی یعبّر عنه بالعدم النعتی کقولنا:لیس موت الوالد متّصفا بالتقدّم علی موت الولد،فلا یجری الاستصحاب فیه؛لفقدان الحالة السابقة المتیقّنة،و إن کان بنحو مفاد لیس التامّة الذی یعبّر عنه بالعدم المحمولی،و حینئذ قد یکون عدم کلّ من الحادثین موضوعا لأثر فی زمان حدوث الآخر،و قد یکون عدم أحدهما موضوعا للأثر،فإن کان عدم کلیهما موضوعا للأثر فلا یجری استصحاب العدم أصلا؛ لتحقّق التعارض بین الاستصحابین و التساقط عند الشیخ الأنصاری رحمه اللّه،و عدم تمامیّة أرکان الاستصحاب عند صاحب الکفایة رحمه اللّه.

و أمّا إن کان عدم أحدهما موضوعا للأثر فی زمان وجود الآخر فیجری الاستصحاب؛لعدم المعارضة عند الشیخ رحمه اللّه،و لا یجری؛لعدم تمامیّة الأرکان عند صاحب الکفایة رحمه اللّه.

ص:278

و أمثلته کثیرة:

منها:ما لو علمنا بکرّیّة الماء القلیل و ملاقاته النجس،و شککنا فی تقدّم الکرّیّة علی الملاقاة و تأخّرها عنها،و ما هو موضوع للأثر الشرعی عبارة عن عدم الکرّیّة فی زمان الملاقاة من الانفعال و النجاسة،و لا أثر لعدم الملاقاة فی زمان الکرّیّة.

و منها:ما لو علمنا بموت الوالد و اسلام الولد،و شککنا فی تقدّم موت الوالد علی إسلام الولد و تأخّره عنه،و یترتّب الأثر علی عدم إسلام الولد إلی زمان موت الوالد،و هو عدم إرثه منه،و لا أثر لعدم موت الوالد إلی زمان إسلام الولد.

ففی مثل هذه الأمثلة یجری الاستصحاب علی مسلک الشیخ رحمه اللّه فی أحد الطرفین لعدم المعارض؛لعدم الأثر للاستصحاب فی الطرف الآخر.

و لا یجری الاستصحاب علی مذهب صاحب الکفایة رحمه اللّه و توضیح کلامه یحتاج إلی بیان مقدّمتین:

الاولی:المعتبر فی الاستصحاب اتّصال زمان الشکّ بالیقین،بمعنی أن لا یتخلّل بین الیقین المتعلّق بشیء و بین الشکّ فی بقائه یقین آخر مضادّ له،فإنّه مع تخلّل الیقین المضادّ لا یعقل الشکّ فی البقاء؛لعدم صدق نقض الیقین بالشکّ بالنسبة إلی الیقین الأوّل،بل یصدق نقض الیقین بالیقین،فالمقصود من زمان الیقین و الشکّ هو زمان المتیقّن و المشکوک لا زمان نفس صفة الیقین و الشکّ.

الثانیة أنّه مرّ فی باب العامّ و الخاصّ أنّ التمسّک بالعامّ فی شبهة مصداقیّة المخصّص لیس بجائز عند أکثر المحقّقین،بخلاف بعض،مثل صاحب العروة رحمه اللّه، و أمّا التمسّک بالدلیل فی شبهة مصداقیّة نفس الدلیل فلا شکّ فی عدم جوازه؛

ص:279

لعدم إمکان إثبات شبهة مصداقیّة الدلیل بنفس الدلیل،فإن شککنا فی صدق نقض الیقین بالشکّ و عدمه فی مورد لا یجوز التمسّک بقوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ»لإحرازه،فإنّه أیضا من قبیل التمسّک بالدلیل فی شبهة مصداقیّته.

إذا عرفت ذلک فنقول:لا بدّ لنا من فرض أزمنة ثلاثة:زمان الیقین بعدم حدوث کلا الحادثین،و زمان حدوث أحدهما بلا تعیین،و زمان حدوث الآخر کذلک،فنفرض أنّ الماء کان قلیلا بدون الملاقاة و الکرّیّة فی یوم الخمیس،فعدم الکرّیّة و عدم الملاقاة کلاهما متیقّن یوم الخمیس،و علمنا بحدوث أحدهما لا بعینه یوم الجمعة،و بحدوث الآخر یوم السبت،و لا ندری أنّ الحادث یوم الجمعة،هی الملاقاة حتّی ینفعل الماء،أو الکرّیّة حتّی لا ینفعل؛ إذ الملاقاة بعد الکرّیّة لا توجب الانفعال،فإن لوحظ الشکّ فی حدوث کلّ من الحادثین بالنسبة إلی عمود الزمان یکون زمان الشکّ متّصلا بزمان الیقین، فإنّ زمان الیقین بالعدم یوم الخمیس،و زمان الشکّ فی حدوث کلّ واحد من الحادثین یوم الجمعة،و هما متّصلان،فلا مانع من جریان استصحاب عدم الکرّیّة یوم الجمعة.

إلاّ أنّه لا أثر لهذا الاستصحاب،فلا بدّ من جریان استصحاب عدم الکرّیّة فی زمان حدوث الملاقاة،و زمان حدوث الملاقاة مردّد بین الجمعة و السبت، فإن کان حدوثها یوم الجمعة فزمان الشکّ متّصل بزمان الیقین،و إن کان یوم السبت فزمان الشکّ غیر متّصل بزمان الیقین؛لأنّ زمان الیقین یوم الخمیس علی الفرض،و زمان الشکّ یوم السبت،فیوم الجمعة فاصل بین زمان الیقین و زمان الشکّ؛إذ معناه تحقّق الکرّیّة یوم الجمعة،فإن کان کذلک انتقض الیقین بعدم الکرّیّة،و مع احتمال انفصال زمان الشکّ عن زمان الیقین لا مجال للتمسّک

ص:280

بدلیل حجّیّة الاستصحاب؛لما عرفت من أنّ الشبهة مصداقیّة.هذا محصّل کلام صاحب الکفایة رحمه اللّه (1).

و یرد علیه:أوّلا:أنّ الشبهة المصداقیّة فیما إذا ارتبط أحد طرفی الاحتمال بعنوان الدلیل الآخر المخالف له،کما إذا قال المولی:«أکرم العلماء»و شککنا فی عالمیّة زید،نقول یحتمل أن یکون عالما فینطبق علیه عنوان الدلیل،و یحتمل أن لا یکون عالما فلا ینطبق علیه العنوان.

و هذا المعنی لا یتحقّق فیما نحن فیه،فإنّ شبهة مصداقیّة قوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ»فیما یحتمل أن یکون نقضا للیقین بالشکّ،و یحتمل أن لا یکون کذلک،و لا ینطبق هذا المعنی فی ما نحن فیه؛إذ الملاقاة إن حدثت یوم السبت معناه حدوث الکرّیّة یوم الجمعة،فلیس هنا نقض الیقین بالشکّ،بل نقض الیقین بالیقین بالکرّیّة،و إن حدثت یوم الجمعة معناه حدوث الکرّیّة یوم السبت،فلیس فی یوم الجمعة نقض الیقین بالشکّ بل یستمرّ الیقین،فالأمر دائر بین الیقین بالوفاق و الیقین بالخلاف،فلا تتحقّق هنا شبهة مصداقیّة قوله:

«لا تنقض الیقین بالشکّ»،هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّه یتولّد الشکّ من الیقینین الموجودین فی القضیّتین التعلیقیّتین،کما إذا علمنا بأنّ زیدا إن رکب السیّارة الفلانیّة فقد مات قطعا،و إن لم یرکب فهو حی قطعا،فاحتمال رکوب السیّارة و عدمه صار منشأ للشکّ فی بقاء حیاته، و لا یضرّ باستصحاب حیاته،و کذا العلم بحدوث الکرّیّة و العلم بحدوث الملاقاة فی یوم الجمعة و یوم السبت یوجبان الشکّ بتحقّق الکرّیّة فی زمان الملاقاة و عدمه،فلا مانع من استصحاب عدم الکرّیّة إلی زمان الملاقاة.

ص:281


1- 1) کفایة الاصول 2:335-336.

و ثالثا:ما ذکره عدّة من المحقّقین منهم استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه و ملخّصه:أنّ العناوین المأخوذة فی أدلّة الموضوعات قد تکون من العناوین الواقعیّة الخارجیّة-کالخمر و العدالة و نحو ذلک إلاّ أنّ واقعیّة کلّ شیء بحسبه-و قد تکون من الامور الوجدانیّة-کالیقین و الظنّ و الشکّ-و لا یخفی أنّ الشبهة المصداقیّة قابلة للتصوّر و أمر معقول فی القسم الأوّل،أی العناوین الواقعیّة الخارجیّة،بخلاف القسم الثانی،أی الامور الوجدانیّة؛إذ لا یمکن أن یکون الإنسان شاکّا فی أنّ له یقینا بأمر کذائی أو لا أو أنّ له شکّا بأمر کذائی أو لا، إلاّ من بعض أهل الوسوسة الشاکّین فی وجدانیّاتهم،و هو خارج عن محلّ الکلام،و لا بدّ من تصوّر الشبهة المصداقیّة فی الامور الوجدانیّة بهذه الکیفیة -أی الشکّ فی أنّ الشکّ حصل له أم لا-و هو أمر غیر معقول،فإنّ أمرها دائر بین الوجود و العدم و لا تقبل التردید،فلا تتصوّر الشبهة المصداقیّة فی الامور الوجدانیّة،فلا یعقل الشکّ فی عدم اتّصال الشکّ اللاحق و الیقین السابق بحیث یصیر الإنسان شاکّا فی تخلّل یقین بالضدّ بین الیقین السابق و الشکّ اللاحق فعلا؛لأنّ الملاک أن یکون الإنسان حین الجریان شاکّا و متیقّنا و متّصلا زمان شکّه بیقینه بحسب حاله فعلا،و الوجدان شاهد بتحقّق الیقین بعدم الکرّیّة یوم الخمیس و تحقّق الشکّ فی بقائه إلی زمان الملاقاة حین الجریان.

و یمکن أنّ یتوهّم تحقّق الشبهة المصداقیّة لقوله«لا تنقض الیقین بالشکّ» بالصورة التالیة:لو علم المکلّف بأنّه کان مجنبا فی أوّل النهار و تطهّر منها جزما،ثمّ نام و رأی فی ثوبه منیّا بعد الانتباه،و علم إجمالا بأنّه إمّا من جنابته التی قطع بارتفاعها بالغسل أو من جنابة جدیدة،فیکون إجراء استصحاب الجنابة المقطوعة الموجبة لتلوّث الثوب ممنوعا؛لعدم إحراز اتّصال زمان

ص:282

الشکّ بالیقین؛لأنّ الجنابة أمرها دائر بین التی قطع بزوالها و بین التی قطع ببقائها،فیحتمل الفصل بین زمان الشکّ و الیقین بحصول الجنابة بیقین بزوالها، فهذا من قبیل عدم إحراز الاتّصال.

و جوابه:أنّ هذا لا یکون من قبیل ذلک؛لأنّ عدم إجراء الاستصحاب فیه لیس لعدم إحراز الاتّصال،بل لعدم الیقین السابق لا تفصیلا و لا إجمالا،أمّا الأوّل فواضح،و أمّا الثانی فلأنّ کون هذا المنیّ فی الثوب من جنابة معلومة بالتفصیل أو الإجمال ممّا لا أثر له،بل الأثر مترتّب علی العلم بکون المکلّف کان جنبا تفصیلا أو إجمالا،فشکّ فی بقائها،و المفروض أنّه یعلم تفصیلا بحصول الجنابة له أوّل النهار و زوالها بالغسل بعده،و یشکّ بدوا فی حصول جنابة جدیدة له،فأین العلم الإجمالی حتّی یستصحب؟فعلمه الإجمالی ممّا لا أثر له،و ما له أثر لا یعلم به.

إن قلت:إنّه یعلم بکونه جنبا بعد خروج الأثر المردّد و لم یعلم بارتفاعها، فیحکم ببقاء الجنابة بالاستصحاب.

قلت:لا یجری الاستصحاب الشخصی فیه؛لدوران الشخص بین جنابة أوّل النهار و جنابة بعد الزوال،و الاولی مقطوعة الزوال،و الثانیة محتملة الحدوث،فعدم الجریان لعدم تمامیّة أرکانه فی شیء منهما.

و ربما یقال بجریان الاستصحاب هنا بنحو کلیّ القسم الثانی المردّد بین مقطوع الزوال و مقطوع البقاء.

و جوابه:أنّ الأمر فی استصحاب کلّی القسم الثانی مردّد من حیث المصداق بأنّ فردا واحدا منه تحقّق من الابتداء فی ضمن طویل العمر أو فی ضمن قصیر العمر،بخلاف ما نحن فیه،فإنّ الأمر دائر هنا بین فردین،أحدهما

ص:283

مقطوع الارتفاع و الآخر مشکوک الحدوث.

نعم،یمکن جریان الاستصحاب هنا بنحو کلّی القسم الثالث بأن یحتمل حدوث الجنابة الثانیة عند زوال الاولی مقارنا له،فلا مانع من استصحاب کلّی الجنابة فی هذه الصورة.

فلا یرتبط عدم جریان الاستصحاب فی غیرها بإحراز اتّصال زمان الشکّ بالیقین و عدمه أصلا (1).

و من الموارد التی یتوهّم أنّها من الشبهة المصداقیّة لدلیل الاستصحاب من حیث اعتبار عدم تخلّل یقین آخر بین الیقین السابق و الشکّ اللاحق فلا لا یجری الاستصحاب،هو ما إذا علمنا بعدالة زید-مثلا-فی زمان و شککنا فی بقائها الآن،و لکن نحتمل کوننا متیقّنین بفسقه بعد الیقین بعدالته،فلا یجری استصحاب العدالة؛لاحتمال تخلّل الیقین بالفسق بین الیقین بالعدالة و الشکّ فی بقائها،فتکون الشبهة مصداقیّة.

و جوابه:أنّه لا یعتبر فی الاستصحاب سبق الیقین علی الشکّ،بل یکفی حدوثهما معا،فمع فرض الیقین الفعلی بحدوث العدالة فی زمان و الشکّ فی بقائها لا یمنع من جریان الاستصحاب احتمال وجود الیقین بفسقه سابقا،بل لا یقدح فی الاستصحاب الیقین بوجود الیقین بفسقه مع احتمال کون الیقین بالفسق مخالفا للواقع،فضلا عن احتمال الیقین بفسقه،فإذا علمنا یوم الجمعة بعدالة زید،ثمّ علمنا بفسقه یوم السبت،ثمّ تبدّل الیقین بفسقه بالشکّ الساری فیه یوم الأحد،فیوم الأحد نعلم بحدوث عدالته یوم الجمعة و نشکّ فی بقائها الآن؛ لاحتمال کون الیقین بفسقه یوم السبت مخالفا للواقع،فباعتبار هذا الیقین الفعلی

ص:284


1- 1) الاستصحاب:172-173.

یوم الأحد بحدوث العدالة یوم الجمعة و الشکّ فی بقائها یجری الاستصحاب، و لا یقدح فیه الیقین بالفسق بعد تبدّله بالشکّ الساری،فکیف باحتمال الیقین بالفسق؟

مضافا إلی أنّنا ذکرنا فیما تقدّم أنّ الشبهة المصداقیّة فی الامور الوجدانیّة غیر قابلة للتصوّر،فلا مانع من جریان الاستصحاب فی المثال.و الشکّ الساری الذی یعبّر عنه بقاعدة الیقین لا یکون مانعا؛لعدم اعتباره کما یأتی فی محلّه.

و مضافا إلی أنّه لو کان احتمال الیقین مانعا عن جریان الاستصحاب لمنع منه فی کثیر من الموارد التی لا یلتزم بعدم جریان الاستصحاب فیها أحد، و هی الموارد التی یکون ارتفاع المتیقّن السابق فیها مستلزما للعلم بالارتفاع، فیکون احتمال الارتفاع ملازما لاحتمال العلم بالارتفاع،کما إذا کان زید محدثا و شکّ فی الطهارة من الوضوء أو الغسل،فإنّ احتمال ارتفاع الحدث بالوضوء أو الغسل ملازم لاحتمال العلم؛لأنّ الوضوء و الغسل من الامور العبادیّة التی لا یمکن تحقّقها إلاّ مع العلم و الالتفات،فلا بدّ من القول بعدم جریان الاستصحاب علی المبنی المذکور؛لاحتمال العلم بالانتقاض،و لا یلتزم به أحد.

و من الموارد التی یتوهّم أنّها من الشبهة المصداقیّة ما ذکره المحقّق النائینی ردّا علی السیّد رحمه اللّه فی العروة،و بیانه:أن السیّد رحمه اللّه ذکر فی العروة:أنّه إذا علمنا بنجاسة إناءین-مثلا-ثمّ علمنا بطهارة أحدهما،فیتصوّر ذلک بصور ثلاث:

الاولی:أن نعلم بطهارة أحدهما علما تفصیلیّا،فاشتبه الطاهر المعلوم بالتفصیل بغیره.

الثانیة:أن نعلم بطهارة أحدهما لا بعینه بحیث لا یکون للطاهر تعیّن و امتیاز

ص:285

بوجه من الوجوه،بل یمکن أن لا یکون له فی الواقع أیضا تعیّن،کما إذا کان کلاهما طاهرا فی الواقع.

الثالثة:أن نعلم بطهارة أحدهما بعنوان معیّن و نشکّ فی انطباقه،کما لو علمنا بطهارة إناء زید و شککنا فی انطباق هذا العنوان علی هذا الإناء أو ذاک.

و حکم السیّد رحمه اللّه بنجاسة الإنائین فی جمیع هذه الصور الثلاث؛عملا بالاستصحاب.

و لا یخفی أنّ الدلیل لعدم جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی قد یکون لزوم التناقض فی الدلیل صدرا و ذیلا،کما فی قوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ أبدا،بل انقضه بیقین آخر»،فیحکم صدر الدلیل بنجاسة الإنائین بالاستصحاب،و ذیله بطهارة أحدهما للعلم الإجمالی،و قد یکون لزوم المخالفة العملیّة مع التکلیف المعلوم بالإجمال،و علی هذا لا یجری الاستصحاب فیما کانت الحالة السابقة فی الإنائین عبارة عن الطهارة،فإنّ جریان استصحاب الطهارة فی کلیهما یوجب المخالفة العملیّة مع العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما، بخلاف ما إذا کانت الحالة السابقة فیهما عبارة عن النجاسة کما فی ما نحن فیه، فإنّ استصحاب نجاستهما و الاجتناب عنهما لا یوجب المخالفة،و هذا المبنی اختاره صاحب العروة فی ما نحن فیه و لذا قال بجریان استصحاب النجاسة.

و ردّ علیه المحقّق النائینی رحمه اللّه و اختار عدم جریان الاستصحاب فی جمیعها، لکن لا بمناط واحد،بل حکم بعدم جریانه فی الصورة الاولی و الثالثة،لکون الشبهة مصداقیّة،فإنّا نعلم بانتقاض الیقین بالنجاسة بالطهارة بالنسبة إلی أحد الإنائین،إمّا بالیقین التفصیلی-کما فی الصورة الاولی-و إمّا بالیقین المتعلّق بعنوان معیّن شککنا فی انطباقه-کما فی الصورة الثالثة-فلا مجال

ص:286

لجریان الاستصحاب فی شیء من الإنائین؛لأنّ کلّ واحد منهما یحتمل أن یکون هو الإناء الذی انتقض العلم بنجاسته بالعلم بطهارته.

و أمّا الصورة الثانیة فحکمه بعدم جریان الاستصحاب فیها لیس مبنیّا علی احتمال انفصال زمان الشکّ عن زمان الیقین بیقین آخر-کما فی الصورة الاولی و الثالثة-فإنّ الشکّ فی بقاء النجاسة فی کلّ منهما متّصل بالیقین بالنجاسة،و لم یتخلّل بین زمان الیقین و زمان الشکّ یقین آخر،و العلم الإجمالی بطهارة أحدهما لا بعینه یکون منشأ للشکّ فی بقاء النجاسة فی کلّ منهما،بخلاف الصورة الاولی و الثالثة،فإنّ منشأ الشکّ فی بقاء النجاسة فیهما هو اجتماع الإنائین و اشتباه الطاهر بالنجس،لا العلم بطهارة أحدهما،فإنّ متعلّق العلم کان معلوما بالتفصیل أو بالعنوان،فحکمه بعدم جریان الاستصحاب فی الصورة الثانیة مبنیّ علی أنّ العلم الإجمالی بنفسه مانع عن جریان الاستصحاب،و لو لم تلزم منه مخالفة عملیّة قطعیّة.هذا ملخّص مختاره رحمه اللّه (1).

و جوابه:أوّلا:ما ذکرناه فی جواب صاحب الکفایة رحمه اللّه من أنّ المندرج فی معنی الشبهة المصداقیّة ارتباط أحد طرفی الاحتمال بالعنوان المأخوذ فی الدلیل، و هذا لا یتحقّق فی دلیل الاستصحاب،فإنّا نعلم بطهارة أحد الإنائین بالعلم التفصیلی و لکنّه اشتبه علینا بغیره فی الصورة الاولی،فیکون أحد الإنائین معلوم الطهارة و الآخر معلوم النجاسة،ففی کلیهما یتحقّق نقض الیقین بالیقین، إمّا بالوفاق و إمّا بالخلاف،و لا یصدق فی أیّ من الطرفین نقض الیقین بالشکّ، فکیف تتصوّر الشبهة المصداقیّة لقوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ»؟

و ثانیا:أنّه لا یعتبر فی الاستصحاب کون الیقین سابقا علی الشکّ،بل یمکن

ص:287


1- 1) فوائد الاصول 4:510-515.

أن یکون بالعکس-کما إذا شککنا بطهارة الثوب و نجاسته،و علمنا بعد ساعة بطهارته قبل یومین-بل المعتبر کون المتیقّن سابقا علی المشکوک فیه،فالمیزان فی جریان الاستصحاب هو الیقین الفعلی بالحدوث و الشکّ الفعلی فی البقاء، و هما موجودان بالنسبة إلی کلّ واحد من الإنائین بخصوصه،و لا یقدح فی الاستصحاب احتمال کون هذا الإناء متعلّقا للیقین بالطهارة سابقا،فإنّ الاستصحاب جار باعتبار الیقین الفعلی بحدوث النجاسة مع الشکّ فی بقائها، لا باعتبار الیقین السابق.

و منه یظهر الحال فیما إذا کان الیقین متعلّقا بعنوان شکّ فی انطباقه،فإنّ عدم قدح احتمال انطباق عنوان تعلّق به الیقین فی جریان استصحاب النجاسة أوضح من عدم قدح احتمال الیقین التفصیلی بطهارة أحدهما بعد کون المیزان فیه هو الیقین الفعلی لا الیقین السابق.

و ما یحتمل فی کلام المحقّق الخراسانی رحمه اللّه فی بیان عدم اتّصال زمان الشکّ بالیقین:من فرض زمانین-أی یوم الجمعة و یوم السبت-بعد زمان العلم بعدم حدوثهما-أی یوم الخمیس-أحدهما:زمان حدوث واحد منهما، و الثانی:زمان حدوث الآخر،و الشکّ فی الآن الأوّل منهما-أی یوم الجمعة- و إن کان شکّا فی وجود کلّ منهما بالإضافة إلی أجزاء الزمان و لکن لا یکون شکّا فیه بالإضافة إلی الآخر،إلاّ فی الآن الثانی،أی یوم السبت؛لأنّ الشکّ فی المتقدّم و المتأخّر منهما لا یمکن إلاّ بعد العلم بوجودهما،فزمان الثالث-أی یوم السبت-زمان الشکّ فی المتقدّم و المتأخّر أو الشکّ فی وجود أحدهما بالإضافة إلی زمان وجود الآخر،و هو ظرف العلم الإجمالی بوجود کلّ منهما،إمّا فی الزمان المتقدّم أو فی الزمان المتأخّر،و لما شکّ فی أنّ أیّهما مقدّم و أیّهما مؤخّر

ص:288

لم یحرز اتّصال زمان الشکّ بالیقین،بل یحرز الانفصال بین زمان الشکّ و الیقین (1).

و فیه:أوّلا:أنّ هذا الاحتمال لا یناسب ظاهر استدلاله رحمه اللّه،فإنّ تعبیره أنّه:

«لم یحرز اتّصال زمان الشکّ بزمان الیقین»،و معناه تحقّق الاحتمالین:احتمال الانفصال،و احتمال الاتّصال،و لا یمکن حمل هذه العبارة علی تحقّق الانفصال القطعی بینهما.

و ثانیا:علی فرض استفادة هذا الاحتمال من کلامه رحمه اللّه فإنّ الملاک فی تحقّق الیقین السابق و الشکّ اللاحق هو تحقّقهما فی حال جریان الاستصحاب،و لا دخل لزمان حدوث الشکّ و الیقین هنا،فعدم جریان استصحاب عدم کرّیّة فی حال الملاقاة فی یوم الجمعة-بلحاظ عدم تحقّق کلا الحادثین-لا یکون مانعا من جریانه فی یوم السبت،فإنّ بعد العلم بتحقّق الحادثین-أی یوم السبت- لا یتحقّق الفصل بین الیقین و الشکّ؛لأنّنا نعلم بعدم الکرّیّة فی حال الملاقاة، و الآن نشکّ فی بقائه،فنجری الاستصحاب.إلی هنا تمّ کلام صاحب الکفایة رحمه اللّه.

و یتحقّق نوع من التهافت بین صدر کلام استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه و ذیله، فإنّه یقول فی ابتداء البحث:إنّ الشکّ فی الاتّصال و الانفصال عبارة اخری عن الشبهة المصداقیّة لقوله«لا تنقض الیقین بالشکّ»،و فی ذیل کلام صاحب الکفایة رحمه اللّه قائل بعدم ارتباط مسألة عدم إحراز الاتّصال بالشبهة المصداقیّة،ثمّ یقول فی بحث معلوم التأریخ:«و لعلّ الشبهة المصداقیّة أحد محتملات الکفایة».

و حاصل البحث فی مجهولی التأریخ:أنّ الأثر إن کان مترتّبا علی عدم

ص:289


1- 1) کفایة الاصول 2:336.

أحدهما بنحو لیس التامّة فی زمان وجود الآخر فیجری الاستصحاب و یترتّب الأثر وفاقا للشیخ الأنصاری رحمه اللّه و خلافا للمحقّق الخراسانی رحمه اللّه لإحراز اتّصال زمان الشکّ بالیقین هنا.

و بعبارة اخری:یتحقّق عنوان نقض الیقین بالشکّ و لا تکون الشبهة مصداقیّة لقوله«لا تنقض الیقین بالشکّ».

و لازم ذلک أنّ الأثر إن کان مترتّبا علی عدم کلّ واحد منهما فی زمان وجود الآخر یجری الاستصحاب فی کلیهما،و لکنّهما یتساقطان بالمعارضة.إلی هنا تمّ البحث فی مجهولی التأریخ.

و أمّا لو علم بتأریخ أحدهما فهو کما لو علمنا بعدم الکرّیّة و عدم الملاقاة فی یوم السبت،و علمنا یوم الإثنین-مثلا-بتحقّق الملاقاة مع النجاسة،و علمنا یوم الثلاثاء بحدوث الکرّیّة،و شککنا فی أنّها تحقّقت قبل الملاقاة أو بعدها، فإن تحقّقت قبل الملاقاة-أی یوم الأحد-فلا توجب الملاقاة الانفعال،و إن تحقّقت بعدها-أی یوم الثلاثاء-اتّصف الماء بالنجاسة و الانفعال؛لعدم الکرّیّة حال الملاقاة.

و ذکر صاحب الکفایة رحمه اللّه هاهنا جمیع الفروض المذکورة فی مجهولی التأریخ، و لا فرق بینهما من حیث الأحکام،فلا فائدة لتکرارها إلاّ فرضا واحدا،و هو أن یکون الأثر مترتّبا علی عدمه-أی عدم الکرّیّة حال الملاقاة-الذی هو مفاد لیس التامّة فی زمان الآخر.و قال صاحب الکفایة بجریان الاستصحاب هنا.

و السرّ فی ذلک:أنّ بعد العلم بتأریخ الملاقاة-سواء لاحظنا عدم الکرّیّة بالنسبة إلی الزمان أو بالنسبة إلی الملاقاة أی یوم الإثنین-یتّصل زمان شکّه

ص:290

بزمان یقینه.

هذا بالنسبة إلی ما کان الأثر مترتّبا علی عدم مجهول التأریخ،فی زمان وجود معلوم التأریخ و أمّا إن کان الأثر مترتّبا علی عدم معلوم التأریخ فهو کما لو علمنا بحدوث الکرّیّة یوم الاثنین،و علمنا یوم الثلاثاء بتحقّق الملاقاة، و لکن شککنا فی أنّها تحقّقت قبل الکرّیّة أو بعدها،و المفروض أنّه لا أثر لاستصحاب عدم الملاقاة حال الکرّیّة،بل الأثر لاستصحاب عدم الکرّیّة حال الملاقاة.

و قال صاحب الکفایة رحمه اللّه بعدم جریان الاستصحاب هنا؛لانتفاء الشکّ فیه فی زمان،فإنّا نعلم حدوث الکرّیّة یوم الإثنین و إنّما الشکّ فیه بإضافة زمانه إلی الآخر،و أنّ عدم الکرّیّة المتیقّنة انتقض فی حال الملاقاة أم لا؟فإن کانت الملاقاة یوم الثلاثاء انتقض قطعا بالکرّیّة یوم الإثنین،و إن کانت یوم الأحد لم ینتقض بل یبقی عدم الکرّیّة حال الملاقاة،فلا یجری الاستصحاب؛لعدم إحراز اتّصال زمان الشکّ بالیقین و کونه الشبهة المصداقیّة لقوله«لا تنقض الیقین بالشکّ» (1).

و التحقیق:أنّه لا فرق بین ما نحن فیه و مجهولی التأریخ من حیث جریان الاستصحاب فیهما؛إذ الشکّ فی الکرّیّة حال الملاقاة محفوظ فی کلا الموردین، سواء علم تأریخ الملاقاة أم لا؟

و قال صاحب الکفایة رحمه اللّه فی ذیل هذا البحث:«أنّه لا مورد للاستصحاب أیضا فیما تعاقب حالتان متضادّتان-کالطهارة و النجاسة-و شکّ فی ثبوتهما و انتفائهما للشکّ فی المقدّم و المؤخر منهما؛و ذلک لعدم إحراز الحالة السابقة

ص:291


1- 1) کفایة الاصول 2:337.

المتیقّنة المتّصلة بزمان فی ثبوتهما و تردّدها بین الحالتین،و أنّه لیس من تعارض الاستصحابین،فافهم و تأمّل فی المقام فإنّه دقیق (1).

و حکی عن المشهور الحکم بلزوم التطهیر؛لمعارضة استصحاب الحدث لاستصحاب الطهارة و تساقطهما،و حکم العقل بتحصیل الطهارة للصلاة لقاعدة الاشتغال (2).و نتیجة القولین واحدة و لا تتحقّق هنا ثمرة عملیّة،و علی أیّ تقدیر نحتاج إلی طهارة جدیدة.

و عن المحقّق فی المعتبر لزوم الأخذ بضدّ الحالة السابقة؛لأنّها ارتفعت یقینا و انقلبت إلی ضدّها،و ارتفاع الضدّ غیر معلوم.

قال علی ما حکی عنه:«یمکن أن یقال:ینظر إلی حاله قبل تصادم الاحتمالین،فإن کان حدثا بنی علی الطهارة؛لأنه تیقّن انتقاله عن تلک الحالة إلی الطهارة و لم یعلم تجدد الانتقاض،فصار متیقّنا للطهارة و شاکّا فی الحدث، فیبنی علی الطهارة،و إن کان قبل تصادم الاحتمالین متطهّرا بنی علی الحدث؛ لعین ما ذکرنا من التنزیل» (3).و هذه الفتوی وقعت مورد تأیید استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه فی مورده (4).

و من هنا یظهر أنّه تتحقّق للمسألة صورتان:بأنّا قد لا نعلم بالحالة السابقة علی الحالتین،و قد نعلم بها،أمّا فی صورة عدم العلم بالحالة السابقة فحکم المسألة مبتن علی النزاع المذکور،من جریان استصحاب بقاء الطهارة و استصحاب بقاء الحدث،و تساقطهما بالمعارضة،و الاحتیاج إلی الطهارة

ص:292


1- 1) کفایة الاصول 2:338.
2- 2) جواهر الکلام 2:350 و 351.
3- 3) المعتبر:45،السطر 17.
4- 4) الاستصحاب:182.

الجدیدة عندنا،و عدم جریان الاستصحاب؛لعدم إحراز اتّصال زمان الشکّ بالیقین عند صاحب الکفایة رحمه اللّه.

و أمّا فی صورة العلم بالحالة السابقة فقد تکون عبارة عن الطهارة،و قد تکون عبارة عن الحدث،فلا بدّ من ملاحظة الخصوصیّات فی محلّ البحث، و هی کما یلی:

الخصوصیّة الاولی:أن یکون تأریخ کلا الحادثین مجهولا.

الثانیة:أن یکون الحدث السابق علی الحالتین من سنخ الحدث الجدید المسلّم حدوثه من حیث کونهما أصغرین أو أکبرین،و لا بدّ لنا قبل الورود فی البحث من ذکر الأمرین بعنوان المقدّمة:

الأمر الأوّل:أنّ المتوضّی و المتطهّر إذا صدر منه الحدث فإنّه یوجب بطلان الوضوء و یوجب الاحتیاج إلی وضوء جدید بالحدث الأوّل،و لا یکون الحدث الثانی الواقع بعده مؤثّرا فعلیّا و إن کان مؤثّرا شأنیّا،فالسببیّة الفعلیّة للحدث الأول،هذا من المسلّمات فی الفقه.

الأمر الثانی:أنّه من المسلم أیضا کفایة مسبّب واحد-من الوضوء و الغسل-عقیب أسباب متعدّدة،سواء قلنا فی باب التداخل:إنّ مقتضی القاعدة هو التداخل أو عدمه.

إذا عرفت ذلک فنقول:إنّ المکلّف إذا کان متیقّنا بکونه محدثا فی أوّل النهار، فعلم بحدوث طهارة و حدث أثناء النهار و شکّ فی المتقدّم و المتأخّر،فیکون استصحاب الطهارة المتیقّنة ممّا لا إشکال فیه،کما قال به المحقّق فی المعتبر.

و لا یجری استصحاب الحدث؛لعدم تیقّن الحالة السابقة،لا تفصیلا و لا إجمالا،فإنّ الحدث المعلوم بالتفصیل الذی کان متحقّقا أوّل النهار قد زال

ص:293

یقینا،و لیس له علم إجمالی بوجود الحدث إمّا قبل الوضوء أو بعده؛لأنّ الحدث قبل الوضوء معلوم تفصیلی و بعده مشکوک فیه بالشکّ البدوی.

و هذا نظیر العلم الإجمالی بإصابة قطرة دم إمّا فی الإناء المعلوم طهارته و إمّا فی الإناء المعلوم نجاسته،و لا یترتّب علی هذا العلم أثر بوجه أصلا فإنّ منجزیّة العلم الإجمالی مشروطة بکونه ذا أثر فی کلّ من الطرفین،و لیس المثال کذلک،فإنّ إصابة الدم الإناء المعلوم نجاسته تکون بلا أثر،و إصابة الآخر مشکوکة بالشکّ البدوی،فیجری استصحاب الطهارة.

و ما نحن فیه من هذا القبیل فإنّ وقوع الحدث قبل الوضوء بلحاظ مسبوقیّته بالحدث فی أوّل النهار لا یترتّب علیه أثر،و ترتّب الأثر مختصّ بوقوعه بعد الوضوء،فلا أثر لهذا العلم الإجمالی،فیجری استصحاب الطهارة بلا معارض.

و أمّا إذا کان المکلّف متیقّنا بکونه متطهّرا فی أوّل النهار فعلم بحدوث الحدث و الطهارة أثناء النهار و شکّ فی المتقدّم و المتأخّر فیکون استصحاب الحدث المتیقّن ممّا لا إشکال فیه بعین ما ذکرناه فی الفرع السابق،فیجب علیه تحصیل الطهارة للصلاة،کما قال به فی المعتبر،هذا کلّه بالنسبة إلی مجهولی التاریخ.

فیما إذا کان أحدهما معلوم التاریخ

و أمّا إذا جهل تأریخ الحدث و علم تأریخ الطهارة مع کون الحالة السابقة هی الحدث،کما إذا علم کونه محدثا فی أوّل النهار،و علم أنّه تطهّر ظهرا،و علم بحدوث حدث إمّا بعد الطهارة و إمّا قبلها،فلا یجری استصحاب الحدث؛ للعلم بزوال الحدث المعلوم تفصیلا و عدم العلم بتحقّق حدث غیره،فلا تکون

ص:294

حالة سابقة متیقّنة للحدث،و أمّا استصحاب الطهارة المتحقّقة فی أوّل الظهر فلا مانع من جریانه؛للعلم بوجودها و الشکّ فی زوالها،ففی هذه الصورة نحکم بکونه متطهّرا،و العلم الإجمالی بحدوث الحدث الثانی بمنزلة الشکّ البدوی لا یترتّب علیه أثر،فنأخذ بضدّ الحالة السابقة.

و أمّا إذا جهل تأریخ الطهارة مع کون الحالة السابقة المتیقّنة هی الحدث، و علم تأریخ الحدث،کما إذا علم کونه محدثا فی أوّل النهار،و علم بصدور الحدث منه ثانیا فی أوّل الظهر،و علم أنّه تطهّر إمّا قبل الظهر و إمّا بعده، فیجری استصحاب الحدث المعلوم التأریخ،و یجری استصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال فیتساقطان بالمعارضة و نحکم بلزوم تحصیل الطهارة عقلا لقاعدة الاشتغال،ففی هذه الصورة لا یمکن الأخذ بضدّ الحالة السابقة.

و أمّا إذا کانت الحالة السابقة المتیقّنة هی الطهارة و علم أنّه أحدث فی أوّل الظهر،و علم أنّه تطهّر إمّا قبل الظهر و إمّا بعده،فلا یبقی مجال لاستصحاب الطهارة،فإنّ الطهارة المعلومة بالإجمال مردّدة بین ما له الأثر و ما لا یترتّب علیه الأثر،فیجری استصحاب الحدث،فإنّه مؤثّر فی نقض الطهارة،سواء تحقّق قبل الطهارة الثانیة أو بعدها،ففی هذه الصورة نأخذ بضدّ الحالة السابقة.

و أمّا إذا کانت الحالة السابقة المتیقّنة هی الطهارة،و علم أنّه تطهّر أیضا فی أوّل الظهر،و علم بأنّه أحدث إمّا قبل الظهر و إمّا بعده فیجب تحصیل الطهارة؛ لتعارض استصحاب الطهارة المعلومة فی الظهر-للعلم بها و الشکّ فی زوالها- مع استصحاب الحدث المعلوم بالإجمال؛للعلم بوجود،إمّا قبل الظهر أو بعده و الشکّ فی زواله،و فی هذه الصورة أیضا نأخذ بضدّ الحالة السابقة.

ص:295

ص:296

التنبیه الثانی عشر: فی الامور الاعتقادیّة

فی الامور الاعتقادیّة

هل یجری الاستصحاب فی الامور الاعتقادیّة أم لا؟و منشأ الشبهة فی هذا المعنی و ما یوجب بیان هذا النزاع أمران:

الأوّل:توهّم اختصاص الاستصحاب بالامور الخارجیّة؛لکونه من الاصول العملیّة،فلا یجری إلاّ فی أفعال الجوارح المعبّر عنها بالأعمال، و الامور الاعتقادیّة مربوطة بالجوانح لا بالجوارح.

الثانی:أنّ الجاثلیق فی احتجاجات الإمام علیّ بن موسی الرضا علیهما السّلام معه تمسّک لبقاء نبوّة نبیّه بالاستصحاب.

و التحقیق:أنّه لا مانع من جریان الاستصحاب فی الامور الاعتقادیّة،فإنّ مناط جریانه-أی الیقین بالحدوث و الشکّ فی البقاء و کون الأثر قابلا للتعبّد- محقّق هاهنا،و معنی کونه من الاصول العلمیّة أنّه لیس من الأدلّة الاجتهادیّة الکاشفة عن الواقع،فإنّها وظائف عملیّة للجاهل بالواقع و لیست کاشفة عنه، لا أنّها مختصّة بالامور الجوارحیّة،فلو کان التبانی القلبی علی شیء واجبا و شککنا فی بقائه من جهة الشبهة الحکمیّة أو الموضوعیّة لا مانع من جریان الاستصحاب.

ص:297

و کان لصاحب الکفایة رحمه اللّه هنا بیان جیّد،و هو قوله:«و أمّا الامور الاعتقادیّة التی کان المهمّ فیها شرعا هو الانقیاد و التسلیم و الاعتقاد بمعنی عقد القلب علیها من الأعمال القلبیّة الاختیاریّة،فکذا لا إشکال فی الاستصحاب فیها حکما و کذا موضوعا فیما کان هناک یقین سابق و شکّ لاحق؛لصحّة التنزیل،و عموم الدلیل.و کونه أصلا عملیّا إنّما هو بمعنی أنّه وظیفة الشاکّ تعبّدا قبالا للأمارات الحاکیة عن الواقعیّات،فیعمّ العمل بالجوانح کالجوارح.

و أمّا التی کان المهمّ فیها شرعا و عقلا هو القطع بها و معرفتها فلا مجال له موضوعا،و یجری حکما،فلو کان متیقّنا بوجوب تحصیل القطع بشیء -کتفاصیل القیامة-فی زمان و شکّ فی بقاء وجوبه یستصحب.

و أمّا لو شکّ فی حیاة إمام زمان فلا یستصحب لأجل ترتیب لزوم معرفة إمام زمانه،بل یجب تحصیل الیقین بموته أو حیاته مع إمکانه،و لا یکاد یجدی فی مثل وجوب المعرفة عقلا أو شرعا إلاّ إذا کان حجّة من باب إفادته الظنّ، و کان المورد ممّا یکتفی به أیضا،فالاعتقادیّات کسائر الموضوعات لا بدّ فی جریانه فیها من أن یکون فی المورد أثر شرعی یتمکّن من موافقته مع بقاء الشکّ فیه،کان ذاک متعلّقا بعمل الجوارح أو الجوانح (1).

و التحقیق:النبوّة کالولایة و الإمامة تکون من المناصب المجعولة کما یستفاد من ظواهر الآیات،کقوله تعالی: وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ (2)،و لا تکون ناشئة من کمال النفس بمثابة یوحی إلیها قهرا،و إن

ص:298


1- 1) کفایة الاصول 2:338-339.
2- 2) البقرة:124.

کانت کذلک فلا یجری الاستصحاب فیها؛إمّا لعدم الشکّ فیها بعد اتّصاف النفس بها،أو لکونها من الصفات الخارجیّة التکوینیّة،و لا یترتّب علیها أثر شرعی مهمّ کما أشار إلیه صاحب الکفایة.

و أمّا علی ما هو التحقیق من کونها من المناصب المجعولة الإلهیّة لمن کان صالحا و أهلا لها،فهل یجری الاستصحاب فیها أم لا؟

و تفصیل الکلام فی المقام:أنّ استدلال الکتابی لإثبات دینه بالاستصحاب لا یخلو من وجهین:إمّا أن یکون استدلاله لمعذوریّته فی البقاء علی الیهودیّة -مثلا-و إمّا أن یکون لإلزام المسلمین و دعوتهم إلی الیهودیّة،فإن کان مراده الأوّل فنقول له:أنت شاکّ فی بقاء نبوة نبیّک أم لا؟فإن اختار الثانی فلا معنی للاستصحاب؛إذ لا بدّ فیه من الشکّ فی بقاء المتیقّن،و إن اختار الأوّل فنقول له:لا بدّ لک من الفحص،فإنّ النبوّة لیست بأقلّ من الفروع التی یتوقّف جریان الاستصحاب فیها علی الفحص،و بعد الفحص یصل إلی الحقّ و یزول الشکّ عنه،و مع فرض بقاء شکّه لا فائدة فی الاستصحاب؛لکون النبوّة من الامور التی تجب المعرفة و الیقین بها،فلیست قابلة للتعبّد الاستصحابی،و مع فرض کفایة الظنّ فیها نقول:الاستصحاب لا یفید الظنّ أوّلا،و لا دلیل علی حجّیّة الظنّ الحاصل منه ثانیا.

هذا کلّه فی استصحاب النبوّة،و أمّا استصحاب بقاء أحکام الشریعة السابقة فغیر جار أیضا،إذ نقول له:الاستصحاب إن کان حجّة فی الشریعة السابقة لا یمکن التمسّک به لبقاء أحکام الشریعة السابقة؛إذ حجّیّة الاستصحاب من جملة تلک الأحکام،فیلزم التمسّک به لإثبات بقاء نفسه،و هو دور ظاهر.

ص:299

و إن کان الاستصحاب حجّة فی الشریعة اللاحقة فصحّة التمسّک بالاستصحاب-لإثبات بقاء أحکام الشریعة السابقة-فرع حقّیّة الشریعة اللاحقة،و بعد الالتزام بحقّیّتها لم یبق مجال للاستصحاب؛للیقین بارتفاع أحکام الشریعة السابقة حینئذ.

و إن کان مراده الثانی-أی إلزام المسلمین و دعوتهم إلی الیهودیّة-فنقول له:جریان الاستصحاب متوقّف علی الیقین بالحدوث و الشکّ فی البقاء،و لیس لنا یقین بنبوّة موسی إلاّ من طریق شریعتنا،فإنّ التواتر لم یتحقّق فی جمیع الطبقات من زمان موسی إلی زماننا هذا،و التوراة الموجودة عند الیهود لیس هو الکتاب المنزل من اللّه سبحانه علی موسی،و من راجعه یجد فیه ما یوجب العلم بعدم کونه من عند اللّه؛من نسبة الزنا و الفواحش إلی الأنبیاء و غیر ذلک ممّا یجده من راجعها.

نعم،علمنا بنبوّة موسی لأخبار نبیّنا بنبوّته،فتصدیقه یوجب التصدیق بنبوّته،و هذا الاعتراف من المسلمین لا یضرّهم و لا یوجب جریان الاستصحاب فی حقّهم-کما هو الظاهر-و هذا المعنی هو المحتمل من الحدیث المتضمّن لجواب الرضا علیه السّلام عن احتجاج الجاثلیق بالاستصحاب،من أنّا معترفون بنبوّة کلّ موسی و عیسی أقرّ بنبوّة نبیّنا صلّی اللّه علیه و آله،و ننکر نبوّة کلّ من لم یقرّ بنبوّة نبیّنا،فلا یرد-علی الجواب المذکور-ما ذکره الشیخ رحمه اللّه من أنّ موسی بن عمران أو عیسی بن مریم لیس کلّیّا حتّی یصحّ الجواب المذکور،بل جزئی حقیقی اعترف المسلمون بنبوّته،فعلیهم إثبات نسخها.

و الحاصل:أنّه لیس لنا علم بنبوّة موسی إلاّ بإخبار نبیّنا صلّی اللّه علیه و آله،و هو کما یخبر بها یخبر بارتفاعها،فلا مجال للاستصحاب.

ص:300

و مع فرض حصول الیقین من غیر هذا الطریق لیس لنا شکّ فی بقائها،بل نعلم بارتفاعها،فإنّ المسلم لا یکون مسلما مع الشکّ فی بقاء نبوّة موسی أو عیسی،فلا یمکن الکتابی إلزام المسلم باستصحاب النبوّة؛لعدم تمامیّة أرکانه من الیقین و الشکّ.

علی أنّ الاستصحاب حکم من أحکام الإسلام و إثبات نبوّة أنبیاء السلف به یوجب بطلان الإسلام و إنکار نبوّة النبیّ الأکرم صلّی اللّه علیه و آله،و معناه بطلان نفس الاستصحاب أیضا،و ما یلزم من وجوده عدمه محال.

ص:301

ص:302

التنبیه الثالث عشر: فی موارد التمسّک بالعموم و استصحاب حکم المخصّص

اشارة

فی موارد التمسّک بالعموم و استصحاب حکم المخصّص

إذا ورد عموم أفرادی متعرّض للزمان إجمالا-مثل:«أکرم العلماء کلّ یوم»-یتعقّبه دلیل مخرج لبعض أفراده عن حکمه فی زمان-مثل:«لا یجب إکرام زید العالم یوم الجمعة»-بحیث لا یکون للدلیل المخرج إطلاق أو عموم بالنسبة إلی غیر ذلک الزمان،فشکّ فی حکم هذا الفرد بالنسبة إلی ما بعد ذلک الزمان-یوم السبت مثلا-فهل یتمسّک باستصحاب حکم دلیل المخرج أو بعموم العامّ أو إطلاقه أو یفصّل بین المقامات؟

ثمّ إنّ الباعث لعقد هذا البحث لیس هو ملاحظة التعارض بین العموم و الاستصحاب،فإنّ الاستصحاب أصل عملی لا مجال للرجوع إلیه مع وجود الدلیل من عموم أو إطلاق،و لا مانع من الرجوع إلیه إن لم یکن هناک دلیل، بل الباعث لذلک هو تعیین موارد الرجوع إلی العموم و تمییزها عن موارد التمسّک بالاستصحاب،فالإشکال و الخلاف إنّما هو فی الصغری بعد الاتّفاق فی الکبری.

إذا عرفت ذلک فاعلم أنّه ذکر الشیخ رحمه اللّه أنّ العموم الأزمانی تارة یکون علی نحو العموم الاستغراقی،و یکون الحکم متعدّدا بتعدد الأفراد الطولیّة،و کلّ

ص:303

حکم غیر مرتبط بالآخر امتثالا و مخالفة کوجوب الصوم ثلاثین یوما،کما أنّ الأمر فی الأفراد العرضیّة کذلک،فإنّه إذا قال المولی:«أکرم العلماء کلّ یوم» -مثلا-یکون الحکم متعدّدا بتعدّد أفراد العلماء الموجودین فی زمان واحد، و لکلّ حکم إطاعة و معصیة،و امتثال و مخالفة.

و اخری یکون علی نحو العموم المجموعی،و یکون هناک حکم واحد مستمرّ کوجوب الإمساک من طلوع الفجر إلی المغرب،فإنّه لا یکون وجوب الإمساک تکلیفا متعدّدا بتعدّد آنات هذا الیوم،فإن کان العموم من القسم الأوّل فالمرجع بعد الشکّ هو العموم؛لأنّه بعد خروج أحد الأفراد عن العموم لا مانع من الرجوع إلیه لإثبات الحکم لباقی الأفراد.

و إن کان من القسم الثانی فالمرجع هو الاستصحاب؛لأنّ الحکم واحد علی الفرض و قد انقطع یقینا،و إثباته بعد الانقطاع یحتاج إلی دلیل،و مقتضی الاستصحاب بقاء حکم المخصّص،هذا ملخص کلامه رحمه اللّه (1).

و ذکر صاحب الکفایة رحمه اللّه أنّ مجرّد کون العموم الأزمانی من قبیل العموم المجموعی لا یکفی فی الرجوع إلی الاستصحاب،بل لا بدّ من ملاحظة الدلیل المخصّص أیضا،فإنّ أخذ الزمان فیه بعنوان الظرفیّة کما أنّه بطبعه ظرف لما یقع فیه کالمکان،فلا مانع من التمسّک بالاستصحاب،و إن کان الزمان مأخوذا علی نحو القیدیّة فلا یمکن التمسّک بالاستصحاب؛لأنّه مع فرض کون الزمان قیدا للموضوع یکون إثبات الحکم فی زمان آخر من إسراء حکم ثابت لموضوع إلی موضوع آخر،و هو قیاس محرّم،فلا بدّ من الرجوع،إلی أصل آخر من البراءة أو الاشتغال حسبما یقتضیه المقام.

ص:304


1- 1) فوائد الاصول 2:800.

هذا کلّه علی تقدیر کون العموم علی نحو العموم المجموعی،و أمّا إن کان العموم علی نحو العموم الاستغراقی فالمتعیّن الرجوع إلی العامّ إن لم یکن له معارض،و إلاّ فیتمسّک بالاستصحاب إن کان الزمان فی الدلیل المخصّص مأخوذا بنحو الظرفیّة،و إن کان مأخوذا بنحو القیدیّة لا یمکن التمسّک بالاستصحاب أیضا،فلا بدّ من الرجوع إلی أصل آخر،فتکون الصور علی ما ذکره أربع:

الأولی:أن یکون العامّ من قبیل العموم الاستغراقی مع کون الزمان مأخوذا فی دلیل التخصیص بنحو الظرفیّة.

الثانیة:نفس الاولی مع کون الزمان مأخوذا علی نحو القیدیّة.و حکمهما الرجوع إلی العامّ مع عدم المعارض،و إلاّ فیرجع إلی الاستصحاب فی الصورة الاولی،و إلی أصل آخر فی الصورة الثانیة.

الثالثة:أن یکون العموم من قبیل العامّ المجموعی مع کون الزمان ظرفا.

الرابعة:نفس الثالثة مع کون الزمان قیدا.و حکمهما الرجوع إلی الاستصحاب فی الثالثة،و إلی أصل آخر فی الرابعة،و تشترکان فی عدم إمکان الرجوع إلی العامّ فیهما،إلاّ فیما إذا کان التخصیص من الأوّل کخیار المجلس مع قطع النظر عن النصّ الدالّ علی لزوم البیع بعد الافتراق،فیصحّ فی مثله الرجوع إلی العامّ؛لعدم کون التخصیص فی هذه الصورة قاطعا لاستمرار الحکم حتّی یکون إثبات الحکم بعده محتاجا إلی الدلیل،فیرجع إلی استصحاب حکم الخاصّ،بل التخصیص یوجب کون استمرار الحکم بعد هذا الزمان،فیتعیّن الرجوع إلی العامّ بعد زمان التخصیص،بخلاف ما إذا کان التخصیص فی الوسط کخیار الغبن علی ما هو المعروف من کون مبدئه زمان

ص:305

الالتفات إلی الغبن،فإنّ التخصیص قاطع للاستمرار،و إثبات الحکم بعده یحتاج إلی دلیل.

هذا ملخّص کلام صاحب الکفایة (1).

و کان لاستاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه هنا کلام مفصّل و حکم المسألة عنده واحد، و هو الرجوع إلی العامّ فی جمیع الصور،و ذکر لکلامه مقدّمات متعدّدة،و نذکر منها ما هو اللازم و الدخیل فی المسألة حتّی تصل النوبة إلی النتیجة.

قال رحمه اللّه«یتّضح المرام بعد التنبیه علی امور:الأوّل:أنّه یتصوّر ورود العامّ علی أنحاء:فتارة یلاحظ المتکلّم الأزمنة مستقلّة علی نحو العامّ الاصولی-أی الاستغراقی-مثل«أکرم العلماء فی کلّ یوم»فکان لکلّ زمان حکم مستقلّ من حیث الموافقة و المخالفة.

و تارة یلاحظها بنحو العامّ المجموعی،فکان لکلّ الأزمنة حکم واحد من حیث المذکور.

و ثالثة یلاحظ الزمان مستمرّا علی نحو تحقّقه الاستمراری کقوله«أوفوا بالعقود مستمرا أو دائما»لا بمعنی وجوب الوفاء فی کلّ یوم مستقلاّ،و لا بنحو العامّ المجموعی حتّی لو فرض عدم الوفاء فی زمان سقط التکلیف بعده،بل بنحو یکون المطلوب وجوبه مستمرّا بحیث لو و فی المکلّف إلی آخر الأبد یکون مطیعا إطاعة واحدة،و لو تخلّف فی بعض الأوقات تکون البقیة مطلوبة لا بطلب مستقلّ أو مطلوبیّة مستقلّة بل بالطلب الأوّل الذی جعل الحکم کلازم الماهیّة للموضوع،فلو قال المولی:«لا تهن زیدا»فترک العبد إهانته مطلقا کان مطیعا له إطاعة واحدة،و لو أهانه یوما عصاه،و لکن تکون إهانته

ص:306


1- 1) کفایة الاصول 2:341-343.

محرّمة علیه بعده أیضا لا بنحو المطلوبیّة المتکثّرة المستقلّة،بل بنحو استمرار المطلوبیّة.

الثانی:أنّ العموم الزمانی أو الاستمرار الزمانی قد یستفاد من طریق ألفاظ العموم،مثل:«أکرم العلماء»أو«أکرم العلماء فی کلّ یوم أو مستمرّا»،و قد یستفاد من طریق مقدّمات الحکمة مثل:قوله تعالی: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1).

و لا فرق بینهما من حیث الدلالة علی العموم الأزمانی و الأفرادی إلاّ أنّ العموم الزمانی المستفاد منهما متفرّع علی العموم الأفرادی،و معناه:أنّ الحکم المتعلّق بالعموم الأفرادی موضوع للعموم و الاستمرار الزمانیّین،و کذا للإطلاق المستفاد من دلیل الحکمة-أی الموضوع مقدّم علی الحکم و معنی قوله-أکرم العلماء فی کلّ یوم»أنّه یجب إکرام کلّ عالم کأنّه قال بعده:

«و وجوب إکرام کلّ عالم ثابت فی کلّ زمان»،فلا یکون العموم الأفرادی مع العموم الأزمانی فی رتبة واحدة،فلا بدّ من تحقّق الحکم أوّلا حتّی تصل النوبة إلی استمراره،فإن لم یتحقّق الحکم بأیّ دلیل فلا معنی لاستمراره فی جمیع الأزمنة.

الثالث:لازم تفرّع ما ذکرنا علی العموم الأفرادی هو أنّ التخصیص الوارد علی العموم الأفرادی رافع لموضوع العموم و الاستمرار الزمانیّین،و کذا لموضوع الإطلاق،کما إذا قال المولی:«اکرم العلماء کلّ یوم»،ثمّ قال:«لا تکرم زیدا العالم»،فلا إشکال فی ارتباط هذا التخصیص بالعموم الأفرادی و عدم تعلّق الإرادة الجدیّة بإکرام زید بخلاف الإرادة الاستعمالیّة،و لازم خروجه عن العموم الأفرادی عدم بقاء الموضوع للعموم الأزمانی بالنسبة إلیه فقط

ص:307


1- 1) المائدة:1.

و بقاء العموم الأزمانی المستفاد من قوله«أکرم العلماء کلّ یوم»فی محلّه.

کما أنّ التخصیص الوارد علی العموم الأزمانی لا یوجب التخصیص بالنسبة إلی العموم الأفرادی،کما إذا قال المولی:«اکرم العلماء کلّ یوم»،ثمّ قال:

«لا تکرم زیدا یوم الجمعة»،فلا إشکال فی ارتباط هذا التخصیص بالعموم الأزمانی و بقاء العموم الأفرادی بقوته فی محلّه.

إن توهّم أنّ هذا تخصیص للعموم الأزمانی و الأفرادی معا کما هو الظاهر.

کان جوابه:أنّ المولی إذا قال بعد العامّ المذکور:«لا تکرم العلماء یوم الجمعة»فلا بدّ من إرجاع هذا التخصیص إلی العموم الأزمانی فقط،فإنّ إرجاعه إلی العموم الأفرادی و الأزمانی معا یوجب التناقض بین الدلیل العامّ و الخاصّ مع أنّه لم یلتزم به أحد،و هذا دلیل علی عدم ارتباط التخصیص بالعموم الأفرادی،بل یرتبط بالعموم الأزمانی.و هذا المعنی یتحقّق بعینه فی مثل قوله:«أکرم العلماء کلّ یوم»،و قوله«لا تکرم زیدا یوم الجمعة»، فالتصرّف فی العموم الأزمانی لا یکون ملازما للتصرّف فی العموم الأفرادی.

و بالعکس و ما ذکرناه شاهد علی ذلک.

ثمّ قال الإمام رحمه اللّه:إذا عرفت ما ذکرنا فنقول:إذا ورد عام أفرادی یتضمّن العموم أو الاستمرار الزمانی-بدلالة لغویّة أو بمقدّمات الحکمة-و ورد دلیل مخرج لبعض أفراده عن حکم العموم فی زمان معیّن،کقوله:«أکرم العلماء فی کلّ یوم»أو«مستمرّا»و انعقد الإجماع علی عدم وجوب إکرام زید یوم الجمعة،أو قوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1).و انعقد الإجماع علی عدم وجوب الوفاء عند ظهور الغبن ساعة،و شکّ بعد یوم الجمعة و بعد الساعة فی حکم الفرد

ص:308


1- 1) المائدة:1.

المخرج،لا یجوز التمسّک بالاستصحاب مطلقا،سواء لوحظ الزمان أفرادا و علی نحو العامّ الاصولی،أو ذکر القید لبیان استمرار الحکم أو المتعلّق أو دلّت مقدّمات الحکمة علی ذلک.ففی جمیع الصور الأربعة المذکورة فی کلام صاحب الکفایة ما عدا مورد التخصیص لا بدّ من الرجوع فیها إلی عموم العام.

أمّا إذا لوحظ الزمان مستقلاّ فواضح؛لأنّ خروج الفرد فی یوم تصرّف فی العموم الأفرادی،فأصالة العموم محکمة بالنسبة إلی التخصیص الزائد.

و أمّا إذا جعل مستمرّا أو دائما أو أبدا ظرفا للحکم فلأنّ خروج بعض الأفراد فی بعض الأیام لیس تخصیصا فی العموم الأفرادی بل تقییدا و تقطیعا للاستمرار الذی قامت الحجّة علیه و تردّد أمره بین الأقل و الأکثر،و لا بدّ من الاکتفاء بالأقلّ،فیکون ظهور الاستمرار فی البقیة حجّة.

کما فی قوله:«أکرم العلماء مستمرّا»ینحلّ إلی عموم أفرادی یدلّ علیه الجمع المحلّی باللام و إلی استمرار الحکم الذی یدلّ علیه ظهور القید الذی قام مقام مقدّمات الحکمة فی بعض المقامات،فیکون قوله:«لا تکرم زیدا» تخصیصا للعموم الأفرادی،و«لا تکرمه یوم الجمعة»تقطیعا لاستمرار الحکم، و کما یکون العموم حجّة فی البقیة لدی العقلاء یکون ظهور القید فی استمرار الحکم حجّة فیما عدا مورد التقطیع القطعی لدیهم،سواء اخذ الزمان فی الدلیل المخصّص علی نحو القیدیّة أو الظرفیّة.

ثمّ قال:و ممّا ذکرنا یعلم حال الإطلاق المستفاد من دلیل الحکمة،فلو فرض أنّ قوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،کما یدلّ بالعموم اللغوی علی الشمول الأفرادی یدلّ علی الاستمرار الزمانی بمقدّمات الحکمة أو مناسبة الحکم و الموضوع بمعنی أن لزوم الوفاء بکلّ عقد مستمرّ لا من قبیل العامّ المجموعی

ص:309

بل بحیث تکون المخالفة فی بعض الأزمان لا توجب سقوط المطلوبیّة بالنسبة إلی البقیة،ثمّ دلّ دلیل علی عدم وجوب الوفاء بعقد کالعقد الربوی یکون مخصّصا للعموم الأفرادی،و لا یکون مقیّدا للإطلاق،بل رافعا لموضوعه.

و أمّا لو دل دلیل علی عدم وجوب الوفاء بعقد فی زمان،کما لو انعقد الإجماع علی عدم وجوب الوفاء بالعقد إذا ظهر الغبن إلی ساعة-مثلا-یکون هذا تقییدا لإطلاقه لا تخصیصا لعمومه؛لأنّ التخصیص عبارة عن إخراج ما یشمله العموم إخراجا حکمیّا،و العموم اللغوی یدلّ علی دخول تمام أفراد العقود فی وجوب الوفاء من غیر تعرّض لحالات الأفراد و أزمانها،و دلیل المخرج لا یدلّ علی خروج فرد من العامّ رأسا حتّی یکون تخصیصا،بل یدلّ علی خروجه فی زمان،و هذا مخالف لظهور الإطلاق فی الاستمرار،فإذا شکّ فیما بعد الساعة فی لزوم العقد یرجع إلی الشکّ فی زیادة التقیید لا التخصص، فالمرجع هو أصالة الإطلاق».

ثمّ قال:فقول الشیخ الأعظم:«إنّه لا یلزم من ذلک زیادة تخصیص إذا خرج الفرد فی ساعة أو بعد الساعة مستمرّا» (1)خلط بین التخصیص و التقیید؛لأنّ خروج الفرد فی ساعة تقیید لا تخصیص،و خروجه فی الزائد عن الساعة تقیید زائد یدفع بالأصل.

ثمّ ذکر کلاما من للمحقّق الحائری رحمه اللّه بقوله:«فإن قلت:فرق بین المطلق فی سائر المقامات و هاهنا،فإن الأوّل یشمل ما تحته من الجزئیّات فی عرض واحد،و الحکم إنّما تعلّق به بلحاظ الخارج،فاستقرّ ظهور القضیّة فی الحکم علی کلّ ما یدخل تحته بدلا أو استغراقا،فإذا خرج منفصلا شیء بقی الباقی

ص:310


1- 1) فرائد الاصول:395،السطر 17.

بنفس ظهور الأوّل المستقرّ،و فی المقام أنّ الزمان فی حدّ ذاته أمر واحد مستمرّ لیس جامعا لأفراد کثیرة إلاّ أن یقطع بالملاحظة،و تجعل کلّ قطعة ملحوظة فی القضیّة،و أمّا إذا لم یلحظ کذلک کما إذا کان الاستمرار بمقدّمات الحکمة فلا زمه الاستمرار من أوّل وجود الفرد إلی آخره،فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد یوم الجمعة-مثلا-فلیس لهذا العامّ دلالة علی دخول ذلک الفرد یوم السبت؛إذ لو کان داخلا لم یکن هذا الحکم استمرارا للحکم السابق» (1).

و أجاب عنه بقوله:و فیه:أوّلا:أنّ المطلق فی سائر المقامات أیضا لا یفید الحکم للأفراد،و لا یکون الحکم بلحاظ الأفراد الخارجیّة استغراقا أو بدلا، و لم یکن المطلق بعد تمامیّة مقدّمات الإطلاق کالعام مفادا،بل لیس مقتضی الإطلاق بعد تمامیّة المقدّمات إلاّ أنّ ما اخذ فی الموضوع تمام الموضوع للحکم کما هو المقرّر فی محلّه.

و ثانیا:أنّ کون الزمان أمرا مستمرّا واحدا لا یلازم کون مقتضی الإطلاق وحدة الحکم بحیث إذا انقطع فی زمان انقطع مطلقا،فإنّ لازم ذلک أن یکون موضوع الحکم کالعام المجموعی،و لازمه عدم لزوم الإطاعة لو عصاه فی زمان،مع أنّ الواقع فی أشباه أَوْفُوا بِالْعُقُودِ خلاف ذلک،بل فرض مثل العموم المجموعی المقتضی لانتفاء الحکم بانتفاء جزء من الزمان خروج عن محطّ البحث،فحینئذ لو خرج جزء من الزمان لا مانع من التمسّک بالإطلاق بالنسبة إلی سائر الأزمنة،انتهی کلامه رحمه اللّه بتلخیص و توضیح منا (2).

و کان للمحقّق النائینی رحمه اللّه فی بحث العموم الأزمانی تفصیل و تحقیق،فقال

ص:311


1- 1) درر الفوائد:571.
2- 2) الاستصحاب:188-195.

بعنوان المقدّمة:إنّ العموم الأزمانی المتحقّق عقیب العموم الأفرادی یکون من حیث المورد علی نوعین:فإنّه قد یرتبط بنفس الحکم،و قد یرتبط بمتعلّق الحکم،فإذا قال المولی:«أکرم العلماء کلّ یوم»یتصوّر هذا القول من حیث مقام التصوّر علی نوعین فقد یرتبط قوله:«کلّ یوم»بمفاد الهیئة و نفس الحکم المستفاد من الهیئة،کأنّه قال فی مقام التصریح یجب إکرام العلماء،و یکون هذا الوجوب ثابتا فی کلّ یوم،و قد یرتبط بمتعلّق الحکم،أی الإکرام کأنّه قال:

إکرام العلماء فی کلّ یوم واجب و إن لم تترتّب علیه ثمرة عملیّة فی نفسه مع قطع النظر عن بحث التمسّک بالعامّ أو استصحاب حکم المخصّص.

فإن کان قیدا للمتعلّق و مربوطا بالإکرام یمکن للمولی تفهیم مقصوده بجملة واحدة مثل:«أکرم العلماء فی کلّ یوم»،و إن کان مربوطا بالحکم لا یمکن أن یکون دلیل واحد متعرّضا له و متکفّلا لبیانه،فلا بدّ له من القول:«أکرم کلّ عالم»أوّلا،و فی ضمن دلیل منفصل آخر یقول:إنّ هذا الوجوب یکون فی کلّ یوم أو مستمرّا»،و أمثال ذلک:

و السّر فی ذلک أنّ العموم الأزمانی إن کان مربوطا بالحکم یصیر الحکم موضوعا للعموم الأزمانی،و لا یمکن أن یکون دلیل واحد مبیّنا للحکم و متکفّلا لجعل الحکم موضوعا لحکم آخر حتّی یکون معنی قوله:«أکرم العلماء فی کلّ یوم»أنّ وجوب الإکرام ثابت للعلماء،و أنّ هذا الوجوب موضوع للاستمرار و الدوام،أو یستفاد ذلک من مقدّمات الحکمة.

ثمّ قال بعد بیان هذه المقدّمة:إنّ المولی إذا قال:«أکرم العلماء فی کلّ یوم»، ثمّ قال بعده:«لا تکرم زیدا یوم الجمعة»و شککنا فی یوم السبت أنّه واجب الإکرام أم لا؟یصحّ التمسّک بالعموم فی فرض ارتباط العموم الأزمانی

ص:312

بالمتعلّق؛إذ المتعلّق یتحقّق قبل الحکم إذا تحقّق الشکّ فی شئون المتعلّق یمکن الرجوع إلی عموم العامّ،کما هو المرجع إذا کان الشکّ فی أصل التخصیص، و هکذا فی التخصیص الزائد.

و أمّا فی فرض ارتباط العموم الأزمانی بنفس الحکم فیصیر الحکم بمنزلة الموضوع للعموم الأزمانی،فإذا قال المولی:«یجب إکرام العلماء»،ثمّ قال:

«و هذا الوجوب مستمرّ»کان هذا الوجوب بمنزلة الموضوع،و مستمرّ بمنزلة الحکم،و فی مقابل هذین الدلیلین قال:«لا تکرم زیدا العالم یوم الجمعة» و شککنا فی وجوب إکرامه یوم السبت فلا یمکن التمسّک بالعموم الأزمانی، فإنّ معناه الرجوع إلی قوله:«هذا الوجوب مستمر»و قلنا:إنّ«هذا الوجوب» موضوع لا بدّ من إحرازه یوم السبت،ثمّ الحکم باستمراره،و المفروض أنّه فی یوم السبت مشکوک فکیف یمکن الحکم باستمراره؟هذا تمام کلامه رحمه اللّه مع توضیح منّا (1).

و أجاب عنه استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه بأنّ عدم جواز کشف الموضوع بالحکم و إثباته به إنّما هو فیما إذا تعلّق الحکم بموضوع مفروض الوجود کالقضایا الحقیقیّة،مثل:«أکرم العلماء»الذی کان حاصل مفاده:«کلّ ما وجد فی الخارج و کان عالما یجب إکرامه»فلا یمکن فی مثل تلک القضایا إثبات الموضوع بالحکم.

و أمّا إذا کان المحمول بدلالة لغویة یدلّ علی وجود الحکم فی جمیع الأزمان استقلالا أو علی نحو الاستمرار فیکشف عن حاله،فلو قال المولی:«إنّ وجوب إکرام العلماء مستمر إلی الأبد»فقد یشکّ فی أصل تعلّق وجوب

ص:313


1- 1) فوائد الاصول 4:536-540.

الإکرام بالفسّاق-مثلا-أی یشکّ فی التخصیص،فلا یکون قوله:«مستمرّ» رافعا لهذا الشکّ،بل الرافع له قوله:«أکرم العلماء»و أمّا إذا شکّ فی وجوب إکرامه فی یوم کذا بعد العلم بأصل وجوب الإکرام،أی یشکّ فی استمرار الحکم فیکون قوله:«حکمی مستمرّ»کاشفا عن استمراره و تحقّقه فی الیوم المشکوک فیه.

و السّر فی ذلک:أنّ أصل الحکم بالنسبة إلی المحمول-أی قوله«مستمرّ»- اخذ مفروض الوجود کما فی القضایا الحقیقیّة،و أمّا بالنسبة إلی استمراره فلا یمکن أن یؤخذ کذلک،لأنّه یلزم أن ترجع قضیّة:«حکمی مستمرّ»إلی قضیّة ضروریّة بشرط المحمول،أی حکمی المفروض استمراره مستمر،و هو کما تری (1).

فلا بدّ من الرجوع إلی العموم فی موارد الشکّ،بلا فرق بین استفادة الاستمرار من طریق اللفظ أو من طریق مقدّمات الحکمة.

ثمّ قال استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه:نعم،قد یقال إنّ مقتضی ما ذکرت من أنّ العموم و الإطلاق الزمانیّین-سواء کانا مستفادین من مثل قوله:«أکرم العلماء فی کلّ زمان»أو«أوفوا بالعقود مستمرّا»،أو من مقدّمات الحکمة-متفرّعان علی العموم الأفرادی و أنّ محطّ التخصیص الأفرادی غیر محطّ التخصیص و التقیید الزمانیّین؛هو التفصیل بین ما إذا خرج فی أوّل الزمان و شکّ فی خروجه مطلقا أو فی زمان-کما إذا قال المولی فی لیلة الجمعة-مثلا-:«أکرم العلماء کلّ یوم»ثمّ قال فی أوّل النهار من یوم الجمعة:«لا تکرم زیدا یوم الجمعة»-و بین ما إذا خرج فی الأثناء مع العلم بدخوله قبل الخروج-کما إذا

ص:314


1- 1) الاستصحاب:196.

قال فی لیلة الخمیس:«أکرم العلماء کلّ یوم»و قال فی لیلة الجمعة:«لا تکرم زیدا یوم الجمعة»-فیتمسّک بالاستصحاب فی الأوّل و بعموم الدلیل أو إطلاقه فی الثانی؛لأنّ الأمر فی الأوّل دائر بین التخصیص الفردی و بین التخصیص الزمانی أو تقیید الإطلاق،فیکون من قبیل العلم الإجمالی بورود تخصیص إمّا فی العامّ الفوقانی،فلا یکون مخالفة للعامّ التحتانی و إمّا فی العامّ التحتانی فلا یکون مخالفة للعامّ الفوقانی،أو یکون من قبیل العلم الإجمالی بورود تخصیص فی العامّ مع بقاء الإطلاق علی ظاهره؛لأنّ الإخراج الموضوعی لیس مخالفة للإطلاق أو تقییدا فی الإطلاق مع حفظ ظاهر العموم؛ لأنّ تقیید إطلاق دلیل العامّ لیس تخصیصا حتی یخالف أصالة العموم،فبعد تعارض الأصلین یتمسّک بالاستصحاب.

و أمّا الخارج فی الأثناء مع العلم بدخوله تحت حکم العامّ قبل زمان القطع بخروجه کخیار التأخیر و خیار الغبن-بناء علی کون ظهور الغبن شرطا شرعیّا له-فیتمسّک بالعموم أو الإطلاق للقطع بعدم التخصیص الفردی،بل الأمر دائر بین قلّة التخصیص و کثرته أو قلّة التقیید و کثرته،فیؤخذ بالقدر المتیقّن و یتمسّک فی المشکوک فیه بأصالة العموم أو الإطلاق.

ثمّ قال:و هذا التفصیل تقریبا عکس التفصیل الذی اختاره المحقّق الخراسانی و شیخنا العلاّمة الحائری فی مجلس بحثه.

ثمّ أجاب عن التفصیل بقوله:و یمکن أن یقال:إنّ أصالة العموم جاریة فی العموم الأفرادی الفوقانی،و لا تعارضها أصالة العموم فی العامّ التحتانی الزمانی،و لا أصالة الإطلاق؛لأنّ التعارض فرع کون المتعارضین فی رتبة واحدة و العموم الأفرادی فی رتبة موضوع العموم و الإطلاق الزمانیّین،ففی

ص:315

الرتبة المتقدّمة تجری أصالة العموم من غیر معارض،فیرجع التخصیص أو التقیید إلی الرتبة المتأخّرة.

ثمّ قال:اللّهمّ إلاّ أن یقال:إنّ العقلاء فی إجراء الاصول لا ینظرون إلی أمثال هذه التقدّمات و التأخّرات الرتبیّة.

و أجاب عنه بقوله:و یمکن أن یقال:إنّه بعد ورود قوله:«أکرم العلماء فی کلّ یوم»الذی هو الحجّة علی مفاده إذا ورد دلیل علی عدم وجوب إکرام زید، و کان المتیقّن منه هو عدمه یوم الجمعة-مثلا-فرفع الید عن العموم أو الإطلاق فی غیر یوم الجمعة رفع الید عن الحجّة من غیر حجّة لدی العقلاء.

ثمّ قال فی ذیل کلامه:و التحقیق عدم جریان أصالة العموم و الإطلاق فی التحتانی؛لما حقّقناه فی العامّ و الخاصّ من أنّ مورد جریانهما فیما إذا شکّ فی المراد لا فیما علم المراد و دار الأمر بین التخصیص و التخصّص،مضافا إلی أن هذه الاصول إنّما جرت فی مورد یترتّب علیها أثر عملی لا مطلقا،فحینئذ نقول:إنّ جریانهما فی التحتانی غیر ذی أثر؛للعلم بخروج الیوم الأوّل-مثلا- فلا یعقل جریانهما لإدخال ما علم خروجه.

و لو اجری الأصل لإثبات لازمه و هو ورود التخصیص علی الفوقانی فمع بطلانه فی نفسه-لأنّ إثبات اللازم فرع إثبات الملزوم الممتنع فی المقام-یلزم من إثبات اللازم عدم الملزوم؛لأنّه موضوعه،و مع رفعه یرفع الحکم،فیلزم من وجوده عدم الوجود.و أیضا إنّا نعلم بعدم جریان،الأصل فی التحتانی؛إمّا لورود التخصیص به أو بالفوقانی الرافع لموضوعه،فتدبّر جیّدا (1).

و حاصل کلامه:أنّ إکرام زید فی یوم السبت مشکوک فیتمسّک بأصالة

ص:316


1- 1) الاستصحاب:197-200.

العموم الأفرادی و نستکشف بها المراد،و ثمرتها المترتّبة علیها فی مقام العمل وجوب إکرامه فیه،و لا یترتّب علی أصالة العموم أو الإطلاق الزمانیّین أثر، فلذا لا یجریان فی المقام و لا تعارض فی البین؛إذ التعارض فرع جریان المتعارضین فی نفسهما،فتبقی أصالة العموم الأفرادی بلا معارض،و علی أیّ تقدیر لا مجال للتمسّک بالاستصحاب،فلا بدّ من الرجوع إلی العامّ فی جمیع الموارد إمّا بالعامّ الزمانی و إمّا بالعامّ الأفرادی،و إمّا بالإطلاق الزمانی.

تکملة:

لا یخفی أنّ المراجعة إلی أصالة العموم و أصالة الإطلاق تکون لتبیین الحکم و المراد منه،لا لتبیین کیفیّة المراد،و الغرض من جریانهما إثبات حکم العامّ و المطلق فی مورد الشکّ فی التخصیص و التقیید،و أمّا إذا علمنا بخروج فرد من تحت العموم أو المطلق و لکن لا نعلم أنّ خروجه منه بنحو التخصیص أو التخصّص،فإن تمسّک بأصالة العموم و یستفاد خروجه بنحو التخصّص و أنّه لیس بعالم فهو لیس بجائز،و هکذا فی أصالة الإطلاق.

فإذا قال المولی فی لیلة الجمعة:«أکرم العلماء فی کلّ یوم»،ثمّ قال:«لا تکرم زیدا یوم الجمعة»و شککنا فی یوم السبت و ما بعده أنّه واجب الإکرام أم لا؟

إن قلت:إنّا نعلم إجمالا إمّا بورود التخصیص علی العموم الأفرادی و أنّه غیر واجب الإکرام دائما،و إمّا بوروده علی العموم و الإطلاق الزمانیّین،و أنّه بعد یوم الجمعة واجب الإکرام،و یتساقطان بعد التعارض،فیبقی استصحاب حکم المخصّص بلا معارض.

و جواب استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه:أنّ التعارض فرع جریان کلا الأصلین فی أنفسهما،فإن لم یجر أحدهما لا تصل النوبة إلی التعارض،و جریان أصالة

ص:317

العموم الأفرادی فی حدّ نفسها لا إشکال فیه،و جریان أصالة العموم الأزمانی فاقد للشرط،فإنّ أصالة العموم الأفرادی فی یوم السبت مبیّن للحکم،و المراد أنّه واجب الإکرام مثل سائر أفراد العلماء،بخلاف أصالة العموم الزمانی،فإنّ المستفاد من جریانها أنّ خروج زید فی یوم الجمعة یکون بعنوان التخصیص الفردی،و أنّ بقاء أصالة العموم الأزمانی بالنسبة إلی بقیة أفراد العامّ لا ریب فیه،فجریانها یکون لبیان کیفیّة خروج زید و لا تجری فی مثل هذا المورد عند العقلاء،و من عدم جریانها فی نفسها یستفاد أنّه لا مجال للعلم الإجمالی، و هکذا فی أصالة الإطلاق،فالمرجع هاهنا عبارة عن أصالة العموم الأفرادی.

و الإنصاف أنّ هذا التحقیق قابل للقبول و بیان جیّد فی مقابل سائر التفصیلات.

ص:318

التنبیه الرابع عشر: فی أنّ المراد من الشکّ فی أدلّة الاستصحاب و کلمات الأصحاب هو

اشارة

فی أنّ المراد من الشکّ فی أدلّة الاستصحاب و کلمات الأصحاب هو

خصوص تساوی الطرفین أو عدم الیقین الشامل للظن غیر المعتبر؟

و الظاهر أنّ المراد منه خلاف الیقین الشامل للظنّ فإنّه هو المتعارف فی لغة العرب،و جعل الظنّ مقابلا للشکّ و الیقین اصطلاح مستحدث،فالشکّ فی مفهومه العرفی شامل للظنّ،مضافا إلی وجود القرینة علی جریان الاستصحاب مع الظنّ بارتفاع الحالة السابقة فی أدلّة الاستصحاب،و هی امور:

الأوّل:قوله علیه السّلام«و لکن تنقضه بیقین آخر»حیث أنّ ظاهره أنّه فی مقام بیان تحدید ما ینقض به الیقین،و أنّه لیس إلاّ الیقین.

الثانی:قوله علیه السّلام:«لا،حتی یستیقن أنّه قد نام»بعد السؤال عمّا إذا حرّک فی جنبه شیء و هو لا یعلم،حیث دلّ بإطلاقه-مع ترک الاستفصال بین ما إذا أفادت هذه الأمارة الظنّ و ما إذا لم تفد؛بداهة أنّها لو لم تکن مفیدة له دائما لکانت مفیدة له أحیانا-علی عموم النفی لصورة الإفادة.

الثالث:نفس مقابلة الیقین للشکّ فی الأدلّة،مثل:قوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ»-بعد ما ذکرنا أنّ الیقین بما فیه من الاستحکام و الإبرام لا ینقض بما

ص:319

لا یکون کذلک-تدلّ علی کون المقصود من الشکّ فیها هو ضدّ الیقین،أعمّ من الظنّ و الوهم و الشکّ المتساوی الطرفین،مضافا إلی أنّه لا یمکن تحصیل الیقین بالوضوء الصحیح الواقعی بالماء الطاهر الواقعی،فإنّ احتمال عدم إباحة الماء و تحقّق أجزاء النجاسة فیه،و احتمال عدم وصول الماء إلی البشرة،و أمثال ذلک لیس بمنتف،و مع ذلک قال الإمام علیه السّلام فی روایة زرارة فی استصحاب الوضوء:

«لا تنقض الیقین بالشکّ»و هکذا فی روایته الاخری فی استصحاب طهارة الثوب.

و یستفاد من ذلک-کما ذکرنا سابقا-أنّ المراد بالیقین فیها هو الحجّة، فمقابله اللاحجّة،فکأنّه قال:«لا ینبغی رفع الید عن الحجّة بغیر الحجّة»،فلذا قلنا بجریان الاستصحاب فی مؤدّی الأمارات الشرعیّة و العقلائیّة،کما إذا قامت البیّنة علی ملکیّة زید لدار کذا،ثمّ شککنا فی بقاء ملکیّته له،فیجری استصحاب بقاء الملکیّة،و هکذا فی مؤدّی الخبر الواحد و قاعدة الید و نحو ذلک من الأمارات و الحجج،فلا یصحّ انحصار الاستصحاب بما قلّما یتّفق إن لم نقل بعدم اتّفاقه أصلا.

و ذکرنا أیضا أنّ کلمة«نقض»فی قوله:«لا تنقض الیقین»ناظرة إلی نفس الیقین و ما یقوم مقامه بلحاظ تحقّق الاستحکام و الإبرام فیه،فلا یکون قابلا للنقض بما لیس کذلک و لا یرتبط بالمتیقّن،فلذا لا فرق فی المتیقّن بین کونه مستعدّا للبقاء أم لا؟

و بعبارة اخری:لا فرق فی جریان الاستصحاب بین الشکّ فی المقتضی و الشکّ فی الرافع.

و أمّا بناء علی ما أفاده الشیخ الأنصاری رحمه اللّه-من کون الیقین بمعنی المتیقّن

ص:320

و ملاحظة النقض بالنسبة إلی المتیقّن،و کون قوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ» بمعنی لا تنقض الطهارة المتیقّنة بالشکّ،و عدم إمکان استعمال کلمة«النقض»فی المتیقّن الذی لا یکون صالحا للبقاء و جعله شاهدا لانحصار الاستصحاب فی الشکّ فی الرافع فقط-فلا مجال للاستدلال فی ما نحن فیه بمقابلة الشکّ للیقین و أن المراد من الشکّ فی الأدلّة هو غیر الیقین.

و لذا تمسّک الشیخ رحمه اللّه بأدلّة اخری،و ذکر صاحب الکفایة رحمه اللّه دلیلین منها، و هما الأوّل:الإجماع القطعی علی اعتبار الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف علی تقدیر اعتباره من باب الأخبار (1).

و یرد علیه:أوّلا:أنّ الإجماع المنقول لیس بحجّة،و المحصّل منه بعد العلم بمستند المجمعین لا مجال له.

و ثانیا:أنّ الإجماع علی قضیّة تعلیقیّة کیف یتصوّر أن یکون کاشفا عن رأی المعصوم؟!فلا یکون الاستدلال بالإجماع قابلا للبیان.

الثانی:أنّ الظنّ الغیر المعتبر-بارتفاع الحالة السابقة-إن علم بعدم اعتباره بالدلیل کالظنّ المتولّد من القیاس فمعناه أنّ وجوده کعدمه عند الشارع،و أنّ کلّ ما یترتّب شرعا علی تقدیر عدمه فهو المترتّب علی تقدیر وجوده،و إن کان ممّا شکّ فی اعتباره فمرجع رفع الید عن الیقین بالحکم الفعلی السابق بسببه إلی نقض الیقین بالشکّ،فتأمّل جیّدا (2).

و یرد علیه:أوّلا:سلّمنا أنّ الدلیل القطعی قائم علی أنّ الظنّ القیاسی لیس بحجّة،و معناه عدم إثبات مظنونه به شرعا و تعبّدا،و لیس معناه أنّه لیس بظنّ

ص:321


1- 1) کفایة الاصول 2:344-345،فرائد الاصول 2:806.
2- 2) المصدر السابق.

و وجوده کالعدم،فالمنفی بالدلیل هی حجّیّة الظنّ القیاسی لا واقعیّته.

و ثانیا:أنّ نقض الیقین بالظنّ المشکوک الحجّیّة لیس نقض الیقین بالشکّ بل هو نقض الیقین بالظنّ،فإنّ الشکّ المبحوث عنه فی کونه ناقضا للیقین أم لا هو الشکّ المتعلّق بالمتیقّن کالیقین،و الشکّ المتعلّق بالطهارة-مثلا-فلا یرتبط الشکّ فی شیء آخر بالیقین بالطهارة.

کأنّه وقع الخلط فی المسألة؛إذ یتحقّق هنا ثلاثة امور:الیقین بالطهارة السابقة،و الظنّ بارتفاعها،و الشکّ فی حجّیّة هذه المظنّة،و معلوم أنّ متعلّق الشکّ عبارة عن الحجّیّة لا الطهارة،بل لا یرتبط بها،فهذا الوجه أیضا لیس بصحیح،و لکن لا نحتاج إلی هذه الوجوه،فإنّ نفس مقابلة الیقین للشکّ فی الأدلّة تهدینا إلی أنّ الشکّ فیها أعمّ من الظنّ بارتفاع الحالة السابقة و الظنّ علی وفقها و تساوی طرفی الشکّ.

خاتمة: یعتبر فی الاستصحاب بقاء الموضوع و...

یعتبر فی الاستصحاب بقاء الموضوع و عدم أمارة معتبرة هناک و لو علی وفاقه،فههنا مقامان:

المقام الأوّل:أنّه لا إشکال فی اعتبار بقاء الموضوع فی جریان الاستصحاب،و لکنّ البحث أوّلا أنّ المراد من بقاء الموضوع ما هو؟و ثانیا:أنّ الدلیل علی اعتباره ما هو؟و یستفاد من التّتبع فی الکلمات تحقّق ثلاثة أقوال فی بقاء الموضوع:

الأوّل:أن یکون المراد منه البقاء بحسب الخارج و الوجود الخارجی، و لازم ذلک أنّه إذا علمنا بقیام زید فی السابق ثمّ شککنا فی بقائه له معناه:أنّ زیدا الموجود هل یکون قائما أم لا؟فنجری استصحاب البقاء،و أمّا إذا علمنا

ص:322

بوجود زید فی السابق ثمّ شککنا فی بقائه فلا یجری استصحاب بقاء الوجود؛ لعدم إحراز الموضوع خارجا،و إن کان بقاؤه محرزا فلا یبقی شکّ فی البین،ففی صورة الشکّ فی الوجود لا یجری الاستصحاب.

الثانی:أنّ الشیخ الأنصاری رحمه اللّه بعد ملاحظة ورود هذا الإشکال علی القول الأوّل اختار قولا آخر،و هو أنّ المراد ببقاء الموضوع فی الزمان اللاحق هو معروض المستصحب،فإذا ارید استصحاب قیام زید أو وجوده فلا بدّ من تحقّق زید فی الزمان اللاحق علی النحو الذی کان معروضا فی السابق،سواء کان تحقّقه فی السابق بتقرّره ذهنا أو بوجوده خارجا،فزید معروض للقیام فی السابق بوصف وجوده الخارجی،و للوجود بوصف تقرّره ذهنا لا وجوده الخارجی (1).

و یرد علیه:أوّلا:أنّ الوجود الذهنی و الوجود الخارجی متضادّان غیر قابلین للاجتماع،فلا یعقل أن یکون الموجود الذهنی مع وصف وجوده فی الذهن متحقّقا فی الخارج،و هکذا فی الموجود الخارجی،فلا یعقل أنّ تکون قضیّة«زید موجود»بمعنی«زید المتقرّر فی الذهن موجود فی الخارج»فإنّه ممتنع و بدیهی البطلان،بل الموضوع فیها هو ذات زید مع قطع النظر عن إضافته إلی الوجودین الذهنی و الخارجی،نظیر قضیّة«الماهیّة موجودة»؛فإنّ الموضوع فیها نفس الماهیّة و ذاتها مع قطع النظر عن الوجود الذهنی و الخارجی،فلیسأل عن الشیخ رحمه اللّه أنّه بعد اعتبار إحراز بقاء الموضوع فی الاستصحاب ما معنی إحراز بقائه فی قضیّة«زید موجود؟»هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّ المستفاد من کلام الشیخ رحمه اللّه أنّ المستصحب فی قضیّة«زید قائم»

ص:323


1- 1) فرائد الاصول 2:808-809.

هو قائم و فی قضیّة«زید موجود»هو موجود،و الموضوع و المعروض فی الاولی عبارة عن زید الموجود فی الخارج،و فی الثانیة عبارة عن زید الموجود فی الذهن،و الإشکال علیه یحتاج إلی مقدّمة و بیانها یهدینا إلی القول الثالث و ما هو التحقیق فی المسألة،و المقدّمة و هی:أنّ الدلیل فی باب الاستصحاب منحصر فی قوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ»،و معلوم أنّ متعلّق الیقین و الشکّ عبارة عن القضایا و المعانی التصدیقیّة،و لا یمکن تعلّقهما بالمفاهیم التّصوریّة، فإنّها قابلة للوجود و العدم،فتکون متعلّقات الأوصاف النفسانیّة من الیقین و الشکّ و الظنّ و الوهم عبارة عن المعانی التصدیقیّة و القضایا.

إذا عرفت ذلک فنقول:إنّ الاستصحاب یجری فی المتیقّن،و المتیقّن قضیّة، فالاستصحاب فی جمیع الموارد یجری فی القضیّة و المسند و المسند إلیه، فالمستصحب قضیّة مشتملة علی الموضوع و المحمول،و معنی استصحاب الوضوء:«أنی کنت متطهّرا و الشکّ فی هذا الحال هل أکون متطهّرا أم لا؟».

و یستفاد من استعمال کلمة الیقین و الشکّ فی دلیل الاستصحاب تحقّق القضیّة المتیقّنة و المشکوکة،کأنّه قال:لا تنقض القضیّة المتیقّنة بالمشکوکة.

و یستفاد من استعمال کلمة النقض فیه تحقّق الاتّحاد بین القضیّتین بتمام المعنی إلاّ من حیث الزمان-أی السبق و اللحوق-فلا بدّ من اتّحادهما موضوعا و محمولا.

و علی هذا المعنی لا فرق بین قضیّة«زید قائم»و قضیّة«زید موجود»؛إذ المستصحب فیهما نفس القضیّة،و تحقّق الاتّحاد بین القضیّتین من حیث الموضوع و المحمول ممّا لا ریب فیه،و لا نحتاج إلی القول بلزوم بقاء الموضوع و لا إلی ما ذکره الشیخ رحمه اللّه من التوجیه فی قضیّة:«زید موجود»،فالمعتبر فی

ص:324

جریان الاستصحاب هو اتّحاد القضیّة المشکوکة مع المتیقّنة موضوعا و محمولا،فلا إشکال فی البین،و هذا المعنی یستفاد من نفس أدلّة الاستصحاب.

ثمّ إنّ الشیخ رحمه اللّه-بعد القول بأنّ المراد ببقاء الموضوع هو معروض المستصحب-استدل بالدلیل العقلی علی اعتبار هذا الشرط فی جریان الاستصحاب،و حاصل کلامه:

أنّه إذا قلنا بعدم اعتبار بقاء الموضوع و المعروض،مع أنّ معنی الاستصحاب إبقاء العرض و المستصحب فی الزمان اللاحق،فیتصوّر تحقّق العرض بدون المعروض علی ثلاثة وجوه:الأوّل:أن یتحقّق العرض فی الخارج بلا موضوع و معروض و هو ممتنع.

الثانی:أن یتحقّق العرض مع خصوصیّته فی معروض آخر،و هو أیضا ممتنع؛لاستحالة انتقال العرض العارض علی معروض إلی معروض آخر،فإنّ تشخّص العرض وجودا بالمعروض،فکیف یمکن عروضه مع تشخّصه علی معروض آخر؟

الثالث:أن یحدث مثل هذا العرض فی موضوع جدید فیخرج عن الاستصحاب،فالمعتبر هو العلم ببقاء الموضوع حتّی یصدق عنوان«إبقاء ما کان» (1).

و یرد علیه:أوّلا:أنّ الاستدلال بالدلیل العقلی فی الاستصحاب المتّخذ من الأدلة الشرعیّة لیس بصحیح.

و ثانیا:أنّ انفکاک المستصحب عن الموضوع و انحصاره فی المحمول بعد

ص:325


1- 1) فرائد الاصول 2:809.

إثبات جریان الاستصحاب فی القضیّة لیس بتامّ.

و ثالثا:أنّ استحالة وجود العرض بلا موضوع إنّما هو فی الوجود التکوینی لا الوجود التشریعی التعبّدی،فإنّ الوجود التعبّدی لیس إلاّ التعبّد بالوجود بترتیب آثاره بأمر الشارع،فلا استحالة فی التعبّد بانتقال عرض من موضوع إلی موضوع آخر،فإذا أمر المولی بأنّه إن کنت علی یقین من عدالة زید فتعبّد بعدالة أبیه بترتیب آثارها،فلا استحالة فیه أصلا،فما یثبت بأدلّة الاستصحاب هو ترتیب الآثار الشرعیّة لبقاء العرض لا إبقاء العرض بدون المعروض.

المعتبر إحراز موضوع القضیّة المستصحبة وجدانا

ثمّ إنّه بعد ما علم لزوم اتّحاد القضیّة المتیقّنة و المشکوکة فیها موضوعا و محمولا فلا بدّ من إحرازه وجدانا و إلاّ لا یجری الاستصحاب،و الإحراز الوجدانی کما فی جریان الاستصحاب فی مفاد«کان التامّة»مثل قضیّة:«زید موجود»فإنّا نقول بعد الشکّ:«زید موجود کان متیقّنا،و الآن یکون مشکوکا»و نحرز من طریق الوجدان عدم المغایرة و الاختلاف بین القضیّتین.

و هکذا فی قضیّة«زید عادل»إذا علمنا ببقاء حیاة زید و شککنا فی بقاء عدالته،فیجری استصحاب العدالة،و نقول:«کان زید عادلا متیقّنا،و الآن یکون مشکوک العدالة»،و لا یتحقّق بین القضیّتین التغایر و الاختلاف،فلا إشکال فی جریان الاستصحاب.

إنّما الإشکال فی قضیّة:«زید عادل»إذا کانت حیاة زید أیضا مشکوکة، و الإشکال الأقوی فیما إذا اخذت الحیاة بعنوان القید فی القضیّة فی لسان الشرع،کما إذا قال:«إذا کان زید الحی عادلا یجوز الاقتداء به»،فیکون

ص:326

المشکوک عندنا هو المحمول و قید الموضوع معا کأنّ المشکوک هاهنا قضیّتین -أی قضیّة«زید حیّ»،و قضیّة«زید الحی عادل»-فکیف یجری الاستصحاب؟

یمکن أن یقال:یجری الاستصحاب فی الابتداء بالنسبة إلی قید الموضوع حتّی یتحقّق بمعونته مقدّمة جریان الاستصحاب فی ناحیة المحمول، فیستصحب بقاء حیاة زید،و بعد إحراز الحیاة بالاستصحاب له تصل النوبة إلی قضیّة«زید الحی عادل»،و جریان استصحاب بقاء العدالة،و هذا طریق آخر لإحراز اتّحاد القضیّتین.

قلت:إنّ جریان استصحاب بقاء حیاة زید لترتّب آثارها الشرعیّة-مثل عدم جواز تقسیم أمواله بین ورثته و عدم جواز تزویج زوجته-ممّا لا إشکال فیه،و أمّا جریانه بداعی جعله مقدّمة لاستحکام استصحاب العدالة و جریانه فلیس بصحیح؛إذ یرد علیه:

أوّلا:أنّ زیدا المقیّد بالحی أو زیدا الحیّ الذی جعل موضوعا لقضیّة ثانیة لا یکون أثرا شرعیا لاستصحاب الحیاة.

و ثانیا:أنّ مرجع قوله:«إذا کان زید الحی عادلا یجوز لاقتداء به»إلی أنّ «زید الذی أحرزت حیاته بالوجدان إذا کان عادلا یجوز الاقتداء به»،فلو فرض کون زید الحی أثرا شرعیّا مترتّبا علی استصحاب الحیاة لا یمکن جعله موضوعا للقضیّة الثانیّة،فإنّ الاستصحاب لا یحرز الموضوع وجدانا،فلا مجال لجریان استصحاب العدالة.

و لکن المحقّق النائینی رحمه اللّه قائل بجریان استصحاب الحیاة هاهنا،و صریح کلامه:«أنّ بعد ما کان الموضوع لجواز التقلید مرکّبا من الحیاة و العدالة،و هما

ص:327

عرضان لمحلّ واحد،فلا بدّ من إحراز کلا جزئی المرکّب،إمّا بالوجدان و إمّا بالأصل،فإذا کانت الحیاة محرزة بالوجدان فالاستصحاب إنّما یجری فی العدالة و یلتئم الموضوع المرکّب من ضمّ الوجدان بالأصل،و إن کانت الحیاة مشکوکة فالاستصحاب یجری فی کلّ من الحیاة و العدالة،و یلتئم الموضوع المرکّب من ضمّ أحد الأصلین بالآخر؛لأنّ کلاّ منهما جزء الموضوع،فلکلّ منهما دخل فی الحکم الشرعی (1).

و یرد علیه:أنّ هذا خروج عن محلّ البحث؛إذا الکلام لیس فی الأوصاف المتعدّدة العارضة لموضوع واحد،کما لو قال المولی:«إذا کان زید حیّا عادلا یجوز تقلیده»بمعنی أنّ زیدا إذا کان واجدا لوصف الحیاة و العدالة،یجوز تقلیده،ففی صورة الشکّ فی بقاء الحیاة و العدالة یجوز استصحابهما بلا إشکال؛ إذ الموضوع-أی ماهیّة زید ذاته-لیس بمشکوک لنا بقاء حتّی نجری الاستصحاب فیه،و بیانه فی هذا المورد لا ریب فی تمامیّته.

إنّما الکلام فیما کان الموضوع مشکوکا لنا،کما لو قال المولی:«إذا کان زید الحیّ عادلا یجوز تقلیده»-بحیث یکون«الحی»قیدا للموضوع-و شککنا فی بقاء الموضوع و العدالة،و المفروض أنّ بقاء الموضوع غیر محرز لنا،هل یمکن إحراز الحیاة بعنوان قید الموضوع بالاستصحاب أم لا؟قلنا بعدم إمکان إحرازه به؛لعدم ترتّب الأثر الشرعی علیه أوّلا،و ظاهر قول المولی کون الحیاة مفروضة الوجود و محرزة بالوجدان ثانیا.

فالحاصل:أنّ المعتبر فی الاستصحاب اتّحاد القضیّة المشکوکة و المتیقّنة، و إحراز الاتّحاد بالوجدان لا بالاستصحاب.

ص:328


1- 1) فوائد الاصول 4:569-570.
هل الحاکم بالاتّحاد هو العرف أو لسان الدلیل؟

ثمّ بعد ما علم لزوم اتّحاد القضیّة المتیقّنة و المشکوکة فهل المناط فی وحدتهما أن یکون موضوعهما واحدا بحکم العقل و تشخیصه أو بحکم العرف و تشخیصه،أو أنّ الموضوع فی القضیّة المشکوکة لا بدّ و أن یکون هو الذی اخذ فی الدلیل الدّال،علی الحکم فی القضیّة المتیقّنة؟

و الفرق بین الأخذ من العقل و غیره واضح؛لأنّ العقل قلّما یتّفق أو لا یتّفق أن لا یشکّ فی بقاء الموضوع فی استصحاب الأحکام حتّی فی باب النسخ؛لأنّ الشکّ فی الحکم لا یکون إلاّ من جهة الشکّ فی تغییر خصوصیّة من خصوصیّات الموضوع.

و جمیع الجهات التعلیلیّة ترجع إلی الجهات التقییدیّة لدی العقل و تکون دخیلة فی موضوعیّة الموضوع،فإذا ورد حکم علی موضوع لا یکون تعلّقه به جزافا بحکم العقل،فلا بدّ من خصوصیّة فی الموضوع لأجلها یکون متعلّقا للحکم،و مع بقاء تلک الخصوصیّة الموجبة أو الدخیلة فی المتعلّق مع سائر الخصوصیّات لا یمکن رفع الحکم عن الموضوع،فإذا علم تعلّق حکم علی موضوع و شکّ فی نسخه فلا یمکن أن یشکّ فیه مع العلم ببقاء جمیع خصوصیّات الموضوع الدخیلة فی تعلّق الحکم علیه من القیود الزمانیّة و المکانیّة و غیرها؛لأنّ ذلک یرجع إلی الجزاف المستحیل،و کثیرا ما یقع الإشکال فی الاستصحابات الموضوعیّة أیضا کاستصحاب الکرّیّة.

و أمّا الفرق بین الأخذ من العرف أو موضوع الدلیل فهو أنّ الحکم فی الدلیل قد یثبت العنوان أو الموضوع المتقیّد بقید بحیث یکون الدلیل قاصرا عن إثبات الحکم لغیر العنوان أو غیر مورد القید،فإذا ارتفع العنوان أو القید

ص:329

یرتفع موضوع الدلیل،کما إذا قال:«الماء المتغیّر نجس»و علمنا بوجود الماء المتغیّر بلحاظ الملاقاة مع النجس فی الخارج،ثمّ زال تغیّره من قبل نفسه بعد مضی الأیّام،و شککنا فی بقاء نجاسته،فلا إشکال فی قصور الدلیل الواقعی عن شمول غیر العنوان المأخوذ فی موضوعه لتغیّر موضوعه،فلا یمکن التمسّک بالدلیل المذکور لإثبات حکم النجاسة له.

و لو بنینا علی أخذ موضوع القضیّة المتیقّنة و المشکوکة من الدلیل لا یجری الاستصحاب أیضا لتغیّر الموضوع و عدم اتّحاد القضیّة المتیقّنة و المشکوکة.

و أمّا لو کان الاتّحاد بنظر العرف فجریانه ممّا لا مانع منه؛لأنّ هذا الماء کان معلوم النجاسة،و زوال تغیّره من قبل نفسه لیس مغیّرا له إلاّ فی حاله و عرضه،فیصیر محکوما بالنجاسة بالاستصحاب؛لعدم الاختلاف بین القضیّة المشکوکة و المتیقّنة عرفا.

و المستفاد من کلام صاحب الکفایة رحمه اللّه أنّ موضوع الدلیل قد یکون بحسب المتفاهم العرفی عنوانا،و لکنّ أهل العرف یتخیّلون بحسب ارتکازهم و مناسبات الحکم و الموضوع أنّ الموضوع أعمّ من ذلک،لکن لا بحیث یصیر ذلک الارتکاز و تلک المناسبة موجبین لصرف الدلیل عمّا هو ظاهره المفهوم عرفا،کما إذا دلّ الدلیل علی أنّ العنب إذا غلی یحرم،و فهم العرف منه أنّ الموضوع هو العنب بحسب الدلیل،لکن یتخیّل بحسب ارتکازه تخیّلا غیر صارف للدلیل أنّ الموضوع أعمّ من الزبیب و أنّ العنبیّة و الزبیبیّة من حالاته المتبادلة،بحیث لو لم یکن الزبیب محکوما بما حکم به العنب یکون عنده من ارتفاع الحکم عن موضوعه.

فالفرق بین أخذ الموضوع من العرف و بین أخذه من الدلیل بحسب ما ذکر

ص:330

أنّ موضوع الدلیل هو العنوان حقیقة،لکن العرف تخیّل موضوعا آخر غیر موضوع الدلیل بل أعمّ منه،و یکون الموضوع الحقیقی غیر باق و الموضوع التخیّلی باق،فیستصحب-مثلا-ما ثبت بالدلیل للعنب إذا صار زبیبا؛لبقاء الموضوع و اتّحاد القضیّتین عرفا (1).

و یرد علیه:أنّ بعد عدم شمول الدلیل للزبیب عرفا إن کان التخیّل العرفی و الارتکاز بحدّ صار بمنزلة القرینة الصارفة لظهور الدلیل فیشمله نفس الدلیل و لا مجال للاستصحاب،و إن لم یکن بهذا الحدّ فلا یکون مؤثّرا فی بقاء الموضوع فی باب الاستصحاب.

و لکنّ المحقّق النائینی رحمه اللّه التزم بأنّ موضوع الدلیل عین الموضوع العرفی، و أنّه لا وجه للمقابلة بینهما،فإنّ مفاد الدلیل یرجع بالأخرة إلی ما یقتضیه نظر العرف؛لأنّ المرتکز العرفی یکون قرینة صارفة عمّا یکون الدلیل ظاهرا فیه ابتداء،فلو کان الدلیل ظاهرا بدوا فی قیدیّة العنوان و کانت مناسبة الحکم و الموضوع تقتضی عدمه،فاللازم هو العمل علی ما تقتضیه مناسبة الحکم و الموضوع،لأنّها بمنزلة القرینة المتّصلة فلم یستقرّ للدلیل ظهور علی الخلاف، فالمقابلة بین العرف و الدلیل إنّما هی باعتبار ما یکون الدلیل ظاهرا فیه ابتداء، مع قطع النظر عن المرتکز العرفی،و إلاّ فبالأخرة یتّحد ما یقتضیه مفاد الدلیل مع ما یقتضیه المرتکز العرفیّ (2).انتهی.

و التحقیق:أنّ بین أخذ الموضوع من العرف و أخذه من لسان الدلیل یتحقّق کمال الفرق و لکن لا بالطریق المذکور فی کلام صاحب الکفایة رحمه اللّه بل بطریق

ص:331


1- 1) کفایة الاصول 2:347-349.
2- 2) فوائد الاصول 4:585-586.

آخر،و هو أنّه لا شکّ فی مغایرة العنب و الزبیب من حیث المفهوم عند العرف، و أنّ قوله:«العنب إذا غلی یحرم»لا یشمل الزبیب قطعا و لا یکون متعرّضا لحکمه،لا نفیا و لا إثباتا،و الحکم الثابت لمفهوم لا یسری منه إلی مفهوم آخر، و لکن بعد تحقّق مصداق العنب فی الخارج و شموله الدلیل المذکور نشکّ فی أنّ بعد مضی الأیّام علیه و تبدّل حالة رطوبته بالیبوسة،و صدق عنوان الزبیب علیه،فنقول:هذا الموجود کان إذا غلی یحرم،هل یکون فی هذه الحالة العارضة أیضا کذلک أم لا؟و العرف یحکم ببقاء الموضوع و اتّحاد القضیّة المتیقّنة و المشکوکة إن قلنا بأخذ الموضوع من العرف،بخلاف ما إذا قلنا بأخذه من لسان الدلیل.

کما فی قوله:«الماء المتغیّر نجس»؛إذ الحکم لا یتعدّی من العنوان المأخوذ فی لسان الدلیل قطعا عند العرف،و هو«الماء المتغیّر»،و لکن إذ زال تغیّره من قبل نفسه فلا یشمله الدلیل عرفا،إلاّ أنّ العرف بعد الشکّ فی بقاء نجاسة هذا الماء یحکم بتحقّق الاتّحاد بین القضیّتین،و یجری استصحاب النجاسة،فالمتّبع فی اتّحاد القضیّتین و عدمه هو نظر العرف دون العقل و لسان الدلیل،و لا یخفی أنّ العرف قد یحکم بتوسعة الموضوع کما فی الأمثلة المذکورة،و قد یحکم بتضییقه کما فی مسألة الوجوب و الاستحباب؛إذ العقل یقول بأنّ الاستحباب مرتبة ضعیفة من مراتب البعث و الطلب،و الوجوب مرتبة شدیدة منها، و العرف یقول بتباینهما کمال المباینة،فلا یتحقّق الاتّحاد بینهما.

المقام الثانی:أنّه لا إشکال و لا خلاف فی عدم جریان الاستصحاب مع قیام الأمارة علی طبق الحالة السابقة أو علی خلافها،بل یجب العمل بها،و إنّما الکلام فی وجه تقدیم الأمارة علی الاستصحاب،و أنّه من باب التخصیص

ص:332

أو الورود أو الحکومة؟و قال صاحب الکفایة رحمه اللّه:«و إنّما الکلام فی أنّه للورود أو الحکومة أو التوفیق بین دلیل اعتبارها و خطابه؟»

و التحقیق:أنّه للورود،فإن رفع الید عن الیقین السابق بسبب أمارة معتبرة علی خلافه لیس من نقض الیقین بالشکّ بل بالیقین،و عدم رفع الید عنه مع الأمارة علی وفقه لیس لأجل أن لا یلزم نقضه به بل من جهة العمل بالحجّة.

لا یقال:نعم،هذا لو اخذ بدلیل الأمارة فی مورد و لکنّه لم لا یؤخذ بدلیله و یلزم الأخذ بدلیلها؟

فإنّه یقال:ذلک إنّما هو لأجل أنّه لا محذور فی الأخذ بدلیلها،بخلاف الأخذ بدلیله فإنّه یستلزم تخصیص دلیلها بلا مخصّص إلاّ علی وجه دائر؛إذ التخصیص به یتوقّف علی اعتباره معها،و اعتباره کذلک یتوقّف علی التخصیص به؛إذ لو لاه لا مورد له معها کما عرفت آنفا.

و أمّا حدیث الحکومة فلا أصل له أصلا؛فإنّه لا نظر لدلیلها إلی مدلول دلیله إثباتا و بما هو مدلول الدلیل و إن کان دالاّ علی إلغائه معها ثبوتا و واقعا؛ لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو کان علی خلافها،کما أنّ قضیّة دلیله إلغاؤها کذلک،فإنّ کلاّ من الدلیلین بصدد بیان ما هو الوظیفة للجاهل،فیطرد کلّ منهما الآخر مع المخالفة.

هذا،مع لزوم اعتباره معها فی صورة الموافقة،و لا أظنّ أن یلتزم به القائل بالحکومة،فافهم فإنّ المقام لا یخلو من دقّة.

و أمّا التوفیق فان کان بما ذکرنا فنعم التوفیق،و إن کان بتخصیص دلیله بدلیلها فلا وجه له؛لما عرفت من أنّه لا یکون مع الأخذ به نقض یقین بشکّ،

ص:333

لا أنّه غیر منهی عنه مع کونه من نقض الیقین بالشکّ (1).

و لا بدّ لنا قبل الورود فی البحث من بیان مقدّمة یتّضح فی ضمنها ما هو التحقیق فی المقام،و هی:

أنّه إذا لاحظنا الدلیلین الصادرین عن المولی،فقد لا یتحقّق الارتباط بینهما من حیث الموضوع و المحمول،و لا یتحقّق التعارض بینهما،و لا یتحقّق التقدّم و التأخّر بینهما،مثل:قوله:«یجب إکرام العلماء»و قوله:«یحرم إکرام الجهّال».

و قد یتحقّق بینهما التعارض بدون أن یکون أحدهما متقدّما علی الآخر، کلّ یتعرّض لما ینفیه الآخر،مثل:قوله:«یجب إکرام العلماء»و قوله:«یحرم إکرام العلماء».

و قد یتحقّق الترجیح و التقدّم لأحد الدلیلین علی الآخر بعد التعارض،و إنّما الکلام فی مناط الرجحان و ملاک الترجیح و التقدّم،و المعروف و المتعارف منه عبارة عن الأقوائیّة فی الظهور من تقدّم النصّ علی الأظهر،و الأظهر علی الظاهر،مثل:قوله:«رأیت أسدا»و قوله فی کلام منفصل:«رأیت أسدا یرمی»؛إذ یتحقّق لکلّ من الکلامین ظهور إلاّ أنّ أحدهما یکون متقدّما علی الآخر؛لرجحان ظهوره علیه،و لعلّه کان تقدیم الدلیل المخصّص علی الدلیل العامّ بهذا الملاک کما سیأتی تفصیله فی باب التعادل و التراجیح.

و قد یکون ملاک التقدیم و الترجیح تعرّض أحد الدلیلین لما لم یتعرّضه الآخر،مثل:قوله:«أکرم العلماء»و قوله:«الفسّاق لیسوا من العلماء»،بمعنی أنّ الحکم الثابت للعلماء لا یشمل الفسّاق منهم،کما هو المتداول فی المحاورات العرفیّة،مع أنّ الدلیل الأوّل لا یکون متعرّضا لبیان المصداق،و لا شکّ فی

ص:334


1- 1) کفایة الاصول 2:350-351.

تقدیم الدلیل الثانی علی الأوّل بمناط یعبّر عنه اصطلاحا بالحکومة،فإنّ الدلیل الحاکم متعرّض لما یکون الدلیل المحکوم فاقدا لتعرّضه لفظا و دلالة.

و هکذا فی مثل قوله:«أکرم العلماء»و قوله:«التحیّة إکرام»أو قوله:

«النحوی لیس بعالم»فلا یتحقّق التعارض و التنافی بین الدلیلین؛إذ التعارض فرع التعرّض،و لا منافاة بین التعرّض و عدم التعرّض،بخلاف العامّ و الخاصّ، مثل:قوله:«أکرم العلماء»و قوله:«لا تکرم الفسّاق»؛إذ یتحقّق التعارض بینهما فی مادّة الاجتماع،و تکون دائرة الحکومة وسیعة قد تستفاد منها فائدة التخصیص،و قد تستفاد منها فائدة التقیید.

مثلا:إذا لاحظنا آیة الوضوء مع آیة الحرج،کقوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ (1)، و قوله تعالی: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ (2)،و معناه:عدم تعلّق الجعل و التشریع بالفعل الحرجی و خروجه عن دائرة الجعل،و معلوم أنّ آیة الوضوء لا تکون متعرّضة لتعلّق الجعل و عدمه بأیّ شیء،و مفاده:أنّ الوضوء واجب للصلاة و إن کان لازمه المجعولیّة،فدلیل الحرج متعرّض لما لم یتعرّضه دلیل الوضوء،و هذه هی نتیجة التقیید بلسان الحکومة.و إن قال فی مقابل آیة الوضوء:«الوضوء الحرجی لیس بواجب»یکون هذا تقیید لإطلاق الآیة، فإنّ أحد الدلیلین یکون مقیّدا للآخر بمدلوله اللفظی.

فیکون ملاک تقدّم أحد الدلیلین علی الآخر إمّا أقوائیّة الظهور کما فی تقدیم الدلیل الخاصّ و الدلیل المقیّد علی العامّ و المطلق،و إمّا تعرّض الدلیل المتقدّم لما

ص:335


1- 1) المائدة:6.
2- 2) الحج:78.

لم یتعرّضه الدلیل الآخر،کما فی تقدیم الدلیل الحاکم علی المحکوم،بلا فرق بین أن یکون الدلیل الحاکم أقوی ظهورا منه أم لا؟مع عدم ملاحظة نسبة العموم و الخصوص و سائر النسب بینهما لا یتصوّر ملاکا ثالثا للتقدّم،فلا بدّ من جعل الورود شعبة من شعب الحکومة،و أنّ ثمرتها قد تکون عبارة عن التخصیص، و قد تکون عبارة عن التقیید،و قد تکون عبارة عن الورود،و معناه:نفی موضوع الحکم تعبّدا بمعونة الدلیل الشرعی،لا تکوینا کما ذکره استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه (1).

و التحقیق:أنّ حصر الملاک بالنسبة إلی ظهورات الأدلّة و دلالاتها بهذین الملاکین لا شبهة فیه و لا کلام،و لکن یمکن أن یتصوّر ملاک ثالث خارجا عن هذا المقسم،و هو أن یکون وجود الدلیل المقدّم موجبا لأن لا یبقی مجال للدلیل المؤخّر بدون الارتباط باللفظ و الدلالة و الظهور اللفظی،مثل:تقدّم قول الشارع بحرمة«شرب التتن»-مثلا-علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان و البراءة العقلیّة،فإنّ نفس وجود الدلیل علی الحرمة مصداق للبیان،و معه لا یبقی مجال للقاعدة،و هذا ما نسمّیه بالورود کما أشار إلیه استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه فی ذیل کلامه (2).

فیکون ملاک التقدّم فی باب الورود ملاکا آخر غیر مرتبط بالظهورات اللّفظیّة؛إذ یمکن أن یتحقّق بین الدلیلین اللفظیّین أو بین الدلیلین اللّبّیین أو بین الدلیل اللفظی و الدلیل اللبّی،فإذا کان مفاد الاستصحاب وجوب صلاة الجمعة فی عصر الغیبة،و مفاد روایة معتبرة عدم وجوبها،یکون تقدّم الأمارة

ص:336


1- 1) الاستصحاب:236.
2- 2) الاستصحاب:238.

علی الاستصحاب بملاک الورود،فإنّ مفاد دلیل الاستصحاب أنّه«لا تنقض الحجّة بلا حجّة،بل انقضها بحجّة اخری»،و نفس وجود الروایة المعتبرة و تحقّقها فی مقابله حجّة،فلا یبقی مجال لقوله:«لا تنقض الحجّة بلا حجّة»، فهذا التقدّم یکون علی نحو الورود،فکما أنّ تقدّم دلیل حرمة شرب التتن علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان یکون تقدّما ورودیّا،کذلک تقدّم دلیل حجّیّة الخبر علی دلیل الاستصحاب،فلا یکون الورود شعبة من شعب الحکومة بخلاف ما ذکره الإمام رحمه اللّه (1).

و من هنا علم الفرق و المغایرة بین الورود و الحکومة و التخصّص،بأنّ الحکومة تتحقّق بین الدلیلین الواجد لتعرّض خصوصیّة و الفاقد له،و لا منافاة بینهما و ملاک تقدّم الدلیل الحاکم هو تعرضه لها،و الورود أیضا یتحقّق بین الدلیلین إلاّ أنّ ملاک التقدّم لا یرتبط بدلالة اللفظ،بل لا یبقی مجال للدلیل المورود مع وجود الدلیل الوارد تعبّدا.

و أمّا التخصّص فلا یتحقّق بین الدلیلین،بل المولی إذا قال:«أکرم العلماء» نعلم بخروج الجهّال منه تخصّصا و تکوینا،سواء کان للجهّال حکم أم لم یکونوا محکومین بحکم.

و أمّا فی مقام تعارض سائر الاصول مع الاستصحاب فلا خلاف فی تقدّمه علیها،فلذا قالوا:إنّ الاستصحاب عرش الاصول و فرش الأمارات،بلا فرق بین کون سائر الاصول شرعیّا محضا،مثل:أصالة الإباحة و أصالة الطهارة،أو عقلیّا محضا،مثل:أصالة التخییر و أصالة الاشتغال و الاحتیاط،أو شرعیّا و عقلیّا معا،مثل:أصالة البراءة.

ص:337


1- 1) الاستصحاب:236.

إنّما الکلام فی علّة تقدّمه علیها،و أمّا تقدّمه علی البراءة العقلیّة و قبح العقاب بلا بیان فیکون من باب الورود؛إذ مع وجود دلیل الاستصحاب یتحقّق البیان و لا یبقی مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

و هکذا تقدّمه علی الاحتیاط یکون من باب الورود،فإنّ دلیل أصالة الاحتیاط هو لزوم دفع العقاب المحتمل عقلا،کما إذا کان مقتضی الاشتغال وجوب صلاة الظهر و الجمعة فی عصر الغیبة،و مقتضی الاستصحاب عدم وجوب صلاة الظهر فی عصر الغیبة،فیکون نفس اعتبار الاستصحاب و وجود دلیله بمعنی أنّه لا مجال لاحتمال العقوبة علی ترک صلاة الظهر،فلا یبقی مجال لحکم القاعدة بلزوم الاحتیاط.

و هکذا تقدّمه علی أصالة التخییر یکون من باب الورود؛لأنّها مبنیّة علی عدم إمکان الاحتیاط،و دوران الأمر بین المحذورین کالوجوب و الحرمة، و عدم وجود مرجّح لأحدهما فی البین،کما إذا دار أمر صلاة الجمعة فی عصر الغیبة بین الوجوب و الحرمة فیحکم العقل بالتخییر بینهما،و إذا کان مقتضی الاستصحاب وجوبها فی هذا العصر فیکون دلیل الاستصحاب مرجّحا لناحیة الوجوب،فإذا کان وجوده بعنوان المرجّح و صالحا للمرجّحیّة لا یبقی مجال لحکم العقل.

و أمّا تقدّمه علی الاصول الشرعیّة العملیّة کالبراءة الشرعیّة و أصالة الإباحة و أصالة الطهارة فنری بعد ملاحظة أدلّتها أنّ العلم اخذ فیها بعنوان الموضوع أو بعنوان الغایة،کقوله فی دلیل أصالة الحلّیّة:«کلّ شیء فیه حلال و حرام فهو لک حلال أبدا حتّی تعرف الحرام منه بعینه فتدعه» (1)،و معناه:أنّ کلّ شیء غیر معلوم الحرمة یکون محکوما بالحلّیّة،و قوله فی دلیل قاعدة

ص:338


1- 1) الوسائل 12:59،الباب 4 من أبواب ما یکتسب به،الحدیث 1.

الطهارة:«کلّ شیء نظیف حتّی تعلم أنّه قذر» (1)بمعنی أنّ کلّ شیء غیر معلوم النجاسة محکوم بالطهارة،و قوله فی دلیل أصالة البراءة«رفع ما لا یعلمون» (2)، و معلوم أنّ المراد من العلم فیها لیس الیقین الوجدانی،بل المراد منه هو تحقّق الحجّة علی الطهارة،و تحقّق الحجّة علی الحلّیّة،و تحقّق الحجة علی التکلیف فالمراد من العلم هو مطلق الحجّة الشرعیّة أو العقلیّة،فمعنی قوله:«رفع ما لا یعلمون»أنّه رفع التکلیف الذی لا یکون علی إثباته حجّة و قوله«کلّ شیء لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه»أنّ کلّ شیء لم تقم الحجّة علی حرمته فهو محکوم بالحلّیّة،و هکذا دلیل قاعدة الطهارة،و نظر العرف أیضا یساعد علی هذا المعنی،کما لا یخفی.

و قد عرفت أنّ مفاد قوله«لا تنقض الیقین بالشکّ»أنّه لا تنقض الحجّة بلا حجّة،فجعل الشارع الیقین السابق حجّة تعبدیّة بالنسبة إلی الزمان اللاحق و زمان الشکّ،فإذا کان الاستصحاب فی مورد الاصول المذکورة جاریا لا یبقی مجال لجریانها،فإنّ مورد جریانها مختصّ بفقدان الحجّة،فوجود الاستصحاب یوجب اضمحلال موضوعاتها؛لکونه حجّة تعبّدیّة لإثبات الحکم و إثبات الحرمة و النجاسة،فیکون تقدّمه علیها بنحو الورود،و تقدّم الأمارات علی الاصول العملیّة أیضا یکون من هذا القبیل.

تعارض الاستصحابین

و کان لصاحب الکفایة رحمه اللّه هنا کلام جامع (3)مع تکملة لنا،و هو:أنّ

ص:339


1- 1) الوسائل 2:1054،الباب 37 من أبواب النجاسات،الحدیث 4.
2- 2) الوسائل 11:295،الباب 56 من أبواب جهاد النفس و ما یناسبه،الحدیث 1.
3- 3) کفایة الاصول 2:354.

التعارض بین الاستصحابین إن کان لعدم إمکان العمل بهما بدون علم بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما،کاستصحاب وجوب أمرین حدث بینهما التضادّ فی زمان الاستصحاب،فهو من باب تزاحم الواجبین و الحکم فیهما التخییر،مثل:إنقاذ الغریقین.

و إن کان مع العلم بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما،فتارة لا تکون بین الشکّین السببیّة و المسببیّة،کما إذا علمنا بإصابة النجاسة بأحد الإنائین،فإنّ جریان الاستصحاب فی کلّ منهما معارض لجریانه فی الآخر؛للعلم الإجمالی بنجاسة أحدهما.

و اخری یکون الشکّ فی مستصحب،أحدهما مسبّبا عن الشکّ فی مستصحب الآخر،کالشکّ فی نجاسة الثوب المغسول بماء مشکوک الطهارة و قد کان طاهرا،و معلوم أنّ استصحاب الطهارة فی الماء معارض مع استصحاب نجاسة الثوب و لکنّه مقدّم علیه بالتقدم الشرعی.

و قد تکون السببیّة عادیّة کالشکّ فی نبات لحیة زید الناشئ عن الشکّ فی بقاء حیاته،و تعارض استصحاب بقاء حیاته مع استصحابه عدم نبات لحیته، و تقدّم استصحاب بقاء الحیاة علیه تقدّم عادی.

و قد تکون السببیّة عقلیّة کالشکّ فی تحقّق الحرارة الناشئ من الشکّ فی بقاء النار،و تعارض استصحاب عدم تحقّق الحرارة مع استصحاب بقاء النار، و تقدّم استصحاب بقاء النار علیه تقدّم عقلی،فلا بدّ لنا من البحث فی جمیع هذه الصور.

و أمّا البحث فیما کانت السببیّة بینهما سببیّة شرعیّة فالمستفاد من الکلمات تحقّق الاتّفاق بین المحقّقین فی تقدّم الاستصحاب فی الشکّ السببی علی

ص:340

الاستصحاب فی الشکّ المسبّبی،إنّما الکلام فی ملاک التقدّم و علّته،و کان للشیخ الأنصاری رحمه اللّه فی المقام کلام مفصّل،حاصله:أنّ الشکّ فی أحدهما إن کان مسبّبا عن الشکّ فی الآخر،فاللازم تقدیم الشکّ السببی و إجراء الاستصحاب فیه و رفع الید عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر.

مثاله:استصحاب طهارة الماء المغسول به ثوب نجس،فإنّ الشکّ فی بقاء نجاسة الثوب و ارتفاعها مسبّب عن الشکّ فی بقاء طهارة الماء و ارتفاعها، فتستصحب طهارته و یحکم بارتفاع نجاسة الثوب.

و استشکل علی نفسه بأنّ الیقین بطهارة الماء و الیقین بنجاسة الثوب المغسول به کلّ منهما یقین سابق شکّ فی بقائه و ارتفاعه،و حکم الشارع بعدم النقض نسبته إلیهما علی حدّ سواء؛لأنّ نسبة حکم العامّ إلی أفراده علی حدّ سواء،فکیف یلاحظ ثبوت هذا الحکم للیقین بالطهارة أوّلا حتّی یجب نقض الیقین بالنجاسة؛لأنّه مدلوله و مقتضاه؟

و الحاصل:أنّ جعل شمول حکم العامّ لبعض الأفراد سببا لخروج بعض الأفراد عن الحکم أو الموضوع کما فی ما نحن فیه فاسد بعد فرض تساوی الفردین فی الفردیّة مع قطع النظر عن ثبوت الحکم.

و أجاب فی مقام دفع تساوی نسبة دلیل الاستصحاب بالإضافة إلیهما بوجوه،و المهمّ منها وجهان:

الوجه الأوّل:أن تقدّم السبب علی المسبّب من حیث الرتبة لا یکون قابلا للإنکار،و هذا یوجب عدم کون نسبة الدلیل إلیهما علی حدّ سواء،و جریان الاستصحاب فی السبب مقدّما علی المسبّب.

الوجه الثانی:أنّ استصحاب طهارة الماء یوجب زوال نجاسة الثوب

ص:341

بالدلیل الشرعی،و هو ما دلّ علی أنّ الثوب المغسول بالماء الطاهر یطهر،فعدم نقض طهارة الماء لا معنی له إلاّ رفع الید عن النجاسة السابقة المعلومة فی الثوب؛إذ الحکم بنجاسته نقض للیقین بالطهارة المذکورة،و أمّا استصحاب بقاء النجاسة فی الثوب فلا یوجب زوال الطهارة عن الماء،و لازم شمول «لا تنقض»للشکّ المسبّبی نقض الیقین فی مورد الشکّ السببی لا لدلیل شرعی یدلّ علی ارتفاع الحالة السابقة فیه،فیلزم من إهمال الاستصحاب فی الشکّ السببی طرح عموم«لا تنقض»من غیر مخصّص،و هو باطل،و اللازم من إهماله فی الشکّ المسبّبی عدم قابلیّة العموم لشمول المورد،و هو غیر منکر.

فجریان الاستصحاب فی السبب مع وصف جریانه فی المسبّب تعارض، و جریانه فی المسبّب وحده تخصیص،و التخصیص مستلزم للدور المحال؛فإنّ تخصیص«لا تنقض»فی مورد الشکّ السببی متوقّف علی شموله للشکّ المسبّبی،و شموله له متوقّف علی تخصیصه فی مورد الشکّ السببی،فالتخصیص متوقّف علی التخصیص،و هو محال (1).هذا تمام کلامه مع توضیح و تلخیص.

و أمّا دلیله الأوّل فلا شبهة فی تقدّم السبب علی المسبّب من حیث الرتبة، و لا إشکال أیضا فی تحقّق المقارنة المعیّة بینهما من حیث الزمان و الوجود،و لمّا کان خطاب«لا تنقض»متوجّها إلی العرف لا یمکن المشی فی الخطابات العرفیّة بملاک التقدّم و التأخّر العقلی،فالتقدّم و التأخّر من حیث الرتبة مسألة عقلیّة،و لا یکون قابلا للدرک و الفهم لدی العرف،بل العرف،یحکم بتحقّق المصداقین؛لقوله«لا تنقض»،و إضافة العامّ بالنسبة إلی المصادیق علی حدّ سواء.

ص:342


1- 1) فوائد الاصول 2:863-861.

و أمّا ما ذکره فی دلیله الثانی-من استلزام جریان الاستصحاب فی المسبّب التخصیص فی ناحیة المسبّب،و استلزام التخصیص للدور المحال-فلیس بصحیح،فإنّ فردیّة کلّ من المصداقین للعموم لا یتوقّف علی شیء؛إذ فردیّة نقض الیقین بالشکّ فی ناحیة المسبّب أمر وجدانی،نقول:«هذا الثوب کان نجسا،الآن مشکوک النجاسة»،فیجری الاستصحاب فیه،و هکذا فی ناحیة السبب،فالقول بارتباط فردیّة أحدهما بالآخر أمر یکذّبه الوجدان،فلا یلزم الدور.فهذا الطریق لیس بتامّ.

و التحقیق فی المقام یحتاج إلی بیان مقدّمة،و هی:أنّ مفاد قوله:«لا تنقض الیقین بالشکّ»هو التعبّد ببقاء المستصحب،بلا فرق بین استصحاب الأحکام و استصحاب الموضوعات،فإن کان الشکّ فی الأحکام مثل وجوب صلاة الجمعة-مثلا-فمعنی استصحابها الحکم ببقاء صلاة الجمعة تعبّدا،و إن کان الشکّ فی الموضوعات-کالشکّ فی خمریّة مائع-فمعنی استصحابها الحکم ببقاء الخمریة،تعبّدا،و لا یستفاد منه حرمته،و إن کان محکوما بالحرمة لا بدّ من دلیل آخر،فإثبات الخمریّة بدلیل الاستصحاب و إثبات الحرمة بقوله:«کلّ خمر حرام»-مثلا-و قد عرفت ممّا ذکرناه أنّ نسبة قوله«لا تنقض الیقین بالشکّ»و قوله«کلّ خمر حرام»نسبة الحاکم و المحکوم،فإنّ مفاد الحکم بأنّ مستصحب الخمریّة خمر،و هذا تعرّض و تنقیح لموضوع«کل خمر حرام»، فیکون حاکما علیه.

و الحاصل:أنّ جریان الاستصحاب فی الموضوع لا یکون معناه ترتیب الأثر و الحکم،بل معناه التعبّد ببقاء الموضوع،کما أنّ استصحاب الحکم -کالوجوب-معناه التعبّد ببقاء الوجوب فی زمان الشکّ،و أنّ الحکم ببقاء

ص:343

تعبّدیّ الموضوع حاکم علی الدلیل المتکفّل لبیان حکم هذا الموضوع.

و بعد ملاحظة هذه المقدّمة یتّضح علّة تقدّم الاستصحاب الجاری فی السبب الشرعی علی الاستصحاب الجاری فی المسبّب،فإنّ معنی جریان استصحاب الطهارة فی الماء هو الحکم ببقاء طهارته تعبّدا،و هذا حاکم علی قوله:«الماء الطاهر یطهّر»-مثلا-فهذا الماء یکون مطهّرا و مؤثّرا فی زوال النجاسة عن سائر الأشیاء،فلا معنی للشکّ فی بقاء النجاسة فی الثوب المغسول بهذا الماء؛إذ یکون نقض الحجّة علی نجاسة الثوب بحجّة اخری،فلنا حجّة و دلیل علی طهارة هذا الثوب،فلا یبقی مجال لجریان الاستصحاب فی المسبّب بعد جریانه فی السبب،فیکون الاستصحاب السببی واردا علی الاستصحاب المسبّبی.

و أمّا إذا کانت السببیّة عادیّة فهو کالشکّ فی نبات لحیة زید الناشئ من الشکّ فی بقاء حیاته،و لا یخفی أنّ استصحاب بقاء حیاته معارض مع استصحاب عدم نبات لحیته؛للعلم الإجمالی بانتقاض الحالة السابقة بالنسبة إلی أحد المستصحبین،و لا یمکن أن یکون تقدّم الاستصحاب السببی علی الاستصحاب المسبّبی بالدلیل المذکور فی السببیّة الشرعیّة،فإنّ الآثار الشرعیّة المترتّبة علی الاستصحاب السببی-أی حیاة زید-عبارة عن عدم جواز تقسیم أمواله،و عدم جواز تزویج امرأته،و عدم جواز التصرّف فی أمواله بدون إذنه،و هکذا سائر الأحکام،و أما نبات اللحیة من اللوازم العادیّة،فلا یترتّب علی استصحاب الحیاة کما ذکر فی بحث الأصل المثبت.

و هکذا لا یترتّب علیه الأثر الشرعی المترتّب علی اللازم العادی کالوفاء بالنذر،فلا یکون الاستصحاب السببی متقدّما علی الاستصحاب المسبّبی،

ص:344

بل لا ارتباط بینهما؛إذ المستصحب فی الأوّل عبارة عن حیاة زید،و فی الثانی عبارة عن عدم نبات لحیته،و لکلّ منهما آثاره الشرعیّة بخصوصه.

و ممّا ذکرنا یظهر الجواب عن الإشکال علی صحیحة زرارة الاولی (1):من أنّ الظاهر منها إجراء استصحاب الوضوء عند الشکّ فی تحقّقه مع أنّ الشکّ فی بقاء الوضوء مسبّب عن الشکّ فی تحقّق النوم،فکان ینبغی علیه إجراء استصحاب عدم النوم.

و جوابه:أنّ استصحاب عدم النوم لا یثبت بقاء الوضوء إلاّ علی القول بالأصل المثبت؛لما عرفت من أنّ المیزان فی تقدّم الأصل السببی علی المسبّبی هو إدراج الأصل السببی المستصحب تحت الکبری الکلّیّة الشرعیّة حتّی یترتّب علیه الحکم المترتّب علی ذاک العنوان،کاستصحاب العدالة لإدراج الموضوع تحت کبری جواز الطلاق و الشهادة و الاقتداء و نحوها،و معلوم أنّه لم ترد کبری شرعیّة ب«أنّ الوضوء باق مع عدم النوم»و إنّما هو حکم عقلی مستفاد من أدلّة ناقضیّة النوم،فیحکم العقل بأنّ الوضوء إذا تحقّق و کانت نواقضه محصورة فی امور غیر متحقّقة وجدانا-إلاّ النوم المنفی بالأصل-فهو باق،فالشکّ فی بقاء الوضوء و إن کان مسبّبا عن الشکّ فی تحقّق النوم لکنّ أصالة عدم النوم لا ترفع ذلک الشکّ إلاّ بالأصل المثبت،فلذا نری فی کلام الإمام علیه السّلام جریان الاستصحاب فی الوضوء دون النوم،و هکذا فی السببیّة العقلیّة.

و أمّا القسم الآخر من تعارض الاستصحابین و هو ما إذا کان الشکّ فی کلیهما مسبّبا عن أمر ثالث فمورده ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثین(کالطهارة)

ص:345


1- 1) الوسائل 1:174،الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء،الحدیث 1.

لا بعینه و شکّ فی تعیینه،کما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائین الطاهرین، فإنّ استصحاب طهارة کلّ منهما یعارض الآخر.و البحث فی أنّ مقتضی القاعدة هل هو التساقط أو التخییر أو ترجیح ذا المزیّة علی فرض وجودها؟ و قبل الورود فی البحث لا بدّ من بیان أنّ الاصول العملیّة-و منها الاستصحاب-هل تکون جاریة فی أطراف العلم الإجمالی أم لا؟و اختلف القوم علی ثلاثة أقوال:

الأوّل:ما التزم به الشیخ الأنصاری رحمه اللّه من عدم جریانها فی أطراف العلم الإجمالی؛لقصور أدلّتها عن شمولها؛للزوم التناقض فی مدلول الأدلّة،فإنّ صدر دلیل الاستصحاب-أی«لا تنقض الیقین بالشکّ»-یدلّ علی جریان الاستصحاب فی جمیع الأطراف و لکن ذیله-أی«بل انقضه بیقین آخر»-یدلّ علی عدم الجریان،فالاستصحاب لا یکون حجّة هنا و إن لم یستلزم من جریان کلا الاستصحابین مخالفة عملیّة،کما إذا کانت الحالة السابقة فی کلا الإنائین النجاسة،و علمنا بطهارة أحدهما لا بعینه،فلا تلزم مخالفة عملیّة مع التکلیف المعلوم بالإجمال من جریان استصحاب النجاسة فی کلیهما (1).

الثانی:ما ذکره المحقّق الخراسانی رحمه اللّه من التفصیل بین ما إذا کان مستلزما للمخالفة العملیّة مع التکلیف المعلوم بالإجمال،و بین ما إذا لم یکن مستلزما لذلک،ففی جریان استصحاب الطهارة فی کلا الإنائین بلحاظ استلزامه للمخالفة مع قوله«اجتنب عن النجس»قائل بالمنع،بخلاف استصحاب النجاسة فی کلیهما؛لعدم استلزامه للمخالفة العملیّة القطعیّة (2).

ص:346


1- 1) فرائد الاصول 2:872.
2- 2) کفایة الاصول 2:356.

الثالث:ما ذکره المحقّق النائینی رحمه اللّه و هو أنّ مع قطع النظر عن لزوم التناقض فی مقام الإثبات لا یمکن تعبّد الشارع المکلّف العالم بنجاسة أحد الإنائین ببقاء الطهارة فی کلّ واحد منهما،فإنّ کاشفیّة العلم و حجّیّته ذاتیّة کعدم إمکان التعبّد به فی صورة العلم التفصیلی بالنجاسة و إن کان مرجع هذا القول إلی مقالة الشیخ رحمه اللّه و لکنّ محذور عدم جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی عنده ثبوتی (1).

و الأولی تمحیض البحث فی تعارض الاستصحابین بعد الفراغ عن جریانهما و أنّ مقتضی القاعدة بعد البناء علی الجریان هل هو سقوطهما أو العمل بأحدهما مخیّرا مطلقا أو بعد فقدان المرجّح و إلاّ فیؤخذ بالأرجح؟

و أمّا بعد البناء علی عدم جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی، إمّا للمحذور منه ثبوتا أو لقصور أدلّته إثباتا،فلا یبقی مجال لهذه البحث.

و الحاصل:أنّ البحث هاهنا إنّما هو فی تعارض الاستصحابین لا فی جریانهما و عدمه فی أطراف العلم،فنقول:بناء علی جریان الاستصحاب فی أطراف العلم ذاتا و کون المحذور هو المخالفة العملیّة أو قیام الدلیل علی عدم الجمع بین المستصحبین،هل القاعدة تقتضی ترجیح أحد الأصلین أو سقوطهما أو التخییر بینهما؟

یمکن أن یتحقّق موضوع آخر لتعارض الاستصحابین غیر أطراف العلم الإجمالی بدون أن یکون بینهما السببیّة و المسببیّة،کما إذا قام الدلیل من الخارج -کالإجماع-علی عدم إمکان الجمع بین المستصحبین،کما فی الماء المتمّم کرّا، فإذا لم نستفد من الأدلّة طهارته و لا نجاسته و وصلت النوبة إلی الأصل یکون

ص:347


1- 1) فوائد الاصول 4:687.

مقتضی الاستصحاب فی المتمّم هو النجاسة،و فی المتمّم هو الطهارة،مع العلم بمخالفة أحد الاستصحابین للواقع،و لا یمکن الأخذ بکلا الاستصحابین لا للعلم الإجمالی،بل للإجماع علی عدم جواز التفکیک بین أجزاء ماء واحد فی الحکم بنجاسة بعض و طهارة بعض.

و قال استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه:«أمّا الترجیح فلا مجال له،و ذلک یتّضح بعد التنبیه علی أمر،و هو أنّ ترجیح أحد الدلیلین أو الأصلین علی الآخر إنّما هو بعد الفراغ عن تحقّقهما أوّلا و ذلک واضح،و بعد الفراغ عن تحقّق المرجّح مع ذی المزیّة و مقابله ثانیا،فمع عدم تحقّق المزیّة مع ذیها و مقابله لا یمکن الترجیح بها،و بعد الفراغ عن کون مضمونهما واحدا ثالثا؛ضرورة عدم تقویة شیء بما یخالفه أو لا یوافقه.

فحینئذ إمّا أن یراد ترجیح أحد الاستصحابین علی الآخر بدلیل اجتهادی معتبر أو بدلیل ظنی غیر معتبر أو بأصل من الاصول الشرعیّة أو العقلائیّة المعتبرة أو غیر المعتبرة.

لا سبیل إلی الترجیح بالدلیل الاجتهادی المعتبر؛لحکومته علی الاستصحاب فلا یبقی ذو المزیة معه،و کذا بالاصول العقلائیة المعتبرة؛لعین ما ذکر،و لا بالاصول الشرعیّة کأصالة الإباحة و الطهارة و البراءة،و لا العقلیّة کأصالة البراءة و الاشتغال؛لأنّ الاستصحاب مقدّم علی کلّ منها،فلا تتحقّق المزیّة مع ذیها،فلا مجال للترجیح بالشیء المفقود مع ما یراد الترجیح به.

و من ذلک یعلم أنّه لا مجال لترجیح الأصل الحاکم بالمحکوم و بالعکس، فاستصحاب الطهارة لا یرجّح بأصلها و بالعکس.

و أمّا الترجیح بدلیل ظنّی غیر معتبر-کترجیح الاستصحاب بالعدل

ص:348

الواحد بناء علی عدم اعتباره-فلا یمکن أیضا؛لتخالف موضوعیهما و مضمونیهما،فمفاد استصحاب الطهارة ترتیب آثار الیقین بالطهارة فی زمان الشکّ أو ترتیب آثار الطهارة الواقعیّة فی زمان الشکّ،و مفاد الدلیل الظنّی -کخبر الواحد-هو الطهارة الواقعیّة،فلا یتوافق مضمونهما و لا رتبتهما» (1).

و هذا کلام جیّد لا إشکال فیه،فإذا لم یکن للترجیح مجال فی تعارض الاستصحابین یدور الأمر بین الاحتمالین:التساقط و التخییر،و لا بدّ من ملاحظة أدلّتهما.

و أمّا وجه التساقط-بعد عدم المانع من جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی إلاّ المخالفة العملیّة القطعیّة أو الدلیل الخارجی الدالّ علی عدم جواز التفکیک کما مثّلن-أنّ نسبة:«لا تنقض»إلی جمیع الأفراد و المصادیق علی السواء،و شموله لها شمولا واحدا تعیینا،أی یکون شاملا لجمیع الأفراد علی سبیل التعیین لا الأعمّ من التخییر حتّی یکون شموله لکلّ فرد مرّة معیّنا و مرّة مخیّرا بین اثنین اثنین،و مرة بین ثلاثة ثلاثة،و هکذا،أو فی حال معیّنا و فی حال مخیّرا و معیّنا،فلا یمکن الأخذ بکلّ واحد من الأطراف للزوم المخالفة العملیّة،و لا ببعض الأطراف معیّنا؛لعدم الترجیح،و لا مخیّرا؛لعدم شموله للأفراد مخیّرا رأسا؛فیسقط الاستصحابان.

و أمّا وجه التخییر فما یمکن أن یکون وجها له أمران:

أحدهما:أنّه بعد سقوط الدلیل بما ذکر یستکشف العقل خطابا تخییریا؛ لوجود الملاک التامّ فی الأطراف،کما فی باب التزاحم،فقوله:«أنقذ الغریق»بعد التزاحم یستکشف العقل خطابا تخییریا؛لوجود الملاک فی کلّ منهما،فما هو

ص:349


1- 1) الاستصحاب:254.

الملاک لتعلّق الخطاب التعیینی لکلّ غریق یکون ملاکا للخطاب التخییری فی ما نحن فیه،فمحذور المخالفة العلمیّة القطعیّة أوجب استکشاف العقل حکما شرعیّا تخییریّا.

و استشکل علیه استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه بأنّ استکشاف الخطاب التخییری لا یمکن فی ما نحن فیه،فإنّ کشف الخطاب فی مثل:«أنقذ الغریق» ممّا لا مانع منه؛لوجود الملاک فی کلّ من الطرفین،و هو حفظ النفس المحترمة دون مثل:«لا تنقض»؛لعدم الملاک فی الطرفین و لا فی واحد منهما؛لأنّه لیس تکلیفا نفسیّا مشتملا علی الملاک،بل هو تکلیف لأجل التحفّظ علی الواقع لا بمعنی کونه طریقا إلیه،بل بمعنی کون ترتیب آثار الواقع بملاک درک الواقع،مثل ما إذا أوجب الشارع الاحتیاط فی الشبهة البدویّة،فاستصحاب الوجوب و الحرمة لا یوجب حدوث ملاک فی المستصحب،بل یکون حجّة علی الواقع لو أصاب الواقع،و إلاّ یکون التخلّف تجرّیا لا غیر،و أوضح منه الاستصحاب الموضوعی فإذا علم انتقاض الحالة السابقة فی بعض الأطراف و سقط الأصلان لا یمکن کشف الحکم التخییری؛لعدم الملاک-أی التحفّظ علی الواقع-فی الطرفین (1).

ثانیهما:أنّ إطلاق أدلّة الاستصحاب یقتضی عدم نقض الیقین بالشکّ فی حال نقض الآخر و عدمه،کما أنّ إطلاق أدلّة الترخیص یقتضیه فی حال الإتیان بالآخر و عدمه،و إطلاق مثل:«أنقذ الغریق»یقتضی إنقاذ کلّ غریق، أنقذ الآخر أوّلا،و لا یجوز رفع الید عنه إلاّ بما یحکم العقل،و هو ما تلزم منه المخالفة العملیّة و الترخیص فی المعصیة و التکلیف بما لا یطاق،و نتیجة ما ذکر:

ص:350


1- 1) الاستصحاب:258.

هو الأخذ بمقتضی لا تنقض تخییرا و بالأدلّة المرخّصة کذلک،و بمثل:«أنقذ الغریق»،فالمحذور فیها إنّما هو من إطلاق تلک الأدلّة،فلا بدّ من رفع الید منه لا من أصلها (1).

و یرد علیه:أوّلا:أنّ الإطلاق الشامل لأطراف العلم الإجمالی المستلزم للمخالفة العملیّة القطعیّة فی دلیل الاستصحاب یمکن أن لا یتحقّق.

و ثانیا:أنّ التخییر العقلی فی المتزاحمین لیس کالتخییر الشرعی فی الواجبات الشرعیّة؛فإنّ ترک الواجب التخییری-کترک الخصال الثلاث من کفّارة الإفطار-لا یوجب تعدّد استحقاق العقوبة،بل العقوبة فیه واحدة کترک الواجب التعیینی،بخلاف المتزاحمین؛إذ العقل یحکم بأنّ العبد إذا اشتغل بإنقاذ کلّ غریق یکون معذورا فی ترک الآخر؛لکونه فی حال صرف قدرته لإنقاذه عاجزا عن إنقاذ الآخر،و أمّا إذا ترکهما معا فلا یکون معذورا فی واحد منهما؛ لکونه مکلّفا بکل واحد و معاقب بهما؛لکونه قادرا علی کلّ واحد،فلا یتحقّق هنا واجبان مشروطان و أنّ وجوب إنقاذ کلّ منهما مشروط بعدم وجوب إنقاذ الآخر حتّی یکون لازم ذلک استحقاق عقوبة واحدة کالواجب التخییری الشرعی.

و الحاصل:أنّ ما ذکره-من أنّ المحذور فی قوله:«أنقذ الغریق»و سائر الأدلّة ناشئ من إطلاقها،و مع صرف النظر عن الإطلاق و تبدیله بالتقیید یرفع المانع-لیس بصحیح،و أنّ المحذور فی عدم تطبیق«أنقذ الغریق»فی ما نحن فیه فبعد بطلان أدلّة التخییر یبقی التساقط بلا معارض،فمقتضی القاعدة فی تعارض الاستصحابین هو التساقط.

ص:351


1- 1) درر الفوائد:459.
نسبة الاستصحاب مع سائر القواعد

و أمّا نسبته مع سائر القواعد المجعولة فی الشبهات الموضوعیّة-کقاعدة الید و قاعدتی الفراغ و التجاوز و القرعة و أصالة الصّحة-فلا بدّ من بیان الحال فیها، فأمّا قاعدة الید فهی ما جعله الشارع و العقلاء دلیلا للملکیّة و عبّر فی بعض الروایات عنها بأنّه:«لو لا ذلک لما قام للمسلمین سوق»؛إذ لا طریق لإثبات الملکیّة للبائع أو المشتری سوی هذه القاعدة،و یتحقّق استصحاب عدم الملکیّة فی أکثر موارد تحقّق الملکیّة بعنوان ذی الید،و یتحقّق التعارض بینهما.

نعم،قد تکون القاعدة بلا معارض،کما إذا علمنا بملکیة ذی الید للمال فی زمان قطعا و عدم ملکیّته له فی زمان آخر قطعا،و شککنا فی تقدّم زمان الملکیّة و تأخّره،و بعد جریان استصحاب الملکیّة و استصحاب عدم الملکیّة و تساقطهما تبقی القاعدة بلا معارض،أو کما إذا کانت ملکیّة ذی الید للشیء من أوّل حدوثه مشکوکة،فلا یجری استصحاب عدم الملکیّة؛لعدم تحقّق الحالة السابقة العدمیّة إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع،و الاستصحاب فیها لا یجری عندنا کما ذکرناه فی محلّه،فتکون قاعدة الید بلا معارض.

و إنّما الکلام فی تقدّم القاعدة علی الاستصحاب عند التعارض و عدمه، فنقول:یحتمل أن تکون قاعدة الید أمارة شرعیّة و عقلائیّة،و یحتمل أن تکون أصلا عقلائیّا أمضاه الشارع،و علی الأوّل-کما هو الظاهر-لا إشکال فی تقدّمها علی الاستصحاب،کما ذکرنا أنّ تقدّم الأمارات و الطرق المعتبرة علیه یکون علی نحو الورود.

و علی الثانی أیضا تتقدّم القاعدة علیه بعد الالتفات إلی أمرین:

الأوّل:تحقّق الإجماع علی اعتبار قاعدة الید فی جمیع الموارد مطلقا بلا فرق

ص:352

بین تحقّق الاستصحاب علی خلافها و عدمه.

الثانی:أنّ بعد تحقّق التعارض بینهما فی أکثر موارد القاعدة یهدینا قوله:

«و لو لا ذلک لما قام للمسلمین سوق»إلی عدم اختصاص القاعدة بالموارد النادرة،و إلاّ یلزم أن تکون القاعدة قلیلة الفائدة،بخلاف الاستصحاب؛إذ یبقی تحته جمیع الشبهات الحکمیّة و الشبهات الموضوعیّة قلیلة غیر الملکیّة،فلا شکّ فی تقدّم القاعدة علی الاستصحاب،سواء قلنا بأنّها أمارة شرعیّة أو قلنا بأنّه أصل معتبر شرعا تبعا للعقلاء.

و أمّا قاعدة التجاوز-کما إذا شککنا فی حال السجود بإتیان الرکوع قبله و عدمه-فهی تحکم بعدم الاعتناء بالشکّ،و الإتیان به،و مقتضی الاستصحاب عدم الإتیان به،و هکذا فی قاعدة الفراغ-کما إذا شککنا بعد الفراغ من الصلاة بإتیان الرکوع فی الرکعة الثالثة-مثلا-و هی تحکم بعدم الاعتناء بالشکّ و الإتیان به،و مقتضی الاستصحاب عدم الإتیان به،و هکذا فی أصالة الصحّة الجاریة فی غیر العبادات بالنسبة إلی عمل الغیر أو عمل النفس بعد وقوع العمل و الشکّ فی وقوعه صحیحا أم لا؟ففی جمیع هذه الموارد یکون مقتضی الاستصحاب فساد العمل،فما هو الحکم فی مقام التعارض؟

فإن قلنا بأماریّة هذه القواعد جمیعا أو بعضها فلا یبقی مجال للاستصحاب مع تحقّقها فی مقام التعارض؛لما ذکرنا من تقدّم الأمارة علیه من باب الورود، و إن قلنا بعدم أماریّتها و أن سنخ حجّیّتها سنخ حجّیّة الاستصحاب یکون تقدّمها علیه من باب التخصیص لعمومیّة دلیل الاستصحاب،و اختصاص أدلّتها بموارد خاصّة،و لزوم لغویّة جعلها بناء علی تقدّم الاستصحاب علیها، و لا یکون سیاق دلیل الاستصحاب آبیا عن التخصیص،فلا بدّ من کون تقدّم

ص:353

القواعد الثلاث علیه بنحو التخصیص.

و أمّا تعارض الاستصحاب مع قاعدة القرعة فلا بدّ من الإشارة الإجمالیة إلی مفاد هذه القاعدة بأنّه قد یعبّر عنها بأنّ«القرعة لکلّ أمر مشکل»،و قد یعبّر عنها بأنّ«القرعة لکلّ أمر مشتبه»،و قد یعبّر عنها بأنّ«القرعة لکلّ أمر مجهول»الظاهر منها المعنی العامّ الشامل لجمیع الشبهات الحکمیّة و الموضوعیّة و جمیع موارد جریان الأمارات و الاصول،کما یستفاد من کثیر من الکلمات، و لازم ذلک المعنی الابتلاء بتخصیص الأکثر المستهجن بحیث لو استفدنا ممّا بقی تحت العموم فی مورد لا بدّ من إحراز عمل الأصحاب علی طبقها فیه،و هذا کاشف من عدم کونها بهذا الحدّ من العموم و التوسعة من الابتداء.

فیمکن أن یکون معنی المشکل فی قوله:«القرعة لکلّ أمر مشکل»، المشکل بقول مطلق بمعنی عدم العلم و عدم إحراز الحکم الواقعی و الظاهری، فلا مصداق لها فی الشبهات الحکمیّة أصلا لتکفّل الاصول و الأمارات لإحرازها،فلا یبقی مجال لجریانها فیها،و هکذا فی کثیر من الشبهات الموضوعیّة لإحراز حکمها بالاصول العملیّة.

نعم،إذا لم یمکن جریان الاصول طرّا و قاعدة الید و سائر القواعد یکون مورد قاعدة القرعة،کما إذا ادّعی مدّعیان ملکیّة شیء فی ید شخص ثالث بدون البیّنة لهما،مع اعتراف ذو الید بعدم ملکیّته له،فلا طریق لاستکشاف مالکه سوی القرعة،و هذا المعنی یستفاد من کلام صاحب الکفایة رحمه اللّه (1).

و یمکن أن یکون معناه ما یستفاد من کلام استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه و حاصل کلامه:أنّ التّتبع فی الروایات الکثیرة الواردة فی باب القرعة یرشدنا إلی أنّها

ص:354


1- 1) کفایة الاصول 2:361.

مسألة إمضائیّة لدی الشارع لما هو المعمول به عند العقلاء،و قوله:«القرعة لکلّ أمر مشکل»ناظر إلی الموارد التی تمسّک العقلاء بها بقرینة الروایات، منها:ما إذا کانت الحقوق متزاحمة بدون أی طریق لتشخیص الحقّ و فصل الخصومة سوی القرعة،کما إذا ادّعی شخصان لملکیّة شیء فی ید ثالث-مثلا- فیستفاد من القرعة لرفع الجهل عن الواقع المعیّن.

و منها:ما یستفاد منها فی مقام تقسیم الأموال بین الورثة و رفع النزاع المحتمل،و من هنا نستکشف أنّ القرعة لیست بأمارة؛إذ لا واقعیّة مجهولة فی البین حتّی تکون هی أمارة لها و کاشفة عنها،بل یستعملها العقلاء لمحض رفع النزاع و الخصام،فلیس فی جمیع الموارد المنصوصة إلاّ ما هو الأمر العقلائی.

نعم،یبقی مورد واحد هو قضیّة اشتباه الشاة الموطوءة ممّا لا یمکن الالتزام بها فی أشباهها،فلا بدّ من الالتزام فیه بالتعبّد فی المورد الخاصّ لا یتجاوز منه إلی غیره.

و یمکن أن یقال:إنّ التعبّد فی هذا المورد أیضا إنّما یکون لأجل تزاحم حقوق الشیاه لنجاة البقیة کما أشار إلیه فی النصّ بقوله:«فإن لم یعرفها قسمها نصفین أبدا حتّی یقع السهم بها،فتذبح و تحرق و قد نجت سائرها» (1).

و ربما یحتمل أن یکون مورده من قبیل تزاحم حقوق أرباب الغنم فإنّ قطیع الأغنام یکون من أرباب متفرّقین غالبا فتتزاحم حقوقهم.

و بالجملة،من تتبّع موارد النصوص و الفتاوی یظهر له أنّ مصبّ القرعة لیس إلاّ ما أشرنا إلیه (2).

ص:355


1- 1) الوسائل 16:358،الباب 30 من أبواب الأطعمة المحرمة،الحدیث 1.
2- 2) الاستصحاب:384-394.

إذا عرفت معنی قاعدة القرعة إجمالا فنقول:إنّها إن کانت بالمعنی العامّ الشامل لکلّ المشتبهات یکون تقدّم الاستصحاب علیها فی مورد التعارض من باب المخصّص،فنستفید من دلیلیهما أنّ القرعة لکلّ أمر مشکل إلاّ المشکل الذی کانت له حالة سابقة متیقّنة،و إن کانت بالمعنی الذی ذکره صاحب الکفایة-أی المشکل الذی لا یعلم حکمه الواقعی و لا حکمه الظاهری-یکون تقدّم الاستصحاب علیها و سائر الاصول علیها بنحو الورود،و إن کانت بالمعنی الذی ذکره استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه-أی انحصارها بموارد تزاحم الحقوق و طریق رفع النزاع و حصول الأولویّة- یکون أیضا تقدّمه علیها من باب الورود؛إذ لا یبقی مجال لتزاحم الحقوق بعد جریان الاستصحاب.

و لکن یستفاد من کلام صاحب الکفایة رحمه اللّه فی الابتداء أنّ دلیل الاستصحاب أخصّ من دلیل القرعة،و صرّح بخروج الشبهات الحکمیّة عن القاعدة بالإجماع،ثمّ یقول فی جواب الإشکال الوارد علیه:«إنّ المشکل فی دلیل القرعة مشکل بعنوانه الواقعی و الظاهری و بقول مطلق،و نتیجته تقدّم الاستصحاب علی القرعة بنحو الورود».

و فی ذیل کلامه یقوله:«فلا بأس برفع الید عن دلیل القاعدة عند دوران الأمر بینه و بین رفع الید عن دلیل الاستصحاب؛لوهن عموم القاعدة و قوّة عموم دلیل الاستصحاب» (1).

و نتیجته تحقّق التعارض بین عموم الدلیلین و إنکار نسبة العموم و الخصوص المطلق و الوارد و المورود بینهما،و من تفریع هذه المسألة بفاء

ص:356


1- 1) کفایة الاصول 2:360-361.

التفریع علی المبنی الثانی یستفاد کونها نتیجته و متفرّعة علیه،مع أنّها مسألة مستقلّة لا ربط لها بالمسألة الثانیة،بل للقرعة ثلاثة معانی و مبانی،و نتیجة کلّ منها غیر نتیجة الآخر کما ذکرنا تفصیله.

هذا تمام الکلام فی باب الاستصحاب.

ص:357

ص:358

المقصد الثامن: فی تعارض الأدلّة و الأمارات

اشارة

فی تعارض الأدلّة و الأمارات

ص:359

ص:360

التعادل و التراجیح

لا یخفی أنّ هذا البحث من أهمّ المسائل الاصولیّة؛لشدّة ارتباطه و تأثیره فی المسائل الفقهیّة،و یستفاد من کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه التفاته إلی أمرین مهمّین:

الأوّل:جعله هذا البحث بعنوان مقصد من مقاصد علم الاصول-بخلاف من جعله خاتمة له المشعر بکونه خارجا عنه-و لعلّ شدّة ارتباطه بالفقه یوجب القول بأنّه من أهمّ مقاصد علم الاصول.

الثانی:جعله عنوان البحث أنّه فی تعارض الأدلّة و الأمارات،و معلوم أنّ المراد من الأمارات هی الأمارات المعتبرة،و أنّ التکلیف فی صورة تعارض الدلیلین و الأمارتین ما هو؟و هذا العنوان عامّ یشمل تعارض الروایات و غیرها،و لا فرق بین الدلیل و الأمارة بحسب اصطلاح أکثر الاصولیّین، و التعبیر بالدلیل الاجتهادی إذا کانت الطرق المعتبرة مربوطة بالأحکام و بالأمارة المعتبرة إذا کانت مربوطة بالموضوعات اصطلاح خاص للشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه.

و لکن مع عمومیّة عنوان البحث یقتضی أمران اختصاص البحث و تمرکزه فی الروایات الأول:استفادة أکثر المسائل الفقهیّة من الروایات.

الثانی:اختصاص المرجّحات المذکورة فی الأخبار العلاجیّة بالخبرین

ص:361

المتعارضین،و إن لم یکن جریان بعض المباحث فی غیر الخبرین المتعارضین قابلا للإنکار کالبحث فی أنّ مقتضی القاعدة فی باب التعارض ما هو؟

و لا بدّ من التکلّم فی موضوع التعارض و تعریفه أوّلا،و فی حکمه،من التساقط أو الأخذ بأحدهما تعیینا أو تخییرا ثانیا،فنقول:إنّ المذکور فی الروایات عنوان«حدیثان متعارضان»و عنوان«حدیثان مختلفان»،و لا فرق بینهما بحسب نظر العرف المتّبع هنا.

و المستفاد من الکفایة أنّ التعارض علی نوعین؛لکونه حقیقیّا و عرضیّا، و الحقیقی:عبارة عن التنافی بین الدلیلین بنحو التضادّ أو التناقض،کما إذا دلّ أحدهما علی وجوب الدعاء عند رؤیة الهلال،و الآخر علی عدم وجوبه،أو علی حرمته.

و المراد من التعارض العرضی:ما کان التنافی بینهما من جهة أمر خارج عن مدلولهما العرفی کالعلم الإجمالی بعدم مطابقة أحدهما للواقع،کما إذا دلّ دلیل علی وجوب صلاة الجمعة یوم جمعة تعیینا،و الآخر علی وجوب صلاة الظهر فیه کذلک؛فإنّه لا منافاة بینهما بحسب المفهوم العرفی؛لإمکان وجوب کلتیهما، إلاّ أنّا نعلم-بالضرورة من الدین-عدم وجوب ستّ صلوات فی یوم واحد، و لأجل هذا العلم یکون الدلیل-الدال علی وجوب صلاة الجمعة-نافیا لوجوب صلاة الظهر بالالتزام،و الدّلیل علی وجوب صلاة الظهر نافیا لوجوب صلاة الجمعة کذلک.

إذا عرفت هذا فیقع البحث:

أوّلا:أنّ التنافی بالعرض هل یکون عند العرف تعارضا أم لا؟و الظاهر أنّ العرف یحکم بالتعارض بین الدلیلین المذکورین بلا ریب.

ص:362

و ثانیا:أنّ موارد التخصیص هل تکون بنظر العرف من مصادیق التعارض أم لا؟مع أنّا نری وجود تخصیص العمومات القرآنیّة کتخصیص قوله تعالی:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ بقوله تعالی: أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ،مع ملاحظة نفی الاختلاف و التعارض عن القرآن بقوله تعالی: وَ لَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً ،فکیف لا یکون العامّ و الخاصّ فی القرآن موجبا للاختلاف؟

و من هنا نستفید أنّ موارد العامّ و الخاصّ خارجة عن التعارض بنظر العرف.

توضیح ذلک:أنّ التعارض بین العامّ و الخاصّ بنظر العقل و المنطق لا شبهة فیه؛إذ السالبة الجزئیّة نقیض الموجبة الکلّیّة،و الموجبة الجزئیّة نقیض السالبة الکلّیّة،و هذه نسبة بین العامّ و الخاصّ بحسب النوع و الغالب.

و أمّا بنظر العرف فیتحقّق التعارض بین العامّ و الخاصّ فی کثیر من الموارد و الاستعمالات،کالمحاورات و المکاتبات العادیّة حتی فی الرسائل العملیّة، و لکن لا یتحقّق التعارض و التنافی بین العامّ و الخاصّ بنظر العرف فی محیط التقنین و مقام جعل القانون،بل الشائع بین العقلاء فی مقام التقنین هو إلقاء حکم بصورة العموم ثمّ استثناء موارد منه بعنوان التبصرة،و ما یعبّر عنه فی الاصطلاح بالتخصیص،و لا یکون بنظر العقلاء و العرف بین التبصرة و أصل القانون تنافیا و تعارضا،فلذا قلنا فی بحث العامّ و الخاصّ:إنّ التخصیص لا یستلزم التجوّز فی العامّ؛لکونه موجبة لمحدودیّة الإرادة الاستعمالیّة فقط، و تعلّق المراد الجدّی بما عدی مورد التخصیص.

و لذلک یتوقّف التمسّک بالعمومات القانونیّة علی الفحص عن المخصّص

ص:363

و الیأس عن الظفر به،بخلاف غیرها من العمومات؛إذ المخصّص یکون مبیّنا للعمومات القانونیّة و موضحا لها لا منافیا لها،و محلّ البحث و الکلام هنا هی مسألة التقنین و التشریع،فتکون علّة تقدّم الخاصّ علی العامّ هو عدم رؤیة العرف و العقلاء التنافی و التعارض بینهما فی مقام التقنین و إن کان ظهور الخاصّ أضعف من ظهور العامّ.

و لکن کان لأعاظم الفن هنا کلمات و أقوال متعدّدة و لا بدّ من ملاحظتها:

و منها:ما ذکره الشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه بعد بیان عناوین التخصیص و الورود و الحکومة:«أنّ ما ذکرنا-من الورود و الحکومة-جار فی الاصول اللفظیّة أیضا؛فإنّ أصالة الحقیقة أو العموم معتبرة إذا لم یعلم هناک قرینة علی المجاز».

و تعبیره بالمجاز فقط مع ذکره فی العنوان أصالة العموم أیضا؛لأنّه قائل بأنّ التخصیص فی العامّ مستلزم للمجازیّة،و تکون أصالة العموم من مصادیق أصالة الحقیقة،فیکون للعامّ و الخاصّ أیضا المعنی الحقیقی و المعنی المجازی، و اکتفاؤه فی العنوان-بقرینة المجاز-مبتن علی هذا القول،فأصالة العموم أیضا معتبرة ما إذا لم یعلم التخصیص.

ثمّ قال:«فإن کان المخصّص-مثلا-دلیلا علمیّا کان واردا علی الأصل المذکور،فالعمل بالنصّ القطعیّ فی مقابل الظاهر کالعمل بالدلیل العلمیّ فی مقابل الأصل العملیّ».

و یرد علیه:أنّ تسمیة هذا بالورود لیس بصحیح؛لکونه تخصّصا،و الفرق بینهما کما ذکرنا:أنّ التخصّص خروج موضوعی واقعا و تکوینا،مثل خروج الجاهل عن عموم أکرم العلماء،و أمّا الورود فهو خروج موضوعی بمعونة

ص:364

التعبّد،مثل ورود الروایة المعتبرة علی حدیث الرفع،فإنّ معنی قوله:«لا یعلمون»،-أی ما لا یکون للّه علی المکلّف حجّة،لا الیقین الوجدانی،و إذا دلّ الخبر الواحد علی وجوب شیء فهو حجّة تعبّدا،و إذا علمنا بتخصیص العامّ لا نحتاج إلی التعبّد؛فإنّ حجّیّة أصالة العموم متوقّفة علی عدم العلم بالتخصیص،و بعد العلم به یکون اسمه بحسب الاصطلاح تخصّصا.

ثمّ قال:و إن کان المخصّص ظنّیا معتبرا کان حاکما علی الأصل؛لأنّ معنی حجّیّة الظنّ جعل احتمال مخالفة مؤدّاه للواقع بمنزلة العدم-أی افرض نفسک کأنّک متیقّن-فی عدم ترتّب ما کان یترتّب علیه من الأثر لو لا حجّیّة هذه الأمارة،و هو وجوب العمل بالعموم؛فإنّ الواجب عرفا و شرعا العمل بالعموم عند احتمال وجود المخصّص و عدمه،فعدم العبرة باحتمال عدم التخصیص إلغاء للعمل بالعموم-أی افرض کأنّک عالم بالتخصیص فی جوّ التعبّد-فثبت أنّ النصّ وارد علی أصالة الحقیقة إذا کان قطعیّا من جمیع الجهات،و حاکم علیه إذا کان ظنیّا فی الجملة،کالخاصّ الظنّیّ السند مثلا.

ثمّ قال:و یحتمل أن یکون الظنّیّ أیضا واردا،بناء علی کون العمل بالظاهر عرفا و شرعا معلّقا علی عدم التعبّد بالتخصیص،فحالها حال الاصول العقلیّة -أی أصالة العموم معتبرة عند عدم التعبّد بالتخصیص،و إذا تحقّقت الروایة الظنیّة السند تحقّق التعبّد علی التخصیص تکوینا و واقعا،فتکون واردة علی العموم کورودها علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

و قوله:«فتأمّل»،لعلّه إشارة إلی عدم قبول هذا الاحتمال عنده.

ثمّ قال:هذا کلّه علی تقدیر کون أصالة الظهور من حیث أصالة عدم القرینة،و أمّا إذا کام من جهة الظنّ النوعیّ الحاصل بإرادة الحقیقة-الحاصل

ص:365

من الغلبة أو من غیرها-فالظاهر أنّ النصّ وارد علیها مطلقا و إن کان النصّ ظنّیا؛لأنّ الظاهر أنّ دلیل حجّیّة الظنّ الحاصل بإرادة الحقیقة-الذی هو مستند أصالة الظهور-مقیّد بصورة عدم وجود ظنّ معتبر علی خلافه،فإذا وجد ارتفع موضوع ذلک الدلیل،نظیر ارتفاع موضوع الأصل بالدلیل.

ثمّ قال:و یکشف عمّا ذکرنا أنّا لم نجد و لا نجد من أنفسنا موردا یقدّم فیه العامّ-من حیث هو-علی الخاصّ و إن فرض کونه أضعف الظنون المعتبرة، فلو کان حجّیّة ظهور العامّ غیر معلّق علی عدم الظنّ المعتبر علی خلافه،لوجد مورد یفرض فیه أضعفیّة مرتبة ظنّ الخاصّ من ظنّ العامّ حتّی یقدّم علیه،أو مکافئته له حتّی یتوقّف،مع أنّا لم نسمع موردا یتوقّف فی مقابلة العامّ من حیث هو و الخاصّ،فضلا عن أن یرجّح علیه.نعم،لو فرض الخاصّ ظاهرا أیضا خرج عن النصّ،و صار من باب تعارض الظاهرین،فربّما یقدّم العامّ (1).

و حاصل کلامه قدّس سرّه:أنّ المخصّص إن کان قطعیّا من جمیع الجهات یکون تقدّمه علی العامّ بنحو الورود،و إن کان ظنیّا من حیث السند یکون تقدّمه علیه بنحو الحکومة أو الورود،و إن کان ظنّیا من حیث الدلالة قد یکون مقدّما علیه و قد یتحقّق التعارض بینهما،و قد یکون العامّ مقدّما علیه.

و یرد علیه:أوّلا:أنّ التخصیص لا یکون مستلزما للمجازیّة فی العامّ علی ما هو التحقیق کما مرّ فی مباحث الألفاظ تفصیله.

و ثانیا:أنّ مرجع الاصول اللفظیّة-کأصالة العموم،و أصالة الحقیقة، و أصالة الإطلاق،و أصالة عدم القرینة-إلی أصالة الظهور،و أنّها من شعبها لا فی مقابلها،فالأصل العقلائیّ المعتبر عند العقلاء هو أصالة الظهور،و لکنّها

ص:366


1- 1) فرائد الاصول 4:15-17.

قد تتحقّق فی الاستعمالات فی المعنی الحقیقی،مثل«رأیت أسدا»،تسمّی بأصالة الحقیقة،و قد تتحقّق فی المعنی المجازی،مثل:رأیت أسدا یرمی»، -فکما أنّ قولنا:«رأیت أسدا»ظاهر فی المعنی الحقیقیّ،کذلک قولنا:«رأیت أسدا یرمی»ظاهر فی المعنی المجازی بلحاظ أقوائیّة ظهور القرینة فیه-و قد تتحقّق فی المعنی العامّ فتسمّی بأصالة العموم،و قد تتحقّق فی المعنی المطلق فتسمّی بأصالة الإطلاق،و یکون تعدّد الأسامی بلحاظ اختلاف الموارد،مع تحقّق أصالة الظهور فی الاستعمالات المجازیّة أیضا.

فلا مجال للبحث من کون حجّیّة أصالة الظهور من باب أصالة عدم القرینة أو من باب الظنّ النوعیّ بإرادة الحقیقة؛لعدم اختصاصها فی المعنی الحقیقی، فالأصل العقلائی المعتبر الشائع فی المحاورات عبارة عن أصالة الظهور.

و ثالثا:أنّه علی فرض إثبات حجّیّة أصالة الظهور و اعتبارها من باب الظنّ النوعی عند العقلاء،و المفروض أنّ الدلیل العمدة لحجّیّة المخصّص مثل الخبر المعتبر هو بناء العقلاء بضمیمة عدم ردع الشارع،فیکون بناء العقلاء ملاک الحجّیّة فی کلیهما،و لا دلیل لإطلاق دائرة حجّیّة أحدهما و تقیید دائرة حجّیّة الآخر بعدم الظنّ علی خلافه.

و رابعا:أنّ ما استفاده بعنوان النتیجة و القول بأنّ تقیّد حجّیّة هذا الظنّ النوعیّ دلیل علی عدم وجداننا موردا یقدّم فیه العامّ علی الخاصّ لیس بصحیح؛إذ دلیل تقدیم الخاصّ علی العامّ عند العقلاء-کما ذکرنا- أنّهم لا یروون فی مقام التقنین و جعل القانون بینهما مغایرة و اختلافا،بل الخاصّ بیان للعامّ،فلا تصحّ المقایسة بینهما من حیث أقوائیّة الظهور و التکافؤ،فیقدّم الخاصّ و إن کان فی أدنی مرتبة الظهور،فما ذکره قدّس سرّه

ص:367

من التفصیل لا یکون قابلا للالتزام.

و یستفاد من کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه:أنّ دلیل تقدّم الخاصّ علی العامّ أنّ الخاصّ إمّا نصّ بالنسبة إلیه،و إمّا أظهر،و بناء العقلاء علی کون النصّ أو الأظهر قرینة علی التصرّف فی الظاهر،فیکون المخصّص أبدا أقوی ظهورا فلذا یقدّم علی العامّ (1).

و جوابه:أنّ کلّیّة هذا المعنی لا تکون قابلة للقبول؛إذ لا یتصوّر أظهریّة المخصّص فی بعض الموارد،کما إذا قال المولی:«أکرم کلّ عالم»،ثمّ قال:«أهن کلّ عالم فاسق»؛إذ لا فرق بینهما من حیث ظهور الألفاظ و مقام الدلالة،و إن کان انطباق الخاصّ علی مورده أوضح و أظهر من انطباق العامّ بلحاظ قلّة المصداق،و لکنّه لا یرتبط بمقام الدلالة و ظهور اللفظ،فلا تکون أقوائیّة ظهور الخاصّ بنحو الکلّی،و طریق تقدیم الخاصّ بنحو الکلّی منحصر بما ذکرناه.

و یستفاد من کلام المحقّق النائینی قدّس سرّه:أوّلا:ما یکون بمنزلة الصغری،و هو:

أنّ الخاصّ یکون قرینة علی التصرّف فی ظهور العامّ و عدم إرادة ظهوره؛فإنّه قطعیّ الدلالة.

و ثانیا:ما یکون بمنزلة الکبری،و هو:أنّ الظهور فی کلّ قرینة یکون حاکما علی أصالة الظهور فی ذی القرینة،و علّة تقدّمه علیها عبارة عن الحکومة،و إن کان ظهور القرینة أضعف من ظهور ذی القرینة،مثل تقدّم ظهور کلمة «یرمی»فی قولنا:«رأیت أسدا یرمی»علی ظهور کلمة«الأسد»مع أنّ ظهوره أضعف من کلمة الأسد فی المعنی الحقیقیّ؛فإنّه ظهور إطلاقی بخلاف ظهور کلمة الأسد؛لکونه ظهورا وضعیّا،و أقوائیّة الظهور الوضعیّ بالنسبة

ص:368


1- 1) کفایة الاصول 2:381.

إلی الظهور الإطلاقی ممّا لا ریب فیه،و مع ذلک یکون مقدّما علیه من باب حکومة أصالة الظهور فی القرینة علی أصالة الظهور فی ذی القرینة عند العقلاء؛لکونها مفسّرا و مبیّنا لذیها (1).

و الإشکال علیه یتوقّف علی بیان مقدّمة،و هی:أنّ مورد جریان الاصول -لفظیّة کانت أو عملیّة،شرعیّة کانت أو عقلائیّة-عبارة عن صورة الشکّ، و لا مجال لجریانها فی صورة الیقین بالمراد،فکما لا مجال للتمسّک بأصالة الطهارة فی صورة العلم بطهارة شیء أو العلم بنجاسته،و کذلک لا مجال للتمسّک بأصالة الظهور فی صورة العلم بمراد المتکلّم من قوله:«رأیت أسدا» بأیّ طریق،و أنّه الحیوان المفترس أو الرجل الشجاع.

إذا عرفت ذلک فنقول:یمکن القول بأنّ کلمة«الأسد»فی المثال تکون قرینة علی التصرّف فی کلمة«یرمی»لا بالعکس؛إذ التصرّف فی الظهور الإطلاقی أولی و أسهل من التصرّف فی الظهور الوضعیّ،فیکون معناه فی الواقع رأیت أسدا یرمی بالمخلب؛إذ الأسدیّة تلازم الرمی بالمخلب،فلا دلیل لأن تکون کلمة«یرمی»قرینة،و کلمة«الأسد»ذی القرینة.

إن قلت:علمنا بقرینیّة کلمة«یرمی»بطریق من الطرق.

قلت:إذا کنت عالما بالقرینة فلا مجال للتمسّک بأصالة الظهور،و لا تصل النوبة إلیها،و حکومة أصالة الظهور فی القرینة علی أصالة الظهور فی ذیها،فإنّ مورد جریانها صورة الشکّ فی مراد المتکلّم،و بعد إحراز القرینة لا یبقی مجال للشکّ فی القرینیّة،فلا مجال لجریان أصالة الظهور و التمسّک بها حتّی نقول بحکومة أحد الأصلین علی الآخر،و إذا لم تکن القرینیّة محرزة فلا أثر

ص:369


1- 1) فوائد الاصول 4:723-725.

للحاکمیّة و المحکومیّة.

و التحقیق:أنّ الملاک فی تشخیص القرینیّة منحصر فی أقوائیّة الظهور، و کلمة«یرمی»فی المثال تکون أقوی ظهورا فی الرمی بالنبل عند العرف، و لعلّه کان منشأ ضعف ظهور کلمة«الأسد»شیوع استعمالها فی المعنی المجازی، فیصیر الظهور الوضعی بلحاظ غلبة الاستعمال فی المجاز موهونا فی مقابل الظهور الإطلاقی،و لا تتحقّق قاعدة کلّیّة لأقوائیّة الظهور؛لاختلافها بحسب المقامات و الموارد،فإذا کان الملاک لتشخیصها أقوائیّة الظهور فلا یبقی مجال للحاکمیّة،و بهذا الملاک یکون الخاصّ مقدّما علی العامّ،هذا أوّلا.

و ثانیا:لو سلّمنا کلّیّة تقدّم أصالة الظهور فی القرینة علی أصالة الظهور فی ذی القرینة بنحو الحکومة لا یصحّ الالتزام بکون الخاصّ،قرینة علی التصرّف فی العامّ و فی مقابل العامّ؛لعدم مغایرته معه و عدم التنافی بینهما،کما ذکرنا أنّ التخصیص لا یستلزم المجازیّة فی العامّ؛إذ التخصیص تضییق فی دائرة المراد الجدّی للمتکلم،و لا دخل له فی المراد الاستعمالی و الإرادة الاستعمالیّة و المستعمل فیه،و لا فرق من هذه الجهة بین العامّ المخصّص و غیره، کما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه.

و ذکرنا أیضا أنّ عدم التنافی و التعارض مختصّ بمقام جعل القانون و محیط التقنین،و لا یتحقّق فی المحاورات العرفیّة و التألیفات و التصنیفات و الرسائل العملیّة؛فإنّ الفقیه لا یکون مقنّنا،بل هو فی مقام الإخبار عمّا استنبطه من القانون،فلا ینبغی له الحکم فی مورد بخلاف ما حکم به بنحو العموم؛إذ یتحقّق التنافی بینهما لدی العرف و العقلاء.

و أمّا الشائع فی مقام التقنین فهو جعل القانون بنحو العموم،ثمّ إلحاق

ص:370

التخصیص و التبصرة به بحسب اقتضاء الشرائط و الموارد،و ربّما لا یلتفت المقنّن فی حال جعل القانون إلی موارد التبصرة و التخصیص،مع ذلک قابلیّة إلحاق التبصرة لکلّ قانون محفوظة،فلذا نری إلحاق التبصرة إلیه تدریجا بعد الالتفات إلی مواردها،فلا منافاة بین العامّ و الخاصّ عند العقلاء فی محیط التقنین حتی یکون الخاصّ قرینة علی التصرّف فیه.

نکتة:ذکرنا فیما تقدّم أنّ الاصول اللفظیّة-مثل أصالة الحقیقة و أصالة العموم و أصالة عدم القرینة و أصالة الإطلاق-من شعب أصالة الظهور،و أنّها لا تختصّ فی الاستعمالات الحقیقیّة،بل تجری فی الاستعمالات المجازیّة أیضا، فلا تجری أصالة الظهور لتشخیص صغری الظهور،و أنّ هذا المعنی ظاهر من هذا اللفظ أم لا،بل تجری لتشخیص الکبری،و معناها أصالة کون الظهور مرادا جدّیّا للمتکلّم،و یعبّر عنها بأصالة التطابق بین الإرادة الاستعمالیّة و الإرادة الجدیّة،فلا یصحّ أن یکون مستند أصالة الظهور هو أصالة عدم القرینة؛إذ تتحقّق فی مثل قولنا:«رأیت أسدا یرمی»أصالة الظهور،بخلاف أصالة عدم القرینة،بل یکون مستندها بناء العقلاء الثابت فی الألفاظ و الأعمال و الأفعال؛لحملهم الأعمال الموجبة للوهن علی الالتفات و الإرادة الجدیّة إلاّ أن یتحقّق دلیلا علی الخلاف.

و الحاصل:أنّ تقدّم الخاصّ علی العامّ لا یکون بلحاظ أظهریّة الخاصّ، و لا بلحاظ حکومة أصالة الظهور فی الخاصّ علی أصالة الظهور فی العامّ،بل لعدم المنافاة بینهما فی محیط التقنین عند العقلاء،فلا تشملهما الأخبار العلاجیّة من الترجیح و التخییر فی صورة فقدان المرجّحات.

و لکن یستفاد من کلام صاحب الکفایة قدّس سرّه-بعد الاعتراف بعدم تحقّق

ص:371

المنافاة و التعارض بینهما و بمساعدة نظر المشهور لهذا المعنی-أنّ شمول الأخبار العلاجیّة لهما یمکن أن یکون لأحد الامور التالیة:

الأوّل:أن یکون السؤال فیها بملاحظة التحیّر فی الحال و النظر البدوی؛ لأجل ما یتراءی من المعارضة و إن کان یزول عرفا بحسب المآل.

الثانی:أن یکون السؤال للتحیّر فی الحکم واقعا و إن لم یتحیّر فیه ظاهرا، و هو کاف فی صحّة السؤال قطعا.

الثالث:أن یکون السؤال لاحتمال الردع شرعا عن هذه الطریقة المتعارفة بین أبناء المحاورة فی المعاملة مع العامّ و الخاص.و جلّ العناوین المأخوذة فی أسئلة الأخبار العلاجیّة تعمّ هذه الامور کما لا یخفی.انتهی کلامه مع زیادة توضیح (1).

و التحقیق:أنّ هذا الکلام لا یکون قابلا للالتزام به؛إذ التحیّر الابتدائی الزائل بأدنی تأمّل لا یقتضی کونهما داخلین فی عنوان المتعارضین حتی نحتاج إلی علاج التنافی و التعارض بالأخبار العلاجیّة،بعد مرجعیّة النظر الدقّی للعرف فی هذه الموارد لا نظره البدوی.

مع أنّا لا نری فی الأخبار العلاجیّة موردا کان السؤال فیه عن العامّ و الخاصّ حتّی نقول بکون السائل متحیّرا فی الحکم الظاهریّ و الواقعیّ،بل کان السؤال فیها عن مطلق الخبرین المتعارضین مع حجّیّة کلیهما و وظیفة المکلّف بالنسبة إلیهما.

علی أنّه لا نجد فی الأخبار العلاجیّة بعد التتبّع فیها من السؤال عن ردع الشارع عن الطریقة المتعارفة بین العقلاء بالنسبة إلیهما و عدمه أثرا و لا خبرا.

ص:372


1- 1) کفایة الاصول 2:402.

و علی فرض إمکان وجوده یمکن أن یکون جواب الإمام علیه السّلام عدم الردع عن الطریقة المذکورة.

و المحقّق الحائری قدّس سرّه أیضا قائل بشمول الأخبار العلاجیّة للعامّ و الخاصّ بعد الاعتراف بأنّ عدم تحقّق المعارضة بینهما من المرتکزات العرفیّة،و لکن مع ذلک یقول بعدم استلزام هذا لحمل السؤالات الواردة فی الأخبار علی غیر مورد العامّ و الخاصّ؛إذ المرتکزات العرفیّة لا یلزم أن تکون مشروحة و مفصّلة عند کلّ أحد حتّی یری السائل فی هذه الأخبار عدم احتیاجه إلی السؤال عن حکم العامّ و الخاصّ المنفصل و أمثاله؛إذ ربّ نزاع بین العلماء یقع فی الأحکام العرفیّة مع أنّهم من أهل العرف.

ثمّ قال:سلّمنا التفات کلّ الناس إلی هذا الحکم حتّی لا یحتمل عدم التفات السائلین فی تلک الأخبار،فمن الممکن السؤال أیضا لاحتمال عدم إمضاء الشارع هذه الطریقة.

و جوابه:أنّه سلّمنا عدم لزوم کون المرتکزات العرفیّة مشروحة...و لکن لا نری فی الأخبار العلاجیّة أثر من السؤال عن کلّی العامّ و الخاصّ،و لا من مصادیقهما،بل السؤال فیها عن الخبرین المتعارضین أو الحدیثین المختلفین، و عدم مشروحیّة المرتکز العرفی عند بعض أهل العرف لا یوجب أن یکون السؤال عن الخبرین المتعارضین شاملا للعامّ و الخاصّ،و عدم التفات السائل إلی ما هو المرتکز عند العرف.

ثمّ قال قدّس سرّه:«و دعوی السیرة القطعیّة علی التوفیق بین العامّ و الخاصّ و المطلق و المقیّد من لدن زمان الأئمّة علیهم السّلام،و عدم رجوع أحد العلماء إلی المرجّحات الأخر یمکن منعها،کیف؟و لو کانت لما خفیت علی مثل شیخ

ص:373

الطائفة قدّس سرّه،فلا یظن بالسیرة،فضلا عن القطع،بعد ذهاب مثله إلی العمل بالمرجّحات فی تعارض النصّ و الظاهر،کما یظهر من عبارته المحکیّة عنه فی الاستبصار و العدّة،و قد نقل العبارتین شیخنا المرتضی الأنصاری قدّس سرّه فی رسالة التعادل و التراجیح (1)، فلاحظ.

و جوابه:أنّ لازم عدم کون الخاصّ مخصّصا للعامّ أن لا یبقی مجال للبحث عن العامّ و الخاصّ فی علم الاصول،و لا بدّ من ملاحظة المرجّحات فیهما و تقدیم ذو المزیّة أو التخییر،مع أنّا نری عدم حذف شیخ الطائفة البحث المذکور عن کتاب العدّة،و معناه التزامه بتخصیص العامّ بالخاص.

علی أنّه لا نری فی کتبه الفقهیّة من المبنی المذکور أثرا و لا خبرا،مع أنّ لازم الالتزام به ترتّب أحکامه علیه فی الفقه،مع أنّه لا یستفاد من عبارة کتاب العدّة و الاستبصار هذا المعنی.

ثمّ قال:و یؤیّد عموم الأخبار ما ورد فی روایة الحمیری عن الحجّة علیه السّلام من قوله علیه السّلام:«فی الجواب عن ذلک حدیثان:أمّا أحدهما فإذا انتقل من حالة إلی اخری فعلیه التکبیر،و أمّا الآخر فإنّه روی أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانیّة و کبّر ثمّ جلس ثمّ قام فلیس علیه فی القیام بعد القعود تکبیر...» (2).

و لا شکّ أنّ الثانی أخصّ من الأوّل مطلقا،مع أنّه علیه السّلام أمر بالتخییر بقوله فی آخر الخبر:«و بأیّهما أخذت من باب التسلیم کان صوابا».

و جوابه:أوّلا:أنّ مکاتبات الحمیری من حیث السند مورد للإشکال،کما ثبت فی محلّه.

ص:374


1- 1) فرائد الاصول 4:82-83.
2- 2) الوسائل 18:87،الباب 9 من أبواب صفات القاضی،الحدیث 39.

و ثانیا:أنّ جواب الإمام علیه السّلام:«بأیّهما أخذت من باب التسلیم کان صوابا» -المشعر بعدم علم الإمام علیه السّلام بحکم المسألة-فی جواب السؤال عن حکم شخصیّ و واقعة شخصیّة لا یناسب مقامه علیه السّلام.

و ثالثا:أنّ حکم الإمام علیه السّلام بالتخییر یکون فی الواقع تقدیم الخاصّ علی العامّ و إلغاء الدلیل العامّ؛فإنّ مفاده وجوب التکبیر علی من انتقل من حالة إلی اخری،و مفاد الخاصّ عدم وجوبه فی ابتداء الرکعة الثانیة و الثالثة.

ثمّ ذکر روایة اخری تأییدا لما ادّعاه بقوله:«و کذا ما رواه علیّ بن مهزیار، قال:قرأت فی کتاب لعبد اللّه بن محمّد إلی أبی الحسن علیه السّلام:اختلف أصحابنا فی روایاتهم عن أبی عبد اللّه علیه السّلام فی رکعتی الفجر فی السفر،فروی بعضهم:

«صلّهما فی المحمل»،و روی بعضهم:«لا تصلّهما إلاّ علی وجه الأرض...» (1)، و واضح أنّ الروایتین من قبیل النصّ و الظاهر؛لأنّ الاولی نصّ فی الجواز، و الثانیّة ظاهرة فی عدمه؛لإمکان حملها علی أنّ إیقاعها علی الأرض أفضل، مع أنّه علیه السّلام أمر بالتخییر بقوله علیه السّلام:«موسّع علیک بأیّة عملت».

و الإشکال علیه أیضا ما ذکرناه من عدم تناسب الجواب بالتخییر فی واقعة شخصیّة مع مقام الإمام کما لا یخفی،فالسیرة المستمرّة القطعیّة محکمة فی تقدیم الخاصّ علی العامّ بلا ریب کما ذهب إلیه المشهور.

ص:375


1- 1) الوسائل 18:88،الباب 9 من أبواب صفات القاضی،الحدیث 44.

ص:376

فصل: فی قاعدة الجمع مهما أمکن أولی من الطرح

فی قاعدة الجمع مهما أمکن أولی من الطرح

و لا بدّ من البحث فی القضیّة المشهورة،و هی:أنّ الجمع بین الدلیلین مهما أمکن أولی من الطرح،و الظاهر أنّ المراد من الطرح أعمّ من طرح أحدهما لمرجّح فی الآخر،فیکون الجمع مع التعادل أولی من التخییر،و مع وجود المرجّح أولی من الترجیح،کما یستفاد من کلام الشیخ ابن أبی جمهور الأحسائی فی عوالی اللئالی؛فإنّه قال:«إنّ کلّ حدیثین ظاهرهما التعارض یجب علیک:أوّلا:البحث عن معناهما و کیفیّة دلالة ألفاظهما،فإن أمکنک التوفیق بینهما بالحمل علی جهات التأویل و الدلالات فاحرص علیه و اجتهد فی تحصیله؛فإنّ العمل بالدلیلین مهما أمکن خیر من ترک أحدهما و تعطیله بإجماع العلماء،فإذا لم تتمکّن من ذلک و لم یظهر لک وجهه،فارجع إلی العمل بهذا الحدیث»-و أشار بهذا إلی مقبولة عمر بن حنظلة-انتهی (1).

و لا یخفی أنّ کلمة«أولی»فی القاعدة بمعنی الأولویّة التعیّنیّة،لا الأولویّة الرجحانیّة،کما فی قوله تعالی: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ (2)،

ص:377


1- 1) عوالی اللئالی 4:136.
2- 2) عوالی اللئالی 4:136.

فلا یبقی للترجیح بمفاد الأخبار العلاجیّة إلاّ الموارد النادرة.

و استدلّ علی القاعدة بهذا المعنی:أوّلا:بإجماع العلماء،کما ذکره الأحسائی قدّس سرّه.و جوابه:مع عدم شمول أدلّة الحجّیّة للإجماع المنقول بخبر واحد أنّ سیرة الأصحاب و العلماء فی الفقه خلاف ذلک من حیث العمل و الفتوی؛ فإنّا نری کثیرا ما تمسّکهم بالأخبار العلاجیّة فی الخبرین المتعارضین مع إمکان الجمع بالمعنی المذکور-أی جهات من التأویل-فیهما،فیلزم أن یکون مورد الأخبار العلاجیّة مع کثرتها فی غایة القلّة.

و ثانیا:بأنّ الأصل فی الدلیلین الإعمال،فیجب الجمع بینهما بما أمکن؛ لاستحالة الترجیح من غیر مرجّح.

و جوابه-بعد عدم انطباقه علی المدّعی؛فإنّ مفاد القاعدة تقدّم الجمع علی الأخبار العلاجیّة و إعمال المرجّحات بلا فرق بین وجود الترجیح و عدمه، و مفاد الدلیل تقدّمه فی صورة فقدان المرجّح-أنّ المراد من الدلیلین إن کان الدلیلین المتعارضین لا نسلّم أن یکون الأصل فیهما الإعمال،بل الأصل فیهما التساقط بمقتضی حکم العقل کما ذکر فی محلّه،و إن کان الدلیلین مع قطع النظر عن التعارض فلا یرتبط بالبحث.

و ثالثا:بأنّ دلالة اللفظ علی تمام معناه أصلیّة و علی جزئه تبعیّة،و علی تقدیر الجمع یلزم إهمال الدلالة التبعیّة،و هو أولی ممّا یلزم علی تقدیر عدمه، و هو إهمال الدلالة الأصلیّة.

و جوابه:أنّ هذا الدلیل أیضا لا ینطبق علی المدّعی؛فإنّ تمام المدلول و جزء المدلول یتصوّر فی العامّ و الخاصّ فقط؛إذ دلالة«أکرم العلماء»-مثلا-بالنسبة إلی مجموع أفراده دلالة أصلیّة،و بالنسبة إلی بعض أفراده دلالة تبعیّة،فإذا

ص:378

کان الخاصّ مخصّصا للعامّ و خرج بعض الأفراد کالفسّاق عنه فیلزم إهمال الدلالة التبعیّة،و لا یتصوّر هذا المعنی فی مثل قوله:«تجب صلاة الجمعة»، و قوله:«لا تجب صلاة الجمعة»و نحو ذلک،مع کون الوجوب أمرا بسیطا کما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه

و من هنا یستفاد أنّ مفاد القاعدة لا یکون شیئا جدیدا؛إذ المراد من الجمع هو الجمع العقلائیّ و المقبول عند العقلاء-أی النصّ قرینة للتصرّف فی الظاهر، و هکذا الأظهر قرینة للتصرّف فیه،و المقیّد قرینة للتصرّف فی المطلق بعد ملاحظة التعارض البدوی بینهما،و أمّا بالنسبة إلی العامّ و الخاصّ فذکرنا فی مقام التعلیل لعدم شمول الأخبار العلاجیّة لهما أنّ التنافی و التعارض لا یتحقّق بینهما عند العرف-فإذا تحقّق الجمع العقلائی لا یتحقّق عنوان التحیّر و الإبهام، فلا محالة خارج عن دائرة الأخبار العلاجیّة،و القاعدة بهذا المعنی لا تحتاج إلی دلیل خاصّ و هی مورد قبول بلا إشکال و یساعدها العرف.

و لکن قد أتعب الشیخ الأنصاری قدّس سرّه نفسه و أطال الکلام فی فقدان الدلیل الدال علی القاعدة بمعناها المعروف،و سلّم فی خلال کلماته بجریانها فی مورد بصورة الاستدراک،و هو فیما إذا کان ظاهر الدلیلین القاعدة مع کونهما مقطوعی الصدور کالآیتین أو الروایتین المتواترین،فتکون قطعیّة السند قرینة للتصرّف فی الظاهرین أو أحدهما بحملهما أو أحدهما علی خلاف الظاهر،فلا بدّ من التصرّف فی مقام الدلالة (1).

و جوابه:أنّ القرآن ینادی بأعلی صوته: لَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً (2)،فإذا فرضنا الاختلاف و التعارض بین الآیتین إن کان

ص:379


1- 1) فرائد الاصول 4:27.
2- 2) النساء:82.

المراد منه التعارض الاستقراری فهو منفیّ بهذه الآیة،و لا یتحقّق فی القرآن، و إن کان المراد منه التعارض البدوی فلا یرتبط بالقاعدة.

و أمّا إن کان التعارض بین الروایتین المتواترین بحسب الظاهر فلا ینحصر طریق الالتئام بینهما بما ذکره قدّس سرّه،و هو حمل أحدهما علی التقیّة و صدوره خوفا و اتّقاء لدماء الشیعة،و هذا لا ینافی تواتر السند کما لا یخفی.

و ممّا ذکرنا یظهر أنّ خروج النصّ و الظاهر،و الأظهر و الظاهر من الأخبار العلاجیّة یکون خروجا موضوعیّا؛إذ الموضوع فیها الخبران المتعارضان و الحدیثان المختلفان،و بعد تحقّق الجمع الدلالیّ المقبول عند العقلاء بینهما فلا یبقی عنوان التعارض و الاختلاف فیهما،و لا فرق بینهما من هذه الجهة.

و لکنّ الشیخ الأنصاری قدّس سرّه فی المقام الرابع من رسالة التعادل و الترجیح قائل بالفرق بین النصّ و الظاهر،و الأظهر و الظاهر من جهتین:

الجهة الاولی:أنّ خروج النصّ و الظاهر من الأخبار العلاجیّة خروج موضوعیّ بخلاف الأظهر و الظاهر؛فإنّ خروجهما منها خروج حکمیّ،مثل خروج الفسّاق من عموم«أکرم العلماء».

و جوابه أوّلا:أنّ خروج الأظهر و الظاهر منها أیضا خروج موضوعیّ و إلاّ یلزم أن یتحقّق التعارض بینهما فی جمیع الاستعمالات المجازیّة حقیقة،مثل:

«رأیت أسدا یرمی»،و هذا ممّا لم یلتزم به أحد.

و ثانیا:لو سلّمنا عدم خروجهما من موضوع التعارض لا شکّ فی احتیاج التخصیص و الإخراج الحکمیّ إلی الدلیل المخرج،مع أنّ المراد من التعارض فیها هو التعارض الاستقراری-أی بقاء التحیّر بعد التأمّل و الدقّة أیضا-لا التعارض البدوی،فلا دلیل لخروجهما عنها.

ص:380

الجهة الثانیة:أنّ النصّ قرینة للتصرّف فی الظاهر و مقدّم علیه أبدا بلا قید و شرط،بخلاف الأظهر؛فإنّ قرینیّته و تقدّمه علی الظاهر مقیّد بالمقبولیّة عند العقلاء (1).

و الإنصاف:أنّ قید المقبولیّة عند العقلاء لا شبهة فی دخالته فی الجمع العرفی، سواء کان فی الأظهر و الظاهر أو النصّ و الظاهر؛إذ التعارض قد یتحقّق فی النصّ و الظاهر عند العقلاء،کما فی قوله:«صلّ فی الحمام»فإنّه ظاهر فی الدلالة علی الوجوب و نصّ فی الدلالة علی المشروعیّة،و قوله:«لا تصلّ فی الحمام» فإنّه ظاهر فی عدم المشروعیّة،و مع ذلک یتحقّق التعارض بینهما عند العقلاء، فالمعیار فی هذه الموارد نظر العرف و مساعدة العقلاء بدون الفرق بین الأظهر و الظاهر،و النصّ و الظاهر.

ص:381


1- 1) فرائد الاصول 4:81-82.

ص:382

فصل: فی تشخیص موارد النصّ و الظاهر عن الأظهر و الظاهر

اشارة

فی تشخیص موارد النصّ و الظاهر عن الأظهر و الظاهر

و التحقیق:أنّه لا یمکن لنا جعل القانون الکلّیّ و الضابطة الکلّیّة لتعیین مواردهما؛لارتباطهما بمقام الدلالة و تختلف الدلالة بحسب اختلاف المقامات و الموارد،و مع ذلک نری فی کلمات المحقّقین من الاصولیّین ذکر کلّیّات منها بعنوان المصداق لهما،و لا بدّ من البحث فیها لترتّب الأثر الفقهی علیها، و ملاحظتها من حیث التمامیّة و عدمها،و نتعرّض لما ذکره المحقّق النائینیّ قدّس سرّه لأنّه جامع فی المقام،و نضمّ إلیه ما عندنا من إشکال.

فنقول:قال المحقّق النائینی قدّس سرّه:فمن الموارد التی تندرج فی النصوصیّة ما إذا کان أحد الدلیلین أخصّ من الآخر و کان نصّا فی مدلوله،قطعیّ الدلالة؛فإنّه یوجب التصرّف فی العامّ ورودا أو حکومة،علی التفصیل المتقدّم.

و منها:ما إذا کان لأحد الدلیلین قدر متیقّن فی مقام التخاطب؛فإنّ القدر المتیقّن فی مقام التخاطب و إن کان لا ینفع فی مقام تقیید الإطلاق ما لم یصل إلی حدّ یوجب انصراف المطلق إلی المقیّد،إلاّ أنّ وجود القدر المتیقّن ینفع فی مقام رفع التعارض عن الدلیلین؛فإنّ الدلیل یکون کالنصّ فی القدر المتیقّن،فیصلح لأن یکون قرینة علی التصرّف فی الدلیل الآخر مثلا:لو کان مفاد أحد

ص:383

الدلیلین وجوب إکرام العلماء،و کان مفاد الآخر حرمة إکرام الفسّاق،و علم من حال الآمر أنّه یبغض العالم الفاسق و یکرهه أشدّ کراهة من الفاسق الغیر العالم،فالعامّ الفاسق متیقّن الاندراج فی عموم قوله:«لا تکرم الفساق»، و یکون بمنزلة التصریح بحرمة إکرام العالم الفاسق،فلا بدّ من تخصیص قوله:

«أکرم العلماء»بما عدا الفسّاق منهم (1).

و استشکل علیه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه:أولا:بأنّ القدر المتیقّن الذی یوجب أن یکون الدلیل نصّا بالنسبة إلیه هو ما یوجب الانصراف،و لیس له فردان،فرد موجب للانصراف،و فرد غیر موجب له،و مع وجود الانصراف لا تعارض بین الدلیلین أصلا،بل یصیران من قبیل العامّ و الخاصّ المطلق الذی عرفت أنّه لا یصدق علیهما عنوان التعارض أصلا.

و ثانیا:أنّه علی تقدیر تسلیم کون القدر المتیقّن مطلقا موجبا لصیرورة الدلیل نصّا بالنسبة إلیه نقول:تخصیص ذلک بخصوص ما إذا کان هنا قدر متیقّن فی مقام التخاطب لا وجه له؛فإنّ النصوصیّة علی تقدیرها ثابتة بالنسبة إلی مطلق القدر المتیقّن،سواء کان فی مقام التخاطب أو فی غیر هذا المقام.

و ثالثا-و هو العمدة فی الجواب-:أنّ المراد بالقدر المتیقّن إن کان هو المقدار الذی علم حکمه بحیث لم یکن فی الحکم المتعلّق به ریب و لا شبهة، مثلا:علم فی المثال أنّ العالم الفاسق محرّم الإکرام،فمع وجود هذا العلم یتحقّق الانصراف بالنسبة إلی الدلیل الآخر الدالّ بظاهره علی وجوب إکرام العلماء عموما؛فإنّه مع العلم بعدم وجوب إکرام العالم الفاسق بل حرمته کیف یبقی الشکّ فی مقدار دلالة ذلک الدلیل و إن کان ظاهره العموم؟

ص:384


1- 1) فوائد الاصول 4:728.

و إن کان المراد به أنّ ذلک المقدار متیقّن علی تقدیر ثبوت الحکم بالنسبة إلی غیره-مثلا:لو کان الجاهل الفاسق محرّم الإکرام لکان العالم الفاسق کذلک قطعا بحیث کان المعلوم هو الملازمة بین الأمرین،بل ثبوت الحکم فی القدر المتیقّن بطریق أولی-فمن المعلوم أنّ ذلک لا یوجب کون الدلیل الظاهر فی حرمة إکرام مطلق الفسّاق نصّا بالنسبة إلی العالم الفاسق،بل غایته عدم إمکان التفکیک و إدراج مورد الاجتماع فی الدلیل الآخر،و أمّا تقدیمه علی ذلک الدلیل فلا،فلم لا یعاملان معاملة المتعارضین؟

و بعبارة اخری:اللازم ممّا ذکر عدم جواز تقدیم الدلیل الآخر علی هذا الدلیل؛لاستلزام التقدیم الانفکاک الذی یکون معلوم الخلاف،و أمّا لزوم تقدیم هذا الدلیل و الحکم بحرمة إکرام جمیع الفسّاق لأجل ما ذکر فلا دلیل علیه،بل یمکن معاملتهما معاملة المتعارضین؛لأنّها أیضا لا یوجب الانفکاک، فتدبّر جیّدا (1).

و منها:ما إذا کانت أفراد أحد العامّین من وجه بمرتبة من القلّة بحیث لو خصّص بما عدا مورد الاجتماع مع العامّ الآخر یلزم التخصیص المستهجن، فیجمع بین الدلیلین بتخصیص ما لا یلزم منه التخصیص المستهجن و إبقاء ما یلزم منه ذلک علی حاله؛لأنّ العامّ یکون نصّا فی المقدار الذی یلزم من خروجه عنه التخصیص المستهجن،و لا عبرة بقلّة أحد أفراد العامّین و کثرتها، بل العبرة باستلزام التخصیص المستهجن (2).انتهی.

و یرد علیه:أوّلا:أن النصوصیّة من حالات الدلالة،و استلزام التخصیص

ص:385


1- 1) معتمد الاصول 2:344-345.
2- 2) فوائد الاصول 4:728.

للاستهجان العقلی لا یغیّر حال الدلالة أصلا،مع أنّ لازم ذلک أن یکون لمثل «أکرم العلماء»دلالتان:إحداهما الدلالة النصّیّة بالنسبة إلی حدّ التخصیص المستهجن،و الاخری الدلالة الظهوریّة بالنسبة إلی الأقلّ منه،و ما سمعنا بهذا فی آبائنا الأوّلین.

و ثانیا:أنّ استلزام تقدیم العامّ الآخر للتخصیص المستهجن إنّما یمنع من التقدیم،و لا یوجب تقدیم ما یلزم من تخصیصه ذلک،فیمکن معاملتهما معاملة المتعارضین،فالدلیل لا ینطبق علی المدّعی؛إذ المدّعی هو تقدیم ما یلزم من تخصیصه الاستهجان،و الدلیل لا یدلّ إلاّ علی المنع من تقدیم العامّ الآخر الذی لا یوجب تخصیصه ذلک.

و منها:ما إذا کان أحد الدلیلین واردا مورد التحدیدات و الأوزان و المقادیر و المسافة و نحو ذلک؛فإنّ وروده فی هذه الموارد یوجب قوّة الظهور فی المدلول بحیث یلحقه بالنصّ،فیقدّم علی غیره عند التعارض (1)انتهی.

و یرد علیه:أوّلا:أنّ الفرق بین الأدلّة الواردة فی مقام التحدیدات و غیرها لیس بصحیح؛إذ المعیار فی تشخیص مفاد الروایات هو نظر العرف الدقّیّ،بلا فرق بین ما ورد فی مقام التحدید و غیره،کما لا یخفی.

و ثانیا:أنّ النتیجة فی الروایات الواردة فی مقام التحدید أیضا تختلف بملاحظات مختلفة،کما فی مسألة الکرّ-أی ثلاثة أشبار و نصف فی ثلاثة أشبار و نصف فی ثلاثة أشبار و نصف-فإنّ الشبر المتوسط-مثلا-یختلف بالنسبة إلی الأشبار المتوسطة،و هکذا،فکیف تکون فی مفادها نصّا؟فلذا نری البحث و الإشکالات المهمّة فی هذه المسألة بین الفقهاء بلحاظ اختلاف نتیجة التحدید

ص:386


1- 1) المصدر السابق.

بالوزن مع التحدید بالأشبار مع ورود کلیهما فی مقام تعریف و تحدید الکرّ،فلا یقتضی الوقوع فی مقام التحدید النصوصیّة.

و منها:ما إذا کان أحد العامّین من وجه واردا فی مورد الاجتماع مع العامّ الآخر،کما إذا ورد قوله:«کلّ مسکر حرام»جوابا عن سؤال حکم الخمر، و ورد أیضا ابتداء قوله:«لا بأس بالماء المتّخذ من التمر»،فإنّ النسبة بین الدلیلین و إن کانت هی العموم من وجه،إلاّ أنّه لا یمکن تخصیص قوله:«کلّ مسکر حرام»بما عدا الخمر؛فإنّه لا یجوز إخراج المورد؛لأنّ الدلیل یکون نصّا فیه،فلا بدّ من تخصیص قوله:«لا بأس بالماء المتّخذ من التمر»بما عدا الخمر (1)،انتهی.

و هذا إنّما یتمّ فیما لو کانت النسبة بین المورد و الدلیل الآخر العموم و الخصوص مطلقا کما فی المثال،حیث إنّ النسبة بین الخمر و بین قوله:«لا بأس بالماء المتّخذ من التمر»هو العموم المطلق،بناء علی إطلاق لفظ الخمر علی المسکر من الماء المتّخذ من التمر فقط،کما هو المفروض؛ضرورة أنّه بدونه لا تعارض بین الدلیلین.

و أمّا لو کانت النسبة بین المورد و الدلیل الآخر هو العموم من وجه-أی بناء علی إطلاق لفظ الخمر علی الأعم من الماء المتّخذ من التمر-فلا وجه لهذا التقدیم؛فإنّ نصوصیّة«کلّ مسکر حرام»ثابتة بالنسبة إلی الفرد المتّخذ من التمر،بلحاظ کونه القدر المتیقّن و مورد السؤال،و أمّا بالنسبة إلی غیره فتتحقّق المعارضة بین العامّین.

و أمّا الموارد التی ادّعی اندراجها فی الأظهر و الظاهر فهی:

ص:387


1- 1) المصدر السابق.

ص:388

تعارض العموم و الإطلاق

إذا تعارض العامّ الاصولی-أی العامّ الاستغراقی-و المطلق الشمولی علی اصطلاحهم،و دار الأمر بین تقیید المطلق و تخصیص العامّ،کقوله:«أکرم کلّ عالم»و«لا تکرم فاسقا»،فقد ذهب الشیخ قدّس سرّه إلی ترجیح التقیید علی التخصیص،و تبعه علی ذلک المحقّق النائینی قدّس سرّه،خالف فی ذلک المحقّق الخراسانی قدّس سرّه و تبعه المحقّق الحائری قدّس سرّه.

و محصّل ما أفاده الشیخ و النائینی قدّس سرّه یرجع إلی أنّ شمول العامّ لمورد الاجتماع أظهر من شمول المطلق له؛لأنّ شمول العامّ لمادّة الاجتماع یکون بالوضع،و شمول المطلق لها یکون بمقدّمات الحکمة،و من جملتها عدم ورود ما یصلح أن یکون بیانا للقید،و العامّ الاصولی یصلح لأن یکون بیانا لذلک،فلا تتمّ مقدّمات الحکمة فی المطلق الشمولی،فلا بدّ من تقدیم العامّ علیه (1).

و یرد علیه:أنّ جریان أصالة العموم أیضا یتوقّف علی عدم تحقّق البیان علی التخصیص،و المطلق یصلح لأن یکون بیانا علیه،بعد ما عرفت أنّ شأن التقنین بیان الحکم بنحو العموم،ثمّ بیان المخصّصات بعنوان التبصرة،و لذلک لا یجوز التمسّک بعموم العامّ قبل الفحص عن المخصّص و الیأس عن الظفر به،

ص:389


1- 1) فرائد الاصول 4:89،فوائد الاصول 4:729-730.

فلا فرق بین العموم و الإطلاق من هذه الجهة.

و لکن التحقیق:أنّ الأظهر و الظاهر من أوصاف الدلالة و هی مربوطة باللفظ،و لا تکون دلالة المطلق علی مفاده بالدلالة اللفظیّة حتی تکون دلالته غیر أظهر فی مقابل دلالة العامّ علی مفاده.

توضیح ذلک:أنّ تقدّم التقیید علی التخصیص مسلّم،و لکن لا یکون من طریق الأظهریّة و الظاهریّة،بل یکون من طریق آخر،فأنّ دلالة العامّ-مثل- «أکرم کلّ عالم»-علی العموم دلالة لفظیّة؛ضرورة أنّ«عالما»وضع لنفس الطبیعة المطلقة،و لفظ الکلّ یدلّ علی تکثیرها المتحقّق بالإشارة إلی أفرادها، لا بجمیع خصوصیّاتها،بل بما أنّها من مصادیقها،فهذا القول دالّ بالدلالة اللفظیّة علی وجوب إکرام الجمیع،و الخاصّ یعانده من حیث الدلالة بالنسبة إلی المقدار الذی خصّص العامّ به،فهما متنافیان من حیث الدلالة اللفظیّة،غایة الأمر تقدّم الخاصّ علی العامّ،إمّا لمّا ذکرنا سابقا من عدم التعارض فی محیط التقنین،أو لغیره.

و أمّا المطلق فدلالته علی الإطلاق لیست دلالة لفظیّة؛فإنّ اللفظ المطلق لا یدلّ إلاّ علی مجرّد نفس الطبیعة،و انطباقها فی الخارج علی کلّ واحد من أفرادها خارج عن مدلوله،بل یرتبط بمقام الانطباق،و مقام الدلالة غیر هذا المقام،و لا دلالة للفظ المطلق علی الکثرات الخارجة عن المدلول،بل المکلّف یلاحظ کون المولی الحکیم المختار فی مقام البیان،و قوله:«أعتق رقبة»، فیستفاد منه أنّ تمام الموضوع هو عتق الرقبة،و هذا ما یعبّر عنه بمقدّمات الحکمة،و الحاکم بتمامیّتها و عدمه هو العقل.

و معلوم أنّ المطلق غیر ناظر إلی الموجودات المتّحدة معها فی الخارج أصلا

ص:390

-کما یکون کذلک فی مثل لفظ الإنسان بما أنّه لفظ موضوع للماهیّة-لکنّ الاحتجاج به یستمرّ إلی أنّ یأتی من المولی ما یدلّ علی خلافه،مثل:قوله:

«لا تعتق الرقبة الکافرة».

و یستفاد منها أنّ المولی إذا قال:«لا تکرم الفاسق»-بعد فرض تمامیّة شرائط الإطلاق و مقدّمات الحکمة-ثمّ قال:«أکرم کلّ عالم»-بعد نظارته إلی الأفراد بالدلالة اللفظیّة الوضعیّة-فیصلح أن یکون هذا العامّ مقیّدا لإطلاق المطلق و مسقطا له عن صلاحیّة الاحتجاج،فلا یبعد الالتزام بتقدّم العامّ و تقیید المطلق عند دوران الأمر بین التخصیص و التقیید،کما قال به الشیخ قدّس سرّه من هذا الطریق،لا من طریق أظهریّة الدلالة و ظاهریّتها.

و ظهر ممّا ذکرنا:أنّه عند تعارض بعض المفاهیم مع بعض آخر-علی فرض ثبوتها-لا ترجیح لواحد منهما علی الآخر لو کان ثبوت کلّ منهما بضمیمة مقدّمات الحکمة،کما فی مفهوم الشرط و مفهوم الوصف.

نعم،لو کان أحد المتعارضین ممّا ثبت بالدلالة اللفظیّة-کما لا یبعد دعوی ذلک بالنسبة إلی مفهوم الغایة و کذا مفهوم الحصر-فالظاهر أنّه حینئذ لا بدّ من ترجیحه علی الآخر؛لما مرّ من ترجیح العامّ علی المطلق الراجع إلی تقدیم التقیید علی التخصیص.

و ظهر أیضا أنّ تقسیم الإطلاق إلی الشمولی و البدلی لیس بصحیح؛فإنّ لفظ المطلق-مثل الرقبة و الإنسان-وضع للطبیعة،بعضّ النظر عن الکثرات و الموجودات المتّحدة معها فی الخارج،و الإطلاق یستفاد من مقدّمات الحکمة، فالإطلاق یعنی تمام موضوع حکم المولی هی الطبیعة و الماهیّة بلا فرق بین قوله:«أعتق الرقبة»و قوله:«أکرم العالم».

ص:391

و أمّا علی القول بکونه علی قسمین:الشمولی و البدلی و تحقّق التعارض بینهما،کما فی قوله:«أعتق الرقبة»،و قوله:«لا خیر فی کافر»فلا وجه لتقدیم الإطلاق الشمولی و ترجیحه علی البدلی بمناط تقدّم العامّ علی الإطلاق؛ لفقدان المناط-أی الدلالة اللفظیّة الوضعیّة-هنا؛فإنّ طریق تحقّق الإطلاق شمولیّا کان أم بدلیّا عبارة عن مقدّمات الحکمة،و مجرّد الشمولیّة لا یوجب التقدّم علی البدلی.

ص:392

دوران الأمر بین النسخ و التخصیص

اشارة

و من الموارد التی جعلت من مصادیق الأظهر و الظاهر ما إذا دار الأمر بین التخصیص و النسخ،و حیث إنّ النسخ مشروط بحضور وقت العمل بالمنسوخ؛ لکونه انتهاء أمد الحکم،و التخصیص مشروط بوروده قبل حضور وقت العمل بالعامّ،فإنّ تأخیر البیان عن وقت العمل و الحاجة قبیح عقلا،فلذلک وقع الإشکال فی التخصیصات الواردة عن الأئمّة علیهم السّلام بعد حضور وقت العمل بالعامّ؛فإنّه ربّ عامّ نبویّ و خاصّ عسکری،و قد احتمل الشیخ قدّس سرّه فی ذلک ثلاثة احتمالات:

أحدها:أن تکون ناسخة لحکم العمومات.

ثانیها:أن تکون کاشفة عن اتّصال کلّ عامّ بمخصّصه،و قد خفیت علینا المخصّصات المتّصلة و وصلت إلینا منفصلة.

ثالثها:أن تکون هی المخصّصات حقیقة،و لا یضرّ تأخّرها عن وقت العمل بالعامّ؛لأنّ العمومات المتقدّمة لم یکن مفادها الحکم الواقعی،بل الحکم الواقعی هو الذی تکفّل المخصّص المنفصل بیانه،و إنّما تأخّر بیانه لمصلحة کانت هناک فی التأخیر،و إنّما تقدّم العموم لیعمل به ظاهرا إلی أن یرد المخصّص،فیکون مفاد العموم حکما ظاهریّا،و لا محذور فی ذلک؛فإنّ المحذور

ص:393

إنّما هو تأخّر الخاصّ عن وقت العمل بالعامّ إذا کان مفاد العامّ حکما واقعیّا لا حکما ظاهریّا (1).

و قریب من هذا ما ذکره صاحب الکفایة قدّس سرّه بأنّ قبح تأخیر البیان عن وقت العمل فیما إذا لم یکن هناک مصلحة فی إخفاء الخصوصیّات أو مفسدة فی إبدائها (2).

و قد قرّب الشیخ الأنصاری قدّس سرّه الاحتمال الثالث و استبعد الاحتمال الأوّل؛ لاستلزامه کثرة النسخ،و کذا الاحتمال الثانی؛لکثرة الدواعی إلی ضبط القرائن المتّصلة و اهتمام الرواة بحفظها.

و لکن قرّب هذا الاحتمال المحقّق النائینی قدّس سرّه (3)؛نظرا إلی أنّ کثیرا من المخصّصات المنفصلة المرویّة عن طرقنا عن الأئمّة علیه السّلام مرویّة عن العامّة بطرقهم عن النبیّ صلّی اللّه علیه و آله فیکشف ذلک عن اختفاء المخصّصات المتّصلة علینا،بل احتمل استحالة الوجه الثالث بما أفاده فی التقریرات.

و لکنّ الظاهر عدم تمامیّة شیء من الاحتمالات الثلاثة،بل التحقیق:أنّ جمیع الأحکام الإلهیّة و القوانین الشرعیّة من العموم و الخصوص،و المطلق و المقیّد،و الناسخ و المنسوخ قد صدر تبلیغها من الرسول الأکرم و بیّنها للناس فی مدّة نبوّته.

و الشاهد علیه ما ذکره صلّی اللّه علیه و آله فی خطبة حجّة الوداع ممّا یدلّ علی أنّه نهی الناس عن کلّ شیء یقرّبهم إلی النار و یبعّدهم عن الجنّة،و أمرهم بکلّ شیء

ص:394


1- 1) فرائد الاصول 4:94.
2- 2) کفایة الاصول 2:405.
3- چ) فوائد الاصول 4:737.

یقرّبهم إلی الجنّة و یباعدهم عن النار (1).

و الإشکال فی أنّ الأحکام التی بلّغها الرسول صلّی اللّه علیه و آله قد ضبطها و جمعها أمیر المؤمنین صلوات اللّه و سلامه علیه فی صحیفته،و هو أعلم الناس بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله بذلک،لکنّهم أعرضوا عنه و زعموا استغنائهم بکتاب اللّه؛لأجل استیلاء الشیاطین علی امورهم و تبعیّتهم لهم.

و الشاهد علیه ما أفاده أمیر المؤمنین علیه السّلام فی جواب سلیم بن قیس من تقسیم الصحابة إلی أربع طوائف،و تفصیل القضیّة:أنّه حکی أبان عن سلیم، قال:قلت یا أمیر المؤمنین،إنّی سمعت من سلمان و المقداد و أبی ذر شیئا من تفسیر القرآن،و من الروایة عن النبیّ صلّی اللّه علیه و آله،ثمّ سمعت منک تصدیق ما سمعت منهم،و رأیت فی أیدی الناس أشیاء کثیرة من تفسیر القرآن و من الأحادیث عن النبیّ صلّی اللّه علیه و آله تخالف الذی سمعته منکم،و أنتم تزعمون أنّ ذلک باطل،أ فتری الناس یکذبون علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله متعمّدین و یفسّرون القرآن برأیهم؟قال:

فأقبل علیّ علیه السّلام فقال لی:«یا سلیم،قد سألت فافهم الجواب:إنّ فی أیدی الناس حقّا و باطلا،و صدقا و کذبا،و ناسخا منسوخا،و خاصّا و عامّا،و محکما متشابها،و حفظا و وهما،و قد کذب علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله علی عهده حتّی قام خطیبا فقال:أیّها الناس،قد کثرت علیّ الکذّابة،فمن کذب علیّ معتمّدا فلیتبوأ مقعده من النار،ثمّ کذب علیه من بعده حتّی توفّی رحمة اللّه علی نبیّ الرحمة و صلّی اللّه علیه و آله،و إنّما یأتیک بالحدیث أربعة نفر لیس لهم خامس:

رجل منافق مظهر للإیمان متصنّع بالإسلام،لا یتأثّم و لا یتحرّج أن یکذب علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله متعمّدا،فلو علم المسلمون أنّه منافق کذّاب لم یقبلوا منه و لم

ص:395


1- 1) الوسائل 17:45،الباب 12 من أبواب مقدّمات التجارة،الحدیث 2.

یصدّقوه،و لکنّهم قالوا:هذا صاحب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،رآه و سمع منه،و هو لا یکذب و لا یستحلّ الکذب علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و قد أخبر اللّه عن المنافقین بما أخبر و وصفهم بما وصفهم،فقال اللّه عزّ و جلّ وَ إِذا رَأَیْتَهُمْ تُعْجِبُکَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ یَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ (1)،ثمّ بقوا بعده و تقرّبوا إلی أئمّة الضلال و الدعاة إلی النار،بالزور و الکذب و النفاق و البهتان،فولّوهم الأعمال،و حملوهم علی رقاب الناس،و أکلوا بهم من الدنیا،و إنّما الناس مع الملوک فی الدنیا إلاّ من عصم اللّه،فهذا أوّل الأربعة.

و رجل سمع من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فلم یحفظه علی وجهه،و وهم فیه و لم یتعمّد کذبا،و هو فی یده یرویه و یعمل به و یقول:أنا سمعته من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،فلو علم المسلمون أنّه وهم لم یقبلوا،و لو علم هو أنّه وهم فیه لرفضه.

و رجل ثالث سمع من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله شیئا أمر به ثمّ نهی عنه و هو لا یعلم،أو سمعه نهی عن شیء ثمّ أمر به و هو لا یعلم،حفظ المنسوخ و لم یحفظ الناسخ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه،و لو علم المسلمون أنّه منسوخ إذ سمعوه لرفضوه.

و رجل رابع لم یکذب علی اللّه و لا علی رسول اللّه؛بغضا للکذب،و تخوّفا من اللّه،و تعظیما لرسوله صلّی اللّه علیه و آله،و لم یوهم،بل حفظ ما سمع علی وجهه،فجاء به کما سمعه،و لم یزد فیه و لم ینقص،و حفظ الناسخ من المنسوخ،فعمل بالناسخ و رفض المنسوخ،و أنّ أمر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و نهیه مثل القرآن ناسخ و منسوخ،و عامّ و خاصّ،و محکم و متشابه،و قد کان یکون من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله الکلام له وجهان:

کلام خاصّ و کلام عامّ،مثل القرآن یسمعه من لا یعرف ما عنی اللّه به،و ما عنی به رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،و لیس کلّ أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله کان یسأله فیفهم،و کان منهم

ص:396


1- 1) المنافقون:4.

من یسأله و لا یستفهم حتّی أن کانوا یحبّون أن یجیء الطارئ[أی الغریب الذی أتاه عن قریب من غیر انس به و بکلامه]و الأعرابی،فیسأل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله حتّی یسمعوا منه،و کنت أدخل علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،کلّ یوم دخلة،و کلّ لیلة دخلة، فیخلّینی فیها أدور معه حیث دار،و قد علم أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله أنّه لم یکن یصنع ذلک بأحد من الناس غیری،و ربّما کان ذلک فی منزلی یأتینی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،فإذا دخلت علیه فی بعض منازله خلا بی و أقام نساءه،فلم یبق غیری و غیره،و إذا أتانی للخلوة فی بیتی لم تقم من عندنا فاطمة و لا أحد من ابنیّ،و إذا سألته أجابنی،و إذا سکت أو نفدت مسائلی ابتدأنی،فما نزلت علیه آیة من القرآن إلاّ أقرأنیها و أملاها علیّ،فکتبتها بخطّی،و دعا اللّه أن یفهّمنی إیّاها و یحفّظنی،فما نسیت آیة من کتاب اللّه منذ حفظتها،و علّمنی تأویلها فحفظته، و أملاه علیّ فکتبته،و ما ترک شیئا علّمه اللّه من حلال و حرام،أو أمر و نهی،أو طاعة و معصیة،کان أو یکون إلی یوم القیامة،إلاّ و قد علّمنیه و حفظته،و لم أنس منه حرفا واحدا...» (1)،إلی آخر.

و المستفاد من الروایة-بعد کون سلیم بن قیس و کتابه موردا للاعتماد- بیان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله جمیع المسائل المربوطة بالحلال و الحرام إلی یوم القیامة و ضبطها فی صحیفة علی حدة غیر القرآن بواسطة أمیر المؤمنین علیه السّلام،و القرآن المکتوب بیده علیه السّلام واجد لجمیع الخصوصیّات المربوطة بکلّ آیة من البدو إلی الختم من شأن النزول و التأویل و التفسیر،و لکنّه لا یکون زائدا و لا ناقصا عن القرآن الموجود فی أیدینا.نعم،یمکن أن یکون متفاوتا فی ترتیب السور.

و المستفاد من الروایة قریب من الاحتمال الثانی المذکور فی کلام الشیخ قدّس سرّه إلاّ

ص:397


1- 1) کتاب سلیم بن قیس الکوفی:181.

أنّه یتحقّق الفرق بینهما بأنّ مفاد هذا الاحتمال أن تکون المخصّصات المنفصلة کاشفة عن اتّصال کلّ عام بمخصّصه،سواء صدر عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله أو عن سائر الأئمّة علیه السّلام،و قد خفیت علینا و وصلت إلینا منفصلة،و ما استفدناه من الروایة هو صدور جمیع العمومات و المخصّصات من لسان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فی زمانه،و ما ذکره سائر الأئمّة هو بیان ثان لما صدر عنه صلّی اللّه علیه و آله أوّلا.

مضافا إلی تحقّق المخصّصات المنفصلة أیضا بلسان رسول اللّه مع رعایة شرطها-أی قبل وقت العمل بالعامّ-و منشأ الاختلاف و عدم إیصال الأحکام إلینا بتمامها هو سدّ باب العلم و حرمان الناس من معدن الوحی و الحکمة.

و علی هذا لا یلزم من الالتزام بالتخصیص فی تلک المخصّصات الکثیرة تأخیر البیان عن وقت العمل أصلا.

إذا عرفت ذلک:یقع الکلام فی تقدیم التخصیص علی النسخ أو العکس فیما إذا دار الأمر بینهما،و قد ذهب إلی کلّ فریق،و لا بدّ قبل الورود فی البحث من بیان أنّ محلّ النزاع یختصّ بمجرّد دوران الأمر بینهما مع قطع النظر عن وجود ما یدلّ بظاهره علی ترجیح أحدهما.

فما أفاده المحقّق النائینی قدّس سرّه-من تقدّم التخصیص علی النسخ؛نظرا إلی أنّ النسخ یتوقّف علی ثبوت حکم العامّ لما تحت الخاصّ من الأفراد،و مقتضی حکومة أصالة الظهور فی طرف الخاصّ علی أصالة الظهور فی طرف العامّ هو عدم ثبوت حکم العامّ لأفراد الخاصّ،فیرتفع موضوع النسخ (1)-مورد للإشکال:

ص:398


1- 1) فوائد الاصول 4:738.

أوّلا:بأنّ هذا الأمر مبنائیّ،و قد ذکرنا فی مسألة علّة تقدّم الدلیل الخاصّ علی الدلیل العامّ نظر أعاظم أهل الفنّ و ما التزم به المحقّق النائینی قدّس سرّه-من کونهما من مصادیق القرینة و ذی القرینة،و حکومة أصالة الظهور فی طرف القرینة علی أصالة الظهور فی طرف ذی القرینة بعنوان القاعدة الکلّیّة-و قلنا:

إنّ علّة تقدّمه علیه عدم التنافی و التعارض بینهما عند العرف و العقلاء فی محیط التقنین،و لا یرتبط بمسألة القرینة و ذی القرینة.

و ثانیا:أنّ البحث فیما إذا دار الأمر بین النسخ و التخصیص قبل إحراز المخصّصیّة،بل کون کلّ منهما طرف الاحتمال.نعم،هذا الکلام صحیح فیما إذا کان عنوان المخصّص محرزا.

و ثالثا:سلّمنا صحّة ما ذکره قدّس سرّه و نتیجته أنّ هذا لیس من الدوران بین النسخ و التخصیص،و لکن نسأل أنّ التکلیف فی صورة الدوران بینهما ما هو؟ و ما أفاده قدّس سرّه لا یکون مبیّنا له،و لا یوجب التخلّص من التحیّر.

ص:399

ص:400

موارد الدوران بین النسخ و التخصیص

و کیف کان،فصور الدوران ثلاث:

الاولی:ما إذا کان العامّ متقدّما و الخاصّ متأخّرا بعد حضور وقت العمل بالعامّ،و دار الأمر بین کون المتأخّر ناسخا أو مخصّصا؛لاحتمال کون العموم حکما ظاهریّا،و الخاصّ حکما واقعیّا،فلا محذور فی تأخیر بیانه عن وقت العمل.

الثانیة:ما إذا کان الخاصّ متقدّما و العامّ متأخّرا،و دار الأمر بین تخصیص العامّ و کونه ناسخا للخاصّ،بأن یکون صدور المخصّص بعنوان البیان قبل صدور العامّ و قبل حضور وقت العمل به،فیکون مخصّصا،أو یکون صدور العامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ،فیکون ناسخا،فیکون إکرام العالم الفاسق-مثلا-علی القول بالنسخ واجبا،و علی القول بالتخصیص حراما.

الثالثة:ما إذا ورد عامّ و خاصّ و لم یعلم المتقدّم منهما من المتأخّر و دار الأمر بین النسخ و التخصیص.

ثمّ إنّ النسخ عبارة عن انتهاء أمد الحکم و زوال استمراره المستفاد من ظهور دلیل الحکم المنسوخ،فیکون تعارض الدلیل الناسخ فی الحقیقة مع ظهور الدلیل المنسوخ فی الاستمرار من حیث الزمان لا مع أصل الدلیل، بخلاف التعارض الابتدائی فی العامّ و الخاصّ؛إذ التعارض فیهما یکون فی أصل

ص:401

ثبوت الحکم لمورد الاجتماع.

ثمّ إنّ منشأ ظهور الدلیل المنسوخ فی استمرار الحکم هو امور مختلفة؛إذ الاستمرار قد یستفاد من إطلاق الدلیل و تمامیّة مقدّمات الحکمة،و لعلّه کثیرا ما یکون کذلک،و قد یستفاد من عمومه الراجع إلی کلّ ما وجد و کان فردا له، و هو الذی یعبّر عنه بالقضیّة الحقیقیّة،کما فی قوله تعالی: لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً (1)،و قد یستفاد من الدلیل اللفظیّ کقوله علیه السّلام:

«حلال محمّد صلّی اللّه علیه و آله حلال إلی یوم القیامة و حرامه صلّی اللّه علیه و آله،حرام إلی یوم القیامة» (2)، و قول المولی-مثلا-:هذا الحکم یستمرّ إلی یوم القیامة.

إذا عرفت ذلک فنقول:إذا کانت صورة الدوران بین النسخ و التخصیص من قبیل الصورة الاولی من الصور الثلاثة المتقدّمة التی هی عبارة عن تقدّم العامّ و دوران الأمر بینهما فی المتأخّر،و فرض استفادة الاستمرار الزمانی من إطلاق الدلیل العامّ-أی کان لقوله:«أکرم العلماء»عموما أفرادیّا و إطلاقا أزمانیّا، و دار الأمر بین النسخ و التخصیص بمعنی التصرّف فی إطلاقه الزمانی أو عمومه الأفرادی-فقد یقال فیها:بأنّ مرجع هذا الدوران إلی الدوران بین التخصیص و التقیید،و حیث قد رجّح الثانی علی الأوّل کما مرّ فلا بدّ من الالتزام بتقدیم النسخ علیه.

و لکنّه یرد علیه:بأنّ ترجیح التقیید علی التخصیص فیما سبق إنّما هو فیما إذا کان العامّ و المطلق متنافیین بأنفسهما و لم یکن فی البین دلیل ثالث،بل کان الأمر دائرا بین ترجیح العامّ و تقیید المطلق و بین العکس فی مادّة الاجتماع،

ص:402


1- 1) آل عمران:97.
2- 2) الکافی 1:19،الحدیث 58.

کقوله:«أکرم العلماء»مع قوله:«لا تکرم الفاسق»،و فی ما نحن فیه لا منافاة بین العامّ و المطلق-أی العموم الأفرادی و الإطلاق الأزمانی المستفادان من قوله:

«أکرم العلماء»أصلا،بل التعاند بینهما إنّما نشأ من أجل دلیل ثالث لا یخلو أمره من أحد أمرین:کونه مخصّصا للعموم الأفرادی،و مقیّدا للإطلاق الأزمانی،و لا دلیل علی ترجیح أحدهما علی الآخر بعد کون کلّ واحد منهما دلیلا تامّا،بخلاف ما هناک؛فإنّ التعارض من أوّل الأمر کان بین العامّ الذی هو ذو لسان،و بین المطلق الذی هو ألکن (1)،و من الواضح أنّه لا یمکنه أن یقاوم ذا اللسان کما لا یخفی.

ثمّ أنّه قد یقال:بأنّ الأمر فی المقام دائر بین التخصیص و التقیید معا،و بین التقیید فقط؛ضرورة أنّه فی التخصیص لا بدّ من الالتزام بتقیید الإطلاق المقامی الدّال علی الاستمرار الزمانی أیضا،و هذا بخلاف العکس.

و من الواضح أنّه مع کون الأمر هکذا لا مجال للإشکال فی ترجیح التقیید، کما هو واضح.

و یرد علیه:منع کون التخصیص مستلزما للتقیید أیضا؛ضرورة أنّه بالتخصیص یستکشف عدم کون مورد الخاصّ مرادا من الأمر،و معه لا یکون الدلیل الدالّ علی الاستمرار الزمانیّ شاملا له من رأس؛لعدم کونه موضوعا له؛ضرورة أنّ موضوعه هو الحکم الثابت فی زمان.

و قد یقال فی المقام أیضا:بأنّ العلم الإجمالی بالتخصیص أو النسخ یرجع إلی دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر؛لأنّ عدم ثبوت حکم العامّ بالنسبة إلی مورد الخاصّ بعد ورد الخاصّ متیقّن علی أیّ تقدیر،سواء کان علی نحو

ص:403


1- 1) اللکنة:عجمة فی اللسان و عیّ؛یقال:رجل ألکن بیّن اللکنة؛الصحاح 6:2196(لکن).

التخصیص أو النسخ،و ثبوته بالنسبة إلی مورده قبل ورود الخاصّ مشکوک و متفرّع علی کون الخاصّ نسخا،فالأمر یدور بین الأقلّ المتیقّن-أی عدم شمول الحکم العامّ لمورد الخاصّ بعد وروده-و الأکثر المشکوک-أی شموله لمورد الخاصّ قبل وروده-فینحلّ العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی بالنسبة إلی الأقلّ المتیقّن،و الشکّ البدوی بالنسبة إلی الأکثر،و مقتضی استصحاب عدم الوجوب أو جریان البراءة فی المشکوک عدم کونه محکوما بحکم العامّ، و حینئذ تتحقّق نتیجة التخصیص و تقدّمه علی النسخ.

و التحقیق:أنّ هذا الکلام صحیح علی القول بانحلال العلم الإجمالی،إلاّ أنّ العلم الإجمالی الواقعیّ لا التخیّلیّ لا یکون قابلا للانحلال؛إذ لا یعقل أن یکون ما هو قوامه به من الاحتمالین سببا لإفنائه و مؤثّرا فی انقلابه إلی العلم التفصیلی و الشکّ البدوی؛فإنّه مستلزم لکون الشیء سببا لانعدام نفسه، فدعوی أنّ العلم الإجمالی بالتخصیص و النسخ یتولّد منه تعیّن التخصیص ممّا لا ینبغی الإصغاء إلیه.کما قال به استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه (1).

مضافا إلی عدم صحّة جریان الأصل علی القول بالانحلال أیضا؛إذ الغرض من جریانه إثبات الحکم الظاهری للعالم الفاسق فی فاصلة صدور العامّ و صدور الخاصّ،مع أنّا نعلم بوجوب إکرامه فی هذا الزمان بحکم العامّ بلا إشکال،و لکن لا نعلم أنّ وجوب إکرامه یکون بنحو الحکم الواقعیّ،أو بنحو الحکم الظاهری فیما کان الخاصّ مخصّصا للعامّ،فلا مجال لجریان أصالة البراءة و الاستصحاب.

هذا کلّه إذا کان الاستمرار الزمانیّ مستفادا من الإطلاق المقامی،و أمّا إذا

ص:404


1- 1) معتمد الاصول 2:361.

کان الاستمرار الزمانیّ مستفادا من عموم القضیّة الحقیقیّة بمعنی کلّ من وجد فی الخارج و اتّصف بکونه عالما یجب إکرامه-مثلا-،و دار الأمر بین النسخ و التخصیص بالخاصّ المتأخّر،و یرجع النسخ هنا إلی التخصیص،فالظاهر ترجیح تخصیص العموم المستفاد منه الاستمرار الزمانی علی تخصیص العموم الأفرادی؛لأنّ الأمر و إن کان دائرا بین التخصیصین إلاّ أنّه لمّا کان النسخ الذی مرجعه إلی تخصیص العموم الدالّ علی الاستمرار الزمانی مستلزما لقلّة التخصیص یخالف تخصیص العموم الأفرادی،فالترجیح معه کما هو ظاهر.

و أمّا إذا کان الاستمرار الزمانیّ مستفادا من الدلیل اللفظیّ،کما إذا قال المولی:«إکرام کلّ عالم حلال»،ثمّ قال:«حلال محمّد صلّی اللّه علیه و آله حلال إلی یوم القیامة»،ثمّ قال بعد مضی یومین-مثلا-:«إکرام العالم الفاسق حرام»و دار الأمر بین نسخ الاستمرار الزمانی و تخصیص العموم الأفرادی،فإن قلنا بدلالة الدلیل اللفظی علی العموم-نظرا إلی أنّ المفرد أو المصدر المضاف یفید العموم-،فحکمه حکم الصورة السابقة التی یستفاد الاستمرار الزمانی فیها من العموم،و إن لم نقل بذلک فحکمه حکم الصورة التی یستفاد الاستمرار من الإطلاق.هذا تمام الکلام فی الصورة الاولی.

و أمّا فی الصورة الثانیة و هی:ما إذا کان الخاصّ متقدّما و العامّ متأخّرا،کما إذا قال المولی:«لا تکرم الفسّاق من العلماء»ثمّ قال بعد حضور وقت العمل به:«أکرم کلّ عالم»و دار الأمر بین تخصیص العامّ و کونه ناسخا للخاصّ،فإن کان استمرار الحکم الخاصّ مستفادا من الإطلاق فالظاهر ترجیح التخصیص علی النسخ؛لأن النسخ و إن کان مرجعه حینئذ إلی تقیید الإطلاق المقامیّ الدالّ علی استمرار الزمان،و قد قلنا:إنّ التقیید مقدّم علی التخصیص،إلاّ أنّ

ص:405

ذلک إنّما هو فیما إذا کانت النسبة بین الدلیلین العموم من وجه کقوله:«أکرم العلماء»و«لا تکرم الفاسق».

و أمّا لو کانت النسبة بین الدلیلین العموم مطلقا-کما فی ما نحن فیه- فالظاهر هو ترجیح التخصیص علی التقیید؛لأنّه لا یلاحظ فی العامّ و الخاصّ قوّة الدلالة و ضعفها کما عرفت مقتضی التحقیق من کون بناء العقلاء علی تقدیم الخاصّ علی العامّ من دون فرق بین کونه متقدّما علیه أو متأخّرا عنه.

و أمّا لو کان الاستمرار مستفادا من العموم الثابت للخاصّ لکونه قضیّة حقیقیّة،فلا إشکال هنا فی تقدّم التخصیص أصلا؛لقوّة دلالة الخاصّ علی ثبوت الحکم لمورده حتّی بعد ورود العامّ،فلا بدّ من کونه مخصّصا له.

کما أنّه لو کان الاستمرار مستفادا من الدلیل اللفظی لا بدّ من ترجیح التخصیص؛لأنّ الخاصّ و إن لم یکن قویّا من حیث هو،إلاّ أنّه یتقوّی بذلک الدلیل اللفظیّ الذی یدلّ علی استمرار حکمه حتّی بعد ورود العامّ،و معه یخصّص العامّ لا محالة،هذا فی الصورة الثانیة.

و أمّا فی الصورة الثالثة التی دار الأمر فیها بین النسخ و التخصیص و لم یعلم المتقدّم من العامّ و الخاصّ عن المتأخّر،فالظاهر فیها ترجیح التخصیص أیضا؛ لغلبته و ندرة النسخ.

و دعوی أنّ هذه الغلبة لا تصلح للترجیح،مدفوعة بمنع ذلک و استلزامه لعدم کون الغلبة مرجّحة فی شیء من الموارد؛لأنّ هذه الغلبة من الأفراد الظاهرة لها،کیف؟و ندرة النسخ لا تکاد تتعدّی الموارد القلیلة المحصورة،و أمّا التخصیص فشیوعه إلی حدّ قیل:«ما من عامّ إلاّ و قد خصّ».و احتمال النسخ بعد تحقّق هذه الغلبة أضعف من الاحتمال الذی لا یعتنی به العقلاء فی الشبهة غیر المحصورة،فعدم اعتنائهم به أولی،کما لا یخفی.

ص:406

دوران الأمر بین تقیید الإطلاق و حمل الأمر علی الاستحباب

و من الموارد التی قیل باندراجها فی الأظهر و الظاهر ما إذا دار الأمر بین تقیید المطلق و حمل الأمر فی المقیّد علی الاستحباب و کون المأمور به أفضل الأفراد،أو حمل النهی فیه علی الکراهة و کون المنهی أخسّ الأفراد و أنقصها، کما إذا دار الأمر بین تقیید قوله:«إن ظاهرت فاعتق رقبة»و بین حمل قوله:

«إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة»علی الاستحباب،و کون عتق الرقبة المؤمنة أفضل،أو حمل قوله:«إن ظاهرت فلا تعتق رقبة کافرة»علی الکراهة،و کون عتق الرقبة الکافرة أبغض،کما فی قوله: أَقِیمُوا الصَّلاةَ ،و قوله:«صلّ فی المسجد»و قوله:«لا تصلّ فی الحمّام».

فالذی حکاه استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه عن شیخه المحقّق الحائری قدّس سرّه فی هذا الفرض أنّه قال:«و ممّا یصعب علیّ حمل المطلقات الواردة فی مقام البیان علی المقیّد و تقییدها بدلیله مع اشتهار الأوامر فی الاستحباب و النواهی فی الکراهة، خصوصا بملاحظة ما أفاده صاحب المعالم (1)فی باب شیوع استعمال الأوامر فی المستحبّات».

و لکن ذکر استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه هنا تفصیلا جیّدا،و هو:أنّ المطلقات

ص:407


1- 1) معالم الدین:53.

علی قسمین:قسم ورد فی مقابل من یسأل عن حکم المسألة و الواقعة لأجل ابتلائه بها،و منظوره السؤال عن حکمها ثمّ العمل علی طبق الحکم الصادر عن المعصوم علیه السّلام فی تلک الواقعة،و قسم آخر یصدر لغرض الضبط،کما إذا کان السائل مثل زرارة ممّن کان غرضه من السؤال استفادة حکم الواقعة لأجل ضبطه لمن یأتی بعده ممّن لا یکاد تصل یده إلی منبع العلم و معدن الوحی.

و ما أفاده المحقّق الحائری قدّس سرّه إنّما یتمّ فی خصوص القسم الأوّل،و أمّا فی القسم الثانی فلا،خصوصا علی القول بدلالة هیئت«افعل»علی الوجوب بدلالة وضعیّة،و کون حمل المطلق علی المقیّد من الامور المتداولة.

هذا کلّه بالنسبة إلی التعارض الابتدائی بین الدلیلین،النصّ و الظاهر أو الأظهر و الظاهر.

ص:408

القول: فیما إذا کان التعارض بین أکثر من دلیلین

فیما إذا کان التعارض بین أکثر من دلیلین

إذا ورد عامّ و خاصّان بینهما تباین:

و أمّا إذا کان التعارض بین أزید من دلیلین،بأن کان هنا عامّ-مثلا- و خاصّان کقوله:«أکرم العلماء»و«لا تکرم النحویّین منهم»،و«لا تکرم الصرفیّین منهم»؛فإنّ النسبة بین کلّ من الأخیرین مع الأوّل هو العموم و الخصوص مطلقا،و الکلام فیه یقع فی مقامین:

أحدهما:أنّه یتحقّق فی ملاحظة العامّ مع کلّ من المخصّصین أربع احتمالات:

الأول:أنّه یلاحظ مع کلّ منهما قبل تخصیصه بالآخر بحیث یکون الخاصّان فی عرض واحد.

الثانی:أنّه یخصّص بواحد منهما ثمّ تلاحظ النسبة بعد التخصیص بینه و بین الخاصّ الآخر،و ربّما تنقلب النسبة من العموم المطلق إلی العموم من وجه کما فی المثال؛فإنّ قوله:«أکرم العلماء»بعد تخصیصه بقوله«لا تکرم الصرفیّین منهم»،یرجع إلی وجوب إکرام العالم الغیر الصرفیّ،و من المعلوم أنّ النسبة بین العالم الغیر الصرفی و بین العالم النحوی عموم من وجه؛فإنّ مورد الاجتماع هو العالم النحوی الغیر الصرفی مثل الطبیب النحوی،و مادة افتراق العالم النحوی

ص:409

عبارة عن النحوی العالم بالصرف،و مادة افتراق العالم الغیر الصرفی عبارة عن العالم بالطب فقط.

الثالث:هو التفصیل بین المخصّص اللفظی و اللبّی،بأن یلاحظ العامّ مع المخصّص اللبّی،ثمّ یلاحظ العامّ المخصّص مع المخصّص اللفظی،و أمّا فی المخصّصات اللفظیّة فیلاحظ کلّ واحد منهما مع العامّ قبل تخصیصه بالآخر.

الرابع:هو التفصیل بین بعض المخصّصات اللبّیّة و المخصّصات اللفظیّة و بین بعض آخر من المخصّصات اللبّیّة.

ثانیهما:أنّه لو فرض کون الخاصّین فی عرض واحد،و لکن کان تخصیص العامّ بهما مستهجنا أو مستلزما للاستیعاب و بقاء العامّ بلا مورد،فهل المعارضة حینئذ بین العامّ و مجموع الخاصّین کما اختاره الشیخ قدّس سرّه (1)و تبعه غیر واحد من المحقّقین المتأخّرین عنه (2)،أو أنّ المعارضة بین نفس الخاصّین،کما هو الأقوی،لما یأتی؟

أمّا الکلام فی المقام الأوّل فلا إشکال فی تعیّن الاحتمال الأوّل فیما إذا کان الخاصّان دلیلین لفظیّین،و لا مجال لتوهّم تقدیم أحدهما علی الآخر بعد اتّحادهما فی النسبة مع العامّ؛إذ لا وجه لتقدیم ملاحظة العامّ مع أحدهما علی ملاحظته مع الآخر،خصوصا إذا لم یعلم المتقدّم منهما صدورا عن المتأخّر کما هو الغالب.

و أمّا لو کان أحد الخاصّین دلیلا لبّیّا فلا بدّ من الالتزام بالاحتمال الرابع بأنّ الدّلیل اللبّی إن کان کالدلیل العقلیّ الذی یکون کالقرینة المتّصلة بالکلام،

ص:410


1- 1) فرائد الاصول 2:794-795.
2- 2) فوائد الاصول 4:743.

بحیث لم یکن یستفاد من العامّ عند صدوره من المتکلّم إلاّ العموم المحدود بما دلّ علیه العقل-کما أنّه لو فرض أنّه لا یستفاد عند العقلاء من قوله:«أکرم العلماء»إلاّ وجوب إکرام العدول منهم-فلا شبهة حینئذ فی أنّه لا بدّ من ملاحظته بعد التخصیص بدلیل العقل مع الخاصّ الآخر،بل لا یصدق علیه التخصیص و انقلاب النسبة.

و إن کان الدلیل اللبّی کالإجماع و نحوه فلا ترجیح له علی الخاصّ اللفظیّ أصلا؛لعین ما ذکر فی الدلیلین اللفظیین.

و أمّا الاحتمال الثالث فهو التفصیل بین المخصّص اللبّی المنفصل-کالإجماع- و المخصّص اللفظیّ المنفصل،و إن نقل عن بعض المحقّقین و لکن لا وجه و لا مناط له؛لعدم الفرق بینهما أصلا،لا فی أنّه بعد ملاحظة الخاصّ یستکشف تضییق دائرة المراد الجدّی من أوّل الأمر و أنّ صدور العامّ کان بنحو التقنین و إفادة الحکم علی النحو الکلّی،و لا فی أنّه قبل العثور علی المخصّص-لفظیّا کان أو لبّیّا-تکون أصالة العموم متّبعة،و بعد الظفر به ترفع الید عنه،فلا فرق بینهما أصلا.

و أمّا الکلام فی المقام الثانی فقد عرفت أنّه ذهب الشیخ قدّس سرّه إلی وقوع التعارض بین العامّ و مجموع الخاصّین؛نظرا إلی أنّ تخصیص العامّ بکلّ واحد منهما لا یوجب محذورا،بل تخصیصه بهما یوجب الاستهجان أو الاستیعاب، فلا بدّ من ملاحظة الترجیح فیهما،و فی صورة فقده التساقط أو التخییر.

و لکن استاذنا السیّد الإمام قدّس سرّه مخالف لهذا النظر و یقول:إنّ مجموع الخاصّین لا یکون أمرا ثالثا ورائهما،و المفروض أنّه لا معارضة لشیء منهما مع العامّ،فلا وجه لترتیب أحکام المتعارضین علیه و علیهما،غایة الأمر أنّه حیث لا یمکن

ص:411

تخصیص العامّ بمجموعهما یرجع ذلک إلی عدم إمکان الجمع بین الخاصّین، لا من حیث أنفسهما،بل من جهة أنّ تخصیص العامّ بهما یوجب الاستهجان أو الاستیعاب،فیقع التعارض بینهما تعارضا عرضیّا-کما أنّ العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإنائین یوجب التعارض العرضی بین استصحاب طهارة کلّ منهما-فلا بدّ من معاملة الخاصّین حینئذ معاملة المتعارضین،و علی هذا فإن قلنا بعدم اختصاص الأخبار العلاجیّة بالتعارض الذاتی و شمولها للتعارض العرضی أیضا فلا بدّ من الرجوع إلی المرجّحات المذکورة فیها،و إن قلنا بعدم شمولها له فلا بدّ من الرجوع إلی ما تقتضیه القاعدة فی المتعارضین مع قطع النظر عن تلک الأخبار من السقوط علی ما هو التحقیق،أو التخییر کما سیأتی (1).

و من المعلوم أنّ التحقیق و الدقّة فی المسألة یقتضی الالتزام بما ذکره الإمام قدّس سرّه بخلاف ما ذکره الشیخ قدّس سرّه و من تبعه.کما لا یخفی.

و ما ذکرناه من وقوع التعارض بین الخاصّین إنّما هو فیما لو لم یعلم بثبوت الملازمة بینهما،و أمّا إذا علم من الخارج بتحقّق الملازمة بینهما بحیث لا یمکن التفکیک بینهما من حیث الحکم فتکون هنا صورتان؛إذ یعلم تارة بعدم اختلاف موردهما من حیث الحکم و ثبوت الملازمة بین موردهما فقط،کما إذا علم فی المثال المتقدّم بأنّه لو کان إکرام النحویّین من العلماء حراما لکان إکرام الصرفیّین منهم أیضا کذلک.

و اخری یعلم بعدم الاختلاف بین جمیع أفراد العامّ مع حیث الحکم أصلا، کما إذا علم بأنّ حکم إکرام جمیع أفراد العلماء واحد و أنّه إن کان الإکرام واجبا

ص:412


1- 1) معتمد الاصول 2:367-368.

فهو واجب فی الجمیع،و إن کان حراما کذلک،و هکذا.

ففی الاولی یقع التعارض بین العامّ و بین کلّ واحد من الخاصّین.

و فی الثانی یقع التعارض بین الجمیع،العامّ مع کلّ واحد منهم،و هو مع الآخر،کما لا یخفی،إلاّ أنّ العلم بالملازمة قلیلا ما یتّفق و فرض نادر جدّا.

هذا کلّه فیما إذا کانت النسبة بین الخاصّین التباین کما فیما عرفت من المثال.

إذا ورد عامّ و خاصّان بینهما عموم و خصوص مطلق

و أمّا لو کانت النسبة بین الخاصّین أیضا العموم و الخصوص مطلقا، کالنسبة بین کلّ واحد منهما مع العامّ کقوله:«أکرم العلماء»،و«لا تکرم النحویّین منهم»،و«لا تکرم الکوفیّین من النحویّین»،فقد ذکر المحقّق النائینی قدّس سرّه علی ما فی التقریرات:«أنّ حکم هذا القسم حکم القسم السابق من وجوب تخصیص العامّ بکلّ من الخاصّین إن لم یلزم التخصیص المستهجن أو بقاء العامّ بلا مورد،و إلاّ فیعامل مع العامّ و مجموع الخاصّین معاملة المتعارضین» (1).

و التحقیق أن یقال:إنّ لهذا الفرض صورا متعدّدة؛فإنّه قد یکون الخاصّان متوافقین من حیث الحکم إثباتا أو نفیا،و قد یکونان متخالفین،و علی التقدیرین قد یلزم من تخصیص العامّ بکلّ منهما التخصیص المستهجن بمعنی استلزام التخصیص بکلّ ذلک،و قد لا یلزم التخصیص المستهجن إلاّ من التخصیص بالخاصّ دون الأخصّ،و قد لا یلزم شیء منهما،و مرجعه إلی عدم لزوم التخصیص المستهجن من التخصیص بالخاصّ؛ضرورة أنّه مع عدم

ص:413


1- 1) فرائد الاصول 4:743.

استلزامه ذلک یکون عدم استلزامه من التخصیص بالأخصّ بطریق أولی،ثمّ إنّه فی صورة اختلاف الخاصّین من حیث الحکم قد یلزم من تخصیص الخاصّ بالأخصّ الاستهجان،و قد لا یلزم.

و فی صورة توافق الخاصّین قد یستفاد وحدة الحکم من وحدة السبب -مثلا-و قد لا یستفاد ذلک،بل لا طریق لنا لإحراز وحدة الحکم؛لکونهما حکمین مستقلّین.

و تفصیل حکم هذا الصور أن یقال:إذا کان الخاصّان متوافقین من حیث الحکم،و احرز وحدة الحکم المشتمل علی النهی فی مقابل العامّ من طریق وحدة السبب أو من طرق أخر،فلا بدّ من تخصیص الخاصّ بالأخصّ إن لم یلزم من تخصیصه به الاستهجان،ثمّ تخصیص العامّ بالخاصّ المخصّص،و إن لزم منه الاستهجان،فیصیر الخاصّ و الأخصّ متعارضین،فیعامل معهما معاملة المتعارضین؛لإحراز وحدة الحکم و عدم إمکان التخصیص،فلا بدّ من الأخذ بأحدهما،إمّا ترجیحا و إمّا تخییرا،و تخصیص العامّ به.

و إن لم یحرز وحدة الحکم بل الظاهر کلاهما حکمان مستقلاّن و لم یلزم من تخصیص العامّ بکلّ منهما الاستهجان،فلا بدّ من تخصیص العامّ،فیقال فی المثال المذکور بوجوب إکرام العلماء غیر النحویّین مطلقا کوفیّین کانوا أو غیرهم.

و إن لزم من تخصیص العامّ الاستهجان،فتارة یلزم الاستهجان من التخصیص بالخاصّ فقط دون الأخصّ،فاللازم حینئذ تخصیص الخاصّ بالأخصّ،ثمّ تخصیص العامّ بالخاصّ المخصّص؛لأنّه الطریق المنحصر لرفع الاستهجان و مع إمکان ذلک لا وجه لطرح الخاصّ،فإنّ الطرح إنّما هو مع عدم إمکان الجمع المقبول عند العقلاء،و ما ذکرنا مورد لقبولهم.

ص:414

و اخری یلزم الاستهجان من التخصیص بکلّ منهما،غایة الأمر أنّ التخصیص بالأخصّ أقلّ استهجانا من التخصیص بالخاصّ،فالعامّ حینئذ یعارض الاثنین معا،و لا بدّ من الرجوع إلی المرجّحات المذکورة فی الأخبار العلاجیّة.

و أمّا الخاصّان المتخالفان من حیث الحکم کقوله:«أکرم العلماء»و«لا تکرم النحویّین منهم»،و«یستحبّ إکرام الکوفیّین من النحویّین»،فإن لم یلزم من تخصیص الخاصّ بالأخصّ الاستهجان فاللازم تخصیصه به،ثمّ تخصیص العامّ بالخاصّ المخصّص،و إن لزم الاستهجان من تخصیص الخاصّ بالأخصّ،فیقع التعارض بین الخاصّین،و بعد إعمال قواعد التعارض و ترجیح أحد الخاصّین یخصّص العامّ بما رجّح إن لم یلزم من تخصیص العامّ به الاستهجان،و إلاّ فیقع التعارض بین مجموع أدلة العامّ و کلّ واحد من الخاصّین،و لا بدّ معها من معاملة المتعارضات و الرجوع إلی الأخبار العلاجیّة.

إذا ورد عامّ و خاصّان بینهما عموم من وجه:

و أمّا إذا کانت النسبة بین الخاصّین العموم و الخصوص من وجه،کقوله:

«أکرم العلماء»و«لا تکرم النحویّین من العلماء»و«لا تکرم الفسّاق منهم»،فإن کان الخاصّان متوافقین من حیث الحکم إیجابا و سلبا-کما فی المثال-فلا شبهة فی تخصیص العامّ بکلیهما إن لم یلزم من تخصیصه بهما الاستهجان،و إلاّ فیقع التعارض بین الخاصّین،و یؤخذ بأحدهما،إمّا ترجیحا و إمّا تخییرا،و یخصّص العامّ به.

و إن کانا مختلفین من حیث الإیجاب و السلب،کما إذا کان الخاصّ الثانی هو قوله:«یستحبّ إکرام الفسّاق من العلماء»،فهنا أدلّة ثلاث،بعضها یدلّ علی

ص:415

وجوب إکرام جمیع العلماء،و ثانیها علی حرمة إکرام النحویّین منهم،و ثالثها علی استحباب إکرام الفساق من العلماء.

و لا ریب فی لزوم تخصیص العامّ بکلّ منهما بالنسبة إلی مورد افتراقهما،فإنّه لا شبهة فی تخصیص العامّ بنحویّ عادل،و کذا بالفاسق الغیر النحوی،و إنّما الإشکال فی النحوی الفاسق حیث یدلّ العامّ علی وجوب إکرامه،و أحد الخاصّین علی حرمته،و الآخر علی استحبابه.

و الظاهر أنّه لا بدّ من رعایة قواعد التعارض بین الجمیع فی النحوی الفاسق؛لأنّ العامّ و إن کانت نسبته مع کلا الخاصّین العموم المطلق،إلاّ أنّه بعد تخصیصه بمورد الافتراق من کلّ من الخاصّین تصیر نسبته مع الخاصّ الآخر العموم من وجه،فإنّه بعد تخصیصه بالنحوی العادل تصیر النسبة بین العامّ -أی أکرم العالم الغیر النحوی العادل-و بین قوله:«یستحبّ إکرام الفسّاق من العلماء»العموم من وجه،کما أنّه بعد تخصیصه بالفاسق الغیر النحوی تصیر النسبة بین العامّ و بین قوله:«لا تکرم النحویّین من العلماء»العموم من وجه أیضا.

و لکنّ التحقیق:أنّ الأخبار العلاجیّة مختصّة بالخبرین المتعارضین بالتباین، و لا تکون شاملة للدلیلین المتعارضین بالعموم و الخصوص من وجه،فلا بدّ من الرجوع إلی القاعدة کما سیأتی،و مقتضی القاعدة هو التساقط لا التخییر، ففی مادّة الاجتماع-أی النحوی الفاسق-بعد تعارض الخاصّین و تساقطهما و صیرورتهما فیها کالعدم،فما المانع من الرجوع إلی العموم؟و العامّ حجّة، و لیست هنا حجّة أقوی علی خلافه،و لا دلیل للتخصیص بالنسبة إلی مادّة الاجتماع،فلا بدّ من الرجوع إلی العامّ.

ص:416

إذا ورد عامّان من وجه و خاصّ

و فی هذه الصورة إن کان مفاد الخاصّ،إخراج مادّة الاجتماع تنقلب النسبة، فلا یبقی تعارض فی البین،کما إذا قال:«أکرم کلّ عالم»،ثمّ قال:«لا تکرم کلّ فاسق»،و مادّة اجتماعهما عبارة عن العالم الفاسق،و الأوّل یحکم بوجوب إکرامه،و الثانی یحکم بحرمة إکرامه،و إذا قال بعد ذلک:«لا تکرم العالم الفاسق»،و صارت دائرة العامّ الأوّل محدودة بالعالم الغیر الفاسق فلا مجال للتعارض بین العامّین.

و إن کان مفاد الخاصّ إخراج مورد افتراق أحد العامّین تنقلب النسبة إلی العموم المطلق،کما إذا ورد بعد قوله:«أکرم العلماء و لا تکرم الفسّاق»،قوله:

«أکرم الفاسق الغیر العالم»،فمادّة الاجتماع عبارة عن العالم الفاسق،و مادّة الافتراق للأوّل هو العالم الغیر الفاسق،و للثانی هو الفاسق الغیر العالم،و بعد إخراجه عن تحت العامّ الثانی صار عنوانه:«لا تکرم الفسّاق من العلماء»، فیصیر مخصّصا للعامّ الأوّل بعد انقلاب النسبة بهذه الکیفیّة.

إذا ورد عامّان متباینان و خاصّ

و أمّا هذه الصورة فهی ما إذا ورد دلیلان متعارضان بالتباین،فقد یوجب الدلیل الخاصّ الوارد فی مقابلهما انقلاب النسبة من التباین إلی العموم المطلق، و قد یوجب انقلابها إلی العموم من وجه.

فالأوّل کقوله:«أکرم العلماء»و قوله:«لا تکرم العلماء»،ثمّ ورد دلیل ثالث بقوله:«لا تکرم العالم الفاسق»،و بعد تخصیص العامّ الأوّل به و محدودیّة مفاده من حیث الحجّیّة بالعالم الغیر الفاسق،کأنه یقول:«أکرم العلماء الغیر الفسّاق» و إذا لاحظناه مع العامّ الثانی تصیر النسبة بینهما العموم المطلق،فالعامّ الأوّل

ص:417

یصیر مخصّصا للثانی.

و الثانی کما إذا ورد فی المثال دلیل رابع و خصّص قوله:«أکرم العلماء» بالفقهاء،فإنّ النسبة بینه بعد تخصیصه بالفقهاء و بین قوله:«لا تکرم العلماء» بعد تخصیصه بما عدا العدول،هو العموم من وجه.

ص:418

فصل: فی عدم شمول الأخبار العلاجیّة للعامین من وجه

اشارة

فی عدم شمول الأخبار العلاجیّة للعامین من وجه

قد تحقّق أنّ موضوع البحث فی المقام هو الخبران المتعارضان،و أنّ الروایات الواردة فی هذا الباب موردها هو المتعارضان أو المختلفان عنوانا أو مصداقا،بمعنی أنّه ورد فی بعضها عنوان الاختلاف و المختلفین،و فی بعضها مصداق هذا العنوان،مثل ما ورد فی بعضها من قول السائل فی بیان الخبرین الواردین:«أحدهما یأمر و الآخر ینهی» (1).

و بعد ما تحقّق أنّ المرجع فی تشخیص عنوان التعارض و الاختلاف هو العرف و العقلاء فلا إشکال فی تحقّق هذین العنوانین فی الدلیلین المتعارضین بالتباین،مثل ما إذا دلّ أحدهما علی وجوب إکرام جمیع العلماء،و الآخر علی حرمة إکرامهم.

کما أنّه لا إشکال فی عدم تحقّقهما فی العامّ و الخاصّ المطلق فی محیط التقنین؛لتحقّق الجمع العقلائی بینهما،و هو التخصیص،إن لم یکن مستهجنا.

إنّما الإشکال فی العموم و الخصوص من وجه،و کذا فی المتعارضین

ص:419


1- 1) الوسائل 27:108،الباب 9 من أبواب صفات القاضی،الحدیث 5.

بالعرض،کما فی الدلیلین اللذین علم بکذب أحدهما من غیر أن یکونا بأنفسهما متناقضین،کما إذا دلّ دلیل علی وجوب صلاة الجمعة یوم الجمعة، و دلیل آخر علی وجوب صلاة الظهر ذلک الیوم،و علم بعدم کون الواجب منهما إلاّ واحدا،و کما إذا ورد عامّ و خاصّان متباینان،مثل قوله:«أکرم العلماء»،و قوله:«لا تکرم النحویّین»،و قوله:«لا تکرم الصرفیّین»،و کان تخصیصه بکلیهما مستلزما للاستهجان،و قد تحقّق أن التعارض یکون بین الخاصّین لا بینهما و بین العامّ،إلاّ أنّ التعارض بینهما تعارض عرضی؛لعدم تناقضهما فی حدّ نفسهما أصلا.

و کذا الإشکال فی المتعارضین بالالتزام بأن لم یکن الدلیلان متعارضین إلاّ من حیث لازم مدلولهما،کما إذا فرضنا المفهوم من المدلول الالتزامی مثل:أن یقول فی روایة:صلاة الجمعة واجبة عند زوال یوم الجمعة،و مفهومها عدم وجوب صلاة الظهر،و فی روایة اخری:صلاة الظهر واجبة یوم الجمعة فی زمن الغیبة،و مفهومها عدم وجوب صلاة الجمعة،و کلّ منهما ینفی الآخر بمدلوله الالتزامی،و هذا یوجب التعارض بینهما و نسمّیه بالتعارض بالالتزام.

لا یتوهّم خروج العامّین من وجه من الأخبار العلاجیّة بأنّه اجتمع فی مادّة الاجتماع-أی العالم الفاسق-حکمان:وجوب الإکرام باعتبار أنّه عالم، و حرمة الإکرام باعتبار أنّه فاسق،کما فی الصلاة فی الدار المغصوبة،بعد القول بجواز اجتماع الأمر و النهی فی محلّه.

فإنّه یتحقّق الفرق بین ما نحن فیه و مسألة اجتماع الأمر و النهی،فإنّ من شرائط اجتماع الأمر و النهی إحراز تحقّق مقتضی کلا الحکمین فی مادّة الاجتماع، فتتحقّق هنا مسألة التزاحم لا التعارض،و أمّا فی العموم من وجه فیتحقّق

ص:420

حکم واحد فی مادّة الاجتماع،إمّا وجوب الإکرام و إمّا حرمته،و لا یکون محرزا لنا تحقّق مناط کلا الحکمین،و لذا یتحقّق التعارض.

إذا عرفت ذلک فالظاهر من تقریرات المحقّق النائینی رحمه اللّه فی آخر کلامه الالتزام بشمول الأخبار العلاجیّة للعامّین من وجه،و أنّهما متعارضان فی بعض المدلول لا فی تمامه (1).

و لکنّ التحقیق عدم شمول تلک الأخبار لهما؛لعدم کونهما متعارضین عند العرف و العقلاء بعد کونهما عنوانین متغایرین و کلّ منهما متعلّق للحکم الخاصّ،و لا ینتقل الذهن من مفهوم أحدهما إلی الآخر؛لعدم الارتباط بینهما، و صرف اجتماعهما فی مورد لا یوجب تحقّق عنوان التعارض و الاختلاف عرفا.

هذا،مضافا إلی أنّ الجواب الوارد فی الأخبار العلاجیّة بطرح ما خالف الکتاب أو ما وافق العامّة،و ضربه علی الجدار یشهد بخروج العامّین من وجه؛إذ لا وجه لطرح شیء منهما بعد عدم إمکان رفع الید من مادّة افتراقهما، غایة الأمر إخراج مورد الاجتماع عن تحت واحد منهما لا طرحه بالکلّیّة،فإذا لم یکن العامّان من وجه مشمولین لتلک الأخبار،فعدم شمولها للمتعارضین بالعرض بکلا قسمیه،و کذا للمتعارضین بالالتزام بطریق أولی.

و لکن یمکن القول بأنّ بعد عدم شمول الأخبار العلاجیّة للعامّین من وجه ففی مادّة الاجتماع لا بدّ من الرجوع إلی القاعدة،و مقتضاها فی باب التعارض هو التساقط.

و یرد علیه:أنّه کیف یحکم الشارع فی المتعارضین بالتباین علی خلاف القاعدة بالرجوع إلی تلک الأخبار و الأخذ بذی الترجیح و مع فقده بالتخییر،

ص:421


1- 1) فوائد الاصول 4:793.

بخلاف المتعارضین فی الجملة؟فلذا لا بدّ من الالتزام بعدم شمول تلک الأخبار للعامّین من وجه بلحاظ قصور البیان و اللسان،و شمولها لهما من حیث المناط بل الأولویّة.

هل المرجّحات جاریة فی العامّین من وجه أم لا؟

لا یخفی أنّ المرجّحات علی أقسام:قسم منها یوجب تقویة صدور الروایة عن المعصوم علیه السّلام مثل:أصدقیّة الراوی و أوثقیّته و أعدلیّته،و قسم منها یوجب تقویة صدور الروایة لبیان الحکم الواقعی،مثل:مخالفة العامّة،و قسم منها یوجب تقویة مضمون الروایة،مثل:موافقة الکتاب و الشهرة.

إذا عرفت ذلک فنقول:إنّه علی فرض شمول الأخبار العلاجیّة للعامین من وجه لسانا أو مناطا،فهل یجری فیهما جمیع المرجّحات الصدوریّة و الجهتیّة و المضمونیّة،أو یختصّ بخصوص الأخیرتین و لا یجوز الرجوع فیهما إلی المرجّحات الصدوریّة؟

صرّح المحقّق النائینی رحمه اللّه بالثانی،و استدل علیه بأنّ التعارض فی العامّین من وجه إنّما یکون فی بعض مدلولهما و هو مادّة الاجتماع فقط،و مع هذا الفرض لا وجه للرجوع إلی المرجّحات الصدوریّة،لأنّه إن ارید من الرجوع إلیها طرح ما یکون راویه غیر أعدل أو غیر أصدق-مثلا-فهو ممّا لا وجه له؛لأنّه لا معارض له فی مادة الافتراق،و إن ارید طرحه فی خصوص مادّة الاجتماع فهو غیر ممکن؛إذ الخبر الواحد لا یقبل التبعیض من حیث الصدور.

و دعوی أنّ الخبر الواحد ینحلّ إلی أخبار متعدّدة حسب تعدّد أفراد الموضوع-کما هو الشأن فی جمیع القضایا الحقیقیّة-واضحة الفساد؛لأنّ الانحلال فی تلک القضایا لا یقتضی تعدّد الروایة،بل لیس فی البین إلاّ روایة

ص:422

واحدة کما لا یخفی (1)،انتهی ملخّص کلامه.

و یرد علیه:أوّلا:أنّ التبعیض فی أقسام المرجّحات بمعنی جریان بعضها فی جمیع أقسام التعارض و جریان بعضها فی بعض دون بعض مخالف لظاهر الأخبار العلاجیّة؛إذ الظاهر منها جریان جمیع أنواع المرجّحات فی المتعارضین،و لعلّ الاولی جعله دلیلا لعدم شمول تلک الأخبار للعامّین من وجه أصلا.

و ثانیا:سلّمنا أنّه لا یمکن التبعیض فی روایة واحدة من حیث الصدور الواقعی،و القول بأنّ الروایة مع کونها روایة واحدة لم تصدر واقعا بالنسبة إلی مادّة الاجتماع و صدرت واقعا بالنسبة إلی مادة الافتراق،و أمّا فی محیط الشرع و التعبّد فلا مانع من التعبّد بصدورها بالنسبة إلی مادّة الافتراق و عدم صدورها بالنسبة إلی مادّة الاجتماع،کما نقول فی استصحاب حیاة زید-مثلا- بترتّب الآثار الشرعیّة علیه و عدم ترتّب اللوازم و الملزومات العقلیّة و العادیّة؛ إذ التعبّد محدود بدائرة الآثار الشرعیّة،فلا إشکال فی التعبّد بصدور الخبر الواحد من جهة دون اخری فی محیط التشریع و التقنین و إن کان بحسب الواقع إمّا صادرا بتمامه و إمّا غیر صادر کذلک.

و ثالثا:أنّ الأخذ بالراجح من الروایتین لا یستلزم الحکم بعدم صدور المرجوح،بل یمکن أن یکون صادرا،غایة الأمر أنّ الراوی لم یتحفّظ قیده المخرج لها عن المعارضة مع الاخری؛إذ الأوثقیّة-مثلا-تقتضی کون المتّصف بها متحفّظا فی مقام أخذ الحکم عن الإمام علیه السّلام بحیث لم یغب عن ذهنه الخصوصیّات المأخوذة و القیود المذکورة،فترجیح مثل قوله:«أکرم العلماء»

ص:423


1- 1) فوائد الاصول 4:792-794.

مرجعه إلی کون من یجب إکرامه هو العالم بدون خصوصیّة اخری،فقوله:

«لا تکرم الفسّاق»حینئذ یکون علی تقدیر الصدور مشتملا علی قید،و هو عدم کونهم من العلماء،فترجیح الأوّل علیه لا یقتضی الحکم بعدم صدوره رأسا.

فعلی فرض شمول الأخبار العلاجیّة للعامّین من وجه یجری أقسام المرجّحات من الصدوریّة و غیرها فیهما،إلاّ أنّ الإشکال فی أصل الشمول کما ذکرنا،و تنقیح المناط المذکور لا یکون بنحو یقاوم فی مقابل القاعدة.

إذا عرفت معنی التعارض و عنوان المتعارضین فلا بدّ من بیان أحکامه، و البحث فیها یقع ضمن مقصدین:

ص:424

المقصد الأوّل: فی الخبرین المتعارضین المتکافئین بحیث لم تکن مزیّة و ترجیح لأحدهما فی البین

اشارة

فی الخبرین المتعارضین المتکافئین بحیث لم تکن مزیّة و ترجیح لأحدهما فی البین

و الکلام فی ذلک قد یقع فی حکمهما بنظر العقل،و قد یقع فیما یستفاد من الأخبار العلاجیّة الواردة فی هذا الباب،و علی تقدیر الأوّل تارة یبحث فیهما بناء علی کون الوجه فی اعتبار الخبر هو بناء العقلاء-کما عرفت-أنّه الموافق للتحقیق،و اخری یبحث فی حکمهما بناء علی دلالة الدلیل الشرعی من الآیات و الروایات علی اعتبار خبر الواحد،و علی التقدیرین تارة یتکلّم فی ذلک بناء علی الطریقیّة و الکاشفیّة و اخری بناء علی الموضوعیّة و السببیّة.

مقتضی الأصل بناء علی الطریقیّة

فنقول:لو کان الوجه فی اعتبار الخبر هو بناء العقلاء و سیرتهم عملا علی الاعتماد علی قول المخبر الموثّق،بناء علی الکاشفیّة و الطریقیّة،فمع التعارض و عدم المزیّة لا محیص عن القول بتساقطهما و عدم حجّیّة واحد منهما فی مدلوله المطابقی،بل وجوده بالنسبة إلیه کالعدم،و ذلک لوجهین:

أحدهما:أنّه لا شبهة فی أنّ اعتبار الخبر عند العقلاء إنّما هو لأجل کاشفیّته

ص:425

عن الواقع و إراءته له و أماریّته بالنسبة إلیه،و من الواضح أنّ الإراءة و الکشف إنّما هو مع عدم ابتلائه بمعارض مماثل أو أقوی؛ضرورة أنّه مع هذا الابتلاء یتردّد الطریق و الکاشف بینهما؛إذ لا یعقل کون کلّ واحد منهما مع وجود الآخر کاشفا،و إلاّ لزم الخروج عن حدّ التعارض،و مع تردّد الطریق و الکاشف و عدم وجود مرجّح فی البین لا بدّ من التوقّف؛لأنّ الأخذ بالمجموع ممّا لا یمکن،و بواحد ترجیح من غیر مرجّح.

و هذا نظیر ما لو أخبر مخبر واحد بخبرین متعارضین،فکما أنّه لا یکون شیء من الخبرین هناک بکاشف و لا طریق،کذلک لا یکون شیء من الخبرین هنا بکاشف.

ثانیهما:أنّ معنی حجّیّة الخبر إنّما هو عبارة عن صحّة احتجاج المولی به علی العبد،و هی متوقّفة علی شروط ثلاثة:الأوّل:تحقّق البیان من المولی، الثانی:ایصاله إلی العبد،و الثالث:عدم ابتلائه بالمانع،و إن لم یکن کذلک لا یبقی للمولی حقّ المؤاخذة و الاعتراض،فإذا کانت صلاة الجمعة واجبة واقعا و کانت الأمارة الدالّة علی ذلک غیر واصلة إلی المکلّف لا یجوز للمولی المؤاخذة و الاعتراض لأجل الترک؛لأنّ البیان الذی یسدّ باب البراءة العقلیّة الراجعة إلی عدم استحقاق العقوبة مع عدم وصول التکلیف إنّما هو البیان الواصل إلی المکلّف،و مع الجهل به لا مخرج للمورد عن البراءة،و معلوم أنّ مع ابتلاء البیان الواصل بمعارض مماثل لا یصحّ للمولی الاحتجاج أصلا،و هذا ممّا لا شبهة فیه.

فاتّضح أنّ الخبرین المتکافئین لا یکون شیء منهما حجّة بالنسبة إلی مدلولهما المطابقی.

ص:426

و أمّا بالنسبة إلی المدلول الالتزامی الذی یشترک فیه الخبران و لا معارضة بینهما فیه،کعدم الاستحباب و الکراهة و الإباحة فیما إذا قام أحد الخبرین علی الوجوب و الآخر علی التحریم إذا تحقّق الاحتمال الثالث فی البین و لا نعلم بانحصار الحکم الواقعی فیهما،فلا شبهة فی حجّیّتهما بالنسبة إلیه،إنّما الإشکال فی أنّ الحجّة بالنسبة إلیه،هل هو کلا الخبرین أو واحد منهما معیّن بحسب الواقع،و هو الخبر الذی لم یعلم کذبه؟

و یستفاد من کلام المحقّق النائینی رحمه اللّه القول بالأوّل حیث قال فی مقام بیان توهّم سقوط المتعارضین عن الحجّیّة بالنسبة إلی نفی الثالث أیضا:«إنّ الدلالة الالتزامیّة فرع الدلالة المطابقیّة،و بعد سقوط المتعارضین فی المدلول المطابقی لا مجال لبقاء الدلالة الالتزامیّة لهما فی نفی الثالث».

ثمّ قال فی مقام دفع التوهّم و بیان فساده:«إن الدلالة الالتزامیّة إنّما تکون فرع الدلالة المطابقیّة فی الوجود لا فی الحجّیّة».

ثمّ قال:«و بعبارة أوضح:الدلالة الالتزامیّة للکلام تتوقّف علی دلالته التصدیقیّة-أی دلالته علی المؤدّی-و أمّا کون المؤدّی مرادا فهو ممّا لا یتوقّف علیه الدلالة الالتزامیّة،فسقوط المتعارضین عن الحجّیّة فی المؤدّی لا یلازم سقوطهما عن الحجّیّة فی نفی الثالث؛لأنّ سقوطهما عن الحجّیّة فی المؤدّی إنّما کان لأجل التعارض،و أمّا فی نفی الثالث فلا معارضة بینهما،بل یتّفقان فیه، فیکونان معا حجّة فی عدم الثالث» (1).

و یرد علیه:أنّه مع العلم بکذب أحدهما واقعا بالنسبة إلی المدلول المطابقی -لکونه لازم لا ینفکّ عن التعارض-کیف یمکن کونه حجّة بالنسبة إلی

ص:427


1- 1) فوائد الاصول 4:755-756.

المدلول الالتزامی؟أ لا تری أنّه لو کان کان هنا خبر واحد فقط مع عدم الابتلاء بالمعارض و علم من الخارج بکذبه،فهل یرضی أحد مع ذلک بکون العلم بالکذب یوجب سقوطه فی خصوص مدلوله المطابقی،و أمّا المدلول الالتزامی فهو بالنسبة إلیه حجّة؟!و کذلک المقام،فإنّا لا نتعقّل مع العلم بکذب واحد من الخبرین أن یکونا معا حجّة بالنسبة إلی نفی الثالث الذی هو من اللوازم العقلیّة للمدلول المطابقی.

فالحقّ ما اختار المحقّق الخراسانی رحمه اللّه من کون الحجّة علی نفی الثالث هو أحدهما الغیر المعیّن الذی هو الخبر الذی لم یعلم کذبه؛لا الخبرین معا (1).

و أمّا ما ذکر المحقّق النائینی رحمه اللّه من التفکیک بین الوجود و الحجّیّة فلا دلیل علیه؛إذ الخبر إذا کان حجّة یکون مدلوله المطابقی موجودا،و مع الوجود لا مجال للتفکیک بین المدلولین،و لیست الدلالة الالتزامیّة من الدلالات اللفظیّة حتّی لا یکون دلالة اللفظ علیها متوقّفة علی دلالته علی المدلول المطابقی و إن عدّت هذه الدلالة فی المنطق من جملة تلک الدلالات،و ذلک لأنّ دلالة اللفظ علی أمر خارج عمّا وضع له مع عدم کونه مجازا ممّا لا یتصوّر،بل قد عرفت أنّ فی المجازات أیضا لا یکون اللفظ دالاّ إلاّ علی المعنی الحقیقی،و المعنی المجازی هو المعنی الحقیقی ادّعاء.

إن قلت:إنّ الالتزام بهذا المعنی یوجب عدم حجّیّة المتعارضین فی نفی الثالث،فإنّ بعد کون نفی الثالث معنی التزامیّا،و تبعیّته للمدلول المطابقی و عدم ارتباطه باللفظ مستقیما،و سقوطهما عن الحجّیّة بالنسبة إلی المدلول المطابقی لا یبقی دلیل لنفی الثالث و لا طریق له.

ص:428


1- 1) کفایة الاصول 2:385.

قلت:لا مانع من التفکیک فی الحجّیّة بالنسبة إلی الخبر الذی لم یعلم کذبه و یحتمل مطابقته للواقع بأنّه ساقط عن الحجّیّة بالنسبة إلی إثبات مدلوله المطابقی،و أمّا من حیث الانتقال إلی المدلول الالتزامی و إثبات دلالته الالتزامیّة فلا یسقط عن الحجّیّة عند العقل،فإنّ حجّیّة المدلول المطابقی بعنوان الطریقیّة إلی المدلول الالتزامی خارجة عن دائرة التعارض،فالحجّیّة باقیة من هذه الجهة بعد ابتلاء مدلوله المطابقی بالمعارض و کون مدلوله الالتزامی مورد توافق کلا الخبرین المتعارضین.

هذا کلّه بناء علی کون الوجه فی اعتبار الخبر هو بناء العقلاء علی العمل به فی جمیع امورهم کما أنّه هو الوجه.

و أمّا بناء علی کون الدلیل لحجّیّة خبر الواحد عبارة عن الآیات و الروایات التی استدلّ بها علی ذلک،فتارة یقال بکونها مهملة غیر شاملة لحال التعارض؛لکونها فی مقام إثبات حجّیته فی الجملة من دون النظر إلی خصوصیّات مثل صورة التعارض و التخالف.

و اخری بکونها مطلقة،و علی هذا التقدیر قد یراد بالإطلاق الإطلاق الشمولی اللحاظی بمعنی لحاظ الشمول و السریان بالإضافة إلی جمیع أفراد الطبیعة،و قد یراد به الإطلاق الذاتی،فإن کانت الأدلّة مهملة غیر شاملة لحال التعارض فیکون حکم صورة التعارض واضحا؛إذ لا دلیل حینئذ علی حجّیّة واحد من الخبرین،فیسقطان عن الاعتبار الذی کان ثابتا لهما فی حال عدم المعارضة و إن کانت مطلقة بالإطلاق الشمولی اللحاظی فاللازم أن یقال بثبوت التخییر فی حال التعارض،و إلاّ تلزم اللغویة؛إذ لا یمکن الجمع بینهما و الأخذ بهما معا،و لا فائدة فی التعبّد بصدورهما و رفع الید عن مفادهما لتحقّق

ص:429

التعارض بینهما،فلا بدّ من الالتزام بالتخییر فی هذه الصورة.

و إن کان المراد به هو الإطلاق الذاتی بمعنی کون ماهیّة خبر الواحد و طبیعته محکوما بالحجّیّة،و هو الذی اخترناه و حقّقناه فی باب المطلق و المقیّد، فقد یقال:بأنّ اللازم حینئذ التخییر أیضا؛نظرا إلی أنّ الدلیل علی اعتبار الخبر له عموم و إطلاق،أمّا العموم فباعتبار شموله لجمیع الإخبار،و أمّا الإطلاق فباعتبار عدم کونه مقیّدا بحال عدم المعارض.

و حینئذ فإذا ورد الخبران المتعارضان یدور الأمر بین رفع الید عن العموم و الحکم بتساقطهما،و بین حفظ العموم علی حاله و رفع الید عن الإطلاق و القول بحجّیّة کلّ واحد منهما مع رفع الید عن الآخر،فلا بدّ من الالتزام بالثانی؛إذ التصرّفات فی الدلیل تتقدّر بقدر الضرورة،و مع إمکان التصرّف القلیل لا مسوّغ للتصرّف الکثیر،و هذا نظیر المتزاحمین،حیث إنّ العقل یحکم فیهما بالتخییر،لأجل عدم إمکان امتثالهما.

و یرد علیه:أنّ المستفاد من الأدلّة هو الحجّیّة من باب الکاشفیّة و الطریقیّة، فلا یقاس المقام بباب المتزاحمین،إذ التکلیف المتوجّه إلی المکلّف هناک تکلیفان نفسیّان تعلّق کلّ واحد منهما بمتعلّق خاصّ،و حیث لا یکون قادرا علی جمعهما فی مقام الامتثال و لا مرجّح فی البین یحکم العقل بالتخییر.

و أمّا فی المقام فالتکلیف المتعلّق بتصدیق العادل تکلیف طریقی، و مرجعه إلی لزوم متابعة الخبر؛لکونه طریقا و کاشفا عن الواقع،و لا معنی للحکم بالتخییر بین الطریقین المختلفین،بل العقل یحکم بتساقطهما؛لامتناع ثبوت الکاشفیّة لهما،و لا معنی للتخییر بین الخبرین بکون کلّ واحد منهما کاشفا مع عدم العمل بالآخر،بعد فرض کون أحدهما موصلا إلی الواقع

ص:430

و الآخر مبعّدا عنه.

فمقتضی القاعدة فی الخبرین المتعارضین المتکافئین بناء علی الطریقیّة هو التساقط،و أمّا بناء علی السببیّة فلا فائدة فی البحث عنه،لعدم صحّة هذا المبنی رأسا.

مقتضی الأخبار الواردة فی المتکافئین من حیث الفتاوی

و الشهرة الفتوائیّة المحقّقة-بل الإجماع-علی ما نقل فی المتعارضین المتکافئین علی عدم التساقط،و الروایات الدالّة علیه مختلفة،فطائفة منها تدلّ علی التخییر،و طائفة علی التوقّف،و یستفاد من کلام المحقّق النائینی رحمه اللّه تحقّق طوائف أربع من الروایات فی هذا الباب،بأنّ الطائفة الدالّة علی التخییر علی قسمین:قسم منها تدلّ علی التخییر بنحو الإطلاق،و قسم منها تدلّ علی التخییر فی خصوص زمان الحضور.و هکذا الطائفة الدالّة علی التوقّف.

و قد ادّعی الشیخ رحمه اللّه فی الرسائل تواتر الروایات الدالّة علی التخییر (1).

و لکنّها حسبما تتبّعنا فی مظانّها-التی هی الباب التاسع من کتاب قضاء الوسائل (2)،و کذا الباب التاسع من مستدرکه (3)-لا تتجاوز عن سبع روایات قاصرة من حیث السند و الدلالة،و قد مرّ بعضها،و هو روایتا الحمیری و علیّ بن مهزیار المتقدّمتان فی فصل تعارض العامّ و الخاصّ،و هکذا أخبار التوقّف المذکورة فی الباب التاسع من الکتابین،فإنّها لا تتجاوز عن أربعة،إلاّ أنّ مجموع الطائفتین یوجب رفع الید عن مقتضی القاعدة،و هو التساقط،فإنّا قد

ص:431


1- 1) فرائد الاصول 2:763.
2- 2) الوسائل 18:75،کتاب القضاء،الباب 9 من أبواب صفات القاضی.
3- 3) المستدرک 17:302،کتاب القضاء،الباب 9 من أبواب صفات القاضی.

ذکرنا حجّیّة الروایات المتعارضة بالنسبة إلی نفی الثالث،فکلّ من الروایات الدالّة علی التخییر و التوقّف ینفی التساقط بالاشتراک.

ما قیل فی وجه الجمع بین هاتین الطائفتین أو الطوائف من الأخبار

و قد وقع الاختلاف فیه و ما قیل فی ذلک وجوه:

منها:ما أفاده المحقّق النائینی رحمه اللّه من أنّ مقتضی التحقیق فی الجمع بینها هو أنّ النسبة بین ما دلّ علی التخییر فی زمان الحضور و بین ما دلّ علی التخییر المطلق و إن کانت هی العموم و الخصوص،و کذا بین روایات التوقّف،إلاّ أنّه لا منافاة بینهما؛لعدم المنافاة بین التوقّف المطلق و التوقّف فی زمان الحضور،و کذا بین التخییرین،فالتعارض بین ما دلّ علی التخییر و بین ما دلّ علی التوقّف، غایته أنّ التعارض بین ما دلّ علی التوقّف و التخییر مطلقا یکون بالعموم من وجه،و بین ما دل علی التوقّف و التخییر فی زمان الحضور یکون بالتباین.

و لا یهمّنا البحث فی الثانی،فإنّه لا أثر له،فالحریّ رفع التعارض فی الأوّل، و قد عرفت أنّ النسبة بینهما العموم من وجه،لکن نسبة ما دلّ علی التخییر مطلقا مع ما دلّ علی التوقّف فی زمان الحضور هی العموم و الخصوص،فلا بدّ من تقیید إطلاق التخییر به،و به یتحقّق انقلاب النسبة من العموم من وجه إلی العموم المطلق،و مقتضی الصناعة حمل أخبار التوقّف علی زمان الحضور و التمکّن من ملاقاة الإمام علیه السّلام،فتصیر النتیجة هی التخییر فی زمان الغیبة کما علیه المشهور (1)،انتهی کلامه ملخّصا.

و یرد علیه أوّلا:أنّه لم یظهر لنا أنّ النسبة بین ما دلّ علی التخییر مطلقا و بین ما دلّ علی التوقّف کذلک کیف تکون بالعموم من وجه بعد شمول کلّ منهما

ص:432


1- 1) فوائد الاصول 4:764-765.

لحالتی الظهور و الغیبة،بل النسبة بینهما هی التباین کالنسبة بین أدلّة التوقّف و التخییر فی زمان الحضور،کما لا یخفی.

و ثانیا:أنّه لا وجه لملاحظة دلیل التخییر مطلقا مع دلیل التوقّف فی زمان الحضور حتّی یختصّ دلیل التخییر بحال الغیبة و صار مخصّصا لدلیل التوقّف المطلق بعد ما کانت النسبة بینهما هی العموم من وجه طبق ما أفاده،فإنّه لیس بأولی من العکس،و ملاحظة دلیل التوقّف مطلقا مع دلیل التخییر فی زمان الحضور و تخصیص دلیل التوقّف مطلقا بحال الغیبة ثمّ جعله مخصّصا لدلیل التخییر مطلقا،و لازم ذلک انحصار الروایات الدالّة علی التخییر فی زمان الحضور و الحکم بالتوقّف فی زمان الغیبة،کما أشار إلیه الفاضل المقرّر فی هامش فوائد الاصول (1).

و ثالثا:أنّه لا وجه لملاحظة دلیل التخییر مطلقا مع دلیل التوقّف فی زمان الحضور بعد کونه مبتلی بالمعارض علی ما هو المفروض،و هو دلیل التخییر فی زمان الحضور الذی ذکر أنّ النسبة بینهما التباین،فلا وجه لملاحظة دلیل التخییر مطلقا مع إحدی طرفی المعارضة،و فرض الطرف الآخر کالعدم.

و الحاصل:أنّ انقلاب النسبة فرع التقیید و التخصیص،و هما فرع عدم الابتلاء بالمعارض،و مع وجود المعارض لا یصلح للمقیّدیة و المخصّصیّة،فما ذکره المحقّق النائینی رحمه اللّه من الطریق لاستفادة التخییر المشهور فی عصر الغیبة لیس بتامّ.

و منها:ما أفاده الشیخ الأنصاری رحمه اللّه فی مقام الجمع من حمل أخبار التوقّف علی صورة التمکّن من الوصول إلی الإمام علیه السّلام و أخبار التخییر علی صورة عدم

ص:433


1- 1) فوائد الاصول 4:765.

التمکّن منه (1).

و التحقیق:أنّ مراده من هذا الجمع إن کان شبیه ما ذکره المحقّق النائینی رحمه اللّه فیرد علیه ما ورد علیه،و إن کان مراده منه الجمع المقبول عند العقلاء فهذا جمع تبرّعی لا شاهد علیه؛إذ لا شاهد فی روایات التخییر یوجب انحصارها فی زمان عدم التمکّن من الوصول إلی الإمام علیه السّلام و لا یکفی فی الجمع صرف رفع التعارض علی أیّ نحو کان،بل لا بدّ من کونه مقبولا عند العقلاء.

مضافا إلی أنّ المراد من التمکّن إن کان هو التمکّن الذی کان الشخص معه قادرا علی الرجوع إلی الإمام فورا،کما إذا کان معه فی مدینة واحدة،فمن الواضح إباء أخبار التوقّف عن الحمل علی خصوص هذه الصورة،فإنّ اختصاصها بالمتمکّنین عن الوصول بهذه الکیفیّة فی کمال البعد.

و إن کان المراد به هو التمکّن بمعنی مجرّد القدرة علی الوصول إلی محضره و لو مع تحمّل مشقّة السفر فمن الواضح أنّ حمل أخبار التخییر علی صورة عدم التمکّن بهذا المعنی بعید جدّا،مع کون الرواة المخاطبة بها ساکنین فی المدینة أو الکوفة أو البصرة،فکیف یمکن فرض عجزهم عن الوصول بهذه الکیفیّة؟ خصوصا مع کون الغایة فی بعض الروایات ملاقاة من یخبره،و من المعلوم أنّ المخبر أعمّ من الإمام علیه السّلام.

و منها:ما أفاده المحقّق الحائری رحمه اللّه فی مقام الجمع من حمل أخبار التوقّف علی التوقّف فی مقام الرأی و الإفتاء،و أخبار التخییر علی التخییر فی العمل (2).

و یرد علیه:أوّلا:-بعد عدم إشعار حتّی روایة واحدة من الروایات بهذا المعنی-أنّه لا شاهد و لا دلیل علیه.

ص:434


1- 1) فرائد الاصول 2:363.
2- 2) درر الفوائد:657.

و ثانیا:أنّ أخبار التوقّف ناظرة فی النهی عن العمل بشیء منهما إمّا بالظهور و إمّا بالصراحة،مثل:قوله علیه السّلام فی مقبولة عمر بن حنظلة:«فارجئه حتّی تلقی إمامک،فإنّ التوقّف فی الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات» (1).و نحو ذلک من الروایات،و یظهر هذا المعنی بمراجعتها.

هناک وجوه أخر للجمع،مثل:حمل أخبار التخییر علی العبادات و أخبار الإرجاء و الوقوف علی المعاملات.

أو حمل أخبار التخییر علی حقوق اللّه و أخبار التوقّف علی حقوق الناس، و استشهد لذلک بورود المقبولة فی مورد الاختلاف فی دین أو میراث،و لازم ذلک الالتزام باختصاص المرجّحات المذکورة فیها أیضا بباب حقوق الناس، مع أنّه لا یتفوّه به أحد.

أو حمل أخبار التخییر علی التعارض بنحو التناقض و أخبار التوقّف علی غیره-أی فیما تحقّق طریق ثالث-و هذا یناسب قوله علیه السّلام:«لا تعمل بواحد منهما»فی مورد اخبار التوقّف أو حمل أخبار التخییر علی المستحبّات و المکروهات و حمل أخبار التوقّف علی الواجبات و المحرّمات،و ذکر أکثر هذه الوجوه العلاّمة المجلسی رحمه اللّه فی کتاب مرآة العقول (2).

و لکنّ التحقیق یقتضی الالتزام بما ذکره استاذنا السیّد الأعظم رحمه اللّه فی مقام الجمع هنا،و هو أنّ أدلّة التخییر صریحة فی جواز الأخذ بکلّ من الخبرین، فإنّ قوله علیه السّلام:«فموسّع علیک بأیّهما أخذت» (3)صریح فی التوسعة و جواز الأخذ بکلّ منهما،و أمّا أخبار التوقّف فلیس فیها ما کان نصّا فی ذلک،

ص:435


1- 1) الوسائل 18:75،کتاب القضاء،الباب 9 من أبواب صفات القاضی،الحدیث 1.
2- 2) مرآة العقول 1:218-219.
3- 3) الوسائل 18:87،کتاب القضاء،الباب 9 من أبواب صفات القاضی،الحدیث 40.

بل غایته الظهور فی التوقّف و عدم الأخذ بشیء منهما،و الظاهر لا یقاوم النصّ، فتحمل أخبار التوقّف علی الاستحباب،فانّ قوله علیه السّلام فی المقبولة:«فارجه حتّی تلقی إمامک»و إن کان ظاهرا فی وجوب التوقّف و التأخیر،و لکن ملاحظة نصوصیّة أخبار التخییر فی مقابله یحمل علی الاستحباب،مع أنّ تثلیث الامور فی المقبولة و تعلیل ذیلها ب«أنّ الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات»أقوی شاهد علی کون الأمر فی قوله:«أرجئه»إرشادیّا و لا یصلح للتعارض مع أخبار التخییر (1).

و قد استدلّ لحمل أخبار التخییر علی المستحبّات و المکروهات و حمل أخبار التوقّف علی الواجبات و المحرّمات بروایة المیثمی التی أوردها فی الوسائل فی الباب التاسع من أبواب کتاب القضاء،الحدیث 21،قال:«و فی عیون الأخبار للصدوق رحمه اللّه عن أبیه،و محمّد بن الحسن بن أحمد بن الولید جمیعا،عن سعد بن عبد اللّه،عن محمّد بن عبد اللّه المسمعی،عن أحمد بن الحسن المیثمی».

و الإشکال فی سند الروایة من ناحیة محمّد بن عبد اللّه المسمعی فقط،إلاّ أن صاحب الوسائل بعد نقل هذه الروایة قال:«أقول:ذکر الصدوق أنّه نقل هذا من کتاب(الرحمة)لسعد بن عبد اللّه و ذکر فی الفقیه:أنّه من الاصول و الکتب التی علیها المعوّل،و إلیها المرجع».

فیمکن تلقّی هذه الروایة بعنوان المعتبرة لا رمیها بالضعف و کونها فاقدة الحجّیّة و الاعتبار.

و أمّا الروایة فقال:أنّه سأل الرضا علیه السّلام یوما و قد اجتمع عنده قوم

ص:436


1- 1) معتمد الاصول 2:389.

من أصحابه،و قد کانوا یتنازعون فی الحدیثین المختلفین عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فی الشیء الواحد،فقال علیه السّلام:«إنّ اللّه حرّم حراما،و أحلّ حلالا،و فرض فرائض، فما جاء فی تحلیل ما حرّم اللّه،أو فی تحریم ما أحلّ اللّه،أو دفع فریضة فی کتاب اللّه رسمها بین قائم بلا ناسخ نسخ ذلک،فذلک ما لا یسع الأخذ به؛لأنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله لم یکن لیحرّم ما أحلّ اللّه،و لا لیحلّل ما حرّم اللّه،و لا لیغیّر فرائض اللّه و أحکامه،کان فی ذلک کلّه متّبعا مسلّما مؤدّیا عن اللّه،و ذلک قول اللّه: إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما یُوحی إِلَیَّ (1)،فکان صلّی اللّه علیه و آله متّبعا للّه،مؤدّیا عن اللّه ما أمره به من تبلیغ الرسالة».

قلت:فإنّه یرد عنکم الحدیث فی الشیء عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله ممّا لیس فی الکتاب و هو فی السنّة،ثمّ یرد خلافه؟فقال:«کذلک قد نهی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله عن أشیاء نهی حرام،فوافق فی ذلک نهیه نهی اللّه،و أمر بأشیاء فصار ذلک الأمر واجبا لازما کعدل فرائض اللّه،فوافق فی ذلک أمره أمر اللّه،فما جاء فی النهی عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله نهی حرام،ثمّ جاء خلافه لم یسغ استعمال ذلک.و کذلک فی ما أمر به،لأنّا لا نرخّص فیما لم یرخّص فیه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،و لا نأمر بخلاف ما أمر به رسول صلّی اللّه علیه و آله،إلاّ لعلّة خوف ضرورة،فأمّا أن نستحلّ ما حرّم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،أو نحرّم ما استحلّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فلا یکون ذلک أبدا؛لأنّا تابعون لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله مسلّمون له،کما کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله تابعا لأمر ربّه،مسلّما له،و قال اللّه عزّ و جلّ:

وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (2)،و أنّ اللّه نهی عن أشیاء لیس نهی حرام،بل إعافة و کراهة،و أمر بأشیاء لیس بأمر فرض

ص:437


1- 1) الأنعام:50،یونس:15،الأحقاف:9.
2- 2) الحشر:7.

و لا واجب،بل أمر فضل و رجحان فی الدین،ثمّ رخّص فی ذلک للمعلول و غیر المعلول،فما کان عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله نهی إعافة أو أمر فضل فذلک الذی یسع استعمال الرخصة فیه،إذا ورد علیکم عنّا الخبر فیه باتّفاق،یرویه من یرویه فی النهی،و لا ینکره،و کان الخبران صحیحین معروفین باتّفاق الناقلة فیهما،یجب الأخذ بأحدهما،أو بهما جمیعا،أو بأیّهما شئت و أحببت،موسّع ذلک لک من باب التسلیم لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و الردّ إلیه و إلینا،و کان تارک ذلک من باب العناد و الإنکار و ترک التسلیم لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله مشرکا باللّه العظیم،فما ورد علیکم من خبرین مختلفین فاعرضوهما علی کتاب اللّه،فما کان فی کتاب اللّه موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الکتاب،و ما لم یکن فی الکتاب فاعرضوه علی سنن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله فما کان فی السنّة موجودا منهیّا عنه نهی حرام،و مأمورا به عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله أمر إلزام،فاتّبعوا ما وافق نهی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و أمره،و ما کان فی السنة نهی إعافة أو کراهة،ثمّ کان الخبر الأخیر خلافه فذلک رخصة فیما عافه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و کرهه و لم یحرّمه،فذلک الذی یسع الأخذ بهما جمیعا،و بأیّهما شئت وسعک الاختیار من باب التسلیم و الاتّباع و الرد إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله،و ما لم تجدوه فی شیء من هذه الوجوه فردّوا إلینا علمه فنحن أولی بذلک،و لا تقولوا فیه بآرائکم و علیکم بالکفّ و التثبّت و الوقوف و أنتم طالبون باحثون، حتّی یأتیکم البیان من عندنا».

و لکن لا دلالة للروایة علی التخییر الذی هو المقصود فی المقام-أی التخییر الظاهری-فإنّ التخییر الذی تدلّ هذه الروایة علیه هو التخییر الواقعی؛لأنّ موردها النهی التنزیهی مع دلیل الرخصة أو الأمر غیر الإلزامی مع ذلک الدلیل،و معلوم أنّ التخییر فی مثل هذه الموارد تخییر واقعی،کما لا یخفی.

ص:438

نعم،ذیلها یدلّ علی التوقّف و التثبّت حتّی یأتی البیان من ناحیتهم،فهذه الروایة أیضا من أخبار التوقّف،بخلاف ما ذکره بعض الأعلام رحمه اللّه من انحصار أخبار التوقّف بمقبولة عمر بن حنظلة و روایة سماعة و طرحهما بلحاظ ضعف السند أو سقوطهما عن الحجّیّة بالتعارض،فتکون هذه الروایة دلیلا معتبرا للتوقّف بعد تصحیح سندها بما ذکرنا و تمامیّة دلالة ذیلها علیه.

فالحکم فی الخبرین المتکافئین بحسب الروایات عبارة عن التخییر من طریق الجمع بین أخبار التوقّف و أخبار التخییر بالنص و الظاهر،أو الأظهر و الظاهر.

ص:439

ص:440

تنبیهات
اشارة

و ینبغی التنبیه علی امور:

التنبیه الأوّل:فی معنی التخییر فی المسألة الاصولیّة:

لا إشکال فی أنّ المستفاد من أخبار التخییر هو التخییر فی المسألة الاصولیّة،و مرجعه إلی کون المجتهد المتحیّر مخیّرا فی الأخذ بأحد الخبرین فی مقام الفتوی و معاملته معاملة الحجّة،کما لو کان بلا معارض،لا التخییر فی المسألة الفقهیّة مثل:تخییر المکلّف بین الخصال الثلاث فی کفّارة الإفطار فی مقام الامتثال.

و إنّما الإشکال فی کیفیّة الجمع و التوافق بین مقتضی القاعدة العقلائیّة-أی التساقط-و حکم الشارع بالتخییر فی ضمن الأخبار العلاجیّة.

قد یقال بأنّ حکم الشارع بالتخییر فی الخبرین المتعارضین لا یکون مع غضّ النظر عن حکم العقل و العقلاء و تخطئتهما،بل الشارع مع ملاحظة حکم العقل و العقلاء بتساقط الطریقین و عدم کاشفیّتهما عن الواقع جعل حکما ظاهریّا للمتحیّر،و هو التخییر و السعة فی الأخذ بأیّهما،فیکون التساقط بلحاظ الطریقیّة،و التخییر بعنوان الحکم الظاهری کسائر الاصول المعتبرة فی موارد الشکّ.و یؤیّده ما فی بعض الروایات المتقدّمة کقوله علیه السّلام:«و ما لم تعلم

ص:441

فموسّع علیک» (1).

و یرد علیه:أنّ الفرق بین الأمارات و الاصول العملیّة عبارة عن ترتّب الآثار و اللوازم و الملازمات العقلیّة و العادیّة علی الأمارات،بخلاف الاصول؛ لعدم حجّیّة مثبتات الاصول،و لازم هذا القول الاقتصار فی مقام الأخذ بأحد الخبرین علی مجرّد مدلوله المطابقی دون لازمه؛لما ذکرنا من کون التخییر هنا بعنوان الأصل العملی و الحکم الظاهری لتساقط الأمارتین،مع أنّ هذا مخالف لما استفاده المحقّقین فی هذا الفن من التخییر المستفاد من الأخبار العلاجیّة من ترتّب جمیع المدالیل المطابقیّة و الالتزامیّة علی الخبر الذی أخذه فی هذا المقام، و معاملته کأنّ لم یکن له معارض،فلا یمکن الالتزام بهذا القول.

و قد یقال بأنّ مرجع جعل التخییر لتلک الأخبار إلی جعل الطریقیّة من الشارع عند التعارض فی مقابل إمضائه طریقیّة ما هو طریقا عند العقلاء فی صورة عدم المعارضة،مثل:إمضاء طریقیّة الخبر.

و یرد علیه:أوّلا:أنّ أصل جعل الطریقیّة و الکاشفیّة و لو مع عدم التعارض غیر معقول؛لکونها من الامور التکوینیّة و من اللوازم العقلیّة للکاشف،و لا یعقل تعلّق الجعل الشرعی بها.

و بعبارة اخری:أنّ الکاشفیّة و الطریقیّة محفوظة لجمیع الطرق الظنّیة،و لا تکون قابلة للسلب عنها،و ما یکون قابلا للجعل من الشارع هو اعتبارها و حجّیّتها،فلذا یعبّر عن بعضها بالأمارة الغیر المعتبرة،و عن بعض آخر بالأمارة المعتبرة.

و ثانیا:أنّه إن کان المراد جعل الطریقیّة لکلا الخبرین فهو مستحیل بعد

ص:442


1- 1) الوسائل 18:88،الباب 9،من أبواب صفات القاضی،الحدیث 44.

فرض التعارض و عدم إمکان الاجتماع؛إذ لو لم یکن مستحیلا لما حکم العقل بالتساقط،کما هو واضح.

و إن کان المراد الطریقیّة لأحد الخبرین بالخصوص،فمضافا إلی أنّه لا مرجّح فی البین،مناف لمقتضی الأدلّة،حیث إنّها تدلّ علی التخییر لا الأخذ بخصوص واحد منهما،و إن کان المراد جعلها لأحدهما غیر المعیّن فمن الواضح أنّ أحدهما لا علی سبیل التعیین لیس شیئا وراء کلا الخبرین؛إذ لیس هنا أمر آخر فی البین،و قد عرفت استحالة جعل الطریقیّة لکلیهما أو واحد معیّن منهما.

هذا،و کان لاستاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه طریق آخر فی المسألة،و هو قوله:

«و التحقیق فی المقام أن یقال:إنّ الحکم بالتخییر فی المتعارضین لیس حکما ثانویا وراء الحکم بحجّیّة کلّ واحد من الخبرین إمضاء لحکم العقلاء و بنائهم علی العمل بخبر الواحد،غایة الأمر أنّ مرجعه إلی تخطئه العقلاء فی حکمهم بالتساقط مع التعارض،و مرجعه إلی أنّه کما کان الواجب علیکم الأخذ بالخبر و التعبّد بمضمونه و جعله حجّة و طریقا إلی الواقع مع عدم التعارض مع الخبر الآخر،کذلک یجب علیکم فی مقام التعارض أیضا الأخذ،غایة الأمر أنّه حیث لا یکون ترجیح فی البین یتخیّر المکلّف فی الأخذ بکلّ واحد منهما،فهذا الأخذ لا یکون مغایرا للأخذ بالخبر مع عدم المعارضة أصلا،و حینئذ لا فرق بینهما من جهة حجّیّة اللوازم و الملزومات.

ثمّ ذکر تنظیرا بعنوان الدلیل و قال:و الدلیل علی ما ذکرنا أنّ الظاهر عدم الفرق فیما یرجع إلی معنی الأخذ بین المتکافئین و المتعارضین مع ثبوت المزیّة لأحدهما،فکما أنّ الأمر بأخذ ذی المزیّة لیس حکما آخر وراء الحکم بحجّیّة

ص:443

الخبر،فکذلک الأمر بأخذ أحد الخبرین مع التکافؤ،فإنّه لیس أیضا حکما آخر ناظرا إلی جعل الطریقیّة و جعل حکم ظاهری،کما هو واضح» (1).

و یرد علیه:أنّ تخطئة حکم العقلاء و إن کان بمکان من الإمکان،و لکن لا مجال لتخطئة حکم العقل،و قد عرفت أنّ التساقط مقتضی حکم العقل أیضا،و علیه فیبقی الإشکال بحاله،بأنّ العقل إذا حکم بالتساقط فی الخبرین المتعارضین فکیف یمکن الحکم بالتخییر فی ضمن روایات التخییر مع تصرّفه فی الآیات القرآنیّة بعنوان قرینة متّصلة،و تقدّم الدلیل العقلی القطعی علی الدلیل التعبدی؟فبعد اعترافه رحمه اللّه هناک بأنّ مقتضی القاعدة بنظر العقل هو التساقط لا یمکن التعبّد بخلافه.

و التحقیق:الالتزام بالقول الأوّل من الأقوال الثلاثة من کون التخییر فی الخبرین المتعارضین المتکافئین أصلا عملیّا شرعیّا مثل سائر الاصول العملیّة الشرعیّة فی قبال أصالة التخییر العقلیّة الجاریة فی دوران الأمر بین المحذورین.

و لا منافاة بینه و بین حکم العقل بتساقط الخبرین و عدم صلاحیتهما للطریقیّة و الأماریّة للتعارض،ففی صورة فقدان الطریق و التحیّر حکم الشارع بالتخییر بینهما بعنوان الأصل العملی،و بهذا المعنی ینطبق ما فی قوله علیه السّلام:«ما لم تعلم فموسّع علیک بأیّهما أخذت».

فإن قیل:إنّ لازم ذلک الأخذ بمدلول مطابقی ما اخذ من الخبرین دون اللوازم و الملازمات.

و جوابه؛أوّلا:أنّه لا مانع من الالتزام بذلک.

ص:444


1- 1) معتمد الاصول 2:392.

و ثانیا:سلّمنا عدم حجّیّة لوازم مفاد الأصل العملی بمعنی عدم ترتّب اللوازم العقلیّة علی أصالة التخییر بعنوان الأصل العملی،و لکن لا دخل لنا باللوازم و ملازماته،بل نتعبّد بطرفی التخییر و مخیّر فیه،و هو الأخذ بهذا الخبر بتمام مفاده من المطابقی و الالتزامی و غیرهما،و عدم طریقیّته لا یمنع من التعبّد بالتخییر،و إلاّ یمنع من حجّیته فی المدلول المطابقی أیضا؛إذ التعارض یقع أوّلا و بالذات فی المدلول المطابقی.

فالتخییر هنا أصل عملی و مثبتاته لیست بحجّة،و لکن لا یسری هذا إلی الخبر الذی اخذ بعنوان طرفی التخییر،کأنّه قال الشارع:«أنت مخیّر فی الأخذ بهذا الخبر فی تمام مدالیله و الأخذ بذاک الخبر فی تمام مدالیله»،و لیس معناه حجّیّة مثبتات الاصول،و لا یمکن القول بأنّه لا یمکن للشارع التعدّی من المدلول المطابقی کما لا یخفی،فهذا الوجه أقرب عندنا.

التنبیه الثانی:فی اختصاص التخییر بالمفتی و عدمه

بعد ما عرفت من کون التخییر الذی یدلّ علیه أخباره هو التخییر فی المسألة الاصولیّة،فهل یجوز للمجتهد الفتوی بالتخییر فی المسألة الفرعیّة الراجعة إلی کون المقلّد مخیّرا فی مقام العمل،أم التخییر ینحصر بالمجتهد و یجب علیه الأخذ بمضمون أحد الخبرین و الفتوی علی طبقه،بعد ما علم أن جریان الاصول فی الشبهات الموضوعیّة لا ینحصر بالمجتهد،بل یجوز للمقلّد أیضا إجراؤها؟

و أمّا فی إجرائها فی الشبهات الحکمیّة فوجهان:

قد یقال:بانحصار الخطابات الواردة فی المسائل الاصولیّة بخصوص المجتهد؛نظرا إلی أنّه هو الذی یتحقّق عند موضوع تلک الخطابات؛لأنّه هو

ص:445

الذی یشکّ فی الحکم الفلانی بالشبهة الحکمیّة،و هو الذی یجیء عنده الخبران المتعارضان،و غیر ذلک من الموضوعات،و مع انحصار تحقّق الموضوع به لا تکون تلک الخطابات شاملة لغیره.

هذا،و لکنّ الظاهر خلافه؛لأنّ مجرّد کون المقلّد غیر مشخّص لموضوعات تلک الخطابات لا یوجب انحصارها بالمجتهد،بل یمکن أن یقال:بأن المجتهد یشخّص الموضوع للمقلّد و یفتی بمفاد تلک الخطابات،و بالنتیجة یکون جریانها فی ذلک الموضوع عند المقلّد،فالمجتهد یعلّم المقلّد بأنّ صلاة الجمعة کانت واجبة فی عصر ظهور أئمّة النور علیهم السّلام،و الآن مشکوک الوجوب،و یفتی بأنّ کلّ شیء کان کذلک یحرم نقض الیقین فیه بالشکّ علی ما هو مدلول خطابات الاستصحاب،فالمقلّد حینئذ یتمسّک بالاستصحاب و یحکم بوجوبها فی هذه الأعصار أیضا.

و إن کانت الشبهة حکمیّة فلا یصحّ القول بالتبعیض فی خطاب واحد،مثل:

قوله علیه السّلام:«لا تنقض الیقین بالشکّ»،و قوله علیه السّلام:«کلّ شیء لک حلال»،و الحکم المستفاد منه من حیث عمومیّته بالنسبة إلی المجتهد و المقلّد فی الشبهات الموضوعیّة و اختصاصه بالمجتهد فی الشبهات الحکمیّة،و مجرّد کون تشخیص الموضوع فیها بید المجتهد لا یوجب اختصاص الخطاب به،بل الخطاب و الحکم عامّ.

و الحاصل:أنّ المجتهد عند تعارض الخبرین یتخیّر بین الأخذ بمفاد أحد الخبرین و الفتوی علی طبقه،کالأخذ بالخبر مع عدم المعارض له،و بین إعلام المقلّد بالحال و أنّ هذا المورد ممّا ورد فیه الخبران المتعارضان و حکمه التخییر فی الأخذ،و بین الفتوی بالتخییر فی مقام العمل من دون إعلامه بالحال.

ص:446

أمّا الأوّل و الثانی فواضحان،و أمّا الثالث فلأنّ التخییر-کما عرفت-حکم طریقی و مرجعه إلی جواز أخذ کلّ من الخبرین طریقا و أمارة،فلا مانع من الفتوی بالتخییر.

و التحقیق:أنّ الفتوی بالتخییر فی المقام غیر قابلة للالتزام،فإنّ الظاهر منها التخییر فی المسألة الفرعیّة-کالتخییر بین الخصال الثلاث فی کفّارة الإفطار- و أنّ حکم اللّه فی المسألة هو التخییر،مع أنه لیس کذلک،و جواز الأخذ بکلّ من الخبرین هو التخییر فی المسألة الاصولیّة-أی التخییر فی مقام الأخذ بالحجّة و العمل علی طبقه،و لا یصحّ الخلط بینهما،فالطریق الثالث بعد عدم دلالة کلّ من الروایتین علی التخییر لیس بتامّ.

التنبیه الثالث:فی أنّ التخییر بدوی أو استمراری

هل التخییر بدوی مطلقا،أو استمراری کذلک،أو تفصیل فیه بین ما إذا قیل باختصاص الخطابات الواردة فی المسائل الاصولیّة بالمجتهد فالتخییر بدوی،و بین ما إذا قیل بعدم الاختصاص فاستمراری؟

و من المعلوم أنّ التخییر الاستمراری یحتاج إلی إقامة الدلیل علیه بخلاف التخییر البدوی،فإنّه المستفاد من أخبار التخییر إلی هنا،و المستند هو الأخبار الواردة فی التخییر،و مع قصورها فالاستصحاب.

و قال الشیخ الأنصاری رحمه اللّه:«إنّ مستند التخییر إن کان هو الأخبار الدالّة علیه فالظاهر أنّها مسوقة لبیان وظیفة المتحیّر فی ابتداء الأمر،فلا إطلاق فیها بالنسبة إلی حال المتحیّر بعد الالتزام بأحدهما» (1).

ص:447


1- 1) فرائد الاصول 2:764.

و قال استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه فی قباله:«أنّه یمکن أن یستفاد من کثیر من الأخبار الواردة فی التخییر کونه استمراریّا،و العمدة من ذلک روایتان:

إحداهما:ما رواه الحسن بن جهم عن الرضا علیه السّلام قلت:یجیئنا الرجلان و کلاهما ثقة بحدیثین مختلفین و لا نعلم أیّهما الحقّ؟قال علیه السّلام:«فإذا لم تعلم فموسّع علیک بأیّهما أخذت» (1).

فانّ تعلیق الحکم بالتوسعة علی مجرّد الجهل و عدم العلم-خصوصا مع إعادته فی الجواب مع کونه مذکورا فی السؤال-یدلّ علی أنّ تمام الموضوع للحکم بالتوسعة هو مجرّد الجهل بالواقع و عدم العلم و التردّد الناشئ من مجیء الحدیثین المختلفین،و من الواضح بقاء التردّد بعد الأخذ بأحدهما؛لأنّ الأخذ به لا یوجب العلم بالواقع،أو قیام أمارة علیه التی لا بدّ من الأخذ بها.

و قد عرفت أن التخییر وظیفة مجعولة فی مقام الشکّ و التحیّر،و لیس مرجعه إلی کون المأخوذ من الخبرین أمارة تعبّدیّة فی صورة التعارض حتّی یکون قیام الأمارة رافعا لموضوع الحکم بالتوسعة تعبّدا،بل التحقیق:أنّه مع التخییر و الأخذ بأحد الخبرین لا یرتفع التحیّر و التردّد من البین،و المفروض أنّه الموضوع الفرید للحکم بالتوسعة و جواز الأخذ بما شاء منهما.

ثانیتهما:روایة الحارث بن المغیرة عن أبی عبد اللّه علیه السّلام قال علیه السّلام:«إذا سمعت من أصحابک الحدیث-و کلّهم ثقة-فموسّع علیک حتّی تری القائم علیه السّلام فتردّ علیه» (2).

و هذه الروایة و إن کان ربّما یناقش فی دلالتها علی التخییر فی المتعارضین؛

ص:448


1- 1) الوسائل 18:87،کتاب القضاء،الباب 9 من أبواب صفات القاضی،الحدیث 40.
2- 2) المصدر السابق،الحدیث 41.

لعدم التعرّض لهما فی الموضوع،بل موضوع الحکم بالتوسعة مطلق الحدیث، إلاّ أنّ التمسّک بها لمکان کونها من أدلّة التخییر عند الشیخ رحمه اللّه القائل بهذه المقالة،و هی قصور أدلّة التخییر عن الدلالة لحال المتحیّر بعد الالتزام بأحدهما.

مضافا إلی أنّه یمکن أن یستفاد من التعبیر بالتوسعة المستعملة فی سائر روایات التخییر کون الموضوع هو المتعارضان (1)،و إلی أنّ إطلاقه لهما یکفی لنا، کما لا یخفی.

و کیف کان،فدلالتها علی استمرار التخییر أوضح من الروایة السابقة؛لأنّها جعلت الغایة للحکم بالتوسعة هی رؤیة القائم علیه السّلام و الردّ علیه،فتدلّ علی بقائه مع عدم حصول الغایة،سواء کان فی ابتداء الأمر أو بعد الأخذ بأحد الخبرین، کما لا یخفی.فانقدح أنّه لا مجال لدعوی الإهمال فی جمیع الروایات الواردة فی باب التخییر»،انتهی کلامه رفع مقامه (2).

و التحقیق:أنّ هذا کلام جیّد قابل للمساعدة و بعد إثبات استمرار التخییر بالروایتین لا تصل النوبة إلی إثباته من طریق الاستصحاب،و لکن نبحث فیه أیضا لمزید الاطمئنان،و علی فرض عدم إمکان التمسّک بإطلاق الروایات.

و أمّا الاستصحاب فهل یمکن التمسّک به لبقاء استمرار التخییر أم لا؛ لاشتراط اتّحاد الموضوع فی القضیّة المتیقّنة و المشکوکة فیه،فلا بدّ من ملاحظة ما جعل فی الأخبار موضوعا للحکم بالتخییر؟و یحتمل فیه وجوه أربعة:

أحدها:أن یکون الموضوع هو شخص المکلّف مجتهدا کان أو مقلّدا لم یعلم

ص:449


1- *) فی الأصل:«المتعارضین»و الصحیح ما اثبت.
2- 1) معتمد الاصول 2:396-397.

ما هو الحقّ من الخبرین المتعارضین،کما یستفاد من روایة الحسن بن جهم عن الرضا علیه السّلام.

ثانیها:أن یکون الموضوع هو من لم یعلم حقّیّة واحد منهما.

ثالثها:أن یکون الموضوع هو المتحیّر بما هو متحیّر.

رابعها:أن یکون الموضوع خصوص من لم یختر أحد الخبرین،کما یظهر من الشیخ رحمه اللّه (1)،فعلی الأوّلین لا مانع من الاستصحاب؛لبقاء الموضوع المأخوذ فی الدلیل بعد الأخذ أیضا؛إذ المکلّف بعد الأخذ لا یتبدّل عدم علمه بالعلم،و أمّا علی الثالث فالظاهر أنّه بعد الأخذ بأحد الخبرین لا یبقی متحیّرا، فیتبدّل الموضوع و لا یجری استصحاب بقاء التخییر،و هکذا علی الرابع:لعدم بقاء الموضوع بعد اختیار أحد الخبرین و العمل به.

و لکنّ التحقیق:أنّه لا مانع من جریانه علی الثالث و الرابع أیضا؛لأنّه بعد ما صار الشخص الخارجی موردا للحکم بالتخییر نقول:هذا الشخص کان مخیّرا و الآن نشکّ فی بقاء تخییره،فهو بعد باق علیه،نظیر الاستصحاب الجاری فی الماء المتغیّر بعد زوال تغیّره من قبل نفسه.

و بعبارة اخری:أنّ الاختیار و عدم الاختیار من حالات الموضوع لا من مقوّماته،فلذا لا یکون کلّ منهما موجبا لتغییر الموضوع و تبدّله.

فهذا المجتهد کان مخیّرا و إن کانت العلّة فی حدوث التخییر هی عدم الأخذ، و لکن یحتمل أن یکون دخیلا فی الحدوث فقط دون البقاء،فلذا نشکّ فی أنّ المؤثّر فی الحدوث مؤثّر فی البقاء أم لا؟کالشکّ فی أنّ هذا الماء کان نجسا لأجل کونه متغیّرا و الآن مع عدم کونه متغیّرا بالفعل نشکّ فی بقاء نجاسته، فنجری الاستصحاب،فلا إشکال فی جریان الاستصحاب.

ص:450


1- 1) فرائد الاصول 2:764.
التنبیه الرابع:فی شمول أخبار التخییر لجمیع صور الخبرین المختلفین

لا إشکال فی تحقّق الموضوع المأخوذ فی أخبار التخییر-و هو مجیء الرجلین بحدیثین مختلفین-فیما إذا کان سند الروایتین مختلفین جمیعا فی الأخبار مع الواسطة بأن لم یشترکا أصلا حتّی فی واحد،إنّما الإشکال فیما إذا اشترکا فی منتهی السلسلة،سواء اشترکا فی غیره أم لا،کما إذا روی الکلینی بإسناده حدیثا عن زرارة دالاّ علی وجوب شیء،و روی الشیخ بإسناده حدیثا عنه أیضا دالاّ علی حرمة ذلک الشیء،أو روی الکلینی عنه أیضا ذلک الحدیث، فإنّه ربّما یمکن أن یقال بعدم کون هذا المورد مشمولا لأخبار التخییر أصلا؛ نظرا إلی أنّ المورد هو مجیء الرجلین بحدیثین مختلفین،و هنا کان الجائی بهما شخصا واحدا،و هو زرارة فقط،فلا تشمله أدلّة التخییر.

هذا،و لکنّ الظاهر عدم دخالة مجیء الرجلین بما هما رجلان،و لذا لو أتی بحدیثین غیر رجلین بل امرأتان أو رجل و امرأة،لا شکّ فی دخوله فی موردها،مضافا إلی أنّه یستفاد من أدلّة التخییر أنّ الشارع لم یرض برفع الید عن المتعارضین مع کون القاعدة تقتضی التساقط،فخلافه یوجب عدم رفع الید فی المقام أیضا،فلا دخل للرجولیّة و التعدّد فی المسألة.

و لو کان الحدیث المنقول فی الجوامع المتأخّرة مختلفا من حیث النقل عن الجوامع الأوّلیّة،مثل:ما إذا روی الکلینی فی الکافی حدیثا عن کتاب الحسین بن سعید الأهوازی،و روی الشیخ فی التهذیب-مثلا-ما یغایره عن ذلک الکتاب أیضا،فالظاهر أیضا شمول أخبار التخییر له إذا لم یعلم بکون الاختلاف مستندا إلی اختلاف نسخ ذلک الکتاب؛لأنّ الظاهر أنّ مثل الکلینی و الشیخ لم یعتمدا فی نقل الحدیث علی ما هو المنقول فی الکتب،

ص:451

بل کان دأبهم علی الأخذ من الشیوخ،إمّا بالقراءة علیهم أو بقراءتهم علیه، فهذا الاختلاف دلیل علی اختلاف الشیوخ النقلة لهذا الحدیث.

نعم،لو کان الاختلاف فی نسخ الاصول المتأخّرة و الجوامع الموجودة بأیدینا،کما إذا اختلفت نسخ الکافی-مثلا-فی حدیث،فالظاهر عدم کونه مشمولا لأخبار التخییر أصلا؛لأنّ هذا الاختلاف یکون مستندا إلی الکتاب لا محالة،فلا یصدق مجیء الرجلین بحدیثین مختلفین.

إلی هنا تمّ البحث عن الخبرین المتعارضین المتکافئین.

ص:452

المقصد الثانی: فی الخبرین المتعارضین مع عدم التکافؤ

اشارة

فی الخبرین المتعارضین مع عدم التکافؤ و الکلام فیه أیضا یقع فی مقامین:

المقام الأوّل:فیما یحکم به العقل فی هذا الباب

لا یخفی أنّ التکلّم فی حکم العقل إنّما هو بناء علی التخییر الثابت بین الخبرین المتعارضین بمقتضی الروایات المذکورة فی المقصد السابق،لا بناء علی التساقط الذی هو مقتضی القاعدة،و هکذا بناء علی اعتبار الخبر من باب الطریقیّة،لا بناء علی السببیّة؛لکونها غیر قابلة للالتزام،فلا فائدة للبحث عنها.

و علی هذا إن قلنا بأنّ المجعول عند التعارض هی الطریقیّة و الکاشفیّة للتخییر بعنوان الأصل العملی فی مورد الشکّ-مثل سائر الاصول العملیّة- فلا بدّ من الأخذ بذی المزیّة أو بما یحتمل اشتماله علیها؛لأنّه یدور الأمر بین أن یکون الطریق المجعول بعد التعارض هو خصوص الخبر الراجح أو أحدهما تخییرا،فحجّیّة الخبر الراجح متیقّنة لا ریب فیها عقلا،و أمّا الخبر غیر الراجح فیشکّ فی طریقیّته و کاشفیّته عند التعارض؛لأنّه یحتمل اعتبار الشارع بالمزیّة

ص:453

الموجودة فی الآخر،و الشکّ فی باب الحجّیّة و الطریقیّة مساوق للقطع بعدم الحجّیّة؛لأنّها ترجع إلی صحّة احتجاج المولی علی العبد و کذا العکس،و لا یصحّ الاحتجاج مع الشکّ.

و إن لم نقل بأنّ المجعول فی مورد التعارض هی الطریقیّة و الکاشفیّة له،بل قلنا بأنّ المجعول إنّما هو حکم وجوبی و وظیفة للمکلّف المتحیّر عند تعارض الطریقین عنده؛نظرا إلی استحالة کون الطریقیّة مجعولة،إمّا مطلقا لأنّها من الامور التکوینیّة الغیر قابلة لتعلّق الجعل بها،أو فی خصوص المقام؛لاستحالة جعل الطریقیّة للمتناقضین،فالأمر یدور بین التعیین و التخییر؛لأنّه یحتمل تعلّق التکلیف الوجوبی بالأخذ بخصوص الخبر الراجح،و یحتمل تعلّقه علی سبیل الوجوب التخییری بکلا الخبرین،و الحکم فیه هو الاشتغال أو البراءة علی خلاف کما عرفت فی بابه.

المقام الثانی:فی مقتضی الأخبار الواردة فی هذا الباب و أنّه هل هو

وجوب الأخذ بذی المزیّة أم لا؟و ما هی المزیة المرجّحة؟

قد یقال بعدم وجوب الترجیح بالمرجّحات المنصوصة و لا بغیرها؛نظرا إلی أنّ ظاهر الأخبار الواردة فیه و إن کان هو الوجوب،إلاّ أنّ مقتضی الجمع بینها و بین أخبار التخییر مطلقا هو حملها علی الاستحباب؛لاستلزام إبقائه علی ظاهره و تقیید أخبار التخییر بصورة عدم ثبوت شیء من المرجّحات حمل أخبار التخییر علی الفرد النادر و إخراج أکثر الأفراد منها،و هو قبیح،أو إلی أنّ اختلاف الأخبار الواردة فی الترجیح فی المرجّحات من حیث اشتمال کلّ منها علی بعض ممّا لم یشتمل علیه الآخر أو من حیث الاختلاف فی الترتیب بین المرجّحات دلیل علی عدم وجوب الترجیح،کاختلاف الأخبار

ص:454

الواردة فی البئر و منزوحاته حیث استکشف منه الاستحباب؛نظرا إلی أنّ الاختلاف خصوصا مع کثرته لا یجتمع مع الحکم الإیجابی،بل هو دلیل علی أصل الرجحان،و الاختلاف محمول علی مراتبه من الشدّة و الضعف (1).

و نقول:لا بدّ من ملاحظة أخبار الترجیح و التکلّم فی مفادها حتّی یظهر أنّ المرجّح لإحدی الروایتین علی ما هو المجعول شرعا المدلول علیه الأخبار لیس إلاّ واحدا أو اثنین،و تقیید أخبار التخییر به لا یوجب إخراج أکثر الأفراد،و لا مانع منه أصلا،خصوصا بعد ما عرفت من أنّه لیس فی الروایات التی ادّعی کونها دلیلا علی التخییر إلاّ روایة واحدة دالّة علیه،و قد تقدّمت، و غیرها قاصر من حیث الدلالة جدّا.

و العمدة فی هذا الباب هی المقبولة (2)،و ذکرها المشایخ الثلاثة،و الإشکال فیها من حیث السند؛لعدم ورود القدح و المدح فی شأن عمر بن حنظلة،فلا اعتبار لها فی نفسها،و لکن یمکن أن یقال:إنّ استناد المشهور إلیها فی مقام الفتوی و مقبولیّتها عندهم یوجب جبران ضعفها،إلاّ أنّه یستلزم الدور،و لا یمکن القول بهذا المعنی فی نفس المقبولة؛لعدم إمکان تقویة سندها بما یستفاد من متنها،و هکذا نقل أصحاب الإجماع مثل:صفوان بن یحیی عنه أیضا لا یوجب جبر ضعف السند کما ذکرنا مرارا.

إلاّ أنّ عدد الرواة عن عمر بن حنظلة فی أبواب مختلفة اثنان و عشرون نفرا و کلّهم مسلّم الوثاقة إلاّ رجلین منهم،و هذا یوجب الاطمئنان بکونه مورد اعتمادهم.

ص:455


1- 1) درر الفوائد:665-667.
2- 2) الکافی 1:67،کتاب فضل العلم باب اختلاف الحدیث،الحدیث 10.

مضافا إلی ما ذکره الصدوق رحمه اللّه فی مقدّمة کتاب«من لا یحضره الفقیه»،من کون الروایات المذکورة فیه حجّة بینی و بین اللّه و معتبرة عندی،و نقل روایة عمر بن حنظلة فیه.

و مضافا إلی توثیق النجاشی له علی ما هو المحکی عنه،فوجود هذه القرائن کاف للحکم بوثاقته،خصوصا أنّ وجود تلامذة له مسلّمی الوثاقة یدلّ علی وثاقة شیخهم و استاذهم،فلا یبعد کون الروایة صحیحة أو موثّقة.

و إلیک نصّ المقبولة:محمّد بن یعقوب،عن محمّد بن یحیی،عن محمّد بن الحسین،عن محمّد بن عیسی،عن صفوان بن یحیی،عن داود بن الحصین،عن عمر بن حنظلة،قال:سألت أبا عبد اللّه علیه السّلام عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین أو میراث،فتحا کما إلی السلطان أو إلی القضاة،أ یحلّ ذلک؟ -و معلوم أنّ المنازعة و التخاصم فی هذه الموارد و المراجعة إلیهم تکون فی الشبهات الموضوعیّة لا فی الشبهات الحکمیّة،فلا وجه لما ذکره المحقّق الرشتی فی رسالته فی مسألة تقلید الأعلم،من کون المنازعة فی الشبهة الحکمیة-فقال:

«من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل،فإنّما تحاکم إلی طاغوت،و ما یحکم له فإنّما یأخذ سحتا و إن کان حقّه ثابتا؛لأنّه أخذه بحکم الطاغوت،و قد أمر اللّه أن یکفر به،قال اللّه تعالی: یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ... (1).قلت:فکیف یصنعان؟قال:«ینظران(إلی)من منکم ممّن قد روی حدیثنا و نظر فی حلالنا و حرامنا و عرف أحکامنا،فلیرضوا به حکما،فإنی قد جعلته علیکم حاکما، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبله منه،فإنّما استخفّ بحکم اللّه،و علینا ردّ،و الرادّ علینا الراد علی اللّه،و هو علی حدّ الشرک باللّه».

ص:456


1- 1) النساء:60.

قلت:فإن کان کلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضیا أن یکونا الناظرین فی حقّهما،و اختلفا فیما حکما و کلاهما اختلفا فی حدیثکم؟الحدیث.

و ذکر هنا المحقّق الرشتی رحمه اللّه شواهد لاختصاص التنازع فی الشبهات الحکمیّة و الرجوع إلی الحاکم بعنوان المفتی لا بعنوان القاضی بأنّ اختیار الحاکمین من طرف المتنازعین قد یکون المقصود صدور حکم واحد منهما معا،و قولهما:حکمنا کذا،و قد یکون المقصود حکم واحد منهما و معاونة الآخر له فی مقدّمات الحکم تحرّزا عن الاشتباه فی الحکم،و قوله:حکمت کذا،و قد یکون المقصود صدور أصل الحکم من أحدهما و إنفاذه من الآخر،و الأخیران خلاف ظاهر الروایة،و الأوّل خلاف صریحها،فلا بدّ من حمل الحکم فیها بالمعنی اللغوی-أی الفتوی-و کان الفتوی فی زمان صدور المقبولة بمعنی نقل الروایة،فالاختلاف بین الرجلین کان فی الشبهة الحکمیّة و اختار کلّ منهما رجلا (1).

و لکن بعد ملاحظة صدر الروایة لا یبقی مجال لهذه التأویلات؛إذ لا یعقل منازعة رجلین من أصحابنا فی حکم من الأحکام الإلهیّة و مراجعتهما لحلّ النزاع فی الشبهة الحکمیّة إلی السلطان أو القاضی المنصوب من قبل السلطان، و لعلّه لم یلاحظ صدر الروایة بلحاظ تقطیعها فی کتاب الوسائل کما تری.

مضافا إلی أنّه لا وجه للتنازع فی الشبهات الحکمیّة؛إذ لو فرض کونهما مجتهدین لا معنی لرجوعهما إلی مجتهد آخر،فإنّ المجتهد یخطّئ من یقول بخلافه و إن کان المخالف أعلم منه،و إن فرض کونهما مقلّدین-و المقلد تابع لنظر مرجعه و مقلّده-فلا مجال لتنازعهما،فالتحاکم إلی السلطان یکون فی الشبهات

ص:457


1- 1) الفروع الکافی 7:412.

الموضوعیّة،و المراجعة إلیه فی الشبهات الحکمیّة مضحک للثکلی.

و هذا المعنی یؤیّد بظاهر روایة داود بن الحصین عن أبی عبد اللّه علیه السّلام فی رجلین اتّفقا علی عدلین،و جعلاهما بینهما فی حکم وقع بینهما فیه خلاف، فرضیا بالعدلین،فاختلف العدلان بینهما،عن قول أیّهما یمضی الحکم؟قال:

«ینظر إلی أفقههما و أعلمهما بأحادیثنا و أورعهما،فینفذ حکمه،و لا یلتفت إلی الآخر» (1).

و هکذا یؤیّد بما یظهر من روایة موسی بن أکیل،عن أبی عبد اللّه علیه السّلام قال:

سئل عن رجل یکون بینه و بین أخ منازعة فی حقّ،فیتّفقان علی رجلین یکونان بینهما،فحکما فاختلفا فیما حکما،قال:«و کیف یختلفان؟»قلت:حکم کلّ واحد منهما للذی اختاره الخصمان،فقال:«ینظر إلی أعدلهما و أفقههما فی دین اللّه فیمضی حکمه» (2).

فکلاهما ظاهران فی مسألة القضاء،و هکذا فی المقبولة،فإنّ الإمام علیه السّلام بعد ما ذکرنا،قال:«الحکم ما حکم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما فی الحدیث، و أورعهما و لا یلتفت إلی ما یحکم به الآخر»،الحدیث.

و الحاصل:أنّ الأوصاف المذکورة فی کلام بعنوان المرجّح لا ترتبط بالخبرین المتعارضین،فإنّ الأعدلیّة و الأورعیّة و نحو ذلک تکون من مرجّحات الحاکم،لا من مرجّحات الخبر و لا ملازمة بینهما،مضافا إلی أنّ التخییر فی الخبرین المتعارضین أمر شائع،مع أنّه لا یعقل التخییر فی باب القضاء و فصل الخصومة و تعارض الحکمین،فلا ترتبط هذه المرجّحات بباب

ص:458


1- 1) الوسائل 18:80،الباب 9 من أبواب صفات القاضی،الحدیث 20.
2- 2) المصدر السابق،الحدیث 45.

اختلاف الروایتین و ترجیح إحداهما علی الاخری.

ثمّ ذکر فی المقبولة-بعد تساوی الحاکمین فی الأوصاف المذکورة-ملاحظة مستند حکمهما،فإنّه قال:فقلت:فإنّهما عدلان مرضیّان عند أصحابنا، لا یفضل واحد منهما علی صاحبه؟قال،فقال:«ینظر إلی ما کان من روایاتهما عنّا فی ذلک الذی حکما به،المجمع علیه عند أصحابک،فیؤخذ به من حکمنا، و یترک الشاذّ الذی لیس بمشهور عند أصحابک،فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه»، الحدیث.

و المحقّق الرشتی رحمه اللّه جعل هذا السؤال و الجواب شاهدا لمدّعاه بأنّه لا صلاحیة للمتخاصمین فی الرجوع إلی مستند حکم الحاکم،و علی فرض الصلاحیة لا یستحقّ السؤال عن مستند الحکم حتّی تصل النوبة إلی الملاحظة و تشخیص المشهور منهما عن غیر المشهور،هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّ القاعدة فی باب القضاء أنّ الحاکمین إذا حکما بحکمین مختلفین فی آن واحد فیتساقطان،و إذا کان التقدّم و التأخّر فی البین فالحکم النافذ هو الحکم المتقدّم.

و التحقیق:أنّ هذا الإشکال مشترک الورود،فإنّه علی حمل الروایة بمقام الفتوی لا صلاحیة للمقلّدین فی الرجوع إلی مستند مرجعهما و سؤالهما عن مستندهما ثمّ ملاحظتهما و تشخیص المجمع علیه عند الأصحاب عن الشاذّ النادر،فلا یمکن رفع الید عن ظاهر صدرها بهذا الإشکال المشترک.

ثمّ جعل الإمام علیه السّلام الامور الثلاثة و قال:«و إنّما الامور ثلاثة:أمر بیّن رشده فیتّبع،و أمر بیّن غیّه فیجتنب،و أمر مشکل یردّ علمه إلی اللّه و رسوله،قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:حلال بیّن و حرام بیّن و شبهات بین ذلک،فمن ترک الشبهات نجا من

ص:459

المحرّمات،و من أخذ بالشبهات ارتکب المحرّمات و هلک من حیث لا یعلم».

قلت:فإن کان الخبران عنکما مشهورین قد رواهما الثقات عنکم.

قال:«ینظر فما وافق حکمه حکم الکتاب و السنّة و خالف العامّة فیؤخذ به، و یترک ما خالف حکمه حکم الکتاب و السنّة و وافق العامّة».

قلت:جعلت فداک،أ رأیت إن کان الفقیهان عرفا حکمه من الکتاب و السنة و وجدنا أحد الخبرین موافقا للعامة و الآخر مخالفا لهم،بأیّ الخبرین یؤخذ؟ قال:«ما خالف العامّة ففیه الرشاد».

فقلت:جعلت فداک فإن وافقهما الخبران جمیعا.

قال:«ینظر إلی ما هم إلیه أمیل حکّامهم و قضاتهم فیترک و یؤخذ بالآخر».

قلت:فإن وافق حکّامهم الخبرین جمیعا؟

قال:«إذا کان ذلک فأرجه حتّی تلقی إمامک،فإنّ الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات» (1).

و لا بدّ من ملاحظة خصوصیّات الروایة بأنّ المراد من المجمع علیه أو المشهور فیها هی الشهرة من حیث الفتوی أو الشهرة من حیث الروایة؟ و علی کلا التقدیرین هل الشهرة مرجّحة لإحدی الحجّتین علی الاخری،أو الموافق للشهرة حجّة و مخالفها فاقد للحجّیّة رأسا؟بعد ملاحظة تعبیر الإمام علیه السّلام فی الابتداء ب«المجمع علیه عند أصحابک»ثمّ قوله علیه السّلام فی مقام التعلیل:«فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه،و یترک الشاذّ الذی لیس بمشهور».

و تعبیر السائل أیضا بقوله:(فإن کان الخبران عنکم مشهورین)،هل المراد من الشهرة فی کلام السائل ما هو المراد فی کلام الإمام علیه السّلام أم لا؟و ما معنی

ص:460


1- 1) الکافی 1:67،کتاب فضل العلم،باب اختلاف الحدیث،الحدیث 10.

کون المجمع علیه لا ریب فیه فی تعلیل الإمام علیه السّلام؟

و ملاحظة جعل الإمام علیه السّلام الامور ثلاثة،ثمّ تأییده بتثلیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و أنّ الخبر الشاذّ الذی لیس بمشهور من مصادیق بیّن الغیّ و حرام بیّن،أو من مصادیق أمر مشکل،و شبهات بین ذلک یردّ حکمها إلی اللّه و إلی الرسول؟

و ملاحظة ما فرض فی کلام السائل بقوله:(فإن کان الخبران عنکم مشهورین قد رواهما الثقات عنکم)و أنّ المراد من الشهرة التی اتّصف الخبران بها ما هو؟بعد تقریر الإمام أصل فرض إمکان أن یکون الخبران المختلفان کلاهما مشهور و الجواب بالنظر إلی موافق الکتاب.

و یستفاد من کلام المحقّق النائینی رحمه اللّه و بعض الأعلام رحمه اللّه:أنّ المراد من المجمع علیه فی کلام الإمام علیه السّلام فی موردین هو المتّفق علیه عند الأصحاب من حیث الروایة،یعنی أجمع الأصحاب علی نقله و روایته و حکایته عن الإمام علیه السّلام، و الشهرة فی قباله لیست بالمعنی الاصطلاحی-أی المرتبة النازلة من الإجماع- بل تکون بالمعنی اللغوی-أی الواضح-کما یقول:فلان شهر سیفه،و الشهرة بهذا المعنی مساوقة مع العلم و القطع و الاتّفاق (1).

و هذا یناسب بحسب الظاهر جمیع تعبیرات الروایة،مثل:قوله علیه السّلام:«لا ریب فیه»؛إذ الخبر المنقول باتّفاق جمیع الرواة لا ریب فی صدوره عن الإمام علیه السّلام و مثل قوله:(فإن کان الخبران عنکم مشهورین)بمعنی کلاهما معلوم الصدور، و لا مانع منه،لإمکان صدور أحدهما لبیان حکم اللّه الواقعی و الآخر لتقیّة أو الخوف،و هکذا یناسب مع تثلیث الامور و أنّ الخبر المجمع علیه من مصادیق بیّن الرشد،و الخبر الشاذّ الذی لیس بمشهور من مصادیق أمر مشکل یردّ

ص:461


1- 1) فوائد الاصول 4:775.

حکمه إلی اللّه و الرسول.

و التحقیق:أنّ حمل«المجمع علیه»علی الشهرة الروائیّة أو الإجماع الروائی أجنبی عن المقبولة بمراحل؛إذ التعلیل هنا لوجوب الأخذ و العمل و الفتوی علی طبقها،و أمّا الشهرة أو الإجماع من حیث الروایة أو القطع بالصدور،فلا یرتبط بمقام الأخذ و العمل و الفتوی،لإمکان صدورها لغیر بیان حکم اللّه الواقعی،هذا أوّلا.

و ثانیا:أنّ المجمع علیه لا یمکن أن یکون بمعنی اتّفاق الکلّ فی الفتوی بقرینة سؤال الراوی بقوله:(فإن کان الخبران عنکم مشهورین)،و تقریر الإمام علیه السّلام الفرض المذکورة،و لا یعقل تحقّق الإجماعین الواقعیّین المتخالفین بمعنی اتّفاق الکلّ علی الفتویین المتخالفتین،خصوصا مع ملاحظة تعلیل الإمام علیه السّلام.

فلا محالة یکون الإجماع هنا بمعنی الشهرة فی الفتوی،و من المعلوم أنّ الشهرة عبارة عن الوضوح و الشیوع،و شهرة الفتویین المتخالفتین قابلة للتوجیه و التصویر.

قال استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه:«إنّ الظاهر من المقبولة أنّ الروایة المطابقة للمشهور من مصادیق بیّن الرشد الذی یجب أی یتّبع،و غیر المشهور-الذی هو الشاذّ النادر-هو من أفراد بیّن الغیّ الذی یجب أن یترک و یدع،لا من مصادیق الأمر المشکل الذی یجب أن یردّ إلی اللّه و الرسول،و حینئذ فالشهرة تمیّز الحجّة عن اللاحجّة ،لا أنّها مرجّحة لإحدی الحجّتین علی الاخری (1).

و لکنّ التأمّل فی الروایة یقتضی خلاف ذلک،فإنّ تثلیث الإمام علیه السّلام ثمّ استشهاده بتثلیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله یقتضی دخالة التثلیث فی المسألة و أنّ بیّن

ص:462


1- 1) معتمد الاصول 2:405-406.

الرشد ینطبق علی الخبر المشهور،و الشاذّ النادر داخل فی القسم الثالث-أی أمر مشکل و شبهات بین ذلک یردّ حکمه إلی اللّه و الرسول،و إلاّ لا داعی لتثلیث الامور،بل لا وجه له فی هذا المقام،فالشهرة مرجّحة لإحدی الحجّتین علی الاخری،لا ممیّزة الحجّة عن اللاحجّة،فتکون أوّل المرجّح فی الخبرین المتعارضین عبارة عن الشهرة الفتوائیّة.

و لکنّ التعلیل المذکور فی المقبولة بقوله:«فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه» یوجب الالتزام بکون الشاذّ من مصادیق«بیّن الغیّ»لا من مصادیق«أمر مشکل»؛إذ المشهور إن کان لا ریب فیه فلا محالة یکون الشاذّ لا ریب فی بطلانه،فالخبر الموافق لفتوی المشهور لا ریب فی صحّته،و الخبر المخالف له لا ریب فی بطلانه،فالتعلیل یقتضی أن یکون الشاذّ من مصادیق«بیّن الغیّ»فلا تکون لموافقة الشهرة عنوان المرجّح،بل تکون لها عنوان ممیّز الحجّة و معیّنها، کما یستفاد هذا المعنی من کلام استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه.

و التحقیق:أنّه إذا لاحظنا ثلاثة امور نعلم أنّ حقیقة الأمر خلاف ذلک.

الأمر الأوّل:أنّ التعلیل فی المقبولة إرشاد إلی الأمر العقلائی و الارتکازی، لا کون المشهور لا ریب فیه تعبّدا،و بعد مراجعة العقلاء نلتفت إلی أنّ موافقة الشهرة الفتوائیّة لا توجب القطع بموافقة المعصوم و العلم بأنّ الخبر الموافق لها لا ریب فیه واقعا و وجدانا،بل یتحقّق احتمال الخلاف فیه أیضا.

الأمر الثانی:أنّ تثلیث الامور فی المقبولة دلیل لدخالة التثلیث فی ما نحن فیه،و الظاهر من کلام الإمام علیه السّلام أنّ الخبر الشاذّ من مصادیق«أمر مشکل یردّ حکمه إلی اللّه و الرسول»لا من مصادیق«بیّن الغیّ»،و یکشف عن هذا المعنی الاتّکال و التأکید فی تثلیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله علی الأمر الثالث:

ص:463

«و شبهات بین ذلک».

الأمر الثالث:أنّ سؤال السائل بقوله:(فان کان الخبران عنکم مشهورین) دلیل علی عدم إمکان کون المشهور بمعنی«لا ریب فیه»؛إذ لا یمکن تصوّر الخبرین المتعارضین أحدهما مثبت وجوب صلاة الجمعة-مثلا-و الآخر نافیه،لا ریب فی صحّتهما باعتبار کونهما مشهورین.

و هذه الامور تهدینا إلی الالتزام بأنّ«لا ریب فیه»هنا إضافی،بمعنی أنّ الخبر الموافق لفتوی المشهور إذا لوحظ بالنسبة إلی الخبر الشاذّ لا ریب فیه، و أمّا من حیث الذات و فی نفسه ففیه ریب و یتحقّق احتمال الخلاف فیه أیضا.

و لازم ذلک الالتزام بکون«بیّن الرشد»علی قسمین:أحدهما بیّن الرشد بالذات،و الآخر بیّن الرشد بالإضافة،و دخول الخبر الموافق للمشهور فی القسم الثانی،و هذا خلاف الظاهر و بعید عن الأذهان.

و لکن لا بدّ لنا من الالتزام بهذا المعنی بعد ملاحظة ارتباط التعلیل بالتثلیث و القرائن المذکورة،و هذا الاستبعاد الجزئی لا یوجب رفع الید عن المعنی المذکور.

فتکون موافقة الشهرة الفتوائیّة بعنوان المرجّح لإحدی الحجّتین علی الاخری کما لا یخفی.

و یمکن أن یقال:إنّ الشهرة فی الفتوی أو المجمع علیه یرتبط بباب القضاء و الحکم،کما أنّ الأعدلیّة و الأصدقیّة و نحو ذلک مربوطة به؛إذ قال علیه السّلام:

«الحکم ما حکم به أعدلهما و أصدقهما فی الحدیث»،کذلک الشهرة الفتوائیة؛ إذ قال علیه السّلام:«ینظر فما وافق حکمه حکم الکتاب»،فکیف یمکن استفادة کونها مرجّحا فی باب تعارض الخبرین؟

ص:464

و جوابه:أنّ الفرق بین الموردین واضح،بأنّ الروایة هناک فی صدد بیان أوصاف القاضیین بعنوان المرجّح بدون ملاحظة مستند حکمهما و روایتهما، بخلاف ما نحن فیه،فإنّ محطّ النظر هنا هو مستند حکمهما و أنّ الموافقة للمشهور مرجّح للروایة و صفة لها.

فالمرجّحات المستفادة من المقبولة عبارة عن:موافقة الشهرة،و موافقة الکتاب،و مخالفة العامّة،بخلاف ما ذکره استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه من أنّ المرجّح فی مقام الفتوی الذی تدلّ علیه المقبولة لیس إلاّ موافقة الکتاب،و مخالفة العامّة (1).

ربّما یقال:إنّ المستفاد من المقبولة مرجّحیّة موافقة الکتاب و مخالفة العامّة فی خصوص الخبرین المتعارضین المشهورین،للإرجاع إلیهما بعد قول السائل:

(فإن کان الخبران عنکما مشهورین).

و جوابه:أنّ الإرجاع بهما بعد عدم کون الشهرة مرجّحا و عدم مرجّحیّتها قد یکون بلحاظ کونهما مشهورین معا،و قد یکون بلحاظ فقدان هذا الوصف فیهما معا.

فتحصّل ممّا ذکرنا:أوّلا:أنّ المقبولة معتبرة من حیث السند.

و ثانیا:أنّ المرجّحات المستفادة منها ثلاثة:الشهرة الفتوائیّة،و موافقة الکتاب و مخالفة العامّة.

و أما المرفوعة فقد ذکرها صاحب عوالی اللئالی بقوله:«روی العلاّمة مرفوعا إلی زرارة بن أعین،قال:سألت الباقر علیه السّلام،فقلت:جعلت فداک،یأتی عنکم الخبران أو الحدیثان المتعارضان،فبأیّهما آخذ؟فقال علیه السّلام:«یا زرارة،خذ

ص:465


1- 1) معتمد الاصول 2:406.

بما اشتهر بین أصحابک ودع الشاذّ النادر»،فقلت:یا سیّدی!إنّهما معا مشهوران مرویّان مأثوران عنکم؟فقال علیه السّلام:«خذ بقول أعدلهما عندک و أوثقهما فی نفسک»،فقلت:إنّهما معا عدلان مرضیّان موثّقان؟فقال علیه السّلام:

«انظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاترکه،و خذ بما خالفهم»،قلت:ربّما کانا معا موافقین لهم،أو مخالفین،فکیف أصنع؟فقال:«إذن فخذ بما فیه الحائطة لدینک،و اترک ما خالف الاحتیاط»،فقلت:إنّهما معا موافقان للاحتیاط أو مخالفان له،فکیف أصنع؟فقال علیه السّلام:«إذن فتخیّر أحدهما،فتأخذ به و تدع الأخیر» (1).

و دلالتها واضحة،لکنّها ضعیفة السند؛إذ لا سند لها،إلاّ أنّ الشیخ الأنصاری رحمه اللّه بعد نقلها فی کتاب الرسائل و الاعتراف بضعف سندها کان بصدد جبر ضعف سندها بالشهرة الفتوائیّة و عمل مشهور الأصحاب علی طبقها.

و لکن الشهرة الجابرة علی فرض قبولها عبارة عن الشهرة بین القدماء،و لا فائدة للشهرة بین المتأخّرین،و لا یترتّب علیها أثر.

و المستفاد منها:أنّ الأعدلیّة و الأوثقیّة أیضا من المرجّحات،و لکنّ موافقة الکتاب لیس بمذکور فیها،إلاّ أنّ ضعف سندها یوجب عدم الاعتماد علیها و خروج الأعدلیّة و الأوثقیّة من دائرة المرجّحات و انحصارها فی الثلاثة المذکورة فی المقبولة.

فالحاصل:أنّه یمکن تقیید الروایات الدالّة علی التخییر فی المتعارضین بالمقبولة بعد عدم کونها متکثّرة و عدم لزوم حملها علی الموارد النادرة،

ص:466


1- 1) عوالی اللئالی 4:133،229،مستدرک الوسائل 17:303،کتاب القضاء،الباب 9 من أبواب صفات القاضی،الحدیث 2.

فالواجب الأخذ بالمرجّحات المذکورة فی المقبولة،و لا یصحّ حملها علی الاستحباب.

و ربّما یقال:إنّ اختلاف روایات الترجیح من حیث قلّة المرجّحات و کثرتها من حیث التقدیم و التأخیر أقوی شاهد علی حملها علی الاستحباب، نظیر اختلاف الأخبار الواردة فی البئر و منزوحاته حیث استکشف منه الاستحباب.

و الجواب عنه یحتاج إلی ملاحظة أخبار الترجیح و ملاحظة المرجّحات المذکورة فیها علی حده،فنقول:إنّ من المرجّحات موافقة الکتاب،و لا بدّ من ملاحظة ما یدلّ علیها و أنّ المقصود منها ما هو؟

و الأخبار الواردة فیما یتعلّق بموافق الکتاب و مخالف الکتاب علی طائفتین:

الطائفة الاولی:ما تدلّ علی أنّ الخبر المخالف للکتاب ممّا لم یصدر عنهم علیه السّلام أصلا.

و من المعلوم أنّ موافقة الکتاب فی الطائفة الاولی علامة للحجّیّة،و المخالف فاقد للحجّیّة،و أمّا فی الطائفة الثانیة فالظاهر أنّها تکون مرجّحا لإحدی الحجّتین علی الاخری فی مقام التعارض،فیتحقّق الاختلاف بین الطائفتین.

و قد جمع المحقّق النائینی رحمه اللّه بینهما بحمل المخالفة فی الطائفة الاولی علی المخالفة بالتباین الکلّی،و فی الطائفة الثانیة علی المخالفة بغیره،سواء کان بالعموم و الخصوص المطلق أو من وجه (1).

و لکن قال استاذنا السیّد الإمام رحمه اللّه:«إنّ هذا الجمع و إن کان یبعّده اتّحاد التعبیرات الواقعة فی الطائفتین من أنّ«المخالف زخرف أو باطل»،و«لم نقله»،

ص:467


1- 1) فوائد الاصول 4:791.

أو«اضربه علی الجدار»،و غیر ذلک من التعبیرات،إلاّ أنّ التحقیق یقتضی المصیر إلیه».

و توضیحه:أنّ إطلاق المخالفة فی الطائفة الاولی یشمل جمیع أنحاء المخالفات:بالتباین أو بالعموم و الخصوص بقسمیه؛ضرورة أنّک عرفت فی أوّل هذا الکتاب أنّ السالبة الکلّیّة تناقض الموجبة الجزئیّة و کذا العکس، لکنّک عرفت أنّه فی محیط التقنین و جعل الأحکام علی سبیل العموم لا یعدّ مثل العامّ و الخاصّ مخالفین أصلا،و لا یحکمون بتساقطهما فی مورد التعارض أو الرجوع إلی المرجّح،فبهذه القرینة العقلائیّة ترفع الید عن إطلاق الطائفة الاولی،و انحصارها بخصوص المخالفة بالتباین،سواء کان له معارض أم لا، و قد أورد جملة منها فی الوسائل فی الباب التاسع من أبواب صفات القاضی، منها:موثّقة السکونی،عن أبی عبد اللّه علیه السّلام قال:«قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:إنّ علی کلّ حقّ حقیقة،و علی کلّ صواب نورا،فما وافق کتاب اللّه فخذوه،و ما خالف کتاب اللّه فدعوه» (1).

و منها:روایة أیّوب بن راشد،عن أبی عبد اللّه علیه السّلام،قال:«ما لم یوافق من الحدیث القرآن فهو زخرف» (2).

و لکنّ العرف یفهم أنّ المراد من قوله:«ما لم یوافق»هو مخالف الکتاب،و إلاّ یلزم أن یکون کثیر من الروایات زخرفا،مثل قوله علیه السّلام:«إذا شککت بین الثلاث و الأربع فابن علی الأربع»و نحو ذلک،فإنّه لا یوافق کتاب اللّه،فیکون مفاد هذه الروایة مع مفاد موثّقة السکونی واحدا،و هو أنّ ما خالف کتاب اللّه

ص:468


1- 1) وسائل الشیعة 27:109،الباب 9 من أبواب صفات القاضی،الحدیث 10.
2- 2) المصدر السابق،الحدیث 12.

و إن لم یکن له معارض فهو مردود،أو باطل،أو زخرف،أو غیر صادر عنّا،أو لم نقله،بحسب اختلاف التعبیرات فی هذه الطائفة.

و الطائفة الثانیة:ما وردت فی خصوص المتعارضین و ترجیح الموافق للکتاب علی المخالف،مثل:روایة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه،قال:قال الصادق علیه السّلام:«إذا ورد علیکم حدیثان مختلفان فاعرضوهما علی کتاب اللّه،فما وافق کتاب اللّه فخذوه،و ما خالف کتاب اللّه فردّوه»،الحدیث (1).و عبّر الشیخ رحمه اللّه عنها فی کتاب الوسائل بالصحیحة.

فلا توجد قرینة فی أخبار هذه الطائفة تدلّ علی رفع الید عن إطلاق المخالفة الواردة فیها،فمقتضاها أنّ فی الخبرین المتعارضین یردّ الخبر المخالف للکتاب،سواء کان مخالفته بنحو التباین أو بنحو العموم و الخصوص بقسمیه، و هذا لا ینافی وجوب ردّ الخبر المخالف للکتاب بالمخالفة بنحو التباین و لو لم یکن له معارض،کما هو مقتضی الطائفة الاولی (2).

فتکون موافقة الکتاب بعنوان إحدی المرجّحات للخبرین المتعارضین،و لا مخالفة بین الطائفة الاولی و الثانیة.

و أمّا الأخبار الواردة فیما یتعلّق بمخالفة العامّة فهی أیضا علی طائفتین:

الطائفة الاولی:ما یدلّ علی أنّ الخبر الموافق لهم ممّا لم یصدر أصلا،سواء کان له معارض أم لا،کما هو مقتضی إطلاقها.

و الطائفة الثانیة:ما وردت فی خصوص المتعارضین و أنّه یرجّح الخبر المخالف لهم علی الموافق،معلّلا فی بعضها بأنّ الرشد فی خلافهم،و نذکر من کلّ

ص:469


1- 1) المصدر السابق،الحدیث 29.
2- 2) معتمد الاصول 2:408-409.

الطائفتین روایة بعنوان الشاهد،أمّا من الطائفة الاولی فما رواه الصدوق بإسناده عن علیّ بن أسباط،قال:قلت للرضا علیه السّلام:یحدث الأمر لا أجد بدّا من معرفته،و لیس فی البلد الذی أنا فیه أحد أستفتیه من موالیک،قال:فقال:

«ائت فقیه البلد فاستفته من أمرک،فإذا أفتاک بشیء فخذ بخلافه،فإنّ الحقّ فیه» (1).

و أمّا من الطائفة الثانیة فما ذکرناه عن عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه،قال:قال الصادق علیه السّلام:«إذا ورد علیکم حدیثان مختلفان فاعرضوهما علی کتاب اللّه،فما وافق کتاب اللّه فخذوه،و ما خالف کتاب اللّه فردّوه،فإن لم تجدوهما فی کتاب اللّه فاعرضوهما علی أخبار العامّة،فما وافق أخبارهم فذروه،و ما خالف أخبارهم فخذوه» (2).

فلا بدّ إمّا من حمل الطائفة الاولی علی مورد الطائفة الثانیة،و القول باختصاص ذلک أیضا بالمتعارضین،و إمّا من طرح تلک الطائفة و ردّ علمها إلی أهلها؛لعدم إمکان الالتزام بوجوب ردّ مطلق الخبر الموافق للعامّة و إن لم یکن له معارض.

فانقدح إلی هنا أن المستفاد من الروایات أن المرجّحات المنصوصة ثلاثة:

إحداها:موافقة الشهرة الفتوائیّة.

الثانیة:موافقة الکتاب.

الثالثة:مخالفة العامّة.

إنّما وقع البحث فی الترتیب بینها،و أنّ المتقدّم فی مقام الترجیح من

ص:470


1- 1) الوسائل 27:115،کتاب القضاء،الباب 9 أبواب صفات القاضی،الحدیث 23.
2- 2) المصدر السابق،الحدیث 29.

الأخیرتین أیّهما؟بعد عدم الإشکال فی تقدّم موافقة الشهرة الفتوائیّة علیهما و بعد إطلاق الروایات الواردة فیهما،إلاّ أنّ مصحّحة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه المتقدّمة ترفع النزاع،لصراحتها فی تقدّم الترجیح بموافقة الکتاب علی الترجیح بمخالفة العامّة،فالظاهر من الأخبار العلاجیّة بعد الدقّة و التأمّل:أنّ الواجب علینا رعایة هذه المرجّحات المنصوصة و رعایة الترتیب بینها فی الخبرین المتعارضین،و لا یصحّ الالتزام بالاستصحاب للتعدّی عن المرجّحات المنصوصة إلی غیرها.

و هل اللازم فی باب الترجیح الاقتصار علی خصوص المرجّحات المنصوصة التی عرفت انحصارها بالثلاثة المذکورة أو أنّه یتعدّی منها إلی کلّ ما یمکن أن یکون مرجّحا،کما حکی عن جمهور المجتهدین الذاهب إلیه،بل ادّعی بعضهم عدم ظهور الخلاف فی وجوب العمل بالراجح من الدلیلین،بل ادّعی الإجماع علیه بعد أن حکاه عن جماعة.

و استدلّ الشیخ الأعظم رحمه اللّه فی کتاب الرسائل بوجوه للتعدّی عنها کالترجیح بالأصدقیّة فی المقبولة و بالأوثقیّة فی المرفوعة،بأنّ اعتبار هاتین الصفتین لیس إلاّ لترجیح الأقرب إلی مطابقة الواقع فی نظر الناظر فی المتعارضین،فنتعدّی من صفات الراوی المرجّحة إلی صفات الروایة الموجبة لأقربیّة صدورها (1).

و لکنّک عرفت أنّ هذه الأوصاف مرجّحات للقاضیین و الحاکمین و لا دخل لها بباب الروایة،خصوصا بعد ملاحظة أنّ الغرض فی باب القضاء،هو فصل الخصومة و اختتام النزاع،فلا مجال للتخییر فیه،فلا یمکن أن یکون کلّ

ص:471


1- 1) فرائد الاصول 2:781.

ما کان مرجّحا فی باب القضاء یکون فی باب الفتوی أیضا مرجّحا؛إذ لا دلیل لتحقّق الملازمة بینهما،کما لا یخفی.

الوجه الثانی الذی استدلّ به الشیخ رحمه اللّه للتعدّی:هو تعلیل الإمام علیه السّلام الأخذ بالمشهور بقوله:«فانّ المجمع علیه لا ریب فیه»،و قال:توضیح ذلک:«إنّ معنی کون الروایة مشهورة کونها معروفة عند الکلّ،کما یدلّ علیه فرض السائل کلیهما مشهورین،و المراد بالشاذّ:ما لا یعرفه إلاّ القلیل،و لا ریب أنّ المشهور بهذا المعنی لیس قطعیّا من جمیع الجهات-قطعی المتن و الدلالة-حتّی یصیر ممّا لا ریب فیه،و إلاّ لم یکن فرضهما مشهورین،و لا الرجوع إلی صفات الراوی قبل ملاحظة الشهرة،و لا الحکم بالرجوع مع شهرتهما إلی المرجّحات الأخر،فالمراد بنفی الریب نفیه بالإضافة إلی الشاذّ،و معناه أنّ الریب المحتمل فی الشاذّ غیر محتمل فیه،فیصیر حاصل التعلیل ترجیح المشهور علی الشاذّ بأنّ فی الشاذّ احتمالا لا یوجد فی المشهور،و مقتضی التعدّی عن مورد النصّ فی العلّة وجوب الترجیح بکلّ ما یوجب کون أحد الخبرین أقلّ احتمالا لمخالفة الواقع» (1).انتهی.

و یرد علیه:سلّمنا أنّه لو کان للموضوع حکما معلّلا-کما فی قولنا:«لا تشرب الخمر لأنّه مسکر»-یفهم العرف أنّ تمام الملاک لحرمة الشرب هو السکر،و أنّ الحکم دائر مدار وجود العلّة،و أمّا فی المقبولة فلیس الأمر کذلک، فإنّ العلّة المذکورة عند ذکر الشهرة لا نری منها أثرا عند ذکر موافقة الکتاب بعنوان المرجّح،و هکذا عند ذکر مخالفة العامّة کذلک،و إن کانت العلّة المذکورة مناطا لجمیع المرجّحات فلا وجه لرعایة الترتیب بینها،فیستفاد من ذلک أنّ

ص:472


1- 1) فرائد الاصول 2:781.

لکلّ مرجّح علّة خاصّة و مناطا علی حدة بعضها منصوص و معلوم،و بعضها لیس بمعلوم لنا.

و إن کانت العلّة موجبة للتعدّی إلی المرجّحات غیر المنصوصة فلا بد من الالتزام بتقدّمها علی موافقة الکتاب و مخالفة العامّة بمقتضی تحقّق العلّة فیها دونهما،و التالی باطل فالمقدّم مثله،فلا یمکن التمسّک بعموم التعلیل هنا.

مضافا إلی أنّ حمل«لا ریب فیه»المطلق علی«لا ریب فیه»الإضافی محدود عرفا بما هو أقرب إلی المطلق من حیث الاحتمال.

نعم،یمکن إثبات التعدّی بأنّ التخییر فی الخبرین المتعارضین بمقتضی الروایات علی خلاف القاعدة کما عرفت،فإن کان للروایات الدالّة علی التخییر إطلاق-بعد تقییدها بالمرجّحات المنصوصة-لا یبقی مجال للتعدّی عنها،و إن لم یکن لها إطلاق-بعد کونه علی خلاف القاعدة-یقتصر فیه علی القدر المتیقّن،و هو فیما لم یتحقّق أیّ نوع من المرجّحات،ففی صورة تحقّق المرجّح غیر المنصوص أیضا لا تصل النوبة إلی التخییر.

و هکذا،إن کان مستند التخییر فیهما هو إجماع الفقهاء علی خلاف القاعدة، و هو الدلیل اللّبّی،و المتیقّن منه صورة فقد جمیع المرجّحات.

هذا تمام الکلام فی باب التعادل و التراجیح.

و قد فرغت من تقریر هذا البحث یوم الخمیس الخامس عشر من شهر ربیع الثانی 1428 هجری قمری،المصادف 1386/2/13 هجری شمسی.

ص:473

ص:474

فهرس المطالب

ص:475

ص:476

فهرس المطالب خاتمة:فی شرائط الاصول حسن الاحتیاط مطلقا 7

اعتبار الفحص فی جریان البراءة 15

أدلّة وجوب الفحص 15

فی مقدار الفحص 23

دلیل استحقاق العقوبة علی ترک الفحص 23

الواجب التهیّئی 27

عدم الدلیل علی الوجوب النفسی التهیّئی 29

لزوم الفحص فی الشبهات الموضوعیّة 37

قاعدة لا ضرر 41

تنبیهات قاعدة لا ضرر 79

الاستصحاب تعریف الاستصحاب 85

تعریف الشیخ الأنصاری للاستصحاب 87

ص:477

تتمة 91

استدلال الشیخ علی القول بالتفصیل 101

تقریبات الأعلام فی اختصاص الروایة بالشکّ فی الرافع 111

تحقیق المسألة فی الشکّ فی الرافع و المقتضی 119

مورد الاستدلال بالروایة و احتمالاته 124

بیان احتمالات الروایة 131

تذییل 143

التفصیل بین الأحکام التکلیفیّة و الوضعیّة و تحقیق ماهیّتها 153

کیفیّة جعل الأحکام الوضعیّة و احتمالاتها 156

نکتة 160

تنبیهات الاستصحاب التنبیه الأوّل:فی اعتبار فعلیّة الیقین و الشکّ فی الاستصحاب 167

و أخذهما فی موضوعه علی نعت الموضوعیّة 167

التنبیه الثانی:فی البحث عن جریان الاستصحاب 169

فی مؤدّیات الأمارات و الطرق الشرعیّة و عدمه 169

التنبیه الثالث:فی تردّد المستصحب 173

و قد یکون المستصحب کلّیّا و استصحاب الکلّی علی أقسام 173

التنبیه الرابع:فی جریان الاستصحاب فی التدریجیّات 195

استصحاب الزمانیّات 200

شبهة النراقی 204

التنبیه الخامس:فی الاستصحاب التعلیقی 211

حال معارضة الاستصحاب التعلیقی مع التنجیزی 223

التنبیه السادس:فی استصحاب عدم النسخ 233

ص:478

التنبیه السابع:فی حجّیّة الأمارات المثبتة دون الاصول 241

تکمیل:فی استثناء الوسائط الخفیّة 253

التنبیه الثامن:فی الامور المذکورة فی ذیل البحث عن الاصول المثبتة 259

الأمر الأوّل 259

الأمر الثانی 264

الأمر الثالث 270

التنبیه التاسع:فی ترتّب جمیع آثار الحکم الظاهری 271

التنبیه العاشر:فی عدم لزوم کون المستصحب ذا أثر شرعی قبل الاستصحاب 273

التنبیه الحادی عشر:فی مجهولی التاریخ 275

فیما إذا کان أحدهما معلوم التاریخ 294

التنبیه الثانی عشر:فی الامور الاعتقادیّة 297

التنبیه الثالث عشر:فی موارد التمسّک بالعموم و استصحاب حکم المخصّص 303

التنبیه الرابع عشر:فی أنّ المراد من الشکّ فی أدلّة الاستصحاب و کلمات الأصحاب هو خصوص تساوی الطرفین أو عدم الیقین الشامل للظن غیر المعتبر؟319

خاتمة 322

المعتبر إحراز موضوع القضیّة المستصحبة وجدانا 326

هل الحاکم بالاتّحاد هو العرف أو لسان الدلیل؟329

تعارض الاستصحابین 339

نسبة الاستصحاب مع سائر القواعد 352

المقصد الثامن:فی تعارض الأدلّة و الأمارات التعادل و التراجیح 361

فصل:فی قاعدة الجمع مهما أمکن أولی من الطرح 377

فصل:فی تشخیص موارد النصّ و الظاهر عن الأظهر و الظاهر 383

ص:479

تعارض العموم و الإطلاق 389

دوران الأمر بین النسخ و التخصیص 393

موارد الدوران بین النسخ و التخصیص 401

دوران الأمر بین تقیید الإطلاق و حمل الأمر علی الاستحباب 407

القول:فیما إذا کان التعارض بین أکثر من دلیلین 409

إذا ورد عامّ و خاصّان بینهما عموم و خصوص مطلق 413

فصل:فی عدم شمول الأخبار العلاجیّة للعامین من وجه 419

هل المرجّحات جاریة فی العامّین من وجه أم لا؟422

المقصد الأوّل:فی الخبرین المتعارضین المتکافئین بحیث لم تکن مزیّة و ترجیح لأحدهما فی البین 425

مقتضی الأخبار الواردة فی المتکافئین من حیث الفتاوی 431

تنبیهات 441

التنبیه الأوّل:فی معنی التخییر فی المسألة الاصولیّة:441

التنبیه الثانی:فی اختصاص التخییر بالمفتی و عدمه 445

التنبیه الثالث:فی أنّ التخییر بدوی أو استمراری 447

التنبیه الرابع:فی شمول أخبار التخییر لجمیع صور الخبرین المختلفین 451

المقصد الثانی:فی الخبرین المتعارضین مع عدم التکافؤ 453

المقام الأوّل:فیما یحکم به العقل فی هذا الباب 453

المقام الثانی:فی مقتضی الأخبار الواردة فی هذا الباب و أنّه هل هو وجوب الأخذ بذی المزیّة أم لا؟و ما هی المزیة المرجّحة؟454

ص:480

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.