بحوث فی القواعد الفقهیه المجلد 3

اشارة

سرشناسه:سند، محمد، 1962- م.

عنوان و نام پدیدآور:بحوث فی القواعد الفقهیه [کتاب]: تقریرات محمدالسند/ بقلم مشتاق الساعدی.

مشخصات نشر:قم: موسسه محکمات الثقلین؛ تهران: نشر صادق، 13 -

مشخصات ظاهری:5ج.

شابک:978-600-5215-35-9

یادداشت:عربی.

یادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم، 1437ق.= 2016م.= 1395.

یادداشت:کتاب حاضر بر اساس تقریرات محمد السند نوشته شده است.

موضوع:فقه -- قواعد

موضوع:Islamic law -- *Formulae

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:ساعدی، مشتاق

رده بندی کنگره:BP169/5/س9ب3 1300ی

رده بندی دیویی:297/324

شماره کتابشناسی ملی:4803290

ص :1

اشارة

ص :2

ص :3

بحوث فی القواعد الفقهیه المجلد 3

تقریرات محمدالسند

بقلم مشتاق الساعدی

ص :4

ص :5

ص :6

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربنا وحده وحده والصلاة والسلام علی محمد المصطفی نبیه وعبده وعلی اله سؤدده ومجده.

وبعد ...

بعد ان صدر الجزء الاول والثانی من کتابنا (بحوث فی القواعد الفقهیة) الذی هو تقریر ابحاث شیخنا الاستاذ ایة الله الشیخ محمد السند (دام ظله), عززناه بجزء ثالث .

وقد حوی هذا الجزء علی ست عشرة قاعدة فقهیة, وکانت الست الأخیرة منها قواعد مستجدة فی (فقه الشعائر) الذی أبدع فیه شیخنا الأستاذ واتی بما هو جدید ودقیق کما عودنا فی بحوثه المتنوعة .

کما حوی علی فوائد عشرة أکثرها من بحوث فقه المعاملات . وبذلک کان هذا الجزء خاتمة هذا الکتاب .

اما قواعده فهی:

1 - قاعدة العرض علی الکتاب والسنة.

ص:7

2 - قاعدة العقود تابعة للقصود.

3 - قاعدة لا تبع ما لیس عندک.

4 - قاعدة عمد الصبی خطا.

5 - قاعدة لزوم العسر والحرج.

6 - قاعدة لا ضرر.

7 - قاعدة ان المتنجس ینجس.

8 - قاعدة فی تعیین المالک لما یقابل الدین والوصیة من الترکة.

9 - قاعدة شرطیة اذن الاب فی اعمال الصبی.

10 - قاعدة من ادرک المشعر فقد ادرک الحج.

11 - قاعدة الشعائر الدینیة .

12 - قاعدة توسعة حریم مواسم الشعائر زمانا ومکانا.

13 - قاعدة المشی الی العبادة عبادة.

14 - قاعدة رجحان الشعائر ولو مع الخوف.

15 - قاعدة عمارة مراقد الائمة فریضة هامة.

16 - قاعدة تعدد طرق الحکایة والإخبار عن الواقع .

وکانت القاعدة رقم (12) و(13) من تقریرات جناب الاخ الشیخ عباس اللامی (دام توفیقه) لدرس الشیخ الاستاذ السند .

کما ان القواعد رقم (14) و(15) و(16) من تقریرات جناب الاخ السید ریاض الموسوی (دام توفیقه) لدرس الشیخ الاستاذ السند .

واما فوائده فهی:

1 - فائدة فی عموم مانعیة الغرر عن الصحة.

ص:8

2 - فائدة لوازم مخالفة عقد المضاربة للقاعدة.

3 - فائدة فی المعاملات المستجدة.

4 - فائدة فی الفرق بین القیود العلامیة والتوصیفیة.

5 - فائدة فی کثرة الشک.

6 - فائدة فی المرتد وأحکامه.

7 - فائدة فی حدود ما یسوغ النظر الیه عند ارادة التزویج.

8 - فائدة فی عدم اعتبار الشروط المتبانی علیها قبل عقد النکاح .

9 - فائدة فی تحقق قاعدة الفراش والعدة من إراقة الماء علی الفرج.

10- فائدة فی ان جدة میقات للتمتع.

نسال الله تعالی دوام التوفیق لسماحة الشیخ الاستاذ السند والمزید من العطاء العلمی والمعرفی الذی یرفد به المکتبة الإسلامیة .

والحمد لله اولا واخرا.

مشتاق الساعدی / النجف الاشرف

27 رجب 1433

ص:9

ص:10

قاعدة : العرض علی الکتاب والسنة

اشارة

ص:11

ص:12

قاعدة العرض علی الکتاب والسنة

فی بیان ضوابط العرض علی الکتاب والسنّة ومیزان المخالفة والموافقة لهما:

توطئة:

هذه القاعدة ذات مساحة فی ابواب عدیدة ک- (باب) التعارض بین الروایات فی الابواب الفقهیة, وهو مطرد فی غالب الابواب وباب تمییز صحة الشرط فی العقود والمعاملات سواء الفردیة او الاجتماعیة او الجماعیة فی الفقه الاجتماعی والسیاسی وباب الصلح والعهد سواء علی الصعید الفردی والاجتماعی والسیاسی وباب النذر والیمین وباوامر الاولیاء .

ولأجل بیان الضابطة للعرض علی الکتاب والسنّة أو معرفة ضابطة المخالفة والموافقة لهما بصورة کلیة, کی لا تکون الموازنة بین مضامین تفاصیل الأحکام والمعارف فی الروایات وبین محکمات الکتاب والسنّة بتوسّط السلیقة والذوق والقریحة غیر المنضبطة عادة، بل منضبطة بقالب صناعیّ یُعوّل علیه ویضطرّ إلی إعماله بتدبّر وإمعان,وکانموذج لتطبیق هذه الضابطة، نشرع فی دراسة قاعدة مهمّة وهی قاعدة عدم نفوذ الشرط المخالف للکتاب والسُّنة.

عدم نفوذ الشرط المخالف للکتاب والسنّة:

عموم القاعدة:

وهذه القاعدة وإن جری تداولها فی المعاملات کضابطة فی الشروط

ص:13

الضمنیّة المعاملیّة، إلّا أنّ الصحیح عموم هذه القاعدة لأبواب الفقه السیاسیّ والحکم، کما أنّها ذات أهمّیة کبیرة فی البحث المتداول فی هذا العصر، وهو الثابت والمتغیّر فی الشریعة، والذی یضفی بظلاله علی کیفیّة تغطیة الشریعة لکلّ الحوادث المستجدّة ولکلّ أصعدة الحیاة الحدیثة، کما سیتبیّن فی ما یأتی ان شاء الله تعالی.

صعوبة البحث فی هذه القاعدة:

ولا یخفی أنّ هذه القاعدة قد نبّه کلّ مَن خاض فیها من الأساطین علی وعُورة وصعوبة البحث فیها، وأنّ ما یذکر من ضوابط فی تفسیرها غیر مطّرد ولا منعکس، مضافاً إلی أنّها لا تنقّح الصغریات العدیدة التی وقع الخلاف فیها.

وهذا التحدید فی الشرط ورد أیضاً فی الصلح والنذر وأخویه، وطاعة الوالدین وغیرها، وسیتبیّن الجهة المشترکة بین هذه العناوین فی هذا التحدید.

ولأهمیّة هذه القاعدة خاض فیها المحقّق النراقیّ(قدس سره) فی کتابه عوائد الأیّام(1)، کما تعرّض لکلامه تلمیذه الشیخ المحقّق الأنصاریّ(قدس سره) فی المکاسب وکما تعرّض لکلامه کلّ من کتب فی هذه القاعدة، ومن الموارد الفریدة التی یعبّر الشیخ الأنصاریّ(قدس سره) عن استاذه النراقیّ(قدس سره) بالمشیخة فی خصوص المقام عندما بحث القاعدة فی المکاسب فقال معبرا عن النراقی:

ص:14


1- (1) عوائد الأیام ، العائدة 15.

بعض مشایخنا المعاصرین(1).

ونقل کلامه فی موضعین، وهو الوحید الذی نوّه باسمه من بین مَن نقل عنهم فی هذا المبحث، ممّا یدل علی حداثة بلورة هذا البحث عند النراقیّ(قدس سره)، وهذه الصفة مطّردة فی تحقیقات النراقیّ(قدس سره).

وقد تابع الشیخ الأنصاریّ(قدس سره) استاذه المحقّق فی إثارتها فی مواطنها المختلفة، ممّا یدلّ علی تأثّر الشیخ بالمحقّق النراقیّ(قدس سره) أکثر من بقیّة مشایخه الآخرین.

قال النراقی فی العوائد: العائدة 15(2)- التی عقدها لبیان حکم الشرط فی ضمن العقد، بعد بیان معنی الشرط وجملة من ضوابط وشرائط صحّة الشرط الضمنیّ-: (المبحث الثالث: فی بیان ما یجوز من الشرط وما لا یجوز، وجملة ما ذکروا عدم جوازه، ووقع التعبیر ب- (غیر الجائز) فی عباراتهم أربعة:

- الشرط المخالف للکتاب والسنّة.

- والشرط الذی أحلّ حراماً أو حرّم حلالًا.

- والشرط المنافی لمقتضی العقد.

- والشرط المؤدّی إلی جهالة أحد العوضین.

ص:15


1- (1) کتاب المکاسب، ج6، ص33 ط الحدیثة المحققة.
2- (2) عوائد الأیام ص143.

أمّا الأوّل: فعدم الإعتداد به مجمع علیه، وفی المستفیضة تصریح به- ثمّ أشار إلی الأخبار الواردة فی المقام وقال: ثمّ المراد بشرطٍ خالف الکتاب أو السنّة: أن یشترط- أی یلتزم- أمراً مخالفاً لما ثبت من الکتاب والسنّة، عموماً أو خصوصاً، مناقضاً له.

والحاصل: أن یثبت حکم فی الکتاب أو السنّة، وهو یشترط ضدّ ذلک الحکم خلافه، أی یکون المشروط أمراً مخالفاً لما ثبت فی أحدهما، سواء کان من الأحکام الطلبیّة أو الوضعیّة...

وأمّا اشتراط أن لا یتصرّف المشتری فی المبیع مدّة معلومة، فهو لیس مخالفاً للکتاب أو السنّة، إذ لم یثبت فیهما تصرّفه...

بل إنّما ثبت جواز تصرّفه، والمخالف له عدم جواز تصرّفه...

نعم، إیجاب الشارع للعمل بالشرط یستلزم عدم جواز التصرّف، ولیس المستثنی فی الأخبار شرطاً خالف إیجابه أو وجوبه کتاب الله والسنّة، بل شرط خالف الکتاب والسنّة؛ والشرط هو عدم التصرّف.. لا نعلم أنّ التزام عدم التصرّف یخالف جواز التصرّف ما لم یثبت وجوب ما یلتزم به.

وأمّا شرط فعل شیء ثبتت حرمته من الکتاب والسنّة أو ترک شیء ثبت وجوبه أو جوازه منهما، فهو لیس شرطاً مخالفاً للکتاب والسنّة، إذ لم یثبت من الکتاب والسنّة فعله أو ترکه، بل حرمة فعله أو ترکه، ولکن یحصل التعارض حینئذ بین ما دلّ علی حرمة الفعل

أو الترک، وبین أدلّة وجوب الوفاء بالشرط، فیجب العمل بمقتضی

ص:16

التعارض، انتهی.

وقبل التعرُّض إلی باقی کلمات الأصحاب فی هذه القاعدة، نستعرض الروایات الواردة ثمّ نتبعه بتحریر حقیقة موضوع ومحمول القاعدة.

أمّا روایات القاعدة:

فهی وإن کانت علی طوائف بحسب ألسنتها، إلّا أنّنا سنذکرها بحسب أبواب مواردها:

الاولی: صحیح الحلبیّ عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «سألته عن الشرط فی الإماء لا تباع ولا توارث ولا توهب؟

فقال: یجوز غیر المیراث، فإنّها تورث، فکلّ شرط خالف کتاب الله فهو رُدَّ(1).

ومثله صحیح ابن سنان(2) إلّا أنّ فی ذیلها فهو باطل.

الثانیة: صحیح عبد الله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «سمعته یقول: مَن اشترط شرطاً مخالفاً لکتاب الله فلا یجوز له، ولا یجوز علی الذی اشترط علیه، والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق کتاب الله عَزَّ وَجَلَّ»(3).

وفی صحیحه الآخر عنه(علیه السلام)، قال: «المسلمون عند شروطهم إلّاکلّ شرط خالف کتاب الله عَزَّ وَجَلَّ فلا یجوز»(4).

ص:17


1- (1) وسائل الشیعة ج18 ص267 باب 15 من أبواب الحیوان ح1.
2- (2) المصدر والصفحة.
3- (3) المصدر والجزء ص16 باب6 من أبواب الخیار ح1.
4- (4) المصدر والصفحة ح2.

ومثل الثانی صحیح الحلبی(1).

الثالثة: موثّقة إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبیه(علیهما السلام) : «إنّ علیّ بن أبی طالب(علیه السلام) کان یقول: مَن شرط لامرأته شرطاً فلیَفِ لها به، فإنَّ المسلمین عند شروطهم إلّا شرطاً حرّم حلالًا أو أحلَّ حراماً»(2).

الرابعة: معتبرة منصور بن بزرج، عن عبد صالح(علیه السلام)، قال: «قلت له: إنّ رجلًا من موالیک تزوّج امرأة ثمّ طلّقها فبانت منه فأراد أن یراجعها فأبت علیه إلّاأن یجعل للَّه علیه أن لا یُطلّقها ولا یتزوّج علیها، فأعطاها ذلک ثمّ بدا له فی التزویج بعد ذلک فکیف یصنع؟

فقال: بئس ما صنع، وما کان یُدریه ما یقع فی قلبه باللیل والنهار، قُل له: فَلْیَفِ للمرأة بشرطها، فإنَّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: والمؤمنون عند شروطهم»(3).

وفی روایة العیّاشیّ، عن ابن مسلم، عن أبی جعفر(علیه السلام)، قال: «قضی أمیر المؤمنین(علیه السلام) فی امرأة تزوّجها رجل وشرط علیها وعلی أهلها إن تزوّج علیها امرأة أو هجرها أو اتَّخذ علیها سریّة فإنّها طالق. فقال: شرط الله قبل شرطکم، إن شاء وفی بشرطه وإن شاء أمسک امرأته ونکح علیها وتسرّی علیها وهجرها إن أتت بسبیل ذلک، قال الله تعالی فی کتابه: (فَانْکِحُوا ما

ص:18


1- (1) المصدر والصفحة ح4.
2- (2) وسائل الشیعة باب 6 من أبواب التجارة ح5.
3- (3) المصدر باب 20 من أبواب المهور ح4.

طابَ لَکُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنی وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ »1 .

وقال: إِلاّ ما مَلَکَتْ أَیْمانُکُمْ (1).

وقال: وَ اللاّتِی تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ (2)(3).

الخامسة: صحیحة محمّد بن قیس عن أبی جعفر(علیه السلام): أنّه قضی فی رجل تزّوج امرأة وأصدقته هی واشترطت علیه أنّ بیدها الجماع والطلاق، قال: خالفتِ السنّة ووُلِّیت حقّاً لیست بأهله، فقضی أنّ علیه الصداق وبیده الجماع والطلاق، ذلک السنّة(4).

وصحیحه الآخر عن أبی جعفر(علیه السلام): «فی رجل تزوّج امرأة وشرط لها إن تزوّج علیها امرأة أو هجرها أو اتّخذ علیها سریّة فهی طالق، فقضی فی ذلک: إنّ شرط الله قبل شرطکم فإن شاء وفی لها (بما اشترط) وإن شاء أمسکها واتَّخذ علیها ونکح علیها»(5).

ومثله صحیح عبدالله بن سنان إلّاأنّ فیه: «أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: مَن اشترط شرطاً سوی کتاب الله فلا یجوز ذلک له ولا علیه(6).

وفی روایة إبراهیم بن محرز، قال: سأل رجل أبا عبدالله(علیه السلام) وأنا عنده،

ص:19


1- (2) النساء: 24.
2- (3) النساء: 34.
3- (4) وسائل الشیعة باب 20 من أبواب المهور ح6.
4- (5) المصدر باب 29 ح1.
5- (6) المصدر باب 38 ح1.
6- (7) وسائل الشیعة ج21 ص297 باب 38 من أبواب المهور ح2.

فقال: رجل قال لامرأته: أمرکِ بیدِکِ.

قال: أنّی یکون هذا، والله یقول: (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ) 1 لیس هذا بشیء)(1).

السادسة: صحیحة أبی العبّاس، عن أبی عبدالله(علیه السلام): «فی الرجل یتزوّج المرأة ویشترط أن لا یخرجها من بلدها.قال: یفی لها بذلک، أو قال: یلزمه ذلک»(2).

السابعة: صحیحة الحلبیّ عن أبی عبدالله(علیه السلام) أنّه ذکر: «أنّ بریرة کانت عند زوج لها وهی مملوکة، فاشترتها عائشة فأعتقتها، فخیّرها رسول الله صلی الله علیه و آله إن شاءت تقر عند زوجها، وإن شاءت فارقته وکان موالیها الذین باعوها اشترطوا ولاءها علی عائشة. فقال رسول الله صلی الله علیه و آله : الولاء لمَن أعتق»(3).

الثامنة: والصحیحة إلی ابن أبی عمیر عن عمرو صاحب الکرابیس، عن أبی عبدالله(علیه السلام): «عن رجل کاتَب مملوکه، واشترط علیه أنّ میراثه له فرفع ذلک إلی علیّ(علیه السلام) فأبطل شرطه وقال: شرط الله قبل شرطک»(4).

التاسعة: صحیحة محمّد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن رجل کانت له ام مملوکة فلمّا حضرته الوفاة انطلق رجل من أصحابنا فاشتری امّه، اشترط علیها أنّی أشتریک وأعتقکِ فإذا مات ابنک فلان ابن

ص:20


1- (2) وسائل الشیعة ج22 ص94 باب 41 من أبواب مقدمات الطلاق ح6.
2- (3) المصدر باب 40 ح1.
3- (4) وسائل الشیعة ج23 ص65 باب 37 من أبواب العتق ح2.
4- (5) المصدر باب 15 من أبواب المکاتبة ح1.

فلان فورثتیه أعطیتینی نصف ما ترثینه علی أن تعطینی بذلک عهد الله وعهد رسوله، فرضیت بذلک، أعطته عهد الله وعهد رسوله لتفینّ له بذلک، فاشتراها الرجل وأعتقها علی ذلک الشرط، ومات ابنها بعد ذلک فورثته، ولم یکن له وارث غیرها.

قال: فقال أبو جعفر(علیه السلام): لقد أحسن إلیها، وأُجر فیها، إنّ هذا لفقیه، والمسلمون عند شروطهم، وعلیها أن تفی بما عاهدت الله ورسوله علیه»(1).

العاشرة: روایة سلمة بن کهیل، قال: «سمعت علیّاً(علیه السلام) یقول لشریح: .. واعلم أنَّ الصلح جائز بین المسلمین إلّاصلحاً حرَّم حلالًا، أو أحلَّ حراماً(2).

ونحو هذا الحدیث مرسل عند الصدوق(رحمه الله)(3) ومن هذا الباب ما ورد من أنّه «لا نذر ولا یمین فی معصیة(4)، وأنّه لا تجوز یمین فی تحلیل حرام ولا تحریم حلال»(5) .

ومنه أیضاً ما ورد من أنّه «لا طاعة لهما [للوالدین] فی معصیة الخالق ولا لغیرهما، فإنّه لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق»(6).

ص:21


1- (1) وسائل الشیعة ج26 ص55 باب 21 من أبواب موانع الإرث ح1.
2- (2) المصدر باب 1 من أبواب آداب القاضی ح1.
3- (3) من لا یحضره الفقیه ج3 ص29 باب الصلح ح1.
4- (4) الکافی ج7 ص440.
5- (5) وسائل ج20 ص284 ح1 ه- ج23 ص217 ح2، وغیرهما.
6- (6) وسائل ج16 ص154 ح10.

بیان حقیقة البحث سواء فی طرف موضوع القاعدة أو محمولها أو متعلّقها:

ولنذکر المحتملات تباعاً:

المحتمل الأوّل: أن یکون فی کلّ من شرط الفعل والنتیجة، وعلی کلا التقدیرین المخالفة تارة بلحاظ الشرط أی التعهّد والإلتزام، أو بلحاظ المشروط وهو المتعلِّق أو المنشأ المتعهّد به، وهو ملکیّة الفعل فی شرط الفعل، أو وجود النتیجة کمعنی وضعیّ فی شرط النتیجة، وسیأتی تعیین أحد هذه المحتملات.

المحتمل الثانی: إنّ البحث فی حکم الشرط والمشروط ونسبته مع الأحکام الأولیّة باعتبار کونه عنواناً ثانویّاً، وهکذا قد یُقال الحال فی الصلح والنذر وأخویه، وطاعة الوالدین، وطاعة کلّ ولیّ ووالی من غیر المعصومین (علیهم السلام) أنّها عناوین ثانویّة تلحظ نسبتها مع الأحکام الأولیّة.

المحتمل الثالث: إنّ البحث فی معرفة الأحکام الطبعیّة الاقتضائیّة وافتراقها عن الأحکام الفعلیّة المطلقة الباتّة فی الأحکام الأولیّة، وإنّ الثانیة تُعارض الأحکام الثانویّة بخلاف الأُولی.

المحتمل الرابع: هو بحث عن علم وکیفیّة معرفة الاصول القانونیّة فی الشریعة، وهو حقیقة واقع البحث فی الثابت والمتغیّر الدینیّ، حیث أنّ الأصل القانونیّ هو الموادّ الأُولی الفوقیّة للتقنین والأحکام، ومنها تنشعب بقیّة القوانین والأحکام بنحو هرمیّ تنزّلیّ، نظیر الموادّ الدستوریّة بالنسبة

ص:22

إلی المصوّبات القانونیّة للمجالس النیابیّة، وهی بنوبتها بالنسبة إلی المقرّرات القانونیّة الوزاریة وإن کانت منظومة الأحکام والقوانین الأدیانیّة لا تنحصر فی الأحکام الاجتماعیة کالدساتیر بل ذلک باب من أبوابها.

المحتمل الخامس: قیل أنّ هذا البحث هو فی ذکر الضابطة فی التزاحم الملاکیّ- لا الإمتثالیّ- بین الأحکام وقد صرّح الشیخ الأنصاریّ(قدس سره) بوحدة مناط البحث مع موارد صیرورة المحلّل مقدّمة بنحو العلّیّة للمحرّم، ومن ثمّ الفرق بینه وبین موارد المصالح المرسلة وسدّ الذرائع، والفرق بینهما وبین جملة من فتاوی الأعلام فی جواز التشریح مع توقّف الإنقاذ المستقبلیّ علیه لا الحالیّ، وکذلک تجویز ارتکاب بعض المحظورات لأجل تجنّب الضرر المستقبلیّ البعید أو القریب لا الحالیّ الفعلیّ، وکذلک الحال فی بعض موارد الحرج التقدیریّ المستقبلیّ.

المحتمل السادس: إنّ الجهة المشترکة والسمة المتّحدة فی بحث الشروط والصلح والنذر وأخویه وطاعة الوالدین ممّا قد قُیِّد بأن «لا یخالف الکتاب والسنّة ولأنّ (شرط الله قبل شرطکم) هو فی تحدید ولایة الفرد وسلطنته، فلا ثبوت لها مع مخالفتها لولایة الله تعالی وولایة رسوله التشریعیّة وغیرهما، وبالتالی لا یمکن له أن یلتزم أو یتعهّد بما هو خارج عن ولایته وسلطنته.

فمورد قدرة الفرد وولایته هو فی التصرّف الذی لم یمنع شرعاً، أی فی إرادة الله تعالی ورسوله، وهذه الضابطة لا تختص بولایة الفرد وسلطنته وتحدید التزاماته، سواء فی لون الشرط أو الصلح أو النذر وأخویه أو حقّ

ص:23

طاعته کوالد لا تختص هذه الضابطة بولایة الفرد، بل تعم کلّ والی سواء فی الولایات العامّة، کالنیابة العامّة عن المعصوم فی القضاء والحکم وبیان الأحکام، أو الولایة والنیابة الخاصّة فی الأُمور الثلاثة، أو فی الولایات المتوسّطة کالأوقاف والحسبیّات العامّة والوصایا، فإنّ الوالی فی کلّ أقسام الولایات محدودة ولایته بعدم مخالفة التشریعات الإلهیّة من الکتاب والسنّة، سواء سنّة النّبی صلی الله علیه و آله وسنّة أهل بیته (علیهم السلام) فإنّ الطاعة والولایة أوّلًا للَّه تعالی، ثمّ لرسوله، ثمّ لأُولی الأمر من أهل بیته.

وبالتالی فهذه القاعدة لیست میزاناً للحکم فی باب الفتیا وفقه الفرد فحسب، بل میزانٌ للحکم فی باب الحکومة السیاسیّة وفقه الدولة. ویعضد عموم القاعدة أنّ عموم (المؤمنون عند شروطهم) (1) لا یختصّ بالشروط علی النطاق الفردیّ فی المعاملات المادّیّة والإیقاعات فی الأحوال الشخصیّة، بل یشمل الشروط فی باب العهود التی تجریها الحکومة الإسلامیّة، الوالی مع الأطراف الأُخری الإسلامیّة أو غیرها فی المعاملات المالیّة أو السیاسیّة أو العسکریة والأمنیّة وغیرها، فإنّ العموم شامل لذلک فی ما ثبتت ولایته للوالی، وکذلک فی عقد الصلح، فإنّه لیس خاصّاً بالنطاق الفردیّ بل شامل لعهود الدولة والحاکم.

ومن هنا تتبلور أهمّیة هذه القاعدة وعمومها للأبواب ولمختلف أقسام شرط الصلح فی مختلف ضروب الحکم وأنّ ولایة وسلطنة الفرد أو الولاة هی محدودة بولایة الله ورسوله والأئمّة من أهل بیته، أی الحکم

ص:24


1- (1) التهذیب ج7 ص371.

التشریعیّ والقضائیّ التنفیذیّ، وسیترتّب من هذا التحریر لحقیقة البحث رفع الإبهام فی کثیر من جهات دلالة الروایات المتقدِّمة.

کما أنّ البحث فی القاعدة یظهر منطقة السعة للحاکم فی تخیّر الأوفق من السیاسات والتدبیرات للوصول إلی الأغراض الشرعیّة مادام ذلک فی حدود الموافق للُاصول الأوّلیّة ولم یخالفها.

المحتمل السابع: قد ذکر بعض الأعلام أنّ مفاد البحث فی القاعدة هو للتنبیه علی أنّ الشرط وبقیّة العناوین المستثنی منها المخالفة، لیست علی حذو العناوین الثانویّة الأُخری کالضرر والحرج، وعناوین الرفع الأُخری ممّا یتقدّم علی الأحکام (العناوین الأوّلیّة) مطلقاً، لجهة أهمّیتها فی التزاحم الملاکیّ، کما هو الضابطة فی العناوین الثانویّة ولکون عناوین الرفع رافعة للتنجیز والعزیمة دون أصل الحکم، بینما الشرط والصلح ونحوهما موجب لتبدّل الحکم، کما أنّ عناوین الرفع ناشئة من مصلحة التسهیل الملزمة وترخیصها، أمّا عناوین العهد والإلتزام فناشئة من مصلحة الوفاء بالعهد المقترح المبتدأ، أو ولایة بعض الموالی، وقد أشار إلی وجود الفرق إجمالًا الشیخ الأنصاری(قدس سره) فی المقام.

المحتمل الثامن: قد أشار صاحب «الکفایة فی موضع من مباحث الألفاظ إلی أنّ العناوین الثانویة حاکمة صورة، أی بحسب عالم الدلالة، ومزاحمة لبّاً، وقد یظهر ذلک من الشیخ کما فی تنافی الضررین وغیرهما، وهو ممشی مشهور الفقهاء».

نعم، مشهور هذا العصر البناء علی أنّها حاکمة صورةً ومخصّصة لبّاً،

ص:25

ولا یخفی خطورة وأهمّیة الفرق بین المسلکین فی موارد عدیدة، والمسلک الأوّل هو المتعیّن کما حرّر فی محلّه.

وعلی ذلک فیکون تقدّم العنوان الثانویّ علی الأوّلیّ هو لأهمّیّته ملاکاً، کما تقدّمت الإشارة إلی ذلک، وعلیه فیکون محصّل الاستثناء فی المقام هو أنّ الشرط والصلح ونحوهما من العهود والإلتزامات (أی الولایات الفردیّة وغیرها) لا تزاحم الأحکام الأوّلیّة الإقتضائیّة ملاکاً، بخلاف عناوین الرفع الستّة ونحوها، لاسیّما وإنّ عناوین الرفع کما تقدّم لا تغیِّر الأحکام الأوّلیّة عمّا هی علیه، کما هو مسلک مشهور طبقات الفقهاء عدا هذه الأعصار، بل غایة الأمر، هی ترفع تنجیزها کما هو شأن المتزاحمین بخلاف المخصّص أو الوارد، کما هو الحال فی عنوان الشرط والصلح، والنذر وأخویه، وطاعة الوالدین والموالی.

وعلی ضوء ذلک فلابدَّ فی الإلتزامات والعهود الداخلة تحت ولایة الفرد والأفراد أن تکون غیر منافیة للأحکام الأوّلیّة والتی هی من ولایة الله تعالی ورسوله، بل ملائمة معها من باب جمع الملاکین، فیعود هذا النمط من العناوین الثانویّة، کنمط عناوین الرفع، غیر مخصّص ولا وارد علی الأحکام الأوّلیّة، بل مجتمع معها من دون تنافی لا فی الملاک ک- (باب) التزاحم فضلًا عن الجعل والإنشاء ک- باب التخصیص، بل ولا فی الأثر وهو التحریک والبعث والتنجیز والترخیص ک- (باب) حکومة الرفع من العناوین الثانویة.

ومن ثمّ ارتکز فی کلماتهم حول القاعدة، أنّ مورد الشروط والصلح

ص:26

ونحوهما هو فی تمییز الأحکام الطبعیّة الاقتضائیّة عن الفعلیّة الباتّة وغیر ذلک ممّا قیل فی ضابطة کیفیّة التعرُّف علی عدم منافاة الأحکام الأوّلیّة مع ولایة الفرد والأفراد والتزاماتهم وعهودهم الداخلة تحت سلطنتهم کما سیأتی البحث فی ذلک.

المحتمل التاسع: قد ذکر المحقّق النراقی وجماعة أنّ المخالفة فی المقام تختلف عن المخالفة فی باب التعارض؛ فإنّ العموم والخصوص المطلق یعدّ مخالفة فی المقام بخلاف باب التعارض؛ وکذا الحال فی الإطلاق والتقیید، وکذلک حمل العامّ والمطلق علی الخاصّ والمقیّد، بل وکذلک کلّ وجوه الجمع العرفیّ الاخری من حمل الظهور الأضعف علی الأقوی علی اختلاف أنواع وضروب القرینیّة فی باب التعارض تعد مخالفة فی المقام بحسب هذه القاعدة .

بعبارة جامعة لا یرفع التنافی فی المقام بما یرفع فی باب التعارض بالتصرّف فی دلالة أحد الطرفین، ففی المقام لا تغیّر دلالة أدلّة الأحکام عمّا هی علیه، ولا یلاحظ التوفیق بین دلالتها ودلالة نفوذ الشروط والصلح والنذر ونحوها من الإلتزامات، وفی الحقیقة أنّ أدلّة الأحکام الثانویّة مطلقاً سواء کانت رافعة او مثبتة من النمطین- اللذین تقدّمت الإشارة إلیهما- لا یتصرّف بها فی دلالة الأحکام الأوّلیّة، بخلاف أدلّة الأحکام الأوّلیّة فیما بین بعضها مع البعض.

وعلی ذلک، فالعناوین الثانویّة بکلا النمطین حالات وأطوار للحکم الأوّلیّ من دون أن تتصرّف فی جعله. فمن ثمّ یظهر تفسیر آخر للموافقة

ص:27

للکتاب والسنّة المأخوذة فی ألسنة بعض روایات القاعدة، المقابل لأخذ عدم المخالفة لها؛ أنّه نفی لمطلق المخالفة بحسب مراحل ومراتب الحکم الاولی فضلا عن مرتبة الجعل، وبالتالی تکون موافقة مع طبیعة الحکم الأوّلی ولا تنافی شؤونه.

المحتمل العاشر: إنّ بطلان الإلتزام المخالف للکتاب والسنّة سواء بنحو الشرط أو الصلح، والنذر وأخویه، وغیرها، مطرّد حتّی للإلتزام والعهد للَّه تعالی، فلا یصحّ النذر وأخویه مع کونه عهداً والتزاماً له تعالی اذا کان مخالفا للاحکام الاولیة، فالإتّباع والطاعة لأحکامه تعالی مقیّدة لسلطان عبیده فی ما یلتزمونه ویتعهّدونه علی أنفسهم له تعالی. فالشروط مبتدأة منه تعالی علیهم لا منهم له علی أنفسهم.

المحتمل الحادی عشر: إنّ شأن الحکم الثانویّ کالعناوین العذریّة الستّة، فضلًا عن المثبتة من الشرط وبقیّة الإلتزامات، لیس هو الدوام والثبات، بل ذلک شأن الأحکام الأوّلیّة، بل شأنها هو الطروّ الإتّفاقی المؤقّت، والزوال من دون استمرار.

وبعبارة اخری: حیث قد عرفنا أنّ العناوین الثانویّة العذریّة مزاحمة لبّاً للأوّلیّة والتزاحم لا یکون حالة دائمیّة بین الأحکام بل الحالة الطبیعیّة هی الوفاق بینها فی التدبیر الفردیّ أو الاجتماعیّ، ومن ذلک یکون الحال أجلی فی الثانویّة المثبتة. نعم، لمّا کان مورد المثبتة هو- کما مرّ- الأحکام اللااقتضائیّة کما فی أکثر المباحات کان فیها البقاء الحیثیّ أطول مدّة.

ص:28

فقه الروایات من خلال فوائد:

وأمّا تقریب دلالة الروایات والتی مواردها بمثابة تطبیقات لهذه القاعدة ویظهر من خلالها فوائد:

فالروایة الأولی: وهی صحیح الحلبیّ المتقدّم، وهی مطابقة فی المورد مع صحیحه الآخر وهی الروایة السابعة المتقدّمة، وکذا مع الروایة الثامنة.

الفائدة الأولی: الفرق بین الحقّ والحکم:

وقد فرّق فی الروایة بین اشتراط عدم البیع وعدم الهبة من جانب وبین عدم الإرث- والذی عبّر عنه بالروایتین الاخریین بعدم ولاء العتق- من جانب آخر، والفرق بحسب الظاهر أنّ البیع والهبة تصرّف موکول فی الشرع إلی سلطنة المالک فله أن لا یقدم علیه، ومن ثمّ له أن لا یلتزم علی نفسه بعدم الإقدام علیه، لیس مودّی الشرط- أی ذات ما وقع اشتراطه- هو تحریم التصرّف علی نفسه، وهذا بخلاف الإرث، فإنّه حکم شرعیّ لا ینطوی تحت تصرّف المکلّف کی یتشارط علی عدمه، ومثله جعل الولاء لغیر مَن اعتق.

وأمّا الروایة الثانیة: فقد جمع صحیح عبدالله بن سنان بین التقیید بعدم المخالفة وبلزوم الموافقة، بخلاف صحیحه الآخر وصحیح الحلبیّ ثمّة، فإنّهما اقتصرا علی نفوذ وإمضاء کلّ شرط إلّاالمخالف.

الفائدة الثانیة: فی معنی الموافقة:

وقد تقدّم أنّ الأقرب فی معنی الموافقة هو الملاءمة مع الأحکام الأوّلیّة، وهو یتطابق مع نفی مطلق المخالفة من رأس، فمثلًا اشتراط عدم

ص:29

البیع وعدم الهبة یتوافق مع تشریع البیع والهبة وإیکالهما إلی سلطنة المالک، فإنّ الإشتراط المزبور یتماشی مع طبیعة الجعل الشرعیّ الأوّلی فی باب البیع والهبة، فیکون وفقاً وموافقاً له ولا یتنافی معه کی یکون مخالفاً له ولو بنحو العموم والخصوص المطلق وغیرهما من أنحاء التنافی ولو غیر المستقرّ فی الأدلّة المتعارضة.

ولک أن تقول: إنّ التصرّف المأذون فیه، سواء کان بنحو الفعل أو النتیجة الوضعیة بالإذن التکلیفیّ الوضعیّ؛ هو موافق للکتاب والسنّة، فالترخیص فی التصرّف من الکتاب والسنّة یوجب کون الاشتراط لذلک التصرّف عملًا بالجعل الأوّلیّ فی الکتاب والسنّة.

وأمّا الروایة الثالثة: وهی موثّقة إسحاق، فموردها یتطابق مع الرابعة وما یتلوها، إلّا أنّ اللفظ فیها عامّ؛ لأنّ وجه التعرّض لما یشترط الزوج علی نفسه لزوجته هو دفع توهّم منافاة ذلک لقوّامیّة الرجال علی النساء، وقد تمیّزت هذه الموثّقة بتقیید الشرط بعدم تحریم الحلال أو تحلیل الحرام. وقد ورد هذا التعبیر فی العاشرة کروایة سلمة فی الصلح: «إلّاصلحاً حرَّم حلالًا، أو أحلَّ حراماً(1).

وکذا ما ورد فی الیمین من أنّها: «لا تجوز فی تحلیل حرام، ولا تحریم حلال»(2).

وقد وقع الکلام فی مفاد هذا اللسان من دلیل القاعدة هل أنّه مغایر

ص:30


1- (1) وسائل الشیعة ج27 من 212 ح1.
2- (2) المصدر ج22 ص44 ح2.

لعنوان المخالفة والموافقة وفی تفسیر التحلیل والتحریم.

وقال المحقّق النراقی: «وأمّا الثانی- أی الشرط الذی أحلّ حراماً- فعدم الإعتداد به أیضاً منصوص علیه..، إنّما الإشکال فی فهم المراد منه، حیث أنّ کلّ شرط یوجب تحریم حلال أو تحلیل حرام فإنّ اشتراط عدم الفسخ یوجب تحریم الفسخ الحلال، وکذا اشتراط عدم إخراج الزوجة من بلدها، واشتراط خیار الفسخ یوجب تحلیل الحرام، فإنّ الفسخ لولا الشرط کان حراماً وهکذا».

ولذا تری أنّه قد وقع کثیر من الأصحاب فی حیص وبیص من تفسیره. فمنهم مَن حکم بإجماله، ومنهم من فسّر تحریم الحلال وتحلیل الحرام بالتحریم الظاهریّ للحلال الواقعی والتحلیل الظاهری للحرام الواقعیّ. وقیل: المراد بالحلال والحرام فی المستثنی ما هو کذلک بأصل الشرع من دون توسّط العقد...

قیل: هو تعلُّق الحکم بالحلّ أو الحرمة مثلًا بفعل من الأفعال علی سبیل العموم من دون النظر إلی خصوصیّة فرد، فتحریم الخمر معناه منع المکلّف عن شرب جمیع ما یصدق علیه هذا الکلّی وهکذا حلّیّة البیع، فالتزوّج والتسرّی مثلًا أمر کلّی حلال والتزام ترکه مستلزم لتحریمه، بل وکذلک جمیع أحکام الشرع من الطلبیّة والوضعیّة وغیرها، وإنّما یتعلّق الحکم بالجزئیّات باعتبار تحقق الکلّی فیها.

فالمراد من تحلیل الحرام وتحریم الحلال المنهیّ عنه: هو أن تحدث قاعدة کلّیة، ویبدع حکماً جدیداً- إلی أن قال- وکلّ هؤلاء أخطأوا الطریق

ص:31

فی فهم الحدیث مع أنّه ظاهر- علی فهمی القاصر- غایة الظهور کما یظهر ممّا ذکرنا فی بیان مخالف الکتاب والسنّة.

والحاصل أنّ عبارة الإمام(علیه السلام) هکذا: إنّ المسلمین عند شروطهم إلّا شرطاً حرّم حلالًا أو أحلّ حراماً. وفاعل (حرّم) و(أحلّ) هو (الشرط)، فالمستثنی شرطٌ حرّم ذلک الشرط الحلال أو أحلّ الحرام، وهذا إنّما یتحقّق مع اشتراط حرمة حلال أو حلّیّة حرام، لا مع اشتراط عدم فعل حلال.. ولم یقل «إلّاشرطاً حرّم إیجابه حلالًا....

ویکون الشرط فی ذلک کالنذر والعهد والیمین، فإنّه إذا نذر أحد أو عاهد أو حلف أن یکون المال المشتبه علیه حراماً شرعاً أو یحرّم ذلک علی نفسه شرعاً، لم ینعقد.. نعم، لو شرط فعل ما ثبتت مرجوحّیّته بالکتاب أو السنّة تحریماً او کراهةً، أو ترک ما ثبت رجحانه بهما وجوباً أو استحباباً، یحصل التعارض بین ما دلّ علی ذلک من الکتاب والسنّة، وبین دلیل وجوب الوفاء بالشرط، واللازم فیه الرجوع إلی مقتضی التعارض والترجیح...، ثمّ لو جعل هذا الشرط أیضاً من أقسام المخالف للکتاب والسنّة کما یطلق علیه عرفاً أیضاً؛ لم یکن بعیداً(1).

الفائدة الثالثة: معانی التحلیل والتحریم:

المحصّل من الأقوال التی ذکرها فی تفسیره:

الأوّل: الشروط المبنیّة علی اجتهاد أو تقلید سابق، ثمّ تبدّل إلی

ص:32


1- (1) عوائد الأیام، العائدة 15 ص146 - 151.

خلافه؛ وهو أقرب الوجوه للتحلیل والتحریم الظاهری.

الثانی: اشتراط ما یخالف الحرام أو الحلال بحسب التشریع الأوّلی للأشیاء، أی ما لم یجعل تحت ولایة وسلطة الفرد والأفراد کما هو الحال فی المعاملات والإیقاعات التی هی تصرّفات وأفعال اعتباریّة؛ وهو یطابق أحد التفاسیر المتقدّمة لشرط المخالف للکتاب والسنّة، وقد تقدّم قوله.

الفائدة الرابعة: الجزئیّة طابع الحکم الثانویّ:

الثالث: وهو الذی ذهب إلیه المحقّق القمّی(قدس سره) من أنّه المنع عن المحلل علی نحو الکلّیة أو فعل المحرّم کذلک؛ ولا یخفی شدّة ظهور المخالفة من الشرط علی هذا التقدیر لانحصار مورد المخالفة بذلک، لأنّ کلّیة التصرّف تصّاعد به إلی التقنین العامّ الذی هو مرتبة الجعل الشرعیّ، بخلاف المنافاة مع موارد التطبیق والمصادیق، ولک أن تقول: إنّ المنافاة حینئذ بنحو البینونة، بخلاف موارد التطبیق فإنّ المنافاة بنحو التخصیص.

وبعبارة ثالثة: إنّ المخالفة فی الاشتراط الکلّیّ والإلتزام العامّ والصلح بذلک تکون علی درجة التشریع العامّ، ومن ثمّ عبّر عنها بإبداع القاعدة الکلّیة، وقد ورد فی باب الیمین والنذر والعهد إبطال هذا النحو من الإلتزام، نظیر ما ورد فی سبب نزول الآیة: لا تُحَرِّمُوا طَیِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَکُمْ (1) فی مَن حلف أن لا ینام أبداً والآخر حلف أن لا یفطر النهار أبداً والثالث حلف أن لا ینکح أبداً وإنّ ذلک من تحریم الطیّبات ولا عبرة به.

ص:33


1- (1) المائدة: 87.

هذا مضافاً إلی أنّ شأن العنوان الثانویّ سواء کان رافعاً کالعناوین العذریّة- فضلًا عن المثبت کالشروط والإلتزامات الأُخری- لیس هو الدوام والثبات والذی هو شأن الحکم الأوّلیّ بل الطروّ الاتّفاقی أو الحیثیّ کما مرّ بیانه.

الرابع: وهو مختاره من کون المراد من الشرط فی القاعدة هو نفس الإلتزام لا الفعل المشروط.

الفائدة الخامسة: حقیقة الشرط والاشتراط:

لکنّ الأظهر إرادة المحقّق النراقیّ(قدس سره) ما استظهرناه فی ما سبق من إرادة المنشأ بالشرط والإلتزام، وهو المعنی الوضعیّ، سواء فی شرط النتیجة أو فی شرط الفعل. فإنّ المنشأ- کما هو التحقیق- فی شروط الفعل لیس الإلتزام بالفعل، بل الإلتزام بتملیک واستحقاق الفعل، فالمشروط فی الحقیقة ذلک المعنی الوضعیّ، غایة الأمر الإلتزام یتمّ به کما فی العقود، والفعل متعلّق له، لا أنّ ذات الفعل یتعلّق بها الإلتزام مباشرة کما هو فی التزام الفعل فی الإجارة، فإنّ الملتزم به بالذات تملیک الفعل، والفعل متعلّق متعلّق الإلتزام.

وعلی أیّ تقدیر فقد جعل النراقیّ(قدس سره) أنّ مورد المخالفة هو مالو کان المنشأ عنوان الحرمة للحلال الشرعیّ أو عنوان الحلّیّة للحرام الشرعیّ لا ما إذا جعل متعلّق الإلتزام والشرط عدم فعل الحلال أو فعل الحرام.

ص:34

الفائدة السادسة: المختار فی معنی التحلیل والتحریم:

وما ذکره وإن کان من موارد المخالفة الجلیّة جدّاً، کما هو الحال فی مختار المحقّق القمّی(قدس سره) إلّاأنّه لا تنحصر موارد التحلیل والتحریم والمخالفة بذلک، فقد استعمل التحریم للحلال أو التحلیل للحرام فی المنع عن فعل الحلال أو التزام فعل الحرام، کما فی قوله تعالی: یا أَیُّهَا النَّبِیُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللّهُ لَکَ (1) وکان صلی الله علیه و آله قد حلف أن لا یقرب ماریة.

وبعبارة اخری: إنّ التحریم لیس إلّاالمنع، والتحلیل لیس إلّا الإطلاق والإرسال کما فی قوله تعالی: لا تُحَرِّمُوا طَیِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَکُمْ (2) وکان أمیر المؤمنین(علیه السلام) حلف أن لا ینام باللّیل أبداً إلّاما شاء الله، وبلال حلف أن لا یفطر بالنهار أبداً، وعثمان بن مظعون حلف أن لا ینکح أبداً. نعم، ما یشکل علیه من أنّ التحریم للحلال الشرعیّ لیس بید الشارط کی یحرّم أو یحلّل، فهو من اشتراط غیر المقدور الممتنع، مخدوش بأنّ المراد اعتبار الشارط والمشروط علیه ذلک فی اعتبارهما البنائیّ لا فی اعتبار الشارع.

الفائدة السابعة: العلاقة بین التقنین الشرعیّ والعقلائیّ:

ومن هنا یجدر التنبیه والإلفات إلی ما راج أخیراً فی عدّة من الکلمات من أنّ التقیید والعمل بالقوانین الوضعیّة البشریّة العصریّة فی المجالات العدیدة- کأنظمة للتدبیر فی النظام الاجتماعیّ والسیاسیّ والمالیّ والأُسریّ

ص:35


1- (1) التحریم: 2.
2- (2) المائدة: 87.

والفردیّ والأحوال الشخصیّة- حیث أنّه لیس تشریعاً فی الدین وإبداعاً للأحکام الشرعیّة فلا ضیر فی التقیّد والإلتزام بها وإن لم تدلّ علیها التشریعات الإلهیّة، مادام أنّ هذا التقنین لیس بعنوان وإسم ونسبة فیه إلی الشرع الحنیف.

وألحق البعض الإلزام والإلتزام العرفیّ الدارج فی بعض المعاملات غیر المصحّحة من الشرع، ألحق ذلک بالدعوی المزبورة فی الجواز بعد تبانی المتعاملین علی کون ذلک فی اعتبارهما الثنائیّ لا فی الاعتبار الشرعیّ.

وهذا کلّه مخدوش بأنّ الفساد والمنع والبطلان فی اعتبار الشرع لأُمور وأشیاء أو لمعاملات لیس بمعنی أن یظلّ ذلک بنحو الوجود النظریّ الذی لا یجد له طریقاً فی عمل المکلّفین، بل هو لغایة تقیّدهم باعتبارات ومقرّرات الشارع الإلهیّ، وترکهم لاعتبارات ومقرّرات أنفسهم؛ وهو معنی ما مرّ من أنّ المراد فی هذه القاعدة هو تقدّم طاعة الله وولایته وطاعة رسوله واولی الأمر وولایتهم علی ولایة الفرد علی نفسه، والأفراد علی أنفسهم، سواء ولایته تعالی فی صورة التشریع أو القضاء أو الحکم التدبیریّ الجزئیّ.

فنهی الشارع ناظر إلی المنع عن بناء المکلّف والمکلّفین علی فعل معیّن فی اعتبار أنفسهم، لا الردع عن البناء علیه بعنوان أنّه من اعتبار الشارع، وإلّا لآل الحال فی جمیع النواهی الشرعیّة إلی النهی فی خصوص التشریع فی الدین، وهو کما تری.

هذا، فالصحیح أنّ المنع عن الفعل والإرسال له تحریم وتحلیل، وإن

ص:36

لم یکن بلفظ التحریم والتحلیل، نعم الظاهر عدم صدقه بمجرّد اشتراط ترک فرد من الفعل المحلّل أو فعل فرد من المحرّم وإن صدقت المخالفة علی شرط فعل فرد من المحرّم، لکنّه لیس من تحریم الحلال أو تحلیل الحرام، بل من شرط الحرام، بل لابدَّ من کلّیة الترک أو الفعل ولو النسبیّة بنحو یکون کالمقرّر والقانون الکلّیّ.

ومن ذلک وغیره یتّضح أنّ عنوان المخالفة أعمّ من عنوان التحریم أو التحلیل، وإن کان العنوانان لا یختصّان بالتکلیف، بل یعمّان الحرمة والحلّ الوضعیّین لعموم مادّة الحرمة والحلّ لکلّ من المنع التکلیفیّ والوضعیّ، سواء بلحاظ ما یضاف إلیه من فعل تکوینیّ، أو اعتباریّ معاملیّ ونحوه.

وأمّا ما أفاده المحقّق النراقی(قدس سره) من عدم إسناد التحریم والتحلیل إلی حکم الشرط وهو الإیجاب، فهو متین، لکنّه عند اشتراط ترک الفعل المحلّل بنحو کلّیّ أو فعل المحرم بنحو کلّیّ ولو إضافیّ، یأخذ عنوان استحقاق ذلک، والذی هو المنشأ وضعاً، وهو معنی متوسّط بین الإلتزام الشرطیّ والفعل المشروط، طابع المنع والإرسال وهو التحریم والتحلیل.

وأمّا ما ذکره(قدس سره) من وقوع التعارض وإعمال الترجیح، فضعیف غایته، بعد ما عرفت من تقیید نفوذ الشرط ونحوه من الإلتزامات بعدم المخالفة هی صادقة فی مورد التعارض بنحو اجلی من التزاحم .

ص:37

الفائدة الثامنة: توقّف معرفة المخالفة والموافقة فی القاعدة علی الصناعة التحلیلیّة لحقیقة الأحکام والمباحث القانونیّة البحتة:

ثمّ إنّ فی روایة العیّاشی تعلیل بطلان شرط الزوج للزوجة عدم التزوّج علیها أو عدم هجرها أو عدم التسرّی علیها، بینما فی معتبرة منصور بن بزرج صحّة شرط عدم التزویج علیها، ولا یخفی أنّ ظاهر روایة العیّاشی بدواً ولفظها وإن کان هو شرط الطلاق المعلّق علی فعل التزویج والهجر والتسرّی؛ إلّاأنّ المتعارف والمتبادر من مثل هذه الشروط هو التزامان:

الأوّل: هو ترک المعلّق علیه.

والثانی: هو المعلّق فی صورة عدم الوفاء بالأوّل وأنّ الثانی هو للردع عن عدم الوفاء بالأوّل لا مجرّد الردع عنه من دون التزام بترکه، نظیر من یتعاقد ویشترط علی الآخر أن یغرم مقداراً من المال إن لم یخط الثوب.

ویوضّح ذلک موثّق زرارة فی الباب المزبور(1), ومفادها مطابق الروایة الخامسة- الصحیح الآخر لمحمّد بن قیس، وصحیح عبدالله بن سنان- ولروایات اخری فی الباب المزبور(2), ومن ثمّ حمل الشیخ معتبرة ابن برزج علی الاستحباب أو التقیّة، ورجّح جمع من الأعلام مفاد المعتبرة علی بقیّة الروایات.

ص:38


1- (1) وسائل الشیعة ج21 ص275 باب 20 من أبواب المهور ح2.
2- (2) المصدر باب 20 من أبواب المهور.

ذلک لأنّ مفاد الشرط الإلتزام بالفعل أو الترک المجرّد، ولیس هو مفاداً وضعیّاً لیتنافی مع الجعل الوضعیّ الأوّلیّ، کما أنّ المشروط لیس المنع بعنوان التحریم کی یتنافی مع الجعل التکلیفیّ الأوّلیّ، ومن ثمّ حملوا بقیّة الروایات علی ما لو کان الشرط متعلقاً بمفاد وضعیّ أو بعنوان المنع التحریمیّ.

ویرد علی الحمل المزبور أنّ مقتضی الاشتراط کما عرفت هو ثبوت استحقاق وضعیّ للمشروط له علی المشروط علیه، مضافاً إلی اللزوم التکلیفیّ، وبالتالی تستحقّ علیه عدم الطلاق وعدم التزویج وعدم التسرّی علیها وعدم هجرها.

وهذا المفاد الوضعیّ ینافی الأحکام الأوّلیّة فی باب الزواج، لأنّها لیست تکلیفیّة محضة؛ بل مفادها حقّ الزوج فی ولایة الطلاق والهجر فی المضاجع إن أتت المرأة بسبیل ذلک، وفی التزویج والتسرّی ولو بلحاظ التأبید فی المنع المشروط فی الأخیرین وإن کان هذا الحقّ غیر قابل للإسقاط.

وبعبارة اخری: إنّ الحکم التکلیفیّ النفعیّ لطرف، ینتزع منه ثبوت حقّ له، وعلی هذا ففی مثل هذه الموارد التی لا یکون الحقّ قابلًا للإسقاط ولا للانتقال لا یشرع جعل الاستحقاق للغیر بتوسّط الشرط.

الفائدة التاسعة: عموم القاعدة لکلّ إنشاء من عقد أو إیقاع أو لکلّ التزام:

بل لا یختص ذلک بالشرط، بل یعمّ کلّ إیقاع أو عقد أو التزام

ص:39

واعتبار یخالف حکم الکتاب والسنّة واعتبارهما.

ففی موثّق سماعة بن مهران، قال: «سألته: عن رجل طلّق امرأته ثلاثاً فی مجلس واحد. فقال: إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله ردَّ علی عبدالله بن عمر امرأته، طلّقها ثلاثاً وهی حائض فأبطل رسول الله صلی الله علیه و آله ذلک الطلاق، وقال: کلّ شیء خالف کتاب الله والسنّة ردّ إلی کتاب الله والسنّة»(1).

وفی صحیح الحلبیّ مثله: «کلَّ شیء خالف کتاب الله والسنّة ردّ إلی کتاب الله»(2).

وفی روایة اخری: «ما خالف کتاب الله ردّ إلی کتاب الله»(3).

وغیرها فی ذلک الباب.

الفائدة العاشرة: الاصول القانونیّة معیار المخالفة والموافقة:

وعلی أیّ تقدیر، فالجدیر بالإنتباه أنّ فی روایة العیّاشی وغیرها تعلیل فساد الشرط «بأنّ شرط الله قبل شرطکم.

فأطلق علی حکم الله بالشرط وهو کما ذکر السیّد الیزدی(قدس سره) فی أوّل مبحث الشروط فی تفسیر معنی الشرط لغة واستعمالًا وبالنظر إلی عدّة من الروایات الواردة فی تفسیر الشرط کروایات اخری واردة فی تفسیر الآیة:

ص:40


1- (1) وسائل الشیعة ج22 ص64 باب 29 من أبواب مقدمات الطلاق ح10.
2- (2) المصدر ح9.
3- (3) المصدر ح22.

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) بأنّها العهود التی للَّه تعالی علی خلقه وأنّ العقد لیس إلّاربط الإلتزام من الطرفین، فهو تشارط متقابل، وإنّ: «المؤمنون عند شروطهم» شامل لمثل النذر أو العهد والیمین، کما هو شامل للإلتزام بین الخلق والمکلّفین بعضهم لبعض.

فالإقرار بالشهادتین، والإلتزام بالدین، التزام وتعهّد بمجمل الأحکام والأوامر الشرعیّة، وحقّ الله تعالی وولایته مقدّمة علی کلّ حقّ وولایة لغیره بعد تأخّر تلک العهود والولایات من کلّ وجه عن عهد الله تعالی وولایته.

فهذا المعنی أصل مفاد القاعدة کما مرّ وعلی ذلک فذکر تعلیل بطلان تلک الشروط فی روایة العیّاشی بمخالفتها لمفاد الأحکام الثلاثة فی الآیات بعدما مرّ بیانه أنّ مفادها لیس الإباحة الصرفة کما مرّ أو دیمومة المنع فی التزویج والتسرّی.

بل الأکثر وضوحاً فی الدلالة علی التعلیل روایة إبراهیم بن محرز، حیث علّل فساد شرط کون الطلاق بیدها، بأنّه مخالف بجعل قوّامیّة الرجال علی النساء، فلم یعلّل(علیه السلام) بمخالفة الشرط لجعل الطلاق بید الرجل، بل علّل بمخالفة عموم فوقانیّ کأصل قانونیّ فوقیّ قد شرع منه الکثیر من التشریعات المتنزّلة، وهو لیس من العمومات المتعارفة التی تتنزّل بطبعها علی المصادیق، بل تنزّلها وتطبیقها یحتاج إلی جعل وتشریع

ص:41


1- (1) المائدة: 1.

تنزّلی، نظیر الاصول القانونیّة فی الدساتیر، فإنّها تتنزّل بتوسّط التشریعات للمجالس النیابیّة، ولا یصحّ التمسّک بها مباشرة، بل الحال کذلک فی التشریعات العامّة للمجالس النیابیّة، فإنّه لا تنفّذ ولا تمضی ولا یعمل بها من دون التشریعات الوزاریّة التی هی تنزل للتشریعات النیابیّة.

فالعمومات الفوقانیّة التی هی بمثابة اصول قانونیّة لا تتنزّل ولا تنطبق علی المصادیق إلّابتشریعات اخری متنزّلة، وهذا یرسم لنا أنّ معیار المخالفة والموافقة هو ما لا یقتصر علی التشریعات التفصیلیّة للأحکام المتنزّلة بل التشریعات الإجمالیّة الاصولیّة الفوقیّة هی روح ولبّ المخالفة والموافقة.

الفائدة الحادیة عشر: السلطنة علی الشیء لا یسوّغ نفیها عن موضوعها:

وأمّا الروایة السابعة: فهی دالّة علی أنّ السلطنة والملک والحقّ ونحوها وإن کان مقتضاها اختیار صاحبها فی التصرّف، إلّاأنّه لیس مقتضاها تسلّطه علی سلطنة ملکه فی نفیه وإزالته مع وجود موضوعه. نعم، تمکن الإزالة بإزالته للموضوع وللسبب، وهذا نظیر ما أفاده المحقّق الشیخ الأنصاریّ(قدس سره) فی مفاد:

«الناس مسلّطون علی أموالهم»(1).

إنّ السلطنة مجعولة علی التصرّف فی الأموال لا علی نفس السلطنة ولا علی أحکام الأموال.

ص:42


1- (1) نبوی مشهور، رواه صاحب بحار الأنوار ج2 ص272 وفی مواضع أُخری.

أمّا الروایة الثامنة والتاسعة: فالتقابل بین المشروط لیس فی کون مورد الثامنة هو شرط النتیجة ومورد التاسعة هو شرط الفعل، بل الأهم هو کون مورد الأُولی مضادّ للحکم الشرعیّ من إرث ذوی الأرحام، بخلاف مورد الثانیة، فإنّه عمل بمقتضی الحکم الشرعیّ ومترتّب علیه کما لا یخفی.

ضوابط المخالفة فی کلمات الاعلام:

ثمّ أنّه ینبغی التعرّض لکلمات الأعلام فی المقام.

الأوّل: کلام الانصاری:

ما ذهب إلیه الشیخ الأنصاریّ(قدس سره) من أنّ ضابطة المخالفة هو مخالفة الحکم المطلق والفعلیّ، بخلاف مخالفة الحکم الطبعیّ الاقتضائیّ، ثمّ خاض(قدس سره) فی ضابطة الحکم المطلق والحکم الطبعیّ.

فالوضعیّ فی الغالب مطلق فعلیّ، بخلاف التکلیفیّ لا سیّما غیر الإلزامی، ثمّ ألحق بالتکلیفیّات الأحکام الوضعیّة التی بعنوان الملک والحقّ.

وقد یخدش فی هذه الضابطة أنّ مخالفة الوضعیّات فی الملتزم به وذات المشروط ماهیّة، ومخالفة التکلیفیّات فی الإلتزام والتعهّد، یرجع ویؤول إلی طبیعة وسنخ الحکم الوضعیّ والتکلیفیّ، ففی ماهیّة المشروط بما هی هی کما فی الأحکام الوضعیّة بما أنّها ماهیّة مقرّرة بغضّ النظر عن فعل المکلّف الذی انیط الحکم التکلیفیّ به کما هو الحال فی الإلتزام والتعهّد.

ثمّ إنّ الشیخ(قدس سره) نبّه علی أنّ بعض الرخص والمباحات اقتضائیة لا تتغیّر، وقد ذکر بعض المحقّقین أنّ ضابطة الحلّ والرخصة الاقتضائیّة هو

ص:43

الجواز والحلّ المترتّبة علی الحکم الوضعیّ، دون الحلّ والإباحة المجرّدة.

هذا، وقد نبّه الشیخ(قدس سره) أنّ عنوان الضرر والحرج یختلف عن بقیّة العناوین الثانویّة فیقدّمان مطلقاً بخلافها، وقد ذکرنا وجه التفرقة فی الأُمور التی ذکرناها فی حقیقة موضوع البحث، فلاحظ.

الثانی: کلام جملة من الاعلام:

ما ذهب إلیه جملة من الأعلام من أنّ الإطلاق اللفظیّ للحکم الشرعیّ هو ضابطة مخالفة الشرط، وعدمه یزیل عنوان المخالفة، وبعبارة اخری الإطلاق أو العموم اللفظیّ لحکم الشیء ولو بلحاظ الحالات الطارئة المختلفة وتارة لحکم الشیء من حیث هو، إمّا لأنّه لا إطلاق له، أو لدلالة الدلیل علی أنّ الحکم للشیء من حیث هو وفی حدّ نفسه أو مقیّد بعدم الطوارئ.

فعند الشکّ فی عنوان المخالفة لا یصحّح الشرط عند فرض تعارضه مع عموم الوفاء بالشرط ومع عموم الحکم الأوّلی بل یکون عموم الوفاء موروداً.

الثالث: ما مال الیه النراقی:

ما مال إلیه المحقّق النراقیّ(قدس سره) لکنّه لم یستقرّ علیه، وهو إجراء مرجّحات التعارض بین إطلاق وعموم الحکم الأوّلیّ وعموم الشروط فالراجح یقدّم، بخلاف ما إذا کان تنافی الشرط بما هو مع الکتاب فإنّ المخالفة صادقة مطلقاً حینئذ دون مخالفة الإلتزام للإلزامیّات.

ص:44

الرابع: کلام بعض الاعلام:

ما ذکره بعض من أنّ الضابطة ورود الحکم فی الکتاب وعدمه.

الخامس: کلام الیزدی:

ما ذهب إلیه السیّد الیزدیّ(قدس سره) أنّ ضابطة التحریم والتحلیل المفسدة للشرط هو مخالفة الکتاب، لکن لا مطلق المخالفة. نعم، المنافی الدائم فی غیر الإلزامیّات مخالف، وکذلک المنع عن المباح بلفظ النفی، أو المنع والتحریم عنواناً.

وأمّا فی الأحکام الإلزامیّة فالمنافاة لها ولو فی الحکم الجزئیّ مخالفة فضلًا عن الحکم الکلّی فیها، کذلک الواجب أو فعل الحرام، وکذلک تصدق المخالفة فی الحکم الوضعیّ إذا جعل فی الشرط لغیر من جعله الله تعالی له، دون ما لو کان بنحو شرط الفعل المتعلّق بالحکم الوضعیّ.

والوجه الذی یذکر فی هذا التفصیل هو أنّ الفارق بین الحکم الإطلاقیّ والطبعیّ هو فی نکتة التزاحم، حیث لا یزاحم المباح اللزوم الطارئ بخلاف اللزوم الأوّلی، فإنّه لا یدفع باللزوم الطارئ إلّاإذا کان فی غایة القوّة کالضرر والحرج فلیس الطارئ والثانویّ علی وتیرة واحدة فی التکلیفیّات.

السادس: کلام بعض الاعلام

نبّه بعض الأعلام علی أنّ المخالفة کما قد تکون بالإضافة إلی العمومات الأوّلیّة کذلک قد تکون بالإضافة إلی العمومات الثانویّة ولو الظاهریّة کالاصول العملیّة الظاهریّة.

ص:45

السابع: کلامنا المختار:

قد تبیّن ممّا مرّ من المختار أنّ ضابطة الحکم المطلق الفعلیّ هو الحکم المتنزّل من أصل قانونیّ فوقیّ، وأنّ العبرة بذلک فی المخالفة دون سائر الأحکام التی لا تعتضد بذلک کما هو الحال فی غیر الإلزامیّات من المباحات غالباً.

وبعبارة اخری: أنّ ما ذکر فی کلمات الأعلام من التفاصیل کاللوازم والعلامات الإنّیة ومنشؤها هو وجود الاصول القانونیّة الفوقیّة وهی تأبی التخصیص بطبعها کما ذکرنا لاختلافه عن العموم المتعارف فإنّ المخصّص لابدَّ أن یکون من رتبة العامّ کی یقوی علی التصرّف فیه دون ما إذا اختلفت الرتبة.

الثامن: کلام فی تحریر مقتضی الاصل:

فی تحریر الأصل العملیّ بتقریر أصالة العدم فی عنوان المخالفة ولو بنحو العدم الأزلیّ.

أمّا بلحاظ وجود الشرط حیث لم یکن، فلم تکن صفة المخالفة أو بلحاظ ما قبل الشرع بلحاظ تقرّر ماهیّة نفس المشروط.

نعم، علی تقدیر عدم تمامیّة الأصل الموضوعیّ تصل النوبة إلی الأصل الحکمیّ، وهی أصالة عدم نفوذ الشرط وعدم وجوب الوفاء به، کما ذهب إلی ذلک المحقّق النائینیّ(قدس سره) حیث بنی علی أنّ الأصل العدم الأزلیّ لا یجری فی موارد الشکّ فی انطباق عنوان المخصّص لکون العدم

ص:46

المأخوذ فی العموم بسببه هو العدم النعتیّ، وإن کان الصحیح هو جریان الأصل فی العدم الأزلیّ.

هذا، ولکنّ جریان الأصل لا یخلو من إشکال مع إطلاق دلیل الحکم الأوّلی وإن شکّ فی کونه طبعیّاً أو فعلیّاً وحصول التعارض کاف فی إسقاط عموم الوفاء بالشرط ونحوه من عمومات الإلتزام الأُخری، نعم مع عدم الإطلاق یتمّ جریانه وإمّا مع مجرّد الشکّ فی طبعیّته ونحوها، فلا.

ص:47

ص:48

قاعدة :العقود تابعة للقصود

اشارة

ص:49

ص:50

قاعدة العقود تابعة للقصود

وتطبیقها فی بحث التخلص من الربا انموذجا:

تحریر محل الاعتراض والبحث:

أنّ القنوات التخلّصیّة والحیل الشرعیة - کالهبة بشرط القرض، أو البیع المحاباتی بشرط القرض، أو الإجارة المحاباتیّة- فهی معاملة بیعیّة صورةً، ولکنها قرضا حقیقة، فإنّ العرف یعترف ارتکازاً أنّ هذه فی الواقع قرض، وإن کان بیعاً صورةً، وحینئذٍ الزیادة فیه باطلة؛ لأنّ العقود تابعة للقصود.

فإذا قلت: بعت کذا بکذا بشرط القرض، کان قصدک فی الواقع: أقرضت کذا بکذا بشرط الفائدة الربویّة، ولذلک یقدّرون المحاباة فی القیمة بقدر الفائدة الربویّة،

فواضح أنّ نفس الفائدة الربویّة ملحوظة فیها، فإذن استعمال لفظ البیع مجازی فی هذا المقام؛ لأنّهم یریدون ویقصدون منه القرض.

و العرف أیضاً یطبّق علی تلک القنوات عنوان القرض، ویقول إنّ لُبّه قرض، وإن کانت صورته شیئاً آخر.

وعنوان العقد وحکمه الشرعی والعقلائی یتبع قصد العاقد لا لفظه، فذلک التغییر اللفظی الصوری مع بقاء قصد القرض لا یغیّر شیئاً ولا ینفع.

ص:51

المستفاد من القاعدة:

أنّ المستفاد من قاعدة «العقود تابعة للقصود» أنّ العقد یجب ألّا یکون صوریّاً، بل لابدَّ أن یکون لبّیّاً، بمعنی أنّ المدار فی تأثیر العقود هو اللبّ والواقع لا اللفظ بدون القصد الجدّی.

ولذلک نرکّز البحث- للجواب عن ذلک الإشکال- علی تلک القاعدة، فتلک القاعدة فی معناها ذات مراحل:

الاولی: أنّ المدار فی إنشاء المعاملات هو تطابق لفظ الإنشاء مع الماهیّة المنشأة المقصودة فی قصد المتعامل، فإن اشترطنا وجود الألفاظ الصریحة فی العقود، فلابدَّ من الاستعمال الحقیقی فی الدلالة، وإن لم نشترط ذلک، فیکفی الدلالة علی المقصود ولو مجازاً.

فلُبّ هذه القاعدة هو تطابق الألفاظ مع المعنی المقصود، أی: یجب أن یکون اللفظ مطابقاً للقصد، وإلّا لم یقع العقد؛ لأنّ ما قصد لم یقع، وما وقع لم یقصد.

ولذا یقال فی الإیداعات التی فی البنوک أنّها قروض لا ودائع، وإن أصرّت البنوک علی أنّها ودیعة؛ لأنّ هذا الاستعمال لیس مطابقاً مع المعنی المقصود، فإنّ المعنی المقصود فی ذلک الإیداع المزعوم هو تملیک الشخص، المال النقدی المودع، وتملّک شیء فی ذمّة البنک، وهذا هو حقیقة القرض، بینما فی الودیعة یجب أن تسلّم ولا یتصرّف فی رقبتها، والحال أنّ فی الودیعة البنکیّة لیس الأمر کذلک، فالمعنی المقصود هو القرض لا الودیعة.

ص:52

وحینئذٍ فیقال فیما نحن فیه أیضاً أنّ المعنی المقصود الأصلی الحقیقی فی بعض القنوات التخلّصیّة هو القرض لا البیع.

الثانیة: المطابقة بین قصد المنشئ وبین الماهیّة العرفیّة العقلائیّة، فکثیراً ما یقصد المنشئ ماهیّة معاملیّة ویتصوّر أنّها بیع- مثلًا- بینما العقلاء لا یعتبرونها ماهیّة بیعیّة.

وذکروا فی تعریف البیع أنّه مبادلة مال بمال، وقالوا: إنّ البیع متقوّم بأن یکون المبیع مقصوداً بذاته وصفاته الشخصیّة، والثمن والبدل والعوض مقصوداً بمالیّته.

وعلی هذا، فمبادلة عین بعین لیست بیعاً حقیقة إذا کان المقصود فی کلا الطرفین هو شخص العین بصفاتها الخاصّة لا بمالیّتها.

ففی تلک المبادلة یمکن أن یتصوّر المنشئ أنّها بیع ویقصدها بیعاً مع أنّ العقلاء لا یعتبرونها ماهیّة بیعیّة، فیجب المطابقة بین الماهیّة المنشأة عند المنشئ وبین الماهیّة المقصودة عند العقلاء، وهذه مرحلة أدقّ وأعمق فی تلک القاعدة.

الثالثة: من مباحث تلک القاعدة هو أنّ تکون المعاملة مقصودة بقصد جدّی، فلو کان هازلًا فإنّ العقد لا یقع.

وفی تلک القاعدة أبحاث وجهات اخری من البحث، تعرّض الفقهاء إلیها فی بحث المعاطاة وتخلّف الشروط والوصف وبحث الشرط الفاسد.

ص:53

لکن الزاویة التی نرید أن نبحث عنها فی بحثنا هذا، هی المرحلة الثانیة، فالإشکال نشأ من أنّ الماهیّة المقصودة فی الحیل التخلّصیّة هل هی ماهیّة قرضیّة- عند العقلاء- أو ماهیّة بیعیّة؟ فإنّ المنشئ قصد أن ینشئ الماهیّة البیعیّة، لکنّ العقلاء یرتّبون علی تلک المعاملة آثار الماهیّة القرضیّة.

وقد ذکر الفقهاء فی بحث البیع أنّ الشروط العقلائیّة فی العقد أو فی المتعاقدین أو فی العوضین- سیّما شروط العقد- فی الحقیقة أرکان لا شروط، فتسمیتها بالشروط مسامحة؛ لأنّ معنی أنّ العقلاء اشترطوا فی هذه الماهیّة ذاک الشرط یرجع إلی أنّهم لا یعتبرون هذه الماهیّة إذا لم یتحقّق ذاک الشرط، فإذا لم یعتبروا فلم تتحقّق عندهم

هذه الماهیّة أیضاً، وإذا لم تتحقّق الماهیّة الکذائیّة عند العقلاء فأدلّة الإمضاء- التی موضوعها هو الماهیّة العرفیّة المعاملیّة کالبیع العرفی- لا تشملها، ففی الواقع لا یوجد موضوع لدلیل الإمضاء، فمآل الشروط العقلائیّة إلی أرکان وجود الماهیة.

هذا فی الشروط العقلائیّة، وأمّا الشروط الشرعیّة فی العقد- کعدم الغرر- فتختلف عن الشروط العقلائیّة، فإنّ انخرام الشروط الشرعیّة لا یؤدّی إلی انتفاء الماهیّة وعدم تحقّقها عند العقلاء، بل تتحقّق الماهیّة ولکن غرریاً، فالماهیّة متحقّقة لدی العرف حتّی مع الغرر - فیما لو بنی علی کونه شرطا شرعیا تاسیسیا لا امضائیا - بخلاف الشرط العقلائی، فإذا لم یتحقّق فنفس الماهیّة لا تتحقّق أصلًا.

نعم، تنوجد الماهیّة البیعیّة لدی المتبایعین والمنشئین.

ص:54

هذا، والمستشکل إن کان یرید أن یستشهد بانتفاء الشروط الشرعیّة المأخوذة فی البیع- مثلًا- فی قناة البیع المحاباتی التخلّصیّة فنقول: إنّ الماهیة البیعیّة لا تنتفی حینئذٍ فی اعتبار العقلاء. نعم، هی تبطل فی اعتبار الشارع.

وإن کان یرید أن یستشهد بانتفاء الشروط العقلائیّة المأخوذة فی البیع- مثلًا- فی تلک القناة التخلّصیة، فلابدَّ أن یدّعی انخرامها فی شروط العقد أو شروط العوضین، ولا یتصوّر انتفاء شروط المتعاقدین فی بحثنا هذا.

وقد قرّر أنّ من شروط العقد البیعی هو أن یکون علی وجه المبادلة لا التملیک علی وجه الضمان، فلو قصد التملیک علی وجه الضمان فهو قرض وإن سمّی بیعاً.

وکذلک أخذ فی البیع تساوی القیمة السوقیّة فی العوضین، أی یکون الثمن لائقاً بالمبیع ولیس المقصود التساوی الدقّی، بل بحسب مقدار الرغبة والجهد المبذول والربح الذی یحصل علیه البائع، وفی البیع المحاباتی لا تکون هناک مساواة، بل یبیع المبیع بأکثر من قیمته السوقیّة، أو بأقلّ بکثیر، إذن فهذا من الشروط العقلائیّة المنخرمة فی الحیلة.

وأیضاً فإنّ من شرائط العقد أن یلتزم المتبایعان بآثار ما قصد، بینما نجد أنّ المتعاملین لا یلتزمان واقعاً بآثار البیع، بل یلتزمان بآثار القرض.

إذن الإشکال یدور علی أحد محورین: محور عدم تساوی المالیّة ومحور عدم الالتزام بالآثار.

وقالوا: إنّ من شروط العوضین فی البیع أن یکون المعوّض عیناً لا

ص:55

منفعة، فإن کان المعوّض منفعة فهی إجارة لا بیع؛ ولذا حملوا «بعتک منفعة الدار» علی المجاز.

وکذلک من شروط العوضین أن یکون الثمن مقصوداً فیه المالیّة لا الصفات الخاصّة.

تنقیح الحال: أمّا الإشکال فی محور عدم تساوی المالیّة:

فنقول: إنّ التساوی بین العوضین فی القیمة السوقیّة لیس شرطاً عقلائیّاً للعقد بمعنی أنّ مع فقدانه لا تنتفی الماهیّة المعاملیّة عند العقلاء.

بیانه: أنّ مسألة «تساوی العوضین فی القیمة) غیر مختصّة بالبیع، بل تدخل فی جمیع المعاوضات، بیعاً کانت أم إجارة أم غیرهما، ولکن حیث أنّ الفقهاء ذکروا هذا البحث فی خیار الغبن وتناسباً مع أحد الطرق التخلّصیّة نخصّها بالبیع فی بحثنا هذا.

فقد ذکروا أنّ الغبن یکون نتیجة تفاوت فی القیمة بین المبیع وبین الثمن، وهنا یتبادر سؤال حول صحّة تلک المعاملة وبطلانها، وفی حالة البطلان هل هو من جهة العقل أو من جهة الشرع؟

ذهب بعض من الفقهاء إلی البطلان الشرعی من جهة حصول الغرر والضرر، وقد نهی عن البیع الغرری وعن الضرر، فیثبت بطلان تلک المعاملة.

وذهب بعض آخر إلی البطلان من جهة العقل؛ وذلک لأنّ من الشروط العقلائیّة وارتکازات العقلاء اعتبار تساوی العوضین فی المالیّة بحسب العادة، وهذا یعتبر من مقوّمات العقد، فالإقدام علی المعاملة التی

ص:56

یکون فیها تفاوت لا یتسامح به موجب لبطلان تلک المعاملة؛ لأنّها فی صورة العلم بالغبن والتفاوت الفاحش، امّا معاملة سفیه أو معاملة سفهیّة، وکلا الشقّین باطل.

أمّا الأوّل، فواضح، ویتّفق علیه الجمیع، وأمّا الثانی فلانتفاء الشرط العقلائی، ومع انتفائه ینتفی اعتبار العقلاء لوجود تلک الماهیّة المعاملیّة، فالماهیّة غیر متحقّقة.

أمّا البطلان الشرعی ففیه: أنّ الغرر مفروض مع الجهل ویفترض فی مورد البحث علم الطرف المغبون بالتفاوت، فلا غرر فی البین .

وأمّا البطلان العقلی، ففیه:

أوّلًا: إنّ المعاملة لیست سفهیّة أو معاملة سفیه، وذلک لتوفّر غرض عقلائی فیها، فلم یقدم المغبون علیها اعتباطاً.

ثانیاً: أنّ العقلاء اعتبروا فی ماهیّة البیع أمراً کلّیاً، وهو وجود عین یرغب فیها لأجل صفاتها ویبذل بإزائها ثمن، ولم یقیّد ذلک بثمن خاصّ، فحدّدت تلک الماهیّة بأن تکون عیناً، وأن تکون معاوضة، لا ضماناً بالقیمة الواقعیّة، بل بقیمة جعلیّة طبقاً لرغبة الطرفین.

نعم، غایة الأمر یکون اعتبار تساوی المالیّة شرطاً ضمنیّاً فی العقد، طبقاً لمرتکزات العقلاء، وانتفاء الشرط الضمنی وتخلّفه یوجب الخیار، لا بطلان المعاملة من أساسها.

فالحاصل: أنّ التساوی فی المالیّة لیس شرطاً عقلائیّاً علی نحو ینتفی

ص:57

العقد بانتفائه؛ لأنّ الإجماع قائم علی عدم بطلانه وثبوت الخیار فیه.

ومن الشواهد علی ذلک:

إنّه إذا ورد سائح أو زائر فی بلد واکتری سیّارة بأکثر من قیمتها الواقعیّة بکثیر، فلا یقولون إنّ الإجارة لم تقع، بل یقولون إنّ هذه إجارة ولکنّها غبنیّة، ویقومون بأخذ التفاوت، وله حقّ خیار الفسخ، فما یُری فی المعاملات الغبنیّة أنّ المغبون یلاحق الغابن کأنّما الغابن سارق- لا السرقة بمعناها المعروف، بل هو سرقة خفیّة- معناه أنّ للمغبون حقّاً لفسخ المعاملة، فإذا فسخ تنفسخ المعاملة وترجع الأموال إلیه، وهذا شاهد صدق علی أنّ المعاملة فی موارد عدم تساوی مالیّة العوضین متحقّقة، فلیس

التساوی شرطاً عقلائیّاً للعقد ولم یقیّدوا خیار الغبن بالتفاوت الیسیر، بل هو یجری حتّی فی المعاملات الغبنیة مع التفاوت الفاحش بین العوضین، فحینئذٍ ما ذکره المستشکل من هذه الجهة وفی هذا المحور مردود.

و أمّا الإشکال فی محور عدم الالتزام بالآثار فهو:

إنّ المتعامل وسالک طریق الحیل لا یلتزم بآثار البیع واقعاً، بل هو ملتزم بآثار القرض، وهذا ینافی قاعدة أنّ العقود تابعة للقصود، فإنّ المعاملة المقصودة یجب أن یلتزم بآثارها.

وهذه الجهة نحن نسلّم شرطیّتها ککبری فی العقود، لکن نتساءل أنّها هل هی منخرمة فی الحیل التخلّصیّة أو لا؟

والجواب: أنّ الحیل التخلّصیّة مبنیّة علی أساس وجود بیع حقیقی

ص:58

یلتزم به المتعاملان بآثار البیع، فیجوز للمشتری بعد البیع الأوّل أن لا یبیعه مرّة اخری علی البائع.

وبعبارة أخری: لا یوجد ملزم قانونی شرعی یجبره علی البیع الثانی، وعلیه یحمل ما ورد فی روایة یونس الشیبانی، قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): الرجل یبیع البیع والبائع یعلم أنّه لا یسوی، والمشتری یعلم أنّه لا یسوی، إلّا أنّه یعلم أنّه سیرجع فیه فیشتریه منه.

قال: فقال: یا یونس، إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال لجابر بن عبدالله: کیف أنت إذا ظهر الجور وأورثهم الذلّ؟ قال: فقال له جابر: لا بقیت إلی ذلک الزمان، ومتی یکون ذلک بأبی أنت وامّی؟قال: إذا ظهر الربا یا یونس، وهذا الربا، فإن لم تشتره ردّه علیک؟ قال: قلت: نعم. قال: فلا تقربنّه، فلا تقربنّه(1) .

رواه الشیخ بإسناده عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن محمّد بن الحسین بن أبی الخطّاب، عن محمّد بن إسماعیل بن بزیع، عن صالح بن عقبة، عن یونس الشیبانی.

فواضح من هذه الروایة أنّه من البدء لا یرید أن یلتزم بآثار البیع، بل هما لم یلتزما بالبیع، ولم یقصداه، وهذه الروایة وأمثالها لا تعارض أخبار العینة(2) ولا تنافیها، وإنّما تحدّد صحّتها بأن یتبانی الأطراف علی الالتزام

ص:59


1- (1) ب 5/ أبواب أحکام العقود/ 5.
2- (2) أشهر تفسیر للعینة هو أنّ یبیع سلعة بثمن إلی رجل معلوم، ثمّ یشتریها نفسه نقداً بثمن أقلّ، وفی نهایة الأجل یدفع المشتری الثمن الأوّل، والفرق بین الثمنین فضل.العینة فی اللغة: السلف، یقال: اعتان الرجل: إذا اشتری الشیء بالشیء نسیئة أو اشتری بنسیة. (المصباح المنیر/ عین).

بآثار البیع.

فالحیل التخلّصیة حیث أنّه لا توجد فیها حبک قانونیّ تجاه نفس الغرض الربوی، فالمرابون لا یتّخذونها بدیلة عن الربا، فإنّ فی تلک الطرق تخلّفات عن مسار الربا وفُرجاً یستطیع أحد المتعاقدین أن یفرّ بها من غرض المرابی أو یفرّ المرابی نفسه.

وعلیه فإشکال أنّه لیس هناک قصد جدّی لعدم الالتزام والبناء العملی علی ترتّب الآثار، نلتزم به إذا لم یکن فی البین بناء جدّی، ولکن الشرط الأساسی هو الالتزام العملی بما عقداه وأنشئاه.

و بعبارة أُخری: الغرض المباشر فی إنشاء طریق تخلّصی هو نفس الماهیّة المعاملیّة المنشأة، وهی محلّلة، وإن کان الغرض الأعلی هو ماهیّة اخری محرّمة، فإنّ المناط هو الإنشاء المباشر، والغرض الأدنی لا الغرض النهائی لقاعدة «إنّما یحلّل الکلام ویحرّم»، ولهذه القاعدة وردت تطبیقات من الشارع، بعضها فی الباب الثامن من أبواب المزارعة.

منها: صحیحة الحلبی بإسناد الکلینی، قال: «سُئل أبو عبدالله(علیه السلام) عن الرجل یزرع الأرض فیشترط للبذر ثلثاً وللبقر ثلثاً. قال: لا ینبغی أن یسمّی شیئاً، فإنّما یحرّم الکلام(1).

وفی المزارعة والمساقاة تکون شرکة بین العمل وبین العین، عمل

ص:60


1- (1) ب 8/ أبواب المزارعة/ 4.

العامل من جانب، والأرض والبذر والآلات من جانب آخر. فللعامل أن یقول: 40% من الناتج لی وما سواه للمالک، وأمّا إذا خصّص فی نفس الإنشاء المعاملی ویقول: ثلث من الناتج للبذر وثلث للبقر وثلث لی، فتبطل المزارعة؛ لأنّ منفعة الآلات تقابل النماء والناتج، وهذا فی الحقیقة إجارة مجهولة الثمن، فبتغییر کلمة مع الالتزام بآثارها تتبدّل ماهیّة بماهیّة اخری، إنّما یحلّل الکلام ویحرّم.

ومنها: صحیحة عبدالله بن سنان: «أنّه قال فی الرجل یزارع فیزرع أرض غیره فیقول: ثلث للبقر وثلث للبذر وثلث للأرض.

قال: لا یسمّی شیئاً من الحبّ والبقر، ولکن یقول: ازرع فیها کذا وکذا، إن شئت نصفاً وإن شئت ثلثاً(1).

ومنها: معتبرة سلیمان بن خالد، قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الرجل یزارع فیزرع أرض آخر، فیشترط للبذر ثلثاً وللبقر ثلثاً.قال: لا ینبغی أن یسمّی بذراً ولا بقراً، فإنّما یحرّم الکلام(2).

ومنها: عن أبی الربیع الشامی، عن أبی عبدالله(علیه السلام): «أنّه سئل عن الرجل یزرع أرض رجل آخر فیشترط علیه ثلثاً للبذر وثلثاً للبقر.

فقال: لا ینبغی أن یسمّی بذراً ولا بقراً، ولکن یقول لصاحب

ص:61


1- (1) ب 8/ أبواب المزارعة/ 5.رواه الکلینی، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عن الحسین بن سعید، عن النضر بن سوید، عن عبد اللّه بن سنان.
2- (2) الباب المتقدّم/ ح 6.رواه الکلینی، عن محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد، عن علیّ بن النعمان، عن ابن مسکان، عن سلیمان بن خالد.

الأرض أزرع فی أرضک ولک منها کذا وکذا، نصف أو ثلث أو ما کان من شرط، ولا یسمّی بذراً ولا بقراً، فإنّما یحرّم الکلام.

والحاصل: إذا قصد المتعامل ماهیّة خاصّة یمکن له أن یتوصّل إلیها بإنشاء نفس الماهیّة أو بإنشاء ماهیّة اخری متوسّطة توصله إلی نفس النتائج.

وأثره یظهر فی ماهیّات محرّمة یمکن التوصّل إلی النتائج الحاصلة منها عبر عقود متوسّطة اخری محلّلة، وهذا مفتوح فی الشریعة لاستبدال کثیر من الماهیّات الباطلة إلی الصحیحة، ولیس معناه تحلیل الماهیّات الفاسدة، بل هو تبدیل الماهیّات الفاسدة إلی الصحیحة.

ص:62

قاعدة :لا تبع ما لیس عندک

اشارة

ص:63

ص:64

لا تبع ما لیس عندک

الحدیث النبوی الوارد بذلک «لا تبع ما لیس عندک» ربّما یشکل فی سنده بأنّه من طرق العامّة، وأسانیده ضعیفة، وفی روایات الأئمّة (علیهم السلام) ما یشعر بتخطئة نسبة هذا الحدیث إلی النبیّ صلی الله علیه و آله .

لکن التحقیق أنّ تلک الروایات لیست تخطئة للعامّة فی انتساب هذه الروایة إلی النبیّ صلی الله علیه و آله ، وإنّما هی تخطئة للعامّة فی فهمهم للحدیث؛ إذ یظهر من العامّة التوسّع فی مفاد الحدیث والتخطئة لهم فی هذه الناحیة.

وأمّا بالنسبة إلی سنده فلم یصحّ الإسناد المتّصل للنبیّ صلی الله علیه و آله لکن یوجد فی الروایات عن الأئمّة (علیهم السلام) نظیره فی الأبواب المختلفة.

1- عن محمّد بن القاسم: قال:سألت أبا الحسن الأوّل(علیه السلام) عن رجل اشتری من امرأة من آل فلان بعض قطائعهم، وکتب علیها کتاباً بأنّها قد قبضت المال ولم تقبضه، فیعطیها المال أم یمنعها؟ قال: قل له: لیمنعها أشدّ المنع، فإنّها باعته ما لم تملکه(1).

ص:65


1- (1) ب 1/ أبواب عقد البیع/ ح 2. رواه الشیخ فی التهذیب فی ثلاثة مواضع: 6/ 339، الحدیث 945 و: 6/ 351، الحدیث 996 و: 7/ 181، الحدیث 795.و السند فی الأوّل مطابق للأصل.و فی الموضع الثانی: أحمد بن محمّد بن عیسی، عن محمّد بن خالد، عن القاسم بن محمّد، عن محمّد بن القاسم.و فی الثالث: أحمد بن محمّد، عن البرقی، عن محمّد بن القاسم، عن فضیل.و فی الاستبصار 3/ 123، الحدیث 439 هکذا: أحمد بن محمّد، عن البرقی، عن القاسم بن محمّد، عن فضیل. وفی الکافی: عن محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد بن عیسی، عن محمّد بن خالد، عن القاسم بن محمّد، عن محمّد بن القاسم.و لیس فی السند من یتوقّف فیه إلّا القاسم بن محمّد، وهو الجوهری، ولا أقلّ من کون الروایة به حسنة أو قویّة.

وهذه لا تدلّ علی القاعدة؛ لأنّ موردها بیع الفضولی، وأنّ الشراء من غیر المالک لا یکون صحیحاً لا أنّ بیع المعدوم وما لا یملکه- وإن لم یکن ملکاً للغیر- باطل.

2- موثّقة إسحاق بن عمّار: عن عبد صالح(علیه السلام)، قال: «سألته عن رجل فی یده دار لیست له، ولم تزل فی یده وید آبائه من قبله قد أعلمه من مضی من آبائه أنّها لیست لهم، ولا یدرون لمن هی فیبیعها ویأخذ ثمنها؟ قال: ما احبّ أن یبیع ما لیس له.

قلت: فإنّه لیس یعرف صاحبها ولا یدری لمن هی، ولا أظنّه یجیء لها ربّ أبداً، قال: ما احبّ أن یبیع ما لیس له.

قلت: فیبیع سکناها أو مکانها فی یده، فیقول: أبیعک سکنای وتکون فی یدک کما هی فی یدی، قال: نعم، یبیعها علی هذا(1). وهی لا تدلّ علی مضمون زائد علی الروایة المتقدّمة، ولفظ «ما احبّ لأنّه لم یملکها، فالبطلان علی القاعدة.

3- مکاتبة الصفّار: «رواه الشیخ بإسناده عنه أنّه کتب إلی أبی محمّد الحسن بن علیّ العسکری(علیه السلام) فی رجل باع قطاع أرضین فیحضره الخروج إلی مکّة والقریة علی مراحل من منزله، ولم یکن له من المقام ما یأتی بحدود

ص:66


1- (1) ب 1/ أبواب عقد البیع/ ح 5. رواه الشیخ بإسناده عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن علیّ بن رئاب وعبدالله بن جبلة، عن إسحاق بن عمّار.

أرضه وعرف حدود القریة الأربعة، فقال للشهود: اشهدوا أنّی قد بعت فلاناً- یعنی المشتری- جمیع القریة التی حدّ منها کذا والثانی والثالث والرابع، وإنّما له فی هذه القریة قطاع أرضین، فهل یصلح للمشتری ذلک، وإنّما له بعض هذه القریة وأقرّ له بکلّها.

فوقّع(علیه السلام): لا یجوز بیع ما لیس یملک، وقد وجب الشراء من البائع علی ما یملک (1).

4- صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج: قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الرجل یشتری الطعام من الرجل لیس عنده فیشتری منه حالًا، قال: لیس به بأس.قلت: إنّهم یفسدونه عندنا، قال: وأی شیء یقولون فی السّلم؟ قلت: لا یرون به بأساً. یقولون: هذا إلی أجل، فإذا کان إلی غیر أجل ولیس عند صاحبه فلا یصلح، فقال: فإذا لم یکن إلی أجل کان أجود.ثمّ قال: لا بأس بأن یشتری الطعام ولیس هو عند صاحبه وإلی أجل، فقال:لا یسمّی له أجلًا إلّا أن یکون بیعاً لا یوجد مثل العنب والبطیخ وشبهه فی غیر زمانه، فلا ینبغی شراء ذلک حالاً(2).

وموردها الشراء الکلّی فی الذمّة الذی لیس له مصداق حالی، وقد عمّم(علیه السلام) ما لیس عنده إلی الکلّی الذی لا یوجد، وهذا هو القدر المتیقّن من مفاد الحدیث، وأمّا تعمیم مفاده إلی الکلّی غیر المقدور بالإضافة إلی

ص:67


1- (1) ب 2/ أبواب عقد البیع/ ح 1.
2- (2) ب 7/ أبواب أحکام العقود/ ح 1. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن إسحاق بن عمّار وعبد الرحمن جمیعاً.

الشخص نفسه فمحلّ تأمّل. فالأوّل کما إذا باع الکلّی حالًا نقداً ولا یوجد فی الخارج، والثانی کما فی مطلق بیع الکلّی فی الذمّة.

والقول بعدم الصحّة فی مورد عدم القدرة تعبّدی؛ إذ ربّما یعتبره العقلاء من باب الدین وقد لا یعتبرونه بیعاً فی موارد عدم وجود الذمّة فی الشخص الضعیف.

5- روایة سلیمان بن صالح: عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «نهی رسول الله صلی الله علیه و آله عن سلف وبیع، وعن بیعین فی بیع، وعن بیع ما لیس عندک، وعن ربح ما لم یضمن(1).

قال صاحب الوسائل: إنّ المراد أنّه لا یجوز أن یبیع شیئاً معیّناً لیس عنده قبل أن یملکه، ویجوز أن یبیع أمراً کلّیاً موصوفاً فی الذمّة، ویحتمل الکراهة والنسخ والتقیّة فی الروایة.

أقول: لا تقیّة فیها، بل إنّما هی تخطئة العامّة فی توسّع مفاد الحدیث مع أنّ کلّ ما کان عن النبیّ صلی الله علیه و آله هو من جوامع الکلم کتشریع أساسی، فافهم.

والعمدة أنّه لا شاهد علی التقیّة فی البین سوی المعارضة للروایات المجوّزة والمعارضة لیست مستقرّة؛ لأنّ النسبة عموم وخصوص مطلقاً، فهذا العموم مطلق وتلک المجوّزة خاصّة.

ص:68


1- (1) ب 7/ أبواب أحکام العقود/ ح 2. رواه الشیخ بإسناده عن أحمد بن محمّد (فی التهذیب عن محمّد بن أحمد بن یحیی)، عن محمّد بن الحسین، عن علیّ بن أسباط، عن سلیمان (الظاهر أنّه المرادی ولم یرد فیه توثیق).

و(ما لیس عندک) یعنی ما لیس تقدر بالقدرة الجامعة بین الشرعیّة والعرفیّة، وقد اختاره الشیخ(رحمه الله)، وهذا هو الاحتمال الأوّل، وهذا هو الصحیح.

وقیل بأنّ «ما لیس عندک» یعنی ما لا یکون حاضراً لدیک، وهذا قول العامّة، وهو الاحتمال الثانی فی تفسیر العبارة.

واحتمل فی معناه ثالثاً أنّه ما لا تملک، وأمّا إذا ملکته فبعه، وإن لم تقدر علی التسلیم، وردّ الشیخ هذا الاحتمال بصحیحة عبد الرحمن الدالّة علی أنّه لا ینبغی أن یبیعه حالًا مع أنّه مالک، إلّا أنّه لا یقدر علی تسلیمه، وقد عبّر فیها ب- «ما لیس عنده»لا ب «ما لیس له»، وإلّا لکان الأوْلی التعبیر بالثانی، والأوّل تعبیر عن غیر الملک.

واحتمل رابعاً فی معناه بما لا یقدر علیه عرفاً، أی لابدَّ من القدرة العرفیّة وإن لم یملکه شرعاً، وهذا أیضاً لا یمکن الالتزام به؛ لثبوت صحّة البیع فی موارد عدیدة منصوصة مع عدم القدرة علیه عرفاً کالعبد الآبق ومع الضمیمة وغیرها. والمحقّق النائینی(رحمه الله) ادّعی أنّ الموجود فی الروایات بیع العین الشخصیّة التی لا یملکها الدلّال فیبیعها، ثمّ یذهب إلی صاحبها ویشتریها منه ثمّ یعطیها المشتری، والظاهر أنّ نظره إلی الروایات الموجودة فی الباب الثامن من أبواب أحکام العقود التی ستأتی، فإنّ موردها العین الشخصیّة التی لیست علی ملک البائع- الدلّال- یبیعها، ثمّ یذهب ویشتریها من صاحبها.

وأمّا بالنظر إلی صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج فی الباب السابع من تلک الأبواب، فالظاهر أنّ الکبری طبّقت فی مورد الکلّی، فلا حاجة

ص:69

للنقض والإبرام عن کیفیّة استحصال الاطلاق فی الروایات.

والروایة الاولی فی الباب السابع تعرّضت لنفی تفسیر «عندک» بمعنی الحضور الذی بنی علیه العامّة، وأنّ هذا المعنی والمعنی الثالث- أی تفسیر (عندک) بالملکیّة فقط- غیر صحیح. وکذلک المعنی الرابع- وهو تفسیر للزوم العندیّة بمعنی القدرة والسلطنة العرفیّة وإن لم تکن ملکیّة شرعاً.

6- صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج: قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): الرجل یجیئنی یطلب المتاع فاقاوله علی الربح، ثمّ اشتریه فأبیعه منه، فقال: أ لیس إن شاء أخذ وإن شاء ترک؟

قلت: بلی، قال: فلا بأس.قلت: فإنّ من عندنا یفسده، قال: ولِمَ؟

قلت: قد باع ما لیس عنده، قال: فما یقول فی السلم قد باع صاحبه ما لیس عنده؟

قلت: بلی، قال: فإنّما صالح من أجل أنّهم یسمّونه سلماً إنّ أبی کان یقول: لا بأس ببیع کلّ متاع کنت تجده فی الوقت الذی بعته فیه(1).

«فاقاوله» أی هی مقاولة فقط ولیس هو الإیجاب والقبول علی البیع. والمقصود منه أنّ فی بیع العین الشخصیّة قبل تملّک الدلّال لها لا یصحّ أن یبیعها من المشتری، فحینئذٍ إذا تقاول علی تلک العین الشخصیّة لا یواجبه

ص:70


1- (1) ب 7/ أبواب أحکام العقود/ ح 3. رواه الکلینی عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن عبد الرحمن بن الحجّاج.

البیع- أی تکون مقاولة مجرّدة- فیبقی فی تلک المقاولة للمشتری حقّ الاختیار والانتخاب فی ما إذا اشتری الدلّال

تلک العین، فیشتریها أو لا یشتریها. والبیع فی ما بعد الشراء یعنی بعد تملّک البائع، وهذا واضح فی التطبیق علی العین الشخصیّة.

أمّا قوله: «فإنّ من عندنا یفسده» لعلّ فیه نوع تدافع مع فرض السائل؛ لأنّ صدر الروایة فی العین الشخصیّة، ولم تکن فی المقاولة مواجبة البیع کی یقول الراوی «عندنا یفسده»، وظاهر الذیل غیر مرتبط بالصدر؛ لأنّه من باب بیع الکلّی، فیحتمل فیه التقطیع ونوع من التلصیق بین الروایتین. وأمّا قوله فی الذیل: «لا بأس ببیع...».

فیستفاد منه تقریر صدور النبوی لا نفیه؛ لأنّ ما ذکره(علیه السلام) تفسیر لتضییق قاعدة ما لیس عندک فهو(علیه السلام) لا ینفی صدورها، بل ینفی توسعتها، وأنّ المدار فی صحّة البیع علی وجدان المبیع ووجدان کلّ شیء بحسبه والعندیّة لیس بمعنی الحضور، بل بمعنی الوجدان، و«لا تبع ما لیس عندک» أی ما لا تجده وما لا تقدر علی تسلیمه.

7- صحیحة أبی الصباح الکنانی: عن الصادق(علیه السلام) فی رجل اشتری من رجل مائة مَنّ صفراً بکذا وکذا، ولیس عنده ما اشتری منه، قال: لا بأس به إذا وفّاه الذی اشترط علیه(1).

«صفراً بکذا وکذا»، أی بیع الکلّی.

ص:71


1- (1) ب 7/ أبواب أحکام العقود/ ح 4. رواه الصدوق بإسناده عن أبی الصباح الکنانی.

و«لیس عنده، أی لیس المبیع حاضراً».

و«لا بأس به إذا قدر علی الوفاء بنفس الکلّی؛ إذ لیس المدار علی الحضور، بل المدار علی القدرة علی التسلیم».

«والذی اشترط علیه هو البیع؛ لأنّه مشارطة یشترط البائع علی نفسه تسلیم المبیع، ویشترط المشتری علی نفسه تسلیم الثمن.

ولذلک استدلّ السیّد الیزدی(رحمه الله) علی لزوم البیع بقوله صلی الله علیه و آله : «المؤمنون عند شروطهم؛ لأنّ المشارطة لیست فی خصوص الشرط دون العقد. نعم، الشروط الابتدائیّة غیر مشمولة بمعنی الشرط الواحد المجرّد بخلاف الشرط الذی یرتبط بشرط آخر کالعقود، والشرط هو بمعنی العهد والالتزام والعقد ربطة وعقدة الالتزامین فیشمله قوله صلی الله علیه و آله : «المؤمنون عند شروطهم، وقد ورد التعبیر عن العقود بالشروط کثیراً فی الروایات، وعنوانها لا یشمل الشروط الابتدائیّة.

وفی هذه الروایة تصریح بأنّ العندیّة بمعنی القدرة علی الوفاء لا بمعنی الحضور وتصریح بأنّ القاعدة لا تختصّ بالعین الشخصیّة بل تشمل العین الکلّیة أیضاً، وأنّ المدار علی الوجدان لا علی الحضور، حیث أنّ الفرض فیها «مائة مَنّ» کلّی، ولو کانت القاعدة مختصّة بالعین الشخصیّة- دون الکلّیة- لعلّل(علیه السلام) بالاختصاص بینما إجابته(علیه السلام) بالصحّة لتوفّر القدرة علی الوفاء.

ومن الغریب أنّ عدّة من أعلام محقّقی محشّی المکاسب استشکلوا

ص:72

بعدم عموم القاعدة للعین الکلّیة مع أنّ هذه الروایات واضحة الدلالة فی التعمیم، ولعلّ نظرهم إلی الباب الثامن الآتی، واستدلّ بعضهم علی التعمیم بروایة عامّیة وقع فی طریقها حکیم بن حزام وغیره، ولا حاجة إلیها بعد وجود مضمونها فی روایاتنا.

8- حدیث المناهی: رواه الصدوق بإسناده عن شعیب بن واقد والحسین بن زید عن الصادق(علیه السلام)، عن آبائه فی مناهی النبیّ صلی الله علیه و آله ، قال: «و نهی عن بیع ما لیس عندک، ونهی عن بیع وسلف(1).

وبهذا المقدار من الروایات ثبت أنّ القاعدة شاملة للکلّی والشخصی، وأنّ المدار علی القدرة- أی المعنی الأوّل- کما فی صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج الثانیة(2) وروایات الباب الثامن الآتیة أیضاً کلّها نافیة للمعنی الرابع، وأنّ المدار لیس علی القدرة العرفیّة.

9- صحیحة عبدالله بن سنان: «عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «لا بأس بأن تبیع الرجل المتاع لیس عندک تساومه ثمّ تشتری له نحو الذی طلب ثمّ توجبه علی نفسک ثمّ تبیعه منه بعد(3).

و«تساومه» کمورد للروایة تعریض بالعامّة؛ إذ المساومة لیست هی مبایعة ومواجبة، فهی تفسّر کلمة «تبیع» فی صدر الروایة.

ص:73


1- (1) ب 7/ أبواب أحکام العقود/ ح 5. ضعیفة لشعیب بن واقد والحسین بن زید.
2- (2) ب 7/ أبواب أحکام العقود/ ح 3.
3- (3) باب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 1. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن النضر، عن عبدالله بن سنان.

و«المتاع» یستعمل فی العین الشخصیّة لا الکلّیّة.

ویظهر منها أنّ المتاع الذی لیس فی ملک البائع الخاصّ الشخصی لا یصحّ بیعه، حیث أنّه(علیه السلام) فی مقام التحدید لا فی مقام بیان صحّة خصوص هذا المصداق والسکوت عن المصادیق الاخری، بل إنّ ذکر هذا المصداق هو لأجل نفی الطرق الاخری، أی إنّه إذا اشتری ثمّ باعه فلا بأس به بخلاف ما لو باعه ثمّ اشتراه، فلابدَّ من الشراء والتملّک أوّلًا ثمّ البیع، وإن کانت هناک قدرة عرفیّة علی الشیء قبل شرائه، فحیث أنّه غیر مملوک شرعاً فلا یصحّ بیعه، وبهذه الصحیحة ینفی المعنی الرابع فی مفاد القاعدة.

إن قیل: هل هناک مغایرة بین الکلّی والشخصی؟ وأنّ الشخصی لابدَّ من تملّکه أوّلًا ثمّ یجوز بیعه وإن کانت قدرة عرفیّة علیه موجودة قبل التملّک فتشترط الملکیّة شرعاً فی بیع الشخصی بخلاف الکلّی، حیث یجوز بیعه فی الذمّة ثمّ یشتری مصداقه فیوفّی بیعه.

فیقال فی الجواب: إنّه لا مغایرة بینهما، بل فی الکلّی أیضاً لابدَّ من الملکیّة الشرعیّة والقدرة العرفیّة، غایة الأمر أنّ فی الکلّی لم یقع البیع علی المصداق، والحادث بعد الشراء هو الملکیّة

شرعاً للمصداق لا حدوث الملکیّة للکلّی؛ إذ کلّ شخص مالک لذمّته فی الکلّیات، والبائع ملّک ما فی ذمّة المشتری، أی ملّک ما یملکه. غایة الأمر لابدَّ من القدرة علی ما فی الذمّة وهی متحقّقة بإمکان تحصیل المصادیق.

ص:74

فمفاد القاعدة متّحد فی الکلّی والشخصی ومأخوذ فیه کلّ من الملکیّة شرعاً والقدرة العرفیّة.

غایة الأمر فی الکلّی الملکیّة شرعاً باعتبار الذمّة التی هی تحت سلطنته تکویناً، فهی مملوکة له، ومن ثمّ نبّه فی صحیحة أبی الصباح وابن الحجّاج اللّتین موردهما بیع الکلّی علی لابدیّة القدرة العرفیّة، وأمّا فی روایات العین الشخصیّة فالقدرة حیث کانت مفروضة لوجود العین خارجاً نبّه(علیه السلام) علی قیدیّة الملکیّة شرعاً.

10- صحیحة عبدالله بن سنان: قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الرجل یأتینی یرید منّی طعاماً أو بیعاً نسیئاً ولیس عندی أ یصلح أن أبیعه إیّاه وأقطع له سعره، ثمّ اشتریه من مکان آخر فأدفعه الیه؟ قال: لا بأس به (1).

وهذا فی الکلّی، وما دام الکلّی یقتدر علی تحصیل مصادیقه فلا بأس به، تعریضاً للمعنی المتوهّم عند العامّة من لزوم الحضور وأنّ الحضور لیس شرطاً.

11- موثقة حدید بن حکیم: قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): یجیء الرجل یطلب منّی المتاع بعشرة آلاف درهم أو أقلّ أو أکثر ولیس عندی إلّا ألف درهم، فاستعیره من جاری، فآخذ من ذا ومن ذا، فأبیعه ثمّ اشتریه منه أو آمر من یشتریه فأردّه علی أصحابه، قال: لا بأس به (2).

ص:75


1- (1) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 2. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن ابن سنان.
2- (2) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 3. رواه الشیخ عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن موسی بن بکر، عن حدید بن حکیم والد علیّ بن حدید.

12- عن خالد بن الحجّاج: قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): الرجل یجیء فیقول:

اشتر هذا الثوب واربحک کذا وکذا، قال: أ لیس إن شاء ترک وإن شاء أخذ؟

قلت: بلی. قال: لا بأس به إنّما یحلّ الکلام ویحرّم الکلام(1).

ومفاده یردّ المعنی الرابع لأنّه قیّد وقوع البیع بما بعد تملیک العین الشخصیّة، ولم تتمّ مواجبة قبل وجدان البائع العین الشخصیّة.

13- صحیحة عبد الرحمن بن أبی عبدالله: قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الرجل یأتینی ویطلب منّی بیعاً ولیس عندی ما یرید أن ابایعه به إلی السنة، أ یصلح لی أن اعدّه حتّی اشتری متاعاً فأبیعه منه؟ قال: نعم(2).

و هذه وإن کان موردها الکلّی ولکن إثبات الشیء لا ینفی ما عداه لکون السائل قد اقتصر علی خصوص هذا السؤال.

14- صحیحة منصور بن حازم: عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی رجل أمر رجلًا یشتری له متاعاً فیشتریه منه، قال: لا بأس بذلک، إنّما البیع بعد ما

ص:76


1- (1) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 4. رواه الشیخ عن الحسین بن سعید، عن ابن أبی عمیر، عن یحیی بن الحجّاج، عن خالد بن الحجّاج، «وفی الکافی: خالد بن نجیح، وکلاهما مهملان.
2- (2) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 5. رواه الشیخ عن الحسین بن سعید، عن فضالة، عن أبان، عن عبد الرحمن بن أبی عبدالله.

یشتریه(1).

15- صحیحة معاویة بن عمّار: قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): یجیئنی الرجل یطلب بیع الحریر ولیس عندی منه شیء، فیقاولنی علیه واقاوله فی الربح والأجل حتّی نجتمع علی شیء ثمّ أذهب فاشتری له الحریر فأدعوه إلیه.

فقال: أرأیت إن وجد بیعاً هو أحبّ إلیه ممّا عندک أیستطیع أن ینصرف إلیه ویدعک

أو وجدت أنت ذلک أ تستطیع أن تنصرف إلیه وتدعه؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس(2).

16- صحیحة محمّد بن مسلم: عن أبی جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن رجل أتاه رجل فقال: ابتع لی متاعاً لعلّی أشتریه منک بنقد أو نسیئة، فابتاعه الرجل من أجله.

قال: لیس به بأس إنّما یشتریه منه بعد ما یملکه(3).

17- صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج: قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن العینة فقلت: یأتینی الرجل فیقول: اشتر المتاع واربح فیه کذا وکذا،

ص:77


1- (1) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 6. رواه الشیخ عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن منصور بن حازم.
2- (2) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 7. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن فضالة، عن معاویة بن عمّار.
3- (3) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 8. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن حمّاد، عن حریز وصفوان، عن العلاء جمیعاً، عن محمّد بن مسلم.

فأُراوضه علی الشیء من الربح فنتراضی به، ثمّ انطلق فأشتری المتاع من أجله لو لا مکانه لم أرده، ثمّ آتیه به فأبیعه فقال: ما أری بهذا بأساً لو هلک منه المتاع قبل أن تبیعه إیّاه کان من مالک، وهذا علیک بالخیار إن شاء اشتراه منک بعد ما تأتیه وإن شاء ردّه، فلست أری به بأساً(1).

18- عن عبد الحمید بن سعد: قال: «قلت لأبی الحسن(علیه السلام): إنّا نعالج هذه العینة، وربّما جاءنا الرجل یطلب البیع ولیس هو عندنا، فنساومه ونقاطعه علی سعره قبل أن نشتریه، ثمّ نشتری المتاع فنبیعه إیّاه بذلک السعر الذی نقاطعه علیه لا نزید شیئاً ولا ننقصه، قال: لا بأس(2).

وهذه الروایات الخمس الأخیرة قد تقدّم بیان مفادها فی ذیل الروایات السابقة علیها.

فتحصّل من کلّ هذه الروایات أنّ القاعدة ثابتة سنداً، وأنّ مفادها هو الاحتمال الأوّل الذی اختاره الشیخ الأنصاری- لا المعنی الثالث الذی تمایل إلیه المحقّق الایروانی(رحمه الله)- وذلک لدلالة نفس الروایات، وأنّ التعبیر بالعندیّة فیها کنایة عن القدرة.

فائدة: لیس المراد فی کثیر من الروایات المصداق المنسبق من المعنی اللغوی، بل یراد منها مصداقه الأوسع أو الخفی أو الکنائی. ف ( العندیّة) فی

ص:78


1- (1) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 9. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجّاج.
2- (2) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 10. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن عبد الحمید بن سعد.

التصوّر الحسّی هو الحضور المکانی، وأمّا فی عالم الاعتبار فهی بمعنی مطلق القدرة والوجدان، کما أنّ فی قوله صلی الله علیه و آله : «عند ربّی لیس المراد منه المکان، و(العندیّة) هی مطلق الحضور.

ونظیره ما ورد فی الباکر حیث یشترط فی صحّة العقد علیها رضی أبیها، وأکثر الفقهاء لا یذهبون فی معنی الباکر بأنّها «مَن لها بکارة وإن کان هو المنسبق من معناه اللغوی، وإنّما الباکرة هی التی لم تتزوّج.

فإذا تزوّجت وإن لم یفضّها الزوج فتکون ثیّبة، فإن طلّقت ففی الزواج الثانی لا تحتاج إلی الإجازة، فالتی تری الزوج لا یقال لها (باکرة)، وکذلک العکس لو افتضّت بکارتها لمرض قبل الزواج، فإنّه یقال لها: (بکر)، ونظیره کثیر فی عناوین الموضوعات فی الأحکام الواردة فی الروایات، فإنّه لا یراد بها المعنی المنسبق من اللغة، بل المراد بها المعنی الکنائی.

ثمّ إنّه بعد ثبوت هذه القاعدة قد استدلّ الفقهاء بها علی لزوم القدرة علی التسلیم فی البیع فی ظرف الاشتراط، وقد تقدّم أنّ هذه القاعدة لیست مختصّة بالعین الشخصیّة، بل تعمّ العین الکلّیة.

وإنّ هذه المفاسد لیست إرشاداً محضاً إلی البناء العقلائی، بل متضمّنة لتعبّد زائد، والوجه فی ذلک أنّ بین هذه القاعدة الشرعیّة والبناء العقلائی موارد اشتراک وافتراق.

فمن موارد الاشتراک والتطابق أنّ من لیس عنده بعض المبیع کمن لا یقتدر علیه أبداً عندهم، وأمّا موارد الافتراق فمنها من یستطیع تحصیل

ص:79

المبیع فی ما بعد مدّة ولا یستطیع علیه الآن، کأن یبیع عشرة أکیال من البطیخ- الذی لا یوجد فی الشتاء-

ففی البناء العقلائی یعتبرونه مدیناً وبحسب القاعدة یعتبر البیع باطلًا، کما هو مفاد الروایات: «لا تبع ما لیس عندک» حالًا، وأمّا بیعه مؤجّلًا ونسیئة فلا بأس به؛ لأنّه قادر علی التسلیم، فالقاعدة مزیج من التأسیس التعبّدی والإمضاء.

ولا یخفی أنّ المضاربة عند جماعة، منهم السیّد الخوئی(قدس سره)، لیست علی مقتضی القاعدة لأنّها إمّا من باب تملیک ما لیس عنده أو التعلیق فی التملیک، وقد أشکل علیه بأنّ قاعدة لا تبع ما لیس عندک إشارة إلی البناء العقلائی ولیست زائدة علیه، ولیس فیها تأسیس جدید، ولکن مما بیّناه فی مفاد الروایات ظهر أنّ هذا الإشکال لیس فی محلّه، بعد فرض عموم القاعدة وشمولها لغیر البیع، وأنّ مضمون القاعدة لیس إرشادیّاً.

وقد أنجز الکلام فی الجهات التالیة:

الاولی: فی سند الروایة.

الثانیة: فی مفادها.

الثالثة: فی عموم القاعدة للکلّی والشخصی.

الرابعة: فی أنّها تعبّدیّة بمعنی التعدیل للبناء العقلائی لا أنّها تأسیس من رأس.

وکلّ ذلک کان مقدّمة للبحث عن الجهة الخامسة، وهی تعمیم

ص:80

القاعدة إلی غیر البیع، وأنّها تختصّ بالبیع أو تعمّ کلّ ما فیه التملیک؟ فالتعبیر ب «لا تبع» یراد به خصوص البیع أو مطلق التملیک؟ ونظیر هذا البحث عُقد فی قاعدة الغرر، حیث أنّ مدرکها: نهی النبیّ صلی الله علیه و آله عن بیع الغرر، وأنّ النهی عن الغرر هل هو یعمّ کلّ العقود أو یخصّ البیع؟

قد یستظهر التعمیم کما تمایل إلیه السیّد الخوئی(قدس سره)، ونسب إلی کثیر من کلمات الفقهاء- وقد ذکرها الشیخ(قدس سره) فی المکاسب- أنّها فی البیع، بل وفی کلّ المعاوضات، وإنّما بحثوها فی البیع وبنوا علیها فی غیره وذلک لوجوه:

1- کون البیع بمعنی التملیک، وقد عرّف بذلک فی اللغة، غایة الأمر قیّد بتملیک الأعیان، فالبیع فی الحقیقة تملیک خاصّ، وهو الواقع علی العین، فمن هذه الجهة تشترک معه عدّة ماهیّات معاملیّة متضمّنة للتملیک الواقع علی العین.

نعم، الصلح قد یقع علی عین یتضمّن التملیک، ولکنّه بالذات لیس تملیک العین، بل هو تسالم علی ملکیّة العین، فإذن البیع لیس شیئاً غیر التملیک، فالعبور عن النوع إلی الجنس لیس مستبعداً، فإذا کان البیع تملیک العین فهذا المعنی متحقّق فی بقیّة العقود وإن لم تکن بیعاً فالهبة تملیک عین بلا عوض، ولا بُعد فی إلغاء خصوصیّة کون التملیک بالعوض؛ لأنّ الوصف فی القاعدة یشعر بالعلّیّة وهو لزوم العندیّة، وهو مناسب لحیثیّة التملیک فی البیع الذی هو بمثابة الجنس لا الصورة النوعیّة لمجموع البیع، لا سیّما أنّ البیع فی مقابل الشراء یعرّف بتملیک العین من طرف والشراء

ص:81

بتملّک العین بعوض، فشرطیّة (العندیّة) مناسبة للتملیک المأخوذ فی البیع بمثابة الجنس.

2- إنّه قد استعمل فی الروایات کثیراً لفظ (البیع) فی الإجارة، وذهب جماعة من الفقهاء، کالآخوند(قدس سره) إلی أنّ الإجارة أیضاً تملیک عین علی وجه مخصوص، أی لینتفع بها فقط لا لینقلها أو لیبقیها کالبیع فی قبال التعریف الآخر فی الإجارة بأنّها تملیک المنفعة، والاستشهاد یتمّ علی کلا القولین، فالإجارة إمّا بیع خاصّ أو تملیک المنفعة، وقد استعمل لفظ البیع فیها، فإنّ البیع یکون کنایة عن التملیک فی الثانی واستعماله حقیقی علی الأوّل.

3- عموم عنوان الموضوع (ما لیس عندک) الذی هو إمّا بمعنی ما لیس بمالک شرعاً، أو ما هو غیر قادر علی تسلیمه، ولیس فی ذلک نفی کون البیع هو أبرز طرق التملیک وأقواها، فإنّه قطع رقبة العین کاملًا، بل المراد أنّ البیع وإن کانت له خصوصیّة وأهمّیة بالنسبة إلی غیره، ولکنّ الظاهر من الروایات أنّ مدار النهی عن البیع لکونه غیر مالک شرعاً أو غیر قادر علی تسلیمه، وأنّ حکمة النهی لا علّته هی قطع النزاع بالضمان القانونی من نفس شرائط المعاوضة لتأمین الوفاء بالعوض؛ إذ القواعد الشرعیّة الواردة فی المعاملات لیست تعبّدیّة محضة(1)، وإنّما هی قواعد

مزیجة بالإمضاء، فهی معلومة الحکمة والملاک فی الجملة. ونفس الحکمة قد تکون قرینة حالیّة لنفس الدلیل الوارد بشکل معتدّ به، فلیس

ص:82


1- (1) للتعبّد اصطلاحات: تارة بمعنی ما لم یعلم ملاکه، وتارة بمعنی ما یلزم به الشرع، واخری بمعنی ما یؤسّسه الشرع، واخری بمعنی ما یمضیه الشرع.

من القیاس أو المجازفة ولا من التخرّص دعوی التعمیم، ویدلّل علی هذه القرینة فی الروایات ما ورد: «إذا وفّاه الذی اشترط علیه أو «إذا قدر علی الذی وفّاه» یعنی القدرة، وکذا «لا ینبغی أن تبیع ما لا تجد»، وکلّ هذه التعابیر مشعرة بالتعلیل والتعمیم، فدعواه غیر بعیدة.

4- کون هذه القاعدة فی الجملة عقلائیّة فی حدود عدم القدرة العرفیّة، فإنّهم لا یعتدّون بتملیک ما لا قدرة علیه أو علی الوفاء به، فلا یعتبرون المعاوضة موجودة حینئذٍ ووجود المعاملة فی اعتبار العقلاء موضوع أدلّة الصحّة.

الجهة السادسة: هل مفاد القاعدة الشرطیّة فی الصحّة التأهّلیّة للبیع والمعاملات أو فی الصحّة الفعلیّة؟

قد استدلّ بهذه القاعدة وأدلّة اخری علی اشتراط القدرة علی التسلیم فی ظرفه لا فی ظرف البیع، ومن عمدة ما استدلّ به علی ذلک قاعدة نفی الغرر عن البیع. وذکروا أنّ من شرائط صحّة العقد نفی الغرر والشرط المزبور نفی للغرر، ومقتضی ذلک أنّ الشرط المزبور لیس شرطاً للصحّة الفعلیّة فقط، بل هو مفسد للبیع؛ إذ البیع الغرری لا یمکن تصحیحه.

إذ فی البیوع والمعاملات نمطان من الشروط: شروط لابدَّ أن تقع کی یصحّ البیع، فلو أوقع من دونها یکون فیه تأهّل الصحّة دون الصحّة الفعلیّة، فیقال عن تلک الشروط شروط الصحّة الفعلیّة، أی شروط فعلیّة صحّة البیع لا شروط أصل ماهیّة البیع، مثلًا: القبض فی الهبة أو الرهن أو القرض، لو انشئ العقد فیها من دون قبض لا یکون صحیحاً فعلًا، ولکنّه

ص:83

قابل للتصحیح إذا انضمّ إلیه القبض بخلاف ما لو أوقع البیع علی عین مجهولة لا یمکن تصحیحه ولو حصل العلم بمواصفات العین بعد ذلک.

فبعض الشروط یقال هی شروط لتأهّلیّة البیع، فضلًا عن الصحّة الفعلیّة (أی شروط الماهیّة)، وبعض الشروط شروط وجود البیع، والشروط المأخوذة فی تأهّلیّة البیع لا یمکن فیها فرض تبدّل الحال إذا لم یقع البیع واجداً لها خالیاً عن الموانع من ذلک النمط، فلابدَّ من إنشاء بیع آخر جدید وبیع الغرر من هذا القبیل.

نعم، قیل: إنّ الغرر لیس من موانع أصل الصحّة التأهّلیّة للبیع، بل عدمه من شرائط الوجود الفعلی، لکنّ القائل به شاذّ، وحینئذٍ نقول: إنّ فی مفاد «لا تبع ما لیس عندک) قولین:

الأوّل إنّها من شروط الوجود، والآخر إنّها من شروط الصحّة التأهّلیّة، فلو باع ما لیس عنده فلا یصحّ البیع، ولو ذهب واشتراه وصار عنده فلابدَّ من تجدید البیع بخلاف من یقول إنّها من شرائط الوجود نظیر القبض فی الهبة لو لم یتحقّق ثمّ وجد، فحینئذٍ لا مانع من الصحّة الفعلیّة. والظاهر أنّ «لا تبع) من الشروط التأهّلیّة لا من الشروط الوجودیّة، وإن ذهب الشیخ الانصاری إلی کونه من الشروط الوجودیّة، واستشهد بموارد متعدّدة صحّح البیع فیها مع کون البیع حین الإنشاء غیر متوفّر علی هذا الشرط، ولم یکن عند البائع ثمّ بعد ذلک وجد فصحّح البیع، ولکنّ الصحیح أنّه من الشروط التأهّلیّة ووجهه أنّه لو کان من قبیل شروط الوجود لکان علی مقتضی القاعدة أن یصحّ إذا وجد، فکان من اللازم

ص:84

تنبیهه(علیه السلام) علی ذلک بینما إطلاق النهی فی الروایات مفاده خلاف ذلک نظیر ما فی صحیحة عبدالله بن سنان: عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال:

«لا بأس بأن تبیع الرجل المتاع لیس عندک تساومه ثمّ تشتری له نحو الذی طلب ثمّ توجبه علی نفسک ثمّ تبیعه منه بعد»(1).

فلو کان من الشروط التأهّلیّة لتعیّن أن یقول(علیه السلام): «لو بعته قبل أن تشتری ثمّ اشتریته فقد وجب البیع»، ولا یحصر(علیه السلام) وقوع البیع بما إذا أنشأه بعد الحصول علی المبیع، فقصر وقوع البیع وإنشاؤه علی ما بعد حصوله علی الشراء ظاهر فی أنّ الإنشاء السابق لا اعتبار به.

وصحیحة منصور بن حازم: عن أبی عبدالله(علیه السلام) «فی رجل أمر رجلًا یشتری له متاعاً فیشتریه منه. قال: لا بأس بذلک، إنّما البیع بعد ما یشتریه(2).

وربّما یستظهر منها إرادة البیع الفعلی، ولکن تقیید وقوع البیع بذلک لا أصل ماهیّة البیع خلاف الظاهر، والمنساق الأوّلی هو أنّ ماهیّة البیع لا تُنشأ ولا توجب إلّا بعد ما یشتری، ولو رفعنا الید عن ذلک فهی مردّدة بین وجهین، فتکون مجملة.

وصحیحة محمّد بن مسلم: عن أبی جعفر، قال: «سألته عن رجل أتاه رجل فقال:ابتع لی متاعاً لعلّی أشتریه منک بنقد أو نسیئة، فابتاعه

ص:85


1- (1) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 1. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن النضر، عن عبدالله بن سنان.
2- (2) ب 8/ أبواب أحکام العقود، ح 6. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن منصور بن حازم.

الرجل من أجله.قال: لیس به بأس، إنّما یشتریه منه بعد ما یملکه(1).

أی ینشئ الشراء بعد ما یملکه لا أنّ وقوع البیع الفعلی وتمامه بعد ما یملکه، ولا هی فی صدد تصحیح التملّک البَعدی.

وصحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج: قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن العینة، فقلت:یأتینی الرجل فیقول: اشتر المتاع واربح فیه کذا وکذا، فأُراوضه علی الشیء من الربح، فنتراضی به، ثمّ انطلق فأشتری المتاع من أجله لو لا مکانه لم أرده، ثمّ آتیه به فأبیعه.فقال: ما أری بهذا بأساً لو هلک منه المتاع قبل أن تبیعه إیّاه کان من مالک، وهذا

علیک بالخیار إن شاء اشتراه منک بعد ما تأتیه وإن شاء ردّه، فلست أری به بأساً(2).

ولفظ «اشتراه» صریح فی إنشاء الشراء والبیع بعد التملّک، ولیس هو تصحیح للبیع السابق، فلو کان البیع صحیحاً تأهّلیاً وبمجرّد تحقّق الشرط یصحّ فعلًا لقال(علیه السلام):

وجب البیع بعد تحقّق الشرط وهو العندیّة، بینما مفاد الروایة هو تأکیده(علیه السلام) علی الإنشاء مرّة اخری، وأنّ الإنشاء السابق بعد تحقّق العندیّة لا یواجب البیع، والحاصل أنّ هذه الروایات صریحة فی أنّه من قبیل

ص:86


1- (1) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 8. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن حمّاد، عن حریز وصفوان، عن العلاء جمیعاً، عن محمّد بن مسلم.
2- (2) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 9. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجّاج.

الشروط التأهّلیّة، ولیس من قبیل شروط الوجود.

واستدلّ الشیخ(قدس سره) لما اختاره فی المکاسب بموارد وقال: ومن البعید أن یکون خروج تلک الموارد بالتخصیص، فإنّها عدیدة، فمن الأوْلی تفسیر القاعدة بأنّها من قبیل شروط الوجود والوقوع لا أصل الماهیّة.

وأجاب عنه الایروانی بأنّ خروج بعض الموارد لا یکون دالّاً علی کونه من قبیل التخصیص أو التخصّص؟ إذ علی تقدیر کون الشرط بمعنی شرط الوجود فتکون صحّة تلک الموارد التی حصل الشرط (العندیّة) بعد الإنشاء علی طبق القاعدة، وإذا کان من شروط الماهیّة فیکون خروجاً عن القاعدة وتخصیصاً ولا دلالة للعموم علی أحدهما لما هو مقرّر من أنّ خروج الخاصّ عن العام لا یکون قرینة علی تعیین مفاد العامّ، فالاستشهاد بهذه الموارد علی کون الشرط شرط الوقوع والوجود لیس فی محلّه، بل یجب تحریر ظهور روایات القاعدة فی نفسه، فإن کانت ظاهرة فی الشرط التأهّلی فتلک الموارد من باب التخصیص، وإن لم تکن ظاهرة فقد تکون تلک الموارد قرینة علی أصل المفاد. هذا لو کنّا نحن ومجرّد العموم النبوی، فتلک الموارد إمّا قرینة أو تخصیص، فلیست متعیّنة فی القرینیّة، فضلًا عن وجود الروایات الآتیة والمتقدّمة الدالّة علی الثانی فلا مجال للتردید.

مضافاً إلی ما یقال من أنّ ظهور الموانع یغایر ظهور الشرائط الوجودیّة، حیث أنّ الشرائط محتملة لأن تکون لأصل الماهیّة التأهّلیّة أو لشرائط الوجود بخلاف الموانع، فإنّ المنسبق منها أنّها من الشرائط التأهّلیة. إذ معنی المانعیّة هو الإبطال، وکونه مبطلًا لا أنّه حاجز عن وجود البیع فقط، بل عادم للصحّة التأهّلیّة.

ص:87

الرجوع إلی الأخبار:

ففی أبواب مقدّمات الطلاق نهی عن نوع من الطلاق، وهو إیقاع الفُرقة قبل موضوعه، وهو الزوجیّة، فإذا طلّق امرأة قبل نکاحها ثمّ نکحها فلا ینفذ طلاقه السابق کما ورد فی الأخبار، سواء علّق علی النکاح أم لم یعلّق، وفی ذیلها أیضاً حکم العتق:

لا عتق إلّا بعد الملک، باعتبار أنّ العتق أحد التصرّفات فی الملک فلا یصحّ إذا أعتق عبداً لا یملکه ثمّ اشتراه ولا ینفذ عتقه السابق الذی هو أحد التصرّفات فی الملک، کما فی بیع ما لیس عندک.

وفی تلک الروایات أیضاً: لا صدقة إلّا فی ملک، وأنّه لو تصدّق بشیء ثمّ اشتراه فلا تنفذ صدقته السابقة، والصدقة نوع تملیک وتصرّف فی الشیء ولا یصحّ إلّا بعد الملک.

ولیس مفاد الروایات نفی فعلیّة العتق والطلاق والصدقة، بل فی مقام نفی فعلیّة الإنشاء السابق بعد تحقّق الملک والنکاح، وأنّه لا اعتداد بذلک الإنشاء فیکون الملک من شروط الصحّة لا من شروط الوجود. فإنشاء المعدوم قبل وجود موضوعه معلّقاً علی وجود الموضوع باطل لا من جهة التعلیق- لأنّ قاعدة التعلیق تقتضی البطلان فی ما کان المعلّق علیه لیس من شروط الصحّة، وأمّا إذا علّق علی أشیاء هی من شروط الصحّة فلا مانع من ذلک- بل من جهة تعبّدیّة اخری، ومن تلک الروایات:

1- صحیحة الحلبی: عن أبی عبدالله(علیه السلام)- فی حدیث-: «إنّه سُئل عن رجل قال:

ص:88

کلّ امراة أتزوّجها ما عاشت امّی فهی طالق.فقال: لا طلاق إلّا بعد نکاح، ولا عتق إلّا بعد الملک(1).

2- صحیحة محمّد بن قیس: عن أبی جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن رجل قال:إن تزوّجت فلانة فهی طالق، وإن اشتریت فلاناً فهو حرّ، وإن اشتریت هذا الثوب فهو فی المساکین. فقال: لیس بشیء لا یطلّق إلّا ما یملک، ولا یعتق إلّا ما یملک، ولا یصدّق إلّا ما یملک(2).

3- عن النضر بن قرواش: عن أبی عبدالله(علیه السلام)- فی حدیث- قال: «لا طلاق قبل نکاح، ولا عتق قبل ملک، ولا یُتْم بعد إدراک»(3).

4- معتبرة سماعة: قال: «سألته عن الرجل یقول: یوم أتزوّج فلانة فهی طالق.فقال: لیس بشیء إنّه لا یکون طلاق حتّی یملک عقدة النکاح(4).

5- عن الحسین بن علوان: عن جعفر، عن أبیه، عن علیّ(علیه السلام) أنّه کان یقول: لا طلاق لمن لا ینکح، ولا عتاق لمن لا یملک.قال: وقال علیّ(علیه السلام): ولو وضع یده علی رأسها(5).

ص:89


1- (1) ب 12/ أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه/ ح 1. رواه الصدوق بإسناده عن حمّاد عن الحلبی.
2- (2) ب 12/ أبواب مقدّمات الطلاق/ ح 2. رواه الکلینی عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی نجران، عن عاصم بن حمید، عن محمّد بن قیس.
3- (3) ب 12/ أبواب مقدّمات الطلاق/ ح 4. رواه الکلینی عن محمّد بن جعفر الرزّاز، عن أحمد، عن الحسن بن محبوب، عن النضر بن قرواش. «النظر مهمل.
4- (4) ب 12/ أبواب مقدّمات الطلاق/ ح 5. رواه الکلینی عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، وعن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن عثمان بن عیسی، عن سماعة.
5- (5) ب 12/ أبواب مقدّمات الطلاق/ ح 7. رواه عبدالله بن جعفر فی قرب الإسناد، عن الحسن بن ظریف، عن الحسین بن علوان.

6- موثّقة معمّر بن یحیی بن سالم: «إنّه سمع أبا جعفر(علیه السلام) یقول: لا یطلّق الرجل إلّا ما ملک، ولا یعتق إلّا ما ملک، ولا یتصدّق إلّا بما ملک(1). وکلّ هذه الروایات نافیة لفعلیّة الطلاق والعتاق والصدقة السابقة علی الزواج والملک بعدهما.

7- صحیحة منصور بن حازم: عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله : لا طلاق قبل نکاح، ولا عتق قبل ملک»(2).

8- صحیحة علیّ بن جعفر: فی کتابه عن أخیه موسی بن جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن رجل یقول: إن اشتریت فلاناً فهو حرّ، وإن اشتریت هذا الثوب فهو صدقة، وإن نکحت فلانة فهی طالق، قال: لیس ذلک بشیء»(3).

9- صحیحة منصور بن حازم: عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله : لا رضاع بعد فطام, ولا طلاق قبل نکاح، ولا عتق قبل ملک. الحدیث(4).

10- روایة سلیمان بن صالح: عن أبی عبدالله(علیه السلام)- فی حدیث-:

ص:90


1- (1) الباب المتقدّم/ ح 11. رواه الشیخ عن علیّ بن الحسن، عن محمّد وأحمد، عن أبیهما، عن ثعلبة بن میمون، عن معمر بن یحیی بن سالم.
2- (2) ب 5/ أبواب العتق/ ح 1. رواه الکلینی عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن منصور بن حازم.
3- (3) ب 5/ أبواب العتق/ ح 7، ولصاحب الوسائل سند صحیح إلی کتاب علیّ بن جعفر.
4- (4) ب 5/ أبواب ما یحرم بالرضاع/ ح 1. رواه الکلینی عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن منصور بن یونس، عن منصور بن حازم.

«إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله نهی عن ربح ما لم یضمن»(1).

أی: نهی عن المعاملة علیه، سواء کانت بیعاً أم جعالة، فتملیک هذا الربح الذی لم یضمن بأیّ عنوان معاوضی ممنوع، باعتبار أنّ الربح الذی لا یضمن هو مال لکنّه معدوم، وحیث أنّ حذف المتعلّق یفید العموم، فمفاد الروایة النهی عن مطلق المعاملة علی مطلق ما لا یمکن.

11- موثّقة عمّار: عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «بعث رسول اللّه صلی الله علیه و آله رجلًا من أصحابه والیاً، فقال له: إنّی بعثتک إلی أهل اللّه- یعنی أهل مکّة- فانههم عن بیع ما لم یقبض، وعن شرطین فی بیع وعن ربح ما لم یضمن»(2).

12- صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج: قال: «سألت أبا الحسن عن رجل یقول له الرجل: أشتری منک المتاع علی أن تجعل لی فی کلّ ثوب أشتریه منک کذا وکذا، وإنّما یشتری للنّاس ویقول: اجعل لی ربحاً علی أن أشتری منک، فکرهه(علیه السلام)»(3).

و«علی أن أشتری) هو العمل الذی علّقت علیه الجعالة، والربح هو الجعل، ولیس مملوکاً قبل الجعالة؛ لأنّه ربح الشراء، والکراهة تستعمل فی

ص:91


1- (1) ب 10/ أبواب أحکام العقود/ ح 5. رواه الشیخ بإسناده عن محمّد بن أحمد بن یحیی، عن محمّد بن الحسین، عن علیّ بن أسباط، عن سلیمان بن صالح (و الظاهر أنّه المرادی، ولم یرد فیه توثیق).
2- (2) ب 10/ أبواب أحکام العقود/ ح 6. رواه الشیخ بإسناده عن محمّد بن أحمد بن یحیی، عن أحمد بن الحسن بن علیّ بن فضال، عن عمرو بن سعید، عن مصدق بن صدقة، عن عمّار.
3- (3) ب 10/ أبواب أحکام العقود/ ح 7. رواه الصدوق بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجّاج.

الحرمة، إلّا أن تأتی قرینة تدلّ علی الترخیص، وهذا المورد أحد مصادیق النهی عن ربح ما لم یضمن.

ویمکن التأمّل فی ذلک بأنّ الربح مقدور حین لزوم الأداء والتملیک إنّما تعلّق بالکلّی، فلیس الربح غیر مضمون فی المقام، نظیر ما ورد من روایات: «بع مالی بعشرة فما زاد فهو لک»(1)، فلعلّ وجه الکراهة فی الروایة غیر ما نحن فیه، وهو صدق التحایل عرفاً من المشتری الدلّال الوسیط للمشتری الحقیقی الا ان یراد الجعل من مقدار الربح نفسه.

13- حدیث المناهی، عن الحسین بن زید: عن جعفر بن محمّد، عن آبائه (علیهم السلام) فی مناهی النبیّ صلی الله علیه و آله ، قال:«و نهی عن بیع ما لم یضمن»(2).

وهی وإن کانت ضعیفة لشعیب بن واقد ، إلّا أنّ تضمّنها لمناهی جامعة کلّیة معمول بها فی الأبواب ممّا یعطیها الوثوق بالصدور بالاعتضاد مع روایات اخر، حیث إنّ مضمونها موجود فی کثیر من الروایات، فتصیر حجّة معاضدة ومؤیّدة لا مستقلّة.

هذا مضافا الی امکان استحسان حال الحسین بن زید لانه اما علوی فهو ثقة علی الارجح او صاحب کتاب وهو محسن لم یضعف وکذا الحال فی شعیب بلحاظ مضامین ما روی ولو فرض انه عامی .

ص:92


1- (1) ب 10/ أبواب أحکام العقود.
2- (2) ب 10/ أبواب أحکام العقود/ ح 8. رواه الصدوق بإسناده عن شعیب بن واقد، عن الحسین بن زید.

والمستفاد من هذه الروایات- إن لم تکن فی صدد توسعة القاعدة لکلّ إنشاء علی موضوع غیر موجود- أنّ فی خصوص الملک والمعاوضة علیه، بیعاً کانت أو صالحاً أو إجارة أو جعالة، لیس الملک من شرائط الوجود، بل هو من شرائط الصحّة التأهّلیّة خلافاً لظاهر کلام الشیخ الأنصاری(رحمه الله)، مع أنّه لو بنینا علی ظاهر کلام الشیخ(رحمه الله) من أنّه من شرائط الوجود لا شرائط الصحّة التأهّلیّة فلا ضیر فی ما جملة من الابحاث نظیر منع صحة المضاربة أو التملیک الذی فی ضمن الشروط؛ إذ لیس المدّعی هو فسادهما من رأس کما فی الخلل فی شرائط الصحّة التأهّلیّة، بل المطلوب إثبات عدم الصحّة الفعلیّة لتضمّنهما تملیک الشیء المعدوم، وهذا یتمّ لو قلنا بمقالة الشیخ(رحمه الله)؛ لأنّ فیهما تملیک للربح الذی لم یظهر، کما هو الحال فی الودائع البنکیّة، فلا یکون ذلک العقد فی الحیل المزبورة مشمولة ل أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، ویستطیع المتعاقد حینئذٍ أن یرجع أی وقت شاء.

والوجه فی المختار: أنّ ظاهر روایات «لا طلاق إلّا بعد نکاح»، و«لا عتق إلّا فی ملک» أنّه لا عبرة بالإنشاء السابق أصلًا کما هو تقریب ذلک.

والشیخ(رحمه الله) فی بحث الفضولی وشرط القدرة علی التسلیم ذکر روایات فی ذلک الصدد وبحث فی أنّ (العندیّة) هل هی شرط الوجود أو شرط الصحّة التأهّلیّة؟

وقال: إنّ الأخبار لا تدلّ علی بطلان بیع الفضولی لو باع ما لیس له ثمّ ملکه ثمّ أجازه. وما ذکره لا یتناسب مع شرط الوجود؛ لأنّ شرط الوجود بعد تحقّقه لا تحتاج المعاملة إلی الإجازة، فإنّه بمجرّد حصول

ص:93

الشرط تتحقّق الفعلیّة بالإنشاء السابق. فما ذکره یتناسب مع شرط الصحّة التأهّلیة؛ إذ فی موارد شروط الصحّة التأهّلیة لابدَّ من الإجازة؛ لأنّ الإجازة بمنزلة إنشاء جدید أو رضی إنشائی جدید بإنشاء سابق، والإنشاء لا یفسد من حیث هو تکلّم وتلفّظ.

فمراد الشیخ(قدس سره) لو کان شرط الوجود لما بنی فی بیع الفضولی علی لزوم الإجازة لمن باع شیئاً لیس له ثمّ ملکه، فلو کان الملک الفعلی شرط الوجود، کما فی القبض فی الرهن أو فی الهبة، فبعد أن یقبض لا حاجة إلی الإجازة، فما التزم به هناک شاهد علی کون مراده شرط الماهیّة، وأنّ عبارته موهمة لغیر ذلک، ولزیادة التوضیح نقول:

إنّ فی العقد ثلاثة مراحل: مرحلة شرائط صحّة ما یتلفّظ به (صحّة الإنشاء فی نفسه کإنشاء لا کمنشئ)، ومرحلة شرائط الصحّة التأهّلیّة للمنشأ ومرحلة شرائط الوجود.

والظاهر أنّ مراد الشیخ(قدس سره) هو أنّ تلک الأخبار لا تفید کون الملک من شرائط صحّة الإنشاء مثل العربیّة کما اشترطت فی الطلاق وإنّما هو من شرائط المنشأ، والأمر فیه سهل بلحاظ الإجازة المتعقّبة، وهما بخلاف شرائط الوجود، فإنّها بعد انوجادها لا تحتاج إلی إجازة. هذا هو تحقیق مرام الشیخ(رحمه الله).

فتحصّل أنّ القاعدة عامّة ببرکة «نهی عن ربح ما لم یضمن»، فتملیک المعدوم فاسد، والإنشاء علی الموضوع المعدوم لیس بصحیح.

ص:94

أضف إلی ذلک أنّ الموارد التی ذکرها الشیخ(رحمه الله)، والتی صحّح فیها البیع هی: بیع الرهن ما یملکه بعد البیع (/ الفضولی)، وبیع العبد الجانی عمداً، وبیع المحجور هی غیر ما نحن فیه؛ لأنّ فی تلک الموارد الملک فعلیّ للبائع. غایة الأمر أنّ هذه الملکیّة متعلّقة بحقّ الغیر، اللهمّ إلّا أن یفسّر الشیخ(قدس سره): «لا تبع» ب «ما لا تقدر»، ولابدَّ حینئذٍ من إجازة ذی الحقّ من باب تقدیم أدلّة حقّ المجنی علیه أو حقّ المرتهن علی أدلّة

صحّة البیع أو نفوذ سلطنته، فهذه الموارد لیست من أمثال القاعدة. والمانع من صحّة البیع لیس من باب ما لیس عنده، بل من باب تقدیم أدلّة حقّ الجنایة وأدلّة بقیّة العقود علی أدلّة صحّة نفوذ البیع أو سلطنة المالک.

مضافاً إلی أنّ هذه الموارد لیست منصوصة کی یفترض أنّ الخلل فیها هو من ناحیة شرط ما لیس عنده، بل لأجل أدلّة تلک الحقوق المانعة عن نفوذ البیع کما تقدّم.

نعم، قد یقال إنّ تصحیح البیع فی تلک الموارد لدی الأصحاب بعد إجازة ذی الحقّ قرینة علی مفاد القاعدة، فافهم، فإنّ أدلّة تلک الحقوق غایة ما یستفاد من مانعیّتها أنّها مانعة عن فعلیّة البیع لا عن صحّته التأهّلیّة.

الجهة السابعة: هل أنّ مفاد «لا تبع» هو مفاد «نهی النبیّ صلی الله علیه و آله عن بیع الغرر) أو لا؟

ممّا لا إشکال فیه أنّ بین المفادین اختلافاً بنحو العموم من وجه، فإنّه لو باع مبیعاً موجوداً عنده لکن من دون أن یذکر أوصافه فی البیع، فلا

ص:95

یکون مورداً لقاعدة «لا تبع»، لکنّه مورد لقاعدة «نهی النبیّ عن بیع الغرر»، ولو باع العین الشخصیّة التی هی متوفّرة فی السوق بکثرة ولم یبع العین بنحو الکلّی، وإنّما باع عیناً شخصیّة لجاره یوجد فی السوق مثیلاتها، فإنّها مثلی یوجد أمثاله، والبیع وإن کان شخصیّاً إلّا أنّه لو لم یستطع توفیره لما کان عند المشتری منازعة بأداء بدله المثلی، فهاهنا لیس البیع غرریاً لکنّه بیع ما لیس عنده.

وهناک موارد للتصادق کما لو باع عیناً شخصیّة لا یکون فی السوق مثیلها موجوداً، فالمبیع قیمی لا مثلی، ولا یستطیع أن یوفّرها، فهاهنا غرر وعدم العندیّة، ویبطل البیع من احد الزاویتین غیر الزاویة الاخری، والأعلام فی شرط القدرة علی التسلیم استدلّوا بهذین الدلیلین.

فلو رفعنا الید عن خصوصیّة قاعدة «لا تبع» أمکننا الاستعانة لمنع صحّة بین المعدوم بقاعدة نهی النبیّ صلی الله علیه و آله عن الغرر، ولا یخفی أنّ نهی النبیّ عن بیع الغرر قد رواه الصدوق بأسانید متعدّدة فی عیون الأخبار.

وأمّا النهی عن الغرر فی مطلق المعاملة فلم یثبت، إلّا أنّه قد ذکر أنّ هذه القاعدة عقلائیّة، ولذلک عمّمناها إلی المعاوضات الاخری، فلو بنی علی عدم تعمیم «لا تبع ما لیس عندک» إلی غیر البیع یمکن الاستعانة بقاعدة منع الغرر بناءً علی أنّها عامّة کما هو الصحیح.

هذا تمام الکلام فی القاعدة.

ص:96

قاعدة :عمد الصبی خطأ

اشارة

ص:97

ص:98

عمد الصبی خطأ

یقع الکلام تارة بحسب مقتضی القاعدة فی کلّ من الصبی الممیّز وغیر الممیّز واخری بحسب الروایات الخاصّة.

أمّا الکلام بحسب مقتضی القاعدة فمضافا إلی ما تقدّم فی النقاط الستّ فی قاعدة اذن الولی فی حج الصبی لابدَّ من الالتفات إلی نقاط اخر:

الاولی: حیث انّ مثل الکفّارات فی غالب تروک الاحرام مترتّبة علی الإتیان العمدی فلابدَّ من البحث عن وجود عمد الصبی فی أفعاله فنقول: قد ذهب المشهور- کما هو المعروف نسبة فی الکلمات- إلی عدم تحقّق العمد من الصبی ما لم یبلغ، وذهب الشیخ وجماعة بتحدید ذلک بعشر سنین لا بالبلوغ وأنّه حینئذ تقام علیه الحدود ویقتصّ منه واستند فی نفی العمد عنه إلی ما ورد فی الروایات المعتبرة من أنّه عمد الصبی وخطأه واحد- کما فی صحیحة محمّد بن مسلم(1)- وقد ذیّل هذا العموم فی بعض تلک الروایات ب (تحمله العاقلة)(2)، ومن ثمّ نفوا عنه الإرادة وحکموا بسلب عبارته فی مطلق الانشائیات من العقود والایقاعات وتحریر الحال فی مفاد هذا الحدیث الذی هو کالقاعدة أنّ مفاده یحتمل وجوها.

ص:99


1- (1) کتاب الدیات باب 11 من أبواب العاقلة ح2.
2- (2) کتاب الدیات باب 11 من أبواب العاقلة ح3.

الأوّل: ما ذهب إلیه المشهور من سلب الإرادة والعبارة وأنّه کالبهیمة.

الثانی: عدم سلب الإرادة مطلقا، بل قصورها وکونها بمنزلة الإرادة الخطائیة، ففی الموارد التی یترتّب الأثر علی خصوص الإرادة القویة العمدیة لا یترتّب علی إرادته فکان إرادته من باب الاشتباه فی التطبیق.

الثالث: تنزیل إرادته العمدیة منزلة الإرادة الخطائیة فیما کان لکلّ من العمد والخطأ أثر، سواء فی باب الدیات وغیره، فهذا التنزیل لا یعمّ الموارد التی یکون الأثر مختصّا بالعمد.

الرابع: انّه تعبّد خاصّ فی خصوص الدیات.

والأظهر من هذه الوجوه هو الثانی وذلک لأنّه لو ارید من هذا الحدیث سلب إرادة الصبی مطلقا کی یعمّ حتی انشائیاته وعبارته لما استند القتل إلیه ولو خطأ ولما حملت العاقلة الدیة؛ لأنّ الفعل لا یستند إلّا بالإرادة أیّا ما کان من أقسام الفعل فحینئذ هذا ممّا یشهد بوجود إرادته. غایة الأمر هذه الإرادة لیست إرادة کاملة تامّة مستقلّة، بل ناقصة لا یعتدّ بها منفردة، ومن ثمّ کانت بمنزلة الإرادة الخطائیة ولا یخصّ مفاد هذه القاعدة بباب الدیات لما تقدّم من صحیح محمّد بن مسلم الذی لم یذیّل بذلک الذیل فلا وجه لتخصیصه وحمله علی باب الدیات لأنّه من قبیل المثبتین مع ما ذیل فیه کما لا یخصّ مفاد هذا الحدیث بموارد ترتّب الأثر علی الخطأ أیضا کما قد ذکر ذلک فی الوجه الثالث؛ لأنّ عبارة الروایة لیس (عمد الصبی خطأ) بل (عمد الصبی وخطأه واحد) مع أنّه لو فرض ذلک التعبیر لکان التنزیل یصحّ بلحاظ نفی الأثر أیضا. هذا مضافا إلی أنّ الوجه

ص:100

الثانی موافق للاعتبار العقلائی حیث انّه لا یعتدّون بإرادة الصبی مستقلّة بل ناقصة لا تتمّ إلّا بإرادة الولی لا سیّما فی الصبی غیر الممیّز حیث أنّ غیر الممیّز کما ذکرنا سابقا لا عقل عملی بالفعل له یزجره وإن کان له عقل نظری یدرک ویحسن الکلام.

وعلی ضوء هذه النقطة لا تترتّب مثل الکفّارات علی الصبی بعد أخذ قید العمد فیها ویشهد علی ذلک ما ورد فی روایات إحجاج الصبی من أنّ الصبی إذا حجّ أو حجّ به ینهی ویوقی عن تروک الاحرام من قبل الکبار، الظاهر ذلک فی کون إرادة الصبی ناقصة محتاجة إلی التتمیم ولک أن تجعل هذا المفاد فی روایات المقام بنفسه دلیلا آخر علی عدم ترتّب الکفّارة علی الصبی کما لک أن تجعل دلیلا ثالثا علی عدمها علی الصبی وهو ما ورد فی حدیث رفع القلم عن الصبی کما فی صحیح البختری(1) وغیرها من الروایات(2) ولو کان الرفع بلحاظ الفعلیة التامّة کما هو المختار وهذه الوجوه تعمّ الصبی الممیّز وغیره بل فی الصبی الذی لا یحسن الکلام لا یتعقّل توجیه خطاب التروک إلیه أصلا ولا إرادة خطائیة له أصلا. وهذا مطابق لمفاد مصحّح علی بن جعفر المتقدّم(3) من نفی الکفّارات عن الصبی مطلقا.

النقطة الثانیة: انّ مقتضی القاعدة فی الولیّ فی حجّ الصبی الممیّز المستقلّ بالأعمال عدم تعلّق الکفّارات علی ذمّة الولی أمّا لعدم ترتّب

ص:101


1- (1) باب 36 من أبواب القصاص ح3.
2- (2) باب 4 من أبواب مقدمات العبادات.
3- (3) باب 18 أبواب المواقیت ح2.

الکفّارة علی فعل الصبی وإمّا لعدم کون الولیّ مسبّبا لغرامة مالیة فی البین، وکذا الحال فی احجاج الصبی حیث انّ الفرض أنّ الصبی لا کفّارة علی فعله أو لأنّ الإحجاج بمنزلة البذل وکفّارات البذل وکفّارات الاحرام لا تتعلّق بالباذل، لکن قد یقال بأنّ مقتضی الإحجاج وکذا أمر الولی بایقاع أفعال الحجّ، أجزاءا وشرائطا فی الصبی والتی منها تروک الاحرام وإن کانت هی آثارا للاحرام الذی هو شرط فی ماهیة الحجّ.

ولک أن تقول: إنّ مقتضی ما ورد من أمر الولی بتوقیة الصبی ما یتّقی المحرم کما فی صحیح زرارة ومصحّح علی بن جعفر هو کون الولی مخاطبا بالتروک لا الصبی، غایة الأمر هو مخاطب بها فی مورد الصبی فإذا صدرت من الصبی بتقصیر من الولیّ یکون بمنزلة ارتکابها عمدا، ویشهد لترتّب الکفّارة علی کونه مخاطبا بها فی الصبی ما فی صحیح زرارة من ترتّب وتفریع ثبوت- کفّارة الصید علی الولیّ- علی خطابه بتوقیة الصبی. غایة الأمر أنّه فی کفّارة الصید تثبت مطلقا، وهذا لا یخلو من وجه وقوّة.

ولا یشکل بأنّ فی کفّارة الصید خصوصیة وهو ثبوتها حتی فی الخطأ الذی هو دائما فی فعل الصبی بخلاف بقیّة الکفّارات ولذا خصّص بالذکر فی الروایة فإنّه یقال علی ذلک یجب الالتزام بعدم کون التروک مخاطب بها الولی؛ لأنّ المفروض أنّ ما یجترحه الصبی هو من باب الخطأ وهو کما تری. کما قد یشکل بأنّ الدلیل إنّما دلّ علی ترتّب الکفّارة فی التروک التی یخاطب بها المکلّف نفسه لا ما یخاطب بها بایقاعها فی غیره.

وفیه: أنّ ذلک بعینه جار فی کفّارة الصید، وتقدّم أنّ ظهوره فی صحیح زرارة تفرّع.

ص:102

فرع فیه تدقیق فی معنی القاعدة:

قد ذکر الشیخ فی المبسوط أنّه لو أفسد الصبی حجّه لما کان علیه وجوب القضاء لعدم کون الموجب إفسادا للحجّ؛ لکون عمده خطأ، بینما قوّی فی الجواهر الافساد وتعلّق الوجوب به بعد البلوغ نظیر الجنابة والغسل واستشهد علی کون قاعدة عمد الصبی خطأ مختصّة بالدیات هو أنّه یلزم من عمومها عدم مبطلیة موانع الصلاة وبقیّة العبادات فیما لو أتی الصبی بها عمدا، وهو کما تری.

إلّا أنّ الصحیح ما ذهب إلیه الشیخ من عموم القاعدة ولا یرد ما نقض به فی الجواهر؛ لأنّ مورد تطبیق القاعدة هو فی الفعل الذی یلزم صدوره عند إرادة تامّة وتناط صحّته بالإرادة الکاملة. وأمّا فی الفعل الذی یکتفی فیه بمطلق الإرادة کما دلّ الدلیل فی مورد عبادات الصبی علی صدورها منه فإنّه لا تطبّق فیه تلک القاعدة لأنّ مفروض القسم الثانی فی الأفعال التی لا اختلاف فیها بین الإرادة التامّة والناقصة.

وبعبارة أخری: أنّه فی القسم الثانی من الأفعال کما أنّ صدور الاجزاء بإرادة ناقصة صحیحا لدلالة الدلیل فکذلک صدور المانع والمبطل مفسدا لکونه صادرا عن إرادة هی عین درجة الإرادة فی الاجزاء.

والحاصل: أنّه من الأفعال ما یؤخذ فی صدورها الإرادة التامّة الکاملة لترتیب الآثار علیها، ومنها ما یکفی فیه مطلق الإرادة کما فی الإنشاءات المجرّدة فی العقود والایقاعات دون تولّیها بتمامها، فإنّ الإنشاء المجرّد یتأتّی من الوکیل أو من الفضولی فی الصیغة فقط الذی هو ذو إرادة

ص:103

ناقصة لکونه یکفی فیه مطلق الإرادة ولو غیر التامّة المستقلّة، وهذا بخلاف تولّی تمام العقد أو فی قتل العمد المترتّب علیه القصاص دون القتل الخطأ الذی یکفی فیه الإرادة الناقصة.

والحاصل أنّه لابدَّ من الالتفات إلی أنّ العموم الوارد- فی صحیح محمّد بن مسلم وعمد الصبی وخطأه واحد- من أمّهات الأدلّة فی شئون أحکام الصبی لأنّه بحسب ما یستظهر منه فی الوجوه الثلاثة الاول یکون حاکما علی أدلّة جهات البحث فی أحکام وشئون الصبی، فلا یخصّ مفاده بالانشائیات وعبادة الصبی أو یخصّ باب الضمانات، بل یعمّ مفاده باب التکالیف العامّة والعبادات أی یکون مفاده عین مفاد وضع کتابة السیّئات عن الصبی، بل انّ مفاده زاد علی مفادها حیث انّه دلّ علی قصور إرادة الصبی لا سلبها کما هو المختار، ممّا یدلّ علی قصور توجیه الخطاب إلیه لا رفع المشروعیة أی دالّ علی عدم الفعلیة التامّة والباعثیة والزاجریة التامّتین.

فبملاحظة نسبته مع أدلّة التکالیف والعبادات العامّة یری أنّها تختلف دائرة عن نسبة حدیث الرفع مع تلک الأدلّة. هذا کما لا یخصّ مفاده بذلک أیضا بل یعمّ الأحکام الوضعیة ومعاملات الصبی المستقلّة حیث أنّ قصور الإرادة یستلزم عدم استقلاله فی المعاملات فیکون مفاده مفاد آیة ابتلاء الیتامی حتی إذا بلغوا مرتبة النکاح: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَیْهِمْ أَمْوالَهُمْ (1).

فهذا العموم قاعدة من أمّهات الأدلّة فی أحکام الصبی.

ص:104


1- (1) النساء: 6.

إن قلت: هذا التفصیل لا ینفی ما ذکره صاحب الجواهر من عدم تطبیق القاعدة فی الحج حیث انّ أجزاء الحجّ المشروع للصبی اکتفی فیها بالإرادة الناقصة فکذا فی الموانع والمبطلات المفسدة.

قلت: إنّ ذلک تامّ فی حجّ الصبی لو کنّا نحن والقاعدة دون الإحجاج للصبی فإنّه فی الثانی المفروض فعل الولی فی الصبی بل الأوّل أیضا لا یلتزم بوجوب القضاء علیه بالالتفات لحدیث الرفع.

وأمّا استشهاد صاحب الجواهر بالغسل والجنابة فهو مع الفارق حیث انّ ترتّب الجنابة علی الاحتلام أو الجماع وضعی وهو غیر مرفوع بحدیث الرفع کبقیّة الامور الوضعیة. غایة الأمر التکلیف المترتّب علی الأمر الوضعی وهو الجنابة یصبح فعلیا بعد البلوغ ببقاء موضوعه. وهذا بخلاف ما نحن فیه فإنّ وجوب القضاء مترتّب علی مخالفة النهی المرفوع بحدیث القلم. نعم الذی أوجب الوهم فی المقام تعبیر الفقهاء بکون وجوب القضاء مترتّبا علی فساد الحجّ وهو عنوان وضعی، إلّا أنّ هذا عنوان انتزاعی وإن ورد فی بعض الروایات حیث انّ وجوب الحجّ فی القابل مترتّب علی مخالفة النهی. هذا کلّه فضلا عمّا لو قلنا من انّ وجوب الحجّ فی القابل هو کفّارة من أفسد حجّه لا أنّه قضاء.

تنبیه: قد اتّضح أنّ المراد من الولیّ فی الإحجاج أو حجّ الصبی مع الرفقة هو الأعمّ من الشرعی والعرفی، فهو الذی یخاطب بتوقیة الصبی وتحمّل کفّاراته وهدیه، وأمّا لو حجّ الصبی الممیّز من دون إذن الولی الشرعی ولا بکفالة ولی عرفی فمقتضی القاعدة حینئذ تعلّق مال الهدی

ص:105

علیه. غایة الأمر حیث فرض عدم إذن الولیّ یکون عاجزا عن التصرّف فی ماله، فمقتضی القاعدة أن یخاطب بالصوم حینئذ کما لا کفّارة علی الولیّ ولا علی الصبی حینئذ.

ص:106

قاعدة :لزوم العسر والحرج

اشارة

ص:107

ص:108

لزوم العسر والحرج بمعنیین

وتطبیقها کدلیل علی ملکیة الدولة

اشارة

ان عنوان نفی العسر والحرج علی نمطین ولسانین وفی المآل قاعدتان:

النمط الأول: دلیل الرفع للاحکام الاولیة مثل رافعیة قاعدة لا ضرر اذ ترفع الوجوب والحرمة، وأهم أدلة هذا النمط قوله تعالی ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ (1) الظاهر فی رفع الحکم الحرجی حسب فهم المشهور من الفقهاء(2).

ومثله ما روی عن رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِی تِسْعَةُ أَشْیَاءَ الْخَطَأُ والنِّسْیَانُ ومَا أُکْرِهُوا عَلَیْهِ ومَا لَا یَعْلَمُونَ ومَا لَا یُطِیقُونَ ومَا اضْطُرُّوا إِلَیْهِ والْحَسَدُ والطِّیَرَةُ والتَّفَکُّرُ فِی الْوَسْوَسَةِ فِی الْخَلْوَةِ مَا لَمْ یَنْطِقُوا بِشَفَةٍ».

و یعزز هذا الفهم استدلال الامام(علیه السلام) بالآیة الکریمة علی الرفع فی حسنة عبد الاعلی مولی آل سام(3) «قَالَ قُلْتُ لِأَبِی عَبْدِالله(علیه السلام) عَثَرْتُ فَانْقَطَعَ ظُفُرِی فَجَعَلْتُ عَلَی إِصْبَعِی مَرَارَةً فَکَیْفَ أَصْنَعُ بِالْوُضُوءِ قَالَ یُعْرَفُ هَذَا وأَشْبَاهُهُ مِنْ کِتَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ الله تَعَالَی ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ

ص:109


1- (1) الحج: 78.
2- (2) وسائل الشیعة ج15 ص369.
3- (3) الکافی ج3 ص33.

حَرَجٍ امْسَحْ عَلَیْهِ».

والاستدلال بهذا النمط لا یثبت ملکیة الدولة لان العسر والحرج اخذ شخصیاً ولیس بنوعی وانما کل من حصل له عسر أو حرج یأتی فی حقه وینطبق علیه حدیث الرفع مع أنه یرفع التکلیف ولا یثبت حکما آخر، یرفع الحرمة فی التصرف فی الاموال، لا أنه یجعل هذه الاموال ملکا لک، ولذا استشکلوا فی خیار الغبن علی من استدل علی شرعیه هذا الخیار بحدیث لا ضرر بانه یرفع اللزوم ولا یثبت حکما آخر.

النمط الثانی: الادلة التی تبین أن الشریعة سهلة سمحاء وان حکمة الاحکام المجعولة فی الشریعة سواء وضعیة او تکلیفیة نابعة من السهولة والیسر هذه الادلة المخبرة عن عدم وجود حکم حرجی فی الشریعة الاسلامیة وأن أحکام الشریعة أسست علی أساس الیسر والسماحة والتسهیل علی المکلفین.

فالشریعة بموجب هذه الأخبارات عبارة عن مجموعة من القوانین المیسرة وأن الحکم الحرجی لا یمت للشریعة بصلة.

و أدلة هذا النمط کثیرة مثل قوله تعالی: یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ (1).

وبعض السادة من مشایخنا فهم من کل الأدلة التی تناولت مسألة العسر والحرج أنها إخبار ومن النمط الثانی ولا دلالة فیها علی الرفع.

ص:110


1- (1) البقرة: 158.

والأصح ما قررناه من أنها علی نمطین وبلسانین.

وعلی أیة حال، النمط الاول لا یخدمنا فی إثبات الامضاء فی أمثال ملکیة الدولة للتصرفات تنزیلا وذلک لامرین:

الامر الاول - ان موضوع الرفع هو الحرج الشخصی لا النوعی کما قرر فی محله، والحرج الشخصی قد یتواجد فی شخص دون آخر ومعه لا یمکن الخروج بنتیجة عامة فی امضاء ملکیة الدولة ونحوها من موارد کون المطلوب إثبات حکم لا رفعه.

الامر الثانی- ان دور حدیث الرفع هو رفع الحکم الحرجی فقط من دون إثبات شیء آخر، فغایة ما یفیده دلیل رفع الحرج هو رفع حرمة التصرف فی هذه الاموال ولکن لا ینهض فی اثبات حکم وضعی وهو ملکیة الشخص للمال فهو مسکوت عنه وخارج عن مهام القاعدة.

أما النمط الثانی فهو الذی ینفع فی إثبات إمضاء امثال تصرفات الدولة الوضعیة تسهیلا للمکلفین، فی تعاملها المالی مع المؤمنین وذلک من خلال ضم هذه الادلة الی الادلة الأولیة مما یجعل للأدلة دلالة التزامیة علی الامضاء من نوع دلالة الاشارة، بعد الاخذ بعین الاعتبار أن الحرج الذی أخبرت الروایات والآیات عن عدم وجوده فی الشریعة هو الحرج النوعی.

وهناک خلاف فی ان حجیة هذه الدلالة من باب الظهور او من باب القرینة العقلیة، فی الجمع بین الدلیلین وتحقیقه موکول الی علم الاصول، والمهم أن هذا النوع من الدلالة معتبر بلا خلاف فی الجملة، اذ هناک

ص:111

خلاف فی حجیة بعض حالات دلالة الاشارة ولعله راجع الی الصغری لا الی الکبری.

وتصویر الاستدلال: ان الدلیل الاولی هو عدم شرعیة کل ممارسات الدولة فی ای مجال من المجالات، بما فی ذلک ممارساتها المالیة بسبب عدم شرعیة ولایة الدولة.

ودلیل نفی الحرج النوعی فی الشریعة یخبرنا أن الحکم المتقدم لا یحمل فی طیاته العسر والحرج علی المکلفین به وعلی هذا الاساس تم تشریعه، فهو بمثابة الاستثناء من الدلیل الاولی فیکون حاصل الجمع:

عدم شرعیة کل ممارسات الدولة بسبب عدم شرعیة ولایتها الا فی حالات الحرج.

وحیث کان تجمید التعامل المالی مع الدولة الناجم من عدم شرعیة إدارتها علی المال فیه حرج فهو مستثنی من الدلیل الاولی.

بل نستفید إمضاء تصرفات الدولة علی المال ومن ثم تکون الممارسة صحیحة ویتملک المؤمن المال، وبهذا یفترق هذا النمط من الادلة عن النمط السابق، حیث أن أدلة الرفع فی النمط الاول لا تتکفل إثبات شیء وانما دورها رفع الحکم الحرجی فقط کما تقدم، أما هذا النمط من الأدلة فیمکن الاستفادة منه لاثبات حکم وجودی علاوة علی رفعه- بطریق الاخبار- للحکم الحرجی النوعی، وذلک بالتصویر التالی:

أن هذه الأدلة تنبئ عن أن الشارع لم یحرج المکلف بشیء سواء فی

ص:112

جعله او فی رفعه للجعل، فکما استفید منها عدم الجعل للحرج یستفاد منها الامضاء والجواز للحرج، حیث أن بقاء الموضوع معلقا من دون حکم بالجواز لا یرفع من حالة الحرج فنستفید حینئذ الجواز وامضاء شرعیة الدولة بمقدار یرفع الحرج وهو الامضاء الوضعی، بینما هذا التصویر لا یتأتی فی الأدلة من النمط الاولی لأن لسانها لسان رفع فقط فاثبات شیء أکثر من الرفع تحمیل للدلیل.

فیستفاد منها حکم شرعی بضمها مع الادلة الاولیة.

قد یقال: بأن هذه أدلة بیان حکمة وفلسفة التشریع فلا یظهر منها إنشاء أحکام، فهی فی مقام الاخبار لا الإنشاء.

والجواب: بل یظهر منها إنشاء تشریع معین لا من ذات مفادها بنفسها بل هی اذا انضمت مع الادلة الاولیة وقد ارتکب الفقهاء هذا النمط من الاستفادة والاستظهار فی موارد عدیدة:

نماذج تطبیقیة للقاعدة الثانیة للحرج:

المورد الاول: ما فی بعض مقدمات دلیل الانسداد اذ مقدماته:

1/ عندنا علم اجمالی بالتکالیف الشرعیة.

2/ لا یمکن الاحتیاط بل لا مشروعیة له، وقد استفادوا ذلک لا من النمط الاول من رفع العسر والحرج وانما استفید من الادلة الثانیة التی تبین أن الشریعة سمحة سهلاء، فمن العلم بذلک نستکشف ان الاحتیاط غیر مشروع او لا أقل أنه غیر لازم، بل استفاد بعضهم حرمة الاحتیاط التام.

ص:113

ثم استفادوا من نفی الاحتیاط وأدلة الأحکام الاولیة مع النمط الثانی من أدلة العسر والحرج واستکشفوا حجیة الظن أو إجزاءه بحکومة العقل بمعونة أدلة العسر والحرج المزبورة، ولم یستشکل احد فی دلیل الانسداد من حیث هذه الاستفادة وانما استشکلوا فی انسداد الطریق، واما لو انسد الطریق فالکل یرتضی هذه الاستفادة وهذا الاستظهار.

فبضم هذه الادلة مع ادلة الاحکام الاولیة نستفید منها مدلول التزامی او اقتضائی.

المورد الثانی: إجزاء الوقوف بعرفة فی غیر یوم التاسع الواقعی اذ أحد الادلة بل العمدة عند بعضهم هذه الادلة بان الشریعة سمحة سهلاء حیث أن البناء علی مراعات الموقف الواقعی یسبب حرجا شدیدا فی هذه الفریضة العظیمة.

فمن ضم هذه الادلة او فلسفة التشریع مع الادلة الاولیة أستفید منه دلالة اقتضائیة اخری: أنه یجزی یوم الشک عن الیوم الواقعی سواء فی صورة الشک أو العلم.

نعم, فی هذه المسألة خصص بعض الإجزاء والصحة بحالة الشک ومعه یدخل فی نطاق إجزاء الحکم الظاهری عن الواقعی، وبعض عمم الاجزاء والصحة لحالة العلم بأن الیوم لیس التاسع من ذی الحجة، ومعه تصنف المسألة فی إجزاء الاضطرار النوعی عن الواقعی.

المورد الثالث: إجزاء الذبح فی غیر منی اذ المسالخ والمقاصب الآن فی

ص:114

غیرها، واذا کان دلیل العسر والحرج کما عند البعض ومنهم السید الخوئی(قدس سره) شخصیا فکل من حصل له حرج وعسر یذبح فی غیرها أما مع عدم العسر والحرج فیجب ان یتکلف ویتعنی الی منی.

ومع ذلک افتی السید وغیره من الاعلام بإجزاء الذبح مطلقا فجعلوا الحرج نوعیا، وهو لیس من أدلة النمط الاول بل من أدلة النمط الثانی التی تبین فلسفة التشریع بضمها مع الادلة الاولیة نستفید منه الصحة الاجزاء. وإلا لا مسوغ لاجزاء القادر.

والجدیر بالانتباه أن علماء الاصول تطرقوا فی بحث الاجزاء الی مسألتین:

الاولی: إجزاء الحکم الظاهری عن الواقعی.

الثانیة: إجزاء الحکم الاضطراری الشخصی عن الواقعی.

ولم یبحثوا إجزاء الحکم الاضطراری النوعی عن الواقعی، والذی یندرج المثال تحته.

المورد الرابع: ما فی بحث الاجزاء فی الحکم الظاهری عن الواقعی فی جملة من الموارد وقد اعتمد علیه عدة قدیما وحدیثا، وکیفیة الاستفادة أن الشارع اذا امر باتباع أمارة شرعیة لا سیما التقلید بان یقلد مجتهدا مثلا ستین سنة، ثم یقلد مجتهدا آخر عند موت الاول، ثم یخاطبه الشارع أن فی کل ما قد رخصت لک فیه باتباع

الامارة أعده وأعد کل صلواتک مثلا وعباداتک مع الاختلاف.

فهذا یوجب بلا شک عسرا وحرجا، فمن ضم الادلة الثانیة مع أدلة

ص:115

الامارات یستفاد دلالة التزامیة اخری، فالادلة الثانیة بنفسها لا تعطینا حکما شرعیا بل من ضمها الی الادلة الاولیة یستفاد دلالة التزامیة اخری، فیستفاد الاجزاء.

فإقحام المکلف فی الامارات مع عدم إجزائها یسبب عسرا وحرجا نوعیا شدیدا.

فالخلاصة: أننا یمکن أن نستفید من إخبار الشارع عن عدم وجود عسر وحرج نوعی فی تکالیفه، إمضاء تصرفات الدولة فی تعاملها المالی وإثبات ذلک علی غرار الاستفادة من هذه الادلة فی الموارد الاخری التی استعرضنا بعضها.

فاذا استلزم اطلاق حکم اختلال النظام والعسر والحرج النوعی فی الافراد او النوعی فی الجماعات، هذا الاختلال بلا ریب لا یسوغه الشارع وأی حکم یکون نتیجته الاخلال بالنظام یعلم عدم تناول اطلاق تشریعه لذلک المورد بالاستفادة من الادلة الثانیة.

فکبرویا الحال واضح وانما المهم اثبات الصغری فهل یسبب عدم الامضاء لتصرفات الدول الوضعیة حرجا وعسرا او لا؟ فالبحث میدانی.

إثبات الصغری:

ربما یقال هناک مجموعة من الفقهاء کانوا لا یفتون بملکیة الدول الوضعیة ومع ذلک نری ان من قلدهم لم یقع فی عسر وحرج ولم یستلزم ذلک اختلال فی النظام ولم یؤدی الی الهرج والمرج؟

ص:116

والجواب: لیس کل المجتمع المؤمن یرجع الی القائلین بالعدم، اذ قسم کبیر أیضا یرجع الی من یقول بالملکیة التنزیلیة، مضافا الی ان الملتزم من الشریحة المؤمنة بالتقلید الاول شاهدناهم کثیرا ما یغفلون عن هذه المطالب.

وبعبارة أخری: من یبنی عملیا علی فروعات القول بالعدم اذا کان بنسبة 10% فهذه لیست نسبة کثیرة، ومع ذلک اولئک الذین بنوا علیه وطبقوا المبنی فی تعاملهم وتعاطیهم کانوا یقعون فی حرج عظیم یؤدی الی الوسوسة بل التشکیک بالدین.

اذ لو بنی علی ذلک تکون کل مرافق الدولة او حتی القطاع الخاص الذی یتعامل مع الدولة کل هذه الحرکة المالیة والانتقالات للاموال او المالیات مجمدة، وکذا السیولة المالیة والبنکیة أیضا لا بد أن تجمد وهلم جرا، وهذا بلا شک شلل مالی وشلل اقتصادی لا یقره الشارع لانه یعطل الحیاة الاقتصادیة التی علیها عصب الحیاة.

خلاصة دفع التفصی.

أولا: لیس کل المجتمع المؤمن فی عرض واحد یرجع الی مرجع واحد، کی یکون عدم الاختلال فی النظم الاجتماعی دلیل علی أن عدم الامضاء لا یؤدی الی العسر والحرج.

ثانیا: لیس کل المجتمع المؤمن ملتزما، بل الکثیر منهم لا یعتنی بمثل هذه المسائل.

ص:117

ثالثا: الملتزم من المؤمنین کثیر منهم یفتقدون الدقة فی تطبیق هذه المسألة وکثیر منهم یغفلون عنها.

إذن نسبة الشریحة المؤمنة الملتزمة والمنتبهة للتدقیق والمقلدة للفقیه القائل بعدم الامضاء قلیلة جدا، فعدم ملاحظة الحرج العام والتذمر فی اوساط المجتمع المؤمن لا ینفی وجوده.

بل إننا نجد المؤمنین الملتزمین المقلدین لمن لا یقول بالامضاء یقعون فی حرج عظیم، فهو دلیل علی وجود الحرج، کما أننا نجد أن القائلین بعدم الامضاء یفکرون فی حلول عامة کالإذن العام فی القبض عنهم وما شاکل، وما ذاک الا لتلافی مشکلة الحرج الذی یتعرض إلیه مقلدیه، مع أن الشارع والولی الاصلی للأمر أولی بمراعاة هذه الحالة الناجمة من عدم الامضاء وهذا کاشف إجمالی عن ما قررناه.

وعلی أیة حال فی تقدیرنا للواقع الخارجی أن عدم الامضاء یعنی انفصال المجتمع المؤمن اقتصادیا عن الدولة وهذا یکلف عامة الناس الکثیر من الحرج والمشاکل ویؤدی الی شل حرکتهم الاقتصادیة وجمودها اذ الکثیر من المعاملات فی حیاتنا المعاصرة تمر عبر الدول بشکل أو بآخر.

ومع ثبوت الحرج، نستکشف منه امضاء الشارع سیما بعد ضم هذا الدلیل مع الادلة الاخری فی مسالة ملکیة الدولة المستفاد منها أن الشارع امضی موارد کثیرة لا خصوصیة لها فمن باب الاقتضاء نستفید الملکیة للتصرف التنزیلیة.

ص:118

فظهر بحمد الله ان القول بملکیة الدولة تسهیلاً علی المؤمنین من باب ( لک المهنا وعلیه الوزر) دلیله صاف وواضح.

تفصی بعض الاعلام:

و المحکی عن القائلین بعدم الملکیة أنهم یوجدون لمن یرجع إلیهم فی الفتوی مخرجا معینا للتسهیل علیهم، والکلام فیه هل هو تام أم لا؟

وهل یتفادی العسر والحرج أم لا؟

وهو: أن الفقیه بعد کون زمام التصرف بمجهول المالک بیده فیأخذ وکالة من عشرات ومئات الفقراء- الذین هم مصرف مجهول المالک- لیوکل مقلدیه الذین یتعاملون مع الدول الوضعیة فی قبض الاموال المجهولة المالک نیابة عن الفقراء فیتملکوه نیابة عنهم، فیکون ما بحوزتهم ملکا للفقراء ثم لهم أن یتملکوه بأذن من الفقراء مقابل حصة معینة، فیتصدق بها کثلث الاموال المجهولة المالک مثلا.

وهذا نوع تسهیل فقهی بناء علی عدم شرعیة وملکیة الدول الوضعیة.

ولکن هذا التفصی یواجه عدة اشکالات کبرویة وصغرویة.

اما الکبری فلازمه نقض الغرض من التصدق فی باب مجهول المالک، فهل یتصور من مذاق الشارع حینما یجعل ضریبة مالیة مثل الزکاة والخمس أن تملک هذه بالاموال التی تجبی لاصحاب الخمس والزکاة للاغنیاء بحیلة وطریقة شرعیة عن طریق أخذ الوکالة المزبورة من الفقراء مقابل ثلث المال.

ص:119

ولا ریب انه یستفاد من أدلة باب الخمس والزکاة والصدقات الواجبة الاخری ان الغرض إیصال الضریبة المالیة الی جیوب الفقراء لا ان تملکها جیوب اخری وشرائح اخری ویبقی الفقراء علی حالتهم المدقعة غایة الامر یعطی لهم شیء یسیر.

أو أن بعض الفقراء یوکلون الفقیه فیبقی بقیة الفقراء علی حالتهم المدقعة.

فلا شک أنه خلاف الغرض من تشریع الزکاة والخمس، وأن الادلة لا تشملها ولا تسوغها، لانه یخالف نفس مصلحة الجعل والتشریع.

وکذا فی باب التصدق فی مجهول المالک الغایة منه وصوله الی الفقراء وهذا نوع من الضرائب التی جعلها الشارع للفقراء فکیف نسوغ نحن بحیلة شرعیة إیصالها الی جیوب الاغنیاء، فهذا خلاف مصلحة الجعل للتصدق، لذا التزم البعض بالتصدق بالنصف، ولکن هذا أیضا لا ینفع فی دفع المحذور.

وهذا نظیر ما أشکل علی الحیل الشرعیة فی باب الربا من أن مفسدته هو استنزاف الدائنین من الطبقة الفقیرة بلا جهد عملی نظیر ممارسة الیهود فی الجاهلیة سابقا والی یومنا هذا، فکیف یسوغ حصول هذه المفسدة بتمامها عن طریق الحیل الشرعیة وباسم معاملی آخر فمن التشدید والتغلیظ فی أدلة حرمة الربا یستفاد نفی نتیجة الربا وإن کانت بطرق أخری، هذا وذلک الباب وان کان یحتمل فیه التفصیل إلا أنا المراد من الاستشهادیة هو أصل التنظیر فی المحذور.

وأما صغرویا فإن التصدق بربع او ثلث او نصف الثمن لا یقوم به

ص:120

إلا النزر القلیل من المکلفین، اذ التاجر وغیره یری بأن المال ماله فکیف تطاوعه نفسه بان یتصدق بثلثه او أکثر من ذلک، فإما أن یحجم عن التعامل مع الدول الوضعیة او لا یلتزم بالتصدق.

هذا مع أن مجهول المالک لا صغری له کما تقدم.

والحمد لله اولا واخرا.

ص:121

ص:122

قاعدة :لا ضرر

اشارة

ص:123

ص:124

لا ضرر

تطبیقها فی مورد عدم جواز الترقیع والتصرف ببدن الانسان انموذجا

استدل علی عدم جواز التصرف ببدن الانسان بعدة ادلة, وقد ذکرناها فی کتابنا فقه الطب .

ومما استدل به علی المنع قاعدة لاضرر:

فقد تمسّک المشهور بالقاعدة, قال بعض الأعلام: الضرر بالنفس حرام للروایات الموجودة فی أبواب الأطعمة المحرمة المشتملة علی تعلیل حرمتها بالضرر.

ودعوی- أنه حکمة للحرمة لا علّة تدور مدارها لحرمة القلیل من تلک الأصناف المحرمة وإن لم تکن مضرّة، مع أنّه ورد فی تلک الأبواب خواص الأطعمة المضر منها والنافع ولا یلتزم بحرمتها- ضعیفة اذ لا ملازمة بین کون الضرر موضوعا للتحریم ودوران الحرمة فی الأشیاء المزبورة مدار الضرر المعلوم للمکلفین، اذ فردیة تلک الأصناف ومصداقیتها لما یضرّ بالبدن مما کشف الشارع عنها وتعبّدنا بذلک بلا فرق بین القلیل والکثیر.

وأما النقض بما ورد فی خواص الأغذیة الضارّة والنافعة فمدفوع بأنّ مطلق النقص لیس ضررا ولذا ورد فیها ما یصلحها. واشکل بعض متأخّری الأعصار علی الاستدلال المشهور بأنّ لا ضرر دلیل رافع لا

ص:125

مثبت. هذا والصحیح أن کونها رافعة لا یخدش فی استفادة حرمة الاضرار منها، لا کما قرّبه شیخ الشریعة من أنّ (لا) ناهیة، بل استفادة الحرمة تامّة مع کون (لا) نافیة بتقریب نذکر له مقدمة وهی ما قرّر فی علم الأصول من انّ أی اطلاق أو عموم له مدلول التزامی فی فرد بخصوصه فلیس ذلک المدلول الالتزامی بحجّة. وأمّا إذا کان مدلوله الالتزامی فی کل أفراده فهو حجّة، لأنه مع کونه فی کل الأفراد یستلزم کونه مدلولا التزامیا لأصل الدلیل بخلاف ما إذا کان فی فرد واحد فلا یکون مدلولا التزامیا لنفس الدلیل وبالتالی لا یکون قد ساقه المتکلّم ولا نصب قرینة علی إرادته. اذ المتکلّم لیس فی سیاق وتوضیح أحکام شئون الفرد، بل فی سیاق بیان أحکام وشئون الطبیعة.

هذا وأمّا فی المقام، فالمشهور عندما یستدلّون بلا ضرر ولا ضرار لإثبات الحرمة مع کون عموم مفاده الرفع والنفی فقد یتوهّم انّ استفادة الحرمة من المدلول الالتزامی للفرد لا لعموم الطبیعة وقد ذکر متأخّروا هذه الأعصار نظیر هذا الاشکال فی خیار الغبن والعیب. وحیث انّ المشهور تمسّکوا لاثباتهما بلا ضرر فأشکل علیهم بأنّه مدلول التزامی للفرد فلا یکون ذلک المفاد منه حجّة.

وتنقیح الحال انّ ثبوت مدلول فی فرد خاص من عموم الطبیعة تارة من باب المدلول الالتزامی وأخری من باب الترتّب الشرعی أو العقلی القهری لنفس مفاد الطبیعة فی ذلک الفرد. أی یلزم مفادها عقلا فی ذلک الفرد ثبوت مدلول آخر.

ص:126

فلیس حجیّة المدلول الثانی من باب حجیّة الدلالة الالتزامیة کی یقال انّه لیس بحجّة فیجب أن نفرّق بین الأحکام العقلیة أو الشرعیة القهریة المترتبة علی شیء وفرد من الطبیعة ولها دلیلها الخاص بنفسها وبین کون هذا المدلول الآخر ثبوته رهین بالمدلول الالتزامی للدلیل، مثلا إذا أثبت الاستصحاب انّ هذا الماء طاهر وقد غسل به ثوب النجس فهذا الثوب یطهر وطهارته لیست من لوازم طبیعة کل استصحاب وانّما من لوازم هذا الفرد.

وهو مع کونه مدلولا التزامیا لدلیل الاستصحاب فی الفرد إلا انّ له دلیله الخاص وهو مطهریة الماء الطاهر للمتنجسات فاللازم عدم الخلط بین الموردین.

اذ اتّضح ذلک فنقول: استفادة حرمة الإضرار بالنفس من (لا ضرر ولا ضرار) إن کانت کمدلول التزامی فی الفرد فإشکال المتأخرین بذلک وأنه لیس بحجّة فی محلّه وأمّا إذا کانت استفادته لا من جهة ذلک، بل لأن له دلیلا آخر عقلیا أو شرعیا فلا بأس.

وتقریب ذلک انّ المشهور یطبّقون (لا ضرر) علی نفس الجواز التکلیفی، حیث انّ الأصل الأولی فی الأفعال الإباحة والجواز. فاذا طرأ علیه الضرر واضراره بالبدن فلا ضرر ترفع الجواز التکلیفی ومع رفعه ینتج عقلا الحرمة لا من باب المدلول الالتزامی للفرد کی یتوقّف علی دلالة دلیل العام، بل لأن معنی رفع الاذن فی الترخیص عقلا هو الحرمة، فبمقتضی نفس تطبیق (لا ضرر) یقتضی الرفع الحرمة.

ص:127

إن قلت: قاعدة (لا ضرر) تجری فی الأحکام الإلزامیة ولا تشمل الأحکام غیر الإلزامیة لأن الضرر فی موارد الجواز یوجد بسبب إرادة المکلّف واختیاره لا بسبب إلزام من الشارع.

قلت: بالترخیص وفتح الباب من الشارع یصحّ إسناد الضرر إلیه، اذ لو لم یرخص لما حصل الإقدام علی الضرر والتفرقة بین الإلزام وأن فیه قهرا لإرادة المکلّف بخلاف الترخیص فلیس فیه تحمیل وقسر، ضعیفة. اذ فی الإلزام لا تسلب الإرادة الاختیاریة تکوینا ولو بلحاظ العقوبة والخوف منه وإلا لسقط التکلیف سیّما عند من لا یرتدع وفی الترخیص سیّما الاقتضائی الندبی یصدق الإسناد إلی الشارع کما یشهد به الوجدان. ومن ثم یقال للمولی: لم رخّصت له فی الفعل الکذائی؟

فتلخّص: انّ الأقوی عدم جواز قطع عضو من أعضاء انسان حیّ من دون تفصیل بین العضو الرئیسی وغیر الرئیسی وتفصیل بعض الفقهاء ومنهم بعض أجلة المعاصرین مستند إلی انّ الضرر الخطیر حرام من باب الإجماع القطعی المسلّم أو السیرة دون غیره.

ولکن قد تقدم انّ الأدلّة دالّة علی حرمة مطلق الضرر. نعم الضرر لیس هو مطلق النقص والخسارة بل خصوص غیر المتدارک. ففی الموارد التی ترتکب لأجل أغراض عقلائیة هامّة معتادة عند العقلاء خارجة تخصصا.

اذ اتّضح ذلک نقول: انّ السید الخوئی(قدس سره) فی مسالة الترقیع بالعضو قال ما نصه (مسالة 40: هل یجوز قطع عضو من اعضاء انسان حی للترقیع اذا رضی به؟ فیه تفصیل: فان کان من الاعضاء الرئیسیة للبدن

ص:128

کالعین والید والرجل وما شاکلها لم یجز ...). ولم یذکر فی ما اذا توقفت حیاة حیّ آخر علی ترقیع العضو ولعلّه لو کانت تتوقّف حیاة الآخر علیه لکان أیضا تتوقّف حیاة المتبرّع علیه ولکن فی مثل الکلیة قد لا تتوقف حیاة المتبرّع علیه بخلاف الآخر وقد صرّح(قدس سره) فی بعض الفتاوی بالجواز فی غیر الأعضاء الظاهرة کالکلیة ونحوها من الأعضاء الباطنیة غیر الرئیسیة قال فی کتابه الفتوائی صراط النجاة ج2 سوال 962 ما نصه (اما التبرع باحد الکلیتین او بعض اعضاء الجسم مما لا یکون من الاعضاء الرئیسیة کالید او الرجل فلا باس به, واما التبرع باحد العینین فهو غیر جائز).

وقد أشکل بعض الأعلام من تلامذته قائلا: (لا فرق قی عدم الجواز بین الکلیتین او احد العینین ...).

ولعلّه لبنائه علی عدم جواز التصرّف فی البدن وأنه أمانة وغیر ذلک ممّا تقدّم ولابدَّ لتنقیح الکلام فی التبرّع للآخرین من ذکر صور متعددة لکی لا یحصل الخلط بینها.

الأولی- إذا کان المتبرّع لا یتعرّض إلی الخطر وتوقّفت حیاة المهدی إلیه علیه فحینئذ یجوز التصرّف فی البدن من باب التزاحم وأقوائیة ملاک وجوب حفظ الآخر، لکن تقرر فی محله أنه لا اطلاق فی وجوبه فالحکم بالجواز مشکل، فلاحظ.

الثانیة- إذا کان المتبرّع فی معرض الخطر سواء کان حیاة المهدی إلیه متوقّفة علیه أم لا. فلا یجوز التصرّف فی البدن لاجتماع الحرمتین حرمة التصرّف فی البدن وحرمة التعریض للخطر، کما هو مفاد الآیة الشریفة لا

ص:129

تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ (1) وهما أرجح لو سلّم إطلاق فی دلیل وجوب حفظ الغیر لا سیّما إذا کان إنقاذ حیاة المهدی إلیه غیر مضمون ولا یطمئن إلی بقاء حیاته. نعم لازم ما بنی علیه السید الخوئی(قدس سره) فی موارد أخر، کما إذا دار الأمر بین حیاة نفسین انّ الإنسان مخیّر نظیر الأم إذا کان فی بطنها جنین ودار الأمر بین موت الأم ونجاة الطفل أو إماتة الطفل ونجاة الأم ان الحکم هو التخییر لتساوی الملاکین ونظیر ما لو هدّد شخص آخر بالقتل لقتل ثالث التزامه بالجواز فی المقام - وإن کان ظاهر عبارة فتواه هاهنا الحرمة مطلقا - خلافا للمشهور، حیث بنوا علی مفاد روایة «مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ ع قَالَ إِنَّمَا جُعِلَتِ التَّقِیَّةُ لِیُحْقَنَ بِهَا الدَّمُ فَإِذَا بَلَغَ الدَّمَ فَلَیْسَ تَقِیَّةٌ»(2) وانّه لا یجوز ارتکاب القتل لحفظ النفس وکذلک العکس لا یجوز قتل النفس لحفظ الغیر ولکنه بنی(قدس سره) علی کون ملاک حرمة نفس الشخص عین ملاک حرمة نفس الشخص الآخر فلیس من الواجب علی المکلّف تعیینا حفظ نفسه ولا العکس وسیأتی جهات النظر فی هذا المبنی فی الفرض الثالث.

الثالثة- لو کان یطمئن عند التبرّع بحیاة الآخر أو یحتمل احتمالا معتدا به ولکنه یوجب نقصا فی بدنه وأعضائه دون الهلاک وقد التزم بعض الأعلام فی هذه الصورة بالحرمة أیضا لأن وجوب حفظ نفس الغیر مقیّد بالقدرة عقلا وهاهنا غیر مقدور إلا بالتصرّف فی البدن وهو حرام ممنوع عن فعله وبعبارة أخری: خطاب حفظ نفس الغیر هو عبر الأسباب

ص:130


1- (1) البقرة: 195.
2- (2) الکافی ج2 ص220.

العادیة المتعارفة لا بکلّ سبب وإن کان محرما کالاجحاف بالنفس إلا أن یکون الغیر معصوما أو شخصا فیه جهات أخری ملزمة لبقائه، تعلم منها انّ وجوب حفظه مطلق، یتناول تلک الموارد التی فیها الاجحاف بالنفس فلیس فی البین إطلاق, کمبیت علی(علیه السلام) لنجاة رسول الله صلی الله علیه و آله .

نعم فی موارد استلزام ذلک اصابة الجرح أو الکسر أو ما شابه ذلک لا یکون ذلک الضرر مزاحما راجحا لوجوب حفظ النفس وإن أمکن القول بالرخصة فی ترکه لعموم (لا ضرر) وهذا بخلاف ما استلزم نقص العضو فلا یجوز لانطباق تهلکة النفس علیه فی الفرض مع قصور دلیل وجوب حفظ النفس المحترمة لمثل ذلک، وإن کان حفظ النفس المحترمة فی نفسه- بغض النظر عمّا یستلزمه- راجحا لکنه لا یزاحم ولا یعادل ما هو واجب من حفظ النفس وعلی أی حال لیس لدلیل وجوب حفظ النفس المحترمة اطلاق وشمول لموارد بذل الحافظ لحیاته أو لنقص فی بدنه فکلام السید الخوئی(قدس سره) المتقدم من فرض الدوران محل تأمّل.

ثم لو تنزلنا وقلنا انّ هناک إطلاقا لدلیل وجوب الحفظ فمع ذلک لا نسلّم التخییر، بل یرفع وجوب حفظ الغیر بلا ضرر. وقد یقال ان (لا ضرر) امتنانیة فلا ترفع وجوب حفظ الغیر، اذ رفعها للوجوب المزبور خلاف المنّة بالإضافة إلی الغیر فلا منّة نوعیّة فی هذا المورد.

وفیه: لو تمّ النظر فی (لا ضرر) من هذه الجهة فأدلّة الاضطرار محکّمة، اذ المکلّف مضطر لحفظ حیاته أو أعضائه لا ترک حفظ الغیر.

إن قلت: حکومة (لا ضرر) أو رفع الاضطرار من الأدلّة الأولیة من

ص:131

باب التزاحم الملاکی ولیست مخصصة للأحکام المرفوعة وإذا لم تکن رافعة للملاک بل رافعة للتنجیز أو الفعلیة فالتزاحم علی حاله والدوران تام.

قلت: هذا الحکم ذو الملاک الذی رفعت فعلیته العناوین الثانویة مبتلی بمانع وهو ملاک الاضطرار والضرر بینما الحکم الآخر وهو حرمة ایقاع النفس فی التهلکة علی حاله فعلی فلا مسوغ لرفع الید عنه بتوسط ملاک حکم آخر. فالصحیح انّ جواز التبرّع بالعضو فضلاً عن الوجوب محلّ تأمّل ومنع وإلی ذلک یشیر نفی التقیة فی الدماء

ویشیر استثناؤها من عموم التقیة، اذ مقتضی الاستثناء من عموم مشروعیة التقیة هو حرمتها فی الدماء، کما فی صحیحة محمد بن مسلم وموثقة أبی حمزة الثمالی وغیرهما من الروایات فهی دلیل آخر علی الحرمة.

وأما جواز أخذ المال فی قبال اعطاء العضو فیصح لأن بیع المیتة والانتفاع بها جائز إذا کان بلحاظ المنافع المحلّلة کما ذکرناه فی محلّه(1). ولکن قد یشکل الجواز لا من جهة المیتة بل من جهة وجوب دفن العضو المبان، کما تقرر فی بحث التشریح وبالتالی لا یکون انتفاع الغیر به مشروعا فتنتفی مالیة ذلک الانتفاع، بل قد یصوّر وجوب آخر وهو وجوب اعادة العضو علی الشخص المبان منه فی ما إذا کان ذلک ممکنا.

هذا وقد یقال انّ أخذ المال لیس عوضا عن تلک المنفعة المنهیة عنها کی یکون أکلا للمال بالباطل بعد اعدام مالیتها من قبل الشارع، بل أخذ

ص:132


1- (1) سند العروة، ج2 ص533.

المال هو مقابل حق الاختصاص أو مقابل رفع الید عن ذلک الشیء الذی یکون الآخذ للمال أولی به.

وفیه: انّ حقّ الاختصاص لیس إلا شعبة من الملکیة علی ما هو الصحیح من کون الحق ملکیة ضعیفة، بل فی مثل هذه الموارد هو تمام الملکیة لأن المالیة التی یقابل بها هی عین مالیة الملک فلیس فی البین إلا تغییر الألفاظ وکذلک الحال بالنسبة إلی رفع الید، فإنّه کنایة عن

السلطنة والملکیة لا سیّما وأنه یقابل بقدر المالیة التی للملکیة وإلا فلو کان وضع الید عبارة عن ممانعة تکوینیة صرفة من دون أی حق لصاحب الید فی الشیء لکان بذل المال فی مقابل الباطل بعد عدم استحقاق ذی الید وعدم جواز ممانعته من انتفاع الغیر به.

ص:133

ص:134

قاعدة :إن المتنجس ینجس

اشارة

ص:135

ص:136

إن المتنجس ینجس

القاعدة فی کلمات الفقهاء:

نسب الاجماع الی المحقق فی المعتبر، لکن عبارته التی فی مقام الجواب عن ابن ادریس «واجتمعت الاصحاب علی نجاسة الید الملاقیة للمیت واجمعوا علی نجاسة المائع اذا وقعت فیه نجاسة(1) لا تعطی الاطلاق فی منجسیة المتنجس.

وکذا نسب الی القاضی فی الجواهر وعبارته «وقالوا: لا خلاف بیننا ان الماء اذا نقص عن ذلک ولاقته نجاسة انا نحکم بنجاسته(2)، وهی الاخری لیست فی مقام الاطلاق اذ یتم استدلالهما مع تقیید الکبری للمتنجس عن النجس أو بالوسائط الاولی دون غیرها.

نعم صرح بالاطلاق جمع من متأخری المتأخرین، کما انه نسب الخلاف الی ابن ادریس، ولکن الاصح ان خلافه فی عدم کون نجاسة بدن المیت عینیة بل حکمیة، نعم خالف الکاشانی فی اصل ذلک.

وقد ذکرنا فی مبحث المیاه(3) من کتاب الطهارة حکایة الخلاف عن المحقق صاحب الکفایة وتلمیذه المحقق الاصفهانی بدعوی عدم وروده فی

ص:137


1- (1) المعتبر فی شرح المختصر، ج1 ص350.
2- (2) جواهر الفقه ص6.
3- (3) سند العروة، کتاب الطهارة، ج2 ص140.

الروایات، وهی غریبة کما سیتضح، وهناک تفصیلات اخری فی عدد الوسائط أو بین الجامد والمائع.

هذا: وأما الروایات الدالة علی ذلک فقد ذکرنا فی انفعال الماء القلیل ان منجسیة المتنجس بعین النجس مفاد العدید من الطوائف الدالة فلاحظ، وغیرها مما لم نذکره مما یبلغ التواتر، کالذی ورد فی تطهیر الفرش ومطهریة الارض للقدم المتنجس بها، أو مطهریة الشمس الدالة اقتضاء علی ذلک، وأما حدود دائرتها فی المتنجس بالواسطة فیمکن الاستدلال بما یلی:

الاولی: موثق عمار الساباطی عنه(علیه السلام) عن الکوز والاناء یکون قذرا کیف یغسل وکم مرة یغسل؟ قال: یغسل ...)(1) الحدیث، فانها دالة علی منجسیة الجامد المتنجس للمایع، فبقدر ما تدل الأدلة الاخری علی تنجس الجامد بالوسائط تکون هذه الموثقة دالة علی منجسیته علاوة علی ذلک.

الثانیة: ما ورد فی ادخال الید فی الاناء وهی قذرة(2)، کصحیح ابن أبی نصر وأبی بصیر وغیرهما، من انه یهریق الماء، أو اشتراط طهارة الید کصحیح زرارة(3).

وتقریب الدلالة انه کلما کانت الید متنجسة فانها منجسة للمایع، والامر بإراقته أو اکفائه لانه ینجس ما یصیبه لا لکون مستعملا غیر رافع للحدث والا لما اتلف.

ص:138


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب النجاسات، باب 53 ح1.
2- (2) الوسائل، أبواب الماء المطلق، باب 8.
3- (3) الوسائل، أبواب الوضوء، باب 15، ح2.

لکن الصحیح ان غایة دلالتها هی علی تنجس المایع والماء بالجامد المتنجس لا علی منجسیة ذلک المایع، اذ هی مفاد زائد لا یلزم من الاراقة والنهی عن التوضوء به وشربه، وعلی ذلک تکون دلالتها کالموثقة السابقة.

الثالثة: ما ورد فی البواری المبلولة بماء قذر(1)، کموثقة عمار قال سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الباریة یبل قصبها بماء قذر هل تجوز الصلاة علیها فقال: «اذا جفت فلا بأس بالصلاة علیها».

وتقریب الدلالة أن الماء القذر المتنجس ولو بالواسطة کما تقدم ینجّس الباریة، واشتراط الجفاف فی الباریة لئلا تنجّس الملاقی لها، فیکون حاصل مفادها مع مفاد ما تقدم هو منجسیة الواسطة الثالثة وان فرض کون الواسطة الثانیة مایعا.

واشکل: علی الجزء الثانی فی الدلالة- أی منجسیة الباریة- أن المسؤول عنه هل هو السجود علیها أو الوقوف للصلاة علیها أو الأعم، فعلی التقدیر الاول لا دلالة لها علی المنجسیة بل علی لزوم طهارة محل السجود بتجفیف الشمس، وعلی الثالث فیلزم التدافع والتشویش فیما هو الشرط حیث انه فی السجود جفاف الشمس للتطهیر وفی الوقوف مطلق الجفاف.

نعم علی الثانی تکون دالة علی المدعی بأخذ مطلق الجفاف، وتعیین احد التقادیر غیر میسر، لان اطلاق المجفف یقتضی التقدیر الثانی واخراج فرض السجود- کما عرفت- واطلاق الصلاة علیها یقتضی دخوله

ص:139


1- (1) الوسائل، أبواب النجاسات، باب 3، 29.

فیتمانعان، بل قد یرجح اطلاق الصلاة علیها لکونه فی السؤال والجواب تابع فی الظهور له فتأمل.

وفیه: ان الاقرب اتحاد ظهورها مع ظهور مثل صحیح زرارة عنه(علیه السلام) سألته عن الشاذ کونه یکون علیها الجنابة ایصلی علیها فی المحمل؟ قال: لا بأس)(1)، فان الصلاة علیها بمعنی الوقوف علیها والکون فیها حال الصلاة اذ هی نمط من ثیاب غلاظ مضربة تعمل بالیمن.

ونظیر السؤال فی صحیح علی بن جعفر عنه(علیه السلام) عن البیت والدار لا تصبهما الشمس ویصیبهما البول ویغتسل فیهما من الجنابة أیصلی فیهما اذا جفا؟ قال: نعم(2).

نعم موثقة عمار الاخری هی اصرح فی منجسیة المکان، الا ان فی شمولها لما اذا تنجس المکان بالمتنجس خفاء (عن الشمس هل تطهر الارض؟ قال: اذا کان الموضع قذرا من البول أو غیر ذلک فاصابته الشمس، ثم یبس الموضع فالصلاة علی الموضع جائزة، وان اصابته الشمس ولم ییبس الموضع القذر وکان رطبا فلا تجوز الصلاة علیه حتی ییبس، وان کانت رجلک رطبة أو جبهتک رطبة أو غیر ذلک منک ما یصیب ذلک الموضع القذر فلا تصل علی ذلک الموضع حتی ییبس، وان کان غیر الشمس اصابه حتی ییبس فانه لا یجوز ذلک) (3).

ص:140


1- (1) الفقیه، ج1، ص245.
2- (2) المصدر والصفحة.
3- (3) التهذیب، ج1، ص273.

فانه قد دلت علی منجسیة الجامد المتنجس وان کان برطوبة من الملاقی الطاهر، الا ان دلالتها علی کونه متنجسا بالمتنجس تتم بالاطلاق فی «قذرا من البول أو غیر ذلک) ویمکن معاضدة الاطلاق، وان کان فی فقرات الروایة نحو تدافع یأتی حلّه فی المطهرات بما فی الصحاح المتقدمة من منع الصلاة علی الباریة ونحوها مما تنجس بالماء القذر الا اذا یبست.

الرابعة: صحیح العیص بن القاسم قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل بال فی موضع لیس فیه ماء فمسح ذکره بحجر وقد عرق ذکره وفخذه؟ قال: «یغسل ذکره وفخذیه»(1)، فان الظاهر ارادة غسل مجموع الفخذین وهی المنطقة المقابلة للعضو المتنجس بعین النجس لان الغسل لیس لخصوص النقطتین الملاقیتین للعضو المزبور مما یدل علی ان التنجس حصل بتوسط جریان العرق، فتکون المواضع الاخری للفخذ متنجسة بالمتنجس بالواسطة وهو العرق علی أی تقدیر یصوّر فرض السائل.

ثم انه: قد یستدل علی منجسیة المتنجس مطلقا بلغ ما بلغ بوجوه:

الاول: بما تقدم من ان توصیف الماء بالقذر أو الآنیة به او الید به وغیره مما ورد بنحو العنوان العام للواسطة المتنجسة من دون تحدید یعمّ النجاسة الحکمیة ولا یخصّ العینیة، وعلی ذلک فانه اذا ثبت منجسیة الوسائط الاولی فان مثل الماء والاناء والید المتنجسة بتلک الوسائط یصدق علیها حینئذ القذارة ومن ثم یتحقق موضوع الروایات المتقدمة فیعود حصول سلسلة الموضوعات المترتبة المذکورة فیها وهکذا هلم جرا.

ص:141


1- (1) الوسائل، أبواب النجاسات، باب 29، ح1.

واشکل علیه: بان القذر لا یصدق الا علی المتنجس بعین النجس عرفا؟ بعد کون القذر بالذات هو الاعیان النجسة.

وقد: اجبنا عنه فی انفعال القلیل ان مبدأ ومنشأ القذارة هو الحکم بالنجاسة والتنجس ولزوم الغسل والتطهیر، فکلما حکم علی شیء انه نجس تنجس صدق علیه انه قذر، لکن مع ذلک لا نلتزم بالاطلاق کما سیتضح.

الثانی: ارتکاز السرایة فی النجاسات والقذارات بالملاقاة مع الرطوبة لاسیما فی المایعات، وهو یعاضد الاطلاق فی الوجه الاول.

الثالث: الاجماع المحکی من المحقق والقاضی وجماعة من متأخری المتأخرین.

الا انها محل نظر وتأمل، أما الاول والثانی فان الارتکاز هو علی تخفف القذارة بالترامی الی حد یحکم العرف بانعدام السرایة، ومن ثم یظهر النظر فی الاطلاق المزعوم وان الانصراف متجه بلحاظ الوسائط الاولی.

وأما الوجه الثالث فقد عرفت ان عبارتی المحقق والقاضی لا اطلاق فیهما ایضا، مضافا الی عدم عنونة المتقدمین للمسألة، فکیف تکون عبارتهما ناظرة الیها أو کاشفة عن تسالم السیرة علیه.

روایات معارضة:

هذا: وفی قباله تلک الروایات وردت طائفة أخری ظاهرة فی العدم:

منها: ما وقع التعرض لها فی بحث انفعال القلیل(1) وظهر ضعفها

ص:142


1- (1) سند العروة، ج2 ص158.

ثمة دلالة فی الغالب أو سندا وجهة.

ومنها: صحیح حکم بن حکیم انه سأل أبا عبدالله(علیه السلام) فقال له: ابول فلا أصیب الماء وقد أصاب یدی شیء من البول، فأمسحه بالحائط وبالتراب، ثم تعرق یدی فأمسح وجهی أو بعض جسدی أو یصیب ثوبی، فقال: لا بأس) (1).

وذیل صحیح العیص المتقدم سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عمن مسح ذکره بیده ثم عرقت یده فأصاب ثوبه یغسل ثوبه؟ قال: لا).

ونظیرهما: صحیح علی بن مهزیار قال: کتب الیه سلیمان بن رشید یخبره: انه بال فی ظلمة اللیل وانه اصاب کفّه برد نقطة من البول لم یشک انه اصابه ولم یره، وانه مسحه بخرقة ثم نسی ان یغسله وتمسح بدهن فمسح به کفیه ووجهه ورأسه، ثم توضأ وضوء الصلاة فصلی؟ فأجابه بجواب قرأته بخطه: أما ما توهمت مما أصاب یدک فلیس بشیء الا ما تحقق، فان حققت ذلک کنت حقیقا ان تعید الصلوات اللواتی کنت صلیتهن بذلک الوضوء بعینه ما کان منهن فی وقتها وما فات وقتها فلا اعادة علیک لها ...الحدیث)(2) وتتمته فی الفرق بین نسیان النجاسة الخبثیة والحدثیة.

وکذا روایة سماعة قال: قلت لابی الحسن موسی(علیه السلام): انی ابول ثم اتمسح بالاحجار، فیجیء منی البلل (بعد استبرائی) ما یفسد سراویلی؟

ص:143


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب النجاسات، باب 6، ح3.
2- (2) المصدر، باب 42، ح1.

قال: لیس به بأس(1).

وموثق حنان بن سدیر قال: سمعت رجلا سأل أبا عبدالله(علیه السلام) فقال: انی ربما بلت فلا اقدر علی الماء، ویشتد ذلک علیّ؟ فقال: «اذا بلت، وتمسحت فامسح ذکرک بریقک، فان وجدت شیئا فقل: هذا من ذاک) (2).

ومنها: ما رواه حفص الاعور قال: قلت لابی عبدالله(علیه السلام): الدن یکون فیه الخمر ثم یجفف یجعل فیه الخل قال: نعم(3).

ومنها: مصحح علی بن جعفر عن أخیه قال: سألته عن الکنیف یصب فیه الماء فینتضح علی الثیاب ما حاله؟ قال: اذا کان جافا فلا بأس)(4).

وغیرها مما هو أضعف دلالة بنحو الایهام.

الا انها لا تنهض علی المعارضة لو تمت، وذلک لکونها فی المتنجس بعین النجس، وقد تقدم ان ما دل علی منجسیته یصل الی التواتر أو الاستفاضة الکثیر جدا.

مع ان غالبها لیس بتام الدلالة اذ هو متعرض لجهة أخری، فالطائفة الثانیة کالصحیح الاول محتمل للحمل علی ما فی الصحیح الثالث مع ان سیاق السؤال یلوح منه انه عن مطهریة ازالة عین النجاسة عن البدن الذی هو قول الحنفیة من العامة وان ذکر العرق والمسح استعلاما عن حال الید

ص:144


1- (1) المصدر، أبواب نواقض الوضوء، باب 13، ح4.
2- (2) المصدر، باب 13، ح7.
3- (3) المصدر، أبواب النجاسات، باب 51، ح2.
4- (4) الوسائل، أبواب النجاسات، باب 60.

بالاثر واللازم.

وأما الصحیح الثانی فمضافا الی ما تقدم هو مشتمل علی معارضة داخلیة حیث ان صدره المتقدم نقله دال علی المنجسیة لذی الواسطة فضلا عن المباشر، فلعل السؤال هو عن مجرد مس الید للذکر اثناء الاستبراء من دون ملاقاتها للبول، والتردید الحاصل له من جهة العادة الجاریة علی غسل الید بعد الاستنجاء.

وأما الصحیح الثالث فجعله من أدلة منجسیة ذی الواسطة احری، اذ مفاده صحة الوضوء الذی اتی به وابتلاءه بالنجاسة الخبثیة ولعل المراد به نجاسة مثل الرأس ونحوه بسبب الملاقاة مع الید المرطوبة بالدهن، وان الید وبقیة الاعضاء قد طهرت بالوضوء الاول لاشتماله علی غسل الکفین والغسلتین لکل عضو الموجب لطهارتها قبل الوضوء.

وأما: توجیه مفادها بأنها دالة علی صحة الوضوء، یلزمه عدم منجسیة المتنجس وهی الید لا للماء ولا لبقیة الاعضاء عند الدهن کالرأس اللازم مسحه فی الوضوء، فمن ثم کان خلل صلاته فی النجاسة الخبثیة دون الحدیثة ولزمت علیه الاعادة عند النسیان فی الوقت دون خارجة، وکان الخلل فی الصلوات التی صلاها بذلک الوضوء دون غیره من الوضوء اللاحق لان الید بالوضوء الثانی تطهر بتحقق الغسلتین من النجاسة البولیة(1).

فغیر تام: لان علی ذلک یلزم طهارة الکف فی الوضوء الاول سواء

ص:145


1- (1) التنقیح ج3، ص246.

افترضت الیمنی او الیسری لانها سوف تغسل بالماء مرتین فی الوضوء الاول ولو افترض انه غسل کل عضو غسلة واحدة فی ذلک الوضوء، حیث ان الکف مما یستعان بها فتلاقی الماء مرتین او اکثر فلا یجب علیه اعادة الصلاة بتاتا، وعلی کل حال فدلالتها لا تتم علی عدم المنجسیة ولا بد من التقدیر فی فرض السؤال او حمل الوضوء فی الجواب علی التمسح بالدهن کما صنعه صاحب الوسائل.

وأما روایة سماعة فتحتمل ان المسح بالاحجار هو لموضع النجو لا لموضع البول، وذکره توطئة لما بعده لبیان نحو من السببیة أو لسرد ما یفعله، ونفی البأس عن البلل مقید بالاستبراء کما هو احد نسخ الروایة فی التهذیب، بل انه علی تلک النسخة یتعین هذا الحمل لان التمسح بالاحجار لو کان لموضع البول لما اخّر الاستبراء عنه.

وعلی ایة حال لو فرض ان التمسح هو لموضع البول فان نفی البأس حینئذ یکون راجعا الیه وهو محمول علی مذهب العامة فی التطهیر.

وأما موثق حنان فهو ادل علی منجسیة المتنجس حیث ان الشدة التی یتکلف منها الراوی هی لذلک بتنجس البلل المحکوم بطهارته بملاقاة الموضع، فبلّ الذکر فی غیر موضع البول یوجب بلل الثوب أو الفخذ فاذا وجد شیئا منها متبللا حصل له الشک المحکوم بالطهارة، والا فعلی عدم المنجسیة لا حاجة للبل بالریق بل یکفی الاستبراء فیبقی البلل علی طهارته، بل أن التصریح فی الروایة بالبینونة بین البلل الخارج وبلل الریق ناص علی ان المحذور هو من البلل الخارج کما سبق توضیحه، وخروج البلل علی حالتین تارة یحسّ به بنفس الموضع واخری بتحسس البرودة من

ص:146

الفخذ، والفرض فی الروایة محمول علی الثانی.

وأما روایة حفص الاعور فقد تقرر فی مبحث المیاه من کتاب الطهارة ان اطلاقها مقید بالروایات الاخری الواردة فی نفس الفرض الآمرة بالغسل اولا، وان السؤال فیما هو عن اصل الاستعمال نظرا لورود النهی النبوی عن استعمال ظروف الخمر، ونفی البأس لکون الاستعمال متعلق بالماء لا بما ینبذ فیه.

وأما مصحح علی بن جعفر فلیس المراد من الکنیف البالوعة فی فرض السائل بل المراد به بیت الخلاء وموضعه مما قد یکون مسطحا، کما هو الحال فی مصححه الآخر عن أخیه موسی بن جعفر (علیهما السلام) قال: سألته عن الرجل یتوضأ فی الکنیف بالماء یدخل یده فیه ایتوضأ من فضله للصلاة؟ قال: اذا ادخل یده وهی نظیفة فلا بأس ولست أحب ان یتعود ذلک الا ان یغسل یده قبل ذلک، وعلی ذلک فیکون حالها حال ما ورد من عدم تنجس ما یترشح من قطرات من الارض التی یبال علیها، وذلک لتوارد الطهارة والنجاسة علیها فیحکم بالطهارة عند الشک.

فرعان:

الاول: لا تجری علی المتنجس کل احکام النجس:

فاذا تنجس الاناء بالولوغ یجب تعفیره ولکن اذا تنجس اناء اخر بملاقاة هذا الاناء لایجب تعفیره، وان ذهب الیه جماعة من المتأخرین ومتأخری المتأخرین لدعوی ان السرایة والمنجسیة نحو من توسعة النجاسة الاولی أو تولید نجاسة من سنخ النجاسة الاولی، ومن ثم تترتب

ص:147

علی الملاقی کافة الآثار، لکنه استحسان لا استظهار فی الأدلة بعد عدم توسعة أدلة النجاسة الاولی للملاقی ولا اشارة فیها الی المسانخة، فحینئذ یقتصر فی الاثار الخاصة علی مورد الدلیل فی المتنجس الاول.

الثانی: اذا صب ماء الولوغ فی اناء اخر لایجب فیه التعفیر:

ذهب الیه العلامة والمحقق الثانی فی المحکی، ووجهه ان الموضوع له اذا استظهر انه لعابه الموجود فی الماء الملاقی للاناء الاول فهو بعینه متحقق فی الاناء الثانی، واذا استظهر انه عنوان الولوغ ای بما یشتمل علی ملاقاة لسانه وربما شفاره.

مضافا الی لعابه فانه غیر متحقق فی الثانی کما لا یخفی، ولا یبعد الاول نظرا لاخذ عنوان فضله فی الصحیح وان احتمل خصوصیة اناء الولوغ من جهة انه القدر المتیقن من مرجع الضمیر فی (و اغسله بالتراب) حیث لا اطلاق فیه، مضافا الی التزامهم وجوب التعفیر لاناء الولوغ وان لم یلاق جداره بدن الکلب او لسانه، فیظهر من ذلک ان المدار علی الفضل والسؤر، وهذا کله فی صورة الصب دون الملاقاة کما لا یخفی.

ص:148

قاعدة :فی تعیین المالک لما یقابل الدین والوصیة من الترکة

اشارة

ص:149

ص:150

فی تعیین المالک لما یقابل الدین والوصیة من الترکة

الأقوال فی المسالة:

حکی فی الجواهر اختلاف الأقوال(1)، فمن قائل بأنّ المال للمیّت، والآخر أنّ المالک هو الورثة، وثالثا أنّ المقدار المزبور لا مالک له ولکن فی حکم مال المیّت وتفاصیل اخری.

ذهب إلی الأوّل: الحلّی فی وصایا السرائر والمحقّق والعلّامة فی الإرشاد وفی وصایا المختلف والشهید ومحکی المقنع والنهایة والخلاف والراوندی والفخر.

وذهب إلی الثانی: العلّامة فی القواعد والتحریر والتذکرة وقضاء المختلف والفخر فی الحجر ووصایا الایضاح وحواشی الشهید وقضاء المسالک ومواریثه ومواریث کشف اللثام وهو المنقول عن المبسوط.

ولتنقیح الحال یقع الکلام فی جهات:

الجهة الأولی: أدلّة الأقوال

استدلّ للقول الأول:

ص:151


1- (1) جواهر الکلام، ج26، ص84.

أوّلا: بظاهر الآیات:

کقوله تعالی: یُوصِیکُمُ اللّهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ ... مِنْ بَعْدِ وَصِیَّةٍ یُوصی بِها أَوْ دَیْنٍ (1).

فإنّ ظاهر البعدیة تقیّد متعلّق الإرث بغیر مقدار الوصیة والدین.

ثانیا: بالروایات:

کموثّق عبّاد بن صهیب عن أبی عبدالله(علیه السلام): «فی رجل فرّط فی إخراج زکاته فی حیاته، فلمّا حضرته الوفاة حسب جمیع ما فرّط فیه ممّا لزمه من الزکاة ثمّ أوصی أن یخرج ذلک فیدفع إلی من یجب له، قال: فقال: جائز یخرج ذلک من جمیع المال إنّما هو بمنزلة الدین لو کان علیه لیس للورثة حتی یؤدّی ما أوصی به من الزکاة» الحدیث(2).

وصحیحة محمّد بن قیس عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: «قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): أنّ الدین قبل الوصیة، ثمّ الوصیة علی أثر الدین، ثمّ المیراث بعد الوصیة فإنّ أوّل القضاء کتاب الله»(3).

وصحیحة سلیمان بن خالد عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «قضی علیّ(علیه السلام) فی دیة المقتول: انّه یرثها الورثة علی کتاب الله وسهامهم إذا لم یکن علی المقتول دین إلّا الاخوة والأخوات من الأمّ فإنّهم لا یرثون من دیته شیئا»(4).

ص:152


1- (1) سورة النساء: الآیتان 12/11.
2- (2) الوسائل، باب 40، من أبواب الوصایا ح1.
3- (3) المصدر، باب 28، ح2.
4- (4) التوبة: 75.

وثالثا: بالسیرة:

علی تبعیّة النماء للترکة فی وفاء الدین ولو کانت للورثة لما کانت التبعیة فهی دالّة علی کون الترکة علی ملک المیّت.

استدل للقول الثانی: (کما عن التذکرة):

أوّلا: بأنّ لازم کل من الإجماع علی عدم کون الترکة للغرماء وکما أنّه لیس للمیّت لکون الملک صفة وجودیة لا تقوم بالمعدوم، والمال لا یبقی بلا مالک فیتعیّن للوارث.

وثانیا: بأنّ ابن الابن یشارک عمّه لو مات أبوه بعد جدّه فی الإرث بعد حصول الإبراء من الدین إجماعا فلو کانت الترکة قبل إبراء الدین علی ملک المیّت لما ورث ابن الابن من أبوه الذی مات قبل إبراء الدین.

وثالثا: إنّ الوارث یحلف مع الشاهد لإثبات مال المیّت المتنازع فیه ولو لم یکن مالکا لکان للغرماء إذ هو حینئذ أجنبی عن المال لا یقبل حلفه کما لا یکفی فی قبول الحلف منهم دعوی أنّ لهم نحو حقّ فی المال.

ورابعا: بأنّ الإجماع قائم علی أنّ الورثة أحقّ بأعیان الترکة من غیرهم.

الجهة الثانیة: تحقیق الحال فی الأقوال:

تنظر صاحب الجواهر فی أدلّة القول الأوّل بأنّ الإجماع قائم علی أنّ ما زاد من الترکة علی الوصیة والدین هو ملک للورثة بموت المیّت مباشرة وهو قرینة علی أنّ المراد بالبعدیة فی الآیة والروایات لیست بمعنی التقیید

ص:153

الزمانی بعد الأداء أو العزل وحمل البعدیة علی الغیریة والتحدید لمورد الإرث لما عدی مورد الوصیة والدین خلاف ظاهر الآیات والروایات، فالأظهر فیها أنّها لتحدید مورد تقدیر السهام أی أنّ الانتفاع الفعلی للورثة بالترکة المملوکة وإجراء القسمة إنّما هو بعد إخراج الدین فلیست الأدلّة فی صدد نفی ملکیّتهم لمقدار ما یقابل الدین ولیس هو ملکا للغرماء إجماعا ولا ملک للمیّت لأنّ ما ترکه المیّت لوارثه غایة الأمر أنّه یستوفی منه الدین واستثنی من ذلک الوصیة حیث إنّ ظاهر الأدلّة فیها إبقاء الموصی به علی ملک المیّت واستثنائه من الإرث.

عضد ما ذکره فی الدین.

أقول: یمکن أن یعضد ما ذکره فی الدین بوجهین آخرین:

الوجه الأوّل: إنّ المقیّد فی آیات الإرث بکونه بعد الوصیة والدین هو تحصیص السهام وتوزیع الترکة أی القسمة للترکة، وکذا بعض صریح الروایات المتقدّمة فلیس المقیّد أو المعلّق هو أصل الإرث بل إنّ آیة اولی الأرحام بعضهم اولی ببعض لم تقیّد بذلک وکذا عموم قوله: «ما ترک المیّت فهو لوارثه».

الوجه الثانی: انّه بعد الفراغ عن کون الدیان لا یملکون الأعیان فلا محالة یکون تعلّق حقّهم فی الاستیفاء من الترکة من قبیل سنخ حقّ الرهن أو الجنایة أو نحو ذلک.

والمفروض أنّ حقّ الرهانة ونحوه لا یمانع الانتقال بالإرث کما لو

ص:154

کانت ترکة المیّت قبل موته مرهونة فإنّه لا یمانع الرهن انتقال العین المرهونة إلی الورثة، وکما عبّر المحقّق النائینی قدّس سرّه أنّ حقّ الرهانة یمانع تبدیل الإضافة الملکیة لا تبدیل المضاف إلیه أی المالک، ففی المعاوضات تبدیلا للاضافة وفی باب الضمانات تبدیلا للأعیان أمّا فی الإرث فتبدیلا للمالک دون الملکیة والمملوک، ومراده قدّس سرّه لیس من حیث الدقّة العقلیة؛ إذ لا یعقل تبدّل أحد الثلاثة من دون تبدّل الإضافة بل المراد بحسب النظر الاعتباری عند العرف والعقلاء والمنظور

المهمّ فیه سنخ الآثار فلا یعدّون المملوک والملک جدیدا فی باب الإرث بالنسبة للوارث بعد کونه یتلقاه من مورّثه فحق الرهانة لا یمانع الانتقال بالإرث ولکنّه یمانع الانتقال للعین بالمعاوضة، فالوارث یتلقّی الملکیة المحبوسة القدیمة من مورثه، فکذلک الحال فیما نحن فیه، فإنّ حقّ الدیان فی الاستیفاء لا یتدافع مع انتقال المال من إرث المیّت إلی الورثة، غایة الأمر أنّه ملکا محقوق وذلک بعموم ما ترک المیّت لوارثه وعموم: أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ (1) وقد عرفت فی الوجه الأوّل أنّه ما قد یتوهّم کونه مخصّص لهذا العموم لیس مخصّصا وإنّما هو بصدد بیان ارتهان الترکة بالدیون فتقدّم فی الاستیفاء علی القسمة والتوزیع علی الورثة أی علی الانتفاع الفعلی لهم ولا ما قد یتوهّم أنّ ملک الورثة معلّق علی أداء الدین ولو من الخارج أو أنّه غیر مستقرّ إلّا بعد أداء الدین أو أنّ ملکهم مشروط بشرط متأخّر وهو أداء الدین لاحقا ولو من خارج

ص:155


1- (1) الأنفال: 75.

الترکة أو بالإبراء، أو أنّ ملک الورثة وحقّ الدیان من قبیل المتزاحمین والأهمّیة لحقّ الدیان، أو أنّ للورثة حقّ متعلّق بالترکة بأن یتملّکون علی تقدیر فراغ ذمّة المیّت بالإبراء أو أداء الدیون ولو من خارج.

فإنّ کلّ هذه الوجوه وإن کانت ممکنة إلّا أنّها تکلّفات لا شاهد لها ولا مقتضی من الأدلّة.

والغریب من البعض الالتزام بالجمع بین التزاحم والملک المشروط بالشرط المتأخّر، فإنّ مقتضی التزاحم فعلیة کل منهما وفعلیة موضوعه المنجز بینما یقتضی المشروط بالشرط المتأخّر عدم فعلیة الملک وعدم فعلیة الشرط المتأخّر لاحقا.

هذا کلّه لو قلنا إنّ حقّ الدیان متعلّق بملک الترکة، وأمّا لو قلنا بأنّه متعلّق بمالیّتها کحقّ الجنایة فی العبد فعدم ممانعته حینئذ للانتقال بالإرث أوضح، فإنّ العبد الجانی ینتقل بالمعاوضة فضلا عن انتقاله بالإرث.

ثمّ إنّ الوجه الثالث الذی استدلّ به للقول الأوّل من قیام السیرة بتعلّق حقّ الدیان بنماء الترکة لا یشهد ببقاء ملک المیّت؛ إذ قد یکون حقّ الدیان من قبیل حقّ الخمس المتعلّق بمالیة العین وبنمائها أیضا، وهو لا یمانع انتقال تمام ملکیة العین.

أمّا الوجوه التی ذکرها العلّامة: فیتنظر فی الوجه الأوّل بأنّه لا مانع من فرض ملک المیّت بقاءا وحدوثا کما فی الصید المتجدّد فی شبکته وقضاء الدین من دیته مطلقا؛ لأنّ الملکیة من الاعتبار وهو خفیف المؤنة.

وإن کان المثالین یمکن أن یحملا علی انتقال ملک الشبکة للورثة وأنّ

ص:156

الصید من قبیل النماء لها وأنّ الدیة ملکا للورثة محکومة بحکم الترکة.

وأمّا الوجه الثانی وهو إرث ابن الابن مع العمّ بعد موت أبیه ثمّ إبراء الدین فتام الدلالة وإن أمکن توجیهه بأنّه یلتأم مع القول بعدم ملک الورثة بل مجرّد استحقاقهم

للتملّک فیرث ابن الابن استحقاق التملّک من أبیه فیتملّک بإبراء الدین، وذلک لعدم الدلیل علی مثل هذا الاستحقاق إذ أدلّة الإرث کبقیّة أدلّة النواقل إنّما تدلّ علی مجرّد النقل لا علی التصرّف فی المنقول وقلبه من الملک إلی الحقّ والعکس.

نعم هناک انتزاع عقلی من قضیة الإرث ولو فی حیاة المورث ینتزعه العقل من أدلّة الإرث وهو مفهوم استحقاق الورثة للملک ولکنّه لیس معنی شرعی مجعول.

ومن ذلک یتّضح تمامیة ما ذکره فی الوجه الثالث وإن بنینا علی الصحّة مع وجود الحقّ بل علی ما بیّناه یکون الورثة أسوء حالا من الغرماء لأنّ الغرماء لهم حقّ الاستیفاء بینما الورثة مع عدم الملک لا دلیل علی ثبوت حق لهم إلّا المعنی الانتزاعی العقلی غیر المجعول شرعا.

وهکذا الکلام بعینه فی الوجه الرابع.

الجهة الثالثة:

الظاهر أنّ المقدار الذی یقابل الوصیة باقیا علی ملکیّة المیّت سواء کان بنحو الإشاعة أو المعین شخصا أو الکلّی فی المعیّن فإنّ ذلک هو ظاهر

ص:157

عدّة من الروایات، کصحیح أبی بصیر قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل یموت ما له من ماله فقال: له ثلث ماله وللمرأة أیضا»(1).

وروایة أبی بصیر عن أبی عبدالله(علیه السلام) «فی الرجل له الولد أیسعه أن یجعل ماله لقرابته؟

فقال: هو ماله یصنع به ما شاء إلی أن یأتیه الموت إنّ لصاحب المال أن یعمل بماله ما شاء ما دام حیّا، إن شاء وهبه وإن شاء تصدّق به وإن شاء ترکه إلی أن یأتیه الموت، فإن أوصی به فلیس له إلّا الثلث إلّا أنّ الفضل فی أن لا یضیع من یموّله ولا یضرّ بورثته»(2).

وصحیحة ابن سنان- یعنی عبدالله- عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «للرجل عند موته ثلث ما له وإن لم یوص فلیس علی الورثة إمضاؤه» «1».

وصحیحة علی بن یقطین: سألت أبا الحسن(علیه السلام): «ما للرجل من ماله عند موته؟ قال: الثلث والثلث کثیر»(3).

الجهة الرابعة:

الظاهر أنّ حقّ الغرماء فی الترکة کما قد تقدّم لیس من قبیل الملک أو الحقّ فی المالیة المشاع بحیث لو طرء التلف علی الترکة ینقص بذلک القدر بل الظاهر من الأدلّة کونه من قبیل الکلّی فی المعیّن، وهو مقتضی التعبیر ب «ثمّ» کما تقدّم فی صحیحة محمّد بن قیس.

ص:158


1- (1) الوسائل، باب 10، من أبواب الوصایا ، ح2.
2- (2) المصدر، ح3.
3- (3) المصدر، ح7.

وکما فی معتبرة السکونی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «أوّل شیء یبدأ به من المال الکفن، ثمّ الدین ثمّ الوصیة ثمّ المیراث»(1)، فإنّ مقتضاها الاستیفاء وإن طرء التلف؛ إذ لیس هو فی عرض ملک الورثة.

امّا الوصیة فحکمها أیضا کذلک ما دام فی مقدار الثلث إن کانت معیّنة عینا أو قدرا نقدیا ما لم تزید نسبته علی الثلث فی المجموع المتبقی وأمّا انّ کانت غیر معیّنة مقدّرة بکسر مشاع فالظاهر ورود النقصان علیها بالنسبة إلّا أن یکون الکسر المشاع دون الثلث وکان المقصود الإشارة إلی قدر معیّن.

الجهة الخامسة:

الظاهر جواز تصرّف الورثة غیر الناقل للملک بنحو لا یفوّت علی الغرماء إمکان استیفائهم، کأن ینتفع من منافع الترکة غیر العینیة کالجلوس فی البیت أو استخدام الدابة ونحو ذلک، وکذا الحال بالإضافة إلی الوصیة فإنّ غایة ما یستفاد من الروایات المتقدّمة هو منع الورثة من أکل الترکة بالتصرّف الناقل أو التوزیع أو القسمة، بل انّ ظاهر صحیحة أبی نصر أنّه سئل عن رجل یموت ویترک عیالا وعلیه دین أینفق علیهم من ماله؟ قال: «إن استیقن إنّ الذی علیه یحیط بجمیع المال فلا ینفق علیهم وإن لم یستیقن فلینفق علیهم من وسط المال»(2).

وصحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبی الحسن(علیه السلام) مثله إلّا أنّه

ص:159


1- (1) المصدر، ح8.
2- (2) المصدر، باب 28، من الوصایا، ح1.

قال: «إن کان یستیقن أنّ الذی ترک یحیط بجمیع دینه فلا ینفق علیهم وإن لم یکن یستیقن فلینفق علیهم من وسط المال»(1) جواز التصرّف مطلقا فی ما زاد علی الوصیة والدین.

نعم عن السرائر فی کتاب الدین:

«إنّ اصول مذهبنا تقتضی أنّ الورثة لا یستحقّون شیئا من الترکة دون قضاء جمیع الدیون ولا یسوغ ولا یحلّ لهم التصرّف فی الترکة دون القضاء إذا کانت بقدر الدین لقوله تعالی:«مِنْ بَعْدِ وَصِیَّةٍ یُوصِی بِها أَوْ دَیْنٍ فشرط صحّة المیراث وانتقاله أن یکون ما یفضل عن الدین فلا یملک الوارث إلّا بعد قضاء الدین»(2). وکذا فی میراث القواعد وحجر الایضاح ورهنه.

وحکی صاحب الجواهر عن قضاء الایضاح قوله: أجمع الکلّ علی أنّه إذا مات من علیه دین یحیط بجمیع ترکته لا یجوز للوارث التصرّف فیها إلّا بعد قضاء الدین أو إذن الغرماء(3) ونحوه عن المسالک بل فی مفتاح الکرامة أنّه کذلک یشهد له التتبّع، قلت: بل التتبّع شاهد بخلافه کما لا یخفی علی من لاحظ القواعد وجامع المقاصد فی باب الحجر. ولعلّه یستظهر أنّ الأخبار المتقدّمة قد علّقت قسمة المیراث علی قضاء الدین.

وفی صحیح عباد بن صهیب المتقدّم «لیس للورثة شیء حتی یؤدوا».

ص:160


1- (1) المصدر، باب 29، من الوصایا، ح1.
2- (2) نقلاً عن الجواهر، ج26، ص85.
3- (3) المصدر، ج26، ص93.

وهناک قول ثالث حکاه فی الجواهر عن المحقّق الثانی بنفوذ تصرّف الورثة فی الترکة مطلقا حتی فیما یقابل الدین قال: ولا منافاة بعد ثبوت التسلّط لذی الحق علی الفسخ إن لم یدفع له ففی الصحّة حینئذ جمع للحقّین، وتحتّم الأداء علی الوارث حکمة التعلّق کما أنّ سلطنة الغریم علی الفسخ تنفی الضیاع (للدین) ومن هنا قال التحقیق بالنفوذ أقوی، قلت: هو کذلک»(1) ویظهر منه المیل لذلک.

هذا والأقوی- بعد کون المعلّق فی آیات الإرث والروایات هو القسمة والتوزیع کما تقدّم- هو التفصیل الموجود فی صحیح عبد الرحمان بن الحجّاج وروایة البزنطی وهو مقیّد لإطلاق المنع عن التصرّف فی الروایات المتقدّمة وأمّا فی المقدار المقابل الذی یقابل الدین والوصیة فکل من الروایتین مع الروایات المتقدّمة دالّة علی منع التصرّف مطلقا عدی ما ذکرناه من الانتفاعات فی السیرة الجاریة غیر المنافیة لحقّ الدیان بل إنّ هذا الاستثناء منقطع إذ لیس مدلول المنع من الروایات السابقة شاملا لمثل هذه الانتفاعات الیسیرة لقوله(علیه السلام): «لیس للورثة شیئا» لانسباق العین ونحوها من لفظة شیء وبذلک فلا یبقی ثمرة للبحث عن کون حقّ الدیان فی الترکة من قبیل حقّ الرهن أو حقّ الخمس أو حقّ أرش الجنابة أو تعلّقا مستقلّ.

فتلخّص: إنّ الآیات والروایات فی صدد الحجر علی الورثة فی ما یقابل الدین لا فی ما زاد فی قبال ظاهر مطلقات الإرث الدالّة علی الملک

ص:161


1- (1) المصدر، ح2.

المقتضی لمطلق التصرّف.

فرع: لو ضمن الورثة أو بعضهم دین المیّت للغرماء انتقل الدین من ذمّة المیّت إلی ذمّة الورثة إذا رضی الدیان بالضمان وکذا الحال لو أذن الغرماء بالتصرّف لأنّهم ذوی الحقّ، سواء کان بمعنی الاسقاط لحقّهم فی استیفاء الدین من الترکة أو لا.

ص:162

قاعدة :شرطیة إذن الأب فی أعمال الصبی

اشارة

ص:163

ص:164

شرطیة إذن الأب فی أعمال الصبی

ادلة القاعدة:

تمهید فی اصل مشروعیة اعمال الصبی:

یدلّ علیه نفس عمومات مشروعیة عباداته کالحجّ واستحبابه بناء علی القول الثانی والثالث فی حدیث رفع القلم عن الصبی من أنّه رفع الفعلیة التامّة أو التنجیز والمؤاخذة لا أصل المشروعیة، ویرشد إلی ذلک ما ذکرناه من الروایات فی بحث سند الحج(1) من لزوم إعادة حجّه بعد بلوغه الدالّ علی ارتکاز مشروعیة الحجّ للصبی لدی الرواة، وأیّاً ما کان فالروایات المزبورة هی وجه مستقلّ فی الدلالة علی الاستحباب، کما یمکن الاستدلال علی المشروعیة بما ورد من روایات عدیدة من استحباب احجاج الأولیاء للصبیان(2) بضمیمة أنّ الاعمال یأتی بها الممیّز بنفسه لا بحمل الولی له علیها کما هو الحال فی الرضیع وغیر الممیّز. هذا کلّه فی أصل الاستحباب.

أمّا اشتراط إذن الأب فی حج الصبی فقد یستدلّ بوجوه:

الأوّل: استلزام مثل الحج للتصرّف المالی، أو أنّه بنفسه تصرّف مالی، وهو ضعیف کما أشار إلی وجه ضعفه السید الیزدی فی العروة.

ص:165


1- (1) سند العروة الوثقی ، کتاب الحج ج1 ص28 شرطیة البلوغ.
2- (2) وسائب باب 17 من أبواب أقسام الحج.

الثانی: کون مشروعیة الاستحباب هی القدر المتیقّن من الأدلّة فلا تشمل العمل العبادی من دون اذن الاب.

وهو ضعیف أیضا لأنّ الأدلّة کما ذکرنا فی محله مطلقة بحمد الله.

الثالث: أولویة اشتراط الإذن فی حج الصبی منه فی البالغ وحیث انّ فی البالغ یشترط ذلک للنصّ المعتبر الوارد وهو معتبرة هشام(1).

و فیه أنّه سیأتی ضعف الاستشهاد بتلک الروایة فی البالغ.

الرابع: دعوی أنّ مقتضی ولایة الأب علی الصبی فی أمواله بل وکافّة اموره من نکاحه وتربیته وتأدیبه مقتضاها أنّ حرکات الطفل وسفره وترحاله یکون بید الأب؛ إذ هو المسئول عن أمن الصبی ومصیره، فجعل مثل تلک السلطة والولایة العامّة ینافیها کون الصبی مالک الاختیار بنحو مطلق لا سیّما فی فعل مثل الحجّ المستلزم للسفر حتی لحاضری المسجد الحرام لا العبادة المحضة کالصوم والصلاة من حیث هما اللتان لا تستلزمان کون الصبی مطلق الاختیار فی ما یکون الأب مولی فیه بخلاف ما إذا کثرت صلاته الندبیة وکثر صومه.

إلّا أنّ المحصل من هذا الوجه لیس هو شرطیة إذن الأب علی وزان شرطیة الشروط فی الماهیّات کشرطیة الطهارة فی الصلاة بل هو من قبیل العناوین الطارئة أو المزاحمة الرافعة للرخصة فی الفعل، وعلی هذا فلو حجّ الصبی من دون إذن أبیه لکان فساد حجّه من جهة المبغوضیة المجتمعة مع

ص:166


1- (1) وسائل باب 10 من الصوم المحرم ح3.

المحبوبیة نظیر اجتماع الأمر والنهی، وعلی هذا نخرج بقاعدة فقهیة کلّیة وهی اختلاف الحال فی غیر البالغ عن البالغ من اشتراط إذن الأب فی امور الأوّل مطلقا دون الثانی. فلا یوقع البحث فی تصرّفات غیر البالغ من زاویة العقوق والبرّ فقط کما فی البالغ بل یجب الالتفات والتفطّن إلی ولایة الأب عموما علیه فی ذلک.

والمحصّل من هذا الوجه کون الإذن بمقتضی ولایته شرطا طارئا لا علی نسق شروط الماهیة الوضعیة بل علی وزان الشرط التکلیفی المتولّد من ولایة الأبّ الوضعیة والتکلیفیة علی الصبی، ویشهد له ما ذکروه من الفراغ فی موجبات الضمان فی القصاص من ضمان الآمر للصبی بالرکوب علی مرکب فی موضع الخطر حیث قیّدوا الضمان بکونه من دون إذن الأبّ.

الخامس: وجوب طاعة الأبوین وهو عنوان ثانوی طارئ ملاکه مقدّم علی المستحبّات، إلّا أنّ المسلم بین غیر المتقدّمین من الفقهاء هو حرمة عقوقهما أی وجوب الطاعة بالدرجة التی یلزم من عدمها العقوق لا مطلق طاعتهما وبرّهما فإنّه أمر راجح لکن لیس بلازم، ومن ثمّ إذا فرض التزاحم بین برّهما وإطاعتهما بالقدر المستحبّ وبقیّة المستحبّات العبادیة التی منها الحجّ بنحو یتعیّن التزاحم أی لم یتمکّن من إرضائهما بها حینئذ ینظر إلی الأهمّ ملاکا فیکون من الأولی مراعاته لا تعیّنه.

فمن ذلک یتحصّل عدم لزوم إذنهما فی مشروعیة ورجحان مثل الحجّ المستحبّ إلّا إذا استلزم عقوقهما فإنّه حینئذ یحرم العقوق، وأمّا صحّة الحجّ علی فرض العصیان فلا إشکال فیها لأنّه لیس الفعل غیر المرضی

ص:167

سبب للعقوق کما حرّر فی محلّه بشهادة أنّه یمکن إتیان الحجّ المستحبّ مع إغفالهما فلا یحصل عقوق ممّا یدلّ علی انفکاکهما وعدم السببیة التولیدیة بینهما، والمحرم من المقدّمات خصوص المقدّمة السببیة التولیدیة.

السادس: ما استدلّ به صاحب الحدائق من معتبرة هشام عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «من فقه الضیف أن لا یصوم تطوّعا إلّا بإذن صاحبه ... إلی أن قال: ومن برّ الولد أن لا یصوم تطوّعا ولا یحجّ تطوّعا ولا یصلّی تطوّعا إلّا بإذن أبویه وأمرهما وإلّا کان الضیف جاهلا وکانت المرأة عاصیة وکان العبد فاسقا عاصیا وکان الولد عاقّا(1).

والسند وإن کان فیه أحمد بن هلال العبرتائی إلّا أنّا قد ذکرنا مرارا أنّ انحرافه کان فی الغیبة الصغری وأنّ التوقیعین الصادرین هما من الناحیة المقدّسة لا من العسکری(علیه السلام) وأنّ الطائفة قد قاطعته بعد انحرافه فما ترویه عنه هو أیام استقامته کما هو الحال فی علیّ بن أبی حمزة البطائنی، وأمّا الدلالة فهی وإن بنی صاحب الحدائق وغیره من أعلام متأخّری العصر علی کون دلالتها علی اللزوم تامّة وانّ خدش الثانی فیها بوجوه ثلاثة:

ضعف السند وقطعیّة بطلان المضمون لدلالتها علی توقّف الصلاة المستحبة علی إذن الأبوین، وتوقّف صحّة الصوم والصلاة المستحبّین علی أمرهما لعدم قول قائل بالأوّل وعدم توقّف الصحّة علی الأمر وإنّما علی

ص:168


1- (1) وسائل باب 10 من أبواب الصوم المحرم ح3.

الإذن والرضا لو قیل به.

والصحیح عدم دلالة الروایة علی ذلک بل هی إمّا محمولة علی الاستحباب نظرا للتعبیر بالبر وهو أمر ندبی عموما، وأمّا العقوق المعتبر فی الروایة فهو درجة تنزیلیة لا العقوق الحقیقی کما ورد التعبیر بالعقوق فی ترک الابن لإهداء الثواب لوالدیه المیّتین مع أنّه من الواضح أنّه لیس بمرتبة الحرمة؛ إذ قد عرف العقوق فی اللغة (بالشقّ) فاستعیرها هنا بمعنی شقّ عصی الطاعة والإحسان والبرّ أو قطع الصلة فلا یصدق حقیقة من دون ذلک، إلّا إذا علم للشارع تعبّد تنزیلی إلحاقی فی مصداق معیّن بتلک الماهیة ولا یمکن دعواها هاهنا لأنّ التنزیل فی الروایة صالح أن یکون بعنایة الاستحباب، أو أنّها تحمل علی موارد حصول العقوق کما لو کانا یتأذان بذلک وإن کان الوجه الأوّل أظهر لارداف الصلاة والصیام بذلک مع أنّه من الواضح عدم حصول العقوق حقیقة کما لا یراد تنزیلا فی هذه الروایة فالسیاق والارداف للحجّ معهما قرینة علی تعیّن الوجه الأوّل.

وأمّا الخدشة فی السند فقد عرفت حالها، وأمّا دعوی القطع ببطلان توقّف الصلاة علی الأمر فمدفوعة بأنّ دلالة الروایة لیست توقّف مشروعیّة الصلاة المستحبّة علی أمرهما وإنّما دلالتها هو ما ذکرناه من کون طاعتهما أو عقوقهما عنوان تکلیفی طارئ لا شرط وضعی کما هو الحال فی قاعدة ولایة الأب علی الصبی المشار الیها آنفا، وإنّما هو عنوان طارئ کما لو طرأ عنوان العقوق علی الصلاة المستحبّة من البالغ.

وأمّا الخدشة الثالثة فضعیفة للغایة؛ إذ المراد من الأمر هاهنا الکنایة عن الإذن والرضا.

ص:169

استطراد فی تولیة الولی فی اعمال الصبی:

فرع: استحباب الاحرام بالصبی غیر الممیز من قبل الولی:

کما تدلّ علیه روایات عدیدة فی أبواب متفرقة(1) تم استعراض نماذج منها فی کتاب الحج وحدود دلالتها ولم یحک خلاف فی ذلک.

وهل یستحب الاحرام بالصبیة کالصبی؟

نعم کما هو المحکیّ عن المشهور وأشکله النراقی واستدلّ له بصحیحتین ذکرناهما فی سند الحج فی المسالة التی فرض فیها حجّ الصبیة.

و لکنّه مخدوش بأنّ فرض الروایتین هو فی الصبیة الممیّزة لمکان إسناد الحجّ بنحو الإطلاق إلیها.

ویستدلّ له أیضا بما ورد فی بعض الروایات(2) من عنوان (الصبیة) الذی هو جمع مکسر للصبی إلّا أنّه یطلق فی الاستعمال علی موارد الجمع من الجنسین.

و کذا عنوان الصغار(3).

ولا یبعد ذلک حتی فی عنوان (الصبیان) ولا یتوهّم أنّ مرادنا من

ص:170


1- (1) وسائل باب 17 من أقسام الحج. باب 47 من أبواب الطواف. باب 17 من أبواب رمی جمرة العقبة. باب 3 من أبواب الذبح.
2- (2) باب 17 من أبواب أقسام الحج ح7.
3- (3) باب 17 ح5.

ذلک إطلاق (الصبیان) علی جمع (الصبیات) من دون وجود (صبیة ذکور) معهم، بل مرادنا إطلاقه فی الاستعمال العرفی علی موارد الاجتماع من الجنسین تغلیبا لجانب الذکور.

و قد درج الفقهاء فی استظهار الأعمّ من الجنسین فی موارد الخطاب بضمیر الجمع المذکر کما فی قوله تعالی: کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ وقوله تعالی: مَنِ اسْتَطاعَ ممّا یراد فی مثل هذه الموارد جنس المکلّف ویؤتی بلفظ المذکّر من باب التغلیب.

المراد من احرام الصبی:

قال الفقهاء ومهم السید الیزدی فی العروة: (والمراد بالاحرام جعله محرما لا ان یحرم عنه).

هکذا ورد التعبیر فی کثیر من کلمات الأصحاب والروایات.

ولتنقیح الحال فی فعل العبادة الاحرام ونیّته وکذا التلبیة وبقیّة أفعال مثل الحجّ لابدَّ من ذکر امور:

الأمر الأوّل: انّ الأفعال العبادیة یتصوّر الإتیان بها نیابة علی أربعة صور:

الاولی: أن یأت النائب بمجموع العمل عن المنوب عنه کما فی الحجّ أو العمرة أو الصلاة النیابیة.

الثانیة: أن یأت النائب بجزء من العمل عن المنوب عنه لا مجموعه،

ص:171

کما فی الطواف نیابة أو السعی أو الرمی أو الذبح کذلک، نیابة عمّن عجز عن الطواف أو السعی أو الرمی أو الذبح دون بقیّة الأعمال فی الحجّ.

الثالثة: أن یوقع النائب العمل کفاعل وموجد فی بدن المنوب عنه فیکون المنوب عنه قابلا للعمل والفعل ویسند إلیه إسناد القابل، کما فی غسل المیّت أو تیمّمه وکذا فی توضئة المریض أو تیمیمه. وکذا فی احجاج الصبی وإحرامه والإطافة به والسعی به کما سیتّضح. وفی هذا القسم قد یقال بلزوم نیّة کلّ منهما أو نیّة خصوص المنوب عنه- فیما إذا أمکنه- وإلّا فنیّة النائب.

ومقتضی القاعدة فی النیابة لزوم نیّة کلّ منهما فیما إذا أمکن ذلک من المنوب عنه، ثمّ إنّ فی هذا القسم الأقوی أن ینوی النائب أیضا لأنّه نائب حقیقة للجهة الفاعلیة للفعل عن المنوب عنه فلابدَّ من نیّته کما لابدَّ من نیّة المنوب عنه إن أمکن لکونه قابلا أیضا. ثمّ إنّ بحث لزوم واجدیة النائب فی هذا القسم لشرائط الأداء أو عدم لزومها کما هو الصحیح وقد حرر فی محله.

الرابعة: أن ینوب النائب فی الشرط العبادی للعبادة دون نفس العبادة المشروطة وهو وإن لم نجد له مثالا لکنّه ممکن ثبوتا.

ویمکن أن یستفاد من روایتی جمیل بن درّاج السابقتین: أنّ من تعذّر علیه الاحرام لمرض أنّه یحرم عنه، فإذا أفاق أتی ببقیّة الأعمال. نعم فی إجزاء ذلک عن حجّة الإسلام فیما لو کان مستطیعا قبل طروّ المرض کلام أفتی المحقّق بعدم إجزائه فی بحث المواقیت وتمام الحدیث عنه حررناه فی بحث الحج .

ص:172

و لکن الصحیح أنّ هذا مثال للقسم الثالث لا الرابع فتدبّر.

الأمر الثانی: انّ الصبی غیر البالغ علی ثلاث درجات:

الاولی: الصبی الممیّز وقد عرّفوا التمییز بادراکه واستشعاره لقبح کشف العورة، ومرادهم کون العقل العملی- فضلا عن النظری- قد صار بالملکة وقریب من الفعلیة.

الثانیة: غیر الممیز ولکنّه یحسن التلفّظ ویدرک معانی الکلمات فی الجملة، فهذا صار عقله العملی بالقوّة وعقله النظری بالملکة القریب من الفعلیة والقوّة المحرّکة له العملیة لیست هی العقل العملی بل الغرائز السفلیة الاخری.

ومن ثمّ یقع الکلام فی مثل هذه الدرجة من الصباوة أنّه هل تتأتّی منه النیّة والتلبیة فی الحجّ ونیّة غیره من الأفعال العبادیة أو لا؟

قد یقال بتأتّیها منه نظرا لأنّه یدرک معناها کما هو الفرض، والتحریک وإن لم یکن بعقله العملی، بل یکون بغرائزه الاخری، إلّا أنّ ذلک لا ینافی کون حرکته العملیة الغریزیة هی باتّجاه الله تعالی فتکون قربیّة. نظیر من یأتی من البالغین بصلاة اللیل لزیادة الرزق أو من یعبدالله لأجل الفوز بالجنة أو الخلاص من النار فإنّ محرکیة مثل هذه المحرّکات لا تنافی القرب؛ لأنّ القرب علی درجات وإن کان قد یفرّق بأن فی البالغ القوّة العاقلة العملیة هی المحرّکة نحو تلک الدواعی بخلاف الصبی غیر الممیز إلّا أنّه لیس بفارق حیث انّ التحریک فی المآل یسند إلی العلّة الغائیة التی هی غایة

ص:173

الغایات ویکون دور قوّة العقل العملی مجرّد الوساطة فی العلیة، وعلی أیّة حال فیستفاد من صحیحة زرارة عن أحدهما صلی الله علیه و آله قال: «إذا حجّ الرجل بابنه وهو صغیر فإنّه یأمره أن یلبی ویفرض الحجّ فإن لم یحسن أن یلبّی لبّوا عنه ویطاف به ویصلّی عنه» (1)... الحدیث .

فإنّه(علیه السلام) قد فرض أمر الأب للابن بأن یلبّی الابن ویفرض الحجّ، وفرض الحجّ نیّته، وإنشاء النیّة فهی من الصغیر. والظاهر من کلامه(علیه السلام) عمومه لغیر الممیّز بشهادة استثناء خصوص من لم یحسن التلبیة أی التلفّظ بها، فتکون هذه الروایة مفسّرة لروایات الباب ومقیّدة للاطلاقات الواردة بالاحرام عن الصبیان، أی المطلقة للأمر بجعل الصبیان محرمین بایقاع الاحرام فیهم مع النیابة عنهم فی النیّة والتلبیة.

ولذلک عبّر بلفظه (عنه) حیث أنّه بقرینة تجریده من الثیاب وغسله وإلباسه ثوبی الاحرام یکون المراد من (عنه) هاهنا النیابة من القسم الثالث الذی تقدّم فی الأقسام الثلاثة فی الأمر الأوّل.

فالحاصل: انّ متن صحیحة زرارة یکون مقیّدا لتلک الاطلاقات ومفصّلا مؤلّفا بینها وبین الاطلاقات الاخری الواردة فی الباب الآمرة باحرام الصبیان أنفسهم. وحینئذ یکون هذا التفصیل لیس فی خصوص نیّة الاحرام والاحرام والتلبیة، بل فی کلّ أفعال الحجّ.

نعم الأحوط مع کلّ ذلک نیّة الولی، بل هو الأقوی فیما یوقعه الولی

ص:174


1- (1) الکافی ج4 ص303.

من الأفعال فی الصبی.

الثالثة: الصبی الذی لا یدرک معانی الألفاظ ولا الکلام، أی أنّ عقله النظری بالقوّة فضلا عن العملی، وهذا القسم لا إشکال فی أنّ الولیّ یوقع الاحرام فیه وینوی عنه نیابة ویلبّی عنه کذلک وکذا بقیّة أفعال الحجّ.

الأمر الثالث: انّ الاجزاء والشرائط المأخوذة فی الماهیّة العبادیة یتصوّر أخذها علی نحوین- کما ذکروا کلّ ذلک فی بحث مقدّمة الواجب فی مسألة الطهارات الثلاث-.

النحو الأوّل: أن تؤخذ عبادیة، والمراد من الأخذ تقیّد الماهیة بها وتقوّمها بها، کما أنّ الشیء المأخوذ جزءا أو شرطا قد یکون فی نفسه عبادیا وقد یکون توصّلیا، کالرکوع الذی هو ذاته عبادی وکیفیّة أخذه فی الصلاة أیضا عبادیة أی یجب أن یؤتی به بقصد الصلاة مع أنّه خضوع فی نفسه.

والقیام الذی هو ذاته غیر عبادی لکن کیفیّة أخذه عبادیة أی یجب أن یؤتی به بقصد الأمر وإن کان هو فی نفسه لیس بعبادة.

النحو الثانی: أن تؤخذ توصّلیا أی تقیّد الماهیة به وکیفیّة أخذه فیها، فلا یجب إتیانه بقصد أمر تلک الماهیة أعمّ من کونه هو فی نفسه عبادیا أو توصّلیا کالطهارة والستر فی الصلاة حیث انّ الأوّل فی نفسه عبادی لکنّه إذا أتی به لعبادة اخری یکتفی به فی عبادة مغایرة لکون أخذه توصّلیا.

وأمّا الستر والتستّر فهو فی نفسه لیس بعبادی ولا یجب إتیانه بداعی الأمر.

وتظهر فائدة هذا البحث فی القسم الثانی من النائب ومثاله احجاج

ص:175

الولی للصبی فی الأفعال التی ینوب فیها الولی عن الصبی بالنیابة التی من القسم الثانی کأن یطوف عنه أو یرمی عنه فیما إذا لم یتمکّن، أو یصلّی عنه فیما لو بنی علی ان الأفعال مشروطة بالاحرام، والاحرام وإن کان فی نفسه تعبّدیا إلّا أنّ أخذه فی الحجّ توصّلی فحینئذ یکفی إحرام الولیّ لحجّ نفسه لوقوع تلک الأفعال النیابیة عن الصبی وقوعا مع الشرط وإن لم یوقع الشرط بقصد الأمر النیابی. هذا مع کون الصبی محرما أیضا، وما ینسب إلی المشهور فی المسألة الثالثة من عدم لزوم کون الولیّ محرما إنّما یتمّ فی النیابة التی من القسم الثالث لا القسم الثانی، فإطلاق کلامهم- الموهم- محمول علی القسم الثالث من النیابة.

الأمر الرابع: الشرائط والاجزاء المأخوذة فی الماهیة العبادیة علی قسمین:

الأوّل: هی شرائط واجزاء الماهیّة بما هی هی، فتعمّ أصناف المکلّفین.

الثانی: هی شرائط واجزاء المؤدّی، أو یعبّر عنها بشرائط الأداء، وتستعلم إثباتا فی لسان الأدلّة بتوسّط أخذ عنوان صنف خاصّ من المکلّف فی موضوع ذلک الشرط، کما إذا ورد فی اللسان الرجل یجهر فی صلاة الصبح، أو الرجل یلبس ثوبی الاحرام، والمرأة تتستّر فی حال الصلاة، بخلاف لسان نمط الأوّل فإنّه أخذ الشرط فی الماهیة بما هی هی.

ومن قبیل لسان الأوّل اشتراط الاحرام فی الحجّ والعمرة حیث انّه من شرائط الماهیة لا من شرائط المؤدّی، وعلی ذلک یشترط فی الولی عن الصبی إذا أتی بالنیابة عن الصبی من القسم الثانی من أفعال الصبی یشترط

ص:176

أن یکون محرما ومن ثمّ حکمنا بلزوم کون الذابح عن البالغ محرما مضافا إلی شرط الإیمان؛ لأنّ الذبح من المباشر عبادة نیابیة عن المذبوح عنه. نعم غایة الأمر بمقتضی ما قدّمناه فی الأمر الثالث أنّ الاحرام وإن کان عبادیا إلّا أنّ أخذه فی الحجّ توصّلی فیکتفی الولی باحرام حجّ نفسه فی تحقیق شرط الاحرام المأخوذ فی الفعل النیابی کالطواف عن الصبی أو یرمی عنه.

وأمّا النیابة من القسم الثالث وهو أن یوقع النائب العمل فی المنوب عنه کما فی احجاج الصبی فمن الواضح عدم عموم أدلّة شرائط الماهیة ولا شرائط الأداء لهذا النائب؛ لأنّ شرائط الماهیة وأجزائها المفروض تحقّقها بواجدیة الصبی لها، وأمّا شرائط الأداء فلسانها فیما کان المؤدّی فاعلا وقابلا للفعل.

الأمر الخامس: انّه قد استشکل السیّد الشاهرودی قدّس سرّه فی تقریراته فی الصبی الذی لم یثغر حیث انّه ورد فی صحیح محمّد بن الفضیل عن أبی جعفر الثانی(علیه السلام): عن الصبی متی یحرم به قال: «إذا أثغر»، واستظهر أنّه فی مقام التحدید فیقیّد المطلقات، وتنبّه إلی معارضته بصحیح(1) عبد الرحمن بن الحجّاج حیث انّ فیه الصبی المولود وهو الذی لم یثغر، ثمّ بعد ذلک ذهب إلی استحکام التعارض وحیث انّ الاثغار مردّد بین من یقرب من ستّة أشهر أو ستّ سنین لکون الثغر هو إنبات القواطع أو سقوط الثنایا، وحیث انّ الاثغار مردّد تکون دائرة المعارضة إلی الصبی ذی الستّ سنین فیحجّ به رجاء.

ص:177


1- (1) باب 17 من أبواب أقسام الحج ح1.

وفیما أفاده نقاط مواضع للتأمّل:

الأوّل: انّ الصحیح فی باب المستحبّات انه لا یرتکب التخصیص ولا التقیید ولا حمل المطلق علی المقیّد ولا العام علی الخاصّ لکون بابها موضوعا علی تعدّد المطلوب، بل انّهم یرتکبون ذلک فی الدلیل الواحد واللسان الواحد المشتمل علی الماهیة الترکیبیة أنّهم یجعلون القیود مع المقیّد من باب تعدّد المطلوب فهذه قرینة عامّة فی باب المستحبّات فمن ثمّ لا تقیّد المطلقات بصحیح ابن الفضیل، کما لا معارضة مع صحیح عبد الرحمن بن الحجّاج.

ثانیا: لو بنی فی المستحبّات کما یبنی فی الالزامیات من نحو الجمع بین الأدلّة لکان مقتضی القاعدة عند تعارض الخاصّتین هو الرجوع إلی العموم الفوقانی أی مطلقات المشروعیة للصبی.

ثالثا: لو أعرض عن ما سبق أیضا لکان مقتضی القاعدة هو کون التعارض فی القدر المتیقّن من صحیح الفضیل وهو من لم یبلغ الستّة أشهر فهو مقدار التعارض لا الأکثر؛ لأنّ الفرض أنّ صحیح الفضیل خاصّ منفصل مجمل فلا یکون حجّة فی نفسه إلّا بمقدار القدر المتیقّن.

فروع فی بعض الاعمال:

الأول: قد تقدّم فی الأمر الثانی أنّ ضابطة قابلیّته کونه یحسن الکلام ویلتفت إلی معنی الکلام وإن لم یکن ممیّزا کما دلّت علی ذلک صحیحة زرارة المتقدّمة وهو مقتضی القاعدة کما بیّنا، لا سیّما فی التلبیة. نعم فی النیّة

ص:178

قد ذکرنا أنّ الأقوی هو نیّة کلّ من النائب والمنوب عنه حتی فی القسم الثالث من النیابة، بل فی کلّ أقسام النیابة یجب الجمع بین النیّتین، ووجه ذلک فی خصوص الثالث ما تقدّم فی الأمر الأوّل وهو أنّ النائب فیه وإن کان فاعلا لا قابلا إلّا أنّ الحیثیّة الفاعلیة فی الفعل حیث انّها عبادیة أیضا فیجب نیّة النائب فیها ومن ثمّ یجب علی الموضئ للمریض أو المیمّم للمریض النیّة مضافا إلی نیّة المریض ولیس ذلک من باب الاحتیاط، بل فی غسل المیّت لیس من الجزاف القول بأنّ الغاسل یجب علیه إیقاع النیّة نیابة عن المیّت فی کلا الحیثیّتین.

الثانی: لابدَّ من التنبیه هاهنا علی أنّ الوقوف بالصبی فی المشعر غیر الممیّز یجب علی الولی النیّة؛ لأنّه نائب عنه من القسم الثالث حیث انّه یوقع الوقوف فیه بخلاف الممیّز، غایة الأمر الصبی الممیّز إن أحسن الکلام والنیّة فیکون حاله حال المریض الذی یوضئ، وإن کان لم یحسن الکلام والنیّة کالمولود فحاله حال المیّت فی النیّة الذی ذکر آنفا، وأهمّیة التنبیه علی النیّة فی هذا الموضع لرکنیّة الوقوف.

الثالث: قد اختلفت کلمات الأصحاب فی توضّئة الصبی لأجل الطواف، فمنهم من ذهب إلی جمع الولیّ بین وضوئه وتوضئة الصبی، ومن ذاهب إلی وضوء الولیّ دون الصبی إن لم یمکن توضّئه بنفسه، ومن قائل بلزوم أمر الولی للصبی بأن یتوضّأ إن أمکن وإلّا فیسقط الوضوء کما ذهب إلیه السیّد الخوئی(قدس سره)، ومن قائل بلزوم توضّؤ الصبی إمّا بنفسه أو بتوضئة الولیّ له، وعبّروا عن ذلک بصورة الوضوء وهو الأقوی کما سیتّضح.

ص:179

وتنقیح الحال فی المقام یتّضح من الالمام بالامور الأربعة المتقدّمة فی صدر المسألة وملخّصه: انّ شرائط الماهیة أو شرائط الأداء لا تشمل النائب من القسم الثالث؛ لأنّ ظاهرها هو فی المؤدّی الذی یکون قابلا مضافا إلی کونه فاعلا لا ما إذا کان فاعلا فقط کما فی النیابة من القسم الثالث، فلا وجه لاشتراط الوضوء فی الولی إذا طاف بالصبی ولو کان مولودا، وأمّا توضئة الولیّ للصبی الذی لا یحسن الکلام کالمولود، أی النیابة فی الوضوء من القسم الثالث فهی وإن کان علی خلاف القاعدة إلّا أنّه یستفاد مشروعیّتها فی المقام بوجهین:

الأوّل: انّ مقتضی العنوان الوارد فی المقام وهو الإحجاج بالصبی أو الحجّ بالصبی هو کون مجموع أفعال الحجّ یشرع فیها النیابة من القسم الثالث.

الثانی: خصوص صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج فی حدیث عن أبی عبدالله أنّه قال: «... إذا کان یوم الترویة فأحرموا عنه وجرّدوه وغسّلوه»(1).

حیث انّه من الظاهر فی الروایة أنّ تغسیل الصبی غسل الاحرام هو من النیابة من القسم الثالث مع أنّ غسل الاحرام فی الحجّ لیس شرطا فی صحّة الاحرام ولا یتوهّم الخصوصیة فی غسل الاحرام دون طهارة الطواف لما ذکرناه فی الوجه الأوّل، ومن ذلک یظهر الحال فی الحلق.

الرابع: قد اتّضح من الامور الأربعة السابقة أنّ الولیّ إن کان نائبا من

ص:180


1- (1) وسائل باب 17 من أبواب أقسام الحج ج1.

القسم الثالث فلا یشترط فیه الاحرام بخلاف ما إذا کان نائبا من القسم الثانی، أی لا یوقع العمل فی الصبی وإنّما یأتی به هو نیابة عن الصبی فی فرض عجزه.

فائدة: ما المراد من الولی ؟

المشهور انه الاب او الجد او الوصی من قبلهما اوالحاکم ولو امینه, وهو الصحیح، وقد اختلف فی کیفیّة تحریر هذه المسألة ففی بعض العبائر حرّرت بأنّها نحو ولایة علی الصبی لکون الإحجاج به تصرّف فیه، فاستظهر من لسان الأدلّة الواردة أنّها جعل للولایة المزبورة ومن ثمّ خصّوا لسانها علی القدر المتیقّن من الأولیاء الشرعیّین، وحرّرت بنحو آخر بأنّ لسان الأدلّة الواردة هو فی مشروعیة النیابة من القسم الثالث والثانی من البالغ، سواء کان ولیّا شرعیّا أو عرفیا، بالإضافة إلی الصبی، ومن ثم استظهر من لسان الأدلّة عموم مشروعیة نیابة البالغ عن الصبی بنحوی النیابة.

نعم، ذهب بعض من حرّر المسألة بالنحو الثانی إلی عدم التعمیم لکون الأصل فی النیابة والعبادة عدم المشروعیة والاقتصار علی القدر المتیقّن والصحیح هو تحریر المسألة علی النحو الثانی؛ لأنّه لا نظر فی روایات الباب إلی جعل الولایة، وإنّما هی ناظرة إلی تشریع الإحجاج بالصبی بنحوی النیابة، ومن الظاهر حینئذ أنّ مثل تلک المشروعیة لا خصوصیة فیها للولیّ الشرعی لأنّها لیست غایتها التأدیب والتمرین کی یکون الخطاب مختصّا به، بل مفادها رجحان العمل لکلّ من البالغ والصبی کما فی صحیحة عبدالله بن سنان قال: سمعته یقول: «مرّ رسول الله صلی الله علیه و آله برویثة

ص:181

وهو حاج فقامت إلیه امرأة ومعها صبی لها فقالت: یا رسول الله، أ یحجّ عن مثل هذا؟ قال: نعم و لک أجره.

وهی وإن وردت فی خصوص الامّ إلّا أنّ مسألة الامّ ظاهر منها أنّها لیس عن الحکم کأدب شرعی ووظیفة ملقاة علی الولیّ، بل سؤالها عن مشروعیة الحجّ والإحجاج للصبی والإحجاج به، وکذا مفاد الذیل: «ولک أجره»(1).

الظاهر فی الأجر الخاصّ للحجّ المشروع.

ویستدلّ له أیضا بالعموم فی صحیحة معاویة بن عمّار عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال:

«انظروا من کان معکم من الصبیان فقدّموه إلی الجحفة أو إلی بطن مر ویصنع بهم ما یصنع بالمحرم ویطاف بهم ویرمی عنهم ... الحدیث(2).

حیث انّه من الظاهر البیّن أنّ الصبیة التی معهم فی المعتاد والمتعارف خارجا واستعمالا لیس بمختصّ بالصبیة الصلبیّین للمخاطب، بل کلّ من یتکفّلهم من صبیة الأقرباء ونحوهم، بل لو سلم اختصاصها بالصلبیّین فحیث انّ الروایة کما ذکرنا أنّ لسانها فی المشروعیة لا جعل الولایة فلا تختص بالولی الشرعی، وکذا یظهر من صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدّمة حیث فیها احرام حمیدة رضوان الله علیها بالصبیة، ومثلها ما رواه

ص:182


1- (1) وسائب باب 20 من أقسام الحج ح1.
2- (2) وسائل باب 17 من أقسام الحج ح3.

یونس بن یعقوب عن أبیه قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): إنّ معی صبیة صغار ... الحدیث(1).

غایة الأمر هذه الروایات لا تتعرّض إلی عدم لزوم الاستئذان من الولیّ الشرعی فیما لو حجّ به غیره فلابدَّ من الاستئذان.

فرع: النفقة الزائدة فی احجاج الصبی:

البحث فی هذه المسألة علی مقتضی القاعدة من أنّ تصرّف الولی فی مال الصبی إنّما یکون بحسب المصلحة للصبی فی ماله أو بشرط أن لا یکون مضرّة علی الاختلاف المحرّر فی محلّه فی أحکام الصبی، هذا من جهة ومن جهة اخری نفقة العیال تکون من أموالهم إذا کانوا واجدین وحینئذ یفصل فی المقام بینما إذا کان السفر بالصبی من مصلحته أم لا.

أمّا الکلام فی النفقات الزائدة علی أصل السفر ولو کانت مصلحة التی یستلزمها الحجّ فالکلام عنها فی بحث الحج.

فرع: ان الهدی علی الولی:

کما هو المشهور، وخالف فی ذلک فی التذکرة فأوجبه من مال الصبی.

والبحث یقع تارة بحسب مقتضی القاعدة واخری بحسب الروایات الخاصّة الواردة، کما أنّ الکلام تارة یقع فی الصبی غیر الممیّز واخری فی الممیّز.

ص:183


1- (1) وسائل باب 17 من أقسام الحج ح7.

أمّا بحسب القاعدة فلابدَّ من ذکر عدّة من النقاط:

الأولی: أنّ مقتضی القاعدة فی الواجب الذی فیه مقدّمة مالیة أن تکون المقدّمة وجودیة فیجب تحصیلها.

الثانیة: أنّ الأمر بمتعلّق ذی مقدّمة مالیة یرجع نفعها إلی الغیر بحیث کان ذلک الأمر لیس من باب النفقة الواجبة المعهودة، ولا من الصدقة الواجبة ونحوها فحینئذ تکون تلک المقدّمة المالیة قید وجوب فی الأمر لا مقدّمة وجود کما هو الحال بالأمر بتغسیل المیّت بالماء وتکفینه بالکفن وتحنیطه بالحنوط.

الثالثة: أنّ النفقات الواجبة علی ذی الرحم إنّما هی فی المسکن واللباس والغذاء ونحوها من الحاجیات الضروریة المعاشیة دون الواجبات المالیة المتعلّقة بذی الرحم ککونه مدیونا فی الخمس أو الزکاة أو الکفّارات ونحوها کالغرامات المالیة فی غیر المؤنة فحینئذ أی واجب مالی یتعلّق بذی الرحم العادم للمال- أی غیر الواجد للمال- لا یجب علی ذی الرحم الغنی النفقة علیه بلحاظه.

الرابعة: انّ التسبیب موجب للضمان فی الغرامات المالیة المحضة کالاتلاف والتلف ونحوها دون التسبیب فی الواجبات المالیة، کأن یسبّب شخص لآخر تعلّق الخمس به أو الزکاة أو غیرها من الواجبات المالیة فإنّه لا یوجب الضمان علی المسبّب.

الخامسة: أنّ استحباب الإحجاج الوارد فی روایات المقام إنّما هو

ص:184

بلحاظ الصبی غیر الممیّز أو الممیّز العاجز عن الاستقلال فی الأفعال، وأمّا الصبی الممیّز الذی یستقلّ بالفعل فلا یکون أمر الولی له بالحجّ احجاجا أو حجّا به، أی لا یکون نیابة من القسمین الثانی والثالث. نعم قد یستظهر من الأمر الوارد بتوقیتهم عن تروک الاحرام أنّ ذلک نحو من احجاج الولی للممیّز، وأیّا ما کان فإنّ فی صورة استقلال الصبی الممیّز بالحجّ لا یکون ذلک من باب الإحجاج.

السادسة: أنّ مقتضی الأمر بالاحجاج هو عین مقتضی الأمر الاستحبابی بالبذل لبالغ آخر لیحجّ من کون مقتضاهما هو وقوع نفقات الحجّ من السفر والهدی وثوبی الاحرام وغیرها من المؤن المالیة وغیرها هی علی المأمور بالاحجاج والبذل؛ إذ الأمر تعلّق بمجموع ماهیّة الحجّ والذی فیه یکون مال الهدی مقدّمة وجودیة لا سیّما وأنّ هذین الأمرین هما بعنوان الإحسان إلی الصبی والبالغ، وهذا بخلاف ما إذا لم یخاطب المکلّف أو الولی بالاحجاج کما إذا استقلّ الصبی الممیّز بالعمل فإنّ مقتضی القاعدة إذا خوطب بالذبح عنه بمقتضی ما تقدّم فی النقطة الثانیة هو علی الصبی دون الولی.

فیظهر ممّا تقدّم من النقاط أنّ مقتضی القاعدة هو تحمّل الولی مال الهدی فی غیر الممیّز دون الممیّز المستقلّ بأعمال الحجّ.

نعم، بالنسبة إلی الصبی الممیّز قد اتّضح من المسألة السابقة أنّ نفقة الحجّ والسفر إنّما تکون من مال الصبی إذا کان مصلحة له، وأمّا إذا لم یکن مصلحة له فیکون الولی ضامنا لتلک النفقات من باب التسبیب لتصرّف

ص:185

الصبی أو الولی فی المال فی غیر المورد المرخّص، وهذا هو المحمل الصحیح لما ذکره الفقهاء من أنّ الولی ضامن لمال الهدی لأنّه المسبّب، فإنّ المراد من التسبیب هو ذلک لا ما تقدّم فی النقطة الرابعة من التسبیب للواجب المالی، بل التسبیب للتصرّف فی مال الصبی فی غیر ما هو مصلحة له.

ثمّ انّه لابدَّ أن یحرّر الحال فی المصلحة التی هی شرط فی التصرّفات المالیة فی أموال الصبی هل هی خصوص المصلحة المالیة أو الأعمّ الشاملة لمثل الآداب الشرعیة المعتدّ بنفعها للصبی، ولا یبعد الثانی وتحریره فی محلّه. کما أنّه بحسب مقتضی القاعدة فی الصبی الممیّز المستقلّ فی الحجّ بناء علی المشروعیة أن یکون الخطاب بالذبح متوجّها إلیه. وهذا لا ینافی عدم جواز صرف مال الصبی فی الهدی فیما لم یکن الحجّ مصلحة له؛ إذ غایة الأمر أنّ الصبی لو امتثل ذلک فی ماله یکون الغرم علی الولی، أو أنّ الولی یبذل له ذلک. نعم لو مانع الولی من تصرّف الصبی فی ماله ولم یبذل له مقتضی القاعدة حینئذ هو خطاب الممیّز بالصوم بدلا عن الهدی، هذا کلّه بحسب مقتضی القاعدة.

أمّا بحسب الروایات الخاصّة الواردة الاولی صحیحة معاویة بن عمّار عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «انظروا من کان معکم من الصبیان فقدّموه إلی الجحفة أو إلی بطن مر ویصنع بهم ما یصنع بالمحرم، ویطاف بهم ویرمی عنهم ومن لا یجد الهدی منهم فلیصم عنه ولیّه»(1).

ص:186


1- (1) باب 17 من أقسام الحج ح3.

ومفاد الصحیحة من حیث الموضوع وإن کان قد یتراءی أنّه مطلق الصبی إلّا أنّه بقرینة التعبیر ویصنع بهم یکون فی خصوص الإحجاج لا حجّ الصبی بالاستقلال وإن عبّر فی الروایة ما یصنع بالمحرم ممّا قد یوهم أنّ المراد من الصنع بهم هاهنا الأمر بالاحرام کأمر البالغ المحرم، حیث انّ المراد بالمحرم هاهنا أنّه یفرض محرما. أمّا المحمول فی الروایة فظاهرها ابتداءً تعلیق وجوب الصوم علی الولی عن الصبی علی عدم وجدان الصبیان للهدی بناء علی رجوع الضمیر المجرور (منهم) إلی الصبیان فتکون حینئذ دالّة علی أنّ الهدی یجب فی مال الصبی فإن لم یجد فیجب علی الولیّ الصوم عنه لا سیّما وأنّ ضمیر الجمع هنا ضمیر الغائب حیث انّه لو ارید منه الأعمّ من الصبیان ومن الکبار الأولیاء لأتی بضمیر المخاطب کما فی صدر الروایة، لکن قد یحتمل عود الضمیر إلی المجموع بقرینة التعبیر بولیّه بعد ذلک الذی هو فی قوّة الغائب فیکون من الغیبة بعد الالتفات الذی سبق فی الصدر، لکن الأوجه الأوّل.

وما فی المستمسک من تفسیر عدم وجدان الصبیان للهدی بعدم وجدان الکبار الهدی لهم لأنّ مال الصبی إنّما یکون من مال ولیّه لتعارف ذلک التعبیر عرفا وإن کان لا یخلوا من وجه إلّا أنّ الأوجه أخذ الاسناد حقیقیا فیما هو قید لموضوع حکم صیام الولی عنه.

وأمّا مفاد صحیحة زرارة عن أحدهما(علیهماالسلام) قال: «إذا حجّ الرجل بابنه وهو صغیر فإنّه یأمره أن یلبّی ویفرض الحجّ، فإن لم یحسن أن یلبّی لبّوا عنه ویطاف به ویصلّی عنه، قلت: لیس لهم ما یذبحون، قال: یذبح عن

ص:187

الصغار، ویصوم الکبار، ویتّقی علیهم ما یتّقی علی المحرم من الثیاب والطیب، وإن قتل صیدا فعلی أبیه»(1).

وهذه صحیحة من حیث الموضوع أعمّ من الممیّز وغیره، أی أعمّ من الحجّ حجّ الصبی وإحجاجه، وأمّا المحمول فالظاهر من ضمیر الجمع أنّه عائد لضمیر الجمع السابق فی لفظة (لبّوا عنه) أی العائد للکبار، فیکون مفادها أنّه إن لم یکن للکبار ما یذبحون عن الجمیع أی عن أنفسهم وعن الصغار، فأجاب(علیه السلام) یذبح عن الصغار.

ولکن یحتمل عود الضمیر إلی الصغار کما هو متعیّن ذلک فی (و یتّقی علیهم) لا سیّما وأنّ فی نسخة الکافی لم یتقدّم ضمیر الجمع (لبّوا) بل عبّر فیها (لبّی عنه) فیتّفق مفادها علی هذا الاحتمال مع مفاد صحیحة معاویة بن عمّار، غایة الأمر أنّ فی هذه الصحیحة قد أوجبت الذبح عن الصغار وصوم الکبار عن أنفسهم وکأنّه للتزاحم بین الواجبین المخاطب بهما الولی فیقدّم غیر ذی البدل علی ذی البدل وعلی أیّة حال إیجاب الذبح علی الولی فی هذه الصحیحة وإیجاب الصیام علیه فی صحیحة معاویة المتقدّمة بعد تقیید إطلاق الاولی بالثانیة دالّ علی أنّ الهدی للصبی واجب علی الولی فی الجملة فإن لم یتمکّن من الهدی فیصوم عن الصبی، فلو بنی علی إجمال مرجع الضمیر فی الروایتین الذی أخذ موضوعا لوجوب الهدی أو بدله علی الولی فیکون المحصّل من هاتین الصحیحتین کقدر متیقّن هو وجوب الهدی علی الولی عند عدم وجدان الصبی له أعمّ من کونه ممیّزا أو غیر ممیّز

ص:188


1- (1) وسائل، باب 17 من أقسام الحج ح5.

إلّا أنّ مقتضی القاعدة فی الإحجاج علی الولی مطلقا ولا ینافیه الإجمال فی الصحیحتین، بخلاف ما لو بنی علی ظهورهما فی تقیید الوجوب المزبور بقید عدم وجدان الصبی فإنّه یرتکب التخصیص فی مقتضی القاعدة فی خصوص الإحجاج.

وأمّا موثّق إسحاق سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن غلمان لنا دخلوا معنا مکّة بعمرة وخرجوا معنا إلی عرفات بغیر إحرام، قال: «قل لهم: یغتسلون ثمّ یحرمون واذبحوا عنهم کما تذبحون عن أنفسکم»(1).

فالظاهر أنّه فی المملوک المبذول له الحجّ کما وردت روایات عدیدة فی ذلک(2)، ولا أقلّ من إجمال المراد فیها.

لکن بقرینة ما فی صحیح زرارة من إطلاق ثبوت کفّارة الصید علی الولی أعمّ من کونه ممیّزا أو غیر ممیّز مع أنّ الکفّارة لیست من أجزاء الحجّ فی الإحجاج ولذا یلزم بها الباذل فی الحجّ البذلی یظهر قرینیة هذا الاطلاق علی عود الضمیر فی (لهم) إلی الکبار وکذا کفّارة الصید کما تفید ذلک صحیحة زرارة التی هی فی مطلق الصبی کما تقدّم ولا یعارضه ما فی مصحّحة علی بن جعفر ؛ لأنّ مفادها نفی تعلّق الکفّارة علی الصبی لا مطلقا فلا تنافی صحیحة زرارة .

ص:189


1- (1) باب 17 من أبواب أقسام الحج ح2.
2- (2) الاستبصار باب المملوک یتمتع بإذن مولاه ج2 ص263.

ص:190

قاعدة :من أدرک المشعر فقد أدرک الحج

اشارة

ص:191

ص:192

من أدرک المشعر فقد أدرک الحج

أولا: الأقوال فی القاعدة:

الاول: ما نسب إلی المشهور من القول بالاجزاء إلحاقا بما ورد فی العبد .

الثانی: ما عن المحقّق فی المعتبر والعلّامة فی بعض أقواله التردّد فی الاجزاء, کما واستشکله فی الحدائق وأکثر متأخّری هذا العصر، وذکر السید الیزدی فی حج العروة ثلاثة وجوه للاجزاء وأشکل علیها(1).

القول الثالث: الاجزاء وهو الصحیح .

ثانیا: الادلة علی الاجزاء:

أنّ للاجزاء وجهین تامّین:

الأوّل: ویترتّب من مقدّمتین:

المقدّمة الاولی: هی توسعة موضوع وجوب الاستطاعة وبقیّة شرائط الوجوب إلی أو عند أحد الموقفین بمقتضی توسعة الواجب بقاعدة من أدرک أحد الموقفین فقد أدرک الحجّ، کما أشار إلی ذلک کاشف اللثام.

المقدّمة الثانیة: فی کیفیّة أداء الواجب مع کون الصبی الذی بلغ مرتهن باحرام لحجّ مستحبّ، وذلک امّا بدعوی بطلان إحرامه السابق أو

ص:193


1- (1) العروة الوثقی، کتاب الحج، مسألة 7.

جواز العدول به إلی الحجّ الواجب أو کونه مجزئا عن الواجب من دون عدول وجوه، وما ورد فی العبد من الروایات الخاصّة بعد حملها علی مقتضی القاعدة لما تقدّم فی المقدّمة الاولی تکون دالّة علی عدم إعاقة وعدم معارضة الاحرام السابق لأداء الواجب.

أمّا بیان المقدّمتین تفصیلا فنقول إنّه یستدلّ علی المقدّمة الاولی بما حرّر فی الاصول من أنّه توسعة الواجب یلزمه توسعة الوجوب- أی موضوعه- کما فی من أدرک رکعة من الوقت فقد أدرک الوقت فإنّه یوسّع الوجوب للحائض التی حصل لها النقاء من الحیض واقتدرت علی أداء رکعة، فکذا الحال فیما نحن فیه حیث انّ دلیل «من أدرک المشعر فقد أدرک الحجّ موسّع لأداء الواجب وهو یوسّع الوجوب وموضوعه بتبع ذلک فی تمام قیوده، وما أشکله غیر واحد من النقض بحجّ المتسکّع الذی تحدث لدیه الاستطاعة عند أحد الموقفین من أنّه لا یجزأ عن حجّة الإسلام غیر مسلّم، مع أنّهم قد ذهبوا إلی الاجزاء فی من حجّ متسکّعا وأحرم من المیقات ثمّ تجدّدت له الاستطاعة وکان أمامه میقات آخر (کما ذکرناه فی سند العروة بحث الحج مسألة 6 من شرط الاستطاعة) (1)، ولا خصوصیة للمیقات الآخر فی فرضهم؛ لأنّ المضطرّ میقاته حیث أمکنه فینطبق حینئذ کبری تلک المسألة علی ما نحن فیه أیضا، والعمدة فی وجه الالتزام بتلک المسألة هو کون الاستطاعة المشروطة فی وجوب الحجّ هی بلحاظ کون ومکان المکلّف لا من بلده، وبلحاظ إمکان أداء الواجب والمفروض تحقّق

ص:194


1- (1) سند العروة، کتاب الحج، ج1 ص62.

ذلک فی المسألة المزبورة وفی المقام أیضا حیث انّه فی المقام قد تحقّقت جمیع شرائط الوجوب من الاستطاعة والبلوغ والحریة، کما أنّه یمکنه أداء الواجب ببرکة من أدرک أحد الموقفین فقد أدرک الحجّ، ومن ثمّ تقرر تلک القاعدة ان الجهة الموسّعة للواجب موسّعة لموضوع الوجوب أیضا، ومن ذلک یظهر (وجه) تعدّی المشهور من الروایات الخاصّة الواردة فی العبد إلی غیره من الصبی وغیره من المکلّفین إذا استتمّت لدیهم الشرائط کمن حجّ حجّا تطوّعا أجیرا فی خدمة أحد القوافل فتجدّد له حصول الاستطاعة بعد إحرامه قبیل أحد الموقفین (حیث) انّهم حملوا ما ورد فی العبد علی الإشارة لمقتضی القاعدة بالبیان المتقدّم لا أنّه تعبّد خاصّ فی حدوث الوجوب فی مورد العبد خاصّ به کی یستشکل بما ذکره أکثر متأخّری العصر بأنّ التعدّی قیاس من غیر علّة مصرّح بها فی الروایات، فنکتة حمل تلک الروایات علی القاعدة هی هذه المقدّمة الاولی التی بیّناها، وقد أشار إلیها کاشف اللثام.

وأمّا إشکال السید الیزدی علی قاعدة من أدرک أحد الموقفین فقد أدرک الحجّ من أنّ هذه القاعدة إنّما هی واردة فی من لم یحرم لا فی من أحرم کما فی المقام، وأجاب غیر واحد عنه بأنّ القاعدة واردة فی الأعمّ من الذی أحرم أو من لم یحرم لکن الظاهر أنّ نظر السید الیزدی(قدس سره) فی الإشکال هو ما سنتعرّض له فی المقدّمة الثانیة من وجود المانع عن أداء الواجب وهو التلبّس بالاحرام السابق ولو فرض تحقّق موضوع الوجوب بمقتضی المقدّمة الاولی وإلّا فلا یخفی علی مثله(قدس سره) ان روایات قاعدة من أدرک أغلبها

ص:195

ورد فی من أحرم.

والحاصل: أنّ ما ورد فی روایات العبد لیس تعبّدا خاصّا بلحاظ حدوث الوجوب.

أمّا المقدّمة الثانیة: وهی فی التخلّص من الاحرام الذی تلبّس به والنسک الذی أنشأه وعقده وفرضه علی نفسه بالتلبیة فیمکن بیان الحلّ والعلاج لذلک ببیان إجمالی وآخر تفصیلی علی مقتضی إحدی قواعد عدّة علی نحو البدل:

أمّا الجواب الإجمالی: فهو ببرکة الروایات الواردة فی العبد حیث انّها دلّت إجمالا علی عدم ممانعة ما تلبّس به من إحرام ونسک عن أداء الواجب الذی تجدّد وجوبه، وظاهرها - کما ذکرنا فی مسألة حج العبد - کما فی صحیح شهاب بطریق الصدوق والکلینی(قدس سره)ما أنّ ما وقع من إحرام یجزء عن الواجب وأنّ ما وقع من أعمال العبد مجز عن الواجب کذلک، أی أنّ طبیعة المستحبّ المأتی بها تنطبق علیها طبیعة الواجب عند حدوث الوجوب فی الأثناء عند أحد الموقفین، (و ما أشکله) البعض فی مفاد هذه الروایات من أنّها غیر دالّة علی تلبّس العبد بالاحرام؛ إذ من المحتمل أنّه أعتق ولم یکن محرما ثمّ أدرک أحد الموقفین (فخلاف) ظاهر الصحیح المتقدّم حیث انّ التعبیر (ب-) یجزی عن العبد حجّة الإسلام دالّ علی تحقّق عمل فی الخارج یکون هو مجزیا عن أداء الواجب، کما أنّ التعبیر فیها بأنّ للسیّد ثواب الحجّ دالّ علی مفروغیة بذل السیّد الحجّ للعبد- أی قبل العتق-.

ص:196

والحاصل: أنّ هذه الروایات صرّح فیها بکبری من أدرک أحد الموقفین الدالّ علی أنّ حکم العبد فی المقام هو بمقتضی تلک الکبری، بل انّ هذه الروایات هی بعض روایات تلک الکبری. غایة الأمر انّ ما تلبّس به من إحرام تطوّعی یقع مجز عن الواجب لانطباق الماهیّة.

ثمّ انّه علی ذلک (لا یشکل) علی الاستدلال بتلک الروایات علی المقدّمة الثانیة بأنّها خاصّة فی العبد وأنّه الذی یقع إحرامه التطوّعی مجز عن الواجب، (و ذلک) لأنّ کیفیّة أداء الواجب من جهة ممانعة التلبّس بالنسک التطوّعی لا فرق فیه بین المکلّف الذی کان عبدا أو الذی کان صبیا أو غیر مستطیع بعد فرض تحقّق جمیع شرائط الوجوب عند أحد الموقفین علی استواء فی الموارد الثلاثة وکون الاحرام السابق لهم تطوّعی، وبعبارة اخری: انّ التعبّد فیها لیس بلحاظ موضوع الوجوب کیف وهی تعلّل بالکبری المزبورة، وإنّما التعبّد فیها بلحاظ کیفیّة أداء الواجب للوجوب المتجدّد بانطباق طبیعة الواجب علی طبیعة التطوّع، ولک أن تقول إنّ التعلیل فیها بکبری من أدرک شاهد علی العموم فی کیفیّة أداء الواجب مع الابتلاء بذلک المحذور. فحینئذ نخرج بکبری اخری من الروایات الواردة فی العبد وذلک بقرینة تعلیلها بحدوث الوجوب بتوسعة الواجب، هی أنّ طبیعة الحجّ التطوّعی ینطبق علیه طبیعة الحجّ الواجب إذا تحقّق موضوع الوجوب قبل انقضاء أحد الموقفین، وسیأتی ویقرر ایضا فی الوجه الثانی فی المقام أنّ روایات اجزاء حجّ الصبی المتقدّمة خاصّة بما بعد الموقفین فیستفاد منها هذه الکبری أیضا.

ص:197

أمّا البیان التفصیلی فی المقدّمة الثانیة بمقتضی إحدی القواعد علی نحو البدل وهو أن یتمسّک بذیل، أمّا قاعدة أنّ الأمر الندبی لا یشرع مع وجود الأمر الوجوبی فیقتضی ذلک فی العبد أو الصبی أو غیر المستطیع أنّ ما أتوا به من إحرام لنسک تطوّعی یقع باطلا، فحینئذ لا یکون المکلّف الذی تجدّدت له شرائط الوجوب مبتلا بمانع الاحرام التطوّعی ونسکه، وذکرنا فی مسألة (6 و26 و110 من بحث الحج) ما ینفع فی هذه القاعدة وأنّ الأظهر مشروعیة التطوّع لعموم أدلّة استحباب الحجّ ومشروعیّته ورجحانه، بناء علی أخذ الاستطاعة قیدا فی الوجوب والملاک کما هو قول المشهور، وأمّا علی أنّ الاستطاعة قید فی التنجیز فلا یختلف موضوع مشروعیة الوجوب حینئذ عن موضوع الندب فلا یتعقّل تحقق أمرین بموضوع واحد علی متعلّق واحد بنحو الدوام فلا یکون فی البین إلّا أمر مشروعیّة الفریضة هذا بالنسبة للبالغین بلحاظ قید الاستطاعة وأمّا بلحاظ قید البلوغ فیتصوّر الأمرین لاختلاف الموضوعین کما لا یخفی.

نعم سنبیّن فی المسألتین الأوّلیتین انطباق الواجب علی ما أتی به من التطوّع بدلالة ما ورد فی العبد.

القاعدة الاولی: جواز العدول بالاحرام فی نسک إلی نسک قبل التلبّس بجزء النسک.

لکن سیأتی فی محلّه أنّ الأقوی وجوب إتمام النسک المنوی عند التلبیة لما ورد فی روایات التلبیة من التعبیر فیها بإنشاء الحجّ بالتلبیة وعقد الحجّ والنسک أو فرضه ولکنّها دالّة علی أنّ التلبیة مع نیّة أحد النسک سبب

ص:198

وصیغة لإیجاب أحد النسکین کصیغة النذر مع وجوب النذر فیجب علیه إتمام ذلک النسک.

القاعدة الثانیة: کون الاحرام شرطا فی نسک والشرط أخذه توصّلی، بخلاف الجزء فإنّ أخذه تعبّدی، وهذا لا غبار علیه کما سیأتی فی مواضع متعدّدة وإن ذهب جماعة کثیرة إلی أنّه جزء فی مسألة کیفیّة الاحرام ورتّبوا علی ذلک نیّة النسک حین تلبیة الاحرام کما فی الجواهر وأکثر المتأخّرین فی هذا العصر- کما سیأتی فی فصل کیفیّة الاحرام- الشرط الثالث فی نیّة تعیین النسک للاحرام.

ولکن الظاهر من المبسوط والوسیلة والمهذّب والتذکرة أنّه شرط فیجوز إنشاء الاحرام من دون تعیین، ثمّ صرفه إلی نسک معیّن وهکذا فی کشف اللثام.

ویترتّب علی هذا البحث (شرطیة الاحرام أو جزئیّته) فوائد عدیدة فی مسائل الحجّ:

1- لزوم تعیین النسک المتقدّم.

2- لزوم کون النائب فی بعض أعمال الحجّ أداء أو قضاء، محرما کالنائب فی الطواف أو السعی أو الرمی أو الذبح، بناء علی الشرطیة بخلافه علی الجزئیة فإنّه لا یشترط کونه محرما.

3- لزوم إتیان النسک مهما طالت المدّة بین عقد الاحرام والنسک بناء علی الشرطیة بخلافه علی الجزئیة فإنّه یبطل بعدم تعقّب بقیّة الاجزاء

ص:199

بمدّة طویلة وهذه الفائدة یترتّب علیها أکثر فروعات الخلل فی الحجّ والعمرة.

4- بقاء الاحرام مع فساد النسک أو عدمه.

5- کون أخذ الاحرام توصّلیا علی الشرطیة لا تعبّدیا فی المرکب کما هو علی القول بالجزئیة. وغیرها من الموارد.

واستدلّ للشرطیة:

أوّلا: بما ذکره العلّامة الحلّی من أنّ النسکین غایتان للاحرام ولذا لم تختلف ماهیّته فی النسکین.

ویمکن تفسیر ذلک بما تقرّر فی علم الاصول فی بحث مقدّمة الواجب من أنّ الأشیاء التی تؤخذ عنوانا وصفیا للمکلّف أو کوصف لموضوع أو لمتعلّق التکلیف، کمستقبل القبلة أو المتطهّر أو طهارة ما یسجد علیه، أنّها تکون شروطا فی المرکّب لا أجزاء؛ لأنّ المفروض أخذ تقیّدها، أی أخذها بنحو الوصف وما نحن فیه فی المقام کذلک، حیث انّ الاحرام أخذه وصفا للمکلّف، أی عنوان المحرم.

مضافاً لما ذکروه هناک فی نیّة العبادات من أنّها شرط لمقارنتها واتّصالها مع کلّ الاجزاء بنحو مستمرّ وهو من خواص الشرط لا الجزء والأبعاض المتعاقبة بعضها البعض وکذلک فی الاحرام فی المقام.

ثانیا: بما ذکره العلّامة أیضا- مع بسط منّا- من أنّ الاحرام فی الحجّ یغایر الاحرام فی بقیّة العبادات کالصلاة؛ فإنّ فیها الاحرام بالتکبیرة یبطل

ص:200

بعدم تعقّب بقیّة الاجزاء الصلاتیة لها مدّة طویلة لجهة الارتباط، ممّا یدلّ علی جزئیة الاحرام فی الصلاة.

وهذا بخلاف الاحرام فی الحجّ فإنّه إذا فسد الحجّ لم یفسد الاحرام، کما أنّه إذا عجز عن إدراک الموقفین فی الحجّ لم یفسد الاحرام کما فی المصدود والمحصور حیث انّ إحرامهما بقاء یتحلّلان منه بالذبح وإن امتنع أدائهما للنسک.

ثالثا: بما ذکره صاحب الجواهر من أنّهم لم یکتفوا بنیّة المرکب والنسک عن نیّة الاحرام تفصیلا مع أنّ مقتضی القاعدة أنّه یکتفی بنیّة الماهیّة عن نیّة الاجزاء وإن کانت أجزاء ماهیّة الحجّ تختلف عن بقیّة المرکبات من أنّ لها صورا مستقلّة متباعدة زمنا بعضها عن البعض فی عین ارتباطیّتها.

رابعا: بما ورد فی النصّ والفتوی من صحّة من حجّ ناسیا للاحرام فی کلّ أعمال الحجّ وعدم لزوم إتیان الاحرام بعد الاعمال فی ذلک الفرض بخلاف بقیّة الاجزاء فإنّها تتدارک مع الخلل.

خامسا: بما ورد فی المصدود والمحصور ومن لم یدرک الموقفین وغیرهم من أنّهم یتحلّلون أمّا بالهدی أو بعمرة ممّا یدلّ علی عدم بطلان الاحرام فإنّ حاله حال التیمّم الذی أوقع للصلاة ثمّ قرأ به القرآن دون الصلاة؛ إذ صحّة الشرط مستقلّة عن صحّة المشروط وإن بنی علی المقدّمة الموصلة کما أوضحناه.

ص:201

واستدلّ للجزئیة:

أوّلا: بما ورد فی أبواب الاحرام من الروایات الدالّة علی لزوم التعیین واشتراط العدول حیث أنّ ظاهرها لزوم قصد ماهیّة النسک عند الاحرام ممّا یظهر منها أنّ الاحرام جزء؛ إذ هذه خاصّیة الجزئیة لا الشرطیة فإنّها حیث کانت توصّلیة، لا تلزم نیّة المشروط عند إتیان ذات الشرط وإن کان تعبّدیا کالوضوء والغسل.

ثانیا: بأنّ عبادیة الاحرام متوقّفة علی قصد أمر النسک أی أنّه لا أمر به فی نفسه کما هو الحال فی الوضوء والغسل ممّا یدلّ علی أنّ الأمر به ارتباطی ضمنی.

ویخدش فیهما بأنّ لزوم قصد الأمر بأحد النسکین وإن کان لابدَّ منه لکی یقع الاحرام عبادیا، لکن ذلک أعمّ من الجزئیة والشرطیة کما هو الحال فی التیمّم حیث أنّه لم یؤمر به فی نفسه فلا یقع عبادیا إلّا بقصد الأمر بالمشروط.

وبعبارة أخری: انّهم قد ذکروا فی بحث مقدّمة الواجب أنّ المقدّمة العبادیة إذا لم یکن لها أمر مستقل فی نفسها فلابدَّ حینئذ من قصد الأمر بذیها. وهذا لا یقلبها عن کونها شرطا. بل مع القول بکون المقدّمة الواجبة هی مطلق المقدّمة دون التوصّلیة تصحّ وتقع المقدّمة عبادیة وإن لم یأت بالمشروط بالإتیان بمشروط آخر لوقوعها عبادیا بقصد الأمر بالمشروط الأوّل. بل تقع عبادیا حتی علی المختار من المقدّمة التوصّلیة حیث انّ الواجب علی ذلک القول وإن کان هو خصوص المقدّمة الموصلة

ص:202

و إنّ غیر الموصلة لا أمر بها إلّا أنّ المقدّمة بلحاظ المشروط ذی المقدّمة الآخر حیث کان تقیّده به توصّلیا فیمکن وقوع المقدّمة عبادیة بالإضافة إلیه.

وبعبارة اخری أنّهم ذکروا أنّ العبادة إذا تعلّق بها أمران وقصد أحدهما فإنّه یکون امتثالا له وأداء للآخر غیر المقصود وهذا ما یقال من أنّ الواجب العبادی فی عین کونه عبادیا، إلّا أنّه بلحاظ أمره، لو أمکن تحقّق عبادیّته بغیره توصّلی.

والحاصل: إنّ لزوم قصد النسک فی نیّة الاحرام لا یدلّ علی الجزئیة ولا یبطل الاحرام فیما لو لم یأت بالنسک المنوی.

هذا کلّه فی بیان قاعدة أنّ الاحرام شرط لا جزء، لکن مع ذلک هذه القاعدة مع تمامیّتها لا تفید فی المقام بمفردها؛ لأنّها تحلّ جهة الإشکال فی المقدّمة الثانیة فی المقام من زاویة الاحرام أنّه لیس جزءا بل شرطا صالحا بأن یتعلّق بأیّ نسک.

وأمّا الزاویة الاخری من الإشکال من المقدّمة الثانیة فی المقام من اشتغال الذمّة بإنشاء نسک وعقده وفرضه فیجب علیه الاتمام فلا تنفع شرطیة الاحرام فی حلّه.

فامّا یحلّ الاشکال فی المقدّمة الثانیة بالقاعدة الثالثة من عدم وجوب اتمام النسک للتلبّس به فیعدل فی المقام من النسک المستحبّ إلی الواجب عند البلوغ والحریة فی أحد الموقفین. لکن الصحیح هو وجوب إتمام

ص:203

النسک بإنشائه لفظا ونیّة وعقده وفرضه لورود هذا التعبیر فی روایات أبواب الاحرام المشار إلیها فیما تقدّم.

ومقتضی هذا التعبیر کون الإنشاء اللفظی للنسک أو الإنشاء لنیّة أنّه سبب لوجوبه وفرضه فیکون محقّق الصغری لکبری قوله تعالی: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (1) وظاهر الروایات والآیة هو الاختصاص الوضعی لذلک الاحرام بذلک النسک المنوی فضلا عن وجوب الاتمام التکلیفی.

وإمّا یحلّ ب القاعدة الرابعة وهی کون الحجّ المستحبّ مع الحجّ الواجب طبیعة وحقیقة واحدة منطبق أحدهما علی الاخری فی تمام أجزاء الماهیّة وشرائطها. غایة الأمر یقصد أمر کلّ منهما لأجل التمییز فی الامتثال کما هو الحال فی رکعتی نافلة الصبح وفریضته وحینئذ فهل یکون ما أتی به العبد والصبی وغیرهما من الحجّ التطوّعی مصداقا للطبیعة الواجبة بعد تجدّد شرائط الوجوب عند الموقفین.

لکن الأظهر- بالنظر لما ورد فی روایات العبد کما فی صحیح شهاب المشار إلیها سابقا والروایات الواردة فی نفی اجزاء حجّ الصبی عن حجّة الإسلام المختصّة بما إذا لم یبلغ عند أحد الموقفین- بقرینة عموم (من أدرک أحد الموقفین فقد أدرک الحجّ) الدالّ علی تحقّق موضوع الوجوب، مضافا إلی انصرافها عن فرض المقام باختصاصها بغیره کما سنبیّنه فی الوجه الثانی انّ طبیعة الحجّ التطوّعی متّحدة مع الواجب فیما إذا فرض تحقّق موضوع

ص:204


1- (1) البقرة: 196.

الوجوب ولو عند أحد الموقفین لا ما إذا تحقّق بعدهما فإنّ طبیعة الحجّ المستحبّ مباینة بمقتضی تلک الطائفتین من الروایات وعلی ذلک فینجع فی حلّ الإشکال فی المقام وهو ظاهر من روایات العبد ومحملها.

هذا تمام الکلام فی المقدّمة الثانیة من مقدّمتی الوجه الأوّل لإجزاء حجّ الصبی بالبلوغ قبل أحد الموقفین، وإنّما أطلنا فی بیان المقدّمة الثانیة مع أنّ الوجه الإجمالی کان مجزئا لما فی التفصیل من تحریر قواعد یبتنی علیها أکثر فروعات الحجّ وشرائط وجوبه.

أمّا الوجه الثانی فبناء علی التمسّک بالعمومات المشروعة للعبادات وأنّها یستدلّ بها لمشروعیة حجّ الصبی وأنّه واجد لعین ملاک حجّ الکبار فی فرض توفّر بقیّة الشرائط من الاستطاعة وغیرها کما تقدّم بیانه فی نسبة حدیث الرفع إلی العمومات الأوّلیة. غایة الأمر أنّه قد دلّت الروایات الخاصّة علی عدم إجزاء حجّ الصبی کدلیل مخصّص رافع للید عن العمومات إلّا أنّ المقدار المخصّص بها فیما إذا استمرّ صباه إلی ما بعد الموقفین أو ما بعد الحجّ ولا یخفی انصرافها إلی ذلک لمن تدبّر، بل لک أن تقول إنّ قاعدة من أدرک أحد الموقفین فقد أدرک الحجّ الدالّة علی توسعة موضوع الوجوب کما تقدّم مقیّدة لتلک الروایات الخاصّة بغیر ما إذا بلغ قبل الموقفین.

والحاصل: أنّ الصبی والمتسکّع والعبد وکلّ من کان غیر واجد الشرائط فتوفّرت لدیه الشرائط عند أحد الموقفین فإنّ ذلک یجزیه عن حجّة الإسلام.

ص:205

ص:206

قاعدة :الشعائر الدینیة

اشارة

ص:207

ص:208

الشعائر الدینیة

من القواعد المهمة التی لم یحرر فیها الأعلام بحثا منفردا, قاعدة الشعائر الدینیة اذ بحثوها استطرادا وبشکل متناثر بحسب مناسبات خاصة, وبطبیعة البحث الاستطرادی لا یسلط الضوء علی کل حیثیات البحث بل یبحث بشکل متوسط وإجمالی دون الغور فی المطالب التفصیلیة والتحلیلیة, وبذلک تنشأ رؤی غیر مکتملة تحتاج الی تنقیح وتجمیع للخروج بقاعدة متکاملة .

وتحریر البحث فی هذه القاعدة فی جهات:

الجهة الاولی: أقوال علماء الفریقین - من مفسرین ومتکلمین ومحدثین - فی معنی الشعیرة.

الجهة الثانیة: حکم الشعیرة إجمالًا.

الجهة الثالثة: معنی الشعیرة لغة.

الجهة الرابعة: طبیعة تحقق موضوع الشعائر ومعالجة بعض قواعد التشریع.

الجهة الخامسة: متعلق الحکم فی قاعدة الشعائر .

الجهة السادسة: النسبة بین قاعدة الشعائر والأحکام الأولیة والثانویة.

الجهة السابعة: موانع تطبیق قاعدة الشعائر .

ص:209

الجهة الثامنة: تطبیقات قاعدة الشعائر (الشعائر الحسینیة نموذجا).

الجهة الاولی: اقوال علماء العامة والخاصة حول قاعدة الشعائر:

والبحث فی هذه الجهة فی مقامین:

المقام الأول: أقوال العامة:

أقوال العامّة:

القول الأول: ما نقله بعض المفسرین من ان عطاء فسّر الشعائر فی الآیتین التالیتین (بأنّها جمیع ما أمر اللَّه به ونهی عنه ، أی جمیع فرائضه .. ولم یخصّصه ببابٍ دون باب ), سواء فی الآیة وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ ... (1) ولا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ ... (2).

وکذلک نقل ابن الجوزی عن عکرمة بأنه فسر الشعائر قائلا: (شعائر الله هی حدوده).

القول الثانی: ما نقله بعض المفسرین عن الحسن البصریّ: (الشعائر شعائر اللَّه: هو الدین کلّه ) ..

وهذا أیضاً قولٌ بالتعمیم, ای تعمیم فی الموضوع ، وعلیه فهذان القولان یتّفقان علی تعمیم موضوع الشعائر .

القول الثالث: ما قاله القرطبیّ فی تفسیره أحکام القرآن, حیث ذهب

ص:210


1- (1) الحج: 32.
2- (2) المائدة: 2.

إلی أنّ المراد من الشعائر هی جمیع العبادات ولم یعمّمها لجمیع أحکام الدین، وإنّما خصّصها بالعبادات .. قال: (جمیع المتعبّدات الّتی أشعَرها اللَّه تعالی، أی جعلها أعلاماً للناس).

وهذا قول آخر قد حدّد فیه دائرة الموضوع .

القول الرابع: ما ذهب الیه بعض مفسری العامة من أنّ المراد من شعائر اللَّه مناسک الحج خاصة دون غیرها من الاعمال او العبادات, وذلک بقرینة السیاق فی الآیات الواردة فی سورة الحجّ وفی أوائل سورة المائدة ، وتلک التی فی سورة البقرة اذ کلّها فی سیاق أعمال مناسک الحجّ .. فمن ثَمّ ذهب هذا القائل الی أنّ المراد منها جمیع مناسک الحجّ لیس إلاّ .. ولا تشمل هذه القاعدة بقیّة الأبواب.

القول الخامس: ما نقله صاحب زاد المسیر عن الماوردی والقاضی ابی یعلی من ان الشعائر (هی أعلام الحرم نهاهم ان یتجاوزوها غیر محرمین اذا ارادوا دخول مکة ).

و هذا بعض او اهم أقوال العامّة ..

المقام الثانی: أقوال الخاصّة :

أمّا بالنسبة لأقوال الخاصّة ، فلم نعثر علی قول من أقوال الخاصّة یقیِّد القاعدة بمناسک الحجّ فحسب .. أو یُخصّصها بالعبادات ، عدا ما قد یظهر من الشیخ النراقیّ فی عوائده ، بل دیدن علماء الخاصّة - کما یظهر من کلماتهم - القول بالتعمیم ،فمثلاً:

ص:211

1 - الشیخ الکبیر کاشف الغطاء فی کتابه کشف الغطاء ذهب إلی أنّ قبور الأئمة (علیهم السلام) قد شُعِّرت ، فهی مشاعِر ، ومن ثَمّ تجری علیها أحکام المساجد ،ذکر ذلک فی بحث الطهارة ، فی مناسبة معینة ، فی تطهیر المسجد وحُرمة تنجیسه وما شابه ذلک ..

وقد تمیّز الشیخ الکبیر کاشف الغطاء بهذا الإستدلال عن بقیّة الأعلام .. بالإشارة إلی أنّ وجه إلحاق قبور الأئمّة (علیهم السلام) بالمساجد هو کونها شُعِّرت مشاعر .. فهو إذن یذهب إلی أنّ المشاعر لا تختصّ بأفعال الحجّ ، ولا تختصّ بالعبادات ، بل تشمل دائرةً أوسع من ذلک ..

وأیضاً، فی کتاب منهاج الرشاد لمن أراد السداد یشیر الشیخ الأکبر کاشف الغطاء إلی هذه النکتة، وهی تشعیر قبور الأئمة (علیهم السلام) ..

وکذلک یشیر أیضاً إلی أنّ حُرمة المؤمن أیضاً من شعائر الدین .. فهو یعمّم موضوع الشعائر ..

2 - وذهب إلی التعمیم ایضا: صاحب الجواهر فی بحث الطهارة: فی موضع حرمة تنجیس القرآن، أو وجوب تطهیر القرآن إذا وقعت علیه نجاسة .. ویشیر إلی أنّ حرمة الهتک ووجوب التعظیم شاملان لکلّ حُرُمات الدین .. وعبارته:وفی کلّ ما عُلم من الشریعة وجوب تعظیمه وحُرمة إهانته وتحقیره..

وقال ایضا: (و یستحب کنس المساجد قطعا بمعنی جمع کناستها بضم الکاف و إخراجها لما فیه من تعظیم الشعائر و ترغیب المترددین

ص:212

المفضی إلی عدم خرابه ).

وهذا التعبیر فی النصین کأنّما اقتبسه صاحب الجواهر من الآیة فی سورة الحجّ .. ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ .

3 - ومن الکلمات الّتی یستفاد منها التعمیم ایضا: کلام الراوندی فی فقه القرآن قال الله إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ وهما جبلان معروفان بمکة وهما من الشعائر أی معالم الله وشعائر الله أعلام متعبداته من موقف أو مسعی أو منحر مأخوذ من شعرت به أی علمت وکل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة وأداء فریضة فهو مشعر لتلک العبادة).

وکلام المجلسی فی البحار (والشعائر جمع الشعیرة وهی البدنة تهدی وکذا أعمال الحج وکل ما جعل علما لطاعة الله).

وقال العاملی فی مفتاح الکرامة (فی جامع المقاصد أنّ کراهیّة التجصیص والتجدید فیما عدا قبور الأنبیاء والأئمّة (علیهم السلام) ، لإطباق السلف والخلف علی فعل ذلک بها. ومثله قال فی المسالک والمدارک ومجمع البرهان والمفاتیح مع زیادة استفاضة الروایات بالترغیب فی ذلک فی المدارک بل فی الأربعة الأخیرة: أنّه لا یبعد استثناء قبور العلماء والصلحاء أیضاً استضعافاً لخبر المنع والتفاتاً إلی تعظیم الشعائر لکثیر من المصالح الدینیة، بل فی مجمع البرهان أنّ ذلک معروف بین الخاصّة والعامّة).

وفتوی المحقق الکبیر المیرزا النائینیّ، الّتی صَدرت حول الشعائر الدینیّة..وقد عبّر عَن الشعائر الحسینیّة بأنّها شعائر اللَّه.. واستدلاله بالآیة

ص:213

یعمّم هذه القاعدة الفقهیّة، ولا یخصّصها بالمناسک ولا بالعبادات..

4 - الشیخ محمّد حسین کاشف الغطاء، قال بالتعمیم - أیضاً - فی فتاواه وفی کتبه.. وفی رسائل الأسئلة والأجوبة.. حیث یذکر دخول الشعائر الحسینیّة فی عنوان شعائر اللَّه، وفی شعائر الدین، ووجوب تعظیمها بنفس الآیة الکریمة..

5 - السیّد الحکیم(رحمه الله) فی المستمسک فی بحث الشهادة الثالثة.. حیث تمایل إلی وجوب الشهادة الثالثة) أشهد أنّ علیّاً ولیّ الله.. (فی الأذان والإقامة، لا من باب الجزئیّة، بل من باب استحباب الأمر باقترانها بالشهادة الثانیة، ومن ثمّ طبّق علیها عنوان شعائر الله، وبالتالی ذهب إلی وجوبها..

فباعتبار أنّ الحکم الأوّلیّ لها هو الاستحباب، وإن کان بنحو التعمیم إلّا أنّها اتُّخذت شعاراً للمذهب والطائفة، فذهب إلی حصول وتحقّق الشعیرة بها.. فالّذی یظهر منه ذهابه إلی تعمیم شعائر الله، وعدم تخصیصها بمناسک الحجّ، ولا بالعبادات..

هذه بعض أقوال الخاصّة الّتی تعرَّضَتْ صریحاً إلی تعمیم شعائر الله، ولم نجد من یخصّص الشعائر بخصوص مناسک الحجّ، أو خصوص العبادات.. بل الجمیع یعمّم الشعائر إلی مطلق ما یُظهر المعالم الرئیسیّة للشریعة ویَنشُر أحکام الدین..

والمتتبّع لفتاوی المتأخّرین فی الشعائر الحسینیّة یلاحظ تعمیم عنوان وقاعدة شعائر الله، إلی عموم أبواب وأحکام الدین..

ص:214

وقد نبّه الفقهاء الأعلام - ضمن استدلالهم - علی هذه القاعدة، إلی حقیقة وجود أدلّة أخری بلسان آخر یُرادف معنی ومدلول قاعدة الشعائر الدینیّة ، فآیات:

لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ .. ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ یرادفها من الآیات القرآنیّة کثیر من الموارد.. وسوف نذکر بعض الایات فی جهة لاحقة وان بعض الایات تدل علی نفس مضمون قاعدة الشعائر..

فائدة:

ان تتبّع الفقهاء للعثور علی ألْسِنة مختلفة - فی مسألة واحدة - سواء کانت مسألة وقاعدة فقهیّة، أو قاعدة کلامیّة إنّما یحصل من أجل إعطاء الباحث الفقهیّ ،أو المستنبط الفقهیّ سعة فی البحث، ما لا یعطیه اللسان الواحد والدلیل الفارد..وربّما یحصل الاختلاف فی اللسان الواحد، هل هو باق علی حقیقته اللغویّة أو نُقل إلی الحقیقة الشرعیّة مثلاً ؟ هل هو مبهم أم مجمل أم مبیّن ؟ هل فیه إطلاق او لا ؟.. وإلی غیر ذلک من الحالات التی تعرض علی اللسان الواحد فی الأدلّة الشرعیّة .. بخلاف ما إذا عثر الباحث أو الفقیه - أو حتّی المتکلم - علی أدلّة متعددة محتویة علی ألسنة أخری.. وقد تکون تلک الألسنة متضمّنة لبیانات ومفادات أجلی وأوضح، بحیث لا یقع الإختلاف فیها، وتختصر علی الباحث الطریق للوصول إلی ضالّته..

ص:215

من ثمّ نری أنّ الآیَتین: یُرِیدُونَ أَنْ یُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ یَأْبَی اللّهُ إِلاّ أَنْ یُتِمَّ نُورَهُ (1).

والایة فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ (2).

استند إلیهما الفقهاء، لیس فی بحث الشعائر فحسب، بل فی مسائل فقهیّة وعقائدیّة وتاریخیّة أخری.. فی وقائع تحتاج لمواقف شرعیّة حازمة وصارمة..

وهی وجوب نشر نور الدین ونور الإسلام، ونور الله..

وسیاتی لاحقا أنّ الفقهاء یلاحظون فی کلّ دلیل ثلاثة محاور:

محور الموضوع، ومحور المحمول، ومحور المتعلّق.. وإلّا فسوف یکون البحث عقیماً.. فلابدَّ من تمییز هذه المحاور الثلاثة بعضها عن بعض.

ولمّا کانت عناوین هذه المحاور تختلف من لسان إلی لسان آخر.. فلابدَّمن تمییز الألسنة وتصنیفها..

فبعد قیام الأدلة المختلفة وتمامیّتها یمکن القول أنّ قاعدة الشعائر الدینیّة عبارة عن جملة من قوانین الإعلام والنشر فی الدین الإسلامیّ لها أهمّیّتها.. ولها حکمها المتمیّز والمغایر للأحکام الأخری.. ولیس کما فُسِّرت من أنّ حکمها هو عین أحکام الدین.. أو أن الشعائر هی الدین کلّه کما مر فی بعض الاقوال.. أو أنّها تختصّ بمناسک الحجّ أو غیر ذلک..

ص:216


1- (1) التوبة: 32.
2- (2) النور: 36.

فالشعائر لها حکم مغایر للأحکام الأخری، ومتعلّقها مغایر أیضاً.. وإن ارتبط وتعلّق بنحوٍ أو بآخر بالأحکام الأوّلیّة بل هو حکم آخر وهو نشر الدین وإعلام الدین.

کما ذکرنا أنّ قاعدة الشعائر هی بمثابة فقرة الإعلام فی الفقه أو فی الدین الإسلامیّ.. وبعبارة أخری: هی جانب النشر والإعلام للأحکام علی غرار الإنذار فی آیة النفر، حیث إنّ الإنذار واجب مستقل غیر وجوب الصلاة .. الإنذار بالصلاة غیر نفس الصلاة.. والإنذار بالحجّ لیس هو نفس مناسک الحجّ ؛فبالإجمال نستنتج أنّ الشعائر لها موضوع ومتعلّق وحُکم یتمیّز ویختلف عن بقیّة الأحکام.. مضافاً الی الغایة الأخری التی دلّت علیها الآیات الشریفة، وهی إعلاء الدین وإقامة معالمه فی النفوس والسلوک الاجتماعیّ ولا خفاء فی الأثر التربویّ البالغ لأسلوب الشعیرة وممارستها فی إعطاء هاتین الغایتَین السامیتَین.

الجهة الثانیة: ادلة قاعدة الشعائر إجمالًا (أو الرؤیة القرآنیة أو العمومات الفوقانیة ).

فی کل دلیل لابد ان یبحث الفقیه او المستنبط عن ثلاثة محاور:

المحور الاول: الموضوع وهو قیود الحکم سواء اکان حکما تکلیفیا ام وضعیا.

المحور الثانی: المحمول وهو الحکم الشرعی.

المحور الثالث: والمتعلق وهو المطلوب حصوله خارجا فیما لو کان

ص:217

الحکم هو الوجوب او عدم حصوله فیما لو کان الحکم هو الحرمة.

ولنطبق ذلک علی ادلة الشعائر ومنها الآیتان الکریمتان:

الایة الاولی: قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ .

فان الموضوع فی الایة: الشعائر، حیث أُخذ متعلق المتعلق.

والمتعلق فی الایة: الإحلال والإهانة والابتذال، أو التعظیم. وبعبارة اخری: ان المتعلق هو التعظیم ان کان الحکم ایجابیا (وجوبیا) والتهاون ان کان الحکم سلبیا (تحریمیا).

و المحمول او الحکم: حرمة الإحلال أو وجوب التعظیم.

الایة الثانیة: وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ... (1).

ولم یؤخذ الموضوع فیها الشعائر وإنما الحرمات، ومع ذلک فقد صنّفها کثیر فی عمومات الشعائر, والوجه فی ذلک هو الاعتماد علی قاعدة معروفة ومشهورة لدی أساطین الفقه وهی أنّ الموضوع أو المتعلّق کما یمکن الإستدلال له بالأدلّة الوارد فیهاالعنوان نفسه أو المتضمّنة له، أو مرادفاته.. کذلک یمکن الإستدلال له بما یشترک معه فی الماهیّة النوعیّة أو الجنسیّة، أی المماثل أو المجانس ؛ بشرط أن یکون الحُکم مُنصبّاً علی تلک الماهیّة.. وإلّا کان التّعدی قیاساً باطلاً. کما یمکن الاستدلال له بالدلیل الذی یتضمّن جزء الماهیّة، کذلک یمکن الاستدلال له بمایدلّ علی اللازم

ص:218


1- (1) الحج: 30.

له أو الملزوم له، فتتوسع دائرة دلالة الأدلّة الدالّة علی المطلوب.

ففی هذه الآیة الشریفة: الموضوع: حُرمات الله, والمتعلّق: التعظیم, والحکم: الوجوب.. أی وجوب التعظیم.

الآیة الثالثة: ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ .

وهذه من أوضح الآیات علی إثبات المطلوب، حیت تدلّ علی محبوبیّة ورجحان التعظیم لشعائر الله حسب التقسیم الثلاثیّ المذکور من الموضوع والمتعلّق والحکم.

الایة الرابعة: وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَکُمْ فِیها خَیْرٌ (1).

فالایة ذکرت البدن من مصادیق الشعائر لذا عبرت ب- من التبعیضیة, وهذا ما فهمه جملة من الاعلام.

الایة الخامسة: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ (2).

وقد مرَّ کلام المفسر الراوندی فی الایة وحمل الصفا والمروة علی المصداق.

طائفة اخری ثانیة من الادلة تمسک بها بعض الفقهاء:

فقد تمسک عدة من کبار علماء الطائفة- کالمیرزا القمی فی فتواه فی الشعائر الحسینیة- وصاحب العروة، والسید جمال الکلبایکانی النجفی بعدة ادلة اخری ولم یقفوا عند العمومات المتقدمة التی أُخذ فیها لفظ

ص:219


1- (1) الحج: 36.
2- (2) البقرة: 158.

الشعیرة، وإنما استدلوا بعمومات أخری، من قبیل:

قوله تعالی یُرِیدُونَ أَنْ یُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ یَأْبَی اللّهُ إِلاّ أَنْ یُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ کَرِهَ الْکافِرُونَ (1).

فکلّ ما فیه نشر لنور الله فی مقابل الإطفاء فهو واجب.

وقوله تعالی فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ .

فالآیة عامة لکل بیت وموطن فیه رفع لکلمة الله ونشر حکمه فإنه واجب لوضوح أن الإذن فی الآیة ظاهر فی الوجوب لا الجواز، مع الإذعان بأن المصداق التام منحصر فی المعصوم کما یبدو ذلک من سیاق الآیات.

وقوله تعالی وَ جَعَلَ کَلِمَةَ الَّذِینَ کَفَرُوا السُّفْلی وَ کَلِمَةُ اللّهِ هِیَ الْعُلْیا (2).

فاتضح إجمالًا: وجود عمومات قرآنیة تدل علی وجوب تعظیم الشعائر الدینیة عموماً وحرمة ابتذالها وإهانتها تحت أکثر من عنوان، کعنوان الشعائر وعنوان بثّ ونشر کلمة الله تعالی ونوره.

الدراسة التفصیلیة لموضوع العمومات:

هناک قاعدة أصولیة مفادها: إن الأصل فی العناوین المأخوذة فی الأدلة الشرعیة من دون فرق بین أن تکون موضوعاً أم متعلقاً هو الحمل

ص:220


1- (1) التوبة: 32.
2- (2) التوبة: 40.

علی المعنی اللغوی حتی نتوفر علی مؤشرات کافیة علی النقل لمعنی شرعی جدید.

کما أنها فی حالة ظهورها فی المعنی اللغوی یمکن التمسک بإطلاق ماهیاتها، وإلّا لابد من اقتناص حدود المعنی الشرعی من مجموع الأدلة الشرعیة.

فی الوقت ذاته: الأصل فی مقام التطبیق بع تنقیح مقام قالب التنظیر فی کیفیة وجود العناوین ومصادیقها هو الحمل علی الکیفیة المألوفة فی وسط العرف أو العقلاءأو المتشرعة- حسب طبیعة العنوان وأنه شأن مَن- ما لم یثبت بالدلیل أن للشارع تعبدا خاصا فی المصداق والمصادیق والآلیات والوجود بنحو خاص کما فی الطلاق.

وعمومات الشعائر لا تستثنی من هذه القاعدة، ومن ثم کان من المنهجی تحدید المعنی اللغوی أولًا للتعرف علی مساحة العموم إن تمّ حملها علی المعنی اللغوی. ثم فی خطوة لاحقة نتعرف علی طبیعة وجودها لیتمّ الحمل علیه إن لم یکن للشارع تحدید جدید.

الجهة الثالثة: المعنی اللغوی للشعیرة:

1 - فی کتاب العین للخلیل بن أحمد الفراهیدیّ ؛ الشعار: یُقال للرجل: أنت الشِّعار دون الدِّثار، تصفه بالقُرب والمودة ،وأَشْعَرَ فلانٌ قلبی همّاً، ألبسه بالهمّ حتی جعله شعاراً.. ویقال: لیت شعری، أی عِلمی.. ویقال: ما یُشْعِرُکَ: وما یدریک..

ص:221

وشعرتُه: عقلتُه وفهمتُه.. والمشعَر: موضع المنسک من مشاعر الحجّ.

وکذلک: الشعار من شعائر الحجّ.. والشعیرة من شعائر الحجّ.

فالخلیل بن أحمد أثبت کلتا اللغتَین فی اللفظة المفردة، مفرد الشعائر ،فجعلها شعیرة، وجعلها أیضاً شعاراً ثم قال:

والشعیرة البُدن، وأشعرتُ هذه البُدن.. نُسکاً.. أی جعلتُها شعیرة تُهدی ،وإشعارها أن یُوجأ سِنامها بسکّین فیسیل الدم علی جانبها فتُعرف أنّها بدنةُ هَدْی.. وسبب تسمیة البُدن بالشعیرة أو بالشعار أنّها تُشعَر - أی تُعلَّم - حتّی یُعلم أنّها بُدن للهَدی.

ونلاحظ أنَّ هناک معنی مشترکاً بین موارد استعمال الشعائر، حیث نراها تستعمل بکثرة بمعنی العلامة والاستعلام.

2 - قال الجوهریّ فی الصحاح: والشعائر أعمال الحجّ، وکلّ ما جُعل عَلَماً لطاعة الله تعالی، والمشاعر: مواضع المناسک، والمشاعر الحواسّ ؛ والشَعار ما ولی الجسد من الثیاب، وشعار القوم فی الحرب: علامتهم لیعرف بعضهم بعضاً ،وأشعر الرجل هماً، إذا لزق بمکان الشعار من الثیاب فی الجسد.. وأشعرتُه فشَعر ،أی أدریتُه فدری..

الراغب أیضاً لم یزد علی ما ذکره الخلیل، والجوهریّ فی صحاحه..

3 - قال الفیروز آبادیّ فی القاموس: أشعَرَه الأمر أی أعلمه، وأشعرَها:جعل لها شعیرة، وشعار الحجّ مناسکه وعلاماته، والشعیرة والشعارة والمشعر موضعها.. أو شعائره: معالمه الّتی ندب الله الیها وأمر

ص:222

بالقیام بها.

4 - وابن فارس فی مقاییس اللغة لدیه هذا التعبیر أیضاً.. یُقال للواحدة شعارَة وهو أحسن (من شعیرة)، مما یدلّ علی أنّ شعیرة صحیحة، ولکن الأصحّ والأحسن شعارة.. والإشعار: الإعلام من طریق الحسّ.. ومنه المشاعر: المعالم ،واحدها مَشعر، وهی المواضع التی قد أُشعرت بعلامات ؛ ومنه الشعر، لأنّه بحیث یقع الشعور (یعنی التحسّس) ؛ ومنه الشاعر، لأنّه یشعر بفطنته بما لا یفطن له غیره.

5 - القرطبیّ فی تفسیره: کلّ شی للَّه تعالی فیه أمرٌ أشعَر به وأعلم یقال له شعاره، أو شعائر..

وقال: والشّعار: العلامة، وأشعرتُ أعلمتُ .. الشعیرة العلامة، وشعائر الله أعلام دینه ..

نتیجة المطاف:

تحصّل من مجموع کلمات اللغویّین والمفسّرین أنّ موارد استعمال هذه المادّة وهذه اللفظة فی موارد الإعلام الحسّیّ وهی جنبة إعلامیّة کما یظهر من أدلّة اللسان الثانی للأدلة القرآنیّة الواردة بغیر لفظة الشعائر، وهی ترکّز علی جانب الإعلام الدینیّ، أو نشر الدین وبثّ نور الله سبحانه وعدم إطفائه.. هذه التعابیر کلّها تبین زوایا من المراد من الآیات..

وهناک جنبة أخری فی الشعائر، وهی جنبة الإعلاء - العلوّ - وهذه موجودة فی لسان الأدلّة أیضاً.. بید أنّها غیر موجودة فی ماهیّة الشعائر..

ص:223

وإنّما هی موجودة فی ماهیّة المتعلّق الّذی تعلّق بالشعائر ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ ِ...التعظیم هو العلوّ والرفعة والسموّ لا تُحِلُّوا شَعائِرَ الله.أی لا تبتذلوها، ولا تستهینوا بها..نظیر قوله تعالی فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ...

فإنّ هذا اللسان الأوّل الّذی ورد فیه لفظة الشعائر.. فی الموضوع رکّز علی جنبة الإعلام) علی ضوء ما استخلصناه من أنّ معنی الشعیرة والشعائر عند اللغویین هو الإعلام الحسّیّ.. ولیس هو الإعلام الفکریّ المحض الّذی یکون من وراء الستار (فالإعلام الفکری لا یسمّی شعائر.. بل الشعائر: هی العلامة الحسّیّة الموضوعة الّتی تشیر وتُنبیء عن معنی دینیّ له نسبةٌ ما إلی الله عَزَّ وَجَلَّ وإلی الدین..

هذه جنبة الإعلام الموجودة فی اللسان الأوّل من الآیات.. والجَنبة الثانیة الّتی تظهر من خلال لسان الدلیل الثانی، وهی جنبة الإعلاء وَ کَلِمَةُ اللّهِ هِیَ الْعُلْیا ولَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً وما شابه ذلک.

ویمکن القول أنّ کلتا الجنبتَین، حاصلتان فی اللسان الأوّل ؛ غایة الأمر أنّ جنبة الإعلام والنشر والبثّ ظاهرة فی موضوع الدلیل وهو الشعائر.. وجنبة الإعلاء والتعظیم وعدم الاستهانة. مطویّة فی متعلّق الدلیل وهو التعظیم .. ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ .. ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ .. لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ .. .

إذا خُلّینا وهذا المعنی اللغویّ.. فالمعنی عامّ ؛ کما ذکر القرطبی أیضاً تبعاًلبعض اللغویّین: کلّ أمرٍ أعلَمَ بالله عَزَّ وَجَلَّ أو أعلَم بمعنیً من المعانی المنتسِبة إلی الله عَزَّ وَجَلَّ.. فهو شعار، وشعائر..

ص:224

فمن حیث الوضع اللغویّ، والماهیّة اللغویّة فإنّ الشعائر والشعار والشَعارة هو کلّ ما له إعلام حسّیّ بمعنی من المعانی الدینیّة، وله إضافة ما بالله عَزَّ وَجَلَّ ،وبدینه وبأمره وبإرادته وبأحکامه وبمراضیه..

الفرق بین النُسک والشعائر:

فإذن الشعار لیس هو النُسک من حیث هو نُسک.. قد سُمّیت النُسک مشاعر لأنّ فیها جنبة إعلام.. نُسک الحجّ تسمّی مشاعر بتطبیق المعنی اللغویّ علیها، من جهة أنّ الحجّ یمثّل مؤتمراً ومَجمَعاً ومحلاًّ لالتقاء وتقارب الأهداف المشترکة والغایات الموحّدة لهم.. فحینئذٍ کلّ ما یمارسوه من أعمال بالرسم المجموعیّ یکون فیه جنبة إعلان للدین ولعظمة الدین، وفیه دلالة واضحة للوحدة والألفة للأمّة الإسلامیّة ؛ ومن ثمّ سمّیت مناسک الحجّ - دون غیرها من العبادات -بالمشعر.. باعتبار أنّ فیها جنبة الإعلام دون غیرها.. وربما تسمّی صلاة الجماعة أیضاً بالمشعر.. وتسمّی مساجد الله، بالمشعر، والسرّ فی ذلک هو ما ذکرنا من أنّ هذه القاعدة الشرعیّة الفقهیّة، لها حکمٌ متمیز ومغایر لبقیّة الأحکام..

ولیس کما قال بعض علماء العامّة بأنّ الشعائر تعنی دین الله.. لأنّ الشعائر هی الإعلام لدین الله، وإعلاءُ دین الله.. وبالتالی إحیاء معالم الدین..

فلها متعلّق خاصّ وحکم خاصّ وموضوع خاصّ.. وسیتبیّن أیضاً أن جعل الشعائر وحکمها لیس ثانویّاً وان کان الموضوع ثانویا علی المصداق..

ص:225

المعنی الجامع بین اللغویّین:

فحینئذٍ، المعنی الجامع العامّ الّذی یقف عنده اللغویّون - فی ماهیّة الشعائر -هی جنبة الإعلام الحسّیّ.. وبعبارة أخری: أنّ أیّ شیء أو أمر تظهر فیه بروز لمبرز دینی وفیه جنبة إعلام عن معنی من المعانی الدینیّة، أو حکمٍ من الأحکام الدینیّة ،أو سلوکٍ من القیم الدینیّة وما شابه ذلک.. یسمّی شعاراً أو شعائر..

بعد آخر فی الموضوع:

الشعار الدینی یحمل خصوصیة أخری إلی جانب خصوصیة الإعلام وهی الإعلاء المستفاد من النمط الثانی من الآیات الدالة علی وجوب إعلاء کلمة الله تعالی وبثّ نوره، والمستفاد من الدلیل العقلی. ومثله لا یمکن استخراجه من مفهوم الشعار حیث لا یحمل أکثر من الإعلام، نعم یستفاد من متعلق الحکم فی آیات الشعائر وهو التعظیم وحرمة الابتذال.

علی ضوء المعنی اللغوی وبعد التمسک بإطلاقه یُعرف شمول الدلیل القرآنی لکلّ مادة إعلامیة دینیة وإن تمّ تأسیسها علی ید العرف العام أو الخاص، ما لم یثبت تعبد خاص فی الشارع وهی الحقیقة الشرعیة أو صیاغة الشارع آلیة خاصة للمصداق وکیفیة خاصة لوجوده فیتبع.

وعلی ضوء المعنی اللغوی یعرف أیضاً: أن الشعار لیس هو النسک بما هو نسک ولا أمر الله بما هو أمر الله وإنما حیثیة البعد الإعلامی فیها،

ص:226

فالحج حیث کان ملتقی ومجمعاً للمسلمین کانت الأعمال ذات الممارسة الجماعیة علامة وشعیرة إلی جانب کونها نسکاً. فهما یتصادقان فی النسک لا أن النسک هو الشعیرة من زاویة کونه نسکاً.

الجهة الرابعة: طبیعة تحقق موضوع الشعائر ومعالجة بعض قواعد التشریع:

طبیعة دلالة الموضوع:

ثم إن دلالة الشعیرة علی المعنی الدینی السامی لیس دلالة عقلیة ولا طبعیة وإنما وضعیة جعلیة، وإن کان وجود الدال تکوینیاً، إلا أنّ تعنونه بالشعیرة اعتباری جعلی، علی حدّ وجود الألفاظ ودلالتها علی معانیها، بید أنّ علامیّتها ودلالتها لا تتمّ إلا بعد التفشی والشیوع بحیث تصبح ممارسة جماعیة.

والشعیرة- بالإضافة إلی کونها دالًّا ومعلماً لها نحوٌ من التسبیب إلی تداعی ذلک المعنی والمفهوم- لها أیضاً نحو من التسبیب إلی تذکّر وإحیاء ورسوخ ذلک المعنی وتجدید العهد به مما ینتهی إلی الالتزام ب آثاره.

من ثمّ علی القول بکونه حقیقة عرفیة ینتج: أنّ کل أداة یتواضع أتباع الدین الحنیف أو المذهب الحقّ علی کونها دالّة علی معنی بحدّ التفشی، تصبح شعیرة دینیة.

النتیجة: إن عمومات الکتاب فی الشعائر ظاهرة لغة فی عموم موضوعها لکل مادّة حسیة إعلامیة عن معنی دینی، وإن کان الواضع لها عرف المتشرعة، شریطة أن تتمّ ممارستها. فیجب تعظیمها ویحرم ابتذالها إلا

ص:227

أن یتصرّف الشارع فی المعنی أو فی کیفیة آلیة ووجوده فیتبع.

الرأی الآخر: وقد ادُّعی فی کیفیة الوجود أنه لابد من أن یصوغها الشارع وإلا لم یعتدّ بها، استناداً إلی مجموعة أدلة:

الدلیل الأول: إن الشعیرة أمر الله ونهیه، ومثله لا یمکن أن یوکل للعرف بالبداهة.

الدلیل الثانی: إن التطبیقات القرآنیة کانت علی البدن ومناسک الحج، وکلها مجعولة من قبل الشارع، مما ینبئ عن أن تحدید المصداق مهمّته.

الدلیل الثالث: إن تخویل العرف بتحدید المصداق یجرّ إلی استحداث وتشریع رسوم وطقوس جدیدة وبدع فی الدین تحمّل علیه ولیست منه کما فی مثل صلاة التراویح.

الدلیل الرابع: إن تخویل العرف یؤول إلی تحلیل الحرام عند اتخاذهم محرماً معلماً، أو إلی تحریم الحلال کما إذا اتخذبعض الأمکنة شعاراً فیحرم إهانته بالتبوّل فیه بعد أن کان حلالًا.

تقییم ونقد عام:

وتعلیقنا علی الکلام المذکور: إننا لو سلّمنا بصحة دعوی أن الشعائر حقیقة شرعیة تعبدیة، إلا أنها لا تنتج ما یستهدفه قائلها من سلب الشرعیة عن الکثیر من المصادیق التی تصنّف الیوم فی حقل الشعائرُّ وذلک لوجود الألسنة الأخری الآخذة لعناوین أخری ذات حقیقة عرفیة لغویة تکفی فی إضفاء الشرعیة علیها. وهی تحدیداً: لسان بثّ نور الله وإعلاءکلمته،

ص:228

ولسان الدعوة لإحیاء أمر أهل البیت، ولسان أهمیة تشیید قبور أهل البیت، وحکم العقل بلزوم تعظیم الشعائر المنسوبة لله لأنه یصبّ فی مجال تعظیم الله تعالی اللازم عقلًا وبالبداهة.

ویتمّ تقریب الاستدلال من خلال الالتفات إلی نقطتین محسومتین سلفاً فی الوسط الفقهی والأصولی:

النقطة الأولی: إنّ التخییر، تارة: یکون شرعیاً، وذلک فی حالة نصّ الشارع علیه. وأخری: یکون عقلیاً، وذلک فیما لو أمرالشارع بطبیعة کلّیة من دون تخصیص بزمان أو مکان أو عوارض معیّنة، فیدرک العقل تخویل الشارع المکلّف فی تطبیق الطبیعة علی أیّ فرد شاء. ومثل هذا التطبیق لا یعدّ تشریعاً وبدعة، لأن المکلّف لا یتعبدّ بالخصوصیة الفردیة کی یُعدّتجاوزاً لما رسمه الشارع، وإنما یتعبّد بالطبیعة الموجودة فی الفرد، ومن ثم عدّ امتثالًا. وأمثلته أکثر من أن تحصی. ولهذاأسماه البعض بالتخییر الشرعی التبعی، وإن کان الصحیح أنه تخییر عقلی بید أنه بحکم العقل غیر المستقل.

النقطة الثانیة: ینقسم العنوان الثانوی إلی عنوان ثانوی فی الحکم، وآخر فی الموضوع. والفارق بینهما: أن الأول ذو ملاک ثانوی وبالتالی یکون الحکم فیه استثنائیاً کالحرج والضرر، وعلیه عندما تطرأ مثل هذه العناوین تُغیّر الحکم الأولی أوتزاحم ملاکه. بینما الحکم فی الثانی أولیّ منبثق عن ملاک أولیّ فلا یعدّ حکما استثنائیاً طارئاً وإنما موضوعه طارئ، کما لوأصبح القیام احتراماً للقادم بعد أن لم یکن کذلک، فذات القیام لیس احتراماً وإنما طرأ علیه وتصادق معه عنوان الاحترام، وأما الحکم بالاحترام فهو حکم

ص:229

أولیّ ذو ملاک أولیّ فلا یعد استثنائیاً وطارئاً بالنسبة للقیام. وأمثلة هذا القسم کثیرة، منها: کلّیة حالات وصور اجتماع الأمر والنهی.

وفارق آخر: أن النمط الأول لابد أن یکون طروّه ذا طابع اتفاقی استثنائی، وإلا لو کان دائمیاً أو غالبیاً عاد أولیاً وانقلب الأولی إلی ثانوی.

وبتعبیر آخر: لیست الغایة من التشریعات الأولیة أن تبقی قوانین جامدة ومعطّلة وإنشائیة فقط، وإنما الغایة تفعیلها حتی یتحققّ الملاک الذی یتوخّاه المقنّن من تقنینه لها. وحینئذ لابد أن تکون مزاحمة الأحکام الثانویة التی تفرض نفسها علی الحکم الأولی اتفاقیةُّ حفظاً لهویتها وهویة الحکم الأولی. ومن ثم کانت واحدة من شرائط فقاهة الفقیه وحاکمیته أن یحفظ هذا الأصل فی استنباطه وتطبیقه للأحکام وإلا کانت أغراض المقنن عرضة للضیاع.

بینما لا مانع فی النمط الثانی من أن تکون دائمیة بعد أن کان حکمها وملاکها أولیاً.

وبعد أن تبلورت هاتان النقطتان، وتبلور سابقاً أن أدلة الشعائر لیست منحصرة باللسان الذی ورد فیه لفظ الشعائر، أمکن الاستفادة من الألسنة الأخری المتضمنة لعناوین أخری حیث لم یکن الأمر فیها إلا بالطبیعة من دون تقیید بخصوصیة فردیة. فالعقل یحکم بان الشارع خول المکلففی مقام التطبیق علی أی مصداق وبأی أسلوب کان، خاصة وقد عرفت أن المکلف لا یتعبد إلا بالطبیعة دون الخصوصیة الفردیة. والمستجدات مهما کانت فهی لا تعدو العنوان الطارئ علی التکوین من القسم الثانی، وفی مثله لا مانع أن یکون

ص:230

دائمیاً. إذ الحکم فی ما نحن فیه أولی.

وکلمات الأعلام تؤکد ما ذکرناه. فصاحب الحدائق والذی یمثّل حالة وسطیة بین الاتجاه الأخباری والأصولی انتهی فی بحث لبس السواد حزناً علی الحسین إلی عدم کراهته حتی فی الصلاة، مع أنه مکروه فی نفسه.

والمیرزا القمی فی جامع الشتات «انتهی إلی جواز تمثیل واقعة الطف، بل رجحانه استناداً إلی عمومات البکاء والإبکاء، مضیفاً: إنّه علی فرض عموم حرمة تشبّه الرجل بالمرأة وبالعکس، فالمصیر حتی لو کان التعارض فإنه یبقی ذا فائدة إذ مع سقوط الحرمة یبقی الفعل علی الحلّ ولو عبر التمسک بأصالة الحل.

والسید الیزدی فی تعلیقته علی رسالة الشیخ جعفر الشوشتری- وتحدیداً فی الملحق فی أجوبته علی الأسئلة حول الشعائر الحسینیة- ینتهی إلی رأی البحرانی نفسه.

والگلبایگانی انتهی إلی جواز الشبیه تمسکاً بعموم البکاء والإبکاء.

وفی بحث الفرق بین البدعیة والشرعیة یلفت کاشف الغطاء الکبیر إلی: ان بعض الأعمال الخاصة ذات الطابع الدینی التی تفقد الدلیل الخاص علیها بید أنها تندرج تحت عموم، فإن جیء بها من جهة العموم لا من جهة الخصوصیة فهو کافٍ فی شرعیتها کالشهادة الثالثة فی الأذان لا بقصد الخصوصیة والجزئیة لأنهما معاً تشریع، بل قصد الرجحان المستفاد من عمومات استحباب ذکر علی(علیه السلام) حین یذکر اسم النبی صلی الله علیه و آله . وکقراءة

ص:231

الفاتحة بعد أکل الطعام بقصد استجابة الدعاء، استناداً إلی ما ورد أنه من وظائفه. وما یصنع للموتی من مجلس الفاتحة والترحیم بالطور المعلوم...

وواضح أن حدیثه لا یخصّ الممارسات ذات البعد الإعلامی/ الإعلائی فقط وإنما یعم کلّ السنن الاجتماعیة ذات الطابع الدینی.

نعم لابد فی المستجدّ أن یکون حلالًا فی نفسه وقبل أن یتعنون، وأما إذا کان حراماً فإن الأمر الشرعی بالطبیعة لا یشمله، فالتخییر العقلی فی الأفراد لا یتناول الخصوصیة المحرمة وإنما یشمل الفرد المکروه.

ثم إنه بما تقدم یمکن حلّ التدافع الذی یبدو لأول وهلة بین استدلالین فی فقه الشعائر لإثبات مشروعیة المصداق المستجد: الاستدلال بالبراءة أو أصالة الحل فی المصداق، ثم الاستدلال بعموم وجوب أو رجحان الشعائر.

تصویر التدافع: أنه جمع بین أصل عملی ودلیل اجتهادی. بالإضافة إلی أنه کیف یفرض الشک فی حلّیة وحرمة مصداق ثم یقال عنه إنه واجب؟

وحلّه: ما ذکرناه فی النقطة الثانیة من أن هناک قسماً من العناوین ذات حکم أولی ولکنها مع ذلک ثانویة من ناحیة الموضوع بحکم طروه علی الموضوع التکوینی، من ثم احتاج إلی إثبات حلّیة المعنون أولًا، کی یصلح فی خطوة لاحقة أن یتعنون فیکون مصداقاً للوجوب أو الرجحان الأوّلی، لوضوح عدم تناول «حالات الأمر بالطبیعة فالتخییر العقلی فی التطبیق علی المصادیق» المصداق والفرد ذا الخصوصیة المحرمة، وإنما یشمل الفرد

ص:232

المکروهُّ ومن هنا کانت الصلاة فی الحمام صحیحة. وإثبات الحلّ لا یکون إلا بالبراءة أو أصالة الحلّ.

ولکن قد یستغرب حینئذ من بحث الأعلام فی حالات اجتماع الأمر والنهی بعد أن کان الأمر بالصلاة لا یتناول الخصوصیة المحرّمةُّ إذ لا موضوع للاجتماع. والسؤال موجّه للقائل بالتزاحم الملاکی کالآخند والمشهور، وأما القائل بالتعارض کالمیرزا النائینی- فهو قد تجاوب مع السؤال حیث إنه ینتهی إلی عدم شمول الأمر للمصداق المحرّم؟

والجواب: إن غرضهم من البحث هناک هو تنقیح سعة الطبیعة وامتدادها إلی الفرد الحرام أیضاً فی مقام الحکم الإنشائی و الفعلی الناقص، ولکن لا بمعنی تسویغ ارتکاب الحرام وإنما بمعنی أن الحرمة تزاحم (ملاکا) العنوان الراجح علی الامتناع، وتزاحمه (امتثالًا) علی الجواز عند المشهور، وبالتالی قد یکون العنوان الراجح هو الأهمّ کما فی حالة التضیق والعجز عن بقیة الأفراد فیتقدم ویکون هو حکم الفرد المنجز. نعم فی خصوص الصلاة یحکم ببطلانها لعدم تحقق التقرب بما هو مبغوض عند التقصیر أو إمکان بقیة الأفراد.

فتلخّص: أننا لو تماشینا مؤقتاً مع فرضیة أن تحدید مفردات الشعائر شأن خاص بالشارع لم یخوّل فیه المتشرعة إلا أنه یمکن تلافی ما تنتجه هذه الفرضیة بالألسنة الأخری حیث تضفی الشرعیة علی کل المراسیم التی تم التعارف علیها علی أساس أنها شعائر من زاویة أنها تمثّل إحیاء الأمر ورفع کلمة الله وإعلاء أمره ونشر المعانی العلیا لدینهُّ وذلک لإطلاق الطبیعة

ص:233

المأمور بها وهو یقتضی التخییر العقلی، وأن العناوین المأخوذة فی الأدلة المذکورة لیس لها مصادیق تکوینیة مشخّصة وإنما تطرأ علی مصادیق متنوعة، ولا مشکلة فی أن یکون الطرو دائمیاً، شریطة أن یکون المصداق محلّلًا بل وإن کان محرّماً ولکنه غیر منجز، وکان الدوام بحسب الخارج من المقارنات لا بحسب نفس الطبیعة بناء علی التزاحم فی صورة الامتناع والذی هو مختارنا تبعاً لمشهور الفقهاء والشیخ والآخوند. فإن معیار التعارض لیس هو النسبة من وجه أو التباین کما هو مبنی مدرسة المیرزا، وإنما التنافی بین الدلیلین إذا کان دائمیاً أو غالبیاً بحسب التقنین والتشریع لا بحسب الخارج، فی قبال ما إذا کان اتفاقیاً بحسب التقنین والتنظیر وإن کان یدوم فی بعض الأفراد بسبب اتفاقی خارجی حیث یتزاحمان حینئذ من دون أن یکذب أحدهما الآخر.

وعلی هذا الأساس کان التنافی بین الحکم الأولی للعنوان الثانوی الوارد فی الألسنة الأخری والحکم الأولی الآخر: التزاحم لا التعارض لأن التنافی علی مستوی التقنین لا یعدو الاتفاق فی تصادقها واجتماع الطبیعتین المشتملتین علی الملاکین ولأسباب خارجیة، فیکسب المصداق الشرعیة من زاویة تعنونه بالعنوان الراجح لوجود الملاک وإن کان محرّماً فضلًا عمّا إذا کان مباحاً.

النقد التفصیلی لأدلة الرأی الآخر:

بعد کلّ هذا ننتقل إلی النقد التفصیلی للأدلة الأربعة التی قیلت أو یمکن أن تقال لدعوی اختصاص شرعیة الشعیرة بما یصوغه الشارع من

ص:234

مصداق لا مطلقاً، بعد الإلمام إجمالًا بفسادها من خلال ما تقدم:

أما دلیل استلزام اتساع الشریعة وبالتالی تبدّل معالمها وشکلها، فیمکن المناقشة فیه: بأن التضخم والتوسع إن کان یعنی التجذیر والتثبیت والنشر والتعمیم والبثّ والإعلاء والإحیاء فهو مطلوب. وان کان یعنی زوال ما هو الثابت( الضرورات ) فهو مرفوض.

وبعبارة أخری: لیس التغییر علی إطلاقه ظاهرة سلبیة وإنما ما کان منه علی حساب الثابت، وأما ما یصبّ فی خدمة الثابت وتأکیده وتأصیله وحفظه فهو إیجابی ومطلوب، وقانون هذا وضابطته هو حفظ ثبات عنوان موضوع ومتعلق القضیة الشرعیة واختزال واختصار التغییر فی مصداقهما. وواضح أن المستجدّ فی حقل الشعائر الذی یمکن قبوله بل الدعوة إلیه هو ما یکون فی حقل المصداق مع حفظ ثبات الموضوع للقضیة المشرعة وبدقة. وهذا هو الذی ندعیه صغرویاً، ومن ثم لم تشکّل هذه المفردات حسب فهمنا، تهدیداً لثوابت الدین ومقدّساته بل العکس تدعیما لثوابت الدین وحفظها وابقاءها.

وأما دلیل فتح باب التشریع، فیمکن القول بوجاهته إن کان للمتشرعة تشریع، بید أنه لیس کذلک حیث إنهم لم یمارسواسنّ قانون وإنما مارسوا التطبیق المأذون به شرعاً، وهو أمر لیس منه بدّ فی أی قانونُّ لأنه مهما تفصّل علی ید المقنّن إلاأنه لا یمکن أن یکون جزئیاً من کلّ جهة، ومن ثم یبقی ذا جهة أو أکثر عامة کلّیة تنظیریة، وهی المنطقة التی خُوّل المکلف فیها التطبیق علی المصداق الذی یشاء من دون أن یتعبّد

ص:235

بالخصوصیة. هذا بالنسبة للعموم الذی لا یتنَزل ولایتفصل إلا بجعل وتقنین وهو الذی تمّ إیکاله إلی النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته (علیهم السلام) .

وهناک ما لا یحتاج إلی تنْزیل بصیغة التقنین والجعل حیث یکون انطباقه قهریاً وساذجاً، ومثله أُوکل تطبیقه إلی المکلف من البدایة.

وعمومات الشعائر بألسنتها المختلفة من القسم الثانی.

وبهذا یتبلور الخلل فی دلیل تحلیل الحرام وبالعکسُّ إذ عقدته أنه تشریع، وهو وجیه إن کان بلا غطاء شرعی، وإلا کان التشریع الإلهی المنطبق الطارئ هو المحلّل والمحرّم، وقد عرفت أن التخییر العقلی فی المصداق بتخویل من الشارع، وإلا انسحب الإشکال حتی علی مثل مصادیق الصلاة بحسب المکان والزمان والساتر وبقیة الشرائط, اذ ان التخییر فیها عقلی لم یحدده الشارع من حیث المصداق والتطبیق.

ویتبلور الخلل فی الدلیل الآخر الذی حاول تصنیف عمومات الشعائر فی القسم الأول، وهو الذی یحتاج فی تفصیله إلی الجعل والتقنینُّ استناداً إلی جعل الشارع بعض المصادیق للشعائر. وذلک: لأن صرف تصرف الشارع فی إخراج مصداق أو إلحاقه لا یعنی أنه من النمط الأول. فالشارع تصرّف فی البیع توسعة وتضییقاً ولکن لم یؤثّر ذلک علی بقاءعموم البیع قابلًا للانطباق علی مصادیقه من دون توسیط للجعل.

ضابطة البدعة والتوقیفیة:

ومن أجل أن تتکامل الصورة نلفت إلی قانون البدعة ومنه نتعرف

ص:236

علی ضابط التوقیف علی الشرع، إذ قد یتبادر إلی الذهن علی ضوء النتیجة التی خرجنا بها أنه لم یبق للتوقیف معنی أو مجال، فنقول: قانون البدعة هو نسبة غیر المجعول من قبل الشارع إلیه، أو الإخبار عنه من دون علم وإن کان فی الواقع موجوداً. ولا یعنی من النسبة محض الإخبار وإنما مع التدین والالتزام علی أساس أنه من الشارع وذی صبغة دینیة.

وعلی هذا فالتوقیف هو حصر التدین بشیء موقوف علی الجعل أو علی العلم حتی یتوفر ذلک من الشارع.

وقد یتساءل علی هذا الضبط: أنه یعنی جواز التدین بشیء إذا لم یکن علی أساس أنه شرعی وإنما نتیجة توافق الطرفین والتزامهما کما فی الربا من دون بناء علی حلّیته، مع أنه لا یمکن الالتزام به؟

والجواب: نعم فی الفرضیة المشار إلیها لیس حراماً من زاویة کونه بدعة ومخالفة للتوقیف، وإنما هو حرام من زاویة أخری وهی حرمة ممارسة الربا. فالتوقیفیة لا تغطّی کل الالتزامات المحرّمة.

وقد یتساءل ثانیة عن السرّ فی اقتصار کثیر من الفقهاء فی التوقیف علی العبادات فقط، فی الوقت الذی یبدو شموله لکل مساحات الدین؟

فالجواب: اقتصارهم لجلاء الأمر فیها، لأن العبادیّ لا یؤدّی إلا علی أساس أنه من الشارع، وإلا فالجمیع عموماً توقیفی من جهة الحکم والمحمول.

هذا بالإضافة إلی أن العبادات ذات حقائق شرعیة، وفی مثلها لا بد من إعمال التوقیفیة حتی علی صعید المصداق، بخلاف العناوین ذات

ص:237

الحقائق اللغویة کعنوان صلة الرحم وبرّ الوالدین فإن توقیفیتها تقتصر علی الحکم وقیدیة العنوان له دون ماهیة العنوان والمصداق.

ومما تقدم یتبلور: أن النتیجة التی خرجنا بها فی عمومات الشعائر والألسنة الأخری من إیکال المصداق إلی العرف لایتقاطع مع قاعدة التوقیف، لأن العناوین المأخوذة فی الأدلة ذات حقائق لغویة لا حقائق شرعیة، وفی مثلها یقتصر فی التوقیف علی حکم العنوان دون المصداق.

فقه متعلّق العمومات:

والحدیث فی هذه الزاویة یقع فی نقطتین:

النقطة الأولی: قد سبق أن المتعلق فی العمومات هو التعظیم والابتذال، حیث وقع الأول متعلقاً للوجوب والثانی متعلقاًللحرمة.

والکیفیة المطلوبة لابد أن تأتی متناسبة مع طبیعة الشعیرة( الدالّ )أو المدلول بالشعیرة.

توضیح ذلک: ذُکر فی بحث الوضع أن صلة الموضوع بالموضوع له تتوثق وتشتدّ بکثرة الاستعمال وتقادم العلاقة، حتی یصل الأمر إلی الاستعاضة ذهنیاً بالموضوع عن الموضوع له.

وبعبارة أخری: إن کیفیة العلاقة وإن کانت مدینة للوضع حدوثاً وبقاءً، بید أن کیفیتها مرتبطة بعوامل أخری، ومن ثم لایمکن تصنیف بیانیة العلامات فی درجة واحدة وإنما هی حالة مشککة تتفاوت تبعاً لتفاوت العوامل ومدی توفرها.

ص:238

ولا تشذّ الشعیرة عموماً عن هذا القانون، ومن ثم یتفسّر لنا ما نلحظه من تفاوتها فی التعبیر، فشعیرة لفظ الجلالة) الله (واسم النبی) محمد (أشدّ تعبیراً من الرزّاق والخالق فی الأول، والألقاب الأخری فی الثانی، وهی جمیعاً أشدّ من الشعائرالأخری حتی انفردت فی أحکام خاصة من بینها، کحرمة المسّ من دون طهارة، وحرمة التنجیس مطلقاً.

من جانب آخر: إن الشعائر وإن اشترکت فی إحیاء المعنی الدینی وتسویقه إعلامیاً بید أن مدالیلها تختلف فی السموّوالرفعة، فمضمون المصحف الشریف هو کلام الله تعالی، بینما مضمون کتب الحدیث هو کلام المعصوم(علیه السلام)، ومضمون کتب الفقه مضامین الحکم الإسلامی، وبدیهی أن المدلول الأول أرفع من المدلول الثانی. ومن ثم یُفهم اختلاف أحکام الهاتک لحرمة الکعبة والمسجد الحرام حیث یُکفّر ویُقتل فی الأول، ویُقتل فی الثانی من دون تکفیر.

وحیث اختلفت الشعیرة دلالةً أو مدلولًا، اختلف التعظیم المطلوب.

النقطة الثانیة: الواجب أو الحرام الذی ینطبق علی مصادیقه بکیفیة مشککة غیر متواطیة، کالبرّ بالوالدین والمعاشرة بالمعروف مع الزوجة، هل هو کلّ المراتب أو المتیقّن فقط وهو الأدنی فی الوجوب والأعلی فی الحرمة؟

مرتکز الفقهاء: الثانی، والزائد راجح، فالبرّ الواجب هو الذی یؤدی ترکه إلی العقوق، والصلة الواجبة هی التی یلزم من عدمها القطیعة.

من ثم لم یکن فرق بین من یذهب إلی حرمة العقوق ومن یذهب إلی

ص:239

وجوب البرّ علی مستوی النتیجة.

وفیما نحن فیه: التعظیم مشکّکُّ حیث لا یقف عند حد، وإنما کلّ تعظیم فوقه آخر، والابتذال مثله: حیث کلّ نمط یوجد الأشدّ منه. ولمّا کان المتیقّن من کلّ منهما هو المطلوب إلزاماً، لم یبق فرق بین مدلولی عظم ولا تحلّ «علی مستوی النتیجة. فالتعظیم الواجب هو الذی یلزم من ترکه الإهانة، وهی أول مراتب الابتذال، والمراتب العلیا مستحبة.

والابتذال المحرّم هو الذی لا یقترن مع أیّ ممارسة وجودیة- ولو دنیا- معبرة عن التعظیم وإلا کان مکروهاً.

حیثیات فی حکم العمومات:

الحیثیة الأولی: سبق أن اتضح أن طبیعة الحکم فی عمومات الشعائر أولی، وأن الثانویة وإن کانت متقررة بید أنها فی زاویة الموضوع، ومن ثم لم یکن الحکم هذا عینَ الأحکام الأولیة، کما بدا ذلک من بعض التعاریف، حیث عرّفت الشعائر بالدین وأمر الله، وذلک لاختلاف الموضوع، فهما حکمان لموضوعین متصادقین، فإیجاب البدن کشعیرة یختلف عنه کمنسک حجّ ملاکاً وموضوعاً فحکماً، أقصاه أنهما تصادقا حیث کان المصداق مشتملًا علی جنبة الإعلام. وعندمانتأمل فی روایات الهدی نلحظ بوضوح البعدین فی المصداق.

الحیثیة الثانیة: هناک تقسیم للثانوی من زاویة الحکم إلی مثبت ونافٍ. والأول من قبیل المؤمنون عند شروطهم «ووجوب الوفاء بالنذر، والثانی

ص:240

من قبیل: لا ضرر ولا حرج. فالمثبت متضمّن لملاک وجودیّ، فی حین یکفی النافی نفی الملاک، وهذا فارق مهمّ فی باب التزاحم، بالإضافة إلی الأثر المهم الذی یترتّب علی الفرق بینهما فی بحث الثابت والمتغیّر فی الأحکام والأصول القانونیة للأبواب الحدیثة المستجدّة.

ویمکن القول إن الحکم فی القسم الأول أولی، والثانویة فیه من زاویة الموضوع، فیکون کحکم الشعائر، ولکن مع میزة للأخیر فی أنه أمر مرغوب فیه ندب إلیه الشرع وحثّ علیه، فی حین لا یوجد ذلک فی النذر وإنما یجب لو وقع بل قدیکره کثرته، ولا یوجد ذلک فی الشرط وإنما یجب إذا التزم.

وإن لم یمکن تصنیف القسم المذکور فی الحکم الأولی فحکم الشعیرة علی الأقل یبقی وثیق الصلة بالحکم الأولی وإن کان لا یعدم ولا یخلو من القواسم المشترکة مع الثانوی المثبت.

الحیثیة الثالثة: اختلف علی طبیعة العلاقة بین الحکم الثانوی النافی والحکم الأولی بین مشهور- وهو الصحیح- قائل بالتزاحم الملاکی وآخر- المیرزا النائینی ولفیف من تلامذته- قائل بالتخصیص.

ویترتب علی هذا الخلاف بقاء مشروعیة الحکم الأولی علی التزاحم دون التخصیص.

بالإضافة إلی أنه علی التزاحم لا یکون الضرر أو الحرج الرافع بدرجة واحدة فی کلّ الحالات وإنما فی کلّ حالة بحسبها، فالضرر الیسیر

ص:241

یرفع وجوب الوضوء إلا أنه لا یبیح أکل المیتة ما لم یبلغ حداً بالغاً یفوق فی ملاکه ملاک الحرام، وهذا هومنطق التزاحم الملاکی، وعلی المیرزا أن یکیّف هذه الظاهرة مع التزامه بالتخصیص الذی یقتضی أن یکون المخصص کیفیة واحدة فی الجمیع، ودعواه انصراف لا ضرر «لا تُقبل ما لم یأتِ بشاهد.

بینما اتفقت الکلمة علی أن العلاقة بین الحکم الثانوی المثبت والحکم الأولی لیست هی التخصیص وإنما اشتدادالحکم کما إذا کان الفعل مستحباً فانه یصبح واجباً بالشرط. أو التزاحم الملاکی مع اختلاف الحکمین.

ونسبة حکم الشعائر مع الحکم الثانوی من دون فرق بین أن یکون مثبتاً أو نافیاً کنسبة أی حکم أولی مع الحکم الثانوی. فلا ضرر- مثلًا- یعدّ حکماً ثانویاً طارئاً علی حکم الشعیرة ومن ثم فهو متأخر رتبة من زاویة الموضوع. وحیث إن العلاقة هی التزاحم الملاکی لا یکون کلّ ضرر رافعاً لحکم الشعیرة ما لم یأتِ متناسباً مع طبیعة الحکم، خاصة مع تفاوت الشعیرة فی قوة الدلالة أو قوة المدلول، فلابد من الموازنة بین قدر الضرر ونمط المتعلق أیضاً لأن اختلافه یعبر عن اختلاف ملاکه فی الشدة والضعف.

شکوک وحلول:

هناک محاولات استهدفت شرعیة بعض صغریات الشعائر السائدة فی الوسط الشیعی من خلال وصمها بالخرافة أوالهتک أو الإهانة.

ص:242

من ثمّ ولأجل أن تأتی دراسة الموضوع متکاملة نسلّط الضوء علی هذه المفاهیم لکی نعرف مدی صحة المحاولات المذکورة:

الخرافة:

الخرافة تعنی: منتجات القوة الواهمة والمتخیلة مع إذعان النفس لها من دون أن تمتّ للحقیقة بصلة، فلا مطابق لها لا فی العقل ولا فی الحس. فمبدؤها فعل إدراکی خاطئ مع البناء العملی علیه حتی یتمظهر بصورة سلوک وممارسة.

وواضح أن مثل هذا لابد من القضاء علیه وملاحقته فی شخصیة الفرد والمجتمع لأنه عنصر هدم لا بناء، لا یُقبل فضلًاعن أن یعظّم ویقدّس.

وفی الشعیرة لا تتصور الخرافة فی ذاتها بعد أن کانت هویتها العلامیة، والخرافة هی التی تلبس صورة الواقع من دون أن یکون لها ذلک.

أمّا مدلولها وهو المعنی الدینی فیمکن أن تتسرب له الخرافة، ویکون التمییز حینئذ علی أساس الدلیل المعتبر.

وهذا یتکئ علی خطوة سابقة وهی تشخیص مدلول الشعیرة وبشکل دقیق، وهی محاولة معقدة قد لا تتسنی للفقه وحده ما لم یکن الفقیه ملمّاً بالتاریخ وعلم الاجتماع والنفس حتی یأتی التحدید لمؤدّی الشعیرة موضوعیاً.

إلی جانب ذلک لابد من الالتفات إلی أن الرسوم والشعائر کالأعراف والعادات والتقالید، قد تختلف من مجتمع إلی آخر، فأسلوب

ص:243

التعظیم یختلف من وسط إلی آخر، بل قد یکون فی وسط تعظیماً وفی آخر إهانة. ومن ثم لا معنی لتحمیل شعیرة وسط علی آخر، ولا معنی لتناول شعیرة الآخر بالنقد من منطلقات الذات، ولا معنی لتنازل أمة أومجتمع عن شعیرة ذات مؤدّیً سامٍ فی وسطه لأنها لا تحمل المؤدّی ذاته فی وسط آخر بحجة أنها ظاهرة غیر حضاریة وأنها خرافة. طبعاً إذا أرید لهذه أن تکون إعلاماً داخلیاً یستهدف المحافظة علی الوسط وتأصیله وترکیزه فی أعماق النفوس، کما فی مثل بعض الشعائر الإسلامیة والبدن جعلناها لکم ومن حج البیت وصلاة الجماعة. نعم فی الإعلام الخارجی لابد أن یکون لائقاً بالآخرین یحاکی عقلیتهم وعرفهم ومشاعرهم حتی یترک أثره فیهم، کالوفاء بالمعاملة والالتزام بالقانون، حیث یشکّل سمة بارزة فی حیاتهم الیوم.

کذا لابدَّ من الالتفات إلی أن الشعیرة تعبر عن هویة وخصوصیة وشخصیة الوسط الذی یتعاطی بها، خاصة ذات العمق الضارب فی التاریخ التی انتهت إلینا کموروث حضاری من جیل إلی آخر لم یساهم إلا فی تطویرها وتعدیلها، فإن مثل هذه تختزن ثقافة الوسط وأصالته. ومن ثم کان التلاعب غیر المدروس فیها- فضلًا عن استبدالها بشعیرة مستوردة من وسط آخر- یؤدی إلی تهجین أو ذوبان الهویة والقضاء علیها والتشبه المحرم بالکفار وباعداء الله.

ومن ثم یفهم اعتزاز الجماعات البشریة بتراثها عموماً حیث یمثّل عصارة حضارتها ویحکی تاریخها ویعبّر عن ثقافتهاویمثّل هویتها، وإلا

ص:244

کان علی حساب نسبها وعراقتها وأصالتها.

کما یُفهم حکمة تحریم التعرّب بعد الهجرة وحرمة قراءة کتب الضلال. ویُفهم خطورة الغزو الثقافی والفکری وإصرارالغازی علی تسویق لغته أو أعرافه کواحدة من مفردات خطّته فی مشروع الهیمنةُّ حیث إنها تحمل ثقافته التی یبغی نقلهاإلی الآخرین بدیلًا عن ثقافتهم ومحاولة للقضاء علی هویتهم.

کلّ هذا یؤکد الحاجة إلی اختصاص رفیع لمن یرید أن یتناول الشعائر بالبحث أو التعدیل أو التغییر أو استحداث شعیرة. ومن دون ذلک یکون اللعب بها من نمط اللعب بالنار و(معظم النار من مستصغر الشرر).

الهتک:

الهتک علی صعید اللغة یعنی: کشف المستور، أو کشف العوار.

وعرفاً: عندما یقال هتک المؤمن أو هتک المجتمع الدینی مثلًا یُقصد منه کشف نقاط الضعف فیه أو إذلاله وإهانته.

والهوان مسبّب عن الهتک یتّصف به المهتوک إذا هُتک. أو أحدهما مسبّب عن الآخر.

وبدیهی أن أیّ ممارسة توجب الهتک للمجتمع الدینی لا تلتقی مع أغراض الشارع المتمثّلة فی قوله تعالی: وَ جَعَلَ کَلِمَةَ الَّذِینَ کَفَرُوا السُّفْلی وَ کَلِمَةُ اللّهِ هِیَ الْعُلْیا (1).

ص:245


1- (1) التوبة: 40.

ولکن السؤال: هل الهتک یحصل بصرف استهزاء الآخر أو لا؟

والجواب: إن کان الاستهزاء نتیجة اختلاف الأعراف والشعائر والرموز الموجب لعدم فهم الآخر المدلول الدینی عندنا أو فهمه منها معنیً آخر، فلا یوجب الهتک، وبالتالی لا یفرض تغییر الشعیرة، بل إن محاکاة ذوقه وتقلیده یتمّ علی حساب الهویة.

وان کان بحقّ ونتیجة فراغ المادة الإعلامیة أو سوء محتواها فهو موجب للهتک.

نعم ممارسة الآخر الاستهزاء والتشویه للشعائر الحقة وبإعلام مکثّف قد یوجب وقوع المسلمین فی جوّ خاطئ فیری الحسن قبیحاً، وعندها قد یکون من الصحیح وفی حالات خاصة جداً وفی غیر المتأصّل من الشعائر أن یمنع الفقیه أو الحاکم من ممارسة هذه الشعیرة مؤقتاً ولکن لا لأجل الهتک وإنما تفادیاً لضعف المسلمین وشعورهم بالنقص الذی هو مفسدة أکبر من مصلحة الشعیرة کما یری الفقهاء أرجحیة ترک المستحب أو ترک المکروه عندما یکون هناک عرف خاطئ یوجب التشهیر بمن یعمل المستحب أو یترک المکروه. کلّ هذا شریطة ألا یکون ترک الممارسة موجباً لقوة الخصم وتقهقر المؤمنین نفسیاً وإلّالم یرجح

الجهة الخامسة: متعلّق الحکم لقاعدة الشعائر:

وهو التعظیم للشعائر وحرمة الابتذال والإحلال لها..

قال تعالی: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ .

ص:246

وقال: وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ .

وقال: وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ .

والبحث حول المتعلّق یقتضی التعرض لعدة نقاط:

النقطة الأولی: یجب الإلتفات إلی أن وجود الشعیرة والشعائر، هو أشبه مایکون بالوضع، حیث إنّ کلّ موضوع تزداد صلته وارتباطه ووثاقته وعلامیّته للموضوع له بکثرة الإستعمال أو بأسباب ومناشی أخری، فیصبح هناک نوع من العُلقة الشدیدة بین الموضوع والموضوع له.. کما هی العلقة بین اللفظ والمعنی فی اللغة..

فبعض الأمور توضع علامات لمعنی معین، وکلّ ما تقادَم الزمن وتزاید الاستعمال تُصبح أکثر صِلة بذلک المعنی.. إذ بَدل أن یأتی فی الذهن بالموضوع له وهو المعنی، یأتی بنفس الموضوع وهو اللفظ، فیحکم علی اللفظ بأحکام المعنی من شدّة الوثاقة والصلة والربط.. ومن ذلک تُستقبح بعض الألفاظ لقبح المعانی وکثرة استعمال تلک الألفاظ فیها، بخلاف مرادفاتها التی یقلّ استعمالها فی ذلک المعنی، مثل لفظ الفَرج حیث یقلّ استعماله فی المعنی الموضوع له، بخلاف مرادفه من الألفاظ التی یکثر استعماله فیه..

ومن هذه النقطة الأولی، نلتفت إلی أنّ العلامات والأوضاع الّتی توضع لمعانٍ معیّنة تختلف فیما بینها بشدّة العلقة أوخِفتها.. فبعضها علامیّته واضحة لدی کلّ الأذهان..

ص:247

وبعضها علامیّته واضحة لدی قطر معین .. أو مدینة معینة، أو طائفة معینة ، أو شریحة معینة دون شرائح أُخری..

إذن: بیانیّة العلامة والأمور الاعتباریّة والمعنی تختلف شدّةً وضعفاً .. ویمکن التمثیل بالأحکام الدینیّة أنّ بعضها ضروریّ أو بدیهیّ.. وبعضها ضروریّ عند فئة خاصة کالفقهاء.. وبعضها قد یکون نظریّاً عند صنف وضروریّاً عند صنف آخر.. بعضها قد تکون قطعیّاً، لکن نظریّاً.. وبعضها غیر نظریّ بل ظنیّ وهکذا..فهی علی درجات أیضاً..

ومعالم الدین أو الشعائر الّتی هی من مصادیق المَعْلمیّة والأمور الاعتباریّة الوضعیّة تختلف أیضاً فی علامیّتها وفی بیانیّتها للمعنی الدینیّ، أو للحکم الدینیّ، أو للسِمة الدینیّة شدّةً وضعفاً لتلک السمات.. مثل رسم خطّ لفظة الجلالة المعدودة من الشعارات - هذه اللفظة (لفظة الجلالة) أو إسم النبیّ صلی الله علیه و آله - أو أسماء الأئمة (علیهم السلام) یترتّب علیها أحکام خاصّة، مثل حُرمة لمسها للمُحدِث.. أو حرمة تنجیسها .. ووجوب تطهیرها .. وذلک نوع من التعظیم لنفس هذه الشعیرة والعلامة للمعنی الدینیّ..

فملخّص النقطة الأولی أنّ الأمور المَعْلَمیّة لمعانی الدین علی درجات متفاوتة.. بعضها شدید وبعضها متوسّط وبعضها خفیف الصلة.. کما أنّها تختلف بحسب الأوصاف وبحسب الفئات والشرائح.. وهذه نقطة مهمّة مؤثّرة فی أحکام الشعائر الدینیّة.

النقطة الثانیة: أنّ الشعائر الدینیّة - حیث إنّها علامة - لابدَّ أن ترتبط بذی العلامة وهو المعنی الدینیّ.. أقصد معنیً معیّناً من المعانی الدینیّة..

ص:248

فصلاً من الفصول الدینیّة، رکناً من الأرکان الإسلامیّة، هیکلاً من هیاکل الدین القویم؛ وتختلف بعضها عن البعض قدسیّةً وتعظیماً بسبب المعنی الذی تدلّ علیه.. وهذاالحکم من المسلّمات لدی المذاهب الإسلامیّة الأخری، مثلاً الهاتک لحرمة الکعبة یُحکم علیه بالإرتداد والقتل، أمّا الذی یهتک المسجد الحرام (البیت الحرام) فلایحکم علیه بالکفر.. فالذی یُحدِث فی المسجد الحرام لا یحکم علیه بالکفر، لکنه یُحدّ بالقتل.. أمّا الذی یُحدث فی الحرم المکّیّ بقصد الإهانة فیُعزّر ولا یُحکم علیه بالإرتداد ولا یقتل.. وهذه أحکام وردت فی روایات معتبرة وقد أفتی علی طبقها الفقهاء.. وهی فی الجملة محلّ وِفاق حتّی عند جمهور العامّة..

هذا الإختلاف فی الحکم بین الکعبة کشعار.. وحکم المسجد الحرام کشعاروحکم الحرم المکی کشعار هو أوضح دلیل علی هذا الأمر..

مثال آخر: التفریق بین اسم الجلالة وصفات الجلالة، أو ما بین لفظ الجلالة ولفظ جبرئیل «.. أو التفریق بین إسم الجلالة وإسم النبیّ والأئمّة وأسماء بقیّة الأولیاء.. أو التفریق مثلاً بین القرآن الکریم وبین الکتب الدینیّة الأخری وإن کانت کتب أحادیث أو سنّة نبویّة أو معصومیّة.. أو التفریق بین الکتاب الدینیّ والمصحف الشریف..

المصحف الشریف علامیّته علی کلام الله سبحانه وتعالی.. کلام ربّ العزة..کلام ربّ الکون وربّ الخلیقة.. علی کلام الوجود الأزلیّ.. بینما الکتاب الدینیّ الآخر یدلّ علی مضامین لأحکام إسلامیّة، ویختلف - من ثمّ - فی درجة الحُرمة والقدسیّة..

ص:249

کذلک الکعبة التی هی شعار ومعلَم دینیّ تختلف فی الشرف والقدسیّة عن المسجد الحرام.. وتختلف عن الحرم المکّیّ.. فیلاحظ أنّ التعظیم معنی تشکیکیّ.. والابتذال وشدّة الحرمة وخِفّة الحرمة وشدّة وجوب التعظیم وخفّته تتبع أمراً آخر.. أی أنّها تتبع المعنی الذی وضع الشِعار علامة له.. والمَعْلَم الذی وضع الشعار علامة له..

إذن فی النقطة الثانیة یتبیّن أنّ الشعائر تختلف شدّة وضعفاً.. وتختلف أهمیّةً ومنزلةً بحسب المعنی الذی تدلّ علیه.. والتعظیم یختلف أیضاً بتبع ذلک..

ونتیجة هاتین النقطتین أنّ التعظیم یختلف باختلاف إمّا العُلقة بین الشعاروالمعنی الدینیّ الذی یدلّ علیه، أو قُل بین العلامة وذی العلامة.. ویختلف باختلاف شدّة وخفّة العُلقة.

تارةً بعض الأحکام تختلف بسبب شدّة وضعف العلاقة (انشداد العلامة لذی العلامة.. والشعیرة مع المعنی) وتارة یختلف الحکم بسبب ذی العلامة.. والمعنی الذی جُعلت الشعیرة مَعلماً له وإعلاماً له.. وهذا اختلاف من جنبة أخری.. وکلّ منهما مؤثّر فی حکم الشعائر..

مثلاً: الشعیرة المعیّنة التی تستجدّ وتُستحدَث، تارة توضع شعیرة فی باب الحجّ.. وتارة توضع فی باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.. وتارة توضع فی باب الشعائر الحسینیّة.. أو فی باب حفظ وتلاوة القرآن وتعظیمه .. وتارة فی باب عمارة قبور الأئمّة (علیهم السلام) ، وهکذا..

ص:250

إذن الشعیرة تختلف بحسب المعنی الذی توضع له بمقتضی النقطة الثانیة.. وتارة تختلف الشعیرة بحسب شدّة العُلقة مع المعنی الذی توضع له، فتارة هی شدیدة الصِلة والعلقة والدلالة، بیّنة الدلالة علی المعنی الذی توضع له.. وتارة أخری هی غیر بیّنة. کما تُقسّم الدلالات إلی: بیّنة بالمعنی الأخصّ، وبیّنة بالمعنی الأعمّ.. أو دلالة نظریّة.

والأحکام التی تترتّب علی وجوب تعظیم تلک الشعائر أو العلامات والمعالم الدینیّة من حیث الحکم بالتعظیم ووجوب التعظیم ،وشدّة التعظیم أو خفّته .. کلّها تتبع طبیعة العلاقة بین الشعیرة أو المعلَم والمعنی الذی تشیر إلیه.. فإن کان شدید العُلقة بحیث لا یخفی علی أحد، فلا یُقبل دعوی الشُبهة والبدعیّة فی ذلک أصلاً..

کذلک یختلف المعلَم أو المعنی الذی توضع له الشعیرة، فإن کان معنیً مقدّساً لدرجة عالیة.. فالأحکام المترتّبة علیه تختلف عمّا هی علیه فی المعنی الفرعیّ من فروع الدین مثلاً، وبتبع ذلک اختلاف نوع ودرجة التعظیم والتبجیل وحرمة الابتذال من شعیرة لأخری، حیث لا یکون علی وتیرة واحدة بسبب هاتین النقطتین المذکورتین..

فتعظیم کلّ شعیرة یکون بحسبها.. یعنی بحسب المعنی الذی توضع له ، وبحسب شدّة الصلة التی تتّصل وتتوثّق..

ونعمَ ما ذکر صاحب الجواهر - وقد تقدمت الاشارة إلیه - فی بحث الطهارة، حیث قال: إن کلّ شیء بحسب ما هو معظّم عند الشارع یجب تعظیمه.. ویشیر بذلک إلی الاختلاف بحسب المعنی ؛ وهو مفاد الآیة

ص:251

الکریمة فی سورة الحجّ وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ ، یعنی کلّ شیء له حریم وحرمة وعظمة عند الشارع یجب أن یراعی درجة الاحترام والتبجیل بحسب ما هو عندالشارع.. ولا ریب فی أنّ حریم حرمات الله مختلف الدرجات.. وأنّها لیست علی درجة واحدة ولا علی وتیرة ثابتة..

النقطة الثالثة: أنّ کلّ متعلَّق ینطبق علی المصادیق علی استواء.. مثل لفظة الإنسان ینطبق علی کلّ أفراد البشر علی حدّ سواء.

وهناک عنوان آخر - کالعَدد - ینطبق علی الألف أشدّ من انطباقه علی العشرة.. وهکذا باب الألوان: فالسَواد: ینطبق علی السواد الشدید أشدّ من انطباقه علی السواد المتوسّط أو الخفیف.. وهناک موارد أخری عدیدة مثل الشِدّة.. تنطبق علی الأشدّ أقوی من انطباقها الأقل شدة..

فالعناوین علی نحوَین.. قِسم منها یسمّی متواطئ، بشکل سواء: یطأ وطأة واحدة علی کلّ مصادیقه.. وقسم تشکیکی أی: ینسبق الذهن إلی بعض مصادیقه قبل انسباقه إلی البعض الآخر ووجود الطبیعة فی بعض الأفراد أشدّ أوأقوی أو أکثر من الأفراد الأخری..

فإذا أمر الشارع بطبیعة تشکیکیّة.. أو نهی عن طبیعة تشکیکیّة.. مثل: الأمر: ببرّ الوالدین، أو بصلة الأرحام، فإنّ صلة الرحم علی درجات: درجة علیا، ودرجة وسطی، ودرجة دانیة.. وکذلک الحال بالنسبة لبرّ الوالدین والعِشرة بالمعروف مع الزوجة..

وهذه الظاهرة موجودة فی القانون الوضعیّ أیضاً، ولا تختصّ

ص:252

بالقانون الشرعیّ، فالطبیعة ذات الدرجات التشکیکیة ذات الحکم الإلزامیّ لا تکون کلّ مراتبها إلزامیّة.. بل أنّ القدر المتیقّن منها بحسب موارده؛ ففی النهی یکون الأعلی هو القدر المتیقّن، وفی الوجوب یکون الأدنی هو المتیقّن.. وهذا هو الإلزامیّ فحسب.. والبقیة ندبیّة راجحة إن کان الحکم طلبیّاً، أو مکروهة إن کان الحکم زَجریاً..

ودیدن الفقهاء علی أنّ القدر المتیقّن هو الإلزامیّ.. مثلاً إذا أمر بصلة الرحم، أو ببرّ الوالدَین.. فإنّ المُلزِم من صلة الرحم أو برّ الوالدین هو الدرجة المتیقّنة منه.. وهی (باعتبار أنّ الحکم وجوبیٌ وإلزامیّ) الدرجة الدنیا.. أی إمتثال الأمر ببرّ الوالدین بنحو لا یلزم منه عقوق الوالدین.. وکذلک صلة الرحم بنحو لایلزم منه قطیعته..

فمن ثمّ عند الاستدلال بحرمة عقوق الوالدَین أو بأدلّة وجوب برّ الوالدَین وصِلتهما تکون النتیجة واحدة.. لأنّ الأمر بصلة الوالدَین وبرّهما حیث کان تشکیکاً.. فالقدر المتیقّن منه هو الدرجة الدنیا.. فتکون النتیجة هی عین قول مَن قال أنّ الحکم فی برّ الوالدین راجح مستحبّ ولیس بإلزامی، وإنّما الإلزام فی حرمة عقوقهما..

وکذلک الحال فی مسألة حکم صلة الأرحام، هل صِلة الأرحام واجبة بکلّ درجاتها، أم أنّ قطع الرحم حرام.. الإستدلال بکلا اللسانَین من الأدلّة یعطی نفس النتیجة، لأنّ المأمور به فی صلة الرحم أو فی برّ الوالدین أمرٌ تشکیکیٌ، فیکون القدر المتیقّن منه هو الأدنی.. أی بمقدار حرمة عقوق الوالدین أو حرمة قطع الرحم..

ص:253

أمّا فی الحرمة فالقدر المتیقّن علی العکس.. إذ لو کان المتعلّق عنواناً تشکیکیّاً تکون الدرجة العلیا منه هی المحرّمة.. وما دون ذلک یُحکم علیه بالکراهة..

والحال کذلک فی محلّ البحث المتعلّق «الذی هو تعظیم الشعائر.. فإنّه ذودرجات متفاوتة.. کلّ تعظیم فوقه تعظیم آخر، وکلّ خضوع فوقه خضوع آخر.. وکلّ بث ونشر فوقه بثّ ونشر آخر.. وکلّ إتمام لنور الدین فوقه إتمام لنور اخر للدین، وهلّم جرّاً..

فهل کلّ هذه الدرجات واجبة، مع أنّ الغالب فی العناوین التشکیکیّة ورود لسانَین: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله بلسان الحرمة ؟

و: ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ بلسان الوجوب ؟

وهل کلا الحکمَین مقنّن علی نحو الإلزام.. أم أحدهما راجح والآخر إلزامیّ؟ تفصیل هذا البحث فی هذه النقطة الثالثة.. وهی أنّ العنوان هنا تشکیکیّ..فالدرجة اللازمة من التعظیم هی التی یلزم من عدمها الابتذال والهتک.. فتکون هی واجبة.. أمّا بقیّة درجات التعظیم فتکون راجحة..

فلو قیل أنّ الحکم هو حرمة الهتک وحرمة الإهانة، فیکون صواباً.. أو قیل أنّ الحکم هو وجوب التعظیم بدرجة لا یلزم منها الابتذال والهتک أیضاً، فهوصواب أیضاً..

ص:254

علماً بأنّ إهانة کلّ شیء بحسبه، وأیضاً تعظیم کلّ شیء بحسبه.. فآیة: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ تحریمٌ ورد علی عنوانٍ متعلّقه تشکیکیّ.. أی: تحریم الابتذال والاستهانة والانتهاک لشعائر الله.. ومن هذا الباب قیل: حسنات الأبرارسیّئات المقرّبین.. وهذه جنبة ثالثة لاختلاف مراتب التعظیم والإهانة، وهی درجة ومقام المخاطب بالتعظیم وطبیعة علاقته مع طرف التعظیم، فعند المقرّبین أدنی ترک للأولی أو للتعظیم لساحة القدس الربوبیّة یعتبر نوع خفّة وتهاون بمقام القُدس الإلهیّ.. والإهانة أیضاً لها درجات.. الخفیف منها لیس إلزامیّاً.. القدر المتیقّن الذی یکون إلزامیّاً هو الشدید.. وهو حرام.. وبقیّة المراتب المتوسّطة أوالدنیا فیها نوع من الکراهة..

فلابدَّ من الالتفات الی النقاط الثلاث المزبورة؛ وننتهی بها إلی أنّ تعظیم کلّ شیء بحسبه، وإهانة کلّ شیء بحسبه.. ولیس ذلک علی وتیرة واحدة.. وأنّ القدر المتیقن من الحکم هو وجوب التعظیم بنحوٍ لو تُرِک للزم منه الهتک والإهانة..ولیس کلّ مراتب التعظیم إلزامیّة.. وإنّما درجات التعظیم الفائقة والعالیة تکون راجحة وندبیّة ولیست إلزامیّة..

هذا هو تمام البحث فی جهة المتعلّق وهی الجهة الخامسة..

الجهة السادسة: النسبة بین حکم القاعدة والحکم الاولی والثانوی:

فی هذ الجهة من البحث نسلّط الأضواء علی العلاقة بین حکم قاعدة الشعائر مع کلّ من الأحکام الأوّلیّة والأحکام الثانویّة..

وقد تقدّم ببیان وافٍ، أنّ الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة هو من

ص:255

حیث المِلاک حکم أوّلیّ، ومن حیث الموضوع ثانویّ الوجود، وهذا ما اصطلحنا علیه أنّه من الأحکام الثانویّة فی جنبة الموضوع.

النسبة بین حکم قاعدة الشعائر والأحکام الأوّلیّة:

لیس الحکم فی قاعدة الشعائر متّحداً مع الأحکام الأوّلیّة کما قد یتخیّل من خلال الآیة:.. وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ ، وکما مرّ فی کلمات جملة ممّن تعرّض إلی ذکر تعریف الشعائر بأنّها مناسک الحجّ.. وبعضهم عرّفها بأنّها الدین کلّه.. وبعضهم عرّفها بأنّها حرمات الله..

وقلنا أنّ الصحیح هو ثانویّة القاعدة من جنبة الموضوع لا من جنبة الحکم.. أمّا من جنبة المتعلّق - وهو التعظیم لها - فلها رکنان أساسیّان، وهما: جانب الإعلام، وجانب الإعلاء والإعتزاز المتضمّن للإحیاء والإقامة .. وهذان کفعلَین تدلّ علیهما الشعیرة والشعائر، ولا تفیدهما بقیة الأحکام الأوّلیّة فی باب الفقه؛ نعم تلک الأحکام متکفّلة لملاکات أُخری ومتعلّقات وأفعال أُخری، وقد یتصادق حکمان ومتعلّقان فی وجود واحد.. کما قد یتصادق مثلاً برّ الوالدین مع طاعة الله ومع تحقّق الصدقة أو تحقّق الهدیّة أو ما شابه ذلک.. لکن لا یعنی ذلک أنّ العنوانَیْن و الفعلَیْن، والحکمَیْن هما حکم واحد وبملاک واحد وبمصلحة واحدة..

فإذن تصادق الشعائر مع بعض الأحکام الأوّلیّة وانطباقها فی مصداق واحدلا یعنی أنّ الشعائر حکمها متّحد مع نفس حکم الأحکام الأوّلیّة..

ص:256

وقد جعل بعض المفسّرین حکم الشعائر هو عین الأحکام الأوّلیّة، وفَسّر.. وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ بنفس إیجاب البُدن هو إیجابٌ للشعیرة..یعنی البُدن جعلناها من وظائف الحجّ ومنسکاً من مناسک الحجّ.. والحال أنّ هذه الآیة فی صدد التعرّض لشیء آخر، کما هو مبیّن فی روایات الأئمّة (علیهم السلام) فی باب الحجّ..

وفی بعض الروایات عن الإمام الصادق علیه السلام فی أبواب الهَدی، یتبیّن افتراق الشعیرة فی البُدن عن وجوب أصل البدنة أو غیرها من أنواع الهدی..

وقد عقد صاحب کتاب الوسائل باباً لاستحباب تعظیم شعیرة البُدن (الهدی).. کما ورد عن الأئمّة (علیهم السلام) الأمر الندبیّ باتّخاذ البُدن السمینة، لأنّه نوع من تعظیم الشعائر، أو باعتبار کون البُدن المسوقة مع الحاجّ عَلَماً من أعلام الحجّ .. وهو نوع من الإعلام والتبلیغ والدعایة والترویج لفریضة الحجّ، ونوع من التظاهرة الشعبیّة للمکلّفین، أو لمجتمع المسلمین فی إظهار علامات الحجّ .. لاسیّما إذا کانت البُدن تُساق من مسافات عدیدة .. فهو نوع من حالة النشر الدینیّ لفریضة ونسک الحجّ والتبلیغ لها..

ففی الروایات الواردة دلالة واضحة علی أنّ جعل الشعیرة کذلک هو أمرآخر غیر جعلها واجبة من فرائض الحجّ..

وأنّ حکم الشعائر - وهو وجوب التعظیم - غیر حکم أصل إیجاب الهدی فی الحجّ، فممّا بحثناه سابقاً عن ماهیّة الشعائر وماهیة متعلّق الحکم فی الشعائر یتبیّن أنّ الحکم فی الشعائر هو غیر الأحکام الأوّلیّة.. نعم هو

ص:257

ینطبق علی الأحکام الأوّلیّة إذا کانت تلک الأحکام الأوّلیّة فی الفعل والمتعلّق المرتبط بها تتضمّن جنبة إعلام وتبلیغ، وتتضمّن جنبة إنذار وإفشاء لحکم من الأحکام الإسلامیّة، أو لعبادة دینیّة معیّنة.. نعم ینطبق علیه أنّها شعیرة.. مثل صلاة الجماعة، ومثل صلاة الجمعة، لا مثل الصلاة فرادی..

علی کلّ حال.. فإنّ الشعیرة ماهیةً وموضوعاً ومتعلّقاً وحکماً وملاکاً تختلف عن الأحکام الأوّلیّة.. نعم، هی قد تتطابق مع الأحکام الأوّلیّة.. لکن لا أنّها هی الأحکام الأوّلیّة بعینها..

فحکمها لیس هو عین الأحکام الأوّلیّة، بل لها حکم أوّلیّ آخر.. وصِرف کونها ثانویّة لا یعنی ثانویّة حکمها.. بل کثیر من الأحکام الأوّلیّة تطرأ علیها العناوین بلحاظ انطباقها فی المصادیق الخارجیّة، کما فی التعظیم أو الاحترام..حیث تتّخذ مصادیق وأسالیب ووسائل مختلفة فی الاحترام مع أنّها لیست حکماً ثانویاً، بل هی حکم أوّلیّ؛ فالثانویّة هنا فی المتعلّق ولیس فی نفس الحکم ،وإلاّ فالحکم هو أوّلیٌّ وملاکه أوّلیّ.. وهکذا الحال فی قاعدة الشعائر الدینیّة..

فالثانویّة فی قاعدة الشعائر الدینیّة هی فی جنبة الموضوع والمصداق لا فی جنبة الحکم والملاک.. والحال علی العکس فی قاعدة لا ضرر ولا ضرار، أوقاعدة لا حرج، أو العناوین التسعة فی حدیث الرفع.. فرفع العناوین التسعة من الاضطرار والنسیان والإکراه التی تطرأ علی الحکم، وهی ثانویّة فی جنبة الحکم..

ص:258

فالعلاقة بین حکم قاعدة الشعائر (التی قلنا بأنّ موضوعها ثانویّ، وحکمها أوّلیٌّ)، مع الأحکام الأوّلیّة ینطوی علی تفصیل فی البَین، لأنّ هذا النمط من الأحکام الأوّلیّة ذی المواضیع الثانویّة لیس هو حکماً أوّلّیاً بقول مطلق، کی یقال أنّه حکم أوّلیّ یندرج فی الأبحاث السابقة.. ولا هو حکم ثانویّ کذلک..

بل فیه ازدواجیّة ثانویّة الموضوع التی ذکرنا أنّه لم یُنبّه علیها اصطلاحاً علماء الأصول، إلاّ أنهم مَضوا علیها ارتکازاً.. ومن جهة المحمول هو حکم أوّلیّ وملاک أوّلیّ، ففیه ازدواجیّة الجنبتَین.. فهل یکون هو موروداً، أو محکوماً، أوحاکماً..

وهل نضعه فی قسم الأحکام الأوّلیّة.. أم نضعه فی ردیف وقسم الأحکام الثانویّة..

ویتّضح بناءً علی ما قدّمنا سابقاً - فی تحریر موضوع قاعدة الشعائر الدینیّة أو متعلّقها - أنّ النسبة بین الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة والأحکام الأوّلیّة هی أنّ الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة موضوعه أو متعلّقه عامّ یتناول کلّ مُحلّل بالمعنی الأعمّ بالحلّیّة بالمعنی الأعمّ.. عدا موارد الحرمة.. وإن اتّفق إجتماع موردالحرمة مع بعض الشعائر الدینیّة فهذا لا یوجب التعارض.. بل ولا تقدیم دلیل الحکم الأوّلیّ علی دلیل الشعائر.. وإنّما یکون من قبیل اجتماع الأمر والنهی، لأنّ المفروض أنّ التصادم والتوارد فی ذلک المصداق اتفاقیّ.. فمن ثمّ - نری - أنّ کثیراً من العلماء فی شقوق عدیدة من استفتاءاتهم فی الشعائر الدینیّة المختلفة وفی

ص:259

فرض تصادم الشعائر الدینیّة أحیاناً فی بعض الموارد مع المحرّمات لا یبنون علی التعارض.. وعندما نقول ذلک لا نرید منه أنّ الحاکم أو الفقیه فی سیاسیّته الفتوائیّة یُدیم عُمر تصادق الشعیرة الدینیّة (من أیّ باب کانت) مع ذلک المحرّم.. حیث ذکرنا سابقاً أنّ التزاحم - سواء کان ملاکیّاً أو امتثالیّاً، له ضرورات استثنائیّة تقدّر بقدرها - یجب أن لا یفسح الفقیه المجال أن تعیش هذه الحالة بنحودائم وتکون حالة غالبة، بل یجب أن یتفاداها بقدر الإمکان.. لکن اتّفاق وقوعها لا یدلّ علی التعارض.. هذه کلّه فی نسبة الحکم فی القاعدة والأحکام الأوّلیّة..

تقسیم الأحکام الثانویّة فی جنبة الحکم:

نلاحظ أنّ الأحکام الثانویّة فی جنبة الحکم سنخان:

الأحکام الثانویّة المُثبتة مثل وجوب طاعة الأبوَین، أو حرمة عقوق الأبوَین، ومثلها «المؤمنون عند شروطهم»(1) التی نستفید منها وجوب الوفاء بالشرط، ومنها وجوب النذر ،والیمین والعهد وما شابه.. هذا نمط من الأحکام الثانویّة..

الأحکام الثانویّة النافیة:

وهناک نمط آخر من قبیل: لا ضرر، «لا حرج»، وغیرها الواردة فی حدیث الرفع: «رُفع عن أمّتی تِسعٌ»(2).. وهناک فارق بین السنخَین کما

ص:260


1- (1) التهذیب، ج7، ص371.
2- (2) بحار الأنوار، ج74، ص155.

ذکرنا فی قاعدة لاضرر فی هذا الجزء من الکتاب..

وقد یقرّر بأنّ الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة هو من النمط الأول من العناوین الثانویّة فی جنبة الحکم، والتی فیها جهة إثبات وإلزام، مثل: «المؤمنون عند شروطهم»، ووجوب أداء النذر والیمین.. کما قد یقرّب أنّ وجوب أداء النذرحکم لیس بثانویّ، بل تعدّ هذه الأحکام (فی الشقّ الأوّل) أحکاماً أوّلیّة.. وهی مسانخة للحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة، وأنّها - من هذه الجهة - هی ثانویّة الموضوع أوّلیة الحکم.. فوجوب الوفاء بالشرط حکم أوّلیّ، ووجوب الوفاء بالعقد حکم أوّلیّ.. ووجوب الوفاء بالنذر والعهد کذلک.. وطاعة الأبوین أو حرمة عقوقهما کذلک.. لکنّ هذه الأحکام ثانویّة الموضوع..

وهذه الدعوی لیست ببعیدة، من جهة أنّ ملاکات الحکم فی هذه العناوین من قبیل الأحکام الأوّلیّة.. لا أنّها أحکام استثنائیة شاذّة..

الفارق بین حکم القاعدة والأحکام الثانویّة المثبتة:

لکن تظل لها میزة وفارق مع الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة..

فالنذر - مثلاً - قد یکون إنشاؤه مکروهاً.. وکذا الیمین والعهد وحکم طاعة الوالدین، علی الرغم من أنّه کان بنفسه راجحاً، لکن بلحاظ الجهة الأبویّة، یعنی بما یتّصل بالجهة الأبویة، ولیس أنّه یتبدّل حکم الفعل فی نفسه إذ یبقی حکمه الذاتیّ علی حاله.. ولکن باعتباره مقدّمة لطاعة الأبوَین أو لعدم عقوقهما، فإنّه یلزم بفعله ولا یتغیّر عمّا هو علیه.. وکذلک:

ص:261

المؤمنون عند شروطهم حیث أصبح ذلک الفعل واجباً بسبب الإلتزام .

فللشقّ الأوّل من هذه الأحکام الثانویّة میزة تختلف عن نفس الشعائر، إذأنّ الشعائر أمرٌ مرغّب فیه.. ولها ارتباط بکثیر من أبواب الدین وفصول الدین..ولیست من قبیل هذه الأحکام الثانویّة المُثبِتة.. لکن بین هذا الشقّ الأوّل والحکم فی قاعدة الشعائر قواسم مشترکة أکثر من القواسم المشترکة الموجودة بین الحکم فی قاعدة الشعائر والشقّ الثانی من الأحکام الثانویّة النافیة..

وبهذا المقدار یتبیّن نوع من حقیقة الحکم فی الشعائر.. وذلک أنّه حکم أوّلیّ ولیس ثانویّاً استثنائیّاً طارئاً.. بل یرید الشارع أن یُجریه ویطبّقه ویحقّقه..

ولا یرید إقامة النذر والوفاء به.. اللهمّ إلاّ أن یقع النذر فیلزم بوفائه، وکذلک الشروط حسب دلیله: «المؤمنون عند شروطهم..» أو الوفاء بالعقود.. وعلی مقدار تأدیة الضرورات أو الحاجات..

بخلاف باب الصلاة، والعبادات، وأبواب أُخری، وکذلک فی أبواب الشعائر، إذ الإرادة الشرعیّة فی الشعائر تتناسب مع ذی الشعیرة کما مرّ بیان ذلک ،إذ نمط الحکم هو فی مقام الإعلام والإفشاء والتشیید والإعلاء لأحکام الأبواب الشرعیّة.. فالحکم وثیق الصلة بالأحکام الأوّلیّة..

ص:262

النسبة بین قاعدة الشعائر، والأحکام الثانویّة:

بعد بیان أقسام الأحکام الثانویّة نحاول تقریر النسبة بین حکم القاعدة والأحکام الثانویّة، أی الثانویّة فی جنبة الحکم بقسمیها المثبتة والنافیة.. فمن الواضح حینئذ أنّ نسبة الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة، مع الأحکام الثانویّة فی جنبة الحکم (فی کلا الشقَّین المُثبتة والنافیة) کنسبة الأحکام الأوّلیّة مع الأحکام الثانویّة.. لأنّ حکم الشعائر هو الحکم الأوّلی؛ والأحکام الثانویّة المثبتة أو الرافعة لا تزیل ولا تنفی ولا تلغی الحکم الأوّلی، بل تُقدَّم علیه من باب التزاحم ولکن بشکل مؤقّت وغیر دائم، کما هو شأن الحکم الثانویّ مع الأحکام الأوّلیّة..

حیث یجب أن یُقرّر الفِعل أو الموضوع بلحاظ الأحکام الأوّلیّة، ومن ثَمّ ملاحظة الأحکام الثانویّة کشیء طاریء استثنائیّ علیها.. لأنّ حکم الشعائر هوحکم الطبیعة الأوّلیّة التی لابدَّ من دیمومة بقائها ورعایتها.

فهکذا حال الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة ووجوب تعظیمها مع الأحکام الثانویّة الأخری المثبتة والنافیة..

وإلّا فلیس من الصحیح ملاحظة الفعل أو الموضوع بلحاظ الأحکام الثانویّة مقدَّماً علی ملاحظة الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة..

مضافاً إلی ذلک هناک إشکال، وهو: أن لو عُدّ الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة حکماً ثانویّاً، وعُدّت تلک الأحکام الثانویّة أحکاماً ثانویّة أیضاً.. فیکون کلّ منهما ثانویّاً فتقدیم أحدهما علی الآخر رتبةً ترجیح بلا مرجّح.. بل غایة الأمر أنّهما فی رتبة واحدة، ویقع بینهما التزاحم لا

ص:263

التعارض کما تقدّم..

وهذا جواب نقضیّ.. وإلاّ فالجواب فی الأساس هو أنّ الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة لیس من قبیل الحکم الثانویّ، بل هو حکم الطبیعة الأوّلیّة التی لابدَّ من بقائها واستمرارها والمحافظة علیها.. فضلاً عن أن یکون الحکم فی القاعدة مؤخّراً رتبةً عن الأحکام الثانویّة..

الخلاصة فی هذه الجهة:

ونستنتج من هذه النقاط التی ذکرناها فی العلاقة بین الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة، والأحکام الأوّلیّة والأحکام الثانویّة عدّة نتائج.. وقبل ذلک لابأس من التنبیه علی:

أنّه بمقتضی أحد النقاط التی أثرناها فی هذه الجهة، من أنّ مبنی مشهور الفقهاء أنّ نسبة العناوین الثانویّة لُبّاً مع الأحکام الأوّلیّة هی التزاحم الملاکیّ، ومن ثمّ قالوا: حرجُ کلّ شیء بحسبه، أو ضررُ کلّ شیء بحسبه ؛ فمثلاً: الضرر فی الوضوء بأدنی ضرر طفیف یرفع الإلزام بالوضوء أو الغسل..

بینما فی باب أکل حرمة المیتة قالوا أنّ الضَرر الذی یرفع حرمة المَیْتة هو ذلک الضرر الذی یکون بدرجة شدیدة بحیث یُشرف علی الهلکة، وحینئذ یتناول من المَیتة بقدر ما یحفظ به رمق حیاته.. ولا یتعدّی ذلک.. کما یستفاد من الآیة: فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَیْهِ .. (1).

ص:264


1- (1) البقرة: 173.

وکذلک فی المحرّمات الأخری.. کشُرب الخمر، أو الزنا أو الفجور .. وهو الوجه فی کون الضرر المهلک مسوّغاً لرفع مثل تلک الحرمة دون الیسیر منه.

فالضرر فی الوضوء یختلف عنه فی باب أکل المیتة..

والحال فی عنوان الحرج کذلک.. والفقهاء یعبّرون بهذه العبارة: الحرج فی کلّ شیء بحسبه.. فتجری قاعدة الحرج فی الوضوء، وفی غسل الجنابة بأدنی درجة.. بینما هذه القاعدة فی المحرّمات الشدیدة الکبیرة لابدَّ أن تکون بدرجة العسر الشدید جدّاً.. والوجه فی التفرقة هو أنّه فی المحرّمات الشدیدة لا ترفع تلک الحرمة، أو لا یرفع تنجّزها وعزیمتها إلاّ الحاجة الشدیدة.. بینما فی موارد الحرمة الخفیفة یرفعها أدنی عسر ومشقّة کما تقدّم.. ویطَّرد الکلام فی الاضطرار والإکراه والنسیان..

فالوجه لهذه التفرقة لیس إلاّ مبنی المشهور من أنّ نسبة العناوین الثانویّة مع الأحکام الأوّلیّة هی نسبة التزاحم الملاکیّ لا التخصیص والتقیید؛ ومن ثمّ شملها حکم التزاحم.. فالضرر الیسیر لا یزاحم ولا یمانع الملاک الشدید.. وإنّما یدافع الملاک الخفیف ؛ وکذلک فی الحرج والنسیان وغیرهما..

فالشعائر لیست علی درجة واحدة من التعظیم أو من حرمة الإهانة، بل هی تختلف شدّةً وضعفاً بحسب شدّة وعظمة المعنی الذی تُعلِم عنه وتشیر إلیه، أوبحسب شدّة العلقة کما مثّلنا لذلک سابقاً..

ص:265

اختلاف أحکام الشعائر شدّة وضعفاً:

وبمقتضی هاتین النقطتَین: النقطة التی مضت فی الجهة الخامسة فی المتعلّق، وهی کون الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة تشکیکیّاً، أی علی درجاتٍ وعلی مستویات متفاوتة..

والنقطة التی نحن بصددها الآن، وهی أنّ الأحکام الثانویّة فی جنبة الحکم نسبتها مع الأحکام الأوّلیّة هی التزاحم.. فیجب أن تُلحظ درجة العنوان الثانویّ مع درجة الحکم الأوّلیّ.. والحال بعینه فی باب الشعائر، أی لیس أیّ ضررٍ یکون رافعاً لکلّ حکم فی الشعائر.. وإذا کان رافعاً لأحد أحکام الشعائر الدینیّة، فإنّ ذلک لا یعنی کونه رافعاً لکلّ درجات أحکام الشعائر الدینیّة الأخری، لأنّهاتختلف بعضها عن البعض شدةً وضعفاً.. فدرجة التعظیم والتقدیس للمصحف الشریف تختلف عن درجة التعظیم والتقدیس للکتاب الدینیّ..

فلیس کلّ ضرر یَرفع کلّ درجة من درجات الشعائر الدینیّة..

ولیس الضرر الرافع منه لدرجة مّا، یکون رافعاً لبقیّة الدرجات أو بقیّة أقسام وأنواع الشعائر الدینیّة.. وکذلک الحال فی الحرج أو الاضطرار..

فهذا مما یجب الإلتفات إلیه جیّداً.. هذا مُجمل الکلام فی الجهة السادسة، وهی جهة العلاقة بین الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة والأحکام الأوّلیّة من جهة ،ومع الأحکام الثانویّة من جهة أخری..

ص:266

الجهة السابعة: الموانع علی قاعدة الشعائر:

وهی الجهة الأخیرة فی بحث الخطوط العامة للشعائر الدینیّة..

وتدور حول ممانعة الخرافة لقاعدة الشعائر الدینیّة، أو استلزام بعض الشعائر للإهانة والاستهزاء أو الهتک.. وهذه عناوین بالطبع متعدّدة مختلفة، ویجب أن نحلّل کلّ عنوان علی حِدة.. ونری کیف یکون کلّ من هذه العناوین ممانعاً ؟.. وهل هناک موارد للتصادق بین هذه العناوین وقاعدة الشعائر الدینیّة ؟أو لا تصادق فی البَین أصلاً ؟

وبادیء ذی بدء، نقف علی عنوان ومصطلح الخرافة..

الخرافة والشعائر:

الخرافة ما هو موضوعها ؛ وکیف تکون مانعة لقاعدة الشعائر الدینیّة؟

فالبحث فی الخرافة تارة یکون حکمیّاً، وأخری یکون موضوعیّاً..

أمّا من جهة الموضوع: الخرافة فی اللغة وفی العرف تطلق علی أیّ شیءٍ وهمیّ أو تخیّلیّ، أو الذی لا یُمتّ إلی حقیقة واقعیة أو حسّیّة.. فأیّ شیء یُملیه الوَهم أو یملیه الخیال من دون أن یکون له مطابق حقیقیّ فی الواقع - لا عقلیّ ولاحسّیّ - یسمّی خرافة..

والحسّ لیس معصوماً علی الدوام، إذ قد یتطرّق إلیه الخطأ وان کان الحسّ إجمالاً من منابع البدیهیّات.. وکذلک العقل منبع جملة من أقسام البدیهیّات، ولیس کلّ ما لا یُدرَک بالحسّ هو لیس بحقیقة، ولأنّ کثیراً من

ص:267

الأشیاء موجودة وحقیقیّة، مع أنّها لا تُدرک بالحسّ. وعلی کلّ حال، فاقتناص الحقیقة یکون إمّا بأداة العقل، أو بأداة الحسّ أو بأداة القلب فیما یُعاینه من العلوم الحضوریّة.

وفی مقابل الحقائق هناک خرافات.. وهذه هی ماهیّة الخرافة الموضوعة التی لا یقوم علیها دلیل عقلیّ ولا دلیل نقلیّ ولا دلیل حسّیّ ولا دلیل مبرهن ..وإنّما یصوّرها الخیال أو الوهم.. وحینئذٍ تکون خرافة..

وحینما نقرّر أنّ الأداة العقلّیة أو الأداة الحسّیّة تتوسّط لإثبات الحقائق، فلیس ذلک علی الدوام، بل لابدَّ من میزان یعتصم به العقل عن الخطأ.. فی البدیهیات التی هی کرأسمال فطریّ مودع فی الإنسان مِن قِبل الله تعالی، فتلک أداة عصمة للإنسان یستهدی بها فی دوائر الشبهة، وهی من الأمور النظریّة ،وکذلک فی الحسّ هناک دائرة کبیرة من البدیهیات یستهدی بها فی دوائر الشبهة..

وإلاّ فإنّک تری نهایة الجادة والطریق کأنّما یتلاقی طرفاه.. مع أنّ تلاقی طرفی الجادة والطریق فی نهایة مدّ البصر لیس بحقیقة.. لکنّ العقل یهتدی إلی نفی ذلک..

أو تری النار الجوّالة التی یدیرها اللاعب بیده، تراها حلقة ناریة، مع أنّها فی الحقیقة لیست حلقة ناریة.. فهذه من أخطاء الحسّ التی یمیّزها العقل.. علی کلّ حال فعندما یقال بأنّ أداة الحسّ والعقل معصومتان یعنی إذا قُوِّمتا بموازین متقنة..

ص:268

الوهم والخیال:

کذلک الحال فی الأداة الوهمیّة والأداة التخیّلیّة المتصرّفة إذا سخَّرت إحداهما الأخری، فإنّهما غالباً ما تُرکّبان صوراً من قریحتهما لا مساس لها بالواقع..

وقد یکون الوهم والخیال خادمیَن للقوی العقلیّة، فیصیب الإنسان بها الحقیقة.. (نعم قد تخطِّئان الواقع إذا کانتا تُبدیان من أنفسهما أفعالاً فکریّةً وتصرّفاتٍ فی المعانی من دون استخدام العقل لها..) ولکن مع إستخدام العقل فإنّهما تصیبان الواقع..

فالخُرافة فعلٌ من الأفعال الفکریّة والإدراکیّة والتصوّریّة تقوم بها المخیَّلة أو الواهمة من دون هدایة العقل.. ویُذعن الجانب العملیّ )العمّالی( فی النفس إلی تلک الصورة أو إلی ذلک الإدراک..

ثم إنّ فی النفس مشجّرة للطرفَین:

طرف القوة الإدراکیّة: التی تُدرک المعلومات..

وطرف القوة العملیّة: العمّالة..

وهناک أجنحة أُخری فی جهاز النفس ؛ لکنّ الذی یعنینا فی المقام هو هذان الجناحان.. الجناح العملیّ والجناح النظریّ والإدراکیّ..

فالخُرافة إذن مبدأها من فعل إدراکیّ خاطیء بتوسّط المخیّلة أو الواهمة یذعن لها الجانب العملیّ فی النفس، وتبنی علیها النفس عملاً وترتّب علیها آثاراً ،من دون أن یکون المدرَک صحیحاً..

ص:269

وأداة الوهم والخیال إذا کانتا من دون هدایة العقل وإراءته إلیهما فالنتیجة تکون خاطئة.. ولکنّ بعض الأشیاء لا تُدرَک بالحس ولا بالعقل مع أنّها حقائق..وإنّما یدرکها الوهم والخیال بهدایة العقل.. مثلاً: حبّ زید.. بغض عمرو.. حب الأم لطفلها، البغض الخاصّ، والحب الخاصّ.. هذه تُسمّی معانٍ وَهمیّة، لکنّها مطابقة للحقیقة ولها حقائق.. فلولا الوهم والخیال لم یصل الإنسان لإدراکها..

فلا یُحکَم علی کلّ شیء خیالیّ أو کلّ شیء وهمیّ أنّه غیر مصیب وغیر صحیح..

وقد تحصل بعض المغالطات، حیث یحکم بالخرافة علی کلّ شیء یدرک بالخیال والوهم.. فلیس الخیالیّ یساوی اللاواقعیّة ویساوی الخطأ..

الخیال والوهم بدون هدایة العقل واستخدام العقل یساوی الخرافة أو یساوی البطلان..

بخلاف ما یکون بهدایة العقل ؛ مثل بعض الحقائق التی لا یمکن أن یدرکها الحسّ ولا العقل، بل یدرکها الوهم الصادق..

نظیر بعض المنامات الصادقة التی لا یدرکها العقل لأنّها لیست تفکیراً بحتاً، ولا یدرکها الحسّ أیضاً، وتکون صادقة فی الجُملة..

والمُدرَکات العقلیّة لیس لها صورة: طول وعرض وعمق.. ولیست نقوشاً من رأس.. إذ المعانی العقلیّة معانی مجرّدة مصمتة مکبوسة.. بل ظهور تلک المعانی العقلیّة یکون بتوسّط الخیال أو الوهم.. بتخطّطات

ص:270

مقداریّة، أو بتشخّص خواصّ جزئیّة معیّنة.. کما هو الحال فی الرؤیا المنامیّة الصادقة، فالکثیر منّا قد صادف فی حیاته أن رأی رؤیا صادقة طابقت الخارج.. أو قُل: کما هی الحال فی رؤیا الأنبیاء والاوصیاء التی لیس فیها تخلّف..

الرؤیا الصادقة المصوَّرة إنّما یدرکها الإنسان بأداة الخیال، حیث إن الحسّ ینعدم فی النوم فلا یحسّ النائم شیئاً.. وهذه المعلومات تنزل علی الإنسان - کمایقال - من الباطن لا من الخارج، ولیست الرؤیا الصادقة من تصنّع وتسویل النفس.. إذ النفس لا تدرک المستقبلیّات من لدن ذاتها - فی حال النفوس العادیّة - فمن أین أتت هذه الرؤیا الصادقة.. وبأیّ أداة أدرکها الإنسان ؟ وکما ذکرنا من أمثلة حبّ الأم، وبغض العدوّ وما شابه ذلک من المعانی التی یحتاج الإنسان لها فی أصل عیشه.. وإلاّ لما قام عیشٌ ولا استقامت حیاة بدونها..

فالقول أنّ کلّ شیء خیالیّ أو وهمیّ یساوی اللاواقعیّة أو الخرافة هو مغالطة.. نعم قوّة الخیال أو قوّة الوهم إن تجرّدت عن العقل، تکون خرافة حینئذ ولا واقعیّة..

أمّا إذا استُخدمتا من قبل القوی العاقلة.. فیدرک الإنسان بها شطراً وافراً من الحقائق التی لا یمکن له أن یعیش بدونها فی هذه النشأة أو حتّی فی النشآت الأخری..

والوهم ألطف من الخیال.. فهو من عالم ونشأة أخری.. ومعانیه مجرّدة عن الطول والعرض والعمق، وإن کان له تشخّصات معیّنة

ص:271

بالاضافة إلی الجزئیّات المادّیّة..

فاصطلاح الوهم والخیال فی العلوم العقلیّة لیس بمعنی ما لا حقیقة له کی تقع فیه المغالطات.. إنّما القوّة الواهمة أو الخیالیّة إذا لم تُوجّه ولم تستخدم من قِبل العقل فإنّها ستُخطیء الواقع غالباً وکثیراً..

وبذلک یتبیّن موضوع الخُرافة، وأنّها بتوسّط أیّ قوةٍ من قوی النفس یمکن أن تُدرک..

وإذا کان شیء ما خُرافة، فیجب علی الإنسان أن یهمله وأن لا یرتّب علیه آثار الحقیقة.. لأنّ اللازم أن لا یعتدّ بها الإنسان کحقیقة، فضلاً عن أن یتدیّن بها أو یداین بها أو یعظّمها أو یقدّسها أو یُجلّها..

التضادّ بین الشعائر والخرافة:

فهذه مقولة الخُرافة وحکمها.. أمّا العلاقة بین قاعدة الشعائر الدینیّة وحکم العقل فی إبطال وتسفیه الخرافة وادّعاء وجود موارد الاجتماع والتصادق بینهما..

فالشعیرة - کما عرفنا فیما سبق - هی عبارة عن الدلالة والمَعلَم للمعنی الدینیّ.. فإمّا أن یتسرّب البطلان واللاحقیقة إلی العلامة، أو إلی ذی العلامة..والبطلان الذی یتسرّب ویتخلّل إلیها إمّا من جهة أنّها لیست لها علامیّة لذلک المعنی - یعنی إمّا فی العلامة، بحیث لا علامیّة لها علی ذلک المعنی - أو یدبّ الإشکال ویسری فی نفس المعنی (الذی هو ذو العلامة)..

ص:272

والمعانی الدینیّة إذا کانت معانٍ قام الدلیل علیها، سواء الدلیل القطعی الضروریّ الدینیّ، أو الدلیل النقلیّ الظنّیّ المعتبر ؛ یکون الحکم بأنّها خرافة أو لا حقیقة لها تصادماً مع الدلیل الشرعیّ وخلاف الفرض. نعم إذا کان هناک معنیً من المعانی جزئیّاً أو متوسّطاً - وما أکثر المتوسّطات - أو کلّیّاً لم یَقُم علیه دلیل معیّن..فیمکن أن یوصف بذلک..

ومن جهة أخری، فإنّ عدمَ الدلیل غیرُ دلیل العدم ؛ فهناک تارة شیء لم یقُم علیه الدلیل، وهناک تارةً أخری شیء قام الدلیل علی عدمه، ولا ریب حینئذ فی عدم واقعیّته، فیتصادق ویتّفق مع الخرافة، مثل الأدیان الوثنیّة، أو الأدیان الأخری الباطلة ؛ ومثل هذه الأدیان تعتبر شعائرها باطلة وخرافیّة لأنّ شعائرها علامات ومعالم علی معانٍ لیست واقعیّة، بل منحرفة وخاطئة وتخیّلیّة ووهمیّة -مثل: الثنویّة فی الخالق، والثنویّة فی ربّ الوجود.. ولا ریب فی زیف هذه المعانی.. فمن ثمّ الشعائر الدینیّة لهذه الأدیان باطلة خرافیّة من هذه الجهة..

فهذه المعانی التی فی الشریعة: إن قام علیها الدلیل ولو الدلیل العام فلا یصح أن یصدق علیها الخرافة..

فعمدة الکلام فی التحرّی والتحقیق والتثبّت فی ماهیّة المعنی الذی تعکسه تلک الشعیرة؛ ثمّ نتحرّی عن الدلیل علیه.. أمّا إطلاق عبارة الخرافة من دون التدلیل علی ذلک فهو أشبه بالمغالطة أو الإبتداع.. ولابدَّ لکلٍّ من النافی أو المُثبِت أن یستدلّ علی مدّعاه..

فدعوی الخرافیّة فی جنبة المعنی تتوقّف علی إقامة الدلیل علی بُطلان

ص:273

ذلک المعنی المعین.. أمّا إذا کان ذلک المعنی معزّزاً ومؤیّداً بالدلیل.. فحینئذ تکون دعوی الخرافیّة فیه غیر مقبولة.. والغرض من التطرّق لبحث الخرافة الذی یواجه قاعدة الشعائر الدینیّة قدیماً وحدیثاً.. أنّه إن کان یعترض بذلک فی طرف وجنبة الموضوع، فلابدَّ من النظر فی ذلک المعنی.. کی یتبیّن مدی وجود التقاء - من جهة المعنی - بین الشعیرة والخرافة..

وأمّا فی جنبة نفس الشعیرة.. فقد یتوهّم إطلاق الخراقة.. لکنّ العلامة - بماهی علامة - لا یصدق علیها خرافة.. إذ المفروض أنّ الخرافة هی المعنی الذی لیس له حقیقة، أمّا العلامة فی نفسها فلیست من سنخ المعنی.. فکیف نتصوّر فیهاالخرافة، هذا ممّا لا یمکن أن یُتصوّر..

حیث إنّ هذه الشعیرة لها دلالات علی معانٍ معیّنة، والمعانی قد تکون باطلة وغیر صحیحة، وبالتالی تکون خرافیّة.. أمّا الشعیرة فی نفسها فلیست لهاوظیفة إلاّ الدلالة علی معنی والإشارة إلی محتوی فحسب.. نعم قد تکون بعض الشعائر کعلامات ودلالات غیر متناسبة مع المعنی الشامخ الذی وُضعت هی له ،أو تکون موجبة لتضعضعه، وهذا أمر آخر غیر الخرافیّة، بل هو محذور الهوان و الاستهانة..

ممیزات وخصوصیّات الشعائر:

ذکر علماء الإجتماع بعض الممیّزات والخصوصیات للشعائر منها:

تنوع الشعائر:

تنوّع واختلاف الشعائر والرسوم بین المجتمعات المختلفة.. مثلاً

ص:274

أسلوب التعظیم فی بلدة معیّنة، یختلف عن أسلوب التعظیم فی بلدة أخری.. بل قد یعتبر ذلک التعظیم فی بلاد أخری مظهراً لعدم الإحترام مثلاً.. إذ أنّ مدالیل العلامات تختلف بحسب التواضع والقرار المقرر بین أفراد المجموعات البشریّة.. وهذا ممّا لابدَّ من وضعه فی الحسبان.. إذن لا یمکن أن نحمل حکم الشعیرة فی بلد عَلی حکم شعیرة فی بلدآخر..

منشأ الشعیرة وأبعادها الخطیرة:

الشعائر والعلامات لا تکون فی الغالب مبتدأة ومبتکرة من رأس.. وإنّما تکون موروثاً حضاریّاً مکدَّساً.. بمعنی أنّ أیّ عرف أو أیّ قوم أو أیّ مجموعة معیّنة من البشریّة تتوارث أسالیب ووسائل معیّنة، یعرض علیها شیء من التطویر والتغییر.. لکنّ أصل جذور تلک الشعیرة أو تلک الوسیلة هی موروث حضاریّ قدیم یُنقل من الأجداد إلی الأبناء فی إطار حضارات مختلفة، من مؤثّرات و خصوصیّات معیّنة، مثل العِرق المُعیّن، أو القومیّة المعیّنة، أو المنطقة الجغرافیّة..ففی الواقع الشعیرة التی تتّخذ فی مجال دینیّ، أو فی مجال غیر دینیّ، أو مجال معاشیّ، أو فنیّ، أو إجتماعیّ، أو تاریخیّ، أو قومیّ.... هذه الشعیرة کما یعبّرون - تحمل هویّة وخصوصیّات وممیّزات تلک المنطقة أو تلک القومیّة.. یعنی أنّ الشعیرة لیست هی شعیرة فقط، بل تستبطن الهویّة القومیّة والشخصیّة الاجتماعیّة والتاریخیّة بقدر ما تحتوی علی معانی ومبادیء..

ومن ثمّ تری متخصّصی علم الحضارات أو علم التاریخ والاجتماع .. أو علم السیکولوجیا (علم النفس) یشیرون إلی أنّه من الخطورة بمکان

ص:275

تغییر الشعارات الوطنیّة والرموز الوطنیّة والعبث فیها.. لأنّ هذه الرموز والشعارات المعیّنة تحمل هویّة قرون لهذه المنطقة.. وتغییرها مقابل رموز وشعارات بدیلة ،یعنی ذوبان هذه القومیّة فی مقابل سیطرة ثقافات دخیلة.. فهذه الرموز والشعارات لیس من الهیّن والبسیط أن تُستبدل برموز تشکیلیّة جدیدة وتذوب أمام الغزو الفکریّ الجدید.. ولیس من الهیّن أن تتلاشی العادات والتقالید وتضعف الحصیلة التاریخیّة للمنطقة مقابل الفکر الجدید والثقافة البدیلة التی یأتی بها الغزاة والمستعمرون..

فنحن نری - مثلاً - إصرار بعض الدول الغربیة - کبریطانیا - فی ترویج اللغة الإنجلیزیة.. مع أنّ بریطانیا قد انحسر امتداد نفوذها الرسمیّ الظاهریّ حالیّاً.. مع ذلک لدیها إصرار فی تعلیم ونشر اللغة الإنجلیزیّة، السرّ یکمن فی أنّ وراء تعلیم اللغة تحمیل تقالید أصحاب اللغة أنفسهم.. وتحمیل ثقافة وروحیات الإنجلیز..یعنی تذویب القومیّات الأخری مقابل قومیّتهم..

فالرموز والشعارات الإسلامیّة لا یصحّ الاستهانة بها واستصغارها، فإنّ لها دوراً کبیراً فی الحفاظ وتحدید الهویّة الحضاریّة للأمّة الإسلامیّة..

فإذا کانت الشعیرة والشعائر بهذا الموقع من الأهمیّة والحساسیّة، فلیس من الهیّن محاولة تغییرها من دون دراسة مختلفة الجوانب محیطة بالجهات العدیدة ،لأنّ هذه الرموز والشعائر الدینیّة، سواء شعائر الحجّ، أو الشعائر الحسینیّة، أوشعائر الصلاة، أو شعائر المسجد، أو شعائر قبور الأئمّة (علیهم السلام) هی تُعدّ بقاءً للمعالم التاریخیّة والحضاریّة للمسلمین..

ص:276

لذا نجد البشریّة الآن تحتفظ بالتراث، وتهتمّ به وتحرسه بأخطر الأثمان ،وتصرف علی ذلک من الثروات الطبیعیّة الهائلة للبلد، لأنّ التراث - فی الواقع یحافظ ویحکی عن وجود حضارات استنزفت فیها الجهود والطاقات، ثمّ بعد ذلک وصلت إلی هذا العصر الحاضر.. فلیس من الیسیر التفریط بها..

فالخرافة قد تتصادق مع الشعیرة بلحاظ تأویل المعنی المدلول علیه.. لکنّه یجب الحذر والتفطّن من فقد هذه الرموز التی هی مخزون لمعانٍ سامیة، والضمان لأصالة المجتمع الإسلامیّ، ولا یسوغ التفریط بها بدون تدبّر.. بل لابدَّ من دراستها بدقّة وتأنٍّ..

وإذا کانت هذه الشعیرة بالنسبة إلی الآخرین (خارج المجتمع الإسلامیّ) مثل الیهود أو النصاری قد یکون لها مدلول معین، فهذا لا ینتقص من شأن الشعیرة نفسها.. لأنّ المفروض أنّ مدلولها لدی المسلمین هو المؤدّی الرفیع والمعنی السامی.. فکیف یُنتظر منّا أن نتّخذ شعیرة ورمزاً، یکون له مؤدّی مقبول عندهم وهم لا یذعنون بالمبادئ الإسلامیّة، فلو اشترطنا فی الشعیرة قبولهم لمعناها ،فهذا یعنی فقد الشعیرة وظیفتها أو ضیاع الدور المرجوّ منها أو الغرض المأمول منها.. وبعبارة أخری: إنّ التساهل والتهاون بذلک یُعتبر فقداناً لهویّتنا وأصالتنا..

وقد تمّ البیان بما لا مزید علیه أنّ الشعیرة تحتوی علی رکنَین: - رکن النشر والإعلام - ورکن الإعلاء والاعتزاز وحفظ الهویّة.. لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً، وَ جَعَلَ کَلِمَةَ الَّذِینَ کَفَرُوا السُّفْلی وَ کَلِمَةُ اللّهِ

ص:277

هِیَ الْعُلْیا .

فوظیفة الشعائر حفظ الهویّة الإسلامیّة والدینیّة المبدئیّة وإعلائها، فإذا فقدناها واستبدلناها بشعارات تروق للأعداء فعلی الإسلام السلام..

وهنا نقطة مهمّة ونکتة فقهیّة مرتبطة بقاعدة الشعائر الدینیّة: وهی أنّ هذه القاعدة تحمل فی ماهیّتها رکن الإعلام والإنذار والبثّ والعلامة والمَعلم ؛ ورکن آخر فی ماهیّتها (کالجنس والفصل) هو الإعلاء والاعتزاز، أی حفظ الهویة بل إعلائها والاعتزاز بها وتقدیمها علی بقیّة الهویّات البشریّة الأخری.. وهی الهویّة السماویّة والشخصیّة الإلهیّة فی الواقع..

دائرة الشعائر الدینیّة:

ومن جهة أخری، فإنّ الشعائر تنقسم بلحاظ المطلوب من الشعائر الدینیّة وهو ثلاثة أنماط من الوظائف:

تارة أن تؤدّی دورها فی الوسط الدینیّ المسلم، وتکون فائدتها للمسلمین أنفسهم فقط..

وتارةً یکون تأثیرها ضمن أبناء الایمان والوسط المؤمن..

وتارة ثالثة أن تؤدّی دوراً لدعوة الآخرین من المِلل والنِحل البشریّة الی الإسلام أو إلی الإیمان..

فهذه الشعائر التی أُمرنا بتحریمها وتعظیمها.. إمّا علی نحو وجوب إقامتهابین المسلمین ثمّ نشرها فی الدار الإسلامیّة أو دار الایمان.. أو أن

ص:278

تکون وسیلة إعلامیّة عامّة یُرجی لها الوجود، ویکون الأمر بها بلحاظ الوسط غیر المسلم، ویتوخّی أن تؤثّر فی الأعمّ من الوسط المسلم وغیر المسلم..

ولا یخفی أنّ المطلوب من الشعائر - بصورة عامة - هو إیجادها فی الوسط المسلم أو المؤمن أوّلاً وبالذات.. والمحافظة علی نفس الوسط المسلم وتوجیهه إلی الهدف، والسمو به إلی القمّة فی نفس الوسط الإسلامی .. نعم توجد بعض الشعائر المعیّنة قد اختصّها الفقه والدین الإسلامی لأجل التبلیغ فی ساحة الوسط غیر المسلم..

مثل: اُدْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ (1) ونحوه من الأدلّة ممّا یجب أن تکون الدعوة بلغة یفهمها المدعوّ ویستأنس بها.. فلیس من الحکمة استخدام أسلوب صحیح فی ذاته.. ولکن یستهجنه الناس وینفِّر عن الإسلام.. ولا شکّ أنّ هذا لیس من الحکمة بل هو نقض للحکمة..

تباین مِلاکات الأقسام فی الشعائر:

ولکن الکلام هو فی التفرقة والتمییز بین الشعائر التی هی لأجل الوسط المسلم أو الوسط المؤمن.. وتلک التی هی للوسط غیر المسلم.. بل اللازم أیضاً التفرقة بین الشعائر الاسلامیّة والشعائر الإیمانیّة.. فالأولی

ص:279


1- (1) النحل: 125.

للوسط المسلم والثانیة للوسط المؤمن، ولا یطغی حساب وموازنة أحدها علی الاخری، بل کلّ منها فی مورده مطلوب ولازم، إذ الغرض قائم من الأقسام الثلاثة من الشعائر لحفظ هویّة الإیمان وحفظ هویّة الإسلام والإعلام والدعوة لکلّ منهما..

نعم یجب أن یُختار فیها ما یلائم ویناسب المقام.. ولکن فی حدود أن لا تذوب الشخصیّة الإسلامیّة ولا الشخصیّة الإیمانیّة، وشریطة عدم تقدیم التنازلات العقائدیّة والسلوکیّة.. وإلاّ فسوف یُنتقض غرض الدعوة.. لأنّ المفروض من ظاهر الآیة أُدْعُ إلی سَبِیلِ رَبِّک« هو الدعوة إلی سبیل الله ولیس الدعوة إلی سبیل النصاری أو الیهود أو سبیل أهل الضَّلال، المفروض هو الدعوة إلی سبیل ربّک.. لکن بالحکمة والأسلوب المناسب.. الدعوة الی سبیل الله مع حفظ الهویّة.. لکن بالأسلوب والکیفیّة والنمط الذی یستأنسون به وینجذبون إلیه من سبیل الله، فحینئذ تؤثّر الدعوة وتؤتی ثمارها..

غالب الشعائر هو التعظیم بلحاظ دار المسلمین ودار المؤمنین.. ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ «.. وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ - ولم یقل سبحانه جعلناها لهم - إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَیْتَ .. ولیس لمن لا یحجّ البیت... وصلاة الجماعة خاصّة بدار المسلمین الذین یحرصون علی أداء الصلاة.. وهی تظاهرة عبادیّة دینیّة.. وصلاة الجمعة کذلک..

وهناک طقوس دینیة کثیرة قد یستخفّ ویستهزأ الآخرون بها ! فقد

ص:280

یقول قائل مثلاً: ما هذا الانحناء ونکس الرأس ورفع العجیزة ؟ ! هذه مظاهر لا یفهمها غیر المسلمین.. لأنّ هذه الطقوس المفروض فیها أن تُقام بنفسها لأجل الحفاظ علی المجتمع المسلم فی نفسه.. وکذلک الحال بالنسبة إلی طقوس الإیمان فی وسط الطائفة، فإنّه لا یعیها غیر المؤمنین، فمن الخبط بمکان تفسیر الشعائر المأمور بهافی وسط خاصّ والحکم علیها بموازین الوسط العامّ فضلاً عن الوسط الأعمّ..وهذا البحث فی الشعائر لیس فقط فی الشعائر الدینیّة، بل یجری فی الشعائر الوطنیّة والقومیّة..

بعض الشعائر الوطنیّة والقومیّة تؤسَّس لأجل حفظ الفِکر والهویّة وربط المواطن بتربة وطنه، أو بقومیّته.. ولیس الغرض من تلک الشعیرة أو الرمز دعوة الأمم الأخری، کلاّ !!

مثلاً لأجل ربط الجنود بالتربة والوطن، أو من أجل تحقّق معانی الدفاع عن الوطن وحمایة مقدّرات البلد وما شابه ذلک، یُربط الجنود برمز معین وإن لم یفهمه الآخرون، أو قد یسیء فهمه الآخرون.. إذ لیس الغرض من هذا الرمزالعسکریّ أو الجهادیّ هو فهم الاخرین.. بل المطلوب فیه هو فهم أهل الوطن..

کذلک الحال فی الشعائر الدینیّة التی یظهر غالب الخطاب فیها، بل مدلول الأدلّة الکثیرة، أنها موجّهة لأجل نفس المجتمع المسلم أو المجتمع المؤمن.. ولأجل حفظ هویّتهما، وحفظ مبادئهما، ویتماسکا ویترابطا.. لا أنّه لأجل التبلیغ لجهة أخری أو لأمّة أخری..

نعم قد یفترض ذلک فی بعض الشعائر، مثل باب الدعوة إلی الجهاد

ص:281

الفکریّ.. ولا ریب فی کون الغرض منه دعوة الآخرین، فیُفترض مثلاً من الکاتب أو المفکّر أو الخطیب أو المحاضر، أو علی صعید منتدی عالمی کمحطة فضائیة أومواقع الکترونیّة مثلاً أن یُختار الأسلوب المقبول والمؤثر.. والمفروض أن یرکّزعلی النقاط المعینة فی القانون الإسلامیّ ومعارف المذهب التی تجذب الآخرین.. مثل موارد الوفاء بالعهد وأداء الأمانة.. لاسیما فی الأبواب التی لهاصلة بالآخرین.. حتّی تتّخذ رموزاً وشعارات وقوانین ومعالم تجذب الآخرین إلی الوسط الإسلامیّ والإیمانیّ لا أن تُنفّر عنه، عملاً بمقولة «کونوا دعاة للناس بغیر ألسنتکم..» (1).

فالخُلق الإیمانیّ الإسلامیّ - مثلاً - ینبغی الدعوة إلیه کما أنّ هناک فی المجتمعات العصریّة دعوة إلی المثال النموذجیّ: سواء المثال الإقتصادیّ أو المثال التربویّ، لابدَّ أن ندعو إلی مثال خلق معین یجذب الآخرین.. وهو المثال الذی یدعو له الإیمان والإسلام.. لأنّ الغرض منه هو الإعلان والتبلیغ والدعوة لجذب الآخرین إلی حوزة الدین..

وأمّا غالب الشعائر التی یفرض أنّها طقوس ورسوم تتّخذ فی دار الإسلام أو الإیمان، فالمفروض فیها هو المحافظة علی هویّتها الأصلیّة الإیمانیّة والإسلامیّة.. والمنع من ضیاعها..

والمتخصّصون من أصحاب الفنون والعلوم العدیدة، کالشعراء والأدباء والخطباء والقرّاء وأصحاب المهارات فی الأنشطة والمراسم الدینیّة

ص:282


1- (1) الکافی، 78/2.

المختلفة یلمسون ذلک مع التحصّن بالمعانی الإسلامیّة العالیة وهضمها والإحاطة بها، فیطمئنّ لهم بأن یبرزوا لنا تشکیلة شعاریّة معیّنة فنّیّة، أدبیّه، شعریّة، قصصیّه ،وبلاغیّه تناسب المعنی السامی القرآنیّ، وأمّا إذا کان المتخصّص متأثّراً بالمعانی والمبادیء الدخیلة علی المذهب أو الدین الإسلامیّ.. فما ینتجه ویرسمه من شعار یشکّل خطورة علی المعالم الإیمانیّة والإسلامیّة..

فهذا البحث ینبغی أن یُلحظ کیفیّةً وحیثیّةً، استعانةً بالأخصّائیّین إخلاصاًوخبرةً، کما ینبغی دراسة هذه الشعیرة مع مقدار إمتداد جذورها التاریخیّة ومدی ارتباطها بمسار الطائفة وبحضارة الأمّة الإسلامیّة، حتّی یمکن البتّ فی سلبیّة أوإیجابیّة هذه الشعیرة أو مؤدّاها الذی تدلّ علیه..

الشعائر والهَتْک:

یبقی الکلام ضمن هذه الجهة السابعة عن ممانعیّة الهتک أو الهوان الذی قدیعرض علی ممارسة الشعائر الدینیّة المستحدثة أو المستجدّة.. فیکون مانعاً خارجیاً لعموم دلیل قاعدة الشعائر الدینیّة.

فی النظرة الأوّلیّة البَدویّة یُتبادر کونه مانعاً، باعتبار استلزامه هوان الدین ،وهتک الدین..

وقد تمسّک البعض بهذا العنوان، واستدلّ به علی ممانعة کثیر من الشعائر المستجدّة المتّخذة.. فلابدَّ - من ثمّ - من تحلیل هذا العنوان ومعرفة ماهیّته العقلیّة واللغویّة..

ص:283

معنی الهَتْک: کشف المستور.. وطبعاً - بالنسبة إلی حرمة الدین أوالمسلمین - قد یُراد منه کشف نقاط الضعف (فی المسلمین أو المؤمنین) وکشف الستر عن ذلک، مثل هتک حرمة المؤمنین والمسلمین وکشف النقص أو الضعف الموجود فیهم ممّا یؤثر فی زوال قوتهم وتضعیف شوکتهم..

والهوان أیضاً فی ماهیّته ومعناه یتقارب من الهتک، ویکون مسبَّباً عن الهتک مثلاً ومعلولاً عن کشف الستر..

فالهتک والهوان أمران متلازمان فی الغالب.. وأحدهما مسبّب عن الآخر ؛وإن کانت الماهیّة الحرفیّة وبالدقّة فی الهتک هی کشف الستر.. لکنّ کشف السترإمّا عن معائب أو عَوار أو نقائص، وکلّها بمعنی واحد.. ومن ثمّ یستلزم الهوان من الطرف الآخر..

ولا ریب أنّ هذه الماهیّة هی مضادّة لأغراض الشارع، ونقیض أهدافه فی التشریع التی بُیّنت فی آیات عدیدة منها:

- وَ جَعَلَ کَلِمَةَ الَّذِینَ کَفَرُوا السُّفْلی وَ کَلِمَةُ اللّهِ هِیَ الْعُلْیا

- وَ لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً

- ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ

- وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ

إنّ الأغراض الأوّلیّة الضروریّة من التشریع هی الرفعة والعلوّ، وهی أغراض أوّلیّة کبری وأهداف فوقانیّة قصوی فی التشریعات القرآنیّة ؛

ص:284

والهتک بمعنی کشف نقاط الضعف أو عَوار المسلمین أو المتدیّنین، الذی یستلزم الهوان والنقص المعاکس والمناقض لأهداف الشارع ورغباته..

لکنّ الکلام: أنّ هذا الهتک والهوان، هل هو مترتّب علی صِرف الإستهزاءمن قِبل المذاهب الأخری.. أو من قبل الملل الأخری ؟

أقسام الهتک والاستهزاء:

والاستهزاء - سواء کان من الفرق الإسلامیّة الأخری أو من الملل الأخری- یکون علی أقسام:

منه: الاستهزاء باطلاً وبما لیس بحقّ لدواعی مختلفة ومتعددة.. وهذا لا یؤثّر ولیس بمانع.. ولا ریب أنّه لا یستلزم الهتک.. لأن هذا الإستهزاء غیر کاشف عن عَوار ونقص ومعائب فی المؤمنین.. أو فی الدین..

ومنه: الاستهزاء نتیجة اختلاف الأعراف والبیئات والأعراق.. واختلاف الشعائر أو الطقوس حَسب المِلل والبلدان المختلفة فی شعیرة منصوبة لتدلّ علی معنی سامٍ.. لکنّ الآخرین قد ینطبع بأذهانهم معنی آخر، فهذا لا یستلزم ممانعة الشعائر ولا یُعرقل اتّخاذها وتعظیمها.. والسرّ فی ذلک أنّ هذا یرجع إلی حفظالهویّة، کما فی حفظ الهویّة الوطنیّة أو التراثیّة.. وهنا یرجع إلی حفظ الهویة الدینیّة، أو حفظ الهویّة الخاصّة بالطائفة وبهذه الملّة وهذه النحلة..

فلو استجیب لکلّ ما یروق للآخرین ممّا یکون مقبولاً عندهم، لتبدّلت هویّتنا إلی هویّتهم، وکان ذلک نوعاً من الانهزام والانزلاق تحت

ص:285

سیطرتهم، ولأدّی إلی ذوبان شخصیتنا فی بوتقة الفکر الدخیل والأجنبی.. فهذا القسم أیضاًلا یستلزم الهتک أو الهوان..

ومنه: استهزاء لجهات واقعیّة، فهذا یلزم منه هتک وهوان. فعلی ضوء هذاالتقسم الثلاثیّ.. نخرج بهذه النتیجة.. أنّ قسمین من السخریة أو الاستهزاء أوالتعجّب من الآخرین لا یوجب الهتک والهوان وإن تخیّله الباحث أو المتتبّع للشعائر الدینیّة کذلک..

والهتک أو الهوان أو الاستهزاء حیث إنّه من مصادیق وأصناف التحسین والتقبیح العقلیّین، وقد ذکرنا أنّ بعض مواردهما یکون مطابقاً للواقع فیکون صادقاً، وبعض مواردها غیر مطابق للواقع فلا یکون صادقاً، بل کاذباً..

العقل العملیّ والعقل النظریّ: هذا التحسین والتقبیح العقلیّان، فی قوّة العقل العملیّ فی النفس، التی تختلف وظیفتها عن قوّة العقل النظریّ الذی یُدرِک وجودالأشیاء وثبوتها، أو عدمها ونفیها، کما یُقال أن العقل النظری بنفسه لا یوجب تحریکاً فی الإنسان ولا انبعاثاً ولا تربیةً.. ومن ثمّ قالوا أنّ الحکماء (الفلاسفة) لایؤثّرون فی المجتمعات مثل ما یؤثّر الأنبیاء والرسل.. لأنّ الفلاسفة یعتمدون غالباً علی العقل النظریّ.. وهو ینطوی علی جنبة الإدراک فقط..

بینما إذا اتّصل العقل النظریّ - وهو إدراک الأشیاء وثبوتها فی العلوم المختلفة - بالعقل العملیّ.. أی أدرک حُسن وقُبح الأشیاء وتحسینها وتقبیحها، حتّی یکون محفزّاً ومحرّکاً، أو زاجراً ومؤدّباً للنفس.. ففی الواقع

ص:286

فإنّ العقل العملیّ لیس صِرفُ إدراک فقط، ولیس صِرف حجّیّة وتنجیز وتعذیر إدراکیّ فقط..وإنّما هو نوع من الباعثیّة والتحریک والتکوین.. لأنّ التحسین نوع من المدح ونوع من إیجاد الجَذْبة والمَغْنَطة بین النفس وذلک الفعل الحَسن ؛ والتقبیح - فی المقابل - نوع من ایجاد الشرارة والنفرة والبعد بین النفس وذلک الفعل القبیح..فهذا الجذب والوَصل من جهة والنفرة والانقطاع من جهة أخری هما من خاصیّات العقل العملیّ..

فإذا کان التحسین والتقبیح کاذبَین، فإنّ هذا بنفسه یکون عاملاً مُغریاًوخاطئاً ومزیّفاً للنفس لأن یحسّن لها القبیح ویقبّح لها الحَسن.. وسوف یؤدّی إلی تربیة خاطئة للنفس، وإلی نوع من الترویض السیّ ء فی النفس..

الشعائر والآثار الإجتماعیّة:

إذا اتّضح ذلک، علمنا أنّه إذا حصل الإستهزاء والسخریة (اللذین هما من أصناف المدح والذمّ والتحسین والتقبیح) إذا حصلا بسلوکیّة خاطئة ومدلّسة..سیّما إذا کان ذلک علی نحو افتعال جوّ وزخم إعلامیّ شدید وبکثافة إعلامیّة عن طریق الجرائد أو الإذاعات أو النشریّات أو المحافل والأندیة.. فإنّه سیوجب -قهراً - وقوع المسلمین أو المؤمنین فی جوّ خاطیء أو تربیة خاطئة، بأن یستقبحوا ما هو حَسن.. ویستحسِنوا ما هو قبیح..

مثلاً قد یعتبر الشاب المتدیّن فی الجامعة أنّ الصلاة تُقلّل من شأنه

ص:287

فی نظر زملائه، وأنّها عار علیه ولا تلیق به، ثمّ شیئاً فشیئاً یصبح القبیح حسناً، وبالعکس.. ولا ریب فی کون ذلک النوع من التفکیر سلوکاً منحرفاً واستخداماً خاطئاً وخطیراً فی العقل العملیّ، وقد قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): کَم مِن عقلٍ أسیرتحت هوی أمیر..

سیما إذا کان العقل الإجتماعیّ أو العقل الأُممیّ، أو العقل العَولمیّ الذین یحاولون ترویجه الآن.. إذا کان خاطئاً..

هذا العقل البشریّ المجموعی سوف یؤول بالبشریّة إلی القبائح باسم المحاسن.. أو یمنعها عن المحاسن والفضائل باسم أنّها قبائح ورذائل کما أخبر بذلک النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قبل أربعة عشر قرناً، وکان إخباره صلی الله علیه و آله حول علامات آخر الزمان..

فقضیة الإهانة والهتک والاستهزاء ترتبط ارتباطاً بنافذة عقلّیة تربویّة وإجتماعیة وسلوکیّة وممارسة معیّنة.. وقد یحصل اللَّبس أنّ مثل هذه الشعیرة أو الشعائر المتّخذة ربّما توجب الوهن فی الدین بینما هی لیست بوهن، لکن لشدّة علاقة الطرف الآخر ولشدّة نفوذ التبلیغ والدعایة والطُرق والقنوات المتوفّرة لدی الطرف الآخر، یوجب تأثّرنا بمدرکات خاطئة تُملی علینا وتُهیمن علی أفکارناوتزعزع المبادیء والعقائد..

فی مثل هذه الموارد، نقول وإن کان علی صعید التنظیر، بأنّ هذا الاستهزاء وهذا الهتک باطل ولیس بمانع للشعائر.. لکن شریطة أن یکون هناک نوع من الردع أمام التبلیغ المضاد..

ص:288

ممانعة بعض الشعائر تبعاً للمصلحة:

فی بعض الحالات قد یرتسم لدی الفقیه طبق المیزان الشرعیّ أن تُمانع تلک الشعیرة أو الشعائر، لا لأجل أنّها ممانعة فی واقع الأمر.. ولکن لأجل أنّ مثل هذا الجوّ الحالیّ قد یُضعِّف نفوس المؤمنین.. وإن کان هذا التضعیف لیس فی محلّه..ولکن لأجل فترة وقتیّة لشعیرة مستجدّة أو مُستحدَثة قد یری من الصالح لأجل عدم إحداث الضعف والوهن فی نفوس المسلمین والمؤمنین، قد یکون من الصحیح الممانعة.. لا الممانعة من جهة الهتک أو الاستهزاء.. بل فی الواقع ممانعة بسبب ضعف المسلمین نفسیّاً تجاه هذه الشعیرة.. فربّما عَدم ممارسة هذه الشعیرة یکون أثره أفضل فی النفوس.. وبعبارة أخری: فی هذه الموارد قد لا تسمّی ممانعة للشعائر، بل عدم توفّر قیود وشرائط الشعائر، فعدم إقامة الشعیرة یُنسب إلی فقد الشرط ولیس إلی الممانعة عنها.. وقد یکون العکس أولی بالرعایة، بأن یتشدّد الوسط الدینیّ بالشعیرة المتّخذة کی لا یستسلموا ولا یعتادوا الإنهزام أمام تهریج الخصوم وانتقاداتهم، وتحدید ذلک یکون بید الفقهاء الأمناء علی الدین والعقیدة..

دواعی أخری لممانعة الشعیرة:

وقد یکون التزاحم والدوران ناشئاً من جهات أُخری - لیس من جهة مراعاة الهتک والاستهزاء بغیر حقّ من الفرق أو الملل الأخری، بل من جهة ضعف نفوس المسلمین، أو من جهة ضعف شوکتهم، نظیر ما یذکره سبحانه وتعالی فی قوله: إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ یَغْلِبُوا

ص:289

مِائَتَیْنِ وَ إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ مِائَةٌ یَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِینَ کَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا یَفْقَهُونَ اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْکُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِیکُمْ ضَعْفاً فَإِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ وَ إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ أَلْفٌ یَغْلِبُوا أَلْفَیْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِینَ (1).

من جهة حفظ الشکیمة والحیثیّة یخفَّف التشریع من باب إدراجه فی باب التزاحم بین حُکمَین شرعیّین، ولیس من باب ترتیب الأثر علی الهتک والاستهزاء بغیر حق..

ومع أنّه بحدّ ذاته غیر ممانع، لکنّه یولّد جوّاً أو ظرفاً أو بیئة معینة، وهذا الجو ینتج تصادماً بین حُکمین وآخرین، ولابدَّ أن یراعی الفقیه هذه الجهة..

أو قد تنشأ الممانعة للشعائر من عدم إدراک المؤمنین لها وعدم استیعابهم لأهمیّتها قصوراً أو تقصیراً..أو لعدم تحمّلهم درجة عالیة من التفاعل والاندماج للشعیرة ؛ کمن لا یتفاعل إلّا بالبکاء مثلاً فی الشعائر الحسینیّة، فلیس من المناسب زجّه فی الشعائر الأخری التی تکون أکثر تفاعلاً واندماجاً..

کما ذکر الفقهاء أنّ العُرف الخاطیء والفاسد قد یُلجیء المکلّف إلی ترک المستحبّ، لأنه ربّما یکون سبباً للتشهیر به.. مع العلم أنّ المستحبّ مشروع فی نفسه، فالسبب فی ترکه هو نشوء عرف غیر مألوف - فی بیئة فاسدة - وهذه البیئة الفاسدة من شأنها أن تجعل المکلّف والمتدیّن یترک

ص:290


1- (1) الأنفال: 65 - 66.

ذلک المستحبّ.. أو بالعکس قد یکون هناک شیئاً مکروهاً، لکنّ ذلک المکروه یُرتکب، وعدم ارتکابه قد یصبح منقصة أو عاراً.. فیُرتکب ذلک المکروه حفظاً لشخصیة المؤمن أو المکلّف، وقدخالف جماعة من الفقهاء منهم الشهید الثانی فی کتابه الروضة البهیّة فی أولویّة الترک ومراعاة العُرف الفاسد وتَرک ما هو راجح أو ارتکاب ما هو مرجوح..

طبعاً هذا الإستثناء یجب أن لا یدوم ولا یطول زمناً، والمفروض أنّ سیاسة الفقیه فی الفتوی ناظرة لتربیة المجتمع ولمعالجة هذه الحالات والبیئات الفاسدة أوالممسوخة والمنکوسة والمقلوبة التی هی علی خلاف الفطرة وهی سیاسة حکیمة ومیدانیّة أیضاً..

وکم من مستحبّ ربّما تُرک قروناً من السنین بحیث یکون الممارس له مورد استهزاء، وبطبیعة الحال فإنّ ذلک یحصل فی المجتمعات التی تکون المفاهیم المادیّة والموازین الفاسدة هی السائدة والرائجة فیها..

الشعائر والإصلاح الاجتماعیّ :

وهذا هو أحد وظائف الشعائر الدینیّة حیث تؤدّی دور الإعلام والبثّ الدینیّ والإعلاء، ومن نتائجها الواضحة المحافظة علی الهویّة الدینیّة فی بیئة المسلمین.. لأنّه لولا الشعائر فإنّ الدین سوف ینکفیء شیئاً فشیئاً، وتتغیر المفاهیم الدینیّة، بل تنقلب رأساً علی عقب، وتصبح منکوسة الرایة، بدلاً من أن تکون مرفوعة عالیة مرفرَفة..

فمن الوظائف المهمة للشعائر الدینیّة جانب المحافظة علی الهویّة

ص:291

الدینیّة، وإلّا لمحیت وطمست معالم الدین وأُلغیت الشعائر الواحدة تلو الأُخری، وحَدث نوع من المسخ التدریجیّ..فقاعدة الشعائر الدینیّة هی قاعدة ممضاة من قِبل الشارع، ومُنظرّة فی باب الفقه الإجتماعیّ.. وکما ذکرنا أنّ للشعائر الدینیّة رکنان: رکن الإعلام والبثّ، ورکن الإعلاء والإعتزاز..

والحوزات العلمیّة الدینیّة تقوم بأداء أحد رُکنَی الشعائر الدینیّة، وهو إحیاء الدین ونشره وحفظه عن الإندراس.. وما تقوم به فی هذا الدور - وإن کان بشکل هادیء وبلا ضجیج - هو دور عظیم، لأنّها تحافظ علی أحد رُکنَی الشعائر - أوأحد رُکنَی الدین - وهو جنبة الإعلام والتعلّم والتفقّه وحفظ الدین عن الإنطماس و النسیان، وصیانته عن التحریف والتغییر، وحفظ الجانب التنظیریّ والبُعد العقائدیّ للدین..

ومن الواضح أنّ التحریف والردّة عن الدین قد تکون بصورتَین:

الصورة الأولی: فی جانب العمل، أی الانحراف فی السلوک العملیّ.. فلا تُتَّبَع الأوامر الدینیّة، ولا یُرتدَع عن النواهی..

الصورة الثانیة: وهی الأخطر، وهی الانحراف فی التنظیر، فلا یُذعن المنحرف ولا یؤمن ولا یصدّق، بل یحاول أن یبرّر انحرافه وینظِّر تکذیبه.. وهوالانحراف فی العقیدة.. وهذا أخطر من الأوّل.. بل ربّما یمارس ذلک المنحرف الأوامر الدینیّة ولکن لا یُقرّ بوجودها، وإنّما یمارسها من باب فطرة الطبع أو من باب السنن الإجتماعیّة.. لذا نجد فی عدّة من الآیات:

ص:292

فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ (1) و هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ (2) و إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (3) وأمثالها ،تُلقی الضوء علی جنبة التنظیر أو الإعلام الدینیّ والبثّ الدینی أو إتمام النور..

وهذه جنبة مهمّة للغایة ؛ نعم، الجنبة الثانیة فی الشعائر - وهی الإعلاء والإعتزاز فی الممارسة العملیة - تکون مطویّة ضمن السلوکیّة السابقة، وتظهربمظاهر ومؤشّرات عدیدة..

فالظروف الإستثنائیّة یشخصّها الفقیه فی موارد مختلفة بحسب سیاسة الفتوی عند الفقیه، وهی موازنة الملاکات فی الأبواب مع الإحاطة بالظروف الموضوعیّة، والفطنة فی تدبیر المعالجة للحالات المختلفة.. والفقیه یتضلّع لحفظ الدین بلحاظ درجات ملاکات الأحکام فی الأبواب المختلفة، فیفحص ویُجری البحث عن الأهمّ عند الشارع ؛ مضافاً إلی فراسته وفِطنته فی کیفیّة التوسّل فی الوصول إلی الغرض الدینیّ عن طریق الفتوی..

هذا تمام البحث فی قاعدة الشعائر الدینیّة مع بیان الخطوط العامّة لها.

الجهة الثامنة: تطبیقات قاعدة الشعائر الدینیة علی (الشعائر الحسینیة نموذجا):

ص:293


1- (1) التوبة: 122.
2- (2) التوبة: 33.
3- (3) الحجر: 9.

تقدّم البحث فی قاعدة الشعائر الدینیّة وقلنا أنّ لدینا ثلاثة طوائف من الأدلّة:

الطائفة الأولی: عامّة مشتملة علی نفس لفظة الشعائر، مثل:

ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ . وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ

الطائفة الثانیة: مدلولها نفس ماهیّة الشعائر، لکن غیر مشتملة علی لفظ الشعائر، مثل: وَ جَعَلَ کَلِمَةَ الَّذِینَ کَفَرُوا السُّفْلی وَ کَلِمَةُ اللّهِ هِیَ الْعُلْیا وغیرذلک، وهذا القبیل من الأدلّة یدلّ علی نفس مضمون الطائفة السابقة .. وذلک بعد الالتفات الی ان معنی الشعائر والشعیرة بتحلیل المعنی الی اجزاء عدیدة من اجناس وفصول فیقرر المعنی الواحد الی معانی عدیدة وعناوین کثیرة کما مر فی صدر البحث بل یدخل فی حد المعنی الواحد غایاته بناء علی دخولها فی حد وتعریف الشیء.

الطائفة الثالثة: مختصّة بأبواب معیّنة.. مثل: وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ ..

ففی باب الشعائر الحسینیّة هناک عدّة عمومات - فضلا عن ادلة خاصة بکل مصداق من مصادیق الشعائر کما بیناه فی کتاب الشعائر الحسینیة - ومن تلک الأدلة..

الدلیل الأول: حیث حلّلنا أنّ من أهمّ أغراض الشعائر الحسینیّة هو الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وإبراز الإمامة الحقّة التی تعتبر من

ص:294

أصدق مواردالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فی الأمور الاعتقادیّة.. فأدلّة الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر تتناول هذا الباب.. ویمکن أن تکون دلیلاً وبرهاناً علیه..

مثل: کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ (1) ممّا یدلّل علی أنّ الشارع یرید أحیاء هذه الفریضة.. وأنّ تقدیم هذه الأمة وأفضلیّتها علی سائر الأمم من الأوّلین والآخرین هو نتیجة إقامة هذه الفریضة: کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ ، وإحیاء هذه الفریضة - الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر - إنّما یتحقق بإقامة الشعائر الحسینیّة بل هی أوضح المظاهر لإحیائها، لأنّ الأغراض والغایات ا لمطویّة فی النهضة الحسینیّة لابدَّ أنّها تنتهی بالتالی إلی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.. التی منها تجدید إنکار کلّ مظاهر الإنحراف الساریة فی المجتمع ،وإقامة کلّ معروف غُفل عنه أو هُجِرَ من حیاة الأمة الإسلامیة علی الصعیدَین السلوکیّ والعقیدیّ..

وکذلک المحافظة علی استمرار سلوکیّة المعروف وتطبیقه فی المجتمع مع الالتزام فی نبذ المنکر وإنکارهِ.. فهی نوع من حالة الصحوة والسلامة والتوبة الدینیّة من خلال مواسم ومراسم الشعائر الحسینیّة..

وکذلک الأمر فی الآیات الأخری فی موضوع الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، مثل: وَ لْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَ یَأْمُرُونَ

ص:295


1- (1) آل عمران : 110.

بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ (1)؛ ومقتضی أدلّة إقامة فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر تستلزم فی مقدّماتها التذکیر بهذه الفریضة وإحیائها عبر إحیاء الداعی النفسیّ لدی المؤمنین والمتدیّنین وتحریضهم نحو أداء هذه الفریضة.. وأکبر تحریض هونفس ما قام به أبو الأحرار وسیّد الشهداء(علیه السلام) من إیقاظ الناس من سُباتهم العمیق وإحیاء نفوسهم بالعدل والهدی، وتحریرهم من الظلم والرذیلة والهوی، وتربیتهم علی عدم الخنوع والخضوع للطغاة والتخاذل، وذلک بإقامة فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر مهما کلّف الأمر، وأینما بلغت التضحیة..

الدلیل الثانی: الأدلّة علی الولایة، کقوله تعالی یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ کُونُوا مَعَ الصّادِقِینَ .. (2).

وقوله تعالی: قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی (3) ومن المودّة التأسّی بهم، والفرح لفرحهم، والحزن لحزنهم..

والمودّة فی اللغة تفترق عن الحبّ.. فالحبّ قد یکون أمراً باطناً.. أمّا المودّة فهی تعنی المحبّة الشدیدة التی تلازم الإبراز والظهور.. وهناک - من ثمّ -فارق بین عنوان المودّة وعنوان المحبّة.. هذا أیضاً من العمومات.. إذن کلّ عمومات الولایة تدلّ علی ما نحن فیه..

ص:296


1- (1) آل عمران: 104.
2- (2) التوبة: 119.
3- (3) الشوری: 23.

وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (1) وأبرز مصداق لها هو أمیر المؤمنین علیه السلام..

وأیضاً آیات التبرّی مثل:

لا تَجِدُ قَوْماً یُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ یُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ (2) ولا ریب أنّ عنوان (مَنْ حَادَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ ) فی هذه الآیة یشمل أعداء الأئمّة (علیهم السلام) ممّن هتک حرمة النبیّ والدین فی أهل بیته.. فینبغی إظهار البراءة وعدم الموالاة لمن حادّ الله ورسوله.. وفی سورة الفاتحة أیضاً:

اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ ، صِراطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَ لاَ الضّالِّینَ (3) فإنّ المؤمن یجب أن یتولّی صراطَهم الذی لیس علیه أیّ غضب إلهیّ وهذا یعنی العصمة العملیّة.. إضافة للعصمة العلمیّة المُشار إلیها بعبارة وَلاَ الضَّآ لِّینَ وهی إشارة إلی أنّه لیس لدیهم هولء الهداة الذین یقتدی بهم, هناک معصیة عملیّة، ولیس هناک أیّ زلّة علمیّة.. إهدنا صراط المعصومین.. لأنّ نفی الغضب بقول مطلق یعنی العصمة العملیّة.. ونفی الضلالة بقولٍ مطلق، یعنی العصمة العلمیّة.. فالمعنی: إهدنا صراط المعصومین.. وکذا التقریب فی آیة: إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِیناً.. و آیات التولی و التبری کثیرة جدا، کقوله تعالی: لا تَجِدُ قَوْماً یُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ یُوادُّونَ مَنْ حَادَّ

ص:297


1- (1) المائدة : 56.
2- (2) المجادلة : 22.
3- (3) الفاتحة : 6 - 7.

اَللّهَ وَ رَسُولَهُ (1)، وقوله تعالی: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (2)، وقوله تعالی: قَدْ کانَتْ لَکُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِی إِبْراهِیمَ وَ الَّذِینَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآؤُا مِنْکُمْ وَ مِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ کَفَرْنا بِکُمْ وَ بَدا بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً (3) وقوله تعالی:یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَیْهِمْ (4).

وهذه الآیات الکریمة بمجموعها تصبّ فی مصبّ واحد، وتعتبر دلیلاً معتمداً فی باب الشعائر الحسینیّة.. إذ أنّ الأسی والتألّم لمصابهم، والحزن لحزنهم هو نوع من التولّی لهم والتبرّی من أعدائهم، ویکون کاشفاً عن التضامن معهم والوقوف فی صفّهم (علیهم السلام) ..

وکذلک الآیات المبیّنة لصفات المؤمنین بالتحذیر من صفات المنافقین، حیث تقول:

إِنْ تَمْسَسْکُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْکُمْ سَیِّئَةٌ یَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا یَضُرُّکُمْ کَیْدُهُمْ شَیْئاً إِنَّ اللّهَ بِما یَعْمَلُونَ مُحِیطٌ (5)؛ أی أنّ المؤمن یجب أن یفرح لفرح أولیاء الله تعالی ویحزن لحزنهم، علی عکس المنافق

ص:298


1- (1) الأحزاب: 57.
2- (2) المائدة: 55 - 56.
3- (3) الممتحنة: 4.
4- (4) الممتحنة: 13.
5- (5) آل عمران: 120.

والناصب، ولو لاحظنا الآیات السابقة علی الآیة المزبورة أیضاً لازدادت الصورة وضوحاً ،حیث یقول تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِکُمْ لا یَأْلُونَکُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِی صُدُورُهُمْ أَکْبَرُ قَدْ بَیَّنّا لَکُمُ الْآیاتِ إِنْ کُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا یُحِبُّونَکُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْکِتابِ کُلِّهِ وَ إِذا لَقُوکُمْ قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَیْکُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَیْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَیْظِکُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (1) فهذه الآیات تشیر إلی أنّ علامة المودّة هی الفرح لفرح المودود، والحزن لحزنه.. وأنّ علامة البغضاء والعداوة هی الفرح لحزن المبغوض، والحزن لفرح المبغوض..

وکذلک قوله تعالی: کَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوی عَلی سُوقِهِ یُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِیَغِیظَ بِهِمُ الْکُفّارَ (2) ومفاد الآیة کالسابقات دالّ علی أنّ علامة البغضاء هو الغیض والحزن من حسن حال المبغوض وفرحه والفرح والسرور من سوء حال المبغوض وحزنه وعلی العکس فی المحبوب فإنّ علامة الحبّ توجب التوافق والتشابه فی الحالة ؛ ومن هذه الآیات بضمیمة ما تقدّم من فریضة مودّة أهل البیت فی آیة المودّة لذوی القربی نستخلص هذه القاعدة القرآنیّة، وهی فریضة الفرح لفرح أهل البیت والحزن لحزنهم (علیهم السلام) .

الدلیل الثالث: شمول عناوین أخری للشعائر الحسینیّة، مثل: عنوان

ص:299


1- (1) آل عمران: 119.
2- (2) الفتح: 29.

إحیاء أمر الأئمّة.. «رحم الله مَن أحیی أمرنا..» (1).

وهذا العنوان وهو: (إحیاء أمرهم (علیهم السلام) ) قد طُبِّق علی إحیاء العزاء الحسینیّ ومذاکرة ما جری علی أهل البیت من مصائب.. فیتناول الشعائر الحسینیّة، سواءالمرسومة فی زمنهم (علیهم السلام) أو المستجدّة المستحدثة المتّخذة، ولا یقتصر علی الشعائر القدیمة..

وقد وردت هذه الروایات فی مصادر معتبرة مثل: بعض کتب الشیخ الصدوق(قدس سره) کالأمالی والخصال وعیون أخبار الرضا(علیه السلام) ومعانی الأخبار وکتاب دعوات الراوندیّ.. وکتاب المحاسن للبرقیّ.. وکتاب بصائر الدرجات للصفّار.. وکتاب المزار للمشهدیّ.. وقُرب الإسناد.. والمُستطرفات فی السرائر لابن ادریس الحلیّ.. بحیث تصل هذه الروایات إلی عشرین طریقاً.. وهناک الکثیر من المصادر یجدها المتتبّع فی مظانّها..

الدلیل الرابع: العمومات التی وردت فی باب الشعائر الدینیّة فی الحثّ علی زیارتهم وتعمیر قبورهم وتعاهدها.. ویتّضح من ألفاظ وأسلوب الزیارة أنّهانوع ندبة ومأتم یقیمه المؤمن خلال فترة الزیارة، لیتذکّر من خلاله ما جری علیهم من مصائب..

مثل: السلام علیک یا قتیل الله وابن قتیله، السلام علیک یا ثار الله وابن ثاره. أشهد أنّ دمَکَ سکَن فی الخُلد، واقشعرّت له أظلّةُ العرش، وبکی له جمیعُ الخلائق، وبکَت له السماواتُ السبع والأرضونَ السبعُ وما

ص:300


1- (1) وسائل الشیعة، ج12، ص20.

فیهنّ وما بینهنّ

- وفی إحدی الزیارات لمولانا أمیرالمؤمنین(علیه السلام): ... السلام علیک یاولیّ الله أنت أوّلُ مَظلومٍ وأوّلُ من غُصِبَ حقّه....

- أشهد أنّک قد أَقَمْتَ الصلاةَ وآتیت الزکاة وأمرت بالمعروف ونهیت عن المنکر ودعوت إلی سبیل ربّک بالحِکمة والموعظة الحسنة، وأشهد أنّ الذین سفکوا دَمک واستحلّوا حُرمتک ملعونون...

-... أشهد أنّک ومن قُتل معک شهداء أحیاء عند ربکم تُرزقون وأشهد أن قاتلک فی النار... وهی نوع رثاء وندبة..

وقد جمع صاحب وسائل الشیعة الشیخ الحرّ العاملیّ(قدس سره) فی هذا العنوان -وهو زیارتهم أو تعمیر قبورهم (علیهم السلام) ، أو إقامة المأتم علیهم، أو إنشاد الشعر أوالرثاء.. فی آخر باب الحجّ، کتاب المزار.. - ما یربو علی أربعین باباً وجلّها من طرق معتبرة، کالصحیح أو الصحیح الأعلی أو الموثّق.. وظاهرها هو الحثّ علی زیارتهم (علیهم السلام) وتعاهد قبورهم وتعمیرها والترغیب فی الرثاء وإنشاد الشعرلمصابهم، وأیضاً الأمر بالبکاء علی مصائبهم وما جری علیهم (علیهم السلام) ..

وینقل صاحب البحار العلّامة المجلسیّ(قدس سره) أیضاً، عن غیر المصادر التی ینقل عنها صاحب الوسائل، وقد عقد فی البحار کتاباً للمزار ج100..وعلاوة علی ذلک، فإنّ بعض علماء الإمامیّة المتقدّمین، مثل ابن قولویه عقد وألّف کتاباً خاصّاً فی ذلک، وهو کتاب: کامل الزیارات وهو کتاب یختصّ فی هذا الباب.. وکذلک صنع تلمیذُه الشیخ المفید والشیخ

ص:301

الطوسیّ فی مصباح المتهجّد..

وأمّا ابن طاووس فقد أکثر فی هذا الباب العشرات من الکتب نقلاً عن المئات من المصادر التی وصلت إلیه.. وألّف الشهید الأول کتاباً بعنوان (المزار)، کما عقد ابن ادریس فی السرائر باباً للمزار.. ویلاحظ هذا الطرز من إدخال باب المزار فی کتب الفقه ممّا یدلّ علی کون ذلک ظاهرة منتشرة فی کتب الفقهاء فی الصدر الأوّل، بدءاً بالمقنع والهدایة للصدوق ورسالة أبیه الشیخ ابن بابویه، والمفید فی المقنعة إلی حوالی القرآن السابع والثامن الهجری وهناک متناثرات عدیدة فی ذلک..

فالمستقرئ فی کتب الشیعة یری أنّ هناک مصادر عدیدة تحتوی هذه العناوین المتنوّعة، من الزیارة وتعهّد القبور والرثاء فی الشعر والنثر وثواب البکاء وما شابه ذلک..

إذن بهذا المقدار نستطیع القول بأنّ الأدلّة فی باب إحیاء الشعائر الحسینیّة تنقسم إلی طوائف مختلفة.. وأنّ ألسنتها عدیدة..فتحصّل أنّ لدینا أدلّة شرعیّة متواترة متعدّدة، سواء فی باب الولایة أو التولّی والتبریّ من إعدائهم.. أو الصنف الثالث المتعلّق بإحیاء أمرهم، أوالرابع: المرتبط بزیارتهم ورثائهم والبکاء علیهم وتعاهد قبورهم وإعمارها.. ممّا یثبت وجود الأدلّة الشرعیّة الخاصّة والعامّة الدالّة علی باب الشعائر الحسینیّة فضلا عن کون الشعائر الحسینیة من مصادیق قاعدة الشعائر الدینیة..

والحمد لله اولا واخرا.

ص:302

قاعدة :توسعة حریم مواسم الشعائر زمانا ومکانا

اشارة

ص:303

ص:304

توسعة حریم مواسم الشعائر زمانا ومکانا(1)

الحمد لله رب العالمین وصلی الله علی خیر خلقه محمد واله الطاهرین واللعن الدائم علی اعدائهم اجمعین إلی قیام یوم الدین... وبعد

تقدیم :

قد تکرر إبداء التساؤل عن وجه توسعة زیارة الأربعین قبل یوم الأربعین من أیام صفر لاسیما منذ بدایة الیوم الحادی من صفر مع أن الزیارة فی ظاهر الروایات والأدلة واردة فی خصوص یوم الأربعین وکذلک الحال بالنسبة إلی الزیارة الشعبانیة فإن هناک الغفیر من المؤمنین یأتون بها قبل النصف من شعبان ولکن بعنوان زیارة النصف من شعبان فکیف یوجه ذلک.. وکذلک یطرح تساؤل آخر وبکثرة الأمر عن وجه توسعة هذه الزیارات الملیونیة من جهة المکان فإن الحجم الغفیر من الزوار یصل فی زیارته إلی مشارف وضواحی کربلاء المقدسة فیزور عند تلک المشارف ویرجع لشدة الزحام أو لخوف الازدحام وبعضهم قد یقترب من الاحیاء القریبة من الحرم الشریف فیزور حیث یشاهد القبة الشریفة فیرجع والبعض الثالث یکتفی بالزیارة من الشوارع المحیطة بالحرم الشریف ثم یرجع فهل تتسع الزیارة مکاناً إلی هذه المدایات الجغرافیة بحیث یصدق أنه زار سید الشهداء فی الأربعین أو فی النصف من شعبان أم أنه لابد من

ص:305


1- (1) تقریراً لبحث أستاذنا الشیخ السند (دام ظله)، بقلم جناب الأخ عباس اللامی دام توفیقه.

دخوله الحرم الشریف. ولمعرفة حقیقة الحال والحکم فی مورد السؤال لابد من تقدیم مقدمة.

قد ثبت لجملة من المناسبات الشرعیة موسم زمانی غیر مضیق بیوم المناسبة الشرعیة والمیقات الزمانی لها فقط ویعبر عن التوسعة فی توقیت المناسبة الشرعیة بالحریم الزمانی سواء السابق علی توقیته الشرعی بقلیل بحسب الحاجة أو متأخر عنه بل قد تقرر ذلک نصا وفتوی فی المیقات المکانی والبقاع المکانیة الشریفة حیث رسم لها اوسع من المحدود المکانی بها ولنأخذ فی تعداد امثلة التوسعة الزمانیة کحریم للمناسبة الزمانیة ثم تقریر الضابطة الکلیة فی التوسعة الزمانیة الدینیة کحریم لمیقات المناسبة الزمانیة.

وإلیک جملة من الوجوه التی یمکن أن یستبدل بها فی المقام.

الوجه الأول:- (الاستقراء المتصید من الابواب الفقهیة لتوسعة الشارع للمیقات الزمانی للمناسبات الشرعیة).

القسم الأول: الحریم الزمانی وفیه أبواب:-

الأوَّل: باب الحج:

أولاً: الوقوف بعرفة: فأنه قد توسع الشارع فی الوقوف بعرفة إلی الوقوف لیلا لمن لم یدرک نهار عرفه بل أفتی جملة الفقهاء باجزاء الوقوف الظاهری مع العامة. مع أنه قد یکون فی الواقع یوم الثامن من ذی الحجة من باب التوسع الزمانی ومن ثم اکتفی جملة من الفقهاء بالوقوف مع العامة حتی مع القطع بالخلاف.

ص:306

واستدلوا علی ذلک بوجوه منها روایة عن الصادق(علیه السلام) (الفطر یوم یفطر الناس والاضحی یوم یضحی الناس)(1). وغیرها من الروایات وقرّبوا ذلک بأن العبادة الشعائریة والشعیریة قوامُها بالعمل الجماعی کشعائر وشعار وتظاهر معلن، فلذا یتسع حریمها بحسب سعة ذلک الإظهار والإبراز.

ثانیاً: الوقوف بمزدلفة: فأن الشارع وسّع الوقوف لیلا. لمن اضطر إلی ذلک ولم یقدر علی الوقوف بین الطلوعین، متقدما علی المیقات الزمانی، کما وسع الوقوف متأخراً الی زوال یوم العید لمن فاته الوقوف بین الطلوعین.

ثالثاًً:- ورد أن من أراد أن یدرک عمرة رجب، یمکنه أن نشئ الاحرام فی أواخر رجب وإن أتی بالأعمال فی شعبان(2)(3)وبذلک یدرک عمرة رجب، وفی ذلک توسعة من ناحیة المیقات المکانی والمیقات الزمانی(4).

ص:307


1- (1) الوسائل/ ابواب ما یمسک عنه الصائم ، 57 ، ح7.
2- (2) الوسائل/12من المواقیت/ح1 صحیحة معاویة بن عمار:- قال سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) لیس ینبغی أن یُحرم دون الوقت الذی وقّته رسول الله صلی الله علیه و آله إلاّ أن یخاف فوت الشهر فی العمرة.
3- (3) نفس المصدر/ج2: سألت أبا إبراهیم(علیه السلام) عن الرجل یجیء معتمراً ینوی عمرة رجب، فیدخل علیه الهلال قبل أن یبلغ العقیق فیحرم قبل الوقت، ویجعلها لرجب، أم یؤخر الأحرام الی العقیق ویجعلها لشعبان، قال یحرم قبل الوقت لرجب، فإن لرجب فضلاً وهو الذی نوی.
4- (4) التهذیب ج5 / باب المواقیت /ص51 /ح6 / الوسائل ابواب المواقیت / باب جواز الاحرام قبل المیقات / باب /13 /ح2.

رابعاً:- فی اعمال منی یوم العید، فقد وسع الشارع الاتیان بها فی لیلة العید مسبقاً، للضعفة والعجزة من الحجیج، کما وسع لمن لم یدرکها إلی أیام التشریق الأربع لاحقاً.

خامساً:- فی اعمال مکة یوم العید. فأنه قد سوّغ الشارع المجئ بها قبل یوم التاسع، ولو بأیام، لذوی الاعذار ،کما سوّغ لمن یقدر علیها یوم العید أن یأتی بها أیام التشریق بل إلی آخر ذی الحجة.

الثانی: فی باب الصلاة:

اولاً:- فی صلاة اللیل، فأنه قد سوّغ الشارع المجئ بها قبل منتصف اللیل، لذوی العذر، عن المجئ بها فی وقتها.

ثانیاً:- فی نوافل الظهرین، فقد سوغ الشارع المجئ بها قبیل الزوال، لمن یعجز عن الأتیان بها فی وقتها.

ثالثاً:- فی نافلة الفجر، مع أن الوقت المقرر لها هو بعد الفجر الکاذب، إلا انه وسع الشارع المجئ بها بعد صلاة اللیل.

رابعاً:- فی خطبتی صلاة الجمعة، فأنهما کبدل عن رکعتین بعد الزوال، إلاّ أن الشارع سوّغ المجئ بهما قبل الزوال.

خامساً:- قد ورد أنه من ادرک رکعة من الوقت، أو من آخر الوقت، فقد ادرک الوقت، کما ورد اجزاء من صلی قبل الوقت فأدرک الوقت ودخل علیه قبل أن یسلّم لمن صلی قبل الوقت غفلة.

ص:308

الثالث: موارد متفرقة:

اولاً:- أن یوم عاشوراء یوم عظیم، لذا جعل أهل البیت (علیهم السلام) له حریماً زمانیاً متقدماً علیه بتسعة أیام، فقد ورد عن الإمام موسی بن جعفر(علیه السلام)، أن حزنه(علیه السلام) کان یبدأ من أول یوم من محرم فلا یری باسماً قط، فإذا کان یوم العاشر، کان یوم مصیبته(علیه السلام)(1) فقد روی الصدوق فی أمالیه بسنده عن إبراهیم بن أبی محمود عن الرضا(علیه السلام) أنه قال: کان أبی إذا دخل شهر المحرم لا یری ضاحکاً وکانت الکآبة تغلب علیه حتی یمضی منه عشرة أیام. فإذا کان یوم العاشر کان ذلک الیوم یوم مصیبته وحزنه وبکائه ویقول: هو الیوم الذی قتل فیه الحسین(علیه السلام)(2).

وروی فی البحار عن بعض مؤلفات المتأخرین أنه قال حکی دعبل الخزاعی دخلت علی سیدی ومولای علی بن موسی الرضا(علیه السلام) فی مثل هذه الأیام فرأیته جالساً جلسة الحزین الکئیب وأصحابه من حوله فلما رآنی مقبلاً قال لی مرحباً بک یا دعبل مرحباً بناصرنا بیده ولسانه ثم أنه وسع لی فی مجلسه وأجلسنی إلی جانبه ثم قال لی یا دعبل أحبُّ أن تنشدنی شعراً فإن هذه الأیام أیام حزنٍ کانت علینا أهل البیت وأیام سرور کانت علی أعدائنا. خصوصاً بنی أمیة(3) الحدیث.

وفی هذه الروایة وإن کانت مرسلة تصریح بأن المناسبة وإن کانت

ص:309


1- (1) بحار الانوار ج 44 ص283.
2- (2) أمالی الصدوق ، المجلس رقم 27 ، الرقم 2.
3- (3) البحار ، مجلد 45 ، ص257.

یوماً واحداً إلاّ أن ما یحتف بها من أیام ما قبلها وما بعدها تلک الأیام تتنسب إلی تلک المناسبة وذلک الیوم بحسب العرف والاعراف المختلفة بل هذه الروایات نص بالخصوص علی ما نحن فیه صغرویاً وإن هذه التوسعة فی الارتکاز العرفی قبل أن تکون تناسبیاً شرعیاً وهذا وجه مستقل برأسه وهو استقراء الاستعمال العرفی لعنوان الأیام المضافة إلی مناسبة ما، وکانوا یعدون هذه الأیام أیام الحزن(1).

ثانیاً:- فی لیلة القدر، فإن یومها بمنزلتها(2) بل ورد أن لیلة التاسع عشر والواحد والعشرین حریم زمانی متقدم للیلة الثالث والعشرین(3) بل ورد أن شهر رمضان من اوله، حریم للیلة القدر(4) بل ورد ایضاً أن حریم لیلة القدر یبدأ من لیلة النصف من شعبان(5) کما أن لیلة القدر حریم لولایة آل محمد (علیهم السلام) ، بإعتبارها ظرف زمانی شریف لتنزل روح القدس علیهم (علیهم السلام) .

ثالثاً:- فی غسل یوم الجمعة فأنه سوغ الشارع المجئ به فی یوم الخمیس لمن یعجز عن الماء یوم الجمعة أو یخاف العوز(6).

ص:310


1- (1) بحار الانوار ج45 ص256.
2- (2) الامالی للصدوق ص751.
3- (3) نور الثقلین ج5 ص625.
4- (4) الوسائل ج7 الباب / 18 من ابواب أحکام شهر رمضان ح1 ص219 /تحریر الأحکام ج1 ص516.
5- (5) الحدائق الناظرة / ج13 ص448 / روح المعانی للالوسی ج25 ص113.
6- (6) الوسائل: کتاب الطهارة ابواب الاغسال المسنونة / 9 باب استحباب تقدیم الغسل یوم الخمیس لمن خاف قلة الماء یوم الجمعة.

رابعاً:- قد جعل الشارع حریم للیلة الجمعة، یمتد قبلها، من بعد زوال ظهر یوم الخمیس(1)، کما جعل لأعمال یوم الجمعة حریماً متأخراً وهو لیلة السبت، بل یظهر من الشارع أن کل یوم ذو فضیلة وحرمة، تبدأ حرمته قبله فتکون اللیلة السابقة حریماً له، کلیلة عرفه ولیالی العیدین ولیلة الجمعة ولیلة النصف من شعبان کما تقدم ولیلة المبعث الشریف مع أن المبعث الشریف فی فجر یومها وغیرها من اللیالی التی شرفت کحریم سابق لأیامها الشریفة.

خامساً:- ورد فی فضائل یوم الغدیر أنه مستمر إلی ثلاثة أیام(2) وکذلک ما ورد فی الیوم التاسع من ربیع الأول(3).

القسم الثانی:- موارد توسعة الحریم المکانی، وقد مرّ بعض منها:

أولاً:- أن الکعبة کأول بیت وضع للناس، لها عظمة وحرمة وشرافة، لذا جعل المسجد الحرام حریم لها، وجُعلت مکة المکرمة حریماً للمسجد الحرام، وجعل الحرم المکی حریماً لمکة المکرمة، وجعلت المواقیت حریماً للحرم المکی، وقد ورد بکل ذلک النصوص.

ثانیاً:- فی مرقد الرسول صلی الله علیه و آله ، فقد ذکر السمهودی فی مقدمة کتابه، إجماع أهل الجمهور علی أن قبره صلی الله علیه و آله أعظم حرمة من مکة المکرمة، بل نقل عنهم، أنه اعظم من العرش، لذت جعلت الروضة المبارکة بین القبر والمنبر

ص:311


1- (1) بحار الانوار ج 86 ص361.
2- (2) اقبال الاعمال ج2 ص261.
3- (3) المختصر ص65.

حریماً للقبر الشریف، وجعل المسجد النبوی حریماً للروضة المبارکة، وجعلت المدینة المنورة حریماً للمسجد النبوی، وجعل الحرم المدنی بین الجبلین حریماً للمدینة المنورة، وبعض الروایات عند الفریقین، تبین أن ما بین الحرم المکی والحرم المدنی ،ملحق فی بعض الآثار بهما کما فی الروایة (من مات بین الحرمین، بعثه الله فی الآمنین یوم القیامة)(1) وکذلک فی الروایة (من مات بین الحرمین لم ینشر له دیوان)(2).

ثالثاً:- فی کل مراقد اهل البیت (علیهم السلام) ، فإن قبورهم بیوت أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه، فلها الحرمة والعظمة بنص القرآن الکریم والسنة الشریفة، وقد ذکر کاشف الغطاء(قدس سره) فی کتابه کشف الغطاء: 54/عند قراءة الفاتحة بعد الطعام ورجحان الشعائر الحسینیة، أن مراقدهم (علیهم السلام) مشاعر شعّرها الله عَزَّ وَجَلَّ، ویتبعها فی الحرمة، ما حولها من البقاع الشریفة، لذا قد ورد أن الکوفة حرمت لأجل أمیر المؤمنین(علیه السلام)، ومن ثم ذهب الشیخ الطوسی فی المبسوط، إلی أن حکم التخییر الصلاة بین القصر والتمام للمسافر فی مسجد الکوفة بتبع التخییر فی مرقد أمیر المؤمنین(علیه السلام)(3) وما یؤید ذلک ما رواه محمد بن الحسن عن أبیه عن أحمد بن داود عن أحمد بن جعفر المؤدب عن یعقوب بن یزید عن الحسین بن بشار الواسطی قال: سألت أبا الحسن الرضا(علیه السلام) ما لمن زار قبر ابیک قال: زره قلت: فأی شیء

ص:312


1- (1) البحار / ج47 ص341.
2- (2) من لا یحضره الفقیه ، ج2 ، ص229 .
3- (3) النهایة للشیخ الطوسی /ص285.

فیه من الفضل قال فیه من الفضل کفضل من زار قبر والده یعنی رسول الله صلی الله علیه و آله فقلت فأنی خفت فلم یمکننی أن ادخل داخلاً، قال سلم من وراء الحایر (الجسر، الجدار خ ل)(1)، وفیه دلالة علی التوسعة المکانیة.

رابعاً:- ورد فی حرم سید الشهداء(علیه السلام)، أن الَحیْر حریم للقبر الشریف، وحرمت مدینة کربلاء کحریم للقبر الشریف(2) بل ورد أن لمرقد الحسین(علیه السلام) حریم بمقدار فرسخ من کل جانب من القبر الشریف(3) وهذا یطابق ما ورد مستفیضا، من استجابة الدعاء تحت قبته(4) فإنه لیس المراد من ذلک القبة الطینیة فوق المرقد الشریف، بل قبة السماء، فالواقف عند القبر الشریف یکون امتداد القبة بمقدار امتداد نظره فی الأفق حیث یتماس خط السماء بالارض، وهذا المقدار یساوی الفرسخ تقریباً وهو حوالی خمسة کیلومترات ومن ثم ذهب جملة ممن تقدم، الی التخییر بین القصر والتمام فی تمام مدینة کربلاء(5).

والروایات الواردة فیه کالتالی:

1- مرفوعة منصور بن عباس عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال حرم الحسین(علیه السلام) خمسُ فراسخ من أربع جوانبه.

ص:313


1- (1) الوسائل / ابواب المزار وما یناسبه / الباب 80 ح 4.
2- (2) کامل الزیارات /ص268 /الوسائل ابواب المزار 510/14.
3- (3) التهذیب 6/ 70 ، کامل الزیارات ص456 ، مصباح المتهجد 674-675 ، البحار 101 ص111.
4- (4) الوسائل / الباب 76 من المزار ، الأمالی ص317 المجلس 11/ ح 91.
5- (5) الشیخ الطوسی فی المبسوط / السید المرتضی / وبن الجنید.

أی فتکون حوالی شعاع سبعة وعشرین کلیومتر من کل جانب من جوانب القبر ومثلها مرسلة الصدوق فی الفقیه(1).

2- وما رواه الشیخ الطوسی بسنده عن محمد بن إسماعیل البصری عمن رواه عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: حرم الحسین(علیه السلام) فرسخ فی فرسخ من أربع جوانب القبر(2).

3- وما رواه الشیخ الطوسی بسنده عن محمد بن أحمد بن داود بن الحسن بن محمد عن حمید بن زیاد عن سنان بن محمد عن أبی الطاهر (یعنی الورقاء) عن الحجال عن غیر واحد من أصحابنا عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: التربة من قبر الحسین بن علی(علیه السلام) علی عشرة أمیال(3).

4- ما رواه فی کامل الزیارات بسنده عن محمد بن جعفر عن محمد بن الحسین عن رجلٍ عن أبی الصباح الکنانی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: طینُ قبر الحسین(علیه السلام) فیه شفاء وإن أخذ علی رأس میل(4).

5- وما رواه فی التهذیب بسنده عن سلیمان بن عمر بسراج، عن بعض أصحابه عن أبی عبدالله(علیه السلام): قال یؤخذ طین قبر الحسین(علیه السلام) عن عند القبر علی سبعین ذراعاً(5) ورواه ابن قولویه فی المزار إلاّ أنه قال علی سبعین

ص:314


1- (1) الوسائل ، أبواب المزار ، باب 67 ، ح8.
2- (2) الوسائل ، أبواب المزار ، باب 67 ، ح2.
3- (3) التهذیب ، ج6 ، 136/72.
4- (4) کامل الزیارات ، 275.
5- (5) التهذیب ، 74 : 144/6 ورواه الکافی 588 : 5/4.

باعاً فی سبعین باعٍ (1).

6- وما رواه بسنده عن أبی القاسم جعفر بن محمد عن محمد بن جعفر الرزاز عن محمد بن الحسین ابن أبی الخطاب، عن الحسن بن محبوب عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) یقول: أن لموضع قبر الحسین(علیه السلام) حرمة معروفة من عرفها واستجار بها أُجیر، قلت: فصل لی موضعها، قال: امسح من موضع قبره الیوم خمسة وعشرین ذراعاً من ناحیة رجلیه، وخمسة وعشرین ذراعاً من ناصیة رأسه وموضع قبره من یوم دفنه روضة من ریاض الجنة، ومنه معراج یُعرج فیه بأعمال زواره إلی السماء، وما من ملک فی السماء ولا فی الأرض إلاّ وهم یسألون الله (أن یأذن لهم) فی زیارة قبر الحسین(علیه السلام) ففوج ینزل وفوج یعرج(2).

ورواه الکلینی والصدوق أیضاً.

7- وفی معتبرة عبدالله بن سنان، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: سمعته یقول: قبر الحسین(علیه السلام) عشرون ذراعاً مکسّراً روضة من ریاض الجنة(3) ورواه فی کامل الزیارات /225. وهذا التفاوت فی تحدید المکان مضافاً إلی امکان حمله علی تفاوت الفضل فإنه یشیر أیضاً إلی التوسیع فی حریم وحرمة المکان والمیقات المکانی.

خامساً:- ورد أن الله تعالی یدفع البلاء عن مدینة بغداد، بقبر الإمام

ص:315


1- (1) الباع: مسافة ما بین الکفین أن ابسطهما وهو قدر مد الیدین وما بینهما من البدن (لسان العرب).
2- (2) الوسائل ، أبواب المزار ، باب 67/ح4.
3- (3) الوسائل ، أبواب المزار ، باب 67 ، ح6.

موسی بن جعفر(علیه السلام)(1) وورد أیضاً حرمة مدینة سامراء بقبر العسکریین(علیهماالسلام) (2)، وأن مدینة طوس حرم لمرقد الرضا(3) بل ورد أن مابین الجبلین المحیطین بطوس، جعل حریماً لمرقد الرضا(علیه السلام)(4) ومن ذهب السید المرتضی وابن الجنید وظاهر علی بن بابویه وبعض المتقدمین إلی التخییر فی الصلاة بین القصر والتمام للمسافر فی کل المراقد المطهرة لأهل البیت (علیهم السلام) (5) .

سادساً:- ما ورد من تنزیل زیارة المعصومین (علیهم السلام) من علی سطح المنزل بمنزلة الزیارة عن قرب لمن عجز عن السفر لمانع(6).

سابعاً:- ما ورد فی غسل الاحرام فی مسجد الشجرة، فقد سوّغ الشارع الغسل فی المدینة المنورة لمن یعجز عنه فی مسجد الشجرة(7).

ثامناً:- ورد أنه إذا ضاقت مزدلفة بالحجیج، یسوغ لهم أن یصعدوا إلی الجبل(8) وکذلک فی منی إلی وادی محسَّر(9).

ص:316


1- (1) البحار ج 57 / ص220 / دار احیاء التراث.
2- (2) البحار ج 99 ص59.
3- (3) تهذیب الأحکام ج 6 ص 108.
4- (4) تهذیب الأحکام ج 6 ص 109.
5- (5) جُمل العلم والعمل ( رسائل الشریف المرتضی ) ج3 ص 47.
6- (6) کامل الزیارات / باب 96 ح7.
7- (7) ما رواه الحلبی:/سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الذی یغتسل فی المدینة للاحرام أیجُزیه عن الغسل فی المیقات. قال(علیه السلام) نعم /حوالی اللئالئ ج3 - باب الحج ح28.
8- (8) الوسائل کتاب الحج / ابواب احرام الحج والوقوف بعرفة / باب 11 ح3.
9- (9) نفس المصدر ح4

تاسعاً:- ما ورد فی باب عدم وجوب استلام الحجر وتقبیله وعدم تأکد استحباب المزاحمة علیه واجزاء الإشارة والایماء، وتشیر الی ذلک روایات:

منها:- ما رواه الکلینی عن عدة من اصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسین بن سعید عن صفوان بن یحیی عن سیف التمار قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) اتیت الحجر الاسود فوجدت علیه زحاماَ فلم الق إلاّ رجلاً من أصحابنا فسألته، فقال: لابد من استلامه فقال: إن وجدته خالیا وإلاّ فسلم ((فاستلم) من بعید(1).

منها:- وعنهم عن أحمد بن محمد بن عیسی عن أحمد بن محمد بن أبی نصر عن محمد بن عبید (عبد) الله قال:- سئل الرضا(علیه السلام) عن الحجر الأسود وهل یقاتل علیه الناس إذا کثروا. قال:- إذا کان کذلک فأوم إلیه إیماء بیدک(2).

منها:- محمد بن یعقوب، عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن أبی ایوب الخزاز عن أبی بصیر، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال:- لیس علی النساء جهر بالتلبیة ولا استلام الحجر ولا دخول البیت ولا سعی بین الصفا والمروة یعنی الهرولة(3)، أی یکفیهن الإیماء من بعد للحجر الأسود.

الوجه الثانی: السیرة العقلائیة الممضاة.

تقرر فی السیرة العقلائیة علی أنه هناک حریم فی البقاع المملوکة

ص:317


1- (1) الوسائل الباب 16 من ابواب الطواف / ح4.
2- (2) نفس المصدر /ح5.
3- (3) الوسائل الباب 18 من ابواب الطواف / ح1.

فللدار حریم، وللبئر حریم، وللطریق حریم من جانبیه، وللمدینة حریم من ضواحیها، وضابطة مقدار الحریم أن یکون بحسب الحاجة التابعة له، فلیس یتحددد بقدر یقف علیه ثابت لا یزید ولا ینقص، بل هو یتسع وینقص بمقدار ما تستدعیه الحاجة.

وهذه السیرة العقلائیة لیست خاصة بتوسعة الحریم المکانی.

بل هی جاریة أیضاً بتوسعة الحریم الزمانی، فنراهم یقولون (عام الفیل) و (عام الحزن) و(عام الفتح)، مع أن الحدث المناسبة حدثت فی أیام قلائل، ولم تمتد لکل العام، کما فی وفاة أبی طالب وخدیجة (علیهم السلام) فی عام الحزن.وکذلک یقال أن النبی صلی الله علیه و آله ولد فی شهر ربیع الأول، أو أن أمیر المؤمنین ولد فی شهر رجب مع أن الولادة حدثت فی ساعة واحدة کما روی الصفار بسنده عن حفص الابیض التمار قال دخلت علی أبی عبدالله(علیه السلام) أیام صلب المعّلی ابن الخنیس(1) والحال أن المعلی صلب فی یوم واحد وروی الحمیری عن جعفر عن أبیه(علیهماالسلام) أن علیاً(علیه السلام) کان یأمر منادیه بالکوفة أیام عید الأضحی(2) والحال أن الأضحی یوم واحد.

وفی روایة أخری عن علی بن رافع اخذنا منها موضع الحاجة وهو (وأنا احب أن تُعرنیه أتجمل به فی أیام عید الأضحی)(3) مع أن عید الأضحی یوم واحد ولکن عبُر عنه بایام وهذا یدل علی أن الشارع جعل

ص:318


1- (1) بصائر الدرجات ص423.
2- (2) الکافی 8 / 196 / ج 244.
3- (3) تهذیب الأحکام للطوسی، ج10 / 154، باب من الزیادة.

لتلک الازمنة حریماً زمانیاً عبّر عنها بالایام کما هو کذلک عند العقلاء.

وهذا مما یبرز لنا وجه التوسعة عند العقلاء، فهو لأجل طبیعة التوسعة فی الظرفیة والاسناد الزمانی

وکذلک الحال فی التوسع فی الظرف المکانی، فیقال أن النبی صلی الله علیه و آله ولد فی مکة وکل ذلک نوع من التقریب فی التحقیق، والتحقیق فی التقریب، من جهة تحقق الاسناد وتوسع الظرف وکأن هذا هو المنشأ للارتکاز العقلائی.

وهذه السیرة العقلائیة هی سیرة متشرعیة أیضا، کما اتضح من الامثلة أعلاه.

الوجه الثالث- قوله تعالی وَ ذَکِّرْهُمْ بِأَیّامِ اللّهِ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِکُلِّ صَبّارٍ شَکُورٍ (1) حیث یمکن أن یستنبط منها عرفاً، سواء بحسب الارتکاز العقلائی أو المتشرعی، أن التذکیر الوارد فی الآیة المبارکة، لیس لخصوص الیوم الذی فیه المشهد الإلهی العظیم، بل یشمل الأیام المحتفة به أیضا، فیکون مفاد الآیة الکریمة، الاحتفاء والاحتفال بالمیقات الزمانی الشعیری بما یشمل حریم ذلک المیقات الزمانی، من قبل المیقات ومن بعده.

الوجه الرابع:- قاعدة تعدد مراتب المستحبات:

تُبین هذه القاعدة أن طبیعة المستحبات من حیث الأجزاء و الشرائط و القیود والتی منها الزمان والمکان طبیعة ذات مراتب وتعدد فی المطلوب فی أساس جعلها وتشریعها ومن ثم لا یرتکب الفقهاء عملیة التقیید بین المطلق والمقید ولا عملیة التخصیص بین العام والخاص بل یحملون المقید

ص:319


1- (1) ابراهیم /5.

والخاص علی تعدد مراتب الفضل وأن الشرائط والقیود هی شرائط وقیود کمال ولیست شرائط وقیود صحة فمن ثم یکون مقتضی الظهور الأولی فی باب المندوبات هو علی تعدد المطلوب إلّا أن تقوم قرینة علی خلاف ذلک، وهذا یوسع الزیارة المندوبة زمانا ومکانا، وإن کان الأقرب فالاقرب زماناً ومکانا هو الأفضل فالافضل فی مراتب الفضل والکمال.

الوجه الخامس: (قاعدة المیسور لا یسقط بالمعسور):

هذه القاعدة أو قاعدة ما لا یدرک کله لا یترک جلّه. تنطبق علی المراتب الزمانیة والمکانیة للعمل المقیّد بالزمان والمکان، فیکون الأقرب فالأقرب هو المیسور المقدم.

زبد المخاض: المحصلة من الوجوه:

ویتحصل من هذه الوجوه. هو أن کل موضع زمانی أو مکانی، جُعل فی الشریعة میقاتاً لشعیرة دینیة له حریم یحیط به، یسبقه ویتأخر عنه.

وإن ما علیه المتشرعة فی زماننا من التوسع زماناً ومکاناً بحسب الحاجة فی زیارة الأربعین لسید الشهداء(علیه السلام) أو زیارة عاشوراء أو زیارة أمیر المؤمنین(علیه السلام) أو زیارة الجوادین صلی الله علیه و آله أو زیارة العسکریین صلی الله علیه و آله أو غیرها من مواسم الزیارات العظیمة التی یکون فیها الزحام شدید هذا التوسع مطابق لقاعدة فقهیة شرعیة. متصیدة من الأبواب الفقهیة ومعتضدة بوجوه أخری مفادها (أن لکل میقات زمانی أو مکانی لشعیرة دینیة عبادیة حریم یحیط به یتوسع وبحسب ظرفیة وقابلیة الحاجة إلی الحدود التی تتصل بذلک المیقات).

ص:320

قاعدة :المشی الی العبادة عبادة

اشارة

ص:321

ص:322

المشی الی العبادة عبادة(1)

إنّ فضیلة المشی کعبادة قد وردت فیها طوائف من الروایات الآتیة وهو مسألة قد تداولها الفقهاء بحثاً وتنقیباً وتحقیقاً لاسیما فی کتاب الحج بل إن فی طوائف تلک الروایات ما یدل علی أن المشی له خصوصیة ذاتیة عبادیة بغض النظر عن ما هو غایة للمشی من العبادة الأخری وبغض النظر عن کونه موجباً لزیادة ثواب تلک الغایة العبادیة فهذه حیثیات ثلاث:

الأولی: کون المشی عبادة فی حدّ نفسه.

الثانیة: اتصافه بالمقدمیة للعبادة.

الثالثة: زیادة کمال وثواب الغایة العبادیة التی یتوسط المشی مقدمة لها.

الرابعة: ورود الأمر الخاص بخصوص المشی للحج لبیت الحرام والأمر خاص بالمشی إلی زیارة النبی صلی الله علیه و آله وأهل البیت (علیهم السلام) کزیارة أمیر المؤمنین(علیه السلام) وزیارة الإمام الحسین(علیه السلام) وسائر المراقد المطهرة.

الخامسة: ولا یخفی أن المشی فی مقابل الرکوب یوجب مشقة للنفس کما یشیر إلیه قوله تعالی وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَکُمْ فِیها دِفْ ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْکُلُونَ * وَ لَکُمْ فِیها جَمالٌ حِینَ تُرِیحُونَ وَ حِینَ تَسْرَحُونَ * وَ تَحْمِلُ أَثْقالَکُمْ إِلی بَلَدٍ لَمْ تَکُونُوا بالِغِیهِ إِلاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّکُمْ لَرَؤُفٌ رَحِیمٌ * وَ الْخَیْلَ

ص:323


1- (1) تقریرا لبحث أستاذنا الشیخ السند (دام ظله )، بقلم جناب الأخ عباس اللامی دائم توفیقه .

وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِیرَ لِتَرْکَبُوها وَ زِینَةً (1).

وما یوجب مشقة النفس یضعضع من النفس ویهونها لدی ذاتها فی مقابل الرفاه والنعیم والاستغناء وهو ما یوجب طغیانها واستکبارها کما یشیر إلیه قوله تعالی إِنَّ الْإِنْسانَ لَیَطْغی * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنی (2).

وقوله تعالی فی وصف أصحاب الشمال إِنَّهُمْ کانُوا قَبْلَ ذلِکَ مُتْرَفِینَ (3). وقد ورد فی قوله تعالی طه * ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی (4) فی صحیحة أبی بصیر عن أبی جعفر(علیه السلام) فی ذیل الآیة وکان رسول الله صلی الله علیه و آله یقوم علی أطراف اصابع رجلیه فانزل الله سبحانه وتعالی ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی (5).

وفی معتبرة أخری عن أبی جعفر وأبی عبید الله کان رسول الله صلی الله علیه و آله إذا صلی قام علی أصابع رجلیه حتی تورمتا فأنزل الله تبارک وتعالی طه * ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی (6).

وفی روایة الاحتجاج أنه کان إذا قام إلی الصلاة... ولقد قام صلی الله علیه و آله عشر سنین علی أطراف أصابعه حتی تورمت قدماه واصفر وجهه یقوم اللیل

ص:324


1- (1) سورة النحل : الآیة 5 - 8.
2- (2) سورة العلق : الآیة 6 - 7.
3- (3) سورة الواقعة : الآیة 45.
4- (4) سورة طه : الآیة 1 - 2.
5- (5) الکافی : مجلد 2 ، ص95 ، الوسائل ، الباب 3 من أبواب القیام ، ح2.
6- (6) تفسیر القمی فی ذیل الآیة.

أجمع حتی عوتب فی ذلک فقال الله عَزَّ وَجَلَّ طه * ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی (1) وروی الطبرسی فی مجمع البیان قال روی عن أبی عبدالله(علیه السلام) أن النبی صلی الله علیه و آله کان یرفع أحد رجلیه فی الصلاة لیزید تعبه فانزل الله تعالی طه * ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی فوضعها(2) وفی موثق ابن بکیر عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال أن رسول الله صلی الله علیه و آله بعد ما عظُم أو بعد ما ثقُل کان یصلی وهو قائم ورفع احدی رجلیه حتی انزل الله تعالی طه * ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی فوضعها(3).

وفعله صلی الله علیه و آله ذلک وإن نُهی عنه إلاّ أن وجه الحکمة فیه هو الاجتهاد وحمازة العمل. فإن ثقل العبادة والخضوع یکسر جموح النفس ویضعضعها ویُذهب أنفتها ویطأطأ شموخها إلی خضوع العبودیة لله تعالی وقد ورد استحباب لبس الخشن والثقیل من الألبسة فی الصلاة وهو یؤدی نفس هذا المؤدّی ومنه یتضح کبری عامة فی العبادات أن الجهد والاجتهاد والجد فیها اخضع خشوعاً فی عبادیة العبادة وهذه قاعدة عامة أخری کبری اوسع من القاعدة التی نحن فیها وهی صغری تطبیقیة لها وقد أفتی الأصحاب بها کما وردت النصوص والدلائل من الآیات والروایات بها.

وقال تعالی وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعی لَها سَعْیَها (4) منطبق بعمومه

ص:325


1- (1) الاحتاج ، فی مستدرک الوسائل أبواب القیام الباب ، 2 ، ح2.
2- (2) الطبرسی فی مجمع البیان ، ذیل الآیة طه * ما أَنْزَلْنا....
3- (3) أبواب الوسائل ، الباب 3 ، ح4.
4- (4) سورة الإسراء : الآیة 19.

علی المشی للطاعة وفی صحیح هشام بن سالم عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: ما عبدالله بشیء أفضل من المشی(1).

الفصل الأوَّل: أدلة القاعدة:

وقد وردت طوائف من الروایات دالة علی مفاد القاعدة:

الطائفة الأولی: ما ورد أن مطلق المشی عبادة.

1- صحیحة عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: ما عبدالله بشیء أشد من المشی ولا أفضل(2).

2- روایة الزبیدی: عن فضل بن عمرو، عن محمد بن إسماعیل بن رجاء الزبیدی عن أبی عبدالله(علیه السلام) ما عبدالله بشیء فضل من المشی(3).

3- صحیحة هشام بن سالم قال دخلنا علی أبی عبدالله(علیه السلام) أنا وعتبة بن مصعب وبضعة عشر رجلاً من أصحابنا فقلنا جعلنا فداک أیهما أفضل المشی أو الرکوب فقال ما عبدالله بشیء أفضل من المشی، فقلنا أیما أفضل نرکب إلی مکة فنعجّل فنقیم بها إلی أن یقدم الماشی أو نمشی فقال الرکوب أفضل(4).

وذیل الحدیث وإن کان فی خصوص المشی إلی الحج إلاّ أن صدره

ص:326


1- (1) الوسائل ، أبواب وجوب الحج ، باب 32 ، ح2.
2- (2) الوسائل ، أبواب وجوب الحج ، ب32 ، ح1.
3- (3) نفس المصدر ، ح4.
4- (4) نفس المصدر ، ح4.

واضح هو فی عموم قضیة المشی کقضیة کلیة لا تختص بالمشی إلی الحج فمن ثم کان الصدرُ قضیة عامة فی عموم المشی وبعبارة أخری أن السؤال فی الذیل حول حکم المشی إلی الحج ناشیٌ من الإثارة الحاصل فتقریب عموم الصدر تام بل الصدر وکذلک الروایتین السابقتین دال علی رجحان عبادیة المشی بغض النظر عن کون غایته عبادیة.

وأما فی ذیل صحیحة هشام من ترجیحه الرکوب علی المشی بعد ما ذکر فی صدر الحدیث من رجحان المشی علی الرکوب فهو لأجل نص الروایة أن المشی أفضل إلاّ أن جهات أخری مزاحمة قد تغلب فضیلته کاعمار مکة بالمؤمنین أو المجیء بمزید من الطوائف ونحو ذلک من الأعمال البالغة الرجحان فی مکة وإلاّ فقد روی کما سیأتی أن الحسن(علیه السلام) حجة عشرین مرة ماشیاً من المدینة وکذلک السجاد(علیه السلام) فلابد من ملاحظات الجهات المختلفة.

وتقریب دلالة هذه الطائفة علی عبادیة المشی الذاتیة فضلاً عن ما إذا مقدمة لعبادة أو لطاعة لله هو أن المشی تواضع والتواضع هو الحالة الأقرب لعبودیة العبد شعوره بالفقر والحاجة والضعة إلی الباری تعالی کما أن فی المشی مشقة تکسر جموح وطغیان النفس فکما أن حالة الإنسان التی وصفت فی قوله تعالی: إِنَّ الْإِنْسانَ لَیَطْغی * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنی فکذلک العکس أن الإنسان لیتّضع أن رآه افتقر ومن ثم کان الفقر شعار الصالحین وهذا بنفسه إشارة إلی تقریب وجه عقلی مستقل فی عبادیة المشی الذاتیة.

ص:327

الطائفة الثانیة: ما ورد فی المشی إلی الحج وهی علی ألسن:

اللسان الأول:- وهو دال علی فضیلة المشی إلی الحج علی الرکوب کما فی:

1- معتبرة أبی الربیع الشامی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال ما عبدالله بشیء أفضل من الصمت والمشی إلی بیته(1).

2- معتبرة أبی اسامة عن أبی عبدالله(علیه السلام): قال خرج الحسن بن علی(علیه السلام) إلی مکة سنة ماشیاً فورمت قدماه فقال بعض موالیه لو رکبت لسکن عنک هذا الورم فقال کلا، إذا أتینا هذا المنزل فإنه یستقبلک اسود ومعه دهن فاشتری منه ولا تماسکه الحدیث(2).

3- صحیح الحلبی قال سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن فضل المشی فقال: أن الحسن بن علی(علیه السلام) قاسم ربه ثلاث مرات حتی نعلاً ونعلاً وثوباً وثوباً ودیناراً ودیناراً وحج عشرین حجة ماشیاً علی قدمیه(3).

4- روایة أبی المنکدر عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: قال ابن عباس ما ندمت علی شی صنعته ندمی علی أن لم احج ماشیاً لأنی سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول من حج بیت الله ماشیاً کتب له سبعة آلاف حسنة من حسنات الحرم قبل یا رسول الله وما حسنات الحرم قال حسنة ألف ألف حسنة وقال فضل المشاة فی الحج کفضل القمر لیلة البدر علی سائر النجوم

ص:328


1- (1) الوسائل ، أبو أب وجوب الحج ، باب 32 ، ح7.
2- (2) نفس المصدر ، ح8.
3- (3) نفس المصدر ، ح3.

وکان الحسین بن علی(علیه السلام) یمشی إلی الحج ودابته تقاد وراءه(1).

5- روی المفضل بن عمر عن الصادق(علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) أن الحسن بن علی کان أعبد الناس وازهدهم وافضلهم فی زمانه وکان إذا حج حج ماشیاً ورمی ماشیاً وربما مشی حافیاً(2).

6- روی المفید فی الارشاد بسند متصل عن إبراهیم بن علی قال حج علی بن الحسین(علیه السلام) ماشیاً فسار عشرین یوماً من المدینة إلی مکة(3).

7- ما رواه فی علل الشرائع قال أمیر المؤمنین(علیه السلام) حج آدم سبعین حجة ماشیاً وروی أنه(علیه السلام) أتی البیت ألف آتیة وسبعمائة حجة وثلثمائة عمرة.

صحیح حماد بن عیسی عمن اخبره عن العبد الصالح فی حدیث قال، قال رسول الله صلی الله علیه و آله ما من طائفٍ یطوف بهذا البیت حین تزول الشمس حاسراً عن رأسه حافیاً یقارب بین خطاه ویغض بصره ویستلم الحجر فی کل طوائف من غیر أن یؤذی أحداً ولا یقطع ذکر الله عن لسانه إلاّ کتب له عَزَّ وَجَلَّ له بکل خطوة سبعین ألف حسنة ومحی عنه سبعین ألف سیئة ورفع له سبعین ألف درجة واعتق عنه سبعین ألف رقبة ثمن کل رقبة عشرة آلاف درهم. وشفّع فی سبعین من أهل بیته وقضیت له سبعون ألف حاجة إن شاء فعاجلة وإن شاء فآجلة(4).

ص:329


1- (1) نفس المصدر ، ح9.
2- (2) الوسائل ، أبواب وجوب الحج ، باب 32 ، ح10.
3- (3) نفس المصدر ، ح11.
4- (4) الکافی ، مجلد 4 ، ص412.

اللسان الثانی: ما ظاهره إلی الرکوب للحج أفضل من المشی:

1- صحیح رفاعة وابن بکیر جمیعاً عن أبی عبدالله أنه سئل عن الحج ماشیاً أفضل أو راکباً فقال بل راکباً فإن رسول الله صلی الله علیه و آله حج راکباً. وطریق هذه الروایة مستفیض عن رفاعة(1).

2- صحیح سیف التمار قال قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) أنه بلغنا وکنا تلک السنة مشاة، عنک انک تقول فی الرکوب ؟ فقال(علیه السلام) أن الناس یحجون مشاة ویرکبون فقلت لیس عن هذا اسئلک فقال عن أی شیء تسألنی فقلت أی شیء أحب إلیک نمشی أو نرکب؟ فقال ترکبون احب الی فإن ذلک اقوی علی الدعاء والعبادة(2).

وصریح هذه الروایة أن أفضلیة الرکوب علی المشی إنما هی بلحاظ جهات طارئة أخری کالتحفظ علی القدرة لأجل الدعاء والعبادة فی الحج لا للرجحان الذاتی للرکوب علی المشی ولعل وجه رکوب رسول الله صلی الله علیه و آله هو لأجل أن لا یشق علی أمته فیضعفوا عن أداء مناسکهم وعن جملة من العبادات الراجحة فی الحج أو أن الرکوب فیه جهة تأسی برسول الله صلی الله علیه و آله وإن کان ما فعله رسول الله صلی الله علیه و آله لیس بداعی جعل السنة منه فی ذلک بل من باب ترک المشی الراجح لئلا تقع أمة فی المشقة أو التفریط فیما هو ارجح من العبادات الأخری.

ص:330


1- (1) أبواب وجوب الحج ، باب 33 ، ح4.
2- (2) نفس المصدر ، باب 33 ، ح5.

3- موثق عبدالله بن بکیر قال قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) إنا نرید الخروج إلی مکة فقال لا تمشوا وارکبوا فقلت أصلحک أنه بلغنا أن الحسن بن علی(علیه السلام) حجة عشرین حجة ماشیاً فقال أن الحسن بن علی(علیهماالسلام) کان یمشی وتساق معه محامله ورحاله(1).

ومثله روایة سلیمان عن أبی عبدالله(علیه السلام).

والوجه فی مفاد هذا التعلیل فی هذه الروایة ما سیأتی فی معتبرة أبی بصیر عن الصادق(علیه السلام) أنه سأله عن المشی أفضل أو الرکوب فقال إذا کان الرجل موسراً فمشی لیکون أفضل لنفقته فالرکوب أفضل(2).

ورواه الصدوق فی العلل بسندٍ آخر.

وفی الروایة تصریحٌ بأن أفضلیة الرکوب لا لرجحانه الذاتی علی المشی بل المشی الراجح ذاتاً علی الرکوب وإنما یرجح ویفضل الرکوب لجهاتٍ طارئة أخری لئلا یکون المشی لتقلیل النفقة وفیما کان الرکوب زیادة انفاق للمال فی سبیل الله.

وبذلک یظهر ما فی تعلیل الروایة السابقة من أن حج الإمام الحسن(علیه السلام) ماشیاً لم یکن التقلیل للنفقة بل کان مع بذل کامل لنفقة الرکوب ومن ثم استظهر صاحب الوسائل فی تفسیر الروایة السابقة أن تسوق الرحال والمحامل معه(علیه السلام) الذی أوجب بقاء المشی علی رجحانه

ص:331


1- (1) الوسائل ، أبواب الحج ، باب 33 ، ح6.
2- (2) نفس المصدر ، ح10.

وأوجب معالجة الجهات الطارئة المزاحمة هو لاحتمال الاحتیاج إلیها عند العجز عن المشی أو لیطمئن الخاطر وتطیب النفس بذلک فلا تعانی من المشقة وتعززها بها عن الذل والمهانة الشدیدة فی المشی نظیر ما ورد عن أمیر المؤمنین(علیه السلام) من وثق بماءٍ لم یظمأ ولکونها وسیلة آمنٍ لو واجهه قطاع الطریق والاعداء.

وما یدل علی صحة هذا التفسیر للسان الثانی وأن المشی فی ذاته أفضل من الرکوب لولا الجهات الطارئة ما یأتی فی اللسان الثالث من الروایات الواردة فی لزوم الوفاء بنذر المشی.

اللسان الثالث: فی نذر المشی إنه یلزم الوفاء بع إلا أن یتعب فیرکب، وفی بعض إنحلاله إذا کان مجهداً له.

منها: صحیحة رفاعة بن موسی قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): رجل نذر أن یمشی إلی بیت الله قال: فلیمش، قلت فإنه تعب قال فإذا تعب رکب(1).

ومنها: عن الحلبی قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) رجل نذر أن یمشی إلی بیت الله وعجز عن المشی قال: فلیرکب ولیسق بدنه، فإن ذلک یجزی عنه إذا عرف الله منه الجهد(2).

ومنها: صحیحة ذریح المحاربی قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل

ص:332


1- (1) الوسائل : الباب 34 /ح1.
2- (2) الوسائل : الباب 34 /ح3.

حلف لیحجّن ماشیاً فعجز عن ذلک فلم یطقه، قال فلیرکب ولیست الهدی(1).

ومنها: روایة أبی بصیر، فقال: من جعل لله علی نفسه شیئاً فبلغ فیه مجهوده فلا شیء علیه، وکان الله أعذر لعبد(2).

ومنها: أحمد بن محمد بن عیسی فی (نوادره) عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما علیهما السلام قال: مسألته عن رجل جعل علیه شیئاً إلی بیت الله فلم یستطع، قال: یحج راکباً(3).

وعلی أی تقدیر کلّ هذه الألسن لیس فیها ما یدلّ علی المرجوحیة الذاتیة بل دالّة علی رجحانیة ذات المشی کعبادة.

وخصوص اللسان الثانیة یوهُمْ خلاف ذلک ولکنه غیر تام کما مرّ لأن أفضلیة الرکوب لجهات عارضة مزاحمة، لا تنافی رجحان المشی الذاتی عبادة.

إن قلت: إنّ مفادها مرجوحیّته لکونه ترکاً لسنة رسول الله صلی الله علیه و آله فتعارض اللسان الأول.

قلت: الظاهر عدم المنافاة وذلک إذا أتی بالرکوب تأسّیاً بالنبی صلی الله علیه و آله فقد أدرک الفضل ولکن فعله صلی الله علیه و آله من الرکوب کما مرّ، لعلّه لأجل عدم

ص:333


1- (1) نفس المصدر /ح2.
2- (2) الوسائل الباب /34 من أبواب وجوب الحج /ح7.
3- (3) نفس المصدر /ح9.

إیقاع الأمة فی مشقة المشی لا أن المشی فی نفسه أرجح نظیر ما ورد من الاستقاء فی ماء زمزم فی صحیح الحلبی(1) أنه قال صلی الله علیه و آله «لولا أن أشقّ علی أمتی لاستقیت منها ذنوباً أو ذنوبین» فإنه صریح فی کون الاستقاء، فعلاً راجحاً ولکنه لم یفعله صلی الله علیه و آله لأجل عدم ایقاع الأمة فی المشقة.

وقد روی البرقی بسنده عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: قال ابن عباس ما ندمت علی شیء صنعت ندمی علی انی لم أحجّ ماشیاً لأنی سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول من حجّ بیت الله ماشیاً کتب له سبعة آلاف حسنة من حسنات الحرم قیل یا رسول الله ما حسنات الحرم قال:- حسنة ألف ألف حسنة وقال «فضل المشاة فی الحج کفضل القمر لیلة البدر علی سائر النجوم وکان الحسین بن علی(علیه السلام) یمشی إلی الحج ودابته تقاد وراءه»، ومفادها صریح فی تفصیلة له صلی الله علیه و آله ، المشی علی الرکوب وإنه صلی الله علیه و آله قد أمر بالمشی.

إن قلت: ما الفرق بین فعله صلی الله علیه و آله إنشاءً للتشریع وبین قوله صلی الله علیه و آله فکلیهما بمفاد واحد فلو کانت هناک مشقة لما أمر به صلی الله علیه و آله .

قلت: مفادهما وإن کان واحداً إلاّ أنّ فی فعله صلی الله علیه و آله خصیصة زائدة علی الأمر اللفظی وهی عنوان التأسی به صلی الله علیه و آله لقوله تعالی لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فإنّ هذا العنوان یضیف إلی الفعل ملاکاً زائداً علی الملاک الذاتی الذی فیه بل لو کان الفعل من المباحات العادیات وطرأ علیه عنوان التأسی لکان یحدث فیه ملاکاً أیضاً.

ص:334


1- (1) الوسائل : ابواب أقسام الحج / باب 2 ح4.

إن قلت: فعلی ذلک یشمل التأسی الأفعال العادیة التی کان یأتی بها لا فی مقام التشریع وتبلیغ الأحکام الإلهیة بل ینتهی الأمر حینئذٍ إلی أن کل أفعاله صلی الله علیه و آله لها مدی تشریع.

قلت: إنه مع الاشتراک فی عموم التأسّی هناک فارق بین الافعال العادیة والأفعال التی یأتی بها صلی الله علیه و آله بقصد الانشاء وبقصد تبلیغ أحکام الله فإنّ العادیات لا إنشاء فی إتیانها کمالا رجحان فی ماهیّتها بما هی هی بخلاف الافعال من النمط الثانی کما أنّ العادیات لا یراد بها کلّ فعل یشترک فیها صلی الله علیه و آله مع نوع البشر بل ما تمیز به صلی الله علیه و آله ممّا یدخل فی المکرمات ونحوها.

ثم إن مدرک القول بانحلال أو جواز حلّ النذر إذا قیس متعلّق النذر إلی فعل آخر هو ما ورد(1) فی الیمین من أن الحالف إذا رأی مخالفتها خیراً من الوفاء بها جاز له أن یدعها ویأتی بالذی هو خیر هذا إذا لم تحمل هذه الروایات علی شرطیة عدم مرجوحیة المتعلّق ولو بلحاظ حال المزاحمة بینما الکلام فی أفضلیة الفعل المغایر وإن لم یکن مزاحمة فی البین.

ثمّ إنه لا إشکال فی دلالة الروایات المشار إلیها فی الیمین علی ذلک مضافاً الی دلالة الروایات الورادة فی خصوص النذر. بل الروایات الواردة فی خصوص المسألة مثل صحیح أبی عبید الحذاء، قال سأل أبا جعفر(علیه السلام) عن الرجل نذر أن یمشی الی مکة حافیاً، قال إن رسول الله صلی الله علیه و آله خرج حافیاً

ص:335


1- (1) 18 کتاب الإیمان.

فنظر الی امرأة تمشی بین الأبل، فقال من هذه؟ فقال أخت عقبة بن عامر، نذرت أن تمشی الی مکة حافیة، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله : «یا عقبة إنطلق الی أختک فمرها فلترکب فإن الله غنی عن مشیها وحففیها قال فرکبت» (1).

وقد تعرض الیزدی فی العروة الوثقی الی صور ثلاث فی النذر(2).

الأولی: إذا نذر الحجّ ماشیاً أو نذر الزیارة ماشیاً نذراً مطلقاً عن التقیید بسنة معینة فخالف نذره فحجّ أو زار راکباً حکم المشهور بوجوب الإعادة وعدم الکفّارة لإمکان الامتثال.

نعم عن المحقق فی المعتبر والعلامة فی المختلف والتذکرة والتحریر والمنتهی والإرشاد وظاهر إیمان القواعد احتمال صحة وقوع الحج عن المنذور وحصول الحنث بترک المشی، وکذا حکموا بسقوط القضاء وحصول فیه الحنث فی الصورة الثانیة وهی ما إذا کان التقیید بسنة معینة حیث ذکر فی المختلف (أن یجری فیه ما ذکر فی المطلق لأنه لما نوی بحجّه المنذور وقع عنه وإنما اخلّ بالمشی قبله وبین أفعاله فلم یبقی محل للمشی المنذور لیُقضی إلاّ أن یطوف أو یسعی راکباً فیمکن بطلانهما فیبطل الحجّ والزیارة حینئذٍ إنّ تناول النذر للمشی فیهما) وفی کشف اللثام أنه قوی إلاّ

ص:336


1- (1) الوسائل / باب 34 / أبواب وجوب الحج/ج4.
2- (2) مسألة 31 : إذا نذر المشی فخالف نذره فحج راکباً فإن کان المنذور الحج ماشیاً من غیر تقیید بسنة معیّنة وجب علیه الإعادة ولا کفارة إلاّ إذا ترکها أیضاً وإن کان المنذور الحج ماشیاً فی سنة معینة فخالف وأتی به راکباً وجب علیه القضاء والکفارة ، وإذا کان المنذور المشی فی حج معیّن وجبت الکفارة دون القضاء لقوات محل النذر ، والحجّ صحیح فی جمیع الصور.

أن یجعل المشی شرطاً فی عقد النذر کما فصل فی المختلف وتقریب ما ذکره أنّ نذر الحج ماشیاً أو الزیارة ماشیاً هو النذر لکل من المشی والحجّ والزیارة وحیث السعی والمشی لیس من شرائط صحة الحج والزیارة وإنما هو من المندوبات فی نفسه التی طرفیها قبل الحجّ نظیر السعی لزیارة الحسین(علیه السلام) فإن الثواب علی السعی نفسه بذلک القصد مضافاً للثواب وللزیارة والنذر لا یغیر ماهیة المنذور فی نفسه ولا یتصرف فیه وإنما یتعلق به علی ما هو علیه، ومقتضی ذلک وقوع الحج مصداقاً للحج المنذور أو الزیارة المنذور نظیر ما إذا نذر صیام ثلاثة أیام ولم یصم الثالث فإن الیومین یقعان مصداقاً للصوم المنذور، ویجب علیه قضاء یوم واحد فقط ومن ثم حکم الشیخ الطوسی والمفید فی المحکی عنهما فی مسألة مالو مشی بعضاً أنه یصحّ ما أتی به ماشیاً مصداقاً للنذر ولکن یجب علیه بعد اتیان المشی فی المواضع التی رکب فیها مضافاً إلی ظاهر الروایات الواردة فی نذر مشی الحج نذراً مطلقاً أنه مع عجزه عن المشی لا یسقط وجوب الحج النذری عنه الدال علی التفکیک بینهما فی مقام التحقق.

نعم فی المقام فی الصورة الأولی حیث أن النذر مطلقاً فبإمکانه أداء المشی ولو فی ضمن الحجّ غیر النذری.

وأما صحّة الحج والزیارة فی هذه الصور فلما عرفت من أن المشی لیس من شرائط صحة الحج أو الزیارة ولا النذر یسبّب شرطیة للحج أو الزیارة.

وما استدلّ به علی بطلان الحج المأتی به أمور:

ص:337

أولاً: أن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده وقد تقرّر فی محلّه عدم الاقتضاء بل لا یقتضی عدم الأمر بضدّه أیضاً وإنما یقتضی عدم تعیّن تنجیز ضدّه.

ثانیاً: إن البطلان من جهة أن ما قصد لم یقع وهو الحجّ النذری وما وقع هو حجّ النافلة ففیه:

أ - إنّا نبنی وفاقاً للفاضلین علی صحّته مصداقاً للحج المنذور والزیارة المنذورة فی الصورتین فما قصد قد وقع.

ب - أنّ قصد الأمر النذری لا ملزم له لأن عبادیة الحج الفاضلة وکذا الزیارة، إنما هو بالأمر الندبی المتعلق بهما فی نفسه فی رتبة سابقة علی الأمر النذری والأمر النذری توصّلی فی نفسه ومن ثمة لو بنینا علی عدم صحة ما أتی به عن النذر لکان ما أتی به صحیحاً ندباً.

ج- - أن إتیان الحج أو الزیارة - ولاسیما فی الصورة الثالثة وهو فیما لو نذر المشی فی حجّ معیّن أو زیارة معینة، بأن یکون الحج المعین ظرفاً للمنذور لا جزء المنذور - علّة لتفویت متعلق النذر وعلّة المعصیة وإن لم نلتزم بحرمتها الشرعیة إلاّ أن إیجادها قبیح عقلاً فلا تصحّ عبادةً لأن العبادة یشترط فیها أن یکون صدورها حسناً عقلاً.

وفیه: أنّ الکبری المزبورة وإن کانت متینة إلاّ أنها لا صغری لها فی المقام حیث أنه بالترک قبل أعمال الحج یکون قد حنث فی نذره بإرادته متعمداً لا بأعمال الحجّ والزیارة کما فی ترکه للمشی قبل المیقات وبعد

ص:338

المیقات بعد ما أحرم فی المیقات.

نعم یظهر من الشیخین فیما تقدّم حکایته من قولهما فیما لو رکب بعضاً ومشی بعضاً أن نذر المشی استغراقی لا مجموعی وحینئذٍ لا یسقط بقاءً الخطاب النذری بالمشی أثناء الأعمال وهذا إنما یتأتی فی خصوص الصورة الأولی وهی النذر المطلق وأما الصورتین الآخرتین فیتحقق حنث النذر بمجرد ترک المشی إلی المیقات.

وبعبارة أخری: أن الوفاء بالنذر وعدم حنثه ارتباطی مجموعی لأنه تعهد وحدانی غایة الأمر أن متعلّق النذر إذا کان أفعالاً متعددة مستقلة عن بعضها البعض فی نفسها بحسب مشروعیّتها فی نفسها السابق علی طرو النذر علیها تکون صحّتها بنحو منفک عن بعضها البعض دون مقام الوفاء بالنذر هذا مع أن الصورة الأولی وهی النذر المطلق لا وجه للمعصیة بناءً علی قول الشیخین بعد إمکان الامتثال فیما یُعد تبعیضاً فقولهما فی مقام الامتثال وصحّة الأفعال فی نفسها لا فی مقام الوفاء بالنذر ولک أن تقول إنّ هناک ثلاث جهات:

الأولی: صحّة الافعال فی نفسها.

الثانیة: الوفاء بالنذر وهو مجموعی.

الثالثة: سقوط قضاء النذر وهو لیس بمجموعی أی أنّ سقوط قضاء نذر الحج أو نذرالزیارة أو نذر الصوم غیر معلق علی الوفاء بالنذر بل القضاء معلّق علی ترک الصوم النذری والزیارة النذریة والحج النذری وهو

ص:339

لا یصدق مع اتیان الصوم والحج والزیارة ولو منفرداً عن بقیة الأفعال التی ضمها إلیها فی نذر الصوم أو نذر الحج أو نذر الزیارة فمن ثم تبین انفکاک موضوع القضاء عن عدم الوفاء وقد اتضح مما مر ما ینفع فی تنقیح الحال فی الصورتین الباقیتین.

الصورة الثانیة: إذا نذر الحج أو الزیارة فی سنة معینة فخالف وأتی بهما راکباً فلا یجب قضاءهما کما عرفت للصحة وإن تحقق حنث النذر ووجبت الکفارة.

الصورة الثالثة: إذا نذر الحج أو الزیارة ماشیاً مع الاطلاق من دون تقید فی سنة معینة فیجب علیه إعادة المشی ولو فی حج اجاری أو زیارة اجاری أو غیرهما بعد فرض تحقق الحج النذری بناءً علی عدم تبعض المشی وقد تقدمت الإشارة إلی قولی المفید والطوسی وجماعة بتبعیض المشی فی مقام الامتثال مقام الوجوب کافعال مستقلة متعددة لا فی مقام الوفاء فی النذر أی أن کل خطوة فی السعی إلی الحج صحتها کعبادة غیر مرتبطة بالخطوات اللاحقة کما تفیده الروایات الواردة فی فضیلة المشی وهو متین إلاّ أن منصرف التعبیر فی صیغة النذر هو إلی المشی المتواصل بقرینة زیادة المشقة فمن ثم یکون المنذور حصة خاصة لا مطلق المشی. وقد اتضح بذلک الجهات المتعددة فی نذر المشی لحج بیت الله الحرام واجباً أو مستحباً وکذا فی نذر المشی للزیارة.

وقد یقرب بأن امتثال متعلّق النذر بالمصداق الأفضل من طبیعة النذر مجزئ وبأنه إیجاد للطبیعة الواجبة بالنذر فی ضمن أفضل مصادیقها

ص:340

هذا إذا کان الفرد الأفضل من نفس طبیعة النذر نوعاً أو صنفاً لا ما إذا کانتا متباینتین. کما إذا نذر الصلاة فی مسجد المحلة فأتی بها فی المسجد الجامع أو المسجد الحرام لاسّیما مع الالتفات إلی أن ما هو متعلق بالنذر الأمر الندبی المتعلق به فی نفسه وهو شامل للفرد الأفضل والمفروض أنّ النذر یتعلق بالمتعلق بما هو علیه من المشروعیة ولک أن تضمّ مقدمة ثالثة وهی أن ظهور تعلق النذر فی مقام الانشاء عند التقییّد بفرد هو خصوصیة التقیّد بفرد بمعنی التحدید بعدم کونه دون ذلک لا التحدید بعدم کونه فوق ذلک الفرد، وإلا لکان هذا قیداً ثانیاً وبعبارة أخری إن الأمر الندبی قد تعّلق بالطبیعة ولم یتعلق بالخصوصیة إلّا فی الخصوصیات الراجحة بلحاظ ما دونها لا الخصوصیات التی هی بلحاظ ما فوقها من الأفراد.

إن قلت: فعلی ذلک لو نذر الصیام یوماً فله أن یأتی به فی یوم غیره أرجح منه کصوم یوم النصف من شعبان أو یوم الغدیر مع أنه خلاف النص والفتوی.

قلت: إنّ مورد الکلام فی الطبیعة البدلیة ذات الأمر الواحد بحیث یکون امتثال الأفضل لنفس الأمر وهذا بخلاف الطبیعة الاستغراقیة فإن لکل فرد أمر یخصّه وإنّ تفاضلت الأفراد ویدلّ علی ذلک ما ورد من أن من نذر أن یتزوج أمة فتزوج بنت مهیرة أنّ ذلک وفاء.

وحینئذ یقال فی المقام بمقتضی ما تقدم وإن کان السعی إلی الحجّ مشیاً أفضل من الرکوب إلاّ أنه قد تعرّض کما تقدمّ جهات للمشی توجب رجحان الرکوب علیه فحینئذ یکون السعی بالرکوب أفضل من المشی کما

ص:341

مرّ. إلاّ أن ظاهر طائفة أخری من الروایات کصحیحة رفاعة بن موسی قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): رجل نذر أن یمشی إلی بیت الله قال: فلیمش، قلت: فإنه تعب، قال: فإذا تعب فلیرکب ،وصحیح ذریح المحاربی سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل حلف لیحجن ماشیاً فعجز عن ذلک فلم یطقه.

قال فلیرکب ویسوق الهدی ونظیرهما روایات اخری(1) وصحیح إسماعیل بن همام عن أبی الحسن الرضا(علیه السلام) قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام) فی الذی علیه المشی فی الحج إذا رمی الجمرة زار البیت راکباً ولیس علیه شئ.

وفی صحیحته الأخری عنهم (علیهم السلام) فی الذی علیه المشی إذا رمی الجمرة وزار البیت راکباً وصحیحة السندی بن محمّد عن صفوان الجمّال قال: قلت: جعلت علی نفسی المشی إلی بیت الله الحرام، قال: کفرّ عن یمینک فإنمّا جعلت علی نفسک یمیناً وما جعلته لله فف به(2) وغیرها من الروایات(3) فإن ظاهرها تعیّن المشی فی مقام امتثال نذره، ولعّل وجه عدم أفضلیة الرکوب فی نفسه علی المشی وإنما الأفضلیة بلحاظ جهات أخری کالقوة علی الدعاء واستحباب الانفاق فی طریق الحج ونحوها من الجهات الأجنبیة عن الرکوب الملازمة لها اتفاقاً. فلا تتحقّق صغری الامتثال بأفضل الأفراد لأنها فی موارد أفضلیة الفرد فی نفسه.

فتحصل:- أنّ نذر المشی ینعقد مطلقاً إلاّ أن یطرأ علیه جهات

ص:342


1- (1) ب / 34 أبواب وجوب الحجّ ،ح 1 ، 2.
2- (2) ب /8 أبواب النذر ، ح 4.
3- (3) ب / 21 أبواب النذر و ب 35 أبواب وجوب الحج.

مرجوحة بحیث تکون أقوی من رجحانه الذاتی الذی فیه.

وإلاّ أن یعجز عنه فینحل النذر ویستحب له أن یکفرّ لما تقدم من الروایات الدّالة علیه، هذا کله فی شقوق الصورة الأولی و أمّا فی الصورة الثانیة وهو نذر الحج ماشیاً فقد حکی الماتن الیزدی بانعقاده مطلقاً، وکفایة رجحان المقید وتنقیح الکلام فی المقام یتضح بما قدمّناه فی الصورة الأولی من أن القید إذا کان مباحاً أو راجحاً ینعقد النذر مقصوراً علی تلک الحصة من الطبیعة أو أنّه بشرط لاما دونها من الحصص وأمّا بلحاظ ما فوقها من الحصص فهی بنحو لا بشرط وقد تقدم أنه لو نذر الطبیعة فی ضمن حصّة متشخصة بأوصاف مباحة أو راجحة فإنّه یجوز له امتثال نذر الطبیعة بصحة أرجح بخلاف ما لو نذر الخصوصیة الراجحة أی نذر الرکوب نفسه وکان راجحاً فإنه لا یسوغ له إتیان ما هو أرجح منه إلاّ أن تفرض المزاحمة.

وما فی صحیحة الحذاء من أمر النبی صلی الله علیه و آله برکوب أخت عقبة بن عامر مع کونها ناذرة أن تمشی إلی بیت الله حافیة قضیة فی واقعة یمکن أن یکون لمانع من صحة نذرها لأستلزام کشفها أو تضررّها أو غیر ذلک وهذا ما ذهب إلیه الیزدی(قدس سره)(1) وذهب إلیه الفاضلان وآخرون وتوقف فیه بعض متأخری العصر، وفی الدروس أنه لا ینعقد نذر الحفاء فی المشی للصحیحة وبقصد صحیحة أبی عبیدة الحذاء قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن رجل نذر أن یمشی إلی مکة حافیاً؟ فقال إن رسول الله صلی الله علیه و آله خرج حاجاً فنظر إلی أمرأة

ص:343


1- (1) المسألة 27.

تمشی بین الإبل فقال: من هذه؟ فقالوا أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشی إلی مکة حافیة فقال رسول الله صلی الله علیه و آله «یا عقبة انطلق إلی اختک فمرها فلترکب فإن الله غنی عن مشیها وحفاها قال: فرکبت»(1).

ومثلها معتبرة أبی بصیر علی الأصح ویعارضها صحیحة رفاعة و حفص قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل نذر أن یمشی إلی بیت الله حافیاً؟ قال: فلیمش فإذا تعب فلیرکب(2) وحُملت الصحیحة الأولی علی أنها قضیة فی واقعة نظراً إلی کون فرض المسألة فی امرأة وهی تمشی بین الإبل فالفعل بلحاظها مرجوح فلا یعارض صحیحة رفاعة و حفص.

وأشکل علیه بأنّ حکایة الباقر(علیه السلام) قول رسول الله صلی الله علیه و آله فی تلک الواقعة هو بیان للحکم الکلی للنذر المزبور فکیف یکون مخصوص بتلک الواقعة لاسیّما وأن أبا بصیر قد سأل الصادق(علیه السلام) عن ذلک فأجاب بنفس البیان مضافاً إلی أن الجواب فی صحیحة رفاعة قد یفهم منه الإعراض عن انعقاد النذر بخصوصیة الحفاء وأنّ المنعقد منه هو خصوص المشی.

ولا یشکل علیه بأن لا یفکک بین المقیّد والقید فی انعقاد النذر إذ قد یفهم من قصد الناذر تعدد المطلوب فینعقد علی الطبیعة دون القید لأنه مرجوح أو أنّه إذا أنعقد فلا یلزم إتیان تلک الحصّة بنفسها بل له أن یأتی بحصة أفضل بأن یمشی منتعلاً لکن الصحیح عدم التعارض بین الروایات وذلک لأن مفاد الروایتین الاولیتین لو ابقی علی ظاهره البدوی

ص:344


1- (1) ب / 34 أبواب وجوب الحجّ ح 4.
2- (2) ب 8 کتاب النذر و العهد ، ح 2.

لکن دالاً علی مرجوحیة المشی فی نفسه، مع انه قد تقدمّ رجحانه الذاتی فذلک قرینة علی کون المرجوحیة فی المورد المحکی کونها امرأة بین الرجال واختلاطها بالإبل مما یعرّضها إلی المحاذیر فمن ثمّ أضیف فی تعبیر الروایة المشی المستغنی عنه والحفاء إلیها لا مطلق المشی والحفاء.

ندبیة الأحتفاء فی المشی:

وأما وجه بیان الصادقین(علیهماالسلام) قوله صلی الله علیه و آله فی مقام بیان الحکم الکّلی لنذر المشی حافیاً فهو إشارة إلی عدم انعقاده مطلقاً فیما إذا استلزم المرجوحیة نظیر ما ورد فی المشی نفسه من الحث علی الترک واختیار الرکوب فی قبال الروایات الآمرة به والناعتة له بأفضل العبادة ویشیر إلی فضیلة الحفاء فی المشی إلی العبادة ما ورد من الندب إلیه فی مشی إمام الجماعة إلی صلاة الجمعة کما فی فعل الإمام الرضا(علیه السلام) عندما استدعاه المأمون للصلاة بالناس صلاة الجمعة وکان فعله اقتداء بما فعله النبی صلی الله علیه و آله کما هو مورد الندب إلیه أیضا فی صلاة العیدین والاستسقاء حتی للمأمومین فی الاستسقاء، بل لایبعد فی صلاة الجمعة أیضاً، مضافاً إلی أنه زیادة فی الخضوع والخشوع والذلّ فی مقام السعی إلی مواطن العبادة والوفود إلی الله تعالی.

مضافاً إلی ما ورد فی الحجّ أیضاً من استحباب ترک الترفّه فیه وقد ذکر الماتن الیزدی(قدس سره)فی حج العروة(1) ثلاث حالات لنذر المشی العجز

ص:345


1- (1) مسألة 28.

وأخری الضرر وثالثة الحرج، وهی کما تتأی فی الحج تتأتی فی مطلق نذر المشی لزیارة الأئمة (علیهم السلام) أیضاً.

أماّ الأولی:- (العجز): مضافاً إلی أن اخذها بمقتضی نفس النذر إذ لا یتعلق الإلتزام بغیر المقدور قد دلت الروایات علیه ایضاً الواردة فی خصوص نذر المشی فی الأبواب المشار إلیها آنفاً.

وأما الثانیة:- (الضرر): فبعد تحریم الاضرار بالنفس کما علیه المشهور ولو لم یکن إهلاکاً ونحوه لها، یکون المتعلق مرجوحاً فینحلّ النذر.

وأما الثالثة:- (الحرج): فقد فصّل تارة فیها بین الحرج الابتدائی وبین الحرج الطارئ بعد ذلک وأخری بین الحرج المعلوم والمتوقع للناذر وبین الحرج المجهول فقد ذهب الیزدی قده للتفصیل بکون المجهول مسقطاً دون المعلوم معللّا بأن الحرج لا ینافی المشروعیة لکن اللازم علی ذلک عدم التفصیل والتزام المشروعیة فی کلا الشقیّن من دون عزیمة ومن ثم علّل آخرون هذا التفصیل الأول یراد به التفصیل الثانی وإلاّ لا وجه له بخصوصه وقد یقال بمنع شمول قاعدة الحرج للمقام لعدم شمولها للأحکام الإلزامیة التی ینشئها المکلف علی نفسه بالالتزام الحقیّ کما هو الحال فی العقود وکما لو انشأ المکلف العمرة أو الحج الاستحبابییّن فإنه یلزم باتمامهما ولو کانا حرجیین.

وبعبارة أخری أن فی الالتزامات العهدیة والعقدیة إنشاء حقّ للطرف الآخر ومفاد دلیل الحرج رفع التکلیف عزیمةً لا رفع المفاد الوضعی ولا

ص:346

رفع التکلیف المترتب علیه لأنّ ظاهر أدلّته هو فی التکالیف التی یجعلها الله علی المکلف ابتداءاً.

نعم، قد وردت الأدلة بترخیص ترک النذر مع الحرج الشدید البالغ جدّاً کما فی روایة الرجل الذی نذر المشی ورآه الرسول صلی الله علیه و آله یتهادی بین أبنیه(1) دون الحرج المعتاد الذی هو لازم لطبیعة المشی أو الحفاء، ففی صحیحة رفاعة بن موسی قال:- قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) «رجل نذر أن یمشی إلی بیت الله ؟ قال: فلیمش قلت فإنه تعب قال فإذا تعب رکب» (2).

- أما بالنسبة الی مسألة المبدأ والمنتهی فمقتضی القاعدة هو بحسب قصد الناذر بحسب المبدأ والمنتهی ولکنّه لیس بحسب القصد التفصیلی فقط بل ولا بحسب القصد الإجمالی بل القصد المراد هو القصد الاستعمالی والتفهیمی علی ما هو علیه ومطوی فیه من اجزاء المعنی، ولو إجمالاً.

فمثلاً لو قصد الناذر أو العاقد فی معاوضة أو منشأ لشرط فی المعاوضة قصد عنوان بما له من المعنی والمعنون والمسمّی مع الجهل بتفصیل ماهیة ذلک المعنی وجهله بتمام آثاره تفصیلاً، فإنّ هذا لا یخلّ بحصول القصد ولا یمانع عن مؤاخذته بما للمعنی من مقتضیات.

نعم لو قصد تفصیلاً خلاف ما للمعنی من طبیعة أولیة ودلّل علی ذلک بقید أو لفظ لتعّین ما قصد تفصیلاً ومن ذلک یظهر ما فی کلمات

ص:347


1- (1) ب 34 / أبواب وجوب الحجّ ، ح 8.
2- (2) ب 34 / أبواب وجوب الحجّ ، ح1.

الأعلام فی المقام ونظائرها من الحوالة علی قصد الناذر أو المنشأ حیث إنّ هذه الحوالة تعلیق لا ینفع فی تحدید وبیان ما للمعنی من طبیعة أولیة فالحری هو بیان مقتضی المعنی الدال علیه اللفظة إذ هو محل التردید لا القصد التفصیلی للناذر فیما إذا دلّل علیه بألفاظ وقیود خاصة.فمن حیث المبدأ نُسب إلی الشیخ فی المبسوط أنه من بلد النذر ونسب الشهید الاوّل من بلد الناذر کذلک وآخرین من اقرب البلدین.

وفی کشف اللثام أنه من حیث یبدأ المسیر إلی الحج ولعّل الأخیر هو الأقرب إذ یکون کقرینة حالیة غالباً، کما أنه لا بد من الالتفات إلی حال الأعراف الخاصة التی تشکلّ قرائن حالیة مختلفة فمثلاً فی زماننا هذا الکائن فی الجزیرة العربیة یکون مسیر الحج من مدینته وهذا بخلاف القاطن خارجها من الدول الأخری بعد إقامة فواصل الحدود الجمرکیة فإنه قد ینصرف إلی المشی من المدینة المنورة.

وأمّا من حیث المنتهی:- فتارة ینذر المشی إلی بیت الله الحرام أو الی مشهد الحسین(علیه السلام) وأخری ینذر الحج أو الزیارة ماشیاً وثالثة ینذر المشی إلی مکة أو کربلاء. ویقصد من تلک الالفاظ مع التدلیل علیها بقرائن هو خصوص منتهی حد معین کمشارف مکة أو الوصول إلی بیت الله الحرام ونحو ذلک فیؤخذ بما قصد تفصیلاً، وأما إذا لم تکن هناک قرائن خاصة أو الالفاظ الخاصة بل من قبیل تلک الأمثلة التی ذکرنا ألفاظها المطلقة فهی فی نفسها تحتمل المشی إلی مجرّد الوصول إلی مکة أو کربلاء أو زیارة البیت بعد الاعمال أو زیارة المرقد الشریف أو تمام الاعمال وقد ورد فی تحدید المعنی

ص:348

صحاح متعدّدة وأنه إلی منتهی رمی الجمرة أی جمرة العقبة والمراد به أعمال یوم النحر فی منی فینقطع المشی حینئذ ویزور البیت راکباً.

ففی بعضها فی الذی علیه المشی إذا رمی الجمرة زار البیت راکباً وفی بعضها الآخر إذا حججت ماشیاً ورمیت الجمرة فقد انقطع المشی وفی بعضها زیادة وحلق رأسه وفی بعضها الآخر التقیید برمی جمرة العقبة(1) ولا تنافی بینها لأن زیارة البیت إنما تشرع بعد رمی جمرة العقبة وإتیان أعمال یوم النحر وظاهر هذه الروایات هو تحدید المنتهی بحسب مقتضی طبع المعنی لا أنها محمولة علی ما إذا کان قصد الناذر التفصیلی ذلک فإنه خلاف ظاهر الروایات فکان العمل بها متعیّن.

نعم فی موثّقة یونس بن یعقوب قال سألت أبا عبدالله(علیه السلام) متی ینقطع مشی الماشی قال: إذا أفاض من عرفات(2) وهی کما ذکر صاحب الوسائل الشرط فیها مطلق قابل للتقیید وإن أشکل علیه أنّ مدلولها فی مقام التحدید فتعارض بقیّة الروایات ولکن کفی بذلک رجحاناً لبقیة الروایات دلالةً وعدداً.

وقد تعرّض الیزدی قده فی مسألة الثلاثین من حج العروة فی نذر الماشی إلی صور ثلاث وتتأتی هذه الصو فی نذر المشی الی زیارة الحسین(علیه السلام) أو احد الأئمة (علیهم السلام) :-

ص:349


1- (1) ب 35 من أبواب وجوب الحج.
2- (2) ب 35 من أبواب الوجوب / ح 6.

الصورة الأولی:- ماذا نذر المشی وکان بإمکانه ذلک مع وجود طریق بحری فلا یجوز له حینئذ الرکوب لأنه محالفة للنذر إذ هو کما لو رکب الدابة نعم لو کان قد قیّد نذره بالمشی بالطریق المتعارف لأهل بلده ولو بانصراف الصیغة لذلک لکان متعلق نذره حینئذٍ هو المشی فی المقدار البری للطریق المتعارف کما قد یدّعی ذلک فی أهل السودان والحبشة وهذا استدراک منقطع.

الصورة الثانیة:- ما إذا اضطرّ إلی ذلک لعروض المانع فی سائر الطرق البریة فحکم بسقوط النذر واستدرک علیه بعض المحشین بسقوط خصوص المشی دون الحجّ أو الزیادة وقد یقال بسقوط المشی فی خصوص المقدار البحری دون ما تبقی من المقدار البری کالذی بین المواقیت إلی آخر الأعمال والوجه فی ذلک أنّ النذر تارةً یتعلق بالمشی فی ظرف ما إذا حجّ أو زار المکّلف فإنّه حینئذٍ الوجه ما ذکره الیزدی قده لأن المنذور هو خصوص المشی معلقاً علی حجّة أو زیارته وقد تعذّر. وأُخری ینذر المشی إلی الحجّ أو الزیارة غیر معلّق المشی المنذور علی ظرف الحجّ أو الزیارة، بل یکون مع نذر الحجّ أیضاً کما هو الغالب فی مثل هذا الاستعمال فحینئذٍ یشکل سقوط النذر حیث إنه بتعذر صورة المنذور الأولیة یعدّ هذا بدل له عرفی وشرعی نظیر ما إذا نذر الصلاة نافلة وتعذّر علیه القیام فیجلس أو الرکوع والسجود فیومی ولا ریب أن الحجّ ماشیاً طوال الطریق یکون الحجّ ماشیاً بعض الطریق بدلاً رتبیاً له.

وبعبارة أخری: البدلیة عرفاً بمعنی تعدّد المطلوب بلحاظ أصل

ص:350

الطبیعة ومارتبها کمالاً ونقصاً.

ویستدل له بمعتبرة السکونی عن جعفر(علیه السلام) عن أبیه عن أبائه (علیهم السلام) أن علیاً(علیه السلام) سُئل عن رجل نذر أن یمشی إلی البیت فعبّر (فمرّ) فی المعبر؟ قال(علیه السلام):- فلیقم فی المعبر قائماً حتی یجوزه(1) وقد أشکل علی سند الروایة بضعف السکونی والنوفلی ولکن قد أجیب فی الأعصار الأخیرة کما قاله الشیخ فی العدة أن العصابة عملت باخبار السکونی مضافاً إلی ما ذکره المیرزا النوری فی خاتمة المستدرک من القرائن علی وثاقته عند تعرضه لکتاب الأشعثیات (الجعفریات) ومنه یستفاد وثاقة النوفلی لأن أکثر روایات السکونی هی بتوسط النوفلی مضافاً إلی قرائن أخری علی توثیق حاله.

أما الدلالة: فقد یشکل علیها تارة بعدم ظهورها فی انحصار الطریق فی ذلک وتکون حینئذٍ مطروحة. وأخری بأن ما تضمّنته هو لزوم القیام حال العبور ولا یلتزم بوجوبه، لأنه علی تقدیر عدم سقوط النذر وانحلاله فإنّما هو بتقریب خروج هذا المقدار عن المتعلّق انصرافاً ونحو ذلک فلا یجب القیام مع أنه لیس میسوراً للمشی کی یلتزم ببدلیته.

ویمکن الإجابة عن ذلک بأن عموم الروایة لا یشمل مورداً یکون فیه قطع الطریق. بمقدار کبیر بالوقوف قیاماً ولذا عبّر الراوی بالمعبر والمرور وهذا تتناوله صیغة النذر لاسیما إذا کان یسیراً جداً وظاهر الروایة وجوب القیام کبدل ولیس من اللازم تخریجه کبدل علی مقتضی القاعدة أو

ص:351


1- (1) ب 37 من أبواب الوجوب ،ح 1.

من باب قاعدة المیسور.

الصورة الثالثة: وهو ما إذا کان الطریق منحصر فیه من الأول فحکم الیزدی(قدس سره) بعدم انعقاد النذر وظاهر المحکی عن العلامة أنه ینعقد فی المقدار الممکن مشبه وهو الأقوی لأن النذر ینصرف إلی ذلک المقدار.

نعم إذا فرض جهل الناذر بذلک فیکون حکمه حکم الصورة الأولی کما تقدّم.

الطائفة الثالثة: طائفة من روایات المشی إلی المساجد.

الروایة الأولی: ما رواه محمد بن الحسن باسناده عن محمد بن أحمد بن یحیی، عن یعلی بن حمزة عن الحجال، عن علی بن الحکم، عن رجل، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: من مشی إلی مسجد لم یضع رجلاً رطبٍ ولا یابس إلاّ سبّحت له الأرض إلی الأرضین السابعة. محمد بن علی بن الحسین قال: قال الصادق(علیه السلام) وذکر الحدیث...(1).

الروایة الثانیة: وعن أبیه، عن سعد، عن أیوب بن نوح، عن الربیع بن محمد بن المسلّی عن رجل، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: ما عبدالله بشیء مثل الصّمت والمشی إلی بیته.

الروایة الثالثة: فی (عقاب الأعمال) باسناده تقدم فی عیادة المریض عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: من مشی إلی مسجد من مساجد الله فله بکلّ خطوة خطاها حتی یرجع إلی منزله عشر حسنات، ومحی عنه عشر سیئات ورفع

ص:352


1- (1) تهذیب الأحکام : ج3 ص255 ح706 ، وسائل الشیعة : ب4 من أبواب أحکام المساجد ج1 ج3.

له عشر درجات(1).

الروایة الرابعة: وروی أیضاً (من مشی إلی مسجد یطلب فیه الجماعة کان له بکل خطوة سبعون ألف حسنة ویرفع له من الدرجات مثل ذلک(2).

الطائفة الرابعة: المشی فی حاجة المؤمن:

الروایة الأولی: وعن أبی عبدالله ((علیه السلام):- من مشی فی حاجة أخیه کتب الله له بها عشر حسنات وأعطاه الله عشر شفاعات(3).

الروایة الثانیة: عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: من سعی فی حاجة أخیه المسلم طلب وجه الله کتب الله عَزَّ وَجَلَّ له ألف ألف حسنة یغفر فیها لأقاربه ومعارفه وجیرانه وإخوانه، ومن صنع إلیه معروفاً فی الدنیا فإذا کان یوم القیامة قیل له ادخل النار فمن وجدته فیها صنع إلیک معروفاً فی الدنیا فأخرجه بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ إلاّ أن یکون ناصبیاً(4).

روایة المفضل بن صالح روی عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی غیر مورد، وهی کثیرة منها: ما رواه محمد بن یعقوب بسنده عن محمد بن علی عن أبی جمیلة: قال سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) یقول: «من مشی فی حاجة أخیه ثم لم یناصحه فیها کان کمن خان الله ورسوله وکان الله خصمه»(5).

ص:353


1- (1) الوسائل : أبواب أحکام المساجد / الباب 4 ح3 ، ثواب الأعمال ص259.
2- (2) الوسائل : الباب 1 من أبواب صلاة الجماعة الحدیث 7 - 15.
3- (3) مستدرک الوسائل للنوری ، ج12 ، ص409.
4- (4) وسائل الشیعة ، ج16 ، ص366.
5- (5) الکافی ، ج2 ، کتاب الإیمان والکفر ، 1 ، باب من لم یناصح أخاه المؤمن ، 153.

الطائفة الخامسة روایات (من مشی لصلة رحم ولمطلق الطاعات):

أولاً: وبإسناد الصدوق عن شعیب بن واقد عن الحسین بن زید، عن الصادق(علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن النبی صلی الله علیه و آله فی حدیث المناهی: قال:-

من مشی إلی ذی قرابة بنفسه وماله لیصل رحمه أعطاه الله اجر مائة شهید، وله بکل خطوة اربعون ألف حسنة ومحا عنه أربعین ألف سیئة، ورفع له من الدرجات مثل ذلک، وکان کأنما عبدالله مائة سنة صابراً محتسباً(1).

ثانیاً: وبإسناده عن عماد بن عمرو وأنس بن محمد، عن أبیه جمیعاً عن الصادق(علیه السلام)، عن آبائه - فی وصیة النبی صلی الله علیه و آله لعلی ((علیه السلام) قال: یا علی، لا ینبغی العاقل أن یکون ضاعناً إلاّ فی ثلاث: مرمة لمعاش، أو تزود لمعاد، أو لذة فی غیر محرم - إلی أن قال - یا علی، سر سنتین بر والدیک، سر سنة صل رحمک، سر میلاً عد مریضاً، سر میلین شیع جنازة سر ثلاثة أمیال أحب دعوة، سر أربعة أمیال ذر أخاً فی الله، سر خمسة أمیال أجب الملهوف، سر ستة أمیال انصر مظلوماً وعلیک بالاستغفار(2).

ثالثاً: ما رواه الصدوق بسنده عن سعید بن جبیر بن عباس فی حدیث سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول لو علمتم ما لکم فی رمضان لزدتم الله تعالی ذکره شکراً.

- ثم ذکر أثواباً عظیماً لأول لیلة - ثم قال صلی الله علیه و آله وکتب الله عَزَّ وَجَلَّ لکم الیوم الثانی بکل خطوة تخطونها فی ذلک الیوم عبادة سنة وثواب نبی

ص:354


1- (1) الوسائل : أبواب آداب السفر إلی الحج ، الباب 2 ، ح5.
2- (2) الوسائل : أبواب آداب السفر إلی الحج ، الباب 1 ، ح3.

وکتب لکم صوم سنة(1).

الطائفة السادسة: من مشی فی نیة الخبر أو فعل طاعة:-

منها: فی (التوحید) معتبرة محمد بن أبی عمیر عن حمزة بن حمران عن أبی عبدالله(علیه السلام). قال:-

من همّ بحسنة فلم یعملها کتب له حسنة فإن عملها کتبت له عشراً ویضاعف الله من یشأ إلی سبعمائة(2).

ومنها: محمد بن الحسن فی (المجالس والأخبار) باسناده عن أبی ذر عن النبی صلی الله علیه و آله فی وصیته له قال: یا أبا ذر: همّ بالحسنة وإن لم تعملها لکی تکتب من الغافلین(3).

ومنها: وعن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن جمیل بن دراج عن بکیر عن أبی عبدالله(علیه السلام). أو عن أبی جعفر(علیه السلام): إن الله تعالی قال لآدم(علیه السلام) یا آدم جعلت لک أن من همّ من ذریتک بسیئة لم تکتب علیه. فإن عملها کتبت علیه سیئة. ومن همّ منهم بحسنة فإن لم یعملها کتبت له حسنة وإن هو عملها کتبت له عشراً(4).

الطائفة السابعة: روایات استحباب المشی إلی زیارة الحسین(علیه السلام).

الأولی: عن الحسین بن ثویر بن أبی فاختة، قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام) یا

ص:355


1- (1) أمالی الصدوق ، ص103.
2- (2) الوسائل : أبواب مقدمات العبادات ، الباب 6 ، ح20.
3- (3) الوسائل : أبواب مقدمات العبادات ، الباب ، ح24.
4- (4) نفسه المصدر ، ح8.

حسینُ إنه من خرج من منزله یرید زیارة قبر الحسین بن علی(علیه السلام) إن کان ماشیاً کتب الله له بکل خطوةٍ حسنة ومحا عنه سیئة(1).

الثانیة: عن بشیر الدهّان، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: إن الرجل لیخرج إلی قبر الحسین(علیه السلام) فله إذا خرج من أهله بأول خطوة مغفرةٌ ذنوبه ثم لم یزل یقدّس بکل خطوة حتی یأتیه فإذا أتاه ناجاه الله تعالی فقال: عبدی سلنی أُعطِک ادعُنی أجیبک اطلب منی أُعطیک سلنی حاجة أقضها لک، قال: وقال أبو عبدالله(علیه السلام): وحقّ علی الله أن یعطی ما بذل(2).

الثالثة: عن الحارث بن المغیرة، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال أن لله ملائکة موکلین بقبر الحسین(علیه السلام): فإذا هَمّ الرجلُ بزیارته أعطاهم الله ذنوبه فإذا خطی محوها ثم إذا خطی ضاعفوا له حسانه، فما تزال حسناته تتضاعف حتی توجب له الجنة(3).

عن جابر المکفوف، عن أبی الصامت قال: سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) وهو یقول: من أتی قبر الحسین(علیه السلام) ماشیاً کتب الله له بکل خطوة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سیئة ورفع له ألف درجة، فإذا أتیت الفرات إغتسل وعلّق نعلیک وامشی حافیاً وامشی مشی العبد الذلیل، فإذا أتیت باب الحائر فکبّر أربعاً ثم إمشی قلیلاً ثم کبّر أربعاً ثم أتی رأسه فقف علیه فکبّر

ص:356


1- (1) ثواب الأعمال 116 - 117 ، کامل الزیارات 252 - 253 ، وسائل الشیعة 420/14 ، بحار الأنوار ، 27/101 - 28 و 72.
2- (2) کامل الزیارات : 253 - 254 ، ثواب الأعمال 117. بحار الأنوار : 24/101 ، وسائل الشیعة : 420/14، أبواب المزار ب 37 / ج 28.
3- (3) کامل الزیارات : باب 62 / ج3 /254 ، مستدرک الوسائل ، 246/10.

أربعاً واسأل حاجتک(1).

الرابعة: روایة رفاعة النخاس: عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال اخبرنی أبی أن من یخرج إلی قبر الحسین(علیه السلام) عارفاً غیر مستکبرٍ، وبلغ الفرات ووقع فی الماء وخرج من الماء کان مثل الذی یخرج من الذنوب وإذا مشی إلی الحسین(علیه السلام) فرفع قدماً ووضع أخری، کتب الله له عشر حسنات ومحی عنه عشر سیئات(2).

الخامسة: روایة علی بن میمون الصائغ عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال یا علی زر الحسین(علیه السلام) ولا تدعه قال: قلت ما لمن أتاه من الثواب قال من أتاه ماشیاً کتب الله له بکل خطوة حسنة ومحی عنه سیئة ورفع له درجة الحدیث...(3).

ومثلها روایة سدیر الصیرفی(4).

وفی روایة عبدالله بن مسکان أن لکل خطوة ألف حسنة ویمحی عنه ألف سیئة وترفع له ألف درجة(5).

السادسة: وفی روایة أبی سعید القاضی عند أبی عبدالله(علیه السلام) من أتی قبر الحسین(علیه السلام) ماشیاً کتب الله له بکل قدم یرفعها ویضعها عتق رقبة من

ص:357


1- (1) کامل الزیارات : 254 - 255 ، جامع أحادیث الشیعة ، 432/12.
2- (2) الوسائل ، أبواب المزار ، الباب 59 ، ح4.
3- (3) کامل الزیارات ، باب 49 ، ح6.
4- (4) نفس المصدر ، ح7 - 8.
5- (5) نفس المصدر ، ح7 - 8.

ولد إسماعیل(1).

السابعة: معتبرة بشیر الدهان قال قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) ربما فاتنی الحج فاعرف عند قبر الحسین(علیه السلام) فقال احسنت یا بشیر إیّما مؤمن اتی قبر الحسین(علیه السلام) عارفاً بحقه فی غیر یوم عید کتب الله له عشرین حجة وعشرین عمرة مبرورات مقبولات وعشرین حجة وعمرة مع نبی مرسل أو امام عدل قال قلت کیف لی بمثل الموقف قال فنظر الی مثل المغضب ثم قال لی یا بشیر أن المؤمن إذا اتی قبر الحسین(علیه السلام) یوم عرفة واغتسل من الفرات ثم توجه إلیه کتب الله له بکل خطوة حجة بمناسکها ولا أعلمه إلاّ قال وغزوة(2).

الثامنة: روی ابن قولویه بسند متصل عن قدامة بن مالک عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: من زار الحسین(علیه السلام) محتسباً لا أشرٍ ولا بطراً ولا ریاءً ولا سمعة محصت عنه ذنوبه کما یمحص الثوب فی الماء فلا یبقی علیه دنس ویکتب له بکل خطوة حجة وکل ما رفع قدماً عمرة(3) ورواه الشیخ فی التهذیب(4).

التاسعة: وفی معتبرة أخری لبشیر الدهان سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) وهو نازل بالحیرة وعنده جماعة من الشیعة فأقبل التی بوجهه فقال یا بشیر حجة

ص:358


1- (1) نفس المصدر ، ح9.
2- (2) الکافی ، مجلد 4 ، ص580 ، کامل الزیارات ، الباب 70 ، ح1.
3- (3) کامل الزیارات ، الباب 57 ، ح1.
4- (4) التهذیب ، مجلد 6 ، ص44.

العام قلنا جعلت فداک ولکن عرّفت بالقبر قبر الحسین(علیه السلام) فقال یا بشیر والله ما فاتک شئ من أصحاب مکة بمکة قلت جعلت فداک فیه عرفات فسر لی فقال یا بشیر أن الرجل منکم یغتسل علی شاطئ الفرات ثم یأتی قبر الحسین(علیه السلام) عارفاً بحقه فیعطیه الله بکل قدم یرفعها أو یضعها مائة حجة مقبولة ومعها مائة عمرة مبرورة ومائة غزوة مع نبی مرسل إلی اعداء الله وأعداء الرسول صلی الله علیه و آله (1).

بالطائفة الثامنة: ستحباب زیارة أمیر المؤمنین(علیه السلام) ماشیاً ذهاباً وعوداً:

الروایة الأولی:- محمد بن الحسن باسناده عن محمد بن أحمد بن داود عن محمد بن همام قال: وجدتُ فی کتاب کتبه ببغداد جعفر بن محمد قال: حدثنا عن محمد بن الحسن الرازی عن الحسین بن إسماعیل الصمیری، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: من زار أمیر المؤمنین(علیه السلام) ماشیاً کتب الله له بکل خطوة حجة وعمرة، فإن رجع ماشیاً کتب الله له بکل خطوة حجتین وعمرتین(2).

الروایة الثانیة: وبإسناده عن محمد بن أحمد بن داود، عن أحمد بن محمد المجاور، عن أبی محمد ابن المغیرة عن الحسین بن محمد بن مالک عن أخیه جعفر عن رجاله یرفعه قال: کنت عند جعفر بن محمد الصادق علیهما السلام وقد ذکر أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السلام)؟ فقال: یا ابن مارد من زار جدی عارفاً بحقه کتب الله له بکل خطوة حجة مقبولة وعمرة مبرورة، والله یا ابن مارد ما تطعم النار قدماً تغیرت فی زیارة أمیر

ص:359


1- (1) کامل الزیارات ، الباب 75 ، ح3.
2- (2) الوسائل : الباب 24 / ح1 أبواب المزاد.

المؤمنین(علیه السلام) ماشیاً کان أو راکباً یا ابن مارد اکتب هذا بماء الذهب(1).

الروایة الثالثة: وروی ابن المشهدی عن الحسن بن محمد، عن بعضهم، عن سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمد عن الحسن بن عیسی، عن هشام بن سالم، عن صفوان الجمال قال: لما وافیت مع جعفر بن محمد الصادق(علیه السلام) الکوفة نرید أبا جعفر المنصور قال لی: یا صفوان أنخ الراحلة فهذا قبر جدی أمیر المؤمنین(علیه السلام) فانختها ثم نزل فاغتسل وغیر ثوبه وتخفی، وقال لی: افعل کما افعل، ثم أخذ نحو الذکوات ثم قال لی: قصر خطاک وألق ذقنک إلی الأرض یکتب لک بکل خطوة مائة ألف حسنة، وتمحی عنک مائة ألف سیئة، وترفع لک مائة درجة، وتفضی لک مائة ألف حاجة، ویکتب لک ثواب کل صدیق وشهید مات أو قتل، ثم مشی ومشیت معه وعلینا السکینة والوقار نسبح ونقدس ونهلل إلی أن بلغنا الذکوات وذکر الزیارة إلی أن قال: وأعطانی دراهم وأصلحت القبر(2).

ویُستخلص مما تقدم جملة من آداب المشی والسنن الراجحة المرعیة فیه ولا یخفی أن هذه الآداب لها مسیس بحقیقة وجوهر عبادیة المشی والإخلال بماهیّة عبادیة المشی بحقیقة وجوهر عبادیة المشی والاخلال بها یوجب الاخلال بماهیة عبادیة المشی.

1- الاحتفاء أی المشی حافیاً فقد مرّ فی روایات مستفیضة أن مشی العبادة یزداد ثواباً مع الاحتفاء.

ص:360


1- (1) الوسائل : أبواب المزار ، الباب 23 ، ح3.
2- (2) الوسائل : أبواب المزار ، باب 29 الحدیث 7.

2- دوام ذکر الله علی لسان الماشی.

3- غضّ البصر.

4- عدم الایذاء أو المدافعة لأحد أثناء مشیه فی ما أداء ازدحم المشاة.

5- حسر الرأس لما فیه من حالة التذلل.

6- أن یکون مشیه لا أشراً ولا بطراً، والاشر فی اللغة المرح وفسر الأشر بالبطر أیضاً وهو المتسرع ذو حدة وقیل الأشر أشد البطر ومن معانی البطر التبختر والتجبر وشدة الفرح وکذلک شدة المرح، وقیل الأشر والبطر النشاط للنعمة والفرح بها ومقابلة النعمة بالتکبر والخیلاء والفخر بها وکفرانها بعدم شکرها، وکذلک من معانی البطر: الطغیان عند النعمة وطول الغنی.

7- أن یخلص فی مشیه بنیة الطاعة من الریاء والسمعة.

8- أن یسوق معه محمله مما فیه مؤونته.

9- أن لا یکون مشیه بداعی تقلیل النفقة.

والحمد لله اولا واخرا

ص:361

ص:362

قاعدة :رجحان الشعائر ولو مع الخوف

اشارة

ص:363

ص:364

رجحان الشعائر ولو مع الخوف(1)

رجحان الشعائر الحسینیة ولو مع الخوف علی النفس

الحث علی زیارة الحسین علیه السلام مع الخوف:

وردت روایات مستفیضة فی الحث علی زیارة الحسین(علیه السلام) ولو مع الخوف علی النفس, وقد أشار الشیخ المجلسی فی البحار إلی أن الأسانید الواردة فی ذلک جمة, بل فیها التحذیر من ترک زیارة الحسین من أجل الخوف(2).

وقد استفاد منها جماعة من الفقهاء رجحان عموم الشعائر الحسینیة ولو مع الخوف علی النفس فضلاً عمّا دونه من الأضرار.

وقد ذهب إلی ذلک کل من الشیخ خضر بن شلالّ فی أبواب الجنان(3), والشیخ محمد حسین کاشف الغطاء.

والروایات الآتیة لا تقتصر علی الحث علی زیارة الإمام الحسین(علیه السلام) عند الخوف, بل تشدد ذلک وتوجب الزیارة إجمالاً کما سیظهر, بل ولا

ص:365


1- (1) تقریراً لأبحاث شیخنا الأستاذ السند (دام ظله)، بقلم جناب الأخ السید ریاض الموسوی دام توفیقه.
2- (2) بحار الأنوار: ج10 :98.
3- (3) وسیأتی نقل کلامه والمصدر.

تکتفی بذلک, وإنما ترتقی إلی درجة رابعة وهی التحذیر من ترک الزیارة بسبب الخوف.

ولا یخفی مدی قوة هذه الدلالة علی تأکید رجحان الزیارة کأبرز مصداق فی طبیعة الشعائر الحسینیة ولو مع الخوف علی النفس من الهلاک؛ وأن ملاک الرجحان فی الزیارة والشعائر الحسینیة تُسترخص فیه بذل النفس لإقامة وتشیید تلک الأغراض الشرعیة فی الشعائر.

وکیف لا تُسترخص النفس فی زیارة الحسین(علیه السلام) وإقامة شعائره, وقد استُرخص بذل النفس فی فضیلة دون ذلک بکثیر. کالذی ورد فی النص والفتوی المتفق علیهما عند المشهور أن من قُتل دون ماله فهو شهید کما قال رسول الله صلی الله علیه و آله : (من قتل دون ماله فهو بمنزلة الشهید)(1), مع أن خطب الدفاع عن حرمة الأموال وردع الغیر والعدوان عن الأموال لا یضاهی ولا یقایس بحرمة الولایة لأهل البیت (علیهم السلام) .

- ومن الروایات الواردة:

1- صحیحة معاویة بن وهب, بل هی قطعیة الصدور عنه لکثرة الطرق إلی معاویة بن وهب لکل من الکلینی والصدوق وابن قولویه، بل الأخیر بإنفراده له عدة طرق عن معاویة بن وهب. ومن الطرق ما اشتمل جمیع سلسلته علی رؤساء المذهب؛ کطریق الصدوق عن أبیه عن سعد بن عبد الله عن یعقوب بن یزید عن ابن أبی عمیر عن معاویة بن وهب قال

ص:366


1- (1) الکافی ج52 :5.

عن أبی عبدالله(علیه السلام): قال لی: (یا معاویة, لا تدع زیارة قبر الحسین(علیه السلام) لخوف, فإن من ترک زیارته رأی من الحسرة ما یتمنّی أنّ قبره کان عنده, أما تُحب أن یری الله شخصَک وسوادک فیمن یدعو له رسول الله صلی الله علیه و آله وعلی وفاطمة والأئمة (علیهم السلام) (1).

وقال الشیخ خضر بن شلال: بعد ما ذکر أن الأخبار الواردة فی فضیلة زیارة الحسین(علیه السلام), فائقة حدّ الإحصاء مذکورة فی مطولات الأصحاب وأنه لکثرتها ذکر والد الشیخ المجلسی(2) أن الاحتیاط لکل من زار الحسین أو جدّه أو أباه أو أحد الأئمة (علیهم السلام) فی أول مرة أن لا یقصد الاستحباب بل ینوی القربة المطلقة, أی حیطة للوجوب.

واستحسنه, ثم نقل عنه أنه حمل الأخبار الواردة فی زیارة الحسین مع الخوف والتقیة علی خصوص ما لم یبلغ من الخوف والتقیة إلی مظنّة الضرر وعدم السلامة, أو خصوص ما یُخشی منه فوات العزة والجاه وفوات المال, لا تلف النفس والعِرض الذی قد یکون أعظم من النفوس, وإن احتمل الجواز أیضاً, وخصوصاً فی ابتداء الأمر الذی قد نقول بوجوب زیارة الحسین(علیه السلام) فیه, ولو مع العلم بتلف النفس؛ نظراً إلی أنه من باب حفظ بیضة الإسلام الذی قد کان السرّ فی قدوم الحسین(علیه السلام) وأصحابه علی

ص:367


1- (1) الکافی ج582 :4/ 11ثواب الأعمال: 120/ 44کامل الزیارات/ ابن قولویه/ باب 40/ ح7 ,6 ,5 ,4 ,3 ,2 ,1.باب 45/ ح3.
2- (2) الشیخ خضر شلال فی کتاب أبواب الجنان: 259 - 261.

القتال، مع العلم بما یؤول إلیه الأمر الفظیع حفظ بیضته, وبیان ما قد یخفی علی بعض طغام المسلمین من فسادها)(1).

- وقال المجلسی بعد نقل الروایات الدالة علی أفضیلة زیارة الحسین(علیه السلام), والتی تحث علی زیارته فی الخوف, قال: (لعلّ هذا الخبر (یشیر إلی خبر معاویة بن وهب) بتلک الأسانید الجمّة محمول علی خوف ضعیف یکون مع ظن السلامة, أو علی خوف فوات العزّة والجاه وذهاب المال, لا تلف النفس والعرض, لعمومات التقیة والنهی عن إلقاء النفس إلی التهلکة والله یعلم.

ثم اعلم أن ظاهر أکثر أخبار هذا الباب وکثیر من أخبار الأبواب الآتیة وجوب زیارته(علیه السلام), بل کونها من أعظم الفرائض وآکدها, ولا یبعد القول بوجوبها فی العمر مرّة مع القدرة إلیه کما کان یمیل الوالد العلامة (نوّر الله ضریحه), وسیأتی التفصیل فی حدّها القریب والبعید ولا یبعد القول به أیضاً. والله یعلم)(2).

- وقد شرح هذه العبارة, الشیخ خضر بن شلال فی عبارته قائلاً:

وما قد صَدَر فی السقیفة التی قد أولدت فتنتها ما أولدته من عزل الوصی, المنصوص علیه من الله ورسوله, وغصب الزهراء البتول(علیهاالسلام), وحرب الجمل, وصفین والنهروان, ووقفة الطف التی یهون من أجلها

ص:368


1- (1) أبواب الجنان ص259 - 261.
2- (2) (بحار 10 :98)/ باب: زیارته(علیه السلام) واجبة مفترضة مأمور بها وما ورد من الذنب والتأنیب والتوّعد علی ترکها, وأنها لا تترک من الخوف).

انطباق السماء علی الأرض, وسائر المفاسد التی من أقلّها تقدیم معادن الأُبَن واللؤم, علی معادن العلم والکرم, فتدبّر فی ما قد یستفاد منه حُسن ما ذکره المجلسی من الاحتیاط....

ثم ذکر جملة أخری من الروایات إلی غیر ذلک مما قد یستفاد منه وجوب الإستنابة علی من لم یتمکن من زیارته فی العمر مرة، کما یُندب إلیها فی سائر الأوقات حتی لمن قد کان مصاحباً لنائبه الذی لو کان متعدداً لکان أفضل, وخصوصاً إذا کان من العلماء الذین قد لا یرتاب ذو مسکة فی أن زیارة واحد من أتقیائهم خیر من زیارة عالم من غیرهم(1).

وفی الصحیحة المتقدمة هذا الموضع أیضاً من قول الصادق(علیه السلام) فی دعائه لزوار الحسین: «وأصحبهم, وأکفِهم شرّ کل جبار عنید, وکل ضعیف من خلقِک أو شدید, ومن شر شیاطین الجن والإنس» مما یشیر إلی احتفاف زیارته(علیه السلام) آنذاک بل غالباً وفی معظم الأزمان بمخاطر ومخاوف تهدد الزوّار.

2 - ما ورد من روایات مستفیضة بل متواترة عن الصادق(علیه السلام), بل عن سائر أئمة أهل البیت (علیهم السلام) فی الحث علی زیارة الحسین(علیه السلام) فی عصورهم بالإضافة إلی الحث المطلق علی ذلک؛ حثاً أکیداً, بل والتوبیخ الشدید علی ترکها, مع أن الزیارة فی عصورهم (علیهم السلام) کانت محفوفة بالخوف علی النفس, والمخاطر والملاحقة من بنی أمیة وبنی العباس, بل إن الطریق إلی

ص:369


1- (1) أبواب الجنان/ الباب الرابع/ الفصل الثانی/ بیان فضل زیارة الحسین(علیه السلام): (260).

الحسین(علیه السلام) کان خلال بعض المناطق التی یسکنها النواصب.

بل إن فی هذه الروایات الحثّ الشدید لرؤساء الشیعة, أمثال زرارة, والفضیل بن یسار, وأبان بن تغلب, وأبی الجارود، ومعاویة بن وهب، ومحمد بن مسلم، ویونس بن ظبیان, وعبد الله بن بکیر, وعبد الملک بن حکیم الخثعمی، وهؤلاء رؤساء المذهب والشیعة وممن یظنّ بهم ولا یُفرطّ بهم, ومع ذلک یزجّهم الإمام(علیه السلام) لزیارة الحسین(علیه السلام) مع المخاوف ویعاتبهم عتاباً شدیداً:

3 - ما رواه ابن قولویه بسنده المتصل المُعتبر عن زرارة قال, قلت لأبی جعفر(علیه السلام): ما تقول فی من زار أباک علی خوف. قال(علیه السلام): یؤمنه الله یوم الفزع الأکبر, وتلّقاه الملائکة بالبشارة, ویقال له: لا تَخف ولا تحزن هذا یومک الذی فیه فوزُک»(1).

ولا یخفی دلالة هذه الروایة علی جهات عدیدة,

الأولی: أن زیارة الحسین(علیه السلام) فی زمن الإمام الصادق(علیه السلام) کانت محفوفة بالخوف والمخاطر, وسیأتی الدلالة علی ذلک فی روایات عدیدة, فقد کان الحال کذلک منذ شهادته(علیه السلام) إلی عصر المتوکل العباسی, وإلی زماننا هذا. وسنذکر الأدلة علی هذه الحقیقة التاریخیة بجملة من الروایات الآتیة.

الثانیة: حث الإمام الباقر(علیه السلام) لشخص زرارة علی ذلک, مع أنه من

ص:370


1- (1) ) کامل الزیارات 1 باب 41/ ح1.

رؤوساء المذهب.

4- وفی صحیح آخر لزرارة ومحمد بن مسلم (بل مقطوع الصدور) عن أبی جعفر قال: کم بینکم وبین قبر الحسین(علیه السلام). قال قُلت ستة عشر فرسخاً, أو سبعة عشر فرسخاً, قال: ما تأتونه؟ قلت: لا, قال: ما أجفاکم»(1).

5 - وکذلک فی صحیح الفضیل بن یسار (بل هو مقطوع الصدور): قال: قال أبو عبد الله(علیه السلام): «ما أجفاکم.... یا فضیل, لا تزورون الحسین, أما علمتم أن أربعة آلاف ملک شعثاً غبراً یبکونه إلی یوم القیامة»(2).

6 - ومعتبرة سلیمان بن خالد, قال سمعتُ أبا عبد الله(علیه السلام) یقول: عجباً لأقوامٍ یزعمون أنهم شیعة لنا ویقال (یقولون): إن أحدهم یمرّ به دهراً لا یأتی قبر الحسین(علیه السلام) جفاءً منهم, وتهاوناً وعجزاً وکسلاً, أما والله لو یُعلم ما فیه من الفضل, ما تهاون وما کسل.

قلت: جُعلت فداک وما فیه من الفضل, قال(علیه السلام): فضلٌ وخیر کثیر, أما أوّل ما یصیبه أن یُغفر ما مضی من ذنوبه, ویُقال له: استأنف العَمل»(3).

ص:371


1- (1) الوسائل/ أبواب المزار ب 38/ ح/ 20.کامل الزیارات: باب 97/ ح7.
2- (2) کامل الزیارات/ باب 97/ ح8).الوسائل/ أبواب المزار/ باب38/ ح1).
3- (3) کامل الزیارات/ باب 97/ ح8).(الوسائل/ أبواب المزار/ باب 38/ ح1:).

7 - أیضاً: ما رواه, فی کامل الزیارات بعدة أسانید عن حنّان بن سدیر, وفیها الصحیح, عن أبیه, عن أبی عبد الله(علیه السلام): «یا سدیر, تزور قبر الحسین(علیه السلام) فی کل یوم, قلت: جعلت فداک: لا. قال: ما أجفاکم, فتزوره فی کل جمعة, قلت: لا. قال: فتزوره فی کل شهر, قلت: لا. قال: فتزوره فی کل سنة, قلت: قد یکون ذلک. قال: یا سدیر, ما أجفاکم بالحسین(علیه السلام), أما علمت أن لله ألف ملک شعثاًغبراً, یبکونه, ویرثونه لا یفترون، زواراً لقبر الحسین(علیه السلام), وثوابهم لمن زاره». مع أنه(علیه السلام) یعلم أن سدیراً قاطن فی الکوفة، والطریق مرحلتان من الکوفة إلی کربلاء ویستغرق آنذاک علی الدواب یوماً ومع ذلک فإنه یحثُّه علی الزیارة کل یوم من موضعه.

8 - وفی طریق آخر: «... زره ولا تجفه فإنه سید الشهداء, وسید شباب أهل الجنة»(1).

9 - وفی طریق ثالث: «... إنک لمحروم من الخیر».

وفی متن لطریق رابع, قال: قال لی أبو عبد الله. یا سدیر, تُکثر من زیارة قبر أبی عبد الله. قلت: أنه من الشغل. الحدیث.

- وفی متن لطریق خامس, قال: قال أبو عبد الله: یا سُدیر, وما علیک أن تزور قبر الحسین فی کل یوم جمعة خمس مرات, وفی کل یوم مرة. قلت:

ص:372


1- (1) کامل الزیارات/ باب 97/ 2 ,4 ,9).الوسائل/ أبواب المزار/ باب 38/ ح17 ,18).

جُعلت فداک, إن بیننا وبینه فراسخ کثیرة. الحدیث(1).

وفی متن لطریق سادس قال قال لی أبو عبدالله یا سدیر تکثر من زیارة قبر أبی عبدالله قلت انه من الشغل الحدیث.

وفی متن لطریق سابع قال، قال أبو عبد الله: یا سدیر وما علیک أن تزور قبر الحسین فی کل جمعه خمس مرات، وفی کل یوم مرة، قلت: جُعلت فداک، إن بیننا وبینه فراسخ کثیرة(2).

10- ما رواه فی کامل الزیارات بسنده عن أبی الجارود قال: کم بینک وبین قبر الحسین(علیه السلام), قلت: یوم للراکب, ویوم وبعض یوم للماشی. قال: أفتأتیه کل جمعة, قلت: لا, ما آتیه إلّا فی حین, قال: ما أجفاکم. أما لو کان قریباً منا لاتخذناه هجرة, أی نهاجر إلیه(3).

11 - وفی صحیح محمد بن مسلم, عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: من لم یأت قبر الحسین(علیه السلام) من شیعتنا کان منتَقص الإیمان, منتقص الدین(4). (وإن دخل الجنة کان من دون المؤمنین فی الجنة).

12- فی مصحح هشام بن سالمٌ عن أبی عبدالله(علیه السلام), فی حدیث طویل, قال: أتاه رجل فقال: یا ابن رسول الله, هل یُزار والدک, قال: فقال: نعم, ویصلّی عنده, ویُصلّی خلفه, ولا یُتقدم علیه... قال: فما لمن أتاه؟ قال:

ص:373


1- (1) کامل الزیارات/ باب 97/ 2.
2- (2) کامل الزیارات/ باب 78/ ح
3- (3) کامل الزیارات/ باب 97/ ح11 ,10.
4- (4) کامل الزیارات/ باب 96/ ح5.

الجنة إن کان یأتمّ به.. قال: قلت: فما لمن قُتل عنده, جار علیه سلطان فقتله. قال أول قطرة من دمه یُغفر له بها کل خطیئة, وتُغسل طینته التی خلق منها الملائکة, حتی تخلص کما خلصت الأنبیاء المخلصین. ویذهب عنها ما کان خالطها من أجناس أهل الکفر, ویُغسل قلبه, ویُشرح صدره ویُملأ إیماناً, فیلقی الله وهو مُخلص من کل ما تخالطه الأبدان والقلوب, ویکتب له شفاعة فی أهل بیته وألف من إخوانه, وتولّی الصلاة علیه الملائکة مع جبرئیل وملک الموت. ویؤتی بکفنه وحنوطه من الجنة. ویوسّع قبره علیه, ویوضع له مصابیح فی قبره, ویُفتح له باب من الجنة, وتأتیه الملائکة بالطُرَف من الجنة. ویُرفع بعد ثمانیة عشر یوماً إلی حظیرة القُدس, فلا یزال فیها مع أولیاء الله, حتی تصیبه النفخة التی لا تُبقی شیئاً.. فإذا کانت النفخة الثانیة, وخرج من قبره کان أول من یصافحه رسول الله صلی الله علیه و آله وأمیر المؤمنین(علیه السلام) والأوصیاء, ویبشرونه, ویقولون له إلزَمنا, ویقیمونه علی الحوض, فیشرب منه؛ ویسقی من أحب. قال: قلت: فما لمن حُبس فی إتیانه. قال: له بکل یوم یُحبس ویُغتم فرحة إلی یوم القیامة. فإن ضُرب بعد الحبس فی إتیانه, کان له بکلّ ضربة حوراء؛ وبکل وجع یدخل علی بدنه, ألف ألف حسنة, ویُمحی عنه بها ألف ألف سیئة, ویُرفع له بها ألف ألف درجة, ویکون من محدّثی رسول الله صلی الله علیه و آله , حتی یفرغ من الحساب, فیصافحه حملة العرش. ویُقال له سل ما أحببت, ویؤتی بضاربه للحساب, فلا یُسأل عن شیء, ولا یُحتسب بشیء؛ ویؤخذ بضبعیه حتی یُنتهی به إلی مَلَک یحبوه ویُتحفه بشربة من الحمیم.. وشربة من غسلین,

ص:374

ویوضع علی مقال(1) من نار, فیُقال له ذُق بما قدمت یداک, فیما أتیت إلی هذا الذی ضربته, وهو وفد الله, ووفد رسوله, ویؤتی بالمضروب إلی باب جهنّم, ویُقال له أنظر إلی ضاربک, وإلی ما قد لقی, فهل شفیت صدرک, وقد اقتص لک منه؛ فیقول: الحمد لله الذی انتصر لی ولولد رسوله منه(2).

ویظهر من سؤال هشام بن سالم, وهو من فقهاء أصحاب الصادق والکاظم(علیه السلام), أن زیارة الحسین(علیه السلام) آنذاک بحیث یتعرض الزائر إلی القتل أو السجن أو التعذیب, وأن ذلک کان متعارفاً معهوداً لدی الشیعة, وأن سیرتهم بالزیارة للحسین(علیه السلام) رغم هذه المخاطر هی بدفع وتحریک من الأئمة (علیهم السلام) , لاسیما الباقر والصادق, ومع کونها فی معرض القتل أو الحبس, أو التعذیب والتنکیل, وسیأتی مصححّ الحسین بن بنت أبی حمزة الثمالی, الدالّ علی ذلک.

13 - وروی مثلها بنفس المضمون بطریق مصحح, صفوان الجمّال عن أبی عبد الله(3).

14 - وفی معتبرة زرارة, قال: قلت لأبی جعفر(علیه السلام): ما تقول فیمن زار أباک علی خوف؛ قال: یؤمنه الله یوم الفزع الأکبر, وتلقاه الملائکة بالبشارة, ویقال له: لا تخف ولا تحزن هذا یومک الذی فیه فوزک(4).

ص:375


1- (1) قلی الشیء: أنضجه وشواه حتی ینضج، والمقلی والمقلاة الآلة، جمعها مقالی.
2- (2) کامل الزیارات: باب 44/ ح2.
3- (3) کامل الزیارات: باب 68/ ح3.
4- (4) کامل الزیارات: باب 45/ ح1).

14 - معتبرة یونس بن ظبیان عن أبی عبد الله, قال: قلت له, جُعلت فداک, زیارة قبر الحسین(علیه السلام) فی حال التقیة. قال: إذا أتیت الفرات فاغتسل, ثم ألبس أثوابک الطاهرة, ثم تمر بأزاء القبر وقل: «صلّی الله علیک یا أبا عبد الله, صلّی الله علیک یا أبا عبد الله, صلی الله علیک یا أبا عبد الله, ثلاث مرات, فقد تمت زیارتک»(1).

- وظاهر هذه الروایة بوضوح الحث علی زیارة الحسین(علیه السلام) ولو فی حالة التقیة کما تدل علی ابتلاء الزوار بالخوف الشدید فی ذلک الزمان, ومن ثمّ علّمه(علیه السلام) طریقة للزیارة, یواری فیها توجّهه للقبر الشریف, بأن یمرّ بحذائه من دون أن یتجه إلیه مباشرة.

مع أن یونس بن ظبیان ممّن یحافَظ ویُهتم بسلامته من أصحاب الإمام(علیه السلام).

16 - روی محمد بن مسلم فی حدیث طویل, قال: قال لی أبو جعفر محمد بن علی(علیه السلام):

هل تأتی قبر الحسین(علیه السلام) قلت: نعم, علی خوف ووجل؛ فقال: ما کان من هذا أشدّ فالثواب فیه علی قدر الخوف, ومن خاف فی إتیانه, آمن الله روعته یوم القیامة. یوم یقوم الناس لربّ العالمین, وانصرف بالمغفرة, وسلّمت علیه الملائکة؛ وزاره النبی صلی الله علیه و آله , ودعا له, وانقلب بنعمة من الله

ص:376


1- (1) کامل الزیارات: باب 45/ ح4.- الفقیه ج361 :2/ 1616.- التهذیب ج115 :6/ ح 204.

وفضل لم یمسسه سوء واتبع رضوان الله, ثم ذکر تتمة الحدیث(1).

ومفاد هذه الروایة إطلاق رجحان الزیارة مع مطلق درجات الخوف, وإن بلغ ما بَلَغ, لاسیما مع ما تقدّم من الروایات المستفیضة أن الخوف کان علی النفس, وأهونه السجن والضرب والأذی, فمعرضیة الخوف علی النفس معتادة فی الزیارة آنذاک بکثرة, حتی أن أکثر رؤساء الشیعة من أصحاب الإمام الباقر والصادق(علیه السلام) کانوا ینقطعون عن الزیارة بسبب الخوف عن النفس أو السجن والملاحقة والإیذاء والاستهداف لأشخاصهم, وکذلک سائر الرواة ذوی الفضیلة وکذلک عموم الشیعة؛ ومع ذلک ورد التأکید الشدید علی خصوص رؤسائهم کزرارة ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب, وهشام بن سالم, وعبد الله بن بکیر ومعاویة بن وهب, ویونس بن ظبیان, والحلبی, وعبد الله بن سنان, والمفضل بن عمر وعبد الملک بن حکیم الخثعمی, وغیرهم من أکابر فقهاء الشیعة , ورد التأکید بالالتزام بالزیارة رغم الظروف الصعبة, فضلاً عن عموم الفضلاء وعموم الشیعة.

17 - معتبرة عبد الملک الخثعمی, عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: قال لی: یا عبد الملک, لا تدع زیارة الحسین بن علی(علیه السلام), ومُر أصحابک بذلک».

- ورواها کل من: ابن قولویه فی کامل الزیارات(2). والصدوق فی

ص:377


1- (1) کامل الزیارات: باب 45/ ح5.
2- (2) باب 61/ 6.

ثواب الأعمال والفقیه(1).

18 - وروی ابن قولویه, والکلینی فی الکافی بسند صحیح أعلائی عن محمد بن مسلم عن أبی جعفر الباقر(علیه السلام), قال: مُروا شیعتنا بزیارة قبر الحسین» ثم علّل(علیه السلام) ذلک بأن إتیانه مفترض علی کل مؤمن یقرّ للحسین(علیه السلام) بالإمامة من الله(2).

وظاهر مفاد هذه الصحیحة القطعیة الصدور, حیث أن رواتها کلّهم من زعماء الشیعة. أن توصیة الإمام الباقر(علیه السلام) لمحمد بن مسلم الذی هو من فقهاء الشیعة ومراجعهم فی الکوفة, أن یتصدی لحث عموم الشیعة بإقامة شعیرة زیارة الحسین(علیه السلام) رغم الظروف الصعبة التی فیها المخاطرة فی الأنفس والتعرّض للمصاعب والملاحقة من المسالح (نقاط عسکریة وأمنیة للتفتیش) من الدولة الظالمة الأمویة والعباسیة, والتضییق فی المعیشة علی من یعرف ویشتهر بذلک, کما تقدمت روایات بذلک.. فإن الإمام الباقر(علیه السلام) یعلّل هذا الأمر بأن الزیارة فریضة. وهذا ممّا یشیر بوضوح أن الشعائر المرتبطة بالحسین(علیه السلام), درجة الوجوب فیها - ولو کان کفائیاً, فضلاً عن الوجوب العینی, والتخییری فضلاً عن التعیینی - یفوق ملاک حکم حفظ النفس.

نظیر باب الجهاد بل هو من أعظم أبوابه, لأنه جهاد لإقامة صرح

ص:378


1- (1) 116 - ج347 :2.
2- (2) کامل الزیارات : باب 61/ ح1. الکافی: ج4/ 551.

الإیمان.

ولا یخفی أنه لم یختص هذه التوصیة من الإمام الباقر(علیه السلام) لمحمد بن مسلم الفقیه, بل قد مرّ توصیته(علیه السلام) لعبد الملک بن حکیم الخثعمی, وقد کان عیناً وجیهاً. ذا موقعیة فی الشیعة..

زیارة الحسین(علیه السلام) فی حالة الخوف:

ویدل علی رجحان الزیارة زیارته(علیه السلام) ولو کان هناک خوف علی النفس فضلاً عمّا دونها, جملة من الروایات.

ولا یخفی أن مقتضی مفادها, لیس رجحان الزیارة ومشروعیتها فی هذه الحالة فحسب, بل یستفاد من هذه المادة التشریعیة جملة من التشریعات الهامة فی باب الشعائر الحسینیة, من قبیل درجة الضرر والإضرار المشروع تحمله فی باب الشعائر الحسینیة, کما یستفاد من دلالتها درجة أهمیة الشعائر الحسینیة فی معالم الدین وأرکانه وجملة أخری من الفوائد الصناعیة والفقهیة والمعرفیة التی سنشیر إلیها فی جملة من الأبحاث.

19 - ما رواه ابن قولویه بسند محسّن, عن مسمع بن عبد الملک کردین البصری قال: قال لی أبو عبد الله(علیه السلام): یا مسمع أنت من أهل العراق؟ أما تأتی قبر الحسین(علیه السلام), قلت: لا, أنا رجل مشهور عند أهل البصرة, وعندنا من یتبع هوی هذا الخلیفة, وعدونا کثیر من أهل القبائل من النصّاب وغیرهم, ولست آمنهم أن یرفعوا حالی عند وِلد سلیمان فیمثلون بی، قال لی: أفما تذکر ما صُنع به؟ قلت: نعم. قال: فتجزع. قلت:

ص:379

إی والله واستعبر لذلک. الحدیث(1).

- ولا یخفی أن مبادرته(علیه السلام) لمسمع بحثّه علی زیارة الحسین(علیه السلام) فی ظل ظروف حکم خلفاء بنی مروان وسلیمان بن عبد الملک المروانی, لا تخفی علی الإمام(علیه السلام) شدة وإرهاب السلطة لشیعة أهل البیت (علیهم السلام) , کما لا یخفی علیه وضع وظروف قبائل البصرة آنذاک, ولا یخفی علیه العذر الذی تذّرع به الراوی کسبب لعدم زیارة سید الشهداء(علیه السلام)، ورغم ذلک یبادر(علیه السلام) بالسؤال الاستنکاری علی مسمع من ترکه لزیارة الحسین(علیه السلام). ویعاتبه علی ذلک.

وأن هذه الظروف رغم قساوتها وشدتها, لیست عذراً فی ترک هذا الأمر المطلوب شرعاً.

مع أن الإمام الصادق(علیه السلام) وسائر أئمة أهل البیت شدّدوا فی التزام التقیة, وتجنّب الاشتهار والإذاعة والإفشاء, لما یوجب المخاطرة بالنفس أو بالمؤمنین, ورغم کلّ ذلک فی باب التقیة, إلّا أنه(علیه السلام) لم یر أن التقیة مبرر لترک زیارة الحسین(علیه السلام), ولا عذر فی ذلک. ثم لمّا رأی ضعفاً وتردداً فی الراوی من القیام بالزیارة, لم یترک المجال للانقطاع وترک الارتباط بشعائر سید الشهداء فأخذ یحثه علی طریقة وآلیة أخری للشعائر الحسینیة وهی إقامة العزاء والمأتم وذکر المُصاب ممّا یبین مدی إصرار الشریعة علی الشعائر الحسینیة, بل ولم یکتف(علیه السلام) بالدرجة النازلة من إقامة الشعائر, بل طالب

ص:380


1- (1) کامل الزیارات/ باب 32/ ح7.

الراوی بالجزع رغم ظروف التقیة.

- وهناک روایات کثیرة دالة علی: أن الحالة آنذاک التی صدرت فیها الروایات عن الباقر والصادق(علیه السلام), وقبلهما عن أمیر المؤمنین(علیه السلام), الحاثّة علی زیارة الحسین(علیه السلام), وکذا من مطلقات الروایات الحاثّة علی ذلک؛ صدرت فی ظرف الخوف والشدة.

فبالتالی یکون حثّها, وإن لم یکن منحصراً بذلک الزمن, بل بنحو القضیة الحقیقیة, إلّا أنها واردة فی ذلک الظرف. وهی موجهة فی بادی الأمر إلی زمن صدور النص؛ وعلی هذا الأساس, فکل عمومات الروایات المتواترة والمستفیضة الآمرة بزیارة الحسین(علیه السلام), بل وکذا زیارة أبی الحسن موسی بن جعفر(علیه السلام) هی تحثّ علی الزیارة فی ظرف الخوف, وإن لم تشتمل ألفاظها علی لفظ الخوف صریحاً.

فتکون کافة هذه الروایات هی آمرة, ومشتملة علی طلب الزیارة فی حالة الخوف, ومن تلک الروایات أیضاً:

20 - ما رواه بسنده إلی الحلبی, ولا یبعد اعتباره قال: قال لی أبو عبد الله(علیه السلام) فی حدیث عن قتل الحسین(علیه السلام).. فقال له الحلبی: جُعلت فداک إلی متی أنتم ونحن فی هذا القتل والخوف والشدة.

فقال: حتی یأتی سبعون فرجاً أجواب, ویدخل وقت السبعین فإذا دخل وقت السبعین, أقبلت الرایات تتری کأنها نظام. فمن أدرک ذلک

ص:381

الوقت قرّت عینه. الحدیث(1).

- وأجواب: جمع جوبة, والجوب جمع قطعة القِطع, والجوبة الفجوة بین البیوت والفرجة بین السحاب والجبال, ولعلّ مراده(علیه السلام), أی أن بین کل فرج وآخر انقطاع وتخلل شدة, أو بین کل شدة وشدة انقطاع وفرج فلا یتصل بعضه ببعض.

21 - ما رواه فی محسنة عبد الله بن حماد البصری عن أبی عبد الله(علیه السلام), قال: قال لی: إن عندکم (أو قال: فی قربکم) لفضیلة ما أوتی أحد مثلها, وما أحسبکم تعرفونها کنه معرفتها, ولا تحافظون علیها ولا علی القیام بها, وإن لها لأهلاً خاصة قد سُمّوا لها, وأُعطوها بلا حولٍ منهم ولا قوة, إلّا ما کان من صنع الله لهم, وسعادة حباهم الله بها ورحمة ورأفة وتقدّم. قلت: جعلت فداک, وما هذا الذی وصفته ولم تسمّه؟ قال: زیارة جدّی الحسین بن علی.... إلی أن قال(علیه السلام): لا یأتیه إلّا من امتحن الله قلبه للإیمان وعرّفه حقنا, فقلت له: جعلت فداک, قد کنت آتیه حتی بُلیت بالسلطان وفی حفظ أموالهم, وأنا عندهم مشهور, فترکت للتقیة إتیانه وأنا أعرف ما فی إتیانه من الخیر, فقال: هل تدری ما فضل من أتاه, وما له عندنا من جزیل الخیر, فقلت: لا, فقال: أما الفضل فیباهیه ملائکة السماء وأما ما له عندنا فالترحّم علیه کل صباح ومساء. الحدیث(2).

ثم قال(علیه السلام): بلغنی أن قوماً یأتونه من نواحی الکوفة وناساً من

ص:382


1- (1) کامل الزیارات/ باب 108/ ح5.
2- (2) کامل الزیارات/ باب 108/ ح1.

غیرهم, ونساء یندبنه, وذلک فی النصف من شعبان, فمن بین قارئ یقرأ, وقاص یقص, ونادب یندب, وقائل یقول المراثی. فقلت له: نعم, جُعلت فداک, قد شهدت بعض ما تصف, فقال(علیه السلام): الحمد لله الذی جعل فی الناس من یفد إلینا ویمدحنا ویرثی لنا, وجعل عدونا من یطعن علیهم من قرابتنا وغیرهم یُهدرونهم, ویقبحون ما یصنعون. الحدیث(1).

أی یهدرون دمائهم فهذا تصریح منه(علیه السلام) علی ظرف الزائرین للحسین(علیه السلام) آنذاک ورغم ذلک فهو(علیه السلام) یحث علی الزیارة کشعیرة عظیمة من الشعائر الحسینیة.

22 - ما رواه ابن قولویه بإسناده عن محمد بن سلیمان, عن أبی جعفر الجواد(علیه السلام) فی حدیث, سأل: فأیهما أفضل, هذا الذی قد حجّ حجة الإسلام یرجع فیحج أیضاً, أو یخرج إلی خراسان, إلی أبیک علی بن موسی الرضا(علیه السلام), فیسلّم علیه, قال: بل یأتی خراسان فیسلّم علی أبی الحسن أفضل, ولیکن ذلک فی رجب. ولکن لا ینبغی أن تفعلوا هذا الیوم, فإن علینا وعلیکم خوفاً من السلطان وشنعة(2).

- ومفاد هذا الحدیث وإن کان فی زیارة الإمام الرضا(علیه السلام), وأن الأولی ترک الزیارة مع الخوف؛ إلّا أن فی زیارة الحسین(علیه السلام) الأمر علی العکس, وهو شاهد علی کون زیاراتهم (علیهم السلام) مشتملة علی الخوف من بنی أمیة وبنی العباس.

ص:383


1- (1) باب 108/ ح1).
2- (2) کامل الزیارات (باب 101/ 7).

23 - وروی أیضاً فی الصحیح إلی الحسین بن یسار الواسطی, قال: سألت أبا الحسن الرضا(علیه السلام): ما لمن زار قبر أبیک(علیه السلام): قال, فقال(علیه السلام): زوروه. فقلت: أی شیء فیه من الفضل. قال: له من الفضل کمن زار والده یعنی رسول الله صلی الله علیه و آله .

قلت: فإن خفت ولم یمکن لی الدخول داخله؛ قال: سلّم من وراء الجدار. وفی نسخة بدل (من وراء الحائر)(1).

- وفیه دلالة علی أن زیارة موسی بن جعفر(علیه السلام) فی بغداد کانت علی خوف وتقیة, فکیف بزیارة الحسین(علیه السلام)...

24 - وفی روایة أخری أیضاً, فی طریق مصحح إلی الحسین بن یسار الواسطی قال: قلت للرضا(علیه السلام): أزور قبر أبی الحسن(علیه السلام): فی بغداد؟

قال: إن کان لا بد منه فمن وراء الحجاب»(2), وهو أیضاً دال علی وقوع الخوف فی زیارة موسی بن جعفر(علیه السلام) آنذاک.

وتوصیته(علیه السلام) بالتحفّظ بالتقیة, هو علی خلاف ما ورد عنهم (علیهم السلام) فی زیارة الحسین(علیه السلام) فی الحث علی الزیارة مع الخوف من دون مراعاة التحفظ.

25 - مصحح الحسین بن بنت أبی حمزة الثمالی, قال خرجت فی آخر زمان بنی مروان إلی زیارة قَبر الحسین(علیه السلام) مستخفیاً من أهل الشام حتی

ص:384


1- (1) کامل الزیارات: باب 99: ح6. الوسائل/ أبواب المزار/ باب 80/ ح4. التهذیب ج82 :6/ 161.
2- (2) کامل الزیارات: باب 99/ ح3 - الوسائل/ أبواب المزار/ باب 80/ ح7.

انتهیت إلی کربلاء فاختفیت فی ناحیة القریة, حتی إذا ذهب من اللیل نصفه, أقبلت نحو القبر فلما دنوت منه, أقبل نحوی رجلٌ فقال لی: انصرف مأجوراً فإنک لا تصل إلیه, فرجعتُ فزعاً حتی إذا کان(1) یطلع الفجر, أقبلتُ نحوه حتی إذا دنوت منه, خرج إلیّ الرجل, فقال: یا هذا, إنک لا تصل إلیه؛ فقلت له: عافاک الله. ولم لا أصل إلیه, وقد أقبلتُ من الکوفة أرید زیارته فلا تُحل بینی وبینه, وأنا أخاف أن أُصبح فیقتلونی أهل الشام إن أدرکونی ها هنا......

فأقبلت حتی إذا طلع الفجر, أقبلتُ نحوه, فلم یُحل بینی وبینه أحد فدنوت من القبر, وسلّمت علیه, ودعوت الله علی قَتلته, وصلّیتُ الصبح, وأقبلتُ مسرعاً مخافة أهل الشام»(2).

26 - معتبرة عبد الله بن بکیر, عن أبی عبد الله(علیه السلام), قال: قلت: إنی أنزل الأرجان(3) وقلبی ینازعنی إلی قبر أبیک, فإذا خرجتُ فقلبی وجلٌ مشفق حتی أرجع خوفاً من السلطان والسعاة وأصحاب المسالح؛ وقال: یا بن بکیر, أما تُحب أن یراک الله فینا خائفاً, أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظلّه الله فی ظلّ عرشه؛ وکان محدّثه الحسین(علیه السلام) تحت العرش, وآمنه الله من أفزاع یوم القیامة, یفزع الناس ولا یفزع, فإن فزع وقّرته الملائکة, وسکّنت قلبه بالبشارة»(4).

ص:385


1- (1) . لعله النسخة الأصح (کاد).
2- (2) ) کامل الزیارات: باب 38/ ح2, ح6 ,5.
3- (3) . مدینة من بلاد فارس ولعلها ما تسمی حالیاً أرگان قرب الأهواز.
4- (4) ) کامل الزیارات: باب 45/ ح2.

وقد تقدم معنی المسالح أنها نقاط تفتیش عسکریة أمنیة من الحکم الأموی والعباسی.

وهذه الروایة دالة علی أن حکومة سلطان بنی أمیة وبنی العباس کانت تمانع من زیارة الحسین(علیه السلام) أشدّ ممانعة بالإرهاب الأمنی والعسکری وکانت تقیم شبکات مخابراتیّة, لرصد ومراقبة الطریق إلی الزیارة, والموضع الشریف, وهو المعبّر عنه ب- «السعاة» - کما أنها کانت تقیم سیطرات عسکریة مسلحة علی الطریق. فهذه الروایة تبین بوضوح أن زیارة الحسین(علیه السلام) فی عهد الصادق(علیه السلام) کانت محفوفة بکل هذه المخاطر, کما أشارت إلیه بقیة الروایات السابقة, وتشیر إلی أن الروایات المطلقة الحاثة علی زیارة الحسین(علیه السلام), هی صادر فی هذه الظروف الصعبة وهذا الجو المملوء بالمخاطر. ولا ریب أن تلک الروایات المطلقة الصادرة عن الباقر والصادق(علیه السلام) مستفیضة بل متواترة..

فیتم تقریب الأمر بزیارة الحسین(علیه السلام) مع الخوف علی النفس, فضلاً عن الخوف علی البدن والأطراف والأعضاء والأموال والعرض.

ومن ثمّ یظهر فی هذه الروایة أن ابن بکیر بعد ما ذکر للإمام(علیه السلام) هذه الحالة فی زیارة الحسین(علیه السلام) رغم الخوف علی النفس, والوجل, والإشفاق والاضطراب النفسی, مع کل ذلک حث الإمام علی زیارة الحسین(علیه السلام) ببالغ التأکید والتشدید, وعظیم الأجر الخاص الذی لا یُترقب من سائر الطاعات حتی من القتل فی سبیل الله فی ساحات الجهاد, بل اختص بزیارة الحسین(علیه السلام) ومع أن مثل عبد الله بن بکیر من فضلاء وفقهاء الرواة

ص:386

وتلامذته(علیه السلام) ممن یضن بهم.

27 - موثقة المفضل بن عمر, قال: قال أبو عبد الله(علیه السلام), فی حدیث عن ثواب زیارة الحسین(علیه السلام), وفیه: «.... وکأنی بالمؤمنین یزورونه ویسلّمون علیه, فیقول الله لهم: أولیائی: سلونی فطالما أوذیتم وذللتم واضطُهدتم. فهذا یوم لا تسألونی حاجة من حوائج الدنیا والآخرة إلّا قضیتها لکم, فیکون أکلهم وشربهم فی الجنة. فهذا والله الکرامة التی لا انقضاء لها ولا یُدرک منتهاها»(1).

- وظاهر الروایة حصول الإیذاء والذًلّ والاضطهاد فی الزیارة والطریق إلیها؛ بسبب حکام الجور.

28 - محسنة أحمد بن عبدوس عن أبیه, قال: قلت للرضا: إن زیارة قبر أبی الحسن(علیه السلام) علینا فیها مشقة. وإنما نأتیه فنسلّم علیه من وراء الحیطان, فما لمن زاره من الثواب. قال: والله مثل ما لمن أتی قبر رسول الله صلی الله علیه و آله (2).

29- صحیحة معاویة بن وهب التی رواها الکلینی وابن قولویه والصدوق بأسانید متعددة فیها الصحاح قطعیة الصدور.. قال: استأذنت علی أبی عبد الله(علیه السلام) فقیل لی: ادخل، فدخلت فوجدته فی مصلاّه، فی بیته، فجلست حتی قضی صلاته، فسمعته وهو یناجی ربه، ویقول: یا من

ص:387


1- (1) ) کامل الزیارات: باب 50/ ح3.
2- (2) ) الوسائل/ أبواب المزار/ باب 80/ ح10.

خصّنا بالکرامة، وخصنا بالوصیة، ووعدنا الشفاعة، وأعطانا علم ما مضی، وما بقی، وجعل أفئدة من الناس تهوی إلینا، اغفر لی ولإخوانی، ولزوار قبر أبی عبد الله الحسین(علیه السلام)، الذین أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبةً فی برّنا، ورجاءً لما عندک فی صلتنا، وسروراً أدخلوه علی نبیک صلواتک علیه وآله، وإجابة منهم لأمرنا، وغیظاً أدخلوه علی عدونا، أرادوا بذلک رضاک، فکافهم عنا بالرضوان، واکلأهم باللیل والنهار، واخلف علی أهالیهم وأولادهم الذین خلفوا بأحسن الخلف، واصحبهم واکفهم شر کل جبار عنید، وکل ضعیف من خلقک، أو شدید، وشر شیاطین الإنس والجن. وأعطهم أفضل ما أمّلوا منک فی غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا به علی أبنائهم وأهالیهم وقراباتهم.

اللهم إنَّ أعداءنا عابوا علیهم خروجهم، فلم ینههم ذلک عن الشخوص إلینا، وخلافاً منهم علی من خالفنا. فارحم تلک الوجوه التی قد غیّرتها الشمس، وارحم تلک الخدود التی تقلّبت علی حفرة أبی عبد الله(علیه السلام)، وارحم تلک الأعین التی جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلک القلوب التی جزعت واحترقت لنا، وارحم الصرخة التی کانت لنا، اللهم إنی أستودعک تلک الأنفس، وتلک الأبدان حتی نوافیهم علی الحوض یوم العطش، - فما زال وهو ساجد یدعو بهذا الدعاء، فلما انصرف قلت: جعلت فداک، لو أن هذا الذی سمعت منک کان لمن لا یعرف الله، لظننت أن النار لا تطعم منه شیئاً، والله لقد تمنّیت أن کنت زرته ولم أحج، فقال لی: ما أقربک منه، فما الذی یمنع من إتیانه، ثم قال: لِمَ تدع ذلک؟ قلت: جعلت

ص:388

فداک، لم أدر أن الأمر یبلغ هذا کلّه، قال: یا معاویة، من یدعو لزواره فی السماء أکثر ممن یدعو لهم فی الأرض) (1).

30 - مارواه الکلینی فی حسنة الحسن بن عباس بن الحریش , عن أبی جعفر(علیه السلام) فی حدیث , قال : ( ... ولا أعلم فی هذا الزمان جهاداً إلّا الحج والعمرة والجوار )(2) .

أی جوار البقاع المقدسة ومراقد الأئمة (علیهم السلام) .

- ویتحصل من هذه الروایات المستفیضة، بل هی مع جملة الروایات المطلقة تکون متواترة، بأن زیارة الحسین(علیه السلام) باعتبارها من أبرز الشعائر الحسینیة، فلا یقوی علی رفع مطلوبیتها، الخوف من هلاک النفس، فإن ملاکها أعظم من ملاک حفظ النفس، کما هو الحال فی الجهاد فی سبیل الله وغیره، بل یظهر من هذه الروایات المستفیضة والمتواترة أن باب زیارته من أعظم أبواب الجهاد، فی سبیل الله. وفی سبیل الإیمان فی قبال الجاحدین والمعاندین، الذین یریدون أن یطفئوا نور الله وهو الإیمان، وبعبارة أخری أن زیارة سید الشهداء(علیه السلام) - کشعیرة من الشعائر لا یُنظر إلیها من الخصوصیة الفردیة وأن الزیارة مستحبة، فکیف تُقدَّم علی حفظ النفس من الهلاک الذی هو واجب، وهو أعظم من کثیر من الواجبات، فکیف یتم هذا بحسب قواعد وصناعة الفقه؛ والجواب:

ص:389


1- (1) الکافی ج583 :4 - کامل الزیارات: باب 2/40.
2- (2) الکافی ج251 :1 -

أن زیارة الحسین وبقیة الشعائر المرتبطة به(علیه السلام)، بل والمرتبطة بأهل البیت (علیهم السلام) من زیاراتهم والشعائر المرتبطة بهم، هی متضمنة لطبائع واجبة، نظیر إقامة وحفظ الولایة، ونشر نور الإیمان، وهدایة البشر، وإقامة فریضة التولّی والتبرّی، وتجدید العهد بولایتهم ومحبتهم، والبیعة لهم، إلی غیر ذلک من طبائع الواجبات المرتبطة، ببیضة الدین والإیمان، فکیف لا تقدّم هذه الواجبات علی حفظ النفس. ومن السطحیة بمکان ملاحظة الطبیعة الفردیة للشعیرة کزیارة ونحوها من نماذج أفراد وأصناف الشعائر الحسینیة، أو شعائر أهل البیت (علیهم السلام) مع الإغفال عن جملة الطبائع الواجبة العظیمة، المرتبطة بأصول الدین وأرکانه، والمنطویة فی الشعائر الحسینیة تضمناً.. وقد وقع فی هذه الغفلة، عدة کثیرة من أصحاب النظر والأعلام.. وقد ذکرنا شطراً وافراً من هذه النکتة الصناعیة فی مبحث (أحکام العتبات المقدسة).

ثم لا یخفی أنه فی جملة کثیرة من هذه الروایات المتقدمة التعلیل بعموم أهمیة الملاک والمصلحة الشامل لکل الشعائر المضافة لأهل البیت (علیهم السلام) .

- نظیر قوله(علیه السلام): (أما تحب أن یراک الله فینا خائفاً) .

الذی قد مر تحت رقم الحدیث (26)

الدال علی عموم موضوع الحکم وهو لیس لزیارتهم (علیهم السلام) فحسب, بل لکل شعیرة تضاف إلیهم (علیهم السلام) . وبالتالی یدل علی رجحان الشعائر الحسینیة ولو مع الخوف علی النفس .

ص:390

قاعدة :عمارة مراقد الأئمة فریضة شرعیة هامة

اشارة

ص:391

ص:392

عمارة مراقد الأئمة فریضة شرعیة هامة(1)

هناک بقاع مقدّسة مبارکة، تُعظّم ویتقرّب فیها إلی الله سبحانه وتعالی.. وقد قال عَزَّ وَجَلَّ: فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (2).

ففی هذا البحث نحاول إثبات أن عمارة قبور النبی صلی الله علیه و آله وقبور عترته، هی من أرکان ومعالم الدین، باعتبارها مشاعر إلهیة.

وتمهیداً نذکر النقاط التالیة:

النقطة الأولی: إن ما یُقرّر من وجوب عمارة المسجد الحرام - ومکة المکرمة علی مدار السنة وما بقی الدین, کما ورد بذلک الآیات والروایات وضرورة الدین - , فإنه یقرّر کذلک فی عمارة قبر النبی صلی الله علیه و آله , وقبور الأئمة (علیهم السلام) سواء فی البقیع أم فی العراق أم فی خراسان.

النقطة الثانیة: کما أن فریضة عمارة المسجد الحرام تشتمل علی جملة من الواجبات وفصول من الوظائف, نظیر عمارة مدینة مکة لاستقبال الحجیج والزائرین علی مدار السنة من دون اختصاص ذلک بموسم الحج الذی یستمر ثلاثة أشهر, إذ موسم العُمرة لا یُحدّ بحدّ, بل هو ممتد علی

ص:393


1- (1) تقریراً لأبحاث شیخنا الأستاذ السند (دام ظله)، بقلم جناب الأخ السید ریاض الموسوی دام توفیقه.
2- (2) النور: 36.

مدار السنة؛ کذلک الحال فی قبر النبی صلی الله علیه و آله والمدینة المنورة وقبر أمیر المؤمنین(علیه السلام) فی مدینة النجف الأشرف والکوفة, وبقیة قبور الأئمة(علیهم السلام) والمدن الواقعة فیها, عمارةً لتلک المدن ولتلک المراقد والقیام بتسهیل السُبل للزیارة وبقیة الشعائر والطقوس التی تقام فیها, علی مدار السنة فضلاً عن المواسم الخاصة.

أدلة القاعدة:

ولتقریب هذه القاعدة: أولاً نستعرض الأدلة الواردة بشأن مکة المکرمة والمدینة المنورة علی هذه الفریضة الکبیرة .

أما الآیات:

الآیة الأولی: قوله تعالی: أَ جَعَلْتُمْ سِقایَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ کَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِی سَبِیلِ اللّهِ (1).

ومفاد الآیة یقرّر فریضیة عمارة المسجد الحرام, ورعایة الحاج فی تمام شؤون الرعایة, وإن کانت فی صدد أعظمیة فریضة الإیمان والجهاد علی فریضة العمارة والرعایة..

والآیة الکریمة توجز هذه الفریضة فی شعبتین هامتین:

الأولی: عمارة المسجد الحرام.

الثانیة: رعایة خدمات الحاج وخدمة الزائر لبیت الله الحرام وهذان

ص:394


1- (1) التوبة: 9

عمودان أساسیان فی هذه الفریضة.

الآیة الثانیة: قوله تعالی: وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَیْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی وَ عَهِدْنا إِلی إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ أَنْ طَهِّرا بَیْتِیَ لِلطّائِفِینَ وَ الْعاکِفِینَ وَ الرُّکَّعِ السُّجُودِ .

وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَ إِسْماعِیلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّکَ أَنْتَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ (1).

وهاتان الآیتان تدلان علی جملة من الوظائف فی هذه القاعدة والفریضة.

1 - جَعل البیت الحرام مثابة للناس أی مکاناً یُقصد ویُؤتی ویؤم, ویُشد الرحال إلیه وهذا نمط من عمارته وإحیائه باستمرار وفود الناس إلیه.

2 - توفیر الأمن فیه وکونه أمان ومأمن لجمیع الناس من دون استثناء لحرمة الاستجارة بالحرم.

3 - اتخاذه مقام ومحل عبادة وصلاة.

4 - القیام بتطهیره ونظافته وتهیئته للزیارة والمکث فیه والصلاة.

5 - بناء عمارته, وتشییده.

وهذه الخمسة من الواجبات تفصیل للواجبین الذین مرّا فی الآیة السابقة.

الآیة الثالثة: قوله تعالی: رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی

ص:395


1- (1) البقرة : 127 ,125.

زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ یَشْکُرُونَ (1).

وهذه الآیة تبیّن أن من الأمور وأشکال الأعمال المفترضة فی فریضة عمارة المسجد الحرام ورعایة الحجیج.

6 - هو القیام بإسکان المجاورین والمقیمین لاسیما الصالحین.

7 - إنشاء عمران المدینة السکنیة لأن ذلک یوطّأ ویمهد لرعایة الزائرین والحجاج.

8 - إضافة إلی إقامة الصلاة فإنها من مقومات عمارة المسجد الحرام.

9 - تسهیل مجیء الزائرین.

10 - توفیر تموین الطعام للمجاورین والزائرین فیحصل بذلک عمارة البلد.

الآیة الرابعة: قوله تعالی: إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبارَکاً وَ هُدیً لِلْعالَمِینَ فِیهِ آیاتٌ بَیِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِیمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ کانَ آمِناً (2).

وتفید الآیة الکریمة:

11 - تشعیر البیت الحرام من قبل ربّ العالمین سبحانه وتعالی

ص:396


1- (1) إبراهیم: 37.
2- (2) آل عمران: 97 ,96.

کموطن عبادة أبدی.

12- ومرکز نبراس للهدایة ویندرج فی ذلک مطلق الأنشطة التعلیمیة والتربویة التثقیفیة والدینیة.

الآیة الخامسة: وقوله تعالی: جَعَلَ اللّهُ الْکَعْبَةَ الْبَیْتَ الْحَرامَ قِیاماً لِلنّاسِ (1) ومفادها, نظیر ما تقدم من الآیات فی مشعریة البیت الحرام, وإنه مرکز لتوافد الناس علیه, وکونه قائم ومعموراً بذلک إلی یوم القیامة.

الآیة السادسة: وقوله تعالی: وَ یَصُدُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِی جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً الْعاکِفُ فِیهِ وَ الْبادِ وَ مَنْ یُرِدْ فِیهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِیمٍ (2).

(العاکف), هو الساکن المقیم بمکة والبادی هو الزائر الوارد.

13 - ومفاد هذه الآیة الکریمة استحقاق جمیع الناس من المسلمین زیارة البیت الحرام والوفود إلیه والإقامة فیه, وأن هذا الاستحقاق متساوی فیه المجاور والآفاقی.

ویعزّز هذا الحکم، بحرمة الصدّ عنه، وقد استدل جملة من الفقهاء بهذه الآیة علی حرمة تملک أراضی مکة وحرمة إجارتها لاستواء استحقاق الناس لها بمقتضی الآیة, وأنه لا ینبغی أن یُمنع الحاج شیئاً من دور مکة

ص:397


1- (1) المائدة: 97.
2- (2) الحج: 25.

ومنازلها(1).

وفی الروایة عن الصادق(علیه السلام): فقال: فکانت مکة لیس علی شیء منها باب, وکان أول من علّق علی بابها المصراعین معاویة بن أبی سفیان ولیس ینبغی لأحدٍ أن یمنع الحاج شیئاً من الدور ومنازلها(2).

- وحکی فی المختلف (العلامة الحلّی) عن کتاب الجمل للسید المرتضی, المنع من التقصیر (ووجوب الإتمام تعییناً) فی الصلاة فی مکة المکرمة, ومسجد النبی صلی الله علیه و آله ومشاهد الأئمة (علیهم السلام) القائمین مقامه, وکذا حکی عن ابن الجنید أنه قال: والمسجد الحرام لا تقصیر فیه علی أحد لأن الله(عزوجل) جعله سواء العاکف فیه والبادی.

واستدلّ فی منتهی المطلب, لاستواء استحقاق الناس فی مطلق المساجد, وإن اعتاد أحدهم الجلوس فی موضع خاص استدلالاً بالآیة الکریمة(3). ویظهر من المسالک أن هذا الاستدلال اعتمده الکثیر من

ص:398


1- (1) الخلاف للشیخ الطوسی ج189 :3/ مسألة 313.- المبسوط ج384 :1/ فصل فی الزیارات من فقه الحج.ج167 :2/ باب ما یصح بیعه وما لا یصح.- النهایة للشیخ الطوسی: 284/ باب آخر من فقه الحج.- المهذب لابن براج, ج273 :1/ فی أحکام الحرم.- السرائر لابن إدریس ج644 :1.- تذکرة الفقهاء ج442 :8 - ج39 :10.- المختلف ج367 :4 - ج60 :5.
2- (2) التهذیب ج420 :5/ ح1 ص1457.
3- (3) (المنتهی: باب صلاة الجمعة).

الأصحاب(1).

وفی زبدة البیان للأردبیلی حکی, أن الإلحاد فی الحرم منع الناس من عمارته وقیل الاحتکار..

- ویتبیّن معنی الإلحاد من هذه الروایة، ففی صحیح الحلبی قال سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن قول الله(عزوجل) وَ مَنْ یُرِدْ فِیهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِیمٍ فقال(علیه السلام): کل الظلم فیه إلحادٌ, حتی لو ضربت خادمک ظلماً خشیت أن یکون إلحاداً. فلذلک کان الفقهاء یکرهون سکنی مکة(2).

- وذکر فی التذکرة أن الخلاف فی جواز بیع دور مکة وعدمه فی غیر مواضع النسک, أما بقاع المناسک کبقاع السعی والرمی وغیرها فحکمها حکم المساجد.

- وعلی أی تقدیر فالذی ذهب إلی کراهة أخذ الأجرة للسکن فی مکة, وبیع الأبنیة, لم ینفی استحقاق الزائر الوارد السکنی فی مکة ولو بأجرة, وإنما نفی وجوب ذلک مجاناً، أما أصل الاستحقاق فمحل تسالم بینهم, ومن ثمّ استدلوا بالآیة الکریمة إلی عموم استحقاق المسلمین سواسیة فی المساجد لمن سبق منهم إلی ما لم یسبقه غیره.. ولا یخفی عدم اختصاص هذا الحکم بمکة، بل یعم المدینة المنورة والنجف وکربلاء والکاظمیة وسامراء وطوس من مراقد المعصومین (علیهم السلام) التی شُعرّت مشاعر،

ص:399


1- (1) (مسالک ج435 :12).
2- (2) (التهذیب ج420 :5).

وافتُرض عمارتها بالزیارة کما سیأتی بیانه. فهی بحکم المساجد بل أعظم لأنها مشاعر, وبمثابة المسجد الحرام حرمةً.

أحکام المسجد الحرام والعتبات المقدسة:

ویتحصل من مجموع الآیات الشریفة جملة من الأحکام العامة للمسجد الحرام ومکة المکرمة, ومسجد النبی والمدینة المنورة وبقیة مدن مراقد الأئمة (علیهم السلام) المشرّفة:

1 - کون عمارة المسجد الحرام ورعایة الحاج فی تمام شؤون الرعایة فریضة إلهیة - وتشمل شؤون الرعایة الخدمات المختلفة.

2 - إن من وظائف وآلیات عمارة المسجد الحرام تسهیل جعل البیت الحرام مکاناً یُقصد ویُزار وتسهیل السفر إلیه من أجل استمرار وفود الزوار والحجاج إلیه..

3 - ومن وظائف عمارة المسجد الحرام توفیر الحالة الأمنیة والاستقرار لجمیع الناس, سواء المجاور أو الوافد.

4 - اتخاذه محل ومقام عبادة وصلاة, لإقامة الصلاة فیه.

5 - القیام بتطهیره ونظافته وتهیئته للزیارة والمکث والصلاة فیه.

6 - بناء عمارته وتشیید بنیانه.

7 - إسکان الناس لاسیما أهل الصلاح کمجاورین ومقیمین وإنشاء عمران السکنی فی مکة المکرمة مما یمّهد لرعایة الزائرین والمجاورین.

ص:400

8 - توفیر تموین الطعام والغذاء للمجاورین والزائرین.

9 - تشعیر البیت الحرام من قِبل الله سبحانه, کمشعر إلهی, وکموطن عبادی, ونبراس للهدایة أبدی.

10 - جعله وإقامته کمرکز لأنشطة التعلیم والثقافة الدینیة والإسلامیة.

11 - استحقاق جمیع الناس من المسلمین زیارة البیت الحرام والوفود إلیه والإقامة فیه بنحو متساوٍ بین المجاور والآفاقی.

12 - حرمة الصدّ عنه, وحرمة الصد عن السفر والوفود إلیه..

وقد فرع بعض الفقهاء علی ذلک جملة من الأحکام حول إعمار مکة والسکن فیها.

عمومیة هذه الأحکام لکل مساجد المراقد:

ولا یخفی أن جملة هذه الأحکام غیر مخصوصة بمکة المکرمة والمسجد الحرام, بل تعم المدینة المنورة والمسجد النبوی الشریف والنجف الأشرف وکربلاء المقدسة, وبقیة مراقد الأئمة الطاهرین (علیهم السلام) فی الکاظمیة ومشهد وسامراء.

1 - کما تعدی الفقهاء فی استواء الناس فی مطلق المساجد من قوله تعالی: سَواءً الْعاکِفُ فِیهِ وَ الْبادِ وأن هذا حکماً عاماً لکل المساجد لاسیما ما شعّر منها کمشعر إلهی علی حذو المسجد الحرام.

2 - بعد ظهور هذه الآیات فی ترتّب هذه الأحکام علی المسجد

ص:401

الحرام بما هو مسجد کطبیعة عامة, غایة الأمر: أشدّیة هذه الأحکام فی المسجد الحرام.

3 - مضافاً إلی ورود جملة من هذه الأحکام فی عموم المسجد, یکون شاهداً آخر علی ذلک.

4 - عموم التعلیل الوارد فی تلک الآیات, کقوله تعالی: فِیهِ آیاتٌ بَیِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِیمَ وقوله تعالی: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی , حیث یظهر منها أن إضافة المقام لإبراهیم هو منشأ الأمر بالعبادة فی ذلک الموضع, وتعظیم ثوابه, وتعظیم ذلک المقام وتقدیسه, وأنه بسبب شرافة المکان وإضافته لنبی الله إبراهیم(علیه السلام) تأهّل لیکون مکاناً ومحلاً یُتقرب فیه إلی الله سبحانه وتعالی .

وأما الروایات الدالة علی هذه القاعدة:

1 - ففی صحیح عبد الله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال:

لو عطّل الناس الحج لوجب علی الإمام أن یجبرهم علی الحج إن شاؤوا وإن أبوا، فإن هذا البیت إنما وضع للحج(1).

2 - وفی صحیح الفضلاء, عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: لو أن الناس ترکوا الحج لکان علی الوالی أن یجبرهم علی ذلک أو علی المقام عنده, ولو ترکوا زیارة النبی لکان علی الوالی أن یجبرهم علی ذلک, أو علی المقام عنده,

ص:402


1- (1) وسائل الشیعة: أبواب وجوب الحج/ ب5/ ح1.

فإن لم یکن لهم أموال أنفق علیهم من بیت مال المسلمین(1).

ومفاد هذین الحدیثین:

1 - فریضیة عمارة بیت الله الحرام الحاصلة عن طریق عبادة الحج وکذلک فریضیة عمارة قبر النبی صلی الله علیه و آله ومسجده الحاصلة بزیارة النبی صلی الله علیه و آله .

2 - وأن هذه الفریضة لیست موکولة إلی المکلفین واختیارهم فحسب, بل اللازم علی الوالی إجبارهم علی ذلک لو امتنعوا.

3 - یجب علی الوالی أن یمدّهم بالمؤونة المالیة من بیت المال فیما إذا عجزوا عن ذلک.

4 - یجب علی عموم المسلمین الإقامة فی مکة المکرمة وجوباً کفائیاً وکذلک الحال فی المدینة المنورة, وأن عمارة المدینتین فریضة تتأدّی بالإقامة والعمران فیها.

5 - أن هذه الفریضة لیست فریضة کفائیة علی المسلمین فحسب بل هی وظیفة من وظائف الدولة والنظام الإسلامی کما هو الحال فی إحجاج الناس لبیت الله الحرام, وتشیید زیارة النبی صلی الله علیه و آله .

6 - أن هذا الواجب یتعین علی الدولة الإسلامیة إقامته, وکوظیفة مالیة.

7 - صحیحة عبد الله بن سنان, عند الصادق(علیه السلام): إن لله(عزوجل) حرمات ثلاثاً لیس کمثلهن شیء: کتابه وهو حکمته ونوره؛ وبیته الذی جعله قبلة

ص:403


1- (1) وسائل الشیعة: أبواب وجوب الحج/ ب5/ ح2.

للناس لا یُقبل من أحد توجهاً إلی غیره, وعترة نبیکم (علیهم السلام) (1).

ومفاد هذه الصحیحة أن الحفاظ علی الکتاب العزیز, والحفاظ علی المسجد الحرام بعمارته وغیرها, والحفاظ علی العترة کما هو حاصل بعمارة قبورهم ومراقدهم الشریفة، هی من أعظم الفرائض, وأعظم أُسس الدین وبقائه, وبذلک یتبین تعاظم وأساسیة هذه الفریضة فی صرح الدین.

أدلة فریضیة عمارة مراقد النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته:

- مضافاً لما تقدم من الأدلة فی عمارة المسجد الحرام من الآیات والروایات, نستعرض جملة من الآیات والروایات الأخری الخاصة بذلک, أما الآیات:

1 - قوله تعالی: اَللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکاةٍ فِیها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِی زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ کَأَنَّها کَوْکَبٌ دُرِّیٌّ یُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَکَةٍ زَیْتُونَةٍ لا شَرْقِیَّةٍ وَ لا غَرْبِیَّةٍ یَکادُ زَیْتُها یُضِیءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلی نُورٍ یَهْدِی اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ یَشاءُ وَ یَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ وَ اللّهُ بِکُلِّ شَیْ ءٍ عَلِیمٌ فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِیهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِیتاءِ الزَّکاةِ یَخافُونَ یَوْماً تَتَقَلَّبُ فِیهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ (2).

وقد بسطنا القول فی بیان هذه الآیة أنها واردة فی الخمسة أصحاب

ص:404


1- (1) معانی الأخبار: 117.
2- (2) النور 35 - 37.

الکساء, والتسعة من ذریة الحسین(علیه السلام), فی کتاب الإمامة الإلهیة(1), وکتاب عمارة قبور النبی وأهل بیته.

حیث أن بیوتهم ومراقدهم بنص هذه الآیة قد جُعلت من قبله تعالی مشعراً إلهیاً, وفرض تعالی أن تعظّم وتُرفع, وأن تُجعل مواطن للعبادة ولذکر الله تعالی.

وقد أشارت الآیة أن العمارة لیست بالبناء والعمران فحسب بل بالزیارة والتواضع وإقامة العبادة لله تعالی فیها, فالإذن هنا بمعنی الأمر, والرفع أن تعظم وتجلل وتقدس, ولا یخفی أنه من هذا المفاد یستفاد جملة النقاط الاثنی عشرة المستخلصة من الآیات والست نقاط من الروایات فی إعمار مکة المکرمة.

2 - قوله تعالی: وَ کَذلِکَ أَعْثَرْنا عَلَیْهِمْ لِیَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السّاعَةَ لا رَیْبَ فِیها إِذْ یَتَنازَعُونَ بَیْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَیْهِمْ بُنْیاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِینَ غَلَبُوا عَلی أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیْهِمْ مَسْجِداً (2).

وذکر القرآن الکریم لهذه الواقعة تقریر للمؤمنین الذین کانت لهم الغلبة بقرینة ذکر اتخاذ المسجد, تقریر منه لهم علی ذلک. ولم یفند اتخاذهم المسجد, بل هو فی مقام المدح والإطراء علیهم.

3 - ومن هذا القبیل قوله تعالی: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی (3)

ص:405


1- (1) الإمامة الإلهیة ج5 ,4.
2- (2) الکهف: 21.
3- (3) البقرة: 125.

فإن مفادها تشعیر مقام إبراهیم وتخلید ذکره بذلک, الذی هو سبب لخلود التوحید وباعثاً للناس علی التمسک بدینهم.

فإذا کان الحجر قد لامَس بدن نبی الله إبراهیم, یعظم بهذه المثابة ویتخذ مکاناً للعبادة. وقد بسطنا دلالة الآیة علی ذلک فی المصادر المتقدمة.

حیث أن إضافة المقام إلی إبراهیم مشعر بالعلیّة للحکم.

فکیف الحال بمن هو أعظم من إبراهیم, وتقریب الدلالة فیه أیضاً بما تقدّم.

ثم شمول هذا التقریب لمراقد آل النبی بما تکاثرت الأدلة من الآیات والروایات علی أفضلیتهم.

ولا یخفی أن التعبیر فی الآیة للتعظیم والتفخیم, نظیر قوله تعالی: عَسی أَنْ یَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقاماً مَحْمُوداً .

- ویشیر إلیه قوله تعالی: إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبارَکاً وَ هُدیً لِلْعالَمِینَ فِیهِ آیاتٌ بَیِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِیمَ (1).

وفی هذه الآیة دلالة علی عظمة البیت الحرام والمسجد الحرام بأن فیه مقام إبراهیم.

- ویشیر إلی نفس هذا التعلیل: رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی

ص:406


1- (1) آل عمران : 97 ,96.

إِلَیْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ (1).

فجُعل فی هذه الآیة من غایات الوفادة والزیارة لبیت الله الحرام هو مودة وهوی قلوب المؤمنین لذریة إبراهیم(علیه السلام) لا إلی البیت الحرام.

- ونظیر ذلک قوله تعالی: وَ أَذِّنْ فِی النّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوکَ رِجالاً وَ عَلی کُلِّ ضامِرٍ یَأْتِینَ مِنْ کُلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ (2).

فجعلت الآیة من غایات الحج المجیء والإتیان إلی إبراهیم, فالحج لبیت الله الحرام, وفادة علی ولی الله..

وبذلک یظهر أن جملة الآیات المتقدمة فی بیت الله الحرام والروایات کلّها, تشمل مراقد النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته (علیهم السلام) .

ویشیر إلی تعلیل عظمة البیت الحرام بما اصطفاهم الله سبحانه, قوله تعالی: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِی کُنْتَ عَلَیْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ یَنْقَلِبُ عَلی عَقِبَیْهِ وَ إِنْ کانَتْ لَکَبِیرَةً إِلاّ عَلَی الَّذِینَ هَدَی اللّهُ (3).

حیث تبین الآیة أن عظمة وقدسیة القبلة من جهة طاعة الرسول صلی الله علیه و آله وولایته فی قبول العبادات.

- فیستفاد من هذه الطائفة من الآیات أن مشاهد الأنبیاء والأوصیاء هی مواطن قربات ومشاعر لعبادة الله سبحانه, ولاسیما أعظم الأنبیاء,

ص:407


1- (1) إبراهیم: 37.
2- (2) الحج: 26.
3- (3) البقرة: 133

وکذلک أهل بیته من بعده, فکیف ببقاع ثوت فیها الأجساد الطاهرة, وهذه القاعدة فی القداسة لتلک البقاع ضروریة عند المسلمین.

حیث حکی السمهودی فی مقدمة کتابه وفاء الوفاء إجماع المسلمین علی أفضلیة قبر النبی صلی الله علیه و آله علی الکعبة(1). وفی الحقیقة هذا هو ما استفاض بین الفریقین, ما ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله : «ما بین قبری ومنبری روضة من ریاض الجنة». أو: «ما بین منبری وبیوتی روضة من ریاض الجنة فإن اقتراب بقعة المسجد من قبره وبیوته جعلته مشعراً مقدساً إلی درجة صیرورته روضة من ریاض الجنة, وبیوته شاملة لبقاع أهل بیته, کما سیأتی مفصلاً فی المبحث الروائی».

4 - قوله تعالی: «یَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِی کَتَبَ الله لَکُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَی أَدْبَارِکُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِینَ» (2).

- وسیأتی أن مراقد النبی وأهل البیت (علیهم السلام) من أعظم البقاع والأراضی المقدسة.

وقد روی إسماعیل عن أبیه موسی بن جعفر عن آبائه عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: «من زار قبری بعد موتی کان کمن هاجر إلیّ فی حیاتی» (3).

وقوله تعالی: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْیَةَ فَکُلُوا مِنْها حَیْثُ شِئْتُمْ

ص:408


1- (1) و فاء الوفاء ج31 :1.
2- (2) المائدة : 21.
3- (3) کامل الزیارات / ب 2 ح 17.

رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَکُمْ خَطایاکُمْ وَ سَنَزِیدُ الْمُحْسِنِینَ فَبَدَّلَ الَّذِینَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَیْرَ الَّذِی قِیلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما کانُوا یَفْسُقُونَ (1).

وقوله تعالی: وَ إِذْ قِیلَ لَهُمُ اسْکُنُوا هذِهِ الْقَرْیَةَ وَ کُلُوا مِنْها حَیْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَکُمْ خَطِیئاتِکُمْ سَنَزِیدُ الْمُحْسِنِینَ (2).

قالُوا یا مُوسی إِنَّ فِیها قَوْماً جَبّارِینَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّی یَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ یَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِینَ یَخافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَیْهِمَا ادْخُلُوا عَلَیْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّکُمْ غالِبُونَ وَ عَلَی اللّهِ فَتَوَکَّلُوا إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ قالُوا یا مُوسی إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِیها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّکَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ قالَ رَبِّ إِنِّی لا أَمْلِکُ إِلاّ نَفْسِی وَ أَخِی فَافْرُقْ بَیْنَنا وَ بَیْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِینَ (3).

ویستفاد من هذه الآیات جملة من الأحکام:

1 - وجوب عمارة البقاع المقدسة بالتوافد إلیها وزیارتها.

2 - تشعیر الله(عزوجل) لجملة من الأراضی والبقاع وتعظیمها وتقدیسها.

3 - هذه الأراضی المقدسة جعلت مواطن لتطهیر العباد عن الذنوب,

ص:409


1- (1) البقرة: 58.
2- (2) الأعراف: 161.
3- (3) المائدة: 21 - 26.

وذلک بزیارتها والوفود إلیها, وإقامة العبادة والاستغفار فیها, کما یشیر إلیه قوله تعالی: قُولُوا حِطَّةٌ وأن هذه الأرض کتبها الله لهم, لاسیما وقد ورد أن الزیارة لهم بمثابة الهجرة إلیهم(1). هذا فضلاً عن طرق الخاصة التی نقلت هذه الروایات.

4 - قطیعة هذه البقاع وجفاؤها ارتداد عن الإیمان علی الأدبار وانقلاب بالخسران.

5 - أن هذه الأراضی والبقاع المقدسة یجب الجهاد لتحریرها من أیدی الجبارین علیها, فیجب نزعها عن أیدی وسلطة الجبارین, وإقامة حکم عادل فیها علی الدوام.

6 - التخاذل عن تحریر الأراضی المقدسة, وعدم الوفود علیها حوبته وعقوبته التیه فی الأرض.

أدلة کون مراقد النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته من الأراضی المقدسة المندرجة فی عموم الآیة:

1 - لا یخفی أنه قد وردت فی روایات الفریقین إن علی بن أبی طالب وأهل بیته بمنزلة باب حطة(2).

ص:410


1- (1) مجمع الزوائد للهیثمی ج168 :9 - المصنف لابن أبی شیبة الکوفی ج503 :7.
2- (2) ونذکر علی سبیل المثال بعض المصادر لا علی سبیل الاستقصاء, الدر المنثور فی ذیل الآیة ج160 :1 - المعجم الأوسط الطبرانی ج139 :1 - ج10 :4. الجامع الصغیر للسیوطی ج176 :8 - کنز العمال ج603 :11 ج434 :2.

2 - وقد تقدم أن بِقاع مراقد أهل البیت(علیهم السلام) تتضمن البیوت التی أمر الله تعالی بتعظیمها ورفعتها, وشعّرها أماکن مقدسة.

فی قوله تعالی: فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ .

3 - ویشهد لذلک أیضاً علی أن مراقدهم من الأراضی المقدسة الإشارة لقوله تعالی: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی حیث أن جهة اتخاذه عبادة لتکریم مقام الإضافة إلی النبی إبراهیم(علیه السلام).

4 - قوله تعالی: وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ تَعالَوْا یَسْتَغْفِرْ لَکُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَیْتَهُمْ یَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَکْبِرُونَ (1).

- وقوله تعالی: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً (2).

- وقوله تعالی: وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ فبینّت الآیات أن رسول الله صلی الله علیه و آله من أعظم أبواب حطة الذنوب, بشروط ثلاثة, التوجه واللواذ بحضرة النبی صلی الله علیه و آله , استغفار المذنب, واستغفار النبی صلی الله علیه و آله له, أی شفاعته له. ومن ثمّ ورد مستفیضاً من طرق الفریقین عنه صلی الله علیه و آله : أن ما بین منبره الشریف وقبره (أو بیوته) - واللفظ الثانی وهو البیت أکثر وروداً فی الأحادیث - روضة من ریاض الجنة.

ومن بیوته صلی الله علیه و آله بیت علی وفاطمة وذریاتهما المطهرین وقد روی ذلک

ص:411


1- (1) المنافقون 5.
2- (2) النساء: 64.

الفریقان فی ذیل الآیة.

وقد قال الله تعالی فی تعظیم بیوت النبی یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُیُوتَ النَّبِیِّ إِلاّ أَنْ یُؤْذَنَ لَکُمْ (1).

وقد روی الفریقان فی ذیل هذه الآیة الأخیرة, أنها بیوت الأنبیاء وأن بیت علی وفاطمة من أفاضلها(2).

5 - ما مر من إشارة الآیات, نظیر قوله تعالی: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِیمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِی وَ بَنِیَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ کَثِیراً مِنَ النّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِی فَإِنَّهُ مِنِّی وَ مَنْ عَصانِی فَإِنَّکَ غَفُورٌ رَحِیمٌ رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ (3), ونظیر قوله تعالی: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِی کُنْتَ عَلَیْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ یَنْقَلِبُ عَلی عَقِبَیْهِ وَ إِنْ کانَتْ لَکَبِیرَةً إِلاّ عَلَی الَّذِینَ هَدَی اللّهُ (4).

حیث مر أن هذه الآیات تبین قدسیة الکعبة والمسجد الحرام والقبلة إنما هو لتعظیم ذریة إبراهیم الذی هو سید الأنبیاء, وأهل بیته.

وکذلک قوله تعالی: فِیهِ آیاتٌ بَیِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِیمَ (5), أن جهة

ص:412


1- (1) الأحزاب: 53.
2- (2) السیوطی فی ذیل آیة النور, وکذلک مصادر الإمامیة.
3- (3) إبراهیم: 35 - 37.
4- (4) البقرة: 143.
5- (5) آل عمران: 96.

تقدیس البیت لاشتماله علی الآیات البینات ومن أعظمها مقام إبراهیم, وکذا قوله تعالی: إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ فَلا یَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا , حیث تبین الآیة أن إبعادهم عن المسجد الحرام لأجل عدم إقرارهم بکل من الشهادة الأولی والشهادة الثانیة. فلا قیمة لحجهم وصلاتهم بدون ولایتهم لله ولرسوله أیضاً, وهذا یفید أن عظمة الصلاة والحج کعبادات فی بیت الله الحرام إنما قیمتها بالولاء لله والولاء للرسول, وهو نظیر الغایة المذکورة فی کلام إبراهیم, أن الغایة بإقامة بیت الله الحرام هو ولایة الله, وهوی القلوب إلی ذریة إبراهیم, وکذلک ما فی قوله تعالی: وَ أَذِّنْ فِی النّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوکَ رِجالاً وَ عَلی کُلِّ ضامِرٍ یَأْتِینَ مِنْ کُلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ فجعل غایة الحج الوفود علی الله وعلی أنبیاء الله, لا مجرد أحجار الکعبة وبیت الله الحرام.

وذریة إبراهیم من ذریة إسماعیل والتی دعا إبراهیم وإسماعیل أن تکون من ذریتهما أمة مسلمة, کما فی سورة البقرة, وسورة الحج, وأن یُبعث سید الأنبیاء فیهم, هم من یکون الرسول منهم بنص الآیة فی قوله تعالی: وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ (1).

وهم أمة موحدة لم تشرک بالله طرفة عین, استجابة لدعائهما ولیسوا إلّا من شهد القرآن بطهارتهم من أهل الکساء من أهل بیته..

ص:413


1- (1) البقرة: 129.

وقد بسطنا الحدیث عن جمیع هذه الآیات فی محلّه(1) ویتحصل من ذلک أن عظمة المسجد الحرام والکعبة المشرفة, التی هی أعظم المساجد هی بعظمة الأنبیاء, وذریاتهم المصطفون, وأعظمهم سید الأنبیاء وأهل بیته.

فمن ثم تبیّن صحة ما ذکره السمهودی فی وفاء الوفاء, من (إجماع الأمة علی أن قبر النبی صلی الله علیه و آله أعظم من الکعبة المطهرة). وکذلک الحال فی مراقد أهل بیته.

ویتبین أن ما جاء مستفیضاً فی روایات أهل البیت (علیهم السلام) من أن أعظم وأقدس بیوت الأرض, وبیوت السماء وأرفعها تعظیماً عند الله وطهارة وقدساً هی بیوت النبی وأهل بیته (علیهم السلام) ..

وکذلک ورد عنهم أن البیت المقدس, وإن کان اسماً لمسجد الصخرة التی صلت فیه الأنبیاء إلّا أن الأعظم منه قدسیة مسجد الکوفة ومسجد النبی صلی الله علیه و آله . نعم ثواب الصلاة فی المسجد الحرام أعظم, ثم مسجد النبی, ثم مسجد الکوفة.. بل إن البیت المقدس, کما ورد عنهم(علیهم السلام), فی الدرجة السابقة علی مسجد الصخرة هو بیت الإمام المعصوم الحی.

6 - ما ورد متواتراً ومستفیضاً من الروایات من قدسیة وعظمة مراقد قبورهم الشریفة وقد جمع صاحب الوسائل فی أبواب المزار ما یزید علی المائة باب فی ذلک فضلاً عما جمعه غیره کالمحقق الشیخ النوری فی المستدرک والعلامة المجلسی فی البحار وغیرهم.

ص:414


1- (1) (الإمامة الإلهیة ج4/ 5).

فتحصل أن أعظم البقاع قدسیة علی الأرض, هو قبر النبی صلی الله علیه و آله وقبور أهل بیته (علیهم السلام) اندراجاً تحت هذه الطائفة من الآیات, فی ترتیب الأحکام الستة السابقة.

- وقد روی عن الباقر(علیه السلام): «ولا أعلم أن فی هذا الزمان جهاداً إلّا الحج والعمرة والجوار» (1).

وأما الروایات: فی فریضیة عمارة مرقد النبی صلی الله علیه و آله ومراقد أهل بیته:

الطائفة الأولی: بالنسبة لقبر النبی صلی الله علیه و آله , فقد استفاض بین الفریقین بل تواتر التشعیر لقبر النبی صلی الله علیه و آله , وتشعیر الروضة المبارکة فی مسجده الشریف. بل تمتد الروضة, إلی قبره الشریف, لقوله صلی الله علیه و آله المستفیض بین الفریقین: «ما بین قبری ومنبری روضة من ریاض الجنة» (2) بل وفی الطرق الکثیرة منها (ما بین منبری وبیوتی روضة من ریاض الجنة) وبیوته تمتد إلی بیت أم زمعة فیشمل بیت علی وفاطمة(علیهماالسلام) . وفی لفظ آخر: «ما بین بیتی ومنبری روضة من ریاض الجنة».

وفی المصحّح عن جمیل بن دراج, قال سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) یقول: قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «ما بین منبری وبیوتی روضة من ریاض الجنة, ومنبری علی ترعة من تُرع الجنة, وصلاة فی مسجدی تعدل ألف صلاة فیما سواه من المساجد إلّا المسجد الحرام؛ قال جمیل: بیوت النبی صلی الله علیه و آله وبیت علی منها, قال:

ص:415


1- (1) الکافی ج251 :1.
2- (2) (کامل الزیارات: 51 باب 3).

نعم وأفضل»(1).

أی أن السائل سأل أن بیت علی من بیوت النبی التی هی من ریاض الجنة, ولا تختص بالبیوت التی جعل فیها أزواجه, بل تشمل بیوت قرابته الخاصة, من أصحاب الکساء, کما هو مقتضی التحدید ما بین المنبر والبیوت, فبیوت النبی صلی الله علیه و آله شاملة لبیت علی وفاطمة والحسن والحسین(علیهم السلام), بل والأئمة من ذریة الحسین, وأنها أفضل بیوت النبی, والمراد مضافاً إلی تحدید البقعة الواقعة فی البین أن کل طرف فی نفسه علی روضة من ریاض الجنة, بمقتضی العموم الاستغراقی والمجموعی معاً, وهذا مطابق لما رواه السیوطی فی الدر المنثور عن ابن مردویه عن أنس بن مالک وبریدة, أن المراد من قوله تعالی: فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ عن النبی صلی الله علیه و آله : «أنها بیوت الأنبیاء, وأن بیت علی وفاطمة من أفاضلها» (2).

وهذا دال علی أن بیت علی وفاطمة نسبته إلی النبی أتم من نسبة بیوت وغرف أزواجه إلیه. وبالتالی فعموم بیوته شامل لبیوت ذریته المطهرة, وقد ورد مستفیضاً عن أهل البیت (علیهم السلام) فی الزیارات, هذا الدعاء المأثور فی الإذن للدخول لمشاهدهم ومراقدهم المطهرة: «اللهم إنی وقفت علی بابٍ من أبواب بیوت نبیک».

ویتطابق هذا المفاد المستظهر مع الروایات الخاصة الواردة فی کون مرقد کل منهم (علیهم السلام) روضة من ریاض الجنة, وکالمستفیضة الواردة فی کون

ص:416


1- (1) الکافی ج4/ باب المنبر والروضة ح556 :10. (وقد ذکر فیه صحاح عدیدة).
2- (2) (الدر المنثور/ سورة النور/ ج36 :5).

حرم الحسین(علیه السلام) روضة من ریاض الجنة(1).

وفی صحیح أبی هاشم الجعفری قال: سمعت أبا جعفر, محمد بن علی الرضا(علیه السلام) یقول: «إنّ بین جبلی طوس قبضة قبضت من الجنة, من دخلها کان آمناً یوم القیامة من النار»(2).

الطائفة الثانیة: ما ورد من تواتر الروایات فی زیارة قبورهم(3), نظیر ما رواه الصدوق فی الصحیح عن یاسر الخادم قال: قال علی بن موسی الرضا(علیه السلام): «لا تُشدّ الرحال إلی شیء من القبور إلّا إلی قبورنا, ألا وإنی مقتول بالسمّ ظلماً ومدفون فی موضع غربة, فمن شدّ رحله إلی زیارتی استجیب دعاؤه وغُفر له ذنوبه»(4).

وقد استفاض فی هذه الطائفة من الروایات کون زیارتهم وعمارة قبورهم من معالم شعائر الدین الکبری, فقد عقد صاحب الوسائل ستة وتسعین باباً وأخرج مئات الأحادیث فیها. ونظیر هذه الأبواب, أبواب المزار فی البحار للمجلسی, وفی مستدرک الوسائل للمیرزا النوری فضلاً عما أوردوه فی أبواب أحکام المساجد وغیرها؛ بل قد ورد الحث منهم علی زیارة قبورهم وعمارتها فی حال الخوف علی النفس, وهی سیرة شیعتهم منذ القرن الأول إلی یومنا هذا.

ص:417


1- (1) الوسائل أبواب المزار/ باب 67.
2- (2) أبواب المزار/ باب 82/ ح: 11.
3- (3) أبواب المزار فی الوسائل, وکتابی المزار للشیخ المفید, ومصباح المتهجد, وکامل الزیارات, وغیرها من کتب الزیارات.
4- (4) عیون أخبار الرضا ج285 :1.

الطائفة الثالثة: ما استفاض بل تواتر فی الروایات أن مراقدهم(علیهم السلام), حرم من حرم الله وحرم رسوله, نظیر ما فی لسان تلک الروایات فی آداب الزیارة: «ثم امش حافیاً فإنک فی حرم الله وحرم رسوله»(1).

وقد تعددت الروایات الواردة عنهم (علیهم السلام) أن الکوفة أفضل البقاع بعد حرم الله وحرم رسوله صلی الله علیه و آله , وبعدها مراقد الأئمة (علیهم السلام) , وأن ثواب الصلاة فیها, یأتی فی الفضل والعظمة بعد فضیلة المسجد الحرام والمسجد النبوی(2), ولا یقاس بها فضیلة بیت المقدس, أو غیرها من المراقد.. بل إن خصوص موضع قبورهم أعظم شأناً من الکعبة, کما صرّح بذلک السمهودی فی وفاء الوفاء, ونقل إجماع الأمة علی أن مرقد النبی صلی الله علیه و آله أعظم من الکعبة.

وفی صحیح جمیل بن دراج قال, قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): الصلاة فی بیت فاطمة مثل الصلاة فی الروضة؟ قال(علیه السلام): «وأفضل».

وفی موثق یونس بن یعقوب؟ قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): الصلاة فی بیت فاطمة أفضل أم فی الروضة؟ قال(علیه السلام): «فی بیت فاطمة».

وغیرها من الطوائف الکثیرة, والذی یظهر من حاصلها, ترتب جملة الأحکام المتقدمة ذکرها للحرم المکی والحرم المدنی علی مراقد وعتبات بقیة الأئمة المعصومین (علیهم السلام) وهذا مما یقرّر مفاد هذه القاعدة الفقهیة .

ص:418


1- (1) لاحظ الوسائل/ أبواب المزار: آداب الزیارات التی أوردها.
2- (2) الوسائل/ أبواب أحکام المساجد/ کتاب الصلاة.

قاعدة :تعدد طرق الحکایة والإخبار عن الواقع

اشارة

ص:419

ص:420

تعدد طرق الحکایة والإخبار عن الواقع(1)

فی تحری الوقائع والأحداث:

لسان الحال - التصویر - التمثیل:

لا یخفی أن کشف الواقع, والوقائع الحادثة وحقیقة مجریات الأمور لا ینحصر بنقل الکلام والأقاویل للأشخاص الذین کانوا فی أطراف الحَدث والواقعة, فإنّ ما دار بینهم من أقوال وکلمات لا یمثل تمام مساحة الحَدث بالضرورة, بل هناک مساحات لم تحکِها الکلمات وکذلک الشأن بالنسبة إلی الشخص الشاهد للحدث, فإن ما تحکیه کلماته الواصفة للحدث من عدسة عینیه ولاقطة أذنیه, لا تمثل تلک الکلمات تمام مساحة حقیقة الحدث, وإن کانت کلمات هذا الشاهد المشاهد والراوی والناقل تتطرق وتغطّی مساحات من الحدث لیست هی أقوال وکلمات کل أطراف الحدث, بل تشمل ما یکون من قبیل الأفعال والحالات والظروف الأخری المحیطة والملابسات المختلفة, ولکن تبقی کلمات هذا الراوی المشاهد الناقل للحدث هی تعبّر عن جزء من مساحة حقیقة الحدث.. وتبقی مساحات کثیرة لا تُسجّل من حروف، وکلمات الرواة المشاهدین النقلة للحَدث، فیما إذا جمدنا علی حرفیة الحروف والکلمات التی وصفوا

ص:421


1- (1) تقریراً لأبحاث شیخنا الأستاذ السند (دام ظله)، بقلم جناب الأخ السید ریاض الموسوی دام توفیقه.

بها الحدث؛ وهو ما یُعبّر عنه فی علم البلاغة بالمفاد والمدلول المطابقی للکلام.

ومن ثمّ تقصّی الباحثون عن الحقیقة، کما فی علم القضاء، والبحث الجنائی, وفی علم التاریخ, وغیرها من العلوم التی یهمّها تحرّی الوقائع والأحداث، کعلم الفقه والکلام وغیرها من العلوم الدینیة والشرعیة, حیث أن مستند الحجیة, لا ینحصر فی قول المعصوم(علیه السلام), بل یشمل فعله وتقریره, وفعله یشمل سیرته وحالاته وسجایاه وعاداته وشؤونه.. کما أن تقریره یشمل سیرة من عاصره من الناس وأحوالهم وشؤونهم.

بل یشمل الارتکازات المطویة الغامضة التی یجری علیها العُرف المعاصر له.

فنقل تمام هذه المساحات من الحقیقة، أو الوصول إلیها لا یمکن الاقتصار فیه علی الکلمات المنقولة من جمیع الأشخاص الشاهدین للحدث فضلاً عن الاقتصار علی الکلام المنقول بکلام الراوی, ومن ثمّ تعدّدت طرق الحجیة فی الوصول إلی حقیقة الأحداث عَبر جملة من القنوات والآلیات:

الطریق الأول: دلالة الفعل:

دلالة الفعل، فالفعل مضافاً إلی حجیة إسناده للفاعل, له دور آخر, وهو دلالته علی مقاصد, ودواعی الفاعل من الفعل, فمن ثمّ أُطلق الکلام الإلهی علی أفعال الله تعالی، کقضاء الله سبحانه فعل من أفعال الله، وقدره کفعل آخر, وکذلک فعل مشیئته, فکلٌ منها مرتبة من الکلام الإلهی

ص:422

یکشف به عن مقاصد إلهیة, فالفعل والإیجاد فی عالم الخلقة کلامٌ حقیقی, دال علی معانی ومقاصد وراءه, وذلک بتوسط التحلیل المُمعن غوراً, ومن أمثلة قراءة قضاء الله تعالی وقدره ککلام وإرادة ما جری من خطاب عبید الله بن زیاد لعنه الله للعقیلة زینب سلام الله علیها, من قوله: «کیف رأیت صنع الله بأخیک, قالت: ما رأیت إلّا جمیلاً».

فإنه حاول أن یجعل قراءة قضاء الله وقدره کفعل إلهی دال علی قصد الله تعالی بالنکایة والنکال لسید الشهداء(علیه السلام) وهذه قراءة مزیفة لمدلول فعل الله بما هو بمثابة کلام إلهی دال علی مقاصد إلهیة.

فأجابته(علیهاالسلام) بأن مدلول قضاء الله وقدره, جمال مدیح لموقف سید الشهداء، ودللّت علی ذلک بما قالت(علیه السلام): «وسیجمع الله بینک وبینهم فتحاج وتخاصم, فانظر لمن الفلَج, ثکلتک أمک یا بن مرجانة».

فأشارت بأن قضاء الله وقدره فی کربلاء إنما یُحسن قراءته, والصواب فی قراءته هو بضمیمة قضاء الله وقدره فی العاقبة, فلا یصح بتر الأفعال الإلهیة عن بعضها البعض لأنها بمثابة کلام یفسّر بعضه بعضاً, وعلی أیة حال, فهذا دلیل علی أن الفعل الإلهی, حقیقته کلام وتکلّم منه تعالی مع البشر والمخلوقات, ولکنه إنما یحصّل قراءته من یلمّ بمجموع الأفعال الإلهیة, لیکون متوفراً علی مجموع الکلام والکلمات الإلهیة.

ونظیر ذلک ما قاله عبیدالله بن زیاد لعنه الله للإمام السجاد(علیه السلام), «ألم یقتل الله علیاً», فأجابه(علیه السلام): «کان لی أخ یدعی علیاً قتله الناس...».

فحاول ابن زیاد زیفاً أن یُسند فعل الناس إلی الباری, ویجعله فعلاً

ص:423

له, کی یقرأ منه أن المقصد الإلهی السخط علی نهضة سید الشهداء؛ فکذبّه الإمام زین العابدین(علیه السلام), بأن هذا الفعل هو فعل الناس ولیس فعل الله, فهذا وأمثاله نمط لقراءة الفعل بمثابة کلام دال علی غایات ومقاصد وهذا منبع ومصدر لقراءة الوقائع والأحداث.

الطریق الثانی: حجیة التقریر:

حجیة التقریر والإمضاء, مع أن التقریر لیس من القول المنطوق ولا من إبراز الفعل, بل هو حال صامت ودلالة مبطنة کامنة فی طیات ملابسات الظروف.

الطریق الثالث: الدلالات الالتزامیة للکلام:

لوازم القول, وهو نوع انکشاف للمعنی من قول القائل بما یستلزمه, أو تکلّمه بما یدل علیه من التزام, وقد تترامی هذه المدالیل الإلتزامیة عبر وسائط إلی حلقات بعیدة لم یقصدها القائل بالذات, ولم یلتفت إلیها تفصیلاً ولکنها مطویة فی کلامه بنحو یتوقف علیها من

دون أن یشعر القائل بذلک, ومن ثمّ یُحتج علی المتکلم بأقاریر کلامه من المدلولات الإلتزامیة وإن لم یفطن لها المتکلم, ویکون من باب: إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز ونافذ.

وهذا نمط من استکشاف الحقیقة بعیداً عن الکلام المنقول وهو باب واسع.

ومن ثمّ تنسب هذه الأقاریر من وإلی المتکلم أنه اعترف بها.

ص:424

الطریق الرابع: إنشاء المعانی فی النفس:

وهو ما یسمّی بحدیث النفس, وهو نحو تخاطب بین النفس وذات الإنسان, وکثیراً ما یُحکی کمقولة یقولها الإنسان, ومن هذا القبیل النوایا والخواطر وقد یُجعل من أمثلة هذا القسم, ما فی قوله تعالی فی وصف أصحاب الکساء: وَ یُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ مِسْکِیناً وَ یَتِیماً وَ أَسِیراً إِنَّما نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِیدُ مِنْکُمْ جَزاءً وَ لا شُکُوراً .

مع أن هذا الکلام لم یکن منهم (علیهم السلام) باللسان.

فحدیث النفس وإنشاء المعانی فی صفحة الخاطر أو غیره من بیوت النفس هو حدیث وتکلّم للنفس. بل إنشاء الحالات التکوینیة للنفس الحاملة لهویة وماهیة المعانی هو تکلّم نفسانی.

الطریق الخامس: المجمل والمفصل:

وهو بأن یتکلم المتکلم بکلامٍ مُجمل لا بمعنی الإبهام, بل بمعنی إجمال ینطوی فیه تفاصیل کثیرة غیر مصرّح بها ولکنها مُدمجة فی المعنی الإجمالی، وتُستخرج بالتدبّر والتمعّن. نظیر قوله تعالی للملائکة عندما اعترضوا علی استخلاف آدم: قالَ إِنِّی أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ - ثم عاود سبحانه وتعالی الخطاب مع الملائکة.

- بعد تعلیمه الأسماء وإنباء آدم للملائکة بالأسماء واعتراف الملائکة بقصور علمهم من علم الله تعالی وحکمته - عاود سبحانه بقوله قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَکُمْ إِنِّی أَعْلَمُ غَیْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ .

ص:425

فبیّن سبحانه وتعالی, تفصیلاً فی معاودته للخطاب لهم, وأسنَد التفصیل إلی ما أجمله سابقاً «مَا لاَ تَعْلَمُونَ» المجمَل, والمفصّل غیب السماوات والأرض.... «ما تُبْدُونَ وَ ما کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ ».

- ونظیر قوله تعالی لنوح لمّا سأله فی ابنه وأنه من أهله وَ نادی نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِی مِنْ أَهْلِی وَ إِنَّ وَعْدَکَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْکَمُ الْحاکِمِینَ فأجابه تعالی: قالَ یا نُوحُ إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَهْلِکَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَیْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّی أَعِظُکَ أَنْ تَکُونَ مِنَ الْجاهِلِینَ قالَ رَبِّ إِنِّی أَعُوذُ بِکَ أَنْ أَسْئَلَکَ ما لَیْسَ لِی بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاّ تَغْفِرْ لِی وَ تَرْحَمْنِی أَکُنْ مِنَ الْخاسِرِینَ . هود/ 45.

حیث أن سؤال نبی الله نوح, عن وعد الله الحق هو إشارة إلی قوله تعالی لنوح قبل الطوفان فَاسْلُکْ فِیها مِنْ کُلٍّ زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ وَ أَهْلَکَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَیْهِ الْقَوْلُ فکان استثناؤه تعالی مجملاً أوضح تفصیله لنوح فی قوله تعالی: إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَهْلِکَ ، أن کنعان ابنه ممن سبق علیه القول.

فیصحّ إسناد الکلام المفصّل لمن تکلّم بالمُجمل بالمعنی المزبور کما یصح ا لعکس, أی إسناد المُجمل لمن تکلّم بالمفصّل ولعلّ هذا أحد الوجوه المفسِّرة لاختلاف نوع العرض للکلام والکلمات التی یسندها القرآن الکریم لأشخاص بین موضع وآخر فی القرآن الکریم, سواء فی تجاذب حوار أو کلام تخاطب.

الطریق السادس: لسان الحال والتصویر:

لسان الحال - ما دلّ علی حالة الشیء من ظواهر أمره: وقد عُرِّف بعدة تعاریف, من أنه انکشاف المعنی عن الشیء لدلالة صفة من صفاته,

ص:426

وحال من أحواله علیه, سواء شعر به أم لا کما تُفصح آثار الدیار الخربة عن حال ساکنیها, ودلالة سیماء البائس علی فقره.

ولا بأس فی البدءِ أن ننقل کلاماً حول حقیقة لسان الحال وحکمه، فی الحکایة والإخبار للسید ابن طاووس فی کتابه إقبال الأعمال.

قال: (ومن ذلک ما یتعلق بوداع شهر رمضان فنقول : إن سأل سائل فقال: ما معنی الوداع لشهر رمضان، ولیس هو من الحیوان الذی یُخاطب ویعقل ما یقال له باللسان. فاعلم، أن عادة ذوی العقول قبل الرسول ومع الرسول وبعد الرسول یخاطبون الدیار والأوطان والشباب وأوقات الصفا والأمان والإحسان، ببیان المقال، وهو محادثة لها بلسان الحال، فلمّا جاء أدب الإسلام أمضی ما شهدت بجوازه من ذلک أحکام العقول والأفهام، ونطق به مقدّس القرآن المجید، وقال: جلّ جلاله: (یوم نقول لجهنم هل امتلأت و تقول هل من مزید) - فأخبر أنّ جهنّم ردت الجواب بالمثال. وهو إشارة إلی لسان الحال وذکر کثیراً فی القرآن المجید، وفی کلام النبی صلی الله علیه و آله والأئمة (علیهم السلام) .

وکلام أهل التعریف، فلا یحتاج ذوو الألباب الإطالة فی الجواب (1).

- وقد قُرّر للسان الحال ضوابط وقواعد لضبط الدقة والصواب والسداد فیه, ونقدّم جملة من الأمثلة القرآنیة الواردة علی نمط لسان الحال, وقبل ذلک لا بد من الإشارة إلی أدلة واقعیة الحکایة بلسان الحال وصدقها:

ص:427


1- (1) إقبال الأعمال ج481 :1

واقعیة لسان الحال:

الأول: أنه قد تسالم بین المفسرین من الفریقین علی أن القرآن الکریم قد استعمل طریقة لسان حال فی إسناد جملة من الکلام والأقوال للأشخاص مع کون ذلک من باب لسان الحال, أی أن تلک الکلمات والکلام لم یصدر من أولئک الأشخاص بنحو الصوت الصادر من لسان المقال بل إنما هو حال وحالات أولئک دالة کلسان علی تلک المعانی التی أسند صدور کلماتها عنهم, وهذا أکبر شاهد علی کون طریقة لسان الحال طبق قواعد وضوابط هی مسوّغة لإسناد المقال إلی الأشخاص, وکذا إسناد الأفعال الإنشائیة والمعانی الاعتباریة إلیهم..

الثانی: قد تقدّم دلیل ضرورة تعدد الطرق المتنوعة فی الکشف عن الحقیقة لأن مساحاتها لا یمکن أن یغطیّها لسان القال والمقال وهی أعظم مساحة فی الأحداث, إذ مشاهد الحال, بحرٌ مترامی فیها, ولسان المقال لیس إلّا بمثابة قشرة السطح.

الثالث: ما سیأتی من شواهد استعمالیة فی القرآن الکریم علی ذلک.

الرابع: ما ورد عن أمیر المؤمنین(علیه السلام) من أن لسان الحال أصدق من لسان المقال.

وفی نقل آخر, أفصح منه, وفی نقل ثالث أبین. وفی نقل رابع «أصدق المقال ما نطق به لسان الحال»(1).

ص:428


1- (1) عیون الحکم والمواعظ: 124. وأیضاً: حکم الأمیر لعلی بن محمد اللیثی الواسطی.

والوجه فی ما قاله(علیه السلام) أن لسان الحال یندرج فی قسم سابع فی بیان الحقیقة ألا وهو الکلام والکلمة التکوینیة, حیث أن دلالة الأثر التکوینی علی المؤثر أو الآیة علی ذی الآیة لیست بالوضع والاعتبار, بل بالدلالة العلمیة والتسبّب التکوینی, وانعکاس الأثر عمّا فی المؤثر من صفات.

الخامس: أن فی لسان الحال معنی تصویریا للحدث هو أبلغ تأثیراً فی تحسّس ولمس المشاهد بواقع المجریات والإدراک التفاعلی للوقائع من المعنی السمعی أو الفکری.

- أما استعراض شواهد استعمالیة فی القرآن الکریم علی لسان الحال ولیس من الضروری صحة هذه الأمثلة بأجمعها أنها من لسان الحال ولا یعنی استعراضها, الموافقة علی کون الجمیع من مصادیق لسان الحال. ولکن یکفی صحة بعضها فضلاً عن غیرها من الموارد التی لم نستقص ذکرها فی المقام, کما أن هذه الأمثلة بغض النظر عن صحتها تبین تسالم المفسرین علی وجود لسان الحال کأسلوب فی الحکایة عن الواقع والأحداث:

1 - قوله تعالی: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَکَنُودٌ وَ إِنَّهُ عَلی ذلِکَ لَشَهِیدٌ .

ومعنی کنود: أی لکفور, أی الکفر العملی لا الکفر المقالی.

2 - قوله تعالی: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِیا طَوْعاً أَوْ کَرْهاً قالَتا أَتَیْنا طائِعِینَ .

فإن جملة من المفسرین, فسّروا إسناد القول أَتَیْنا طائِعِینَ إلی أن

ص:429

المراد هو لسان الحال وأن حالهما هو الانقیاد التکوینی له تعالی, وهو الطوع التکوینی, کما أن إسناد القول له تعالی مخاطباً للسماء والأرض یُراد به الفعل التکوینی منه تعالی الذی هو بمثابة تکلّم تکوینی لا قولی ومقالی, وعلی هذا التفسیر للآیة یُقرر أن الکلام التکوینی أصدق فی انطباق عنوان القول علیه من المقال والکلام الصوتی.

3 - قوله تعالی: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنِی آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلی أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ قالُوا بَلی شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا یَوْمَ الْقِیامَةِ إِنّا کُنّا عَنْ هذا غافِلِینَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَکَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ کُنّا ذُرِّیَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِکُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ الأعراف: 172.

فقد فسّر الآیة غیر واحد من المفسّرین أن خطاب الله للذریة فی عالم الذر وإسناد القول له إنما هو بلسان الحال لا التخاطب بلسان المقال, بأن رکّب تعالی فی فطرهم ما یشهد تکویناً بربوبیته تعالی.

4 - وقوله تعالی: یَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِیدٍ . فقد ذکر غیر واحد أن إسناد ردّ الجواب المقالی إلی جهنم إشارة إلی لسان الحال.

بل وحملوا جملة من الآیات الواردة فی عوالم المیثاق والعهد السابقة لنشأة الدنیا علی لسان الحال واقتضاء الاستعداد کما فی المثال اللاحق.

5 - قوله تعالی: وَ إِنْ مِنْ شَیْ ءٍ إِلاّ یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لکِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ أن الموجودات ناطقة بالحمد بلسان الحال حیث تشهد عظمة خلقتها علی عظمة الباری سبحانه فهو بمنزلة ثناء وحمد وتمجید.

ص:430

ونظیره قوله تعالی: وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ یَسْجُدانِ بأنها فاعلة لذلک کأفعال قصدیة بلسان الحال.

6 - قوله تعالی: لَقَدْ کانَ لِسَبَإٍ فِی مَسْکَنِهِمْ آیَةٌ جَنَّتانِ عَنْ یَمِینٍ وَ شِمالٍ کُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّکُمْ وَ اشْکُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَیِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ فکونهم یخاطبون ب- کُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّکُمْ وَ اشْکُرُوا... بلسان الحال لا لسان المقال ومع ذلک ذکر فی الآیة کإسناد مقال.

7 - وقوله تعالی: یَسْئَلُهُ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ کُلَّ یَوْمٍ هُوَ فِی شَأْنٍ . فقد فسّر السؤال کثیر من المفسرین بأنّه لیس نطقاً وإنما باقتضاء حال وطبیعة المخلوقات أنها تفتقر إلی مَدد باریها فسؤالها هو بلسان الحال.

8 - وقوله تعالی: ما کانَ لِلْمُشْرِکِینَ أَنْ یَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ شاهِدِینَ عَلی أَنْفُسِهِمْ بِالْکُفْرِ فقد فُسّرت شهادة الکافرین علی أنفسهم لا بنطق اللسان بل أن حالهم وموقفهم, وما هم علیه من ملّة شاهد علی جحودهم وإنکارهم. فإصدارهم لأفعالهم بمثابة الشهادة من أنفسهم علی کفرهم.

الوجه السابع: النقل بالمعنی ولسان الحال:

9 - وقوله تعالی: وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً .

فقد اعتمد جملة من المفسرین - وهو الذی یظهر من الروایات الواردة فی ذیلها - أن عباد الرحمن, حالهم فی مقابلة جهالة الجهال أنهم یغضّون الطرف ویصفحون لئلا ینشغلوا بهم, وبترّهاتهم.

فإسناد قولهم أن ما یبدون من فِعال بمثابة هذا القول وأن ما یجیبون به

ص:431

خطاب الجهال کلاماً ینطبق علیه عنوان السِلم والصَفح، فإسناد لفظة السلامة إلی مقالهم بلحاظ المعنی وحال المضمون, وهو قریب من لسان الحال.

وهذا الوجه ینبّه علی وجه آخر لاعتبار وحجیة لسان الحال, وهو أن النقل بالمعنی معتبر ومعتد به, مع أنه لیس نقلاً حرفیاً لألفاظ المقال لاسیما وأن النقل بالمعنی علی طبقات ودرجات, فمنه القریب من ألفاظ مقال القائل, ومنه البعید عن تلک الألفاظ, ولکن حقیقة المعنی متقررة فی تلک المعانی, وهو نظیر ما مرّ فی باب الإقرار المقالی من الشخص المقر وعموم باب التقاریر, حیث أنه یسند إلی المقر فی ما قاله جملة من المعانی والأمور التی لم یلتفت إلیها وإلی تفاصیلها, لا بالالتفات التفصیلی ولا بالالتفات الإجمالی.

فإسناد الإقرار إلی مقاله, وأنه أقرّ بذلک مقال قریب من لسان الحال, وهذا ما یفتح الباب واسعاً لاستکشاف الحقائق. وأن الطریق إلیها, لا یقتصر علی الألفاظ وحدود المعانی التی تکلم بها فی نطاق السطح المطابقی للکلام.

الوجه الثامن: الکلام التکوینی للأفعال:

ویمکن تقریر هذا الوجه ببیان آخر وهو أن کل فعلٍ یبدیه الإنسان یُعد نمطاً من التکلّم, وإبرازاً لما هو مضمر فی مکنونه, وهذا یشمل أفعال البدن والخواطر أی المعانی التی یوجدها فی خاطره, والحالات الروحیة التی تتکون متولدة منه ویکون له دور وتسبیب فی تکوینها ولو بلحاظ المقدمات البعیدة, وإنما یکون قوله اللسانی کلاماً لا بلحاظ الأصوات الدالة علی المعانی فحسب, بل یکون متکلماً بلحاظ أنه یبرز منه بمقاله

ص:432

والمعانی التی یستعملها مضمرات مکنونة فی شخصیته, وهذا الذی یشیر إلیه قول أمیر المؤمنین(علیه السلام): «المرء مخبوّ تحت لسانه» (1).

وقوله(علیه السلام): «المرء مخبو تحت لسانه فإذا تکلم ظهر»(2).

ونظیر قوله تعالی: «وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِی لَحْنِ الْقَوْلِ » فإن دلالة القول هنا علی حالة النفاق فی الأشخاص لیست من جهة أصوات الکلمات ودلالتها الاعتباریة الوضعیة علی المعانی الذهنیة بل من جهة أن القول فعل من أفعال الإنسان یبرز مکنون حاله.

فمعالم شخصیة المرء, وطابع توجهه یُکشف ویبرز بإقدامه علی التعاطی بجملة من المعانی والأصوات, فهی تکشف تکویناً عن ما وراءها.

فجملة حرکات الإنسان وسکناته وأفعاله تکلّم تکوینی من الإنسان. وقولٌ کونی وجودی.

- کما فی قوله(علیه السلام): «ما أضمر أحدٌ شیئاً إلّا وظهر فی فلتات لسانه وصفحات وجهه»(3).

10 - وقوله تعالی: لِمَنِ الْمُلْکُ الْیَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ .

فإن جملة من المفسرین ذهبوا إلی أن حال المخلوقات یومئذ من الفناء والهلاک بحیث لا توجد قدرة إلّا له سبحانه وتعالی, وحال کل ما سواه

ص:433


1- (1) بحار الأنوار ج166 :74.
2- (2) مناقب آل أبی طالب ج326 :1.
3- (3) شرح نهج البلاغة لابن ابی الحدید ج137 :18.

تتجلّی بکونها مقهورة له تعالی.

لا أنه یُخلق نداء بهذه الألفاظ, فهو من قبیل لسان الحال.

11 - وقوله تعالی: قالَتْ نَمْلَةٌ یا أَیُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساکِنَکُمْ لا یَحْطِمَنَّکُمْ سُلَیْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا یَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِکاً مِنْ قَوْلِها (1). فإنه قد ذکر عدة من المفسرین أن قول النملة لیس کلاما لها وإنما فعلها مع بقیة أفراد مجموعتها حالها بمثابة قول لها.

12 - وقوله تعالی: فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُکَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ یَقِینٍ (2)

فإن کثیراً من المفسرین حملها علی لسان الحال, من النملة ومن الهدهد.

13 - وقوله تعالی: وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ .

وهذه الآیة وإن کانت قد تقدمت أنها من المفصّل لما کان مجملاً إلّا أن مفادها ینطبق علی وجه آخر أیضاً بلحاظ جهة أخری فی مفادها, وهو أن التکلم عبارة عن إبراز وإظهار ما فی النفس من المعانی، فقوام القول والکلام هو إنشاء المعانی فی النفس بإنشاء تکوینی, من أحاسیس وخواطر ومشاعر وهواجس وإحساسات, وخیالات وأوهام وأفکار ووجدانیات ورؤی وآمال وغیرها من المعانی الکثیرة التی تنشئها النفس بتفاعل فإنها بمثابة درجة من التکلم.

ص:434


1- (1) النمل: 19 ,18.
2- (2) النمل: 22.

ومن ثم أطلق علیها بالکلام النفسی والنفسانی وحدیث النفس, فإنه درجة من الکلام, وکأن فطرة الإنسان ومعدن طینته کالأمر المضمر والمُجمل والمُکمَّم, فیُفتّق رتقه لإنشاء وإبراز ذلک المُضمَر المدفون والمعدن المطمور والکنز المستور, فکل درجة من درجات الإبراز والظهور فی طبقات صفحات النفس تُعدّ درجة من درجات التکلّم, ومنه یظهر أن لسان الحال هو من حقیقة التکلّم والکلام وأنه لا یقتصر علی الإبراز بلُحمة اللسان, ولا بالصوت القارع بشحمة الآذان, فیندرج لسان الحال حقیقةً فی الکلام والقول لأنه إبراز ما فی معدن وطینة الإنسان, فمن ثم تکون کل أفعال الإنسان تکلّماً وقولاً.

الوجه التاسع: التمثیل والتصویر:

یعتبر التمثیل والتصویر نمطان بارزان من أنماط لسان الحال ولا یقتصر التمثیل والاستعمال للسان الحال بمنزلة الکلام والقول علی الآیات الشریفة, بل هناک من الروایات الشیء الکثیر..

1 - (ما أضمر أحدٌ شیئاً إلّا ظهر فی فلتات لسانه وصفحات وجهه)(1). ومفاد هذا الحدیث یطابق ما مرّ تقریره من أن حقیقة الکلام غیر منحصرة بإبرازه بلحمة اللسان, بل یشمل ما یُضمر فی النفس والوجدان من ما ینشئ فی صفحاتها من معانی وأحادیث.

2 - ما ورد فی بعض الروایات عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنه قال: (ما

ص:435


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن ابی الحدید ج137 :18.

من یوم یأتی علی ابن آدم إلاّ قال له ذلک الیوم: یا ابن آدم، أنا یوم جدید، وأنا علیک شهید، فقل خیراً واعمل فیّ خیراً، أشهد لک به یوم القیامة، فإنک لن ترانی بعدها أبداً) (1).

3 - وما ورد فی دعاء وداع شهر رمضان للإمام السجاد(علیه السلام)، حیث یقول(علیه السلام) فیه: «... فنحن قائلون: السلام علیک یا شهر الله الأکبر، ویا عید أولیائه، السلام علیک یا أکرم مصحوب من الأوقات...» (2).

4 - ما ورد فی ثواب صوت المؤذن وأنه یشهد له کلّ رطب ویابس یصل إلیه صوته، کما ورد عن النبی صلی الله علیه و آله أنه قال: (المؤذنون یخرجون من قبورهم یوم القیامة یؤذنون ویغفر للمؤذن مدّ صوته، ویشهد له کل شیء سمعه من شجر أو مدر أو حجر رطب، أو یابس...) (3).

5 - ما ورد فی مصحح أبی هارون المکفوف, قال: قال: أبو عبد الله(علیه السلام): یا أبا هارون أنشدنی فی الحسین(علیه السلام), قال: فانشدته فبکی, فقال: أنشدنی کما تنشدون - یعنی بالرقة - قال فأنشدته:

أمرر علی جَدث الحسین فقل لأعظمه الزکیة

یا أعظماً لا زلت من وطفاء ساکبة رویة

وإذا مررت بقبره فأطل به وقف المطیة

ص:436


1- (1) الکافی ج523 :2.
2- (2) الصحیفة السجادیة: 229.
3- (3) مستدرک الوسائل ج37 :4.

وابک المطهّر للمطهّر والمطهرةِ النقیة

کبکاء معولة أتت یوماً لواحدها المنیة

قال: فبکی, ثم قال: زدنی, فأنشدته القصیدة الأخری, قال: فبکی. وسمعت البکاء من خلف الستر, قال: فلما فرغت: قال لی: یا أبا هارون من أنشد فی الحسین(علیه السلام) شعراً فبکی وأبکی عشراً کتبت له الجنة, ومن أنشد فی الحسین(علیه السلام) شعراً فبکی وأبکی خمساً کتبت له الجنة, ومن أنشد فی الحسین شعراً فبکی وأبکی واحداً کتبت لهما الجنة» الحدیث(1).

وتقریب الاستدلال: أن مضمون الأبیات التی ذکرها المُنشد, هو تمثیل وتصویر بلسان الحال, ولیس من الإخبار وکلام المقال, وإلّا فلیس هناک حوار بین الزائر, وبین عظام سید الشهداء(علیه السلام), فهی استعارة تمثیلیة ذکرها المُنشد, لأجل تصویر حیاة الإمام الحسین(علیه السلام), وأن قلوب المؤمنین منجذبة ومرتبطة به, وأن قرحة المصاب وآلام الحزن لا زالت تُبکی عیون المحبین من شیعة الحسین(علیه السلام).

وبهذا التقریب یکون أمره(علیه السلام) لهذا المنشد, بالإنشاد هو بهذا المنوال والشاکلة الذی یکون الغالب فیه؛ طریقة لسان الحال ممّا یتم الترکیز فیه علی المعانی والحالات المعنویة؛ والمشاعر الروحیة, والعواطف النفسانیة؛ والتی هی جزء من الواقع, حیث مرّ أن الواقع والحقیقة لا یقتصر علی المحسوس بالحواس الخمس. فإن المشهد الروحی والنفسانی والفکری والقلبی والعقلی

ص:437


1- (1) کامل الزیارات: باب 33/ 1.

فی واقعة الطف عالم کبیر, حافل بکثیر من الحقائق والمقامات والأهوال ومضمار المیادین الواسعة, التی هی أوسع أُفقاً ورحابةً من البقعة الجغرافیة لواقعة الأبدان فی معرکة الطف فإن الزخم الروحی, والتفاعل النفسانی, هو ذو مشاهد کبیرة, وکثیرة بل هو بحور هائلة من المعانی لا تحصی ولا تُعد. فأین الآلیة الراصدة والمجهر الکاشف لکل تلک المساحات الغائبة عن أعین البصر المادی والجسمانی, وعن أذان البدن المادی.

فبالله علیک, هل لعاقل أن ینحسر نظره عن کل تلک المساحات من حقیقة واقعة الطف, والتی هی بمثابة الروح واللب للواقعة, ویقتصر علی القشور والهوامش, فإن منازلة الطف هی منازلة روحیة فی أساسها وأصلها, ومواجهة عقلیة ومقابلة فکریة, ومحاربة نفسانیة. أکثر مما هی اشتباک عسکری بالأبدان والأجساد.

- وبتقریب ثان للروایة, أنه(علیه السلام): عندما أمر الراثی بالإنشاد, فقرأ قصیدته الأولی, والتی مرّت أنها بلسان الحال حیث تعکس الجوانب الروحیة والمعنویة فی بحر واقعة الطف, لم یردعه(علیه السلام) عن ذلک, بل أکّد له بمزید من الطلب والأمر والحث والترغیب علی مثل هذا الشعر والإنشاد؛ ورغّبه بعظیم الثواب والجزاء.

- وبتقریب ثالث: إن أمرهم (علیهم السلام) بإنشاد الشعر بعنوان الشعر لا بعنوان النثر والکلام النثری, هو بنفسه دال علی تقریر باب لسان الحال فی التذکیر بواقعة الطف وأن هذا الباب, من أعظم الأبواب التی یمکنها کشف مساحات عظیمة مغفول عنها فی تلک الملحمة.

ص:438

حیث أن الشعر بطبعه فیه حالة التحلیق فی عالم الخیال وإثارة الأحاسیس النفسانیة, وتکثر فیه البراعة فی التصویر, والإثارة النفسانیة, کل ذلک مع وقع تفعیلة الأوزان الشعریة, و وقع صوت الکلمات, فمن أجل ذلک جُعلت المباینة بینه وبین القرآن الکریم الذی هو کلام الله کما فی قوله تعالی: وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما یَنْبَغِی لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِکْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِینٌ یس: 69 وکذا قوله تعالی: وَ الشُّعَراءُ یَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِی کُلِّ وادٍ یَهِیمُونَ وَ أَنَّهُمْ یَقُولُونَ ما لا یَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ ذَکَرُوا اللّهَ کَثِیراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا (1).

فبینت هذه الآیات أن الشعر بطبیعته التخیّلیة, غوایة عن الحق, وأنه یسلک بصاحبه إلی کل اتجاه عبثاً, وأن أقواله لیست نابعه من إلتزام وصدقیة, وإنما ثرثرة معانی وتزویق کلمات.

القرآن والدعوة للإنشاد والشعر فی أهل البیت (علیهم السلام) :

ولکنه سبحانه وتعالی, استثنی المؤمنین العاملین للصالحات والذاکرین الله کثیراً والذین یستخدمون آلة الشعر لنصرة المظلوم, وتقریع الظالم وهذا باب عظیم لتقسیم وتصنیف الشعر, أبداه القرآن الکریم؛ فذکر لمواصفات الشعر الصالح الهادف.

أولاً: أن یکون منطلقاً من مقتضیات الإیمان والاعتقادات الحقة.

ثانیاً: أن یکون منطلقاً وداعیاً إلی العمل الصالح بخلاف الشعر الذی

ص:439


1- (1) الشعراء: 24 - 27.

یدعو إلی البطر والأشر واللهو والمجون والفسق والتحلّق وغیر ذلک..

ثالثاً: أن یوجب التذکیر بالله تعالی کثیراً, بخلاف النمط الآخر من الشعر الذی یصدق علیه قوله تعالی: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَ یَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِکَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِینٌ لقمان: 6.

رابعاً: أن یکون نصرةً للمظلوم, ومواجهةً للظالم.

فهذه أرکان أربعة للشعر الهادف الممدوح أساساً فی القرآن الکریم؛ فنلاحظ انطباق هذه الأسس الأربعة, علی الشعر الذی یُنشد فی فضائل أهل البیت, وفی رثائهم, وذکر مصائبهم, وفی فضح أعدائهم.

ومن أعظم مصائبهم (علیهم السلام) ما جری علی سید الشهداء(علیه السلام).

- أما الأساس الأول: فهو مقتضی فریضة الإیمان بولایتهم وخلافتهم من الله ورسوله, ووصایتهم للنبی صلی الله علیه و آله .

وأما الأساس الثانی: فلأن إنشاد الشعر فی أهل البیت هو امتثال للأمر بصلتهم, وهم أعظم رحم أوصی به القرآن الکریم.

فیکون من أبرز الأعمال الصالحة. وکذلک هو طاعة للمودّة لهم.

وأما الأساس الثالث: فلأنهم جُعلوا السبیل إلی الله بنص القرآن, حیث قال تعالی: قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی الشوری: 23.

- وقال تعالی: قُلْ ما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ .

- وقال تعالی: قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ یَتَّخِذَ إِلی

ص:440

رَبِّهِ سَبِیلاً فبیّن سبحانه وتعالی: أن أجر الرسالة هی مودة قربی النبی صلی الله علیه و آله , وأن هذا الأجر نفعه عائد للبشریة, وأن هذه المودة لأهل البیت (علیهم السلام) هی السبیل إلی الله سبحانه: «فکانوا هم السبیل إلیک والمسلک إلی رضوانک.

وأما الأساس الرابع: فإنَّهم (علیهم السلام) ظُلموا واُبعدوا عن الحق الذی جعله الله لهم واضطهدوا, ودُفعوا عن مراتبهم التی رتبّهم الله فیها.

وفی الحقیقة أن نصرتهم هی نصرة للدین القویم کما أشار إلیه قوله تعالی: قُلْ ما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ .

ومن ذلک نری سیرة النبی صلی الله علیه و آله علی حث الشعراء, فی عصره, کحسان بن ثابت وغیره فی إنشاد الشعر فی أهل البیت (علیهم السلام) . والفضائل التی أنزلها القرآن فیهم (علیهم السلام) . ولأجل ذلک قد ورد مستفیضاً الحث علی إنشاد الشعر فیهم (علیهم السلام) .

- وقد روی الصدوق فی عیون أخبار الرضا(علیه السلام). (المتضمنة للحث علی إنشاد الشعر فیهم (علیهم السلام) ).

- وقد عقد السید البروجردی فی جامع أحادیث الشیعة, باباً فی استحباب انشاد الشعر فی الحسین(علیه السلام) وأهل البیت, وذکر فیه ثمان وعشرین روایة فی ج12.

وعقد صاحب الوسائل باباً فی استحباب إنشاد الشعر فیهم (علیهم السلام) باب 104/ من أبواب المزار.

فتحصّل أن إسناد القول والکلام إلی الشخص بلحاظ واقع حاله

ص:441

لسان أصدق وأبین وأثبت من لسان المقال، وأن هذا الإسناد حقیقی سواء بلحاظ الفعل الصادر عنه علی مستوی جوارح البدن أو علی مستوی الجوانح. أو کان حالاً من الأحوال وسواء کان للبدن أو للنفس, وإن رجع الحال إلی کونه فعلاً صادراً منه بحسب النظر الدقیق الممعِن, وأن هذا الإسناد لیس علی نحو المجاز أو التوسّع شریطة أن یکون الحال حقیقیاً.

التصویر:

أما ما ورد فی التصویر، فعدة روایات:

1- ففی مصححة أبی هارون المکفوف, قال: دخلتُ علی أبی عبد الله(علیه السلام), فقال لی: أنشدنی, فأنشدته, فقال(علیه السلام): لا, کما تنشدون, وکما ترثیه عند قبره. فقال: وأنشدته:

أمرر علی جَدث الحسین فقل لأعظمه الزکیة

قال: فلما بکی، أمسکتُ أنا. فقال: مُرّ.

فمررتُ. قال: ثم قال: زدنی, زدنی. فأنشدته:

یا مریم قومی فاندبی مولاکِ وعلی الحسین فاسعدی ببکاکِ

قال فبکی وتهایج النساء. الحدیث(1) .

- وتقریب الاستدلال, أن الشاعر والمنشد (الرادود) القارئ والملّا

ص:442


1- (1) کامل الزیارات: باب 33/ ح5.

قام بعملیة تصویر فی کل من البیتین مشیراً للمشاعر والعواطف بنحو التصویر الذی یقوم به الشعراء، ففی البیت الأول, قام بتصویر شخص یخاطب آخر, ویأمره بالمرور علی قبر الحسین(علیه السلام), وأیضاً صوّر الشاعر حوار وتخاطب بینه وبین العظام الزاکیات لسید الشهداء(علیه السلام).

فقام بعملیة حوار مفصّل فی الأبیات الأخری بین شخص الزائر وجثمان سید الشهداء(علیه السلام).. وقد أقرّه الإمام(علیه السلام) علی هذا التصویر, بقوله(علیه السلام): مُر. أی (أمض فی تصویرک وتابع بقیة المشهد التصویری الذی أنشأته).

- وأما القصیدة الثانیة التی مطلعها البیت الثانی.

فلا یخفی وجه التصویر فیه, حیث صوّر تعاطف وتعاون رجل وامرأته علی الرثاء والبکاء علی الحسین(علیه السلام) وأنهما أقاما مأتماً یتناشدان فیه مصاب سید الشهداء(علیه السلام). فهنا نری أن هذا التصویر زاد من حرقة بکاء نساء وحرم الصادق(علیه السلام), وتهایجن بالبکاء. وأشعل مزید من الحزن لدیهن بصراخ, وقد أقرّ الإمام(علیه السلام) المنشد (الرادود) علی ذلک, وحثّه علی هذا الطریق وحثّ غیره من المؤمنین(علیه السلام), بذکر مدی الثواب العظیم لذلک.

2- ما رواه الشیخ المفید فی المزار، والسید ابن طاووس والشهید الأول فی مزاره، أنه إذا أردت زیارة النبی صلی الله علیه و آله فیما عدا المدینة الطیبة، من البلدان، فاغتسل ومثّل بین یدیک شبه القبر، واکتب علیه اسمه الشریف، ثم قف، وتوجّه بقلبک إلیه، وقل: (أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا

ص:443

شریک له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله...) (1).

3 - وروی المشهدی فی المزار الکبیر، بسنده الصحیح عن عبد الله بن سنان، عن الصادق(علیه السلام)، فی حدیث عن کیفیة الزیارة لسید الشهداء من البعد، وفیها: ... ثم تسلّم وتحوّل وجهک نحو قبر الحسین(علیه السلام)، ومضجعه، فتمثل لنفسک مصرعه، ومن کان معه، وتلعن قاتلیه، وتبرأ من أفعالهم، یرفع الله عَزَّ وَجَلَّ لک بذلک فی الجنة من الدرجات، ویحط عنک من السیئات) (2).

ویتحصّل من کلّ ما مرّ، استعراض تسعة وجوه وطرق للحکایة عن الواقع، تختلف عن حکایة الکلام الإخباری بل هی طرق أخری ترصد فی الأصل مساحات من الحقیقة والواقع غیر محسوسة بالبصر ولا مسموعة بالأُذن، إلاّ أنّ الواقع یعیشها، ویتعامل معها بتفاعل، فلإنکشافها وإظهارها آلیات، تغایر قالب وإطار الکلام والنطق باللسان. فلا یمکن حصر القنوات الرافعة للستار والکاشفة اللثام، والمزیلة للغطاء عن الواقع، إلاّ بضمیمة هذه الطرق والقنوات الأخری، وما استعرضناه، لیس استقصاءاً نهائیاً لتلک الطرق، وإنما، ذکرنا جملة مهمة منها.. والأمر بعد یحتاج إلی المزید من الاستقراء وإمعان من التحلیل والتتبّع.

ص:444


1- (1) الإقبال لابن طاووس/ ط حجریة: 604 - وفی بحار الأنوار ج 183 :97 - باب 3/ من أبواب زیارة النبی صلی الله علیه و آله من البعد.
2- (2) المزار الکبیر للمشهدی/ باب 12/ قسم 4/ الزیارة السادسة/ ص: 473.

فائدة:فی عموم مانعیة الغرر عن الصحة

اشارة

ص:445

ص:446

فائدة فی عموم مانعیّة الغرر والشروط

العقلائیة للصحة

وتطبیقها فی عقد التامین انموذجا

اشارة

وهو مبنی علی عموم مانعیّة الغرر فی العقود وعدم اختصاصه بالبیع، أی علی تمامیّة تلک الکبری، فقد وقع الکلام عن الدلیل علی ذلک؛ إذ النصّ الوارد المعتبر إنّما هو «نهی النبیّ صلی الله علیه و آله عن بیع الغرر»(1). ولیس «نهی النبیّ عن الغرر» کی یعمّ. ولم یعثر علی روایة ولو مرسلة فیها التعمیم وإن ادّعی البعض العثور علیها، فغایة ما ثبت «نهی النبیّ عن بیع الغرر.

نعم، استظهر البعض عدم خصوصیّة البیع، وأنّ النهی أعمّ وإن ورد فیه.

والصحیح أنّ الغرر مانع فی کلّ العقود لا فی خصوص البیع، والوجه فی ذلک هو البناء العقلائی علی مانعیّة الغرر فی بقیّة العقود، خلافاً لما قیل من: أنّ الغرر لیس من الشروط العامّة فی صحّة کلّ العقود، فلا یسلّم بمانعیّته فی عقد التأمین.

ولا یخفی أنّ أدلّة الصحّة فی العقود موضوعها المعاملة العقلائیّة العرفیّة، مثلًا:

ص:447


1- (1) وسائل الشیعة، ج17، ص447.

وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ (1) کدلیل للصحّة أخذ فی موضوعه البیع العرفی لا الشرعی، وإلّا لکان تحصیلًا للحاصل.

و هذا البیع العرفی الذی یصحّحه الشارع یجب أن یکون فی الرتبة السابقة واجداً للشروط العقلائیّة العرفیّة؛ إذ بدونها لا یکون البیع فی نظرهم موجوداً، فلا یکفی فی البیع توفّر الشروط الشرعیّة التأسیسیّة فقط.

نعم، العرف هاهنا بمعنی لغة القانون البشری الوضعی، وهذا باب ینفتح منه اعتبار الشروط فی المعاوضات وإن لم یرد فیه نصّ خاصّ. نعم، قد یفرض أن یضیف الشارع بعض الشروط أو یلغی بعضها، وهذا تقدیر آخر.

و مانعیّة الغرر عند العقلاء غیر مخصوصة بالبیع، بل فی مطلق ماهیّة المعاوضة؛ إذ التعاوض نوع مساواة مالیّة بین الطرفین ولا تتمّ المعاوضة والمساواة بین المالین إلّا بالعلم بذات وقدر الطرف الآخر وتقرّره، فلابدَّ من الإحاطة بکلّ من الطرفین کی یتمکّن من عملیّة المعاوضة بینهما، وإلّا لم تکن معاوضة، بل هبة مبتدأة أو شبهها أو صالحاً لا یبتنی علی التعاوض، بل علی التقابل بالرضا.

ولذلک قیل بجواز هدیة المجهول، مثل: «وهبتک ما فی الکیس»، وکذا فی الوقف، وفی المضاربة، وغیرها من العقود الإذنیّة، وهذا بخلاف المعاوضات.

ص:448


1- (1) البقرة: 275.

ولا نقصر الکلام فی الإحاطة والعلم بالعوضین علی خصوصیّتهما أو مالیّتهما، بل الکلام فی مطلق جعل التقابل بینهما، فمثلًا: فی البیع عند ما یقابل بعوض مالی، معیار هذه المقابلة هی الموازنة والمساواة المالیّة، ولو بحسب اختیار المتعاقدین، ومن ثمّ فلو لم تکن مساواة بحسب الواقع لا یبطل البیع، بل غایة الأمر یثبت خیار الغبن، فالمقابلة قائمة علی التوزین المالی، وهو متوقّف علی معرفة العوض کی تجری فیه المعاوضة والمساومة والمساواة، فثبوت خیار الغبن لا ینافی اعتبار مانعیّة الغرر، بل یتوقّف علیها؛ إذ لا یمکن فرض الغبن وخیاره إلّا مع عدم الغرر.

بیان ذلک: أنّ کلاً من المتعاقدین یوازن ویقابل العوضین عالماً بالمقابلة، وإن لم یعلم القیمة الواقعیّة، فالمقابلة معلومة فی البین، ومن ثمّ تُقایَس مع القیمة الواقعیّة کی یُتبیّن وجود الغبن أو عدمه، فتصویر الغبن وعدمه مبتن علی معلومیّة أصل المقابلة، وظهور الغبن لا ینافی کون البیع الواقع خالیاً من الغرر؛ إذ لیس انتفاء الغرر والجهالة هو بحسب الإحاطة والعلم بذات العوض علی ما هو علیه فی الواقع بجمیع صفاته وخصوصیّاته، بل هو بحسب أحد صفات العوض المهمّة التی یمکن ضبط بقیّة صفاته الاخری- وإن کانت مجهولة- بها، فیکفی فی تحقّق المقابلة فی المعاوضات العلم بالمقابلة بحسب أحد الصفات المهمّة، فمدار انتفاء الغرر وعدمه لا ینافی وقوع الجهل بصفة المالیّة الواقعیّة، فلا ینافی تصویر خیار الغبن؛ ولذلک اشترطوا فی البیع عدم الغرر مع قولهم بخیار الغبن فیه، ولم یعدّ ذلک تهافتاً لإمکان تصوّر وقوع البیع الصحیح الخالی عن الغرر الموجب

ص:449

مع ذلک لخیار الغبن، وأنّ الغرر ینتفی بالعلم بالمالیّة الجعلیّة المسمّاة بحسب المقابلة لا بخصوص العلم بالمالیّة الواقعیّة وتسمیة المالیّة هی عین المقابلة بخلاف المالیّة الواقعیّة، فالغبن قائم علی حیثیّة تختلف عن الحیثیّة التی تقوم علیها المقابلة.

تذییل بنکتة:

إنّ طبیعة المعاوضات من المعانی التشکیکیّة، کما هو الحال فی الغرر، والجهالة أیضاً، فالمعاوضة فی البیع قائمة علی المقابلة بنمط دقیق لوقوع نقل رقبة العین فیه، وحیث أنّ العین بتمامها تُنقل فیتشدّدون فی إبعاده عن الغرر، فالغرر بحسب البیع یتفاوت مع الغرر بحسب الشرکة أو القرض مثلًا، وکذا الحال فی الإجارة؛ لأنّ المنقول فیها المنفعة فقط، وإن اشتهر أنّ الإجارة صنو البیع، وهذا التفاوت لا ینافی اعتبار عدم الغرر فی مطلق المعاوضات، إلّا أنّه فی کلّ عقد بحسبه لاختلاف درجات المعاوضات.

فتحصّل تمامیّة کبری مانعیة الغرر فی العقود، وعلیه فالتأمین إمّا ضمان أو ماهیّة مستقلّة، وعلی کلا التقدیرین فهی معاوضة، فیشترط فیه عدم الغرر.

لکن یبقی الکلام صغرویاً بحسب الخارج فی کون عقد التأمین یستلزم الغرر- کی یتأتّی الإشکال الأوّل- أو لا؟

و الجواب: أنّ علم التأمین بحسب أدواته الحدیثة قد أوجب انخفاض نسبة الجهالة وتصاعد النسبة الاحتمالیّة إلی درجة متّفقة عند

ص:450

العقلاء؛ إذ بات علماً یدرس فی الجامعات، فیعیّن فیه درجة الخطورة ودرجة الثمن الذی یقابل الخطر، ومدّة التأمین، والبلد الذی یجری فیه عقد التأمین، والحرَف التی یجری علیها التامین، وهلم جرّاً.

فهناک آلات الإحصاء بدرجة تخمینیّة تقارب الواقع، فتُدرس کلّ هذه الزوایا ویحدّد جمیعها فی عقد التأمین، ومع کلّ هذه الدراسات والبرامج لا مجال لدعوی الغرر فی عقد التأمین، بل المتداول منه حالیاً یجری مع نسبة کبیرة من إبصار الواقع بالأدوات والدراسات الحدیثة. نعم، إشکال الغرر کان متأتّیاً فی الأزمان السابقة لعدم إمکان الاحصائیّات الدقیقة.

ومن هذا القبیل المسألة الواقعة فی البیع فی العصر الحاضر بدائرة وسیعة، لا سیّما

فی البیوعات الخطیرة وذات الکمّیات الکبیرة، حیث یتمّ التصافق علی بیع الأشیاء بوجودها الشخصی بقیمة یوم التخلیص من الجمرک أو بقیمة یوم القبض، وقد أفتی جملة من أعلام العصر ببطلان هذا البیع لعدم تحدید الثمن فیه، وهذا النمط من البیع هو الرائج حالیاً فی بیع النفط والغاز وغیرها من المنتوجات الطبیعیّة لکلّ بلد من بقیّة المعادن أو الزراعات أو المنتوجات المصنّعة.

وتنقیح الحال فیها: أنّ الجهالة والغرر بحسب سوق المال والتجارة العصریّة یقرّرونه ویجدونه حالیا فی تعیین الثمن فی مثل هذه الموارد حیث أنّ تعیینه لا یُعلم فیه مدی اجور الکلفة التی سوف تقع علی عاتق البائع،

ص:451

کما أنّ فی تعیینه بحسب وقت التعاقد لا یحصل العلم بنسبة الربح والخسارة؛ وذلک لأنّ الأسعار فی مثل هذه الموارد تُعیّنها أسواق البورصة، وبیاناتها فی القیمة إنّما هو بلحاظ السعر الحاضر الفعلی لا القیمة المستقبلیّة، وبالتالی فیعدّ تعیین البائع الثمن فی عدد معیّن هو بمثابة اللاتعیین واللاتحدید، بخلاف ما لو حدّد الثمن بقیمة البورصة أو السوق یوم التقابض، فإنّ هذا القید الزمنی أضبط تحدیداً وأدقّ تعییناً للقیمة من العدد والحساب الکمّی، وکذلک الحال فی جانب المشتری، وهذا التبدّل فی ضوابط التعیین والتحدید، وفی نحو تقرّر وجود الغرر والجهالة هو بسبب تغیّر عالم الأسواق المالیّة وبیئة التعامل التجاری، فهو من التغییر فی المصادیق لا فی المفاهیم والمعانی، ولا ریب أنّ تقرّر وجود المصادیق إنّما هو بحسب الأنظار العقلائیّة والعرفیّة الجاریة.

ص:452

فائدة :لوازم مخالفة عقد المضاربة للقاعدة

اشارة

ص:453

ص:454

لوازم مخالفة عقد المضاربة للقاعدة

توطئة:

أنّ المضاربة وأخویها علی خلاف مقتضی القاعدة وذلک فی موارد:

المورد الاول:

إنّ النماء یجب أن یکون تابعاً للأصل ویملک الفرع من یملک الأصل، بینما الحال فی هذه العقود الثلاثة لیس کذلک، حیث أنّ مالک مال التجارة لا تکون الأرباح کلّها له، بل تکون بینه وبین عامل المضاربة، وهذا علی خلاف مقتضی القاعدة.

المورد الثانی:

إنّ المضاربة لیس معاملة واحدة غالباً، بل معاملات یرد بعضها علی بعض یجریها عامل المضاربة، فإذا کان رأس مال مائة دینار- مثلًا- وکان للعامل نصف الربح، فاتّجر العامل به واشتری سلعة بمائة دینار، ثمّ باعها بمأتی دینار، کان مقتضی العقد اختصاص المالک بمائة وخمسین دیناراً، واختصاص العامل بخمسین دیناراً فقط، فلو اشتری بعد ذلک شیئاً بمأتی دینار ثمّ باعه بأربعمائة دینار، فمقتضی العقد أن یکون للعامل مائة وخمسون دیناراً، وللمالک مائتان وخمسون دیناراً، وهو مخالف للقاعدة من حیث أنّ مأتی الدینار الحاصلة من التجارة الثانیة إنّما هی ربح لمجموع خمسین دیناراً- أی حصّة العامل- ومائة وخمسین دیناراً- أی حصّة المالک-

ص:455

ومقتضی القاعدة أن یکون رُبع هذا المبلغ وثلاثة الأرباع الباقیة بینه وبین الملک، وهذا یعنی أن یکون العامل- من مجموع الأربعمائة- مائة وخمسة وسبعون دیناراً، وللمالک منه مائتان و خمسة وعشرون دیناراً فقط، والحال أنّه لا یأخذ إلّا مائة وخمسین دیناراً، ولازمه أن یکون ربح العامل أیضاً مناصفة بینه وبین المالک، وهو علی خلاف القاعدة، حیث أنّ المالک لم یعمل فیه شیئاً، بل ذلک المال حصّة العامل بتمامه فی العمل فیه من العامل، فلا وجه لأن یکون للمالک نصف ربحه فی ما إذا بُنی علی أنّ النماء منذ أوّل ظهوره لا یدخل فی ملک مالک الأصل، فتکون المضاربة مخالفة للقاعدة من جهتین: جهة مالک المال، وجهة العامل.

و أمّا إذا بُنی علی أنّ النماء لا یملّک إلی غیر مالک الأصل- منذ أوّل آن الظهور، وإنّما بعد الظهور، أی: أنّ النماء أوّل ما یظهر یدخل فی ملک المالک، ومن ثَمّ یملّک للأجنبی لکی لا یکون خلاف مقتضی القاعدة- فهو خلاف آخر لمقتضی القاعدة سنذکره فی المورد التالی.

المورد الثالث:

إنّ فی عقد المضاربة تملیکاً لشیء معدوم علی نحو التعلیق، أی: تملیک تعلیقی لمعدوم لم یظهر، بنحو شرط النتیجة لا بنحو شرط الفعل.

فتارة یقول صاحب المال: اذهب واتّجر بمالی، فإذا ظهر الربح سأُملّکک کذا، فهذا من شرط الفعل وهو یغایر عقد المضاربة، فإنّه یتمّ التملیک بنحو شرط النتیجة بنفس عقد المضاربة، فمن الآن الأوّل الملکیّة انشئت معلّقة للمملوک المعدوم، وهو خلاف القاعدة ,کبیع ما لا یملک

ص:456

وبیع ما لیس عنده. فالتملیک بعد الوجود وبعد الدخول فی ملک صاحب الأصل تملیک لشیء معدوم بنحو شرط النتیجة.

المورد الرابع:

یظهر من کلمات الشهید الأوّل والمحقّق الکرکی أنّ مخالفة القاعدة فی عقد المضاربة وأخویها من جهة الغرر الکائن فیها؛ لأنّ عامل المضاربة قد یعمل ویذهب عمله سُدی؛ إذ قد لا یکون ربح فی البین فهو نوع إقدام علی الجهالة، وکذلک بالنسبة إلی صاحب المال أو الأرض عند عدم الربح، ففیه جهالة وغرر، فیقتصر فی رفع الید عن دلیل بطلان الغرر علی القدر المتیقّن، وهو ما کان الربح مشاعاً، ویبقی الباقی مشمولًا لأدلّة الغرر الحاکمة ببطلان تلک الصور.

الفائدة: إنّ لوازم کون عقد المضاربة مخالف للقاعدة هو:

أوّلًا: عدم إمکان التمسّک بالعمومات والإطلاقات الواردة فیها، وإن کانت نسبتها مع عمومات القواعد نسبة الدلیل الخاصّ إلی العامّ- وإن کان إطلاق الخاصّ مقدّماً علی إطلاق العامّ- ووجه ذلک: أنّ عمومات القواعد الأوّلیّة اصول مقرّرة فی الأبواب العدیدة، فعمومها کالآبی عن التخصیص، لا یرفع الید عنه إلّا مقدار القدر المتیقّن الأقوی دلالةً منه، لا بمجرّد درجة ظهور الخاصّ، فضلًا عن إطلاق الخاصّ. فیلتزم بالقدر المتیقّن بخلاف ما لو کانت دلالة مدلول الخاص مطابقة لمقتضی القواعد، فیمکن التمسّک بالعمومات فی المضاربة التی هی من قبیل اطلاق الخاص.

ص:457

ثانیاً: إنّ المضاربة نوع مشارکة بین العمل ورأس المال، والشرکة فیهما غیر صحیحة، إلّا فی ضمن تلک العقود الثلاثة، فمع کون تلک الثلاثة علی خلاف القاعدة أیضاً، یقتصر فی تصحیح شرکة الأعمال مع الأموال علی تلک العقود بخلاف ما لو کانت العقود الثلاثة مطابقة للقاعدة، فإنّه یمکن التعدّی والقول بأنّه لا خصوصیّة فی المضاربة وأخویها، فتصحّح مطلق شرکة العمل والمال.

ویستظهر التعمیم ممّا ورد فی أخبار المساقاة، بأنّ أهل الحجاز یصعب علیهم مباشرة البساتین بأنفسهم؛ إذ یسقون من الآبار، فیحتاجون إلی المساقاة، وهذا التعلیل یؤیّد تعمیم صحّة شرکة الأعمال والأموال لموارد الحاجة، ولهذا البحث محلّ آخر.

وذهب صاحب المهذّب السیّد السبزواری(قدس سره) إلی کون العقود الثلاثة علی مقتضی القاعدة، ولذلک خالف المشهور فی کثیر من أبحاث المضاربة، وقرّر ذلک بأنّ:

أولاً: إنّها معاملة عقلائیّة لم یخترعها الشارع فیتوسّع فیها قدر الإطلاق العرفی، إلّا أن یردع الشارع عنها، فما ورد من الأدلّة الشرعیّة إمضاء لا تأسیس، بخلاف ما لو کانت هی معاملة مخترعة من قِبل الشارع فیجب أن یقتصر علی القدر المتیقّن، أو قدر ما دلّ علیه الشارع. ویشهد لعقلائیّتها أنّها بحاجة معاشیّة فی النظام الاقتصادی؛إذ قد یکون صاحب المال لا یحسن الاتّجار، وقد لا یکون مال عند من یحسن الاتّجار، فلأجل ذلک تتولّد الحاجة إلی معاملة عقلائیّة فی البین، فالمضاربة معاملة إمضائیّة

ص:458

ولیست بتعبّدیّة، فیمکن أن نتمسّک بالإطلاق فیها.

ثانیاً: إنّ مقتضی «النّاس مسلّطون علی أموالهم) (1) أنّ لصاحب المال أن یملّک النماء لغیره، أو یجعل النماء غیر تابع للأصل؛ إذ هو مِلکه وتحت سلطنته، فیستطیع أن یجعل النماء ملکاً لآخر، کما فی منافع الدار تجعل ملکاً لغیر مالک الدار بالإجارة- مثلًا- مع أنّ منافع الدار معدومة تنوجد طوال عشر سنین- مثلًا- فی عقد الإجارة، وقد مُلّکت تلک المنافع المعدومة فی ذلک الظرف.

ثالثاً: إنّ تملیک المعدوم لیس ممنوعاً مطلقاً؛ إذ فی ما ترتّبت علیه ثمرات فلا بأس به.

وأمّا أقوال العامّة:

ففی المساقاة ذهبوا إلی أنّها من مخترعات الشارع ولیست لها سابقة عقلائیّة عَقَدها النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مع یهود خیبر؛ إذ لو بنی علی کونها تأسیسیّة فیقتصر علی مقدار دلالة الأدلّة، وإذا بنی علی أنّها ماهیّة عقلائیّة إمضائیّة فلابدَّ من معرفة ماهیّتها عندهم.

ففی بدایة المجتهد لابن رشد یذکر أنّه: «لا خلاف بین المسلمین فی جوار القراض، وأنّه ممّا کان فی الجاهلیّة فأقرّه الإسلام، وأجمعوا علی أنّ صفته أن یعطی الرجل الرجل المال علی أن یتّجر به علی جزء معلوم یأخذه العامل من ربح المال، أی جزء کان ممّا یتّفقان علیه، ثلثاً أو ربعاً أو نصفاً،

ص:459


1- (1) بحار الأنوار، ج2، ص272.

وأنّ هذا مستثنی من الإجارة المجهولة، وأنّ الرخصة فی ذلک إنّما هی لموضع الرفق بالناس، وأنّه لا ضمان

علی العامل فی ما تلف عن رأس المال اذا لم یتعدّ، وکذلک أجمعوا بالجملة علی أنّه لا یقترن به شرط یزید فی مجهلة الربح أو فی الغرر الذی فیه، انتهی کلامه.

وقال عبد الرحمن الجزیری فی الفقه علی المذاهب الأربعة أنّ: «المضاربة فی اللغة عبارة عن أن یدفع شخص مالًا لاخر یتّجر فیه علی أن یکون الربح بینهما علی ما شرط أو الخسارة علی صاحب المال، وعند الفقهاء عبارة عن عقد بین اثنین یتضمّن أن یدفع أحدهما للآخر مالًا یملکه لیتّجر فیه بجزء شائع معلوم من الربح، کالنصف أو الثلث أو نحوهما بشرائط مخصوصة.

الحنفیّة قالوا: «عقد المضاربة بالنظر لغرض المتعاقدین یکون شرکة فی الربح؛ لأنّه دفع من جانب المالک، وبذل عمل من جانب المضارب بأن یتّجر فی المال لیشترک مع صاحبه فی ربحه. فالغرض من ذلک العقد هو الاشتراک فی الربح، ومن أجل ذلک عرّفوه: بأنّه عقد علی الشرکة فی الربح بمال من أحد الجانبین وعمل من الآخر.

المالکیّة قالوا: «المضاربة فی الشرع عقد توکیل صادر من ربّ المال لغیره علی أن یتّجر بخصوص النقدین (الذهب والفضّة) المضروبین ضرباً یتعادل به، ولابدَّ أن یدفع ربّ المال للعامل القدر الذی یرید أن یتّجر فیه عاجلاً.

ص:460

الحنابلة قالوا: «المضاربة عبارة عن أن یدفع صاحب المال قدراً معیّناً من ماله إلی من یتّجر فیه بجزء مشاع معلوم من ربحه، ولابدَّ فی ذلک المال من أن یکون نقداً مضروباً ویقوم مقام دفع المال، وأن یکون قد أودع عند شخص مالًا ثمّ قال له: اعمل

فی ذلک المال المودع مضاربة، فتصبح المضاربة عندهم بالودیعة.

الشافعیّة قالوا: «المضاربة عقد یقتضی أن یدفع شخص لآخر مالًا یتّجر فیه علی أن یکون لکلّ منهما نصیب فی الربح بشروط مخصوصة.

دلیل المضاربة الإجماع، «فقد أجمع المسلمون علی جواز ذلک النوع من المعاملة، ولم یخالف فیه أحد، وقد کان معروفاً فی الجاهلیّة فأقرّه الإسلام؛ لما فیه من المصلحة، فالمضاربة عقد قد یکون فیه مصلحة ضروریّة للنّاس، وعند ذلک یکون داخلًا فی القاعدة العامّة، وهی الحثّ علی عمل ما فیه المصلحة، ویکون له حکم الفائدة المترتّبة علیه، فکلّما عظمت فائدة المضاربة کان طلبها مؤکّداً فی نظر الشارع.

فیتبیّن ممّا ذکره فی المهذّب والبدایة وکتاب الجزیری أنّها قاعدة عقلائیّة أمضاها الشارع، فبعض منهم یرونها شرکة، وبعض آخر إجارة أو ودیعة، لکنّ هذا الإمضاء یجب أن لا یتنافی مع القاعدة المحکّمة وهی النهی عن الغرر والتعامل علی الشیء المجهول.

ثمّ إنّه لابدَّ من تنقیح الحال فی أنّ المضاربة وإن کانت عقلائیّة، فهل تجب أن تکون علی وفق القواعد والعمومات أم لا؟ إذ مع کون المعاملة

ص:461

عقلائیّة أمضاها الشارع، فلا تجب أن تکون علی وفق العمومات؛ لأنّ إمضاء الشارع لتلک العقود مع کونها خلاف القاعدة المحکّمة- التی لدی الشارع، وهی: بیع ما لیس عنده (ما لا یُخلَق)، أی: تملیک ما لا یملک وتملیک المعدوم- دالّ علی أنّ الإمضاء بملاک آخر، فیؤخذ بإطلاقه.

فتلک القواعد العامّة تکون محکّمة فی جمیع المعاملات، وأرجع الشارع المتشابه والمستجدّ منها إلیها بخلاف المضاربة وأخویها، ولکن قد یقال: إنّها حیث کانت علی خلاف مقتضی القواعد الشرعیّة فإنّ بنی علی أنّها إجارة مجهولة أو جعالة أو شرکة کذلک، فالشرکة تقتضی الاشتراک فی کلّ الربح بنحو الشیوع بالنسبة المقرّرة، وفی الإجارة تکون النسبة مجهولة بهذا المقدار الجائز لا الأزید من ذلک وکذلک الجعالة.

فماهیّة تلک العقود الثلاثة ترجع إمّا إلی الإجارة، أو الجعالة، أو الشرکة، فلیست بماهیّة جدیدة تأسیسیّة، ومع کونها تنافی قاعدة الغرر وعدم جواز تملیک ما لا یملک، فلا إطلاق فیها فی ماهیّتها العقلائیّة ولا إمضاؤها تعبّد صرف بملاک معاملی مستقلّ، بل برزخ بینهما.

ففی ما نحن فیه یجب أن تکون الإشاعة فی الربح، بعد کون الأکثر ذهبوا إلی أنّها شرکة ومقتضاها الإشاعة فی کلّ الربح لا فی بعضه دون بعض، وأمّا إذا کانت جعالة أو إجارة ففیهما أیضاً یجری لزوم کون العوض معلوماً فیهما، ولا یکون غرریاً ولا عن الجهالة.

غایة الأمر هو رفع الید عن الغرر فی فرد، وهو النسبة الشائعة بأدلّة إمضائها، وأمّا الزائد علی هذا فیدخل فی دلیل النهی عن الغرر، فلو کنّا

ص:462

نحن ومقتضی القاعدة، فاللازم عدم تسویغ بقیّة الصور.

وممّا یؤیّد ذلک: نفس تعریفات المضاربة، کالضرب بسهم فی الربح، أو تعریفها بأنّ القراض مع الموازنة (و الموازنة هی المساهمة، أی الشرکة).

فالمضاربة إن کانت شرکة بین العمل والمال فهی تقتضی الإشاعة لا التمیّز، وإن کانت إجارة وجعالة فلابدَّ فیهما من اشتراط جزء معلوم. غایة الأمر رفع الشارع یده عن تعیین العلم أو اشتراط العلم بعوض الإجارة والجعالة، بلحاظ وجود نسبة کسریّة فی المضاربة، ولا یخفی أنّ النسبة الکسریّة أفضل الطرق للاطمئنان بالاجرة؛ لأنّه إن اشترط قدراً معیّناً لمالک المال فیحتمل أن لا یکون لعامل المضاربة أی عوض، فهو نوع تغریر زائد علی أصل التغریر الأوّل فی أصل عقد المضاربة.

وإن کان القدر المعیّن شرطاً لعامل المضاربة لا لمالک المال، فهو علی وفاق مع الإجارة، إلّا أنّه خلاف مقتضی قاعدة تبعیّة النماء للملک.

فهاهنا إمّا تخصّص قاعدة أنّ النماء تابع للأصل فی ما إذا کان التملیک بنحو شرط النتیجة، أی أنّه یدخل فی ملک العامل ابتداءً من دون دخوله فی ملک مالک المال، أو أنّ المعدوم لا یملک بخلاف ما إذا کان بنحو شرط الفعل أو الشرط المعلّق علی تملّک مالک المال للنماء ثمّ تملیکه للعامل، فهاهنا عمومان تخالفهما المضاربة.

فلو فرض أنّ المضاربة إجارة، فلابدَّ أن تفرض إجارة وشیء آخر، ولیست بإجارة فقط؛ لأنّ مقتضاها لیس مجدّد تملیک للعامل، بل تملیک

ص:463

للمالک أیضاً، فلابدَّ أن تفترض شرکة وإجارة، وأنّ بین مالیّة عمل العامل ومال المالک شرکة، فعمل العامل مورد للإجارة فهو لحاظ لمالیّة اخری.

أمّا إذا لم نرد إرجاع المضاربة إلی عقود اخری، فلا أقلّ هی شبیهة بماهیّة الشرکة، فمقتضی عقد المضاربة فی نفسه مخالف لاشتراط القدر المعیّن.

ص:464

فائدة :فی المعاملات المستجدة

ص:465

ص:466

فی المعاملات المستجدة

ان مقتضی القاعدة الاولیة بحسب عمومات النکاح وامضاء الشروط ان عقد المتعة صحیح - کما بینا فی محله من سند النکاح ، وقد اشار الی ذلک بعض المتقدمین من الاصحاب.

لانّ العمومات فی الآیات والسنة الدالة علی امضاء مطلق النکاح شاملة للمتعة کما حررنا بیانه فی سند النکاح ان نکاح المتعة ماهیته ماهیة النکاح، وتختلف عن ماهیة الزنا والسفاح والاخدان، غایة الامر ان الشروط النافذة بین المسلمین قد تصوغ العقد بصیاغاتواشکال مختلفة، فیسمی ذات العقد بتسمیات متعددة مادامت تلک الشروط لاتخالف الکتاب والسنة ولاتناقض مقتضی العقد، ومن الواضح ان اشتراط الاجل فی النکاح فضلاً عن المهر لاینافی مقتضی ماهیة النکاح، لأنّه انّما هو یقتضی اقتران الزوجین وتملیک البضع، غایة الامر اذا اطلق کان مرسلا ً للملکیة فتکون مطلقة، ومرسلة للاقتران فتکون دائمة مؤبدة بخلاف ما اذا قیّد بالاجل وحدد فیرتفع الارسال والاطلاق والتأبید، نظیر ما قیل فی الفرق بین البیع والاجارة، فانّ کلاً منهما تملیک للعین، ومن ثم تتعلق الاجارة وتسند الی العین نفسها، ویقع بالتملیک کل من العقدین، غایة الامر ان التملیک فی الاجارة محدد بالاجل خلاف البیع، ومن ثم قیل بان الاجارة متولدة من البیع، وقد وردت نصوص مستفیضة علی وقوع الایجاب فی الاجارة بلفظ البیع مع ضم التقیید بالمدة.

ص:467

وأما عدم مخالفة الشرط للکتاب فلما یظهر من الآیة من سورة النساء لاسیّما بقراءة (الی اجل مسمی) واشعار لفظ الاجرة بذلک فی الآیة، وامّا ما یقال بأنّ آیات الطلاق بعمومها تخالف هذا الشرط فمن ثمّ قیل بأنّها ناسخة لآیة المتعة.

ففیه: ان الظاهر من الطلاق رفع وفسخ مافیه اقتضاء البقاء والدوام لا ما کان فی نفسه متصرما وزائلا، فشمول عمومات الطلاق للنکاح المؤقت محل تأمل واضح، ومن ثم یظهر وهن دعوی النسخ أیضاً. مضافا الی وجوه أخری متقدمة.

وکذلک الحال من عدم مخالفة هذا الشرط للسنّة; بعدما عرفت من روایات الفریقین مع أنّ العمدة هو ما تبینه العترة من سنّة النبی المطهرة.

ویتحصّل أنّ صحة عقد المتعة هو بمقتضی القاعدة فی عمومات النکاح وعمومات الشروط، ومما یشیر الی ما ذکرناه من اختلاف صیاغات العقد کالنکاح بالشروط، وتلونه بتسمیات بحسب هذه الشروط، ما یشاهد حالیاً من تولد عقود نکاحیه جدیدة کعقد المسیار وعقد نهایة الاسبوع والعقد الصیفی للاصطیاف والزواج بشرط الطلاق وجملة من الصیاغات التابعة للتبانی علی شروط مختلفة، لانّ هذه التسمیات والانواع الجدیدة والعناوین لم تخرجها عن ماهیة النکاح مادام الشروط لاتخالف الکتاب والسنة ولاتنافی مقتضی ماهیة عقد النکاح، ولیس هذا خاص بعقد النکاح، بل هو سیّان فی جملة من العقود الصحیحة فانّه بحسب مقتضی ما جاءت البیئات العصریة الحدیثة، تتجدد شروط تلبی الحاجات

ص:468

فتتلون تلک العقود بتسمیات جدیدة، وعندما تترامی تتوالد هذه العقود بالشروط فتندمج انواع والوان من العقود لایکاد الناظر والباحث فیها یتفطن الی أصلها المنحدرة منه، بل قد تدمج ماهیتان صحیحتان أو ماهیات من العقود الصحیحة فی معاوضة فوقانیة فتتلون بتسمیة جدیدة، وهذه ضابطة تحلیلیة نافعة جدا فی باب المعاملات المستجدة، بل وکذا فی باب المعاملات التقلیدیة الاولیة.

ص:469

ص:470

فائدة :فی الفرق بین القیود العلامیة والتوصیفیة

ص:471

ص:472

فی الفرق بین القیود العلامیة والتوصیفیة

اعلم انّ القیود التی تذکر فی موضوعات الأحکام أو القیود للاحکام نفسها تارة تکون وصفا دخیلا فی تمامیة الملاک فتکون مخصصة للموضوع، کالعدالة فی الشاهدین والمفتی والقاضی، وأخری تکون أمارة وعلامة محضة لاحراز الموضوع غیر دخیلة فی واقع الموضوع اصلا کالبینة ورؤیة الهلال، وثالثة قیودا فی الموضوع لکن علامیة أیضا ففیها کل من خاصیة القسم الأول والثانی، واطلق علیها فی الفقه انها تحدید فی تقریب وتقریب فی تحدید کخفاء الأذان والجدران وتحدید الکر بالحجم، کما اطلق علیها انها اسباب شرعیة معرفات حقیقیة. وهذه التقسیمات الثلاث تطابق ما یذکر فی علم الاصول فی القطع من أنه یؤخذ فی الموضوع بنحو الصفتیة وثانیة لا یؤخذ بل یکون طریقا محضا وثالثة یؤخذ فی الموضوع بنحو الطریقیة. ولا یخفی اختلاف آثار کل قسم من الاقسام الثلاثة عن الاخر وبرزخیة آثار القسم الثالث کما حرر ذلک فی علم الاصول، وحیث ان الظاهر من التقادیر المأخوذة فی الروایات المتقدمة انها من النمط الثالث وهو یختلف عن الأولین کما لا یخفی.

فإن کان مع العلم بزوال الاسم أو القید الاخر فهو مجری للاصول المفرغة دون الاستصحاب لتبدل الموضوع إلا أن یبنی علی احتمال کون مثل الجلل حیثیة تعلیلیة بقاء حتی تنقضی مدة الاستبراء، لکن العموم اللفظی لحلّ الانعام أو انواع الحیوان مقدم- بناء علی العموم الازمانی منه

ص:473

کما هو الصحیح فی العمومات الاولیة- علی استصحاب حکم المخصص. وکذا الحال لو فرض الشبهة مفهومیة، نعم لو غض النظر عن العموم فلا اشکال فی استصحاب الجلل بناء علی احتمال التعلیلیة فیه وان کانت الشبهة مفهومیة کما تقدم التفصیل فیها، وأما الشبهة المصداقیة لحدوث الجلل فاستصحاب العدم محرز لعموم الحل واما الموضوعیة بقاء فاستصحاب البقاء.

ص:474

فائدة :فی کثرة الشک

ص:475

ص:476

فی کثرة الشک

المشهور بین المتأخرین - لا اعتبار بشک کثیر الشک سواء کان فی الاجزاء أم فی الشرائط أم الموانع - و یدل علیه عموم التعلیل الوارد فی أکثر أخبار کثیر الشک بل قد یستفاد منها الاعتداد بالتظنی فی الافعال المرکبة مطلقا، کصحیح زرارة وأبی بصیر قالا: «قلنا له: الرجل یشک کثیرا فی صلاته حتی لا یدری کم صلّی ولا ما بقی علیه؟ قال: یعید. قلنا: فانّه یکثر علیه ذلک کلما أعاد شک؟ قال: یمضی فی شکّه، ثم قال: لا تعودوا الخبیث من أنفسکم نقض الصلاة فتطمعوه، فانّ الشیطان خبیث معتاد لما عوّد، فلیمض أحدکم فی الوهم، ولا یکثرن نقض الصلاة، فانّه اذا فعل ذلک مرات لم یعد إلیه الشک.

فإن الشخص المتعارف السالم القوی والحواس لا یأتیه اعتیاد وکثرة الشک من نفسه کیف وقد فرض سالما، فدخول الوهم علی المصلّی منشأه الصور والاحتمالات التی یحدثها فی صفحة الذهن، نعم اذا کان منشأها ضعف القوی واختلال التوازن فیدخل فی الوسواس ونحوه، فلا یشکک بأن الکثرة فی غیر الصلاة لا یحرز أن منشأها شیطانی، والا لتأتی ذلک فی الصلاة أیضا فلا یصح الاطلاق فی کثرة الشک، فاذا کانت القیمة الاحتمالیة للشک الناشئ من الکثرة والاعتیاد والتکرار، لا یعتد بها لعدم نشئوها من إراءة الواقع بل من الصور الوهمیة، فلا یفرق فی ذلک بین ما کانت الکثرة المزبورة فی الصلاة أو بقیة الأفعال کالحج والغسل والخمس والزکاة ونحوها.

ص:477

و من ثم لو فرض انّ شکا حدث لکثیر الشک مغایر للکثرة التی اعتاد علیها أی کان من منشأ معتد به عقلائیا لما کان مشمولا لحکم کثرة الشک. وهذا من خواص التعلیل انّه معمم من جهة ومخصص من اخری.

وکذلک صحیح ابن سنان ذکرت لأبی عبد الله علیه السّلام رجلا مبتلی بالوضوء والصلاة وقلت: هو رجل عاقل فقال ابو عبد الله علیه السّلام «و أی عقل له وهو یطیع الشیطان؟ فقلت له: وکیف یطیع الشیطان فقال علیه السّلام: سله هذا الذی یأتیه من أی شیء هو؟ فانّه یقول لک من عمل الشیطان).

فانّ مفاده خروج الاعتداد بالشک الناشئ عن غیر الأسباب المتعارفة عن الرویّة العقلیة الی طاعة الشیطان الوهمی، ولا یختص ذلک بالشک الناشئ من ضعف القوی کما فی الوسواس بل یعم الناشئ من الکثرة والاعتیاد من الصور الوهمیة وان کان عنوان المبتلی ظاهر فی الوسواس لکن الجواب والتعلیل عام. بل انّ التعلیل فی الصحیح والذی قبله یعم الشک الناشئ من غیر الکثرة وغیر الوسواس أی من المنشأ الذی لا یعتنی به عقلائیا کالمتناهی فی الضعف والضآلة.

و نظیرهما صحیح محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السّلام قال: «اذا کثر علیک السهو فامض فی صلاتک، فانّه یوشک أن یدعک، انّما هو من الشیطان»(1).

فانّ ظاهره التعلیل لعدم الاعتناء بفساد منشأ الشک، فیعم بقیة الأبواب.

ص:478


1- (1) الکافی، ج3، ص359.

فائدة :فی المرتد وأحکامه

اشارة

ص:479

ص:480

فی المرتد وأحکامه

قال السید الیزدی فی العروة : (لا فرق فی الکافر بین الأصلی والمرتد الملی بل الفطری أیضا علی الأقوی- من قبول توبته باطنا وظاهرا أیضا فتقبل عباداته ویطهر بدنه نعم یجب قتله إن أمکن وتبین زوجته وتعتد عدة الوفاة وتنتقل أمواله الموجودة حال الارتداد إلی ورثته ولا تسقط هذه الأحکام بالتوبة لکن یملک ما اکتسبه بعد التوبة ویصح الرجوع إلی زوجته بعقد جدید حتی قبل خروج العدة علی الأقوی) (1).

اقول: أما فی الأول وهو الأصلی فبالضرورة وأما الثانی فلا خلاف محکی فیه وأما الثالث الذی عن فطرة فعن المشهور أنها لا تقبل.

وحمل الشهید الثانی وجماعة نفی القبول بلحاظ الظاهر لا الباطن، وذهب آخرون من متأخری الأعصار الی عدم قبولها بلحاظ الاحکام الثلاثة فقط دون الباطنة والظاهرة فی بقیة الأحکام.

وعن ابن الجنید أنها تقبل مطلقا کالملی ومال إلیه الشهید فی المسالک والمجلسی فی البحار وحقّ الیقین.

وقد ذکرنا فی قاعدة کفر منکری الضروری - فی جزء الاول من هذا الکتاب(2) - عبارة کل من المفید فی أوائل المقالات والشیخ فی الاقتصاد

ص:481


1- (1) العروة الوثقی، ج1، ص142.
2- (2) بحوث فی القواعد الفقهیة، ج1، ص413.

والحمصی فی المنقذ أن المرتد المنکر للضروری ان کان عن شبهة یستتاب أی تقبل توبته وکذا عبارة کاشف الغطاء ومال إلیه صاحب الجواهر لا سیما مع الدخول فی اسم أحد الطوائف المنتحلة للاسلام وعلله بالشک فی شمول أدلّة المرتد الفطری له، وکأنه للتعبیر الوارد فیها بالکفر بأحد الأصلین أو هتک أحد المقدسات العلیا فی الدین، وأما الدخول فی اسم أحد الطوائف فکأنه لما فی روایات کفر تلک الطوائف من قبول توبتهم اذا رجعوا فتکون خاصة فی منکر الضروری ونحوه. وقد یظهر من المسالک فی بعض کلامه التفصیل بنحو اخر وهو قبول توبة المرتد الفطری لو تاب دون استتابته نظرا لأن الروایات الخاصة فیه تنفی الاستتابة دون التوبة.

وقد فصّل بعض المعاصرین بین ما اذا کان الارتداد عاما بین جماعة عن شبهة وما اذا کان خاصا بفرد واستدل له بسیرتهم (علیهم السلام) من مناظرة ومحاجّة أصحاب الزندقة کابن أبی العوجاء وغیره وکما فی مصحح زرارة «لو لا أنی أکره أن یقال انّ محمدا استعان بقوم حتی اذا ظفر بعدوّه قتلهم لضربت اعناق قوم کثیر»(1).

ولکنه أضعف الأقوال حیث ان سیرتهم (علیهم السلام) لم تکن مع بسط یدهم مع ان کثیرا من طائفة الزنادقة کانوا مدسوسین من الخلفاء للمناظرة معهم (علیهم السلام) ، ولذلک تری انّ الامام(علیه السلام) مع بنی ناجیة قد قاتلهم فی القصة المعروفة، وأما الشبهة فان لم یصاحبها إنکار وإنشاء للارتداد فلا عبرة بها.

ص:482


1- (1) الکافی، ج8، ص345.

هذا، والظاهر من روایات حدّ المرتد لا ینطبق علی قول ابن الجنید، لأن الروایات وإن کان فیها لسان الاطلاق فی الاستتابة فإن لم یتب یقتل، کما ورد فیها لسان الاطلاق بنفی التوبة، إلا أن هناک طائفة ثالثة مفصلة أو خاصة فی المرتد الفطری تبلغ الخمس روایات ذکرها الشیخ فی التهذیب .

فتکون مخصصة لکلا الاطلاقین حتی فیما ورد من استتابة امیر المؤمنین(علیه السلام) للمرتدین فی عدة من الموارد، فانها قابلة للحمل علی الملی بعد کون العهد قریب من بدء الدعوة وانتشار الاسلام.

و أما قول الشهید الثانی الأخیر فیدفعه صحیح محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن المرتد: فقال: من رغب عن الاسلام وکفر بما انزل علی محمد صلی الله علیه و آله بعد اسلامه فلا توبة له وقد وجب قتله وبانت منه امرأته ویقسم ما ترک علی ولده»(1).

ثم ان الظاهر البدوی من هذا الصحیح أیضا نفی التوبة بقول مطلق ظاهرا وباطنا بلحاظ الأحکام الثلاثة وغیرها، وأما بقیة الروایات الخاصة فی المرتد الفطری فانّها کلها مشتملة علی نفی الاستتابة ولزوم القتل، فان حمل ذلک علی نفی التوبة- بقرینة أن لو کانت التوبة مقبولة لشرعت ولزمت الاستتابة بعد فتح باب التوبة فنفی الاستتابة لازمه نفی التوبة- فیکون مفادها کالصحیح المزبور، وان لم یحمل علی نفی التوبة- لأن نفی الاستتابة أعم من نفیها اذ لعله من باب التشدید فی الفطری- فتکون دالّة

ص:483


1- (1) الکافی، ج6، ص174.

علی ثبوت حکم الارتداد والکفر والاحکام الثلاثة علی تقدیر عدم التوبة فقط دون ما لو تحققت التوبة.

نعم یحتمل فی نفی التوبة أن یکون بلحاظ الاحکام الثلاثة وما هو من وظیفة الحاکم من عدم اسقاط الحدّ والآثار الظاهریة دون سائر الأحکام الأخری وان کانت الظاهریة، ولا أقلّ من الأحکام الباطنیة أی التی فیما بینه وبین الله تعالی، لکن بالالتفات الی ما ورد فی روایات الشهادتین والآثار المترتبة علی الاقرار بهما من حرمة دمه وماله وجواز نکاحه، والتی هی أمثلة أمهات الأحکام الظاهریة یظهر أن نفیها بالارتداد مثال لذهاب تلک العصمة والحصانة التی ترتبت بالاقرار بالشهادتین، کحقن دمه وماله وعرضه وحلّ ذبیحته ونکاحه، له ما للمسلمین وعلیه ما علی المسلمین. وأنه بالاقرار بالارتداد أی بالخروج من الاسلام تذهب تلک الآثار المترتبة علی الشهادتین ولا تعود بالاقرار والتلفظ بهما مرة أخری.

وبعبارة أخری: أن الاسلام - کما هو محرر فی مبحث نجاسة الکافر - علی درجات الأولی انشائی اعتباری ظاهری ینشأ ویوجد بالاقرار والذی هو نحو ایقاع والتزام. والثانیة وما بعدها هو تکوینی خارجی بحسب القلب والجوانح والجوارح. وکل من الدرجات وقعت موضوعا لطائفة من الأحکام، فالدرجة الأولی هی اعتباریة قائمة بلحاظ الآخرین وبحسب الالزام والالتزام البینی فی دار الاسلام وما یسمی حدیثا بأحکام التعایش الاجتماعی والحصانة الاجتماعیة، کحرمة الدم والمال والعرض.

ص:484

وأما الدرجة الثانیة فهی موضوع لصحة العبادة ولتعلق التکالیف الشرعیة، فالدرجة الأولی بمنزلة العقد الاجتماعی للمجتمع المبنی علی العقیدة کرابطة للعقدة الاجتماعیة هی دار الاسلام بخلاف دار الایمان. ومن ذلک یظهر أن النفی هاهنا بلحاظ الأحکام الظاهریة فقط، لما تقدم فی مبحث نجاسة الکافر من أن الاقرار بالشهادتین والآثار المترتبة علیهما بما هو اقرار ملحوظ فیه جانب الالزام والالتزام من الغیر، کذلک الاقرار بالخروج والارتداد، وأما الآثار التی بحسب الواقع کصحة العبادات والایمان وثواب الآخرة فهو مرتبط بعقد القلب وان اشترط فیه التسلیم باللسان أیضا. فمن ذلک یظهر أن المحصل من مفاد نفی التوبة هو ذلک لا نفی الایمان والاسلام بحسب الواقع لو تاب ولا ارتفاع التکلیف لکون شرطه غیر مقدور وهو الاسلام والطهارة ونحو ذلک، وکذا یظهر قوّة ما ذکره فی الجواهر من التفصیل فی الطهارة لبدنه بالإضافة الی نفسه بخلاف الاضافة الی الآخرین فیحکمون بالنجاسة فانّه لیس من باب أن الحکمین نسبیین، بل من اختلاف الحکم بثبوت الموضوع وعدمه، کما هو الحال فی العکس ای فیمن أقرّ بالشهادتین ولم یبرز ارتداده، ولکن کان فی الواقع جاحدا للربوبیة أو للنبوة فانّه نجس بحسب الواقع وباطلة عباداته، وان حکم علیه فی الظاهر بالطهارة والصحة للاعمال وهو المراد من اماریة الاقرار بالشهادتین علی الاسلام وان کان فی الاقرار جهة أخری وهی الالزام والأخذ بمؤدی الاقرار.

ومن ذلک یظهر الخلل فی ما استدل به علی قبول التوبة بقول مطلق

ص:485

أو فیما عدا الاحکام الثلاثة:

أولاً: بإن عدم القبول تکلیف بما لا یطاق، اذ لا یمکن القول بسقوط التکلیف عنه فی هذه الفترة.

وثانیا: ان تأکید عمومات التوبة لا یمکن رفع الید عنها.

وثالثا: ان الدین رحمة والشریعة سمحاء وأنه قد سبقت رحمته غضبه.

ورابعا: بقوله تعالی : وَ مَنْ یَرْتَدِدْ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ فَیَمُتْ وَ هُوَ کافِرٌ فَأُولئِکَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ (1).

فانّه قیّد بالموت فی حال الکفر.

وکذا قوله تعالی : إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا کُفْراً لَمْ یَکُنِ اللّهُ لِیَغْفِرَ لَهُمْ (2).

ظاهر فی تحقق الایمان بعد الکفر.

وکذا قوله تعالی : إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا بَعْدَ إِیمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا کُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ (3).

وخامسا: ان النفی للتوبة مقید بحسب السیاق بالأحکام الثلاثة.

وسادسا: ان النفی فی الفطری من باب التشدید من الحاکم لا کون

ص:486


1- (1) البقرة: 217.
2- (2) النساء: 137.
3- (3) آل عمران: 80.

حکمه مغایرا للملی، بقرینة الاطلاقات والموارد الخاصة، وبعد کونها کلها فی الفطری، کما ورد التشدید بالقتل فی المرتدة أم الولد التی تنصرت وتزوجت نصرانی.

الجواب عن الادلة والوجوه:

وجه ذلک أن التوبة المنفیة کما عرفت هی الظاهریة بالمعنی الذی عرفت وان المستدل به فی هذه الوجوه انما هو التوبة بحسب الواقع والباطن لا بحسب آثار الظاهر والنسبة عند الآخرین، وأما بقاء تلک الأحکام الظاهریة للارتداد مع قبول التوبة بحسب الظاهر، فلعل وجه الحکمة فیه هو ردع فتح باب المروق من الدین، وأنها من قبیل بقیة الحدود التی لا تسقط بالتوبة بعد الثبوت لدی الحاکم الشرعی. ومن ذلک یظهر لک ضعف التفکیک بین الأحکام الثلاثة وبقیة الأحکام الظاهریة بعد ما عرفت من ان لسان هذه الأحکام الثلاثة هی لسان ترتب اضدادها عند الدخول فی الاسلام یراد بها أمهات الأحکام الظاهریة فی الأبواب، بلحاظ حرمة النفس والمال والعرض، وبذلک یظهر لک عدة امور اهمها:

الأول: فلا یصح نکاحه من زوجته لا فی العدّة ولا بعدها ولا من مسلمة أخری، نعم یصح نکاحه من الکتابیة.

الثانی: وأما بالنسبة الی أمواله التی یکتسبها، بعد سواء حال الارتداد أو بعد التوبة بحسب الباطن فیملکها کما هو الحال فی الکافر لکن لا تکون ملکیته محترمة کبقیة الکفار، ویحتمل أن الأولی بها حینئذ هو ورثته عطفا علی حکم أمواله السابقة، اذ هو بعد ما ارتد سقطت عصمة نفسه وأمواله

ص:487

کما عرفت من لسان الروایات، وهو مقتضی القاعدة فیکون الحکم بکون أمواله لورثته لأنهم أولی الناس به، لا ما قیل من کون الحکم المزبور لأجل عدّه کالمیت لوجوب قتله کما ذهب إلیه المیرزا القمی، اذ لیس کل من وجب قتله بالحدّ قسمت أمواله بین ورثته، فیستظهر أن التقسیم بلحاظ الأولویة المزبورة بعد ذهاب حرمة ماله.

الثالث: أنه لا تسقط عنه التکالیف الشرعیة العبادیة وغیرها سواء حال الارتداد وبعد التوبة، لما عرفت من أنه قادر علی التوبة بحسب الواقع.

حصر المرتد الفطری بمنکر الشهادتین:

الرابع: الظاهر هو عدم عموم حکم المرتد الفطری لکل ردة وانکار لکل ضروری بل اختصاصها لمنکر الاصلین ونحوه کما ذهب إلیه صاحبی کشف الغطاء والجواهر وتقدم نسبته الی المفید والشیخ والحمصی، والوجه فی ذلک أن ما ورد فی الروایات المزبورة هو انکار الأصلین أو هتک أحد المقدسات الأولیة فی الدین ونحو ذلک، مضافا الی ظهور بعض الروایات فی قبول توبتهم، وکذا ورد اطلاق الکفر علی عدة من الطوائف المنکرة لبعض الضرورات کالجبریة والمجسمة ونحوهما مع انّ السیرة المعاصرة لهم (علیهم السلام) علی ترتیب الاحکام الظاهریة علیهم، مع تقریر ذلک فی روایات التذکیة والنکاح فلاحظ ما تقدم فی المجسمة والمجبرة. لکن الصحیح ان الانکار ان عدّ ردّة أی اقرار بالخروج عن الاسلام فهو رغبة عن الاسلام فیصدق العنوان الماخوذ فی صحیح ابن مسلم، نعم غایة الامر ان بعض الضروریات حیث وقع الاختلاف فیها کنفی التجسیم

ص:488

والاختیار ونحوهما، فلا یعد المنکر له مرتدا وان کفر بحسب الواقع، وهذا ما یومی إلیه تقیید صاحب الجواهر عدم ترتیب أحکام المرتد الفطری علیه بما اذا صدق علیه اسم أحد الطوائف المنتحلة للاسلام، وکذا هو محط کلام الشیخ المفید والطوسی والحمصی .

الخامس: أن المرتد الملی یظهر من معتبرة مسمع بن عبد الملک تحدید استتابته بثلاثة أیام وکذا عزل زوجته وأکل ذبیحته أی سائر ما یترتب علی الاسلام فان تاب وإلا فقتل الظاهر فی عدم قبول توبته ورجوعه الظاهری الی عقد الاسلام الاعتباری، وهی بطریق الکلینی والشیخ. ولکن فی معتبرة السکونی بطریق الصدوق تحدیده ب- (ثلاث) من دون تقییدها بالیوم وهی اما ظاهرة فی ذلک أو مجملة مرددة بین ذلک وبین ثلاث مرات فلا تقوی علی معارضة المعتبرة السابقة، نعم لو بنی علی التعارض لوصلت النوبة الی العمومات الواردة فی أبواب حدّ المرتد بأنه یستتاب فان تاب وإلا یقتل الظاهرة فی کفایة صرف الوجود من الاستتابة، کما لا معارضة بین الروایات العدیدة الواردة فی تلک الابواب، من فعل أمیر المؤمنین(علیه السلام) من استتابة المرتد فی المجلس الواحد ثم قتله عند إبائه التوبة المحمولة علی المرتد الملی إما لکونه فعلا مجملا لا یناهض الدلالة اللفظیة، واما لترجیح مضمون الاستتابة الی ثلاث علیها للاحتیاط فی الدماء، وهو مرجح مضمونی متبع عند التعارض فی روایات الحدود، وإما لحملها علی المرتد الفطری غایة الأمر ان استتابته(علیه السلام) لهم لا لقبول التوبة الظاهریة وسقوط الحدّ بل لهدایتهم الی التوبة بحسب القلب والباطن وان لم یسقط الحد

ص:489

لینجون فی الآخرة، وإما للاعتداد بما مضی من المدة فی الاستتابة ثلاثا، وإما لأن الردّة من بعضهم کانت باطنیة بحسب الواقع ولم تکن انشائیة لفسخ عقد الاسلام الانشائی فالاستتابة لأجل فعل المعصیة والاصرار علیها یعد بعد ذلک إنشاء للردة.

ثم ان الظاهر من التحدید بثلاثة هو من ضرب الحاکم مدة کمبدإ للاستتابة.

السادس: أن مما مرّ فی الفرع الرابع یتبین أن المنکر للضروری ونحوه یلزم فی الحکم علیه بالارتداد حکم الحاکم، لکونه من الموضوعات المستنبطة الخلافیة المبتنی علی تشخیص الموضوع فیه علی مقدمات اجتهادیة.

السابع: أن الشاک ما لم یبرز شکه ویبنی علیه فی الظاهر محکوم ببقاء اسلامه الاعتباری، بخلاف ما اذا أبرزه کإنشاء للالتزام والبناء علی الشک، فإنه یعدّ حینئذ إنشاء للردة والخروج عن عقد الالتزام والاقرار بالاسلام ولو کان عن قصور، اذ هو نحو من الجحود ومن ثم لو أتی فی الخفاء بفعل علی الملّة الاخری من دون قصده لابرازه وإنشاء الردة والخروج، واتفق أن اطّلع علیه غیره لا یعدّ ذلک منه ردة إنشائیة، وان کان ردّة واقعیة ونفاق کما وقع مثل ذلک فی الصدر الأول من بعضهم.

ص:490

فائدة :فی حدود ما یسوغ النظر إلیه عند إرادة التزویج

ص:491

ص:492

فی حدود ما یسوغ النظر إلیه عند إرادة التزیج

أن مقتضی لسان الروایات الواردة بلسان الاستثناء هو حرمة طبیعة هذا الفعل، لولا العنوان المرخّص به و هو إرادة التزویج، و إن کان الجواز شاملًا لما لو علم بوقوع التلذّذ، فإن الجواز لیس بلحاظ ذلک؛ و لذلک لا یجوز له استدامة النظر عند حصول الالتذاذ، مضافاً إلی ما فی مرسلة عبد الله بن الفضل من اشتراط عدم الالتذاذ.

ثمّ إن ظاهر حسنة أو مصححة عبد الله بن سنان، المتضمّنة لجواز النظر إلی شعر من یرید تزویجها و کذلک صحیحة یونس بن یعقوب و موثّق الیسع، حیث إنه فی صحیح یونس بن یعقوب، إنها ترقق له الثیاب، و فی موثّق الیسع الباهلی: النظر إلی محاسنها، و کذلک موثّقة غیاث و مرسل عبد الله بن الفضل عنه عن أبیه، إذ یظهر منها التعمیم إلی عموم الأعضاء التی هی محل اهتمام، لکن الانصاف إنها لا یظهر منها جواز النظر إلی تلک المواضع بدون ثیاب، لا سیما إذا فسرت کلمة (ترقق) بمعنی تخفف، لا بمعنی ما یحکی ما تحته من البشرة، و المحاسن یتم النظر إلیها و لو من وراء الثیاب الرقیقة، و إن لم تکن تشف ما تحتها من البشرة، و لکن یظهر بها حجم الأعضاء و ما شابهه، و لقد ورد نظیره فی روایات النظر إلی الأمة التی یرید شراءها، حیث یتضمن النظر إلی محاسنها .

و ما جاء فی روایة الحسین بن علوان من الکشف عن ساقیها، مضافاً إلی ضعف سندها و کون موردها الجاریة، لا یظهر منها جواز النظر إلیها

ص:493

مع التعری فی مواضع ما عدا العورة، بل لعل المراد من الساقین ما دون الفخذین فقط.

فالمحصل من الروایات جواز النظر إلی الشعر و الرقبة و الجید و الید و نحوها، مما لا یستره الإزار، فینظر إلی باقی الأعضاء من خلال الثیاب الرقیقة، کالخصر و الورک، و بذلک یتحقق النظر إلی محاسنها، کما ورد فی

موثّق أو صحیح یونس بن یعقوب الآخر من أنها تحتجز، و احتجازها بالإزار فقط نظیر ترقیق الثیاب، ثمّ إن مقتضی التعبیر فی الروایة السابقة بالإزار انکشاف الساقین فی الجملة جواز النظر إلیهما.

وأما التقیید فی جملة من الروایات الأخری بالوجه و المعصم و نحوهما، فلا یعارض الروایات الناصّة علی الشعر و المحاسن، لضعف المفهوم فی قبال المنطوق المنصوص، مع احتمال الوجه للإمام فی قبال الخلف، و أن التدرج فی بیان الجواز أخذاً بالحیطة و التحفظ فی الأعراض، کما یشیر إلیه موثّق أو صحیح یونس بن یعقوب الثانی.

وأما الاستئذان فنقل عدم الخلاف فی أنه لا یشترط فی جواز النظر، إلّا أن الظاهر المتراءی منه محل تأمل؛ لأن النظر و إن لم یکن حقاً محضاً للمنظور إلیه، بل فیه حق الله و الحکم الشرعی، لکنّه متضمّن لحق الناس أیضاً، إلّا أن یقال: إن الأصحاب تمسکوا بإطلاق الروایات فی المقام، نظیر جواز أکل المار للثمر، الذی عرف بحق المارّة.

لکن بین المقامین فرق، حیث إن جعل جواز أکل المارّة هناک ظاهر

ص:494

أدلته ابتداءً هی بدون إذن لا بتوسط الإطلاق، بخلاف المقام، فإن المنساق غالباً منه هو عند المقاولة و مشارفة الطرفین للتراضی بالعقد، فالتمسک بالإطلاق محل تأمل، فالاحتیاط لا یترک.

ولعل مراد الأصحاب أن الإذن هو بظاهر حال المقاولة، و یشهد لذلک التعبیر فی بعض الروایات بأنها تحتجز له بإزار أو ترقق له الثیاب ، فالظاهر منه أنه إقدام منها.

أما الشروط الأخری التی ذکرها الأصحاب، من کونها خلیة و أن لا تکون ذات عدّة و لا أخت الزوجة، فالظاهر إنها شروط مسلّمة فی فرض موضوع الروایات و لا حاجة للتنبیه علیها.

ص:495

ص:496

فائدة :فی عدم اعتبار الشروط المتبانی علیها قبل عقد النکاح من دون التصریح بها فی العقد

اشارة

ص:497

ص:498

فی عدم اعتبار الشروط المتبانی علیها قبل النکاح من دون التصریح بها فی العقد

والبحث فی مقامین:

الأول: الروایات:

اما الروایات فعلی طوائف، منها ما ورد فی ان ترک ذکر الأجل یوجب ان ینعقد النکاح دائماً کموثّق عبد الله بن بکیر قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): (ما کان من شرط قبل النکاح هدمه النکاح و ما کان بعد النکاح فهو جائز) و قال: (إن سمی الأجل فهو متعة، و إن لم یسم الأجل فهو نکاح بات) (1).

وصدر الروایة ظاهر فی تأسیس عموم دال علی عدم نفوذ الشروط التی یتقاول علیها قبل النکاح إذا لم یصرّح بها لفظاً أثناء إنشاء الصیغة، ثمّ ذکر(علیه السلام) تطبیقاً لهذا العموم ذکر الأجل فی النکاح، و من ثمّ لا یکفی التبانی علیه، بل لابدَّ من التصریح به أثناء النکاح کی یقع متعة، و بهذا التقریب فی تطبیق العموم علی شرطیة الأجل فی النکاح تفید الروایة المطلوب فی المثال الذی نحن فی صدده، و هو لو أنه تشارطا علی الأجل فی المقاولة قبل صیغة النکاح ثمّ لم یذکر الأجل فی الصیغة، فإنه ینعقد نکاحاً باتاً، و بعبارة أخری: إن ذیل الروایة أورده صاحب الوسائل فی ذلک الباب مع حذف

ص:499


1- (1) الکافی، ج5، ص456.

صدر الروایة، فتوهم من هذا الذیل أنه(علیه السلام) فی صدد بیان مغایرة المتعة مع النکاح الدائم بذکر الأجل وعدم ذکره، بینما بقرینة صدر الروایة المحذوف یتبیّن أنه(علیه السلام) فی صدد تطبیق العموم الذی ذکره فی صدر الروایة بعد الفراغ عن تباین المنقطع والدائم بشرطیة الأجل، وإنما هو(علیه السلام) فی صدد بیان أن هذه الشرطیة للأجل المفرّقة بین العقدین إنما تعدّ مشروطة فی العقد إذا ذکرت مع الصیغة، ولایعتدّ بذکر الأجل والشرط فی المقاولة قبل العقد مع متارکة ذکره مع الصیغة، فمع هذا التقریب تکون الموثّقة نصّ فیما ذهب إلیه المشهور.

وفی معتبرة أبان بن تغلب، قال: (قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) کیف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال: تقول أتزوّجک متعة علی کتاب الله وسنة نبیه صلی الله علیه و آله لا وارثة ولا موروثة کذا وکذا یوماً، وإن شئت کذا وکذا سنة بکذا وکذا درهماً، وتسمّی من الأجر ما تراضیتما علیه قلیلًا کان أم کثیرة، فإذا قالت نعم فقد رضیت فهی امرأتک وأنت أولی الناس بها، قلت: فإنی أستحیی أن أذکر شرط الأیام؟ قال: هو أضر علیک، قلت: وکیف؟ قال: إنک إن لم تشترط کان تزویج مقام ولزمتک النفقة فی العدّة، وکانت وارثة ولم تقدر علی أن تطلقها إلّا طلاق السنة) (1).

وقد رواها الکلینی بطریقین عن إبراهیم بن الفضل عن أبان والأول صحیح، وأما إبراهیم بن الفضل فهو وإن لم یوثق إلّا أن الشیخ قال عنه فی رجاله أسند عنه، أی أنه ممن یروی عنه، وهو یفید قرینة فی الحسن علی

ص:500


1- (1) الکافی، ج2، ص455.

الأصح فی معنی هذه اللفظة، مضافاً إلی روایة جعفر بن بشیر عنه، وقد استشعر الوحید فی تعلیقته الوثاقة من ذلک، فلا أقل من الحسن بل فوق الحسن ویکفی ذلک فی اعتبار الروایة، لا سیما وأن الروایة عن الراوی فی عرف الرواة تلمّذ.

وأما دلالة الروایة فهی نص بالمطلوب أیضاً، فإنه بیّن قصده للمنقطع فی الانشاء إلّا أنه لم یذکر شرط الأجل استحیاءً لفظا فی العقد.

وقد یقال: إن مفاد هذه المعتبرة فی خصوص مَن کان ملتفتاً إلی شرطیة الأجل ولم یذکره تعمّداً، ولو بداعی الاستحیاء، وهذا بخلاف مَن لم یذکره نسیاناً.

وبعبارة أخری: إن مورد الروایة مَن تعمّد بناء اللفظ علی العدم، فکأنه قصد العدم وبنی اللفظ علیه بخلاف الناسی والغافل؟

فیقال: إن هذا الفرق إن تم فی معتبرة أبان فلیس بتام فی موثّقة ابن بکیر مضافاً إلی ان ما فی معتبرة أبان وان کان تعمد من جهة الموضوع إلّا انه ناشئ عن الجهل بالحکم، وبالتالی فلیس عمد تام؛ إذ لیس کل عامد بالموضوع عالم بالحکم، فالمورد مشوب بالجهل والغفلة أیضاً وبناءه علی کفایة قصد الشرط من دون التصریح له فلم یبن اللفظ علی العدم، أی لم یستعمل الترکیب المجموعی للجملة فی إرادة الدائم بنحو الجد، ولو من باب تعدّد الدال والمدلول، إذ أن المعنی المستعمل فیه النکاح فی القسمین واحد وإنما التغایر آت من ضمیمة الشرط، وهذا بنفسه تقریب آخر لدلالة الموثّقة والمعتبرة سیأتی بیانه فی الطائفة الثانیة، الدالة علی أن قوام التغایر بین

ص:501

القسمین هو الضمیمة لماهیة النکاح لا بنفس الماهیة.

وروایة هشام بن سالم قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) أتزوّج المرأة متعة مرةً مبهمة؟ قال: ذاک أشدّ علیک ترثها وترثک، ولا یجوز لک ان تطلقها إلّا علی طهر وشاهدین قلت: أصلحک الله فکیف أتزوّجها؟ قال: أیاماً معدودة بشیء مسمّی مقدار ما تراضیتم به، فإذا مضت أیامها کان طلاقها فی شرطها ولا نفقة ولا عدّة لها علیک) (1).

والروایة لیس فی سندها ما یتوقف فیه إلّا موسی بن سعدان الحنّاط وعبدالله بن القاسم الحضرمی، وقد ضعف النجاشی الحناط فی الحدیث، قال: ضعیف فی الحدیث کوفی له کتب کثیرة ثمّ ذکر سنده إلی کتبه، وفیه: الراوی لکتبه محمد بن الحسین بن أبی الخطاب الکوفی الثقة الجلیل ولکن الشیخ فی الفهرست لم یضعفه وسنده إلی کتابه صحیح، عن ابن أبی سعید عن ابن الولید عن الصفار عن ابن أبی الخطاب عن موسی بن سعدان، ویظهر من ذلک اعتماد بن الولید القمی شیخ الصدوق علی کتابه والصفار، هذا مع ما عرف من تشدّد بن الولید الا انه اعتمد علی کتابه مضافاً إلی ابن أبی الخطاب الکوفی، وقال ابن الغضائری ضعیف فی مذهبه واعترض الشیخ الوحید علی تضعیفه بأن ضعف الحدیث غیر ضعف الرجل وان نسبة الغلو من القدماء لا یعتنی بها وذکر جملة من الروایات التی رواها فی المعارف: وقال: لأمثال هذه رمی بالغلو، نظیر أن الأئمة یزدادون علماً فی لیلة الجمعة. وذکر أن رمیه بالغلو لعلّه لروایته عن عبدالله بن القاسم الحضرمی.

ص:502


1- (1) التهذیب: ج7، ص267.

ثمّ ذکر جملة من القرائن للاعتماد علیه، وأما عبدالله بن القاسم الحضرمی، فهو وإن ضعفه ابن الغضائری والنجاشی، وذکر أنه کذّاب غال وذکر سنده إلی کتابه والرمی بالکذب معلول عند القدماء للرمی بالغلو مع التصریح بکلا الصفتین، وجملة روایاته فی المعارف من نفائس الروایات التی یمج من قبولها المشرب الکلامی السطحی الجاف مثل ما رواه الکافی عنه فی باب أن الأئمة نور الله عَزَّ وَجَلَّ، وما رواه الصدوق عنه من أنه ینادی یوم القیامة أن علی بن أبی طالب یدخل الجنة من شاء ویدخل النار من شاء . وکذلک روی حدیث اللوح فی أسماء الأئمة، وذکر بعض ذلک النمازی فی مستدرکاته، هذا مع أن الروایة فی المقام لیست فی المعارف، أی لیس فی الباب الذی ضعف فیه الروایات، وهذه نکتة یجدر الالتفات إلیها، وهی أن التضعیف إذا کان مخصوصاً بباب علی تقدیر التسلیم بصحة مدرکه یخص ببابه، کما لو کان التضعیف من جهة المذهب الاعتقادی، أی المسائل الاعتقادیة التی یعتقد بها الراوی أو کان التضعیف من جهة الوقف، أو من جهة مذهب فقهی فی بعض المسائل الفقهیة، کما یقع ذلک لبعض الرواة ونحو ذلک فیخصّ بذلک الباب.

أما دلالة الروایة فهی منطبقة علی المقام، حیث یقصد من النکاح المتعة إلّا انه لا یقید علی صعید الانشاء اللفظی جهلًا منه بالحکم، کما مر فی تقریر ما سبق.

ومنها عنوان: عدم نفوذ الشروط المتبانی علیها عند المتعاقدین خاصة الروایات الواردة من أن الشرط السابق علی النکاح لیس بنافذ بخلاف

ص:503

الذی یذکر مع العقد کروایة بن بکیر قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): «اذا اشترطت علی المرأة شروط المتعة فرضیت به وأوجبت التزویج فاردد علیها شرطک الأوّل بعد النکاح فإن أجازته فقد جاز وإن لم تجزه فلا یجوز علیها من شرط قبل النکاح.

وتقریب الدلالة: أن ظاهر الروایة أن شروط المتعة والذی عمدته الأجل والمهر إذا ذکر فی المقاولة قبل العقد فلا یعتد به ولا ینفذ إذا کانت الصیغة مطلقة، وأنه لابدَّ فی نفوذ الشرط مع نفوذ العقد مرتبطاً فی ضمنه من ذکر الشروط مع الصیغة. ولا یخفی دلالتها بالاقتضاء أن العقد فی الصورة الأولی نافذ دواماً وإن قصد به ما تشارطا من المنقطع فی المقاولة.

ومثلها صحیحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن قول الله عَزَّ وَجَلَّ: وَ لا جُناحَ عَلَیْکُمْ فِیما تَراضَیْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِیضَةِ فقال: ما تراضوا به من بعد النکاح فهو جائز وما کان قبل النکاح فلا یجوز إلّا برضاها وبشیء یعطیها فترضی به)(1). نعم مقدار ما یستفاد من هذه الطائفة هو کون النکاح یهدم الشروط السابقة المتبانی علیها عند المتعاقدین خاصّة دون ما کان التبانی علیها عند نوع العقلاء والعرف، کما هو صریح مورد تلک الروایات کالتعبیر بشرطک أو (اشترطت) وکذا فی موثّق بن بکیر مما یوهم الإطلاق أنه بقرینة التعبیر ب- (قبل) الدال علی تشخیص الشروط بالخاصة عند المتعاقدین، أی مما جری تداولها بینهما فی العقد، بخلاف الشروط النوعیة عند العقلاء فلا توصف بالقبلیة، فالقدر المتیقن

ص:504


1- (1) الکافی، ج5، ص456.

من هذه الطائفة هدم الشروط الخاصة عند المتعاقدین ویبقی الباقی علی مقتضی القاعدة وهو الصحة.

ومنها: ما ورد فی بیان أن صیغة المتعة متقوّمة بالشروط کموثّقة سماعة عن أبی بصیر عنه قال: (لابدَّ من أن یقول فیه هذه الشروط: أتزوّجک متعة کذا وکذا یوماً بکذا وکذا درهماً نکاحاً غیر سفاح علی کتاب الله وسنة نبیه وعلی ان لا ترثینی ولا أرثک علی أن تعتدّی خمسة وأربعین یوماً. وقال بعضهم: حیضة)(1). وظاهر الموثّقة أن قوام المتعة بالشروط وبالتالی تخالفها مع الدائم بذلک لا فی مادة وماهیة النکاح وأن المتعة طور من النکاح متولّد من الشروط وغیرها من الروایات فی هذا المضمون.

فتحصل من کلّ ذلک أن الاختلاف بالشرط هو أنه لا تباین فی أصل قصد النکاح، وأنه لا اختلاف فی أصل قصد النکاح وإنما الاختلاف فی الشروط علی ذلک لو أنشأ النکاح مع الغفلة عن الشروط عن ذکرها مع الصیغة أو لم یذکرها لأسباب أخری فإن النکاح یقع باتاً.

الثانی: مقتضی الأصل:

وعلی ذلک عند الشک فی کون العقد دائم أو منقطع، فإن أصالة عدم الاشتراط تقتضی دوام العقد، کما هو الحال لو حصل نزاع بین الزوجین فإن مدّعی الدوام یکون منکراً، ولا یتوهم أن هذا من الأصل المثبت وذلک لأن موضوع الدوام هو صرف العقد لا وصف التجرد لیشکل بأن

ص:505


1- (1) الکافی، ج5، ص455.

هذا العنوان وجودی لا یمکن إحرازه، کما أن موضوع المنقطع مرکب.

فالأصل عدمه وهو محرز للموضوع وهو الدوام ویترتب علیه حرمة نکاح الخامسة وغیرها من آثار النکاح الدئم.

ص:506

فائدة :فی تحقق قاعدة الفراش والعدة من إراقة الماء علی الفرج

ص:507

ص:508

فی تحقق قاعدة الفراش والعدة من إراقة الماء علی الفرج

ثم انّه فی حکم الدخول لو باشر المرأة ولکن لم یدخل، ولکنه أراق ماءه علی فم الفرج، أو فیه، کما حکم المشهور بتحقق قاعدة الفراش فی المجبوب وهو مقطوع الذکر والانثیین، ولکنه ینزل، أو مع سلامة الانثیین لکی ینزل بهما وقد صرّح فی کشف اللثام فی باب اللعان بتعمیمهم لقاعدة الفراش للوطی دون الفرج، ویمکن ان یستدل له بصحیحة علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن(علیه السلام) قال: «سألته عن رجل طلق امرأته قبل أن یدخل بها، فادّعت أنها حامل فقال: ان اقامت البینة علی انّه أرخی علیها ستراً ثم انکر الولد لاعنها، ثم بانت منه(1) الحدیث.

بتقریب ان المراد من ذلک الخلوة والمباشرة ولو دون الوطی فی الفرج.

وفی روایة أبی البختری عن جعفر بن محمد عن أبیه (علیهم السلام) «ان رجلاً أتی علی بن أبی طالب(علیه السلام) فقال: ان امرأتی هذه حامل وهی جاریة حدثة وهی عذراء وهی حامل فی تسعة أشهر، ولا أعلم الاّ خیراً، وأنا شیخ کبیر ما افترعتها وإنها لعلی حالها، فقال له علی(علیه السلام) نشدتک الله هل کنت تهریق علی فرجها قال: نعم. فقال: علی(علیه السلام)... إنّ لکل فرج ثقبین، ثقب یدخل

ص:509


1- (1) أبواب اللعان، باب 2 ح1.

فیه ماء الرجل، وثقب یخرج منه البول وان افواه الرحم تحت الثقب الذی یدخل فیه ماء الرجل فاذا دخل الماء فی فم واحد من أفواه الرحم حملت المرأة بولد(1) الحدیث، ومثلها مارواه المفید فی الارشاد(2) وفی صحیحة الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام): «سألته عن الرجل یطلق المرأة وقد مسّ کل شیء منها الا أنّه لم یجامعها ألها عدّة؟ فقال: ابتلی أبو جعفر(علیه السلام) بذلک، فقال له أبوه علی بن الحسین صلی الله علیه و آله ، اذا اغلق بابا وارخی ستراً فوجب المهر والعدّة(3).

ومثلها موثق زرارة(4) وموثق اسحاق بن عمار(5).

ومفادها وان کان معارضاً بما دل علی عدم العدة وعدم المهر من دون الدخول، الا انّ الجمع بین المفادین ممکن بتقیید الروایات النافیة بما اذا لم ینزل الماء علی فرجها، بقرینة ما فی صحیح الحلبی مع أنه مسّ کل شیء منها دون الدخول وهو شامل لما لو وضعه فی فم الفرج.

مضافاً الی تأیید هذا الجمع بما تقدم من روایة أبی البختری وروایة المفید فی الارشاد، بل فی موثق اسحاق بن عمار عن أبی الحسن(علیه السلام) قال: «سألته عن الرجل یتزوج المرأة فیدخل بها، فیغلق علیها باباً، ویرخی علیها

ص:510


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 16 ح1.
2- (2) أبواب أحکام الاولاد، باب 16 ح2.
3- (3) أبواب المهور، باب 55 ح2.
4- (4) أبواب المهور، باب 55 ح3.
5- (5) أبواب المهور، باب 55 ح4.

ستراً، ویزعم أنّه لم یمسّها، وتصدقه هی بذلک، علیها عدّة؟ قال: لا، قلت فانّه شیء من دون شیء، قال: ان اخرج الماء اعتدّت، یعنی اذا کانا مأمونین صدقا(1) وفسرها المجلسی فی مرآة العقول «بأنه ألصق الذکر بالفرج أو ادخل اقل من الحشفة، وأنه مع الانزال احتمل دخول الماء فی الرحم فیجب علیه العدّة وتستحق المهر لکنه قال: انه لم یری بهذا التفصیل قائلاً(2).

ثم ذکر ان الذیل الذی بلفظ (یعنی) من کلام الکلینی.

ویعضد هذا المفاد بموثق اسحاق بن عمّار ما فی صحیح عبدالله بن سنان عند أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سأله أبی وأنا حاضر عن رجل تزوج امرأة فادخلت علیه فلم یمسّها، ولم یصل الیها حتی طلقها هل علیها عدّة منه؟ قال: انما العدّة من الماء(3)، الحدیث.

ص:511


1- (1) أبواب المهور، باب 56 ح2.
2- (2) مرآة العقول: ج21 ص188.
3- (3) أبواب المهور، باب 54 ح1.

ص:512

فائدة :فی أن جدة میقات للتمتع

ص:513

ص:514

فی أن جدة میقات للتمتع

هذا والبحث وإن کان عاماً لا فی خصوص جدة إلا انّه یجدر الالفات إلی بعض ما یتعلّق بها مقدمةً لبحوث عدیدة وذلک لکثرة الابتلاء بالسفر الیها حالیاً عن طریق الجوا. وتلک المقدمة هی:

انّ جدة کما هو ثابت بالتواریخ مأهولة ومسکونة قبل الاسلام بل فی بعض الروایات(1) انّ آدم(علیه السلام) وصل من سرندیب إلی جدة بعد هبوطه إلی الارض وان داود(علیه السلام) فی حجته إلی مکة اتجه منها الیها. وقد اتخذ مرفأ لمکة من عهد عثمان کمیناء بحری وکانت القوافل البحریة تمر علیها بل فی بعض الروایات وقع السؤال عن جواز الخروج بین عمرة التمتع والحج لعروض حاجة إلی جدة.

والصحیح انّ جدة لیست خارجة عن منطقة المواقیت بل هی امّا علی خط محیط المنطقة المزبورة أو داخلها ودون المواقیت وخلفها، کما انّ الصحیح امتناع ما فرضه فی الشرائع والقواعد من عدم تأدیة بعض الطرق إلی المواقیت ولا إلی محاذاتها.

وذلک مضافاً إلی ما تقدم ویقرر بالوجوه التالیة:

الأول: التمسّک بالعموم الوارد فی میقات التمتع انّه بقدر مرحلتان، وان ذلک هو المقوم لماهیة التمتع، کما هو الحال فی قرن المنازل ویلملم

ص:515


1- (1) بحار الأنوار، ج10، ص78، ج11 ص143.

وذات عرق التی هی علی قدر مرحلتین. خلافاً لما ذهب إلیه العلّامة فی القواعد وولده فی الشرح من الاجتزاء بالاحرام بأدنی الحل فیما لو لم یؤدی الطریق إلی المحاذاة واستحسنه فی المدارک وقال فی الحدائق: قیل انّه یحرم من مساواة أقرب المواقیت إلی مکة، أی محل یکون بینه وبین مکة بقدر ما بین مکة وبین أقرب المواقیت الیها، وهو مرحلتان کما تقدم أنه عبارة عن ثمانیة وأربعین میلًا قالوا لأن هذه المسافة لا یجوز لأحد قطعها إلا محرماً من أی جهة دخل وإنّما الاختلاف فیما زاد علیها، ورد بأن ذلک انّما ثبت مع المرور علی المیقات لا مطلقاً، ثمّ ذکر الأقوال السابقة وتوقف لعدم النص . والصحیح انّ هذه المسافة حکمها لیس مقیداً بمن مرّ علی المواقیت بل انّ هذا الحکم شامل لمن کان بمکة وأراد التمتع وذلک لتقوم ماهیة التمتع به کما حرر فی أقسام الحج.

ویدلّ علیه موثق سماعة عن أبی عبد اللّه(علیه السلام) قال: «وان اعتمر فی شهر رمضان أو قبله وأقام إلی الحج فلیس بتمتع وانّما هو مجاور أفرد العمرة فإن هو أحب أن یتمتع فی أشهر الحج بالعمرة إلی الحج فلیخرج منها حتی یجاوز ذات عرق أو یجاوز عسفان فیدخل متمتعاً بالعمرة إلی الحج فإن هو أحب أن یفرد إلی الحج فلیخرج إلی الجعرانة فیلبی منها»(1).

و صریح هذه الموثقة الاجتزاء فی احرام عمرة التمتع بذلک القدر من المسافة بأی نقطة تبعد ذلک القدر وهو المرحلتان الثمانیة والاربعون میلًا.

ص:516


1- (1) من لا یحضره الفقیه، ج2، ص449؛ وسائل الشیعة، ج11 ص271، باب 10، من أبواب أقسام الحج، ح2.

والذی هو الحدّ الفاصل بین الحاضر والنائی المأخوذ فی ماهیّة التمتع فی الآیات والروایات، مع انّ عسفان لیست میقاتاً خارج منطقة المواقیت بل هی دون الجحفة ومسجد الشجرة لکنها بقدر الحد الذی علیه ذات عرق وقرن المنازل ویلملم.

وموضوع هذه الموثقة هو من لم یمرّ علی المواقیت البعیدة لا خصوص المقیم فی مکة. وینطبق هذا الموضوع علی الآتی من جدة من منطقة المطار المستحدث حالیاً حیث انّه یبعد عن مکة بقدر مرحلتین ونصف وهو أکثر من بعد عسفان من مکة کما دلّت علی ذلک الخرائط الجغرافیة الحدیثة.

وکذا مصحح اسحاق بن عبد اللّه قال: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن المعتمر بمکة یجرد الحج أو یتمتع مرّة أخری فقال: یتمتع أحب الیّ ولیکن احرامه من مسیرة لیلة أو لیلتین»(1) وهذا الحد الذی ذکره(علیه السلام) هو حدّ قرن المنازل الذی هو علی بعد مرحلتین، فتدلّ علی انّ الضابط فی احرام المتمتع الذی لم یمر علی المواقیت البعیدة هو احرامه من بعد ذلک القدر من دون تقید ذلک بالذهاب إلی خصوص قرن المنازل أو یلملم أو ذات عرق أو عسفان مما یدلل علی انّ منطقة المواقیت حوالی مکة هی دائرة قطرها ذلک القدر من کل جوانب مکة کما تشیر إلیه روایات أخری آتیة.

والتردید فی الروایة باللیلة واللیلتین لیس للتردید فی القدر بل لأن

ص:517


1- (1) وسائل: ج11، ص252، باب 4، من أبواب أقسام الحج، ح20.

ذلک وهی المرحلتان إذا اتصل سیر النهار باللیل فیطوی فی لیلة واحدة وإذا انقطع فیطوی فی لیلتین نظیر ما ورد فی تحدید حدّ مسافة التقصیر فی روایات صلاة المسافر فلاحظ.

ومثلهما صحیحة زرارة قال: «قلت لأبی جعفر(علیه السلام) قول اللّه عَزَّ وَجَلَّ فی کتابه ذلِکَ لِمَنْ لَمْ یَکُنْ أَهْلُهُ حاضِرِی الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قال(علیه السلام): یعنی أهل مکة لیس علیهم متعة کل من کان أهله دون ثمانیة وأربعون میلًا ذات عرق وعسفان کما یدور حول مکة فهو ممن دخل فی هذه الآیة وکل من کان أهله وراء ذلک فعلیهم المتعة».

ومثلها صحیحه الآخر وفیه فما حدّ ذلک قال(علیه السلام) «ثمانیة واربعین میلًا من جمیع نواحی مکة دون عسفان وذات عرق».

وقد ذکرنا فی بحث الحج - فی أقسام الحج - بیان انّ الآیة دالّة علی أخذ البعد المزبور فی احرام عمرة التمتع، وانّ محصل الروایات فی الحاضر والنائی انّ مشروعیة التمتع تدور مدار ذلک البعد کمیقات لاحرام عمرة التمتع، وغیرها من الروایات، وبذلک یرفع الید عن العموم الأولی الفوقانی الذی تمسک به العلّامة وجماعة وهو المنع عن دخول مکة والحرم إلا محرماً المقتضی لاجتزاء الاحرام من أدنی الحل.

وقد صرّح بذلک صحیح عبد الرحمن بن الحجاج الوارد فی احرام المجاور الذی وظیفته الافراد من أدنی الحل واعتراض سفیان من فقهاء العامة علی ذلک بقوله: أما علمت انّ أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله أحرموا من المسجد فقال(علیه السلام): «انّ اولئک کانوا متمتعین فی أعناقهم الدماء وإن هؤلاء

ص:518

قطنوا مکة فصاروا کأنهم من أهل مکة وأهل مکة لا متعة لهم فأحببت أن یخرجوا من مکة إلی بعض المواقیت وأن یستغبوا به أیّاماً» ویرید(علیه السلام) من بعض المواقیت الجعرانة ونحوها من معالم أدنی الحل فهذه الصحیحة صریحة فی تخصیص العموم الفوقانی الأول لمیقات أدنی الحل بغیر من یرید التمتع فی حالة الاختیار.

والغریب ممّن جمع بین الحکم فی المجاور بمکة أقل من المدة التی ینقلب فیها فرضه بأن یحرم من المواقیت البعیدة، أو المسافة بقدر مرحلتین کما دلّت علی ذلک الروایات، وإن وردت روایات اخری دالّة علی احرامه من ادنی الحل لکنها محمولة علی التعذر کما تقدم، وبین الحکم فیمن سلک طریقاً لا یؤدی الی المحاذاة بأن احرامه ادنی الحل، فانّ الموضوع فیها واحد وهو من لم یمر علی المواقیت البعیدة، وکذلک الحال فی الجمع بین ذلک وبین الحکم فی الناسی والجاهل للاحرام من المواقیت البعیدة وقد دخل الحرم أو مکة بأن علیه العود والاحرام من المیقات وإلا بقدر ما یستطیعه من الرجوع.

ثمّ انّه لا یخفی انّ هذا الوجه یتم بعد عدم لزوم المرور علی المواقیت کما نسب للمشهور، ولعله متسالم بینهم بل الروایات المزبورة دالّة علیه، کما انّ مفاد لسان الروایات الواردة فی المواقیت البعیدة عدم جواز تجاوزها إلا بالاحرام مقیداً بمن مرّ علیه.

الثانی: انّ الواصل إلی جدة من الحجیج لا یخلو امّا أن یکون محاذیاً للمواقیت کما هو الصحیح لدینا فی معنی المحاذاة وهو الوقوف علی محیط

ص:519

منطقة المواقیت البعیدة وهو الخط الواصل بین المواقیت المزبورة، أو هو دون المواقیت البعیدة، بدعوی ملاحظته للجحفة والشجرة، ولا یحتمل انّه خارج منطقة المواقیت، لأن أهالی جدة ونحوهم من المدن الواقعة علی ساحل البحر لا یجب علیهم الذهاب إلی أحد المواقیت المعروفة بل یحرمون من دویریة أهلهم، وحینئذ فیجزئ الاحرام منها، أما علی الأول فظاهر، وأمّا علی الثانی فیشمله عموم من کان منزله دون المواقیت فاحرامه منه ولا یلزم بالذهاب للمواقیت البعیدة، لأن الفرض أنه لم یمر علیها، وقد عرفت التسالم علی عدم لزوم المرور علیها، ولا یصدق علیه انّه تجاوزها ولم یحرم منها، فهو نظیر من دخل منطقة المواقیت ثمّ بدا له أن یعتمر فإنّ احرامه من منزله الذی نوی فیه، وقد عرفت انّ بُعد جدة هو علی القدر الذی أخذ فی ماهیّة التمتع. کما یستدل للاجتزاء بالاحرام علی التقدیر الثانی بعموم عقد الاحرام بالتلبیة ونحوها، غایة الأمر قد خصص هذا العموم بالمواقیت البعیدة لمن مرّ علیها وبالعموم الآخر «لا یدخل الحرم إلا محرما» وبما دلّ علی انّ ماهیة التمتع متقومة بالاحرام من بعد مرحلتین ثمانیة وأربعین میلًا، والمفروض انّ جدة علی هذا البعد حیث المطار الذی یصل إلیه الحجیج.

و لو سلّم جدلًا انّ جدة قبل المواقیت وانّ حدّه- بالحاء المهملة- الواقعة وسط الطریق بین جدة ومکة هی نقطة المحاذاة للمواقیت فانّه یحرم من جدة ویستمر علی تجدید التلبیة إلی أن یتجاوز المدن الواقعة فی الطریق المحتملة للمحاذاة. لکن هذا التقدیر الثالث لا مجال لاحتماله بعد ما عرفت من الأدلّة الدالّة علی تقوم ماهیّة التمتع بالاحرام من علی بعد مرحلتین فما

ص:520

زاد، والمدن الواقعة فی الطریق هی دون المرحلتین.

الثالث: کون جدّة واقعة علی حدود منطقة المواقیت، أی محاذیة للمواقیت کما ذکر ذلک ابن ادریس، ویدلل علیه بشواهد، منها ما تقدم فی معنی المحاذاة من أنّها عبارة عن المحیط الواصل بین المواقیت البعیدة، غایة الأمر انّه لا یوصل بالخط المحیط بین الجحفة ویلملم لا یوصل بخط مستقیم، بل بخط یمر علی جدة بمقتضی مفاد موثق سماعة المتقدم وصحیحتی زرارة وغیرها من الروایات المتقدمة فی الوجه الأول الدالّة علی انّ منطقة المواقیت قرب مکة هی عبارة عن دائرة مرکزها مکة وقطرها بقدر ثمانیة وأربعین میلًا، غایة الأمر انّ تلک الدائرة یتوسع محیطها شمالًا إلی مسجد الشجرة والجحفة، ومقتضاها بالتالی المرور علی جدّة.

ثم ان هناک معاضدات:

منها: أنّ أهالی جدّة ومقیمیها لا یلزم علیهم الذهاب إلی المواقیت بعیدة کیلملم والجحفة، بل احرامه نفس جدّة کما علیه أکثر الخاصّة والعامّة، أو باحرامهم من الطریق إلی مکة عند بئر الشمیس أو حدة کما ذهب إلیه البعض النادر، وهو ضعیف لأنه لو کان لبان لما عرفت من تقادم عهد حاضرة جدّة وأنّها کانت مرفأً منذ عهد عثمان، مع انّ وظیفتهم هی التمتع.

ومنها: أنّه صلی الله علیه و آله قد وضع المواقیت شمالًا وجنوباً وشرقاً ولم یضع فی الغرب حداً ووقتاً معیناً، مع انّ جدّه منذ عهد الثالث أو ما قبله کانت مرفأ بحریاً هامّاً لکثیر من الحجیج ولا زالت کذلک، بل أصبحت الیوم مرفأً

ص:521

جویاً هامّاً للحجیج، فلو کانت خارجة من منطقة المواقیت مع خروج النواحی الغربیة الساحلیة لکان من المناسب وضع میقات من ذلک الاتجاه، مع انّه قد تقدم صعوبة تحدید المحاذاة واحرازها من جهة الشبهة المفهومیة الموضوعیة لعامّة الناس، مع انّ المتعارف عند رسم شکل محیط ذی اضلاع مختلفة هو بیان اختلاف الاضلاع، أمّا المتشابه فیکتفی ببیانه عن بقیتها، فالمواقیت القریبة المحیطة من جهة الشرق والجنوب هی علی بعد مرحلتین وهو نفس القدر لجدّة.

فالمحصّل انّ الآتی جواً أو بحراً إلی جدة أو بقیة المدن الساحلیة بین یلملم والجحفة یصدق علیه انّه حاذی المواقیت بلحاظ الشکل والخط المحیط المرسوم بمجموعها ویصدق علیه المدار المأخوذ مستفیضاً فی الروایات أنّه لم یحرم قبلها ولا بعدها علی من یحرم من جدّة ونحوها، أی أنّه أحرم من منطقة المواقیت لا قبلها ولا بعدها، بخلاف من یمر علی الجحفة أو یلملم مثلًا ثمّ یتوجه إلی جدّة فانّه یحرم بعد المیقات، کالذی مرّ علی الشجرة ولم یحرم واتّجه إلی الجحفة، أی من مرّ علی میقات ولم یحرم منه وأمامه میقات آخر.

ص:522

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.