الآراء الفقیهة-قسم الخیارات2- المجلد 11

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: النجفي، هادي، 1342 -

عنوان واسم المؤلف: الاراء الفقهیة/ تالیف هادي النجفي.

تفاصيل المنشور: اصفهان: مهر قائم، 1401.

مواصفات المظهر: 3 ج.

شابک : 0 20000 ریال: دوره: 978-964-7331-77-7 ؛ ج. 1: 978-964-7331-74-6 ؛ ج. 2: 978-964-7331-75-2 ؛ ج. 3: 978-964-7331-85-2

حالة الاستماع: فاپا/الاستعانة بمصادر خارجية.

لسان: العربية.

ملحوظة: ج. 2 و 3 ( الطبعة الأولى: 1429ق. = 1387).

ملحوظة: فهرس.

موضوع : المعاملات (فقه)

موضوع : خیار العیب

موضوع : فقه جعفري -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP190/1/ن3آ4 1387

تصنيف ديوي: 297/372

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1245417

ص: 1

اشارة

ص: 2

صورة

تقريظ سماحة المرجع الديني آيةالله العظمىٰ الشيخ يدالله الدوزدوزاني التبريزي (دام ظله)

ص: 3

ص: 4

تتمة أقسام الخيار

اشارة

ص: 5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تمهید

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على نبيّنا نبي الرحمة محمّد رسول الله وعلى أهل بيته الأئمة الأطهار لاسيّما على الحجة الثاني عشر صاحب العصر والزمان(عجل الله تعالی فرجه الشریف)، واللعنة الدائمة الأبدية السرمدية على أعدائهم ومخالفيهم ومنكري فضائلهم وحقوقهم.

أمّا بعد؛ فهذا الجزء الحادي عشر من كتاب الآراء الفقهية المشتمل على دروسي حول خيارات الغبن والتأخير والرؤية، قد ابتدأت بها في يوم الإثنين الخامس من ربيع الآخر سنة 1441 (18/9/1398ش) وقد فرغت منها في يوم السبت التاسع من جمادي الأخرى سنة 1442 (4/11/1399ش) في مدرسة الصدر بالحوزة العلمية في مدينة اصفهان صانها الله من الحدثان، وأصوات مجلس الدرس موجودة على سايتي على النت ALNajafi.ir ومن أراد فليراجع إليها. وأخذت كلّها من بحوث أستاذنا المحقّق آيةالله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني(1) (دام ظله) والفقيه المدقّق آيةالله العظمى السيّد محمّد الروحاني(2) (قدس سره) وأستاذهما مرجع الطائفة آيةالله العظمى السيّد أبوالقاسم الخوئي(3) (قدس سره) مع تصحيحات، تحقيقات، إضافات وحذف ولهم الفضل.

والحمدلله أوّلاً وآخراً

26 ربيع الآخر 1444

اصفهان - هادي النجفي

ص: 6


1- بغية الراغب في مباني المكاسب، بقلم الحجة الشيخ نزار آل سنبل القطيفي,.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات، بقلم الشهيد آيةالله السيّد عبدالصاحب الحكيم (قدس سره) .
3- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات، بقلم آيةالله المرجع الشهيد الشيخ ميرزا علي الغروي (قدس سره) ومصباح الفقاهة في المعاملات، بقلم آيةالله الشيخ محمّدعلي التوحيدي (قدس سره) .

الرابع: خيار الغبن

اشارة

وهو من الخيارات التي دلّ عليه الدليل العام والسيرة العقلائية وفيه جهات من البحث:

الجهة الأولى: خيار الغبن لغة واصطلاحاً

«الغبن لغة: الخديعة، قال الشيخ (قدس سره) : (وأصله الخديعة، قال في الصحاح: «هو بالتسكين في البيع، وبالتحريك في الرأي»(1))(2)

وفي اصطلاح الفقهاء: تمليك المال بما يزيد على قيمته، أو تملّكه بأقل من قيمته مع جهل الآخر، أعم من حصول الخديعة وعدمه كما لو كانا جاهلين.

فالنسبة بين المعنيين - اللغوي والاصطلاحي - نسبة العموم والخصوص من وجه؛ فمن جهة أخذ الخديعة في الغبن اللغوي - وهي لا تكون إلّا في صورة العلم - كان المعنى اللغوي أخص من الاصطلاحي؛ لأن الفقهاء يحكمون بالغبن حتّى في صورة الجهل.

ص: 7


1- الصحاح 6/2172، مادة غبن.
2- المكاسب 5/157.

ومن جهة عدم اشتراط كون التفاوت فاحشاً في المعنى اللغوي كان أعم من الاصطلاحي؛ إذ لا يحكم الفقهاء بالغبن إذا كان التفاوت متسامحاً فيه.

ثمّ إن ما تعرض إليه الفقهاء كالشيخ (قدس سره) ، من بيان المعنى اللغوي للغبن إنما يحسن لو كان العنوان مأخوذاً في لسان الأدلة، كما لو كان المستند دليلاً لفظياً خاصاً ذكرت فيه لفظة الغبن، فيرجع إلى اللغة والعرف لتعيين معناه، وأما مع كون المستند «لا ضرر»، أو عقد المستثنى، أو المستثنى منه في قوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾(1)، أو الشرط الارتكازي، أو الإجماع، فلا حاجة للبحث اللغوي؛ لعدم الرجوع إلى اللغة والعرف حينئذٍ.

نعم، يمكن أن يكون المصحّح لما ذكروه، هو أن بعض الأدلة التي استدل بها لخيار الغبن - كما في الجواهر(2) - روايةٌ كَ«غبن المسترسل سحت»(3)، و «غبن المؤمن حرام»(4)، و «لا تغبن المسترسل فإن غبنه لا يحل»(5)، وإن كان الاستدلال بها موضع إشكال، ولكن ذكر الغبن فيها مصحح لطرح المعنى اللغوي»(6)

الجهة الثانية: اجماع الطائفة على خيار الغبن

اشارة

قال السيّد العاملي: «المشهور بين الأصحاب ثبوت خيار الغبن كما في المهذب

ص: 8


1- سورة النساء /29.
2- جواهر الكلام 24/72 (23/41).
3- وسائل الشيعة 18/31، ح1، الباب 17 من أبواب الخيار، خبر إسحاق بن عمار.
4- وسائل الشيعة 18/32، ح2، الباب 17 من أبواب الخيار، صحيحة مُيَسَّر.
5- وسائل الشيعة 17/385، ح7، الباب 2 من أبواب آداب التجارة، مرسلة أحمد بن محمّد بن يحيى.
6- بغية الراغب في مباني المكاسب 3/(13-11).

البارع(1) وغاية المرام(2) والروضة(3) وخصوصاً المتأخّرين كما في المسالك(4) والكفاية(5) بل كاد يكون إجماعاً بين المتأخّرون كما في إيضاح النافع وعليه المتأخّرين كما في التنقيح(6) والشيخ وأتباعه كما في الدروس(7) و علماؤنا كما في التذكرة(8) وإجماع الطائفة كما في الغنية(9)

وبه صرّح في المبسوط(10) والخلاف(11) والوسيلة(12) والغنية(13) والسرائر(14) والشرائع(15) والنافع(16) والتحرير(17) والتذكرة(18) والإرشاد(19) والتبصرة(20) والدروس(21)

ص: 9


1- المهذب الباع 2/374.
2- غاية المرام 2/36.
3- الروضة البهية 3/463.
4- مسالك الأفهام 3/203.
5- كفاية الأحكام 1/465.
6- التنقيح الرائع 2/47.
7- الدروس الشرعية 3/275.
8- تذكرة الفقهاء 11/68.
9- غنية النزوع /224.
10- المبسوط 2/87.
11- الخلاف 3/41، مسألة 60.
12- الوسيلة /227.
13- غنية النزوع /224.
14- السرائر 2/249.
15- شرائع الإسلام 2/22.
16- المختصر النافع /121.
17- تحرير الأحكام 2/288.
18- تذكرة الفقهاء 11/68.
19- إرشاد الأذهان 1/374.
20- تبصرة المتعلّمين /90.
21- الدروس الشرعية 3/275.

واللمعة(1) والحواشي المنسوبة إلى الشهيد(2) والتنقيح(3) وغاية المرام(4) وجامع المقاصد(5) وتعليق الإرشاد(6) وإيضاح النافع والميسية والمسالك(7) والروضة(8) ومجمع البرهان(9) وبه صرّح يحيى بن سعيد في جامع الشرائع(10) في مسألة تلقّي الركب، وكذا المصنّف في نهاية الإحكام(11) إن قلنا: إنّ المسألتين من سنخٍ واحد كما صرّح به بعضهم(12)

وينبغي أن يكون مذهب القاضي(13) لأنّه من أعاظم أتباع الشيخ، وقد نسبه الشهيد(14) إلى الأتباع، ولم يحضرني من كتبه إلّا الجواهر.

وهو ظاهر باقي المتأخّرين(15) من شارحين ومحشّين. وإن كانت مسألة التلقّي من سنخ هذه المسألة كان جميع المتأخرين مصرّحين به إلّا من شذّ. وقد أسبغنا

ص: 10


1- اللمعة الدمشقية /128.
2- لم نعثر عليه في حواشي الشهيد الموجودة لدينا.
3- التنقيح الرائع 2/47.
4- غاية المرام 2/36 و 45.
5- جامع المقاصد 4/294.
6- حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي وآثاره: ج9) في الخيار /393.
7- مسالك الأفهام 3/203.
8- الروضة البهية 3/463.
9- مجمع الفائدة والبرهان 8/403.
10- الجامع للشرائع /257.
11- نهاية الإحكام 2/517.
12- كالعلّامة في تذكرة الفقهاء 11/69.
13- المهذب البارع 1/361.
14- الدروس الشرعية 3/258.
15- كرياض المسائل 8/190؛ إيضاح الفوائد 1/484؛ فوائد القواعد /613 و 614؛ كشف الرموز 1/458؛ غاية المراد 2/99.

الكلام(1) فيها بما لا مزيد عليه.

وكم من حكمٍ معروفٍ مشهورٍ خلت عنه المقنعة والإنتصار والمراسم، فعدم ذكر هؤلاء الثلاثة له مع تركهم لكثير من الأحكام لا يورث ريبة فيه. وأمّا الهداية والمقنع فقد خلا عنهما أكثر الأحكام، وأبو عليّ لم يزل موافقاً للعامّة. وقد نقل في الخلاف(2) مخالفة أبي حنيفة والشافعي ومالك وأبي يوسف لنا في هذا الفرع، وسكت عن باقي علمائهم، على أنّ الشهيد(3) إنّما نسب الخلاف إلى ظاهر أبي عليّ وأمّآ المحقّق فما كنّا لنلتفت إلى ما ينقل عنه في الدروس(4) مع ما نشاهده منه.

فقد ظهر أنّ قول الشهيدين(5) ومَن تأخّر عنهما(6) «إنّ أكثر القدماء لم يذكروه» كأنّه لم يصادف محزّه كما عرفت، ولا وجه أصلاً لاستظهار صاحب الكفاية(7) عدم ثبوت الإجماع، وقوله «للتأمّل فيه مجال» وقد تبعه على ذلك صاحب الحدائق(8)»(9)

وذكر صاحب الجواهر أنّ الاجماع «بعد التتبع الحجة»(10).

ص: 11


1- تقدّم في 2/(348-333).
2- الخلاف 3/(42-41)، مسألة 60.
3- الدروس الشرعية 3/275.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق؛ مسالك الأفهام 3/203.
6- منهم الفاضل المقداد في التنقيح الرائع 2/47؛ والبحراني في الحدائق الناضرة 19/40؛ وأبوالعباس في المهذّب البارع 2/374.
7- كفاية الأحكام 1/466.
8- الحدائق الناضرة 19/(41-40).
9- مفتاح الكرامة 14/(225-222).
10- الجواهر 24/72 (23/41).

ولكن قد يستشكل في ثبوت هذا الاجماع صغرى وكبرى:

أمّا الصغرى: ففيه اشكالان
اشارة

«الأوّل: خلوّ كلمات عدّة من القدماء عن ذكره، وعدم التعرض وإن كان أعم من إنكاره، فلا يكشف عن المخالفة إلّا أنه في مثل المقام يدل على النفي؛ وذلك لأنه حينما يتعرض الفقيه لأقسام الخيار، ويكون في مقام تعدادها واستقصائها، ويذكرها ولم يذكر خياراً معيّناً، ولم يذكر ما يعمّه يكون عدم ذكره ظاهراً في نفيه، والا لم يكن معنى لعدم ذكره مع القول به وهو في صدد تعدادها.

الثاني: ما نقل من إنكار المحقق (قدس سره) له في مجلس درسه.(1)

الجواب عن الإشكال

ويندفع الثاني بأن المحقق (قدس سره) ذكره في الشرائع رابع الخيارات(2)، وما ذكره في الشرائع مقدم على ما نقل عنه في مجلس الدرس.

دفاع المحقق الرشتي عن الإشكال والجواب عنه

ولكن المحقق الرشتي (قدس سره) قال: بأن المورد من موارد تعارض الكتابة مع القول، فالمكتوب في الشرائع معارض لقوله (قدس سره) في الدرس، وقد تقرّر في محله تقديم القول على الكتابة عند التعارض، فلا ينعقد الإجماع مع مخالفة المحقق (قدس سره) .(3)

ويرد عليه: أن ما أفاده (قدس سره) تام في بعض الموارد، كما هو الحال في الوصية؛ فإنهم قالوا - وهو الصحيح - أنه لو تعارض ما هو مكتوب في الوصية مع وصيته القولية

ص: 12


1- حكاه الشهيد (قدس سره) في الدروس 3/275؛ حيث قال: «وربما قال المحقّق في الدرس: بعدم خيار الغبن».
2- الشرائع 2/277؛ حيث قال: «الرابع: [خيار الغبن] من اشترى شيئاً، ولم يكن من أهل الخبرة، وظهر فيه غبن لم تجر العادة بالتغابن به، كان له فسخ العقد إذا شاء».
3- فقه الإمامية، قسم الخيارات /387.

فالقول هو المقدّم؛ والسر في ذلك أن القول صريح في الإنشاء، ولا يحتمل عرفاً إرادة خلاف ما يظهر منه؛ تمسكاً بأصالة الجد، وأما الكتابة فهي قاصرة الدلالة على إنشاء الوصية؛ إذ يحتمل أن الموصي كتب ذلك لينظر فيه فيما بعد، ثمّ ينشيء الوصية، فالوصية القولية دالة على الإنشاء دلالة قطعية بحسب سيرة العقلاء، وأما الوصية الكتبية فهي ليست بتلك المنزلة، بل تحتاج إلى إقامة القرينة، وعلى هذا أفتى الفقهاء بتقديم القول على الكتابة في الإنشائيات، دون الإخباريات.

وما نحن فيه ليس صغرى لتلك الكبرى؛ فإن بناء الدرس على النقض والإبرام، وتشريح الأذهان، بخلاف ما هو مدوّن في كتاب الفتوى، فهو مقام الاختيار وبيان الرأي، فلا يعارضه القول.

نعم لو استفتي المحقق (قدس سره) وأجاب بالقول، فهو معارض للكتابة، ولا وجه لتقديم القول أيضاً؛ لكون كل منهما في مقام الفتوى وبيان الرأي، فينبغي أن يلاحظ تأريخ صدروهما فيؤخذ بالمتأخر إن عرف وإلا جرت قاعدة مجهولي التأريخ.

فالحق أن المحقّق (قدس سره) غير مخالف قطعاً، بل هو قائل بأن خيار الغبن أحد أقسام الخيار، وإنما الإشكال في الإجماع من الجهة الأولى، أي عدم تعرض عدّة من الفقهاء المتقدمين في متونهم الفقهية له مع كونهم في مقام استقصاء أقسام الخيار.(1)

الإشكال في كبرى الإجماع

ثمّ إن الإجماع محل إشكال من ناحية الكبري؛ فإنه مدركي؛ حيث استند المجمعون إلى آية ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾(2)، أو إلى قاعدة «لا ضرر»، أو إلى الشرط الارتكازي، فما أفاده صاحب الجواهر (قدس سره) ممنوع صغرى وكبرى»(3)

ص: 13


1- وقد عرفت جوابه من كلام السيّد العاملي (رحمة الله) في مفتاح الكرامة. كما مرّ آنفاً [المؤلف].
2- سورة النساء /29.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 3/(17-15).

الجهة الثالثة: أدلة خيار الغبن

1- قوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾
اشارة

استدل العلّامة بعقد المستثنى من هذه الآية الشريفة وقال: ««ومعلوم أن المغبون لو عرف الحال لم يرض»(1)؛ فإن المعاملة بين الطرفين مبنية على التساوي بين الثمن والمثمن في المالية، ومع عدمه لا تكون تجارة عن تراض.

اشكال صاحب الجواهر على العلّامة

وأورد عليه صاحب الجواهر (قدس سره) : بحصول الرضا الفعلي بالمعاملة بين الطرفين، وإن كان الداعي له الجهل بالقيمة، وما عليه المدار هو الرضا الفعلي بها، وإلا لكانت باطلة، وعدم الرضا تقديري، بمعنى أنه لو علم لم يرض، وهو غير مضر بالمعاملة.(2)

دفاع الشيخ عن العلّامة

وأجاب عنه الشيخ (قدس سره) بتوجيه استدلال العلّامة (رحمة الله) بقوله: «إنّ رضا المغبون بكون ما يأخذه عوضاً عمّا يدفعه مبني على عنوان مفقود، وهو عدم نقصه عنه في المالية، فكأنّه قال: «اشتريت هذا الذي يساوي درهماً بدرهم»، فإذا تبيّن أنه لا يساوي درهماً تبيّن أنه لم يكن راضياً به عوضاً»(3)

فلم يثبت الرضا بقول مطلق، ولم ينفه كذلك.

وبما أن هذا المقدار من التوجيه لا يرفع الإشكال بالمرة، بل يبقى إشكالان:

الأوّل: أنه إذا كان الرضا مبنياً على تساوي الثمن والمثمن في المالية، فمع عدمه ينتفي الرضا، فيلزم البطلان.

ص: 14


1- التذكرة 11/68.
2- جواهر الكلام 24/73 (23/42).
3- المكاسب 5/158.

الثاني: بما أن الرضا منوط بالتساوي في المالية، والفرض أنه مفقود فلا يفيد الرضا اللاحق.

أجاب الشيخ (قدس سره) عن الأوّل بقوله: «لكن لما كان المفقود صفة من صفات المبيع - ولم يكن من مقوّماته - لم يكن تبيّن فقده كاشفاً عن بطلان البيع، بل كان كسائر الصفات المقصودة، التي لا يوجب تبيّن فقدها إلّا الخيار»(1)، كما هوا لحال في تخلف الكتابة عن العبد والعربية عن الفرس.

وأجاب عن الثاني بقوله: «فالآية إنما تدل على عدم لزوم العقد، فإذا حصل التراضي بالعوض الغير المساوي كان كالرضا السابق، لفحوى حكم الفضولي والمكره»(2)؛ فإن ما نحن فيه لم يكن البيع من الفضولي، ولا من المكره، بل كان من المالك المختار، فالرضا المتعقب موجب لصحة البيع بطريق أولى من بيع الفضولي والمكره المتعقبين بالرضا.

مناقشة الشيخ للعلّامة

ثمّ أورد (قدس سره) على العلّامة (رحمة الله) إشكالين:

الأوّل: استدلال العلّامة (رحمة الله) يتوقف على كون الوصف المذكور - أي تساوي الثمن والمثمن في المالية - عنواناً لا داعياً وهو ليس كذلك.

توضيح ذلك: أن الداعي لا يقع تحت الإنشاء، ولا يتعلق الإنشاء به، فتخلّفه لا يؤثر في المعاملة، من حيث البطلان، ولا اللزوم، فلا تقع باطلة، ولا تكون جائزة، وذلك من قبيل ما لو اشترى الرجل المتاع بداعي مجيئ الضيف له، فتبيّن عدم مجيشه؛ فإن ذلك لا يخلّ بصحتها، ولا بلزومها.

ص: 15


1- المكاسب 5/159.
2- المكاسب 5/159.

وأما العنوان فيقع تحت الإنشاء، فإن كان من العناوين المقوّمة للمبيع، وأخذ في مقام الإنشاء، أوجب تخلّفه بطلان المعاملة، كما لو اشترى العبد، فتبيّن جارية، وإن كان من الأوصاف أثّر في اللزوم، فأوجب تخلّفه الخيار، كما لو اشترى العبد الكاتب، فتبيّن عدم كونه كاتباً.

والتساوي في المالية، ليس منهما، بل أخذ بنحو الداعي للمعاملة؛ فإن الداعي له، أن لا يكون مغبوناً، وأن يأخذ بقيمة ما أعطى، وتخلّف الداعي لا يوجب بطلان المعاملة، ولا تزلزلها.

الثاني: أن لو كان من العناوين، فهو غير مؤثر أيضاً، ما لم يؤخذ في متن العقد، كأن يقول: «اشتريت المتاع بدرهم على أن يكون مساوياً له في المالية»، أو «بعتك هذا العبد على أن يكون كاتباً»، وما لم يؤخذ فيه - كما هو الحال في المقام - لم يكن تخلّفه موجباً للخيار.(1)

ردّ مناقشة الشيخ للعلّامة

وهنا جهتان من البحث:

الجهة الأولى: في كون التوجيه رافعاً لإشكال صاحب الجواهر (قدس سره) وعدمه، والذي يظهر من الشيخ (قدس سره) - مع قطع النظر عن إشكاليه - أنه رافع له؛ ولكنّه بعد ذكره الإشكالين قال: «ولو أبدل (قدس سره) هذه الآية بقوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾(2) كان أولى»(3)

الجهة الثانية: في إشكالي الشيخ (قدس سره) ، والصحيح عدم ورودهما على العلّامة (قدس سره) :

أما الأوّل؛ فلأن الغرض الأوّل عند العقلاء في معاملاتهم البيعية هو حفظ

ص: 16


1- المكاسب 5/195.
2- سورة النساء /29.
3- المكاسب 5/159.

المالية، وعدم دخول النقص فيها، وهذا ما يشير إليه أصل تعريف البيع لغة، بأي تعريف عرّف، سواء أعرّف بمبادلة مال بمال، أم بتمليك عين بعوض، أو بالتبديل في طرفي الإضافة.

وبناء على هذا البناء العقلائي يكون جعل التساوي في المالية من العناوين المقصودة عندهم، وأن الإنشاءات واردة على هذه الخصوصيه، فلا يشتري العاقل المتاع بألف دينار، بنحو مطلق، أي حتّى لو كانت قيمته بنصفه، فالمعاملة من الأوّل مقيدة بأن لا تنقص قيمة المتاع عن هذا المبلغ بالنحو المتعارف، فعدم كونه مغبوناً من القيود المأخوذة في العقد.

نعم، لا شك أن كل واحد من المتبايعين يريد أن يحصل على ربح كبير، ولكن ما يريده راجع إلى هوى النفس، وأما ما عند العقلاء - بما هم عقلاء - فهو الربح بالنحو المتعارف، فلا تزيد القيمة زيادة فاحشة لا يتسامح فيه، وأما ما يتسامح فيه، فلا مانع منه، ولم يمنع منه الفقهاء.

وعليه، فإنكار كون التساوي من العناوين المقصودة في الإنشاء ممنوع بلا تأمل.

وأما الثاني: فلأن الخصوصية [التساوي] - سواء أكانت من العناوين، أم من الأوصاف، أم من القيود - إن كانت مركوزة في أذهان العقلاء، فيكفي ذلك أن يكون العقد مبنياً عليها، وإن لم تذكر في متن العقد، ويكفي في تحقق عنوان الشرط ومفهومه، أن يكون العقد مبنياً عليها.

وبعبارة أخرى: إن القيود والعناوين، إن كانت من الأغراض الشخصية، التي يتعلق به غرض صاحب المعاملة، فلابدّ لتحقق كونها شرطاً من ذكرها في متن العقد.

وإن كانت من الأغراض النوعية، التي يتعلق بها غرض العقلاء، فبناؤهم على إنشاء المعاملة مبنياً عليها، فتكون شرطاً فيها، فمثلاً من الخصوصيات التي يوجب تخلّفها الخيار مع عدم ذكرها في متن العقد، هو بناء كل معاملة على تسليم الثمن

ص: 17

واستلام المثمن، فلو سلّم أحدهما ما عليه دون الآخر كان للأوّل الخيار؛ وذلك لأن هذه الخصوصية مرتكزة في أذهان العقلاء، أي أنه أخذ التسليم والاستلام بعد تمامية كل معاملة في ذهنهم، فيكون تخلّفها منشأ للخيار، من غير حاجة لأخذها في متن العقد.

الصحيح في الإشكال على استدلال العلّامة

وأما أصل استدلال العلّامة (قدس سره) فهو غير تام أيضاً(1)؛ وذلك لأن الرضا في المعاملة غير مهمل قطعاً، فإما أن لا يحصل الرضا مطلقاً في فرض عدم التساوي في المالية، فلا تصح المعاملة؛ لأن التراضي قيد فيها؛ بمقتضى قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾، والمشروط عدم عند عدم شرطه.

وإما أن يحصل الرضا بنحو مطلق، حتّى مع فرض عدم التساوي في المالية، فالمعاملة صحيحة، ولازمة بلا إشكال.

وإما أن يحصل الرضا، معلّقاً على التساوي في المالية، فتبطل المعاملة أيضاً؛ بمقتضى التعليق المجمع على بطلانه.

وعليه فالاستدلال بالآية على صحة المعاملة مع الخيار باطل على جميع تقادير المسألة؛ لدورانها بين الصحة واللزوم، أو البطلان، والخيار فرع الصحة»(2)

2- قوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾

2- قوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾(3)

تقريب الاستدلال بهذه الآية على وجهين:

ص: 18


1- لما ذكرنا في بيع الفضولي من أنّ صحة المعاملات مستندة إلى استنادها إلى أربابها ولا يدخل فيها الرضا فالاستدلال باطل من رأسه. ثمّ بعد العدول عن الاستناد يجري في المقام ما ذكره الاستاذ المحقّق (دام ظله) [المؤلف].
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 3/(23-17).
3- سورتا البقرة /188 والنساء /29.

«أحدهما: ما أفاده شيخنا الأنصاري(1) (قدس سره) وملخّصه: أنّ للبيع مع [الغبن] صور ثلاث، الأُولى: البيع قبل انكشاف الغبن وقبل الرضا به.

الثانية: البيع بعد انكشاف الغبن وبعد عدم الرضا به.

الثالثة: البيع بعد انكشاف الغبن مع الرضا به.

أمّا الصورة الأخيرة: أعني البيع فيما إذا انكشف الغبن ولكن المغبون رضي بغبنه، فلا إشكال في صحته وعدم كون ذلك من الأكل بالباطل لغرض رضاه بالغبن فهي صحيحة ولو بالأولوية المستفادة ممّا دل على صحة بيع المكره فيما إذا رضي به بعد الاكراه.

وأمّا الصورة الثانية: فهي من أكل المال بالباطل، إذا المفروض عدم رضا المغبون بالغبن، فتكون المعاملة حينئذ مصداقاً للأكل بالباطل وهو حرام وفاسد.

وأمّا الصورة الأولى: فلازم ما ذكرناه في الصورة الثانية وإن كان هو بطلانها أيضاً، لأنّ مقتضى قوله تعالى ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ هو عدم جواز أكل أموال لناس بغير رضى منهم، والمفروض في الصورة الأُولى عدم رضا المغبون لعدم علمه بالحال، ومع عدم الرضا لا تكون المعاملة صحيحة ومن التجارة عن تراضٍ فلا محالة تقع فاسدة، إلّا أنّا خبرجنا عن مقتضى الآية المباركة في الصورة الأُولى بالاجماع القائم على صحة المعاملة قبل انكشاف الغبن وقبل رضا المغبون هذا ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدس سره) في تقريب الاستدلال بالآية المباركة.

ويرد عليه وجوه:

الأوّل: أنّ لازم هذا الكلام أن تكون المعاملة الغبنية باطلة من غير حاجة في رفعها إلى الفسخ، إذا المفروض أنّها أكل للمال بالباطل فلا يحتاج في رفعها إلى الفسخ

ص: 19


1- المكاسب 5/159.

مع أنهم لا يلتزمون بالبطلان قبل فسخها. [ولا يثبت الخيار].

الثاني: أنّ خروج الصورة الأُولى بالاجماع ليس من جهة إجماع تعبّدي قام على صحتها مع كونها من الأكل بالباطل، فإنّ الآية آبية عن التخصيص، بل صحتها من جهة التخصّص وعدم كونها من قبيل أكل المال بالباطل(1) لا أنه منه، إلّا أنّا خرجنا عن بطلانها بالاجماع.

الثالث: أنّ البيع في الصورة الثانية ليس من الأكل بالباطل، وذلك لأنّ معنى الآية كما تقدم أنه لا تأكلوا أموال الناس بوجه من الوجوه وبسبب من الأسباب إلّا بالتجارة عن تراض، وحينئذ فتكون المعاملة عن تراض مبايناً وقسيماً لأكل لمال بالباطل وفي مقابله لا من قبيل الفرد والقسم للأكل بالباطل.

وعليه فنقول: إذا كانت المعاملة قبل انكشاف الغبن معاملة صحيحة وكانت مع التراضي أيضاً لفرض أنه جاهل بالغبن وجهله به هو الذي بعثه على المعاملة عن الرضا، وبالجملة كانت المعاملة قبل انكشاف الغبن تجارة عن تراض فكيف تنقلب هذه المعاملة الواقعة عن الرضا إلى أكل لمال بالباطل بعد انكشاف الغبن وذلك لما عرفت من أنهما متقابلان فما يكون مصداقاً لأحدهما كيف يكون منقلباً إلى الآخر ومصداقاً له، وهذا ظاهر.

الوجه الثاني في تقريب الاستدلال بالآية المباركة: ما أفاده [المحقق النائيني](2) (قدس سره) من أنّ المراد بالتجارة في الآية المباركة ليس هو التجارة بالمعنى المصدري، بل المراد بها المعنى الحاصل من المصدر الذي له بقاء، وهذه التجارة التي لها بقاء يعتبر أن تكون مورداً للرضا بحسب الحدوث والبقاء، وعليه فإذا انكشف الحال

ص: 20


1- لأنّ الاستناد إلى المالكين في هذه المعاملة موجودة وهو يخرجها عن كونها من الأكل بالباطل كما مر مراراً وتكراراً [المؤلف].
2- منية الطالب 3/(109-108).

ولم يكن المغبون راضياً بالمعاملة الغبنية فلا محالة تقع المعاملة باطلة، لأنها بحسب الحدوث وإن كانت متعلّقة للرضا إلّا أنها بحسب البقاء خارجة عن الرضا فتكون داخلة في الأكل بالباطل، نعم لو كان راضياً بها بعد الانكشاف فلا محالة تكون المعاملة مصداقاً للتجارة عن تراض وتشملها الآية الشريفة من غير حاجة إلى الاستدلال بما ورد في صحة البيع الصادر عن الاكراه.

[ويرد عليه]: وهذا الوجه أيضاً يلحق بالوجه السابق في أنه لا يرجع إلى محصّل، وذلك

أمّا أوّلاً: فلأنّ لازمه كما أشرنا إليه آنفاً بطلان المعاملة بمجرد انكشاف الغبن مع عدم الرضا من غير حاجة وتوقف على الفسخ، مع أنهم لا يلتزمون بالبطلان قبل فسخها.

وأمّا الثاني: فلأنّ المعتبر في صحة المعاملات هو تعلّق الرضا بها بحسب الحدوث فقط سواء تعلّق بها الرضا بحسب البقاء أيضاً أم لم يتعلّق، وهذا كما إذا باع ثمّ ارتفعت القيمة السوقية فندم البائع ولم يرض بالتجارة بقاءً، فإنّ المعاملة صحيحة حينئذ بلا إشكال، ولم يقم دليل على اعتبار الرضا بالمعاملات بحسب البقاء أيضاً ولعلّه ظاهر. فالانصاف أنّ الآية لا دلالة لها على خيار الغبن بوجه»(1)

3- اثبات خيار الغبن بروايات تلقي الركبان

قال العلّامة: «ولأنّ النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أثبت الخيار في تلقّي الركبان وإنّما اثبته للغبن»(2)

قد وردت الروايات العامة(3) في تلقي الركبان من أنّهم إذا وردوا السوق ورأوا

ص: 21


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/(283-281).
2- تذكرة الفقهاء 11/69.
3- صحيح مسلم 3/157، ح17؛ سنن أبي داود 3/269، ح3437؛ سنن الترمذي 3/524، ح1221؛ سنن البيهقي 5/348؛ مسند أحمد 3/269، ح9951.

اختلاف القيمة السوقية وزيادتها على الثمن الذي باعوا به، فلهم الخيار وليس هذا الخيار إلّا من أجل غبنهم.

ويرد عليه أوّلاً: هذه الروايات «إنما نقل بطريق العامة وليست منه في مجاميعنا عين ولا أثر، فلا يمكننا الاعتماد عليه حتّى على تقدير القول بانجبار ضعف الروايات بعمل المشهور على طبقها، وذلك لأنه لم يثبت كونها رواية حتّى تنجبر بعمل المشهور»(1)

وثانياً: لو تمّ سند هذه الروايات يمكن المناقشة في دلالتها: «إذ غاية ما تفيده هذه الروايات هو ثبوت خيار الغبن في هذا المورد الخاص، ولا إطلاق فيها ولا عموم، والتعميم لموارد الغبن الأخرى يتوقف على إلغاء الخصوصية، ولا يكون ذلك إلّا مع القطع، أو مع تنقيح المناط القطعي، واحتمال الخصوصية في المورد كافٍ لرفع اليد عن الإلغاء، فتكون المسألة من موارد مسألة دوران أمر المخصص المنفصل المجمل بين الأقل والأكثر، والقاعدة فيه التمسك - فيما زاد عن القدر المتيقن - بالعام، وهو هنا أصالة اللزوم»(2)

4- قاعدة لا ضرر

أُستدلَّ بقاعدة لا ضرر على ثبوت خيار الغبن وقد عدّه الشيخ الأعظم(3) من أقوى الأدلة في إثباته.

بتقريب: لزوم المعاملات الغبنية حكم يوجب تضرّر المغبون فهو مرتفع بقاعدة لا ضرر فإذا ارتفع اللزوم فيثبت الخيار إذ لا واسطة بينهما.

ص: 22


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/284.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 3/35.
3- المكاسب 5/161.

ويرد عليه: أوّلاً: ما أو ردّه المحقق الخراساني «من أنّ حديث نفي الضرر على تقدير جريانه في المقام فغاية ما يترتّب عليه هو نفي اللزوم في المعاملة، وأمّا إثبات الخيار بحيث يقبل الاسقاط وينتقل إلى الورثة بالموت وغيرهما من أحكام الخيار فلا، لأنّ نفي اللزوم أعم من الخيار لا مكان نفي اللزوم بالحكم بجواز المعاملة جوازاً حكمياً غير قابل للاسقاط ولا الانتقال إلى الورثة بالموت. بالجملة: أنّ غاية ما يثبت بحديث نفي الضرر هو رفع اليد عن اللزوم وعن وجوب الوفاء بالعقود وأمّا إثبات الخيار فلا، هذا.

وفيه: أنّا ذكرنا سابقاً أنه لا فرق بين الجواز الحقي والحكمي بحسب الذات وإنما هما من سنخ الأحكام، ولكنها على قسمين فبعضها مما اختياره بيد المكلّف من حيث إسقاطه وبعضها الآخر لیس راجعاً إليه، فإذا فرضنا شمول حدیث نفي الضرر للمقام وقلنا إنّ لزوم المعاملة ضرري فهو مرتفع بالحديث، فلا محالة يثبت بذلك الجواز أعني كون العقد قابلاً للفسخ، وهذا المقدار من الجواز أي قبول العقد للفسخ هو الذي يمكن أن يتكفّله حديث نفي الضرر، إذ بهذا المقدار يرتفع الضرر لا محالة ومعه لا يثبت به أمر زائد، فلذا سيأتي أن المدرك في خيار الغبن لو كان هو حدیث نفي الضرر، فلا محالة يكون الخيار فورياً بمعنى أنه إنما يثبت الخيار في مقدار من الزمان الذي يتمكن فيه من الفسخ، إذ بهذا المقدار من الخيار يرتفع الضرر فلا يثبت له الخيار بأزيد من هذا المقدار.

وكيف كان، فالمقدار الثابت في المقام بحديث نفي الضرر عدم لزوم العقد وقبوله الفسخ، وأما الأزيد من ذلك فلا، وعليه فلا يمكننا إثبات الالزام بهذا الجواز بالحديث بأن نقول إنّ الحديث يثبت الجواز الحكمي أي الجواز اللازم وعدم قبوله الاسقاط، وذلك لأنه أمر خارج عمّا يرتفع به الضرر، لما مر من أنه إنما يرتفع بنفس قبول العقد للفسخ وأمّا كون الجواز لزومياً فلا، بل لا يمكن أن يتكفّله الحديث لأنه

ص: 23

على خلاف الامتنان، وأيّ امتنان في إلزام المغبون بالبقاء على الجواز وعدم تمكّنه من إسقاطه، فبذلك نقول إنّ الثابت بحدیث نفي الضرر جواز العقد وقبوله الفسخ من دون إلزام بهذا الجواز، فبما أنّ الجواز ليس إلزامياً فله إسقاطه ورفع اليد عنه فإذا جاز له رفع اليد عنه فتجوز المصالحة عليه في مقابل شيء بأن يرفع اليد عن الجواز بكذا مقدار من المال.

وأمّا انتقاله إلى الورثة فهو لا يثبت بهذا الحديث، لأنه إنّما يقتضي الجواز بالاضافة إلى المغبون لتضرّره بلزوم المعاملة، وأمّا الورثة المتلقّون للملك من مورّثهم فلا يتوجه عليهم ضرر بلزوم هذه المعاملة، غاية الأمر أنّ منفعتهم تقل بذلك، إذ لولا تلك المعاملة لكان المال المنتقل إليهم بمقدار ألف دینار، وأما مع لزوم تلك المعاملة فالمال المنتقل إليهم خمسمائة دينار.

وبالجملة: أنّ الورثة لا يتضررون بلزوم المعاملة بل تقل منفعتهم، فلابدّ تصحيح الانتقال إلى الورثة فيما إذا علم المغبون بالغبن فأراد أن يفسخ المعاملة فمات أو لم يلتفت المغبون إلى الغبن أصلا فمات وعلم به الورثة وأرادوا فسخ المعاملة من إقامة دليل آخر، فيمكن أن يقال إنّ الوجه في انتقال الجواز من المغبون إلى ورثته هو ما استفدناه من بعض الروايات الواردة في الوصية من أنّ الورثة وجود تنزیلی للمورّث وأنهم هو بعينه، غاية الأمر أنّ صورته تبدّلت إلى صورة أخرى، فممّا دلّ على ذلك ما ورد(1) في عدم جواز الوصية بأزيد من مقدار الثلث معلّلاً بأنه تضييع للورثة وظلم في حقّهم، ومن الظاهر أنه لولا اتّحاد الورثة مع المورّث لما كان لهذا النهي وجه، لأنه إنما يتصرف في مال نفسه وهو أجنبي عن ورثته، فهذه الرواية دلّت على أنّ الورثة وجود تنزيلي للمورّث، وحينئذ فإذا ثبت للمورّث جواز فسخ المعاملة من جهة تضرره فلا

ص: 24


1- وسائل الشيعة 19/267، الباب 8 من أبواب كتاب الوصايا.

محالة يثبت ذلك في حق ورثته أيضاً لاتحادهما وكون أحدهما وجوداً تنزیلياً للآخر، هذا كلّه.

مضافاً إلى أنّ البائع إذا باع ماله وصرّح بأنه لا يلتزم بتساوي القيمتين وإنما يبيع ماله بهذا الثمن المعيّن زاد أو نقص لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم والمشتري أيضاً أقدم على المعاملة المذكورة جاهلاً بالتساوي وعدمه ثم ظهر زيادة القيمة عن القيمة السوقية، ففي هذه الصورة لا إشكال في عدم ثبوت الخيار للمغبون لتصريح البائع باسقاطه وقبول المشتري إيّاه، وهو نظير ما إذا كان المشتري عالماً بزيادة القيمة عن القيمة السوقية فلا محالة يلتزم صاحب الكفاية في هذه الصورة بعدم الخيار لأنه إسقاط للخيار، وعلى مسلكنا إسقاط لاشتراط تساوي القيمتين ومرجعه إلى إسقاط الخيار وهذا لا إشكال فيه، فإذا صح إسقاط جواز الفسخ قبل المعاملة وقبل ظهور الغبن فلا محالة يصح إسقاطه بعد ثبوته بالمعاملة وظهور الغبن فمنه يستكشف أنّ هذا الجواز جواز حقي لا حكمي، لما عرفت من أنّ مرجعه إلى إسقاط الاشتراط وإسقاط الخيار، هذا كلّه فما أفاده صاحب الكفاية والجواب عنه.

ثم إنّ وثانياً: [المحقق النائيني](1) (قدس سره) أجاب عن جریان قاعدة نفي الضرر في المقام بما ملخّصه: أنّا إن أثبتنا الخيار في الغبن بالاشتراط الضمني بين العقلاء كما أشرنا إليه سابقاً وقلنا إنّ العقلاء إنما يتبادلون باشتراط التساوي بين الثمن والمثمن بحسب المالية، فحينئذ يمكن أن يقال إنّ لزوم المعاملة في حقه ضرري لأنه على خلاف شرطه، وإلزامه على خلاف ما اشترطه موجب للضرر، إلّا أنّ المدرك حينئذ هو ذلك الاشتراط الضمني دون حدیث نفي الضرر.

وأمّا إذا لم نعتمد في إثبات الخيار على الاشتراط الضمني كما لم يعتمد عليه

ص: 25


1- منية الطالب 3/(112-111).

شيخنا الأنصاري (قدس سره) وقلنا بأنّ التساوي من قبيل الدواعي للبيع، فحينئذ فلا يبقى مجال للتمسك بحديث نفي الضرر في المقام، لأنه إنما ينتفي الضرر الناشئ من قبل الحكم الشرعي نظير وجوب الوضوء الموجب لتضرّر أحد، وأما الضرر الناشئ من إقدامه بنفسه فلا، والضرر في المقام إنما نشأ من إقدامه على المعاملة بذلك الثمن ولو كان إقدامه عن جهل إلّا أنه أقدم على تلك المعاملة الضررية باختياره والشارع أمضى ما أقدم عليه، وليس الضرر فيها مستنداً إلى حكم الشارع وإلزامه بل مستند إلى إقدامه باختياره، نعم لو كان الضرر مستنداً إلى حكم الشارع كما في إلزامه بالوضوء فلا محالة يرتفع بحديث نفي الضرر.

وبالجملة: أن الضرر إنما يرتفع فيما إذا كان علّته هو الحكم الشرعي أو كان الحكم الشرعي هو الجزء الأخير من علّة التضرّر، والمقام ليس من هذا القبيل لأنّ المفروض أنّ العلّة التامة لتضرره هو إقدامه على المعاملة جهلاً، والشارع لم يلزمه بذلك قبل إقدامه، وإنما أمضى إقدامه بعد ما صدر منه بنفسه واختياره، ثم نظّر المقام بباب الاتلافات والضمانات وأنه إذا أتلف أحد مال غيره جهلاً بتخيل أنه مال نفسه ثم تبيّن أنه للغير أفهل يمكن أن يقال إنّ مقتضى حديث نفي الضرر عدم ضمانه لما أتلفه لأنّ ضمانه أمر ضرري، والوجه في عدم إمكان ذلك هو أنّ الضمان وإن كان أمراً ضررياً على المتلف إلّا أنه أمر قد أقدم عليه باختياره وإن كان جاهلاً والشارع حكم على طبق ذلك الاقدام، وفي المقام أيضاً الضرر مستند إلى إقدام نفسه على المعاملة وغير مستند إلى إلزام الشارع وحكمه، هذه خلاصة ما أفاده (قدس سره) في المقام.

ولا يخفى ما فيه، أما في تنظيره فلما أسلفناء في محلّه(1) من أنّ باب الاتلافات والضمانات خارجة عن حديث نفي الضرر، لأنّ رفع الضمان فيها على خلاف الامتنان

ص: 26


1- مصباح الأصول 2 (موسوعة الإمام الخوئي 47)/625 ذيل التنبيه الثالث من تنبيهات لا ضرر.

على مالك المال، ومعه لا مجال لحديث نفي الضرر.

وبعبارة أخرى: أنّ كلاً من حكم الشارع بالضمان وعدم حكمه به على خلاف الامتنان وموجب للتضرّر لا محالة، لأنّ حكمه بالضمان على خلاف الامتنان للمتلف وموجب تضرره، كما أنّ عدم حكمه بالضمان على خلاف الامتنان للمالك وموجب لضرره، وبما أنّ الشارع لابدّ له من أحد الحكمين فلذا لا يشمله حديث نفي الضرر، بل ولا حدیث رفع الاكراه ورفع الاضطرار والنسيان، لأنّ جریانها في موارد الاتلافات على خلاف الامتنان، على كلام في خصوص رفع الاكراه فإنّ رفع الضمان بالاكراه لا يكون على خلاف الامتنان للمالك من جهة الحكم بضمان المكره بالكسر للمال وإلزامه بدفعه إليه، وهذا يرفع عدم الامتنان في خصوص مورد الاكراه، وهذا بخلاف المقام لأنّ جریان حدیث نفي الضرر ليس على خلاف الامتنان بل على وفقه بالاضافة إلى المغبون، وأمّا بالاضافة إلى الغابن فهو موجب لعدم انتفاعه لا لتضرّره.

وأمّا ما أفاده من أنّ الضرر مستند إلى إقدامه، ففيه: أنه إنما يصح فيما إذا أقدم عليه مع العلم بالغبن، فإنه حينئذ نظير الهبة إقدام على ما فيه الضرر والحديث لا يشمله كما لا يشمل الهبة مع أنها أيضاً ضرر وموجب للنقص في المالية، وأمّا مع الجهل بالحال فهو إنما أقدم على المعاملة باحراز عدم الضرر وباعتقاد التساوي بين القيمتين، وهذا نظير ما إذا اعتمد على إخبار مخبر بالتساوي فأقدم عليه. وبالجملة أنّ إقدامه مبني على تخیّل عدم الضرر، وعليه فهو إنما أقدم على المعاملة لا على الضرر فلا يكون إقدامه ذلك موجباً وعلّة لضرره فیكون ضرره مستنداً إلى حكم الشارع باللزوم، هذا كلّه فيما أجاب به شیخنا الأستاذ (قدس سره) .

وثالثاً: ما أورده شيخنا الأنصاري(1) (قدس سره) من أنّ انتفاء الضرر في المعاملات

ص: 27


1- لاحظ المكاسب 5/161.

الغبنية لا يختص ولا ينحصر بجعل الخيار للمغبون، بل يمكن رفع الضرر بأحد وجهين آخرين:

أحدهما: أن يكون المقام نظير بيع المريض إذا باع شيئاً في مرضه بأقل من قيمته أو اشترى شيئاً بأزيد من قيمته فمات، فإنّ وارثه يطالب المشتري في الصورة الأولى أو البائع في الصورة الثانية بعين المقدار الزائد عن القيمة السوقية فيقال في المقام إنّ المغبون له أن يطالب الغابن بالمقدار الزائد عن القيمة السوقية من عين الثمن المدفوع وبذلك يرتفع ضرره بلا حاجة إلى جعل الخيار في حقه، وهذا أيضاً نظير ما ذكره العلامة(1) (قدس سره) في بيع المرابحة فيما إذا ظهر كذب البائع في إخباره برأس ماله كما إذا أخبر بأن رأس ماله هو عشرة دنانير وباعه بالمرابحة في كل عشرة دنانير بدینار فصار مجموع الربح ورأس المال أحد عشر دیناراً، ثم ظهر كذب البائع وعلمنا أنّ رأس ماله خمسة دنانير، فللمشتري مطالبة البائع بنصف مجموع الربح ورأس المال فيسترجع خمسة دنانير ونصفاً.

وثانيهما: أن يدفع ضرر المغبون بالحكم بتغريم الغابن بالمقدار الزائد عن القيمة السوقية، والفرق بين هذا وبين الوجه السابق أنّ الغرامة بمقدار الزائد عن القيمة السوقية لا يلزم أن تكون من عين الثمن المدفوع، وهذا بخلاف الصورة الأولى فإنّ الرجوع فيها إنما هو في المقدار الزائد عن نفس الثمن المدفوع.

وكيف كان، فالضرر يمكن اندفاعه بأحد الوجهين المذكورين كما يمكن

ص: 28


1- ولكن قال في التذكرة «لأنّ سقوط جزء من الثمن المسمّىٰ بضرب من التدليس لا يمنع من صحّة العقد، ولا يقتضي جهالة الثمن، كأرش المعيب. ولأنّا لا نسقط شيئاً من الثمن بل نخيّره في الفسخ والإمضاء بالجميع» (تذكرة الفقهاء 11/232، مسألة 395)؛ وقال: «قد بيّنّا في ظهور كذب أخبار البائع وأنّ المشتري يتخيّر ولا يحمطّ شيئاً» (تذكرة الفقهاء، 11/234، مسألة 397). [المؤلِّف]

اندفاعه بجعل الخيار، إلّا أنه (قدس سره) رجّح الوجهين على هذا الوجه الثالث أعني جعل الخيار من جهة أنّ إثبات الخيار بحديث نفي الضرر غير صحيح، لأنه على خلاف الامتنان بالاضافة إلى الغابن، لتعلّق غرض الناس بأبدال أموالهم وأعواضها، فإذا جعلنا للمغبون الخيار وبه فسخ العقد واسترجع المال المنتقل إلى الغابن فهذا يوجب نقض الغرض للغابن حيث إنّ غرضه تعلّق بما انتقل إليه، ونقض الغرض ضرر وعلى خلاف الامتنان، وهذا بخلاف الوجهين السابقين، ولأجل ذلك احتمل أن يكون الخيار مختصاً بصورة امتناع الغابن من البذل أي بذل الغرامة أو وبذل المقدار الزائد، وعلى هذا يمنع عن جریان استصحاب الخيار من جهة احتمال أنّ الخيار من الأول مضيّق ومختص بتلك الصورة، ومعه لا يبقى مجال للاستصحاب هذه خلاصة ما أفاده (قدس سره) في المقام.

إلّا أنّ للمناقشة فيما أفاده مجالاً:

أما الوجه الأول من الوجهين ففيه: أنّ حدیث نفي الضرر إنما يرفع الأحكام التي يترتب عليها الضرر، ولكنه لا يشرّع حكماً آخر على خلاف القواعد الفقهية، وذلك لأنّ المعاملة وقعت بين مجموع الثمن ومجموع المثمن فإذا صحت تلك المعاملة واُمضيت فالمعاملة في مجموعها صحيحة ونافذة، وإن لم تمض تلك المعاملة فالمعاملة الواقعة بين مجموع الثمن والمثمن باطلة وأمّا أنّها صحيحة بمعنى وقوع مجموع المثمن في مقابل بعض الثمن فهو مما لا أساس له، لأنّ هذه المعاملة أعني مبادلة مجموع المثمن ببعض الثمن ما لم ينشئها المتعاملان حتى يمضيها الشارع، فلو أمضاها الشارع فهو إمضاء لما لم يصدر من المتعاملين ولم ينشئاها أصلاً فكيف يمكن أن يقال إنّ حديث نفي الضرر يوجب إمضاء معاملة لم ينشئها المتعاملان وليس لها اطّلاع عليها.

ثم لا يخفى أنّا لا نقول إنّ المعاملة الواحدة لا تنحل إلى أجزائها ولا تكون صحيحة في بعضها وفاسدة في بعضها الآخر، فإنّ ذلك مما صرّحنا به مراراً وقلنا إنّ

ص: 29

المعاملة الواحدة تنحل إلى معاملتين لو كان لها جزءان، وإن كان لها أجزاء متعدّدة فتنحل إلى معاملات متعددة، فإذا باع ما يملك وما لا يملك أو ما يُملك وما لا يُملك فتنحل المعاملة إلى بيعين فتصح في أحدهما وتبطل في الآخر، إلّا أنها إذا بطلت يرجع ما يقابله من الثمن إلى المشتري كما يرجع بعض المثمن إلى البائع، وليس معناه أنّ المعاملة تقع في مقابلة مجموع الثمن وبعض المثمن فإنه أمر لم ينشئه أحد، وفي المقام لا تبطل المعاملة في نصفها بأن يرجع نصف المبيع إلى ملك البائع ونصف الثمن إلى ملك المشتري، بل يخرج نصف الثمن مثلاً عن ملك البائع ويُدفع إلى المشتري بلا إخراج مقابله من المثمن عن ملك المشتري، وعليه فيكون مجموع المثمن في مقابل بعض الثمن وهذا هو الذي ندّعي مخالفته للقواعد الفقهية وأنه مما لا يثبته نفي الضرر، لأنها معاملة جديدة لم يطّلع عليها المتعاملان.

وأمّا شراء المريض بأكثر من القيمة السوقية فلو سلّمنا أنّ الورثة يتمكنون من إرجاع المقدار الزائد عن القيمة السوقية من البائع فهو حكم تعبّدي وقع في مورد. وأما مسألة كذب البائع في المرابحة بالإخبار عن رأس ماله فهي يمكن أن تكون على طبق القاعدة، وذلك لأنّ المعاملة وقعت فيها على عنوان رأس المال الواقعي، ولكنه من باب الخطأ في التطبيق طبّقه على الزائد، فإذا انكشف الخلاف فهو لا يوجب بطلان المعاملة بل يسترد المقدار الزائد تحصيلاً لذلك العنوان الواقعي، وليس الأمر كذلك في المقام، لأنّ البيع وقع على مجموع الدينارين في مقابل مجموع المثمن فكيف يمكن فيها الحكم بعدم صحة تلك المعاملة وصحة البيع في خصوص نصف الثمن ومجموع المثمن، فلو أراد تنظير المقام بتلك المسألة لكان عليه أن يقول: إذا باع ماله بعنوان القيمة السوقية واقعة وطبّقها على دينارين ثم انكشف أنها دينار واحد فلا إشكال في صحة المعاملة واسترداد الزائد.

وأمّا الوجه الثاني من الوجهين فيدفعه: أنّ تغريم الغابن بلا وجه، فبأيّ دلیل

ص: 30

نغرمه، أبدليل الاتلاف أو بدليل اليد أو بغيرهما من الأسباب الموجبة للضمان والغرامة، فلا طريق شرعي لتغريمه حتى نسمّيها بالغرامة خوفاً من أن تكون من الهبة المجانية، ومن هنا أي من جهة عدم اشتغال ذمة الغابن بشيء وعدم قيام دلیل على ضمانه ذهب فخر المحققين(1) وجماعة ومنهم المحقّق النائيني(2) (قدس سره) إلى أنها هبة مجانية من الغابن وقد أصرّوا عليه، ونعم ما صنعوه إذ قد عرفت أنّ ذمة الغابن غير مشتغلة بشيء، ومما يؤيد ذلك: أنّ المغبون لو لم يلتفت إلى غبنه أو لم يطالب الغابن بتلك الغرامة أفهل تكون ذمة الغابن مشغولة ويكون ضامناً للزيادة بحسب الواقع.

فالانصاف أنّ رفع الضرر بهذين الوجهين وإن كان ممكناً إلّا أنها لا صحة لهما كما عرفت، فالمتعيّن على تقدير جریان حدیث نفي الضرر في المقام هو الحكم بجواز فسخ المعاملة بدعوى أنّ الحديث يوجب رفع وجوب الوفاء بالعقد.

ولكن الصحيح كما ذكرناه [سابقاً] أنّ المقام مما لا يجري فيه حدیث نفي الضرر، لأنه على تقدير جریانه يوجب بطلان المعاملة رأساً لا أنه يرفع لزومها، وذلك لأنّ الموجب للضرر هو صحة المعاملة لا لزومها، بل لزومها إلزام من الشارع بما فيه الضرر لا أنه بنفسه ضرري، والوجه في ذلك أنّ المعاملة وقعت بين المثمن والثمن الرخيص، فتلك المعاملة هي بنفسها أوجبت نقصان المال للمغبون فإنه بهذه المعاملة خرج عن كونه مالكاً لألف دينار وصار مالكاً لخمسمائة دینار، فيكون إمضاء تلك المعاملة ضررياً فيرتفع بحديث الضرر فلا محالة تقع المعاملة فاسدة، فإذا فرضنا أنه كان مالكا لجوهر ثمين وقد باعه بدينار مع أنّ قيمته السوقية مائة دينار، فهو بتلك المعاملة خسر تسعة وتسعين ديناراً فصحتها وإمضاؤها يكون ضررياً، ولزوم تلك

ص: 31


1- الايضاح 1/485.
2- منية الطالب 3/114.

المعاملة إلزام بما فيه الضرر، وليس في نفس الالزام ضرر بل نفس المعاملة موجبة لخسرانه و تضرّره وإن أمكنه تداركه بأخذ المقدار الناقص من المشتري الغابن، إلّا أنّ حديث نفي الضرر يوجب رفع الأحكام الضررية، وليس معناه تدارك الضرر كما بيّناه في محلّه، وعليه فيوجب رفع صحة المعاملة الغبنية، فتكون المعاملات المشتملة على الغبن فاسدة.

فالأمر يدور في المقام بين الالتزام ببطلان المعاملات الغبنية، وبين عدم جریان حدیث نفي الضرر والالتزام بثبوت الخيار لأجل الاشتراط الضمني كما يأتي.

ولكن لا يمكن الالتزام ببطلان المعاملات الغنية باجراء حديث نفي الضرر إمّا للاجماع على صحة المعاملات المتضمّنة للغبن، إذ لو كانت تلك المعاملات فاسدة لبان ذلك وظهر لكونها من الاُمور المبتلى بها دائماً حتى في زمن الأئمة (علیهم السلام) حيث كان المسلمون يتعاملون ويتغابنون بمرأیٰ منهم ومسمع.

وإمّا من جهة عدم جریان حدیث نفي الضرر في المعاملات الغبنية لأنه على خلاف الامتنان بالاضافة إلى الغابن، إذ المفروض أنه يوجب فوت منفعته وهو خلاف الامتنان سيّما إذا لم يكن الغابن عالماً بزيادة القيمة السوقية أصلاً فإنه كيف يمكن إبطال معاملته، ويشترط في جریان القاعدة أن لا يكون جريانها على خلاف الامتنان بالاضافة إلى أحد.

وبالجملة: إمّا ندّعي عدم بطلان المعاملات الغبنية لأجل التخصيص بالاجماع بأن نلتزم على أنها لا يجري فيه حديث نفي الضرر إلّا أنّا ندّعي المخصص لتلك القاعدة وهو الاجماع، وإمّا ندّعي عدم بطلانها لأجل التخصص بدعوى عدم جریان الحديث في المعاملات الغبنية لأنه على خلاف الامتنان للغابن، إذن فلابدّ من الالتزام بصحة المعاملات الغبنية مع الخيار من جهة الاشتراط الضمني بتساوي القيمتين.

فالمتحصّل: أنّ التمسك في إثبات الخيار بحديث لا ضرر مما لا وجه له.

ص: 32

5- الروايات الواردة في حكم الغبن

استدلوا على اثبات خيار الغبن بالروايات الواردة في حكم الغبن التي مرّت في الجهة الأولى من البحث:

منها: خبر إسحاق بن عمار عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: غبن المسترسل سحت.(1)

بتقريب: كلمة «السحت» ظاهرة في المعاملات التي يكون الثمن فيها حراماً كما مرّ في المكاسب المحرمة، وفي الخبر يدلّ على أنّ المعاملة المشتملة على الغبن «سحت» أي ثمنها حرام شديد فيدلّ على بطلانها.

ناقش الشيخ الأعظم في تقريب الاستدلال بهذه الرواية وقال: «هي وإن كانت ظاهرةً فيما يتعلّق بالأموال، لكن يحتمل حينئذٍ أن يراد كون الغابن بمنزلة آكل السحت في استحقاق العقاب على أصل العمل والخديعة في أخذ المال. ويحتمل أن يراد كون المقدار الذي يأخذه زائداً على ما يستحقّه بمنزلة السحت في الحرمة والضمان. ويحتمل إرادة كون مجموع العوض المشتمل على الزيادة بمنزلة السحت في تحريم الأكل في صورةٍ خاصّةٍ، وهي اطّلاع المغبون وردّه للمعاملة المغبون فيها. ولا ريب أنّ الحمل على أحد الأوّلين أولى، ولا أقلّ من المساواة للثالث، فلا دلالة»(2)

ولكن يمكن ان يرد عليه: عدم تمامية شيءٍ من الوجه الذي ذكره الشيخ الأعظم كما أنّ نفس الاستدلال بالرواية في المقام ممّا لا وجه له وذلك «لأنّ السحت ظاهر في الأموال المأخوذة في المعاملات على وجه الحرام كاُجرة الفاجرة وثمن الكلب والرشاء في الحكم وهكذا، وفي هذه الرواية اُطلق السحت على نفس الغبن مع أنه ليس من الأموال المحرّمة بل من الأفعال، ولا يصح إرادة الثمن من الغبن لعدم صحة استعمال

ص: 33


1- وسائل الشيعة 18/31، ح1، الباب 17 من أبواب الخيار.
2- المكاسب 5/165.

الغبن في الثمن ولو مجازاً، ولم يطلق السحت على الثمن حتى يستظهر منها المعاملة الغبنية، فلا يمكن فيها إرادة المال الحرام من السحت، فيتعيّن أن يراد بالسحت مطلق الحرام مالاً كان أو فعلاً كما هو أحد معنيي السحت، وبهذا المعنى صح إطلاقه على الغبن، وعليه فتسقط الرواية عن الدلالة على حرمة المعاملات الغبنية لاحتمال إرادة الغبن بالفتح منها أي الخيانة في مقام الاستشارة فيكون حال هذه الرواية نظير سائر الروايات التي أسقطنا دلالتها على الحرمة التكليفية في المعاملات الغبنية بالحتمال إرادة الغبن منها بالفتح»(1)

ومنها: صحيحة مُيَسَّر عن أبي عبدالله (علیه السلام) غبن المؤمن حرام.(2)

منها: مرسلة أحمد بن محمّد بن يحيى عن بعض أوليائنا عن أبي عبدالله (علیه السلام) في حديث: ... ولا تغبن المسترسل فإنّ غبنه لا يحلّ، الحديث.(3)

وأمّا هاتان الروايتان الأخيرتان لا تدلان على عدم جواز الغبن وضعاً وثبوت خيار الغبن أو ثبوت بطلان المعاملة الغبنية، وذلك لأنّهما مشتملان على النهي عن الغبن ويمكن أن يراد بالغبن فيهما «هو الغَبَن - بالفتح - الذي هو بمعنى الخيانة في الرأي والمشاورة، فتكون الأخبار ناظرة إلى بيان حرمة الخيانة عند الاستشارة بأن لا يغبن المسترسل ويريه ما هو ضارّ في حقّه فإنه خيانة، فلا ظهور في تلك الروايات في النهي عن المعاملات الغبنية أبداً»(4)هذا أوّلاً.

وثانياً: تكون مفادها حكماً تكليفاً لا وضعياً، أعني غاية ما يدل عليها الروايات الثلاث حرمة الغبن وأمّا ثبوت خيار الغبن أو البطلان المعاملة الغبنية فهما اجنبيان عن

ص: 34


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/296.
2- وسائل الشيعة 18/32، ح2.
3- وسائل الشيعة 17/385، ح1، الباب 2 من أبواب آداب التجارة.
4- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/295.

دلالتها.

فلا يمكن الاستدل على ثبوت خيار الغبن بهذه الروايات والله العالم.

6- الإجماع

قال الشيخ الأعظم: «فالعمدة في المسألة الإجماع المحكي المعتضد بالشهرة المحقّقة»(1)

أقول: قد بحثنا عن اجماع الطائفة على خيار الغبن في الجهة الثانية من البحث، وقد عرفت هناك مناقشتنا في الاجماع صغرى وكبرى ولكن أجبنا عن الاشكال الصغروي والإشكال الكبروي باق في المقام وهو مدركيته أو احتمالها، فلا يمكن التمسك بالإجماع لاثبات خيار الغبن.

7- تخلف الشرط الارتكازي القطعي عند العقلاء

الدليل الوحيد لإثبات خيار الغبن «هو تخلّف الشرط الارتكازي القطعي عند العقلاء؛ فإن بناءهم في جميع المعاملات على الربح لا على الخسارة، وعلى أن لا يقع في الغبن، وأن التبادل في المعاملات يقع بين الخصوصيات مع التحفظ على المالية، وهذا التباني من جملة التعهدات والالتزامات المركوزة في الأذهان، فهو توأم مع المعاملة محقق للشرط، فلا يحتاج إلى إبرازه وبيانه باللفظ؛ فإن المعاملة من ناحية الغبن لم تقع عندهم مهملة قطعاً، ولا مطلقة بمقتضى هذا التعهد والالتزام، فتكون مقيدة بالتساوي بين الثمن والمثمن في المالية، أو بعدم التفاوت الفاحش بينهما، مع تخلّفه يثبت الخيار للمغبون بنحو الحق، فتترتب عليه جميع آثاره»(2)

والحاصل: شرط المساواة بين المبيع والثمن شرط ارتكازي يبنى عليه العقلاء

ص: 35


1- المكاسب 5/165.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 3/61.

عن أخذه في متن العقد، فيكون تخلفه موجباً لخيار تخلف الشرط، فالبناء على خيار الغبن من باب خيار تخلف الشرط الذي سيأتي البحث عنه في الحديث عن الشروط فانتظر، إن شاء الله وإنّا من المنتظرين.

الجهة الرابعة: شرائط خيار الغبن

اشارة

ذكر الشيخ الأعظم(1) أنّها أمران:

الأمر الأوّل: عدم علم المغبون بالقيمة
اشارة

«عدم علم المغبون بالقيمة فلو علم بالقيمة فلا خيار»(2)

زمان اعتبار القيمة

«وفيه احتمالات ثلاثة:

الشرط الأوّل: عدم علم المغبون بالقيمة
اشارة

فلو علم بها فلا خيار، بل لا غبن حینئذٍ، والدليل على ذلك أمران:

الأوّل: أن الدليل على ثبوت خیار الغبن أحد أمور ثلاثة: إما الإجماع كما عليه الشيخ (قدس سره) ، أو تخلف الشرط الارتكازي القائم على عدم الغبن في المعاملة، أو دليل نفي الضرر.

أما الإجماع فهو دليل لبي، فيؤخذ بالقدر المتيقن منه، وهو عدم علم المغبون بالقيمة.

أما الشرط الارتكازي فلا يتحقق إلا في ظرف الجهل بالغبن، فإذا أقدم على المعاملة مع العلم بوجوده فقد أسقط الشرط؛ فإن حقيقة الشرط هو كون الالتزام

ص: 36


1- المكاسب 5/166.
2- المكاسب 5/166.

بالمعاملة معلّقاً على عدم الغبن، فإذا كان عالماً به لم يكن الالتزام معلّقاً، بل كان محققاً حتى في صورة الغبن، فينتفي موضوع الدليل مع العلم بالغبن.

وأما دليل نفي الضرر فهو إنما يجري في ما لو كان الضرر ناشئاً من الحكم الشرعي، لامن نفس المتعاملين، ومن أقدم على المعاملة - مع علمه بالغبن - فقد أقدم على ضرر نفسه، فينتفي الدليل بانتفاء موضوعه أيضا.

إشكال المحقق الحائري على الشيخ

قال الشيخ (قدس سره) : «فلو علم بالقيمة فلا خيار، بل لا غبن...؛ لأنه أقدم على الضرر»(1)

وأورد عليه المحقق الحائري (قدس سره) بإشكالین:

الأوّل: ما يرتبط بالقسم الأول من كلام الشيخ (قدس سره) ، وحاصله: أن عنوان الغبن لم يرد في أي دليل من الأدلة حتى يتمسك بعدم صدقه.

والثاني: ما يرتبط بتعليل الشيخ (قدس سره) من قصور «لاضرر» عن الشمول المورد العلم، وحاصله: أنه إن أريد بذلك أن الضرر نشأ من فعل نفسه حينما عقد على ماله بما ينقص عن قيمته، والشارع لم يقم إلا بإمضاء فعله، فلم يحصل أي ضرر من ناحيته، و «لا ضرر» تنفي الأحكام الضررية، لا الأفعال الضررية، ففيه: أن هذا مشترك الورود بینه وبين الجاهل؛ فإنه أيضاً عقد على ماله بما هو أنقص منه، والشارع لم يقم إلا بإمضائه.(2)

استدلال المحقق الحائري على الشرط الأول بعدم صدق الضرر

ثم قال (قدس سره) : فالذي ينبغي أن يقال في الاستدلال: إن المعاملة لا تخرج عن أحد

ص: 37


1- المكاسب 5/166.
2- الخيارات للشيخ الأراكي (قدس سره) /184.

حالين: سفهائية أو عقلائية، أما الأولى فخارجة عن محل الكلام؛ لأن البحث في المعاملة الصحيحة، والمعاملة السفهائية لا دليل على صحتها، وغير مشمولة إلى دليلي ﴿أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾(1) و ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(2)

وأما الثانية فلا تنشأ إلا عن غرض عقلائي، فالعالم بالغبن لم يقدم على المعاملة إلا لوجود غرض عقلائي مزاحم للنقص الحاصل في المال ومقدم عليه، وحينئذٍ لا يصدق عليه أنه متضرر، فلا تجري «لا ضرر» في حقه من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ فإنه وإن لم يقع الغرض في مقابل المال إلا أن وجوده كافٍ لرفع عنوان الضرر عنه عند العقلاء، كما في الهبة؛ فإنه لا يصدق على الواهب أنه متضرر وإن نقص من ماله مقدار ما وهبه بلا عوض، بخلاف ما لو أخذ مقداره بالسرقة والنهب.(3)

المناقشة في ما أفاده المحقق الحائري

وفي جميع ما أفاده إشكال:

أما إشكاله الأول فهو وإن كان ذا صورة فنية إلا أنا نقول: بأن الدليل على نحوين: لفظي ولبي، ولا يخفى عدم ورود عنوان الغبن في الأدلة اللفظية غير ما ورد عنهم (علیه السلام) : «غبن المسترسل سحت»، و «غبن المؤمن حرام» و «لا تغبن المسترسل فإن غبنه لا يحل»، وقد أخرجها الشيخ (قدس سره) عن دائرة الاستدلال في المقام.

ولكن الدليل في المقام هو الدليل اللبي وهي السيرة العقلائية، وعنوان الغبن مأخوذ عندهم بنحو الموضوعية؛ فإن الشرط الارتكازي عند العقلاء أن لا يكون في المعاملة غبن، وأن الخيار ثابت في المعاملة الغبنية، فعنوان الغبن موجود في الدليل

ص: 38


1- سورة البقرة /275.
2- سورة المائدة /1.
3- الخيارات للشيخ الأراكي (قدس سره) /(185-184).

اللبي، والمدار على وجوده سواء أكان في الدليل اللفظي أم اللبي.

والحاصل: إن كان الاستدلال بالدليل اللفظي أو بمعقد الإجماع لزم ذكر عنوان الغبن فيهما وإلا ينتفي الحكم المترتب على العنوان.

وإن كان بالشرط العقلائي فالعنوان ثابت؛ لبناء العقلاء على عدم الغبن في المعاملات العقلائية، فلا يرد الإشكال على الشيخ (قدس سره) .

وأما إشكاله الثاني ففيه: أن العالم بالغبن والجاهل به وإن اشتركا في صدور العقد منهما إلا أن الجاهل لم يقدم على ضرر نفسه؛ لأنه يشترط ارتكازاً بأن لا تكون المعاملة غبنية، وإلا فله الخيار، فلو أمضى الشارع المعاملة على نحو اللزوم والحالة هذه لكان الضرر ناشئاً من الشارع، بخلاف العالم به؛ فإنه أقدم على المعاملة مع وجود الغبن، فقد أسقط الشرط، والشيخ (قدس سره) إنما يرى قصور دليل نفي الضرر عن شموله للعالم بالغبن لأنه أقدم على ضرر نفسه.

وأما ما أفاده من الاستدلال من نفي الضرر مع وجود الغرض المزاحم له والمقدم عليه ففيه: أن الضرر - وهو النقص في المال بدون أن يسد مسدّه شيء - أمر واقعي لا يزاحم بالغرض ولا يعوض عنه؛ فإن الغرض مَنْشَأٌ لتحمل الضرر، لا أنه نافٍ له، وبينهما فرق؛ فإن العمل العقلائي مبني على طبق موازین عقلائية؛ فإنهم في مقام وجود الغرض والضرر ينظرون إلى الراجح منهما، فإن كان الغرض أرجح أقدموا على الضرر وتحمّلوه، وإلا فلا، ونفس كون الغرض أرجح دليل على وجود المرجوح لا على انتفائه، فما أفاده (قدس سره) من انتفاء الضرر في حال وجود الغرض في محل المنع.

وكذلك الحال في الهبة؛ فإن الضرر واقع لا محالة، إلا أن الغرض منها أرجح منه فيقدم العقلاء عليه، ويتحملون الضرر لأجله.

فالحق: أن الضرر في هذه الموارد حاصل لا محالة، إلا أن الغرض مقدّم عليه،

ص: 39

والوجه في قصور «لا ضرر» وعدم شمولها لهذا المورد أنها لو شملته لكانت على خلاف الامتنان بالنسبة للمتضرر المقدم علی ضرره لغرض عقلائي، والحال أنها قاعدة امتنانية، فلا تجري في ما يخالف الامتنان.

فتحصل إلى هنا: أن المغبون إذا كان يعلم أو يطمئن بحصول الغبن ومع ذلك أقدم على المعاملة لم يكن له خيار الغبن، لا من جهة دليل «لا ضرر»؛ لقصور شمولها عن المقام؛ لأنه أقدم على ضرر نفسه، ولا من جهة الشرط الارتكازي؛ لإلغائه للشرط [ولا من جهة الاجماع لخروجه عن القدر المتيقن].

[الفرع الأوّل]: صور العلم بالتفاوت في القيمة
اشارة

إذا علم بالتفاوت في القيمة بين الثمن والمثمن ومع ذلك أقدم على المعاملة، فهنا صور، ولا بدّ - قبل بيانها - أن نشير إلى أن حكم هذه الصور يعرف بعد الفراغ عن معرفة أمور:

1- أن العقد الغبني صحيح، وغير مشمول لدليل نفي الضرر؛ للتسالم، ولأن جریانها خلاف الامتنان.

2- أن القول بالخيار وعدم لزوم العقد مبتنٍ على الشرط الارتكازي، وعموم «لاضرر».

3- أن إسقاط الشرط لا يكون إلا بإلغائه.

4- أن الإقدام على الضرر يمنع من شمول قاعدة «لاضرر».

وبعد هذا نقول إن الصور أربع:

الصورة الأولى

أن يعلم بالتفاوت ويعتقد أنه بمقدار يتسامح فيه، ثم تبيّن له أنه مما لا يتسامح فيه عرفاً، فهنا له الخيار؛ لانتفاء الشرط الارتكازي؛ لعدم إلغائه بهذا الإقدام؛ ولشمول «لا ضرر» للمورد على فرض صحة الاستدلال بها، لعدم إقدامه على هذا

ص: 40

الضرر.

الصورة الثانية

أن يعلم بالتفاوت وأنه بمقدار لا يتسامح فيه، ثم تبيّن له أنه بمقدار لا يتسامح فيه لكن بأكثر مما كان يعتقد، كأن يشتري ما قيمته السوقية - حسب اعتقاده - خمس مائة دينار بألف، ثم يتبيّن له أن قيمته مائتا دینار، فهنا له الخيار أيضاً؛ لحفظ الشرط، وشمول «لا ضرر».

الصورة الثالثة

أن يعلم بالتفاوت بمقدار يتسامح فيه عرفاً كأن اشترى المتاع على أن ثمنه أكثر من الواقع بمقدار العُشْر، وكان هذا المقدار مما يتسامح فيه عادة، ولكن تبيّن له أن ثمنه أكثر مما كان يعتقد بمقدار العُشْر أيضاً، ومن الواقع بمقدار عُشْرين، ومقدار العُشْر وإن كان مما يتسامح فيه لو كان لوحده، إلا أن مقدار العُشْرين لا يتسامح فيه، فالذي كان معلوماً يتسامح فيه عرفاً، والمقدار المنكشف مما يتسامح فيه أيضاً لو كان لوحده، ولكن المجموع مما لا يتسامح فيه.

والحكم فيها هو ثبوت الخيار أيضا؛ بمقتضى الشرط الارتكازي؛ و «لاضرر»؛ فإن الشرط قائم على عدم كون التفاوت بين الثمن والمثمن مما لا يتسامح فيه، والعُشر وإن كان مما يتسامح فيه إلا أن المجموع من العُشرين - الذي هو مقدار التفاوت - مما لا يتسامح فيه، فيثبت له الخيار.

ولأن التفاوت الواقع ضرر لم يقدم عليه، فتشمله «لا ضرر».

الصورة الرابعة

أن يعلم بالتفاوت وأنه بمقدار لا يتسامح فيه كأن يشتري المتاع بضِعْفِ قيمته السوقية باعتقاده، ثم تبيّن أنه أزيد مما اشتراه بالعُشْر، فلو كان الثمن بمقدار الضعف فقط لم يكن له خیار؛ لإقدامه على ذلك، ولو كانت الزيادة على القيمة السوقية بمقدار

ص: 41

العُشْر فقط لم يكن له الخيار؛ لأنه مما يتسامح فيه، ولكن الفرض أن الثمن صار أكثر مما أقدم عليه بالعُشر.

والحكم هنا ثبوت الخيار أيضاً؛ لتخلف الشرط؛ فإن الشرط أن لا يكون التفاوت بمقدار لا يتسامح فيه إلا أن يلغيه، ومقدار ما ألغاه هو الضعف، لا الأكثر منه بعُشْر.

ولشمول «لا ضرر» له أيضاً، فإنها تشمل مطلق الضرر إلا ما أقدم عليه، ولم يقدم على ما هو الأكثر من الضعف.

وبهذا التوضيح يتضح الخلل في بعض حواشي المحققين؛ لأن المدار على الشرط والإقدام، فالشرط نافذ إلا في مقدار ما يلغيه، وما يرفع شمول «لا ضرر» هو الضرر الذي أقدم عليه، والزائد على الضعف لم يلغ الشرط فيه، ولم يقدم عليه.

نعم، حكمهما منفردين يختلف عنه منضمين.

وبملاحظة هذين الأمرين(1) يتضح الحكم في سائر الفروع»(2)

زمان اعتبار القيمة

«وفيه احتمالات ثلاثة:

الأول: المعتبر القيمة حال العقد.

الثاني: حال العلم بالغبن.

الثالث: حال الردّ.

رأي الشيخ

قسّم الشيخ (قدس سره) المعاملات إلى قسمين:

ص: 42


1- أي الشرط و الإقدام.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 3/(71-63).

الأول: المعاملات التي لا يتوقف فيها الملك على القبض، واختار فيها أولاً اعتبار القيمة حال العقد، فلو زادت قيمة العين بعده - ولو لم يطلع المغبون على النقصان حال العقد - لم ينفع؛ لأن الزيادة إنما حصلت في ملكه، والمعاملة وقعت على الغبن.

ثم احتمل عدم الخيار حينئذ؛ لأن التدارك حصل قبل الردّ، فلا يثبت الردّ المشروع لتدارك الضرر؛ لارتفاع موضوعه، ونظيره ما لو برئ المعيوب قبل العلم بالعيب؛ فإن المدار في خيار العيب على العيب حين الردّ لا حين العقد.

الثاني: المعاملات التي يتوقف فيها الملك على القبض كبيع الصرف فلم يجعل المدار فيها على حال العقد، فلو حصل الغبن حاله ثم ارتفع قبل القبض فلا خيار؛ لأن الملك قد انتقل إليه حينئذٍ من دون نقص في قیمته.

نعم، لو قيل بوجوب التقابض بمجرد العقد يثبت الخيار؛ لثبوت الضرر بوجوب إقباض الزائد في مقابلة الناقص.(1)

مقتضى التأمل في البحث

ومقتضى التأمل في البحث أن يلاحظ المبنيان في ثبوت خیار الغبن؛ مبنى «لا ضرر»، ومبنى الشرط العقلائي الإرتكازي في القسمين.

أما القسم الأول فالبحث على المبنى الأول يقع في مقامين:

المقام الأول: في مقتضى القاعدة؛ فإن الأصل اللفظي في العقود بمقتضى قوله تعالى: ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(2) هو اللزوم؛ فيجب - بمقتضاها - الوفاء بكل عقد، ولا يخرج عنها إلا بدلیل مخصص، وهو «لا ضرر» حسب الفرض، فإذا أحرز أن موضوع الخيار

ص: 43


1- المكاسب 5/(168-167).
2- سورة المائده /1.

هو حدوث الضرر، والفرض أنه قد حصل حين العقد، كان المدار على الغبن حاله، فيثبت الخيار من حينه.

وإن أحرز أن موضوع الخيار هو الضرر المستمر إلى حين القبض ثبت الخيار إن استمر إلى حينه، وإلا فلا؛ لارتفاع الضرر الموجب له، فيكون المدار على الغبن وقت التسليم.

وإن تردّد أمر الضرر الموجب للخيار، هل هو حدوث الضرر، أو الضرر المستمر؟ كانت المسألة من صغريات الرجوع إلى العام في المخصص المنفصل المجمل، المردد بين الأقل والأكثر؛ فإن مقتضی عموم ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ هو اللزوم، ودليل «لا ضرر» حاكم عليه لساناً بما نتيجته التخصيص، وبما أن «لا ضرر» متصل و مجمل مردّد بين الأقل والأكثر فالحق فيه هو التمسك بعموم العام في غير القدر المتيقن خروجه، ونتيجته نفي الخيار؛ فإن الضرر إن لم يستمر يوجب الشك في جعل الخيار وعدمه فيتمسك بعموم العام»(1)

«الحق في المسألة

والحق في المسألة هو ما ذكره الشيخ (قدس سره) بنحو الاحتمال، وحاصله:

أما على مبنى «لا ضرر» فلأن العرف والعقلاء على عدم الحكم بكون اللزوم ضررياً فيما لو ارتفع الضرر قبل القبض والإقباض، ولا أقل من حصول الشك في ذلك، والقاعدة في إجمال المخصص ودورانه بين الأقل والأكثر هو التمسك بعموم العام فيتمسك في المقام ب- ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(2)

وأما على المبنى العمدة في ثبوت الغبن، أعني الشرط العقلائي الإرتكازي في

ص: 44


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 3/(73-71).
2- سورة المائده /1.

ضمن العقد القائم على عدم التفاوت الفاحش بين الثمن والمثمن، فللمحقق النائيني (قدس سره) كلام طويل(1)، ولكن المدار في ذلك على ما عند العقلاء، وما عندهم هو التساوي في المالية بينهما، وعدم التفاوت بما لا يتسامح فيه حين المعاملة، لا حين العلم، ولا حين الرد، ولا حين القبض.

فتحصّل: أن الحق في المسألة يدور مدار المبنى في ثبوت الغبن، فإن كان هو «لا ضرر»، فالمدار على الغبن حين الرد، وإن كان الارتكاز العقلائي، فالمدار على الغبن حين العقد، وبما أن المبنى العمدة هو الثاني فالمختار هو الغبن حين المعاملة.

هذه كله في القسم الأول من المعاملات، وهي التي لا يشترط فيها القبض لتحقق الملكية.

[الفرع الثاني]: وقت اعتبار القيمة في المعاملات التي يتوقف الملك فيها على القبض
اشارة

وأما القسم الثاني من المعاملات وهو: ما يتوقف الملك فيها على القبض، فإذا ارتفع الغبن قبله فقد اعتبره الشيخ (قدس سره) أشكل من القسم الأول بالنسبة إلى القول بأن المدار علی زمان العقد؛ لأن الملك قد انتقل إليه حينئذٍ من دون نقص في قيمته، ثم استدرك بقوله:

«نعم، لو قلنا بوجوب التقابض بمجرد العقد - كما صرح به العلّامة(2) (رحمة الله) في الصرف - يثبت الخيار؛ لثبوت الضرر بوجوب إقباض الزائد في مقابلة الناقص.

لكن ظاهر المشهور عدم وجوب التقابض»(3)

وكيف كان فيقع البحث في أن المدار في الغبن، هل وقت العقد؟ أو وقت

ص: 45


1- منية الطالب 3/(120-119).
2- تحرير الأحكام الشرعية، 2/313، تذكرة الفقهاء 10/413، مسألة 202.
3- المكاسب 5/(168-167).

القبض الذي هو وقت حصول الملك؟

والمسألة تبتني على أن الإقباض في بيع الصرف هل هو واجب بوجوب شرطي، بمعنى أنه شرط لحصول الملك، أو واجب بوجوب تعبدي، فيجب حتى لو لم يحصل الملك؟

فإن كان الأول، فبما أن التفاوت في القيمة كان قبل تحقق الملكية وقد ارتفع حين تحققها، فمقتضى القاعدة عدم ثبوت الخيار.

وإن كان الثاني، بحيث يجب الإقباض تعبّداً على كلا الطرفين بمجرد وقوع العقد وإن لم تحصل الملكية قبله، فبما أن الغبن قد وقع حين العقد، ووجب الإقباض من حينه فهو ضرري؛ لوجوب إقباض الزائد في مقابل الناقص، فيثبت الخيار.

دليل المحقق الرشتي على وجوب الإقباض تعبداً في بيع الصرف

إنما الكلام في الدليل على وجوب الإقباض تعبّداً في بيع الصرف، وقد استدلّ عليه المحقق الرشتي (قدس سره) بآية ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) وتقريبه: أن موضوع وجوب الوفاء هو العقد، وهو يتحقق بالإيجاب والقبول، وتخلّف الحكم عن موضوعه غير معقول، وقد تحقق العقد في بيع الصرف قبل التسليم، فتشمله الآية.

نعم، في الموارد التي لا يتوقف فيها الملك على القبض یكون وجوب التسليم فيها من باب الإرشاد إلى تسلیم مال الغير، وأما في ما يتوقف الملك فيها على القبض فهو للأمر التعبدي، وليس ذلك من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى؛ لأن الهيئة قد استعملت في معنى واحد، وهو الوجوب، ولكن الداعي في مورد هو الإرشاد إلى تسليم مال الغير، وفي الآخر الأمر التعبدي، كما لا يوجب ذلك في مثل قوله: «أكرم العشرة» إذا كان غرض الأمر من إكرام بعض، جهة العلم، ومن الأخر جهة الصداقة،

ص: 46


1- سورة المائده /1.

وهكذا..

ودعوی اختصاص وجوب الوفاء - بالمعنى المزبور - بما إذا حصل العقد تام الأجزاء والشرائط، فلا يشمل المقام؛ لعدم حصول الملكية قبل القبض، فلم يتحقق شرط كمال العقد، فلا يجب الوفاء به.

فاسدة؛ بأنه تقييد لإطلاق وجوب الوفاء بلا قرينة تقتضيه؛ فإن مقتضى إطلاق الآية وجوب الوفاء متى ما وقع العقد، سواء أحصل القبض أم لا.(1)

مناقشة ما أفاده المحقق الرشتي

وما أفاده المحقق المذكور من التحقيق محل تأمل ونظر، ووجهه:

أنه لا بحث في كون العقود موضوعاً لوجوب الوفاء، ولكن لا شك أن العقود تنقسم إلى قسمين، عقود صحيحة وأخرى باطلة، وصحتها وبطلانها تدوران مدار تمامية الشرائط ونقصانها، كما هو الحال في العبادات فإنها تنقسم إلى عبادات صحيحة وأخرى باطلة، ومدار الصحة والبطلان فيها واجديتها للشرائط وعدم واجديتها لها، ولا يمكن أن يكون موضوع وجوب الوفاء مهملاً عند الحاكم بالإضافة إلى العقد الصحيح والفاسد، كما لا يعقل أن يكون مطلقاً شاملاً لكلا القسمين، ومع بطلان الإهمال والإطلاق يتعين عقلاً التقييد بخصوص العقد الصحيح، وهو لا يتم إلا بتمامية جميع أجزائه وشرائطه، وفي حالة الشك في الصحة والفساد مبنيان:

الأول: عدم إمكان التمسك بآية ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، لأنه من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية.

الثاني: إمكان ذلك، وهو الحق؛ لأن العقد وإن كان مقيداً بالصحيح من حيث اللبّ والواقع، ولكنا نستكشف - من حكم الشارع بوجوب الوفاء بكل عقد - إحراز

ص: 47


1- فقه الإمامية 2/(405-404).

الصحة في الرتبة السابقة؛ لأن مرتبتي اللزوم، ووجوب الوفاء بالعقد متأخرتان عن مرتبة الصحة، فسواء استفدنا من الآية الحكم الإرشادي باللزوم، أو الحكم المولوي بوجوب الوفاء، فإن كلاً منهما في مرتبة متأخرة عن الصحة، وبما أن الشارع حكم باللزوم أو بوجوب الوفاء عن طريق الجمع المحلي بالألف واللام، فهو يكشف عن صحة كل عقد إلا ما قام الدليل على تخصيصه وبطلانه.(1)

وكيف كان فالموضوع على المبنيين مقيد لبّاً وواقعاً بالصحة، وبما أن بيع الصرف قبل القبض غير محكوم بالصحة؛ لعدم تحقق شرطها فلا يجب الوفاء به، فيكون الحق مع ما ذهب إليه المشهور من عدم وجوب الإقباض تعبّداً في بيع الصرف؛ لعدم الدليل عليه، وبما أنه لا يحصل الملك قبل القبض، ولا دليل على وجوب الإقباض، كان مدار الغبن على وقت حصول الملك، لا على وقت تحقق العقد.

وعليه، فالحق أن المدار - في العقود التي لا يشترط القبض في صحتها، وبناء على الشرط الإرتكازي في الخيار - على الغبن حین العقد، وأما العقود التي يشترط القبض في صحتها فالمدار فيها على الغبن حين القبض.

[الفرع الثالث]: حكم علم الوكيل بالغبن
اشارة

قسم الشيخ(2) (قدس سره) الوكيل إلى ثلاثة أقسام:

ص: 48


1- أفاد الشيخ الأستاذ (دام ظله) في مقام الجواب على سؤال عن كيفية استكشاف الصحة من الحكم باللزوم أو بوجوب الوفاء بما حاصله: لا شك أن الحكم بوجوب الوفاء بكل عقد قضية حقيقية، فيفيد لزوم كل ما صدق عليه أنه عقد، وبما أن الحكم باللزوم مترتب على الحكم بالصحة؛ حيث لا يعقل الحكم بوجوب الوفاء بالعقد الفاسد، وكذلك بالعقد مطلقاً سواء أكان فاسداً أم صحيحاً، فنستكشف عقلاً بالدلالة الالتزامية الحكم بالصحة فيما إذا حكم باللزوم.
2- المكاسب 5/168.

الأول: الوكيل في مجرد إنشاء العقد.

الثاني: الوكيل في المعاملة والبيع.

الثالث: الوكيل المفوّض في البيع وما يتعقّبه.

أما الأول فلا عبرة لعلمه وجهله في إجراء حكم الغبن، ولا في تحقق موضوع الخيار، بل المدار على علم الموكِّل وجهله؛ وذلك لأن ثبوت الخيار إما أن يكون من باب الضرر، أو للشرط الارتكازي، ومثل هذا الوكيل ليس موضوعاً للحكم الضرري، ولا مورداً للشرط الارتكازي، فلا يكون موضوعاً لخيار الغبن، فلا أثر لعلمه ولا لجهله، بخلاف الموكِّل؛ فإنه البائع الحقيقي، فالعبرة بعلمه وبجهله.

وأما الثاني فهو إن كان عالماً بالغبن، وكانت معاملته صحيحة كأن وكّله الأصيل باشتراء المتاع المحتاج إليه بأيِّ قيمة كانت ولو كان مع الغبن، فلا خيار له ولا للموكِّل.

وإن كان جاهلاً به فهنا صورتان:

الأولى: أن يكون كل من الوكيل والموكِّل جاهلين بالغبن، ويكون الوكيل وكيلاً في مجرد البيع، بحيث تنتهي وكالته بعد ذلك، فبالنسبة إليه لا موضوع للخيار؛ لكونه أجنبياً حينئذ، ولكن يثبت الخيار للموكِّل.

الثانية: أن يكون الوكيل جاهلاً بالغبن والموكِّل عالماً به، فهنا حالتان:

1- أن لا يكون الموكِّل قادراً على منع الوكيل عن إجراء المعاملة، ولم يمضها له فيثبت له الخيار؛ لكون لزوم المعاملة في هذه الحال ضرراً عليه، فتشمله القاعدة، وعلى خلاف الشرط الإرتكازي العقلائي وإن كان عالماً بالغبن؛ لعدم رفع يده عنه.

2- أن يكون الموكِّل قادراً على منع الوكيل عن إجراء المعاملة ولم يمنعه وأمضى فعله فلا خيار له.

ص: 49

وأما الثالث، وهو الوكيل المفوّض في البيع وما يتعقبه فيثبت له الخيار.(1)

إشكال المحقق السيّد الخوئي على الشيخ في الصورة الثانية من القسم الثاني

وأورد المحقق السيّد الخوئي (قدس سره) على هذه الصورة بما حاصله:

إن الأمر لا يخلو عن أحد حالين، إما أن الموكِّل العالم بالغبن قد وكّل الوكيل الجاهل به في خصوص البيع مع التساوي بين العوضین فقط دون غيره، فلا شبهة في كون البيع فضولياً، فإن أجاز الموكِّل صحّ البيع، وإلا فلا.

وإن وكّله بنحو الإطلاق فلا شبهة في ثبوت الخيار للموكِّل؛ فإن اطلاعه على الغبن في المعاملة لا يوجب سقوط الخيار؛ فإنه كاطلاعه على أن الوكيل يجري المعاملة بشرط الخيار للموكِّل، فكما أنه لا يوجب سقوط الخيار فكذلك المقام، غاية الأمر أن الاشتراط في المقام ضمني؛ فإن الوكيل لجهله بالغبن اشترط المساواة بين العوضين ضمناً.(2)

الحق في المسألة

والحق في المسألة يقتضي التحقيق في أمرين:

الأمر الأول: إن عمل الوكيل وإن صدر منه بالمباشرة إلا أنه ينتسب عرفاً إلى الموكِّل، ألا ترى أنه لو باع دار موكِّله زيد، فقد صدر البيع من الوكيل، ولكن العرف يقولون باع زید داره؛ وذلك لكون الموكِّل سبباً، ولأن الوكيل وجود تنزيلي للموكِّل.

وعليه فالبيع الصادر من الوكيل يعتبر بيع الموكِّل.

الأمر الثاني: إن المستند العمدة في خيار الغبن هو الشرط الارتكازي العقلائي القائم على المساواة بين العوضين في المالية، بحيث لا يكون التفاوت بينهما فاحشاً،

ص: 50


1- المكاسب 5/168.
2- مصباح الفقاهة 6/(315-314)؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/307.

ومستند هذا الشرط ليس دليلاً لفظياً حتى يتمسك بإطلاقه، بل هي السيرة العقلائية، وهي دليل لبي، فيقتصر فيه على القدر المتيقن، والقدر المتيقن في المقام ما إذا كان الموكِّل جاهلاً بالغبن، أو أنه غير قادر على منع الوكيل عن إنشاء البيع، وأما في ما نحن فيه من العلم بالغبن والقدرة على منع الوكيل، فثبوت قيام السيرة على هذا الشرط محل شك، فتكون المسألة من صغريات إجمال المخصص المردد بين الأقل والأكثر، والقاعدة عند الشك هو التمسك بالعموم في غير الفرد المتيقن خروجه منه، وهو في المقام آية ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1)، فيحكم بلزوم هذه المعاملة، فيندفع ما أورد على الشيخ (قدس سره) ، فیكون ما أفاده الشيخ (قدس سره) ومن تبعه من نفي ثبوت الخيار للموكِّل في هذه الصورة هو الحق الحقيق الذي عليه التحقيق»(2)

[الفرع الرابع]: دعوی بالغين

«وهذه الجهة من المباحث القضائية المهمة، وحاصلها أنه لو ادّعی أحد المتبايعين الغبن وأنكر الآخر فما هو العمل؟

في المسألة مقامان من البحث:

المقام الأول: تشخيص المدّعي والمنكر.

المقام الثاني: وظيفة القاضي.

أما المقام الأول فيقع البحث عنه في ثلاث مراحل؛ إذ الاختلاف بينهما في حصول الغبن وعدمه، فلا بدّ من معرفة أساس الغبن؛ فإن حصوله يتوقف على ثلاثة أمور، بحيث ينتفي بانتفاء واحد منها وهي:

1- الاختلاف في القيمة.

ص: 51


1- سورة المائدة /1.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 3/(88-80).

2- أن يكون الاختلاف فاحشاً.

3- أن يكون المغبون جاهلاً بالاختلاف.

فالنزاع في المسألة القضائية ينشأ من أحد هذه الأمور الثلاثة، فینشعب إلى ثلاث مسائل؛ إذ تارة يكون منشأ النزاع هو الاختلاف بينهما في العلم والجهل، فيدّعي أحدهما أن له خيار الغبن؛ لكونه جاهلاً بالقيمة، وينكر الآخر جهله بها، ويدّعي علمه.

و [اُخرى] يكون منشأ النزاع هو الاختلاف في القيمة، فيدّعي أحدهما الاختلاف بين العوضين في القيمة، فله خيار الغبن، وينكر الآخر الاختلاف بينهما فيها.

وثالثة يكون المنشأ هو الاختلاف في التفاوت الفاحش، فيدعيه أحدهما ليثبت له الخيار وينكره الآخر.

ولا بدّ من ملاحظة الأصول اللفظية والعملية في المسائل الثلاث.

المسألة الأولى: في الاختلاف في علم المغبون بالقيمة، ورأي الشيخ في ذلك
اشارة

أما المسألة الأولى، وهي أن يكون الاختلاف بينهما في علم المغبون بالقيمة والجهل بها مع تسليم الاختلاف في القيمة وكونه فاحشاً، فهنا صورتان:

الصورة الأولى: أن لا يكون المغبون من أهل الخبرة
اشارة

فقد ذهب الشيخ (قدس سره) إلى أن جهله يثبت بأحد أمور ثلاثة:

1- اعتراف الغابن؛ وذلك لأن المغبون يدعي أن له حق الخيار؛ لكونه جاهلاً بالقيمة، فإذا اعترف المدّعى عليه بذلك فقد ثبت الخيار بإقراره.

2- البينة إن تحقّقت، وإنما قيّدها بأداة الشرط؛ لأن العلم والجهل من الأمور النفسانية، فيتعسر إقامة البينة عليها، وإثباته بالبينة لأمرين:

الأول: عمومات حجية البينة، من قبيل «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين

ص: 52

لك غير ذلك، أو تقوم به البينة»(1)؛ فإنها تشمل المقام.

الثاني: الأدلة الخاصة المثبتة لحجية البينة في باب القضاء.(2)

3- يمين مدّعي الغبن، واستدل عليه الشيخ بأمور ثلاثة:

الأول: أن قوله موافق للأصل؛ لأنه يدعي الجهل، والعلم أمر حادث مسبوق بالعدم.

الثاني: أن الجهل من الأمور النفسانية التي يتعسر الاطلاع عليها من غير أصحابها، فيتعسّر إقامة البينة عليها، فتثبت بيمينه.

الثالث: عدم تمكّن الغابن من الحلف على علم المغبون؛ لجهله بالحال؛ لكونه من الأمور النفسانية، ويشترط في الحلف أن يكون عن علم وجزم، ومع عدم تمكّنه من الحلف ينتقل الحلف إلى المغبون.

هذا ما أفاده الشيخ (قدس سره) في المقام، ثم أمر بالتأمل.(3)

الإشكالات على الشيخ
اشارة

وأورد على الشيخ (قدس سره) بإشكالات سبعة وهي:

الإشكال الأول

أن المستفاد من صدر كلام الشيخ (قدس سره) وذيله أن المغبون هو المدّعي، والغابن هو المدّعى عليه، أما الصدر فمن قوله بإثبات دعواه باعتراف الغابن، وبالبينة، وكلاهما من أدلة المدّعي، وأما الذيل فمن قوله بعدم تمكّن الغابن من الحلف على علم المغبون، فلهذا ينقل إلى المغبون، ومعنى ذلك أن وظيفة الغابن هي الحلف، وهي وظيفة المدّعى

ص: 53


1- وسائل الشيعة 17/89، ح4، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، متعبرة مسعدة بن صدقة.
2- وهي روايات متعددة كما في وسائل الشيعة 27/233، ح2، صحيحة بريد بن معاوية وغيرها من روايات الباب 3 من أبواب كيفية الحكم.
3- المكاسب 5/168.

عليه.

وعليه فكيف جمع على المغبون بين البينة التي هي وظيفة المدّعي، والحلف الذي هو وظيفة المدّعى عليه، فقال بثبوت الجهل بالبينة وبقول مدّعيه مع اليمين؟! فإن ذلك من الجمع بين الضدين؛ فإن معنی توجّه اليمين عليه أنه منكر، ومعنی ثبوت قوله باعتراف الآخر وبالبينة أنه مدّع، ولا يمكن أن تكون وظيفته كلا الأمرين، بل إما البينة وإما اليمين؛ بمقتضى: «البينة على مَنْ ادَّعىٰ، واليمين على من أنكر»(1)، وأن التقسيم قاطع للشركة.

الإشكال الثاني

إن الشيخ (قدس سره) قال بثبوت جهل المغبون بیمینه، وعلّله بأصالة عدم العلم، ومعنى ذلك أنه منكر؛ لأنهم ذكروا في باب القضاء للتمييز بين المدّعي والمنكر ثلاثة أوجه:

1- أن المدّعي هو الذي إن تَرَك تُرِك.

2- أن المدّعي هو الذي يطالب الآخر حقاً أو مالاً.

3- أن المدّعي هو الذي يخالف قوله الظاهر، أو الأصل المعتبر، والمنكر هو الذي يوافق قوله الأصل، وهو الذي عليه المشهور.

ومن تعليل الشيخ (قدس سره) بأصالة عدم العلم يعرف أن قول المغبون موافق للأصل، فيكون منكراً. [فكيف حكم عليه بإثبات دعواه بالبينة؟!]

الإشكال الثالث

إنه (قدس سره) صرّح بأن وظيفة المغبون - مع تعسّر إقامة البينة على الجهل - هو اليمين، وذلك مناقض لما قاله من قبل بثبوت الجهل بيمينه لكونه موافقاً للأصل؛ لأن مقتضى

ص: 54


1- وسائل الشيعة 27/293، ح3، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، صحيحة حماد بن عثمان.

توجّه اليمين له - بعد تعسر إقامة البينة - أن وظيفته الأولية هي البينة، ومعنى ذلك أنه مدع، ومقتضی ثبوت قوله باليمين لكون قوله موافقاً للأصل أنه منكر.

الإشكال الرابع

إن الكبرى التي أفادها (قدس سره) من الانتقال إلى اليمين مع تعسر إقامة البينة لا دليل عليها، وإنما قام الدليل على الانتقال في خصوص ما لا يُعْلَمُ إلّا مِنْ قِبَلِهِ، لا في كل ما تعسر إقامة البينة عليه.

الإشكال الخامس

إنه (قدس سره) قال بتعسر إقامة البينة على العلم والجهل؛ لكونهما من الصفات النفسانية، فينقض عليه بالعدالة والاجتهاد، فإنهما من الصفات النفسانية، فيفترض تعسر إقامة البينة عليهما، فينتقل إلى اليمين، وهو خلاف ضرورة الفقه.

والحل: أن الصفات النفسانية التي يمكن إثباتها بالآثار يمكن إقامة البينة عليها، والعلم والجهل بالقيمة من هذا القبيل؛ فإنه يمكن إثباتهما من خلال القرائن، فيمكن إقامة البينة عليهما.

الإشكال السادس

أنه (قدس سره) قال: بما أنه لا يمكن للغابن أن يحلف على علم المغبون فينتقل الحلف إليه، ومنشأ ذلك أن العلم من الصفات النفسانية، فكما لا يمكن إقامة البينة عليه لم يمكن الحلف.

والإشكال عليه يظهر مما ورد في الإشكال الخامس.

الإشكال السابع

إن المغبون في باب المرافعة والتنازع يحلف على عدم علمه بالقيمة وجهله بها، وحلفه على ذلك إنما يكون في ما لو كان لجهله أثر شرعي؛ فإن ما لم يكن حكماً شرعياً ولا له أثر شرعي لا يجري فيه الأصل؛ فإن في مجرى الأصول مبنيين:

ص: 55

الأول: أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي، وهو المعروف المشهور.

الثاني: ما هو أوسع من السابق، وهو أن يكون قابلاً للتعبد الشرعي وإن لم يكن حكماً شرعياً أو موضوعاً له.

وعلى كلا المبنيين لا يتمُّ كلام الشيخ (قدس سره) ؛ فإنه لم يقم دليل شرعي على مدخلية العلم بالقيمة والجهل بها في اللزوم ولا في الخيار، والمتبع لسان الأدلة، سواء أكان مبنى الخيار هو «لاضرر»، أم الشرط الارتكازي، وإنما هما من مقدمات تحقق موضوع الحكم.

وبناء على عدم لغوية التعبد لا بدّ أن يجري الأصل في مقام الحكم والتكليف، أو في مقام الامتثال، والعلم والجهل لم يؤخذا في مقام الحكم، ولا في مقام الامتثال.

في الأصل الجاري لتشخيص المدعي من المنكر

البحث في تشخيص المدعي من المنكر بالنسبة إلى دعوى الغابن علم المغبون بالقيمة، ودعوى الثاني الجهل بها، وقد اختلف في الأصل الجاري فيه على وجوه:

وجوه الأصل الجاري في المقام
الوجه الأول: ما أفاده الشيخ

من أن الأصل في المقام هو عدم العلم.

وهو غير تام؛ لعدم كون العلم والجهل حكماً شرعياً ولا موضوعاً له، ولا بدّ في مجرى الأصل من كونه ذا أثر شرعي.

الوجه الثاني: ما أفاده غير واحد من الأعاظم
اشارة

كالمحققين النائيني والسيّد الخوئي قدس سرهما وغيرهما: من أن الأصل الجاري في المقام هو أصالة عدم الإقدام على الضرر؛ حيث إن الضرر موضوع للخيار،

ص: 56

والإقدام علیه مزيل له، فمع الشك في إقدامه عليه تجري أصالة عدم الإقدام، ومن ثمَّ يثبت أحد جزئي موضوع الخيار، والجزء الآخر هو الغبن المحرز بالوجدان.(1)

الإشكال فيه بناء على الاستناد إلى (لا ضرر)

وفيه: أن الإقدام وعدمه لم يردا في لسان الأدلة، فإن كان المبنى في المسألة هو «لا ضرر ولا ضرار»، فمعناها نفي جعل الحكم الضرري في الإسلام، فيكون موضوع الأثر هو الضرر الآتي من قبل جعل الشارع، وفي صورة الإقدام عليه من قبل المكلف لا يكون الضرر من قبل الشارع، بل من قبل نفس المكلف، كما صرّح بذلك السيّد الفقيه اليزدي(2) (قدس سره) ، وعليه فأصل عدم الإقدام - بالنسبة إلى الحكم الضرري الآتي من الشارع - مثبت؛ وذلك لأن المكلف إذا أقدم على المعاملة التي يعلم بكونها غبنية وحكم الشارع باللزوم لم يعدّ الضرر مستنداً إلى الشارع، وأما مع عدم إقدام المغبون على الضرر فاللازم العقلي لأصالة عدم الإقدام هو أن يكون الحكم باللزوم مستنداً إلى الشارع، فيكون مثبتاً.

والحاصل: أن الإقدام وعدمه ليسا حكمين شرعيين ولا موضوعين له، ولكن الإقدام ملازم لعدم استناد الضرر إلى الشارع، كما أن عدمه ملازم لاستناد الضرر إليه، والأصل في موارد الملازمات مثبت.

رفع المحقق السيّد الخوئي للإشكال ورده

وقد رفع المحقق السيّد الخوئي (قدس سره) هذا الإشكال بما حاصله: أن منشأ الخيار هو الشرط الارتكازي بالتساوي بين العوضين وعدم التفاوت الفاحش بينهما في المالية، وقد جرت معاملة العقلاء على الأشياء بهذا الشرط، فإذا شك في إقدام المغبون على

ص: 57


1- منية الطالب 3/123؛ مصباح الفقاهة 6/316.
2- حاشية المكاسب للسيّد اليزدي (قدس سره) 2/533.

المعاملة - مع العلم بعدم التساوي بحيث يكون إقدامه على الضرر مزيلاً لهذا الشرط - فالأصل عدمه، فيكون الشرط باقياً على حاله مع ثبوت الضرر بالوجدان، فلم يترتب ثبوت الشرط على الأصل، بل هو ثابت ببناء العقلاء.

وبالجملة فإن موضوع الخيار هو الضرر مع عدم إقدامه عليه، أي مقيّداً بذلك، فلا شبهة في أن الضرر محرز بالوجدان، والقيد محرز بالأصل فيثبت الحكم وهو الخيار للمغبون.(1)

ولكن هذا التقريب لا يرفع إشكال المثبتية الوارد على أساس كون المبنى في الخيار حديث «لا ضرر»؛ فإن موضوع الحكم المنفي حينئذ هو الضرر المستند إلى الشارع، وأصل عدم الإقدام مثبت بالنسبة إليه.

وإن كان المبنى في المسألة هو الشرط الإرتكازي فينبغي التحقيق في المراد منه عند العقلاء؛ فإن الشرط إن كان تعبدياً، أي مما جعله الشارع، كخياري الحيوان والمجلس، فلا شأن للمكلف بالنسبة إلى جعله، وإنما شأنه بالإضافة إليه إنما هو الإسقاط ليس إلا، فالشارع جعل خيار الحيوان للمشتري، ولصاحب الخيار أن يسقطه.

وأما في الشروط الإرتكازية فليس الأمر كذلك، بحيث يشترطها العقلاء ويكون للمتعامل الإسقاط، بل كل متعامل بما أنه من العقلاء يقوم باشتراط هذا الشرط.

والشرط في المعاملة التي هي محل البحث لم يكن من بناء العقلاء، بل اشترطه نفس المتعاملين؛ فإن بناء كل عاقل في معاملاته أن يتساوی ما أخذه مع ما خرج منه في المالية، فمعنى بناء العقلاء أن كل متعامل يشترط في ضمن المعاملة هذا الشرط، ولكن

ص: 58


1- مصباح الفقاهة 6/317.

بما أنه ارتكازي لم يحتج إلى التصريح به في ضمن العقد.

وعليه فالشرط الإرتكازي لم يثبت ببناء العقلاء ولكن البائع أو المشتري قد أسقطاه بإقدامهما، بل بين الإقدام والشرط تضاد فلا يجتمعان، فلا يمكن أن يشترط عدم التفاوت في القيمة ومع ذلك يقدم على المعاملة مع إحراز التفاوت، وبما أن النسبة بينهما هي نسبة التضاد، فعدم أحد الضدين ملازم لوجود الآخر، فعدم إقدامه ملازم لاشتراطه، وإقدامه ملازم لعدم اشتراطه، فيكون أصل عدم الإقدام بالنسبة إلى تحقق الشرط مثبتة لا محالة.

فالنتيجة: أن موضوع الأثر على هذا المبنى هو الشرط، فالخيار وعدمه تابعان لوجود الشرط وعدمه، والإقدام على المعاملة الضررية ملازم لعدم اشتراط اختلاف القيمة، فيكون أصل عدم الإقدام على هذا التقريب مثبتاً أيضاً.

فإشكال المثبتية وارد على كلا المبنيين، «لاضرر» والشرط الإرتكازي.

الوجه الثالث: ما اختاره المحقق الإيرواني

من أن الأصل لتعيين المنكر هو أصالة بقاء العلقة وعدم انحلال المعاملة، وأصالة اللزوم(1)، وتوضيح ذلك:

إن أصل اللزوم على نحوين: أصل اللزوم اللفظي، وأصل اللزوم العملي، أما الأول فهو المستند إلى قوله تعالى: ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(2)، ولا يمكن التمسك به في المقام؛ لكونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص؛ فإن العقود في الآية عام، وخصص بالبيع الغبني ونحن نشك هل البيع في المسألة غبني أو لا؟

فعلى هذا لا يصح أن يقال بأن قول المغبون موافق للأصل، أي للآية.

ص: 59


1- حاشية الإيرواني على المكاسب 3/134، رقم 268.
2- سورة المائدة /1.

وأما الثاني فتقریبه استصحاب بقاء أثر العقد الواقع فيما لو فسخ مدّعي الغبن وشككنا في بقاء الأثر وارتفاعه، فيكون هو المتبع.

وعليه فقول مدّعي الغبن مخالف لهذا الأصل.

والحق أن هذا الأصل هو المتبع، فيجري استصحاب بقاء الملك الحاصل من العقد، لا أصالة عدم العلم، ولا أصالة عدم إقدام المغبون.

ولكن فيه: أولا: أن تمامية جريان هذا الأصل متوقفة على القول بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، وأما على من ينكر جریانه فيها، سواء لقصور أدلة الاستصحاب عنها كما عليه السيّد الخوانساري (قدس سره) ، أو للتعارض الدائمي فيها بين استصحاب بقاء المجعول وعدم الجعل كما عليه المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) فلا فائدة في هذا الأصل، فهو لا يجري على جميع المباني.

وثانياً: أن هذا الأصل - حتّى على القول بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية - مخدوش بكونه مسببياً؛ حيث إن الشك في بقاء الملكية الحاصلة من العقد وعدم بقائها بعد الفسخ مسبب عن الشك في جعل الشارع للخيار وعدمه، فإن جعل الشارع الخيار زالت الملكية بالفسخ، وإن لم يجعله كانت باقية، فلا بدّ أن يكون المرجع هو الأصل الحاكم، وقد أوضحه المحقّق الأصفهاني (قدس سره) بما يأتي في الوجه الرابع.

الوجه الرابع: ما اختاره المحقّق الأصفهاني

من أن الأصل هو عدم جعل الخيار؛ لأن مدعي الجهل بالغبن يدّعي الخيار، والمنكر له يدّعي اللزوم، وبما أن الخيار من المجعولات الشرعية، وهو حادث مسبوق بالعدم، فإذا شك في جعله فالأصل عدمه. والسر في اختياره له ما أوردناه من الإشكال على المحقّق الإيرواني (قدس سره)

من كونه أصلاً حاكماً على أصالة اللزوم.(1)

ص: 60


1- حاشية الأصفهاني (قدس سره) على المكاسب 4/(255-254).

نعم، لا يخفى أن نحو العدم في المقام هو العدم الأزلي، لا النعتي؛ إذ أن عدم الخيار قبل تحقق العقد من السالبة بانتفاء الموضوع، وأما حين تحققه فهو إما إنه وجد محكوماً بالخيار أو محكوماً باللزوم.

وعليه فجريان هذا الأصل يتوقف على القول بجریان استصحاب

العدم الأزلي، ولعل هذا هو السبب في تمسك المحقق الإيرواني (قدس سره) باستصحاب بقاء الملك الحاصل بالعقد؛ لأنه لا يرى استصحاب العدم الأزلي، فمتى لم يتمسك بأصالة عدم الخيار كانت النوبة لأصالة اللزوم بالمعنى المتقدم.

ولكن، بما أنا نرى جريانه فهو دلیل حاكم على أصالة اللزوم.

ولقائل أن يقول: إن المبنى في ثبوت خیار الغبن إما هو قاعدة نفي الضرر، أو الشرط الإرتكازي، وعلى كلا التقديرين يمكن تصور الشك السبي والمسببي في المقام.

فإن كان المستند هي القاعدة فالشك في ثبوت الخيار وعدمه ناشئ من الشك في كون اللزوم الضرري للمعاملة مستنداً إلى الشارع أو لا؛ فإن موضوع ثبوت الخيار هو كون اللزوم ضررياً، وكون الضررية مستندة إلى الشارع، و«لا ضرر» إنما ترفع الحكم الضرري المستند إلى الشارع، فالشك في ثبوت الخيار مسبب عن الشك في تحقق هذا الموضوع، فلا بدّ من جريان الأصل فيه.

وإن كان المستند هو الشرط؛ فثبوت الخيار مسبب عن شرط المتعاملين بتساوي العوضين، وبما أن الشرط حادث مسبوق بالعدم فالأصل عدمه.

ولكن يرد عليه: أن الأصل إنما يجري لأجل تشخيص المدّعي من المنكر، فمن كان قوله موافقاً للأصل فهو منكر، ومن خالف قوله الأصل فهو المدّعي، وينبغي أن لا يكون الأصل مخالفاً لظاهر ما عليه العقلاء، فلا يجري الأصل غير العقلائي، وأصالة عدم اشتراط التساوي بين العوضين وعدم التفاوت الفاحش بينهما غير عقلائي؛ إذ الفرض أنه شرط ارتكازي عقلائي، والمفروض أن المتعاملين منهم،

ص: 61

فأصل عدم هذا الشرط مخالف لظاهر عقلائية المعاملة فلا يجري.

وبما أن المستند العمدة لثبوت خیار الغبن هو هذا الشرط الإرتكازي(1)، وبما أن أصالة عدمه الذي هو أصل موضوعي غير جارية في المقام فتصل النوبة إلى أصالة عدم الخيار، وبناء عليه فأقوى الأقوال في المسألة والأقرب إلى القواعد ما أفاده المحقّق الأصفهاني (قدس سره) .

الصورة الثانية: أن يكون المغبون من أهل الخبرة
اشارة

ولهذه الصورة حالات ثلاث:

حالات الصورة الثانية
الحالة الأولى: أن يدّعي الجهل بالقيمة

وأصل قبول الدعوى محل بحث كما حرّر في باب القضاء؛ إذ يشترط - قبل تشخیص المدّعي من المنكر - أن تكون الدعوى صالحة للقبول، فإن كان فيها محذور عقلي، أو عقلائي لم تقبل، ولا يصح طرحها حتى تصل النوبة إلى تشخيص المدّعي من المنكر، ودعوى صاحب الخبرة عدم علمه بالقيمة تستبطن التناقض؛ للتمانع بین الخبروية والجهل؛ فإن معنی كونه صاحب خبرة أنه عالم بالقيمة، وكونه جاهلاً بها يعني أنه غير صاحب خبرة.

وعلى فرض إمكان الجمع بينهما عقلاً، فهي غير مقبولة عند العقلاء، فلا يسمع لها.

ص: 62


1- وأمّا بناءً على أنّ مستنده قاعدة لا ضرر تعارض أصل عدم استناد هذا الضرر إلى الشارع مع أصل عدم استناده إلى المتعامل فتساقطا فتصل النوبة إلى أنّ أصالة عدم الخيار. [المؤلِّف]
الحالة الثانية: أن يدّعي العلم بالقيمة ولكنه نسيها حين العقد أو غفل عنها
اشارة

وهذه الدعوى وإن كانت قابلة للطرح أمام القاضي، إلا أنها مخالفة للظاهر لا للأصل، وتشخيص المدّعي من المنكر كما يكون من خلال مخالفته وموافقته للأصل، يكون أيضاً من خلال موافقته ومخالفته للظاهر، فمن كان قوله مخالفاً للأصل أو مخالفاً للظاهر فهو المدّعي، ومن كان قوله موافقاً لهما فهو المنكر، ومقتضى الصناعة الترتيب بينهما في التقديم، فتقدم مخالفة الظاهر على مخالفة الأصل.

وقول مدّعي الغفلة مخالف لظهور حال المتصدّي، والأصل وإن كان عدم الإلتفات؛ لكونه حادثاً مسبوقاً بالعدم فالأصل عدمه، إلا أن الإلتفات موافق للظاهر؛ فإن ظاهر حال العاقل العالم بالقيمة المُقْدِم على العمل عن إرادة واختيار أن يكون ملتفتاً غير غافل، فدعوى الغفلة منه مخالفة لظاهر حاله.

فمدّعي الغبن للغفلة وإن سمعت دعواه؛ لإمكانها إلا أن قوله مخالف للظاهر، فيكون مدّعياً، والطرف الآخر منكراً؛ لكون دعواه موافقة للظاهر، فيطالب المدّعي بالبينة، وإن لم يقمها طولب المنكر باليمين.

دعوى الحلف على المدعي في المقام

و [قد] يقال: بأن على المدّعي الحلف في المقام؛ وذلك لوجهين:

الوجه الأول لدعوى الحلف
اشارة

أن قوله وإن كان مخالفاً للظاهر الحجة؛ لأن سيرة العقلاء قائمة - في الأفعال الاختيارية - على عدم الاعتناء باحتمال الغفلة، المعبّر عنه عندهم بأصالة عدم الغفلة.

ولا يخفى أن هذا الأصل ليس أصلاً عملياً، بل أصلاً عقلائياً، والفرق بينهما: أن الأصول العملية غير محرزة للواقع، ولو كان فيها إحراز فهو ملغى، وأما الأصول العقلائية فاعتبارها ليس ناشئاً من التعبد، بل من كاشفيتها عن الواقع، فدعوى الغفلة مخالفة للظاهر الحجة، أما كونه ظاهراً فلما تبانی عليه العقلاء، وأما كونه حجة فلعدم

ص: 63

ردع الشارع عنه، فقول مدعي الغفلة مخالف للظاهر الحجة، فيكون مدّعياً، ويكون قول الآخر موافقاً له، فيكون منكراً، والقاعدة الأولية أن على المدّعي البيّنة، فإن أمكنه إقامتها على غفلته أقامها وأخذ بها، وإلا انتقلت الوظيفة إلى يمين المنكر، فإن كان يعلم بعدم غفلة مدّعيها حلف بذلك، وإلا حلف على عدم علمه.

إلا أن مقتضى القاعدة الثانوية أن وظيفة المدّعي - إذا تعسّر عليه إقامة البينة - هو اليمين، وبما أن مدّعي الغفلة يتعسر عليه إقامة البينة على دعواه كانت وظيفته اليمين.

رد الوجه الأول

وهذا الوجه مردود كبرى وصغرى:

أما الكبرى؛ فلأن القاعدة في باب القضاء المستفادة من النصوص هي تقسيم الدعوى إلى: أن البينة على المدّعي، واليمين على من أنكر، فجعل اليمين على المدّعي خلاف القسمة القاطعة للشركة، فلا يصار إليه إلا بدليل يخصص تلك القاعدة، ولم يقم دليل على تخصيصها إلا في موارد خاصة كما في اليمين المردودة، وذلك إذا لم يحلف المنكر فردّ اليمين على المدّعي، فيردّها القاضي عليه، وأما صورة تعذّر إقامة البينة على المدّعي من قبل المدعي فليست مما قام عليها دلیل من نص أو إجماع.

وأما الصغرى؛ فلأن الغفلة وإن كانت من الصفات النفسانية إلا أنّها مما يمكن العلم بها من خلال القرائن، كما لو علم أن المغبون كان في أزمة نفسية طارئة توجب اغتشاش الحواس، بحيث يمكن دعواه الغبن وإن كان من أهل الخبرة.

الوجه الثاني لدعوى الحلف وردّه

إن الدعوى إن كانت مما لا تعرف إلا من قبل المدّعي يقبل قوله مع اليمين، والغفلة من هذا القبيل.

وفيه: أنه قد ثبت بالنص أن الموارد التي لا تعرف إلا من قبله كصفات النساء

ص: 64

وحالاتهن يقبل قول المدّعي مع يمينه إلا أن الغفلة ليست منها.

فتحصل من هذا: أن مدّعي الغبن إن كان من أهل الخبرة وادعی الغفلة؛ فلمخالفة دعواه لأصالة عدم الغفلة، ولم يقم البينة عليها تنتقل الوظيفة إلى المنكر، ووظيفته اليمين على نفي الغفلة إن كان يعلم بها، وإلا حلف على عدم علمه بالحال.

الحالة الثالثة: أن يختلفا في القيمة

ولهذه الحالة صورتان؛ إذ تارة يكون الاختلاف بينهما في تغير القيمة وعدمها، كأن يدّعي البائع بأن قيمة المتاع خمسون دیناراً من قبل المعاملة بشهر، وقد بعتك بهذا المقدار، فلا غبن، ويقول المشتري بأن قيمته كانت خمسين ديناراً إلا أنها نزلت حين العقد فصارت بعشرين فأنا مغبون.

وأخرى في أصل القيمة، كأن يدعي البائع بأن الثمن المسمّى في المعاملة هو قيمته الواقعية، ويقول المشتري بأنه أكثر من قيمته الواقعية بالضعف.

الأصل النافي للخيار في هذه الحالة عند الشيخ
اشارة

وقد قال الشيخ(1) (قدس سره) بعدم الخيار في الصورتين؛ وذلك لأصلين:

1- أصالة عدم التغير «الموافق لأصالة اللزوم».

2- أصالة اللزوم.

ونتيجة كل من الأصلين عدم الغبن، ومن ثمَّ نفي الخيار(2)

وأورد عليه بإشكالات:

ص: 65


1- المكاسب 5/169 ولم يرد فيه «الموافق لأصالة اللزوم» فلا يتم الاشكال الرابع في المقام.
2- المكاسب 5/169.
الإشكالات الواردة على الأصل
الإشكال الأول

إن المراد من أصالة اللزوم لا يخلو إما الأصل اللفظي، أو العملي، فإن كان الأول - وهو عموم ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) فهو مخصص بالمعاملة الغبنية؛ بمقتضى قاعدة نفي الضرر، أو الشرط الضمني الارتكازي، وبما أن المعاملة الواقعة يُحتمل كونها غبنية، فهي شبهة موضوعية للمخصص، فلا يصح التمسك بالعام فيها.

وإن كان الثاني فهو أصالة بقاء الملك عند من انتقل إليه، بمعنى أنه بالبيع قد حصل النقل والانتقال قطعاً، فإذا فسخ مدّعي الغبن شك في بقاء المال في ملك من انتقل إليه وزواله عنه فيستصحب بقاؤه.

فيرد عليه: بأنا نشك من أول الأمر في كون الملكية المنتقلة هل هي ملكية محدودة بحصول الفسخ أو باقية حتى بعده؟ وفي مثل ذلك لا يجري الاستصحاب؛ للشك في أصل الجعل، فيكون معارضاً بأصالة عدم الجعل.(2)

ولكن هذا الإيراد أولا: مبني على ما اختاره الفاضل النراقي (قدس سره) وتبعه المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) من عدم جریان الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية؛ للتعارض بين أصل بقاء المجعول وأصل عدم الجعل، والشيخ (قدس سره) لا يرى ذلك.

وثانياً: أن لازمه جریان الاستصحاب لولا المعارضة، والحال أنه قاصر من حيث المقتضي.

فالحق في الإشكال على الشيخ (قدس سره) : أن استصحاب بقاء الملك بعد الفسخ محكوم باستصحاب عدم جعل الخيار؛ لكون الشك في بقاء الملك ناشئاً من الشك في جعل الخيار، ومع وجود الأصل الحاكم لا تصل النوبة إلى الأصل المحكوم.

ص: 66


1- سورة المائدة /1.
2- مصباح الفقاهة 6/321.

إلا أن يقال: بأن السببية بينهما ليست شرعية، فلا حكومة بين الأصلين فتأمل، وهذا الكلام يجري في نظيره في سائر الموارد، مما تقدم ومما يأتي.

الإشكال الثاني

إن المسلم به لزوم كون موضوع الأصل ذا أثر شرعي، وفي دليل خيار الغبن مبنيان:

1- أن المستند فيه هو «لا ضرر»

2- أن المستند هو الشرط الارتكازي الضمني بالتساوي بين الثمن والمثمن في القيمة.

وأياً كان منهما فلا ربط لأصالة عدم التغيّر بهما إلا بنحو الأصل المثبت في بعض الموارد؛ للتلازم أحياناً بين عدم التغير والحكم الضرري، أو بينه وبين اختلاف العوضين في القيمة، فأصل عدم التغيّر لا يكون معتبراً شرعاً، فلا يكون ميزاناً لمعرفة المدّعي من المنكر.(1)

والحق ورود هذا الإشكال على الشيخ (قدس سره) ؛ لعدم ورود عنوان التغيّر وعدمه في لسان الأدلة، ولا بدّ من استفادة موضوع الأصل منها.(2)

ص: 67


1- مصباح الفقاهة 6/(321-320).
2- إن قلت: قال المحقّق الأصفهاني (قدس سره) : «أما إذا كان المراد أصالة عدم وقوع العقد على الزائد أو الناقص فلا تكون مثبتة؛ فإن العقد الواقع على الناقص أو الزائد موضوع الخيار، فالتعبد بعدمه تعبد بعدم الخيار». قلت: أن المدار في جميع الموارد على حجية الظهور، فإرجاع الكلام الظاهر في شيء إلى معنى آخر لرفع الإشكال على خلاف الصناعة وكلام الشيخ (قدس سره) في المقام صريح في أصالة عدم التغيّر، فحمله على إرادة أصالة عدم وقوع العقد على ما اختلفت قيمته مخالفٌ للقاعدة.
الإشكال الثالث

إن الاستدلال بأصالة عدم التغير أخص من المدّعي؛ حيث إن الاختلاف في القيمة كما يكون منشؤه الاختلاف في تغير القيمة وادعاء العلم والجهل بها، ربما يكون منشؤه الاختلاف في القيمة الواقعية، كما لو تمّت المعاملة على خمسين ديناراً قيمة المتاع بالاتفاق بينهما، فادّعى أحدهما الغبن؛ لكون قيمته الواقعية ثلاثين، وأنكر الآخر، فهنا لا مورد لأصالة عدم التغيّر؛ لعدم دعوى التغير أساساً.

الإشكال الرابع

إن الشيخ (قدس سره) صرّح بموافقة أصل عدم التغير لأصل اللزوم، بمعنی استصحاب بقاء الملك وأثر العقد، مع أنه يخالفه في بعض الصور ويترتب عليه الخيار، وذلك كما لو تمّ البيع على ثمانية دنانير قيمة المتاع، فادعي مدّعي الغبن أن قيمته السابقة عشرة دنانير ولم تتغير، فصدّقه الآخر ولكن قال بتغيّرها حين البيع، فمقتضی جریان أصل عدم التغير ثبوت الغبن، ومن ثمّ ثبوت الخيار فيكون على خلاف أصل اللزوم.

فتحصل إلى هنا: أن الشيخ (قدس سره) قد تمسك - في غير ما إذا كان الاختلاف من جهة العلم والجهل بالقيمة - بأصلين، أصل عدم التغير، وأصل اللزوم، وقد اتضح سقوط أولهما بهذه الإشكالات، وأما الثاني فلا يرد عليه إلا ما أورد على مسلك التعارض بين أصل عدم الجعل والمجعول، وأنه مرجع حيث لا أصل حاكم.

تحقيق المحقّق السيّد الخوئي

وهنا تحقيق للمحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) [إليك نصه، بيانه: قال المحقّق الخوئي: «فالتحقيق أن يقال: إنّ الشرط الضمني الارتكازي إذا كان واقعاً على تساوي القيمتين بأن يشترط المتعاقدان تساوي كل واحد من المالين بحسب القيمة السوقية كما عبّرنا بهذه العبارة في بعض عباراتنا السابقة، فالأصل مع مدّعي الغبن والخيار، لأنّ

ص: 68

المفروض وقوع المعاملة بين المالين ونشك في شرطها الذي هو أمر وجودي وهو وقوعها على المالين المتساويين بحسب القيمة والأصل عدم وقوع المعاملة على المتساويين فلا لزوم بحكم الاستصحاب، إذ التساوي والمعاملة الواقعة عليه أمران وجوديان مسبوقان بالعدم فالأصل عدم وقوع المعاملة على القيمة المتساوية للقيمة السوقية.

وأمّا إذا كان الاشتراط الضمني متعلّقاً بما هو المتعارف بين الناس والمرتكز في الأذهان وهو عدم الخديعة والزيادة، فكأنهما يشترطان عدم الخديعة وعدم الزيادة في الثمن والقيمة فلذا ترى أنه يقول لصاحبه لا يكن بيعك أو شراؤك هذا بأزيد من قيمته، والمراد بالخديعة هو صورتها إذ لا يعتبر في خيار الغبن الخديعة بل يثبت ولو مع جهل الغابن بالحال، وعليه فإذا تعاملا وشككنا في حصول هذا الشرط وهو عدم الخديعة وعدم الزيادة فالأصل مع من يدّعي اللزوم لأصالة عدم وقوع البيع على الخديعة والزيادة وأصالة عدمهما، وهذا الوجه الثاني هو الأرجح لأنه الموافق للمتعارف والمرتكز في الأذهان من الغبن، ويؤيّد ذلك عنوان الفقهاء حيث عنونوه بخيار الغبن أي خيار الزيادة والخديعة، وعليه ففي جميع الصور المتقدمة نحكم بلزوم المعاملة وعدم وقوع البيع علي القيمة الزائدة أو الخديعة»(1)].

وتقريبه وتوضيحه: أن المستند الصحيح في خيار الغبن هو الشرط الارتكازي لعدم الغبن في المعاملة، فلا بدّ من ملاحظة ذلك لتشخيص المدّعي من المنكر، فلا بدّ من معرفة هوية الشرط، هل هو شرط عدمي أو وجودي، فإن كان تباني العقلاء على تساوي العوضين في القيمة كان الشرط وجودياً، وإن كان تبانيهم على عدم الاختلاف في القيمة كان شرطاً عدمياً.

ص: 69


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/314؛ و نحوه في مصباح الفقاهة 6/(322-321).

وتوضيح هذه الجهة: أن حقيقة الشرط هي الالتزام المربوط بالتزام آخر، ففي كل شرط التزام وملتزم به، ونفس الالتزام فعل نفساني بلا شك، وقد يعبر عنه بالعهد، أو بالشرط، أو بالالتزام.

وبتعبير أدق: أن في التعهد والشرط التزاماً، والالتزام ذاته الالتزام، ففرق بين العناوين الثلاثة، فللالتزام في ضمن العقد خصوصية، وللالتزام المطلق خصوصية، وللالتزام بعنوان الشرط خصوصية أخرى، ولهذا عبّر الفقهاء واللغويون عن الشرط بأنه التزام مربوط بالتزام آخر، أو التزام في ضمن التزام آخر، فهذه الخصوصية مأخوذة في مفهوم الشرط.

ولا شبهة في أن نفس الالتزام أمر وجودي، والمردد بين الوجودي والعدمي هو الملتزم به، وعليه فإن كان متعلق التزام المتبايعين هو تساوي قيمة الثمن والمثمن فهو أمر وجودي، وكل أمر وجودي مسبوق بالعدم، فالأصل الجاري عند الاختلاف هو أصل عدم التساوي بينهما، ونتيجته ثبوت الخيار.

وإن كان هو عدم اختلاف العوضين في القيمة فهو أمر عدمي فالأصل الجاري فيه هو أصل عدم الاختلاف أزلاً، ونتيجته لزوم المعاملة ونفي الخيار.

فالتحقيق - إذن - أن يعيّن المبنى أولاً في خيار الغبن، هل هو قاعدة نفي الضرر، أو الشرط الارتكازي؟ وعلى الثاني، هل الملتزم به تساوي العوضين، أو عدم الاختلاف بينهما؟ فعلى الأول يجري أصل عدم التساوي، ونتيجته الخيار، وعلى الثاني يجري أصل عدم الاختلاف، ونتيجته اللزوم.

التعليق على هذا التحقيق

ولا يخفى أنه إن أحرز بواسطة القرائن المرتكز العقلائي من بين هذين الاحتمالين أمكن جریان الأصل، وإن لم يحرز أحدهما وتردّد بينهما فلا يجري؛ لعدم إحراز أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشك اللاحق، ولا عبرة بالظن

ص: 70

بأحدهما، استناداً لبعض الخصوصيات؛ لعدم كون هذا الظن معتبراً.

وعليه فالمرجع أصالة اللزوم بتقريب: أنه بالبيع الحاصل حصل نقل العوضين من أحد المتعاملين إلى الآخر، وملك كل منهما ما انتقل إليه، فإذا فسخ مدّعي الغبن شك في خروج الملك عما انتقل إليه ورجوعه إلى المالك الأول فيستصحب بقاؤه عنده، وقد تقدم أن هذا الأصل محكوم بأصالة عدم جعل الخيار، واستصحاب عدم الخيار، وإن كان أثر الأصلين واحداً.

هذا تمام الكلام في الشرط الأول وفروعه»(1)، والحمدلله أوّلاً وآخراً.

الشرط الثاني: كون التفاوت فاحشاً
اشارة

وقد يقع البحث حوله في جهات:

الجهة الأولى: الدليل على كون التفاوت فاحشاً

وقد استدل عليه: بأن التفاوت بين قيمة الأشياء في المعاملات العقلائية الواقعة في الأسواق من اللوزام العادية لها، بل هو من الضروريات، فلو كان يتحقق الغبن بمطلق التفاوت للزم الخيار في جميع المعاملات، وهو أمر غير عقلائي قطعاً، ومخالف لضرورة الفقه وتسالم الفقهاء، فيتعين أن يكون التفاوت مما لا يتسامح فيه عادة، المعبر عنه بالتفاوت الفاحش.(2)

الجهة الثانية: في المحقق للتفاوت الفاحش

ذهب بعض العامة إلى أن التفاوت بالثلث لا يوجب الخيار، وإن كان بأكثر منه أوجبه، وذهب آخرون منهم إلى كون المعيار الربع، وثالث إلى كون المعيار الخمس.(3)

ص: 71


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 3/(112-88).
2- مصباح الفقاهة 6/322.
3- ما نقله العلّامة في التذكرة 11/70، عن مالك هو الثلث فقال: «وقال مالك: إن كان الغبن الثلث لم يثبت الخيار. وإن كان أكثر من الثلث ثبت الخيار».

وكل ذلك باطل؛ لكونها دعاوی بلا دليل؛ إذ لا بدّ من ملاحظة التناسب بين المسألة ودليلها، موضوعة ومحمولاً وماهية، وبما أن المسألة عقلائية، لا تعبّد فيها من قبل الشارع، وإنما دوره فيها الإمضاء، إما عن طريق «لا ضرر»، أو عن طريق «المؤمنون عند شروطهم»، فالمرجع في تحديد التفاوت إلى العقلاء بما هم عقلاء ليس إلا، وليس المرجع فيه أيضاً إلى العرف بما هو عرف؛ لأن دوره إنما هو في تحديد المفاهيم، وما يتبادر إلى أذهانهم من ظواهر الألفاظ، وأما في البناءات العقلائية - كما في ما نحن فيه - فالمرجع هم العقلاء بما هم عقلاء، بحيث يستكشف ذلك من ارتكازاتهم، فلا يخلط بينهما.

وعليه فكل تفاوت لا يتسامح فيه عند العقلاء يكون هو موضوع خيار الغبن، وأما تحديده بالكسور التي تقدمت فبلا وجه.

وذهب المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) إلى أن المسألة عرفية، وهو يختلف من مورد إلى مورد، فالتفاوت بالخمس في بعض المعاملات غبني، كما لو باع ما يساوي أربعة آلاف بخمسة آلاف، وفي بعضها ليس غبنياً كما لو اشترى ما يساوي أربعة فلوس بخمسة.

نعم، الواحد في الألف لا يكون غبناً قطعاً.(1)

وفيه: أولا: أن المسألة عقلائية لا عرفية كما ذكرنا.

وثانياً: أن التفاوت بنسبة الواحد على الألف يختلف أيضاً بحسب الموارد، فالتفاوت بهذه النسبة في معاملة بألف تومان لا يعد غبناً، ولكن التفاوت بها في معاملة بمليار دولار يعدّ غبناً عند العقلاء.

فالحق أن المرجع في جميع المعاملات إلى الإرتكاز العقلائي، ولا بدّ عندهم من ملاحظة الجهة الكمية والكيفية، فربما يكون التفاوت بنسبة الواحد إلى الألف غبناً،

ص: 72


1- مصباح الفقاهة 6/323.

وربما لا يعدّ غبناً.

الجهة الثالثة: مقتضى القاعدة حال اشتباه المقدار المحقّق للتفاوت الفاحش

ربما يقع الاشتباه في تحديد المفاهيم العرفية، والارتكازات العقلائية، وهو المعبّر عنه بالشبهة المفهومية، فلو اشتبه الحال في بعض الموارد بین كون التفاوت المعيّن مما لا يتسامح فيه أو لا، فما هو مقتضی القاعدة؟

رأي الشيخ

استظهر الشيخ (قدس سره) أولاً كون المرجع عند الشك في ذلك أصالة ثبوت الخيار، واحتمل الرجوع إلى أصالة اللزوم، وليس ذلك منه عدولاً كما نسبه إليه المحقّق السيّد الخوئي(1) (قدس سره) ؛ فإن ذكر الاحتمال بعد الاستظهار لا يعتبر عدولاً.

ووجه الاستظهار عند الشيخ (قدس سره) أن مبنى الخيار هو «لا ضرر»، وهو دليل لفظي، مؤداه أن كل معاملة ضررية خيارية، خرج من تحته الضرر المتسامح فيه عند العقلاء، فإذا شك في مورد من الموارد في كون الضرر مما يتسامح فيه أو لا، فمعناه أنه شك في خروجه من تحت عموم الدليل اللفظي أو إطلاقه فيتمسك به، فيكون الأصل ثبوت الخيار.

وأما وجه الاحتمال فهو أن الأصل الأولي هو اللزوم، فكل معاملة محكومة باللزوم، وخصص بالمعاملة التي وقع فيها الضرر غير المتسامح فيه، وبما أنه يشك في كون الضرر الواقع مما يتسامح فيه أو لا، فبالتالي يشك في خروج هذا المورد من تحت أصالة اللزوم وعدمه، فيتمسك بها.(2)

ص: 73


1- مصباح الفقاهة 6/324.
2- المكاسب 5/170.
تفصيل المحقّق السيّد الخوئي

وذهب المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) إلى التفصيل بين ما إذا كان المستند في خيار الغبن «لا ضرر»، فيكون الأصل الخيار، وبين ما إذا كان المستند الشرط الارتكازي، فالأصل اللزوم، ووجه التفصيل أنه:

أما بناء على كون المستند «لا ضرر»؛ فلأن أدلة اللزوم كآية ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) قد خصصت ب- «لا ضرر»، وبما أن المخصص دلیل لفظي فالإطلاق فيه محكم، فيشمل كل معاملة ضررية، سواء أكان الضرر الواقع فيها مما يتسامح فيه أم لا، إلا فيما ثبت فيه التخصيص كصورة الإقدام على الضرر، وفي غيره من الموارد التي يشك في خروجه من تحتها يتمسك فيه بإطلاق لا ضرر، فإذا شك في كون فرد من الضرر مما لا يتسامح فيه، فيكون مما لم يقدم عليه، أو مما يتسامح فيه، فيكون مما أقدم عليه، أو مما خرج ببناء العقلاء، كان الشك في المخصص لها، فيتمسك بإطلاقها، والنتيجة الخيار.

وأما بناء على كون المستند في الخيار هو الشرط الارتكازي الضمني؛ فلأن مقتضى الإطلاق اللفظي في مقام الإثبات هو تمليك العين بالثمن بدون أي قيد، وبمقتضی كاشفية مقام الإثبات عن مقام الثبوت تحكم بإطلاق العقد في مقام الثبوت أيضاً، فتشمله أدلة اللزوم، وليس في المقام شيء يصلح للقرينية والتخصيص إلا الشرط الإرتكازي بأن لا يكون في المعاملة تفاوت لا يتسامح فيه بين الثمن والمثمن، وبما أنه دلیل لبي لزم الاقتصار فيه على القدر المتيقن، وذلك ما لو أحرز كون التفاوت مما لا يتسامح فيه، وأما ما عداه فليس في المقام دلیل لفظي على الخيار كي يتمسك بإطلاقه، فلا محيص من الأخذ بإطلاق الكلام والتمسك بأدلة اللزوم.(2)

ص: 74


1- سورة المائدة /1.
2- مصباح الفقاهة 6/(325-324).
المناقشة في ما أفاده المحقق الخوئي

ويرد عليه: أما ما أفاده من التمسك بإطلاق «لا ضرر» فالحق معه من ناحية كون قاعدة «لا ضرر» قاعدة كلية عامة لجميع المعاملات والعبادات، والحق معه من حيث النتيجة لو كان المخصص لها هو (الإقدام على الضرر)، إلا أنه لم يرد في شيء من الأدلة كون هذا اللسان مخصصاً للقاعدة، فلم يرد أن مع الإقدام على الضرر ينتفي الحكم الضرري.

وإنما لم يحكم بثبوت الخيار معه؛ لكون الضرر الموجب لنفي الحكم - إما لكون موضوعه ضررياً، أو لكونه بنفسه ضررياً، على اختلاف المبنيين - إنما هو الضرر المستند إلى الشارع، وفي حال إقدام المكلف عليه لم يستند إلى الشارع، وإنما استند إلى المكلف، فلا يرفع ب-«لا ضرر»؛ لخروجه تخصصاً، لا تخصیصاً كما ادّعي.

وحينئذ يكون مورد الشك شبهة موضوعية إلى «لا ضرر»، فلا يعقل التمسك بها؛ لكونه من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية، فلا يتمّ ما أفاده الشيخ (قدس سره) ولا تأیید السيّد المحقّق (قدس سره) له على مبنی «لاضرر».

وبعبارة أخرى: إن دائرة الموضوع في «لا ضرر» بنحو لا تشمل صورة الإقدام عليه، فيكون خروجها تخصصاً لا تخصیصاً، فلا تكون من صغريات التمسك بالعام في الشبهة المفهومية للمخصص، بل من صغريات التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية، حيث كان الحكم المرفوع هو الحكم الضرري المستند ضرره إلى الشارع، كما هو التحقيق عندنا وعند الشيخ (قدس سره) وعند المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) ، وأما على مبنی شيخ الشريعة الأصفهاني (قدس سره) ، والمحقّق الخراساني (قدس سره) فقد حقق بطلانهما في محله.

وأما ما أفاده على مبنى الشرط الارتكازي من التمسك بأصل اللزوم اللفظي فتام لو كان التقييد بمعلوم الغبنية، ولكنه ليس كذلك؛ فإن التقييد بواقع الغبن، فيكون التمسك بالدليل اللفظي من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية، فلا

ص: 75

يصح.

توضيح ذلك: أن الإطلاق في مقام إنشاء المعاملة مقیّد قطعاً بصورة عدم الغبن حتى ولو لم يقيد في مقام اللفظ؛ فإن المعاملة ثبوتاً - بالنسبة إلى الأمور الارتكازية - لا تخلو من ثلاث حالات، إما أن تكون مهملة من ناحيتها، أو مطلقة، أو مقيدة، ولا شك في استحالة الأوّل؛ لوضوحه، ولا في بطلان الثاني؛ لجريان العاقل الملتفت على طبق ما عليه ارتكاز العقلاء، فيتعين الثالث، وهو تقييد المعاملة بعدم الغبن الواقعي فيها، وحيث تردد أمر الغبن الواقع بين كونه مما يتسامح فيه، فعلى الأوّل يكون للمغبون الخيار، وعلى الثاني لا خيار له، وكانت المعاملة مقيدة بعدم كونه مما لا يتسامح فيه واقعاً كان التمسك ب- ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) لإثبات اللزوم من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية للمخصص؛ فإن المعاملة إن كانت مشتملة واقعاً على الغبن الذي لا يتسامح فيه كانت مخصصة من الآية، ويثبت الخيار للمغبون، وإن لم تكن مشتملة عليه لم يثبت له الخيار.

دعوى إمكان التمسك بالعام في الشبهة المفهومية دون المصداقية وجوابها

ربما يقال: بأن الشبهة على نحوين: مصداقية، ومفهومية، ولا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص، كما هو التحقيق، ولكن يمكن التمسك به في الشبهة المفهومية فيما لو تردد المخصص بین الأقل والأكثر، فيتمسك به فيما زاد على القدر المتيقن من التخصيص، وما نحن فيه من قبيل الثاني؛ لتردد مفهوم ما لا يتسامح فيه بين الأقل والأكثر، فلا يرد الإشكال.

فنقول: بأن الشبهة في المورد وإن كانت مفهومية إلا أنه لا يمكن التمسك بالعام فيها أيضاً، لكون الشرط من الشروط العقلائية، فيكون من التمسك بالدليل في

ص: 76


1- سورة المائدة /1.

الشبهة الموضوعية؛ وذلك لأن مفاد ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) هو وجوب الوفاء بالعقد على ما وقع عليه، فإن كان مطلقاً وجب الوفاء به كذلك، وإن كان مقيداً أو مشروطاً وجب الوفاء به كذلك، أي بجميع شروطه ومتعلقاته، ومقتضى الارتكاز العقلائي أن العقد وقع مشروطاً ومقيّداً بعدم الضرر الواقعي مما لا يتسامح فيه، وبما أننا لا نعلم بكون الضرر الواقع ضرراً لا يتسامح فيه أو لا، كان شبهة موضوعية للدليل، فلا يمكن التمسك به من هذه الناحية وإن كان المرجع في الشبهات المفهومية للمخصص هو العام، فالإشكال على قوته.

الحق في المسألة

والحق أن ما يجري في المقام هو الأصل العملي، وهو استصحاب بقاء المِلْك على ملك من انتقل إليه؛ فإن المال قد انتقل بالبيع من مالكه الأول إلى صاحبه قطعاً، فإذا فسخ العقد وشك في تأثيره؛ لعدم العلم بكون الغبن مما لا يتسامح فيه، شك في بقاء الملك على ملك من انتقل إليه وعدمه فيستصحب بقاؤه.

[إن قلت]: بأن المورد يكون أيضاً شبهة موضوعية لدليل «لا تنقض اليقين بالشك».

[قلت]: بأن الغبن وعدمه لا دور له بالنسبة إلى انتقال الملك؛ فإنه ينتقل بالعقد قطعاً، فإن كان في المعاملة غبن كان للمغبون الفسخ، فإذا فسخ انحل العقد، وإن لم يوجد كان العقد لازماً، فالشك يكون في الرافع للملك، ومتى ما كان كذلك تمّت أركان الاستصحاب.

ص: 77


1- سورة المائدة /1.
في مناط الضرر الموجب للخيار

قال الشيخ (قدس سره) تحت عنوان: (بقي في المقام شيء)(1) ما حاصله: أن دلیل نفي الضرر واحد، ومفاده على المسلك المحقّق نفي الحكم الضرري المستند إلى الشارع، فيجري بنسق واحد في المعاملات والعبادات، بلا فرق بينهما، إلا أن ظاهر الأصحاب وغيرهم التفريق بين المعاملات والعبادات، ففي المعاملات جعلوا المناط في الضرر على الضرر المالي، وكون المعاملة ضررية مع قطع النظر عن ملاحظة حال أشخاص المتبايعين، ولهذا حدّوه بما لا يتغابن به الناس، أو بالزائد على الثلث كما تقدّمت الإشارة إليه عن بعض العامة.

وأما في العبادات فقد لاحظوا فيه حال المكلف، ولهذا قالوا في باب الوضوء بعدم وجوب شراء ماء الوضوء بمبلغ كثير إذا أضرّ بالمكلف، ووجوب شرائه بذلك المبلغ على من لا يضر بحاله، مع أن أصل شراء الماء بأضعاف قيمته معاملة ضررية في حقّ الكل.

والحاصل: أن العبرة إن كانت بالضرر المالي لم يجب شراء ماء الوضوء بأضعاف قيمته، وإن كانت بالضرر الحالي تعيّن التفصيل في خيار الغبن بين ما يضر بحال المغبون وغيره، ولا معنى للتفريق بين المعاملات والعبادات، فيلاحظ المال في الأولى، وحال الشخص في الثانية، مع كون الدليل والمدلول واحداً.

جواب الشيخ عن الإيراد على المناط في الضرر

ثم أجاب الشيخ (قدس سره) عن هذا الإيراد بجوابین:

الأول: أن المدار على الضرر المالي في الجميع، بدون مدخلية لحال الشخص، ولكن خرج شراء ماء الوضوء عن تحت القاعدة بالدليل المخصص، ولا يخفى أن

ص: 78


1- المكاسب 5/(171-170).

الدليل الحاكم كالدليل المحكوم قابل للتخصيص.

الثاني: أن المدار على الضرر المالي، ولكن خرج شراء ماء الوضوء تخصصاً؛ لعدم كونه ضرراً بملاحظة ما بإزائه من الأجر، كما يشير إليه قوله (علیه السلام) : « إن ما يشتري به مال كثير »(1)

المناقشة في ما أفاده الشيخ

ويرد على الشيخ (قدس سره) - مع غض النظر عن النص -:

أولاً: عدم كفاية الثواب الأخروي لرفع الضرر عند العرف، فيصدق عندهم على من بذل المال الكثير لأخذ الماء أنه متضرر، والمدار في تطبيق الأدلة على الموضوعات هو النظر العرفي.

نعم، لو كان الأجر في الدنيا لم يصدق الضرر عرفاً.

وثانياً: أن نفي الضرر متفرع على عدم جریان قاعدة «لا ضرر»؛ لأن مع عدم جریانها يتوجه له الأمر بالوضوء، فيكون له أجر بإعطاء المال في مقابل الامتثال، فينتفي الضرر، وأما مع جریانها، فلا أمر بالوضوء حتى يكون لذلك الوضوء أجر وثواب.

وبعبارة أخرى: أن عدم الضرر فرع وجود الأثر(2)، وترتب الأجر ووجوده فرع عدم جریان «لاضرر» [وهذا دور واضح].

ولكن الشيخ (قدس سره) استند في عدم كون ذلك ضرراً إلى الرواية المتقدمة، وهو تام على ما ورد في التهذيب، التي أوردها [الشيخ] الحر في هامش الوسائل، دون ما ورد في متن الوسائل: «وما يسرني بذلك مال كثير»(3).

ص: 79


1- التهذيب 1/406، ح14، باب التيمم.
2- أي الأجر.
3- وسائل الشيعة، 3/389، ح1، الباب 26 من أبواب التيمم، صحيحة صفوان.

فما أفاده الشيخ (قدس سره) بناء على تلك النسخة تام، وسبقه في ذلك الفاضل النراقي (قدس سره) ، ولعله أخذه منه؛ فإن الفاضل المذكور قد تعرّض لذلك في عدّة فروع من باب الحج، كما في مبحث الاستطاعة، في ما لو توقف الحج على بيع متاع بضرر، أو على شراء شيء من وسائل الحج بمال كثير، واستدل على عدم كونه ضرراً بهذه الرواية؛ لكون ما فيها علة، فلا ينحصر الحكم بباب الوضوء.(1)

إشكال المحقّق الخوئي على الشيخ ورده

وأورد عليه المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) : بأن القول بعدم الضرر بملاحظة ما بإزائه من الأجر أشبه بالعرفان؛ بداهة أن هذا ضرر بلا شبهة، على أن لازم ذلك القول به في جميع أبواب العبادات، ولم يقل به فقيه.(2)

وفيه: أولاً: أن الشيخ (قدس سره) قد استند في ذلك إلى الرواية المذكورة فلا يكون قوله أشبه بالعرفان.

وثانياً: أن مثل الفقيه الكبير الفاضل النراقي (قدس سره) قد التزم به في باب الحج؛ لعموم العلة، وهو من الفقهاء العظام.

وإنما الإشكال: أن الجملة التي استند إليها الشيخ (قدس سره)

غير ثابتة؛ لعدم ورودها إلا في بعض نسخ التهذيب.

مضافاً إلى أن تعميمها لغير الوضوء يلزم منه عدم جریان قاعدة «لا ضرر» في جميع أبواب العبادات؛ لكون الضرر الواقع فيها متداركاً بالأجر دائماً، والالتزام به في غاية الإشكال.

فالحق أن نسبة قاعدة «لاضرر» إلى المعاملات والعبادات واحدة، فتجري فيهما

ص: 80


1- مستند الشيعة، ج11، ص41.
2- مصباح الفقاهة 6/328.

بنسق واحد، والميزان في ذلك إلى العرف، ونظرهم أن الأجر الأخروي لا يرفع الضرر، فمتى ما تحقق الضرر تحقق موضوعها، من دون فرق بين المعاملات والعبادات.

نعم، نرفع اليد عن ذلك في باب الوضوء؛ لوجود النص الصريح فيه، بلزوم شراء الماء بمائة درهم، وبألف درهم، ولا تصل النوبة إلى التيمم.

ونود الإشارة إلى أن الفاضل النراقي (قدس سره) قال في المستند: (وتؤيده الأخبار الأخر المتضمنة لشراء ماء الوضوء بمائة ألف درهم)(1)، ولكنا لم نعثر على هذه الأخبار.

والحاصل: أن الحق هو التخصيص، لا التخصص؛ لعدم ثبوت الرواية بلفظ «إن ما يشتري به مال كثير»، وصدق عنوان الضرر عرفاً.

اجتماع الغابن والمغبون في واحد

قال المحقق والشهيد الثانیان قدس سرهما: إن المغبون إما أن يكون هو البائع، أو المشتري، أو كل منهما.(2)

الإشكال على اجتماعهما في واحد

ووقع تصوّر غبن كل من المتبايعين معاً محلاً للإشكال؛ فإن معنی الغبن هو عدم تساوي الثمن والمثمن في المالية، ومعنی كون كل منهما غابناً ومغبوناً أن يكون الثمن أقل من المثمن وأكثر منه في آنٍ واحد، وهو من الجمع بين المتقابلين، وهو محال.

والإشكال محكم في نظر بعض الأعلام(3)، وأجاب عنه آخرون بطريقين:

ص: 81


1- مستند الشيعة 11/41.
2- جامع المقاصد 4/295؛ الروضة 3/467؛ المسالك 3/205.
3- جاء في هامش المكاسب 5/172، تعليقاً على قول الشيخ (قدس سره) : (والمحكي عن بعض الفضلاء في تعليقه على الروضة)، ما لفظه: (وهو المولى أحمد بن محمّد التوني أخو المولى عبدالله التوني صاحب الوافية، ذكره في تعليقه على الروضة ذيل قول الشارح: «والمغبون إما البائع أو المشتري»، راجع الروضة البهية (الطبعة الحجرية) 1/378 [وشرح خيارات اللمعة /141 لخالي الشيخ علي ابن الشيخ جعفر كاشف الغطاء]).
جواب صاحب مفتاح الكرامة عن الإشكال وردّه

الطريق الأول: الطريق الظاهري، وهو ما أفاده السيّد العاملي (قدس سره) في مفتاح الكرامة، من أن اجتماع الغابن والمغبون في الواقع غير ممكن، فلا يرتفع الإشكال بذلك، ولكن يمكن اجتماعهما في مرحلة الظاهر، وذلك فيما لو ادعى كل من البائع والمشتري أنه مغبون، ولا يوجد مقوّم ليرجع له في تقييم المتاع، ولا بيّنة لأحدهما تشهد له بدعواه، فهنا عند الحكومة يقع التحالف بينهما؛ لكون كل منهما مدعياً ومنكراً، فإذا تحالفا ثبتت غبنية كل منهما من قبل الآخر، فيجتمع الغابن والمغبون في واحد ظاهراً.(1)

وفيه: أوّلاً: أن مقتضى التحالف التساقط، فتسقط كل من الدعويين، لا أنهما تثبتان.

وثانياً: أن مقتضى القاعدة الأخذ بمدلول اليمين، كما هو الحال في الأخذ بمدلول البينة، ومتعلّق اليمين نفي دعوى الغبن عن الطرف الآخر الذي يدّعي كونه مغبوناً، لا إثبات أن الحالف مغبون، فمقتضی حلف كل منهما نفي الغبن عنهما، لا إثباته لهما، فيكون الحكم في مرحلة الظاهر عدم غبن البائع والمشتري، لا ثبوته لهما.

الطريق الثاني: الطريق الواقعي، وذكر في ذلك ثلاثة وجوه:

جواب المحقّق القمي عن الإشكال

الوجه الأول: ما أفاده المحقّق القمی(2) (قدس سره) من كون ذلك من باب الاشتراط بهذا التقريب: أن يبيع المتاع بأربعة تومان بشرط أن يعطيه المشتري ما يقابلها بالدينار، وهي ثمانية دينار، ثم تبيّن أن قيمة المتاع خمسة تومان، وأن ما يقابل الثمانية دینار خمسة تومان، فالبائع مغبون؛ من جهة أنه باع ما قيمته خمسة تومان بأربعة، والمشتري مغبون؛

ص: 82


1- مفتاح الكرامة 14/237.
2- جامع الشتات 2/59، المسألة 48 (1/111 من الطبعة الحجرية).

من جهة أن الشرط أن يعطي بالدينار ما يقابل أربعة تومان، والثمانية التي سلّمها تقابل الخمسة تومان لا الأربعة.

إشكال الشيخ على جواب المحقّق القمي

وأورد عليه الشيخ(1) (قدس سره) : بأن الجواب مدفوع، سواء أكان البيع مع الشرط معاملة واحدة أم معاملتين.

أما على كونهما معاملة واحدة - كما هو التحقيق من أن الشرط هو الالتزام في ضمن التزام آخر، فالشرط التزام في ضمن البيع - فلا غبن على الطرفين:

أما بالنسبة إلى البائع؛ فلأنه وإن كان باع ما قيمته خمسة تومان بأربعة، إلا أن ما دخل في كيسه - وهو الثمانية دينار - يساوي الخمسة، فلم ينقص منه شيء.

وأما بالنسبة إلى المشتري؛ فلأن المتاع الذي دخل في ملكه يساوي ما خرج منه بلا نقص.

وأما بناء على كونهما معاملتين - بناء على ما هو خلاف التحقيق من أن البيع التزام، والشرط التزام آخر - فالغبن وإن وجد إلا أن المغبون في كل معاملة واحد، فالبائع مغبون في البيع دون المشتري، والمشتري مغبون في الشرط دون البائع، فلم يجتمع الغابن والمغبون في واحد.

فالنتيجة: أنه بناء على كونهما معاملة واحدة لا غبن أصلاً، وأما بناء على كونهما معاملتين، فالغبن وإن وجد إلا أنه على واحد في كل معاملة، فلم يجتمع الغابن والمغبون في واحد.

ما ذكره صاحب الجواهر

الوجه الثاني: أن يبيع شيئين بثمنين في معاملة واحدة، كأن يبيع كتاب الرسائل

ص: 83


1- المكاسب 5/173.

بنصف دينار مع أن قیمته دينار، ويبيع كتاب المكاسب بدينارين ونصف مع أن قيمته دیناران، فالبائع مغبون في الأوّل، غابن في الثاني، والمشتري على العكس منه.(1)

إشكال الشيخ عليه

وأورد عليه الشيخ (قدس سره) : بأننا إما أن نفرض كون المعاملة واحدة، وأن الثمنين قيمة واحدة لمجموع الكتابين، وأن مجموع ما خرج من كیس كل منهما مساوٍ لما دخل في كیسه، فلا غبن في المعاملة أصلاً على كلا الطرفين.

وإما أن نفرضهما معاملتين مستقلتين، فالغبن وإن وجد إلا أنهما الواحد في كل معاملة، ففي المعاملة الأولى يكون البائع مغبوناً دون المشتري، وفي الثانية يكون المشتري هو المغبون دون البائع، فلم يجتمع الغابن والمغبون في واحد.(2)

ما نقله الشيخ عن بعض والمناقشة فيه

الوجه الثالث: ما ذكره الشيخ (قدس سره) بقوله: «ما ذكره بعض: من أنه يحصل بفرض المتبايعين وقت العقد في مكانين، كما إذا حصر العسكر البلد وفرض قيمة الطعام خارج البلد ضعف قيمته في البلد، فاشترى بعض أهل البلد من وراء سور البلد طعاماً من العسكر بثمن متوسط بین القيمتين، فالمشتري مغبون لزيادة الثمن على قيمة الطعام في مكانه، والبائع مغبون لنقصانه عن القيمة في مكانه»(3)

ويشكل: بأن اختلاف مكاني المتبايعين لا إشكال في حصوله، كأن يكون المشتري من داخل البلد، والبائع من خارجه، كما لا إشكال في اختلاف قيمة المتاع في

ص: 84


1- ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) في الجواهر 23/44؛ حيث قال: (بل لو فرض تصور الغبن فيهما، كما إذا وقع البيع على شيئين في عقد واحد، وكان كل منهما بثمن معين، في أحدهما الغبن على البائع، وفي الآخر على المشتري، ثبت الخيار لهما معاً).
2- المكاسب 5/174.
3- المكاسب 5/(174-175)، ولم نتحقّق من هذا البعض.

مكانين، وإنما المهم، هل أن اختلاف مكاني المتبايعين يوجب اختلاف محل العقد أو لا؟

قطعاً لا؛ لأن البيع أمر واحد فيستحيل أن يقع في مكانين، فإما أن يقع في بلد البائع أو في بلد المشتري، فإن وقع في بلد البائع فهو المغبون خاصة؛ لأنه باعه بأقل من قيمته في بلده، وإن وقع في بلد المشتري كان هو المغبون؛ لأنه اشتراه بأكثر من قيمته في بلده، فلم يجتمع الغابن والمغبون.

نعم، لو كان المبيع في مكانين أمكن ذلك، ولكنه خلاف الفرض.

تفصيل المحقق الخوئي ومناقشته

الوجه الرابع: ما أفاده المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) من التفصيل في المقام بین كون المبنى في خيار الغبن الشرط الإرتكازي بالتساوي بين قیمتي الثمن والمثمن، وبين كونه «لاضرر»، فإن كان الأوّل نفی حصول الغبن لكل منهما؛ إذ لا يخلو الأمر من تخلّف الشرط وعدمه، فإن لم يتخلّف الشرط لم يحصل غبن أصلاً، وإن تخلّف الشرط كان المغبون خصوص من تخلّف الشرط في حقه، كأن أخذ أقل من قيمة ما أدّاه.

وإن كان الثاني أمكن اجتماع الغابن والمغبون، وذلك كما لو باع الحقّة من الخشب بدينار، وكانت قيمته الواقعية نصف دينار، واشترط المشتري عليه أن يكون من خشب داره، فالمعاملة ضررية على الطرفين؛ فإن البائع متضرر فيكون مغبوناً؛ لتوقف تسليم الخشب على تخریب داره، والمشتري متضرر؛ لأنه اشترى ما قيمته نصف دینار بدینار.(1)

ومما تقدم من الإشكال على المحقّق القمي (قدس سره) يتضح الإيراد عليه، بعد ملاحظة أن الضرر المنفي هو الضرر الحاصل من الشارع، فلو كان لزوم العقد الموجب للضرر منتسباً إلى الشارع لتمّ ما أفاده (قدس سره) ؛ فإن المعاملة ضررية عليهما، ولكن سبب الضرر

ص: 85


1- مصباح الفقاهة 6/332.

فيها غير منتسب للشارع؛ فإن البائع يعلم بتضرّره؛ لكون الشرط موجباً لخراب داره ومع ذلك أقدم على المعاملة، فهو أقدم على الضرر، فلا يكون منفياً ب- «لا ضرر».

جواب المحقّق الحائري والمناقشة فيه

الوجه الخامس: ما أفاده المحقّق الحائري (قدس سره) وحاصله: إن مالية الشيء ربما تختلف بحسب اختلاف المالكين وإن كانا في بلد واحد، فقد يكون ثمن الدواء المجلوب من الخارج في الصيدليات الرسمية بخمسة وعشرين ديناراً، ولكن ربما يأتي به الشخص بنفسه بقيمة عشرة دینار؛ لاعتبارات خاصة به، فإذا اشترى هذا الشخص الدواء من الصيدلية بعشرین دیناراً كان كل من البائع والمشتري مغبونين، أما البائع فلأن القيمة المتعارفة للدواء خمسة وعشرون، بينما باعه بعشرين، وأما المشتري فلأن قيمته بالنسبة إليه عشرة، بينما اشتراه بعشرين.(1)

ويرد عليه: أوّلاً: بالنقض بما لا يلتزم به فقيه، وذلك فيما لو كان نوع من الفرش يباع في سوق الفرش بخمسة وعشرين ديناراً، وقيمته عند شخص بعشرة دینار؛ لكونه متهماً بالسرقة، فينبغي لو اشترى هذا الشخص هذا الفرش من السوق بعشرين ديناراً أن يكون غابناً ومغبوناً.

وثانياً: بالحل، ويكون ذلك بمعرفة معيار الغبن؛ فإنه (قدس سره) قال في معیار الغبن ما لفظه: «الانتقال من القيمة العليا الى السفلى وإن كان بواسطة القبض، لا صرف إنشاء المعامله، ولكن يكفي في غبنية المعاملة بالنسبة إلى المشتري حدوث الضرر من ناحية القبض الذي هو من توابع المعاملة»(2)، فجعل القبض من توابع المعاملة، فيصدق الغبن لو حصل الضرر من ناحيته.

ص: 86


1- الخيارات للشيخ الأراكي /200.
2- الخيارات للشيخ الأراكي /200.

ولكن، أوّلاً: لا بدّ من معرفة رتبة الشرط العقلائي الارتكازي في المعاملة.

وثانياً: لا بدّ من معرفة محل شرط القبض في المعاملة شرعاً وعُقَلاءً.

أما [بيان معرفتهما] فالمدار على الغبن وعدمه، هو تساوي قيمة الثمن والمثمن وعدمه، وهو في رتبة متقدمة على البيع، فيشترط وقت إنشاء البيع أن لا يختلفا في القيمة، فإن وقع البيع مع اختلاف القيمة حصل الغبن، وإن وقع مع التساوي لم يحصل الغبن، فإن المتعلِّق متأخر رتبة عن المتعلِّق دائماً، فلا بدّ من حيث الرتبة، ومن حيث الوجود الخارجي من حصول التساوي أو الاختلاف قبل البيع، ويكون البيع واقعاً عليه.

فهذه هي مرحلة ملاك الغبن وعدمه، فلو كان القبض من متممات الملكية لكان لكلامه (قدس سره) وجه، ولكنه ليس من متممات الملكية، ولا من متممات البيع، بل هو من الآثار الواجبة المترتبة على البيع، فبمجرد تحقّق البيع تتحقق الملكية، ويحصل النقل والانتقال، فلو أتلف البائع المبيع بعد البيع، أو أتلف المشتري الثمن كان ضامناً بالضرورة، وهذا الضمان برهان على تحقق الملكية، وباتفاق المحققين من الفقهاء - إلا من شذ وندر - على أن وجوب الإقباض من باب وجوب ردّ مال الغير، بمعنى أنه بمجرد تحقّق المعاملة يكون المال الذي بيد البائع مال الغير ويجب عليه تسليمه له، فإن لم يكن متعدّياً في تأخيرة إلى أن حصل الغبن فيده يد أمانة، وإن كان متعدّياً كانت يده يد عدوان.

والنتيجة: أن ارتفاع القيمة وقت القبض لا يعقل أن يجعل البيع غبنياً وعليه فالغبن في مثال الدواء إنما يكون على البائع خاصة؛ لأن قيمته وقت البيع تساوي خمسة وعشرين وباعه بعشرين، وكذلك مثال الفرش، فلا يتمّ ما أفاده (قدس سره) .

تصوير المحقّق الأصفهاني والرد عليه

الوجه السادس: ما أفاده المحقّق الأصفهاني (قدس سره) قتل في ذيل قول الشيخ (قدس سره) :

ص: 87

«والأولى من هذه الوجوه»(1)، ونذكره بلفظه لوضوحه، قال (قدس سره) : «يمكن أن يقال: بفرض لزوم الضرر في كل من الطرفين في معاملة واحدة، فيما إذا كان قيمة الشيء منضماً أزيد من قيمته منفرداً، كمصراعي الباب، فإذا فرض أن قيمة المصراعين منضماً ستة دنانير مثلاً، وقيمة كل منهما منفرداً دیناران، فباع أحد المصراعين بثلاثة دنانير، فالمشتري مغبون بدينار واحد، والبائع أيضاً مغبون بدينار واحد؛ لأن حيثية الانضمام زالت بهذه المعاملة، فنقصت قيمة المصراع الباقي على ملكه، ولعله أولى من جميع الوجوه المزبورة»(2)

ويرد عليه: ما أوردناه على المحقّق الحائري (قدس سره) ؛ فإن المدار في حصول الغبن على القيمة حين العقد، وعلى أي شيء وقع العقد، فقيمة أحد مصراعي الباب منفرداً واقعاً بدينارين، في السوق، وعند البائع والمشتري، ولا يعقل تغيّر قيمته الواقعية باختلاف النسب والإضافات، فعندما باعه بثلاثة دينار فالمغبون هو خصوص المشتري.

نعم، هذه المعاملة كانت منشأ لدخول الضرر على البائع؛ من جهة تنزّل قيمة المصراع الثاني الذي بقي عنده، وتنزّل قيمة جنس بسبب المعاملة على جنس آخر لا يعقل أن يوجب الغبن في المعاملة الواقعة.

فتمام الملاك ملاحظة القيمة السوقية بالنسبة لما وقع عليه البيع، وأما إيجاب المعاملة لتنزّل قيمة مال آخر فلا ربط له بالغبن فيها.

تصوير الفقيه السيّد اليزدي ومناقشته

الوجه السابع: ما أفاده الفقيه السيّد اليزدي (قدس سره) ؛ حيث قال: «وأولى من ذلك أن يقال: إن الغبن أعم من أن يكون من جهة التفاوت في المالية عرفاً في حدّ نفسه، بأن

ص: 88


1- المكاسب 5/175.
2- حاشية المحقّق الأصفهاني على المكاسب 4/264.

يكون قيمته في حدّ نفسه أزيد من الثمن، وأن يكون من جهة لزوم ضرر على المغبون، من أجل المعاملة وإن كانت بثمن المثل، كما لو فرض أن له أمة تسوى عشرة توامين، ولها ولد يسوى خمسين، فباع الأمة بدون الولد بعشرين، وفرض أن الولد يموت بالتفريق بينه وبين أمه، فهذا البيع يوجب الضرر على البائع وإن كان بيعه بأزيد من ثمن المثل، فكأنه باع ما يسوى ستين بعشرين، والمشتري مغبون من جهة اشترى ما يسوى عشرة بعشرين، فكل منهما مغبون.(1)

وهذا الوجه مقبول على مبنی دون مبنی؛ فإن في ثبوت الغبن مبنيين كما تقدّم، مبنى الشرط الارتكازي، ومبنی «لاضرر»، ولا يأتي هذا الوجه على المبنى الأول الذي هو مقتضى التحقيق؛ فإن مفاده أن يلاحظ ما وقع عليه العقد، فيشترط فيه أن لا يكون بين قيمته الواقعية وقيمته المفروضة تفاوت فاحش، فالضرر الموجب للغبن هو الحاصل من هذا التفاوت، وأما الضرر الأجنبي - وإن حصل بسبب المعاملة - فلا ربط له بالشرط الارتكازي، فلا يوجب الغبن.

وعليه فالبيع المذكور في المثال غبني بلا إشكال؛ لأنه على خلاف الشرط الارتكازي، ولكن المغبون هو خصوص المشتري، وأما البائع فليس بمغبون وإن تضرر من أجل المعاملة؛ إذ ليس من شروط العقلاء الارتكازية أن لا ينشأ أي ضرر من المعاملة، بحيث يكون الضرر معلولاً لها وإن لم يكن من ناحية التفاوت في القيمة، لكي يكون البائع مغبوناً أيضاً، أي أن الضرر المعلول للمعاملة لا ربط له بالشرط الارتكازي.

فهذا الوجه على هذا المبنى غير تام قطعاً.

وأما على المبنى الآخر وهو ثبوت الخيار بقاعدة نفي الضرر، والضرر يثبت

ص: 89


1- حاشية المكاسب للسيّد 2/(538-537).

بالحكم باللزوم فنقول: بأن للبائع حالتين؛ إذ تارة يعلم بأن انفصال الولد عن أمه موجب للوقوع في هذه الخسارة، وأخرى يجهل ذلك، مع علمه بأن للولد لوحده قيمة، وله مع أمه قيمة، فإن كان يعلم بذلك كان إقدامه على البيع إقداماً على الضرر، وقد تقدّم عدم جریان «لاضرر» مع الإقدام عليه.

وإن كان يجهل ذلك كان لما أفاده السيّد (قدس سره) وجه، ولكن الشأن في تصوّر هذا الجهل؛ فإنه لا يتصوّر - عقلاء - أن يجهل العاقل وقوع هذه الخسارة عند فصل الابن عن أمه.

والحاصل: أنه إن كان يعلم وأقدم عليه فهو خارج عن «لاضرر»، وإن لم يكن يعلم وكان منشأ الضرر نفس المعاملة كان كلام السيّد (قدس سره) تاماً على مبنى «لا ضرر».

هذا تمام الكلام في مسألة اجتماع الغابن والمغبون، وكل ما ذكر من الوجوه في تصويره مدخول، والحق فيها استحالة حصول الغبن على كل من البائع والمشتري في معاملة واحدة.

[مسألة]: وقت تحقق خيار الغبن

اشارة

اختلف الفقهاء في وقت تحقق خيار الغبن على قولين:

القول الأول: وقت وقوع العقد.

القول الثاني: وقت ظهور الغبن.

وبعبارة أخرى: اختلفوا في أن ظهور الغبن هل هو شرط شرعي الحدوث الخيار، أو كاشف عقلي عن ثبوته من حين العقد؟ وجهان، ذهب إلى كل فريق من الفقهاء.

وتحقيق المسألة يقتضي البحث في جهات ثلاث:

الجهة الأولى: مقتضى الأصل العملي.

الجهة الثانية: مقتضى الأصل اللفظي.

ص: 90

الجهة الثالثة: مقتضى الأدلة الخاصة.

مقتضى الأصل العملي

أما الجهة الأولى فمقتضى الأصل العملي كون مبدأ الخيار وقت ظهور الغبن؛ إذ لو فسخ أحد الطرفين العقد قبل ظهور الغبن لشكّ في نفوذه، ومقتضى الاستصحاب بقاء الملك وجميع آثار العقد، ولم يخرج من تحت هذا الأصل إلا ما بعد ظهور الغبن.

مقتضى الأصل اللفظي

وكذلك الحال بالنسبة إلى الجهة الثانية؛ فإن مقتضى الأصل اللفظي، وهو عموم ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) لزوم العقد إلا فيما خرج بالدليل، فقبل ظهور الغبن لم يحرز المخصص فنتمسك بالعموم، وأما بعد ظهوره فنقطع بخروجه من تحته.

مقتضى الأدلة الخاصة
اشارة

وأما مقتضى الأدلة الخاصة فيقتضي أن نلاحظها جميعها وهي ستة أدلة:

الدليل الأول: الإجماع

فإنه لا شك في قيامه على ثبوت خیار الغبن، بل ثبوته من ضروریات الفقه، وبما أنه دلیل لبي فيقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو ما بعد ظهور الغبن فتكون نتيجته نتيجة الأصلين: اللفظي والعملي.

الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾

الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾(2)

وتقريب الاستدلال بها: أن أكل مال الطرف الآخر في مورد الغبن بعد الفسخ من أكل المال بالباطل، ومقتضى ذلك أن يكون مبدأ الخيار من حین وقوع العقد؛ لأن الفسخ يؤثر من زمان وقوع العقد، فيتحقق من حينه أكل المال بالباطل.

ص: 91


1- سورة المائدة /1.
2- سورتا البقرة /188 والنساء /29.

إن قيل: بأن أكل المال بالباطل لا يكون إلا بعد الفسخ، والفسخ بعد الالتفات، فيكون مبدأه عند ظهور الغبن.

قلنا: بأن منشأ الأكل بالباطل أن له حق الفسخ، والقاعدة أن الفسخ إذا حصل عند تحقّق الغبن - وهو زمان وقوع العقد - یكون أكل المال بالباطل من حينه، فيكون مبدأ الخيار بحسب الآية عند العقد.

الدليل الثالث: قوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾

الدليل الثالث: قوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾(1)

والتراضي إما أن يكون تقديرياً، أو تحقيقياً فعلياً، ومقتضى الآية على التقدیرین ثبوت الخيار من حین وقوع العقد، أما على الأول - كما ذهب إليه العلامة (قدس سره) -؛ فلأن المغبون لو التفت إلى الغبن لم يرض بالتجارة، ونفس هذه الحيثية موجبة للخيار.

وأما على الثاني؛ فلأن أيّاً من الطرفين لم يرض بالغبن.

نعم، لا يخفى أن هذه الأدلة كانت محل إشكال في محل بحثها، ولكن مقتضى التحقيق أن تلاحظ النتيجة على جميع الأدلة.

الدليل الرابع: رواية تلقي الركبان

فإن فيها «فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق»(2)، فالقضية المأخوذة في الرواية شرطية، والأصل في العناوين المأخوذة في القيود والشروط هي الموضوعية، فيكون مقتضى ذلك أن لا يثبت الخيار قبل الدخول في السوق، ومما لا شك فيه أنه ليس المراد من شرطية الورود في السوق أن يكون شرطاً تعبدياً من حيث هو، بل هو شرط من حيث إن السوق مركز للتجارة وفيه ينكشف الغبن، فيكون مقتضى الرواية أن مبدأ الخيار هو وقت ظهور الغبن.

ص: 92


1- سورة النساء /29.
2- تقدم تخريجها عن سنن الترمذي 2/346.

وفيه: أن المقدمة الثانية - وهي أن العناوين المأخوذة في الشروط بنحو الموضوعية - محل إشكال؛ فإن الأصل كذلك ما لم يكن العنوان مأخوذاً بنحو الطريقية، كما في قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾(1)؛ فإن تبيّن العنوانین - الأبيض والأسود - لا من حيث ذاتهما، بل بما هما طريق، ومن حيث كشفهما عن دخول الفجر، ولهذا لو لم يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود إلا بعد طلوع الفجر الصادق، فلا إشكال في دخول الوقت من حينه، فالغاية هي التبيّن، ولكن التبيّن جهة طريقية، وتمام الموضوع ذلك المتبيَّن.

وكذلك الحال في ما نحن فيه؛ فإن شرط الخيار دخول السوق فيعلم حال القيمة، فيكون طبع المطلب أن دخول السوق كاشف وطريق، لا أنه موضوع، وإنما الموضوع هو المنكشف، وهو الغبن الحاصل حين العقد، فيكون مبدأ الخيار من حين العقد.

والحاصل: أن مقتضى ظهور الرواية هو كون دخول السوق طريقاً لانكشاف الغبن، والعبرة بالمنكشف، فينسلخ العنوان المأخوذ فيها عن الموضوعية، فتكون النتيجة أن مبدأ الخيار من حين العقد.

وإن أبيت هذا الظهور، فلا أقل من أن تكون مجملة، فيسقط هذا الوجه من أصله.

الدليل الخامس: قاعدة لا ضرر

فإن حكم الشارع بلزوم العقد الغبني ضرري فيرتفع بالقاعدة، وبناء عليه يثبت الخيار من حين الحكم بالضررية، وهو وقت وقوع العقد؛ لأن الإهمال في حكم العقد محال، فإما أن يكون لازماً أو جائزاً، والمفروض أن القاعدة حاكمة على عموم

ص: 93


1- سورة البقرة 187.

﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1)، وبما أن ضررية اللزوم من حين العقد، لا من زمان ظهور الغبن، فيثبت الخيار من حين العقد.

الدليل السادس: الشرط الارتكازي عند المتعاملين

فإن الشرط - بحسب الارتكاز العقلائي في العقد - قائم على عدم التفاوت الفاحش بين العوضين، ولا شك أن هذا الالتزام حاصل عند تحقق العقد، لا عند ظهور الغبن، وإنما ظهوره كاشف عن ثبوت ما ينافيه، فيثبت الخيار من حين وقوع العقد.

فتحصل من ذلك كله:

1- أن مقتضى الأدلة الخاصة - ما عدا الإجماع - هو ثبوت الخيار من حين العقد.

2- ومقتضى الأصلين اللفظي والعملي ثبوته من حين ظهور الغبن.

محاولة الشيخ للجمع بين الكلمات

وقد رفع الشيخ(2) (قدس سره) الاختلاف بين الفقهاء بهذا التقريب:

أنه يمكن إرجاع القول الأول إلى الثاني، والثاني إلى الأول؛ فإن في باب الخيارات أمرين: أصل الحق، والسلطنة الفعلية التي يقتدر بها على فسخ العقد وإمضائه، فمن قال بأن زمان حدوث الخيار هو حين العقد فمراده ثبوت حق للمغبون، لو علم به لقام بمقتضاه؛ فإنه ثابت له قبل العلم، وإنما يتوقف على العلم إعمال الحق.

ومن قال بأن زمانه حين ظهور الغبن فمراده وقت تحقق السلطنة الفعلية؛ فإنها لا توجد إلا بعد ظهور الغبن لا حين العقد.

ص: 94


1- سورة المائدة /1.
2- المكاسب 5/177.
المناقشة في ما أفاده الشيخ في الجمع بين كلمات الفقهاء

وفي ما أفاده (قدس سره) إشكالان:

الإشكال الأول: في ما أفاده (قدس سره) من الجمع بين كلمات الفقهاء بحمل بعضها على كون المراد منها الحق، والأخرى على كون المراد منها السلطنة الفعلية، وتحقيقه يتوقف على إيضاح معنی كل من الحق والسلطنة الفعلية اللذين جعلهما الشيخ (قدس سره) أمرين متغایرین، سبب الأول منهما العقد، وسبب الآخر ظهور الغبن فنقول:

إن للسلطنة في مرحلة الثبوت وجهين:

الأول: السلطنة الاعتبارية، بأن يعتبر المعتبِر السلطنة على أمر ما لشخص آخر.

الثاني: السلطنة التكليفية والوضعية، والأولى بمعنی جواز التصرف تكليفاً، والثانية نفوذ التصرف وضعاً.

وكلا المعنيين موجودان في مرحلة الإثبات أيضاً؛ فإن الشارع جعل لذي الحق السلطنة على إمضاء العقد وفسخه، وجعل للمكلف سلطنة تكليفية في جميع موارد حكمه بجواز التصرف، سواء أكان للمالك، أم للأجنبي بعد إذن المالك؛ بمقتضى «فلا يحلّ لأحدٍ أنْ يتصرف في مال غيره بغير بإذنه»(1)، كما جعل سلطنة وضعية للمالك والولي والوكيل، ومعناها نفوذ تصرفهم، فينفذ بيعهم ومصالحتهم.

والنسبة بين السلطنة الاعتبارية والسلطنة التكليفية والوضعية عموم وخصوص من وجه، فتفترق السلطنة الاعتبارية عنهما في المالك أو ذي الحق المحجور عليه لسفه أو إفلاس مثلاً؛ فإن الأول يملك المال، والثاني صاحب حق، فلهما سلطنة اعتبارية، ولكن ليست لهما سلطنة تكليفية ولا وضعية، فلا يجوز لهما البيع ولا الصلح عليه، ولو باعا أو صالحا لم ينفذا.

ص: 95


1- وسائل الشيعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال، معتبرة أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي.

وتفترقان عنها في الوليّ على الصبي والمجنون؛ فإن له السلطنتین - التكليفية والوضعية - على مالهما، فيجوز له إجراء المعاملات الناقلة وتكون نافذة، وليست له سلطنة اعتبارية؛ فإنه لا يملك المال، بل يملكه الصبي والمجنون.

وتجتمع الثلاث في موارد الملك والحق للبالغ العاقل غير المحجور عليه؛ فإن له سلطنة اعتبارية، وهي حقيقة الحق، ويجوز له التصرف، وينفذ وضعاً.

فالحق - عند عمدة القائلين به - سلطنة اعتبارية، فلمن حجّر أرضاً سلطنة عليها، وجواز التصرف تكليفاً، ونفوذه وضعاً لا ينفكان عن هذا الحق، فكما أن من آثار الملك السلطنة التكليفية والوضعية، فكذلك هما من آثار الحق، فلكل ذي حق أن يتصرف في متعلَّق حقه، ولو تصرّف فيه بشيء من الأمور الاعتبارية كان نافذاً.

ومن هذا تتضح المناقشة في ما أفاده الشيخ (قدس سره) من أن الحق يحصل من حين العقد، ولكن السلطنة الفعلية من حين ظهور الغبن؛ فإن السلطنة الفعلية - سواء أريد منها السلطنة الاعتبارية أو التكليفية أو الوضعية - هي عين الحق؛ فإن الحق هو سلطنة ذي الحق على متعلَّق الحق اعتباراً والسلطنة التكليفية والوضعية أثران له غیر منفكین عنه، إلا في موارد الحجر لصغر أو سفه أو إفلاس.

وبعبارة أخرى: إن كان مراد الشيخ (قدس سره) أن الحق يحدث من حين العقد، ولكن السلطنة الاعتبارية تحصل من حين ظهور الغبن، فما هو الحق الذي وجد إذن، وذو الحق ليس له أمران: الحق، والسلطنة على متعلّق الحق اعتباراً، بل ليس له إلا أمر واحد وهو الحق، وهو نفس السلطنة الاعتبارية في هذه الموارد؟!

وإن كان المراد أن السلطنة الاعتبارية تحصل من حين العقد، ولكن جواز التصرف والنفوذ يحصلان من حين ظهور الغبن، فهو غير تام أيضاً، لاستلزامه تخلف الحكم عن موضوعه، وهو محال، فبمجرد أن يحصل الحق تثبت السلطنة التكليفية والوضعية، فيجوز تصرفه ویكون نافذاً.

ص: 96

نعم، هو [المغبون] حين العقد كان جاهلاً بحقه، والجهل لا ينفي وجوده، فهو كمن يملك شيئاً ويجهل أنه مالك له، فهو مملوك له فعلاً وواقعاً وتترتب عليه جميع الأحكام والآثار، وخيار الغبن هو السلطنة على الفسخ والإمضاء بمقتضى الأدلة، فيحدث عند تحقق العقد، ولكن المغبون الجاهل بالغبن لم يكن يعلم بحقه من الجواز التكليفي والنفوذ الوضعي، فيتوقف إعماله له على ظهور الغبن، فاختلط الأمر على الشيخ (قدس سره) بین السلطنة وإعمالها.

الإشكال الثاني: أن الحق هو نفس السلطنة الفعلية، وليست له مرتبتان، مرتبة القوة، ومرتبة الفعلية حتى يكون الحق - قبل ظهور الغبن - في مرتبة القوة، ثم بعد ظهوره يكون في مرتبة الفعلية.

نعم، الاستفادة من السلطنة الفعلية لا تكون إلا بعد ظهور الغبن.

وحاصل الإشكال على الشيخ (قدس سره) : أن الحق إما أن يكون هو اعتبار كون صاحبه هو الأولى والأجدر والحقيق بمتعلّقه، فمن حجّر أرضاً هو الأولى بها من غيره، والشريك حقيق بالأخذ بالشفعة، فكل مَنْ له هذه الأولوية والحق فله السلطنة، ولا يمكن انفكاكهما، فعلى هذا تكون السلطنة الفعلية من لوازم الحق.

وإما أن يكون [الحق] هو السلطنة - كما هو أحد القولين - فالسلطنة الفعلية تكون عين الحق.

فالحق إما أن يكون ملازماً للسلطنة الفعلية، أو هو عينها، فتفكيك الشيخ (قدس سره) بينهما، وقوله إن الحق يحصل عند العقد، والسلطنة الفعلية عند ظهور الغبن لا وجه وجيهاً له.

فالذي يظهر - بعد الرجوع إلى كلمات الفقهاء - أن في المسألة قولين لا يرجع أحدهما إلى الآخر:

الأول: أن الخيار يحصل من حين العقد، وظهور الغبن كاشف عنه.

ص: 97

الثاني: أنه لا يحصل إلا بعد ظهور الغبن.

آثار الخيار عند الشيخ

ثم تعرّض الشيخ (قدس سره) إلى أن الآثار المجعولة للخيار على ثلاثة أقسام:

1- ما يترتب على السلطنة الفعلية، فلا يثبت إلا بعد ظهور الغبن كالسقوط بالتصرف.

2- ما يترتب على الحق، فيثبت من حين العقد كإسقاطه بعد العقد قبل الظهور.

3- ما يتردّد بين الأمرين كالتصرفات الناقلة.

كما صرّح بأن ما ذكر في الغبن جار في العيب.(1)

المناقشة في ما رتبه الشيخ من الآثار

وأما ما رتبه الشيخ (قدس سره) من الآثار المجعولة على الخيار، فبعضها يترتب على السلطنة الفعلية، وآخر على الحق، وثالث يتردد بينهما ففيه:

أولاً: أنه يبتني على التفريق بين الحق والسلطنة الفعلية، ومع بطلان المبنى ينهدم البناء.

وثانيا: - بعد التنزّل عما تقدم - ينبغي ملاحظة ثمرات الخيار وأحكامها، وخلاصتها خمس:

الثمرة الأولى: جواز إسقاط الحق، فإن لكل ذي حق إسقاط حقه، فإن قلنا بأن الخيار يثبت من حين العقد - كما هو التحقيق؛ لكون اللزوم حين العقد ضررياً فيكون منفياً، ولكون الشرط الإرتكازي للمتبايعين عدم الاختلاف الفاحش في القيمة بين العوض والمعوض - فموضوع الإسقاط يثبت من حينه، ومع ثبوت الحق لذي الخيار يكون له إسقاطه.

ص: 98


1- المكاسب 5/(179-177).

وهذا الحكم ثابت حتى لو قلنا بمقالة الشيخ (قدس سره) من أن السلطنة الفعلية تثبت بعد ظهور الغبن؛ فإن الحق يثبت من حين العقد أيضاً، ولكل ذي حق إسقاط حقه.

وإن قلنا بأن الخيار لا يثبت إلا بعد ظهور الغبن، فإن قلنا بأن إسقاط ما لم يجب غیر ممكن حتى في صورة وجود المقتضي لم يصح الإسقاط قبل ظهوره؛ لأنه من إسقاط ما لم يجب.

وإن قلنا بكفاية تحقق المقتضي لنفي إسقاط ما لم يجب جاز الإسقاط بمجرد حصول الغبن وإن لم يظهر؛ لأن نفس الغبن مقتضٍ للخيار، وظهوره شرط لتحققه، والفرض أنه بمجرد وجود المقتضي يحصل حق الإسقاط، نظير من أعطى متاعه للغير عارية، فله بعد حصول العارية أن يسقط الضمان، والحال أن الضمان إنما يكون بعد التعدّي أو التفريط في العارية، وليس ذلك إلا لكون نفس العارية مقتضياً للضمان، وله الإسقاط بمجرد حصوله.

الثمرة الثانية: الإرث؛ فإن «ما تركه الميت من حق فلوارثه»(1)، والحكم فيه يبتني على اختلاف القولين، فإن قلنا بأن الخيار يحصل من حين العقد، فلو اشترى وكان مغبوناً ومات قبل ظهور الغبن انتقل إلى وارثه.

وإن قلنا بأن الخيار لا يحصل إلا بعد ظهور الغبن، فلو مات المغبون قبل ظهوره لم ينتقل لوارثه؛ لانتفاء موضوع الإرث حينئذٍ.

ولا أثر للقول بأن السلطنة الفعلية تحصل بعد ظهور الغبن؛ فإن المدار في انتقال الحق وعدمه على حصول الحق وعدمه.

الثمرة الثالثة: التلف؛ فإنه لو تلف متعلّق الخيار كان التلف ممن لا خیار له؛

ص: 99


1- رواية مرسلة عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ، أرسلها صاحب المسالك 12/341 وغيره، ولم نجدها بهذا النص في الجوامع الحديثية، الشيعية والسنية.

لقاعدة كون التلف في زمان الخيار ممن لا خيار له، كما لو تلف الحيوان في الثلاثة الأيام؛ فإنه من مال البائع مع كونه مملوكاً للمشتري؛ لكون الخيار له دون البائع، ومعنى أنه من مال البائع أن العقد ينفسخ آناً ما، فيرجع الحيوان إلى البائع، فيتلف في ملكه.

وهذه القاعدة على خلاف الأصل الأولي؛ فإن الأصل أن يكون التلف من مال المالك، لا من مال غيره، فبما أنه اشترى الحيوان وانتقل إلى ملكه، فإذا تلف كان مقتضى القاعدة أن يتلف من ماله، ولكنها خصصت بالدليل الخاص، وفي هذا التخصيص أنظار ثلاثة:

الأول: أنه خاص بالحيوان المبيع في خيار الحيوان.

الثاني: عدم الاختصاص بخيار الحيوان وإن ورد النص فيه؛ لعدم الخصوصية؛ فإن منشأ الخيار هو تزلزل العقد، وهو سارٍ في كل معاملة خيارية، كما لا يختص بالمثمن، بل ينتقل إلى الثمن أيضاً.

والتحقيق في كل حكم يكون على خلاف القاعدة هو الاقتصار على مورد النص ما لم يحرز عدم الخصوصية، وأما مع احتمالها فلا يتعدّى عنه إلى غيره، وبما أن النص ورد في خيار الحيوان، ونحتمل الخصوصية فيه لا مجرد تزلزل العقد، لم يجز التعدي إلى غيره، فيتمسك في غيرها بالقاعدة الأولية؛ فإن مجرد احتمال الخصوصية يوجب الشك في إلغائها، فإذا كان العام محكماً والخاص مجملاً يتمسك بالعام في غير القدر المتيقن خروجه، وأما التمسك بالخاص في المشكوك، فهو ترك للحجة إلى اللاحجة وهو باطل بالضرورة.

ونتيجة البحث: أنا إذا خصصنا هذه الثمرة بخيار الحيوان فلا موضوع لها في خيار الغبن، فتكون سالبة بانتفاء الموضوع، وأما إذا عممناها إلى خيار الغبن وألغينا خصوصية خيار الحيوان - كما هو رأي غير واحد من الفقهاء - فالتلف في زمان الخيار

ص: 100

ممن لا خيار له، وهو الغابن، فإن قلنا بأن مبدأ الخيار من حين العقد، فلو تلف المبيع قبل ظهور الغبن كان من ماله، وإن قلنا بأن مبدأه من حين ظهور الغبن، وتلف قبل ظهوره كان من مال المغبون؛ لعدم الخيار حينئذ.

فاتضح أن هذه الثمرة تدور مدار أمرين: التعميم لغير خيار الحيوان، ومبدأ خيار الغبن.

الثمرة الرابعة: أن عدّة من الفقهاء ذهبوا إلى عدم جواز التصرفات الناقلة ممن لا خيار له في مورد المعاملة الخيارية، فلا يجوز له البيع لو أراده؛ لاحتمال أن يعمل صاحب الخیار خیاره، والمبيع متعلّق لحقه.

وهنا بحثان، كبروي وصغروي.

أما الكبروي، ففي الخيار مسلكان:

الأول: أن الخيار متعلّق بالعقد، فلصاحب الخيار أن يفسخه.

الثاني: أنه متعلق بالعين، فلصاحب الخيار أن يردّها إلى ملكه.

فبناء على الثاني تكون القاعدة عدم جواز تصرف من لا خيار له؛ لأن لصاحب الخيار استرداد العين، وبتلفها يبطل مورد حق الرد.

وأما بناء على الأول - كما هو الحق - فالعقد باقٍ، فله أن يفسخه، فإن كانت العين موجودة ردّها، وإن كانت تالفة - حقيقة أو حكماً - انتقل إلى بدلها.

وأما الصغروي، فإنه إن قلنا بعدم جواز التصرف في ما انتقل إليه فالأمر في خيار الغبن يدور مدار تحقق الحق، فإن قلنا بأنه يتحقق من حين العقد لم يجز له التصرف من حينه، وإن قلنا بتحققه بعد ظهور الغبن فله التصرف قبل ظهوره؛ لعدم الخيار حينئذ.

فهذه الثمرة من ثمرات وجود حق الخيار كما هو ظاهر.

الثمرة الخامسة: سقوط خیار من له الخيار بالتصرف في المال.

ص: 101

وفي هذه الثمرة بحثان أيضاً، كبروي وصغروي.

أما البحث الكبروي، فإن سقوط الخيار بالتصرف تابع لكشفه عن الرضا بالمعاملة، فإن كان كاشفاً عن الرضا بها كان إمضاء ومسقطاً، وإن لم يكن كاشفاً عنه، أو صدر لا بقصد الإمضاء كان مقتضى القاعدة عدم سقوط الحق.

وبعبارة أخرى: إن الخيار يسقط بالكاشف عن الإسقاط، قولاً أو فعلاً، فإن كان التصرف كاشفاً عنه بحیث دلّ على إمضائه للمعاملة والرضا بها سقط، وإلا كان مقتضى القاعدة عدم السقوط.

نعم، قام الدليل الخاص - في خصوص خیار الحيوان - على سقوطه بمجرد إحداث الحدث فيه، سواء أقصد بالتصرف أمضاء المعاملة أم لا، فهو حكم تعبدي في خصوص خیار الحيوان، وأما في غيره فلم يقم هذا الدليل الخاص، ومقتضى القاعدة أن التصرف - بما هو - لا موضوعية له، بل إن دلّ على الإمضاء كان مسقطاً، وإلا فلا.

وأما الصغرى، فلو قلنا بأن التصرف مسقط للخيار مطلقاً حتى في خيار الغبن ولم يختص الأمر بخيار الحيوان، فالأمر في سقوط خیار الغبن بالتصرف يدور مدار ثبوت الحق، فإن قلنا بأن ثبوته من حين العقد، فالتصرف الحاصل بعده وقبل ظهور الغبن مسقط للخيار، وإن قلنا بثبوته بعد ظهور الغبن كان المسقط هو التصرف الحاصل بعد ظهوره.

نتيجة البحث: أن ما أفاده الشيخ (قدس سره) من الجمع بين كلمات الفقهاء غير قابل للقبول، كما لا يقبل ما أفاده (قدس سره) من التفريق بين وقت حصول الحق - وهو حين العقد - وبين وقت حصول السلطنة الفعلية - وهو حين ظهور الغبن - وحمل كلام الفقهاء قدس الله أسرارهم على إرادة ذلك؛ فإن الخيار هو نفس السلطنة على الفسخ والإمضاء، وهي - على القول بثبوته من حين العقد - موجودة من حين العقد إلا أنه لا يعلم بحصولها إلا بعد ظهور الغبن، لا أنها معدومة حينه وتوجد بظهور الغبن، ولا يخفى أن الجهل

ص: 102

بالحكم أو بالموضوع لا يؤثر في نفي الحكم وإثباته.

وعليه فإن قلنا بأن الخيار يثبت من حين العقد وإن لم يظهر الغبن، فيثبت الحق له من حين العقد، ويسقط بإسقاطه وإن لم يعلم به، بحيث لو قال بنحو التعليق: إن كان في المعاملة غبن فقد أسقطت خياري، أو قال: أسقطت كل خيار لي في هذه المعاملة، سقط الخيار قطعاً، ولا معنى للسلطنة إلا ذلك.

وما أفاده (قدس سره) من التفريق بين الثمرات، فبعضها مما يترتب على السلطنة الفعلية، وأخرى على العقد، وثالثة تتردد بين الأمرين، محل المنع أيضاً؛ فإن الثمرات جميعها تترتب على ثبوت الخيار، فإن قلنا بثبوته من حين العقد ترتبت كلها من حينه، وإن قلنا بثبوته بعد العلم بالغبن ترتبت كلها من حينه.

هذا تمام الكلام في هذه المسألة ونتيجة البحث: أن الحق من بين القولين هو القول بثبوت الخيار من حين العقد، وظهور الغبن ما هو إلا كاشف عن تحققه من السابق، سواء أتمسكنا لثبوت خيار الغبن بدليل نفي الضرر أم بالشرط الإرتكازي.

أما على الأوّل: فلأن الحكم بلزوم المعاملة الغبنية حين العقد ضرر على المغبون فينفى ب-«لا ضرر».

وأما على الثاني؛ فلأن وجود الغبن في المعاملة مخالف للشرط الإرتكازي، فيثبت للمغبون خيار تخلف الشرط من حين حصوله.

ص: 103

[مسألة]: مسقطات خيار الغبن

اشارة

يسقط هذا الخيار بأمور:

المسقط الأوّل: الإسقاط بعد العقد
اشارة

وله صور أربع؛ لأن الإسقاط تارة يكون قبل العلم بالغبن، وأخرى بعد العلم به، وعلى التقديرين تارة يكون مجانياً، وأخرى بالعوض.

الصورة أولى: إسقاط الخيار مجاناً قبل العلم بالغبن.

معرفة الحكم فيها يبتني على بيان فرضين:

الأوّل: أن نقول بأن الخيار يحصل من حين العقد، وقد أسقطه بعد العقد وقبل ظهور الغبن، فحقّ الخيار ثابت فعلاً، وإطلاق «لكل ذي حقّ إسقاط حقه»(1) شامل له.

الثاني: أن نقول بأن الخيار يحصل من حين ظهور الغبن، فإسقاطه قبل ظهور الغبن من صغريات إسقاط ما لم يجب؛ لعدم تحقّق الخيار حينئذٍ، فربما يستشكل في صحة الإسقاط من جهتين عقلية وشرعية:

ص: 104


1- هذه القاعدة متصيدة من الموارد وليست أيضاً وارداً بهذا اللفظ.

أما الجهة العقلية فتتضح بعد معرفة حقيقة الحال فنقول: بأن في حقيقة الإسقاط مبنيين:

أحدهما: أنه سبب لتحصيل السقوط، وذلك على مبنى التسبيب؛ لأن الإسقاط من الإيقاعات، وهي إنشائية، والإنشاء على مبنى التسبيب سبب الحصول المسبب، فالإسقاط سبب للسقوط.

والآخر: أن الإسقاط عبارة عن اعتبار السقوط، لا إيجاده، ويبرزه بقوله: أسقطت خياري.

وعلى كلا المبنيين تكون رتبة السقوط متأخرة عن رتبة الثبوت، فما لم يكن الشيء ثابتاً لا يمكن إسقاطه، وبما أن رتبة السقوط متفرعة على رتبة الثبوت، فكذلك رتبة الإسقاط متفرعة على رتبة الثبوت، وبما أنه لا يعقل السقوط قبل الثبوت لم يعقل الإسقاط قبله أيضاً، وإلا يلزم التفكيك بين السبب والمسبب؛ إذ سيقع الإسقاط من الآن ولا يحصل السقوط إلا بعد تحقق الثبوت.

ویندفع الإشكال: بأن هذه القاعدة العقلية وإن كانت ثابتة في التكوینیات بلا إشكال، فلا يعقل الإعدام قبل الوجود، ولا انفكاك الأسباب التكوينية عن مسبباتها إلا أن قياس الاعتباریات عليها مع الفارق؛ فإن من المعقول أن تنفك الأسباب الاعتبارية والشرعية عن مسبباتها، فيعتبر السقوط قبل ظهور الغبن، ولكن لا يتحقق السقوط إلا بعد ظهوره، فانفكاك الاعتبار عن المعتبر أمر معقول.

وأما الجهة الشرعية؛ فلأن الإسقاط حينئذ معلّق على ثبوت الخيار، والتعليق في الإنشاءات مبطل بالإجماع.

والجواب: أولاً: أن هذا الإجماع غیر كاشف عن رأي المعصوم؛ الاحتمال استناده إلى الوجه العقلي المتقدم.

وثانياً: سلّمنا الإجماع إلا أنه دلیل لبّي لا إطلاق له، فيقتصر فيه على القدر

ص: 105

المتيقن، وهي الموارد التي يعلّق فيها الإنشاء على ما لا يتوقف عليه تحقق مفهومه، كما لو علّق الإيقاع على مجيء زيد من السفر، وأما في الموارد التي يتوقف فيها تحقق مفهوم الإنشاء على المعلّق عليه فلم ينعقد الإجماع، كما لو علّق طلاق هند على كونها زوجته، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن الإسقاط معلّق على ثبوت الحق، وهو مقوّم له.

وأجاب الشيخ (قدس سره) عنه أيضاً: بأن تحقق السبب المقتضي للخيار، وهو الغبن الواقعي، كاف في جواز إسقاط المسبب قبل حصول شرطه، وهو ظهور الغبن.(1)

مناقشة المحقق الخوئي للشيخ قدس سرهما وردها

وأورد المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) على الشيخ (قدس سره) : بأن السبب إما أن يكون تام التأثير، بحيث يؤثر في المعلول بالفعل، فيكون الخيار ثابتاً بالفعل، فهو خلف الفرض، وإما أن لا يكون تاماً بل مشروطاً بظهور الغبن فيكون الإسقاط معلّقاً؛ إذ كان قبل الثبوت.(2)

ولكنه لا يرد على الشيخ (قدس سره) ؛ لأن دلیل محذور التعليق هو الإجماع، والقدر المتيقن منه ما لم يتحقق أصل السبب، وأما بعد حصول السبب وإن لم يكن تاماً فلا محذور فيه، ومثّلوا لذلك بإبراء المالك للودعي والمستعير عن الضمان - لو فرّطا في الحفظ - قبل أن يحصل التعدّي والتفريط، والإبراء وإن كان معلّقاً إلا أنه جاز لكفاية تحقق أصل المقتضي وهي العارية والوديعة.

وكما لو أسقط الموجب جميع خياراته في حال الإيجاب قبل تحقق القبول، فقال: بعتك المتاع على أن لا يكون لي خیار؛ فإنه جائز على رأي الشيخ (قدس سره) ؛ لخروج هذه الموارد - التي وجد فيها المقتضي للحق ولم يحصل الشرط - عن دائرة الإجماع، وبناء

ص: 106


1- المكاسب 5/182.
2- مصباح الفقاهة 6/339.

عليه فلا محذور في إسقاط خيار الغبن بعد العقد وقبل ظهور الغبن.

[إن قلت]: بعدم الدليل على هذا الإسقاط.

[قلت]: إن كان المراد [من] نفي الدليل مطلقاً ففيه:

أن سيرة العقلاء قائمة على الإسقاط قطعاً في ما إذا تحقق السبب ولم يتحقق الشرط.

بل إن دائرة السيرة العقلائية أوسع من ذلك، بحيث هي قائمة حتى في ما لو لم يتحقق السبب، كما لو قال أحدهما للآخر: أسقطت جمیع خياراتي في جميع المعاملات الصادرة مني معك في هذه السنة.

وإن كان مراده من عدم الدليل عدم وجود هذا النص «لكل ذي حق إسقاط حقه»، فهو صحيح، إلا أنها قاعدة متصيدة من موارد متعددة؛ وأن أصل إسقاط الحق على وفق القاعدة، وقامت عليه السيرة، ولم يمنع منه مانع عقلي ولا شرعي؛ لعدم تمامية الإجماع في المقام.

الصورة الثانية: إسقاط الخيار مجاناً بعد ظهور الغبن.

وفيها صورتان:

الأولى: أن يسقط خياره بعد ظهور الغبن باعتقاد أن الغبن بمقدار معيّن كالمئة مثلاً فصادف اعتقاده الواقع، أو كان الغبن أقلّ مما اعتقده.

ولا إشكال في هذه الصورة حتى إشكال التعليق؛ لعدمه؛ إذ كان الإسقاط بعد ظهور الغبن وثبوت الخيار.

الثانية: الصورة الأولى، ولكن انكشف له أن الغبن أزيد مما اعتقد بنحو فاحش، ففيها وجهان:

الوجه الأول: عدم سقوط الحق؛ لأن ما قصد إسقاطه لم يقع، وما وقع لم يقصد إسقاطه.

ص: 107

الوجه الثاني: سقوط الخيار بمقدار الحدّ الذي اعتقده دون الزائد.

ويرد على الثاني: أن ما ذكر في التعليل إنما يصح في الموارد التي تتعدد فيها مراتب الوجود، فيسقط بمقدار المرتبة التي قصدها، كما لو كان له دين على شخص وكان يعتقد أنه عشرة دراهم فأسقطها، فتبيّن أنه عشرون درهماً، فهنا يسقط من ذمته بمقدار العشرة ويبقى الباقي، وأما ما نحن فيه فليس كذلك؛ فإن خيار الغبن وإن كان متعلّقه متعدّداً إلا أنه حق واحد لا تعدّد فيه كي يتبعّض، فإما أن يسقط وإما أن يبقى.

وأما الوجه الأول فتحقيق الأمر فيه أن يقال:

بأن إسقاط الحق يتصور بنحوين:

النحو الأول: أن يسقط الحق بداعي كون الغبن بهذا المقدار المعیّن الذي كان يعتقده.

النحو الثاني: أن يسقط الحق بقيد أن يكون الغبن بهذا المقدار المعيّن.

أما على الأول فلا إشكال في تحقق الإسقاط؛ لثبوت الإسقاط وتخلّف الداعي، ولا محذور في تخلّفه؛ فإن الداعي ليس بقید.

وأما على الثاني فلم يحصل الإسقاط أصلاً؛ لكونه مقيّداً ولم يحصل القيد، فينتفي المقيّد بانتفاء قيده.

الصورة الثالثة: إسقاط الخيار بعوض قبل العلم بالغبن.

فإن قلنا بأن الخيار يحصل من حين العقد فلا إشكال فيه؛ لثبوت الحق والمصالحة عنه بالعوض.

وإن قلنا بأن الخيار لا يحصل إلا بعد ظهور الغبن فيشكل الإسقاط؛ لعدم ثبوت الحق حينئذٍ، فلم يكن للعوض الذي أخذه ما بإزاء، فيكون من صغريات أكل المال بالباطل.

ص: 108

جواب الشيخ عن الإشكال ورَدّه

وقد أجاب عنه الشيخ (قدس سره) بقوله: «فالأولى ضم شيء إلى المصالح عنه المجهول التحقق، أو ضم سائر الخيارات إليه بأن يقول: صالحتك عن كل خيار لي بكذا، ولو تبيّن عدم الغين لم يقسط العوض عليه؛ لأن المعدوم إنما دخل على تقدير وجوده، لا منجزاً باعتقاد الوجود»(1)

إلا أنه غير تام؛ لأنه لا يوجد عندنا إلا عقد واحد، وإسقاط واحد، فإن كان الإسقاط لأجل أن يكون العوض في مقابل الضميمة والحق المجهول معاً، بمعنى تقسيط العوض عليهما عاد الإشكال، لأن قسماً من العوض كان في مقابل الحق المجهول.

وإن كان لأجل جعل العوض في مقابل تلك الضميمة فقط، فهو خلاف الفرض؛ لأن الفرض أنه لم يُنشأ كذلك، وإنما أنشيء التقسيط بحيث يكون في مقابل الضميمة والحق المجهول.

والحاصل: أن جعل بعض العوض في مقابل الحق المجهول باطل كجعل العوض كله في مقابل الحق المجهول.

جواب المحقّق الخراساني والسيّد اليزدي عن الإشكال

وقد تخلّص المحقّق الخراساني (قدس سره) عن الإشكال بقوله: «يمكن أن يقال: بأن العوض مثل هذا الصلح إنما يكون بإزاء نفس الصلح، لا بإزاء المصالح عنه المجهول»(2).(3)

وأما السيّد الفقيه اليزدي (قدس سره) فقد تخلّص عن الإشكال: بأن العوض في الحقيقة

ص: 109


1- المكاسب 5/182.
2- حاشية المحقّق الخراساني (قدس سره) /188.
3- يأتي كيفية هذا الإنشاء في ما بعد تحت عنوان «بقي أن نقول» في صفحة 114.

مقابل الحق المحتمل بوصف أنه محتمل، وفسّره بمقابل احتمال الحق في الواقع، ثم فسّره أيضاً بأن العوض في مقابل تجاوزه عن الحق المحتمل(1)، فيكون أخذه العوض ليس في مقابل الحق المجهول، بل في مقابل التجاوز عن الحق المجهول، فيؤول إلى كلام المحقق الخراساني (قدس سره) ، وحاصل كلامهما قدس سرهما: أن العوض في مقابل الفعل - صلحاً كان أم إسقاطاً - لا في مقابل الحق.

إشكال المحقّق الأصفهاني على السيّد اليزدي والمحقّق الخراساني

وقد أورد عليهما المحقّق الأصفهاني (قدس سره) بوجهين، وتوضيحهما:

الوجه الأول: أن العوض إما أن يكون في مقابل الحق المحتمل - كما يظهر من العبارة الأولى للسيّد (قدس سره) - فهو باطل؛ لأن الحق المجهول غير قابل للمعاوضة، والمبادلة بالعوض، فيكون العوض في مقابله أكلاً للمال بالباطل.

وإما أن يكون في مقابل احتمال الحق [- العبارة الثانية للسيّد -]، فهو باطل أيضاً؛ لعدم كون الاحتمال ذا مالية ليكون مقابلاً بالمال، وليس قابلاً للإسقاط ليجعل المال في مقابل سقوطه.

وإما أن يكون في مقابل التجاوز عن الحق على فرض وجوده [- العبارة الثالثة للسيّد -]، ومرجعه إلى كون العوض بإزاء الصلح المعبّر عنه بالتجاوز فيرد عليه:

(أن الصلح الواقع بقوله «صالحتك بكذا» ملحوظ آلي، ومتعلقه ملحوظ استقلالي، فلو كان هو معوضاً في نفس هذا الإنشاء كان ملحوظاً استقلالياً، والجمع بين اللحاظین محال).

الوجه الثاني: أن المعرض هو الصلح بالحمل الشائع؛ لأنه ذو الأثر، لا الصلح الإنشائي بما هو مجرد استعمال اللفظ في المفهوم، والصلح بالحمل الشائع من الأمور

ص: 110


1- حاشية السيّد اليزدي (قدس سره) 2/544.

ذات التعلّق، ويستحيل وجود المفاهيم التعلّقية بدون متعلّقها، فإذا قال (صالحت) لا بدّ أن يكون هناك شيء صالح عليه، ومتعلّق الصلح في المقام هو سقوط الحق، وهو فرع ثبوته، ومع عدم ثبوته - كما هو الفرض - ينتفي سقوطه، فينتفي الصلح؛ لانتفاء متعلّقه الذي لا يحصل إلا به، فما أفاده العلمان من المصالحة على سقوط الحق بعوض مستلزم للمحال.(1)

الجواب عن إشكالي المحقق الأصفهاني

أما إشكاله الأول فجوابه: أن المعاني الآلية، أي التي تلحظ بلحاظ آلي تنحصر في قسمين:

الأول: العلم؛ فإنه وإن كان من المعاني الاسمية إلا أن له جهة طريقية وكاشفية عن المعلوم، فربما يلحظ بلحاظ آلي وطريقي، وربما يلاحظ بلحاظ موضوعي استقلالي، كما ذكر في مبحث قیام الأمارات مقام القطع الطريقي والموضوعي.

الثاني: المعاني الحرفية؛ فإنها على مبنى المحقّق الخراساني (قدس سره) قابلة لكلا اللحاظین؛ فإن المعنى إن لوحظ آلة وحالة لغيره كان معنى آلياً حرفياً كما في لفظ (من ، على)، وإن لوحظ مستقلاً كالاستعلاء والابتداء كان معنی اسمياً.

وعناوين المعاملات كالصلح والبيع والإجارة والمضاربة والشركة معاني اسمية، وليس فيها جهة طريقية حتى ينظر إليها نظراً آلياً، بل ينظر إليها استقلالاً ثم تنشأ، إلا أنها من المعاني ذات التعلّق، فتتوقف على وجود طرف تتعلّق به، وهذا أمر آخر غير كونها آلة إلى لحاظ الطرف، وقد دلّ على ذلك الوجدان والبرهان.

أما الوجدان، فلا شك أن من قال (صالحتك عن هذا بهذا) لم يجعل الصلح فانياً في الطرفين كفناء العلم في المعلوم، ومن أنشأ البيع لم يجعله كالمعنى الحرفي - عند

ص: 111


1- حاشية المحقّق الأصفهاني (قدس سره) على المكاسب 4/(276-275).

المحقّق الخراساني (قدس سره) - آلة للحاظ حال العوضين، بل هو معنی تعلّقي ينظر إليه بنظر استقلالي ثم ينشأ.

وعليه فالصلح - سواء أوقع معوّضاً أم تعلّق بالعوض - ملحوظ استقالاً، لا أنه يكون آلياً في صورة، واستقلالياً في أخرى حتى يلزم اجتماع اللحاظین.

وأما البرهان؛ فلأن الصلح من المعاني الإنشائية المستقلة، فليس هو من المعاني الحرفية الآلية، ولا من مقولة العلم والظن حتى يقبل الطريقية والاستقلالية، فما أفاده العلمان قدس سرهما من أن العوض في مقابل الصلح، أو في مقابل التجاوز عن الحق المجهول سالم عن إشكال لزوم اجتماع اللحاظین.

وأما إشكاله الثاني فممنوع نقضاً وحلاً:

أما النقض فبأمرين:

الأوّل: أنه (قدس سره) صرّح في تعليقه على كلام الشيخ (قدس سره) : (وأما إسقاط هذا الخيار بعد العقد قبل ظهور الغبن..)(1) بجواز إسقاط الحق المحتمل، أي الحق معلقاً على شرط ثبوته، حيث قال هناك:

(أما المحذور الثالث المختص بما إذا كان الظهور شرطاً فهو إنّما يرد إذا أسقط منجزاً فإنّه محال؛ حيث لا سقوط مع عدم الثبوت، وأمّا إذا أسقط معلّقاً على شرط ثبوته فهو إسقاط في ظرف الثبوت، وأمّا كفاية مجرد وجود المقتضي في الإسقاط فهو بظاهره غير صحيح؛ إذ الشيء لا ثبوت له قبل تمامية علته، ولا سقوط حقيقة قبل الثبوت)(2)

فنقول أن ما أفاده هناك يأتي بنفسه هنا، بمعنى أن الصلح وقع على الحق في

ص: 112


1- المكاسب 5/181.
2- حاشية المحقّق الأصفهاني على المكاسب 4/272.

ظرف ثبوته.

إلا أن يقال بأن ذلك الجواب لا يفيد هنا؛ لأنه تام على فرض عدم قدح التعليق في الإيقاعات، كما هو كذلك؛ لأن القدر المتقين من الإجماع هو العقود، والمفروض فيما نحن فيه وقوع الصلح معلقاً على شرط ثبوته وهو من التعليق في العقود.

ولكن يمكن أن يقال بأن الإشكال ليس من جهة مانعية التعليق في العقود شرطاً، بل الإشكال عقلي، من جهة عدم تعقّل وجود الأمر ذي التعلّق بدون متعلّقة.

وبعبارة الأخرى: لا شك أن الأثر يترتب على الإسقاط بالحمل الشائع، لا على الإنشائي المفهومي، ولا شك أنه من المعاني ذات التعلّق غير المستقلة في التحصّل، فكما أن الصلح يتوقف في وجوده على المتعلّق فكذلك الإسقاط، ولا طرف للإسقاط التعليقي إلّا الحق المحتمل، فما يقال فيه يقال في الصلح قبل ثبوت الحق.

الثاني: أن لازم إشكاله (قدس سره) أن يقول باستحالة جميع العقود والإيقاعات المعلّقة، مع أن الفقهاء قالوا بجواز المعلّق منها على أمر مقوّم لنفس العقد أو الإيقاع، فيمكن إنشاء الهبة معلّقاً على كونه مالكاً للعين الموهوبة، وإنشاء العتق معلّقاً على كون المعتق مملوكاً، ولا شكّ أن العتق والهبة من الأمور ذات التعلّق المتقوّمة بالمتعلّق، فإن لم يعقل الصلح على الحق المحتمل لم تعقل هبة العين محتملة الملكية، ولا عتق المحتمل حريته.

وأما الحَلّ، فالأمور ذات التعلّق قسمان:

الأوّل: الأمور التكوينية كالإضافة، وتحقّقها بدون وجود المتعلّق أمر مستحيل.

الثاني: الأمور الاعتبارية، وهي التي قوام وجودها بالاعتبار، كالصلح والبيع والهبة، فهي من الأمور ذات التعلّق إلّا أنها معان اعتبارية، وهي وإن كانت مما يتوقف على وجود المتعلّق أيضاً، ولكن لا يلزم وجوده خارجاً، فيكفي وجوده لا حقاً في الزمان المتأخر، بل يكفي مجرد احتمال وجوده، ولهذا جاز بيع ثمرة الشجرة قبل قطعها لمدة سنة أو سنتين؛ فإن ضمّ محتمل الوجود إلى المسلّم وجوده أمر معقول عقلاء

ص: 113

وشرعاً.

وعليه ففي ما نحن فيه يكفي نفس احتمال وجود الحق للتحقّق الصلح، والتجاوز عن الحق، والإسقاط، ولا يضره كونه من الأمور ذات التعلّق.

فبهذا يندفع ما أورده المحقّق [الاصفهاني] (قدس سره) على العلمين [الخراساني واليزدي] قدس سرهما ويسلم جوابهما عن الإشكال.

نعم، ما أورده على قول السيّد اليزدي (قدس سره) أوّلاً - [1] من جعل العوض في مقابل الحق المحتمل، أو [2] بإزاء احتمال الحقّ - تام.

بقي أن نقول: بأن جعل العوض في مقابل الصلح يحتاج إلى مؤونة في مقام الإثبات؛ فإن الظاهر من عباره (صالحتك عن كذا بكذا) هو كون العوض في مقابل المتصالح عليه، بمعنى أن المقابلة وقعت بين ما بعد (عن) وما بعد (الباء)، فحقّ العبارة لجعل الصلح مقابلاً للعوض أن يقول: أصالحك، وصلحي لك في مقابل كذا، ولا إشكال في الإنشاء بذلك ثبوتاً، ولا إثباتاً.

الصورة الرابعة: إسقاط الخيار بعوض بعد العلم بالغبن.

وفيها فروض:

الفرض الأوّل: أن يعلم بمقدار الغبن ويصالحه عليه، فلا إشكال في صحة ذلك.

الفرض الثاني: أن يعتقد بمقداره فيصالح عليه، ثمّ يتبيّن أن أزيد مما صالح عليه، وهو محل إشكال، وفيه أقوال:

القول الأوّل: بطلان الصلح.

القول الثاني: صحة الصلح ولزومه.

القول الثالث: صحيح غير لازم.

أما الأوّل: فلأن ما وقع لم يقصد، وما قصد لم يقع؛ فإنه قصد الصلح على أن

ص: 114

يكون الغبن بالمقدار الذي يعتقده وهو لم يقع، وما وقع وهو المقدار الزائد لم يقع عليه الصلح.

وأما الثاني: فلأن المورد من موارد تخلّف الداعي، ولا ضير فيه، بعد عدم القصور في مرحلة القصد والإنشاء؛ فإنه أسقط الحق الموجود في الواقع، وكان داعيه أن الغبن بمقدار معيّن في اعتقاده فتبيّن أنه أزيد منه، ولا محذور في تخلّف الداعي.

وبعبارة أخري: إنه أسقط حقه باعتقاد أن الغبن قليل فتبيّن أنه كثير، والاعتقاد لا يقيد الخيار الساقط؛ فإن الاعتقاد من مقارنات إنشاء إسقاط الخيار، والإنشاء لا يتقيّد بمقارناته، وبما أنه أسقط الحق فالساقط لا يعود، فيكون الصلح صحيحاً لازماً.

وأما الثالث: فلوقوع الغبن في الصلح كما وقع في البيع؛ إذ كان يعتقد بأن مقدار الغبن قليل فكان أكثر مما اعتقده بنحو فاحش، والغبن يوجب الخيار.

وقد قوّى الشيخ (قدس سره) الوجه الثالث(1)، ووجه القوة يتضح ببيان أمور:

الأوّل: أن العنوان الواقع على هذا الخيار معاملة من المعاملات، فإن كان صالحاً كان عقداً، وإن كان إسقاطاً كان إيقاعاً.

الثاني: أن العوض في الصلح أو في الإسقاط يختلف بحسب اختلاف مراتب الغبن، فإن كان الغبن بمقدار قليل كان العوض في الصلح عليه قليلاً، وإن كان كثيراً كان العوض بما بإزائه.

الثالث: أن عمدة ما استند إليه في خيار الغبن أمران: قاعدة نفي الضرر، وتخلف الشرط الارتكازي، وكلاهما ينطبقان على الصلح الغبني؛ فإن المغبون في البيع كان له خيار الغبن، فلما علم بالغبن واعتقد أنه بمقدار معيّن فصالح عليه بالعوض المناسب لاعتقاده فتبيّن له أن الغبن أكثر من العوض بمقدار فاحش كان له خيار

ص: 115


1- المكاسب 5/181.

الغبن في الصلح؛ إذ لو كان الصلح لازماً لكان الحكم بلزومه منشأ للضرر عليه، فينفى بقاعدة (لا ضرر).

كما أنه صالح بهذا العوض المعيّن بشرط أن لا يكون التفاوت بين العوض ومقدار الغبن فاحشاً، فإذا كان فاحشاً - كما هو الفرض - كان له الخيار لتخلّف الشرط.

فيتحصل من هذا وجه القوة في كون الصلح صحيحاً غير لازم، وفي الضمن يتضح بطلان القول بلزومه.

وأما وجه بطلان القول بالبطلان؛ فلأنه استند إلى قاعدة (ما قصد لم يقع، وما وقع لم يقصد)، وهي أجنبية عما نحن فيه؛ لأنه قصد الصلح يقيناً إلا أنه كان يعتقد بكون الغبن قليلاً فبان كثيراً، والاعتقاد لا يقيّد القصد، كمن صلّى خلف إمام باعتقاد أنه زيد فبان آخر، أو أعطى رجلاً مالاً باعتقاد أنه هاشمي فتبين كونه عامياً؛ فإن الاعتقاد لا يقيّد الصلاة ولا الإعطاء، فكلذلك في ما نحن فيه؛ فإن اعتقاده بكون الغبن قليلاً لا يقيد الصلح أو الإسقاط.

ثم إن الشيخ (قدس سره) أمر بالتأمل، وقد وجّهه المحقّق الإيرواني (قدس سره) بأمرين:

الأول: أن الصلح يدور أمره بين الصحة والبطلان، فإن كان الاعتقاد من المقارنات فلا يتقيّد به الصلح ولا الإسقاط، بحيث يكون الإسقاط متعلّقاً بالحق الموجود أيّاً كان سببه، صحّ الصلح بالعوض وكان لازماً، وإن كان مقيّداً له كما لو كان من الدواعي، بحيث تعلّق الإسقاط بالحق غير الموجود - وهو الخيار الناشئ مما اعتقده من الغبن - لم ينعقد الصلح وكان باطلاً.

الثاني: إن بناء المصالحة على المغابنة، فكيف يطرقه خیار الغبن؟(1)

ص: 116


1- حاشية المحقّق الإيرواني (قدس سره) على المكاسب 3/143.

أما الوجه الثاني فيرد عليه: أن الصلح - كما قال - مبني على المغابنة، لا على نحو الإطلاق، بل بحدّ لا يكون التفاوت فيه فاحشاً، فلو اعتقد بكون مقدار الغبن خمسة دنانير وصالحه على أربعة فبان سبعة فهو متسامح فيه، ولكن لو تبين أنه بمقدار عشرین دیناراً لم يبن الصلح عليه، فالعاقل لا يوقع الصلح بنحو الإطلاق وبأي مقدار، بل يلاحظ الحق، ويلاحظ مالية العرض المتصالح عليه، ثم يوقعه في ما إذا كان التفاوت مما يتجاوز عنه عادة.

وأما الوجه الأول ففيه: أن قوله بأن الداعي مقیّد، غير تام؛ فإن الداعي لا يقيد المدعو إليه، لأن القيد في رتبة المقيَّد، والداعي في رتبة متقدمة على المقيد، وما في الرتبة المتقدمة لا يقيّد ما في الرتبة المتأخرة، ولهذا لما كان الداعي لإنشاء المعاملة حصول النفع والربح، فإذا اتفق عدم حصولهما لم يفتِ فقيه ببطلانها.

وبعبارة أخرى: إن المعاملة أمر إنشائي، ولا يتصور الإهمال في الإنشاء؛ لكونه من الأمور الإرادية، فإما أن يترتب الغرض على الخصوصية المعينة فيقيد المعاملة بها، وإما أن يقوم بالجامع ويترتب عليه فينشئها مطلقة، وكل من الإطلاق والتقييد يحتاج إلى اللحاظ في مقام الثبوت، والبيان في مقام الإثبات، والدواعي ليست من المقيدات.

والذي يقوى في النظر أن أمر الشيخ (قدس سره) بالتأمل ليس لبيان الخدشة في ما قوّاه من صحة الصلح وعدم لزومه، بل للدقة في المطلب، وبيان ضعف القولين الآخرين.

المسقط الثاني: اشتراط سقوط الخيار في متن العقد
الإشكالات على اشتراط سقوط خيار الغبن في العقد
اشارة

وفي هذا المسقط ثلاثة إشكالات:

الإشكال الأول

وهو عام في جميع الخيارات، وحاصله: أن إسقاط الخيار في ضمن العقد إسقاط

ص: 117

ما لم يجب؛ لأن الخيار مطلقاً متأخر رتبة عن تحقق المعاملة، وتحقق المعاملة مطلقاً متوقف على تمامية الإيجاب والقبول، فيكون إسقاط الخيار في ضمن العقد - قبل تماميته - إسقاط ما لم يجب.

الإشكال الثاني

وهو مختص بخيار الغبن والرؤية، وهو إشكال الغرر الذي أفاده الشهيد (قدس سره) في الدروس(1)، وبيانه:

أنه يعتبر في البيع بیان صفات المبيع الدخيلة في ماليته ككون العبد كاتباً، ولو لم تُبَيّن لكان البيع غررياً؛ إذ تتغير قيمة المبيع بتغيّر هذه الصفات، فقيمة العبد الكاتب أعلى من قيمة العبد غير الكاتب، ومع عدم بیان الصفة لم تتعين القيمة فيحصل الغرر.

وعين هذا الإشكال يرد في ما إذا أسقط خيار الغبن في ضمن العقد؛ إذ يحصل الغرر أيضاً، لأنه لا يعلم - حينئذٍ - بمالية العرض الذي انتقل إليه في قبال ما خرج من كیسه، بخلاف ما إذا لم يسقطه؛ فإن وجود خيار الغبن مانع من الغرر.

وبعبارة أخرى: إن الجهل بأوصاف المبيع الدخيلة في المالية سبب الجهل بالمالية؛ لدوران مالية الأمتعة مدار أوصافها، فيكون البيع مع الجهل بها(2) غررياً، فالبيع - مع الجهل بالمالية أولاً وبالذات - غرري بطريق أولى، فإذا كان له الخيار ارتفع الغرر، دون ما لو أسقطه.

الإشكال الثالث

وهو مختص بخيار الرؤية، وهو التناقض بين أخذ الأوصاف في المبيع، وبين إسقاط خیار تخلّف الوصف عند الرؤية، وبيان ذلك:

ص: 118


1- الدروس 3/276.
2- بالمالية.

أنه يشترط في البيع عندما يكون المبيع غائباً أن يبيّن البائع أوصافه، وإذا رآه المشتري بعد البيع، فإن كانت أوصافه مطابقة لما ذكر لزم البيع، وإلا كان للمشتري خيار الرؤية، وهو خيار تخلّف الوصف، فإذا أسقط هذا الخيار لزم التناقض؛ إذ يفترض أنه اشتراه مبنيّاً على هذه الأوصاف، وذلك يقتضي وجودها وأخذها في المعاملة شرطاً، ومعنى إسقاط الخيار عند الرؤية في حال تخلّف الأوصاف إطلاق المعاملة بالنسبة إليها، وعدم أخذها فيها، وبين أخذ الوصف ورفضه تناقض بيّن.

[ويأتي الجواب عن هذا الإشكال في بحث خيار الروية إن شاء الله تعالى فانتظر].

الجواب عن الإشكال الأول

أما الإشكال الأول فالجواب عنه: بأن إسقاط ما لم يجب ينحل عند التحليل إلى أمرين، وذلك لأن ما أنشأه - وهو الإسقاط - فعلي، وما وقع - وهو سقوط حق - استقبالي، فيلزم إما تخلف المعلول عن العلة، والانفكاك بين السبب والمسبب، وإما الانفكاك بين المصدر واسمه، وهو آكد في الإشكال؛ لتعدد العلة والمعلول وجوداً، واتحاد المصدر واسمه وجوداً وإن تعدّدا اعتباراً، وبيان ذلك:

إما أن نقول بأن النسبة بين الإسقاط والسقوط هي نسبة العلة إلى المعلول، فينبغي أن يعرف هل قانون عدم الإنفكاك بينهما خاص بالتكوينيات أو عام لهما وللاعتباریات؟

ولا يخفى أن القول بانفكاك المعلول عن العلة - بعد تسليم العلية - غلط فاحش؛ فإن قانون العلية حكم عقلي عام للأمور التكوينية والاعتبارية غير قابل للتخصیص بواحد منهما، ولكن يمكن إنكار العلية في الاعتباریات، بمعنى أن تكون العلية والسببية فيها اعتبارية فيكون التخلّف أمراً ممكناً.

وعليه، فإن قلنا بأن الإنشاء - في الأمور الإنشائية والاعتبارية - لیس بعلة ولا

ص: 119

سبب انحلّ الإشكال.

وإن قلنا بكونه علة وسبباً، ف-(بعت) في البيع سبب لتحقق الملكية و (زوجت وأنكحت) سبب للزوجية فأيضاً ينحل الإشكال؛ لكون سببية الإنشاء للأمور الاعتبارية اعتبارية، فالمعتبر اعتبر (أنكحت) سبباً للزوجية، و (بعت) سبباً للنقل، والإسقاط سبباً للسقوط، وبما أنها اعتبارية فهي تدور مدار نحو الاعتبار، فيمكن اعتبار الإسقاط الفعلي سبياً للسقوط الاستقبالي فينحل الإشكال.

وإما أن نقول بأن النسبة بين الإسقاط والسقوط هي نسبة المصدر لاسمه كالإيجاد والوجود، فهما واحد وجوداً، متعدّدان اعتباراً، ولا يمكن الإنفكاك بين الشيء ونفسه، فيصعب حلّ الإشكال؛ إذ القول بأن الإسقاط حصل فعلاً، والسقوط سيحصل استقبالا كالقول بأن الغَسل - بالفتح - حصل الآن، والغُسل - بالضم - يحصل استقبالاً، وكالقول بوقوع الضرب المصدري الآن، وأما اسمه وهو حاصل الضرب ونتيجته فسيقع مستقبلاً، وهو من الاستحالة بمكان.

نعم، ينحصر الحلّ بما يستفاد من النصوص الواردة في خيار المجلس، والحيوان، وبيع ذي الخيار في زمان الشرط، من قبيل: صحيحة فضيل عن أبي عبدالله (علیه السلام) - في حديث - قال: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما»(1)، و«فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً قبل الثلاثة الأيام فذلك رضا منه، فلا شرط...»(2)، وما ورد عن السكوني عن أبي عبد الله (علیه السلام) أن أمير المؤمنين (علیه السلام) قضى في رجل: اشترى ثوباً بشرط إلى نصف النهار فعرض له ربح فأراد بيعه، قال: ليشهد أنه قد رضيه فاستوجبه ثم ليبعه إن شاء، فإن أقامه في السوق ولم يبع

ص: 120


1- وسائل الشيعة 18/6، ح3، الباب 1 من أبواب الخيار، صحيحة فضيل.
2- وسائل الشيعة 18/13، ح1، الباب 4 من أبواب الخيار، صحيحة علي بن رئاب.

فقد وجب عليه»(1)، فإن المستفاد و منها أن تمام الموضوع - لأجل سقوط الحق - هو الرضا بالبيع بقاء، فإن كان الرضا بالبيع بعد العقد كان مسقطاً للخيار ورافعاً له، وإن كان حينه كان مانعاً عن حصوله ودافعاً له.(2)

أجوبة الشيخ عن الإشكال الثاني

وأما الإشكال الثاني المختص بخيار الرؤية والغبن فتخلّص منه - الشيخ (قدس سره) بوجوه:

[الجواب] الأول: أن الجهل بالقيمة السوقية - المالية - لو كان موجباً للغرر لكان البيع باطلاً بلا شك؛ للنهي عن بيع الغرر(3)، وهو إرشاد إلى الفساد، ولازم القول بأن الجهل بالمالية منشأ للغرر أن لا يتمكن من الشراء من يعرف جميع خصوصيات المبيع ولكنه يجهل القيمة السوقية، وهو خلاف ضرورة الفقه؛ فإن الجهل بها لا يكون منشأ لبطلان المعاملة ولهذا اتفقوا على صحة المعاملة مع الجهل بها، ولكن إذا كان التفاوت بين الثمن الذي اشتری به المبيع والثمن الواقعي تفاوتاً فاحشاً كان له حق الفسخ، فالاتفاق والضرورة الفقهية يكشفان عن أن الجهل بالقيمة لا يجعل المعاملة غررية.

[الجواب] الثاني: أن الغرر إنما يتحقق في صورة الجهل بذات المبيع أو بأوصافه الدخيلة في ماليته التي تكون محل عناية ورغبة عامة العقلاء، وأما إذا رأى المبيع فعرفه بذاته وبأوصافه، ولكنه كان يجهل قيمته السوقية، أي يجهل مساواة ثمنه المجعول للقيمة الواقعية لم يحصل الغرر أصلاً، ومع تبيّن عدمها كان له الخيار لانتفاء الشرط

ص: 121


1- وسائل الشيعة 18/25، ح1، الباب 12 من أبواب الخيار، معتبرة السكوني.
2- قال المؤلّف: هذا الجواب لا يتم على مبنانا من عدم دخالة الرضا في المعاملات وكفاية الاستناد، فيكون الجواب عن هذا الاشكال نفس الجواب عن الاشكال الأوّل من أنّ الاعتبار بيد المعتبِر.
3- وسائل الشيعة 17/449، ح3، الباب 40 من أبواب آداب التجارة.

الارتكازي.

الوجه الثالث: سلمنا بأن الجهل بالقيمة السوقية موجب للغرر إلا أن الخيار حكم شرعي، وهو لا يرفع الغرر حتى يقال بعدم جواز إسقاط الخيار لكي لا يكون البيع غررياً.

بيان ذلك: أن الحكم متأخر عن موضوعه وعن جمیع خصوصياته فإذا كان الموضوع مشروطاً بشروط وجودية وعدمية، فمتى لم تتحقق جميع تلك الشروط لم يأت الحكم، والخيار حكم وضعي، وموضوعه العقد الصحيح، لا الفاسد، وعليه فصحة العقد تتوقف على عدم الغرر؛ لكون الغرر مانعاً منها، فإذا قلنا بمقالة الشهيد (قدس سره) من بقاء الخيار ليرتفع الغرر كان عدم الغرر متوقفاً على الخيار المتوقف على صحة العقد فكان دوراً باطلاً، وهذا معنى قول الشيخ (قدس سره) : «لأنه حكم شرعي لا يرتفع به موضوع الغرر»(1)

إشكال المحقق الأصفهاني على الشيخ

وهذا [الجواب الثالث] في غاية القوة والمتانة، إلا أن المحقق الأصفهاني (قدس سره) أورد عليه بما توضيحه: أن موضوع الخيار لو كان هو العقد العيني الخارجي للزم الدور؛ لتوقف صحة العقد - حينئذ - على الخيار، والخيار على صحة العقد، ولكن يستحيل أن يكون هو الموضوع له، بل موضوعه العقد العنواني فلا يلزم؛ وذلك لأن الخيار اعتبار شرعي قائم بالمعتبِر شأن بقية الأمور الاعتبارية القائمة بمن اعتبرها، فالخيار قائم بنفس الجاعل، فيكون موضوعه العقد العنواني قهراً؛ لأنه هو الذي يلاحظ العقد ويعتبر الخيار له، وأما العقد الخارجي فهو قائم بالعاقد، والعهد الخارجي قائم بالمتعهد، فالخيار القائم بالجاعل لا يعقل أن يكون عارضاً على ما يقوم

ص: 122


1- المكاسب 5/(184-183).

بالعاقد، فيرتفع إشكال الدور.(1)

بعبارة أخرى: إن الخيار حق اعتباري من لدن معتبِر، والمعتبِر له هو نفس الشارع بقوله مثلاً: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا»، وهذا الاعتبار - الحكم - يحتاج إلى موضوع، ولا بدّ أن يكون الموضوع في أفق الاعتبار، وهو البيع العنواني، وأما البيع الذي قام به البائع فهو قائم به، ولا ربط له بالشارع.

دفع إشكال المحقّق الأصفهاني عن الشيخ

وهو ممنوع نقضاً وحلاً:

أما النقض؛ فلأن لازم ما أفاده أن تكون جميع الأحكام الوضعية قائمة بالموضوعات العمرانية، لا العينية الخارجية؛ لأنها اعتبارات قائمة بالمعتبِر فتقوم بالعناوين، فالصحة واللزوم اعتباران قائمان بالمعتبِر، فينبغي أن يكون موضوعهما العقد العنواني لا الخارجي، وكذا الطهارة بالنسبة إلى الأعيان الطاهرة، والنجاسة بالنسبة إلى الأعيان النجسة، فينبغي الالتزام بعدم الحكم على العين الخارجية بالطهارة والنجاسة، وهو مخالف للضرورة الفقهية والإجماع القطعي.

وأما الحل؛ فلأن الحق والحكم الوضعي وإن كانا أمرين اعتباريين، والأمر الاعتباري وإن كان قائماً بالمعتبِر، إلا أنه يعتبر - بحكم العقل - على الموضوع الخارجي، وتوضيح ذلك:

إن الأمور الاعتبارية - عقلاً - متقومة بالاعتبار، والاعتبار قائم بالمعتبِر، ولا بحث في ذلك، ولكن نحو وجود الأمر الاعتباري مطلقاً يدور مدار نحو اعتباره، فعند العقلاء أمور اعتبارية جرت سيرتهم على اعتبارها، كالسلطنة والحكومة والمناصب والمقامات، وعلة وجودها هو الاعتبار، ولكن ظرف اعتبارها هو الموجود

ص: 123


1- حاشية المحقّق الأصفهاني (قدس سره) على المكاسب 4/278.

الخارجي، بمعنى أن اعتبار السلطنة وإن كان قائماً بالمعتبِر إلا أن موضوعه الشخص الخارجي.

وذلك مقتضى النصوص أيضاً؛ فإن مدلول قول الإمام (علیه السلام) : «فإني قد جعلته عليكم حاكماً»(1) جعل الحاكمية لهذا الشخص الخارجي، وكذا في جعل الإمامة؛ فإن المجعول إمامة هذا الشخص الخارجي، فجميع هذه العناوين وإن كانت قائمة بالاعتبار إلا أن ظرف تحقّقها الموجودات الخارجية.

وهذا ما عليه البرهان؛ فإن العقد العيني الخارجي القائم بالعاقد عندما نلاحظه بالإضافة إلى اللزوم والجواز، أو الخيار في ما نحن فيه، فهو لا يخلو إما مهمل أو مطلق أو مقید؟

أما الإهمال فمستحيل كما هو واضح، فيتعين كونه مطلقاً أو مقيّداً، وعلى كلا التقديرين يكون الحكم قائماً بهذا العقد العيني والوجود الخارجي، فيعود إشكال الشيخ (قدس سره) إلى قوته؛ إذ يتوقف الخيار على صحة العقد، وتتوقف صحته على عدم الغرر المتوقف على ثبوت الخيار.

وبعبارة أخرى: بأن قوام الأمور الاعتبارية أنه في عين وجودها بسببية الاعتبار أخذ في نفس الاعتبار أن ظرفها الخارج، ومنشأ الإشكال فيها عند المحقق الأصفهاني (قدس سره) أن الأمور النفسانية إذا كانت قائمة بالخارج لزم انقلاب النفساني خارجاً أو العكس.

وهذا تام في الأمور التكوينية كالشوق؛ فإنه قائم بنفس الإنسان فلا يعقل أن يكون موضوعه ما في الخارج، ولهذا - كما حقّق في محله - عندنا معلوم بالذات ومعلوم بالعرض، ومراد بالذات ومراد بالعرض، والخارج ليس متعلّقاً للعلم القائم بالنفس

ص: 124


1- وسائل الشيعة 27/136، ح1، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، مقبولة عمر بن حنظلة.

بحسب الدقة والحقيقة، فكما يقول أهل المنطق والفلسفة أن المعلوم بالذات هي الصورة وذوها معلوم بالعرض، وإلا لزم انقلاب النفساني خارجاً أو الخارجي نفسياً.

وهذا البرهان لا يجري في الأمور الاعتبارية؛ لأن قوامها بنحو الاعتبار، فعندما يعتبر هذا الشخص الخارجي حاكماً، فقوام الاعتبار أن هذا محكوم بهذه الحاكمية، ولو لم يكن كذلك لكان خلفاً.

هذه هي خاصية الأمور الاعتبارية، فمثلاً معنى أن الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر، أن الماء الخارجي محكوم بالطهارة، فالطهارة أمر قائم باعتبار المعتبِر في مرحلة الاعتبار، ولكن في مرحلة ثبوت الحكم يكون الموضوع هو الماء الخارجي. وفي ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1)، هل يعقل أن يكون المطلوب هو الوفاء بالعقود العنوانية؛ حيث قال بأن العقد العنواني قائم بالمعتبِر؟! أي هل يعقل أن يكون العاقد محكوماً بالوفاء بالعقد العنواني القائم بالمعتبِر أو بالعقد القائم به؟

لا شكّ أنه الثاني، وما أفاده ممنوع نقضاً وحلاً.

إشكال المحقّق الخوئي على الشيخ

وأورد المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) على الشيخ (قدس سره) : بأن ما أفاده (قدس سره) متين في ما كان الخيار ثابتاً بجعل الشارع، كخياري المجلس والحيوان؛ فإنهما من الأحكام الشرعية التي لا ترتبط بالغرر نفياً ولا إثباتاً، فلا يرتفع الغرر بثبوتهما، ولا ينتفي بسقوطهما.

وأما الخيار الثابت بجعل المتعاقدين فهو يوجب رفع الغرر؛ فإن المعاملة مع اشتراط أن يكون له الخيار مع ظهور الغبن فيها لا تكون غررية، بمعنى أن الشرط رافع للغرر موجب لسقوطه؛ فإن الغرر هو الخطر، ولا خطر في المعاملة مع الشرط؛ إذ

ص: 125


1- سورة المائدة /1.

هو مختار في أن يرضى بها وأن يفسخها.(1)

الجواب عن إشكال المحقق السيد الخوئي

وهو مندفع؛ فإن حقيقة الشروط عبارة عن الإلتزامات، ففي كل شرط التزام وملتزم به، فهل الرافع للغرر نفس الالتزام أو الملتزم به؟

لا شكّ أن الأثر منوط بمتعلَّق الالتزام، وأما الالتزام بدون الملتزم به فلا أثر له، فالأثر في المعاملة على العبد بشرط الكتابة ليس في الالتزام بكتابته، بل في الملتزم به وهو الكتابة، والخيار في ما نحن فيه - بناء على ما هو التحقيق - يحصل بالشرط؛ فإن كلّا من المتعاملين يشترط في المعاملة أن لا يكون فيها تفاوت فاحش بين الثمن والمالية الواقعية، هذه هي حقيقة الشرط، وما يرفع الغرر هو الملتزم به، فإذا حصل التفاوت الفاحش كان للمغبون حق فسخ المعاملة، فالرافع للغرر في الخيار المحقَّق بالشرط هو نفس الخيار المجعول باشتراط المتعاقدين؛ إذ لما كان له الخيار لم تكن المعاملة غررية، وإذا كان الأثر للخيار كان التفريق بين الخيار المجعول بجعل الشارع والخيار المجعول بجعل المتعاقدين مما لا وجه له؛ فإن الرافع للغرر في البيع الغبني هو وجود حق الفسخ، فليس الأثر لنفس الشرط والالتزام، بل للملتزم به وهو حق الخيار، ونفس هذا الحق موجود في خياري المجلس والحيوان إلا أن الجاعل مختلف، وهو وإن اختلف إلا أن المجعول في كليهما واحد وهو الخيار، وهو ذو الأثر، فكيف يكون بيع الحيوان في صورة وجود الخيار غررياً، وفي باب الغبن ليس غررياً؟!

نعم، لو كان الغرر يرتفع بالجاعل كان هذا التفريق صحيحاً؛ لاختلاف الجاعل في المقامين، ولكنه يرتفع بالمجعول، وهو واحد فيهما، سواء كان جاعله الشارع أو شرط المتعاقدين، فلا يرد ما أورد على الشيخ (قدس سره) .

ص: 126


1- مصباح الفقاهة 6/348.

ونتيجة البحث إلى هنا:

1- أن الجهل بالقيمة السوقية مع معرفة ذات المبيع وأوصافه الدخيلة في ماليته لا يجعل المعاملة غررية.

2- ولو كانت غررية لم يرفع غررها ثبوت الخيار خلافاً لما أفاده الشهيد (قدس سره) .

المسقط الثالث: تصرف المغبون بالتصرف التكويني
اشارة

إن تصرف من له الخيار على نحوين:

الأول: التصرف الكاشف عن رضاه بالعقد، ولا إشكال في مسقطيته للخيار؛ فإن الإسقاط لا ينحصر بالمسقط القولي.

الثاني: التصرف غير الكاشف عن الرضا بالعقد، وهو محل البحث في المقام.

دليل الشيخ على مسقطية التصرف غير الكاشف عن الرضا بالعقد

استدل الشيخ (قدس سره) على مسقطيته بما حاصله وتوضيحه:

إن النص الدال على سقوط الخيار بالتصرف مختص بخيار الحيوان؛ فإن فيه «فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً»(1)، بل في النص ما يدل على سقوطه بأعمال لا تعدّ من إحداث الحدث عرفاً، كتقبيل الجارية ولمسها والنظر إلى ما لا يحل النظر إليه إلا إلى مولاها؛ فإنها ألحقت شرعاً بإحداث الحدث.

لكن يستدل على تعميم كون التصرف مسقطاً لخياري المجلس والشرط بوجهين جاريين في ما نحن فيه أيضاً:

الأول: إطلاق بعض معاقد الإجماع - بأن تصرف ذي الخيار فيما انتقل إليه إجازة، وفيما انتقل عنه فسخ - فإنه يشمل كل خيار، ومنه خيار المجلس والشرط

ص: 127


1- وسائل الشيعة 18/13، ح1، الباب 4 من أبواب الخيار.

وخيار الغبن، فيدل على سقوطه بالتصرف.

الثاني: عموم العلة الواردة في خيار الحيوان، من كون التصرّف رضا بلزوم العقد(1)؛ فإنها بعمومها تدلّ على أن تصرّف كل صاحب خیار رضا منه بالعقد، ومنه صاحب خیار الغبن.

فهذان وجهان لسقوط خيار الغبن بالتصرف مطلقاً، كما أن هنا وجهاً ثالثاً حاصله: أن الدليل على خيار الغبن إما الإجماع، وإما نفي الضرر، وكلاهما قاصر الدلالة لما إذا تصرف صاحب الخيار.

أما الإجماع؛ فلأنه دليل لبي، فيقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو ما قبل تصرف صاحب الخيار، فلم يثبت الإطلاق لما بعده، ونفس قصور الدليل عن خيار الغبن دليل على سقوطه بالتصرف.

وأما «لا ضرر»، فلأنها تنفي الحكم عن الضرر المستند إلى الشارع، فكما أنها لا تجري في حق من أقدم على الضرر ورضي بالغبن حدوثاً؛ لأن الضرر مستند إليه، لا إلى الشارع، فكذلك لا تجري في حق من تصرف في المال الذي اشتراه، فإنه قد رضي بالضرر بقاء، فلا يكون الضرر مستنداً إلى الشارع، فلا خيار له.

إلا أن يقال: إن الشك - بعد التصرف - في رفع الخيار، لا في دفعه فيستصحب بقاؤه، وتوضيحه:

إن الخيار ثابت في مورد الغبن بالإجماع ودليل نفي الضرر، ونحن نشك في ارتفاع الخيار بعد تصرفه، فيستصحب بقاؤه.

ثم أمر الشيخ (قدس سره) بالتأمل، والوجه فيه أن المورد من موارد الشك في الموضوع كما سيأتي بيانه.

ص: 128


1- فإن الوارد في الحديث السابق بعد العبارة السابقة: «... فذلك رضا منه فلا شرط».

هذا تمام ما أفاده الشيخ (قدس سره) في المقام.(1)

مقتضى القاعدة [في المقام]

إن التصرف تارة يكون بعد العلم بالغبن، وأخرى قبله، وعلى التقديرين تارة يكون كاشفاً عن اسقاط الخيار، وأخرى لا كاشفية له عنه، فالصور أربع:

صور تصرف المغبون بالعين
الصورة الأولى

أن يكون التصرف بعد العلم بالغبن، فإن قامت قرينة حالية أو مقالية على [اسقاط خياره] سقط خياره بلا إشكال؛ لأن المسقط كما يكون بالقول لا يكون بالفعل.

وبعبارة أخرى: إن الخيار حق، واختيار الحق في مقام الإسقاط بيد صاحبه، فيكون هذا التصرف مسقطاً له؛ لأن صاحبه رفع يده عنه بالالتزام بالبيع عملاً.

الصورة الثانية

أن يكون التصرف بعد العلم بالغبن، ولم تقم قرينة على كونه عن [اسقاط خياره]، فإن قام الإجماع على كون التصرف - بما هو - مسقطاً للخيار، وأخذنا به فهو المستند في المقام، وإن لم نأخذ به، لكونه محتمل المدرك، فلا يكون كاشفاً عن قول المعصوم (علیه السلام) ، ولا عن دلیل معتبر آخر غير ما ذكره الفقهاء، فلا بدّ أن نرى، هل في التصرف كاشفية عقلائية عن [اسقاط خياره] أو لا؟

وبكلمة أخرى: هل تصرف المغبون العالم بالغبن يعدّ كاشفاً عقلائياً عن [اسقاط خياره] أو لا؟

ص: 129


1- المكاسب 5/185.

فإن عدّ عندهم طريقاً كاشفاً عن [الاسقاط]، فما لم يعلم أو يطمئن بالخلاف اعتمدت طريقيته، وكان إمضاء للبيع وسقط الخيار.

وإلا فالتصرف في نفسه أعم من كونه طريقاً [للإسقاط] والإمضاء، حتی الصادر من العالم بالغبن، فيمكن أن يكون صادراً منه بما هو مالك له التصرف في ملكه، ويمكن أن يكون لإسقاط حقه، فما لم يحرز كونه من قبيل الثاني، ولم يعلم أنه كاشف عقلائي عن [الاسقاط]، فمقتضی القاعدة عدم سقوط الحق.

الصورة الثالثة

أن يكون التصرف قبل العلم بالغبن، ويكون كاشفاً عن [اسقاط خياره]، فمقتضى القاعدة سقوط الحق على المبنى السابق في البحث السابق، فإن قلنا بأن الخيار يثبت من حین وقوع العقد، فيسقط الخيار؛ لأن المسقط الفعلي كالقولي، وإن قلنا يثبت من حين ظهور الغبن وهو وقت العلم به، فهو من باب إسقاط ما لم يجب، وقد تقدم البحث فيه، ومقتضی التحقيق السقوط.

الصورة الرابعة

أن يكون التصرف قبل العلم بالغبن، ولا يكون كاشفاً عن [اسقاط خياره]، وهذه الصورة هي محل الإشكال؛ فإن ما يكون كاشفاً عقلائياً - على فرض ثبوته - إنما هو التصرف بعد العلم بالغبن، وأما التصرف قبله لا يعدّ كاشفاً عند العقلاء، فلا طريق لنا من هذه الجهة للحكم بسقوط الخيار.

مقتضي الأدلة

والعمدة منها ثلاثة:

الأوّل: «لا ضرر»؛ فإن الحكم باللزوم ضرر مستند إلى الشارع فينتفي بها؛ ومقتضى الإطلاق شمولها لهذا النحو من التصرف؛ لعدم علم المتصرف بالغبن؛ فإن التصرف الذي لا تجري معه «لا ضرر» إنما هو المُحَقِّقُ للإقدام على الضرر؛ حيث يسند

ص: 130

الضرر إلى المغبون، لا إلى الشارع، وليس هو ما نحن فيه.

الثاني: الشرط العقلائي الارتكازي القائم على عدم التفاوت الفاحش بين العوضين، ومقتضاه عدم سقوط الحق ما لم يثبت الإسقاط، والتصرف غير الكاشف عن الإسقاط بنفسه، ولا بالقرينة، الحاصل قبل العلم بالغبن لا يسقط الحق.

الثالث: الإجماع على ثبوت الخيار، والقاعدة الأولية في الأدلة اللبية الاقتصار فيها على القدر المتيقن؛ لعدم الإطلاق فيها، فنحتاج إلى تصحيح الإطلاق في معقد الإجماع، ولهذا الشيخ (قدس سره) قال بإطلاق بعض معاقد الإجماع.(1)

الإشكال على الاستدلال بالإجماع

وفيه: أولا: أن هذا الإجماع ليس تعبدياً؛ لوجود المستند له، وهو النص الوارد في خيار الحيوان؛ فإنه فيه: «فإن أحدث المشتري فيما اشتری حدثاً»، ولكن الموضوع خاص؛ لاختصاصه بالحيوان، فیكون الحكم كذلك.

نعم، يمكن أن يستند إلى العلة، وهي: (فذلك رضا منه)، وهي تعمم وتخصص.

ولكن، نقول: بأن العلة على نحوين: تعبدية، وغير تعبدية، فإن لم تكن تعبدية كان مقتضى القاعدة الأخذ بعمومها، وأما إذا كانت تعبدية اقتصر فيها على موردها، والعلة في ما نحن فيه تعبدية؛ لكون التصرف أعم من الرضا بالمعاملة؛ إذ ربما يكون لكونه مالكاً للمال، وللمالك سلطنة التصرف على ما يملكه، فجعل التصرف رضا بالبيع أمر تعبدي، فتكون العلة في النص تعبدية، وبما أنها كذلك لم تكن عامة، وعليه فلا الحكم في النص عام، ولا علته عامة، فلا يصح الاستناد إليها.

ولو تنزلنا وقلنا: بعدم إمكان الجزم بكونها علة تعبدية، لم يمكن الاستناد إليها

ص: 131


1- المكاسب 5/185.

أيضاً؛ إذ لا أقلّ من الشك في كونها تعبدية أو لا، ومع الشك تكون مجملة، فيحتف الحكم بعلة مجملة، فيكون النص مجملاً ومع إجماله يؤخذ بالقدر المتيقن، وهو خصوص مورد النص، فينحصر سقوط الخيار بالتصرف قبل العلم بالغبن، في خصوص خیار الحيوان.

نفي بعد سقوط الخيار بالتصرف مع الاحتمال والالتفات عند المحقّق الإيرواني

هذا، ولكن المحقّق الإيرواني (قدس سره) لم يستبعد سقوط الخيار بالتصرف قبل العلم بالغبن، مع احتمال الغبن والالتفات؛ لأن التصرف في هذه الصورة دليل على الرضا بالمعاملة، كما ذهب إلى ذلك المشهور في خياري العيب والتدليس.(1)

الحق في المسألة

فالحق في المسألة: أن التصرف قبل العلم بالغبن [وبعده إذا لم يدل قرينة عرفية أو عقلائية على أنه مسقط] ليس من جملة المسقطات؛ تمسّكاً بإطلاق أدلة ثبوت الخيار. [والله العالم].

المسقط الرابع: التصرفات اللازمة الناقلة للملك
اشارة

لا يخفى أن موضوع البحث هو ما لو تصرّف المشتري المغبون فيما اشتراه تصرّفاً مخرجاً له عن الملك على وجه اللزوم كالبيع والعتق، والدعوى أن المبيع يكون - حينئذٍ - في حكم التالف وإن كان موجوداً حقيقة؛ وذلك لأن المشتري مالك للمال وغير محجور عليه من التصرفات التكوينية والاعتبارية، فإذا باع صحّ بيعه وكان نافذاً؛ بمقتضی ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾(2)، وإذا أعتق صح عتقه؛ بمقتضى «لا عتق إلا في ملك»، فإذا كان المبيع تالفاً حكماً سقط الخيار، فيكون هذا النوع من التصرفات مسقطاً

ص: 132


1- حاشية المكاسب للإيرواني (قدس سره) 3/144.
2- سورة البقرة /275.

للخيار.

الأدلة على كونه من المسقطات
اشارة

ومجموع ما ذكره الشيخ (قدس سره) من الأدلة على هذه الدعوى أربعة:

الدليل الأول: دليل العلّامة
اشارة

الدليل الأول: ما أفاده العلامة (رحمة الله) في التذكرة، وتوضيحه: أن حقيقة إعمال الخيار هو ردّ العين المغبون فيها إلى ملكه، ومع تلفها ينتفي الموضوع، وبما أن التصرفات الناقلة على وجه اللزوم توجب التلف الحكمي لم يمكن ردّ العين عندئذ؛ لانتفاء موضوع الخيار.(1)

مناقشة الشيخ لدليل العلّامة

وأورد عليه الشيخ (قدس سره) : بأنه تام لو قلنا بأن متعلق حق الخيار هو العين، بمعنى أن الخيار هو حقّ ردّ العين؛ لأن الردّ حينئذٍ يدور مدار وجودها، فإذا تلفت حقيقة أو حكماً انتفى موضوع الردّ.

وأما إذا قلنا - كما هو الحق - بأن متعلق الخيار هو العقد، بمعنى أن الخيار هو حق فسخ العقد وإبرامه، على ما [قد يقال]، أو حق فسخ العقد وعدمه، كما هو مختار الشيخ (قدس سره) ، فلا يتمّ الدليل؛ لأن العبد وإن أُعتق، وخرج عن الملك، وكان بحكم التالف، إلا أن العقد الواقع عليه لا يزال قائماً، فبالإمكان فسخه، فإذا فسخ ولم يمكنه ردّ العين انتقل إلى بدلها، القيمي أو المثلي.

الدليل الثاني ورده

الدليل الثاني: أن حديث «لاضرر» لم يدل على ثبوت الخيار، وإنما دلّ على جواز

ص: 133


1- تذكرة الفقهاء 11/71، وعبارته (قدس سره) : «ولا يسقط هذا الخيار بتصرف المغبون؛ لأصالة الاستصحاب، إلّا أن يخرج عن الملك ببيع وعتق وشبهه؛ لعدم التمكن من استدراكه».

ردّ العين المغبون فيها، فإذا امتنع ردّها لتلفها حكماً بانتقالها بنحو اللزوم انتفى موضوع الردّ.

والجواب: سلّمنا بأن «لا ضرر» لا تثبت حق الخيار، إلا أن الدليل غير ناهض على المدّعى؛ فإن مفاد «لا ضرر» نفي الضرر المستند إلى الشارع عنه، وبما أن الحكم بلزوم العقد في المعاملة الغبنية ضرر على المغبون، منتسب إلى الشارع، فهو منفي بها، فيثبت جوازه بمقتضی المقابلة بين اللزوم والجواز، فإذا انتفى أحدهما ثبت الآخر، فهي تدلّ على جواز العقد وإن لم تدلّ على ثبوت حق الخيار، فإذا كان العقد جائزاً جاز فسخه، سواء أحصل التصرف الناقل للملك أم لم يحصل؟ وسواء أمكن ردّ العين أم لم يمكن؟ فالمستفاد من «لاضرر» جواز فسخ العقد، أ قلنا بأن مفادها ثبوت الحق(1)، أم جواز العقد فإن المتعلق فيهما واحد وهو العقد، وهو لا زال موجوداً حتى بعد حصول البيع والعتق، فإن فسخ وكانت العين موجودة ردّها بنفسها، وإن تلفت كما هو الفرض ردّ بدلها.

الدليل الثالث ورده

الدليل الثالث: أن «لا ضرر» إنما تنفي الضرر المستند إلى الشارع، وأما المستند إلى المغبون فلا تنفيه، وبما أن المغبون نقل العين المغبون فيها عن ملكه بالبيع أو العتق أو الوقف، فهو رضا منه بالبيع والتزام بالعقد، فلا خيار له؛ لإقدامه على ضرر نفسه، وانتساب الضرر إليه، فلا يرفع بالحديث.

وفيه: أن الضرر إنما يستند إلى المغبون فيما لو نقل العين عن ملكه بعد علمه بالغبن، وأما قبل العلم فلا يوجب الرضا بالبيع والالتزام بالمعاملة، ولا استناد الضرر إليه [فالدليل أخص من المدعىٰ].

ص: 134


1- أي حق الخيار.
الدليل الرابع
اشارة

الدليل الرابع: أن ضرر المغبون مزاحم بضرر الغابن، فتسقط «لا ضرر»، فيرجع إلى أصالة اللزوم.

توضيح ذلك: أن الأمر لا يخلو من أحد أمرين، إما أن لا يثبت للمغبون الخيار فيتضرر، وإما أن يثبت له فيتضرر الغابن، لفسخ العقد وعدم ردّ العين المأخوذة منه إليه، بل ردّ بدلها، وفي مثل هذا الفرض لا تجري «لاضرر».

وفي تصوير عدم جریانها في مثل ذلك عدّة بيانات:

البيان الأول: أن «لا ضرر» من الأدلة الامتنانية في الإسلام كحدیث الرفع وشبهه، ويلزم في جريان مثله أن لا يحصل منه ما يخالف الامتنان على آخر، فجریانها في حق المغبون لرفع الضرر عنه وجبران خسارته امتنان من الشارع عليه، ولكنه يوجب خلاف الامتنان على الغابن؛ لتضرره بعدم إرجاع العين المأخوذة منه إليه، فلا تجري.

البيان الثاني: أن «لاضرر» تنفي الحكم الضرري، ويلزم من نفيها للضرر الواقع على المغبون، الحاصل من اللزوم، ثبوت الضرر على الغابن، وهو خلاف مفادها، فلا تشمله من أصل ولو لم نقل بأنها امتنانية؛ فإن مفادها الرفع لا الوضع، فلا تجري في المورد الذي يلزم من نفي الضرر إثبات ضرر آخر.

البيان الثالث: أن الدليل - أيّاً كان - لا إطلاق فيه ليشمل مورد تزاحم المدلول، بمعنی استحالة شمول الدليل للمورد إذا كان في مدلول نفس الدليل تزاحم، وأن المدلول مبتلى بالمزاحم، ومدلول دليل نفي الضرر في ما نحن فيه، هو ثبوت خیار الغبن إلا أن ثبوته للمغبون بعد نقله المبيع إلى غيره بالبيع اللازم، أو بعد نقله بالعتق والوقف، مبتلی بالمزاحم الذي هو سلب سلطنة الغابن عن عين ماله، وانتقالها إلى البدل، ولا إطلاق في الدليل ليشمل مورد التزاحم في المدلول.

ص: 135

وحاصل هذه الوجوه: أن شمول «لاضرر» مبتلی بمانع، فيسقط دليل الخيار.

جواب الشهيد [الثاني] عن الدليل الرابع

وأجاب عنه الشهيد [الثاني] (قدس سره) - واستحسنه الشيخ (قدس سره) -: بعدم التزاحم في مدلول «لا ضرر» في المقام؛ لتضرّر المغبون لو لم يكن له خيار الفسخ، وتصرّفه مع الجهل بالضرر ليس إقداماً عليه، وعدم تضرّر الغابن لو كان للمغبون الخيار وفسخ البيع؛ لأن عين مال الغابن إن كانت مثلية فلا ضرر بتبدّلها بمثلها، وإن كانت قيمية فتعريضها للبيع يدلّ على إرادة قيمتها وقد حصل عليها، فلا ضرر أصلاً حتی يزاحم الضرر الواقع على المغبون.(1)

مقتضى القاعدة من حيث الكبرى

اتضح مما تقدّم بطلان ما استدل به على نفي الخيار، ومقتضی القاعدة عدم سقوطه؛ لتعلقه بالعقد، ولا أثر لوجود العين ولا لتلفها، فإن فسخ وكانت موجودة دفعها إلى صاحبها، وإن كانت تالفة - كما هو الفرض - انتقل إلى مثلها أو قيمتها، سواء أكان الدليل على ثبوت الخيار حدیث «لاضرر» أم الشرط الارتكازي.

صغريات المسألة

هذا من حيث الكبرى، وأما من حيث الصغرى فقد ذكرت موارد لعدم إمكان ردّ المغبون للمبيع، بعضها تام، والآخر غير تام، وهي:

1- حالة التلف الحقيقي للمبيع، وهو واضح.

2- حالة التلف الحكمي له، كأن يبيعه المغبون ببيع لازم، أو يعتقه أو يوقفه أو يصالح عليه؛ فإن العين وإن كانت موجودة حقيقة إلا أن حكم الشارع بصحة هذه المعاملات ولزومها؛ بمقتضى إطلاق أدلتها، يوجب عدم قابلية المبيع للردّ

ص: 136


1- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 2/(310-309)؛ المكاسب 5/(189-188).

والاسترداد، فيكون بحكم التالف.

3- أن يمنع مانع من الردّ مع البقاء على الملك كالاستيلاد.

4- أن تكون العين المبيعة متعلقة لحق الغير، كما لو أجّرها المغبون للغير قبل علمه بالغبن، فهي لم تتلف حقيقة ولا حكماً، والصحيح في هذا المورد أنه يمكنه الفسخ، وترجع العين إلى صاحبها مسلوبة المنفعة، ولا تنتقل إلى بدلها أو قيمتها.

5- ما لو دبّر العبد أو أوصى بالمبيع قبل علمه بالغبن، فهنا كالسابق؛ أي أن له الفسخ وتردّ عين المبيع إلى صاحبها، ولا ينتقل إلى بدلها أو قیمتها؛ لتمامية مقتضي الفسخ، وعدم المانع منه، وبالفسخ يبطل التدبير والوصية.

6- ما لو نقل العين إلى الغير بعقد جائز، كما لو باعها ببيع خياري، أو وهبها لغير ذي رحم وكانت موجودة ويمكنه إرجاعها، فهنا محل بحث وخلاف بينهم، فذهب المحقّق النائيني (قدس سره) إلى امتناع الفسخ ما دامت العين المغبون فيها خارجة عن ملك المغبون؛ لأن الفسخ يقتضي ردّ نفس العين من ملك الفاسخ المغبون إلى ملك الغابن، وبما أن العين لم تكن ملكاً للفاسخ يمتنع الردّ.(1)

وذهب غيره إلى إمكان الفسخ؛ لأن الفسخ وإن كان هو ردّ العين إلا أن للفسخ عملين: فسخ المعاملة الأولى، وفسخ المعاملة الخيارية، فيتمّ الفسخ وردّ العين.

والحق أن مقتضى القاعدة أن للمغبون الفسخ، فإذا فسخ ردّ بدل العين؛ لأن العين - ما دام لم يفسخ المعاملة الخيارية - ليست في ملكه ليردّها، فيردّ بدلها، فما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) ليس تاماً؛ لأن متعلّق الخيار ليس العين حتى يمتنع الردّ، بل متعلقة العقد، كما حقق في محله.

وأما القول بأن فسخ المغبون يقتضي عملين، ثانيهما فسخ المعاملة الخيارية ففيه:

ص: 137


1- منية الطالب 3/136.

أن ذلك يحتاج إلى دليل؛ فإن البيع أو فسخه من الالتزامات الاختيارية المتوقفة على القصد، ولا توجد ملازمة تكوينية بين فسخ المعاملة الأولى والثانية؛ إذ يمكن أن يفسخ المعاملة الغبنية ويحتفظ بالمعاملة الخيارية، ففسخ الأولى لا يستلزم فسخ الثانية، وعليه فإن قصد فسخ المعاملة الثانية رجعت العين، وإلا فيرجع بدلها على ما هو مقتضى القاعدة عند عدم إمكان ردّ العين تكويناً أو شرعاً.

فرع: ما لو امتزج المال المغبون فيه بغيره
اشارة

لو امتزج المال المغبون فيه بمال المغبون أو بمال غيره، كما لو اشتری دهناً مغبوناً فيه فمزجه أو امتزج بدهن له أو لغيره، فهنا مسألتان:

المسألة الأولى: في بقاء خيار الفسخ.

المسألة الثانية: على فرض البقاء، ونفوذ الفسخ، فهل يجب إرجاع نفس العين الممزوجة؟ أي هل يمكن ردّ نفس العين فيردّها، أو لا يمكن فيردّ بدلها؟

أما الحكم في المسألة الأولى فهو بقاء الخيار، وهو مقتضى القاعدة، ويتضح ذلك من خلال بيان أمرين:

الأول: إطلاق دليل خيار الغبن، سواء أكان حديث «لا ضرر»، أو الشرط الارتكازي؛ فإن مقتضى الإطلاق بقاء خيار الغبن ما لم يسقطه المغبون أو يرضى بالغبن.

الثاني: إن متعلّق الخيار هو العقد، ولا علاقة له بالعين.

وأما المسألة الثانية فينبغي ذكر صور:

الصورة الأولى: أن يكون المال المغبون - مع اختلاطه بالغير - متميّزاً عنه، فيجب فصله عنه، وردّه بعينه.

الصورة الثانية: أن يستهلك في المال الآخر، فيردّ المثل أو القيمة؛ لأن الاستهلاك فيه إعدام له وإتلاف موضوعاً.

ص: 138

الصورة الثالثة: أن يمتزج المالان، بحيث تحصل الشركة، كما لو كان دهناً فاختلط بدهن آخر، وهذه الصورة هي محل البحث، وينبغي تحرير محل البحث فيها؛ إذ ربما يقال: بأن المال الممتزج بالآخر له صور:

1- أن يمتزج مع المساوي له في الصفات.

2- أن يمتزج مع الأردأ منه.

3- أن يمتزج مع الأجود.

ولكن هذا التقسيم لا أثر له في البحث؛ فإن المدار على حصول الشركة بين المالكين في المال، والشركة على نحوين: عقدية، وقهرية، وقد حصلت القهرية حسب الفرض، بلا فرق بين حصولها مع المساوي أو الأردأ أو الأجود.

نعم، ما يؤثر في البحث تقسيم الامتزاج إلى أقسام أخر وهي:

1- أن يمتزج مع مال المغبون.

2- أن يمتزج مع مال الغابن.

3- أن يمتزج مع مال الغير.

1- أن يمتزج مع مال المغبون
اشارة

أما على الأول فقد حصل الامتزاج قطعاً، إلا أنه لا يقال بحصول الشركة؛ لعدم تصورها بين مالي الشخص الواحد، وإنما كانت له - قبل المزج - حصتان من الدهن منفصلتان، والآن صار عنده مجموع واحد للحصتين.

كما لا يقال: بأن النسبة بينهما نسبة الجزء إلى الكل، فكان يملك الجزء وأصبح يملك الكل، لأن المملوك السابق ليس بجزء لشيء، بل يقال بأن المملوك دهن معين، وصار يملك مجموع الدهنين، أي انتفى الامتياز بين الدهنین.

وكيف كان، فإذا فسخ، فهل يردّ ما في هذا المجموع؟ أو ينتقل إلى المثل أو القيمة؟

ص: 139

كلام المحقّق الأصفهاني في ردّ الممتزج بمال المغبون ومناقشته

قال المحقّق الأصفهاني (قدس سره) : بإمكان ردّ العين بردّ المجموع.(1)

ويشكل: بأن قاعدة الفسخ أن يردّ ما وقع عليه العقد؛ فإن الفسخ في نقطة مقابلة للعقد، وما وقع عليه العقد هو الدهن المتميّز، لا المجموع بما هو مجموع، فلا تأتي قاعدة الفسخ بعد الامتزاج؛ فإن المال قد تبدّل بعد الامتزاج، إذ ما كان يملكه قبل المزج هو الدهن المتميز، وما يملكه بعده هو المجموع، فلم يبقَ الذي كان مملوكاً له من الأول، كما لم يبق ما ملكه بالمعاملة الغبنية، ولا نريد من قولنا بعدم بقائهما عدمه عقلاً، بل عرفاً، فعندما يشار إليه لا يقال: هذا الذي كان يملكه سابقاً، ولا يقال: هذا الذي اشتراه بالمعاملة الغبنية، فمن نظر عرفي أنهما دهنان وامتزجا، والمجموع غير كل واحد منهما، فردّ المجموع ليس مقتضى قاعدة الفسخ، فلا يتصور ردّ المجموع إلا بمعاملة جديدة؛ لأن قسما منه مملوك له من الأول، والآخر مملوك له بالمعاملة الغبنية.

فما أفاده المحقّق الأصفهاني (قدس سره) ممنوع؛ لأن بحثنا في الردّ بالفسخ، والمجموع ليس هو ما انتقل إليه بالمعاملة الغبنية، ولا بدله.

2- أن يمتزج مع مال الغابن
اشارة

وأما على الثاني، ما لو امتزج المال بمال الغابن، فقد قال المحقّق الأصفهاني (قدس سره) : «يمكن ردّه بردّ المجموع حقيقة من دون محذور، إلا إذا كان المورد المسلّم من الردّ ردّ العين مميزة عن غيرها»(2)

ولا يخفى أن هذا القسم يختلف عن القسم السابق، فقد قلنا هناك بامتناع حصول الشركة، وأما هنا فالشركة القهرية حاصلة قطعاً بين مال المغبون ومال الغابن، وقد اختلف الفقهاء في تصور حقيقة الشركة على أقوال، إلا أن أهمها قولان:

ص: 140


1- حاشية المحقّق الأصفهاني 4/287.
2- حاشية المحقّق الأصفهاني 4/287.
الأقوال في حقيقة الشركة

القول الأول: أن الملكية في الشركة بنحو الإشاعة في المالك والمملوك؛ أما من ناحية المالك؛ فلأن كلاً من المالكين - قبل الامتزاج والشركة - كان مالكاً لما في يده بالاستقلال، وأما من ناحية المملوك؛ فلأن كل واحد من المالكين كان يملك العين المنفصلة عن الأخرى، وبعد حصول الشركة لم يتغير المالك، ولا الملكية، ولكن تغيّر المملوك؛ إذ صار مشاعاً بعد أن كان متميّزاً.

ومعنى الإشاعة أن كل جزء جزء متصور من عين المال - مهما تناهی في الصغر - فهو مملوك للشخصين، ومشاع بينهما.

أو فقل: إن ملكية كل واحد من الشريكين سارية في كل المال، فمعنى الاشاعة سريان الملكية الى تمام أجزاء هذا المال، ولا ينتهي إلى حد بحيث يقال هذا لهذا، وذاك للآخر، بل كل ما يشار إليه بكلمة هذا فهو بينهما.

ولا يعقل وجود الجزء الذي لا يتجزأ في الأجسام؛ فإن الأجزاء إما أن تنقسم خارجاً - كسراً أو قِطَعاً - أو تنقسم وهماً، أو عقلاً، ولا يمكن أن نصل إلى جزء لا يتجزأ من الجسم.

نعم، ربما لا ينقسم خارجاً فينقسم بالتقسيم الوهمي، والمراد من الوهم، هو الوهم الفلسفي، لا العرفي، بمعنى أن للنفس قدرة خلاقة تجزء الجزء، ثم تجزء ذلك الجزء وهكذا...، وربما يقف الوهم فيأتي التقسيم العقلي.

والحاصل: أن للتقسيم مراتب:

الأولى: التقسيم الخارجي، بأن يقطع الجسم إلى قطعة قطعة، أو إلى كسور وأجزاء.

الثانية: التقسيم الوهمي، أو التجزئة الوهمية.

الثالثة: التقسيم العقلي؛ فإن الجسم قد يصل إلى مرتبة من الصغر يتوقف فيها

ص: 141

عن التجزئة والتقسيم، فتصل النوبة إلى التقسيم العقلي؛ فإن للعقل قدرة تفوق كل القوى، فحتى لو وصل الوهم إلى مرحلة لم يميز فيها بين الطرفين، إلا أن العقل يحكم بأن الجزء ذو طرفين فينقسم قهراً.

فمعنى الشركة أن الملكية تنقلب إلى هذه الملكية المشاعة، بحيث يكون الشيء ملكاً لهما وبينهما في جميع الانقسامات - الخارجية والوهمية والعقلية - ولا يوجد جزء يقال عنه هذا ملك لهذا، وذاك ملك للآخر.

القول الثاني: أن حقيقة الشركة عبارة عن تبدّل الملكيتين السابقتين، والمملوكين السابقين، أما تبدّل المملوك؛ فلأن المملوك صار هو المجموع، فالمجموع هو ملك لهما، لهذا ولذاك، لا بنحو أن يكون كل جزء جزء مملوكاً لهما بنحو الإشاعة، بل المملوك الكل، والمالك كلا الشخصين، بحيث يملكانه بملكية ناقصة، بمعنى أن كل واحد من الشريكين [قبل الشركة] كان يملك النصف ملكية تامة كاملة، ولما امتزج المالان [بعد الشركة] صار كل واحد منهما يملك الكل بنصف ملكية، أي صار نصف مالك للكل، فتبدّل المالك والملكية إلى ما هو أضيق من السابق، وتبدّل المملوك إلى دائرة أوسع، فلو كان الشركاء ثلاثة لكان كل واحد منهما يملك المجموع بثلث ملكية، ولو كانوا عشرة لكان كل واحد منهم مالكاً للمجموع بعشر ملكية، وهكذا...

والتحقيق - على ما ذكر في محله - وإن كان هو القول الأوّل؛ إذ لا يعقل انقسام الملكية إلى كسور، وإنما الذي ينقسم إليها هو المملوك، إلا أنه لا بدّ من البحث ومعرفة إمكان الردّ وعدمه بناء على كلا القولين.

أما بناء على القول الأول فيمتنع الردّ؛ لأن الفرض أن ملكية كل واحد من الشریكین سارية في الكل، فما انتقل إلى المغبون بالمعاملة الغبنية كان مملوكاً منحازاً مميّزاً، وكانت ملكيته له ملكية مستقلة، وقد تبدّل كلاهما بعد الامتزاج وحصول الشركة القهرية، فصار المملوك مشاعاً، والملكية غير مستقلة، فإذا فسخ وأراد إرجاع

ص: 142

نفس السابق لم يتمكن منه، فلا يقبل الردّ، وإن أراد أن يرجع المجموع فهو لم ينتقل إليه حتی يرجعه، فردّ نفس العين محال، ومع امتناعه ينتقل إلى البدل، فإن كان قيمياً فالقيمة، وإن كان مثلياً فالمثل.

وأما بناء على القول الثاني - لو سلّم بصحته - فأيضاً يمتنع الردّ؛ لأن ما وقعت عليه المعاملة الغبنية ليس هو المجموع، وإنما البعض، وهو غير الكل، فلو أراد الردّ لم يكن المردود هو المملوك بالبيع الغبني، ولا الملكية هي تلك الملكية السابقة؛ لأن الملكية والمالكية السابقتين كانتا تامتين بالنسبة إلى البعض، والملكية والمالكية الموجودتين ناقصتان ولكن بالنسبة إلى الكل، فلا يمكن ردّ نفس ما انتقل بالفسخ، فلو ردّ ردّ غير ما انتقل إليه، فتنهدم قاعدة الفسخ؛ فإن قاعدته أن يردّ نفس ما انتقل إليه بالعقد بخصوصيته، والذي يتغير خصوص المالكين؛ لاختلاف المالك للعين قبل الفسخ وبعده.

والحاصل: أنه لا يمكن الرد على كلا القولين، سواء أقلنا بمبنی الإشاعة أم بالملكية الناقصة بالنسبة إلى الكل، ومع امتناع الردّ ينتقل والحال إلى ردّ البدل، إن كان قيمياً فبالقيمة، وإن كان مثلياً فبالمثل.(1)

3- أن يمتزج مع مال الأجنبي

وأما على الثالث، ما لو امتزج المال بمال الأجنبي، فهنا مانعان من الردّ:

الأول: ما ذكر في السابق، من امتناع ردّ ما اشتراه بالعقد الغبني، سواء أقلنا بمبنى الإشاعة، أم بمبنى الملكية الناقصة.

الثاني: أنه بعد حصول الشركة القهرية مع مال الغير لم يكن له حق في التصرف

ص: 143


1- أقول: الظاهر إمكان الردّ لأنّ كلا المالين للغابن عند الرد ولا شركة في البين أصلاً فما ذكره المحقّق الأصفهاني (قدس سره) تام عندي، خلافاً للأستاذ المحقّق - مدظله - وأنّ ما ذكره يأتي في الفرع الأوّل [1] دون الثاني [2].

في ماله، لا وضعاً ولا تكليفاً.

وعليه فيمتنع الردّ شرعاً، والممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً، فينتقل إلى ردّ البدل، مثلاً أو قيمة.

فروع في تصرفات الغابن
اشارة

ما تقدم كان في تصرفات المغبون فيما انتقل إليه، وفي تصرفات الغابن فيما انتقل إليه فروع أيضاً فنقول:

المسألة الأولى: تصرفات الغابن لا ترفع خيار المغبون

لو تصرف الغابن لم يرتفع خيار المغبون؛ بناء على ما هو التحقيق، ومن تعلّق حق الخيار بالعقد، وقد قلنا سابقاً بعدم ارتفاعه فيما لو تصرّف المغبون فيه بالبيع ونحوه، فعدم ارتفاعه عند تصرّف الغابن بالنقل اللازم بالأولوية القطعية؛ لأن في تصرف المغبون شبهة رضاه بالمعاملة، فيسقط خیاره، وهذه الشبهة لا تأتي عند تصرّف الغابن كما هو واضح؛ فإن تصرّفه لا ينافي حق المغبون.

وأما على القول بتعلّقه بالعين، فبما أنها متعلَّقة لحق المغبون فمعاملة الغابن عليها معلَّقة على رضاه، فإذا لم يرض انفسخت المعاملة، وبالتالي يمكنه ردّ العين لو فسخ المعاملة الأولى.

المسألة الثانية: في حكم الردّ لو تصرف الغابن تصرّفاً لازماً

لو تصرّف الغابن فيما انتقل إليه بالمعاملة الغبنية تصرّفاً لازماً كالبيع اللازم، أو العتق، أو الوقف، ففي الحكم لو فسخ المغبون أقوال:

القول الأول: أن التصرّفات اللازمة للغابن كالتصرفات اللازمة للمغبون، فلا تنفسخ، فينتقل إلى المثل أو القيمة [وهذا هو القول المختار].

القول الثاني: أن المعاملة الثانية للغابن تنفسخ من أصل بنفس فسخ المغبون للمعاملة الأولى.

ص: 144

القول الثالث: أنها تنفسخ من حين الفسخ.

أما دليل القول الأول فحاصله: أن العين انتقلت إلى الغابن وصارت ملكاً له، وإن كان ذلك بالبيع الخياري، ومتعلَّق حق المغبون هو العقد، لا العين؛ إذ ليست كالعين المرهونة، وبعد انتقالها له يجوز له فيها مطلق التصرفات الاعتبارية والخارجية، بمقتضى قاعدة السلطنة، فإذا تصرّف فيها بالبيع ونحوه أمكن التمسك بإطلاق أدلة تلك المعاملات؛ لتصحيحها ونفوذها، فلو باع مثلاً أمكن التمسك ب- ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾(1)، فيحكم بصحة البيع ونفوذه أولاً، ويحكم ثانياً وبالعرض بامتناع الردّ شرعاً، فينتقل - بعد الفسخ - إلى البدل.

وأما دليل القول الثاني فحاصله: أن العين التي انتقلت إلى الغابن متعلَّقة لحق المغبون، فيكون العقد الذي أنشأه الغابن متزلزلاً من الأول، فإذا فسخ المغبون العقد - ومعنى الفسخ رجوع كل من العوضين إلى ملك مالكه الأول - لزم بطلان عقد الغابن من الأول، وكأنه لم يكن، وعليه تردّ نفس العين، ولا ينتقل إلى البدل.

وفيه: أن متعلق حق المغبون هو العقد، لا العين ليقال بتزلزل معاملة الغابن من الأول، ولهذا لم يرتبط بقاء الخيار ببقاء العين وزوالها، وعليه فبما أن العين مملوكة له، ومقتضى قاعدة السلطنة جواز التصرف فيها بالبيع وشبهه، فإذا باع كانت بحكم التالفة، فينتقل إلى البدل.(2)

وأما دليل القول الثالث فهو: أن لكل من الغابن والمغبون حقاً، فإن حق المغبون

ص: 145


1- سورة البقرة /275.
2- قال الشيخ الأستاذ (دام ظله) في جواب على سؤال: إن العقد من الأمور ذات التعلق، ولكن لا يعني ذلك أن يتعلق الحق بالعين، بل يتعلق بالعقد، ولا يتجاوز عن ما تعلّق به، إلى متعلّق متعلّقه، وإن كان متعلّق المتعلّق - وهي العين في المقام - دخيلاً في حقيقة العقد الذي هو متعلّق الحق، فالحق كالحكم الذي لا يتجاوز عن متعلّقه أو موضوعه.

خيار الفسخ، ويترتب عليه ردّ العين، وحق الغابن أنه يملك العين التي انتقلت له، وله التصرّف فيها بما شاء من أنواع التصرفات المشروعة، فليس هو بمحجور بأحد أسباب الحجر، فإذا باع صح بيعه، ولكن مقتضى الجمع بين الحقين أن للمغبون أن يفسخ، فإذا فسخ انفسخ بيع الغابن من حين الفسخ، لا من الأول.

وفيه: أولاً: أنه - كالسابق - مبني على أن يكون للمغبون حق في العين، وقد بيّنا بأن حقه متعلق بالعقد ليس إلا، فإذا فسخ وكان متعلّق العقد موجوداً ردّ بنفسه، وإلا ردّ بدله، وبما أن بيعه صحيح، فالعين بحكم التالف فينتقل إلى بدلها.

وثانياً: أن الأمر يدور بين احتمالين، إما أن يتعلّق الحق بالعقد، أو بالمال، فإن تعلّق بالعقد انتقل الردّ إلى البدل، وإن تعلّق بالمال وقع الفسخ من الأول، كما في العين المرهونة؛ لكون المعاملة متزلزلة من الأول، فلا معنى للبرزخية والقول بأن الفسخ من حين الفسخ.

والحاصل: أن بيع الغابن يقع صحيحاً، فتكون العين بحكم التالف، فإذا فسخ المغبون انتقل الردّ إلى البدل، مثلاً كان أو قيمة، وبهذا يتضح الحكم في جميع تصرفات الغابن اللازمة، من بيع أو صلح أو هبة معوضة، أو وقف أو عتق.

المسألة الثالثة: في حكم الردّ لو تصرّف الغابن تصرّفاً مانعاً
اشارة

إذا تصرّف الغابن فيما انتقل إليه تصرّفا يمنع من ردّها وإن كانت باقية في ملكه، كما لو كانت جارية فاستولدها جاءت الوجوه الثلاثة في المسألة السابقة.

فإن قلنا بأن الحق يتعلق بالعقد، ولا ربط له بالعين، فالجارية - بعد الاستيلاد - تكون بحكم التالف، فللمغبون الفسخ ويعطيه الغابن قيمتها.

وإن قلنا بأن الحق يتعلّق بالعين جاء الوجهان الآخران.

تصوير التزاحم بين حق الغابن وحق أم الولد

نعم، هنا مطلب ذكره الشيخ (قدس سره) بنحو الاحتمال، وهو أن مثل أم الولد لها حق،

ص: 146

فيتزاحم حقها مع حق المغبون(1)، وتوضيحه:

أنه إذا وجد سببان في مورد، وكان كل منهما يقتضي حقاً، ولم يمكن الجمع بين الحقين كان المورد من صغريات باب التزاحم، فتنطبق قاعدته عليه، بالترجيح بالأهمية أو الأسبقية، وتطبيق ذلك على ما نحن فيه:

أن للمغبون حق الفسخ، وبالتالي ردّ العين الموجودة، وسبب هذا الحق هو الغبن الذي حصل في المعاملة.

وأن لأم الولد حق العتق؛ للتشبث بالحرية، وسببه استيلادها.

ولا يمكن الجمع بين هذين الحقين؛ إذ إما أن يؤخذ بحق المغبون فتردّ إلى ملكه، وإما أن يؤخذ بحقها فتبقى في ملك الغابن، ومع التزاحم وعدم إمكان الجمع بينهما، يقدم ما فيه المرجّح، وهو حق المغبون؛ لأسبقيته بسبق سببه.

ولا يخفى أن مبنى هذا الاحتمال، هو تعلّق حق الخيار بالعين، فيجتمع على ذلك حقان في أم الولد، لا يمكن الجمع بينهما.

ولكن مقتضي التحقيق: أن حق الخيار يتعلق بالعقد، وحق الأمة موضوعه العين، فلم يجتمع الحقان في شيء واحد ليقع التزاحم.

وقد وجّه المحقّق الأصفهاني (قدس سره) جعل الشيخ (قدس سره) له احتمالاً ليس إلا: بأن تزاحم السبين إنما يكون فيما إذا كان بين الحقين منافاة، وبما أن حق الخيار يتعلّق بالعقد، فهو لا ينافي حق أم الولد المانع من الردّ؛ وإذ لا منافاة بين الحقين فلا تزاحم بين السبين.(2)

وكيف كان فالذي يظهر من الأعلام كالشيخ، والمحقّق الأصفهاني، والسيّد

ص: 147


1- المكاسب 5/192.
2- حاشية المكاسب للمحقّق الأصفهاني (قدس سره) 4/292.

اليزدي(1) قدس الله أسرارهم أن التزاحم مفروغ عنه، ولكن بعضهم رجّح بالأسبقية كالشيخ (قدس سره) ، فلا بدّ من التحقيق في المسألة فنقول:

لا بدّ أولاً من تحقيق كون المورد من موارد التزاحم أو لا، ثم البحث في الترجيح بالأسبقية الذي أفاده الشيخ (قدس سره) :

التحقيق كون المورد من موارد التعارض لا التزاحم

أما الأول، فقوام التزاحم بأن لا يكون بين الدليلين - في مقام الجعل ولا في مقام الإثبات - أي تمانع ومنافاة، وإنما تكون المنافاة في مقام الامتثال؛ لانحصار القدرة في واحدة، ولا يمكن صرفها في الاثنين، فلا يمكن امتثالهما معاً، كما لو جعلت الصلاة على كل مكلف قادر، وجعل الحكم بوجوب إزالة النجاسة عن المسجد على كل مكلف قادر، فهنا لا تنافي بين الجعلين؛ لجعل حكمين على موضوعين بنحو القضية الحقيقية، ولا بين الإطلاقين؛ لأخذ شرط القدرة فيهما، الذي هو شرط في سائر التكاليف، فإذا دخل المسجد في آخر الوقت ليصلي فرأي النجاسة فيه، ولا يمكنه الجمع بين الامتثالين؛ إذ ليست لديه إلا قدرة واحدة، فدليل الصلاة في مقام الامتثال يقتضي صرف القدرة فيها، ودليل الإزالة يقتضي صرف القدرة فيها، فيقع التمانع، فالتمانع في المنتهى الذي هو مقام الامتثال.

هذا هو قانون التزاحم، بخلاف قانون التعارض؛ فإن التنافي فيه يكون بين الدليلين في مقام الجعل، فإن كان لا يمكن جعل أصل الدليلين، فالتنافي بينهما بنحو التباين، وإن كان لا يمكن إطلاقهما، فالتنافي بينهما بالعموم و الخصوص من وجه.

إذا اتضح هذا، فنقول في ما نحن فيه: إن دليل خيار الغبن بالنسبة إلى انقسامات الخيار وموارده لا يخلو أمره من حالات ثلاث، إما أن يكون مهملاً، أو مطلقاً، أو

ص: 148


1- حاشية المكاسب للسيّد اليزدي (قدس سره) 2/549.

مقيّداً، وبما أن الإهمال في مقام الثبوت محال، فينحصر الأمر في الإطلاق والتقييد، وأقسام المبيع من جملة الانقسامات، فينقسم البيع الغبني إلى بيع الأمة وبيع غيرها، وبيع الأمة إلى الأمة التي يستولدها وغيرها، وأحد الأقسام بيع الأمة التي صارت أم ولد، ولا نرى في دليل الخيار ما يخرجها ليكون مقيّداً، فيتعيّن الإطلاق، فهو بإطلاقه يشمل بيع الأمة التي صارت أم ولد في ما بعد.

ومن جهة أخرى، إذا لاحظنا الدليل الدال على عدم جواز نقل الأمة أم الولد نراه مطلقاً شاملاً لجميع الأقسام، فهو يدل على عدم جواز نقلها سواء أكانت مورداً للبيع الغبني أم لغيره.

فكل من دليلي الخيار والمنع من البيع مطلق بالنسبة إلى مثل هذه الأمة، فيقع التمانع بين الدليلين من جهة الإطلاق، حصل الامتثال أو لا، عمل بالدليلين أو لا، فتكون المنافاة بينهما في مرحلة الجعل، والتعارض بالعموم من وجه، ولم يؤخذ في الموضوع القدرة عليه لتندرج في باب التزاحم.

فالنتيجة: أن المورد يندرج في باب التعارض، لا التزاحم، وعليه فينبغي ملاحظة مرجحات باب التعارض، فتلاحظ الأدلة الدالة على الخيار، وتفصيل ذلك:

إن مستند الخيار إن كان قوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾(1) أو ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾(2)، فدليل المنع عن بيع الأمة ودليل خيار الغبن وإن كانا متعارضين إلا أن دليل خيار الغبن هو المرجح؛ لموافقته للكتاب، فلا يكون الاستيلاد مانعاً في هذه الصورة.

وإن كان المستند روایات تلقّي الركبان، فيكون كل من دليلي خيار الغبن، والمنع

ص: 149


1- سورتا البقرة /188 والنساء /29.
2- سورة النساء /29.

من نقل الأمة المستولدة، هي الأخبار، ولم يكن أحدهما موافقاً للكتاب، فيتحكم التعارض بينهما، إلا أن يقال بموافقة أدلة عدم جواز ردّ الأمة المستولدة لعموم ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) فيتقدم، ولو فرض التكافؤ في المتعارضين، فإما أن يقال في مثل ذلك بالتخيير في المسألة الأصولية، فيتخير الفقيه في الأخذ بأيهما، وإما أن يقال بالتساقط، فيرجع إلى الأصل العملي، وهو الاستصحاب في المقام، ونتيجته بقاء الأمة على ملك الغابن.

ويمكن أن يقال: بأن هذا الاستصحاب محكوم باستصحاب خیار المغبون؛ وذلك لأن الشك في بقاء الأمة على ملك الغابن بعد فسخ المغبون وعدم بقائه، مسبب عن الشك في زوال الخيار الثابت للمغبون بسبب الاستيلاد، فيجري استصحاب خيار المغبون.

وإن كان المستند «لا ضرر» فقد قال المحقّق الرشتي (قدس سره) بتقديمها؛ نظراً إلى حكومتها عليها وعلى سائر الأدلة عند التعارض، فيبطل الاستيلاد والرجوع إلى العين المستولدة.(2)

ولكنه غير تام؛ لأن الاستيلاد يقتضي وجود حق للأمة، وهو تشبثها بالحرية، ولهذا لما ذكروا شرائط صحة البيع في كتاب البيع قالوا بأن أحد الشروط أن يكون المبيع ملكاً طِلْقاً، ومثّلوا لما ينافي هذا الشرط، بحيث لا يجوز بيعه، بالعين المرهونة؛ لتعلّق حق الدائن، والموقوفة، وأم الولد، فقهراً يخرج المورد من تحت موارد حكومة «لاضرر»؛ لأنها دلیل امتناني، فيشترط أن لا يكون في جريانه ما يخالف الامتنان على آخر، وجريانه في المقام لحفظ حق المغبون ينافي حقها، فيكون خلاف الامتنان بالنسبة

ص: 150


1- سورة المائدة /1.
2- فقه الإمامية 2/453.

لها، فإطلاق «لا ضرر» قاصر.

وعليه، فيبقى دليل المنع عن نقل الأمة المستولدة بلا مانع، فتكون النتيجة بالعكس، فالنسبة بينهما وإن كانت العموم من وجه إلا أن دلیل المنع من نقلها هو المقدم؛ فلا يجوز ردّ أم الولد بإعمال الخيار.

وإن كان مستند الخيار الشرط الارتكازي، فمعنى ذلك أن بناء العقلاء في المعاملات على عدم الغبن، فكل عاقل أخذ في المعاملة شرط عدمه ضمناً بحسب الارتكاز العقلائي، فيكون بحسب الدلالة الالتزامية قد اشترط لنفسه خيار الفسخ لو كان مغبوناً، فيكون الدليل عليه إطلاق دليل «المؤمنون عند شروطهم»(1)؛ لعدم الفرق بين كون الشرط مذكوراً أو ضمنياً، وهذا الدليل أخذ فيه قيد «إلا ما حرّم حلالاً أو حلّل حراماً»، وشرط «أن لا يخالف الكتاب والسنة»، وبما أن دليل المنع عن نقل الأمة مطلق حسب الفرض، فيشمل حتى صورة النقل بسبب خيار الغبن، فهو يرفع موضوع دليل الشروط؛ لأن اشتراط الخيار في بيع الأمة ولو صارت مستولدة فيما بعد يقتضي مخالفة الحكم الشرعي، فيكون الشرط محلّلاً للحرام، ومخالفاً للسنة، ونتيجة ذلك حكومة دليل المنع من نقل الأمة المستولدة على دليل الشروط.

نتيجة البحث في المسألة

والنتيجة مما تقدم: أنا إن قلنا بأن متعلّق الحق هو العقد، فلا تندرج المسألة في باب التزاحم ولا التعارض؛ لاختلاف متعلقيهما وعدم المنافاة بينهما، فمتعلق حق الخيار هو العقد، ومتعلّق حق الأمة هي العين، ولهذا قال المحقق الأصفهاني (قدس سره) بعد طرح كلام الشيخ (رحمة الله) : «وإنما جعله احتمالاً لما أفاده من أن تزاحم السببين وتعيين

ص: 151


1- وسائل الشيعة 21/276، ح4، الباب 20 من أبواب المهور، موثقة منصور بن يونس بُزُرج، و 18/16، ح1، الباب 6 من أبواب الخيار، صحيحة عبدالله بن سنان، بلفظ «المسلمون».

الأسبق في التأثير إنما يكون في ما إذا كان منافاة بين الحقين؛ لتكون مزاحمة بين السببين، وحق الخيار حيث إنه متعلّق بالعقد فيجتمع مع إمكان ردّ العين بنفسها وعدمه، فلا ينافي مثل هذا الحق لحق أم الولد المانع عن الردّ؛ وإذ لا منافاة بين الحقيقن فلا تزاحم بين السببين»(1)

وإن قلنا بأن متعلق الحق استرداد العين، فيحصل التنافي قطعاً بين الحقين، حق المغبون في ردّ العين، وحق الأمة المقتضي لعدم الردّ، فهل هو من صغريات باب التزاحم أو التعارض؟ الحق أنه من باب التعارض، خلافاً لما أفاده الشيخ (قدس سره) وغيره من الأعلام قدست أسرارهم؛ لكون التنافي في مقام الجعل بين الإطلاقين بنحو العموم والخصوص من وجه، وذلك آية التعارض، فينبغي جریان قواعده كما أوضحناه.

ولو تنزلنا وقلنا بأن المورد من باب التزاحم، فقد رجّح الشيخ (قدس سره) ومن تبعه حق الخيار؛ لكونه أسبق، إلا أن المحقّق في محله عدم الترجيح بين المتزاحمين بالأسبقية؛ فإن أحد السببين وإن كان أسبق حدوثاً إلا أنهما متنافيان بقاء.

وبعبارة أخرى: إن المرجح في باب التزاحم هو خصوص الأهمية، ولا عبرة بكون أحدهما أسبق؛ لأن السبب والموضوع دخيلان في الحكم آناً فآناً، فحينما وجد السبب الأسبق أولاً كان هو السبب بلا مزاحم، ولما وجد الآخر وجد المزاحم بقاء فيحتاج إلى مرجّح فعلاً.

المسألة الرابعة: في تصرف الغابن بالعقد الجائز
اشارة

إن العقد الجائز على نحوين؛ إذ تارة يكون الجواز حقياً، كالجواز في البيع الخياري، وأخرى يكون حكمياً، كالجواز في الهبة غير المعوضة لغير ذي رحم، والبحث فيه تارة من جهة بقاء حق المغبون وارتفاعه، وأخرى في حكم ردّ العين.

ص: 152


1- حاشية المكاسب للمحقّق الأصفهاني (قدس سره) 4/292.

أما الجهة الأولى، فلا إشكال في بقاء حق المغبون؛ فإنا أثبتنا بقاءه فيما لو نقل الغابن العين بالعقد اللازم، أو فكّها عن ملكه كما لو وقفها مسجداً أو أعتق العبد، فبالأولوية القطعية فيما لو نقلها بالعقد الجائز.

وإنما الكلام في الجهة الثانية، فقد ذهب الشيخ (قدس سره) إلى عدم ردّ العين، والانتقال إلى بدلها؛ لأن تصرّف الغابن بالبيع الجائز، أو بالهبة غير المعوضة تصرّف صحیح، صدر من أهله ووقع في محله؛ بمقتضی سلطنته على ما يملكه، وإطلاقات أدلة البيع والهبة.

وأما كون العقد جائزاً، فلا يقتضي الفسخ؛ لأن الجواز إن كان حقياً كما في العقد الجائز، فهو حق قائم بذي الحق وهو الغابن، وأما المغبون فهو أجنبي، فلا دليل على تسلّطه عليه، وإن كان حكمياً كما في الهبة، فهو قائم بطرفي العقد، والمغبون أجنبي عنه أيضاً، وعليه فلو فسخ المغبون فلا مجال إلا ردّ البدل إليه.(1)

كلام الشهيد الثاني

ثم نقل كلام الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك من قوله: «ولو كان العقد الناقل مما يمكن إبطاله كالبيع بخيار للمشتري، والهبة قبل القبض، احتمل قويّاً إلزامه بالفسخ، فإن امتنع فسخ الحاكم، فإن تعذّر قيل: يفسخ المغبون، بل قيل: إن له الفسخ مطلقاً...»(2)

وأساس رأي الشهيد الثاني (قدس سره) أن للمغبون حقاً متعلّقاً بالمال الذي نقله الغابن بالعقد الجائز؛ لأن له الخيار، ولكل ذي حق إلزام من عليه الحق، ففي الدرجة الأولى له أن يلزم الغابن بالفسخ، وإن لم يفسخ كان ممتنعاً من أداء الحق، فيرفع أمره إلى

ص: 153


1- المكاسب 5/192.
2- المسالك 3/206.

الحاكم الشرعي؛ لأنه ولي على الحق الممتنع عنه فيقوم الحاكم بالفسخ، وإن تعذّر الوصول إليه قام المغبون بالفسخ.

وبهذا البيان يكون كلام الشهيد (قدس سره) فنيّاً استدلالياً.

إشكال الشيخ على الشهيد الثاني

وأورد عليه الشيخ (قدس سره) : بأن فسخ المغبون إما أن يقتضي دخول العين في ملكه، أو دخول بدلها، فإن كان الأول فلا حاجة إلى الفسخ حتی يتكلم في الفاسخ، وإن كان الثاني فقد وصل إليه حقه، فلا حاجة للعدول عمّا استحقّه بالفسخ إلى غيره.

اللهم إلا أن يقال: بأن البدل المنتقل إلى المغبون بالفسخ إنما هو بدل الحيلولة، فإذا أمكن ردّ العين وجب على الغابن تحصيلها.

ولكن يندفع بأن بدل الحيلولة إنما يتمّ في حال كون العين باقية على ملك المغبون، وأما مع عدمه، وتملّك المغبون للبدل، فلا دليل على وجوب تحصيل العين.(1)

انتصار المحقّق الخراساني للشهيد الثاني

وأورد عليه المحقّق الخراساني (قدس سره) في كلتا جهتيه:

أما الجهة الأولى: فبأن فسخ المعاملة هو حلّ العقد الواقع، وحقيقة حلّه رجوع كل من العوضين إلى محله، فما انتقل إلى المغبون يرجع إلى الغابن، وما انتقل إلى الغابن يرجع إلى المغبون، والفسخ في المقام وإن لم يكن مقتضياً بنفسه لدخول العين في ملكه حقيقة؛ لخروجها عن ملك من انتقلت إليه، ولكن ترجع إلى ملكه تقديراً، فيكون الغابن ضامناً، فيلزمه المغبون بالفسخ، والتنزّل إلى البدل إنما يكون في ما إذا لم يتمكّن من عين المبدل، والمفروض في المقام تمكّنه منها بالفسخ.

وأما الجهة الثانية: فلأن بدل الحيلولة لا ينحصر في ما إذا كانت العين في ملك

ص: 154


1- المكاسب 5/193.

المضمون له، بل يكون ثابتاً ولو خرجت عن ملكه، كما إذا صار الخل خمراً في يد الغاصب؛ فإنه يلزم بتسليم بدل الخل بدلاً للحيلولة مع أنه لا يملك الخمر.

دفع جواب المحقق الخراساني

أما ما أفاده في الجهة الأولى فيندفع: بأن دلیل ردّ العين في المعاملات - بعد الفسخ - هو كونه مال الغير، ولا يجوز التصرف فيه، بل يجب ردّه إلى صاحبه، فيكون وجوب ردّ العين فرع ملكية الغير لها، ومن الواضح أن المراد من هذه الملكية هي الملكية التحقيقية لا الأعم منها، الشاملة للتقديرية؛ فإن الملكية الفرضية ليست موضوعاً لوجوب الردّ؛ فإن الموضوع مال الغير، والفرض والتقدير لا يحقق كونه ماله، فما هو حق للمغبون هو حلّ العقد ليس إلا، فإن كانت العين تحت يد الغابن كان له حق استردادها، وإن لم تكن في ملكه - كما هو الفرض - لم تكن له سلطنة على استردادها؛ لأن الجواز في المعاملة الثانية حق للغابن، أو حكم بينه وبين الموهوب، والمغبون أجنبي عنه، ولا دليل على تسلّطه، كما أفاد الشيخ (قدس سره) ، بل عدم الدليل دليل العدم، فلو شكّ فإن مقتضى الأصل عدم سلطنة المغبون على العين التي وهبها الغابن للغير.

والحاصل: تمامية ما أفاده الشيخ (قدس سره) ؛ فإن حق المغبون يتعلّق بالعقد، فله حق الفسخ، فإن فسخ وكانت العين موجودة حقيقة ردّها بنفسها، وإن لم تكن موجودة كذلك ردّ بدلها، والملكية التقديرية ليست موضوعاً للردّ.

وأما ما أفاده في الجهة الثانية في بدل الحيلولة، من النقض بالخل المنقلب إلى الخمر عند الغاصب، فهو قياس مع الفارق؛ فإن الخمر الذي يكون في معرض صيرورته خلاً متعلَّق لحق المغصوب منه، وهو في معرض أن يعود إلى ملكيته، وأما العين التي انتقلت إلى الغابن، فنقلها إلى الغير في ما نحن فيه، فليست متعلَّقة لحق المغبون، ولا في معرض عودها إلى ملكه.

ص: 155

المسألة الخامسة: لو نقل الغابن المال ثم عاد إليه
اشارة

لو نقل الغابن المال بالعقد الجائز ثم عاد إليه، ففيه ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن يعود إليه بسبب جديد

كأن وهب المال إلى الغير، ثم اشتراه منه.

ذهب الشيخ (قدس سره) في هذه الصورة إلى عدم وجوب ردّ العين؛ لأنه ملك جديد تلقّاه من مالكه، أي أن ملكية الغابن للعين الحاصلة بالسبب الجديد ليست هي الملكية السابقة، والعين صارت طرفاً لمعاملة أخرى غير المعاملة التي حصل فيها الغبن، فليس للمغبون حق المطالبة بالعين وإن كانت في يد الغابن فعلاً؛ فإن الفاسخ إنما يملك بسبب ملكه السابق بعد ارتفاع السبب الناقل.

الصورة الثانية: أن يعود إليه بفسخه للعقد الجائز

وكذا برجوعه في الهبة، ويكون ذلك قبل فسخ المغبون.

واستظهر الشيخ (قدس سره) فيها وجوب ردّ العين؛ وذلك لأن ملكية الغابن للعين لم تكن بسبب جديد، بل بنفس ملكه السابق بعد ارتفاع السبب الناقل بواسطة الفسخ، وحقيقة الفسخ رجوع كل من العوضين إلى محلّه، فالمقتضي لرجوع العين إلى المغبون موجود، والمانع منه مفقود.

الصورة الثالثة: السابقة بعد فسخ المغبون

بأن يعود إليه بفسخه للعقد الجائز، أو برجوعه في الهبة، ويكون ذلك بعد فسخ المغبون.

واستظهر الشيخ (قدس سره) فيها عدم وجوب ردّ العين؛ لأنه تملّك البدل قبل أن يفسخ الغابن، ولا دليل على انتقال حقه منه إلى العين.(1)

ص: 156


1- المكاسب 5/193.
إشكال المحقّق الرشتي على الشيخ

وأورد المحقّق الرشتي (قدس سره) على الصورتين الأولى والثالثة بما حاصله: أن العبرة بالأخذ لا بالفسخ، وتوضيح ذلك:

أما بالنسبة إلى الصورة الثالثة، فحالها ليس بأسوأ من حال المغصوب التالف؛ فإن الفقهاء قالوا بأن المغصوب إذا تلف في يد الغاصب ضمن بدله، ولكن لو قدر له العود ثانية بأمر غير طبيعي يرجع بنفسه إلى المغصوب منه، كما لو وقع في قاع البحر، بحيث لا يمكن ردّه عادة، وعدّ تالفاً، ينتقل الضمان إلى البدل، فلو حصلت زلزلة فخرج إلى شاطئ البحر وجب إعطاؤه للمغصوب منه، وما نحن فيه كذلك، فهو لما كان ملكاً لمن اشتراه من الغابن كان بحكم التالف، فانتقل إلى البدل، ولما رجع إلى الغابن لزم إعطاؤه إياه؛ فإن الرجوع إلى البدل حكم مؤقت ما دام لم تكن العين عنده.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الصورتين الأولى، فإن الملكية الأولى وإن لم تَعُد؛ لأنه عاد بسبب جديد، ولكن القاعدة أن ما يرجع إلى المغبون هو الأقرب فالأقرب إلى ماله، فما دام الأقرب موجوداً لم ينتقل إلى الأبعد، ولا تفرغ الذمة بتسليم الأبعد مع وجود الأقرب، وهو وإن عاد بملكية جديدة إلا أن حاله حال الخل المغصوب إذا انقلب إلى خمر؛ فإنه ينتقل إلى البدل، ولكن إذا عاد خلاً يعود إلى المغصوب منه بعينه.

فالحاصل أن المدار أن ينتقل الضمان إلى الأقرب فالأقرب، فما دام الأقرب موجوداً لم ينتقل إلى الأبعد، والضمان بالبدل من باب الضرورة، والضرورة تتقدر بقدرها، فمتی ارتفع المانع من أخذ العين أخذها.

هذا كله إن لم يأخذ البدل، وإلا فأخذه له رضا به، ومتى حصل التراضي فلا رجوع، فالمدار - إذن - على الأخذ بالرضا، فإن أخذه لم يرجع، وما دام لم يأخذ رجع حقه إلى العين.(1)

ص: 157


1- فقه الإمامية 2/(479-478).
الجواب عن إشكال المحقّق الرشتي

والجواب عن ما أفاده (قدس سره) : أما عن النقض بالغصب ففرق بين الغصب وما نحن فيه؛ فإنه في الغصب تأتي قاعدة اليد، وحديث: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»(1)، فتكون الذمة مشغولة بالعين التي أخذت إلى أن يؤديها الآخذ؛ فإنه لما تلفت العين بوقوعها في قاع البحر كان الغاصب محكوماً بالضمان بالبدل، إلا أن العين لما عادت - ولو بأمر غير طبيعي، وكان ذلك قبل الأداء - انطبق الحديث؛ إذ لا زالت ذمة الغاصب مشغولة بها.

ولكن لا توجد هذه القاعدة، ولا هذا النص في ما نحن فيه، فإسراء الحكم من مورد الغصب إلى ما نحن فيه قياس لا نقول به.

وأما في ما نحن فيه، لما نقل الغابن العين بعقد صحيح إلى الغير، كان مقتضى إطلاق دليل صحة العقد الجائز أن العين غير قابلة للردّ وإن كان للغابن فسخ العقد، إلا أنه لا ملزم له، وليس للمغبون إلا حق فسخ العقد، ومقتضى دليل الصحة أيضاً أن العقد الغبني إذا فسخ ولم تكن العين موجودة انتقل الضمان إلى البدل، فمقتضى الدليل هو الانتقال إلى البدل - كما اعترف المحقّق الرشتي (قدس سره) بذلك أيضاً - فإذا انتقل إليه فمعناه أنه صار ملك المغبون، فإذا فسخ الغابن بعد ذلك ورجع المال إلى ملكه فلا دليل على تبدّل ما في ذمة الغابن من البدل إلى العين.

بل مقتضى الأصل عدم تبدّل ما في ذمته من البدل إلى العين؛ فإنه لما انتقل ما في ذمة الغابن إلى البدل فرغت ذمته من ضمان العين، فإذا عادت وشك في اشتغال ذمته جرى استصحاب براءة ذمته من العين، كما يجري استصحاب بقاء ملكية البدل للمغبون، ومقتضى الاستصحابين أنه إذا فسخ المغبون - قبل عود العين إلى الغابن -

ص: 158


1- مستدرك الوسائل 14/7، ح12، الباب 1 من أبواب الوديعة، نقلاً عن عوالي اللآلي 2/344، ح9.

انحصر حق المغبون في البدل.

وأما تفصيله بين الأخذ وعدمه، فإن أخذ لم يرجع إلى العين، وإن لم يأخذ رجع إلى العين ففيه: أنه بعد أن اعترف - بأن انتقال العين من ملك الغابن بالعقد الجائز يقتضي انتقال الضمان من العين إلى البدل بعد فسخ المغبون، ومعنی انتقالها إلى البدل أن ما يملكه المغبون هو البدل مِثْلاً أو قيمة - فلا يعقل أن يكون له حق في العين، فتكون دعوی تعلّق حقه بالعين مع الاعتراف بانتقال الضمان إلى البدل جمع بين المتنافيين.

كما أن مقتضى الأصل أن لا حق له في ما زاد على البدل، فلا وجه لهذا التفصيل، والحق ما أفاده الشيخ (قدس سره) من التفصيل.

الإشكال على ما أفاده الشيخ

نعم، ما أفاده الشيخ (قدس سره) في ما لو عادت العين بسبب جديد من عدم الردّ مطلقاً غيرُ تام؛ لأن حقيقة الفسخ هو حل العقد، والعقد هو نفس العقدة بين الإيجاب والقبول، والتزام الموجب والقابل، وخاصية هذا الحلّ والانحلال عود العين ما لم تكن تالفة أو بحكمها، فإذا رجعت العين إلى الغابن بالفسخ أو بسبب جدید، فهي موجودة عنده وغير تالفة ولا بحكمها، فإذا فسخ المغبون - بعد ذلك - كان له المطالبة بردّها، والانتقال إلى البدل هو الذي يحتاج إلى دليل.

المختار

فالذي ينبغي أن يقال هو التفصيل المتقدم بين أن يكون فسخ المغبون متقدماً على ردّ الغابن لها أو متأخراً عنه، حتى يلاحظ الانتقال إلى البدل وعدمه، فإن كان فسخ المغبون متقدّماً على ردّ الغابن فقد انتقل الضمان إلى البدل، فلا دليل على تبدّله إلى العين، بل الدليل على خلافه، وإن كان فسخه متأخراً عن ردّ الغابن كان مقتضى القاعدة المطالبة بها، ولا دليل على الانتقال إلى البدل، بلا فرق في ذلك بين السبب

ص: 159

الجديد والفسخ.

هذا تمام الكلام في موارد النقل وحاصله:

أن تصرّف الغابن على أنحاء:

1- التصرّف بالنقل اللازم كالبيع اللازم والصلح.

2- التصرّف بالنقل الجائز كالبيع الخياري والهبة.

3- التصرّف بفك الملك كالوقف والعتق.

4- التصرّف بما يمنع من الردّ كالاستيلاد.

وفي جميع ذلك لا يسقط حق المغبون في الفسخ إلا أنه ينتقل إلى البدل، ولا يلزم الغابن بالردّ حتى في مورد العقد الجائز.

المسألة السادسة: في تصرف الغابن بغير النقل
اشارة

إن تصرّف الغابن في العين بغير النقل على نحوين أساسيين:

الأول: أن لا يوجب التصرّف أي تغيير من الزيادة والنقص والامتزاج، ولا شك في رجوع العين إلى المغبون لو فسخ؛ فإن المقتضي لاسترداد العين موجود، والمانع مفقود.

الثاني: أن يوجب التصرّف التغيير في العين، وله أقسام ثلاثة كما جعله الشيخ (قدس سره) :

1- التصرّف بما يوجب النقيصة في المال.

2- التصرّف بما يوجب الزيادة فيه.

3- التصرّف بما يوجب الامتزاج.

[النحو الأوّل]: أقسام التصرف بما يوجب التغيير بالنقيصة
اشارة

أما التصرّف بالنقيصة، فهو على أنحاء أيضاً:

الأول: أن يوجب النقص في الأجزاء، وفي مثله يردّ ما بقي من العين، ويعطى

ص: 160

المغبون عوض ما يقابل النقص، فأثر الفسخ في هذا النحو هو ردّ العين، وردّ بعض الثمن المقابل للنقص.

الثاني: أن يوجب النقص في وصف الصحة، كما لو صار الحيوان معيباً بسبب تصرّف الغابن

الثالث: أن يوجب النقص في وصف الكمال، كما لو كان المبيع عبداً كاتباً، فنسي الكتابة وقت الفسخ.

ظاهر مراد الشيخ واختياره

والظاهر أن مراد الشيخ (قدس سره) من قوله: «فإمّا أن يكون نقصاً يوجب الأرش»، هو القسم الثاني، ومن قوله: «وإما أن يكون مما لا يوجبه»، هو القسم الثالث؛ لأنه عبّر بالأرش، وهو لا يكون إلا في موارد العيب، والعيب فَقْدُ وصف الصحة.

وعليه فيكون رأي الشيخ (قدس سره) فيهما: الحكم بالضمان فيما يوجب النقص في وصف الصحة؛ حيث قال: «فإن أوجب الأرش أخذه مع الأرش، كما هو مقتضى الفسخ، لأن الفائت مضمون بجزء من العوض...»، والحكم بعدم الضمان فيما يوجب النقص في وصف الكمال؛ حيث قال: «وإن كان مما لا يوجب شيئاً، ردَّه بلا شيء»(1)

ولكن مجرد تعبيره بذلك لا يوجب الجزم بأنه المراد؛ لأنه وإن كان ذلك كذلك في ما يوجب الأرش، إلا أن في نسبة عدم الضمان - في موارد فقد وصف الكمال - إلى الشيخ (قدس سره) إشكالاً.

الإشكال على ظاهر كلام الشيخ

وكيف كان، فإن كان مراده ما ذكرناه فيرد عليه إشكالان:

الأول: أن ما أفاده (قدس سره) في فَقْدِ وصف الصحة على طبق قاعدة الفسخ، ولكن ما

ص: 161


1- المكاسب 5/194.

أفاده في فقْدِ وصف الكمال فعلى خلافها؛ لأن مقتضاها أن يكون المردود نفس ما نقل بالبيع، وإن كان ناقصاً ردّ مع جبران النقص، والحال أن المنقول هو العبد بوصف الكتابة، والمردود هو العبد بدونها، فما أرجع غير ما نقل، ولم يجبر النقص، فما أفاده من التفصيل بين الموردين غير تام [والحكم فيهما الفسخ مع ضمان النقصان].

إن قلت: قال المحقّق الخراساني (قدس سره) : «وأما إذا كان بإزاء صفة الصحة، وإحداث عيب فيها، ففي الأرش إشكال؛ من ثبوته فيما ظهر المبيع معيباً، ومن أن الثمن بتمامه إنما يكون بإزاء العين، لا أن يكون شيئاً منه بإزاء صحتها، وإن كانت موجبة لزيادة قيمتها، كسائر الأوصاف، وإنما كان ثبوت الأرش عند فواتها في عيب المبيع دونها تعبّداً لأجل دلیل خاص»(1)

قلت: بأنا لا نقول بأن الحكم هنا هو الحكم في خيار العيب حتى يقال: بأن الأرش في خيار العيب إنما كان للنص الخاص، ولا نص في المقام.

وإنما نقول: بأن ردّ العين في المقام بدون الجبران على خلاف قانون الفسخ؛ فإن قانونه أن يرجع كل من العوضين إلى صاحبه كما انتقل عنه، فعلى الأخذ أن يردّ نفس ما أخذه، فإذا أخذ الصحيح ردّ الصحيح، وإذا أخذ الكامل ردّ الكامل، وأما إذا أخذ العبد بوصف كونه كاتباً وردّه بدون الكتابة، وأخذ العوض كاملاً، ولم يجبر النقص، كان على خلاف قانون الفسخ بأن يردّ ما أخذه.

الثاني: قال الشيخ (قدس سره) في تعليله للحكم بالأرش في فقد وصف الصحة: «كما هو مقتضى الفسخ؛ لأن الفائت مضمون بجزء من العوض، فإذا ردّ تمام العروض وجب ردّ مجموع المعوض، فيتدارك الفائت منه ببدله».

وظاهر هذا الاستدلال أنه جعل الثمن في مقابل العين والوصف، بحيث يكون

ص: 162


1- حاشية المكاسب /193.

للوصف جزء من الثمن، بينما الأوصاف مطلقاً، سواء أكانت أوصاف صحة أو كمال، لا تقابل بالمال، ولا يكون في مقابلها جزء من الثمن، وإن كان لها تأثير في زيادته، بمعنى أن الثمن يقابل العين وأجزائها، فيقسط الثمن عليها بحسب أجزائها، وأما الأوصاف فتوجب ارتفاع ثمن العين ونقصانها، فالثمن يقابل العبد إلا أن العبد إذا كان كاتباً كانت قيمته أعلى من العبد إذا لم يكن كاتباً، والعبد إذا كان سليماً كانت قيمته أعلى مما إذا كان معيباً، ومع وضوح ذلك لا يتمّ استدلال الشيخ (قدس سره) ؛ لأنه أوجب الأرش بمقتضى قانون التبعيض في الثمن، والحال أن هذا القانون يأتي في الأجزاء لا في الأوصاف.

الحق في المسألة

والحق في المسألة أن يضمن ما نقص مطلقاً في الأقسام الثلاثة؛ وذلك لما قلناه سابقاً: من أن مقتضى قانون الفسخ أن يردّ ما أخذه؛ فإن يد الغابن يد ضمان وليست مجانية، فإن فسخ المغبون وكانت العين موجودة بنفسها سلّمها له، وإن كانت تالفة ضمن بدلها، وإن كانت ناقصة بعض أجزائها نقص من الثمن بنسبته، وإن كانت ناقصة بعض أوصافها أرجعها مع ما به التفاوت ما بين الواجد والفاقد؛ فإن الثمن في المعاملة وإن لم يكن في مقابل الأوصاف، إلا أنه وقع في مقابل العين مع أوصافها، فالذي وقع تحت استيلاء الغابن هو العبد الكاتب، لا العبد مجرداً عنها، أي العبد الذي قيمته ألف دينار، لا العبد الذي قيمته ثمان مائة دينار فعليه الضمان.

والحاصل: أنه لا بدّ من أداء ما به التفاوت بمقتضى قانون الفسخ، وبمقتضى أن هذا المال كان مضموناً بالضمان المعاوضي في برهة، وبضمان اليد في برهة أخرى؛ لعدم انحصار الضمان في اليد العدوانية، بل أحد أسبابه اليد غير المجانية، وهو المراد في المقام.

ص: 163

تصرف الغابن بالإجارة

ألحق الشيخ (قدس سره) بالتصرف الذي لا يوجب التغيّر إجارة العين، فلو فسخ المغبون العقد فوجد العين مستأجرة رجعت العين له مسلوبة المنفعة، ولا يجب على الغابن بذل عوض المنفعة المستوفاة بالنسبة إلى بقية المدة بعد الفسخ.(1)

واحتمل ما ذهب إليه المحقّق القمي (رحمة الله) من انفساخ الإجارة في بقية المدة.(2)

ونقل عن العلّامة (رحمة الله) في القواعد: أن الأجرة للغابن المؤجر، ووجب عليه للمغبون أجرة المثل للمدة الباقية بعد الفسخ.(3)

وجوه المسألة
اشارة

ففي المسألة ثلاثة أوجه:

مختار الشيخ

الوجه الأول: ما اختاره الشيخ (قدس سره) ، ودليله على ذلك: أن المنفعة من الزوائد المتخللة بين العقد والفسخ، فهي ملك للغابن؛ فإنه حين الإجارة كان مالكاً للعين، وكل من يملك العين يملك منفعتها إلى الأبد؛ فإن المنفعة الدائمة تابعة للملك المطلق، فإذا تحقّق في زمان ملك منفعة العين بأسرها، فتصحّ الإجارة بمقتضى الدليل الخاص والعام، فينتقل ملك المنفعة إلى المستأجر، ويملك الغابن المؤجر مال الإجارة الذي هو عوض المنفعة المملوكة له، فإذا فسخ المغبون حينئذٍ عادت له العين مسلوبة المنفعة، وهذا النقص لا يوجب الأرش.

مختار المحقّق القمي
اشارة

الوجه الثاني: ما اختاره المحقّق القمي (قدس سره) من انفساخ عقد الإجارة في بقية

ص: 164


1- المكاسب 5/194.
2- جامع الشتات 3/(432-431)، المسألة 203.
3- القواعد 2/96.

المدة؛ لأن المنفعة تابعة للعين، فإن كانت ملكية العين مستقرة كانت ملكية منفعتها كذلك، وإن كانت ملكية العين متزلزلة كانت منفعتها كذلك، وبما أن ملكية العين في المقام متزلزلة؛ بسبب خيار الغبن فملكية المنفعة كذلك، فإذا فسخ المغبون العقد انفسخت الإجارة.

إشكال الشيخ على المحقّق القمي

وأجاب عنه الشيخ (قدس سره) : بأن ملكية المنفعة وإن كانت تابعة لملكية العين، إلا أن تزلزل ملكيتها غير تابع لتزلزل ملكية العين؛ فإن تزلزل ملكية العين يدور مدار وجود الخيار، وهو موجود في المقام حسب الفرض، وأما المنفعة، فإن كانت من الزوائد المتصلة فهي تابعة للعين؛ لكونها جزءاً منها، وإن كانت من الزوائد المنفصلة، فلا دليل على تبعيتها للعين في التزلزل.

وعليه فبما أن الغابن يملك العين فهو يملك المنفعة إلى الأبد مثل بقية الأملاك ذات الملكية المستقرة، فإذا أجّرها فهو يملك الأجرة، وليس للمغبون بعد الفسخ إلا العين.

مختار العلّامة

الوجه الثالث: ما ذهب إليه العلّامة (رحمة الله) في القواعد، والوجه فيه: أن الإجارة محكومة بالصحة بمقتضى القاعدة؛ لأن الغابن يملك العين ومنفعتها حينها، إلا أن ملكيته المستقرة لها تستمر إلى حين الفسخ، وما بعده، وإن كان يملكها فعلاً إلا أنها متعلّقة لحق المغبون؛ إذ لا معنى لأن ترجع له العين مسلوبة المنفعة، وبما أنه فوّت عليه المنفعة في المدة الباقية وجب عليه إعطاؤه أجرة المثال لها، فالجمع بين الحقين يقتضي أن تصحّ الإجارة، وأن يضمن المدة الباقية بعد الفسخ.(1)

ص: 165


1- المكاسب 5/194.
التحقيق في المسألة

والتحقيق في المسألة: أن ما أفاده الشيخ (قدس سره) من أن الغابن يملك المنفعة إلى الأبد؛ لأنه يملك العين، وملكيتها تقتضي ذلك فهو على مقتضى الصناعة، إلا أن هنا أمراً آخر ينبغي ملاحظته وتحقيقه، وهو الضمان المعاوضي بالبيع الأول، فنقول:

إن العقود على قسمين:

الأول: ما لا ضمان في صحيحه، كالهبة؛ فإن الواهب يملّك المال للموهوب مجاناً، وبلا عوض.

الثاني: ما فيه الضمان، وهو ما فيه معاوضة، فيكون مبنياً على الضمان؛ أي أن نفس العقد يقتضي الضمان، كالبيع؛ بمعنى أن كلاً من المتبايعين أخرج المال من كیسه بضمان العوض والبدل، فيسمى هذا الضمان، الضمان المعاوضي، في مقابل الضمان الحاصل من استيلاء الید، فإن كان البيع صحيحاً كان الضمان بالمسمّى، وإن كان فاسداً كان الضمان بالمثل أو القيمة.

ومن هذا القسم الإجارة، فإن كانت صحيحة كان الضمان بالأجرة المسماة، وإن كانت فاسدة كان الضمان بأجرة المثل.

هذه هي القاعدة في العقود المعاوضية، وحينئذ فما دام العقد موجوداً فهو يقتضي أن تكون ملكية العوضين للطرفين على التبادل، بمعنى أن كل واحد منهما يملك ما عند الآخر في مقابل ما يعطيه له من العوض، فإذا فسخ أحد الطرفين، فالعقد يقتضي بذاته أن يرجع ما انتقل منه بالمعاوضة إليه، فإن كان موجوداً فبنفسه وإلا فيبدله؛ بدليل أنه لو تلف في يد الغابن كان من ماله، فإذا فسخ المغبون أعطاه الغابن بدله اتفاقاً.

وحينئذٍ، فحلّ المسألة في هذه النكتة: أن مقتضى العقود المعاوضية أن العقد ما دام موجوداً، فكل عوض محفوظ ببدله، فإذا انفسخ العقد عاد العوض إلى محلّه على ما

ص: 166

كان عليه، فبما أن العين عند المعاملة لم تكن مسلوبة المنفعة، فإرجاعها بعد الفسخ مسلوبة عنها على خلاف قانون الضمان المعاوضي وحقيقة الفسخ؛ فلا بدّ أن ترجع بنحو ما كانت عليه.

فالجمع بين الأدلة يقتضي القول بصحة الإجارة، وأن الأجرة ملك للغابن، ولكن بما أن المنفعة في [ال-]-مدة [التي بقيت من] الإجارة قد تلفت على المغبون، ولم يمكن ردّها مع العين، فلا بدّ من تقويم العين مع المنفعة، وتقويمها مسلوبتها، وضمان ما به التفاوت؛ بمقتضى قانون الفسخ، والضمان المعاوضي.

التصرف بما يوجب التغيير بالزيادة
اشارة

وأما التصرف بما يوجب التغيير بالزيادة فهو على نحوين:

النحو الأوّل: الزيادة الحكمية
اشارة

ولها صورتان:

الأولى: أن لا يكون للزيادة مدخل في زيادة القيمة، فلا توجب شيئاً؛ لأنه إنما عمل في ماله، وعمله لنفسه غير مضمون على غيره، ولم يحصل منه في الخارج ما يقابل المال ولو في ضمن العين.

الثانية: أن توجب ارتفاع القيمة كما لو اشترى العبد فعلّمه الكتابة أو صنعة، وهي محل بحث بين الأعلام، وفيها أقوال:

الأقوال في الزيادة الحكمية
القول الأوّل

ما استظهره الشيخ (قدس سره) من ثبوت الشركة في العين بنسبة تلك الزيادة، بأن تقوّم العين معها وبدونها، وتؤخذ النسبة بين الواجد والفاقد، فیكون شريكاً بمقدار النسبة،

ص: 167

فلو كانت قيمته بدون الكتابة خمس مائة دينار، وقيمته معها بألف دينار كان شريكاً له في النصف، وهكذا... .(1)

فإن كان مراده (قدس سره) كما استظهره الفقيه السيّد اليزدي (قدس سره) وغيره من أنه أراد الشركة في العين بالنسبة(2) فالإشكال فيه واضح؛ لأن الشركة في العين تقتضي تبدّل المالك والمملوك والملكية، فيحتاج ذلك إلى دليل مفقود.

القول الثاني

ما عن الشهيد الثاني (قدس سره) من أن له أجرة عمله.

وفيه: أنه لا معنى للأجرة؛ لأنه إنما عمل في ماله وملكه، وعمله لنفسه غير مضمون على غيره.

وبعبارة أخرى: إن الأجرة لا تكون إلا بعقد الإجارة، أو بالقيام بعمل يقتضي الأجرة، وكلاهما منتفيان، أما الأول فواضح، وأما الثاني؛ فلأن عمله في ماله، فلا يستحق على غيره شيئاً.

القول الثالث

الشركة في المالية التي تبّناها عدّة من الأعاظم في موارد متعددة من الفقه، وحاصلها: أن لا يكون الغابن شريكاً للمغبون في عين المال، بل في ماليته الاعتبارية بنسبة تلك الزيادة، فلو كانت قيمته بدون الزيادة بخمس مائة دينار، وصارت قیمته معها بألف دينار كان شريكاً له في نصف القيمة، بحيث يبيعها ويعطيه النصف.

إشكال المحقّق الأصفهاني على الشركة في المالية

وقد وقع هذا القول موقع الإشكال، فأورد عليه المحقّق الأصفهاني (قدس سره) : بأن

ص: 168


1- المكاسب 5/195.
2- حاشية السيّد اليزدي (قدس سره) على المكاسب 2/556.

الشركة في المالية والقيمة إما أن تكون بتبع الشركة في العين، بمعنى أن تحصل الشركة في العين، وبالتبع تحصل في المالية، وإما أن تكون بالاستقلال، والأول غیر معقول هنا؛ لأن العين مختصة بمالكها، والشركة فيها يحتاج إلى سبب، ولم يوجد سبب من الأسباب المملّكة بالنسبة إليها بعد الفسخ.

والثاني لا معنى له؛ لأن الشركة بالاستقلال لا تكون إلا في الأمور الخارجية، كأن تحصل الشركة في أرض أو متاع خارجي، ولا تقع في الأمور الاعتبارية، والمالية أمر اعتباري.

نعم، حيث إن العين لا بدّ من رجوعها بما هي عليه من الأوصاف المقوّمة للمالية حال الفسخ، وهذا الوصف الموجب لزيادة قيمتها زائد على تلك الأوصاف، فالمالية الزائدة غير القابلة للانفكاك عن العين تكون كالشركة، من حيث الإشاعة التي لا تنفك إلا بعد الإفراز، فهذه المالية الزائدة تكون لمن أحدثها في العين العائدة.(1)

المناقشة في كلام المحقّق الأصفهاني

ولا يخفى أن إشكاله (قدس سره) - لو تمّ - لكان سارياً في جميع موارد الشركة في المالية، ولكنه مردود:

أولاً: بأن مبناه أن كل واحد من العوضين بما له من الخصوصية عند الفسخ يرجع إلى من انتقل منه بالمعاملة الغبنية، ومختاره أن الخصوصية الطارئة أمر زائد، فيكون متعلّقاً لحق الغابن، والسؤال:

بما أن المالية التي حصلت في العين بسبب وصف الكتابة حق للغابن، فهي إما مفروزة أو مشاعة، ولا سبيل إلى الاحتمال الأول، فيتعيّن الثاني؛ لعدم وجود مالية مفروزة معينة في العين؛ لأن العين وإن كانت قیمتها بحسب أوصافها، إلا أنها غير

ص: 169


1- حاشية المحقّق الأصفهاني (قدس سره) 4/(298-297).

معيّنة من حيث مقابلتها بأوصافها؛ لأن الأموال في مقابل الأعيان، لا في مقابل الأوصاف، وإنما الأوصاف واسطة في زيادة مالية العين، فللعين الفاقدة للوصف قيمة محددة مقدرة، وللواجدة ضعف قيمتها مثلاً، ولا توزّع القيمة بحيث جزء منها في مقابل العين والأوصاف الموجودة من السابق، والجزء الآخر في مقابل الوصف الجديد، الكتابة في المثال.

وبعبارة مختصرة: أن القيمة في مقابل الأعيان لا الأوصاف.

وعليه: بما أن المالية التي أحدثها الغابن في مقابل وصف الكتابة ليست مفروزة ولا معيّنة، يتعيّن أن تكون مشاعة؛ إذ لا واسطة بينهما.

وثانياً: بأن دعواه بانحصار الشركة في المالية في الخارجيات بلا دليل؛ فإن الشركة في المالية وإن كان ثبوتها في الخارجيات أمراً مسلّماً إلا أن نفيها عن الأمور الاعتبارية يحتاج إلى دليل؛ فإن دعوى النفي - كدعوى الإثبات - لا بدّ لها من دلیل.

وأما الدليل على ثبوتها في المالية، فهو قيام السيرة العقلائية القطعية على ذلك، فإن هذه الخصوصية التي حصلت في المال عند الغابن - سواء أكانت بفعله، كما لو عَلَّمَ العبدَ الكتابة أو الصنعة، أم كانت من غير فعله كأن تعلمها العبدُ بنفسه - حصلت في ملكه، وعندما حصلت في ملكه لا يمكن أن تكون هذه الصفة بلا مالك، فإن العبد لما كان في ملكه كان في ملكه بجميع أوصافه، ولا يَخْلُط بين كون الوصف مملوكاً للمالك، وبين عدم جعل جزء من الثمن في مقابله؛ فإن الأوصاف - كالأعيان - مملوكة لملاك الأموال، فكما أنه يملك العين فهو يملك أوصافها، فيكون هذا الملك طرف إضافة للغابن، فيلزم إما أن يكون شريكاً في العين أو في ماليتها، وسلب حقه عنها على خلاف السيرة العقلائية القطعية.

وبعبارة أخرى: إن ثبوت الحق في هذه العين بعد حدوث الوصف في ملكه، مما لا إشكال فيه، وللعین حیثیتان، حيثية الذات والعينية، وهي الأمر الخارجي، وحيثية

ص: 170

المالية، وهي الأمر الاعتباري، وبما أن متعلق الحق ليس هو الأمر الخارجي؛ بمقتضى الدليل المتقدم، فيتعيّن أن يكون الأمر الاعتباري، وبما أنه غير مفروز فهو مشاع، وهذا هو معنى وحقيقة الشركة في المالية في جميع مواردها.

خلاصة البحث وبيان المختار

فيتلخّص مما تقدم: أن العين إذا زادت زيادة حكمية، وفسخ المغبون كان الغابن شريكاً له في المالية، لا في نفس العين، كما هو المستظهر من كلام الشيخ (قدس سره) ، ولا أن له الأجرة كما هو رأي الشهيد الثاني (قدس سره) .

النحو الثاني [من أقسام التصرف بما يوجب]: الزيادة الخارجية
اشارة

كأن يشتري الغابن أرضاً فيغرسها، وفي المسألة ستة أقوال، إلا أن أهمها ما ذكره الشيخ (قدس سره) وهي ثلاثة:

القول الأول

أن المغبون مسلّط على القلع بلا أرش(1)، والدليل عليه أمران:

الأول: أن صفة كونه(2) منصوباً المستلزمة لزيادة قيمته(3) إنما هي عبارة عن كونه في مكان صار ملكاً للغير، فلا حق للغرس، كما إذا باع أرضاً مشغولة بماله وكان ماله في تلك الأرض موجباً للزيادة في القيمة فلصاحب المكان أن يقول له ارفع متاعك من الأرض، ولا حق للآخر في الامتناع.

ص: 171


1- نسبه الشيخ (قدس سره) في المكاسب 5/195، إلى العلّامة في المختلف، في الشفعة، قال العلّامة في المختلف 5/356: (والمختار أن نقول: إن اختار المشتري القلع كان له ذلك، وعليه أرش ما نقص من الأرض بذلك، وطم الحفر؛ لأنه يطلب تخليص ملكه من ملك غيره، فعليه أرش ما ينقص بذلك، كما لو أراد كسر القدر؛ لتخليص رأس دابته).
2- الغَرَس.
3- الأرض.

الثاني: أن الغرس إنما وقع في ملك متزلزل، فله الحق في البقاء ما دام في ملكه، وأما بعد انتقاله عن ملكه فلا دليل على استحقاقه لبقاء الغرس.

القول الثاني

عدم تسلّط المغبون عليه مطلقاً.(1)

والدليل عليه أمران:

الأول: أن الشجر الذي غرسه الغابن قبل الفسخ ليس بحكم المال في الدكان؛ لأن النسبة بين الشجرة المغروسة والشجرة المقلوعة نسبة التباين تقريباً، ونسبة الحي إلى الميت، بخلاف المتاع في الدكان، بحيث يكون تفاوت قیمته باعتبار المكان.

الثاني: مفهوم ما روي عنهم (علیهم السلام) «ليس لعرق ظالم حق»(2)؛ فإن مفهومه أن لعرق غير الظالم حقاً، والغابن لما غرس الشجر في الأرض كانت الأرض ملكاً له، فتصرّفه فيها كان عن حق، وعرق كل ذي حق محترم شرعاً.

ونتيجة هذين الوجهين: أنه ليس للمغبون حق في قلع شجر الغابن.

القول الثالث

ما اختاره الشيخ (قدس سره) واعتبره مقتضي التحقيق، من تسلّط المغبون على قلع الشجر مع ضمانه للغابن الأرش، وهو التفاوت ما بين قيمته منصوباً مغروساً وقيمته مقلوعاً.(3)

وتوضيح دلیله (قدس سره) : أن ما يملكه الغابن هي الشجرة قائمة في الأرض، وقد غرسها لما كانت الأرض ملكاً له، ولما فسخ المغبون العقد عادت الأرض إلى ملكه من

ص: 172


1- نسبه الشيخ (قدس سره) في المكاسب 5/195، إلى المشهور.
2- وسائل الشيعة 19/157، ح3، الباب 33 من أبواب الإجارة، خبر عبدالعزيز بن محمّد.
3- المكاسب 5/197.

دون الشجر المغروس فيها، ومن حق المغبون تخليص ماله عن مال صاحبه، فباعتبار أن الأرض ملكه وله تخليص ماله عن مال صاحبه يجوز له قلع الشجر، وباعتبار أن الغابن يملك الشجرة قائمة، لا مقلوعة فله الأرش، وهو مابه التفاوت بین الشجرة قائمة ومقلوعة.

تحقيق المحقّق الرشتي في المسألة
اشارة

وذهب المحقّق الرشتي (قدس سره) إلى ما ذهب إليه الشيخ (قدس سره) ، من جواز القلع، مع الأرش، واستدل على كلتا الجهتين بما اقتضاه من التحقيق:

أما الجهة الأولى: ففي ثبوت الحق للمغبون في قلع الشجر، وبيانه: إن ما يضعه الغابن في الأرض من الزرع على قسمين:

الأول: ما لم يبن فيه على البقاء في الأرض كزراعة النباتات والبقول؛ فإنه يضعه فيها لوقت محدود، وأمد معیّن.

الثاني: ما يبنى فيه على البقاء كغرس الأشجار؛ إذ ليس له أمد، فيبني على بقائها ما دامت موجودة، عشرين عاماً أو ثلاثين أو أكثر.

فإذا كانت الأرض سالمة عن مزاحمة الحقوق، فلو غرس فيها غرساً لكان ذلك مبنياً على الدوام قطعاً من غير إشكال، كما في أملاك الملاكين السالمين عن الحقوق، بمعنى أن المِلْك كان طلقاً لصاحبه، فإذا غرس ذلك المالك أشجاراً، ثم باع الأرض من دون أغراسها، فلا يجوز للمشتري قلع تلك الأغراس، التي بنيت حين غرسها على الدوام، ويستحق للبقاء أيضاً، لأن الأرض إنما اشتريت مشغولة بتلك الأشجار، فلا يكون للمشتري سلطنة على قلعها قطعاً حينئذٍ.

وأما إذا كانت الأرض مشغولة لحق الغير، فالغرس فيها - مع اشتغالها في حق - لم يكن مبنياً على الدوام، كما إذا غرس فيها مع تعلق حق الشفيع والمغبون، فلصاحب الحق - حينئذٍ - سلطنة على قلع الغرس؛ لسبق حقه، فيكون مانعاً عن بناء الغرس على

ص: 173

الدوام، فيكون للمغبون في المقام سلطنة على القلع كالشفيع.

وهذا معنى قول الفقهاء قدست أسرارهم: إنّ الغرس إنّما وقع في ملك متزلزل، أي أن الغرس وقع في أرض متعلّقة لحق المغبون، فلا يكون مبنياً على البقاء.

إن قلت: لو كان للمغبون سلطنة على القلع فقلع، للزم الضرر على الغابن.

قلت: بأن الضرر يتوجه على كليهما؛ فإن بقاء الغرس في الأرض ضرر على المغبون أيضاً؛ فإن للأرض المشغولة بغرس الغابن قيمة مغايرة لقيمة الأرض الخالية منه.

وعليه فيتعارض الضرران؛ لأن كليهما مشمولان لقاعدة «لاضرر»، وليس أحدهما بخارج منها، كما في تصرّف الغاصب، أو المشتري بعقد فاسد، فإذا تعارضا تساقطا ورجع إلى قاعدة «الناس مسلطون على أموالهم»، وهي تقتضي جواز إزالة الغرس عن ملك المغبون.

فالنتيجة: أولاً: أن للمغبون الحق في قلع الغرس؛ لعدم كون الغرس مبنياً على البقاء؛ لكون الأرض مشغولة لحق الغير.

وثانياً: ولو تنزّل عن ذلك، ولزم تضرر كل منهما، فالضرران يتعارضان فيسقطان، ومن ثَمَّ يتمسك بقاعدة السلطنة، وهي تثبت الحق للمغبون في قلع الغرس أيضاً.

ولا يقال: بأن القاعدة مقيدة بأن لا يكون ضرر على الغابن.

لأنه يقال: بأن ضرره سقط بالتعارض، فتسلم قاعدة السلطنة عن المعارض.

وأما الجهة الثانية: ففي وجوب الأرش على المغبون:

وقال فيها: ظاهر المشهور ممن تعرّض للمسألة وجوب إعطاء الأرش على المغبون لصاحب الغرس تداركاً لضرره؛ حيث كان المختار في الجهة الأولى جواز قلعه

ص: 174

للمغبون، وعلّله صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله: «لأنه مقتضى الجمع بين الحقين»(1)؛ فإن من حق المغبون أن يخلّص ملكه من الغرس؛ إذ في بقائه ضرر عليه، وبما أن في قلعه ضرراً على الغابن، فمن حق الغابن أن يتدارك ما فاته، فيعطى الأرش.

وأورد على التعليل: بأن القول بجواز قلع الشجر إنما هو من جهة استلزام بقائه للضرر على صاحب الأرض، فلو قيل بلزوم الأرش علی صاحب الأرض في صورة قلعه للزم الفرار من الضرر إلى ضرر آخر.

ولكن مقتضى القاعدة - بما أن البقاء ضرر على المغبون، والقلع ضرر على الغابن ويتعارض الضران ويسقطان - الرجوع إلى قاعدة السلطنة، ومقتضاها سلطنة صاحب الأرض على جواز تصرّفه في أرضه كيف يشاء، وإن استلزم ضرراً على صاحب الغرس، ونتيجة ذلك عدم الأرش.

نعم، يمكن أن يستدل لقول المشهور - وإن لم ينصوا عليه - بقاعدة الإتلاف؛ فإن أقصى ما تدلّ عليه قاعدة السلطنة جواز إزالة الغرس، ولكنها ساكتة عن أنه مع وجوب الضمان أو بدونه، فلا ينافي جواز القلع مع الأرش؛ بقاعدة الإتلاف؛ فإن قلع الشجر إتلاف من المغبون لمال الغابن، ومن أتلف مال غيره فهو له ضامن، ولا تبرأ ذمته إلا بإعطاء الأرش.

إن قلت: بعدم جریان قاعدة الإتلاف؛ لإذن الشارع بقلعه، وإذن المالك الحقيقي به يرفع الضمان، كما لو أذن المالك بإتلاف ماله.

قلت: إن إذن الشارع إنما يقتضي عدم حرمة الإتلاف، وجواز إزالة ملك الغير عن ملكه، ولا تنفي الضمان، ولا سببية الإتلاف له، كما هو الحال في موارد جواز

ص: 175


1- جواهر الكلام 23/46.

الأكل من مال الغير في أيام المخمصة.(1)

المناقشة في تحقيق المحقق الرشتي

وفي تحقيقه مواقع للنظر:

[النظر الأوّل]: قوله - لإثبات أن الغرس ليس مبنياً على البقاء في صورة تعلّق الحق، فيكون لصاحب الحق - حينئذٍ - سلطنة على قلع الغرس - بسبق حقه، فيكون مانعاً عن بناء الغرس على الدوام.

يرد عليه: أولاً: أن مقتضی كون حقه غير مبني على الدوام أن يكون محدوداً بفسخ المغبون، وحينئذٍ ينتفي حقه بعد الفسخ، فكيف يقال بتقديم حق المغبون على حق الغابن مع انتفاء حق الثاني، والتقديم فرع وجود كليهما؟

وبعبارة أخرى: إن التقدم بالسبق الزماني في موارد التزاحم يتوقف على مقدمتين:

الصغرى: وجود الحقين.

الكبرى: الترجيح بالسبق الزماني.

أما الكبرى، فقد اختلفت فيها الأنظار، ورأينا عدم الترجيح به، إذ في حال عدم وجود المسبوق، لا وجود للمزاحم للأسبق، وفي حال وجود المسبوق، فهما موجودان معاً، ويكونان متزاحمین بقاء، ولا دليل عقلاً ولا شرعاً على ترجيح أحدهما على الآخر بمجرد كونه أسبق زماناً، ولا مرجح آخر في البين؛ لانتفاء الأهمية حسب الفرض.

وأما الصغرى، فلا وجود للحقين معاً، لأن حق الغابن - كما اعترف به - محدود بالفسخ؛ بمقتضی تعلّق حق المغبون، فينتفي حقه بمجرد فسخ المغبون.

فالقول بأن حق الغابن محدود بالفسخ، والغرس غير مبني على الدوام، والقول

ص: 176


1- فقه الإمامية 2/(488-485).

بتقديم حق المغبون لكونه أسبق، جمع بين المتنافيين.

وثانياً: أنه (قدس سره) قال: بأن غرس الغابن في الأرض غير مبني على الدوام، والمراد من ذلك - كما بيّنا - أنه لا حق للغابن بعد الفسخ، فما معنی تعارض الضررين إذن؟!

وبعبارة أخرى: إن تعارض الضررين إنما يكون في مورد وجود الحقين؛ إذ الجمع بين الحقين يقتضي تعارض الضررين، وبما أن حق الغابن محدود بوجود مالكيته، فهو محدود بالفسخ، فلا حق له بعده، ومع عدم وجود الحق حينئذٍ، لا يكون الضرر الوارد عليه وارداً بلا حق، حتى ينفى بقاعدة «لا ضرر»، فلا معنى لتعارض الضررين.

النظر الثاني: ما أفاده (قدس سره) من التمسك بقاعدة الإتلاف لإثبات الأرش غير تام؛ لأن أصل وجود الغرس في الأرض وإن كان ناشئاً عن حق؛ لوقوعه في ملكه قبل الفسخ، إلا أن الغرس في المقام غير مبني على البقاء كما اعترف به، وتقدم معناه، فيكون بقاؤه في أرض المغبون بعد الفسخ بلا وجه حق، فلا تشمله قاعدة الإتلاف؛ لكون موضوعها مال الغير، وحق الغير، والغرس بعد الفسخ وإن كان ملكه إلا أن بقاءه في أرض المغبون لم يكن عن حق، فالإتلاف الحاصل لتخليص الأرض المغبون فيها غير مشمول لقاعدة الإتلاف.

وأما ما أفاده من التنظير بأكل مال الغير في المخمصة فقياس مع الفارق؛ لأن آية ﴿إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ﴾(1)، وحديث: «رفع ما اضطروا إليه»(2) إنما يرفع الحكم التكليفي، لا الوضعي، فيرفع حرمة إتلاف مال الغير بأكله أيام المخمصة تكليفاً، وأما وضعاً فهو محكوم بالضمان؛ لكونه تصرّفاً في مال الغير فتشمله قاعدة (من أتلف مال غيره فهو له

ص: 177


1- سورة الأنعام /119.
2- وسائل الشيعة 15/369، ح1، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، صحيحة حريز.

ضامن).

وبعبارة أخرى: إن المقتضي للضمان موجود، والمانع منه مفقود، لكون المانع من طرف جواز الأكل ليس حكماً وضعياً، ولكن للمغبون في ما نحن فيه حقاً وضعياً؛ لكون بقاء الشجرة في ملك المغبون من زمان الفسخ لم يكن عن حق، فالقياس على تلك المسألة باطل.

فما أفاده المحقّق الرشتي (قدس سره) لتثبت ما أفاده الشيخ (قدس سره) في كلتا الجهتين ممنوع.

إشكال المحقّق الخراساني على الشيخ وتحقيقه في المقام
اشارة

أفاد المحقق الخراساني (قدس سره) في حاشيته تحقیقاً رشيقاً ينحل إلى أمرين:

الأمر الأول: الإشكال على الشيخ (قدس سره) ، وحاصله:

أن تخليص كل من الغابن والمغبون ملكه من مال صاحبه حق له ما لم يستتبع ضرراً على الآخر، وتخليص الأرض بقلع الشجر مستتبع للضرر على الغابن، وتخليص الشجر من الأرض مستتبع للضرر على المغبون، والأرش إنما هو تدارك للضرر الحاصل، فيكون الحكم بجواز القلع مع الأرش مساوقاً للحكم بجواز الإضرار مع التدارك، بينما المنفي والمرفوع بقاعدة «لا ضرر ولا ضرار» هو جواز الإضرار، ولا تثبت الإضرار مع الأرش.

فعمل كل من الغابن والمغبون على خلاف «لا ضرر ولا ضرار».

الأمر الثاني: مختاره في المقام، وبيانه: أن يحكم ببقاء الغرس في الأرض بالأجرة، ولا يعدُّ ذلك إضراراً بمالك الأرض ليرد الإشكال الوارد على الشيخ (قدس سره) ؛ لأن استيفاء المنفعة بالأجرة نحو من أنحاء الانتفاع بالأرض.

نعم، إلزام المغبون بإبقاء الشجر في الأرض مع إعطائه الأجرة موجب لتحديد سلطنته، وقبض يده عن إعمالها، فيخالف قاعدة «الناس مسلطون على أموالهم»، ولكن لا ضير فيه، لأن قاعدة السلطنة - كسائر الأحكام الشرعية - محكومة ب-«لا

ص: 178

ضرر»، فتتضيق سلطنة المالك فيما لو صارت منشأ للإضرار.

لا يقال: بأن إبقاء الشجر في الأرض، وحجر المغبون، وعدم تسلّطه على تخليص أرضه ربما يسبب الإضرار بها كنقصان قيمتها، لا مجرد الحرمان من إعمال السلطنة.

فإنه يقال: بأن الضرر على نحوين:

الأول: ما يكون موضوعاً لقاعدة الضرر، فينفي بها.

الثاني: ما يكون معلولاً لقاعدة نفي الضرر، بمعنى أنه ينشأ من قبل حجر المالك؛ استناداً لقاعدة نفي الضرر، فلا ينفي بها.

وما نحن فيه من قبيل الثاني؛ إذ هو نتيجة جریان «لاضرر»، ومحال أن تنفيه القاعدة؛ لأنها لا تنفي إلا ما كان في رتبة متقدمة عليها، بحيث تنفي الضرر الحاصل، وأما الضرر المعلول لها، فهو في رتبة متأخرة عنها، فمحال أن تنظر إليه وينفي بها.

ويشهد على ذلك نفس رواية «لا ضرر»؛ فإن سمرة بن جندب لما أصرّ على عناده، قال الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) : «اقلعها وارم بها وجهه»(1)

المناقشة فيما أفاده المحقّق الخراساني

[أما الأمر الأوّل]: فما أفاده (قدس سره) وإن كان في غاية القوة والمتانة، إلّا أن ما أفاده من الإشكال على الشيخ (قدس سره) بأن الحكم بجواز القلع مع الأرش مساوق للحكم بجواز الإضرار وتداركه، وهو مخالف لما يستفاد من «لا ضرر ولا ضرار»؛ لنفي جواز الإضرار بالجملة الثانية فنقول فيه:

بأن هذا المعنى بنفسه قد أورده الشيخ (قدس سره) في قاعدة «لا ضرر»، إشكالاً وجواباً؛ [فلا يكون هذا مستند كلام الشيخ].

ص: 179


1- حاشية المحقّق الخراساني (قدس سره) على المكاسب /(195-194).

وإنما مستنده في الحكم بجواز القلع قاعدة السلطنة، فلكل من المالكين تخليص ملكه من مال الآخر، فَلِلْبغابِن السلطنة على تخليص غرسه من أرض المغبون، وللمغبون تخليص أرضه من الغرس، وليس من حق الغابن أن يعترض؛ إذ لا يملك إلّا الغرس منصوباً، ولا يستلزم ذلك أن يكون له الحق في إبقاء الشجر في الأرض وقد خرجت عن ملكه بالفسخ، إلّا أن هذا التلخيص يستتبع إتلاف الخصوصية في مال الآخر، فيضمنه بالإرش؛ لقاعدة إتلاف مال الغير؛ إذ بالقلع تلفت خصوصية كونه منصوباً، وقد صرح الشيخ (قدس سره) سابقاً: بأن جميع الأوصاف مضمونة، إلّا أن الخلاف في ضمان جميع الأوصاف، أو خصوص ما يوجب فقده عيباً كوصف الصحة.

والحاصل: أن المستفاد من مجموع كلمات الشيخ (قدس سره)

هو أن المستند لجواز القلع هي قاعدة السلطنة، ولوجوب الضمان بالأرش قاعدة إتلاف مال الغير.

فإذا كان هذا هو مستند الشيخ (قدس سره) ، ولم يستند إلى قاعدة الضرر، لأن مبناه عدم تصحيحها لجواز الإضرار، كان إشكال المحقّق الخراسانی (قدس سره) على الشيخ (رحمة الله) مجله بلا وجه.

وأما [الأمر الثاني ف-]ما أفاده (قدس سره) في مختاره فهو ينحل إلى أمرين:

1- أن يلزم المغبون ببقاء الشجر في أرضه.

2- أن يعطى الأجرة في مقابل البقاء.

والدليل على كليهما قاعدة «لاضرر»؛ فإنها حاكمة على قاعدة السلطنة، فتقيد سلطنة المغبون في أرضه بأن لا يلزم منها الضرر، وبما أن قلع الشجر من أرضه يوجب الضرر على الغابن فلا يقلع، وبما أن إعطاء الأجرة للمغبون ينفي الضرر عليه، فيعطى الأجرة.

وفيه: أولاً: أن قاعدة «لاضرر» وإن كانت حاكمة على قاعدة السلطنة، إلا أنَّ أيَّ حكم من الأحكام يحتاج إلى دليل، فما هو الدليل على إلزام المغبون بالرضا بقاء

ص: 180

الشجر في أرضه؟

وثانياً: أن حِجْر المغبون عن السلطنة على أرضه، يتوقف على ثبوت حق للغابن في الأرض بعد فسخ البيع؛ ليكون المورد أحد موارد «لا ضرر»، وهي حاكمة على قاعدة السلطنة، لكن ما هو الدليل المثبت لهذا الحق؟

وثالثاً: أفاد (قدس سره) في الجواب على الإشكال - الذي أورده على نفسه: بأنه ربّما يوجب حجر المغبون ضرراً عليه - : بعدم البأس؛ لأن الضرر الناشئ من قبل حجر المالك بقاعدة نفي الضرر، لا ينفى بها، كما يظهر من رواية سمرة بن جندب.(1)

وفيه: أنه لا بدّ من تحليل كون الضرر في قضية سمرة ناشئاً من ناحية «لا ضرر»، أو لا.

[وأنت ترى] أنَّ بقاء الشجرة في الأرض ليس علة للضرر، ووجوب الاستئذان عند دخوله لها ليس علة للضرر، وإنما العلة للضرر هو جواز دخوله إلى الأرض بدون استئذان، فهو المنفي بلا ضرر، ولا يلزم من رفعه ضرر حتى يقول المحقّق الخراساني (قدس سره) بأن من جریان «لاضرر» حصل ضرر.

وأما قلعها ورميها له فهو ليس من آثار جریان «لا ضرر»؛ فإن ملكية الشجرة في الأرض ليست علّة للضرر ولا معلولاً لها.

بل الشيخ (قدس سره) يصرح في رسالته في «لا ضرر»: بأن الملكية أمر وضعي ليست علة للضرر ولا معلولة له، ولا علة للحكم الضرري ولا معلولة له، ولم يعلّق عليه المحقّق الخراساني (قدس سره) .(2)

وأما ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) من التوجيه: بأن ملكيته للشجرة علّة لدخوله

ص: 181


1- وسائل الشيعة، 25/428، ح3، الباب 12 من أبواب إحياء الموات، موثقة زرارة.
2- رسالة لا ضرر /209.

بلا استئذان، فمن هذه الجهة صار علة للضرر.

فهو مردود؛ لأن ملكيته لیست علة للدخول بلا استئذان حتی یكون علة للضرر، بل تجرّیه ودخوله بلا استئذان هو علة الضرر.

والحق في المسألة: أن أمر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بقلع النخلة ورميها إليه حكم سلطاني ولائي؛ بمقتضی ولايته (صلی الله علیه و آله و سلم) المطلقة على الأموال والأنفس، الثابتة له بمقتضى قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾(1)

المناقشة في كلام الشيخ

هذا ما يرجع إلى مبنى المحقّق الخراساني (قدس سره) وإلى إشكاله على الشيخ (قدس سره) ، وقد تبيّن ضعفهما، وأما بالنسبة إلى ما ذهب إليه الشيخ (قدس سره) فيرد عليه ما أوردناه على المحقّق الرشتي (قدس سره) من أن الغابن بما أنه غرس الشجر في الملك المتزلزل، فليس غرسه مبنياً على البقاء، فلا حق له إلّا ما دامت الأرض ملكه، بمعنى أنه يملك الغرس منصوباً كما قال الشيخ (قدس سره) ، ولكن هذه الملكية - بصفة كونه منصوباً - مقيدة بما دامت الأرض ملكه، لا دائماً وأبداً، وبمجرد الفسخ ينتفي حقه في الأرض، فيجوز القلع بلا أرش.

فالنتيجة إلى هنا: أن ما أفاده الشيخ (قدس سره) محل إشكال، وأشكل منه ما أفاده المحقّق الخراساني (قدس سره) .

مبنى المحقّق الأصفهاني في المقام
اشارة

أفاد المحقّق الأصفهاني (قدس سره) ما حاصله: أن حيثية الملكية لها شؤون ومن شؤونها سلطنة المالك على ملكه، ومقتضاها عدم جواز تصرّف الغير فيما يضاف إليه بدون إذنه.

وسلطنة المغبون على القلع والإبقاء بعنوانهما، سلطنة على مال الغير، فلا تجوز،

ص: 182


1- سورة الأحزاب /6.

وسلطنته على تخليص الأرض من الغرس الذي أفاده الشيخ (قدس سره) وإن كان سلطنة على ماله، لا على مال غيره، بحسب عنوان التخليص، إلا أن التخليص فعل توليدي من القلع، أو أمر انتزاعي، ومنشأ انتزاعه القلع، فبقلعه الشجر يخلّص ماله منه، ولا يمكن استقلال التخليص بالتحصّل، والقلع تصرّف في مال الغير، فلا سلطان له عليه وحيث لا سلطنة له على القلع، الذي هو الفعل المتولد منه التخليص، والتخليص لا يستقل بالتحقق، فلا محالة لا سلطان له عليه.(1)

ومراده: أن المتيقن من ثبوت الحق للمغبون هو منع الغابن من التصرف في الأرض؛ فإن مقتضی سلطنته على الأرض أن يمنع الغير من التصرّف فيها، وأما قلع الشجر المغروس فهو تصرّف في مال الغير فلا يجوز، ونتيجة ما أفاده (قدس سره) أن للمغبون أن يرضى ببقاء الشجر بالأجرة.

الإشكال على المحقّق الأصفهاني

[وفيه]: لكن الحق عدم صحة ما أفاد، وتحقيق ذلك يتوقف على بيان معرفة حقيقة سلطنة الملاك على أموالهم، فنقول:

في قاعدة السلطنة مبنيان أساسيان:

الأول: أن مدلول القاعدة هو تشريع أنواع التصرفات التكوينية والاعتبارية.

الثاني: أن مدلولها نفي حجر الملاك بالنسبة إلى تصرفهم في أموالهم، وعدم حق الغير من منعهم عنها، وليس مفادها تشريع التصرّفات، وإلا للزم أن يتمسك بها لتصحيح ما يشك في صحته من المعاملات، ولزم أن يتعارض مفادها مع مدلول أدلة المحرمات؛ إذ مقتضاها جواز شرب المملوك المحرم، وهو يعارض دلیل تحریمه.

وبناء على هذا، فسلطنة المالك على ماله متقومة بأمرين: دفع المزاحم، ورفعه،

ص: 183


1- حاشية المحقّق الأصفهاني (قدس سره) 4/298.

فانتفاء القدرة عليهما مساوق لانتفاء السلطنة، ويشهد له ملاحظة جميع موارد السلطنة والتسلط والسلطان في الارتكاز العقلائي؛ فإن وجود هذه المادة في السلطنة التكوينية الخارجية والاعتبارية مقترن بالقدرة على رفع المزاحم ودفعه، ولا يعقل الانفكاك بينهما.

وعليه، فمعنى ما أفاده (قدس سره) أن المالك المغبون مسلّط على ماله، ولكن لا قدرة له على رفع المزاحم، وهو مناف لمفهوم السلطنة.

فالصحيح أن معنى «الناس مسلطون على أموالهم» وقوامها بالسلطنة والقدرة على رفع المزاحم، فإذا غرس الغابن في الأرض التي عادت إلى المغبون كان للمغبون أن يرفع الغرس؛ استناداً إلى القاعدة، فلا يقال أنه تصرّف في مال الغير.

نعم، لو كان للغابن حق لما جاز للمغبون القلع، ولكن ليس من جهة السلطنة، بل لأنه تصرّف في حق الغير.

زبدة المخّض

وبعد التعرّض لجميع الكلمات المهمة في المسألة ومناقشتها يتضح: أن للمغبون أن يقلع الغرس، وليس عليه أرش؛ لأن ما للغابن من الحق في غرس الأرض وبقية التصرّفات منحصر في زمان تملّكه إياها؛ فإن ملكيته لها وتوابعها محدودة بزمان الفسخ، أي محدودة بما دامت ملكه.

وأما بعد الفسخ فهي وجميع موادها و توابعها ملك طلق للمغبون، فيكون بقاء الغرس فيها من تصرفات الغابن في ملك الغير، فيحتاج إلى إذنه؛ لعدم جواز التصرف في مال الغير إلا بإذنه، ولما صارت الأرض بالفسخ ملكاً للمغبون، لم تنفكّ السلطنة المطلقة عن هذه الملكية، والسلطنة المطلقة متقوّمة برفع المزاحم ودفعه، وبما أن شجرة الغابن مزاحمة لملكية المغبون أمره بقلعها، وإلا جاز له قلعها؛ استناداً لقاعدة السلطنة.

وأما الأرش، فلا يجب عليه؛ لأن معنى الأرش وحقيقته أن يجبر المتلِف ما فوّته

ص: 184

من حق مَنْ تلف منه، فلا بدّ من تصوير الحق للغابن بقاء أولاً، ثم جبران ما أفقده إياه، فإذا انتفى حقه، فالقلع جائز بمقتضی قاعدة السلطنة، وعدم الأرش بمقتضى عدم التفويت، وعدم إتلاف مال الغير، وعدم الإضرار بماله.

إن قلت: بأن مال المسلم محترم.

فقال: نعم، بل كل محترم المال والحقّ فماله وحقّه محترمان وإن لم يكن مسلماً كالمعاهد ولكن الكلام في إثبات أنه ماله أو حقّه أوّلاً ثمّ يكون محترماً، وقد أثبتنا عدم تعلق حق الغابن بالأرض بعد الفسخ.

[والحاصل: الصحيح هو القول الأوّل في المقام وهو جواز القلع من دون الأرش، المنسوب إلى العلّامة في المختلف والله العالم].

ص: 185

تنبيهات
التنبيه الأول: في الفرق بين الأرض المغروسة والمستأجرة
اشارة

تقدم الكلام في ما لو اشترى الأرض بالمعاملة الغبنية وغرسها، واخترنا فيها جواز القلع وعدم الأرش، خلافاً لما نقلناه عن الأعلام، فربما ينقض بالأرض المستأجرة، كما لو اشترى الغابن أرضاً بالمعاملة الغبنية، ثم أجّرها مدة معينة، فالإجارة صحيحة، وليس على الغابن ردّ الأُجرة إلى المغبون [على مختار الشيخ الأعظم وعلى مختار الأستاذ مدظله مع ارجاع الأرش إلى المغبون](1) فليكن الأمر كذلك في غرس الشجر، فنقول بجواز بقاء الغرس إلى نهاية ثمره، والضمان لما به التفاوت بين الأرض الفارغة والمشغولة [على مختار الأستاذ مدظله وعلى مختار الشيخ بقاء الغرس من دون الأُجرة، فما الفرق بين الفرعين؟]

الأقوال في المسألة
اشارة

فنقول: الأقوال في الأرض المستأجرة ثلاثة:

ص: 186


1- كما مرّ في صفحة164 من هذا المجلد.
القول الأول: ما ذهب إليه الشيخ

من عدم فسخ الإجارة، ولا يغرم الغابن للمغبون أُجرة المثل، لأنه يملك المنفعة في تمام المدة قبل استحقاق المغبون بالفسخ، وبعد أن استوفی المنفعة لا حق له في الرجوع، فترجع العين إلى المغبون مسلوبة المنفعة، بخلاف مسألة الغرس؛ فإن المستحق هو الغرس المنصوب من دون استحقاق مكان في الأرض.

وأساس هذا المبنى أن ما حصل بالعقد المتزلزل متزلزل، وما حصل به ملكية العين، وأما ملكية المنفعة فهي مستقرة، وقد استوفاها.(1)

وفيه: أن لازمه أن الغابن لو أجّر الأرض مائة سنة، لعادت إلى المغبون مسلوبة المنفعة، فيلزم تضرره بأكثر من الضرر الذي دخل عليه من المعاملة الغبنية، ولا فرق بين المدة القصيرة والطويلة.

القول الثاني: أن لا تنفسخ الإجارة

ولكن للمغبون ما به التفاوت بين الأرض مسلوبة المنفعة، وبينها واجدتها، بهذا البيان:

أنه فرق عند العقلاء بين الأمور الخارجية والأمور الاعتبارية، فالمنافع التي حصلت في الغرس أمور خارجية واقعية؛ فإن الغابن غرس شجره في الأرض، وهذه استفادة واقعية، فلما فسخ المغبون تكون هذه المنافع الواقعية تصرفات من الغابن بلا حق؛ لكونها في أرض الغير، وعلى خلاف قانون السلطنة.

وأما في باب الإجارة، فالاستيفاء أمر اعتباري، والاعتبار خفيف المؤونة، فالمعتبَر فيها ملكية المنفعة إلى مدة معيّنة، وبما أن المعتبَر ملك للمعتبِر، فيحقّ له بمقتضى أدلة الإجارة أن يعتبره للغير.

ص: 187


1- المكاسب 5/197.

نعم، بما أن قيمة الأرض مسلوبة المنفعة أقلّ من قيمتها واجدتها، وقد أخذها المغبون مسلوبة، فللمغبون الحق في أخذ ما به التفاوت بين القيمتين؛ إذ مقتضى قانون الفسخ أن تردّ العين كما أخذت، فلما لم يمكن ردّها مع المنفعة؛ لصحة الإجارة وعدم فسخها، ردّها مع إعطاء التفاوت.

القول الثالث: ما يستفاد من كلمات المحقّق القمي

من انفساخ الإجارة في بقية المدّة الواقعة بعد فسخ المغبون؛ إذ كما أن ملكية الأرض متزلزلة، فكذلك ملكية منفعتها، فلا فرق بين الأرض المغروسة، والمؤجّرة، فكما أن الغابن لا حقَّ له في بقاء غرسه في الأرض بعد فسخ المغبون، فكذلك لا حقّ له في إجارتها.

مقتضى التحقيق في المسألة

والتحقيق بين الأقوال يؤيد في بادئ النظر ما أفاده المحقّق القمي (رحمة الله) ، وإن اعتبر شاذاً بينها؛ لكونه الموافق لمقتضى القاعدة؛ فإن ما أفاده الشيخ (قدس سره) من استقرار ملكية المنفعة مع تزلزل ملكية الأرض، لا دليل عليه، ولا قاعدة تقتضيه، ولم يقم إجماع تعبدي كاشف عن رأي المعصوم عليه.

وما أفيد في القول الثاني، لا يرجع إلى محصّل؛ فإن بحثنا ليس في خفة الاعتبار وعدمه، وإنما في ثبوت الحق للغابن في أن يؤجر الأرض التي وصلت إليه عن طريق العقد الخياري حتى بالإضافة إلى ما بعد الفسخ وعدمه.

فإن مقتضى القاعدة وما عليه الارتكاز العقلائي أن تتبع المنافع أصولها، في أصل الملكية وكيفيتها، والتخلّف فيهما يحتاج إلى دليل، فإن كانت ملكية العين مستقرة وغير محدودة بحدّ - إلا إذا نقلت بناقل كعقد، كالتي تنتقل بإرث أو بعقد لازم - كانت منفعتها مستقرة.

وإن كانت ملكية العين متزلزلة - بمعنى أن بقاءها مرتبط بالفسخ، فتكون

ص: 188

مملوكة إلى المنتقل إليه ما دام ذو الخيار لم يفسخ، ومتی فسخ انتقلت عنه - كانت منفعتها كذلك؛ بمقتضى الارتكاز العقلائي، فالتفصيل بين العين ومنافعها على خلاف ارتكازهم، فيحتاج إلى دليل يدلّ عليه.

ولو تنزّلنا، وشككنا في كيفية تبعية ملكية المنفعة للعين؛ لعدم قيام دليل على استقرار ملكية المنفعة، ولا على تزلزلها، فالأصل - وهو الاستصحاب - يقتضي عدم ملكية المنفعة بالنسبة لما بعد الفسخ.

إن قلت: لماذا لا نقول: بأن الاستصحاب يقتضي بقاء الملكية، بمعنى أن الغابن كان يملك المنفعة قبل الفسخ يقيناً، وبعد الفسك نشك في بقاء ملكيته، فيستصحب بقاؤها، وليس الفسخ من المقوّمات بل من الحالات، فلا يقال بتبدل الموضوع.

وأما ما أفيد: فإنما يفيد لو قلنا بأن الملكية أمر تدريجي، بحيث يكون لكل آن ملكية، فإذا شككنا في ملكية ما بعد الفسخ نستصحب عدمها، كما يقال في جعل الأحكام، ولكن الملكية ليست كذلك.

قلت: بأن استصحاب الملكية إنما يجري فيما إذا كانت قابلة للبقاء يقيناً، والمفروض فيما نحن فيه هو الشك في أصل قابليتها للبقاء.

وتقريب الاستصحاب: أن العين كانت ملكاً للمغبون وغير منتقلة إلى الغير يقيناً مثلاً، فانتقلت بالبيع الغبني إلى الغابن، لكن نشك هل انتقلت إليه مطلقاً أو انتقلت إليه إلى حين الفسخ، فالاستصحاب يقتضي عدم الانتقال إلا إلى زمان الفسخ.(1)

ولكن الحق عدم صحة ما ذهب إليه المحقّق القمي (قدس سره) ؛ وذلك لأنا عندما نلاحظ الإجماع القطعي، ومقتضى الأدلة في الإجارة نلاحظ أمرين:

ص: 189


1- ما ذكرناه بعنوان: إن قلت قلت، استفدناه من الشيخ الأستاذ (دام ظله) خارج الدرس.

الأول: أن من شرط الإجارة الملكية، ولا يشترط أن يكون ملك العين مستقراً، بل إن كان يملك المنفعة جاز له الإجارة إجماعاً، وإن كان ملكه للعين متزلزلاً، والمحقّق القمي (قدس سره) يعترف بذلك أيضاً.

الثاني: أن تكون المدّة في الإجارة معلومة.

وعليه، فبما أن الغابن يملك المنفعة، وإن كان ملكه للعين متزلزلاً، فله أن يؤجر العين إلى أجل مسمی؛ لتمامية أدلة الإجارة، وشمول عموم ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) له، وهو دليل حاكم على الأصل المتقدم، فيكون الأقوى ما ذهب إليه المشهور.

التنبيه الثاني: في الفرق بين غرس الغابن وغرس المفلَّس
اشارة

من المسائل التي أشار إليها الشيخ (قدس سره) في المقام، مالو باع البائع أرضه في الذمة، بحيث يكون المشتري مديناً له، ثم غرسها المشتري، وبعد ذلك أصبح مَفُلَّساً، فلم يمكنه تسليم الثمن، وحكم الحاكم بتفلیسه، والحجر على أمواله، فالبائع أحق بالأرض من غيره من الغرماء؛ لوجود عين ماله، فيجوز له فسخ البيع، ولكن لو فسخه لم يحق له قلع الشجر ولو بالأرش.

والسؤال هنا: ما هو الفرق بين المسألتين، ما نحن فيه، ومسألة التفليس، بحيث حكم الأكثر في الثانية بعدم جواز القلع للبائع الفاسخ ولو بالأرش؟

ما أفاده الشيخ من الفرق
اشارة

قال الشيخ (قدس سره) : «بإمكان كون الفرق بينهما بأن الغرس في مسألتنا كان متأخراً عن ثبوت الحق للمغبون؛ باعتبار أن البيع كان متزلزلاً، فكان للمغبون حق الفسخ قبل حدوث الغرس، فإذا فسخ، فمقتضى قاعدة الفسخ أن يردّ المشتري ما أخذه كما

ص: 190


1- سورة المائدة /1.

كان حين انتقاله إليه، وقد انتقلت الأرض إليه خالية من الغرس فيردّها كذلك، وأما في مسألة التفليس فلم يكن البيع متزلزلاً، فكان الغرس في ملكه الطلق، وإنما ثبت الخيار للمغبون بعد تفليس المشتري، فكان حق المغبون متأخراً عن الغرس، فيشبه بيع الأرض المغروسة، فيما لو باع الأرض دون الغرس؛ فإنه ليس للمشتري حق القلع ولو مع الأرش بلا خلاف»(1)

المناقشة فيما أفاده الشيخ من الفرق

وفيه: أن الشيخ (قدس سره) قد صوّر ثبوت حقين في المسألتين، أحدهما سابق، والآخر لاحق، فحق المغبون في مسألة البيع الغبني سابق، وحق المشتري في مسألة التفلیس سابق، ولكن الصحيح عدم ثبوت حقين، بل هو حق واحد.

أما في مسألة الغبن فلم یكن للغارس بعد الفسخ أي حق؛ فإن الأرض ملك للمغبون، وبقاء الغرس فيها بلا حق؛ لكونه تصرّفاً في ملك الغير، ومقتضى قاعدة السلطنة أن له أن يرفع المزاحم عنها.

فليس في الغبن حقان، أحدهما سابق، والآخر لاحق، بل لا حقَّ بعد الفسخ للغابن أصلاً، وإنما حقه كان محدوداً بما دامت الأرض ملكه.

وأما في مسألة التفليس، فالبائع وإن لم يكن له حق حين الغرس، إلا أنه بعد أن أفلس المشتري كان له حق الفسخ، ومعنى الفسخ أن يردّ كل منهما ما أخذه كما انتقل إليه، وبما أن الأرض انتقلت من البائع إلى المشتري بلا غرس، فتعود إليه كذلك، فحق الفسخ يقتضي بذاته أن حق المشتري في الغرس كان محدوداً بما دامت الأرض ملكه، فليس له حق بعد ذلك، فلم يثبت في المسألتين إلا حق واحد.

وأما قياسه على بيع الأرض المغروسة، فمع الفارق؛ لأن الغرس في الأرض

ص: 191


1- المكاسب 5/197.

المغروسة كان في ملكه الطلق، وباعها المالك حينما باعها مسلوبة المنفعة ما دام الغرس موجوداً، فمتعلّق المعاملة الأرض مسلوبة المنفعة، فتفترق عن مسألة الخيار الثابت من ناحية التفليس.

والنتيجة: أن فتوى المشهور على خلاف القاعدة؛ فكما أن من حق المغبون أن يرفع الغرس بعد الفسخ، فكذلك للبائع في مسألة التفليس بعد فسخ البيع.(1)

التنبيه الثالث: في جواز مباشرة المالك للقلع لو جاز القلع وعدمه
اشارة

لو قلنا بجواز القلع [في مسألة خيار الغبن]، فهل يجوز للمغبون مباشرة القلع، أم له مطالبة الغابن بالقلع، ومع امتناعه يجبره الحاكم، أو يقلعه المغبون؟

وجوه، ذكروها فيما لو دخلت أغصان شجرة الجار إلى داره.

بیان الوجوه في المسألة وأدلتها
اشارة

وينبغي أن يقع البحث في جهتين:

الجهة الأولى: في الوجوه وأدلتها.

الوجه الأول

إن للمغبون قلع الغرس بلا مراجعة الغابن ولا الحاكم، والدليل على ذلك: أن في المقام دلیلین لفظيين متعارضين، فيسقطان وينتقل إلى الأصل العملي المقتضي للجواز، وبيان ذلك:

أنه من جهة يكون قلع الغرس تصرّفاً في مال الغير، فبمقتضی دلیل حرمة التصرف في مال الغير عدم جوازه.

ص: 192


1- أقول: الظاهر تمامية فتوى المشهور لأنّ الأرض تعود إلى مالكها الأوّل بحكم الحاكم مع الأشجار وأنّها للمفلَّس فلا يجوز للمالك الأوّل التصرف في مال الغير وهو المفلّس، فالفرق بين المسألتين موجود.

ومن جهة أخرى أن الأرض مملوكة للمغبون، ومقتضى إطلاق دليل السلطنة أن يكون له السلطة في رفع ما يزاحم ملكيته، وتخليص أرضه من ملك غيره، فيجوز له القلع مباشرة.

وبما أن كلا الدليلين لفظيان ومتعارضان، بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فيسقطان، وتنتقل الحالة إلى الأصل العملي، وهو يقتضي الجواز؛ استناداً إلى قاعدة الحل: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه»(1)

الوجه الثاني

أن يطلب المغبون من الغابن القلع، فإذا امتنع رفع الأمر إلى الحاكم؛ وذلك لأن قلع المغبون للشجر تصرّف في مال غيره، فلا يجوز تكليفاً، وعليه الضمان وضعاً، فيراجع الغابن في قلعه، فإن امتنع راجع الحاكم؛ لكونه وليَّ الممتنع.

الوجه الثالث

أن يطلب المغبون من الغابن القلع، فإن امتنع قلعه بنفسه، من دون حاجة إلى مراجعة الحاكم؛ لعدم الدليل على كون هذا المورد من الموارد التي يرجع فيها إلى الحاكم، وبما أن بقاء الشجرة في أرضه مزاحم لسلطنته، وأن التصرف من قبل نفسه ابتداء تصرّف في مال الغير كان عليه مطالبة الغابن بالقلع، فإذا امتنع قام به بنفسه؛ لرفع المزاحم عن سلطنته؛ فإن مقتضي السلطنة - حينئذ - موجود، والمانع منه مفقود.

مناقشة الوجوه وبيان الصحيح منها
اشارة

أما ما أفيد في الوجه الأول، فيتوقف التعارض والتساقط على تمامية مقتضي الحجية في كليهما بالنسبة إلى المورد، وبما أن الشمول غير ممكن فيقع التعارض، وفي ما نحن فيه وإن كان عندنا قاعدتان:

ص: 193


1- وسائل الشيعة 17/89، ح4، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، معتبرة مسعدة بن صدقة.

الأولى: قاعدة حرمة التصرف في مال الغير، ودليلها لفظي، وهو: «لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه»(1)، وهو تام سنداً، ودلالة؛ لشمول إطلاقها للمورد.

والثانية: قاعدة السلطنة، ودليلها أحد أمرين:

الأول: السيرة العقلائية بضمّ عدم الردع عنها شرعاً، كما هو مبنی غیر واحد من الأعلام.

وبما أنه دليل لبي لم يحرز إطلاقه ليشمل صورة مالو أوجبت السلطنة التصرف في مال الغير، فيقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو ما لم توجب التصرف في مال الغير.

مضافاً إلى كونه غير مشرّع لأنحاء التصرفات.

وبناء على هذا، لا يقع التعارض؛ لتمامية مقتضي دليل حرمة التصرف مع عدم المانع، وقصور دليل السلطنة.

الثاني: حديث «الناس مسلطون على أموالهم»(2)، مع دعوی انجباره بعمل الأصحاب؛ لكونه ضعيف السند.

وهو غير صالح لمعارضة دليل حرمة التصرّف أيضاً، لأنه غير مشرّع لجواز جميع أنحاء السلطنات، وإنما يدلّ على جواز خصوص التصرّفات المشروعة، من دون أن يكون لأحد حق منعه عنها، ودليل حرمة التصرّف يصحّح عدم مشروعية التصرّف في مال الغير، فلا تعارض بينهما؛ لكون أحدهما في رتبة موضوع الآخر، وتكون نتيجة الجمع بينهما: أن الناس مسلطون على أموالهم، في حال عدم كون التصرّف خلافاً للشرع، وقاعدة عدم الحل تثبت أن قلع الشجر من غير إذن المالك

ص: 194


1- وسائل الشيعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال، معتبرة أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي.
2- عوالي اللئالي 1/457، ح198.

مخالف للشرع.

فالنتيجة: أنه لا تعارض بين القاعدتين، سواء أكان المستند لقاعدة السلطنة، السيرة العقلائية أم النص.

ولو شكَّ في كون حديث السلطنة مشرّعاً أو لا، فالشك يرجع إلى إطلاقه، فالنتيجة هي النتيجة؛ لأن دلیل حرمة التصرّف في مال الغير محرز الإطلاق، ودليل السلطنة مشكوك الإطلاق، فلا يعارضه.

فيتحصّل إلى هنا: عدم جواز القلع ابتداء، بل عليه أن يراجع المالك.

فإن امتنع، فهل يجب عليه مراجعة الحاكم أو يجوز له القلع بدون مراجعته؟

الحق جوازه له؛ لأن مقتضى السلطنة وما قامت عليه السيرة أن له أن يدفع المزاحم عن ملكه، والرجوع إلى الحاكم الشرعي يحتاج إلى دليل مفقود، فالصحيح من بين الوجوه الثلاثة هو الوجه الثالث.

الفرق بين هذه المسألة ومسألة دخول أغصان شجرة الجار

الجهة الثانية: في الفرق بين هذه المسألة ومسألة دخول أغصان شجرة الجار إلى داره؟

قال الشيخ (قدس سره) : بأن هذه الوجوه الثلاثة ذكرت (فيما لو دخلت أغصان شجر الجار إلى داره)، واحتمل الفرق بينهما، بأن دخول الأغصان في دار الجار لم يكن بفعل المالك، فلا يجب إجابته إلى القلع، بخلاف الغرس؛ فإنه بفعل الغابن.(1)

وهو محل إشكال؛ إذ الفرق بينهما في الحدوث والبقاء؛ فإن غرس الشجر حدوثاً كان بفعل الغابن وباختياره، ودخول أغصان الشجرة إلى دار الجار وإن لم يكن بفعل المالك، ولا اختياره حدوثاً، إلا أنه باختياره بقاء، فلا فرق بين الموردين من هذه الجهة.

ص: 195


1- المكاسب 5/198.

فالحق فيها أيضاً المطالبة من الجار بقطعها، وإن امتنع كان له قطعها.

التنبيه الرابع: تفصيل الشهيد الثاني بين الغرس والزرع

فصّل الشهيد الثاني (قدس سره) بين الزرع والغرس، فقال بتعيّن إبقاء الأول إلى أوان بلوغه بالأجرة؛ لأن له أمداً ينتظر، فيصبر المغبون إلى وقت حصول الثمرة، وأما الثاني فيجوز للمغبون قلعه بعد مطالبة الغابن بذلك.(1)

وما أفاده من التعليل غير تام؛ لأن لكل من الغرس والزرع أمداً إلا أنه في أحدهما أطول منه في الآخر.

ووجّهه الشيخ (قدس سره) : بأن في إبقاء الزرع جمعاً بين الحقين على وجه لا يحصل منه الضرر على المغبون، بخلاف إبقاء الغرس؛ فإن في تعيّن إبقائه ضرراً على مالك الأرض؛ لطول مدّة البقاء.(2)

وهو غير تام أيضاً؛ أولاً، لعدم الضرر على مالك الأرض لو أبقي الغرس مع إعطاء الأجرة على بقائه فيها؛ لاستيفائه المنفعة بالعوض.

وثانياً: لأن التعليل بالجمع بين الحقين فرع ثبوتهما، ولم يثبت للغابن حق في بقاء الزرع في الأرض بعد فسخ المعاملة.

فالحق أن ما ذكرناه في الغرس يجري في الزرع بعينه.

التنبيه الخامس: لو طلب مالك الغرس القلع
اشارة

لو طلب مالك الغرس القلع، فهل لمالك الأرض منعه أو لا؟

وجهان في المسألة:

ص: 196


1- الروضة البهية 3/469، طبعة السيّد محمّد كلانتر، قال فيها: «ولو كان زرعاً وجب إبقاؤه إلى أوان بلوغه بالأُجرة».
2- المكاسب 5/198.

الأول: أن المالك الأرض حق المنع؛ لأن كلاً من المالكين مسلّط على ماله، فيحق للمغبون منعه عن التصرف في ماله، ولا يجوز للغابن تصرّفه في مال غيره إلا بإذنه.

الثاني: ما قوّاه الشيخ (قدس سره) من عدم حق المنع له؛ لأن التسلّط على المال لا يوجب منع مالك آخر عن التصرّف في ملكه.(1)

إشكال المحقّق الرشتي على الشيخ ودفعه

وأورد عليه المحقّق الرشتي (قدس سره) : بأن الغابن وإن كان له السلطنة على الغرس؛ لكونه ماله، إلا أن قلعه للشجر يتوقف على الدخول إلى أرض الغير، ولا يجوز له التصرف فيها بدون إذن مالكها، فیكون دخوله فيها حراماً، ودليل السلطنة لا يجعل المقدمة الحرام حلالاً، فتحدّد سلطنته بما لم توجب التصرّف الحرام في مال المغبون، بخلاف سلطنة المغبون؛ فإن منعه للغابن من الدخول في الأرض، ومن التصرّف فيها ليس بحرام، فإذا دار الأمر بينهما يكون عدم جواز دخول الغابن في ملك المغبون هو المتعيّن؛ لأنه لا يلزم التصرّف في مال الغير من دون العكس.(2)

ويندفع: بأنه لا شك في كون غرس الغابن الشجر في الأرض كان بحق، لأنها ملكه قبل الفسخ، فسلطنة الغابن على ماله تقتضي جواز تخليص ماله.

نعم، هذا التخليص مستلزم للتصرف في أرض المغبون بدون رضاه وهو حرام، إلا أن منع المغبون له من الدخول والقلع مع إرادته له، يستلزم أمرين محرمين أيضاً:

الأول: استيلاء المغبون، ووضع يده على الغرس الذي هو ملك الغير بدون رضاه، وهو حرام تكلیفاً، ومستوجب للضمان وضعاً، سواء أتمسكنا في إثبات قاعدة

ص: 197


1- المكاسب 5/198.
2- فقه الإمامية 2/499.

اليد، بحديث: «على اليد ما أخذت حتی تؤدي»(1)، أم بالسيرة العقلائية.

الثاني: حبس المغبون لمال الغير، ونفس حبس مال الغير وحقه عن صاحبه حرام تكليفاً، إذ يجب على من عنده مال الغير أن يؤديه إليه، وهو مخاطب بالأداء آناً فآنا، كما في سائر الموارد، كأداء الزكاة، وخمس الأموال.

فالنتيجة: أن قلع الغابن للغرس يستلزم التصرّف في مال الغير، فيشمله «لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه»، وإبقاء المغبون للشجر، ومنعه الغابن عن القلع يستلزم الاستيلاء على مال الغير، وهو محرم، فيتعارض عموم «لا يحل» مع عموم ما دلّ على حرمة الاستيلاء، ولا مرجّح في المقام، فيسقطان، فيتقوّى كلام الشيخ (قدس سره) .

ص: 198


1- عوالي اللآلي 1/224، ح106، 1/389، ح22؛ سنن البيهقي 6/90 و 95؛ كنز العمال 5/327، رقم 5713؛ سنن ابن ماجه 2/802، ح2400؛ سنن التزمذي 3/566، ح1266؛ سنن ابن داود 3/296، ح3561؛ سنن النسائي 3/411؛ مسند أحمد بن حنبل 5/8 و 12 و 13؛ المستدرك على الصحيحين 2/47.
[مسألة]: التصرف بالامتزاج
اشارة

طرح الشيخ (قدس سره) في حالة الامتزاج صورتين أساسيتين، لأحداهما قسمان، وللأخري ثلاث، فيكون المجموع خمس أقسام، وهي:

الصورة الأولى: امتزاج المبيع بغير جنسه
اشارة

وله قسمان:

القسم الأوّل: أن يمتزج بغيره على وجه الاستهلاك فيه عرفاً، كامتزاج ماء الورد المبيع بالزيت، فهو عند الشيخ (قدس سره) بحكم التالف، فإذا فسخ المغبون العقد، يرجع إلى قيمته.(1)

والتحقيق: أن يفصل بين حالتين:

الحالة الأولى: أن يحصل الامتزاج من غير أن يكتسب المال أية خصوصية بواسطة الامتزاج، ففي هذه الحالة يأتي ما قاله الشيخ (قدس سره) من كونه بحكم التالف، فيرجع إلى بدله؛ بمقتضى قاعدة التلف.

الحالة الثانية: أن يكتسب خصوصية تزيد في ماليته، كما لو ارتفعت قيمة

ص: 199


1- المكاسب 5/199.

الزيت؛ لكونه أصبح معطّراً، فهنا مبنيان:

الأوّل: ما يستفاد من الشيخ (قدس سره) ، من كونه بحكم التالف.

الثاني: أن لا يعامل معاملة التالف، بل تحصل الشركة في المالية، بهذا البيان:

إن المال - بعد امتزاجه - صار ذا صفة أوجبت ارتفاع قيمته المالية، وبما أن الشركة في العين غير متصورة؛ لعدم الدليل عليها في المقام، فتقع الشركة في الماليه، فيكون شريكاً له في المالية بنسبة ارتفاع قيمتها، فلو بيع بثمن أكثر كان شريكاً في زيادة الثمن بالنسبة.

وفي كلا المبنيين إشكال:

أما ما أفاده الشيخ (قدس سره) فيرد عليه، إن المال وإن تلف بالاستهلاك، إلّا أن العين اكتسبت صفة أوجبت زيادة في ماليتها، والأوصاف وإن لم تقابل بالمال؛ لأن المال في مقابل الأعيان، فالأوصاف ليست حيثية تقييدية بالنسبة إلى الثمن، ولكنها حيثية تعليلية، فيتبدل الثمن - نزولاً وارتفاعاً - بسبب تبدلها، فكيف لا يكون للمغبون سهم من هذه المالية المرتفعة بسبب ما اكتسبته العين من الامتزاج بماله؟

وأما ما أفيد في الشركة المالية، فيرد عليه: أن خروج قسم من المال عن ملك المالك - كدخوله في ملكه أو ملك غيره - على خلاف الأصل، ومالية المال التي هي أمر اعتباري مختصة بمالك المال، فخروج قسم منها عن ملكيته، ودخولها إلى ملك الغير على خلاف الأصل، يحتاج إلى دليل.

مقتضى التحقيق في القسم الأوّل
اشارة

فالتحقيق أن يقال: بأن التلف قد حصل بالامتزاج والاستهلاك لا محالة، وبما أن المغبون أعمل خياره وفسخ المعاملة الغبنية، وصادف انعدام ماله في الخارج عرفاً وإن لم ينعدم واقعاً وعقلاً، فمقتضى قاعدة التلف أن يرجع إلى البدل، قيمة أو مثلاً؛ لعدم تخلّف الحكم عن موضوعه؛ فإن يده يد ضمان معاوضي؛ بحكم (ما يضمن

ص: 200

بصحيحه يضمن بفاسده)، ومعنى الضمان المعاوضي أنه متى ما فسخ العقد ردّ العوض إن وجد، وإن لم يوجد ردّ بدله، ومع الرجوع إلى البدل لا يتصور أن يكون للمغبون سهم في العين، كما لا يمكن أن يكون له حقان، حق بالانتقال إلى البدل، وحق في مالية الزيت المرتفعة، فلا فرق بين الصورتين في الانتقال إلى البدل، صورة اكتساب المال خصوصية توجب ارتفاع ماليتها، وصورة عدم اكتسابها.

وأما الشركة في المالية، فهي في غير المقام؛ فإن المستند فيها السيرة العقلائية، وهي قامت في صورة بقاء العين غير تالفة، ولكنها اتصفت بصفة أوجبت زيادة قيمتها، كما في بيع العبد غير المتعلم، ثم صار كاتباً أو صانعاً أو طبيباً؛ فإن الأوصاف لا تقابل بالمال كي يكون شريكاً له في العين، ولا يمكن إغفال جانب الاتصاف بالصفة؛ فإنها أوجبت زيادة قيمته لا محالة، ولا يعقل القول بإعطائه الأجرة؛ لأن الاتصاف إن كان بعمل قام به المالك بنفسه، فهو عمل في ملكه، ولا يأخذ الأجرة على العمل في ملكه.

وإن لم يكن بعمله، بل بعمل العبد نفسه، كأن تعلم الكتابة بدون معرفة سيده، فلم يقم المالك بعمل ليأخذ الأجرة عليه.

فيتعيّن القول بالشركة في المالية.

وأما في ما نحن فيه فالفرض أن المبيع قد استهلك في مال الغابن بالامتزاج فهي بحكم التالف، فلا تتصور الشركة في المالية، فيكون الحق مع ما ذهب إليه الشيخ (قدس سره) .

القسم الثاني: أن يمتزج بغيره، لا على وجه الاستهلاك، كالعسل الممتزج بالخل، ففيه وجهان:

الأول: أن يكون بحكم التالف، ولم يذكر الشيخ (قدس سره) وجهاً له(1)، فالظاهر أنه

ص: 201


1- أشار الشيخ (قدس سره) في المكاسب 5/199إلى الوجه في نسخة ش كما في الهامش 2 حيث قال: «ومن تغيّر حقيقته...».

ناظر إلى أن ما انتقل من المغبون هو العسل، وما يراد إرجاعه ليس هو العسل بصورته النوعية، وقوام وجود أيّة حقيقة بصورتها النوعية، فإذا زالت انعدم عرفاً، فيكون بحكم التالف.

إشكال المحقّق الإيرواني على الشيخ ودفعه

وأورد عليه المحقّق الإيرواني (قدس سره) : بأن الأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص، فكما أن الصورة النوعية للعسل قد انعدمت، فكذلك الخلّ الممتزج معه؛ لتساوي نسبة الامتزاج بينهما، فإن قلت بتلف العسل الذهاب صورته النوعية، فعليك أن تقول بذلك في الخلّ، فيلزم أن يكون المزيج غير مملوك لأحد، وهو باطل بالضرورة.(1)

ولكنه غير وارد؛ لأن تغيّر الصورة النوعية لكليهما كان في ملك الغابن، فتحولّت المادة المملوكة للغابن من صورتها النوعية للعسل والخل إلى صورة ثالثة وهي (السكنجبين)، فيملكها من يملك المادة، فلا يلزم من تغيّر صورتهما النوعية إلى ثالثة خروجهما عن ملكه بخلاف العسل؛ فإنه انتقل من ملك المغبون إلى الغابن بصورة العسلية، فلما فسخ المغبون المعاملة لم تكن الصورة النوعية للعسل - التي بها قوام مال المغبون - موجودة، بل تبدّلت بسبب الامتزاج إلى صورة نوعية أخرى، فكان تالفاً عرفاً وقت الفسخ، فينتقل إلى البدل.

الثاني: حصول الشركة بينهما، وقد وجّه بعدّة توجيهات:

مختار الشيخ في الامتزاج لا على وجه الاستهلاك

1- ما أفاده الشيخ (قدس سره) وغايته: حصول الاشتراك قهراً لو كان العسل والخل لمالكین فامتزجا، فيكون المالكان شريكين في الممتزج، فكذلك المقام.(2)

ص: 202


1- حاشية المحقّق الإيرواني (قدس سره) 2/38.
2- التعليل موجود في المكاسب 5/199، الهامش، نقلاً عن نسخة ش.

وهذا المقدار من الدليل غير تام؛ لكونه قياساً؛ إذ لقائل أن يقول: بأن المالين إذا كانا لمالكين وامتزجا حصلت الشركة القهرية، كما في المقيس عليه، ولكن إذا كان المالان لواحد وامتزجا عنده، فلا معنی الحصول الشركة في ماله، وما نحن فيه كذلك؛ فإن كلا المالين كانا ملكاً للغابن حين الامتزاج، ولم يحصل امتزاج آخر بعد فسخ المعاملة، فجعل المقام كالمقام الآخر قیاس لا نقول به.

مختار المحقّق الخراساني ومناقشته

2- ما أفاده المحقّق الخراساني (قدس سره) ، من أن مقتضى الفسخ، هو رجوع كل من العوضين إلى ملك صاحبه الأول، فالأجزاء الخلية ترجع ملكاً للآخر - صاحبها الأول -، وبما أنها ممتزجة مع الأجزاء العسلية، وكل واحد منهما لمالك، فيحصل الاشتراك قهراً، كما في صورة الامتزاج بالجنس، مثل ما لو امتزج الزيت بالزيت؛ حيث إن ملاك الشركة فيه موجود في المقام بعينه.(1)

وهو محل إشكال؛ فإن في حالة الامتزاج بالجنس لم تتبدّل الصورة النوعية، وإنما انتفى التمايز بين أجزاء الشخصين، بخلاف المقام؛ لانتفاء الصورة النوعية لكل من العسل والخل، وحدوث صورة نوعية ثالثة، فلا يوجد - فعلاً - عسل ولا خل، فالأجزاء الخلية بما هو خلّ معدومة، وإنما الموجود مادة الخل، وكذلك الحال في العسل، ولا ينبغي الخلط بين العسل والخل وبين مادتهما.

ومن هذا يظهر أن قياس ما نحن فيه على الامتزاج بالجنس مع الفارق؛ فإن المال حينما كان عند المغبون كان عسلاً أو خلاً، وعند الفسخ ليس بخل ولا عسل، فالملاك الموجود في ذلك المقام غير موجود في هذا المقام.

ص: 203


1- حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني /(196-195).
مختار المحقّق النائيني ومناقشته

3- ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) وحاصله: أن الخصوصية العينيّة الشخصية لكل من العسل والخلّ - بعد الامتزاج وتبدّل الصورة النوعية - لا يمكن أن يتعلق بها الحكم تكليفاً ولا وضعاً؛ إذ من الواضح أن يتوجه - بعد فسخ المغبون - خطاب تكليفي للغابن بردّ مال المغبون، وخطاب وضعي بالضمان؛ إذ لم تكن يده مجانية حسب الفرض، وبما أن الأجزاء العسلية غير قابلة للردّ، فينتفي موضوع كل من الحكم التكليفي، والوضعي، فيتعلّق الحكم الوضعي بأصل المالية، وضمان المالية على نحوين:

أحدهما: [الشركة في الثمن]: أن يكون مورد الضمان نفس القيمة، بمعنى أن يبيع المال، ثم يقسّم الثمن.

والآخر: الشركة في العين بحسب المالية، بمعنى أنهما يشتركان بنسبة الثمن، فإذا كانت قيمة العسل دينارين، وقيمة الخل دیناراً كانا مشتركین بنسبة الثلث، فلصاحب الخل ثلث الممزوج، والثلثان لصاحب العسل.(1)

وفيه: أولا: أن مما لا شك فيه أن مقتضى قانون الفسخ هو رجوع ما خرج عن الملك إليه، وأما الشركة فهي على خلاف الأصل من جهتين، فلا يصار إليها إلا بدليل؛ فإن متعلّق الملكية في مفروض الكلام هو هذا العسل، وهذا الخل، وبمقتضى الشركة التي أفادها المحقّق النائيني (قدس سره) يكون متعلّقها الحصة من الممزوج، فتبدّل متعلق الملكية يحتاج إلى دليل؛ فإن كل مملوك حادث يحتاج إلى سبب اختياري كالعقد، أو قهري كالإرث، أو مثل الحيازة.

وثانياً: أن ما انتقل من المغبون كان مفرزاً معيّناً، وما سيرجع إليه مشاعاً، وبينهما تباین.

ص: 204


1- منية الطالب 3/(154-153).

وأما ما أفاده (قدس سره) من عدم إمكان تعلّق الحكم التكليفي والوضعي بالخصوصية العينية الشخصية، فلا يصلح لأن يكون دليلاً على الشركة؛ لكونه أعم من المدّعي؛ إذ بما أن العين - وقت الفسخ - تالفة، فمقتضی قانون الفسخ الانتقال إلى البدل، وأما الانقلاب إلى الشركة فلا دليل عليه.

مختار السيّد اليزدي ومناقشته

4- ما أفاده الفقيه النبيه السيّد اليزدي (قدس سره) ضمناً؛ حيث قال: بأن المغبون مخيّر بين أخذ العوض، وبين اختيار الشركة؛ لأن عين ماله موجود في الضمن، فله المطالبة به، ويكون طريق ذلك الشركة في الثمن، لا في العين؛ إذ لا دليل عليها، وله أن يطالب العوض؛ لمكان حيلولة الغابن بينه وبين شخص المال، ولو رضيا بالشركة في العين أيضاً جاز.(1)

وفي كلامه أربعة مطالب:

1- نفي الشركة في العين؛ لعدم الدليل عليها.

2- إثبات الشركة في الثمن؛ لأن عين ماله موجود في الضمن، وطريق الوصول إليه بالشركة في الثمن.

3- إثبات المطالبة بالعوض؛ لبدل الحيلولة.

ويكون المغبون مخيّراً بين هذين الأمرين - الثاني والثالث - .

4- جواز الشركة في العين مع التراضي.

والتحقيق يقتضي أن تلاحظ هذه النقاط على حدة، فيكون في كلامه جهات من الإشكال:

الأولى: استدلاله على الشركة في الثمن؛ بكون عين ماله موجوداً في الضمن،

ص: 205


1- حاشية السيّد على المكاسب 2/563.

غير صحيح بعد الامتزاج وزوال الصورة النوعية؛ فإن الموجود مادة المال، وماهية الأشياء تدور مدار الصور، لا مدار المواد، فالقول بتبدّل الصورة النوعية ووجود عين المال جمع بين الضدين، فإن العين إذا كانت موجودة فالصورة النوعية محفوظة، وإن كانت الصورة متبدلة فالعين غير موجودة، وإنما الموجود مادتها.

الثانية: أن العين إذا كانت موجودة فالأقرب لماله هي الشركة في العين، وهي طريق الوصول إليه، لا الشركة في الثمن، وينبغي حفظ المراتب في المالية.

الثالثة: جعله العوض أحد طرفي التخيير؛ استناداً إلى بدل الحيلولة غير تام؛ لأن دليل بدل الحيلولة هو الإجماع، والقدر المتيقن منه فيما لو كان ماله موجوداً، ولم يتيسر الوصول إليه مؤقتاً، وفي فرض تبدّل الصورة النوعية لا يمكن الوصول إلى العين الشخصية أبداً، فلا دليل على بدل الحيلولة.

الرابعة: قوله: (ولو رضيا بالشركة في العين أيضاً جاز)، لا محصّل اله؛ لأن الجواز في الشريعة إما حكمي أو وضعي، ولا إشكال في كون المراد به هنا هو الوضعي، بمعنی تحقّق الشركة في العين، ومعناه تحوّل الملك المفروز المنحاز لكل واحد منهما إلى ملك مشاع، ولا يخفى عدم كون الرضا أحد أسباب تبدّل الملك بملك، وزوال ملك وحصول آخر؛ فإن أسباب حصول الملكية في الشريعة معيّنة، وليس من بينها الرضا بها.

الخامسة: قال (قدس سره) بالتخيير بين أخذ العوض والشركة في المال، ولا يخفى أن التخيير يحتاج إلى دليل، فإما أن يكون بالدليل الخاص، أو بالدليل العام، أما الدليل الخاص على التغيير في المقام فهو منتفٍ قطعاً؛ فإنه لم يرد إلا في موارد خاصة، كالتخيير بين خصال الكفارة، وليس المقام منها.

وأما الدليل العام فهو منحصر في مقامين:

الأول: مورد التزاحم، وذلك فيما إذا كان المقتضي في كل من الدليلين للحكمین

ص: 206

موجوداً، والمانع منه مفقوداً، ولكن لا يمكن الأخذ بكليهما معاً في مقام الامتثال، كما أن الأخذ بأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجح، وأحدهما المردد غیر معقول؛ لأن المردد لا ذات له ولا وجود، فلا يكون موضوعاً للحكم، فيحكم العقل بتقييد إطلاق كل من الواجبين بترك الآخر، فالنتيجة التخيير.

الثاني: مورد التعارض؛ وذلك فيما إذا لم يمكن شمول دليل الحجية لكلا الدليلين؛ للتنافي بينهما، ولم يوجد مرجّح لأحدهما، من موافقة الكتاب، ومخالفة العامة، فيحكم بالتخییر.

والحاصل: أنه لا دليل على القول بالتخيير في المقام؛ لانتفاء الدليل الخاص قطعاً، وعدم كون المورد من موارد التعارض أو التزاحم.

الحق في هذه الصورة

والحق الحقيق بالاتباع - بعد اتضاح وهن جميع الوجوه المذكورة للشركة - هو الانتقال إلى البدل؛ لكونه تالفاً عرفاً؛ وذلك لأن الامتزاج، يكون تارة بين ملكي مالكين، كما لو كان العسل لشخص، والخل إلى آخر، فلا شك في وقوع الشركة القهرية، وأخرى يكون بين جنسين لمالك واحد، فلا تعقل الشركة، وما نحن فيه من قبيل الثاني؛ لأن المالين - بعد المعاملة - صارا في ملك الغابن، وحصل الامتزاج بينهما وهما في ملكه، فلا معنى لحصول الشركة حينئذ، ولما فسخ المغبون لم يحصل امتزاج جديد، فَفَسَخَ المغبون وماله حين الفسخ تالف عرفاً؛ لأن الموجود قبل المعاملة غير موجود فعلاً، فتنطبق عليه قاعدة الفسخ، من رجوع كل من العوضين إلى ملك مالكه السابق إن وجد، وإن كان تالفاً انتقل إلى بدله.

الصورة الثانية: امتزاج المبيع بجنسه
اشارة

كما لو امتزجت حنطة المغبون بحنطة الغابن، وله ثلاث أقسام:

القسم الأوّل: أن يمتزج المبيع بالمساوي من حيث الجودة والردائة، وحكم

ص: 207

الشيخ (قدس سره) بثبوت الشركة، ولم يقم على ذلك دليلاً.(1)

أ: في امتزاج المالين إذا كانا لمالكين

ولا يخفى أن المالين تارة يكونان لمالكين، وأخرى لمالك واحد، فإذا كانا لمالكين، وكانا متساويين في الجودة والردائة فامتزجا، حصلت الشركة القهرية بينهما على المشهور، ولكن ينبغي تنقيح الأصل في المسألة أولاً، فنقول:

إن قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية، فالأصل يقتضي بقاء كل من المالين على ملك مالكهما؛ وليس في الامتزاج سببية عقلية، ولا شرعية على الخروج عن ملك مالكه.

وإن قلنا بمقالة الفاضل التراقي (قدس سره) ، من عدم جریان الاستصحاب فيها، فالأمر مشكل؛ لأن استصحاب المجعول - وهو بقاء الملكية بعد تحقق الامتزاج - معارض باستصحاب عدم جعل الملكية له بعد الامتزاج، فلا يجري.(2)

فليس في المقام ما يمكن الاستناد إليه إلا ما يدّعى من الإجماع، وهو ثابت عند القوم، إلا أنه لا معقد له؛ لكي يتمسك بإطلاقه لو شك في سعته وضيقه، فيقتصر فيه - على فرض ثبوته - على القدر المتيقن، وهو ما لو حصل الامتزاج بين المتجانسين.

ولكن يرد عليه: أولا: أنه لم يثبت الإجماع المحصّل، والمنقول غير مقبول.

وثانياً: أنه - على فرض ثبوته - لا يكشف عن رأي المعصوم (قدس سره) ، ولا عن دلیل معتبر؛ لكونه مدركياً أو محتمل المدرك؛ فإن عدّة من الأعاظم ممن قال بالشركة قد استند إلى السيرة العقلائية، فنحن والسيرة.

ص: 208


1- المكاسب 5/199.
2- إن قيل: هل جعل الملكية من قبيل جعل الحكم تدريجي الحصول، بحيث يكون لك آن ملكية؟ فالجواب: أن تعارض استصحاب بقاء المجعول وعدم الجعل ليس مختصاً بالأحكام التدريجية كما يظهر بمراجعة كلام النراقي والمحقّق السيّد الخوئي قدس سرهما.

وإذا انتهى الأمر إلى السيرة، فلا تكون حجة إلا إذا تحقق فيها أمران:

الأول: أن يحرز قيامها بين العقلاء، بحيث يرون حصول الشركة العينية بنحو الإشاعة بمجرد امتزاج المالين، ومع احتمال أنهم يرون بيعها [وهي الشركة في المالية]، أو تردّد الأمر بين هذين الأمرين لا تثبت السيرة.

الثاني: أن يحرز اتصالها بزمن المعصوم (علیه السلام) ، وتمضىٰ من قبله ولو بعدم الردع، مع كونها بمرأى ومسمع منه.

وفي إحراز ذلك - وإن كان ليس ببعيد - تأمل ونظر، كما أن كون الشركة في العين من جملة المرتكزات العقلائية في غاية الإشكال.

وتوضيح ذلك: أن سيرة العقلاء على نحوين:

1- ما يكون بحدّ الارتكازات العقلائية، التي هي عبارة عن الأمور المفطور عليها العقلاء بما هم عقلاء، كاستنادهم إلى إخبار الثقة؛ فإنهم يرتبون الأثر عليه، ويعملون على طبقه بمجرد إخباره من دون توقف.

وفي مثل هذا لا يحتاج إلى بيان إحراز الاتصال بزمان المعصوم (علیه السلام) لكي نحرز الإمضاء؛ لأنها متصلة وثابتة حتى في زمان المعصوم (علیه السلام) فهي ممضاة، ولكن ليست سيرتهم المدعاة على الشركة في العين في ما نحن فيه من هذا القبيل، كما يشهد له اختلافهم في دليل الشركة؛ إذ عدّة استندوا إلى الإجماع، وآخرون إلى السيرة، واختلافهم في الشركة نفسها؛ إذ لا معنى للاختلاف مع كونها من الأمور الارتكازية، فمتى ما عرض الأمر على العقلاء، فتوقفوا فيه ولو آناً ما، ثم اختاروه بدليل أو برهان علمنا أنه ليس من جملة المرتكزات، ففيما نحن فيه مثلاً يستدل العقلاء ببرهان السبر والتقسيم على الشركة؛ حيث يقولون مثلاً: إن هذا المال الممتزج بعضه ملك لأحدهما، ولا يمكن إفراز ملكه ليترتب عليه آثار الملكية، فلا بد أن يكونا مشتركين في كل

ص: 209

المال.(1)

2- والقسم الثاني هو الذي لم يصل إلى هذا الحدّ، فإن ثبتت السيرة اشترط فيها إحراز الاتصال، والإمضاء ولو بعدم الردع، ولم يثبت.

فمحصل البحث: أن مقتضى الأصل العملي بقاء العين على ملك مالكها، فإن ثبت الإجماع، أو السيرة العقلائية على الشركة في العين رفعنا اليد عن الأصل، وإلا فلا، ولم يثبتا، فالحق أن الشركة في المالية بنسبة ما لهما من العين.

هذا إذ كان المالان متساويين في الجودة والردائة. [القسم الثاني والثالث] وأما لو اختلفا، فالسيرة قائمة على الشركة في العين بنسبة مالية المالين، بمعنى أنه لو امتزج كیلو حنطة من الجيد، بكيلوين حنطة رديئة، لم يبنَ على التثليث، فيقسم أثلاثاً، بل تلاحظ القيمة، ويشتركان في العين بنسبة قيمة المالين.

ومع قيام هذه السيرة وثبوتها لا تصل النوبة إلى استصحاب بقاء ملكية كل مال على ملك مالكه كما هو ظاهر، والاحتياط في الصلح.

وكيف كان فالمسألة لا تخلو من إشكال، كما ذكرنا وجوهه فيها، ولهذا تجد الاضطراب في كلمات أعيان الفن، فالسيّد الفقيه اليزدي (قدس سره) استظهر إجماعهم على الشركة في العين، واستشكل فيه، واختار الشركة في الثمن؛ لأنه الطريق إلى التوصّل إلى الملك، ثمّ قال: لو جعل الاختيار بيد المالك في أخذ العين أو العوض لمكان الحيلولة كان أولى، ثمّ استشكل فيه من جهة أن الإعطاء من نفس العين أقرب إلى ماله

ص: 210


1- قيل للشيخ الأستاذ (دام ظله) : بأن الاختلاف وقع في خبر الثقة أيضاً، فخالف في حجيته ابن ادریس، فكيف يكون من المرتكزات العقلائية؟ فأجاب الشيخ الأستاذ (دام ظله) : بأن ابن ادریس لم ينكر سيرة العقلاء على ذلك، وإنما ادّعى ردعها من قبل الشارع.

من إعطاء العوض؛ حيث إنه مشتمل على ماله وغيره، هذا ما أفاده في الحاشية.(1)

وأما في العروة فاختار الشركة الظاهرية في العين(2)، التي هي محل إشكال ومناقشة، بل غير معقولة؛ لأن موضوع الحكم الظاهري الشك في الواقع، فإذا أحرز بحسب الواقع عدم الشركة، فلا يعقل الحكم بالشركة الظاهرية.

والمحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) ذهب في مصباح الفقاهة إلى تحقّق الشركة في العين(3)، وفي المستند جزم بعدم تحقّق الشركة في صورة امتزاج دراهم بدراهم، ولم يستبعد ذلك في امتزاج الحنطة بالحنطة(4)، فيبقى المال على ملك مالكه، وفي المنهاج قال بتحقّق الشركة.(5)

ب: في امتزاج المالين إذا كانا لمالك واحد

وأما إذا كان المالان لمالك واحد، كما في ما نحن فيه؛ حيث إن المالين كليهما للغابن حين الامتزاج، بمعنى أن حنطة المغبون صارت ملكاً للغابن وقد امتزجت مع حنطة أخرى له، فلا وجه صحيحاً للشركة؛ إذ لا معنى لحصول الشركة وقت الامتزاج؛ لكونهما ملكين لمالك واحد حينئذٍ، ولا تتعقل الشركة في مالي رجل واحد.

نعم، ربما تصحّح الشركة، بدعوی رجوع حصة المغبون إلى ملكه آناً ما قبل الفسخ، فيحصل الفسخ والحنطة لهما، لا لخصوص الغابن، فتحصل الشركة القهرية بين المالين، فيكون بحكم مال المالكين.

ولكنه غير قابل للقبول؛ لأن الملكية الآنية أمر على خلاف ما عليه سيرة العقلاء

ص: 211


1- حاشية السيّد اليزدي (قدس سره) على المكاسب 2/564.
2- قال (قدس سره) في العروة 5/273، ط. مؤسسة النشر الإسلامي.
3- مصباح الفقاهة 6/361.
4- قال في مستند العروة الوثقى 31/182.
5- قال في منهاج الصالحين، 2/122، باب المعاملات، المسألة 551.

في معاملاتهم، فلا يصار إليه إلا بدليل تعبّدي، كما في المعاطاة؛ حيث إن الجمع بين الأدلة اقتضى القول بالملكية آناً ما؛ إذ الجمع بين القول بعدم إفادة المعاطاة إلا الإباحة من جهة، وبين قيام الإجماع القطعي على صحة التصرّفات الاعتبارية للمشتري في ما أخذه من جهة ثانية، وبين «لا بيع إلا في ملك» من جهة ثالثة، هو القول بالملكية الآنية، فيقال بانتقال المأخوذ إلى ملك الأخذ آناً ما قبل بيعه له، ثمّ يبيعه.

وكما في سهم الإمام (علیه السلام) على ما هو التحقيق؛ فإنه ملك للإمام (علیه السلام) ، وإنما يجوز للفقيه صرفه فيما يرضي الإمام (علیه السلام) ، ونتيجة ذلك جواز إعطائه إلى من يستحق السهم، مما يحرز رضا الإمام (علیه السلام) في إعطائه إياه، ومقدار ما دلّ عليه الدليل: أنه له على نحو الإباحة في التصرف، ولكن بما أنه سيضطر جزماً إلى الشراء به، لقضاء حاجاته، فيقال جمعاً بين الأدلة بتملكه له آناً ما ثم يشتري به.

ولا يوجد مثل هذا الدليل في المقام، فلا وجه للملكية الآنية .

وحاصل البحث: أن المالين إذا كانا من جنس واحد، سواء أكانا متساويين في الجودة والردائة، أم مختلفين، فالقاعدة تقتضي الانتقال إلى البدل؛ لأن الامتزاج قد تمّ حال كونهما في ملك الغابن، ولا مورد للشركة حينئذٍ، فلما فسخ البيع كان مقتضى قاعدة الفسخ أن يردّ مال المغبون بعينه، لا على نحو الإشاعة؛ إذ لا دليل عليها، ولمّا لم يمكن ذلك؛ الحصول الامتزاج عند الغابن، انتقل إلى بدله.

وبعبارة أخرى: إن قانون الفسخ أن ترجع الملكية التي كانت بين المالك والمملوك إلى سابق وضعها، لا بمعنى أن ترجع الملكية بشخصها، بل بسنخها، وبما أن المملوك الذي انتقل عنه كان مفروزاً، وملكيته لم يكن أحد يشاركه فيها، فلا بدّ أن يعودا كذلك، ورجوعهما مشاعاً نقض لقانون الفسخ.

فالنتيجة: أن مقتضى الفسخ عود ما انتقل عنه إليه، فإن لم يوجد انتقل إلى بدله، قيمة أو مثلاً.

ص: 212

ثمّ إنه إذا قلنا بالشركة في العين على حسب المالية حين امتزاج الحنطة الردئية بالجيدة، فقهراً يكون سهم صاحب الجيدة أكثر من سهم صاحب الرديئة، فإذا كان الأجود يساوي قيمتي الرديئ كان المجموع بينهما أثلاثاً.

دعوى الشيخ الطوسي الربا على القول بالشركة في العين حسب المالية وردها

ولكن ردّه الشيخ الطوسي (قدس سره) - في مسألة رجوع البائع على المفلّس بعين ماله - بأنه يستلزم الربا(1)؛ وذلك لأن ما أخذه من بعد الامتزاج(2) أكثر من ما سلّمه قبله.

وعلّق عليه الشيخ الأنصاري (رحمة الله) بقوله: (وهو حسن مع عموم الربا لكل معاوضة)(3)

وتوضيح ذلك: أن الالتزام بالربا في المقام، بناء على الشركة في العين يبتني على [أمور ثلاثة]:

الأول: أن يستفاد من أدلة حرمة الربا عموم حرمته لكل المعاوضات، لا خصوص البيع.

الثاني: أن يلتزم بجريان الربا حتى في المعاوضات القهرية، ولا يختص بالمعاوضات الاختيارية.

الثالث: ان الشركة القهرية بالامتزاج هي إحدى المعاوضات القهرية.

وفي كل منهم بحث، ولو فرض أن أدلة حرمة الربا لا تختص بالبيع، بل تشمل كل معاوضة، فلا شكّ أنها تختص بالمعارضات الاختيارية، ولا تشمل القهرية كما في ما نحن فيه.

ص: 213


1- المبسوط 2/(226-225).
2- إذا امتزج ماله بما هو اردئ منه.
3- المكاسب 5/199.

ولو سلّم شمولها لكل معارضة لم يسلّم صدق المعاوضة على الشركة القهرية؛ لعدم حصول المقابلة والمبادلة في الشركة في العين الحاصلة بالامتزاج، بحيث يصدق عليه أنه بدّل ماله القليل بمال أكثر؛ ليصدق عنوان المعاوضة؛ فإن ما حصل فيها هو انعدام الملكية السابقة واستحداث ملكية جديدة.

والحاصل: أن ما حسّنه الشيخ (قدس سره) من صدق الربا على المالين الممتزجين، إذا كانا من جنس واحد، وتوفرت سائر شرائط الربا من المكيل والموزون، يتوقف على الالتزام بأمور ثلاثة:

الأوّل: أن يلتزم بشمول أدلة حرمة الربا لكل معاوضة، لا خصوص البيع.

الثاني: أن يلتزم بشمول أدلته للمعاوضات الاختيارية والقهرية.

الثالث: أن يلتزم بأن الشركة القهرية بالامتزاج فرد من المعاوضات.

ولا أقل من إجمال دليل حرمة الربا، ومقتضى القاعدة في المجمل المردّد بين الأقل والأكثر، الاقتصار على الأقل، وهو غير الشركة القهرية في العين، فينتفي إشكال الربا فيها.

ص: 214

مسألة: في حكم تلف العوضين مع الغبن

اشارة

أفاد الشيخ (قدس سره) : بأن التلف إما أن يكون فيما وصل إلى الغابن، أو فيما وصل إلى المغبون، والتلف، إما بآفة، أو بإتلاف أحدهما، أو بإتلاف الأجنبي، فالصور ثمان؛ إذ يتصور التلف عند أي منهما على أربع صور، فالمتصور في تلف ما وصل إلى المغبون:

1- أن يكون التلف بآفة سماوية.

2- أن يكون التلف بإتلاف الغابن.

3- أن يكون التلف بإتلاف المغبون.

4- أن يكون التلف بإتلاف الأجنبي.

وهكذا بالنسبة إلى ما وصل إلى الغابن.

في حكم تلف ما عند المغبون
اشارة

أما بالنسبة إلى تلف ما عند المغبون فأفاد الشيخ (قدس سره) .

1 و 2- بأنه إن كان بآفة أو من المغبون، فعلی مبنی من قال بسقوط الخيار في حال انتقال المبيع عن الملك بعقد لازم، فهو يقول هنا بالسقوط بطريق أولى؛ لأنه إن قال بسقوطه في التلف الحكمي، فهو يقول بسقوطه في التلف الحقيقي بالأولوية القطعية.

ص: 215

لكنك قد عرفت الكلام في مورد التعليل فضلاً عن ما نحن فيه، وتوضيح ذلك:

أن الخيار لو كان هو حق ردّ العين، لسقط الخيار في التلف الحكمي والحقيقي، ولكن التحقيق أنه حق فسخ العقد، فمتعلّقه العقد، وهو باقٍ حتّى بعد التلف الحقيقي، فضلاً عن الحكمي، فيبقى الحق المتعلِّق به.

وعليه، فإذا فسخ المغبون العقد، فبالنسبة إلى ما عند الغابن، إن كان موجوداً ردّه المغبون إلى ملكه، وإن كان تالفاً أخذ بدله.

وأما ما عند المغبون، فالفرض أنه تالف، فينتقل الضمان إلى البدل، مثلاً أو قيمة، حسب قاعدة التلف، ولكن الكلام في قيمة ما يغرمه، هل هي قيمة يوم التلف؟ أو يوم الفسخ؟ وذلك مع اختلاف القيمة بين الزمانين، كأن حصل التلف قبل الفسخ بأيام وقد ارتفعت القيمة.

ومقدار ما أفاده الشيخ (رحمة الله) ذكر الوجهين على نحو الترديد، ولم يبيّن الوجه فيهما.(1)

3- وإن كان التلف بإتلاف الأجنبي ففسخ المغبون، أخذ الثمن ورجع الغابن إلى المُتلِف إن لم يرجع المغبون عليه. وإن رجع عليه بالبدل؛ - إذ هو ملكه حين التلف، فمن حقه الرجوع إليه - ثم ظهر الغبن، ففسخ ردّ على الغابن القيمة يوم التلف أو يوم الفسخ.

والوجه فيه: أن الضمان بالنسبة إلى الأجنبي يكون في زمان الإتلاف؛ «فإن من أتلف مال غيره فهو له ضامن»، فإذا فسخ المغبون كان البدل بدل ما أتلفه الأجنبي،

ص: 216


1- [وقد بحثنا في مسألة المثلي والقيمي أنّ الأصل في البدل المثل وإذا انتقل إلى القيمة تكون قيمة يوم الاداء فراجع كتابنا «الآراء الفقهية» 5/550].

فإن لم يأخذه المغبون رجع الغابن إلى الأجنبي، وإن أخذه رجع الغابن إليه.(1)

4- وإن كان بإتلاف الغابن ففيه ثلاث صور:

1- أن لا يفسخ المغبون فيأخذ البدل من الغابن، لأن «من أتلف مال غيره فهو له ضامن»، فعلى الغابن أن يخرج من عهدة البدل، إن كان قيمياً فبالقيمة، وإن كان مثلياً فبالمثل.

2- أن يفسخ المغبون من دون إبراء الغابن، فيأخذ منه الثمن، وليس على المغبون شيء؛ لأن الغابن قد أتلف ما وجب عليه ردّه.

3- أن يفسخ المغبون، ولكن كان إتلافه قبل ظهور الغبن، وأبرأه المغبون من الغرامة، ثم ظهر الغين ففسخ، وجب عليه ردّ القيمة إلى الغابن، لأن ما أبرأه بمنزلة المقبوض؛ لأن إبراء الذمة بمنزلة وصول التالف إليه.

في حكم تلف ما عند الغابن

وأما إذا تلف ما عند الغابن، فالصور أربع ايضاً:

1 و 2- فإن كان التلف بآفة، أو بإتلاف الغابن، ففسخ المغبون أخذ البدل، وفي اعتبار القيمة يوم التلف أو يوم الفسخ؛ إذ النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، قولان، ظاهر الأكثر الأوّل.(2)

3- وإن كان بإتلاف الأجنبي، وفسخ المغبون المعاملة، ففي رجوع المغبون إلى الأجنبي أو إلى الغابن احتمالات ثلاثة:

الأوّل: أن يرجع بعد الفسخ إلى الغابن، والوجه فيه أمران:

1- أنه الذي يردُّ إليه العوض؛ بمقتضى قانون الفسخ من رجوع المال المنتقل إلى

ص: 217


1- إلى المغبون.
2- ومختارنا قيمة يوم الأداء كما مرّ.

من انتقل عنه، فيؤخذ منه المعوَّض أو بدله.

2- أنه ملك القيمه على المتلِف؛ لحصول التلف وهو في ملكه، فهو الذي يطالب الأجنبي؛ لأنه ماله، فلا وجه لرجوع المغبون إلى المتلِف.

الثاني: أن يرجع إلى الأجنبي المتلِف؛ لأن المال في ضمانه، فلما فسخ المغبون كان له - بمقتضى قانون الفسخ - أن يأخذ العين إن وجدت أينما كانت، وإن لم توجد فيأخذ بدلها، فما لم يدفع الأجنبي العوض فنفس المال في عهدته.

الثالث: التخيير بين الرجوع إلى الغابن والرجوع إلى الأجنبي؛ أمّا الغابن؛ فلأنه ملك البدل، وأما المتلِف؛ فلأن المال المتلَف في عهدته قبل أداء القيمة.

4- وإن كان بإتلاف المغبون، فالمستفاد من كلام الشيخ (قدس سره) ثلاث صور:

الأولى: أن لا يفسخ المغبون المعاملة، فيغرم بدل ما أتلفه عند الغابن؛ لأن «من أتلف مال غيره فهو له ضامن».

الثانية: أن يفسخ المعاملة، ولم يبرئ الغابن ذمة المغبون، فيأخذ الغابن ماله من المغبون.

الثالثة: أن يفسخ المعاملة، ولكن أبرأه الغابن من بدل المتلَف قبل الفسخ، فظهر الغبن ففسخ، ردّ المغبون الثمن، و[لم يأ]خذ قيمة المتلَف؛ لأن المبرأ منه كالمقبوض.

هذا حكم جميع الصور التي أفادها الشيخ (قدس سره) وبيّناها بطولها وأوضحنا الأحكام فيها بوجوهها.(1)

ولا يخفى عدم الثمرة في التقسيم؛ لأن الحكم واحد في الصورتين، فحكم إتلاف الأجنبي واحد، سواء أكان التالف ما عند الغابن أم كان عند المغبون، وكذا بالنسبة إلى إتلاف أحدهما، أو إذا كان بآفة.

ص: 218


1- المكاسب 5/(202-200).

مسألة: في ثبوت خيار الغبن في غير البيع وعدمه

اشارة

الكلام في ثبوت خیار الغبن في المعاوضات المالية غير البيع يبتني على المستند في خيار الغبن، وقد أطال الشيخ (قدس سره) في ذكر الأقوال، ونقل الكلمات، والمهم ذكر المباني وما يبتني عليها، فنقول:

إن ما ذكر من المستند في خيار الغبن ستة أدلة:

الأول: الإجماع.

الثاني: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾(1)

الثالث: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾(2)

الرابع: أخبار تلقّي الركبان.

الخامس: قاعدة (لا ضرر).

السادس: الشرط الارتكازي.

والعمدة بين هذه الأدلة ثلاثة: الإجماع، و«لا ضرر»، والشرط الارتكازي؛ فإن أخبار تلقّي الركبان ضعيفة سنداً، موهونة دلالة، والآية بعقديها - المستثنی والمستثنى

ص: 219


1- سورتا البقرة /188 والنساء /29.
2- سورة النساء /29.

منه - غير تامة الدلالة على المدّعی.

حكم المسألة إذا كان المستند هو الإجماع

فإن كان المستند الإجماع، كما ذهب إليه جماعة من الأعاظم، فلا يثبت في غير البيع؛ لكونه دليلاً لبياً، فيكون المخصص لعموم ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) الدال على لزوم كل عقد، دليلا لبياً مردداً بين الأقل والأكثر، فيقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو خصوص البيع، ويتمسك بالعموم في الباقي.

حكم المسألة إذا كان المستند لا ضرر
اشارة

وإن كان المستند «لا ضرر» كما عليه جماعة كثيرة من الفقهاء؛ باعتبار أن اللزوم في البيع الغبني حكم ضرري، وهو منفي في الإسلام، فالخيار يثبت في جميع المعاملات المعاوضية الغبنية؛ لنفس المناط، ويستثنی خصوص ما لو أقدم المتعاملان أو أحدهما على الضرر؛ فإن الضرر لا يستند إلى الشارع حينئذٍ، وإنما إلى نفس من أقدم عليه.

حاجة لا ضرر للجبر عند المحقّقين الخراساني والأصفهاني ورده

نعم، قال المحقّق الأصفهاني (قدس سره) في المقام:

(نعم، إذا قلنا بأن قاعدة الضرر تحتاج في العمل بها إلى الجابر أمكن الإشكال في خصوص الصلح؛ حيث لا شهرة على جريان خيار الغبن فيه؛ لتكون قاعدة الضرر مجبورة بعمل المشهور)(2)

وقد سبقه بهذا المعنى المحقق الخراساني (قدس سره) أيضاً؛ حيث قال في حاشيته على المكاسب: «وعدم الحاجة في الاستناد إلى نفي الضرر، إلى الجبر بعمل معظم

ص: 220


1- سورة المائدة /1.
2- الحاشية على المكاسب 4/319.

الأصحاب، وإلا فلا يصحّ الاستناد إليه في ثبوته في غير البيع؛ لعدم ظهور الاستناد من المعظم إليه، وإلا في البيع»(1)

ولكنه مما لا وجه له؛ لأنا نحتاج في حجية الخبر إلى ركنین: تمامية السند، وتمامية الدلالة، وكلاهما تامان في حديث «لا ضرر»، فلا حاجة إلى الجبر بعمل الأصحاب؛ فإنا إنما نحتاج إليه - على القول به - في مورد ضعف السند لينجبر وهنه به، أو في مورد قصور الدلالة فيرفع قصورها بعمل الأصحاب.

إن قيل: بأن التمسك ب-«لا ضرر» في المقام يستلزم تخصيص الأكثر.

قلنا: بأن كثيراً من الموارد التي تخرج من دائرة «لاضرر» إنما تستلزم كثرة التخصّص، لا كثرة التخصيص؛ فإن الموارد التي تكون مبنية على الضرر من أول تشريعها، كالجهاد، والدفاع، خارجة من تحت «لا ضرر» تخصّصاً، وكذلك موارد إقدام المكلف على الضرر.

حكم المسألة إذا كان المستند الشرط الارتكازي

وإن كان المستند الشرط الارتكازي، القائم بين العقلاء في معاملاتهم، على أن لا يكون تفاوت فاحش بين العوض والمعوض، فتخلّفه في أي مورد اتفق يوجب الخيار، فيختلف الموارد:

فإن قامت قرينة نوعية على أن المعاملة مبنية على المداقة، كما في الصلح الذي يراد به نتيجة البيع أو الإجارة، فالتفاوت الفاحش بين العوضين موجب للخيار؛ لتخلف الشرط الارتكازي.

وإن قامت القرينة النوعية على المسامحة، كما في الصلح الذي يراد به رفع المشاجرة والنزاع، أو في موارد إبراء الذمة، فلا شرط ارتكازياً عندهم على التساوي

ص: 221


1- الحاشية المكاسب /197

بين العوضين، فلا خيار.

نعم، يختلف الحال في التفاوت الفاحش بين الموارد، فربما التفاوت بمائة دينار يوجب الغبن في الصلح الذي يراد به أن يقوم مقام البيع، ولكن لا يوجبه في موارد إبراء الذمة، ولكن التفاوت بخمس مائة دينار يوجب الغبن حتّى في موارد إبراء الذمة.

ولو شكّ في مورد من الموارد أنه مما بني فيه على التسامح عند العقلاء أو لا، فمقتضى الأصلين، اللفظي والعملي، هو لزوم المعاملة؛ لأن الشك في ذلك يرجع إلى الشك في اللزوم وعدمه، ومقتضى الأصل اللفظي اللزوم، كما أن مقتضى الاستصحاب - لو فسخ - بقاء أثر العقد الواقع.

فيتلخّص من ذلك: ثبوت خيار الغبن في الصلح الذي لم يبنَ فيه على التسامح، إلّا إذا ثبت إسقاطه من قبل المتعاملين أو أحدهما، وأما ما يبنى فيه على التسامح فلا يجري فيه خيار الغبن.

ص: 222

مسألة: هل الخيار على الفور أو التراخي؟

اشارة

اختلف الأصحاب في كون خيار الغبن على الفور، بحيث يسقط حق الخيار لو لم يعمله المغبون في أول أزمنة الإمكان، أو على التراخي، فيجوز له التأخير في الأعمال على قولين.

نسب الشيخ (قدس سره) إلى المشهور الأول(1)، واستُدِلَّ له بدليلين:

دليل القول بالفور
الدليل الأول

إن الخيار على خلاف الأصل، فيقتصر فيه على القدر المتيقن.

تقرير المحقّق الكركي للدليل الأول

وقرّره في جامع المقاصد: بأن العموم في أفراد العقود يستتبع عموم الأزمنة، وإلا لم ينتفع بعمومه.(2)

ص: 223


1- المكاسب 5/206.
2- جامع المقاصد 4/38.

وتوضيح ذلك: أن في قوله تعالى: ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) عمومین: أفرادياً، وأزمانياً، فمقتضى الأول أن كل فرد من أفراد العقد محكوم بوجوب الوفاء، وهو يستتبع العموم الأزماني، فيكون وجوب الوفاء به في كل زمان، ولو لم يستتبعه لم ينتفع بعمومه، فيكون العموم الأفرادي الغواً؛ إذ لو وجب الوفاء بالعقد في آنٍ ما، لم يكن له ثمرة، فإن أريد أن يكون ذا فائدة لزم أن يكون مستمراً، وإذا ثبت الاستمرار، فتخصیصه بزمان دون زمان ترجیح بلا مرجح، فيثبت العموم الأزماني لكل فرد.

وبعبارة أخرى: إنه إذا ثبت وجوب الوفاء لكل عقد، فلا يخلو الحال من ثلاثة أمور: إما أن يجب الوفاء به آناً ما، فيكون العموم الأفرادي لغواً.

وإما أن يجب الوفاء به في مدة معيّنة، فترجيح أحد أفرادها، كشهر أو شهرين، دون الأفراد الأخرى، ترجیح بلا مرجح.

فيتعيّن الثالث، وهو العموم الأزماني، فيجب الوفاء بكل عقد في كل آنٍ.

وعليه، فإذا ثبت العموم الأزماني، فمن الواضح أن دليل الخيار يخصصه، فبمجرد أن يلتفت المغبون للغبن لم يمكن التمسك بالعموم الأزماني في الآن الأول، وبعده يشك في بقاء الخيار، فإن لم يكن في المقام عموم تمسك بالأصل، وهو استصحاب بقاء الخيار، ولكن العموم الأزماني ثابت حسب الفرض، فيتمسك به في ما عدا الآن الأول؛ لرجوع الشك إلى التخصيص الزائد من حيث الزمان، وهذا معنی كون الخيار على خلاف الأصل، فيقتصر فيه على القدر المتيقن، فيكون على الفور.

والحاصل أن بهذا التوضيح يعرف معنى كون الخيار على خلاف الأصل، واقتصاره على القدر المتيقن، كما يتضح أن القول بالفور برهاني جارٍ على مقتضى القاعدة، وأن المرجع - بعد الآن الأول - العموم الأزماني في قوله تعالى: ﴿ أَوْفُوا

ص: 224


1- سورة المائدة /1.

بِالْعُقُودِ ﴾(1)

دليل القول بالتراخي
اشارة

ومستند القول بالتراخي هو الاستصحاب، بدعوى الشك في بقاء الخيار بعد الآن الأول، فيستصحب بقاؤه.

رأي صاحب الرياض

ونسب الشيخ (قدس سره) إلى صاحب الرياض (رحمة الله) : إناطة الحكم في المقام بالمستند في ثبوت أصل الخيار، فإن كان المستند الإجماع اتّجه التمسك بالاستصحاب؛ لأن الإجماع دليل لبي، لا لسان له، فيدل على أصل ثبوت الخيار، ولا يدل على حدّه، فيشك في بقائه بعد الآن الأول، فيستصحب بقاؤه.

وإن كان المستند قاعدة «لا ضرر» وجب الاقتصار على الخيار في الزمان الأول؛ لارتفاع الضرر به.(2)

ولكن لا يخفى أن كلام صاحب الرياض (رحمة الله) كان في مطلب آخر، وهو ثبوت الخيار [في العيب] مع بذل الأرش، لا في الفور والتراخي.

مناقشة الشيخ في الأدلة

وقد خدش الشيخ (قدس سره) في جميع الوجوه المذكورة:

أما ما أفيد من وجوب الاقتصار على القدر المتيقن؛ لكون الخيار على خلاف الأصل، فهو غير متجه مع وجود الحجة، وهو الاستصحاب في المقام.

ص: 225


1- سورة المائدة /1.
2- رياض المسائل 8/305.
مناقشة الشيخ فيما قرره المحقّق الثاني

وأما ما قرره المحقّق صاحب جامع المقاصد (قدس سره) من استتباع العموم الأفرادي للعموم الأزماني، ففيه: أن الاستتباع يستلزم متبوعاً وتابعاً، فلا بدّ من تحقق العموم الأفرادي، وشموله للفرد، ثم يكون لازمه العموم الأزماني، والعموم الأزماني الثابت يكون على نحوين:

النحو الأول: أن يكون الزمان مكثِّراً لأفراد العام، بحيث يكون الفرد في كل زمان مغايراً له في زمان آخر، أي يكون الزمان قيداً بالنسبة إلى الحكم، فيكون كل آنٍ من الزمان موضوعاً، ولكل موضوع حكم، كما لو قال المولى: «أكرم كل عالم في كل يوم»، فيكون عندنا عموم أفرادي شامل لكل فرد من أفراد العلماء، استفيد من «كل عالم»، وعموم أزماني بالنسبة إلى كل فرد فرد، استفيد من «في كل يوم»، بحيث كان إكرام كل عالم في كل يوم واجباً مستقلاً، غير إكرام ذلك العالم في اليوم الآخر.

فهنا لو علم بخروج فرد من أفراد العلماء في يوم ما، وشك في خروجه في ما عداه، وجب الرجوع في ما بعد اليوم الأول إلى عموم وجوب الإكرام، ولا محلّ للاستصحاب؛ وذلك لوجهين:

الأول: أنه يشترط في جريان الاستصحاب أن لا يكون المتغيّر من مقوّمات الموضوع، بل من الحالات، والزمان - على القيدية - من المقوّمات.

الثاني: أن الاستصحاب في المقام محكوم للدليل، وهو العموم.

فحاصل القول في هذا النحو: أن المرجع عموم العام، ولو فرض عدم وجوده لم يجز التمسك فيه بالاستصحاب.

النحو الثاني: أن لا يكون الزمان مكثِّراً لأفراد العام، بحيث يرد الاستمرار والزمان على الحكم، لا أن يرد الحكم على الزمان كما في النحو الأول، فيكون الحكم بوجوب الإكرام من حيث الأفراد متعلّقاً بكل فرد من أفراد العلماء، ومن حيث

ص: 226

الزمان فهو حكم واحد مستمر في الزمان، فلم تتعدّد الوجوبات بتعدّد قطعات الزمان.

وفي هذا النحو يكون الزمان تابعاً للحكم، فلا بدّ من فرض الحكم أولاً، ثم استمراره، فلا محالة يكون الزمان بالنسبة لكل فرد من موضوع الحكم تابعاً لدخوله تحت العموم، فإذا ورد المخصص، وفرض خروج فرد منه، لم يثبت الحكم في الزمان الثاني حتى نتمسك بعمومه الأزماني، فيكون الحكم المستمر منتفياً بانتفاء موضوعه، فيبطل ما أفاده المحقّق الثاني (قدس سره) .

فالنتيجة من حيث الكبرى: أنه كلما كان الزمان مفرّداً، فخروج الفرد في زمان ما، لا يؤثر في التمسك بالعام فيما عداه، وما لم يكن كذلك لم يكن العموم مرجعاً، بل يرجع إلى استصحاب حكم المخصص.

وأما من حيث الصغرى، فالدليل في المقام هو: ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1)، ومدلولها وجوب الوفاء بكل عقد على نحو الاستمرار، لا بنحو يكون الزمان مفرّداً حتى يتعدد الحكم بوجوب الوفاء بالعقد بحسب قطعات الزمان، فإذا خصص هذا الوجوب وارتفع تبعه الاستمرار، فينتفي موضوع العموم الزماني، فالبيع الغبني خرج من تحت آية ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، فارتفع اللزوم عنه، فلا يرجع ثانية، فينتفي دليل اللزوم في المقام، فيكون المرجع الاستصحاب.

مناقشة الشيخ في الاستصحاب

ثم إن الشيخ (قدس سره) قد أورد على الاستصحاب بإيرادين:

الإيراد الأول: أن الاستصحاب إنما يجري في المقام بناء على جريانه في الشك في المقتضي، وأما على التحقيق من عدم جریانه فيه فلا يجري؛ وذلك: لأن الخيار في

ص: 227


1- سورة المائدة /1.

المعاملة الغبنية ثابت في الزمان الأول، والشك في بقائه في الزمان الثاني ليس ناشئاً من وجود الرافع، كما في الشك في بقاء الطهارة للشك في الحدث؛ لعدم الرافع هنا قطعاً، وإنما نشأ الشك في الخيار من الشك في حدّه، فهل هو محدود بالزمان الأول أو لا، فالشك إذن في المقتضي للبقاء، كما في الشك في بقاء الزوجية؛ للشك في كون العقد الواقع دائماً أو منقطعاً؛ فإن الشك فيه ليس في الرافع قطعاً، وإنما في الأمد واستعداد البقاء، وبما أن الشك في بقاء الخيار من قبيل الشك في المقتضي، فهو لا يجري على التحقيق [عند الشيخ الأعظم].

الإيراد الثاني: أن من أركان الاستصحاب أنْ يحرز كون المتغيّر من حالات الموضوع، لا من مقوماته، فإذا تردّد أمره بين الحالات والمقومات لم يجر الاستصحاب، إلا على مبنى التسامح العرفي في بقاء الموضوع، وعدم جریانه؛ لكونه من الشك في الشبهة الموضوعية للدليل؛ إذ إن كان من المقومات كان جریان الاستصحاب من قبيل إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، وإن كان من الحالات جرى، ومع التردد يكون شبهة موضوعية لدليل الاستصحاب؛ من حيث الشك في صدق النقض الذي هو الموضوع في أخبار الاستصحاب.

وذلك لأن موضوع الخيار في ما نحن فيه - بناء على كون المستند قاعدة «لا ضرر» - هو المتضرر بالمعاملة الغبنية، وهو ينطبق على المغبون في الآن الأول حتى لو أضيف قيد: «الذي لم يتمكن من الفسخ»، وأما في الآن الثاني فقد تمكّن من الفسخ ولم يعمل حقه، والتمكن من الفسخ إن لم يقطع بكونه من المقوّمات فهو يحتمل كونها منها، فإن كان منها وجرى الاستصحاب، كان الحكم بالخيار من إسراء الحكم من موضوع إلى آخر، فيكون المورد من الشبهة الموضوعية للدليل.

وأما بناء على كون المستند هو الإجماع فبما أنه دليل لبّي - وهو ليس كالدليل اللفظي الذي يمكن فيه معرفة الموضوع بجميع حدوده وقيوده - كان الموضوع مجملاً

ص: 228

ولم يمكن معرفة حدوده، فیكون التمسك بالاستصحاب من التمسك به في الشبهة الموضوعية للدليل أيضاً.

فيتلخص الإشكال على الاستصحاب في جهات ثلاث:

1- جريانه مع كون الشك في المقتضي.

2- عدم إحراز الموضوع في حال كون المستند «لا ضرر»؛ إذ لم يحرز أن الموضوع مطلق المتضرر، أو المتضرر الذي لم يمكنه الفسخ.

3- عدم إحراز الموضوع في حال كون المستند الإجماع؛ لكونه دليلاً لبياً، فيكون الموضوع مجملاً.(1)

مناقشة الشيخ لصاحب الرياض

وأما ما أفاده صاحب الرياض (قدس سره) من التفصيل ففيه: أن المدار في جریان الاستصحاب وعدمه ليس على كون المستند الإجماع أو «لا ضرر»، بل إن بني على التدقيق في موضوع الاستصحاب - كما حققناه في الأصول - فلا يجري الاستصحاب، وإن كان المدرك للخيار الإجماع، وإن بني على المسامحة فيه - كما اشتهر - جرى الاستصحاب وإن استند في الخيار إلى «لا ضرر»، وتوضيح ذلك:

أنه إن بني على التدقيق في موضوع الخيار، وأنه خصوص المتضرر بالمعاملة الغبنية، كالذي لم يمض زمان يتمكن فيه من الاستفادة من حق الخيار، أو احتمل ذلك، لم يجر الاستصحاب وإن كان المستند الإجماع؛ لأن المغبون متمكن من الاستفادة من حق الخيار في الآن الثاني، والاستصحاب لا يجري مع تبدّل الموضوع، أو مع احتمال تبدّله بخصوصية من المقومات.

وإن بني على التسامح العرفي، بحيث يكون الموضوع مطلق المتضرر، جرى

ص: 229


1- المكاسب 5/(210-209).

الاستصحاب وإن كان المستند «لا ضرر»، كما اعترف به ولده(1) (قدس سره) ، مستنداً إلى احتمال أن يكون الضرر علّة لجعل الخيار بصرف حدوثه، والمعاملة الغبنية ضررية حدوثاً، فيكفي في بقاء الحكم وإن ارتفع.

وبعبارة أخرى: إن الضرر إن كان علة حدوثاً وبقاء فالخيار فوري، وإن كان علة حدوثاً فالخيار باقٍ؛ لكون المعاملة ضررية حدوثاً.(2)

إشكال المحقّق الخراساني على الشيخ

وأورد المحقّق الخراساني (قدس سره) علی ما أفاده الشيخ (قدس سره) في الاستصحاب: بأن أركانه تامة؛ حيث إن الموضوع هو المغبون المتضرر بالغبن، وقد ثبت له الخيار في الآن الأول قطعاً، ويشك في ثبوته له في الآن الثاني فيستصحب بقاؤه، ولا يعتنى باحتمال أن يكون الموضوع له هو الذي لا يتمكن من تدارك ضرره، وإلا لانسدّ باب الاستصحاب في الأحكام بالمرة؛ لعدم تحقق الشك بدون تغيّر الموضوع.

وأما ما أفاده(3) (قدس سره) في ردّ تقریب جامع المقاصد، فليس على إطلاقه؛ بل لا بدّ من التفصيل، فإن كان المخصص وارداً على العام من الأول، أو في الأخير كان المرجع عموم العام، كما في خيار المجلس؛ فإن المرجع بعد انقضاء المجلس هو عموم ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(4)؛ لأن الحكم الوحداني المستمر إنما تعلّق بالعقد بعد مضي الزمان المعلوم خروجه، فلم ينقطع أصلاً.

وأما إن كان المخصص وارداً على العام في الوسط، أي بعد الحكم بلزوم العقد، فالمرجع الاستصحاب؛ لانقطاع حكم العام بعد أن دلّ الدليل على حدوث الخيار بعد

ص: 230


1- راجع المناهل /327.
2- المكاسب 5/(211-210).
3- الضمير عائد إلى الشيخ الأعظم.
4- سورة المائدة /1.

اللزوم، فلا وجه للرجوع إلى إطلاقه.(1)

المناقشة في كلام المحقّق الخراساني

أما الإشكال في الاستصحاب فغير وارد؛ إذ لا يلزم من عدم جریان الاستصحاب في المقام؛ لتردد الموضوع بين مطلق المتضرر، والمتضرر الذي لم يمكنه التدارك، انسداد باب الاستصحاب في الأحكام؛ وذلك لأن التغيّر في الموضوع أصل أساسي لجريان الاستصحاب؛ لعدم معقولية الشك في الحكم مع بقاء الموضوع بتمامه؛ لاستحالة تخلّف الحكم عن موضوعه، فلا بدّ من التغيّر في الموضوع ليحصل الشك، ولكن المتغيّر تارة يكون من حالاته، وأخرى من مقوماته، فإن كان من الحالات جری الاستصحاب بلا إشكال، وإن كان من المقومات لم يجر، وإلا لكان من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، ومع الشك في كونه من المقومات أو من الحالات يكون شبهة موضوعية لدليل الاستصحاب، فلا يتمسك به أيضاً.

وبما أنه يُشك في المتغيّر في ما نحن فيه، هل هو من الحالات أو من المقومات لم يجر الاستصحاب، وعدم جریانه فيه وفي نظائره من موارد الشك في كون المتغيّر من الحالات أو من المقومات لا يلزم منه انسداد بابه؛ لبقاء التمسك به في ما علم أنه من الحالات.

ومنشأ الشك في الموضوع في ما نحن فيه، هو أن المستند للخيار قاعدة: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»، فالضرر المستند إلى الإسلام منفي، فلا وجه للحكم بالخيار مع عدم استناد الضرر إلى الإسلام، كما لو أقدم مع علمه بالغبن، ولو حكم الشارع بلزوم العقد الغبني مع عدم علم المغبون ووجود الضرر في المعاملة، لكان الضرر مستنداً إلى الإسلام، فيكون منفياً، ولكن لما حكم في الآن الأول بالخيار،

ص: 231


1- حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني /(199-198).

فحكمه باللزوم في الآن الثاني بعد علم المغبون، وعدم إعماله الخيار لا يكون مستنداً إلى الشارع، بل إلى المغبون نفسه، فمع الشك في المراد من الضرر، هل هو مطلق الضرر، أو خصوص ما لم يمكن تداركه؟ لم يحرز بقاء موضوع الاستصحاب فلا يجري.

وأما ما أفاده (قدس سره) من التفصيل في التخصيص، فغير تام؛ لأن ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1)، لها أفراد، وأحد أفرادها البيع الغبني، والإهمال في الواقعيات محال، فالفرد الغبني في الزمان الأول، إما أن يخرج من تحت العموم أو لا، والثاني باطل قطعاً؛ لاستلزامه الجمع بين الضدين، اللزوم والخيار، فيتعين الأول، وليس معنى الخروج من تحته إلا قطع حكمه عنه، وما ذلك إلا بسبب ثبوت الخيار في الزمان الأول، فإذا حصل انقطاع الحكم، الفرق بين الأول والوسط؟

فإما أن يلتزم بعدم وورد التخصيص، وهو باطل بالضرورة، أو يلتزم بوروده، والتخصيص لا يخرج عن حالين، إما أن يكون أفرادياً أو أزمانياً، فإن كان الأول، فالفرد خرج من تحت العام، فلا يرجع ثانية إليه، وإن كان الثاني، فكما أنه يمكن من الأول وفي الأخير، فلا وجه لاستحالته في الوسط، فالتفصيل ممنوع.

إشكال السيّد اليزدي على الشيخ ورَدّه
اشارة

وأورد السيّد الفقيه اليزدي (قدس سره) على قول الشيخ (قدس سره) : «ويمكن الخدشة في جميع الوجوه»(2): بعدم اجتماع الخدشة في الاستصحاب مع الخدشة في الاقتصار على القدر المتيقن؛ فإنه لو لم يجر الأول كان اللازم الاقتصار على القدر المتيقن؛ إذ المفروض أن

ص: 232


1- سورة المائدة /1.
2- المكاسب 5/207.

الأصل في البيع اللزوم.(1)

ولكن لا يخفى أن الشيخ (قدس سره) وإن ذكر العبارة بنحو الإطلاق، إلا أن في كلامه ما يفيد بأنه أراد ردّ القول بالقدر المتيقّن، بحسب تقرير المحقّق صاحب جامع المقاصد (قدس سره) .

مختار الشيخ في المقام

وقوّى الشيخ (قدس سره) في الأخير أصالة اللزوم، وكون الخيار على الفور؛ وذلك لوجهين:

الوجه الأول: أصالة فساد فسخ المغبون؛ فإنها تجري في المقام، كما تجري في الشك في أصل صحة العقد.

الوجه الثاني: أصالة عدم ترتب الأثر على الفسخ، وبقاء آثار العقد على ما هي عليه؛ فإن العقد لا شك في صحته وحصول الأثر به، وإنما الكلام في لزومه، فيشك في الآن الثاني بعد فسخ المغبون في بقاء الآثار من الملكية الحاصلة به فيستصحب البقاء.

وإنما ذهب إلى ذلك؛ لعدم صحة التمسك بالأصل اللفظي؛ لكون عموم ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(2) زمانياً، وهو متفرع على العموم الأفرادي، فمع سقوطه يسقط، وعدم صحة التمسك باستصحاب الخيار؛ لعدم إحراز بقاء الموضوع؛ لاحتمال كون موضوع الحكم عند الشارع هو من لم يتمكن من تدارك ضرره بالفسخ، فلا يشمل الشخص المتمكن منه، التارك له، فيتعيّن ما ذكرناه من الوجهين.(3)

ص: 233


1- حاشية المكاسب للسيّد اليزدي (قدس سره) 2/569.
2- سورة المائدة /1.
3- المكاسب 5/212.
المناقشة في مختار الشيخ

وأما ما أفاده الشيخ (قدس سره) ؛ فيرد عليه:

أوّلاً: أن ما أفاده في المقام يتهافت مع ما أفاده في الأصول من جهتين:

الأولى: أنه (قدس سره) اختار في الفقه عدم التمسك بالعام، ولا باستصحاب الخيار؛ لاحتمال تبدّل الموضوع، بل تمسك بأصالة فساد [فسخ المغبون]، واستصحاب عدم تأثير الفسخ، وبقاء أثر العقد، بينما قوّى في الأصول، في مبحث دوران الأمر بين التمسك بالعام أو بالاستصحاب، استصحاب بقاء الخيار؛ حيث قوّى كلام الشهيد الثاني (قدس سره) القائل بجريان الاستصحاب في هذه المسألة، على قول صاحب جامع المقاصد (رحمة الله) ، القائل بالتمسك بالعام.(1)

الثانية: أنه (قدس سره) اختار في الفقه عدم بقاء الخيار؛ بناء على كون المدرك هو «لا ضرر»؛ لاحتمال كون الموضوع عند الشارع هو من لم يتمكن من تدارك ضرره بالفسخ، فلا يشمل الشخص المتمكن منه، التارك له(2)، بينما قوّى في الأصول جریان الاستصحاب كما قدمنا.

وثانياً: أن ما اختاره في الأصول يتهافت مع مختاره في الأصول في مقام آخر؛ فإنه قوّی جریان الاستصحاب في المورد المتقدم، بينما اختار عدم جريانه في الشك في المقتضي، بخلاف الشك في الرافع(3)، استصحاب خيار الغبن من موارد الشك في المقتضي بلا إشكال؛ فإن الخيار إذا كان على الفور فأمده ينقضي بنفسه، بخلاف ما إذا كان على التراخي؛ فإن أمده باقٍ، فوزان الفور والتراخي وزان العقد المنقطع والدائم.

ص: 234


1- فرائد الأصول 3/275.
2- المكاسب 5/212.
3- فرائد الأصول 3/51 وما بعدها.
إشكال الشيخ على المحقّق الثاني

وثالثاً: أن الشيخ (قدس سره) أفاد في إشكاله على المحقّق الثاني (قدس سره) من التمسك بالعموم: أنّ خروج الفرد من تحت العموم بالتخصیص في زمان ای من الأزمنة، في حال عدم كون الزمان مكثّراً للأفراد، يوجب عدم كونه فرداً من العام، ليشمله حكمه في الزمان الثاني، فلا معنى لرجوعه إليه ثانياً.

وفيه: أنه لو كان المراد خروج فرد من تحت العام الأفرادي بالتخصیص في زمان من الأزمنة، وشك في مقدار خروجه، هل هو في كل الأزمنة، أو في خصوص هذا الزمان، لتمّ ما أفاده الشيخ (قدس سره) ، كما لو خصص «من حاز ملك»(1) ببعض الأفراد، كأن أخرج من تحته الأراضي المعمورة؛ فإنها لا تعود تحت العام.

وكما لو قال: (أكرم العلماء) وخصص زیداً؛ فإنه لا يعود تحت العام ثانية.

ولكن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ لعدم التخصيص الأفرادي في ما نحن فيه، فلم يخصص العموم الأفرادي، بل قيّد الإطلاق الأزماني، وفرق بين الأمرين، فلا يخلط بينهما.

وبيان ذلك: أن لآية: ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(2) عموماً وإطلاقاً، أما العموم فهو المستفاد من كلمة «العقود»، الجمع المحلى بأل، فيشمل جميع أنواع العقود وأفرادها، فيشمل البيع، والإجارة، والصلح وغيرها من الأنواع، كما يشمل أفراد البيع، وبقية أفراد العقود.

وأما الإطلاق فهو بلحاظ الزمان، بمعنى أن كل فرد من العقود يجب الوفاء به مطلقاً من حيث الزمان، أي دائماً ومستمراً، لا أن وجوب الوفاء به بنحو الموجبة

ص: 235


1- هذه قاعدة متصيدة جرت على لسان الفقهاء، وليست رواية.
2- سورة المائدة /1.

الجزئية.

إذا اتضح هذا، فالمخصص في خيار الغبن كما هو التحقيق، إما الشرط الارتكازي، أو «لا ضرر»، وكلاهما لم يخرجا البيع الغبني من تحت أفراد العام، بل قيّدا إطلاقه الأزماني؛ فإن مدلولهما أن المغبون متی ما كان متضرّراً ارتفع عنه لزوم الوفاء، وأما في الوقت الذي تمكّن من الخيار ولم يعمله، لم يكن اللزوم ضررياً عليه فلم يُنفَ، ولم يكن مخالفاً للشرط الارتكازي، فلم يتحقق التقييد من ناحية الشرط إلى ما بعد الزمان الأول.

فهو من قبيل ما لو قال: «أكرم العلماء»، ثم خصص زيداً في زمان معین، فقال: «لا تكرم زيداً في هذا الوقت المعين»، فإكرامه في ما عدا الزمن المخصص يشمله الإطلاق الأزماني لوجوب إكرام العلماء.

الحق في المسألة

فالحق في المسألة: أن اللزوم المجعول لكل فرد من أفراد البيع منفي عند تحقق البيع الغبني، أو عند ظهور الغبن، إلا أن نفي اللزوم محدود بحسب الأدلة؛ وذلك لأن دليل نفي اللزوم إن كان هو «لا ضرر» فمفادها: أن الحكم الضرري المستند ضرره إلى الشارع منفي في الإسلام، وبما أن الحكم بلزوم العقد الغبني ابتداء يستند ضرره إلى الشارع فهو منفي، وأما لو اطلع المغبون على الغبن، وحكم له بالخيار، ولم يعمله، فالحكم باللزوم بعد ذلك الآن، لا يستند ضرره إلى الشارع، فلا يكون منفياً ب-«لا ضرر»، فمقتضى القاعدة عدم تقييد الإطلاق الزماني بالوفاء بالعقد الغبني بنحو التراخي، بل على نحو الفورية.

وإن كان الدليل هو الشرط الارتكازي، فمفاده أن المعاملة بين العقلاء مبنية على عدم الغبن الفاحش، فإن وجد كان للمغبون الفسخ، وبما أنّ البناء العقلائي سيرةٌ للعقلاء وعملٌ لهم، والعمل لا لسان له؛ ليتمسك بإطلاقه، فيقتصر على القدر المتيقن،

ص: 236

فيكون له فسخ المعاملة في ما إذا علم بالغبن وأمكنه، وأما استمرار الخيار إلى ما بعد علمه وتمكّنه من الفسخ ولم يفسخه فمشكوك، فيقتصر على القدر المتيقن، وبما أن النسبة بين البناء العقلائي، و ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) نسبة المخصص المنفصل المجمل، الدائر أمره بين الأقل والأكثر، فالمرجع الإطلاق.

ولقائل أن يقول: إن المرجع في ما زاد على القدر المتيقن في المخصص المنفصل المجمل هو إطلاق الدليل أو عمومه، ولكن المخصص في المقام هو البناء العقلائي، وهو متصل بالخطاب، وليس منفصلاً عنه.

والجواب: أن المخصص اللبي والبنائي على نحوين؛ إذ تارة يكون ضرورياً، فيكون كالمتصل، ويكون احتفافه بالكلام مسقطاً للعموم أو الإطلاق، وأخرى يكون نظرياً يحتاج إلى تأمل، فيعامل معاملة المخصص المنفصل، وما نحن فيه من قبيل الثاني؛ بدليل أنه لم يطرح الشرط الارتكازي كدليل في المسألة إلا في العصر الأخير، وإلا فقد كان استدلال مشهور القدماء، ومن بعدهم على خيار الغبن بدلیل «لا ضرر»، أو بأخبار تلقّي الركبان، وهذا يكشف عن عدم كونه ضرورياً، بل يحتاج إلى تأمل ونظر، وإن كان حقاً، ومتى كان المخصص اللبي نظرياً كان مثل المخصص المنفصل.

فتحصل مما ذكر: أن الحق في المسألة كون خيار الغبن فورياً، والمستند العمدة الإطلاق الأزماني لدليل لزوم العقد؛ إذ لم يخرج منه - سواء ب-«لا ضرر» أو بالشرط الارتكازي - إلّا خصوص القدر المتيقن.

ولا يخفى أن المراد من الفورية في المقام هي الفورية العرفية، لا العقلية؛ لبناء الأمور الشرعية في مثل هذه الموارد على العرف.

وبهذا يتم الكلام في خيار الغبن، ولله الحمد.

ص: 237


1- سورة المائدة /1.

الخامس: خيار التأخير

اشارة

قال العلّامة (قدس سره) في التذكرة: «من باع شيئاً ولم يسلّمه إلى المشتري، ولا قبض الثمن، ولا شرط تأخيره ولو ساعة، لزم البيع ثلاثة أيّام، فإن جاء المشتري بالثمن في هذه الثلاثة فهو أحق بالعين. وإن مضت الثلاثة ولم يأت بالثمن تخيّر البائع بين فسخ العقد، والصبر والمطالبة بالثمن عند علمائنا أجمع»(1)

أدلة خيار التأخير عند الشيخ

وقد أقام الشيخ (قدس سره) على هذا الخيار ثلاثة وجوه:

الوجه الأول: الإجماع المحكي عن الانتصار(2) والخلاف(3) والجواهر(4) وغيرها(5)، المعتضد بدعوى الاتفاق المصرح به في التذكرة، والظاهرة من غيرها.(6)

ص: 238


1- تذكرة الفقهاء 11/71.
2- الانتصار /437، مسألة 249.
3- الخلاف 3/20، مسألة 24.
4- جواهر الفقه /54، مسألة 193.
5- كالحدائق 19/44؛ رياض المسائل 8/306؛ مستند الشيعة 14/397؛ جواهر الكلام 23/51.
6- المكاسب 5/217.

الوجه الثاني: ما اعتبره الشيخ (قدس سره) الأصل في المسألة، وهي قاعدة نفي الضرر؛ إذ «أن الصبر أبداً مظنة الضرر، المنفي بالخبر»(1)

بل اعتبر الضرر هنا أشدّ من الضرر في الغبن؛ لأسباب ثلاثة:

1- أن المبيع في ما نحن فيه في عهدة البائع وضمانه؛ حيث إن المبيع مال للمشتري، ولكنه في يد البائع، وهو مكلّف بحفظه، وحفظ نماءاته، ونفس هذا التكليف - بسبب كون يده يد ضمان - یكون ضررياً على البائع.

2- أن تلف المبيع من البائع؛ لقاعدة «تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه»، فيتضرر البائع بضرر ثانٍ، بخلاف خیار الغبن؛ إذ لا يضمنه.

3- أن الثمن لم يصل إليه، والمبيع ملك لغيره، ولا يجوز له التصرف فيه.

فلا محالة يكون لزوم المعاملة، وعدم الخيار للبائع، ضررياً عليه بضرر آكد من ضرر الغبن، فما دام يلتزم في الغبن بالخيار؛ لقاعدة «لا ضرر»، فالتمسك بها هنا أولی.

الوجه الثالث: النصوص الخاصة، وما ذكرها الشيخ فى أربع، وهي:

الرواية الأولى: صحيحة علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن الرجل يبيع البيع، ولا يقبضه صاحبه، ولا يقبض الثمن، قال: «الأجل بينهما ثلاثة أيام، فإن قبض بيعه، وإلا فلا بیع بينهما»(2)

الرواية الثانية: موثقة إسحاق بن عمار، عن العبد الصالح، قال: «من اشترى بیعاً، فمضت ثلاثة أيام ولم يجيء، فلا بيع له»(3)

الرواية الثالثة:صحيحة ابن الحجاج قال: اشتريت محملاً وأعطيت بعض الثمن وتركته عند صاحبه، ثم احتبست أيّاماً، ثم جئت إلى بائع المحمل لآخذه، فقال: قد

ص: 239


1- المكاسب 5/218.
2- وسائل الشيعة 18/22، ح3، الباب 9 من أبواب الخيار.
3- وسائل الشيعة 18/22، ح4، الباب 9 من أبواب الخيار.

بعته، فضحكت، ثم قلت: لا والله، لا أدعك أو أقاضيك، فقال: أترضى بأبي بكر بن عياش؟ قلت: نعم، فأتيناه فقصصنا عليه قصتنا، فقال أبو بكر: بقول من تحب أن أقضي بينكما، بقول صاحبك أو غيره؟ قلت: بقول صاحبي، قال: سمعته يقول: من اشتری شيئاً فجاء بالثمن ما بينه وبين ثلاثة أيام، وإلا فلا بيع له»(1)

الرواية الرابعة: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (قدس سره) : قلت له: الرجل يشتري من الرجل المتاع، ثم يدعه عنده، فيقول: آتيك بثمنه؟ قال: «إن جاء ما بينه وبين ثلاثة أيام، وإلا فلا بيع له»(2)

فإن مدلولها إن جاء بالثمن بينه وبين الثلاثة الأيام فله، وإلا لا بيع له.

إشكال الشيخ على مدلول الروايات

ولكن الشيخ (قدس سره) : أورد على الاستدلال بها بقوله: «وظاهر هذه الأخبار بطلان البيع، كما فهمه في المبسوط؛ حيث قال: «روی أصحابنا أنه إذا اشترى شيئاً بعينه بثمن معلوم، وقال للبائع أجيئك بالثمن ومضی، فإن جاء في مدة الثلاثة كان البيع له، وإن لم يجئ بطل البيع»(3) انتهى»(4)

وتوضيح الإشكال: أن الحكم بالخيار متفرّع على إثبات البيع، والتعبير ب-«لا بيع له» يفيد نفي الحقيقة؛ بمقتضى ظهور (لا) الداخلة على الماهية، ونتيجة نفي الحقيقة بطلان البيع، لا إثبات الخيار؛ فإن نفي الحقيقة وإثبات الخيار، متنافيان متضادان.

ص: 240


1- وسائل الشيعة 18/21، ح2، الباب 9 من أبواب الخيار.
2- وسائل الشيعة 18/21، ح1، الباب 9 من أبواب الخيار.
3- المبسوط 2/17.
4- المكاسب 5/219.

جواب الشيخ عن الإشكال

وأجاب عنه الشيخ (قدس سره) أولاً: بأن ظهور الأخبار وإن كان في الفساد، إلا أن فهم العلماء، وحملة الأخبار نفي اللزوم، فيتقرب هذا المعنى.

وثانياً: أن قوله (قدس سره) في أكثر الروايات: «لا بيع له» ظاهر في انتفائه عن المشتري، وبما أن البطلان لا يتبعض، بحيث يبطل بيع المشتري دون البائع، فهو محمول على نفي اللزوم من طرف البائع، إلا أن في رواية ابن يقطين: «لا بيع بينهما».

وثالثاً: لو شك في المراد؛ إذ ظاهر العبارة وإن كان هو البطلان، إلا أن فهم العلماء - وهم أهل الحرفة والصناعة - نفي اللزوم يجعلها مجملة، فالمرجع الأصل، وهو استصحاب الآثار المترتبة على البيع؛ حيث إن البيع قبل انقضاء الثلاثة صحيح بلا كلام، فبعد انقضائها نشك في بقاء الصحة والبطلان، فنستصحب بقاء الصحة، وترتيب آثار البيع.

وتوهم: كون الصحة سابقاً في ضمن اللزوم، وقد ارتفع قطعاً، سواء أقلنا بالبطلان أم بالخيار، فترتفع بارتفاعه.

مندفع: بأن اللزوم ليس من قبيل الفصل للصحة؛ لترتفع بارتفاعه، در وإنما هو حكم مقارن لها في خصوص البيع الخالي من الخيار، وإن كانت نسبة الصحة إلى اللزوم نسبة الموضوع له، بمعنى أن البيع لا بدّ من أن يكون صحيحاً حتى يكون موضوعاً لأثر اللزوم، فلا يلزم من ارتفاع اللزوم نفي الشك في الصحة، فتستصحب الصحة، ويحكم على البيع بالجواز.

المناقشة في أدلة الشيخ

أما الإجماع المنقول ففيه: أولا: عدم ثبوته مع مخالفة الشيخ الطوسي، وتوقّف

ص: 241

المحقّق الأردبيلي(1)، وجزم صاحب الحدائق(2) بالبطلان، وتقوية المحقّق السبزواري(3) له، بل يكفي مخالفة الشيخ (قدس سره) ، فأقصى ما يمكن القول بثبوته هي الشهرة، وهي ليست بحجة.(4)

وثانياً: - مع غض النظر عن البحث في خصوصيات ناقلي الإجماع؛ إذ يختلف من واحد لآخر، فنقل الشهيد الثاني(5) (قدس سره) له اعتباره الخاص؛ إذ يعتمد على البحث والتتبع والتدقيق، دون نقل السيّد [المرتضى] (قدس سره) ، المستند عادة على الإجماع في الكبرى؛ لإثباته في الصغرى - .

فلو سلّم الثبوت، فالثابت هو الإجماع المنقول، وقد اعترض عليه ما الشيخ [الأعظم] (قدس سره) في الأصول: بأن الإجماع المنقول إخبار حدسي عن قول المعصوم (علیه السلام) ، وأدلة حجية خبر الواحد قاصرة الشمول عن الأخبار الحدسية.

وثالثاً: أنه لو سلم الثبوت فهو إجماع مدركي؛ للاستدلال عليه بحديث: «لا ضرر»، والأخبار الخاصة، فلا يكون حجة.

ص: 242


1- مجمع الفائدة 8/406.
2- الحدائق 19/48.
3- كفاية الحكام 1/467.
4- قال السيّد العاملي: «والمخالف الظاهر أبو عليّ. حيث قال: فلا بيع من دون قيدٍ له (نقله عنه العلّامة في مختلف الشيعة 5/70): والصدوق (من لا يحضره الفقيه 3/202، ح3766) عبّر بعبارة النصّ. والشيخ في المبسوط (2/87) حيث نسب بطلان البيع إلى رواية أصحابنا. وربّما نسب إلى صريحهما في المهذّب البارع (2/379). وفي الدروس (3/274) نسب إلى ظاهرهما. قرّبه صاحب الكفاية (1/467). ونفى عنه البُعد صاحب مجمع البرهان (8/406) وجزم به صاحب الحدائق (19/48)».
5- المسالك 3/208؛ وقد ادعى الاجماع في جامع المقاصد 4/297؛ والتنقيح الرائع 2/48؛ والغنية /219.

إشكال المحقّق الخراساني على استدلال الشيخ بلا ضرر ودفعه

وأما الاستدلال بقاعدة نفي الضرر، فأورد عليه المحقّق الخراساني (قدس سره) : بأن الضرر إنما نشأ من تأخیر قبض الثمن، لا في نفس البيع، وقاعدة «لا ضرر» إنما تنفي الحكم عن الموضوع الضرري، فلا معنى لتدارك الضرر الحاصل من شيء، بنفي حكم شيء آخر، فالضرر الحاصل من التأخير، لا ينفي لزوم البيع.

وبعبارة أخرى: لو كان للتأخير حكم لكان مرفوعاً ب-«لا ضرر»، وأما حكم موضوع آخر كالبيع فلا وجه لرفع حكمه.(1)

وهو وإن كان متيناً من حيث الصورة، إلا أنه محل إشكال من جهتين:

الجهة الأولى: أنه مبني على مبناه في مفاد قاعدة نفي الضرر؛ حيث يرى بأن المنفي فيها هو حكم الموضوع الضرري، بخلاف الشيخ (قدس سره) القائل بأن مفادها نفي الحكم الضرري، والحكم باللزوم في هذه المعاملة ضرري، فينفى بالقاعدة، ولا يلاحظ عدم كون الموضوع ضررياً، فلا يكون الإشكال فنياً.

الجهة الثانية: أن لازم مبناه أن لا يقول بخيار الغبن، بل يقول بنفي صحة العقد؛ حيث إن البيع الغبني موضوع ضرري، وحكمه الصحة، فينفي هذا الحكم بها.

مناقشة المحقّق الإيرواني للاستدلال بقاعدة لا ضرر وردّها

وأورد المحقّق الإيرواني (قدس سره) على استدلال الشيخ (رحمة الله) بقاعدة «لا ضرر» بإشكالین:

الأول: أن قاعدة نفي الضرر، لا تحدّد التأخير بثلاثة أيام، بل تحدّده بما یوجب الضرر، قلّ التأخير عن ثلاثة أو زاد عليها، فالحكم بعدم الخيار في أثناء الثلاثة خرج عن تحت «لا ضرر»، بالإجماع والنصوص، فلم يبق العموم الأزماني فيها ليرجع إليه

ص: 243


1- حاشية المحقّق الخراساني (قدس سره) على المكاسب /200.

بعد قطعة زمان التخصيص.

ولا أقلّ من الشك في ثبوت العموم الأزماني، ومعه يرجع إلى استصحاب حكم المخصص.

الثاني: عدم جریان قاعدة «لا ضرر» في المقام؛ لأن المبيع لا يزال في يد البائع، فمع عدم أداء المشتري للثمن يمكن للبائع التخلّص من الضرر، بأخذ المبيع مقاصة عن الثمن.(1)

أما الأول، فيجاب عنه: بأن مبناه (قدس سره) في قاعدة «لا ضرر» كون «لا» لنفي الحقيقة، حقيقةً لا ادعاءً، فيراد من نفي الضرر نفي وجود حقيقة العمل الضرري في جملة الأعمال التي قررها القانون الإسلامي، كما يشهد له وجود قيد (في الإسلام) في بعض الأخبار، فيكون المراد نفي وجود العمل الضرري في عداد تلك الأعمال، لا في الخارج حتى يحتاج إلى حمل القضية على النفي الإدعائي.

فالكلام مسوق لبيان أن ما هو الثابت من الضرر في الخارج، خارج عن الأعمال الإسلامية، والأصل في ذلك أن الأعمال المرخَّصة في شريعةٍ أو دولةٍ بأيِّ أنحاء الترخيص، كان إلزامياً أو غير إلزامي، يعدّ من أعمال تلك الشريعة، بخلاف الأعمال الممنوعة فيها؛ فإنها تعدّ خارجة عن أعمال تلك الشريعة والدولة.

فإذا أريد بيان الترخيص والمنع، فكما يصح أن ينشأ بنفس عبارة الترخيص والمنع، صحّ أن يُنشأ بلسان: أن العمل الكذائي من أعمال هذه الشريعة أو الدولة، أو ليس من أعمالها، بل هذه أبلغ في إفادة المقصود.

فتدلّ قضية «لا ضرر» بأبلغ وجه: على نفي كل حكم تكليفي، أو وضعي ضرري.

ص: 244


1- حاشية المكاسب 3/182.

واحتمل في آخر البحث: أن يكون الضرر بمعناه المصدري، فيكون مفاد الرواية: أن الشارع لا يورد الضرر على أحد بسبب تشریع حكم ضرري.(1)

إذا اتضح ما أفاده (قدس سره) فالجواب على كلا التقديرين:

أنه لا شبهة في أن «لا ضرر» تحمل اطلاقين، أفرادي، فتشمل نفي جميع أفراد الأعمال، والأحكام الضررية، وأزماني، فتنفي الضرر في الإسلام عن جميع الأزمنة، ولا معنى لنفي الضرر في زمان دون زمان، فإذا خصص النفي في أحد الأزمنة، فلا إشكال في تقييد الإطلاق في ذلك الزمان، وأما في سائر الأزمنة فالإطلاق على حاله، فيتمسك به، فيرتفع الإشكال عن الشيخ (قدس سره) ؛ فإن الثلاثة الأيام الأولىٰ خرجت من تحت النفي بالإجماع، فيبقى الباقي تحته؛ لتمامية المقتضي وعدم المانع.

وأما الثاني، فيرده أولا: أن لازم كلامه (قدس سره) أن يخصص خيار الغبن بحالة ما إذا لم يكن المغبون متمكناً من التقاص، وإلا فإذا كان متمكناً فلا ضرر عليه، فلا خيار له، ولا يمكن أن يلتزم به أحد من الفقهاء؛ إذ مقتضی عموم الدليل، والفتوى، والإجماع المحصّل ثبوت خیار الغبن مطلقاً، سواء أكان المغبون متمكناً من التقاص أم غير متمكن.

وثانياً: أن مدلول «لا ضرر» نفي الحكم الضرري، سواء كان بلسان نفي الموضوع الضرري(2)، أو بلسان نفي الحكم مباشرة(3)، وليس مدلولها ثبوت جبران الضرر وتداركه، وجواز المقاصة يجبر الضرر، فلا تدل عليه القاعدة.

وبهذا بندفع الإشكالان عن الشيخ (قدس سره) ، كما دفعنا إشكال المحقّق الخراساني (قدس سره) عنه أيضاً، وأما الحق في الإشكال عليه (قدس سره) فنقول:

ص: 245


1- نهاية النهاية 2/(159-158). حافظنا على عين عباراته في الغالب لوضوحها.
2- كما عليه الآخوند.
3- كما عليه الشيخ الأعظم.

التحقيق في التمسك بلا ضرر

والتحقيق في المسألة: أن منشأ التمسك بقاعدة «لا ضرر» في المقام، هو دعوى حصول الضرر من جهات أربع:

الأولى: كون التلف من مال البائع.

وأورد عليه المحقّق الاصفهاني (قدس سره) : بأن تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه، حكم وارد في مورد «لا ضرر»، فيكون مخصّصاً لها، لا محكوماً بها؛ فإنها إنما تكون حاكمة على الأحكام التي تشمل بإطلاقها مورد الضرر، فتخصصها بغير مورده، سواء أكان الحكم تكليفياً، كما في وجوب الوضوء الشامل بإطلاقه لمورد الوضوء الضرري، فترفع الوجوب عنه، أو وضعياً، كما في لزوم البيع الشامل للبيع الغبني، فترفع اللزوم فيه.

وأما إذا كان الحكم في نفسه ضررياً فلا ترفعه، كالذي نحن فيه؛ فإن الحكم بكون تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه حكم ضرري، وارد في مورد الضرر، فلا يرفع بها.(1)

وهو مع دقته ومتانته إلا أنه مندفع: بأن الحكم بتلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه، وإن كان حكماً ضررياً؛ إلا أنه لو كان بجعل الشارع، وكان منشأ الضرر هو جعل الشارع، لكان وارداً في مورد الضرر، فيكون مخصِّصاً إلى «لا ضرر»، ولم يكن مخصَّصاً بها، ولكنه ليس كذلك؛ فإن منشأ الضرر، هو تأخير المشتري للثمن، فلا وجه لتخصيص «لا ضرر» به.

الثانية: كون البائع ضامناً.

وفيه: أن يد البائع على المبيع يد أمانة، وليست بعدوانية، فلا يضمن إلا مع

ص: 246


1- حاشية المحقّق الأصفهاني على المكاسب 4/(344-343).

التعدّي أو التفريط.

الثالثة: كون البائع محروماً من التصرف في المبيع.

وفيه: أن المبيع صار ملكاً للمشتري بالمعاملة، ولا ضرر في حرمان البائع من التصرف في مال المشتري.

نعم، يحصل الضرر بضم الحرمان من التصرف في الثمن، وهذا بحث آخر، سنتعرض له في ما يأتي إن شاء الله.

الرابعة: كون المشتري حبس الثمن عن البائع، والصبر على حبس الثمن ضرر على البائع.

وفيه: أولاً: أنه إذا أريد إثبات خیار التأخير من جهة الضرر الحاصل من حبس الثمن، فلا وجه لضم عدم إقباض المبيع، والحال أن الفقهاء مطلقاً إنما أفتوا بالخيار في حال عدم حصول القبض من الجانبين، ولو كان بسبب الضرر من جهة حبس الثمن، فهو موجود سواء أقبض المشتري المبيع أم لم يقبضه، ولم يفتوا بالخيار في صورة قبض المشتري للمبيع وإن أخّر الثمن.

والحاصل: أن المستند للخيار إن كان هو «لاضرر»؛ بدعوى ضررية الصبر على الحبس، فالضرر يحصل عند حبس الثمن، سواء أقبض المشتري المبيع أم لا، فيفترض أن يحكم بالخيار في الصورتين؛ العموم المنشأ الموجب لعموم الناشئ.

وثانياً: أن بين الضرر وثبوت الخيار عموماً وخصوصاً من وجه؛ فإنه ربما يحصل الضرر قبل التأخير عن الثلاثة الأيام، كأن يبيع المتاع، ثم تحصل له فرصة لشراء متاع آخر يتضرر من فوته، فلا خيار مع وجود الضرر، وربما يحصل التأخير عن الثلاثة الأيام بلا ضرر؛ لعدم حاجته إلى الثمن إلى شهر، فله الخيار ولا ضرر، وربما يجتمعان.

وثالثاً: أن غاية ما يلزم هو حرمان البائع من التصرف في ماله، وهو لا يعدّ ضرراً، وإنما عدم انتفاع؛ فإن الضرر نقص في المال أو النفس أو الطرف، فوقع الخلط

ص: 247

في كلام الشيخ (قدس سره) بين الضرر وعدم الانتفاع.

ورابعاً: تقدم في المباحث السابقة عدم صحة التمسك بقاعدة «لا ضرر» لإثبات الخيار، لأن الخيار حق تترتب عليه أحكام خاصة، كقبول الإسقاط، والمصالحة عليه بعوض، والإرث، وأثر «لاضرر» نفي الأحكام الضررية، من قبيل لزوم المعاملة إذا كان ضررياً، فإنه ينفى بها، فيحل محلّ اللزوم المنفي الجواز الحكمي، كالجواز في مورد الهبة؛ فإنه ليس بحق، وإنما هو حكم، فلا يقبل الإسقاط ولا غيره من آثار الخيار، ف-«لا ضرر» لا تثبت الحق الذي هو منشأ للآثار الخاصة.

وبعبارة مختصرة: أن «لا ضرر» تنفي اللزوم، ونفيه أعم من إثبات الحق.

ردّ ما أفاده المحقّق الحائري

وأما ما أورده المحقّق الحائري (قدس سره) بقوله: «وقد يشكل على الاستدلال بلاضرر - من أن الصبر الذي في كلمات الأصحاب كالعلّامة في التذكرة من أن الصبر مظنة الضرر المنفي بالخبر - أن الصبر غیر واجب، بمعنى عدم المطالبة، بل يجوز له المطالبة، ويجب بحكم الشرع على المشتري التسليم، وهذا الإيجاب حكم دافع للضرر، ولو خالف المشتري ولم يسلّم فهذا غير مرتبط بالشرع، بل ناشٍ من قِبَل عصیانه»(1)

[وفيه]: فهو شبهة منشأها أن كلمة الصبر وردت في لسان الشيخ (قدس سره) ، والصبر لغة حبس النفس، وهو الذي نظرتْ إليه الروايات، وهو مراد الشيخ (قدس سره) ؛ فيكون مراده أن حبس المشتري الثمن عن البائع ضرر عليه، فلو حكم الشارع على البائع بلزوم المعاملة، ولا بدّ له من الصبر مع حبس المشتري الثمن عنه لكان ضررياً، لا أن مراده وجوب صبر البائع على حبس المشتري للثمن، ليقال بعدم وجوبه، وبنفيه يرتفع الضرر.

ص: 248


1- الخيارات للشيخ الأراكي (رحمة الله) /258.

المناقشة في الاستدلال بالروايات

وأما التمسك بالروايات، فالشيخ (قدس سره) استند إليها بناء على تقريبين:

التقريب الأول: أن مفاد الروايات وإن كان هو نفي الحقيقة كما هو ظاهر التعبير ب-«لا بيع له»؛ لأن ظاهر النفي المتعلق بحقيقة نفي تلك الحقيقة، لا نفي آثارها، إلا أن تقوم قرينة على الخلاف كما في: «يا أشباه الرجال ولا رجال»؛ فإن المراد نفي أثر الرجولة عنهم، إلا أن فهم الفقهاء من المتقدمين والمتأخرين بأن المراد في المقام نفي الأثر أوجب رفع اليد عن الظهور، والقول بنفي اللزوم، لا نفي حقيقة البيع.

التقريب الثاني: أن ما ورد في الروايات نفي البيع عن المشتري، وبما أن البيع حقيقة واحدة لا يتعقل فيها التبعيض، بحيث يكون ثابتاً للبائع، ومنفياً عن المشتري، وكذلك الحال في الصحة، لزم حمل النفي على ما يقبل التبعيض وهو نفي اللزوم، فيكون لازماً من جهة المشتري، غير لازم من جهة البائع.(1)

المناقشة في تقريبي الشيخ للاستدلال بالروايات

أما التقريب الأول، فيرد عليه: أن فهم الفقهاء إنما هو حجة عليهم وعلى مقلديهم، لا على المجتهدين الآخرين، فإن الحجة عليهم ظاهر الأدلة، وبما أن الظهور قام على نفي الحقيقة، فلا وجه لحمله على نفي اللزوم بناء على فهم الفقهاء.

نعم، لو أوجب فهمهم الظهور عندنا، بحيث يكون اللفظ قالباً لنفي اللزوم، لتمّ ما أراده الشيخ (قدس سره) ، ولكن دون إثبات ذلك خرط القتاد.

وأما التقريب الثاني، فيرد عليه: أن النفي وإن تعلّق بالبيع عن المشتري في روايات إسحاق بن عمار، وابن الحجاج، وزرارة، إلا أن ذلك لأجل وقوعه محل السؤال، فبيّن الإمام (علیه السلام) وظيفته، فيحمل «لا بيع له» على حقيقته، وهو نفي الحقيقة،

ص: 249


1- المكاسب 5/(220-219).

وسبب اختصاصه بالمشتري، كونه مورداً للسؤال.

ولا أقل من احتمال ذلك - أعني كون الاختصاص لأجل السؤال - ومجرد احتماله يكفي في حمل النفي على نفي الحقيقة، وعدم رفع اليد عن أصالة الحقيقة.

كما يحتمل أن عدم نفي حقيقة البيع عن البائع والمشتري، إنما هو للملازمة العقلية القطعية بين نفي البيع عن أحدهما ونفيه عن الآخر؛ لعدم قابلية حقيقة البيع للتبعيض، فاكتفى الإمام (علیه السلام) بنفي حقيقة البيع عن المشتري عن نفيها عن البائع؛ لعدم الحاجة للتعرض لنفيها عن الآخر بعد نفيها عن الأول.

ومع وجود هذين الاحتمالين في الروايات بالوجدان، لا موجب لرفع اليد عن أصالة الحقيقة.

ولا أقل أن وجود هذين الاحتمالين يوجب الإجمال في الروايات، فلا يعلم أن المراد منها نفي اللزوم أو نفي الحقيقة، وبما أن صحيحة ابن يقطين بيان؛ لكونها نصاً في نفي الحقيقة عنهما؛ بمقتضى: «فلا بيع بينهما»، فتحمل تلك الروايات عليها، أو لا تصلح لمعارضتها؛ لعدم معارضة المجمل للمبيَّن، فيتمّ كلام الشيخ الطوسي، والفاضل السبزواري، والمحدث صاحب الحدائق قدست أسرارهم [من بطلان البيع].

تقريب المحقّق الخراساني الاستدلال بالروايات

وأما ما أفاده المحقّق الخراساني (قدس سره) في حاشيته بقوله: «إن مثل هذا التركيب، - أي لا بيع له - وإن كان بحسب أصل الوضع لنفي الماهية، إلا أنه حيث قد غلب استعماله في نفي صفة الصحة، أو الكمال، أو غيرهما من الأحكام، كما في «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»(1)، بناء على وضع أسامي العبادات للأعم، و«لا صلاة لجار المسجد إلا

ص: 250


1- وسائل الشيعة 6/37، ح1، الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة.

في المسجد»(1)، و« لا ضرر ولا ضرار»(2)، ونحوهما، فيراد منه نفي إحدى هذه الصفات، حسب اختلاف المقامات، وملاحظة مناسبة الموضوعات، لا يبعد دعوى ظهور الأخبار في إرادة نفي اللزوم؛ لبعد بطلان البيع، وارتفاعه بنفسه بمجرد التأخير»(3)

فيرد عليه: أولاً: أنه مخالف لمبناه في الأصول؛ فإن مبناه الحمل على المعنى الحقيقي في مرحلتي الإرادتين، الاستعمالية والجدية، بمعنى أنه إذا كان للفظ معنيان حقيقي ومجازي، ودار الأمر بينهما، فالقاعدة الأولية تقتضي الحمل في مقام الإرادة الاستعمالية على استعماله في المعنى الحقيقي، وفي مقام الإرادة الجدية على إرادته أيضاً؛ بمقتضی تباني العقلاء على ذلك ما لم تقم قرينة صارفة عن معناه الحقيقي، وغلبة الاستعمال ليست من القرائن الصارفة عن المعنى الحقيقي، فلو كان للفظ معنی حقیقي، ومعنى مجازي، واستعمل في المعنى المجازي كثيراً لم يكن ذلك من القرائن المانعة من أصالة الحقيقة في الاستعمال.

وثانياً: أن غاية ما ذكره (قدس سره) لعدم الحمل على نفي الحقيقة، والحمل على نفي اللزوم، هو استبعاد بطلان البيع بمجرد تأخير الثمن، والاستبعاد ليس مناطاً في القواعد الفقهية، والأحكام الشرعية؛ لعدم العلم بملاكات الأحكام الواقعية، فليس لنا إلا العمل بالظهورات، والظهور في المقام يوجب نفي الحقيقة، وأصل الصحة.

كلام صاحب الجواهر

ولوقوع الاضطراب في كلمات الأعاظم قدست أسرارهم في فهم هذه الأخبار، وحل الإشكال، ينبغي طرح كلام صاحب الجواهر (قدس سره) أيضاً؛ لاشتماله على مطالب

ص: 251


1- وسائل الشيعة 5/194، ح1، الباب 1 من أبواب أحكام المساجد.
2- وسائل الشيعة 25/427، ح1، الباب 2 من أبواب كتاب إحياء الموات.
3- حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني (قدس سره) /(201-200)، ونقلناه بلفظه لوضوحه.

مهمة، وحل للإشكال، قال رفع مقامه في ما يرتبط بالإجماع:

«بل في المبسوط: «روی أصحابنا أنه إذا اشترى شيئاً بعينه بثمن معلوم، وقال للبائع: أجيئك بالثمن ومضى، فإن جاء في مدة الثلاث كان البيع له، وإن لم يجيء في هذه المدة بطل البيع»(1)، إلا أنه يمكن إرادته بطلان اللزوم؛ بقرينة كلامه في غيره من كتبه، خصوصاً الخلاف الذي نسب فيه الخيار إلى إجماع الفرقة وأخبارهم»(2)

وفي هذه الجملة رفع الإشكال عن عبارة الشيخ الطوسي (قدس سره) ؛ فإن الشيخ الأنصاري (قدس سره) وغيره قد استفادوا من عبارته (رحمة الله) في المبسوط بطلان البيع بعد الثلاثة، ولكن صاحب الجواهر (قدس سره) حملها على إرادة بطلان اللزوم؛ بقرينة كلامه في غير المبسوط من كتبه؛ حيث نسب الخيار إلى إجماع الفرقة وأخبارهم، والجمع بين الكلامين يقتضي إرادة بطلان اللزوم، لا البيع.

فإن ثبت توجيهه (قدس سره) يسلم الإجماع المدّعى على الخيار من المخالف، وإلا فلا يتمّ؛ فإن مخالفة مثل الشيخ الطوسي (قدس سره) مما يهدم الإجماع قطعاً؛ فإن المهم إجماع المتقدمين واتفاقهم، والشيخ (قدس سره) من أركانهم، فإن خالف لم يتمّ، وأما مخالفة المتأخرين كصاحب الحدائق وغيره فلا تضرّ بالإجماع إن ثبت.

وإن لم يثبت التوجيه، بل كان محتملاً، فاحتماله مفيد في المقام أيضاً؛ حيث يسلم إجماع العلّامة (رحمة الله) وغيره من ثبوت المخالف.

فلدعواه (قدس سره) فائدة على التقديرين؛ إذ على تقدير تمامية التوجيه يثبت الإجماع، وعلى تقدير احتماله لم يثبت المخالف له.

هذا ما يرتبط بالإجماع، وأما ما يرتبط بالنصوص، فقال بإمكان إرادة بطلان

ص: 252


1- المبسوط 2/17.
2- جواهر الكلام 24/92 (23/51).

اللزوم منها، وأقام على ذلك وجوهاً، أخذ بعضها الشيخ (قدس سره) ، والآخر المحقّق النائيني (رحمة الله) ، وعبارته في ذلك:

«كما أنه يمكن إرادة ذلك - بطلان اللزوم - من النصوص، ولو بمعونة الشهرة، والإجماع، المستفيض أو المتواتر، وأصالة الصحة، وعدم المبطل، وغير ذلك»(1)

وهي تشتمل على عدّة مطالب، ولا يخفى أن مراده (قدس سره) من أصالة الصحة ليس معناها المصطلح؛ فإن تلك لا تجري إلا في الشبهات الموضوعية، والشبهة في ما نحن فيه حكمية، فمراده منها هو استصحاب الصحة عند الشيخ (رحمة الله) الذي بيّناه سابقاً، وبيان ذلك:

أنا إذا استفدنا من الروايات بطلان البيع بعد الثلاثة الأيام، فنقض اليقين بصحته - الموجود قبل انقضائها - يكون باليقين، وأما إذا كان مدلولها بطلان اللزوم، أو احتمل ذلك ولو بمعونة الإجماع والشهرة، فنقض اليقين بصحته يكون بالشك، فلنا يقين سابق بصحة البيع، وشك لاحق في بطلانه، فنستصحب بقاء الصحة، وهو المراد من تعبيره بأصالة الصحة.

الأصل الثاني في كلامه (قدس سره) : عدم المبطل؛ للشك في إيجاب تأخير الثمن عن الثلاثة الأيام بطلانَ البيع، فيرجع الشك إلى تحقّق المبطل له وعدمه؛ فإن البيع قد وقع مع تمام شرائط الصحة بلا إشكال، فيشك في مبطلية تأخير الثمن عن القبض والإقباض إلى ثلاثة أيام، فالأصل عدم المبطلية.

وأما قوله: «وغير ذلك» فيحتمل فيه ثلاثة أوجه، نقتصر على ذكر وجه واحد؛ تحرّزاً من الإطالة، وهو استصحاب الاشتغال، وبيانه:

أن المعاملة بعد أن تمّت بين المتبايعين اشتغلت ذمة البائع بتسليم المبيع

ص: 253


1- جواهر الكلام 24/92 (23/51).

للمشتري، وذمة المشتري بتسليم الثمن للبائع، وهذا الاشتغال محرز إلى ثلاثة أيام، وأما بعدها فيشك في بقائه وعدمه؛ إذ إن بطل البيع ارتفع الاشتغال، وإلا فلا يزال، فيستصحب بقاؤه.

ثم قال (رحمة الله) : «على أنه هو المناسب للإرفاق للبائع»(1)

وهذا وجه آخر، وهو المستند العمدة للمحقّق النائيني (قدس سره) ، وبيانه: أن المطلوب حفظ حق البائع، وضمان وصول الثمن إليه، والإرفاق به يقتضي نفي اللزوم، لا بطلان البيع، والنكتة في ذلك ما علّل به القول السابق بقوله: «إذ قد يدخل عليه الضرر بنقصان القيمة في هذه المدة»؛ فإن المبيع ربما تنزل قیمته، فيكون البطلان على خلاف الإرفاق بالبائع، دون نفي اللزوم، والقول بالخيار.

ثم أشار إلى مطالب ثلاثة بقوله: «بل قد يدّعی انصراف الإطلاق إليه، ولو بقرينة المقابلة في الشرطية، مضافاً إلى ظهور التقييد بالظرف في ثبوت البيع للبائع، واللزوم قابل للتبعيض بخلاف الصحة»(2)

أما مراده من قرينة المقابلة في الشرطية، فهو الإشارة إلى ما في الروايات؛ فإنها تضمنت الجملة الشرطية، كما في قوله (علیه السلام) : «فإن قبض بيعه، وإلا فلا بیع بينهما»(3)

وقوله: «إن جاء ما بينه وبين ثلاثة أيام، وإلا فلا بيع له»(4)

فإن قوله (علیه السلام) : «فلا بیع بينهما، أو فلا بيع له» وقع في مقابل الشرط، ومقتضی تحقق الشرط حصول اللزوم، فبالمقابلة یكون مقتضی عدم تحققه موجباً لنفي اللزوم،

ص: 254


1- جواهر الكلام 24/93 (23/52).
2- جواهر الكلام 24/93 (23/52).
3- وسائل الشيعة 18/22، ح3، صحيحة علي بن يقطين.
4- وسائل الشيعة 18/21، ح1، صحيحة زرارة.

لا لنفي الصحة.(1)

ثم دفع إشكال التنافي بين صحيحة علي بن يقطين، التي نفت البيع بينهما: «وإلا فلا بیع بينهما»، الظاهرة في نفي الصحة؛ لعدم تعقّل نفي اللزوم عن المشتري، وبين بقية الروايات التي وقع النفي فيها على نفيه عن خصوص المشتري: «وإلا فلا بيع له»، بقوله:

(ولا ينافيه صحيح ابن يقطين، لصدق نفي اللزوم بينهما ولو بنفيه للبائع منهما).

هذا تمام الكلام فيما أفاده صاحب الجواهر (قدس سره) .

التحقيق في كلام صاحب الجواهر

والتحقيق في كلامه يقتضي التعرض لجهات:

الأولى: ما أفاده (قدس سره) من الجمع بين عبارتي الشيخ (رحمة الله) في المبسوط والخلاف، بحمل المراد من بطلان البيع على بطلان اللزوم، غير تام؛ لأن البطلان والصحة من صفات موضوعات الأحكام ومتعلقاتها، كالبيع المتصف بهما، كما بيّن في مبحث الصحيح والأعم، وأما الأحكام، التكليفية والوضعية، فلا تتصف بهما، بل يدور أمرها بين الوجود والعدم، واللزوم حكم وضعي، فلا يتصف بالبطلان لكي يقول: (إلا أنه يمكن إرادته بطلان اللزوم...)، فينهدم الأساس الذي بني عليه الجواب عن التعارض بين كلامي الشيخ (قدس سره) ، والتعارض بين الروايات.

الثانية: أراد صاحب الجواهر (قدس سره) أن يستعين بالشهرة والإجماع، المستفيض أو المتواتر، لبيان إرادة نفي اللزوم من النصوص المصرّحة بنفي البيع.

ولا يخفى أن الأصل في هذا التعبير، هو نفي الحقيقة، وهو هنا يعني بطلان

ص: 255


1- أشار الشيخ الأستاد (دام ظله) إلى قرينية الظرفيه فانتهى الوقت ولم يبينها.

البيع، والحمل على نفي اللزوم يحتاج إلى مؤونة زائدة، والمؤونة التي أقامها صاحب الجواهر (قدس سره) ، هي الشهرة والإجماع المستفيض أو المتواتر.

ولا بدّ من التوقف في هذه الجهة؛ فإن الكلام إذا كان له ظهور، وأعرض الأصحاب عنه، فهل ينهدم ظهوره، فلا يتمسك به، أو يبقى على ما هو عليه، فيصح التمسك به؟

فيه أنظار:

الأول: الأخذ بالظهور، وعدم الاعتناء بإعراض المشهور عن الدلالة، كما عليه المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) ، على ما في مصباح الفقاهة جازماً به؛ لعدم الوجه في إسقاط الحجية بإعراض المشهور، ولهذا ذهب في المقام إلى بطلان البيع، تبعاً للشيخ الطوسي (قدس سره) في المبسوط.(1)

وفيه: أولاً: ينقض عليه بما اختاره في المنهاج؛ فإنه اختار ما ذهب إليه المشهور، من صحة العقد وثبوت الخيار.(2)

وثانياً: بما سيأتي في بيان الرأي الثاني.

الثاني: أن المشهور، والإجماع المنقول، يوجبان انقلاب الظهور.

وهذان النظران في حدإي الإفراط والتفريط، والحق هو:

الثالث: وهو: إجمال الكلام، وعدم انعقاده في خلاف ظاهره، وتوضيح ذلك:

إن المتكلم إذا صدر منه الكلام، ورأينا أصحابه والعارفين بكلامه لم يأخذوا بظاهره، وأعرضوا عنه، لم يمكن الأخذ بظاهر كلامه؛ إذ لا يكون ظهور كلامه حجة عند العقلاء، وسيرتهم هي المعتمدة في حجية الظواهر.

ص: 256


1- مصباح الفقاهة 7/6؛ والتنقيح في شرح المكاسب 35/5 و 8.
2- منهاج الصالحين 2/42.

ولكن في نفس الوقت، لم يمكن الأخذ بخلاف الظاهر، بل يكون الكلام مجملاً، فلا تتمّ دعوی صاحب الجواهر (رحمة الله) ، من الأخذ بخلاف الظاهر، ولا دعوى المحقّق السيّد الخوئی (قدس سره) ، من الأخذ بالظاهر، وعدم الاعتناء بالإعراض.

الثالثة: قوّى صاحب الجواهر (رحمة الله) مسلك المشهور بدعوى إمكانية إرادة نفي اللزوم من النصوص، ولو بمعونة أصالة الصحة، وعدم المبطل، وغير ذلك.

وفيه: أن ما هو حجة للفقيه هو ظهور الكلام، ولو ببركة القرينة، وما لم يكن الكلام ظاهراً لم يكن حجة، ولو كان الأصل على طبقه؛ فإن الأصول لا تسقط الكلام عن ظاهره، فضلاً عن أن تجعله ظاهراً في غير معناه.

وبهذه الجهة يفترق المشهور عن الأصول؛ فإن إعراض المشهور يوجب سقوط ظهور الكلام، ولا يوجب انعقاد الظهور في غيره، بخلاف مخالفة الأصول؛ فإنها لا توجب سقوطه عن الظهور، فضلاً عن إيجابها لانعقاد الظهور في المعنى المخالف.

الرابعة: أن في ما أفاده صاحب الجواهر (رحمة الله) خلطاً بين المرجّح، والمرجع؛ حيث جعل أصالة الصحة، وعدم المبطل، وغير ذلك، مرجّحاً لما دلّ على نفي اللزوم، والحق أن الأصول بعد تعارض الروايات تكون مرجعاً، وذلك بعد تساقط الروايات المتعارضة، ولا تكون مرجّحاً لأحدى الروايتين، فالروايات النافية للبيع عن المشتري ظاهرة في نفي اللزوم، وصحيحة ابن يقطين ظاهرة في بطلان البيع، فمع عدم وجود المرجّح بينهما تسقطان، وتكون أصالة الصحة مرجعاً، لا مرجحاً للطائفة الأولى.

والسر في ذلك: أن المرجّح لا يخلو أمره من حالين، إما أن يكون مرجّحاً ذاتياً، ككون أحدهما أظهر من الآخر، أو جعلياً كموافقة الكتاب، ومخالفة العامة، وموافقة الأصول ليس شيئاً منهما.

الخامسة: أنه رفع التنافي بين صحيحة ابن يقطين، المستفاد منها نفي اللزوم بينهما، وغيرها المستفاد منها نفي اللزوم عن أحدهما: بصدق نفي اللزوم بينهما، ولو

ص: 257

بنفيه عن أحدهما وهو البائع.

والإشكال: أن لسان الروايات على نحوين؛ إذ تارة يكون لسانها إثبات اللزوم بين الاثنين، وأخرى يكون لسانها نفي اللزوم بينهما، فإن كان الأول كانت بنحو الموجبة الجزئية، وهي تصدق بتحققها في أحد الطرفين.

وإن كان الثاني، فنقيض الموجبة الجزئية سالبة كلية، فلا تصدق إلا بالسلب الكلي.

وما في الرواية «لا بيع بينهما»، فهي تنفي أصل البيع بينهما، ونفي الحقيقة بين المتبايعين يختلف مع نفي الحقيقة عن أحدهما، فلا يصدق إلا بالانتفاء عنهما كليهما، كما لو قيل: (لا كدورة بين زيد وعمرو)؛ فإن هذه القضية لا تصدق إلا إذا انتفت من كلا الطرفين، وأما لو وجدت عند أحدهما دون الآخر لم تصدق، وبما أن البيع من الحقائق ذات التعلّق، وقد نفيت عن الطرفين، فسواء أكان المنفي حقيقة البيع أم لزومه، فهو على نحو السلب الكلي بينهما، لا على نحو التبعيض.

تحقيق المحقق الأصفهاني للجمع بين الروايات

وأفاد المحقّق الأصفهاني (قدس سره) تحقيقاً لتقوية ما ذهب إليه المشهور، من نفي اللزوم، وحاصله: أن المراد من البيع المنفي في هذه الروايات، و إما الإنشائي، وهو العقد الذي يتسبب به إلى إيجاد الملكية الاعتبارية، وإما الحقيقي، وهو المسبب، وما يكون بالحمل الشائع تمليكاً.

فإن كان الأول، فلا يعقل إرادة نفي الحقيقة من: «لا بيع له»؛ لتحقق البيع العقدي وجداناً، وما وقع لا ينقلب عما هو عليه، فلا بدّ من رجوعه إلى نفي الآثار، أي نفي أثر هذا السبب، وأثره إما الصحة أو اللزوم، وتعيين أحدهما يحتاج إلى قرينة، والمتعيّن نفي اللزوم، لأن البيع بما هو عقد، وإن كان أثره الظاهر منه نفوذه وتأثيره، إلا أنه بما هو بيع أثره الظاهر منه لزومه؛ فإنه المعاملة المبنية على اللزوم، وحيث إن المنفي

ص: 258

هو البيع بما هو بيع، لا بما هو عقد ومعاملة، فالنفي متوجه إلى أظهر آثاره وخواصه، وهو اللزوم.

وإن كان المراد الثاني، أي نفي البيع الحقيقي، فأمره يدور بين الوجود والعدم، لا بين الصحة والفساد، فلا يعقل أن يحصل البيع الحقيقي ويتصف بالبطلان، فالنفي له يرجع إلى نفي أصل الحقيقة، وحينئذٍ فلا يخلو الأمر من أحد حالين:

إما أن نقول: بأن تركیب (لا بيع) ظاهر بظهور ثانوي في نفي الأثر، كقوله تعالى: ﴿لَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ﴾(1)، وقوله (صلی الله علیه و آله و سلم) : «لا ضرر ولا ضرار»، فالنتيجة نفي اللزوم.

وإن لم نقل بذلك؛ لعدم بلوغ الاستعمال إلى حدٍّ يوجب انقلاب الظهور، فنقول بقيام القرينة على إرادة نفي الأثر، لا نفي الحقيقة؛ لقولهم (علیهم السلام) : «لا بيع له»؛ فإن البطلان أو الانفساخ غير قابلين للتبعيض، بحيث يكون العقد باطلاً أو منحلاً من طرف المشتري فقط؛ فإن الأثر واحد، فلا يعقل وجوده من طرف البائع وعدمه من طرف المشتري، والعقد واحد، فلا يعقل أن يكون منحلاً وغير منحل، بخلاف اللزوم؛ فإنه يمكن أن يكون العقد لازماً من طرف المشتري، وخيارياً من طرف البائع، فيكون المراد من قولهم (علیهم السلام) : «لا بيع له»، أي ليس للمشتري بيع يستحق به قبض المبيع من البائع، بخلاف البائع؛ فإن أمر البيع بيده، فله مطالبة المشتري بالثمن، وله تركها بحلّ البيع.

وأما قوله (علیه السلام) في صحيحة ابن يقطين: «لا بيع بينهما»، وإن كان له ظهور في نفيه حصولَ حقيقة البيع بينهما، إلا أنه ليس بحيث لا يمكن الجمع بينه وبين تلك النصوص الدالة على نفي اللزوم، فليس هو بحيث يأبى عن الحمل على عدم البيع،

ص: 259


1- سورة البقرة /197.

الذي يستحق به كل منهما على الآخر؛ لعدم استحقاق المشتري على الفرض.

وتوضيحه: أن المقرر بينهم في الأصول، وهو الحق: أن الظاهر لا يعارض الأظهر، فكما ترفع اليد عن الظاهر بالنص المخالف له، فكذلك ترفع اليد عن الظاهر بالأظهر المخالف له، والنصوص النافية للبيع عن المشتري، الظاهرة في نفي اللزوم - حسب الوجه المتقدم، من عدم قابلية الصحة للتفكيك، لكي تنفى عن المشتري دون البائع - أظهر في نفيه من رواية ابن يقطين، الظاهرة في نفي البيع، فيتخلّى عن الظاهر بالأظهر.

مضافاً إلى ورود هذه العبارة في بيع ما يفسده المبيت(1)، والإجماع على عدم البطلان، فحملت على إرادة نفي اللزوم.(2)

هذا نهاية ما أفاده هذا المحقّق من التحقيق، ونتيجته تقوية ما عليه المشهور من نفي اللزوم، وخلاصته:

أن المقتضي في الروايات لحمل النفي على نفي اللزوم موجود، والمانع منه مفقود؛ ببركة رفع اليد عن الظاهر بالأظهر، والإجماع في ما يفسد في يومه.

المناقشة فيما أفاده المحقّق الاصفهاني

ويرد عليه: أولاً: ما أفاده من التقسيم بين البيع الإنشائي والحقيقي، وأن الأول سبب لتحقّق الثاني، لا يتمّ على ما أفاده في الأصول، من عدم كون الألفاظ في الإنشائيات سبباً للمعاني الاعتبارية، وهذا المبنى هو الذي دعا المحقّق السيّد

ص: 260


1- إشارة إلى ما ورد في وسائل الشيعة 18/24، ح1، الباب 11 من أبواب الخيار، مرسلة محمّد بن أبي حمزة أو غيره عمّن ذكره: عن أبي عبدالله، وأبي الحسن علیهما السلام: في الرجل يشتري الشيء الذي يفسد من يومه، ويتركه حتّى يأتيه بالثمن، قال: «إن جاء فيما وبينه وبين الليل بالثمن، وإلا فلا بيع له».
2- حاشية المحقّق الاصفهاني على المكاسب 4/(246-245).

الخوئي (قدس سره) إلى تبنّي فكرة أن النسبة بين الإنشاء والمعاني المنشأة نسبة المبرز إلى المبرَز، لا السبب إلى المسبَّب.

وثانياً: أن ما أفاده، من جعل البيع على قسمين، إنشائي، وحقيقي، وكون الصحة واللزوم من آثار الأول، وأما الثاني فأمره يدور بين الوجود والعدم، محل نظر وإشكال.

ووجهه: أنه جاء في القرآن الكريم، وفي السنة المطهّرة، إثبات أثر الحلية والجواز إلى البيع، ففي قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ﴾(1) أثبت الحلية للبيع، فالبيع الذي جعل موضوعاً في الآية، إما أنه البيع الإنشائي، أو الحقيقي؛ لانحصار الأقسام فيهما، حسب الفرض، فإن كان الإنشائي لزم رفع اليد عن أصالة الحقيقة؛ لأن البيع الإنشائي هو سبب البيع، وليس ببيع؛ فيلزم استعمال اللفظ الموضوع للمسبب في السبب، وهو استعمال مجازي.

وإن كان الحقيقي، فالمفروض أنه لا أثر له على مبناه؛ إذ يدور أمره بين الوجود والعدم، فلا يتصور ترتّب الحلية على البيع الحقيقي على مبناه.

وأما في السنة المطهرة، فورد في الرواية المعتبرة، في من يريد الشراء من شخص يبيع ما يملك، وما لا يملك، فقال الإمام (علیه السلام) : «لا يجوز بيع ما ليس يملك، وقد وجب الشراء من البائع على ما يملك»(2)، فرتّب أثر الجواز على البيع، ومقتضى مبناه عدم الأثر للبيع الحقيقي؛ لأن أمره يدور بين الوجود والعدم.

والحاصل: أن البيع في الكتاب والسنة قد حكم عليه بأثري الحلية والجواز، ومقتضى مبناه عدم الأثر للبيع الحقيقي.

ص: 261


1- سورة البقرة /275.
2- وسائل الشيعة 17/339، ح1، الباب 2 من أبواب عقد البيع وشروطه، صحيحة الصفار.

وثالثاً: ما أفاده - من أنه لو أريد من نفي البيع عن المشتري، البيع الإنشائي، الذي هو سبب البيع، فهو نفي للأثر، وهو إما الصحة، أو اللزوم، ولكن يتعيّن في المقام نفي اللزوم؛ لتعلّق النفي بالبيع بما هو بيع، لا بما هو عقد، وأثره بما هو بيع، اللزوم - محل إشكال؛ وذلك:

لأن إثبات الآثار - ثبوت وإثباتة - لا يكون إلا من خلال الأدلة الشرعية، وبالرجوع إليها نستفيد عكس ما أفاده (قدس سره) ؛ وذلك لأن مدّعاه: أن أثر العقد الصحة، وأثر البيع اللزوم، ومقتضى النصوص - كتاب وسنة - عكس ذلك، فإن ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) دليل على اللزوم، سواء أقلنا بأن مفادها الإرشاد إلى اللزوم، أم قلنا بأن مفادها حكم تكليفي بوجوب الوفاء، ولازمه اللزوم، وعلى كل حال، فمدلول الآية هو كون اللزوم أثراً للعقد.

ومفاد الكتاب والسنة كون الصحة والحلية والجواز والنفوذ آثاراً للبيع، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ﴾(2)، و«وجب الشراء»؛ فإن الوجوب والحلية يجتمعان مع اللزوم، ومع الخيار.

ورابعاً: ما أفاد (قدس سره) ، من حمل «لا بيع بينهما»، في صحيحة ابن يقطين على نفي اللزوم، وإن كانت ظاهرة في نفي الحقيقة؛ بقرينة كون المنفي في «لا بيع له»، هو اللزوم، لنفيه عن المشتري بالخصوص، والحقيقة لا تقبل التبعيض.

محل إشكال أيضاً؛ لأن مقتضى ظهور (لا) نفي مدخولها، فمقتضی الظهور، وأصالة الحقيقة في «لا بيع بينهما» حمل نفي البيع على نفي الحقيقة، فلا يكون بينهما بيع حقيقة، ونتيجته البطلان، وحمله على نفي البيع، الذي يستحق به البائع على المشتري

ص: 262


1- سورة المائدة /1.
2- سورة البقرة /275.

الثمن، والمشتري على البائع المثمن؛ لعدم استحقاق المشتري على الفرض، حمل له على معنى مجازي، وهو مدفوع بأصالة الظهور؛ لعدم الوجه في كون الرواية المنفصلة - وهي النافية للبيع عن المشتري - قرينة على رفع اليد عن ظهورها؛ فإن مقتضى القاعدة الأصولية، أنه متى انتفت القرينة الصارفة المتصلة، أو التي بحكمها، كانت أصالة الظهور هي الحاكمة في الكلام، وتكون الرواية الأخرى - إذا كانت ظاهرة في معنى آخر - معارضة للأولى.

نعم، ترفع اليد عن الظهور في صورتين، في ما لو كانت المعارضة بين النص والظاهر، أو بين الأظهر والظاهر؛ فإن مقتضى الجمع الدلالي بينهما، رفع اليد عن الظاهر بالنص والأظهر.

والمفروض فيما نحن فيه، أن جملة «لا بيع بينهما» ظاهرة في نفي الحقيقة، كسائر مواردها من قبيل (لا عداوة بينهما) أو (لا صداقة بينهما)؛ فإنها تنفي الحقيقة بالمرة، وجملة «لا بيع له» وإن كانت ظاهرة أيضاً في نفي الحقيقة، لو خلّيت ونفسها، ولكن للقرينة العقلية القائمة في خصوصها، وهي عدم إمكان التبعيض في الحقيقة، بحيث تنتفى حقيقة البيع عن المشتري وتثبت للبائع، كانت ظاهرة في نفي اللزوم، فيكون عندنا رواية ظاهرة في نفي اللزوم، وأخرى في نفي الحقيقة، والقاعدة تقتضي التعارض بينهما، لا حمل النافية للحقيقة على نفي اللزوم.

كلام المحقّق الحائري لرفع التعارض بين الروايات

وذهب المحقّق الحائري (قدس سره) إلى القول بدلالة: «لا بيع بينهما» على نفي اللزوم، على خلاف ما أفاده الجميع من دلالتها على ن في الحقيقة، وتقريبه في ذلك: أنا إذا لم نقل بأنها لنفي اللزوم يستلزم اللغوية في كلام الإمام (علیه السلام) ؛ فإن بيان البطلان يكفي فيه أن يقتصر على القول ب-«لا بيع»، بدون إضافة «بينهما»، فإضافتها لأجل بيان نفي الحقيقة لغو، والذي يخرجه عن اللغوية، أن يكون لنفي معنى الإلزام والالتزام،

ص: 263

الموجود في حاقّ البيع، أو الذي هو من آثاره وخواصه، فينتفي مطالبة أحدهما إلى الآخر، أو الاحتجاج بينهما، بأن يقول أحدهما إلى الآخر: أين البيع إذا رآه خالف مقتضاه؟

فصوناً لكلام الإمام (علیه السلام) عن اللغوية، لا بدّ من حمل «لا بيع بينهما» على نفي الأثر، لا نفي الحقيقة، ولو كان الظهور الأولي نفي الحقيقة.(1)

المناقشة في ما أفاده المحقّق الحائري

ويندفع ما أفاده (قدس سره) ، عموماً وخصوصاً، أما العموم؛ فلأن المتعارف في ذكر الأمور ذات التعلق أن تذكر مع أطرافها، فلو سئل عن العداوة بين اثنين، لكان الجواب: لا عداوة بينهما، والبيع من هذا القبيل؛ فإنه من الأمور ذات التعلّق التي تحتاج إلى طرفين، البائع والمشتري، فحينما ينفى البيع عنهما، ينفى بذكر الطرفين، كما هي عبارة (لا بيع بينهما)، وبهذا ترتفع اللغوية من البين.

وأما خصوص هذه الرواية؛ فلأنها تتحدث عن أمر بین طرفین، فالسؤال كان عن البائع والمشتري؛ حيث فيها: «قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن الرجل يبيع البيع، ولا يقبضه صاحبه، ولا يقبض الثمن»، قال: «الأجل بينهما ثلاثة أيام، فإن قبض بيعه، وإلا فلا بیع بينهما»(2)

فالتأمل في صدر الرواية وذيلها، يقضي بأن ذكر البيع مضافاً إلى كلمة «بينهما»، على وفق القاعدة.

ما أفاده الفاضل النراقي في الجمع بين الروايات

ذهب الفاضل النراقي (قدس سره) إلى أن ظهور «لا بيع بينهما» في نفي الحقيقة، وناقش

ص: 264


1- الخيارات للشيخ الأراكي (قدس سره) /261.
2- وسائل الشيعة 18/22، ح3، الباب 9 من أبواب الخيار، صحيحة علي بن يقطين.

في جميع الوجوه المذكورة لنفي اللزوم، ثم في آخر المطاف، قال: بأن مدلول الروايات - بما فيها رواية ابن يقطين - نفي اللزوم، لا نفي الصحة، واستند في ذلك إلى أن البيع هو فعل صادر من البائع، فلا يصح نفيه بنحو الحقيقة؛ إذ النفي المتعلّق بالبيع، إما أن يكون تعلّق به عند الحدوث، أي بالبيع السابق، أو بعد الثلاثة الأيام.

أما الأول فغير ممكن؛ إذ لا يتعلّق نفي الحقيقة بالبيع الحاصل قطعاً؛ فإن الموجود لا ينقلب إلى المعدوم، فلا يعقل نفي البيع قبل الثلاثة الأيام بنفي الحقيقة.

وأما الثاني؛ فلا بيع حينئذٍ بعد الثلاثة الأيام حتى ينفى.

فالنتيجة: عدم إمكان الحمل على المعنى الحقيقي، فإذا لم يمكن الحمل على المعنى الحقيقي، تصل النوبة إلى المعنى المجازي، وهو يدور بين خمسة معان: نفي المبيع، ونفي الصحة، ونفي الاستمرار، ونفي مطلق الآثار، ونفي اللزوم.

ومع تعدّد المجازات، وعدم تعيين أحدها يقتصر على القدر المتيقن ويرجع إلى الأصل في الباقي، والقدر المتيقن في المقام نفي اللزوم؛ فإنه يجتمع مع جميعها؛ فإنه متى انتفى المبيع، أو الصحة، أو الاستمرار، أو مطلق الآثار، انتفى معها اللزوم.

والحمل على نفي الصحّة - لكونها أقرب المجازات - غير جيّد؛ إذ لا دليل على تعيّن الحمل على مثل ذلك الأقرب.(1)

والمراد من الأصل في المقام إطلاق ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ﴾(2)، فالقدر المتيقن من أخبار النفي، إثبات الحليّة، ونفي اللزوم.

وفيه: أن النفي إذا تعلّق بحققة من الحقائق، فإما أن يمكن ذلك على وجه الحقيقة، أو لا يمكن، فإن كان ممكناً، فمقتضى أصالة الحقيقة الحمل على نفي تلك

ص: 265


1- مستند الشيعة 14/(399-389).
2- سورة البقرة /275.

الحقيقة والماهية، على نحو الحقيقة، وإن لم يمكن تعيّن الحمل على نفي الحقيقة ادّعاء، ولا تصل النوبة في هذا الباب إلى بقية المجازات، ففي مثل «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(1)، و «يا أشباه الرجال ولا رجال»(2)، وغير ذلك من الموارد التي تعلّق فيها النفي بالحقيقة، ولم يمكن الحمل على نفي الحقيقة على نحو الحقيقة، لا ترفع اليد عن نفي الحقيقة، وإنما يبقى متعلّقاً بالحقيقة ادّعاء، ومعنى نفيها ادّعاء نفي جميع الآثار، وهو عين البطلان، فما أفاده (قدس سره) من تردّد الأمر بين خمسة أمور في محل المنع.

فتحصّل إلى هنا: أنا تعرضنا إلى جميع ما أفاده الأعلام من الشيخ، والمحقّق الخراساني، و صاحب الجواهر والمحقّق الاصفهاني، والمحقّق الحائري والفاضل النراقي، قدست أسرارهم، واتضح من خلال ذلك اضطراب كلماتهم غاية الاضطراب، فلم تنهض لإثبات الخيار، ونفي اللزوم من الروايات.

التحقيق في المسألة البحث في المقامين

اشارة

والتحقيق في المسألة أن نوقع البحث في مقامين:

المقام الأوّل: البحث في مقتضى القاعدة مع غض النظر عن الروايات.

المقام الثاني: البحث مع ملاحظة الروايات.

مقام الأوّل: مقتضى القاعدة

أما المقام الأوّل، فالمعاملة وقعت - حسب الارتكاز العقلائي - مبنيّة على شرط الإقباض على كل من الطرفين، البائع والمشتري، فإذا تخلّف الشرط، فالأصل بحسب ارتكازهم صحة البيع، وله خيار تخلّف الشرط.

وبعبارة أخرى: إن على كل من الطرفين إقباض الآخر ما في يده حسب ما عليه

ص: 266


1- عوالي اللآلي 1/196.
2- الكافي 5/6، ح6، باب فضل الجهاد؛ نهج البلاغة 1/70.

العقلاء، ويلزمهما على هذا الأساس أن لا يتأخرا في الإقباض عن الحدّ المتعارف بين العرف والعقلاء، فالأصل عندهم الصحة، وإذا تأخر أحدهما عن الإقباض عن الحدّ المتعارف في المعاملة، كان للآخر الخيار، فالقول بالخيار مطابق للمرتكز العقلائي، وقول الشيخ (رحمة الله) في المبسوط مخالف لمقتضاه.

المقام الثاني: مقتضى الروايات

وأما المقام الثاني، فمقتضى ظهور صحيحة علي بن يقطين - كما تقدّم - نفي حقيقة البيع ادعاء، فتفيد نفي صحته، وهو الموافق لكلام الشيخ (رحمة الله) في المبسوط.

ولكن، لا يمكن الأخذ بها؛ وذلك لأنا لو نظرنا إلى الأقوال في المسألة، لما وجدنا من المتقدمين إلّا قول الشيخ (رحمة الله) في المبسوط(1)، وقد خالفه في كتابه الخلاف؛ حيث نسب فيه الخيار إلى إجماع الفرقة وأخبارهم(2)، ومع هذا التعارض بين قوليه لا يثبت عندنا قول بالبطلان عند المتقدمين، إلّا ما يمكن أن يستفاد من عبارة العلّامة (رحمة الله) في المختلف؛ حيث نسب القول بالبطلان إلى غير المشهور.(3)

وأما من المتأخرين فلم يذهب إليه إلّا صاحب الحدائق(4)، وقرّبه صاحب الكفاية(5)، والمحقّق السيّد الخوئي في المصباح، وخالفه في المنهاج، فقال بالصحة.(6)

فمن هذا يظهر أن هذه الصحيحة، مما أعرض عنها مشهور الفقهاء بل كلهم؛ حسب تصريح العلّامة في التذكرة(7)، والشهيد في الدروس(8)، والشهيد الثاني في

ص: 267


1- المبسوط 2/87.
2- الخلاف 3/20.
3- المختلف 5/(71-70).
4- الحدائق 19/47.
5- كفاية الأحكام 1/467.
6- مصباح الفقاهة 7/8.
7- التذكرة 11/71.
8- الدروس 3/273.

المسالك(1)؛ حيث ادّعوا الإجماع على الخيار، فلا تكون هذه الرواية مشمولة لأدلة حجية الخبر، كما حقق في الأصول.

والسر في ذلك: أن الروايات الدالة على حجية خبر الثقة، إنما هي إمضاء لسيرة العقلاء، ومثل هذه الرواية التي أعرض عنها مشهور القدماء، وفقهاء الأصحاب، وبطانة المذهب في الفقه والحديث، ما عدا ابن الجنيد، الذي لا يعتني الفقهاء بمخالفته، لا تكون مورداً للاحتجاج في السيرة العقلائية، فيكون دليل حجية خبر الثقة قاصر الشمول عنها.

وبهذا يتضح: أن عمدة الإشكالات في المسألة - وهو ظهور صحيحة ابن يقطين - قد تبيّن سقوطه، وعدم حجيته، فلا تعارض الروايات الأخرى بناء على دلالتها على نفي اللزوم، كما استفاده الشيخ [الأعظم] (قدس سره) وعدّة من الأعاظم.

ولو أغمضنا النظر عن سقوطها، وقلنا بتماميتها في نفسها، فإما أن يقال: بإجمال روايات «لا بيع» أو يقال: بعدم إجمالها:

إما على الأوّل فلا ظهور لها في نفي اللزوم؛ وذلك لما تقدّم من أن الشيخ (قدس سره) وغيره، ممن ذهب إلى ظهورها في نفي اللزوم، استند إلى عدم إمكان التبعيض في الصحة، وبما أنها نفت البيع عن المشتري بالخصوص، فتحمل على نفي اللزوم.

ولكن مع قيام احتمال كونها تنفي الصحة، وإنما خصّص المشتري بالذكر؛ لكونه مورد السؤال، لم تكن دالة على نفي اللزوم حينئذٍ، بل كما يحتمل نفي اللزوم، يحتمل دلالتها على نفي الصحة عن الجميع، لا على نحو التبعيض؛ ليرد المحذور، ومع هذا الاحتمال تكون الرواية مجملة، فلا تعارض الروايات الدالة على الصحة.

وأما على الثاني أي عدم إجمالها فهي معارضة بتلك الروايات، والترجيح لتلك

ص: 268


1- المسالك 3/208.

الروايات؛ لشهرتها رواية وفتوى [ولموافقته للكتاب ومخالفته للعامة].

ولو قلنا بعدم ترجيح تلك الروايات عليها، وتحكّم التعارض، فهنا مبنيان:

الأوّل: أن يقال بالتخيير في المسألة الأصولية بين المتعارضين، ومقتضاه صحّةُ الأخذ بالروايات الدالة على نفي اللزوم، فمقتضى الاحتياط في الفتوى الأخذ بها؛ لموافقتها للمشهور.

الثاني: أن يقال بالتساقط، فمقتضى القاعدة التمسك بالأصل اللفظي أو العملي، والمتصور من الأوّل اثنان: عموم ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1)، و ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ﴾(2)، أما الأوّل منهما، فلا يمكن التمسك به في المقام؛ لأن البيع - بعد الثلاثة الأيام - يدور أمره بين البطلان وعدم اللزوم، ولا احتمال ثالت في البين، وعلى كلا التقديرين لا يمكن التمسك بها، ويتعيّن التمسك بآية الحلّ؛ فإن البيع - بعد الثلاثة الأيام - غير لازم قطعاً، ويشك في نفي صحته، فالمرجع للآية الكريمة، ونتيجته القول بما اختاره المشهور، من الصحة ونفي اللزوم.

وأما بناء على الإجمال في كلتا الطائفتين، كأن يقال: بأن كلاً من الروايتين: «لا بيع بينهما» و «لا بيع له»، يحتمل فيهما نفي اللزوم، ونفي الصحة، فمقتضى القاعدة التمسك بالإطلاق؛ لتردد المخصص المنفصل بين الأقل والأكثر.

توضيح ذلك: أن مقتضى قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ﴾(3)، صحة المعاملة التي أخّر فيها الثمن إلى ما بعد الثلاثة الأيام؛ فإنها مطلقة من حيث الأفراد والأزمان، والفرض أن الروايات الواردة مخصّصة لها، إلّا أنها مخصّص مجمل بين الأقل والأكثر؛ لدورانه بين نفي اللزوم فقط، وبقاء الصحة، كما عليه المشهور، وبين نفيها اللزوم

ص: 269


1- سورة المائدة /1.
2- سورة البقرة /275.
3- سورة البقرة /275.

والصحة، كما عليه الشيخ في المبسوط، واختاره صاحب الحدائق، فيقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو الحكم - بعد الثلاثة - بالصحة ونفي اللزوم، ونتيجته ما عليه المشهور.

هذا هو مقتضى سير البحث على جميع الاحتمالات والوجوه.

مقتضى الأصل العملي في المسألة

هذا كله في مقتضى الأصل اللفظي، وأما الأصل العملي في المسألة، فتشخيصه يبتني على مفاد «لا بيع بينهما»، فهل مفادها - على القول بالبطلان - نفي الصحة من الأوّل، أو بعد انقضاء الثلاثة الأيام؟

فإن كان من الأوّل، فلا مجال للاستصحاب؛ إذ الفرض أنه بعد الثلاثة الأيام يحكم ببطلان البيع من حين العقد، فلم يحرز البيع، ولا الملكية ليستصحب أحدهما.

وإن كان الثاني، فالتردد في كون إفادتها نفي اللزوم أو نفي الصحة، يقتضي التردد في الصحة والبطلان بعد الثلاثة الأيام، أي إن كان مفادها نفي الصحة، فلا ملكية بعد الثلاثة الأيام، وإن كان مفادها نفي اللزوم، فالملكية باقية، فبما أن الملكية متيقنة الحدوث في الثلاثة، ونشك في بقائها بعدها، فالأصل بقاء الصحة، واستصحاب الملكية.

ص: 270

شروط خيار التأخير

الشرط الأول: عدم قبض المبيع
اشارة

قال الشيخ (قدس سره) عن هذا الشرط: (ولا خلاف في اشتراطه ظاهراً، ويدلّ عليه من الروايات المتقدّمة قوله (علیه السلام) : في صحيحة علي بن يقطين المتقدّمة: «فإن قَبَّضَ بيعه، وإلا فلا بیع بينهما»، بناء على أن البيع هنا بمعنى المبيع)(1)

إنكار صاحبي الرياض والجواهر استفادة الشرط من الروايات

وأنكر صاحب الرياض (رحمة الله) دلالة الأخبار عليه،(2) وتبعه صاحب الجواهر(3) (رحمة الله) ، واعتمد في اشتراطه على الإجماع، وهو المعني بقول الشيخ (رحمة الله) : (وتبعه بعض المعاصرين)(4)

ولم يرَ الشيخ (رحمة الله) لهما محملاً إلا وجهين:

الأول: سقوط هذه الفقرة من النسخة المأخوذ منها الرواية.

ص: 271


1- المكاسب 5/220.
2- رياض المسائل 8/307.
3- جواهر الكلام 24/96 (23/54).
4- المكاسب 5/220.

وهو عذر غير صالح، كما هو واضح؛ لأن صاحب الجواهر (رحمة الله) ذكر هذه الجملة في الرواية.

الثاني: احتمال قراءة «قبَض» بالتخفيف، و«بيّعه» بالتشديد، يعني قبض بائعة الثمن، في قبال «قبّض» بالتشديد، و«بيعه» بالتخفيف، بمعنى المبيع.

إشكال الشيخ عليهما

وأورد عليهما الشيخ (رحمة الله) بوجهين:

الأول: أن استعمال «البيّع» بالتشديد مفرداً نادر، بل لم يوجد، بخلافه في التثنية، فقد ورد «البيّعان بالخيار».

الثاني: إمكان إجراء أصالة عدم التشديد في «البيّع»، نظير ما ذكره في الروضة: من أصالة عدم المدّ في لفظ «البكاء» الوارد في قواطع السفر؛ حيث شك في كونه بالقصر أو بالمدّ، فإن كان بالمدّ كان القاطع البكاء بالصوت، وإن كان بالقصر كان القاطع مطلق البكاء.(1)

والحاصل: أن المستفاد من الرواية عند الشيخ (رحمة الله) اشتراط عدم قبض المبيع لثبوت الخيار؛ بناء على قراءة «قبض» بالتشديد، و «بيعه » بالتخفيف.

وأما مختار صاحب الرياض فالأمر بالعكس من حيث تشديد الكلمة وتخفيفها؛ أي «قبض» بالتخفيف، و «بيعه» بالتشديد، أي البائع، وما يقبضه البائع هو الثمن، فيكون الشرط عدم قبض الثمن.

إشكال المحقّق الإيراني على الشيخ

وأورد المحقّق الإيرواني على الاستدلال بالرواية: بأن فيها احتمالات ثلاثة، فلا

ص: 272


1- المكاسب 5/(221-220).

يتم الاستدلال مع وجودها، وهي:

الأول: أن يكون «البيع» فيها بمعنى الثمن، فيقال: باع ولم يقبض بيعه، كما يقال بالنسبة إلى المبيع: اشترى ولم يقبض شراءه، فالمراد من (شراءه) المبيع، ومن (بيعه) الثمن.

الثاني: أن يكون المراد كناية عن عدم قبض مجموع العوضين، المفروض في السؤال، فيكون مفادها أنه إذا تمّ قبض المجموع لزم البيع، وإلا ثبت الخيار.

الثالث: أن تكون كلمة «بيعه» جواباً للشرط، على أن يكون مفعول «قبض» محذوفاً؛ يعني إن قبض الثمن أو مجموع العوضين، فالبيع بينهما، أي فله بیعه، وإن لم يقبض الثمن فلا بیع بينهما.

والعمدة في الاستدلال اختصاص موارد الأخبار بصورة عدم قبض المبيع، وعدم الإطلاق في الرواية، أو تنقیح مناط، بحيث تشمل صورة قبض المبيع، فلهذا يقتصر على القدر المتيقن، وهو صورة عدم القبض، وهو مورد الروايات؛ إذ مع عدم الإطلاق في الرواية يكون المرجع أصالة اللزوم في غير القدر المتيقن.(1)

هذا ما أفاده المحقّق الإيرواني (رحمة الله) ، ولكن إثبات الإجمال في الأدلة يتوقف على كون المحتملات المذكورة في الكلام موافقة لقواعد المحاورة، وهو غير تام في ما ذكر:

أما الاحتمال الأول؛ فلعدم استعمال كلمة البيع وإرادة الثمن في الروايات، ولا في كلمات الفقهاء، بخلاف إرادة المبيع منها؛ فإنه أمر شائع الاستعمال، والقياس على الاشتراء مع الفارق؛ إذ يستعمل الشراء في ما اشتراه (المشترى)، كما يستعمل البيع في المبيع، فأي ربط باستعمال البيع في الثمن؟ بل استعمال الشراء في المشترى يؤيد كلام الشیخ (رحمة الله) من استعمال البيع في المبيع، لا العكس.

ص: 273


1- حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني 3/183، رقم 374.

وأما الاحتمال الثاني؛ فلأن استعمال البيع في مجموع الثمن والمثمن، استعمال له في غير ما وضع له، وغير معناه العرفي.

وبعبارة أخرى: أن المعنى اللغوي والعرفي على خلاف هذا الاحتمال؛ فإن البيع لغة، إما أنه فعل البائع خاصة، وإن كان من الأضداد أطلق على فعل البائع وفعل المشتري، ويأتي عند العرف بمعنى المبيع، فمعناه في «إن قبّض بيعه» [أي] مبيعه، وحمله على مجموع الثمن والمثمن حمل له على معنى غير متعارف عند الإطلاق، بلا قرينة تدل عليه.

وأما الاحتمال الثالث؛ فأولاً: أن تقدير المحذوف على خلاف الأصل.

وثانياً: لا توجد قاعدة تدلّ على أن «بيعه» في «فإن قبض بيعه» جواب شرط محذوف.

تأييد المحقّق الرشتي للشيخ

وأيّد المحقّق الرشتي (قدس سره) ، ما احتمله الشيخ (رحمة الله) ؛ برواية «قبضه» مع ضمير المفعول، بناء على قراءة «قبض» حينئذٍ بالتشديد، و«بيعه» بالتخفيف؛ أي «قبّضه بيْعه»، بمعنی قبّض البائع المشتري مبیعه، فتكون حينئذٍ دليلاً على المشهور، وسالمة عن الإشكال.

وأما على قرائتها بتخفیف «قَبَضَه»، وتشديد «بيّعه»، فهي على عكس المطلوب أدل؛ إذ يكون المعنى قبَضَ الثمنَ بائعه.(1)

الحق في لفظ الرواية ومفادها

والذي ينبعي أن نتابع الرواية من أولها ومرجع الضمائر فيها، فأولها السؤال:

ص: 274


1- فقه الإمامية: الخيارات /547.

«عن الرجل يبيع البيع»، ولا شك أن المراد من «البيع» هنا هو المبيع، «ولا يقبضه صاحبه»، وفي ضمير «صاحبه» احتمالان:

1- أن يعود على المشتري، الذي هو صاحب البائع، فيكون «صاحبه» مفعولاً به إلى الفعل المتعدّي، وهو «يقبضه».

2- أن يعود على البيع بمعنى المبيع، أي صاحب المبيع، وهو المشتري.

وعلى كل فالمراد أن المشتري لم يقبض المبيع، كما أن البائع لم يقبض الثمن، فما هي الوظيفة؟

فأجاب الإمام (علیه السلام) : «الأجل بينهما ثلاثة أيام»؛ أي أن المعاملة إذا وقعت ولم يتمَّ قبض المبيع ولا الثمن، فالمعاملة لازمة إلى ثلاثة أيام، ثم: «فإن قبض بيعه»، والقاعدة تقتضي أن تحمل النصوص على ما وصل إلينا من حملتها، فإن كان الضبط بالتخفيف فالحكم بالتشديد خلاف القاعدة، وقد ضبطت الرواية بالتخفيف؛ إذ لم تشدّد في كتب الحديث، فيرجع ضمير «بيعه» إلى الصاحب، فيكون المعنى فإن قبض المشتري المبيع فالبيع لازم، ويكون المفهوم، فإن لم يقبض البيع فلا بيع بينهما.

هذا هو الحق في بيان الرواية، وعليه يتمّ مدعى المشهور، ولا عبرة بمدّعى الشيخ (رحمة الله) ، ولا باحتمالات المحقّق الإيرواني (رحمة الله) .

ثم على احتمال تشدید «قبّض» يتمّ أيضاً قول المشهور؛ لأن الضمير يعود حينئذٍ إلى البائع، والمراد من «بيعه» مبيعه، فيكون المعنى فإن قبّض البائعُ المشتريَ المبيعَ فقد لزم البيع، وإلا فلا، فيفيد اشتراط عدم قبض المبيع في ثبوت الخيار.

وكذلك يتمّ قولهم على النسخة التي نقلها المحقّق الرشتي (رحمة الله) : «فإن قبّضه بيعه».

نعم، لا يتمّ قولهم على الاحتمال الذي احتمله الشيخ (رحمة الله) في وجه إنكار صاحب الرياض (رحمة الله) لدلالتها، وهو: «إن قبَض بيّعه» بتشديد البيّع.

ص: 275

إشكال الشيخ على الوجه المحتمل في كلام صاحب الرياض ودفعه

وقد أورد عليه الشيخ (رحمة الله) بإيرادين:

الأول: ندرة استعمال «البيّع» بالتشديد مفرداً.

الثاني: أصالة عدم التشديد.

أما الأول، فيرد عليه: أن الاستعمال إذا كان صحيحاً مادة وهيئة، فعدم الاستعمال لا يضر، فضلاً عن ندرته، ولا شك أن الاستعمال صحيح؛ بدلیل وروده في حال التثنية كما في «البيّعان بالخيار»، فمع صحة استعماله في حال التثنية، فما هو المانع من صحة استعماله مفرداً؟

فليس من شرائط الصحة، رؤية الاستعمال، وكل استعمال مسبوق بالعدم، فلا بدّ من شروع الاستعمال من نقطة ابتداء.

وأما الثاني، فيحتمل فيه احتمالان:

الأول: الأصل العقلائي.

الثاني: الأصل الشرعي.

أما الأصل العقلائي، فالمراد به أصالة عدم الزيادة في الكلام لو شك فيها، بما أن التشديد أمر زائد في الكلمة، فالأصل عدمه.

ولا يخفى أن هذا الأصل ثابت من حيث الأصل، ولم يثبت إطلاقه، بمعنى أنه ثبت جریانه عند العقلاء، فيما لو شك في زيادة كلمة أو جملة في الكلام، هل هي ثابتة أو زائدة، فالأصل عدم الزيادة، وأما إذا شك في كيفية الكلمة - وإن اعتبرت الكيفية زيادة فيها - فلم يثبت جریان الأصل عندهم، وما نحن فيه من قبيل الثاني؛ فإن التشديد زيادة في كيفية الكلمة.

وأما الأصل الشرعي، فهو هنا استصحاب العدم الأزلي؛ لعدم الحالة السابقة زماناً؛ أي أن الكلمة قبل تلفّظها لم توجد، ولم تكن مشدّدة ولا مخفّفة، فحينما تلفّظ بها

ص: 276

الإمام (علیه السلام) ، فهل نطقها مشدّدة أو مخففة؟ هذا ما نشك فيه، فالعدم المأخوذ، سالبة بانتفاء الموضوع، لا بانتفاء المحمول، وما كان كذلك كان أصلاً أزلياً.

وجريانه يدور مدار المبنى فيه،(1) فالمحقّق النائيني (رحمة الله) الذي لا يرى جريانه من أساس، لا يتمسك به في المقام، بخلاف من يراه.

إشكال المحقّق الخراساني على الشيخ ودفعه

ولهذا، لا يصح إيراد المحقّق الخراساني (رحمة الله) عليه: بعدم وجود حالة، سابقة للكلمة حتى تستصحب؛ فإن التخفيف والتشديد كليهما، من الكيفيات التي تكون للكلمة، فتوجد مكيّفة به أو بعدمه، فهي - حينما وجدت - إما وجدت مشدّدة أو مخفّفة.(2)

فإنه مخالف لمبناه، من جریان استصحاب العدم الأزلي، فحال الكلمة حال المرأة؛ فإنها إما وجدت قرشية أو غيرها.

المناقشة في أصل عدم التشديد

نعم، يرد عليه وجهان:

الأول: أنه أصل مثبت؛ فإن أصالة عدم التشديد في «بيّعه»، لا تثبت التخفيف فيه إلا من باب إثبات اللازم العقلي؛ فإن البيع بالتخفيف ضد البيّع بالتشديد، فلازم نفي أحدهما ثبوت الآخر عقلاً، وبما أن الأصل المثبت غير ثابت، فلا يثبت التخفيف، فلا أثر لأصالة عدم التشديد، فينتفي مستند المشهور، ولا مخلص من هذا الإشكال.

الثاني: معارضته بأصل مثله، وتصوير المعارضة بنحوين:

النحو الأول: أن أصالة عدم التشديد في البيّع، معارضة بأصالة عدم التخفيف

ص: 277


1- أي جريان الاستصحاب العدم الأزلي وعدمه.
2- حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني (رحمة الله) /201.

فيها؛ إذ كل منهما هيئة مستقلة للمادة، وكما أن للبيّع بالتشديد أثراً؛ حيث يترتب عليه الحكم بشرطية عدم قبض الثمن، فكذلك للبيع بالتخفيف؛ فإن له أثراً؛ حيث يترتب عليه القول بشرطية عدم قبض المبيع.

وهو إشكال لا مفرّ منه، ولا دافع له أيضاً.

النحو الثاني: معارضة أصالة عدم التشديد في «بيّعه»، بأصالة عدم التشديد في «قبّض»؛ بناء على لا بدّية التشديد في أحدهما.

وهذا الإشكال، إنما يتمّ على قول من قال: بتوقف قول المشهور على تشدید «قبّض»، وأما على ما ذهب إليه المحقّق الأصفهاني(1) (رحمة الله) ، وهو المختار عندنا - كما تقدم - من تمامية قولهم حتى على قرائتها بالتخفيف، فلا موضع له.

فتلخّص: أن الإشكالات الواردة على الأصل ثلاثة:

الأول: أنه مبنائي؛ لكونه استصحاب العدم الأزلي.

الثاني: أنه أصل مثبت.

الثالث: معارضته لأصالة عدم التخفيف في «بيعه».

وأما قياس أصالة عدم التشديد، بأصالة عدم المَد في البكاء الوارد في قواطع الصلاة، فهو مع الفارق؛ إذ أن الأمر في مسألة البكاء مردد بین الأقل والأكثر؛ فإن في البكاء بالمدّ مدّاً زائداً، وهمزة زائدة، وهما حرفان زائدان، دون البكا بالقصر، فإذا تردّد الأمر بينهما جرى الأصل العقلائي بعدم الزيادة(2)، وجرى الأصل الشرعي على القول بجريانه، كما أجراه الشيخ (رحمة الله) .

وأما ما نحن فيه فالأمر مردّد بين متباینین؛ فإن «البيّع» بالتشديد مباين إلى

ص: 278


1- حاشية المحقّق الاصفهاني 4/(350-349).
2- والعجب ردّ الاستاذ المحقّق جريان هذا الأصل في كيفية الكلمة وسبحان من لا يسهو. مضافاً إلى عدم جريان المسائل الأصولية في علم الأدب كما لا يخفى على أهله.

«البيع» بالتخفيف؛ لأنه ضده، فلا يقاس على البكاء.

ونتيجة البحث:

أن الرواية دالة على شرطية عدم قبض المبيع، سواء أقرئت «قبض» بالتخفيف أم بالتشديد؛ فإن «بيعه» بمعنى المبيع.

تحقيق المحقّق الخراساني في اشتراط قبض الثمن والثمن

توضيح ما أفاده المحقّق الخراساني (رحمة الله) :

أن أدلة اعتبار خیار التأخير لا تخلو من ثلاثة: الإجماع، ودليل نفي الضرر، والأخبار.

فإن كان المستند الإجماع، فبما أنه دليل لبّي، اقتصر في تخصیصه لعموم دليل اللزوم على القدر المتيقن، وهو صورة عدم قبض الثمن والمبيع؛ وذلك لأن عموم: ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) يقتضي اللزوم، سواء أقبض كل منهما الثمن والمثمن أو لم يقبضاهما، ولكن خصّص هذا العموم بالإجماع القائم على خيار التأخير، وبما أنه دليل لبّي، لا لسان له، وهو مخصص منفصل مجمل لتردّده بين الأقل والأكثر، اقتصر في تخصيصه على القدر المتيقن، وهي صورة عدم تحقق قبض كل من الثمن والمثمن.

وإن كان المستند «لاضرر»، فلا وجه لاعتبار الجلّ، لولا الكل؛ إذ المدار حينئذٍ على حصول الضرر وعدمه، لا على قبض الثمن أو المثمن وعدمه، فلو حصل الضرر وقبض الثمن والمثمن ثبت الخيار، ولو لم يحصل الضرر، ولم يقبض الثمن ولا المثمن، لم يثبت الخيار.

ولا شبهة في ثبوت الضرر مع فقدان أحدهما، أي لم يحصل قبض للثمن أو

ص: 279


1- سورة المائدة /1.

المثمن.

وإن كان المستند الأخبار، فظاهر بعضها كصحيحة علي بن يقطين عدم الاعتبار إلا بعدم قبض المثمن، وظاهر بعضها الآخر اعتبار عدم قبض الثمن، والتوفيق بينهما كما يتمّ بتقييد إطلاق كل منهما بالآخر، وهو يقتضي اشتراطهما معاً؛ أي عدم قبض الثمن والمثمن، يتمّ بالحمل على كفاية عدم قبض أحدهما، والأول أظهر، ولو لم يكن بأظهر فليس الثاني بأظهر، ومع تساويهما يسقطان، فيرجع إلى الأصل.

بيان ذلك: أنه في صحيحة علي بن يقطين شرط، وهو «فإن قبض بيعه»، ومفهومه إن لم يقبض المبيع فله الخيار مطلقاً؛ أي سواء أقبض الثمن أم لم يقبض.

وفي صحيحة زرارة(1) شرط أيضاً، وهو: إن أتى المشتري بالثمن فلا خيار له، ومفهومه أنه إذا لم يأت بالثمن فله الخيار مطلقاً، سواء أقبض المثمن أم لم يقبضه.

والتوفيق بينهما يتمّ بأحد وجهين:

الأول: أن يقيد إطلاق كل منهما بتقييد الأخرى، والنتيجة إن لم يقبض المثمن، بمقتضى صحيحة ابن يقطين، ولم يقبض الثمن بمقتضى صحيحة زرارة ثبت الخيار، وإن تخلّف أحدهما فلا خيار.

الثاني: أن ترفع اليد عن الخصوصية في كل منهما، بمعنى أن صحيحة ابن يقطين تقضي بالخيار إن لم يقبض المثمن، ولا يشترط شيء آخر غيره، وصحيحة زرارة تقضي بالخيار إن لم يقبض الثمن، ولا يشترط شيء آخر غيره، فترفع اليد عن الخصوصية في كل منهما، فيكون الشرط هو الجامع بينهما، أي إذا تحقّق أحدهما ثبت الخيار.

والوجه الأول هو الأظهر، وعلى فرض عدم أظهريته، فليس الثاني بأظهر، فيقع التنافي بينهما، ويرجع حينئذٍ إلى الأصل، فالقدر المتيقن من الخروج عن أصل

ص: 280


1- وسائل الشيعة 18/21، ح1.

اللزوم عدم تحقّق قبض الثمن والمثمن معاً.(1)

المناقشة في تحقيق المحقّق الخراساني

ولا بدّ من تعيين أصل المسألة؛ فإن المجعول على المشهور اللزوم، والجواز (والخيار)، وعلى مسلك الشيخ (رحمة الله) الصحة والبطلان، والمسألة من صغريات تعدّد الشرط، واتحاد الجزاء؛ فإن في صحيحة علي بن يقطين(2)، شرط عدم قبض المبيع، وفي صحيحة زرارة(3) و[موثقة] إسحاق بن عمار(4) شرط عدم قبض الثمن، فالحكم واحد وهو الخيار، والشرط متعدد.

هذا هو أصل المسألة، وقد ذكر المحقّق الخراساني (رحمة الله) في الأصول في كبرى هذه المسألة - إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء - أربعة أوجه:

الوجه الأول: أن إطلاق مفهوم كل منهما مقيد بمنطوق الآخر، ونتيجته اعتبار أحد الشرطين لتحقّق الجزاء.

الوجه الثاني: أنه في مثل هذه الحالة لا مفهوم لكلتا القضيتين، فيتحقّق الجزاء بتحقّق أي من الشرطين

الوجه الثالث: أن يتقيّد كل منهما بالآخر بنحو الانضمام، فيكون الشرط اجتماعهما، أي مركب من جزئين.

الوجه الرابع: الشرط هو الجامع [أي كليٌّ ينطبق على كلِّ واحدٍ].

واختار من جهة عرفية الوجه الثاني، لعدم المفهوم في مثل هذه القضية؛ لعدم تعرّضها للنفي، وإنما تقتصر على الإثبات.

ص: 281


1- الحاشية على المكاسب /201.
2- وسائل الشيعة 18/22، ح3.
3- وسائل الشيعة 18/21، ح1.
4- وسائل الشيعة 18/22، ح4.

وأما من جهة عقلية فقد اختار الوجه الرابع؛ فإنه وإن كان مقتضی الظهور أن يكون كل واحد من الشرطين شرطاً مستقلاً؛ إلا أن هذا الظهور ساقط عقلاً؛ لامتناع صدور الواحد من الكثير؛ فإن الواحد لا يصدر إلا من الواحد، فيمتنع ترتّب الجزاء على الخصوصيات المتباينة، فيكون الشرط هو الجامع بحكم العقل.

وما اختاره هنا، مخالف لما اختاره في الكفاية في كلا الوجهين؛ فقد اختار في الكفاية من جهة عرفية عدم المفهوم للقضية الشرطية في مثل هذه الصورة، فيكون تحقّق كل واحد من الشرطين كافياً لترتب الأثر، بينما اختار في المقام كون الشرط عدم قبض الثمن والمثمن معاً.

وهو مخالف أيضاً لما اختاره في الكفاية من جهة عقلية، لأنه اختار فيها كون الشرط هو الجامع، وهو كلي ينطبق على كل واحد، فيخالف كون الشرط هو الجميع.

وأما الحل، فما أفاده من الوجه العرفي مردود؛ لأن مستنده أن مفهوم الشرط إنما يوجد مع كون العلة منحصرة، وفي حال تعدد الشرط لم يحصل الانحصار، فلا مفهوم.

وهو ممنوع؛ لأن كل واحدة من القضيتين الشرطيتين يوجد فيها اقتضاء المفهوم؛ فإن تعليق شيء على شيء يقتضي الثبوت عند الثبوت والانتفاء عند الانتفاء، فإذا تمَّ المقتضي في القضيتين وتعارضا في الأثر كان مقتضى الجمع بينهما إما ب-(أو) أو ب-(الواو)، فيكون الشرط كليهما منضمين أو أحدهما.

وأما الوجه الثاني [العقلي]، فهو مبتنٍ على قاعدة فلسفية، وفيها صیغتان:

الأولى: الواحد لا يصدر إلا من الواحد.

الثانية: الواحد لا يصدر منه إلا واحد.

وهي لو تمّت في محلها لم تتمَّ في ما نحن فيه؛ فإن محلها العلل الطبيعية، أي الفاعل الطبيعي التكويني، فلا يصدر من النار الحرارة والبرودة، كما لا تصدر الحرارة

ص: 282

من النار والماء، وأما ما نحن فيه، فما هو إلا الاعتبار الشرعي، ولا علل فيه، وإنما الموجود الموضوع، وهو ليس بعلة للحكم، والشروط الشرعية موضوعات للأحكام، لا أن الأحكام تترشح منها؛ فإن فاعل الحكم هي إرادة المولى، فلا وجود للمقتضي والمقتضى، ليقال الواحد لا يصدر منه إلا واحد.

وحق المطلب: أن عندنا قضيتين شرطيتين، الأولى ما في صحيحة ابن يقطين: إن قبض المبيع فلا خيار له، ومفهوم الشرط: إن لم يقبض المبيع فله الخيار، وهو مطلق؛ أي سواء أقبض الثمن أم لا.

والثانية ما في صحيحة زرارة، ومدلولها: إن قبض الثمن فلا خيار له، ومفهومها: إن لم يقبض الثمن فله الخيار، أعم من قبض المبيع وعدمه.

والملاحظ أن مفهوم كل منهما معارض لمنطوق الأخرى، وبما أن النسبة بينهما نسبة العموم المطلق، فيحمل العام على الخاص، ونتيجة الجمع بينهما - كما حقق في الأصول - التقييد ب-(أو)، ونتيجة ذلك أنه إذا وقع البيع ولم يقبض الثمن أو المثمن ثبت الخيار، فيكون الشرط في المسألة - بحسب كبرى المسألة وصغراها - وجود أحد الأمرين.

فروع
الفرع الأول: لو كان عدم القبض بامتناع البائع
اشارة

ثم إنه لو كان عدم القبض بعدوان البائع، كأن بذل المشتري له الثمن، فامتنع عن قبضه وعن إقباض المبيع، فهل للبائع الخيار؟

استظهار الشيخ عدم ثبوت الخيار

استظهر الشيخ (رحمة الله) عدم الخيار، واستند في ذلك إلى (أن ظاهر النص والفتوی

ص: 283

كون هذا الخيار إرفاقاً للبائع ودفعاً لتضرّره، فلا يجري فيما إذا كان الامتناع من قبله)(1)

إشكال المحقّق السيّد الخوئي على الشيخ

وأورد عليه المحقّق السيّد الخوئي (رحمة الله) : بعدم إناطة الحكم بالإرفاق بالبائع في الروايات، ومقتضى إطلاقها(2) ثبوت الخيار - على القول بثبوته - ما دام لم يحصل القبض ولو كان عدم القبض بسببه.(3)

التحقيق في المسألة
ومقتضى التحقيق في المسألة أن يقال:

إن كان المستند في ثبوت هذا الخيار هو الإجماع، فبما أنه دليل لبّي، ومخصِّص منفصل لآية ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(4)، لزم الاقتصار في التخصيص على القدر المتيقن، وهو صورة ما إذا لم يكن عدم القبض من قبل امتناع البائع.

ومن الواضح تمامية ما أفاده الشيخ (رحمة الله) بناء على هذا المستند، ولعل هذا مراده (رحمة الله) من قوله: (ظاهر الفتوى).

وإن كان المستند قاعدة (لا ضرر)، فالحال كالسابق؛ لأنها إنما تنفي اللزوم الضرري إذا استند الضرر إلى الشارع، وأما إذا كان مستنداً إلى البائع نفسه، فلا ترفعه.

وإن كان المستند الشرط الارتكازي، بمعنى أن معاملات العقلاء مبنية على أن يُقبض البائعُ المشتريَ المبيعَ، وعلى أن يُقبض المشتريُ البائعَ الثمنَ، فإقباض كل منهما

ص: 284


1- المكاسب 5/221.
2- مراده اطلاق صحيحة علي بن يقطين لما ورد فيها: «ان قبض بيعه وإلا فلا بيع بينهما». [وسائل الشيعة 18/22، ح3]. ويرد عليه: «لا يكون للبائع داع إلى عدم قبض الثمن غالباً، ولهذا ظاهر السؤال عدم إقباضه المبيع مع عدم دفع المشتري الثمن»، راجع إرشاد الطالب 6/218.
3- مصباح الفقاهة 7/11؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 39/12.
4- سورة المائدة /1.

الآخر، شرط ضمني في المعاملة، ومتی تخلّف أحدهما عنه كان للآخر الخيار، فالحق مع الشيخ (رحمة الله) أيضاً كما هو واضح.

وإن كان المستند الأخبار، فبعد وضوح أن التمسك بالإطلاق يتوقف على عدم القرينة، وعدم ما يحتمل القرينية، ولا عبرة باحتمال القرينة؛ فإن الإطلاق يرفعه.

نقول: إن الخيارات، من حيث المستند على قسمين: ارتكازية، وتعبدية، فالارتكازية كخياري الغبن والعيب؛ فإن المعاملات العقلائية مبنية على عدم التفاوت الفاحش بين الثمن والمثمن، وعلى سلامتهما، فمتى تخلّف أحدهما ثبت الخيار.

والتعبدية كخياري المجلس والحيوان؛ فإن مستندهما الوحيد النصوص، لا المرتكز العقلائي.

وكلا القسمين جعلا لمصلحة صاحب الخيار، والإرفاق به؛ فخيار المجلس جعل للمتبايعين ليتروّى كل واحد في ما انتقل إليه، وفي مصلحته من العقد، ولرفع الغفلة عنه إن كانت، وخيار الحيوان - كما يظهر من روایات صاحب الحيوان المشتري بالخيار ثلاثة أيام(1) - جعل لكي يتروّى المشتري ويتأمل في الحيوان ليعرف عيوبه.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الخيارات الارتكازية؛ فإنها جعلت للإرفاق بصاحبها، فرفقاً بالمغبون لم يجعل البيع الغبني لازماً في حقه، ورفقاً بمن انتقل إليه المعيب لم يجعل البيع لازماً له.

وما نحن فيه، أعني خيار التأخير لم يخرج عن هذه القاعدة؛ فإنما جعل - من ناحية عقلائية، وعطفاً له على سائر الخيارات - إرفاقاً بالبائع؛ لكي لا يقع في شدّة؛ إذ لو كان البيع لازماً، وحرم من ماله، وهو الثمن، وألزم بحفظ مال غيره، وهو المثمن، لوقع فيها، فجعل الخيار له إرفاقاً به، وهذا هو معنى كلام الشيخ (رحمة الله) : (لأن ظاهر

ص: 285


1- وسائل الشيعة 18/22، ح3، صحيحة الحسن بن علي بن فضال.

النص كون هذا الخيار إرفاقاً للبائع).

والحاصل: أن الفحص والتأمل في الخيارات التأسيسية التعبدية، والإمضائية يقتضي أن يكون جعل الخيار في ما نحن فيه إرفاقياً.

ولو تنزلنا عن هذا الظهور، وقلنا بعدمه، فلا أقل أن المعاملة مبنية بحسب الارتكاز العقلائي على أن ينتقل الثمن إلى البائع، والمبيع إلى المشتري، ومتى تخلّف أحدهما عن الإقباض لم تكن المعاملة لازمة؛ بمقتضى السيرة العقلائية القطعية، ومعه لا يعقل انعقاد الإطلاق؛ فإن الإطلاقات ملقاة إلى العرف والعقلاء، فتكون الارتكازات العقلائية قرائن حافة بالكلام، ولا أقل أنها محتملة القرينية، وعلى كلا التقديرين لا ينعقد الإطلاق.(1)

فما أورده المحقّق السيّد الخوئي (رحمة الله) على الشيخ (رحمة الله) غير تام.

الفرع الثاني: لوقبض المشتري المبيع بدون إذن البائع
اشارة

لو قبض المشتري المبيع بدون إذن البائع، مع عدم إقباض الثمن، فهو وإن كان ملكاً له؛ بمقتضى المعاملة الواقعة، و (الناس مسلطون على أموالهم)، إلا أن الشرط الارتكازي عند العقلاء: أن يحجر علی كل واحد من الطرفين من التصرف في ملكه، إلا أن يُقبض صاحبه ما عنده، في قبال ما انتقل إليه.

وكيف كان، ففي ثبوت الخيار أو سقوطه أربعة وجوه، ذكرها الشيخ (رحمة الله) :

الوجه الأول: أن القبض من دون إذن - كالقبض مع الإذن - موجب لسقوط الخيار، لإطلاق الأدلة؛ حيث جعلت الخيار يدور مدار القبض وجوداً وعدم، بمعنى إن لم يحصل القبض فله الخيار، وإن حصل فلا خیار له، سواء أكان القبض بإذنه أم من غير إذنه.

ص: 286


1- قد مرّ وجه عدم الاطلاق في التعليقة السابقة.

الوجه الثاني: أن القبض بلا إذن كلا قبض؛ لانصراف أدلة القبض عنه.

الوجه الثالث: التفصيل بين استرداد البائع للمبيع وعدمه، فإن استردّه كان القبض كلا قبض؛ لعدم تحقّق القبض بقاء، فله الخيار؛ لتحقّق شرطه، وإن لم يستردّه فهو راضٍ بالقبض، فلا خيار له.

رأي الشيخ في المسألة

الوجه الرابع: ما اختاره الشيخ (رحمة الله) من ابتناء هذه المسألة على مسألة ارتفاع الضمان عن البائع بهذا القبض وعدمه.

توضيح ذلك: أن من القواعد المعروفة في الفقه: (أن تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه)، فإذا تلف قبل القبض مطلقاً، فهو من مال بائعه بلا إشكال، ولكن إذا تلف بعد قبضه بدون إذن البائع، فهل يرتفع الضمان عنه أو لا؟ فإن قلنا بارتفاع قلنا هنا بحصول القبض وعدم الخيار، وإن قلنا هناك بعدم ارتفاعه، قلنا هنا بعدم القبض وثبوت الخيار.

والوجه في ذلك: أن المستند في هذا الخيار هو قاعدة نفي الضرر، فإذا قلنا في تلك المسألة بعدم الاعتبار بالقبض بدون إذن، بحيث يضمن البائع المبيع لو تلف، قلنا في هذه المسألة بثبوت الخيار؛ إذ لو لم نقل به الزم تضرّر البائع؛ للحكم بثبوت الضمان عليه لو تلف، ووجوب حفظ المبيع، مع حرمانه من الثمن.

وإن قلنا في تلك المسألة باعتبار هذا القبض، وعدم ضمان البائع للمبيع لو تلف، قلنا في هذه المسألة بعدم الخيار؛ لعدم تضرّره؛ إذ لا ضمان عليه، وأما ضرر حفظه وحرمانه من الثمن فيرتفع بأخذ المبيع مقاصة، وبما أن رأيه في تلك المسألة هو سقوط الضمان، فرأيه في المقام سقوط الخيار.(1)

ص: 287


1- المكاسب 5/221، بشرح وتوضيح من الشيخ الأستاذ (دام ظله) .
المناقشة فيما اختاره الشيخ

وما أفاده الشيخ (دام ظله) يبتني على مقدمات تقدّمت مفصلاً، وهي:

الأولى: أن المبنى في خيار التأخير قاعدة نفي الضرر.

الثانية: نفس قاعدة (تلف المبيع من مال بائعه قبل قبضه) يعدّ ضرراً؛ إذ الفرض عدم حصول التلف لحد الآن.

الثالثة: حفظ المال في عهدة البائع، ونفس الحفظ ضرر.

ومع أخذ هذه المقدمات بعين الاعتبار يظهر تأثيرها في المطلب، ولكن تقدّم منّا أنّا قلنا: بأن نسبة الضرر إلى عدم القبض والإقباض في خلال الثلاثة الأيام، نسبة العموم والخصوص من وجه، فربما يحصل الضرر بالتأخير في خلال هذه المدة، وربما لا يحصل الضرر، فليس كل تأخير ضررياً.

وأما الحكم بالضمان لو تلف قبل القبض، فهي قضية تعليقية؛ حيث علّق الضمان على حصول التلف، وصرف الحكم بذلك لا يعدّ ضرراً عرفاً؛ فإن الضرر - لغة وعرفاً - هو النقص في المال أو الطرف أو النفس، وليس ذلك شيئاً منها، وكذلك حرمانه من الثمن، وعدم وصوله إليه؛ فإنه لا يعدّ ضرراً عرفاً، بل هو عدم انتفاع.

فإذا اخذنا هذه الأمور بعين الاعتبار اتضح بطلان ما أفاده الشيخ (رحمة الله) كبرى وصغرى، هذا أولاً.

وثانياً: أن عمدة ما استند إليه الشيخ (رحمة الله) في المقام هي الروايات، ولو استفيد منها كون الضرر علّة للحكم بالخيار لتمَّ ما أفاده (رحمة الله) ، ولكن غاية ما يستفاد منها كونه حكمة، فلا يفيد.

وثالثاً: أن غاية ما دلّت عليه الروايات هو أن القبض إن تمَّ في خلال الثلاثة الأيام فالبيع لازم، وإلا فالبيع باطل، على مبنىٰ(1)، وغير لازم، على مبنیٰ آخر(2)، ولا

ص: 288


1- مبنى الشيخ الطوسي ومن تبعه.
2- على مبنى المشهور.

تدل على كون الضرر علّة ولا حكمة.

فما أفاده الشيخ (رحمة الله) يتمُّ على احتمال من ثلاثة احتمالات، وهو ما إذا استفید كون الضرر علّة للحكم، وأما إذا استفيد كونه حكمة فالمدار على الإطلاق، كما في باب عدّة المطلقة؛ فإن اختلاط المياه حكمة لا علّة، فالمدار فيها على إطلاق الدليل.

فتحصل إلى هنا:

أنه يرد على الشيخ (رحمة الله) : أن كون الضرر علّة أمر مجهول عندنا، وغاية ما يمكن ادّعاؤه أن الخيار للإرفاق بالبائع، وهذا أصل كلي لجميع الخيارات.

وعلى فرض كونه علّة ثبوتاً، إلا أنه لا دليل عليه إثباتاً، والعلّة ثبوتاً تحتاج إلى بيان إثباتاً، مثل: (لا تشرب الخمر فإنه مسكر)، فإذا ثبت مثله دار الحكم مدار العلة، ولا شيء في النصوص ما يشعر بالعلية، وغايتها استفادة الحكمة.

التحقيق في المسالة

إذا اتضح هذا فليس لنا إلا الرجوع إلى الروايات؛ لمعرفة ما يستفاد منها، فمنها صحيحة علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن الرجل يبيع البيع، ولا يقبضه صاحبه، ولا يقبض الثمن، قال: «الأجل بينهما ثلاثة أيام، فإن قبض بيعه، وإلا فلا بيع بينهما»(1)

وفي الرواية نكات أربع، لا بدّ من ملاحظتها:

الأولى: إن قرئت «قبّض» بالتشديد، كما احتمله عدّة من الأعاظم، فلا أثر للقبض بلا إذن؛ لأن الضمير يعود - حينئذٍ - إلى البائع، فإذا قَبَضَ المشتري المبيعَ بلا إذن البائع لم يتحقّق شرط اللزوم، وهو تقبيض البائعُ للمبيع، فيثبت الخيار.

الثانية والثالثة: إن قرئت «قبَض» بالتخفيف، فربما يقال بتحقّق الشرط؛ لأن

ص: 289


1- وسائل الشيعة 18/22، ح3.

الضمير يعود حينئذٍ على المشتري، فيتحقّق القبض وإن لم يكن بإذن البائع، فلا خيار.

ولكن الحقّ ليس كما يحتمل، وذلك لوجهين:

الوجه الأول: أن المعاملات البيعية تقع مبنية على الشروط الإرتكازية بين العقلاء، فمن الشروط أن يسلّم البائعُ المبيعَ للمشتري في ظرف تسليم المشتري الثمن له، ولم يبنِ البائع على تسليم المثمن ولو لم يستلم الثمن.

وبعبارة أخرى: أن المعاملة مبنية على أن يكون كل واحد من العوضين وثيقة عن العوض الآخر، ولم تبنَ على أن يأخذ المشتري المبيع من دون أن يسلّم الثمن، أو أن يأخذ البائع الثمن من دون أن يسلّم المبيع.

فالشرط الإرتكازي بين العقلاء أن يتحقّق الإعطاء والأخذ من الطرفين، وما لم يحصل ذلك فهو على خلاف الشرط عندهم.

وعليه، فالرواية تنزّل على ما عند العقلاء، وإطلاقها يحمل على الشرط المرتكز عندهم، فهي وإن كانت مطلقة بحسب ظاهرها إلا أنها لا تدلّ إلا على ما عند العقلاء، فلا تشمل قبض المشتري بلا إذن، ومن دون إعطاء الثمن، وحيث لم يتحقّق الشرط يثبت الخيار.

والنتيجة: أن الخيار يثبت على كلا التقديرين في قراءة «قبض»، أي قرئت بالتشديد أو بالتخفيف؛ لأنه لم يتحقّق شرط اللزوم.

الوجه الثاني: أن مقتضى التأمل في روايات الباب يفيدنا بأن هذا الخيار إنما جعل لكي لا يحرم البائع من الثمن، والمشتري من المبيع، فلاحظ قوله (علیه السلام) ، في صحيحة ابن الحجاج: «من اشترى شيئاً فجاء بالثمن ما بينه وبين ثلاثة أيام، وإلا فلا بيع له»(1)

وصحيحة ابن يقطين: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن الرجل يبيع البيع، ولا يقبضه

ص: 290


1- وسائل الشيعة 18/21، ح2.

صاحبه، ولا يقبض الثمن، قال: «الأجل بينهما ثلاثة أيام، فإن قبض بيعه، وإلا فلا بیع بينهما»(1)

وموثقة إسحاق بن عمار: «من اشترى بيعاً، فمضت ثلاثة أيام ولم يجيء، فلا بيع له»(2)

فالمستفاد من مجموعها أن لا يحرم البائع من الثمن، وهذا الشرط المستفاد منها قد تخلّف في فرض المسألة؛ فإن المشتري أخذ المبيع من دون إذن البائع ولم يسلّم له الثمن، فحتى لو قرئت «قبض» بالتخفيف إلا أن الشرط أن يقبض المبيع، وأن يسلّم الثمن، فبما أنه لم يسلّمه لم يتحقّق شرط اللزوم المستفاد من الروايات، فيثبت الخيار للبائع.

فتحصّل أن فقه الحديث يقضي بأن يكون قبض المبيع بإذن البائع وتوأماً مع إقباض الثمن.

الرابعة: سلّمنا الإطلاق في صحيحة ابن يقطين، فيكون مفاد: «فإن قَبَضَ بيعه» أعم من كونه بإذن البائع أو من غير إذنه، ولكنها مقيّدة بما في صحيحة ابن الحجاج؛ فإن فيها: «من اشترى شيئاً فجاء بالثمن ما بينه وبين ثلاثة أيام، وإلا فلا بيع له»(3)؛ فإن مفهومها: (من اشترى شيئاً ولم يجيء بالثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع له)، فيثبت بهذا التقييد الخيار للبائع.

فالنتيجة: أن المستفاد من الروايات أيضاً ثبوت الخيار للبائع فيما لو أخذ المشتري المبيع بدون إذن البائع ولم يسلّم الثمن.

ص: 291


1- وسائل الشيعة 18/22، ح3.
2- وسائل الشيعة 18/22، ح4.
3- وسائل الشيعة 18/21، ح2.
الفرع الثالث: لو مكّن [البائعُ] المشتري من القبض فلم يقبض
اشارة

الفرع الثالث: لو مكّن [البائعُ] المشتري من قبض المبيع فلم يقبضه، فهل يبقى الخيار للبائع؟

رأي الشيخ

قوّى الشيخ (رحمة الله) ابتناء المسألة على ارتفاع الضمان وعدمه، بمعنى أنه لو تلف المبيع بعد التمكين وعدم القبض، فهل على البائع الضمان؛ باعتباره من مصادیق تلف المبيع قبل قبضه، أو لا ضمان عليه؛ لأنه مكّنه منه؟ فإذا اختير بقاء الضمان، فالخيار باقٍ؛ إذ لو لم يحكم له بالخيار للزم تضرّره؛ حيث يضمن لو تلف، ويجب عليه حفظه، مع حرمانه من الثمن.

وإذا اختير في تلك المسألة ارتفاع الضمان عن البائع بمجرد التمكين، فالحكم في هذه المسألة عدم الخيار؛ لعدم تضرّره؛ حيث لا يضمن المبيع لو تلف، والضرر الناشيء من ناحية حرمانه من الثمن يرتفع بالمقاصة بالمبيع، ولا يجب حفظ مال الغير؛ لعدم كونه مال الغير حينئذٍ.

وبما أن الشيخ (رحمة الله) قوّى في تلك المسألة عدم الضمان في صورة التمكين من القبض، فالأقوى عنده هنا سقوط الخيار.(1)

الطريق الأوّل: ورد في السؤال في صحيحة زرارة: الرجل يشتري من الرجل المتاع ثم يدعه عنده(2)، واستظهر مِنْ (يدعه عنده) عدم كفاية التمكين؛ حيث إن البائع مكّن المشتري من المبيع ولم يقبضه، بل تركه عنده، فيثبت الخيار.

واكتفى الشيخ (رحمة الله) في مناقشته بقوله: (فيه نظر)(3).

ص: 292


1- المكاسب 5/222، بتوضيح الشيخ الأستاذ (دام ظله) .
2- وسائل الشيعة 18/21، ح1.
3- المكاسب 5/222.

ولعل وجه النظر هو أن كلمة «يدعه» في مقابل الأخذ، وهي لا تدل على التمكين من قبل البائع.

هذا ما أفاده الشيخ (رحمة الله) بتوضيح منا.

رأي صاحب الجواهر

وأما صاحب الجواهر (رحمة الله) فذهب إلى أن التمكين والتخلية إن صدق عليه القبض، فيسقط الخيار، لأن شرط الخيار عدم القبض، وقد تحقّق القبض.

وإن لم يصدق عليه القبض، فالخيار ثابت؛ لأن موضوع عدم الخيار في الروايات هو القبض، ولم يتحقّق، كما لم يثبت أنَّ التمكينَ جُعِلَ بدلاً عنه، فالأصل بقاء الحق.(1)

التحقيق في المسألة

ومقتضي التحقيق في المسألة [لا بدّ من] النظر في مستند خیار التأخير، والمتصور ثلاثة مبانٍ:

المبنى الأول: قاعدة «لا ضرر»؛ إذ الحكم بلزوم المعاملة - في حال عدم تحقّق قبض المشتري للمبيع، والبائع للثمن - ضرري، وبما أن «لا ضرر» ترفع الحكم الناشئ منه الضرر، فهي تنفي اللزوم، فيثبت الخيار.

المبنى الثاني: الشرط الارتكازي العقلائي؛ فإن المعاملات العقلائية مبنية على أن يسلّم البائعُ المبيعَ للمشتري، وأن يسلّم المشتري الثمنَ للبائع، وعند تخلّف الشرط يثبت الخيار.

المبنى الثالث: النصوص الخاصة؛ فإن المستفاد منها - عند عدم تحقّق قبض

ص: 293


1- جواهر الكلام 24/96 (23/54).

الثمن والمثمن - لزوم المعاملة إلى ثلاثة أيام، وبعدها يكون البيع باطلاً على رأي(1)، وجائزاً على رأي آخر(2)

وأما على مبنى قاعدة نفي الضرر، فالضرر هو ضمان البائع للمبيع لو تلف قبل القبض، وهذا الضمان يدور مدار التمكين وعدمه، فإذا جعل البائع المبيع تحت اختيار المشتري لم يضمن، ولجعله تحت اختياره نحوان:

النحو الأول: أن يجعل البائع المبيع تحت اختيار المشتري بغرض أن يمكّنه من الثمن، فهنا وإن لم يتضرر البائع من جهة ضمان المبيع؛ لأنه مكّن المشتري منه، إلا أنه يتضرر بحرمانه من الثمن، فيثبت له الخيار من هذه الجهة.

النحو الثاني: أن يمكّنه من المبيع، لا بغرض أن يمكّنه المشتري من الثمن، فهنا لا يثبت الخيار للبائع؛ لأنه لا يضمن المبيع لو تلف؛ إذ مكّن المشتري منه، وجعله تحت اختياره، وتضرّره بحرمانه من الثمن لا يوجب الخيار؛ لأنه كان بإقدامه عليه، فلا تشمله قاعدة «لا ضرر».

فمقتضی مبنى قاعدة «لا ضرر» هو التفصيل.

أما إذا كان المبنى الشرط الارتكازي، فغاية ما يستفاد منه تمكین البائعِ المشتري مِنْ المبيع ورفع المانع من أخذه، وتمكين المشتري البائعَ من الثمن، والأخذ والقبض يكون في عهدة الطرف الآخر، ولا يشترط العقلاء أن يقبض كل من الطرفين ما عند الطرف الآخر، وعليه فإذا مكّنه من المبيع، ولم يقبضه المشتري فقد انتفی شرط الخيار، ولا يتوقف على تحقّق القبض [فلا خيار حينئذٍ].

[الطريق الثاني] وأما بناء على الأخبار، ففيها عبارتان:

ص: 294


1- الشيخ الطوسي ومن تبعه.
2- المشهور.

الأولى: القبض، كما في صحيحة ابن يقطين: «فإن قبض بيعه»(1)

الثانية: الإتيان والمجيء، كما في صحيحة زرارة: «حتى آتيك بثمنه؟ قال: إن جاء ما بينه وبين ثلاثة أيام...»(2)

فلو جمدنا على ظاهر العبارتين تعبداً لم يصدقا على التمكين، بل لا بدّ من تحقّق القبض؛ فإن التمكين مقدمة له.

وإن لم نجمد على العبارة؛ باعتبار أن الأخبار ملقاة إلى العرف والعقلاء، فهي منزّلة على المرتكز العقلائي للمتعاملين، إلا أن الشارع أضاف شيئاً تعبّداً كإعطاء المهلة ثلاثة أيام، فيصدقان على التمكين، ويتحقق شرط اللزوم به، فينتفي الخيار.

فإن أحرز كون المراد من القبض هو الاستيلاء الخارجي، فالتمكين غير محقّق له، فيثبت الخيار؛ لكون شرطه المستفاد من الروايات هو عدم القبض.

وإن أحرز أن المراد منه التمكين، فلا خيار؛ لانتفاء شرطه.

وإن تردد الأمر بينهما، ولم يحرز أحدهما كان المورد من موارد الشبهة المفهومية للمخصص؛ لتردده بين الأقل والأكثر؛ إذ يجتمع عدم التميكن مع عدم الاستيلاء الخارجي (القبض)، كما قد يتحقّق التمكين بدون الاستيلاء، والقدر المتيقن الخارج من تحت دليل اللزوم هي الصورة الأولى، أعني ما لو لم يمكّنه من المبيع ولم يقبضه، وأما الصورة الأخرى، وهي ما لو حصل التمكين دون القبض، فيشك في خروجها من تحت عموم دليل اللزوم، فيتمسك به، كما يمكن التمسك بالأصل العملي المفيد للزوم أيضاً.

فالنتيجة: أن الخيار يثبت في خصوص ما إذا أحرز أن المراد من القبض نفس

ص: 295


1- وسائل الشيعة 18/22، ح3.
2- وسائل الشيعة 18/21، ح1.

الاستيلاء الخارجي؛ إذ لم يتحقّق بالتمكين، فيثبت الخيار؛ لثبوت شرطه، وأما في فرض إحراز صدقه على التمكين، وفي صورة تردد أمره بينهما، فلا يثبت الخيار، لانتفاء شرط الخيار في الأول، والتمسك بعموم دليل اللزوم في الثاني.

الفرع الرابع: ما لو قبض بعض المبيع
اشارة

الفرع الرابع: ما لو قبض بعض المبيع، فهل يسقط الخيار؛ لصدق تحقّق القبض، ولو في الجملة، أو لا يسقط؛ لعدم الاعتبار بهذا القبض؟

فيه وجوه ذكرها الشيخ (رحمة الله) وهي:

الوجه الأول: سقوط الخيار؛ لصدق القبض عليه؛ فإن الشرط في الروايات عدم القبض، والمراد منه مطلق القبض، فيرفع بتحقّق القبض في الجملة، نظير السالبة الكلية التي تنتفي بالموجبة الجزئية.

الوجه الثاني: عدم سقوط الخيار؛ لعدم الاعتبار بهذا القبض؛ لأن المأخوذ في الروايات قبض المبيع، وقبض البعض ليس قبضاً له.

الوجه الثالث: تبعیض الخيار بالنسبة إلى المقبوض، أي يسقط الخيار بمقدار المقبوض، ويبقى بالنسبة إلى غير المقبوض؛ لابتناء الخيار على قاعدة نفي الضرر، فبالنسبة إلى المقدار المقبوض لا يكون ضمانه على البائع، فلا ضرر عليه، فيسقط الخيار بالنسبة إليه، وأما بالنسبة إلى غير المقبوض، فلو تلف كان في يده، وضمانه عليه، فلو لم يثبت له الخيار بإزائه لكان ضرراً عليه.(1)

الوجه الرابع: أن البيع على نحوین، فتارة يكون الإنشاء واحداً، والمنشأ متعدداً، كما لو قال: بعتك هذين البيتين، كالأحكام الشرعية المجعولة بنحو القضايا الحقيقية؛

ص: 296


1- هذه الوجوه هي التي ذكرها الشيخ (رحمة الله) في المكاسب 5/222، مع توضيح وشرح الشيخ الأستاذ (دام ظله) .

فإن إنشاء حرمة الخمر واحد، ولكن المنشأ متعدد بتعدد المواضيع.

وأخرى يكون الإنشاء والمنشأ واحداً، كما لو قال: بعتك هذا الفرش.

فإن كان من قبيل الأول يسقط الخيار بمقدار المقبوض، كما لو قبض أحد البيتين دون الآخر؛ فإن الخيار بالنسبة له ساقط، ويبقى الخيار بالنسبة إلى البيت الأخر.

وإن كان من قبيل الثاني، فلا يسقط الخيار، إلا بقبض المجموع.

والإنصاف: أن هذا الوجه لا يخرج عما أفاده الشيخ (رحمة الله) من الوجوه الثلاثة؛ لأن نظر الشيخ (رحمة الله) إلى ما إذا كان الإنشاء والمنشأ واحد.

وظهور الرواية يقتضي الوجه الثاني؛ لأن ظاهر قبض المبيع، الذي أخذ شرطاً لسقوط الخيار، قبضه كله، لا بعضه.

ولو تردّد الأمر في المراد من القبض، هل قبض المبيع كلّه أو بعضه، فالقاعدة تقتضي اللزوم؛ وذلك لأن الأصل في البيع اللزوم، وخصّص منه ما لو لم يقبض المبيع كاملاً، وأما ما لو قبض بعضه فيشك في خروجه من تحت عموم اللزوم، فيتمسك بالعام؛ لكونه من الشك في التخصيص الزائد.

إشكال على المحقّق الرشتي

وهنا ورد في تقريرات المحقّق الرشتي (رحمة الله) : هكذا أفاد شيخنا الأستاذ دام ظله العالي، وقد أوردتُ عليه في مجلس البحث بأن المرجع في المقام دليل الخيار، لا دليل اللزوم، وقبل بيان الإشكال ينبغي لنا التنبيه على أن المورد ليس من صغريات دوران الأمر بين التمسك بالعام أو استصحاب حكم المخصص، فيكون المرجع حال الشك هو العموم؛ إذ لا حالة سابقة عندنا إلا اللزوم؛ حيث إن البيع ما لم يحصل القبض لازم إلى ثلاثة أيام، فلا يوجد مخصّص بالخيار حتى يقال باستصحاب حكمه، ولهذا تفطّن المحقّق المذكور إلى التمسك بدليل الخيار، لا باستصحابه، وبينهما فرق، وبيان إشكاله (رحمة الله) .

ص: 297

أن النص المشتمل على قبض المبيع هو صحيحة علي بن يقطين، وباقي أخبار الباب راجعة إلى الثمن، ومطلقة من هذه الجهة، بمعنى أن موثقة إسحاق بن عمار عن العبد الصالح، فيها: «من اشترى بيعاً فمضت ثلاثة أيام ولم يجئ، فلا بيع له»(1)، ومفادها أن للبائع الخيار بعد الثلاثة الأيام، سواء أقبض المشتري بعض المبيع أم لم يقبض شيئاً، فالمرجع إذا لم يأت بالثمن، وانقضت الثلاثة، هو إطلاق تلك الأخيار، التي هي دليل الخيار، لا دليل اللزوم؛ لأن عموم دليل اللزوم، وهو: ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(2) قد خصّص بالأخبار، والقاعدة عند التردد والشك تقتضي الرجوع إلى إطلاق الدليل المخصِّص، لا إلى دليل العام.

إشكال ودفع

إن قلت: إن تلك الأخبار - وإن كانت مطلقة - إلا أنها مقيّدة بالإجماع على اشتراط الخيار بصورة عدم القبض.

قلت: بأن الإجماع دلیل لبّي، ففي حالة الشك يقتصر في التخصيص على القدر المتيقن، وهو صورة عدم قبض المجموع، فلو قبض الجميع لم يكن للبائع الخيار، وأما لو قبض البعض فمحل شك فيرجع إلى إطلاق دليل الخيار.

والإشكال دقيق جداً، ثم نقل جواب شيخه الأستاذ بجواب متین أيضاً، وحاصله:

جواب المحقّق الرشتي

أن الروايات الواردة - ما عدا صحيحة ابن يقطين - وإن لم تشتمل على لفظ المبيع وقبضه، إلا أنها كلها مشتملة على الثمن، أي أن الخيار مقيّد بما لو لم يأت بالثمن،

ص: 298


1- وسائل الشيعة 18/22، ح4.
2- سورة المائدة /1.

فيأتي البحث فيه أيضاً، أي هل المراد من عدم الإتيان بالثمن أن لا يأتي به بالمرة أو حتى لو لم يأت به كاملاً، بحيث يصدق على عدم الإتيان ببعضه، وإذا تردّد الأمر فيه كان المرجع اللزوم، فلو أتي ببعض الثمن وشك في ثبوت الخيار وعدمه تمسّك بدليل اللزوم.

وإذا ثبت اللزوم في حال عدم قبض بعض الثمن، فبالإجماع المركب يثبت اللزوم في المبيع؛ فإن الإجماع المركب قام على التلازم في الحكم بین المبيع والثمن.

ثم قال (رحمة الله) : هكذا أفاد (دام ظله) ، فافهم.

المناقشة في الدفع

وهذا الجواب مخدوش بثلاثة وجوه:

الوجه الأول: أن هذا الإجماع المركب، يبتني على القول بأصالة اللزوم، في مورد الإجمال والشك في قبض بعض الثمن، هل هو كلا قبض أو كقبض المجموع، أي لأجل التمسك بالإجماع المركب لا بدّ أن نقول: بأن الأصل بعد قبض بعض الثمن هو اللزوم، ثم نقول: وكل من قال به في الثمن قال به في المثمن، فلا بدّ من إحراز أن مبنى الفقهاء في فرض الإجمال، هو أصل اللزوم.

وأصل اللزوم له فردان: الأصل العملي، والأصل اللفظي، وفي كل منهما اختلاف بين الفقهاء، فكيف ينعقد الإجماع؟

بيان ذلك: أما الأصل العملي فتقريبه: أنه في موارد الشك في وجود الخيار، يشك بعد الفسخ في انفساخ العقد وزوال الملكية، والأصل عدم انفساخه وبقاء الملكية.

وهو يتوقف على أمرين:

الأول: أن نقول بحجية أصل الاستصحاب.

الثاني: أن نقول بحجيته في الشبهات الحكمية الكلية.

ص: 299

وفي كل منهما اختلاف؛ فإن حجية الاستصحاب محل خلاف بين الفقهاء، ومن ذهب إلى حجيته اختلفوا في حجيته في الشبهات الحكمية الكلية؛ فإن بعض من ذهب إلى حجيته قال بها في الشبهات الموضوعية، دون الحكمية الكلية، واختلفوا في ذلك أيضاً على مبنيين:

فمنهم من ذهب إلى عدم جريانه في الأحكام الكلية؛ لقصور في المقتضي؛ لأن الروايات الواردة في حجيته مختصة مواردها بالشبهات الموضوعية.

ومنهم من قال: بأن موردها وإن كان هي الشبهات الموضوعية، كما في: «لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت»، إلا أن التعليل الموجود فيها من قبيل: «فإنه لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» يشمل الشبهات الحكمية أيضاً.

ولكن الإشكال من جهة المانع؛ لمعارضة استصحاب المجعول باستصحاب عدم الجعل، كما ذهب إلى ذلك الفاضل النراقي (رحمة الله) .

ومع وجود الاختلاف في أصل المبنى - أعني أصل اللزوم - كيف يمكن انعقاد الإجماع المركب المترتب عليه؟!

وأما الأصل اللفظي، فهو عموم ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1)؛ حيث يقتضي لزوم كل عقد، فلو وجد دليل يدل على الخيار وكان مجملاً، فالمرجع في الفرد المشكوك، هو أصالة العموم.

ونفس هذه المسألة محل بحث وإشكال من جهات، نقتصر على بعضها:

الجهة الأولى: هل الجمع المحلى بالألف واللام يفيد العموم أو لا؟ محل بحث بينهم، فإن كان يفيد العموم، فالمرجع عند إجمال المخصص، ودورانه بين الأقل والأكثر هو العموم في غير القدر الميتقن.

ص: 300


1- سورة المائدة /1.

وإن لم يفد العموم الوضعي، بل يستفاد من الإطلاق، فهنا بحث، هل يرجع إلى إطلاق المطلق في حال إجمال المخصص، ودورانه بين الأقل والأكثر، في غير القدر المتيقن أو لا؟

مقتضى التحقيق عندنا - وإن كان المرجع هو الإطلاق، ولا فرق بينه وبين عموم العام - إلا أن هذا الكلام بعد التحقيق، لا قبله، وغرضنا بیان البحث والخلاف في المسألة.

الجهة الثانية: بعد الفراغ من الجهة السابقة، نقول: بأن الإجماع يتوقف على إحراز عدم تمامية الإطلاق في موثقة إسحاق بن عمار(1) عند فقهاء السلف، وأما لو احتملنا أنهم متوجهون للإشكال، ولكنهم تمسكوا بإطلاق الموثقة، فلا ينعقد الإجماع، ومجرد احتمال ذلك يكفي في سقوط الإجماع.

فالنتيجة: أنه سواء أكان المبنى الأصل العملي أم اللفظي، فالمسألة مورد خلاف، فلا يحرز الإجماع، بل بحسب ما حققناه في الأصول، واخترناه في الجمع بين الروايات يظهر بأن دعوى الإجماع أول الكلام.

الوجه الثاني: أن الإجماع المقبول - على فرض قبوله - إنما هو الإجماع المحصّل لا المنقول؛ فإن الثاني يعدو كونه إخباراً حدسياً عن الإمام (علیه السلام) ، فلا تشمله أدلة حجية الخبر.

[ثم] وعلى فرض تحصيل الإجماع وقبوله، فالحجة هو الإجماع المحقّق لا المعلّق، والتحقيقي لا التقديري، وما صحّحه المحقّق الرشتي (رحمة الله) هو الثاني، لا الأول؛ لأن أساسه أنه إذا وصلت النوبة إلى الشك، فكل من قال باللزوم في الثمن، فهو يقول به في المثمن، وسيأتي البحث نصاً وفتوى في الثمن، فهل استفاد الفقهاء من النصوص قبض

ص: 301


1- وسائل الشيعة 18/22، ح4.

المجموع أو كفاية قبض البعض؟ ولم يطرح عند المتقدمين حالة الشك والإجمال، والشيخ (رحمة الله) لم يطرح في بحث الثمن قبض البعض؛ لأنه استفاد من النصوص قبض المجموع، فيكون الإجماع تقديرياً.

الوجه الثالث: أن المراد من الإجماع المركب المعتبر على فرض قبوله، هو ما إذا وجد قولان ينفيان الثالث، لا ما إذا وجد قولان لا ينفيان الثالث، والموجود فيما نحن فيه هو الثاني، بمعنى أنه يوجد قولان في المسألة فقط؛ أي لا يوجد قول ثالث في المسألة، وهذا لا يضر بوجود قول ثالث فيما بعد، بل كثير من المسائل الفقهية كانت ذات قولين، ثم صارت ذات ثلاثة أقوال أو أربعة، فغاية ما في المسألة أن في المسألة قولين، وعدم وجود قول ثالث فيها لا يضر بالفتوى، ولا ينعقد به الإجماع؛ فإن ما له الأثر هو وجود قولين يتفقان على نفي الثالث.

فالجواب، من المحقّق الرشتي (رحمة الله) غیر ناهض برد الإشكال، فيبقى على قوته.

ص: 302

الشرط الثاني: عدم قبض مجموع الثمن
اشارة

وفي هذا الشرط جهات من البحث:

الجهة الأولى: الكلام في أصل الشرط، وهو بتعبير الشيخ (رحمة الله) : «عدم قبض مجموع الثمن»(1)، فاللزوم لا يتمّ إلا في مورد واحد، وهو حال قبض المجموع، وأما الخيار فيأتي في موردين:

1- ما إذا لم يحصل قبض أصلاً.

2- ما إذا قبض بعض الثمن.

الجهة الثانية: في الدليل عليه، وما استدل به وجهان:

الوجه الأول: ما أفاده الشيخ (رحمة الله) بقوله: (واشتراطه مجمع عليه نصاً وفتوى)(2)

الوجه الثاني: رواية ابن الحجاج قال: اشتريت محملاً وأعطيت بعض الثمن وتركته عند صاحبه، ثم احتبست أيّاماً، ثم جئت إلى بائع المحمل لآخذه، فقال: قد بعته، فضحكت، ثم قلت: لا والله، لا أدعك أو أقاضيك، فقال: أترضى بأبي بكر بن عياش؟ قلت: نعم، فأتيناه فقصصنا عليه قصتنا، فقال أبو بكر: بقول من تحب أن

ص: 303


1- المكاسب 5/222.
2- المكاسب 5/222.

أقضي بينكما، بقول صاحبك أو غيره؟ قلت: بقول صاحبي، قال: سمعته يقول: من اشتری شيئاً فجاء بالثمن ما بينه وبين ثلاثة أيام، وإلا فلا بيع له»(1)

استدل بها العلّامة (رحمة الله) في التذكرة(2)، على أن قبض بعض الثمن كلا قبض؛ باعتبار أن الوارد فيها أنه قبض بعض الثمن، وحكم بثبوت الخيار.

وتنظّر الشيخ(3) (رحمة الله) في ذلك، ولعل وجه تنظّره: ضعف الرواية سنداً ودلالة، أما السند فلوجود الحسن بن الحسين، وأبي بكر بن عياش، ولا توثيق لهما.

وأما الدلالة؛ فلأنها مستندة إلى اجتهاد أبي بكر بن عياش وحدسه؛ حيث إن ما نقله عن الإمام (علیه السلام) : «من اشترى شيئاً فجاء بالثمن»، ففهم منه أنه لا بدّ من المجيء بمجموع الثمن، وما لم يجئ به فلا بيع له، ولا اعتبار باجتهاده.

ولكن ما أفيد في السند يمكن دفعه: بأن الحسن بن الحسين، وإن لم يوثّق(4)، إلا أن الراوي عنه إبراهيم بن هاشم، وهو من القميين الذين لا يروون عن كل أحد، ولا يأخذون بقول كل راوٍ، بل يتشددون في أمره، بحيث امتنعوا من الأخذ عن من يروي عن الضعفاء، كما هو معروف من حالهم، فيشكل طرحه، مع كون إبراهيم بن هاشم الراوي عنه.

وأما أبو بكر بن عياش، فيشكل طرحه أيضاً، مع كون الراوي عنه عبد الرحمن بن الحجاج(5)، الذي عبّر عنه النجاشي بقوله: (وكان ثقة ثقة ثبتاً وجهاً)(6)، وكونه من

ص: 304


1- وسائل الشيعة 18/21، ح2، الباب 9 من أبواب الخيار، صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج.
2- تذكرة الفقهاء 11/73، ذيل مسألة 258.
3- المكاسب 5/222: «وفيه نظرٌ».
4- بل وثقه النجاشي واستثناء ابن وليد رواياته عن أسانيد نوادر الحكمة لمحمّد بن أحمد بن يحيى لا يدلّ على عدم وثاقته ولهذا توقف السيّد الخوئي (رحمة الله) في شأنه بلا وجه.
5- وابن الحجاج يقدر على مسألة الإمام الصادق (علیه السلام) في ذلك مع ما وصفه المفيد، ولو لم تثبت عنده هذه الرواية علّق عليها بأنّه سألها من الإمام (علیه السلام) وانكرها ولم يعلق عليها فتمت الرواية ولذا قال السيّد المحقّق الروحاني «المورد ليس من موارد اجتهاد أبي بكر في مدلول الرواية وتطبيقه على مورد التحاكم كي لا يكون فهمه حجة، بل المورد من موارد النقل بالمعنى الذي هو حجة بلا إشكال، لاستناده إلى الحسن أو ما يقرب منه - كما حقّق في محله - . وذلك لأنه بيّن حكم المسؤل عنه بالنقل عن الإمام (علیه السلام) وهذا ظاهر في أنه ينقل عن الإمام (علیه السلام) ما ينطبق على مورد السؤال، ونقله بهذه الكيفية حجة مع قطع النظر عن عدم وثاقته. وبالجملة، هو ينقل الحكم المطلق عن الإمام (علیه السلام) بما هو مطلق شامل لمورد السؤال، لا أنه ينقل لفظاً ويستفيد الاطلاق منه، فانتبه» [المرتقى إلى الفقه الأرقي - الخيارات 1/389].
6- رجال النجاشي /238.

رجال ابن أبي عمير وصفوان، وقال عنه المفيد: بأنه من الفقهاء والخاصة من أصحاب جعفر بن محمّد (علیه السلام) .(1)

هذا ما يرتبط بكلام الشيخ (رحمة الله) ، ووجه تنظّره، والإشكال فيه، ولكن:

الحق في المسالة

الحق في المطلب تمامية الشرط، والاستدلال عليه بالنصوص؛ فإن المستفاد عرفاً من «إن جاء بالثمن [فيما بينه وبين ثلاثة أيام وإلا فلا بيع له]»(2) هو المجموع، لا البعض؛ إذ لا يصدق على قبض بعض الثمن، قبض الثمن حقيقة، وإطلاق الثمن عليه يحتاج إلى عناية، والشاهد على ذلك صحة السلب عنه، فتقول: قبض بعض الثمن، ليس قبضاً للثمن.

وربما يقال: بما هو الفرق بين هذا الشرط والسابق، بحيث إن الشيخ (رحمة الله) قال في تلك المسألة، في حال قبض بعض المبيع: إن فيها لا ثلاثة وجوه: قبضه كلا قبض،

ص: 305


1- الإرشاد 2/216، قال الشيخ المفيد (رحمة الله) في فصل النص على إمامة الإمام الكاظم (علیه السلام) : فممن روى صريح النص بالإمامة من أبي عبدالله الصادق (علیه السلام) على ابنه أبي الحسن موسى (علیه السلام) من شيوخ أصحاب أبي عبدالله، وخاصته، وبطانته، وثقاته، الفقهاء الصالحين - رضوان الله عليهم ... وعبدالرحمن بن الحجاج...».
2- كما في صحيحة زرارة المروية في وسائل الشيعة 18/21، ح1.

وقبضه كقبض المجموع، وتبعيض الخيار: بالنسبة إلى المقبوض وغيره، بينما لم يذكر في هذه المسألة إلا قولاً واحداً؟

فنقول: إنما قام بذلك؛ لكون دليله في الخيار هو «لا ضرر»، وفي تلك المسألة في حال عدم القبض، ولم يحكم بالخيار، توجد أضرار ثلاثة: ضرر الضمان؛ إذ يكون تلفه قبل القبض من كیس البائع، وضرر حفظ مال الغير؛ لأنه أمانة في يده، يلزم بحفظها، وضرر حرمانه عن ملكه، فإذا قبض بعض المبيع انقسم الضرر، فلا يضمنه كله لو تلف، ولا يجب عليه حفظه، ولا يحرم من ماله؛ لإمكانه التقاص.

وأما في هذه الشرط، فالفرض أنه قبض بعض الثمن، ولم يتمّ قبض المبيع، فالأضرار الثلاثة باقية على حالها.

والحاصل:

أن أصل هذا الشرط تام بمقتضى النص عندنا، والإجماع عند من يری اعتباره في المقام.

مناقشة بعض الأعاظم في دليل هذا الشرط ودفعها

ولكن المحقّق الخوئي (رحمة الله) قال: بأنه لا دليل على اعتبار قبض مجموع الثمن إلا الإجماع، وهو مدركي؛ لاستناده إلى رواية أبي بكر بن عياش، فلا اعتبار به، ولا اعتبار بمستنده؛ إذ على فرض ثبوت وثاقة أبي بكر بن عیاش، لا دليل على حجية فهمه بالإضافة إلى غيره.(1)

وهو غير تام؛ لأن المستند ليس الإجماع، وإنما هو النص؛ لما ذكرناه من أن الوارد في الجملة الشرطية في الرواية: «فجاء بالثمن»، واطلاق الثمن - كإطلاق المثمن - ظاهر في المجموع، لا في البعض، وحمله على بعض الثمن كحمل المثمن على بعضه، خلاف

ص: 306


1- مصباح الفقاهة 7/15؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 39/18.

الظهور الإطلاقي، كما أن العرف في المحاورات العرفية يقولون: أعطيت المبيع، وأخذت الثمن، ويعنون بذلك المجموع فيهما، لا البعض، ولو أعطاه نصفه مثلاً لبيّن ذلك واحتاج إلى قرينة لبيانه.

[نعم] ولو وجد الإجماع لكان مدركياً.

فروع
الفرع الأول: لو قبض الثمن بدون إذن المشتري
اشارة

لو قبض البائع الثمن بدون إذن المشتري، فهل يسقط الخيار؟

رأي الشيخ ودليله

ذهب الشيخ (رحمة الله) إلى التفصيل بين ما لو قبضه بدون حق، كما لولم يعرض عليه المبيع، وأخذ الثمن بلا إذن، وبين ما لو قبضه بحق، كأن عرض عليه المبيع فلم يقبضه [في الاولى ذهب إلى بقاء الخيار وفي الثاني إلى سقوطه].

لو قبض البائع الثمن بدون إذن المشتري وبدون حقّ

أما الأول، فقال: بأن القبض كلا قبض، واستدل عليه بوجهين:

الأول: ظهور الأخبار في اشتراط وقوع القبض بالإذن، في بقاء البيع على اللزوم، ووجه الظهور ورود كلمة «وجاء بالثمن»؛ فإن المستفاد من كلمة «جاء» أن يكون بإذنه.

الثاني: أن قبض الثمن إذا لم يكن بإذن المشتري، لم يجز للبائع أن يتصرّف فيه؛ لأن الثمن وإن كان ملكه، إلا أن الشرط الارتكازي للمتبايعين أن يسلّم كل واحد منهما الآخر ما عنده، فيعطي البائع المبيع للمشتري، ويعطي المشتري الثمن للبائع، في وقت واحد، فإذا لم يعط البائع المبيع للمشتري، لم يكن له حق في التصرّف في الثمن، وكان قبضه بدون إذنه كلا قبض، ولم يتحقّق شرط اللزوم، فلو تلف المبيع كان الضمان

ص: 307

عليه، فيتحقّق الضرر الذي هو ملاك الخيار؛ فإنه يضمن المبيع لو تلف، ويجب عليه حفظه، مع الحرمان من التصرف في الثمن.(1)

إشكال المحقّق الإيرواني على الشيخ

وأورد عليه المحقّق الإيرواني (رحمة الله) : بأن المستفاد من الأخبار، أن موضوع الخيار عدم قبض الثمن، والإذن أمر زائد، فلو حصل جنس القبض خرج عن موضوع الحكم بالخيار، كان ذلك عن إذن أو عن غير إذن.(2)

وهو غير وارد؛ لأن جميع الروايات الواردة في الباب، سواء منها المعمول به عند الفقهاء، كالروايات المتقدمة(3) التي أخذت الشرط المجيء بالثمن إلى ثلاثة أيام، أم الرواية(4) التي أعرض عنها الأصحاب، التي أخذت الأجل شهراً، كلها أخذ فيها المجيء بالثمن، أو الإتيان به والمستفاد منه أن يأتي به، لا أن يؤخذ منه بدون إذنه.

نعم، في صحيحة علي بن يقطين(5)، أخذ القبض، ونسبته إلى البائع أيضاً، ولكنها مجملة من هذه الجهة، فلا تعارض البيّن.(6)

فالنتيجة: أن مقتضى النصوص كون إذن المشتري شرطاً.

إشكال السيّد اليزدي على الشيخ ودفعه

ذهب السيّد الفقيه اليزدي (رحمة الله) أولاً إلى ما أفاده الشيخ (رحمة الله) ، من أن المدار في الأخبار على مجيئه بالثمن، ولا يصدق على القبض من دون إذن المشتري.

ص: 308


1- المكاسب 5/(223-222).
2- حاشية المكاسب 3/187، رقم 384.
3- وسائل الشيعة 18/21، ح1 و 2، و 18/22، ح4.
4- وسائل الشيعة 18/23، ح6، صحيحة علي بن يقطين.
5- وسائل الشيعة 18/22، ح3.
6- ووجه الإجمال من جهة هل أنه قبض مع الإذن أو بدونه؟

ثم رجع عنه فقال: إلا أن يقال بأن المجيء بالثمن طريقي، لا موضوعي، والغرض منه وصول الثمن إلى البائع؛ فإن الغرض في جميع المعاملات وصول المبيع إلى المشتري، ووصول الثمن إلى البائع، ولهذا لو فرض كونه مقبوضاً قبل ذلك، أو في ذمته لا يحتاج إلى شيء آخر من إذن أو غيره.

ولا أقل من الشك في صدق القبض بدون الإذن وعدمه، ومقتضی الأصل حينئذٍ اللزوم.(1)

وهو محل إشكال؛ أما موارد ما استشهد به، كما لو كان مقبوضاً قبل ذلك، فهي خارجة من تحت الروايات تخصّصاً؛ لأن الخيار إنما جعل في ما لو كان الثمن عند المشتري، ولم يأت به إلى ثلاثة أيام، بحيث لو جاء به قبلها لكان البيع لازماً، ولما لم يأت به خلالها فللبائع الخيار، فلا تصلح أن تكون شاهداً على مدّعاه.

وأما ما ذكره من كون الإتيان طريقاً إلى الوصول؛ فنقول: بأن الأصل في العناوين المأخوذة في الروايات أن تكون بنحو الموضوعية، إلا أن يكون العنوان المأخوذ في الدليل، طريقياً من حيث ذاته؛ كما في عنوان العلم واليقين والقطع؛ فإن طریقیتها ذاتية، وأما ما لم يكن كذلك - كالذي نحن فيه - فمقتضى أصالة الموضوعية الجمود على نفس العنوان المأخوذ، وحمله على الطريقية يحتاج إلى قرينة تصرفه عنه، ولا قرينة في المقام.

دفع شبهة أثارها المحقّق النائيني

ثم إن هاهنا شبهة أثارها المحقّق النائيني (رحمة الله) تقتضي ارتفاع الخيار، لا من جهة كفاية مطلق أخذ الثمن أو وصوله كيف اتفق، وإنما من جهة كون قبضه «عدواناً كأنّه

ص: 309


1- حاشية السيّد اليزدي على المكاسب 3/13.

ارتضاء للبيع، فيكون مسقطاً للخيار»(1)

وهي مندفعة؛ بأن إسقاط الخيار من الإيقاعات، فهو من الأمور الإنشائية، وهي - سواء أكانت عقوداً أم إيقاعات - تتوقف على القصد المبرز بالقول أو بالفعل، فإن قصد البائع بأخذ الثمن بلا إذن المشتري إسقاط خياره فيسقط، وإلا فلا موجب لسقوطه.

وأما ما ربما يقال: من أن الإنشاء لا يتحقّق بهذا الفعل المحرم؛ فإن أخذ الثمن بدون إذن المشتري غير جائز، فلا يتحقّق به الإنشاء.

فيجاب عنه: بأن النهي التكليفي في المعاملات بالمعنى الأعم، لا يقتضي فسادها، فالإنشاء نافذ لو كان عن قصد الإسقاط، ولكن كلامنا فيما لو أخذه بدون إذن، ولا قصد بذلك الإسقاط.

فتحصل إلى هنا: أن الحق في المسألة، اشتراط كون القبض بإذن المشتري، وإلا لا يتمّ به سقوط الخيار، والدليل على ذلك وجهان:

الأول: ظهور النصوص - بضم أصالة الموضوعية في العناوين - في أن شرط اللزوم هو المجيء، والإتيان بالثمن، وشرط الخيار عدم المجيء به، وهذه العناوين تعتبر الإذن قطعاً.

الثاني: أن الروايات ملقاة إلى العرف وما عند العقلاء، وبناء العقلاء في معاملاتهم على أن يتحقّق قبض المبيع في ظرف تحقّق قبض الثمن، ومقتضى هذا الشرط الضمني، أن لا يأخذ البائع الثمن بلا إذن المشتري، ولو أخذه بدونه، ولم يسلم له المبيع، كان قبضه كلا قبض.

هذا كله، فيما لو قبضه بلا حق.

ص: 310


1- منية الطالب 3/179.
[الفرع الثاني]: عدم اشتراط إذن المشتري فيما لو قبض البائع الثمن بحق

وأما الثاني(1) وهو ما لو قبضه بحق - كما إذا عرض المبيع على المشتري فلم يقبضه - فاستظهر الشيخ (رحمة الله) عدم الخيار؛ لوجهين:

الأول: عدم دخول هذا المورد في منصرف الأخبار، أي لا إطلاق في هذه الروايات لتشمل ما لو قبضه بحق.

الثاني: عدم تضرّر البائع بالتأخير؛ فإنه حينما يقبض الثمن بلا حق، يكون المبيع في ضمانه، بحيث لو تلف لكان من كیسه، ولا يجوز له التصرف في الثمن، فيكون محروماً منه، فيتضرر بالضمان وبالحرمان.

وأما إذا قبضه بحق، فلا يكون التلف من كیسه، بعد أن عرضه على المشتري ولم يقبضه، ولا يحرم من الثمن بعد أن قبضه بحق، فلا ضرر عليه من جهة المبيع، ولا من جهة الثمن، فلا تجري قاعدة «لا ضرر» في حقه، فلا خيار له.

[الفرع الثالث] لو أخذ البائع الثمن بدون إذن ثم أجازه المشتري

لو قبض البائع الثمن بدون إذن، ثم أجازه المشتري، فهل يكفي في رفع المانع؟ وعلى فرض تأثيرها، فهل هي كاشفة أو ناقلة؟

في المسألة صورتان:

الأولى: أن تكون الإجازة في خلال الأيام الثلاثة، ولا إشكال في كفایتها؛ لأن شرط اللزوم أن يحصل القبض المأذون فيه في خلال الثلاثة، وقد تحقّق؛ فإنه وإن لم يكن القبض عن إذن، إلا أنه قبض مجاز في الثلاثة، فيترتب عليها أثر الإذن؛ لصدق تحقّق قبض الثمن قبل انقضاء الثلاثة برضا المشتري وإمضائه.

الثانية: أن تكون الإجازة بعد انقضاء الأيام الثلاثة، فتبتني كفايتها على كون

ص: 311


1- معطوف على «أما الأوّل» في صفحة 307 من هذا المجلد.

الإجازة كاشفة أو ناقلة، فإن كانت كاشفة فتكفي؛ لأنها تكشف عن حصول الإذن من حين قبض الثمن، كما هو معنى الكاشفة.

وإن كانت ناقلة، فلا تكفي، ويكون القبض كلا قبض؛ لأن الإجازة الناقلة إنما تؤثر من حین وقوعها، والفرض أنها وقعت بعد الثلاثة، وشرط اللزوم حصول القبض المأذون فيه في خلالها، فالنتيجة البطلان على مسلك الشيخ (رحمة الله) ، وثبوت الخيار على مسلك المشهور.

وهنا بحث مع الشيخ (رحمة الله) ؛ فإنه اختار في بيع الفضولي كون الإجازة كاشفة بالكشف الحكمي، بمعنى ترتيب الآثار شرعاً من حين العقد، لا الحقيقي الذي اختاره صاحب الفصول (رحمة الله) ، ولا الانقلابي الذي عليه كثير من المحقّقين، بينما اختار في المقام كونها ناقلة.

ولمعرفة الفرق بين المقامين، لا بدّ من ذكر مقدمة، وهي:

إن الفقهاء قد اختلفوا في صحة العقد على تقدير الإجازة، من جهة كون الصحة على طبق القاعدة، أو على خلافها، بحيث يحتاج إلى الدليل التعبدي، على قولين:

القول الأول: أنه على خلاف القاعدة، بمعنى إن قام الدليل على صحة العقد الملحوق بالإجازة فهو، وإلا فالعقد باطل، والمستند الأساس لهذا القول ما يستفاد من قوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾(1)؛ فإنها تدل على شرطية كون التجارة ناشئة عن التراض؛ فإنها إذا كانت كذلك خرجت من تحت عقد المستثنى منه، ودخلت في عقد المستثنى، والإجازة المتأخرة لا تجعل العقد ناشئاً عن تراضٍ، وعليه فإذا قام الدليل على صحة العقد

ص: 312


1- سورة النساء /29.

بالإجازة المتأخرة، فهو على خلاف القاعدة.

القول الثاني: أن صحة العقد حينئذٍ على طبق القاعدة، وإن لم يوجد دلیل خاص؛ وذلك لأنه يلزم في التجارة وفي العقد حصول أمرين:

الأول: استناد ما وقع إلى مالك العقد - وهو المجيز في المقام -؛ لأن قوله تعالى: ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) خطاب إلى المتعاقدين، كأنه قال: أوفوا بعقودكم، فما لم ينتسب البيع إلى المالك، لم يحصل موضوع الوفاء، فلا يصح أن يخاطب بالوفاء بعقده، وهو لم یكن عقده بعد، وانتساب العقد إلى مالك المتاع، تارة يكون بالأصالة، وأخرى بالوكالة وثالثة بالإجازة.

أما تحقّقه بالأولين فواضح، ووجه تحقّقه بالإجازة هو أن الأمور على نحوين:

ما كان من الأفعال التكوينية، كالشرب والأكل والقيام والقعود، فهذه لا تنتسب إلا إلى من قام بها بالمباشرة، ولا يصح استنادها إلى الرجل القيام وكيله بها، أو إذنه فيها.

وما كان من الأمور الاعتبارية، التي يدور تحقّقها مدار المعتبر، فيتحقّق فيها الاستناد بقيام الوكيل، أو بالإذن والإجازة.

فبناء على هذا، فإن كان الأثر يترتب على قيام الشخص نفسه، فلا اعتبار بإذنه بقيام الآخر، أي أن قيام الآخر لا يكون قياماً له وإن أذن له، وأما إذا كان الأثر يترتب على التعهّد، فالتعهّد وإن صدر من الغير إلا أنه ينتسب إليه بالإذن والإجازة.

ومطلق الأمور العهدية على هذا الوزان، فالبيع الواقع وإن صدر من الفضولي، وهو المسبب ببعت، أو هو الذي اعتبر وأبرز ببعت، إلا أنه ينتسب إلى المالك بعد إجازته، أي بالإجازة يكون البيع الصادر مضافاً إلى المجيز ومنتسباً إليه، فبالإجازة

ص: 313


1- سورة المائدة /1.

يتحقّق موضوع ﴿أَوْفُوا﴾(1)، وهو العقد المضاف.

الثاني(2): رضا المالك بالبيع؛ إذ أخذ التراضي في التجارة، والتصرف في مال الغير بدون رضاه مخالف لقانون: (الناس مسلطون على أموالهم)، فقاعدة السلطنة تقتضي الرضا وكذا: «لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره إلا بطيب نفسه».

ولكن الرضا من الصفات النفسية التي تتعلق بالماضي والحاضر والمستقبل، فالإجازة وإن حصلت متأخرة، إلا أنها تحقّق الرضا بالمعاملة الحاصلة سابقاً، وهو كافٍ.

نعم، الذي لم يحصل، هو كون إنشاء التجارة عن رضا، ومقتضی الجمع بين الأدلة عدم اعتباره، بل المعتبر حصول الرضا بالتجارة.

وعلى هذا، فكلا الأمرين متحقّقان في بيع الفضولي إذا لحقته الإجازة، فتكون صحة بيعه مطابقة لمقتضى القاعدة، بمعنى أنه يحكم عليه بالصحة بنفس آية وجوب الوفاء بالعقود، «ولا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره إلا بطيب نفسه».

وعليه، فإن كانت الإجازة تصحح البيع من حین وقوعها، فالإجازة ناقلة، وإن كانت تصححه من زمان وقوعه، فهي كاشفة؛ لأنها وإن حصلت الآن، إلا أنها من الأمور ذات التعلّق، وبما أنها تعلّقت بالبيع الذي وقع سابقاً، فهي تصحح إسناده إلى المجيز من حین وقوعه.

نعم، الإشكال في أنه، هل ينتسب البيع للمجيز من حين العقد حقيقة، أو من حيث الأثر، أو لا هذا ولا ذاك، بمعنى أن المال يبقى ملك البائع، والثمن ملك المشتري إلى أن تحصل الإجازة، فينقلب من الآن، ولكن الرجوع من السابق، فالأول

ص: 314


1- سورة المائدة /1.
2- غير معتبر عندي كما مرّ في مباحث البيع مراراً. والأوّل وهو الاستناد يكفي في صحة العقود والإيقاعات.

- وهو الكشف الحقيقي - مبنی صاحب الفصول، والثاني - وهو الكشف الحكمي - مبنى الشيخ (رحمة الله) ، والثالث - وهو الكشف الانقلابي - مسلك المشهور.

إذا اتضح هذا، فهل ما ذكر في البيع يأتي في القبض أو لا؟

فنقول: أنه اتضح إلى هنا: أن الأمور الاعتبارية - التي تحقّقها يدور مدار الاعتبار - قابلة للاستناد بالإجازة، ولتعلّق الرضا المتأخر بها، وبما أن من خواص الإجازة صحة تعلّقها بالعقد من حین وقوعه؛ لأن مضمون العقد ملكية الدار لزید مثلاً من حين العقد، وتعلّقت الإجازة بذلك المنشأ يصبح عندنا أمران موافقان للقاعدة:

الأول: صحة عقد الفضولي بنفس العمومات، ك-﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1)

الثاني: كاشفية الإجازة.

وأما الأمور التكوينية، فالأمر على العكس، بمعنى أن صحة الاستناد بالإجازة، والكاشفية كليهما على خلاف القاعدة؛ فإن الأمور التكوينية تنقسم إلى ما يقبل الاستنابة، وما لا يقبلها، والمرجع في تحديد ذلك إلى المرتكز العقلائي، فما يتحقّق عندهم بالمباشرة، وبالتسبيب فهو يقبل الإجازة، فتجري فيه الوكالة، وما لا يقبل إلا المباشرة في القيام به، أي ما لا يصدر بالتسبيب، فلا يقبل الاستنابة، ولا تجري فيه الوكالة، ولهذا كانت التكاليف الشرعية على قسمين، فقسم منها لا يصح الإتيان به الا بالمباشرة كالصلاة، وقسم آخر يمكن أن يؤتى به بالنيابة كعيادة المريض.

والقبض ليس من الأمور الاعتبارية، بل من الأمور التكوينية، التي تقبل الاستنابة، وتتحقّق بالتسبيب، فيتمّ الاستناد بالإذن والوكالة(2)، ولهذا أمكن في الحقوق

ص: 315


1- سورة المائدة /1.
2- أشار هنا شيخنا الأستاذ (دام ظله) إلى الفرق الفقهي بينهما؛ فإن الإذن من الإيقاعات، والوكالة من العقود، ولكل منهما أحكام تخصه.

الشرعية أن يقبضها نفس صاحب الحق بالمباشرة، وأن يقبضها وكيله، وفي الحالين تبرأ ذمة من عليه الحق، ويكون القابض بنفسه أو بوكيله مالكاً؛ لأن سهم السادة مثلاً ليس ملكاً للأشخاص، وإنما هو ملك أو مصرف للطبيعي الجامع بين اليتيم والمسكين وابن السبيل من الهاشميين، وهو غير قابل للإعطاء والأخذ، فيسلّم إلى مصداقه، فإذا أعطي له وقبضه صار مالكاً، على الخلاف أيضاً كما في محله.

وسهم الإمام (علیه السلام) من هذا القبيل، فهو مال الإمام (علیه السلام) ، ولكن الولاية عليه في عصر الغيبة للحاكم الشرعي، فإذا قبضه هو أو وكيله أو المأذون من قبله برأت ذمة المكلَّف.

والحاصل: أن القبض من الأمور التكوينية القابلة لتحقّقها بالتسبيب، فيمكن فيها الاستناد بالنيابة والإذن، فهل يمكن فيها الاستناد بالإجازة؟

نقول: نعم يمكن، فلو قبض الفضولي حقاً لذي حق، ثم أجازه صاحب الحق استند القبض إليه، وإنما الكلام في مجيء بحث الكاشفية والناقلية هنا أيضاً وعدم مجيئه.

أما النقل، فلا إشكال فيه أصلاً، فلو أجاز صاحب الحق في المثال المتقدم ترتّبت الآثار من حين الإجازة بلا إشكال، وإنما البحث في الكاشفية، بحيث يترتب الأثر من حين القبض.

والحق أن حدّ الإجازة تحقّق الاستناد من حينها، لا من حين حصول المجاز، ولهذا التزم الشيخ (رحمة الله) في بيع الفضولي بالكشف الحكمي، وقال بترتب الأثر من زمان المجاز، وأما في المقام فقال بترتب الأثر من حين الإجازة، والتزم بالنقل.

والسر في ذلك: أن البيع من الأمور الاعتبارية، ومقتضى ذات الإجازة والمجاز، التحقّق من حین وقوع المجاز، وأما القبض فهو من الأمور التكوينية، إلا أنه من الأمور القابلة للاستناد بالإذن والإجازة؛ بمقتضی المرتكزات العقلائية، ولكن من

ص: 316

حين تحقّقها، لا من حين تحقّقه.

ويترتب على ذلك:

أنه لو قبض البائع الثمن في أثناء الثلاثة، وأجازه المشتري بعد انقضائها، فلا أثر لهذه الإجازة؛ لأنه حين القبض لم یكن مأذوناً فيه، وبعد الإذن انقضت الثلاثة، وليست الإجازة كاشفة، لتكشف عن تحقّق القبض أثناءها، فالقبض كلا قبض، ويبقى الخيار للبائع [إلى هنا توضيح كلام شيخنا الأنصاري (قدس سره) ].

بيان آخر للمحقّق النائيني لعدم كاشفية الإجازة

وقد أفاد المحقّق النائيني (رحمة الله) وجهاً آخر لعدم كاشفية الإجازة، وهو يتوقف على بيان مقدمة وهي:

أن موارد تعلّق الإجازة تنقسم إلى أربعة أقسام:

الأول: المعاملات المعاوضية، كالبيع والصلح.

الثاني: ما كان من قبيل الجعالة والمضاربة.

الثالث: العقود الإذنية المتقومة بالإذن كالوكالة والوديعة والعارية.

الرابع: العقود في موارد كون العين متعلّقةً لحق الغير، كبيع العين المرهونة بدون إذن الدائن.

والإجازة في كلها ناقلة ما عدا قسماً واحداً، وهو الأول.

وما نحن فيه من قبيل بيع العين المرهونة؛ فإن الإجازة في جميع موارد تعلّق الحقوق مثبتة، لا كاشفة، بمعنى أنها تؤثر في رفع المانع من حين وقوعها، لا من حين وقوع العقد، والذي اختاره الفقهاء - بما فيهم المحقّق الثاني، مؤسس بحث كاشفية الإجازة - في بيع العين المرهونة، هو عدم كاشفية الإجازة.

وأقوى ما استدلوا به على ذلك: أن بيع الفضولي يجب أن يكون تام الأجزاء والشرائط، وفاقداً لجميع الموانع من غير جهة استناده إلى المالك، ووظيفة الإجازة أن

ص: 317

تحقّق الاستناد، فيتمّ البيع، وأما لو كان البيع فضولياً، والمبيع مجهولاً مثلاً، ثم أجازه المالك، فلا يمكن أن تكشف هذه الإجازة عن صحّته من حين الوقوع؛ لفقده للشرط من غير جهة الاستناد.

والفرض في مورد بيع العين المرهونة، أن البائع مالك للمبيع، فلا ينقص البيع شرط الاستناد؛ لصدوره من أهله، فلا أثر للإجازة من جهة الاستناد، وإنما المانع من صحة البيع كون المبيع متعلَّقاً لحق الرهانة، وإجازة صاحب الحق ترفع المانع من حین وقوعها، لا من زمان العقد.

وهذه هي القاعدة في باب الفضولي لتمييز الموارد، فكل مورد يكون فيه النقض من جهة الاستناد إلى المالك فقط، فالإجازة تصحح الاستناد في الأمر الاعتباري من حين تحقّق العقد.

وكل مورد يفقد شرطاً، أو يوجد فيه مانع، من غير جهة الاستناد، فالإجازة لا أثر لها إلا من حين وقعها.(1)

وما نحن فيه من قبيل القسم الأخير؛ حيث إن البائع إنما قبض ماله، غايته للمشتري حق الحبس؛ لعدم أخذه المبيع، فقبضه بدون إذن منه منافٍ لحقّه الثابت فيه، فيكون من قبيل تصرّف المالك في العين المرهونة. فتأمل ولا تغفل.

أقول: إن أصل البحث هو أن شرط اللزوم في البيع أن يقبض البائع الثمن في الثلاثة الأيام بإذن المشتري، وشرط الخيار عدم قبضه بإذنه فيها، والفرض أن البائع قبض الثمن في الثلاثة بدون إذن المشتري، ثمّ أجازه المشتري بعد انقضائها.

ومحل الإشكال: أن البائع قبض ماله؛ إذ بعد حصول البيع انتقل الثمن إلى البائع، والمثمن إلى المشتري، فلا إشكال من جهة الاستناد، ولكن هذا القبض على

ص: 318


1- منية الطالب 3/(182-180).

خلاف المرتكز العقلائي؛ فإن ارتكاز العقلاء في المعاملات البيعية أن يعطي البائع المبيع للمشتري في ظرف قبضة الثمن منه، وقد تخلّف هذا الشرط، والإجازة المتأخرة لا تجعل فاقد الشرط واجداً له، ولا واجد المانع فاقداً له.

وعلى هذا الأساس ذهب الفقهاء حتى المحقّق الكركي (رحمة الله) في جميع هذه الموارد إلى تأثير الإجازة من حین وقوعها.

وبعبارة فنية: ذهبوا إلى أن الإجازة مثبتة، لا كاشفة، فيكون حكمها حكم الناقلة.

هذا، غاية ما عندهم من التحقيق في المسألة، ولكن لا يمكننا المساعدة عليه، مع ما عليه من القوة والإحكام؛ وذلك:

أما بالنسبة إلى المقيس عليه - وهو بيع العين المرهونة - فلأن مستنده وجهان:

الأول: رواية: «الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرف»، وهي مرسلة، لا سند لها، غير قابلة للاستناد في الفتوى.(1)

الثاني: الإجماع، وهو العمدة، وهنا مبنيان:

1- من يرى بأن الإجماع مدركي، فلا يعتمد عليه، فيقول بصحة بيع العين المرهونة، فتنتقل إلى المشتري متعلَّقة لحق الرهن، وعليه لا موضوع للبحث.

2- من يعتمد على هذا الإجماع، والإجماع دليل لبي، والأصل فيه أن العين المرهونة متعلقة لحق المرتهن، وهذا البيع تصرف في متعلّق الحق، وتعلق الحق مانع كما ذكرنا، وعندما يكون المانع من صحة البيع تعلق الحق، فحد دليله ما إذا لم يأذن به إذناً مقارناً، ولا لحقته إجازة متأخرة، وأما ما عداه فلا إطلاق يدل على بطلان التصرف

ص: 319


1- مستدرك وسائل الشيعة 13/426، ح6، الباب 17 من أبواب كتاب الرهن، نقلاً عن ابن أبي جمهور الأحسائي في درر اللآلي 1/368: عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ، أنه قال: الراهن والمرهون ممنوعان من التصرف في الرهن».

فيه.

وأما بالنسبة إلى ما نحن فيه، من اعتبار الإذن في قبض الثمن، فالمستند الأساس فيه هو الشرط الإرتكازي عند العقلاء؛ فإن المعاملات البيعية الدائرة بينهم، مبنية على أن يعطي البائع المبيع للمشتري بعد تحقّق البيع، في ظرف تسلّمه الثمن من المشتري، وكذلك العكس، فما لم يسلّم البائع المبيع، لا إذن له بقبض الثمن، فيكون الإذن شرطاً.

وأما الروايات، فهي ملقاة إلى العقلاء، فلا ينعقد فيها الإطلاق، كي يقال بشمولها إلى حال عدم الإذن في القبض؛ فإن المرتكزات العقلائية حافة بالكلام، فيتسع أو يضيق بقدرها، وأما شمولها إلى ما لو لم يأذن بالقبض حاله، وأجازه بعد ذلك، فلا؛ لعدم الإطلاق، ولم يقم الإرتكاز العقلائي على البطلان في هذه الصورة؛ فإن الشرط الضمني عندهم أن يأذن حال القبض، أو يجيز بعده، فيكتفون بالإجازة اللاحقة.

ونتيجة ما ذكرناه: أن الحكم بصحة القبض الملحوق بالإجازة على طبق القاعدة؛ إذ بمجيئها ارتفع المانع من الأوّل، ومع ارتفاعه من الأوّل يصح القبض من حين وقوعه.

فما أفاده المشهور وإن كان قوياً إلّا أن ما ذكرناه غير قابل للرد.

هذا كله من ناحية الظهور، ولا أقل - بعد ملاحظة الإرتكاز العقلائي - من الشك في كون القبض الملحوق بالإجازة كلا قبض أو لا؟

أو فقل: هل الخيار بعد القبض الملحوق بالإجازة ثابت أو لا؟

فنقول: إن المرجع حينئذ هي أصاله اللزوم؛ لكون الدليل المخصص مجملاً، فلم يثبت إطلاقه.

فتحصّل: أن إجازة القبض كالإذن فيه، فيكون مسقطاً للخيار، فنخالف في ذلك القوم؛ استناداً للأصل اللفظي والعملي.

ص: 320

الشرط الثالث: عدم اشتراط تأخير تسليم أحد العوضين عن الثلاثة

وعلله الشيخ(1) (قدس سره) بان المتبادر من النص غير هذه الصورة. وقد بُيِّنَ وجه الانصراف بان ظاهر قوله: «ولم يجيء»(2) هو عدم المجيء فيها من شأنه ان يجيء بالثمن، فالتقابل الملحوظ تقابل العدم والملكة. فاذا كان عدم المجيء بالثمن لأجل الاشتراط فليس ذلك تأخيراً لما من شأنه أن لا يؤخر.

هذا بالنسبة الى تأخير الثمن مع الشرط، وأما بالنسبة إلى تأخير المبيع مع الشرط، فلأن قوله: «ثم يدعه عنده فيقول آتيك بثمنه»(3) ظاهر في أن ترك المبيع عند المشتري بطبعه من جهة تأخيره ثمنه لا انه ملزوم به اشتراط البائع تأخير تسليمه سواء سلّم الثمن أم لا.

وأما قوله: «فان قبّض بيعه»(4) فان محطّ النظر هو مفهومه أعني: «فان لم يقبضه...».

ومن الواضح ان المراد به وبعدم الاقباض الوارد في الصدر هو التأخير لا عن

ص: 321


1- المكاسب 5/223.
2- وسائل الشيعة 18/22، ح4، موثقة إسحاق بن عمار.
3- وسائل الشيعة 18/21، ح1، صحيحة زرارة.
4- وسائل الشيعة 18/22، ح3، صحيحة علي بن يقطين.

اشتراط وإلا لما كان، وجه للسؤال والحيرة إذا فرض انه قد اشترط تأخير المبيع، فإنتبه.

ثم إن الشيخ (قدس سره) ذكر في مقام تقريب هذا الشرط «بأنه في الجملة إجماعي»(1)

والذي يريد بقوله: «في الجملة» هو عدم ثبوت الخيار في زمان الشرط بالاتفاق، فان من اثبته مع شرط التأخير انما اثبته فيما بعد انقضاء الشرط. فعدم ثبوت الخيار عند شرط التأخير ثابت بالاجماع في الجملة. فانتبه.

ثم إنه لا بدّ من التنبيه على شيء وهو: ان الالتزام بهذا الشرط في خيار التأخير يلازم لغويته بالمرة.

وذلك لان غالب المعاملات العرفية المهمة وغيرها لا يخلو من شرط ارتكازي ضمني يدل عليه ظاهر الحال أو بعض المناسبات، يرجع الى شرط تعجيل الثمن أو المثمن أو تأخيرهما.

ففي مثل شراء الدواء للمعالجة يكون ظاهر الحال اشتراط تعجيل تسليم المبيع، وفي مثل بيع حاجة لأجل دفع ضرورة عاجلة ظاهر في اشتراط تعجيل تسليم الثمن، وفي مثل شراء دار ظاهر في صحة التأخير أكثر من ثلاثة ايام من ناحية الثمن والمثمن.

ومن الواضح انه مع ثبوت هذا الشرط الضمني الارتكازي، لا موضوع حينئذٍ لخيار التأخير، اذ مع اشتراط التعجيل ضمناً لا مجال للامهال ثلاثة أيام بل يثبت الخيار عند مجرد التأخير، فلا معنى للسؤال عن حكم التأخير عن ثلاثة أيام والحيرة فيما يثبت له، فالاخبار منصرفة عنه. ومع اشتراط التأخير عرفت انه لا ثبوت للخيار لانه منصرف النصوص.

والمفروض ان غالب المعاملات تشتمل على هذا الشرط. ومن المقطوع بعدمه تكفل نصوص خیار التأخير حكماً تعبدياً يرجع إلى عدم الاعتناء بالشرط الضمني.

ص: 322


1- المكاسب 5/223.

وعليه، فلا يبقى مورد لخيار التأخير إلا نادراً، ومن هنا نستطيع ان نقول ان مضمون هذه النصوص خصوصاً بعد ظهورها بدواً في نفي الصحة(1)، مما يرد علمه إلى أهله. فالتفت.(2)

ص: 323


1- والمختار ظهورها في الخيار لافي نفي الصحة.
2- أقول: في موارد عدم الشرط الضمني الارتكازي وعدم اشتراط التعجيل يجري خيار التأخير وموارده ليس بنادر خلافاً لما ذكره المحقّق الروحاني (قدس سره) . وكذلك فيهما بعد مضي الشرط.
الشرط الرابع: أن يكون المبيع عيناً أو شبهه

أن يكون المبيع عيناً أو شبهه - كصاع من صبرة - وقد التزم الشيخ(1) (قدس سره) بهذا الشرط لوجوه ثلاثة:

الأول: ما ذهب إلى استفادته من كلمات العلماء من أن هذا الشرط إجماعي. وحاول دفع جميع ما يحاول به نفي الاجماع.

الثاني: عدم تأتي قاعدة نفي الضرر بلحاظ ضمان المبيع قبل القبض، فان ذلك انما يتأتى بالنسبة إلى المبيع الشخصي، إذ هو المضمون على البائع قبل القبض ولا يجوز له التصرف فيه فيثبت له الخيار دفعاً للضرر، ولا يتأتى بالنسبة إلى المبيع الكلي، كما لا يخفى.

الثالث: ظهور النصوص في كون الموضوع خصوص المبيع الشخصي.

أما روايتا(2) ابن يقطين وابن عمار فقد اشتملتا على لفظ: «البيع»، وقد عرفت انه بمعنى المبيع. واطلاق المبيع قبل تحقق البيع لا بدّ ان يكون بملاحظة معروضيته للبيع، وهو انما يتصور في الاعيان الشخصية ، إذ هي القابلة للعرض لاجل البيع دون الكلي.

ص: 324


1- المكاسب 5/223.
2- وسائل الشيعة 18/22، ح3 و 4.

وأما رواية زرارة(1)، فقد اشتملت على لفظ المتاع وهو ظاهر في المبيع الشخصي، كما اشتملت على لفظ «يدعه عنده» وهو انما يتصور في المبيع الشخصي.

وأما رواية ابوبكر بن عياش(2)، فهي وان اشتملت على التعبير ب-«من اشترى شيئاً» وهو مطلق الكلي والمعين، إلا ان الظاهر من لفظ الشيء الموجود الخارجي كما يقال «اشتريت شيئاً» اذ لا يعبر به عن شراء الكلي.

هذا ملخص ما ذكره الشيخ (قدس سره) في المقام. وقد خالفه الاعلام المحشون(3) قدس سرهم وذهبوا إلى عموم الحكم لصورة بيع الكلي أيضاً وتصدوا لمناقشة جميع هذه الوجوه، وملخص ما قيل في وجه مناقشتها:

أما الاجماع، فبعدم ظهور ذلك من كلمات الكل خصوصاً وان الشهيد في الدروس(4) نسب إلى خصوص الشيخ (رحمة الله) تقييد هذا الخيار بشراءٍ معين، فانه ظاهر في عدم فهمه التقييد من كليات العلماء غيره.

وأما قاعدة نفي الضرر، فهي وان لم تنطبق بلحاظ الضرر الحاصل من قبل ضمان المبيع لعدم الضمان في الكلي. ولكن ضرر تأخير الثمن بعد استحقاقه له بالملك لا يرتفع في بيع الكلي، فيمكن تطبيق قاعدة نفي الضرر بلحاظه واثبات الخيار بها.

ودعوى: ان ضرر تأخير الثمن إنما هو بلحاظ حبس البائع عن التصرف في المبيع المقابل له، وهذا انما يكون في بيع الشخصي دون الكلي اذ البائع مطلق العنان في التصرف في جميع أمواله، فتأخير الثمن يكون فواتاً للنفع لا ضرراً.

ص: 325


1- وسائل الشيعة 18/21، ح1.
2- وسائل الشيعة 18/21، ح2.
3- كالسيّد الطباطبائي في حاشيته 3/16؛ والمحقّق الاصفهاني في حاشيته 4/363؛ والمحقّق الإيرواني في حاشيته 3/191.
4- الدروس الشرعية 3/273.

تندفع: أن الثمن بعد ان صار ملكاً للبائع بواسطة البيع فحبسه عنه حبس له عن التصرف في ملكه وحرمانه منه وهو ضرر بلا إشكال، لأنه نقص يرد عليه.

نعم، قبل تملكه یكون فوات الثمن فوات نفع وليس بضرر، فانتبه.

وأما النصوص، فروایتا ابن يقطين وابن عمار يمكن أن يراد بلفظ «البيع» فيهما معناه المصدري لا المبيع فيكون مفعولاً مطلقاً، كما يقول من عامل معاملة أو تاجر تجارة ونحو ذلك. ولو فرض أن المراد بالبيع المبيع، فإطلاقه قبل تحقّق البيع يمكن أن يكون بمناسبة الاُوْل والمشارفة لا المعروضية للبيع، فيعم الكلي حينئذٍ، ولو سلم ارادة المعروضية للبيع.

وأما رواية زرارة، فلا ظهور للمتاع في الشخصي، كما لا ظهور لقوله: «یدعه» في ذلك، إذ يصدق على عدم قبض الكلي وتركه لدى البائع أنه يدعه عنده .

وأما رواية أبي بكر بن عياش، فالشيء وان كان يساوق الموجود لكن لا ظهور له في ارادة الموجود الخارجي، بل يعم كل موجود ولو كان موجوداً في الذمة، كالكلي، لأنه يعتبر في الذمة كما أشرنا إليه سابقاً، فيقال له بهذا الاعتبار أنه شيء، ويصح أن يعبر عن شراء الكلي بشراء شيء.

وبالجملة، فيما أفاده الشيخ (قدس سره) لا يمكن الإلتزام به، فالصحيح هو التعميم لمطلق موارد البيع شخصياً كان المبيع أم كلياً.

ص: 326

الشرط الخامس: عدم الخيار لها أو لأحدهما

وحكي عن التحرير(1) أنه قال: «وكذا لا خيار للبائع لو كان في المبيع خیار لأحدهما». والأقوال التي أشار إليها الشيخ (قدس سره) في هذا الشرط أربعة:

الأول: إشتراط عدم الخيار مطلقاً لها أو لأحدهما [كما هو ظاهر التحرير].

الثاني: إشتراط عدم الخيار لخصوص البائع، فالخيار الثابت للمشتري لا يمنع من خيار التأخير. [اختاره السيّد بحرالعلوم في المصابيح(2) والسيّد العاملي(3) وشارح الخيارات(4) وصاحب الجواهر(5)].

الثالث: إشتراط عدم خصوص خيار الشرط لأحدهما. [كما هو ظاهرالسرائر(6)].

الرابع: نفي إشتراط عدم الخيار لأحدهما بقول مطلق ومرجعه الى إنكار الشرط

ص: 327


1- تحرير الاحكام الشرعية 2/289.
2- نقل عنه في هدى الطالب 11/379.
3- مفتاح الكرامة 14/255.
4- شرح الخيارات /101.
5- جواهر الكلام 24/98 (23/50).
6- السرائر 2/277.

الخامس بالمرة وهو مختار الشيخ (قدس سره) .

أما القول الأول: فقد وجهه بما حاصله: أن ذا الخيار يكون له حق تأخير الثمن أو المثمن ولا يلزمه التسليم، وقد تقدم أن الأخبار الدالة على خيار التأخير منصرفة عما إذا كان التأخير بحق، كموارد اشتراط التأخير، بل موضوعها ما إذا كان التأخير لغير حق. فثبوت الخيار بمنزلة اشتراط تأخير أحد العوضين. واستشهد على ذلك بما ذكره العلّامة في التذكرة(1)

وبالجملة ، هذا الوجه مركب من مقدمتين:

إحداهما: جواز تأخير الثمن إذا كان الخيار للمشتري وجواز تأخير المثمن إذا كان الخيار للبائع، فان ذلك من أحكام الخيار.

والأخرى: انصراف الأخبار الدالة على خيار التأخير عن صورة ما إذا كان التأخير عن استحقاق لا عن ظلم وتعدٍ.

والذي يظهر من الشيخ (قدس سره) توقفه في كلتا المقدمتين. والوجه في ذلك... .

أما المقدمة الأولى: فلأن الثابت في باب الخيار هو سلطنة ذي الخيار على حلّ العقد بإعمال حق خياره، أما جواز حبسه الثمن أو المثمن فلا دليل على جوازه بعد دخول كل منهما في ملك الآخر، فلا يقتضي الخيار السلطنة عليها مادام العقد ثابتاً.

وأما المقدمة الثانية: فقد يتخيل أن الاستشكال فيها ينافي ماتقدم منه من الالتزام بعدم الخيار عند اشتراط تأخير أحد العوضين بدعوى إنصراف الأخبار عن صورة كون التأخير بحق، إذ التأخير فيها نحن فيه بحق أيضاً.