الآراء الفقیهة-قسم الخیارات1- المجلد 10

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: النجفي، هادي، 1342 -

عنوان واسم المؤلف: الاراء الفقهیة/ تالیف هادي النجفي.

تفاصيل المنشور: اصفهان: مهر قائم، 1400.

مواصفات المظهر: 3 ج.

شابک : 0 20000 ریال: دوره: 978-964-7331-77-7 ؛ ج. 1: 978-964-7331-74-6 ؛ ج. 2: 978-964-7331-75-2 ؛ ج. 3: 978-964-7331-85-2

حالة الاستماع: فاپا/الاستعانة بمصادر خارجية.

لسان: العربية.

ملحوظة: ج. 2 و 3 ( الطبعة الأولى: 1429ق. = 1387).

ملحوظة: فهرس.

موضوع : المعاملات (فقه)

موضوع : خیار العیب

موضوع : فقه جعفري -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP190/1/ن3آ4 1387

تصنيف ديوي: 297/372

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1245417

ص: 1

اشارة

ص: 2

صورة

تقريظ المرجع الديني آيةالله العظمى الشيخ محمّد الرحمتي السيرجاني (دام ظله) بخطه الشريف

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تمهید

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على نبيّنا نبي الرحمة محمّد رسول الله وعلى أهل بيته الأخيار لاسيّما على الحجة الثاني عشر صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، واللعنة الدائمة الأبدية السرمدية على أعدائهم ومخالفيهم ومنكري فضائلهم وحقوقهم.

أمّا بعد فقد فرغتُ من تحرير مسائل البيع في ست مجلدات وآن وقت الشروع في مباحث الخيارات بعون الله الملك العلّام فأقول حامداً شاكراً مصلِّيّاً:

قبل الورود في البحث لابدّ من التنبيه على مقدمات:

ص: 5

ص: 6

فصل: الخيار أقسامه وأحكامه

اشارة

ص: 7

ص: 8

المقدمات

المقدمة الأولى: هل تعريف الخيار من قبيل شرح الاسم؟

ذهب المحقّق الخراساني (قدس سره) في الكفاية(1) أنّ غالب التعريفات من قبيل شرح الاسم ويُعدّ من التعريفات اللفظية نحو: سعدانة نبت. «فهل تعريف الخيار من هذه القبيل؟ فلا يهم التعرض إليه أو لا، بل له ثمرة عملية فيهم التعرض إليه؟

هذا، مع أنه قد اشتهر أنه لا مشاحة في الاصطلاح، فالتعرض للتعريف الاصطلاحي ومناقشته قليل الجدوى.

الحقّ أنه لابدّ لنا من إيقاع البحث في مفهوم الخيار وتحديد معناه، إذ قد وقع بهذا العنوان في لسان الأدلة، فيترتب على تحديده أثر عملي.

فلابدّ من معرفة المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي، وهل بينهما ارتباط ومناسبة أم لا ارتباط بينهما، بل هما متبائنان؟

فإذا كانا متبائنين، فلا وجه لحمل اللفظ على المعنى الاصطلاحي لأنّه معنى مستحدث لا يمّت للعرف بصلة، بخلاف ما إذا كان بينهما العموم والخصوص

ص: 9


1- كفاية الأصول /215؛ طبعة مؤسسة آل البيت (علیهم السلام).

المطلق، كما سيأتي توضيحه»(1).

المقدمة الثانية: هل يتعلَّق الخيار بخصوص الأفعال أو يتعلَّق بها وبالأعيان؟

«انّ الخيار هل يتعلّق بخصوص الأفعال أم أنه يتعلق بالأعم من الفعل والعين؟

لابدّ من إيقاع البحث في ذلك لأنّه ذو ثمرة عملية، لوقوع البحث - فيما يأتي ان شاء الله تعالى - في أنّ ثبوت الخيار هل تكون ثمرته أن يكون لذيه حقّ فسخ العقد أو حق استرداد العين؟

ونتيجة هذا البحث تظهر في صورة تلف العين، فإنه يسقط الخيار على الثاني لانتفاء موضوعه دون الأوّل.

ومن الواضح أن هذا البحث إنما يتأتىٰ لو صحّ تعلق الخيار بالعين، فيقال: إن الدليل المتكفل لإثبات الخيار بلا أن يعيّن متعلقه هل مقتضاه تعلقه بنفس العقد فيكون له حق فسخه، أو بالعين فيكون له حقّ استردادها؟ لأن كلاً من العقد والثمن والمثمن من شؤون المعاملة، فيحتمل تعلق الخيار بكل منهما.

أو لو فرض عدم صحة تعلق الخيار بالأعيان لم يتأت البحث المزبور، بل يتعين تعلق الخيار بالعقد، فانه فعل اختياري - كما سيأتي توضحيه -»(2).

تنبيه: توضيح معنى الاختيار

ذهب السيّد الطباطبائي اليزدي في حاشية المكاسب «إلى أنّ معناه هو السلطنة، ويظهر ذلك من المحقّق الإيرواني (رحمة الله) (3) وإن لم يصرح بذلك لكنه يستفاد من كلامه.

ص: 10


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، كتاب الخيارات 1/5.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، كتاب الخيارات 1/6.
3- حاشية المكاسب 2/10، تعليقة رقم 3.

كما ذكر السيّد الطباطبائي(1) أن الخيار لا يضاف إلى غير الأفعال لأن مصدره وهو الاختيار لا يضاف إلّا إلى الأفعال دون الأعيان والمنافع.

وخالفهما المحقّق الإصفهاني(2) (رحمة الله)، فذهب إلى أن معنى الاختيار لا يساوق السلطنة لاستعماله في موارد كثيرة لا يمكن أن يراد به معنى السلطنة فيها، كما إذا قلت: إختار زيد العزلة عن الناس، واختار شرب الدواء الخاص، واخترت لبس هذا الثوب من بين الأثواب، وكقوله تعالى: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا﴾(3)، و قوله تعالی: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾(4)، ... إلى غير ذلك من الاستعمالات.

ومن الواضح أنه لا معنى لإرادة معنى السلطنة من الاختيار في هذه الاستعمالات، مع أنه لا يرى فيها وفي أمثالها أدنى مسامحة وعناية. ولعل الجامع بين هذه الموارد وغيرها من موارد استعمال مادة الاختيار على اختلاف هيئاتها هو إرادة ما يساوق معنى الترجيح والانتقاء والاصطفاء.

ومن هنا يظهر أن الاختيار - ويلحق به الخيار لأنه بمعناه - يمكن أن يتعلق بالأعيان، إذ يصح إضافة الانتقاء والترجيح إلى العين. وفي الآيتين الكريمتين المتقدمتين وغيرهما - كقول القائل: اخترت زيداً صديقاً لي واخترت هذا الكتاب من بين الكتب - كفاية في إثبات المطلوب، لاضافة الاختيار فيها إلى العين من دون أي تقدير ولا مسامحة.

وأما ما ذكره السيّد (رحمة الله) من: أن الاختيار لا يضاف إلى الأعيان، فلعله ناشٍ من الخلط بين الاختيار بالمعنى اللغوي والاختيار بالمعنى الاصطلاحي للمتكلمين الذي

ص: 11


1- حاشية المكاسب 2/368.
2- حاشية المكاسب 4/10.
3- سورة الاعراف /155.
4- سورة طه /13.

هو بمعنى المشيئة والإرادة، إذ المشيئة لا يمكن أن تتعلق بغير الأفعال. فالتفت.

هذا، ولكن الانصاف أنّ ما ذكره المحقّق الإصفهاني (رحمة الله) في معنى الاختيار لا يخلو عن مناقشة، فإنّ الترجيح غير مساوق لمفهوم الاختيار ولو انطباقاً، فإنه لا يصح استعماله في كلِّ مورد يستعمل فيه الخيار أو الاختيار، ففي مثل قوله: «البيعان بالخيار»(1) لا معنى لأن يراد به: «البيعان بالترجيح أو الرجحان» - الذي هو إسم مصدر من الترجيح - .

والذي نراه أن المفهوم القريب لمعنى الاختيار والخيار الذي لا أقرب منه هو الارتضاء والرضا، فإنه وإن لم يكن نفس الاختيار مفهوماً لكنه أقرب ما يمكن أن يشار به إلى الاختيار من المفاهيم، فالارتضاء يساوق الاختيار والرضا يساوق الخيار، وتقدير الرضا في قوله: «البيان بالاخيار» لا مانع منه بعد فرض أن الباء بمعنى: «مع»، فيكون دليلاً على اعتبار استمرار الرضا في البيع إلى وقت الافتراق.

ولعله يشير إلى ما ذكرنا من معنى الخيار ما ورد في بعض النصوص(2) من التعبير عن إعمال الخيار بان ذلك رضا بالبيع.

ثمّ إنه لا يخفى أن الرضا يتعلق بالأعيان كما يتعلق بالأفعال، فيضاف إلى العين بلا تقدير ولا مسامحة. وقد تقدمت الاشارة إلى ثمرة تحقيق ذلك»(3).

المقدمة الثالثة: الخيار في اللغة

قال الشيخ الأعظم (رحمة الله) : «الخيار لغة اسم مصدرٍ من الاختيار»(4).

ص: 12


1- وسائل الشيعة 18/5، ح1، الباب 1 من أبواب الخيار، صحيحة محمّد بن مسلم.
2- وسائل الشيعة 18/13، ح1، الباب 4 من أبواب الخيار، صحيحة علي بن رئاب؛ ووسائل الشيعة 18/25، ح1، الباب 12 من أبواب الخيار، معتبرة السكوني.
3- المرتقى إلى الفقه الأرقى، كتاب الخيارات 1/(8-6).
4- المكاسب 5/11.

أقول: الاختيار مصدر باب الافتعال و «معناه الأخذ بما هو الخير، أو تفضيل أحد الطرفين وترجيحه على الطرف الآخر، وليس هو مصدر الفعل الثلاثي المجرّد، فإنّ مصدر «خار» بمعنىٰ «فضّل ورجّح» هو «الخِيْرة والخِيَرة، وخِيَراً» كما في اللسان، وفيه أيضاً: «والاختيار: الاصطفاء»(1).

وقال في الصحاح: «وقال في البارع: خِرتُ الرجل على صاحبه، أخيرُه من باب باع، خِيَراً وزان عنَبٍ، وخِيَرة وخِيَرَة: إذا فضّلته عليه»(2)»(3).

وقال ابن الأثير: «الخيار: الاسم من الاختيار، وهو طلب خير الأمرين: إما إمضاء البيع، أو فسخه...»(4).

وفي تاج العروس للزبيدي: «والخيار: الاسم من الاختيار وهو طلب خير الأمرين، إما إمضاء البيع أو فسخه. وفي الحديث: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» ...، وقولهم: لك خيرة هذه الغنم وخيارها. الواحد والجمع في ذلك سواء، وقيل: الخيار: نضار(5) المال، وكذا من الناس وغير ذلك. وأنت بالخيار وبالمُخْيار، هكذا هو بضم الميم وسكون الخاء وفتح التحتية، والصواب: وبالمختار، أي اختر ما شئت»(6).

وفي مجمع البحرين لشيخ الطريحي: «والخِيْرة - بالكسر فالسكون - من الاختيار، والخِيَرة - بفتح الياء - بمعنى الخيار، والخيار: هو الاختيار، ويقال: هو اسمٌ من تخيرت الشيء، مثل الطيرة اسمٌ من تطير، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، قاله في

ص: 13


1- لسان العرب 4/255.
2- صحاح اللغة 2/652 (طبعة عام 1407).
3- هدى الطالب 9/173.
4- النهاية 2/91.
5- نضار: الخالص من كل شيء، الذهب.
6- تاج العروس 6/(380-379).

المصباح. والاختيار: الاصطفاء. ومحمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) خِيَرَتك من خلقك - بكسر الخاء وبالياء والراء المفتوحين - أي المختار المنتخب، وجاء بتسكين الياء. وقول علي بن الحسين (علیه السلام) : «فأنا الخيرة ابن الخيرتين» يريد خيرة الله من العرب هاشم ومن العجم فارس. وفي الخبر «أنا بين خيرتين» تثنية خيرة كعنبة، أي أنا مخير بين الاستغفار وتركه في قوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾(1). ومنه: خيَّرته بين الشيئين، أي فوضت إليه الخيار»(2)»(3).

المقدمة الرابعة: المصدر واسمه والفرق بينهما

«اختلفت كلمات الأُدباء وغيرهم في أنّ المغايرة بينهما تكون في الصيغة واللفظ خاصّة مع وحدة المدلول والمعنىٰ، أو أنّها تكون لفظاً ومعنىً.

فظاهر ابن الناظم [محمّد بن محمّد بن مالك المتوفي 686ه-] الأوّل، لجعل المقسم للمصدر واسمه هو الحدث، قال: «اعلم: أنّ اسم المعنىٰ الصادر عن الفاعل - كالضرب - أو القائم بذاته - كالعلم - ينقسم إلى مصدرٍ واسم المصدر. فإن كان أوّله ميمَ مزيدة لغير (مفاعلة) كالمضرب والمحمدة، أو كان لغير ثلاثي بوزن الثلاثي كالغُسل والوضوء، فهو اسم مصدر، وإلّا فهو مصدر»(4).

وهذا كالصريح في أنّ «الغُسل والاغتسال» حاكيين عن مفهومٍ وحداني، يسمّىٰ الأوّل منهما باسم المصدر لأجل كونه على ثلاثة أحرف، وإن كان فعلُه مزيداً فهي من باب الافتعال. وكذا الحال في «الوضوء» المصوغ من فعله من باب «التفعّل».

ص: 14


1- سورة التوبة /80.
2- مجمع البحرين 1/(719-718).
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/13.
4- شرح الألفية لابن الناظم، بحث المصدر.

وصريح جماعة الثاني، أي المغايرة بين المصدر واسمه في اللفظ والمعنىٰ، قال [خالد بن عبدالله] الأزهري في التصريح [على التوضيح] مازجاً شرحه بما في توضيح ابن هشام: «ومدلولها مختلف، فمدلول المصدر الحدث، إنّما هي بواسطة دلالته على المصدر.

وتحقيق ماهيتّهما أن يقال: الاسم الدال على الحدث من غير تعرّض لزمانٍ، إن كان عَلَماً موضوعاً على معنىً كفجار وحماد عَلَمين للفَجِرة بسكون الجيمَ والمَحمِدة بفتح الميم الأُولىٰ وكسر الثانية، أو كان مبدوّاً بميم زائدةٍ لغير المفاعلة كمَضْرَب ومَقْتَل - بفتح أوّلهما وثالثهما - أو كان متجاوزاً فعله الثلاثي وهو بِزِنة اسم حدث الثلاثي كغُسل ووُضوء بضمّ أوّلهما في قولك: اغتسل غُسلاً وتوضّأ وُضوءاً، فإنّهما - أي فإنّ الغسل - بزِنة (القُرب) والوضوء، بزِنة (الدخول) في قولك: قرب قُرباً، ودخل دُخولاً، فهم اسم مصدر... وإلّا يكن كذلك فهو مصدر»(1).

ثمّ رتّب على هذا الفرق التفصيل بين أقسام اسم المصدر في العمل، فإن كان مبدوّاً بميمٍ عَمل عَمَلَ فعله اتفاقاً. وإن كان عَلَماً لم يعمل كذلك. وإن كان غيرهما فهو مورد خلاف بين البصريين والكوفيين، فراجع.

ونَقَلَ جمالُ المحققين في حواشيه على الروضة فوارق أُخرىٰ بينهما، بعد نقل جملة من كلام الأزهري، فنقل عن بعض المحقّقين: أنّ المصدر موضوع للحدث من حيث اعتبار تعلّقه بالمنسوب إليه على وجه الإبهام، ولذا يقتضي الفاعل والمفعول، ويحتاج إلى تعيينهما في استعماله، كتعيّن (الضرب) بصدوره من زيدٍ ووقوعه على عمروٍ. واسم المصدر موضوع لنفس الحدث من حيث هو بلا اعتبار تعلّقه بالمنسوب

ص: 15


1- شرح التصريح على التوضيح، باب إعمال المصدر (لا ترقيم لصفحات نسختنا من الطبعة الحجرية).

إليه، وإن كان له تعلّق في الواقع، ولذا لا يقتضي الفاعل والمفعول وتعيينهما.

ولعلّ المقصود من اقتضاء الفاعل والمفعول هو اعتبار تلبّس الفاعل بالمبدأ وصدوره منه وتجدّده. ويكون اسم المصدر هو الحدث مجرّداً عن قيد تلبّس فاعلٍ به.

ثمّ فرّق المحقّقُ الخوانساري بين المصدر واسمه بما يقرب من الوجه المتقدّم كما لوّح إليه وقال: «والأظهر عندي: أنّ المصدر موضوع لفعل الأمر أو الانفعال به، واسم المصدر موضوع لأصل ذلك الأمر. فالاغتسال مثلاً عبارة عن إيجاد أُمور مخصوصة هي أفعال تدريجية مخصوصة، والغُسل عبارة عن نفس تلك الأُمور. ثمّ قد يتسامح ويطلق اسم المصدر على الهيئة العارضة بسبب ذلك الأمر، وعلى غيرها ممّا هو معلول له، كما يظهر بالتتبّع»(1)»(2).

أقول: الصحيح هو القول الثاني أعني المغايرة بين المصدر واسمه في اللفظ والمعنى لأنّ المصدر موضوع للحدث والمفهوم الأصلي للفعل من دون الدلالة على الأشخاص والأزمان والدفعات نحو: الاغتسال والتوضي.

وأمّا اسم المصدر فموضوع لحاصل المفهوم والمعنى الأصلي من المصدر وينتقل إلى الحدث والمفهوم الأصلي للفعل بواسطة المصدر، نحو: الغسل والوضوء.

وفي هذا المجال راجع رسالة «السيف المشتهر في تحقيق اسم المصدر» لشيخنا في الرواية ومجيزنا بالاجتهاد نابغة عصره آيةالله الشيخ محمّدباقر الكمرئي(3) (قدس سره) (1416-1320)، المطبوعة سنة 1354ق بالغري الشريف والمذكور في الذريعة(4).

ص: 16


1- حاشية الروضة البهية المطبوعة مستقلّا ً /9، هامش الروضة البهية (طبعة عبدالرحيم) 1/11 و 12.
2- هدى الطالب 9/(176-173).
3- كتبت ترجمته في كتابي «طريق الوصول إلى أخبار آل الرسول (علیهم السلام) » /(111-98).
4- الذريعة 12/289.

المقدمة الخامسة: النسبة بين خياري اللغوي والفقهي

اشارة

قد مرّ المعنى اللغوي للخيار وأنّه «الأخذ بما هو الخير» أو «تفضيل أحد الطرفين وترجيحه على الطرف الآخر».

وأمّا المعنى الفقهي للخيار فقد «يطلق على «ملك أمر العقد» كما ورد في مثل الهبة من «كون الواهب بالخيار قبل تسليم العين للمتهب» ويراد به جواز الرجوع في العقود غير اللازمة. وقد يُطلق على جواز حلّ العقد اللازم - بحسب طبعه كالبيع - كالفسخ بخيار المجلس أو الحيوان أو غيرهما من موجبات التزلزل.

والمقصود بالبحث في باب الخيار هو القسم الثاني، ونَقَل [الشيخ الأعظم] عنهم تفسيرين له يشتركان في كونه ملكاً، والمراد به الاستيلاء على الفسخ والإمضاء، بشهادة تصريح المصنف في أوائل البيع بقوله: «انّ مثل هذا الحقّ سلطنة فعلية»(1)، وظهور قوله هنا بعد أسطر «والتسلط على فسخ العقود الجائزة»(2) الدالّ على تسلّم كون حقّ الخيار سلطنة الفسخ والإقرار، كما يتسلّط في العقد الجائز على الرجوع.

وبعد وضوح معنىٰ «الخيار» إجمالاً، فإمّا أن تكون النسبة بين معناه المصطلح هنا وبين معناه اللغوي العموم والخصوص المطلق(3) [أو توميء لذلك](4)، بدعوىٰ شمول اللغوي لفسخ العقد وغيره، فإنّه بعد اتّحاد المصدر واسمه حقيقةً وتغايرهما اعتباراً إمّا أن يكون «الاختيار» عنواناً للفعل الخارجي من الأخذ بما فيه الخير أو ترجيح أحد الأمرين، أو عنواناً للمشيئة التي هي كيف نفساني. والخيار المصطلح اختيار خاصّ بالفسخ والإمضاء.

ص: 17


1- المكاسب 3/9.
2- المكاسب 5/12.
3- كما في حاشية السيّد اليزدي (رحمة الله) 2/367.
4- كما في حاشية المحقّق الإصفهاني 4/10.

وإمّا أن تكون النسبة بين المعنيين هي المباينة، من جهة أنّ الخيار المبحوث عنه يكون من الاعتبارات الوضعية المجعولة شرعاً ولو إمضاءً، ولا جامع بين ما يكون من مقولة الكيف أو الفعل العرفي وبين المعتَبر الذي ظرفه الاعتبار المتوسّط بين وعائي الذهن والعين»(1).

ص: 18


1- هدى الطالب 9/176.

ثمّ يقع الكلام في جهات من البحث:

الجهة الأولىٰ: تعريف الخيار

ثمّ بعد هذه المقدمات نصل إلى تعريف الخيار وقد عرَّفه الشيخ الأعظم(1) بتعرفين:

التعريف الأوّل: ما عرّفه به جماعة من المتأخرين، وعليه فخر المحقّقين(2) (قدس سره) واختاره الشيخ (قدس سره) وهو: ملك فسخ العقد.(3)

التعريف الثاني: ما اختاره صاحبا الرياض(4) والجواهر(5) (قدس سره)، والمحقق النائيني(6) (قدس سره) من المتأخرين، وهو: ملك إقرار العقد وإزالته.

«والفرق بين التعريفين من جهتين:

الأولىٰ: وحدة الملك والمملوك في التعريف الأوّل، وتعددهما في الثاني؛ إذ الملك

ص: 19


1- المكاسب 5/11 و 12.
2- إيضاح الفوائد 1/482، ولفظه: «لأن الخيار ملك الفسخ».
3- المكاسب 5/11.
4- رياض المسائل 8/177.
5- جواهر الكلام 24/3 (23/3).
6- منية الطالب 3/3.

إنما يتعدد متعلقه، وهو في الأوّل الفسخ خاصة، وفي الثاني إزالة العقد وإقراره.

الثانية: إن متعلّق الملك في التعريف الأوّل هو الفسخ، والسلطنة على الوجود سلطنة على العدم، فيكون فيه طرف وجودي وآخر عدمي، فالخيار ملك فسخ العقد، وملك عدمه.

وأما المتعلق في التعريف الثاني فأمران وجوديان: إقرار العقد، وإزالته.

ولا يخفى أن الإزالة تحل محل الفسخ، ولا شك أن من يملك إزالة العقد يملك عدمها.

وبهذا اتضح أن نسبة التعريف الثاني إلى التعريف الأوّل هي نسبة الأعم للأخص، فإنّ ما في الأوّل موجود في ملك إزالة العقد من الثاني، ويزيد الثاني بملك إقرار العقد.

الإشكال على التعريف الأوّل ودفعه

أورد على التعريف الأوّل بعدم مانعيته؛ إذ هناك موارد يوجد فيها ملك فسخ العقد وهو ليس خياراً، وهي:

1- العقود الجائزة، كالهبة والوكالة.

2- عقد الفضولي، فإن الأصيل يملك فسخ العقد.

3- العقد المتعلق بالمال الزائد على ثلث التركة، فإن للوارث فسخه.

وهذا النقض مبني على كون الوصية عقداً، وأما على القول بعدم كونها عقداً - كما هو المختار - فلا موضوع لنقض الشيخ(1) (قدس سره) به، فيحمل كلامه حينئذ على إرادة العقد في مرض الموت، فإن أمر منجزات المريض فيما زاد على الثلث بيد الوارث على

ص: 20


1- المكاسب 5/11.

القول بعدم نفوذ منجزاته.(1)

4- العقد على بنت الأخ والأخت؛ فإن العمة والخالة تملكان فسخه.

5- ما إذا زوجت الأمة بالعبد ثمّ أعتقت، فإنها تملك فسخ العقد حينئذ.

6- عقد النكاح مع وجود أحد العيوب المخصوصة في الزوج أو الزوجة؛ فإن الآخر يملك فسخ العقد.

فمن له أمر العقد يملك فسخه في هذه الموارد، فيدخل ملك الفسخ فيها في التعريف، مع أنه ليس خياراً؛ إذ هو حكم لا يقبل الإسقاط والإرث، بخلاف الخيار فإنّه حقّ ويقبلهما»(2).

ولكن دفع الشيخ الاعظم الاشكال بما توضيحه: «إنّ موارد الخيار اصطلاحاً، وهذه الموارد المذكورة، وإن كانت تشترك في ثبوت السلطنة على فسخ العقد، لكنها تختلف من جهة وهي الثابت في موارد الخيار يقبل الاسقاط والانتقال بالميراث ولذا يعبّر عنه بالحق. والثابت في هذه الموارد التي قيل بانتقاض التعريف فيها لا يقبل الاسقاط والانتقال، فلا تسقط سلطنة المالك على رد عقد الفضولي ولو أسقطها ألف مرة. ويعبّر عن ثبوت السلطنة ههنا بأن ثبوتها بنحو الحكم لا الحق.

وإذا ثبت وجود الفرق موضوعاً بين الموردين - مورد الخيار وهذه الموارد - ، ففي التعبير بالملك في التعريف كفاية في إخراج غير موارد الخيار اصطلاحاً، إذ عرفت أن ثبوتها ليس بنحو الملك بل بنحو الحكم. وبذلك يكون هذا التعريف بنظر الشيخ خالياً عن الاشكال»(3).

ص: 21


1- ربما يدعى بأن ما ذكرُ أخيراً هو الظاهر من عبارة الشيخ الأنصاري (قدس سره) فراجع.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(16-14).
3- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/9.

الايراد على دفع الشيخ

«وقد استشكل في هذا الرد المحققان السيد الطباطبائي والشيخ الايرواني رحمهما الله.

أما السيد الطباطبائي(1) (رحمة الله) فذهب إلى أن الملك لغة بمعنى السلطنة وهي إذا أضيفت إلى العين تفيد الملكية بالمعنى المعروف وهو واجدية المالك للشيئ وكون أمره بيده، بخلاف ما إذا أضيفت إلى الفعل فإنّها لا تفيد أكثر من القدرة عليه.

وفي المقام بما أن الملك الذي هو بمعنى السلطنة قد أضيف إلى الفعل وهو فسخ العقد، فلا يفيد أكثر من القدرة والتسلط عليه. وهذا المعنى كما هو ثابت في موارد الخيار ثابت في موارد العقود الجائزة للقدرة فيها على فسخ العقد.

ولعل الوجه فيما ذكره (رحمة الله) من الفرق بين إضافة السلطنة للعين والفعل هو: أن السلطنة على العين لا معنى لها، فلابدّ من تقدير فعل، وبما أن حذف المتعلق يفيد العموم، فإضافة السلطنة إلى العين تفيد السلطنة على جميع التصرفات المتعلقة بالعين وهو لازم الملكية، بخلاف السلطنة على الفعل فانها متصورة فتحمل على معناها العرفي وهو القدرة على الفعل بايجاده وعدمه، وهذا لا يلازم الملكية بوجه من الوجوه. هذه خلاصة إيراده مع توضيحها.

وأما المحقّق الإيرواني(2) (رحمة الله) فذهب: إلى أن السلطنة على نحوين: سلطنة [مطلقة] يكون لذيها سلطنة عليها، كالسلطنة على فسخ العقد في موارد الخيار فإن لذي الخيار السلطان على إسقاط سلطنته، وسلطنة [مشروطة] لا يكون لذيها سلطان عليها كالسلطنة على الفسخ في موارد العقود الجائزة فإنها حكم شرعي ولا يكون

ص: 22


1- حاشية المكاسب 2/367.
2- حاشية المكاسب 3/9.

أمرها بيد ذي السلطنة بل بيد الحاكم.

وكلام الشيخ (قدس سره) إنما يتم لو فرض أن الملك عبارة عن السلطنة الخاصة والاستيلاء الخاص وهو الاستيلاء بالنحو الأوّل، فإن التعبير به يستلزم خروج موارد العقود الجائزة لأنّ الاستيلاء في مواردها من النحو الثاني، أما لو كان الملك عبارة عن مطلق الاستيلاء أعم مما كان له عليه سلطان وما لم يكن عليه سلطان، لم يكن في التعبير بالملك دلالة على نفي موارد العقود الجائزة، لصدقه في مواردها أيضاً. والأمر في الملك هو ذلك، فإنه لا يعتبر فيه إلّا كون المملوك تحت السلطان، أما كون السلطنة تحت السلطان أيضاً فلا يعتبر فيه. والشاهد على ذلك إضافة المالكية لله جلت عظمته بل هو مالك الملوك مع أنه ليس له سلطان على سلب سلطنته على الكون، كما هو واضح.

إذن، فالتعبير بالملك في التعريف لا يستلزم خروج موارد العقود الجائزة وغيرها.

وبالجملة: فمرجع كلا الكلامين إلى عدم دلالة التعبير بالملك على اختصاص التعريف بموارد الخيار، بل هو على عمومه لغير موارده اصطلاحاً»(1).

جواب المحقّق الإصفهاني في نقد الإيراد

«ولكن المحقّق الإصفهاني(2) (رحمة الله) دفع هذين الكلامين، وتوضيح كلامه: أن الملك في الاصطلاح لا يساوق السلطنة التي هي المفهوم العرفي للملك، فإنها عبارة عن سلطنة اعتبارية غير نفس الآثار المجعولة، وهذه السلطنة لا ثبوت لها في موارد الأحكام، ولأجل ذلك اصطلح الفقهاء بالحكم في قبال الملك. وإذا فرض أن الملكية في الاصطلاح أمر اعتباري يختلف عن الحكم، فالتعبير بالملك في التعريف يخرج موارد

ص: 23


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(10-9).
2- حاشية المكاسب 4/12.

السلطنة الثابتة بنحو الحكم، إذ اللازم حمل الملك في التعريف على معناه الاصطلاحي لوروده في التعريف الاصطلاحي للخيار، ولا وجه لحمله على المعنى اللغوي.

وبذلك يندفع كلا الكلامين، إذ لا معنى لحمل السلطنة على معنى القدرة على الفسخ - كما هو مضمون كلام السيّد (رحمة الله) -، كما لا معنى لدعوى أن الملك مطلق الاستيلاء - كما هو مضمون كلام الإيرواني (رحمة الله) -، إذ كل منهما نقل للكلام إلى غير موضعه»(1).

القول المختار في التعريف الأوّل

«ما ذكره المحقّق الإصفهاني (رحمة الله) متين جداً، إذ بعد وقوع التعبير في مصطلح الفقهاء فلا معنى للبحث عن معناه اللغوي. ومن الواضح أن الملك باصطلاحهم يختلف عن الحكم، فإنهما اصطلاحان متقابلان.

نعم، ما ذكره من أن الملكية عبارة عن سلطنة اعتبارية لدى الفقهاء لا يخلو من حديث وبحث، إذ البعض(2) يرى أن الملكية أمر انتزاعي، أو يرى(3) الحق من الأُمور الانتزاعية وإن كانت الملكية اعتبارية.

فالتعبير الجامع: أن الملكية عبارة عن سلطنة خاصة وهي ما يلحظ فيها واجدية المالك للمملوك وكون زمام أمره بيده أعم من كون ذلك المعنى اعتبارياً أو انتزاعياً، وهذا المعنى لا ثبوت له في موارد الحكم.

وعلى كل حال ظهر من مجموع ما ذكرنا وجه ما ذكره الشيخ(4) (قدس سره) من: أن

ص: 24


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/10 و 11.
2- كالشيخ في المكاسب 5/19 حيث يقول: بل حقق في الأصول ان لا معنى للحكم الوضعي إلّا ما انتزع من الحكم التكليفي.
3- كالمحقّق الخراساني، حاشية المكاسب /79.
4- المكاسب 5/11.

التعبير بالملك يتكفل إخراج موارد العقود الجائزة، من جهة عدم ثبوت شؤون الملكية في تلك الموارد، كما ظهر أن ما ذكره تام لا خدشة فيه»(1).

التعريف الثاني

التعريف الثاني(2)

وهو تعريف «المحققين من القدماء»(3) وصاحب الجواهر قال: «ملك إقرار العقد وإزالته»(4).

واختاره الفاضل المقداد(5) وسيّد الرياض(6)، والمحقّق النائيني (قدس سره) وقال: «والحقّ ما اختاره القدماء»(7).

مناقشة الشيخ الاعظم على التعريف الثاني

قد ناقش الشيخ الاعظم في هذا التعريف «بإشكال على تقدير، وبإشكالين على تقدير آخر فقال:

1- إنه إن أريد من إقرار العقد إبقاؤه على حاله بترك الفسخ فذكره مستدرك؛ لتكفّل ملك إزالة العقد له؛ لأن القدرة تتعلق بالطرفين - الوجود والعدم - دائماً، فملك إزالة العقد هو ملك لإزالته ولبقائه.

2- وإن أريد منه إلزام العقد وجعله غير قابل للفسخ فيرد عليه:

أولاً: أن ذلك لا يمكن بغير إسقاط حق الخيار، فأخذ في إلزام العقد إسقاط

ص: 25


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، كتاب الخيارات 1/11 و 12.
2- المكاسب 5/12.
3- منية الطالب 3/3.
4- الجواهر 24/3 (23/3).
5- التنقيح الرائع 2/43.
6- رياض المسائل 8/177.
7- منية الطالب 3/3.

حق الخيار، وأخْذُ المعرَّف - بالفتح - في التعريف دور.

وثانياً: عدم كون التعريف حينئذ جامعاً لأفراد الخيار، بل ينحصر في الخيار الواحد المختص.

توضيح ذلك: إنّ إقرار العقد جُعل في التعريف مقابلاً لفسخه، والمفروض أنه أريد به الإلزام، وظاهر الإلزام في مقابل الفسخ جعله لازماً مطلقاً، وهو لا يتم إلّا في صورة قيام الخيار بواحد، وأما إذا كان الخيار لكلا المتعاملين - بالشرط أو بالشرع - فلا يستقر العقد بإسقاط أحدهما لخياره؛ لتزلزله من ناحية الآخر.

وكذا لو كان لأحدهما خيار متعدد، كما لو اجتمع له خيار العيب والغبن، فإن إسقاط أحدهما لا يوجب استقرار العقد؛ لتزلزله من ناحية الخيار الآخر.

وحاصل الإشكال: أنه يلزم من تعريف القدماء - بقرينة المقابلة بين الإلزام والفسخ - أن يكون الإلزام بقول مطلق، فينحصر الخيار بالخيار الواحد المختص.

هذا حاصل ما أفاده الشيخ (قدس سره) في التعريف(1)»(2).

توضيح مراد الشيخ من الشق الأوّل في إشكاله

مراد الشيخ الاعظم من الشق الأوّل من إشكاله يمكن أن يكون أحد الوجهين: «الأوّل: أنه يريد ببقاء العقد على حاله نفس عدم الفسخ بلحاظ وجود المقتضي للبقاء، فبمجرد عدم الفسخ يتحقق البقاء فعلاً. فيكون ذكره مستدركاً بلحاظ أنه تكرار محض مستهجن، لأن القدرة على الفسخ قدرة على عدمه.

الثاني: أن يريد بالبقاء أمراً وجودياً مسبباً عن عدم الفسخ، فلا يكون ذكره تكراراً. نعم يكون ذلك لغواً بلحاظ أنه بعد بيان القدرة على الفسخ وعدمه يتكفل

ص: 26


1- كتاب المكاسب 5/12-11.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/23 و 24.

بيان القدرة على البقاء بالملازمة، إذ القدرة على السبب قدرة على المسبب. وعلى أيِّ تقدير فذكره لغو وزيادة لاستفادته من اللفظ إما مباشرة أو بالملازمة، فلاحظ»(1).

جواب مناقشة الشيخ الاعظم في شقه الأوّل

يمكن أن يجاب عن مناقشه الشيخ الاعظم في شقه الأوّل: بأنّ المراد من «ملك إقرار العقد» «هو إسقاط الخيار وجعل العقد لازماً وغير قابل للانفساخ من ناحية الخيار... والمراد من ازالته هو إزالة العقد بالفسخ وإعدامه»(2). فلا يتم مقالته مِنْ أنّ «ملك إقرار العقد» «مستدرك»»(3).

جواب مناقشة الشيخ الأعظم في شقه الثاني

قد يجاب عن مناقشة الشيخ الأعظم في الشق الثاني بكلا وجهيه:

«أمّا الوجه الأوّل: وهو ما أفاده من إرادة إبرام العقد من البقاء وجعله لازماً راجع إلى أخذ إسقاط حق الخيار في مفهوم الخيار، فاُورد عليه بوجهين:

الأوّل: ما ذكره المحقّق الإيرواني(4) (رحمة الله)، - وهو ما كان يجول في الذهن من قديم الزمان - أن هذا البيان إنما يتأتىٰ لو فرض أن معنى الخيار هو ملك فسخ العقد فقط ليكون أخذ إسقاط هذا الحق في مفهوم الخيار أخذاً لاسقاط الخيار في مفهومه.

ولكن هذا الفرض أوّل الكلام، بل خلاف المفروض إذ المفروض تعريف الخيار بملك فسخ العقد وملك إسقاط هذا الحق، فأين أُخذ إسقاط الخيار في مفهوم الخيار؟

ص: 27


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/12.
2- مصباح الفقاهة 6/9.
3- المكاسب 5/12.
4- حاشية المكاسب للإيرواني 3/10.

وبالجملة، نظر من يعرّف الخيار بالتعريف المزبور إلى أن الخيار عبارة عن أمرين: ملك فسخ العقد وملك إقراره باسقط حق الفسخ.

وذلك لا يستلزم أخذ إسقاط الخيار في مفهومه، بل هو أخذ لاسقاط حق الفسخ في مفهومه وهو لا يستلزم محذوراً ثبوتياً.

وبنظرنا أن هذا الايراد واضح جداً عند الالتفات إلى المغالطة الواقعة في إشكال الشيخ (قدس سره).

الثاني: ما ذكره السيّد الطباطبائي(1)، وغيره(2) من أن إقرار العقد وجعله لازماً لا ينحصر بإسقاط حق الخيار كي يكون ذلك ملازماً لأخذ إسقاط الخيار في مفهومه، بل هو يتحقق بالرضا بالعقد والالتزام به بقاءً الذي يرجع إلى [عدم] إعمال الخيار وترتيب أثره. فيكون الخيار عبارة عن ملك الرضا بالعقد - في مرحلة البقاء - وملك فسخه.

وأما الوجه الثاني: وهو ما أفاده من أن المراد جعل العقد لازماً بقول مطلق فلا يشمل موارد الخيار الثابت لكلا المتعاقدين، كخيار المجلس.

فيورد عليه: بأن ما ذكره ليس نصاً ومما لا يقبل التقييد عقلاً، بل هو على تقدير تسليمه لا يعدو أن يكون ظاهراً، فيمكن تقييده بإرادة اللزوم من قبل ذي الخيار ويقال إن مرادهم ذلك لا اللزوم المطلق، وتكون القرينة عليه ما هو المعهود من عدم تأثير الخيار في اللزوم بقول مطلق في جميع موارده.

هذا، مع المناقشة في أصل الظهور في إرادة اللزوم المطلق، بل المناقشة في المقيس عليه وهو الفسخ، كما جاء في بعض الحواشي(3)، فراجع»(4).

ص: 28


1- حاشية المكاسب لليزدي 2/368.
2- حاشية المكاسب للإصفهاني 4/15.
3- هداية الطالب إلى أسرار المكاسب 4/13 للشهيدي.
4- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/13.

فذلكة القول في التعرفين

فظهر مما ذكرنا أنّ التعريفين تامان في مقام الثبوت ولا محذور من الالتزام بأيّهما شئت.

التعريفان في مقام الإثبات

مقدمةٌ فيها إعادة: قبل الورود في بحث مقام الإثبات لابدّ أن نعرف مقدار ارتباط التعريفين بالمفهوم اللغوي للخيار.

«وقد قيل: إن النسبة بينهما وبينه نسبة الخاص إلى العام، إذ مفهوم الخيار لغة عبارة عن السلطنة، ومفهومه اصطلاحاً عبارة عن سلطنة خاصة.

ولكن ينفي هذا القول ما تقدم من أن مفهوم الخيار لغه ليس هو السلطنة، بل هو مفهوم يقارب مفهوم الرضا أو الترجيح. ومقتضى ذلك هو تحقق التباين بين المفهوم اللغوي والاصطلاحي.

وعليه، فقد يقال: بأنه لا فائدة في تحقيق المعنى الاصطلاحي بعد أن كان مبائناً للمعنى اللغوي، إذ لا يمكن حمل اللفظ على المعنى الاصطلاحي إذا ورد في كلام الشارع لأنه قبل الاصطلاح.

لكن الحق أن المعنى الاصطلاحي وإن كان مبائناً للمعنى اللغوي لكنّه لازم له، فإن جعل حقّ الرضا بالعقد بقاءً - كما كان له الرضا به حدوثاً - أو جعل حقّ الرجحان أو الترجيح، لا يكون إلّا بجعل السلطنة على فسخ العقد أو السلطنة على فسخه وإقراره، إذا لا معنى لجعل الحق المزبور مع عدم جعل السلطنة المزبورة.

إذن، فالخيار بمعناه الاصطلاحي من لوازم الخيار بمفهومه اللغوي، فيصح

ص: 29

حمل اللفظ الوارد في النص على إرادة المعنى الاصطلاحي»(1).

وأمّا مقام الإثبات: فيقع الكلام بعد هذه المقدمة «في أنّ أيّ المعنيين اصطلاحاً أرجح في مقام الاثبات؟

ولابدّ قبل ذلك من إيقاع الكلام في أنه هل للبائع في موارد الخيار حق إبرام العقد وإلزامه بحيث لا يقبل الفسخ بالالتزام به أو ليس له ذلك، مع قطع النظر عن أخذ هذا الأمر في مفهوم الخيار الذي نفاه السيّد الطباطبائي(2) (رحمة الله) في حاشيته، بل الكلام في ثبوتها في نفسها.

ومن الواضح أنه لو لم تثبت هذه الصلاحية للبائع لم يكن مجال للبحث عن تقويمها لمفهوم الخيار.

كما يقع الكلام في أنه هل لذي الخيار جعل العقد لازماً ولو باسقاط حق الفسخ أو لا؟ فيقع البحث في جهتين:

الجهة الأولى: في أنه هل لذي الخيار اسقاط الخيار، بمعنى أنه هل قابلية الخيار للاسقاط من لوازمه التي لا تنفك عنه عقلاً أو لا؟

قد يتخيل هذا الأمر في الخيار، بل في كلِّ حق. فيدعى أنّ مميز الحقّ عن الحكم هو قابلية الحقّ للاسقاط بحيث لا يكون الحقّ حقاً إلّا إذا ثبت هذا اللازم له.

ولا يخفى أن هذا الكلام مصادرة، إذ أيّ شيءٍ يقتضي لابدّية كون الحقّ ممّا يقبل الاسقاط. ومجرد إرادة تمييزه عن الحكم لا تقتضي الالتزام بذلك، إذ لا نعدم الفوارق بين الحق والحكم غير قابلية الاسقاط، فليكن من الفوارق قابلية الحق للنقل والانتقال دون الحكم. هذا بحسب مقام الثبوت.

ص: 30


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/14.
2- حاشية المكاسب 2/368.

وأما بحسب مقام الاثبات، فهناك ما يدل بنحو العموم على أن لكل ذي حق اسقاط حقه. وعليه، فيثبت في موارد الخيار امكان الزام العقد باسقاط الخيار.

الجهة الثانية: في أنه هل يثبت في موارد الخيار حق إبرام العقد وتثبيته وجعله لازماً بالالتزام به بقاءً أو ليس لذي الخيار هذا الحق؟

والكلام في هذه الجهة في مرحلتين: الأولىٰ: في إثبات حق الابرام.

والثانية: في بيان ما يتحقّق به إنشاء الابرام على تقدير الالتزام بثبوت ذلك، فهل يتحقق بانشاء الالتزام بالعقد أو يتحقق بانشاء ترك الفسخ.

ويقع الكلام في المرحلة الأولى وهي أنه هل له حق الابرام كما له حق الفسخ أو ليس له إلّا حقّ الفسخ وتركه؟

وقد عبّر المحقّق الاصفهاني(1) (رحمة الله) عن هذا النزاع، بأنه هل يتقوم الخيار بأمرين وجوديين أم بأمر وجودي وأمر عدمي وأوقع الكلام فيه، ونسب إلى بعض أجلة العصر(2) عدم ثبوت حق الابرام، بتقريب إليك نصه:

«أن العقد مقتضٍ للّزوم فإنّ الأصل في البيع هو اللزوم والخيار جهة مانعة، فابرام العقد بعدم إعمال جهة مخالفة لمقتضاه من دون حاجة إلى إعمال جهة وجودية، فليس لإبرام العقد معنى إلّا عدم نقضه وهدمه وهو معنى الالتزام به، إذ الرضا باستمرار الأمور الواقعة في الخارج المقتضية للدوام ليس إلّا بعدم إرادة نقضها وهدمها»(3).

ولا يخفى عليك أن ظاهر هذه العباره المنقولة أنّها بحث في المرحلة الثانية لا الأولى - التي هي محل الكلام - ، لأنها صريحة في ثبوت الابرام والمفروغية عن ذلك

ص: 31


1- حاشية المكاسب 4/15.
2- وهو آيةالله شيخ الشريعة الإصفهاني (رحمة الله) في كتابه صيانة الإبانة عن وصمه الرطانة /140.
3- حاشية المكاسب 4/15.

وأنه لا يحتاج إلى إنشاء أمر وجودي بل يكتفى فيه بانشاء عدم الفسخ، فلنا أن نقول أن المحقّق الإصفهاني (رحمة الله) خلط بين المرحلتين.

وعلى أي حال، فهذه العباره أجنبية عما نحن بصدده.

[توجيه مقال شيخ الشريعة ونقدها]

ويمكن توجيهها بما ينتهي إلى كونها دليلاً على ثبوت حق الابرام، بأن نقول: إن المراد أن العقد مقتض للزوم، ونسبة الفسخ إليه نسبة المانع من تأثيره، فترك الفسخ من الملتفت إلى كونه حقاً له ملازم عرفاً للالتزام بالعقد، فجعل حق الفسخ وتركه ملازم لجعل حق الالتزام بالعقد وإبرامه بامضائه بقاء، فيثبت بذلك حق الابرام. ومن الممكن أن يكون نظر القائل إلى هذه الجهة وإن جاء في الكتاب أنه دليل على عدم ثبوت حق الابرام، فلعله إشتباه من الناسخ فجعل لفظ: «الأوّل» مكان «الثاني»، فراجع.

وكيف كان الأمر، فهذا التقريب مخدوش بوجهين:

الأوّل: إنكار الملازمة بين ترك الفسخ والالتزام بالعقد، بل من الممكن بناءه على الفسخ بعد حين لأجل عدم توفر ما يترتب عليه لديه من إرجاع الثمن ونحو ذلك، ومن الممكن تردده فعلاً في الصالح لشأنه.

الثاني: أنه لو سلمت الملازمة، فمجردها لا يكفي في ترتيب الأثر على ما يلازم ترك الفسخ من الالتزام بالعقد، بل لابدّ من البحث عن دليل على ترتب الأثر على الالتزام بالعقد الذي هو محل البحث.

وبعبارة أخرى: إثبات الملازمة غاية ما ينفع في إثبات موضوع البحث وهو تحقّق الالتزام عند ترك الفسخ، أما أنه يترتب عليه الأثر وهو إبرام العقد فكيف نستفيده من الملازمة؟ وهذا واضح جداً.

ص: 32

[نقد الإصفهاني لمقال شيخ الشريعة]

«وأما جواب المحقّق الإصفهاني(1) (رحمة الله) عن البيان المزبور بأن مقتضى تطبيق المقام على قاعدة المقتضي والمانع أن العقد لا يكون مقتضاه وهو اللزوم فعلياً إلّا بزوال المانع وهو حق الخيار لا بمجرد عدم إعمال جهة مخالفة لمقتضاه.

فهو أجنبي عن هذا التوجيه بالمرة، إذ ليس الكلام متركزاً على المقتضي والمانع فقط، بل ذكر ذلك تمهيداً لبيان ملازمة عدم الفسخ للالتزام بالعقد الذي يسقط به الخيار ويتحقق به اللزوم. فالمتعين هو الجواب بما ذكرناه.

وهناك وجه آخر في إثبات حق الابرام وهو: دعوى قيام السيرة على ذلك المنتهية إلى زمان المعصوم (علیه السلام) من دون ردع، الكاشف عن إمضائها.

ويمكن الخدشة في ذلك: مع غضّ النظر عن مناقشة أصل قيام السيرة والتشكيك فيه - بأنَّ القدر المتيقن هو ثبوت السيرة عند التزام ذي الخيار بالعقد على معاملة العقد معاملة اللازم، أما أن منشأ ذلك هو ثبوت حق الابرام، فغير معلوم. بل من المحتمل أن يكون منشؤه كاشفية الالتزام عن إسقاط حق الخيار.

وعليه، فلا دليل لدينا على ثبوت حق الابرام لذي الخيار. وقد عرفت أنه لا مجال معه للبحث عن دخوله في مفهوم الخيار. فيكون التعريف الأوّل للخيار هو المتعين لا الثاني. هذا تمام الكلام في تعريف الخيار»(2).

محاولة الاستاذ المحقّق مدظله لتصحيح التعريف الثاني في مقام الإثبات

ولكن حاول الاستاذ المحقّق مدظله تصحيح التعريف الثاني من اثبات حقّ الإبرام والالزام والالتزام بالعقد بالتمسك بعدّة من الروايات المعتبرة وقال ما نصه:

ص: 33


1- حاشية المكاسب 4/15.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1(18-15).

«... والدليل عليه نصوص:

الأوّل: رواية السكوني عن أبي عبدالله (علیه السلام) أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قضى في رجل اشترى ثوباً بشرط إلى نصف النهار فعرض له ربح فأراد بيعه، قال: «ليشهد أنه قد رضيه فاستوجبه ثمّ ليبعه إن شاء، فإن أقامه في السوق ولم يبع فقد وجب عليه»(1).

فإن الشرط هنا هو حق خيار الشرط، والاستيجاب في الرواية هو نفس الإقرار في تعريف القدماء، فالعقد يلزم بالرضا والاستيجاب، ولازمهما سقوط الخيار، ولو لا تحققهما لما سقط، ولم يؤخذ في التعريف إسقاط الخيار، فما يتقوم به الخيار عبارة عن فسخ العقد، أو استيجابه بالرضا، فمتعلق الخيار أمران وجوديان: فسخ العقد، واستيجابه الذي هو إلزامه وإقراره.

هذا، ولكن في سندها النوفلي وفي وثاقته كلام.(2)

الثاني: صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (علیه السلام) : «أنه سئل عن الرجل يبتاع الثوب من السوق لأهله ويأخذه بشرط فيعطى الربح في أهله، قال: إن رغب في الربح فليوجب الثوب على نفسه، ولا يجعل في نفسه أن يردَّ الثوب على صاحبه إن ردّ عليه»(3).

ومفادها أن الموجب لاستقرار العقد هو إيجابه على نفسه، وهو معنى ما في كلمات القدماء: إقرار العقد، أو إلزام العقد.

ص: 34


1- وسائل الشيعة 18/25، ح1، الباب 12 من أبواب الخيار.
2- هو الحسين بن يزيد بن محمّد بن عبدالملك النوفلي، نوفل النخع كما في كتاب النجاشي، كان شاعراً أديباً، لم يصرح بتوثيقه ولكن استفيدت وثاقته من أمور منها: كونه من المعاريف ولم يقدح بشيء، ورواية الأجلاء عنه، وأنه من رواة كامل الزيارات، وتفسير القمي، وأن روايات السكوني وردت عنه وقد تلقاها الأصحاب بالقبول، وكثرة رواية الكليني عنه، وفي كل من هذه الأوجه بحث.
3- وسائل الشيعة، 18/25، ح2، الباب 12 من أبواب الخيار.

الثالث: صحيحة علي بن رئاب عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: «الشرط في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري، اشترط أم لم يشترط، فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً قبل الثلاثة الأيام فذلك رضا منه فلا شرط، قيل له: وما الحدث؟ قال: إن لامس أو قبّل أو نظر منها إلى ما كان يحرم عليه قبل الشراء»(1).

فالإمام (علیه السلام) قد جعل التصرف في الحيوان مسقطاً للخيار، وسبب مسقطيته كونه رضا من المتصرف بالبيع الواقع.

والحاصل: أن استيجاب البيع أحد طرفي الخيار، والطرف الآخر هو الفسخ، فالحق أن متعلّق الخيار أمران وجوديان: فسخ البيع، واستيجابه - الرضا به - ، وهو الذي ذهب إليه القدماء»(2).

نقد محاولته

قد مرّت(3) الإشارة إلى اثنتين من هذه الروايات في تعريف اللغوي للخيار والحاصل الروايات الثلاثة لا تدلّ على أكثر من أنّ اسقاط الخيار على قسمين:

أ: اسقاط اللفظي للخيار: وهو في مورد تكلّم ذي الخيار بإسقاط خياره أو توشحّ ورقة يذكر فيها اسقاط خياره أو كافة خياراته.

ب: اسقاط العملي للخيار: وهو في موارد التصرفات الناقلة في المبيع نحو بيعه في زمن الخيار كما هو مورد روايتي الأولى والثانية في كلامه مدظله أو حدوث المشتري في المبيع حدثاً نحو مورد الرواية الثالثة في بيع الأمة أو تخريب الدار أو البناء على الأرض ونحو ذلك.

ص: 35


1- وسائل الشيعة 18/13، ح1، الباب 4 من أبواب الخيار.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/51 و 52.
3- راجع صفحة 12 من هذا المجلد.

ولا تدلّ الروايات على أنّ صاحب الخيار له حقّ إبرام العقد وإلزامه واستيجابه على خلاف ما استفاد منها الأستاذ المحقّق (دام ظله) ولعلّ عنوان صاحب الوسائل لهذا الباب(1) صار موجباً لمقالة الأستاذ.

امكان استفادة التعريف الأوّل من الروايات

يمكن استيناس التعريف الأوّل من بعض الروايات بمعنى أنّ لذي الخيار حق واحد وهو فسخ العقد وإذا خرج من زمن الخيار أو موضوعه ليس له خيار الفسخ فقد وجب البيع لا محالة.

منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (علیه السلام) أنّه سأل عن الرجل يبتاع الثوب من السوق لأهله ويأخذه بشرط فيعطي الربح في أهله، قال: إن رغب في الربح فليوجب الثوب على نفسه، ولا يجعل في نفسه أن يرد الثوب على صاحبه إن ردّ عليه.(2)

تدلّ الصحيحة منطوقاً ومفهوماً أنّ الخيار حاصل قبل الافتراق في مجلس المعاملة ومعدوم بعد الافتراق بالنسبة إلى العقد، والمراد بوجوب البيع لزومه واستقراره فالجملة الأخيرة: «فإذا افترقا وجب البيع» يدلّ على أنّ العقد حينئذ لازم ومستقر وان لم يكن قبل التفرق واجباً ولازماً وكان لذي الخيار ملك فسخه وحلّه فقط.

ومنها: صحيحة محمّد بن الحسن الصفار قال: كتب إلى أبي محمّد (علیه السلام) في الرجل اشترى من رجل دابة فأحدث فيها حدثاً من أخذ الحافر أو أنعلها أو ركب ظهرها فراسخ، أ له أن يردها في الثلاثة الأيام التي له فيها الخيار بعد الحدث الذي يحدث فيها أو الركوب الذي يركبها فراسخ؟

ص: 36


1- وسائل الشيعة 18/25، ح2، الباب 12 من أبواب الخيار.
2- وسائل الشيعة 18/6، ح4، الباب 1 من أبواب الخيار.

فوقع (علیه السلام) : إذا أحدث فيها حدثاً فقد وجب الشراء إن شاء الله.(1)

فقوله (علیه السلام) في هذه الصحيحة: «فقد وجب الشراء» يعني جريان خيار الحيوان يكون قبل إحداث الحدث وأمّا بعده فلا يجري إلّا «فقد وجب الشراء» أي العقد. فالخيار الثابت في مدّة ثلاثة أيام في معاملة الحيوان يجري في فسخ العقد فقط قبل احداث الحدث وبعده فلا خيار. فليس لذي الخيار إلّا حقّ وحداني وهو فسخ العقد.

ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قلت له: الرجل يشتري من الرجل المتاع ثمّ يدعه عنده، فيقول: حتّى آتيك بثمنه، قال: إن جاء فيما بينه وبين ثلاثة أيّام وإلّا فلا بيع له.(2)

يعني: إن جاء المشتري بالباقي من الثمن في ثلاثة أيام فلا خيار للبائع وإن لم يأت به فالبائع بالخيار فله فسخ العقد وبيع متاعه من الآخر.

فليس لذي الخيار إلّا حق الفسخ.

منها: خبر عمر بن حنظلة عن أبي عبدالله (علیه السلام) في رجل باع أرضاً على أنّها عشرة أجربة، فاشترى المشتري منه بحدوده ونقد الثمن ووقّع صفقة البيع وافترقا، فلما مسح الأرض إذا هي خمسة أجربة، قال: إن شاء إسترجع فضل ماله وأخذ الأرض، وإن شاء ردّ البيع وأخذ ماله كلّه، إلّا أن يكون له إلى جنب تلك الأرض أيضاً أرضون فليؤخذ ويكون البيع لازماً له، وعليه الوفاء بتمام البيع، فإن لم يكن له في ذلك المكان غير الّذي باع فإن شاء المشتري أخذ الأرض واسترجع فضل ماله، وإن شاء ردّ الأرض وأخذ المال كلّه.(3)

بتقريب: المذكور في الخبر فسخ البيع وأخذ المشتري ماله كلّه أو أخد الأرض

ص: 37


1- وسائل الشيعة 18/13، ح2، الباب 4 من أبواب الخيار.
2- وسائل الشيعة 18/21، ح1، الباب 9 من أبواب الخيار.
3- وسائل الشيعة 18/27، ح1، الباب 14 من أبواب الخيار.

واسترجاع فضل ماله ولم يذكر أنّ من حقّه إلزام العقد وإبرامه.

بالجملة: يمكن استفادة التعريف الأوّل للخيار من هذه الروايات وأمثالها في مقام الإثبات والله هو العالم بالأحكام.

ص: 38

الجهة الثانية: أصالة اللزوم في البيع
اشارة

قال العلّامة في التذكرة: «مقدمة: الأصل في البيع اللزوم؛ لأنّ الشارع وضعه مفيداً لنقل الملك من البائع إلى المشتري، والأصل الاستصحاب، والغرض تمكّن كلٍّ من المتعاقدين من التصرّف فيما صار إليه، وإنّما باللزوم ليأمن من نقض صاحبه عليه. وإنّما يخرج عن أصله بأمرين:

أحدهما: ثبوت الخيار إمّا لأحد المتعاقدين أو لهما من غير نقصٍ في أحد العوضين بل للتروّي خاصّة.

والثاني: ظهور عيب في أحد العوضين»(1).

وقال في القواعد: «الأصل في البيع اللزوم وإنّما يخرج عن أصله بأمرين: ثبوت خيارٍ وظهور عيب»(2).

وتبعه جماعة من الفقهاء كالشهيد(3) والفاضل المقداد(4) والمحقّق الكركي(5)

ص: 39


1- تذكرة الفقهاء 11/5.
2- قواعد الأحكام 2/64.
3- القواعد والفوائد 2/242، قاعدة 243.
4- التنقيح الرائع 2/44.
5- جامع المقاصد 4/282.

والأردبيلي(1) والسبزواري(2) وصاحب الجواهر(3) والشيخ الأعظم(4) قدس الله أسرارهم.

وفيها بحوث:

البحث الأوّل: محتملات المراد من أصالة اللزوم في كلام الشيخ الأعظم
اشارة

قال الشيخ الأعظم: «المستفاد من كلمات جماعة أنّ الأصل هنا قابل لإرادة معانٍ»(5):

الأوّل: الراجح الغالب

قال المحقّق الثاني: «أنّ الأرجح فيه [في البيع] ذلك [أي اللزوم] نظراً إلى أنّ أكثر أفراده على اللزوم»(6).

بتقريب: الاستدلال «مركب من صغرى وكبرى، أما الصغرى فغلبة كون البيوع لازمة، وأما الكبرى فإلحاق المشكوك بالأعم الأغلب، فإذا شك في لزوم فرد من العقود أو جوازه، يلحق بالأعم الأغلب»(7).

ويرد عليه: أوّلاً: المناقشة في الكبرىٰ: لأنّ الحاق الشيء بالأعم الأغلب إلحاق ظني والظن الناشيء من الغلبة لا دليل على حجيته وترك الشيخ هذه المناقشة لوضوحها.

ص: 40


1- مجمع الفائدة والبرهان 8/382.
2- كفاية الأحكام 1/469.
3- الجواهر 24/3 (23/3).
4- المكاسب 5/13.
5- المكاسب 5/13.
6- جامع المقاصد 4/282.
7- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/56.

ثانياً: قد ناقشه الشيخ الأعظم بما حاصله: «أنّ غلبة الأفراد غير متحققة؛ لكون الغالب في أفراد البيع أن تنعقد جائزة؛ لخيار المجلس أؤ الحيوان أو الشرط...، وغلبة الأزمان وإن كانت على اللزوم - لأن الغالب فيها أن تكون لازمة بعد افتراق المتبايعين، أو بعد مضي ثلاثة أيام في بيع الحيوان - إلّا أنها لا تثبت الغلبة في الأفراد، فلا تنفع لإثبات اللزوم في الأفراد المشكوكة التي هي محل الابتلاء؛ فإن الغلبة في الأزمان لا توجب الغلبة في الأفراد، ليلحق الفرد المشكوك بالغالب.

وعليه فلو تمت الكبرى لكان الدليل على عكس المدعى، أي أن الأغلب في الأفراد هو الجواز والشيء يلحق بالأعم الأغلب(1)»(2).

المناقشة مع الشيخ الأعظم

لكن يمكن أن يناقش في غلبة الأفراد وامكان «تصحيحها بعد تقييد المعاملة بما بعد المجلس والثلاثة أيام في الحيوان، فإنه لنا أن نقول إن الغالب في أفراد البيع هو اللزوم فيما بعد المجلس أو الثلاثة أيام في بيع الحيوان - مثلاً-»(3).

وقد استشكل المحقّق اليزدي(4) (رحمة الله) في «غلبة الأزمان لا تنفع في الأفراد المشكوكة»: «بأنّ الشك في فرد من البيع أنه لازم أو جائز يلازم الشك في جوازه في زمان خاص، فإذا الحق هذا الزمان بحكم الغلبة بسائر الازمنة في اللزوم، نفع ذلك في إثبات اللزوم بالنسبة إلى الفرد وإن لم يكن بعنوانه، وهو لا يضر لتلازم الحيثيتين واقعاً، فثبوت الحكم من إحداهما يكفي في المدعى.

ص: 41


1- المكاسب 5/14.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/56.
3- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/19.
4- حاشية المكاسب 2/369، تعليقة رقم 499.

كما استشكل المحقّق الإيرواني(1) (رحمة الله) فيه أيضاً: بان وقوع العقد في غالب الأزمان على صفة اللزوم إن كان نافعاً في الحاق الزمان المشكوك من عقد واحد فهو نافع في الحاق تمام أزمنة عقد واحد، لأن أثر الغلبة إلحاق النادر بالغلب سواء كان النادر تمام أزمنة عقد واحد أو بعض أزمنته»(2).

الدفاع عن الشيخ الأعظم

ولكن يمكن أن ندافع عن الشيخ «وذلك لأن المعتبر في باب الغلبة أن يكون هناك جامع بين الغالب والنادر والمشكوك كي يلحق المشكوك منه بالغالب منه، فإذا لوحظت الغلبة من حيث الأزمان، [فإنّها] لم تتصور إلّا في فرد معين يكون الغالب في زمانه اللزوم وإنما يشك في بعض أزمنته أنه لازم أو لا. أما إذا شك في فرد أنه لازم أو لا في جميع أزمنته - كالمعاطاة مثلاً - الذي هو محل الكلام، فلا تتأتى فيه هذه الغلبة، إذ ما هو الغالب الذي يراد إلحاق المشكوك فيه؟!

ولعل هذا هو مراد المحقّق الإصفهاني (رحمة الله) من قوله: «... وتوهم تلازم الحيثيتين إنما هو في الفرد الذي شك في لزومه وجوازه في زمان خاص وأما الفرد الذي يشك في لزومه وجوازه مطلقاً من دون خصوصية زمان فلا تلازم كما لا يخفى»(3).

فما ذكره المحققان يمكن أن يكون ناشئا من الخلط بين غلبة الأزمان وغلبة الأفراد»(4).

ص: 42


1- حاشية المكاسب 3/10.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/19.
3- حاشية المكاسب 4/19.
4- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/20.
الثاني: القاعدة المستفادة من العمومات والإطلاقات

«القاعدة المستفادة من العمومات والإطلاقات التي يجب الرجوع إليها عند الشك في بعض الأفراد أو بعض الأحوال، ومستندها مثل قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1)، وقوله سبحانه: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾(2)، وقوله (عزوجل): ﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾(3)، فإذا شك في لزوم فرد أو جوازه في حال ما يتمسك بها لإثبات لزومه، فهي مفيدة للأفراد والأحوال.

ولا يخفى عدم وجود العموم بالنسبة إلى الأحوال، وإنما الموجود هو الإطلاق، بخلاف الأفراد فإنها مشمولة لعموم «العقود».

وهذا الأصل لفظي؛ لقيام الدليل عليه من العمومات والإطلاقات، وسيأتي التعرض إلى خصوصياته، وعبّر الشيخ(4) (قدس سره) عنه بأنه حسن، لكن لا يناسب ما ذكره في التذكرة في توجيه الأصل»(5).

أقول: يأتي تفصيل البحث حول هذه العمومات والإطلاقات فانتظر.

الثالث: الاستصحاب

«المستصحب أحد أمرين:

1- العنوان المعاملي - كالبيع والصلح - المتحقق قبل الفسخ، فيستصحب بقاؤه بعد الفسخ.

2- الأثر الحاصل - الملكية الحاصلة بالبيع -، فإذا شككنا بعد الفسخ في بقائه

ص: 43


1- سورة المائدة /1.
2- سورة البقرة /275.
3- سورة النساء /29.
4- المكاسب 5/14.
5- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/56.

نستصحبه.

وهذا الأصل بتقريبيه أصل عملي، والمتيقن من كلام العلّامة (قدس سره) إرادة الثاني، وعبّر عنه الشيخ (قدس سره) أيضاً: بأنه حسن(1)»(2).

ولا يُرد على الاستصحاب الثاني إلّا «وقفتان يرجع في تحقيقهما إلى الأصول، وهما:

أوّلاً: إنه من استصحاب الأحكام الكلية.

ثانياً: إنه من استصحاب الكلي القسم الثاني لتردد الملكية الحاصلة أوّلاً بين اللازمة والجائزة.

وقد تحقّق لدينا صحة استصحاب الحكم الكلي خلافاً للنراقي(3) ومن تابعه(4)، كما تحقق لدينا صحة القسم الثاني من استصحاب الكلي.

هذا، مع ما ذكره الشيخ(5) (قدس سره) في مسألة المعاطاة من أن المستصحب شخص الملكية لا القدر المشترك، لأن اللزوم والجواز ليسا من عوارض الملكية، بل من أحكام العقد. وعلى كل حال فلا إشكال لدينا في إجراء الاستصحاب»(6).

الرابع: بناء العرف والشرع

«بناء العرف والشرع - بحسب الأصل الأولي - في المعاملات المعاوضية على اللزوم، وتقريبه:

ص: 44


1- الكاسب 5/14.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/57.
3- مناهج الأحكام والأصول /240.
4- كما في مصباح الأصول 3/148.
5- المكاسب 3/51 و 52.
6- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/22.

إن البيع في نفسه وبغض النظر عن الأمور الخارجية مبني على اللزوم، والجواز فيه ناشئ من أمر خارج عن ذات البيع، ككون المبيع حيواناً، أو اقتضاء المجلس، أو العيب، على العكس من العقود الجائزة كالهبة مثلاً؛ فإنها مبنية في نفسها على الجواز، واللزوم فيها من أمر خارج كشرط العوض في الهبة، وكون الموهوب له ذا رحم.

والحاصل: أن العقود الجائزة تقتضي بذاتها الجواز، على العكس من العقود اللازمة فإنها تقتضي بذاتها اللزوم.

ونظّر الشيخ (قدس سره) لها بقولهم: إن الأصل في الأجسام الاستدارة؛ فإنه لا ينافي كون أكثر الأجسام على غير الاستدارة لأجل القاسر الخارجي، وبهذا دفع كلام صاحب الوافية(1) (قدس سره) ؛ حيث أنكر هذا الأصل لأجل خيار المجلس.

ووجه الدفع أن الخيارات جميعها - بما فيها خيار المجلس - ناشئة من أمر خارج عن عقد البيع، ولا يوجد خيار ناشئ من البيع نفسه.

نعم، يرد النقض لو كان البيع في أول انعقاده محكوماً شرعاً بجواز الرجوع بحيث يكون جواز الرجوع حكماً فيه، لا حقاً مجعولاً قابلاً للسقوط؛ فإنه يكون منافياً لبنائه على اللزوم حينئذ، ولكنه مجرد فرض لا واقع له؛ لكون خيار المجلس حقاً لا حكماً.

هذا هو المراد من أصاله اللزوم، فمتى شككنا في مورد نحكم باللزوم؛ لاقتضاء ذات البيع ذلك.

وأما حمل كلام الشيخ (قدس سره) على إرادة قاعدة المقتضي والمانع - التي قال بها الشيخ هادي الطهراني(2) (قدس سره) [المتوفى 1331ق] - فهو فاسد؛ لتصريح الشيخ (قدس سره) بأن بناء

ص: 45


1- الوافية /198.
2- في كتابه: ذخائر النبوة في الخيارات والصلح /10، طبع بطهران، سنة 1390ق.

البيع عرفاً وشرعاً على اللزوم، ولا ربط لهذا الكلام بقاعدة المقتضي والمانع.

ثمّ إن الفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني هو أن الثاني ناظر إلى الأصل اللفظي، وهذا الوجه ناظر إلى الأصل اللبي بمعنى البناء العملي على اللزوم شرعاً وعرفاً.

إشكال المحقّق الإصفهاني (قدس سره) على الوجه الرابع

ولم يرتض المحقّق الأصفهاني (قدس سره) الأصل بالمعنى الرابع، وقرّبه بوجهين وناقشهما، والعمدة فيهما الوجه الأوّل، وهو محل اعتنائه أيضاً بحيث قال بعد مناقشته: فتدبره فإنه حقيق به، وتوضيح كلامه أعلى الله مقامه:

إنه لابدَّ أوّلاً من معرفة المراد من كون اللزوم في البيع والجواز في الهبة ذاتيين؛ فإن للذاتي استعمالات غير صحيحة فيما نحن فيه، وهي:

1- ذاتي باب الكليات الخمس، وهو ما يتقوّم به الشيء، ولا يعقل أن يكون هو المراد هنا؛ فإن البيع غير متقوم باللزوم، كما أن الهبة غير متقومة بالجواز.

2- ذاتي باب البرهان، وهو ما يكون وضع ذات الشيء كافياً لانتزاعه، كالإمكان بالنسبة إلى الممكن؛ فإن وضع ذات الممكن كاف لانتزاع الإمكان منها، وهذا المعنى باطل أيضاً؛ فإن وضع ذات الهبة غير كاف لانتزاع الجواز منها، كما أن وضع ذات البيع غير كاف لانتزاع اللزوم منه.

3- ذاتي بمعنى ما يكون ثابتاً للشيء بلا واسطة في الثبوت، وبلا واسطة في العروض، كالعرض الذاتي(1) المقابل للعرض الغريب(2)، وهو بهذا المعنى باطل

ص: 46


1- الأعرض الذاتي: العرض الذي منشأه الذات نحو التعجب للإنسان.
2- ما يلحق الشيء لذاته أو لأمر يساويه جزءً كان أو خارجاً يسمى عرضاً ذاتياً وما لا يكون كذلك يسمى عرضاً غريباً. اللمعات المشرقية /8.

أيضاً؛ لعدم كون اللزوم والجواز بلا واسطة في الثبوت؛ إذ كون العقد لازماً أو جائزاً إنما هو لوجود منشأ للاتصاف بأحدهما، فجعله بلا واسطة في الثبوت خطأ ظاهر، وأما بلا واسطة في العروض فواضح؛ بداهة أن الموصوف باللزوم والجواز دائماً نفس العقد، لا أن الموصوف بهما تارة نفس العقد، وأخرى أمر آخر متحد معه ليكون واسطة في العروض، فالبيع لازم بلا أية واسطة في عروض اللزوم، والهبة جائزة بلا أية واسطة في عروض الجواز.

وعليه فاقتضاء ذات البيع اللزوم، وذات الهبة الجواز - بأي معنى من المعاني المتقدمة - باطل، وليس الحال فيه كالحال في اقتضاء ذات الجسم للاستدارة وتشكّل الأشكال غيرها بقسر قاسر.

فالمراد من كونهما تارة بالذات وأخرى لا بالذات أن عقد البيع - بما هو عقد البيع - محكوم باللزوم شرعاً وعرفاً، وبانضمام حيثية إليه - ككون المبيع معيباً أو حيواناً - محكوم بالجواز، وعقد الهبة بالعكس؛ فإنه - بما هو عقد الهبة - محكوم بالجواز، وبما هو هبة لذي رحم محكوم باللزوم.

هذا حاصل الوجه الأوّل.

وقد ناقشه (قدس سره) بما حاصله: أنه إما غير مفيد في مورد الشك، وإما أجنبي عن المعنى الرابع، وتوضيح ذلك:

إن اللزوم والجواز إما أن يكونا ببناء العرف أو بجعل الشارع، فإن كانا ببناء العرف - كما قال الشيخ (قدس سره) من أن بناءهم على اللزوم في البيع - فلا يجدي في مورد الشك؛ لأن بناءهم ليس شيئاً آخر غير عملهم، فإن في العرف بابين: أحدهما الاستظهارات العرفية، والآخر السيرة وعمل العرف، فالبناء العرفي يرجع - قهراً - إلى عمل العرف والعقلاء، بمعنى أن بناء العقلاء عملاً على اللزوم في البيع، وحينئذ فليس عند العرف بناءان: عام وخاص، ومطلق ومقيد ليكون مقتضى بنائهم العام أو

ص: 47

المطلق اللزوم، ومقتضى بنائهم الخاص والمقيد الجواز، حتّى إذا شككنا - في مورد من الموارد - في التقييد أو التخصيص الزائدين رجعنا إلى العموم والإطلاق، بل العقلاء يعملون في موارد على اللزوم، وفي موارد أخرى على الجواز، وفي موارد الشك لا عموم عندنا ولا إطلاق حتّى يرجع إليه، هذا إذا كانا ببناء العرف.

وأما إذا كانا ببناء الشارع فهو لا يخرج عن حالين: إما أن يكون الإمضاء بعدم الردع عن ما عند العرف، فلا ينفع في مورد الشك؛ لأن حاله حال البناء العرفي المتقدم.

وإما أن يكون بالأدلة اللفظية ذات العموم والإطلاق كقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ فهو وإن كان مفيداً في مورد الشك بحيث يحكم بلزوم الفرد المشكوك إلّا أنه أجنبي عن المعنى الرابع للأصل؛ لرجوعه حينئذ إلى القاعدة المستفادة من العمومات.(1)

الجواب عن إشكال المحقّق الإصفهاني (قدس سره)

والجواب عنه: أن السيرة العملية هنا ليست عملاً تعبدياً، بل بما لها من منشأ عقلائي، كما يشهد لذلك بيان العلّامة (قدس سره)، حيث قال: «والغرض تمكن كل من المتعاقدين من التصرف فيما صار إليه، وإنما يتم باللزوم ليأمن من نقض صاحبه عليه»(2)، ومعناه: أن العقد في المعاوضات إذا كان متزلزلاً بطل غرض العقلاء، إذ غرضهم أن يملكوا بملكية مستقرة، وإذا وقع البيع متزلزلاً جاز لكل من الطرفين أن يفسخ العقد متى شاء، غاية الأمر إن كانت العين موجودة ردَّها بنفسها، وإن تلفت رجع إلى المثل أو القيمة، وبذلك ينهدم نظام المعاملات، ولا يطمئن أحد في بيع، ولهذا

ص: 48


1- حاشية المكاسب 4/(22-19).
2- تذكرة الفقهاء 11/5.

استقر بناء العقلاء على أن يلتزموا بمعاملاتهم، وأن لا يرجعوا فيها، فكل عاقل - بما هو من العقلاء - يرى نفسه ملزماً بالعقد الذي يحدثه، وهذا شبيه بالشروط الارتكازية العقلائية، فهي وإن لم يصرح بها في متن العقد إلّا أنه مبني عليها، ولهذا اعتبر المحقّق النائيني (قدس سره) الدلالة على هذا اللزوم من الدلالة الالتزامية للعقد(1)، فالمدلول المطابقي لعقد البيع هو نفس البيع والشراء، ومدلوله الالتزامي هو الثبات والبقاء على قوله إلى الأبد، وبهذه الجهة يرى المتعامل نفسه بعد المعاملة أجنبياً عن ما انتقل عنه.

هذا هو المقصود بالأصل بالمعنى الرابع، وهذا البناء مثل البناء العقلائي على حجية خبر الواحد الثقة، فإذا شك في حجية خبر الثقة غير الإمامي شرعاً، ولم يكن هناك دليل لفظي كانت هذه السيرة العقلائية مرجعاً ما لم يردع الشارع عنها أو عن بعض مصاديقها، فكذلك في المقام؛ فإنه إذا شك في لزوم عقد عند الشارع كان المرجع هذه السيرة ما لم يردع عنها.

قوله: «إن بناء العرف هو عملهم، والعمل لا إطلاق فيه ولا عموم حتّى يرجع إليه في حالة الشك في التخصيص»، مخدوش؛ لأنّ السيرة العقلائية ناشئة من مناشئ عقلائية، وهي بمرأى ومسمع من الشارع، فإن شككنا في قيام سيرتهم في مورد ما، لم يمكن التمسك بها، وإن شككنا - بعد إحراز قيامها عندهم - في شرعيتها؛ أي في إمضائها وعدمه، فهي مرجع قطعاً، وما نحن فيه من قبيل الثاني؛ لأن الشك إنما هو في انفساخ العقد شرعاً بعد الفسخ وعدمه، فإذا ثبت بناء العقلاء بهذا المعنى فهو المرجع.

نعم، لا يجري هذا الأصل بهذا المعنى في كلِّ عقد مشكوك، بخلاف عموم ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ فإنه يجري في كلِّ معنون بعنوان العقد، وبخلاف الاستصحاب فإنه يجري في كلِّ عقد له أثر فيستصحب بقاء ذلك الأثر، وأما هذا الأصل فلا يجري إلّا في

ص: 49


1- منية الطالب 3/4.

المعاملات المشتملة على المعاوضة، أو ما يشبه عقد المعاوضة كالنكاح، فلا يكون مرجعاً إلّا فيها، فإذا شككنا في حقية فسخ الزوج للعقد في مورد من الموارد قلنا: إن بناء العرف في النكاح على اللزوم، فمتى ما أجريت الصيغة فهي منزلة على بنائهم، فيرفع الشك في تأثير الفسخ بهذا الأصل.

هذا هو المراد من الأصل بالمعنى الرابع عند الشيخ (قدس سره) وغيره من الأعاظم، والأصل فيه ما أفاده العلامة (قدس سره) في كلامه المتقدم من أن الغرض من المعاملات حصول الملكية المستقرة، ولو بني على تزلزلها لانهدم بنيان النظام المعاملي.

ثمّ إنه إن ورد ردع من قبل الشارع عن هذا البناء العقلائي كان الردع بحكم التخصيص، وإلا كان البناء العقلائي مرجعاً حال الشك، وبهذا البيان يندفع إشكال المحقّق الإصفهاني (قدس سره).

البحث الثاني: مناقشة كلام الشيخ (قدس سره) في التفريق بين البيع وغيره

ومنه يظهر الإشكال في تفريق الشيخ (قدس سره) بين البيع وغيره من العقود حيث قال: «ثمّ إن الأصل بالمعنى الرابع إنما ينفع مع الشك في ثبوت خيار في خصوص البيع؛ لأن الخيار حقّ خارجي يحتاج ثبوته إلى الدليل، أما لو شك في عقد آخر من حيث اللزوم والجواز فلا يقتضي ذلك الأصل لزومه؛ لأن مرجع الشك حينئذ إلى الشك في الحكم الشرعي»(1).

فإن بناء العقلاء كما هو في البيع على عدم الرجوع، والبقاء على الالتزام، فكذلك في سائر العقود، فإذا رجع فيها فهو مخالف للبناء في نظرهم، ويجري ذلك حتّى في الهبة؛ ولهذا كان الرجوع فيها قبيحاً عندهم؛ لأن غرضهم منها إيجاد المحبة، والرجوع مناف له.

ص: 50


1- المكاسب 5/17.

وعليه فالحق أن يقال في الهبة بالتخصيص، بمعنى أن المحكوم منها بالجواز - وهو ما يكون لغير ذي الرحم، وما لم تقصد به القربة - خارج بالتخصيص، فالحكم بالجواز فيه مثل جعل الخيار في بعض موارد البيع.

البحث الثالث: معنى قول العلامة (قدس سره) : لا يخرج من هذا الأصل إلاّ بأمرين

بقي الكلام في معنى قول العلامة (قدس سره) في القواعد والتذكرة: إنه لا يخرج من هذه الأصل إلّا بأمرين: ثبوت خيار، أو ظهور عيب.(1)

فقد وقع الكلام في ذلك من جهة أن خيار العيب أحد أقسام الخيار، ومقابلته به تقتضي خروجه عنه، فحق العبارة أن يقال: بثبوت الخيار وأسبابه المجلس والغبن والعيب...، وقد ذكرت في رفع ذلك وجوه:

الوجه الأوّل: ما في جامع المقاصد(2): من أنه من عطف الخاص على العام.

إن قلت: ما هي الخصوصية لخيار العيب على فرض صحة أنه من عطف الخاص على العام؟

قلت: لعله لأنه لا يوجد في جميع الخيارات إلّا أمر واحد ما عدا العيب فإن فيه أمرين: الخيار والأرش.

وأورد عليه الشيخ (قدس سره) بأنه صحيح لو قال: بأسباب الخيار، ولكن المعطوف عليه نفس الخيار، فالمعطوف سبب الخيار، والمعطوف عليه أصل الخيار، وهما متباينان.(3)

الوجه الثاني: ما أجاب به الشيخ (قدس سره) وإن رجع عنه فيما بعد، وحاصله: أن خيار

ص: 51


1- القواعد 2/64؛ تذكرة الفقهاء 11/5.
2- جامع المقاصد 4/282، لم يصرح بذلك ولكن بستفاد من كلامه.
3- المكاسب 5/15.

العيب يفترق عن بقية الخيارات بأنها خيار بالنسبة إلى الجميع، وهو خيار بالنسبة إلى المجموع، وتوضيحه:

إن الرد في بقية الخيارات لجميع الثمن، وأما في العيب فيرد مقدار النقص، وهذه الخصوصية أوجبت ذكر العيب منفرداً.(1)

وهذا الجواب تام على مبنى من يرى أن الأرش جزء حقيقي من الثمن(2)، وهو باطل عندنا، والتحقيق - كما سيأتي في محلِّه - أن الأرش غرامة، ففي خيار العيب حقان: فسخ العقد، وأخذ الغرامة.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) : من أن الخيارات على قسمين: ما يكون متعلقه ابتداءً هو فسخ العقد وإمضاؤه، وهو ما عدا خيار العيب من الخيارات، والآخر ما يتعلق ابتداء برد العين، نظير الجواز في الهبة، وهو خيار العيب خاصة؛ فإنه مختص بصورة بقاء العين، وعنوان الابتدائي حق رد العين وإن استلزم رد العين انحلال العقد.(3)

وهذا التوجيه مما لا يرضى به صاحبه؛ فإن العلّامة (قدس سره) في التذكرة في بحث العيب وقال: بأن الأصل في الثمن والمثمن هي السلامة من العيوب، ويقع البيع من المتبايعين مبنياً على هذا الأصل، فالسلامة شرط ضمني فيه، فإذا تبين كون أحد

ص: 52


1- المكاسب 5/16.
2- فهذا الجواب مناسب لمبنى العلامة في الأرش، حيث قال في التذكرة 11/81، مسألة 267: (لأن الأرش في الحقيقة جزء من الثمن). وفي 11/83، مسألة 269: «والأقوى عندي: أن للمشتري المطالبة بالأرش مع الإمساك؛ لأنه جزء من الثمن مقابل لما تلف قبل قبضه من المبيع، فكان له المطالبة به، كالجميع».
3- حاشية المكاسب 4/23؛ وقال بعد التوجيه المذكور: «ومع ذلك فهو تكلّف في العبارة أيضاً؛ فإن المقابلة إنما هو بين حق حلّ العقد ابتداء وحق رد العين ابتداء، لا بين الأوّل وسبب الثاني، إلّا أنه أهون من التقابل بين المسبب وسببه، فتدبر جيداً».

العوضين معيباً انجبر العيب بالخيار بين الفسخ وإمضاء العقد.(1)

فكلام العلّامة (قدس سره) صريح في أن خيار العيب كخيار سائر الشروط وأن السلامةَ شرطٌ يوجب تخلُّفُهُ بالعيبِ الخيارَ بين فسخ العقد وإمضائه وهو خيار العيب، كما يوجب تخلّف أي شرط آخر كون صاحبه مخيراً - حفظاً لشرطه - بين فسخ العقد وإمضائه، ومعه كيف يفرق - على مسلكه - بين خيار العيب وغيره، بكون المتعلق فيه هي العين استرداداً، وفي غيره العقد فسخاً وإمضاء؟

نعم، ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) يناسب ما تبنّاه، وهو من أن خيار العيب يتعلق برد العين؛ استناداً لعمدة روايات خيار العيب؛ فإن فيها: «له رد العين»، ولكن هذا شيء وما يريده العلامة (قدس سره) من كلامه شيء آخر، فلابد عند التحقيق من التفكيك بينهما، مضافاً إلى أنا لا نوافقه في ما أفاده، بل يتعلق الخيار بالفسخ، ويشهد له أيضاً بعض الروايات، ولا تنافي بين هاتين الطائفتين من الروايات، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

الوجه الرابع: ما أفاده المحقق النائيني(2) (قدس سره) واستحسنه المحقّق السيّد الخوئي(3) (قدس سره) وهو: إن أصالة اللزوم في البيع متكفلة لجهتين:

الأولىٰ: كون الطرفين متعهدين بالبقاء على المعاملة، وعدم فسخها، والخيار بحاجة إلى جعل من الشارع أو من المتعاقدين، لهما، أو لأحدهما.

الثانية: أن يكون كل من العوضين في قبال الآخر بلا زيادة أو نقصان، بدون أن يكون لأحدهما مطالبة ما زاد على ذلك.

وخيار العيب عند ظهوره يوجب رفع اليد عن كلتا الجهتين، أما الأولى فلأنه

ص: 53


1- التذكرة 11/80.
2- منية الطالب 3/7.
3- مصباح الفقاهة 6/21؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/19.

ليس له الفسخ مع السلامة لا مع عدمها، وأما الثانية فلأن له حق المطالبة بالأرش، بخلاف سائر الخيارات فإنها لا توجب إلّا رفع اليد عن الجهة الأولى، ولهذا جعل العلّامة (قدس سره) خيار العيب في مقابل سائر الخيارات.

وهو ممنوع؛ لأن التأمل في كلمات العلّامة (قدس سره) يقضي بأن الخيارات جميعها قد شرعت للخروج عن أصالة اللزوم، لا لوجود جهتين منها في خيار العيب، فإن أصالة اللزوم في مقابل أصالة الجواز لا أكثر، فإن العقد لازم أو جائز، والجواز إما بتعبد من الشارع كالجواز في عقد الهبة، أو بالحق لا بالحكم كالجواز في خيار العيب والغبن والتدليس والمجلس والحيوان وتأخير الثمن»(1).

الوجه الخامس: توجيه الأستاذ المحقّق مدظله

قال مدظله: «والذي يخطر بالبال عدم الحاجة إلى هذه التكلفات، فإن العلّامة (قدس سره) في أوّل بحث الخيار قد أثبت لزوم البيع بدليلين: أحدهما الاستصحاب، والآخر غرض المتعاملين المتوقف على استقرار الملك، ولا يخرج من هذا الأصل إلّا بأحد أمرين: الأوّل الخيار لأجل التروّي(2)، والثاني الخيار لأجل النقص وظهور العيب، وهذه النكتة هي منشأ التقابل المذكور.

نعم، ينقض عليه بخيار التدليس؛ إذ يفترض أن يجعل مع العيب، إلّا أن ذلك أمر آخر؛ فإن الكلام فعلاً في تحديد مراده، والكلام فيه شيء والإشكال عليه شيء آخر»(3).

أقول: لا أفهم من عبارة الأستاذ المحقّق مدظله شيئاً ولعلّ لقصور بالي وعمق ما

ص: 54


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(69-58).
2- التفكير مَلِيّاً.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/69.

أفاده ولكن الظاهر أنّه لم يأت بشيءٍ إلّا إعادة كلام العلّامة في التذكرة(1) بعينه كما مرّ(2) مفصلاً في أوّل البحث.

وانتقاضه على العلّامة بخيار التدليس أيضاً لم يرد لأنّ التدليس غير خيار العيب، لأنّه يوجب الخيار ولو لم يكن عيباً كما ذهب إليه العلّامة.(3)

والذي أذهب إليه: لم يرد أصل الإيراد على العلّامة (قدس سره) وهو ينشأ من عدم مراجعة كلامه في كتابيه «تذكرة الفقهاء» و «قواعد الأحكام» مع الأسف الشديد، والأعلام أعلى الله مقاماتهم لو راجعوا كتابيه فيرووا أنّ العلّامة أوّلاً: يذكر الخيارات(4) برومتها ومنها خيار العيب(5) ويبحث فيها. ثمّ ثانياً: يفتح فصلاً جديداً يبحث فيه حول العيب وحقيقته وأحكامه(6)، فهو لم ينفرد خيار العيب بالبحث في المقام الثاني من كلامه حتّى يرد عليه الإيراد ويحتاج إلى الوجوه الخمسة الماضية، فياليت يرجعون كتابي العلّامة قبل الإيراد عليه حتّى ظهر لهم عدم ورود الإيراد وسبحان من لا يسهو وهو العالم.

ص: 55


1- تذكرة الفقهاء 11/3.
2- راجع صفحة 39 من هذا المجلد.
3- تذكرة الفقهاء 11/80، مسألة 266.
4- تذكرة الفقهاء 11/7؛ قواعد الأحكام 2/64.
5- تذكرة الفقهاء 11/80؛ قواعد الأحكام 2/68، نعم لم يبحث خيار العيب في القواعد وأحاله إلى الفصل الثاني 2/72 وقد جمع فيه بين البحثين.
6- تذكرة الفقهاء 11/189؛ قواعد الأحكام 2/72.
البحث الرابع: أدلة أصالة اللزوم
اشارة

قد استدل الشيخ الاعظم(1) على أصالة اللزوم بوجوه:

الوجه الأوّل: قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾

الوجه الأوّل: قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(2)

«قد اختلف في نحو التمسك بهذه الآية على اللزوم، فتمسك بها عدة من الأعاظم لكون هيئة ﴿أَوْفُوا﴾ إرشاداً إلى اللزوم(3)، وآخرون - ومنهم الشيخ (قدس سره) - لدلالتها على الوجوب التكليفي بالمطابقة وعلى الحكم الوضعي - وهو اللزوم - بالالتزام، وبين القولين فرق من جهتين:

الأولى: إن اللزوم على مبنى الشيخ (قدس سره) مدلول التزامي، وعلى المبنى الآخر مطابقي.

الثانية: حفظ أصالة الظهور في هيئة ﴿أَوْفُوا﴾ على مبنى الشيخ (قدس سره) ؛ إذ ظاهر

ص: 56


1- المكاسب 5/17.
2- سورة المائدة /1.
3- كالمحقّق النائيني (قدس سره) في منية الطالب 3/10؛ والسيّد الخوئي (قدس سره) في مصباح الفقاهة 6/25؛ وفي التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/(24-23)، مع اختلاف في نحو الاستدلال بين العلمين.

الهيئة دلالتها على الوجوب التكليفي، وحملها على الإرشاد خلاف الظاهر.

وتوضيح كلام الشيخ (قدس سره) يتوقف على بيان أمور ثلاثة هي:

الأمر الأوّل: إن الشيخ (قدس سره)

- على ما حققه في أصوله(1)- يرى عدم قابلية الأحكام الوضعية للجعل المستقل، بل هي منتزعة من الأحكام التكليفية، فلا محالة من حمل ﴿أَوْفُوا﴾ على التكليف، بخلاف القائلين بجعل الأحكام الوضعية استقلالاً، فإنهم في سعة من هذه الجهة، وسيأتي بيان صحة المبنى من سقمه إن شاء الله.

الأمر الثاني: إن الأصل في جميع الألفاظ - مادة وهيئة - هو الأخذ بالظهور العرفي للفظ ما لم تقم قرينة على الخلاف، ومع عدم القرينة لا يصح رفع اليد عن الظهور شرعاً وعرفاً وعقلاء، ولا شك في ظهور هيئة (افعل) في التكليف، والإرشاد إلى الحكم الوضعي خلاف الظهور.

الأمر الثالث: إن الموضوع في الآية هو ﴿الْعُقُودِ﴾، والمراد من العقد مطلق العهد كما في صحيحة عبدالله بن سنان المروية في تفسير القمي(2)، وبما أن العقود جمع محلى بالألف واللام فهو يفيد جميع العهود، ومن المتسالم عليه أن وجوب الوفاء في بعض العهود حكم تكليفي ليس إلّا، كوجوب الوفاء بالنذر وشبهه، فلو أريد من هيئة ﴿أَوْفُوا﴾ في المقام الإرشاد إلى الحكم الوضعي لزم استعمال الهيئة في معنيين: الحكم التكليفي والوضعي، وهو باطل.

توضيح استدلال الشيخ (قدس سره) بالآية

إذا اتضحت هذه الأمور فنقول: المستفاد من الآية بالمطابقة الحكم التكليفي وهو وجوب الوفاء بالعقود، ويستفاد الحكم الوضعي - وهو اللزوم - بالدلالة

ص: 57


1- فرائد الأصول 3/125.
2- تفسير القمي 1/160.

الالتزامية بهذا البيان:

إن العقد في الآية إما أن يراد به مطلق العهد كما ورد في التفسير، وإما أن يراد به ما يسمى عقداً لغة وعرفاً وهو الالتزام المربوط بالتزام آخر، والمراد بوجوب الوفاء: العمل بما اقتضاه العقد في نفسه، فإذا دل العقد على تمليك العاقد ماله للغير وجب العمل بما يقتضيه هذا التمليك من ترتيب آثار ملكية ذلك الغير له، ومنها عدم جواز التصرف فيه بغير إذنه، ومقتضى الإطلاق عدم جواز التصرف فيه بغير إذنه في جميع الأوقات والأحوال، ومنها ما بعد الفسخ، ولازم حرمة التصرف حتّى بعد الفسخ عدم وقوع الفسخ؛ إذ لا يعقل وقوعه ورجوع المال لصاحبه الأوّل ومع ذلك يحرم عليه التصرف فيه، ومعنى عدم وقوع الفسخ هو الحكم باللزوم، فإذن الحكم التكليفي يقتضي حرمة التصرف في ما ملّكه للغير حتّى بعد الفسخ، ولازمه الحكم الوضعي وهو لزوم العقد.

والحاصل: أن مقتضى عموم العقود وجوب الوفاء بكل عقد، ومقتضى الإطلاق الأحوالي والأزماني وجوب الوفاء في كل حال وزمان حتّى بعد الفسخ، بمعنى حرمة التصرف في ما انتقل عنه إلى الغير حتّى بعد الفسخ من قبل المالك الأوّل، ولازم ذلك أن العقد لازم، فالدلالة المطابقية قامت على الحكم التكليفي، والدلالة الالتزامية على الحكم الوضعي.

ويؤكد هذا المطلب أنه لو حملت الآية على الإرشاد إلى اللزوم ونفيت دلالتها على الحكم التكليفي بوجوب الوفاء للزمت محاذير ثلاثة:

الأوّل: رفع اليد عن أصالة الظهور مع عدم القرينة على خلافها؛ إذ تدل هيئة (افعل) على البعث والتحريك، والظاهر منها الحكم التكليفي، فحملها على الإرشاد إلى اللزوم خلاف الظاهر ولا قرينة عليه.

الثاني: منافاة حمل الآية على الإرشاد إلى اللزوم ابتداء بالدلالة المطابقية لما حققه

ص: 58

في الأصول من عدم قابلية الأحكام الوضعية للجعل بالاستقلال، بل هي منتزعة من الأحكام التكليفية.

الثالث: استعمال الصيغة في معنيين، وذلك لأن العقود بمعنى العهود تشمل ما لا يتصور فيه الحكم الوضعي كوجوب الوفاء بالنذر وشبهه، فيلزم أن تكون صيغة ﴿أَوْفُوا﴾ مستعملة في معنيين: الحكم التكليفي والوضعي وهو باطل.

قال الشيخ (قدس سره) : «ومما ذكرنا ظهر ضعف ما قيل(1): من أن معنى وجوب الوفاء بالعقد: العمل بما يقتضيه من لزوم وجواز، بمعنى أنه إن كان مقتضى العقد الجواز كالهبة جاز الفسخ، فلا يتم الاستدلال به على اللزوم.

توضيح الضعف: أن اللزوم والجواز من الأحكام الشرعية للعقد، وليسا من من مقتضيات العقد في نفسه مع قطع النظر عن حكم الشارع. نعم، هذا المعنى - أعني: وجوب الوفاء بما يقتضيه العقد في نفسه - يصير بدلالة الآية حكماً شرعياً للعقد، مساوياً للزوم»(2).

الايرادات على الشيخ الأعظم

أورد على الشيخ الأعظم عدّة ايرادات:

الأوّل: «ما أورده المحقّق الخراساني (قدس سره) وتبعه من جاء بعده(3)، وبيانه: إن الوفاء بالعقد هو العمل بما يقتضيه ذلك العقد، والعقود تنقسم إلى قسمين: أحدهما ما يتعلق بالأمور الخارجية كالنذر وشبهه، والآخر ما يتعلق بالأمور الاعتبارية كالبيع والصلح، والوفاء في كلا القسمين وإن كان واحداً مفهوماً وحقيقة إلّا أنه يختلف فيهما

ص: 59


1- القائل هو العلّامة في المختلف 6/255.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(75-70).
3- حاشية المكاسب للآخوند /145؛ حاشية المكاسب للأصفهاني 4/29؛ مصباح الفقاهة 6/(24-23)؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/22.

من حيث اختلاف المتعلق، فالوفاء بالعقد في مثل النذر المتعلق بالأفعال الخارجية يقتضي الإتيان بالفعل الذي تعلّق به النذر، فلو نذر أن يخدم العالم، أو أن يعطي الفقير مالاً فالوفاء يقتضي أن يقوم بالخدمة للعالم وأن يعطي الفقير المال؛ لأن متعلّق العقد هو الفعل الخارجي فيلزمه الإتيان به، وأما إذا كان متعلّق العقد أمراً اعتبارياً - كتمليك الدار بعوض - فمقتضى الوفاء به أن يمضي على هذا الالتزام ويبرمه وأن لا يرجع فيه ولا يفسخه.

فالوفاء بالعقد عبارة عن العمل بمتعلق ذلك العقد لا العمل بغيره، ومن هذا يتضح أن حرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه ليست بمقتضى عقد البيع نفسه، بل هي من مقتضيات الملكية، سواء أحصلت من البيع أم من الإرث أم من أي شيء آخر.

ويشهد لذلك أنه لو باع ماله للغير وكان بانياً على غصبه منه أو التصرف فيه بدون إذنه لم يكن ذلك نقضاً للعهد ولا فسخاً للبيع، ومثله ما لو تزوج امرأة وبنى في حال إنشاء العقد على عدم إعطائها حقوق الزوجية؛ فإنه لا يعد عدم إعطائها تلك الحقوق نقضاً لعقد الزوجية؛ إذ أن نقضه المقابل للوفاء به يتم برفع اليد عن الزوجية وفسخ العقد الواقع.

فما أفاده الشيخ (قدس سره) من أن مقتضى عقد البيع حرمة التصرف في ما انتقل عنه بدون إذنه غير تام؛ ولا ربط له بمقتضى العقد؛ فإن مقتضى العقد تمليك الغير بعوض وتبديل طرفي الإضافة. نعم، لو تعلق العهد بعدم أخذ المال منه وأخذه كان نقضاً لعهده، ولكنه ليس كذلك في البيع، وهذا الإشكال أقوى الإشكالات الواردة على الشيخ (قدس سره) »(1).

وقد اجيب عنه: بأنّه «لو قلنا بأنّ المراد من الوفاء بالعقد هو عدم جواز

ص: 60


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/75 و 76.

التصرف في مال الغير بدون إذنه لكان الإشكال وارداً؛ لأن عدم جواز التصرف من مقتضيات الملكية لا العقد، وما هو مقتضى العقد هو الالتزام به.

ولكن مقتضى التحقيق: أن الوفاء بالبيع لا ينحصر في الأمر الاعتباري وهو البقاء على الالتزام البيعي، وعدم نقضه، بل الوفاء بالبيع - بل بجميع المعاملات - بمقتضى العرف واللغة يأتي بمعنى آخر خارجي وهو تسليم وتسلّم العوضين من قبل المتعاملين.

أما العرف - وهو المرجع في صدق الوفاء في المعاملات - فإنهم يرون البائع قد وفى بالتزامه عند ما يسلم المثمن للمشتري، ويرونه قد خالف الوفاء عند ما لا يسلمه له، وكذلك في جانب المشتري عندما يسلم الثمن أو لا يسلمه.

وأما اللغة فالمستفاد منها أن حقيقة الوفاء إنهاء الأمر، وإنهاء البيع يتم بتسليم البائع للمبيع، والمشتري للثمن.

وحيث إن التسليم عمل خارجي وهو مصداق حقيقي للوفاء عرفاً ولغة فهو يصلح أن يتعلق به التكليف، ومع إمكان تعلق التكليف به ولو بنحو الموجبة الجزئية يكون رفع اليد عن إرادة الحكم التكليفي وحمل اللفظ على إرادة الحكم الوضعي - وهو اللزوم - خلاف القاعدة.

والنتيجة: أن مقتضى عقد البيع هو تسليم المبيع، لا عدم جواز التصرف في مال الغير بدون إذنه حتى يرد الإشكال، فإن كل عقد بحسب ارتكاز العقلاء يقتضي تسليم العوض، ويؤاخذ عندهم صاحب المال لو لم يسلمه للآخر؛ لتخلفه عن الشرط الارتكازي، ويرون أن للآخر خيار عدم التسليم، ويشهد له: خيار تعذر التسليم؛ فإن التسليم إذا كان متعذراً كان للطرف الآخر الخيار، فلو لم يكن التسليم من مقتضيات العقد لما تعقل الخيار عند تعذره.

والتسليم الذي هو مقتضى عقد البيع قابل لتعلق التكليف به لكونه فعلاً

ص: 61

خارجياً، فلا مناص من الحمل عليه لا على الإرشاد.

ولا يخفى أن اقتضاء العقد للتسليم أمر استمراري لا آني، بمعنى أن المتعاقدين مأموران بتسليم متعلّق العقد في كل آن، فإذا أوقع العقد وجب عليه التسليم، وإذا فسخه توجه الأمر إليه بوجوب التسليم أيضاً بمقتضى ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، ووجوب تسليم المال عليه مع كونه في ملكه غير معقول، فيكشف عن عدم نفوذ الفسخ وأن المال باق تحت ملك طرف العقد»(1).

الثاني: ما ذكره المحقق اليزدي(2) (رحمة الله) «من أنّ العقد مطلق العهد، سواء كان عهداً من الله سبحانه كالتكاليف. أو عهداً بين العبد وخالقه، كالنذر وشبهه. أو عهداً بين الخلق بعضهم مع بعض، كالمعاملات. وبما أن من التكاليف ما لا يجب امتثاله كالمستحبات، كان عموم العهد موجباً لصرف ظهور الأمر في الوجوب وحمله على القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب، فلا ينفع في إثبات وجوب الوفاء في مورد الشك»(3).

وقد اجيب عنه: «بأنّه من الواضح أن العقد ليس بمعنى العهد بقول مطلق، إذ لا يرتاب أحد في عدم صدق العقد على وجوب الصلاة واستحباب غسل الجمعة وغيرها من التكاليف الشرعية، والموضوع في الآية الكريمة ليس مطلق العهد، بل الموضوع هو العقد وهو عهد خاص.

وعليه، فلا ضير في الالتزام بظهور الأمر بالوفاء في اللزوم ولا يلزم منه محذور، لخروج التكاليف الشرعية عن موضوعه التي هي منشأ الاشكال»(4).

ص: 62


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/78 و 79.
2- حاشية المكاسب 2/371، تعليقة رقم 508.
3- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/24.
4- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/25.

الثالث: ما ذكره الفقيه اليزدي(1) أيضاً وغيره من: «أنّ موضوع الحكم بوجوب الوفاء هو العقد. ومن الواضح ان الحكم يدور مدار موضوعه، فإذا صدر الفسخ من أحد المتعاقدين وشك في تأثيره يحصل الشك في تحقق العقد، إذ الفسخ على تقدير تأثيره يؤثر في حل العقد وإزالته، فمع الشك في ذلك يشك في ثبوت العقد، فلا يمكن التمسك بعموم وجوب الوفاء بعد الفسخ للشك في موضوع الحكم.

فالمورد من موارد الشبهة المصداقية للعام، وهو مما لا يجوز التمسك بالعام فيه بلا كلام، فلا يتوهم أحد جواز التمسك بعموم: «أكرم كل عالم» في شخص يشك في كونه عالماً»(2).

وقد «أجيب عنه: بوجوه متعدده وعمدتها وجهان:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق الإصفهاني(3) (رحمة الله) ناسباً له إلى غير واحد من الأعلام(4) ويظهر منه تقريره وارتضائه، ومحصله بتوضيح: إن المراد من العقد ليس هو العقد اللفظي ولا الانشائي بما هو مدلول للكلام، ولا الالتزام القلبي لكل من البائع والمشتري لانه زائل قطعاً فلا بقاء له.

وإنما المراد بالعقد هو الاعتبار الشرعي أو العرفي الحاصل بواسطة الانشاء، فالعقد الذي يتصور فيه البقاء هو الموجود الاعتباري الذي يتحقّق باعتبار مَنْ بيده الاعتبار مِنْ شرع أو عرف بملاحظة ما يراه من مصلحة.

وبما أنَّ الموضوع الوارد في الدليل الشرعي يحمل على معناه العرفي، فالمراد من

ص: 63


1- حاشية المكاسب 2/372، تعليقة رقم 509.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/24.
3- حاشية المكاسب 4/32.
4- ومنهم آيةالله الميرزا محمّدتقي الشيرازي الحائري راجع حاشيته على المكاسب 2/71 وقد يأتي نص كلامه في المسقط الثاني للخيار المجلس فانتظر وراجع صفحة 258 من هذا المجلد.

العقد في الآية الكريمة هو العقد العرفي.

ومن الواضح أنه بالمعنى العرفي ذو بقاء بعد قول: «فسخت» وإنما الشك في تأثير الفسخ بنظر الشارع.

وفيه: أوّلاً: أن هذا الحديث لا يتأتى مع الشك في تأثير الفسخ في حلّ الملكية عرفاً، إذ كما يشك في بقاء العقد شرعاً يشك في بقائه عرفاً، فلا يمكن التمسك بالدليل.

وثانياً: إن العرف وإن كانت له اعتبارات مستقلة عن الشارع إلّا أنها إذا لم تكن ملغاة بنظره الأقدس.

بيان ذلك: أنه إذا فرض أن جماعة معينة حكمّوا شخصاً منهم في جميع أمورهم يتصرف بهم وبأموالهم كما يتصرف بماله من دون اعتراض منهم على ذلك بل كانوا يرون الحقّ له فيه. فإنه من الواضح أنه لا معنى لاعتبار الجماعة ملكية زيدٍ للمال إذا فرض أن ذلك الشخص اعتبر ملكية عمرو له، أو سلب عن زيد ملكيته، إذ الفرض أنهم يرون مال الغير بالنسبة إلى ذلك الشخص كماله، فكما أنه إذا ملك عمراً ماله لم يعتبروا ملكية زيد له بل إنما يعتبرون ملكية عمرو له، فكذلك بالنسبة إلى مال أحدهم.

إذا عرفت ذلك، ففيما نحن فيه الأمر كذلك، إذا الشارع له السلطنة المطلقة على العباد وهذا مما يُقرُّ به المتشرعة ولا يستطيعون مخالفته بما هم كذلك في تصرفاته فيهم، فإذا نفى الملكية عن أحد لم يعتبروا له الملكية، بل لابدّ لهم من متابعته.

وعليه، فإذا فرض أنه احتمل أن يكون الفسخ مزيلاً للملكية بنظر الشارع لم يكن للعرف اعتبارها في هذا الحال لكون الفرض متابعتهم له وليس لهم انحياز عنه، فذلك نظير ما لو شك في اعتبار زيد ملكية ماله لعمرو فإنه مع هذا الشك لا يعتبر العرف ملكية عمرو لمال زيد. فتدبر.

ص: 64

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الإيرواني(1) (رحمة الله) وبيانه: أن العهد والعقد إذا تعلق بأمر استمراري مجموعي كان الوفاء به هو القيام بذلك الأمر بنحو الاستمرار من دون اعتبار استمرار العهد في النفس أو الانشاء في الخارج، بل يعتبر القيام بالأمر الاستمراري وفاء للعقد أو العهد الحادث، فإن القيام به يعد وفاءً وعدم القيام به يعد نقضاً له.

ويشهد لذلك عرفاً أنه وعد زيد عمراً أن يأتيه يوم الجمعة ثمّ ندم يوم الخميس على التزامه وبنى على حلّ ذلك العهد والالتزام، فإذا لم يأته يوم الجمعة عدّ ذلك نقضاً للعهد والوعد وإن عدل عنه قبل وقت الوفاء. وهذا ما لا يشكك فيه كل أحد.

وفيه: أنه قد حققنا في محله من مباحث الأصول(2) أن الأمور الانشائية يتحقق لها وجود إنشائي بالانشاء يكون هذا الوجود مستمراً إلّا إذا أزاله إنشاء رافع له. وقد عرفت هناك أن بعض المحققين(3) حاول إنكار هذا الوجود لكنه التزم به من غضون بعض التزاماته في بيع الفضولي(4) وغيره.

وإذا ثبت هذا المعنى، كان الوفاء في مرحلة البقاء هو الوفاء به لا الوفاء بالعقد في مرحلة حدوثه، حتّى في مثل الوعد، فإن له وجوداً انشائياً لا يزول بالعدول القلبي عما التزم به. فيصدق النكول عن وعده بلحاظ هذا الوجود المستمر لا بلحاظ الوعد في مرحلة حدوثه.

ولذا لو أنشأ العدول أمكن أن يدعى زوال وجوده الانشائي فلا يلزمه عرفاً

ص: 65


1- حاشية المكاسب 3/15.
2- راجع منتقى الأصول 1/125.
3- وهو الشيخ محمّدحسين الاصفهاني في نهاية الدراية 1/273، طبع مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) وتبعه تلميذه آيةالله الخوئي في محاضرات في اصول الفقه 1/88، الطبعة الأولى.
4- حاشية المكاسب /147، الطبعة الحجرية.

الوفاء لزوال وعده. إلّا أن يقال بعدم تأثير إنشاء الخلاف في رفع الوجود الانشائي للوعد شرعاً ولا عرفاً، فيعتبر الوفاء لبقاء موضوعه.

وعليه، فنقول: إذا تحقق إنشاء البيع تحقق للتمليك وجود إنشائي يستمر ولا يزول بزوال الالتزام قلباً - وهذا هو الذي يتعلق به الامضاء في باب بيع الفضولي إذ الوجود اللفظي منعدم لا معنى لامضائه أو رده - وإنما يزول ببعض الانشاءات المخالفة له إذا اعتبر الشارع تأثيرها في ذلك، والوفاء بقاء إنما هو بلحاظه لا بلحاظ العقد في مرحلة حدوثه، فمع الشك في تأثير الفسخ يشك في بقاء هذا الوجود الانشائي للملكية، فيشك في ثبوت وجوب الوفاء والحال هذه.

نعم، ما ذكرناه يبتني على أن الوفاء والفسخ بلحاظ الوجود الاستمراري للعقد - بالمعنى الذي ذكرناه - لا بلحاظ الوجود الحدوثي.

وهذا سهل الاثبات، إذ الكل يذهب إلى أن الفسخ حل العقد وهو لا يصح إلّا إذا أريد به ما ذكرناه، إذ لا معنى لحل العقد المتقدم إذ لا بقاء له. واحتمال أن يكون الفسخ حق استرداد العين وإن كان موجوداً، إلّا أنه لم يذهب إليه أحد.

وبالجملة، يدور الكلام حول كون الفسخ والوفاء يرتبطان بالعقد بوجوده الاستمراري أو بوجوده الحدوثي. وقد عرفت أن الأوّل هو المتعين.

وعليه، فالاشكال الثالث على الشيخ يبقى على حاله بلا رافع له»(1).

الرابع: «ما ذكره المحقّق الإيرواني(2) (رحمة الله) من: أن الوفاء هو القيام بما التزم به قياماً خارجياً، وهذا إنما يصدق وجوداً وعدماً في مورد يتعلق الالتزام والعهد بعمل، كنذر الفعل والجعالة والمزارعة ونحو ذلك. أما إذا تعلق العهد بالنتيجة، كالبيع

ص: 66


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(28-26).
2- حاشية المكاسب 3/14.

والنكاح ونذر النتيجة، فلا يصدق في موردها الوفاء وعدمه حقيقة لأنه لا معنى للقيام بما التزم به بعد إن لم يكن من أعماله.

وعليه، فتختص الآية الكريمة بالعقود الواقعة على الاعمال لا النتائج، كالبيع، فإن الملتزم به الملكية وهي نتيجة لا عمل للشخص نفسه. فلا تنفع في إثبات اللزوم في مطلق العقود»(1).

وقد أجيب عنه: بأنّ «تحقيق الحال فيه بنحو يتضح الاشكال فيه يتوقف قبل كل شيء على معرفة مفهوم الوفاء والمراد به في الآية الكريمة.

فنقول: ذهب المحقق الإيرواني (رحمة الله) : إلى أن معنى الوفاء هو القيام بما التزم به قياماً خارجياً.

وذهب المحقّق الاصفهاني(2) (رحمة الله) : إلى أن معنى الوفاء هو الاتمام، والوافي بمعنى التام.

ولكن لا يمكن الالتزام بكلا هذين المعنيين:

أما الأوّل: فلأنه يقال: درهم وافي، وكتاب وافي، واستوفى دينه، وفي كل ذلك لا معنى لتقديرالقيام بما التزم به قياماً خارجياً، إذ الدرهم لم يصدر منه عمل وهكذا الكتاب، وليس في الاستيفاء قيام للمستوفي بما التزم به. وبملاحظة موارد استعمال هذه الكلمة باشتقاقاتها المتنوعة يتضح بطلان هذا المذهب جيداً.

وأما الثاني: فلأنه وإن أمكن إرادته من الدرهم الوافي ومن مثل ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ﴾(3) إذ يمكن أن يراد الدرهم التام، وأتموا الكيل والميزان، لكن لا

ص: 67


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/25.
2- حاشية المكاسب 4/26.
3- سورة الأنعام /152.

يمكن إرادته من مثل: ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾(1) - كما ورد في الآية الكريمة - إذ لا معنى لأن يراد أتموا بالعقود من الآية، وأتم به من المثال.

والذي نستطيع أن نجزم به في المقام هو أن للوفاء مفهوماً يساوق عدم التجاوز عن الشيء ويلازمه لكن لا مطلق عدم التجاوز، إذ لا يقال عن امتثال الواجب إنه وفاء به مع أنه لم يتجاوزه، بل عدم التجاوز في موارد يتحقق الالتزام والبناء على العمل ولو كان ذلك أمراً تقديرياً ارتكازياً، كما في موارد استعمال: «وافى زيد القوم» إذا سبق إن كان هناك عهد أو بناء إرتكازي على مروره على القوم.

ونقصد بما ذكرنا أنه لا يعتبر في حقيقة الوفاء الالتزام الشخصي، بل ما يعمه ويعم البناء النوعي على أن يتحقق الشيء بالنحو الخاص. ومن هذا الباب صدق الدرهم الوافي والكتاب الوافي إذا لم يتجاوز كل منهما ما بني عليه من كونه بالوزن الخاص وكونه مؤدياً للمقصود. كما لا يعتبر في صدقه القيام الخارجي بالمقصود كي نتوقف في صدقه في المثالين، إذ لا عمل صادر من الدرهم ولا الكتاب. بل المراد به أعم منه ومن القيام بالمقصود ولو بغير اختيار، ولعل التعبير الجامع هو أداء وكونه بنحو لا يتجاوز المقصود بل يؤديه ولا يقصر عنه»(2).

فلا يتم ما ذكره العلمان الإيرواني والإصفهاني قدس سرهما.

الخامس: ما ذكره السيّد الخوئي (رحمة الله) وحاصله: «أنّ التصرف الخارجي المحرم لو كان نقضاً للعقد للزم أن لا يحرم التصرف في الآن الثاني؛ إذ لا إشكال في أن الموجود في هذه العقود هو أمر وحداني مستمر، ونقض العقد في مقابل الوفاء به، وقد انتقض بالتصرف المحرم فانتقض ذلك الأمر الواحد، فلم يبق موضوع لوجوب الوفاء، نظير

ص: 68


1- سورة البقرة /40.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/29.

النذر المتعلق بالفعل المستمر، كما لو نذر أن يجلس في مكان من الصباح إلى الزوال؛ فإن قيامه من ذلك المكان ولو لساعة يوجب عدم الوفاء بالنذر وعدم وجوب الجلوس عليه في بقية الوقت.

نعم، لو كان المتعلق متعدداً بحيث كانت هناك عقود والتزامات متعددة لوجب الوفاء في الآنات الأخرى بعدد العقود، ولكنه واضح البطلان؛ إذ ما في البيع ليس من قبيل نذر أمور متعددة بحيث لا يستلزم الخلف في واحد الخلف في الآخر، كأن ينذر أن يزور الإمام الحسين (علیه السلام) في كل ليلة جمعة النذر المتعلق بفعل واحد مستمر(1)»(2).

وقد أجيب عنه: بأنّ « الوفاء بالعقد يتم بالتسليم والتسلم، والأمر بالوفاء استمراري لا آني، بمعنى أن المتعاقدين مأموران بتسليم متعلّق العقد في كل آن، ففي كل آن يأتي خطاب ﴿أَوْفُوا﴾ فلا يسقط الأمر بالوفاء بمجرد العصيان»(3).

السادس: ما افاده المحقّق الخميني (قدس سره) : «من أنّ مفاد كلام الشيخ (قدس سره) أن يكون وجواب الوفاء حكماً تكليفياً، والتصرف في مال الغير بعد العقد منافياً للحكم التكليفي بوجوب الوفاء، فيلزم أن يستحق عقابين: أحدهما لأجل التصرف في مال الغير بدون إذنه؛ إذ لا شك في حرمته، وشمول عموم «لا يحل التصرف في مال الغير إلّا بإذنه» له، والآخر لأجل مخالفة الحكم بوجوب الوفاء، واللازم فاسد، فالملزوم مثله(4)»(5).

وقد أجيب عنه: بأنه «لا محذور فيه بعد أن يدل عليه الدليل، فإن كان العمل

ص: 69


1- مصباح الفقاهة 6/24؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/23.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/76.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/88.
4- كتاب البيع 4/28.
5- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/77.

مخالفاً لخطاب واحد ففيه عصيان واحد، وإن كان مخالفاً لعنوانين متعلقين لخطابين ففيه عصيانان ونلتزم بصدور معصيتين فيستحق عقابين.

وبيانه في ما نحن فيه: أنه لما أوقع المعاملة ولم يسلم المال للطرف الآخر فبتصرفه في مال الغير خالف حرمة التصرف في مال الغير، وهذه معصية، وبما أنه لم يفِ بالعقد خالف خطاب ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾،وهذه معصية أخرى، والالتزام بهذا لا يخالف العقل ولا النقل، كما لم يقم إجماع على بطلان الالتزام بمعصيتين»(1).

القول المختار في مفاد قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾

قد «عرفت أنّ معنى الوفاء يساوق العمل بالتزامه وعدم التجاوز عنه، فالباء في الآية الكريمة شأنها شأن الباء في قولنا العمل بالالتزام، والمراد على هذا عدم التجاوز عن العقد والعمل به بتطبيق مقتضاه.

وبما أن مفاده - في البيع مثلاً - هو النقل والانتقال والتمليك والتملك، فمقتضى الوفاء به البناء على الملكية والنقل والانتقال، وعدم التجاوز عنها.

وعليه، فالأمر بالوفاء أمر بابقاء الملكية وعدم فسخها وازالتها، فمرجعه إلى النهي عن ازالتها. وهذا مما لا يمكن الالتزام به لأنه...

إما أن يراد به اثبات صحة العقد أو لزومه، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون الأمر ارشادياً أو مولوياً.

1- أما فرض أن يراد به اثبات صحة العقد وكونه مولوياً، فيدفعه: أن وجوب الوفاء متفرع عن كون العقد صحيحاً، فلا معنى لأن يراد به صحة العقد.

2- وأما فرض كونه ارشاداً إلى صحة العقد، فيدفعه: أنه لا معنى لامضاء البيع - مثلاً - وبيان نفوذه بالأمر بما يترتب على الصحة والنفوذ.

ص: 70


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/88.

إذن، فلابدّ أن يكون الملحوظ به مقام اللزوم.

3- وفرض كونه أمراً مولوياً الذي يرجع إلى حرمة الفسخ، فيترتب عليه فساده [أي الفسخ] وعدم تأثيره وهو معنى اللزوم.

يدفعه: أوّلاً: ان النهي عن المعاملة على ما حققناه في الاصول(1) لا يتقضي الفساد، كما ذهب إليه بعض(2)، ولا يقتضي الصحة، كما ذهب إليه آخرون(3) - فيما إذا تعلق بالمسبب - .

وثانيا: أنه من الواضح الضروري أن الفسخ لو ثبت تأثيره أو عدمه لا يكون محرماً، إذ لم يدع أحد من الفقهاء حرمته. إذن فحمله على الوجوب المولوي الراجع إلى حرمة الفسخ خلاف ضرورة الفقه.

4- وأما حمله على الارشاد إلى عدم تأثير الفسخ واللزوم، فهو خلاف ظاهر الأمر شرعاً خصوصاً في مثل الوفاء الذي يعلم أنه محبوب شرعاً فيشتمل على ملاك الأمر المولوي.

وعلى هذا، فلابدّ من التصرف في معنى الوفاء ههنا وحمله على معنى يتلائم مع الأمر المولوي به، فيقال إن المراد به ليس إبقاء الملكية حقيقة الذي يرجع إلى عدم الفسخ، بل المراد به إبقاء الملكية عملاً - كما يقال عين ذلك في المراد بالنقض في باب الاستصحاب فيقال إن المراد به النهي عن النقض عملاً، إذ لا يمكن النهي عن النقض والأمر بالإبقاء حقيقة - ، فيرجع إلى الأمر المولوي بترتيب آثار الملكية.

ومقتضى اطلاقها لزوم ترتيب الآثار حتّى بعد الفسخ، وهذا يلازم الحكم

ص: 71


1- راجع منتقى الأصول 3/206.
2- فوائد الأصول 1/271.
3- شرح التلويح على التوضيح 1/415.

باللزوم وعدم ترتب الأثر على الفسخ، كما ذكر الشيخ(1) (قدس سره) في تقريبه لأصالة اللزوم. وبهذا البيان تثبت أصالة اللزوم لو لا إشكال الشك في موضوع الحكم بعد الفسخ، فإنه اشكال متين لم يثبت الجواب عنه ... .

وبالجملة، تقريب الشيخ (قدس سره) بالنحو الذي ذكرناه لاستفادة أصالة اللزوم من الآية الشريفة متين في نفسه ولا اشكال فيه سوى إشكال الشك في بقاء الموضوع بعد الفسخ. وبه يتوقف عن الذهاب إلى دلالة الآية على أصالة اللزوم.

هذا، ولكن الانصاف أنه يمكن دعوى دلالة الآية على اللزوم، بتقريبين:

الأوّل: أن انشاء الفسخ من أحد المتعاملين...

إما أن يكون مستلزماً لارتفاع العقد الانشائي الثابت بالانشاء. وإما أن لا يكون مستلزماً لذلك، بل يبقى العقد على حاله.

فعلى الثاني: كان العقد باقياً فيترتب عليه وجوب الوفاء لثبوت موضوعه.

وعلى الأوّل: يستلزم أن يكون اللزوم في موارده بلحاظ الوفاء بالعقد الحدوثي، إذ الفرض تأثير الفسخ في حل العقد بقاءً مع فرض اللزوم ولا يكون ذلك إلّا مع فرض كون الوفاء بقاء بالعقد في مرحلة حدوثه.

وعليه، فيصح التمسك بوجوب الوفاء بعد الفسخ لكون العقد الموضوع هو العقد حدوثاً وهو لم يتأثر بالفسخ.

الثاني: وبيانه يتوقف على ذكر مقدمة وهي أن الموضوع، تارة: يكون مرتبطاً بمتعلق الحكم بمعنى أن متعلّق الحكم يضاف إليه. وأخرى: لا يكون كذلك بأن لا يكون المتعلق مضافاً إليه ومتوقفاً في تحققه عليه.

والأوّل: على قسمين، لأنه:

ص: 72


1- المكاسب 5/18.

تارة: لا يمكن أن يصدق ويتحقق بدون بقاء الموضوع، نظير «أكرم العالم» فإن متعلّق الحكم هو اكرام العالم. ومن الواضح أنه لا تصدق هذه الحصة فعلاً مع زوال العلم، فلا يصدق اكرام العالم فعلاً على اكرام زيد الذي كان عالماً أمس وزال عنه العلم اليوم. فالحصة المقيدة لا تصدق مع زوال التلبس بالعلم.

وأخرى: يمكن أن يصدق فعلاً ولو لم يبق الموضوع، بل يكون وجود الموضوع حدوثاً كافياً في تحقق صدق المتعلق في مرحلة البقاء. كما في المثال السابق لو أخذنا العالم أعم من المتلبس والمنقضي عنه المبدأ، فإنّه يصدق مع زوال التلبس بالعلم اكرام العالم فعلاً.

وأما الثاني: فهو مثل ما إذا قال: «إذا نزل المطر وجب عليك اكرام زيد».

ولا يخفى أنه مع الشك في بقاء الموضوع لا يمكن التمسك باطلاق المتعلق في القسم الأوّل، لفرض أن الحكم متعلّق بما يدور مدار الموضوع بقاء، فلا يمكن التمسك بالاطلاق في اثبات الحكم في فرض الشك في بقاء الموضوع.

وأما في القسم الثاني والثالث، فيمكن التمسك بالاطلاق، فيقال: إن مقتضى اطلاق المتعلق ثبوت الحكم له ولو مع الشك في الموضوع بقاء، وبه يثبت ان الموضوع هو تحقق العنوان حدوثاً فقط.

ومن هنا ظهر أن ما يقال من عدم امكان التمسك بالاطلاق مع الشك في الموضوع ممنوع على اطلاقه، بل لابدّ من التفصيل المذكور فيه.

إذا عرفت ذلك، فنقول: العقد وإن كان له وجودان حدوثي وبقائي، إلّا أن الوجود الحدوثي يتعلق بترتيب الآثار بنحو الاستمرار. وعليه، فترتيب الآثار في مرحلة البقاء يصدق عليها فعلاً إنها وفاء للعقد بلحاظ الوجود الحدوثي له وإن لم يبق العقد فعلاً لزواله ببعض الاسباب.

وعليه، فيمكن التمسك بالاطلاق، فيقال: إن مقتضى اطلاق الوفاء إرادة

ص: 73

الوفاء بالعقد مطلقا حتّى بعد قول: «فسخت» فيثبت الحكم له وهو الوجوب بعد قول: «فسخت» ولو كان بقاء العقد مشكوكا، إذ يصدق الوفاء بالعقد الحدوثي بعد قول: «فسخت» ولو مع الشك في زوال العقد به.

وبذلك نستكشف أن موضوع وجوب الوفاء هو العقد حدوثاً لا بقاءاً واستمراراً. فالوفاء بالعقد من قبيل القسم الثاني من الأقسام الثلاثة لارتباطه بالعقد واضافته إليه لكنه يصدق فعلاً ولو لم يبق العقد...

وعلى كلٍّ، فدعوى دلالة الآية الكريمة على أصالة اللزوم متينة جداً»(1).

تنبيه: اشكالان للمحقّق الحائري (قدس سره)

نسب شيخنا آيةالله الشيخ محمّدعلي الأراكي (قدس سره) «إلى استاذه المحقق الحائري (قدس سره) إشكالين على الاستدلال بآية الوفاء على اللزوم:

الإشكال الأوّل: أن العقد - كما في اللغة والنصوص - هو العهد، ولا يطلق العهد على المعاملات السوقية الدائرة بين العقلاء، فالتمسك بها للزوم البيع لا موضوع له.

بل إن تمّ هذا البيان سقط التمسك بها في مطلق المعاملات.

الإشكال الثاني: أن القسم الأكبر من البيوع باطلة شرعاً، فيلزم من ذلك تخصيص الأكثر في آية ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، والعام الخارج منه أكثر مصاديقه يسقط عن العموم فلا يكون قابلاً للاستدلال به؛ لإجماله حينئذ، إلّا أن يقال بأن عمل المشهور جابر لضعف الدلالة ورافع للإجمال فيؤخذ بما عمل به المشهور كما في القرعة، فكل مورد عمل المشهور فيه تمسك بدليل القرعة.(2)

ص: 74


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(36-30).
2- الخيارات /9.

الجواب عن الإشكال الأوّل

أوّلاً: أنه مناقض لما أفاده في جميع أبواب المعاملات من التمسك والاستدلال بهذه الآية، نذكر موردين للاختصار:

1- تمسكه بها في أوّل باب البيع في مسألة ما لو كان الثمن حقاً؛ فإنه ناقش في صدق البيع على هذه المعاملة؛ لانصراف البيع عن صورة جعل الثمن حقاً، ولكن تمسك لصحتها وإفادتها الملكية بعموم آية ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾؛ لصدق العقد والعهد عليها.

ثمّ قال: ودعوى انصرافها إلى العقود المتعارفة كعقد البيع والإجارة والصلح، فلا تشمل العقد الذي لا يكون مصداقاً لواحد منها.

مدفوعة: بأن هذا الانصراف بدوي ناشئ من أنس الذهن بهذه العقود، نظير أنس الذهن بغلبة الوجود، والمراد في الآية مطلق العقود، متعارفة كانت أو غير متعارفة.(1)

2- تمسكه لصحة المعاطاة بهذه الآية.(2)

وثانياً: أنه مردود حلاً؛ فإن كل عقد عهد كما هو المستفاد من كتب اللغة، بل هو المسلّم به عندهم؛ فإنهم وإن ذكروا العقد مستقلاً عن العهد، فذكروا العقد في مقابل الحل، والعهد في مقابل النقض والغدر، إلّا أن أعيان اللغويين صرَّحوا باتحادهما ولكن مصداقاً لا مفهوماً، فيقولون: عقدت البيع والحبل والعهد فانعقد.

والوجه فيه: أن العقد تارة يطلق على الالتزام المربوط بالتزام آخر، والعهد يطلق على العهد الإنشائي كالعهد في قبال النذر واليمين. فعلى هذا التقدير يباين كل

ص: 75


1- كتاب البيع 1/15.
2- كتاب البيع 1/40.

واحد منهما الآخر؛ لأن العهد من الإيقاعات، والإيقاعات قسيمة للعقود، وأخرى يطلق العقد على الالتزام بأمر وإن لم يكن مربوطاً بالتزام آخر، مثل عقدتم الأيمان، فعلى هذا التقدير كل عقد عهد مصداقاً؛ لأن العهد التزام وكل عاقد متعهد بما عقد، فإن كان مراد المحقق الحائري (قدس سره) نفي العهد عن العقد عرفاً مطلقاً فهو ممنوع؛ لأن العرف يرى كل عقد عهداً مصداقاً، ويدل عليه الكتاب العزيز بمقتضى الصحيحة المذكورة.

وبعبارة أخرى: إنه خلط بين المفهوم والمصداق؛ فإن مفاهيم المعاملات السوقية في مرحلة الإنشاء مفاهيم خاصة تختلف بحسبها، فالبيع مفهوماً هو التمليك، أو تبديل طرفي الإضافة، ومفهوم الصلح التسالم، والهبة إنشاء التمليك المجاني، ولكن أخذ في جميعها الالتزام بالمتعلق، بمعنى أن البائع يلتزم بأن المال مال المشتري، وأن من أوقع الصلح يلتزم بما تسالم عليه الطرفان، فجميع المعاملات هي من جهة عرفية عهود مصداقاً لا مفهوماً، وما نريده من ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ مصداق العهد وإن لم يكن عهداً مفهوماً.

والدليل القطعي على ذلك: أنه لا شك في أن جميع الالتزامات المتعلقة بالأفعال مشمولة للآية بتفسير صحيحة ابن سنان(1)، والحال أنه لم يؤخذ في مفهوم النذر العهد، ولكنه مصداق للعهد، وجميع الشروط مصاديق للعهد مع أنه لم ينشأ فيها العهد، فإذن جميع هذه المنشآت مصاديق للعهد، فإنكار كون المعاملات السوقية عهوداً ممنوع، بل جميعها عهود مصداقاً وإن لم تكن كذلك مفهوماً»(2).

ص: 76


1- تفسير القمي 1/160.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(95-92).
الوجه الثاني والثالث: قوله تعالى: ﴿ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾
اشارة

الوجه الثاني والثالث: قوله تعالى: ﴿ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾(1)

وقوله (عزوجل): ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾

وقوله (عزوجل): ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾(2)

استدل الشيخ الأعظم(3) على اللزوم بالآيتين بنسق واحد.

تقريب استدلاله: ﴿ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ «دلّت على حلّية جميع التصرفات المترتّبة على البيع، لأنّ ذلك هو معنى تحليل البيع، وبما أنّها مطلقة وغير مقيّدة بخصوص التصرفات الواقعة قبل فسخ أحد المتبايعين فلا محالة تشمل التصرفات الواقعة بعد رجوع أحدهما، ومن حلّية التصرفات حينئذٍ يستكشف أنّ المعاملة لازمة، إذ لو كانت جائزة وتنفسخ برجوع أحدهما فلا يكون وجه لحلّية التصرفات لأنّه ملك الغير برجوعه في البيع.

استدلّ (قدس سره) أيضاً بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾(4) وذكر في وجه الاستدلال ما نقلناه عنه في الاية المتقدّمة وملخّصه: أنّ التجارة سبب لحلية التصرفات مطلقاً ولو كانت بعد رجوع أحد المتبايعين، ومنه يستكشف أنّ البيع لازم كما ذكرناه في الآية المتقدّمة»(5).

إشكال الشيخ الأعظم على الاستدلال بالآيتين

إشكال الشيخ الأعظم(6) على الاستدلال بالآيتين

التمسك بالاطلاق إنّما يصحّ في القيود والحالات السابقة على الحكم وأمّا القيود الطارئة على الحكم والمتأخّرة عنه فإطلاقه لا يوجب رفعها لتأخرها عنه، والمقام

ص: 77


1- سورة البقرة /275.
2- سورة النساء /29.
3- راجع المكاسب 5/19.
4- سورة النساء /29.
5- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/27.
6- راجع المكاسب 5/19، هامش 6.

من قبيل الثاني لا الأوّل فلا يجري الاطلاق.

بتوضيح: «إنّ اطلاق دليل الحكم إنما يتعرض لوجود الحكم عند وجود الموضوع، فيكون ناظراً إلى خصوصيات وحالات موضوع الحكم ومتعلقه، فيفيد في الشك في أحدها، فإطلاق (أكرم العلماء) مثلاً إنما يكون ناظراً إلى حالات العالم من العدالة والفسق وشبههما، ولا يتعرض إلى حالتي وجود الحكم وعدمه فضلاً عن حالة رفعه، فلا يمكن أن يكون مطلقاً بالنسبة إليها، وبما أن محل الكلام هو الشك في تأثير الفسخ الذي هو رافع لحلية التصرفات المترتبة على البيع فلا يكون الدليل مطلقاً بالنسبة إلى حالة وجود الفسخ حتّى يفيد في هذا الشك وينفى به تأثير الفسخ، فلا يتم التمسك بإطلاق ﴿وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾؛ لأنه يستلزم تعرض دليل الحكم لما هو رافع له أعني الفسخ، وهذا اللازم مستحيل؛ لأن رافع الحكم يقع في مرتبة متأخرة عنه؛ فإنه لابد أن يوجد الحكم أوّلاً ثمّ تصل النوبة إلى رفعه، فيستحيل أن يتعرض له الدليل الذي هو في مرتبة متقدمة عليه؛ إذ لا يتعرض الدليل لما هو في رتبة متأخرة عن الحكم.

ولا يرد هذا الإشكال على آية الوفاء؛ لأن الموضوع فيها ﴿الْعُقُودِ﴾ بالمعنى المصدري، فيكفي مجرد حدوثه لترتيب الحكم بوجوب الوفاء بمقتضى الالتزام إلى الأبد، فيتمسك فيها بالإطلاق»(1).

وبعبارة أُخرى: «يمكننا حمل كلام الشيخ (قدس سره) على ما كان يدور على ألسنة بعض الأعلام - ولعله مما يذكره الشيخ في مبحث الخيارات - من أن التمسك بالاطلاق مع الشك في الرافع ممتنع، وذلك لأن الرافع في مرحلة متأخرة عن وجود الشيء إذ الرفع يتعلق بما هو موجود. وعليه، فاطلاق الحكم الذي يتكفل اثبات وجوده في جميع موارد الشك لا يمكن أن يشمل مورد الشك في رافعه، لأن الاطلاق إذا كان بلحاظ نفي

ص: 78


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/100.

الرافع يلزم أن يلحظ الشيء في مرحلة سابقة عليه، إذ وجود الحكم أسبق رتبة من رافعه والاطلاق يتكفل وجود الحكم كما عرفت، فلحاظ الرافعية في هذا المقام يستلزم ملاحظتها في مرحلة سابقة عليها، وامتناعه من الواضحات. ومن هنا كان اطلاق الحكم غير مجدٍ في رفع الشك في رافعه، إذ ليس الاطلاق بلحاظ النفي الرافع.

ولا يخفى أن هذا الوجه يختص بالآيتين، لأن الفسخ - على تقدير تأثيره - يرفع ما يثبت بهما مباشرة وهو جواز التصرف بجميع أنحاء التصرف. وليس كذلك بالنسبة إلى آية الوفاء، لأن المراد بالوفاء ههنا هو العمل بما التزم به والفسخ على تقدير تأثيره يرفع ما التزم به وهو النقل والانتقال، فهو لا يرفع حكم الآية مباشرة بل يرفع موضوعه فيرتفع الحكم. فنسبة الفسخ ليست نسبة الرافع لحكم المطلق. فلاحظ.

وهذا المطلب سمعناه من بعض الأعلام قدس سرهم ويخطر بالذهن إنه منسوب إلى الشيخ (قدس سره) ولا يحضرنا فعلاً إنه موجود في كتاب المكاسب، وإن كنا نحتمل ذلك قوياً، ولعلّه من العلم المخزون في الصدور المتناقل على الألسنة.

وعلى أي حال، فهو غير تام وذلك لأن المقصود التمسك بالاطلاق من دون لحاظ المشكوك بوصف الرافعية، بل بلحاظ ذاته وهي غير مترتبة على وجود الحكم. فإذا ثبت الحكم - بواسطة الإطلاق - عند وجود ما يشك في رافعيته بملاحظة ذاته، كشف ذلك عن عدم كونه رافعاً. فيقال مثلاً عند قول: «فسخت» يشك في وجود الحكم ومقتضى الإطلاق ثبوته حينذاك، فيعلم أنه ليس رافعاً، فالمشار إليه ذات قول «فسخت» لا بما هو مشكوك الرافعية كي يقال إن ذلك متأخر عن أصل وجود الحكم»(1).

ولكن الانصاف: إجمال عبارة الشيخ الأعظم «ولا يمكن حمله على إشكال كون

ص: 79


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/41.

موارد الفسخ من موارد الشبهة المصداقية للمطلق، إذ كان يمكنه التعبير بذلك لتعارفه وتداوله. هذا مع عدم اختصاص الاشكال المزبور بالآيتين الأخيرتين، بل يشمل الأولى أيضاً كما عرفت.

وقد حمل المحقق الاصفهاني (رحمة الله) كلام الشيخ (قدس سره) هذا على إرادة مطلب دقيق فقال: «بل التحقيق اختصاص الآيتين بخصوصية إفادة الحلية والاباحة دون غيرهما حتّى المستثنى منه في آية التجارة عن تراض، والاباحة غالباً من باب اللااقتضاء دون الأحكام الطلبية حتمية كانت أو غير حتمية فإنها عن اقتضاء لزومي أو غير لزومي، وكما أن لا اقتضائية الموضوع بذاته لا تنافي وجود المقتضي لخلافه ولا تزاحمه ثبوتاً، فكذا الإطلاق المنبعث عن لااقتضائية الموضوع بذاته لا يندفع الشك في المقتضي لضده مثلاً بل لااقتضائية الموضوع المستتبعة للحلية محفوظة مع وجود المقتضي المستدعي للحرمة ولأجل تكفل الآيتين للاباحة دون سائر الآيات والروايات فلذا خص الاشكال بهما، فتدبره فإنه حقيق به(1)»(2).

تنبيه فيه تكرار

هذا الاشكال لا يجري في آية ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ولكن يجري في الآيتين الأخيرتين، لأنّ الحكم في ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ «إنّما ثبت فيها للعقد بالمعنى المصدري - كما ذكرنا سابقاً وقلنا إنّ العقد بحدوثه موضوع للحكم بوجوب الوفاء - والفسخ على تقدير تأثيره لا يرفع العقد بالمعنى المصدري لأنّه حدث ولا يمكن رفعه، وإنّما يرفع المعاقدة التي هي العقد بمعنى الاسم المصدري، وبما أنّ العقد لا يمكن رفعه فلا مانع من التمسك باطلاق الحكم الثابت عليه عند الشك في بقائه وارتفاعه. وهذا بخلافه

ص: 80


1- حاشية المكاسب 4/39.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/40.

في الآيتين الأخيرتين فإنّ الفسخ على تقدير تأثيره يرفع الحلّية الثابتة للبيع ومع الشك في بقائها لا يمكن التمسك بالاطلاق، هذا»(1).

اعتراض المحقق الخراساني على اطلاق الشيخ الأعظم وجوابه

اعترض المحقق الخراساني (رحمة الله) بعدم وجود الاطلاق في قوله تعالى: ﴿ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ وقال: «فلا اطلاق فيها حيث أنّها في مقام بيان امضاء المنع والردع عن الربا»(2).

توضيح كلامه: الآية الشريفة في مقام بيان نفي المماثلة بين البيع والربا وأنّ الأوّل ممضىٰ والثاني مردوع عنه، يعني البيع حلال وليس كالربا في الحرمة ولا اطلاق في هذه الحلية.

وكذا ذهب الخراساني إلى عدم وجود الاطلاق في قوله تعالى: ﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾ وقال: «إنّ الاطلاق مسوق لبيان التصرف عن الأكل بالباطل إلى الأكل بالتجارة، لا لبيان أنّها [التجارة] سبب لها [أي لحلّية الأكل] على كلِّ حالٍ وعلى كلِّ كيفيّةٍ كما لا يخفى»(3).

وكذا السيّد اليزدي(4) لا يرى اطلاقاً لهاتين الآيتين.

وتبعهما المحقق الحائري (قدس سره) وقال: «وأمّا آية: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(5).

فهو في مقابل ما قالوا في مقام استيحاشهم: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾(6) فقال:

ص: 81


1- منية الطالب 3/12؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/28.
2- حاشية المكاسب /147.
3- حاشية المكاسب /147.
4- حاشية المكاسب 2/375.
5- سورة البقره /275.
6- سورة البقره /275.

كيف يتماثلان والحال أنّ الله أحلّ البيع وحرّم الربا؟ فليس المقام إلّا مقام تقابل الطبيعتين في الحكم ولا يصحّ أخذ الاطلاق من هذا المقام كما هو واضح»(1).

وقال أيضاً في عدم وجود الاطلاق في الآيتين: «أنّهما بمقام الإهمال نظير قول القائل في مقام الردع عن المساهلة في معالجة المرض: لا تسامح واشرب الدواء. فهنا أيضاً في مقام الردع عن الأكل بالباطل أرشد إلى التجارة عن تراض، فكما لا يمكن أخذ الإطلاق من قول القائل في المثال: «اشرب الدواء» كذلك في المقام من قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾»(2).

وتبعهم السيّد الروحاني (رحمة الله) وقال: «الآية الكريمة ليست في مقام بيان حلية البيع وموضوعها، كي يتمسك باطلاقها في نفي الشك في دخالة شيء في تحقق الحكم. بل هي في مقام بيان التفريق بين البيع والربا في أن البيع حلال والربا حرام لا أكثر، فلا يمكننا التمسك باطلاق الحلية في نفي الشك في بعض القيود.

فهو نظير قول الطبيب للمريض بأن البنسلين مضر والأسپرين نافع في مقام الرد على المريض الذي قال للطبيب إنهما نافعان معاً، فهل يصح للمريض أن يتمسك بقول الطبيب: «الأسپرين نافع» فيثبت نفعه في جميع الحالات وبجميع المقادير، وغير ذلك.

ونظير ما لو كان المتكلم في مقام بيان الفرق بين العالم والجاهل وعدم المساواة بينهما بأن العالم يجب احترامه والجاهل لا يجب. فإنه لا يمكننا التمسك باطلاق العالم في إثبات الحكم له ولو كان فاسقا، إذ ليس ذلك من قبيل: «يجب احترام العالم» الوارد في مقام بيان الحكم وموضوعه.

ص: 82


1- الخيارات /9، تأليف شيخنا آيةالله الشيخ محمّدعلي الأراكي (قدس سره).
2- سورة الانعام /29.

وهذا الاشكال متين جداً ولا نعرف له جواباً، وإن كان يخطر في الذهن أن المحقق الاصفهاني (رحمة الله) تصدى إلى الجواب عنه في الجزء الأوّل من حاشيته ولكن الجواب غير صحيح - والكتاب لا يحضرنا فعلاً - . فالتفت وتدبر»(1).

ويرد عليهما: أوّلاً: إنّ «اطلاقات الكتاب [﴿ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾] لو كانت واردة في مقام بيان أصل التشريع لما صحّ أن يتمسك بأي إطلاق فيه ويتمّ ما أرادوه، ولكن هذا لمبنى ممنوع قطعاً؛ لأن مقتضى أصالة البيان صحة التمسك بإطلاق الآيات.

نعم، لابد من الفحص عن المانع.

وأصدق شاهد على ذلك روايات الترجيح في باب التعارض الآمرة بالأخذ بما وافق الكتاب(2)؛ فإن الموافقة والمخالفة إنما تكون مع إطلاقات الكتاب؛ إذ المخالف لنص الكتاب لا مقتضي لحجيته في نفسه ولو مع عدم المعارض، بمقتضى قوله (علیه السلام) : «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف»(3)، «وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف»(4)، «وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»(5)، «وإذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا، فإن أشبهها فهو حق، وإن لم يشبهها فهو باطل»(6).

و [ثانياً]: قوله تعالى في الآية: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ لا يمنع من التمسك بإطلاق: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾؛ فإن الثانية لإفادة أمرين: نفي

ص: 83


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/39.
2- وسائل الشيعة 27/106، ح1، مقبولة عمر بن حنظلة و 27/109، ح10، معتبرة السكوني، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
3- وسائل الشيعة 27/110، ح12، خبر أيوب بن راشد.
4- وسائل الشيعة 27/111، ح14، صحيحة أيوب بن الحر.
5- وسائل الشيعة 27/111، ح15، صحيحة هشام بن الحكم وغيره.
6- وسائل الشيعة 27/123، ح48، مرسلة الحسن بن الجهم.

قول من قال: بأنما البيع مثل الربا، وإثبات أن البيع حلال دون الربا، فهي لإفادة الحكم في مقام بيان العمل، وما يكون كذلك لا يمكن أن لا يكون مطلقاً.

[وثالثاً]: أن الإمام (علیه السلام) استدل في الرواية الصحيحة بهذه الآية على صحة بيع المضطر مما يوجب القطع بإفادتها الإطلاق، ففي الوسائل عن الشيخ الصدوق (قدس سره) بإسناده عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام) : «جعلت فداك، إن الناس يزعمون أن الربح على المضطر حرام وهو من الربا، قال: وهل رأيت أحداً يشتري - غنياً أو فقيراً - إلّا من ضرورة؟! يا عمر، قد أحل الله البيع وحرم الربا، فاربح ولا تربه(1)»(2).

الدعاوي الثلاث للسيّد الخوئي (قدس سره) حول الآيتين ونقدها
الدعوى الأولى: الآيتان لا دلالة لهما على اللزوم

قال المحقق الخوئي (قدس سره) : «فالوجه فيها بالنسبة إلى قوله تعالى﴿ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ أنّ الحلّية إنّما رتّبت على نفس البيع، كما أنّ الحرمة رتّبت على نفس الربا لا على التصرفات، وعليه فلا يخلو المراد من الحلّية من أحد احتمالات ثلاثة: [1] فإمّا أن يراد منها الحلّية التكليفية وهي الجواز والترخيص. [2] وإمّا أن يراد منها الحلّية الوضعية. [3] وإمّا أن يراد منها الجامع بين الحلّية التكليفية والحلّية الوضعية.

[1] فإن اُريد منها الحلّية التكليفية، فمعنى الآية أنّ الله سبحانه رخّص في البيع في مقابل الربا حيث حرّمه فمرتكب الربا مرتكب لأمر محرّم دون مرتكب البيع لأنّه أمر رخّص فيه الشارع ولو كان البيع فاسداً أيضاً، لأنّه ليس من المحرّمات الشرعية، ومن المعلوم أنّ الترخيص في البيع وتجويزه لا ربط له بلزوم البيع وعدمه ولا دلالة فيه

ص: 84


1- وسائل الشيعة 17/447، ح1، الباب 40 من أبواب آداب التجارة، صحيحة عمر بن يزيد.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/101 و 102.

على أنّ هذا الأمر المرخّص فيه لازم ولا ينفسخ بالفسخ، وهذا ظاهر.

[2] وإن اُريد منها الحلّية الوضعية، فمعنى الآية أنّ البيع نافذ وصحيح في مقابل الربا فانّه باطل وفاسد، ولا دلالة فيها على أنّ البيع لازم أو غير لازم وإنّما تقتضي الحكم بصحّته ونفوذه، وأمّا أنّه بعد صحّته وتأثيره لا يرتفع بالفسخ أو يرتفع فهو ممّا لا يستفاد من الآية الشريفة.

[3] وإن اُريد منها الجامع بين الحلّيتين كما هو ليس ببعيد، لأنّ تقسيم الحلّية إلى الوضعية والتكليفية إنّما حدث بين الفقهاء والأصوليين وإلّا فالحلّية إنّما هي في مقابل العقدة، فالبيع حلال أي أنه مفتوح السبيل وليس بمغلق الباب. وهذا المعنى يشمل الترخيص بحسب التكليف والوضع، بمعنى أنّ التصرف في البيع بايجاده وترتيب الأثر عليه مفتوح السبيل ولا مانع منه في مقابل الربا الذي هو مغلق الباب وممنوع منه بجميع أنحاء التصرف فيه بايجاده أو بترتيب الأثر عليه، وعلى ذلك أيضاً لا يستفاد منها اللزوم بعد الانعقاد والصحة.

وأمّا بالنسبة إلى قوله تعالى ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنکُمْ﴾ فلأنّ الآية المذكورة تدلّ على أنّ أكل أموال الناس بالأسباب الباطلة حرام، وأمّا أكلها بسبب التجارة عن تراضٍ فهو جائز وغير محرّم، ومن المعلوم أنّ المراد بالأكل ليس هو الازدراد والأكل في مقابل الشرب وإلّا لاختصّت الآية بقليل من كثير من الأموال لأنّ نسبة المأكول من الأموال إلى غير المأكول منها كنسبة القطرة إلى البحر كالأراضي والأملاك والألبسة والحيوانات غير مأكولة اللحم، بل إنّما المراد بالأكل هو التصرف في المال كما هو شائع في الاستعمال حيث يقال إنّ فلاناً أكل مالي أو داري، وعليه فالتصرف في الأموال بسبب التجارة عن تراضٍ جائز وهذا أيّ ربط له بلزوم المعاملة

ص: 85

والبيع وعدم انفساخها، وهذا ظاهر»(1).

ولكن يرد عليها: أنّ الدعوى على مبنى الشيخ الأعظم(2) وهو الحلية التكليفية لا تتم «والسبب في ذلك - مع أن الحل تعلّق بالبيع بحسب الظاهر- هو وجود قرائن في المقام:

منها: أن مبنى الشيخ (قدس سره) عدم قابلية الحكم الوضعي للجعل بالاستقلال، والنفوذ حكم وضعي.

ومنها: أنها تعلقت بالمعاملة، فالظاهر منها بيان النفوذ والتأثير؛ إذ هو المطلوب في المعاملات غالباً.

ومنها: أن إرادة الحلية التكليفية بعيدة جداً؛ فإن البيع بمعنى إنشاء الملكية بالعوض لا تتوهم حرمته التكليفية حتّى تتعلق به الحلية، فيكون المراد منها الحلية الوضعية.

فلهذه القرائن ذهب (قدس سره) إلى أن متعلّق الحلية هي التصرفات المترتبة وينتزع منها صحة البيع، ومن إطلاق الحلية لما بعد الفسخ ينتزع اللزوم، فلا يرد الإشكال عليه مع حفظ مبناه.

ثمّ إن استدلال الشيخ (قدس سره) بالإطلاق يتمّ حتّى على مبنى الحلية الوضعية للبيع بمعنى النفوذ والصحة؛ وذلك لأنها تستلزم حلية التصرفات المترتبة عليه، والنسبة بينهما نسبة الملزوم واللازم، والموضوع والحكم، ويستحيل انفكاكهما، فلا يعقل الحكم بنفوذ البيع دون حلية التصرفات المترتبة عليه، فنفس جعل الحلية الوضعية للبيع يلازم جعل حلية التصرفات، ومع هذا التقريب يتم استدلال الشيخ (قدس سره) أيضاً،

ص: 86


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/29 و 30؛ مصباح الفقاهة 6/30.
2- راجع المكاسب 5/19.

ويستفاد اللزوم من الإطلاق؛ فإن الإهمال بالنسبة إلى حلية التصرفات غير معقول، والتقييد منتف، فيتعين الإطلاق، وإطلاق حلية التصرفات لما بعد الفسخ يقتضي اللزوم.

فتحصل مما تقدم أن استدلال الشيخ (قدس سره) على مبناه تام، بل ضروري، كما يتم الاستدلال على مبنى الحلية الوضعية أيضاً»(1).

وحيث لا تتم الدعوى على مبنى الحلية التكليفية والحلية الوضعية فلا تتم على مبنى الجامع بين الحليتين أيضاً.

وحيث لا تتم بالنسبة إلى آية البيع كذا لا تتم بالنسبة إلى آية التجارة بنفس البيان.

الدعوى الثانية: عدم تمامية إشكال الشيخ الأعظم على التمسك بإطلاق الآيتين على فرض دلالتهما على اللزوم

ذهب المحقق الخوئي (قدس سره) إلى أنّ الوجه في عدم تمامية اشكال الشيخ الأنصاري (قدس سره) على اطلاق الآيتين: «أنّ التمسك باطلاق الحكم حتّى في رفع احتمال عدمه والقول بأنّ الحكم ثابت حتّى على تقدير ارتفاعه وعدمه وإن كان أمراً غير معقول ولا معنى للتمسك بالاطلاق عند الشك في ارتفاعه وإنّما يتمسك بالاطلاق عند الشك في قيد من قيود الموضوع، إلّا أنّ الغرض في المقام ليس هو التمسك بالاطلاق كذلك، وإنّما يراد التمسك باطلاق الحكم بالحلّية عند الشك في بقائها بعد صدور فعل من الأفعال الخارجية من المشتري أو البائع وهو الفسخ والرجوع، بمعنى أنّا نشك في أنّ الله تعالى هل جعل الحلّية إلى أن يفسخ أحدهما أو أنه جعلها إلى يوم القيامة ولو مع فسخ أحدهما، وهذا شك في إطلاق الحكم من حيث فعل المتبايعين،

ص: 87


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/104.

ولا مانع من التمسك بالاطلاق بالاضافة إليه كما لا مانع من تقييد الحكم به بأن يقال إنّما يحلّ البيع أو التصرفات إلى أن يصدر الفسخ من أحدهما ولا يترتّب عليه أيّ محذور، فكما لا مانع من تقييده به فلا مانع من إطلاقه بالاضافة إليه وجعل الحلّية إلى الأبد ولو مع صدور هذا الفعل من أحدهما، فهذه المناقشة غير واردة من أساسها»(1).

ولكن يرد عليها: الكبرى الواردة في كلام السيّد الخوئي (قدس سره) - وهي: عدم إمكان إطلاق أي حكم بالنسبة إلى رافعه - مسلمة حتّى عند المستشكل [الشيخ الأعظم] فيستحيل أن يقال: تحل جميع التصرفات المترتبة على البيع، أوجد الرافع لهذه الحلية أم لم يوجد؛ فإن الحكم يرتفع على تقدير وجود المزيل له، فلا يعقل وجوده مع وجود المزيل، فلا بحث من جهة الكبرى، وإنما البحث في تطبيقها على الصغرى، فهل ما نحن فيه صغرى لتلك الكبرى أو لا؟

وفي الجواب نقول: إن فرض الكلام أننا نشك في تأثير الفسخ؛ فإنه هو مورد البحث في أصالة اللزوم؛ فإنا لو أحرزنا كون الفسخ موثراً أو كونه غير مؤثر لما كانت هناك حاجة إلى البحث في أصالة اللزوم، وحيث إنّا نشك في المقام في تأثير الفسخ وعدمه فنحتمل بالوجدان مؤثريته، فإن كان مؤثراً كان رافعاً للحكم فلا يمكن الإطلاق بالنسبة إليه، وإن لم يكن مؤثراً لم يكن رافعاً له فيمكن الإطلاق، فالشك في موثرية الفسخ وعدمها شك في إمكان الإطلاق وعدمه، فيكون التمسك بالإطلاق حينئذ من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية لإمكان ذلك الدليل، والتمسك بأي دليل فرع إحراز إمكانه.

وبعبارة أخرى: إن معنى إطلاق الحكم ليس شيئاً آخر غير وجود الحكم، غاية الأمر أن أصل الحكم هو أصل وجوده، وإطلاقه هي سعة وجوده، فالبحث في أن

ص: 88


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/30؛ مصباح الفقاهة 6/36.

دائرة الحكم مضيقة أو موسعة، ولكن بما أن الحكم يتعلق بالموضوع فهو يدور مداره سعة وضيقاً، فما يطلبه الفقيه عبارة عن معرفة وجود الحكم هنا وعدم وجوده، والإطلاق إنما هو ليتضح وجود الحكم في المورد، والشيخ (قدس سره) يقول بأن الحكم يستحيل وجوده في ظرف وجود الرافع، والإطلاق عبارة عن سعة دائرة الحكم ليشمل هذا المورد أيضاً، فإطلاق (أكرم العلماء) معناه سعة الحكم ليشمل العادل والفاسق، ولكن حقيقة الأمر أن الحكم يتكفل لوجود نفسه عند وجود متعلقه وموضوعه، والرافع له ليس متعلقاً له ولا موضوعاً، وعليه فيندفع إشكال السيّد الخوئي (قدس سره) ؛ لأنه إذا كان الفسخ مؤثراً واقعاً فالإطلاق بالنسبة إلى حالة وجوده غير ممكن لعدم إمكان الإطلاق بالنسبة لرافع الحكم، ولكن بما أنا نشك في مؤثرية الفسخ وعدمها ونحتمل كونه مؤثراً يكون التمسك بالإطلاق من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية لإمكان الدليل»(1).

الدعوى الثالثة: إشكال الشيخ الأعظم على تقدير تماميته لا يختص بالآيتين ويجري في آية ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ أيضاً

ذهب السيّد الخوئي (قدس سره) إلى أنّ إشكال الشيخ الأعظم على تقدير صحته يرد على آية ﴿أَوْفُوا﴾ أيضاً والوجه فيها ظاهر «لأنا إذا أغمضنا النظر عمّا ذكرناه في وجه الدعوى الثانية وبنينا على أنّ التمسّك بالاطلاق عند الشك في الفسخ أيضاً غير صحيح، فهذا يأتي في التمسك باطلاق الأمر بالوفاء بالعقود أيضاً، لأنّ الحكم وإن رتّب فيها على العقد بمعناه المصدري، والفسخ إنّما يتعلّق بالعقدة الحاصلة من المصدر إلّا أنّ العقدة إذا فسخت فلا محالة يرتفع وجوب الوفاء بالعقد ولو بمعناه المصدري، إذ لا معنى لوجوب الوفاء بالعقد بعد فسخ المعاملة.

ص: 89


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/106.

وعليه فالشك في نفوذ الفسخ يرجع إلى الشك في وجوب الوفاء بالعقد وترتيب الآثار عليه، وقد بنينا على أنّ التمسك باطلاق الحكم بالوفاء حتّى على تقدير ارتفاعه وشموله لصورة عدم نفسه غير معقول، هذا»(1).

ويرد عليها: عدم تمامية هذا الإشكال على الشيخ الأعظم (رحمة الله) :لأنّه صرح بأن موضوع الأثر في آية ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ هو حدوث العقد، أي صرف وجود التعهد من أيِّ متعهد، فمتى تحقق العقد وجب العمل بمقتضاه إلى الأبد، فلو فسخ فيما بعد فإن ﴿أَوْفُوا﴾ تلزم من الأوّل بالعمل بمقتضى العقد الحادث وترتيب الأثر عليه، فلا يرد الإشكال في هذه الآية؛ لأن التمسك بها ليس من التمسك بإطلاق الحكم بالنسبة إلى رافعه، فالسالبة هنا منتفية بانتفاء موضوعها؛ إذ نفس الأمر بالوفاء بمجرد حدوث العقد ينفي أثر الفسخ لو حصل في ما بعد، فهو من قبيل ما لو قال المولى: إذا قلت قولاً فابق عليه إلى الأبد، فإذا أنشأت قولاً ثمّ جئت بعد مدة ورفعت اليد عن قولي فإنها لا ترتفع، ولا يقبل مني، وللآخر الاحتجاج عليَّ بأن القول صدر منك فيجب ترتيب الأثر على مجرد صدوره إلى الأبد»(2).

استدل آخر على اللزوم بالآيتين في كلام المحقق الخوئي (قدس سره)

قال (قدس سره) : «ويمكن الاستدلال بالآيتين على اللزوم بوجه آخر: وهو أنّ البيع عبارة عن الالتزام بملكية المثمن للمشتري وملكية الثمن للبائع، وهذا الالتزام لو لم يفيّد بالخيار مطلق بالاضافة إلى الزمان، فأنه قد التزم بالملكية إلى يوم القيامة لا إلى زمان دون زمان، كما أنّه مطلق بالاضافة إلى الزماني وهو الفسخ، ومعناه أنّي التزمت بالملكية مطلقاً سواء رجعت عن التزامي وهو الفسخ أم لم أرجع، وأنّ الالتزام غير

ص: 90


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/31؛ مصباح الفقاهة 6/37.
2- بغية راغب 1/108.

مقيّد بعدم الرجوع فيه وغير موقت إلى زمان الرجوع. كما أنّ معنى جعل الخيار في البيع أنّ الالتزام بالملكية والبيع مقيّد بعدم الرجوع فإذا رجعت فالملك لي، ولا معنى للخيار إلّا ذلك، ولا محذور فيه إلّا أخذ الحكم في موضوع نفسه، وقد تقدّم الجواب عنه في بحث أخذ قصد القربة في موضوع الحكم.

وعلى الجملة: لا محذور في الالتزام بالملكية مطلقاً سواء رجع عن التزامه أم لم يرجع فيه، فيكون جعل الخيار في البيع موجباً لتضييق دائرة الالتزام، لأنّه على تقدير عدم جعله يلتزم بالبيع والملكية سواء رجع عن التزامه بعد ذلك أم لم يرجع نظير من أودع عند أحد مالاً وأوصاه بعدم ردّه إليه ولو مع مطالبته المال بنفسه.

وإذا اتّضح هذا فنقول: إنّ مقتضى الآيتين كما عرفت عبارة عن إمضاء المعاملة وما تعاقدا عليه، فإن كان العقد وما تعاقدا عليه التزاماً مقيّداً بعدم رجوعه عن التزامه فيمضيها الشارع على نحو الجواز، وإن لم تكن المعاملة والالتزام مقيّداً بذلك بل مطلقاً من حيث رجوعه وعدمه فلا محالة يمضيها الشارع على نحو الاطلاق وأنه ملك للمشتري أو البائع مطلقاً، سواء رجع أحدهما عن التزامه أم لم يرجع وبعد ذلك - أي بعد التزامه على نحو الاطلاق - إذا رجع فلا يمكن للشارع إمضاء ذلك الفسخ لأنّه يؤدّي إلى التناقض كما هو ظاهر، لأنّ المفروض أنّه أمضاها على نحو الاطلاق، ومعناه أنّ المثمن ملك للمشتري سواء رجع البائع عن التزامه أم لم يرجع ومعه فلا يعقل أن يمضي الشارع فسخ البائع، لأنّ معناه أنه ملك للبائع عند الرجوع، وهذان لا يجتمعان.

وبالجملة: أنّ الآيتين تدلّان على أنّ الشارع يمضي المعاملة حسبما أوقعها المتعاقدان، والمفروض أنّهما أوقعاها على نحو يكون الالتزام مطلقاً ولا يحصل الانفساخ بالفسخ وهو معنى اللزوم. وقد ذكروا نظير ذلك في باب الوكالة وأنّه إذا اشترط التوكيل في ضمن عقد على نحو لاينعزل الوكيل بالعزل فتثبت له الوكالة

ص: 91

المطلقة ولا تزول برجوع الموكّل عن التوكيل، وإن لم نرتض بذلك في الوكالة فراجع»(1).

فذلكة القول في الآيتين

فذلكة القول في المقام «أنّ آيتي الحل والتجارة عن تراض تدلان على لزوم المعاملة وعدم نفوذ الفسخ أيضاً.

ووجه الدلالة: أن الآيتين ونحوهما من الآيات ليست تأسيسية، بل هي إمضاء لما عند العرف والعقلاء، فإن حلية البيع ونفوذه أمر عقلائي وقد أمضاه الشارع، وإمضاؤه للأمور العقلائية يتم بأحد نحوين: بعدم الردع، وبالدليل المثبت للإمضاء، وموردنا من قبيل القسم الثاني، وعند ما تكون الآية إمضاء لما عند العقلاء فالملاحظ ما عندهم، ومما لا شك فيه أن البيع نافذ عند العقلاء، سواء ألحقه فسخ من أحد الطرفين أم لا؛ فإنَّ الفسخ من أحد الطرفين غير مؤثر ما لم يكن في البيع ما يوجب حق الفسخ كالشرط المصرح به، والشرط الضمني كعدم العيب والغبن، وعليه فبما أن الآيتين إمضاء لما عند العقلاء فهما تدلان على عدم تأثير الفسخ إلّا في موارد ثبوت حق الفسخ، فهما تدلان على المدعى أعني اللزوم»(2).

وهذا تمام الكلام في آيتي البيع والتجارة والحمدلله على السلامة.

الوجه الرابع: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾
اشارة

الوجه الرابع: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾(3)

بتقريب: «إنّ الآية دلّت على حرمة أكل المال بما يسمى باطلاً عرفاً، وليس منه موارد الخيارات الإمضائية كخيار الشرط والعيب والغبن؛ فإنها ليست باطلاً عندهم،

ص: 92


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/(33-31)؛ مصباح الفقاهة 6/38 و 39.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/108.
3- سورة البقرة /188.

وأما ما رخص الشارع فيه - كأكل المارة من ثمر الأشجار التي يمر بها، وكأخذ الشريك بالشفعة، والخيارات الشرعية التأسيسية كخيار المجلس والحيوان - فهو وإن كان باطلاً عندهم إلّا أن ترخيصه يكشف عن عدم كونه من الباطل، فما قام على جوازه الدليل الشرعي يخرج عن كونه باطلاً؛ إذا لجواز يكشف عن حق للمجاز له متعلّق بالعين، وما لم يقم على جوازه الدليل يكون باطلاً عرفاً، وبما أنه لم يقم على جواز الفسخ في غير ما ذكر دليل شرعي فهو باطل عرفاً ومتعلق للنهي، والنهي هنا يدل على الفساد بلا إشكال؛ لأن تملك مال الغير بالطريق الباطل عرفاً غير مؤثر قطعاً، فتدل الآية على عدم تأثير الفسخ ولزوم المعاملة(1)»(2).

اشكالان للسيّد اليزدي على الشيخ ونقدهما

قال المحقق اليزدي (رحمة الله) : «على هذا التقريب يشكل الاستدلال؛ إذ من المعلوم أنّه لابدَّ من احراز الموضوع في التمسك بالعموم والاطلاق، ومع فرض كون الإذن الشرعي كاشفاً عن عدم كونه باطلاً، فمع الشك في الإذن - بسبب الفسخ - يشك في صدق الباطل؛ فلا يمكن التمسك، وصدق الباطل عرفاً لا يكفي بعد فرض تصرف الشارع فيه؛ إذ الموضوع ليس الباطل العرفي»(3).

مضافاً إلى عدم إمكان «أن يجعل النهي عن الأكل إرشاداً إلى الفساد، لأنّه بالنسبة إلى سائر التصرفات حرام تكليفي، فلا يمكن حمله على بيان الوضع بالنسبة إلى خصوص الفسخ»(4).

ولكن يمكن أن يجاب عن إشكاله الأوّل: «أنّ الآية في مقام بيان البطلان شرعاً،

ص: 93


1- راجع المكاسب 5/20.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/109.
3- حاشية المكاسب 2/375.
4- حاشية المكاسب 2/376.

فلا معنى لأخذه في الموضوع. فلابدّ من فرض المستثنى منه معنى يشمل المستثنى في حد نفسه. فيقال: إن المراد بالآية: «إنه لا تأكلوا أموالكم بينكم بوجه من الوجوه فإنه باطل إلّا التجارة عن تراض»، فيكون قوله بالباطل بمنزلة تعليل الحكم العام وبيان أن كل وجه باطل.

والاستعمالات العرفية على ذلك كثيرة، ففي مقام نهيه عن مطلق الكلام لتأذيه منه بقول المولى لعبده: «لا تتكلم بما يؤذيني» فإنه في مقام النهي عن كل كلام لا في مقام تفصيل الكلام إلى ما يؤذي وما لا يؤذي، ونحو ذلك كثير.

وإذا ثبت أن المراد بالآية الشريفة هذا المعنى ظهرت دلالتها على اللزوم بوضوح، فإن الفسخ يدخل في عموم المستثنى منه لأنه ليس تجارة عن تراض، فيحرم أكل المال بسببه»(1).

وعن إشكاله الثاني: «أنّ ما أفاده تام لو لم نقل بأن الأكل في الآية كناية عن التملك، كأن يكون المراد من ﴿لَا تَأْكُلُوا﴾ النهي عن التصرفات جميعها التكوينية والاعتبارية، وأما إذا كان الأكل في الآية كناية عن التملك - كما هو الحق - فلا يتم هذا الكلام؛ إذ تخرج التصرفات التكوينية كالأكل واللبس ونحوهما تخصصاً حينئذ، والاستدلال مبني على المعنى الثاني وهو المستعمل في الإطلاقات العرفية؛ فإنهم يقولون: فلان أكل مال الآخر مع أن المقصود من ماله المأكول قطعة أرض وهي غير قابلة للأكل بمعنى الازدراد، فإضافة الأكل إلى المال في مثل هذه الموارد كناية عن التملك، فيكون النهي فيها وضعياً لا تكليفياً»(2).

ص: 94


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/44.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/120.

اشكالات للمحقق النائيني على الشيخ ودفعهما

قال المحقّق النائيني (رحمة الله) : «تقريب الاستدلال بعقد المستثنى منه يتوقّف - بعد الفراغ عن كون المراد من الأكل فيه هو التملّك لا الازدراد - على أن يكون المراد بالباطل هو ما يسمّى باطلاً عرفاً، وأن يكون العرف مع الشكّ في أنّ بالفسخ يمكن التملّك أم لا حاكماً بالبطلان.

وبعبارة أُخرى يتوقّف الاستدلال على أمرين:

الأوّل: أن يكون نظر العرف متّبعاً في تعيين المصداق.

الثاني: أن يكون حاكماً بأنّ ما لم يعلم كون الفسخ سبباً للتملّك أن يكون التملّك باطلاً.

وكلاهما ممنوعان، أمّا الأوّل: فلأنّ نظرهم متّبع في تعيين المفاهيم لا المصاديق، إلّا أن يكون تعيين المصداق راجعاً إلى تعيين المفهوم.

وأمّا الثاني: فلعدم حكمهم في مورد الشكّ في كون شيء سبباً مملّكاً بعدم كونه مملّكاً وباطلاً، لشكّهم في السبب فكيف يحكمون بعدم المسبّب»(1).

توضيح الاشكالين: «أوّلهما: أن العرف مرجع في تحديد المفاهيم لا المصاديق إلّا في ما يرجع إلى تحديد المفهوم، والشيخ (قدس سره) قد رجع في المقام إلى العرف في تحديد المصداق؛ فإنه لا شك في مفهوم الباطل عرفاً، وإنما الشك في كون الفسخ منه أو لا.

ثانيهما: سلمنا بأن العرف مرجع في تحديد المصاديق أيضاً إلّا أنه إنما يكون مرجعاً فيما لو لم يشك في حصول المسبب من السبب المعين، وأما مع شكه في حصوله منه فليس بمرجع حينئذ؛ إذ الفرض أنه نفسه يشك في حصول المسبب من هذا السبب، فكيف يكون مرجعاً في تعيينه؟! وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإن العرف

ص: 95


1- منية الطالب 3/12.

يشك في كون هذا الفسخ موجباً لانحلال العقد أو لا، فلا يكون مرجعاً حينئذ حتّى لو قلنا بأنه مرجع في تحديد المصداق؛ لأنه نفسه يشك في تحققه بهذا السبب»(1).

وقد اورد على أوّلهما: «لو كان للشارع تحديد خاص لموضوع حكمه لكان عليه بيانه؛ إذ مع إلقاء اللفظ إلى العرف واستفادتهم منه معنى عندهم سيعملون بحسب فهمهم له، فإذا كان ما عندهم غير الذي يريده الشارع ولم يبيّنه لزم نقض الغرض والإغراء بالجهل، فمقتضى عدم نقض الغرض وعدم الإغراء بالجهل أن يبين الشارع حدود الموضوع الذي يريده.

هذا هو الملاك في المسألة، ولا يخفى تأثيره في ما نحن فيه وإن لم يكن العرف مرجعاً في تحديد المصداق، ونظر الشيخ (قدس سره) إلى هذا الملاك بتوضيح منا.

وكون العرف مرجعاً في تحديد المفاهيم لا المصاديق صحيح، فإذا كان موضوع الحكم الشرعي هو الموضوع العرفي فالمرجع في تحديد مفهومه العرف، وبعد تحديده ينبغي الدقة في تطبيقه على المصاديق، فيرجع إلى العقل في تطبيقه، وأما العرف لا يرجع إليه؛ لأنه غالباً ما يتسامح في تشخيص المصداق وتطبيق المفهوم عليه.

إذا اتضحت هذه القاعدة فتطبيقها على ما نحن فيه بهذا النحو: أن الحكم تعلق بموضوع واقعي وهو عنوان ﴿الْبَاطِلِ﴾ فقال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، والخطاب موجه إلى العرف العام، والمفروض أن الشارع لم يبيّن المراد من ﴿الْبَاطِلِ﴾، فلو كان مراده منه غير المعنى العرفي لكان توجيه الخطاب إلى العرف بدون بيانه لمراده لغواً؛ لأن المفروض أنه لم يبيّن المراد، وأن المعنى العرفي غير مراد.

وعليه ففي مثل هذا المورد يكون نفس الملاك القاضي بأن العرف مرجع في تحديد المفاهيم قاضياً بأن العرف مرجع في تعيين المراد من الباطل، فمراد الشيخ (قدس سره) أن

ص: 96


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/113.

كل مورد يجعل فيه العنوان موضوعاً للحكم الشرعي فهو محتاج إلى بيان الشارع، وعدم بيانه له إمضاء لما عند العرف في تحديد المفهوم وفي تعيينه.

وهذه القاعدة هي - بطبيعة الحال - إنما تكون في الموارد التي تلزم فيها اللغوية من الخطاب لو لا الأخذ بما عند العرف مثل ما نحن فيه.

وبهذا يندفع الإشكال الأوّل للمحقق النائيني»(1).

وقد اورد على ثانيهما: «هذا خلط بين الشك من ناحية الشارع والشك من ناحية العرف.

توضيح ذلك: إنا نشك في موثرية الفسخ وعدمها، فإن كان الشك من ناحية العرف - بمعنى أن العرف يشك في كون الفسخ مؤثراً وعدمه - فإشكال المحقّق النائيني (قدس سره) وارد، ولكن الأمر ليس كذلك؛ فإن الشك إنما هو من ناحية الشارع، بمعنى أنا نشك هل الفسخ مؤثر عند الشارع أو لا؟ وأما العرف فلا شك عندهم أصلاً؛ إذ لا أحد منهم يشك في كون الفسخ باطلاً إذا كانت المعاملة غير مشتملة على عيب ولا غبن ولا شرط خيار للفاسخ، فالمشكوك هو تحقق المسبب من هذا السبب شرعاً لا عرفاً؛ فإن العرف لا يشكون في عدم تحققه منه، وعندهم يقين ببطلان الفسخ الحاصل من دون موجباته العرفية.

وعليه يندفع الإشكال الثاني للمحقق النائيني (قدس سره) ويتم من هذه الجهة تقريب الشيخ (قدس سره) للاستدلال بعقد المستثنى منه»(2).

ص: 97


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/114.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/116.
تنبيهٌ: استدلال المحقق النائيني بمجموع المستثنى

والمستثنى منه على بطلان الفسخ

استدل المحقق النائيني (قدس سره) بمجموع المستثنى والمستثنى منه على بطلان الفسخ وعدم نفوذه وبالتالي لزوم البيع:

بتقريب: «أنّ المولى سبحانه وتعالى نهى عن تملّك الأموال بالباطل، واستثنى من ذلك بالاستثناء المنقطع التملك بالتجارة عن تراض؛ لأنها ليست من الباطل ومحكومة بخلافه، فهي خارجة عنه موضوعاً وحكماً، وإخراجها عنه موضوعاً ليس كخروج الحمار عن القوم تكويناً، بل نفس الدليل هنا ناظر إلى خروجها، فيكون المعنى أن التملك بغير التجارة عن تراض داخل في أكل المال بالباطل، والتملك بالفسخ ليس تملكاً بها، فيكون داخلاً في التملك بالباطل، فالاستدلال بمجموع المستثنى والمستثنى منه(1)»(2).

ويلاحظ عليه: «أنّ الاستدلال يتوقف على الانحصار، وهو - بناء على أن الاستثناء منقطع - يتوقف على مؤونة زائدة... ، ومضمون الآية بناء على الاستثناء المنقطع يكون بهذا النحو تقريباً: لا تتملكوا أموالكم بينكم بالباطل، لكن تملكوها بالتجارة عن تراض، والنتيجة من ذلك أن الآية لا تنفي الغير، وحينئذ يكون الحكم ببطلان الفسخ بلا دليل»(3).

مناقشة المحقق الخوئي في استدلال الشيخ الأعظم وملاحظاتها

قال السيّد الخوئي: «الاستدلال بها (بالآية الشريفة) على اللزوم يتوقف على

ص: 98


1- راجع منية الطالب 3/13.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/117.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/117.

أمرين:

أحدهما: أنّ المراد بالباطل هو الباطل العرفي وأنّ كل تصرّف عُدَّ في العرف باطلاً حرام إلّا أن يدلّ دليل شرعي على جوازه وعدم كونه من الباطل، وهذا كما في حقّ المارّة والشفعة ونحوهما لأنّهما باطلان عرفاً لو لم يدل عليهما دليل شرعي.

وثانيهما: أنّ فسخ أحدهما وتصرفه في المال من دون رضا الآخر من الباطل عرفاً، وبعد ضمّ أحد هذين الأمرين إلى الآخر نبت أنّ الفسخ والتصرف في المال باطل وحرام ولا يكون نافذاً لا محالة، هذا.

ولكن للمناقشة في الأمرين مجال

و [أمّا الأوّل ف-] ذلك لعدم الدليل على أنّ المراد بالباطل هو الباطل العرفي، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الأمرية والواقعية لا للمعاني المقيّدة بما يراه العرف، نعم رؤية العرف ونظره طريق إلى الواقع فيما إذا أمضاها الشارع لا أنّها جزء للمعاني، وعليه فالمراد بالباطل هو الباطل الواقعي في مقابل الحق والثابت، وبهذا لمعنى صحّ قول الشاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل لعدم ثبوت غيره تعالى وأنّ غيره من الأشياء زائل تالف وليس بحق بل الحق هو الله جلّ شأنه، ومعه فلا يمكن الاستدلال بالآية في المقام لأنّا نشك في أنّ الفسخ والتصرف في المال باطل واقعاً أو حق، ومع الشك في ذلك لا يصح التمسك بالعام لأنّ الشبهة مصداقية»(1)... وأمّا بناءً على أنّ المراد بالباطل هو الباطل العرفي كما ادّعاه شيخنا الأنصاري(2) (قدس سره) فحينئذٍ إن قلنا بأنّ الموارد الخارجة عن النهي خارجة عن عنوان الباطل العرفي بالتخصيص - بمعنى أنّ مثل حقّ المارّة والشفعة والخيار من الباطل العرفي حقيقة إلّا أنّ الشارع

ص: 99


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/33؛ مصباح الفقاهة 6/40.
2- المكاسب 5/20.

خصّصها وأخرجها عن حكم الحرمة مع كونها داخلة في الموضوع - فلا مانع من التمسك بعموم ﴿لَا تَأْكُلُوا﴾ الخ لاثبات عدم جواز الفسخ وعدم نفوذه، لأنه باطل عرفاً ولم يرد مخصّص يخرجه عن الحكم، وهذا ظاهر.

وأمّا إذا قلنا بأنّ موارد ترخيص الشارع خارجة عن الباطل العرفي حقيقة كما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره) فلا يصحّ التمسّك بالعموم لاثبات عدم تأثير الفسخ، وذلك لأنّ الموضوع للحكم حينئذٍ ليس هو الباطل العرفي بمجرده بل الباطل العرفي بقيد أن لا يرخّص فيه الشارع، وإلّا فهو مع ترخيصه ليس من الباطل الموضوع للحكم، وصدق هذا العنوان المقيّد بعدم ترخيص الشارع على الفسخ غير معلوم، إذ نحتمل أنّ الشارع رخّص فيه كما تحتمل عدمه، فنشك في أنّ الفسخ هل هو من أفراد الموضوع للحكم أو من غيرها، ومع الشك في الموضوع لا مجال للتمسك بالعموم»(1).

ولكن يمكن أن يلاحظ عليه:

الملاحظة الأولىٰ: «أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية بلا إشكال كما أفاده المحقّق الخوئي أيضاً، ولكن بما أن الشارع وضع الأحكام على هذه الموضوعات، وخطابه مطلقاً - التأسيسي منه والإمضائي - كان موجهاً للعرف العام، فإن لم يكن مراده ما عند العرف لزمه البيان وإلّا تلزم اللغوية من خطابه؛ إذ لا فائدة من كلامه في حال عدم إرادته ما عند العرف وعدم بيانه لمراده.

وعليه فالمراد من الموضوع في الحكم هو الموضوع العرفي في حال عدم نصب قرينة على إرادة خلافه، وهذا المعنى هو ما أراده الشيخ (قدس سره) من كون الباطل في الآية هو الباطل العرفي، ولم يقل إن الباطل موضوع للباطل العرفي حتّى يرد عليه الإشكال

ص: 100


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/34؛ مصباح الفقاهة 6/41.

الوارد في الكبرى، بل قال إن المراد به في الآية هو الباطل العرفي، وبينهما فرق، وبيانه ما قدمناه، بمعنى أن الشارع أمضى في حال التطبيق ما عند العرف من معنى الباطل.

وبعبارة أخرى: إن الشارع جعل في هذه الموارد نظر العرف طريقاً إلى الواقع، وإلّا لبيّن مراده»(1).

الملاحظة الثانية: السيّد الخوئي «ناقش في الصغرى من حيث احتمال أن يكون الفسخ عن حق فتكون الشبهة شبهة موضوعية للباطل العرفي.

ويجاب عنه: بأن الشبهة المتصورة في العرفيات إنما هي الشبهة المفهومية لا غير، بمعنى أنه ربما يشك في سعة وضيق دائرة معنى اللفظ عند العرف، ولذلك موارد، بل قال الشيخ (قدس سره)

في أول مبحث الطهارة بحصول الشبهة المفهومية حتّى في لفظ الماء الذي هو أوضح المفاهيم العرفية(2)، وأما من حيث المصداق فلا يشك العرف في صدق الباطل على الفسخ بدون الشرط والعيب والغبن، والشاهد على ذلك: أن الرجل لو باع متاعه ولم يكن فيه عيب ولا غبن ولم يشترط الخيار لنفسه ثمّ جاء بعد يومين أو عشرة أيام وقال بأني فسخت البيع فإن العرف وجميع العقلاء يلومونه على ذلك، ولو كان المورد من موارد الشبهة الموضوعية للباطل لما كان لملامته معنى، فإذن إن كان الباطل في الآية هو الباطل العرفي فلا شبهة موضوعية في ما نحن فيه عندهم.

نعم توجد شبهة مفهومية عند العرف ولكن لا ربط لها بالمقام.

والحاصل: أن ما يحصل عند العرف من الشبهة هي الشبهة المفهومية، وهي منتفية في المقام، وما نحن فيه من الشبهة هي الموضوعية، ولا وجود لها عند

ص: 101


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/112.
2- كتاب الطهارة 1/67، ولم يصرح الشيخ (قدس سره) بذلك ولكنه مستفاد من عبارته حيث قال: «وهو من أوضح المفاهيم العرفية، إلّا أن تعريف المصنف - كغيره - له بأنه: «ما يستحق إطلاق اسم الماء عليه من غير إضافة» لأجل الإشارة إلى امتياز أفراده من أفراد غيره عند الاشتباه».

العرف»(1).

تنبيهٌ: استدلال المحقق الخوئي بمجموع الآية الشريفة على بطلان الفسخ

قال السيّد الخوئي (رحمة الله) : «نعم، يمكن التمسّك بالآية لاثبات اللزوم بمجموع المستثنى والمستثنى منه فإنّ الآية الشّريفة في مقام حصر التملّك الشرعي بالتّجارة عن تراض، ومن الواضح جداً أنّ التملّك بالفسخ مع عدم رضى الآخر ليس منها فتدلّ على اللزوم»(2).

وبعبارة أُخرى قال: «فالاستدلال بجملة المستثنى منه بمجردها غير صحيح، نعم لو ضمّت إلى جملة المستثنى فيستفاد من مجموعها اللزوم، لأنّ المركّب منها يدلّ على حصر سبب حلّ التصرّف والأكل بالتجارة عن تراضٍ، لأنّ الاستثناء من أدوات الحصر ومن الواضح أنّ الفسخ من دون رضا الآخر ليس من التجارة عن تراضٍ فلا يكون موجباً لحل الأكل والتصرفات، هذا كلّه بناءً على أنّ المراد بالباطل هو الباطل الواقعي في مقابل الحق»(3).

وبعبارة ثالثة قال: «ولكن يمكن تقريب الاستدلال بوجه آخر، بأن يقال: إنّ الاستثناء في المقام لابدّ وأن يكون مفرّغاً؛ لما ذكرناه غير مرّة أنّ الاستثناء المنقطع ممّا لا معنى له إلّا أن يرجع إلى المتّصل، بأن يكون المستثنى منه مقدّراً ويكون الاستثناء مفرّغاً، وعلى هذا فالمستثنى منه في الآية محذوف، والدليل عليه هو التعليل في قوله «بالباطل» فكأنّه قال تعالى: لا تأكلوا أموالكم بسبب من الأسباب فإنّه باطل إلّا إذا كان السبب تجارة عن تراض، فحصر تعالى أسباب جواز الأكل بالتجارة عن تراض،

ص: 102


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/112.
2- مصباح الفقاهة 6/40.
3- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/34.

ومن الواضح أنّ الفسخ لا يكون تجارة، وعلى تقدير كونه تجارة فلا يكون عن تراض، فلا يكون سبباً محلّلاً لأكل مال الغير، إذ من الواضح أن الثمن قبل الفسخ كان مال البائع والمثمن كان للمشتري. وبهذا التقريب نثبت اللزوم بالآية الشريفة»(1).

وقد اورد عليه: «أنّ الأصل في الاستثناء وإن كان هو المتصل؛ - لأن معنى الاستثناء هو الإخراج، وهو لا يكون إلّا بعد كون المخرج داخلاً في المخرج منه، كاستثناء الرجل من القوم، بخلاف الاستثناء المنقطع؛ فإنه خلاف الأصل؛ إذ المستثنى غير داخل في المستثنى منه من أصل حتّى يخرج، كاستثناء الحمار من القوم - .

ولكن الاستثناء المتصل في المقام يحتاج إلى تقدير جملة (بأيِّ سبب من الأسباب)، وحمل كلمة ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ على كونه علة؛ ليكون المعنى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بأي سبب من الأسباب فإنه باطل إلّا أن يكون السبب تجارة عن تراض، والفسخ داخل في جملة (بأيِّ سبب من الأسباب) وليس خارجاً عنها؛ لعدم كونه من التجارة عن تراض.

ومع حاجة الاستثناء المتصل إلى الحذف والتقدير وارتكاب المجاز يلزم أحد أمرين: إما أن يكون الرأيان متعارضين؛ لكون كل منهما مخالفاً للأصل من جهة، ولا ترجيح لأحدهما في البين، وإما أن ينعقد الظهور في الاستثناء المنقطع(2)، وعلى التقديرين يمتنع استدلال المحقق السيّد الخوئي (قدس سره) ؛ لحاجته إلى الحذف والتقدير وارتكاب المجاز وكل ذلك خلاف الأصل.

إن قلت: إن الباء في كلمة ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ للسببية؟

قلت: سلّمنا، ولكن ألا يحتاج إلى تقدير جملة (بأيِّ سبب من الأسباب) حتّى

ص: 103


1- محاضرات في الفقه الجعفري 4/19.
2- على ما تقدم في كتاب البيع.

يتم الاستثناء المتصل؟ فإنه لو لم تقدر لكان المعنى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالسبب الباطل، والتجارة ليست سبباً باطلاً، فيكون الاستثناء منقطعاً.

فإذن لكي يكون الاستثناء متصلاً لابد من تقدير هذه الجملة لتدخل فيه التجارة عن تراض ثمّ تستثنى بالاستثناء المتصل، وهذا التقدير على خلاف الأصل، فاستدلاله على اللزوم مبني على أمر فاسد»(1).

إشكال الاستاذ المحقق مدظله على الشيخ الأعظم

قال الاستاذ المحقّق مدظله: «ولكن يرد على الشيخ (قدس سره) أن الاستدلال يتوقف على أن يكون مفاد الآية في عقد المستثنى منه هو كون النهي عن أكل المال بالسبب الباطل إرشاداً إلى البطلان، فالفسخ بدون ثبوت الحق عرفاً وعدم قيام الدليل شرعاً من التملك بالباطل العرفي فلا أثر له، ولكن مبنى الشيخ (قدس سره) أن الأحكام الوضعية غير مجعولة بجعل مستقل، بل منتزعة من الأحكام التكليفية، فلا بد - على هذا المبنى - من حمل النهي على التكليف، ومدلول الآية حينئذ هو حرمة تملّك أموال الناس بالباطل، ومن صغرياته التملك بالفسخ، وبناء على هذا تكون الآية دليلاً على صحة الفسخ ونفوذه؛ لأن النهي تكليفي، وهو لا يتعلق إلّا بالمقدور، فعندما يتعلق بالفسخ وحل العقد فلابد أن يكون مقدوراً فيقع نافذاً.

فإما أن يرفع اليد عن مبناه من عدم جعل الأحكام الوضعية بالاستقلال، وإما أن يرفعها عن الاستدلال بالآية»(2).

تقريب صاحب المرتقىٰ

عقد المستثنى منه بمفردها لا تقدر على اثبات اللزوم في البيع وبطلان الفسخ

ص: 104


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/118.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/120.

خلافاً للشيخ الأعظم، نعم إذا لحقتها عقد المستثنى مع ملاحظة الأمور التالية تقدران على اثباتة وبطلان الفسخ.

بتقريب: «إنّ فرض كون المستثنى منه هو الباطل يجعل الاستثناء منقطعاً لأن التجارة عن تراض ليست من أفراد الباطل بل تباينه.

وفي صحة الاستثناء المنقطع الراجع إلى عدم دخول المستثنى في المستثنى منه نظير: «ما جاء القوم إلّا الحمار» بحث.

فقد يدعى صحته استشهاداً بهذا المثال ونحوه. ويلتزم فيها بأن: «إلّا» لم تستعمل بمعنى الاخراج فإنه ممتنع في هذا المقام وإنما هي مستعملة في معنى الاستدراك بمعنى: «لكن».

ولكن استشكل فيه: بأنه لو صح استعمال: «إلّا» بمعنى: «لكن» لصح أن يقال: «ما جاء زيد إلّا عمرو» بدل: «ما جاء زيد لكن عمرو»، مع انه غلط بالضرورة، فيكشف ذلك عن أن: «إلّا» لا تستعمل إلّا في معنى الاخراج والاستثناء.

وأما توهم كون الاستثناء فيه منقطعاً، ففي الحقيقة الاستثناء فيه متصل، ولم تستعمل: «إلّا» إلّا في معنى الاخراج، ففي مثل: «ما جاء القوم إلّا حماراً» ليس المستثنى منه هو القوم فقط بل القوم مع توابعه وشؤونه من دواب وغيرها، فيكون الحمار خارجاً حقيقة مما فرض كونه مستثنى منه. ومما يستشهد على هذا المطلب أنه لا يصح أن يراد بالحمار غير حمار القوم.

وإذا ثبت ما ذكر، فلا يمكن أن يفرض كون المراد من الباطل في الآية الباطل العرفي، لعدم صحة الاستثناء منه. ولا الشرعي، لذلك ولعدم معرفته وتشخيصه، بل هو ينتزع من ثبوت الأحكام وعدمها.

وبتعبير آخر: أنّ الآية في مقام بيان البطلان شرعاً، فلا معنى لأخذه في الموضوع. فلابدّ من فرض المستثنى منه معنى يشمل المستثنى في حد نفسه. فيقال: إن

ص: 105

المراد بالآية: «إنه لا تأكلوا أموالكم بينكم بوجه من الوجوه فإنه باطل إلّا التجارة عن تراض»، فيكون قوله بالباطل بمنزلة تعليل الحكم العام وبيان أن كل وجه باطل... .

وإذا ثبت أن المراد بالآية الشريفة هذا المعنى ظهرت دلالتها على اللزوم بوضوح، فإن الفسخ يدخل في عموم المستثنى منه لأنه ليس تجارة عن تراض، فيحرم أكل المال بسببه»(1).

يرد عليه: هذا التقريب بيان آخر لما ذكره استاذ صاحب المرتقىٰ السيّد الخوئي فيرد عليه ما اوردناه على استاذه قدس سرهما.

فذلكة القول في المقام

قد ذكرنا في أوّل الكتاب(2) أنّ الاستثناء في آية سورة النساء(3) «منقطع ينظر المتكلم إلى العقدين، يعني المستثنى والمستثنى منه، فهو من هذه الجهة في مقام البيان، فالآية الشريفة مطلقة بالنسبة إلى صحة تجارة وقعت عن تراض»(4).

وأنّ المراد بالأكل التصرفات التي يقوم بها الملّاك، والمراد بالباطل الباطل عرفاً عند العقلاء والمراد بالنهي هو الحكم الوضعي أي الفساد وحيث أنّ الفسخ لم يدخل في عنوان المستثنى ﴿ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾ فيدخل في عنوان المستثنى منه وهو الاكل بالباطل فيحكم بفساد الفسخ بل يمكن أن يستفاد الحكم باللزوم من العقد المستثنى منه من دون الاحتياج إلى المستثنى فيمكن القول بدلالة آية سورة البقرة(5) على بطلان الفسخ والقول بلزوم البيع، والله سبحانه هو العالم.

ص: 106


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/43 و 44.
2- الآراة الفقهية 1/13.
3- سورة النساء /29.
4- الآراة الفقهية 1/13.
5- سورة البقرة 1/189.
الوجه الخامس: قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾

بتقريب: «إنّ تعهد الأمر الاعتباريّ لا أثر له إلّا تعهّد ترتيب الآثار عليه، لأنّه متقوّم بها أو منتزع عنها على أقوى الوجهين، ومن آثار الملكيّة عدم الانتقال إلى الغير من دون تسبيب من صاحبها، فكلّ منهما قد تعهّدا ذلك ومقتضى وجوب الوفاء: حرمة الفسخ وحرمة ترتيب الأثر عليه بعده، لأنّه خلاف ما تعوهد عليه من عدم الانتقال إلى الغير بلا تسبيب من مالكه، ولا ريب أنّ حرمة ما ذكر ليس إلّا من باب وجوب الوفاء بتعهّد كلّ منهما على بقاء ملكيّة المال لصاحبه، فيجب عليه عدم الفسخ وعدم التصرّف بعده من باب حفظ التعهّد على بقائه على ملك مالكه، وهذا يدلّ على عدم نفوذ الفسخ وليس مفاده حرمة التصرّفات وحرمة الفسخ ولو مع تأثير الفسخ. فإنّ الوفاء الواجب هو عدم الفسخ وعدم التصرّف من باب عدم حصول الفسخ لا الأعمّ منه ومن غيره، فإنّ عدم جواز التصرّف في المال بالفسخ وبعده إذا كان مقروناً مع نفوذ الفسخ غير مربوط بما تعوهد عليه من الوفاء، فافهم وتأمل»(1).

أقول: الكلام حول هذه الآية بعينه هو الكلام حول قوله تعالى ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(2) فلا نصيل به البحث.

ولكن يمكن تأئيدها وتأكيدها بعدّة من الروايات:

منها: صحيحة أبي حمزة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: وجدنا في كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : ... وإذا نقضوا العهد سلّط الله عليهم عدوّهم، الحديث.(3)

ومنها: ما رواه الكليني بإسناده إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) أنّه قال في صفة المومن: ...

ص: 107


1- ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة 2/57.
2- سورة المائدة /1.
3- الكافي 4/119، ح2 (2/374) ونقلت عنه في كتابي موسوعة أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) 7/346، ح1.

خالصُ الوُدّ وثيقُ العهد وَفِيُّ العقد، الحديث.(1)

ومنها: ما ورد بسند معتبر في العهد الأشتر النخعي عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) : ... وإن عَقَدْتَ بينك وبين عدوِّك عُقْدَةً أو ألبَسْتَهُ منك ذِمَّةً فَحُطْ عهدك بالوفاء وارع ذِمّتَكَ بالأمانةِ واجعل نفسك جُنّةً دون ما أعطيتَ فإنّه ليس من فرائض الله شيءٌ أشدّ عليه إجتماعاً مع تفرُّق أهوائهم وتَشَتُّتِ آرائهم من تعظيم الوفاء بالعُهُود وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما اسْتَوْبَلُوا من عواقب الغدر فلا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ ولا تَخِيسَنَّ بعهدك ولا تَخْتِلَنَّ عَدوّك فإنّه لا يجترىء على الله إلّا جاهلٌ شقيٌ. وقد جعل الله عهدَهُ وذِمَّتَهُ أمناً أفْضَاهُ بين العباد برحمته وحريماً يسكنون إلى مَنَعَتِهِ ويستفيضون إلى جواره فلا إدْغَالَ ولا مُدَالَسَةَ ولا خِدَاعَ فيه ولا تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوّزُ فيه العلل ولا تُعَوّلَنَّ على لَحْنِ قولٍ بعد التأكيد والتوثِقَةِ. ولا يَدْعُونَّكَ ضيقُ أمر، لَزِمَكَ فيه عهدُ الله إلى طلب انفِساخِهِ بغير الحق فإنّ صبرك على ضيق أمر ترجو انفِرَاجِهِ وفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخافُ تَبِعَتَهُ وأنْ تَحِيطَ بك من الله فيه طِلْبَةٌ لا تَسْتَقْبِلُ فيها دنياك ولا آخرتك، العهد.(2)

الوجه السادس: «لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفسه»

قال الشيخ الأعظم (قدس سره) : «وممّا ذكرنا يظهر وجه الاستدلال بقوله (صلی الله علیه و آله و سلم) : «لا يحلّ مال امرئٍ مسلمٍ إلّا عن طيب نفسه»(3).

أقول: قد بحثنا عن هذه الرواية سنداً ومتناً ودلالة في بحث ملزمات

ص: 108


1- الكافي 3/576، ح1 (2/228) ونقلت عنه في كتابي موسوعة أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) 7/351، ح8.
2- نهج البلاغة، الكتاب 53؛ ونقلت عنه في كتابي موسوعة أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) 7/352، ح11.
3- المكاسب 5/20.

المعاطاة(1)، وأدلة لزومها تفصيلاً وقد قبلنا دلالتها على لزومها على القول بالملك وأجبنا عن إشكالات المحققين الحكيم والخوئي والأردكاني قدس سرهم حول دلالتها، فهذا الحديث بعين ما ذكرناه هناك وبطريق أولى يدلّ على لزوم البيع وبطلان الفسخ الإبتدائي بلا إشكال فراجع ما حررناه، والله العالم بالأحوال.

الوجه السابع: حديث السلطنة

وهو قوله (صلی الله علیه و آله و سلم) : إنّ الناس مسلطون على أموالهم.(2)

ذكره الشيخ الأعظم في مواضع ثلاثة: «في الكلام عن صحة المعاطاة ونفوذها، وفي الكلام عن لزومها، وفي هذا المقام.

وقد ذهب في المقام الأوّل(3) إلى عدم دلالتها على صحة المعاطاة. وذهب إلى دلالتها على لزومها في المقام الثاني.(4) دلالتها على اللزوم مطلقاً في هذا المقام.(5)

وقد يتخيل المنافاة بين هذين الاختيارين، فلابدّ من ملاحظة ما ذكره في المقام الأوّل ثمّ مقارنته بما يرتبط بالمقامين الآخرين.

فالذي ذكره في مقام نفي دلالة هذه الرواية على صحة المعاطاة ونفوذها هو: أن الملحوظ فيه أنواع السلطنة، فعمومه باعتبارها، فيجدي فيما لو شك في ثبوت نوع من الأنواع للمالك. أما مع العلم بثبوت نوع منها في حقه، كتمليك ماله للغير على حدّ سائر التصرفات في المال، لكن شك في أن التمليك هل يحصل بمجرد التعاطي بدون

ص: 109


1- راجع الآراء الفقهية 4/(121-116).
2- عوالي اللآلي 1/457، ح198؛ ونقل عنه في بحارالأنوار 2/272 (1/358).
3- حدود 3/41.
4- المكاسب 3/86.
5- المكاسب 5/20.

لفظ أم يعتبر اللفظ، فلا نظر للرواية في إثبات ذلك»(1).

تقريب استدلال الشيخ الأعظم هنا

استدلّ الشيخ الأعظم(2) بحديث السلطنة على اللزوم في البيع وبطلان الفسخ الإبتدائي بتقريب: «أنّ الرواية تثبت السلطنة المطلقة للمالك على أمواله، وتنفي مزاحمة الغير له، فلا يجوز لأحد أخذه من يده وتملّكه من دون رضاه، وإذا بني على جواز الفسخ من طرف المعاملة الذي انتقل عنه المال كان ذلك تقييداً لسلطنة المالك المطلقة وخلافاً لظاهر الرواية، فالرواية تدل على عدم جوازه، فتدل على اللزوم.

وعلى هذا الأساس استدل المحقّق (قدس سره) في الشرايع(3) - ونحوه العلّامة (قدس سره) في بعض كتبه(4)- على عدم جواز رجوع المقرض في ما أقرضه؛ إذ لو كان للمقرض حق الرجوع لتنافى ذلك مع سلطنة المقترض على المال»(5).

وبعبارة أخرى: إنّ السلطنة المطلقة للمالك لا تتحقق إلّا إذا كانت يد الغير مقطوعة عنه.

ص: 110


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/48.
2- المكاسب 5/20.
3- شرائع الإسلام 2/68، قال: «الثالث: في أحكامه وهي مسائل: الأولى: القرض يملك بالقبض لا بالتصرف؛ لأنه فرع الملك، فلا يكون مشروطاً به. وهل للمقرض ارتجاعه؟ قيل: نعم ولو كره المقترض، وقيل: لا، وهو الأشبه، لأن فائدة الملك التسلط».
4- تذكرة الفقهاء 13/44، مسألة 41: قال: «عندنا أن المستقرض يملك بالقبض، فليس للمقرض أن يرجع فيه مع بقائه في يد المستقرض بحاله - وهو أحد وجهي الشافعية - صيانة لملكه، وله أن يؤدي حقه من موضع آخر؛ لانتقال الواجب إلى البدل من المثل أو القيمة».
5- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/125.

تفصيل المحقق النائيني في المقام وإيراده

قال المحقق النائيني (قدس سره) : «لو قلنا بأنّ ملك الفسخ والإقرار متعلّق بالعين فمع الشكّ فيه يصحّ التمسّك بإطلاق «الناس مسلّطون» على عدم تأثير الفسخ، لأنّ الفسخ ينافي عدم تسلّط غير المالك على مال المالك.

وأمّا لو قلنا بأنّ الفسخ يتعلّق بالعقد، بمعنى أنّ الخيار يبطل التبديل الواقع من العاقدين من دون إرجاعه العين ورجوع العين إنّما هو أمر قهريّ يحصل بحلّ العقد، ففي مورد الشكّ لا يمكن التمسّك بالإطلاق، لأنّ الفسخ لا يرجع إلى تصرّف غير مالك العين فيها.

وبالجملة لو قلنا بأنّ الخيار متعلّق بالعين فلازمه أنّ من عليه الخيار لا يتمكّن من التصرّف فيها، لمنافاته لتعلّق حقّ الغير بها، ولازمه أيضاً عدم نفوذ الفسخ ممّن لم يعلم ثبوت الخيار له.

وأمّا لو قلنا بأنّه متعلّق بالعقد فلازمه جواز تصرّف من عليه الخيار، وعدم صحّة التمسّك بإطلاق «الناس مسلّطون»»(1).

ويرد عليه: حديث السلطنة يثبت السلطنة المطلقة للمالك الفعلي، وإطلاقه أي إطلاق الحديث لا إطلاق السلطنة يستفاد منه أن يد الغير مقطوعة في كل حين من الأحيان وهذا الإطلاق يجري قبل الفسخ الإبتدائي من المالك السابق وبعده وحيث تجري السلطنة المطلقة بعد الفسخ أيضاً كما يجري قبل الفسخ فيستفاد منه بطلان الفسخ الإبتدائي ولزوم البيع.

هذا إذا استفدنا الحكم من حديث السلطنة وإطلاقه وأمّا إذا استفدنا الحكم من القاعدة العقلية الواردة في سلطنة الملاك على أموالهم حيث لا إطلاق لهذه القاعدة

ص: 111


1- منية الطالب 3/14.

العقلية وأنّها دليل لبيّ فلابدّ من الاختصار على القدر المتيقن منها وهو جريان القاعدة قبل الفسخ وأمّا بعده فلا.

وحيث ذهبنا إلى جبران ضعف سند حديث السلطنة بعمل المشهور تمسكاً بجريان الإطلاق في هذه المقامات عند الأصحاب مع أنّ القاعدة العقلية ليست لها إطلاق فيتم الاستدلال والإيراد على المحقّق النائيني (رحمة الله).

إشكال السيّد الخوئي على الاستدلال

قال المحقّق الخوئي (رحمة الله) : «لا يخفى أنّ الرواية ضعيفة السند ولا يمكن الاعتماد عليها كما ذكرناه في البيع وعلى تقدير تسليم سندها لا دلالة لها على اللزوم لأنّ معناها أنّ المالك مسلّط على ماله وله التصرف فيه كيف ما شاء بأكله أو بيعه أو هبته وغير ذلك ممّا يوجب تلفه حكماً أو حقيقة، وليس لأحد منعه عن التصرف فيه لأنّ المالك ليس محجوراً عليه في التصرف بماله.

وعلى الجملة: فمقتضى السلطنة أن يتصرف في ماله بما شاء، ولا يستفاد منها أنّ غيره لا سلطنة له على المال ولا يتمكّن من التصرف فيه ببيعه ونحوه، اللهمّ إلّا من باب مفهوم اللقب وأنّ مفهوم كون المالك مسلّطاً على ماله عدم تسلّط الغير عليه، ولكن مفهوم اللقب ليس بحجّة، وهذا نظير السلطنة الثابتة للأب على مال ولده فإنّ ثبوت سلطنة الأب عليه لا يدل على عدم سلطنة الجد عليه، بل كلاهما مسلّطان ولهما الولاية عليه.

وبالجملة: أنّ الرواية إنما تنفي حجر المالك عن التصرف في ماله، وأمّا أنّ غيره لا سلطنة له عليه فلا يستفاد منها بوجه. هذا.

مع إمكان أن يقال: إنّ الرواية رتّبت سلطنة كل مالك على ماله بمقتضى الاضافة، والفسخ رافع لموضوع السلطنة لأنّه يوجب خروج المال عن كونه مال الغير و صيرورته مال الفاسخ، ومن المعلوم أنّ الرواية لا نظر فيها إلى ما يثبت موضوع

ص: 112

نفسها أو ينفيه، لأنّها تثبت السلطنة على فرض تحقّق موضوعها وهو كون الشيء مالاً لشخص، وأما أنّ هذا المال مال للفاسخ أو لغيره فليست الرواية ناظرة إلى ذلك كما هو الحال في سائر القضايا الحقيقية. وعليه فلا منافاة بين نفوذ الفسخ وسلطنة كل مالك على ماله»(1).

ويجاب عنه أوّلاً: قد مرّ(2) منّا جبران ضعف سند الحديث بعمل المشهور.

وثانياً: «الاستدلال لا يبتني على اللقب، وإنما على دعوى الملازمة العرفية في أمثال هذه الموارد بين الدلالة على السلطنة المطلقة للملّاك وبين نفي سلطنة الغير؛ إذ من الطبيعي أن تنافى السلطنة المطلقة للملّاك مع سلطنة الغير على الفسخ وأخذ المال.

وبعبارة أخرى: إن السلطنة المطلقة للمالك لا تتحقق إلّا إذا كانت يد الغير مقطوعة عنه»(3). كما مرّ آنفاً.

وثالثاً: نتمسك بإطلاق حديث السلطنة وجريان السلطنة المطلقة قبل الفسخ وبعده ونحكم ببطلان الفسخ الإبتدائي كما مرّ آنفاً في الإيراد على المحقّق النائيني (قدس سره) وعليه إطلاق احديث السلطنة المطلقة تنفي الفسخ بوضوح والله العالم.

الوجه الثامن: قوله (صلی الله علیه و آله و سلم) : المؤمنون عند شروطهم

قد بحثنا حول هذه الرواية سنداً ومتناً ودلالة وتعرضنا لكلمات الأصحاب حولها في أدلة لزوم المعاطاة(4) ووافقنا هناك مع مقالة الشيخ الأعظم هنا في أوّل الخيارات فلذا الآن نتعرض لمقالته هنا فقط وتفصيل البحث موكول إلى ما حرّرته

ص: 113


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/37؛ مصباح الفقاهة 6/43.
2- الآراء الفقهية 4/116.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/126.
4- راجع الآراء الفقهية 4/(137-133).

هناك.

تقريب استدلال الشيخ الأعظم هنا: «إنّ المراد من الشرط في الحديث مطلق التعهد والالتزام ولو ابتداء من غير ربط بعقد آخر، والمستفاد من «عند شروطهم» عدم انفكاك المؤمن عن شرطه وتعهده، فعقد البيع شرط، ونفوذ الفسخ فيه مناف لهذا الالتزام المستفاد من هذه العندية، فيجب الوقوف عنده ويحرم التعدّي عنه»(1).

ثمّ استشكل على هذا التقريب صغريً «أما من ناحية الصغرى: فلأن الشرط ليس هو عين الالتزام والتعهد، بل أخذ في مفهومه الربط بشيء آخر، أي الالتزام في ضمن التزم آخر كما يظهر من موارد استعماله مادة وهيئة - كما في مثل: شريطة - ومن كلمات اللغويين؛ حيث قالوا: الشرط هو التزام في ضمن البيع ونحوه، ويؤيده الارتكاز العرفي؛ فإنه يصح سلب الشرط عندهم عن البيع والصلح ونحوهما من الالتزامات الابتدائية.

فإذا ثبت هذا المعنى فلا موضوع لهذا الدليل في المقام، وإن لم يثبت فلا أقل من إيجابه الشك، بمعنى أن كلمات اللغويين والمرتكز العقلائي يوجبان الشك في مفهوم الشرط، فهل هو مطلق الالتزام أو خصوص الالتزام المربوط بالتزام آخر، ومع الشك في سعة المفهوم وضيقه يقتصر على القدر المتيقن، ويكون التمسك به في المقام من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية»(2).

وكذا يمكن الإشكال من ناحية الكبرى أيضاً: «بعد تسليم أن الشرط يشمل الالتزام الإبتدائي - فلأن غاية ما يدل عليه الحديث هو وجوب الوفاء بالشرط تكليفاً؛ فإن المؤمن بمقتضى إيمانه يفي بشرطه ولا يتخلف عنه، كما في قوله (علیه السلام) : «المؤمن عند

ص: 114


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/130.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/130.

عدته»؛ فإنه لا يدل على أكثر من وجوب الالتزام بما وعد، وأين هذا مما نحن فيه، أعني الحكم الوضعي بعدم نفوذ الفسخ لو وقع؟! ولا ملازمة بين الحكم التكليفي بلزوم الوفاء بالشرط وبين الحكم الوضعي بعدم نفوذ الفسخ بأيِّ نحوٍ من أنحاء الملازمات، لا العقلية ولا الشرعية ولا العرفية.

فالاستدلال بهذا الحديث ساقط موضوعاً وحكماً»(1).

الوجه التاسع: الروايات الدالة على نفي الخيار بعد الافتراق

قد ذكرناها في الكتاب(2) في بحث أدلة لزوم المعاطاة فلا نعيدها.

«تقريب الاستدلال بها: أن مقتضى إطلاق وجوب البيع بعد الافتراق هو وجوبه من جميع الجهات، ومقتضاه نفي نفوذ الفسخ وتأثيره وإلّا لم يكن واجباً من جميع الجهات.

وأورد على هذا الاستدلال كل من المحقّق الخراساني (قدس سره) والمحقّق الاصفهاني (قدس سره) بما حاصله: إن هذا الوجوب وجوب حيثي، بمعنى أن البيع واجب من حيث خيار المجلس، وما كان كذلك لا يفيد نفي تأثير الفسخ مطلقاً، وما ينفعنا هو وجوب البيع من جميع الحيثيات لا من حيثية خاصة.

والشاهد على أن هذا الوجوب حيثي صدر الرواية أي «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» فإنه دال على الخيار قبل الافتراق وهو خيار المجلس، فالمراد من: «فإذا افترقا وجب البيع» وجوبه من هذه الحيثية أي حيثية الاجتماع.

ويشهد لذلك أيضاً: أن أدلة خيار العيب والغبن وغيرهما لا تعتبر مخصصة لهذا الدليل، ولو كان وجوب البيع في هذا الدليل من جميع الحيثيات لكانت تلك الأدلة

ص: 115


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/131.
2- راجع الآراء الفقهية 4/127.

مخصصة له، فهذا كاشف عن عدم كون هذا الوجوب من جميع الحيثيات، وإنما هو من حيثية خيار المجلس فقط.(1)

وأجاب عنه المحقّق النائيني (قدس سره) بما ملخصه: أن مدلول «وجب البيع» في الرواية ليس هو وجوب البيع من حيث خيار المجلس، بل هو مطلق ولا دليل على تحيّثه بحيثية خاصة، فإن الحيثية الخاصة قيد يحتاج إلى مؤونة زائدة ثبوتاً وبيان زائد إثباتاً وهما مفقودان، ومع عدم تقيُّده بحيثية المجلس تتحكم أصالة الإطلاق، والالتزام بالتخصيص لا ضير فيه، فيقال: وجب البيع إلّا إذا كان الثمن أو المبيع معيباً، أو كان في البيع غبن.(2)

هذا، ولكن ما يختلج بالبال أن كلام المحقق الخراساني (قدس سره) مبتن على مبناه في الأصول، أعني مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب من انعقاد الإطلاق؛ فإنّ صدر الرواية كان لبيان خيار المجلس، فيكون قدراً متيقناً في مقام التخاطب بالنسبة إلى ذيلها، فيمنع من انعقاد الإطلاق في الذيل وهو: «فإذا افترقا وجب البيع» فلا يرد الإشكال على مثل المحقّق الخراساني (قدس سره) القائل بهذا المبنى.

نعم، مقتضى القاعده بالنسبة لمن لا يرى هذا المبنى هو الأخذ بالإطلاق.

ثمّ إنه يأتي السؤال - على مبنى عدم منع القدر المتيقن في مقام التخاطب من انعقاد الإطلاق - هل ينعقد الإطلاق في المقام أو لا؟ فهل يمكن أن نقول: بأنه إذا افترقا وجب البيع من كل جهة - أي حتّى لو كان الثمن أو المثمن معيباً، أو كان البائع أو المشتري مغبوناً، أو كان في البيع شرط - أو لا نحرز ذلك، ولا أقل من الشك في انعقاد الإطلاق في غير ناحية خيار المجلس؟

ص: 116


1- حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني /149؛ حاشية المحقّق الاصفهاني 4/44.
2- منية الطالب 3/15.

وإذا وصل الأمر إلى الشك في الإطلاق فالاستدلال ساقط أيضاً.

ولكن الذي يبدو لنا - على القول بعدم مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب من انعقاد الإطلاق - : أنا لو خلِّينا وجملة «إذا افترقا وجب البيع» فالإطلاق منصرف عن الشروط مطلقاً، بمعنى عدم الإطلاق في «وجب البيع» بالإضافة إلى ما لو شرط المتبايعان الخيار قطعاً، وسيأتي في مبحث خيار العيب والغبن أن الأصل فيهما هي الشروط العقلائية الارتكازية؛ فإن إقدام المتعاملين على المعاملة مبني على أصالة السلامة من العيب في العوضين، وعلى التساوي بينهما في المالية، فوجود العيب فيهما أو في أحدهما، وعدم التساوي في المالية بينهما تخلف عن الشرط الارتكازي.

وعليه فالحق: أن الرواية لا إطلاق فيها بالنسبة إلى الشروط مطلقاً سواء أكانت مصرحاً بها أم مرتكزة في الأذهان، وأما بالنسبة إلى غيرها فالإطلاق تام، والشاهد على ذلك: أنه لا شبهة في إطلاق «وجب البيع» بالإضافة إلى ما لو كان المبيع حيواناً أو غير حيوان، ولو كان وجوب البيع من حيث خاص لما كان دليل خيار الحيوان مخصصاً له؛ لعدم الإطلاق من الأوّل.

وخلاصة الكلام: أنه لا إطلاق في الرواية على مبنى مانعية القدر المتقين في مقام التخاطب من انعقاد الإطلاق، وأما على مبنى عدم مانعيته فلا إطلاق فيها بالإضافة إلى خيار العيب والغبن والشروط، ولا حاجة إلى الالتزام بخروجها بالتخصيص، وأما بالإضافة إلى ما عدا ذلك فالإطلاق محكّم، فالاستدلال بهذه الأخبار على نفي تأثير الفسخ تام»(1).

الوجه العاشر: رواية الصلح جائز

صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: الصلح جائز بين

ص: 117


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(136-133).

الناس.(1)

ومرسلة الصدوق عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً.(2)

بتقريب: «إنّ الظاهر منهما خصوصاً الثاني منهما أنّه (علیه السلام) بصدد إعطاء قاعدة كلّيّة لتنفيذ جميع ما يتسالم عليه الطرفان، سواء كان بعنوان الصلح أو لم يكن بالعنوان المذكور ولكن صدق عليه الصلح بالحمل الشائع، بل يدلّ على تنفيذ تصالح كلّ من صاحبي الحقّ على إيجاد المعاملة بسبب خاصّ لا يكون معروفاً عند غيرهما»(3).

وبالجملة: مقتضى شمولهما لكلّ تسالم وتوافق بين المسلمين ولو لم يكن بمفهوم الصلح أو ما يشابهه من التسالم والتوافق وغيرهما بل كان مصداقاً للصلح والتسالم والتوافق لعدم انقطاع المخاصمة في ما هو المتيقن من صدق اللفظ الصلح وحينئذ أنّ جواز الصلح والحكم بنفوذه يرادف اللزوم.(4) ويحكم ببطلان الفسخ الإبتدائي.

الوجه الحادي عشر: خبر هذيل بن صدقة الطحان

خبر هذيل بن صدقة الطحان قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن الرجل يشتري المتاع أو الثوب فينطلق به إلى منزله، ولم ينفذ شيئاً فيبدو له فيردّه، هل ينبغي ذلك له؟ قال: لا إلّا أن تطيب نفس صاحبه.(5)

دلالتها على عدم جواز الفسخ الإبتدائي ولزوم البيع واضحة ولكن في سندها ضعف بهذيل لأنّ ليس له إلّا هذه الرواية وأنّه مجهول إلّا على القول بكفاية رواية

ص: 118


1- وسائل الشيعة 18/443، ح1، الباب 3 من أبواب كتاب الصلح.
2- وسائل الشيعة 18/443، ح2.
3- ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة 2/41.
4- راجع ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة 2/62.
5- وسائل الشيعة 17/386، ح3، الباب 3 من أبواب آداب التجارة.

أصحاب الإجماع وهو عبدالله بن مسكان أو اعتبار روايات صفوان بن يحيى في ضمن المشايخ الثلاث وكلاهما عندي غير تام كما بحثنا عنهما في ضمن بحوثنا الرجالية.

الوجه الثاني عشر: الاستصحاب

قد بحثنا عنه في أدلة لزوم المعاطاة(1) وأقول هنا في توضيح كلام الشيخ الأعظم(2) أنّ تقريب الاستدلال بالاستصحاب يكون بوجهين:

«الوجه الأوّل: استصحاب بقاء نفس العقد؛ فإن العقد بمعنى الالتزام المربوط بالتزام آخر - كالتزام كل من الطرفين بتمليك الآخر في قبال العوض في البيع مثلاً، لا بمعنى نفس الإيجاب والقبول اللفظيين؛ فإنه أمر متصرم قد زال قطعاً - قد تحقق يقيناً بمقتضى المعاملة بين الطرفين، ثمّ لما فسخ أحدهما شك في انحلاله وارتفاعه فيستصحب بقاؤه، أو عدم انحلاله.

الوجه الثاني: استصحاب بقاء الأثر؛ إذ بالبيع - مثلاً - قد تحقق النقل والانتقال وصار المبيع ملكاً للمشتري، والثمن ملكاً للبائع، فإذا فسخ أحدهما شك في بقاء ملكية المشتري للمبيع، وملكية البائع للثمن، فتستصحب ملكيتهما.

هكذا يمكن أن يقرَّب الاستصحاب وإن كان المتداول في كلمات القوم التقريب الثاني، ولكن أركان الاستصحاب تامة في الموضوع - أي العقد - كما هي تامة في الحكم، واستصحاب الموضوع تام من ناحية المقتضي بلا إشكال، وإنما الإشكال من ناحية المانع، وأما استصحاب الأثر ففيه إشكال من جهتي المقتضي والمانع:

أما من جهة المقتضي فالإشكال مبنائي؛ وذلك على مبنى من لا يجري الاستصحاب في الشبهات الحكمية؛ لقصور أدلته عنها؛ لأن مورد رواياته الشبهات

ص: 119


1- راجع الآراء الفقهية 4/(109-106).
2- المكاسب 5/22 و 23.

الموضوعية فلا تشمل الشبهات الحكمية، كما اختاره السيّد [أحمد] الخوانساري (قدس سره) وأورد الإشكال به على جميع موارد الاستصحاب في الشبهات الحكمية في كتابه جامع المدارك(1)، وهو مسبوق بغيره أيضاً.

وأما من ناحية المانع فالإشكال على نحوين:

النحو الأوّل: مبنائي، أي أن مورد هذا الاستصحاب شبهة حكمية ولا يجري الاستصحاب في الشبهات الحكمية للمعارضة الدائمية بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل، كما اختاره المحقق السيّد الخوئي (قدس سره)، ويرجع الإشكال على هذا المبنى إلى المانع لا إلى المقتضي.

وتفصيل البحث في هذين الإشكالين في محله من الأصول، والحق عندنا - وفاقاً للمشهور- جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، وأن الروايات - وإن كانت وارده في الشبهات الموضوعية - إلّا أنها تشمل بإطلاقها الشبهات الحكمية أيضاً؛ فإن كبرى «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» تشمل ما إذا كان متعلّق اليقين موضوعاً وما إذا كان حكماً، كما أن المعارضة التي أفادها السيّد الخوئي(2) (قدس سره) غير تامة، كما فصّلنا البحث في ذلك في مباحث الأصول فراجع.

النحو الثاني: ما ذكره الشيخ (قدس سره) من جريان استصحاب بقاء علقة المالك الأصلي، بمعنى أن المالك الأوّل كانت بينه وبين المال علقة خاصة، فبعد البيع نشك هل زالت تلك العلقة بالكلية بمجرد البيع فلا حق له في الفسخ، أو لا زالت باقية فله حق الفسخ؟ وحين الشك نستصحب بقاءها، وهذا الاستصحاب حاكم على استصحاب بقاء ملكية المالك الثاني للمال؛ لكون الشك في بقاء ملكية الثاني مسبباً عن

ص: 120


1- من جملتها، جامع المدارك 1/57، 162 و 300.
2- مصباح الأصول 3/36 وما بعدها، التفصيل الثالث في حجية الاستصحاب.

الشك في بقاء علقة المالك الأوّل وزوالها بالكلية، فإذا جرى الأصل في السبب انتفى الشك في المسبب.

مثلاً عندما تم البيع بين المتعاملين انتقلت ملكية المبيع للمشتري، فلما فسخ البائع البيع شككنا في زوال ملكية المشتري وبقائها فوجد عندنا استصحابان: أحدهما استصحاب بقاء العلقة المالكية للبائع؛ للشك في زوالها بالكلية بعد البيع بحيث يكون ممنوعاً من إرجاع المبيع إلى نفسه بالفسخ، والثاني استصحاب بقاء ملكية المشتري؛ فإنه بعد تحقق البيع صار مالكاً، وبعد الفسخ نشك هل زالت ملكيته عن المال أو لا فنستصحب بقاءها، ولكن هذا الشك في الاستصحاب الثاني مسبب عن الشك في بقاء وزوال علقة البائع، فإن زالت بالكلية لم يؤثر الفسخ وبقي المال على ملكية المشتري، وإن لم تزل أثَّر فسخه ورجع المال له.

وقد أورد الشيخ (قدس سره) على استصحاب العلقة: بأن علقة المالك الأوّل لا تخلو من احتمالات، وكلها لا يتم فيها الاستصحاب:

الأوّل: أن يكون المراد علاقة الملك وما يتفرع عليه من لوازم الملكية كالسلطنة ونفوذ التصرفات، وهذه العلاقة وما يتفرع عليها قد زالت قطعاً بزوال الملك بالبيع.

الثاني: أن يكون المراد بالعلقة حق سلطنة إعادة العين في ملكه، وهذه العلاقة لم تكن وقت ملكيته للعين قطعاً؛ لاستحالة اجتماعها مع الملك؛ إذ يستحيل أن يكون للمالك حق استرداد العين التي هي ملكه لملكه، وإنما هو حق يحدث بعد زوال الملك بدليل يدل عليه، فإن فقد الدليل شك في حدوثه، والأصل عدمه.

الثالث: أن يكون المراد العلاقة التي بين البايع والمبيع مادام لم يفترق هو والمشتري عن مجلس البيع، فتستصحب عند الشك، فيكون الأصل في البيع بقاء الخيار، ويرد عليها:

أوّلاً: أنها أخص من المدعى؛ وذلك لوجهين:

ص: 121

أوّلهما: أن البحث في أصالة اللزوم في العقد، وهو أعم من البيع، وخيار المجلس خاص بالبيع.

ثانيهما: أن بعض أفراد البيع لا خيار فيه في المجلس.

ثانياً: أن المقام من موارد التمسك بعموم ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ لا التمسك باستصحاب بقاء الخيار؛ وذلك لأن المعاملة مشمولة لعموم الآية، وقد خرج عنه زمان المجلس بمقتضى «البيعان بالخيار ما لم يفترقا»، وبعد الافتراق شك في بقاء تلك العلقة الحاصلة في المجلس وزوالها، أي هل العام خصص بأكثر من زمان المجلس أو لا؟ فيكون من الشك في التخصيص الزائد، وفي مثله يتمسك بعموم العام، لا باستصحاب حكم المخصص.

ثالثاً: أن الأخبار تواترت بانقطاع الخيار بالافتراق، فلم تبق علقة حتّى تستصحب.

[الرابع]: وهنا محتمل آخر لم يذكره الشيخ (قدس سره) ولعله لوضوح دفعه، وهو: علاقة حق فسخ العقد، ويظهر دفعه من دفع الثاني؛ لاستحالة اجتماع حق فسخ العقد مع الملكية، أي أنه قبل العقد لا عقد حتّى يكون له حق فسخه، وبعد العقد يشك في حدوثه والأصل عدمه.

وعليه فالاستصحاب الحاكم المتصور ساقط.

فالنتيجة: أن استصحاب الأثر وملكية المالك الثاني سليم عن المعارض، فيكون مقتضى الأدلة اللفظية والأصل العملي لزوم المعاملة»(1).

ص: 122


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(143-139).
ثمّ بقى هنا تنبيهان
الأوّل: ردّ قول العلّامة: في أصالة عدم اللزوم

قال العلّامة في المختلف: «مسألة: عقد السبق والرماية قال الشيخ: انّه جعالة فيكون جائزاً من الطرفين.(1)

وقال ابن ادريس: انّه اجارة فيكون لازماً من الطرفين بعد تردّده واضطرابه.(2) والوجه الأوّل.

لنا: الأصل عدم اللزوم وبراءة الذمة.

احتج بقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(3) وهذا عقد.

والجواب: المنع من العموم، بل المراد العقود اللازمة، وفيه النزاع»(4).

وقال فيه أيضاً: «مسألة: ذهب الشيخ في المبسوط(5) والخلاف(6) إلى أنّ عقد الرمي والسبق من العقود الجائزة كالجعالة، لا من العقود اللازمة كالاجارة.

وقال ابن ادريس: إنّه من العقود اللازمة.(7) والوجه الأوّل.

لنا: الأصل عدم اللزوم.

ولأنّه نوع جعالة، فانّ قوله: «من سبق فله كذا» هو عين الجعالة.

احتج بقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(8).

ص: 123


1- المبسوط 2/367.
2- السرائر 2/88 وفيه: «انه جعالة» بدل «انه اجارة».
3- سورة المائدة /1.
4- مختلف الشيعة 6/22.
5- المبسوط 6/300.
6- الخلاف 3/273، المسألة 9، طبعة إسماعيليان.
7- السرائر 3/149.
8- سورة المائدة /1.

والجواب: القول بالموجب، فانّ الوفاء بالعقد هو العمل بمقتضاه، فان كان لازماً كان الوفاء به العمل بمقتضاه على سبيل اللزوم، وان كان جائزاً كان الوفاء به العمل بمقتضاه على سبيل الجواز، وأيضاً ليس المراد مطلق العقود، وإلّا وجب الوفاء بالوديعة والعارية وغيرهما من العقود الجائزة، وهو باطل بالاجماع، فلم يبق إلّا العقود اللازمة، والبحث وقع فيه»(1).

وقال المحقّق الثاني: «اختلف الأصحاب في أن المسابقة لازم كالاجارة، أو جائز كالجعالة، فقال الشيخ(2) وجماعة بالثاني(3)، تمسكاً بالأصل، ولوجود بعض خواص الجعالة فيها مثل إبهام العامل وجواز البذل من الاجنبي. وقال ابن ادريس(4)، وجماعة بالأوّل(5)؛ لعموم قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(6) وعموم قوله (علیه السلام) : «المؤمنون عند شروطهم»(7).

واعترض المصنف في المختلف بالقول بموجب الآية، فان الوفاء بالعقد العمل بمقتضاه على وجه اللزوم إن كان لازماً، وإلّا فالجواز، وبالنقض بنحو الوديعة والعارية لو اُريد العموم.(8)

وجوابه: أن الوفاء بالعقد هو العمل بمقتضاه من دون القيد الذي ذكره، فان المفهوم لغهً وعرفاً من الوفاء بالقول هو العمل بمدلوله. ثمّ إنه لا معنى لوجوب

ص: 124


1- مختلف الشيعة 6/255.
2- المبسوط 6/300.
3- ولكن في المصدر «بالأوّل» والصحيح ما كتبناه.
4- السرائر /376.
5- ولكن في المصدر «بالثاني» والصحيح ما كتبناه.
6- سورة المائدة /1.
7- التهذيب 7/371، ح1503؛ الاستبصار 3/332، ح835.
8- المختلف /484.

الوفاء بالعقد على وجه الجواز، فإن وجوب الوفاء به ينافي الجواز، والآية مخصوصة بما عدا الجائز، فان العام المخصوص حجة في الباقي، والأصح اللزوم.

والأصل الذي ادعاه الشيخ مدفوع بوجود الناقل وهذا عقد برأسه فلا يمتنع اختصاصه ببعض الخواص، وقول المصنف [العلّامة في القواعد] يكفي فيه الايجاب وهو البذل المراد به: بذل العوض من مخرجه كائناً من كان من غير احتياج إلى قبول»(1).

وقال صاحب الجواهر: «... على كلّ حالٍ، فالدليل على عقديّته: ذكر الأصحاب له في نظمها، بل ظاهر المصنّف في النافع(2) والفاضل في المختلف(3) بل وغيرهما(4) المفروغيّة من ذلك، وأنّ التردّد إنّما هو في اللزوم والجواز، وإن كان ظاهره هنا تفريع لزومه وجوازه على عقديّته وعدمه، لكنّه في غير محلّه؛ ضرورة كون كلّ منهما أعمّ من ذلك.

كما أنّ التردّد في الجواز واللزوم بعد فرض عقديّته في غير محلّه؛ ضرورة أنّ الأصل في العقد اللزوم، لعموم: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(5) والاستصحاب الذي مقتضاه ذلك أيضاً وإن لم نقل بعقديّته.

و ما في المختلف من أنّ «المراد من الأمر بالوفاء بالعقد العمل على مقتضاه وإن كان جائزاً، وليس المراد مطلق العقود، وإلّا لوجب الوفاء بالجائزة»(6).

ص: 125


1- جامع المقاصد 8/325.
2- المختصر النافع: السبق والرماية /161.
3- مختلف الشيعة 6/255.
4- كالمقداد في التنقيح 2/353؛ والسبزواري في الكفاية 1/720؛ والكاشاني في المفاتيح 3/118، مفتاح 986.
5- سورة المائدة /1.
6- تقدّم المصدر آنفاً.

واضح الفساد؛ ضرورة ظهور الأمر بالوفاء بالشيء التزامه والعمل به، لا العمل بمقتضاه من جواز أو لزوم؛ ومن هنا كان طريقة الأصحاب - حتّى هو- الاستدلال بها على اللزوم، وإلّا كان دوراً واضحاً. وخروج العقود الجائزة منها - للأدلّة - لا ينافي بقاء حجّيّتها في(1) الباقي.

وبذلك كلّه ظهر لك: أنّه لا إشكال في اللزوم على تقدير عقديّته الذي قد عرفت ثبوتها من التسالم المزبور...»(2).

واعترض الشيخ الأعظم على العلّامة بقوله: «ولم يُعلم وجهٌ صحيحٌ لتقرير هذا الأصل. نعم، هو حسنٌ في خصوص عقد المسابقة وشبهه ممّا لا يتضمّن تمليكاً أو تسليطاً؛ ليكون الأصل بقاء ذلك الأثر وعدم زواله بدون رضا الطرفين»(3).

توضيح اعتراض الشيخ الأعظم (قدس سره) : «إنّ العقود على نحوين:

النحو الأوّل: ما يكون أثره التمليك أو التسليط بمجرده، وهو العقد ذو الأثر المنجَّز، كالبيع والصلح.

النحو الثاني: ما لا يكون له أثر بمجرده، وهو العقد ذو الأثر المعلَّق، كعقد السبق والرماية والوصية - بناء على كونها عقداً - فإن الملكية إنما تترتب في المسابقة على السبق، وفي الوصية على الموت.

وحاصل إشكال الشيخ (قدس سره) على العلّامة (قدس سره) : أن قوله بأن الأصل عدم اللزوم ليس صحيحاً على إطلاقه، بل يجب التفصيل بين العقود ذات الأثر المنجز، والعقود ذات الأثر المعلَّق، فإن الأصل في الأولى - عند الشك بعد الفسخ - اللزوم؛ لاستصحاب بقاء الأثر الحاصل بمجرد العقد، فلا تأثير للفسخ.

ص: 126


1- في بعض النسخ بدلها: على.
2- الجواهر 29/478 (28/223).
3- المكاسب 5/23.

وأما في الثانية؛ فإن مقتضى الأصل اللفظي - وهو عموم قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ - وإن كان هو اللزوم، إلّا أنه لا أصل عملياً في البين حتّى يجري، أي لا أثر حتّى يستصحب، بل ما يجري هو استصحاب بقاء ملكية صاحب المال قبل تحقق السبق»(1).

نقد تفصيل الشيخ الأعظم

أقول: «الحقّ عدم الفرق بين العقود المنجز أثرها، والعقود المعلق أثرها؛ فإن أصل اللزوم المبتني على الاستصحاب يجري فيهما كليهما؛ إذ في كل منهما يتحقق الالتزام من الطرفين بمجرد تحقق العقد، وبدون تحقق الالتزام والاعتبار منهما لا يعقل صدق مفهوم العقد، والمفروض أن الشارع أمضى هذا الالتزام وأنفذ هذا الاعتبار، فعندما أوصى الموصي قبل الموت بالتمليك بعده في الوصية التمليكة، فهو قد اعتبر الملكية بعد الموت، بحيث يكون الاعتبار فعلياً والمُعْتَبَرُ استقبالياً، وفي عقد المسابقة التزم الطرفان ب- (من سبق فله كذا)، وهذا الالتزام بالعقد فعلي ولكن متعلقه - وهي الملكية - متأخر عن العقد، ولو لم يكن هذا الالتزام بعد السبق موجوداً لم يعقل التمسك ب- ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، ولا بأدلة صحة الوصية، فإذن بمجرد الوصية يندرج الإيصاء تحت قوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾(2)، وبناء على كونها عقداً ينطبق عليها ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾... وإنما المستصحب هو اعتبار الشارع الذي تعلق بعقد الوصية قبل الموت، وبعقد المسابقة قبل السبق؛ فإنا نشك - بعد فسخ الملتزِم والمتعهِد لالتزامه وتعهده - في بقاء هذا الأثر الشرعي وارتفاعه، ومقتضى القاعدة جريان استصحاب بقائه.

ص: 127


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/147.
2- سورة البقرة /181.

ففي العقود المعلَّق أثرها على تحقق شيء لا توجد الملكية ولا السلطنة قبل تحققه، ولكن الإمضاء الشرعي موجود من حيث الالتزام بين الطرفين، وعند الشك في بقائه بعد الفسخ يستصحب بقاؤه، فما نحن فيه نظير استصحاب عدم النسخ، ونظير الاعتبارات الشرعية في القضايا الحقيقية قبل تحقق موضوعها فيما لو حصل الشك في بقائها، كما لو شك في بقاء حكم ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾(1) قبل تحقق الاستطاعة، فإنه يجري استصحاب بقاء الحكم، وهنا أيضاً في أبواب العقود يستصحب بقاء اعتبار الشارع وإمضائه.

والحاصل: أن العقود مطلقاً - سواء أكان أثرها منجزاً كالبيع أم كان معلقاً كالسبق والوصية - يجري فيها أصل اللزوم المستند للدليل اللفظي وهو قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، وللأصل العملي وهو استصحاب بقاء إمضاء الشارع وإنفاذه، ولا مجال للتفصيل الذي أفاده الشيخ (قدس سره).

هذا تمام الكلام في أصل اللزوم من جهة الشبهة الحكمية.

ونتيجة البحث:

1- إن الأصل في العقود اللزوم بمقتضى الأدلة اللفظيه والأصل العملي، أي الاستصحاب، فلا أثر للفسخ حين الشك.

2- إن أصالة اللزوم تجري - حال الشك في تأثير الفسخ وعدمه - في مطلق العقود، سواء منها ذات الأثر المنجز وذات الأثر المعلق.

3- إن الاستصحاب - عندنا - يجري في العقد نفسه، وفي الأثر المترتب عليه بالإضافة إلى ما فيه الأثر الفعلي، وأما ما لا أثر له بالفعل فيجري الاستصحاب في

ص: 128


1- سورة آل عمران /97.

العقد وفي إمضاء الشارع وإنفاذه»(1).

الثاني: حكم الشبهة الموضوعية في العقود
اشارة

«أمّا لو كانت الشبهة موضوعية بأن وقع العقد ودار أمره بين العقد المعلوم الجواز والعقد المعلوم اللزوم فما هو مقتضى القاعدة؟ ومثالها لو شك في الهبة الواقعة هل وقعت بقصد القربة فتكون صدقة فتلزم، أو لم تقع كذلك فتكون جائزة، أو تردد العقد الواقع بين كونه بيعاً فيكون لازماً وبين كونه هبة فيكون جائزاً.

[توضيح] رأي الشيخ [الأعظم] (قدس سره) في الشبهة الموضوعية

قال الشيخ (قدس سره) [بتوضيح منّا]: بأنه إن قلنا بجواز التمسك بالعام في الفرد المردد بينه وبين الخاص - أي في الشبهة المصداقية للمخصص كما يتمسك به في الشبهة المفهومية له(2)- فالمرجع في المشكوك ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ويحكم عليه باللزوم، كما لو تردّد العقد الواقع بين كونه بيعاً فيكون داخلاً في الآية وبين كونه هبة فيكون خارجاً عنها وداخلاً في المخصص، فمقتضى جواز التمسك بالعام الحكم عليه باللزوم وعدم خروجه من تحت العام.

وإن لم نقل بهذا المبنى فلا مجال للأصل اللفظي؛ فيرجع إلى الأصل العملي، فإن وجد أصل موضوعي في المقام جرى ونفى الشك في الحكم والأثر تعبداً، ولا موضوع حينئذ لجريان الأصل في الحكم والأثر، كما لو تردَّد الواقع بين كونه هبة أو صدقة؛ فإن كليهما يشتركان في التمليك المجاني ولكن يشترط في الصدقة أمر زائد وهو قصد القربة، فأصل التمليك المجاني محرز، ولكن وقع الشك في تحقق قصد القربة وعدمه،

ص: 129


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/148 و 149.
2- وهو محلّ الخلاف بين الأعلام كما حرّر في الأُصول، راجع كفاية الأصول /221، طبعة مؤسسة آل البيت (علیهم السلام).

وبما أنه أمر حادث فالأصل عدم تحققه، فيحرز ببركة هذا الأصل أن الواقع هبة فيكون جائزاً.

وكذا فيما لو تردَّد الواقع بين كونه بيعاً لازماً وبيعاً جائزاً؛ فإن مرجع الشك حينئذ إلى الشك في اشتراط الخيار في البيع وعدمه، والأصل عدم الاشتراط، فيحرز ببركة هذا الاستصحاب كون البيع الواقع لازماً.

وإن لم يوجد أصل موضوعي يعيّن اللزوم أو الجواز فالمرجع استصحاب الأثر الحاصل من العقد، ومقتضاه اللزوم أيضاً، كما لو تردَّد العقد الواقع بين كونه بيعاً أو هبة، وفسخ الموجب، فإن كان هبة فقد انحل، وإن كان بيعاً فهو لا زال قائماً، ولا أصل موضوعياً يعيِّن أحدهما، فيجري استصحاب بقاء ملكية القابل.

ولكن هذا الاستصحاب - أعني استصحاب بقاء الملكية - إنما ينفع في إثبات صفة اللزوم، فلا يحكم - بمقتضاه - بزوال الملكية لو فسخ الموجب مثلاً، وأما تعيين العقد اللازم حتّى يترتب عليه سائر آثار العقد اللازم - كما إذا أريد تعيين البيع عند الشك فيه وفي الهبة حتّى يترتب عليه آثار البيع - فلا، بل يرجع في الآثار الخاصة إلى الأصول المناسبة لتلك الآثار، فإذا شك في اشتغال الذمة بالعوض؛ - من حيث إن كان الواقع بيعاً اشتغلت ذمته بالعوض، وإن كان هبة لم تشتغل به - حكم بالبراءة التي هي من آثار الهبة.

وإذ شك في الضمان - كما لو دار الأمر بين الهبة والبيع الفاسد، فإن كان الواقع هبة لم يكن عليه ضمان العين، وإن كان بيعاً فاسداً لزمه الضمان - فهنا إن قلنا بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية حكم بالضمان؛ لعموم «على اليد» إن كانت هي المستند في ضمان العقود الفاسدة، وإن لم نقل بجوازه فالأصل البراءة من الضمان أو استصحاب عدم اشتغال ذمته به.

وكذا الأصل البراءة لو لم يكن مستند الضمان قاعدة (على اليد)، بل كان المستند

ص: 130

قاعدة الإقدام، بحيث يجب الضمان في كل مورد يقدم فيه عليه؛ وذلك للشك في الإقدام على الضمان وعدمه، بمعنى أنه إن كان هبة فلم يقدم الآخذ على الضمان، وإن كان بيعاً أقدم عليه، وعند الشك يكون الأصل عدم إقدامه عليه، والنتيجة براءة ذمته منه.(1)

هذا بيان لما أفاده الشيخ [الأعظم] (قدس سره) في ختام هذا البحث»(2).

نقد رأي الشيخ الأعظم

يمكن المناقشة في بعض آراء الشيخ الأعظم في المقام:

الأول: «ما ذكره في تعيين كون العقد الواقع هبة أو صدقة من إجراء أصالة عدم قصد القربة لنفي كونه صدقة وإثبات كونه هبة، فإنه وقع مورد النقض والابرام.

وتحقيق الحال فيه: أن الهبة والصدقة:

تارة يقال: إنهما عنوانان لواقعين ثبوتيين، فكل منهما أمر ثبوتي واقعاً يمتاز عن الآخر بحقيقته، فلا يثبت بالأصل المزبور كون الواقع صدقة، بل يكون كل منهما مشكوك الحدوث والتحقق، كما لا يخفى.

وأخرى يقال: إن الصدقة والهبة كل منهما حقيقته التمليك، لكن يختلفان في أخذ خصوصية فيه توجب تباينهما، فالهبة عبارة عن التمليك الخاص وهو التمليك لا بقصد القربة. والصدقة عبارة عن التمليك بقصد القربة. فأصالة عدم قصد القربة لا تثبت تحقق التمليك لا بقصد القربة إلّا بنحو الأصل المثبت، لأن نفي أحد التمليكين الخاصين مع دوران الأمر بينهما لا يثبت التمليك الخاص الآخر إلّا بالملازمة العقلية.

وثالثة يقال: إن مطلق التمليك يسمى هبة وقد استثني منه التمليك بقصد

ص: 131


1- المكاسب 5/24.
2- بغية الطالب 1/(152-150).

القربة فسمي صدقة وكان لازماً. فأصالة عدم تحقق قصد القربة يبتني جريانها على الالتزام بجريان استصحاب العدم الأزلي، فإن المورد من موارده، إذ عرفت أن لدينا عام يتكفل بيان جواز مطلق التمليك بلا عوض خرج منه التمليك مع قصد القربة المسمى بالصدقة، فمع الشك في كون الفرد الواقع من أفراد الخاص وعدمه، فان قيل بجريان استصحاب العدم الأزلي في إثبات حكم العام جرت أصالة عدم تحقق قصد القربة فيما نحن فيه ويترتب عليها الجواز، وإلّا فلا.

فما ذكره الشيخ (قدس سره) من جريان الأصل المزبور يبتني على كون الهبة والصدقة بالمعنى الثالث وجريان أصالة العدم الأزلي. فتدبر.

[الثاني]: ما ذكره في أن مقتضى الأصل العملي فيما إذا شك في كون العقد الواقع بيعاً أو هبةً هو البراءة عن اشتغال الذمة بالعوض، فإنه قد يتوقف فيه من جهة وجود العلم الاجمالي إما باشتغال ذمته بالعوض لو كان بيعاً، أو بحرمة تصرفه في العين بعد الرجوع لو كان هبة. ومقتضى هذا العلم الاجمالي تساقط الأصلين الجاريين في طرفيه، فلا يجري أصل عدم اشتغال الذمة بالعوض(1)، كما لا يجري استصحاب الملكية بعد الفسخ لمنافاتها للعلم الإجمالي.

ولا يضر كون طرفي العلم الإجمالي تدريجيين، لما تقرر في محله من منجزية العلم المتعلق بأمرين تدريجيين. نعم من شرائط منجزيته العلم بحصول الغرض المعلق عليه الطرف الآخر المتأخر أما مع عدم العلم به فلا يتنجز، إذا لا يكون علماً بتكليف فعلي على كل تقدير بعد الشك بفعلية الحكم في الطرف الآخر لعدم العلم بحصول موضوعه.

ص: 132


1- والصحيح أن الأصل الجاري هنا على تقديره هو استصحاب عدم اشتغال الذمة بالعوض لا أصل البراءة إذ الاستصحاب مقدم على البراءة مع أن في جريان البراءة في الأحكام الوضعية تأملاً.

ففيما نحن فيه لابدّ في منجزية العلم الاجمالي من العلم بتحقق الرجوع وإلّا فلا يكون منجزاً، إذ لا يعلم بفعلية حرمة التصرف في حقه في ظرفها المفروض، إذ لا علم بتحقيق موضوعها. هذا إذا فرض كون العلم المفروض فيما قبل الفسخ كي يكون علماً متعلقاً بأمرين تدريجيين، أما إذا فرض كون العلم فيما بعد الفسخ بأنّ يقال: إنه بعد الفسخ يعلم إجمالاً إما باشتغال ذمته بالعوض أو بحرمة تصرفه في المال، فهو علم منجز بلا كلام ولا إشكال.

[الثالث]: مسألة الضمان مع فساد العقد، فإن المرجع فيها هو البراءة أو استصحاب عدم اشتغال الذمة لعدم الالتزام بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لكي يتمسك بحديث: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدي»(1)»(2).

المحقق النائيني والصور الثمانية في الشبهة الموضوعية
اشارة

«ثمّ إنّ المحقّق النائيني(3) (قدس سره) تعرض في المقام لعدة صور، ناقش في بعضها الشيخ (قدس سره)، ومن المهم التعرض لها وبيان ما فيها، قال:

إذا اشتبه العقد الصادر بين البيع والهبة، أو الإجارة والعاريه، أو القرض والوديعة فهنا صور؛ لأن الاشتباه تارة يكون مع بقاء العين، وأخرى مع تلفها، وعلى التقديرين، تارة مع صحة المعاملة، وأخرى مع فسادها، وعلى التقادير، تارة يكون في مقام المرافعة كأن يكون المتعاقدان متنازعين، فهناك مدع ومنكر، وأخرى لا يكون في مقام المرافعة كأن يكون النزاع بين وارثيهما ممن لم يعلموا بما وقع، أو بين أحد المتعاقدين ووارث الآخر ممن لا يعلم بما صدر، فلا يوجد هنا مدع، أو مدع آخر؛ لأن

ص: 133


1- السنن الكبرى 6/95، طبع مؤسسة دارالمعرفة، بيروت.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/63 و 64.
3- منية الطالب 3/(21-18).

المدعي من يعلم، فالصور ثمان.

[أ] صور بقاء العين وصحة المعاملة
اشارة

أما صور بقاء العين وصحة المعاملة فهي:

1- الصورة الأولى: أن يكون الاشتباه في غير مورد المرافعة

أن تكون العين موجودة، ولاعقد صحيحاً، بلا مرافعة في البين، وتردد الواقع بين كونه بيعاً أو هبة، فهنا - بعد الفسخ - يجري استصحاب بقاء الملكية؛ لاحتمال أن يكون الواقع بيعاً فلم يؤثر الفسخ في رجوع المال لمالكه الأوّل، والأصل - عند الشك في بقاء ملكية المال وارتفاعها - بقاؤها، ومن جهة أخرى يشك من بيده العين في اشتغال ذمته بالعوض، ومقتضى الأصل براءة ذمته منه، إلّا أن هذا الأصل لا يفيده؛ للعلم الإجمالي - بعد فسخ الطرف الأخر - إما بوجوب رد العين عليه إن كان الواقع هبة، أو بوجوب إعطائه العوض إن كان الواقع بيعاً.

وبعبارة أخرى: إما أن يكون الواقع هبة فاستصحاب بقاء الملكية بعد الفسخ باطل، وإما أن يكون بيعاً فبراءة الذمة من العوض ساقطة، فيلزم من جريانهما معاً المخالفة القطعية، فما أفاده الشيخ (قدس سره) من اقتضاء استصحاب بقاء الأثر اللزوم في الشبهة الموضوعية غير تام، ويجب الصلح بينهما؛ إذ كما أنه يجب عليه رد العين أو العوض، فالطرف يعلم بعدم استحقاقه إما العين أو العوض»(1).

أقول: في هذه الصورة لا نحتاج إلى التصالح ولا إلى القرعة لأنّ العين موجودة وإن كان العقد هبةً يصح للمالك الأصلي استردادها وإن كان بيعاً مع عدم أداء العوض يصح له فسخ العقد واسترداد العين، فحينئذ ترجع العين إلى المالك الأصلي

ص: 134


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/155.

والله العالم.

الصورة الثانية والثالثة

«أن تكون العين موجودة، والعقد صحيحاً، ولكن المورد مورد مرافعة، فهنا صورتان:

2- الأولى: أن يدعي من انتقلت عنه العين الهبة، ويدعي الآخر البيع، فهنا إن قلنا بالتحالف رجعت العين إلى مالكها الأصلي؛ والوجه في ذلك: أن كلاً من العقدين حادث مسبوق بالعدم فالأصل عدمه، وكل واحد من المتنازعين مدع ومنكر؛ لأن الأول يدعي الهبة وينكر البيع، والثاني بالعكس، وما كان كذلك كان مورداً للتحالف - كما حقق في باب القضاء- فيتحالفان، فتسقط الدعويان، فترجع العين إلى ملك مالكها الأصلي.

وفي مقابل القول بالتحالف عدم القول به؛ لأنه ليس في كل دعويين وجوديتين كما يستفاد من ظاهر كلماته (قدس سره) ؛ والوجه فيه: أن معرفة المدعي والمنكر وقعت موقع الخلاف في باب القضاء على وجوه كثيرة، أحدها أن المدعي من تكون دعواه على خلاف الأصل، والوجه الثاني - وهو المهم في هذا الفرض - أن المدعي من يطالب بالحق عند الطرف الآخر، بحيث لو كان قوله على خلاف الأصل ولكنه لم يطالب بالحق عند الطرف الآخر لم يكن مدعياً، وعلى هذا الوجه لا يكون المورد مورد تحالف؛ لأن من يدعي الهبة لم يطالب الآخر بالحق، ولا يقول بأن لي حقاً عنده، فلم يكن كل منهما مدعياً ومنكراً، فتخرج المسألة عن باب التحالف، وعليه فبعد فسخ مدعي الهبة يشك في بقاء المال تحت ملك من انتقل إليه، ومقتضى الأصل بقاء أثر العقد - الملكية -، إلّا أنه يعلم إجمالاً إما بخروج العين عن ملك من انتقلت إليه، وإما بثبوت العوض عليه، ولو أخذ بمقتضى الاستصحاب لزم عدم استحقاق مدعي الهبة للعين وللعوض، وهو خلاف الواقع، وبما أن مدعي الهبة يدعي عدم استحقاقه للعوض

ص: 135

فيجب الصلح بينهما.

3- الثانية: على عكس السابقة؛ بأن يدعي من انتقلت عنه العين البيع، ويدعي من انتقلت إليه الهبة، فهنا تتمركز الدعوى في ثبوت اشتغال ذمة من انتقلت إليه العين بالعوض وعدمه؛ لأن من انتقلت العين إليه يدعي الهبة، ودعواها لا تتقضي ادعاء شيء على الواهب، وأما من انتقلت العين منه فبما أنه يدعي البيع فهو يدعي اشتغال ذمة الآخر بالعوض مع اعترافه بعدم استحقاقه الفسخ، فالأصل براءة ذمة مدعي الهبة عن العوض.(1)

مناقشة ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) في صور بقاء العين وصحة المعاملة

أقول: أما بالنسبة إلى الصورة الأولى فالحق معه (قدس سره) من حيث عدم جريان أصل اللزوم؛ فإن أصل بقاء الملكية معارض لأصالة براءة ذمته من العوض؛ لأجل العلم بالمخالفة الواقعية، وأما تعيين الوظيفة بعد تساقط الأصلين وهل هو الصلح أو القرعة؟ فبحثه في محله من باب القضاء، وإنما المهم في المقام إثبات عدم جريان أصل اللزوم.

وأما بالنسبة إلى الصورة الثانية فكلامه (قدس سره) محل إشكال؛ والوجه فيه أن الأصل إنما لا يجري إذا كان معارضاً بمثله، وأما صرف لزوم المخالفة - بحسب الظاهر- من جريانه فلا يمنع من الجريان، وأصل براءة ذمة مدعي البيع غير جار فيما نحن فيه؛ لاعترافه بأن ذمته مشغولة بالعوض، وأما أصل بقاء الملكية فيجري بلا معارض؛ فإن المال قد انتقل إلى الآخذ، فإن كان هبة كان قابلاً للرجوع، وإن كان بيعاً لم يقبله، ومع الشك يحكم ببقائه في ملك من انتقل إليه بمقتضى الأصل، ومن جهة أخرى يعترف بأنه مديون بالعوض للآخر فعليه أن يوصله له بأي نحو وإن كان الآخر لا يرى نفسه

ص: 136


1- منية الطالب 3/(19-18).

مستحقاً له، هذا من جهة مدعي البيع.

وأما من جهة مدعي الهبة فهو لا يرى نفسه مستحقاً للعوض، ولكن يرى نفسه مستحقاً للعين، ولكن حرم منها بمقتضى أصل بقائها في ملكية من انتقلت إليه، فله أن يأخذ العوض مقاصة.

هذا هو مقتضى الجمع بين القواعد.

وأما الصورة الثالثة فالحق فيها ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) إن لم يدّع المالك الأصلي أن له حق الفسخ، وأما إذا كان يدعي ذلك - كأن يدعي عدم إسقاط كافة الخيارات، ومنها خيار الفسخ للبائع عند امتناع المشتري من دفع الثمن - فالحكم ليس كما أفاده (قدس سره) ؛ إذ هناك مبنيان:

المبني الأوّل: أن يبنى على أن للواهب حق الفسخ فيما إذا كانت العين موجودة ولم تكن لذي رحم.

المبني الثاني: أن له حق استرداد العين.

والفرق بينهما: أن متعلّق الحق على المبنى الأوّل فسخ العقد، وبعد الفسخ يسترد العين بالتبع، وأما على المبنى الثاني فالمتعلق استرداد العين لا العقد، وبعد ردها ينفسخ العقد بالتبع.

أما على المبنى الأوّل فلا مورد للبراءة؛ وذلك لأن مدعي البيع يدّعي أن له حق الفسخ؛ لامتناع المشتري من دفع الثمن، ومدعي الهبة يعترف بأن للمالك الأصلي حق الفسخ؛ لأن ما وقع هبة في دعواه، فهناك علم بثبوت حق الفسخ له؛ إما لكونه بيعاً وله حق الفسخ، وإما لكونه هبة.

وأما على المبنى الثاني فلا تجري البراءة أيضاً؛ وذلك لأنه يعلم إجمالاً إما بحق الفسخ إن كان الواقع بيعاً، وإما بحق استرداد العين إن كان هبة، وعلى الفرضين لا طريق لجريان البراءة عن العوض وعدم الاعتراف بالحق للمالك الأصلي.

ص: 137

نعم، مورد البراءة فيما لو لم يدّع المالك الأصلي أن له حق الفسخ؛ للشك في ثبوت الحق له حينئذ؛ إذ على تقدير أن يكون بيعاً فله العوض، وعلى تقدير كونه هبة فلا شيء له، ومع الشك تجري البراءة كما تقدم.

هذا حكم جميع صور ما إذا كانت العين موجودة وكان العقد صحيحاً.

[ب] صور تلف العين وصحة المعاملة
اشارة

وأما إذا كانت العين تالفة واشتبه العقد الواقع بين كونه بيعاً أو هبة فهنا صور أيضاً:

4- الصورة الأولى: أن لا يكون المورد مورد مرافعة

أن لا يكون المورد مورد مرافعة، كما إذا انتقال الأمر إلى وارثي المتعاملين ولا يدعيان العلم بما وقع، فالأصل براءة ذمة من تلفت العين بيده عن العوض، والوجه واضح؛ لأن الواقع إن كان هبة فقد تلفت العين فلا مجال للفسخ ولا للاسترداد، وأصل عدم كونه هبة لا أثر له.

وإن كان بيعاً فذمة الآخذ مشغولة في الواقع، ولكنه يبقى في الظاهر مجرد احتمال، فيشك في اشتغال ذمته، والأصل البراءة بلا معارض، بل الأصل عند الدقة - من ناحية علمية - عدم كون الواقع بيعاً، وهو حاكم على أصل براءة الذمة من العوض والبدل وإن لم يكن يختلف من حيث النتيجة والعمل عن أصل البراءة.

5- الصورة الثانية: أن يدعي المالك الأصلي البيع

أن يكون المورد مورد مرافعة، ويدعي المالك الأصلي أن ما وقع بيع حتّى يستحق العوض، ويدعي الآخر أنه هبة حتّى لا يلزم بالعوض، فالأصل هنا البراءة عن اشتغال الذمة بالعوض أيضاً، أو عدم كون الواقع بيعاً، ولا أثر لأصل عدم كونه هبة كما هو واضح.

ص: 138

6- الصورة الثالثة: أن يدعي المالك الأصلي الهبة

أن يكون المورد مورد مرافعة، ويدعي المالك الأصلي أن ما وقع هبة، ويدعي الآخر أنه بيع، فهنا صورتان:

(أ/6) الأولى: أن يدعي من انتقلت عنه العين الهبة ولا يدعي الرجوع قبل تلف العين.

(ب/6) الثانية: أن يدعي الهبة ويدعي الرجوع قبل تلف العين ولكن الطرف الآخر ماطل ولم يردها حتّى تلفت.

أما (أ/6) الصورة الأولى: ففيها احتمال البيع واشتغال ذمة الطرف الآخر بالعوض، ومقتضى الأصل في الوهلة الأولى براءة ذمته منه، ولكن يشكل: بأن من انتقلت له العين يدعي البيع، فهو يعترف بأن ذمته مشغولة ببدل العوض، فلا تجري البراءة في حقه، فتكون وظيفته إيصال البدل إلى المالك الأصلي بأي نحو كان وإن لم يرَ نفسه مستحقاً لبدل العوض؛ لأنه يدعي الهبة.

وأما (ب/6) الصورة الثانية: ففيها - عند من انتقلت إليه العين وتلفت في يده - علم إجمالي إما باشتغال ذمته ببدل المسمى إن كان الواقع بيعاً، وإما بمثل التالف أو بقيمته إن كان هبة، فإن ثبت رجوع مدعي الهبة حال وجود العين لم يجر الأصل في حق مدعي البيع، بل يجب عليه العمل بمقتضى العلم الإجمالي؛ لتعارض أصل براءة الذمة من العوض مع أصل براءة الذمة من المثل أو القيمة ومخالفتهما للعلم الإجمالي.

ولتتميم البحث نقول: إنه إذا قلنا بجريان استصحاب العدم الأزلي وأجريناه حتّى في الذوات ففي جميع هذه الصور يجري أصل عدم كون الواقع بيعاً، وأما إذا لم نقل بجريانه من رأس، أو بعدم جريانه في الذوات فمقتضى القاعدة في المقام أصاله البراءة.

ص: 139

أصالة الاحترام في الأموال

هذا كله لو لم نقل بجريان أصالة الاحترام في الأموال، وأما على القول بها فلا مورد لجريان أصل البراءة من العوض؛ لحكومتها عليه، وأن خروج المال عن ملك مالكه لا يكون بلا عوض، ونتيجة ذلك: أن قول من ادعى اشتغال ذمة الآخر من ناحية قضائية موافق للأصل.(1)

وما ينبغي التنبيه عليه: أن لأصالة الاحترام في الأموال إطلاقين:

الأوّل: أن الشك في المال لا تجري فيه البراءة، أي كما أن أصل البراءة تبدل في النفوس والفروج إلى أصل الاحتياط فكذلك الحال في الأموال؛ فإن الأصل فيها الاحتياط، وهذا الأصل مبني على قاعدة «لا يحل مال إلّا من وجه أحله الله»(2)، فإذا شك في سبب الحلية فالأصل عدم تحققه، ويجب التوقف في الأموال، وليس هذا المعنى مراداً في المقام.

الثاني: أن المال المضاف إلى المالك يقتضي بطبعه أن لا يخرج عن ملك مالكه بلا عوض، ولا يبعد أن يكون هذا الأصل بهذا المعنى هو منشأ اختيار المشهور الضمان في مورد اشتباه العقد الصحيح بين القرض والوديعة، وبين الإجارة والعارية بالنسبة إلى المنافع وبين البيع والهبة.

وهذا المعنى هو المراد من أصالة الاحترام في المقام.

مناقشة التمسك بأصالة الاحترام في الأموال

أما المعنى الأوّل فيناقش: بأن قاعدة «لا يحل مال إلّا من وجه أحله الله» تامة،

ص: 140


1- منية الطالب 3/(20-19).
2- هذه الجملة قطعة من خبر محمّد بن زيد الطبري المروي في وسائل الشيعة، 9/538، ح2، الباب 3 من أبواب الأنفال.

إلّا أن قاعدة الحل المستفادة من «كل شيء لك حلال»(1) من الوجوه المحللة للتصرف في المال المشكوك جواز التصرف فيه، أي أن قاعدة الحل تندرج في قوله: «إلّا من وجه أحله الله».

نعم، لو أحرز كون المال للغير حرم التصرف فيه؛ لعموم: «لا يحل لأحد أن ينصرف في مال غيره بغير بإذنه»(2).

وأما المعنى الثاني ففيه:

أوّلاً: ما هو المراد من اقتضاء طبع المال؟ فإنه لايعقل الاقتضاء الطبعي في الأمور الاعتبارية، وإنما هو معقول في الأمور التكوينية؛ فإن المال بطبعه يقتضي البرودة، والنار بطبعها تقتضي الحرارة، والمالية من الأمور الاعتبارية، وإضافة المال إلى الغير من الأمور الاعتبارية العقلائية التي أمضاها الشارع، والأمور الاعتبارية لا طبع لها حتّى يقال إنها تقتضي بطبعها كذا وكذا، وعليه فلا بد أن يستند في ذلك إلى السيرة العقلائية غير المردوعة من قبل الشارع، أو إلى دليل خاص يقتضي أن الأصل في مال المالك أن لا يخرج عن ملكه إلّا بعوض، ولم يقم شيء منهما على مدعاه.

ثانياً: أن لازم هذا الأصل بالمعنى الثاني أن تكون الانتقالات المجانية من الهبة والعارية والأوقاف على الأشخاص والجهات والإنفاقات وغيرها من الأمور المجانية من الأعيان أو المنافع للأشخاص أو للجهات كلها على خلاف الأصل، وقد خصصت من القاعدة الأولية الطبعية، مع أن التأمل في الأمر يقضي بأن الهبة في عرض البيع، والعارية في عرض الإجارة، والأمور التي على خلاف الأصل تكون في طوله لا في عرضه.

ص: 141


1- وسائل الشيعة 25/118، ح2، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة.
2- وسائل الشيعة 9/450، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال.

وبهذين الوجهين يتضح بطلان ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) من بيان لقاعدة الاحترام في الأموال.

[ج] صور فساد المعاملة

وأما إذا كان العقد فاسداً ففيه صور أيضاً:

7- الصورة الأولى: أن تكون العين موجودة، فيجب ردها إلى مالكها؛ لبقائها على ملكه على التقديرين: البيع والهبة؛ لكون العقد فاسداً فلم تخرج عن ملكه، ومقتضى القاعدة وجوب رد المال إلى مالكه.

8- الصورة الثانية: أن تكون العين تالفة، فيجب رد عوضها إلى مالكها مثلياً أو قيمياً بمقتضى قاعدة الضمان التي أساسها قاعدة (على اليد)، وببيان المحقق النائيني: إن مقتضى قاعدة (اليد) الضمان، وخصصت بما لو أقدم صاحب المال على المجانية، أو على الاستيمان، أي موارد إلغاء حرمة ماله، فيكون موضوع الضمان مركباً من اليد وعدم العنوان المخصص، واليد محرزة بالوجدان، وعدم عنوان المخصص بالأصل؛ لأن المخصص - وهو الإقدام على المجانية - مشكوك فيه، فينفى بالأصل فيتم إحراز موضوع الضمان.

وبيان مراده (قدس سره) : أن هنا احتمالين:

أحدهما: أن الإقدام على المجانية المخصص لقاعدة اليد من أوصاف اليد.

ثانيهما: أنه من أوصاف ذي اليد.

فعلى الأوّل لا يجري الاستصحاب؛ لكونه من صغريات استصحاب العدم الأزلي، وهو لا يجري عنده (قدس سره) مطلقاً، والسر في كونه في استصحاب العدم الأزلي حينئذ أن إقدام المالك على المجانية لو كان من مفاد كان الناقصة لليد لكان عدمه من مفاد ليس الناقصة، وليست له حالة سابقة؛ لأنه لم تتحقق في زمان يد تتصف بعدم إقدام صاحبها على المجانية، فلا موضوع لاستصحاب العدم النعتي، ولكن تتحقق يد

ص: 142

لم تتصف بإقدام صاحبها على المجانية، وذلك في العدم الأزلي.

وأما على الثاني فيجري الاستصحاب؛ لأنه عندما يكون الإقدام من أوصاف ذي اليد، فلعدم إقدامه حالة سابقة؛ إذ لم يقدم سابقاً على المجانية، فعند الشك في إقدامه عليها يجري أصل العدم.

ومختار المحقّق النائيني (قدس سره) هو الثاني فيتم موضوع الضمان بضم الوجدان إلى الأصل»(1).

أقول: قد مرّ(2) منّا تمامية سند النبوي المشهور: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدي» فكان كلام المحقق النائيني تاماً عندنا لإحراز موضوع الضمان بضم الوجدان إلى الأصل.

وإلى هنا تم الكلام في التنبيه الثاني والبحوث الابتدائية قبل الورود في بحث الخيارات والحمدلله.

ص: 143


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(165-156).
2- الآراء الفقهية 4/292.

أقسام الخيار

اشارة

ص: 144

ص: 145

أقسام الخيار كثيرة واختلف كلام الفقهاء في عددها، فالمحقّق اقتصر على أنّها خمسة في الشرائع(1) وعلى أنّها ستة في النافع(2) والعلّامة(3) على أنّها سبعة، والسبزواري(4) على أنها ثمانية وتبعه صاحب الحدائق(5) والشهيد على أنّها تسعة في الدروس(6) وأنّها أربعة عشر في اللمعة(7)، ونحن نقتصر على السبعة تبعاً للشيخ الأعظم(8) «ولأنّ ما عداها لا يستحقّ عنواناً مستقلاً إذ ليس له أحكام مغايرة لسائر أنواع الخيار»(9) وعمدتها ترجع إلى خيار الشرط.

ص: 146


1- الشرائع 2/15، طبعة المرحوم الشيخ عبدالحسين بقال.
2- المختصر النافع /121.
3- القواعد 2/64؛ تبصرة المتعلمين /122؛ تذكرة الفقهاء 11/7.
4- الكفاية 1/462 (/91، س 19 من الطبعة الحجرية).
5- الحدائق 19/3.
6- الدروس 3/265.
7- اللمعة الدمشقية /127.
8- المكاسب 5/25.
9- المكاسب 5/25.

الأوّل: خيار المجلس

اشارة

قد مرّ تعريف الخيار في اللغة(1) والاصطلاح(2) فلا نعيدهما وأمّا،

المراد من المجلس
اشارة

فالمجلس في اللغة: موضع الجلوس وهو غير معتبر في تحقق الخيار، بل المراد به «مطلق مكان المتبايعين حين البيع»(3) ولا موضوعية لعنوان المجلس ويثبت الخيار حتّى لو وقع البيع حال المشي وإنّما عبّر بفرده الغالب وتمام الموضوع فيه عدم تفرّق المتبايعين وكذا التعبير بعدم تفرّق الأبدان أيضاً تعبير غالبي أو مسامحي لإمكان وقوع المعاملة بالوسائل الحديثة نحو: التلفون والنقال (الموبايل) والمواقع الإلكترونية والشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وفي هذه الموارد الحديثة ما لم ينقطع الاتصال فالمجلس باق وبالنسبة إلى المواقع الإلكترونية ما لم يخرج من الموقع على ما يخطر بالبال.

ولشمول قوله (علیه السلام) : البيّعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما.(4)

ص: 147


1- راجع هذا المجلد، صفحة 12، المقدمة الثالثة.
2- راجع هذا المجلد، صفحة 17، المقدمة الخامسة.
3- المكاسب 5/27.
4- وسائل الشيعة 18/6، ح3، الباب 1 من أبواب الخيار، صحيحة فضيل بن يسار.

ولذا قال المحقّق الإيرواني (رحمة الله) : «بل المراد به هيئتهما ونسبتهما المكانيّة الحاصلة لهما حين البيع فلو فارقا المجلس بهيئتهما وعلى نسبة بعدهما الذي كانا عليه حين العقد بلا زيادة، وإن نقص لم يزل الخيار باقياً، فلا يعتبر عدم مفارقة مكان البيع، كما لا يعتبر المجلس والاجتماع العرفي فضلاً عن الجلوس المحقّق لعنوان المجلسيّة.

وإنّما المناط عدم مفارقة أحدهما الآخر الحاصل ذلك بالتباعد ممّا كانا عليه.

والسرّ في ذلك أنّ الخيار مغييًّ في الدليل بعدم افتراق المتابعين، فما لم يحصل هذا كان الخيار باقياً كان المجلس العرفي بينهما موجوداً أم لا، بقيا في المجلس البيع أم لا، بل فارقاه مصطحبين.

هذا إن لم نستظهر من قوله: «البيّعان بالخيار حتّى يفترقا» اعتبار الاجتماع العرفي في جانب المغييّ وإلّا لم يكن خيار فيما لم يكن بينهما اجتماع عرفي حال البيع»(1).

أقول: العرف يتغيّر بالنسبة إلى الأزمنة والأمكنة وكذا بالنسبة إلى الجهازات الحديثة والوسائل المستحدثة، فالحكم يدور مدار عدم الافتراق العرفي حال البيع.

ولذا قال سيد المفتاح: «ولا يشترط في الخيار اجتماعهما، فلو تناديا بالبيع من مكانٍ بعيد ثبت الخيار كما في التذكرة(2) والدروس(3) وكنز الفوائد(4) وتعليق الإرشاد(5) وجامع المقاصد(6) لعموم النصّ. وأسقطه بعض العامّة(7)، لمقارنة المسقط

ص: 148


1- حاشية المكاسب 3/27.
2- تذكرة الفقهاء 11/25.
3- الدروس الشرعية 3/267.
4- ([4] ) كنز الفوائد 1/446.
5- حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي وآثاره) 9/389.
6- جامع المقاصد 4/289.
7- المجموع 9/181؛ روضة الطالبين 3/105.

البيع، وهو ساقط عن درجة الاعتبار»(1).

وقال آيةالله الشيخ مرتضى الحائري نجل آيةالله المؤسس قدس سرهما: «إذا كانت المعاقدة بوسيلة التلفون المعمول في العصر فهل يكون فيها خيار المجلس أم لا؟ وعلى فرض دخوله فيها فهل يمتدّ بامتداد المكالمة والاتّصال التلفونيّ، أو بامتداد المجلس الّذي لهما حين العقد ولو كان أحدهما في خطّة الشرق والآخر في الغرب، أو لا يكون له أمد بل يسقط بالإسقاط أو بالمسقطات الأُخر؟

يمكن أن يقال: كما أنّ التناسب بين الحكم والموضوع يوجب الانصراف في بعض الموارد مع عدم قصور في اللفظ - كما تقدّم في الوكيلين في إجراء العقد - كذلك قد يكون موجباً للأخذ بالإطلاق بإلقاء بعض الخصوصيّات.

فعلى هذا يمكن أن يقال أوّلاً بأنّ الافتراق المجعول غايةً الدالّ على فرض الاجتماع صادقٌ في المقام، فإنّ المقصود بالاجتماع هو الّذي يحتاج إليه في مقام المعاقدة، ومصداق ذلك الاتّصال التلفونيّ في المقام، والافتراق يحصل بالقطع.

وثانياً على فرض كون اللفظ ظاهراً في الافتراق البدنيّ المستلزم لفرض الاجتماع البدنيّ فيمكن دعوى أنّ العرف يحكم بإلقاء خصوصيّة الاجتماع البدنيّ والافتراق كذلك؛ فعلى هذا لعلّ الخيار وامتداده إلى قطع الاتّصال التلفونيّ أقرب من سائر الوجوه الّتي:

منها: عدم الخيار، لوجود الافتراق من أوّل الأمر، فهو كالبيع الصادر من الوكيلين في إجراء العقد فقط مع عدم حضور الموكّلين في المجلس وعدم اجتماع لهما.

ومنها: ثبوته وامتداده بامتداد المجلس المتحقّق حين المكالمة ولو بعد قطع التلفون، لأنّه المجلس الّذي لهما حين المكالمة.

ص: 149


1- مفتاح الكرامة 14/133.

ومنها: ثبوته وامتداده إلى أن يسقط.

والوجه فيه: عدم تقيّد الحكم بإمكان وقوع الغاية فيكون المقصود أنّ البيّعين بالخيار مطلقاً، ويمتدّ في فرض الاجتماع وإمكان الافتراق إلى حصول الافتراق»(1).

وممّا ذكرنا ظهر مواقع النظر في ما قاله صاحب المرتقى إلى الفقه الأرقى: قال (قدس سره) : «في اعتبار اجتماع المتبايعين في المجلس في ثبوت الخيار وعدمه، وتوضيح ذلك: أنه... .

تارة: يقع البيع بين اثنين بينهما هيئة اجتماعية في مكان البيع بحيث يصدق كونهما مجتمعين، كما إذا كانا جالسين في غرفة واحدة ووقع البيع بينهما.

وأخرى: يقع البيع بين اثنين لا اجتماع بينهما حال البيع، كما لو كان كل واحد منهما في مدينة غير مدينة الآخر وعقد البيع بواسطة الهاتف.

فالكلام في هذه الجهة يقع في أنه هل يعتبر الاجتماع في ثبوت الخيار أو لا يعتبر، بل يثبت الخيار في مطلق البيوع ويزول بزوال الهيئة التي كان عليها المتبايعان؟

والظاهر هو الأوّل، لأن نصوص الباب دلت على ثبوت الخيار مقيداً بعدم الافتراق أو مغيىً بالافتراق وظاهر ذلك هو فرض موضوع الخيار ما يقبل طروه وصف الافتراق عليه، ولازمه أخذ عنوان الاجتماع، إذ الافتراق لا يصدق خارجاً إلّا بزوال وصف الاجتماع، ولا يصدق بزوال كل هيئة كان عليها المتبايعان ولو كانا بعيدين غاية البعد، ولو فرض أنه يصدق فهو صدق دقي لا عرفي، بل هو خلاف المتفاهم العرفي من لفظ الافتراق.

وعلى ما ذكرنا يشكل الالتزام بثبوت الخيار لو أوقعا البيع وهما جالسين في غرفتين متلاصقتين من طريق النافذة الموجودة بين الغرفتين. لعدم تحقق الاجتماع بين

ص: 150


1- ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة 3/51.

المتبايعين، ونحوه في الاشكال ما إذا أوقعا البيع وهما في سفينتين متلاصقتين. فتدبر»(1).

ثمّ قال الشيخ في شأن هذا الخيار: «روى هذا في الصحابة عن علي (علیه السلام)، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وأبي هريرة وأبي برزة الأسلمي(2)، وبه قال الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، والزهري، وعطاء، وفي الفقهاء الاُوزاعي، وأحمد، وإسحاق، والشافعي(3).

وذهبت طائفة إلى أنّ البيع يلزم بمجرد العقد، ولا يثبت فيه خيار المجلس بحال. ذهب إليه في التابعين شريح، والنخعي، وفي الفقهاء مالك، وأبوحنيفة وأصحابه(4)»(5).

وقال العلّامة في شأنه: «... - وهو قول علي (علیه السلام) وابن عمر وأبي هريرة وأبي بردة من الصحابة، ومن التابعين: شريح والشعبي وسعيد بن المسيّب والحسن البصري وطاوُس وعطاء والزهري. ومن الفقهاء: الأوزاعي وابن أبي ذئب وأحمد

ص: 151


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/163، الجهة الثانية.
2- أبوبرزة، نضلة بن عبيد الأسلمي، صحب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وروى عنه وروى عن أبي بكر، وعنه ابنه المغيرة وبنت ابنه منية بنت عبيد بن أبي برزة وابوالمنهال الرياحي والازرق بن قيس وغيرهم. سكن المدينة ثمّ البصرة، وغزا خراسان، وقيل: انه شهد مع علي (علیه السلام) قتال الخوارج بالنهروان، مات بعد الستين من الهجرة، وقيل غير ذلك. انظر تهذيب التهذيب 10/446؛ وأسد الغابة 5/146.
3- المحلّى 8/354؛ والمجموع 9/184؛ وبداية المجتهد 2/169؛ والمغني لابن قدامة 4/7؛ والشرح الكبير 4/69؛ وسبل السلام 3/(839-383)؛ وكفاية الأخيار 1/154؛ والام 3/4؛ ومختصر المزني /75؛ وسنن الترمذي 3/548.
4- المحلّى 8/355؛ والمجموع 9/184؛ وبداية المجتهد 2/169؛ والمغني لابن قدامة 4/7؛ والشرح الكبير 4/69؛ وسبل السلام 3/839؛ ومقدمات ابن رشد 2/558.
5- الخلاف 3/7، مسألة 6.

وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والشافعي(1)- لما رواه الجمهور عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: «المتبايعان كلّ واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرّقا إلّا بيع الخيار(2)»(3).

مع ذلك كلّه «ليس في إطالة البحث في بيان المراد بالمجلس مزيد فائدة بعد إن لم يكن بهذا العنوان وارداً في موضوع الحكم، بل هو عنوان اصطلاحي ذكره الفقهاء»(4).

والمهم في البحث أمرين:

1- مستند هذا الخيار ودليله

2- خصوصياته

فيقع الكلام فيهما بإذن الله تعالى:

الأمر الأوّل: دليل خيار المجلس
أ: الإجتماع

ذهب الشيخ في الخلاف(5) إلى تحقق «إجماع الفرقة» على ثبوت خيار المجلس.

وقال العلّامة: «ذهب علماؤنا إلى أنّ لكلٍّ من المتبايعين خيار الفسخ بعد العقد ماداما في المجلس، ولا يلزم العقد بمجرده إلّا أن يشترطا أو أحدهما سقوط

ص: 152


1- المغني 4/7؛ الشرح الكبير 4/69؛ مختصر اختلاف العلماء 3/47، رقم 1125؛ الاستذكار 20/(230-229)، رقم 29959-29957؛ بداية المجتهد 2/170؛ مختصر المزني /75؛ المجموع 9/184؛ روضة الطالبين 3/100.
2- الموطّأ 2/671، رقم 79؛ سنن أبي داود 3/(273-272)، رقم 3454؛ سنن النسائي 7/248؛ سنن البيهقي 5/268.
3- تذكرة الفقهاء 11/7، مسألة 225.
4- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/67.
5- الخلاف 3/8، دليلنا: إجماع الفرقة.

الخيار...»(1).

وقال صاحب الحدائق: «ويدلّ عليه زيادة على الاتفاق، الأخبار المتظافرة»(2).

وقال سيّد المفتاح: «وقد طفحت أخبارنا وانعقد إجماعنا على ثبوت هذا الخيار كما ستسمع»(3).

وقال خالي الشيخ علي ابن الشيخ جعفر كاشف الغطاء قدس سرهما: «وعلى كل حالٍ فهذا الخيار ثابت بالإجماع محصَّلاً ومنقولاً نقلاً مستفيضاً وبالنصوص وهي في ذلك مستفيضة»(4).

وادعىٰ صاحب الجواهر: «الإجماع منّا بقسميه عليه وأن النصوص بذلك مستفيضة أو متواترة»(5).

وقال الشيخ الأعظم: «لا خلاف بين الإمامية في ثبوت هذا الخيار والنصوص به مستفيضة»(6).

أقول: بعد ورود النصوص المستفيضة أو المتواترة صار الإجماع مدركياً، لا عبرة به والله العالم.

النصوص المستفيضة

وقد ادعىٰ جمعٌ من الفقهاء تواترها ودلالتها على خيار المجلس واضحة:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) :

ص: 153


1- تذكرة الفقهاء 11/7.
2- الحدائق 19/5.
3- مفتاح الكرامة 14/126.
4- شرح خيارات اللمعة /11.
5- الجواهر 24/5 من طبعة جامعة المدرسين.
6- المكاسب 5/27.

البيعان بالخيار حتّى يفترقا، وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام.(1)

ومنها: صحيحة زرارة عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: سمعته يقول: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : البيّعان بالخيار حتّى يفترقا... الحديث.(2)

ومنها: صحيحة فضيل عن أبي عبدالله (علیه السلام) - في حديث - قال: قلت له: ما الشرط في غير الحيوان؟ قال: البيّعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما.(3)

ومنها: صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: أيّما رجل اشترى من رجل بيعاً فهما بالخيار حتّى يفترقا، فإذا افترقا وجب البيع، الحديث.(4)

ومنها: حسنة علي بن أسباط عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) قال: سمعته يقول: الخيار في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري، وفي غير الحيوان أن يفترقا... الحديث.(5)

ومنها: صحيحة عمر بن محمّد بن يزيد عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : إذا التاجران صدقا بورك لهما، فإذا كذبا وخانا لم يبارك لهما، وهما بالخيار مالم يفترقا، فإن اختلفا فالقول قول رب السلعة أو يتتاركا.(6)

ومنها: صحيحة أخرى للحلبي عن أبي عبدالله (علیه السلام) أنه قال: إنّ أبي (علیه السلام) اشترى أرضاً يقال لها: العريض، فلمّا استوجبها قام قمضى، فقلت له: يا أبه عجلت القيام، فقال: يا بني أردت أن يجب البيع.(7)

ص: 154


1- وسائل الشيعة 18/5، ح1، الباب 1 من أبواب الخيار.
2- وسائل الشيعة 18/5، ح2.
3- وسائل الشيعة 18/6، ح3.
4- وسائل الشيعة 18/6، ح4.
5- وسائل الشيعة 18/6، ح5.
6- وسائل الشيعة 18/7، ح6.
7- وسائل الشيعة 18/8، ح1، الباب 2 من أبواب الخيار.

ومنها: صحيحة أخرى لمحمّد بن مسلم قال: سمعت أباجعفر (علیه السلام) يقول: إنّي ابتعت أرضاً فلمّا استوجبتها قمت فمشيت خُطاً ثمّ رجعت فأردت أن يجب البيع.(1)

ومنها: صحيحة ثالثة لمحمّد بن مسلم قال: سمعت أباجعفر (علیه السلام) يقول: بايعت رجلاً فلمّا بايعته قمت فمشيت خُطاً ثمّ رجعت إلى مجلسي ليجب البيع حين افترقنا.(2)

ومنها: صحيحة ثالثة للحلبي عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قال: أيّما رجل اشترى من رجل بيعاً فهما بالخيار حتّى يفترقا، فإذا إفترقا وجب البيع.

قال: وقال أبو عبدالله (علیه السلام) : إن أبي اشترى أرضاً يقال لها: العريض فابتاعها من صاحبها بدنانير، فقال: أعطيك ورقاً بكلّ دينار عشرة دراهم، فباعه بها، فقام أبي فاتبعته، فقلت: يا أبه لم قمت سريعاً؟ قال: أردت أن يجب البيع.(3)

ومنها: موثقة عمار بن موسى عن أبي عبدالله (علیه السلام) في رجل اشترى جارية بثمن مسمى ثمّ افترقا، فقال: وجب البيع وليس له أن يطأها وهي عند صاحبها، الحديث.(4)

ثمّ إنّ هنا رواية واحدةتنفي خيار المجلس وهي موثقة غياث بن إبراهيم عن جعفر (علیه السلام)، عن أبيه عن علي (علیه السلام) قال: قال قال علي (علیه السلام) : إذا صفق الرجل على البيع فقد وجب وإن لم يفترقا.(5)

والمستفاد منها لزوم البيع بالتصفيق وإن لم يفترقا والعجب من رميها بأنّها

ص: 155


1- وسائل الشيعة 18/8، ح2.
2- وسائل الشيعة 18/8، ح3.
3- وسائل الشيعة 18/9، ح4.
4- وسائل الشيعة 18/9، ح5.
5- وسائل الشيعة 18/7، ح7، الباب 1 من أبواب الخيار.

ضعيفة السيّد.(1)

وقال الشيخ الأعظم (قدس سره) : «مطروحٌ أو مؤوّلٌ»(2).

وقد قالوا في عدم معارضة هذه الموثقة مع الروايات السابقة وجوهاً:

«منها: احتمال أن يكون المقصود من الوجوب وجوب الوفاء بالقبض والإقباض. فلكلّ من المتبايعين أن يطالب صاحبه بالمال، فهو في مقام بيان حصول المعاملة.

ومنها: احتمال كون الصفق في العصر السابق ظاهراً في الالتزام بالبيع وإسقاط الخيار وعدم حقّ الرجوع لكلّ واحد من المتبايعين، فهو حينئذٍ في مقام أنّه ليس الخيار حكماً شرعيّاً غير قابل للإسقاط، بل هو يسقط ولو بالعمل، وحينئذٍ فيه إشعار بل ظهور في قيام السبب الفعليّ مكان السبب القوليّ.

والّذي يؤيّد أحد التأويلين وجودُ كلمة «وإن لم يفترقا» المشعرة بكون الحديث ناظراً إلى مادلّ على الخيار حتّى يفترقا وأنّه بصدد تفسيره.

والحاصل: أنّه فرق بين أن يقول: «إذا باع الرجل فقد وجب» وبين العبارة المذكورة عرفاً.

والّذي يؤيّد الحمل الأخير استنادُ الوجوب إلى صفق البائع فيحصل الوجوب من جانبه وإن لم يفترقا. فتأمّل.

قال (قدس سره) في الجواهر: والأجود: حمله على التقيّة من أبي حنيفة وأتباعه في هذه الفتوى الملعونة، الّتي أقدم فيها على خلاف رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على علمٍ منه؛ ولذا عُدّت

ص: 156


1- كما في تقريرات الفقيه الشريعتمداري (رحمة الله) 6/88؛ وابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة 3/10 لآيةالله الشيخ مرتضي الحائري اليزدي (رحمة الله).
2- المكاسب 5/27.

في مطاعنه.(1)

قال آيةالله الشيخ مرتضى الحائري (قدس سره) : الحمل على التقيّة بعيدٌ عندي جدّاً، لأنّ التقيّة عن أبي حنيفة لم تكن في عصر عليّ (علیه السلام)، وهي لا توجب على الصادق (علیه السلام) نقل الحديث عنه كذباً، خصوصاً مع التصريح بالوجوب مع عدم الافتراق، فإنّ الحمل على التقيّة يوجب أن يكون خلاف الواقع في أمرين: أحدهما: استناد الحديث إليه (علیه السلام). ثانيهما: الفتوى على طبقه المستفاد من لازم الكلام هذا.

مضافاً إلى أنّ التقيّة لا توجب إلّا عدم تفرّد الإمام (علیه السلام) بحكمٍ غير ما يقول به جمهور العامّة ولا تقتضي موافقة خصوص أبي حنيفة.

ويبعّده أيضاً رواية الحديث عن الصادق مسنداً إلى علي (علیه السلام) فلازم ذلك خلاف الواقع في النقل عن أبيه (علیه السلام) وعن عليّ (علیه السلام).

والعجب من صاحبي الحدائق والوافي حيث رجّحا الحمل على التقيّة على غيره من المحامل(2) كالشيخ المعظّم(3) مع أنّه ربما كان مقطوع البطلان عندي.

وما أشرنا إليه من المحامل الثلاثة غير بعيد، بل لا يكون بعضها تأويلاً فراجع وتأمل»(4).

«ويمكن أن يقال: بعدم الحاجة إلى الطرح والتأويل؛ لأن التصفيق عبارة عن اختيار لزوم البيع الراجع إلى إسقاط الخيار حتّى لو لم يتم التفرق.

فإن قبلنا بهذا الوجه فالرواية لا تعارض الروايات الأخرى، بل تجتمع معها من حيث الدلالة، وإن لم نقبله فهي مما أعرض عنها المشهور بل الكل، والرواية التي

ص: 157


1- جواهر الكلام 24/6، طبعة جماعة المدرسين.
2- الحدائق الناضرة 19/6؛ الوافي 17/517.
3- راجع المكاسب 5/27.
4- ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة 3/10 و 11.

أعرض عنها الكل ساقطة عن الحجية، ولو سلم فهي معارضة لها فتصل النوبة إلى المرجحات، والروايات المثبتة للخيار أرجح منها؛ لاشتهارها رواية وفتوى، ولمخالفتها للعامة، فما خالفها شاذ نادر، وموافق للعامة فيطرح.

وقد يقال بالحمل على التقية كما عن صاحب الحدائق(1) (قدس سره)، ولكنه مشكل لأن التقية لا تحتاج إلى إسناد الرواية من الإمام (علیه السلام) إلى آبائه (علیهم السلام).

ولا يقال: بأن العامة مختلفة القول في المسألة على ما يظهر من الشيخ (قدس سره) في كتاب الخلاف(2) [كما مرّ مقالته آنفاً].

وذلك لأن الرواية عن أبي عبدالله (علیه السلام)، وقول العامة إلى ذلك الزمان لزوم البيع وعدم خيار المجلس، فإن الشافعي (المتولد سنة 150) وأحمد بن حنبل (المتولد سنة 164) وغيرهما من الفقهاء القائلين بخيار المجلس كانوا بعد أبي عبدالله (علیه السلام)، فالرواية حين صدوره كان مخالفاً للعامة»(3).

الأمر الثاني: مختصات خيار المجلس
اشارة

وأما البحث حول مختصاته فيقع في ضمن مسائل:

المسألة الأولى: ثبوت خيار المجلس للوكيل
اشارة

لا إشكال في ثبوته للمتبايعين الأصليين والولي والأصيل، والوليين وكذا الوكيلين في الجملة وفي بعض الموارد.

قال العلّامة في تذكرة الفقهاء: «لو اشترى الوكيل أو باع أو تعاقد الوكيلان، فالأقرب: تعلّق الخيار بهما وبالموكّلين جميعاً في المجلس، وإلّا فبالوكيلين. فلو مات

ص: 158


1- الحدائق 19/6.
2- الخلاف 3/(8-7).
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/170.

الوكيل في المجلس والموكّل غائب، انتقل الخيار إليه؛ لأنّ ملكه أقوي من ملك الوارث.

وللشافعيّة قولان، أحدهما: أنّ الخيار يتعلّق بالموكّل. والثاني: أنّه يتعلّق بالوكيل»(1).

أقسام الوكيل
اشارة

إن الوكيل على أربعة أقسام:

[1] «تارةً يكون الوكيل وكيلاً في إجراء العقد فقط من دون أن يكون وكيلاً في انتخاب المبيع قبل البيع واختيار الأصلح بحال الموكّل ولا في اختيار الفسخ بعد البيع إن رضي الآخر به.

[2] وأُخرى يكون وكيلاً في انتخاب المبيع إلى إجراء العقد.

[3] وثالثةً يكون وكيلاً في إجراء العقد وما بعده من الأُمور اللاحقة حتّى الإقالة.

[4] ورابعةً يكون وكيلاً في الأُمور المتقدّمة على العقد من انتخاب الأصلح ونفس العقد والأُمور المتأخّرة عنه»(2).

فلابدّ أن نبحث حولها:

القسم الأوّل: الوكيل في مجرد إجراء العقد

من غير أن يكون له اختيار في مقدمات البيع ولا في ما بعد إنشائه فيكون موقعه موقع لسان الموكل في انشاء البيع فقط، ذهب الشيخ الأعظم(3) إلى عدم ثبوت الخيار

ص: 159


1- تذكرة الفقهاء 11/31.
2- ابتغاء الفضيلة 3/43.
3- المكاسب 5/28.

له تبعاً لجماعة منهم المحقّق والشهيد الثانيان(1) وخلافاً لصاحب الحدائق(2).

إستدل الشيخ الأعظم لعدم ثبوت الخيار بوجوه خمسة:

إستدل الشيخ الأعظم(3) لعدم ثبوت الخيار بوجوه خمسة:

الوجه الأوّل: «إنّا إذا قلنا بما ذهب إليه محقّق الثاني (قدس سره) على ما يظهر من كلامه في جامع المقاصد من انصراف دليل الخيار - بحكم الغلبة - إلى العاقد المالك(4)، فهذا الوكيل خارج عن الدليل موضوعاً.

وأما إذا لم نقل بمقالته - لعدم إيجاب الغلبة للانصراف - فالوجه انصراف الأدلة عن الوكيل في مجرد إجراء العقد وإن عمم لبعض أفراد الوكيل، فلا يكون مشمولاً لإطلاق الدليل، والمرجع - بعد عدم الإطلاق - إلى الأصل العملي، ومقتضاه عدم ثبوت الخيار»(5).

وبعبارة أُخرى: الروايات الواردة في إثبات خيار المجلس منصرف عن هذا القسم، «وليس الانصراف من باب قصور اللفظ عنه، بل من باب المناسبة بين الحكم والموضوع، فإنّ من ليس لإنشائه البيع داعٍ بحسب ماله من الوكالة إلّا امتثال أمر موكّله في نفس ذلك الفعل تبرّعاً أو لاستحقاق الاُجرة من دون أن يكون مقصوده جلب الخير للموكّل، بل يجري البيع ولو شكّ في ذلك بل ولو علم بعدم كونه صلاحاً له، فلا معنى لجعل الخيار له بحسب ما يناسب الارتكاز العرفيّ، والارتكاز المذكور موجب للانصراف عنها قطعاً»(6).

ص: 160


1- جامع المقاصد 4/285؛ المسالك 3/194.
2- الحدائق 19/4.
3- راجع المكاسب 5/(30-28).
4- جامع المقاصد 4/286.
5- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/174.
6- ابتغاء الفضيلة 3/43.

تقريبات الأعلام في هذا الوجه ومناقشاتهم فيه ودفعها

«اختلفت العبارات في تأديته، فالشيخ (قدس سره) عبّر عنه بانصراف دليل الخيار عن الوكيل في مجرد إنشاء الصيغة.(1)

وقال المحقق النائيني (قدس سره) : إن منشأ الانصراف هو أن الوكيل في إجراء الصيغة بمنزلة الآلة واللسان للموكّل، فنسبة البيع إليه نسبة مجازية؛ لأن مبادئ البيع ليست باختياره.(2)

وقال المحقّق الاصفهاني (قدس سره) : بما أن الوكيل في مجرد إنشاء الصيغة نادر الوقوع في باب المعاملات العرفية فلا بأس بدعوى انصراف عنوان البيّع عنه؛ لأن أكثر البيوع معاطاتية، فمن يحتاج إلى الوكيل في إنشاء الصيغة إنما هو غير العربي لو أراد إنشاء العقد بالعربية وهو لا يحسنها، وهذا نادر.(3)

أما ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) فغير تام؛ لأن لفظ البيع موضوع لتمليك عين بعوض، أو لتبديل طرفي الإضافة، فحقيقة البيع ليست شيئاً آخر وراء هذا الإنشاء، سواء أقلنا في تعريفه: بأنه مبادلة مال بمال، أم نقل العين بعوض، أم إنشاء تمليك عين بمال كما عرَّفه به الشيخ (قدس سره)، أم التبديل في طرفي الإضافة كما عرَّفه به عدة من المحققين، فحقيقة البيع عبارة عن هذا الأمر الإنشائي سواء أكانت مبادؤه اختيارية للمنشئ أم لم تكن، ولهذا كان بيع الفضولي بيعاً حقيقة لا مجازاً مع أن مبادءه ليست اختيارية للفضولي، فما قام به من عمل هو الاعتبار والإبراز، أو إنشاء وإيجاد هذا الوجه موجباً للانصراف.

ص: 161


1- المكاسب 5/28، ونص عبارته: «لأن المتبادر من النص غيرهما» أي الوكيلين في مجرد إجراء العقد.
2- منية الطالب 3/21.
3- حاشية المكاسب 4/57.

وأما ما أفاده المحقق الاصفهاني (قدس سره) فغايته الندرة في الوجود وقد حقق في محله من الأصول أن الغلبة في الوجود، لا توجب انصراف اللفظ بما له من المعنى عن الفرد النادر، وما يوجبه هو التشكيك في الصدق عرفاً، فما أفاده غير تام في نفسه، كما أنه مخالف لمختاره في الأصول.

إشكال السيّد الخوئي (قدس سره) على الوجه الأوّل ودفعه

أورد المحقق السيّد الخوئي (قدس سره) على الشيخ (قدس سره) : بأن في (البيع) مادة وهيئة، أما معنى المادة فهي مبادلة مال بمال، أو تبديل طرفي الإضافة، وهو صادق على الوكيل في إجراء العقد، وأما الهيئة فلا تدل على أزيد من انتساب المادة إلى من قام بها، فلا وجه للانصراف من جهة المادة ولا من جهة الهيئة، وعليه فالإطلاق تام.(1)

[نقده]: ولكن في تعبير الشيخ (قدس سره) ما لا ينبغي الغفلة عنه؛ فإنه لم يعبّر بأن البيع منصرف حتّى يرد عليه ما ذكره السيّد الخوئي (قدس سره) من دوران الأمر بين الهيئة والمادة ونفي الانصراف من جهتهما، وإنما عبّر بأن الدليل منصرف، وبين الأمرين فرق بعيد؛ فإذا لاحظنا الروايات عرفنا صحة ما أفاده الشيخ (قدس سره) ؛ ففي صحيحة فضيل عن أبي عبدالله (علیه السلام) - في حديث - قال: قلت له: ما الشرط في غير الحيوان؟ قال: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما»(2).

فالملاحظ للرواية يدرك أنها تثبت الخيار لمن يكون لرضاه دخل في بقاء البيع، والبيع بهذه الصفة منصرف عن الوكيل في مجرد إجراء الصيغة، ومنحصر في المالك أو الوكيل المفوض في البيع.

ثمّ إن ما أفاده من أن عنوان البيع يصدق على الوكيل في مجرد إجراء الصيغة إنما

ص: 162


1- مصباح الفقاهة 6/58؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/51.
2- وسائل الشيعة 18/6، ح3.

يصح لو قلنا بمقالة الشيخ (قدس سره) من أن الخيار هو ملك فسخ العقد، وأما لو قلنا بما هو التحقيق: من أنه ملك فسخ العقد وإلزامه، أو الاختيار الشرعي لفسخ العقد وإبرامه فلا يصح الكلام أصلاً؛ لأن حق الخيار - حينئذ - لا يكون إلّا لمن يملك إلزام العقد، والوكيل في مجرد إنشاء الصيغة لا يملكه»(1).

«الوجه الثاني: أن الخيار حق مجعول للمتعاقدين، وسلطنة لكل منهما على ما انتقل إلى الآخر بعد الفراغ عن تسلّطه على ما انتقل إليه، ولا سلطنة للوكيل في إجراء العقد، فلا حق لوكيل البائع في إجراء العقد أن يتصرف في الثمن حتّى يحق له رده واسترداد المثمن الذي هو حقيقة الخيار.

والشاهد على ذلك أنه لو شك في السلطنة على البدل لم يمكن التمسك بأدلة الخيار لرفع الشك، لو شك المشتري في كون المبيع ممن ينعتق عليه قهراً، أو يجب إعتاقه لتعلق النذر به، أو يجب صرفه لنفقة، فإنه لا يمكن رفع الشك والحكم بعدم وجوبه لأدلة الخيار، وهذا يكشف عن لزوم وجود سلطنة لمن انتقل إليه المال على المال المنتقل في مرحلة سابقة حتّى يمكنه التمسك بأدلة الخيار، والوكيل في مجرد إجراء العقد ليست له هذه السلطنة»(2).

وقد أُورد عليه: «غير واحد من الأعلام - بل عبّر بعضهم عنه بأنه لا يترقب صدوره منه(3)- : بأن هذا الوجه مخالف لمبنى الشيخ (قدس سره) نفسه؛ حيث اختار أن الخيار فسخ العقد لا ردّ العين حتّى يقال: بأن الوكيل في إجراء الصيغة لا سلطنة له على رد العين.

ولكنّه غير وارد؛ إذ يحتمل أن يكون مراد الشيخ (قدس سره) أن من له حق الخيار هو من

ص: 163


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(178-176).
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/174.
3- مصباح الفقاهة 6/61.

تكون له سلطنة على رد العين ولو بالتبع؛ فإن الخيار حق متعلّق بالعقد، فإذا فسخ العقد ردّ العين، والوكيل في مجرد إنشاء الصيغة ليست له هذه السلطنة، فهذا الوجه قوي عندنا وإن استشكل فيه غير واحد»(1).

«الوجه الثالث: ويتألف من مقدمتين:

الأولى: أن بعض أخبار الخيار - [كصحيحة] محمّد بن مسلم، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : «البيعان بالخيار حتّى يفترقا، وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام»(2) - قد قرن فيها بين خيار المجلس وخيار الحيوان وحكم بهما على موضوع واحد مما يفيد أن موضوعهما واحد.

الثانية: أن خيار الحيوان لا يثبت للوكيل في إجراء الصيغة قطعاً؛ لأن صاحب الخيار هو صاحب الحيوان، وهو لا يصدق على هذا الوكيل

والنتيجة: أن الخيار المجلس لا يثبت للوكيل في إجراء الصيغة، بمقتضى وحدة السياق، وبما أن موضوع هذه الرواية وأمثالها يتحد مع موضوع الروايات المطلقة التي من قبيل «البيعان بالخيار حتّى يتفرقا» فالمراد منهما واحد، فلا تشمل المطلقةُ أيضاً الوكيل في إجراء الصيغة.

وليس المقام من باب تعارض المطلق والمقيد حتّى يورد عليه بعدم صحة حمل المطلق على المقيد في المثبتين لا على نحو صرف الوجود كما نحن فيه؛ بل من باب وحدة الموضوع المستفادة من وحده السياق؛ فإن المتتبع في الروايات يرى أن الموضوع في الروايات التي جمعت بين خيار المجلس والحيوان هو بعينه الموضوع في الروايات التي لم تجمع بينهما»(3).

ص: 164


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/178.
2- وسائل الشيعة 18/5، ح1.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/175.

ويرد عليه: «أنّه إذا سقط ظهور دليل لأجل ابتلائه بمانع كوحدة السياق مثلاً، فهذا لا يعني أن يسقط ظهور الدليل الآخر الذي لم يبتل بذلك المانع، وإسقاطه على هذا الأساس خلاف مقتضى الصناعة، فمثلاً لو جاء دليل تعلق فيه الأمر بمتعلق ما في سياق المستحبات وقلنا بأن وحدة السياق تقتضي سقوط ظهور الأمر في الوجوب بالنسبة إلى هذا المتعلق، وجاء دليل آخر تعلَّق فيه الأمر بذلك المتعلَّق ولم يقترن بشيء من المستحبات، فما هو الموجب لسقوط ظهور الأمر في الوجوب في هذا الدليل؟!

و «البيعان» في صحيحة محمّد بن مسلم قد ابتلي - حسب الفرض - بمانع وهو اقترانه بخيار الحيوان فسقط ظهوره في الإطلاق، ولكن لا مسوِّغ لسقوط ظهوره في الإطلاق في الدليل الذي لم يقترن بهذا المانع؛ فمقتضي الإطلاق في هذا الدليل بلا مانع.

إشكال المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) على الشيخ (قدس سره) والجواب عنه

وأما ما أفاده المحقق السيّد الخوئي (قدس سره) من عدم الربط بين خيار الحيوان وخيار المجلس أصلاً؛ فإن الموضوع في خيار الحيوان هو عنوان المالك بمقتضى قوله (علیه السلام) : «وصاحب الحيوان بالخيار إلى ثلاثة أيام»، وموضوع خيار المجلس البيّعان، فهما حكمان على موضوعين لا ربط لأحدهما بالآخر، ومجرد ذكرهما في رواية واحدة لا يقتضي اتحاد الموضوع.(1)

فغير تام؛ للفرق بين العموم والإطلاق، فلو كان الوارد عاماً لتمّ كلامه، ولكنه مطلق، ويشترط في انعقاد الإطلاق أن لا يوجد في الكلام ما يحتمل القرينية، فبملاحظة هذا الأمر وبالتأمل في نحو بيان الإمام (علیه السلام) لحكم المتبايعين لا يحرز انعقاد الإطلاق؛ فإنه (علیه السلام) قد بيّن أولاً حكم المتبايعين بنحو مطلق ثمّ خصص الكلام لبيان

ص: 165


1- مصباح الفقاهة 6/60؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/52.

حكم خيار الحيوان، وهذا النحو من البيان يرجع لباً إلى الاستثناء، فكأنه قال: البيعان بالخيار ما لم يفترقا ولكن صاحب الحيوان ليس كذلك، فجعلها في سياق واحد بهذا النحو من البيان يولّد - لا أقل - احتمال أن يكون المراد منهما واحداً، فلا ينعقد الاطلاق في «البيعان» ليشمل الوكيل في إنشاء الصيغة»(1).

«الوجه الرابع: «أنّ الحكمة من جعل هذا الخيار هي التروي في البيع والتأمل في مصلحته وعدمها، وهذه الحكمة مقترنة ب- «البيعان بالخيار» فلا ينعقد الإطلاق فيه فلا يشمل الوكيل في إجراء الصيغة؛ لأن التروّي لا يكون إلّا للمالك أو للوكيل المفوض، وأما الوكيل في إجراء الصيغة فلا ربط له بمصلحة البيع وعدمها حتّى يتروّي فيها؛ فإنه مجرد آلة لتحقق الوجود الإنشائي للبيع»(2).

وقد أورد عليه: «بالفرق بين العلة والحكمة؛ فإن الحكم يدور مدار العلة وجوداً وعدماً، والعلة تعمم وتخصص، فلو كان ما ذكر في هذا الوجه علة لحكم بانتفاء الحكم في الوكيل في إجراء الصيغة لانتفائها فيه، ولكن ما نحن فيه مجرد حكمة مستنبطة، وهي ليست كالعلة حتّى يدور الحكم مدارها فينتفي في المقام لانتفائها، فلا تمنع من انعقاد الإطلاق.(3)

والحق عدم ورود هذا الإشكال؛ فإن الحكمة على نحوين: حكمة قطعية وحكمة ظنية مستنبطة، فلو كانت هذه الحكمة ظنية لكان الإشكال وارداً، وأما مع كونها قطعية - لاستنادها لوجه علمي - ، فلا يرد الإشكال؛ إذ غايته عدم تعميم الحكم لموارد الحكمة، وهذا وإن كان صحيحاً في نفسه، ولكن في ما نحن فيه - مع كون الحكمة قطعية - خصوصية توجب انتفاء الحكم عند عدم وجود الحكمة.

ص: 166


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/179 و 180.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/176.
3- مصباح الفقاهة 6/59؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/54.

توضيح ذلك: إنه من المعلوم أن الخيارات إنما شرّعت لأجل أن لا يلزم ذو الخيار بالبقاء على العقد، وأن يكون له طريق للتخلص من التزامه، فما يفهمه العرف والعقلاء من تشريع الخيار أنه إنما شرّع لمصلحة ذي الخيار؛ فإنه حق من حقوقه وقد جعل له حتّى لا يكون مقيداً بالالتزام، فهو مجعول لنفعه، فأصل وجود الحكمة مما لا إشكال فيه، وهي بمثابة القرينة المتصلة بالإطلاق، فإن قلنا بمقالة المحقق الخراساني (قدس سره) من مانعية القدر المتيقين في مقام التخاطب من انعقاد الإطلاق لم ينعقد الإطلاق في المقام؛ لأن هذه الحكمة صغرى للقدر المتيقن، وإن لم نقل بمقالته فالإطلاق محفوف بما يحتمل القرينية، والصارفية فلا يحرز انعقاده، وعليه فبما أن «البيعان» محفوف بحكمة التروي، وهي منتفية عن الوكيل في مجرد إجراء الصيغة لم ينعقد فيه الإطلاق بالإضافة إليه، فهذا الوجه قوي عندنا.

لايقال: بأن الحكمة من العدة عدم اختلاط المياه، فهل يمكن الالتزام بهذا القول فيها فلا ينعقد الإطلاق بالنسبة لمن يقطع بعدم حملها؟!

لأنا نقول: بالفرق بين المقامين؛ لوجود الدليل الخارجي القطعي على لزوم العدة في المرأة حتّى لو لم تحمل، وكلامنا في ما لو لم يوجد دليل من الخارج، بل خلينا وعنوان الدليل الأولي وهذه الحكمة»(1).

الوجه الخامس: أنه لا شك في عدم ثبوت الخيار للوكيل في مجرد إجراء الصيغة في سائر الخيارات، ولا ينبغي للفقيه القول بثبوته له فيها، فهذا الخيار مثلها»(2).

وفيه: لا يتم هذا الوجه «لكونه قياساً على خيار العيب والغبن والشرط مع الفارق؛ فإن ملاكها لا يرتبط بملاكه؛ فإن ملاك هذه الخيارات على ما يستفاد من

ص: 167


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/180 و 181.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/176.

كلمات الفقهاء - كما سيأتي إن شاء الله تحقيقه - إما قاعدة لا ضرر أو المؤمنون عند شروطهم أو الشرط الارتكازي، وملاك هذا الخيار عنوان البيّع، فإن صدق على الوكيل في إجراء الصيغة فبها وإلّا فلا، ولا شرط - مصرَّحاً به أو ارتكازياً - فيه، ولا ضرر على البائع أو المشتري»(1).

إلى هنا تم ما أفادها الشيخ الأعظم من الوجوه.

ثمّ بقي الكلام في ما افاده الأعلام من وجوه الاستدلال على عدم شمول دليل خيار المجلس للوكيل في إجراء صيغة العقد فقط:

الوجه السادس: «ما أفاده المحقّق الرشتي (قدس سره) من منافاة ثبوت الخيار للأجنبي العاقد مع قاعدة سلطنة الناس على أموالهم فتأمل.(2)

وفيه: أن خيار الوكيل لا ينافي سلطنة المالك؛ لأن متعلّق الخيار هو العقد وليس له سلطنة على العين، وسلطنة المالك على العين غير مقصورة ولا محدودة بخيار الوكيل، ويشهد لعدم التنافي ثبوت الخيار لمن له الخيار مع سلطنة من عليه الخيار بالبيع والهبة وغيرهما من التصرفات»(3).

الوجه السابع: «ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) ومناقشته

تقريبه: أن حق خيار المجلس ثابت لمن له حق الإقالة، وبما أن الوكيل في مجرد إنشاء الصيغة لا حق له في الإقالة فلا حق له في هذا الخيار.(4)

وفيه: أوّلاً: أنه لا دليل على هذه الملازمة المدعاة.

وثانياً: أن ثبوت الخيار وعدمه يدوران مدار ثبوت إطلاق الدليل وعدمه، فإن

ص: 168


1- منية الطالب 3/24.
2- فقه الإمامية، الخيارات /31.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/186.
4- منية الطالب 3/24.

ثبت الإطلاق وشمول الدليل للوكيل في مجرد إنشاء العقد ثبت له حق الخيار وإن لم تثبت له الإقالة، وإلا لم يثبت له لعدم الإطلاق، لا لعدم الإقالة والاستقالة.

الوجه الثامن: ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) أيضاً ومناقشته

ومحصله: أن نسبة أدلة الخيار إلى آية: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ نسبة المخصص، فالآية تلزم المتعاقدين بالوفاء بالعقد، وخصص هذا اللزوم اللفظي بأدلة الخيار، فتكون النتيجة: يجب الوفاء على كل متعاقدين إلّا من ثبت له حق الخيار، فحق الخيار إنما جعل لمن خوطب بوجوب الوفاء بالعقد، وهو إما المالك، أو الوكيل المفوض، وأما الوكيل في مجرد إنشاء الصيغة فليس مخاطباً بهذا الوجوب.(1)

ويرد عليه: أنه لا شك في أن أدلة الخيار مخصصة لوجوب الوفاء المستفاد من الآية الكريمة، ولكن ثبوت الخيار وعدمه يدوران مدار الدليل وعدمه، فإن ثبت الإطلاق أو العموم لمن لم يخاطب بوجوب الوفاء ثبت الدليل الدال على ثبوت حق الخيار له وإن لم يخاطب بوجوب الوفاء، وإن لم يثبت الإطلاق لم يقم الدليل على ثبوت حق الخيار له بغض النظر عن خطابه بوجوب الوفاء وعدم خطابه به، ولهذا لو اشترط المتعاقدان أو أحدهما ثبوت الخيار لأجنبي فإنه يثبت له الخيار مع عدم خطابه بوجوب الوفاء.

الوجه التاسع لنفي الخيار: ما أفاده المحقق الخوئي (قدس سره) ومناقشته

وحاصله: أن آية: ﴿وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ أمضت البيع الصحيح الجامع لجميع شرائط الصحة، وبيع الوكيل في مجرد إنشاء الصيغة بيع صحيح من حيث صدوره من العاقد الجامع لشرائط القيام بالعقد، ولكنه ليس جامعاً لشرائط الصحة من حيث انتسابه إلى المالك؛ فإن البيع الصحيح هو ما ينتسب إلى المالك أو من يقوم مقامه،

ص: 169


1- منية الطالب 3/24.

والوكيل في مجرد إنشاء الصيغة ليس بمالك ولا قائم مقامه، فلا يكون مشمولاً ل- «لبيعان بالخيار»؛ لأنه لا يشمل إلّا البيع الذي يكون بيعه موضوعاً ل- ﴿ وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾(1)، وبيع هذا الوكيل ليس كذلك.(2)

وهو ممنوع؛ لأن المنشئ للعقد لم ينشئه إلّا لأنه وكيل في إنشائه من قبل ولي أمر العقد كالمالك أو وليه، وليس الكلام في مطلق من أنشأ العقد، فهذا الوكيل وإن كان مجرد آلة إلّا أن لسانه مستند إلى ولي العقد فتكون شرائط الصحة تامة، فالمسألة تنتهي إلى الإطلاق وعدمه، وبما أنه اعترف بشمول الإطلاق للوكيل في إنشاء العقد، وأنكر جميع جهات الانصراف فالمقتضي لثبوت الخيار له موجود، والمانع عنه مفقود في نظره.

الوجه العاشر: ما أفاده السيّد الخوئي (قدس سره) ثانيةً ومناقشته

وتقريبه: أن شمول «البيعان بالخيار» للوكيل في مجرد إنشاء الصيغة بالإطلاق لا بالعموم، فالوجوه المذكورة لنفي الخيار عنه - وإن لم تتم - إلّا أنها تمنع من التمسك بالإطلاق.

وبعبارة أخرى: إن الأدلة المذكورة إن لم تنف الخيار فإنها توجب الشك في انعقاد الإطلاق، ومع الشك في انعقاده يقصر الدليل عن ثبوت الخيار لمثل هذا الوكيل، فالأصل اللزوم.(3)

وهذا الوجه مردود أيضاً؛ لأن الإطلاق حجة في نفسه كالظهور الوضعي، غاية الأمر أن منشأ الحجية مختلف فيهما، فإن منشأها في الوضع هي أصالة الظهور، ومنشأها في الإطلاق هي مقدمات الحكمة، وحيث إن الدليل في حد نفسه مجرى لمقدمات الحكمة فلا موجب لرفع اليد عن الإطلاق.

ص: 170


1- سورة البقرة /275.
2- مصباح الفقاهة 6/70.
3- مصباح الفقاهة 6/70؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/59.

وبعبارة أخرى: إن ما يوجب رفع اليد عن الإطلاق هي القرينة أو ما يحتمل القرينية، وبما أنه (قدس سره) قد أبطل جميع الأدلة التي أقيمت على المنع عن الإطلاق فلم توجد قرينة ولا ما يحتمل القرينية، فلا موجب لرفع اليد عن الإطلاق.

نعم، من يحتمل صحة تلك الوجوه أو بعضها له الحق في رفع اليد عن الإطلاق للشك في انعقاده، وأما من يجزم ببطلانها فلا»(1).

الوجه الحادي عشر ما ذكره السيّد الخوئي ثالثة ومناقشته

قال المحقق الخوئي: «والذي يمكن أن يقال في المقام: إنّ موضوع الخيار ليس هو البيع على نحو الاطلاق، بل المراد هو البيع الذي يكون بيعه موضوعاً لأحلّ الله البيع وغيره من أدلّة الحل، ومن الظاهر أنّ أدلّة حلّ البيع وإمضاء المعاملات إنّما تشمل البيع الصادر عن الوكيل في مجرد إيقاع الصيغة بما أنه منتسب إلى المالك لا بما أنه صادر منه.

وتوضيح ذلك: أنّ البيع الصادر عن الوكيل المذكور الذي هو بيع واحد له إضافتان، إضافة صدورية إلى الوكيل وإضافة الانتساب إلى المالك، لأنّ المعاملة ببيع الوكيل تسند إلى المالك فيقال إنّ فلاناً باع داره، فبيع الوكيل واسطة في الثبوت وعلّة لشمول ﴿ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ لبيع المالك، إذ لو لا بيعه لما يتحقّق للمالك بيع حتّى تشمله آية الحلّ، وعليه فالبيع بحسب الحدوث مضاف إلى المالك والسلطنة تثبت له حدوثاً، لا للوكيل المذكور إذ لا سلطنة له بوجه، لأنه وكيل في إيقاع الصيغة فقط وأدلّة الخيار تقتضي بقاء ملك السلطنة بعد حدوثها، والمفروض أنّها حدثت في حقّ المالك دون الوكيل، ولا يمكن إثبات الخيار للوكيل بمجرد إضافة البيع إليه بحسب الصدور وإلّا لانتقض بيع الفضولي فإنّه ممّا لم يذهب أحد إلى ثبوت خيار المجلس للفضولي ولو مع

ص: 171


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/186-182.

إجازة المالك له في مجلس البيع، وليس هذا إلّا من جهة أنّ آية الحل إنّما تشمله بما أنّه منتسب إلى المالك لا بما أنه صادر من الفضولي.

وهذا الذي ذكرناه ليس راجعاً إلى دعوى الانصراف وأنّ البيع لا يشمل الوكيل لأنه كما عرفت غير صحيح، بل مع الاعتراف بأنّ البيع شامل له كما أنه يشمل الفضولي ندّعي عدم ثبوت الخيار في حقّه من جهة أنّ موضوعه هو من تشمله آية الحل، وهي إنّما تشمل البيع لانتسابه إلى المالك كما مرّ، هذا»(1).

ويرد عليه: لو كان «الموضوع بحسب النص البيع، وهو مطلق من صدر منه البيع وكان بيعه صحيحاً، والمفروض أن الوكيل باكع حقيقة، واختصاص الموضوع بالمالك لا دليل عليه.

وما استدل عليه من أن ثبوت الخيار للوكيل بمجرد إضافة البيع إليه بحسب الصدور مستلزم لثبوت الخيار للفضولي ولو مع إجازة المالك له في المجلس، ففيه أنه بحسب الظهور لا مانع من شمول أدلة الخيار للفضولي المذكور، وأما عدم الالتزام به من جهة ظهور نصوص الخيار في المالك لا الوكيل في مجرد إنشاء العقد [ولا الفضولي]، ومن النصوص:

[صحيحة] عمر بن يزيد عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : إذا التاجران صدقا بورك لهما فإذا كذبا وخانا لم يبارك لهما، وهما بالخيار ما لم يفترقا، فإن اختلفا فالقول قول رب السلعة أو يتتاركا.(2)

[صحيحة] الحسن بن علي بن فضال قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (علیه السلام) يقول: صاحب الحيوان المشتري بالخيار بثلاثة أيام.(3)

ص: 172


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/58.
2- وسائل الشيعة 18/7، ح6.
3- وسائل الشيعة 18/10، ح2.

[صحيحة] الحلبي، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: في الحيوان كله شرط ثلاثة أيام للمشتري وهو بالخيار فيها إن شرط أو لم يشترط.(1)

ويرد عليه أيضاً أن المفروض كون هذا الخيار بجعل الشارع لا المالك فيتبع دليل الجعل، فإن سلم إطلاق دليل الجعل للوكيل وعدم انصرافه عنه فلا وجه لاختصاصه بالمالك»(2).

فذلكة القول في المقام

«إنّ أدلة الخيار منصرفة عن الوكيل في مجرد إنشاء الصيغة، ولو لم نرتض بقية الأدلة التي أقامها الشيخ (قدس سره) لكفى ما يستفاد من أدلة خيار المجلس من الحكمة لهذا الخيار وهي التروّي والتأمل في المعاملة، فيلزم البيع برضا المتبايعين وتنتهي الحكمة بافتراقهما، وهذه الحكمة منتفية عن الوكيل المذكور»(3).

ثمّ إنّ هاهنا فرعٌ: هل يثبت الخيار لموكلِّي الوكيلين في إنشاء العقد؟

هل يثبت الخيار للموكِّلين أم لا؟ وجهان.

«أوّلهما: عدم الثبوت، واستدل عليه بوجهين(4):

الوجه الأوّل: إن عنوان (البيّعان) يصدق على المتعاقدين دون غيرهما، والموكِّلان لم يصدر منهما العقد، بل صدر من وكيليهما.

وفيه: أن عنوان (البيّع) غير متقوم بإجراء الصيغة، بل يصدق هو وما يرادفه من سائر اللغات على البائع الذي انتقل منه المال في مقابل الثمن، وعلى المشتري الذي

ص: 173


1- وسائل الشيعة 18/10، ح1.
2- هامش بغية الراغب في مباني المكاسب 1/184 و 185.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/186.
4- تعرض لهما الشيخ في المكاسب 5/30.

انتقل منه الثمن في مقابل المال على نحو الحقيقة العرفية، والمدار في الموضوعات الشرعية على صدق العنوان عرفاً.

والشاهد على ذلك أنه لو عهد الرجل لغيره في إجراء عقد النكاح له بنحو الوكالة، فعنوان المتزوِّج يصدق على الموكِّل دون الوكيل.

وأما في البيع والصلح فالحق أنه يصدق عنوان البائع والمصالح على الأصيل وعلى الوكيل، فيقال عن الوكيل إنه باع واشترى، كما يقال ذلك عن الأصيل، وعليه فينطبق على الموكِّلين موضوع أدلة الخيار.

ويضاف إلى الصدق العرفي: أن حكمة الخيار تقتضي أن يكون زمام أمر العقد من حيث الفسخ والإبرام بيد المالكين الموكِّلين، وهو المستفاد أيضاً من الصحيحة المتقدمة: «فلا خيار بعد الرضا منهما»(1)؛ فإنها شاهد على ثبوت الخيار للموكِّلين، ولكن في المقام ثلاث صور:

صور حالات الموكّلين

الصورة الأولى: أن يكون الموكِّلان حاضرين في مجلس العقد، فهنا يثبت لهما الخيار ما لم يفترقا بلا إشكال.

الصورة الثانية: أن يكونا غير حاضرين فيه ومتفرقين من الأوّل، وهنا لا يثبت لهما الخيار بلا إشكال؛ لعدم صدق الاجتماع ولا الافتراق عليهما، وموضوع خيار المجلس الاجتماع، وغايته الافتراق.

الصورة الثالثة: أن يكونا غير حاضرين فيه ولكنهما مجتمعان في مجلس آخر أثناء إنشاء الوكيلين للعقد وكانا يعلمان بإنشائه حينه.

ص: 174


1- وسائل الشيعة 18/6، ح3، صحيحة فضيل.

وقد ذهب المحقق السيّد الخوئي(1) (قدس سره) في هذا الفرض إلى ثبوت الخيار لهما؛ لصدق عنوان (البيّعان) عليهما حقيقة، وصدق الاجتماع عليهما، فيتم موضوع «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا».

ولكن في تحقيقه (قدس سره) تأملاً، ووجهه: أنه لا إشكال من جهة صدق البيع؛ إذ الإشكال من جهته كان في انحصار عنوان البيع في مجري الصيغة وقد ثبت الأعم.

وإنما الإشكال من جهة أن الوارد في أدلة الخيار: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما»(2)، وعنوان الافتراق والاجتماع من العناوين ذات التعلق، فهي تتقوم بما تتعلق به، فلابد للاجتماع من طرف اجتمعا عليه، كما لا بد للافتراق من طرف تفّرقا عنه، فعلى أي شيء اجتمعا؟ وعن أي شيء افترقا؟

ولا يتصور طرف للتفرق في الأدلة إلّا البيع، أي تفرقا عن مجلس البيع، فالبيّعان بالخيار ما لم يفترقا عنه، فعندما جعل العنوان ذو التعلق بالبيع موضوعاً للحكم، فإذا كان الموكِّلان مجتمعين في مجلس أجنبي عن مجلس البيع لم يصدق أنهما اجتمعا على البيع، وإذا افترقا عنه لا يصدق أنهما افترقا عن البيع.

فالحق أن المستفاد من الأدلة هو ما يستفاد من كلام الشيخ(3) (قدس سره) من أن الموضوع هو الاجتماع على البيع والافتراق عنه، فإذا كان الموكِّلان مجتمعين في مجلس البيع صدق عليهما الموضوع فكان لهما الخيار، وإن لو يكونا فيه لم يصدق عليهما فلا خيار لهما.

ولو تنزلنا تنزلاً فرضياً فالحق أن يقال: إن عموم وجوب الوفاء بالعقد قد خصص بأدلة الخيار، ونحتمل - بالوجدان - أن يكون المراد منها بالنسبة إلى الموكِّل

ص: 175


1- مصباح الفقاهة 6/76؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/62.
2- وسائل الشيعة 18/6، ح3، صحيحة فضيل.
3- المكاسب 5/30.

المجتمعين في مجلس آخر، فيدور أمر المخصص المنفصل بين الأقل والأكثر، وما كان كذلك يقتصر في تخصيصه على القدر المتيقن، وهو خصوص الموكِّلين المجتمعين في مجلس العقد.

الوجه الثاني: أن الموكل لو حلف على عدم البيع لم يحنث ببيع وكيله.

وفيه: أنه لو حلف بأن لا يبيع داره بنحو مطلق ووكَّل من باع فقد تحقق منه الحنث؛ لاستناد البيع إلى الموكل حقيقة. نعم، لو كان يقصد أن لا يبيع مباشرة لم يحنث»(1).

والحاصل: خيار المجلس ثابت للموكِّلين المجتمعين في مجلس العقد لصدق البَيِّع عليهما ولأنّ البيع لابدّ أن يستند إليهما وحكمة الخيار تقتضي شمول الإطلاق لهما، والله العالم.

القسم الثاني: الوكيل المُفَوَّض

أمّا الوكيل المفوَّض في أمر البيع بالنسبة إلى مباديه ومابعده فله الخيار لصدق عنوان البيّع عليه ولانطباق موضوع الروايات عليه.

وأمّا الموكلان فهل يثبت لهما الخيار أم لا؟

استدلال الشيخ الأعظم على ثبوت الخيار للموكلين

استدلَّ الشيخ الأعظم(2) على ثبوت الخيار للموكلين في هذا القسم بوجهين:

الأوّل: الخيار شرّع إرفاقاً للمالك كما هو المستفاد من النصوص، فله الخيار هنا.

الثاني: ثبت الخيار للوكيل لأنّه نائب عن المالك، وهذا يستلزم ثبوته للمنوب

ص: 176


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(189-187).
2- المكاسب 5/31.

عنه (الموكل) بالأُولوية القطعية.

اعتراض المحقّق الاصفهاني على الشيخ الأعظم

اعترض المحقّق الاصفهاني(1) على الشيخ الأعظم في دليليه:

أمّا الأوّل: فنعم، أنّ الخيار شرّع للإرفاق بالمالك، لا أنّ كل من يناسبه الإرفاق لابدّ من ثبوت الخيار له.

وأما الثاني: فإنّ الخيار يثبت للبيّع بما هو البيّع ولا يثبت للوكيل بما هو وكيل، والوكالة هنا علّة لحدوث عنوان البيّع، وثبوت عنوان البيّع للوكيل لا يستلزم ثبوته للموكِّل حتّى لو لم يصدق عليه عنوان البيّع، وإن صدق عليه عنوان البيّع فلا حاجة إلى هذا الاستدلال.

استدلال الاصفهاني على نفي الخيار للموكلين ونقده

قال الاصفهاني(2) بتوضيح منّا: «أنّ غاية الخيار - على ما يستفاد من الأدلة - الافتراق، وعندما تكون الغاية الافتراق فالمغيى هو الاجتماع؛ إذ لا افتراق إلّا عن اجتماع، وليس المراد منه مطلق الاجتماع، بل اجتماع البدنين كما يشهد له ثبوت الخيار لو وقع العقد في حال المشي، وليس المراد مطلق اجتماع البدنين بل مع كون المجتمع عليه هو البيع، فيعتبر في ثبوت الخيار أمران: اجتماع البيّعين بدناً، بأن يقوم الاجتماع بالبيّعين، وأن يكون اجتماعهما على البيع.

والاجتماع على البيع لا يصدق على الموكِّلين؛ وذلك لأن الموارد تنقسم إلى قسمين: ما يكون قيامه بالموضوع قياماً صدورياً، وما يكون قيامه به حلولياً، فما يكون من قبيل الأوّل يستند إلى المباشر للصدور وإلى من كان في سلسلة علله، فقيام البيع

ص: 177


1- حاشية المكاسب 4/65.
2- حاشية المكاسب 4/67.

بالبائع قيام صدوري، فلهذا ينسب إلى الوكيل الذي باشر البيع، وللموكِّل الذي وكّله في البيع؛ لأنه علة لتحققه منه، فيكون كل منهما بيّعاً حقيقة، ولكن أحدهما بالمباشرة والآخر بالتسبيب.

وأما ما يكون من قبيل الثاني فهو لا يستند إلّا إلى من حل فيه، ولا يستند إلى من تسبب له، والاجتماع من هذا القبيل؛ فإن المجتمعين هما المتعاقدان؛ إذ قام بهما الاجتماع قياماً حلولياً، وأما من سبّبا الاجتماع فهما غير مجتمعين وإنما هما مجمِّعان؛ لعدم حلول الاجتماع فيهما، وعليه فمن يصدق عليهما الاجتماع على البيع بنحو الحقيقة هما الوكيلان، فهما اللذان يعتبر فيهما الافتراق، فيثبت لهما الخيار ما لم يفترقا، وأما الموكِّلان فلا يصدق عليهما الاجتماع على البيع حقيقة، وإنما يصدق عليهما مجازاً، فلهذا لا يعتبر اجتماعهما ولا افتراقهما في الخيار وعدمه، فلا يثبت لهما الخيار وإن صدق عليهما بيّعان؛ لعدم صدق الاجتماع على البيّع عليهما»(1).

ويرد عليه: ولكن التحقيق ثبوت الخيار للموكلين «لصدق عنوان البيّع على الموكِّل بنحو الحقيقة - كما اعترف به هو أيضاً - وإن كان اتصافه به بالتسبيب لا بالمباشرة، وبما أن الموكِّلين مجتمعان في مجلس العقد حسب الفرض فاجتماعهما كان على البيع لا على غيره؛ إذ كما أن صدور البيع من الوكيل كان سبباً لاتصاف الموكِّل بكونه بيّعاً، فكذلك صدوره منه موجب لاتصاف الموكِّل الحاضر في مجلس العقد بصفة الاجتماع على البيع، وليس مجمِّعاً بل هو مجتمع، فالموكِّل نفسه - كالوكيل - مجتمع مع الآخر على البيع، ولكن وصف الاجتماع على البيع كان حاصلاً له بوسيلة صدوره من الوكيل بالوكالة، وبحثنا في الموكِّلين الحاضرين في مجلس البيع الصادر من الوكيل.

فالنتيجة: أن الموكِّلين الحاضرين في مجلس العقد يصدق عليهما أنهما بيّعان

ص: 178


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/192.

اجتمعا بدناً على البيع إلّا أنه بتوسط الوكيلين، فيثبت لهما الخيار، كما يثبت للوكيلين لاتصافهما بالوصف نفسه»(1).

فرع: معيار الافتراق في هذا القسم

«إذا فرض ثبوت الخيار للوكيل والموكل، فهل يزول بافتراق الوكيلين خاصة أو الموكلين خاصة أو افتراق الكل عن الكل، فلو بقي من كل طرف واحد في مكانه كفى في بقاء الخيار؟

ذهب الشيخ(2) (قدس سره) إلى الأخير.

والتحقيق: أن الاحتمالين الأوّلين لا سند لهما ولا دليل عليهما، فيدور الأمر بين الاحتمال الأخير الذي قواه الشيخ (قدس سره) واحتمال رابع اختاره السيّد الطباطبائي(3) (رحمة الله) وهو زوال الخيار بافتراق أحد ذوي الخيار من أحد الطرفين.

والذي نقّويه منهما هو الاحتمال الرابع لما ذكره السيّد بنحو الدعوى من أن الغاية المأخوذة هي الافتراق فإذا تحقق بنحو صرف الوجود زال الخيار.

وتوضيح ذلك: أن المستفاد من الأدلة الدالة على هذا الخيار إما أن يكون تقييد موضوع الخيار باجتماع المتبايعين، فمدار ثبوت الخيار على تحقق الاجتماع وصدقه.

وإما أن يكون المستفاد هو كون موضوع سقوط الخيار هو افتراق المتبايعين بلا فرض الاجتماع في موضوع ثبوته.

فعلى الأوّل: لا يزول الخيار إلّا بزوال اجتماع الكل عن الكل، لأن الطبيعي يتحقق بواحد من أفراده فإذا كان بعض أفراد البائع مجتمعاً مع بعض أفراد المشتري

ص: 179


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/193.
2- المكاسب 5/32.
3- حاشية المكاسب 2/387.

صدق اجتماع البيّعين، فكان الخيار ثابتاً. ولا يضر افتراق البعض لأن صرف الوجود يتحقق ببعض الأفراد.

وعلى الثاني: يزول الخيار بافتراق البعض، لما عرفت من أن الطبيعي يتحقق بفرده، فصرف الطبيعة للافتراق يتحقق بافتراق بعض أفراد البائع، إذ يصدق حينئذ افتراق البيّعين، فيترتب عليه زوال الخيار.

إذن، فترجيح أحد الاحتمالين يبتني على تشخيص ما هو المستفاد من الأدلة، فإن كان المستفاد هو الأوّل ثبت احتمال الشيخ، وإن كان المستفاد هو الثاني ثبت احتمال السيّد، وقد عرفت وجه ذلك.

وبما أن النصوص ظاهرة في الثاني لأخذها الافتراق في موضوع سقوط الخيار - كما هو صريح قوله (علیه السلام) : «فإذا افتراقا وجب البيع»(1)- كان ما ذكره السيّد (رحمة الله) هو المتعين.

ولا يخفى أنه لا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون صرف وجود الافتراق وطبيعته - المتحقق بفرد من أفراد الافتراق - مضافاً إلى صرف وجود البائع أو إلى أفراد البائع، إذ افتراق صرف وجود البائع وطبيعته يتحقق بافتراق أحد أفراد البائع إذ يصدق افتراقه بمجرد افتراق أحد أفراد البائع، لأن صرف الوجود يتحقق ويصدق على أحد الأفراد. كما أنه لو أضيف الافتراق إلى الأفراد كان الأمر كذلك إذ يكون المستفاد: أن الخيار يسقط بافتراق أي فرد من أفراد البائع. فبافتراق أحد الأفراد يتحقق موضوع زوال الخيار. وما ذكرناه واضح.

ومنه يظهر الاشكال فيما جاء في حاشية المحقق الاصفهاني(2) (رحمة الله)... .

ص: 180


1- وسائل الشيعة 18/6، ح4، صحيحة الحلبي.
2- حاشية المكاسب 4/77.

أوّلاً: بالنسبة إلى ما ذكره من أنه لابدّ من أخذ الافتراق مضافاً إلى جنس البيّع لا الأشخاص في مقام إثبات عدم الواسطة بين ثبوت الخيار وعدمه الذي ادعى استفادته من الأدلة. فإنك عرفت عدم تحقق الواسطة على كلا التقديرين وأن النتيجة واحدة على كلا الفرضين.

وثانياً: بالنسبة إلى ما ذكره من عدم تحقق افتراق جنس البيّع بافتراق أحد أفراده، بل لابدّ من افتراق الكل الذي انتهى منه إلى عدم الفرق بين المسلكين فيما هو المستفاد من أدلة الخيار. فإنه ممنوع لما عرفت من أن افتراق طبيعي البائع يتحقق بافتراق أحد أفراده لصدق الطبيعي على أحد الأفراد، فالتفت ولا تغفل»(1).

القسم الثالث: الوكيل الذي تنتهى وكالته بإنشاء العقد
اشارة

«أمّا الوكيل المفوض في أمر البيع ولكن بحيث تنتهي وكالته بمجرد الانقضاء من العقد - فهو برزخ بين الوكيلين السابقين، فليس هو مجرد آلة كالأوّل؛ لأن له الاختيار في مبادئ البيع، وليس مفوضاً في المبدأ والمنتهى كالثاني؛ لأن وكالته تنتهي بالانتهاء من إنشاء العقد - فقد وقع الخلاف فيه على قولين: الثبوت وعدمه.

أما القول بالثبوت؛ فلانطباق موضوع الأدلة عليه؛ لصدق عنوان البيّع عليه بلا إشكال.

وفيه: ما أورده الشيخ (قدس سره) على الوكيل الأوّل؛ فإن أدلة الخيار منصرفة عن من ليست له سلطنه على التصرف في العوض، حتّى لو قلنا بأن الخيار يتعلق بحل العقد؛ فإنه - بالتبع - تسلط على الرد والاسترداد، وبما أن هذا الوكيل تنتهي وكالته بمجرد إيقاع العقد فلا سلطنة له على التصرف في العوض حتّى بالرد، فلا خيار له(2).(3)

ص: 181


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(85-83).
2- المكاسب 5/32.
3- يمكن أن يقال: بعدم الملازمة بين السلطنة على حل العقد والسلطنة على رد العين، فإن الوكيل يفسخ لكن إذا احتاج إلى رد العين فلابد من رد المالكين.

رأي السيّد الخوئي (قدس سره) في الوكيل المذكور

وعمدة ما أورد على الشيخ (قدس سره) : أنه لا يعتبر في الخيار السلطنة على العوض؛ لعدم تعلقه، ولهذا لو تلف العوض بمجرد البيع لم تكن له سلطنة عليه؛ لانتفاء موضوعها، ومع ذلك له حق الخيار، وما ذلك إلّا لأن الخيار حق يتعلق بالعقد لا بالعين، فله أن يفسخ.

وعلى هذا الأساس اختار المحقق السيّد الخوئي (قدس سره) ثبوت الخيار له؛ لأن موضوعه لا يرتبط بالوكالة؛ فإن موضوعه صدق البيّع عليه، وهو صادق على هذا الوكيل وإن انتهت وكالته. نعم، لو كان الخيار يدور مدار عنوان الوكالة لم يكن له خيار؛ لانتهاء أمد وكالته بإحداث البيع(1)»(2).

مختار الاستاذ المحقّق مدظله

قال: «والحق في المسألة: أن المستفاد من النصوص - كما تقدم - هو أن الخيار حق لمن يعتبر رضاه في البيع، ولكون رضاه معتبراً يكون لإلزامه وفسخه تأثير في البيع، وهو ليس إلّا المالك أو الوكيل المفوض في أمر البيع في المبدأ والمنتهى، وأما الوكيل الذي تنتهي وكالته بمجرد إيقاع البيع فليس لرضاه بالبيع وعدمه تأثير في بقاء البيع، فلا يكون موضوعاً ل- «لا خيار بعد الرضا منهما»(3).

كما أن الحكمة من جعل الخيار - وهي الإرفاق بالمالك - منتفية عنه؛ فإنها لا تكون إلّا في من يرتبط به أمر البيع حدوثاً وبقاء.

فهذه الوجوه إن لم تمنع من انعقاد إطلاق أدلة الخيار، فلا أقل من إيجابها الشك

ص: 182


1- مصباح الفقاهة 6/74؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/60.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/193 و 194.
3- وسائل الشيعة 18/6، ح3، صحيحة فضيل.

في انعقاده، فيتردد أمر المخصص المنفصل - وهو أدلة الخيار - بين الأقل والأكثر، فيقتصر في التخصيص على القدر المتيقن، وهو المالك والوكيل المفوض له أمر البيع بالكلية، ويتمسك في غيرهما بالعموم كآية ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾؛ للقطع بدخوله فيها والشك في تخصيصه منها»(1).

المناقشة في مختار الاستاذ المحقّق مدظله

أقول: يمكن أن يرد عليه: أوّلاً: ما مرّ منّا في بحث بيع الفضولي بأنّ المراد من «الرضا» في المعاملات والعقود والايقاعات ليس إلّا استنادها إلى مَنْ له أمر الشيء نحو المالكية أو الولاية أو التولية أو الوكالة وغيرها، وليست المراد منها الرضاية بمعنى أنّ جميع أطراف قلب البائع أو العاقد في رضا من هذا العقد أو تلك المعاملة. فحينئذ الاستدلال بصحيحة الفضيل بما ورد فيها: «لا خيار بعد الرضا منهما» على أنّ الخيار يختص بمَنْ يكون رضاه معتبراً في البيع غير تام لما مرّ من أنّ المراد بالرضا هو الاستناد واستناد البيع بالموكل تام لتمامية الوكالة.

وثانياً: الحكمة في جعل الخيار هي الارفاق بالمالك وإن كانت صحيحة إلّا أنّ الاستاذ مدظله علّمنا بأنّ الحكمة لا يستفاد منها شيء، على خلاف العلّة، لأنّ العلّة تعمِّم وتخصّص، لا الحكمة، فلا تفيدنا هذه الحكمة شيئاً في المقام.

وعلى هذا تتم مقالة السيّد الخوئي (قدس سره) من صدق البيّع على هذا الوكيل وإن انتهت وكالته، فله الخيار.

وبعد صدق البيّع عليه لا مانع من انعقاد اطلاق أدلة الخيار في حق هذا الوكيل وبعد جريان الإطلاق ليس لنا شك حتّى ترددنا في أمر المخصص المنفصيل بين الأقل والأكثر فيقتصر في التخصيص على القدر المتيقن فلا يتم ما ذكره الاستاذ المحقّق أدام الله

ص: 183


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/195.

ظله على رؤوسنا.

فرع: ثبوت الخيار لموكّلي هذا الوكيل الثالث

لا اشكال في ثبوت الخيار للموكّلين، لصدق عنوان البيّع عليهما حقيقة لكن بشرط اجتماعهما.

مقالة المحقّق الإيرواني في ثبوت الخيار

ذهب المحقّق الإيرواني «بأنّ للبيِّع إطلاقين: فتارة يطلق ويراد به منشئ البيع والموجد المباشر له، وأخرى يطلق ويراد به من كان حصول البيع باختيار منه واستقلال، باشره أم لم يباشره، فإن كان الإطلاق في الأخبار بالمعنى الأوّل ثبت لجميع الوكلاء بدون تفصيل دون الموكِّلين، وإن كان بالمعنى الثاني ثبت للموكِّلين دون الوكلاء.(1)

والجواب: أن حقيقة البيِّع موضوعة للجامع، فتصدق على كل من الوكيل المنشئ للعقد والموكِّل الذي حصل منه البيع باختياره واستقلاله، ولهذا لو أنشأ الوكيل البيع، وسئل المالك: هل بعت مالك؟ يقول: نعم، إلّا أنه ربما يسأل: هل أنشأت البيع بنفسك؟ فيجيب: لا، أنشأه وكيلي، ولهذا أيضاً لو حلف المالك أن لا يبيع ماله ثمّ وكّل آخر في بيعه فإنه يحنث في حلفه، وما ذاك إلّا لصدق البيّع عليه»(2).

فرع آخر: امكان تعدد أطراف الخيار في طرفي البيع

«بمقتضى إطلاق «البيّعان بالخيار» يثبت الخيار لكل من صدق عليه عنوان

ص: 184


1- حاشية المكاسب للإيرواني 3/28.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/196.

البيّع، فيمكن أن تتعدد الأطراف في طرفي البائع والمشتري كما أفاد الشيخ(1) (قدس سره)، بأن يكون الموكِّل حاضراً في مجلس العقد، ووكيله المفوَّض حتّى في التوكيل، ووكيل وكيله الذي قام بإيجاد البيع؛ فإن الخيار يثبت لهم كلهم؛ لصدق عنوان البيّع عليهم وأنهم اجتمعوا على البيع؛ فإن المورد كسائر الموارد الشرعية الأخرى مجعول بنحو القضية الحقيقية، فمن صدق عليه العنوان ثبت له الحكم.

نعم، خاصية الخيار أنه لو أعمل أحد طرفي المعاملة خياره تمّ الفسخ وانحل العقد وارتفع موضوع الخيار، فلا يبقى للآخرين خيار؛ لأن للعقد فسخاً واحداً، وحله واحد لا يقبل التعدد، فإذا حصل ارتفع موضوع الخيار، فلو فسخ واحد من طرف البائع لم يبق موضوع للمشتري.

وأما إذا ألزم أحد طرفي المعامله العقد وأوجب البيع فالإلزام من طرف لا يعني الإلزام من الطرف الآخر، فللآخر أن يعمل خياره فيفسخ، فالفسخ لا حيثية فيه، وأما الإلزام فهو أمر حيثي، فيلزم من حيث البائع دون المشتري أو العكس.

نعم، لو ألزم واحد من أطراف البائع فإن البيع يلزم من جهة البائع ولا يبقى مجال للفسخ بالنسبة للآخرين، فلو ألزمه الموكِّل مثلاً لزم، وليس للوكيل أن يفسخ؛ فإنه وجود تنزيلي للموكِّل، فإذا ألزم الأصيل فلا معنى لعدم إلزام الفرع الذي هو وجود تنزيلي له، كما أن الوكالة التامة تقتضي كون فسخ الوكيل المفوض فسخ موكِّله فلا موضوع لإعمال الخيار بعده»(2).

ص: 185


1- المكاسب 5/31.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/195 و 196.
فرع ثالث: عدم ثبوت الخيار للفضوليين

«ذهب الشيخ(1) (قدس سره) إلى عدم ثبوت الخيار للفضوليين، لا لأجل عدم صدق عنوان المتبايعين عليهما؛ فإنّه صادق عليهما بلا إشكال؛ لأن البيع هو النقل العرفي، وهو متحقق في المقام، بل لعدم شمول أدلة الخيار لهما.

فإن قيل: إن البيع في بيع الفضولي غير متحقق فلا موضوع للخيار.

قلنا: إن لم يتحقق البيع فبماذا تعلقت الإجازة إذن؟! فإنها من الأمور ذات التعلق، فتتقوم بالمجاز، فإن لم يكن الصادر من الفضوليين بيعاً لم يكن هناك شيء تتعلق به الإجازة، فيلزم أن لا يتم بيع الفضولي أبداً؛ لعدم كون بيعه بيعاً، وعدم كون الإجازة بيعاً إلّا على مسلك ضعيف واضح البطلان؛ لاستلزامه الدور؛ لأن الإجازة تتوقف على ما تتعلق به وهو المُجاز، وهو لا يكون بيعاً إلّا بالإجازة فيتوقف عليها، فيلزم توقف الإجازة على نفسها، وهو دور.

فاتضح بالبرهان أن ما قام به الفضولي بيع، وبالإجازة يستند هذا البيع إلى المالك، فيكون البيع والعقد - بعد الإجازة - بيعاً وعقداً للمالك.

وأما وجه عدم شمول أدلة الخيار للفضولي فهو انصراف الأدلة عنه، ومنشأ الانصراف وجوه تستفاد من الأدلة نفسها:

أولها: أن في الأدلة: «فإذا افترقا وجب البيع»، والبيع - مع افتراق الفضوليين وعدم تحقق الإجازة من قبل المالك - محكوم بالبطلان فكيف يحكم عليه باللزوم؟!

ثانيها: أنه ورد في الصحيحة المتقدمة: «فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما»(2)، فالخيار إنما يكون في مورد يعتبر فيه رضا المتبايعين، ولا يعتبر رضا

ص: 186


1- المكاسب 5/33.
2- وسائل الشيعة 18/6، ح3، صحيحة فضيل.

الفضوليين قطعاً.

ثالثها: أنه ورد في بعض نصوص(1) خيار المجلس - في بيان موضوع ثبوت الخيار- إطلاق عنوان «التاجران» على البيّعين، ولا يصدق عنوان التاجر على الفضولي.

فالحق: أن موضوع خيار المجلس هو البيع الجامع للشرائط، وهو لا يصدق على بيع الفضولي وإن صدق على الفضولي عنوان البيّع.

في ثبوت الخيار للمجيزين وعدمه

وأما بالنسبة إلى المجيزين، فهل يثبت لهما الخيار أو لا؟

أما المجيزان الحاضران في مجلس العقد فيثبت لهما الخيار بلا إشكال؛ لصدق عنوان «البيّعان» عليهما بإجازتهما لعقد البيع، والفرض أنهما حاضران في مجلس البيع فيصدق عليهما - بعد الإجازة - أنهما مجتمعان على البيع، فيتم موضوع ثبوت الخيار بالنسبة لهما، بلا فرق بين كون الإجازة كاشفة أو ناقلة.

وأما المجيزان غير الحاضرين في مجلس البيع، فإن كانا متفرقين أو كانا مجتمعين وتفرّقا قبل الإجازة فلا خيار لهما؛ لانتفاء موضوعه وهو اجتماع البيّعين، ولا بحث في ذلك.

وإنما البحث في المجيزين المجتمعين في مجلس الإجازة، فذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى عدم ثبوت الخيار لهما؛ ومنتهى دليله احتمال أن يكون لاجتماعهما في مجلس البيع دخل في ثبوت الخيار، وهذا الحتمال كاف لعدم ثبوت الخيار ما لم يرفع.(2)

وبيان ذلك منا: أن مجرد احتمال أن يكون لاجتماع المجيزين في مجلس العقد دخل في ثبوت الخيار منشأ للشك في ثبوته بالوجدان، ومقتضى الأصل اللفظي

ص: 187


1- وسائل الشيعة 18/7، ح6، صحيحة عمر بن يزيد.
2- منية الطالب 3/(30-29).

والعملي مع الشك عدم الثبوت، أما الأصل اللفظي فمقتضى عموم ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ وجوب الوفاء بالعقد ما لم يثبت الخيار، وبما أنه لم يثبت فأصالة العموم محكمة، وأما الأصل العملي فللشك في ثبوت السلطنة على حل العقد والأصل العدم، إلّا أن تكون أدلة الخيار في مقام البيان من هذه الجهة، وليست كذلك.

هذا، ولكن الحق ثبوت الخيار لهما؛ لأن مقتضى إطلاق «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»(1) ثبوته للبيّعين بشرط الاجتماع على البيع، وبإجازة المالكين لعقد الفضولي اتصف كل منهما بكونه بيّعاً كما اعترف به أيضاً، والفرض أنهما مجتمعان في مجلس الإجازة فيتصفان أيضاً في مجلس تحقق البيع الصحيح الشرعي بالاجتماع على البيع ولا نريد أكثر من ذلك في تحقق موضوع ثبوت الخيار لهما»(2).

هذا تمام الكلام في المسألة الأولىٰ.

ص: 188


1- وسائل الشيعة 18/6، ح3.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(202-199).
المسألة الثانية: اتحاد البائع والمشتري في الخارج
اشارة

قد يكون العاقد واحداً بحيث ينطبق عليه عنواني البائع والمشتري كأنْ يكون أصيلاً من طرف ومن طرف آخر وليّاً أو وكيلاً مفوضاً أو يكون وليّاً على المالكين أو وكيلاً مفوضاً عنهما، على وجه يثبت له الخيار لو كان متعدداً، فهل يثبت له الخيار؟ وعلى فرض الثبوت بماذا يتحقّق الافتراق؟

الأقوال في المسألة
اشارة

قال سيّد المفتاح: «إذا اتحد العاقد عن اثنين هو أحدهما أو غيرهما فالأقرب ثبوت الخيار كما هو خيرة المبسوط(1) والشرائع(2) والتذكرة(3) والمختلف(4) والدروس(5) وغاية المرام(6) وتعليق الإرشاد(7) وإيضاح النافع والميسية والمسالك(8) وهو المحكي(9) عن القاضي. وهو ظاهر «الغنية»(10) كما ستسمع.

ص: 189


1- المبسوط 2/78.
2- شرائع الإسلام 2/22.
3- تذكرة الفقهاء 11/9.
4- مختلف الشيعة 5/64.
5- الدروس الشرعيّة 3/265.
6- غاية المرام 2/35.
7- حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي وآثاره) 9/388.
8- مسالك الأفهام 3/(199-197).
9- نقله العلّامة في المختلف 5/64.
10- غنية النزوع /217.

وحكى المصنّف في التحرير(1) قولاً بعدم ثبوت الخيار ولزوم البيع، والظاهر أنّه ليس لأحدٍ من أصحابنا وإنّما هو لبعض الشافعية كما ذكره في التذكرة(2) وجزم به الاستاذ الشريف(3) (قدس سره)، قال: هو لبعض العامّة ولا قائل به من الأصحاب. وقال في المسالك(4) بعد أن جعله احتمالاً ما نصّه: وهذا الاحتمال لم يذكره في التذكرة ولا أشار إليه في الدروس بل جزم بثبوت الخيار، وكذلك عبارة الكتاب - يعني الشرائع - ليس فيها إشعار به، فإنّ قوله: «على قول» يشير به إلى ما جرت به عادتهم من نقل القول الّذي ذكره في المبسوط، وهو سقوط الخيار بمفارقة العاقد المجلس، انتهى. والغرض أنّ هذا القول لم يقل به أحدٌ من أصحابنا. ومع ذلك قد مال إليه أو قال به المولى الأردبيلي(5) والفاضل الخراساني(6)، وقرّبه المحدّث البحراني(7).

وظاهر التحرير(8) والإيضاح(9) والتنقيح(10) وحواشي الكتاب(11) التوقّف كما هو صريح جامع المقاصد(12).

ص: 190


1- تحرير الأحكام 2/284، مسألة 3091.
2- تذكرة الفقهاء 11/9.
3- مصابيح الأحكام /245، س24(مخطوط في مكتبة مؤسسة النشر الإسلامي، رقم 14)، سيّد محمّدمهدي بحرالعلوم.
4- مسالك الأفهام 3/199.
5- مجمع الفائدة والبرهان 8/389.
6- كفاية الأحكام 1/462.
7- الحدائق الناضرة 19/13.
8- تحرير الأحكام 2/284.
9- إيضاح الفوائد 1/481.
10- التنقيح الرائع 2/44.
11- الحاشية النجّارية /244.
12- جامع المقاصد 4/287.

فقد تحصّل أنّ الأصحاب في المقام على ثلاثة أنحاء: بين قائل بثبوت الخيار، وبين متوقّف، وبين قائل بعدمه أؤ مائل إليه»(1).

أقول: القول بثبوت الخيار هو المشهور بين الأصحاب ومنهم الفقيه اليزدي(2) والسيّد الخميني(3).

والقول بعدم ثبوت الخيار لم يثبت عند فقهاءنا حتّى القرن العاشر وأوّل من قال به هو المحقّق الأردبيلي المتوفى سنة 993 ثمّ السبزواري ثمّ الشيخ يوسف البحراني ثمّ استقواه المحقق الشيخ أسدالله التستري.(4)

والقول بالتوقف مضافاً إلى ما مرّ مال إليه الشيخ الأعظم في آخر المسألة وقال: «الأولى التوقف تبعاً للتحرير وجامع المقاصد»(5).

أدلة القول بثبوت الخيار

1- «الإجماع: على ثبوته في كلّ بيع - كما حكاه(6) الاستاذ الشريف (قدس سره) عن «الغنية» والموجود فيما عندنا من نسخها(7) ما يقرب من ذلك وليس به - .

2- ولأنّ المقتضي له في المتعدّد هو البيّع وقد وجد في الواحد فليلحق به تنقيحاً لمناط الحكم، للقطع بعدم الفرق بين بعض صوَر الاتحاد وبين بعض صوَر التعدّد، ولا

ص: 191


1- مفتاح الكرامة 14/(148-146).
2- حاشية المكاسب 2/388.
3- كتاب البيع 4/122.
4- المقابس /241.
5- المكاسب 5/37.
6- مصابيح الأحكام /145 سطر ما قبل الأخير (مخطوط في مكتبة مؤسسة النسر الإسلامي برقم 14).
7- غنية النزوع /217.

قائل بالفصل.

3- بل تدّعي أنّه لا أثر للتعدّد لمكان ورود النصّ لكان غير الخيار من الأحكام المترتّبة عليه كذلك، وليس كذلك قطعاً، لأنّه يسقط حينئذٍ مع الاتحاد أكثر الأحكام.

4- هذا كلّه مضافاً إلى أنّ الظاهر من تعليق الخيار بالبيع في قوله (علیه السلام) : «البيّعان بالخيار»(1) ثبوته لهما من حيث البيع والشراء فيرجع بالآخرة إلى ثبوته للبائع من حيث هو بائع وللمشتري من حيث هو كذلك، والعاقد الواحد بائع ومشترٍ قطعاً، فيثبت له الخيار بالاعتبارين، وهذا قريب من [الثاني] وليس به.

5- ولا ينافي ذلك قوله (علیه السلام) : «مالم يفترقا» إذ النفي حقيقة في السلب المطلق مجاز في عدم الملكة عمّا من شأنه ذلك، والحقيقة مقدّمة على المجاز. ومن المعلوم أنّه لا فرق في السلب المطلق بين الواحد والمتعدّد، سواء رجع النفي إلى القيد والمقيّد أو إلى القيد، ولا كذلك عدم الملكة.

وحينئذٍ يصحّ لنا أن نتمسّك بعموم قوله (علیه السلام) «البيّعان بالخيار مالم يفترقا» أخذاً بحقيقة النفي وحملاً للتثنية على عموم المجاز، لأنّ الأخبار إنّما سبقت لتعميم الخيار.

6- مضافاً إلى اقتران أكثرها بخيار الحيوان، وهو عامّ للواحد والمتعدّد. وفي الصحيح(2): «ما الشرط في الحيوان؟ فقال: ثلاثة أيّام للمشتري. قلت: وما الشرط في غير الحيوان؟ قال: البيّعان بالخيار مالم يفترقا» فإنّه قد شمل(3) المتّحد سؤالاً وتعليلاً نشأ من التنبيه على علّة السقوط بالافتراق وهي الرضا منهما، فيعمّ المتّحد جواباً وحكماً. وقد اجتمع فيه أيضاً السوق والاقتران.

وبذلك كلّه مع الشهرة والإجماع المحكيّ تترجّح الحقيقة في النفي على الحقيقة

ص: 192


1- الكافي 5/170، ح6؛ تهذيب الأحكام 7/24، ح100.
2- وسائل الشيعة 18/11، ح5 و18/6، ح3.
3- يشمل: نسخة بدل.

في التثنية، فكان الحكم ثابتاً بعموم النصوص وبفحاويها وملاحظة متعلّقاتها، فلا وجه للتردّد أو القول بلزوم البيع وعدم الخيار، إذ الأصل الّذي تمسّكوا به - أعني لزوم البيع - مقطوع بما ذكرنا. والجمود على اللفظ والإعراض عمّا ذكرناه واستخرجناه لا يليق بأهل النظر، على أنّه قول لبعض العامّة لا قائل به منّا»(1).

أدلة القول بعدم ثبوت الخيار

ذهب النافون للخيار إلى عدم الإطلاق الشامل لصورة اتحاد البائع والمشتري لوجوه ثلاثة:

«الوجه الأوّل: أن أدلة الخيار وردت فيها صيغة المثنى (البيعان) وهي لا تنطبق على الفرد الواحد؛ فإن الأصل في التثنية - كالأصل في الجمع - التعدد؛ لأنها في مقابل الإفراد، فيلزم تعدد البائع والمشتري؛ فإن انطباق عنوانين على فرد واحد لا يحقق صدق التثنية، فلا إطلاق ليشمل الفرد الواحد.

وفيه: أن ما ذكر تام لو انحصر التعدد في التعدد الشخصي، وأما مع صدق التثنية على التعدد العنواني بنحو الحقيقة لا المجاز فلا يتم الاستدلال؛ لأن التثنية كما تحصل في حالة تعدد الشخص، تحصل في حال تعدد العنوان، وما نحن فيه من قبيل الثاني، فإذا وجد عنوان البائع والمشتري صدق «البيّعان» وإن كان العنوانان ينطبقان على فرد واحد، كما يصدق أيضاً على ما لو وجد شخصان أحدهما بائع والآخر مشترٍ.

وبعبارة أخرى: إن قوله (علیه السلام) : «البيّعان بالخيار» في قوة قوله: البائع والمشتري بالخيار، وحينئذ يدور الأمر مدار تحقق هذين العنوانين، ولا شك في تحققهما في الشخص الواحد.

الوجه الثاني: أنه لو تنزلنا وقلنا: بأن التثنية ليست بلحاظ التعدد الشخصي

ص: 193


1- مفتاح الكرامة 14/148 و 149.

الخارجي، بل بلحاظ تعدد العنوانين كما في مثل قولهم: (الشمسان والقمران) فإن البيّع غلّب على البائع والمشتري، فالتثنية كانت بلحاظ البائع والمشتري لا بلحاظ كونهما فردين.

إلّا أن النصوص مغيّاة بالافتراق، وهو مانع من انعقاد الإطلاق، ويظهر ذلك بملاحظة مقدمتين:

الأولى: أن الخيار مغّيى بالافتراق، وهو مستحيل بالنسبة إلى الفرد الواحد، فيستحيل تحقق الغايّة.

الثانية: أن الغاية حدٌّ بلا إشكال، وكل حدٍّ قيد - بالمعنى الذي سنبينه في الجواب عن الوجه الثالث للسيّد اليزدي (قدس سره) - وهي لا تخلو من أحد أمرين: إما أن تكون قيداً للحكم أو للموضوع(1)، ويستفاد من الشيخ (قدس سره) الأوّل(2)، ومن المحقّق النائيني (قدس سره) الثاني(3)، وعلى أية حال فالغاية - في ما نحن فيه - قيد لأحدهما؛ وإلّا لكان أخذها في الدليل لغواً؛ إذ لو كان الموضوع والحكم مطلقين لما كان للتحديد معنى.

وإنما أوضحنا هذه الجهة لدفع ما توهمه البعض، حتّى بعض أعاظم القوم كالسيّد اليزدي (قدس سره) في حاشيته، فإن المستفاد من كلامه القول بأن الغاية ليست قيداً(4)، ولا يمكن المساعدة عليه كما سيأتي.

ص: 194


1- قال الشيخ الأستاذ دام ظله العالي في هذه النقطة: (وهذا بحث دقيق في نفسه يأتي في جميع موارد الغاية، فمثلاً ﴿إِلَى اللَّيْلِ﴾ في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [سورة البقرة /187] غاية، فهل هي غاية للحكم أو للموضوع؟ فإن كانت قيداً للموضوع صار الصيام إلى الليل هو الموضوع وهو المحكوم عليه، وأما إذا كانت قيداً للحكم فالحكم بوجوب الإتمام مقيد ب- ﴿إِلَى اللَّيْلِ﴾.
2- المكاسب 5/36.
3- منية الطالب 3/30.
4- حاشية المكاسب 2/388.

فإذا كانت الغاية قيداً فالنص مختص بالمتعدد وجوداً، سواء أكانت قيداً للحكم أم للموضوع؛ لأنه إن كان قيداً للموضوع، فلابد أن يكون من له الخيار قابلاً للاجتماع والافتراق، والواحد غير قابل لهما.

وإن كانت قيداً للحكم فثبوت الخيار محدود بالافتراق، فلابد حينئذ من أن يكون في مورد قابل للاجتماع والافتراق، والواحد الشخصي غير قابل لهما.

وبعبارة أخرى: إن التقابل بين الاجتماع والافتراق من تقابل الملكة وعدمها، فالاجتماع ملكة، والافتراق عدمها، والملكة وعدمها لا تكونان إلّا في المورد القابل لهما كالعمى والبصر، فالافتراق عدم الاجتماع في المورد القابل للاجتماع.

وقد أوضحنا سابقاً أن المستفاد من الغاية في قوله (علیه السلام) : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» أمران: ثبوت الخيار بالاجتماع، ووجوب البيع بالافتراق.

ومع التأمل في ما ذكرناه يتضح عدم الإطلاق في الرواية؛ لأن أحد الأمرين - إما الموضوع أو الحكم - مقيد بالمورد القابل للاجتماع والافتراق، وتحقق الملكة وعدمها مستحيل في الواحد الشخصي، ومع هذه الاستحالة ينتفي الدليل على ثبوت الخيار في ما إذا كان البائع والمشتري واحداً؛ لاستحالة أن يقيد الشارع حكمه بغاية مستحيلة.

وبعبارة ثالثة: إن الدليل على نفي انعقاد الإطلاق ينحل إلى أمرين:

الأوّل: أن الخيار في الأخبار مغيّى بالافتراق، ولا يعقل أن يكون الحكم مغيّى بغاية ممتنعة، بل لابد أن تكون غاية الحكم ممكنة، والافتراق بالنسبة إلى الشخص الواحد مستحيل، وحينئذ فتحديد الحكم بغاية الافتراق بالإضافة له تحديد له بغاية ممتنعة، ولا يعقل من الشارع أن يحدد حكمه بغاية ممتنعة، كأن يحدده بعدم ارتفاع النقيضين، فإذا كانت الغاية ممكنة كان الخيار محدوداً بموارد إمكان الافتراق، فيخرج الشخص الواحد من تحت أدلة الخيار تخصصاً.

ص: 195

الثاني: أنه عندما تكون الغاية هي الافتراق فهو لا يكون إلّا في مورد يقبل الاجتماع، ومع عدم قبول المورد له فالتحديد بالافتراق لا وجه له، فنفس الغاية تحدد أدلة الخيار بالمتعدد الشخصي.

[وبعبارة رابعة: «أنّ بعض الأخبار الواردة في المقام أخذ الافتراق غاية للحكم حيث دلّ على أنّ البيّعان بالخيار حتّى يفترقا، وبعضها أخذ عدم الافتراق قيداً للموضوع ودلّ على أنّهما بالخيار مالم يفترقا، ولكن مرجعهما إلى أمر واحد وذلك لما بيّناه في محلّه من أنّ كل قيد اُخذ في ناحية الحكم لابدّ وأن يكون مفروض الوجود ويكون حاله حال القيود الراجعة إلى الموضوع من حيث عدم فعلية الحكم قبل تحقّقها، وعليه فالمستفاد من الأخبار أنّ موضوع الخيار مقيّد بعدم الافتراق ولا اختلاف بين التعبير بأنّهما بالخيار حتّى يفترقا وبين التعبير بأنّهما بالخيار ما لم يفترقا، لأنّ معناهما واحد والاختلاف في مجرد التعبير. وكيف كان فالتقابل بين الافتراق وعدم الافتراق وإن كان تقابل السلب والايجاب فلابدّ من تحقّق أحدهما لا محالة، وليس التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، ولا يقال ذلك بالاجتماع والافتراق فانّهما أمران وجوديان ويتقابلان بالعدم والملكة ويمكن ارتفاعهما فيما إذا لم يكن هناك قابلية الاجتماع، وهذا بخلاف الافتراق وعدمه فإنّ العدم والوجود يقابلهما تقابل السلب والايجاب، إلّا أنّ ظاهر كل قضية موجبة أو سالبة أنّ السلب والايجاب فيها سلب للمحصول بعد الفراغ عن الموضوع، أو إيجاب المحمول بعد فرض وجود الموضوع، وهذا في الموجبة ظاهر، وأما السالبة فهي أيضاً كذلك، لأنّ السلب وإن كان يصدق عقلاً مع انتفاء الموضوع أيضاً إلّا أنّ ظهوره العرفي أنه سلب للمحمول عن موضوعه الموجود، فاذا قال أحد إنّ داري ليست بوسيعة أو إنّ زوجتي ليست بجميلة فظاهرهما أنّ له داراً وزوجة مسلوباً عنهما السعة والجمال، لا أنه فاقد لنفس الدار والزوجة، وإن كان ذلك بحسب العقل صادقاً.

ص: 196

وعليه فظاهر قوله (علیه السلام) «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» أنّ الموضوع للافتراق موجود والافتراق مسلوب عنه. ومن البديهي أنّ الافتراق وعدمه إنما يتعقّل في صورة التعدّد والاثنينية وأمّا صورة الوحدة والانفراد فهي غير قابلة للافتراق وعدمه مع فرض وجود الموضوع، إذ لا معنى لافتراق الواحد عن نفسه أو عدم افتراقه عن شخصه، فنفس مفهوم الافتراق متقوّم بالتعدّد، فسلب الافتراق حينئذ معناه أنّهما متعدّدان والافتراق مسلوب عنهما، لا أنه واحد غير متعدّد حتّى لا يحتاج إلى الافتراق ويكون عدم الافتراق من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وذلك لما عرفت من أنّ ظاهر القضية السلبية أنّ الموضوع فيها متحقّق وإنما سلب عنه حكمه ومحموله، لا أنّ السلب من جهة عدم تحقق الموضوع.

وبعبارة اُخرى: ظاهر الأخبار أنّ الخيار مقيّد بعدم الافتراق، وعدم الافتراق إنما يصح عرفاً فيما إذا كانا متعدّدين غير متفرّقين، لا في صورة الاتّحاد حتّى يكون سلب الافتراق من جهة انتفاء موضوعه، لما مرّ من أنّ التفرّق وعدمه إنما يتعقّلان في صوره التعدّد، لأنّ إطلاق التفرّق وعدمه للواحد غلط عرفاً وإن كان سلبه لأجل سلب الموضوع صحيحاً عقلاً، والعاقد الواحد حيث لا يصح إطلاق عدم الافتراق في حقه فلا يثبت له الخيار»(1).]

المناقشات المذكورة للوجه الثاني وردها

أجيب عن هذا الوجه نقضاً وحلاً.

أما النقض فبما أفاده السيّد اليزدي (قدس سره) في حاشيته(2)، وتبعه المحقق السيّد

ص: 197


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 3/73 و 74؛ ولكن جزورها موجودة في حاشية المكاسب 4/74 للإصفهاني (رحمة الله).
2- حاشية المكاسب 2/388.

الخوئي (قدس سره) بنفي البأس عنه(1) وهو: أن الغاية المذكورة قد تكون مستحيلة في شخصين كما لو كانا متلاصقين، أو كانا بدنين مشتركين في الرِجْلين؛ فإن الافتراق مستحيل في حقهما، ومع ذلك يثبت الخيار لهما بلا شبهة، فمن هذا يستفاد عدم لزوم كون الافتراق ممكناً، بل المناط في ثبوت الخيار أن يتحقق البائع والمشتري.

ولابد من التأمل في ورود هذا النقض؛ لأن حقيقة النقض تتقوم بأمرين:

أولهما: أن يشترك مورد النقض مع مورد البحث والنزاع في جميع الجهات، فلو تخلّف عنه في بعضها لم يصح النقض.

ثانيهما: أن يكون الحكم في مورد النقض مسلماً عند الخصم.

وكلا الأمرين لا ينطبقان على المورد الذي أفاده السيّد (قدس سره) :

أما عدم انطباق الأمر الأوّل؛ فلأن عدم الافتراق تارة ينشأ من عدم المقتضي، كعدم التعدد، كما لو كان البائع والمشتري واحداً وهو محل البحث والفرض، وأخرى من وجود المانع من الافتراق مع حصول التعدد كمورد النقض كالبدنين المتلاصقين، فمورد النقض يختلف عن مورد البحث، فلا يصح النقض به؛ فإن منكر ثبوت الخيار يستند إلى عدم تعدد البائع والمشتري، والتعدد حاصل في مورد النقض وإنما امتنع الافتراق لوجود المانع منه.

وأما عدم انطباق الأمر الثاني؛ فلإنكار أن يكون الحكم بثبوت الخيار في البدنين المتلاصقين مسلّماً؛ فإن لمن ينفي الخيار أن يقول: بما أن الغاية هي الافتراق، ولابد أن تكون الغاية ممكنة، فهي لا تكون إلّا في مورد يمكن فيه الافتراق، وأما مع امتناعه فلا، سواء أكان الامتناع لعدم المقتضي أم لوجود المانع، وعليه فيلتزم بعدم ثبوت الخيار في مورد البدنين المتلاصقين.

ص: 198


1- مصباح الفقاهة 6/94؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/(72-71).

نعم، لو قام الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم أو عن دليل معتبر على ثبوت الخيار في البدنين المتلاصقين أخذ به، إلّا أنه ممنوع في المقام صغرى وكبرى:

أما الصغرى فلأن مسألة البدنين المتلاصقين لم تطرح في متون الفقهاء المتقدمين الذين عليهم المعول في تحصيل الإجماع، فمن أين نحصِّل الإجماع؟

ولو سلم الإجماع فهو في المتلاصقين تخصيصاً، أو لاندراجه في قوله (علیه السلام) : «إذا التاجران صدقا بورك لهما، فإذا كذبا وخانا لم يبارك لهما، وهما بالخيار ما لم يفترقا...»، بخلاف صورة الاتحاد شخصاً؛ فإنه لا يكون مصداقاً للنص.

وأما الكبرى فلإن هذا الإجماع على فرض تحققه - مع وجود الوجوه التي أقيمت على الحكم في المسألة - مدركي، فلا يكشف عن رأي المعصوم ولا عن دليل معتبر خاص قطعاً.

وعليه فالنقض غير فني، ولا يوجب بطلان مختار من قال بعدم ثبوت الخيار في الواحد الشخصي.

وأما الحل فقد أجيب عن الإشكال [بجوابات] أربعة:

[الجواب] الأوّل: أن كلمة «حتّى» تدخل على الغاية الممكنة والممتنعة كما تشهد له الاستعمالات الفصيحة كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾(1)، وبناء عليه فلا محذور في أن يغيَّى الحكم ب- «حتّى» وقد دخلت على غاية ممتنعة بالإضافة إلى الواحد الشخصي.

وهذا الوجه نقله الشيخ (قدس سره)، واقتصر في التعليق عليه بقوله: «ومنه يظهر سقوط القول بأن كلمة «حتّى» تدخل على الممكن والمستحيل»(2).

ص: 199


1- سورة الأعراف /40.
2- المكاسب 5/36.

ويشير بذلك - كما سيأتي بحثه - إلى ما أفاده (قدس سره) أوّلاً بقوله: «إلّا أن التقييد بقوله: «حتّى يفترقا» ظاهر في اختصاص الحكم بصورة إمكان فرض الغاية، ولا يمكن فرض التفرق في غير المتعدد».

ولكن الحق في الجواب أن يقال: إن المغيّى إذا كان ممتنعاً - كما في الآية - فلابد أن تدخل «حتّى» على الغاية الممتنعة، وأما إذا كان ممكناً - كما في ما نحن فيه؛ فإن ثبوت الخيار ممكن، بل واقع - فلابد أن تدخل «حتّى» على الغاية الممكنة، ودعوى دخولها في هذا الفرض على الغاية الممتنعة في الاستعمالات الفصيحة دعوى لا شاهد عليها.

ثمّ لو سُلّم فإن تقييد الخيار بالافتراق - على القول بدلالة الغاية على التقييد - إنما يدل على اختصاص الحكم بمورد إمكان الافتراق فيما كان أصل ثبوت الحكم قيداً به، بخلاف نصوص الباب؛ فإن المقيد به ليس الثبوت بل السقوط وعدم بقاء الحكم، ولا ملازمة بين تقييد السقوط وتقييد الثبوت لا عقلاً ولا شرعاً ولا عرفاً.

[الجواب] الثاني: ما أشار إليه الشيخ (قدس سره) أوّلاً - وإن اختار التوقف في الأخير- من أن الغاية مبنية على الغالب؛ فإن الغالب في المتبايعين التعدد الشخصي، فيمكن اجتماعهما وافتراقهما، والقيد الوارد مورد الغالب لا يوجب تقييد المطلق، فلا تنفي هذه الغاية ثبوت المغيّى في غير موردها، نظير قوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾(1)؛ فإن قيد ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ على نحو الغالب، فلا ينفي الحكم في غير مورده، فتحرم الربيبة ولو لم تكن في الحجر، وعليه فالحكم بثبوت الخيار ثابت حتّى في المورد الذي لا يمكن فيه الافتراق؛ لأن قيد الافتراق مبني على الغالب.

والإشكال على هذا الوجه واضح؛ إذ - مضافاً إلى أن حمل القيد على الغالب خلاف الأصل؛ لأن الأصل في القيود الاحتراز- أن لازمه ثبوت الخيار في مورد

ص: 200


1- سورة النساء /23.

الافتراق، وهو باطل بالضرورة، وذلك للتنافي بين القيدية وكون القيد على نحو الغالب؛ فإن معنى كونه وارداً على نحو الغالب نفي كونه قيداً، وإثبات كونه قيداً ينفي أن يكون وروده على نحو الغالب؛ فإن معنى القيد ما ينتفي الحكم بانتفائه، ومعنى كونه بنحو الغالب عدم انتفاء الحكم بانتفائه.

فالافتراق - فيما نحن فيه - إن كان وارداً على نحو الغالب فهو ليس بقيد، ولازم ذلك أن يثبت الخيار حتّى في حال تحقق الافتراق، وهو باطل بالضرورة.

[الجواب] الثالث: ما أفاده السيّد اليزدي (قدس سره) وأشرنا له سابقاً، وحاصله: أن الغاية ليست قيداً للحكم، بل هي رافعة له، فيرتفع بتحققها وينتهي أمده بحصولها، ورافع الحكم ليس قيداً له بالضرورة، فمعنى الخبر: أن الخيار ثابت لكل من المتبايعين، وغايته التفرق، بمعنى أنه إن حصل يرتفع الخيار، فهو نظير أن يقول المولى لعبده: «أكرم زيداً إلى أن يفسق»، فهنا لم يقيد الإكرام بعدم فسق زيد، أي لم يرد الإكرام المقيد بكونه قبل الفسق كما هو ظاهر، بل المراد أن الفسق إذا حصل يرتفع الوجوب.

وفي ما نحن فيه إنما يرد الإشكال بناء على أن الغاية قيد للحكم أو للموضوع، وأما إذا لم تكن قيداً لأحدهما، وإنما كانت لبيان انتهاء أمد الحكم فيرتفع الإشكال؛ إذ لم يقيد الخيار بإمكان الافتراق حينئذ، وعليه فإطلاقات أدلة خيار المجلس محكمة، فتشمل ما لو كان البائع والمشتري واحداً، فيثبت الخيار له من الجانبين.(1)

وفيه: أنه لا إشكال في أن الغاية - بما هي - رافعة للحكم، وبيان لانتهاء أمده، ولكن إذا كانت القضية متكفلة لثبوت - حكم على موضوع مغيّى بغاية، يستحيل - مع وجود الغاية - أن يبقى الموضوع على إطلاقه.

ولبيان ذلك نأخذ المثال الذي ذكره السيّد (قدس سره) وهو: «أكرم زيداً إلى أن يفسق»

ص: 201


1- حاشية المكاسب 2/388.

فنقول:

لا شك أن زيداً من ناحية حاله قابل للانقسام إلى الفاسق وغيره، ونفس الغاية من انقسامات الموضوع بلا إشكال، فإذا كانت منها وهي غاية، يأتي السؤال: هل زيد - الذي هو موضوع وجوب الإكرام - بالنسبة إلى هذا الحكم وبالنظر إلى حالة الفسق مهمل ثبوتاً، أو مطلق، أو مقيد بوجود الفسق، أو مقيد بعدمه؟ والأمر لا يخلو من هذه الصور مع ثبوت كونه مغيّى بهذه الغاية.

أما إهمال الحاكم للموضوع بالنسبة إلى هذه الحال فهو محال، بل يستحيل الإهمال بالنسبة إلى الانقسامات الفردية والحالية في جميع المطلقات؛ لأنه خلف فرض كون المولى في مقام البيان، مع أنه لا يعقل الإهمال في مقام الثبوت من حيث الملاك، وما يقوم به غرض الجاعل.

وكذا الإطلاق بالإضافة إلى حال فسق زيد وعدمه؛ لأن معناه - مع قوله: «أكرم زيداً إلى أن يفسق» - أنه يجب إكرام زيد ولو كان فاسقاً، فالإطلاق ضد لهذه الغاية فلا يجتمعان، فينحصر الأمر في التقييد، والتقييد بوجود الفسق محال أيضاً؛ إذ يكون المعنى: يجب إكرام زيد إلى أن يفسق حال فسقه، وبطلانه ظاهر، فيتعين أن يتقيد موضوع وجوب الإكرام بعدم الفسق، وهو المطلوب.

والنتيجة: أنه ليس المدعى أن نفس الغاية قيد على ما تقدم بيانه، وأن الموضوع مقيد بها، بل المدعى أن كل قضية مشتملة على غاية فإن تلك الغاية - بحسب برهان السَّبْر(1) والتقسيم - تستلزم أن يتقيد الموضوع ويتحدد بعدمها.

وفيما نحن فيه عندما جعلت للخيار غاية وهي الافتراق فلا محالة من أنها تستلزم أن يكون موضوع ثبوت الخيار هو البيّعان المقيد بعدم الافتراق، وبما أن تقييد

ص: 202


1- السَّبْرُ: التجربة. وسَبَرَ ما عنده أي جَرَّبَهُ.

الواحد بهذا القيد غير معقول، فلا مناص من عدم تحقق المقيّد بالنسبة إليه.

[الجواب] الرابع: ما أفاده المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) في المصباح، وحاصله: أن الحكم وإن كان يستحيل أن يُغيّى بغاية مستحيلة بالذات كأن يُغيَّى باجتماع النقيضين أو الضدين، إلّا أنه لا بأس في أن يُغيّى بالجامع بين الممكن والممتنع، والحكم - في ما نحن فيه - مغيّى بالافتراق، فلو كان الافتراق مستحيلاً مطلقاً لم يعقل جعله غاية للحكم، ولكنه ممكن في بعض الأفراد كما لو تعدد البائع والمشتري، ومستحيل في أفراد أخرى كما لو اتحدا وجوداً، فلا محذور في تعليق الحكم على هذه الغاية الجامعة، ولا يوجب ذلك أن يكون الحكم منحصراً في مورد إمكان الغاية، نظير جعل النجاسة لملاقي النجس إلى أن يغسل، فإن هذه الغاية ممكنة في مثل الثوب المتنجس، ولكنها مستحيلة في مثل الدهن المتنجس؛ لكون الغسل موجباً لانتفاء العين المغسولة، ومع ذلك لم يمتنع جعل الحكم بالنجاسة على الموضوع المتنجس مطلقاً، ولم يوجب ذلك انحصار الحكم بالنجاسة في خصوص مورد إمكان الغسل، وما نحن فيه كذلك؛ فإن الخيار جعل مغيى بالافتراق، وهو ممكن في بعض مصاديق «البيّعان»، ومستحيل في بعضها الآخر كما لو اتحدا في واحد، وهذا الامتناع بنحو الموجبة الجزئية لا يتنافى مع جعل الخيار لمطلق الموارد الممكن فيها الافتراق والممتنع ولا محذور فيه.(1)

وهو مخدوش؛ بأن الأحكام الشرعية وضعت بنحو القضايا الحقيقية، فهي قضية واحدة من حيث الصورة ولكنها قضايا متعددة لبّاً، فالأحكام المجعولة متعددة بعدد الموضوعات، وحينئذ فبالضرورة تكون بعض الأحكام مغيّاة بالغاية الممكنة، والبعض الآخر بالغاية المممتنعة فيعود الإشكال.

نعم، لو كان الحكم كلياً على موضوع كليّ ومغيّى بغاية كلية ينحل الإشكال،

ص: 203


1- مصباح الفقاهة 6/94؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/72.

ولكنه خلاف الحق؛ لأن ما في الواقع من قبيل «أكرم العلماء» فالأحكام متعددة، والإطاعة والعصيان متعددان، فلابد أن يلاحظ كل مجعول في نفسه من حيث صحة الجعل وعدم صحته، وعليه ففي كل مورد تكون الغاية مستحيلة يكون الحكم ممتنعاً.

ثمّ إن ما أفاده (قدس سره) من إمكان جعل شيء جامعاً بين الإمكان والاستحالة غاية للحكم، لا إشكال فيه من حيث الكبرى فيما يمكن أن يكون مقيداً بالغاية كالمثال الذي ذكره لا مطلقاً، وأما ما نحن فيه فالموضوع البيّعان المتصفان بعدم الافتراق - حيث تقدم أن مآل الغاية إلى تقيد الموضوع بها - ولا شك أن أصل ثبوت الحكم منتف في صورة الاتحاد.

وأما بالنسبة إلى ما استشهد به فخارج عن البحث؛ لقيام القرينة الخارجية على ذلك، ولولاها لقلنا بأنها قضية حقيقية فيمتنع الحكم في الموارد التي تمتنع فيها الغاية، والقرينة الخارجية هي أن النجاسة - بحسب الارتكاز العرفي - تحصل بتحقق الملاقاة ولو لم تتحقق الغاية، فلهذا نحكم بالنجاسة في جميع موارد الملاقاة، أمكن غلسها أم لم يمكن، وأما في ما نحن فيه من جعل الخيار فلا ضرورة عرفية ولا شرعية تقتضي أن يثبت الخيار ولو لم يمكن تحقق الغاية، بل نحن وهذه القضية الحقيقية «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»، ومعناها أنه كلما تحقق بائع ومشترٍ فهما بالخيار في كل قضية إلى أن يفترقا، وعليه لابد من إمكان الافتراق في كل واقعة، لا مجرد إمكانه في بعض دون بعض، فإن حصل الافتراق انتفى الخيار وإلّا فهو ثابت.

هذه مجموع الوجوه التي ذكرت لرفع الإشكال وتبيّنت الخدشة في جميعها»(1).

المختار في المسألة

لأجل الوصول إلى نظرية المختار لابدّ من ملاحظة نصوص الروايات الواردة

ص: 204


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(216-206).

في المقام وهنّ على طوائف ثلاث:

«الطائفة الأولى: ما كان بلفظ «حتّى يفترقا» كصحيحتي محمّد بن مسلم وزرارة، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : البيّعان بالخيار حتّى يفترقا.(1)

والمستفاد من هذه الطائفة أن الموضوع هو البيعان، والحكم الخيار، والغاية الافتراق، ويستحيل في القضية المغياة بغاية أن لا يكون المجعول مغيّى؛ وإلّا يلزم الخلف من وجود الغاية، فالمجعول - وهو الخيار- مغيى بالغاية، والغاية منتهى أمد الحكم وهي رافعة له بالاتفاق، إلّا أنهم اختلفوا في إفادتها التقييد أو أنها مجرد غاية وعلى التقديرين لا ينعقد الإطلاق في «البيعان».

أما على التقدير الأوّل - كما هو مقتضى التحقيق المتقدم من عدم معقولية أن يكون رافع الحكم غير موجب لتقييد موضوعه - فالموضوع في هذه الطائفة مقيد، أي البيّعان القابلان للافتراق، والواحد غير قابل له، فيخرج منها موضوعاً.

وأما على التقدير الثاني - وهو كونها مجرد غاية - فالمجعول الشرعي مغيى بلاإشكال، ومعنى ذلك أن المجعول الشرعي هي حصة خاصة من الخيار، وهي الحصة المغياة بالافتراق، وبما أن الواحد الشخصي غير قابل لهذه الغاية فينتفي عنه المجعول وهو الخيار المغيى بالافتراق.

والحاصل: أن المستفاد من هذه الطائفة أن غاية الخيار الافتراق، والغاية إما قيد كما هو التحقيق، أو مجرد غاية كما يقوله السيّد (قدس سره)، وعلى كلا التقديرين فالمجعول حصة خاصة من الخيار، وهي الحصة المغيّاة بالافتراق، ولا يعقل تحققها في الواحد الشخصي فالإطلاق منتف من أصل.

الطائفة الثانية: ما كان بلفظ «ما لم يفترقا» كصحيحة فضيل عن أبي عبدالله (علیه السلام)

ص: 205


1- وسائل الشيعة 18/5، ح 1 و 2، الباب 1 من أبواب الخيار.

- في حديث - قال: قلت له: ما الشرط في غير الحيوان؟ قال: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»(1).

والموضوع في هذه الرواية البيعان بضميمة عدم الافتراق، وهو السلب المقابل للإيجاب، فيشمل السالبة بانتفاء الموضوع، ولكن ما في ذيل الرواية - وهو قوله (علیه السلام) : «فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما» - قرينة على أن التعدد في «البيان» تعدد شخصي لا عنواني؛ فإنه لا يتعقل في الواحد الشخصي تصوير «بعد الرضا منهما»، ويدل على ذلك ما ورد في صحيحة الحلبي - فإن ملاحظة لسان جميع الروايات وضمّ بعضها إلى بعض أمر مهم للغاية - عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: أيما رجل اشترى من رجل بيعاً فهما بالخيار حتّى يفترقا، فإذا افترقا وجب البيع... الحديث(2)؛ فإنه لا يعقل أن يكون المراد من تعبير «رجل اشترى من رجل» الشمول للواحد الشخصي، فهذه الصحيحة توضح المراد من «البيّعان» في الروايات الأخرى الذي تمسك بإطلاقها، ويؤكد ذلك [صحيحة] عمر بن يزيد، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : إذا التاجران صدقا بورك لهما، فإذا كذبا وخانا لم يبارك لهما، وهما بالخيار ما لم يفترقا...»(3)؛ فإن لفظ «التاجران» لا ينطبق على الفرد الواحد.

الطائفة الثالثة: ما كان بلفظ «أن يفترقا» [كحسنة] علي بن أسباط عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) قال: سمعته يقول: «الخيار في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري، وفي غير الحيوان أن يفترقا»(4).

ومن الواضح أن لفظة (أن) مصدرية فتوؤل مع ما بعدها بمصدر فيكون

ص: 206


1- وسائل الشيعة 18/6، ح3.
2- وسائل الشيعة 18/6، ح4.
3- وسائل الشيعة 18/7، ح6.
4- وسائل الشيعة 18/6، ح5.

المعنى: وفي غير الحيوان افتراقهما، فيكون الموضوع من الأساس هو المتعدد الشخصي؛ لعدم صدق «أن يفترقا» على الواحد الشخصي.

والنتيجة: عدم ثبوت الخيار للواحد الشخصي، إما لأجل التقييد، أو للغاية، أو لأن الموضوع في جميع الروايات - بعد ضم بعضها إلى بعض - ظاهر في التعدد الشخصي والتثنية العددية، لا التثنية العنوانية فلا يشمل الواحد الشخصي من رأس»(1).

فلابدّ من القول بعدم ثبوت الخيار في اتحاد البائع والمشتري في الخارج تبعاً للأردبيلي والسبزواري والبحراني والتستري كما مرّ وآيات الله: السيّد محمّدباقر الدرچئي(2) والمؤسس الحائري(3) والسيّد الخوئي(4) والشيخ مرتضى الأركاني(5) والسيّد محمّد الروحاني(6) وشيخنا الاستاذ(7) قدس الله أسرارهم. والاستاذ المحقّق(8) مدظله، والله العالم.

ص: 207


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(223-221).
2- ميزان الفقاهة 14/95.
3- الخيارات /29 بقلم شيخنا آيةالله الشيخ محمّدعلي الأراكي (قدس سره).
4- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 3/74.
5- غنية الطالب 4/126، حيث قَبِلَ أنّ الواحد لا يوصف بالافتراق.
6- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/92.
7- إرشاد الطالب 5/336.
8- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/224.
المسألة الثالثة: استثناء من عموم ثبوت خيار المجلس

تعرض الشيخ الأعظم(1) في هذه المسألة إلى ثلاثة فروع قد يقال بخروجها عن عموم ثبوت خيار المجلس وهي:

1- من ينعتق على أحد المتبايعين

2- العبد المسلم المشترىٰ من الكافر بناءً على عدم تملّك الكافر للمسلم اختياراً.

3- شراء العبد نفسه بناءً على جوازه.

وحيث أنّ هذه المسائل ليست لها ثمرة عملية فلا نتعرض لهذا البحث ومَنْ أراد فعليه بمراجعة تقريرات بحث السيّد الروحاني(2) (قدس سره) فانّه بحث عنها بحثاً ضافياً.

ص: 208


1- المكاسب 5/(45-38).
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(104-93).
المسألة الرابعة: هل يثبت خيار المجلس في غير البيع من العقود؟
اشارة

قال العلّامة: «ولا يثبت خيار المجلس في شيءٍ من العقود سوى البيع عند علمائنا»(1).

و «يثبت [خيار المجلس] في جميع ضروب البيع السلم وغيره بدليل إجماع الطائفة كما في الغنية(2) وهو أي الإجماع ظاهر التذكرة(3) حيث قال: ويثبت في جميع أقسام البيع كالسلف والنسيئة والمرئي والموصوف والصرف والتولية والمرابحة. وبالجملة: جميع ما يندرج تحت لفظ البيع ممّا لم يشترط فيه سقوطه عند كلّ مَن أثبت الخيار إلّا في صوَر وقع فيها الخلاف. ونحوه من دون تفاوت ما في تعليق الإرشاد(4).

ويدلّ عليه بعد الإجماع المنقول والمعلوم من اتّفاق الفتاوى عليه عموم أدلّته ولا سيّما صحيحة الحلبي: أيّما رجل اشترى من رجل بيعاً فهما بالخيار حتّى يفترقا(5)»(6).

ص: 209


1- تذكرة الفقهاء 11/12.
2- غنية النزوع /220.
3- تذكرة الفقهاء 11/9.
4- حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي وآثاره) 9/387.
5- المبسوط 2/78 و 83.
6- مفتاح الكرامة 14/127.

ولذا قال المحقّق: «خيار المجلس لا يثبت في شيءٍ من العقود عدا البيع»(1).

وقال الشهيد الثاني في ذيل قول المحقّق: «هذا ممّا لا خلاف فيه بين علمائنا. ويدلّ عليه قوله (صلی الله علیه و آله و سلم) في الحديث السابق: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»(2). والأصل في غيره اللزوم، ووجوب الوفاء بالعقد.

ونبّه بذلك على خلاف الشافعي(3) حيث أثبته فيما شابه البيع من عقود المعاوضات، كصلح المعاوضة، والاجارة، والمزارعة، والمساقاة على خلاف في ذلك عندهم.

وأمّا الشيخ(4) (رحمة الله) فأثبته في المبسوط في عقود جائزة مثل الوكالة، والمضاربة، والوديعة. وهو غير جيّد، لأنّ العقود الجائزة يصحّ فسخها في المجلس وبعده، فلا معنى لإثبات خيار المجلس فيها»(5).

وقال الأردبيلي: «واعلم أنّ الظاهر أنّ هذا الخيار مخصوص بالبيع عند الأصحاب»(6).

والوجه في اختصاص خيار المجلس بالبيع هو اختصاص دليله بالبيع، لما مرّ من أنه من الخيارات المجعولة بواسطة الشارع ودليله مختص بالبيع فلا يشمل غيره من العقود، وهذا واضح لامرّية فيه.

ص: 210


1- شرائع الإسلام 2/17: الأولىٰ.
2- راجع وسائل الشيعة 18/6، ح3، الباب 1 من أبواب الخيار؛ وكذا سنن ابن ماجه 2/736، باب البيّعان بالخيار ما لم يفترقا؛ وسنن أبي داود 3/272، باب خيار المتبايعين.
3- الاُم 3/4؛ مختصر المزني /75.
4- المبسوط 2/82.
5- مسالك الأفهام 3/211.
6- مجمع الفائدة والبرهان 8/388.
المسألة في كلمات الأصحاب

قال الفقيه المتتبع السيّد العاملي في ذيل قوله العلّامة: «(ويختص بالبيع) كما في الدروس(1) فلا يثبت في غيره إجماعاً كما في الغنية(2). وفي التذكرة(3) وتعليق الإرشاد(4) نسبته إلى علمائنا، ونحوه ما في مجمع البرهان(5). وفي المسالك(6) أنّه لا خلاف فيه بين علمائنا.

وفي الخلاف(7) الإجماع على أنّه لا يدخل في الوكالة والعارية والقراض والحوالة والوديعة. وقد منع عليه ذلك في المختلف(8) لأنّ ثبوت الخيار فيها على الدوام في المجلس وغيره يستلزم ثبوته في المجلس. وفيه: أنّ الممنوع خيار المجلس لا الخيار فيه، ولعلّ النزاع يعود لفظيّاً، فتأمّل.

وقد صرّح بالأمرين يعني اختصاصه بالبيع وعدم ثبوته في غيره في الشرائع(9) والنافع(10) والتحرير(11) والإرشاد(12) والمختلف(13) وقواعد الشهيد(14)

ص: 211


1- الدروس الشرعية 3/265.
2- غنية النزوع /220.
3- تذكرة الفقهاء 11/12.
4- حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي وآثاره) 9/388.
5- مجمع الفائدة والبرهان 8/(389-388).
6- مسالك الأفهام 3/211.
7- الخلاف 3/(14-13)، مسألة 12.
8- مختلف الشيعة 5/73.
9- شرائع الإسلام 2/23.
10- المختصر النافع /122.
11- تحرير الأحكام 2/283.
12- إرشاد الأذهان 1/374.
13- مختلف الشيعة 5/62.
14- القواعد والفوائد 2/246، قاعدة 243.

والتنقيح(1) والروضة(2) والكفاية(3) وغيرها(4). وفي المبسوط(5) والسرائر(6) كما حكي(7) عن القاضي أنّه يدخل في الوكالة والعارية والوديعة والجعالة والقراض.

وفيه: أنّ الخيار فيها عامّ لا يقبل السقوط، لأنّها عقود جائزة على الإطلاق فلا تأثير للمجلس.

وتأوّل كلامهم في الدروس(8) باحتمال إرادتهم منع التصرّف مع الخيار في المجلس، وهو غير صحيح، لأنّه لا يصحّ في الوديعة لامتناعه فيها مطلقاً ولا في غيرها، لوجود الإذن المسوّغ مطلقاً»(9).

منشأ طرح هذه المسألة

منشأ طرحها اختلاف كلمات الشيخ الطائفة في هذا المجال، لأنّه (قدس سره) «في غير موضع من المبسوط(10) صرّح باختصاص خيار المجلس بالبيع، وصرح في

ص: 212


1- التنقيح الرائع 2/43.
2- الروضة البهية 3/447.
3- كفاية الأحكام 1/469.
4- كمسالك الأفهام 3/211.
5- المبسوط2/82.
6- السرائر 2/246.
7- نقله عنه العلّامة في المختلف 5/72.
8- الدروس الشرعية 3/268.
9- مفتاح الكرامة 14/126.
10- قال في المبسوط 2/80: «وأما الحوالة فإذا حال لغيره بمال عليه وقبل المحتال الحوالة لم يدخله خيار المجلس؛ لأنه يختص البيع». وفي 2/82: «العتق لا يدخله الخياران معاً؛ لأن خيار المجلس يختص البيع وخيار الشرط يفسد العتق؛ لأن العتق بشرط لا يصح عندنا...».

الخلاف(1) بعدم جريانه في الوكالة، والعارية، والقراض، والجعالة، والوديعة، ولكنه في موضع آخر من المبسوط - بعد ذكر جملة من العقود التي يدخلها الخيار والتي لا يدخلها - قال: (وأما السبق والرماية فلا يدخلهما خيار المجلس، ولا يمتنع دخول خيار الشرط فيه. وأما الوكالة والعارية والوديعة والقراض(2) والجعالة فلا يمنع من دخول الخيارين معاً فيها مانع)(3)»(4).

وتبعه في جريان الخيارين - المجلس والشرط - القاضي ابن البراج(5) وابن إدريس(6).

ثمّ وُجَّه الأصحاب كلام الشيخ وأتباعه بتوجيهات:

التوجيه الأوّل: قال الشهيد: «... ويدفع باحتمال إرادتهم منع التصرف مع الخيار»(7).

وقال الشيخ الأعظم في بيان مراد الشهيد: «ولعلّ مراده التصرف المرخّص فيه شرعاً للقابل في هذه العقود لا الموجب، إذ لا معنى لتوقف جواز تصرف المالك في هذه العقود على انقضاء الخيار»(8).

ص: 213


1- الخلاف 3/(14-13)، مسألة 12: «الوكالة، والعارية، والقراض، والجعالة، والوديعة لا خيار فيها في المجلس، ولا يمتنع دخول خيار الشرط فيها. وقال الشافعي: لا يدخلها الخياران. دليلنا على الأوّل: الإجماع، فإنه لا اختلاف أنه لا يدخلها خيار المجلس».
2- أي المضاربة.
3- الدروس 3/268، وعبارته: «احتمال إرادتهم - الشيخ وابن إدريس والقاضي - منع التصرف مع الخيار».
4- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/225.
5- المهذب 1/356.
6- السرائر 2/246.
7- الدروس الشرعية 3/268.
8- المكاسب 5/47.

مراد الشيخ الأعظم: إنّ «الوكيل قبل انقضاء المجلس لا حق له في التصرف في مورد الوكالة، وعامل المضاربة قبل انقضاء المجلس لا حق له في التصرف في مال المضاربة، بخلاف الموجب كالموكِّل في الوكالة، فإن له الحق في التصرف بلا إشكال.

وكيف كان فتوجيه الشهيد (قدس سره) لا ربط له بكلام الشيخ الطوسي (قدس سره) ؛ فإن ما أفاده (قدس سره) هو جريان خيار الشرط والمجلس في هذه العقود، ولا ربط لهذا بالمنع من التصرف في زمان الخيار»(1).

التوجيه الثاني: قال الشيخ الأعظم: «والذي يخطر بالبال: أنّ مراده دخول الخيارين في هذه العقود إذا وقعت في ضمن عقد البيع، فتنفسخ بفسخه في المجلس؛ وهذا المعنى وإن كان بعيداً في نفسه إلّا أن ملاحظة كلام الشيخ في المقام يقرّ به إلى الذهن، وقد ذكر نظير ذلك في جريان الخيارين في الرهن والضمان(2)»(3).

مراده: «دخول الخيارين في هذه العقود إذا وقعت في ضمن عقد البيع بنحو شرط النتيجة، فتنفسخ بفسخه في المجلس، كما لو أنشأ البيع واشترط فيه أن يكون وكيلاً له، أو أن يكون هذا المال للمضاربة، أو أن يكون وديعة عنده، فتكون هذه العقود شروطاً في ضمن البيع، وحينئذ كما أن البيع ينحل بخيار المجلس فهي تنفسخ أيضاً بالتبع؛ لكونها بنحو شرط النتيجة في ضمن البيع، فعلى هذا التوجيه لا يدخل الخياران في عقد الوكالة والمضاربة والوديعة مباشرة، بل يدخلان فيها؛ لكونها شرطاً في ضمن البيع»(4).

نقد توجيه الشيخ الأعظم: هذا التوجيه «لا يتطابق مع كلام الشيخ

ص: 214


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/226.
2- راجع المبسوط 2/79؛ والسرائر 2/246.
3- المكاسب 5/48.
4- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/227.

الطوسي (قدس سره) ؛ لأنه صرّح بعدم المانع من دخول خيار المجلس والشرط في هذه العقود، وهو ظاهر في جريانهما فيها نفسها بالمباشرة لا بالتبع، ومقتضى هذا التوجيه أن خيار المجلس أو الشرط دخل في البيع، وبما أن هذه العقود أخذت في ضمنه بنحو شرط النتيجة فهي تنفسخ تبعاً لفسخه، فلم يتعلق الخيار بها نفسها، فلم يتعلق الفسخ بالوكالة التي في ضمن البيع، أو بالمضاربة التي في ضمنه، بل تعلّق بالبيع، وهي انفسخت بانفساخه، مثل سائر الشروط المأخوذة في ضمن العقود الجائزة بالذات، أو اللازمة إذا أخذ فيها شرط؛ فإن الشرط ينتفي تبعاً لانتفاء العقد نفسه»(1).

التوجيه الثالث: قال ابن ادريس: «وأمّا الوكالة والعارية والوديعة والقراض(2) والجعالة فلا يمنع من دخول الخيارين فيها مانع، لأنّ هذه العقود جائزة من جهة المتعاقدين غير لازمة فمن أراد الفسخ فسخ»(3).

وقال الشيخ الأعظم في هامش بعض نسخ المكاسب: «وصرّح في السرائر بدخول الخيارين في هذه العقود لأنّها جائزة فيجوز الفسخ في كل وقت، وهو محتمل كلام الشيخ، فتأمل»(4).

وجه تأمل الشيخ الأعظم: يرجع إلى أمرين:

الأوّل: «لو كان مراد الشيخ (قدس سره) هو ما ذكره ابن إدريس (قدس سره) لما كان لاختصاص هذين الخيارين بهذه العقود الخمسة الجائزة وجه، بل يجريان في كل عقد جائز بالذات.

الثاني: فلأنه لو كان الخيار يجري في هذه العقود لكونها جائزة فلابدّ أن يستمر الخيار إلى الأبد؛ لاستمرار منشأه وهو جوازها إلى الأبد، ولا معنى لتحديد الخيار

ص: 215


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/227.
2- في المصدر: القرض.
3- السرائر 2/246.
4- المكاسب 5/48، هامش (2).

بغاية التفرق أو بانتهاء زمان الشرط»(1).

التحقيق في المسألة

جريان خيار المجلس في العقود المذكورة في كلام الشيخ والقاضي وابن ادريس، وغيرها من العقود الجائزة محلّ إشكال بل منع في مقامي الثبوت والاثبات:

«أمّا الاشكال الثبوتي: فلأنّ العقود الجائزة جائزة بالذات، فيجوز فيها الفسخ بالذات، فجعل الخيار فيها معناه تحصيل - ما هو حاصل بالذات - بالغرض، وهو من أردأ أنواع تحصيل الحاصل، فبما أن الوكالة جائزة بالذات ويجوز لكل من الوكيل والموكِّل الفسخ في كل وقت، فجعل الخيار فيها غير معقول، وكذا العقود الباقية التي ذكرها الشيخ (قدس سره).

وبعبارة أخرى: إنه تقدم مفصلاً أن في معنى الخيار مبنيين: ملك فسخ العقد، وملك فسخه وإبرامه، فبناء على أنه ملك فسخ العقد، فبما أن العقد جائز، ولكل من الطرفين السلطنة على فسخه، فجعل هذه السلطنة على الفسخ تحصيل للحاصل، سواء أكان الجاعل الشارع كما في خيار المجلس، أو المتعاقدين كما في خيار الشرط، فكل من الخيارين باطل في العقود الجائزة»(2).

«وأمّا الإشكال الإثباتي: فلأنّ الموضوع في جميع أدلة خيار المجلس «البيّعان»، فتسرية الخيار إلى هذه العقود تسرية للحكم من موضوع إلى موضوع آخر، وهو باطل.

وأما عنوان «التاجر» الوارد في [صحيحة] عمر بن يزيد(3) المتقدمة فلا يفيد التعميم في المقام لغير البيع؛ لأن عنوان التجارة وإن أطلق في كلمات الفقهاء على مطلق

ص: 216


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/228.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/228.
3- وسائل الشيعة 18/7، ح6.

التكسب، ولكنه فسّر في بعض كلمات الأئمة (علیهم السلام) بالبيع والشراء(1)، والمراد به في روايات الخيار على نحو الخصوص هو البيعان؛ لأن لسان الروايات بصدد بيان مجعول واحد.

وأما بالنسبة إلى العقود اللازمة فلا محذور ثبوتياً في البين، وإنما المحذور إثباتي؛ لأن الموضوع «البيّعان»، وهو لا يصدق على الإجارة والصلح وأمثالهما.

نعم، بالنسبة إلى الصلح ذهب بعض الأعاظم إلى التفصيل فيه؛ فإنه إن كان صلحاً على المال بعوض - كأن يقول: صالحتك هذه بهذا، فالباء للمقابلة بين العوضين - فلجريان خيار المجلس فيه وجه؛ لتضمنه تمليك عين بعوض فهو يتضمن البيع، وإن كان المال في قبال الصلح نفسه لا في قبال العوض - كأن يقول: صالحتك بهذا المال - فلا وجه للخيار فيه.(2)

ولكن يرد عليه: أن هذا التفصيل يصح لو قلنا بأن حقيقة الصلح تختلف باختلاف الموارد التي يجري فيها، فهي عين المعاملات التي يؤدي معناها، فالصلح على المال بعوض بيع، وعلى المنفعة بعوض إجارة، وعلى الانتفاع بالعين عارية وهكذا؛ فإنه بناء على هذا يكون الصلح على المال بعوض صلحاً في الصورة ولكنه بيع في اللب والواقع، ولكن هذا المبنى باطل؛ فإن حقيقة الصلح هي إنشاء التسالم، وهذا الإنشاء يختلف من حيث الجوهر عن إنشاء تمليك عين بمال، أو إنشاء التبديل في طرفي الإضافة. نعم، من حيث النتيجة يتفق مع البيع إذا كان الصلح على المال بعوض، ومع الإجارة إذا كان على المنفعة بعوض، وعندما تكون حقيقة الصلح إنشاء التسالم مفهوماً فهو يختلف عن البيع دليلاً أيضاً، فلا وجه لجعل «البيّعان» شاملاً له إذا كان الصلح

ص: 217


1- يمكن استفادة ذلك من روايات متعددة [واردة في الباب 2 من أبواب مقدمات التجارة من كتاب وسائل الشيعة 17/13 فراجعها].
2- الخيارات لآيةالله الشيخ محمّدعلي الأراكي /42.

على المال بعوض.

فتحصل إلى هنا: عدم جريان خيار المجلس في غير البيع من العقود الجائزة واللازمة حتّى في الصلح على المال بالعوض»(1).

هذا تمام الكلام في هذه المسألة والحمد لله.

ص: 218


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(233-231).
المسألة الخامسة: مبدأ خيار المجلس
اشارة

قال الشيخ الأعظم: «مبدأ هذا الخيار من حين العقد لأنّ ظاهر النص كون البيع علّةً تامّةً»(1).

مراده من النص قوله (علیه السلام) : «البيّعان بالخيار»(2) ومراده من العلّة التامة هو الموضوع التام للحكم لا العلّة في مصطح الفلسفي، فيكون مبداء خيار المجلس من حين وقوع عقد البيع.

مبدأ خيار المجلس في بيع الصرف والسلم
اشارة

إنّما الإشكال في بيع الصرف لاشتراط التقابض فيه، وفي بيع السلم لاشتراط اقباض الثمن فيه في المجلس وإلّا لم تحصل الملكية بل يبطل البيع لو تفرّقا قبل التقابض أو الإقباض.

فحينئذ فهل يثبت الخيار عند تحقق العقد قبل القبض أم لا؟ «والوجه في التوقف - بعد الفراغ عن أنّ تحقق القبض شرط في حصول الملك وأنه بدونه لا ملك -

ص: 219


1- المكاسب 5/49.
2- وسائل الشيعة 18/5 و 6، ح1 و 2و 3، صحاح محمّد بن مسلم وزرارة وفضيل.

أمران:

أحدهما: أن موضوع الخيار ليس هو العقد، بل هو البيع، فما دام لم يتحقق البيع لا ثبوت للخيار، ولما كان واقع البيع هو التمليك والتملك فمع عدمه لابيع، فإذا فرض أن الشارع اعتبر القبض في حصول الملك في بيع الصرف والسلم فقبل القبض لا ملك شرعاً فلا بيع شرعاً، فلا تثبت آثار البيع التي رتبها الشارع عليه. نعم لو كان الموضوع هو العقد ثبت الخيار حينه لتحققه قبل القبض.

ولا دافع لهذا الاشكال، إلّا بأن يقال: بأن الموضوع الشرعي للخيار هو البيع بمصداقه العرفي لانه مفهوم عرفي يتبع فيه العرف، كسائر المفاهيم المأخوذة في الموضوعات. ولا إشكال في صدق البيع عرفاً عند تحقق العقد وقبل القبض فيثبت الخيار حينئذٍ.

ولم يتعرض [الشيخ الأعظم لهذه الجهة] الأولى مع أنه كان اللازم التعرض لذلك وبيان أن الصرف والسلم قبل القبض بيع أو لا؟ لا أخذه مفروغا عنه وجعل الإشكال من جهة اللغوية فقط.

وعلى كل، فبعد الفراغ عن أن الصرف والسلم بيع قبل القبض يقع الكلام في الأمر الثاني من الإشكال.

الثاني: أن الخيار قبل القبض لغو لا أثر له لفرض ثبوت سلطنة كل من المتعاقدين على ملكه لعدم القبض الذي هو شرط في الملكية.

وقد ذكر الشيخ في مقام دفعه وجهين:

الوجه الأوّل: أنه لو قلنا بوجوب التقابض تكليفاً كان أثر الخيار رفع هذا الوجوب، إذ بالفسخ لا موضوع لوجوب التقابض. وقد وُجّه وجوب التقابض بوجهين:

ص: 220

أحدهما: ما عن التذكرة(1) من أنه مع عدم التقابض يلزم الربا.

الثاني: قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ وهو ما ذكره الشيخ (قدس سره).(2)

أما ما ذكره العلّامة من لزوم الربا، فقد وجّه - التوجيه والمناقشات للسيّد الطباطبائي(3) (رحمة الله) مع بعض توضيح منا - : بأنّ عدم التقابض مستلزم لكونه كبيع الجنس الربوي بمثله نسيئة وهو معدود من الربا لأن التعجيل يعد زيادة في أحد العوضين.

ونوقش أوّلاً: بأنه إنما يتم في صورة كون العوضين من جنس واحد ككونهما ذهباً أو فضة، ولا يتم مع اختلاف الجنس كبيع الذهب بالفضة.

وثانياً: أن مجرد عدم التقابض بلا أخذ التأخير في العقد لا يستلزم إجراء حكم النسيئة عليه، إذ مع عدم أخذه في العقد لا يكون التأخير نقصاً في أخذ العوضين كما لا يخفى.

وثالثاً: أن عدم التقابض في المجلس يوجب بطلان العقد فلا موضوع للربا كما هو واضح. إذن فما ذكره العلّامة لا يمكن الالتزام به.

وأما ما ذكره الشيخ (قدس سره) من استفادة وجوب التقابض من الأمر بالوفاء بالعقود فقد استشكل فيه السيّد الطباطبائي(4) (رحمة الله) بأنه لا معنى للوفاء بالعقد إلّا ترتيب الأثر والمفروض أن ذلك غير حاصل إلّا بعد التقابض لأنّه شرط في صحة العقد فما لم يتحقق لا يتم العقد.

أقول: إن كان المراد من الوفاء بالعقد هو العمل بمقتضى العقد كان لما ذكره

ص: 221


1- تذكرة الفقهاء 10/416.
2- المكاسب 5/49.
3- حاشية المكاسب 2/397.
4- حاشية المكاسب 2/398.

[السيّد الطباطبائي] وجه لعدم حصول الملكية قبل القبض، فلا يجب التقابض إذ لا ملك. وأما إن كان المراد من الوفاء بالعقد ما يساوق إتمامه وجعله باقياً الراجع إلى عدم جواز نقضه والاخلال به، كان ما ذكره الشيخ (قدس سره) صحيحاً، إذ يجب التقابض ليتم العقد ولا ينتقض. ولكن تقدم أن حمل الآية على وجوب اتمام العقد وعدم نقضه ينافي قيام الضرورة الفقهية على جواز الاقالة والفسخ، فلا يمكن الالتزام باستفادة الوجوب التكليفي منها بل إما أن يلتزم بتكفلها للحكم الوضعي وبيان صحة العقد أو بتكفلها للأمر بترتيب آثار العقد. وقد مرّ ايضاح الكلام في مدلولها في البحث عن أصالة اللزوم، فراجع.

وتحصل مما ذكرنا: أن الوجه الأوّل لتصحيح ثبوت الخيار في الصرف والسلم قبل القبض غير تام.

الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ(1) (قدس سره) بعد التنزل عن القول بوجوب التقابض، وهو أن أثر الخيار هو إخلال الفسخ بالصحة التأهلية الثابتة للعقد قبل القبض، فإن العقد مؤثر لو لحقه القبض، فإذا ثبت فيه الخيار كان الفسخ مؤثراً في رفع هذه الصحة التأهلية بخلاف ما لو لم يثبت الخيار وهذا المقدار من الأثر كافٍ في تصحيح جعل الخيار.

وهذا الوجه لا إشكال فيه، فيتعين عليه الالتزام بكون مبدأ الخيار في الصرف والسلم هو حين العقد»(2).

أقول: الوجه الثاني تام بناءً على تمامية الصحة التأهلية، أمّا إن أنكرنا الصحة التأهلية في المقام وغيره كما هو الصحيح وقلنا بعدم وجود شيءٍ باسمها وأنّها وجود

ص: 222


1- المكاسب 5/49.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(107-105).

فرضي وهمي خياليّ عند قوم وأمّا ما حكم الشارع به ليس إلّا الصحيح أو الفاسد وليس بينهما برزخٌ عنده سُمي بالصحة التأهلية فجعل خيار المجلس بعد العقد في البيعين - الصرف والسلم - وقبل التقابض والإقباض لغو، والأمور الاعتبارية لا يجري في مجرى اللغوية.

فلا يمكن القول بجريان خيار المجلس فيهما بعد العقد، نعم يجري فيهما بعد التقابض والإقباض من دون إشكال، والأمر في مقام الأثبات أوضح.

والوجه في ذلكك «إنّ الروايات الدالّة على خيار المجلس بل وخيار الحيوان أيضاً إنما دلّت على ثبوتهما للبيّعان، وهذا العنوان إنما يثبت للمتعاقدين في الصرف والسلم بعد حصول التقابض، وأما قبله فلا بيع في البين فلا يصدق عليهما البيّعان، هذا أوّلاً.

وثانياً: أنّ مورد هذا الخيار بحسب الروايات هو ما يكون صحيحاً في حدّ نفسه بحيث لو افترقا لزم البيع، وليس الأمر في المقام كذلك لأنّهما لو افترقا بطل البيع في الصرف والسلم فلا تكون صحة المعاملة مفروغاً عنها، ومعه لا يثبت فيها الخيار لما عرفت من أنّ مورده هو البيع الصحيح الذي لو افترقا عن مجلس البيع لزم لا أنّهما لو افترقا بطل»(1).

وبعبارة أخرى: «أنّ موضوع لخيار المجلس أو غيره من الخيارات الشرعية ليس مجرد البيع العرفي، بل البيع الممضى لظهور أدلتها عرفاً في أن الخيار حكم للبيع الممضى، نظير ما دل على مشروعيه الإقالة في كل بيع.

ولسنا ندّعي ظهور البيع في الممضى في كل خطاب حتّى في مثل قوله سبحانه:

ص: 223


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/92.

﴿وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾(1)، بل المدعى في المقام الظهور الناشئ عن مناسبة الحكم والموضوع.

وعلى ذلك فما دلّ على اعتبار القبض في السلم أو التقابض في الصرف يوجب دخول البيع فيهما في خطاب الخيار من حين القبض والتقابض، من غير أن يكون تخصيص أو تقييد في البين»(2).

فرع: مبدأ خيار المجلس للمالكين الحاضرين في مجلس العقد

قال الشيخ الأعظم: «وممّا ذكرنا يظهر الوجه في كون مبدأ الخيار للمالكين الحاضرين في مجلس عقد الفضوليّين - على القول بثبوت الخيار لهما - من زمان إجازتهما على القول بالنقل، وكذا على الكشف، مع احتمال كونه من زمان العقد»(3).

«والمقصود من هذه العبارة: أن ثبوت الخيار للمالك على القول بالنقل من حين الاجازة إذ قبل الاجازة لم يتحقق أي شيء منه يستند إليه. وأما على الكشف فقد يحتمل أنه من حين العقد لكشف الاجازة عن سبق التمليك والتملك. ولكن هذا الاحتمال لا يتأتى في الصرف مما يتوقف فيه الملك على القبض، إذ لا يحتمل أن تكون الاجازة كاشفة عن تحقق الملك من حين العقد مادام لم يتحقق القبض. إذن فلا مجال للالتزام بالكشف في هذا الباب، وعليه فيكون مبدأ ثبوت الخيار للمالك المجيز من حين الاجازة.

فمقصود الشيخ (قدس سره) هو التنبيه على أن مبدأ الخيار للمالك في بيع الفضولي في باب الصرف هو حين الاجازة سواء قيل بأن الاجازة كاشفة أو ناقلة، وإن اختلف

ص: 224


1- سورة البقرة /275.
2- إرشاد الطالب 5/350.
3- المكاسب 5/50.

الحال في غير هذا الباب بالنسبة إلى القولين كما أشرنا إليه.

ووجه ظهوره مما سبق هو ما تقدم منه من أن الملك في باب الصرف لا يتحقق قبل القبض، ومعه لا يتصور تحقق الملك السابق بالاجازة لو قيل إنها كاشفة.

إلّا أن يقال: إن ثبوت الخيار ليس من آثار الملك، بل هو أثر يترتب على العقد في عرض ترتب الملك لا في طوله، فإذا امتنع ترتب الملك على العقد من حينه بالاجازة في باب الصرف، فلا وجه لعدم ترتيب الخيار على العقد، فيلتزم بترتب ثبوت الخيار من حين العقد على الكشف، لأن الكشف لا يتمحض بالالتزام بترتب خصوص الملك من حين العقد حتّى إذا امتنع ترتبه في صورة امتنع الكشف فيها بل هو عبارة عن الالتزام بترتيب آثار العقد الصحيح من حين العقد وكون العقد مؤثراً فيها من حين وقوعه. ومن الواضح أن امتناع ترتيب أحد الأثرين لا يمنع من ترتيب الأثر الآخر. وإلى هذا أشار الشيخ بقوله: «مع احتمال كونه من زمان العقد»»(1). هذكلّه بناءً على مختار الشيخ الأعظم (قدس سره).

ولكن بناءً على مختارنا من ابتداء الخيار بعد التقابض يتم مقالة الشيخ الأعظم إذا كانت الاجازة بعد التقابض وأمّا إذا كانت قبله فمبدأ الخيار بعد التقابض الذي يلى الإجازة ببيان وشرح مرّ منّا ولا نعيده والله العالم.

ص: 225


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/109.
مسقطات الخيار
اشارة

قال العلّامة: «مسقطات خيار المجلس أربعة:

أ: اشتراط سقوطه في متن العقد.

ب: الافتراق

ج: التخاير

د: التصرّف»(1).

فيقع البحث في مسائل:

ص: 226


1- تذكرة الفقهاء 11/20، مسألة 228.
1- مسألةٌ في الاشتراط
اشارة

«كأن يقول البائع بعتك بشرط أن لا يثبت بيننا خيار، فيقول المشتري: قبلت، بدليل الإجماع كما في الغينة(1). وفي مجمع البرهان(2) لعلّه ممّا لاخلاف فيه. وقد نفى الخلاف في الرياض(3) والحدائق(4) عنه وعن سقوطه بالنسبة إلى أحدهما إذا شرط هو سقوطه. وهو كذلك إذ لم أجد فيه مخالفاً. وقد يستفاد الإجماع من التذكرة(5) من مبحث خيار الحيوان.

وقيّد اشتراط السقوط بكونه في العقد في المبسوط(6) وما تأخّر عنه ممّا صرّح(7) فيه به أو ظهر ذلك منه(8)، خلافاً للخلاف والجواهر...»(9).

ص: 227


1- غنية النزوع /217.
2- مجمع الفائدة والبرهان 8/386.
3- رياض المسائل 8/178.
4- الحدائق الناضرة 19/7.
5- تذكرة الفقهاء 11/35.
6- المبسوط 2/78 و 83.
7- كابن البرّاج في المهذّب 1/353، والطباطبائي في الرياض 8/(179-178).
8- كابن سعيد الحلّي في الجامع للشرائع /247.
9- مفتاح الكرامة 14/128.

«وقال الشيخ في الخلاف(1) إذا شرطا قبل العقد أن لا يثبت بينهما خيار بعد العقد صحّ الشرط ولزم العقد بنفس الإيجاب والقبول. دليلنا أنّه لا مانع من هذا الشرط، والأصل جوازه وعموم الأخبار في جواز الشرط تتناول هذا الموضع. ونحوه ما حكي عن الجواهر(2) وهو شاذّ، لإطباقهم على خلافه ولإطلاق النصّ المثبت للخيار إلّا أن تقول: إنّه بحكم التبادر مختصّ بغير محلّ الفرض»(3).

استدلّ الشيخ الأعظم(4) لإثبات هذا الاشتراط بوجوه ثلاثة:

1- الإجماع

الإجماع الوارد في كلمات القوم كما مرّ. مضافاً إلى «الإجماع» المدعىٰ في كلام خالنا شارح الخيارات(5) و «بلاخلاف أجده فيه» في كلام صاحب الجواهر(6).

ويرد عليه: أنّه مدركيٌّ لا يفني ولا يسمن من جوع.

2- الكتاب

استدل الشيخ الأعظم(7) بقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(8).

بتقريب: «إنّ الشرط في ضمن العقد جزء منه؛ فإن العقد عنوان ينطبق على الإيجاب والقبول والالتزامات التي في ضمنه، ومقتضى الآية وجوب الوفاء بالعقد

ص: 228


1- الخلاف 3/21، مسألة 28.
2- جواهر الفقه /54، مسألة 195.
3- مفتاح الكرامة 14/129.
4- المكاسب 5/51.
5- شرح خيارات اللمعة /17 للشيخ على نجل الشيخ جعفر كاشف الغطاء.
6- الجواهر 24/18(23/11).
7- المكاسب 5/52.
8- سورة المائدة /1.

بجميع أجزائه التي منها اشتراط سقوط الخيار، بلا فرق بين كون الأمر في الآية إرشاداً إلى اللزوم، وبين كونه تكليفاً بالوفاء بالعقد، إلّا أنها - على القول بالإرشاد - تدل على لزوم الشرط بالمطابقة، وعلى القول بالحكم التكليفي تدل عليه بالملازمة؛ فإن الحكم بوجوب الوفاء بالعقد وما يتظمنه تكليفاً بنحو مطلق ملازم للزوم العقد وما يتضمنه، فيكون الشرط محكوماً بحكمين: وجوب العمل به تكليفاً، ونفوذه وضعاً.(1)

وأورد عليه الشيخ (قدس سره) : بأن الدليل الخيار أخص من الآية فيخصَّص به عمومها؛ فإن المستفاد من الآية نفوذ الشرط ولزومه سواء أكان العقد مشتملاً على الخيار أم لا، وسواء أكان العقد عقد بيع أم غيره، و «البيّعان بالخيار» - وإن كان مطلقاً من جهة ثبوت الخيار في البيع، سواء أشترط في ضمنه سقوط الخيار أم لا - إلّا أنه أخص من جهة اختصاصه بالبيع، فيتعارض الدليلان؛ حيث إن نتيجة إطلاق الآية نفوذ الشرط، ونتيجة إطلاق الدليل عدم نفوذه، وإطلاق الخاص مقدم على العام(2)»(3).

بعبارة أُخرى: «قد دفع الشيخ(4) (قدس سره) دعوى المعارضة بين العمومين - أعني عموم نفوذ الشروط وعموم الخيار - بأن نسبة عموم نفوذ الشرط إلى دليل الخيار نسبة الدليل المتكفل للحكم بالعنوان الثانوي إلى الدليل المتكفل للحكم بالعنوان الأولي، فدليل الخيار إنما يتكفل ثبوت الخيار بحسب ذات العقد بلا ملاحظة طرو عنوان ثانوي عليه كعنوان الاشتراط، فلا يتنافى مع دليل نفوذ الشرط، نظير عدم منافاة دليل وجوب الوفاء بالنذر لدليل حكم المنذور في حد نفسه لولا النذر.

ص: 229


1- استدل به وبما قبله وبما بعده صاحب الجواهر 23/(12-11).
2- المكاسب 5/52.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/270.
4- المكاسب /220، الطبعة الأولى.

وبالجملة، دليل الشروط حاكم على دليل الخيار، كحكومة كل دليل ثانوي على الدليل الأولي»(1).

3- السنة

تمسك الشيخ الأعظم (قدس سره) على سقوط الخيار بالاشتراط بعموم الحديث المستفيض: «المؤمنون - أو المسلمون - عند شروطهم»(2).

بتقريب: مفقود في كلام الشيخ الأعظم ولعلّه أوكله إلى أهله وهو يتوقف إلى تمامية المقتضي وعدم المانع.

أمّا المقتضي: فلأن اطلاق الحديث المستفيض يشمل شرطي الفعل والنتيجة، والأوّل كأن يكون الشرط في البيع إسقاط الخيار، والثاني كأن يكون الشرط سقوط الخيار، والأوّل داخل في الاطلاق بلا إشكال والثاني محلّ خلاف فلابدّ من اثبات اطلاق الحديث للثاني.

وأمّا عدم المانع: فقد يقال بوجود المانع في المقام وهو المعارضة بين دليلي الشرط والخيار لأنّ «النسبة بينهما نسبة العموم من وجه؛ حيث ينفرد الأوّل في الشرط في ضمن عقد غير البيع، وينفرد الثاني في البيع بدون شرط، ويجتمعان في البيع المشروط بسقوط الخيار، فيتعارضان فيه؛ فإن مقتضى دليل الخيار بطلان الشرط، ومقتضى دليل الشرط صحته، وعند التعارض ينبغي أن يقع البحث في وجود المرجحات وعدمها، فيأتي الإشكال من جهة أن دليل المرجحات هل يشمل التعارض بالتباين وبالعموم من وجه، أو ينحصر في خصوص ما إذا كان بين الدليلين تعارض بالتباين؟

ص: 230


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/111.
2- وسائل الشيعة 21/276، ح4، موثقة منصور بزرج، الباب 20 من أبواب المهور و 18/16، ح1 و 2، صحيحتي عبدالله بن سنان الباب 6 من أبواب الخيار و 18/17، ح5، حسنة إسحاق بن عمار و 26/55، ح1، الباب 21 من أبواب موانع الإرث، صحيحة محمّد بن مسلم.

فإن قلنا بأن أدلة المرجحات لا تشمل التعارض بالعموم من وجه [كما هو الصحيح والمختار عندنا] ففي هذه الحالة يسقط الدليلان وتصل النوبة إلى [العام الفوق إن وجد وإلّا] الأصل العملي فيبحث لتشخيصه [وكلاهما موجودان وهو قوله تعالى ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ وأصالة اللزوم في البيع وتدلان على سقوط الخيار بالاشتراط].

وإن قلنا بشمولها لمورد العموم من وجه فلابد من البحث عن وجود المرجح لأحد الطرفين وعدمه»(1).

التوضيح حول ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) في المقام

يقع التوضيح في جهات ثلاث:

«الجهة الأولى: في عدم المرجح: فقد ذهب (قدس سره) إلى فقدان المرجح على فرض التعارض، أما فقد المرجح السندي؛ فلأن في كلا الطرفين روايات صحيحة سنداً ومستفيضة عدداً، فلا رجحان لأحدهما على الآخر من هذه الجهة.

كما لا رجحان من جهة الدلالة، وأما موافقة دليل الشرط لعمل الأصحاب - كما يشهد به نفي الخلاف عن سقوط هذا الخيار باشتراط سقوطه وإجماع الغنية - فإنما يكون مرجحاً إذا كشف عن قرائن أوجبت ذلك، وأما مع عدم استكشاف أمر زائد على محل النزاع فلا يكون مرجحاً وإلّا لزم الدور.

بيان ذلك: أن مستند الأصحاب لنفوذ شرط سقوط الخيار منحصر في عموم «المؤمنون عند شروطهم» كما يظهر من كتبهم، فيكون عملهم منتهياً إليه لا إلى شيء آخر، والمفروض أنه مبتلى بالمعارض، ومقتضى القاعدة التساقط، فترجيحه بعمل الأصحاب دوري؛ لأن عملهم كان متوقفاً على الحديث، فصار الحديث موقوفاً على عملهم.

ص: 231


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/272.

الجهة الثانية: في عدم المعارضة بين الدليلين من أصل؛ وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: أن أدلة الخيار لا تصلح لمعارضة دليل الشروط؛ لأنها مسوقة لبيان ثبوت الخيار في أصل الشرع، فلا تنافي سقوطه بالمسقط الخارجي وهو الشرط، وإن كان بين الدليلين عموم من وجه، فالمقام نظير دليل إباحة شرب الماء ودليل حرمة الغصب؛ فإنه لا معارضة بينهما مع أن النسبة بينهما نسبة العموم من وجه؛ إذ الماء يكون مغصوباً وغير مغصوب، والمغصوب يكون ماء وغير ماء، ولكن دليل حلية شرب الماء ناظر إلى الماء في نفسه وبغض النظر عن العناوين الطارئة عليه، فلا يتكفل لحالة الاجتماع، فلا يتنافى مع كونه حراماً لكونه مغصوباً.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإن دليل الخيار يثبت الخيار للبيع في نفسه بغض النظر عن العناوين الطارئة كاشتراط سقوطه، فلا ينافي سقوط الخيار بواسطة الشرط.

الوجه الثاني: أن التعارض في العامين من وجه إنما يستقر لو لم يكن أحدهما حاكماً على الآخر، وأما مع حكومته عليه فلا تعارض بينهما أصلاً، ودليل الشروط حاكم على دليل الخيار، وذلك لأمرين: أحدهما داخلي والآخر خارجي:

أما [الداخلي] فهو: أن التأمل في دليل الشرط يقضي بإن وزانه بالنسبة إلى دليل الخيار والأدلة الأولية وزان دليل وجوب الوفاء بالنذر والعهد بالنسبة إلى الأدلة الأولية، فكما أنه لا تعارض بين الأدلة الأولية الحاكمة بالإباحة وبين دليل وجوب الوفاء بالنذر والعهد؛ لأن عنوان النذر والعهد مغير للحكم الواقعي وناظر إليه، فكذلك لا تعارض بين أدلة الأحكام الأولية وأدلة الشروط، وأحد الأحكام الأولية خيار المجلس.

فنسبة «المؤمنون عند شروطهم» إلى «البيّعان بالخيار» نسبة «لا ضرر» و «لا حرج» إلى الأدلة الأولية.

وأما [الخارجي]: فاستشهاد الإمام (علیه السلام) في كثير من الأخبار بهذا العموم على

ص: 232

مخالفة كثير من الأحكام الأولية؛ فإن معناه تقديم دليل الشرط على أدلة الأحكام الأولية.

منها: صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: سألته عن رجل كان له أب مملوك، وكانت لأبيه امرأة مكاتبة قد أدَّت بعض ما عليها، فقال لها ابن العبد: هل لك أن أعينك في مكاتبتك حتّى تؤدي ما عليك بشرط أن لا يكون لك الخيار على أبي إذا أنت ملكت نفسك؟ قالت: نعم، فأعطاها في مكاتبتها على أن لا يكون لها الخيار عليه بعد ذلك، قال: «لا يكون لها الخيار، المسلمون عند شروطهم»(1).

فإن مقتضى الحكم الأولي هو أن للزوجة - إذا صارت حرة - الخيار في فسخ زوجيتها من زوجها العبد، ولكن لما اشترط ابن الزوج أن لا يكون لها الخيار على أبيه إن هو أعانها على أداء مال المكاتبة قال الإمام (علیه السلام) : «لا يكون لها الخيار»، واستشهد بدليل الشروط «المسلمون عند شروطهم»، وهذا يعني أنه حاكم على أدلة الأحكام الأولية.

فتحصل إلى هنا: أن مقتضى الدليل الداخلي والخارجي حكومة دليل الشروط على دليل الخيار، فلا تعارض بينهما.

الجهة الثالثة: في دفع الموانع عن مختاره، فقد تعرض الشيخ [الأعظم](2) (قدس سره) إلى دفع الموانع عنه وهي ثلاثة إشكالات.

الإشكال الأوّل: أن الشرط الذي يجب الوفاء به هو الشرط في ضمن عقد لازم، وأما الشرط في ضمن عقد جائز فليس بلازم؛ لأن الشرط من توابع العقد؛ فإنه التزام في ضمن التزام آخر، والفرع لا يزيد على أصله، فإذا كان الأصل جائزاً فالفرع

ص: 233


1- وسائل الشيعة 23/155، ح1، الباب 11 من أبواب المكاتبة.
2- المكاسب 5/54 و 55.

مثله، وقد قلنا سابقاً: بأن ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ تشمل العقد ومتعلقاته، والشرط في ما نحن فيه شرط في ضمن عقد جائز؛ لأن المراد من العقد الجائز أعم من الجائز بالذات كالهبة، والجائز بالعرض كالبيع الخياري، والبيع في الفرض خياري؛ لأنه لولا شرط سقوط الخيار لكان لهما خيار المجلس، فشرط السقوط شرط في ضمن عقد جائز فلا يجب الوفاء به.

ولو أريد أن يكون هذا العقد الجائز لازماً فلا طريق له إلّا هذا الشرط، فبشرط سقوطا لخيار يتحوّل أو يخرج هذا البيع الخياري من كونه خيارياً إلى كونه لازماً، فيلزم الدور؛ لإن لزوم الشرط يتوقف على لزوم العقد، فإذا توقف لزوم العقد على لزوم شرط سقوط الخيار لزم الدور المحال»(1).

أجاب الشيخ الأعظم عنه: «أن الشروط الخارجة عن عموم «المؤمنون عند شروطهم» قسمان، أحدهما: الشروط الابتدائية غير المرتبطة بالتزام آخر وحالها حال الوعد، وهي خارجة تخصصاً؛ لأن معنى الشرط هو الالتزام في ضمن التزام آخر، و [هي] لم تشترط في ضمن التزام آخر حسب الفرض.

والآیر: الشروط غير الابتدائية في ضمن عقد جائز، بشرط جواز ذلك العقد بقاء، كالشرط في ضمن عقد المضاربة والوديعة والعارية؛ فإن هذا الشرط تابع، والمتبوع جائز حتّى بعد الشرط، فيكون الشرط جائزاً بالتبع؛ لأن الحكم بلزومه مع فرض جواز العقد المشروط به مما لايجتمعان؛ لأن الشرط تابع وكالتقييد للعقد المشروط به.

وأما ما نحن فيه فالشرط شرط سقوط الخيار، ولزوم العقد يحصل بنفس هذا الشرط، بمعنى أن نفس مؤدى الشرط لزوم ذلك العقد المشروط به، لا التزام آخر

ص: 234


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(276-272).

مغاير لالتزام أصل العقد، فلزومه الثابت بمقتضى عموم وجوب الوفاء بالشرط عين لزوم العقد، فلا يلزم التفكيك بين التابع والمتبوع في اللزوم والجواز، ومنه يظهر الجواب عن الدور أيضاً؛ لأن لزوم الشرط ليس بالعقد، بل بمقضى عموم وجوب الوفاء بالشرط»(1).

«الإشكال الثاني: أن هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد، وهذا ما يحتاج إلى توضيح؛ فإن لمقتضى العقد اصطلاحين:

أولهما: ذات المُنْشَأ، فيجب أن لا يكون الشرط مخالفاً لذات المنشأ كأن يقول: بعتك الكتاب بشرط عدم الثمن، فهذا الشرط مخالف لمقتضى العقد، أي مخالف لذات المنشأ وهو البيع؛ لأن البيع تمليك عين بعوض.

ثانيهما: ما يقتضيه العقد ويترتب عليه من الأحكام والآثار.

والمراد به في المقام الاصطلاح الثاني لا الأوّل؛ فإن شرط عدم الخيار ليس مخالفاً لذات العقد، وإنما هو مخالف لما يقتضيه العقد من الأحكام؛ فإن من أحكام البيع خيار المجلس، فشرط عدمه مخالف لهذا الحكم، ويرجع لباً إلى الشرط المخالف للسنة فيكون باطلاً»(2).

وأجاب عنه جوابين تنزلاً لافراراً ولم يرجع عن مبناه - كما ذهب إليه المحقّق الإيرواني(3)- وكيف كان:

«الجواب الأوّل للشيخ (قدس سره) : أن دليل «البيّعان بالخيار» يثبت الخيار للبيع في حد نفسه، ودليل «المؤمنون عند شروطهم» يصحح شرط سقوط الخيار بلحاظ مرتبة ما بعد الشرط، فلا تنافي بينهما قطعاً، فهو من قبيل ما قدَّمناه من مثال حلية شرب الماء؛

ص: 235


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/278.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/277.
3- حاشية المكاسب 3/49، رقم 82.

فإن الدليل يثبت حلية شربه في حد نفسه، أي أن الماء في حد نفسه مما يجوز شربه، لا بلحاظ أنه مباح أو مغصوب، فلا يتنافى مع دليل حرمة الغصب حتّى في الماء؛ لأن التنافي بينهما يتوقف على أن يكون لدليل حلية شرب الماء إطلاق حتّى في صورة غصبية الماء، وهذا الإطلاق منتف قطعاً، فعندما يكون الدليل ناظراً إلى الموضوع في حدّ نفسه، ولا نظر له إلى العناوين المتأخرة المزاحمة لا يكون للمنافاة مع الحكم الإلهي معنى؛ لعدم الحكم حتّى ينافيه الشرط.

وهذه قضية عرفية؛ فإنه عندما تلقى إلى العرف العام هذه القضية: (شرب الماء حلال) لا يفهم منها العرف أنه حلال حتّى لو كان مغصوباً أو مسروقاً، بل يفهم حليته في نفسه ومادام الموضوع هو الماء، وأما مع تبدل الموضوع إلى كونه ماء مغصوباً فلا، والخيار بالنسبة إلى البيع على وزان الحلية بالنسبة إلى شرب الماء، لا نظر له إلى الجهات الطارئة كالشرط.

الجواب الثاني: أن مقتضى الجمع بين دليل الخيار، وبين دليل الشرط هو كون العقد مقتضياً لا تمام العلة ليكون التخلف ممتنعاً شرعاً، وأشار إليه بقوله: «مع أن مقتضى الجمع بينه وبين دليل الشرط كون العقد مقتضياً لا تمام العلة»(1).

ثمّ أورد الشيخ (قدس سره) على نفسه: بأنه إذا حملنا جميع أدلة الأحكام على أنها لبيان ثبوت الحكم في أصل الشرع حتّى لا تتنافى مع دليل الشروط لا يبقى موضوع للشرط المخالف للكتاب والسنة، بل ولا للشرط المخالف لمقتضى العقد؛ لأن حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد، فإذا حملنا دليل الخيار على أن المجعول هو ثبوت الخيار في أصل الشرع، فهو لا ينافي العنوان الطارئ كالشرط، ومثل هذا الشرط لا ينافي مقتضى ذات العقد ولا أحكامه، فيمكن الجمع بين بقية أدلة الأحكام ودليل الشروط بهذا

ص: 236


1- المكاسب 5/55.

الجمع أيضاً، فلا يبقى مورد لدليل كل شرط يخالف الكتاب والسنة فهو باطل، فيكون لغواً، وكذا ما يدل على بطلان الشرط المخالف لمقتضى العقد.

وأجاب عنه: بأن هذا البحث وإن كان محله في باب الشروط إلّا أنا نقول ملخصاً: إن الخيار حق من الحقوق، والحق يفترق عن الحكم بأنه يقبل الإسقاط والتوريث، وأما الحكم فلا يقبلهما، ولهذا لما كان الجواز في الهبة حكماً لم يقبل النقل ولا الإسقاط، وبما أن الخيار حق مالي قابل للإسقاط والإرث لم يكن سقوطه منافياً للمشروع، فلم يكن اشتراطه مخالفاً للكتاب ولا للسنة ولا لمقتضى العقد»(1).

«الإشكال الثالث: ما استدل به بعض الشافعية على عدم جواز اشتراط السقوط: من أن إسقاط الخيار في ضمن العقد إسقاط لما لم يجب؛ وهو باطل ثبوتاً وإثباتاً؛ أما ثبوتاً فلأن الإسقاط فرع الثبوت؛ فإن مفهومه متقوم بكون ما يراد إسقاطه ثابتاً، ولا يتعقل بدونه، فما لم يتحقق البيع لم يحصل خيار المجلس حتّى يشترط سقوطه في ضمن البيع، فإسقاطه فيه كإسقاطه قبله، وأما إثباتاً فلأن الإجماع والاتفاق القطعي على أن ما لم يجب غير قابل للإسقاط.(2)

والمراد من عدم الوجوب هنا عدم الثبوت، لا عدم الوجوب الشرعي كما لا يخفى»(3).

وأجاب الشيخ الأعظم عنه: بأنّ «المراد من الإسقاط لو كان إثبات المانع قبل

ص: 237


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/279 و 280.
2- حكاه العلّامة في التذكرة 11/22، فقال: «واختلفت الشافعية في ذلك على طريقين: أحدهما: أن هذا الشرط لا يصح قولاً واحداً؛ لأنه خيار يثبت بعد تمام العقد، فلا يسقط بإسقاطه قبل تمام العقد، كخيار الشفعة»، وراجع المغني لابن قدامه 3/568؛ والمهذب 1/265 للشيرازي؛ والمجموع 9/178.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/277.

تمامية العقد لكان من إسقاط ما لم يجب، ولكن المراد به إبطال المقتضي ورفعه من أساس، فلا يكون منه.

توضيح ذلك: أن الحق الذي يراد إسقاطه تارة يكون مقتضيه موجوداً ومانعه مفقوداً، فإسقاط مثله إسقاط للحق الثابت، كخيار المجلس بعد تمامية العقد.

وأخرى يكون مقتضيه موجوداً كالخيار في أثناء العقد؛ فإنه حينئذ في حد الاقتضاء؛ لأن العقد مركب من الإيجاب والقبول، والإيجاب متقدم عليه، ففي حال تحقق الإيجاب وقبل تعقب القبول به يتحقق المقتضي للخيار، وإسقاط مثله يكون من إسقاط الشيء الذي لولا المانع لثبت، ولا يحتاج الإسقاط إلى أكثر من ذلك.

وثالثة يراد إسقاطه قبل تحقق العقد أصلاً، فهذا من إسقاط ما لم يجب.

وما نحن فيه من القسم الثاني؛ فإن المقتضي لتحقق الخيار موجود، وبهذا الشرط أوجد المانع عن تحققه، فهو إسقاط ما لولا شرط السقوط لكان موجوداً، وكل ما كان كذلك لا يكون من إسقاط ما لم يجب، فلا محذور فيه عقلاً، ولم يقم الإجماع على خلافه إثباتاً.

هذا مجموع كلامه رفع الله من مقامه»(1).

ونتيجة كلام الشيخ الأعظم: عدم المعارضة بين دليلي الشرط والخيار فلا حاجة إلى البحث عن المرجح.

صور اشتراط سقوط خيار المجلس
اشارة

قال الشيخ الأعظم (قدس سره) بتوضيح منّا: «إنّ هذا الشرط يتصور على وجوه:

[الأوّل]: أن يشترط عدم الخيار - وهذا هو مراد المشهور من اشتراط السقوط

ص: 238


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/280 و 281.

[في محل البحث] - فيقول: «بعت بشرط أن لا يثبت بيننا خيار المجلس»(1)؛ لأن المراد بالسقوط هنا عدم الثبوت، لا الارتفاع؛ لأن السقوط فرع الثبوت ولو آناً ما، سواء أ كان في شرط الفعل أم في شرط النتيجة، فيشترط في شرط الإسقاط - الذي هو شرط الفعل - أن يثبت الأمر قبل إسقاطه، وكذلك في شرط السقوط - الذي هو شرط نتيجة - يشترط أن يكون ثابتاً قبله، وإلّا لما تعقل الإسقاط ولا السقوط، فلهذا كان مرادهم من شرط السقوط شرط عدم ثبوت الخيار.

أما الثاني: أن يشترط عدم الفسخ فيقول: «بعت بشرط أن لا أفسخ في المجلس». فقد تعرض فيه الشيخ (قدس سره) - بعد الفراغ من صحته - إلى نفوذ الفسخ لو خالف الشرط وعدم نفوذه، وبيّن أن فيه وجهين:

الوجه الأوّل: نفوذ الفسخ؛ لأن متعلّق الشرط هو عدم الفسخ لا سقوط حقه في الفسخ، فلو فسخ نفذ وإن كان مأثوماً لمخالفته الشرط.

الوجه الثاني: عدم نفوذه؛ والوجه فيه أننا قلنا سابقاً: إن مقتضى إطلاق ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ وجوب الوفاء بها حتّى بعد الفسخ فيكون الفسخ لغواً، فكذلك نقول هنا: إن مقتضى إطلاق «المؤمنون عند شروطهم» وجوب الوفاء بالشرط - وهو عدم الفسخ - حتّى بعد الفسخ، ومقتضاه عدم نفوذ الفسخ وتأثيره.

وهذا هو الأقوى عند الشيخ (قدس سره).

وأما الثالث: أن يشترط إسقاط الخيار. فمقتضى ظاهره: وجوب الإسقاط بعد العقد، فلو أخل بالشرط وفسخ العقد، ففي تأثير الفسخ يأتي الوجهان المتقدمان، وقوّى الشيخ (قدس سره) عدم التأثير(2)؛ لما تقدم أيضاً.

ص: 239


1- المكاسب 5/55.
2- المكاسب 5/(57-55).

هذا حاصل ما أفاده الشيخ (قدس سره) »(1).

أقول: لابدّ من البحث حول هذه الصور:

الصورة الأولىٰ: شرط عدم الخيار

شرط عدم الخيار على قسمين:

«أحدهما: شرط سقوط الخيار.

والآخر: شرط عدم الخيار.

أما النحو الأوّل فما يورد عليه: أن هذا السقوط قبل الثبوت؛ لأن ثبوت الخيار بعد تمامية البيع، فلما لم يتمّ الإيجاب والقبول لم يحصل خيار المجلس، فشرط السقوط قبل تمامية البيع شرط للسقوط قبل الثبوت [فهو من إسقاط ما لم يجب].

والجواب عنه: أن غاية هذا الإشكال وجود تعليق للشرط؛ فإن شرط السقوط معلّق على تمامية العقد، فعند حصول القبول الذي هو مبدأ حصول الخيار يحصل السقوط، وليس في هذا التعليق محذور ثبوتاً وإثباتاً.

أما ثبوتاً؛ فلأن اعتبار السقوط هو المشروط والمعلق، واعتبار المشروطات والمعلقات في الأمور الاعتبارية لا محذور فيه عقلاً ولا ثبوتاً.

وأما إثباتاً فلأن ما قام الإجماع على بطلانه هو التعليق في العقود، وأما التعليق في ثبوت الخيار وسقوطه فلم يقم الإجماع على بطلانه، ولو شك فالإجماع دليل لبي فيقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو التعليق في العقود التنجزية.

وأما النحو الثاني - وهو شرط عدم الخيار - فمقتضى صحيحة سليمان بن خالد عدم الإشكال فيه؛ فإن فيها: «بشرط أن لا يكون لك الخيار على أبي»(2)، وهو ظاهر في

ص: 240


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/308 و 309.
2- وسائل الشيعة 23/155، ح1.

شرط عدم الخيار، فلا إشكال من الناحية الإثباتية.

وأما من الناحية الثبوتية فإن كان فيه إشكال فلا بد من التصرف في مقام الإثبات ورفع اليد عن هذا الظهور، والإشكال الوارد: أن كلاً من ثبوت الخيار وسقوطه غير واقع تحت اختيار المكلف، فهو غير مقدور له، فلا يتعلق به الشرط»(1).

محاولة المحقّق الخراساني (قدس سره) عن الإشكال الثبوتي

بعد أن قرّب الإشكال من وجه آخر وقال ما نصه: «كما يشكل من وجه آخر وهو انّ عدم الخيار كثبوته، من الأحكام لامن الأفعال التي تحت الاختيار، كي يصحّ شرطه، ويجب الوفاء به. وبالجملة «المؤمنون عند شروطهم» لا يوجب ان يكون الشّارط مشرعا، وانما يوجب الوفاء فيما صح له التّسبب إليه لولا الشرط شرعاً حتّى يجب بشرطه الالتزام به، وليس له جعل حكم أو نفيه لولاه بنحو، فيلزمه بشرطه، كما هو واضح.

والجواب: انّ الحقيّة كالملكيّة من الاعتبارات العقلائية التي يتوسّل إليها بما جعل سبباً لها ابتداءً، أو امضاءً ومنشاءً لانتزاعها، والشرط جعل شرعاً من أسبابها، لعموم وجوب الوفاء بالشروط.

لا يقال: انّما الخيار من الحقوق لا عدمه.

لأنا نقول: إذا كان ثبوته مما صحّ له التّوسل إليه، وكان ممّا يقدر عليه، كان عدمه كذلك، إذ لايعقل ان يكون أحد الطرفين تحت الاختيار، دون الآخر، فتفطن»(2).

توضيح محاولته: بعد أنّ قرّب الإشكال: «بأنّ دليل الشرط ليس بمشرِّع، بل

ص: 241


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/310.
2- حاشية المكاسب /161.

يتعلق الشرط بما هو مشروع، مثل أدلة النذر والعهد وأمثالهما؛ فإنها لا تتعلق إلّا بما كان مشروعاً في نفسه، ولا تتسبب في تشريعه، وعليه فالتسبب لعدم الخيار بالشرط يستلزم كونه مشرِّعاً، ولما لم يكن كذلك فلا يمكن تحقق عدم الخيار بالشرط:

بأن الملكية والحقية من الأمور الاعتبارية التي يتوسل إليها بما جعل سبباً لها ابتداءً، أو إمضاءً، فكما يمكن تحقق الملكية بأسبابها التي توجبها فكذلك الحق، فيمكن أن يوجد بأسبابه، ومقتضى عموم «المؤمنون عند شروطهم» أن الشرط من جملة ما جعل سبباً لتحصيل الحق، فيكون حق عدم الخيار لمن اشترط له.

لا يقال: إن ثبوت الخيار حق من الحقوق قابل للتحصيل بالشرط، ولكن المدعى عدم الخيار فلا يتحقق بالشرط.

فإنه يقال: إذا كان ثبوته مما يصح له التوسل إليه، وكان مما يقدر عليه كان عدمه كذلك؛ إذ لا يعقل أن يكون أحد الطرفين مقدوراً دون الآخر، فإذا كان قادراً على الوجود كان قادراً على العدم، فإذا كان قادراً على إيجاد الخيار بالشرط كان قادراً على عدمه به.

والحاصل: أن الخيار وجوداً وعدماً متعلّق للقدرة، وبما أن «المؤمنون عند شروطهم» جعلت لنا القدرة على جعل الخيار بالشرط، فعندنا القدرة على عدمه بالشرط أيضاً، وهذا هو مراد المشهور.

تحرير الإشكال الثبوتي ومناقشة المحقق الخراساني (قدس سره)

أقول: عمدة الإشكال: أن الخيارات على قسمين:

القسم الأوّل: ما يكون جعله مربوطاً بالمتعاملين نفسهما عن طريق الشرط الارتكازي كخيار العيب والغبن؛ فإن المتعاملين متبانيان ارتكازاً على سلامة العوضين، وعلى أن يكونا متساويين في المالية عرفاً، فإذا كان أحدهما معيباً كان لآخذه خيار تخلف شرط وصف الصحة وهو خيار العيب، وإذا كان الفارق في المالية بينهما

ص: 242

فاحشاً كان له خيار الغبن.

القسم الثاني: الخيارات التعبدية الشرعية التي لم توجد لولا جعل الشارع لها كخيار الحيوان ثلاثة أيام، وخيار المجلس، وهذا القسم لا يرتبط باختيار المتعاملين وقدرتهما؛ فإنه مجعول إلهي، فإذا لم يكن وجوده مقدوراً لهما فكذلك عدمه.

وعليه فما أفاده المحقّق الخراساني (قدس سره) تام في الخيارات المرتبطة بالمتعاملين؛ فإن القدرة على وجودها قدرة على عدمها، وأما الخيارات الإلهية فلا قدرة على وجودها حتّى يقدر على عدمها، وخيار المجلس منها، فلا يكون واقعاً تحت الاختيار وجوداً ولا عدماً، فلا مخلص من الإشكال الثبوتي.

وأما صحيحة سليمان بن خالد، فبناء على تحكم الإشكال الثبوتي لابد من رفع اليد عن ظاهرها وحمل قوله: «بشرط آن لا يكون لك الخيار» على إرادة اشتراط سقوط الخيار لا اشتراط عدمه، ولا محذور في اشتراطه ثبوتاً ولا إثباتاً كما تقدم.

فالتحقيق أن الوجه الأوّل من وجوه هذا الشرط إن رجع إلى شرط سقوط الخيار فهو نافذ، وإن أريد منه عدم الخيار فلا ينفذ»(1).

الصورة الثانية: شرط عدم الفسخ
اشارة

يقع الكلام في جهتين مترتبتين:

الجهة الأولىٰ: هل يصح شرط عدم الفسخ؟

لم يذكر الشيخ الأعظم هذه الجهة كأنّه يراها مفروغاً صحته وقد نُسب(2) إلى المشهور صحته كما نُسب(3) إليهم بطلانه.

ص: 243


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/311 و 312.
2- راجع التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 3/102.
3- كما نقله في كتاب المضاربة المسألة الثانية من العروة الوثقى 5/157، طبعة جماعة المدرسين.

استدلال السيّد الخوئي على بطلان شرط عدم الفسخ ونقاشه فيه

ذهب السيّد الخوئي إلى «أنّ معنى الشرط في العقد - بحسب برهان السبر والتقسيم - لا يخلو من ثلاثة:

الأوّل: أن يكون الشرط التزاماً مستقلاً مقارناً للعقد ولا يرتبط به، فلا يخرج حينئذ عن الشروط الابتدائية، فلا يشمله «المؤمنون عند شروطهم»؛ فإن موضوعها الشروط، والشرط هو الالتزام في ضمن التزام آخر، ولو فرض إطلاق الشرط على الالتزام الابتدائي فإنه مخصص بالأدلة الأخرى، فلا يجب الوفاء به وحاله حال الوعد.

الثاني: أن يرتبط الشرط بالعقد ولكن بنحو يكون نفس الالتزام العقدي معلقاً على الشرط، والتعليق في العقود باطل بالإجماع فالشرط الموجب للتعليق باطل.

الثالث: أن يرتبط الشرط بالعقد ولكن لا بنحو أن يكون الالتزام العقدي معلّقاً [على الشرط] كالسابق، بل بنحو يكون الالتزام الوفائي معلّقاً، بمعنى أن الالتزام بالبقاء على العهد والعقد وعدم الرجوع عنه معلق على عمل المشروط عليه بالشرط، وذلك لأن في البيع التزامين: أحدهما الالتزام البيعي وهو التزام ملكية المتاع في مقابل العوض، والآخر الالتزام بالبقاء على الالتزام الأوّل وعدم الرجوع عنه وهو الالتزام بالبقاء على العقد والعهد، ومعنى اشتراط ذلك أن يكون له الخيار فيما لو لم يفِ المشروط عليه بالشرط.

ومعنى الشرط في العقود - بحيث يجب الوفاء به - هو المعنى الثالث ليس إلّا؛ لعدم وجوب الوفاء بالأوّل وبطلان الثاني.

إذا اتضح معنى الاشتراط في العقود فنقول: إن معنى شرط عدم الفسخ يرجع إلى أنه إذا لم يفِ المشروط عليه بالشرط فللشارط الخيار في أن لا يلتزم بالبيع. ثمّ إن المشروط عليه أن لا يفسخ العقد لا يخلو أمره من حالين: إما أن يعمل بمقتضى إطلاق «البيّعان بالخيار»؛ لعدم سقوط حقه وضعاً فيفسخ البيع، وإذا فسخ لم يبق للشارط

ص: 244

خيار؛ لانتفاء موضوعه، فما معنى أن يشترط فيقول: إن لم تفِ بالشرط وفسختَ البيع فلي الخيار في أن لا ألتزم بالبيع؟!

وإما أن لا يعمل بمقتضى إطلاق دليل الخيار فلا يفسخ، ومع عدم الفسخ لا يكون للشارط خيار أيضاً؛ لأن الخيار في الشرط إنما هو خيار تخلف الشرط، ومع عدم التخلف لا خيار للشارط، فاشتراط عدم الفسخ لغو على التقديرين فيكون فاسداً، فتبتني صحة المعاملة على أن الشرط الفاسد مفسد للعقد أو لا.

نعم، لا إشكال في صحة اشتراط عدم فسخ العقد في عقد آخر كما لو اشترط في عقد البيع أن لا يفسخ عقد الهبة المجانية الصادرة منهما سابقاً.(1)

ولهذا القول لوازم، منها: أن يلتزم بعدم إمكان اشتراط عدم الفسخ في جميع العقود الجائزة، سواء أكانت جائزة بالذات كالعقود الإذنية كالمضاربة والوكالة والعارية والوديعة، وغير الإذنية كالهبة، أم كانت جائزة بالعرض كالبيع الخياري، وقد التزم (قدس سره) به في تعليقته [الأولى] على العروة في باب المضاربة(2)؛معللاً بأن اشتراطه لغو كما تقدم بيانه»(3).

ثمّ ناقش السيّد الخوئي في استدلاله في تعليقة ثانية(4) على تعليقه الأولىٰ وتوضيحها وتحقيقها كما يلي: «أنّ حقيقة الشرط لا يمكن(5) تحققها بدون تعليق، فالشرط في العقد ليس مجرد مقارنة التزام بالتزام أو أمر آخر، وإنما هو نحو ارتباط بين الشرط والمشروط، وإلّا - كما قلنا سابقاً - لا يتحقق موضوع (المؤمنون عند

ص: 245


1- مصباح الفقاهة 6/(131-129)؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/(103-102).
2- العروة الوثقى 5/158.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/314.
4- العروة الوثقى 5/158.
5- العروة الوثقى 5/158.

شروطهم)، والارتباط على نحوين:

النحو الأوّل: أن يعلق العقد نفسه على وجود الشرط كأن يعلق البيع على الخياطة فيقول: (بعتك إن خطت ثوبي) بحيث يكون المُنْشَأ معلّقاً على تحقق الشرط في الخارج، وهذا هو التعليق المبطل في العقود؛ فإنَّ تعليق العقد على أمر مشكوك الحصول أو أمر معلوم الحصول في المستقبل مبطل للعقد بالإجماع.

النحو الثاني: أن يعلق العقد على الالتزام بالشرط لا على وجوده، كأن يعلق البيع على الالتزام بالخياطة لا على نفسها، وهذا التعليق لا يوجب البطلان؛ لأنه تعليق على أمر موجود بالفعل وهو الالتزام وإن كان الملتزم به استقبالياً، ولم يعلق على أمر خارجي غير موجود فعلاً، مشكوك الحصول أم معلومه في المستقبل، والتعليق على أمر حاصل بالفعل خارج عن الإجماع القائم على بطلان التعليق في العقود.

والتعليق فيما نحن فيه من قبيل الثاني؛ فإن تعليق البيع في المقام إنما هو على الالتزام بعدم الفسخ، لا على عدمه، والالتزام بعدمه حاصل بالفعل، فالتعليق ليس على أمر غير موجود فعلاً ليكون مبطلاً.

نعم، أثر الشرط يختلف باختلاف الموارد؛ فإنه تارة يوجب تخلفه الخيار، وأخرى لا يوجبه، ففي الأوّل يجب الوفاء على المشروط عليه، ولو لم يفِ كان للشارط الخيار، كما لو باعه واشترط عليه في ضمن البيع أن يخيط ثوبه، فإنه يجب عليه أن يخيطه، ولو لم يخطه كان للشارط الخيار في فسخ البيع.

وفي الثاني يجب الوفاء على المشروط عليه ليس إلّا، كما في شرط الالتزام بعدم الفسخ؛ فإنه يجب على المشروط عليه الوفاء بالشرط، ولو لم يفِ نفذ فسخه، ولا خيار للشارط لانتفاء موضوعه فجعل الخيار لغوٌ حينئذ؛ إذ لا معنى لجعل الخيار له بعد ارتفاع موضوعه، فأثر هذا الشرط لم يظهر في ثبوت الخيار كما في الأوّل؛ للغويته، ولكنه يظهر في وجوب الوفاء فيكون صحيحاً؛ لوجود المقتضي وعدم المانع؛ أما

ص: 246

المقتضي فلأنه التزام في ضمن التزام وهو محقّق لحقيقة الشرط، وأما عدم المانع فلأن المانع هو التعليق على أمر غير حاصل بالفعل، والتعليق فيما نحن فيه تعليق على الالتزام بعدم الفسخ لا على نفس عدم الفسخ، وهو حاصل بالفعل، فينطبق عليه «المؤمنون عند شروطهم»، فالشرط صحيح ويجب الوفاء به، ولكن إن لم يفِ وفسخ نفذ فسخه»(1).

أقول: وما أفاده من الاستدلال على الصحة تام، هذا كلّه في الجهة الأولىٰ.

الجهة الثانية: هل ينفذ الفسخ بعد اشتراط عدم الفسخ أو لا؟
اشارة

في نفوذ الفسخ وعدمه قولان:

الأوّل: بطلان الفسخ

القول الأوّل: عدم نفوذ الفسخ وسقوط حق خيار مشروط عليه بهذا الشرط وهو مختار الشيخ الأعظم(2) والمحققَيْن النائيني(3) والحائري(4) قدس سرهم.

استدلال الشيخ الأعظم على بطلان الفسخ

استدل الشيخ الأعظم على عدم نفوذ الفسخ بوجهين:

«الوجه الأوّل: إن وجوب الوفاء بالشرط مستلزم لعدم سلطنته على تركه، وقد حُمل كلامه على إرادة ان حرمة الفسخ تستلزم سلب السلطنة عليه شرعاً، فلا يمكن أن يكون نافذاً.

ص: 247


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(317-315).
2- المكاسب 5/56 و 57.
3- منية الطالب 3/47 و 48.
4- الخيارات /(56-54) لشيخنا آيةالله الشيخ محمّدعلي الأراكي (قدس سره).

وقد قرّر المحقق النائيني(1) (رحمة الله) هذا المعنى في مقام تقريب دلالة النهي في المعاملة على الفساد، فذهب إلى أن النهي عن المعاملة يستلزم سلب السلطنة عليها وهي معتبرة في صحة المعاملة. وهذا المعنى محل اشكال يُتعرض إليه في محله.

وقد ذهب البعض(2) إلى أن النهي يستلزم الصحة، ومن هنا أورد السيّد الطباطبائي(3) (رحمة الله) على الشيخ (قدس سره) أنه... .

إن اريد سلب السلطنة تكليفاً الراجع إلى عدم نفوذ فسخه وعدم تأثيره فهو محل الكلام.

وان أريد سلب السلطنة تكليفاً الراجع إلى تحريم العمل عليه ومنعه عن صدوره منه، فلا يلازم فساد المعاملة.

والتحقيق: ان نظر الشيخ (قدس سره) ليس إلى ملازمة الحرمة للفساد، بل إلى أن وجوب الوفاء ههنا ملازم لثبوت حق المشروط له في الشرط فيكون ذا حق فيه، فيمنع من صحة تصرف المشروط عليه فيه ولا يترتب عليه الأثر، لأنه متعلّق حق الغير، فيكون كسائر الأمور المتعلقة لحق الغير التي يمتنع التصرف فيها بلا مراجعة ذي الحق.

والذي يدلنا على كون نظره ذلك قوله: «مستلزم لوجوب اجباره عليه»(4)، كما سيأتي بيانه.

إذن، فالوجه الأوّل لمنع نفوذ الفسخ هو كون الفسخ متعلّق حق المشروط له.

فيقع الكلام في جهتين:

ص: 248


1- فوائد الأصول 2/472، طبع مؤسسة النشر الإسلامي.
2- وهو المحقق الخراساني في كفاية الأصول /189، طبع موسسة آل البيت (علیهم السلام).
3- حاشية المكاسب 2/410، قوله: «وأمّا دعوى عدم السلطنة على تركه...».
4- المكاسب 5/56.

إحداهما: في الدليل على ثبوت حق المشروط له في الشرط.

والأُخرى: في إثبات أن هذا الحق على تقدير ثبوته مما يمنع من التصرف في متعلَّقه، فإنَّ الحقوق على نحوين: نحو لا يستلزم المنع عن التصرف، كحقِّ الجناية، فإن العبد الجاني يجوز بيعه وإن كان مورداً لحقِّ الجناية ويدور الحقّ مع العبد أين ما دار. ونحو يستلزم المنع، كحقِّ الرهانة، فلا يجوز لصاحب المال أن يبيع المال لتعلّق حقّ المرتهن بها.

ولتقدم الكلام في الجهة الثانية، فنقول: إن الضابط الذي يذكر لبيان ما يمنع من الحقوق من التصرف دون ما لا يمنع هو: أنّ الحقَّ المانع من التصرف هو ما كان التصرف في متعلَّقه مانعاً من استيفاء ذي الحقِّ حقّه، كما إذا كان يدور استيفاء حقّه مدار قرارها في ملك المالك الأوّل فيمتنع نقلها عن ملكه وذلك كحقِّ الرهانة، فإنّ المرتهن إنّما يتمكن من استيفاء دينه من العين إذا كانت العين في ملك المدين، فإذا نقلها المدين إلى ملك غيره فات على المرتهن استيفاء حقه منها.

والحق غير المانع من التصرف هو ما لايتوقف استيفاء الحق من العين على قرارها في ملك المالك الأوّل فلا يكون التصرف مفوّتاً على ذي الحقّ حقه، وذلك كحق الجناية، فإنه يدور مع العين اين ما دارت، فلذي الحق استيفاء حقه منها ولو انتقلت إلى ملك غير مالكها عند الجناية.

إذا عرفت ذلك تعرف أن الحق المتعلق بعدم الفسخ من قبيل ما يمنع من التصرف، لأنه بالفسخ لا يبقى مجال لاستيفاء حقه لانحلال العقد وعدم بقاء الموضوع للفسخ وعدمه، فالفسخ مفّوت على المشروط له حقه، فلا يصح ولا يكون مؤثراً.

وأما الكلام في الجهة الأولى، فتحقيقه: أن لإثبات الحق في الشرط للمشروط له طريقين:

ص: 249

الطريق الأوّل: ما أشار إليه الشيخ(1) (قدس سره) من أن وجوب الوفاء بالشرط مستلزم لوجوب اجباره عليه. وهو اشارة إلى أمر مفروغ عنه في باب الشروط وهو أن المشروط له لو طالب المشروط عليه بالوفاء فامتنع ورفع المشروط له أمره إلى الحاكم الشرعي وطالبه بحمل المشروط عليه على الوفاء، كان للحاكم اجباره عليه.

ومن الواضح أن مثل هذا المعنى مما يدل على ثبوت حق للمشروط له، إذ اناطة الاجبار بمطالبة المشروط له ظاهرة في أن له حقاً يصح أن يطالب به ويلزم الأخذ له بحقه، فإن ثبوت الحق في مورد يعرف بآثاره.

ومن هنا تعرف أن ما أفاده المحقّق الإيرواني(2) (رحمة الله) من: ان وجوب الاجبار تكليفاً من باب النهي عن المنكر لا يرفع أثره الوضعي.

غير سديد، إذ لم يكن وجوب الاجبار من هذا الباب بل من باب استنقاذ الحقوق وحفظها. ولذا كان مرتبطاً بمطالبة المشروط له، وأي دخل لمطالبة المشروط له في النهي عن المنكر.

كما أن ما أفاده المحقق الاصفهاني(3) (رحمة الله) من أن وجوب الاجبار لازم أعم، إذا يمكن أن يكون من باب لزوم النهي عن المنكر، ويمكن أن يكون من باب استنقاذ حق المشروط له.

والشيخ (قدس سره) وإن لم يصرح بارتباط وجوب الاجبار بمطالبة من له الشرط إلّا أن نظره إلى هذه الضميمة لا خصوص وجوب الاجبار، لأنه أشار إلى ما هو أمر مفروغ عنه في محله، وليس في مقام بيان حكم مستقل ههنا، والأمر الثابت في محله هو ما عرفته من لزوم الاجبار عند مطالبة من له الشرط.

ص: 250


1- المكاسب 5/56.
2- حاشية المكاسب 3/51، رقم 86.
3- حاشية المكاسب 4/112.

وبالجملة، فبهذا الأمر الثابت المتقرر في محله وبما تقرر أيضاً من قابلية الشرط للاسقاط ورفع اليد عنه، يعلم أن للمشروط له حقاً متعلقه الشرط فله المطالبة به وله رفع اليد عنه، فإن ثبوت الحق في كثير من موارده يعرف بآثاره ولا يعرف بالتصريح به، وحينئذٍ يمنع من نفوذ الفسخ لما عرفت من أن الحق الثابت فيما نحن فيه من قبيل الحق المانع من التصرف.

وأما احتمال أن نفس وجوب اجباره عند المطالبة ظاهر في عدم نفوذ الفسخ، إذ لو كان نافذاً لم يكد يتصور الاجبار على عدمه، إذ مَنْ عليه الشرط يفسخ بمجرد الترافع وقبل الحكم عليه، فلا موضوع للاجبار حينئذٍ.

فضعيف، لأن الفسخ إذا لم يكن موثراً فلا معنى لاجباره إذ لا يهتم به، فان فسخه لغو فكيف يجبر على عدمه؟ [فالاستدلال لا يتم بمجرد إمكان وجوب الاجبار على عدم الفسخ بل يحتاج إلى ضمّ ثبوت حقّ للمشروط له المانع من التصرف في المبيع].

ومن هنا تعرف ان وجوب الاجبار ليس ثابتاً فيما نحن فيه، إذ لا معنى له إن لم يكن الفسخ مؤثراً، ولا يكاد يتصور تحققه إذا كان الفسخ مؤثراً، كما عرفت.

وعليه، فكون الشرط فيما نحن فيه متعلّق الحق نستكشفه من ثبوت هذه الخصوصية وهي وجوب الاجبار على انفاذ الشرط والعمل به في نوع الشروط وفي المورد القابل له، فإنه يكشف بطريق الإن أن هناك حقاً مجعولاً في مورد الشرط ولو لم يكن قابلاً للاجبار لوحدة المجعول في الشروط بلا اختلاف بينهما، فالاجبار معلول للحق يثبت في مورد قابل له، فيمكن أن يثبت الحق بدونه وليس علة له كي يدور ثبوته مدار ثبوت الإجبار، فتدبر.

الطريق الثاني: ان معنى الشرطية والاشتراط هو جعل الشرط حقاً للمشروط له، كما يدل على ذلك كلمة: «له» في المشروط له وصحة التعبير بلا مسامحة ب- «بعتك

ص: 251

كذا والتزمت لك بزيارة الحسين نيابة عنك»، فإن مؤدى اللام هو الاختصاص والملكية والحقيّة ونحو ذلك.

إذن، فالحق مما يقتضيه طبع الاشتراط ومؤداه. وتحقيق الكلام في ذلك أن الكلام في ناحيتين:

إحداهما: في مفاد اللام وأنها هل المراد منها جعل الحق للمشروط له في الشرط كما استظهر أو لا، وبتعبير آخر هل اللام ههنا بمعنى الاختصاص والملكية والاضافة أو غيرها؟

الثانية: انه على تقدير كونها بمعنى الملكية والاختصاص، فما هو متعلّق ذلك هل هو الالتزام أم الملتزم به؟ والاستدلال يتم على الثاني لا الأوّل كما لا يخفى.

وقد اعترف المحققان الطباطبائي(1) والاصفهاني(2) رحمهما الله بان اللام للاختصاص والملكية، لكنهما ذهبا إلى امكان أن يكون المضاف هو الالتزام لا الملتزم به الذي هو الشروط، فلا يثبت الحق إلّا في الالتزام لا الملتزم به.

وفيما أفاداه منع، لأن ثبوت الحق في مورد يعرف بترتب بعض الآثار الخاصة التي ينتزع منها عنوان الحق أو يستكشف بها ثبوته - على الكلام في أنه حكم وضعي مجعول كالملكية أو أنه أمر انتزاعي عن ثبوت أحكام خاصة - ، كجواز الاسقاط وجعل أمر متعلّق الحق بيد ذي الحق وغير ذلك. والأمر الذي يتصور ثبوته على تقدير تعلق الحق بالالتزام هو جعل الالتزام بيد من له الحق فله رفع اليد عنه، فيكون الالتزام متعلقاً لخيار الملتزم له.

وهذا ممنوع فيما نحن فيه، لأنه إن كان أمر اصل الالتزام بالشرط بيد المشروط

ص: 252


1- حاشية المكاسب 2/411.
2- حاشية المكاسب 4/112.

له، فهو باطل قطعاً، لأن المفروض أنه في مقام أن يلتزم له تنجيزاً بلا تعليق. وإن كان أمر الالتزام بقاءً بيد المشروط له، فهو ممّا يكذبه الوجدان، إذ لا يرى الملتزِم في نفسه أنه يلتزم فعلاً ويجعل أمر التزامه بقاءً بيد المشروط له وإنما الذي يجعله هو أمر الملتزم به.

هذا، ولكن الاشكال في الناحية الأولى، فإنه لا ظهور لللام في التمليك كي يكون مفادها جعل الحق للمشروط له ويكون دليل نفوذ الشرط امضاء له، بل هي محتملة لأن تكون لام الغاية والمنفعة، فيكون مفاد قوله: «والتزمت لك بكذا» التزمت لأنه مما يعود نفعه إليك ولأجلك ومنفعتك، فإنه يكثر استعمال اللام في هذا المقام، فلا ظهور لها على هذا في جعل الحق.

وعليه، فالطريق الثاني لا يوصل إلى المطلوب، فالعمدة هو الطريق الأوّل الذي ذكره الشيخ (قدس سره).

هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل لنفي تأثير الفسخ.

وأما الوجه الثاني: فهو ما أفاده الشيخ(1) (رحمة الله) من أن عموم وجوب الوفاء بالشرط يدل على وجوب ترتيب آثار الشرط وهو عدم الفسخ في جميع الاحوال حتّى بعد الفسخ فيستلزم كون الفسخ الواقع لغواً، كما تقدم نظيره في الاستدلال بعموم وجوب الوفاء بالعقد على كون فسخ أحدهما منفرداً لغواً لا يرفع وجوب الوفاء.

وقد أورد عليه المحقق الإيرواني(2) (رحمة الله) - والظاهر أنه حمل كلام الشيخ على كون مقتضى الاطلاق حرمه الفسخ بعد الفسخ الأوّل الكاشف عن لغوية الفسخ الأوّل - : بأن اللازم من التمسك بهذا الاطلاق عدم التمسك به، وذلك لأن مقتضى دلالته على حرمة الفسخ بعد الفسخ الأوّل أن الفسخ غير مؤثر، فإذا لم يكن مؤثراً لم

ص: 253


1- المكاسب 5/57.
2- حاشية المكاسب 3/52.

يكن معنى لتحريمه لأنه لغو، فيلزم من وجوده عدمه.

ولا يخفى أن النكتة التي يستند عليها ايراده (رحمة الله) هو أن مقتضى النهي هو الصحة ويستحيل أن يتعلق النهي بما لا يترتب عليه الأثر من المعاملات.

وقد أورد المحقق الاصفهاني(1) (رحمة الله) على هذا الاحتمال لكلام الشيخ - وهو إرادته ان الأمر بالوفاء بالشرط يقتضي حرمة الفسخ مولوياً - : بأن حرمة الفسخ عرفت أنها لا تقتضي عدم تأثير الفسخ بل يستحيل اقتضاؤه لعدم التأثير. ويشير بقوله: «عرفت» إلى ما حققه في مكان آخر من أن النهي يقتضي صحة المعاملة ويستحيل أن يؤثر في فسادها وإلّا لزم من وجود النهي عدمه.

ومن هنا تعرف أنّ ركيزة الايرادين هو ان مقتضى النهي عن المعاملة صحتها لا فسادها وإلّا لزم من وجوده عدمه.

أقول: إنَّ تمسك الشيخ (قدس سره) بإطلاق وجوب الوفاء بالشرط لإثبات حرمه الفسخ ثانياً بعد الفسخ أوّلاً الذي قصد به بيان عدم نفوذ الشرط يبتني على عدم فرض النهي مستلزماً للصحة ولا مستلزماً للفساد وأنه لا يقتضي شيئاً منها، لأنه لو كان مقتضياً للصحة بنظره لاستدل على نفوذ الفسخ الاول بتعلق النهي به فكيف يستدل على فساده باطلاق النهي الشامل للفسخ ثانياً؟ كما أنه لو كان مقتضياً للفساد لم يحتج إلى التمسك بالاطلاق بل كان له أن يتمسك بتعلق الحرمة بالفسخ الأوّل مباشرة.

وإذا ظهر ذلك، فمبناه في استدلاله على عدم فرض أحد الأمرين في النهي من دلالته على الصحة ودلالته على الفساد.

وتقريب ما أفاده: انه إذا ثبت بالاطلاق حرمة الفسخ ثانياً كشف ذلك عن عدم

ص: 254


1- حاشية المكاسب 4/111.

نفوذ الفسخ الأوّل، لأنه لو كان نافذاً لا نحل العقد به فلا موضوع للشرط ولا للفسخ ثانياً فلا معنى لتحريمه، نظير ما تقدم في التمسك باطلاق ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ لإثبات وجوب ترتيب الآثار بعد الفسخ الدال بالملازمة على عدم نفوذ الفسخ.

وبهذا البيان ظهر أن ما أورده المحققان المتقدمان بعيد عن محط نظر الشيخ (قدس سره) في استدلاله، فتدبر»(1).

استدلال المحقق النائيني على بطلان الفسخ ونقده

استدلّ المحقّق النائيني (رحمة الله) بتوضيح منّا: «أنّ النهي المتعلق بالمعاملات على قسمين: ما يتعلق بالسبب، وما يتعلق بالمسبب.

أما الأوّل فلا يستلزم الفساد كالنهي عن البيع وقت النداء؛ فإن المنهي عنه هو إنشاء البيع قوت النداء؛ لأن الاشتغال به يستوجب فوت صلاه الجمعة.

وأما الثاني فهو يستلزم الفساد؛ لأن المسبب لابد أن يكون مقدوراً للمتعاملين، فالبيع لابد أن يكون مقدوراً لهما لتشمله: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾، وكذا سائر المعاملات الأخرى، ومع النهي عنه تنتفي القدرة عليه؛ فإن الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً، فإذا نهي عن المسبب انتفت القدرة الشرعية عليه، فلا محالة يقع فاسداً، فلو شرط أن لا يبيع داره على زيد، فمقتضى دليل الشرط تخصيص دليل «الناس مسلطون على أموالهم» فيسلب بواسطة الشرط سلطنته على بيع داره لزيد ولا يكون قادراً عليه، فيكون البيع متعلقاً للنهي النفسي فيقع فاسداً.

وفي ما نحن فيه يشترط لصحة الفسخ أن يكون مقدوراً للفاسخ؛ لأنه مسبب عنه، فإذا اشترط في ضمن البيع أن لا يفسخ العقد، فمقتضى «المؤمنون عند شروطهم» سلب قدرته على الفسخ، فإذا كان مسلوب السلطنة كان الفسخ باطلاً، ويكون العقد

ص: 255


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(136-129).

لازماً.(1)

ويرد عليه: أوّلاً: أنه لا إشكال في أن الشرط يوجب تحديد دائرة السلطنة؛ فإنه لا يعقل أن تبقى السلطنة مطلقة كما كانت قبل الشرط، وإلّا لزم لغوية الشرط وعدم وجوب العمل به، فأصل المدعى من كون دليل الشرط يوجب قصر السلطنة مما لا ننازعه فيه.

ولكنَّ للسلطنة المطلقة - كما لقصرها - نوعين: سلطنة تكليفية، وسلطنة وضعية، فالسلطنة التكليفية جواز البيع لزيد مثلاً، والسلطنة الوضعية نفوذ هذا البيع، فإذا جاء الشرط، فإن كان يسلب كلتا السلطنتين تمّ كلام المحقق النائيني (قدس سره) ؛ لأن البيع صار حراماً وغير نافذ.

ولكن دليل الشرط إنما يسلب السلطنة التكليفية، بمعنى أن البيع المشروطَ تركُهُ يكون حراماً، والحرمة التكليفية للبيع لا تستلزم فساده كما حقق في الأصول من أن النهي المولوي في المعاملات لا يقتضي الفساد.

وعليه فغاية ما نحن فيه أن يكون الفسخ حراماً، ولكنه نافذ لو وقع.

ان قلت: أن المعاملات أمور إمضائية، ولا يعقل من الشارع أن يمضي ما هو مبغوض له، فكيف يمضي المعاملة وهي حرام عنده؟!

وبصياغة [جديدة]: أنه لا معنى لأن يكون الشرط واجب الوفاء ومع ذلك لا يكون البيع مبغوضاً، فإنه إذا اشترط أن لا يبيع الدار لزيد فلا شك أن بيعها له يكون مبغوضاً، والمبغو ضية لا تجتمع مع الإمضاء.

قلت: لا مانع من ذلك ثبوتاً ولا إثباتاً، أما ثبوتاً فيمكن أن تتعلق المصلحة بشيء مع كونه مبغوضاً [لوجود مفسدة ملزمة تزاحم المصلحة]، ولكن لو وقع

ص: 256


1- منية الطالب 3/(48-47).

يمضيه، وأما إثباتاً فدليل ﴿وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ مطلق، ولا مقيد له إلّا دليل الشرط، وهو إنما يقيد الحلية التكليفية، فيبقى مفاده في الحكم الوضعي على إطلاقه.

ثانياً: أن التكليف - أمراً أو نهياً - لا يتعلق إلّا بالمقدور بلا إشكال، وإنما البحث بينهم في منشأ هذا الحكم ووجه اعتبار القدرة في متعلّق التكليف، هل هو استحالة تعلق التكليف بغير المقدور بالذات أو بالعرض؟ بمعنى هل هو محال بالذات ولا يمكن حصوله، أو أنه يستحيل صدوره من الحكيم لقبح تكليف العاجز؟

وبعبارة فنية مختصرة: إن تكليف العاجز إما محال أو قبيح، وعلى كلا التقديرين لا يصدر من المولى الحكيم.

وبما أن النهي عن الفسخ تكليف، كما يعترف (قدس سره) به أيضاً، فلابد أن يكون الفسخ مقدوراً بمقتضى القاعدة المتقدمة، فإذا سلبت القدرة عليه بواسطة دليل الشرط لم يعد مقدوراً، لأن الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً، فلا يتعلق التكليف بالترك، وهو خلف الفرض، فنفس تعلق التكليف به يقتضي أن يكون مقدوراً ونافذاً على خلاف ما يريده المحقق النائيني (قدس سره) من إثبات عدم نفوذه»(1).

استدلال المؤسس الحائري على بطلان الفسخ ونقده

استشكل المؤسس الحائري اليزدي (قدس سره) أوّلاً على الدليل الثاني للشيخ الأعظم (رحمة الله) في أنّ التمسك بدليل الشروط بعد الفسخ - كالتمسك بآية الوفاء بعد الفسخ لإثبات اللزوم، يكون من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية لذاك الدليل.

اشكاله على الشيخ الأعظم الأنصاري: قال: «وقد عرفت فيما تقدّم الإشكال في هذا التمسّك وأنّه من باب التمسّك في الشبهة الموضوعيّة، فإنّه إذا شككنا في مؤثّريّة الفسخ وعدمها فمعنى ذلك شكّنا في بقاء العقد والشرط الموجود في ضمنه المتقوّم به

ص: 257


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(324-321).

حدوثاً وبقاءً وقد كان حكم وجوب الوفاء مترتباً على موضوع العقد والشرط، نعم قبل الفسخ يشمل وجوب الوفاء لنفس الفسخ أيضاً، بمعنى أنّه يصير حراماً لكونه خلاف الوفاء ولكن بعده مع الشك في فساده فلا»(1).

«توضيح ذلك: أن التمسك بقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ فرع وجود العقد، فما لم يحرز وجوده لا يمكن التمسك بها، فإذا فسخ العقد وشك في نفوذ الفسخ وعدمه شك في بقاء العقد، ومع الشك في بقائه يكون التمسك بالآية للزومه تمسكاً بالدليل في الشبهة الموضوعية، وكذلك الحال في التمسك بدليل الوفاء بالشرط؛ فإنه فرع وجود الشرط، فإذا فسخ العقد وشك في نفوذ الفسخ شك في بقاء الشرط، ومع الشك في بقائه كان التمسك بدليل الشرط تمسكاً بالدليل في الشبهة الموضوعية له»(2).

أقول: الظاهر أنّ أصل الإشكال من الميرزا السيّد محمّدحسن الحسيني الشيرازي الكبير (قدس سره) ونقل الميرزا الشيخ محمّدتقي الشيرازي الثاني الأشكال وأجاب عنه بجوابين في حاشيته على المكاسب اذكر نص عبارته قال: «قد يورد على ذلك بانّه مع الشكّ في تأثير الفسخ في رفع العقد يتحقّق الشكّ في بقاء الموضوع ومع الشكّ في بقاء موضوع العقد وزواله لا مجال للأخذ باطلاق الحكم وبعبارة أخرى العقد ينشأ ويحدث بانشاء العاقد إلى ان يتحقّق فسخ في مورده كما في موارد الخيارات فحينئذ ينقطع استمراره وينعدم وجوده كما ان الأمر يحدث بانشاء المتكلّم ويستمر إلى ان يتحقّق له مزيل من فسخ أو غيره فحينئذ ينقطع استمراره ويرتفع وجوده فإذا شكّ في تحقّق الرافع من جهة الشكّ في تحقّق المزيل المعلوم المزيلية كما إذا شكّ في فسخ من له الخيار أو من جهة الشكّ في رافعيّة الموجود كما فيما نحن فيه حيث انّ الشكّ في كون

ص: 258


1- الخيارات /54 بقلم شيخنا آيةالله الشيخ محمّدعلي الأراكي (قدس سره).
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/324.

الفسخ المحرّم الواقع من أحد المتعاقدين سبباً شرعياً وضعياً للانفساخ فقد تحقّق الشكّ في بقاء موضوع العقد لا محالة وهو يستلزم الشكّ في تحقّق الحكم فلا محال للتمسّك بالإطلاق.

ويمكن الجواب بوجوه:

منها: انّ المراد بالعقد الذي يجب الوفاء به هو الإنشاء الذي انشاه أوّلاً فهو الذي يجب الوفاء به دائما وهو غير قابل للارتفاع والانعدام فإذا وجب الوفاء به والبناء على ثبوته وتحقّق مقتضاه دائما حتّى بعد البناء على عدمه وانتقاضه في زمان فهو يستلزم لعدم تأثير هذا البناء وانتقاض الآثار في رفع مقتضاه في نظر الشارع وهو المراد من اللزوم.

ومنها: إنّا لا نسلّم انحلال العقد بمجرّد فسخ أحد المتعاقدين بل لابدّ في الانحلال من موافقة كلا المتعاقدين على الحّل فالحلّ نظير العقد في الاحتياج إلى الطرفين.

نعم لو اذن الشارع بالفسخ ولو مع عدم رضاء الآخر صار ذلك موجباً للانحلال.

فالحاصل: انّ العقد وان احتاج في الحدوث إلى الطرفين لكنّه يكفى في بقائه ثبات أحد الطرفين عليه وإن نكل الآخر»(1)... .

«ومنها: أنّ المراد من العقد امّا نفس الإنشاء السابق الذي لا يقبل الارتفاع والانعدام بعد وقوعه إذ هو نظير الطلب الصادر من الطالب الذي لا استمرار لوجوده أصلاً كما انّه لا يقبل الارتفاع بعد ان وجد قطعاً وامّا سببه يعني اللّفظ الدال عليه الكاشف عنه الذي وجوده تدريجي غير باق نظير أخبار العادل الذي يحدث

ص: 259


1- حاشية المكاسب 2/71.

ويفنى شيئاً فشيئاً.

والمراد من وجوب الوفاء به دائماً هو البناء على تحقّق مدلوله كذلك ولا يتوقف ذلك على استمرار نفس العقد الذي عرفت انّ المراد منه امّا الإنشاء أو اللفظ دائماً بل يكفى فيه وجوده حين ما يوجد آنا أو تدريجاً نظير قول العادل الذي يجب العمل به دائماً ولا استمرار لوجوده دائماً.

ففي ما نحن فيه بمجرّد صدور الإنشاء أو اللفظ من المتعاقدين يحكم الشرع بوجوب البناء على مقتضاه دائماً»(1).

وقد نقل جواب الميرزا الشيرازي الثاني، تلميذه آيةالله الشيخ كاظم الشيراي رحمهما الله بقوله: «وأجاب العلّامة الأستاذ التقي طاب ثراه عن ذلك: أوّلاً: بأن المراد من العقد نفس الإنشاء السابق الواقع من المتعاقدين، أو اللفظ الدال عليه، وشيء منهما مما لا بقاء له ولا استمرار، فهو نظير إخبار العادل الذي يحدث ويفنى شيئاً فشيئاً، والمراد من وجوب الوفاء هو البناء على تحقق مدلوله دائماً، ولا يتوقف ذلك على استمرار العقد وبقائه، بل عرفت أنه لا معنى للبقاء والارتفاع بالنسبة إليه؛ لأنه شيء يحدث شيئاً فشيئاً وينعدم، وما يقال إنه باق أو مرتفع يراد منه بقاء أثره التكليفي، يعني وجوب الوفاء به، وترتيب الأثر، أو الوضعي يعني الملكية والزوجية مثلاً.

ومحصل الكلام أن وجود العقد آناً ما كافٍ في وجوب ترتيب الأثر عليه؛ لما عرفت من أنه غير قابل للبقاء والاستمرار»(2).

وبعبارة ثالثة يمكن أن يقال في جواب الإشكال: «إنّ موضوع وجوب الوفاء هو العقد والالتزام بالمعنى المصدري الحدوثي، لا البقائي وهو ما ينشأ من الأوّل

ص: 260


1- حاشية المكاسب 2/72.
2- بلغة الطالب في حاشية المكاسب 2/81.

كالملكية بالنسبة إلى العقد؛ فإنها أثر له لا نفسه، فما يجب الوفاء به هو البيع الذي هو مصداق للعقد، والبيع هو ما يصدر من البائع، وما يصدر منه ليس أمراً باقياً في عمود الزمان؛ فإن البيع أنشأ وتحقّق ومضىٰ، وما يبقى هي الملكية، فالبيع الذي هو التزام بملكية المشتري مقابل العوض - وهو الذي تحقق ومضىٰ - هو موضوع وجوب الوفاء، بمعنى أن لا يرجع البائع عن ما صدر منه، وهكذا الحال في الشرط.

فإذن بمجرد حصول التعهد والالتزام يتعنوان المتعهد به والملتزم به بعنوان العقد والشرط، فيجب الوفاء بهما إلى الأبد، فلا يكون من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية، لا في العقد ولا في الشرط؛ فإن الفرض أن كلاً منهما قد حصل وتحقق، وما تحقق هو موضوع وجوب الوفاء أبداً»(1).

أقول: مع كلّ هذه الأجوبة في مقابل إشكال الميرزا الشيرازي الكبير (قدس سره) الظاهر أنّ الإشكال واردٌ ولا جواب له كما مرّ منّا في ذيل التمسك بآية الوفاء في ضمن البحث عن أدلة لزوم البيع فراجع وتأمل في ما مرّ هناك.

وأمّا استدلال المؤسس الحائري على بطلان الفسخ

قال بعد إشكاله على الشيخ الأعظم ما نصه: «إذا عرفت ذلك فنقول: قد يقال بأنّ دليل الشرط كدليل النذر لا يفيد سوى حكم تكليفي متعلّق بالمشروط والمنذور، فلو كان متعلّق النذر والشرط هو عدم البيع مثلاً فغايته المنع التكليفي من البيع وهو لا يستلزم الفساد الوضعي، بل نقول في خصوص المقام يستلزم صحّته حيث إنّه متعلّق بالمعنى المسبّبي أو هو الذي تعلّق به الجعل الشرطي أو النذري، فكما أنّه لو شرط البيع لا يستلزم وقوع المبادلة بلا حاجة إلى إنشائه كذلك شرط عدم البيع أيضاً غير مستلزم لعدم تحقّق المبادلة حتّى مع إنشائه.

ص: 261


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/327.

هذا ويمكن أن يقال بالتفصيل بين ما إذا كان المقصود من اشتراط عدم الفسخ جعل عدم الحلّ بالمعنى المسبّبي للمشروط له، وبين ما إذا كان المقصود جعل عدم إنشاء هذا المعنى الذي هو السبب له، ففي الأوّل يبطل الفسخ، وفي الثاني يصحّ.

توضيح المقام: أنّ قوله (علیه السلام) : «المسلمون عند شروطهم» مفيد لحكم تكليفي على طبق ما جعله المتشارطان، فإن تعلّق جعلهما بالنتيجة مثل الملكيّة والسقوط كان الحكم التكليفي راجعاً إلى آثارها؛ لأنّ الوفاء بهذا الشرط ترتيب تلك الآثار وينتزع منه حكم وضعي بثبوت النتيجة.

وإن كان متعلّقاً بالفعل أفاد وجوبه أو بالترك فكذلك، وحيث إنّ مفاد (اللام) في قوله: شرطت لك على نفسي كذا، هو الاختصاص والسلطنة، ينتزع من هذا الحكم التكليفي - بل ومن الحكم التكليفي الجائي من قبل ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾؛ حيث إنّ الشرط أيضاً تابع للعقد - حكم وضعي هو ثبوت الحقّ للمشروط له على المشروط عليه، ولهذا يستحق المطالبة والإجبار ولو كان مجرّد الحكم لما كان له ذلك.

وحينئذ فإذا شرط عدم الفسخ المسبّبي تحقّق للمشروط له حقّ على عدم الحلّ والمفروض كون الخيار أيضاً بمعنى ملك حل العقد، ولا تجتمع هاتان الملكيّتان في أمر واحد شخصي فإنّ الملكيّة معناها الاستيلاء على طرفي الوجود والعدم، وكما لا يمكن اجتماع نفس الوجود والعدم في الأمر الواحد الشخصي كذلك لا يمكن الاستيلاء الفعلي المطلق لشخص على وجود الأمر الواحد الشخصي والاستيلاء المطلق الفعلي لشخص آخر أيضاً عليه إمّا بوجوده ابتداءً أو بعدمه كذلك، وبعد ثبوت التنافي بين هذين الحقّين لا محالة يذهب حقّ المشروط عليه والمفروض أنّ نفوذ الفسخ أيضاً من آثار الحقّ فيرتفع بنفوذه أيضاً.

فإن قلت: فإذا كان الشرط موجباً لذلك فلا قدرة للمشروط عليه على الفسخ فكيف يتوجّه إليه النهي عنه.

ص: 262

قلت: يمكن تصحيح النهي بنحوين.

أحدهما: كالنهي عن بيع الربا وبيع الخمر حيث إنّه منزّل على المبادلة العرفيّة لا بقيد العرفيّة بل على نحو يشير إليه أهل العرف، فذاك المعنى الذي يقع في أذهانهم بذاته وقع تحت النهي والحرمة والفساد، فكذلك هنا أيضاً وإن كان لا مجال للفسخ والحلّ الحقيقي وبنظر الشرع، ولكنّ الذي يراه العرف حلّا ً ممكن فيكون هو حراماً وفاسداً، أو الشرط أو النذر مثلاً متعلّق بهذا المعنى أيضاً وإن صدرا من المتديّن.

والثاني: كالنهي عن الصلاة في الحمام عند نذر تركها حيث إنّ متعلّق النهي هو الصلاة الصحيحة لولا النهي النذري فهنا أيضاً متعلّق النهي الفسخ الذي يكون كذلك لولا تعلّق النهي الشرعي وهو مقدور.

ومن هنا نقول بثبوت الخيار للمشروط له لو خالف المشروط عليه وأتى بالفسخ بهذا المعنى فإنّه وإن لم يفت بذلك غرض عن المشروط له لفرض بقاء العقد بحاله إلّا أنّ خيار تخلّف الشرط لا يدور مدار فوت الغرض، ولهذا لو شرط الخياطة فلم يفعلها واتفق وجود متبرّع بها لم يسقط الخيار بوجود المتبرّع مع حصول الغرض وهو الخياطة، فاتعاب النفس لأجل إثبات فوت غرض على تقدير كما يظهر من شيخنا في الفرع الآتي لم نفهم له وجهاً.

فإن قلت: فعلى هذا لو فسخ مرّةً فقد تخلّف الشرط وعصى، فلو فسخ ثانياً فلابدّ من صحّته؛ لسقوط الشرط بعصيان أمره.

قلت: هذا تابع لنظر الشارط، فإن جعل متعلّق الشرط عدم الفسخ بمعنى عدم هذه الحقيقة ما دام المجلس يكون المرّة الثانية والثالثة وهكذا كلّها تخلّفاً؛ لانحلال الشرط إلى شروط، ولا تلازم بين عدم مصداق في الخارج للفسخ إلّا واحداً وبين لحاظ صرف الوجود وإن جعل المتعلّق عدمه باعتبار صرف الوجود أعني عدم قلب عدمه الأزلي بأصل الوجود، فاللازم ما ذكرت من سقوط الخيار، وهذا التفصيل يجئ

ص: 263

في باب النذر أيضاً عند تعلّقه بعدم الفعل.

وحاصل الكلام: أنّه بعد أنّ دليل الشرط مفيد لحقّ وضعيّ بالنسبة إلى ما شرط فلابدّ من الفرق بين ما إذا كان ما شرط عدم نفس الفسخ المسبّبي وبين ما إذا كان عدم إنشائه.

فعلى الأوّل: - حيث لا يمكن اجتماع الحقّين في موضوع واحد، فلابدّ من ذهاب حقّ المشروط عليه بواسطة المزاحمة لحقّ المشروط له، وإذا ذهب يجئ الفساد.

وأمّا على الثاني: فالإنشاء أمر خارجي مقدور للمشروط عليه ولا ينافي ثبوت حقّ المشروط له فيه مع القدرة الخارجيّة للمشروط عليه، فهو نظير شرط عدم الأكل.

وبالجملة يختلف مورد الحقّين، لأنّ المشروط عليه ليس له حقّ في الإنشاء بل من أحكام حقّه في المسبّب جواز إنشائه، ومن هنا يظهر أنّه لو قلنا بأنّ الخيار ملك العقد بالإقرار والإزالة كان الحال هكذا حتّى في صورة شرط عدم الحلّ المسبّب، فإنّ مورد حق المشروط عليه هو العقد، والحلّ والإقرار موردان للحكم بالنسبة إليه.

والأوّل مورد حق المشروط له فلا يلزم الإشكال العقلي المتقدّم، ومن هنا يظهر الحال في شرط عدم البيع، وفي نذر التصدّق على القول باشتماله على نذر ضمنيّ بعدم البيع وقلنا بثبوت الحقّ للمنذور له في متعلّق النذر، فإنّ البيع ليس مورداً للحقّ بالنسبة إلى المالك وإنّما هو مورد الحكم، فلا يلزم إشكال عدم إمكان اجتماع الحقّين»(1).

توضيح استدلال المؤسس الحائري: ذهب (قدس سره) «إلى أنّ الحق هو التفصيل بين تعلق الشرط بترك الفسخ المسببي، وتعلقه بترك الفسخ السببي أي بترك إنشائه، فإن كان الأوّل - كأن يشترط ترك حل العقد الواقع - فالفسخ لو وقع كان باطلاً كما أفاده

ص: 264


1- الخيارات /(58-54)، بقلم شيخنا آيةالله الشيخ محمّدعلي الأراكي (قدس سره).

الشيخ (قدس سره) وإن كان دليله ليس بتام.

وإن كان الثاني - بأن يشترط ترك إنشاء الفسخ - فلو فسخ لم يكن الفسخ باطلاً.

ويترتب على ذلك ثمرات مهمة، منها: أن الشرط كلّما كان شرط نتيجة بطل حق المشروط عليه، وكلّما كان شرط فعل لم يبطل حقه، والدليل على ذلك يبتني على مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولى: أن الشرط عبارة عن إلزام أمر على المشروط عليه، فعندما يقول له: شرطت لي عليك كذا، فالشرط يقتضي بواسطة اللام حصول حق وسلطنة للشارط على المشروط عليه، فهو مالك للشرط وليس مجرد حكم، ولذا لو تخلف المشروط عليه عن الشرط كان للشارط حق المطالبة والإلزام، وللحاكم أن يلزمه أيضاً من باب إحقاق الحق، ولو لم يكن له حق وسلطنة، بل لم يكن إلّا صرف الحكم لما كان له ولا للحاكم إلّا أن يأمراه بالعمل بالشرط من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هذا يظهر أن متعلَّق الشرط هو متعلَّق لسلطنة الشارط وحقه.

المقدمة الثانية: أنه لا يعقل أن يكون متعلّق السلطنة أحد طرفي الوجود والعدم، بل لابد أن يكون متعلقها كلا الطرفين.

المقدمة الثالثة: أن لا يمكن أن يكون الشيء الواحد متعلَّقاً لسلطنتين مستقلتين مطلقتين، ويكون مملوكاً لمالكين مستقلين.

وبناء على هذا، فإذا اشترط ترك الفسخ، كان هذا الترك متعلَّقاً لحق الشارط، وله السلطنة عليه بمقتضى المقدمة الأولى وليس مجرد حكم، وإذا كان ذا سلطنة عليه فهو ذوسلطنة على الفسخ أيضاً بمقتضى المقدمة الثانية، فلا تكون للمشروط عليه سلطنة على الفسخ بمقتضى المقدمة الثالثة، فالنتيجة أن المشروط عليه مسلوب القدرة على الفسخ، فلو فسخ كان فسخه بدون حق فلا ينفذ؛ لأن نفوذه معلول للحق ومتفرع عليه، ولما لم يكن له حق الفسخ - بمقتضى شرط تركه - لم يعقل نفوذ فسخه.

ص: 265

إن قلت: إن فسخ المشروط عليه إذا كان باطلاً؛ لأنه ليس من حقه ذلك، فهو غير قادر على الفسخ، وإذا لم يكن قادراً عليه فلا يتعلق به النهي؛ لعدم تعلّقه بغير المقدور وعدم توجّهه إلى العاجز.

فالجواب نقضاً: بالبيع الربوي وبيع الخمر؛ فإنهما يقعان فاسدين مع الالتزام بحرمتهما شرعاً بلا إشكال.

وحلاً بوجهين:

الأوّل: أن متعلّق النهي في هذه المقامات هو البيع العرفي، وهو مقدور عليه، فالبيع الربوي الحاصل عند العرف منهي عنه، والفسخ العرفي منهي عنه.

نعم، البيع والفسخ الواقعيان غير مقدورين للمكلف، ولكن لم يتعلق بهما النهي.

الثاني: أن يجاب عنه بالجواب المذكور في ما لو نذر أن لا يصلي في الحمام؛ فإن النذر صحيح وينعقد مع أن الصلاة لو وقعت في الحمام بعد النذر تكون فاسدة، والجواب في ذلك المورد: أن ما تعلق به النذر هي الصلاة الصحيحة لو لا النذر، فنقول هنا: إن ما تعلق به الشرط هو الفسخ الصحيح لولا الشرط، وكلاهما مقدوران»(1).

ويرد عليه جهات من البحث: «الجهة الأولى: في دعواه: أن مدلول اللام إفادة السلطنة؛ إذ يرد عليها أن الأصل في معنى اللام هو مطلق الاختصاص؛ فإن الاختصاص وإن كان على نحوين: مطلق الاختصاص، والاختصاص المطلق، إلّا أن ما تدل عليه اللام هو الأوّل كما في مثل قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾(2) و (الجنة للمؤمن)، والمعنى الأوّل لا ربط له بالحق ولا بالسلطنة،

ص: 266


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(326-324).
2- سورة المنافقون /8.

وإنما يستفاد الاختصاص المطلق أو الحقية أو السلطنة من القرائن الأخرى أو من الإطلاق كقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(1)، ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾(2)، ويدل على ما ندعيه قولهم: «الجل للفرس»؛ فإن هذا الاستعمال حقيقي بلا إشكال، وليست للفرس سلطنة ولا ملكية قطعاً، ومعنى اللام في هذا المورد وفي غيره واحد؛ إذ ليست من الألفاظ المشتركة.

وعليه فهي - في ما نحن فيه - لا تدل على أكثر من اختصاص الملتزم به للملتزم له، فأحد المتعاملين - وهو المشروط عليه - يلتزم للآخر بما يكون في نفعه، والآخر - وهو المشروط لأجله - ملتزم له، والشرط يفيد الالتزام، فمن أين استفيدت السلطنة؟

الجهة الثانية: أننا لو تنزلنا وقلنا مفاد (شرطت لك) الالتزام بالسلطنة، فلابد أن تكون السلطنة متعلَّقة للالتزام فيكون التركيب: التزمت السلطنة لك، وهو تركيب غير صحيح من ناحية أدبية، بخلاف ما لو كان معناه: التزمت لك أن أعمل ما في نفعك.

الجهة الثالثة: أننا لو غضضنا النظر عن هذه الناحية، فمعنى الشرط من ناحية أصولية وفقهية - حسب قوله - أن يجعل الشارط على نفسه السلطنة للمشروط له، وهذه السلطنة تحتاج إلى إمضاء، ولا دليل في المقام - حسب الفرض - إلّا «المؤمنون عند شروطهم»، وهو لا يفيد - على مبناه - إلّا الحكم التكليفي وهو وجوب الوفاء بالشروط، وجعل الوجوب في عهدة المكلف لا يدل على الإمضاء، فأين دليل إمضاء هذه السلطنة؟

ليس عنده إلّا ما ذهب إليه من انتزاع الحكم الوضعي من الحكم التكليفي،

ص: 267


1- سورة آل عمران /189.
2- سورة آل عمران /109.

فلابد من البحث في معاني الانتزاع؛ فإنه تارة يطلق على الأمور الانتزاعية من قبيل الفوقية والتحتية المنتزعتين من السقف والفرش، فإن كان هذا هو مراده فهذه الأمور توجد بوجود منشأ انتزاعها ولا وجود آخر لها غير وجود منشأ انتزاعها، فليس هناك سقفية وفوقية، ومما لا شك فيه أن الحكم الوضعي يختلف وجوداً عن الحكم التكليفي، ولا يعقل أن يكون عينه، فإذا كان مراده من الانتزاع المعنى الاصطلاحي فهو باطل في المقام؛ لأن وجود الأمر الانتزاعي بوجود منشأ انتزاعه، ويستحيل أن لا يكون للحكم الوضعي وجود إلّا وجود منشأ انتزاعه وهو الحكم التكليفي؛ لأنهما وجودان متغايران قطعاً.

وأما إذا كان مراده مصحح الانتزاع - كما هو الحال في الأمر بالمركب المصحح لانتزاع الجزئية من أجزائه، كالأمر بالصلاه المصحح لانتزاع الجزئية من التكبير والركوع والسجود وغيرها، والأمر بالصلاة المقيدة بوجود الطهارة المصحح لانتزاع الشرطية منه، أو المقيدة بعدم الضحك المصحح لانتزاع المانعية منه - ففيه أن المصححية للانتزاع منوطة بالملازمة العقلية أو العرفية بين الأمرين كما في الموارد المذكورة، ولا ملازمة بين الالتزام بالعمل للمشروط له وسلطنته عليه، وكذا بين وجوب العمل بما التزم به وسلطنة المشروط له على العمل لا عقلاً ولا عرفاً، فلو التزم لزيد ببيع داره به ووجب عليه العمل لا تكون هناك سلطنة لزيد على البيع لا عقلاً ولا عرفاً... .

الجهة الرابعة: في جوابيه - عن إشكال أن الفسخ إذا كان يقع باطلاً فهو غير مقدور له فلا يتعلق به النهي.

أما جوابه الأوّل عنه - وهو أن متعلّق النهي هو الفسخ العرفي لا الواقعي - ففيه جهتان من البحث:

الأولى: في حل الإشكال عن مثل هذه الموارد الكثيرة في الشرع المحكوم عليها

ص: 268

بالحرمة والفساد معاً كالبيع الربوي، وبيع الخمر، وبيع آلات اللهو، والإجارة على الأعمال المحرمة كالإجارة على الغناء ومطلق المكاسب المحرمة الجامعة بين الحرمة التكليفية والوضعية؛ فإن كل واحد منها حرام شرعاً وباطل وضعاً، فكيف يمكن الجمع بين الحرمة والبطلان مع أن الحرمة تقتضي عدم القدرة عليها والفساد يقتضي مقدوريتها؟! وبحث هذه الجهة في محلها وليست محل بحثنا فعلاً.

الثانية - وهي محل البحث فعلاً - : البحث عن مقدورية الفسخ لتعلق النيه به مع أنه فاسد، وكان جوابه عنه بأن متعلّق النهي هو الفسخ العرفي بدون قيد العرفية، أي أن ما كان بنظر العرف فسخاً فهو حرام.

فنقول: إن الفسخ بنظر العرف لا يخلو أمره - بحسب الواقع - من حالين: إما أن يتحد مع الفسخ الشرعي أو يغايره، ولا ثالث في البين، فإن كان الأوّل عاد الإشكال؛ لأن الفسخ الشرعي غير مقدور؛ للحكم بفساد ما يقع، فكيف يتعلق به النهي؟

وإن كان الثاني فالفسخ بنظر العرف غير الفسخ الشرعي فلازمه الحكم بصحة الفسخ شرعاً؛ لأن الفرض أن ما تعلق به النهي هو الفسخ العرفي، وهو غير الفسخ الشرعي حسب الفرض، وحينئذ فالمقتضي لتحقق الفسخ الشرعي موجود والمانع منه مفقود.

فجوابه (قدس سره) إما أن يرجع إلى الالتزام بالإشكال على تقدير أو يؤدّي إلى خلاف مراده على تقدير آخر؛ لأنه يرى بطلان الفسخ ودليله على عكس مطلوبه.

وأما جوابه الثاني عنه وقياسه على النذر فإن متعلقه صحيح لولا النذر فكذلك ما نحن فيه صحيح لولا الشرط، فنقول: بأن أصل الإشكال ناشئ من أخذ القدرة في متعلّق التكليف؛ إذ تكليف العاجز إما ممتنع أو قبيح كما تقدم بيانه، فكل تكليف مشروط بالقدرة، ويشترط أن تكون حاصلة بعده لا قبله، وسر اشتراطها في التكليف

ص: 269

أنه يلزم امتثاله، ولا يمكن بدونها، فتعتبر في الأوامر القدرة بلحاظ الانبعاث عن الأمر، وفي النواهي القدرة بلحاظ الانزجار عن النهي، فإذن تعتبر في باب النهي القدرة بعده، وأما النهي مع القدرة قبله والعجز عنده فباطل؛ لأنه يلزم امتثاله وهو يتوقف على القدرة عليه، وبما أن شرط القدرة في الأوامر والنواهي بلحاظ امتثالهما فلا يعقل أن يكون العمل مقدوراً لولا النهي، بل لابد أن يكون مقدوراً مع النهي، فيبقى الإشكال على حاله، وكون الفسخ لولا النهي مقدوراً لا أثر له، فلابد أن يكون مقدوراً مع تعلق النهي به حتّى يقبل الانزجار عنه، ولازم القدرة عليه حينئذ صحته لا بطلانه»(1).

استدلال المحقّق الإيرواني على بطلان الفسخ

قال المحقّق الإيرواني (رحمة الله) : «إلّا أن يقال: إنّ مفاد دليل الخيار ليس هو الخيار ابتداءً، وإنّما مفاده الترخيص التكليفي في الفسخ، ومن ذلك يستفاد، باق والمعاملة تنحلّ بفسخ من رخّص له في الفسخ، فإذا دلّ دليل الشرط على حرمة الفسخ اقتضىٰ تخصيص دليل الخيار لا محالة فلم يبق ما يتمسّك به لإثبات الخيار؛ لأنّ الحقّ أنّ المدلول الالتزامي يتّبع المدلول المطابقي في الحجيّة كما يتبعها في الوجود، فيرجع إلى عمومات اللزوم واستصحاب عدم انحلال المعاملة»(2).

توضيحه: «أنّ المجعول في باب الخيار بالمطابقة حكم تكليفي وهو جواز الفسخ تكليفاً يدل بالملازمة على الحكم الوضعي وهو جواز العقد ومضي الفسخ. فالحكم الوضعي والحق المجعول في باب الخيار مدلول التزامي للحكم التكليفي الترخيصي الراجع إلى الترخيص في حلّ المعاملة وعدم الالتزام بمضمونها، نظير حلّ البيع على

ص: 270


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(334-229).
2- حاشية المكاسب 3/50.

القول بكون مؤداه الحلية التكليفية المستفاد منها الحلية الوضعية بالملازمة. وعليه، فإذا شرط عدم الفسخ فمقتضى عموم الشروط حرمة الفسخ تكليفاً، فيخصص المدلول المطابقي لدليل الخيار - لبّاً -، ومع سقوطه في مدلوله المطابقي لا يكون حجة في مدلوله الالتزامي لتبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجية. فلا دليل حينئذٍ على نفوذ الفسخ»(1).

اعترض المحقّق الإيرواني نفسه على هذا الاستدلال وقال: «فبعد احتمال انحلال المعاملة أنّىٰ يبقى السبيل للتمسّك بإطلاق ما دلّ على عدم حلّ المعاملة وذلك؛ لأنّ بقاء المعاملة غير محرز والتمسّك باستصحابها لإحراز الموضوع.

ثمّ التمسّك بالإطلاق باطل بعد الدليل الإجتهادي المثبت للخيار، كما أنّه إنْ خصّصنا ذاك الدليل الاجتهادي بالتقريب المتقدّم لم نحتجّ إلى التمسّك بالإستصحاب مقدّمة للتمسّك بدليل «المؤمنون».

ثمّ استكشاف اللزوم وعدم انحلال المعاملة بذلك بل تكفي عمومات اللزوم ونفس هذا الاستصحاب في إثبات مدّعى»(2).

الثاني: صحة الفسخ

الثاني(3): صحة الفسخ

القول الثاني: نفوذ الفسخ وعدم سقوط حقّ خيار مشروط عليه بشرط عدم الفسخ قال الشيخ الأعظم: «ويحتمل النفوذ، لعموم دليل الخيار، والالتزام بترك الفسخ لا يوجب فساد الفسخ على ما قاله بعضهم: من أنّ بيع منذور التصدّق حِنثٌ

ص: 271


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/143.
2- حاشية المكاسب 3/51.
3- مرّ أوّله في صفحة 247 من هذا المجلد.

موجبٌ للكفّارة، لا فاسدٌ.(1)

وحينئذٍ فلا فائدة في هذا غير الإثم على مخالفته، إذ ما يترتّب على مخالفة الشرط في غير هذا المقام - من تسلّط المشروط له على الفسخ لو خولف الشرط - غير مترتّب هنا»(2).

توضيحه: وجه هذا الاحتمال هو «التمس بإطلاق «البيّعان بالخيار»، لأنّ مفروض الكلام بقاؤه بعد العقد وعدم الالتزام بسقوطه، وإنّما التزم كلّ منهما بعدم إعماله، ومع بقاء الحقّ لا مانع من الأخذ به والقول بصحّة الفسخ وتأثيره في حلّ البيع.

فإن قلت: الالتزام بترك الفسخ سالب للسلطنة عليه، كما تقدّم آنفاً في التنظير بنذر التصدّق.

قلت: المسألة خلافية، ولذا قال بعضٌ - في مسألة تخلّف المشروط عليه عن العمل بالشرط - بثبوت حقّ الفسخ للمشروط له، وعدم جواز إجبار مَن عليه الشرط. وكذا في مسألة النذر، فقال بعضهم بصحّة بيع منذور التصدّق، وإنّما عليه كفارة حنث النذر، كما نسبه صاحب المقابس إلى الشهيد الثاني قدس سرهما بقوله: «ووافق الشهيد الثاني على التحريم... الخ»(3).

[وقال] الشهيد الثاني في فروع نذر التدبير، وأنّه هل يفرّق بين قول المولىٰ:

لله عليّ عتقُ عبدي بعد وفاتي» ونحوه، وبين قوله: «لله عليّ أن أُدبّر عبدي»، ثمّ قال: «وعلى التقديرين: لا يخرج بالنذر عن الملك، فيجوز له استخدامه ووطؤه إن

ص: 272


1- حكاه المحقّق التستري في المقابس /194 عن الشهيد الثاني (قدس سره) في مسألتي منذور التدبير ومنذور الحرّية، راجع: الروضة البهية 6/331 و 332.
2- المكاسب 5/56.
3- مقابس الأنوار /194.

كانت جاريةً. نعم، لا يجوز نقلُه عن ملكه، فلو فعَلَ صحّ ولزمته الكفّاره مع العلم...»(1).

فالشهيد الثاني (قدس سره) جوّز التصرّف في منذور التدبير، وحَكَم ببقائه على الملك، وإن كان نقلُه عن ملكه حنثاً للنذر وموجباً للكفّارة. فَليكُن فسخ أحد المتبايعين نافذاً وموجباً لحلّ البيع وإن كان آثماً بمخالفته لخطاب «المؤمنون عند شروطهم».

وحين اختيار [الفسخ]، لا يترتّب أثرٌ وضعي على التزامه بعدم الفسخ، لفرض نفوذ فسخه، وإنّما يترتّب عليه استحقاق العقوبة من جهة عصيانه لخطاب وجوب الوفاء بالشرط»(2).

وأمّا ثبوت الخيار للمشروط له ينتفي بانتفاء موضوعه، ضرورة عدم بقاء العقد بفسخ المشروط عليه وانحلال العقد فلا معنى لاستحقاق المشروط له الخيار.

الصورة الثالثة: شرط اسقاط الخيار
Point

تعرّض الشيخ الأعظم في هذه الصورة عن جهات ثلاث:

«الجهة الأولى: ما أشار إليه بقوله: «ومقتضى ظاهره وجوب الاسقاط بعد العقد»(3) ويريد به أن ظاهر الاشتراط المزبور هو إرادة تحقق الاسقاط بعد العقد مباشرة، لأن أصل الاسقاط مع قطع النظر عن الفورية مما يقتضيه صريح الشرط ونصه لا ظاهره»(4).

الجهة الثانية: ما ذكره من أنّه لو أخلّ بالشرط وفسخ العقد فهل يؤثر الفسخ في انحلال العقد أم لا؟ وذكر أنّه يتأتي فيه الوجهان المتقدمان في شرط عدم الفسخ أي:

ص: 273


1- الروضة البهيّة 6/(332-331).
2- هدى الطالب 9/470 و 471 مع اصلاحات.
3- المكاسب 5/57.
4- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/142.

الاحتمالان السابقان من الصحة والفساد ولكنّه قال: «والأقوىٰ عدم التأثير»(1).

ثمّ قد مرّ منّا وجها الشيخ الأعظم في بطلان الفسخ مع اشتراط عدم الفسخ وهما يأتي هنا بالتقرير التالي.

الوجه الأوّل: «ما تقدم من أنّ الاشتراط يوجب ثبوت حق للمشروط له في الشرط بحيث يكون مانعاً من التصرف في موضوع الحق. ولا يخفى أنه قد يشكل جريان هذا الوجه في إثبات عدم نفوذ الفسخ في صورة اشتراط الاسقاط، وذلك لأن متعلّق الحق في شرط إسقاط الخيار هو الاسقاط، فالفسخ ليس تصرفاً في متعلّق الحق بخلاف الفسخ في مورد شرط عدم الفسخ فإنه تصرف في متعلّق الحق ومانع من استيفائه.

ولكن الصحيح خلافه، فإن الحق الثابت في صورة شرط الاسقاط يكون مانعاً من تأثير الفسخ أيضاً وذلك لأن الاسقاط مضاف إلى الخيار الثابت في العقد، فالعقد ههنا متعلّق لمتعلق الحق وليس بمتعلق للحق مباشرة. ولكن التصرف فيه إذا كان يستلزم تقويت الحق المتعلق به ولو كان تعلقه بالتبع كان ممنوعاً إذ الملاك في المنع عن التصرف ليس كونه متعلقاً للحق مباشرة بل كونه موجباً لتفويت استيفاء الحق على ذيه، فلا يمكن الجمع بين ثبوت الحق وجواز التصرف، فيكون ثبوت الحق مما في الاسقاط مانعاً من الفسخ لأنه يستلزم حلّ العقد الذي هو متعلّق الحق أيضاً بالتبع بمعنى أن لذي الحق المطالبة بإبقائه محافظة على استيفاء حقه ولو كان ثابتاً في غيره مباشرة. فالفسخ فيما نحن فيه يكون مانعاً من استيفاء ذي الحق حقه فيكون باطلاً.

إذن، فهذا الوجه الآخر يتأتي في شرط الاسقاط»(2).

ص: 274


1- المكاسب 5/57.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/144.

الوجه الثاني: «ما تقدم من أنّ مقتضى إطلاق دليل الشرط هو ثبوت حكم الشرط بعد الفسخ أوّلاً، الدال بالالتزام على عدم نفوذ الفسخ الأوّل. وهذا جار فيما نحن فيه، إذ يقال أيضاً إن مقتضى إطلاق دليل الشرط ثبوت حكم الشرط ههنا وإسقاط الخيار بعد الفسخ الأوّل فإنه يدل بالالتزام على عدم نفوذ الفسخ الأوّل، إذ لو كان نافذاً لا موضوع للشرط كي يثبت له حكمه من تكليف أو وضع»(1).

وهكذا يجري استدلال صحة الفسخ هنا كما مرّ(2).

ثمّ فليعلم لا تجري في الصورة الثالثة الاشكالات التي قد أُوردت على الصورتين السابقتين من المخالفة لمقتضىٰ العقد واسقاط ما لم يجب وتعارض دليلي الشرط والخيار، وغيرها من الاشكالات التي مرّ بعضها ولذا يصح هذه الصورة الأخيرة بلا إشكال.

الجهة الثالثة: «لو لم يسقط المشترط الخيار بعد العقد مباشرة، فهل للمشروط له الفسخ ولو لم يفسخ المشترط أو لا؟ وجهان:

أما وجه جواز الفسخ للمشروط له، فهو عدم حصول الشرط، فله خيار تخلف الشرط المحقّق ثبوته في محله.

وأما وجه عدم جواز الفسخ، فقد ذكره الشيخ(3) (قدس سره) وهو: أن المقصود بقاء العقد وعدم انحلاله وهو حاصل ولا يحصل التخلف عنه إلّا بالفسخ.

أقول: إن أراد من كون المقصود بقاء العقد أن الغرض العقلائي من هذا الشرط هو ذلك بحيث يكون من قبيل القرائن المكتنفة بالكلام الموجبة لصرف ظهور الاسقاط في موضوعيته وإنما المدار هو إبقاء العقد فيرجح الشرط في الحقيقة إلى

ص: 275


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/143.
2- راجع هذا المجلد، صفحه 271، الثاني: صحة الفسخ.
3- المكاسب 5/57.

اشتراط ابقاء العقد لا إلى الاسقاط بعنوانه إذ لا غرض فيه.

فهو لو تم - خصوصاً بملاحظة بعض الموارد التي تلغى فيها خصوصية العنوان المأخوذ في موضوع الحكم، كموارد الاوقاف عند تعذر الوجه الذي أوقفت عليه، فإنه يراعى في مصرفها الأقرب فالأقرب له بدعوىٰ ظهور الوقف على الوجه الخاص في تعدد المطلوب فإذا إنتفت الخصوصية وجب الصرف على الجهة الجامعة - كان منافياً لما ذكره في صدر كلامه من ظهور الشرط في وجوب الاسقاط فوراً، إذ التخلف إنما يحصل بالفسخ، فلا محصل لدعوى ظهور الشرط في وجوب الاسقاط فوراً، لعدم موضوعية الاسقاط.

وإن لم يكن ذلك من قبيل القرائن المتصلة، فلا وجه لكون المدار عليه، بعد أن كان الشرط غيره، إذ يصدق التخلف ولو كان المقصود الأصلي حاصلاً.

إلّا أن يقال: إنّا نختار الشق الثاني وليس مجرد التخلف موجباً للخيار، إذ سيأتي أن وجوه الخيار عند تخلف الشرط متعددة ولعل منها ما يتقيد بتخلف الغرض الأصلي لا مجرد تخلف الشرط لعدم أخذه في موضوع دليل لفظي، فمن الممكن أن يكون الشيخ ممن لا يرى أن مجرد تخلف الشرط مما يوجب الخيار بل الموجب للخيار هو تخلف الغرض الأقصى من الشرط فإذا لم يتخلف فلا خيار، فتدبر.

ثمّ إنه (قدس سره) أفاد(1)أن الأولى عدم الخيار بناء على عدم تأثير الفسخ لعدم تخلف الشرط، إذ لا أثر للاسقاط وعدمه حينئذٍ بعد إن لم يكن الفسخ موثراً، بل لا موضوع للاسقاط لعدم الخيار.

وأما على القول بتأثيره، فالأولى ثبوت الخيار، إذ قد يكون الغرض من شرط الاسقاط هو عدم تزلزل العقد وعدم ثبوت سلطنة المشروط عليه على العقد لأنها على

ص: 276


1- المكاسب 5/57.

خلاف مصلحة المشروط له، كما أنه قد يموت المشروط عليه فينتقل الخيار إلى وارثه فيفسخ وارثه.

فعلى هذا يتحقق التخلف الموجب للخيار بخلافه على الأوّل، إذ لا سلطنة للمشترط على الفسخ.

هذا، وقد أورد عليه: بأن التخلف صادق حتّى مع القول بعدم نفوذ الفسخ، لأن عدم نفوذ الفسخ لا ينافي بقاء حق الخيار بل هو ثابت، ولكنه مزاحم بحق آخر يمنع من التصرف فيه، وهو لا ينافي ثبوت أصل الحق نظير الملك الممنوع من التصرف فيه لسفه أو حجر.

وبتعبير آخر: أن الشرط المذكور إنما يمنع من إعمال حقا لخيار في الفسخ ولا ينافي أصل ثبوته. وعليه، فلعل الغرض من اشتراط الاسقاط إلغاء حق الخيار وعدم تزلزل العقد، ومع بقائه يتخلف الشرط ولا يتحقّق الغرض ولو لم يكن إعمال حق الخيار، خصوصاً بملاحظة أن المشترط قد يموت فينتقل الخيار إلى وارثه فيفسخ وينفذ فسخه وهو أمر يخالف غرضه.

وبالجملة، قد يكون غرض المشروط له في إلغاء حق الخيار وعدم تأثير الفسخ لا يحققه، فيصدق تخلف الشرط بمجرد عدم الاسقاط.

ودعوى: أن الوارث وإن كان يرث حق الخيار من المشترط لكن فسخه عديم الأثر كفسخ مورثه لأنه مزاحم بالحق أيضاً.

تندفع: بأن متعلّق حق المشروط له هو نفس الشرط الثابت على المشترط وقد انتفى بموته ولا ثبوت للشرط على الوارث. ولم يكن الاشتراط على المورث مستلزماً لثبوت حق في نفس الخيار الموروث أو العقد كي يكون مانعاً من نفوذ فسخ الوارث

ص: 277

لمنافاته للحق الثابت»(1).

هذا تمام الكلام في صور اشتراط سقوط خيار المجلس والحمد لله.

بقي الكلام في حكم الشرط غير المذكور في متن العقد

ويقع البحث في جهات ثلاث:

«الجهة الأولىٰ: في تحقيق أصل المطلب فنقول: إن الشرط إذا ذكر سابقاً على العقد كالالتزام بعدم الخيار عند تحقق العقد، فقد قيل إنه مما لا يجب الوفاء به لأنه... .

إما وعد بالتزام يعني بتحقق الوعد بأنه يلتزم بعدم الخيار إذا وقع العقد، والوعد ليس بواجب الوفاء.

وإما التزام ابتدائي تبرعي لا يجب الوفاء به إجماعاً لانه شرط ابتدائي - لو صدق عليه الشرط - . وأما العقد...

فتارة: يقع محفوفاً بالاشارة إلى الشرط السابق بأن يقول: بعتك على الشرط المذكور. فقد ذكر الشيخ (قدس سره) أنه من المذكور في متن العقد فيلزم الوفاء به.

وأخرى: يقع العقد بلا إشارة إليه ولا بناء قلبي عليه بل كان مغفولاً عنه بالمرة، فهذا مما لا يلزم الوفاء به جزماً بملاحظة العقد.

وثالثة: يقع العقد بلا إشارة لفظية إليه ولكن مع البناء القلبي عليه بحيث يقع العقد مبنياً عليه.

وقد ذهب الشيخ(2) (قدس سره) إلى أنه لا يلزمه لأنه إلزام مستقل لا يرتبط بالتزام العقد إلّا بجعل المتكلم وإنشائه، فبدون الانشاء لا يلزم الوفاء به.

ص: 278


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(149-146).
2- المكاسب 5/59.

ووجّهه المحقّق الاصفهاني(1) (رحمة الله) - بعد أن بيّن أن الشرط قد يكون بمعنى التعليق وبمعنى التقييد وبمعنى الالتزام الضمني والأخير هو الشرط الضمني الذي هو محل البحث - بأن الشرط من الأمور الانشائية المتقومة بالإبراز والإنشاء فلا يترتب الأثر عليها بل لا تصدق خارجاً إلّا بالإنشاء، فكما أنَّ مجرد الالتزام النفسي بالنقل والانتقال لا يوجب صدق البيع ما لم يكن على طبقه إنشاء كذلك مجرد الالتزام النفسي لاضمني لا يحقق صدق الشرط بلا أن يكون على طبقه إنشاء.

وقد ذهب المحقّق الإيرواني(2) (رحمة الله) إلى أن محور الكلام هو أن الشرط هل يصدق على مجرد الالتزام، كالعهد. أو يحتاج إلى الانشاء، فلا يصدق على مجرد الالتزام بلا إنشاء. فعلى الأوّل يكون البناء النفسي - فيما نحن فيه - لازماً دون الثاني. فهو يتفق مع المحقّق الاصفهاني في أن وجه الحكم بعدم اللزوم ههنا هو اعتبار الانشاء في صدق الشرط.

وذهب السيّد الطباطبائي(3) (رحمة الله) : إلى أن الشرط المنشأ وإن كان سابقاً على العقد وشرطاً ابتدائياً لكنه نافذ لعموم: «المؤمنون عند شروطهم»، إذ خروج الشرط الابتدائي إنّما كان بالاجماع ولا إجماع فيما نحن فيه مما كان الشرط مرتبطاً بالعقد اللاحق، لوجود الخلاف. فيكون العموم محكماً.

هذا ممّا دار حول كلام الشيخ (قدس سره) من الكلمات.

وتحقيق الكلام: أن الشرط الضمني - المقابل للابتدائي - .

إما أن يراد به ما يكون مضمونه مرتبطاً بالعقد فلا خصوصية للمقارنة، فيصدق الشرط الضمني على الالتزام المنشأ قبل تحقق العقد لإرتباط مضمونه بالعقد

ص: 279


1- حاشية المكاسب 4/114 تعليقة رقم 67.
2- حاشية المكاسب 3/54.
3- حاشية المكاسب 2/414.

اللاحق - كما هو المفروض لأن المفروض أنه شرط عدم الخيار في العقد اللاحق - فلابدّ من الالتزام بصحته. وهو خلاف ما يراه الشيخ (قدس سره).

وإما أن يراد به ما يقع العقد مبنياً عليه بحيث يتقيد مضمون العقد به ويكون المتعاقد عليه هو الحصة الخاصة الملازمة للشرط. والظاهر أن هذا هو منظور كلام الشيخ (قدس سره) كما يظهر من بعض كلماته.

وجهة توقفه في المقام في وقوع العقد متقيداً بالشرط ليس من جهة أن الشرط مما يعتبر فيه الابراز، بل من جهة لزوم تعيين المتعاقد عليه بشؤونه وخصوصياته بالانشاء الدال عليه، فإذا أشار إلى بناء العقد باللفظ كما لو قال - على الشرط السابق - صح ولزم العقد بهذه الخصوصية وإن لم يعبّر عنه باللفظ لم يلزم. فادعاؤه لزوم الانشاء ههنا لجهة راجعة إلى العقد لا إلى الشرط.

فلا تبتني المسألة على صدق الشرط على مجرد الالتزام وعدم صدقه - كما أفاده المحقّق الإيرواني (رحمة الله) - بل لو فرض البناء على صدق الشرط على مجرد الالتزام لم ينفع في وقوع العقد متقيداً بالشرط، لما ذكرناه من لزوم الانشاء في خصوصيات العقد كنفس العقد.

وعلى هذا لا معنى لتوجيه المحقّق الاصفهاني (رحمة الله) كلام الشيخ (قدس سره) بالبيان المزبور مع ما في تقسيمه للشروط من المسامحة، إذ الذي نعرفه من مبناه هو ما تقدم من كون الشرط بمعنى اللزوم الوضعي الراجع إلى التعليق والربط.

ومن هنا ظهر أن حكم الشيخ بصحة الشرط لو قال: بعت على ما ذكر من الشرط ليس من جهة إنشاء الشرط مقارناً للعقد، فإنه ظاهر في كون الشرط سابقاً، بل من جهة أن بناء العقد على الشرط السابق قد انشيء به لفظاً وهو معتبر في لزومه.

نعم لو أريد من الشرط الضمني هو الالتزام المقارن للعقد أمكن أن يقال إن الشرط المنشأ لفظاً سابق ليس بمقارن والمقارن هو الالتزام فقط فلو كان يصدق عليه

ص: 280

الشرط نفذ وإلّا فلا، فيتّجه ما أفاده الإيرواني (رحمة الله).

لكن فيه:

أوّلاً: ما عرفت من أن مطلق الالتزام المقارن ما لم يرتبط بالعقد نوع ارتباط لا يصحح صدق الشرط ولا يكون نافعاً.

وثانياً: أن الشرط المنشأ قبل العقد يحصل له وجود إنشائي مستمر كالبيع الذي يلتزم بان لو وجوداً إنشائياً مستمراً وهو الذي تلحقه الاجازة في باب الفضولي.

وعليه، فالعقد يكون مقارناً للوجود الانشائي للشرط المنشأ سابقاً.

إلّا أن يدعى اعتبار حدوث الشرط في آنِ العقد وهو مصادرة.

الجهة الثانية: في الفرق بين هذا الشرط وبين العوضين وقيودهما حيث إنهما من شؤون العقد ومما يبتني العقد عليهما، مع أنه لا يلزم ذكر خصوصية الصحة - مثلاً - في العوضين في لزومها بل يكفي التباني عليها، فإذا ظهر المبيع معيباً كان له الخيار أو الارش.

وقد نبّه الشيخ(1) (قدس سره) على جهة الفرق ومحصلها: أن التباني على بعض الخصوصيات إذا كان مما جرت العادة والعرف عليه لا يحتاج إلى ذكره بالخصوص، إذ العقد اللفظي ينصرف إلى المضمون المقيد بتلك الخصوصية من جهة التعارف، فتكون الخصوصية مما دلَّ عليها الانشاء بخلاف ما لم تجر العادة عليه، فإن العقد لا يكون له ظهور فيها فلا يدل عليها الانشاء.

وشرط الصحة في العوضين من قبيل الأوّل فلا يحتاج إلى التنصيص عليه لظهور إنشاء البيع في إرادته، بخلاف شرط عدم الخيار فإنه من قبيل الثاني فيحتاج إلى التنصيص. فلاحظ»(2).

ص: 281


1- المكاسب 5/59.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(152-149).
الجهة الثالثة: في تعيين المراد من مقالة الشيخ الطوسي (قدس سره)

قال الشيخ الطوسي (رحمة الله) : «إذا شرطا قبل العقد، أن يثبت بينهما خيار بعد العقد، صحّ الشرط، ولزم العقد بنفس الايجاب والقبول.

وللشافعي فيه قولان:

أحدهما: أن ذلك لا يصحّ.(1) وعلى ذلك أكثر أصحابه.(2)

ومنهم من قال بصحته، مثل ما قلناه.(3)

دليلنا: انّه لا مانع من هذا الشرط، والأصل جوازه، وعموم الأخبار في جواز الشرط يتناول هذا الموضع(4)»(5).

وقد حمله الشيخ الأعظم(6) «على إرادة ذكر الشرط سابقاً، ووقوع العقد مبنياً عليه بلا تصريح به ولا إشارة إليه. ثمّ احتمل أن يريد صورة الاشارة إليه بقوله على الشرط المذكور - وأن قوله: «قبل العقد» يريد به قبل تمام العقد لا قبل الايجاب بل قطع به بعد ذلك. ولايخفى أنه ليس في تحقيق ذلك ثمرة عملية، فاهمال الكلام فيه متعين»(7).

فرعٌ

قال العلّامة: «لو قال لعبده: إذا بعتك فأنت حُرِّ، لم يصح؛ لبطلان العتق المعلّق

ص: 282


1- المجموع 9/(179-178)؛ الوجيز 1/139.
2- الوجيز 1/139؛ المجموع 9/(179-178).
3- المجموع 9/179.
4- من لا يحضره الفقيه 3/127، ج553؛ والتهذيب 7/22، ح 94-93.
5- الخلاف 3/21، مسألة 28.
6- المكاسب 5/58 و 59.
7- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/152.

عندنا. ويجوز عند الجمهور.

نعم، يجوز عندنا تعليق نذر العتق كأن يقول: لله عليَّ أن اُعتقك إذا بعتك.

فعلىٰ ما اختاره الجمهور في الصوره الأولىٰ لو باعه بشرط نفي الخيار، قالت الشافعيّة: إن قلنا: البيع باطل، أو قلنا: الشرط صحيح، لم يعتق.

أمّا علىٰ التقدير الأوّل: فلأنّ اسم البيع يقع علىٰ الصحيح ولم يوجد.

وأمّا علىٰ الثاني: فلأنّ ملكه قد زال والعقد قد لزم، ولا سبيل له إلى إعتاق ملك الغير.

وإن قلنا: العقد صحيح والشرط باطل، عُتق؛ لبقاء الخيار، ونفوذ العتق من البائع في زمان الخيار.(1)

وقال أبوحنيفة ومالك: لا يعتق إلّا أن يبيع بشرط الخيار؛ لأنّ خيار المجلس غير ثابت عندهما.(2)

وعلىٰ الصورة التي تجوز عندنا - وهو الذر - لو باعه بشرط نفي الخيار، لم يصح البيع؛ لصحّة النذر، فيجب الوفاء به، ولا يتمّ برفع الخيار.

وعلىٰ قول بعض علمائنا - من صحّة البيع مع بطلان الشروط - يلغو الشرط، ويصحّ البيع ويعتق»(3).

ومختصر مقالة العلّامة: «ما إذا نذر المولى أن يعتق عبده إذا باعه بان قال: لله عليّ أن أعتقك إذا بعتك، فقد قال: لو باعه بشرط نفي الخيار لم يصح البيع لصحة النذر فيجب الوفاء به ولا يتم برفع الخيار، وعلى قول بعض علمائنا من صحه البيع مع

ص: 283


1- حلية العلماء 4/19؛ العزيز شرح الوجيز 4/122؛ روضة الطالبين 3/104؛ المجموع 9/179.
2- العزيز شرح الوجيز 4/122.
3- تذكرة الفقهاء 10/289، يب.

بطلان الشرط يلغى الشرط ويصح البيع ويعتق.

وقد بناه الشيخ(1) (قدس سره) على أن تعلق النذر بالعين يوجب عدم تسلط الناذر على التصرفات المنافية له، لأن النذر يستتبع ثبوت حق للمنذور له في متعلّق النذر. كما قربنا ذلك في الشرط على ما تقدم.

وقد علّق السيّد الطباطبائي (رحمة الله) على هذا الفرع بأني «لم أفهم وجه تخصيص الفرض بما إذا نذر عتقه إذا باعه مع أن الحكم يجري فيما إذا نذر عتقه وإن لم يقيد بصورة البيع، إذ البيع الخياري ليس منافياً والبيع بشرط سقوط الخيار مناف له، فلا يجوز له شرط السقوط»(2).

ووجّه المحقق الاصفهاني(3) (رحمة الله) تخصيص الفرض بنذر العتق على تقدير البيع بأنه ليس لأجل دخله في حكم البيع وإنما هو لاقتضاء مورد الفرع، فإن المورد ما إذا أعتقه على تقدير البيع الذي ذهب العلّامة (رحمة الله) إلى بطلانه لأنه معلّق، ثمّ استدرك بأنه يجوز نذر العتق معلقاً.

وتحقيق الكلام في هذا الفرع: أن النذر.

تارة: يتعلق بالعتق على تقدير البيع اللازمّ بحيث يتصور أنه يستطيع العتق بعده بشراء العين مرة أخرى أو أن المشتري يهبها له، فلا إشكال ههنا في جواز شرط عدم الخيار ونفوذه لعدم منافاته للنذر، بل هو مأخوذ في موضوع النذر.

وأخرى: يتعلق بالعتق على تقدير تحقق البيع بقول مطلق:

فتارة: يعلم أنه يتمكن من إرجاع العين - على تقدير لزوم البيع - باقالة أو شراء أو استيهاب أو غير ذلك. فلا إشكال أيضاً في جواز شرط عدم الخيار إذ يتمكن معه

ص: 284


1- المكاسب 5/60.
2- حاشية المكاسب 2/415.
3- حاشية المكاسب 4/116.

من الوفاء بالنذر فلا ينافي النذر.

وأخرى يعلم بأنه على تقدير لزوم البيع لا يستطيع إعادة العين بحيث كان طريق العتق منحصراً بفسخ البيع بالخيار، فهذه الصورة هي محل البحث في أنه هل يجوز أن يشترط عدم الخيار الموجب لعدم تمكن من العتق أم لا يصح شرطه لأجل منافاته مع النذر؟

الحق أنه يجوز الشرط وينفذ بلا محذور.

وذلك لما تحقق في محله من أن وجوب الوفاء بالنذر أخذ في موضوعه شرعاً القدرة على المنذور، فلا يصح النذر بدونها.

وعليه، فدليل نفوذ الشرط فيما نحن فيه يكون وارداً على دليل وجوب الوفاء بالنذر لأنه يرفع موضوعه، لأن نفوذ الشرط مستلزم لعدم القدرة على المنذور الموجب لبطلان النذر فكيف يصلح دليل النذر لنفي صحه الشرط؟ إذ لا مجال للدليل المورود مع الدليل الوارد.

بل لو لم نقل بأن ووجوب الوفاء بالنذر معلق على القدرة شرعاً، بل كان مقيداً بالقدرة العقلية ككثير من التكاليف. لم يصلح لنفي صحه الشرط، لأن نفوذ الشرط في حال البيع الذي هو ظرف فعلية وجوب الوفاء بالنذر لتعليق عليه، يستلزم رفع القدرة عقلاً على العتق فيسقط وجوب الوفاء بالنذر لتعليق عليه، يستلزم رفع القدره عقلاً على العتق فيسقط وجوب الوفاء بالنذر للعجز عن متعلقه. إذن فالالتزام بنفوذ الشرط لا ينافي وجوب الوفاء بالنذر إذ لم يصر الوجوب النذري فعلياً كي يلزم امتثاله إذ هو قبل البيع غير فعلي لأخذ البيع في موضوعه، وبعد البيع غير مقدور المتعلق فيسقط. ولا صلاحية له لنفي ما يستلزم رفع القدرة على متعلقه، كما لا يخفى.

نعم، بناء على وجوب التحفظ على عدم فوات الغرض الملزم في ظرفه وعدم جواز تعجيز المكلف نفسه عن تحصيل المصلحة الملزمة في ظرفها فلا يجوز له إهراق

ص: 285

الماء قبل الزوال إذا علم أنه لا يتمكن من الماء بعده، لأن مصلحة الطهارة المائية بعد الزوال ملزمة والقدرة غير دخيلة في حصولها. وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر المقدمات المفوتة.

وبناء على أن وجوب الوفاء بالنذر يستتبع ثبوت حق في متعلّق النذر مانع من التصرفات المنافية للنذر.

بضميمة الالتزام بأن وجوب التحفظ الناشىء عن مصلحة وجوب الوفاء بالنذر كذلك يستتبع ثبوت حق يمنع من التصرفات المنافية له، بناء على جميع ذلك يمكن القول بعدم صحة الشرط وعدم نفوذه.

فالالتزام بعدم نفوذ الشرط فيما نحن فيه يتوقف على المفروغية عن أمور:

أ: عدم أخذ القدرة شرعاً في متعلّق النذر وقد عرفت أنه ممنوع.

ب: وكون وجوب الوفاء مستلزماً لثبوت حق في متعلّق النذر وهو ممّا لا دليل عليه بخلاف الشرط، إذ عرفت أن آثار وجوب الحق ثابتة.

ج: وتبعية وجوب التحفظ لوجوب الوفاء بالنذر في استلزامه الحق وهي دعوى بلا شاهد.

نعم، أصل وجوب التحفظ مُسَلَّمٌ، كما حُقِّقَ في مباحث الأصول(1) فراجع.

ومن هنا ظهر الفرق بين الفرع المزبور وبين ما إذا نذر أن يعتقه بلا أن يعلّقه على البيع، فإن وجوب الوفاء فعلّي يجب امتثاله ولا يجوز له تعجيز نفسه عنه بعد قدرته على الامتثال. فما أفاده السيّد(2) (رحمة الله) من عدم الفرق بينهما في غير محلِّه.

وبالجملة، الكلام في كل منهما يختلف عن الآخر، فتدبر.

ص: 286


1- راجع منتقى الأصول، 2/179، الطبعة الأولى.
2- حاشية المكاسب 2/416.

ومن هنا يظهر الاشكال فيما وجّه به المحقق الاصفهاني (رحمة الله) تخصيص الكلام بهذا الفرع لأن ظاهره تسليم ما ذكره السيّد (رحمة الله) من عدم الفرق في حقيقة الحال والأثر، فالتفت.

ثمّ إن المحقق الاصفهاني(1) (رحمة الله) أورد على الشيخ (قدس سره) في بنائه كلام العلّامة (رحمة الله) على استتباع حكم النذر لثبوت حق في متعلَّقِهِ بأنَّ: «مصب كلام العلّامة (رحمة الله) صحة البيع وفساده من حيث تضمنه للشرط الفاسد، كما هو واضح بادنى ملاحظة. وليس مصب كلامه صحة نفس الشرط أو بطلانه»، لأن البيع بملاحظة ذاته لا يكون تصرفاً منافياً بل المنافي هو الشرط، فيكون محط الكلام هو صحة البيع وعدم صحته بما هو متضمن للشرط [الفاسد].

وفيه: أن الشيخ (قدس سره) أخذ استلزام فساد الشرط لفساد البيع مفروغاً عنه وبنى الحكم بالبطلان على ثبوت الحق المستلزم لبطلان الشرط بعد الفراغ عن استلزام الشرط الفاسد لفساد البيع، فيتمحض البحث عن فساد الشرط لأجل منافاته للحق الثابت وعدم فساده، فالتفت وتأمل»(2).

ص: 287


1- حاشية المكاسب 4/116.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(156-152).
2- مسألةٌ في اسقاط الخيار بعد العقد
اشارة

المسقط الثاني بعد اشتراط سقوط الخيار في متن العقد، هو اسقاطه بعد العقد وعدّه الشيخ الأعظم أنّه «المسقط الحقيقي»(1).

اعتراض المحقق الخراساني

واعترض عليه المحقّق الخراساني(2) (قدس سره) من أنّ ظاهر كلام الشيخ الأعظم ينافي ممّا ذكره من أنّ التصرف إنّما كان مسقطاً لكونه رضا بالبيع، وبما أنّ الرضا بالبيع موجود في الإسقاط صريحاً فهو مسقط للخيار بطريق أولىٰ، فحينئذ المسقط الحقيقي هو الرضا بالبيع لا الإسقاط بعد العقد.

أقول: هذا الاعتراض على الشيخ الأعظم لم يرد بتقريبي الذين ذكرهما المحقّق الاصفهاني (قدس سره) كما يأتي آنفاً في ذيل الدليل الثاني وهو فحوى النص فانتظر.

استدلّ الشيخ الأعظم على سقوط الخيار بالإسقاط
اشارة

استدلّ الشيخ بعدة من الوجوه:

ص: 288


1- المكاسب 5/61.
2- حاشية المكاسب /165.
الأوّل: الإجماع

قال: «ويدلّ عليه بعد الإجماع»(1).

وفيه: الإجماع تام إلّا أنّه مدركيٌّ أو محتمل المدركية للوجوه الآتية فلا يكون هنا إجماع تعبديٌّ.

الثاني: فحوىٰ ما ورد من النص

فحوى ما ورد في النص الصحيح مِنْ أنّ التصرف في المبيع يدلّ على رضا البيع فيسقط الخيار.

وهو صحيحة علي بن رئاب عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: الشرط في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري اشترط أم لم يشترط فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً قبل الثلاثة الأيّام فذلك رضا منه فلا شرط، قيل له: وما الحدث؟ قال إن لامس أو قبل أو نظر منها إلى ما كان يحرم عليه قبل الشراء... الحديث.(2)

وقد قرّب المحقّق الاصفهاني هذه الفحوى بوجهين:

«أحدهما: أن التصرف قد اعتبر مسقطاً للخيار باعتبار كاشفيته عن الرضا بالبيع والاسقاط أقوى دلالة وكشفاً على الرضا به، لأجل تطرق بعض الاحتمالات غير المستلزمة للرضا في التصرف بخلاف الاسقاط، فإنه لا يتطرق إليه احتمال لايستلزم الرضا.

والآخر: أن مسقطية الرضا بالبيع المنكشف بالتصرف إنما هي لأجل أن مرجع الرضا بالبيع هو إسقاط حق الخيار، فنفس انشاء الاسقاط أولى بأن يكون مسقطاً مما يؤول إلى الاسقاط.

ص: 289


1- المكاسب 5/61.
2- وسائل الشيعة 18/13، ح1، الباب 4 من أبواب الخيار.

[والظاهر من مسلك الشيخ ارادة هذا الوجه].

واستشكل المحقّق الاصفهاني (رحمة الله) في كلا الوجهين

واستشكل المحقّق الاصفهاني(1) (رحمة الله) في كلا الوجهين

أما الثاني: فبما أفاده من أن الالتزام بالعقد والرضا به أحد طرفي حق الخيار - على ما تقدم - فهو إعمال للحق واستيفاء له لا إسقاط له، وزوال الشيء باستيفائه غير اسقاطه، فلا مساواة فضلاً عن الفحوى.

وأما الأوّل: فبما أفاده من أنه إنما يتم إذا كانت العبرة في الدلالة على الرضا بالكشف النوعي، إذ يمكن اختلاف الكاشف قوة وضعفاً من حيث تطرق احتمال الخلاف فيه وعدم تطرقه. أما إذا كانت العبره في نفس الرضا الفعلي، فهو مما لا يقبل الاختلاف، فالرضا الفعلي المتحقق في ضمن التصرف ليس معه احتمال عدم الرضا شخصاً، فلا أولوية في البين.

أقول: تقدم من الشيخ(2) (قدس سره) أن حق الخيار ليس إلّا حق فسخ العقد وعدمه وليس هو حق إبرام العقد وفسخه، وتقدم منا تقريب ذلك والاستدلال عليه.

إذن، فالرضا بالبيع ليس إعمالاً للحق بل يرجع إلى إسقاط الحق.

وأما مناقشته في الوجه الأوّل، فهي ترجع إلى نفي دعوى الاولوية على أحد التقديرين وهو ليس بمهم بعد تسليم ثبوت الرضا في مورد الاسقاط، فيثبت له الحكم ولو كان بالمساواة لا بالأولوية»(3).

الثالث: عموم قاعدة «لكلِّ ذي حقٍّ إسقاط حقّه»

قال الشيخ الأعظم: «مضافاً إلى القاعدة المسلّمة: من أنّ لكلّ ذي حقٍّ إسقاط

ص: 290


1- حاشية المكاسب 4/117، تعليقة 70.
2- المكاسب 5/12.
3- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/156.

حقّه، ولعلّه لفحوى تسلّط الناس على أموالهم، فهم أولى بالتسلّط على حقوقهم المتعلّقة بالأموال، ولا معنى لتسلّطهم على مثل هذه الحقوق الغير القابلة للنقل، إلّا نفوذ تصرّفهم فيها بما يشمل الاسقاط»(1).

«ولا يخفى أنّه لم يرد نص بهذا المضمون وإنما الدليل الذي استدل به عليها هو فحوى ما دل على أن: «الناس مسلطون على أموالهم»، فإنه يقتضي السلطنة على حقوقهم بالأولوية.

وقد قرّب المحقّق الاصفهاني(2) (رحمة الله) الأولوية المدعّاة بأن المراد من المال في قاعدة السلطنة هو المال المضاف إلى الناس باضافة الملكية، وإضافة الملكية أقوى من إضافة الحقية. فإذا كانوا مسلطين على أملاكهم فهم أولى بالسلطنة على حقوقهم لأن السلطنة على الأقوى تستلزم السلطنة على الأضعف بالأولوية.

وقد ذهب المحقّق الإيرواني(3) (رحمة الله) إلى إنكار الأولوية ببيان أن علقة الحقية أضعف من العلقة الملكية، ودلالة النص على إثبات السلطنة على العلقة القوية لا تقتضي السلطنة على العقلة الضعيفة فضلاً عن الأولوية، لأن إثبات شيء للقوي لا يستلزم إثباته للضعيف، بل الحال بالعكس فإن إثبات شيء للضعيف يقتضي ثبوته للقوي بطريق أولى.

والذي نراه في منشأ اختلاف المحققين في تقريب الأولوية ونفيها هو أن.

المحقّق الاصفهاني (رحمة الله) لاحظ كون السلطنة من شئون الشخص المالك ومقتضياته، فإذا كان الشخص ذا قدرة على إزالة العلقة القوية كانت له قدرة على إزالة العلقة الضعيفة بطريق أولى.

ص: 291


1- المكاسب 5/61.
2- حاشية المكاسب 4/118.
3- حاشية المكاسب 3/56.

وأما المحقق الإيرواني (رحمة الله)، فقد لاحظ السلطنة من شؤون ومقتضيات نفس العلقة. من الواضح أن الشيء القوي إذا اقتضى أمراً لم يستلزم أن يقتضي الضعيف ذلك الأمر فضلاً عن الأولوية بل الأمر بالعكس.

فالمدار في الاختلاف على ملاحظة السلطنة من شؤون الشخص ذي العلقة أو من شؤون نفس العلقة، فلاحظ»(1).

المناقشة في مقالة الشيخ الأعظم

يرد على الشيخ الأعظم (رحمة الله) أوّلاً: يبتني الاستدلال «على القول بالتشكيك بين الملك والحق، وهو غير معقول؛ لكونهما من الأمور الاعتبارية، ولا تشكيك فيها، وإنما التشكيك في الأمور الخارجية التكوينية، كالنور والقدرة.

نعم، ما يعقل في الأمور الاعتبارية اعتبار المرتبة الضعيفة والمرتبة الشديدة، ففي مورد يعتبر المرتبة الشديدة، وفي آخر يعتبر المرتبة الضعيفة، وهو معقول ثبوتاً، ولكن لا دليل عليه إثباتاً بين الملك والحق؛ لعدم الدليل على أن الشارع أو المعتبِر اعتبر الحق مرتبة ضعيفة من السلطنة والملك مرتبة شديدة منها، بل للحق اعتبارات مختلفة بحسب الموارد المختلفة، فيعتبر حق الأولوية في مورد، وحق الاختصاص في مورد آخر وهكذا، فالقول بأن الحق مرتبة ضعيفة من السلطنة في مقام الاعتبار دعوى بلا دليل.

[وثانياً]: سلمنا، ولكن قاعدة السلطنة - سواء كان مستندها النبوي أم السيرة العقلائية - إنما تثبت السلطنة على المال، ولا ملازمة بينها وبين السلطنة على الحق. نعم، لو كانت تثبت السلطنة على الملكية لأمكن أن يقال: بأن السلطنة على الأقوى - وهي الملكية - سلطنة على الأضعف - وهو الحق - بطريق أولى، ولكن المفروض أن مايثبته

ص: 292


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/157.

«الناس مسلطون على أموالهم» السلطنة على المال الذي هو طرف لإضافة الملكية لا السلطنة على نفس الملكية، والمعنى أن الناس مسلطون على أملاكهم لا على ملكياتهم.

وبعبارة أخرى: إن السلطنة على متعلّق الإضافة أمر آخر غير السلطنة على نفس الإضافة، والحق والملكية نحوان من الإضافة، وسلمنا أنهما مرتبتان من السلطنة وأن سلطنة الملكية أقوى من سلطنة الحق، فإذا قام الدليل على الأولىٰ فبالأولوية يدل على الثاني:؛ لأن الملكية أقوى من الحق، ولكن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ فإن الدليل دلّ على السلطنة على متعلّق الإضافة الأقوى وهو المال، لا على نفسها، فكيف يثبت بالفحوى السلطنة على نفس الإضافة الأضعف وهوا لحق؟! إن هو إلّا غير معقول.

[وثالثاً]: تنزلنا عن جميع ما سبق، ولكن لابد للفحوى من مستند، ولا استحسان في الأمور الشرعية، ولا علم لنا بمناطات الأحكام الواقعية، فكيف نحرز الملازمة بين جعل السلطنة على إسقاط الملكية وجعلها على إسقاط الحق؟! فمن المحتمل جداً أن يجعل الشارع السلطنة على إسقاط الملكية دون إسقاط الحق، ولا سبيل إلى القطع بأن الدليل إذا قام على السلطنة على إضافة الملكية فهو قائم على السلطنة على إضافة الحقية بالأولوية أو بالمساواة؛ فإنه يتوقف على القطع بالمناط ولا سبيل إليه، ومجرد الشك كاف في عدم الدعوى.

ودعوى الملازمة العرفية بين السلطنة على إسقاط الملكية والسلطنة على إسقاط الحق، إنما تفيد لو كانت قطعية، ومع توجه العرف إلى عدم الاعتبار بظنية ملاكات الأحكام، وإلى بطلان القياس لا يقطع بالملازمة، بل لا يرى العرف أي محذور في الانفكاك بين السلطنتين فيكون مسلطاً على إسقاط ملكيته دون حقه»(1).

ص: 293


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/(352-350).

فتحصل إلى هنا عدم تمامية ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) من الاستدلال بفحوى قاعدة السلطنة لا ثبات قاعدة «لكلِّ ذي حقٍّ إسقاط حقِّه».

ثمّ يقع الكلام في أنّ القاعدة المسلَّمة:

القاعدة المسلَّمة عند الشيخ الأعظم وهي: «لكلِّ ذي حقٍّ إسقاط حقِّه».

هل هي قاعدة ارتكازية عقلائية ولم يردع عنها الشارع أم لا؟!

نعم، هذه قاعدةٌ ارتكازيةٌ عقلائية شرعيّةٌ لانّ الشارع لم يردع عنها بل قرّره الشرع في نظائرها وأشباهها نحو:

حقّ القَسْم على ما ذكره جماعة كالشيخ(1) والعلّامة(2) والشهيد(3).

وحقوق القصاص والرهانة والتحجير والشرط.

وحقّ الشفعة على وجهٍ.

وحقّ الغيبة بناءً على وجوب إرضاء صاحبه وعدم كفاية التوبة.

وقد مرّ(4) منّا في بحث الحقوق في أوّل البيع أنّ الحقّ بطبيعته يقتضي جواز إسقاطه بل من لوازمه «جواز اسقاطه ما لم يمنع عنه مانع تعبدي أو من جهة قصور في كيفيّة جعله بحيث يكون متقوماً بشخص خاص أو عنوان خاص»(5).

الرابع: دليل الشرط لو فرض شموله للالتزام الإبتدائي

قال الشيخ الأعظم: «ويمكن الاستدلال له بدليل الشرط لو فرض شموله

ص: 294


1- المبسوط 4/325.
2- القواعد 2/45.
3- اللمعة الدمشقية /174.
4- راجع الآراء الفقهية 4/20.
5- الآراء الفقهية 4/22.

للالتزام الإبتدائي»(1).

«وأورد عليه: أوّلاً: بأن الإسقاط إعدام للخيار، فهو فعل خارجي لا يتعنون بعنوان الشرط ولا يكون مصداقاً له، كالأكل والشرب.(2)

وفيه: أنه لا إشكال في أن الإسقاط إعدام لحق الخيار، لكن لا بالمطابقة؛ فإن الإسقاط مفهوماً غير الإعدام، بل ملازم له، فسقوط الحق مقابل لثبوته، ولكلِّ ذي حقٍّ إسقاط حقّه، ولكن لا شك في اعتبار الالتزام في جميع الأمور الإنشائية والاعتبارية، إلّا أنه تارة يكون مربوطاً بالتزام آخر كما في البيع وسائر العقود، وأخرى ابتداء كما في الإيقاعات، والإسقاط أمر اعتباري وحقيقته التزام ذي الحق بإسقاط حقه، فقياسه على الأفعال التكوينية مع الفارق.

وثانياً: بما أورده بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الإسقاط عبارة عن الالتزام بعدم وجود الحق، ووجود الحق وعدمه ليسا باختيار صاحبه، بل باختيار الشارع.(3)

وفيه: - مضافاً إلى منافاته لما يتبناه(4) من أن الإسقاط على القاعدة، وتصريحه بأن الحق واقع تحت الاختيار، وما يكون واقعاً تحته قابل للإسقاط - أنه مخالف لمفاد صحيحة سليمان بن خالد(5) المتقدمة؛ إذ جعل فيها عدم الخيار تحت اختيار الملتزِم.

نعم، ما يرد على الاستدلال: أن الشرط إما أنه لا يصدق على الالتزامات الإبتدائية(6) أو يشك في صدقه عليها؛ لأن معناه لغة الالتزام المربوط بالتزام آخر، فلا

ص: 295


1- المكاسب 5/61.
2- حاشية المكاسب 3/56، رقم 98.
3- مصباح الفقاهة 6/141، التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/111.
4- راجع التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/96.
5- وسائل الشيعة 23/155، ح1.
6- كما اختارناه في الآراء الفقهية 4/(137-133).

يصدق على الالتزام الابتدائي، وهو الذي يساعد عليه العرف؛ فإنهم يسمون الالتزام الإبتدائي وعداً لا شرطاً.

ولا أقل من الشك في سعة مفهوم الشرط من جهة دخول الإسقاط فيه وعدمه، ومع كون الشبهة مفهومية فالتمسك بالدليل من التمسك به في الشبهة الموضوعية لنفس الدليل وهو باطل، فلا يمكن التمسك بدليل الشرط في المقام على كلا التقديرين»(1).

سقوط خيار المجلس بكلِّ لفظ دالّ عليه

قال الشيخ الأعظم: «ثمّ إنّ الظاهر سقوط الخيار بكلّ لفظٍ يدلّ عليه بإحدى الدلالات العرفيّة، للفحوى المتقدّمة، وفحوى ما دلّ على كفاية بعض الأفعال في إجازة عقد الفضولي(2)، وصدق «الإسقاط» النافذ بمقتضى ما تقدّم من التسلّط على إسقاط الحقوق؛ وعلى هذا فلو قال أحدهما: «أسقطت الخيار من الطرفين» فرضي الآخر سقط خيار الراضي أيضاً، لكون رضاه بإسقاط الآخر خيارَه إسقاطاً أيضاً»(3).

«ثمّ انّ الظاهر سقوطه بكلّ لفظ دالّ عليه بإحدى الدلالات العرفيّة، ولو كانت مجازيّة، أو كنائيّة.

لا لما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) من الفحوى المتقدّمة؛ أي فحوىٰ ما دلّ على سقوطه بالتصرّف، معلّلاً بأنّه رضا بالبيع.

ولا لفحوى ما دلّ على كفاية بعض الأفعال في إجازة عقد الفضولي؛ لأنّ شيئاً

ص: 296


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/353.
2- مثل: ما دلّ على أنّ سكوت البكر إجازة لنكاحها الفضولي، وسكوت المولى إجازة لنكاح العبد، راجع وسائل الشيعة 20/274، الباب 5 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، ووسائل الشيعة 21/117، الباب 26 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
3- المكاسب 5/61.

منهما لا يدلّ على أنّ الأفعال آلات لإسقاط الخيار تسبيباً، حتّى يقال: إنّ آليّة اللفظ أولى من الفعل.

بل التصرّف في الأوّل، إنّما يوجب لزوم البيع؛ لكونه رضا تعبّدياً، وهو أجنبي عن السقوط بالإسقاط، وبعض الأفعال في الثاني - لكشفه عن الرضا بالبيع - يوجب نفوذه، بناءً على عدم احتياج صحّة الفضولي إلى أزيد من لحوق الرضا به، وعليه فهو أجنبي عن المقام.

وعلى فرض كونه إجازة، لا يدلّ على صحّة الإسقاط بالقول، بل يدلّ على أولويّة الإجازة لفظاً في نفوذ البيع.

ولا لما أفاده أخيراً: من صدق «الإسقاط النافذ» بمقتضى ما تقدّم من التسلّط على إسقاط الحقوق؛ لما عرفت من أنّ دليل السلطنة، لا يثبت سببيّة الأسباب ونفوذها حتّى على فرض إطلاقه(1)، كما أنّ قاعدة أنّ لكلّ ذي حقّ إسقاط حقّه، غير ناظرة إلى أسباب السقوط.

بل لأنّ ما دلّ على إسقاطه عرفاً ولو بالدلالات المعتبرة المجازيّة، مسقط عقلائي، وهو كافٍ فيه بعد عدم ردع الشارع الأعظم.

ثمّ إنّ تعيين ما هو دالّ عليه بالدلالات المعتبرة، موكول إلى العرف.

وأمّا ما فرّعه على ذلك في ذيل كلامه؛ من أنّه لو قال أحدهما: «أسقطت الخيار من الطرفين» فرضي الآخر، سقط خيار الراضي أيضاً؛ لكون الرضا بإسقاط الآخر خياره إسقاطاً ايضا فصحّته موكولة إلى كون نحو قوله: «رضيت» - مترتّباً على الإسقاط - إسقاطاً بالدلالة العرفيّة، لا إجازة لإسقاطه، وهو غير خالٍ عن الإشكال.

ص: 297


1- تقدّم في الكتاب البيع 4/200.

وليس مراده ما احتمله بعض الأجلّة من الوجوه المذكورة في تعليقته(1)، بل الظاهر - بقرينة تفريعه على الدلالة اللفظيّة، وقوله: إنّ الرضا إسقاط - أنّ مراده إظهار الرضا لفظاً، لا الرضا الباطني، ولا الرضا بالبيع.

وترجع دعواه، إلى أنّ العرف يرى إظهار الرضا بالإسقاط مسقطاً، لا إجازة له، كما أنّه لو قال أحد للزوج؛ «إنّي أجزت زوجتك في الخروج عن المنزل» فقال: «رضيت بذلك» يعدّ ذلك إجازة لخروجها، لا إجازة للإجازة، والأمر سهل، وتعيين المصداق ليس من شأن الفقيه، وكون ذلك إسقاطاً لا يخلو من وجه، وإن لم يخلُ من إشكال»(2).

هذا تمام الكلام في هذه المسألة.

مسألة: لو قال أحدهما لصاحبه: «اختر»

تعرض الشيخ الأعظم إلى هذه المسألة «ولعلّ التعرض إلى ذلك باعتبار وروده في النص، فقد ذكر الشيخ(3) (قدس سره) أنه ورد في ذيل بعض أخبار خيار المجلس: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر(4)»(5).

«وهي مخدوشة سنداً ودلالة؛ أما السند فلأنها مرسلة كما في المستدرك، ولم ترد من طرقنا فلا اعتبار بها.

وأما الدلالة فلأنا لو خلينا وظاهرها لكان معناها: أنه بمجرد قول الآمر: «اختر» يسقط خياره، والحال أن السقوط عند من قال به يتوقف على الاختيار، ولا

ص: 298


1- حاشية المكاسب 2/26 للإصفهاني (رحمة الله).
2- كتاب البيع 4/(205-203)، للسيّد الخميني (قدس سره).
3- المكاسب 5/64.
4- مستدرك الوسائل 13/299، ح3؛ والرواية عامية رواها البخاري في صحيحه 3/17.
5- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/158.

يكتفي بقوله: اختر، فلا تصلح الرواية دليلاً على مدعاه، إلّا أن يقوم إجماع قطعي على خلاف ظاهرها وأن المراد منها أن يختار أحدهما بعد قول صاحبه: اختر، ولا يوجد مثل هذا الإجماع»(1).

وهكذا ورد روايات في باب الطلاق من تخيير الزوج لزوجته في أمر الطلاق:

منها: صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم عن أحدهما (علیه السلام) قال: لا خيار إلّا على طهر من غير جماع بشهود.(2)

ومنها: معتبرة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: قلت له: رجل خيّر امرأته، قال: إنما الخيار لها(3) ما داما في مجلسهما، فإذا تفرَّقا فلا خيار لها(4).(5)

ومنها: حسنه زرارة عن أحدهما (علیهما السلام)، قال: إذا اختارت نفسها، فهي تطليقة بائنة، وهو خاطب من الخطاب، وإن اختارت زوجها فلا شيء.(6)

ومنها: حسنة يزيد الكناسي عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: لا ترث المخيرة من زوجها شيئاً في عدَّتها؛ لأنَّ العصمة قد انقطعت فيما بينها وبين زوجها من ساعتها، فلا رجعة له عليها، ولا ميراث بينهما.(7)

ومنها: معتبرة حمران قال: سمعت أباجعفر (علیه السلام) يقول: المخيّرة تبين من ساعتها من غير طلاق، ولا ميراث بينهما؛ لأنَّ العصمة(8) قد بانت منها ساعة كان ذلك منها

ص: 299


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/356.
2- وسائل الشيعة 22/94، ح8، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه.
3- في الاستبصار 3/313، ح1115: «لهما».
4- في الاستبصار 3/313، ح1115: «لهما».
5- وسائل الشيعة 22/94، ح7.
6- وسائل الشيعة 22/94، ح9.
7- وسائل الشيعة 22/94، ح10.
8- في الاستبصار 3/314، ح1119 زيادة: «بينهما».

ومن الزوج.(1)

ومنها: موثقة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: قلت له: رجل خيّر امرأته، فقال: إنّما الخيار لها ما داما في مجلسهما، فإذا تفرَّقا فلا خيار لها، فقلت: - أصلحك الله - فان طلّقت نفسها ثلاثاً قبل أن يتفرَّقا من مجلسهما، قال: لا يكون أكثر من واحدة، وهو أحقُّ برجعتها قبل أن تنقضى عدَّتها، قد خيّر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) نساءه، فاخترنه، فكان ذلك طلاقاً، قال: قلت له: لو اخترن أنفسهنَّ؟ قال: فقال لي: ما ظنك برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لو اخترن أنفسهنَّ أكان يمسكهنَّ؟!(2)

ومنها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: إذا خيّرها، و جعل أمرها بيدها في غير قبل عدَّتها من غير أن يشهد شاهدين، فليس بشيء، وإن خيَّرها، وجعل أمرها بيدها بشهادة شاهدين في قبل عدَّتها، فهي بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن اختارت نفسها فهي واحدة، وهو أحق برجعتها، وإن اختارت زوجها فليس بطلاق.(3)

ومنها: حسنة الحسن بن زياد الصيقل عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: الطلاق أن يقول الرجل لامرأته: اختاري، فان اختارت نفسها فقد بانت منه، وهو خاطب من الخطّاب، وإن اختارت زوجها فليس بشيء، أو يقول: أنت طالق، فأيّ ذلك فعل فقد حرمت عليه، ولا يكون طلاق، ولا خلع، ولا مباراة، ولا تخيير إلّا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين.(4)

ومنها: صحيحة الفضيل بن يسار قال: سألت أباعبدالله (علیه السلام) عن رجل قال

ص: 300


1- وسائل الشيعة 22/95، ح11.
2- وسائل الشيعة 22/95، ح12.
3- وسائل الشيعة 22/96، ح14.
4- وسائل الشيعة 22/96، ح15.

لامرأته: قد جعلت الخيار إليك، فاختارت نفسها قبل أن تقوم؟ قال: يجوز ذلك عليه، فقلت: فلها متعة؟ قال: نعم، قلت: فلها ميراث إن مات الزوج قبل أن تنقضي عدَّتها؟ قال: نعم، وإن ماتت هي ورثها الزوج.(1)

أقول: ولكن أعرضوا الأصحاب عن العمل بهذه الروايات لما حقّق في محلّه من انحصار الطلاق في الصيغة الخاصة إمّا أصالة أو وكالة وحملوا هذه الروايات على التقية - كما عن شيخ الطائفة(2) - أو على اختصاصها بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة (علیهم السلام)، أو على أنّ الزوج وكّل المرأة في طلاق نفسها، أو على ما لو طلّقها الزوج بعد التخيير، أو على استحباب طلاقها لو اختارت نفسها ويحتمل غير ذلك والله أعلم.(3)

ولذا جعل صاحب الوسائل عنوان الباب هكذا: «باب من خيّر امرأته لم يقع بها طلاق بمجرد التخيير وإن اختارت نفسها، فإن وكّلها في طلاق نفسها ففعلت وقع مع الشرائط»(4).

وقال المحقّق: «ولو خيّرها وقصد الطلاق، فإن اختارته أو سكتت لو لحظةً، فلا حكم. وإن اختارت نفسها في الحال؛ قيل: يقع الفرقة بائنةً؛ وقيل: تقع رجعيّةً؛ وقيل: لا حكم له، وعليه الأكثر»(5).

وقال صاحب الجواهر في شرح كلامه: «(ولو خيّرها وقصد) تفويض (الطلاق) إليها وجعله بيدها (فإن اختارته) أي الزوج (أو سكتت ولو لحظة) تقدح في الاتّصال عرفاً (فلا حكم) له عندنا، بل وعند المخالفين عدا مالك منهم، فإنّه قال:

ص: 301


1- وسائل الشيعة 22/97، ح17.
2- راجع التهذيب 8/89، ح304؛ الاستبصار 3/313، ح1115.
3- راجع وسائل الشيعة 22/95، ذيل ح12.
4- وسائل الشيعة 22/92.
5- الشرائع 3/9.

تكون عنده مع اختيارها له على طلقة.(1)

وفي إيضاح الفخر: «إذا تأخّر اختيارها لم يقع اتّفاقاً، وإن اختارت عقيب قوله بلا فصل فالأكثر كالشيخ أنّه لا يقع»(2).

لكن عن ابن أبي عقيل: الاكتفاء باختيارها في المجلس.(3) ولعلّه لخبر زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) : «قلت له: رجل خيّر امرأته؟ فقال: إنّما الخيار لهما ما داما في مجلسهما، فإذا تفرّقا فلا خيار لهما»(4).

(وإن اختارت نفسها) بقصد الطلاق (في الحال، قيل) والقائل بعض العامّة(5): (تقع(6)الفرقة بائنة) نعم عن ابن الجنيد منّا ذلك إذا كان بعوض.(7)

(وقيل) والقائل بعض آخر منهم(8)وابن أبي عقيل منّا(9): (تقع(10)).

الفرقة (رجعيّة).

(وقيل: لا حكم له) أصلاً (وعليه الأكثر) بل لم يحك(11)الخلاف في ذلك إلّا

ص: 302


1- الإشراف (لابن المنذر) 1/160.
2- إيضاح الفوائد 3/308.
3- نقله عنه العلّامة في المختلف 7/(340-339).
4- الاستبصار 3/313، ح5، باب 182 حكم من خيّر امرأته؛ تهذب الأحكام 8/89، ح222، باب 3 أحكام الطلاق؛ وسائل الشيعة 22/94، ح7، باب 41 ذمن أبواب المقدّمات الطلاق.
5- الحاوي الكبير 10/173؛ حلية العلماء 7/(41-40)؛ روضة الطالبين 7/46.
6- في نسخة الشرائع: يقع.
7- نقله عنه العلّامة في المختلف 7/339.
8- الحاوي الكبير 10/173؛ حلية العلماء 7/(41-40)؛ روضة الطالبين 7/46.
9- الهامش السابق /(340-339).
10- في نسخة الشرائع: يقع.
11- وقعت الحكاية في الحدائق الناضرة 25/217.

من ابني أبي عقيل(1) والجنيد(2) والمرتضى(3)، بل ظاهر ما حضرني من انتصار الأخير منهم عدم القول به(4)، فينحصر الخلاف حينئذٍ في الأوّلين.

وأمّا الصدوق فأقصاه أنّه روى ما يدلّ على ذلك(5)، وقد رجع عمّا ذكره في أوّل كتابه(6) من أنّه لا يروي فيه إلّا ما يعمل عليه، كما لا يخفى على المتصفّح له.

وعلى كلّ حال، فهو من الأقوال النادرة المهجورة»(7).

وبالجملة: لا يمكن استفاده حكم في المقام لا من الرواية العامية الأولى ولا من هذه الروايات التي أعرضوا الأصحاب عنها.

«وعلى كلِّ، فقبل الدخول في المسألة ينبغي التنبيه على شيء وهو: أن البحث فيها يقع على بعض المباني في حقيقة الخيار لا على جميعها، فقد عرفت الكلام في أن [1] حق الخيار هل يتقوم بأمرين أحدهما حق إبرام العقد والآخر حق فسخ العقد - كما عليه المحقّق الاصفهاني(8) (رحمة الله) - أو أنه عبارة عن [2] حق فسخ العقد وعدمه، كما قربناه تبعاً للشيخ (قدس سره).

ثمّ إنه بناء على المسلك الأوّل يقع الكلام في أنه [أ] إذا تحقق إبرام العقد من قبل أحدهما، فهل يترتب عليه إبرام العقد بقول مطلق بحيث لا يبقى مجال لإعمال الآخر حقَّ خياره باختيار الفسخ [ب] أو أنه إنما يترتب عليه إبرام العقد من ناحيته فقط؟

ص: 303


1- تقدّم مصدرهما آنفاً.
2- تقدّم مصدرهما آنفاً.
3- المسائل الموصليّات الثالثة (رسائل المرتضى) 1/(242-241)، مسألة 55.
4- الانتصار /(302-300)، مسألة 169.
5- من لا يحضره الفقيه 3/518، ح 4811 و 4812، باب التخيير.
6- من لا يحضره الفقيه 1/3.
7- الجواهر 33/(124-122) [32/67 و 68].
8- حاشية المكاسب 4/15.

ولا يخفى عليك أن الكلام في سقوط خيار الآمر وعدمه عند اختيار المأمور الامضاء الذي هو محل البحث في هذه المسألة إنما يتأتى على المسلك الثاني في حق الخيار أو الوجه الثاني من وجهي المسلك الأوّل. أما بناء على الوجه الأوّل منهما، فلا مجال للبحث، لأن إمضاء المأمور يستلزم إبرام العقد ولزومه بقول مطلق الملازم لعدم ثبوت خيار لأيِّ شخص، فلا معنى للبحث عن سقوط خيار الآمر وعدمه، فالتفت.

وكيف كان، فقد ذكر الشيخ (قدس سره) أن المأمور بالختيار لا يخلو إما أن يختار الفسخ، أو يختار الامضاء، أو يسكت.

فإن اختار الفسخ، فلا مجال للبحث في بقاء حق الخيار للآمر لإنفساخ العقد بفسخه، وهو مما لا يتصور فيه أن يكون من طرف دون آخر، فلا معنى لأن يكون العقد منفسخاً من طرف وغير منفسخ من طرف آخر. وعليه، فلا موضوع للخيار بعد الفسخ.

وإن اختار الإمضاء فالأقوال ثلاثة:

الأوّل: الالتزام بسقوط خيار الآمر وهو ظاهر الأكثر.

الثاني: الالتزام بسقوط خياره مع إرادته بأمره تمليك الخيار لصاحبه وإلّا فهو باق مطلقاً - سواء أراد التفويض أم استكشاف الحال - وهو ظاهر التذكرة(1).

الثالث: الالتزام بسقوط خياره مع إرادته تمليك الخيار لصاحبه أو تفويض الأمر إليه، وأما مع إرادة استكشاف الحال فلا يسقط خياره.

وإن اختار السكوت، فالأقوال ثلاثة أيضاً.

الأوّل: بقاء الخيار مطلقاً.

الثاني: السقوط مطلقاً.

ص: 304


1- تذكرة الفقهاء 11/33.

الثالث: السقوط مع إرادة التمليك، وهو للتذكرة(1).

والذي أفاده (قدس سره) في هذا المقام: هو أن كلمة. «اختر» بحسب وضعه ظاهرة في طلب الاختيار لأحد الأمرين من الفسخ والامضاء، ولا ظهور له في تمليك الخيار أو تفويض الأمر إليه، نعم ظاهره عرفاً كونه لأجل استكشاف حال المخاطب وأنه ماذا ينوي؟ وكأنه في العرف السابق كان ظاهراً في تمليك المخاطب، كما يظهر من [بعض روايات](2) باب الطلاق، وعليه يحمل النص السابق على تقدير صحة سنده.

وعليه، فإن تمت دلالته على إسقاط الآمر خياره فهو وإلا فلا مزيل لخياره.

وتحقيق المقام: أن ظاهر كلمة: «اختر» - بحسب مادتها وهيئتها - وإن كان هو طلب اختيار أحد الأمرين من الفسخ أو عدمه، إلّا أنه لا مجال للأخذ بهذا الظاهر ههنا بعد فرض أن المأمور له الخيار وأنّ له الفسخ وعدمه.

كما أنه لا مجال لحمله على إرادة استكشاف الحال، لأنه قد يتخلف ولا ينكشف الحال للآمر، إذ له أن يسكت خصوصاً لو التفت إلى أن غرض الآمر ذلك.

وأيضاً لا يمكن حمله على إرادة تمليك الخيار للمأمور لأن حق الخيار لا يقبل النقل إلى الغير.

وبعد بطلان هذه المحتملات يدور الأمر بين احتمالين احتمال كون الآمر قاصداً إسقاط حقه الثابت له وعزل نفسه عن هذا الشأن وحصره بالمأمور، واحتمال كونه في مقام تفويض أمر خياره للمأمور توكيله في إعماله، فالراجح هو الأوّل، لأن مثل هذه الكلمة عادة إنما تقال في مقام تكريم الطرف الآخر وتبجيله، وهذا إنما يتناسب مع عزل الآمر نفسه عن المأمور به بالمرة، وتوكيله الطرف الآخر في إعمال حقه لا يستلزم

ص: 305


1- تذكرة الفقهاء 11/33.
2- مرّت آنفاً.

انعزاله عن ذلك إذ له أن يعدل عن التوكيل ويقوم بالآمر بنفسه خصوصاً بملاحظة أن الوكيل لابدّ أن يلاحظ مصلحة الموكل، فتقييده بما يكون له فيه مصلحة المستلزم لأن يكون على الوكيل ضرر أحياناً خلف كونه في مقام التعظيم.

وبذلك نقول إن هذه الكلمة ظاهرة في إسقاط الآمر حق الخيار الثابت له، ومقتضى ذلك سقوطه مطلقاً في جميع الصور الثلاث، ويكون الحكم في النص(1) على طبق ظاهر الكلام. فلاحظ»(2).

والحاصل: إن تمت قرينيّة التكريم والتبجيل والإحترام لإسقاط الآمر خياره وجعل تعيين اختيار العقد للمأمور، فيمكن أن يقال بسقوط خيار الآمر في جميع الصور الثلاث، وأمّا إن لم تتم هذه القرينة ولم يعيّن اختيار العقد له فيمكن أن يقال ببقاء خيار الآمر في صورتي الإمضاء والسكوت من المأمور كما عليه الشيخ الأعظم (قدس سره) والله العالم.

فرعان

تعرَّض الشيخ الأعظم(3) لفرعين:

«الأوّل: لو أسقط أحدهما خياره لم يسقط خيار الطرف الآخر بلا إشكال، وهو واضح.

الثاني: لو أمضى أحدهما البيع وفسخ الآخر انفسخ العقد؛ لأنه مقتضى ثبوت حق الخيار لكل منهما؛ فإمضاء أحدهما للعقد إعمال لحقه وإنفاذ للعقد من جهته، ولكنه لا يرفع حق الطرف الآخر في الفسخ، ولا ربط لذلك بمسألة تعارض الإجازة

ص: 306


1- مستدرك الوسائل 13/299، ح3.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(161-158).
3- المكاسب 5/65.

والفسخ وتساقطهما أو تقديم الفسخ عليها كما ذهب إليه العلّامة (قدس سره) ؛ فإن موردها ما إذا اتحد الحق وصاحبه، وأما مع تعددهما - كما في ما نحن فيه - فلا؛ فإن متعلّق خيار كل منهما مغاير لمتعلق خيار الآخر فلا موضوع للتعارض»(1).

موارد تعارض الإجازة والفسخ

«وبهذه المناسبة تعرَّض الشيخ [الأعظم](2) (قدس سره) إلى موارد تعارض الإجازة والفسخ وهي صور ثلاث:

الصورة الأولى: ما لو اقتضت الإجازة من أحدهما لزوم العقد من الطرفين، سواء أكان المجيز والفاسخ واحداً أو متعدداً، الأوّل كما لو أجاز قولاً وفسخ فعلاً بالكتابة مثلاً في آن واحد، والثاني كما لو أجاز الأصيل وفسخ الوكيل في آن واحد.

الصورة الثانية: أن يتصرّف ذو الخيار في العوضين دفعة واحدة كما لو باع عبداً بجارية ثمّ أعتقهما معاً؛ فإن إعتاق العبد فسخ للبيع، وإعتاق الجارية إجازة له.

الصورة الثالثة: ما لو اختلف الورثة في الفسخ والإمضاء ففسخ بعضهم وأجاز الآخر.

وظاهر العلّامة (قدس سره) في الصور المذكورة تقديم الفسخ.(3)

وملخص ما أفاده الشيخ (قدس سره) أنه كلّما كان الحق متعدداً - كخيار المجلس؛ فإن لكل من البيّعين حقاً - فإن أمضى أحدهما وأجاز الآخر فلا تعارض بين الفسخ والإمضاء، وكلما كان الحق واحداً سواء أكان صاحب الحق واحداً أم متعدداً

ص: 307


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/366.
2- المكاسب 5/65.
3- تذكرة الفقهاء 11/33؛ وهو موجود أيضاً في تذكرة الفقهاء 11/187؛ وقواعد الأحكام 2/70.

كالأصيل والوكيل أو الورثة فهو مورد لتعارض الفسخ والإمضاء»(1).

أجمال القول في موارد التعارض

وأمّا حكم صور التعارض بين الإجازة والفسخ على نحو الإجمال:

«الأولى: ما إذا كان الحق واحداً، سواء أقام بواحد أم بمتعدد، والأوّل كأن يكون الحق لوارث واحد، فإن أمضى صار العقد لازماً ولم يبق موضوع لفسخه؛ لأن الحق واحد واستفاد منه في الإنفاذ، وإن فسخ لم يبق موضوع لإمضائه.

نعم، لو أمضى وفسخ في آن واحد - كأن أمضى العقد بالقول وفسخ بالكتابة في وقت واحد - وقع التعارض، ومقتضى القاعدة التساقط؛ لأنه أنشأ الفسخ والإمضاء ويستحيل تحققهما معاً؛ لاستلزامه الجمع بين الضدين، وتحقق أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، وأحدهما المردد محال؛ لأنه لا ماهية له ولا هوية، فيتعين التساقط.

ومثله الأصيل والوكيل، والوكيلان عن واحد»(2).

وأمّا الثانية: ف- «لا يوجد عندنا في مورد كل واحد من العتقين إنشاءان، بل في كل واحد منهما إنشاء واحد، فإنشاء واحد لعتق العبد وهو كاشف عن فسخ العقد أو سبب له، وإنشاء واحد لعتق الجارية وهو كاشف عن إمضاء العقد أو سبب له، والفرض أن هذين الإنشائين متعارضان فيسقطان للمعارضة، فلم يبق سبب لعتق الجارية، فالالتزام بصحة عتقها التزام بالمسبب بلا سبب؛ لسقوط السبب بالمعارضة.

وعليه فالحق ما أفاده الشيخ (قدس سره) من بطلان عتق كل من العبد والجارية»(3).

وأمّا الثالثة: ف- «هو ما إذا قام الحق بمتعدد - كأن يقوم الحق بطبيعي الوارث

ص: 308


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/366.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/374.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/379.

وكان متعدداً، فإن له مصاديق متعددة حينئذ، ولكن الحق لا يتعدد بتعدده؛ لأنه قائم بالطبيعي بما هو، فلا مناص هنا من سقوط الحق بمجرد إمضاء أحد الورثة؛ لأن الطبيعي - وهو ما قام الحق به - يصدق على أحدهم، وقد اختار الإمضاء، وإن فسخ انفسخ البيع.

وإذا أمضى أحدهم وفسخ الآخر في آن واحد وقع التعارض وكان مقتضى القاعدة التساقط بنحو ما قلناه في الصورة السابقة.

نعم، ما قلناه يتوقف على أن يكون المختار في باب إرث الخيار هذا الوجه، ولكن سيأتي في محله(1)- إن شاء الله - أنا لا نقول به ولا الشيخ (قدس سره) أيضاً يقول به»(2).

وليس تحقيقه في هذا المقام وسوف يأتي من الشيخ الأعظم(3) إيضاحه والتحقيق فيه فانتظر.

وهذا تمام الكلام في هذه المسألة. والحمد لله.

ص: 309


1- وهو بحث إرث الخيار.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 1/375.
3- المكاسب 6/117.
3- مسألةٌ: افتراق المتبايعين
اشارة

المسقط الثالث من مسقطات خيار المجلس افتراق المتبايعين.

ولكن في العنوان مسامحة لأنّ افتراقهما غاية خيار المجلس وينتهي الخيار بها، والفرق بين المسقط والغاية واضحٌ والأمرُ سهلٌ.

ثمّ يقع البحث في جهات:

الجهة الأولى: الشبهة الحكمية

وفيها بحوث:

البحث الأوّل: في أصل كون الافتراق مسقطاً لخيار المجلس قال سيد المفتاح: «يسقط خيار المجلس بالافتراق بالنصّ والإجماع المحكي في الخلاف(1) والتذكرة(2) وظاهر الغنية(3) أو صريحها. وفي الكفاية(4) لا أعلم فيه خلافاً. وفي الخلاف(5) أيضاً أنّه لاخلاف فيه بين العلماء»(6).

ص: 310


1- الخلاف 3/23، مسألة 29.
2- تذكرة الفقهاء 11/21.
3- غنية النزوع /217.
4- كفاية الأحكام 1/462.
5- الخلاف 3/23، مسألة 29.
6- مفتاح الكرامة 14/137.

وقال الشيخ الأعظم: «لا إشكال في سقوط الخيار به، ولا في عدم اعتبار ظهوره في رضاهما بالبيع، وإن كان ظاهر بعض الأخبار ذلك، مثل قوله (علیه السلام) : «فإذا افترقا فلا خيار [لهما](1) بعد الرضا [منهما](2)»(3)»(4).

أقول: لا إشكال في أصل الحكم بسقوط خيار المجلس في فرض افتراق المتبايعين لما ورد من النصوص الكثيرة الدالة على أنّ الافتراق غاية له مع اختلاف تعابيرها:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم: البيعان بالخيار حتّى يفترقا.(5)

ونحوها: صحيحة زرارة(6) وصحيحة فضيل(7) الماضية في كلام الشيخ الأعظم وصحيحة الحلبي(8) وصحيحة أخرى لمحمّد بن مسلم(9).

ومنها: حسنة علي بن أسباط: الخيار... وفي غير الحيوان أن يفترقا... .(10)

ومنها: صحيحة عمر بن محمّد بن يزيد أبي الأسود بيّاع السابري: ... وهما بالخيار ما لم يفترقا... .(11)

البحث الثاني: هل الافتراق مسقط بذاته أو بما هو كاشف عن الرضا النوعي أو

ص: 311


1- ليس في النّص.
2- وردّ في النّص.
3- وسائل الشيعة 18/6، ح3، الباب الأوّل من أبواب الخيار، صحيحة فضيل.
4- المكاسب 5/66.
5- وسائل الشيعة 18/5، ح1، الباب 1 من أبواب الخيار.
6- وسائل الشيعة 18/5، ح2.
7- وسائل الشيعة 18/6، ح3.
8- وسائل الشيعة 18/6، ح4.
9- وسائل الشيعة 18/10، ح3، الباب 3 من أبواب الخيار.
10- وسائل الشيعة 18/6، ح5.
11- وسائل الشيعة 18/7، ح6.

الشخصي؟

قال الشيخ الأعظم (رحمة الله) هنا كما مرّ: «ولا اشكال... ولا في عدم اعتبار ظهوره في رضاهما بالبيع»(1).

وقال في المسألة الآتية: «... وإلى أنّ المتبادر من التفرق ما كان عن رضا بالعقد سواء وقع اختياراً أو اضطراراً...»(2).

أقول: الظاهر من كلام الشيخ الأعظم الأخير أنّه يرى صحيحة الفضيل(3) الماضية دالة على اعتبار دلالة الإفتراق على الرضا في سقوط الخيار ولكن في كلامه الأوّل لم يعتد بظهورها ولم يعلم وجهه! فهل نظره في مسألتنا هذه [الكلام الأوّل] إلى انكار دلالة الصحيحة أو وقوع التسالم على خلاف دلالتها؟ وهذا تهافتٌ بين ظاهر الكلامين!!!

فحينئذ «لابدّ من إيقاع البحث في مفاد الرواية ومعرفة المراد منها، فنقول: إن محتملات الرواية متعددة(4):

الأوّل: أن يكون المراد بالرضا هو الرضا بالمعاملة حدوثاً، فتفيد الرواية: عدم ثبوت الخيار عند الافتراق بعد صدور المعاملة عن رضا من الطرفين [واختاره السيّد الطباطبائي](5).

الثاني: أن يراد بالرضا الرضا بالمعاملة بقاءً بمعنى عدم الفسخ بعد وقوعها، فتفيد الرواية: عدم ثبوت الخيار عند الافتراق وعدم صدور الفسخ من أحد الطرفين

ص: 312


1- المكاسب 5/66.
2- المكاسب 5/71.
3- وسائل الشيعة 18/6، ح3.
4- ويأتي البحث حول هذا المحتملات في المسألة الآتية أيضاً فانتظر.
5- حاشية المكاسب 2/418، رقم 586.

[واختاره المحقق الإيرواني](1).

الثالث: أن يراد به الرضا بالافتراق في قبال الافتراق لا عن رضا بل عن إكراه أو اضطرار، فتفيد الرواية: أن الافتراق إنما يوجب سقوط الخيار إذا صدر عن رضا لا ما إذا صدر عن إكراه أو اضطرار. [وهو مختار الشيخ الأعظم في المسألة الآتية].

الرابع: أن يراد بيان دخل الرضا في لزوم المعاملة وهو مما يتصور على نحوين:

1/4- أحدهما: أن يكون المدار في السقوط إذا تحقق العلم برضاهما في مرحلة سابقة عليه.

2/4- والآخر: أن يكون المدار في السقوط على الافتراق بما هو كاشف عن الرضا لا بما هو هو. فهذه محتملات خمسة.

أما الأوّل: فهو بعيد جداً لأن الرضا بالمعاملة عند حدوثها [إن دلّ دليل على اعتباره فهو] من شرائط صحتها، وبدونه لا تكون صحيحة.

ومن الواضح أنه ليست الرواية في مقام بيان اعتبار ما هو دخيل في صحة المعاملة لكي تكون مورداً لثبوت الخيار وعدمه، إذ المعاملة الباطلة خارجة عن مقسم الخيار وعدمه.

وأما الثاني، فهو بعيد عن ظاهر الرواية جداً وإن استقربه المحقق الإيرواني(2) (رحمة الله)، بدعوى: أن حصول اللزوم عند التفرق في فرض عدم تحقق الفسخ قبله وإلّا فلا موضوع للزوم.

وأما الثالث، فهو بعيد أيضاً عن ظاهر الرواية، كما اعترف بذلك من احتمله وهو المحقّق الإيرواني(3) (رحمة الله).

ص: 313


1- حاشية المكاسب 3/59، رقم 104.
2- حاشية المكاسب 3/59، رقم 104.
3- حاشية المكاسب 3/59، رقم 104.

وأما الرابع، فهو ممنوع، لأن الرضا بالمعاملة بنفسه موجب لسقوط الخيار على ما تقدم بيانه. وعليه، ففيما نحن فيه يكون المستلزم للسقوط هو الرضا لأنه يوجب اللزوم، كما عرفت. وهذا يستلزم عدم دخل الافتراق أصلاً في ترتب السقوط وهو يخالف ظهور النصوص في أن للافتراق دخلاً في سقوط الخيار.

فيتعين بعد بطلان جميع هذه المحتملات الالتزام بالمحتمل الخامس [2/4] فيكون الموجب للسقوط هو الافتراق بما هو كاشف عن الرضا.

ومثل هذا التعبير كثير عرفاً، فمثلاً إذا تكلم شخص بما يوجب هتك صديقه يقول له الصديق: «أنّه لا صداقة بيننا بعد الإهانة»، فإنه ظاهر في أن الكلام الصادر مزيل للصداقة باعتبار أنه إهانة وهتك. فتدبر»(1).

ولكن مع ذلك كلّه لا يمكن الأخذ بصحيحة الفضيل(2) الوارده في المقام وأخذ الرضا قيداً في الافتراق لأمرين:

«الأمر الأوّل: انَّ هذه الرواية تخالف - في أخذ الرضا قيداً في الافتراق - الروايات الكثيرة الواردة في الباب قبل صدورها وبعده؛ حيث وردت عن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، وبيّن الأئمة (علیهم السلام) وظيفة المتبايعين في حدّ الخيارببيان الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكلّها فاقدة للقيد، فتقييد الروايات جميعها بهذه الرواية لا يخلو من تأمل، لا سيّما وأن بعض الروايات كانت واردة في مقام العمل، ولم يفصّل الإمام (علیه السلام) في بيان الجواب.

وأما كون التقييد هو الموافق للصناعة الأصولية على أساس عدم المانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كان ذلك لمصلحة، ولهذا كان المعروف عند الأصوليين في مثل هذه الموارد هو التعامل مع الروايات معاملة المطلق والمقيد.

ص: 314


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/162 و 163.
2- وسائل الشيعة 18/6، ح3.

فتام، ولكن الفتوى على طبقه في مثل المقام في غاية الإشكال؛ إذ مورد القاعدة الأصولية ما إذا ورد مطلق وتأخر التقييد عن وقت الحاجة مع احتمال كون تأخير بيانه لأجل مصلحة، ولكن احتمال وجود المصلحة في التأخير في مثل المقام الذي تأخر فيه البيان منذ زمان الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى زمان الأئمة (علیهم السلام) احتمال غير عقلائي.

الأمر الثاني: أن هذه الرواية التي أخذت قيد الرضا بمرأى ومسمع من الفقهاء، ومع أنها صحيحة السند إلّا أن الشهرة القريبة من الاتفاق قامت على عدم التقييد، ومتى ما أعرض المشهور القريب من الاتفاق عن الدلالة كان موهناً لها، كما قرّر في محله من الأصول؛ فإن مستند الظهورات سيرة العقلاء، وهي دليل لبّي، يقتصر فيه على القدر المتيقن، فالالتزام بالتقييد - والحال هذه - محل تأمل»(1).

المرجع عند الشك في مفهوم الافتراق

«المرجع عند الشك لا يخلو من أحد أمور ثلاثة:

الأوّل: عموم قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(2).

الثاني: إطلاق دليل الخيار.

الثالث: استصحاب بقاء الخيار.

وقد اختار الشيخ(3) (قدس سره) الاستصحاب.

ويرد عليه:

أوّلاً: أن استصحاب الخيار قاصر عن الجريان من حيث المقتضي؛ لاعتبار وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة لكي يصدق نقض اليقين بالشك وإلّا لم يجر، وما

ص: 315


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/85.
2- سورة المائدة /1.
3- المكاسب 5/67.

نحن فيه لم تتحد فيه القضيتان.

بيان ذلك: أن الشبهة على نحوين: موضوعية، وحكمية.

أما الأولى فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيها؛ لتمامية أركانه.

وأما الثانية، فإن كان المتبدّل من حالات الموضوع مع بقاء الموضوع في القضيتين المتيقنة والمشكوكة جرى الاستصحاب أيضاً، كما لو تغير الماء بوصف النجاسة؛ فإن النجاسة عارضة على ذات الماء، والتغير علة لثبوت الحكم بالنجاسه، فإذا زال التغير وشك في بقاء الحكم بالنجاسة استصحب بقاؤه بلا إشكال؛ لأن موضوع النجاسة، هو الماء وهو موجود بجميع أجزائه، والتغير علة لثبوت الحكم لا جزء من الموضوع.

وإن كان منشأ الشبهة الحكمية هي الشبهة المفهومية، بمعنى أن يشك في صدق المفهوم، عاد الشك إلى بقاء الموضوع، وحينئذ إن جرى الاستصحاب في الموضوع في الشبهة المفهومية انحلَّ الإشكال، ولكنه ليس كذلك؛ لعدم الشك في أمر خارجي، بل الشك في صدق المفهوم وعدمه، ومثله لا يكون موضوعاً للاستصحاب، واستصحاب الحكم - وهو الخيار في المقام - لا يجري أيضاً؛ إذ - مع الشك في بقاء الموضوع - يكون من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية لنفس الدليل، وهو باطل؛ لتوقف الاستصحاب على صدق نقض اليقين بالشك، ومع الشك في الموضوع لا يحرز صدقه.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ للشك في صدق الافتراق بالتفرق بخطوة، فيشك في زوال الهيئة الاجتماعية وبقائها، واستصحاب الخيار مع الشك في بقاء موضوعه من التمسك بدليل الاستصحاب في شبهته الموضوعية؛ لأنه من التمسك بلا تنقض مع الشك في صدق النقض.

وثانياً: أنه لا مورد للاستصحاب في المقام مع إمكان التمسك بعموم قوله

ص: 316

تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾؛ فإن المستفاد من الآية الكريمة - بالدلالة المطابقية أو الالتزامية - لزوم العقود مطلقاً، وخُصِّص عمومها بدليل «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»، وتردد المخصِّص المنفصل بين الأقل والأكثر؛ للشك في مفهوم الافتراق، ومع إجماله يقتصر في التخصيص على القدر المتيقن، وهو صورة الاجتماع، وبما أن حالة التفرق بمثل الخطوة مشكوكة الخروج فتبقى تحت عموم العام»(1).

الجهة الثانية: الشبهة الموضوعية
اشارة

قد مرّ(2) منّا في أوّل بحث خيار المجلس، «المراد من المجلس» وذهبنا هناك إلى عدم اعتبار اجتماع المتبايعين في المجلس الواحد نحو جلوسهما في غرفة واحدة حتّى يصدق أنّهما مجتمعين ويترتب عليه خيار المجلس، فلا نعيد هذا البحث وراجع ما حررناه هناك.

أمّا الافتراق
اشارة

فموضوع افتراق المتبايعين بأيِّ شيءٍ يتحقّق؟ ذكر الشيخ الأعظم(3) هنا أقوال ثلاثة:

1- أدنى الانتقال ولو كان أقل من خطوة

والظاهر هو مختار الشيخ الأعظم حيث يقول: «فلو تبايعا في سفيتين متلاصقتين كفى مجرد افتراقهما»(4).

مراده: صدق الافتراق بأدنى ما ينتقل عن الهيئة الإجماعية التي كانت لهما وقت

ص: 317


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(26-24).
2- راجع هذا المجلد، صفحة 147.
3- المكاسب 5/66 و 67.
4- المكاسب 5/67.

العقد ولو بأقل من خطوة.

ويعبّر عنه بطبيعي الإفتراق أو مطلق افتراق المتبعايعين.

ولعل هذا معنى قول العلّامة في التحرير: «بأدنى انتقال»(1)، وثاني الشهيدين في المسالك: «وإن قلّ»(2).

ودليله: الافتراق لا يحدّد في الشرع فكيتفىٰ فيه بالمسمّى وهو المعنى اللغوي المتحقّق بأقل من خطوة، وصدق مفهوم الافتراق عليه، ولأنّ الافتراق المأخوذ غاية للخيار اسم للطبيعة والطبيعي يتحقق بصرف الوجود منه.

ويرد عليه: «أن طبيعي الافتراق وإن كان يتحقق بصرف الوجود منه إلّا أن هذا التحديد عقلي، والمفاهيم المإخوذة في الخطابات الشرعية ملقاة إلى العرف، فالمرجع في تحديدها إلى العرف، وفي تطبيقها إلى العقل، فالمرجع في تحديد مفهوم الفرسخ والكر والرطل والمد وغيرها من المفاهيم المأخوذة في موضوعات الأحكام الشرعية إلى العرف، فيؤخذ منه ثمّ يطبق على مورده بالدقة العقلية، والافتراق عند العرف لايتحقق بمطلق الافتراق، بل بالافتراق المطلق، فلهذا لا يصدق عرفاً بالانفصال بمقدار إصبع أو شعرة كما في بعض العبارات، ومنشأ ذلك الخلط بين التحديد العقلي والعرفي»(3).

2- اعتبار الخطوة

فلا يتحقّق الافتراق بأقل من خطوة

«وهي - بالضمّ والفتح - ما بين القدمين في المشي، جمعها خطىً كما صرّح به أهل

ص: 318


1- تحرير الأحكام الشرعية 2/283.
2- مسالك الأفهام 3/196.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/12؛ وراجع مصباح الفقاهة 6/148.

اللغة(1)، فالمراد به التحديد في طرف القلّة في كلام أكثر الأصحاب لا المثال. قال في الخلاف(2): أقلّ ما ينقطع به خيار المجلس خطوة. ونحوه ما في المبسوط(3) والسرائر(4) حيث قيل فيهما: إنّ حدّه مفارقة المجلس بخطوة. ونحوها ما في الاستبصار(5) والغنية(6). ونحوهما ما في التذكرة(7) وإن كان قد يلوح منها خلاف ذلك. وهو الظاهر ممّا في الشرائع(8) واللمعة(9) والتنقيح(10) وغيرها(11) ممّا قيل فيه: ولو بخطوة. ونحو ذلك ما في الدروس(12) ونحوه(13) ممّا قيل فيه، تكفي في المفارقة المبطلة خطوة»(14).

ولذا نصّ على اعتبار خطوة فما زاد في «المبسوط(15) والخلاف(16)

ص: 319


1- مجمع البحرين 1/126؛ النهاية لابن الأثير 2/51.
2- الخلاف 3/21، مسألة 26.
3- المبسوط 2/82.
4- السرائر 2/246.
5- الاستبصار 3/73.
6- غنية النزوع /217.
7- تذكرة الفقهاء 11/23.
8- شرائع الإسلام 2/21.
9- اللمعة الدمشقية /127.
10- التنقيح الرائع 2/44.
11- كالوسيلة /238.
12- الدروس الشرعية 3/265.
13- رياض المسائل 5/180.
14- مفتاح الكرامة 14/139.
15- المبسوط 2/82.
16- الخلاف 3/21، مسألة 26.

والتهذيب(1) والاستبصار(2) والغنية(3) والوسيلة(4) والسرائر(5) وجامع الشرائع(6) والشرائع(7) والتذكرة(8) والدروس(9) والتنقيح(10) وجامع المقاصد(11) والروضة(12) ومجمع البرهان(13) ولعلّه معنى قوله في التحرير(14): بأدنى انتقال. وفي المسالك(15): وإن قلّ. وقد حكي(16) عن الصيمري والميسي، ولم أجد لهما تصريحاً بذلك. نعم هو ظاهرهما وظاهر غيرهما(17) من الشارحين والمحشّين الّذين لم يناقشوا. وظاهر الغنية(18). أو صريحها الإجماع عليه.

ص: 320


1- تهذيب الأحكام 7/21.
2- الاستبصار 3/73.
3- غنية النزوع /217.
4- الوسيلة /238.
5- السرائر 2/246.
6- الجامع للشرائع /247.
7- شرائع الإسلام 2/21.
8- تذكرة الفقهاء 11/23.
9- الدروس الشرعية 3/265.
10- التنقيح الرائع 2/44.
11- جامع المقاصد 4/284.
12- الروضة البهية 3/449.
13- مجمع الفائدة والبرهان 8/385.
14- تحرير الأحكام 2/283.
15- مسالك الأفهام 3/196.
16- حكاه عنهما الأستاذ الشريف بحرالعلوم في المصابيح /245، س17 (مخطوط في مكتبة مؤسّسة النشر الإسلامي برقم 14).
17- كالمحقّق الكركي في حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي وآثاره) 9/(389-388) وأبي العباس في المهذّب البارع 2/(373-372).
18- غنية النزوع /217.

وفي الرياض(1) نفى الخلاف عنه، مضافاً إلى ما حكيناه(2) عنهم في باب الصرف»(3).

ويرد عليه: لا دليل على تحديد الافتراق بخطوة «إذ لا يقتضيه مفهوم الافتراق ولا يساعده العرف ولم يقم عليه نص خاص ليتعبَّد به»(4).

ولذا توقف فيها سيّد الرياض(5) لعدم ظهور الصدق بها عرفاً وعادةً وقال بعض المتأخرين(6): وإن صحّ لغة.

واعترض عليهما سيّد المفتاح: «وفيه: أنّه إذا صحّ لغةً صحّ عرفاً، لأنّ الأصل عدم التغيير والنقل، فالشكّ في صدقه بها عرفاً كافٍ في المطلوب، ولا يحتاج إلى ظهوره، ولا ينافي ما سبق، فتدبّر. على أنّا ندّعي ظهوره، لأنّ أهل العرف لا يقولون إنّهما إذا تفرّقا بالخطوة لم يتفرّقا في مقام التحقيق وعدم المسامحة، وجواز السلب توسّعاً غير ضائر»(7).

أقول: الصحيح ما ذكرته بعنوان الإيراد فلا يتم ما ذكره سيّد المفتاح من أنّ المعنى العرفي متحقّق بخطوة لا بأنقص منه حيث يقول: «وليس له هناك معنىً شرعي فيصار إلى المعنى العرفي، وهو متحقّق بالخطوة لا بأنقص منه، لأنّ الغالب عدم حفظ النسبة الّتي كانت بينهما في مجلس العقد حتّى وقت صعوده على الحائط ونزوله، كما

ص: 321


1- رياض المسائل 8/180.
2- تقدّمت حكاية كلامهم في 13/(543-538).
3- مفتاح الكرامة 14/137 و 138.
4- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/11.
5- رياض المسائل 8/292.
6- نقل عنه في مفتاح الكرامة 14/140.
7- مفتاح الكرامة 14/140.

أشار إليه الصادق (علیه السلام) في صحيحة منصور بن حازم(1) بقوله في الصرف «وإن نزاحائطاً فانز معه» فمجرّد تقدّم البعض على البعض لا يضرّ وإن حصل به التفرّق لغةً، فالمدار على العرف وهو حاكم بالخطوة. ولذا طفحت عباراتهم بعدم بطلان العقد بمفارقة المجلس مصطحبين، وهو الموافق لفروع المسألة كما يظهر ذلك لمن لحظ كلامهم في الإكراه وزواله»(2).

3- اعتبار خطوات
اشارة

فهي الافتراق المطلق والمراد به الافتراق العرفي بحيث يصدق عرفاً زوال الهيئة الاجتماعية وهو يصدق بالانتقال بخطوات.

فلابدّ من المشي بخطوات عديدة حتّى يصدق الافتراق العرفي بالنسبة إلى الهيئة الاجتماعية.

وهذا القسم على خلاف مطلق الإفتراق أو طبيعيته الذي يتحقق بصرف الوجود منه وهو الافتراق العقلي كما مرّ في القول الأوّل.

قال السيّد الخوئي في بيان هذا القول: «أنّ المراد من الافتراق ليس هو مجرّد الانفصال بأي نحو كان ولو كان طبيعي الانفصال بين المتبايعين لحصوله من الأوّل بالبديهة فإنّه قلّما يتفق أن يكون امضاء أحد المتبايعين متلاصقاً بالأخر باليد أو بشيء آخر من أعضاء بدنهما وعليه فالمراد من الاتفراق ليس هو افتراق بدن كل منهما عن الآخر فلابدّ وأن يراد من ذلك هو الافتراق عن مجلس العقد سواء كانا - جالسين أم قاعدين أو مضطجعين أي عن مجلس العقد للمعاملة وللمعاملة الخاصة فالاجتماع فيها اجتماع للمعاملة فيكون هذا المجلس مجلس المعاملة فلا يحصل التفرق حينئذ إلّا

ص: 322


1- وسائل الشيعة 18/69، ح8، باب 2 من أبواب الصرف.
2- مفتاح الكرامة 14/138 و 139.

بالتفرق من هذه القبة وانقضاء مجلس البيع عرفاً فانه مادام هذا الاجتماع في هذه القبة باق لا يصدق التفرق عن مجلس المعاملة كما لا يخفى.

فلو قام أحدهما لشرب الماء في الزاوية أخرى من القبة أو للتوضى لا يحصل الافتراق عرفاً وان حصل التفرق بالدقة العقلية وهكذا ان التفرق في كل مجلس اجتمعا للمعاملة بحسب حال ذلك المجلس عرفاً وعلى هذا لا يضر التفرق بمقدار عشرة خطأ فضلا عن الخطوة الواحدة كما ذكره جماعة بل فضلاً عن التفرق بالمسمّى كما ذكره [الشيخ الأعظم] بل المناط هوا لصدق العرفي وانهدام الهيئة الاجتماعية لأجل المعاملة عرفاً هذا بحسب ما يستفاد من الروايات»(1).

ثمّ إنّ هنا قولان لم يرد في المكاسب وهما:
4- ثلاث خطوات على الأقل

ذكره المحقّق الرشتي(2) واختاره السيّد الخوئي(3) وقال الأخير منهما: «ولكن ورد في رواية صحيحة أنه (علیه السلام) قال فلما أوجب البيع «قمت فمشيت خطأ»(4) ليجب البيع فان الظاهر من هذه الرواية الشريفة أن المشي خطأ يوجب سقوط الخيار وان المشي لأجل اسقاط الخيار لا لغرض آخر وعليه فالمناط في سقوط الخيار هو ذلك وأقله بثلثة خطوات فانّه لو لم يكن المشي خطأ موجباً لسقوط الخيار لكان ذكره في الحديث لغواً فانّه ليس مِن باب الصدقة فان الحالات الموجودة حال البيع وبعده كثيرة فلو لم يكن لذكر ذلك موضوعيّة لم يذكره الإمام (علیه السلام) ولذكر غيره فيعلم من ذلك ان

ص: 323


1- مصباح الفقاهة 6/148.
2- فقه الإمامية، قسم الخيارات /157.
3- مصباح الفقاهة 6/149.
4- وسائل الشيعة 18/8، ح2 و 3 صحيحتا محمّد بن مسلم، الباب 2 من أبواب الخيار.

المناط في سقوط الخيار بالتفرق هو ذلك وان الإمام (علیه السلام) طبق الكبرى الكلية على المورد الخاص لا أن القضية شخصية في مورد خاص كمالا يخفى فتحصل أن ما يظهر من هذه الرواية الشريفة هو الميزان في سقوط الخيار بالتفرق»(1).

ولكن ردّ المحقّق الرشتي هذا القول وذهب إلى أنّه متوقف على أمرين: «مفهوم العدد فكأن يقال: إن اللزوم يتحقق بالمشي خُطى، والخُطى جمع، وأقله ثلاثة، ومفهومه أنه لا يتحقق اللزوم بأقل من الثلاث.

وأما مفهوم العلة فكأن يقال: إن علة اللزوم المشي ثلاث خطوات، ومفهومه أن لا يجب البيع بأقل منها.

ولكن في كلا الأمرين تأملاً؛ لأن العدد لا مفهوم له، وكون الثلاث خطوات علّة للافتراق لا ينفي العلِّية عن الأقل منها»(2).

ونوقش في إيراده في كلا المفهومين:

«أمّا ما أفاده في مفهوم العدد؛ فلأن نفي الحكم عن ما هو أقل من العدد المأخوذ في لسان الدليل إنما هو بمنطوق العدد لا بمفهومه، ولهذا لو حدّد الحكم التكليفي بعدد معيّن كما لو قال: (صم ثلاثة أيام) وصام المكلف يومين لم يعدَّ ممتثلاً؛ وذلك بمنطوق الثلاثة؛ لعدم انطباق المأمور به على المأتي به، لا من جهة مفهومها، وكذلك في الحكم الوضعي؛ وفي المقام لما رتّب لزوم البيع - الذي هو حكم وضعي - على المشي خطوات لم يشمل الخطوة والخطوتين، فانتفاء الحكم باللزوم في موردهما من جهة انتفاء الموضوع، لا من جهة المفهوم حتّى يربط الحكم بثبوت المفهوم للعدد وعدم ثبوته.

ص: 324


1- مصباح الفقاهة 6/149.
2- راجع فقه الإمامية، الخيارات /156 و 157.

وأما ما أفاده في مفهوم العلّة ففيه بحث ثبوتاً وإثباتاً.

أما البحث الثبوتي فالعلّتان المستقلتان إذا كانتا متباينتين فليس في جعلهما في مورد ما أي إشكال، وأما إذا كانت النسبة بينهما نسبة الأقل للأكثر فلا يعقل أن يكون كل من الأقل والأكثر علّه مستقلة؛ إذ يكون الأكثر لغواً دائماً؛ فإنه متى تحقق الأقل أثَّرت العلة أثرها، فلا دور للأكثر أصلاً؛ لاندراج الأقل فيه، وكان ضمُّ الأكثر إليه من ضمِّ الحجر إلى جنب الإنسان، فالتعليل بالأكثر ظاهر في انحصار الدخل فيه، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإن التعليل كان بالخُطى وهو الأكثر، فإذا كانت الخطوة والخطوتان - وهو الأقل - علَّة لتحقق الافتراق ومن ثَمَّ تكون علة للزوم البيع، فجعل الخطى - وهو الأكثر - علّة أيضاً لغو، فبما أن التعليل في الرواية كان بالأكثر فهو ينفي العلّية عن الأقل حتّى لا تلزم اللغوية من أخذ الأكثر علّة.

وأما البحث الإثباتي، فعلى فرض عدم المحذور الثبوتي نقول: إنه يوجد في مورد العلّة إطلاقان: إطلاق مقابل التقييد ب- (الواو)، وإطلاق مقابل التقييد ب- (أو)، وثمرة الإطلاق الأوّل أن يثبت كون العلّة تامة، وليست جزء العلّة وإلّا لذكر الجزء الآخر معها، وثمرة الإطلاق الثاني أن يثبت كون العلّة منحصرة ولا عدل لها؛ وإلّا لذكرت العلّة الأخرى، وبالتالي ينتفي المعلّل بانتفاء العلّة، وهذه قاعدة جارية في جميع العلل، وعليه فبما أن التعليل في الرواية كان بالأكثر وهو (الخُطى)، ولم تقيّد ب- (الواو) ولا ب- (أو) فمفاده أن الخطى هي العلة التامة المستقلة المنحصرة لتحقق الافتراق، ومن ثَمَّ للزوم البيع، فينفي أن يكون الأقل من الثلاث علّة لتحققه بالضرورة»(1).

ولذا يمكن أن يقال: «إنّ علّة الحكم وإن كان فعل الإمام (علیه السلام) إلّا أنه كان في مقام بيان الحكم، وترتّب وجوب البيع على المشي خُطى، فيستكشف منه كفاية

ص: 325


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(23-21).

المصداق الأوّل للخُطى، أي صرف الوجود لها، وهو أقل الجمع»(1).

5- خمس خطوات ومازاد

قال فاضل النراقي بعد ذكر صحيحة محمّد بن مسلم(2): «... بل نُفي الخلاف عن الخطوة أيضاً(3)، فإن ثبت الإجماع عليها، وإلّا فسقوط الخيار بالافتراق بها - بل وبالخطوتين - مشكل؛ لعدم تبادر مثلهما عن الافتراق عرفاً وعادةً؛ بل وكذا الخطوات الثلاث، ولا يفيد لفظ الخُطىٰ في الصحيح؛ إذ لا يتعيّن فيه أقلّ الجمع؛ لأنّه إخبارٌ عن فعله (علیه السلام).

فالمناط: حصول الافتراق عرفاً، والظاهر حصوله بنحو من خمسة أو ستة وما زاد، سواء كان ذلك بالمشي، أو جذب نفسه إلى وراثه بهذا المقدار.

ولا يسقط بالتماشي والتقارب بخُطىٰ»(4).

القول المختار

الظاهر إنّ ما ذكره المحقّقان النراقي والخوئي قدس سرهما وإن كان قوياً ولكن الجزم به مشكل جدّاً لإجمال العلّة وهو فعل الإمام والفعل دليل لبيٌّ لابدّ من الأخذ بقدر المتيقن منه وليس هو إلّا الافتراق العرفي وهو ترك مجلس البيع وفي فرض الشك يرجع إلى إطلاق دليل الخيار والحكم ببقائه، أو استصحاب حكم المخصص وهو بقاء الخيار بالنسبة إلى أدلة لزوم البيع، وهذا الافتراق العرفي هو مختارنا ولذا قد يقال:

ص: 326


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/20.
2- وسائل الشيعة 18/8، ح3.
3- الرياض 1/523.
4- مستند الشيعة 14/369.

«المسألة عرفية والافتراق أمر عرفيٌّ»(1).

مضافاً إلى «أنّ الخطابات الشرعية ملقاة إلى العرف العام، فهو المرجع في تحديد الموضوعات المأخوذة فيها، والمفهوم عرفاً من كلمة الافتراق هو الافتراق المطلق، فلا يصدق على التفرّق بالخطوة وما دونها فضلاً عن مقدار الإصبع ونحوه.

نعم، يمكن أن يدّعى أن ذهاب المشهور - قدماء ومتأخرين - إلى كفاية الخطوة يمنع من التمسك بظهور الإطلاق في الافتراق المطلق النافي للافتراق بالخطوة؛ إذ يستكشف من فتاواهم صدق التفرّق على ما كان بالخطوة، ولاأقل من منعه من الظهور في ما زاد عنها بحيث لا يشملها.

وفيه: أن الشهرة بما هي لا اعتبار بها؛ لاحتمال كونها مدركية، ويحتمل استنادهم إلى ما أفاده الشيخ (قدس سره) من كفاية مطلق الافتراق، فلا تكشف فتاواهم عن دليل معتبر، وغاية ما يمكن أن يقال في وجهه: إن من بين المشهور من هو من أهل اللسان بالإضافة إلى كونهم من أهل الدقة والفهم والإتقان، وقد ادعوا تحقق التفرق بالخطوة، فيكشف ذلك عن سعة مفهوم الافتراق عرفاً، ولا أقل من إيجاب دعواهم للخدشة في الظهور العرفي.

إلّا أنه يندرج في باب تعارض العرف العام مع العرف الخاص فيقدَّم العرف العام؛ لاحتمال الاجتهاد في ناحية العرف الخاص، فلم يختاروا هذا الرأي بما هم من أهل العرف واللسان، بل بما هم مجتهدون في اللغة، فلا يعوَّل على اجتهادهم.

والنتيجة من ذلك: أن الافتراق لا يتحقق إلّا بالافتراق العرفي، وهو الافتراق المطلق، وهو لا يتحقق بالخطوة، [ولا بأقل منها ولا بأكثر منها من ثلاث خطوات أو ست أو مازاد] فيثبت الخيار فيها وفي ما شاكلها - مما لا يصدق عليه الافتراق العرفي،

ص: 327


1- تحقيق وتقريرات في باب البيع والخيارات 6/158.

ويصح سلبه عنه - بالدليل، لا بالاستصحاب»(1).

الجهة الثالثة: الافتراق هل يتحقق بحركة أحدهما وسكون الآخر أو أنّه لا يتحقق إلّا بحركة كل واحد منهما إلى غير جهة الآخر؟
اشارة

«ابتنىٰ فخر المحقّقين(2) (قدس سره) هذه المسألة على أنّ السّكون من الأكوان فإن قلنا بعدم تجدّد الأكوان وكان السّكون كوناً واحداً ولا يحتاج الحادث في بقائه إلى المؤثّر، فلم يحدث من السّاكن عملاً حتّى يقال بانّ السّاكن افترق بسكونه، بخلاف ما إذا قلنا بتجدّد الأكوان واحتياجه إلى المؤثّر وهو ارادة السّاكن. أو قلنا بأنّ الأكوان ولو كان باقياً وليس متجدّداً ولكن يحتاج إلى الإرادة والعلّة في بقائه فالسّاكن بإلقائه السّكونَ، مؤثّرٌ في السّكون.

وامّا لو قلنا ببقاء الأكوان وعدم احتياجه إلى المؤثّر، لم يحدث من السّاكن عملاً حتّى يقال: افترق هذا عن صاحبه بسكونه وذاك بحركته.

لا يخفىٰ انّ ابتناء المسائل الشّرعية الفقهيّة، بالمبانى والمباحث غير العرفيّة، غيرُ صحيحٍ.

ومن الواضح انّ هذا العمل ليس معتَمَدَ علماءنا في الفقه والمسائل الفقهيّة ولكن حيث كانت العامّة، اعتمدوا على تلك الأمور وابتنوا المسائلَ الشّرعيةَ علي هذا النّوع من الاستدلالات. فبعض الفقهاء من الخاصّة أيضاً قالوا بهذه الأمور وصرّحوا بانّ هذه الأمور، ليست من مختصّات أهل السّنّة.

ثمّ انّ الشيخ(3) (قدس سره) ذكر تعبيراً وهو انّ الحركة، انّما هي من المتحرّك واتصّافه

ص: 328


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(19-17).
2- إيضاح الفوائد 1/482.
3- المكاسب 5/67.

بكونه افتراقاً من طرف السّاكن، فالسّاكن أيضاً فَعَلَ عملاً لانّ السّاكن لو لم يسكن وتَحَرَّك مع المتحرّك وذَهَبَ معه، لما حصل الافتراق.

لا يخفى هنا انّا لا نحتاج إلى ذلك التّعبير لانّ الافتراق، أمرٌ عرفيٌّ يصدق عند سكون أحدهما وحركة الآخر»(1).

أصل كلام الشيخ الأعظم وهو تحقق الافتراق بحركة أحدهما وسكون الآخر وعدم توقفه على حركتهما معاً فهو كلام متين لا إشكال فيه ولكن في كيفية بيانه وطرحه للموضوع قد أورد إيرادات:

«الأوّل: تصويره الاتحاد بين الحركة والافتراق؛ حيث فرض الافتراق وصفاً للحركة عندما قال: «واتصافها بكونها افتراقاً من الساكن»(2)، مع أن الحركة والافتراق متغايران مفهوماً ومصداقاً؛ فإنّ الحركة يقابلها السكون تقابل الضدين، والافتراق يقابله الاجتماع تقابل العدم والملكة، فالافتراق هو نفس عدم المصاحبة، والحركة أمر غير إضافي، والافتراق أمر إضافي، وحقيقة الحركة عبارة عن خروج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجاً، في مقابل [السكون وهو] الكون الذي هو خروج الشيء من القوة إلى الفعل دفعة، وحقيقة الافتراق زوال الاجتماع وعدم المصاحبة.

الثاني: جعله العلّية بين المتضايفين؛ حيث جعل تحقق افتراق المتحرك معلولاً لعدم مصاحبة الساكن، والعلية بين المتضايفين غير معقولة؛ فإنّهما في رتبة واحدة، فعدم مصاحبة الساكن إنما هو في رتبة افتراق المتحرك، لا علة له؛ فإن افتراق أحد المتبايعين من أقسام التضايف، والمتضايفان متكافئان قوة وفعلاً ولا يعقل العلّية بينهما، وعنوان العلّية والمعلولية وإن كانا متضايفين إلّا أن ذات العلّة والمعلول مختلفان من

ص: 329


1- تحقيق وتقريرات في باب البيع والخيارات 6/159.
2- المكاسب 5/67.

حيث الرتبة وليس بينهما تضايف، بل هو محال، فما فيه التضايف لا يعقل فيه العلّية، وما فيه العلّية لا يعقل في التضايف.

الثالث: جعله الذات والوصف لشيء واحد وهو الافتراق؛ حيث جعل حصول ذات الافتراق بالحركة، واتصافها بالافتراق بعدم مصاحبة الساكن، ولا يعقل أن تجعل للافتراق مرتبتان: مرتبة ذاته، ومرتبة اتصافه بوصف الافتراق، بل إن الافتراق بتمام ذاته افتراق، والاجتماع بتمام ذاته اجتماع»(1).

وبتعبير أدقّ يمكن أن يقال: «أنّ مفهوم الافتراق إذا كان أمراً عدمياً بأنْ كان عبارة عن عدم الاتصال وعدم الاجتماع، فتحققه في صورة حركة أحدهما وسكون الآخر لا ينبغي الريب فيه لانتفاء الاجتماع بحركة أحدهما مع سكون الآخر.

وأما إذا كان مفهوم الافتراق مشتملاً على خصوصية وجودية بأن كان مساوقاً لكلمة: «جدائي» في الفارسية، فلا يصدق في هذه الصورة على كلا الطرفين.

ويشهد لذلك أنه لو اعترض على الساكن منهما بقوله: «چرا از او جدا شدی؟» لصح له أن يعتذر بعدم صدوره منه، وأن المتحرك هو الذي افترق لا أنا.

وهذا مما لا اختصاص له بما إذا تحرك أحدهما وسكن الآخر، بل يشمل ما إذا سكن أحدهما وتحرك الآخر في مورد يقتضي الحال حركتهما معاً، فإن المفترق هو الساكن دون المتحرك كما إذا كانا يمشيان معاً فوقف أحدهما واستمر الآخر في مشيه، فان الماشي يصح له الاعتذار بأنه لم ينفصل عن صاحبه وإنما صاحبه انفصل عنه. فالمدار على خروج أحدهما عن الحالة التي يقتضي الطبع استمرارهما عليها من حركة أو سكون.

وإذا عرفت دوران الحال في صدق الافتراق على سكون الساكن في المثال

ص: 330


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/27.

المزبور على تعيين ما هو مفهوم الافتراق وأنه أمر عدمي أو وجودي؟ فبما أنه لا طريق لدينا لمعرفة مفهومه العرفي العربي كان صدقه في مفروض المسألة محل إشكال.

هذا ولكن الذي يهون الخطب وجود الدليل الخاص على سقوط الخيار من الطرفين في مثل مفروض المسألة وهو النص(1) المتضمن لبيان مشيه (علیه السلام) خطوات بقصد ايجاب البيع، فلا يهم بعد ذلك صدق الافتراق على سكون الساكن وعدمه. فتدبر»(2).

مسألةٌ: الافتراق عن إكراه

قال الشيخ الأعظم (رحمة الله) : «المعروف أنّه لا اعتبار بالافتراق عن إكراه إذا منع من التخاير أيضاً، سواء بلغ حدّ سلب الاختيار أم لا...»(3).

ذهب الشيخ الأعظم إلى بقاء الخيار حينئذٍ وعدم الاعتبار بهذا الافتراق عن كرهٍ واستدلَّ له بوجوه:

«الوجه الأوّل: دعوى تبادر الاختيار من الفعل المسند إلى الفاعل المختار.

وعليه، فالمراد بالافتراق هو الافتراق الصادر عن اختيار، فلا عبرة بغير الاختياري منه.

وقد قرّبه المحقّق الاصفهاني(4) (رحمة الله) بما حاصله: أن نسبة المواد إلى محالّها مختلفة بسبب اختلاف المسند إليه من كونه فاعلاً بالطبع كالنار بالنسبة إلى الحرارة، وكونه فاعلاً بالارادة، ففي الأوّل لا تقتضي نسبة المادة إلى المحل سوى قيامها به بخلاف الثاني فان نسبتها إلى الفاعل بما هو فاعل بالارادة تقتضي صدورها منه بالارادة

ص: 331


1- وسائل الشيعة 18/8، ح2 و 3، صحيحتا محمّد بن مسلم.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/167.
3- المكاسب 5/69.
4- حاشية المكاسب 4/126، التقريب الأوّل.

والاختيار.

ولا يخفى أن ذلك لا يتنافى مع صدورها منه عن إكراه، إذ الاكراه لا يستلزم سلب الارادة عن الفعل المكره عليه، لكن ظاهر إسناد الفعل إلى الفاعل بالارادة هو صدوره منه بنفسه وبطبعه من دون دخل لإرادة الغير فيه، وهذا يستلزم عدم صدوره عن إكراه لأن إرادة الغير - في باب الاكراه - دخيلة في تحقق الفعل، إذ الفاعل لو لا توعيد المكرِه لا يصدر منه الفعل بطبعه لعدم ميله إليه.

وعليه، فبمقتضى هذين الأمرين - اقتضاء مقام الفاعل بالإرادة لصدور الفعل عنه بالارادة وظهور إسناد الفعل إليه بما هو كذلك في صدوره منه مستقلاً وبلا شركة للغير فيه - يحمل الإفتراق على ما صدر عن اختيار وبلا إكراه.

ويشكل التقريب الأوّل لهذا الوجه بما أفاده السيّد الطباطبائي(1) (رحمة الله) من أنه لا يعتبر في إسناد الفعل إلى الفاعل المختار وغيره سوى قيامه به أو صدوره عنه ولو كان صدوره عن غفلة وعدم شعور، واستشهد على ذلك ببعض الأمثلة، كقولهم: «من أتلف مال غيره فهو له ضامن». فإنه يؤخذ بإطلاقه في إثبات الضمان في موارد الاتلاف الصادر عن غير اختيار، ومثل: «من أحدث بطلت صلاته أو وضوءه» فإنه شامل للحدث الاختياري وغيره.

كما يرد على هذا الوجه ما ذكره المحقق الإيرواني(2) (رحمة الله) من: أن ما يدل على النسبة الصدورية ظاهر في الصدور الاختياري سواء كان اسماً مثل ضارب أم فعلاً مثل ضَرَبَ وأما ما يدل على النسبة الحلولية أو الوقوعية مثل مات و نام وتدحرج(3) ومضروب فلا ظهور له في الاختيار لو لم يكن له ظهور في العكس. والافتراق من

ص: 332


1- حاشية المكاسب 2/422.
2- حاشية المكاسب 3/61.
3- التدحرج: نوع من الحركة تجمع بين الدوران، وبالفارسية: در گرديدن، گرد گرديدن. غلطيدن.

قبيل الثاني فإنه يدل على المطاوعة وتحمل المبدأ.

وعليه، فلا ظهور له في الافتراق الاختياري، نعم لو كانت غاية الخيار هو التفرق كان ظاهراً في الاختيار.

ومن هذا البيان يظهر الاشكال فيما أفاده المحقق الاصفهاني (رحمة الله)، فإنه بعد إنكار ظهور الافتراق في الافتراق الصادر عن إرادة لا تصل النوبة إلى استظهار صدوره من الفاعل بنحو الاستقلال وعدم شركة الغير فيه. فلا حظ.

الوجه الثاني: دعوى أن المتبادر من التفرق هو الناشىء عن رضا بالعقد، وقد ذكر الشيخ(1) (قدس سره) هذا الوجه بهذا المقدار بلا تقريب له.

وقد قرّبه بعضهم(2) بأن الافتراق بحسب ملاحظة السيرة الخارجية ينشأ غالباً عن الرضا بالمعاملة بحيث إذا لم يتحقق الرضا لم يتحقق الافتراق ولذا كان الافتراق كاشفاً نوعاً عن الرضا، كما تقدم بيانه في [في المسألة السابقة].

وعليه، فالمراد من الافتراق المجعول غاية للخيار في النصوص هو الفرد الغالب منه لإنصراف اللفظ إليه بمقتضى الغلبة، فلا يكون غيره من أفراد الافتراق النادرة موجباً لزوال الخيار.

ولا يخفى أن هذا الاستدلال لا يرتبط بالاستدلال برواية الفضيل(3) المتقدمة الذكر، بل هو استدلال مستقل يعتمد على دعوى الانصراف بحكم الغلبة.

ويتوجه عليه: - بعد الفراغ عن هذه الجهة(4)- أن المراد إن كان انصراف الافتراق إلى الافتراق المسبوق بالرضا بالمعاملة بحيث تكون الغاية مجموع الأمرين

ص: 333


1- وهو الشيخ محمّدحسين الاصفهاني في حاشية المكاسب 4/127، التقريب الثاني.
2- المكاسب 5/71.
3- وسائل الشيعة 18/6، ح3.
4- أي جهة استقلال الاستدلال.

الافتراق والرضا السابق عليه.

ففيه: أن الرضا بنفسه يستلزم سقوط الخيار ولزوم المعاملة عند تحققه.

وعليه، فلا معنى لأخذ الافتراق اللاحق له دخيلاً في السقوط، بل يكون أخذه لغواً لسقوط الخيار قبل تحققه.

وإن كان المراد الانصراف إلى الافتراق الكاشف نوعاً عن الرضا فيكون المسقط هو الخيار بما هو كاشف عن الرضا نوعاً لا بما هو هو،

ففيه: أوّلاً: انا ننكر كون الافتراق غير الكاشف عن الرضا نوعاً نادر التحقق، بل هو كثير وإن كان الفرد الكاشف أكثر منه لكن مطلق الأكثرية لا تستلزم الانصراف.

وثانياً: ما تقرر أخيراً من أن الغلبة والشيوع بحسب الوجود الخارجي لا يستلزم انصراف اللفظ المطلق إلى الفرد الشائع، وإنما الموجب للانصراف هو الغلبة بحسب الاستعمال الموجبة لحصول الانس بين اللفظ والمعنى. وهي - أعني الغلبة بحسب الاستعمال - غير مدعاة ولا مجال لا دعائها لعدم الشاهد عليها بل الشاهد على خلافها.

الوجه الثالث: حديث رفع الاكراه(1)، فإن مقتضاه عدم ترتب الأثر على الافتراق المتحقق عن إكراه وهو اللزوم، بناء على شمول حديث الرفع للأحكام الوضعية كشموله للأحكام التكليفية.

وقد يتوجه على هذا الوجه ايرادات:

أوّلها: أنه لو بنى على عدم ترتب اللزوم على الافتراق عن إكراه من جهة الالتزام بحديث الرفع للزم أن يبني على ذلك في صورة الاكراه على الافتراق مع

ص: 334


1- وسائل الشيعة 15/369، ح1، الباب 56، صحيحة حريز بن عبدالله.

تمكنهما من التخاير، لأن نسبة حديث الرفع إلى الافتراق في كلا الفرضين على حد سواء، مع أنهم لم يلتزموا بعدم سقوط الخيار مع التمكن من التخاير. فيكشف ذلك عن عدم الاستناد إلى حديث الرفع فيما نحن فيه.

ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأنه مع التمكن من التخاير والقدرة على فسخ المعاملة إذا تحقق الاكراه على الإفتراق ولم يفسخ المتبايعان المعاملة مع تمكنهما عليه كشف ذلك عن رضاهما بالمعاملة، وهو مستلزم لسقوط الخيار ولزوم المعاملة، فالمعاملة تكون لازمة في هذا الفرض في مرحلة سابقة على الافتراق، فلا أثر للافتراق كي يبحث في رفعه بحديث الرفع وعدمه.

أما مع عدم التمكن من التخاير، فالموجب للزوم المعاملة على تقديره هو الافتراق ليس إلّا، فيقع الكلام في شمول حديث الرفع له لوقوعه عن إكراه فينتفي أثره الوضعي.

فعدم التمسك بحديث الرفع في صورة التمكن من التخاير ليس لأجل عدم البناء على حديث الرفع وإنما هو لأجل تحقق لزوم المعاملة قبل الافتراق بالرضا فلا أثر للافتراق، وأخذ قيد المنع من التخاير من جهة المحافظة على استناد اللزوم - لو ثبت - إلى الافتراق لعدم ما يستند إليه اللزوم غيره من دون دخل له في التسمك بحديث الرفع حكماً.

ثانيها: ما ذكره السيّد الطباطبائي(1) وتابعه المحقق الإيرواني(2) رحمهما الله من: أن الافتراق إذا كان مأخوذاً قيداً وغاية للموضوع بأن كان موضوع الخيار البيعين مع عدم افتراقهما لم يكن حديث الرفع محكماً في الفرض الذي نحن فيه، بل يزول الخيار

ص: 335


1- حاشية المكاسب 2/423.
2- حاشية المكاسب 3/62.

بتحقق الافتراق ولو كان عن إكراه.

وأما إذا كان مأخوذاً غاية للحكم، كان لحديث الرفع في نفي تأثير الافتراق الاكراهي في اللزوم مجال، واستشهد (رحمة الله) على ما ذهب إليه على التقدير الأوّل بأنه إذا أمر المولى عبده باكرام زيد الجالس في المسجد بحيث كان موضوع الاكرام هو زيد المقيد بكونه في المسجد، فلو أخرج زيد من المسجد مكرهاً، فهل يتوهم أحد بقاء الحكم بوجوب إكرامه بعد خروجه بدعوى أن حديث الرفع يتكفل رفع أثر الخروج؟

وقد استظهرا قدس سرهما من الأدلة كون الافتراق مأخوذاً قيداً للموضوع. ولأجل ذلك أنكرا إجراء حديث الرفع فيه.

وقد ناقش المحقق الاصفهاني(1) (رحمة الله) في هذا البيان: بأن المدار في جريان حديث الرفع على كون الافتراق قيداً شرعياً في قبال كونه قيداً عقلياً، فإذا كان قيداً شرعياً جرى حديث الرفع فيه بلا فرق بين الصورتين لأنه مما يكون أمر وضعه ورفعه بيد الشارع. فالخيار إذا ثبت شرعاً للبيعين ممتداً إلى حصول الافتراق صح رفعه كما صح وضعه.

وأما إذا كان موضوع الخيار هو الهيئة الاجتماعية الخاصة المستفاد ذلك من جعل الافتراق حداً، كان الافتراق حداً عقلياً لزوال تلك الهيئة التي هي موضوع الأثر شرعاً حدوثاً وبقاء، فالاكراه على الافتراق ليس إكراهاً على ما هو موضوع الأثر شرعاً.

والذي يقتضيه النظر هو صحة ما ذهب إليه السيّد (رحمة الله) من منع جريان حديث الرفع على تقدير أخذ الافتراق من قيود الموضوع لا الحكم، بيان ذلك: أن الافتراق إذا كان قيداً للموضوع فلا يكون له حكم مستقل، بل الحكم المستقل يترتب على الموضوع المقيد به، فاذا أريد إجراء حديث الرفع فإنما يجري بالنسبة إلى الحكم المترتب

ص: 336


1- حاشية المكاسب 4/130.

على الموضوع المقيد.

ومن الواضح أن إجراءه ينتج عكس النتيجة المطلوبة، لأن الحكم المترتب على الموضوع المقيد هو الخيار، ونفي هذا الأثر بتحكيم حديث الرفع يستلزم ترتب اللزوم، كما لا يخفى، مع أن المطلوب هو إبقاء الجواز بعد تحقق الافتراق عن إكراه.

أما إذا كان الافتراق غاية للحكم نفسه، كان له أثر مستقل لأنه مما يترتب عليه سقوط الخيار ولزوم العقد، فيمكن إجراء حديث الرفع لغرض نفي هذا الأثر فتترتب عليه النتيجة المطلوبة، فالتفصيل الذي ذكره السيّد (رحمة الله) في محلِّه ولا وجه لإيراد المحقّق الاصفهاني (رحمة الله) عليه.

نعم الذي يرد على السيّد (رحمة الله) هو ما ذهب إليه من ظهور دليل الخيار في أخذ الافتراق حداً للموضوع، فإنه خلاف الظاهر من الدليل، بل ظاهره كون الخيار مغيىً بالافتراق وأن الافتراق غاية للحكم وحداً لإستمراره، كما يظهر ذلك بملاحظة قوله (علیه السلام) : «البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا فلا خيار لهما»، فإنه ظاهر في ترتيب سقوطا لخيار على الافتراق، فلاحظ.

ثالثها: ما أفاده المحقق الاصفهاني(1) (رحمة الله) من: أن الحديث إنما يجرى في خصوص مورد الأسباب المعتبر فيها طيب النفس لا مطلق موضوع الحكم ولو لم يكن من الأسباب.

ويتوجه عليه: أن الأثر الشرعي إذا كان مترتباً على السبب المتحقق عن طيب النفس يرتفع بالاكراه لأجل عدم تحقق موضوعه وهو طيب النفس، فلا حاجة حينئذٍ للتمسك بحديث رفع الاكراه، وهذا واضح جداً، ومن الغريب صدور ما ذكرنا عن المحقّق الاصفهاني (رحمة الله).

ص: 337


1- حاشية المكاسب 4/130.

[رابعها]: والذي يتعين أنْ يقال في بيان عدم جريان حديث الرفع فيما نحن فيه هو: أن حديث الرفع إنما يجري في مورد يكون موضوع الحكم فيه هو الفعل الاختياري، لا ما يكون الموضوع فيه ليس بفعل بل كان أمراً خارجياً، أو يكون الموضوع فعلاً لكنه مطلق الفعل أعم من الاختياري وغيره.

وتوضيح ذلك باجمال: أنه وقع الاتفاق على عدم الفرق في الحكم بالضمان في موارد الاتلاف بين ما إذا كان اختيارياً أو لم يكن بالاختيار أو كان اختيارياً غير تام الاختيار، كما في صورة الاكراه، ومثله الحال في ترتب النجاسة على الملاقاة فإنه لا فرق في ترتبها بين تحقق الملاقاة اختياراً أو بغير اختيار.

وقد وقع الكلام في توجيه ذلك ومعرفة السر في عدم تحكيم حديث رفع الاكراه.

وقد تكلّم كلّ منهم في ذلك بكلام.

وذكر بعضهم: أن السر فيه هو أن حديث الرفع إنما يجري في مورد يكون الموضوع مقتضياً للحكم لا عله تامة له. والاتلاف بالنسبة إلى الضمان من قبيل الثاني، فلا يجرى فيه حديث الرفع.

وذهب المحقّق النائيني(1) (رحمة الله) - في أصوله - إلى توجيه آخر لا يلزمنا التعرض إليه وإلى غيره من التوجيهات، بل المهم لدينا بيان مانراه حلّا ً للاشكال وجواباً للسؤال وهو: أن الحديث يختص برفع الأثر المترتب - في لسان دليله - على الفعل الاختياري. ومستند ذلك هو مناسبة الحكم والموضوع، فإن مناسبة ترتيب الحكم على الاكراه هو ما ذكرنا، فلا يجري الحديث فيما إذا لم يكن موضوع الأثر من مقولة الفعل أو كان فعلاً لكنه أخذ في موضوع الأثر بما هو هو لا بما هو اختياري للفاعل. إذ

ص: 338


1- فوائد الاصول 3/357، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الاكراه يرجع إلى حمله المكرَه على الفعل بحيث لولاه لما كان يصدر من المكرَه، فإذا لم يكن موضوع الأثر من الأفعال بل كان من الأمور التكوينية المترتبة على الفعل لم يشمله حديث الرفع لو تحقق بسبب الاكراه، وذلك كالملاقاة التي هي موضوع الحكم بنجاسة الملاقي. وهكذا الحال فيما إذا كان موضوع الأثر مطلق الفعل لا خصوص الحصة الاختيارية منه. ومن ذلك الاتلاف الذي هو موضوع للضمان فإنه يترتب عليه الضمان كيفما تحقق.

والافتراق من قبيل الاتلاف، لما عرفت سابقاً من عدم كون الافتراق المأخوذ في موضوع سقوط الخيار هو الحصة الاختيارية، بل الأعم منها ومن الحصة غير الاختيارية، فلا مجال لجريان حديث الرفع فيه. فلاحظ»(1).

الوجه الرابع: صحيحة الفضيل الماضية.(2)

إنّ الصحيحة كما مرّ «تحتمل وجوهاً متعددة، فلابدّ من التعرض لها ومعرفة ما هو الظاهر منها كي نعرف صحة الاستدلال بها وعدم صحته. وقد تقدم(3) بيان محتملات خمسة في هذه الرواية فلا نطيل باعادتها.

نعم هنا احتمال سادس اختاره المحقق الاصفهاني(4) (رحمة الله) وهو: أن يراد بالرواية حمل الرضا على الافتراق وبيان أن السقوط لأجل أن الافتراق رضا بالمعاملة لكنه رضا عملي والتزام عملي بها في قبال الالتزام القولي والقلبي. ومن الواضح أن الرواية على المحتمل الأوّل الذي اختاره السيّد الطباطبائي(5) (رحمة الله) تكون أجنبية عن المدعى في المقام

ص: 339


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(175-168).
2- وسائل الشيعة 18/6، ح3، الباب 1 من أبواب الخيار.
3- راجع هذا المجلد، صفحة 312.
4- حاشية المكاسب 4/132.
5- حاشية المكاسب 2/418، رقم 586.

لأنها عليه في مقام بيان أن موضوع اللزوم والجواز هو العقد الصادر عن رضا دون غيره لدخالة الرضا في صحة العقد، إذ مع فساده بدون الرضا لا موضوع للجواز واللزوم.

وهكذا الحال بناء على المحتمل الثاني الذي اختاره المحقق الإيرواني(1) (رحمة الله) كما لا يخفى.

وأما على المحتمل الثالث، فهي صريحة في الدلالة على المدعى وعدم العبرة بالافتراق الصادر عن إكراه.

وأما على الاحتمالين الرابع والخامس، فهي تدل على عدم سقوط الخيار بالافتراق عن إكراه لأنه غير مسبوق بالرضا في هذا الفرض، كما أنه غير كاشف نوعاً عن الرضا.

وأما بناء على المحتمل السادس، فهي دالة على سقوط الخيار بالافتراق مطلقاً ولو كان عن إكراه.

إذا عرفت ذلك، فقد عرفت أن احتمال الأوّل خلاف ظاهر الرواية، لأن الرضا بالعقد حدوثاً دخيل في موضوع الحكم باللزوم والجواز معاً، فلا خصوصية له في الحكم باللزوم كي يذكر فيه.

وأما ما أفاده المحقّق الاصفهاني(2) (رحمة الله) في رد هذا الاحتمال: بأن الرضا بالمعنى المزبور ثابت في كلا فرضي ثبوت الخيار وسقوطه، فلا يصح جعله علة لسقوط الخيار كالافتراق.

فهو غير سديد بناء على النحو الذي بينّا به الاحتمال، من أخذ الرضا قيداً

ص: 340


1- حاشية المكاسب 3/59، رقم 104.
2- حاشية المكاسب 4/132.

لموضوع الحكم باللزوم لا أنه غاية للخيار وعلة لسقوط الخيار. فتدبر.

وأما الاحتمال الثاني، فهو خلاف الظاهر كسابقه، لوجهين:

أحدهما: أن عدم فسخ المعاملة قيد مأخوذ في موضوع الحكم باللزوم والجواز، فلا معنى لأخذه في موضوع الحكم باللزوم.

والآخر: أن جعل الرضا بمعنى عدم الكراهة كناية عن عدم الفسخ خلاف الظاهر.

وأما الاحتمال الثالث، فهو بعيد عن الظاهر كما صرح به من احتمله، فهو ما بين من لم يحتمله أصلاً وما بين من صرح ببعده. فلا تحمل عليه الرواية.

وأما الاحتمال الرابع، فقد عرفت أنه خلاف الظاهر لأنه يستلزم لغوية الافتراق في مقام تأثيره في سقوط الخيار مع أن ظاهر النصوص دخالة الافتراق فيه.

وأما الاحتمال السادس، فلا يمكن حمل النص عليه وذلك لأن الافتراق إنما يكون التزاماً عملياً بالمعاملة إذا فرض أنه مسقط للخيار شرعاً، وإلّا فلا ربط للافتراق بالرضا العملي.

وإذا كان الأمر كذلك فلو كان قوله: «بعد الرضا» تفريعاً على الحكم بسقوط الخيار بالافتراق صح الكلام كما لا يخفى.

أما إذا كان تعليلاً لسقوط الخيار بالافتراق لم يصح - على هذا الاحتمال - لأن كونه رضاً عملياً متفرع عن كونه مسقطاً ومترتب عليه فلا معنى لأن يكون علة له. وظاهر قوله (علیه السلام) : «بعد الرضا منهما» أنه بمثابة التعليل للحكم بمسقطية الافتراق للخيار، فكأنه قال: فإذا افترقا فلا خيار لأنه رضا.

وعليه، فلا يمكن حمله على ما ذكره المحقّق الاصفهاني (رحمة الله).

وإذا انتفت جميع هذه المحتملات يتعين المحتمل الخامس وهو الحكم بسقوط الخيار بتحقق الافتراق باعتبار أنه كاشف نوعاً عن الرضا، ومقتضى هذا الاحتمال على

ص: 341

ما عرفت عدم العبرة بالافتراق عن إكراه لعدم كشفه عن الرضا. فلاحظ»(1).

أقول: قد مرّ منّا في المسألة السابقة أنّ الأصحاب يعرضون عن الصحيحة ولا يعملون بها فلا يمكن الاستدلال بها في هذه المسألة.

والحاصل: الأدلة الأربعة المذكورة في كلام الشيخ الأعظم غير تام فلا يمكن الاستدلال بها وموافقته (قدس سره)، والصحيح عندي سقوط خيار المجلس بمطلق الافتراق سواء كان عن اختيار أو إكراه أو اضطرار أو غيرها والله العالم.

مسألة: اكراه أحدهما على التفرّق

إذا أُكره أحدهما على التفرّق ومنع من التخاير وبقي الآخر في المجلس فصورها ثلاثة:

[1] تارة: «يكره الآخر على عدم مصاحبته للذاهب ويمنع من التخاير. فيدخل في موضوع [المسألة السابقة] وهو ما إذا تحقق الافتراق عن اكراههما معاً.

[2] وأخرى: لا يكره الآخر على عدم مصاحبة الذاهب ولم يمنع من التخاير وهو محل البحث في هذه الجهة.

[3] وهناك صورة أخرى وهي ما إذا أكره أحدهما على المكث في المجلس مع المنع من التخاير وخرج الآخر اختياراً، وقد ذكر الشيخ(2) (قدس سره) أن الحكم فيها يعرف من تحقيق الكلام في سابقتها.

فموضوع الكلام فعلاً هو [2] ما إذا اكره أحدهما على الذهاب من المجلس مع منعه من التخاير وبقي الآخر في المجلس اختياراً ولم يمنع من التخاير. وقد ذكر الشيخ (قدس سره) أن الأقوال أربعة:

ص: 342


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(177-175).
2- المكاسب 5/72.

الأوّل: سقوط خيار كليهما وهو ظاهر المحقّق(1) والعلّامة(2) [وولده(3) والسيّد العميد(4)] والشهيد(5) رحمهم الله وغيرهم.

الثاني: عدم سقوط كلا الخيارين وهو ظاهر الشيخ في المبسوط(6) والمحقّق(7) والشهيد(8) الثانيين ومحتمل كلام العلّامة رحمهم الله في الإرشاد(9).

الثالث: سقوط خيار المختار خاصة وهو ظاهر خلاف الشيخ(10) (رحمة الله) وجواهر القاضي(11).

الرابع: التفصيل بين بقاء المختار في المجلس، فيثبت كلا الخيارين. وخروجه عن المجلس اختياراً، فيسقط كلا الخيارين. وهو ظاهر العلّامة (رحمة الله) في التحرير(12).

والذي ذكره [الشيخ الأعظم](13) (قدس سره) في مبنى هذه الأقوال الأربعة هو: أن الافتراق المجعول غاية لخيار كلا المتبايعين [أ] إما أن يكون المعتبر صدوره عن اختيارهما معاً [ب] أو يكفي صدوره عن اختيار أحدهما.

ص: 343


1- شرائع الإسلام 2/22، طبع مؤسسة المعارف.
2- قواعد الاحكام 2/65.
3- إيضاح الفوائد 1/483.
4- كنز الفوائد 1/447.
5- الدروس الشرعية 3/266.
6- المبسوط 2/84.
7- جامع المقاصد 4/289.
8- مسالك الأفهام 3/196.
9- إرشاد الأذهان 1/374.
10- الخلاف 2/12.
11- جواهر الفقه /55، مسألة 197.
12- تحرير الأحكام الشرعية 2/285.
13- المكاسب 5/73.

[أ] وعلى الأوّل، فاما أن يكون الافتراق الاختياري من أحدهما مؤثراً في سقوط خيار نفسه بلا توقف على تحقق الافتراق الاختياري من الآخر، فيتجه القول الثالث.

وإما أن لا يكون سقوط الخيار لأحدهما بلا سقوط خيار الآخر، بل كان الخياران مما يسقطان معاً، فيتجه القول الثاني لأن الافتراق الاختياري غير حاصل إلّا من قبل أحد الطرفين.

[ب] وعلى الثاني، فاما أن يلتزم بعدم تحقق الافتراق الاختياري الموجب لسقوط كلا الخيارين إلّا بفعل وجودي، كالحركة، ولا يتحقق بأمر عدمي، كالبقاء في المجلس اختياراً مع خروج الآخر عنه، فيتجه القول الرابع الذاهب إلى التفصيل بين خروج الآخر وبقائه.

وإما أن لا يلتزم بكفاية الأمر العدمي إذا كان اختياراً في صدق الافتراق الاختياري، فيتجه القول الأوّل.

وبعد ذلك تعرض (قدس سره) للجمع بين بعض الأقوال ولا يهمنا ذلك... ، والمهم فعلاً هو تحقيق أصل المسألة وقد اختار الشيخ(1) (قدس سره) بالبداية القول الثاني واستدل له بوجوه ثلاثة:

الأوّل: الأصل.

الثاني: ما تقدم منه من أن المتبادر من الافتراق الموجب لسقوط الخيار هو الصادر عن رضا الطرفين معاً. وهو غير متحقق في المقام، لأن الافتراق وإن تحقق منهما اختياراً - لعدم منافاة الاكراه للاختيار - إلّا أنّه لم يتحقق عن رضا كلا الطرفين، بل عن رضا أحدهما خاصة وهو الباقي في المجلس. ولا دليل على كفاية ذلك في

ص: 344


1- المكاسب 5/75، السطر الأخير وما بعده.

سقوط كلا الخيارين ولا سقوط خيار نفسه خاصة، بل لابدّ في سقوط الخيار من تحقق الافتراق عن رضاهما معاً.

الثالث: صحيحة الفضيل(1) المتقدمة لظهورها في اعتبار الرضا في سقوط الخيار.

وقد استشكل (قدس سره) في جميع هذه الوجوه:

أما الأوّل، فلأنه لا مجال للأصل بعد صدق الافتراق المجعول غاية للخيار لإقتضاء الدليل - بمقتضى ذلك - سقوط الخيار.

وأما الثاني، فلأن المتيقن من اعتبار الرضا هو اعتبار رضا أحدهما لاكليهما.

وأما الثالث، فلأن صحيحة الفضيل معارضة بما دل على كفاية الرضا من أحدهما خاصة، كالنصوص(2) المتضمنة لمشي الإمام (علیه السلام) خطوات لأجل لزوم البيع، فإن ظاهرها كفاية الرضا من جانب واحد لظهورها في عدم التفات الطرف الآخر لمشى الإمام (علیه السلام) وإفتراقه عنه.

قال صاحب المرتقىٰ (رحمة الله) : الذي يظهر من الشيخ (قدس سره) بناؤه الوجوه المتقدمة على الترديد في المراد بالاختيار المعتبر في سقوط الخيار وما به يتحقق الاختيار.

ولكن السيّد [اليزدي](3) (رحمة الله) بنى الوجوه على الترديد في المراد بالافتراق المجعول غاية للخيار وأن الافتراق من كل منهما غاية لخيار نفسه من باب مقابلة الجمع بالجمع أو أن مجموع الافتراقين غاية للخيار، ثمّ إنه هل يتحقق بالأمر العدمي أو أنه يتوقف على فعل وجودي.

ولا يخفى أن بناء المسألة على ذلك أولى من ما ذكره الشيخ (قدس سره)، إذ على ما سلكه

ص: 345


1- وسائل الشيعة 18/6، ح3.
2- وسائل الشيعة 18/8، ح2 و 3.
3- حاشية المكاسب 2/427، رقم 598.

الشيخ لابدّ من ملاحظة دليل اعتبار الاختيار بخلاف الحال على ما سلكه السيّد (رحمة الله)

فإنه لابدّ من ملاحظة دليل أخذ الافتراق غاية.

وتحقيق الكلام أنه قد تقدم في المسألة السابقة أن المستند في اعتبار الاختيار في مقابل الاكراه هو صحيحة الفضيل بالتقريب المتقدم.

وأما الوجوه الأخرى المذكورة لإعتبار ذلك، فقد تقدمت منّا المناقشة فيها.

وعليه، فنحن لانحتاج إلى البحث هاهنا بلحاظ جميع تلك الوجوه وبيان جهة الفرق بينهما فيما يرجع إلى ما نحن فيه، كما ارتكبه المحقّق الاصفهاني(1) (رحمة الله)، فإنه ذكر تحقيقاً دقيقاً في الفرق بين الاستناد في اعتبار الرضا إلى حديث الرفع وبين الاستناد إلى غيره من الوجوه»(2).

أقول: قد مرّ منّا في المسألة ما قبل السابقة اعراض الأصحاب رحمهم الله عن صحيحة الفضيل وعدم إمكان تقييد روايات خيار المجلس بها فلابدّ من رفع اليد عنها والرجوع إلى غيرها من روايات خيار المجلس الواردة فيها كفاية مطلق الافتراق وحيث أنّ مطلق الافتراق يصدق على الافتراق عن كره كما مرّ في المسألة السابقة فكذلك يصدق على افتراق أحدهما عن كره والآخر عن اختيار، وكذلك يصدق على الصورة الثالثة - وهي ما إذا أكره أحدهما على البقاء في المجلس مع منعه من التخاير وخروج الآخر اختياراً - والحكم في جميعها سقوط كلا الخيارين.

بل لا يجري هذه الفروع أصلاً مع ما حررناه من مجرد مطلق الافتراق وعدم اعتبار الرضا فيه وقد بحثنا حول هذه الفروع تبعاً للقوم ولكن الأمر على ما سلكناه في الجميع واضح وهو سقوط الخيارين والله العالم.

ص: 346


1- حاشية المكاسب 4/135.
2- وسائل الشيعة 18/8، ح3.
مسألة: لو زال الإكراه

«لو زال الإكراه - بناء على اعتبار الاختيار في الافتراق - ففي المسألة ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: امتداد الخيار بامتداد مجلس الزوال، وهو المنسوب إلى الشيخ الطوسي(1) (قدس سره). [والعلّامة(2) وثاني الشهيدين(3) ومال إليه في الميسية(4)].

القول الثاني: الخيار على الفور، فإن لم يعمله في الآن الأوّل زال. [كما في التذكرة(5) والإيضاح(6) والحاشية النجارية(7) وجامع المقاصد(8)].

القول الثالث: الخيار على التراخي إلى أن يحصل أحد المسقطات.

أما القول الأوّل، فلا وجه صحيحاً له؛ إذ غاية ما ذُكر له أن مقتضى «رفع ما أكرهوا عليه» هو جعل الافتراق الحاصل بالإكراه كالمعدوم، فكأن المتبايعين لا يزالان مجتمعين في مجلس العقد.(9)

وهو غير تام؛ لأن أدلة تقييد الافتراق بالاختيار، أو بالرضا، أو بعدم الإكراه، إنما تثبت بقاء الخيار، ولا تتعرض إلى بقاء المجلس، أو الهيئة الاجتماعية للمتبايعين.

وبعبارة أخرى: إن الأدلة لم تجعل مجلس زوال الإكراه بمنزلة مجلس العقد،

ص: 347


1- المبسوط 2/84.
2- تحرير الأحكام الشرعية 2/284، مسألة 394.
3- الروضة البهية 3/449.
4- كما نقل عنه في مفتاح الكرامة 14/135.
5- تذكرة الفقهاء 11/27.
6- إيضاح الفوائد 1/482.
7- الحاشية النجارية /245؛ ونقل عنه مفتاح الكرامة 14/136.
8- جامع المقاصد 4/288.
9- المكاسب 5/79.

وإنما المستفاد منها عدم ارتفاع الخيار بسبب الإكراه.

وبعبارة ثالثة: إن معنى جعل الشارع الافتراق بمنزلة العدم ليس هو التعبد ببقاء المجلس، بل جعل الافتراق بحكم العدم من حيث الأثر، فمدلول حديث الرفع هو رفع ما أكرهوا عليه في وعاء التشريع، وفرق بين التعبد ببقاء الموضوع، والتعبد بزوال الحكم.

وأما القولان الآخران فيدور أمرهما مدار كون المسألة هل هي من صغريات التمسك بعموم العام فيما زاد على القدر المتيقن من التخصيص، أو من موارد جريان استصحاب حكم المخصص، فإن قيل بالأوّل كان الخيار على الفور، وإن قيل بالثاني كان على التراخي، ويمكن الاستدلال للقول بالتراخي أيضاً بالتمسك بإطلاق دليل الخيار.

ولأهمية المسألة اقتضى المقام البحث مجملاً في جهتين، وتفصيله في بحث خيار الغبن إن شاء الله.

الأولى: في أصل القاعدة.

والثانية: في تعيين كون المسألة صغرى لتلك القاعدة.

أما الجهة الأولى، فلا يخفى أن هذه القاعدة قد استفيد منها في موارد من الفقه، عبادات ومعاملات:

منها: باب الخمس، في الفائدة يستفيدها الإنسان وتكون مؤونة له ثمّ يستغني عنها، كالفرش في الدار، وكالذهب للمرأة بعد أن تصبح عجوزاً، فهل المورد من موارد التمسك بعموم أدلة وجوب الخمس، أو من موارد التمسك باستصحاب حكم المخصص، وهو استثناء المؤونة؟

ومنها: باب خيار الغبن؛ إذ بعد ظهور الغبن والالتفات إليه يكون للمغبون حق الخيار في الآن الأوّل قطعاً، فهل يتمسك بعده بعموم ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ فيكون

ص: 348

الخيار فورياً، أو باستصحاب حكم المخصص وهو ثبوت الخيار، فيكون على التراخي؟

وأما أصل النزاع في القاعدة فيبتني على أن التقييد هل هو أزماني أو أفرادي؟

وعلى الأوّل، هل الزمان أخذ مفرّداً للحكم، أو ظرفاً له؟ بمعنى هل يتعدد الحكم بتعدد قطعات الزمان، أو أن الحكم واحد سارٍ في وعاء الزمان، فيكون الزمان ظرفاً له؟ ثمّ هل هناك فرق بين ورود التخصيص أو التقييد من أوّل الأمر، وبين ورودهما في الوسط أو لا؟

أما إذا كان التخصيص أفرادياً، بمعنى خروج الفرد من تحت دائرة العام فالقاعدة تقتضي التمسك بإطلاق دليل المخصص، وعدم عود الفرد إلى دائرة العموم بعد أن أخرج منها، ولهذا أفتى المحققون من الفقهاء بعدم تعلّق الخمس بالفائدة التي كانت مؤونة ثمّ استغني عنها؛ تمسكاً بإطلاق «الخمس بعد المؤونة»(1)، وبعد أن خرج هذا الفرد من تحت عمومات أدلة الخمس فلا يعود.

وأما إذا كان [التخصيص] أزمانياً، بمعنى خروج الفرد عن حكم العام في زمان من الأزمنة ففيه خلاف بين الشيخ والمحقّق الخراساني، والمحقّق النائيني قدس الله أسرارهم، والكلام في ذلك طويل الذيل، وتفصيله في بحث خيار الغبن إن شاء الله، فنقتصر الآن على مبنى الشيخ (قدس سره)، وحاصله:

إن الزمان إن أخذ مفرّداً للحكم، بحيث يكون الحكم بنحو العموم الاستغراقي، فيكون لكلِّ قطعة من الزمان حكمها بوجوب الوفاء من حيث الطاعة والعصيان، فالمرجع عموم العام؛ لتعدد الحكم بتعدد الموضوعات، وخصص واحد منها، فيبقى الباقي تحت العموم.

ص: 349


1- وسائل الشيعة 9/449، ح1، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، معتبرة محمّد بن الحسن الأشعري.

وإن أخذ الزمان ظرفاً، بحيث يكون الحكم بنحو العام المجموعي، فليس هناك إلّا حكم واحد لموضوع واحد؛ فعندما خصص فقد خرج من تحت العموم، فلا يعود إليه ثانية، فيكون المرجع حينئذ استصحاب حكم المخصص.

وأما الجهة الثانية، فعندنا في المقام عموم ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) وقد خصّص بدليل خيار المجلس، والفرض أنه باقٍ في ظرف الإكراه حتّى بعد التفرّق، فبعد زوال الإكراه يشك في بقاء الخيار بعد الزمان الأوّل، الثابت فيه الخيار يقيناً لاستدراك حق المتبايعين، فإن كان العموم استغراقياً، والأحكام متعددة اقتصر في التخصيص على المقدار المتيقن خروجه من تحت العموم وبقي الباقي تحته، فيكون الخيار فورياً.

وإن كان العموم بنحو العموم المجموعي بحيث استفيد من آية الوفاء حكم واحد؛ لكون الوفاء عبارة عن إنهاء الأمر بالوصول إلى غاية العمل، فيكون الحكم المتعلق بالوفاء على العاقد واحداً وهو وجوب إنهاء أمر العقد، فإذا خصص فقد خرج من تحت العموم فلا يعود إليه، وكان المرجع استصحاب الخيار، فكان على التراخي إلى أن يحصل المسقط.

إشكال المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) على كلام الشيخ

وأورد المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) على ما أفاده الشيخ (قدس سره) : بعدم كون ما نحن فيه صغرى لقاعدة دوران الأمر بين التمسك بعموم العام واستصحاب حكم المخصص؛ وذلك لأن القاعدة إنما تأتي في ما إذا لم يكن لدليل الخاص إطلاق، كما هو الحال في دليل خيار الغبن؛ فيجهل حاله من جهة الفور والتراخي.

وأما ما نحن فيه فالدليل الدال على الخيار مطلق إلى أن تحصل الغاية المقررة شرعاً، فالخيار سارٍ إلى أن يحصل الافتراق الاختياري إن استند إلى التبادر، أو إلى

ص: 350


1- سورة المائدة /1.

الافتراق عن رضاً إن استند إلى صحيحة فضيل، أو غير الإكراهي إن استند إلى حديث الرفع، وشيء منها لم يحصل؛ لحصول التفرّق الإكراهي، ولن يحصل؛ لتحقق الافتراق التكويني، وهو الانفصال بين الجسمين، ومعه يبقى الخيار إلى حصول مسقط آخر، ولا تصل النوبة إلى الرجوع إلى العام، ولا إلى الاستصحاب؛ لحكومة إطلاق الخاص عليهما.(1)

الجواب عن إشكال المحقّق الخوئي (قدس سره)

ويندفع ما أفاده (قدس سره) بما يتوقف على مقدمتين:

الأولى: إن المأخوذ غاية في روايات الخيار هو الافتراق، وهو غاية شرعية، ومعناها تحديد الحكم إلى حدٍ معيّن، والغاية الشرعية لا تكون إلّا في مورد يمكن تحققها فيه، وإلّا كان جعلها لغواً، فقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾(2) لا يعقل شموله لزمان أو مكان لا ليل فيه.

الثانية: إن القضايا الشرعية مجعولة بنحو القضايا الحقيقية، فالمجعول الشرعي متعدد بتعدد الموضوعات المقدرة الوجود، فالمجعول في المقام خيارات متعددة بعدد كل بيع من كل متبايعين، أي كل بيع موضوع مستقل لخيار المجلس.

إذا اتضح هذا، فالغاية - حسب الفرض - هي الافتراق الخاص، المقيّد بالرضا، أو بالاختيار، أو بعدم الإكراه، فيلزم أن لا يؤخذ غاية إلّا في مورد يمكن وجوده فيه، وإلّا لكان أخذه لغواً، وهي بهذا القيد وإن كانت قابلة للأخذ قبل تحقق الافتراق ولكنها غير قابلة له بعده، فلو أخذت حينئذ كانت لغواً، فيتضح من ذلك أن الافتراق المأخوذ غاية إنما هو الافتراق عن المجلس ما دام المتبايعان فيه، وأما مع افتراقهما عنه

ص: 351


1- مصباح الفقاهة 6/168؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 38/(142-141)؛ وذهب إلىه أيضاً السيّد اليزدي (قدس سره) في الحاشية على المكاسب 2/429.
2- سورة البقرة /187.

ولو عن إكراه فلم يؤخذ غاية للخيار؛ لعدم التمكن منه، فتخرج هذه الصورة عن مدلول الرواية، فلا يكون الخاص مطلقاً كما أفاده (قدس سره).

ولا أقل أن ما ذكرناه من القاعدة موجب للشك في إطلاق دليل الخاص؛ إذ يشك حينئذ في شمول أدلة خيار المجلس لصورة امتناع تحقق الغاية وعدمه، وعند الشك وإجمال المخصص المنفصل في غير الغاية الاختيارية يسقط الإطلاق، فيعود كلام الشيخ (قدس سره) من كون المرجع هل هو عموم العام أو استصحاب حكم المخصص؟

بعبارة أُخرى: إن القضية لو كانت طبيعية لم يلزم أن تكون الغاية ممكنة الوجود في جميع الأفراد، بل يكفي إمكانها في بعضها، أي بنحو الموجبة الجزئية؛ لتعلّق الحكم فيها بالطبيعة.

وأما القضية الحقيقية فتتعلق بالوجودات، بمعنى الأفراد المقدرة الوجود، أي كلما حصل بيع بين متبايعين فهما بالخيار إلى أن يفترقا، ولا معنى لجعل الحكم المغيى بهذه الغاية في المورد الذي لا يمكن فيه التفرّق؛ لأن الحكم - حينئذ - أبدي، فلا يدور مدار الغاية، فلا محالة يختص الحكم بمورد إمكان الغاية، فلا إطلاق في الدليل لغيره.

ولا أقل أن ذلك موجب للشك فيعود كلام الشيخ (قدس سره)

حينئذٍ.

نعم، يمكن أن ينقض بجعل الخيار للمتبايعين المتلاصقين كالتوأم المتلاصقين.

وفيه: نلتزم بعدم الخيار لعين ما ذكرناه إلّا أن يقوم إجماع على ثبوته، ولا إجماع فيه.

فتحصل من ذلك متانة ما أفاده الشيخ (قدس سره) من حيث كون المسألة من صغريات تلك الكبرى، وأما الحقّ في المسألة فما نذهب إليه مخالف لما عليه الشيخ (قدس سره)، وسيأتي بحثه في مبحث خيار الغبن إن شاء الله»(1).

ص: 352


1- بغية الرغب 2/(115-109).
4- مسألة: التصرف

المسقط الرابع من مسقطات خيار المجلس: التصرف.

«التصرفات المتوقفة على الملك على نحوين:

الأوّل: ما يكون حاصلاً عن رضا بالبيع فيكشف عن الالتزام به، ومثله مسقط للخيار بلا إشكال؛ لأنه التزام بالبيع عملاً، وهذا النحو خارج عن محل الكلام فعلاً.

الثاني: ما يكون غير كاشف عن الالتزام بالبيع، وهو محل البحث فعلاً، ومقتضى القاعدة فيه عدم الإسقاط؛ لأن إسقاط الخيار أمر إيقاعي إنشائي فيتوقف على القصد، ومع عدمه لا يتحقق الإنشاء، فيبقى الحق ما لم يحصل مسقط آخر.

ولا بد لأجل الخروج من تحت القاعدة من إقامة الدليل على ذلك، وقد استدل عليه بصحيحة علي بن رئاب عن أبي عبدالله (علیه السلام) : «قال: الشرط في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري، اشترط أم لم يشترط، فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً قبل الثلاثة الأيام فذلك رضا منه فلا شرط»(1).

وتقريب الاستدلال وتماميته يتوقف على بيان مقدمة وهي: أنه ورد في الروايات أن الشرط في خيار الحيوان ثلاثة أيام، وفي خيار المجلس إلى أن يفترقا، وفي

ص: 353


1- وسائل الشيعة 18/13، ح1، الباب 4 من أبواب الخيار.

هذه الرواية قال الإمام (علیه السلام) : «فإن أحدث... حدثاً ... فلا شرط»، ومقتضى إطلاق نفي الشرط عن الموضوع الذي أحدث فيه الحدث هو سقوط الخيار المتعنون بعنوان الشرط في أي مورد كان، فالرواية بيّنت الكبرى، وإحدى الصغريين خيار الحيوان، والأخرى خيار المجلس.

وبعبارة أخرى: إن الإمام (علیه السلام) جعل مطلق إحداث الحدث رضا بالبيع تعبداً فلا شرط.

وقد تأمل الشيخ (قدس سره) في الاستدلال بها.(1)

والوجه فيه: أن محل الكلام هو التصرف بما هو تصرف، لا بما هو كاشف عن الرضا، والتصرف كذلك رضاً بالبيع تعبداً على خلاف القاعدة، وكلام الإمام (علیه السلام) ظاهر في خصوص إحداث الحدث في الحيوان، لا مطلقاً، وما لم يثبت الإطلاق لا يمكن التمسك بها في خيار المجلس، والحق عدم ثبوته؛ لأن محل كلامه (علیه السلام) هو إحداث الحدث في الحيوان المشترىٰ، كما يدلُّ على ذلك أيضاً ذيل الرواية وبقية الروايات؛ إذ فيها؛ «قيل له: وما الحدث؟ قال: إن لامس أو قبّل أو نظر منها إلى ما كان يحرم عليه قبل الشراء»(2).

فالمراد من الشرط المنفي هو نفس الشرط الذي في الحيوان ثلاثة أيام، وشموله لغيره يتوقف على ثبوت الإطلاق، ولا مثبت له.

ولا أقل من الشك فيه، فيقتصر على القدر المتيقن، وهو خيار الحيوان، فالتصرف في باب خيار المجلس ما لم يكشف عن الالتزام بالبيع ليس بمسقط له. هذا تمام الكلام في خيار المجلس»(3).

ص: 354


1- المكاسب 5/82.
2- وسائل الشيعة 18/13، ح1.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(119-117).

الثاني: خيار الحيوان

اشارة

خيار الحيوان من مختصات فقه أهل البيت (علیهم السلام) وخالف فيه جمهور العامة كما قال العلّامة: «إذا كان المبيع حيواناً، يثبت الخيار فيه للمشتري خاصّة ثلاثة أيّام من حين العقد على رأي، فله الفسخ والإمضاء مدّة ثلاثة أيّام عند علمائنا أجمع، خلافاً للجمهور كافّة.

لنا: الأخبار المتواترة عن أهل البيت (علیهم السلام) بذلك، وهُمْ أعرف بالأحكام حيث هُمْ مظانّها، ومهبط الوحي، وملازمو الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم).

قال الصادق (علیه السلام) : «الشرط في الحيوان كلّه ثلاثة أيّام للمشتري، وهو بالخيار اشترط أو لم يشترط»(1).

ولأنّ العيب في الحيوان قد يثبت خفياً غالباً، وفي الثلاثة يختبر ويظهر أثره، فوجب أن يكون مشروعاً؛ دفعاً للضرر. ولأنّه يثبت في الشاة المصرّاة فكذا في غيرها؛ لأنّ المناط هو ظهور العيب الخفيّ. ولأنّ الحيوان يغتذي ويأكل في حالّتي صحّته وسقمه ويتحوّل طبعه قلّما ينفكّ(2) عن عيبٍ خفيّ أو ظاهر، فيحتاج إلى إثبات الخيار

ص: 355


1- الفقيه 3/126، ح549؛ التهذيب 7/24، ح101 بتفاوت.
2- كذا في نسختين والطبعة الحجريّة. والظاهر: «وبتحوّل طبعه قلّما ينفكّ». أو: و «يتحوّل طبعه وقلّما ينفكّ».

ليندفع عنه هذا المحذور»(1).

وقال سيّد الرياض: ««الثاني: خيار الحيوان، وهو ثلاثة أيّام» مطلقاً رقيقاً كان أو غيره، مبدؤها من حين العقد «للمشتري خاصّة» دون البائع «على الأصح» الأشهر، بل في الغنية الإجماع عليه(2)، وعليه عامة من تأخّر، وفاقاً للإسكافي والصدوق والشيخين والديلمي والقاضي والحلي(3)؛ اقتصاراً فيما خالف الأصل وعمومات الكتاب والسنّة الدالّة على لزوم المعاملة بإجراء الصيغة بشرائطها المعتبرة على المجمع عليه بين الطائفة، وهو في المشتري خاصّة، كما حكاه جماعة(4)»(5).

وقال الفاضل النراقي: «الثاني خيار الحيوان. وهو ثلاثة أيّام للمشتري؛ بالإجماع المحقّق، والمحكيّ في التذكرة وغيره(6)»(7).

وقال خالنا شارح الخيارات: «ثبوت هذا الخيار في الجملة مجمع عليه بين الأصحاب اجماعاً محصّلاً أو منقولاً نقلاً مستفيضاً، والنصوص به مستفيضة»(8).

وقال صاحب الجواهر: «الثاني: خيار الحيوان الذي هو في الجملة اجماعيٌّ بل

ص: 356


1- تذكرة الفقهاء 11/34، مسألة 229.
2- غنية النزوع /219.
3- نقله عن الإسكافي في مختلف الشيعة 5/64؛ الصدوق في المقنع /122؛ المفيد في المقنعة /599؛ الطوسي في المبسوط 2/78؛ الديلمي في المراسم /173؛ القاضي في المهذَّب 1/353؛ الحلّي في السرائر 2/241.
4- منهم: ابن إدريس في السرائر 2/244؛ والفاضل الآبي في كشف الرموز 1/457؛ والفاضل المقداد في التنقيح الرائع 2/44.
5- رياض المسائل 8/293، طبعة آل البيت (علیهم السلام).
6- كالسرائر 2/244؛ والتحرير 1/166؛ وكشف الرموز 1/457؛ والتنقيح 2/44.
7- مستند الشيعة 14/373.
8- شرح خيارات اللمعة /44.

ضروريٌّ عند علماء المذهب»(1).

وقال الشيخ الأعظم: «لا خلاف بين الأمامية في ثبوت الخيار في الحيوان المشترىٰ وظاهر النص والفتوى»(2).

ثمّ يقع البحث في جهات:

الجهة الأولى: المراد من الحيوان كل ماله جسم وروح صغيراً كان أو كبيراً

عموم دليل خيار الحيوان يشمل «لكلِّ ذي حياةٍ، سواءٌ كان المقصود حياته كالأنعام التي يُقصد بقاؤها للانتفاع بألبانها وأصوافها وأوبارها، وكذا الحيوانات الصغيرة ذوات المنافع المحلّلة المقصودة كالنحل والعَلَق ودود القزّ، أم كان المقصود منه جسمه ولحمه - لا جسمه وروحه - كالسمك المُخرَج من الماء والجراد المحرَز في الإناء.

والدليل على هذا التعميم إطلاق «الحيوان» في النصوص وعدم تقييده بصنفٍ خاصٍّ. مضافاً إلى التصريح بالعموم في بعضها بمثل قوله (علیه السلام) : «في الحيوان كلّه شرط ثلاثة أيّام للمشتري»(3) بناءً على دلالة «كلّ» على الاستيعاب وضعاً»(4) كما هو المختار.

الجهة الثانية: المراد من الحيوان خصوص ما يقصد بقاؤه أو مطلق مافيه الحياة؟

يعني خيار الحيوان يختص بالحيوان المقصود حياته ولو لمدّة أيّام قلائل أم يعمّ ما يزهق نفسه بعد العقد بلحظات مثل السمك المخرَج من الماء؟

ص: 357


1- الجواهر 24/38 (23/23).
2- المكاسب 5/83.
3- وسائل الشيعة 18/10، ح1، صحيحة الحلبي.
4- هدى الطالب 10/6.

بعبارة أُخرى: «أنّ الحيوان الشامل للصغير والكبير والبرّي والبحري هل يختصّ بما يُراد جسمه وروحه معاً، أم يعمّ ما لا يبقىٰ حيّاً بعد البيع، كالسمك المخرَج من الماء الذي يباع بما أنّه لحم، لا بما أنّه جسم حيّ متحرّك بالميل؟»(1).

ظاهر النص والفتوى مطلق ما فيه الحياة ولكن ذهب الشيخ الأعظم(2) والمحقّق النائيني(3) إلى خصوص ما يقصد بقاؤه.

استدلال المحقّق النائيني على خصوص ما يقصد بقاؤه

استدلّ المحقّق النائيني على الاختصاص بوجهين:

الوجه الأوّل: «مناسبة الحكم والموضوع، وتوضيحه: إنّ الإطلاق إنّما ينعقد في صورة عدم القرينة على انصراف موضوع الحكم إلى حصة منه، كما نقح في بحث الإطلاق من الأصول، بل محتمل الصارفية يمنع من الإطلاق أيضاً، ومن موجبات صرف الطبيعة إلى بعض الحصص مناسبة الحكم والموضوع.

وبما أنّ خيار الحيوان جعل لأجل التروّي والتأمل في الحيوان المشترىٰ وملاحظته ليتبيَّن أنّه ممّا يلتزم بالبيع لأجله أو لا؟ فهذه الخصوصية والمناسبة تقتضي انصراف الحيوان إلى خصوص ما يقصد بقاؤه؛ إذ المقصود منه لحمه ليس محلاً للتأمل والتروّي، ومع هذه المناسبة لا ينعقد الإطلاق.

إشكال المحقّق الخوئي على استدلال المحقّق النائيني وردّه

وأورد عليه: بأن ما يقيّد الموضوع هي العلّة، وأما الحكمة فلا تمنع من الإطلاق، ولا تكون سارية في جميع الأفراد، ووجودها في بعض الأفراد خاصة، أو

ص: 358


1- هدى الطالب 10/7.
2- المكاسب 5/83.
3- منية الطالب 3/57.

عدمها في بعض الأفراد لا يمنع من التعميم؛ فإن الحكمة من تشريع عدة الطلاق هي عدم اختلاط المياه، ومع ذلك لم تنحصر العدة في خصوص الحصة التي يحصل فيها اختلاط المياه.(1)

وهو غير مرتبط بما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) من الاستدلال؛ فإنه (قدس سره) لم يستند إلى الحكمة، وإنما إلى مناسبة الحكم والموضوع، وبينهما فرق؛ فإن الأولى وإن كانت لا تعمّم ولا تخصّص إلّا أن الثانية توجب التعميم والتخصيص، فلو سئل عن ملاقاة البول للثوب وكان الجواب هو الحكم بالنجاسة، فإن مناسبة الحكم والموضوع - أي الانفعال بالنجاسة والملاقاة - تقتضي عدم الفرق بين الموضوعات، وعدم الاختصاص بالثوب وإن كان السؤال عنه، وهكذا الحال من جهة التخصيص؛ فإن تناسب الحكم والموضوع مما يقيد الموضوع.

التحقيق في الجواب عن استدلال المحقّق النائيني

وعليه فنحن بين أمرين: إما أن نقول بعدم الحاجة إلى جريان مقدمات الحكمة في مدخول أدوات العموم، بل نفس الأداة مثل (كل) متكفلة لشمول مدخولها إلى جميع الحصص، وإما أن نقول بحاجة مدخولها إلى مقدمات الحكمة لأجل التعميم، فإن اخترنا الأولى - كما هو التحقيق - أمكن الجواب عن استدلال المحقّق النائيني (قدس سره) ؛ بأن مقتضى العموم عدم الاختصاص بحيوان دون آخر.

وإن اخترنا الثاني - كما ذهب إليه المحقق النائيني (قدس سره) - فالإنصاف تمامية استدلاله؛ لأن استفادة العموم تتوقف على مقدمات الحكمة، وإحداها عدم القرينة، ومناسبة الحكم والموضوع قرينة، فلا ينعقد الشمول، إلّا إذا أنكر كون المناسبة قرينة، وهو غير قابل للقبول.

ص: 359


1- لعله توضيح لما في مصباح الفقاهة 6/176؛ التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 3/150.

والحاصل: أن استدلال المحقّق النائيني (قدس سره) يتوقف على أمور ثلاثة:

الأوّل: أن مناسبة الحكم والموضوع من القرائن المقيدة للإطلاق.

الثاني: أن المناسبة موجودة في المقام.

الثالث: أن يستند إلى مطلقات باب خيار الحيوان، أو إلى عموماته مع الذهاب إلى حاجة مدخول أداة العموم إلى جريان مقدمات الحكمة، كما عليه المحقّق النائيني (قدس سره).

وأما على المسلك المختار من عدم الحاجة إلى جريان مقدمات الحكمة في مدخولها فلا يتم الاستدلال؛ لأن روايات الباب وإن كان فيها المطلقات من قبيل صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: «المتبايعان بالخيار ثلاثة أيام في الحيوان، وفيما سوى ذلك من بيع حتّى يفترقا»(1).

فتصلح المناسبة لتقييدها إلّا أن فيها العمومات من قبيل صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: «في الحيوان كلِّه شرط ثلاثة أيام للمشتري، وهو بالخيار فيها إن شرط أو لم يشترط»(2)، ومثلها روايته الأخرى(3)، إلّا أن في سندها علي بن حديد [المدائني الأزدي الساباطي] وهو محل إشكال [بل ضعيف عندنا].

الوجه الثاني: ما ورد في بعض روايات خيار الحيوان من التعليل بالنظرة(4)؛ إذ يمكن أن يستفاد منها التخصيص بما يقصد منه حياته، وأما مثل الصيد المشرف على

ص: 360


1- وسائل الشيعة 18/10، ح3، الباب 3 من أبواب الخيار.
2- وسائل الشيعة 18/10، ح1، الباب 3 من أبواب الخيار.
3- وسائل الشيعة 18/11، ح4، الباب 3 من أبواب الخيار.
4- يشير إلى ما في وسائل الشيعة 18/12، ح9 صحيحة علي بن رئاب قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن رجل اشترى جارية لمن الخيار؟ للمشتري أو للبائع أو لهما كلاهما؟ فقال: الخيار لمن اشترى ثلاثة أيام نظرة، فإذا مضت ثلاثة أيام فقد وجب الشراء...، الحديث.

الموت، أو ما يقصد منه لحمه فلا يحتاج إلى النظرة.(1)

وهذا الوجه يتوقف على ثبوت أمرين:

الأوّل: كون ما في الروايات علّة؛ فإنّه لو كان حكمة لم يصلح للتقييد كما تقدم.

الثاني: كون المراد من النظرة النظرة في المبيع؛ إذ عليه لا يكون لها مورد فيما لم يكن الغرض منه البقاء كما أفاد (قدس سره)، وأما إذا كان المراد منها النظرة في البيع فلا منافاة بينها وبين كون المقصود منه لحمه.

ولهذا كان من اللازم الرجوع إلى لفظ الروايات لنتعرف على أمرين: هل النظرة علة أو حكمة؟ وهل هي بالنسبة إلى البيع، أو إلى المبيع، أو إلى كليهما؟

أما الأوّل فتعرف الحكمة بورودها بعد بيان الحكم الشرعي، لا معه كما في غالب روايات كتاب (علل الشرائع) للشيخ الصدوق (قدس سره)، وأما العلة فهي تذكر مع الحكم في نفس الرواية، من قبيل ما لو قال: (لا تشرب الخمر لأنه مسكر).

وبما أن الرواية - محل البحث - من قبيل الثاني؛ حيث قال الإمام (علیه السلام) فيها: «الخيار لمن اشترى ثلاثة أيام نظرة»، فهي علة لا حكمة.

وأما الثاني فتبيّنه معتبرة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: «عهدة البيع في الرقيق ثلاثة أيام إن كان بها حبل أو برص أو نحو هذا»(2)؛ إذ هي ظاهرة في أن النظرة بلحاظ المبيع، لا بلحاظ البيع، وسيأتي البحث في خصوص بيان هذه الجهة في بيع كلي الحيوان فانتظر.

والمتحصل من ذلك صحة الأمرين الذين يتوقف عليهما الوجه الثاني.

[قال الأستاذ المحقّق مدظله]: التحقيق في المقام هذا كله ما يرتبط بكلام المحقّق

ص: 361


1- منية الطالب 3/57.
2- وسائل الشيعة 18/12، ح7، الباب 3 من أبواب الخيار.

النائيني (قدس سره)، وما يمكن أن يقال فيه، ولكن التحقيق أن يقال: بأن المراد من الحيوان في المقام هو خصوص ما يقصد منه البقاء حتّى على مبنى من يقول بعدم حاجة مدخول (كل) إلى جريان مقدمات الحكمة، بل هي في نفسها تتكفل التعميم؛ وذلك لأن التعميم يتوقف على كون موضوع الحكم هو (الحيوان)، وهو عنوان عام شامل لجميع الحيوانات حتّى ما لم يقصد بقاؤه، ولكن الموضوع هو (بيع الحيوان)، فلما صار عنوان الحيوان متعلقاً للبيع، فالغرض المعاملي، وما هو مورد الإنشاء البيعي هو الحيوان بما هو حيوان، فلا يشمل ما لم تكن الحيوانية متعلَّقة للبيع، بل كان المتعلَّق له هو اللحم، كما هو الحال في السمك المخرج من الماء، والجراد المحرز في الإناء؛ فإن الغرض من شرائه الأكل لا البقاء.

والحاصل: أن (كل) وإن لم تحتج في مدخولها إلى مقدمات الحكمة إلّا أن المنصرف من الحيوان خصوص المقصود منه البقاء، والذي تعلّق به البيع بما هو حيوان، لا بما هو لحم.

ولاأقل من إيجاب ذلك عدم انعقاد الإطلاق، وإجمال المخصص لآية الوفاء، أعني ما دلّ على خيار الحيوان؛ حيث أخرج ما يقصد منه البقاء من تحت العموم قطعاً، وأما ما يقصد منه اللحم فيشك في دخوله في المخصص، وخروجه من تحت عموم آية الوفاء، فالمرجع هو عموم العام حينئذٍ، فلا خيار.

تنبيه:

إن الحيوان الذي لا يقصد منه البقاء على قسمين:

الأوّل: ما لا قابلية له للبقاء بالذات، كالسمك المخرج من الماء.

الثاني: ما لا قابلية له للبقاء بالعرض، كالصيد المشرف على الموت بإصابة السهم، أو بجرح الكلب المعلّم.

وقد جزم الشيخ (قدس سره) بخروج القسم الأوّل عن موضوع خيار الحيوان،

ص: 362

واستشكل في القسم الثاني(1)، فربما يقال بعدم الفرق بينهما، وأنه لا وجه للتفريق؛ لأن المدار على متعلّق البيع، هل هو الحيوان بما هو حيوان، أو بما هو لحم؟ والمراد منه في كلا القسمين لحمه لا حياته، فيخرجان معاً عن موضوع الخيار.

ولكن الحق وجود الفارق الذي أوجب الإشكال عند الشيخ (قدس سره) في الثاني، وحاصله: أنّ ما لا قابلية له للبقاء بالعرض مورد للاستصحاب التعليقي، فيقال: إن هذا الحيوان لو بِيعَ قبل العارض لكان مورداً لخيار الحيوان، والآن كما كان، بخلاف الحيوان الذي لا قابلية له للبقاء بالذات؛ فإنه ليس من موارده، وعليه فمن يرى جريان الاستصحاب التعليقي تمسّك به في المقام فقال بالخيار، دون من لا يرى جريانه»(2).

أقول: الظاهر عدم تمامية مقالة المحقق النائيني (قدس سره) لأنّ:

الوجه الأوّل: في كلامه وهو قرينية مناسبة الحكم والموضوع ومانعيتها عن إطلاق الأدلة فيرد عليه:

أوّلاً: يمكن أن يناقش في هذه المناسبة في خيار الحيوان والقول بأنّه خيار تعبدي مجعول من قِبَل الشارع.

وثانياً: على فرض تحقق المناسبة بعدم مانعيتها عن اطلاق الأدلة.

وثالثاً: على فرض تحقق المانعية عن الاطلاق، يمكن التمسك بما ورد من أدلة خيار الحيوان الواردة فيها أداة العموم نحو صحيحة الحلبي(3) وخبره(4)، حيث أن دلالتها على التعميم بالوضع وليس بمقدمات الحكمة.

ص: 363


1- المكاسب 5/83.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(128-121).
3- وسائل الشيعة 18/10، ح1.
4- وسائل الشيعة 18/10، ح4.

وأمّا بالنسبة إلى الوجه الثاني: فيرد عليه:

أوّلاً: النظرة الواردة في صحيحة علي بن رئاب(1) لم يثبت كونها علّة لخيار الحيوان، وغايتها أنّها حكمةٌ.

وثانياً: على فرض أنّها العلّة لم يثبت أنّ المراد بها النظرة في المبيع لاحتمال أنّها النظرة في البيع.

وثالثاً: لم يثبت أنّ الحكمة وردت بعد بيان الحكم الشرعي وأمّا العلّة وردت مع بيان الحكم الشرعي وهذا ليس إلّا ادعاء ويحتاج إلى الإثبات ولم يدلّ عليه دليلٌ.

ورابعاً: ما ورد في صحيحة عبدالله بن سنان(2) لم يثبت أنّ النظرة على فرض العلّيّة «في المبيع» لاحتمال أنّ الظاهر ذكر «حبل أو برص أو نحو هذا» في كلام الإمام (علیه السلام) على نحو المثال لا التعيين، فلا يثبت تعيّن استعمال النظرة في المبيع فقط.

هذا كلّه بالنسبة إلى مقال المحقّق النائيني (قدس سره).

وأمّا بالنسبة إلى تحقيق الأستاذ المحقق مدظله فيمكن أن يقال:

أوّلاً: أنّ موضوع خيار الحيوان هو «الحيوان» ولكن الخيارات لا يجري إلّا في «البيع».

ثانياً: على فرض أنّ موضوعه «بيع الحيوان» فيكون مورد الانشاء البيعي هو الحيوان بما هو حيوان أي ذو حياةٍ، فيشمل ذا حياة يُشترىٰ لأجل لحمه.

وثالثا: متى دخلت الأغراض في أحكام المعاملة بحيث يترتب الاستاذ مدظله الحكم على «الغرض المعاملي» أو قال: «الغرض من شرائه الأكل لا البقاء»؟! وأنت تعرف أنّ الغرض المعاملي لا يتغيّر المعاملة وأحكامها.

ص: 364


1- وسائل الشيعة 18/12، ح9.
2- وسائل الشيعة 18/12، ح7.

والحاصل: لا يتم عندي مقالة الشيخ الأعظم والمحقّق النائيني قدس سرهما والأستاذ المحقّق مدظله من اختصاص خيار الحيوان بما يقصد بقاؤه بل يجري في مطلق ما فيه الحياة وفاقاً لِ- «ظاهر النص والفتوى»(1) والله العالم.

الجهة الثالثة: هل يُعدُّ زهاق روح الصيد تلفاً من البائع قبل القبض أو في زمن الخيار؟

ذهب الشيخ الأعظم إلى عدمه وقال: «وعلى كل حالٍ فلا يُعدّ زهاق روحه تلفاً من البائع قبل القبض أو في زمان الخيار»(2).

«توضيح ذلك: هو أن الثابت كون تلف المبيع قبل قبضه من مال البائع، بأن يقدر دخوله في ملك البائع قبل التلف آناً مّا فيكون التلف منه.

كما أن تلف المبيع في زمن الخيار يكون ممن لا خيار له وهو البائع فيما نحن فيه - كما سيتضح إن شاء الله تعالى - .

وعليه، فقد ذهب الشيخ (قدس سره) إلى أن تلف الصيد المشرف على الموت باصابة السهم قبل القبض أو بعده في زمان الخيار لا يكون من تلف المبيع قبل القبض أو تلفه في زمان الخيار، فلا يكون تلفه من مال البائع.

وهذا الالتزام قد يصير مجال الاشكال، لأنه (قدس سره) توقف في ثبوت الخيار في مثل هذا المورد ولم يجزم بعدمه، وتوقفه في ثبوت الخيار ينافي جزمه بعدم كون تلفه من مال البائع، إذ على تقدير ثبوت الخيار يكون البائع لا خيار له فيكون التلف منه.

فكان على الشيخ (قدس سره) بناء هذه الجهة على الجهة المتقدمة من ثبوت الخيار وعدمه في هذا المورد.

ص: 365


1- المكاسب 5/83.
2- المكاسب 5/83.

ويمكن دفع هذا الاشكال بما أفاده المحقّق الاصفهاني(1) (رحمة الله) من أن موضوع القاعدتين - وهما كون تلف المبيع قبل القبض من مال البائع، وكون تلفه في زمان الخيار ممن لا خيار له - هو المبيع. وقد عرفت أن المبيع في هذه الموارد هو اللحم لا الحيوان، وهو لم يطرأ عليه التلف، وإنما طرأ على الحيوان وهو غير مبيع. إذن فموت الصيد فيما نحن فيه لا يعد من موارد تلف المبيع أصلاً.

وأما ثبوت الخيار، فهو منوط بكون مورد النقل والانتقال هو الحيوان وإن لم يكن مبيعاً بل كان اللحم هو المبيع، وقد عرفت التشكيك في هذه الجهة في مثل الصيد المشرف على الموت، فلو جزم بثبوت الخيار في الفرض، لم يكن تلفه من مال البائع لما عرفت أن المبيع هو اللحم وهو مما لم يطرأ عليه التلف، فلا تلف للمبيع في الفرض، فتدبر»(2).

هذا كلّه بناءً على مختار الشيخ الأعظم وأمّا بناءً على ما هو المشهور:

لو لم يتلف العين كما في فرض الشيخ الأعظم من زهاق روح ما يريد لحمه فقط فكلامه تام بتقريب المحقّق الاصفهاني.

وأمّا لو تلف العين - على نحو المثال لو تلف اللحم في الفرض - فقاعدتان تجريان في المقام لصدق تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه وكذا صدق تلف المبيع في زمن الخيار مِنْ مال مَنْ لا خيار له وتحكمان أنّ التلف في مال البائع، والله العالم.

الجهة الرابعة: منتهى خيار الحيوان الذي لا قابلية له للبقاء

قال الشيخ الأعظم: «وفي منتهى خياره مع عدم بقائه إلى الثلاثة وجوةٌ»(3).

ص: 366


1- حاشية المكاسب 4/145.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/193 و 194.
3- المكاسب 5/83.

والوجوة المذكورة أربعة وهي:

«الوجه الأوّل: أن حدّ الخيار ثلاثة أيام، وذلك لدليلين:

الدليل الأوّل: اندراج المورد تحت أدلة خيار الحيوان، بناء على شمول الحيوان له كما هو الفرض.

وأورد عليه: أوّلاً: بأن جعل الخيار ثلاثة أيام له - مع تلفه في الآنات الأولى من شرائه - لغو.

ويندفع بأن الإشكال مبني على أن متعلَّق حق الخيار هو المبيع، والحق أنه متعلِّق بالعقد؛ فإن الخيار عبارة عن حق حلّ العقد وإبرامه، وهو مما له البقاء فإن فسخ وكان العوضان موجودين رُدّا، وإلّا ردّ بدلهما.

وثانياً: بأن العلة من جعل الخيار هي النظرة وملاحظة المبيع والتأمل فيه، وهي مفقودة في مورد عدم بقاء الحيوان.

وفيه: أنه تام بناء على أن المراد التأمل في المبيع، وأما مع إرادة التأمل في نفس البيع فلا يتمّ، ونحن وإن ذكرنا في رواية بيع الأمة(1) والنظر فيها من حيث الحبل والبرص أنها ظاهرة في التأمل في المبيع، لا البيع إلّا أنه يمكن القول بالأعم من التأمل والتروّي في المبيع والبيع كليهما، وسيأتي تحقيقه في بيع الكلي.

الدليل الثاني: استصحاب بقاء الخيار بعد ضمّ الإجماع القطعي على عدم بقائه بعد الثلاثة الأيام.

الوجه الثاني: أن حدّه إلى زمان زهاق روحه؛ وذلك لأن الخيار هو حق استرداد العين إلى ملكه، لا حق فسخ العقد وإبرامه، فإذا مات انتفى موضوعه.

وفيه: أوّلاً: أن متعلّق الحق في الخيارات هو نفس المعاملة فسخاً أو إبراماً،

ص: 367


1- وسائل الشيعة 18/12، ح7، صحيحة عبدالله بن سنان.

وترجع العين إلى ملكه بالتبع إذا كانت موجودة، وإن تلفت حقيقة أو حكماً - كما لو انتقلت بناقل أو وقعت طرفاً في المعاملة - انتقل إلى بدلها.

وثانياً: سلّمنا بأن الخيار حق استرداد العين إلّا أن زهاق روح مثل هذا الحيوان لا يعدُّ تلفاً كما [مرّ من الشيخ الاعظم].

الوجه الثالث: أن الخيار على الفور؛ وذلك لأن الأصل في البيع اللزوم بمقتضى قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1)، وأصالة بقاء ملكية العوض عند من انتقل إليه، وخصص بدليل الخيار، إلّا أنه لما كان المخصص مجملاً مردّداً أمره بين الأقل والأكثر اقتصر في التخصيص على القدر المتيقن وهو الآن الأوّل، وتمسك بالعموم أو باستصحاب بقاء ملك كل من العوضين على ملك من انتقل إليه في ما عداه.

وفيه: أن الرجوع إلى العام، وكذا التمسك بالأصل إنما يكون فيما لو لم يكن لدليل الخاص إطلاق، وأما معه فلا تصل النوبة إليهما؛ لحكومته عليهما، وقد ثبتت دلالة الدليل الخاص على بقاء الخيار إلى ثلاثة أيام، فينتفيان»(2).

الوجه الرابع: امتداد زمن الخيار إلى طروء مسقِطٍ آخر ولو تجاوز عن الثلاثة.

دليله: تحديد الخيار بالثلاثة منصرف إلى صورة بقاء الحيوان فيها فلا حدّ في غير صورة البقاء، فالثلاثة لا تكون غاية شرعاً لهذا البيع ومع اسقاط غاية الثلاثة واستصحاب حكم خيار الحيوان بعدها امتدّ هذا الخيار إلى أن يسقط بالتصرف أو بالإسقاط.

وفيه: قد مرّ وجود الإجماع القطعي على عدم بقاء خيار الحيوان بعد ثلاثة أيام، فمع وجود هذا الإجماع القطعي لا يمكن الذهاب إلى هذا الوجه.

ص: 368


1- سورة المائدة /1.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(130-128).

والحاصل: ثبوت خيار الحيوان في الفرض إلى ثلاثة أيام وهذا هو الوجه الأوّل وهو المختار والحمد لله.

الجهة الخامسة: هل يختص خيار الحيوان بالحيوان الشخصي أو يعمّ الكلّي؟

«الحيوان المبيع تارة يكون شخصياً، وأخرى كلياً، والكلي تارة بنحو الكلي في المعين كبيع شاة من هذا القطيع من الغنم، وأخرى بنحو الكلي في الذمة، والثاني تارة يكون حالاً، وأخرى مؤجلاً، فهل هذا الخيار يختص بالحيوان الشخصي، أو يشمله ويعم جميع أقسام الكلي، أو يعمّ بعضها فقط؟ وجوه.

أما الوجه الأوّل: وهو الاختصاص بالشخصي - فاستدلّ عليه بأمور:

الأوّل: ما ذكره الشيخ (قدس سره) بقوله: «كما هو المنساق في النظر من الإطلاقات»(1).

ولم يذكر وجهاً لهذا المدّعى، ولا مناط هذا الانسياق، وما في لسان الأدلة هو أن «الشرط في الحيوان ثلاثة أيام»(2)، والحيوان يصدق على الكلي والشخصي بنحو الحقيقة.

إلّا أن يقال: بأن الكلي ليس بحيوان أصلاً كما هو أحد الوجوه الآتية، وأما مع فرض صدق عنوان الحيوان على الشخصي والكلي بأقسامه، فادّعاء الانسياق مفتقر إلى الدليل المفقود.

الثاني: إن الكلي ليس حيواناً بل عنوان له، فلا يصدق على طبيعي الحيوان أنه حيوان بالحمل الشايع، بل هو حيوان بالحمل الأولي، وموضوع الخيار في الروايات هو الحيوان بالحمل الشايع؛ وذلك لأن الحيوان بالحمل الأولي إنما يرد في التعاريف حداً

ص: 369


1- المكاسب 5/83.
2- وسائل الشيعة 18/13، ح1، الباب 4 من أبواب الخيار.

ورسماً، ولا قابلية له لحمل الأغراض حتّى يصلح أن يكون متعلَّقاً للبيع والشراء.(1)

وهو ممنوع نقضاً وحلاً، أما النقض: فلأن لازمه انحصار جميع البيوع بالبيع الشخصي؛ إذ ترجع هذه القضية إلى قضية عقلية، والقضايا العقلية آبية عن التخصيص.

وأما الحل: فبأن الموضوع في هذا الباب هو الحيوان بنظر العرف، لا بالنظر المنطقي، كما هو الحال في سائر المعاملات، فالحيوان الكلي بالنظر المنطقي وإن لم يصدق عليه إلّا الحيوان بالحمل الأولي، لا بالحمل الشايع، إلّا أن العناوين - كلية كانت أو شخصية - تدور بنظر العرف مدار ترتّب الأثر، ويشهد لذلك ما وقع في الروايات - سؤالاً وجواباً - عن بيع الحيوان سلفاً، والحال أن القدر المتيقن من الحيوان المبيع سلفاً هو الكلي، الذي هو عنوان لا مصداق، بالنظر المنطقي، ومن أمثلة تلك الروايات صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: «سألته عن الرجل يسلف في الغنم الثُنْيان(2)، والجَذَعان(3)، وغير ذلك إلى أجل مسمى، قال: لا بأس به»(4).

ومثلها صحيحة الحلبي.(5)

ص: 370


1- إشارة إلى ما أفاده المحقّق الاصفهاني (قدس سره) في حاشيته 5/316 في قوله: «كما أن تأييد القول بالعموم بأن ما نحن فيه ليس كالتلف قبل القبض؛ فإن المأخوذ في دليله عنوان المبيع بقوله (قدس سره) : «كل مبيع تلف... الخ». مخدوش: بأنه وإن لم يؤخذ فيما نحن فيه المبيع بالحمل الأولي، لكنه أخذ فيه المبيع بالحمل الشائع؛ لأن مورد جميعها العبد والأمة والدابة والحيوان كما قدمناه».
2- الثُنيان: جمع ثَنيّ، وهو في الظلف والحافر ابن السنة الثالثة، وفي الخف ابن السنة السادسة. الصحاح - ثنىٰ - 6/2295.
3- الجذعان: جمع جذع، وهو أصغر من الثني وهو من ولد الشاة في السنة الثانية، ومن البقر والحافر في السنة الثالثة، ومن الإبل في السنة الخامسة. الصحاح - جذع - 3/1194.
4- وسائل الشيعة 18/284، ح2، الباب 1 من أبواب السلف.
5- وسائل الشيعة 18/284، ح4، الباب 1 من أبواب السلف.

الثالث: إن مقتضى التعليل ب- «النظرة» في روايات خيار الحيوان أنها لأجل التروّي في المبيع، والوقوف على أوصافه وجوداً وعدماً، وهو لا يكون إلّا في المبيع الشخصي، وأما الكلي فلا معنى للتأمل فيه، بعد أن عيّنت جميع الأوصاف والخصوصيات حسب الفرض.(1)

ويرد عليه: أن «النظرة» لو كانت لأجل التروّي والتأمل في المبيع فقط لتمَّ الاستدلال، ولكنّها كما تكون لذلك تكون أيضاً للتروّي في البيع؛ ليتأكد من وجود المصلحة فيه من عدمها، فلا فرق - حينئذ - بين الكلي والشخصي.

إن قلت: تقدّم أن المستفاد من صحيحة عبدالله بن سنان: «عهدة البيع في الرقيق ثلاثة أيام إن كان بها حبل أو برص أو نحو هذا»(2)، هو أن «النظرة» لأجل التروّي في المبيع، لا البيع؛ لأن الحبل والبرص من أوصافه.

قلت: إن هذه الرواية ليست في مقام بيان المراد من «النظرة»، وإنما هي لبيان عهدة البيع، ولهذا كان فيها أيضاً: «وعهدته سنة من الجنون»، وخيار الحيوان لا يمتد إلى سنة، بل لا يزيد على ثلاثة أيام قطعاً، وعليه فنحن وكلمة «نظرة» في تلك الرواية، وهي شاملة للتأمل في البيع وفي المبيع.

والحاصل: أن التأمل في الروايات يقضي بأن «النظرة» - في خيار المجلس إلى أن يحصل الافتراق - كانت لأجل التروّي في البيع، ولملاحظة المبيع أيضاً، فكذلك في خيار الحيوان، ولكنّها فيه إلى ثلاثة أيام، ويشهد لهذه الدعوى اقترانهما في بعض روايات الباب، كصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: «المتبايعان بالخيار ثلاثة أيام في الحيوان، وفيما سوى ذلك من بيع حتّى يفترقا»(3)، بل يتأكد ذلك بورود

ص: 371


1- منية الطالب 3/57.
2- وسائل الشيعة 18/12، ح7، الباب 3 من أبواب الخيار.
3- وسائل الشيعة 18/10، ح3، الباب 3 من أبواب الخيار.

اقترانهما بعنوان يستفاد منه استثناء الحيوان دون غيره، كما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: سمعته يقول: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : «البيعان بالخيار حتّى يتفرَّقا، وصاحب الحيوان ثلاث»(1)؛ فإن ذلك يكشف عن أنّ كل معاملة وجد فيها خيار المجلس إلى أن يفترقا، ففيها خيار الحيوان إلى ثلاثة أيام إن كان المبيع حيواناً، ولا شك في أن خيار المجلس غير مختص بالبيع الشخصي، فكذلك خيار الحيوان، فيكون شاملاً لبيع الكلي، سواء أكان في الذمة أم في المعين، حالّا ً كان أو مؤجلاً.

وبالجملة: إن مقتضى إطلاق «النظرة» - علة كانت أو حكمة - أن الخيار جعل لأجل التروّي والتأمل في البيع والمبيع، فيكون خيار الحيوان شاملاً لبيع الكلي.

الرابع: انصراف الحيوان إلى الشخصي دون الكلي.

ولا يخفى أن القاعدة هي التمسك بالإطلاق بالنسبة إلى جميع المصاديق التي ينطبق عليها اللفظ، ولا يصح سلب العنوان عنها، فدعوى الانصراف إلى بعض المصاديق تحتاج إلى دليل، فإن كان وجهه في المقام دعوى عدم صدق الحيوان على الكلي، أو مناسبة الحكم والموضوع، أو أخذ النظرة في النصوص، فكلّها تقدمت الإجابة عنها، وإن أريد التشكيك في الصدق كما هو الحال في عنوان «ما لا يؤكل لحمه» بالإضافة إلى الإنسان؛ لخفاء صدقه عليه عرفاً، فينصرف عنه ما دلّ على عدم جواز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه(2)، فنقول: إن بيع الحيوان، أو عنوانه بالنسبة إلى الكلي في مقام المعاملة ليس على وزان عنوان «ما لا يؤكل لحمه» بالنسبة إلى الإنسان في خفاء الصدق كما هو ظاهر واضح، فلا وجه لدعوى الانصراف.

الخامس: ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) من عدم المجال لهذا الخيار في بيع الكلي

ص: 372


1- وسائل الشيعة 18/11، ح6، الباب 3 من أبواب الخيار.
2- وسائل الشيعة 4/345، الباب 2 من أبواب لباس المصلي.

سَلَماً؛ لأن المشتري لا يملك مطالبة الكلي في باب السلم قبل موسم قبضه، فلا يمكن جعل مبدأ الخيار قبل حلول الأجل، وأما بعد القبض فلا دليل على أن مبدأ الثلاثة من حين القبض، وإذ لم يمكن الالتزام بثبوت الخيار فيه لا يمكن الالتزام بثبوته في الكلي الحالّي؛ لعدم الفرق بينهما.(1)

وفيه: أوّلاً: أن دعواه عدم ثبوت الخيار بعد حلول الأجل وحصول القبض غير تامة؛ وذلك لأن رتبة اللزوم والخيار متأخرة عن رتبة الصحة ثبوتاً، فما لم يكن البيع صحيحاً لا يتصف بلزوم الوفاء، ولا بقابليته للفسخ، وأما في مقام الإثبات فيمكن استكشاف الصحة من دليل اللزوم، ولهذا تمسك الفقهاء بآية وجوب الوفاء بالعقود لصحة العقود المستحدثة كعقد التأمين، فبما أن جعل الخيار واللزوم متفرع على الصحة، وهي متفرعة على تمامية الشرائط، ولا تتمّ الشرائط في بيع السلم إلّا بعد القبض، فمقتضى القاعدة أن يكون مبدأ الخيار فيه من حين تمامية الشرائط والحكم بصحته، أي بعد حصول القبض.

وثانياً: سلّمنا عدم جريان الخيار في بيع الكلي سَلَماً، إلّا أن إلحاق بيع الكلي الحالّي به قياس لا نقول به، ولا وجه له.

السادس: ما اعتمده المحقّق الاصفهاني (قدس سره) من أن المتداول بين الناس في بيع الحيوان هو البيع الشخصي، فالخيار الثابت فيه ينصرف إلى ما هو المتداول عندهم.(2)

وهو ممنوع صغرى وكبرى.

أما الصغرى: فلأن ما أفاده من أن المتداول في بيع الحيوان أن يكون المبيع شخصياً لا كلياً يردُّه ما ورد في الباب الأوّل والتاسع من أبواب بيع السلف من

ص: 373


1- منية الطالب 3/57.
2- حاشية المكاسب الاصفهاني 4/146.

الوسائل(1)؛ فإن فيهما روايات متعددة، أكثرها صحاح وموثقات، وهي تدلّ على وقوع بيع السلم والسلف في الحيوان، سؤالاً وجواباً، وابتداء من الإمام (علیه السلام)، بعنوان بيع السلم في الغنم، وفي مطلق الحيوان، وبيع السلم والسلف لا يكون إلّا كلياً، فكيف يقال بعدم تداول بيع الكلي في الحيوان؟

وأما الكبرى: فلأن مآل التداول وعدمه إلى كثرة الوجود وندرته، وليس من موجبات الانصراف ندرة الوجود، كما تقرر في محلِّه، فلو قال المولى لعبده: جئني بماء - وكان المتداول ماء الفرات - فجاء له بماء دجلة لعدَّ ممتثلاً بلا إشكال»(2).

الجهة السادسة: خيار الحيوان لِمَنْ؟
اشارة

هنا أقوال أربعة:

الأوّل: ثبوت خيار الحيوان للمشتري خاصة فقد حكى عليه الإجماع في «السرائر(3) وكشف الرموز(4) والتذكرة(5) والتحرير(6) والتنقيح(7) ونفى عنه الخلاف في مجمع البرهان(8).

وأمّا أنّه يختصّ به ويثبت له خاصّة فهو ظاهر المقنعة(9) والمراسم(10)

ص: 374


1- وسائل الشيعة 18/283 و 299.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(138-131).
3- السرائر 2/244.
4- كشف الرموز 1/457.
5- تذكرة الفقهاء 11/34.
6- تحرير الأحكام الشرعية 2/285.
7- التنقيح الرائع 2/44.
8- مجمع الفائدة والبرهان 8/391.
9- المقنعة /592.
10- المراسم /173.

والوسيلة(1) بل صريح الأوّلين وإن لم يصرّح فيهما بالاختصاص، لكنّه صرّح فيهما بأنّه إن هلك في الثلاثة كان من مال البائع، على أنّ مفهوم اللقب في عبارات الفقهاء حجّة قطعاً وبه يثبت الوفاق والخلاف.

وهو المحكي(2) عن أبي عليّ والصدوقين والقاضي وصريح النهاية(3) والمبسوط(4) وفقه الراوندي(5) والغنية(6) والسرائر(7) والشرائع(8) والنافع(9) وكشف الرموز(10) والتحرير(11) والإرشاد(12) والتبصرة(13) والتذكرة(14) والمختلف(15) والإيضاح(16) وشرح الإرشاد(17) لفخر الإسلام والدروس(18)

ص: 375


1- الوسيلة /248.
2- الحاكي عنهم هو العلّامة في مختلف الشيعة 5/64؛ والفاضل الآبي في كشف الرموز 1/457؛ والطباطبائي في رياض المسائل 8/181.
3- النهاية /386.
4- المبسوط 2/78.
5- فقه القرآن 2/51.
6- غنية النزوع /219.
7- السرائر 2/244.
8- شرائع الإسلام 2/22.
9- المختصر النافع /121.
10- كشف الرموز 1/457.
11- تحرير الأحكام الشرعية 2/286.
12- إرشاد الأذهان 1/374.
13- تبصرة المتعلّمين /90.
14- تذكرة الفقهاء 11/34.
15- مختلف الشيعة 5/64.
16- إيضاح الفوائد 1/483.
17- شرح الإرشاد للنيلي /50، س6 (من كتب مكتبة المرعشي، رقم 2474).
18- الدروس الشرعية 3/272.

واللمعة(1) والتنقيح(2) وجامع المقاصد(3) وتعليق الإرشاد(4) وإيضاح النافع والميسية ومجمع البرهان(5) والكفاية(6) والوسائل(7) والهداية(8) والرياض(9) والحدائق(10) حيث صرّح فيها كلّها بأنّه يثبت للمشتري خاصّة، وكذا المسالك(11). وفي الغنية(12) الإجماع عليه. وفي الدروس(13) أنّه المشهور روايةٌ وفتوىً بل الإجماع عليه. وفي السرائر(14) أنّه مذهب الشيخين وجملة أصحابنا ما عدا المرتضى. وقد حكيت عليه الشهرة في عدّة مواضع»(15).

وقال الشيخ الأعظم: «المشهور اختصاص هذا الخيار بالمشتري، حكي عن الشيخين والصدوقين والإسكافي وابن حمزة والشاميّين الخمسة والحلّيين الستّة ومعظم المتأخّرين، وعن الغنية وظاهر الدروس: الإجماع عليه»(16).

ص: 376


1- اللمعة الدمشقية /127.
2- التنقيح الرائع 2/45.
3- جامع المقاصد 4/291.
4- حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي) 9/390.
5- مجمع الفائدة والبرهان 8/(394-393).
6- كفاية الأحكام 1/463.
7- وسائل الشيعة 18/10، الباب 3 من أبواب الخيار.
8- هداية الاُمّة 6/133.
9- رياض المسائل 8/182.
10- الحدائق الناضرة 19/25.
11- مسالك الأفهام 3/200.
12- غنية النزوع /219.
13- الدروس الشرعية 3/272.
14- السرائر 2/244.
15- مفتاح الكرامة 14/(174-172).
16- المكاسب 5/85.

أقول: الشهرة والشاميون الخمس والحليون الست والإجماع وارد في كلام خالي الشيخ علي صاحب شرح الخيارات(1).

والمراد بالشاميين الخمس هم: ابو الصلاح الحلبي والقاضي ابن البراج والشهيدان والمحقّق الكركي.

والمراد بالحليين الست هم: ابن ادريس والمحقّق والعلّامة ونجله فخر المحققين ويحيى بن سعيد والفاضل المقداد، ثمّ سابعهم: ابن فهد وثامنهم: ابن القطان.

الثاني: ثبوت الخيار للمشتري والبائع معاً ذهب إليه الشريف المرتضى(2) وتبعه السيّد جمال الدين بن طاوس في البشرىٰ(3) والفيض الكاشاني في المفاتيح(4).

الثالث: ثبوت الخيار لمن انتقل إليه الحيوان ثمناً أو مثمناً، نسبه الشيخ الأعظم إلى «جماعة من المتأخرين»(5) وهو محتمل العلّامة في التذكرة(6) وقواه الشهيد الثاني في الروضة(7) واختاره في المسالك(8) ومجمع الفائدة والبرهان(9) وقواه أيضاً في الحدائق(10) والمستند(11).

الرابع: ثبوت الخيار للبائع والمشتري في بيع الحيوان بالحيوان «وقد مال إليه أو

ص: 377


1- شرح الخيارات /47.
2- الانتصار /433، مسألة 245.
3- نقل عنه الفاضل الآبي في كشف الرموز 1/459 والشهيد في غاية المراد 2/97.
4- مفاتيح الشرائع 3/68، مفتاح 916.
5- المكاسب 5/89.
6- تذكرة الفقهاء 11/37.
7- الروضة البهية 3/450.
8- مسالك الأفهام 3/200.
9- مجمع الفائدة والبرهان 8/392.
10- الحدائق 19/25.
11- مستند الشيعة 14/377.

قال به جماعة كأبي العبّاس والكركي في المقتصر(1) وتعليق الإرشاد(2) والقطيفي في إيضاح النافع والفاضل الميسي والشهيد الثاني في الروضة(3) لأنّهم بين مستوجه له مقرّب ومقوّله أو نافٍ عنه البُعد، ولم يحكم به على البتّ سوى الصيمري. وقد جعله في جامع المقاصد(4) ثالث الأقوال ونفى عنه فيه البُعد، ... أنّه أوّل من احتمله [العلّامة] في المختلف(5) ورجع عنه»(6).

أدلة الأقوال
أ: دليل القول الأوّل

استدل له بوجوه:

«الأوّل: أنّ مقتضى عموم قوله: «فإذا افترقا وجب البيع»(7) هو لزوم المعاملة بالنسبة إلى الطرفين بعد الافتراق، والمتيقن خروجه من هذا العموم هو المشتري خاصة في بيع الحيوان وأما البائع فهو مشكوك الخروج، فيشمله العموم لأصالة.العموم»(8).

اعتراضات الأعلام الثلاثة على الاستدلال بعموم الحديث ونقده

الإشكال الأوّل: «ما اورده المحقّق الرشتي (قدس سره) من أن إطلاق «وجب البيع» قد خصّص قطعاً ببيع الحيوان، ولو كان ذلك من جهة المشتري، فلم يبق على عمومه،

ص: 378


1- المقتصر /169.
2- حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي وآثاره) 9/390.
3- الروضة البهية 3/450.
4- جامع المقاصد 4/291.
5- مختلف الشيعة 5/65.
6- مفتاح الكرامة 14/183.
7- وسائل الشيعة 18/6، ح4، صحيحة الحلبي.
8- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/195.

بحيث لو قلنا بثبوت الخيار للبائع أيضاً كما كان للمشتري لم يكن ذلك تخصيصاً زائداً حتّى يتمسك بالعموم حال الشك.(1)

وفيه: أوّلاً: أنه منقوض بما ذكره قبل أسطر من هذا الكلام(2)؛ حيث استدل بعموم مفهوم «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» على انتفاء الخيار من البيّعين إذا افترقا، وخرج من ذلك العموم خيار المشتري في الحيوان ثلاثة أيام وبقي الباقي تحت العموم، فإذا سقط «وجب البيع» عن العموم ببيع الحيوان، فليس المفهوم بأحسن حالاً من هذا المنطوق، فيرد عليه الإشكال نفسه.

وثانياً: أن الوجوب في الرواية هو عبارة عن الوجوب في الآية الشريفة ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، وبما أن الوجوب التكليفي بالوفاء فيها - الذي هو منشأ انتزاع اللزوم - انحلالي، فكذلك في الرواية، ومعناه أن كلَّ طرف من أطراف أيِّ عقد يجب عليه الوفاء، خرج منه المشتري في بيع الحيوان، وشك في خروج البائع، فيبقى تحت عموم العام، ويتمُّ الاستدلال»(3).

الإشكال الثاني: «ما أفاده السيّد اليزدي (قدس سره)، من أنه مقيد ببيع غير الحيوان؛ بقرينة المقابلة بين خيار المجلس وخيار الحيوان في غير واحد من الأخبار(4)، فمورد وجوب البيع بسبب الافتراق إنما هو بيع غير الحيوان، فهو لا يشمل بيعه من الأوّل

ص: 379


1- فقه الإمامية، الخيارات /225.
2- فقه الإمامية، الخيارات /225.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/147.
4- منها: ما في وسائل الشيعة، 18/5، ح1، الباب 1 من أبواب الخيار: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : البيعان بالخيار حتّى يتفرقا، وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام. ومنها: وسائل الشيعة 18/6، ح5، حسنة علي بن أسباط، عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) قال: سمعته يقول: الخيار في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري، وفي غير الحيوان أن يفترقا، الحديث.

حتّى يحكم بتخصيص المشتري ويشك في تخصيص البائع.(1)

وفيه: أوّلاً: أن لازم ما أفاده (قدس سره) انتفاء خيار المجلس في بيع الحيوان مطلقاً، فليس للبائع خيار المجلس أصلاً؛ وذلك لأن التقسيم قاطع للشركة، وقد جعل البيع على قسمين: بيع غير الحيوان، وفيه خيار المجلس، وحدُّه الافتراق، وبيع الحيوان، وفيه خيار الحيوان، وحدُّه ثلاثة أيام، فيلزم أن يقول بعدم خيار المجلس في بيع الحيوان مطلقاً.

وثانياً: أن منشأ دعوى التقييد هي المقابلة في النصوص بين بيع الحيوان وبيع غيره، وإلّا فليس عندنا نص خاص يدل على أن خيار المجلس مخصوص ببيع غير الحيوان، ولكن غاية ما يستفاد من الأخبار التي استشهد بها السيّد (قدس سره) هو عدم شمول أدلة خيار المجلس لبيع الحيوان، لا نفيه عنه، فإذا وجد عندنا ما لم يشتمل على هذه المقابلة، ولا ذلك التقسيم إلى بيع الحيوان وغيره أخذنا بعمومه أو بإطلاقه، فيشمل بيع الحيوان، وذلك الدليل موجود وهو [صحيحة] عمر بن يزيد عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : إذا التاجران صدقا بورك لهما، فإذا كذبا وخانا لم يبارك لهما، وهما بالخيار ما لم يفترقا...»(2)؛ فإنها مطلقة لكل بيع، من دون تقييدها ببيع خاص، فيحفظ التعميم ما لم يثبت المخصص.

وثالثاً: أن إثبات الخيار في الحيوان إلى ثلاثة أيام لا ينفي خيار المجلس عنه، بل يثبت امتداد الخيار فيه إلى ثلاثة أيام، فالروايات لم تقيّد بيع الحيوان وتخرجه عن خيار المجلس، وإنما توسع دائرة الخيار وأمده، وأنه إلى ثلاثة أيام، بخلاف بقية البيوع فهي إلى أن يفترق المتبايعان.(3)

ص: 380


1- حاشية المحقّق اليزدي على المكاسب 2/436.
2- وسائل الشيعة 18/7، ح6، الباب 1 من أبواب الخيار.
3- يستفاد هذا الجواب من كلام الشيخ الأستاذ (دام ظله) في جواب على سؤال.

ورابعاً: سلّمنا أن تلك الروايات قسّمت البيع إلى قسمين: بيع الحيوان، وبيع غيره، إلّا أن التقسيم ما لم يصل إلى حدّ قطع الشركة لا يدلّ على الاختصاص، وبما أن في المقام طائفتين، إحداهما لا تقسيم فيها، والأخرى غاية ما ادّعي فيها استظهار التخصيص، كما في كلمات السيّد (قدس سره)، فلم يصل التقسيم إلى حدّ قطع الشركة، وفي كفاية مثل هذا الاستظهار للتقييد تأمل، فلا أقل من إجمال النص من ناحية عدم شمول خيار المجلس لبيع الحيوان، ومع الإجمال يتحكم إطلاق [صحيحة] عمر بن يزيد [الماضية آنفاً]»(1).

الإشكال الثالث: «ما أفاده المحقّق الاصفهاني (قدس سره)، من أن الوجوب في: «فإذا افترقا وجب البيع» وجوب حيثي، أي من حيث المجلس، والوجوب من حيث لا عموم فيه حتّى يتمسك به في مورد الشك، وتقريب بيانه:

أنّ أدلة الخيارات تثبت الخيارات المتعددة، ولا تعارض بينها، بل كلّها مخصصة لأدلة اللزوم، فدليل خيار المجلس يثبت خياره، ودليل خيار الحيوان يثبت خياره، وهكذا العيب والشرط...، فلزوم البيع من جهة لا ينافي جوازه من جهة أخرى، فقوله (علیه السلام) : «فإذا افترقا وجب البيع» يثبت لزومه من جهة خيار المجلس، لا من كل جهة، فلا عموم فيه حتّى يتمسك به في حال الشك.

وبعبارة أخرى: «أن الظاهر من الخيار المنفي بالافتراق هو الخيار المغيّى بالافتراق كما يقتضيه التفريع، وليس هو إلّا خيار المجلس لا جنس الخيار»(2).

وهو متين لو كنّا [صحيحة الحلبي فقط وهي]: «أيّما رجل اشترى من رجل بيعاً فهما بالخيار حتّى يفترقا، فإذا افترقا وجب البيع»(3)؛ فإنها ظاهرة في الوجوب

ص: 381


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(146-144).
2- حاشية الاصفهاني على المكاسب 4/147.
3- وسائل الشيعة 18/6، ح4.

الحيثي، ولكن صحيحة فضيل تمنع من كون نفي الخيار من حيث؛ فإن قوله فيها: «فلا خيار بعد الرضا منهما»(1) يفيد نفي الخيار بقول مطلق؛ لأن الرضا في الرواية - وباعترافه أيضاً - ليس الرضا بأصل البيع، بل الرضا بالالتزام به، فمدلول الرواية أن الافتراق التزام بالبيع شرعاً، فلا محالة من إثبات العموم من ناحية نفي جميع الخيارات.

مضافاً إلى أنّ الالتزام بالبيع لا يكون حيثياً، فإمّا أن الملتزم به أمضى البيع أو لا، ولا معنى للإمضاء من حيث، وكذلك الحال بالنسبة إلى الفسخ»(2).

«فتحصل إلى هنا: أن ما استدل به الشيخ (قدس سره) من عموم «وجب البيع» محل إشكال من جهة واحدة، وهو كون الوجوب حيثياً، دو محتملاً له، ولكن الاستدلال بإطلاق: «فلا خيار بعد الرضا منهما» تام»(3).

الثاني: عموم قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾

قال الشيخ الأعظم في تقريب الاستدلال: «لعموم ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(4) بالنسبة إلى ما ليس فيه خيار المجلس بالأصل أو بالاشتراط ويثبت الباقي بعدم القول بالفصل»(5).

توضيح كلام الشيخ الأعظم: التمسك بالعموم بعد التخصيص هل يجوز أم لا؟ وهنا مبنيان:

«الأوّل: أنّ المرجع - فيما لو خرج فرد من تحت العموم في أحد الأزمنة، بالنسبة إلى باقي الأزمنة - هو العموم.

ص: 382


1- وسائل الشيعة 18/6، ح3.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/146.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/148.
4- سورة المائدة /1.
5- المكاسب 5/86.

الثاني: ما اختاره الشيخ (قدس سره) من سقوط العموم حينئذ، وعدم الرجوع إليه في باقي الأزمنة؛ إذ الخارج من تحت العموم لا يعود إليه.

ويختلف تقريب الاستدلال باختلاف هذين المبنيين، فعلى مبنى الشيخ (قدس سره) يكون التقريب بهذا النحو:

إن موارد البيع على قسمين:

[1] ما فيه خيار المجلس، [2] وما ليس فيه خيار المجلس، كأن يكون لازماً من الأوّل بالذات - كبيع من ينعتق على المشتري، وبيع العبد المسلم من الكافر إلى المسلم، وكشراء العبد نفسه - أو بالشرط كأن يشترط سقوط خيار المجلس.

ففي القسم الثاني لم يخصص عموم ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ إلّا بالنسبة إلى المشتري في خيار الحيوان، فيبقى البائع داخلاً تحت العموم، فيكون البيع لازماً من جهته، وأما في القسم الأوّل فيضم إلى العموم الإجماع المركب، وعدم القول بالفصل.(1)

والوجوه في استناد الشيخ (قدس سره) إلى هذه الطريقة هو ما تبنّاه من سقوط العموم في الموارد التي فيها خيار المجلس، والساقط لا يعود، لا وجه للتمسك بعموم الآية فيها، فاضطر إلى التمسك به في موارد عدم خيار المجلس، وضمَّ إليه الإجماع المركب وعدم الفصل في موارد الخيار.

وأما على المختار من الرجوع إلى العام، وعدم سقوطه في بقية الأزمنة كما سيأتي بيانه في خيار الغبن، فيصح التمسك بعموم الآية حتّى في موارد الخيار من غير حاجة إلى ضمِّ الإجماع المركب، وتقريبه: أن مقتضى ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ هو الحكم بلزوم كل عقد، ومنها بيع الحيوان، خرج من تحت هذا العموم المشتري في بيع الحيوان؛ فإن له الخيار ثلاثة أيام، وشك في خروج البائع فيتمسك فيه بالعموم؛ لأنه من التخصيص

ص: 383


1- المكاسب 5/86.

الزائد، وثمرة ذلك اختصاص خيار الحيوان بالمشتري.

إشكال المحقق الرشتي على الاستدلال بالآية ودفعه

وأورد عليه المحقق الرشتي (قدس سره) بإشكالين:

الإشكال الأوّل: أن عموم الآية قد سقط على أي حال بمجيء التخصيص بخيار الحيوان، فلم يبق عموم حتّى يتمسك به بالنسبة إلى البائع.

نعم، لو ورد الدليل بعنوان: يجب الوفاء على البائع والمشتري، أمكن التمسك بدليل اللزوم في مورد البائع عند الشك في تخصيصه، بعد القطع بخروج المشتري، ولكنه ليس كذلك»(1).

ويجاب عنه: بأن في الآية مبنيين:

الأوّل: أن المستفاد منها حكم تكليفي بوجوب الوفاء بالعقود، وهو مختار الشيخ (قدس سره).

الثاني: أنها إرشاد إلى لزوم العقود.

أما على المبنى الأوّل فهو وإن كان فيه رأيان:

أحدهما: أن الخطاب موجه لجميع المكلفين.

والآخر: أنه موجه لأرباب العقود خاصة، وهو الحق.

إلّا أن القدر المتيقن من الخطاب هما المتعاقدان، فلكل واحد منهما خطاب بلزوم الوفاء، وخطاب أحدهما مغاير لخطاب الآخر بلا شك، ولا يعقل سراية حكم أحدهما للآخر، أما المشتري فقد خرج - بمقتضى الأدلة - من تحت هذا الخطاب، وأما بالنسبة إلى البائع فيشك في خروجه من تحته، ومقتضى حجية العام في حال الشك في التخصيص الزائد هو التمسك بالعموم، فيتمسك بالآية للحكم بوجوب الوفاء على

ص: 384


1- فقه الإمامية، الخيارات /225.

البائع.

وأما على المبنى الثاني - وهو الإرشاد - فاللزوم في العقود ليس دائمياً؛ فإن العقد تارة يكون لازماً من الطرفين - البائع والمشتري - وأخرى يكون لازماً من أحدهما، وجائزاً من الآخر، فعندما نلاحظ الخيارات الجعلية نلاحظ التبعيض في اللزوم، فخيار الشرط لمن اشترط له من المتبايعين خاصة، وخيار العيب لمن أخذ المعيب، وخيار الغبن لخصوص المغبون، وحكم الطرف الآخر فيها هو اللزوم من جهته، فكما أنّ في لزوم العقد تبعيضاً، فالإرشاد إلى اللزوم قابل للتبعيض، وعليه فبما أنّ الآية إرشاد إلى اللزوم - على هذا المبنى - وقد دلّت الأدلة على عدم اللزوم بالنسبة إلى المشتري في بيع الحيوان فقد خرج عن دائرة إرشادها، وأما البائع فيشك في خروجه عن الخطاب الإرشادي باللزوم فيبقى تحت دلالة الآية عليه، فلا يرد الإشكال.

الإشكال الثاني: أنه معارض بمثله؛ إذ يمكن قلب الاستدلال عليه (قدس سره) ؛ فإن الشيخ (قدس سره) يرى التمسك بعموم العام لإثبات عدم الخيار لبائع الحيوان في الموارد التي ليس فيها خيار المجلس، وبضمِّ الإجماع المركب وعدم الفصل يلحق بها موارد الخيار، فيعارض بالقول بالتمسك باستصحاب حكم المخصص في موارد خيار المجلس، فيثبت الخيار فيها؛ حيث إن بائع الحيوان له الخيار، فنشك بعد انقضاء المجلس هل الخيار ثابت له أم لا، فيجري استصحاب حكم المخصص، وبضمِّ عدم الفصل يلحق بها موارد عدم الخيار، أي نثبت الحكم في الموارد التي لم يخصص العام لعدم وجود خيار المجلس، وبما أن مبنى الشيخ (قدس سره) في الدوران بين التمسك بعموم العام واستصحاب حكم المخصص هو الثاني فالنتيجة الحكم بالخيار للبائع.(1)

ويجاب عنه أوّلاً: بأن الشيخ (قدس سره) لا يرى صحة التمسك بعموم العام فيما لو

ص: 385


1- فقه الإمامية، الخيارات /226.

خصص فرد من الأفراد في زمان من الأزمنة؛ لسقوط العام حينئذٍ فلا يعود، إلّا أن الرجوع إلى استصحاب حكم المخصص بعد ذلك لا يكون إلّا إذا تمّت أركانه، ومن أركانه اليقين السابق والشك اللاحق، وهو مفقود في المقام؛ للقطع بانتفاء المتيقن سابقاً، وكون الشك في الحدوث، لا في البقاء؛ وذلك لأن المستصحب إما شخصي أو كلي، أما الشخصي فالموجود سابقاً هو خيار المجلس وقد زال بالافتراق قطعاً، سواء أكان المقصود من قوله (علیه السلام) : «وجب البيع» الوجوب المطلق كما عليه الشيخ (قدس سره)، أم الوجوب من حيث المجلس، كما هو المختار، وعليه المحقّق الاصفهاني (قدس سره) كما تقدم.

وأما الكلي، فاستصحابه في المقام من القسم الثالث؛ وذلك لأن كلي الخيار المتحقق في ضمن خيار المجلس قد زال بالافتراق قطعاً، وكلي الخيار في ضمن خيار الحيوان مشكوك الحدوث من الأوّل، وقد تقرّر في محلّه - على ما هو التحقيق - عدم جريان استصحاب الكلي من القسم الثالث، نعم، لا [يصح الجواب] على مبنى الشيخ (قدس سره) من جريان الاستصحاب في القسم الأوّل من القسم الثالث، لكن المبنى مخدوش كما حقق في محله.(1)

ولو كان الفرد الحاصل مردّداً بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء لكان من القسم الثاني [من استصحاب الكلي] وجرى فيه الاستصحاب.(2) [ولكنه ليس كذلك].

وثانياً: بأنا سلّمنا جريان استصحاب حكم المخصص في المقام، وسلّمنا جريان استصحاب الكلي القسم الثالث، إلّا أنه إنما يجري في ما إذا كان المورد من موارده، وهو مورد ثبوت خيار المجلس وتخصيص العام، وأما فيما لم يكن فيه خيار المجلس،

ص: 386


1- راجع مصباح الأصول 3/136، طبعة موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره).
2- راجع منتقى الأصول 6/166.

فلم يخصص العام، فلا وجه للتمسك باستصحاب كلي الخيار، ولا يمكن التمسك بعدم الفصل والإجماع المركب مع اختلاف الموردين.

التحقيق في مناقشة الشيخ

والحق في الجواب عن الشيخ (قدس سره) :

أوّلاً: أن موارد عدم الخيار من قبيل اشتراء أحد العمودين، وبيع العبد المسلم المملوك للكافر على المسلم، وشراء العبد نفسه على.

القول بجوازه، لا مجال فيها للخيار أصلاً لا للمشتري ولا للبائع، لا خيار المجلس، ولا خيار الحيوان، فالالتزام فيها بعدم الخيار للبائع ليس من جهة خصوصية فيه، وإنما لكون المورد غير قابل للخيار أصلاً؛ بمقتضى الأدلة الخاصة، فبأي مناط يُتَمّم المطلب فيما فيه خيار بعدم الفصل؟! وهل يجدي عدم الفصل إلّا إذا كان ملاك المسألتين واحداً؟!

ثانياً: أنه كيف يُدّعى الإجماع المركب وعدم الفصل مع أن السيّد المرتضى (قدس سره) ذهب إلى ثبوت الخيار لكلا المتبايعين كما سيأتي، وتوقّف عدة آخرون في المسألة من أجل ما ذهب إليه السيّد (قدس سره)، وذهب [جماعة من المتأخرين](1) إلى ثبوت الخيار لصاحب الحيوان، بائعاً كان أو مشترياً.

الحق في الاستدلال

فالحق هو الاستدلال بآية الوفاء بدون ضمِّ الإجماع المركب، وذلك على المختار من عدم تأثير خروج الفرد من تحت العام بالتخصيص في زمان من الأزمنة في التمسك بالعموم، فالمرجع في ما زاد على الزمان المتيقن خروجه هو عموم العام، بلا

ص: 387


1- كما في المكاسب 5/91.

حاجة إلى عدم الفصل والإجماع المركب؛ فإن المستفاد من الآية بحكم الانحلال لزوم العقد على كل من المشتري والبائع، وخرج المشتري بالتخصيص قطعاً، وبما أنه يشك في خروج البائع يتمسك بعموم الآية فيه»(1).

والحاصل: بناءً على سقوط العموم وعدم الرجوع إليه في باقي الأزمنة لا يمكن الاستدلال بهذه الآية الشريفة في المقام، مضافاً إلى عدم وجود الاجماع في المسألة.

الثالث: النصوص الخاصة

وهي على طوائف ثلاث:

الطائفة الأولى: ما يظهر منه تخصيص الحكم بالمشتري بمقتضى مفهوم الوصف.

منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: في الحيوان كلّه شرط ثلاثة أيّام للمشتري، وهو بالخيار فيها إن شرط أو لم يشترط.(2)

ومنها: خبر الحلبي عن أبي عبدالله (علیه السلام) - في حديث - وقال: في الحيوان كلّه شرط ثلاثة أيام للمشتري وهو بالخيار فيها اشترط أو لم يشترط.(3)

و «الاستدلال بها يبتني على الالتزام بمفهوم الوصف.

وهو وإن كان بنحو الكلية مما لا يلتزم به - كما حقق في الاصول(4)- إلّا أنه في خصوص المقام قريب جداً، بملاحظة اختلاف التعبير في خيار المجلس و خيار الحيوان، فأخذ في موضوع الأوّل «البيعان» وأخذ في موضوع الثاني عنوان المشتري

ص: 388


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(158-149).
2- وسائل الشيعة 18/10، ح1، الباب 3 من أبواب الخيار.
3- وسائل الشيعة 18/11، ح4.
4- كفاية الأصول /206، طبعة مؤسسة ال البيت:.

الظاهر في كونه دخيلاً في ثبوت الحكم وإلّا لم يكن مقتض لإختلاف التعبير»(1).

الطائفة الثانية: ما يظهر منه التخصيص بالمشتري بمقتضى مفهوم التحديد.

منها: صحيحة فضيل عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قلت له: ما الشرط في الحيوان؟ قال: ثلاثة أيّام للمشتري... الحديث.(2)

بتقريب: حيث سأل فضيل عن خيار الحيوان بحدوده المختلفة فيكون الإمام (علیه السلام) في مقام بيان خيار الحيوان وذكر المشتري فقط دليل على اختصاص الخيار به وهذا هو مفهوم التحديد وهو أقوى المفاهيم كما قيل.

وقد نوقش في هذا التقريب: «يمكن ان تكون الرواية في مقام التحديد من جهة خاصة وهي جهة مدّة الخيار في مقابل مدّة خيار المجلس، وليست في مقام التحديد مِنْ جهة مَنْ له الخيار. فالصغرى محلّ إشكال.

نعم، بملاحظة ما ذكر في الطائفة الأولى يقرب حمل الرواية على كونها في مقام التحديد مِنْ جهة مَنْ له الخيار»(3).

الطائفة الثالثة: المصرحة باختصاص الخيار بالمشتري

منها: صحيحة علي بن رئاب قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن رجل اشترى جارية لمن الخيار، للمشتري أو للبائع أولهما كلاهما؟ فقال: الخيار لمن اشترى ثلاثة أيام نظرة، فإذا مضت ثلاثة أيام فقد وجب الشراء... الحديث.(4)

بتقريب: هذه الصحيحة «صريحة باختصاص الخيار بالمشتري، لأن السائل في مقام معرفة من له الخيار بحدوده ولذا تصدى للاستفهام بذكر المحتملات التي تجول

ص: 389


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/195.
2- وسائل الشيعة 18/11، ح5.
3- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/196.
4- وسائل الشيعة 18/12، ح9.

في ذهنه من كونه للمشتري أو للبائع أو لكليهما، فسؤاله عن ثبوته للمشتري خاصة أو ثبوته للبائع خاصة أو لكليهما، فالجواب بثبوته للمشتري صريح في أنه ثابت له خاصة، فالرواية تدل بمنطوقها على تحديد من له الخيار بالمشتري بقرينة إرداف السائل البائع بالمشتري بنحو الترديد الظاهر منه إرادته السؤال عن ثبوته لكل واحد منهما بخصوصه وإلّا لما صح الارداف بنحو الترديد، فلا حظ تعرف»(1).

ب: دليل القول الثاني
اشارة

وهو قول الشريف المرتضى (رحمة الله) ومن تبعه.

الأوّل: الاجماع

الاجماع المدعىٰ في كلام علم الهدى.(2)

ويرد عليه: أوّلاً: نعلم بعدم تحقق هذا الاجماع في عصر السيّد وبعده.

وثانياً: أنّه معارض بالاجماع الوارد في كلام ابن زهرة(3) والشهيد(4).

وثالثاً: انّه على فرض تحققه مدركيٌّ لا يعتنى به.

الثاني: الأصل

بتقريب: الخيار ثابت للمتبايعين قبل الافتراق ويشك في بقائه للبائع بعده فيستصحب بقاء الخيار له.

بيان آخر: أصالة جواز العقد من الطرفين بعد ثبوت خيار المجلس لهما.

ويرد عليه: استصحاب الشخصي لا يجري في المقام لعدم وجود حالة السابقة

ص: 390


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/196.
2- الانتصار /433.
3- غنية النزوع /219.
4- الدروس الشرعية 3/272.

لخيار الحيوان بالنسبة إلى البائع فلا يجري استصحاب الشخصي لعدم اليقين بالحالة السابقة.

وكذا لا يجري استصحاب الكلي لأنّه من القسم الثالث إذ الخيار المتيقن حدوثه هو خيار المجلس وقد زال بالتفرق وأمّا خيار الحيوان للبائع مشكوك الحدوث من الأوّل فيتردد الخيار بين فردي مقطوع الزوال ومشكوك الحدوث وهذا هو القسم الثالث من استصحاب الكلي الذي لا يجري فيه الاستصحاب.

الثالث: صحيحة محمّد بن مسلم

صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: المتبايعان بالخيار ثلاثة أيّام في الحيوان، وفيما سوى ذلك من بيع حتّى يفترقا(1).

هذه الرواية صحيح أعلائي نصّت على ثبوت الخيار للبائع والمشتري.

ولكنها معارض بما مرّ من الروايات الماضية في أدلة القول الأوّل وأظهرها صحيحة علي بن رئاب(2).

وقد حاول الشيخ الأعظم ترجيح الصحيحة على صحيحة علي بن رئاب وغيرها من الروايات الدالة على القول الأوّل سنداً ودلالةً:

وأمّا الترجيح السندي فقال: «وقد صرّحوا بترجيح رواية مثل محمّد بن مسلم وزرارة وأضرابهما على غيرهم من الثقات؛ مضافاً إلى ورودها في الكتب الأربعة المرجّحة على مثل قرب الإسناد من الكتب التي لم يلتفت إليها أكثر أصحابنا مع بُعد غفلتهم عنها أو عن مراجعتها»(3).

ص: 391


1- وسائل الشيعة 18/10، ح3.
2- وسائل الشيعة 18/12، ح9.
3- المكاسب 5/88.

وفيه: المعتبر في حجية الروايات هو خبر الثقة ولا عبرة بالأعلمية والأوثقية وكذا لا فرق بين الروايات الوارده في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة بعد دخولها في حجية أخبار الآحاد من كون رواتها ثقات فلا يتم الترجيح السندي.

وأمّا الترجيح الدلالي: فقال (قدس سره) : «وأمّا الصحاح الأُخر المكافِئة سنداً لصحيحة ابن مسلم، فالإنصاف أنّ دلالتها بالمفهوم لا تبلغ في الظهور مرتبة منطوق الصحيحة، فيمكن حملها على بيان الفرد الشديد الحاجة؛ لأنّ الغالب في المعاملة، خصوصاً معاملة الحيوان، كون إرادة الفسخ في طرف المشتري لاطّلاعه على خفايا الحيوان، ولا ريب أنّ الأظهريّة في الدلالة مقدّمة في باب الترجيح على الأكثرية»(1).

وفيه: قد عرفت في أدلة القول الأوّل أنّ عمدتها وأظهرها هي صحيحة علي بن رئاب(2) الماضية وهي بالمنطوق تدلّ على اختصاص الخيار بالمشتري لا بالمفهوم الذي ادعاه الشيخ الأعظم هذا أوّلاً.

وثانياً: حجية المفاهيم من باب الظهور ولا فرق في حجية الظهورات بين المنطوق والمفهوم.

المختار بين الصحيحتين

حيث لم يكن بين صحيحتي محمّد بن مسلم وعلي بن رئاب ترجيحاً ولا جمعاً دلاليّاً فيقع التعارض بينهما وبعد التعارض تساقطا ويرجع إلى عموم قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(3) بالنسبة إلى البائع ويحكم بعدم ثبوت الخيار له، فلا يتم هذا القول ولذا قال الشيخ الأعظم بالنسبة إلى القول الثاني: «فلا ريب في ضعف هذا القول»(4).

ص: 392


1- المكاسب 5/88.
2- وسائل الشيعة 18/12، ح9.
3- سورة المائدة /1.
4- المكساب 5/89.
ج: دليل القول الثالث

عمدته روايتان:

الأولى: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : البيعان بالخيار حتّى يفترقا، وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام.(1)

الثانية: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: سمعته يقول: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : البيعان بالخيار حتّى يتفرقا وصاحب الحيوان ثلاثة أيّام، الحديث.(2)

بتقريب: في الصحيحتين موضوع خيار الحيوان هو صاحب الحيوان والمالك الفعلي له لأنّ المشتق ظاهرٌ في المتلبس بالمبدأ فعلاً، والمالك الفعلي قد يكون مشتريّاً وقد يكون بائعاً.

ولكن قد يتوهم بوجود مانعان عن التمسك بظهور الصحيحتين.

الأوّل: الروايات الواردة في مستند القول الأوّل، الظاهرة في اختصاص خيار الحيوان بالمشتري وأظهرها صحيحة علي بن رئاب(3) الماضية.

ويرد عليه: هذه الروايات غير صالحة للمانعية لأنّها ظاهرة في الاختصاص بالمشتري في ما إذا كان الحيوان مبيعاً ومثمناً لا ما إذا وقع ثمناً فلا يمكن تقيد المطلقات بها.

الثاني: موثقة الحسن بن علي بن فضال قال: سمعت أبالحسن علي بن موسى الرضا (علیه السلام) يقول: صاحب الحيوان المشتري بالخيار بثلاثه أيّام.(4)

بتقريب: أخد في هذه الموثقة «قيد «المشتري»، ووصف به صاحب الحيوان، أي

ص: 393


1- وسائل الشيعة 18/5، ح1، الباب 1 من أبواب الخيار.
2- الكافي 10/72، ح4 (5/170)؛ ونقل عنه في وسائل الشيعة 18/11، ح6.
3- وسائل الشيعة 18/12، ح9.
4- وسائل الشيعة 18/10، ح2.

مالكه، فلم يكن المفهوم في المقام مفهوم لقب، ومقتضى الأصل في القيود الاحترازية، ومقتضى الظهور في التحديد هو سقوط إطلاق «صاحب الحيوان» في الروايتين السابقتين؛ إذ إما أن تجعل هذه الرواية مقيدة لهما أو مفسّرة، وعلى التقديرين يمتنع الإطلاق»(1).

ويرد عليه: ورد في صحيحتي محمّد بن مسلم وزرارة كلمة «صاحب الحيوان» وفي الموثقة: «صاحب الحيوان المشتري» وهما مثبتان فلم يقع التنافي بينهما، لأنّهما من قبيل: «أكرم العالم» و«أكرم العالم العادل»، فيتمّ الإطلاق بلا مانع ويكون دليلاً للقول الثالث ويثبت الخيار لمن انتقل إليه الحيوان مطلقاً بائعاً كان أو مشتريّاً.

د: دليل القول الرابع

وهو ثبوت الخيار للبائع والمشتري في بيع الحيوان بالحيوان، يظهر مما ذكرنا في دليل القول الثالث من ثبوت الخيار لمن انتقل إليه الحيوان فإذا انتقل إلى كليهما فهما بالخيار ثلاثة أيّام والله هو العالم.

مسألة: مدّة خيار الأمة

قال سيّد المفتاح: «يستوي في مدّة الخيار الأمة وغيرها كما في السرائر(2) والدروس(3) والمسالك(4) والكفاية(5) وقد نسبه في الرياض(6) إلى الأكثر، ولعلّه أراد

ص: 394


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/179.
2- السرائر 2/279.
3- الدروس الشرعية 3/272.
4- مسالك الأفهام 3/199.
5- كفاية الأحكام 1/463.
6- رياض المسائل 8/185.

ظاهرهم، وعن السرائر(1) الإجماع عليه. وهو ظاهر إجماع الخلاف(2) والانتصار(3) وغيرهما(4). وقد سمعت(5) عبارة آنفاً برمّتها.

وأخبار المسألة المتقدّمة دالّة على ذلك كقوله (علیه السلام) في صحيحة الحلبي: «الخيار في الحيوان كلّه»(6) وفي صحيحة ابن رئاب «الشروط في الحيوانات»(7). وأظهر من ذلك كلّه صحيحة قرب الإسناد(8) الوارده في الجارية بخصوصها، وقد حكم (علیه السلام) فيها بأنّ الخيار فيها ثلاثة أيّام للمشتري وأنّه إذا مضت الثلاثةفقد وجب الشراء. وقول الصادق (علیه السلام) في صحيحة عبدالله بن سنان: «عهدة البيع في الرقيق ثلاثة أيّام إن كان بها حبلٌ أو برصٌ ونحو هذه... الحديث»(9).

وخالف أبوالمكارم فقال في الغنية(10): والخيار في الأمة مدّة استبرائها بدليل الإجماع المتكرّر. وحكي(11) الخلاف المذكور عن أبي الصلاح. وهو ظاهر المقنعة والنهاية والمراسم وكذا الوسيلة. قال في المقنعة: لو ابتاع إنسان جارية وعزلها عند ثقة على استبرائها كانت النفقة عليها من مال البائع في مدّة الاستبراء، فإن هلكت فيها

ص: 395


1- حكىٰ إجماع السرائر السيّد الطباطبائي في مصابيح الأحكام /247، س3 (مخطوط في مكتبة مؤسسة النشر الإسلامي، برقم 14).
2- الخلاف 3/12.
3- الانتصار /433، مسألة 245.
4- كتذكرة الفقهاء 11/(35-34).
5- الخلاف 3/12، وقد تقدّم نقل عبارته في مفتاح الكرامة 14/179.
6- وسائل الشيعة 18/10، ح1.
7- وسائل الشيعة 18/13، ح1.
8- وسائل الشيعة 18/12، ح9.
9- وسائل الشيعة 18/12، ح7.
10- غنية النزوع /219.
11- الحاكي عنه هو العلّامة في مختلف الشيعة 5/70.

فمن ماله دون مال المبتاع(1). ومثلها من دون تفاوت أصلاً عبارة النهاية(2) والمراسم(3) إلّا فيما ستعرفه. نعم في الوسيلة(4) وجامع الشرائع(5) الاقتصار على أنّ النفقة تلك المدّة على البائع، وهو ظاهر أو مؤذن بثبوت الخيار في تلك المدّة، وإلّا لوجبت على المشتري بالملك قبل انقضاء مدّة الاستبراء، سواء قلنا بالملك من حين العقد أو بانقضاء مدّة الخيار، فليتأمّل.

وظاهر المقنعة والنهاية أنّه قبضها وأودعها، لأنّه صرّح فيهما بأنّه عزلها كما سمعت. وأمّا المراسم فلم يصرّح فيها بالعزل لكن ظاهرها أنّها عند المشتري، فحمل كلامهم على عدم القبض بعيدٌ.

وهذا القول ليس بتلك المكانة من الضعف كما توهّم(6)، كيف وقد ذهب أعاظم الأصحاب إليه وحكي الإجماع عليه، مع إمكان الجمع بالتخصيص إن حصل التكافؤ، وقد يحصل لقومٍ دون آخرين، والغرض أنّه ليس بتلك المكانة من الضعف، وحكي الإجماع عليه، فليلحظ ما حقّقناه(7)فيمن باع الأمة قبل استبرائها»(8).

أقول: مقتضى القاعدة دليلاً وأصلاً اتحاد الأمة مع غيرها في مدّة خيار الحيوان فيرتفع بانقضاء ثلاثة أيام، لعدم الدليل على أنّ مدّة خيار الأمة مدّة استبرائها وهذا القول مخالف للأصل اللفظي والعملي والنصوص الخاصة:

ص: 396


1- المقنعة /(593-592).
2- النهاية /409.
3- المراسم /173.
4- الوسيلة /248.
5- الجامع للشرائع /262.
6- كما في الرياض 8/185.
7- تقدّم في مفتاح الكرامة 13/(419-404).
8- مفتاح الكرامة 14(186-184).

«أمّا مخالفته للأصل اللفظي؛ فلأن الحكم بالخيار في العقود على خلاف الأصل؛ فإن مقتضى قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) نفي الخيار مطلقاً، وخرج ما خرج بالدليل الخاص، فيبقى ما زاد على الثلاثة الأيام داخلاً تحت عموم العام.

ويمكن ضمّ أصل لفظي آخر، وهو قوله (علیه السلام) : «فإذا افترقا وجب البيع»(2)؛ بناء على ما استفاده الشيخ (قدس سره) من أن مقتضاها نفي الخيار مطلقاً، لا خصوص خيار المجلس.

وأما مخالفته للأصل العملي؛ فلأن الملك يتحقق بمجرد العقد، لا بعد انقضاء الخيار، كما هو التحقيق، فيكون الحكم بالخيار على خلاف استصحاب بقاء الملك.

وأما النصوص الخاصة فمثل صحيحة علي بن رئاب، قال: سألت أباعبدالله (علیه السلام) عن رجل اشترى جارية لمن الخيار؟ للمشتري أؤ للبائع أو لهما كلاهما؟ فقال: الخيار لمن اشترى ثلاثة أيام، نظرة، فإذا مضت ثلاثة أيام فقد وجب الشراء... الحديث.(3)

وأما ما استدل به عليه من دعوى الإجماع فقد تقدم نقل مخالفة الأكثر له.

وأما ما ذكر من أن تلف المبيع في زمان الخيار ممن لا خيار له، والبائع يضمن المبيع في مدة الاستبراء، ومتى ما كان الضمان على أحد لم يكن له خيار، وكان الخيار للطرف الآخر.

فيرد عليه أنه لا دليل على أن المبيع مضمون على البائع في هذه المدة، وعلى فرض ثبوته فلا دليل على أنه إذا كان أحدهما ضامناً فللآخر الخيار»(4) والله سبحانه

ص: 397


1- سورة المائدة /1.
2- وسائل الشيعة 18/6، ح4، الباب 1 من أبواب الخيار.
3- وسائل الشيعة 18/12، ح9، الباب 3 من أبواب الخيار.
4- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/194.

هو العالم.

مسألة: مبدأ خيار الحيوان
اشارة

مبدأ خيار الحيوان هل يكون من حين العقد أو من حين التفرق؟

تمهيدٌ

هذه المسألة «يبتني على فرض شمول أدلة خيار المجلس لبيع الحيوان، وإلا فمن يرى أن دليل خيار المجلس لا يشمل بيع الحيوان فلا يكون خيار المجلس ثابتاً في بيع الحيوان لا مجال لهذا البحث، ولأجل ذلك يحسن أن نتعرض لهذا المطلب قبل الشروع في المسألة.

فنقول: استظهر السيّد الطباطبائي(1) (رحمة الله) أن خيار المجلس يختص بغير مورد خيار الحيوان وأن البيع على قسمين: قسم يثبت فيه خيار المجلس والآخر يثبت فيه خيار الحيوان.

ويستدل على ذلك بجملة من النصوص، أظهرها [صحيحة] محمّد بن مسلم: المتبايعان بالخيار ثلاثة أيام في الحيوان وفيما سوى ذلك من بيع حتّى يفترقا، فقد خصّ (علیه السلام) خيار المجلس بغير مورد الحيوان.

ويمكن أن يناقش في ذلك بوجهين:

الأوّل: أنه إنما يتم لو كانت الرواية بصدد تشريع الخيارين.

ولكن ظاهرها أنها في مقام تحديد منتهى الخيارين - المفروض تشريعهما - وبيان الفرق بينهما من حيث المنتهى، فليست في مقام تشريعهما كي يؤخذ بظهورها في تحديد موردهما. إذن فلا دلالة لها على تعيين خصوصيات مورد الخيارين المفروض تشريعهما سابقاً. ولو تنزلنا عن دعوى ظهورها في ذلك، فلا أقل من احتماله بنحو يمنع من استظهار خلافه.

ص: 398


1- حاشية المكاسب 2/436.

الثاني: أنه لو سلم أنها في مقام التشريع وأنها تجعل حكم الخيار في مورد خاص، فلا مفهوم لها بنحو يمنع من ثبوت الخيار إلى غير هذا المورد الخاص. فإذا كان هناك دليل يدل على ثبوت الخيار في مطلق الموارد لم يتناف مع هذا النص.

وعليه، فالمحكم هو العمومات الدالة على ثبوت خيار المجلس في كل بيع، كقوله (علیه السلام) : البيعان بالخيار مالم يفترقا»(1) وغيره.(2)

ولذا قال المحقّق الاصفهاني (قدس سره) : «وليعلم أنّ المقابلة الواقعة بين الخيارين من حيث أمدهما ومنتهاهما لا في نفسهما؛ ليتوهم أنّ خيار المجلس لا يثبت فيما ثبت فيه خيار الحيوان؛ كما هو المترائى في بادئ النظر من قوله (علیه السلام) وفيما سوى ذلك من بيع يفترقاً(3)»(4).

الأقوال

علّق السيّد العاملي على قول العلّامة: «الثاني: خيار الحيوان ويمتدّ إلى ثلاثة أيّام من حين العقد على رأي»(5). بقوله: «مشهور كما في مجمع البرهان(6) وهو خيرة الشرائع على ما حكي عنها في غاية المراد(7) والتذكرة(8) والإرشاد(9) والإيضاح(10)

ص: 399


1- وسائل الشيعة 18/6، ح3، صحيحة فضيل.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/199.
3- وسائل الشيعة 18/10، ح3.
4- حاشية المكاسب 4/155.
5- القواعد 2/66.
6- مجمع الفائدة والبرهان 8/396.
7- غاية المراد 2/98.
8- تذكرة الفقهاء 11/34.
9- إرشاد الأذهان 1/374.
10- إيضاح الفوائد 1/483.

واللمعة(1) والتنقيح(2) وتعليق الإرشاد(3) وجامع المقاصد(4) والمسالك(5) والروضة(6) ومجمع البرهان(7) والكفاية(8) والرياض(9) والحدائق(10) وغاية المراد(11) في ظاهرها أو صريحها. وسيصرّح به [العلّامة](12) في باب الشرط. وهو ظاهر الباقين، لتبادر الاتصال بالعقد من النصوص وتعيّن إرادته من بعضها الّتي لم يذكر فيها إلّا خيار الحيوان ولم يتعرّض فيها لخيار المجلس، ولأنّ الأصل اللزوم وعدم الخيار، ومعلوم كونه ثلاثة من زمن العقد وكونه بعده غير معلوم، فلا يصار إليه إلّا بدليل. وظاهر الدروس التوقّف.(13)

وفي الغنية(14) أطلق التحديد بالتفرّق في ابتداء مدّة الخيار بحيث يشمل خيار الحيوان. ونصّ على ذلك الشيخ(15) وابن إدريس(16) في خيار الشرط، ويلزمهما القول

ص: 400


1- اللمعة الدمشقية /127.
2- التنقيح الرائع 2/45.
3- حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي وآثاره) 9/390.
4- جامع المقاصد 4/291.
5- مسالك الأفهام 3/218.
6- الروضة البهية 3/450.
7- مجمع الفائدة والبرهان 8/396.
8- كفاية الأحكام 1/463.
9- رياض المسائل 8/181.
10- الحدائق الناضرة 19/27.
11- غاية المراد 2/98.
12- قواعد الأحكام 2/66، قال: «أوّل وقته عند الاطلاق من حين العقد...».
13- الدروس الشرعية 3/272.
14- غنية النزوع /219.
15- المبسوط 2/85.
16- إنّ ابن إدريس وإن صرّح في خيار الشرط بأنّ ابتداء خياره من حين التفرّق إلّا أنّه صرّح أيضاً في خيار الحيوان بأنّ ابتداءه من حين العقد، قال: فأمّا الحيوان فإنّه يثبت فيه الخيار ثلاثاً بمجرّد العقد، انتهى. فلا يمكن القول بأنه يعمّمه إلى غير خيار الشرط أيضاً وإن كان التعليل في كلامه الّذي أشار إليه الشارح عامّاً، فراجع السرائر 2/243 و 247.

به في غيره، لعموم ما علّلا به»(1).

دليل قول المشهور

ذهب المشهور - كما عرفت - إلى أنّ خيار الحيوان من حين العقد واستدل له الشيخ الأعظم(2) بصحيحة محمّد بن مسلم: عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: المتبايعان بالخيار ثلاثة أيّام في الحيوان وفيما سوى ذلك من بيع حتّى يفترقا(3).

بتقريب: إنّ الصحيحة في مقام بيان الفارق بين خياري الحيوان والمجلس وأنّ الفرق بينهما من حيث المنتهى دون المبدأ فحينئذ هما يشتركان في المبدأ وهو حين العقد لما مرّ من أن مبدأ خيار المجلس من حين العقد.

استدلال المحقّق الاصفهاني للمشهور

قال الاصفهاني (قدس سره) : «الظاهر أنّ وجه استظهاره اقتران خيار الحيوان بخيار المجلس، وأنّ المبدأ فيهما واحد وإنْ تعدد المنتهى فيهما، والأولى الاستدلال بالجهة الجامعة فيهما؛ وهي أنّ موضوع الخيار - الذي بفعليته يكون الخيار فعلياً - عنوان المشتري في خيار الحيوان وعنوان البيّعين في خيار المجلس، فعند تحقق العنوان لابد من أنْ يكون حق الخيار ثابتاً وإلّا لم يكن ما فرض موضوعاً في ظاهر الكلام موضوعاً، بل هو بضميمة شيء آخر»(4).

ص: 401


1- مفتاح الكرامة 14/ 169 و 170.
2- المكاسب 5/92.
3- وسائل الشيعة 18/10، ح3.
4- حاشية المكاسب 4/155، تعليقة 88.

وقد أُورد عليه: «بوجود الفرق بين خيار الحيوان وخيار المجلس، لأن الأخبار الواردة في أحكام خيار الحيوان ليست في مقام تشريع هذا الخيار، بل تشريعه أمر معلوم لدى السائل ومفروغ عنه وإنما النظر إلى بيان خصوصياته.

وعليه، فلا يمكن أن يتمسك بالأخبار في إثبات أن موضوع الحكم هو المشتري بعنوانه، إذ ليس المقام مقام تشريع الخيار لموضوعه، فقد يكون موضوعه المشتري بخصوصية تنضم إليه لا تتحقق من حين العقد»(1).

دليل قول ابن زهرة
اشارة

قد عرفت أنّ ابن زهرة في الغنية ذهب إلى أن مبدأ خيار الحيوان من حين التفرق وقد يستدلّ له بوجوه:

الأوّل: [أن الخيار يدخل إذا ثبت العقد]

ما ورد في المبسوط(2) - ونحوه المحكي عن السرائر(3)- من أن الخيار يدخل إذا ثبت العقد والعقد لم يثبت قبل التفرق.

وذكر الشيخ (قدس سره) أن «هذه الدعوى لم نعرفها»(4). وأوضح المحقّق الاصفهاني(5) (رحمة الله) إشكال الشيخ (قدس سره) بأن المراد من ثبوت العقد إن كان ما يساوق وجود العقد فالعقد موجود، وإن كان ما يساوق لزوم العقد فإن أريد به اللزوم الفعلي فيستحيل اجتماع اللزوم الفعلي والخيار الفعلي، كما هو واضح جداً. وإن أريد به اللزوم الاقتضائي، بمعنى أن يكون العقد مقتضياً للزوم ومشمولاً لعموم: ﴿ أَوْفُوا

ص: 402


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/201.
2- المبسوط 2/85.
3- السرائر 2/247.
4- المكاسب 5/93.
5- حاشية المكاسب 4/156، تعليقة 90.

بِالْعُقُودِ ﴾(1) في نفسه لو لا دليل الخيار، فهو ثابت ومتحقق فيما نحن فيه لأن العقد مقتض للزوم فيما نحن فيه. نعم هناك مانعان من تأثيره في اللزوم الفعلي وهما دليل خيار المجلس ودليل خيار الحيوان ونسبتهما إلى عمومات اللزوم على حد سواء. وليس خيار المجلس في رتبة سابقة على خيار الحيوان كي يكون العقد مع قطع النظر عن دليل خيار الحيوان وفي رتبة سابقة عليه غير مشمول لعمومات اللزوم.

هذا ما أفاده المحقق الاصفهاني (رحمة الله) - بتوضيح منّا - . ويمكن أن يفرض شق آخر في كلام المبسوط وهو أن يراد أن الخيار إنما يثبت في مورد لا يكون الشخص فيه مسلطاً على حل العقد لولا الخيار، لأنه لغو، إذ الخيار هو السلطنة على الفسخ وهو إنما يجعل في مورد يكون العقد مبرماً في نفسه لا متزلزلاً.

يبقى إشكال أن هذا البيان يرد في خيار المجلس لأن نسبة الخيارين إلى العقد على حد سواء، فما هو الوجه في عدم فرض الاشكال فيه؟

وجوابه: أن ثبوت خيار المجلس من حين العقد من ضروريات الفقه [الشيعي] ومما لا إشكال فيه فقاهيّاً. وعليه، فالعقد متزلزل في نفسه وإن لم يكن في رتبة سابقة على خيار الحيوان، فلا مجال لخيار الحيوان معه للغويته، فيثبت من حين التفرق دفعاً للغوية.

فتقديم خيار المجلس بعد دوران الأمر بين رفع اليد عن أحدهما المنتهي إلى التعارض بين دليلهما المقتضي للتساقط ورفع اليد عنهما معاً إنما هو للضرورة الفقهية لا بحسب القواعد الأصولية.

والجواب عن محذور اللغوية سيأتي إن شاء الله تعالى فانتظر.

ص: 403


1- سورة المائدة /1.
الثاني: [الاستصحاب]

[أ] استصحاب عدم ارتفاع خيار الحيوان بانقضاء ثلاثة أيام من حين العقد وبقائه إلى انتهاء ثلاثة من حين التفرق، بل [ب] استصحاب عدم حدوثه قبل التفرق وانقضاء المجلس.

وأورد الشيخ(1) (قدس سره) على وجهي الاستصحاب بأنه لا مجال للأصل مع الدليل وظاهر الدليل هو كون ابتداء الخيار من حين العقد. وأورد على الثاني [ب] منهما بأنه مثبت لأنه لا يتكفل إثبات كون مبدأ الخيار هو زمان التفرق وكون نهايته بعد ثلاثة أيام من حين التفرق إلّا بالملازمة العقلية.

وقد يشكل عليه(2) بأن كلا من الأصلين مثبت من جهة وتام من جهة أخرى، إذ لدينا أثران لكون مبدء الخيار حين التفرق:

أحدهما: عدم [الخيار] بين حدوث العقد وزمان التفرق.

والآخر: امتداد الخيار إلى ثلاثة أيام بعد التفرق. والأثر الأوّل إنما يتكفل إثباته هو الأصل بالتقرير الثاني دون الأوّل، والأثر الآخر يتكفل اثباته الأصل بالتقرير الأوّل دون الثاني [ولو ذهبت في اثباتهما إلى العكس فكان مثبتاً كما عليه الشيخ الأعظم]، فنحن بحاجة إلى إجراء كلا الأصلين لترتيب كلا الأثرين.

فالعمدة في رد الأصل هو الوجه الأوّل.

الثالث: [إن تلف الحيوان في الثلاثة من البائع]

ما دلّ على أن تلف الحيوان في الثلاثة من البائع [لأنّ «التلف في زمن الخيار

ص: 404


1- المكاسب 5/93.
2- حاشية المكاسب 2/439 للسيّد اليزدي.

المختص بأحد المتبايعين يكون على عهدة من لا خيار له»(1)] من أن التلف في الخيار المشترك من المشتري، [لأنّ التلف في مدّة الخيار المشترك بين المتبايعين يكون من مال مالكه الفعلي لا على مَنْ انتقل عنه] فلو كان مبدأ خيار الحيوان حين العقد لزم انتقاض الحكم الأوّل لو تلف الحيوان قبل التفرق لأنه تلف في الخيار المشترك - وهو خيار المجلس - فيكون من المشتري. فلابدّ أن يكون الخيار مبدؤه من حين التفرق حتّى لا ينتقض الحكم المزبور.

وردّه الشيخ(2) (قدس سره) بأن دليل كون التلف في الثلاثة من البائع محمول على ما هو الغالب من كون التلف بعد التفرق لعدم امتداد مجلس البيع غالباً فيكون التلف في وقت خيار المشتري خاصة فيكون من مال البائع»(3).

الرابع: الوجه العقلي

هذا الوجه العقلي هو عمدة دليلهم «وقد اختلفوا في تقريره على وجوهٍ أربعة:

[أ] فبعضُهم جعل محذور ثبوت خيار الحيوان في المجلس أمرين أحدهما اجتماع المثلين، والآخر اجتماع سببين على مسبّب واحد، كما في جملة من الكتب.(4)

[ب] وبعضُهم اقتصر على محذور اجتماع المثلين، كما جعله العلّامةُ وجهاً لكلام شيخ الطائفة قدس سرهما في المختلف، ونقله عن بعض الشافعية في التذكرة(5).

[ج] وبعضُهم اقتصر على المحذور الثاني المتقدّم آنفاً، وهو استحالة توارد علّتين

ص: 405


1- المكاسب 6/175.
2- المكاسب 5/93.
3- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(204-201).
4- مفتاح الكرامة 14/171؛ شرح الخيارات /(57-56)؛ الأنوار الغروية في شرح اللمعة الدمشقية /342 (مخطوط).
5- مختلف الشيعة 5/68؛ تذكرة الفقهاء 11/47.

على معلول واحدٍ، كما في [المكاسب](1).

[د] وبعضُهم قرّره بأنّ ما يلزم من اجتماع الخيارين في المجلس هو أحد الأمرين على سبيل منع الخلوّ، لا أنّ المترتّب عليه محذور واحد كما صار إليه الآخرون، وهذا صريح صاحب المقابس (قدس سره)، حيث قال في تقريب دليل القول بأنّ مبدأ هذا الخيار بعد التفرّق ما لفظه: «وبأنّه لولاه - أي لولا تأخّر خيار الحيوان عن المجلس - فإمّا أن يكون الثابت قبل التفرّق خيارين أو واحداً. فإن كان الأوّل لزم اجتماع المثلين. وإن كان الثاني لزم اجتماع العلّتين على المعلول الواحد»(2)... .

وكيف كان، فلا بأس بتوضيح ما أفاده المحقّق الشوشتري (قدس سره) وإن لم يُشر [الشيخ الأعظم](3) هنا إلى محذور اجتماع المثلين، لكنه سيشير إليه في ما سينقله عن العلّامة (قدس سره) بعد أسطر(4)، فنقول: إنّ مجلس بيع الحيوان [1] إمّا أن يكون ظرفاً لخيارين مستقلّين - وهما خيار المجلس والحيوان - باعتبار كون مبدئهما نفس العقد، ومن آثار تعدّد المجعول جواز إسقاط أحدهما وإبقاء الآخر.

[2] وإمّا أن يكون ظرفاً لخيار واحد، بحيث لو أُسقط لزم العقد. وكلا الشقّين محال.

أمّا الأوّل، فلأنّ لازمه اجتماع المثلين المستحيل، وذلك لأنّ للخيار حقيقةً واحدة وهي «ملك فسخ العقد» سواءٌ أكان منشؤه المجلس أو العيب أو الغبن أو مبيعية الحيوان، ومن المعلوم أنّ للعقد الواحد حلّا واحداً وإبراماً كذلك، ولا يتحمّل سلطنتين مستقلّتين على الفسخ، فلو صحّ اجتماع الخيارين المستقلّين في المجلس لزم

ص: 406


1- المكاسب 5/93.
2- مقابس الأنوار، كتاب البيع /183.
3- المكاسب 5/93.
4- المكاسب 5/93.

اجتماع سلطنتين متماثلتين على حلّ العقد وإبرامه، ولا ريب في امتناع اجتماع المثلين في موضوع واحد، وهو بيع الحيوان ماداما في المجلس.

وأمّا على الثاني - وهو جعل حقٍّ واحدٍ اجتمع عليه المجلس والحيوان - فلأنّ لازمه توارد علّتين مستقلّتين على معلول واحد، فأحد السببين الحضور في المجلس، والآخر مبيعية الحيوان، ومن المعلوم أنّ المسبّب الواحد أثرٌ لسببٍ واحد لالسببين.

ولا مناص من هذين المحذورين إلّا الالتزام بأنّ المجلس ظرف لخصوص خياره، والتفرّق ظرف لخيار الحيوان، ويثبت مبنىٰ [ابن زهرة] (قدس سره) من بدء خيار الحيوان بانقضاء المجلس [والتفرق]»(1).

يرد عليه: «إنّ الخيارات إمّا أن تكون حقائق مختلفة وماهيّات اعتبارية متفاوتة، وأنّ إطلاق «الخيار» على كلٍّ منها يكون في مقام التسمية، وإلّا فالسلطنة على فسخ العقد وإقراره الناشئة من الاجتماع في المجلس أجنبية عن السلطنة الحاصلة في بيع الحيوان، وكذا «ملك فسخ العقد» في مورد الغبن مغاير لملكه في سائر الخيارات وهكذا.

وإمّا أن تكون حقيقةً واحدةً بالذات وإن تعدّدت أسبابها ومناشئُها، فماهيّة الخيار هي الاستيلاء على حلّ العقد وإمضائه، سواءٌ أكان منشأ هذا الحقّ المجعول هو الاجتماع في محلّ العقد أو وجود عيبٍ في أحد العوضين أو اشتراط أمرٍ في العقد أو غير ذلك من موجبات التزلزل.

ومحذور اجتماع السببين مندفع على التقديرين.

أمّا على تقدير اختلاف أنحاء سلطنة فسخ العقد، فعدم توارد سببين على مسبّبٍ واحد واضح، لفرض اقتضاء كلّ سببٍ مسبّباً مستقلّا ً يغاير المسبّبات الأُخرى ذاتاً

ص: 407


1- هدى الطالب 10/(82-80).

وماهيّةً. فالأسباب المتعدّدة يترتّب عليها مسبّبات كذلك، فلا مانع من اجتماع خياري المجلس والحيوان ماداما في المجلس، فهناك سلطنة على حلّ العقد ناشئة من الحضور في مكان البيع، وهناك سلطنة أُخرى مستندة إلى كون المبيع حيواناً، وربما تحصل سلطنة ثالثة من جهة الغبن أو الشرط أو تعذّر التسليم أو سائر موجبات الخيار.

والحاصل: أنّ العلل المختلفة تواردت على معاليل متعدّدة، لا على معلولٍ فاردٍ حتّى يجيء محذور اجتماع الأسباب وتداخلها.

[وبهذا البيان يندفع «اجتماع المثلين» أيضاً لأنّ الخيارات حقائق مختلفة وماهيات اعتبارية متفاوتة فهما غير متماثلين].

وأمّا على تقدير كون الخيارات متّحدةً بحسب الماهيّة والذات، وتلك الحقيقة الفاردة هي «ملك فسخ العقد وإقراره» فكذا لا يلزم محذور اجتماع علّتين على معلول واحد، لأنّ الخيارات المجعولة شرعاً - تأسيساً أو إمضاءً - المضافة إلى أسبابها مثل الاجتماع في المجلس والغبن والشرط ومبيعية الحيوان، لمّا كانت أسبابها شرعيّة لزم تنقيح المبنىٰ في مسألة أُخرىٰ وهي «أنّ الأسباب الشرعيّة معرّفات أو مؤثّرات».

والمراد بالمعرفيّة: أنّ الأُمور التي علّق عليها أحكام في ظواهر الأدلّة الشرعيّة ليست هي عللاً لها، وإنّما هي معرِّفات وعلامات لما هو سبب واحد في الواقع، فإذا ورد «إذا خفي الأذان فقصّر، وإذا خفي الجدران فقصِّر» كان خفاء كلٍّ منهما علامةً على ما هو المؤثّر في وجوب القصر، وذلك الموضوع هو الابتعاد عن الوطن حدّاً معيّناً من المسافة، وأنّه لا خصوصية في خفاء الأذان ولا في خفاء الجدران حتّى يقال بأنّ منطوق كلّ واحدةٍ من الشرطيّتين يعارض إطلاق المفهوم من الأُخرىٰ.

وهكذا الحال في اجتماع نواقض الطهارات، فإنب المتعيّن وضوءٌ واحد أو غُسل كذلك، إذ ليست موجبات الوضوء والغُسل أسباباً وعللاً كعلّية النار للإحراق كي يستقلّ كلّ علّة في التأثير في معلولٍ، ولا يشاركه في التأثير علّة أُخرىٰ.

ص: 408

والمراد بالمؤثّريّة: علّية كلّ واحدٍ ممّا أُخذ في الدليل موضوعاً لحكمٍ، ففي مثل إناطة وجوب القصر بخفاء الأذان يكون الوجوب مسبّباً عن هذا الخفاء بخصوصه، وكذا الحال في خفاء الجدران، وهكذا سائر القضايا الحملية أو الشرطيّة التي رتّب الشارع فيها حكماً على موضوع.

فإن قلنا بمعرفيّة الأسباب الشرعيّة، قلنا: إنّ المجعول هو الخيار الذي حقيقته «ملك فسخ العقد» ويكون المجلس ومبيعية الحيوان أمارتين كاشفتين عن هذه السلطنة، نظير معرّفية الحدّ التامّ والناقص والرسم لماهيّة الإنسان، لصحّة الحكاية عنه بقولنا «حيوان ناطق»، «ضاحك» و«ماشٍ مستقيم القامة». فالكواشف متعدّدة، والمنكشف بها واحد. وعليه، فلا يلزم اجتماع المثلين أو الأمثال، ولا تداخل أسباب متعدّدة على مسبّب واحد.

وإن قلنا بمؤثّريّتها، فكذا لا يلزم محذور اجتماع عللٍ على معلول واحدٍ، لأنّ المؤثِّر الشرعي لا يزيد على السبب التكويني، فكما أنّ تسبّب المعلول عن علّةٍ واحدة يتوقّف على انحصار العلّة وعدم انضمام غيرها إليها كالإحراق المسبّب عن النار، وأنّه له تعدّد السبب ينقلب السبب التامّ إلى جزء المؤثِّر، كما لو تأثّرت سخونة الماء من النار ومن حرارة الشمس، فكذا استقلال المجلس في وجود الخيار - الواحد بحسب ذاته وحقيقته - منوط بعدم انضمام مبيعيّة الحيوان والغبن والشرط إليه، فلو انضمّ أحدها إليه صار كلّ منهما جزءَ سبب الخيار، فأين توارد عللٍ متعدّدة على معلولٍ واحد؟ حتّى يتفصّىٰ منه بجعل مبدأ خيار الحيوان التفرّق ليتسبّب خيار المجلس بخصوصه عن الاجتماع على العقد ولا يشاركه خيار آخر»(1). وبهذين البيانين أيضاً يندفع اشكال «اجتماع المثلين» أيضاً.

ص: 409


1- هدى الطالب 10/(90-88).

ولكن العمدة في ردها: أنّ الأحكام الشرعية ومنها الخيارات من الأُمور الاعتبارية لا الأُمور التكوينية واستحالة اجتماع المثلين واستحالة اجتماع سببين على مسبب واحد كلاهما في الأمور التكوينية لا الاعتبارية.

والأمور الاعتبارية يصححها الأثر المترتب عليها وتعددها يخرجها عن اللغوية.

وبالجملة: «لا مانع من جعل خيارين لعقد واحد؛ وذلك لأن الخيار هي السلطنة على حل العقد وإمضائه، ولا مانع من جعل سلطنتين على حل عقد واحد، ويشهد له الخيارات الإمضائية المتعددة في عقد واحد، كخيار العيب والغبن والشرط في عقد واحد، وأثره تمكّن ذي الخيار من أن يحلَّ العقد بأيِّ السلطنتين اللتين له، فقد لا يريد أن يستفيد من خيار الغبن فيستفيد من خيار الشرط.

وأما مقام الإثبات فالروايات الواردة في الباب على طوائف ثلاث:

الطائفة الأولى: ما يستفاد منها ثبوت خيار المجلس في بيع الحيوان، كصحيحة الحلبي، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: «أيّما رجل اشترى من رجل بيعاً فهما بالخيار حتّى يفترقا...»(1)؛ فإن مقتضى الإطلاق أنه متى صدق عنوان البيّعين ثبت خيار المجلس، سواء أكان المبيع حيواناً أم غيره.

الطائفة الثانية: ما يظهر منها افتراق موردي الخيارين، كما يظهر من التقابل بين خياري المجلس والحيوان في مثل صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : «البيعان بالخيار حتّى يفترقا، وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام...»(2).

ص: 410


1- وسائل الشيعة 18/6، ح4، الباب 1 من أبواب الخيار.
2- وسائل الشيعة 18/5، ح1، الباب 1 من أبواب الخيار.

الطائفة الثالثة: ما صرّحت بأن المجعول في بيع الحيوان هو خيار الحيوان خاصة، وهي صحيحة علي بن رئاب، قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن رجل اشترى جارية لمن الخيار؟ للمشتري أو للبائع أو لهما كلاهما؟

فقال: الخيار لمن اشترى ثلاثة أيام نظرة، فإذا مضت ثلاثة أيام فقد وجب الشراء...»(1).

فالسائل سأل عن من له الخيار، ومع أنه فصّل في السؤال، هل هو المشتري، أو البائع، أو هما؟ إلّا أن الإمام (علیه السلام) أجاب بنحو صريح بانحصار الخيار في المشتري، مما يدل على نفي الخيار عن غيره.

إن قيل: بأن هذه الرواية إنما تنفي خصوص خيار الحيوان عن غير المشتري، فلا تنافي ما دلّ على ثبوت خيار المجلس للبيّعين.

قلنا: بأن السائل سأل عن أصل ثبوت الخيار، وذلك مقتضى قوله: «لمن الخيار»، فعندما يحصر الإمام (علیه السلام) في هذا المقام ثبوت الخيار بالمشتري فهو ظاهر في أن الخيار في بيع الحيوان ينحصر في واحد، وهو المشتري، كما في هذه الرواية، أو «صاحب الحيوان»، كما في رواية أخرى(2)، وعلى كل فلا خيار لغير من له الحيوان، وإلا لقال (علیه السلام) في الجواب: بأن الخيار لهما إلى أن يفترقا، وإذا افترقا فالخيار للمشتري ثلاثة أيام، ولما لم يقل ذلك علمنا انحصار الخيار في بيع الحيوان في خصوص المشتري، وبذلك يتقيد إطلاق رواية «البيعان بالخيار»(3).

ويمكن أن يقال: إن الرواية ظاهرة سؤالاً وجواباً عمّن له الخيار من جهة خصوص الحيوان من ناحيته، فكما لا تنفي خيار الغبن لبائع الحيوان ومشتريه، ولا

ص: 411


1- وسائل الشيعة 18/12، ح9، الباب 3 من أبواب الخيار.
2- وسائل الشيعة 18/11، ح6، صحيحة زرارة.
3- وسائل الشيعة 18/5، ح2، صحيحة زرارة.

تنفي خيار العيب في الثمن للبائع كذلك لا تنفي خيار المجلس لهما، ولا أقل من إجمال السؤال، فتكون من صغريات إجمال المخصص المنفصل المردد بين الأقل والأكثر، فلا مقيد لإطلاق صحيح الحلبي عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: أيّما رجل اشترى من رجل بيعاً فهما بالخيار حتّى يفترقا، فإذا افترقا وجب البيع(1).

[والحاصل] أن خيار المجلس يجتمع مع خيار الحيوان إثباتاً كما يجتمع معه ثبوتاً»(2).

ص: 412


1- وسائل الشيعة 18/6، ح4، الباب 1 من أبواب الخيار.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(225-222).
تتمة: المراد بزمان العقد

«هل المراد بزمان العقد، زمان إنشاء الصيغة أو زمان ثبوت الملك؟

وجهان.

أما الأوّل فيشكل من ناحية التوفيق بينه وبين بيع الفضولي وبيع الصرف والسلم؛ حيث لابد من القول - حينئذ - بحصول الخيار قبل تحقق المالكية في بيع الفضولي، وقبل تحقق البيع الصحيح في بيع الصرف والسلم، وهو مما لا يلتزم به.

وأما الثاني فهو الحق؛ وذلك لأن العنوان الموضوع للخيار في خيار المجلس هو (البيِّعان)، وفي خيار الحيوان (المتبايعان) على مسلك السيّد (قدس سره)، و (المشتري) على مسلك المشهور، و (صاحب الحيوان) على المسلك المختار، ولا تصدق هذه العناوين قبل تحقق العقد الناقل الجامع للشرائط.

وأما بالنسبة إلى بيع الصرف والسلم فما لم يتحقق القبض لا يتحقق شرط البيع، والمشروط عدم عند عدم شرطه، ومع عدم تحقق البيْع لا يتحقق عنوان (البيّع)، فلا يصدق (البيّعان) قبل تحقق القبض؛ فإن ما حصل قبل القبض إنما هو إنشاء البيع، أو البيع الإنشائي، وموضوع الخيار هو البيْع الحقيقي، والبيّع الحقيقي.

هذا إذا لا حظنا عنوان (البيّعان)، وكذلك مع ملاحظة عنوان المشتري؛ فإنه وإن كان يقول قبل القبض: اشتريت كذا، إلّا أنه ما لم يحصل القبض لم يتحقق الاشتراء الحقيقي، فيكون مشترياً إنشاءاً، لا حقيقة.

ص: 413

وبعبارة أخرى: إن العنوان في الأدلة الدالة على جعل الخيار شرعاً عبارة عن (البيّع) أو (المشتري) الشرعيين وما لم تجتمع الشرائط الشرعية لا يصدق عنوان المشتري ولا البيّع شرعاً.

وأما عنوان (صاحب الحيوان) فلا يصدق على من أخذه قبل تحقق شرط الملكية إلّا بنحو المجاز؛ لعلاقة الأوْل والمشارفة.

والنتيجة: أن مبدأ خيار المجلس والحيوان في بيع الصرف والسلم من وقت القبض، لا من وقت وقوع العقد.

وأما بالنسبة إلى الفضولي، ففيه تفصيل؛ إذ على القول بالنقل لا يصدق عنوان البيّع قبل الإجازة، ويصح سلب عنوان المشتري عنه قطعاً، فيثبت الخيار من زمان تحقق الإجازة.

وكذلك الحال بناء على الكشف الانقلابي الذي [قد يقال]: هو مقتضى الأدلة في باب الفضولي، وما عليه الارتكاز العقلائي؛ فإن الملكية عليه وإن اعتبرت من زمان العقد إلّا أن زمان الاعتبار لا يكون إلّا من زمان الإجازة، فالملك قبل تحققها لا يزال للمجيز، وبعد تحققها ينقلب الملك من حين العقد من كونه له إلى كونه للمجاز، والعبرة بوقت الاعتبار، لا بزمان المعتَبَر.

وأما بناء على الكشف الحقيقي - بمعنى أن العقد المتعقَّب بالإجازةهو المؤثر في حصول الملكية من حين العقد، ويرجع ذلك - لبّاً - إلى أن التعقب شرط لتحقق النقل والانتقال، والإجازة المتأخرة ما هي إلّا كاشفة عن تحقق الشرط المقارن وهوا لتعقب، وأمارة على حدوث العقد مقروناً بالشرط - فالخيار من حين العقد؛ لأنه زمان حصول الملك»(1).

ص: 414


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(228-225).
مسألة: المراد من ثلاثة أيّام
اشارة

المراد باليوم هو مبتدأ من طلوع الفجر إلى غيبوبة الشمس أو ذهاب الحمرة المشرقية والمراد بالليل هو مبتدأ من آخر النهار إلى طلوع الفجر.

قال العلّامة المجلسي (قدس سره) : «اعلم إنَّ بعض أصحابنا في زماننا جدَّدوا النزاع القديم الذي كان في بعض الأزمان السابقة واضمحلَّ لوضوح الحقّ فيه واتّفق الخاصّ والعامُّ فيه على أمر واحد، وهو الخلاف في معنى اللّيل والنهار شرعاً، وعرفاً بل لغة: هل ابتداء النّهار من طلوع الفجر أو طلوع الشمس، وعندنا أنّه لا يفهم في عرف الشرع ولا في العرف العامّ ولا بحسب اللغة من اليوم أو النهار إلّا ما هو من ابتداء طلوع الفجر ولم يخالف في ذلك إلّا شر ذمة قليلة قد انقرضوا.

نعم بعض أهل الحرف والصناعات لمّا كان ابتداء عملهم من طلوع الشمس قد يطلقون اليوم عليه، وبعض أهل اللّغة لمّا رأوا هذا الاصطلاح ذكروه في كتب اللّغة، ويحتمل أن يكون كلاهما بحسب اللّغة حقيقة، وكذا المنجّمون قد يطلقون اليوم على ما بين الطلوع إلى الغروب، وعلى ما بين الطلوع إلى الطلوع وعلى ما بين الغروب إلى الغروب، وعلى ما بين الزّوال إلى الزوال، وكذا النّهار على المعنى الأوّل، واللّيل على ما بين غروب الشمس إلى طلوعها.

لكن لا ينبغي أن يستريب عارف بقواعد الشريعة وإطلاقاتها في أنّه لا يتبادر فيها مع عدم القرينة من النهار إلّا ما هو مبتدأ من طلوع الفجر، وكذا اليوم بأحد المعنيين، وقد يطلق اليوم على مجموع اللّيل والنهار، ولا يتبادر من اللّيل إلّا ما هو مختتم بالفجر، وأمّا انتهاء النهار واليوم وابتداء اللّيل فهو إمّا غيبوبة القرص أو ذهاب الحمرة المشرقيّة كما عرفت.

ولنذكر بعض كلمات أهل اللّغة والمفسّرين والفقهاء من الخاصّة والعامة ثمّ لنشر إلى بعض الآيات والأخبار الدالّة على هذا المطلب، لاراءة الطالبين للحقّ سبيل

ص: 415

التحقيق، فإنَّ استيفاء جميع الدلائل والبراهين، والتعرّض لما استدلَّ به بعض أفاضل المعاصرين لا يناسب هذا الکتاب، وفي بالي إن ساعدني التوفيق أن أفرد لذلك رسالة تنضمّن أكثر ما يتعلق بهذا لمرام، والله الموفق والمعين»(1).

ثمّ ذكر كلمات القوم في هذا المعنى فراجع كلامه إن شئت في بحاره(2).

وأمّا المراد من الأيام الثلاثة:

يقع الكلام في جهات:

«الجهة الأولى: في دخول الليلتين المتوسطتين:

فإنه قد يتوهم عدم ثبوت الخيار فيهما بعد خروج الليل عن مفهوم اليوم. ولكن ثبوت الخيار فيهما مما لا إشكال فيه.

والوجه فيه هو ظهور الدليل في استمرار الخيار وعدمه تقطعه ومقتضى ذلك هو ثبوته في الليلتين المتوسطتين تحصيلاً للاستمرار وإن كانتا خارجتين عن مفهوم اليوم.

أما الدليل على الاستمرار، فهو قوله في [صحيحة علي بن رئاب]: «فإذا مضت ثلاثة أيام فقد وجب الشراء»(3)، فإنّه ظاهر في أنّ حدوث اللزوم بعد مضي الأيام الثلاثة وأنّ العقد كان جائزاً قبل مضيّها وذلك يقتضي استمرار الجواز كما عرفت.

الجهة الثانية: في صحة التلفيق وعدمها:

كما لو وقع العقد في أثناء النهار - كالظهر مثلاً - فإنه هل يلتزم بالتلفيق، فيستمر الخيار إلى ظهر اليوم الرابع. أو لا يلتزم به، بل يلتزم بثبوت الخيار في ثلاثة أيام تامة مستقلة، فيستمر الخيار إلى غروب اليوم الرابع؟

ص: 416


1- بحارالأنوار 80/74 (33/162).
2- بحارالأنوار 80/(85-75) [33/(171-163)].
3- وسائل الشيعة 18/12، ح9، الباب 3 من أبواب الخيار.

ذهب الأكثر إلى الأوّل، وذهب صاحب الجواهر (رحمة الله) إلى الثاني مدعياً أنه «يمكن القطع به لمن رزقه الله اعتدال الذهن»(1). وتبعه السيّد الطباطبائي(2) (رحمة الله).

وقد يستشكل في صحة التلفيق بأنه إذا كان المراد من اليوم نفس مابين طلوع الشمس إلى غروبها، لم تصدق الأيام الثلاثة في صورة التلفيق إذ اليوم الملفق لم يكن بين طلوع الشمس إلى غروبها. وإن كان المراد به مقدار ذلك من الزمان لزم أن يثبت الخيار في ليلة ونهارين أو نهار وليلتين وهذا مما يقطع بخلافه ولا يلتزم به أحد.

ولكن هذا الاشكال يمكن دفعه بأن يقال: إن المراد من اليوم ليس مقدار ما بين طلوع الشمس إلى غروبها من الزمان كي يرد عليه ما ذكر، بل المراد نفس بياض النهار والنوع الخاص من الزمان المتحدد بما بين طلوع الشمس إلى غروبها، لكن هذا يتحقق خارجاً على نحوين:

أحدهما: بنحو الاتصال وعدم الانقطاع، فيجلس الانسان في مكان من طلوع الشمس إلى غروبها، فيصدق أنه جلس في ذلك المكان نهاراً كاملاً.

والآخر: بنحو التشتت والانقطاع، فيجلس في مكان من طلوع الشمس إلى الزوال ثمّ يغادره ويعود إليه في اليوم الآخر فيجلس فيه من الزوال إلى الغروب، فيصدق أنه جلس في ذلك المكان نهاراً كاملاً أيضاً، فصدق النهار لا يعتبر فيه اتصال هذا النوع الخاص من الزمان بل يصدق أيضاً مع التشتت.

وعليه، فيصدق النهار مع التلفيق، لأنه يدرك مابين طلوع الشمس إلى غروبها ولكن بنحو متقطع لا متصل وهو لا يضر في صدق النهار الواحد. ومما يشهد لذلك أن الاسبوع اسم لما بين السبت والجمعة مع أنه يصدق على الملفق، كما إذا سافر إلى بلد

ص: 417


1- جواهر الكلام 24/51 (23/31).
2- حاشية المكاسب 2/442 للسيّد اليزدي.

يوم الثلاثاء ورجع إلى بلده يوم الثلاثاء من الاسبوع الآخر فانه يصدق أنه سفره كان أسبوعاً واحداً لأنه أدرك السبت إلى الجمعة لكن بنحو التلفيق. وهكذا الشهر، فإنه اسم لما بين الهلالين مع أنه يصدق الشهر على الملفق من خمسة عشر يوماً من شهر وخمسة عشر من الشهر الآخر.

وإذا ثبت صدق النهار على الملفق فلا دليل على اعتبار الاتصال فيه، فيكون الخيار مستمراً إلى ظهر اليوم الرابع في المثال المتقدم»(1).

المناقشة في ما افاده صاحب الجواهر

«وما أفاده صاحب الجواهر (قدس سره) منقوض باختياره في عدة موارد:

الأوّل: أنه (قدس سره) صرح في باب الحيض من كتابه نجاة العباد: بأنه لو حاضت المرأة ظهر الخميس، فإن أقلّ حيضها إلى ظهر الأحد.(2)

فما هو الفرق بين باب الحيض والخيار؟! فإن كان المراد من اليوم القطعة الخاصة من الزمان فلا تلفيق فيهما، وإلا فالتلفيق فيهما أيضاً.

الثاني: أنه صرّح في مبحث الإقامة عشرة أيام من كتاب الجواهر بكفاية التلفيق؛ حيث قال: «نعم، الظاهر إجزاء الملفّق؛ للصدق العرفي، فلو نوى المقام عند الزوال كان منتهاه زوال اليوم الحادي عشر، كما صرح به غير واحد من الأصحاب، بل لا أجد فيه خلافاً من غير المدارك»(3).

ص: 418


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/208 و 209.
2- نجاة العباد /4، قال (قدس سره) : «الثالث أقل الحيض ثلاثة أيام متوالية... نعم في إجزاء التلفيق قوة، لكن بالمجانس على معنى إذا رأته مثلاً عند الظهر من يوم الخميس واستمر إلى ذلك الوقت من يوم الأحد وانقطع كفى».
3- جواهر الكلام 14/312، طبعة الإسلامية.

الثالث: أنه التزم بالتلفيق أيضاً في مسألة التردد ثلاثين يوماً في مكان واحد.(1)

الرابع: أنه قال بالنسبة إلى أشهر السياحة ما لفظه: «في غير واحد من النصوص(2) في قوله تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾(3) قال: فهذه أشهر السياحة، عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأوّل، وعشر من ربيع الآخر، وهو كالصريح في التلفيق في الأشهر، بل وإنه يجبر الأوّلين من الآخر، وإن ذلك كله مصداق أربعة أشهر»(4).

وبما أن عنوان الشهر موضوع لقطعة خاصة من الزمان، وهي ما بين الهلالين، كان الاكتفاء بالأيام الملفقة من شهري ذي الحجة وربيع الآخر إنما هو لرفع الخصوصية، والالتزام بالتلفيق في الشهر وحمله على المقدار، دون التلفيق في اليوم بلا موجب، فإذا كانت هذه الأشهر بما فيها الشهر الملفّق مصداقاً للأربعة الأشهر، فاليومان مع اليوم الملفّق من يومين مصداق إلى الثلاثة الأيام.

المناقشة في ما أفاده السيّد اليزدي

وأما ما أفاده السيّد اليزدي (قدس سره) فيرد عليه:

أوّلاً: النقوض الثلاثة الأولى، الواردة على صاحب الجواهر؛ حيث صرّح في باب الحيض بكفاية الثلاثة الملفّقة في أقل الحيض، فإذا رأت في وسط اليوم الأوّل، واستمر إلى وسط اليوم الرابع يكفي في الحكم بكونه حيضاً.(5)

وصرّح في باب قواطع السفر بقوله: «ويكفي تلفيق اليوم المنكسر من يوم آخر

ص: 419


1- جواهر الكلام 14/317، طبعة الإسلامية.
2- وسائل الشيعة 11/273، ح11، الباب 11 من أبواب أقسام الحج.
3- سورة التوبة /(2-1).
4- جواهر الكلام 23/31، طبعة الإسلامية.
5- العروة الوثقى 1/569، باب الحيض، مسألة 6.

على الأصح، فلو نوى المقام عند الزوال من اليوم الأوّل إلى الزوال من اليوم الحادي عشر كفى»(1).

وكذلك في المتردد ثلاثين يوماً، فقال: «يكفي في الثلاثين التلفيق إذا كان تردده في أثناء اليوم كما مرّ في إقامة العشرة»(2).

فإن اليوم في جميع الأبواب واحد؛ فإنه اسم لقطعة خاصة من الزمان، فكيف تلتزم بالتلفيق في مورد دون آخر؟

وينفرد بورود نقض رابع عليه وهو التزامه بالتلفيق في باب العدة فيما لو وقع الطلاق في أثناء الشهر؛ حيث ذكر في المسألة العاشرة من أقسام العدد احتمالات أربعة، واختار الثاني وهو أن يجعل الشهر الأوّل عددياً بإكماله من الرابع ثلاثين.(3)

فإن الشهر مثل اليوم اسم لقطعة خاصة من الزمان، فإن ألغيت الخصوصية ففي الاثنين، وإلا ففيهما.

ثانياً: أن ما أفاده (قدس سره) فيما لو ألغيت الخصوصية، وأخذ بمقدار اليوم، من الالتزام بالاكتفاء بالتلفيق من النهار والليل، فيه:

أنه فرق بين الأمرين؛ فإنا إنما رفعنا اليد عن خصوصية القطعة الخاصة من الزمان لأجل القرينة العامة؛ فإن الأحكام علّقت على عنوان اليوم، ثلاثة أو عشرة أو ثلاثين، ووقوع نية الإقامة والتردد والحيض وغيرها في أول اليوم بالدقة في غاية الندرة فنلتزم بكفاية التلفيق، وأما خصوصية النهارية - عندما نلتزم بمقدار اليوم - فلا دليل على رفع اليد عنها.

وبعبارة أخرى: إن الموضوع المأخوذ في جميع الأدلة - بعد ملاحظة القرينة - هو

ص: 420


1- العروة الوثقى 3/478، الثاني من قواطع السفر.
2- العروة الوثقى 3/505، الثالث من قواطع السفر.
3- العروة الوثقى 6/89.

مقدار اليوم، سواء انطبق على اليوم الحقيقي، كأن وقع الحدث مقارناً لمبدأ اليوم، أو تحقق بالملفّق من نهارين، وأما التلفيق بغير المجانس، كأن يحسب نصف نهار ونصف ليل، فهذا خارج عن كونه نهاراً ويوماً، فالقرينة العامة إنما اقتضت الحمل على النهار الملفّق، لا على الملفّق من النهار والليل، وقد وقع الخلط بين هذين.

ثالثاً: أنه (قدس سره) قال فيما لو وقع العقد في أثناء النهار: «فإن كان ما مضى منه قليلاً بحيث يصدق اليوم الكامل على باقيه، فيحسب ذلك اليوم يوماً واحداً»(1).

ويرد عليه: - مضافاً إلى النقض بالالتزام حينئذ بذلك في المد والكر، وجميع أسماء الأوزان والمقادير والشهور المأخوذة موضوعاً في الأحكام، ولا خصوصية لليوم - أن القاعدة في الفقه قائمة على أن تؤخذ المفاهيم من العرف، واما تطبيق المفهوم على مصاديقه بالدقة العقلية، فمفهوم اليوم هو القطعة الخاصة من الزمان، المبتدأة من طلوع الفجر أو طلوع الشمس والمنتهية بغروبها، ومع نقصانها عن هذا الحد ولو بمقدار يسير تخرج عن كونها يوماً كاملاً، والتسامح في ذلك تسامح في تطبيق المفهوم، وهو غير مغتفر إلّا على قول من يقبل التسامح العرفي في التطبيقات، وهو مبنى ضعيف.

وحاصل الكلام: أن ما أفاده المشهور من كفاية التلفيق في ثلاثة أيام الخيار تام، لا إشكال فيه، وما أفاده العلمان في محل المنع»(2).

فرع: لو وقع البيع بين الطلوعين أو في أوائل طلوع الشمس

هل الخيار في هذا الفرع ينتهي بغروب اليوم الثالث أو يستمر إلى وقت حصوله من اليوم الرابع ويدخل فيه الليلة الثالثة؟

ص: 421


1- حاشية السيّد على المكاسب 2/442.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(238-234).

والمسألة تبتني على ما هو المختار في تعريف اليوم وما هو الاختيار في التلفيق وعدمه.

والمحتملات الثبوتية في تعريف اليوم أربعة:

1- إنّ اليوم حقيقة في ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس - كما هو المختار- .

ففي هذا الاحتمال بناءً على التلفيق يستمر الخيار إلى نفس الوقت في اليوم الرابع ويدخل فيه الليلة الثالثة.

وبناءً على عدم التلفيق يستمر الخيار إلى غروب يوم الرابع.

2- إنّ اليوم حقيقة في ما بين طلوع الشمس وغروبها:

فلو وقع البيع بين الطلوعين ينتهى الخيار بغروب اليوم الثالث على المبنيين - التلفيق وعدمه - .

ولو وقع بعد طلوع الشمس بساعات، بناءً على التلفيق ينتهي بوصول تلك الساعة من اليوم الرابع وبناءً على عدمه ينتهي إلى غروب اليوم الرابع.

3- اليوم مشترك لفظي بين الاحتمالين السابقين: والمشترك اللفظي في تعيينه يحتاج إلى القرينة فلو كانت موجودة يرجع القول إلى الاحتمالين السابقين.

ومع عدمها يصير دليل الخيار مجملاً مردّداً بين الأقل والأكثر، فنأخذ بالأقل المتيقن وبالنسبة إلى الأكثر المجمل يرجع إلى عموم ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1) فينتهى الخيار بغروب اليوم الثالث بناءً على المبنيين أي التلفيق وعدمه.

خلافاً للمحقّ الرشتي(2) (رحمة الله) حيث ذهب إلى استصحاب حكم المخصص في

ص: 422


1- سورة المائدة /1.
2- فقه الإمامية - الخيارات /252 و 253.

فرض الإجمال وهو منقوض بحكومة العام وهو دليل لفظي على الاستصحاب وهو أصل عملي.

ولو وقع البيع بعد طلوع الشمس بساعات ينتهي إلى نفس الساعة من اليوم الرابع وبناءً على عدمه ينتهي إلى غروب اليوم الرابع كما في المحتمل الثاني.

«وأمّا الاشتراك المعنوي فهو غير معقول؛ إذ يرد عليه ما يرد على التخيير بين الأقل والأكثر، فكما أنه لا يعقل التخيير بينهما؛ لتحقق الواجب بالأقل دائماً، فكذلك لا يمكن الوضع لهما بنحو الاشتراك؛ لتحققه بالأقل دائماً»(1).

4- الاحتمال الأوّل هو اليوم الشرعي والثاني هو اليوم العرفي، فحينئذ لابدّ من الأخذ بالتعريف الشرعي ويجري ما ذكرته في الاحتمال الأوّل بعينه، وترك التعريف العرفي والله سبحانه هو العالم.

ص: 423


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/239.
مسألة: مسقطات خيار الحيوان
اشارة

قال الشيخ الأعظم: «يسقط هذا الخيار بأمور:

أحدها [وثانيها]

اشتراط سقوطه في العقد، ولو شرط سقوط بعضه، فقد صرّح بعضٌ بالصحة، ولا بأس به»(1).

أقول: مراده من البعض المصرِّح باشتراط التبعيض هو سيّد المفتاح(2)، و «قد مرّ الكلام في نفوذ هذا الشرط وعدم نفوذه في خيار المجلس بنحو التفصيل، فراجع.

نعم، يقع الكلام في جهة واحدة وهي ما إذا شرط سقوط بعض الخيار.

وقد صرح بعض بصحته. وقال الشيخ: «لا بأس به»(3). ولكن المحقّق الخراساني(4) (رحمة الله) استشكل فيه على إطلاقه وذهب إلى صحته على تقدير وعدم صحته على تقدير آخر.

ص: 424


1- المكاسب 5/97.
2- مفتاح الکرامة 14/187.
3- المكاسب 5/97.
4- حاشية المكاسب /174.

وتوضيح ذلك: أنه تارة: يلتزم بتعدد الحقوق بتعدد الآنات، فالمجعول حقوق خيارية متعددة بعدد الآنات. وأخرى: يلتزم بأن المجعول حق واحد مستمر إلى انتهاء اليوم الثالث.

فعلى الأوّل، لا محذور في اشتراط سقوط الحق في بعض تلك الآنات، سواء كانت من المبدأ أو المنتهى أو الوسط.

وأما على الثاني، فإنما يصح شرط سقوطه في اليوم الأوّل أو الثالث فيبدأ في الفرض الأوّل من اليوم الثاني. وينتهي في الفرض الثاني بنهاية اليوم الثاني لعدم منافاته للوحدة والاستمرار. ولا يصح شرط سقوطه في اليوم الثاني فقط لإستلزامه تعدد الحق لتحقق الانفصال المساوق للتعدد في الأمور التدريجية، وهو ينافي ما دل على أنه حق واحد مستمر، فتدبر.

أقول: - بعد فرض أن حق الخيار واحد مستمر لا متعدد فإنه خلاف الظاهر - أن الأيام الثلاثة... .

تارة: تكون ظرفاً لمتعلق الحق وهو فسخ العقد وحلّه فيثبت الحق في الأيام الثلاثة بالملازمة العقلية كما لا يخفى.

وأخرى: تكون ظرفاً لنفس الحق المجعول، وبالملازمة العقلية أيضاً يثبت الفسخ فيها لإمتناع تقدم متعلّق الحق على نفس الحق.

والظاهر هو الثاني لظهور النصوص في أن الخيار والشرط في ثلاثة أيام لا أن فسخ العقد الذي هو متعلّق الحق في ثلاثة أيام.

وعلى كلا التقديرين بعد أن عرفنا أن لدينا أمرين الحق وهو الخيار ومتعلقه وهو فسخ العقد [أ] فتارة يكون الشرط هو سقوط الحق في اليوم الثاني. [ب] وأخرى يكون الشرط هو عدم تحقق الفسخ في اليوم الثاني. وبعبارة أخرى يكون الشرط عدم التعلق بالفسخ في اليوم الثاني فهو سقوط للحق لكن بمعنى سقوطه عن تعلقه

ص: 425

بالفسخ في ذلك اليوم وإن كان ثابتاً في نفسه.

ومقتضى الشرط الأوّل، [أ] هو سقوط الحق في اليوم الثاني وهو يتنافى مع وحدته واستمراره.

[ب] أما الشرط الثاني، فلا يقتضي سقوط الحق، بل هو ثابت في اليوم الثاني ولو بلحاظ الفسخ في اليوم الثالث - بنحو الواجب المعلق - . فحق الفسخ ثابت في جميع الآنات بلا انقطاع، فيحافظ على وحدته واستمراره وان لم يقع الفسخ في بعض تلك الآنات. ويترتب على ثبوته مع عدم ثبوت الفسخ سائر آثاره من قابليته للاسقاط والمبادلة.

إذن، فإشكال المحقق الخراساني (رحمة الله) إنما يتم في صورة كون متعلّق الاشتراط سقوط الحق بالنحو الأوّل ولا يتم في صورة كونه سقوط الحق بالنحو الثاني الراجع إلى سقوط تعلقه بالفسخ في اليوم الثاني.

وقد بنى المحقّق الاصفهاني(1) في مقام مناقشة الخراساني رحمهما الله على أن الأيام قيد لحلّ العقد.

مع أنك عرفت أنه خلاف ظاهر نصوص الباب.

وعلى أي التقديرين لابدّ من بناء المناقشة على الترديد الذي ذكرناه»(2).

الثالث: التصرف
اشارة

التصرف في الحيوان مسقط لخيار الحيوان إجماعاً كما في التذكرة(3) وبلا خلاف كما في الغنية(4) و «لا خلاف ولا إشكال في إسقاطه في الجملة، وإنما الكلام في تحديد

ص: 426


1- حاشية المكاسب 4/166، رقم 95.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(214-212).
3- تذكرة الفقهاء 11/35.
4- غنية النزوع /219.

المراد منه، وحقّ البحث أن يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في مقتضى القاعدة

لا شبهة في كون الإسقاط من جملة الإيقاعات، والإيقاعات أمور إنشائية، كالنذر والعهد والشرط والطلاق، والفقهاء والأصوليون وإن اختلفوا في معنى الإنشاء على أقوال:

1- ما اختاره المشهور من أنه عبارة عن إيجاد العنوان الإنشائي في وعاء الاعتبار بالتسبيب بالقول أو بالفعل.

2- أنه الاعتبار المبرز بالقول أو بالفعل.

3- أنه أيجاد المنشأ بوجود لفظي.

إلّا أنهم يتفقون على عدم تحقق الإنشاء مطلقاً - عقداً أم إيقاعاً - إلّا بأمرين:

الأوّل: أن يكون ما به الإنشاء - قولاً أو فعلاً - صالحاً له.

الثاني: أن يقصد به الإنشاء.

وعليه فمقتضى القاعدة الأوّلية وقوع كل عنوان من العقود والإيقاعات بالفعل كوقوعه بالقول فيما وجد فيه الشرطان، فيشترط في التصرف المسقط هذان الأمران، فلا يكون مسقطاً إلّا إذا كان فعلاً من الأفعال الصالحة للدلالة على الإسقاط عرفاً، وكان المتصرّف قاصداً له، وبدون ذلك لا يتحقق الإسقاط، إلّا أن يقوم دليل تعبّدي على تحققه.

والحاصل: فإن الفعل كالقول في تحقق الإنشاء به إن اشتمل على الشرطين المتقدمين، إلّا أن يقوم دليل في مورد خاص على اختصاص الإنشاء بالقول، أو على تحقق الإنشاء بمطلق الفعل.

ص: 427

رأي المحقّق النائيني في خروج بعض الأفراد عن القاعدة ورده

وذهب المحقّق النائيني (قدس سره) إلى أن خروج بعض العقود كالصلح والضمان والحوالة، وبعض الإيقاعات كالطلاق والعتق من تحت القاعدة الأوّلية ليس للتعبد الشرعي، وإنما لعدم وجود ما يحقق هذه العناوين من الأفعال عرفاً، أي لعدم كون الفعل آلة عرفية لإيجادها.(1)

وفيه: إشكال، بل منع؛ فإن الأمر الإنشائي والاعتباري مطلقاً يقبل التحقق بالقول وبالفعل، والفعل كما له القابلية لأن يُنشأ به البيع والإجارة عرفاً، فله القابلية لإنشاء الصلح، فكما أنه يمكن حصول تمليك العين أو المنفعة بالمعاطاة في البيع والإجارة، فكذلك يمكن حصوله بها في الصلح، كما لو وقع الاختلاف بينهما فتسالما على ملكية الدار، فيعطيه إياها قاصداً بذلك التمليك صلحاً، بل يجري ذلك حتّى في النكاح، فلو بني على إنشاء الزوجية بين الرجل والمرأة بوضع الخاتم في يد الزوجة لما كان في ذلك محذور عرفاً، ولهذا ورد: «لكل قوم نكاح»(2)؛ فإنه يعمُّ القول والفعل؛ والوجه في كل ذلك: أن الأمر عند العرف العام لا يدور مدار اللفظ والصيغة الخاصة، بل يحصل بكل ما يدل عليه، ولكن المانع من ذلك هو التعبد الشرعي؛ إذ اعتبر اللفظ في إنشاء النكاح.

وهكذا الحال في الإيقاعات كالعتق والطلاق؛ فإنه يمكن إنشاؤهما بالفعل عرفاً إلّا أن الشارع اشترط اللفظ الخاص في وقوعهما.

والحاصل: أن الأصل الأولي في العقود والإيقاعات مطلقاً هو قابليتها للتحقق بالقول وبالفعل، ولكن ليس كل قول، ولا كل فعل، بل ما فيه آلية عرفية للإنشاء بهما،

ص: 428


1- منية الطالب 3/67.
2- جامع أحاديث الشيعة 21/164، ح1، الباب 74 من أبواب نكاح العبيد.

إلّا إذا قام الدليل التعبدي على الاختصاص بالقول، والردع عن الفعل.

والنتيجة من ذلك: أن مقتضى القاعدة في ما نحن فيه هو سقوط الخيار بالتصرف الصالح عرفاً لإبراز الالتزام بالبيع وإمضائه، مع قصده لذلك، وأما التصرف الذي ليست فيه تلك القابلية، أو لم يقصد به الإمضاء، فالقاعدة على عدم سقوط الخيار به.

المقام الثاني: في المستفاد من الروايات

وردت في المقام ثلاث روايات:

الرواية الأولى: صحيحة علي بن رئاب، عن أبي عبدالله (قدس سره) قال: الشرط في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري، اشترط أم لم يشترط، فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً قبل الثلاثة الأيام فذلك رضا منه، فلا شرط، قيل له: وما الحدث؟ قال: إن لامس أو قبّل أو نظر منها إلى ما كان يحرم عليه قبل الشراء...، الحديث.(1)

فقه الحديث

ولابدّ من التأمل في مفردات الحديث لاستكشاف ما أفاده الإمام (علیه السلام)، فنقول: إن الحديث اشتمل على نقاط ثلاث:

النقطة الأولى: بيان خيار الحيوان، فقال (علیه السلام) : «الشرط في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري، اشترط أم لم يشترط»، والمراد من الشرط هو الخيار، سواء اشتراطه المشتري لنفسه أو لا، فيستفاد من ذلك أن خيار الحيوان شرط شرعي، لا معاملي؛ وذلك لأن الخيارات على أقسام ثلاثة:

الأوّل: الخيار الثابت بالشرط الارتكازي العقلائي، وعمل الشارع فيه هو

ص: 429


1- وسائل الشيعة 18/13، ح1، الباب 4 من أبواب الخيار.

الإمضاء ليس إلّا، كخيار الغبن والعيب؛ فإن البناء العقلائي قائم على تساوي طرفي المعاملة في المالية، وعلى سلامة العوضين، فإذا كان في المعاملة غبن فاحش، أو كان في أحد العوضين عيب، فبناء العقلاء على ثبوت السلطنة على الفسخ للمغبون، ولمن أخذ المعيب.

الثاني: الخيار الثابت بالشرط الشخصي، ويسمى خيار الشرط، وله موردان:

1- أن يشترط أحد المتعاملين فعلاً أو وصفاً، فيتخلف الشرط فيثبت الخيار للمشروط له.

2- أن يشترط الخيار لنفسه، فيكون متعلَّق الشرط هو نفس الخيار.

الثالث: الخيار الثابت بحكم الشارع، وقد عبّرت عنه الرواية بالشرط، وهو خيار المجلس والحيوان.

النقطة الثانية: بيان المسقط لهذا الخيار، فقال (علیه السلام) : «فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً قبل الثلاثة الأيام فذلك رضا منه، فلا شرط».

والجملة شرطية تشتمل على شرط، وهو «أحدث حدثاً»، وجزاء، وهو إما «فذلك رضا منه»، أو «فلا شرط»، والجملة الأولى تمهيد له، على خلاف سيأتي، والملاحظ أن الإمام (علیه السلام)

جعل المسقط إحداث الحدث، بينما الموجود في كلمات الفقهاء هو التصرف، فلابدّ من ملاحظة النسبة بينهما، فهل هما بمعنى واحد أو متغايران؟ وسيأتي بيان ذلك.

النطقة الثالثة: إن المرجع في تحديد مفهوم الحدث هو العرف العام، كما هو مقتضى القاعدة في موضوعات الأدلة الشرعية، إلّا أن السائل سأل الإمام (علیه السلام) بقوله: «وما الحدث؟»، فيحتمل في سؤاله احتمالان:

الأوّل: أنه يكشف عن وجود شبهة مفهومية في معنى الحدث في المبيع عند العرف؛ فإن بعض المصاديق وإن كانت داخلة فيه بلا إشكال، كما لو أنعل الدابة أو

ص: 430

أخذ من حافرها، أو هدم جزءاً من الدار ثمّ بناه، أو اشترى القماش وأعطاه الخياط فخاطه، إلّا أن بعض الأمور محل شك كالركوب على الدابة مسافة.

الثاني: أنه يريد معرفة مطابقة المعنى الشرعي للحدث مع المعنى العرفي وعدم مطابقته، فهل كلّ ما يسميه العرف إحداث حدث فهو كذلك عند الشارع، وكل ما لايراه كذلك فلا يراه الشارع، أم لا؟ ومن جواب الإمام (علیه السلام) بقوله: «إن لامس أو قبّل أو نظر منها إلى ما كان يحرم عليه قبل الشراء» عرفنا أن المعنى الشرعي لإحداث الحديث أوسع دائرة منه عند العرف؛ فإن العرف لا يرى «النظر» من أفراد أحداث الحدث.

الرواية الثاني: [صحيحة] محمّد بن الحسن الصفار قال: كتبت إلى أبي محمّد (علیه السلام) : في الرجل اشترى من رجل دابة فأحدث فيها حدثاً، من أخذ الحافر، أو أنعلها، أو ركب ظهرها فراسخ، أ له أن يردها في الثلاثة الأيام التي له فيها الخيار، بعد الحدث الذي يحدث فيها، أو الركوب الذي يركبها فراسخ؟ فوقع (علیه السلام) : «إذا أحدث فيها حدثاً فقد وجب الشراء إن شاء الله»(1).

فقه الحديث

ظاهر العطف ب- «أو» في سؤال الراوي عندما قال: «بعد الحدث الذي يحدث فيها، أو الركوب الذي يركبها فراسخ»، أن الركوب قسيم لإحداث الحدث وليس منه، فينحصر المسقط - بمقتضى جواب الإمام (علیه السلام) : «إذا أحدث فيها حدثاً فقد وجب الشراء إن شاء الله» - بإحداث الحدث، إلّا أن يُدَّعى أن الركوب مصداق منه، وظاهر الرواية على خلافه.

والفرق بين الروايتين من جهتين:

ص: 431


1- وسائل الشيعة 18/13، ح2، الباب 4 من أبواب الخيار.

الجهة الأولى: إن الموضوع في هذه الرواية في كلام الإمام (علیه السلام) إحداث الحدث بدون التعرض لمصاديقه، وأما في الرواية السابقة فقد بيّن (علیه السلام) جملة من مصاديقه بقوله (علیه السلام) : «إن لامس أو قبّل أو نظر منها إلى ما كان يحرم عليه قبل الشراء».

الجهة الثانية: إن الرواية السابقة قد اشتملت على «فذلك رضا منه، فلا شرط»، دون هذه الرواية.

ولهذه الجهة كانت الرواية السابقة محل إشكال من حيث الدلالة كما سيأتي، بخلاف هذه الرواية فلا إشكال في دلالتها إلّا من جهة شمول إحداث الحدث للركوب وعدمه؛ فإن الإمام (علیه السلام) لم يتعرض لحكم الركوب، إلّا أن يقال بأنه داخل في مفهوم «إذا أحدث فيها حدثاً فقد وجب الشراء»؛ فإن مفهومه: إن لم يحدث حدثاً لم يجب الشراء، وعدم الحدث أعم من ركوب الفراسخ، فلا يسقط الخيار بفعله.

ومقتضى الصناعة الفنية خروج الركوب فراسخ عن معنى الحدث؛ بدلالة عطفه عليه ب- «أو»، فيدخل في مفهوم الجملة الشرطية: «إذا أحدث حدثاً»، فلا يؤثر في سقوط الخيار.

الرواية الثالثة: [صحيحة] علي بن رئاب قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن رجل اشترى جارية لمن الخيار؟ فقال: «الخيار لمن اشترى»... إلى أن قال. قلت له: أرأيت إن قبّلها المشتري أو لامس؟ قال: فقال: «إذا قبّل أو لامس أو نظر منها إلى ما يحرم على غيره، فقد انقضى الشرط ولزمته»(1).

والسؤال فيها عن سقوط الخيار بالقيام بأمور خاصة، فأجاب الإمام (علیه السلام) بسقوطه بالأمور الثلاثة المذكورة، والملاحظ أن ما في ذيل الرواية الأولى بيان لما في صدرها، وأن ما في الرواية الثالثة عين ما في ذيل الرواية الأولى، فهما متفقتان على

ص: 432


1- وسائل الشيعة 18/13، ح3، الباب 4 من أبواب الخيار.

سقوط الخيار بالقيام بأحد هذه الأمور الثلاثة، ولا يخفى أن التقبيل، والنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه لغير المالك ليسا من مصاديق إحداث الحدث عرفاً، ولكنهما مسقطان للخيار تعبّداً، من باب الحكومة الموسعة لدائرة موضوع الحدث، وأما اللمس فإن أريد به الكناية عن الجماع كما في قوله تعالى: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾(1) فهو حدث عرفاً وإلّا فلا.

وكيف كان، فهل الأمران الآخران يراد بهما خصوصهما، فيقتصر عليهما، أو هما مثالان لبيان مصداق ما لايجوز القيام به لغير المالك من دون إذنه، فتلغى الخصوصية؟

وجهان:

مقتضى مناسبة الحكم والموضوع هو التعميم؛ إذ يمكن التعدّي من «النظر إلى ما كان يحرم عليه قبل الشراء» إلى كل ما يحرم عليه قبله، ولكن مع الأخذ بهذا لابدّ من الالتزام بالتخصيص من جهة أخرى؛ إذ لازم التعمييم إلى كل ما لا يجوز لغير المالك هو سقوط الخيار عند كل تصرف؛ لأنه لا يجوز لغير المالك، ولازمه أن ليس للمشتري التصرف في الحيوان حتّى ولو كان لاستخبار حاله، فيلزم انتفاء الحكمة من جعل الخيار؛ فإنه إنما جعل لمعرفة حال الحيوان في المدة المضروبة.

وأما إذا اقتصر على ما في النص فلا يلزم هذا التخصيص؛ إذ المسقط إنما هو ما يطلق عليه عرفاً إحداث حدث في الحيوان، وما هو مذكور في النص، وليس في ذلك أي محذور.

والأقوى الثاني؛ إذ يلزم على الأوّل إما انتفاء الحكمة من جعل الخيار، أو الالتزام بالتخصيص، ولا يمكن المصير إلى الأوّل، ولا دليل على الثاني.

ومقتضى القاعدة عند التردد ودوران الأمر بين الوجهين هو الجمود على ما في

ص: 433


1- سورة النساء /43.

النص؛ والوجه في ذلك: أن مقتضى إطلاق دليل خيار الحيوان هو ثبوت الخيار لصاحب الحيوان ثلاثة أيام، أحدث المشتري فيه حدثاً أو لم يحدث، نظر إلى ما يحرم النظر إليه قبل الشراء أو لم ينظر، وبعد ما ورد المخصص وكان مجملاً مردداً بين الأقل والأكثر اقتصر في التخصيص على المتيقن كما هي القاعدة، والمتيقن هو ما يعدُّ إحداث حدث عند العرف، وما جعل حدثاً تعبداً ممّا هو مذكور في النص، وأما في غير ذلك فيتمسك بإطلاق دليل الخيار.

بل يقال بنحو عام: إن كل المفاهيم حتّى الواضحة منها - كمفهوم الماء - لا تخلو من شبهة مفهومية كما أفاده الشيخ(1) (قدس سره)، فيشك في دخول بعض أفرادها وعدمه، ومن جملة تلك المفاهيم مفهوم «إحداث الحدث»، فبعض الأفراد واضحة الدخول فيه كإنعال الدابة، وهدم الجدار، وتعمير الدار، وبعضها مشكوك الدخول؛ إذ لم يصل إلى ذلك الحدّ، ومقتضى القاعدة في المورد المشكوك هو التمسك بإطلاق دليل الخيار؛ لإجمال المخصص وتردده بين الأقل والأكثر، فيقتصر في التخصيص على القدر المتيقن.

أمران لابد من بيانهما
اشارة

وهنا أمران لابدّ من بيانهما؛ لأجل اتضاح الاستدلال بالروايات، وما يستفاد منها:

الأمر الأوّل: في النسبة بين إحداث الحدث والتصرف

إن المستفاد من الروايات كما سبق هو أن المسقط للخيار إما إحداث الحدث العرفي، أو أمور يجمعها ما لا يجوز لغير المالك إلّا بإذنه، ولا ذكر فيها لعنوان «التصرف» المذكور في كلمات الفقهاء، فلابدّ من ملاحظة النسبة بين ما في الروايات

ص: 434


1- كتاب الطهارة 1/67.

وما في الكلمات.

فإن لاحظنا صدر [صحيحة علي بن رئاب](1) خاصة فالمراد من الحدث هو الحدث العرفي، وهو أخص مطلقاً من التصرف؛ فإن كل إحداث حدث في المبيع فهو تصرف فيه، وليس كل تصرف فيه فهو إحداث حدث فيه، فالقراءة في الكتاب، أو الجلوس على الفراش تصرف فيه بدون أن يتعنون بإحداث حدث فيه.

وإن لاحظنا مجموع ما في الصدر والذيل كان المراد من إحداث الحدث أعم من الحدث العرفي والشرعي، والنسبة بينه وبين التصرف حينئذ نسبة العموم من وجه؛ فيجتمعان في إنعال الدابة، ويفترق التصرف عن الحدث بركوبها أمتاراً قليلة؛ فإنه تصرف وليس بإحداث حدث عرفاً ولا شرعاً، ويفترق إحداث الحدث عن التصرف بالنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه من الجارية إلّا إلى مالكها أو يكون بإذنه؛ فإنه إحداث حدث شرعاً وليس بتصرف.

فإحداث الحدث لا يساوي التصرف على كلا التقديرين، وبما أنه لابدّ من ملاحظة ما في الذيل، فالنسبة بينهما نسبة العموم من وجه، فجعل المسقط للخيار هو عنوان التصرف، بلا وجه.

الأمر الثاني: في بيان الجزاء في صحيحة ابن رئاب
اشارة

ورد في صحيحة ابن رئاب: «فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً قبل الثلاثة الأيام فذلك رضا منه، فلا شرط»(2)، واختلف في جزاء الشرط، هل هو «فذلك رضا منه» أو «فلا شرط»، واختلف في المراد منه، ومِنْ ثَمَّ اختلف في المسقط للخيار على أقوال ثلاثة:

ص: 435


1- وسائل الشيعة 18/13، ح1.
2- وسائل الشيعة 18/13، ح1.

القول الأوّل: إن المسقط هو التصرف مطلقاً، سواء أكان كاشفاً عن الرضا بالبيع والالتزام به أم لا، فيسقط الخيار ولو قطع بأن المتصرف لم يرض أيام الخيار بالمعاملة وإنفاذها، فتمام الموضوع هو التصرف.

القول الثاني: إن المسقط هو التصرف الكاشف نوعاً عن الالتزام والرضا بالبيع، فلو قطع بعدم رضاه لم يكن التصرف مسقطاً، ولو شك في رضاه كان التصرف مسقطاً.

القول الثالث: إن المسقط هو التصرف الكاشف شخصاً عن رضا المتصرف، فلو شك في الرضا لم يكن التصرف مسقطاً، فتمام الموضوع هو الرضا الشخصي للمتصرف.

المحتملات في الرواية

والاحتمالات في تحديد الجزاء خمسة، ذكر الشيخ (قدس سره) منها أربعة(1):

الاحتمال الأوّل: أن الجزاء هو: «فذلك رضا منه»، والمراد من الرضا هو الرضا بالعقد، والالتزام ببقائه، لا الرضا بأصل الملك؛ فإنه موجود من أوّل وقوع العقد، فيكون التصرف مطلقاً رضاً بالعقد بحكم الشارع، فيسقط الخيار به؛ إذ يترتب عليه ما يترتب على الرضا.

وبناء عليه لابدّ من الالتزام بالتعبد الشرعي بجعل التصرف مسقطاً للخيار، التزم المتصرّف بالبيع أو لم يتلزم؛ فإن التصرف في نفسه ليس التزاماً بالبيع، بل بينهما عموم من وجه؛ إذ يمكن الالتزام بالبيع بدون التصرف، ويمكن حصول التصرف بدون الالتزام بالبيع، ويجتمعان في ما لو التزم بالبيع بنفس التصرف.(2)

ص: 436


1- المكاسب 5/(102-101).
2- نتيجته القول الأوّل.

الاحتمال الثاني: أن الجزاء هو «فلا شرط»، وجملة «فذلك رضا منه» توطئة له من باب بيان الحكمة من سقوط الخيار، وليست علّة حقيقية، فيكون إشارة إلى أن الحكمة في سقوط الخيار بالتصرف دلالته غالباً على الرضا، وكشفه عن الالتزام بالبيع غالباً، والفرق بين الحكمة والعلة من جهات، والجهة المربوطة بمحل البحث أن الحكمة أخص دائماً من الحكم، ولا يدور الحكم مدار وجودها.

والنتيجة - بناء على هذا الاحتمال - كالنتيجة في الأوّل؛ فإن المدلول حينئذ أنه إن أحدث فيه حدثاً فلا شرط له مطلقاً، رضي بالبيع أو لم يرض؛ فإن التصرف يكشف غالباً عن الرضا والالتزام بالبيع، وبناء عليه لابدّ من الالتزام بكون التصرف مسقطاً تعبداً.(1)

الاحتمال الثالث: أن الجزاء هو «فلا شرط»، وجملة «فذلك رضا منه» توطئة لبيان العلة من الجزاء إلّا أن الرضا نوعي لا شخصي، فيكون التصرف المسقط للخيار هو التصرف الكاشف نوعاً عن الالتزام بالعقد؛ إذ لم يجعل إحداث الحدث - بما هو - مسقطاً، بل بما هو رضا بالبيع، فيدور سقوط الخيار مدار وجود التصرف الكاشف نوعاً عن الالتزام بالعقد، فيفترق عن الاحتمالين الأوّلين؛ فإن المستفاد منهما أن كل تصرف مسقط ولو لم يكشف عن الرضا بالبيع.

ويترتب عليه نتيجتان:

النتيجة الأولى: أنه لو شك - بعد التصرف - في حصول الرضا الشخصي بالبيع كان هذا التصرف مسقطاً للخيار؛ لكونه أمارة نوعية على الرضا، فيؤخذ بها إلّا في حال القطع بالخلاف، كما هو شأن جميع الأمارات.

النتيجة الثانية: أنه لما كان المدار على الكشف النوعي للتصرف، وقد جعل علة

ص: 437


1- نتيجته القول الأوّل.

للسقوط، فالعلة تعمم وتخصص، فهي من جهة تخصص التصرف بالكاشف نوعاً عن الرضا والالتزام بالبيع، ومن جهة أخرى تعمم الحكم لغير التصرف مما يكشف نوعاً عن الرضا بالبيع، كجعل المبيع في معرض البيع.(1)

الاحتمال الرابع: أن الجزاء هو «فلا شرط»، وجملة «فذلك رضا منه» توطئة لبيان العلة من الجزاء إلّا أن الرضا شخصي لا نوعي، بمعنى أن كل تصرف كاشف عن الرضا الشخصي بالمعامله فهو مسقط للخيار، لا مطلقاً، فيكون موضوع الحكم في الحقيقة هو نفس الرضا الفعلي، فلابدّ من القطع بثبوته، ولو لم يثبت - كأن شك فيه - لم يسقط الخيار.(2)

مختار الشيخ
اشارة

قال الشيخ (قدس سره) : بأن الاحتمالين الأوّلين وإن كانا موافقين لإطلاق سائر الأخبار، وإطلاقات بعض كلمات الفقهاء، إلّا أنهما بعيدان عن ظاهر الخبر، المستفاد منه عدم كون التصرف - بما هو - مسقطاً، بل بما هو كاشف عن الرضا، مع كونهما مخالفين لأكثر كلماتهم؛ فإن الظاهر منها عدم السقوط بالتصرف للاختبار والحفظ، ويؤيده حكم بعضهم بكفاية الدال على الرضا وإن لم يعدّ تصرّفاً، كتقبيل الجارية للمشتري، ويؤيده أيضاً حكمهم بأن كل تصرّف يكون إجازة من المشتري في المبيع يكون فسخاً من البائع(3)، فلو كان التصرّف مسقطاً تعبّدياً عندهم من جهة النص لم

ص: 438


1- نتيجته القول الثاني.
2- نتيجته القول الثالث.
3- «توضيحه: إنّهم قالوا في أحكام الخيار بأنّ كلّ ما يُنشأ به فسخُ العقد الخياري فهو صالح لإنشاء إمضائه، قال العلّامة (قدس سره) : «كلّ ما جعلناه فسخاً من البائع إذا فعله، يكون إجازةً من المشتري لو أوقعه»، [تذكرة الفقهاء 11/188]. فإذا كان لهما خيار المجلس أو الشرط، فإنّ تصرّف البائع في الثمن فقد ألزم العقد من قِبله، وإن تصرّف في المثمن فقد فسخه، والمشتري بالعكس، فتصرّفه في الثمن فسخ وفي المعوّض إجازة وإمضاء. وإن كان الخيار لأحدهما، كما إذا كان للبائع خيار الشرط، أو كان للمشتري خاصّة خيار الحيوان، فالتصرّف في المنتقل عنه فسخ وفي المنتقل إليه إجازة. هذا ما أفادوه». [هدى الطالب 10/148 و 149].

يكن وجه للتعدّي عن كونه إجازة إلى كونه فسخاً.

وعليه فيدور الأمر بين الاحتمالين الآخرين، والاحتمال الرابع وإن كان هو الأظهر من بين المحتملات من حيث اللفظ؛ لقول الإمام (علیه السلام) : «فذلك رضا منه»، فكلمة «الرضا» تمنع من الظهور في مطلق التصرّف، وكلمة «منه» ظاهرة في الرضا الشخصي لا النوعي، إلّا أن المانع من الأخذ به قيام الإجماع على عدم إناطة الحكم بالرضا الشخصي الفعلي بلزوم العقد، فيتعين إرادة المعنى الثالث.(1)

ثمّ في آخر البحث استشكل في ذلك أيضاً؛ من حيث إن أكثر أمثلة التصرف المذكورة في النصوص والفتاوى واقعة غالباً مع الغفلة أو التردد أو العزم على الفسخ مطلقاً، أو إذا اطّلع على ما يوجب زهده فيه، فهي غير دالة في نفسها عرفاً على الرضا.(2)

ثمّ انتهى إلى كون الجمع به في غاية الإشكال(3)، وبعد اللتيا والتي لم يرجح شيئاً من المحتملات.

إشكال المحقق الرشتي على الشيخ وردّه

وأورد عليه بعض أعاظم تلامذته (قدس سره) بقوله: «بل الظاهر من الرواية بمقتضى سياقها كون ذلك حكمة لا علة، كما اعترف غير واحد، كما يرشد إليه تقدمه على قوله:

ص: 439


1- المكاسب 5/(104-102).
2- المكاسب 5/(108-107).
3- المكاسب 5/110.

«فلا شرط»؛ لبعد تقدم العلة على المعلول»(1).

وكأنّه ناظر إلى ما هو المتعارف في بيان الحكم المعلّل، من ذكر الحكم في الأوّل، ثمّ تعقيبه بذكر علته، مثل: «لا تشرب الخمر لأنه مسكر».

ويجاب عنه: بأن العلة وإن ذكرت متأخرة عن الحكم في موارد متعددة، كالمثال السابق، ومثل: «لا تأكل الرمان لأنّه حامض»، ولكنّه لا يوجب استبعاد التقديم؛ لموافقته الاستعمالات العرفية، فيقال: «هذا حامض فلا تأكله»، و «هذا نجس فلا تشربه»، و «خمر فلا تشربه»، و «حرام فلا تتصرف فيه» وهكذا...، بل لو لم نقل بأن الغالب في الاستعمالات العرفية تقديم العلة، لم تكن دعوى شيوعه فيها مجازفة.

إشكال المحقّق السيّد الخوئي على الشيخ ودفعه

وأورد المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) على الشيخ (قدس سره) في ما قوّاه من الوجه الثالث بقوله: «فإنك قد عرفت أن نوع الناس لا يلتفتون إلى الخيار الحيوان، فكيف يكون تصرفهم كاشفاً عن الرضا النوعي، بحيث يكون المناط في كون التصرف مسقطاً للخيار هو الرضا النوعي؛ فإنه لا وجه لدعوى أن في أغلب الناس يكون التصرف كاشفاً عن الرضا النوعي، فإن أغلب الناس لا يلتفتون إلى ذلك، كيف؟ فإن خيار الحيوان لا يختص بطائفة خاصة من الشيعة ليكون الغالب فيهم الالتفات إلى الخيار عند التصرف، بل يثبت لكل شخص حتّى اليهود والنصارى والمخالفين وغيرهم.

ومن الواضح أنه مع ذلك فالغلبة في غير الملتفتين إلى الخيار عند التصرف، فكيف يكون التصرف كاشفاً عن الرضا النوعي من جهة التفات أغلب الناس للخيار

ص: 440


1- فقه الإمامية، الخيارات /(265-264). ولا يخفى أن ما في الكتاب «لبعد تقدم المعلول على العلة»، والصحيح ما أثبتناه؛ فإن ما كتب في الكتاب يعطي عكس المطلوب، وما أثبتناه موافق لبيان الأستاذ المحقّق (دام ظله).

عند التصرف.

وكيف كان فلا وجه لجعل التصرف كاشفاً نوعياً عن الرضا بالبيع»(1).

وهو مدفوع؛ بأن خيار الحيوان وإن لم يوجد عند النوع إلّا أن عندهم تصرفات كاشفة نوعاً عن الرضا بالبيع في ما لو حصلت في موارد خيار العيب والغبن والشرط ممّا هو جارٍ عندهم، فلو حصلت هذه التصرفات في بيع الحيوان كانت كاشفة نوعاً عن الرضا به.

المناقشة في ما قوّاه الشيخ

نعم، يرد على الشيخ (قدس سره) في تقويته للاحتمال الثالث: أنه خلاف ظهور الرواية؛ فإن طرف النسبة في الرضا النوعي هو النوع، كما أن طرفها في الرضا الشخصي هو الشخص، كما في الوثوق النوعي والوثوق الشخصي، وضمير «منه» في قوله (علیه السلام) : «فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً قبل الثلاثة الأيام فذلك رضا منه»، راجع إلى المشتري، فيكون طرف النسبة هو رضا المشتري، وهو شخص، فيكون الرضا شخصياً، ولو أراد النوعي لقال: «فذلك رضا نوعي به»، فالحمل على الرضا النوعي يحتاج إلى تقدير، فيكون خلاف الظهور.

ما استقر به المحقّق الاصفهاني من الوجوه والمناقشته

الاحتمال الخامس: ما أفاده المحقّق الاصفهاني (قدس سره) بقوله: «وهو أن الرضا عبارة عن الالتزام بالعقد؛ فإن معنى ارتضائه إياه اختياره والالتزام به، والالتزام كالتصديق جناني وقولي وعملي، فإن اعتقاد صدق المخبر تصديق جناني، وقوله: «أنت صادق» تصديق قولي، والجري على ما أخبر به، بالعمل على وفقه، تصديق عملي له، فكذا

ص: 441


1- مصباح الفقاهة 6/199.

الالتزام قلبي وقولي وعملي؛ فإن الرضا بلزوم العقد قلباً ارتضاء والتزام قلبي، وقوله: «التزمت بالعقد وارتضيته» التزام قولي إنشائي، والتصرف في المبيع على حد تصرفه في سائر أمواله، والانتفاع بأحد وجوه الانتفاعات، التزام عملي وارتضاء فعلي، وليس بابه باب الكشف عن الرضا قلباً ليؤول إلى الوجه الثالث، بل هو بنفسه من حيث إنه عمل الملتزم يسمى التزاماً عملياً، كما أن الجري العملي على وفق الخبر تصديق عملي بنفسه، لا من حيث كشفه عن اعتقاد الصدق، وكذا في باب إبقاء اليقين عملاً ونقضه عملاً؛ فإن الجري على وفق اليقين السابق إبقاء لليقين عملاً، لا من حيث كشفه عن اليقين قلباً»(1).

«ومما ذكرنا في هذين المقامين يتضح أن كل فعل حديث بمقتضى تجدد الملكية، التزام عملي بالعقد - سواء عُدَّ تصرّفاً خارجاً في المبيع أم لا، وسواء دلّ على الالتزام القلبي أو الإنشائي أم لا - فهو مسقط، والتصرف لا بذلك العنوان - بل بعنوان الاستخبار، فضلاً عن عنوان الرد إلى البائع - ليس مصداقاً للالتزام العملي، وإحداث الحدث، كما أن التصرف الصادر عن غير التفات إلى العقد من التصرف المسقط وإن لم يكشف عن الرضا؛ إذ المناط ليس هو الكشف ولو نوعاً، بل كون التصرف مما يعتاده المالك للعين في مقام الانتفاع بملكه، وهذا منه؛ لعدم دخل للالتفات إلى العقد والخيار في هذا المعنى، بل هو في حد ذاته تصرف مالكي والتزام عملي بكون المبيع له، وإن لم يكن منه التزام قلبي ولا قصدي»(2).

ويتلخص ما أفاده في أمور:

1- إن الرضا عبارة عن الالتزام بالعقد، فالرضا بمعنى الارتضاء.

ص: 442


1- حاشية المحقّق الاصفهاني على المكاسب 4/170.
2- حاشية المحقّق الاصفهاني على المكاسب 4/172. واقتصرنا على ذكر عين عبارته؛ لوضوحها.

2- إن الالتزام كالتصديق جناني وقولي وعملي.

3- إن التصرف في المبيع على حد التصرف في سائر الأموال، التزام عملي، وارتضاء فعلي.

ورتّب على ذلك:

1- إن كل فعل حديث بمقتضى تجدد الملكية التزام عملي بالعقد، وإن لم يُعدَّ تصرفاً خارجياً في المبيع، ولم يدل على الالتزام القلبي الإنشائي.

2- إن التصرف بعنوان الاستخبار، فضلاً عن عنوان الرد إلى البائع ليس مصداقاً إلى الالتزام العملي.

3- إن التصرف الصادر عن غير التفات إلى العقد من التصرف المسقط.

وفيه: أوّلاً: أن الالتزام حقيقة متقومة بالقصد والالتفات، فلا يعقل الالتزام القهري الناشئ من دونهما، بحيث يُعدُّ ملتزماً بشيء من غير التفات له ولا قصد إليه، وحينئذ فحمل قوله (علیه السلام) : «فذلك رضا منه» على أنه التزام منه، لا يخرج عن أحد حالين، إما أن يكون مع القصد، أو بدونه، فإن كان إحداث الحدث ناشئاً عن قصد الالتزام بالبيع فهو مسقط للخيار على القاعدة، ولا حاجة إلى بيان الرواية، وإن لم يكن ناشئاً عن قصد الالتزام به، فكونه مسقطاً لا يكون إلّا بالتعبد الشرعي، لا لكونه التزاماً قهرياً.

ثانياً: أن ما في الرواية عنوان «الرضا»، وهو صفة، والالتزام فعل، فحمل الرضا على الارتضاء والالتزام، استعمال مجازي بلا قرينة.(1)

ص: 443


1- وهذا لا ينافي ما ذكره الأستاذ المحقّق مدظله سابقاً من أن المراد من الرضا هنا ليس الرضا بالملك؛ لحصوله من الأوّل، بل الرضا بالبيع، وهو معنى الالتزام به. وذلك؛ لأن الرضا - بأي شيء تعلق - يكون صفة نفسانية كالبغض والغضب والحبّ، والالتزام عمل من الإنسان كعقد القلب على شيء، نعم هو عمل جناني.

وبعبارة أخرى: إن الرضا صفة لا تنقسم إلى قلبي وعملي وقولي، بخلاف الالتزام الذي هو فعل من الأفعال، فتفسيره للرضا بالارتضاء، ثمّ تقسيمه لهذه الأقسام بلا وجه.

المختار في مدلول الرواية

فالحق أن الأقوى من بين المحتملات هو الأوّل، فالمسقط - عند الشارع وبتعبد منه - هو كل ما يطلق عليه إحداث حدث في المبيع عرفاً، كإنعال الدابة، والأخذ من حافرها، وهدم الجدار في بيع الدار، وتقطيع القماش في بيعه، سواء أصدر عن قصد لإسقاط الخيار أم لا، وكان غافلاً أم لا؛ فإن إطلاق الرواية محكم.

وما ذكر في ذيل الرواية من الأمور الموجبة لسقوط الخيار، كالنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه إلّا إلى المالك في بيع الجارية، وتقبيلها - مع أنها ليست من إحداث الحدث عرفاً - إنما هو من باب التوسعة في موضوع الحدث، فتكون حدثاً شرعياً.

فتحصل: أن المستفاد من الرواية صدراً وذيلاً كون المسقط للخيار أحد أمرين: إحداث الحدث العرفي، والحدث الشرعي، أصدر بقصد الالتزام بالبيع أم بدونه.

والوجه في ذلك أن في جملة: «فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً قبل الثلاثة الأيام فذلك رضا منه، فلا شرط»، موضوعاً وهو «أحدث حدثاً»، ومحمولاً، وهو «فذلك رضا منه»، والمحمول لا يكون قيداً للموضوع؛ فإن القيد جزء منه، والمحمول خارج عنه، فلو أريد من إحداث الحدث أن يكون عن رضا - سواء أكان شخصياً أم نوعياً - لذكر في الكلام بنحو الوصف والتقييد فيقول: «حدثاً عن رضا»، ولم يحمله عليه بنحو الإطلاق والإرسال.

وعليه فظاهر الحديث أن ما يحدثه المشتري في المبيع من حدث جدي فهو رضا بالبيع شرعاً، فيترتب عليه ما يترتب على الرضا به، وهو سقوط الخيار، ولا مانع من ذلك ثبوتاً؛ لعدم المانع العقلي من هذه الحكومة، والتنزيلات في الشرع كثيرة، من قبيل

ص: 444

«الطواف بالبيت صلاة»(1)، ولما نحن فيه نظائر في الفقه كما في جعل التصرف في المبيع مسقطاً لخيار العيب مطلقاً، نشأ عن التزام بالبيع أو بدونه.

ومقتضى القاعدة لزوم الأخذ بالظهور ما لم يمنع منه مانع عقلي.

ويؤكد ما قلناه أن السائل فهم الموضوعية من الحدث، فسأل عن حدوده، وأن الإمام (علیه السلام)

حكم على أمور بأنها من إحداث الحدث، وأنها مسقطة للخيار، بدون تقييدها بالرضا، فقال (علیه السلام) - بعد سؤال السائل: وما الحدث؟ - : «إن لامس أو قبّل أو نظر منها إلى ما كان يحرم عليه قبل الشراء»، فلو قام بأحد هذه الأمور فهو مسقط للخيار حتّى لو لم يكن عن قصد الالتزام بالبيع.

فالرواية - إذن - ظاهرة في الاحتمال الأوّل، وأن الشارع جعل نفس إحداث الحدث التزاماً بالبيع تعبّداً، ورضا به بقاء.

في المرجع حين إجمال المراد

ولو لم نقل بظهور الرواية في هذا المعنى لم يتعيّن أحد من الوجوه الباقية، بل كانت كلها متساوية من حيث احتمال الإرادة، فما هو المرجع حينئذٍ؟

ذهب المحقّق الرشتي (قدس سره) - بعد القول بإجمال هذه الجملة؛ لدورانها بين معانٍ أربعة أو خمسة - إلى سقوطها عن درجة الاعتبار، فلا تمنع من التمسك بإطلاق «إن أحدث فيه حدثاً».

ثمّ أجاب عن إشكال سريان إجمالها إلى العام - لتعقبه بالمجمل المتصل فيسقطه عن الاعتبار - بأن ما يوجب الإجمال إنما هو المخصص المجمل المتصل، كما في المثال المعروف: «أكرم العالم غير الفاسق»؛ فإن إجمال الفاسق مفهوماً أوجب الإجمال في العام، وأما ما نحن فيه - أي «فذلك رضا منه» - فأمره يدور بين كونه مخصصاً أو

ص: 445


1- جامع أحاديث الشيعة 5/508.

أجنبياً عن العام، فلم يعلم كونه مخصصاً حتّى يدخل في كبرى سريان الإجمال من المخصص المتصل إلى العام.(1)

ويرد على القسم الأوّل من كلامه - أي سقوط الجملة المجملة والرجوع إلى الإطلاق - : أنه لو تمّ لثبت مدعانا أيضاً، من كفاية مطلق إحداث الحدث، ولكنه غير تام كما سيأتي.

وأما القسم الثاني من كلامه، وهو ما يرتبط بعدم سراية الإجمال ففيه:

أوّلاً: أن سراية الإجمال من المخصص المجمل إلى العام ليست أمراً تعبدياً؛ إذ لم تنزل فيها آية، ولم تدل عليها رواية، بل هي ناشئة عن ملاك، وما هو إلّا لكون نسبة المخصص المتصل إلى العام نسبة القرينة إلى ذيها، فمتى ما كان بيّناً عرف المراد منه، ومتى ما كان مجملاً سرى إجمال إليه، وليس لأجل خصوصية في المخصص، وعليه فكل ما كانت نسبته إلى العام نسبة القرينة قام بنفس دور المخصص، فإذا كانت القرينة مجملة سرى الإجمال إلى العام، فجملة: «فذلك رضا منه» ارتبطت بجملة: «فإن أحدث فيه حدثاً» بأحد أنحاء الارتباط والاحتمالات المذكورة، وليست كلاماً أجنبياً عنها، وهذا المقدار من الارتباط يوجب سريان إجمالها إليها على طبق القاعدة، سواء أكانت مخصصاً أو لا.

وثانياً: سلمنا بأن قاعدة سريان إجمال المجمل مختصة بالمخصص، ولكن بما أنه اعترف بدوران أمر هذه الجملة بين كونها مخصصاً وكونها أجنبياً، فهذا المقدار كافِ لسريان الإجمال؛ إذ تردّد الأمر بين كونها مخصصة فيسري إجمالها، وكونها أجنبية فلا يسري إجمالها، فيكفي هذا التردد لسقوط ظهور الجملة المتصلة.

فعلى التقديرين تسقط جملة «إن أحدث حدثاً» عن الحجية، والمرجع - حينئذٍ -

ص: 446


1- فقه الإمامية، الخيارات /265.

هي مكاتبة الصفار، وهي كافية في الحكم، وسالمة عن الإجمال؛ فإن المستفاد من قوله (علیه السلام) : «إذا أحدث فيها حدثاً فقد وجب الشراء إن شاء الله»، سقوط الخيار مع إحداث الحدث مطلقاً، سواءً أ كان بقصد الالتزام بالبيع أم بدونه، وبقصد سقوط الخيار أم بدونه.

ولا يخفى عدم سريان إجمال المخصص المنفصل إليها كما هو واضح.

فتحصّل إلى هنا: أن المستفاد من النصوص أن نفس إحداث الحدث مسقط للخيار، ويدل عليه صحيحة ابن رئاب في فرض عدم الإجمال، وأيضاً في فرض الإجمال بناء على عدم سريانه إلى جملة «إن أحدث فيه حدثاً» حسب ما قرّره المحقّق الرشتي (قدس سره)، وأما على ما اخترناه من سريان الإجمال فتسقط عن الاعتبار، فيدل على المدعى معتبرة الصفار.

وبهذا يتم الكلام في خيار الحيوان من جميع جهاته»(1).

ص: 447


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(282-256).

الثالث: خيار الشرط

اشارة

قال السيّد العاملي: «لا خلاف بين العلماء في جواز اشتراط الخيار في البيع كما في التذكرة(1) وأمّا أنّه لا يتقدّر بحدٍّ فقد حكى عليه الإجمال في الخلاف(2) والانتصار(3) والغنية(4) والتذكرة(5). وفي الخلاف أنّ أخبارنا به متواترة. وخالف الفقهاء في ذلك عدا مالك فمنعوا من الزيادة على الثلاثة وجوّزوا اشتراطها فما دونها(6). وفي الغنية يجوز أن يكون ثلاثة فما دونها بلا خلاف(7). وظاهره نفيه بين الطائفتين.

ويدلّ عليه بعد الإجمال الأصل بمعنيين(8) والكتاب والسنّة - وهي عدّة

ص: 448


1- تذكرة الفقهاء 11/37.
2- الخلاف 3/32، مسألة 42.
3- الانتصار /434، مسألة 246.
4- غنية النزوع /218.
5- تذكرة الفقهاء 11/37.
6- الخلاف 3/32، مسألة 42.
7- غنية النزوع /218.
8- قال السيّد العاملي: «الأصل هنا يحتمل أن يكون بمعنى القاعدة وأن يكون بمعنى الراجح الغالب». [مفتاح الكرامة 14/121].

روايات كصحيحة عبدالله بن سنان(1) وحسنة الحلبي(2) وموثّقة إسحاق بن عمّار(3) وصحيحة سعيد بن يسار(4) وخبر أبي الجارود(5) - وموافقة الاعتبار، لمكان وجود الضرورة الداعية إلى الاشتراط وطول المدّة وقصرها إلّا أن يعلم عدم بقائهما إليها فإنّه يحتمل البطلان للزوم التعطيل والصحّة، لأنّ الأجل مضبوط والخيار موروث ولا ريب أنّها لا تتقدّر بقدر الحاجة، وكذا لو كان المبيع ممّا يفسد قبل انقضائها»(6).

وقال صاحب الجواهر: «الثالث خيار الشرط: بالضرورة بين علماء المذهب والكتاب والسنة عموماً وخصوصاً في بعض أفراده»(7).

وقال الشيخ الأعظم: «خيار الشرط أعني الثابت بسبب اشتراطه في العقد، ولا خلاف في صحّة هذا الشرط، ولا في أنّه لا يتقدّر بحدٍّ عندنا، ونَقْلُ الإجماع عليه مستفيضٌ.

والأصل فيه قبل ذلك: الأخبار العامّة المسوّغة لاشتراط كلّ شرطٍ إلّا ما استثني، والأخبار الخاصّة الواردة في بعض أفراد المسألة.

فمن الأُولى: الخبر المستفيض الذي لا يبعد دعوى تواتره: «إنّ المسلمين عند شروطهم»(8) وزيد في صحيحة ابن سنان: «إلّا كلّ شرطٍ خالف كتاب الله فلا

ص: 449


1- وسائل الشيعة 18/16، ح1.
2- وسائل الشيعة 18/17، ح4.
3- وسائل الشيعة 18/17، ح5.
4- وسائل الشيعة 18/18، ح1.
5- وسائل الشيعة 18/18، ح2.
6- مفتاح الكرامة 14/192.
7- الجواهر 24/53 (23/32).
8- راجع وسائل الشيعة 18/16، ح1 و 2.

يجوز»(1). وفي موثّقة إسحاق بن عمّار: «إلّا شرطاً حرّم حلالاً أو حلّل حراماً»(2).

نعم، في صحيحةٍ أُخرى لابن سنان: «من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا

يجوز على الذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم، فيما وافق كتاب الله»(3).

لكن المراد منه - بقرينة المقابلة - عدم المخالفة، للإجماع على عدم اعتبار موافقة الشرط لظاهر الكتاب. وتمام الكلام في معنى هذه الأخبار وتوضيح المراد من الاستثناء الوارد فيها يأتي في باب الشرط في ضمن العقد إن شاء الله تعالى.

والمقصود هنا بيان أحكام الخيار المشترط في العقد، وهي تظهر برسم مسائل»(4).

أقول: قبل الورود في المسائل لابد من ملاحظة أدلة خيار الشرط وهي كما تلي:

أدلة خيار الشرط
1- الإجماع

الإجماع الوارد في كلام الشريف المرتضى والشيخ الطوسي وابن زهرة والعلّامة كما مرّ آنفاً.

ويرد عليه: أوّلاً: الإجماع مدركيّ فلابدّ من ملاحظة مدركه.

وثانياً: هذا الاجماع منقول ولا نرى حجية الإجماع المنقول.

ص: 450


1- وسائل الشيعة 18/16، ح2.
2- وسائل الشيعة 18/17، ح5.
3- وسائل الشيعة 18/16، ح1.
4- المكاسب 5/111 و 112.
2- الروايات العامة

«وهي الروايات الواردة في الباب السادس من أبواب الخيار من الوسائل(1) من قبيل صحيحة عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: سمعته يقول: «من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له، ولا يجوز على الذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم مما وافق كتاب الله (عزوجل)»(2).

وهي تامة سنداً ودلالة؛ فإن إطلاقها يشمل شرط الخيار.

إشكال الفاضل النراقي ودفعه

نعم، استشكل الفاضل النراقي (قدس سره) في الاستدلال بالروايات العامة: بأن شرط الخيار مخالف للسنة؛ أي «فإذا افترقا وجب البيع»(3)؛ فإن شرط الخيار بعد الافتراق مخالف لها؛ لدلالتها على وجوب البيع بمجرد الافتراق، وقد استثني في هذه الروايات الشرط المخالف للكتاب والسنة.(4)

وجوابه: أن ما أفاده تام لو كان المراد من وجوب البيع بالافتراق وجوبه مطلقاً، ولكن الوجوب فيه - كما تقدم - حيثي، أي من حيث خيار المجلس، لا من كل حيثية، ولهذا لا يتنافى مع خيار الغبن والعيب، وإلّا للزمه الالتزام بالمنافاة بينه وبينهما، ولا يلتزم بها»(5).

ص: 451


1- وسائل الشيعة 18/16.
2- وسائل الشيعة 18/16، ح1، الباب 6 من أبواب الخيار.
3- وسائل الشيعة 18/6، ح4، الباب 1 من أبواب الخيار، صحيحة الحلبي.
4- مستند الشيعة 14/382.
5- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/290.
3- الروايات الخاصة

«وهي الروايات الواردة في شرط خيار رد الثمن، وهي تامة سنداً ودلالة في موردها، إلّا أن الاستدلال بها في المقام يتوقف على إلغاء خصوصية المورد؛ فإنها واردة لإثبات شرط الخيار في مورد خاص، والمدعى صحة شرط الخيار مطلقاً، والروايات هي:

الرواية الأولى: محمّد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن إسحاق بن عمار قال: حدثني من سمع أبا عبدالله (علیه السلام) وسأله رجل وأنا عنده فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه، فقال: أبيعك داري هذه، وتكون لك أحب إليَّ من أن تكون لغيرك على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن ترد عليّ، فقال: لا بأس بهذا، إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه... .(1)

ولا إشكال في سند الرواية إلّا ما ربما يقال من أن إسحاق بن عمار لم يرو هذه الرواية عن الإمام (علیه السلام) بالمباشرة، وإنما قال: حدثني من سمع، ولا نعرف من هو السامع ليثبت توثيقه أو عدمه.

وأجاب المحقّق الأردبيلي (قدس سره) بقوله: «ولا يضر إرسال إسحاق؛ لأنه مؤيد ومقبول»(2).

ولكنه غير مسموع؛ لأن الموافقة لما هو الحجة غير موجبة للحجية، والمقبولية إن أريد بها عمل المشهور فلم يثبت؛ لاحتمال استنادهم إلى غيرها في الفتوى.

فالرواية مرسلة على نقل الشيخ (قدس سره)، إلّا أن يقال بأن إسحاق أخبر بسماع الراوي من الإمام (علیه السلام)، وفرق بين إخبار الثقة بسماع الراوي المجهول عندنا، وإخبار

ص: 452


1- وسائل الشيعة 18/19، ح1، الباب 8 من أبواب الخيار.
2- مجمع الفائدة والبرهان 8/400.

الثقة بإخبار الراوي بسماعه.

نعم نسب الشيخ الصدوق (رحمة الله) السماع إلى نفس إسحاق؛ حيث رواها بإسناده عنه فقال في الفقيه: «وروى إسحاق بن عمار عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: سأله رجل وأنا عنده، فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره...»(1)، فنستكشف من ذلك أن لإسحاق روايتين: أحداهما ما سمعه بنفسه من السؤال وجواب الإمام (علیه السلام)، والأخرى ما سمعه ممن سمع من الإمام (علیه السلام). [والأولى موثقه والثانية مرسلة].

وأما الدلالة فتامة في موردها بلا إشكال، إلّا أنها بالنسبة إلى ما نحن فيه أخص من المدعى.

الرواية الثانية: وبإسناده عن الحسن بن محبوب، عن ابن سنان، عن أبي عبدالله (علیه السلام) - في حديث - قال: وإن كان بينهما شرط أياماً معدودة فهلك في يد المشتري قبل أن يمضي الشرط فهو من مال البائع.(2)

والرواية صحيحة، والمراد من ابن سنان في السند هو عبدالله، وصدر الرواية وإن كان وارداً في اشتراء الحيوان(3)، وخياره شرط شرعي لا معاملي، إلّا أن استدلال بما في الذيل المذكور؛ فإن الإمام (علیه السلام) لما بيّن حكم الضمان على البائع في الحيوان إلى ثلاثة

ص: 453


1- الفقيه 3/205، ح3771؛ وسائل الشيعة 18/19، ذيل ح1.
2- وسائل الشيعة 18/20، ح2، الباب 8 من أبواب الخيار.
3- صدر الرواية كما في التهذيب 7/24، وفي وسائل الشيعة 18/14، ح2، الباب 5 من أبواب الخيار، عن الكافي 5/169، ح3: عن ابن سنان - يعني عبدالله - قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن الرجل يشتري الدابة أو العبد ويشترط إلى يوم أو يومين فيموت العبد أو الدابة ويحدث فيه الحدث على من ضمان ذلك؟ فقال: على البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري شرط له البائع أو لم يشترط. قال: وإن كان بينهما شرط أياماً معدودة فهلك في يد المشتري قبل أن يمضي الشرط فهو من مال البائع.

أيام، جاء بحكم آخر يرتبط بما لو اشترط ما زاد على الثلاثة الأيام، وقد حكم (علیه السلام) فيه بالضمان على البائع أيضاً، وهو يدل على إمضائه لشرط الخيار.

نعم، ربما يشكل الاستدلال بأن الرواية وإن كانت مطلقة من جهة شرط الخيار بخلاف روايات شرط ردّ الثمن إلّا أن موردها الحيوان، فيحتاج لأجل تمامية الاستدلال إلى إسقاط خصوصية الحيوان، إلّا أن العرف لا يرى تفاوتاً بين الحيوان وغيره في خيار الشرط، وإن لم يسلّم بذلك وجمد على اللفظ أشكل التعميم لغير الحيوان.

الرواية الثالثة: محمّد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبدالله (علیه السلام) أن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قضى في رجل اشترى ثوباً بشرط إلى نصف النهار فعرض له ربح فأراد بيعه، قال: ليشهد أنه قد رضيه فاستوجبه ثمّ ليبعه إن شاء، فإن أقامه في السوق ولم يبع فقد وجب عليه.(1)

ولاإشكال في سندها إلّا من ناحية النوفلي، فمن يبني على توثيق رجال ابن قولويه في كامل الزيارات فهو في سعة؛ لكونه منهم، ومن لا يبني عليه - كما هو الحق - فلا توثيق له صريحاً عنده، إلّا أننا نعتمد على رواياته؛ لإكثار الكليني النقل عنه في الأصول وفي الفروع من الكافي، وهو ذلك الكتاب الذي كتبه في عصر الغيبة ليكون حجة للشيعة؛ فإن اعتماد الكليني على أحد وإكثاره للنقل عنه ولا سيّما في الأصول لا يقصر في التوثيق عن تصريح النجاشي بتوثيقه، فالسند تام، والرواية معتبرة لاسيّما مع الالتفات إلى أن طريق الوثوق بالخبر لا ينحصر في التنصيص على وثاقة رجال السند.

ولا ينقض بسهل بن زياد؛ للفرق بينهما؛ من جهة أن النوفلي لم يرد في حقه تضعيف بخلاف سهل؛ فقد رمي بالضعف، ولو أمكن ردّ التضعيف عنه لتمسكنا

ص: 454


1- وسائل الشيعة 18/25، ح1، الباب 12 من أبواب الخيار.

بإكثار الكليني عنه.

وأما الدلالة فهي تامة أيضاً، كما هو ظاهر، بعد إلغاء خصوصية المورد عرفاً»(1).

وأمّا المسائل تتم بقرار الذيل
المسألة الأولى

«في بيان عدم لزوم كون زمان خيار الشرط متصلاً بالعقد، فيجوز أن يكون منفصلاً عنه بأن يجعل الخيار بعد مرور يومين - مثلاً - من العقد.

واستدل الشيخ(2) (قدس سره) على ذلك بعموم أدلة الشرط، ولا محذور فيه سوى ما قيل من أنه يستلزم صيرورة العقد جائزاً بعد اللزوم، ورّد ذلك بأنه لا مانع منه ولا محذور فيه، مع انتفاضه بخيار التأخير وخيار الرؤية، فإن الخيار متأخر عن زمان العقد.

وههنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو: أنه إذا اشترط الخيار منفصلاً عن العقد لمدة معينة كيوم، لا يمكن الالتزام بلزوم العقد بعد مضي زمان الخيار بمقتضى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ إلّا بناء على الالتزام بأن لها عموماً أزمانياً، فإذا خصّص عمومها الأزماني ببعض أفراده التزم بالعموم في غير موارد التخصيص، وكان المورد من موارد التمسك بالعموم.

أما إذا التزم بعدم تكفلها سوى العموم الأفرادي، فإذا خرج أحد الأفراد في زمانٍ ما لا يرجع إلى العموم بعد زمان التخصيص، لإختلال أصالة العموم فيه بالتخصيص، بل المورد من موارد استصحاب حكم المخصص - وإيضاح الكلام في

ص: 455


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(290-286).
2- المكاسب 5/113.

ذلك في محله من علم الأصول(1)... .

وظاهر الشيخ (قدس سره) في الأصول هو كونه من قبيل الثاني(2) فراجع.

المسألة الثانية: في لزوم تعيين المدة

وقد ذكر الشيخ(3) (قدس سره) أنه يشترط تعيين المدة، فلو تراضيا على مدّة مجهولة، كقدوم الحاجّ، بطل [الشرط] بلا خلاف.(4)

والوجه في ذلك هو: أن المعاملة باشتراط المدة المجهولة تصير غررية، فيشملها عموم النهي عن بيع الغرر.

وأما تسامح العرف في بعض المقامات وإقدام العقلاء عليه أحياناً، فهو لا ينفع في رفع اليد عن عموم النهي عن الغرر، إذ لا يخرجه عن ذلك عن كونه غرراً، والعرف مرجع في تشخيص المفاهيم لا المصاديق.

وقد ذكر بعض الاساطين(5)أن دائرة الغرر في الشرع أضيق من دائرته في العرف، بملاحظة تسامح العرف وعدم تسامح الشرع.

واستشكل فيه السيّد الطباطبائي(6) (رحمة الله) بأن الأنسب أنّ يقال إن دائرة الغرر في الشرع أوسع من دائرته في العرف، لأن الغرر الشرعي على هذا أعم والأعم أوسع من الأخص.

والذي يبدو لنا أن النزاع بينهما لفظي وأن كلا التعبيرين صحيحان

ص: 456


1- راجع منتقى الأصول 6/303، التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب.
2- فرائد الأصول 3/274.
3- المكاسب 5/113.
4- بل بالاجماع كما في مفتاح الكرامة 14/193؛ وشرح الخيارات /74.
5- هو الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء (قدس سره) في شرح القواعد 2/252.
6- حاشية المكاسب 2/464.

بملاحظتين.

وذلك لأن الشرع إذا لم يكن متسامحاً في الغرر كان ذلك منشأ لتضييق دائرة الحكم بصحة المعاملة، فالسيّد (رحمة الله) بدعواه أوسعية دائرة الغرر الشرعي لاحظ نفس مفهوم الغرر، وبعض الأساطين بدعواه الأضيقية لاحظ ما يستلزمه سعة انطباق الغرر من ضيق في دائرة الحكم بالصحة. فكأنه يريد أن دائرة الحكم بالصحة شرعاً بملاحظة الغرر أضيق منه عرفاً. والأمر سهل.

وعلى أي حال، فقد عرفت أن الوجه في دعوى لزوم تعيين المدة وتحديدها بما يرفع الجهل بها هو صيرورة المعاملة مع عدم التعيين غررية، فيشملها دليل النهي عن الغرر.

وقد ذهب المحقّق الإيرواني(1) (رحمة الله) إلى عدم المحذور في جهالة مدة الخيار وأن الغرر الناشيء من ذلك لا يكون مبطلاً، لاختصاص دليل النهي عن الغرر بما إذا كان أحد العوضين غررياً مجهولاً كَمّاً أو وصفاً دون مطلق الغرر في المعاملة.

واستشهد على ذلك بأنه لو كان النهي يشمل الغرر الحاصل من قبل جهالة مدة الخيار لبطلت جميع البيوع لجهالة مدة خيار المجلس، بل لا تضر جهالة أصل ثبوت الخيار، ولذا لا يلتزم ببطلان المعاملة إذا جهل المتبايعان ثبوت الخيار في الشريعة، بل الجهل بثبوت الخيار للشبهة الموضوعية موجود في موارد خيار الغبن وموارد العيب والتأخير والرؤية، فيعلم من ذلك اختصاص النهي بالغرر الحاصل من جهل العوضين. فلاحظ.

وفيه: أن ما ذكره شاهداً للتخصيص لا صلاحية له. إذ المراد بالغرر المنفي بدليل النهي عن بيع الغرر هو الغرر الراجع إلى بعض شؤون المعاملة التي وقع

ص: 457


1- حاشية المكاسب 3/90.

التراضي عليها بحيث يكون الجهل في متعلّق التراضي ومضمون المعاملة، وليس المراد مطلق المعاملة المصحوبة بالجهل ولو لم يكن الجهل ناشئاً من كيفية التعامل بل كان ناشئاً من الحكم الشرعي بالخيار المجهول، فإن مثل ذلك لا يكون مشمولاً لدليل النهي عن الغرر، بل لا يعقل ذلك لأن الحكم الشرعي بالخيار متفرع على صحة المعاملة، فيستحيل أن يكون مستلزماً لفسادها، فإن ما يلزم من وجوده عدمه محال.

وما ذكره من النقوص كله من قبيل الثاني ما نحن فيه من قبيل الأوّل، إذ الغرر ناشيء من تباني المتعاملين - الذي هو موضوع الحكم بالصحة والفساد ولم يؤخذ فيه الصحة مفروغاً عنها - على أمر مجهول ولا ربط له بالحكم الشرعي المتفرع على صحة المعاملة التامة الشرائط، فعدم بطلان المعاملة في موارد جهل الخيار أو مدته التي ذكرها لايلازم عدم بطلانها في ما نحن فيه لإختلاف منشأ الجهل ومحلّه. فتدبر تعرف.

وعلى هذا، فالالتزام ببطلان [الشرط](1) لصيرورته غررياً بالجهل بمدة الخيار المشترط متعين.

ثمّ إن الشيخ(2) (رحمة الله) تعرض إلى ما ينسب إلى صاحب الجواهر(3) (رحمة الله) من

ص: 458


1- في المصدر: «البيع»، والصحيح عندنا الشرط ولذا بدلناه كما ذهب الإيرواني إلى أنّ البحث في فساد الشرط لا في فساد البيع، راجع حاشيته على المكاسب 3/91، رقم 169.
2- المكاسب 5/115.
3- صاحب الجواهر لا يقول بما ينسب إليه الشيخ الأعظم وهذا نص مقالته قال: «(لكن يجب ان يكون) ما يشترطانه من مدّه الخيار (مدّة مضبوطة؛ و) لذا (لا يجوز أن يناط بما يحتمل الزيادة والنقصان كقدوم الحاجّ) ونحوه قولاً واحداً.[كما في مسالك الأفهام 3/201؛ والحدائق الناضرة 19/28]. للغرر - حتّى في الثمن؛ لأنّ له [أي: ما يشترطانه من مدّة الخيار] قسطاً منه - فيدخل فيما نهى النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) [وسائل الشيعة 17/448، ح3، الباب 40 من أبواب آداب التجارة؛ مستدرك الوسائل 13/283، ح1، الباب 23 من أبواب آداب التجارة؛ سنن الدارمي، 2/251؛ سنن أبي داود 3/254، ح3376؛ مسند أحمد 1/116؛ سنن النسائي 7/262؛ سنن ابن ماجه 2/739، ح2194 و 2195؛ سنن البيهقي 5/338؛ مجمع الزوائد 4/80]، فاشتراطه مخالف للسنّة وما دلّ على وجوب اتّباعها من الكتاب [سورة الحشر /7]»[ جواهر الكلام 24/54 (23/32)]. وهذه المقالة غير ما نقل منه الشيخ الأعظم، بل صاحب الجواهر ذهب إلى بطلان خيار الشرط إذا كانت مدته مجهولة للغرر ثمّ ذهب إلى أن بطلان الغرر للسنة ودليل اعتبار السنة هو الكتاب الذي أمرنا بمتابعة السنة، واين هذه ممّا نسبها الشيخ الأعظم إليه؟!

الاستدلال على لزوم تعيين المدة بأن اشتراط المدة المجهولة مخالف للكتاب والسنة لأنه غرر، وناقشه (قدس سره) بما سنذكره.

ولم أجد من تعرض من المحشين لبيان المقصود من عبارة الكتاب استدلالاً ومناقشة، مع أنها لا تخلو عن غموض. نعم السيّد الطباطبائي(1) (رحمة الله) أشار إلى إجمال العبارة.

وكيف كان، فيحسن بنا أن نوضح عبارة الكتاب، فنقول: ظاهر الاستدلال هو رجوع المخالفة للكتاب والسنة والغرر إلى شيء واحد من الشرط أو البيع، فهما محمولان لأمر واحد منهما.

وهذا لابدّ من رفع اليد عنه، لعدم صحة رجوعهما إلى أمر واحد سواء كان الشرط أو البيع، لأنه... .

إن أريد أن البيع مخالف للكتاب والسنة لأنه غرري، فيبطل بهذا الاعتبار أعني كونه مخالفاً للكتاب والسنة.

ففيه: أنه لم يرد في دليل تقييد موضوع الصحة في البيع بما لا يكون مخالفاً للكتاب والسنة، ولم يؤخذ هذا القيد فيه.

وإن رجع الأمران(2) إلى الشرط، فهو يتوقف على دعوى عموم النهي عن

ص: 459


1- حاشية المكاسب 2/466، رقم 650.
2- وهما: الغرر ومخالفة الكتاب والسنة.

الغرر إلى النهي عن مطلق المعاملات الغررية ومنها الشرط كي يكون الشرط الغرري مخالفاً للسنة.

ومع هذه الدعوى يكون بطلان الشرط مستنداً إلى دليل النهي عن الغرر، لأنه نهي إرشادي إلى البطلان ولا حاجة معه إلى التمسك بدليل بطلان الشرط المخالف، [للكتاب والسنة] بل لا معنى له بعد كون منشأ تحقق المخالفة هو الدليل الدال على البطلان.

إذن، فيحمل الكلام أن الشرط مخالف للكتاب والسنة لأنه يستلزم الغرر في البيع. وبعد هذا التصحيح يرد إشكال الشيخ (قدس سره)، وتوضيحه: بأن المقصود... .

إن كان التوصل إلى بطلان الشرط من بطلان البيع لعدم موضوعه، فلا معنى لتعليل بطلانه بأنه مخالف للكتاب والسنة، إذ لا موضوع للشرط وهو البيع الصحيح في نفسه.

وإن كان التوصل إلى بطلان البيع من بطلان الشرط باعتبار أن الشرط الفاسد مفسد، فلا يتجه تعليل بطلان البيع بأنه غرري الملازم لكون الشرط مخالفاً للكتاب والسنة.

وأما ما ذكره [الشيخ الأعظم] أخيراً بقوله: «اللهم إلّا أن يراد...»(1).

فقد يشكل عليه: بأن منظور القائل هو بيان بطلان الشرط لا أكثر بلا نظر إلى بيان بطلان البيع ببطلان الشرط كي يكون من قبيل الأكل من القفا، نعم لو كان نظره إلى بيان بطلان البيع تم إشكال الشيخ عليه بانه كالأكل من القفا.

المسألة الثالثة: قد عرفت لزوم تعيين مدة الخيار وبطلان العقد بجهالتها

فلا فرق في ذلك بين ذكر المدة المجهولة، كقدوم الحاج. وبين عدم ذكر المدة

ص: 460


1- المكاسب 5/115.

أصلاً، بأن يقول: بعتك على أن يكون لي الخيار. وبين ذكر المدة المطلقة، بأن يقول: بعتك على أن يكون لي الخيار مدة.

والسر فيه هو تساوي الجميع في الجهالة الموجب لكون البيع غررياً.

ولكن حكي عن المقنعة(1) وغيرها(2)، أن الخيار في الصورة الثانية ثلاثة أيام. وحكي الاجماع عليه وفي [الجواهر(3) و] الخلاف(4) [بل في الأخير] وجود أخبار الفرقة به.

وذكر الشيخ(5) (قدس سره) أن هذه الحكاية بمنزلة إرسال أخبار، فيكفي في إنجبارها الاجماعات المنقولة.

ولكنه (قدس سره) ذهب(6) إلى أن شيئاً من ذلك لا ينهض لتخصيص قاعدة الغرر، لأن الاجماع المنقول إنما يجبر - لو قيل بجابريته - قصور سند الخبر المرسل المتضح دلالته أو القاصر الدلالة بأن تردد أمره بين معنيين فيترجح أحدهما بالاجماع عليه بدعوى قرب اطلاعهم على قرينة معينة لأحد المعنيين. ولا يتكفل جبر المرسل المجهول العين الذي نحتمل عدم دلالته بالمرة لو اطلعنا عليه.

والظاهر أن ما نحن فيه من هذا القبيل، إذ ليس هناك نص خاص بأيدينا وارد فيما نحن فيه بالخصوص. ويحتمل قوياً أن يكون المراد من الأخبار هي أخبار خيار الحيوان، فقد عوّل الشيخ (قدس سره) في دعواه وجود أخبار الفرقة على ما نحن فيه على

ص: 461


1- المقنعة /592.
2- الانتصار /438 و 439، مسألة 250.
3- جواهر الفقه /54، مسألة 194.
4- الخلاف 3/20، مسألة 25.
5- المكاسب 5/117.
6- المكاسب 5/118 والانصاف.

اجتهاده في مدلول أخبار خيار الحيوان، بقرينة أنه لم يذكر تلك الأخبار المشار إليها في الخلاف في كتابيه الموضوعين لإيداع الأخبار.

وأما ايراد الإيرواني(1) (رحمة الله) على الشيخ: بأن عمل المشهور يجبر الخبر المجهول العين لأن ناقله ينقله بالمعنى فيكون مرسلاً منقولاً بالمعنى فأي فرق بينه وبين غيره.

ففيه: أن النقل بالمعنى إنما لا يكون مخلاً إذا كان مستنداً إلى الحس أو ما يقرب إليه وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك، لقوة احتمال أن يراد من الأخبار أخبار خيار الحيوان المعتمد في دلالتها على الاجتهادات غير الثابتة الحجية في باب النقل، ولم يثبت أنه نقل عن خبر وارد في خصوص ما نحن فيه بل القرينة على خلافه، كما عرفت.

إذن، فالحديث لابدّ أن يكون في نفس الاجماع لا المنجبر بالاجماع، لقوة احتمال اعتماد المجمعين على اجتهادهم واستنباطهم من الأخبار.

أما الأخبار المدعى دلالتها على المدعى، فهي ما ورد من أن الشرط في الحيوان ثلاثة أيام اشتراط أو لم يشترط(2)، فإنه يدعى ظهورها في أن الخيار في غير الحيوان ثلاثة أيام إذا اشترط.

وفيه ما لا يخفى، لأن ظاهر هذه الأخبار ثبوت خيار الثلاثة في غير الحيوان في خصوص مورد اشتراطها لا مطلق الشرط ولو لم يعين المقدار، فلا ربط له بما نحن فيه.

وأما توهم الاستدلال بما روي في كتب العامة من أن حبّان بن منقذ كان يُخْدَعُ في البيع لشجة أصابته في رأسه فقال له النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إذا بعت فقل: لا خلابة وجعل له الخيار ثلاثاً. وفي رواية ولك الخيار ثلاثاً(3) كما مرّ [وفي رواية: الخيار ثلاث(4)].

ص: 462


1- حاشية المكاسب 3/92.
2- نحو صحيحة علي بن رئاب، وسائل الشيعة 18/13، ح1؛ وصحيحة الحلبي، وسائل الشيعة 18/10، ح1.
3- سنن ابن ماجه 2/789، ح2355؛ مسند الحميدي 2/292؛ سنن البيهقي 5/273؛ المصنّف (لابن أبي شيبة) 8/406، ح3؛ الاستذكار 6/485؛ التمهيد (لابن عبدالبرّ) 17/8؛ كنزالعمّال 4/91، ح9682.
4- كنزالعمّال 4/144، ح9918؛ المستدرك (للحاكم) 2/22؛ سنن البيهقي 5/274؛ المغني (لابن قدامة) 4/95؛ المجموع 12/132.

فيندفع: أوّلاً: بضعف الرواية سنداً.

وثانياً: بقصور دلالتها، إذ أيُّ ربط لموضوعها بما نحن فيه، مع احتمال أن تكون ناظرة إلى اشتراط الخيار ثلاثاً.

وقد حكي عن العلّامة(1) (رحمة الله) أن معنى «لا خلابة» ذلك.

والحاصل أن الخروج بمثل ذلك عن عموم قاعدة الغرر ممنوع، لأن عمل المشهور لو سلم كونه جابراً لضعف السند فلم يعلم تحققه لإحتمال استنادهم إلى ما يستفاد من أخبار خيار الحيوان وقد عرفت الاشكال فيه. والرواية العامية قاصرة السند والدلالة.

ثمّ إنه حكي عن مفتاح الكرامة(2) أنه لو ثبت التحديد بثلاثة أيام فيما نحن فيه اندفع الغرر، فكان المورد خارجاً عن القاعدة بالتخصص.

وردّه الشيخ(3) (قدس سره) : بأن الغرر المأخوذ في موضوع القاعدة هو الغرر بلحاظ ما يقصده المتعاقدان، وهو فيما نحن فيه حاصل، فلو دلّ الدليل على التحديد بثلاثة كان الخروج به عن قاعدة الغرر بالتخصيص لا التخصص، لحصول الغرر في المعاملة.

واستشكل في ذلك بأنه مع علم المتعاقدين بتحديد الشارع للخيار بثلاثة أيام، لا يكون إقدامهم على أمر مجهول، فلا تكون المعاملة غررية موضوعاً. فتدبر»(4).

ص: 463


1- تذكرة الفقهاء 11/47.
2- مفتاح الكرامة 14/196.
3- المكاسب 5/117، السطر الأخير.
4- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(234-228).
المسألة الرابعة: مبدأ خيار الشرط
اشارة

ذهب جماعة من الفقهاء العظام أنّ مبدأ خيار الشرط من حين العقد و «هو خيرة الشرائع(1) وجامع الشرائع(2) والمختلف(3) والتذكرة(4) والتحرير(5) والإرشاد(6) والتنقيح(7) وغاية المرام(8) وتعليق الإرشاد(9) والميسية والمسالك(10) ومجمع البرهان(11). والمخالف الشيخ في الخلاف(12) والمبسوط(13) وأبو المكارم في الغنية(14) وأبو عبدالله في السرائر(15) فقالوا: من حين التفرّق. وتوقّف الشهيد في الدروس(16) كما توقّف في خيار الحيوان كما عرفت(17)»(18).

ص: 464


1- شرائع الإسلام 2/24.
2- الجامع الشرائع /247.
3- مختلف الشيعة 5/67.
4- تذكرة الفقهاء 11/48.
5- تحرير الأحكام 2/297.
6- إرشاد الأذهان 1/374.
7- التنقيح الرائع 2/45.
8- غاية المرام 2/46.
9- حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي وآثاره) 9/391.
10- مسالك الأفهام 3/218.
11- مجمع الفائدة والبرهان 8/400.
12- الخلاف 3/33، مسألة 44.
13- المبسوط 2/85.
14- غنية النزوع /220.
15- السرائر 2/247.
16- الدروس الشرعية 3/269.
17- تقدّم في مفتاح الكرامة 14/170.
18- مفتاح الكرامة 14/210.
أدلة القول بأنّ مبدأ الخيار من حين التفرق

اُستدل له بوجوه ثبوتية وإثباته، منها:

«الوجه الأوّل: وهو إشكال ثبوتي على القول بثبوت الخيار من حين العقد، وقد تقدّم مفصلاً في خيار الحيوان، وحاصله: أن لازم القول بأن الخيار من حين العقد إما اجتماع المثلين، أو اللغوية، أو توارد علتين على معلول واحد؛ وذلك لأن الخيار لو حصل من حين العقد لوجد في العقد الواحد سببان للخيار: المجلس، والشرط، فإن قلنا بتأثير كل منهما وتعدّد الخيار، لزم اجتماع المثلين في شيء واحد، أو اللغوية؛ لأن حقيقة الخيار هي «ملك فسخ العقد»، أو «السلطنة على حلِّ العقد»، والعقد الواحد ليس له إلّا حلّ واحد، فإما أن يلزم اجتماع المثلين فيه، أو لغوية الثاني، وكلاهما باطل.

وإن قلنا بوحدة الخيار لزم توارد علتين على معلول واحد، وهو محال؛ فإن حقيقة الخيار ليست من الحقائق المشككة ذات المراتب المتعددة حتّى يقال بأن الشرط يؤثّر في حدوث مرتبة منه، والمجلس يؤثر في حدوث المرتبة الأخرى، فيوجد من اجتماعهما فرد واحد ذو مرتبة شديدة، كما هوا لحال في المعلول التشكيكي الذي يحصل من علل متعدّدة، كحصول النور الشديد من اجتماع المصباحين.

وقد تقدّم الجواب عن هذا الإشكال نقضاً وحلاً، وخلاصة ما تقدّم:

أما النقض فبموارد الغبن والعيب؛ إذ يلتزم فيها بحصول خيارات متعدّدة ناشئة من المجلس، وكون البيع غبنياً، وكون المبيع معيباً، ولا يمكن أن يلتزم فيها بوحدة الخيار.

وأما الحل فبأن نلتزم بتعدد الأسباب مع كون المسبَّب واحداً، ولا يلزم أي محذور؛ وذلك لأن السببين إن اجتمعا أثّرا معاً، فكان كل واحد منهما جزء العلة، وإن افترقا كان كل واحد منهما سبباً مستقلاً في التأثير، فلا يلزم اجتماع المثلين، وفائدة تعدّد السبب أن يكون لصاحب الخيار حقان، فله أن يسقط أحدهما ويبقي الآخر، فلا تلزم

ص: 465

اللغوية.

ولكن الجواب بهذا المقدار غير رافع للإشكال؛ لأن المفروض أن كل واحد من المجلس والشرط سبب مستقل في التأثير، أي في حدوث الخيار، فلا يعقل أن يكون كل منهما علّة تامة حال الافتراق، وجزء العلّة حال الاجتماع؛ لاستحالة الانقلاب من العلّة التامة إلى الناقصة.

الوجه الثاني: إن المتبادر من جعل الخيار لنفسه جعله في زمان ليس له فيه الخيار؛ فإن الزمان الذي له فيه سلطنة على حلِّ العقد لا يحتاج إلى جعلها له، فيظهر من حال الشارط أنه جعل الخيار لنفسه في زمان لا خيار له فيه، ونتيجة ذلك أن يكون مبدأ الخيار من زمان التفرّق.

مناقشة الشيخ للوجه الثاني من وجوه القول الأوّل

مناقشة الشيخ(1) للوجه الثاني من وجوه القول الأوّل

وأورد عليه: أوّلاً: بأن لازم ذلك أن يقال بأن مبدأ خيار الشرط في بيع الحيوان من حين انقضاء الثلاثة، والحال أن القائلين بالقول الأوّل يقولون بأن خيار الشرط في بيع الحيوان من حين التفرّق.

وثانياً: بأن مستند التبادر هو ظهور حال الشارط، ولم يثبت ظهور حاله في ذلك؛ إذ ربما يتعلّق غرضه بحصول الخيار له من جهات متعدّدة.

وثالثاً: بأن ظهور الحال إنما يتمّ في من كان يعلم بثبوت خيار المجلس، وهم قليل، كالعلماء ومن يسألهم في المعاملات، وأما عامة الناس فهم غير ملتفتين لذلك، بخلاف خيار الشرط؛ فإنه أمر دارج بين العقلاء حتّى من غير المسلمين، فيكون ظاهر حالهم جعل الخيار من حين العقد.

ورابعاً: بأن لازم الحكم بثبوته من حين التفرّق حصول الغرر؛ فإن المتعاملين لو

ص: 466


1- المكاسب 5/121.

اشترطا الخيار لأنفسهما خمسة أيام مثلاً، فمع الجهل بزمان التفرّق يحصل الغرر؛ فإن مدّة الخيار تكون مجهولة حينئذ، فإن تفرّقا بعد ساعة كان لهما الخيار خمسة أيام بعد تلك الساعة، وإن دام مجلسهما شهراً كانت مدّة الخيار خمسة أيام بعد الشهر، وفي ذلك غرر بيّن.

وأورد عليه: بنفي الغرر؛ فإن الشرط هنا لا يكون مجهولاً؛ حيث إنّ منتهى أمد الخيار معلوم، وهو خمسة أيام من حين التفرّق.(1)

والظاهر عدم وروده؛ فإن الغرر حاصل بناء على القول بثبوت الغرر مع احتمال التفاوت في المالية؛ فإن احتمال ارتفاع القيمة ونزولها في هذه المدة المجهولة مما لا إشكال في حصوله، ومجرد العلم بأن مدة الخيار خمسة أيام من حين التفرّق لا يرفع الخطر المحتمل، فمع التفاوت في المالية، والجهل بمدة الخيار يقع الغرر بلا إشكال.

وخامساً: بأن لازمه أيضاً تخلّف العقد عن القصد؛ لأن قصد المتعاقدين أن يحصل الخيار من حين العقد.(2)

جواب المحقّق النائيني عن الإشكال الخامس للشيخ ودفعه

وأجاب المحقّق النائيني (قدس سره) عن هذا الأخير: بأن المورد ليس من صغريات قاعدة تخلّف العقود عن القصود؛ فإنها إنما تكون في المتباينين، كأن يقصد عنواناً خاصاً ويترتّب عليه عنوان آخر مضادّ له، كما لو قصد البيع وترتّب عليه الهبة، لا في ما كانت النسبة بينهما نسبة الأقل والأكثر، فيقصد الأكثر ويمضى الأقل، كما في بيع ما يملك وما لا يملك، بفتح الياء وكسر اللام، أو بضم الياء وفتح اللام؛ فإن القصد فيه في الحقيقة ينحلّ إلى قصدين، فهو ليس من تخلّف العقد عن القصد، وما نحن فيه من

ص: 467


1- مصباح الفقاهة 6/215.
2- المكاسب 5/121.

هذه القبيل؛ فإن المتعاقدين قصدا حصول الخيار من حين العقد إلى سنة مثلاً، ولم يمضه الشارع من حين العقد إلى حين التفرّق، وأمضاه من حين التفرّق إلى سنة.(1)

وهو غير تام؛ لأن ما يكون من قبيل بيع ما يملك وما لا يملك إنما هو لو قصدا حصول الخيار من حين العقد إلى شهر ولم يمض الشارع إلّا من حين التفرّق إلى بقية الشهر، ولكن الفرض خلاف ذلك؛ فإنهما قصدا الخيار شهراً يبدأ من حين العقد، وما اعتبره الشارع شهر يبدأ من حين التفرّق، وهذان متخالفان، فيتخلف العقد عن القصد.

تنبيه

وهنا تنبيه لابدّ من لفت النظر إليه، وهو: أن إمضاء الأقل دون الأكثر لا يعدّ من تخلّف العقود عن القصود في جميع الموارد، بل لابدّ من ملاحظة غرض المتبايعين؛ فإنه تارة يتعلّق بكون المُنشَأ بنحو تعدّد المطلوب، وأخرى بنحو وحدة المطلوب، فإن كان من قبيل الأوّل، بحيث يكون للبائع أو للمشتري غرضان، أقصى وأدنى، فإن لم يحصل الأوّل اكتفى بالثاني كما في مثل بعض موارد بيع ما يملك وما لا يملك، وكما لو تعلّق غرضه بشراء أصل العبد، وله غرض آخر متعلّق بكونه كاتباً، فتبيّن عدم كونه كذلك، فهنا إمضاء البيع في ما يملكه دون الآخر، أو في أصل العبد، لا يعدّ من تخلّف العقود عن القصود، وإن كان له خيار الفسخ.

وأما إذا كان من قبيل الثاني، بحيث لا يكون لهما أو لأحدهما إلّا غرض واحد، كما لو اشترى زوجي نعل، ومصراعي باب؛ فإن غرض المشتري تعلّق بهما معاً، وليس له غرض متعلّق بشراء أحد الزوجين أصلاً، فإن تبيّن أن أحدهما له والآخر ليس له، فإمضاء البيع في أحدهما دون الآخر يعدّ من تخلّف العقود عن القصود، مع أن بينهما

ص: 468


1- منية الطالب 3/76.

أقل وأكثر.

فما يقوله الفقهاء - من أن كل إمضاء للأقل دون الأكثر ليس من موارد التخلّف - ليس بصحيح على إطلاقه.

والنتيجة: أن الحق ما ذهب إليه الشيخ (قدس سره) ؛ للوجوه المذكورة»(1).

المسألة الخامسة: جعل الخيار للأجنبي
اشارة

المراد بالأجنبي هو الشخص الثالث غير البائع والمشتري، قال العلّامة في القواعد: «ويجوز جعل الخيار لهما [أي للبائع والمشتري] أو لأحدهما أو لثالثٍ ولهما أو لأحدهما مع الثالث»(2).

وقال السيّد العاملي في ذيله: «بلا خلاف في ذلك كلّه كما في الكفاية(3). وفي التذكرة(4) الإجماع منّا على جواز جعل الخيار للأجنبي، ونسب الخلاف إلى الشافعي في أحد قوليه، وظاهره أنّ جعله لغيره ممّا ذكر محلّ إجماع بين الجميع. وفي الرياض(5) حكى نقل الإجماع على الجميع عن الخلاف والغنية والتذكرة، ولم أجد حكايته في الأوّلين، والموجود في الثالث ما ذكرناه»(6).

ص: 469


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(349-344).
2- قواعد الأحكام 2/66.
3- كفاية الأحكام 1/465.
4- تذكرة الفقهاء 11/53.
5- رياض المسائل 8/187.
6- مفتاح الكرامة 14/197.

ثمّ في المسألة جهات من البحث:

الجهة الأولى: في صحة جعل الخيار للأجنبي
اشارة

قال الشيخ (قدس سره) : «يصح جعل الخيار للأجنبي»(1)، وادعى العلّامة (رحمة الله) الإجماع عليه؛ حيث قال في التذكرة: «لو شرطا الخيار للأجنبيّ دونهما، صحّ البيع والشرط عندنا»(2).

والبحث في هذه الجهة يقع في نقاط:

النقطة الأولى: في مقتضى القاعدة

ومقتضاها المستفاد من الأصل العملي واللفظي عدم الصحة، أما الأصل العملي؛ فلأن الخيار حق من الحقوق، وكل حق يحتاج إلى مثبت شرعي، فمع قطع النظر عن الدليل يكون الأصل عدمه، فالأصل عدم صحة جعل الخيار للأجنبي.

أو فقل: الأصل بقاء الشيء على ملك من انتقل إليه، لو فسخ الأجنبي وشككنا في تأثيره ورجوع الشيء إلى ملك صاحبه الأوّل.

وأما اللفظي؛ فلأن مقتضى ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ وجوب الوفاء بالعقد ولزومه، سواء أقلنا بأنّها إرشاد إلى اللزوم، أم قلنا بأنّ مفادها حكم تكليفي يستتبع اللزوم، فأصالة اللزوم المستفادة منها تنفي صحه جعل الخيار للأجنبي، فلو فسخ العقد وشككنا تمسكنا بها.

وهكذا مقتضى الرواية الشريفة: «فهما بالخيار حتّى يفترقا، فإذا افترقا وجب

ص: 470


1- المكاسب 5/122.
2- تذكرة الفقهاء 11/55.

البيع...»(1)، بناء على استفادة اللزوم منها.

فمقتضى القاعدة من ناحية الدليل الاجتهادي والفقاهتي هو عدم صحة جعل الخيار، فالصحة تحتاج إلى إثبات.

النقطة الثانية: في بيان المانع الثبوتي من الصحة

وما ذكر وجهاً لعدم صحة جعل الخيار للأجنبي أمران:

الأمر الأوّل: أن الخيار ليس معنى اسمياً، وملحوظاً استقلالياً، وهو مجرد السلطنة على الفسخ والإمضاء، بل هو معنى حرفي، وهو عبارة عن ردّ المال من ملك من انتقل إليه إلى ملك مالكه الأصلي، أو إبقائه وإقراره في ملك مالكه الفعلي، ففي الخيار ردّ واسترداد للملك، سواء أقلنا بأن متعلَّق الخيار هو ردّ العين، أم قلنا بأنه العقد، أي حلّ العقد وإبرامه، فصاحب الخيار بإعماله له يردّ المال إلى ملك نفسه، والأجنبي عن المال والملك أجنبي عن ردّ الملك لنفسه، فلا يعقل أن يكون هو صاحب الخيار.(2)

الأمر الثاني: أن حقيقة الخيار عبارة عن ملكية الشخص التزام نفسه مضافاً إلى ملكية التزام الطرف المقابل، وبيان ذلك:

إن كل معاملة كالبيع مثلاً تتضمن تمليك كل واحد من الطرفين التزامه للآخر، فالبائع يملّك التزامه للمشتري، فيكون المشتري مالكاً لالتزام البائع، وكذلك العكس، ويترتب على هذه الملكية أن لا يكون لأحدهما الحق في رفع اليد عن التزامه؛ لأنه صار ملكاً للآخر، إلّا أن يكون هناك خيار؛ فإن صاحب الخيار حينئذ يملك التزام الطرف الآخر، والتزام نفسه، أحدهما بالعقد والآخر بالخيار، بمعنى أن الطرف

ص: 471


1- وسائل الشيعة 18/6، ح4، الباب 1 من أبواب الخيار.
2- تعرض لهذا الوجه المحقّق النائيني (قدس سره) في منية الطالب 3/(77-76).

الآخر في حال الخيار يردّ التزامه إلى صاحب الخيار، فيمكن لذي الخيار أن يبقي المال الذي انتقل له تحت يده، ويمكنه أن يردّه لصاحبه الأوّل، وهذا المعنى لا يمكن فرضه للأجنبي؛ لأنه أجنبي عن الالتزامين، فلا معنى لأن يملكهما.(1)

هذا ما ذكر من المانع الثبوتي عن صحة جعل الخيار للأجنبي.

طرق التخلص من المانع عن صحة جعل الخيار للأجنبي

وقد سلك الأعلام طرقاً للتخلّص منهما، ولابدّ قبل التعرض لإجاباتهم من تقديم مقدمة مفيدة في فهم كلماتهم أعلى الله مقامهم فنقول:

إن المتصور من جعل الخيار للأجنبي ثلاثة أنحاء:

الأوّل: أن يكون على نحو التمليك، فيكون الأجنبي مالكاً له.

الثاني: أن يكون على نحو التوكيل، فيكون وكيلاً في إجراء الخيار.

الثالث: أن يكون على نحو التحكيم، فيكون محكَّماً فيه ومفوَّضاً إليه أمره، بلا تمليك ولا توكيل.

أما الأوّل: فممتنع في حق الأجنبي؛ لأن الخيار الثابت لصاحبه حق من الحقوق بلا إشكال، فيقبل الإسقاط، والصلح عليه، والتوريث، وهذه الآثار غير ثابتة للأجنبي قطعاً، فلو ثبت له الخيار بالشرط بمقتضى الإجماع، لم يكن له حق الإسقاط، ولا الصلح عليه، ولو مات لم يرثه أهله، فيكشف ذلك عن عدم كونه مالكاً.

وأما الثاني: فهو وإن كان ممكناً إلّا أن معنى التوكيل أن يحتفظ صاحب الخيار به لنفسه مع جعل الأجنبي وكيلاً عنه في إعماله، ومن آثاره أن له حق عزله متى أراد، فينعزل بعزله، بينما لا يجري قانون الوكالة في جعل الخيار للأجنبي، فلا يحق له عزله، ولو عزله لم ينعزل.

ص: 472


1- تعرض له المحقّق النائيني (قدس سره) أيضاً في منية الطالب 3/77.

ومع انتفاء هذين يتعين الثالث.

إذا اتضح هذا فنقول: إن هنا طرقاً للتخلّص من الإشكالين السابقين، منها:

طريق المحقّق النائيني

الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق النائيني (قدس سره) من أن جعل الخيار للأجنبي إنما هو بنحو التحكيم، وهو أمر متوسط بين الملكية والوكالة، لا بنحو التمليك حتّى يترتب عليه آثار الملك من التوريث وغيره، ولا بنحو التوكيل حتّى يمكن عزله، ولا يرد شيء من الإشكالين، وذلك لأن معنى التحكيم هو التفويض، أي أن يفوّض إليه أمر الخيار، ويرجع ذلك إلى أن نظره متّبع، وأنه مالك لتسليم الالتزام الذي هو تحت يد المالك إلى الطرف الآخر [لإعمال الخيار] أو إبقائه للمالك، فهو كالوكيل في القبض والإقباض، فله إعمال الخيار، وإذا أعمله انحل العقد ورجع كل من العوضين إلى محله الأصلي الذي خرج عنه، لا إلى ملك من حَلَّ العقد، فيندفع الإشكال الأوّل، وهو واضح، وكذا الثاني؛ لعدم القول بملكيته للالتزامين، بل هو حاكم فيهما.

والحاصل: أن للأجنبي حقاً ولكن في دائرة مخصوصة، وهو التصرف بنحو ما ذكر، وليس هذا الحق من الحقوق التي تنتقل إلى الوارث أو تقبل الإسقاط والصلح عليها.(1)

طريق المحقّق الاصفهاني

الثاني: ما ذهب إليه المحقّق الاصفهاني (قدس سره)، وفي كلامه نقطتان:

الأولى: التعريض بجواب المحقّق النائيني (قدس سره) ومناقشته، وحاصلها: أن في الخيار أمرين:

ص: 473


1- منية الطالب 3/(78-77).

1- نفس السلطنة، وهو الحق.

2- متعلَّق السلطنة، وهو حلّ العقد.

فإما أن يجعل للأجنبي حق الخيار فهو تمليك فقط، فيترتب عليه آثاره من التوريث والإسقاط والصلح عليه.

وإما أن يجعل له حلّ العقد مع قيام الحق والسلطنة بالجاعل فهو توكيل؛ إذ لا حقيقة له إلّا تسليط الأجنبي على العمل الذي يملكه الجاعل المسلِّط من ملك أو حق.

وعليه فلا يتصور البرزخ بين الملكية والوكالة المسمّى بالتحكيم.

الثانية: ما ذهب إليه من الجواب، وبيان كلامه: أنه يمكن اختيار أحد الأمرين من التمليك والوكالة، بحيث لا يترتب عليهما آثارهما، ولا يرد الإشكال.

أما على الأوّل: فلأن السعة والضيق في المجعول تابعان لسعة الجعل وضيقه، فإذا كانت دائرة جعل الخيار للأجنبي ضيّقة تكون دائرة المجعول ضيّقة أيضاً، فيجعل ذو الخيار السلطنة المحدودة للأجنبي بنفسه، بأن يقوم الحق به بما هو ذو نظر ورأي يعتمد عليه في أمر حلّ العقد وإمضائه، فلا محالة ينقطع الجعل بموته، ولا يرثه وارثه، وبما أنه حق خاص لا يتعدّاه، فلا معنى لنقله إلى غيره بالمصالحة عليه بمال.

وأما على الثاني، فيمكن لصاحب الخيار أن يسلّط الأجنبي على إعمال الحق بالتوكيل بحيث لا يشاركه في عمله، فيكون الخيار الثابت للموكِّل مشروطاً بعدم مباشرته لإعماله، أي أن صاحب الخيار يوكّل الأجنبي على حلّ العقد في ضمن العقد اللازم، ويشترط على نفسه أن لا يعمل الخيار، فلا ينعزل الوكيل بعزل الموكلِّ؛ لوقوع الوكالة شرطاً في ضمن عقد لازم، وليس للموكِّل حلّ العقد؛ لاشتراط عدم إعماله للخيار، فينحل كلا إشكالي التوكيل.(1)

ص: 474


1- حاشية المكاسب للمحقّق الاصفهاني (قدس سره) 4/(180-179).

مناقشته:

ويرد عليه: أما ما عرّض به للمحقّق النائيني (قدس سره) من عدم البرزخ بين التمليك والتوكيل، فلا معنى للتحكيم.

فنقول فيه: أما من ناحية ثبوتية فلا ريب في كون التحكيم يختلف عن التمليك والتوكيل؛ فإن معنى الحكومة هو جعل الآخر حاكماً في الأمر، وهو مغاير لمالكية الخيار، ولمالكية حلّ العقد، وللتوكيل فيهما.

وجعل القرار في الأمر بيد آخر أمر عقلائي وشرعي، ومنه الحكومة في باب القضاء، فقد ورد: «فإني قد جعلته عليكم حاكماً»(1)، وكذلك اختيار الطرفين المتنازعين لحكم يفصل في القضية بينهما، ومن هذا الباب تحكيم أبي موسى الأشعري، فما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) من وجود شق ثالث هو الصحيح ثبوتاً.

وأما إثباتاً، فالحق عدم الدليل على التحكيم في المقام إلّا إذا أمكن إتمام عموم «المؤمنون عند شروطهم»، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى.

وأما كلامه الآخر ففيه: أن فاقد الشيء لا يعطيه، عَقْلاً وعُقَلاءً وشرعاً، وما يملكه ذو الخيار من الحق هو الحق الكامل، المجتمعة أركانه الأربعة من قابلية الإسقاط، والنقل، والصلح عليه، والتوريث، وهو غير قابل لجعله للأجنبي، وما نقله للأجنبي - وهو الحق الفاقد لهذه الأركان - لا يملكه، فكيف يعطيه لغيره؟

إن قلت: إن الشارع هو الذي جعل هذا الخيار للأجنبي تعبّداً.

قلت: أوّلاً: هو خلاف ما ادّعاه، من أنه من جعل المالك.

وثانياً: لا دليل على أنه من جعل الشارع.

فالإشكال باقٍ على إعضاله، مع كمال قدرتهما [النائيني والإصفهاني أعلى الله مقامهما

ص: 475


1- وسائل الشيعة 27/136، ح1، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، مقبولة عمر بن حنظلة.

في باب المعاملات.

طريق السيّد اليزدي ومناقشته

الثالث: ما ذهب إليه السيّد الفقيه اليزدي (قدس سره)

من دوران الأمر بين التوكيل والتحكيم، ولم يتعرض للتمليك، والثمرة بينهما أنه بناء على القول بالتحكيم فلو مات الحاكم الأجنبي انتقل الخيار إلى وارثه، وأما بناء على التوكيل فيبطل خياره ولا ينتقل إلى وارثه، وأيضاً يجوز عزل الوكيل فيبطل الخيار، ولا يجوز عزل الحاکم.(1)

وفيه: أوّلاً: أنا إذا لاحظنا حقيقة التحکيم فهي ليست إلّا تفويض أمر الحکومة إلى آخر، وهذا النحو من الجعل غير قابل للانتقال والتوريث؛ لأنه - كالتولية، وتولية الأمر - حيثيه قائمة بالمجعول له، فلا يتجاوز عنه إلى غيره.

وثانياً: إن الإرث يحتاج إلى دليل؛ فإن موضوع الميراث هو المتروك من قبل الوارث؛ بمقتضى «ما تركه الميت فهو لوارثه»، فلابدّ من صدق عنوان «المتروك، وما ترك»، وإلّا فمع الشك في قابليه انتقال الأمر القائم بهذا الشخص إلى وارثه يكون مجرى لأصالة عدم الانتقال، فخلط السيّد (قدس سره) بين التحكيم والتمليك، وقد تقدم البحث في تمليك الخيار فلا نعيد.

والحاصل: أنه على القول بالتحكيم لا معنى لأن يكون ميراثاً، والإرث في مورد تمليك الخيار أمر ممكن، وبحسب الظاهر لم يذهب أحد من الفقهاء - في ما نحن فيه - إلى القول بتوريث خيار الأجنبي.

طريق الشيخ ومناقشته

الرابع: ما أفاده الشيخ(2) (قدس سره) في آخر المبحث؛ حيث نظّر خيار الأجنبي بخيار

ص: 476


1- حاشية السيّد اليزدي 2/472.
2- المكاسب 5/124، ولفظ الشيخ (قدس سره) في ردّ الإشكال: «وهو ضعيف بمنع اعتبار كون الفسخ من أحد المتعاقدين شرعاً ولا عقلاً، بل المعتبر فيه تعلّق حق الفاسخ بالعقد أو بالعين وإن كان أجنبياً، فحينئذ يجوز للمتبايعين اشتراط حق للأجنبي في العقد، وسيجئ نظيره في إرث الزوجة للخيار مع عدم إرثها من العين».

الزوجة في بيع العقار في مالو باع زوجها عقاراً واشترط لنفسه الخيار ثمّ مات؛ فإنّها لاترث من الأرض؛ بمقتضى ما دلّ(1) على عدم إرثها منها، ولكنها ترث حق الخيار؛ وذلك لأن متقضى إطلاق «ما تركه الميت من مال أو حق فلوارثه» شمولها في إرث الإثنين، ولكنها أخرجت عن إرث الأرض خاصة فتبقى تحت الشمول في إرث الباقي، والخيار من جملة الحقوق، فهي ترث حق الخيار المتعلِّق ببيع الأرض وإن لم ترث الأرض نفسها، وسيأتي البحث في هذه المسألة في باب أحكام الخيار إن شاء الله تعالى.

ويرد على ما أفاده الشيخ (قدس سره) إشكالان:

الأوّل: إن في متعلّق الخيار مسلكين: أحدهما أن متعلّق الحق هو العقد، والآخر أن متعلقه العين، ومعنى الخيار على الأوّل هي السلطنة على حلّ العقد، وعلى الثاني السلطنة على ردّ العين إلى الملك، والمستفاد من الشيخ (قدس سره) في تعريف الخيار أنه ملك فسخ العقد وعدم فسخه، في مقابل المشهور القائلين بأنه ملك فسخ العقد وإمضائه، والمتعلّق على كلا القولين هو العقد.

وبناء على هذا لا يكون إشكال الشيخ (قدس سره) في إرث الزوجة في الأرض المبيعة بالبيع الخياري على القاعدة؛ فإنّ حقّ المرأة لم يتعلق بالأرض حتّى تكون أجنبية، بل تعلّق بالعقد وهي من ورثة الحق.

نعم، بناء على ما يستفاد من كلمات أخرى للشيخ (قدس سره) من أن الخيار يتعلق بردّ العين، فتشكل المسألة في إرث الزوجة، وفي ما نحن فيه أيضاً.

ص: 477


1- منها ما في وسائل الشيعة 26/207، ح4، صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً».

أما في إرث الزوجة؛ فلعدم وجود العلقة بينها وبين الأرض ليكون لها الحق في ردّها.

وأما في ما نحن فيه؛ فلعدم العلقة بين الأجنبي وبين المال ليتعقّل منه ردّه إلى ملك مالكه، فينحصر الردّ والاسترداد بنفس المالك الذي خرج المال من كيسه فيردّه إليه.

وهذا ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) في طرح الإشكال بقوله: «إن الخيار ليس معنى اسمياً وملحوظاً استقلالياً وكان مجرد السلطنة على الفسخ والإمضاء، بل هو معنى حرفي، وهو عبارة عن ردّ كل مال إلى مالكه الأصلي، أو إبقائه وإقراره في ملك مالكه الفعلي، وهذا ينفذ ممن كان زمام المال بيده، وأما الأجنبي فأجنبي عنه»(1).

والحاصل: إن كان الخيار هو ردّ العين، فالإشكال في الموردين، ما نحن فيه وإرث الزوجة من الأرض المبيعة بالخيار [باق].

الثاني: إن غاية ما يثبته قياس ما نحن فيه على إرث الزوجة للخيار هو الإمكان الثبوتي، أي أنه يمكن ثبوتاً جعل الخيار للأجنبي عن المال، كما هو الحال في الزوجة بالنسبة إلى الأرض التي باعها زوجها بالبيع الخياري ثمّ مات.

وهذا الإمكان غير مفيد في ما نحن فيه؛ إذ الإشكال في مقام الإثبات، فلابدّ من الرجوع إلى أدلة نفوذ هذا الخيار المجعول للأجنبي، ولا ريب في عدم وجود الدليل الخاص في المقام إلّا الإجماع المدّعى من العلّامة (رحمة الله)، وأما الدليل اللفظي فلا أثر له، إلّا أن يدّعى إمكان التمسك بإطلاق «المؤمنون عند شروطهم»، وسيأتي البحث فيه.

ص: 478


1- منية الطالب 3/(77-76).
النقطة الثالثة: في الدليل على صحة جعل الخيار للأجنبي
اشارة

تقدم نقل دعوى العلّامة(1) (رحمة الله) الإجماع على صحه جعل الخيار للأجنبي، فمن يعتمد على مثل هذا الإجماع فهو في سعة من أمره، وأما على المختار من عدم صلاحية مثله للاستناد إليه في مقام الفتوى؛ لعدم كشفه عن رأي المعصوم (علیه السلام)، ولا عن دليل معتبر آخر، فلابدّ من البحث عن الدليل على الصحة، وما أقيم من الدليل هو: عموم روايات الشروط، من قبيل «المؤمنون عند شروطهم»(2)؛ فإن جعل الخيار له إنما هو بشرط المتبايعين، كليهما أو أحدهما، فيكون صغرى للكبرى المذكورة في الرواية، فيصح ويلزم.

ويمكن أن يقرّب بهذا التقريب: إن شرط الخيار للأجنبي مما يصدق عليه عنوان الشرط، سواء أقلنا بأخذ الالتزام ضمن التزام في معنى الشرط وحقيقته، أم قلنا بعدم الأخذ، وكفاية الالتزامات الابتدائية؛ فإن شرط الخيار في نفسه التزام، وهو أيضاً التزام في ضمن البيع، فالصغرى متحققة قطعاً، والكبرى منطبقة قهراً فيتم المطلوب.

الإشكال الأول للمحقّق الخوئي على الاستدلال به ومناقشته

وأورد عليه المحقّق الخوئي (قدس سره) بإشكالين:

الإشكال الأوّل: أن مدلول هذه الروايات حكم تكليفي، وهو وجوب الوفاء بالشرط؛ فإن التعبير بالمؤمن عند شرطه، كعبارة عند وعده وعهده، والمدّعى - وهو صحة جعل الخيار للأجنبي ونفوذه - حكم وضعي خارج عن مدلولها.(3)

وقد تعرض له في بحث لزوم المعاطاة أيضاً؛ حيث أورد على استدلال

ص: 479


1- تذكرة الفقهاء 11/55.
2- قد بحثنا عن سند هذا الحديث ودلالتها في الآراء الفقهية 4/133 وذهبنا إلى عدم صدق الشرط على الالتزامات الإبتدائية، فراجعها.
3- مصباح الفقاهة 6/216.

الشيخ (قدس سره) بها للزوم المعاطاة بإشكال صغروي، وهو أن الشرط التزام في ضمن التزام، والمعاملات التزامات ابتدائية فلا تكون صغرى للشرط، وإشكال كبروي، وهو أن مدلول الحديث حكم تكليفي لا وضعي.(1)

ولو تمّ كلامه لما أمكن التمسك بها لأي حكم وضعي، ولكن في كلامه:

أوّلاً: أن كلماته (قدس سره) متهافتة في مدلول الحديث، فذهب في المقامين المذكورين إلى أن مدلوله حكم تكليفي، إلّا أنه في مبحث الشروط، في مصباح الفقاهة، وفي موارد من شرح العروة، ذهب إلى أن المدلول حكم وضعي، بتقريب أن الشرط ملازم للمؤمن، ولا ينفك عنه، فإذا شرط لم يقبل الانفكاك عنه، وكان شرطه لازماً وصحيحاً.(2)

وثانياً: بعد غض الطرف عن التهافت، أن عبارة «عند شروطهم» في الحديث لا تدل على الحكم الوضعي، وهو لزوم الشرط ونفوذه؛ فإنه ورد في باب وعد المؤمن [«المؤمن إذا وعدوفىٰ»(3)]، ولم يذهب أحد من الفقهاء أعلى الله مقامهم - وهو منهم - إلى دلالتها على نفوذ الوعد، وأن مخالفته غير مؤثرة، وإن اختلفوا في وجوبه التكليفي، فذهبت طائفة إلى وجوب الوفاء تكليفاً، وأخرى إلى كونه حكماً أخلاقياً.

فمن يلتزم بدلالة الحديث على الحكم الوضعي كان عليه أن يلتزم بلزوم كل وعد، وشرط ابتدائي.

ص: 480


1- مصباح الفقاهة 2/158.
2- مصباح الفقاهة 7/361، التنقيح في شرح المكاسب 40/36 و 79، وفيها صرح بقوله: «وبالجملة: أن الحديث يدل على الحكم الوضعي فقط، وهو إمضاء الشارع لالتزامات المتبايعين واشتراطاتهم، ومعناه أن شروط المؤمنين نافذة وجائزة ولازمة...»، التنقيح في شرح العروة، 22/(473-472).
3- بحارالأنوار 67/311، ح45.

ولو تنزلنا فاتفاق من يعتنى بشأنهم من الفقهاء كافٍ لتزلزل ظهور الحديث في الحكم الوضعي.

فغاية ما يدلّ عليه الحديث، وما يستفاد من [«المؤمن إذا وعدوفىٰ»] أن مقتضى إيمان المؤمنين أن يعملوا بوعدهم وشروطهم، فلا يدلان على ما زاد على الحكم التكليفي.

وثالثاً: أن الشرط - كما سيأتي في بحث الشروط إن شاء الله تعالى - على نحوين: شرط الفعل، كأن يشترط في ضمن عقد البيع أن يخيط له ثوباً، وشرط النتيجة، كأن يشترط فيه أن يكون الكتاب ملكاً له، واختلف الفقهاء في صحة شرط النتيجة، فلم يقل بها جماعة منهم، وصحّحه آخرون، واخترنا القول بصحته في كل أمر اعتباري يكون اعتباره باختيار الشخص نفسه، ولم يكن له سبب خاص عند الشارع كما في الطلاق؛ فإنه مشروط بصيغة خاصة، فلا يأتي فيه شرط النتيجة، والمحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) ممن ذهب إلى صحته، وتمسك لها بالحديث المذكور، مع أنه لا يصح هذا الاستدلال على ما اختاره في بعض كلماته من دلالة الحديث على الحكم التكليفي فقط.

نعم، يصح الاستدلال على القول بكون المستفاد حكماً وضعياً كما يستفاد من بعض كلماته الأخرى.(1)

العمدة في الجواب عن الإشكال الأوّل

والعمدة في حلّ الإشكال هو استدلال الإمام (علیه السلام) بالحديث على نفوذ الشرط، وبهذا افترق هذا الحديث عن روايات الوعد، والروايات الواردة على طائفتين:

الطائفة الأولى: ما دلّ على أصل نفوذ الشرط بدون الاستدلال بكبرى روايات

ص: 481


1- مصباح الفقاهة 7/362، ولكنه هنا صرّح بدلالة الحديث على الحكم التكليفي والوضعي معاً فلاحظ.

الشروط وهي:

1- صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قلت له: إني كاتبت جارية لأيتام لنا واشترطت عليها إن هي عجزت فهي ردّ في الرّق وأنا في حلّ مما أخذت منك، قال: فقال لي: «لك شرطك، وسيقال لك: إن علياً (علیه السلام) كان يقول: يعتق من المكاتب بقدر ما أدّى من مكاتبته، فقال: إنما كان ذلك من قول علي (علیه السلام) قبل الشرط، فلمّا اشترط الناس كان لهم شرطهم...، الحديث.(1)

ومفادها حكم وضعي، لا تكليفي، وهو نفوذ شرط النتيجة، وهو الردّ في الرّق إن عجزت عن أداء مال الكتابة، كما أن الإمام (علیه السلام) أرشد السائل إلى الجواب فيما لو احتجوا عليه بقول أميرالمؤمنين علي (علیه السلام) بأن المكاتب ينعتق منه بمقدار ما أدّى من مال الكتابة، وأن ذلك إنما هو قبل الشرط، فالحكم الأولي هو ذلك لولا الشرط.

2- صحيحته الأخرى، قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن مكاتبة أدّت ثلثي مكاتبتها وقد شرط عليها إن عجزت فهي ردّ في الرّق، ونحن في حلّ مما أخذنا منها، وقد اجتمع عليها نجمان، قال: تردّ ويطيب لهم ما أخذوا...، الحديث.(2)

3- صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (علیه السلام) في المكاتب يكاتب ويشترط عليه مواليه إن عجز فهو مملوك ولهم ما أخذوا منه، قال: يأخذه مواليه بشرطهم.(3)

الطائفة الثانية: ما فيها الاستدلال بالكبرى، علاوة على دلالتها على الحكمين الوضعي والتكليفي وهي:

1- صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (علیه السلام) في المكاتب إذا أدّى بعض مكاتبته، فقال: إن الناس كانوا لا يشترطون فهم اليوم يشترطون، والمسلمون عند شروطهم،

ص: 482


1- وسائل الشيعة 23/140، ح1، الباب 4 من أبواب المكاتبة.
2- وسائل الشيعة 23/154، ح1، الباب 10 من أبواب المكاتبة.
3- وسائل الشيعة 23/154، ح2، الباب 10 من أبواب المكاتبة..

فإن كان شرط عليه إن عجز رجع، وإن لم يشترط عليه لم يرجع...، الحديث.(1)

وقد اشتملت هذه الصحيحة على الصغرى والكبرى، ومدلول الكبرى الحكم التكليفي بوجوب الوفاء بالشرط، والحكم الوضعي وهو نفوذه، كما دلّت على صحة شرطي الفعل والنتيجة.

2- صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) في مكاتب شرط عليه إن عجز أن يردّ في الرّق، قال: المسلمون عند شروطهم.(2)

3- صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: سألته عن رجل كان له أب مملوك، وكانت لأبيه امرأة مكاتبة، قد أدّت بعض ما عليها، فقال لها ابن العبد: هل لك أن أعينك في مكاتبتك حتّى تؤدّي ما عليك بشرط أن لا يكون لك الخيار على أبي إذا أنت ملكت نفسك؟ قالت: نعم، فأعطاها في مكاتبتها على أن لا يكون لها الخيار عليه بعد ذلك، قال: لا يكون لها الخيار، المسلمون عند شروطهم.(3)

فإن من المعلوم أن الأمة المزوّجة من عبد عندما تصبح حرّة تكون مختارة في فسخ الزوجية منه، ومفاد الرواية أن ابن الزوج اشترط على زوجة أبيه إن هو أعانها على أداء مال الكتابة أن لا يكون لها الخيار في فسخ زوجيتها من أبيه، فمتعلّق الشرط هو عدم الخيار، وهو حكم وضعي، لا تكليفي، مضافاً إلى أن الشرط شرط نتيجة لا فعل، وقد حكم الإمام (علیه السلام) بصحته ونفوذه، وطبّق الكبرى عليه.

وحاصل الكلام: أن جملة «المؤمنون عند شروطهم» لا تدلّ بنفسها على الحكم الوضعي - وهو صحة الشرط ونفوذه - لولا تطبيق الإمام (علیه السلام) لها في موارد شرط النتيجة والحكم الوضعي، كعدم الخيار، والردّ في الرّق، وببركة هذا التطبيق أمكن

ص: 483


1- وسائل الشيعة 23/141، ح3، الباب 4 من أبواب المكاتبة.
2- وسائل الشيعة 23/142، ح7، الباب 4 من أبواب المكاتبة.
3- وسائل الشيعة 23/155، ح1، الباب 11 من أبواب المكاتبة.

الاستدلال بها في المقام، فيصح شرط الخيار للأجنبي، ويرتفع عنه إشكال كونه حكماً وضعياً لا تشمله «المؤمنون عند شروطهم».

الإشكال الثاني للمحقّق الخوئي

الإشكال الثاني: أن هذه الروايات ليست مشرِّعة لشرط لا نعلم بمشروعيته، وإنما تصحح الشروط المشروعة، فلابدّ من إحراز شرعية الشرط في مرحلة سابقة، ثمّ التمسك بها لاستفادة لزوم الوفاء بالشرط، وشرط الخيار للأجنبي - حسب مقتضى الأصل والقاعدة المتقدمة - إما غير مشروع، أو مشكوك المشروعية، وعلى التقديرين لا يصح التمسك بها لتصحيحه.

طريق التخلص عن الإشكال بنظر المحقّق الخوئي

وتخلّص عنه المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) : بأن المُنشأ في موارد شرط الخيار هي الملكية المحدودة بعدم الفسخ؛ وذلك بعد استحالة الإهمال في الواقعيات، وعدم اجتماع الملكية المطلقة مع الخيار فيتعين التقييد، فتكون الملكية المُنشأة هي الملكية المحدودة إلى زمان فسخ الأجنبي، وآية ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، خطاب انحلالي بوجوب الوفاء بكل عقد، ومفادها الحكم بنفوذ ما عقد عليه، ومتعلقه في موارد شرط الخيار هي الملكية المحدودة، فالآية بنفسها تدلّ على نفوذ هذا النحو من الشروط، فيكون الاستدلال على صحة شرط الخيار للأجنبي بالآية، لا بالحديث ليرد الإشكال، ولا طريق للتخلص عنه إلّا هذا.(1)

ولأهمية البحث لابدّ من توضيح المطلب بشكل جيّد فنقول:

إنّ مبناه (قدس سره) في جميع موارد الشروط - كما يظهر من كلامه في هذا الباب، وباب

ص: 484


1- مصباح الفقاهة 6/(217-216).

الغبن، والشروط، وجميع مسائله في منهاج الصالحين - هو أن الشرط المأخوذ في ضمن العقد يرجع إلى جعل الخيار، فمثلاً إذا باع المتاع بشرط خياطة الثوب، فحقيقة هذا الشرط أنه جعل لنفسه الخيار في ما لو لم يخطه، فلا يكون ملزماً بالوفاء بالعقد حينئذٍ، وجعل الخيار - بمقتضى برهان عدم الإهمال في الإنشاء - يرجع إلى إنشاء الملكية المحدودة إلى زمان الفسخ، والدليل على صحة هذه الملكية هو ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾.

المناقشة في طريق المحقّق الخوئي

وفي هذا المبنى وجوه من الإشكال:

الوجه الأوّل: مناقضة مختاره لمبناه في آية ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾؛ فإن فيها مبنيين:

الأوّل: أن مدلولها حكم تكليفي وهو وجوب الوفاء بالعقد، ولازمه الذي لا ينفك عنه هو اللزوم، فهي تدل بالدلالة المطابقية على الحكم التكليفي، وبالدلالة الالتزامية على الحكم الوضعي، وهو مختار الشيخ (قدس سره).

الثاني: أنها إرشاد إلى اللزوم، فمدلولها - ابتداء - حكم وضعي، ولا مناص من رفع اليد عن ظهور هيئة الأمر في اعتبار اللابديّة، والوجوب؛ لقيام الضرورة الفقهية على عدم حرمة الفسخ تكليفاً، وعدم وجوب عدمه، بحيث يكون مرتكبه مذنباً وفاسقاً، فمع بطلان الحرمة التكليفية يتعيّن كون المراد منها لزوم العقد، فلو فسخ لا ينفسخ، وهذا هو مختار المحقّق الخوئي (قدس سره).

ومن كان مبناه في الآية أنها إرشاد إلى اللزوم، وأن مفادها أن العقود لازمة، كيف يعقل منه أن يستدل بها على صحة هذا البيع الخياري؟!

فالجمع بين هذين ما هو إلّا جمع بين المتناقضين.

الوجه الثاني: أن ما أفاده (قدس سره) مخالف لما عليه الارتكاز العقلائي؛ فإن المعاملات مطلقاً أمور عقلائية ارتكازية، والمُنشأ في الارتكاز العقلائي واحد في جميع المعاملات، سواء أكانت خيارية - بالأصل أو بالعارض - أم غير خيارية؛ فإن المُنشأ في البيع

ص: 485

والصلح والإجارة من العقود اللازمة هي الملكية المطلقة، والمُنشأ في المعاملات الخيارية هي الملكية المطلقة أيضاً، ولم تحدّد بغاية ولا أمد، فإنشاء «بعت» في موارد عدم الغبن، وكون المبيع صحيحاً هو بنفسه في موارد الغبن وكون المبيع معيباً، فالإنشاء واحد ولا اختلاف في المنشأ، ولكن المنشأ - وهي الملكية - يكون محكوماً بالجواز إذا كان البيع خيارياً، وباللزوم إذا لم يكن خيارياً، فما أفاده (قدس سره) مخالف للارتكاز العقلائي.(1)

الوجه الثالث: أن لازم هذا القول أن يكون وزان العقد الخياري وزان إجارة الأعيان، وهو ممنوع فقهاً؛ وذلك لأن المراد من الفسخ في المعاملات أحد معنيين باختلاف المبنيين، أحدهما حلّ العقد، والآخر رد العين إلى ملكية من انتقلت منه، وكلا المبنيين يشتركان في أن قوامه بالاسترداد في الملك، إلّا أن الاسترداد على المعنى الأوّل لازم للفسخ وحلّ العقد، وعلى الثاني يحصل ابتداء، فحقيقة الفسخ في جميع العقود التي يوجد فيها هذا الحق - كالبيع والصلح والإجارة - هو ردّ الملك، مطابقة أو التزاماً، أي رجوع الملك المنتقل إلى صاحبه الأوّل.

فإذا التزم بأن البيع الخياري هو إنشاء الملكية المحدودة إلى زمان الفسخ، فمعناه أن الفسخ ليس ردّ الملك - الذي انتقل - إلى صاحبه؛ إذ هو صاحبه من الأوّل من هذا الحدّ، فيكون وزان جميع المعاملات الخيارية وزان الإجارة وتمليك المنفعة؛ فإن المنفعة تنتقل إلى ملك المستأجر مدة الإجارة المضروبة فقط، وتكون بعدها باقية على ملك مالكها الأوّل، ولهذا لا يحصل للمؤجر - بعد انتهاء مدة الإجارة - ملك جديد، فلابدّ لمن قال بالملكية المحدودة بالفسخ أن يلتزم بأن العين قد خرجت بالبيع عن ملك البائع

ص: 486


1- فإن قلت: إذا لم يكن بينهما اختلاف فلماذا حكم في أحدهما باللزوم وفي الآخر بالجواز؟ والجواب: أنه ليس الاختلاف من حيث المنشأ؛ فإن الملكية في كليهما مطلقة، والحكم بالجواز وعدمه إنما جاء من قبل جعل الخيار وعدم جعله، فإن جعل الخيار موضوع لحكم الشارع بالجواز.

مدة معينة محدودة، وأما بعدها فلم تخرج عن ملكه حتّى ترجع، وهو ممنوع فقهاً؛ فإن حقيقة الفسخ - كما تقدم - هو ردّ العين مطابقة أو التزاماً، وليس انتهاء أمد الملك المنتقل، وبينهما بون بعيد.(1)

الوجه الرابع: أن تصحيح جعل الخيار للأجنبي بفرض الملكية المحدودة بالفسخ مستلزم للدور؛ وذلك لتوقف صحة جعل الخيار على صحة الملكية المحدودة بالفسخ وبما أنه أخذ في الموقوف عليه حدّ الفسخ، فصحة الخيار تكون متوقفة على صحة الفسخ، ومما لا شك فيه أن الفسخ موقوف على الخيار فيلزم الدور المحال.

الطريق الصحيح للحل

فهذا الطريق للحلّ - مع هذه الإشكالات - غير قابل للقبول، فلابدّ من اختيار طريق آخر، وهو لا يتمّ إلّا برفع إشكالين:

الإشكال الأوّل: ما تقدم من أن دليل الشرط ليس بمشرِّع، فلابدّ من إحراز جواز الشرط في مرحلة سابقة، ثمّ التمسك به.

والحق في الجواب عنه أن يقال: إن مقتضى إطلاق دليل نفوذ الشرط جواز كل شرط ونفوذه، إلّا أنه ورد استثناء الشرط المخالف لكتاب الله وسنة نبيه(2) (صلی الله علیه و آله و سلم)،

ص: 487


1- سئل الأستاذ المحقّق (دام ظله) فأفاد بما يوضح المطلب وحاصله: أن مبنى المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) في المعاملة التي جعل فيها الخيار أن المُنشأ هي الملكية المحدودة إلى زمان الفسخ، فإذا جعل البائع للدار الخيار في البيع، فمعناه أنه قال للمشتري ملّكتك الدار إلى أن أفسخ. والإشكال: أن قوله ملّكتك الدار إلى أن أفسخ البيع، مثل قوله: ملّكتك منافع الدار شهراً، إلّا أن التحديد في الإجارة كان بالزمان، وفي البيع بالزماني، وهو الفسخ، فما زاد عن هذا الحد لم تخرج فيه الدار عن ملك البائع من الأوّل حتّى ترجع إلى ملكه بالفسخ، وهو خلاف حقيقة الفسخ؛ فإن حقيقته رجوع المال الذي انتقل للمشتري إلى ملك البائع بواسطة الخيار.
2- وسائل الشيعة 18/16، ح2، الباب 6 من أبواب الخيار.

ونحن نشك في كون شرط الخيار للأجنبي مخالفاً لهما أو لا، فإن كنا نقول بجريان استصحاب العدم الأزلي فلا إشكال، وإلّا فلا دافع له؛ وذلك لأن مدلول الحديث بعد التخصيص هو جواز الشرط الذي لم يكن مخالفاً للكتاب والسنة، وبما أنا نشك في كون شرط الخيار للأجنبي مخالفاً لهما أو لا، فالتمسك بدليل الشرط من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية للمخصِّص، وهو باطل بالضرورة.

وأما إذا قلنا بجريان استصحاب العدم الأزلي فيمكن جريانه في المقام فيتنقح موضوع الدليل؛ لأن موضوعه بعد التخصيص صار مركباً من أمر وجودي، أعني «الشرط»، وهو محرز بالوجدان، ومن أمر عدمي، وهو «لم يكن مخالفاً للكتاب والسنة»، وهو محرز بأصل العدم الأزلي، فينحل الإشكال الأوّل، ولكن يأتي:

الإشكال الثاني: وقد أورده المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) في بحث الشروط(1)، وهو يرد حتّى مع القول بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي، وحاصله: أن الأصل في المعاملات وفي الشروط الفساد، فلو اشترط في ضمن المعاملة أن يكون المتاع لفلان، فلو لم يكن دليل الصحة فهل ينتقل المال لفلان بالشرط أو لا؟ الأصل عدم الانتقال، وبما أن الأصل الفساد لا يجري استصحاب عدم كون الشرط مخالفاً للكتاب والسنة أزلاً.

والجواب عنه: أن موضوع قاعدة «الأصل في العقود الفساد» هو عدم الدليل على الصحة، فإذا قام الدليل على الصحة من عموم أو إطلاق أو نص خاص كان حاكماً عليها، ولا يعقل أن يكون الدليل المحكوم مانعاً عن وجود الدليل الحاكم، ولا مسقطاً له؛ لأن الثاني مزيل لموضوع الدليل الأوّل دائماً، والفرض في ما نحن فيه أن عموم «المؤمنون عند شروطهم» دليل، وهو شامل لهذا الشرط، وبما أنه يوجد مستثنى

ص: 488


1- مصباح الفقاهة 7/327.

منه وهو «شروطهم»، ومستثنى وهو «ما خالف كتاب الله وسنة نبيّه»، وانطباق عقد المستثنى منه بالوجدان، وبجريان الأصل يتمّ المستثنى، فالعموم بضميمة الاستصحاب يكون حاكماً على أصالة الفساد، فلا يعقل أن تكون مانعة من عمومه.

ولو كان نظره إلى احتمال فساد هذا الشرط لمخالفته للكتاب والسنة، لا من جهة عدم الدليل، فجوابه واضح؛ فإن استصحاب عدم المخالفة يزيل الشك من هذه الجهة.

فتحصل مما تقدم: أن مقتضى القاعدة الحكم بمشروعية جعل الخيار للأجنبي، والدليل عليه إطلاق أدلة الشروط بضم أصل العدم الأزلي»(1).

أقول: الإشكال من اساسه غير وارد ولا نحتاج إلى جواب المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) ولا إلى جواب الأستاذ المحقّق (دام ظله) لأنّ «المؤمنون عند شروطهم» مطلق يجري في جميع الشروط ويشملها، كما قوله تعالى: ﴿ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ مطلق يجري في جميع البيوع وكما قوله تعالى: ﴿ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾ مطلق يجري في جميع التجارات وكما قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ مطلق يجري في جميع العقود وكما قوله (علیه السلام) : «لكل قوم نكاح» عامٌ يجري في جميع الأنكحة وأمّا الشارع بعد ذلك إذا لم يقرر شرطاً أخرجه بمخالفة الكتاب والسنة، فإذا لم أجدها مخالفاً للكتاب والسنة يجري في مورده «المؤمنون عند شروطهم» كما إذا لم يقرر بيعاً أخرجه ب- «نهي النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عن بيع الغرر» و «لا بيع إلّا في ملك» وقوله تعالى: ﴿ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(2) ونحو ذلك.

وكذا إذا لم يقرر نكاحاً أخرجه بحرمة نكاح المحارم وقوله (عزوجل): ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا*حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ

ص: 489


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(374-350).
2- سورة البقرة /275.

وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا*وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾(1).

وأخرجه بحرمة نكاح الشغار وغيره، والباقي يبقىٰ تحت عنوان العام.

والحاصل: «المؤمنون عند شروطهم» مطلق يشمل شرط جعل الخيار للأجنبي وهذا الشرط لم يخالف الكتاب والسنة لعدم ورود النهي عنه فيهما وحيث لم يثبت المقيّد، يشمله الإطلاق ويحكم بصحة هذا الشرط والله العالم.

الجهة الثانية: في اشتراط قبول الأجنبي وعدمه
اشارة

لا يخفى أن الأصل في ما لو شككنا في تحقق الخيار للأجنبي بمجرد جعل المتعاملين أو أحدهما من دون قبوله هو عدم تحققه، فلابدّ من إقامة الدليل على عدم اشتراطه.

تفصيل المحقّق النائيني في المقام ومناقشته

وقد أفاد المحقّق النائيني (قدس سره) في ذلك ما حاصله: إن قلنا بأن جعل الخيار للأجنبي توكيل له أو تفويض، فلا شبهة في احتياجه إلى القبول؛ لأن الوكالة من جملة العقود، فتتوقف على الإيجاب والقبول، وحقيقة التفويض تولية الأمر، فيحتاج إلى قبول أيضاً.

ص: 490


1- سورة النساء /(24-22).

وأما إن قلنا بأنه تمليك، فإن قلنا بانحصار تحقّق الملك القهري بخصوص الإرث، والوقف على البطون، فلابدّ من القبول، وإن قلنا بحصوله بشرط النتيجة أيضاً فلا حاجة إلى القبول، فيملك الخيار بمجرد جعل المتعاقدين.(1)

وما أفاده من عدم الحاجة إلى القبول إن التزم بحصول الملكية بشرط النتيجة، محل تأمل ونظر؛ لأن مستند شرط النتيجة هو دليل الشرط، أعني «المؤمنون عند شروطهم»، واستفادة عدم اشتراط القبول منه منافِ لقاعدة السلطنة على النفس؛ فإنه وإن لم يرد «الناس مسلطون على أنفسهم» إلّا أن مقتضى قاعدة السلطنة على المال - المستفادة من مرسلة «الناس مسلطون على أموالهم»(2)، أو من القاعدة العقلائية - هو أن الناس مسلطون على أنفسهم بالأولوية القطعية، وحصول الملك أو الحق للإنسان من دون قبوله منافِ لسلطنته على نفسه، فمقتضى الجمع بين دليل الشرط وقاعدة السلطنة صحة شرط النتيجة؛ لدليل الشرط، واشتراط القبول؛ لقاعدة السلطنة، فلو أراد أن يهب لآخر شيئاً، وأنشأ الهبة كان للموهوب له عدم القبول ولا يلزم به، وكما يمكنه أن ينشئ الهبة بقوله: وهبتك، يمكنه بشرط النتيجة؛ لعدم توقف الهبة على إنشاء خاص، بل يمكن إنشاؤها بكل ما له صلاحية إنشاء هذا الأمر الاعتباري، والشرط له الصلاحية حسب الفرض، ولكن لا ينفي اشتراط قبول الموهوب له؛ فإن ما تحقق من طرف الواهب هو الإيجاب بالشرط، وهو لا ينفي الحاجة إلى القبول.

وعليه فمقتضى الجمع بين القاعدتين اعتبار القبول، من دون أن ينافي شرط

ص: 491


1- منية الطالب 3/78.
2- الخلاف 3/176، وقال فيه: «وأيضاًروي عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: الناس مسلطون على أموالهم». وعوائد اللآلي 1/457، ح198 وعنه في بحارالأنوار 2/272، ح7، وقد مرّت جبران ضعف سند هذه المرسلة في الآراء الفقهية 4/110.

النتيجة.

دليل المحقّق الخوئي على عدم الحاجة إلى القبول ومناقشته

وقد ذكر المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) وجهاً آخر لعدم الحاجة إلى القبول، وحاصله: أن باب الحقوق أجنبي عن باب الملك؛ فإن حصول الملك إنما هو بالأسباب الاختيارية التي جعلت في الشريعة المقدسة، فلا يحصل بدون القبول، إلّا في موارد خاصة ثبت فيها حصول الملك القهري على خلاف القاعدة، كالإرث، والوقف على البطون، والمصالحات القهرية، وأما في غيرها فالتملّك يحتاج إلى سبب، وهو إما أن يكون اختيارياً غير إنشائي كالحيازة؛ «من حاز ملك»(1)، أو اختيارياً إنشائياً كالعقود.

وأما باب الخيار فلا ربط له بباب الملك؛ فإن حقيقة الحقوق ليست شيئاً آخر غير الاعتبارات الشرعية، إلّا أن الاعتبارات على نحوين:

1- ما يسقط بالإسقاط، ويطلق عليه الحق.

2- ما لا يسقط بالإسقاط، ويطلق عليه الحكم.

فليس بين الجواز في الهبة، والجواز في البيع الخياري فرق ذاتي، فكل منهما حكم شرعي بجواز الفسخ(2)، إلّا أن الجواز في الهبة لا يمكن إسقاطه بخلاف الجواز في البيع، وإذا لم يكن له ربط بباب الملك فلا يلزم فيه القبول.(3)

ويرد عليه: أوّلاً: أن ما اختاره هنا منافِ لما اختاره في باب الوصية التمليكية؛

ص: 492


1- هذه القاعدة متصيدة، وحصول الملكية بالحيازة مستفاد مِنْ مثل ما ورد في معتبرة السكوني عن أبي عبدالله (علیه السلام) : إن أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال في رجل أبصر طيراً فتبعه حتّى وقع على شجرة فجاء رجل فأخذه، فقال أميرالمؤمنين (علیه السلام) : للعين ما رأت ولليد ما أخذت. وسائل الشيعة 23/391، ح1، الباب 38، من أبواب الصيد.
2- قد ناقشنا هذا الكلام في بحث الحقوق، راجع الآراء الفقهية 4/21.
3- مصباح الفقاهة 6/(218-217).

حيث قال: «وأما الوصية التمليكية فكما إذا قال: هذا المال لزيد بعد مماتي، فالمشهور احتياجه إلى القبول من الموصى له، لكن الأظهر عدمه»(1)، فنفيه لاعتبار القبول في الوصية التمليكية منافِ لقوله هنا باعتبار القبول في مطلق الملك.(2)

وثانياً: أن ما أفاده من التفريق بين الملك والحق، بأن ثبوت الأوّل بدون اختياره منافِ لسلطنته، دون ثبوت الثاني، بلا فارق؛ فإن الحق وإن كان حكماً شرعياً إلّا أنه نحو من السلطنة، ولهذا قلنا في تعريف الخيار: إنه «ملك فسخ العقد وإبرامه»، فحصولها بدون اختيار المكلف منافِ لسلطنته على نفسه.

والتحقيق: أن سلطنة الإنسان على نفسه ثابتة قطعاً، ولكن لم يقم عليها دليل لفظي قابل للتمسك بإطلاقه، ليدل على ثبوتها له بنحو مطلق، فمثل قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي﴾(3)، استفيد منه السلطنة على النفس، وقوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾(4) دال على ثبوت السلطنة على النفس، ولكن لا إطلاق فيهما، فلا يدلان على حدود هذه السلطنة ولا مقدارها، فلابدّ في مثل هذه الموارد من المشي على طبق ما تقتضيه القاعدة، ومقتضاها أن نلاحظ ما في سيرة العقلاء، وبما أنها دليل لبي فنقتصر على القدر المتيقن.

ولا شك أن تمليك الأشخاص وإعطاءهم الحقوق عند العقلاء ليس بنحو مطلق، بأن يُملّك شخص آخر أو يعطيه الحق قهراً وقسراً عليه، مسلوب الإرادة والاختيار، ولكن حدّ ذلك عدم التمليك القسري، والقدر المتيقن منه أن له حق الردّ،

ص: 493


1- منهاج الصالحين بتعليق الشيخ الأستاذ المحقّق (دام ظله) 3/237.
2- ومن أراد معرفة ما أفاده السيّد الخوئي (قدس سره) في عدم اعتبار القبول في الوصية التمليكية بنحو التفصيل فليرجع إلى الموسوعة 33/(299-296).
3- سورة المائدة /25.
4- سورة الأحزاب /6.

ولا دليل على اعتبار القبول، فلو أعطي الولاية على أمر لم تثبت له الولاية قسراً عليه، بمعنى أن له أن يردّها، وهذا أمر، واعتبار القبول أمر آخر لم يثبت بدليل.

وبعبارة أخرى: إن غاية ما يثبت من السيرة أن الردّ مانع من تحقق الملك أو الحق، لا أن القبول شرط لتحققهما.

ولو غضضنا الطرف عن السيرة، وشككنا في اشتراط القبول في جعل الخيار للأجنبي، فمقتضى الأصل الاشتراط؛ لأن مقتضاه عدم تحقق أي سلطنة أو حق لأحد إلّا بمقدار ما قام عليه الدليل خصوصاً أو عموماً، ففي مثل المقام نشك في جعل الخيار للأجنبي بمجرد الشرط من دون قبوله، ولا دليل على صحة الاشتراط إلّا «المؤمنون عند شروطهم»، ولا إطلاق فيه ليشمل صورة عدم القبول، فالأصل عدم تحققه بدونه.

والحاصل: أن مقتضى السيرة هو كون الردّ مانعاً لا أن القبول شرط، فيتحقق الخيار للأجنبي إن لم يردّ، ومقتضى الأصل عدم تحققه إلّا بالقبول.

الجهة الثالثة: في جواز إسقاط خيار الأجنبي وعدمه

هل يجوز لمن اشترط الخيار للأجنبي أن يسقطه عنه أو لا؟

ذهب السيّد اليزدي (قدس سره) إلى السقوط بالإسقاط، قال (قدس سره) : «لأن شرطه كون الأجنبي ذا خيار، فخيار الأجنبي حق للمشروط له، فكما يجوز إسقاط حق خيار نفسه لو جعله لنفسه فكذا في الأجنبي، وليس الشرط حدوث الخيار للأجنبي، بل دوامه، فيكون كخيار نفسه في جواز إسقاطه، ولا يضر سقوط حق الأجنبي أيضاً من غير اختياره، كما أنه يجوز للأجنبي إسقاطه، فيسقط حق المشروط له أيضاً قهراً عليه»(1).

وأورد عليه المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) بأن جعل الخيار حدوثاً للأجنبي، حقّ

ص: 494


1- حاشية السيّد اليزدي على المكاسب 2/472.

للمتعاقدين، وأما بقاء فلا دليل على أن إسقاطه من حقوقهما، ولا ملازمة بين الحدوث والبقاء.(1)

وفيه: أنه وإن لم يوجد دليل على جواز الإسقاط، إلّا أنه لا دليل على ثبوت الخيار بعده.

بيان ذلك: أنه كما أن سقوط الخيار يحتاج إلى دليل، فكذلك بقاؤه، والصور المتصورة في جعل الخيار للأجنبي ثلاث:

الأولى: أن يجعل له لمدة محدودة، فيسقط خياره بانتهاء تلك المدة.

الثانية: أن يجعله له مطلقاً ويشترط أن لا حق له في الإسقاط، فلا يحق له الإسقاط؛ بمقتضى دليل الشرط، وهو واضح.

الثالثة: أن يجعله له مطلقاً، ولا يشترط شيئاً.

والكلام في هذه الصورة، ونحن وإن قلنا بعدم الملازمة بين الحدوث والبقاء، ولكن عدم تأثير إسقاط خيار الأجنبي حكم من الأحكام الشرعية فيحتاج إلى دليل، وهو مفقود، ومع عدم الدليل، والشك في بقاء الخيار بعد إسقاط جاعل الخيار للأجنبي ما هو الموقف العملي؟ فهل المرجع في مثل هذا المورد أصالة اللزوم أو استصحاب بقاء الخيار؟

أما على مبنى المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) من عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية الكلية؛ للتعارض بين استصحاب بقاء المجعول، واستصحاب عدم الجعل، فلا مجال للبحث عن جريان الاستصحاب أو الرجوع إلى العام في المقام.

وأما مع قطع النظر عن هذه الناحية، فبما أن العام وهو آية ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ قد خصصت بدليل جعل الخيار للأجنبي، فيكون المورد من موارد دوران الأمر بين

ص: 495


1- مصباح الفقاهة 6/220.

استصحاب حكم المخصص، وبين التمسك بعموم العام.

والقاعدة - على ما حقق في محله - تقتضي التمسك بعموم العام: وذلك للشك في سعة دائرة المخصص وضيقها، للشك في سقوط الخيار المجعول للأجنبي بالإسقاط وعدم سقوطه، فنرفع اليد عن العام بالمقدار المتيقن من التخصيص، وهي صورة عدم إسقاطه عنه، وأما ما زاد على ذلك - وهي صورة الإسقاط - فالمرجع فيه هو عموم العام، وعليه فلا خيار بعد الإسقاط.

نعم، على مبنى عدم جواز التمسك بالعام وجريان استصحاب حكم المخصص في هذه الموارد - كما عليه الشيخ (قدس سره) - يجري استصحاب بقاء الخيار للأجنبي.

ومع قطع النظر عن هذه الجهة أيضاً، وعن أصالة اللزوم لفظاً فالقاعدة تقتضي جريان أصل اللزوم العملي، وهو بقاء العقد؛ وذلك لأنا بعد إسقاط الشارط لخيار الأجنبي، نشك في تأثير إعمال الخيار من قبل الأجنبي، والأصل عدم التأثير، أو بقاء العقد، وبقاء الملك.

والنتيجة: أنه وإن لم تكن هناك ملازمة بين الحدوث ولابقاء إلّا أنه لا دليل على ثبوت الخيار للأجنبي بعد أن أسقطه الشارط، ومع الشك فالتحقيق ما قدمناه على اختلاف المباني، والحق منها سقوط الخيار وعدم تأثير الفسخ.

الجهة الرابعة: في اشتراط مراعاة المصلحة من قبل الأجنبي وعدم اشتراطها

هل أن خيار الأجنبي مشروط بملاحظة الغبطة والمصلحة لمن جعل الخيار أو لا؟

إن كان إعطاؤه إيّاه بنحو التوكيل فلا شك في أن الوكيل عليه أن يراعي غبطة الموكِّل ومصلحته، وليس في التوكيل إطلاق حتّى لصورة قيام الوكيل بعمل على خلاف مصلحة موكِّله.

ص: 496

وإن كان بنحو التمليك [أو التفويض] فإن ثبت الإطلاق لصورة عدم الغبطة، أو التقييد بها، فلا بحث، وإنما الكلام في ما لو لم يثبت أحدهما؛ لعدم نصبه قرينة في مقام الإثبات على شيء منهما، وفيه أوجه ثلاثة:

الأوّل: أنه مالك للخيار وله مطلق الحرية في إعمال سلطنته، سواء أكان فيه صلاح لطرف العقد أم لا.

الثاني: أنه مقيَّد بوجود المصلحة.

الثالث: التفصيل بين ما إذا كان جعل الخيار له من طرف أحد المتعاقدين، فتشترط مراعاة المصلحة، وبين ما لو كان من كلا الطرفين، فلا تشترط.

والحق هو الوجه الثاني؛ فإن مقتضى القاعدة - بملاحظة مقتضى عمل العقلاء وطبعهم الأوّلي - أنهم لا يعطون الخيار لأحد - بنحو التمليك أو التفويض أو تولية أمر العقد - بنحو مطلق، بحيث يكون له إعماله حتّى لو كان فيه ضررهم، أو كان على خلاف مصلحتهم، فالمعطي لا يعطي إلّا بملاحظة حفظ مصالحه، فإقدامه على ذلك محدود بمصالح نفسه، ولو كان يريد الأعم من حصول المصلحة وعدمها لبيّن ذلك وصرّح به، فتمليكه الخيار في المقام مشروط ومقيّد بالمصلحة ولو لم يبيّن ذلك في مقام الإثبات.

ولو شك في ذلك فمقتضى الأصل التقييد بالمصلحة أيضاً؛ لرجوع الشك إلى الشك في سعة دائرة الخيار المجعول وضيقها، والمتيقن من جعل الخيار جعله في صورة مراعاة المصلحة، وأما في ما عداها فمشكوك، والأصل عدمه.

ومنه يظهر بطلان الوجه الأوّل أيضاً.

وأما التفصيل فوجهه: أن فسخ العقد أو إمضاءه لا يكون بحسب الواقع في مصلحة الطرفين، بل غالباً ما يكون في مصلحة أحدهما وضرر الآخر، فإذا ملّكه الخيار كلاهما كانت هذه الغلبة قرينة على عدم لزوم مراعاة كلا الطرفين.

ص: 497

ولكن، لا يخفى أن هنا صورتين:

الأولى: أن تكون مراعاة مصلحة كلا الطرفين غير ممكنة؛ إذ يكون الفسخ دائماً في مصلحة أحدهما وضرر الآخر، والإمضاء على العكس منه، وهنا لا مناص من القول بعدم إناطة جعل الخيار بمراعاة المصلحة؛ لعدم إمكان الجمع بين مصلحة الطرفين، فجعله مشروطاً بمراعاة مصلحتهما لغو.

الثانية: أن تكون مراعاة مصلحة كلا الطرفين ممكنة إلّا أن الغالب عدمها، والحكم بثبوت الخيار على خلاف مصلحة كليهما مطلقاً مشكل.

والوجه فيه: أنهما جعلا الخيار له، وأمر العقد بيده، وملاحظة مصلحتهما معاً ممكنة حسب الفرض إلّا أنها غير غالبة، والعاقل لا يقدم على ضرر نفسه، بل لا يقدم إلّا على ما فيه مصلحته، فبمقتضى القاعدة المتقدمة نجزم بأن كل واحد من الطرفين إنما ملّكه الخيار بلحاظ حفظ منفعته، والغلبة لا تصلح للتخصيص، فيكون الخيار محدوداً بمراعاة مصلحة كلا الطرفين، فيختص بالمورد غير الغالب.

هذا ما تقتضيه القاعدة، ولو شك حينئذٍ في جعل الخيار له مطلقاً؛ لكون الغالب عدم إمكان مراعاة مصلحة الطرفين، فالشك يرجع إلى سعة دائرة جعل الخيار وضيقها، والأصل عدم جعله في ما إذا كان في الفسخ أو الإمضاء ضرر أحد المتعاقدين.

فما أفاده المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) من التفصيل على أساس الغلبة محل إشكال(1)، والحق أن الخيار في جميع الصور مقيّد بمصلحة جاعل الخيار، سواء أكان بنحو التوكيل أم التمليك أم التفويض، كان من أحدهما أو من كليهما إلّا في صورة امتناع مراعاة مصلحة كلا الطرفين.

ص: 498


1- مصباح الفقاهة 6/(223-221).
الجهة الخامسة: في حكم جعل الخيار للمتعدد

إن لجعل الخيار للأجنبي صورتين رئيسيتين:

الصورة الأولى: جعله للواحد، وحكمه واضح.

الصورة الثانية: جعله للمتعدد.

والبحث في الصورة الثانية تارة في فرض جعل الخيار بنحو التوكيل، وأخرى في فرض جعله بنحو التمليك والتفويض.

أما الفرض الأوّل، فجعل الخيار للمتعدد بنحو التوكيل على نحوين أيضاً:

1- أن يكون كل منهما وكيلاً مستقلاً، فإن أمضى أحدهما العقد مضى، وإن فسخ انفسخ، ولا ينتظر لما يقوم به الثاني.

2- أن يكونا وكيلين بنحو العام المجموعي، فلابدّ من اتفاقهما على الفسخ، أو على الإمضاء، ولا يكفي فسخ أحدهما، ولا إمضاؤه.

وأما الفرض الثاني، فجعله يتصور على ثلاثة أنحاء:

1- أن يجعل لطبيعي المتعدد.

2- أن يجعل للمتعدد بنحو العام الاستغراقي.

3- أن يجعل للمتعدد بنحو العام المجموعي.

فإن عرف نحو الجعل، فلا إشكال؛ فإن الخيار في النحو الأوّل واحد لا تعدد فيه؛ فإن الطبيعة غير متعددة، وما قيل من أن الطبيعي موجود بوجود أفراده حكم آخر غير الحكم الذي لنفس الطبيعة، فجعل الخيار هنا لطبيعي هذه الأفراد - المتعدد - فهو مجعول بنحو صرف الوجود، وهو ليس إلّا واحداً، فالخيار واحد.

وأما في النحو الثاني فالخيار يكون متعدداً بتعدد الأفراد، فإن فسخ واحد انفسخ العقد ولم يبق مجال لغيره في إعمال الخيار؛ لارتفاع الموضوع، وإن أمضى فحق غيره محفوظ، فله الفسخ والإمضاء؛ لبقاء الموضوع حينئذ، فيبقى حق غيره على حاله،

ص: 499

وما قام به الأوّل إنما هو رفع ليده عن حقه؛ فإن الإمضاء حيثي دائماً دون الفسخ فإنه حلّ للعقد.

وأما إذ كان بالنحو الثالث فالخيار واحد للمجموع، فلابدّ لفسخ العقد أو إبرامه من اجتماع المجموع، ولا أثر لفسخ أحدهم ولا لإمضائه.

وإن لم يعرف نحو الجعل، فعندنا علم إجمالي بحصول التمليك أو التفويض، مع الجهل بنحوه، هل لطبيعي المتعدد فلا يكون هناك إلّا خيار واحد بنحو صرف الوجود، أو للمتعدد بنحو العموم الاستغراقي ليكون لكل واحد خيار، أو للمتعدد بنحو العام المجموعي فالخيار واحد للمجموع، ويختلف كل منها من حيث الأثر كما تقدم، وبما أن أصالة العدم في كل من الأمور الثلاثة معارضة بمثلها في الأمرين الآخرين، فالقاعدة تقتضي أحد أمرين على اختلاف المبنيين:

المبنى الأوّل: التمسك بعموم ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾؛ لأنه عام قد خصص بمخصص مردّد بين الأقل والأكثر، فيقتصر في التخصيص على القدر المتيقن، وهو ما إذا فسخ الجميع؛ لأنه القدر المتيقن من تأثير الفسخ، كما يقتصر على إمضاء واحد في لزوم العقد؛ لأنا نشك - بعد إمضائه - في تأثير الفسخ فيرجع إلى أصالة العموم.

المبنى الثاني: أنه لا مجال إلى الرجوع إلى العام، فعند فسخ أحدهم يحصل الشك في زوال الملك الحاصل، فيستصحب بقاؤه، أو يشك في زوال العقد الحاصل فيستصحب بقاؤه؛ فلابد من فسخ الجميع، كما أنه لو أمضى العقد واحد منهم نشك في زوال الملك بفسخ الآخر فيستصحب الملك، فلا تأثير لفسخه.

فعلى كلا التقديرين لا يحكم بالفسخ لو لم يتفق الجميع عليه، كما يحكم بكفاية إمضاء واحد في لزوم العقد»(1).

ص: 500


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(388-375).
المسألة السادسة: اشتراط المؤامرة
اشارة

والمراد منها أن يشترط المتعاقدان أو أحدهما مشاورة الأجنبي في بقاء العقد أو فسخه واستئماره والرجوع إلى أمره.

قال العلّامة في القواعد: «ويجوز... اشتراط المؤامرة إن عيّن مدّة»(1).

وقال السيّد العاملي في شرح كلامه: «أمّا جوازها مع تعيين المدّة فإجماعي كما في جامع المقاصد(2) وظاهر التذكرة(3) ويدلّ عليه الأصل والعمومات، فلا معنى لتأمّل الأردبيلي(4). وفي المبسوط(5) والخلاف(6) أنّه ليس للاستئمار حدّ إلّا أن يشترط مدّة معيّنة. وقد يلوح ذلك من إطلاق الشرائع(7) والإرشاد(8). وفي التحرير(9) والتذكرة(10) والمختلف(11) واللمعة(12) وتعليق الإرشاد(13) والميسية والمسالك(14)

ص: 501


1- قواعد الأحكام 2/66.
2- جامع المقاصد 4/292.
3- تذكرة الفقهاء 11/56.
4- لم يظهر لنا في عبارة المجمع تأمّلٌ في المقام للأردبيلي (قدس سره) فراجع كلامه في مجمع الفائدة والبرهان 8/401.
5- المبسوط 2/86.
6- الخلاف 3/37، مسألة 51.
7- شرائع الإسلام 2/22.
8- إرشاد الأذهان 1/374.
9- تحرير الأحكام الشرعية 2/288.
10- تذكرة الفقهاء 11/57.
11- مختلف الشيعة 5/67.
12- اللمعة الدمشقية /128.
13- حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي وآثاره) 9/(392-391).
14- مسالك الأفهام 3/202.

والروضة(1) ومجمع البرهان(2) والكفاية(3) أنّه لابدّ من تعيين المدّة وأنّه يبطل مع الإطلاق للجهالة. وفي الدروس أنّ قول الشيخ مشكل(4).

والظاهر أنّه لا يشترط تعيين المؤامر باسمه، ومعناها أن يشترطا أو أحدهما مشاورة فلان مثلاً - أباً كان أو ابناً أو غيرهما - واستئماره والرجوع إلى أمره مدّة مضبوطة.

وحكمها أنّه يلزم العقد من جهتهما ويتوقّف على أمره، فإن أمره بالفسخ جاز للمشروط له استئماره الفسخ ولا يتعيّن عليه قبوله لانتفاء المقتضي، ولو أراد الفسخ لم يكن له إلّا بأمره كما في التذكرة(5) وجامع المقاصد(6) وتعليق الإرشاد(7) والميسية والمسالك(8) والروضة(9) والكفاية(10). وهي معنى قوله في المبسوط(11) والخلاف(12): ليس له الردّ حتّى يستأمره. وفي الخلاف أنّه ظاهر المذهب(13).

ص: 502


1- الروضة البهية 3/453.
2- مجمع الفائدة والبرهان 8/401.
3- كفاية الأحكام 1/465.
4- الدروس الشرعية 3/269.
5- تذكرة الفقهاء 11/56.
6- جامع المقاصد 4/292.
7- حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي وآثاره) 9/392.
8- مسالك الأفهام 3/202.
9- الروضة البهية 3/453.
10- كفاية الأحكام 1/465.
11- المبسوط 2/86.
12- الخلاف 3/37، مسألة 50.
13- الخلاف 3/37، مسأله 50.

والمخالف [العلّامة] في التحرير حيث قال: له الفسخ قبل الاستئمار(1)، وهو ضعيفٌ كما ستعرف.

ولو أمره بالالتزام ففي الروضة أنّه ليس له الفسخ قطعاً(2). وبه صرّح جماعة(3) ولَوَّحَ(4) إليه آخرون(5)، بل قالوا: إنّه لو أمره بالالتزام وكان الأصلح له الفسخ فليس له الفسخ. وقال في جامع المقاصد(6) يجب على المؤامر اعتماد المصلحة، لأنّة أمين، فلو أمره بما فيه خلافها لم يجب عليه امتثالها. وقوله «فلو أمره... إلى آخره» لا وجه له، لأنّه لا محلّ له، لأنّه لو أمره بالالتزام وجب عليه، سواء كان فيه مصلحة أم لا، وإن أمره بالفسخ لا يجب عليه امتثال أمره، سواء كان فيه مصلحة أم لا كما هو ظاهر.

وتنقيح المسألة أن يقال: إنّ جواز اشتراط الاستئمار لا ريب فيه، لأنّه من الشروط الجائزة، فإن أمره بالفسخ تسلّط عليه وله الخيار بين أن يفسخ وأن لا يفسخ، اشتمل على مصلحة أم لا، لأنّ المستشير لا يلزمه موافقة المستشار حيث له مندوحة كما هو ظاهر، لأنّه لم يجعل له الخيار، وإن أمره بالالتزام الّذي هو مقتضى العقد فليس له المخالفة وإن كانت أصلح، لأنّه لا تسلّط له عليها إلّا بالشرط، وهو لم يشترط لنفسه خياراً، وإن سكت فالأقرب اللزوم أيضاً.

فالحاصل: أنّ الفسخ يتوقّف على أمره، لأنّه خلاف مقتضى العقد فيرجع إلى

ص: 503


1- تحرير الأحكام الشرعية2/288.
2- الروضة البهية 3/454.
3- منهم الطباطبائي في رياض المسائل 8/178؛ والمحقّق الثاني في جامع المقاصد 4/292؛ والبحراني في الحدائق الناضرة 19/(40-39).
4- لَوَّحَ تلويحاً: أشار من البعيد.
5- كالأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان 8/401.
6- جامع المقاصد 4/292.

الشرط، وأمّا الالتزام بالعقد فلا يتوقّف على أمره، لأنّه مقتضى العقد. ولهذا قال جماعة(1): إنّ الفرق بين المؤامرة للأجنبيّ وجعل الخيار له أنّ الغرض من المؤامرة الانتهاء إلى أمره لا جعل الخيار له بخلاف مَن جعل له الخيار، فليس للمستشار فسخٌ ولا التزام وإنّما إليه الأمر والرأي خاصّة. وقد نسبه إلى كلام الأصحاب في الروضة(2) وقد عرفت مطمح نظرهم بما حرّرناه في بيان المسألة»(3).

ثمّ المتعارف من اشتراط المؤامرة صورتان وإن كانت لها صور عقلية متعددة:

«إحداهما: أن يكون الغرض من اشتراط الاستئمار جعل حق وخيار لنفسه في البيع إلّا أنه لمّا لم يعرف المصلحة والفساد لأنّ البلدة غريبة أو المبيع مما لم يبتل به ولا يعرف حسنه اشترط الاستئمار من أجنبي كالوالد أو الأخ أو غيرهما، وفي هذه الصورة ليس للأجنبي حق الأمر ولا الاجبار بشيء وإنما الحق للمستأمِر بالكسر وأنه الذي يتمكّن من الفسخ والامضاء بعد الاستئمار، وعليه إذا أراد الفسخ قبل الاستئمار من الأجنبي فلا ينفذ، إذ لا حق له في الخيار ولا قدرة له قبل الاستئمار نعم له إسقاط حقه وخياره قبل الاستئمار لسلطنته على إسقاط حقه، ولا محذور فيه إلّا دعوى أنه من قبيل إسقاط ما لم يجب، إذا المفروض أنّ الخيار إنما يثبت له بعد الاستئمار لا قبله فاسقاطه قبله إسقاط لما لم يجب، إلّا أنها مندفعة بعدم الدليل على عدم جوازه إلّا الاجماع المعلوم عدم انعقاده في المقام.

كما أنّ الأجنبي إذا أمره بالفسخ أو بالامضاء قبل أن يستأمره لا إشكال في ثبوت الخيار له، وذلك لأنه وإن كان مشروطاً بالاستئمار إلّا أنّ المتفاهم العرفي في مثله

ص: 504


1- منهم الشهيد الثاني في مسالك الأفهام 3/202؛ والطباطبائي في رياض المسائل 8/187؛ والبحراني في الحدائق الناضرة 19/40.
2- الروضة البهية 3/454.
3- مفتاح الكرامة 14/(204-201).

يقتضي عدم الموضوعية للاستئمار والسؤال، إذ الظاهر أنهما طريقان إلى أمر الأجنبي وليس لسؤاله منه موضوعية، وهذا أشبه شيء بالسؤال في آية ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(1) حيث إنّ أهلا لذكر إذا أخبره بالحرمة أو الوجوب قبل أن يسأله الجاهل لا إشكال في وجوب متابعته، ولا يصح في مثله أن يقال إنّ وجوب العمل بقول أهل الذكر مشروط بالسؤال وهو بعد لم يسأله، إذ الظاهر أنّ السؤال طريق إلى كشف نظر العالم أو الآمر في المقام، لأنهما لا يعلمان الغيب حتّى يأمرا قبل السؤال وإنما يلتفتان إلى الحال بعد السؤال، فهو طريق ولا موضوعية له وعليه فإذا أمره الآمر أي الأجنبي قبل استئماره فلا محالة يثبت له الخيار.

ثمّ إنه إذا استأمره أو لم يستأمره إلّا أنه أمره بالاجازة والامضاء فليس له حق الفسخ حينئذ، لأنّ قدرته عليه مشروطة بالاستئمار من الأجنبي والأخذ برأيه ونظره، ونظره فعلاً هو الامضاء دون الفسخ.

وأمّا إذا أمره بالفسخ ابتداءً أو بعد الاستئمار فهل يجب على المستأمِر الفسخ، الظاهر لا، وذلك لأنّ المشروط والمعلَّق على أمر الأجنبي إنما هو قدرة المستأمر على الفسخ لا وجوب الفسخ كما هو واضح، والمستأمر بعد أمر الأجنبي يتمكّن من الفسخ والامضاء، فلا وجه لوجوب الفسخ عليه بعد أمر الأجنبي بالفسخ، والظاهر أنّ مراد الفقهاء من اشتراط الاستئمار وعدم ثبوت الخيار للمستأمِر قبل الاستئمار وعدم تمكّنه من الفسخ على تقدير أمر الأجنبي له بالامضاء وتمكّنه من الفسخ فيما لو أمره به قبل استئماره وعدم وجوب الفسخ عليه فيما إذا أمره بالفسخ، كل ذلك إنما هو هذه الصورة أعني جعل حق لنفسه على تقدير أمر الأجنبي، لأنها المتبادر من اشتراط

ص: 505


1- سورة النحل /43.

الاستئمار حسب المتفاهم العرفي وهي التي تقع كثيراً»(1).

«الصورة الثانية: أن يشترط الخيار مع حق للطرف عليه كما أنّ له حقاً على طرفه، وهذا يتصوّر على وجهين:

الأوّل: أن يشترط أحد المتعاملين على الآخر عدم إعمال خياره إلّا مع أمر الأجنبي له بأن يثبت له الخيار من الابتداء إلّا أنّ إعماله مشروط ومعلّق على أمر الأجنبي له، وعليه فللمستأمر حق وخيار على طرفه كما أنّ له حقاً على المستأمر حيث إنه اشترط على المستأمر عدم إعمال خياره إلّا على تقدير أمر الأجنبي، وقد ذكرنا سابقاً أنّ مرجع الاشتراط إلى جعل الخيار لنفسه، وعليه فيثبت للطرف الخيار، أي خيار تخلّف الشرط على تقدير إعمال المستأمر خياره قبل الاستئمار هذا.

ولكن هذه الصورة لا ترجع إلى معنى محصّل بناءً على الوجه المختار في معنى الاشتراط، لأنّ اشتراط شيء في ضمن المعاملة مرجعه إلى جعل الخيار لنفسه على تقدير عدم ذلك الشرط، وعليه فلا معنى لاشتراط عدم إعمال المستأمِر خياره إلّا بعد الاستئمار، فإنّ مرجعه إلى أنّ الطرف يشترط لنفسه الخيار على تقدير إعمال المستأمر خياره قبل الاستئمار من جهة تخلّف الشرط، والمستأمِر إذا تخلّف وأعمل خياره قبل أن يستأمر الأجنبي فبما أنّ خياره ثابت من الابتداء فينفذ فسخه وبه ترتفع المعاملة، إلّا أنه لمّا تخلّف عن الشرط يثبت للطرف خيار تخلّف الشرط، مع أنه من اللغو الظاهر إذ لا ثمرة للخيار بعد ارتفاع العقد بفسخ المستأمر وإعماله الخيار قبل الاستئمار، لارتفاع موضوعه فما معنى الخيار الثابت للطرف.

نعم، بناءً على مسلك المشهور في معنى الاشتراط وهو كون الاشتراط التزاماً مقارناً للالتزام المعاملي وموضوعاً لوجوب الوفاء تكليفاً، يترتّب على هذا الاشتراط

ص: 506


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 3/210 و 211.

ثمرة، وهي أنّ المستأمِر لو فسخ قبل حصول شرطه يرتكب أمراً محرّماً إذ يجب عليه أن يفسخ بعد حصول شرطه لا قبله وهو مجرد حكم تكليفي ومخالفة وعصيان له، إلّا أنّ فسخه نافذ لأنه صدر من أهله ووقع في محلّه.

نعم، بناءً على مسلك شيخنا الأستاذ (قدس سره) في أمثال المقام من أنّ حرمة الفسخ تكليفاً توجب سلب قدرة المشروط عليه على الفسخ شرعاً، لا تترتّب على فسخه قبل حصول شرطه الذي هو الاستئمار ثمرة ولا تنفسخ به المعاملة، إلّا أنّ مرجعه إلى الصورة الأُولى وهي تعليق أصل الخيار على الاستئمار من الأجنبي بحيث لا يتمكّن من الفسخ قبله، فلا تكون هذه الصورة مغايرة للصورة الأُولى كما هو ظاهر.

الثاني: أن يشترط الطرف على المستأمر فسخ العقد بعد أمر الأجنبي له وهذا من دون فرق بين ثبوت الخيار للمستأمر من الابتداء وثبوته له بعد أمر الأجنبي، ومرجع هذا إلى اشتراط الفعل دون اشتراط النتيجة، وعليه فإذا حصل المعلّق عليه وفسخ المستأمر فهو وإلّا فيثبت للطرف الخيار ويتمكن من فسخ العقد وإمضائه، وهذه الصورة لا إشكال فيها إلّا أنّ المرتكز عند المتعاملين هو الصورة الأولى كما عرفت، هذه هي الصور المعقولة لشرط الاستئمار»(1).

إشكالٌ وجوابه

قد يستشكل في اشتراط المؤامرة «بأنّ لازمها كون الخيار معلَّقاً على أمر المستأمَر والتعليق باطل، لكونه بمنزلة ما لو قال بشرط أن يكون لي الخيار إن قدم الحاج أو إن جاء زيد»(2).

جوابه: أوّلاً: «إنّ التعليق الموجب للبطلانه لو قلنا به، انّما هو فيما إذا كانت

ص: 507


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 3/212 و 213.
2- حاشية المكاسب 2/474، للسيّد اليزدي (رحمة الله).

الصورة، صورة التّعليق وامّا فيما ليس تعليقاً في الصورة ولكنّه يرجع ويؤل إلى التعليق بعد التحّليل فلا يُضرّ.

مثلاً لو قال: إذا جاء يوم الجمعة، فانت وكيلي، يكون هذا تعليقاً وامّا لو قال: أنت وكيلي ولا تعمل إلّا يوم الجمعة أو يقول: «أنت وكيلي يوم الجمعة»، فلا يعتبر من التعليق في الوكالة وانّ مرجعهما واحد وما نحن فيه أيضاً من هذا القبيل يعني شرط طلب الأمر من الأجنبيّ، ليس في صورة التعليق ولكنّه يرجع إلى التعليق بعد التحليل.

بالجملة؛ امّا قول الفقهاء: بكون التعليق مبطلاً، فيما إذا كان الانشاء بنحو القضيّة الشرطيّة اما إذا كان الانشاء بنحو القضيّة الحمليّة ولكن تلك الجملة تنحّل إلى الشرطيّة فهي ليست من التعليق، وما نحن فيه أيضاً من هذا القبيل أي يكون ما نحن فيه من قبيل التعليق الانحلاليّ كما في القضايا الحمليّة، لا من قبيل التعليق الإنشائيّ.

وثانياً: فهو (قدس سره) صرّح في موارد متعدّدة من انّ التعليق في الإنشاء كان جايزاً واقعاً في الشّرع والعرف لانّ التّعليق انّما هو في المُنْشأ وهو الوجوب لا الوجود ولا دليل لنا على محاليّته في الشّرع إلّا ما يُدّعىٰ من الاجماع.

ومن الواضح انّ المجمعين صرّحوا على جواز شرط طلب الأمر من الأجنبيّ (جواز الاستئمار) وافتوا بصحّته، فلو كان ما نحن فيه من التّعليق، فيعلم منه انّ الاجماع المدّعىٰ على بطلان التّعليق، ليس جارياً هنا لانّ المجمعين، افتوا بصحّة التّعليق، أي شرط طلب الأمر من الأجنبيّ»(1).

ص: 508


1- تحقيق وتقريرات في باب البيع والخيارات 6/241.
تنبيهٌ: هل على المستأمَر (بالفتح) مراعاة مصلحة المستأمِر (بالكسر) في أمره؟

«مقتضى الإطلاق وعدم تقييد أمر [المستأمَر (بالفتح)](1) بكونه صادراً عن ملاحظة المصلحة هو أنّ المعلّق عليه مطلق أمر المستأمَر (بالفتح)، كما أنّ مقتضى المناسبات المرتكزة عند العرف بين الأحكام وموضوعاتها يقتضي أن يكون المعلّق عليه هو الأمر الصادر من المستأمَر (بالفتح) عن مراعاة المصلحة، لأنّ هذا الاشتراط إنما هو من جهة أنّ المتعامل جاهل بالصلاح والفساد ومن أجل ذلك اشترط أمر المستأمَر (بالفتح)، لأنه عارف بما هو الصلاح والفساد فيكون المعلّق عليه الأمر المبني على مراعاة الأصلح لا مطلق الأمر ولو صدر من مجرد الاشتهاء النفساني، هذا تمام الكلام في اشتراط الاستئمار»(2).

المسألة السابعة: بيع الخيار
اشارة

«وهو: أن يبيع شيئاً ويشترط الخيار لنفسه مدّةً بأن يردّ الثمن فيها ويرتجع المبيع»(3).

«يجوز اشتراط البائع ردّ المبيع من المشتري حيث يردّ عليه الثمن في مدّة معيّنة، للأصل والإجماع - كما في الخلاف(4) وجواهر القاضي(5) وجامع المقاصد(6) والمسالك(7) وظاهر شرح الإرشاد لفخرالإسلام(8)»(9).

ص: 509


1- بدلنا «الأجنبي» ب-«المستأمر (بالفتح)» في هذا التنبيه.
2- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 3/214.
3- المكاسب 5/127.
4- الخلاف 3/19، مسألة 22.
5- جواهر الفقه /54، مسألة 192.
6- جامع المقاصد 4/(293-292).
7- مسالك الأفهام 3/202.
8- شرح الإرشاد للنيلي /50، س7 (من كتب مكتبة المرعشي برقم 2474).
9- مفتاح الكرامة 14/205.

أقول: وفي تذكرة الفقهاء: «بيع الخيار جائز عندنا...»(1).

«والوجه في وقوع البحث فيه مستقلاً هو ورود النصوص الخاصة فيه والخلاف في مرجع الشرط فيه وترتب أحكام خاصة عليه.

وعلى أيِّ حالٍ فلا إشكال في صحته للعمومات الدالة على نفوذ الشروط ولخصوص النصوص المستفيضة»(2) وبعضها معتبرة الإسناد:

منها: موثقة إسحاق بن عمار قال: حدثني من سمع أبا عبدالله (علیه السلام) وسأله رجل وأنا عنده، فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه، فقال: أبيعك داري هذه، وتكون لك أحبّ إليّ من أن تكون لغيرك على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّ علي؟ فقال: لا بأس بهذا إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه.

قلت: فإنّها كانت فيها غلّة كثيرة فأخذ الغلّة لمن تكون الغلة؟ فقال: الغلة للمشتري، ألا ترى أنّه لو احترقت لكانت من ماله.(3)

ومنها: معتبرة معاوية بن ميسرة قال: سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبدالله (علیه السلام) عن رجل باع داراً له من رجل، وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر، فشرط إنك إنّ أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك، فأتاه بماله، قال: له شرطه.

قال له أبو الجارود: فإنّ ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين، قال: هو ماله.

وقال أبو عبدالله (علیه السلام) : أرأيت لو أن الدار احترقت من مال من كانت تكون الدار دار المشتري.(4)

ص: 510


1- تذكرة الفقهاء 11/59، مسألة 247.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/244.
3- وسائل الشيعة 18/19، ح1، الباب 8 من أبواب الخيارات.
4- وسائل الشيعة 18/20، ح3.

ومنها: صحيحة سعيد بن يسار قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام) : إنّا نخالط أُناساً من أهل السواد وغيرهم فنبيعهم ونربح عليهم للعشرة الأثنى عشر، والعشرة ثلاثة عشر، ونؤخر(1) ذلك فيما بيننا وبين السنة ونحوها، ويكتب لنا الرجل على داره أو على أرضه بذلك المال الذي فيه الفضل الذي أخذ منّا شراءاً(2) قد باع وقبض الثمن منه، فعنده(3) إن هو جاء بالمال إلى وقت بيننا وبينه أن نردّ عليه الشراء، فإن جاء الوقت ولم يأتنا بالدراهم فهو لنا، فما ترى في الشراء؟ فقال: أرى أنه لك إن لم يفعل، وإن جاء بالمال للوقت فردّ عليه.(4)

ومنها: خبر أبي الجارود عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: إن بعت رجلاً على شرط فإن أتاك بمالك وإلّا فالبيع لك.(5)

«إذا عرفت هذا فتوضيح المسألة يتحقّق بالكلام في أمور»(6):

الأمر الأوّل: وجوه اعتبار ردّ الثمن في هذا الخيار

قد ذكر الشيخ الأعظم(7) انّها خمسة:

«الأوّل: أن يؤخذ ردّ الثمن قيداً لثبوت الخيار بمعنى أن البائع يشترط لنفسه الخيار على تقدير رد الثمن، فلا خيار قبله.

وقد رددّ الشيخ(8) (قدس سره) في أخذ رد الثمن قيداً للخيار بين أخذه بنحو التعليق بأن

ص: 511


1- في التهذيب 7/22، ح95 و الفقيه 3/128، ح558: نوجب.
2- في الفقيه 3/128، 558: بأنه.
3- في نسخة من التهذيب: فعندنا، وفي أُخرى: فبعده.
4- وسائل الشيعة 18/18، ح1، الباب 7 من أبواب الخيار.
5- وسائل الشيعة 18/18، ح2.
6- المكاسب 5/129.
7- المكاسب 5/129.
8- المكاسب 5/129.

يقول ولك الخيار إن جئت بالثمن، وأخذه بنحو التوقيت بأن يقول ولك الخيار عند مجيئك بالثمن. والنتيجة وإن كانت واحدة لكن أخذه بنحو التوقيت إنما هو للفرار عن محذور التعليق في العقود الذي ادعي قيام الاجماع على بطلان العقد به.

وقد ذكر في باب البيع إمكان الانشاء بنحو لايرجع إلى التعليق وإن كانت نتيجته مع التعليق واحدة.

الثاني: أن يكون قيداً للفسخ بمعنى أن الحق ثابت من حين العقد لكنه متعلّق بحصة خاصة من الفسخ وهو الفسخ عند ردّ الثمن أو بعده.

[كأن يقول: بعتك الدار فإن رددت الثمن كان لي الفسخ، والفرق بين هذه الصورة وسابقتها: أن ردّ الثمن في الصورة السابقة شرط للخيار نفسه، فلا خيار له في المدة المضروبة قبل ردّه، وفي هذه الصورة شرط لمتعلَّق الخيار وهو الفسخ، فيكون له الخيار في جميع المدة المضروبة، إلّا أنه لا تسلط له على الفسخ إلّا بردّ الثمن، على وجه المقارنة له أو التأخرّ عنه](1).

الثالث: أن يكون ردّ الثمن فسخاً فعلياً، فيكون الشرط هو ثبوت حق الفسخ بالردّ لا غير، أو يكون الشرط نفس الفسخ بالردّ - إن صحّ اشتراط الفسخ بلا ثبوت الحق - .

[بعبارة أخرى: «أن يكون ردّ الثمن فسخاً فعلياً، لا شرطاً للخيار ولا لمتعلَّقه؛ فإن الفسخ من الأمور الإنشائية الإيقاعية التي تحصل بالقول وبالفعل، فالشارط يجعل ردّ الثمن إنشاء فعلياً للفسخ.

والفرق بينها وبين الصورة الأولى: أن الأولى لا يوجد فيها خيار قبل الردّ، وأما في هذه فالخيار موجود قبله.

ص: 512


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/396.

والفرق بينها وبين الثانية: أن الردّ في الثانية شرط للفسخ، فإذا ردّ أمكنه الفسخ، ولكن يحتاج إلى إنشائه، وأما في هذه الصورة فنفس الرد إنشاء للفسخ»(1)].

الرابع: أن يكون الردّ قيداً لانفساخ العقد، فيكون الشرط هو تحقق الانفساخ بالردّ، فمعنى ثبوت الخيار هو تسلطه على سبب الانفساخ لا على مباشرة الفسخ.

الخامس: أن يكون الرد قيداً لوجوب الاقالة على المشتري بان يلتزم المشتري على نفسه أن يقيله إذا رد الثمن واستقاله.

وقد أضاف السيّد الطباطبائي(2) (رحمة الله) وغيره(3) وجوهاً أُخرى إلى هذه الوجوه.

وقد استشكل الشيخ(4) (قدس سره) في الوجه الرابع ثبوتاً بأنّه شرط يخالف المشروع، إذ المشروع هو توقف المسببات على أسبابها الشرعية وهي تنحصر في الانشاء القولي أو الفعلي، وظاهر الشرط ههنا هو تحقق الانفساخ بمجرد ردّ الثمن بلا إنشاء فعلي أو قولي فهو يشبه إنعقاد العقد بنفسه.

ثمّ أشار إلى جوابه. وسيأتي صحه مثل هذا الشرط المعبّر عنه بشرط النتيجة ويكون السبب في تحققه هو نفس الاشتراط، وأنه لا مانع منه إلّا فيما دلّ الدليل على خلافه كالطلاق. فانتظر.

كما أنه قد يشكل الوجه الأوّل ثبوتاً بأنه يستلزم الغرر للجهل بمبدأ الخيار.

ويمكن أن يردّ بتعيين مبدئه وأنه عند ردّ الثمن في الوقت الخاص.

كما أنه قد يشكل من جهة التعليق.

ويرد بان التعليق مبطل للاجماع ولا إجماع ههنا، بل الاجماع على الصحة لو

ص: 513


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/397.
2- حاشية المكاسب 2/476، رقم 670، وقد ذكر السيّد الطباطبائي ثلاثة وجوه.
3- حاشية المكاسب 3/97، رقم 85، المحقّق الإيرواني وقد ذكر خمسة وجوه.
4- المكاسب 5/131.

رجع بيع الخيار إليه. مضافاً إلى إمكان أخذه بنحو التوقيت، كما عرفت.

وعليه، فلا محذور في جميع الوجوه ثبوتاً.

وأما إثباتاً، فقد وقع الكلام بين الاعلام في ما يستفاد من النصوص المتقدمة.

والذي يبدو لنا: أن السؤال الوارد في النصوص إنما هو سؤال عن المعاملة المعروفة بين الناس وأنها صحيحة أم لا؟ وليس سؤالاً عن معاملة جديدة يحدثها المتبايعان بنحو خاص. ومقتضى ذلك هو عدم ملاحظة التعبيرات الواردة في السؤال بل ملاحظة ما هو المتعارف لدى الناس وحمل النصوص عليه. ولا عبرة بنص سؤال السائل بعد العلم بانه يقصد التعبير بكلامه عن المعاملة المعهودة.

والذي نراه متداولاً بين الناس مردد عندنا بين الاحتمال الثالث والرابع، وإن كان الرابع بنظرنا أقرب [خلافاً للشيخ الأعظم(1)]، فان العرف بانٍ على تحقق الانفساخ برد الثمن بلا ملاحظة أنه أنشأ الفسخ أو لا، فيطالب البائع المشتري بماله بمجرد ردّه للثمن.

وعلى هذا، فلا نرى أنفسنا بحاجة إلى التعرض إلى ما أفاده الأعلام في مقام الاستظهار من النصوص وتعيين الراجح منه. فتدبر.

الأمر الثاني

والبحث العلمي فيما أفاده الشيخ(2) (قدس سره) في نقاط ثلاث يتضح الحال فيما أفاده الشيخ (قدس سره) بوضوحها.

النقطة الأولى: فيما أفاده في صورة عدم قبض الثمن وأنه هل يثبت الخيار للبائع في هذه الحال أو لا؟ واختار (قدس سره) ثبوت الخيار وإن لم يتحقق الردّ لأنه شرط على تقدير

ص: 514


1- المكاسب 5/131.
2- المكاسب 5/131.

قبضه. ثمّ احتمل العدم بناء على أن اشتراط الرد بمنزلة اشتراط القبض قبله. وعبارته بشقيها لا تخلو عن إجمال.

أما قوله: «لأنه شرط على تقدير قبضه»(1) فهو يحتمل وجوهاً ثلاثة:

الأوّل: أن الرد شرط على تقدير القبض فاذا لم يتحقق القبض لم يتحقق الشرط لعدم موضوعه، فلا خيار لعدم الشرط، وهذا لا يمكن أن يكون مراده من العبارة لأنه ذكرها تعليلاً لثبوت الخيار لا لعدمه.

الثاني: أن الخيار ثابت بقول مطلق وهو [أي إعماله] مشترط بالرد على تقدير القبض، فاذا لم يتحقق القبض كان الخيار ثابتاً لعدم تعليقه على الرد عند عدم القبض.

وهذا خلاف الظاهر، إذ مرجعه إلى تعدد الشرط [وهما الرد والقبض] كما لا يخفى، مع أن ظاهر المعاملة وحدة الشرط لا تعدده.

الثالث: أن الشرط حقيقة ليس هو الردّ، بل هو حصول الثمن بيد المشتري والردّ أحد محققاته على تقدير القبض، فهو يريد أن الرد إنما يكون شرطاً - بالمعنى اللغوي للشرط لا من باب اخذه في المعاملة - يعني دخيلا في تحقق الخيار فيما إذا تحقق القبض وبدونه لا دخالة له لتحقق الشرط وهو وصول الثمن.

وهذا هو الظاهر. ولا يخفى أنه يبتني على إلغاء خصوصية الردّ المأخوذ في المعاملة وعدم فهم الموضوعية له، بل يأخذ بما هو طريق لتحقق وصول الثمن للمشتري، فإذا كان واصلاً فلا يعتبر الرد.

إذن، فالبحث في هذه النقطة عن أن الرد هل له موضوعيّة أو أنه مأخوذ من باب الطريقية.

ويمكن تعيين الثاني بملاحظة ان الغرض العقلائي من أخذ الردّ في المعاملة هو

ص: 515


1- المكاسب 5/131.

رجوع بدل العين الذي رفعه إليه وعدم فواته عليه بتأخير وتسويف ولا خصوصية للرد في ذلك بل المدار على حصول الثمن بيده، فالشرط حاصل عند عدم القبض.

وأما احتمال العدم، فهو يبتني على فهم الموضوعية للردّ. وعليه فيكون القبض دخيلاً في تحققه وبدون القبض لا يتحقق الشرط.

وهذا هو المراد من قوله: «بناء على ان اشتراط الرد بمنزلة اشتراط القبض»(1) لا ما هو الظاهر الأولي منها من تعدد الشرط وأنه كما يشترط الردّ يشترط الاقباض في المعاملة، إذ لا وجه لذلك. فالتفت.

النقطة الثانية: في جواز اشتراط رد البدل مع بقاء العين الشخصية للثمن الشخصي، واستشكل فيه الشيخ(2) (قدس سره).

والوجه فيه [أي في إشكاله] أن الفسخ يقتضي رجوع كل عوض إلى ملك مالكه الأوّل وزوال الملكية الحاصل بالعقد لانفساخه.

وعليه، فلا يعقل أن يشترط عدم رجوع العين عند الفسخ لأنه ممتنع عقلاً.

نعم، يمكن تصحيحه برجوع اشتراط رد البدل إلى أن الفسخ وإن استلزم رد العين إلى ملك المشتري لكن تحصل مبادلة قهرية بين العين والبدل.

ولكن هذا المعنى - وهو اشتراط حصول التبادل القهري - مؤونة زائدة، فان التفت إليها المتبايعان صح الشرط. وإلا كان باطلاً لعدم معقولية الشرط بمعناه الأولي الظاهر فيه، كما عرفت.

النطقة الثالثة: في أن مقتضى إطلاق ردّ الثمن وعدم تقييده برد البدل مع التلف، هل هو لزوم رد نفس العين، فمع التلف لا خيار لعدم تحقق الشرط. أو ردّ ما يعم

ص: 516


1- المكاسب 5/132.
2- المكاسب 5/132.

بدلها مع التلف، فيثبت الخيار بردّ البدل؟

التحقيق هو الثاني، فان ظاهر رد الثمن وإن كان رد نفس العين، إلّا أن لدينا من القرائن العامة ما يصرف هذا الظهور ويثبت الظهور في إرادة الأعم من نفس العين وبدلها. وهي:

أوّلاً: أن الغرض العقلائي غالباً يتمحض في إرادة رجوع الثمن بما له من المالية بلا ملاحظة خصوصياته، لعدم تعلق غرض بأعيان الأموال وإنما الغرض يتعلق بجهة ماليتها عادة.

ولذا يعبر عن إرجاع البدل ارجاع ماله، فيقول له قد أرجعت لك مالك. فالمقصود المتعارف هو إرجاع الثمن بما هو مال وهو يتحقق بارجاع بدله لا نفس العين.

وثانياً: أن المتعارف في مثل هذه المعاملات هو أخذ الثمن لصرفه في حوائجه ومنافعه التي يضطر لأجلها إجراء معاملة بيع الخيار لا أن يبقيه عنده مكنوزاً، وهذا أمر معلوم للبائع والمشتري ولا مناقشة فيه. ولازم ذلك هو بناء المشتري والبائع على إرادة ردّ ما يعم البدل من الاطلاق، لعدم جريان العادة بالتنبيه على ذلك، مما يكشف عن اعتمادهم على مثل هذه القرينة العامة في بيان مرادهم.

هذا تمام الكلام في هذه النقاط الثلاث، وبها يتضح الحال في كلام الشيخ (قدس سره) فلا حاجة إلى نقله.

الأمر الثالث

فيما حكي(1) عن ظاهر الأصحاب من عدم كفاية مجرد الرد في الفسخ(2) بناء

ص: 517


1- الحاكي هو التستري في المقابس /248؛ والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة 14/207؛ والسيّد المجاهد في المناهل /333.
2- كما في «جامع المقاصد [4/292] وتعليق الإرشاد [حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي وآثاره) 9/392] وإيضاح النافع والتنقيح [التنقيح الرائع 2/47] لأنّه صريح في ذلك أو كالصريح وغاية المرام [2/47] ومجمع البرهان [8/401] والمسالك [مسالك الأفهام 3/202] والدروس [الدروس الشرعية 3/269] في أثناء كلام له [أي للشهيد (رحمة الله) ]، نعم أوّل كلامه ظاهر غير صريح» [مفتاح الكرامة 14/207].

على ما تقدم من أن رد الثمن في هذا البيع عندهم مقدمة لفسخ البائع. وعلله الشيخ(1) (قدس سره) بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أن الخيار معلق على تحقق الرد فلا يثبت إلّا بعد تحققه، فيمتنع أنّ يتحقق الفسخ بالرد لأنَّ حق الفسخ متفرع على الرد.

الثاني: أن الرد لا يدل على الفسخ أصلاً.

الثالث: أن الرد إنما يدل على إرادة الفسخ والإرادة غير المراد.

وقد ناقش (قدس سره) الوجهين الأخيرين وأهمل الأوّل. والذي يظهر منه أنه اختار - أخيراً - كفاية الرد في تحقق الفسخ، لأنه بعد أن... .

ناقش الثاني بدلالة الرد على الفسخ عرفاً إما لأنّه يفهم منه كونه تمليكاً للثمن ليتملك منه المبيع بنحو المعاطاة، أو لأنّه يدلّ بنفسه على الرضا بكون المبيع له. وقد اعترفوا بتحقق الفسخ بما هو أخفى من ذلك دلالة.

وناقش الثالث: بأنّ الرد يدلّ على إرادة كون المبيع ملكاً له والثمن ملكاً للمشتري ولا يعتبر في الفسخ الفعلي أزيد من ذلك. بعد أنْ ناقشهما.

قال: «مع أن ظاهر الأخبار كفاية الرد في وجوب رد المبيع بل قد عرفت في رواية معاوية بن ميسرة حصول تملك المبيع برد الثمن فيحمل على تحقق الفسخ الفعلي به»(2). وظاهره اختيار كفاية الرد في الفسخ وأنّ هذا إضافة إلى الدليل عليه بحسب مقتضى القوعد.

ص: 518


1- المكاسب 5/134.
2- المكاسب 5/134.

وكان من المناسب للشيخ (قدس سره) أن يتعرض لدفع الوجه الأوّل الراجع إلى بيان المحذور ثبوتاً لا إثباتاً، فإنّه وجه لا يخلو من وجاهة.

كما أن استدلاله بالأخبار ليس كما ينبغي.

وقد أورد عليه [على الشيخ الأعظم في كلامه الأخير الذي مرّ آنفاً]: بأنّ الكلام إنما هو على تقدير خاص وهو فرض ترتب ثبوت حق الخيار على الرد. والأخبار وإن ظهرت في تحقق الفسخ بالرد لكنها غير ظاهرة في تعليق حق الخيار بل في اشتراط انفساخ العقد بالرد، ولا كلام في هذه الصورة فانتبه ولا حظ.

وكيف كان، فالعمدة في التوقف عن تحقق الفسخ بالرد في هذا الفرض هو الوجه الأوّل.

وقد دفعه [أي الوجه الأوّل] المحقّق الاصفهاني(1) (رحمة الله) بانه إنما يتم لو كان الرد شرطاً متقدماً على الخيار، أما لو كان شرطاً مقارناً فلا يتم هذا الوجه، لان المعتبر هو تحقق الفسخ في زمان الخيار. وإذا فرض أن الرد شرط مقارن للخيار، كان ثبوت الخيار متحداً زماناً مع الرد فيصح أن ينشىء به الفسخ إذ هو فسخ في زمان الخيار، والتقدم والتأخر الرتبي لا يضران بعد ما كان المدار على الوحدة من حيث الزمان.

أقول: إذا كان حق الخيار عبارة عن حكم وضعي وكان مرجع الفسخ إلى كونه إعمالاً وتنفيذاً للحق الثابت، كان الفسخ في رتبة متأخرة عن الخيار لانه مأخوذ في موضوعه ولتفرعه عليه، والمفروض أن الرد شرط لثبوت الخيار فهو في رتبة سابقة عليه، فيمتنع أن يتحقق به الفسخ، لأنه يلزم أن يكون سابقاً على الخيار رتبة ولاحقاً له رتبة في آن واحد وهو غير متصور.

نعم، لو دل دليل على ان الفسخ في زمان الخيار مؤثر ولو لم يكن بعنوان إعمال

ص: 519


1- حاشية المكاسب 4/195.

الخيار أمكن الفسخ بالرد لوحدة زمان الرد والخيار.

وأما إذا كان الخيار عبارة عن أمر انتزاعي ينتزع عن انفساخ العقد بالفسخ، لم يكن الفسخ إعمالاً للخيار فيصح انشاؤه بالرد، لعدم تفرعه على الخيار وتأخره عنه. فتدبر.

الأمر الرابع: في ما يسقط به هذا الخيار
اشارة

وهو أمور:

الأوّل: الاسقاط

وقد ذكر الشيخ(1) (قدس سره) أنه يسقط بالإسقاط بناءً على الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة المحتملة، وهو ما إذا فرض ثبوت الخيار من حين العقد ولكنه متعلّق بحصة خاصة وهي الفسخ بالرد، إذ الخيار فعلي قابل للاسقاط.

واحتمل سقوطه بالاسقاط على الوجه الأوّل الراجع إلى تعليق حق الخيار على الرد أو توقيته به بناء على كفاية تحقق السبب للخيار وهو العقد في صحة إسقاط الحق، لكنه قد يتنافى مع ما صرّح به في التذكرة(2) من عدم صحة إسقاط خيار الشرط أو الحيوان بعد العقد بناء على حدوثها بعد التفرق، لظهوره في لزوم تحقق الخيار فعلاً في قابليته للاسقاط فلا يكفي مجرد حصول السبب، كما فيما نحن فيه.

إلّا أنه قد يقال بالفرق فيما نحن فيه وبين ما في التذكرة، فان المشروط له فيما نحن فيه يملك الخيار قبلا الرد لتملكه للرد الموجب له فيصح إسقاطه فعلاً.

هذا ما أفاده الشيخ (قدس سره) في المقام. والكلام في ناحيتين:

الناحية الأولى: في تخصيصه جواز الاسقاط بالوجهين الأوّلين فقط، فقد أورد

ص: 520


1- المكاسب 5/135.
2- تذكرة الفقهاء 11/49 «د».

عليه السيّد الطباطبائي(1) (رحمة الله) :

أوّلاً: بانه يتأتى على الوجه الثالث لأنه يرجع إلى اشتراط الخيار أيضاً.

وثانياً: بأنه يتأتى على جميع الوجوه بملاحظة أن له إسقاط حق شرطه الناشیء من الاشتراط المستلزم لعدم تحقق أثر الرد بالمرة على جميع الوجوه. فكما له إسقاط الحق المشروط له كذلك له إسقاط الحق الناشىء من قبل الاشتراط.

ولكن يندفع الايراد الأوّل: بانه يمكن أن يكون نظر الشيخ (قدس سره) في الوجه الثالث إلى شرط الانفساخ عند فسخه بالرد، فيكون من باب الشرط النتيجة، فلا يرجع إلى شرط حق الخيار.

ويندفع الثاني: بانه لو سلم ثبوت حق للمشروط له في المشروط من قبل الشرط بحيث أن له إسقاطه، فهو إنما يلتزم به في شرط الفعل الراجع إلى الالتزام بالفعل لا شرط النتيجة، كما هو مرجع الوجه الثالث والرابع. فلا يتم ما أفيد على جميع الوجوه.

الناحية الثانية: في أصل الموضوع وأنه هل يقبل الحق الاسقاط قبل صيرورته فعلياً أو لا؟

تحقيق الكلام: أنه في مقام بيان الفرق بين الحق - كحق الخيار - والحكم - كثبوت الميراث - ... .

تارة: يلتزم بان الحق مستلزم عقلاً لقابليته للاسقاط، فالقابلية للاسقاط مقومة ومساوقة له. بخلاف الحكم فهو ثابت سواء اُسقط أم لم يسقط.

وأخرى: لا يلتزم بذلك، ببيان أن الحق لا يلازم جواز الاسقاط. والفرق بينه وبين الحكم من نواحي أخرى. فقابلية الحق للاسقاط تتبع قيام الدليل.

وعلى هذا، قد يلتزم بالتفصيل بين الحق الثابت بالدليل بعنوان الحق والثابت لا

ص: 521


1- حاشية المكاسب 2/478، رقم 678.

بهذا العنوان.

فالأوّل - كما لو قال: له حق الشفعة - يكون قابلاً للاسقاط بمقتضى دليله لا أكثر بدعوى ظهور الحق عرفاً ما يقبل الاسقاط وإن لم يساوقه عقلاً.

والثاني - كما لو قال: له الشفعة وعلمنا بدليل آخر أن ثبوتها بنحو الحقيّة - لا يكون قابلاً للاسقاط في نفسه بل يحتاج إلى دليل خاص.

ولا يخفى عليك أن حق الخيار لم يثبت في لسان الأدلة بعنوان الحق، كما لا يخفى على من لا حظ نصوص الباب.

إذن فهو - على التقدير الثاني - ممّا يحتاج جواز اسقاطه إلى دليل.

وعليه، فتارة: يفرض الدليل على قابلية سقوط حق الخيار بالاسقاط هو القاعدة الكلية وهي: «أن لكل ذي حق إسقاط حقه» التي أدعي الاجماع عليها.

وأخرى: يفرض الدليل هو قيام الاجماع في خصوص مورد حق الخيار على قابليته للاسقاط.

فعلى الأوّل: فمقتضى عموم القاعدة جواز إنشاء الاسقاط فعلاً بقصد ترتب السقوط بعد تحقق فعلية الحق، إما بنحو التعليق على مجيء ذلك الظرف لو لم يكن فيه محذور آخر أو بنحو التوقيت فراراً من محذور التعليق الباطل - كما قيل - .

وحينئذٍ عند تحقق ظرف ثبوت الحقّ يسقط الحقّ بنفس الإنشاء السابق بلا حاجة إلى إنشاء جديد، بل يتحقق به ولو كان فعلاً غافلاً أو نائماً. ولا فرق في ذلك بين تحقق المقتضي للحقّ وعدم تحقّقه أصلاً.

نعم، إذا قصد بانشاء الاسقاط فعلاً تحقق السقوط في الحال، فهو ممتنع، لعدم الحقّ فعلاً كي يقصد إسقاطه في الحال.

اللهم إلّا أن يقال: إنه قيل بامتناع اسقاط ما لم يجب إجماعاً. ولا يخفى أنه ليس المراد بها إسقاط الحق فعلاً وفي الحال قبل تحققه، لأنه ممتنع عقلاً فلا حاجة إلى الاستناد

ص: 522

إلى الاجماع في ذلك. فلابدّ أن يحمل هذا القول على ما ليس بمحال عقلاً وهو إنشاء الاسقاط فعلاً بقصد تحققه بعد فرض ثبوت الحق بنحو التعليق أو التوقيت، فيلزم منه اختصاص قاعدة: «لكل ذي حق إسقاط حقه» بصورة فعلية ثبوت الحق.

ولكن الانصاف خلاف ذلك، إذ لم يثبت تعليل امتناع إسقاط ما لم يجب بالاجماع بنحو يستلزم رفع اليد عن إطلاق معقد اجماعهم على ان لكل ذي حق إسقاط حقه.

نعم، هو مجرد احتمال لا أساس له من الناحية العلمية، فالبناء على عموم معقد إجماعهم متعين.

وعلى الثاني: فحيث أن الاجماع على قابلية حق الخيار للاسقاط لا يعلم أنه تعبدي كي يتمسك باطلاقه أو عمومه، لتعليل هذا الحكم في بعض الكلمات بان الاسقاط كاشف عن الرضا ومقتضى ما دل على أن الرضا موجب للاسقاط يكون الاسقاط موجباً للسقوط. وعليه، فينبغي نقل الكلام في هذه العلة.

وبما أن ظاهر الدليل هو كون الرضا الثابت بعد تحقق الخيار هو المسقط له أما السابق على تحققه بنحو التوقيت أو التعليق فلا دليل على كونه مسقطاً كما سيجئ توضيحه بعد قليل.

كان المتعين هو الالتزام بان الخيار لا يقبل السقوط بالاسقاط قبل فعليته. فتدبر ولا حظ.(1)

الثاني: - مما يسقط به هذا الخيار - انقضاء المدة وعدم رد الثمن

وهو واضح.

ص: 523


1- قد ناقشنا في اعتبار الرضا في المعاملات مراراً وذهبنا إلى كفاية الاستناد، وحيث يتم الاستناد في الاسقاط فالمتعين هو قبول السقوط بالاسقاط قبل فعليته عندنا والله العالم [المؤلِّف].

ولو رد الثمن فتبين كونه من غير الجنس بان رد حنطة وكان الثمن شعيراً، لم يتحقق الرد الموجب للخيار.

وأما لو تبين كونه معيباً، فقد ذهب الشيخ(1) (قدس سره) إلى كفايته في مقام الرد فيثبت الخيار وله الاستبدال.

أقول: الجمع بين هذين الالتزامين ممنوع، فان إن فرض كفايته في مقام الرد لم يكن له الاستبدال. بيان ذلك: أن الثمن إما أن يكون شخصياً أو يكون كلياً.

فان كان شخصياً واشترط عليه رد الثمن أو بدله - مع وجوده - الراجع إلى اشتراط تحقق المبادلة القهرية بين الثمن الأصلي وبدله لعدم صحته بدون ذلك كما تقدم، فإذا ردّ المعيب، فان كان الملحوظ في المردود ما يعم المعيب، فمع رد المعيب تحققت المبادلة القهرية بينه وبين الثمن الأصلي، فليس له الاستبدال، وإن كان الملحوظ فيه ما لا يعم المعيب لم يكن رد المعيب كافياً في تحقق الرد الموجب للخيار.

وإن كان كلياً واشترط عليه ما يعم ردّ نفس ما دفعه أو بدله، فإذا كان الملحوظ في مقام الاشتراط ما يعم رد المعيب من أفراد الكلي لم يكن له استبدال المعيب لو تحقق الرد به لتملك المشتري له بالرد وتحقق الفسخ. وإن لم يكن الملحوظ مما يعم المعيب لم يكن رد المعيب كافياً في مقام تحقق الرد، فلا خيار له بمجرد رد المعيب، بل يكون بمنزلة رد ما هو من غير الجنس.

هذا هو تحقيق الكلام في المقام وبه يتضح الحال في بعض الكلمات. فلاحظ»(2).

الثالث: التصرف في الثمن

«الثالث من مسقطات تصرّف ذي الخيار في ما انتقل إليه؛ فإن مقتضى إطلاق

ص: 524


1- المكاسب 5/135.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(255-245).

الأصحاب لجعل التصرّف مسقطاً وتعدية مسقطيته من مورد النص إلى سائر الخيارات، الشرعية والجعلية، شموله لما نحن فيه أيضاً.

كلام المحققين الأردبيلي والسبزواري في عدم السقوط بالتصرف

ولكن خالفهم في ذلك المحقّقان الأردبيلي(1) والسبزواري(2) قدس سرهما في ما نحن فيه لأمرين:

الأمر الأوّل: أن سقوط الخيار بالتصرّف في الثمن منافِ للغرض من جعله؛ فإن البائع إنما أقدم على بيع متاعه بهذا الشرط، وبأقل من ثمنه والواقعي غالباً لتحقيق أمرين: أن يستفيد من الثمن لرفع حاجته، وأن لا يقطع صلته بالمتاع، بحيث لو أمكنه تهيئة الثمن في المدّة المضروبة لردّه وأعاد متاعه، فإذا كان التصرّف في الثمن مسقطاً للخيار انتفى الغرض من شرطه، فهذا الغرض يكون قرينة قطعية على تخصيص إطلاق اتفاق الأصحاب بهذا المورد.

الأمر الثاني: موثقة إسحاق بن عمار، قال: حدثني من سمع أبا عبدالله (علیه السلام) وسأله رجل وأنا عنده فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه، فقال: أبيعك داري هذه، وتكون لك أحب إليَّ من أن تكون لغيرك على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّ علي؟

فقال: «لا بأس بهذا، إن جاء بثمنها إلى سنة ردها عليه».

قلت: فإنها كانت فيها غلة كثيرة فأخذ الغلة، لمن تكون الغلة؟ فقال: «الغلة للمشتري، ألا ترى أنه لو احترقت لكانت من ماله»(3).

ص: 525


1- مجمع الفائدة والبرهان 8/413.
2- الكفاية 1/465.
3- وسائل الشيعة 18/19، ح1، الباب 8 من أبواب الخيار.

فإن ظاهرها تصرّف البائع في الثمن، وأن بيع الدار لأجل ذلك، فتكون مخصصة لإطلاق إطباق الأصحاب.

جواب السيّد بحرالعلوم عنهما

وأجاب عنهما السيّد بحرالعلوم (قدس سره) في مصابيحه: بأن ما عليه الأصحاب هو أن التصرف المسقط ما وقع في زمان الخيار، ولا خيار إلّا بعد الردّ، فالتصرف في الثمن قبله لم يكن في زمان الخيار، فيكون خارجاً عن ما اتفق عليه الأصحاب تخصّصاً لا تخصيصاً.

نعم، لو استثني من اتفاقهم التصرف بعد الرد لكان تخصيصاً(1).

مناقشة صاحب الجواهر لكلام السيّد بحرالعلوم

وناقشه صاحب الجواهر (قدس سره) بوجوه:

الوجه الأوّل: إن جعل زمان الخيار بعد الردّ يقتضي جهالة مبدأ الخيار؛ لاحتمال أن يكون الردّ بعد أسبوع أو شهر أو سنة، فيكون غررياً، فيبطل الشرط، ومع سرايته إلى المشروط - أي البيع - يبطل هو أيضاً.

الوجه الثاني: إنّ ما عليه العرف والعقلاء هو صدق زمن الخيار على مجموع المدّة.

الوجه الثالث: إن جعل الخيار بعد زمان الردّ منافِ لما أفاده الأصحاب في ردّهم على الشيخ (قدس سره) حينما ذهب إلى توقف الملك على انقضاء الخيار؛ فإنهم استدلوا بروايات خيار الشرط - الدالة على كون غلّة المبيع قبل الردّ للمشتري - على أن الملكية تنتقل إلى المشتري في زمان الخيار، فلو لم يكن زمان ما قبل الردّ زمان خيار عندهم لما

ص: 526


1- المصابيح في الفقه (مخطوط) 139؛ ونقل عنه في المكاسب 5/136.

صحّ ردّهم على الشيخ (قدس سره).(1)

تنظّر الشيخ فيما أفاده الجميع

ثمّ إن الشيخ (قدس سره) تنظّر في ما أفاده الجميع، فقال: «في أصل الاستظهار المتقدم، والردّ المذكور عن المصابيح، والمناقشة على الردّ نظر»(2).

وأفاد في وجه ذلك:

أما ما ذكره المحقّق الأردبيلي (قدس سره) ؛ فلأن إطلاق اتفاق الأصحاب على سقوط الخيار بالتصرف تام، ولا مخصص لدليلهم، فيشمل جميع الخيارات الشرعية والشرطية، التعبدية، والجعلية، ومنها محل الكلام، وما ذكر من المخصص غير ناهض:

أما الأوّل - وهو بناء هذا العقد على التصرّف - فلأن هذا البناء من جهة أنّ الغالب المتعارف كون البيع بالثمن الكلي، وظاهر الحال فيه كفاية ردّ مثل الثمن، وحينئذٍ فلا يكون التصرّف في عين الفرد المدفوع دليلاً على الرضا بلزوم العقد؛ إذ لا منافاة بين فسخ العقد وصحة هذا التصرّف.

نعم، لو كان الثمن شخصياً لكان التصرّف فيه مسقطاً للخيار، ولكن الغالب خلافه.

وأما ما ذكره ثانياً من الاستدلال بالموثقة فلأن ظاهرها كون الثمن كلياً أيضاً، والتصرف في مصداق الثمن الكلي لا ينقض إجماع الأصحاب.

وأما ما أفاده السيّد بحرالعلوم (قدس سره) ؛ فلأن المستفاد من النص والفتوى كون التصرّف مسقطاً فعلياً كالقول، ففي كل مورد يصح إسقاط الخيار بالقول يصحّ بالفعل - التصرّف - ، والظاهر عدم الإشكال في جواز إسقاط الخيار بالقول قبل الردّ

ص: 527


1- جواهر الكلام 24/69 (23/40).
2- المكاسب 5/137.

فكذلك بالتصرّف، فما أفاده (قدس سره) من عدم الموضوع للإسقاط قبل الردّ ممنوع.

وأما ما أفاده صاحب الجواهر (قدس سره) أوّلاً من لزوم جهالة مدّة الخيار، ففيه: أنّها لاتقدح مع تحديد زمان التسلط على الرد والفسخ بعده إن شاء.

وأما ما أفاده ثانياً من كون العرف على أن الخيار من زمان العقد، ففيه: أن زمان الخيار عرفاً لا يراد به إلّا ما كان الخيار متحقّقاً فيه شرعاً أو بجعل المتعاقدين، والمفروض أنه في ما نحن فيه بجعلهما، فتارة يجعلانه من زمان العقد، وأخرى من زمان الردّ، ولم يقم ارتكاز على أنه من زمان العقد في بيع الخيار.

وأما ما أفاده ثالثاً ففيه: أنه لعل الأصحاب فهموا من مذهب الشيخ (قدس سره) توقّف الملك على انقضاء زمان الخيار مطلقاً، سواء أكان الخيار متصلاً بالعقد أم منفصلاً عنه، كما لا يبعد عن إطلاق كلامه، والخيار في ما نحن فيه منفصل عن العقد، أي يبدأ من زمان ردّ الثمن، فلا يتوقف ردّ الفقهاء لمذهب الشيخ (رحمة الله) على كون مدّة الخيار هي مجموع المدّة، حتّى ما بين العقد والردّ، بل يصحّ ردّهم مع كون حدوث الخيار فيما بعد الردّ أيضاً، فلا يثبت من استدلالهم أن الخيار من زمان وقوع العقد، فلا يكون هذا الردّ منهم على الشيخ (قدس سره) منافياً لما ذكره السيّد بحرالعلوم (قدس سره) من حدوث الخيار بعد الردّ»(1).

مناقشة السيّد الخوئي في مسقطيت الخيار بالتصرف في الثمن

السيّد الخوئي لا يقبل أنّ التصرف بأيِّ مقتضٍ يوجب سقوط الخيار في المقام وقال: «ربما يكون الغرض من التصرف في الثمن إسقاط الخيار ويكون التصرف بقصد كونه مسقطاً فعلياً للخيار وكاشفاً عن رضاه بالعقد، وهذا مما لا إشكال في كونه مسقطاً له، لأنّ الاسقاط الفعلي كالاسقاط القولي من حيث كونه كاشفاً عن رضاه

ص: 528


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(438-433).

بالعقد، والخيار حق له، وله أن يسقط حقّه بأيّ نحو شاء وهذا ظاهر.

وأُخرى لا يقصد بالتصرف في الثمن إسقاط الخيار، وإنما يتصرف فيه غفلة أو يتصرف فيه بقصد الانتفاع حتّى يردّه بعد ذلك إلى مالكه كما مثّلنا له في بيع الحيوان بما إذا قبّل الجارية حتّى يردّها بعده بحيث لا يكون تصرفه ذلك كاشفاً عن رضاه بالعقد، وفي مثل ذلك أيّ دليل على أنه يسقط الخيار، لأنه لو كان فإنما يكون تعبّداً محضاً ولم يثبت في هذا الخيار أنّ التصرف فيه مسقط تعبّدي، والرواية إنّما ورد في سقوط خيار الحيوان بالتصرف فيه تعبّداً، ولذا قلنا إنه إذا لامس الجارية أو قبّلها أو نظر منها إلى ما يحرم على غير سيدها وزوجها فلا محالة يسقط الخيار تعبّداً وإن لم يكن بذلك قاصداً للرضا بالمعاملة، إلّا أنّ ذلك مخصوص بخيار الحيوان ولا دليل على كونه مسقطاً تعبّدياً في هذا الخيار، وأيّ مانع من أن يتصرف في الثمن بما يشاء من التقبيل واللمس بل الوطء بقصد أن يدفعه بعده إلى المشتري ومع ذلك لا يسقط خياره، نعم لو تصرف في الثمن بما يوجب إتلافه حقيقة أو بنقله إلى غيره فلا محالة يسقط خياره من جهة انتفاء موضوع الرد وعدم إمكانه حتّى يثبت له الخيار بعده.

فالمتحصّل أنّ التصرفات على ثلاثة أقسام:

الأوّل: التصرف فيه بقصد إسقاط الخيار وهو الذي قلنا إنه كاشف عن الرضا بالمعاملة ومسقط فعلي.

الثاني: التصرف المُعدم لموضوع الردّ والخيار إمّا إعداماً حقيقياً كأكله أو إعداماً شرعياً كبيعه، وهذا يوجب عدم ثبوت الخيار قهراً لارتفاع موضوعه كما مرّ.

والثالث: التصرف الذي لا يعدم الموضوع ولا يكشف عن الرضا بالعقد كالتصرف فيه غفلة أو بقصد ردّه بعد التصرف، وهذا هو الذي لم يدل دليل على إسقاطه الخيار تعبّداً، وعليه فأصل المقتضي لسقوط الخيار بالتصرف في الثمن غير محرز، ومع عدم المقتضي لا تصل النوبة إلى إبداء المانع عنه في المقام على ما ذكره

ص: 529

الأردبيلي (قدس سره) حتّى يرد عليه ما ذكره السيّد بحرالعلوم ويدفعه صاحب الجواهر (قدس سره)

ويستشكل فيها بأجمعها شيخنا الأنصاري (قدس سره) »(1).

الأمر الخامس: لو تلف المبيع أو الثمن قبل الرد أو بعده
اشارة

«ويقع البحث في نقطتين:

النقطة الأولى: في حكم تلف المبيع

وقد تعرض فيها الشيخ (قدس سره) إلى أمرين:

الأمر الأوّل: أن تلف المبيع من مال المشتري، سواء كان قبل الردّ أو بعده، ونماؤه له مطلقاً.

الأمر الثاني: أن الظاهر عدم سقوط خيار البائع بتلف المبيع.(2)

أما الأمر الأوّل فليس المستند فيه قاعدة: أن التلف في زمان الخيار ممن لا خيار له، بل المستند هي القاعدة الأوّلية، والنص؛ فإن مقتضاهما أن يكون التلف من مال المشتري.

أما القاعدة الأوّلية فهي: أن تلف المال من مال مالكه، فإذا انتقل المال لشخص بأي سبب من أسباب الانتقال، القهرية كالإرث، أو الاختيارية كالحيازة والعقد، ثمّ تلف فهو من ماله، ولا يحكم بكون تلفه من مال الغير إلّا لوجود ما يوجب الضمان كالإتلاف، أو قاعدة اليد، وأما بدونهما فلا يضمن الغير، كما أن مقتضى الأصل عدمه(3) أيضاً.

نعم، استثني موردان من هذه القاعدة:

ص: 530


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 3/(233-231).
2- المكاسب 5/139.
3- أي عدم الضمان.

1- تلف المبيع قبل قبضه؛ فإنه من مال البائع، نصاً وفتوى، مع أن مالكه المشتري؛ وذلك للنص تعبّداً(1)، لا لما احتمل من أن السيرة كما قامت على كون تلف المال من مال مالكه فهي قائمة على كون تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه؛ إذ لا وجود لها؛ فإن سيرتهم على أن المال ينتقل بالعقد إلى المشتري، فيكون هو المالك له، فإن تلف كان منه، ولم تقم سيرة على ضمان البائع ولا على انفساخ العقد بالتلف، كما لم يكن هناك شرط ضمني على ذلك، بل الشرط الضمني هو تسليم البائع المبيع إلى المشتري، وتسليم المشتري الثمن إلى البائع.

2- التلف في زمان الخيار؛ فإنّه من مال من لا خيار له، فلو تلف الحيوان في الثلاثة الأيام كان من مال البائع الذي لا خيار له.(2)

فخصصت القاعدة الأولية بهذين الموردين، فلا مجال فيهما إلّا للالتزام بانفساخ العقد ورجوع كل من العوضين إلى ملك مالكه الأوّل آناً ما قبل التلف؛ فإن ضمان الغير لا يكون إلّا بسبب الإتلاف، أو لليد بمقتضى قاعدة «على اليد ما أخذت»، ولا شيء منهما بحاصل في الفرض، فلا محيص عن الالتزام بالملكية الآنية، ووقوع التلف في ملك من كان من ماله.

والخيار في ما نحن فيه للبائع بمقتضى الشرط، فيكون التلف من مال المشتري الذي لا خيار له، وكون التلف من ماله على طبق القاعدة الأولية، مع قطع النظر عن الشرط والتخصيص الوارد عليها أيضاً؛ فإنه أحد مصاديقها؛ لكونه مالكاً له، كما أن النماءات للمشتري أيضاً.

وأما النص فهو كموثقة إسحاق بن عمار؛ فإن في ذيلها: قلت: فإنها كانت فيها

ص: 531


1- وسائل الشيعة 18/23، ح1، الباب 10 من أبواب الخيار، خبر عقبة بن خالد.
2- لما دلّ عليه من الروايات مثل صحيحة ابن سنان، المروية في وسائل الشيعة 18/14، ح2.

غلّة كثيرة فأخذ الغلّة لمن تكون الغلّة؟

فقال: «الغلّة للمشتري، ألا ترى أنه لو احترقت لكانت من ماله»(1).

وأما الأمر الثاني: ففيه وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: ما استظهره الشيخ (قدس سره) من عدم سقوط خيار البائع بتلف المبيع، ولم يزد على الاستظهار(2)، وتحليل ذلك يتوقف على بيان مقدمتين:

الأولى: أن للبائع من شرط الخيار غرضين: أن يستفيد من الثمن الذي قبضه في قضاء حوائجه، وأن يحتفظ بعين المبيع ليمكنه الرجوع إليها.

الثانية: أن متعلّق الخيار هو العقد، لا العين؛ فإن الخيار ملك فسخ العقد وعدمه، أو ملك فسخ العقد وإبرامه، لا ملك ردّ العين.

فلو كان متعلّقه العين لكان قائماً بها، وإرجاعها إلى ملكيته السابقة يتوقف على بقائها، وأما مع كون متعلّقه العقد فهو لا يدور مدار بقاء العين؛ فإن للعقد بقاء في عالم الاعتبار، فيتعلّق به الحلّ، سواء كان المال موجوداً أو معدوماً.

وبعد ضمّ هاتين المقدمتين يتضح بقاء الخيار وإنْ تلف المبيع؛ لأنّ متعلّق الخيار هو العقد، وهو محفوظ حتّى لو تلفت العين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن غرض البائع يتعلق بالعين وماليتها، فإن ذهبت العين فبالمالية.

فالتحقيق في المسألة بقاء الخيار، وما ذكرناه هو وجه استظهار الشيخ (قدس سره).

[بيان محقّق الخراساني]

وللمحقّق الخراساني (قدس سره) بيانٌ في المقام، وحاصله: أن اختلاف الحكم بثبوت الخيار وعدمه ناشئ من الاختلاف في ما شرطاه، فإن شرطا الخيار ببقاء العين فلا

ص: 532


1- وسائل الشيعة 18/19، ح1، الباب 8 من أبواب الخيار.
2- المكاسب 5/139.

إشكال في سقوطه مع تلفها، وإن لم يشترطاه ببقائها فلا إشكال في بقائه لو تلفت، والمرجع في تعيين الاشتراط، هو الظهور إن وجد، ومع عدمه فالمتّبع أصالة الإطلاق وعدم الاشتراط.(1)

[نقد بيان المحقّق الخراساني]

وما أفاده (قدس سره) مبتنِ على أن الإطلاق عبارة عن عدم الاشتراط، وأن التقابل بين الإطلاق والاشتراط أو التقييد هو تقابل العدم والملكة، فإذا كان الإطلاق عبارة عن عدم التقييد فعدم الاشتراط هو نفس إطلاق الخيار، فإذا تلفت العين فالخيار باقٍ.

ولكن واقع الأمر هو أن التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل التضاد؛ فإن التقييد عبارة عن الاعتبار بشرط شيء، والإطلاق عبارة عن الاعتبار لا بشرط، فالتقييد لحاظ الخصوصية وأخذها، والإطلاق لحاظها ورفضها، فلا محالة يكون الإطلاق قسيماً للاشتراط والتقييد، ولا يرجع إلى عدم الاشتراط.

وعليه فكل من الإطلاق والتقييد يحتاج إلى اللحاظ، فيدور الأمر بين لحاظ الخيار وأخذه لا بشرط بالنسبة إلى وجود العين وتلفها، فيحكم ببقاء الخيار، وبين لحاظه وأخذه بشرط وجود العين، فينتفي الخيار عند تلفها.

ومع عدم استظهار شيء منهما يكون الأمر مجملاً مردّداً بين المتباينين، وكل منهما - الإطلاق والاشتراط - مسبوق بالعدم، فمع العلم الإجمالي بأحدهما يتعارض الأصلان، أي أصل عدم الاشتراط، وأصل عدم الإطلاق، أو أصل عدم اللحاظ بشرط شيء، وأصل عدم اللحاظ لا بشرط، ومع التعارض يسقط أصل عدم الاشتراط، فينتقض ما بناه (قدس سره).

ومقتضى القاعدة اندراج المسألة في القسم الثاني من استصحاب الكلي؛ وذلك

ص: 533


1- حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني /180.

لأنا نعلم بثبوت الخيار للشرط، ولا نعلم أنه اشترط بقاء العين فينتفي الخيار بتلفها، أو لم يشترط فيبقى لما بعد التلف، فيتردد الأمر بين بقاء الفرد المردّد بين الطويل والقصير وزواله؛ فإن الخيار إن كان مشروطاً ببقاء العين فهو فرد قصير وقد زال بتلفها، وإن لم يكن مشروطاً ببقائها فهو فرد طويل ولا يزال باقياً بعد التلف، ولا يمكن جريان استصحاب الفرد لو كان الأثر له؛ لأنه مردّد بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء، وإن كان الأثر للكلي جرى استصحاب الكلي، وبما أن الأثر المترتّب على الخيار - وهو الإسقاط والصلح عليه وسائر الأحكام - أثر للكلي، فيجري استصحابه.

الوجه الثاني: ما احتمله الشيخ (قدس سره) من عدم الخيار؛ بناء على أن مورد هذا الخيار ما إذا ردّ البائع الثمن ليسترجع المبيع، وظاهره اعتبار بقاء المبيع في ذلك، فمع تلفه ينتفي موضوعه، فلا خيار.(1)

وبيانه: أن البائع عندما اشترط الخيار عند ردّ الثمن كان غرضه أن يحتفظ بالمبيع فيسترجعه عند ردّ الثمن، ففي المورد شرط ارتكازي بإبقاء العين على المشتري؛ ليتمكن البائع من تحقيق غرضه، وهو ردّ المبيع لملكه، فالخيار - إذن - مقيّد ببقاء العين، فإذا تلفت انتفى.

ثمّ إن الشيخ (قدس سره) أشار إلى دفع دخل مقدّر حيث قال: «ثمّ إنه لا تنافي بين شرطية البقاء وعدم جواز تفويت الشرط»(2)، وحاصل الدخل:

أنه ربما يقال بأن بين اشتراط الخيار ببقاء العين، وشرط إبقائها على المشتري - بمعنى عدم جواز تفويته الشرط - تنافياً بأحد بيانين:

البيان الأوّل: أنه عندما يكون الخيار مشروطاً ببقاء العين، فبقاؤها شرط في

ص: 534


1- المكاسب 5/140.
2- المكاسب 5/140.

ثبوته، فلا يجب تحصيل الشرط ولا حفظه.

أو قل: إن الغرض من شرط إبقاء العين هو أن تبقى، ومعنى كون الخيار مشروطاً ببقائها هو أنه إن بقيت ثبت الخيار، وإن لم تبق لم يثبت.

البيان الثاني: أن نتيجة شرط الفعل في المعاملات أن يثبت الخيار مع التخلّف عنه، فلو باع متاعاً بشرط أن يخيط له ثوباً فلم يخطه كان للبائع الخيار في فسخ البيع، وعليه فنتيجة شرط إبقاء العين أن يكون للبائع الخيار مع تخلّف المشتري عنه، أي لو لم يحفظ العين وتلفت كان للبائع الخيار، ونتيجة كون الخيار في المورد مشروطاً ببقاء العين عدم ثبوت الخيار لو تلفت، والجمع بين هذين جمع بين المتنافيين.

والجواب، أما عن الأوّل: فبأن الخيار الذي هو للبائع مشروط ببقاء العين، ولا يجب عليه - البائع - أن يحقّق الشرط؛ بمقتضى قاعدة عدم وجوب تحصيل الشرط والموضوع ولا حفظهما، وأما شرط الحفظ والإبقاء فهو على المشتري، فلا تنافي بينهما.

وأما عن الثاني: فبأن الشروط على قسمين: فقسم يلزم من تخلّفه الخيار كما في المثال المتقدم، وكما لو اشترط في البيع صفة خاصة فتبيّن عدمها، وقسم لا يوجب الخيار، وإنما فائدته إلزام المشروط عليه تكليفاً فقط، كما في الشروط في باب النكاح؛ فإن تخلّفها لا يوجب خيار الفسخ للمشترط.

وعليه: فبما أن البائع جعل الخيار مشروطاً ببقاء العين، فشرطه على المشتري إبقاؤها ليس إلّا؛ للزوم التكليفي بالإبقاء، ولا يوجب تخلّفه الخيار، فلا تنافي بين شرط إبقاء العين واشتراط الخيار ببقائها.

والنتيجة إلى هنا: أن تلف المبيع في البيع بشرط الخيار غير مضر بثبوته [الخيار] مطلقاً، كان التلف قبل الردّ أو بعده، بمقتضى النص والقاعدة.

ص: 535

الوجه الثالث: ما أفاده صاحب الجواهر(1) (قدس سره) من التفصيل بين التلف قبل الردّ والتلف بعده، وقد أورد عليه المحقّق النائيني(2) (قدس سره) بخمسة إشكالات بعضها تام والآخر غير وارد، ولكن بما أن أصل المدّعى غير تام ويظهر جوابه مما تقدم فلا حاجة للتعرّض إليه.

النقطة الثانية: في حكم تلف الثمن
اشارة

قال الشيخ(3) (قدس سره) بأنّ التلف من المشتري؛ استناداً إلى قاعدة: «أن التلف في زمان الخيار ممن لا خيار له»، ونتيجته انفساخ المعاملة(4).

وتحقيق الأمر يتوقف على بيان كلا المبنيين في المسألة:

الأوّل: ما اختاره الشيخ (قدس سره) من الفرق بين تلف المبيع وتلف الثمن؛ فإن الخيار محفوظ مطلقاً في الأوّل، والعقد ينفسخ في الثاني، والقاعدة الأولية وإن كانت على أن تلف كل شيء من مال مالكه إلّا أنها مخصصة في المقام بقاعدة: «أن التلف في زمان الخيار ممن لا خيار له».

الثاني: أن مقتضى القاعدة الأوّلية أن يكون التلف من مال مالكه، وقد انتقل الثمن من ملك المشتري إلى ملك البائع، فالتلف من ماله، ولا يخرج عن هذه القاعدة إلّا بمخصص، وهو مفقود في المقام.

وتحقيق المسألة أن يقال: إنّ تلف الثمن تارة يكون بعد الردّ وأخرى قبله، وإنّ الثمن تارة يكون شخصياً وأخرى كلياً.

أما إذا كان الثمن شخصياً وكان التلف بعد ردّ الثمن وقبل الفسخ، فالتلف من

ص: 536


1- الجواهر الكلام 24/671 (23/39).
2- منية الطالب 3/93.
3- المكاسب 5/140.
4- المكاسب 5/141.

مال البائع؛ وذلك للقاعدة الأولية المتقدمة من أن تلف كل شيء من مال مالكه، والثمن لا زال ملك البائع، وأما المخصص المذكور فهو غير ناهض في المقام؛ وذلك لأن الشيخ (قدس سره) خصّص القاعدة الأولية بقاعدة: أن التلف في زمان الخيار من مال من لا خيار له؛ بناء على تعميمها إلى الثمن، وإلى كل معاملة خيارية، واستند في التعميم إلى أمرين:

الأوّل: أن ظاهر إطلاق غير واحد من الأصحاب هو عموم القاعدة للثمن واختصاصها بالخيارات الثلاثة - المجلس والشرط والحيوان - وإن كان مورد النص هو الحيوان؛ وذلك لأن مقتضى «حتّى ينقضي الشرط» التعميم من هذه الجهة.

الثاني: أن مناط الحكم بأن التلف من مال من لا خيار له هو تزلزل المعاملة، فينطبق على ما نحن فيه.

وكلا الأمرين مدفوع.

أما الأوّل: فلعدم حجية إطلاق كلام الأصحاب ما لم يصل قولهم إلى حدّ الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم (علیه السلام) أو عن دليل معتبر عندنا، وهو منتفِ في المقام، والنص المذكور - وهو صحيحة عبدالله بن سنان - مختص بالمبيع وكونه حيواناً، وإنما عدّي من خيار الحيوان إلى المجلس والشرط بمقتضى «حتّى ينقضي الشرط»(1)، وأما التعدّي من المبيع إلى الثمن فلا وجه له.

وأما الثاني؛ فغايته تنقيح مناط ظني، فلا حجية فيه؛ إذ ربما يوجد ملاك في خصوص خيار الحيوان أو مع التعدّي إلى خياري المجلس والشرط، ولا يوجد في كل

ص: 537


1- إشارة إلى ما في وسائل الشيعة 18/14، ح2، الباب 5 من أبواب الخيار، صحيحة ابن سنان - يعني عبدالله - قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن الرجل يشتري الدابة أو العبد ويشترط إلى يوم أو يومين، فيموت العبد والدابة، أو يحدث فيه حدث، على من ضمان ذلك؟ فقال: على البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري.

معاملة متزلزلة.

والنتيجة: أن التلف من مال البائع بمقتضى القاعدة الأولية، ولكن الخيار محفوظ.

هذا كله إذا كان تلف الثمن بعد الرد، وأما إن كان قبله فيتضح الكلام فيه بما ذكرنا في الصورة السابقة، مع الإلتفات إلى ما تقدم منا في نفس مبحث الرد، من كونه فسخاً أو شرطاً للفسخ و... الخ.

وأما إذا كان الثمن كلياً فهو خارج عن محل الكلام؛ لما ذكرنا في السابق من أن ما يدفعه المشتري إلى البائع عوضاً عن الثمن ليس هو الثمن، بل هو ما ينطبق عليه الثمن، فلابد له أن يدفع فرداً آخر مكان التالف، وهو أيضاً يكون مما ينطبق على الكلي.

هذا، وقد استدل صاحب الجواهر (قدس سره) - مضافاً للقاعدة الأولية - على اختصاص قاعدة: «التلف في زمان الخيار ممّن لا خيار له» بخصوص المبيع [بمعتبرة] معاوية بن ميسرة، قال: سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبدالله (علیه السلام) عن رجل باع داراً له من رجل، وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر، فشرط إنك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك، فأتاه بماله، قال: «له شرطه».

قال أبو الجارود: فإن ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين، قال: «هو ماله».

وقال أبو عبدالله (علیه السلام) : «أرأيت لو أن الدار احترقت من مال من كانت؟ تكون الدار دار المشتري»(1).

ص: 538


1- وسائل الشيعة 18/20، ح3، الباب 8 من أبواب الخيار.

فإن ظاهره أن تلف الثمن من البائع، وأنه ملكه وإن كار الخيار له.(1)

وناقشه الشيخ(2) (قدس سره) ؛ بأن في الرواية حكمين:

أحدهما: أن نماء الثمن للبائع، وهذا الحكم - مضافاً لكونه مجمعاً عليه - على طبق القاعدة؛ لأنه باع داره فأصبح الثمن ماله، ونماؤه تابع له.

والآخر: أن تلف المبيع من مال المشتري، وهو مجمع عليه أيضاً، ومطابق للقاعدة؛ لكونه مالكاً له حينئذٍ.

ولا يحتاج شيء منهما إلى هذه الرواية، ولا يخصص قاعدة: «التلف في زمان الخيار ممن لا خيار لا»؛ فإنه يمكن أن يكون نماء الثمن مالاً للبائع ولكن تلف الثمن يوجب انفساخ البيع ويكون من مال المشتري، فاستدلال صاحب الجواهر (قدس سره) بالرواية على أن التلف من مال البائع، وأن العقد لا ينفسخ به غير تام.

بل يمكن أن يستفاد منها خلاف ما يدعيه (قدس سره) ؛ فإن نحو بيان الإمام (علیه السلام) هو أن نماء الثمن للبائع واستدل عليه بقوله: «أرأيت لو أن الدار احترقت من مال من كانت؟ تكون الدار دار المشتري»، فلو أراد أن يثبت أنّ تلف الثمن يكون من مال البائع لقال في الاستدلال على كون نماء الثمن للبائع: أرأيت لو أن الثمن تلف لكان من مال البائع، فالعدول من هذا إلى ما ذكر في الاستدلال من أن تلف الدار من مال المشتري، والسكوت عن تلف الثمن يكشف عن أن تلفه ليس من مال البائع.

وما أفاده الشيخ (قدس سره) من الإشكال على صاحب الجواهر (قدس سره) بالنسبة إلى تخصيص القاعدة بالرواية تام، فإن قلنا بثبوت القاعدة فهي غير مخصصة بالرواية؛ لعدم المقتضي لذلك؛ فإن غاية ما دلّت عليه هو أن نماء الثمن للبائع، ولم تتعرض لحال تلفه سلباً ولا

ص: 539


1- الجواهر 24/136 (23/(88-87)).
2- المكاسب 5/140.

إيجاباً، فلم تثبته للمشتري ولم تنفه عن البائع، بل ولوجود المانع أيضاً كما تبيّن قبل قليل.

ولا أقل من القول - تأييداً للشيخ (قدس سره) - : بما أن الرواية تعرّضت لنماء الثمن، ولم تتعرض لحال تلف الثمن نفسه سلباً ولا إيجاباً فهي مجملة من هذه الجهة، وفي حال الإجمال يرجع إلى العام أو المطلق إن وجدا، وهو هنا: أن التلف في زمان الخيار ممن لا خيار له، فيكون التلف على المشتري.

بيان عدم المنافاة بين قاعدتي التلف في زمان الخيار والخراج بالضمان

بقي شيء وهو: أنه ربما يقال بأن قاعدة «التلف في زمان الخيار ممن لا خيار له» - بناء على الاستدلال بها في المقام - منافية لقاعدة «الخراج بالضمان»؛ فإن مقتضى الأولى أن يكون التلف من مال المشتري وينفسخ العقد، ومقتضى الثانية أن يكون التلف من مال البائع؛ لأن المراد من القاعدة هو أن من له الخراج - وهي المنفعة، أخذ مما يخرج من الشيء، لا من باب الخراج والمقاسمة - هو الذي عليه الضمان، وبما أن النماء للبائع بالإجماع وللقاعدة، فالضمان عليه، فيكون التلف منه.

ولكن فيه: أوّلاً: أنها غير تامة سنداً.(1)

وثانياً: أن في الرواية تفسيرين:

التفسير الأوّل: أن كل من يضمن شيئاً فمنافعه له، وهو استنباط أبي حنيفة منها، وعليه تخرج عن محل الكلام، وقد ردّه الإمام الصادق (علیه السلام) كما في صحيحة

ص: 540


1- الرواية عامية، أخرجها غير واحد منهم عن عائشة أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قضى «أن الخراج بالضمان»، كما في سنن الترمذي 2/377 وغيره من كتبهم، ولم يخرجها أصحابنا المتقدمون في كتبهم الحديثية، وإنما تعرضوا لها في الكتب الفقهية الاستدلالية عنها أيضاً، كالشيخ الطوسي (قدس سره) في الخلاف 3/107، ثمّ تعرض لها المتأخرون في كتب الحديث كابن أبي جمهور (رحمة الله) في عوالي اللئالي 1/57، وعنه المحدث النوري (رحمة الله) في مستدرك الوسائل 13/302، ح3، الباب 7 من أبواب الخيار.

أبي ولاد.(1)

التفسير الثاني: أن من يكون له نماء شيء، فضمان الأصل عليه، وعلى هذا التفسير يأتي إشكال المنافاة، إلّا أنه يندفع بأن النسبة بين القاعدتين هي نسبة العموم والخصوص المطلق؛ فإن قاعدة: «التلف في زمان الخيار ممن لا خيار له» أخص مطلقاً من قاعدة: «الخراج بالضمان»؛ فإن مدلول الثانية هو أن كل من يكون له نماء شيء فالضمان عليه، ومدلول الأولى هو أن التلف في خصوص مورد الخيار ممن لا خيار له، فيكون من مال الآخر، فتخصص قاعدة الضمان بقاعدة التلف.

والنتيجة إلى هنا: أنه إذا تمّ الدليل على إطلاق قاعدة: «التلف في زمان الخيار ممن لا خيار له»، بحيث تشمل الثمن والمثمن، وخيار الحيوان وغيره، فهي المرجع في المقام؛ لأن البحث فعلاً في ما بعد ردّ الثمن، وثبوت الخيار للبائع، فيكون التلف من مال المشتري؛ فإنه الذي لا خيار له، ولا مخصص لها، لا رواية معاوية بن ميسرة، ولا قاعدة: «الخراج بالضمان».

ولكن إطلاق القاعدة غير تام، ولا مقتضي له؛ فإنّها مختصة بتلف المبيع وكونه حيواناً، فلا تشمل تلف الثمن، ولا خيار الشرط؛ وذلك لأن المستند فيها روايات الباب الخامس من أبواب الخيار، وعنوان الباب كما عنوانه به صاحب الوسائل (قدس سره) : «باب أن الحيوان إذا تلف، أو حدث فيه عيب في الثلاثة كان من مال البائع...»(2)، ومع غض النظر عن عنوان صاحب الوسائل (قدس سره) فنفس الروايات - المعتبرة وغيرها -

ص: 541


1- الكافي 10/469، ح6 (5/290)؛ ونقل عنه في وسائل الشيعة 19/119، ح1، الباب 17 من أبواب كتاب الإجارة. والتهذيب 7/215، ح943؛ ونقل عنه في وسائل الشيعة 25/390، ح1، الباب 7 من أبواب كتاب الغصب.
2- وسائل الشيعة 18/14.

دالة على اختصاص الحكم بالمبيع وكونه حيواناً، فالرواية الأولى هي:

[صحيحة] عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن رجل اشترى أمة بشرط من رجل يوماً أو يومين، فماتت عنده وقد قطع الثمن، على من يكون الضمان؟ فقال: ليس على الذي اشترى ضمان حتّى يمضي شرطه.(1)

والرواية الثانية - وهي عمدة ما استند إليه الفقهاء - صحيحة ابن سنان قال: سألت أباعبدالله (علیه السلام) عن الرجل يشتري الدابة أو العبد ويشترط إلى يوم أو يومين فيموت العبد والدابة أو يحدث فيه حدث، على من ضمان ذلك؟

فقال: على البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري.(2)

فإنّهما دالتان على اختصاص الحكم بكون التالف هو المبيع وكونه حيواناً، فلا تشملان الثمن ولا خيار الشرط، وليس هذا من باب أن المورد يخصص الوارد حتّى يقال بعدم تخصيصه به، بل الحكم من الأوّل ورد عن الإمام (علیه السلام) خاصاً، أي في خصوص خيار الحيوان، وتلف المبيع، فتعميمه إلى غير خيار الحيوان وإلى تلف الثمن يحتاج إلى دليل.

وهكذا دلالة الرواية الخامسة: وبإسناده عن الحسين بن سعيد، عن الحسن بن علي بن فضال، عن الحسن بن علي بن رباط، عمن رواه، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: إن حدث بالحيوان قبل ثلاثة أيام فهو من مال البائع.(3)

وهي وإن كانت مرسلة بطريق الشيخ (رحمة الله) إلّا أنها مسندة بسند صحيح في طريق الصدوق (رحمة الله) ؛ فإنه ذكر الواسطة بين ابن رباط والإمام (علیه السلام)، فرواها بإسناده عن ابن فضال، عن الحسن بن علي بن رباط، عن زرارة، عن أبي عبدالله (علیه السلام)، وإن كان في

ص: 542


1- وسائل الشيعة 18/14، ح1، الباب 5 من أبواب الخيار.
2- وسائل الشيعة 18/14، ح2، الباب 5 من أبواب الخيار.
3- وسائل الشيعة 18/15، ح5، الباب 5 من أبواب الخيار.

نسخة من الفقيه(1) «عمن رواه» بدل: زرارة، [فالارسال باق على حاله].

والحاصل: أن قاعدة «التلف في زمان الخيار ممن لا خيار له» إن أريد شمولها لمحل البحث فلابدّ من طي مرحلتين:

1- التعميم من خيار الحيوان إلى خيار الشرط.

2- التعميم من المبيع إلى الثمن.

ولا دليل على شيء منهما، فيتعين اختصاصها بالمبيع وخيار الحيوان، والبحث في ما نحن فيه في تلف الثمن في زمان خيار الشرط، وعليه فمقتضى القاعدة أن لا ينفسخ البيع ويكون التلف من مال البائع مع حفظ خياره»(2).

الأمر السادس: ردّ الثمن إلى الوكيل أو الولي مع التصريح به أو بدونه

«لا إشكال في أنّه لو كان الشرط هو رد الثمن إلى المشتري بعينه لم يتحقق الرد بالرد إلى وكيله أو وليه من الحاكم الشرعي فلو تعذر الرد إليه بعينه سقط الخيار. كما لا إشكال في أنه لو كان الشرط هو الرد إلى المشتري أو بدله من الوكيل أو الولي كان الرد إلى الوكيل أو الولي موجباً لصحة الفسخ.

إنما الاشكال فيما لو كان المشروط هو الرد إلى المشتري بلا تصريح بالعموم ولا بالخصوص، فهل يصح الرد إلى وليه عند تعذر الرد إليه عقلاً لغيبته أو شرعاً لجنونه. أو لا يصح، فيسقط الخيار لعدم تحقق شرطه؟

اختار الأوّل المحقّق القمي(3) (رحمة الله) في بعض رسائلة، واختار الثاني صاحب المناهل(4) (رحمة الله). وقد نقل الشيخ في المقام كلاماً لصاحب الحدائق(5) (رحمة الله) وناقشه ولا

ص: 543


1- انظر: من لا يحضره الفقيه 3/203، ح3767.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(461-440).
3- جامع الشتات 2/141، المسألة 99.
4- المناهل /334 - الثاني عشر.
5- الحدائق الناضرة 19/(36-35).

يهمنا التعرض إليه وإنما المهم تحقيق أصل المطلب.

فنقول: إنه يذكر لاثبات صحة الرد إلى الحاكم الشرعي في هذه الصورة وثبوت الخيار بواسطته وجهان:

الوجه الأوّل: أن دليل ولاية الحاكم الشرعي يتكفل تنزيل الحاكم منزلة المولى عليه وهو المشتري الغائب فيما نحن فيه، فيكون الرد إليه بمنزلة الرد إلى المشتري لأنه بمنزلته.

وهذا الوجه مردود بان دليل الولاية إنما يتكفل تنزيل الحاكم منزلة المشتري في الموارد التي للمشتري سلطنة شرعية فيها على الفعل، كالتصرف في ماله ببيع أو إجارة أو غيرهما وكطلاق زوجته وغير ذلك مما يكون للغائب سلطنة وولاية عليه. ولايتكفل تنزيله منزلة المشتري الغائب في كل أمر يرتبط به ولو كان موضوعاً تكوينياً لا فعلاً من أفعال الغائب فيما له سلطنة عليه، فإنَّ ذلك أجنبي عن دليل الولاية بالمرَّة.

وعليه، ففيما نحن فيه حيث كان الرد إلى المشتري ظاهراً في كون الشرط هو حضور الثمن لديه، فلا يتكفل دليل الولاية كون حضور الثمن عند الحاكم بمنزلة حضوره عند المشتري، إذ هو ليس من الأمور الراجعة إلى المشتري بلحاظ سلطنته وولايته، بل هو من الأمور التكوينية التي لها علاقة بالمشتري بعلاقة الاضافة إليه وأي ربط لدليل الولاية به؟

نعم، تكون للحاكم ولاية على الثمن المردود لو صحح الرد بطريق آخر وتحقق الفسخ، لانه يكون من أموال الغائب التي هي تحت ولاية الحاكم.

وقد أسهب(1)المحقّق الإيرواني(2) (رحمة الله) في بيان هذا المعنى.

ص: 544


1- أطنب وأكثر من الكلام وأطال.
2- حاشية المكاسب 3/110.

كما أوضحه المحقّق الإصفهاني(1) (رحمة الله) بعد أن بَيَّنَ أن ولاية الحاكم تثبت في موردين يُدْعىٰ تطبيق كل منهما على ما نحن فيه:

الأوّل: أنه ولي الممتنع ويراد به الأعم من الامتناع القهري أو الاختياري.

والثاني: أنه ولي الغائب.

ثمّ بيّن أنَّ ولاية الحاكم في المورد الأوّل بمعنى صلاحية التصرف فيما يرجع إلى الممتنع مما كانت له ولايه شرعية عليه وأن موردها في المورد الثاني هو مال الغائب. والثمن قبل حصول الفسخ المتأخر عن الرد مال البائع الحاضر لا مال المشتري الغائب.

الوجه الثاني: ما أشار إليه الشيخ(2) (قدس سره) وتبعه غيره(3) من وجود قرينة عامة توجب ظهور المشتري في الأعم منه ومن وليه. وبعبارة أخرى: توجب إلغاء خصوصية المشتري وأنَّ المراد هو الرد إلى مالك التصرف أعم من المشتري ووليه وهي أن المقصود عادة باشتراط الرد إلى المشتري هو حصول الثمن عنده وعدم بقائه في ذمة البائع لانه يكون - إذا بقي بالذمة - في معرض الانكار أو الضياع لفلس وغيره، وهذا الأمر كما يتحقق في الرد إلى نفس المشتري يتحقق بالرد إلى ما هو بمنزلته في المحافظة على ماله، بحيث يتحقق المقصود بالرد إليه، كالحاكم الشرعي.

إذن، فيصح الرد إلى الحاكم أو غيره من الأولياء لتحقق الرد إلى مالك التصرف والحفظ بالرد إليهم. وعبارة الشيخ (قدس سره) لا تخلو من غموض.

ولكن السيّد(4) (رحمة الله) وغيره(5) أوضح هذا المطلب، ويتضح هذا جداً بملاحظة

ص: 545


1- حاشية المكاسب 4/214.
2- المكاسب 5/143.
3- حاشية المكاسب 2/489 للسيّد اليزدي (قدس سره).
4- حاشية المكاسب 2/489.
5- نهاية المقال /65، الطبعة الأولى، للمحقّق الشيخ عبدالله المامقاني.

ما يقال في تصحيح إسناد البيع إلى الوكيل في الشراء، فيقول له البائع الأصيل بعتك مع أنه وكيل وليس هو المشتري بل المشتري موكلّه، فكيف يسند إليه التمليك بكاف الخطاب؟

فانه يقال في مقام تصحيح ذلك أنّ البيع لم يسند إلى المخاطب بما هو هو إذ خصوصية المشتري الخاص لا تلحظ نوعاً في البيوع، إذ البائع لا يهمه إلّا تبديل ماله بثمن معين من أي شخص كان، فالبيع إنما يسند إلى مالك الثمن حقيقة وفي اللبّ لا للمخاطب بما هو مخاطب.

وهكذا فيما نحن فيه، إذ لا خصوصية للرد إلى ذات المشتري نوعاً وإنما المهم هو عدم كون الثمن في ذمة البائع ووصوله إلى المشتري بنحو يحفظ له ماله وهو يتحقق بإيصاله إلى من له ولاية الحفظ، كالحاكم الشرعي.

ثمّ إن الشيخ(1) (رحمة الله) بعد أن ذكر ذلك تعرض لذكر فرعين:

الفرع الأوّل: لو اشترى الأب للطفل بخيار للبائع واشترط الرد عليه، فهل يصح الردّ إلى الجد مطلقاً أو لايصح مطلقاً أو يصح مع عدم التمكن من الرد إلى الأب؟ وجوه. ولم يتعرض إلى بيان منشأ الوجوه.

ولا يخفى أن الوجه الأوّل ينشأ عن دعوى أن الملحوظ في اشتراط الرد على الأب كونه وليّاً لا خصوصية الأب نفسه فيصح الرد إلى مطلق الولي.

كما أن الوجه الثاني ينشأ عن دعوى ظهور الشرط في خصوصية للأب فلا يصح الرد إلى غيره.

وأما الوجه الثالث، فلا يظهر له منشأ، إلّا إذا فرض أن ولاية الجد في طول ولاية الأب نظير ولاية الحاكم الثابتة عند عدم تمكن المشتري من التصرف، ولكن

ص: 546


1- المكاسب 5/144.

الأمر ليس كذلك فان ولاية الجد في عرض ولاية الأب، فلا يظهر للوجه الثالث منشأ عرفي. فتدبر.

الفرع الثاني: لو اشترى الحاكم للطفل الصغير، فهل للبائع الردّ إلى حاكم آخر أو لا؟ ذهب الشيخ (قدس سره) إلى جريان الوجوه المتقدمة في الفرع السابق ههنا.

لكن ههنا قيد زائد وهو أنه يلزم أن لا يكون الرد إلى الحاكم الآخر مزاحمة للحاكم الأوّل المشتري، إذ لا تصح مزاحمة حاكم لحاكم آخر فيما تصرف فيه.(1)

ولا يخفى أن الرد إلى الحاكم الآخر إنما يصح لو فرض فهم عدم الخصوصية للحاكم المشتري وأن المراد هو شرط الرد إلى مطلق الولي، ومعه لا تصدق المزاحمة فان الحاكم المشتري إذا فرض أنه أجاز الرد إلى غيره فكيف يتصور تحقق المزاحمة له بالرد إلى غيره. فلاحظ»(2).

الأمر السابع: ردّ بعض الثمن

«قد تعرض الشيخ(3) (قدس سره) فيها لفروع:

الفرع الأوّل: أن مقتضى إطلاق رد الثمن إرادة رد تمام الثمن فلا يكون له الفسخ برد بعضه. وهذا واضح لا خفاء فيه. ثمّ بيّن أن المشتري لا يحق له التصرف في المدفوع إليه لأنّه باق على ملك البائع وهو واضح أيضاً كسابقه. كما ذكر أنه إن صرح أن المدفوع إليه يكون أمانة في يده إلى أن يجتمع الكل فيفسخ لم يكن ضامناً مع التلف، وإلّا فإن كانت يده عليه بعنوان أنه ثمن كان ضامناً مع التلف، وهو حكم على طبق القاعدة كما يذكر في محله. فهذا الفرع لا كلام فيه.

ص: 547


1- قد بحثنا حول عدم جواز تزاحم فقيه لفقيه آخر في الأمور الحسبية في الآراء الفقهية 7/(401-373).
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(265-261).
3- المكاسب 5/145.

الفرع الثاني: أنه لو شرط البائع الفسخ في كل جزء برّد ما يخصه من الثمن جاز الفسخ فيما قابل المدفوع وللمشتري خيار التبعيض إذا لم يفسخ البائع بقية المبيع وخرجت المدة وهل له ذلك قبل خروجها الوجه ذلك.

والكلام في هذا الفرع يقع في جهتين:

الأولى: أنه هل له أن يشترط الفسخ في كل جزء برد ما يخصه من الثمن أو لا؟

الثانية: أنه على تقدير صحة الشرط وفسخ البائع مقداراً من المبيع فهل للمشتري خيار التبعيض أو لا؟

أما الجهة الأولى، فتحقيقها: أن تبعض الصفقة في موارده، كما في بيع ما يملك وما لا يملك - كبيع الخروف والخنزير - مع كون الانشاء وقع على المجموع وجعل مجموع الثمن بازاء المجموع .. .

تارة: يلتزم به من باب وجود الدليل الشرعي عليه وثبوت التعبد به بحيث لو لا الدليل الخاص لالتزم ببطلان البيع.

وأخرى: يلتزم به على القاعدة بدعوى أن العقد على المجموع ينحل في الحقيقة إلى عقود متعددة بعدد الأجزاء ويكون لكل جزء من أجزاء المبيع حصة من الثمن، فاذا تبين عدم صحة بيع بعض الأجزاء كان باطلاً فيه خاصة أما سائر الأجزاء القابلة للنقل والانتقال فيكون العقد عليها صحيحاً ولها حصة من الثمن.

فعلى الأوّل: لا يصح الشرط فيما نحن فيه، لان العقد في نفسه ليس قابلاً للتبعض فيكون الشرط باطلاً، ولا دليل [شرعي] على صحته في خصوص المقام.

وعلى الثاني: يصح الشرط لقابلية العقد للتبعض، فلا مانع من اشتراط رفع اليد عن بعضه، فصحة الشرط فيما نحن فيه تبتني على الوجه الثاني. وتحقيقه في محلِّه.

وأما الجهة الثانية، فتحقيقها: أن خيار تبعض الصفقة يلتزم به في مورده لأحد وجهين:

ص: 548

الأوّل: قاعدة نفي الضرر، ببيان أن في لزوم البيع في جزء المبيع بجزء من الثمن ضرراً على المشتري، إذ قد لا يتعلق بالجزء غرض له.

الثاني: انه من باب تخلف الشرط، ببيان أن العقد على المجموع وإن كان حقيقة عقوداً متعددة بعدد الأجزاء لكن هناك شرط ضمني في البيع وهو شرط انضمام كل جزء للآخر، فإنّ المشتري يشتري هذا الجزء ولكن بشرط انضمامه إلى الجزء الآخر، فان ذلك ظاهر العقد على المجموع، فإذا تخلف البيع وانتقض في بعض الأجزاء تخلف الشرط فيكون له خيار تخلف الشرط، فمرجع خيار تبعض الصفقة إلى خيار تخلف الشرط.

1- فاذا كان المستند في ثبوت خيار تبعض الصفقة هو قاعدة نفي الضرر، فهي مختصة كما حُرّر في محلِّه بصورة عدم الإقدام على الضرر أما مع الإقدام عليه فلا تكون محكمة.

وعليه، فبما ان المشتري أقدم على التبعض قبل انتهاء المدة لأن ذلك مفاد الشرط فيما نحن فيه، فليس له الخيار قبل انقضائها.

نعم، بعد انتهائها له الخيار، إذ لم يقدم على التبعيض مطلقاً بل هو أقدم على التبعيض بنحو يفسخ في الكل إلى انتهاء المدة، فاذا لم يتحقق ذلك كان له الخيار.

2- وان كان المستند في ثبوت خيار تبعض الصفقة هو كونه من جهة تخلف الشرط، ليس له الخيار فيما نحن فيه، وذلك لأن المبيع قد انتقل إليه بمجموعه حدوثاً فلم يتخلف الشرط الضمني، وتحقق التجزئة والتبعيض بقاء بالفسخ أجنبي عن ذلك لأنه لا يدعي كون الشرط الضمني هو تحقق الانضمام بقاءاً بحيث ينافيه انتقال بعض المبيع عنه بسبب من أسباب النقل. ولا يخفى أن الفسخ بالخيار إنما هو من حينه لا من حين العقد. فتدبر والتفت فانه لا يخلو عن دقة.

الفرع الثالث: أنه يجوز اشتراط الفسخ في الجميع برد جزء معين أو غير معين

ص: 549

من الثمن في المدة الخاصة، فيبقى الباقي في ذمة البائع بعد الفسخ. وهذا واضح لا ريب فيه»(1).

الأمر الثامن: اشتراط المشتري الفسخ برد المثمن

«كما يجوز للبائع اشتراط الفسخ بردّ الثمن، كذا يجوز للمشتري اشتراط الفسخ بردّ المثمن، لا لدخوله في دائرة الروايات الخاصة؛ فإنها واردة في اشتراط البائع ردّ الثمن، وإنما لمقتضى القاعدة؛ فإن هذا الشرط مشمول لإطلاق أدلة الشروط، ولا مانع منه.

نعم، يفترق ما نحن فيه عن المقام الأوّل بأن البيع بشرط ردّ الثمن عادة ما يكون بسبب الحاجه لثمن المبيع، فالبائع يقصد التصرف فيه، ولهذه الجهة كان الشرط أعم من ردّ عين الثمن أو بدله.

وأما الشراء بشرط ردّ المبيع فلا يكون من أجل الحاجة إلى عين المبيع في الاستفادة من بيعها، وإنما يكون لأجل الاستفادة من منفعتها، فمقتضى القاعدة أن يردّ المبيع نفسه لا بدله، وعليه فإذا تلف المبيع انتفى الخيار، بخلاف ما تقدّم؛ فإنه إذا تلف الثمن انتقل إلى بدله ولم ينتفِ الخيار؛ لكون الشرط بمقتضى إطلاقه هو الأعم من العين والبدل.

وكيف كان فالصور المتصورة في هذا المقام ثلاث:

الصورة الأولى: أن يشترط ردّ المبيع، فيكون موضوع الشرط هو المبيع بنفسه.

الصورة الثانية: أن يشترط الأعم من ردّ المبيع أو بدله عند تلفه، بمعنى أنه إن كان المبيع موجوداً ردّه، وإن كان تالفاً ردّ بدله.

ولا إشكال في صحة هاتين الصورتين لصحة الشرطين.

ص: 550


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(267-265).

الصورة الثالثة: أن يشترط ردّ المبيع أو ردّ بدله حتّى مع التمكن من ردّ العين.

قال الشيخ (قدس سره) : فيه إشكال، ولم يتعرّض إلّا لبيان أحد وجهي الإشكال - وهو وجه البطلان - فقال: «من أنّه خلاف مقتضى الفسخ؛ لأنَّ مقتضاه رجوع كلٍّ من العوضين إلى صاحبه، فاشتراط البدل اشتراط للفسخ على وجه غير مشروع، بل ليس فسخاً في الحقيقة»(1).

ولا يخفى أن عدم المشروعية حكم من الأحكام، وهو متأخر في الرتبة عن الموضوع، فلا يعقل قبل تحقق الموضوع أن يقال: وجه الإشكال هو عدم المشروعية، كما ربما يظهر من عبارة الشيخ (قدس سره)، ولكن الحق أنه (قدس سره) يرى من الأوّل أنه ليس بفسخ، لا أنه يراه غير مشروع ثمّ أضرب عنه إلى عدم كونه فسخاً.

بيان ذلك: إنهم اختلفوا في حقيقة الفسخ على مبنيين:

الأوّل: أن الفسخ حلّ العقد، ولازمه ردّ الملك.

الثاني: أنه ردّ الملك.

والأوّل هو الحق كما تقرر في محلِّه، ولكن موضوع الفسخ على كلا المبنيين هما العوضان، فيستحيل أن يكون البدل موضوعاً له، أي كما أن العقد يتم بين المبيع والثمن، فكذلك الفسخ، فمقتضى الفسخ هو رجوع كل من العوضين إلى صاحبه، فلا يكون ردّ البدل فسخاً للمعاملة، فما أفاده الشيخ بعد الإضراب ب- «بل» هو الصحيح.

وأما الوجه الآخر للإشكال - وهو وجه الصحة - فهو أن هذا الشرط يتصور بنحوين:

الأوّل: أن يكون على نحو شرط الفعل، بأن يشترط في البيع أنه إذا ردّ بدل المبيع فله الخيار، أو أن يكون - بعد الفسخ - وكيلاً له في تبديل المبيع بالبدل، وكلا

ص: 551


1- المكاسب 5/146.

الشرطين مشروع، فلم يجعل الفسخ بين الثمن وبدل المبيع، بل بين الثمن والمبيع نفسه، وبعد الفسخ وقع التبديل بمقتضى الشرط لا بمقتضى الفسخ.

الثاني: أن يكون على نحو شرط النتيجة، بأن يشترط الخيار إذا ردّ بدل المبيع، وأن يكون بعد الفسخ مالكاً للمبيع في مقابل البدل، وبما أن الملكية من الأمور التي لا تتوقف على سبب خاص فتحصل بشرط النتيجة، ولا إشكال.

وأصل هذا التصوير للصحة من المحقّق الرشتي(1) (قدس سره) وتبعه فيه غيره، وهو تام، ولعل الشيخ (قدس سره) يشير إليه عندما أمر في الأخير بالتأمل.(2)

بقي شيء تعرض له الشيخ(3) (قدس سره) وهو أنه لو اشترط ردّ التالف القيمي بالمثل، وردّ التالف المثلي بالقيمة، ففيه وجهان:

الأوّل: الصحة والجواز؛ لأنه بمنزلة اشتراط إيفاء ما في الذمة بغير جنسه، ولا محذور فيه.

الثاني: البطلان؛ لأنه بمنزلة اشتراط ضمان التالف المثلي بالقيمة، والقيمي بالمثل، وهو باطل؛ لأن ضمان المثلي بالمثل، والقيمي بالقيمة.

ثمّ أمر الشيخ (قدس سره) بالتأمل، ولعله يشير إلى أن وجهي الإشكال الواردين في تبديل القيمة بالمثل وعكسه يأتي مثلهما في ما نحن فيه بنحو ما بيّناه، فلا يرد على الشيخ (قدس سره) أنه لم يتعرض للشق الثاني من الإشكال.

فتحصل إلى هنا: أن اشتراط الفسخ بردّ البدل يتصور على نحوين، أحدهما باطل، وهو أن يشترط الفسخ بردّ البدل، والآخر صحيح وهو أن يشترط الخيار، وبعد

ص: 552


1- فقه الإمامية، قسم الخيارات /372.
2- المكاسب 5/146.
3- المكاسب 5/146.

الفسخ له التبديل أو أن يكون مالكاً للمبيع عوض البدل»(1).

وهذا تمام الكلام في هذه المسألة.

المسألة الثامنة: جريان خيار الشرط في غير البيع
اشارة

هل يجرى خيار الشرط في غير البيع من المعاملات أم لا؟

ادعى الشيخ الأعظم(2) عدم اختصاص خيار الشرط بالبيع وجريانه في كلِّ معاوضةٍ لازمة بلا خلاف ولا إشكال بمقتضى عموم «المؤمنون عند شروطهم». ثمّ قدّم الكلام في العقود الجائزة ثمّ الإيقاعات ثمّ أعقبه بالعقود اللازمة ونحن نبتدأ بالعقود اللازمة لأنّها أولى.

جريان خيار الشرط في العقود اللازمة
اشارة

قال العلّامة في القواعد: «يثبت خيار الشرط في كل عقدٍ سوى الوقف والنكاح»(3).

وقال في تذكرة الفقهاء: «الأقرب عندي دخول خيار الشرط في كلِّ عقدٍ معاوضة خلافاً للجمهور على تفصيل...»(4).

وقال الشهيد الثاني: «أمّا جواز الشرط في العقود، فلعموم الأخبار(5) الدالة على جواز الإشتراط. ونبّه بذلك على خلاف الشافعي(6)، حيث نفاه في كثير من

ص: 553


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(479-476).
2- المكاسب 5/147.
3- القواعد 2/68.
4- تذكرة الفقهاء 11/63، مسألة 251.
5- وسائل الشيعة 12/352، الباب 6 من أبواب الخيار.
6- السراج الوهّاج /185؛ المجموع 9/192.

العقود.ويستثنى من البيع ما يتعقّبه العتق، كشراء القريب، فإنّه لا يثبت فيه خيار الشرط ولا المجلس. وكذا شراء العبد نفسه - إن جوّزناه - لأنّه مناف لمقتضاه.

وأمّا استثناء ما ذكر، فلأنّ النكاح لا يقصد فيه المعاوضة، والوقف إزالة ملك على وجه القربة. ومثله العتق. وقريب منه الإبراء. وهذه المواضع محلّ وفاق، وهو الحجة، وأمّا التعليل فلا يصلح لتخصيص النصّ العام. وكذا القول في الطلاق، وفي معناه الخلع والمبارات. وفي معنى العتق التدبير، وإن كان جائزاً في حال الحياة، والمكاتبة المطلقة، أمّا المشروطة فجوّز جماعة فيها خيار الشرط للمولى(1)، وللعبد عند الشيخ(2).

واستثنى الشيخ (رحمة الله) أيضاً من العقود الصرف، مدّعياً الإجماع.(3) وأطبق المتأخّرون على ثبوته فيه، ومنع الإجماع. وهو حسن، لعموم الخبر.

واعلم أنّ استثناء [المحقّق] الطلاق والعتق من العقود، إمّا منقطع لأنّهما من باب الإيقاع، أو محمول على إطلاق العقد على ما يعمّ الإيقاع تجوّزاً. وكذا القول في الإبراء، إن لم يشترط فيه القبول»(4).

استظهر الأردبيلي من مقالة العلّامة في التذكرة الاجماع على دخول خيار الشرط في كلِّ معاوضة حيث انّه اقتصر فيها على نسبة الخلاف إلى الجمهور وقال: «ويدلّ على عدم الخلاف عندنا، ما تقدم من عموم أدلة العقود والإيفاء بها، وبالشرط دليلٌ واضح

ص: 554


1- راجع الخلاف 3/18، مسألة 21؛ السرائر 2/246؛ المهذّب 1/357؛ التحرير 1/166؛ جامع المقاصد 4/304.
2- الخلاف 3/18، مسألة 21؛ المبسوط 2/82.
3- المبسوط 2/79.
4- المسالك 3/211 و 212.

على الكل حتّى يوجد المانع من اجماع ونحوه، وقد ادعى(1) الاجماعٍ(2) في شرح الشرائع(3) على النكاح والوقف والطلاق والعتق والابراء لعله دليلها.

وبالجملة الإجماع والنص دليل الجواز واللزوم في كل عقد إلّا ما ثبت فيه الدليل على المنع.

وقد الحقّ(4) بالطلاق الخلع والمباراة وبالعتق التدبير والمكاتبة المطلقة.

وقد استدل(5) على بعض المستثنيات ببعض المناسبات، وليس بتام، والعمدة الإجماع إنْ كان. وقد استثنى(6) من العقود بعض ما تقدم، مثل بيع من ينعتق، وبيع العبد على نفسه إن جوّز، ولعل مقصود [العلّامة] من قوله: «في كل عقد» ما يعم الإيقاعات مما يحتاج في ترتب الأثر الشرعي على لفظ، فلا يحتاج بل لا يمكن جعل «سوى»(7) للاستثناء المنقطع، مع قلة وجوده بلفظ «سوى» والأمر في ذلك هين»(8).

أقول: مقالة المولى الأردبيلي كلّها ناظرة إلى كلام الشهيد الثاني في المسالك(9).

يجرى خيار الشرط في العقود اللازمة ماعدا النكاح والوقف كما مرّ أمّا غيرهما فيجرى فيها.

قال السيّد العاملي: «وأما ما عداهما [أي النكاح والوقف] من العقود اللازمة

ص: 555


1- الشهيد الثاني.
2- أي على منع.
3- مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 3/212.
4- الشهيد الثاني.
5- الشهيد الثاني.
6- الشهيد الثاني.
7- في عبارة العلّامة في الإرشاد وهي نظير عبارته في القواعد.
8- مجمع الفائدة والبرهان 8/411.
9- المسالك 3/211 و 212.

- كالإجارة ولو في الذمّة والمزارعة والمساقاة والكفالة والحوالة - فلا أجد خلافاً في جريان خيار الشرط فيها. واستظهر المولى الأردبيلي من التذكرة الإجماع على دخول خيار الشرط في كلّ معاوضة، حيث إنّه اقتصر فيها على نسبة الخلاف إلى الجمهور، قال: وعموم أدلّة العقود والإيفاء بها وبالشروط دليلٌ واضح على الكلّ حتّى يوجد المانع من إجماعٍ أو نحوه، وقد استدلّ على بعض المستثنيات ببعض المناسبات وليس بتامّ، والعمدة الإجماع إن كان(1)، انتهى.

قلت: والأمر كما ذكر»(2).

نعم، يجرى خيار الشرط في جميع أقسام البيع والعقود المعاوضية المنجزة كالإجارة والمزارعة والمساقاة والكفالة والحوالة والعقود التعليقية كعقد الجعالة والسبق والرماية ونحوها.

أمّا أصل البحث: فقد ذكر الشيخ الأعظم(3) أنّ العقود اللازمة على ثلاثة أقسام «ما لا يصح فيه شرط الخيار اتفاقاً [كالنكاح]، وما يصح فيه بالاتفاق [كالوقف وغيره]، وما اختلف فيه [كأقسام البيع]، ثمّ ذكر مصاديق كل قسم، وقبل الخوض في ذكر مصاديق كل قسم قسم والتعرض لأحكامها وما يجري فيها من الكلام نذكر ما قيل من الوجوه العامة المانعة من جريان شرط الخيار بحيث لا يكون لها اختصاص بمعاملة واحدة، بل تشمل معاملات عدّة. ثمّ نبحث في كل مورد بخصوصه وهي وجوه:

الوجه الأوّل: أن شرط الخيار وجعل حق الفسخ لا يصح إلّا في مورد يصح فيه التقايل وتقريبه بأمور:

ص: 556


1- مجمع الفائدة والبرهان 8/411.
2- مفتاح الكرامة 14/219.
3- المكاسب 5/151.

الأوّل: ما أفاده الشيخ(1) (قدس سره) في أواخر كلامه من أن الالتزام والرضا حين العقد بسلطنة أحدهما على الفسخ يكون بمقتضى دليل نفوذ الشرط بمنزلة رضاه بالفسخ بعد العقد، فينزل الالتزام حين العقد منزلة الرضا بعد العقد، فمع عدم نفوذ الرضا بعد العقد بفسخ صاحبه في صورة عدم مشروعية الاقالة التي مرجعها إلى نفوذ رضا كل منهما بفسخ الآخر لم يكن معنى للتنزيل المزبور لانتفاء موضوعه.

الثاني: ما أشار إليه المحقّق الاصفهاني(2) (رحمة الله) في حاشيته وهو: أن معنى نفوذ الشرط هو إلزام المشروط عليه، والالزام بالشرط متفرع على جوازه للمشروط عليه وهو يختص بمورد مشروعية الاقالة.

الثالث: ما نقله الاصفهاني(3) (رحمة الله) عن بعض أجلة السادة (رحمة الله) وهو: أن مقتضى أدلة الشروط قطع سلطنة المشروط عليه عن الامتناع من الفسخ وعدم كون رضاه الفعلي شرطاً في تأثير الفسخ، ولا ريب أن نفي شرطية رضاه أعم من كونه سبباً رافعاً للعقد، بخلاف ما إذا علمنا من الخارج جواز التقابل منهما فانه دليل على سلطنة كل منهما على الفسخ بالتراضي، فيجدي حينئذٍ قطع سلطنة المشروط عليه وعدم شرطية رضاه في تأثير الفسخ حيث علم سلطنة الآخر في نفسه على الفسخ برضا الآخر المفروض فعليته حال العقد وقيامه مقام رضاه بعده.

وجميع هذه التقريبات مخدوشة:

أما الأوّل: فلأن مفاد دليل نفوذ الشرط ليس إلى لزوم العمل بالشرط لزوماً تكليفياً إذا كان المشروط فعلاً أو تحقق المشروط وضعاً إذا كان نتيجة لا فعلاً - كما تقدم بيانه - ، فمفاد دليل النفوذ هو الجري على طبق الشرط المستتبع للحكم التكليفي

ص: 557


1- المكاسب 5/156.
2- حاشية المكاسب 4/220.
3- حاشية المكاسب 4/232.

عند شرط الفعل وللحكم الوضعي عند شرط النتيجة.

ومن الواضح أن شرط الخيار لا يقصد به إلّا جعل الحق الخاص للمشروط له بلا نظر إلى تنزيل الرضا حال العقد منزلة الرضا بعده، فمن أين يثبت تنزيل الرضا حين العقد منزلة الرضا بعده كي يختص ذلك بمورد مشروعية الاقالة.

وأما الثاني: فلأن مقتضى دليل نفوذ الشرط هو تحقق المشروط، فلا يقتضي إلّا ثبوت الحق للمشروط له ويكون أثر ذلك هو الالزام المشروط عليه، وليس هو متعلّق الشرط ولا مفاد دليل النفوذ التابع لمفاد الشرط. ومنه يظهر الخدشة في... .

الثالث: فان عدم جواز امتناع المشروط عليه من الفسخ من آثار جعل الحق وثبوته بمقتضى دليل نفوذ الشرط لا أنه بنفسه متعلّق الشرط أو مفاد دليل النفوذ.

إذن، فالوجه الأوّل لا يمكننا الالتزام به لعدم الدليل عليه.

الوجه الثاني: ما ورد في النص من أنه «ما جَعَلَ لِلّهِ فلا رجعةَ لَهُ فيه»(1).

فانه قد يدعى شموله لكلِّ معاملة قصد بها القربة، فلا يصح شرط الخيار فيها. ولأجل وضوح المراد من هذا النص وما شابهه لابدّ من ايقاع البحث في جهات:

الجهة الأولى: في المراد من قوله: «ما جعل لِلّه» وقد ذكر المحقق الاصفهاني(2) (رحمة الله) أن محتملاته ثلاثة:

الأوّل: أن يراد ما أتى به بداعي التقرب إلى الله سبحانه، فيشمل مثل البيع والنكاح إذا وقعا لأجل استحبابهما.

الثاني: أن يراد ما تتوقف صحته شرعاً على قصد القربة، كالوقف عند بعض.(3)

ص: 558


1- وسائل الشيعة 19/204، ح1، مرسلة الحكم.
2- حاشية المكاسب 4/227.
3- نحو المفيد في المقنعة /652؛ وصاحب الحدائق في كتابه 22/153.

الثالث: أن يراد به ما يتقوم بذاته بقصد القربة بحيث يكون قصد القربة من قبيل الفصل المقوم له لا من قبيل الشرط، كالصدقة بالمعنى الأخص المقابل للوقف والهبة.

وقد اختار (رحمة الله) المحتمل الثالث ولعله لأجل التسالم على عدم إرادة الأوّل للاجماع على صحة شرط الفسخ في البيع ولو وقع قربيّاً، ولكون الثاني خلاف الظاهر فيتعين الثالث.

ولا يخفى أن جامع الوجوه المحتملة هو كون المراد من قوله «لِلّه» بداعي أمر الله المعبر عنه بقصد القربة.

والذي يبدو لنا أن المراد به معنى أجنبي عن الاتيان بالعمل بداعي الأمر، بل المراد به هو ما أتى به في وجه الله سبحانه وفي سبيله، فيكون المراد ما كان الداعي إلى العمل هو ترتب الأمر المرغوب للّه سبحانه، كالوقف في سبيل الخير والبر، كاعانة الضعيف ومداواة المريض وترويج الدين وغير ذ لك، وكالإعطاء بقصد الإحسان والإعانة، ويشهد لذلك ما ورد في بعض النصوص(1) من التعبير بما يبتغي به وجه الله سبحانه، بلا نظر إلى اتيانه بقصد القربة وعدمه.

وتطبيقه على الصدقة في النص إنما هو بملاحظة أن الصدقة عبارة عن بذل المال والتمليك في سبيل الخير والاحسان والاعانة، كالوقف الخيري المعبر عنه بالصدقة الجارية والهبة إلى الفقير بعنوان اعانته والاحسان إليه. ولا يعتبر في تحقق مفهوم الصدقة قصد القربة، إذ قد يعبر بها من لا إيمان له بالخالق.

فظهر مما ذكرناه أن معنى الصدقة هو البذل والتمليك في وجوه الخير والاعانة

ص: 559


1- صحيح البخاري 1/109، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت؛ وسنن أبي داود 3/228، رقم 3273.

والاحسان سواء كان بقصد القربة أم لا.

وهذا المعنى للصدقة معنى عرفي مغفول عنه. وقد كنّا لا نستطيع تشخيص مفهوم الصدقة بحيث يباين الهدية ردحاً(1) من الزمن. والحمد لله تعالى على ما أنعم وألهم.

ثمّ إن الخير يختلف باختلاف الأنظار والأديان، فبذل الخمر من قبل المؤمن بالله وبالإسلام لا يكون بنظره بذلاً للخير فلا يعد صدقة بخلاف ما لو صدر من غيره. فصرف المال بازاء المنكر لا يعد بذلاً في سبيل الخير.

وبهذا البيان يخرج مثل البيع وإن جيء به بقصد القربة لأنه تمليك وبذل بازاء العوض لا مجاناً. وتخرج الهدية لانها ليست بتمليك على وجه الخير والاعانة والاحسان، فالمراد من النص المزبور هو ما يساوق الصدقة وهو كل بذل وتمليك مجاني في سبيل الله سبحانه. فلاحظ.

الجهة الثانية: في المراد من قوله: «لا رجعة له فيه» ومحتملاته متعددة أيضاً.

أحدها: أنه لا يقبل الرجوع إلى من خرج عنه المال بأيِّ وجه من الوجوه حتّى بالشراء والهبة وغير ذلك. وتؤيده بعض النصوص(2) التي تشبه الصدقة بالعتق، كما تدل عليه النصوص(3) الدالة بالخصوص على عدم رجوعه له بالشراء ونحوه.

ثانيها: أن يراد به كونه عقداً لازماً لو خلّي وطبعه، كالبيع في قبال الهبة الجائزة. فلا ينافيه جعل شرط الخيار فيه لان اللزوم الطبعي لايتنافى معه، كما هو الحال في البيع.

ص: 560


1- الرَدَح: المدّة الطويلة، أقام رَدَحاً من الدهر أي طويلاً.
2- وسائل الشيعة 19/205، ح3، موثقة طلحة بن زيد.
3- وسائل الشيعة 19/207، ح1، صحيحة منصور بن جازم، الباب 12 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات، ووسائل الشيعة 19/280، ح5، صحيحة أخرى له.

ثالثها: أن يراد به أنه لازم بقول مطلق بحيث لا يقبل الفسخ فيكون اللزوم من لوازم ذاته التي لا تنفك عنه.

أما المعنى الأوّل، فهو لا يمكن الالتزام به وإن أيدته النصوص(1) لأنه خلاف التسالم وسيرة المتشرعة، فانه لا يتوقف أحد في جواز شراء المتصدق للصدقة إذا باعها الفقير.

وقد بنى المحقّق الاصفهاني(2) (رحمة الله) على الثالث بدعوى ظهور سياق الكلام فيه، وهي غير ثابتة، فالثابت من هذا النص هو اللزوم الطبعي لا أزيد لعدم ظهوره فيما هو أزيد منه.

الجهة الثالثة: في صدق الرجوع مع شرط الخيار، فقد يقال [في نفي صدق الرجوع]:

أوّلاً: أنه مع شرط الخيار في الصدقة - مثلاً - لا يتحقّق الرجوع بالفسخ ولا يصدق الرجوع بها لأن العقد مقيد بالشرط فهو واقع على كيفية مخصوصة فلا يصدق الرجوع بإعمال الحقّ، فهو نظير تقييد بزمان خاص، فان استرداد المال بعد ذلك الزمان لا يصدق عليه أنه رجوع.

وفيه: ما أفاده المحقّق الاصفهاني(3) (رحمة الله) من أن الشرط لا يرجع إلى تقييد متعلق العقد وتكييفه بكيفية خاصة بل هو التزام في ضمن التزام، فالالتزام العقدي لا تقييد فيه، فينافيه التزام الرجوع فيه.

وثانياً: بما ذكره السيّد الطباطبائي(4) (رحمة الله) من عدم صدق الرجوع على الفسخ في

ص: 561


1- التي مرّت في الذيل آنفاً.
2- حاشية المكاسب 4/229.
3- حاشية المكاسب 4/229، قلتُ.
4- حاشية المكاسب 2/504، والتحقيق.

العقد المتزلزل، وأن الرجوع إنما يصدق حقيقة إذا كان المال باقياً على الوقفية أو الصدقة لا مثل المقام.

وفيه: أن المقصود من الرجوع المنهي عنه في مثل الصدقة ليس الرجوع بالقهر والغلبة الذي يكون غصباً، بل المراد به هو الرجوع بازالة العلقة وفسخ العقد فيصدق الرجوع على نفس الفسخ. ولعل مراده هو الوجه الأوّل، كما لعله يظهر من صدر عبارته(1)، فراجع.

والمتحصل مِنْ الذي ذكرناه في معنى الرواية: أن مثل الصدقة مما كان بذلاً وتمليكاً في وجه الله تعالى وسبيله يكون لازماً في طبعه وهو لا يمنع من شرط الخيار فيه.

الوجه الثالث: ما أفاده الشيخ (قدس سره) في صدر كلامه من: أن دليل نفوذ الشرط إنما يدل على نفوذ شرط الخيار في المورد الذي تثبت فيه مشروعية الفسخ في الجملة بإقالة أو بخيار - كالبيع - ، فيكون دليل النفوذ مقتضياً لنفوذ الفسخ في مورد الشرط.

أما إذا لم تثبت مشروعية الفسخ، فلا يتكفل دليل النفوذ إثبات سببية الفسخ، بل يكون شرط الخيار من الشرط المخالف للكتاب والسنة، فلا يصح. فتدبر.

وهذا الوجه نبني عليه فعلاً ريثما(2) يأتي الحديث فيه إنشاء الله تعالى في محلِّه، فانتظر»(3).

أقول: لا يتم هذا الوجه عندي واجمال المناقشة في هذا الوجه: الشروط كلّها مشروعة ونافذة إلّا ما خرج بالدليل من مخالفة الكتاب والسنة ولا نحتاج لدليل

ص: 562


1- حيث يقول: «بل الظاهر منها الرجوع من دون شرط كما لا يخفى. [حاشية المكاسب 2/504].
2- رَيْثَما: مركبة من «رَيْثَ»: ظرف زمان منقول عن المصدر بمعنى إبطاء، و «ما» المصدرية، والمراد به هنا: قدر مدّة.
3- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(273-268).

المشروعية أكثر من قوله (علیه السلام) : «المسلمون عند شروطهم»(1) والتفصيل يطلب من محلّه. هذا.

أ- ما خرج من العقود اللازمة من فسخها بخيار الشرط

ذكر الشيخ الأعظم من العقود التي لا يدخله خيار الشرط اتفاقاً:

النكاح

«لا يجري فيه خيار أصلاً إجماعاً كما في الخلاف(2) والمبسوط(3) والسرائر(4) وجامع المقاصد(5) والمسالك(6) لمشاكلته العبادة، وابتنائه على الاحتياط التامّ، وسبق التروّي فيه على العقد، وتوقّف رفعه على رافع مخصوص فلا يرتفع بغيره»(7).

أقام الشيخ الأعظم(8) دليلين - بعد الاجماع - على عدم دخول خيار الشرط في النكاح:

الدليل الأوّل: توقف ارتفاع النكاح شرعاً على الطلاق فلا مجال إلى الشرط فيه.

وقد ناقش المحقّق الاصفهاني هذا الدليل: «بأنّ حقيقة الفسخ تختلف ذاتاً عن الطلاق؛ فإن حقيقة الطلاق بينونة الزوجة وفراقها عن الزوج، ويلزمه ارتفاع علقة الزوجية، والفسخ نفس رفع العلقة وعود الأمر إلى ما كان، ولذا يتعلّق الفسخ بعلقة

ص: 563


1- وسائل الشيعة 18/16، ح1 و 2 صحيحتا عبدالله بن سنان.
2- الخلاف 3/16، مسألة 17.
3- المبسوط 2/81.
4- السرائر 2/246.
5- جامع المقاصد 4/303.
6- مسالك الأفهام 3/212.
7- مفتاح الكرامة 14/218.
8- المكاسب 5/151.

الزوجية، والطلاق بالزوجة، وحينئذٍ فلا محذور في جريان الطلاق والفسخ في النكاح؛ للاختلاف الذاتي بينهما، وتعدّد متعلقيهما.(1)

وفيه: أنه إنما يرد على الشيخ (قدس سره) لو كان للطلاق عمل آخر غير الفسخ، ولكن ما نلاحظه في النصوص خلاف ذلك؛ فإن الوارد فيها التعبير عن الفسخ بأربعة تعبيرات:

الأوّل: الردّ، أي أن الفسخ ردّ الزوجة، وهو وارد في روايات كثيرة.(2)

الثاني: الطلاق، كما في [موثقة] غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (علیه السلام) في رجل تزوج امرأة فوجدها برصاء أو جذماء، قال: إن كان لم يدخل بها ولم يتبين له فإن شاء طلق، وإن شاء أمسك، ولا صداق لها، وإذا دخل بها فهي امرأته.(3)

وعلّق عليها صاحب الوسائل (قدس سره) بقوله: «حمل الشيخ الطلاق هنا على المعنى اللغوي دون الشرعي لما تقدم ويأتي...».

وقال أيضاً في التعليق على الحديث الأوّل من الباب الثالث [صحيحة أبي الصباح](4) «الطلاق هنا مستعمل بالمعنى اللغوي لما مضى ويأتي»(5).

الثالث: الفراق، والتفريق، والمفارقة.(6)

ص: 564


1- حاشية المكاسب 4/(224-223).
2- مثال ذلك ما ورد في وسائل الشيعة 21/207، ح1، الباب 1 من أبواب العيوب التدليس، صحيحة عبدالرحمن بن أبي عبدالله.
3- وسائل الشيعة 21/210، ح14.
4- وسائل الشيعة 21/214، ح1.
5- وسائل الشيعة 21/215.
6- مثال ذلك ما جاء في وسائل الشيعة 21/214، ح1، خبر علي بن جعفر، الباب 2 من أبواب العيوب والتدليس.

الرابع: التسريح.(1)

ومجموع هذه التعابير يكشف عن وحدة الحقيقة بين الطلاق والفسخ، وأنه ليس بينهما اختلاف ذاتي، فكما أن الطلاق إخلاء سبيل المرأة فكذلك الفسخ، ولهذا عبّر عن الفسخ بالطلاق، وبالمفارقة والفراق، وعبّر في المتون الفقهية عن كتاب الطلاق بكتاب الفراق، فإذا عبّر في النصوص عن الطلاق في قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾(2) فهو أقوى شاهد على عدم الاختلاف الذاتي بينهما، وإلّا لم يكن وجه للتعبير عن كليهما بلفظ واحد وعنوان فارد.

وأما استشهاده على الاختلاف الذاتي بينهما بتعلّق الطلاق بالزوجة، وتعلق الفسخ بالعقد، فلعله استفاده من تعبيرهم في تعريف الخيار بأنه ملك فسخ العقد.

ولكن المتّبع النص، وقد لاحظنا تعلّق الفسخ بالزوجة كتعلّق الطلاق بها.

المناقشة في الدليل الأوّل للشيخ

نعم، يرد على الشيخ (قدس سره) : أنه لا إشكال في كون الطلاق رافعاً لعلقة الزوجية، ولكن ما هو الدليل على انحصار الرفع فيه؟ فإن غاية ما يستفاد من دليله أنه رافع للنكاح، ولا يدل على نفي رفع غيره له، فلو ثبت الانحصار فيه لكان شرط الخيار مخالفاً للسنة، وإلّا فلا.

بل قام الدليل على ثبوت ارتفاع النكاح بالفسخ في العيوب، فيثبت بذلك أيضاً قابليته للرفع بغير الطلاق، وإذا شككنا في رفعه بالشرط أمكن التمسك بدليل الشروط؛ فإنه يشمله بعمومه، ولا مقيّد له إلّا أن يثبت انحصار رفع النكاح بالطلاق ليثبت أن الشرط مخالف للسنة، ودليل الشيخ (قدس سره) لا يثبت إلّا جهة الإثبات للطلاق،

ص: 565


1- وسائل الشيعة 21/215، ح3، الباب 3 من أبواب العيوب والتدليس، خبر الحسن بن صالح.
2- سورة البقرة /229.

لا جهة النفي عن غيره»(1).

الدليل الثاني: عدم مشروعية التقايل في النكاح وكل ما لم تشرع الاقالة فيه لا يشرع فيه الشرط.

أقول: وقد مرّ منا المناقشة في ذلك في الوجه الأوّل من وجوه الثلاثة المانعة من جريان خيار الشرط في كلِّ عقد لازم فلا نعيد.

إشكال المحقق الخوئي على جريان خيار الشرط في النكاح

قال السيّد الخوئي (قدس سره) : «الظاهر أنّ الوجه في عدم جريان الخيار في النكاح هو ما ذكرناه في معنى اشتراط الخيار، لما عرفت من أنّ مرجعه إلى التوقيت فيؤول جعل الخيار في النكاح إلى النكاح الموقت بزمان الفسخ، فلا يكون نكاحاً مطلقاً دائمياً، إذ لا يجتمع الدوام مع التوقيت، لأنّ معنى التوقيت عدم اعتبار العلقة الزوجية بعده ومعنى الدوام هو اعتبارها مطلقاً وهذان لا يجتمعان، فإذا صار النكاح منقطعاً وموقتاً فلابدّ فيه من تعيين الوقت لما ورد(2) من الأخبار في اشتراط العلم بالمدة، وبما أنّ التعليق على الفسخ تعليق له بما لا تعيّن له، لأنه لا يدري أنه يفسخ أو لا يفسخ أصلاً ولو مع تعيين زمان الخيار أيضاً لأنّ الفسخ مع ذلك غير معلوم، فلا محالة يكون تعليق النكاح على الفسخ موجباً لبطلانه ومفسداً له.

ومن هذا يظهر الفرق بين النكاح وبين غيره من العقود اللازمة، وأنّ اشتراط الخيار في غيره لماذا لا يوجب الفساد ولكن يوجبه في النكاح»(3).

وقد أجاب عنه الأستاذ المحقّق مدظله: «هذا الوجه - على قوته - إلّا أنّه مدخول:

ص: 566


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(525-522).
2- وسائل الشيعة 21/42، الباب 17 من أبواب المتعة.
3- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 3/260.

أوّلاً: بأن هناك فرقاً بين انحصار المعهود في الشريعة في هذين القسمين، وبين انحصار المشرُّع في الشريعة فيهما، والمفيد في الاستدلال إثبات المعنى الثاني؛ لأنه يحمل الإثبات لهما والنفي عن ما عداهما، ولكنه لا دليل على هذا الانحصار إلّا ما ربّما يظهر من موثقة عبدالله بن بكير قال: قال أبو عبدالله (علیه السلام) في حديث: «إن سمّي الأجل فهو متعة، وإن لم يسمّ الأجل فهو نكاح بات»(1).

كما ذكرها في الوسائل في الباب العشرين من أبواب المتعة، وهي جزء من حديث ذكر صدره في الباب التاسع عشر وهو: «ما كان من شرط قبل النكاح هدمه النكاح، وما كان بعد النكاح فهو جائز»(2).

ولكنها ناظرة إلى ذكر الأجل من حيث الزمان، وعدم ذكره من هذه الحيثية.

وبعبارة أخرى: إن مدلول الرواية هو أن المؤقت بوقت خاص كيوم وشهر وشهرين متعة، وغير المؤقت بوقت خاص من حيث الزمان نكاح بات.

وبما أن النكاح بشرط الخيار غير مؤقت من حيث الزمان؛ إذ لم يسمّ فيه الأجل؛ فإن جعل الخيار ليس تسمية له، فيكون باتاً، فلا تدل الرواية على مطلوب المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره).

وثانياً: سلمنا بأن هذا النوع من النكاح خارج عن كلا القسمين، ولكن النصوص الشرعية إنما تثبت - بحسب الاستقراء - شرعية القسمين، ولا مفهوم لها لتنفي شرعية النكاح بشرط الخيار.

نعم، هو غير معهود في الشريعة، ولا يوافق ما في النصوص الخاصة، وعدم معهوديته شيء، وعدم شرعيته شيء آخر، وعدم موافقته لما ثبت من النصوص إنما

ص: 567


1- وسائل الشيعة 21/47، ح1، الباب 20 من أبواب المتعة.
2- وسائل الشيعة 21/46، ح2، الباب 19 من أبواب المتعة.

يقتضي فساده في ما لو لم يوجد دليل عام يدل عليه؛ فإن الأصل في المعاملات الفساد، وأما إذا وجد الدليل العام عليه فهو حاكم على الأصل، والعموم موجود في المقام وهو «المؤمنون عند شروطهم» مع ضمِّ استصحاب العدم الأزلي إليه.

توضيح ذلك: أن شرط الخيار - كسائر الشروط في سائر المعاملات - ينطبق عليه عنوان العام بلا إشكال، ولا مانع من التمسك به إلّا أحد أمرين: مخالفته بمقتضى العقد، أو مخالفته للكتاب والسنة؛ لاستثناء المخالف لهما من تحت العموم.

أما الأوّل فمنتفِ قطعاً؛ لعدم مخالفة شرط الخيار لمقتضى عقد النكاح، بل أخذه فيه فرع ثبوته، فهو موكَّد له لا نافِ؛ فإن المخالف لمقتضى العقد من قبيل البيع بشرط عدم الثمن.

وأما الثاني فهو منتفِ بالأصل؛ وذلك لأنا نشك في كون هذا الشرط مخالفاً لهما، فنجري استصحاب عدم كونه مخالفاً لهما بالأصل الأزلي، فيتنقح موضوع الدليل العام، وهو الشرط الذي لم يكن مخالفاً للكتاب والسنة، فلا يقع فاسداً.

[إن قلت: أنّ سيرة المتشرعة قائمة على عدم شرط الخيار في النكاح كما هو الحال في الطلاق.

قلت: إنّ بين الطلاق والنكاح فرقاً؛ فإنَّ السيرة ثابتة في الطلاق، وأما في النكاح فالسيرة وإن كانت ثابتة إلا أنها مستندة إلى فتاوى الفقهاء فلم يحرز اتصالها بزمن المعصوم (علیه السلام) فلا تفيد.

وأما دعوى استفادة عدم مشروعية خيار الشرط في النكاح من أدلة حصر أسباب الفسخ بالعيوب، من قبيل: لا ترد الزوجة إلّا من هذه العيوب.

فمدفوعة بأن هذا الحصر إضافي بالنسبة إلى العيوب لا مطلقاً، أي أن النكاح لا يفسخ إلّا من هذه العيوب الخمسة، لا من غيرها من سائر العيوب، وليس الحصر حقيقياً لينتفي الفسخ بشرط الخيار].

ص: 568

فتحصل إلى هنا: أن جميع الإشكالات التي أوردت على شرط الخيار في النكاح مندفعة، فلا يبقى إلّا الإجماع، وهو قوي لو لا أنه مدركي فمقتضى القاعدة صحته، ولكن الاحتياط في مقام الفتوى يقتضي عدم اشتراطه فيه هروباً عن مخالفة الإجماع»(1).

ب- ومن العقود التي اختلف في جريان خيار الشرط فيه
1- الوقف

قال السيّد العاملي: «ولا يجزي أيضاً في الوقف إجماعاً كما في المسالك(2) وقد نصّ عليه الشيخ(3) وابن إدريس(4) والمحقّق(5) وابن عمّه يحيى بن سعيد(6) و[العلّامة](7) والشهيدان(8) والكركي(9) والصيمري(10). وعبارة السرائر والدروس صريحتان بوجود الخلاف فيه، ولم نجده، قال في السرائر: على الصحيح من المذاهب. والوجه فيه اشتراط القربة فيه وأنّه فكّ ملك لا إلى عوض فلا يقبل الشرط كالعتق»(11).

ص: 569


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/(532-530).
2- مسالك الأفهام 3/212.
3- المبسوط 2/81.
4- السرائر 2/245.
5- شرائع الإسلام 2/23.
6- الجامع للشرائع /257.
7- تذكرة الفقهاء 11/66.
8- الدروس الشرعية 3/268؛ ومسالك الأفهام 3/212.
9- جامع المقاصد 4/303.
10- غاية المرام 2/45.
11- مفتاح الكرامة 14/218.

ثمّ ذكر الشيخ الأعظم(1) «انه مما اختلف فيه، والمشهور عدم دخوله فيه. والوجه في عدم صحة شرط الخيار فيه أمور:

الأوّل: أنه مما يشترط فيه قصد القربة.

الثاني: أنه فك ملك بغير عوض.

الثالث: ما ورد من النص(2) في أن من أوقف أرضاً ثمّ قال إن احتجتُ إليها فأنا أحق بها ثمّ مات الرجل فانها ترجع في الميراث. ووجه دلالتها هو حمل قوله: «إن احتجتُ إليها فأنا أحق بها» على شرط الخيار، وقد حكم الإمام (علیه السلام) ببطلان هذا الشرط وهو مستلزم لبطلان الوقف ولذلك حكم برجوع المال ميراثاً.

واستشكل الشيخ(3) (قدس سره) في كبرى الوجهين الأوّلين، كما تأمل(4) في دلالة الرواية.

أما الوجه الأوّل: فصغراه ممنوعة إذ لم يثبت اشتراط قصد القربة في صحة الوقف، نعم ورد(5) في وقف الإمام (علیه السلام) أنه فعله بداعي القربة وهو لا يدل على اشتراطه فيه.

كما أن كبراه ممنوعة، إذ عرفت أنه لا دليل على امتناع شرط الخيار فيما يعتبر فيه قصد القربة إلّا رواية: ما جعل لله فلا رجعة له فيه...». وقد عرفت أن المراد بها غير ذلك وهو ما أتى به في سبيل الله، كما عرفت أن نفي الرجعة فيه لا يدل على أكثر من

ص: 570


1- المكاسب 5/151.
2- وسائل الشيعة 19/177، ح3، الباب 3 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات، صحيحة إسماعيل بن فضل.
3- المكاسب 5/151.
4- المكاسب 5/152.
5- وسائل الشيعة 19/199، ح3، صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج، الباب 10 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات.

اللزوم الطبعي. نعم لو دلت على اللزوم بقول مطلق لدلت على عدم صحة شرط الخيار في الوقف الواقع في سبيل الله تعالى كالاوقاف الخيرية، لا مطلق الوقف.

وأما الوجه الثاني: فالكبرى فيه ممنوعة، إذ لم يثبت اعتبار المعاوضية في صحة شرط الخيار، إلّا ببعض الوجوه الفاسدة، فراجع ما أفاده الاصفهاني(1) (رحمة الله) في بعض وجوه المنع من شرط الخيار في النكاح.

وأما الوجه الثالث: فالرواية غير ظاهرة في المدعىٰ، بل هي تحتمل وجوهاً غير ذلك:

أحدها: أن الوقف باطل، فيرجع ميراثاً من باب أن ادخال نفسه في الموقوف عليهم موجب لبطلان الوقف، كما قرّر في محلِّه.(2)

ثانيها: أن الوقف صحيح لكنه من باب التحبيس إلى مدَّة معينة وهي حصول حاجته وقد حصلت حاجته فانتهى التحبيس، فيرجع ميراثاً.

ثالثها: أن الوقف صحيح مع شرط الخيار لكن تحققت حاجته ففسخ لحصول المعلق عليه الشرط أو انفسخ العقد لو كان الشرط بنحو شرط النتيجة. وهي بالاحتمال الأخير تدل على صحة الشرط.

وبالجملة، الحکم بالرجوع ميراثاً كما يحتمل تخريجه على ما أفيد يحتمل تخريجه على أحد الاحتمالات الثلاثة الأخرى. ولا معين لأحدها خصوصاً وأن المدعى يتوقف على كون الشرط الفاسد مفسداً وهو محل كلام.

والمتحصل: أنه ليس من الوجوه الثلاثة ما ينهض لنفي صحة شرط الخيار في الوقف. كما أن المسألة ليست اجماعية كما في النكاح لما عرفت من وجود الخلاف فيه.

ص: 571


1- حاشة المكاسب 4/223، رقم 136.
2- وقد ورد النصوص بذلك في وسائل الشيعة 19/176، الباب 3 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات.

ثمّ إن الشيخ (قدس سره) وغيره لم يتعرض إلى بيان عدم ثبوت مشروعية الفسخ في الوقف كي يصح مع الشرط بدليل نفوذ الشرط.

ولعل الوجه فيه: أن تصحيح الشرط في الوقف لا يحتاج فيه إلى التمسك بعموم «المؤمنون عند شروطهم» كي يتوقف في شمول العموم لما لم يثبت فيه مشروعية الفسخ، بل مقتضى: «الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها»(1) صحة الشرط، لان الشرط وإن كان التزاماً في ضمن التزام لكنه يرجع إلى تقييد الوقف بحصة خاصة ونحو خاص، فيصح له الفسخ على حسب قصده. فتدبر ولا تغفل.

تنبيه: ظاهر الشيخ (قدس سره) وغيره المفروغية عن كون الوقف عقداً ولذا يشبه بالايقاع في مقام نفي صحة شرط الخيار فيه، ولكن الأقوى لدينا أنه ايقاع لا عقد ومحل الكلام ليس ههنا، وإنما أردنا التنبيه على أن هذا الأمر ليس من المسلمات»(2).

ثمّ إنّ هنا وجه رابع ذكره المحقّق الخوئي (قدس سره) وقال: «التحقيق أنّ الوقف على قسمين كما ذكرناه في الوقف:

أحدهما: التحرير وفك الملك في الحقيقة نظير وقف الأرض مسجداً فإنه كما ذكرناه تحرير وجعل الأرض حرّة وإزالة لقيد الملك، لأنه بيت الله فهو إعدام لأمر موجود كالعتق، وفي مثله لا يصح اشتراط الخيار، لأنّ مرجعه إلى التحرير الموقت وقد مرّ أنّ العتق والتحرير الموقتين غير صحيحين عند العرف والعقلاء، لأنه منافٍ للاطلاق، وقد عرفت أنّ المسجد يتوقف على تحرير الملك حتّى لو لم يحرّره بل وقفه مدة معيّنة كخمسين سنة مسجداً لله لما كان ذلك مسجداً ولا يترتّب عليه آثاره، نعم هو معبد أو مدرس أو غيرهما مما هو تمليك لجهة عامة أو خاصة إلّا أنه غير المسجد

ص: 572


1- وسائل الشيعة 19/175، ح1، صحيحة محمّد بن الحسن الصفار.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/(277-275).

بحسب الأحكام كوجوب إزالة النجاسة عنه. وكيف كان فبحكم ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾(1) يشترط في المسجد تحرير الملك، وهذا لا يجتمع مع التوقيت كما عرفت.

وثانيهما: تمليك في الحقيقة لجهة أو للموقوف عليهم على أن لا يباع نظير الوقف للأولاد أو لغيرهم، وهذا القسم في حدّ نفسه مما لا مانع من اشتراط الخيار فيه ولم يمنع عنه دليل، اللهمّ إلّا إذا قلنا باشتراط الدوام في صحة الوقف، وأنّ التمليك فيه لابدّ أن يكون دائمياً كما دل عليه بعض الأخبار(2) من أنّ الموقت ليس بوقف بل هو عُمرىٰ وسُكنىٰ ونحوهما، فلا محالة لا يدخله الخيار لمنافاته الدوام المعتبر فيه فجريان اشتراط الخيار في الوقف وعدمه مبني على تحقيق مسألة اشتراط الدوام في الوقف وعدمه، وما ذكرناه هو الوجه في عدم جريان الخيار في الوقف»(3).

وأورد عليه: «ان المراد من فكّ الملكية إن كان هو الفك عن إضافة المالك فلا يتنافى مع شرط الخيار، فهو وإن خرج عن ملكه بالوقف إلّا أن له عوده بالشرط.

وإن كان المراد الفكّ عن حقيقة الملكية ففيه:

أوّلاً: أنه ينقض عليه بالعتق؛ فإنه أظهر مصاديق التحرير، وصيغته: أنت حر، ومصدره الحرية، ومع ذلك ورد النص بجواز اشتراط الرجوع.

وثانياً: أن إرجاع أي عنوان لآخر يحتاج إلى دليل وليس أمراً جزافياً، ومفهوم التحرير يغاير مفهوم الوقف، والمُنْشَأ في كل إنشاء يتوافق مع مفهوم المنشأ، فالمنشأ في باب البيع التمليك بعوض، بلفظ ملكتك أو بعتك، والمنشأ في باب الصلح المصالحة بإيجاب صالحتك، وفي باب النكاح هذا المفهوم بلفظ أنكحتكِ أو زوجتكِ، ومفهوم الوقف هو الحبس، كما عليه النص وأقوال الفقهاء، وقد عرّفه هو أيضاً به في منهاجه

ص: 573


1- سورة الجن /18.
2- وسائل الشيعة 19/192، الباب 7 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات.
3- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 3/261 و 262.

فقال: «هو تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة»(1)، وهو مغاير لمفهوم التحرير، فكيف أرجعه إليه؟!

ثمّ إن صيغة الإنشاء في موارد الوقف كلها هي «وقفت»، سواء أكان الوقف على الذرية أم جعل الأرض مسجداً، وليس اللفظ مشتركاً بينهما، بمعنى أن الوقف على الذرية يكون بمعنى تمليكهم، ووقف المسجد يكون بمعنى التحرير، فإرجاع وقف المسجد ونحوه إلى التحرير ممنوع إنشاء ومنشأ.

نعم، لازمه التحرير؛ لأنه سيبقى المال بلا مالك، وهو لازم المسجدية، وبين هذا المعنى والدعوى بون بعيد.

فالحق أن المسألة تبتني على اعتبار التأبيد في الوقف، فإن قلنا باعتباره - كما هو الحق - كان شرط خيار الإرجاع منافياً له، سواءً أ كان الشرط محدّداً لدائرة الوقف من حين الإنشاء، فيكون المنشأ من الأوّل هي الوقفية المحدودة، أم لم يكن محدّداً لها؛ فإن اشتراط خيار الإرجاع منافٍ للتأبيد، بلا فرق بين موارد الوقف من حيث كونه تحريراً كما في المسجد، أو تمليكاً كالوقف على الذرية»(2).

أقول: يمكن الجواب عن الايراد الأوّل: لم أجد النص بجواز اشتراط الرجوع في العتق بل ورد خلافه في موثقة طلحة بن زيد عن جعفر، عن أبيه (علیه السلام) قال: من تصدق بصدقة ثمّ ردت عليه فلا يأكلها، لأنّه لا شريك لله (عزوجل) في شيء ممّا جعل له، إنّما هو بمنزلة العتاقة لا يصلح ردّها بعد ما يعتق.(3)

ويمكن الجواب عن الإيراد الثاني: المحقّق الخوئي (رحمة الله) لم يقل انّ مفهوم الوقف

ص: 574


1- منهاج الصالحين 2/251.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/537 و 538.
3- وسائل الشيعة 19/205، ح3، الباب 11 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات، ووسائل الشيعة 23/110، ح1، الباب 75 من أبواب كتاب العتق.

يرادف مفهوم التحرير حتّى اعترض عليه بتغايرهما، بل يقول حقيقة وقف الأرض مسجداً يكون نظيراً للتحرير وجعل الأرض حرّة وإزالة قيد الملك لأنّه يصير بيتاً لله فهو إعدام لأمر موجود كالعتق، وقد اعترف المُورِد (دام ظله) بذلك وقال: «نعم لازمه التحرير لأنّه سيبقى المال بلا مالك وهو لازم المسجدية». هذا أوّلاً.

وثانياً: هذا المقال من المُورِد هنا مخالف مرّ(1) منه في الوقف التحرير في بيع الوقف.

وثالثاً: ورد تعريف الوقف في كلمات الفقهاء العظام(2) ب- «تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة»(3) ولكن لم يرد به نصٌ.

والحاصل: ما ذكره المحقّق الخوئي (قدس سره) من التفصيل تام لابدّ من الأخذ به والمسألة مبتنية على اشتراط التأبيد في الوقف وعدمه ولذا قال العلّامة: «الوقف لا يدخله خيار الشرط؛ لأنّه إزالة ملك على وجه القربة إلى غير ملك، فأشبه العتق»(4). والله العالم.

2- الصدقة

قال العلّامة في وقف التذكرة: «يشترط في الوقف الإلزام، فلا يقع لو شرط الخيار فيه لنفسه ويكون الوقف باطلاً، كالعتق والصدقة»(5).

وقال في باب خيار الشرط: «وأمّا الهبة المقبوضة: فإن كانت لأجنبيّ غير معوّض عنها ولا قصد بها القربة ولا تصرّف المتّهب، يجوز للواهب الرجوع فيها، وإن

ص: 575


1- راجع الآراء الفقهية 8/240 ومابعدها.
2- راجع الآراء الفقهية 8/195.
3- راجع الآراء الفقهية 8/269.
4- تذكرة الفقهاء 11/66.
5- تذكرة الفقهاء 20/177، مسألة 101.

اختلّ أحد القيود لزمت.

وهل يدخلها خيار الشرط؟ الأقرب: ذلك»(1).

وظاهر هذا المقال دخول الخيار في الهبة اللازمة حتّى الصدقة.

قال الشيخ الأعظم: «الأقوى عدم دخوله فيها...»(2).

تمسك الشيخ الأعظم «بعموم ما دلّ على أن ما جعل لله فلا رجعة له فيه بناء على أن المستفاد منه كون اللزوم حكماً شرعياً لماهية الصدقة نظير الجواز للعقود الجائزة.

وقد تقدم في صدر هذا المطلب البحث في مدلول العموم المزبور وعرفت أنه لا يدل على أزيد من اللزوم الطبعي كلزوم البيع الذي لا ينافي شرط الخيار. ولا دلالة له على اللزوم بقول مطلق كما يراه الشيخ (قدس سره).

ثمّ إن الشيخ (قدس سره) ذكر أنه مع «الشك في ذلك كفى في عدم سببية الفسخ [لعدم التقابل في الصدقة] التي يتوقف صحة اشتراط الخيار عليها»(3).

ولا يخفى أن هذا لا يتفق مع ما سيجئ منه في مبحث الشروط من الرجوع إلى عموم نفوذ الشرط مع الشك في كون الشرط مخالفاً للكتاب والسنة، فانه يتمسك بأصالة عدم المخالفة.(4)

وبيان ذلك بنحو الاجمال: أن صحة الرجوع إلى عموم نفوذ الشرط مع الشك في مخالفة الشرط للكتاب والسنة تتحقق بأحد أمور ثلاثة:

الأوّل: الالتزام بأنّ المراد من الشرط المخالف للكتاب والسنة هو المخالف

ص: 576


1- تذكرة الفقهاء 11/66.
2- المكاسب 5/153.
3- المكاسب 5/153.
4- المكاسب 6/31.

بالمخالفة المعلومة لا الواقعية، فمع الشك لا علم بالمخالفة، فلا يشمله الدليل المخصص.

الثاني: الالتزام بصحة الرجوع إلى العام في الشبهة المصداقية للمخصص، فيرجع إلى العموم مع الشك في المخالفة - لو أريد منها المخالفة الواقعية - .

الثالث: التمسك بأصالة عدم المخالفة بنحو استصحاب العدم الأزلي، فيتمسك معه بالعموم.

فإذا لم يتلزم بصحة هذه الأمور الثلاثة بأجمعها(1)، لم يصح التمسك بالعموم كما هو واضح، ولكن الشيخ - كما سيجئ يبني على الوجه الأخير، فيصح الرجوع إلى العموم، بعد أن كان اعتبار سببية الفسخ في الجملة من جهة أنه مع عدم سببيته في الجملة يكون شرط الفسخ من الشرط المخالف على ما بيّنا مراده في صدر كلامه. فراجع(2)»(3).

ثمّ قال الفقيه اليزدي بعد نقل روايات(4)عدم جواز الرجوع في الصدقة: «والانصاف أنّه لا دلالة في هذه الأخبار على عدم جواز الاشتراط بل الظاهر منها الرجوع من دون شرط كما لا يخفى... والتحقيق: لا يصدق الرجوع في الصدقة على الفسخ بالخيار لأنّ إخراجه للمال ليس على كل تقدير والاخراج الخياري المتزلزل ليس إخراجاً حقيقةً، فالرجوع إنما يصدق مع كون المال باقياً على الوقفية أو الصدقة أو نحو

ص: 577


1- النفي يتعلق بالجمع.
2- لأنّه قال: «ومرجع هذا الأصل إلى أصالة عدم ثبوت هذا الحكم على وجهٍ لا يقبل تغيّره بالشرط». [المكاسب 6/31].
3- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/277.
4- وسائل الشيعة 19/204، الباب 11 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات.

ذلك، لا مثل المقام فتدبَّر»(1).

أقول: ظاهر كلامه انّ الفسخ في الصدقة مع شرط الخيار لا يكون رجوعاً في الصدقة. ويرد عليه:

أوّلاً: إخراج المال في الصدقة مع شرط الخيار إخراج حقيقي لأنّ إخراجه عن ملكه فيها إمّا أن يكون مهملاً وهو غير متصوَّر أو معلَّقاً وهو مبطل للتمليك فعدم إخراجه عن ملكه على كل تقدير غير معقول.

وثانياً: إذا لم يخرجه عن ملكه على كل تقدير مع وجود خيار الشرط فمعناه عدم تحقق العقد فلا يعقل حينئذ الفسخ.

نعم، نحن مع الفقيه اليزدي (رحمة الله) من أنّ الظاهر جواز الرجوع في الصدقة بشرط الخيار بل من دون شرط على كراهية شديدة الدالة عليها الروايات الناهية في الباب الحادي عشر من أبواب كتاب الوقوف والصدقات. والله العالم.

3- الصلح

قال العلّامة: «والصلح يصح دخول خيار الشرط فيه للعموم»(2).

وقال السيّد العاملي: «ونفاه الشيخ في الصلح مطلقاً في الخلاف(3) والمبسوط(4). وفي التحرير(5) وجامع المقاصد(6) أنّه لا يجري في الصلح فيما يفيد الإبراء. وفي غاية المرام أنّه لا يجري في الصلح عن المجهول والدعوى الغير الثابتة

ص: 578


1- حاشية المكاسب 2/504.
2- تذكرة الفقهاء 11/64.
3- الخلاف 3/12، مسألة 10.
4- المبسوط 2/80.
5- تحرير الأحكام الشرعية 2/293.
6- جامع المقاصد 4/304.

بالإقرار(1). والأصل في الجميع الصحّة، لعموم المقتضي، وهذه الأقوال كأنّها شاذّة. وفي المهذّب البارع(2) الإجماع على جريانه في الصلح ذكره في باب الصلح»(3).

ذهب الشيخ الأعظم(4) إلى التفصيل في الصلح وقال بجريان خيار الشرط في الصلح المعاوضي وبعدمه في الصلح الذي تضمّن الإيقاع كالذي يفيد فائدة الإبراء أو كان لإسقاط الدعوى قبل ثبوتها أو وقع عمّا في الذمّة مع جهالته.

وذهب السيّد الخوئي (قدس سره) أيضاً إلى التفصيل في الصلح وقال: «وأمّا الصلح فهو على قسمين: لأنّ المصالحة تارةً تقع على متاركة الدعوى والنزاع في مورد المخاصمة، وهذا مما لا مانع من أن يدخله شرط الخيار بأن تكون المصالحه موقتة بوقت فسخها فإذا فسخت تعود المخاصمة لا محالة.

وأمّا ما يقال من أنّ الصلح تقطع المنازعة، وهو لا يجتمع مع جعل الخيار لعودها بالفسخ وهو نقص للغرض، فلم نفهم حقيقته، إذ البيع أيضاً كذلك لأنه للتمليك وجعل الخيار فيه نقض لهذا الغرض، وحل ذلك أنّ الغرض ربما يتعلّق بقطع المنازعة أو الملكية على نحو الاطلاق، وربما يتعلّق بهما في قطعة خاصة من الزمان، وحينئذ فلا يكون اشتراط الخيار فيهما مناقضاً للغرض.

وأُخرى تقع المصالحة على ترك الدعوى حيث إنّ لكل مسلم ومؤمن حق الدعوى على غيره، ومطالبته بما يدّعيه ولو من غير منازعة بينهما قبل ذلك، ولذا أي لأجل ذلك الحق يأمر الحاكم بحضور المدّعى عليه، وللمدّعي حق الاحلاف على المدّعى عليه، وليس له الاستنكاف من الحضور ولو بدعوى أنّي لا أعرفه، فإنّ الحاكم

ص: 579


1- غاية المرام 2/44.
2- المهذّب البارع 2/538.
3- مفتاح الكرامة 14/220.
4- المكاسب 5/150.

يجبره على الحضور، فإن قامت عنده البيّنة على مدّعاه فهو وإلّا فله أن يستحلفه عليه، فإذا تصالحا على أن لا يعمل الآخر هذا الحق ولا يدّعي عليه فهو مما لا يدخله شرط الخيار لأنه نظير إبراء الطرف عن حق الدعوى وبعد إبرائه لا يمكن فيه الرجوع، لأنّ الابراء لا يقبل الرجوع كما مرّ»(1).

وقد يناقش على الشيخ الأعظم والسيّد الخوئي: «أنّ حقيقة الابراء هو إفراغ ذمة الغير مما اشتغلت به، وجعلها بريئة منه، فما هو المحذور في وقوع هذا المعنى مشروطاً؟

إن كان عقلياً فلا نعرف إلّا قاعدة استحالة إعادة المعدوم، إلّا أنها تامة في الأمور التكوينية، لا الاعتبارية، فلا تفيد في المقام، فيمكن أن يعتبر سقوط الدين عن ذمة المديون، ثمّ يعتبر إعادته فيها.

وإن كان عرفياً فالعرف على خلافه كما يشهد له بيع الدين على من هو عليه؛ فإنه لا ثمرة له إلّا الإبراء وسقوط ما في الذمة، ولا إشكال في قبوله لشرط الخيار كغيره من البيوع، وهذا أقوى شاهد على قبول الإبراء لشرط الخيار عرفاً وشرعاً.

فما أفاده الشيخ (قدس سره) والمحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) محل تأمل وإشكال»(2).

وأمّا الصحيح في الصلح: «فتارة: يلتزم أن ليس معاملة وعقداً يغاير ما يفيد مفاده من العقود، فهو بيع إذا أفاد فائدته، وإبراء إذا أفاد فائدته وهكذا.

وأخرى: يلتزم أنه معاملة غير سائر المعاملات وإن أفاد فائدتها.

فعلى الأوّل، فلا كلام فيه بنحو الاستقلال، بل هو يتبع ما يقرر في العقود والايقاعات التي تتحقق به.

وعلى الثاني - وهو الأقرب - ، يصح شرط الخيار فيه لصحة الفسخ والتقايل فيه

ص: 580


1- التنقيح في شرح المكاسب، الخيارات 3/273.
2- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/540.

في الجملة»(1).

4- الضمان

منع العلّامة جريان خيار الشرط في عقد الضمان «في التذكرة(2) و [القواعد](3) في باب الضمان، فيكون منع منه في أحد قوليه، وأجازه في التذكرة(4) والتحرير(5) في باب البيع. ووافقه على ذلك المحقّق الثاني(6) في باب الضمان. وفصّل فيه في المبسوط(7) تفصيلاً طويلاً يظهر منه أنّه لا يدخله خيار الشرط»(8).

وقال الشيخ الأعظم: «والأقوى دخوله فيه لو قلنا بالتقايل فيه»(9).

أقول: عقد الضمان «معناه عند العامة: «ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه»، وعند الخاصة «نقل الدين الذي في الذمة إلى ذمة أخرى».

وعليه فإن قلنا بأن شرط الخيار لا يدخل في الإبراء؛ فإنه لا يقبل الرجوع؛ لاعتبار التأبيد فيه، وتقوّمه به، فكذلك القول في الضمان؛ لبراءة ذمة المضمون عنه بعد الانتقال للضامن.

وإن قلنا بعدم تقوّم مفهوم الإبراء بالتأبيد، بل هو على قسمين؛ إذ تارة لا يشترط فيه الخيار فيكون له دوام، وأخرى يشترط فيه فلا يكون له دوام، فهو ينقسم

ص: 581


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/278.
2- تذكرة الفقهاء 14/284.
3- قواعد الأحكام 2/155.
4- تذكرة الفقهاء 11/64.
5- تحرير الأحكام الشرعية 2/293.
6- جامع المقاصد 5/309.
7- المبسوط 2/80.
8- مفتاح الكرامة 14/219.
9- المكاسب 5/154.

إلى مؤقت محدود، ودائمي أبدي، فلا محذور في شرط الخيار فيه.

فالمسألة في هذا العقد، ومثله الصلح والإبراء تدور مدار كون الشرط هل هو مخالف لمقتضى نفس المُنْشأ أو لا؟ وهل هو مخالف للكتاب والسنة أو لا؟ فإن خالف الأول كان باطلاً لمناقضته لمقتضى العقد، وإن خالف الثاني كان باطلاً لمخالفته للكتاب والسنة، وما لم يخالف شيئاً منهما فلا يكون باطلاً، مع ملاحظة ضمِّ أصالة عدم المخالفة في الثاني.

والحق عدم مخالفة شرط الخيار لمقتضى الضمان ولا للكتاب والسنة»(1).

5- الرهن

«أمّا ما يلزم من أحد الطرفين دون الآخر كالرهن فالشرط جارٍ فيه في الرهن من قِبل الراهن، لمكان لزومه، ويبنىٰ الحال فيه من قِبل المرتهن على الخلاف في الشرط. وظاهر المبسوط(2) أنّه لا يدخله. واستشكل في التحرير(3) وغاية المرام(4) في الأوّل، لأنّ الرهن وثيقة للدين والخيار ينافي الاستيثاق. وفيه: أنّ الاستيثاق في المشروط بحسب الشرط فلا منافاة، وقد اعتمده الصيمري بعد ما استشكل فيه»(5).

وذهب الشيخ الأعظم إلى كون وضعه على اللزوم، «لا ينافي جواز جعل الخيار بتراضي الطرفين»(6).

أقول: الرهن تارة: «يلتزم بان الاستيثاق وكونه وثيقة للدين دخيل في حقيقته ومقوم لمفهومه.

ص: 582


1- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/541.
2- المبسوط 2/79.
3- تحرير الأحكام الشرعية 2/293.
4- غاية المرام 2/44.
5- مفتاح الكرامة 14/222.
6- المكساب 5/154.

وأخرى: يلتزم بان حقيقته ليست ذلك، بل هو تحبيس للعين مع توكيل في البيع واستيفاء الدين منه على تقدير عدم الوفاء.

وأما الاستيثاق فهو ملحوظ بنحو الغاية والداعي.

فعلى الأوّل: لا يصح شرط الخيار للراهن لأنه بنفسه ينافي الاستيثاق - مع قطع النظر عن إعماله - ، فيكون من الشرط المنافي لمقتضى العقد وهو باطل - كما يقرر في محله - .

وعلى الثاني: - كما هو الأقرب - لا مانع من شرط الخيار لأنه لا ينافي مقتضى العقد، نعم ينافي الغاية النوعية الملحوظة فيه. فإذا تصورنا داع آخر ولو كان ذلك احتمال الاستيثاق كان صحيحاً وخارجاً عن اللغوية»(1).

6- الصرف

قال في القواعد: «وفي ثبوته في الصرف إشكال»(2).

وقال سيّد المفتاح في شرحه: «كما في التحرير(3) وموضع من التذكرة(4). وفي المبسوط(5) والخلاف(6) والغنية(7) والسرائر(8) والشرائع(9) وجامع الشرائع(10)

ص: 583


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/278.
2- القواعد 2/67.
3- تحرير الأحكام الشرعية 2/293.
4- تذكرة الفقهاء 11/63.
5- المبسوط 2/79.
6- الخلاف 3/12، مسألة 9.
7- غنية النزوع /220.
8- السرائر 2/244.
9- شرائع الإسلام 2/23.
10- الجامع للشرائع /257.

وموضع من التذكرة(1) أنه لا يدخله خيار الشرط. وقد ادّعى الشيخ(2) وابن إدريس(3) الإجماع عليه، ونفى عنه الخلاف في الغنية(4). قال في المبسوط: فأمّا خيار الشرط فلا يدخل الصرف أصلاً إجماعاً، لأنّ من شرط صحّة العقد القبض. ومثله ما في السرائر.

وتعليلهم يرشد إلى أنّ هذا الإجماع مستنبط من الإجماع على اشتراط القبض في الصرف المنافي لثبوت الخيار باعتقاد الحاكي، فينتفي برفع التنافي كما ستسمع، ولهذا أقدم على منعه [العلّامة] في المختلف(5) والمحقّق الثاني في جامع المقاصد(6) وأشار إليه في الإيضاح(7) وقال في المسالك: أطبق المتأخّرون على ثبوته فيه ومنع الإجماع(8)، انتهى فتأمّل.

قلت: وهو - أي الثبوت - ظاهر الأكثر كالمفيد والمرتضى والديلمي والطوسي والقاضي والحلبي فيما حكي(9) حيث أطلقوا ثبوته في البيع من دون تفصيل بين

ص: 584


1- تذكرة الفقهاء 11/13.
2- المبسوط 2/79.
3- السرائر 2/244.
4- غنية النزوع /220.
5- مختلف الشيعة 5/72.
6- جامع المقاصد 4/294.
7- إيضاح الفوائد 1/484.
8- مسالك الأفهام 3/212.
9- الحاكي لهذا القول هو الطباطبائي في المصابيح /250، س2 من النسخة المخطوطة، وليس هذا القول ظاهرهم بل قد صرّح جميع هؤلاء بما حكاه عنهم، فراجع المقنعة والانتصار والمراسم والوسيلة والمهذّب والكافي في الفقه.

الصرف وغيره. وأظهر من ذلك ما في الشرائع(1) والإرشاد(2) والدروس(3) وتعليق الإرشاد(4) ومجمع البرهان(5) والكفاية(6) حيث قالوا: إنّه يثبت في كلّ عقد سوى النكاح والوقف والإيلاء والطلاق والعتق إلّا أن تقول: هذا في كلامهم مساق لمقامٍ آخر، فلا تعويل على الإطلاق.

وقد صرّح بثبوته فيه في الإيضاح(7) وغاية المرام(8) وقوّاه المحقّق الثاني(9) وحسّنه الشهيد الثاني(10)، وكاد يكون صريح المختلف(11)، وفي الدروس(12) أنّا لم نعلم وجه المنع مع صحيح ابن سنان «المؤمنون عند شروطهم»(13).

قلت: هذا الصحيح مشهور بين الفقهاء والمحدّثين في أبواب الفقه، وقد رواه الأقدمون من فقهاء أصحاب الأئمّة (علیهم السلام)، ولا رادّ له ولا معارض يعتدّ به بحيث يخصّصه في المقام، لأنّك قد عرفت حال الإجماع المدّعى، وأنّ مَن تقدّم على مدّعيه أو عاصره ظاهره خلافه، وأمّا التعليل - وقد سمعته - فعليلٌ جدّاً لأنّه يجوز أن يقبضه في

ص: 585


1- شرائع الإسلام 2/23.
2- إرشاد الأذهان 1/375.
3- الدروس الشرعية 3/268.
4- حاشية الإرشاد (حياة المحقّق الكركي وآثاره) 9/397.
5- مجمع الفائدة والبرهان 8/411.
6- كفاية الأحكام 1/465.
7- إيضاح الفوائد 1/484.
8- غاية المرام 2/45.
9- جامع المقاصد 4/294.
10- مسالك الأفهام 3/212.
11- مختلف الشيعة 5/72.
12- الدروس الشرعية 3/268.
13- وسائل الشيعة 18/16، ح2، الباب 6 من أبواب الخيار.

المجلس ويشترط الخيار، مع أنّه منقوض بالسلم.

ويبقى الكلام في دعوى الشهيد الثاني إطباق المتأخّرين على منع الإجماع وإثبات الخيار، فإنّه قد يتأمّل فيها، وأنت قد عرفت مَن ظهر منه ثبوته من المتأخّرين ومَن صرّح به ومَن استشكل.

والّذي يتحصّل من كلامهم أنّ هذا الخيار يعمّ كلّ بيع لا يستعقب العتق، للأصل وعموم الكتاب والسنّة»(1).

ذكر الشيخ الأعظم بيع الصرف ممّا اختلف في جريان خيار الشرط فيه ولا دليل على عدم جريان خيار الشرط فيه إلّا الاجماع وقد مرّ الكلام فيه.

«وما قيل: من أن المقصود من اعتبار التقابض في بيع الصرف والسلم أن يفترقا ولم يبقَ بينهما علقة ولو أثبت الخيار بقيت العلقة.(2)

فهو أشبه بالخطابة منه بالبرهان؛ فإن غايته أن التقابض في بيعهما شرط للصحة وإذا تمّ صار البيع لازماً، فهو كسائر البيوع مع تمامية شرائط صحتها؛ فإنها تكون لازمة حينئذ، ولا يمنع ذلك من دخول شرط الخيار فيها، فلا وجه للتفريق بين بيع الصرف وغيره من سائر البيوع»(3).

بقى هنا أمران
اشارة

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم تعرض في آخر هذه المسألة إلى أمرين:

«أحدهما: ما ذكره في التذكرة(4) [تبعاً للمبسوط(5)] من دخول خيار الشرط في

ص: 586


1- مفتاح الكرامة 14/(217-214).
2- حكاه الشيخ (قدس سره) في المكاسب 5/155.
3- بغية الراغب في مباني المكاسب 2/550.
4- تذكرة الفقهاء 11/67.
5- المبسوط 2/82.

القسمة. فذكر [الشيخ الأعظم](1) (قدس سره) أنه إنما يتصور فيما كان التراضي بالسهام قولياً لا فعلياً، إذ بناء على لزوم ذكر الشرط في متن العقد لا يتصور شرط الخيار مع التراضي بالفعل لا بالقول، واستظهر من ذلك عدم صحة شرط الخيار في المعاطاة ولو قيل بلزومها لأن الشرط القولي لا يمكن ارتباطه بالإنشاء الفعلي.

وما أفاده لا يخلو عن نظر بل منع، فانه يمكن ربط الانشاء القولي بالفعل إذا كانت قرينة على ربطه به ورجوعه إليه. كما يمكن تقييد القول بغير اللفظ من قرائن الأحوال. فحين يوقع عقد المعاطاة يقول بشرط كذا. فتدبر.

والآخر: ما ذكره في التذكرة(2) من دخول الخيار في الصداق فيرجع مع الفسخ إلى مهر المثل. وعلله الشيخ(3) (قدس سره) بانه من جهة مشروعية الفسخ فيه في بعض المقامات كما إذا زوجها الوليّ بدون مهر المثل، ثمّ تنظر فيه.

أقول: لا يخفى أن أصل المهر ليس مقوماً للعقد، وهكذا اعتبار مهر المثل - مع إهمال ذكره - فانه من باب انصراف الاهمال مع قيام القرينة العامة على إرادة ثبوت المهر إلى إرادة مهر المثل. وإنما المهر التزام آخر غير الالتزام بأصل الزوجية، فلا مانع من جريان الخيار فيه خاصة مع بقاء عقد الزوجية على حاله لعدم تقوّم العقد به.

ولكن ثبوت مهر المثل مع الفسخ في المهر المسمى [تام إذا دخل بها وأمّا إذا لم يدخل بها ف-](4) مما لا مقتضى له ثبوتاً بعد تصور صحة عقد الزوجية بدونه.

وأما وجه تنظر الشيخ (قدس سره) في الاستشهاد على صحة الفسخ بما إذا زوجها الولي بدون مهر المثل، فلعله من جهة أن التزويج بدون مهر المثل تزويج على خلاف

ص: 587


1- المكاسب 5/155.
2- تذكرة الفقهاء 11/66.
3- المكاسب 5/156.
4- الزيادة من المؤلِّف.

المصلحة فيكون فضولياً في الزواج، فالفسخ يرجع إلى فسخ أصل الزواج، مع أنه ليس من الفسخ في باب الخيار. فتدبر.

هذا تمام الكلام في العقود اللازمة»(1).

جريان خيار الشرط في العقود الجائزة

«أمّا العقود الجائزة: فقد قيل بعدم صحة شرط الخيار فيها، وعلّل ذلك تارة: بأنه تحصيل الحاصل. وأخرى: بأنه لغو.

ولكن الأوّل يمكن أن يدفع: بان الجواز المترتب على شرط الخيار غير الجواز المترتب على نفس العقد من حيث هو لا نفسه كي يلزم تحصيل الحاصل.

والثاني يمكن أن يدفع: بتصور أثر الجواز الثابت للشرط من قابليته للمعاوضة والاسقاط والانتقال.

فالتحقيق أن يقال: إن الخيار إما أن يلتزم بانه حكم وضعي اعتباري. وإما أن يلتزم بانه أمر انتزاعي عن حكم الشارع بانفساخ المعاملة بالفسخ.

فعلى الأوّل، فحيث لا مانع من ثبوت حكمين اعتباريين في موضوع واحد لم يكن مانع من ثبوت الخيار المتعدد إلّا بلحاظ أثر الخيار نفسه فيلتزم بالتأكد. وقد مرّ في خيار الحيوان تفصيل القول فيه.

وعلى الثاني - وهو الأقوى بنظرنا - فبما أنه يمتنع تعدد حكم الشارع بالانفساخ لعدم قابلية المعاملة إلّا لانفساخ واحد، فلا يتصور تعدد الخيار في آن واحد، فإذا اجتمع سببان للخيار تداخلا وأثّر المجموع في تحقق الحكم الشرعي.

ولكن هذا المعنى لا يتأتى بالنسبة إلى شرط الخيار مع جواز العقد - وإنما يتأتى بالنسبة إلى خيارين نسبتهما إلى العقد على حد سواء بملاحظة دليلهما - وذلك لأن

ص: 588


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/279.

المقصود بالشرط هو رفع أثر العقد الواقع بحيث يقصد أنه له الحق في رفعه، وهذا إنما يتأتى فيما إذا كان أثر العقد في نفسه هو الملكية المستمرة. أما إذا كان أثره هو الملكية المحدودة بعدم الفسخ فلا معنى لاشتراط تحديدها بالفسخ.

وبالجملة، شرط الخيار في طول الحكم الثابت للعقد من لزوم وجواز، فلا يصح أن يثبت فيما كان حكم العقد هو الجواز وتحدد أثره بالفسخ، إذ هذا المعنى هو المقصود بشرط الخيار فإذا فرض ثبوته في مرحلة سابقة عليه لم يصح الشرط»(1).

عدم جريان خيار الشرط في الإيقاعات

قال السيّد العاملي: «وأمّا الإيقاعات فلا يجري خيار الشرط وغيره في شيءٍ منها، لابتناء الإيقاع على النفوذ بمجرّد الصيغة، والخيار ينافي ذلك، ولأنّ المفهوم من الشرط ما كان بين اثنين كما ينبّه(2) عليه جملة من الأخبار(3)، والإيقاع إنّما يقوم بواحد. فلا يختصّ المنع بالطلاق والعتق والإبراء كما توهمه بعض العبارات. ويرشد إلى ذلك أنّه في السرائر(4) احتجّ على منع جريانه في الطلاق بخروجه عن العقود، ومقتضاه ما ذكرناه من اطّراد المنع في سائر الإيقاعات وعدم اختصاصه بالثلاثة. وقد حكى في المبسوط(5) الإجماع على المنع في الطلاق والعتق. وفي المسالك(6) الإجماع على المنع في

ص: 589


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/280.
2- «نبه» نسخة بدل.
3- وسائل الشيعة 18/10، الباب 3، و 18/16، الباب 6، و 18/18، الباب 7 من أبواب الخيار.
4- السرائر 2/246.
5- المبسوط 2/81.
6- مسالك الأفهام 3/212.

العتق والإبراء. وفي السرائر(1) نفى الخلاف عن عدم جريانه في العتق والطلاق»(2).

وقال الشيخ الأعظم: «أمّا الإيقاعات فالظاهر عدم الخلاف في عدم دخول الخيار فيها...»(3).

وقد ذكر الشيخ الأعظم في وجه ذلك أموراً:

«الأوّل: أنّ المفهوم من الشرط ما كان بين إثنين والإيقاع إنما يقوم بواحد.

وردَّ هذا الأمر: بان المراد أن الشرط نفسه يتقوم بشخصين المشروط له والمشروط عليه لا أنه يعتبر أن يكون موضوعه متقوماً بالايجاب والقبول، بل نفس الشرط له ايجاب وقبول وإن حصل ضمن الإيقاع، ولذا صرّح بجواز عتق العبد واشتراط خدمة مدّة عليه ولزوم الشرط بقبول العبد.

الثاني: ما ذكره الشيخ(4) (قدس سره) من انصراف الشرط إلى ما كان في ضمن العقد بملاحظة ما ورد في القاموس(5) من تفسير الشرط بالالتزام في ضمن الالتزام.

وفيه: منع دعوى الانصراف. والايقاع أيضاً التزام فلا ظهور للالتزام في إرادة العقد.

الثالث: ما أفاده الشيخ(6) (قدس سره) من عدم مشروعية الفسخ في الايقاعات في الجملة، فلا يصح اشتراطه لأنه يكون من الشرط المخالف للكتاب والسنة، وقد عرفت وجهه فيما تقدم.

ص: 590


1- السرائر 2/246.
2- مفتاح الكرامة 14/218.
3- المكاسب 5/148.
4- المكاسب 5/149.
5- القاموس 2/368، مادة «الشرط».
6- المكاسب 5/150.

والتحقيق: هو أنه لا يتصور الفسخ في مورد الايقاعات فضلاً عن صحة اشتراطه، بيان ذلك: أن الفسخ عبارة عن رفع الأثر في مرحلة البقاء ولذا يترتب عليه أثر العدم من حينه لا من حين العقد. وهذا إنما يتصور فيما كان لأثر المعاملة ثبوت استمراري كي يرتبط الفسخ به، كالملكية في باب البيع.

وإلّا فلا معنى لفسخ المعاملة في مرحلة حدوثها، لانصرامها. فالفسخ إنما يتعلق بما لَه بقاء.

وهذا إنما يتم فيما إذا كان أثر المعاملة وجودياً يعتبر الشارع استمراره لاحتياج بقاء الوجود إلى علة وهي الاعتبار المسبب عن العقد. أما إذا كان الأثر عدمياً فلا معنى للفسخ فيه، إذ بقاء العدم ليس بواسطة تأثير المعاملة السابقة واستمرار الاعتبار، بل بواسطة عدم تحقق منشأ الوجود، فالمعاملة تؤثر في العدم حدوثاً وأما بقاء فهو ينشأ من عدم علة الوجود. فعدم الزوجية بقاء - بعد الطلاق - ليس بتأثير الطلاق بل لعدم ما يوجب الزوجية، وانما يؤثر الطلاق في رفع الزوجية حدوثاً لا أكثر. فلا يتصور للمعاملة ذات الأثر العدمي بقاء كي يصح انفساخها وفسخها.

وبما أنَّ الإيقاعات المذكورة من الطلاق والإبراء والعتق ونحوها إنما تؤثر في رفع الحكم الوجودي الثابت، فلا بقاء لها، فلا فسخ لها. فتدبر ولا حظ.

وأما الرجوع في باب الطلاق، فهو ليس فسخاً للطلاق، بل هو إعادة للزوجية ولذا يسند إلى الزوجة فيقال رجع بالزوجة. فالتفت.

هذا تمام الكلام في خيار الشرط»(1).

وإلى هنا تم الجزءُ العاشر مِنْ كتاب الآراء الفقهية، والقسم الأوّل من الخيارات في ليلة سافر صباحها عن يوم الإثنين الخامس من ربيع الآخر 1441 بعد تدريسه في

ص: 591


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، الخيارات 1/281 و 282.

الحوزة العلمية بإصفهان على يد مُدَرِّسه العبد هادي النجفي كان الله له.

والحمدلله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.(1)

ص: 592


1- وقد تم تصحيح هذه الأوراق في مساء يوم الإثنين السابع والشعرين من شهر صفر الخير 1443 في مكتبة والدي وفي جواره ضريحه الطاهر بيد مؤلِّفها العبد هادي النجفي والحمدلله أوّلاً وآخراً.

فهرس المطالب

تقريظ المرجع الديني آيةالله العظمى الشيخ محمّد الرحمتي السيرجاني(دام ظله)..... 3

تمهيد. 5

فصل: الخيار أقسامه وأحكامه / 7

المقدمات / 9

المقدمة الأولى: هل تعريف الخيار من قبيل شرح الاسم؟. 9

المقدمة الثانية: هل يتعلَّق الخيار بخصوص الأفعال أو يتعلَّق بها وبالأعيان؟. 10

المقدمة الثالثة: الخيار في اللغة. 12

المقدمة الرابعة: المصدر واسمه والفرق بينهما 14

المقدمة الخامسة: النسبة بين خياري اللغوي والفقهي.. 17

الجهة الأولىٰ: تعريف الخيار. 19

الجهة الثانية: أصالة اللزوم في البيع. 39

البحث الأوّل: محتملات المراد من أصالة اللزوم في كلام الشيخ الأعظم. 40

البحث الثاني: مناقشة كلام الشيخ (قدس سره) في التفريق بين البيع وغيره 50

البحث الثالث: معنى قول العلامة (قدس سره) : لا يخرج من هذا الأصل إلاّ بأمرين. 51

البحث الرابع: أدلة أصالة اللزوم. 56

الوجه الأوّل: قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾. 56

الوجه الثاني والثالث: قوله تعالى: ﴿ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾. 77

الوجه الرابع: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾. 92

ص: 593

تنبيهٌ: استدلال المحقق النائيني بمجموع المستثنى.. 98

الوجه الخامس: قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾. 107

الوجه السادس: «لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفسه» 108

الوجه السابع: حديث السلطنة. 109

الوجه الثامن: قوله (صلی الله علیه و آله و سلم) : المؤمنون عند شروطهم. 113

الوجه التاسع: الروايات الدالة على نفي الخيار بعد الافتراق. 115

الوجه العاشر: رواية الصلح جائز. 117

الوجه الحادي عشر: خبر هذيل بن صدقة الطحان. 118

الوجه الثاني عشر: الاستصحاب.. 119

ثمّ بقى هنا تنبيهان. 123

الأوّل: ردّ قول العلّامة: في أصالة عدم اللزوم. 123

الثاني: حكم الشبهة الموضوعية في العقود. 129

أقسام الخيار / 144

الأوّل: خيار المجلس / 147

المراد من المجلس... 147

الأمر الأوّل: دليل خيار المجلس... 152

أ: الإجتماع. 152

النصوص المستفيضة. 154

الأمر الثاني: مختصات خيار المجلس... 159

المسألة الأولى: ثبوت خيار المجلس للوكيل. 159

أقسام الوكيل 169

القسم الأوّل: الوكيل في مجرد إجراء العقد. 160

القسم الثاني: الوكيل المُفَوَّض... 177

القسم الثالث: الوكيل الذي تنتهى وكالته بإنشاء العقد. 182

فرع: ثبوت الخيار لموكّلي هذا الوكيل الثالث.. 185

فرع آخر: امكان تعدد أطراف الخيار في طرفي البيع. 186

ص: 594

فرع ثالث: عدم ثبوت الخيار للفضوليين. 187

المسألة الثانية: اتحاد البائع والمشتري في الخارج. 190

الأقوال في المسألة. 190

أدلة القول بثبوت الخيار. 192

أدلة القول بعدم ثبوت الخيار. 194

المختار في المسألة. 206

المسألة الثالثة: استثناء من عموم ثبوت خيار المجلس... 210

المسألة الرابعة: هل يثبت خيار المجلس في غير البيع من العقود؟. 211

المسألة في كلمات الأصحاب.. 213

منشأ طرح هذه المسألة. 214

التحقيق في المسألة. 218

المسألة الخامسة: مبدأ خيار المجلس... 221

مبدأ خيار المجلس في بيع الصرف والسلم. 221

فرع: مبدأ خيار المجلس للمالكين الحاضرين في مجلس العقد. 226

مسقطات الخيار. 228

1- مسألةٌ في الاشتراط.. 229

1- الإجماع. 230

2- الكتاب.. 230

3- السنة. 232

صور اشتراط سقوط خيار المجلس... 240

الصورة الأولىٰ: شرط عدم الخيار. 242

الصورة الثانية: شرط عدم الفسخ.. 245

الجهة الأولىٰ: هل يصح شرط عدم الفسخ؟. 245

الجهة الثانية: هل ينفذ الفسخ بعد اشتراط عدم الفسخ أو لا؟. 249

الأوّل: بطلان الفسخ.. 249

الثاني: صحة الفسخ.. 274

ص: 595

الصورة الثالثة: شرط اسقاط الخيار. 275

الجهة الثالثة: في تعيين المراد من مقالة الشيخ الطوسي (قدس سره) 284

2- مسألةٌ في اسقاط الخيار بعد العقد. 291

استدلّ الشيخ الأعظم على سقوط الخيار بالإسقاط.. 291

الأوّل: الإجماع. 292

الثاني: فحوىٰ ما ورد من النص... 292

الثالث: عموم قاعدة «لكلِّ ذي حقٍّ إسقاط حقّه» 293

الرابع: دليل الشرط لو فرض شموله للالتزام الإبتدائي.. 297

سقوط خيار المجلس بكلِّ لفظ دالّ عليه. 299

مسألة: لو قال أحدهما لصاحبه: «اختر» 301

فرعان. 309

موارد تعارض الإجازة والفسخ.. 310

أجمال القول في موارد التعارض... 311

3- مسألةٌ: افتراق المتبايعين. 313

الجهة الأولى: الشبهة الحكمية. 313

الجهة الثانية: الشبهة الموضوعية. 320

أمّا الافتراق. 320

1- أدنى الانتقال ولو كان أقل من خطوة 320

2- اعتبار الخطوة 321

3- اعتبار خطوات.. 325

ثمّ إنّ هنا قولان لم يرد في المكاسب وهما: 326

4- ثلاث خطوات على الأقل. 326

5- خمس خطوات ومازاد. 329

القول المختار. 329

الجهة الثالثة: الافتراق هل يتحقق بحركة أحدهما وسكون الآخر أو أنّه... 331

مسألةٌ: الافتراق عن إكراه 334

ص: 596

مسألة: اكراه أحدهما على التفرّق. 345

مسألة: لو زال الإكراه 350

4- مسألة: التصرف.. 356

الثاني: خيار الحيوان / 358

الجهة الأولى: المراد من الحيوان كل ماله جسم وروح صغيراً كان أو كبيراً 360

الجهة الثانية: المراد من الحيوان خصوص ما يقصد بقاؤه أو مطلق مافيه الحياة؟. 360

الجهة الثالثة: هل يُعدُّ زهاق روح الصيد تلفاً من البائع قبل القبض أو في زمن الخيار؟. 368

الجهة الرابعة: منتهى خيار الحيوان الذي لا قابلية له للبقاء. 369

الجهة الخامسة: هل يختص خيار الحيوان بالحيوان الشخصي أو يعمّ الكلّي؟. 372

الجهة السادسة: خيار الحيوان لِمَنْ؟. 377

أدلة الأقوال. 382

أ: دليل القول الأوّل. 382

ب: دليل القول الثاني.. 394

ج: دليل القول الثالث.. 397

د: دليل القول الرابع. 398

مسألة: مدّة خيار الأمة. 398

مسألة: مبدأ خيار الحيوان. 403

تمهيدٌ. 403

الأقوال. 404

دليل قول المشهور. 406

استدلال المحقّق الاصفهاني للمشهور. 406

دليل قول ابن زهرة 407

«الأوّل: [أن الخيار يدخل إذا ثبت العقد] 407

الثاني: [الاستصحاب] 409

الثالث: [إن تلف الحيوان في الثلاثة من البائع] 409

الرابع: الوجه العقلي.. 410

ص: 597

تتمة: المراد بزمان العقد. 418

مسألة: المراد من ثلاثة أيّام. 420

فرع: لو وقع البيع بين الطلوعين أو في أوائل طلوع الشمس... 426

مسألة: مسقطات خيار الحيوان. 429

أحدها [وثانيها]: 429

الثالث: التصرف.. 431

المقام الأوّل: في مقتضى القاعدة 432

المقام الثاني: في المستفاد من الروايات.. 434

أمران لابد من بيانهما 439

الأمر الأوّل: في النسبة بين إحداث الحدث والتصرف.. 439

الأمر الثاني: في بيان الجزاء في صحيحة ابن رئاب.. 440

المحتملات في الرواية. 441

مختار الشيخ.. 443

إشكال المحقق الرشتي على الشيخ وردّه 444

إشكال المحقّق السيّد الخوئي على الشيخ ودفعه. 445

المناقشة في ما قوّاه الشيخ.. 446

ما استقر به المحقّق الاصفهاني من الوجوه والمناقشته. 446

المختار في مدلول الرواية. 449

في المرجع حين إجمال المراد. 450

الثالث: خيار الشرط / 453

أدلة خيار الشرط.. 455

1- الإجماع. 455

2- الروايات العامة. 456

3- الروايات الخاصة. 457

وأمّا المسائل تتم بقرار الذيل: 460

المسألة الأولى.. 460

ص: 598

المسألة الثانية: في لزوم تعيين المدة 461

المسألة الثالثة: قد عرفت لزوم تعيين مدة الخيار وبطلان العقد بجهالتها 465

المسألة الرابعة: مبدأ خيار الشرط.. 469

تنبيه. 473

المسألة الخامسة: جعل الخيار للأجنبي.. 474

«الجهة الأولى: في صحة جعل الخيار للأجنبي.. 475

النقطة الأولى: في مقتضى القاعدة 475

النقطة الثانية: في بيان المانع الثبوتي من الصحة. 476

النقطة الثالثة: في الدليل على صحة جعل الخيار للأجنبي.. 484

«الجهة الثانية: في اشتراط قبول الأجنبي وعدمه. 495

الجهة الثالثة: في جواز إسقاط خيار الأجنبي وعدمه. 499

الجهة الرابعة: في اشتراط مراعاة المصلحة من قبل الأجنبي وعدم اشتراطها 501

الجهة الخامسة: في حكم جعل الخيار للمتعدد. 504

المسألة السادسة: اشتراط المؤامرة 507

إشكالٌ وجوابه. 513

تنبيهٌ: هل على المستأمَر (بالفتح) مراعاة مصلحة المستأمِر (بالكسر) في أمره؟. 515

المسألة السابعة: بيع الخيار. 515

الأمر الأوّل: وجوه اعتبار ردّ الثمن في هذا الخيار. 517

الأمر الثاني.. 520

الأمر الثالث.. 524

الأمر الرابع: في ما يسقط به هذا الخيار. 527

الأوّل: الاسقاط.. 527

الثاني: - مما يسقط به هذا الخيار - : انقضاء المدة وعدم رد الثمن. 530

الثالث: التصرف في الثمن. 532

الأمر الخامس: لو تلف المبيع أو الثمن قبل الرد أو بعده 537

النقطة الأولى: في حكم تلف المبيع. 537

ص: 599

النقطة الأولى: في حكم تلف المبيع. 537

النقطة الثانية: في حكم تلف الثمن. 543

بيان عدم المنافاة بين قاعدتي التلف في زمان الخيار والخراج بالضمان. 547

الأمر السادس: ردّ الثمن إلى الوكيل أو الولي مع التصريح به أو بدونه. 550

الأمر السابع: ردّ بعض الثمن. 554

الأمر الثامن: اشتراط المشتري الفسخ برد المثمن. 557

المسألة الثامنة: جريان خيار الشرط في غير البيع. 561

جريان خيار الشرط في العقود اللازمة. 561

أ- ما خرج من العقود اللازمة من فسخها بخيار الشرط.. 571

ب - ومن العقود التي اختلف في جريان خيار الشرط فيه. 577

1- الوقف... 577

2- الصدقة. 584

3- الصلح.. 587

4- الضمان. 589

5- الرهن. 590

6- الصرف.. 591

بقى هنا أمران. 595

جريان خيار الشرط في العقود الجائزة 596

عدم جريان خيار الشرط في الإيقاعات.. 597

ص: 600

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.