الآراءُ الفقهیَّة: (ق_س_م المکاسب المحرمة 2) المجلد 2

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: النجفي، هادي، 1342 -

عنوان واسم المؤلف: الاراء الفقهیة/ تالیف هادي النجفي.

تفاصيل المنشور: اصفهان: مهر قائم، 1387.

مواصفات المظهر: 3 ج.

شابک : 0 20000 ریال: دوره: 978-964-7331-77-7 ؛ ج. 1: 978-964-7331-74-6 ؛ ج. 2: 978-964-7331-75-2 ؛ ج. 3: 978-964-7331-85-2

حالة الاستماع: فاپا/الاستعانة بمصادر خارجية.

لسان: العربية.

ملحوظة: ج. 2 و 3 ( الطبعة الأولى: 1429ق. = 1387).

ملحوظة: فهرس.

موضوع : المعاملات (فقه)

موضوع : أعمال الهرم

موضوع : فقه جعفري -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP190/1/ن3آ4 1387

تصنيف ديوي: 297/372

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1245417

ص: 1

اشارة

ص: 2

الاراء الفقهیه قسم المکاسب المحرمه

تالیف هادی النجفی

ص: 3

ص: 4

تتمة النوع الرابع: الاکتساب بما هو حرام فی نفسه

حفظ کتب الضلال

اشارة

التعرض لمعنی العنوان هو الأولی ، کما قال الشیخ الأعظم : « لابدّ من تنقیح هذا العنوان»(1) ، فما المراد بالحفظ وماهی کتب الضلال هنا ؟

أما المراد بالحفظ

فقال الشهید الثانی : « المراد حفظها من التلف أو علی ظهر القلب وکلاهما محرَّم لغیر النقض والحجة علی أهلها لمن له أهلیتها لا مطلقاً ، خوفاً علی ضعفاء البصیرة من الشبهة . ومثله نُسخها . وکذا یجوزان للتقیة . وبدونها یجب إتلافها إن لم یمکن إفراد مواضع الضلال ، وإلاّ اقتصر علیها حذراً من إتلاف ما یعدّ مالاً من الجلد والورق ، إذا کان لمسلم أو محترم المال »(2) .

وقال المحقق الثانی فی معنی الحفظ : « أی حفظها فی الصدر أو حفظها بمعنی صیانتها عن أسباب التلف ... »(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « من المحرَّم حفظ کتب الضلال ،کأنّ المراد أعم من حفظها عن التلف أو علی الصدر ، والأوّل أظهر . وکأنّ نسخها أیضاً کذلک ، بل هو اُولی»(4) .

وقال جدنا الشیخ الأکبر کاشف الغطاء : « (حفظ کتب الضلال) أو ضلالها فی الصدر أو عن التلف (ونسخها) متعلقاً بأصل أو فرع ، مع صدق الإسم علیها لإعدادها له أو کثرته

ص:5


1- (1) المکاسب المحرمة / 30 _ (1 / 235) .
2- (2) مسالک الأفهام 3 / 127 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 26 .
4- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .

فیها ... »(1) .

وقال صاحب الریاض « (وحفظ کتب الضلال) عن الإندراس أو عن ظهر «القلب(ونسخها) وتعلیمها وتعلّمها ...»(2) .

وقال النراقی : « حفظ کتب الضلال عن الإندراس ونسخها وتعلیمها وتعلّمها ...»(3) .

وقال السید جواد العاملی : « ... وقضیة قولهم « یحرم حفظها» أنّه یجب إتلافها کما صرّح بذلک المحقق الثانی والشهید الثانی والقطیفی وغیرهم ... »(4) .

وقال صاحب الجواهر : « ... والمراد حفظها عن التلف أو علی ظهر القلب ، بل یحرم مطالعتها وتدریسها ، بل الظاهر أن حرمة الحفظ لوجوب إتلافها باعتبار دخولها تحت الوضع للحرام وتحت ما من شأنه ترتب الفساد علیه ، بل هی أولی حینئذ بالحرمة من هیأکل العبادة المبتدعة ... »(5) .

وقال الشیخ الأعظم فی آخر البحث : « ثمّ الحفظ المحرَّم یُراد به الأعمّ من الحفظ بظهر القلب والنسخ و المذاکرة وجمیع ماله دخل فی بقاء المطالب المضلّة»(6) .

وقال المحقق الإیروانی : « مقتضی دلیله وجوب العمد إلی إتلاف کتب الضلال ، فیکون المراد من الحفظ عدم التعرض للإتلاف ، لکنّه بعید من العبارة .

ویُحتمل أن یکون المراد الحفظ من إثبات الید علیها واقتنائها .

وثالث الإحتمالات الذی هو ظاهر لفظ « الحفظ » حفظه عن التلف ، فیختص بما إذا کان فی عرضة التلف ومتوجّهاً إلیه غرق أو حرق فیحفظه عن ذلک ... لکن الأدلة إن تمّت

ص:6


1- (5) شرح القواعد 1 / 216 .
2- (1) ریاض المسائل 8 / 164 .
3- (2) مستند الشیعة 14 / 157 .
4- (3) مفتاح الکرامة 4 / 62 _ (12 / 206) .
5- (4) جواهر الکلام 22 / 56 .
6- (5) المکاسب المحرمة / 30 _ (1 / 238) .

قضت بوجوب الإتلاف والعمد إلی المحو والإعلام فی أیّة مکتبة کانت »(1) .

وقال المحقق الأردکانی : « أمّا الحفظ فکانت محتملاته أیضاً ثلاثاً :

الأوّل : أن یراد منه عدم الإتلاف .

الثانی : إثبات الید علیها .

الثالث : صیانته عن التلف إذا کان فی معرضه کالغرق والحرق .

إلاّ أنّ المستفاد من بعض أدلة حرمة الحفظ هو وجوب الإتلاف ، ولازمه إرادة المعنی الأوّل من الحفظ هنا»(2) .

وقال شیخنا الأستاذ _ مدظله _ : « المراد بحفظ کتب الضلال ما یعمّ اقتناءها واستنساخها»(3) .

وقال بعض أساتیذنا _ مدظله _ : « أمّا الحفظ فقد مرّ عن المحقق الإیروانی قدس سره فیه ثلاثة احتمالات ، وأنّ الظاهر من الأدلة حرمة الحفظ فی مقابل الإتلاف ، فیجب محو کتب الضلال وإتلافها أینما کانت . ویضاف إلیها إحتمال رابع ، وهو حفظها بظهر القلب»(4) .

أقول : ما المراد بالحفظ هنا ؟ وجوه :

1 _ الحفظ بظهر القلب وإیداعها فی الحافظة وقوة الذاکرة .

2 _ إثبات الید علیها واقتناؤها .

3 _ المحافظة علیها من إتلافها إذا کانت فی معرض التلف أو الإتلاف .

4 _ استنساخها وتکثیرها وطبعها وتوزیعها ، بحیث لا یتمکن أحدٌ من إتلاف هذا المحتوی ، أو فقل فی زماننا هذا إرسالها إلی الإنترنت وإطلاع الناس علیها .

5 _ المراد بالحفظ هنا عدم الإتلاف .

ظاهر العبائر ومقتضی الأدلة هو الأخیر ، یعنی أنّ المراد بالحفظ ما یقابل الإتلاف ،

ص:7


1- (6) حاشیة المکاسب 1 / 151 .
2- (7) غنیة الطالب 1 / 122 .
3- (1) إرشاد الطالب 1 / 140 .
4- (2) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 90 .

وإنّ الحفظ بهذا المعنی العام یشمل غیره من المعانی المذکورة ، فالجمیع داخل فی حرمة الحفظ ، والأدلة إذا تمّت تقتضی حرمة جمیعها کما صرح بذلک الشیخ الأعظم فی عبارته التی مرّت منّا . واللّه سبحانه هو العالم .

وأما المراد من کتب الضلال

فقال الشیخ الطوسی : « إذا وُجد فی المغنم کتبٌ نظر فیها فإن کانت مباحة یجوز إقرار الید علیها ، مثل کتب الطب والشعر واللغة والمکاتبات ، فجمیع ذلک غنیمة ، وکذلک المصاحف وعلوم الشریعة کالفقه والحدیث ونحوه ، لأنّ هذا مال یباع ویشتری کالثیاب . وإن کانت کتباً لا تحلّ إمساکها کالکفر والزندقة وما أشبه ذلک ، کلّ ذلک لا یجوز بیعه ، وینظر فیه ، فإن کان ممّا ینتفع بأوعیته إذا غُسل کالجلود ونحوها فإنّها غنیمة ، وإن کان ممّا لا ینتفع بأوعیته کالکاغذ فإنّه یمزق ولا یحرق لأنّه ما من کاغذ إلاّ وله قیمة وکلم التوراة والانجیل

هکذا ، کالکاغذ فإنّه یمزق لأنّه کتاب مغیّر مُبدّل»(1) .

وقال أیضاً : « إذا أوصی بشیءٍ یکتب به التوراة والإنجیل والزبور وغیر ذلک من الکتب القدیمة ، فالوصیة باطلة لأنّها کتب مغیّرة مبدّلة ، قال اللّه تعالی : «یُحَرِّفُونَ الْکَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ»(2) وقال عزّ و جل : «فَوَیْلٌ لِّلَّذِینَ یَکْتُبُونَ الْکِتَابَ بِأَیْدِیهِمْ ثُمَّ یَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ»(3) ، وهی أیضاً منسوخة ، فلا یجوز نسخها لأنّه معصیة ، والوصیة بها باطلة ... »(4) .

أقول : فألحق الشیخ کتب التوراة والإنجیل وغیرهما من الکتب المنسوخة بالکتب الباطلة والضالّة .

وقال العلامة فی مغانم التذکرة : « الکتب التی لهم : فإن کان الإنتفاع بها حلالاً _ کالطب

ص:8


1- (1) المبسوط 2 / 30 .
2- (2) سورة المائدة / 13 .
3- (3) سورة البقرة / 79 .
4- (4) المبسوط 2 / 63 .

والأدب والحساب والتواریخ - فهی غنیمة ، وإن حرم الإنتفاع بها مثل کتب الکفر والهجو والفحش المحض فلا یترک بحاله ، بل یغسل إن کان علی رَقٍّ أو کاغذٍ ثخینٍ یمکن غسله ، ثمّ هو کسائر الأموال ، فإن للممزَّق قیمة وإن قلَّت . وکذا کتب التوراة والإنجیل ، لأنّها مبدَّلة محرَّفة ، فلا یجوز الإنتفاع بها ، وإنّما تُقرّ فی أیدی أهل الذمة لاعتقادهم کما یُقرّون علی الخمر . والاُولی أنّها لا تُحرق لما فیها من أسماء اللّه تعالی»(1) .

وقال المحقق الثانی : « والظاهر عدم الفرق فی کتب الضلال بین کتب الاُصول والفروع ، لأنّ ابتناء فروعها علی الاُصول الفاسدة ... هذان (التوراة والإنجیل) من کتب الضلال بل من رؤوسها لکونهما محرّفین ... »(2) .

وقال المحقق الأردبیلی : « ولعلّ المراد بها أعمّ من کتب الأدیان المنسوخة والکتب المخالفة للحقِّ اُصولاً وفروعاً ، والأحادیث المعلوم کونها موضوعة ، لا الأحادیث التی رواها الضعفاء لمذهبهم ولفسقهم مع إحتمال الصدور ، فحینئذ یجوز حفظ الصحاح الستة مثلاً _ غیر الموضوع المعلوم _ کالأحادیث التی فی کتبنا مع ضعف رواتها لکونها زیدیّة وفطحیة وواقفیة . فلا ینبغی الإعراض عن الأخبار النبویة التی رواها العامة ، فإنّها لیست إلاّ مثل ما

ذکرناها»(3) .

وقال جدنا الشیخ الأکبر کاشف الغطاء : « وکشف الحال : أنّه لیس الغرض من کتب الضلال ما اشتمل علی الضلال فی الجملة ، وإلاّ لم یمکن الرجوع إلی کتب اللغة والعربیة والتفسیر وغیرها من کتب المقدمات ووجب إتلافها لعدم الخلوّ من ذلک ، ولا ما کان من الکتب مشتملاً علی ما یحتاجه الفقیه فی طُرق الإستدلال للإطلاع علی مذاهب القوم ممّا یتوقّف علیه ترجیح الروایات بعضها من بعض ، ولا ما کان مستنداً إلی أهل الضلال وکان فیه رشاد کالکتب الاُصولیة المشتملة علی الضوابط الشرعیة الموصلة إلی تحصیل معرفة الاستدلال ، فإنَّ ذلک من الواجبات للتوصل إلی معرفة الأحکام الشرعیة .

ص:9


1- (5) تذکرة الفقهاء 9 / 127 .
2- (6) جامع المقاصد 4 / 26 .
3- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .

بل المراد _ واللّه أعلم _ أنّ الکتب التی وضعت للاستدلال علی تقویة الضلال یجب إتلافها فضلاً عن غیره _ من نسخ و غیره _ إلاّ مع قصد الإبطال ونحوه کما ذکرناه ...»(1) .

وقال السید العاملی : « معرفة کتب الضلال فالظاهر من الأصحاب ما کان کلّها ضلالاً ... وهو الذی تقتضیه حقیقة اللفظ من دون تجوّز ، وهو معقد الإجماع ومصبّ الفتاوی کالتوراة والإنجیل ... وککتب القدماء من الحکماء القائلین بقدم العالم وإیجاب الصانع وعدم المعاد ، وکتب عبدة الأصنام ومنکری الصانع ، وأمّا کتب البدع فی هذه الملّة فهی أصناف : منها : کتب الجبر ونفی الغرض المفردة التی لیس معها غیرها ... .

وأمّا ما اشتمل علی ذلک من کتبهم مع کونه مشحوناً بما یوافق العدلیة - ککتب المعتزلة وبعض کتب الأشاعرة وتفاسیرهم واُصول فقههم والصحاح الستّ - فلا حرمة ، فیها کما نصّ علی بعض ذلک صاحب إیضاح النافع والبعض الآخر المولی الأردبیلی ... »(2) .

وقال النراقی : « والمراد بالضلال ما خالف الحقّ واقعاً ، کما یخالف الضروری أو بحسب علم المکلّف خاصة ، وأمّا ما خالفه بحسب ظنّه فلا»(3) .

وصاحب الجواهر بعد نقل کلام اُستاده کاشف الغطاء ، نَقَلَ کلام صاحب مفتاح الکرامة بعنوان بعض مشایخنا وقال فی نقده : « وفیه : ما عرفت من أنّه لیس فی النصوص هذا اللفظ کی یقتصر علی المنساق منها من کونه معدّاً أو کون مجموعه ضلالاً أو نحو ذلک ، وإنّما العمدة ما سمعته من الدلیل الذی لا فرق فیه بین المعدّ وغیره والکلّ والبعض ، والأصلی والفرعی الذی علم کونه ضلالاً ولو للتقصیر فی الإجتهاد ونحوه . ولعلّ ملاحظة الأصحاب کتب فروع العامة وذکرها فی کتبهم ، لأنّ لها مدخلیة فی تمییز الحق باعتبار ما ورد من الأمر بأخذ ما خالفهم وطرح ما وافقهم ، وهو موقوف علی ذلک ، وهو واضح . کما أنّه قد یقال : بخروج غالب کتب المخالفین والملل الفاسدة عن الضلال فی هذه الاُوقات باعتبار ما وقع من جملة من أصحابنا من نقضها وإفسادها ، فهی حینئذ کالتالفة ، فلا یجب حینئذ إتلافها بمعنی

ص:10


1- (2) شرح القواعد 1 / 218 .
2- (3) مفتاح الکرامة 4 / 62 و 63 _ (12 / 208 و 207) .
3- (4) مستند الشیعة 14 / 158 .

إعدامها عن الوجود ، بل لا بأس ببیعها وشرائها والاستیجار علی کتابتها ونحو ذلک ، ضرورة صیرورتها بذلک کالکلام المنقوض فی کتب أهل الحق مثل الشافی وکشف الحق ونحوهما ، إذ من المعلوم أعمیة النقض للأمرین معاً ، فتأمل جیداً .

ولیس من کتب الضلال کتب الأنبیاء السابقین ما لم یکن فیها تحریف ، إذ النسخ لا یصیّرها ضلالاً ، ولذا کان بعضها عند أئمتنا علیهم السلام مثل الزبور ونحوه من أحسن کتب الرشاد ، لأنّها لیست إلاّ المواعظ ونحوها علی حسب ما رأیناها ، واللّه أعلم»(1) .

وقال الشیخ الأعظم قدس سره : « ...فلابدّ من تنقیح هذا العنوان وأنّ المراد بالضلال ما یکون باطلاً فی نفسه ، فالمراد الکتب المشتملة علی المطالب الباطلة ، أو أنّ المراد به مقابل الهدایة ؟ فیحتمل أن یراد بکتبه ما وضع لحصول الضلال ، وأن یراد ما اُوجب الضلال وإن کان مطالبها حقّة ، کبعض کتب العرفاء والحکماء المشتملة علی ظواهر منکرة یدّعون أن المراد غیر ظاهرها ، فهذه أیضاً کتب ضلال علی تقدیر حقیّتها»(2) .

وقال المحقق التقی الشیرازی : « المنصرف من الضلال : هو الضلال عن الدین بالإنکار أو الشک فی أحد المعارف الخمس وما یتبعها ، ویحتمل أن یراد به فی المقام أعمّ من ذلک وممّا یوجب الإقدام علی المعاصی ، کالکتب المصنّفة فی علم السحر والشعبذة والکهانة ونحوها ، ویدلّ علیه عموم بعض الأدلة الآتیة»(3) .

وقال المحقق الإیروانی : « ثمّ المراد من کتب الضلال یُحتمل أن یکون کلّ کتاب وضع علی الکذب والباطل فی الاُصول کان أو فی الفروع ، فی الموضوعات کان أو فی الأحکام ، بل کلّ کتاب لم تکن له غایةٌ عقلائیةٌ ، فیشمل ما وضع لأجل التلهّی به _ مثل کتب القصص

والحکایات وإن کانت صادقةً .

ویُحتمل أن یکون المراد به کل کتاب أوجب الضلالة والخطأ فی الإعتقاد فی الاُصول أو الفروع أو الموضوعات ، وهذا یجتمع مع حقیّة ما تضمّنه ، وإنّما کانت الضلالة لقصور الناظر

ص:11


1- (1) الجواهر 22 / 59 و 60 .
2- (2) المکاسب المحرمة / 30 _ (1 / 235) .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 71 .

فیه ، کما ضلّ کثیرون من مطالعة الکتاب العزیز والأحادیث الشریفة . ویُحتمل أن یکون المراد به کلّ کتاب وضع لغرض الإضلال ولغایة إغواء العوام»(1) .

وقال المحقق الخوئی : « ثمّ إنّ المراد بکتب الضلال کلّ ما وضع لغرض الإضلال وإغواء الناس وأوجب الضلالة والغوایة فی الإعتقادات أو الفروع ، فیشمل کتب الفحش والهجو والسّخریة وکتب القصص والحکایات والجرائد المشتملة علی الضلالة وبعض کتب الحکمة والعرفان والسحر والکهانة ونحوها ممّا یوجب الإضلال»(2) .

وقال المحقق الأردکانی فی بیان المراد من کتب الضلال : « ففیه ثلاث احتمالات :

الأوّل : أن یکون المراد بها کلّ کتاب مشتمل علی الأکاذیب والمطالب الباطلة من الاُصول والفروع و الموضوعات ، فتدخل فیها الکتب المشتملة علی الحکایات الکاذبة والقصص المجعولة .

الثانی : أن یکون المراد بها کلّ کتابٍ من شأنه الإضلال کان فی الاُصول والفروع أو الموضوعات ، ویدخل فیه بعض مصنفات بعض العرفاء کمحی الدین لإشتماله علی المطالب المنکرة ، وإن ادعی عدم إرادة ظواهرها .

الثالث : أن یُراد بها ما وضع لغرض الإضلال وإغواء العوام ، کالکتب المؤلفة فی الجبر وإثبات المذاهب الفاسدة .

والذی یقوی فی النظر هو المعنی الثانی ، فإنّ غایة ما یُستفاد من الأدلة حرمة حفظ کتب الضلال بهذا المعنی ، فلا یدخل فیها بعض کتب الأشعار المتضمن للأوهام والخیالات والکتب المشتملة علی الاُمور المجعولة من القصص والحکایات ، خصوصاً إذا کان الغرض من تألیفها النصیحة والمطالب الأدبیة .

والعجب من الشیخ قدس سره أنّه اقتصر علی ذکره الوجوه المحتملة للضلال ولم یرجح واحداً منها ، مع أنّه قال : « لابدّ من تنقیح هذا العنوان»(3) .

ص:12


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 151 .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 254 .
3- (3) غنیة الطالب 1 / 122 .

وقال بعض أساتیذنا _ مدظله _ فی تعلیقه علی کلام الشیخ الأعظم قدس سره فی معنی الضلال : « احتمل المصنف _ کما تری _ فی معنی الضلال ثلاثة إحتمالات ، ولعلّ أظهرها هو الإحتمال الثالث ، ولکن لا بمعنی إیجابه الضلال ولو لفرد ما إحیاناً ولجهله وسذاجته ، وإلاّ لزم کون جمیع الکتب حتّی مثل القرآن الکریم وکتب الحدیث کتب ضلال ، بل بمعنی إیجابه الضلال لکثیر ممّن یراجعه من المتوسطین خالی الذهن ، لاشتماله علی مطالب باطلة مشابهة للحقِّ مِنْ دون نفعٍ فی وجوده»(1) .

أقول : الظاهر - واللّه العالم - أنّ المراد بکتب الضلال کلُّ ما صُنف أو کُتب لإضلال الناس وإغوائهم وتوجب الضلالة فی الاُصول أو الفروع ، فیشمل أکثر المعانی المذکورة فی کلمات القوم نحو ، کتب القصص والحکایات والجرائد والمجلات التی توجب الفساد والفحشاء فی المجتمع بین آحاده لاسیّما شبابه ، وکتب الهجو والسخریّة والفحش والکذب بالنسبة إلی خدّام المجتمع الإنسانی لاسیما بالنسبة إلی علماء الدین ورجاله ، وبعض کُتب التصوف والعرفان ونحو ذلک .

وأمّا الکُتب السماویة المحرّفة المنسوخة - نحو التوراة والإنجیل وغیرهما - فقد ألحقها الشیخ الطوسی والعلاّمة الحلی وغیرهما من الأصحاب قدس سرهم بکتب الضلال .

والإلحاق جیّدٌ ومتینٌ ، کما مرّت کلماتهم فی مطاوی ما ذکرناه(2) . ووجود مثل کتاب الزبور الواقعی عند أئمتنا علیهم السلام وأنّ کلّها مواعظ کما ذکره صاحب الجواهر(3) لا ینافی ما ذکرناه ، لأنّا قیّدنا الکتب السماویة بأمرین : 1 _ المحرّفة 2 _ المنسوخة . و من الواضح أن الموجود عندهم علیهم السلام غیر المحرّفة .

وأمّا تصانیف المخالفین فی العلوم الإسلامیة لا سیّما فی الحدیث والتفسیر والفقه واُصوله واللغة والأدب والتاریخ والأخلاق وغیرها ، فلم تکن من مصادیق کتب الضلال إلاّ ما اُلف لإثبات موضوع خاص ، نحو : إثبات تفضیل الخلفاء أو فضائلهم أو الجبر أو غیرها من

ص:13


1- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 99 .
2- (2) مضافاً إلی ما ذکرناه فراجع إلی تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 للعلامة الحلی .
3- (3) الجواهر 22 / 60 .

العقائد الباطلة أو فروعها .

ولذا قال جدنا الفقیه الشیخ جعفر : « وأمّا ما کان من کتب أهل الضلال ممّا وضع لمعرفة کیفیة الاستدلال أو الاهتداء إلی معرفة معانی الکتاب والسنة والکتب المنسوخة مع

قصد الإطلاع علی المواعظ کالزبور ونحوه من کتب الأنبیاء أو علی التواریخ والسیر والاُمور السالفة فلا بأس به وربّما وجب»(1) .

والعجب من العلامة الفقیه السید مهدی بحر العلوم الطباطبائی المتوفی عام 1212 قدس سره کیف لم یستقر رأیه فی تحریر موضوع کتب الضلال وحفظها ، فأن تلمیذه السید جواد العاملی قدس سره نقل عنه فی کتابه وقال : « وکان الاُستاذ الشریف قدس اللّه روحه وحشره مع آبائه الطاهرین صلوات اللّه علیهم أجمعین منذ سبعة عشر سنة تقریباً یوم قراءتنا هذه المسألة عنده مستشکلاً فی تحریر الموضوع وخرجنا من عنده ولم یستقر رأیه المبارک علی شیءٍ»(2) .

ویؤید أنّ المراد بالاُستاذ فی کلام صاحب المفتاح هو بحر العلوم ما ذکره حفیده الفقیه السید علی آل بحر العلوم قدس سره فی کتابه برهان الفقه قال : « إنّما الکلام فی تعیین موضوع الحرمة من حیث المراد بکتاب الضلال کمّاً وکیفاً ومن حیث المراد بحفظها ونسخها ، واختلفت کلماتهم فی ذلک علی وجه حکی فی مفتاح الکرامة عن اُستاده جدی العلامة أنّه لم یستقر رأیه علی شیء فی تشخیصه عند قراءته علیه ... »(3) .

وأعجب منه کلام صاحب الحدائق قدس سره حیث تعرض لمشایخ الطائفة وأساطینها وحکم بکون کتب اُصول الفقه من مصادیق کتب الضلال ، وقال فیه ما قال ، ولا یمکننی کتابة مقالته لما فیه من ... فراجعها إن شئت(4) .

وأجابه السید العاملی وعدّ کلامه من الضلال المحض الذی یجب إتلافه فراجع مفتاح

ص:14


1- (1) شرح القواعد 1 / 218 .
2- (2) مفتاح الکرامة 4 / 63 _ (12 / 209) .
3- (3) برهان الفقه _ کتاب التجارة / 25 .
4- (4) الحدائق 18 / 144 و 145 .

الکرامة إن شئت(1) .

ولنعم ما قال العلاّمة الجد کاشف الغطاء فی آخر هذا المبحث : « ... فلیتأمل فی هذا المقام ، فإنّه من مزالّ الأقدام ، وقد زلّت به قدم بعضُ الأعلام حتّی تسرّی إلی القدح فی أعیان الأعیان ، الذین مَنْ قَدَح فیهم فقد قدح فی الإسلام والإیمان»(2) .

وهکذا تبعه تلمیذه فی الجواهر وقال : « وکیف ما کان فمن الغریب بعد ذلک ما وقع للمحدث البحرانی من إنکار أصل الحکم لعدم نص بالخصوص علی ذلک ، حتّی أنّه ربما أساء

الأدب مع الأصحاب الذین هم حفّاظ السنة والکتاب ، نسأل اللّه العفو عنّا وعنه»(3) .

أقول : قد ذکرت _ ولا نقلت _ هذه المناظرات لتعلّم آداب صیانة القلم وحفظ أدب البحث لنفسی _ لا لغیری _ غفر اللّه لی ولجمیع الأصحاب ولصاحب الحدائق قدس سرهم جمیع العثرات والزلاّت والآثام وهو العفو الغفور .

الاستدلال علی حرمة الحفظ بوجوه

اشارة

قد استدلوا علی حرمة الحفظ بوجوه :

الأوّل : الإجماع

ادعی العلامة الحلی قدس سره فی مسألتنا هذه « عدم الخلاف» فی کتابیه المنتهی(4) وتذکرة الفقهاء(5) ، واستفاد منه المحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان الإجماع وقال : « وقد یکون إجماعیّاً أیضاً یفهم من المنتهی»(6) .

ص:15


1- (5) مفتاح الکرامة 4 / 63 _ (12 / 209) .
2- (6) شرح القواعد 1 / 219 .
3- (1) الجواهر 22 / 57 .
4- (2) منتهی المطلب 2 / 1013 کتاب التجارة .
5- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 144 مسألة 649 .
6- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .

وتبعه فی هذا الفهم صاحب الحدائق وقال : « بل ظاهر المنتهی أنّه إجماع»(1) .

وقال جدنا الشیخ جعفر : « ولنفی الخلاف عنه ممّن لا خلاف فی الإعتماد علیه»(2) .

وقال السید الطباطبائی : « مضافاً إلی عدم الخلاف فیها ، بل وعلیه الإجماع عن ظاهر المنتهی»(3) .

وقال النراقی : « علی المعروف من مذهب الإصحاب ، بل بلا خلاف بینهم کما فی المنتهی»(4) .

وقال صاحب الجواهر : « کما صرح به غیر واحد ، بل عن التذکرة والمنتهی نفی الخلاف عنه»(5) .

وقال تلمیذه : « فالظاهر الإجماع علی حرمته مجملاً وهو الحجة»(6) .

وقال الشیخ الأعظم : « ... فلا دلیل علی الحرمة إلاّ أن یثبت إجماع أو یلتزم بإطلاق عنوان معقد نفی الخلاف الذی لا یقصر عن نقل الإجماع»(7) .

یعنی استفاد قدس سره أیضاً من نفی الخلاف ، الاجماع تبعاً للأردبیلی وصاحبی الحدائق والریاض .

واعترض الفقیه الیزدی علی الشیخ الأعظم وعلّق علی کلامه : « نفی الخلاف الذی لا یقصر عن نقل الإجماع» وقال : « یعنی فی خصوص المقام من جهة الضمائم الخارجیة ، وإلاّ فهو فی حدّ نفسه قاصر عنه کما لا یخفی»(8) .

ص:16


1- (5) الحدائق 18 / 141 .
2- (6) شرح القواعد 1 / 217 .
3- (7) ریاض المسائل 8 / 165 .
4- (8) مستند الشیعة 14 / 157 .
5- (9) الجواهر 22 / 56 .
6- (10) برهان الفقه _ کتاب التجارة / 25 .
7- (1) المکاسب المحرمة / 30 _ (1 / 234) .
8- (2) حاشیة المکاسب 1 / 129 .

ویردّ علی الإجماع : أولاً : تحصیل الإجماع ممنوع لوجود المخالف وهو صاحب الحدائق ، قال : « وعندی فی الحکم من أصله توقف لعدم النص ، والتحریم والوجوب ونحوهما أحکام شرعیة یتوقف القول بها علی دلیل شرعی ، ومجرد هذه التعلیلات الشائعة فی کلامهم لا تصلح عندی لتأسیس الأحکام الشرعیة»(1) .

ولکن یمکن أن یجاب عن هذا الإشکال : بأنّ مخالفة المحدث البحرانی قدس سره لا یضرّ بالإجماع علی فرض وجوده ، لأنّ وجه مخالفته واضح علی مسلکه وصرّح به أیضاً فی کلامه « لعدم وجود النص» کما مرّ منه ، ومثل هذه المخالفة لا یضرّ بالإجماع التعبدی علی فرض وجوده کما علیه أساطین الفقه .

وثانیاً : لا یُستفاد من عدم الخلاف الذی ادعاه العلامة ، الإجماع خلافاً للأردبیلی وصاحبی الحدائق والریاض والشیخ الأعظم ، وحتّی فی المقام خلافاً للسید الیزدی فی حاشیة المکاسب ، لأنّ نفی الخلاف یتحقق حتّی مع وجود جماعة قلیلة تعرضوا لحکم المسألة ولکن الإجماع لم یتحقق بذلک ، فبینهما فرق ، ونفی الخلاف أقل من الإجماع بکثیر فی المقام وغیره .

ولذا قال شیخنا الاُستاذ _ مدظله _ : « ما ذکره من دعوی الإجماع واستفادته من نفی الخلاف غیر صحیح ، فإن الإجماع لا یحرز إلاّ فی مسألة تعرض لحکمها معظم الفقهاء أو جمیعهم مع اتفاقهم علی ذلک الحکم ، ونفی الخلاف یکفی فیه اتفاق جماعة قلیلة تعرضوا للمسألة ، فکیف تکون دعوی نفی الخلاف کاشفة عن الإجماع ... »(2) .

وقال بعض أساتیذنا _ مدظله _ فی تعلیقه علی الکلام الذی مرّ من الشیخ الأعظم : « عدم قصور نفی الخلاف عن الإجماع المصطلح ممنوع ، إذ یمکن عدم عنوان المسألة إلاّ من قبل جمع قلیل لا یکشف اتفاقهم وعدم خلافهم عن تلقی المسألة عن المعصومین علیهم السلام »(3) .

وثالثاً : علی فرض وجود الإجماع حتّی المحصَّل منه فی المقام لا یفید شیئاً ، لأنّه من

ص:17


1- (3) الحدائق 18 / 141 .
2- (4) إرشاد الطالب 1 / 142 .
3- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 99 .

المحتمل جداً أن یکون مدرکیّاً کما اعترف بذلک المحققون نحو : السید الخوئی قدس سره (1) والاُستاذان(2) _ مدظلهما _ .

الثانی : حکم العقل

بتقریب : أن العقل حاکم بوجوب قلع وحسم مادة الفساد ، ولا فساد أکبر من الضلالة .

واعترض علیه المحقق الإیروانی بقوله : « العقل لو حکم بذلک لحکم بوجوب قتل الکافر ، بل مطلق مَنْ یضلّ عن سبیل اللّه بعین ذلک الملاک ولحکم أیضاً بوجوب حفظ مال الغیر عن التلف ، لکن حکمه بذلک ممنوع والمتیقّن من حکمه هو حکمه بقبح إلقاء الفساد ، ومصداقه فیما نحن فیه تألیف کتب الضلال ، لا حفظ المؤلَّف منها ، أو عدم التعرّض لإتلافها ، أو إثبات الید علیها»(3) .

أقول : الإعتراض غیر وارد ، لأنّ بعد قبول حکم العقل بقبح إلقاءِ الفساد ، فمن الفساد إلقاء الضلالة والغوایة ، ومن مصادیق إلقاء الضلالة تألیف کتب الضلال لأجل انحراف الناس عن دین اللّه تعالی . وبعد قبول کلّ ذلک فلا فرق بین تألیف کتب الضلال وطبعها ونشرها وبیعها وحفظها عن التلف ، لأنّ کل ذلک یوجب إلقاء الضلالة والغوایة والعقل حاکم بقبح إلقاء الفساد وقلع مادته .

وأمّا نقضه قدس سره : بوجوب قتل الکافر بل مطلق مَن یضلّ عن سبیل اللّه أیضاً فغیر تام ، لأنّ وجود الکافر ومطلق من یضل عن سبیل اللّه لا یوجب ضلالة الآخرین بل هو بنفسه ضالّ . نعم لو کان مضِلاّ یوجب ضلالة الآخرین مع أقواله وأعماله وکتاباته وکلّ ما صدر

عنه ، صار مصداقاً لما یوجب الضلالة ویجری علیه حکمه . فما ذکره المحقق الإیروانی رداً للإستدلال غیر تام .

نعم ، یرد علی هذا الاستدلال ما ذکره المحقق الخوئی من قوله : « إنّ مدرک حکمه (أی

ص:18


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 257 .
2- (3) إرشاد الطالب 1 / 142 ودراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 91 .
3- (4) حاشیة المکاسب 1 / 152 .

حکم العقل) إن کان هو حسن العدل وقبح الظلم _ بدعوی أن قلع مادة الفساد حسن وحفظها ظلم وهتک للشارع _ فیرد علیه : أنّه لا دلیل علی وجوب دفع الظلم فی جمیع الموارد ، وإلاّ لوجب علی اللّه وعلی الأنبیاء والاُوصیاء الممانعة عن الظلم تکویناً ، مع أنّه تعالی هو الذی أقدر الإنسان علی فعل الخیر والشر وهداه السبیل إمّا شاکراً وإمّا کفوراً .

وإن کان مدرک حکمه وجوب الإطاعة وحرمة المعصیة لأمره تعالی بقلع مادة الفساد فلا دلیل علی ذلک إلاّ فی موارد خاصة ، کما فی کسر الأصنام والصلبان وسائر هیاکل العبادة ... .

نعم ، إذا کان الفساد موجباً لوهن الحقِّ وسدّ بابه وإحیاء الباطل وتشیید کلمته وجب دفعه لأهمّیّة حفظ الشریعة المقدسة ، ولکنّه أیضاً وجوب شرعی فی مورد خاص ، فلا یرتبط بحکم العقل بقلع مادة الفساد»(1) .

وتبعه تلمیذه وقال : « حکم العقل غیر مسلَّم وإلاّ لاستقل العقل بإزالة کلِّ ما فیه أو منه الفساد ، کالهجوم علی أهل الکفر والشرک ومحو شوکتهم ومعابدهم وکتبهم ، فإنّهم وما معهم منشأ الفساد علی الأرض ، ولا استقلال للعقل بذلک ، ووجوب الجهاد حکم شرعی تعبدی لا لحکم العقل بلزوم قهر الناس علی الإیمان مع أنّ الدنیا دار إمتحان یکون فیها الخیار بین الهدی والضلال والکفر والإیمان»(2) .

الثالث : قوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ

الثالث : قوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِینٌ»(3) .

قال الشیخ الطوسی فی تفسیر الآیة الشریفة : « قیل فی معناه قولان :

أحدهما : أنّه یشتری کتاباً فیه لهو الحدیث .

الثانی : أنه یشتری لهو الحدیث عن الحدیث .

واللهو : الأخذ فی ما یصرف الهمّ من غیر الحقِّ ... والحدیث : الخبر عن حوادث

ص:19


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 254 و 255 .
2- (2) إرشاد الطالب 1 / 140 .
3- (3) سورة لقمان / 6 .

الزمان . ... وقیل : کلّما کان من الحدیث ملهیاً عن سبیل اللّه الذی اُمر باتباعه إلی ما نهی عنه فهو لهو الحدیث .

وقیل : الآیة نزلت فی النضر بن الحارث بن کلدة ، کان اشتری کتباً فیها أحادیث الفرس من حدیث رستم واسفندیار ، فکان یلهیهم بذلک ویطرف به ، لیصدّ عن سماع القرآن وتدبّر ما فیه .

وقوله : «لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ» أی لیتشاغل بما یلهیه عن سبیل اللّه ... .

وقوله : «وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً» أی یتخذ سبیل اللّه سخریة ، فلا یتبعها ویشغل غیره عن اتباعها ... »(1) .

وفی المطبوع من تفسیر القمی : « فی روایة أبی الجارود عن أبی جعفر علیه السلام فی قوله : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ»: فهو النَّضْر بن الحارث بن عَلْقَمَة بن کَلَدَة من بنی عبد الدار بن قصّی ، وکان النضر راویاً لأحادیث الناس وأشعارهم ، یقول اللّه عزّ وجل : «وَإِذَا تُتْلَی عَلَیْهِ آیَاتُنَا وَلَّی مُسْتَکْبِراً کَأَن لَّمْ یَسْمَعْهَا کَأَنَّ فِی أُذُنَیْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِیمٍ»(2)»(3) .

وقال الطبرسی : « نزل قوله «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ» فی النضر ابن الحرث بن علقمة بن کلدة بن عبد الدار بن قصی بن کلاب ، کان یتّجر فیخرج إلی فارس فیشتری أخبار الأعاجم ویحدّث بها قریشاً ویقول لهم : إنّ محمداً یحدّثکم بحدیث عاد وثمود وأنا اُحدّثکم بحدیث رستم وإسفندیار وأخبار الأکاسرة ، فیستعمون حدیثه ویترکون استماع القرآن ، ... وروی أیضاً عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : هو الطعن فی الحقِّ والإستهزاء به وما کان أبو جهل وأصحابه یجیئون به ، إذ قال : یا معشر قریش ألا اُطعمکم من الزقوم الذی یخوّفکم به صاحبکم ، ثمّ أرسل إلی زبد وتمر فقال : هذا هو الزقوم الذی یخوّفکم به ، ... فعلی هذا یدخل فیه کلّ شیءٍ یلهی عن سبیل اللّه وعن طاعته من الأباطیل والمزامیر والملاهی

ص:20


1- (1) التبیان 8 / 271 و 272 .
2- (2) سورة لقمان / 7 .
3- (3) تفسیر القمی 2 / 161 .

والمعازف ویدخل فیه السخریة بالقرآن واللغو فیه کما قاله أبو مسلم ، والتُرَّهات والبَسابِس(1) علی ما قاله عطا ، وکلّ لهو ولعب علی ما قاله قتادة ، والأحادیث الکاذبة

والأساطیر الملهیة عن القرآن علی ما قاله الکلبی ... »(2) .

هذا ما ذکره أعلام التفسیر فی ذیل الآیة الشریفة وأمّا تقریب الاستدلال بها :

أستفیدت من الآیة الشریفة : حرمة کلّ ما یقع فی طریق الإضلال ، ومنه حفظ کتب الضلال .

وقال المحقق الأردکانی فی تقریب الاستدلال بها : « إنّ الآیة وإن کانت ظاهرة فی ترتب الضلالة فی الفروع علی اشتراء اللهو وهی الإعراض عن طاعة اللّه عزّ وجل والإقدام علی المعاصی البدنیة الناشئة من تهییج القوی الشهویة الحاصل من الملهیات ، والمدعی أعم منها ومن الضلالة فی الاُصول ، إلاّ أنّه یتمّ المدعی بالأولویة القطعیة وعدم القول بالفصل . ویمکن أن یقال : إن العبرة بإطلاق العلة وقضیته مبغوضیّة کلّما یوجب الضلالة کان فی الاُصول أو فی الفروع ، ومن مصادیقه کتب الضلال ، فالعلّة هنا معمِّمة ولا اعتبار بخصوصیة المورد ، ویلزم من مبغوضیة وجود ما یوجب الضلالة وجوب إتلافه»(3) .

وفیه : أن ما ذکره هذا المحقق الجلیل قدس سره من ادعاء ظهور الآیة الشریفة فی ترتب الضلالة فی الفروع ثم عمّم الحکم فی الاُصول بالأولویة القطعیة وعدم القول بالفصل ، غیر تام لأنّ ظهور الآیة الشریفة مع مراجعة شأن نزولها إمّا ظاهر بترتب الضلالة فی الاُصول فقط أو الأعم من الاُصول والفروع ، والثانی یؤیَّد بمراجعة الروایات الواردة فی ذیل الآیة الشریفة المفسرة بالغناء .

فلا نحتاج إلی ظهور الآیة الشریفة فی ترتب الضلالة فی الاُصول إلی ما ذکره قدس سره من الأولویة القطعیة وعدم القول بالفصل وإن کان کلاهما موجودین . نعنی اننا نستشکل علیه ادعاء ظهوره ، وعلیه لا ندری کیف یردّ بیانه . هذا ما ذکره المحقق الإیروانی من الإشکال

ص:21


1- (4) الترهات البسابس : الأباطیل والکذب .
2- (1) مجمع البیان 7 / 313 .
3- (2) غنیة الطالب 1 / 123 .

الآتی ؟ !

ثم یردّ علی الاستدلال بالآیة الشریفة :

أولاً : قال الإیروانی : « الظاهر أنّ المراد بالإشتراء هو التعاطی ، وهو کنایة عن التحدث ، به وهذا داخل فی إلاضلال عن سبیل اللّه بسبب التحدّث بلهو الحدیث ، ولا إشکال فی حرمة الإضلال ، وذلک غیر ما نحن فیه من إعدام ما یوجب الإضلال»(1) .

وثانیاً : قال الخوئی : « ... إذا سلمنا ذلک فالمستفاد من الآیة حرمة اشتراء کتب الضلال ، ولا دلالة فیها علی حرمة إبقائها وحفظها بعد الشراء ، کما أن التصویر حرام وأمّا اقتناؤه فلیس بحرام ، والزنا حرام وتربیة أولاد الزنا لیس بحرام ... »(2) .

وثالثاً : ما ذکره شیخنا الأستاذ _ مدظله _ : « علی تقدیر کون المراد بالإشتراء ما یعم مطلق الأخذ والإقتناء ، فلا تکون فی الآیة دلالة علی الحرمة فیما إذا لم یکن غرضه إضلال الناس ومیلهم عن الهدایة ، کما إذا جعل الکتاب المزبور فی مکتبته حتّی یکون فیها من کلّ باب کتاب»(3) .

الرابع : قوله تعالی : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»

(4) .

بتقریب : أن الشیخ الطوسی قال فی تفسیر الآیة : « یعنی الکذب ، وروی أصحابنا أنّه یدخل فیه الغناء وسائر الأقوال الملهیة بغیر حق»(5) .

الآیة الشریفة أمرت باجتناب قول الزور ، والمراد به الکذب والباطل ، والعرف لا یری فرقاً بین الکذب والباطل وقول الزور إذا کان مقولاً بالقول أو مکتوباً بالقلم ، وحکمت بأنّ کلاهما قول الزور ویجب الاجتناب عنه . فتدخل کتب الضلال فی قول الزور الذی اُمرنا بالاجتناب عنه .

ص:22


1- (3) حاشیة المکاسب 1 / 152 .
2- (1) مصباح الفقاهة 1 / 255 .
3- (2) إرشاد الطالب 1 / 140 .
4- (3) سورة الحج / 30 .
5- (4) التبیان 7 / 313 .

ولذا قال صاحب الجواهر : « بل قد یُستفاد حرمته أیضاً ممّا دل علی وجوب اجتناب قول الزور ولهو الحدیث والکذب والافتراء علی اللّه ... »(1) .

وقال الشیخ الأعظم فی الاستدلال علی حرمة حفظ کتب الضلال : « ... والأمر بالاجتناب عن قول الزور ... »(2) .

وقال المحقق التقی الشیرازی : « وحاصله : أنّ المستفاد من أمثال تلک العبارات الاجتناب عن مطلق ما یدلّ علی الباطل قولاً کان أو کتابة ، وکذا حجیة کلّ صادر من العادل ممّا یحکی عن الواقع قولاً کان أو فعلاً»(3) .

وقال السید الیزدی : « ... یمکن دعوی شمول الآیة وعمومها ، فإنّ مقتضی إطلاق الاجتناب عن قول الزور الاجتناب عنه بجمیع الأنحاء ، الذی منها ما نحن فیه ، فتأمل»(4) .

وفیه : أنه یُستفاد من الآیة الشریفة الاجتناب من قول الزور ، یعنی عدم إیجاد الکذب والإفتراء والباطل بالقول والتکلّم والحدیث ، وغایة الأمر أن تدخل الکتابة بهذه الاُمور تحت الآیة الشریفة ، ومع ذلک لا تدلّ علی لزوم إتلاف القول أو التکلّم والکتابة إذا کان لهما البقاء ، نحو ضبطهما فی الأشرطة والکتاب .

وبالجملة ، حرمة الإیجاد لا تدلّ علی وجوب الإتلاف إذا کان للشیءٍ بقاءٌ ، کما أنّ حرمة إیجاد التصویر لا تدلّ علی لزوم فناء الصورة وحرمة اقتنائها .

والحاصل : وجوب إتلاف کتب الضلال لم یُستفد من الآیة الشریفة .

الخامس : روایة تحف العقول

فقرات من روایة تحف العقول تدلّ علی حرمة حفظ کتب الضلال :

منها : قوله علیه السلام : « ... فهذا کلّه حرام ومحرَّم لأن ذلک کلّه منهی عن ... والتقلب فیه بوجهٍ من الوجوه لما فیه من الفساد فجمیع تقلّبه فی ذلک حرام ، وکذلک بیع ملهوٍّ به وکل منهیٍّ

ص:23


1- (5) الجواهر 22 / 56 .
2- (6) المکاسب المحرمة / 29 _ (1 / 233) .
3- (7) حاشیة المکاسب 1 / 72 .
4- (1) حاشیة المکاسب 1 / 128 .

عنه ممّا یتقرَّب به لغیر اللّه ، أو یقوی به باب من أبواب الضلالة أو باب من أبواب الباطل أو باب یوهن به الحقّ فهو حرام محرّم ، حرام بیعه وشراؤُهُ وإمساکه ومِلْکُهُ وهبته وعاریته وجمیع التقلب فیه ، إلاّ فی حال تدعو الضرورة فیه إلی ذلک»(1) .

ومنها : قوله علیه السلام : « إنّما حرم اللّه الصناعة التی حرام هی کلّها التی یجیءُ منها الفساد محضاً ، نظیر البرابط والمزامیر والشطرنج وکلّ ملهوٍّ به والصلبان والأصنام وما أشبه ذلک ... »(2) .

بتقریب : أن من الواضح أن کتب الضلال ممّا یقوی به الضلالة و ممّا یتقرَّب به لغیر اللّه ومن أبواب الباطل وممّا یوجب وهن الحقّ ، فهو حرام محرَّم جمیع التقلب فیه ، ومن التقلب فیه حفظها وعدم إتلافها وإمساکها .

وهکذا لا یترتب علی کتب الضلال إلاّ الضلالة والفساد ، ولا یجیئ منها إلاّ الفساد محضاً « فحرام تعلیمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الأجرة علیه وجمیع التقلب فیه من جمیع وجوه

الحرکات کلّها»(3) ، فحفظ کتب الضلال وعدم إتلافها حرامٌ .

وفیه : أولاً : قد مرّ منّا فی أوّل الکتاب إرسال الروایة واضطرابها ، بل عدم ثبوت کونها روایة .

وثانیاً : حرمة الصناعة لا تلازم وجوب إتلاف المصنوع ، کما فی حرمة التصویر وجواز إبقائها .

وثالثاً : بین حفظ کتب الضلال وتقویة الکفر وإهانة الحقّ عموم من وجه ، إذ قد لا یترتب علیه تقویة الکفر وإهانة الحقّ کما هو واضح .

ورابعاً : الحفظ لا یصدق علیه عنوان التقلّب ، لاسیما إذا کان غرض الحافظ عدم وقوع کتب الضلال فی أیدی الناس حتّی توجب ضلالتهم .

وخامساً : « لا تعمّ الروایة ما إذا کانت فی استنساخ کتب الضلال واقتنائها مصلحة

ص:24


1- (2) تحف العقول / 333 .
2- (3) تحف العقول / 335 .
3- (1) اقتباس من روایة تحف العقول / 336 .

مباحة غیر نادرة» کما ذکره شیخنا الأستاذ _ مدظله _(1) .

وأمّا إشکال المحقق الإیروانی قدس سره علی الاستدلال بالروایة بأنّ موردها هی الصنعة(2) غیر تام .

لأنّ مورد الفقرة المذکورة الثانیة هی الصناعة ، وأمّا مورد الفقرة الأولی فلیست بالصناعة ، بل موردها التجارات بالمعنی الأعم .

السادس : حسنة أو صحیحة عبد الملک بن أعین

صحیحة عبد الملک بن أعین الماضیة فی بحث النجوم ، قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّی قد ابتلیت بهذا العلم فاُرید الحاجة ، فإذا نظرتُ إلی الطالع ورأیتُ الطالع الشر جلستُ ولم أذهب فیها ، وإذا رأیت الطالع الخیر ذهبت فی الحاجة ، فقال لی : تقضی ؟ قلت : نعم ، قال : أحرق کتبک(3) .

بتقریب : أن أمر الإمام علیه السلام بإحراق کتبه فی علم النجوم مع القضاء علی طبقها ، وکتب الضلال لا تقلّ من کتب النجوم إفساداً ، فإذا وجب إحراق کتب النجوم وإتلافها ، یجری الحکم فی کتب الضلال بطریق أولی ، فوجب إتلافها وحرم حفظها .

وفیه : أولاً : لم یأمر الإمام علیه السلام بإحراق کتب النجوم مطلقاً ، بل استفسر من عبد الملک أنّه یقضی ؟ فقال : نعم ، ثم أمر الإمام علیه السلام بالإحراق ، وقد سبق فی بحث النجوم فی ذیل الروایة أنّ أمر معاش عبد الملک إختل بجهة هذه الکتب والإعتماد علیها ، ولذا أمر علیه السلام بالإحراق لأجل نجاته من هذا الإختلال . فالروایة لاتدلّ علی لزوم إحراق مطلق کتب النجوم حتّی یتعدی المستدِل منها إلی کتب الضلال .

وثانیاً : لو سلمنا وذهبنا إلی التعدی من کتب النجوم إلی کتب الضلال وقلنا أنّ کتب النجوم من إحدی مصادیق کتب الضلال ، مع ذلک لا یمکن القول بوجوب إتلاف کتب الضلال مطلقاً وحرمة حفظها کذلک ، لأنّ الإمام علیه السلام فصّل بین القضاء وعدمه ، والتفصیل قاطع

ص:25


1- (2) إرشاد الطالب 1 / 141 .
2- (3) حاشیة المکاسب 1 / 153 .
3- (4) الفقیه 2 / 267 ح 2402 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 11 / 370 ح 1 .

للشرکة ، وهو جواز الحفظ مع عدم الحکم .

السابع : صحیحة أبی عبیدة الحذَّاء

نقل الکلینی عن علی بن إبراهیم عن أحمد بن محمد البرقی عن محمد بن عبد الحمید عن العلاء بن رزین عن أبی عبیدة الحذّاء عن أبی جعفر علیه السلام قال : من علّم باب هدی فله مثل أجر من عمل به ولا ینقص أولئک من اُجورهم شیئاً ، ومن علّم باب ضلال کان علیه مثل أوزار مَنْ عمل به ولا ینقص أولئک من أوزارهم شیئاً(1) .

بتقریب : أن سند الروایة کما تری صحیح ، وهی تدلّ علی حرمة تعلیم وتعلّم الضلال ، ولم یحرم هذا التعلیم والتعلّم إلاّ من جهة أنّهما یوجبان الضلال ، فکلّ أمر یوجب الضلال فهو حرام ، ومنها حفظ کتب الضلال ، فصار حراماً .

وقد استدل علی الحرمة بهذه الروایة الفاضل النراقی فی المستند(2) من دون البحث فی السند سندها وتقریب الاستدلال .

وفیه : الصحیحة دالة علی حرمة تعلیم وتعلّم الضلال وعلی المعلّم أوزار المتعلّمین من دون نقص من أوزارهم ، ولکن لا تدلّ علی وجوب إتلاف کلّ شیءٍ یوجب الضلال ، وإلاّ لزم القول بوجوب إتلاف معلّم الضلال أیضاً ولم یقل به أحد . فالصحیحة لا تدلّ علی حرمة حفظ کتب الضلال .

الثامن : حرمة الإعانة علی الإثم

الضلال وما یوجبه إثمٌ وحفظ کتب الضلال حیث یوجب الضلالة نوع إعانة علی

الإثم ، وحرمة الإعانة علی الإثم واضح ، فحفظ کتب الضلال بما أنّه إعانة علی الإثم حرام . ذهب إلی هذا الاستدلال السید العاملی وقال : « ... إن فی ذلک نوع إعانة علی الإثم ... »(3) .

وفیه : أولاً : قد مر منّا عدم حرمة کلّ إعانة علی الإثم ، وما هو الحرام لیس إلاّ التعاون علی الإثم .

ص:26


1- (1) الکافی 1 / 35 ح 4 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 16 / 173 ح 2 _ الباب 16 من أبواب الأمر والنهی .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 157 .
3- (1) مفتاح الکرامة 4 / 62 _ (12 / 207) .

وثانیاً : لو سلّمنا حرمة الإعانة علی الإثم ، الدلیل أخص من المدعی ، لأنّ حفظها لا یلازم الضلال دائماً کما هو واضح ، فبهذه القاعدة لا یمکننا الحکم بحرمة الحفظ مطلقاً ، کما قال الفاضل النراقی : « والتمسک بحرمة المعاونة علی الإثم غیر مطّرد»(1) .

التاسع : أنّها مشتملة علی البدعة

کتب الضلال مشتملة علی البدعة ویجب دفعها من باب النهی عن المنکر ، کما ذهب إلی هذا الاستدلال المحقق الأردبیلی(2) وتبعه السید العاملی(3) .

وفیه : أولاً : نهی المنکر واجب ، ولکن وجوب دفعه أیضاً ، محل تأمل بل منع کما مرّ منّا سابقاً .

وثانیاً : علی فرض وجوب دفع المنکر « أنّ المراد بالمنکر فی المقام هو الفعل المحرَّم الذی یصدر من الشخص ، لا الأباطیل والأکاذیب المکتوبة فی الکتب ، فلا دلیل علی وجوب إتلافها» کما قاله بعض أساتیذنا _ مدظله _(4) .

العاشر : کتب الضلال لیست بأقل ضرراً من هیاکل العبادة

کتب الضلال لیست بأقل ضرراً من هیاکل العبادة المبتدعة ، فکما یجب إتلافها یجب اتلاف کتب الضلال أیضاً ویحرم حفظها .

قال فی الجواهر : « بل هی أولی حینئذ (یعنی حین ترتب الفساد) بالحرمة من هیاکل العبادة المبتدعة»(5) .

ومال إلی هذا الاستدلال أیضاً الفقیه الیزدی فی تعلیقته علی المکاسب(6) .

وفیه : أن هیاکل العبادة ووجوب إتلافها مورداً للنصوص ، وهی فی حقِّ کتب

ص:27


1- (2) مستند الشیعة 14 / 157 .
2- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .
3- (4) مفتاح الکرامة 4 / 62 _ (12 / 207) .
4- (5) دراسات فی المکاسب المحرّمة 3 / 98 .
5- (6) الجواهر 22 / 56 .
6- (7) راجع حاشیة المکاسب 1 / 128 .

الضلال مفقودة کما اعترف بذلک صاحب الحدائق وقال : « وعندی فی الحکم من أصله توقف لعدم النص»(1) ، فقیاسها بها مع الفارق .

نعم ، إذا ترتب الضلال فعلاً علیها یجب إتلافها بحکم العقل والشرع ، ولکن هذا غیر حرمة حفظها مطلقاً .

تلک عشرة کاملة من الأدلة علی حرمة حفظ کتب الضلال ووجوب إتلافها ، وأنت تری عدم تمامیتها ، ومع ذلک نقول : إذا ترتب الضلال والغوایة فعلاً علیها وجب إتلافها ، وهکذا إذا کانت فی مَعْرض هذا الترتب ، وهذا بحکم العقل والشرع الناهیان عن الضلال والفساد کما مرّ منّا آنفاً . وهذا الحکم هو المشهور بین الأصحاب ، بل ادعی علیه الإجماع ، ولذا قال السید العاملی فی ثبوت هذا الحکم : « فلا تصغْ إلی ما بَرْقَشَهُ(2) بعضُ متأخری المتأخرین من الخرافات وأورده من التُرَّهات»(3) .

والحاصل ، وجوب إتلاف کتب الضلال وحرمة حفظها مطلقاً ممّا لا دلیل علیه ، إلاّ إذا کان ترتب الضلال علیها فعلیّاً أو کان فی معرض ترتب الضلال ، واللّه العالم .

موارد الإستثناء علی القول بوجوب الاتلاف مطلقاً

القائلون بحرمة الحفظ ووجوب الإتلاف قد ذکروا موارد یستثنون الحکم فیها ، ولکن علی ما سلکناه من عدم الإطلاق فی وجوب الإتلاف وحرمة الحفظ ، هذه الموارد علی طبق القاعدة ، ونفس وجود هذه الموارد دلیل علی عدم إطلاق فی المقام ، وأمّا موارد الاستثناء :

استثنی ابن إدریس الحلی من حرمة حفظ کتب الضلال مورداً ، وهو : « من غیر نقض لها»(4) .

ص:28


1- (1) الحدائق 18 / 141 .
2- (2) برقشه فی الکلام : خلط .
3- (3) مفتاح الکرامة 4 / 62 _ (12 / 207) .
4- (4) السرائر 2 / 218 .

وأضاف العلاّمة أمراً آخراً فصار أمرین : « 1 _ لغیر النقض 2 _ أو الحجة»(1) .

وقال ثانی الشهیدین توضیحاً : « لمن له أهلیتها لا مطلقاً خوفاً علی ضعفاء البصیرة

من الشبهة»(2) .

وقال المحقق الثانی فی تعلیقه علی کلام العلامة : « أی : نقض مسائل الضلال ، أو الحجة علی مسائل الحقّ من کتب الضلال ، وظاهره حصر جواز الحفظ والنسخ فی الأمرین ، والحقّ أنّ فوائده کثیرة ، فلو اُرید نقل المسائل أو الفروع الزائدة أو معرفة بعض اُصول المسائل أو الدلائل ونحو ذلک جاز الحفظ و النسخ أیضاً ، لمن له أهلیة النقض لا مطلقاً ، لأنّ ضعفاء البصیرة لا یؤمَنُ علیهم خلل الإعتقاد»(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « ... وکذا بیعها وسائر التکسب بها ، علی أنّه یجوز کلّه للأغراض الصحیحة ، بل قد یجب کالتقیة والنقض والحجة واستنباط الفروع ونقل أدلّتها إلی کتبنا وتحصیل القوة وملکة البحث لأهلها»(4) .

وقال جدنا الشیخ الأکبر الشیخ جعفر کاشف الغطاء فی شرحه علی کلام العلامة : « وأمّا لهما (أی للنقض بها أو الحجة علی أهلها) فربّما وجب ، إذ الجهاد بالأقلام أعظم نفعاً من الجهاد بالسهام ، وإتلاف بعض آحادها لا یقضی برفع فسادها ، والإبطلال لکلّها إنّما یتحقق بإبطالها من أصلها ، وحیث أن مقصد الشرع فیها الإبطال کان الأقوی فی حصوله الردّ بطریق الاستدلال»(5) .

وقال السید الطباطبائی : « لغیر النقض لها والحجة علی أربابها بما اشتملت علیه ممّا یصلح دلیلاً لإثبات الحق أو نقض الباطل لمن کان من أهلهما ، ویلحق به الحفظ للتقیة أو

ص:29


1- (5) تذکرة الفقهاء 12 / 143 _ تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 _ منتهی المطلب 2 / 1013 قواعد الأحکام 2 / 8 .
2- (1) مسالک الأفهام 3 / 127 .
3- (2) جامع المقاصد 4 / 26 .
4- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 76 .
5- (4) شرح القواعد 1 / 217 .

لغرض الاطلاع علی المذاهب والآراء لیکون علی بصیرة فی تمییز الصحیح عن الفاسد ، أو لغرض الإعانة علی التحقیق ، أو تحصیل ملکة للبحث والاطلاع علی الطرق الفاسدة لیتحرّز عنها ، أو غیر ذلک من الأغراض الصحیحة کما ذکره جماعة ، وینبغی تقییده بشرط الأمن علی نفسه من المیل إلی الباطل بسببها ، وأمّا بدونه فمشکل مطلقاً ، لاحتمال الضرر الواجب الدفع عن النفس ولو من باب المقدمة إجماعاً»(1) .

وقال الفاضل النراقی بعد استثناء التقیة والموردین : « وفاقاً لصریح المشهور ، لما رواه

الشیخ الحر فی الفصول المهمة عن الصادق علیه السلام : « أنَّ کل شیءٍ یکون لهم فیه الصلاح من جهة من الجهات فهذا کلّه حلال بیعه وشراؤه وإمساکه واستعماله وهبته وعاریته »(2) . ومقتضی ذلک وإن کان استثناء کلّ ما إذا ترتب علیه مقصد صحیح ، کتحصیل البصیرة بالاطلاع علی الآراء والمذاهب وتمییز الصحیح من الفاسد والاستعانة علی التحقیق وتحصیل ملکة البحث و النظر وغیر ذلک _ کما ذکره المحقق الثانی وصاحب الکفایة(3) _ إلاّ أن ضعف الروایة وعدم انجبارها إلاّ فی النقض والاحتجاج یمنع من استثناء غیرهما»(4) .

أقول : وأنت تری أن النراقی حصر الاستثناء فی الموردین المشهورین ، وفیه ما لا یخفی علی أهله .

وتبعه صاحب الجواهر وقال : « ... ومنه یظهر الوجه فی استثناء النقض ، لأنه إتلاف لکلّها الذی هو اُولی من إتلاف آحادها الغیر المقتضی لرفع فسادها بخلاف ردّها بطریق الاستدلال ، وأمّا الحجة علی أهلها فإن رجع إلی ذلک وإلاّ کان استثناؤه لا یخلو من إشکال ... »(5) .

ص:30


1- (5) ریاض المسائل 8 / 164 .
2- (1) تحف العقول / 333 .
3- (2) الکفایة / 86 من الطبع الحجری (1 / 436 و 435 من طبعة جماعة المدرسین) .
4- (3) مستند الشیعة 14 / 157 و 158 .
5- (4) الجواهر 22 / 57 .

أقول : لا أدری کیف فرّق قدس سره بین النقض والرد بطریق الاستدلال ؟ وهکذا الحجة علی أهلها إن لم یرجع إلی النقض ، فکیف صار استثناؤه لا یخلو من إشکال ؟ مع تعرض مشهور الأصحاب لهذه الاستثناء .

وبالجملة ، لا ینحصر الاستثناء بالموردین المشهورین ، بل یمکن التعدی إلی غیرهما من المنافع والفوائد ، وقد مرّ منّا فی ضمن نقل کلمات الأصحاب بعضها ، ونفس وجود هذه المستثنیات دال علی أنّ الحکم بوجوب إتلاف کتب الضلال أو حرمة حفظها لیس بمطلق بل ینحصر بموارد خاصة ، کما مرّ منّا فی أوّل هذا البحث ، أعنی فی صورة ترتب الإضلال ، خارجاً أو فقل : غایة الأمر فی صورة معرضیتها لترتب الإضلال .

تنبیه : لا یخلو من فائدة

قال الفقیه الیزدی : « مقتضی الوجوه المذکورة وجوب تفویت جمیع ما یکون موجباً

للضلال ولا خصوصیة للکتب فی ذلک ، فیحرم حفظ غیرها أیضاً مما من شأنه الإضلال کالمزار و المقبرة والمدرسة ونحو ذلک ، فکان الأولی تعمیم العنوان ، ولعلّ غرضهم المثال ، لکون الکتب من الأفراد الغالبة لهذا العنوان . نعم یمکن الاستدلال علی الخصوصیة بروایة الحذّاء : من علّم باب ضلال کان علیه مثل وزر من عمل به ، فتأمل»(1) .

وتبعه المحقق الأردکانی وقال : « ویمکن أن یقال : إنّ العبرة بإطلاق العلّة وقضیته مبغوضیة کلّما یوجب الضلالة کان فی الاُصول أو الفروع ، ومن مصادیقه : کتب الضلال ، فالعلّة هنا معمّمة ولا اعتبار بخصوصیة المورد ، ویلزم من مبغوضیة وجود ما یوجب الضلالة وجوب إتلافه»(2) .

أقول : الأدلة لو تمت تقتضی ما ذکره المحققان ، ولکنّها لم تتم . وأمّا روایة الحذاء لا تقدر علی التخصیص لو تم التعمیم ، ولعلّ أمره بالتأمل إشارة إلیه . ومع ذلک کلِّه یمکن أن

ص:31


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 127 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 123 .

یقال : إذا ترتب علی وجود شیءٍ إضلال الناس فعلاً وتوقّف منع إضلالهم خارجاً علی إتلاف الشیء ، وجب إتلافه لمنعهم من الضلال وإرشادهم إلی الهدایة ، والحمد للّه رب العالمین .

ص:32

حرمة حلق اللحیة

اشارة

لم یتعرض الشیخ الأعظم قدس سره لمسألتنا هذه ، مع أنّها من المسائل المبتلی بها فی عصرنا الحاضر وقد یکتسب بها ، فإن ذهبنا إلی حرمة حلقها فالاکتساب بها أیضاً حرام فلذا تصدینا للبحث عنها بإذن اللّه تعالی وعونه ، ونقول :

لم یتعرض القدماء من أصحابنا لهذه المسألة فی کتبهم ، ولعل سرّ عدم تعرضهم لذلک أنّ المنع عندهم واضح وسیرة المتشرعة أیضاً کانت علی وجود اللحی وعدم حلقها ، ولذا لم یحتاجوا إلی ذکر المسألة والبحث حولها .

وأمّا متأخر المتأخرین من أصحابنا فابتلوا بها ، ولذا بحثوا عنها وکتبوا حولها رسائل مستقلة(1) وأفتی المشهور منهم بالحرمة بل کاد أن یکون إجماعاً . ونذکر هنا بعض کلماتهم لتکون علی بصیرة من الأمر :

الأقوال فیها :

1 _ قال یحیی بن سعید الحلی : « ویکره القَزَع ، وقال صلی الله علیه و آله وسلم : أعفوا اللحی وحفوا الشوارب ، وینبغی أن یؤخذ من اللحیة ما جاوز القبضة ، ویکره نتف الشیب ، وکان علی علیه السلام لا یری بأساً بجزه»(2) .

القَزَع : جمع قزعة : أخذ بعض الشعر وترک بعضه .

ودلالة کلام ابن سعید قدس سره علی الحرمة غیر واضحة .

ص:33


1- (1) قد عدّ العلامة الشیخ رضا الأستادی _ دامت برکاته _ أکثر من أربعین رسالة مستقلة فی هذا الموضوع ، فراجع إلی رسالته بالفارسیة فی هذا المجال المسماة ب_ « تحقیقی در یک مسأله فقهی (ریش تراشی) » المطبوع ضمن « ده رساله» / 251 طبع جماعة المدرسین بقم المقدسة 1380 ه_ . ش .
2- (2) الجامع للشرائع / 30 .

2 _ قال العلامة : « وقال علیه السلام : حفّوا الشوارب واعفوا اللحی ولا تشبّهوا بالیهود . ونظر صلی الله علیه و آله وسلم إلی رجل طویل اللحیة فقال : ما کان علی هذا لوهیّأ من لحیته ، فبلغ الرجل ذلک فهیّأ لحیته بین اللحیین ، ثم دخل علی النبی صلی الله علیه و آله وسلم فلمّا رآه قال : هکذا فافعلوا» .

وقال علیه السلام : إنّ المجوس جزّوا لحاهم ووفّروا شواربهم ، وأمّا نحن نجزّ الشوارب ونعفی اللحی ، وهی الفطرة ... »(1) .

3 _ وقد أفتی بالحرمة ولده فخر المحققین فی حواشیه الفخریة علی قواعد والده العلامة ، کما نقل عنه الشیخ البلاغی فی رسالته(2) .

4 _ قال الشهید الأوّل : « لا یجوز له (أی للخنثی) حلق لحیته ، لجواز رجولیته»(3) .

وهذا الکلام ظاهر فی حرمة حلق اللحیة للرجال .

5 _ وتبعه الفاضل المقداد وقال أیضاً : « ... ولا یجوز له (أی للخنثی) حلق لحیته ، لجواز رجولیته ... »(4) .

6 _ قال الشیخ البهائی قدس سره فی رسالته الإعتقادیة : « ونقول بتحریم الربا والرشوة والسحر والقمار وحلق اللحیة وأکل السمک الذی لا فلس له ... »(5) .

واستفاد العلامة الشیخ جواد البلاغی من هذا البیان الإجماع علی الحرمة(6) .

7 _ وقال السید الداماد فی رسالة شارع النجاة ما معرّبه : « لا یجوز حلق اللحیة وأنّه

ص:34


1- (1) تذکرة الفقهاء 2 / 253 .
2- (2) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 155 .
3- (3) القواعد والفوائد 1 / 231 .
4- (4) نضد القواعد الفقهیة / 164 .
5- (5) الاعتقادیة / 8 ، والمطبوعة فی ضمن نصوص ورسائل من تراث اصفهان العلمی الخالد 4 / 118 بتحقیق المحقق القدیر جویا جها نبخش - حفظه اللّه تعالی - .
6- (6) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 155 المطبوعة ضمن الرسائل الأربعة عشرة للشیخ رضا الأستادی دامت برکاته .

حرام»(1) .

8 _ وقال الفیض الکاشانی فی عدّ المعاصی : « وحلق اللحیة ، لأنّه خلاف السنة التی هی إعفاؤها ولمسخ طائفة بسببه ... »(2) .

9 _ وقال الفیض فی کتابه منهاج النجاة : « ... ومن المعاصی ترک الواجبات وإتیان البدع والقعود فی المسجد جنباً أو حائضاً ... وحلق اللحیة وهجاء المؤمنین وإیذاؤهم»(3) .

10 _ وقال أیضاً فی الوافی : « ... وقد مضی فی کتاب الحجة حدیث عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّ أقواماً حلقوا اللحی وفتلوا الشوارب فمسخوا ، وقد أفتی جماعة من فقهائنا بتحریم حلق اللحیة ، وربما یستشهد لهم بقوله سبحانه حکایةً عن إبلیس اللعین : «. . . وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ . . .»(4)(5) .

أقول : الحدیث المذکور هو خبر حبابة الوالبیة المروی فی الکافی 1 / 346 ح 4 ، ویأتی البحث حوله إن شاء اللّه تعالی ، فانتظر .

11 _ قال المحدث البحرانی : « الظاهر - کما استظهره جملة من الأصحاب کما عرفت - تحریم حلق اللحیة ، لخبر المسخ المروی عن أمیر المؤمنین علیه السلام ، فإنّه لا یقع إلاّ علی ارتکاب أمر محرَّم بالغ فی التحریم ، وأمّا الاستدلال بآیة «وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ» ، ففیه : أنّه قد ورد عنهم علیهم السلام : أنّ المراد دین اللّه ، فیشکل الإستدلال بها علی ذلک وإن کان ظاهر اللفظ یساعده»(6) .

12 _ وقال المجلسی الأوّل : « ... ورد فی الکافی مع حکم الکلینی بصحة أخباره عن

ص:35


1- (7) شارع النجاة / 103 المطبوع ضمن إثنی عشر رسالة السید الداماد . طبعت بإهتمام المرحوم السید جمال الدین المیردامادی قدس سره .
2- (8) مفاتیح الشرائع 2 / 20 .
3- (9) منهاج النجاة / 70 .
4- (1) سورة النساء / 119 .
5- (2) الوافی 6 / 658 .
6- (3) الحدائق 5 / 561 .

أمیر المؤمنین سلام اللّه علیه ، أنّ أقواماً حلقوا اللحی وفتلوا الشوارب فمسخوا ، ویظهر من الأوامر بإعفاء اللحی وهذا الخبر ، ومن أنّه زیّ الیهود وجزّه زیّ المجوس ، الحرمة ، ولم یذکره فیما رأینا منهم غیر الشهید رحمه الله ، فإنّه ذکر حرمة الحلق بلا ذکر خلاف ، والمسموع من المشایخ أیضاً حرمته . ویؤیده أنّه لم ینقل تجویزه من النبی والأئمة صلوات اللّه علیهم ، ولو کان جائزاً لفعلوه مرّة لبیان الجواز کما فی کثیر من المکروهات ، أو وقع منهم الرخصة لأحدٍ ، مع أنّه معلوم منهم متواتراً بل من أصحابهم المداومة وإعفاء اللحیة . والحاصل أنّ الإحتیاط فی الدین ترک حلق اللحیة ، بل الشارب وترک جز اللحیة کالحلق ، فإنّهما کالضروریات من الدین ، بل ترک إطالة الشوارب وفتلهما أیضاً ، وترک إطالة اللحیة زیادةً عن القبضة ، فإنّه ورد فی الأخبار الکثیرة أنّ الزائد عن القبضة فی النار ، وأنّه تقبض بیدک اللحیة وتجزّ ما فضل ... »(1) .

أقول : فی هذا المجال أیضاً راجع إلی شرحه علی الفقیه باللغة الفارسیة(2) .

13 _ وقال ولده العلامة المجلسی فی ذیل الروایة : « واستدل به علی حرمة حلق اللحیة بل تطویل الشارب ، ویرد علیه أنَّه إنّما یدلّ علی حرمتهما أو أحدهما فی شرع مَنْ قبلنا لا فی شرعنا .

فان قیل : ذکره علیه السلام ذلک فی مقام الذمّ یدلّ علی حرمتهما فی هذه الشریعة أیضاً .

قلنا : لیس الإمام علیه السلام فی مقام ذمّ هذین الفعلین ، بل فی مقام ذمّ بیع المسوخ بهذا السببّ ،کما أنّ مسوخ بنی إسرائیل مسخوا لِصید السّبت ، وذکرهم هنا لا یدلّ علی تحریمه . نعم یدلّ بعض الأخبار علی التحریم ، وفی سندها أو دلالتها کلام لیس هذا المقام محلّ إیراده»(3) .

14 _ وقد أفتی بالتحریم الشیخ علی سبط الشهید الثانی فی کتابه « الدر المنثور»(4) .

15 _ وذهب الشیخ الحر العاملی فی کتابه « هدایة الاُمّة» إلی عدم جواز حلق

ص:36


1- (4) روضة المتقین 1 / 333 .
2- (5) لوامع الصاحبقرانی 1 / 242 .
3- (1) مرآة العقول 4 / 79 .
4- (2) الدر المنثور 2 / 291 .

اللحیة(1) .

16 _ وقال السید عبد اللّه شبّر : « من المعاصی المنصَوص علیها ترک الواجبات ... وحلق اللحیة لأنّه خلاف السنة التی هی إعفاؤها ولمسخ طائفة بسببه»(2) .

17 _ قال جدنا الفقیه الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره : « خامسها : تخفیف اللحیة وتدویرها والأخذ من العارضین وتبطین اللحیة وقصّ ما زاد عن القبضة من اللحیة ، فإن مازاد عن القبضة فی النار ، وعن الصادق علیه السلام : یعتبر عقل الرجل فی ثلاث فی طول لحیته ونقش خاتمه وفی کنیته(3) . ویحرم حلقها ، ویستحب توفیرها قدر قبضته من ید صاحبها مع استواءِها واستوائه ، وإلاّ اعتبر المقدار ممّا لا یلائم خلقته»(4) .

18 _ قال صاحب الجواهر فی شرح قول المحقق : « (ولیس علی النساء حلق) : لا تعییناً ولا تخییراً ، بلا خلاف أجده بل عن التحریر والمنتهی الإجماع علیه ، وهو الحجة بعد قول النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی وصیته لعلی علیه السلام : لیس علی النساء جمعة _ إلی أن قال _ : ولا استلام الحجر ولا الحلق ، والصادق علیه السلام فی صحیح الحلبی : لیس علی النساء حلق ویجزیهنَّ التقصیر ، بل یحرم علیهنّ ذلک ، بلا خلاف أجده فیه أیضاً ، بل عن المختلف الإجماع علیه ، وهو الحجة بعد

المرتضوی : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أن تحلق المرأة رأسها ، أی فی الإحلال لا مطلقاً ، فإنّ الظاهر عدم حرمته علیها فی غیر المصاب المقتضی للجزع ، للأصل السالم عن معارضة دلیل معتبر . اللهم إلاّ أن یکون هناک شهرة بین الأصحاب تصلح جابراً لنحو المرسل المزبور ، بناءً علی إرادة الإطلاق ، فیکون کحلق اللحیة للرجال»(5) .

19 _ قد أفتی بالتحریم الشیخ الأعظم الأنصاری(6) وکل من المعروفین بالتقلید من زمنه إلی یومنا هذا فی رسائلهم العملیة :

ص:37


1- (3) هدایة الاُمّة إلی أحکام الأئمة علیهم السلام 1 / 154 طبع الآستانة المقدسة الرضویة علیه السلام عام 1412 ه_ .
2- (4) حق الیقین 2 / 213 .
3- (5) الخصال 1 / 103 _ مکارم الأخلاق / 68 .
4- (6) کشف الغطاء 2 / 418 .
5- (1) الجواهر 19 / 236 .
6- (2) مجمع المسائل _ أواخرها فی المسائل المتفرقة کما نقل عنه العلامتان الطبسی فی المنیة / 85 و البلاغی فی رسالته / 156 .

20 _ ومنهم : خالنا العلامة الفقیه السید إسماعیل الصدر قدس سره ، فقد قال فی بعض تعالیقه الفتوائیة : « قد حررت هذه المسألة مفصلاً ، وأرجو العذر عن مقدار ما عرضت به ، ومن یقول بعدم حرمته فلا یخلو حاله من أحد الأمرین : إما لعدم کونه من الراسخین فی العلم ، أو یروم بذلک إظهار فضیلته ، واللّه العالم . حرره الراجی ابن صدر الدین العاملی»(1) .

21 _ وممّن صرح بالحرمة آیة اللّه المیرزا الشیرازی الکبیر کما نقل عنه صاحب المنیة(2) .

22 _ ومنهم : الفقیه السید محمد کاظم الطباطبائی الیزدی فی ترجمة العروة الوثقی المسماة بالغایة القصوی(3) .

23 _ ومنهم : آیة اللّه الشیخ عبد الکریم الحائری الیزدی قال : « أما الدلیل الکاشف عن الحرمة فمن الکتاب قوله تعالی : «فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ» .

بتقریب : أنّ إبلیس فی مقام إضلاله یقول : لآمرنَّهم بتغییر الخلقة ، مخالفاً لمقتضی المقام الذی هو بیان إضلاله ، ومن جملة ما هو تغییر فی الخلقه حلق اللحیة»(4) .

24 _ ومنهم : الفقیه السید أبو الحسن الأصفهانی قال ما معرّبه : « حلق اللحیة حرام ولو بالماکنة إذا کان مثل الحلق ، وفی هذا الحکم جمیع الناس سیان ، وحکم اللّه لا یتغیر بالاستهزاء والسخریة»(5) .

25 _ ومنهم : الفقیه الحجة الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء قال : « الظاهر تحقق الإجماع علی الحرمة»(6) .

26 _ ومنهم : آیة اللّه الحاج آقا حسین القمی یقول ما یقرب هذا المضمون : « إنّ ارتکاز المسلم بما هو مسلم أنّ حلق اللحیة حرام ، ویؤیده ما نقل من الإجماع علی

ص:38


1- (3) ونقل عنه فی المنیة / 86 .
2- (4) المنیة / 88 .
3- (5) غایة القصوی 2 / 71 المسألة 63 و 64 .
4- (6) نقل عنه تلمیذه العلامة آیة اللّه الشیخ محمد رضا الطبسی النجفی قدس سره فی کتابه المنیة / 88 .
5- (7) توضیح المسائل / 458 المسألة 2844 .
6- (1) نقل عنه فی المنیة / 93 .

حرمته»(1) .

27 _ وقال العلامة المامقانی : « ویحرم حلق اللحیة لما ورد من النهی عن ذلک ... وقد ورد بسند محکوم بالصحة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّ حلق اللحیة من المثلة وأنّ علی من یفعله لعنة اللّه ... »(2) .

28 _ وفی الفقه علی المذاهب الأربعة « نقل عن الشافعیة : أمّا اللحیة فإنه یکره حلقها والمبالغة فی قصّها ، فإذا زادت علی القبضة فإنّ الأمر فیه سهل ، خصوصاً إذا ترتب علیه تشویه للخلقة أو تعریض به أو نحو ذلک ... .

وعن الحنفیة : یحرم حلق لحیة الرجل ، ویُسنّ أن لا تزید فی طولها علی القبضة ، فمازاد علی القبضة تُقصّ ، ولا بأس بأخذ أطراف اللحیة وحلق الشعر الذی تحت الإبطین ونتف الشیب ، وتُسنّ المبالغة فی قصّ الشارب ... .

وعن المالکیة : یحرم حلق اللحیة ویُسنّ حلق الشارب ... .

وعن الحنابلة : یحرم حلق اللحیة ولا بأس بأخذ ما زاد علی القبضة منها ، فلا یکره قصّه کما لا یکره ترکه . وکذا لا یکره أخذ ما تحت حلقة الدبر من الشعر ، ویکره نتف الشیب ، ویُسنّ المبالغة فی قصّ الشارب ... »(3) .

أقول : أنت تری نَقَل صاحب الفقه علی المذاهب الأربعة عن الشافعیة القول بکراهة حلق اللحیة ، ولکن نقل الشیخ علی محفوظ أحد مدرسی الأزهر القول بالحرمة عن بعضهم ، حیث قال : « الثالث : مذهب السادة الشافعیة ، قال فی شرح العباب : فائدة : قال الشیخان : یکره حلق اللحیة ، واعترضه ابن الرفعة بأنّ الشافعی نصّ فی الاُمّ علی التحریم . وقال

الأذرعی : الصواب تحریم حلقها جملة لغیر علّة بها . انتهی . ومثله فی حاشیة ابن قاسم العبادی فی الکتاب المذکور»(4)(5) .

ص:39


1- (2) نقل عنه ولده الفقیه الحاج آقا تقی القمی فی عمدة الطالب 1 / 198 .
2- (3) مرآة الکمال / 109 .
3- (4) الفقه علی المذاهب الأربعة 2 / 44 .
4- (1) الإبداع فی مضارّ الإبتداع / 406 الطبعة الرابعة . ونقل عنه العلامة الأمینی قدس سره فی کتابه الغدیر 11 / 156 الطبعة الأولی .
5- (2) راجع إعانة الطالبین 2 / 386 للبکری الدمیاطی وحواشی الشروانی 9 / 376 .

وبالجملة ، فجمیع مذاهب الأربعة یذهبون إلی الحرمة ، نعم نقل عن بعض الشافعیة القول بالکراهة .

الوجوه التی اُقیمت علی الحرمة

الوجه الأوّل : الإجماع

قد مرّ منّا عند نقل الأقوال دعوی الإجماع علی حرمة حلق اللحیة من عدّة من الأصحاب :

منهم : الشیخ بهاء الدین محمد العاملی والشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء قدس سرهما .

وفیه : أولاً : لم یکن فی کلام الشیخ البهائی دعوی الإجماع کما سبق نقل کلامه آنفاً .

وثانیاً : عدم إمکان تحصیل الإجماع ، لأن المسالة لم تکن معنونة فی کتب القدماء من أصحابنا .

وثالثاً : علی فرض تحقق الإجماع لا یفید فی المقام شیئاً ، لأنّه إجماع مدرکی ولم یکن تعبدیاً ، ومن المحتمل أنّ یکون مستند المجمعین نفس هذه الوجوه التی تعرضنا لذکرها ، فلابدّ من ملاحظتها .

الوجه الثانی : سیرة المتشرعة وارتکازهم

سیرة المتشرعة من إصحابنا المتصلة إلی زمن المعصومین علیهم السلام علی إبقاء اللحیة وعدم حلقها ، بل إنّهم یذمّون حالقها ویعاملون معه معاملة الفساق ولا یحکمون بعدالته . والدلیل علی إتصال السیرة ما ورد فی الروایات المتعددة من الأمر بإعفاء اللحیة ، أو خبر حبابة الوالبیة من تفسیر أمیر المؤمنین علیه السلام جند بنی مروان بأنّهم أقوام حلقوا اللحی وفتلوا الشارب ، ونحوها .

وهکذا الراسخ فی أذهان المتشرعة وارتکازهم حرمة حلق اللحیة ویعدّ عندهم

الحالق کالفاسق ، ووجود نفس هذا الإرتکاز جیلاً بعد جیل یکشف عن وجود حکم شرعی فی المقام وهو الحرمة . ولعلّ نفس وجود هذه السیرة والإرتکاز هو السرّ فی عدم تعرض قدماء أصحابنا لهذه المسألة وترکوها لوضوحها وعدم الحاجة إلی بیانها .

وهذه السیرة والإرتکاز لا تختص بأصحابنا ، بل تجری بالنسبة إلی المسلمین عامة ،

ص:40

بل قد یقال : بجریانها بالنسبة إلی جمیع الأدیان السماویة .

ولکن العمدة فی المقام جریانها بالنسبة إلی أصحابنا واتصالها بزمن المعصومین علیهم السلام وتقریرهم علیهم السلام لها .

ووجود هذه السیرة والإرتکاز ممّا لا ینکر ، وإنکار إتصالها إلی زمن المعصومین علیهم السلام مکابرة ،وقد مرّ منّا ظهور الإتصال من الروایات ، فلا یمکن المناقشة فی هذا الوجه بوجه یکون تاماً .

الوجه الثالث : حلق اللحیة تشبّه بأعداء الدین

التشبّه بالکفار وأعداء الدین حرام ، ومن شعارهم وزیّهم حلق اللحیة کما ورد ذلک بالنسبة إلی المجوس ، فلا یجوز للمسلم التشبّه بهم فی حلق اللحیة فلا یجوز حلقها .

ومن الروایات الناهیة عن التشبّه بالکفار معتبرة السکونی عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : أوحی اللّه إلی نبیٍّ من الأنبیاء أن قُل لقومک : لا تلبسوا لباس أعدائی ، ولا تطعموا مطاعم أعدائی ، ولا تشاکلوا بما شاکل أعدائی ، فتکونوا أعدائی کما هم أعدائی(1) .

ومنها : معتبرة اُخری لإسماعیل بن مسلم - وهو السکونی - عن الصادق علیه السلام قال : اُوحی اللّه إلی نبیٍّ من أنبیائه قل للمؤمنین : لا تلبسوا لباس أعدائی ، ولا تطعموا مطاعم أعدائی ، ولا تسلکوا مسالک أعدائی ، فتکونوا أعدائی کما هم أعدائی(2) .

وفیه : أن المراد من هذه الروایات وعدم جواز التشبّه بهم ، رفض المسلم هویته وتراثه وفکره وتاریخه وجعل نفسه تابعاً محضاً لهم ، فصار من مقلدیهم فی العمل والفکر والعقیدة وحتّی فی اللباس والزی والشکل واللسان ونحوها ، بحیث یعدّون منهم عرفاً .

وأمّا مجرد الإتصاف بوصف من اُوصافهم لا سیما مع عدم قصد التشبّه ، فلا یصدق علیه عنوان التشبّه عادة ، فلا یتمّ هذا الوجه .

نعم ، صدق عنوان التشبّه بحسب اختلاف الأزمنة والأمکنة مختلف کما هو واضح .

ص:41


1- (1) وسائل الشیعة 15 / 146 ح 1 الباب 64 من ابواب جهاد العدو .
2- (2) وسائل الشیعة 4 / 385 ح 8 الباب 19 من أبواب لباس المصلی .
الوجه الرابع : حلق اللحیة داخل فی التشبّه بالنساء

قد سبق فی البحوث الماضیة أنّ تشبُّهَ کلٍّ من الرجلِ والمرأةِ بالآخرِ حرامٌ مطلقاً ومن الواضح أنّ من أظهر مصادیق تشبّه الرجل بالمرأة حلق اللحیة .

وفیه : نعم التشبّه حرام مطلقاً ولکن إذا صدق عنوان التشبّه عرفاً ، وصرف حلق اللحیة فقط لا یصدق علیه التشبّه إذا لم یکن معه اُمور اُخری . لاسیما فی زمان أو مکان دارج أمر حلق اللحیة بین رجاله ، فلا یصدق عنوان التشبّه أصلاً . والعرف خیر حاکم بما ذکرناه .

الوجه الخامس : آیة تغییر الخلقة

وهی قوله تعالی حکایة عن الشیطان : «لَعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لاَءَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِکَ نَصِیباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّیَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُبَتِّکُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن یَتَّخِذِ الشَّیْطَانَ وَلِیّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِیناً»(1) .

بتقریب : أن حلق اللحیة من مصادیق تغییر خلق اللّه ، وظاهر الآیة حرمته مطلقاً إلاّ ما خرج بالدلیل أو لم یکن عند العرف من مصادیقه . والأوّل نحو : الختان وحلق الرأس والعانة والإبطین وقصّ الأظفار ونحوها ، والثانی مثل : قطع الأشجار وحفر الآبار وجری الأنهار وکسر الأحجار ونحوها .

وأمّا غیرهما من أنواع التصرفات فتدخل فی الآیة الشریفة وهی حرام نحو ، قرض آذان الأنعام وشقها وجدع أنفهم وحلق اللحیة وإخصاء الناس ونحوها ، فالآیة الشریفة تدلّ علی حرمة حلق اللحیة .

وعلی ما ذکرنا تدخل فی الآیة الشریفة جمیع ما ذکره المفسرون ، لأنّ کل ذلک من التغییر فی خلق اللّه .

قال الشیخ الطوسی : « وقوله : «وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ» اختلفوا فی معناه ، فقال ابن عباس والربیع بن أنس عن أنس : أنّه الإخصاء وکرهوا الإخصاء فی البهائم ، وبه قال سفیان وشهر بن حوشب وعکرمة وأبو صالح . وفی روایة اُخری عن ابن عباس فلیغیّرن دین

ص:42


1- (1) سورة النساء / 119 و 118 .

اللّه ، وبه قال إبراهیم ومجاهد ، وروی ذلک عن أبی جعفر وأبی عبد اللّه علیهماالسلام ، قال مجاهد : کذب العبد - یعنی عکرمة - فی قوله : انّه الإخصاء ، وإنّما هو تغییر دین اللّه الذی فطر الناس علیه فی قوله : «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لاَ تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ»(1) ، وهو قول قتادة والحسن والسدی والضحاک وابن زید .

وقال قوم : هو الوَشْم ، روی ذلک عن الحسن والضحاک و إبراهیم أیضاً والمغیرات خلق اللّه ، قال الزجاج : خَلَق اللّه تعالی الأنعام لیأکلوها فحرموها علی أنفسهم ، وخَلَقَ الشمس والقمر والحجارة مسخرةً للناس ینتفعون بها فعبدها المشرکون ، وأقوی الأقوال من قال : فلیغیرن خلق اللّه بمعنی دین اللّه ، بدلالة قوله : «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لاَ تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ» ، ویدخل فی ذلک جمیع ما قاله المفسرون ، لأنّه إذا کان ذلک خلاف الدین فالآیة تتناوله»(2) .

وذکر نحوها الطبرسی فی مجمع البیان ، فراجع کلامه(3) .

قال الزمخشری : « وتبتیکهم الآذان فعلهم بالبحائر(4) ، کانوا یشقّون اُذنَ الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذکراً ، وحرموا علی أنفسهم الانتفاع بها . وتغییرهم خلق اللّه : فق ء عین الحامی وإعفاؤه عن الرکوب . وقیل : الخصاء وهو فی قول عامة العلماء مباح فی البهائم وأما فی بنی آدم فمحظور ، وعند أبی حنیفة یکره شراء الخصیان وإمساکهم واستخدامهم ، لأنّ الرغبة فیهم تدعو إلی خصائهم . وقیل : فطرة اللّه هی دین الإسلام . وقیل للحسن : إنّ عکرمة یقول هو الخصاء فقال : کذب عکرمة ، هو دین اللّه . وعن ابن مسعود : هو الوَشْم ، وعنه : لعن اللّه الواشرات والمتنمصات والمستوشمات المغیرات خلق اللّه . وقیل : التخنث»(5) .

ص:43


1- (1) سورة الروم / 30 .
2- (2) التبیان 3 / 334 .
3- (3) مجمع البیان 3 / 113 .
4- (4) بَحَر الناقة : شقَّ اُذنها ، فهی بَحیرة جمعها بَحَائر وبُحُر .
5- (5) الکشاف 1 / 566 .

وقال البیضاوی : « «فَلَیُبَتِّکُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ» یشقّونها لتحریم ما أحلّه اللّه ، وهی عبارة عمّا کانت العرب تفعل بالبحایر والسوایب ، وإشارة إلی تحریم کل ما أحلّ ، ونقص کل ما خلق کاملاً بالفعل أو بالقوة .

«وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ» عن وجهه صورة أو صفة ، ویندرج فیه ما قیل : من فقؤ عین الحامی وخصاء العبید ، والوشم والوشر واللواطة والسحق ونحو ذلک وعبادة

الشمس والقمر ، وتغییر فطرة اللّه التی هی الإسلام ، واستعمال الجوارح والقوی فیما لا یعود علی النفس کمالاً ولا یوجب لها من اللّه زلفی ، وعموم اللفظ یمنع الخصاء مطلقاً ولکن الفقهاء رخصوا فی خصاء البهائم للحاجة ... »(1) .

أقول : فعلی ما ذکر المفسرون یدخل فی الآیة الشریفة ما ورد من الروایات من تفسیر خلق اللّه بدین اللّه أو أمره أو نهیه ، نحو مرفوعتی جابر حیث فسّر الإمام أبی جعفر الباقر علیه السلام فیهما خلق اللّه بدین اللّه وأمر اللّه بما أمر به(2) . وغیرها من الروایات(3) .

والحاصل ، لا منافاة بین الأخذ بهذه التفاسیر والقول بحرمة تغییر خلق اللّه وبین تفسیر خلق اللّه بدین اللّه وأمره ونهیه ، لأنّ دین اللّه وفطرة اللّه وأمره ونهیه أیضاً من خلقه ، فالتغییر فی کل ذلک حرام بمفاد الآیة الشریفة .

والعلامة الخبیر الفیض الکاشانی قدس سره أیضاً جمع بین الروایات وأقوال المفسرین بمثل ما جمعناه وقال فی ذیل قوله تعالی : « «خَلْقَ اللّهِ» فیه (أی فی المجمع) عنه (أی عن الصادق علیه السلام ) یرید دین اللّه وأمره ونهیه ، ویؤیده قوله سبحانه : «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لاَ تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» أقول : ویزیده تأییداً قوله عزّ وجل عقیب ذا «ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ»(4) وتفسیرهم فطرة اللّه بالإسلام ، ولعلّه یندرج فیه کلّ تغییر لخلق اللّه عن وجهه صورةً أو صفةً من دون إذن من اللّه ، کفقئهم عین الفحل الذی طال مکثه عندهم

ص:44


1- (1) أنوار التنزیل / 206 الطبع الحجری .
2- (2) تفسیر العیاشی 1 / 444 ح 278 و 279 .
3- (3) راجع تفسیر العیاشی 1 / 444 ح 277 و البرهان فی تفسیر القرآن 2 / 175 .
4- (4) سورة الروم / 30 .

وإعفائه عن الرکوب ، وخصاء العبید وکلّ مثلة ، ولا ینافیه التفسیر بالدین والأمر ، لأنّ ذلک کله داخل فیهما»(1) .

وتبعه فی ذلک المشهدی فی کنز الدقائق(2) والعلامة الطباطبائی فی المیزان(3) ومال إلی هذا الجمع الشیخ الطوسی أعلی اللّه مقامه والقاضی البیضاوی کما مرّ کلامهما .

فعلی ما ذکرنا کل تغییر فی خلق اللّه حرام ، ومنها : حلق اللحیة .

ولا یرد علینا عدم تطبیق التغییر فی خلق اللّه علی حلق اللحیة فی کلمات

المفسرین ،وکما أصرّ علیه بعض الأساتیذ(4) _ مدظله _ ، لأنّ ما ذکروه لیس إلاّ بعنوان المثال ، وحیث لم یتداول حلق اللحیة فی ذلک الزمان بین المسلمین فلم یذکروها .

فالآیة الشریفة تدلّ بإطلاقها علی حرمة تغییر خلق اللّه ومنها : حلق اللحیة .

وجماعة من الأصحاب أیضاً استدلوا بهذه الآیة لحرمة حلق اللحیة ، منهم الفقیه السید الیزدی والشیخ المؤسس الحائری(5) والشیخ البلاغی(6) وصاحب المنیة(7) وغیرهم أعلی اللّه مقامهم .

الوجه السادس : آیة الحنیفیة

وهی قوله تعالی : «ثُمَّ أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِیمَ حَنِیفاً وَمَا کَانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ»(8) .

قد أمرنا عزّ وجلّ باتباع ملّة إبراهیم حنیفاً ، وعدّ من الحنیفیة إعفاء اللحی ، کما قال

ص:45


1- (5) تفسیر الصافی / 125 الطبع الحجری .
2- (6) کنز الدقائق 2 / 617 .
3- (7) المیزان 5 / 87 .
4- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 113 و 114 .
5- (2) کما نقل عنهما فی المنیة / 34 .
6- (3) فی رسالته فی حرمة حلق اللحیة / 153 المطبوعة ضمن الرسائل الأربعة عشر .
7- (4) المنیة / 30 وما بعدها .
8- (5) سورة النحل / 123 .

علی بن إبراهیم القمی فی تفسیره : « وهی الحنیفیة العشرة التی جاء بها إبراهیم علیه السلام : خمسة فی البدن وخمسة فی الرأس ، فأمّا التی فی البدن فالغسل من الجنابة والطهور بالماء وتقلیم الأظفار وحلق الشعر من البدن والختان ، وأمّا التی فی الرأس فطمّ الشعر(1) وأخذ الشارب وإعفاء اللحی والسواک والخلال . فهذه فلم تنسخ إلی یوم القیامة»(2) .

والروایة کماتری مقطوعة لم تنسب إلی معصوم ، ولکن نسب الطبرسی هذه الروایة إلی الصادق علیه السلام وقال بعد نقلها : « ذکره علی بن إبراهیم بن هاشم فی تفسیره»(3) .

وهکذا نقل صاحب الوسائل(4) عن الطبرسی .

فیمکن نسبة الروایة إلی المعصوم علیه السلام ، وعدّ من الحنیفیة التی اُمرنا باتباعها إعفاء اللحی ، فإذا وجب إعفاء اللحی حرم حلقها .

وفیه : علی فرض تمامیة نسبة الروایة إلی المعصوم علیه السلام ، مع ذلک لیس لها سند وتکون

مرسلة فلا یمکن الإعتماد علیها . ویأتی البحث حول إعفاء اللحی بعد نقل روایاتها .

الوجه السابع : الخبر المروی فی الجعفریات

نقل محمد بن محمد بن الأشعث عن موسی بن إسماعیل بن موسی بن جعفر عن أبیه عن جده عن جعفر بن محمد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی بن أبی طالب علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حلق اللحیة من المثلة ، ومن مثّل فعلیه لعنة اللّه(5) .

بتقریب : أن المثلة حرام فی الشریعة المقدسة ، والروایة عدّت حلق اللحیة منها فتکون حراماً .

وفیه : نعم ، المثلة حرام فی الشریعة ولکن کون حلق اللحیة من المثلة فی العرف محل تأمل . وأمّا الذهاب إلی ثبوت حکم المثلة علیها تعبداً بواسطة هذه الروایة ، فغیر تام ، لأنّ

ص:46


1- (6) طَمَّ الشعرَ : جزَّه أو عقصه ، عَقَصَتِ المرأةُ شَعْرَها : شدّته فی قفاها .
2- (7) تفسیر القمی 1 / 391 .
3- (8) مجمع البیان 1 / 200 _ ذیل آیة 124 من سورة البقرة .
4- (9) وسائل الشیعة 2 / 117 ح 5 . الباب 67 من أبواب آداب الحمام .
5- (1) الجعفریات / 157 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 1 / 406 ح 1 .

الروایة من حیث السند ضعیفة ولم یثبت صحة انتساب الکتاب إلی ابن الأشعث الکوفی .

وأمّا الإشکال فی الروایة فبعدم صدق المثلة علی حلق اللحیة ، لأنّ المعتبر فی صدق المثلة أمران : أحدهما : إیقاع النقص بالغیر ، وثانیهما : کون الإیقاع بقصد هتکه وتحقیره ، فلا یتحقق عنوان المثلة فیما إذا حلق الإنسان لحیته بداعی التجمیل ونحوه . کما قاله شیخنا الأستاذ _ مدظله _(1) واُستاده(2) قدس سره .

وهذا غیر تام ، لِورود النهی عن المثلة فی الشریعة حتّی بالنسبة إلی الحیوانات والکلب العقور ومن الواضح انه لم یصدق فیها قصد التحقیر والهتک بالنسبة إلیهم .

وهکذا لایتم ما ذکره المحقق الخوئی قدس سره من اجتماع اللعن مع الکراهة ، واستدل ببعض الروایات الواردة فی موارد استعمال اللعن فی مقام الکراهة(3) .

لأنّ ظهور اللعن فی الحرمة واضح عند العرف ، نعم یمکن استعماله فی الکراهة مع وجود قرینة علیها ، ومن القرائن علم السامع بعدم الحرمة کما فی الأمثلة التی ذکرها هذا المحقق الجلیل ، نحو : آکل زاده وحده وراکب الفلاة وحده والنائم فی بیت وحده .

ولذا صار مَثَل اللعن مَثَل السحت ، کما أن ظهور السحت فی الحرمة واضح ولکن ربّما یُستعمل فی الکراهة ، هکذا الأمر بالنسبة الی اللعن . وقد تنبّه علی هذا الإشکال شیخنا

الاستاذ _ مدظله _ فراجع کلامه فی کتابه(4) .

والحاصل ، الإشکال فی الاستدلال بهذه الروایة منحصر بما ذکرناه ، من أنّ الروایة ضعیفة سنداً ، مضافاً إلی عدم ثبوت انتساب الکتاب إلی ابن الأشعث ، فلا یمکن الإعتماد علیها . وإلحاق حلق اللحیة بالمثلة تعبداً فی حکمها - وهی الحرمة - مشکلٌ .

الوجه الثامن : خبر حبابة الوالبیة

روی الکلینی والصدوق بسند فیه ضعف عن حبابة أنّها قالت : رأیت

ص:47


1- (2) إرشاد الطالب 1 / 147 .
2- (3) مصباح الفقاهة 1 / 259 .
3- (4) مصباح الفقاهة 1 / 260 .
4- (1) إرشاد الطالب 1 / 147 .

أمیر المؤمنین علیه السلام فی شرطة الخمیس ومعه درّة لها سبابتان یضرب بها بیّاعی الجِرّیّ والمارماهی والزِمّار ویقول لهم : یا بیّاعی مسوخ بنی إسرائیل وجند بنی مروان ، فقام إلیه فرات بن أحنف ، فقال : یا أمیر المؤمنین علیه السلام وما جند بنی مروان ؟ قال : فقال له : أقوامٌ حلقوا اللحی وفتلوا الشوارب فمسخوا ، الحدیث(1) .

الجِرّیّ : نوع من السمک لا فلس له ، وکذا المارماهی والزِمّار ، والفتل : الإزالة .

بتقریب : أن المسخ عقوبة شدیدة لا تترتب إلاّ علی ارتکاب المحرّمات الشدیدة والمغلّظة ، وحیث تترتب علی حلق اللحیة وفتل الشارب فیکونان من المحرّمات الشرعیة .

وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة الإسناد بسندیها ، لا یمکن الإعتماد علیها فی الأحکام الشرعیة ، والعجب من العلاّمة البلاغی حیث حکم باعتبار سندها بروایة الصدوق(2) .

وثانیاً : الروایة تدلّ علی أن حلق اللحیة وفتل الشارب - أی إزالته معاً - من المحرّمات کما فعله المجوس ، ولم یقل أحدٌ بأنّ فتل الشوارب فقط من المحرّمات ، أعنی الروایة تدلّ علی أنّ فتل الشارب من المحرَّمات والإجماع قائم علی خلافه ، فالأخذ بها مشکل .

اللهم إلاّ أن یقال : هذا الإجماع مانع من حمل الحرمة علی فتل الشوارب ، ولکن لا یمنع من حمل الحرمة علی حلق اللحی أو علی حلقهما معاً .

وثالثاً : الروایة حیث ترتب المسخ علی حلق اللحیة ، تدلّ علی أنّها من الکبائر ، والإلتزام بأنّها من الکبائر مشکل .

ورابعاً : الروایة تدلّ علی حرمتهما فی الأدیان السالفة المنسوخة ، وثبوت الحرمة فی الأدیان المنسوخة لا تقتضی حرمتهما فی شرعنا ودیننا .

ولکن مع ذلک کلِّه ظهور الروایة فی حرمة حلق اللحیة ممّا لا ینکر ، إلاّ أنّ العمدة ضعف إسنادها .

ص:48


1- (2) الکافی 1 / 346 ح 3 وکمال الدین / 536 ح 1 ونقل عنهما فی وسائل الشیعة 2 / 116 ح 4 .
2- (3) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 151 المطبوع ضمن الرسائل الأربعة عشر .
الوجه التاسع : صحیحة البزنطی

روی ابن إدریس فی آخر السرائر نقلاً عن کتاب الجامع لأحمد بن محمد بن أبی نصر البزنطی صاحب الرضا علیه السلام قال : وسألته عن الرجل هل یصلح لأحد أن یأخذ من لحیته ؟ قال : أمّا من عارضیه فلا بأس وأمّا من مقدّمها فلا(1) .

ورواها الحمیری فی قرب الإسناد(2) وعلی بن جعفر العریضی فی کتابه(3) إلاّ أنّه قال فی آخره : فلا یأخذ .

ورواها فی بحار الأنوار(4) عن قرب الإسناد والسرائر .

لم یذکر ابن إدریس سنده إلی جامع البزنطی ، فالروایة مرسلة . ولکن لصاحب الوسائل سنداً صحیحاً إلی کتاب علی بن جعفر ، وهو ثقة ، فهذا السند صحیح .

وأمّا سند الحمیری فی قرب الإسناد فضعیف بعبد اللّه بن الحسن حفید علی بن جعفر لأنّه لم یرد توثیقه ، اللهم إلاّ أن یقال باعتباره .

وأمّا دلالة الصحیحة علی حرمة حلق اللحیة وأخذها ولو بالنتف ونحوه واضحة ، لأنّ الإمام علیه السلام نهی عن الأخذ من مقدّمها مطلقاً ، ومن البدیهی أنّ الأخذ من مقدّمها بمعنی إصلاحها أو تقصیرها إذا جاوزت عن القبضة أو تدویرها أو تبطّنها لا بأس بها ، فأیّ شیءٍ به بأس ؟ لم یبق إلاّ الحلق ، فالصحیحة تدلّ علی حرمة حلق مقدّم اللحیة حیث نهی الإمام علیه السلام عنه ، وأمّا حلق العارضین فلا بأس به ، فالروایة تدلّ - مضافاً علی حرمة حلق اللحیة - علی جواز ما شاع فی عصرنا الحاضر من حلق العارضین وإبقاء ما علی الذقن . وقد خالف فی هذه الدلالة بعض الأساتیذ(5) _ مدظله _ .

ص:49


1- (1) السرائر 3 / 574 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 111 ح 5 الباب 63 من أبواب آداب الحمام .
2- (2) قرب الاسناد / 296 ح 1169 .
3- (3) مسائل علی بن جعفر / 139 ح 153 .
4- (4) بحار الانوار 73 / 109 ح 2 و 3 (30 / 190) .
5- (5) منیة الطالب فی حکم اللحیة والشارب / 44 ودراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 125 .

والإشکال فیها : بأنّ « مفادها (لا یصلح) وهو أعم من الحرمة علی ما هو المعروف بین الفقهاء» کما قاله بعض المعاصرین(1) قدس سره غیر تام .

لأنه : أولاً : ورد فی نقل علی بن جعفر « فلا یأخذ» ، ولم یکن مفاده لا یصلح حتّی یناقش فیها ، ومن الواضح ظهور کلمة « لا یأخذ» فی الحرمة ، لأنّها نهی صریح .

وثانیاً : علی فرض أنّ یکون مفادها « لا یصلح» فهذه أیضاً ظاهرة فی الحرمة ، لأنّ ظهور النهی فی الحرمة ، إلاّ ما ورد فیه الترخیص أو قامت قرینة علی غیرها ، وکلاهما مفقودان فی المقام .

الوجه العاشر : الروایات الآمرة بإعفاء اللحی

عدّة من الروایات تأمرنا بإعفاء اللحی :

منها : مرسلة الصدوق قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حفّوا الشوارب واعفوا اللّحی ولا تشبّهوا بالیهود(2) .

ومنها : مرسلة اُخری له قال : رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إنّ المجوس جزّوا لحاهم ووفرّوا شواربهم ، وإنّا نجزّ الشوارب ونعفی اللّحی ، وهی الفطرة(3) .

ورواهما مرسلاً العلامة فی التذکرة(4) والشهید فی الذکری(5) ونجل الطبرسی فی مکارم الأخلاق(6) ، ونقل عنه فی بحار الأنوار(7) .

ومنها : خبر علی بن غراب عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن جده علیه السلام قال :

قال

ص:50


1- (6) وهو الفقیه السید عبد الأعلی السبزواری فی مهذب الأحکام 16 / 80 .
2- (1) الفقیه 1 / 130 ح 329 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 116 ح 1 الباب 67 من أبواب آداب الحمام .
3- (2) الفقیه 1 / 130 ح 331 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 116 ح 2 .
4- (3) تذکرة الفقهاء 2 / 253 .
5- (4) ذکری الشیعة 1 / 159 .
6- (5) مکارم الأخلاق 1 / 156 .
7- (6) بحار الأنوار 73 / 112 (30 / 192 ح 14) .

رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حفّوا الشوارب واعفوا اللحی ولا تشبّهوا بالمجوس(1) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : قصوا سبالکم و وفّروا عثانینکم وخالفوا أهل الکتاب(2) .

السبال : جمع سبَلة وهی الشارب . العُثْنُون : اللحیة .

ومنها : مرسلة الشیخ أبی الفتوح الرازی قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : احفوا

الشوارب واعفوا اللّحی(3) .

ومنها : خبر جابر قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لیس منّا من سلق ولا خرق ولا حلق(4) .

سلقه بلسانه : خاطبه بما یکره . الخُرق : الجهل والحمق . وقال الأحسائی : الحلق هی حلق اللحیة .

ومنها : قال النوری : قال الکازرونی فی المنتقی فی حوادث السنة السادسة بعد ذکر کتابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی الملوک : وأنّه کتب کسری إلی عامل الیمن بازان أن یبعثه إلیه ، وأنّه بعث کاتبه بانویه ورجلاً آخر یقال له : خرخسک إلیه صلی الله علیه و آله وسلم ، قال : وکانا قد دخلا علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفیا شواربهما ، فکره النظر إلیهما وقال : ویلکما من أمرکما بهذا ؟ قالا : أمرنا بهذا ربّنا _ یعنیان کسری _ فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لکن ربّی أمرنی بإعفاء لحیتی وقصّ شاربی ، الخبر(5) .

أقول : روی نحوها الطبری فی تاریخه(6) وابن الأثیر فی

« الکامل فی

ص:51


1- (7) معانی الأخبار / 291 ح 1 ونقلاً عنه فی وسائل الشیعة 2 / 116 ح 3 وبحار الأنوار 73 / 111 ح 10 (30 / 191) .
2- (8) دعائم الاسلام 1 / 125 ونقل عنه العلامة البلاغی فی رسالته فی حرمة حلق اللحیة / 144 .
3- (1) روض الجنان 1 / 287 .
4- (2) عوالی اللآلی 1 / 111 ح 19 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 1 / 406 ح 2 .
5- (3) مستدرک الوسائل 1 / 407 .
6- (4) تاریخ الطبری 3 / 1573 .

التاریخ»(1) .

وقد روی بطرق العامة أیضاً الأمر بإعفاء اللحی ، فإن شئت راجع فی هذا المجال رسالة العلاّمة البلاغی فی حرمة حلق اللحیة(2) والغدیر(3) للعلامة الأمینی .

وبعد مراجعة روایات الفریقین فی المقام ، لا محیص لنا من الإذعان بصدور الأمر بالإعفاء من رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم والأئمة علیهم السلام من أهل بیته ، کما اعترف بعض الأساتیذ _ مدظله _ بأنّها « مستفیضة من طرق الفریقین»(4) . فما فی مصباح الفقاهة من : « أنّها ضعیفة السند»(5) غیر تام .

وأمّا دلالتها : ورد الأمر بالإعفاء والتوفیر بالنسبة إلی اللحیة ، والإعفاء مستلزم

لإبقائه وعدم حلقه ، والأمر بالإعفاء یستلزم وجود اللحیة وإبقائها وعدم حلقها ، فالروایات تدلّ علی الأمرین : لزوم التوفیر استحباباً ولزوم إبقاء اللحیة ووجودها وجوباً . وهکذا استفاد العلامة الفیض قدس سره من الروایات حیث قال : « فَذِکْر الإعفاء عقیب الإحفاء ثمّ النهی عن التشبّه بالیهود دلیل علی أنّ المراد بالإعفاء أن لا یستأصل ویؤخذ منها من دون استقصاء بل مع توفیر وإبقاء ... »(6) .

وتبعه العلامة البلاغی فی الاستفادة من هذه الروایات واستنتج حرمة الحلق منها ، فراجع رسالته فی حرمة حلق اللحیة(7) .

وذکر بعض الأساتیذ _ مدظله _ ما ذکرناه بعنوان احتمال فی رسالته(8)

ص:53


1- (5) الکامل فی التاریخ 2 / 214 .
2- (6) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / (149 _ 139) .
3- (7) الغدیر 11 / (151 _ 149) الطبعة الأولی .
4- (8) منیة الطالب فی حکم اللحیة والشارب / 30 ودراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 118 .
5- (9) مصباح الفقاهة 1 / 259 .
6- (1) الوافی 6 / 658 .
7- (2) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 149 .
8- (3) منیة الطالب فی حکم اللحیة والشارب / 35 .

وکتابه(1) .

والحاصل ، أنّ الروایات الآمرة بالإعفاء تدلّ علی وجوب وجود اللحیة للمسلم ، فلیس له حلقها . نعم : غایة الأمر أنّ توفیرها وتطویلها لیس بواجب ، لما ورد من جواز تقصیرها وإصلاحها وتدویرها .

وبالجملة ، تلک عشرة کاملة من الأدلة التی أقیمت علی حرمة حلق اللحیة ، وقد عرفت تمامیة بعضها والمناقشة فی بعضها الآخر ، وأمّا اللاتی تمت فهیّ عندنا :

1 _ سیرة المتشرعة وارتکازهم

2 _ الإطلاق الوارد فی الآیة من حرمة تغییر الخلقة

3 _ صحیحة البزنطی

4 _ الروایات الآمرة بإعفاء اللحی .

وهذه الأدلة الأربعة تدلّ علی حرمة حلق اللحیة .

ثم إن هاهنا فروعاً لابدّ من التنبیه علیها

الفرع الأوّل : الاکتساب بحلق اللحیة

حیث ذهبنا إلی حرمة حلق اللحیة ، فالإکتساب بها أیضاً حرام ، یعنی أخذ الأجرة فی

مقابل حلق اللحیة حرام ، فیدخل فی المکاسب المحرمة .

الفرع الثانی : هل یجوز حلقها مادام لم یصدق علیها اللحیة ؟

إذا لم یصدق علی الشعر النابت علی الوجه بأنها لحیةٌ یجوز حلقها ، لأنّها لیست بلحیة ، نحو الشعر النابت علی وجوه الأطفال الذین لم یبلغوا الحُلُم ، وأمّا إذا کانت کثیفة کثیرة بحیث صدقت علیها أنها لحیة عرفاً فلا یجوز حلقها . وأمّا بالنسبة إلی البالغین الذین لهم لحی ولکنهم حلقوها کلّ یوم لم یصدق علی النابت اللحیة ، یصدق علی فعلهم الحلق عرفاً ، فلذا یکون فعلهم هذا حراماً ، مضافاً إلی أنّ الواجب علی المسلم کونه ذا لحیة ، وهو لیس کذلک ،

ص:53


1- (4) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 121 .

ففعله حرام .

الفرع الثالث : هل یجوز حلق العارضین وإبقاء ما علی الذقن ؟

قد مرّ منّا فی ذیل صحیحة البزنطی أنّ المراد من الأخذ فیها الحلق ، فالصحیحة تدلّ علی جواز هذه الکیفیة من اللحیة ، فیجوز حلق العارضین وإبقاءما علی الذقن .

مضافاً إلی أن العرف یراهم ذا لحیة ، لا الحالق لها . ونفس هذا یکفی فی جواز عملهم ، لأنّ ما وجب علی المسلم کونه ذا لحیة کما حملنا الروایات الآمرة بإعفاء اللحی علی ذلک ، وهذا ذو لحیة عند العرف .

نعم ، الأحوط الإجتناب عنه کما هو واضح .

الفرع الرابع : هل تسقط حرمة حلق اللحیة ؟

حیث ذهبنا إلی حرمة حلق اللحیة فصارت کغیرها من التکالیف المحرّمة ، بحیث تسقط عند الاضطرار أو الإکراه أو المزاحمة بتکلیف آخر أهم منها ، ففی کلّ هذه الصور تسقط الحرمة کما فی غیرها من المحرّمات ، ونبّه علی هذا الفرع شیخنا الاُستاذ(1) _ مدظله _ .

الفرع الخامس : هل یفرق بین الحلق والنتف وغیرهما ممّا یوجب إزالة الشعر ؟

الظاهر أنّ موضوع حرمة حلق اللحیة إعدامها ، بأیّ نحو کان ، فعلیه لا یفرق فی إعدام اللحیة وإزالتها بین الحلق والنتف واستعمال الأدویة علیها أو أکل الأقراص لإزالتها وغیرها ممّا یوجب إزالة الشعر عن اللحیة . ونبّه علی هذا الفرع المحقق الخوئی(2) قدس سره .

الفرع السادس : هل للحیة حدٌ فی جانب القلّة والکثرة ؟

فی جانب القلّة لم یرد فی تحدید اللحیة نص خاص ، ولذا یکون المدار فیه علی الصدق

العرفی . وعلی هذا فإذا أخذ المکلف من اللحیة بمثل المکینة والمقراض ونحوهما بحیث لم تصدق اللحیة علی الباقی عرفاً کان فعله حراماً . کما نبّه علیه المحقق الخوئی(3) قدس سره .

ص:54


1- (1) ارشاد الطالب 1 / 148 .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 262 .
3- (1) مصباح الفقاهة 1 / 262 .

وأمّا فی جانب الکثرة : قد یُستفاد من بعض الروایات النهی عن تجاوز اللحیة عن القبضة :

منها : ما رواه الکلینی فی الصحیح عن محمد بن أبی حمزة عمّن أخبره عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : ما زاد علی القبضة ففی النار ، یعنی اللحیة(1) .

ومنها : خبر معلی بن خنیس عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ما زاد من اللحیة عن القبضة فهو فی النار(2) .

رواها الصدوق مرسلاً فی الفقیه(3) عن الصادق علیه السلام .

ومنها : ما رواه الکلینی فی الصحیح عن یونس عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قدر اللحیة ، قال : تقبض بیدک علی اللحیة وتجزّ ما فضل(4) .

رواها الصدوق مرسلاً فی الفقیه(5) عن الصادق علیه السلام .

ومنها : خبر درست عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : مرّ بالنبی صلی الله علیه و آله وسلم رجل طویل اللحیة ، فقال : ما کان علی هذا لو هیّأ من لحیته ، فبلغ ذلک الرجل فهیّأ لحیته بین اللحیتین ثم دخل علی النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فلما رآه قال : هکذا فافعلوا(6) .

ورواها الصدوق فی الفقیه(7) مرسلاً .

ومنها : ما رواه محمد بن محمد بن الأشعث بإسناده إلی الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام إنّه کان یقول : « ما جاوز القبضة من مقدّم اللحیة فجزّوه»(8) .

ص:55


1- (2) الکافی 6 / 487 ح 10 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 112 ح 1 الباب 65 من أبواب آداب الحمام .
2- (3) الکافی 6 / 486 ح 2 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 113 ح 2 .
3- (4) الفقیه 1 / 130 ح 332 .
4- (5) الکافی 6 / 487 ح 3 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 113 ح 3 .
5- (6) الفقیه 1 / 130 ح 334 .
6- (7) الکافی 6 / 488 ح 12 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 111 ح 3 الباب 63 من ابواب آداب الحمام .
7- (8) الفقیه 1 / 130 ح 330 .
8- (9) الجعفریات / 157 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 1 / 404 ح 1 الباب 38 من ابواب آداب الحمام .

وهذه الروایات حددت اللحیة فی جانب الکثرة بالقبضة ، لکنها کلّها ضعاف من حیث السند ، مضافاً إلی الخلاف المنقول(1) فی معنی القبضة ، ولذا لم یفت الأصحاب علی

مفادها ، یعنی حرمة ما زاد عن القبضة .

نعم ، قد یقال بکراهیة ما زاد علی القبضة بهذه الروایات ، وهی لا بأس بها إن أغمضنا عن ضعف أسنادها أو ذهبنا إلی بلوغها مرتبة الاستفاضة کما عن بعض _ الأساتیذ _(2) مدظله .

وفیه : لا یتم القول بالکراهة أیضاً ، لعدم تمامیة التسامح فی أدلتها عندنا ، بل لا یتمّ القول بالتسامح فی أدلة السنن حتّی یقاس المقام بها .

ولعمری کیف ذهب بعض الأعلام إلی الحکم بحرمة ما نقص عن القبضة بهذه الروایات(3) ؟ !

وحمل العلامة البلاغی هذه الروایات علی التشبّه بالیهود(4) . وهو متین وله وجه . وقال بعض الأساتیذ _ مدظله _ : « ولعلّ النظر فی هذه الروایات إلی من کان یرید بذلک التشبّه بالیهود أو رئاء الناس وتغریرهم بلحیته ، کما قد یری فی أعصارنا من بعض مَن یتکلّف لإدخال نفسه فی عداد أهل الفضل بهذه الوسیلة»(5) .

وفیه : أن الروایات وإن تشمل ما ذکره _ مدظله _ بإطلاقها ، ولکن لاوجه لتخصیصها به وتقییدها .

الفرع السابع : حکم الشارب

من السنن المؤکّدة الأخذ من الشارب وإحفائه ، وقد ورد فیه عدّة من الروایات

ص:56


1- (10) راجع الوافی 6 / 656 _ ومهذب الاحکام 16 / 80 .
2- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 137 .
3- (2) نقل ذلک العلامة الطبسی قدس سره صاحب المنیة عن بعض الأعلام من أساتیده ، ثم قال : ولکن لا دلیل علیه . راجع المنیة / 112 .
4- (3) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 158 .
5- (4) منیة الطالب فی حکم اللحیة والشارب / 67 _ دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 137 .

المستفیضة :

منها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن علیه السلام قال : سألته عن قصّ الشارب أمن السنة ؟ قال : نعم(1) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ من السنة أن تأخذ من الشارب حتّی یبلغ الإطار(2) .

الإطار _ ککتاب _ : ما یفصل بین الشفة وبین شعرات الشارب ، وکلّ شیء أحاط بشیءٍ فهو إطار له .

ومنها : معتبرة اُخری للسکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یطوّلنَّ أحدکم شاربه ، فإنّ الشیطان یتّخذها مخبأ یستتر به(3) .

رواها فی الفقیه(4) مرسلاً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم .

ومنها : موثق ابن فضال عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ذکرنا الأخذ من الشارب ، فقال : نُشْرَةٌ وهو من السنة(5) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن عثمان أنّه رأی أبا عبد اللّه علیه السلام أحفی شاربه حتّی ألصقه بالعسیب(6) .

العسیب : منبت الشعر .

ومنها : معتبرة ثالثة لإسماعیل بن مسلم السکونی عن جعفر علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : لا یطولنَّ أحدکم شاربه ولا شعر إبطیه ولاعانته ، فإنّ الشیطان یتّخذها

ص:57


1- (5) الکافی 6 / 487 ح 7 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 114 ح 1 الباب 66 من أبواب آداب الحمام .
2- (6) الکافی 6 / 487 ح 6 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 114 ح 2 .
3- (1) الکافی 6 / 487 ح 11 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 114 ح 3 .
4- (2) الفقیه 1 / 127 ح 307 .
5- (3) الکافی 6 / 487 ح 8 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 114 ح 4 .
6- (4) الکافی 6 / 487 ح 9 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 115 ح 5 .

مخائباً یستتر بها(1) .

ومنها : موثقة الحسن بن الجهم قال : قال أبو الحسن موسی علیه السلام : خمس من السنن فی الرأس وخمس فی الجسد ، فأمّا التی فی الرأس : فالسواک ، وأخذ الشارب ، وفرق الشعر ، والمضمضة ، والاستنشاق . وأمّا التی فی الجسد : فالختان ، وحلق العانة ، ونتف الإبطین ، وتقلیم الأظفار ، والإستنجاء(2) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : لیأخذ أحدکم من شاربه والشعر الذی فی أنفه ولیتعاهد نفسه ، فإنّ ذلک یزید فی جماله ، وقال : کفی بالماء طیباً(3) .

ومنها : حسنة حفض ابن البحتری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : تقلیم الأظفار وأخذ الشارب من الجمعة إلی الجمعة أمانٌ من الجذام(4) .

رواها فی الفقیه(5) مرسلاً إلی الصادق علیه السلام بالنسبة إلی أخذ الشارب فقط .

ومنها : خبر أبی کهمش قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : علّمنی دعاءً استنزل به الرزق . فقال لی : خذ من شاربک وأظفارک ولیکن ذلک فی یوم الجمعة(6) .

وأیضاً روی الصدوق مثلها فی الدلالة فی الفقیه(7) ، وهی صحیحة عبد اللّه بن أبی یعفور .

هذه الروایات المعتبرة تدلّ بوضوح علی أنّ الأخذ من الشارب والمبالغة فی إحفائه

ص:58


1- (5) علل الشرائع / 519 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 115 ح 6 .
2- (6) الخصال 1 / 271 ح 11 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 11 ح 23 ، الباب 1 من أبواب السواک .
3- (7) قرب الإسناد / 67 ح 215 و 216 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 118 ح 2 الباب 68 من أبواب آداب الحمام .
4- (1) الخصال 1 / 39 ح 24 ونقل عنه فی بحار الأنوار 73 / 110 ح 4 (30 / 190) .
5- (2) الفقیه 1 / 127 ح 305 .
6- (3) الخصال 1 / 391 ح 86 وثواب الأعمال / 43 ونقل عنهما فی بحار الأنوار 73 / 110 ح 5 (30 / 190) .
7- (4) الفقیه 1 / 127 ح 310 .

وقصّه من السنن المؤکدة فی الشریعة المقدسة ، فإعفاؤه مع نسبة هذه الإعفاء إلی الشریعة أو المعصومین علیهم السلام تکون من أظهر مصادیق التشریع المحرّم أو الإفتراء والکذب علی المعصومین علیهم السلام ، کما یظهر ذلک من بعض طوائف الصوفیة خذ لهم اللّه تعالی ونجا دینه منهم .

ص:59

الربا

اشارة

لم یتعرض الشیخ الأعظم قدس سره لبحث الربا فی المکاسب المحرمة وتبعه أکثر الأصحاب قدس سرهم من بعده ، ولکن ینبغی التعرض لهذا البحث لکثرة إبتلاء الناس به من دون قصد منهم إلی ذلک أو معه .

ولأنّه من المکاسب ولذا قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی شأنه : شر المکاسب کسب الربا کما فی مرسلة الصدوق(1) ، أو قال صلی الله علیه و آله وسلم : أخبث المکاسب کسب الربا کما فی خبر سعد بن طریف(2) ، أو قال صلی الله علیه و آله وسلم : شر الکسب کسب الربا کما فی موثقة ابن فضال(3) .

فنتعرض له مع کمال الإختصار والإیجاز وللتطویل والتفصیل محلٌّ آخرٌ بحیث یمکن تدوین کتاب مستقل تحت عنوان « کتاب الربا » ، کما عمله الشهید فی الدروس(4) والسید الیزدی فی العروة الوثقی(5) .

فنقول بعونه تعالی : الربا فی اللغة « الزیادة» کما فی قوله تعالی : «فَلاَ یَرْبُو عِندَ اللَّهِ»(6) وأخذ من قولهم : ربا الشیء یربو : إذا زاد ، والربا هو الزیادة علی رأس المال ، وأربی الرجل : إذا عامل فی الربا . ویأتی موضوعه فی الشریعة المقدسة إن شاء اللّه تعالی .

تدل علی حرمة الربا :

من الکتاب :

آیات منها : قوله تعالی فی سورة البقرة : «الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ

ص:60


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 122 ح 13 الباب 1 من أبواب الربا .
2- (2) وسائل الشیعة 18 / 118 ح 2 .
3- (3) مستدرک الوسائل 13 / 329 ح 1 الباب 1 من أبواب الربا .
4- (4) الدروس 3 / 291 .
5- (5) العروة الوثقی 6 / 5 طبع جماعة المدرسین عام 1423 .
6- (6) سورة الروم / 39 .

الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَیْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَی اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِکَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِیهَا خَالِدُونَ * یَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَیُرْبِی الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ یُحِبُّ

کُلَّ کَفَّارٍ أَثِیمٍ»(1) .

التخبط من الخبط وهو الضرب علی غیر استواءٍ ، ویقال للذی یتصرف فی أمرٍ ولا یهتدی فیه : هو یخبط ، والتخبط : المسّ بالجنون .

وقد فُسر الموعظة هنا فی الروایات بالتوبة ، کما فی صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث قال : الموعظة : التوبة(2) .

ومنها : قوله تعالی فیها : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَکُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِکُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ»(3) .

قال الشیخ الطوسی قدس سره : « روی عن أبی جعفر علیه السلام أنّ الولید بن المغیرة کان یربی فی الجاهلیة وقد بقی له بقایا علی ثقیف ، فأراد خالد بن الولید المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت الآیة فی المنع من ذلک »(4) .

ورواها الطبرسی فی مجمع البیان(5) .

وقال علی بن ابراهیم القمی : « سبب نزولها أنّه لمّا أنزل اللّه : «الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ»قام خالد بن الولید إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وقال : یا رسول اللّه أربی أبی فی ثقیف وقد أوصانی عند موته بأخذه ، فأنزل اللّه تبارک وتعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ *

ص:61


1- (1) سورة البقرة 276 و 275 .
2- (2) التهذیب 7 / 15 ح 68 ونقل عنه فی البرهان 1 / 554 ح 4 .
3- (3) سورة البقرة / 278 و 279 .
4- (4) التبیان 2 / 365 .
5- (5) مجمع البیان 1 / 392 .

فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ» فقال : من أخذ الربا وجب علیه القتل وکلّ من أربی وجب علیه القتل »(1) .

وقال الطبرسی : « روی عن ابن عباس وابن عمر : أن آخر ما نزلت من القرآن آی الربا »(2) .

ومنها : قوله تعالی فی سورة آل عمران : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تَأْکُلُواْ الرِّبَا

أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِی أُعِدَّتْ لِلْکَافِرِینَ»(3) .

ومنها : قوله تعالی حکایة عن فعل الیهود : «فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِینَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَیْهِمْ طَیِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِیلِ اللّهِ کَثِیراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَکْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْکَافِرِینَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِیماً»(4) .

ومن السنة :

عدّة من الروایات المستفیضة بل المتواترة تدلّ علی حرمته :

منها : ما رواه المشایخ الثلاثة بسند صحیح عن هشام بن سالم الثقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : درهم ربا [ عند اللّه کما فی الفقیه ] أشدّ من سبعین زنیة کلّها بذات محرّم(5) .

ومنها : موثقة سماعة قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّی رأیت اللّه تعالی قد ذکر الربا فی غیر آیة وکرره . قال : أو تدری ولم ذاک ؟ قلت : لا ، قال : لئلا یمتنع الناس من اصطناع المعروف(6) .

ومنها : موثقة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : إنّی سمعت اللّه یقول : «یَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَیُرْبِی الصَّدَقَاتِ»وقد أری من یأکل الربا یربوا ماله ! فقال : أیّ محق

ص:62


1- (6) تفسیر القمی 1 / 93 ونقل عنه فی البرهان 1 / 557 ح 5 .
2- (7) مجمع البیان 1 / 394 .
3- (1) سورة آل عمران / 131 و 130 .
4- (2) سورة النساء / 161 و 160 .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 117 ح 1 الباب 1 من أبواب الربا .
6- (4) وسائل الشیعة 18 / 118 ح 3 .

أمحق من درهم ربا یمحق الدین ، وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر(1) .

ومنها : صحیحة هشام بن الحکم أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن علة تحریم الربا ؟ قال : إنّه لو کان الربا حلالاً لترک الناس التجارات وما یحتاجون إلیه ، فحرّم اللّه الربا لتنفر الناس من الحرام إلی الحلال وإلی التجارات من البیع والشراء ، فیبقی ذلک بینهم فی القرض(2) .

ومنها : خبر ابن عباس فی آخر خطبة خطبها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة : ... ومن أکل الربا ملأ اللّه بطنه من نار جهنم بقدر ما أکل ، وإن اکتسب منه مالاً لا یقبل اللّه تعالی منه شیئاً من عمله ، ولم یزل فی لعنة اللّه والملائکة ما کان عنده منه قیراطٌ [ واحدٌ (3)] .

ومنها : صحیحة هشام عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لمّا اُسری بی إلی السماء رأیت قوماً یرید أحدهم أن یقوم ولا یقدر علیه من عظم بطنه ، قال : قلت : من هؤلاء یا جبرئیل ؟ قال : هؤلاء الذین یأکلون الربا(4) .

ومنها : صحیحة جمیل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الربا سبعون باباً أهونها عند اللّه کالذی ینکح اُمّه(5) .

ومنها : صحیحة اُخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : درهم ربا أعظم عند اللّه من سبعین زنیّة کلّها بذات محرّم فی بیت اللّه الحرام(6) .

ومنها : موثقة ابن بکیر قال : بلغ أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أنّه کان یأکل الربا ویسمیه اللباء ، فقال : لئن أمکننی اللّه منه لأضربنَّ عنقه(7) .

اللباء : أوّل اللبن من النتاج .

ص:63


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 119 ح 7 .
2- (6) وسائل الشیعة 18 / 120 ح 8 .
3- (7) عقاب الأعمال / 336 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 122 ح 15 .
4- (1) تفسیر القمی 1 / 93 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 123 ح 16 .
5- (2) تفسیر القمی 1 / 93 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 123 ح 18 .
6- (3) تفسیر القمی 1 / 93 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 123 ح 19 .
7- (4) وسائل الشیعة 18 / 125 ح 1 . الباب 2 من أبواب الربا .

ومنها : معتبرة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الربا وآکله وبائعه ومشتریه وکاتبه وشاهدیه(1) .

تلک عشرة کاملة من الروایات تدلّ علی حرمة الربا ، وقد مرّ أنها مستفیضة أو متواترة .

ومن الإجماع :

قام إجماع المؤمنین بل المسلمین علی حرمته ، بل لا یبعد کونه من ضروریات الدین ، کما صرح بذلک صاحب الجواهر قدس سره (2) .

ومن العقل :

حکم العقل أیضاً یقتضی فساد الربا وحرمته ، لأنّ الربا یوجب تعطیل التجارات والأسواق ویصل بعض الناس إلی حدّ الإفلاس کما شاهدناهم فی هذه الأزمان ، وبعضهم یتقاضی أرباحاً کثیرة من دون عمل أو تجارة أو خدمة . وبالجملة الربا یحرّف مسیرة اقتصاد المجتمع السالم إلی الفساد . وفیه مضافاً إلی المفاسد الإقتصادیة کثیرٌ من المفاسد الاجتماعیة بل المفاسد السیاسیة .

ولعله أشارت إلی ما ذکرنا بعض الروایات الماضیة ، نحو : موثقة سماعة(3) وصحیحة هشام بن الحکم(4) ، ونحوهما خبر محمد بن سنان عن علی بن موسی الرضا علیه السلام أنّه کتب فی جواب مسائله : وعلّة تحریم الربا نهی اللّه عزّ وجل عنه ، ولما فیه من فساد الأموال ، لأنّ الإنسان إذا اشتری الدرهم بالدرهمین کان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً ، فبیع الربا وشراؤه وَکْسٌ علی کل حالٍ علی المشتری وعلی البائع ، فحرّم اللّه عزّ وجل علی العباد الربا لعلّة فساد الأموال ، کما حظر علی السفیه أن یدفع إلیه ماله ، لما یتخوّف علیه من فساده حتّی یؤنس منه رشد ، فلهذه العلّة حرم اللّه عزّ وجل الربا وبیع الدرهم بالدرهمین ، وعلّة تحریم

ص:64


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 127 ح 2 . الباب 4 من أبواب الربا .
2- (6) الجواهر 23 / 332 ، و 25 / 5 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 118 ح 3 .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 120 ح 8 .

الربا بعد البینة لما فیه من الاستخفاف بالحرام المحرَّم ، وهی کبیرة بعد البیان وتحریم اللّه عزّ وجل لها ، لم یکن إلاّ استخفافاً منه بالمحرِّم الحرام ، والاستخاف بذلک دخول فی الکفر ، وعلّة تحریم الربا بالنسیئة لعلّة ذهاب المعروف وتلف الأموال ورغبة الناس فی الربح وترکهم القرض ، والقرض صنائع المعروف ، ولما فی ذلک من الفساد والظلم وفناء الأموال ، الحدیث(1) .

وَکْسُ الشیء : نقصه ، وَکَس التاجر فی تجارته : خسر فی تجارته فذهب ماله .

والحاصل ، إن العقل حاکم بحرمة الربا ، لأنّه یوجب فساد اقتصاد المجتمع الإنسانی ، وما یوجب فساده یوجب هدم المجتمع وفساده ولعله إلی ما ذکرنا أشارت مرسلة الطبرسی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : إذا أراد اللّه بقریة هلاکاً ظهر فیهم الربا(2) .

ومرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : إذا ظهر الزنا والربا فی قریة اُذِنَ فی هلاکها(3) .

ثمّ إنّ للربا قسمین رئیسیین ، وهما : 1 _ الربا فی القرض ، 2 _ الربا فی البیع أو المعاملة .

فلذا نبحث عنه فی مقامین باختصار و إجمال ، وتفصیلهما فی کتابی القرض والبیع .

ص: 65


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 121 ح 11 الباب 1 من أبواب الربا .
2- (4) مجمع البیان 1 / 390 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 123 ح 17 .
3- (5) مستدرک الوسائل 13 / 332 ح 11 .

المقام الأوّل : الربا فی القرض

اشارة

اشتراط الزیادة والنفع فی القرض حرام لأنّه رباً :

قال ثانی الشهیدین ذیل قول المحقق : « فلو شرط النفع حرم» قال : « هذا الحکم إجماعیٌ»(1) .

وقال المحقق السبزواری : « لا أعلم فیه خلافاً بینهم»(2) .

وقال صاحب الحدائق : « لا خلاف بین الأصحاب رضوان اللّه تعالی علیهم فی تحریم اشتراط النفع فی القرض ، بل نقل بعض محققی متأخری المتأخرین إجماع المسلمین علی ذلک»(3) .

وتبعهم صاحب الجواهر وقال : « بلا خلاف فیه ، بل إجماع بقسمیه علیه ، بل ربّما قیل : إنّه إجماع المسلمین لأنّه رباً»(4) .

تدلّ علی الحرمة الإجماع وأنّه رباً وما مرّ منّا من الأدلة فی تحریم الربا .

ونبحث هذا المقام فی ضمن جهات :

الجهة الأولی :

هذه المنفعة تکون تارة فی الزیادة العینیة من نفس الجنس ، یعنی من جنس مال القرض ، کما إذا أقرض من شخص لآخر مائة درهم علی أن یؤدی مائة وعشرة دراهم ، تدلّ علی حرمتها عدّة من الروایات :

منها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : وسألته عن رجل أعطی رجلاً مائة درهم علی أن یعطیه خمسه دراهم أو أقل أو أکثر ؟ قال : هذا الربا المحض(5) .

ص:66


1- (1) المسالک 3 / 443 .
2- (2) کفایة الفقه 1 / 528 .
3- (3) الحدائق 20 / 110 .
4- (4) الجواهر 25 / 5 .
5- (5) مسائل علی بن جعفر / 125 ح 90 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 359 ح 18 الباب 19 من أبواب الدین والقرض .

ومنها : خبر خالد بن الحجاج قال : سألته عن الرجل کانت لی علیه مائة درهم عدداً قضانیها مائة درهم وزناً ؟ قال : لا بأس ما لم یشترط . قال : وقال : جاء الربا من قبل الشروط ، إنّما یفسده الشروط(1) .

الروایة ضعیفة سنداً بخالد بن الحجاج لأنّه إمامی مجهولٌ ، وهی مضمرةٌ .

ومنها : ما رواه المشایخ الثلاثة بسند صحیح عن الحلبی الثقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یستقرض الدراهم البیض عدداً ثم یعطی سوداً [ وزناً ] ، وقد عرف أنّها أثقل ممّا أخذ وتطیب نفسه أن یجعل له فضلها ؟ قال : لا بأس به إذا لم یکن فیه شرط ، ولو وهبها له کلّها صلح(2) .

یعنی : إذا کان بینهما شرط فی أخذ الزیادة من الدراهم ففیه بأس أی حرام .

ونظیرها سنداً ودلالة صحیحة اُخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا أقرضت الدراهم ثم أتاک بخیر منها فلا بأس إذا لم یکن بینکما شرط(3) .

ومنها : حسنة أبی الربیع العنزی الشامی - وهو خالد أو خلید بن أوفی - قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن رجل أقرض رجلاً دراهم فردّ علیه أجود منها بطیبة نفسه وقد علم المستقرض والقارض أنّه إنّما أقرضه لیعطیه أجود منها ؟ قال : لا بأس إذا طابت نفس المستقرض(4) .

سند الروایة حسنٌ کما مرّ ، لأن ابن جریر حسن وأبی الربیع فی أعلی مراتب الحسن ، وغیرهما من رجال السند کلّهم ثقات .

وأمّا دلالتها علی جواز إعطاء الأجود أو الأکثر وقبضه ، حتی إذا علم القارض أنّ المستقرض یعطیه عند الأداء الأجود ، فیجوز له القرض والأخذ والقبض عند الأداء مادام لم یشترط شیئاً ، ولا فرق بین الأجود والأکثر کما هو واضح .

ص:67


1- (6) وسائل الشیعة 18 / 190 ح 1 الباب 12 من أبواب الصرف .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 2 .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 3 .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 192 ح 4 .

ومنها : صحیحة یعقوب بن شعیب التی رواها المشایخ الثلاثة : أنّه سأل أبا جعفر علیه السلام عن الرجل یکون لی علیه جلّة من بسرفآخذ منه جلّة من رطب مکانها وهی أقل منها ؟ قال : لا بأس . قال : قلت : فیکون لی جلّة من بسرفآخذ مکانها جلّة من تمر وهی أکثر منها ؟ قال : لا بأس إذا کان معروفاً بینکما(1) .

الجلّة : وعاء التمر . أجاز الإمام علیه السلام أخذ الأکثر إذا کان بنحو المعروف ، یعنی طابت

نفس المستقرض بإعطائها ، ولا یجوز الأخذ إذا کان بنحو الإشتراط .

ویکفی هذه الأدلة فی حرمة الزیادة العینیة .

الجهة الثانیة :

وتارة الزیادة تکون من غیر جنس مال القرض ، سواء کانت بنحو العینیة - کما إذا أقرضه مائة درهم علی أن یعطیه مائة درهم وخمسة دنانیر - أو کانت عملاً نحو خیاطة ثوب ، أو کانت منفعة أو انتفاعاً کالانتفاع بالعین المرهونة عنده . تدلّ علی حرمتها أیضاً عدّة من الروایات :

منها : صحیحة محمد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال : من أقرض رجلاً ورقاً فلا یشترط إلاّ مثلها ، فإن جوزی أجود منها فلیقبل ، ولا یأخذ أحدٌ منکم رکوب دابة أو عاریة متاع یشترطه من أجل قرض ورقه(2) .

دلالة الصحیحة علی حرمة الزیادة من غیر الجنس - نحو رکوب دابة أو عاریة متاع - واضحة .

ومنها : خبر إسحاق بن عمار عن أبی الحسن علیه السلام قال : سألته عن الرجل یکون له مع رجل مال قرضاً فیعطیه الشیء من ربحه مخافة أن یقطع ذلک عنه ، فیأخذ ماله من غیر أن یکون شرط علیه ؟ قال : لا بأس بذلک مالم یکن شرطاً(3) .

دلالة الروایة واضحة ، لأن الشیء من الربح بإطلاقه یشمل غیر المال أیضاً ، فإذا

ص:68


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 301 ح 7 . الباب 9 من أبواب السلف .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 357 ح 11 . الباب 19 من أبواب الدین والقرض .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 354 ح 3 .

شُرط یصیر حراماً . ولکن فی السند ضعف بموسی بن سعدان .

ومنها : موثقة له أیضاً قال : قلت لأبی إبراهیم علیه السلام : الرجل یکون له علی الرجل المال قرضاً فیطول مکثه عند الرجل لا یدخل علی صاحبه منه منفعة فینیله الرجل الشیء بعد الشی کراهیة أن یأخذ ماله حیث لا یصیب منه منفعة ، أیحلّ ذلک له ؟ قال : لا بأس إذا لم یکن بشرط(1) .

دلالتها نحو روایته الاُخری .

ومنها : موثقة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قلت له : الرجل یأتیه النبط بأحمالهم فیبیعها لهم بالأجر ، فیقولون له : أقرضنا دنانیر فإنّا نجد من یبیع لنا غیرک ، ولکنّا

نخصّک بأحمالنا من أجل أنّک تقرضنا ، فقال : لا بأس به ، إنّما یأخذ دنانیر مثل دنانیره ، ولیس بثوب إن لبسه کسر ثمنه ولا دابة إن رکبها کسرها ، وإنما هو معروف یصنعه إلیهم(2) .

الجهة الثالثة :

الزیادة یمکن أن تکون زیادة وصفیة غیر راجعة إلی الکمیّة ، مثل کون أحدهما فضة تبر والآخر مضروبة ، أو أن یقرضه دنانیر مکسورة علی أن یؤدیها صحیحاً . قد نقل عن بعض الأصحاب(3) قدس سرهم جوازها ، ولکن تدلّ علی حرمتها عدّة من الروایات :

منها : خبر داود الأبزاری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یصلح أن تقرض ثمرة وتأخذ أجود منها بأرض اُخری غیر التی أقرضت فیها(4) .

سند الروایة ضعیف بداود لأنّه أمامی مجهول ، وأمّا دلالتها واضحة ، إذ یمکن فرض الجودة فی الثمرة مع عدم اختلاف فی الوزن . وأمّا شرط أداء القرض فی الأرض الاُخری فلا

ص:69


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 357 ح 13 .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 356 ح 10 .
3- (2) منهم الشیخ فی النهایة / 312 وأبو الصلاح الحلبی فی الکافی / 331 وابن حمزة فی الوسیلة / 273 ومال إلیه الأردبیلی فی مجمع الفائدة 9 / 66 .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 194 ح 10 . الباب 12 من أبواب الصرف _ وسائل الشیعة 18 / 144 ح 1 الباب 12 من أبواب الربا .

بأس به ، کما یأتی التعرض لذلک فی الجهة الثامنة .

فینحصر إشکال الإمام علیه السلام فی اشتراط أخذ الأجود ،ومن المعلوم أنّ الأجودیة من الزیادة الوصفیة ، وأمّا ظهور کلمة « لا تصلح » فی الحرمة أیضاً واضح ، فدلالة الروایة علی حرمة أخذ الزیادة الوصفیة ظاهرة ، ولکن قد مرّ ضعف سندها .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یقترض من الرجل الدرهم فیردّ علیه المثقال ، ویستقرض المثقال فیردّ علیه الدراهم ؟ فقال : إذا لم یکن شرط فلا بأس ، وذلک هو الفضل ، إنّ أبی علیه السلام کان یستقرض الدراهم الفسولة فیدخل علیه الدراهم الجیاد فیقول : یا بنیّ ردّها علی الذی استقرضتُها منه ، فأقول : یا أبه إنّ دراهمه کانت فسولة وهذه خیر منها ، فیقول : یا بنیَّ إنّ هذا هو الفضل ، فأعطه إیّاها(1) .

سند الروایة صحیح ، ودلالتها بأنّ محط نظر السائل إلی أنّ الدراهم مضروبة ولکن المثقال فضة تبر ولذا تختلف قیمتها مع تساوی وزنها ، والإمام علیه السلام أجاز أخذ الزیادة من دون اشتراط ومعه فلا .

ومنها : موثقة عبد الملک بن عتبة عن عبد صالح علیه السلام قال : قلت له : الرجل یأتینی یستقرض منّی الدراهم فأوطن نفسی علی أن اُؤخره بها شهراً للذی یتجاوز به عنّی ، فإنّه یأخذ منّی فضة تبر علی أن یعطینی مضروبة ، إلاّ أنّ ذلک وزناً بوزنٍ سواءً ، هل یستقیم هذا ، إلاّ أنّی لا اُسمی له تأخیراً ، إنّما أشهد لها علیه فیرضی ؟ قال : لا اُحبّه(2) .

سند الروایة موثق ، وظهورها فی الإشتراط واضح . وأمّا « لا اُحبّه» هل یُحمل علی الکراهة کما علیه ظاهر اللفظ وذهب إلیه صاحب الوسائل وبعض مشایخنا(3) قدس سره ، أو أنّه یحمل علی الحرمة بقرینة غیرها من الروایات ؟ الظاهر هو الأخیر .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا أقرضت الدراهم ثم جاءک

ص:70


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 193 ح 7 .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 194 ح 9 .
3- (2) الفقیه الورع آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره فی کتابه المکاسب المحرمة / 12 .

بخیر منها فلا بأس إذا لم یکن بینکما شرط(1) .

یعنی إذا کان بینهما شرط ففیه بأس أی حرام .

ولا یعارضها صحیحة یعقوب بن شعیب قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یقرض الرجل الدراهم الغلة فیأخذ منها الدراهم الطازجیة طیبة بها نفسه ؟ فقال : لا بأس ، وذُکر ذلک عن علی علیه السلام (2) .

الدراهم الطازجیة : الدراهم الجیدة البیض الخالصة . الدراهم الغلة : الدراهم المکسورة وغیر الخالصة .

والمراد بهذه الروایة : جواز الأخذ من المقارض إن طابت نفس المقترض فی الإعطاء من دون إشتراط ، فلا ینافی مع ما ذکرناها ، واللّه العالم .

الجهة الرابعة :

إنّما حرمت الزیادة مع الاشتراط ، وإمّا بدونه فلا بأس بها ، بل تستحب . وتدلّ علیه عدّة من الروایات قد ذکرنا بعضها ضمن الجهات السابقة من البحث ، فلا نعیدها بل نذکر هنا ماورد فی خبر خالد بن الحجاج(3) وصحیحة الحلبی(4) وصحیحة اُخری له(5) وصحیحة

محمد بن قیس(6) وخبر إسحاق بن عمار(7) وموثقته(8) وصحیحة عبد الرحمن بن الحجاج(9) ، وهذه الروایات کلّها قد مرّ ذکرها .

ص:71


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 3 و 18 / 360 ح 1 الباب 20 من أبواب الدین والقرض .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 192 ح 5 .
3- (5) وسائل الشیعة 18 / 190 ح 1 .
4- (6) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 2 .
5- (7) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 3 .
6- (1) وسائل الشیعة 18 / 357 ح 11 .
7- (2) وسائل الشیعة 18 / 354 ح 3 .
8- (3) وسائل الشیعة 18 / 357 ح 13 .
9- (4) وسائل الشیعة 18 / 193 ح 7 .

ومنها : معتبرة حفص بن غیاث عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الرباء ان : أحدهما ربا حلال والآخر ، حرام فأمّا الحلال فهو أن یقرض الرجل قرضاً طمعاً أن یزیده ویعوضه بأکثر ممّا أخذه بلا شرط بینهما ، فإن أعطاه أکثر ممّا أخذه بلا شرط بینهما فهو مباح له ولیس له عند اللّه ثواب فیما أقرضه ، وهو قوله عزّ وجل : «فَلاَ یَرْبُوا عِندَ اللَّهِ»(1) ، وأمّا الربا الحرام : فهو الرجل یقرض قرضاً ویشترط أن یردّ أکثر ممّا أخذه فهذا هو الحرام(2) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : من أقرض ورقاً فلا یشترط إلاّ ردّ مثلها ، فإن قُضی أجود منها فلیقبل(3) .

الجهة الخامسة :

هل الحرمة من ناحیة اشتراط الزیادة تصل إلی إصل القرض ویوجب بطلانه وضعاً ؟

قال المحقق فی الشرائع : « فلو شرط النفع حرم ولم یفد الملک»(4) .

وذیّله ثانی الشهیدین بقوله : « هذا الحکم إجماعی ، ومستنده ما روی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : « کلّ قرض یجرّ منفعة فهو حرام»(5) . والمراد مع الشرط ، إذ لا خلاف فی جواز التبرع بالزائد وغیره من الأخبار ... ومتی فسد العقد لم یجز للمقترض أخذه ، فلو قبضه کان مضموناً علیه کالبیع الفاسد ، للقاعدة المشهورة من أنّ « کلّ ما ضمن بصحیحه ضمن بفاسده » خلافاً لابن حمزة هنا ، فإنّه ذهب إلی کونه أمانة(6) ، وهو ضعیف»(7) .

قد عرفت ادعاء الإجماع فی المسألة من صاحب المسالک قدس سره مع إقراره بخلاف ابن

حمزة فی المقام ، واعترض علیه المحدث البحرانی قدس سره وقال : « أمّا ما ذکروه من تحریم الشرط

ص:72


1- (5) سورة الروم / 39 .
2- (6) وسائل الشیعة 18 / 160 ح 1 الباب 18 من أبواب الربا .
3- (7) دعائم الاسلام 2 / 61 ح 169 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 409 ح 2 .
4- (8) شرائع الاسلام 2 / 61 .
5- (9) سنن البیهقی 5 / 350 : وفیه : فهو وجه من وجوه الربا .
6- (10) الوسیلة / 273 .
7- (11) المسالک 3 / 443 .

المذکور فهو ممّا لا إشکال فیه ، وما ذکروه من بطلان أصل العقد فإن کان من حیث اشتماله علی الشرط الفاسد وکلّ عقد کان کذلک فهو باطل ، فقد عرفت الخلاف فی ذلک فیما تقدم ، إلاّ أنّ الظاهر أنّه لیس البطلان هنا عندهم مبنیّاً علی ذلک ، ولهذا إنّما استند شیخنا المتقدم ذکره بعد دعوی الإجماع إلی الخبر النبوی المذکور ، وهو صریح فیما ذکره . إلاّ أنّ الظاهر أنّ الخبر المذکور إنّما هو من طریق العامة ، فإنّی لم أقف علیه بعد التتبع فی شیءٍ من کتب أخبارنا ، وأخبار المسألة المتقدمة علی کثرتها وتعددها لیس فیها إشعار فضلاً عن الدلالة الصریحة ببطلان أصل العقد ، بل الظاهر منها إنّما هو بطلان الشرط ، فإنّ مفهوم نفی البأس مع عدم الشرط فی کثیر ممّا تقدم من الأخبار إنّما توجّه إلی الزیادة کما لا یخفی علی المتأمل فیها»(1) .

ولکن صاحب الجواهر حکم بضعف قول ابن حمزة وقال : « وأضعف منه توقف المحدث البحرانی فی ذلک»(2) . وذهب إلی بطلان القرض مع اشتراط الزیادة وقال : « فیحرم علی المستقرض التصرف فیه ، وهو مضمون علیه لکونه مقبوضاً علی ذلک ، ولأن ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده»(3) .

أقول : إن تمّ الإجماع فی المقام فهو کما ادعاه صاحب المسالک(4) وقبله العلامة فی المختلف قال : « ... للإجماع علی أنّه إذا أقرضه شیئاً وشرط علیه أن یردّ خیراً ممّا أقرضه کان حراماً وبطل القرض ... »(5) .ولکن دون إثباته خرط القتاد ویمکن إرجاع إجماع العلامة قدس سره بالحرمة فقط دون البطلان .

وأمّا ابتناء بطلان القرض علی مسألة فساد الشرط یقتضی فساد العقد أیضاً فغیر تام ، لأن المشهور ذهبوا إلی بطلان القرض مع عدم ذهابهم إلی أن الشرط الفاسد مفسد .

وأمّا التمسک بالنبوی أیضاً غیر تام ، لعدم وروده من طرقنا ، بل ورد من طرقنا جواز

ص:73


1- (1) الحدائق 20 / 117 .
2- (2) الجواهر 25 / 7 .
3- (3) الجواهر 25 / 6 .
4- (4) المسالک 3 / 443 .
5- (5) مختلف الشیعة 5 / 391 .

الإنتفاع بمنفعة القرض من دون اشتراط ، کما فی صحیحة محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یستقرض من الرجل قرضاً ویعطیه الرهن إمّا خادماً وإمّا آنیة وإمّا ثیاباً ،

فیحتاج إلی شیءٍ من منفعته فیستأذن فیه فیأذن له ؟ قال : إذا طابت نفسه فلا بأس . قلت : إنّ مَنْ عندنا یروون أنّ کلّ قرضٍ یجرّ منفعة فهو فاسد ، فقال : أو لیس خیر القرض ما جرّ منفعة(1) .

والمراد بأبی أیوب فی سند الروایة هو إبراهیم بن عثمان المکنی بأبی أیوب الخزاز الثقة .

وأمّا التمسک بقاعدة « ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده » کما عن صاحب الجواهر فلیس إلاّ مصادرة بالمطلوب ، أعنی أنه یحتاج إلی إثبات فساد القرض أولاً وهو أوّل الکلام ، ثم یرتب علی القاعدة .

فکلّ ما ذکره الأعلام فی المقام من دلیل بطلان القرض مع اشتراط الزیادة غیر تام ، مضافاً إلی عدم ذکر بطلان القرض من رأسه فی روایاتنا کما مرّ الاعتراف بذلک من صاحب الحدائق(2) ، فلابدّ من القول ببطلان شرط الزیادة وصحة القرض . وذهب إلی ما ذکرنا مضافاً إلی صاحب الحدائق(3) ، صاحبا الجواهر(4) والعروة(5) ، واختاره أیضاً العلامة المؤسس الحائری قدس سره فی تقریرات بحثه الشریف(6) ، وتبعه بعض تلامیذه نحو السید الخمینی والشیخ الأراکی قدس سرهم وبعض الأساتیذ(7) _ مدظله _ .

اللهم إلاّ أن یقال : حَکَم الشارع بفساد إشتراط النفع وبطلانه ، فیقتضی هذا بطلان

ص:74


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 354 ح 4 الباب 19 من أبواب الدین والقرض .
2- (2) الحدائق 20 / 117 .
3- (3) الحدائق 20 / 118 .
4- (4) الجواهر 23 / 397 ، حیث ذهب إلی وجوب ردّ الزیادة خاصة فی کتاب التجارة ، ولکن اختار البطلان فی کتاب القرض 25 / 6 کما مرّ کلامه آنفاً .
5- (5) العروة الوثقی 6 / 16 .
6- (6) المکاسب المحرمة / 13 بقلم مقرره شیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
7- (7) تازه های أحکام / 54 لمحمد حسن موحدی ساوجی .

نفس القرض ، لأنّ الشارع حکم بفساد الإنتفاع والمقرض أیضاً لا یرضی بالتصرف فی ماله بدون هذا الإنتفاع ، فصار أصل القرض باطلاً .

وفیه : أن إثبات الأحکام الشرعیة بهذه الإستحسانات العقلیة مشکل ، وفیه ما لا یخفی .

والحاصل ، إن ثبت الإجماع فی المقام فهو وإلاّ دون إثباته بالإدلة الماضیة خرط القتاد .

ولکن بطلان شرط الزیادة وحرمة أخذها یُستفاد بوضوح من جملة من الروایات

المذکورة فیما سلف : کصحیحتی الحلبی(1) وصحیحة عبد الرحمن بن الحجاج(2) وخبر خالد بن الحجاج(3) وغیرها ، واللّه العالم .

الجهة السادسة :

إنّما یحرم شرط الزیادة للمقرض علی المقترض لا عکسه .

أدلة حرمة إشتراط النفع فی القرض یختص بصورة اشتراط النفع للمقرض ولکن إذا یصل النفع إلی المقترض فلا یشملها ، ولذا نذهب إلی عدم البأس به ، کما إذا أقرضه مائة درهم علی أن یؤدی تسعین ، أو أقرضه دراهم صحیحة علی أن یؤدی مکسورة ، أو کما خاف المقرض من وجود المال عنده من سرقة أو ضیاع أو أخذه بتوسط ظالم فأقرضه شخصاً وشرط له شیئاً من العین أو المنفعة . ففی کلِّ هذه الموارد حیث ینتقل النفع إلی المقترض حتّی مع الاشتراط فلا بأس بها ویجوز ، لأنّ أدلة حرمة الربا فی القرض تنحصر فی صورة رجوع النفع إلی المقرض فقط ولخروج هذا الفرض عن الربا موضوعاً .

وتدلّ علی الجواز أو تؤیده صحیحة یعقوب بن شعیب أنّه سأل أبا جعفر علیه السلام عن الرجل یکون لی علیه جلّة من بسر فآخذ منه جلّة من رطب مکانها وهی أقل منها ؟ قال : لا بأس ، الحدیث(4) .

ص:75


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 2 و 3 .
2- (2) وسائل الشیعة 18 / 193 ح 7 .
3- (3) وسائل الشیعة 18 / 190 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 301 ح 7 الباب 9 من أبواب السلف .
الجهة السابعة :

إذا شُرط فی القرض شرطٌ لیس فیه نفع لأحد الطرفین جاز .

لمّا مرّ فیما سلف أنّ أدلة حرمة إشتراط النفع فی القرض تنحصر فیما إذا کان النفع یرجع إلی المقرض فقط ، ففی هذا الفرض حیث لا یرجع نفع إلی المقرض فلا بأس به . مضافاً إلی ما ذکرنا أنه تدلّ علیه موثقة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قلت له : الرجل یأتیه النبط بأحمالهم فیبیعها لهم بالأجر ، فیقولون له : أقرضنا دنانیر فإنّا نجد من یبیع لنا غیرک ولکنّا نخصّک بأحمالنا من أجل إنّک تقرضنا ، فقال علیه السلام : لا بأس به ، إنّما یأخذ دنانیر مثل دنانیره ، ولیس بثوب إن لبسه کسر ثمنه ولا دابّة إن رکبها کسرها ، وإنّما هو معروف یصنعه إلیهم(1) .

فعلی ما ذکرنا یجوز اشتراط کلّ شیءٍ لیس فیه نفع لأحد الطرفین ، مثل اشتراط البیع أو الإجارة بالثمن أو الاُجرة المتعارفین ، لصدق أنّ المقرض یأخذ دراهماً مثل دراهمه .

وهکذا یجوز اشتراط کلّ شیءٍ لا یکون فیه نفعٌ للمقرض ولو کان فیه مصلحة ، له نحو : إعطاء الرهن أو الضّامن أو الکفیل أو الإشهاد ونحوها ، لأنه لیس للمقرض فیه نفعاً وإن کان فیه مصلحة ، لأن المصلحة غیر النفع عرفاً .

الجهة الثامنة :

لو اشترط علی المقترض أداء القرض وتسلیمه فی بلد معین جاز وصح إن کان فیه نفع للمقرض .

اشتراط أداء القرض فی بلد معین غیر بلد الإقراض من طرف المقرض نافذ ولزم علی المقترض أداؤه فی ذلک البلد وإن کان فی حمله إلیه یحتاج إلی مؤنة زائدة ، وهذا النفع - وإن کان یرجع إلی المقرض - ولکن حکمت بصحة هذا القرض الروایات المتعددة :

منها : صحیحة یعقوب بن شعیب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : یسلف الرجل الورق علی أن ینقدها إیاه بأرض اُخری ویشترط علیه ذلک ؟ قال : لا بأس(2) .

ص:76


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 356 ح 10 الباب 19 من أبواب الدین والقرض .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 196 ح 1 الباب 14 من أبواب الصرف .

ومنها : صحیحة أبی الصباح عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الرجل یبعث بمال إلی أرض ، فقال للذی یرید أن یبعث به : أقرضنیه وأنا اُوفیک إذا قدمت الأرض ، قال علیه السلام : لا بأس(1) .

ومنها : صحیحة أبان فی الرجل یسلف الرجل دراهم ینقدها إیّاه بأرض اُخری ، قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لا بأس به(2) .

ومنها : صحیحة إسماعیل بن جابر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : یدفع إلیَّ الرجل الدراهم فأشترط علیه أن یدفعها بأرض اُخری سوداً بوزنها ، وأشترط ذلک علیه ؟ قال : لا بأس(3) .

ومنها : معتبرة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یُسلف الرجل الدارهم ینقدها إیّاه بأرض اُخری والدراهم عدداً ؟ قال : لا بأس(4) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : لا بأس بأن یأخذ الرجل الدراهم بمکة ویکتب لهم سفاتج أن یعطوها بالکوفة(5) .

السفاتج : جمع سُفْتجة ، وهی أن یعطی مالاً لآخر ، وللآخر مال فی بلد المعطی فیوفیه أیّاه هناک ، فیستفید أمن الطریق أو یأمن به خطر الطریق .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن جعفر بن محمد علیه السلام أنّه رخّص فی السفاتج هی المال یستسلفه الرجل بأرض ویقبضه باُخری(6) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن أمیر المؤمین علیه السلام إنّه أعطی مالاً فی المدینة ثم أخذه

ص:77


1- (2) وسائل الشیعة 18 / 196 ح 2 الباب 14 من أبواب الصرف .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 197 ح 4 .
3- (4) وسائل الشیعة 18 / 197 ح 5 .
4- (5) وسائل الشیعة 18 / 197 ح 7 .
5- (1) وسائل الشیعة 18 / 196 ح 3 .
6- (2) دعائم الاسلام 2 / 62 ح 172 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 352 ح 1 الباب 8 من أبواب الصرف .

بأرض اُخری(1) .

ولا ینافی هذه الروایات المتعددة بل المعتبرة المستفیضة خبر داود الأبزاری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یصلح أن تقرض ثمرة وتأخذ أجود منها بأرض اُخری غیر التی أقرضت فیها(2) .

لأنه قد مرّ فی الجهة الثالثة من هذه الجهات :

أولاً : ضعف سندها بداود لأنّه إمامیٌّ مجهولٌ .

وثانیاً : بأنّها تحمل علی أخذ الزیادة الوصفیة مع الاشتراط وحرمتها .

وثالثاً : علی فرض حملها علی ظاهرها لا یمکن مقابلة هذه الروایة الواحدة مع عدّة کثیرة من الروایات المعتبرة المنافیة لها ، فلابدّ من الأخذ بهذه الروایات وحمل هذه الروایة بما مرّ منّا .

والحاصل ، جواز اشتراط أداء القرض فی بلد معین وأخذه فی غیر بلد الإقراض من طرف المقرض .

هذا کلّه إذا اشترط المقرض الدفع إلیه فی بلد معین ، وإلاّ لزم علی المقترض الدفع إلیه فی بلد القرض وعلی المقرض القبول . وأمّا الدفع فی غیر بلد القرض فیحتاج إلی التراضی من

الطرفین ، وإن کان الأحوط للمقترض الأداء مع عدم الضرر وعدم الاحتیاج إلی مؤنة الحمل لو طالبه المقرض فیه ، واللّه سبحانه هو العالم .

الجهة التاسعة :

لا فرق فی اشتراط النفع بین کونه فی عقد القرض أو فی ضمن عقد لازم خارج عنه .

نحو : إقراضه مائة ألف تومان للمقترض إلی سنة کاملة ولکن شرط علیه فی هذا القرض بیع شیءٍ یساوی ألفاً بخمسمائة ، فیصدق علی هذا القرض أنّه یجرّ نفعاً مع الإشتراط

ص:78


1- (3) دعائم الاسلام 2 / 62 ح 171 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 352 ح 1 الباب 8 من أبواب الصرف .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 194 ح 10 ، و وسائل الشیعة 18 / 144 ح 1 .

فیصدق علیه الربا .

أو إقراضه مائة ألف تومان للمقترض إلی سنة کاملة ولکن شرط علیه إجارة داره إلی سنة کاملة ما یساوی بعشرین ألفاً ، بألفٍ فقط ، فهذا أیضاً یصدق علیه إشتراط النفع فی القرض فیصدق علیه الربا .

فکلّ هذه الموارد یصدق علیها عنوان الربا ، وإطلاق أدلة حرمة الاشتراط فی القرض یشمل المقام ، أعنی إذا شُرط فی عقد القرض عقد لازم خارج عنه ، بحیث بعد الإقتراض لابدّ لهما من الإلتزام بالعقد الثانی أیضاً ولیس للمقترض الإختیار فی العقد الثانی ، بل بعد القرض لابدّ له من الوفاء بالعقد الثانی أیضاً وفیه الزیادة أو النفع للمقرض .

وهذا الفرض أیضاً یدخل فی الاشتراط فی القرض ولهذا حرم بإطلاق أدلتها .

الجهة العاشرة : الربا القرضی حرام مطلقاً

قد یُقسّم الربا القرضی إلی قسمین : 1 _ الربا الاستهلاکی

2 _ الربا الاستنتاجی .

وقد یُسمع مِنْ بعض مَنْ عاصرناه(1) بانحصار الحرمة فی القسم الأوّل وجواز الثانی .

والمراد بالربا الاستهلاکی : إذا استقرض شخص من الآخر ولکن هلک المال فی ضروریات حیاته ومعاشه من مصارفه ومخارجه الشخصیة أو العائلیة بحیث لم یبق له من المال شیئاً .

والمراد بالربا الاستنتاجی : أنّه إذا استقرض المال ولکنّه لم یصرفه فی مصارفه

ومخارجه الضروریة بل یجعله رأس ماله ویعمل به ، أو باع به شیئاً من الوسائل أو الدکاکین ویعمل به ، ونحو ذلک بحیث یستثمر المال ویصیر إلی الزیادة یوماً فیوماً .

بعد قبول هذین التعریفین للربا ، یشملهما إطلاق أدلة حرمة الربا ، فلا وجه لتخصیص الحرمة بالأوّل دون الثانی . فالربا القرضی حرام مطلقاً بلا فرق بین الإستهلاکی منه أو

ص:79


1- (1) مجمع المسائل 1 / 384 _ للشیخ یوسف الصانعی دامت برکاته .

الإستنتاجی .

هذا مجمل الکلام فی الربا فی القرض ومحلّ تفصیله فی کتاب القرض ، وفقنا اللّه تعالی لتحریره وبحثه إن شاء اللّه تعالی وله الحمد .

ص: 80

المقام الثانی : الربا فی المعاملة

اشارة

یجری الربا فی البیع مع شرطین فی الثمن والمثمن : 1 _ الإتحاد فی الجنس ، 2 _ وکونهما من المکیل أو الموزون إذا باع بالتفاضل .

الشرط الأوّل : الاتحاد فی الجنس

وهو أن یصدق علی الثمن والمثمن أنّهما من جنس واحد ، ویشملهما اللفظ الخاص الکاشف عن اتحاد حقیقتهما النوعیة ، فکلّ ما یصدق علیه الحنطة أو الاُرز أو العنب أو التمر أو نحوها جنس واحد وإن اختلفت صفاتها وخواصّها .

قال المحقق فی الشرائع : « الأوّل : فی بیان الجنس ، وضابطه : کلّ شیئین یتناولهما لفظ خاص کالحنطة بمثلها والاُرز بمثله»(1) .

وقال العلامة فی القواعد : « وضابط الإتفاق فی الجنس شمول اللفظ الخاص لهما کالحنطة والاُرز ، لا کالمطعوم المختلفة أفراده»(2) .

وقال فی الإرشاد : « والجنس هنا الحقیقة النوعیة کالحنطة والاُرز والتمر ، ولا تخرج الحقیقة باختلاف الصفات العارضة ، فالحنطة ودقیقها جنس ، والتمر ودبسه جنس ، والعنب والزبیب جنس ، واللبن والمخیض(3) والحلیب واحد ، وجیّد کل جنسٍ وردیؤه واحد ، وثمرة النخل جنس وکذا الکَرْم(4) ، واللحوم مختلفة ، فلحم البقر والجاموس واحد ، ولحم البقر والغنم جنسان ، والوحشی مخالف لأنسیه»(5) .

وقال المحقق الثانی فی شرح قول العلامة فی القواعد : « المراد باللفظ الخاص : ما یکون مفهومه نوعاً بالإضافة إلی ما تحته ، فالجنس فی عبارته هو ما یعبَّر عنه فی المنطق بالنوع ،

ص:81


1- (1) الشرائع 2 / 38 .
2- (2) القواعد 2 / 60 .
3- (3) وهو الذی قد مخض وأخذ زبده .
4- (4) الکَرْم : العنب ، جمعه الکُرُوم .
5- (5) ارشاد الاذهان 1 / 378 .

وأهل اللغة یسمونه جنساً ، وهذا وإن عزّ الوقوف علیه إلاّ أنّ بعض الأشیاء قد قام القاطع علی بیان نوعها ، فالحنطة بالنسبة إلی ما تحتها نوع بالنص والإجماع ، فالحمراء والبیضاء وغیرهما واحد ، وکذا الاُرز ... »(1) .

وقال ثانی الشهیدین فی شرح قول المحقق فی الشرائع : « المراد باللفظ الخاص ما یکون مفهومه نوعاً بالإضافة إلی ما تحته ، فالجنس فی هذا الباب هو المعبّر عنه فی المنطق بالنوع وأهل اللغة یسمّونه جنساً أیضاً ، ولا مشاحة فی الإصطلاح ، والمراد بالشیئین اللذیْن یتناولهما اللفظ أفراد ذلک النوع کالصفراء والحمراء فی الحنطة ... »(2) .

وقال المحقق الأردبیلی فی شرح قول العلامة فی الإرشاد : « أشار بلفظ « هنا » أی الفقه والاُصول أو باب الربا ، إلی أنَّ الجنس له إطلاق آخر ، وهو الجنس المنطقی المقابل للنوع ، فهذا الاصطلاح عکس ذلک فی الجنس والنوع ، والأمر فی ذلک هیّن .

ولکن تحقیق ما یُعرف به الجنس مشکل جداً ، فإنّه تارة یُعلم أنّ المراد به النوع ، فکلّما تحقق حقیقة واتفاق أفرادها فیها فهو النوع الواحد المراد بالجنس الواحد الذی هو شرط الربا ، وتحقیقه متعسر جداً ، بل قد ادعی کونه متعذراً .

وتارة أنّ المراد به ما یشمله لفظ واحد ویخصه ، مثل الحنطة والاُرز ولاتمر ، فإنّ لکلِّ واحدٍ اسماً خاصاً وتحته أفراد متکثرة ، وإن وجد بین الأفراد اختلاف کثیر إلاّ أنّه لیس له اسم خاص ولا حقیقة خاصة ، بل الاختلاف بالصنف وإن کان له اسم فهو بانضمام الاسم الأوّل ... .

ولعلّک تفهم اتحاد الجنس بملاحظة کلتا الضابطتین ویتبع کلامهم ، فما یکون له اسم واحد وحقیقة واحدة _ بحسب الظاهر والذی یجده العقل بحسب تفاهم العرف کذلک _ فهو جنس واحد مع فروعه ، وما یُعمل منه أو ما یخرج عن الحقیقة بعمل فیها عن أصلها ، وإن خرج عن ذلک الإسم والحقیقة عرفاً وخاصیّة وطعماً ، فاستفهم اللّه یفهمک »(3) .

ص:82


1- (6) جامع المقاصد 4 / 266 .
2- (1) مسالک الافهام 3 / 317 .
3- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / (467 _ 465) .

هذا کلّه بعض کلمات الأعلام فی المقام ، وتدلّ علی اعتبار اتحاد واشتراک الجنسیّة عدّة من الروایات :

منها : صحیحة عمر بن یزید بیّاع السابری عن أبی عبد اللّه علیه السلام _ فی حدیث _ أنّه قال : یا عمر قد أحلّ اللّه البیع وحرم الربا ، بع واربح ولا تربه . قلت : وما الربا ؟ قال : دراهم بدراهم مثلین بمثل ، وحنطة بحنطة مثلین بمثل(1) .

سند الصدوق إلی عمر بن محمد بن یزید بیاع السابری مولی ثقیف صحیح وهو ثقة جلیل ، فالروایة صحیحة الإسناد . وتدلّ فقرة « حنطة بحنطة» بوضوح علی الإتحاد فی الجنس فی تطرق الربا فی البیع .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی قال : کره أبو عبد اللّه علیه السلام قفیز لوز بقفیزین لوز ، وقفیزاً من تمر بقفیزین من تمر(2) .

سند الروایة حسنة بخالد بن جریر وأبی الربیع الشامی ، وهو خلید أو خالد بن اُوفی فی أعلی درجة الحسن . ودلالتها واضحة ، لأنّ الکراهة هنا تُحمل علی الحرمة لما یأتی فی ذیل صحیحة عبد اللّه بن سنان ، فانتظر .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام _ فی حدیث _ قال : إذا اختلف الشیئان فلا بأس به مثلین بمثل یداً بید(3) .

ودلالتها بالمفهوم علی الإتحاد واضحة .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ما کان من طعام مختلف أو متاع أو شیءٍ من الأشیاء یتفاضل فلا بأس ببیعه مثلین بمثل یداً بیدٍ ، فأمّا نَظِرَة فلا یصلح(4) .

الروایة صحیحة الإسناد . وأمّا دلالتها بالمفهوم علی المراد واضحة ، لأنّ مفهومها هکذا : ما کان من طعام متحد أو متاع متحد أو شیءٍ من الأشیاء متحد یتفاضل ففیه بأس

ص:83


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 133 ح 2 . الباب 6 من أبواب الربا .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 134 ح 4 .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 144 ح 1 . الباب 13 من أبواب الربا .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 145 ح 2 .

بیعه مثلین بمثل .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام _ فی حدیث _ قال : الکیل یجری مجری واحد ، قال : ویکره قفیز لوز بقفیزین ، وقفیز تمر بقفیزین ، ولکن صاع حنطة بصاعین تمر ، وصاع تمر بصاعین زبیب إذا اختلف هذا ، والفاکهة الیابسة تجری مجریً واحداً . وقال : لا بأس بمعاوضة المتاع ما لم یکن کیلاً أو لا وزناً(1) .

ومنها : موثقة سماعة قال : سألته عن الطعام والتمر والزبیب ؟ فقال : لا یصلح شیء منه إثنان بواحد ، إلاّ أن یصرفه نوعاً إلی نوع آخر ، فإذا صرفته فلا بأس اثنین بواحد وأکثر(2) .

ومنها : موثقة اُخری لسماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : المختلف مثلان بمثل یداً بیدٍ لا بأس(3) .

دلالتها بالمفهوم واضحة .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن سنان قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : کان علی علیه السلام یکره أن یستبدل وسقاً من تمر خیبر بوسقین من تمر المدینة ، لأنّ تمر خیبر أجودهما(4) .

بضمیمة صحیحة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : ولم یکن علی علیه السلام یکره الحلال(5) .

وبالجملة ، هذه الروایات المعتبرة تکفی فی إثبات الشرط الأوّل الذی لا خلاف فیه ، أعنی الإتحاد فی الجنس فی تطرق الربا .

تنبیهٌ : حکم الشارع تعبداً باتحاد جنس الحنطة والشعیر ، فلا یجوز بیع أحدهما بالآخر مع التفاضل ، وتدلّ علی هذا الحکم عدّة من الروایات المستفیضة :

ص:84


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 146 ح 3 .
2- (5) وسائل الشیعة 18 / 146 ح 5 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 147 ح 9 .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 151 ح 2 . الباب 15 من أبواب الربا .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 151 ح 1 .

منها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سُئل عن الرجل یبیع الرجل الطعام الأکرار فلا یکون عنده ما یتم له ما باعه فیقول له : خذ منّی مکان کلّ قفیز حنطة قفیزین من شعیر حتّی تستوفی ما نقص من الکیل . قال : لا یصلح ، لأنّ أصل الشعیر من الحنطة ، ولکن یردّ علیه الدراهم بحساب ما ینقص من الکیل(1) .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أیجوز قفیز من حنطة بقفیزین من شعیر ؟ فقال : لا یجوز إلاّ مثلاً بمثلٍ ، ثم قال : إنّ الشعیر من الحنطة(2) .

ومنها : صحیحة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الحنطة والشعیر رأساً برأس ، لا یزاد واحد منهما علی الآخر(3) .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال : لا یباع مختومان من شعیر بمختوم من حنطة ، ولا یباع إلاّ مثلاً بمثل ، والتمر مثل ذلک .

قال : وسُئل عن الرجل یشتری الحنطة فلا یجد صاحبها إلاّ شعیراً أیصلح له أن یأخذ اثنین بواحد ؟ قال : لا ، إنّما أصلهما واحد ، وکان علی علیه السلام یعدّ الشعیر بالحنطة(4) .

ومنها : صحیحة اُخری للحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام _ فی حدیث _ قال : ولا یصلح الشعیر بالحنطة إلاّ واحد بواحد(5) .

ومنها : خبر أحمد بن محمد بن عبد اللّه بن عیسی بن جعفر العلوی العمری عن أبیه عن آبائه عن علی علیه السلام أنّه سئل : ممّا خلق اللّه الشعیر ؟ فقال : إنّ اللّه تبارک وتعالی أمر آدم : أن أزرع ممّا اخترت لنفسک ، وجاءه جبرئیل بقبضة من الحنطة ، فقبض آدم علی قبضة وقبضت حواء علی اُخری ، وقال آدم لحواء : لا تزرعی أنتِ ، فلم تقبل أمر آدم ، فکلّما زرع آدم جاء

ص:85


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 137 ح 1 . الباب 8 من أبواب الربا .
2- (5) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 2 .
3- (6) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 3 .
4- (1) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 4 .
5- (2) وسائل الشیعة 18 / 139 ح 5 .

حنطة وکلّما زرعت حواء جاء شعیراً »(1) .

وهذه الروایات المعتبرة المستفیضة تدلّ علی أنّ الحنطة والشعیر فی حکم الجنس الواحد تعبّداً فی تطرق الربا ، فلا ینظر إلی اختلافهما عرفاً واسماً وجنساً . وهکذا لا یسمع إلی خلاف القدیمین(2) کما نقل عنهما العلامة فی المختلف(3) ، وتبعهما ابن ادریس الحلی فی السرائر(4) .

نعم ، الحکم مختص بالربا ، فلا یحکم باتحادهما فی سائر الأبواب کالزکاة والنذور والغرامات والإقرار وغیرها کما ذکره صاحب العروة(5) .

تذکرة: « الأصل مع کلِّ فرعٍ له واحد أم لا؟

تذکرة : قال العلامة فی تذکرة الفقهاء : « الأصل مع کلِّ فرعٍ له واحد ، وکذا فروع کلّ أصل واحدٌ _ وذلک کاللبن الحلیب مع الزُّبْد والسمن والمخیض واللِّبَأ والشیراز(6) والأقِط والمَصْل(7) والجبن والترجین(8) والکشک والکامخ(9) والسمسم مع الشیرج والکُسْب(10)

والراشی ، وبرز الکتّان مع حبّه ، والحنطة مع الدقیق والخبز علی اختلاف أصنافه من الرقاق والفرن وغیرهما ومع الهریسة ، والشعیر مع السویق ، والتمر مع السیلان والدبس والخَلّ منه والعصیر منه ، والعنب مع دبسه وخَلّه ، والعسل مع خلّه ، والزیت مع الزیتون وغیر ذلک _ عند علمائنا أجمع ، فلا یجوز التفاضل بین اللبن والزُّبْد والسمن والمخیض واللِّبَأ والأقِط وغیر ذلک ممّا تقدم ، بل یجب التماثل نقداً ، ولا یجوز نسیئةً لا متماثلاً ولا متفاضلاً ، ولا فرق فی ذلک بین أن

ص:86


1- (3) علل الشرائع 2 / 574 ح 2 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 344 ح 2 .
2- (4) ابن الجنید فی کتابه المفقود المسمی بالأحمدی فی الفقه المحمدی وابن أبی عقیل العمانی .
3- (5) مختلف الشیعة 5 / 89 .
4- (6) السرائر 2 / 254 .
5- (7) العروة الوثقی 6 / 42 .
6- (8) الشیراز : اللبن الرائب المستخرج ماؤه .
7- (9) المَصْلُ : ما سال من الأقِط إذا طبخ ثم عصر .
8- (10) ارتجن الزُبْدُ : طبخ فلم یَصْفُ وفسد .
9- (11) الکامخ : إدام یُؤْتدم به ، وخصه بعضهم بالمخلاّت التی تُستعمل لتشهّی الطعام ، جمعه الکوامخ .
10- (12) الکُسْب : عصارة الدهن .

یباع الأصل مع فرعه أو بعض فروعه مع البعض »(1) .

أقول : العلامة الحلی ادعی قاعدةً مهمة فی المقام ، وهی : الأصل مع کلِّ فرع له واحد وکذا فروع کلّ أصل واحد ، ثمّ مثّل بأمثلة واستدل علیها بإجماع علمائنا ، والمشهور وافقوه فی هذه القاعدة الکلّیة المدعاة ، لو لم تکن إجماعیة .

ولکن بعض فقهائنا أنکروا هذه القاعدة الکلّیّة واقتصروا فیها فی موارد النص ولم یتعدوا من موارد النص إلی هذه القاعدة الکلّیّة .

منهم : المحقق الأردبیلی ، ولعله أوّل من خالف العلامة ، قال مستشکلاً علی هذه القاعدة : « ... إلاّ أنّ الدلیل علی الکلیة غیر واضح ، لأنّه ما وجد شیءٌ صحیح صریح فی الکلیّة ، والاسم غیر صادق والاختلاف ممکن حقیقة بل هو الظاهر ، لاختلاف الخواص مثل الخلّ والتمر والجبن والحلیب ... وبالجملة الدلیل غیر قائم علی الإتحاد بین الشیء الربوی وأصله کلیة بل قائم علی عدمه ، والأصل وأدلة إباحة البیع دلیل الجواز ، إلاّ أنّ کلام الأصحاب ذلک ، فالخروج عنه مشکل والمسألة من المشکلات یحلّها محلّها ، وقد ادعی الإجماع فی أکثرها فی التذکرة ... فما ثبت الإجماع فیه لا یمکن الخروج عنه ، وظاهر التذکرة الإجماع فی کلِّ أصل مع فرعه وفرع کلِّ أصل مع آخر ، فتأمل »(2) .

ومنهم : السید الیزدی صاحب العروة قدس سره قال : « الإنصاف عدم استفادة الکلیة من الأخبار المذکورة ، إذ هی مختصة بمثل الحنطة والدقیق والسویق والعنب والزبیب ، فلا دلالة فیها علی إتحاد مثل الحلیب والزبد والتمر والعنب مع الخل منهما ونحو ذلک .

ودعوی الإتمام بعدم القول بالفصل کماتری ، وإجماع التذکرة ممنوع ... فالأظهر عدم التعدی عن موارد الأخبار من مثل الدقیق والسویق إلاّ إلی أمثالهما لاکلِّ أصل وفرع ، والفرق بین تغییر صورة شیءٍ إلی شیءٍ آخر ، وبین استخراج شیءٍ من شیءٍ أو ترکیب شیءٍ من شیءٍ

بحیث صار شیئاً ثالثاً ... فتحصّل أنّ الأظهر التفصیل بین تغییر صورة شیءٍ إلی شیءٍ وبین

ص:87


1- (1) تذکرة الفقهاء 10 / 163 المسألة 84 .
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 475 و 476 .

استخراج شیءٍ من شیءٍ أو ترکیب شیءٍ من أشیاء بحیث یصیر شیئاً آخر وحقیقة اُخری »(1) .

ومنهم : المؤسس الشیخ عبد الکریم الحائری الیزدی قدس سره ، قال علی ما فی تقریرات بحثه الشریف : « ... فیبقی فی المقام بعض الأخبار الخاصة ببعض الموارد ... وهذه أیضاً لا یمکن التعدی عن مواردها واستکشاف قاعدة کلیّة منها تطرّد فی کلِّ ما هو من قبیلها مثل التمر وخلّه واللبن وفروعه وغیر ذلک ممّا هو دائر فی کتبهم _ رضوان اللّه علیهم _ وبالجملة ، ما ذکروه من إتحاد کلِّ أصل مع فرعه خصوصاً إتحاد فروع الأصل الواحد بعضها مع بعض ... یکون استخراجها من الأخبار فی غایة الصعوبة إلاّ فی الموارد الخاصة المنصوصة ، وقد تفطّن له المقدس الأردبیلی قدس سره »(2) .

أقول : بعد هذا الخلاف الثابت بین المشهور والأعلام الثلاثة فلابدّ من ملاحظة الروایات الواردة فی المقام حتّی یتبیّن جلیّة الحال من إمکان التعدی منها إلی القاعدة الکلیة أو عدمه :

منها : موثقة سماعة قال : سألته عن الحنطة والشعیر ؟ فقال : إذا کانا سواء فلا بأس . قال : وسألته عن الحنطة والدقیق ؟ فقال : إذا کانا سواء فلا بأس(3) .

وهذه الموثقة تدلّ علی أن الحنطة ودقیقها واحد فی الجنس الربوی ، ویمکن التعدی إلی إتحاد الحبوب مع دقیقها فی الربا .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم وزرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : الحنطة بالدقیق مثلاً بمثل ، والسویق بالسویق مثلاً بمثل ، والشعیر بالحنطة مثلاً بمثل لا بأس به(4) .

مفهوم الصحیحة دالّ علی مدلول الموثقة الماضیة .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یدفع إلی

ص:88


1- (1) العروة الوثقی 6 / 47 و 48 .
2- (2) المکاسب المحرمة / 29 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
3- (3) وسائل الشیعة 18 / 139 ح 6 .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 141 ح 2 .

الطحان الطعام فیقاطعه علی أن یعطی لکلِّ عشرة أرطال إثنی عشر دقیقاً ؟ قال : لا . قلت : فالرجل یدفع السمسم إلی العصار ویضمن له لکلِّ صاع أرطالاً مسماة ؟ قال : لا(1) .

هذه الصحیحة تدلّ علی إتحاد الحبوب ودقیقها ، والسمسم وزیتها فی الجنس الربوی .

وغایة الأمر یمکن التعدی من السمسم وزیتها إلی الحبوب الدهنیة وأزیاتها .

ومنها : صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : الدقیق بالحنطة والسویق بالدقیق مثل بمثل لا بأس به(2) .

وهذه الصحیحة تدلّ علی إتحاد الحنطة ودقیقها وسویقها فی الجنس الربوی .

ومنها : موثقة سماعة قال : سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن العنب بالزبیب ؟ قال : لا یصلح إلاّ مثلاً بمثل ، قال : والتمر والرطب مثلاً بمثل(3) .

سند هذه الروایة موثقة ، لأنّ المراد بأبی أیوب الراوی عن سماعة هو ابراهیم ابن عثمان أو عیسی أبی أیوب الخزاز الثقة . وتدلّ علی إتحاد العنب والزبیب ، والتمر والرطب ، فی الجنس الربوی .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : ماتری فی التمر والبسر الأحمر مثلاً بمثل ؟ قال : لا بأس ، قلت : فالبختج والعنب مثلاً بمثل ؟ قال : لا بأس(4) .

هذه الحسنة بمفهومها تدلّ علی إتحاد التمر والبسر الأحمر ، والبختج والعنب فی الجنس الربوی . والمراد بالبسر : التمر إذا لوّن ولم ینضَج ، الواحدة بُسْرة وجمعها بِسار . والمراد بالبختج : العصیر المطبوخ .

وأنت تری أنّ هذه الروایات قاصرة عن إثبات القاعدة الکلیة المدعاة فی المقام . نعم لابدّ من قبول إتحاد الجنس فی مذکورات النصوص تعبداً ، وأمّا فی غیرها التعدی والحکم بإتحاد الجنس فی کلِّ أصل وکلِّ فرع له أو إتحاد کلِّ فرع مع فرع آخر منه ، فمشکل فی الغایة

ص:89


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 141 ح 3 .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 142 ح 4 .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 149 ح 3 .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 150 ح 5 .

عند اُولی الدرایة .

قد تمسّک القائلون بالتعدی بالروایات الواردة فی إتحاد جنسی الحنطة والشعیر فی الربا ، حیث عُلّل هذا الإتحاد فی بعضها بأنّ : « إنّما أصلهما واحد » کما فی صحیحة الحلبی(1) أو : « أنّ الشعیر من الحنطة » کما فی صحیحة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه(2) .

وفیه : أنه لا یمکن التعدی بهاتین الروایتین وأمثالهما ، وإن یمکن التعدی فیمکن القول بأنّ الأصل فی جمیع الأشیاء أوجلّها واحدٌ ، ولا یذهب إلیه أحد .

فلابدّ من الذهاب إلی انحصار فی المذکورات فی النصوص فقط .

وأما التمسک للتعدی بمرسلة ومضمرة علی بن إبراهیم القمی عن رجاله عمّن ذکره « قال : الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزناً بوزن سواء لیس لبعضه فضل علی بعض ، ... إلی أن قال : وما کیل أو وزن ممّا أصله واحد فلیس لبعضه فضل علی بعض کیل بکیل ووزن بوزن ، فإذا اختلف أصل ما یکال فلا بأس به إثنان بواحد ... »(3) .

أیضاً غیر تام لأنه : أولاً : الروایة مرسلة .

وثانیاً : أنّها مضمرة ، لم تنسب إلی المعصوم علیه السلام .

وثالثاً : من المحتمل قویّاً أنّها فتوی القائل التی استفادها من التعلیل الوارد فی أخبار إتحاد الحنطة والشعیر فی الجنس الربوی ، وقد مرّ الکلام فیها .

نعم ، دلالتها لا بأس بها ، ولکن إفادة دلالتها بعد ثبوت کونها من کلام الإمام علیه السلام .

وبالجملة ، حیث لم تثبت کونها روایة فلا یثبت بها شیئاً .

والحاصل ، التعدی من المذکورات فی الروایات إلی ما ذکره العلامة وتبعه المشهور مشکل غایة الإشکال ، لولا الإجماع .

نعم ، ینبغی الإحتیاط فی المقام للخروج عن مخالفة المشهور ، واللّه سبحانه هو العالم .

هذا کلّه فی الشرط الأوّل .

ص:90


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 4 .
2- (5) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 2 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 158 ح 12 .
الشرط الثانی : الکیل أو الوزن
اشارة

یُشترط فی تحقق الربا کون الثمن والمثمن من المکیل والموزون ، فلا ربا فی غیرهما .

قد ادعی العلامة الإجماع علی هذا الاشتراط فی کتابه « تذکرة الفقهاء »(1) .

وقال صاحب الجواهر فی ذیل هذا الاشتراط : « إذا کان المبیع والثمن کذلک (أی من المکیل والموزون) مع اتحاد الجنس حرّم الربا فیهما إجماعاً بقسمیه ، وسنةً وکتاباً ، بل کاد یکون ضروریّاً»(2) .

وتدلّ علی هذا الاشتراط - مضافاً إلی الإجماع - النصوص المستفیضة :

منها : صحیحة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یکون الربا إلاّ فیما یکال أو یوزن(3) .

ومنها : موثقة عبید بن زرارة قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : لا یکون الربا إلاّ فیما یکال أو یوزن(4) .

والروایتان تدلان علی انحصار الربا البیعی فیما یکال أو یوزن ، لأنّ الاستثناء بعد النفی یدل علی الحصر .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا بأس بمعاوضة المتاع ما لم یکن کیلاً ولا وزناً(5) .

یُستفاد من الروایة أنّ المعاوضة بالمتاع لا بأس بها إلاّ مع التفاضل فی المکیل والموزون .

ومنها : موثقة بل صحیحة منصور بن حازم قال : سألته عن الشاة بالشاتین والبَیضةُ

ص:91


1- (2) تذکرة الفقهاء 10 / 194 .
2- (3) الجواهر 23 / 358 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 132 ح 1 . الباب 6 من أبواب الربا .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 133 ح 3 .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 155 ح 3 . الباب 17 من أبواب الربا .

بالبیضتین ؟ قال : لا بأس ما لم یکن کیلاً أو وزناً(1) .

سند الروایة تام ، لأنّ المراد بالعباس هو أبو الفضل ابن عامر بن ریاح الثقفی القصبابی ، الشیخ الصدوق الثقة کثیر الحدیث ، بقرینة روایة أیوب بن نوح عنه وداود بن الحصین موثق کالصحیح ، فسند الروایة موثق بل صحیح . هذا کلّه فی سند الکلینی وسند الشیخ موثق ، فالتعبیر عنها بالخبر کما فی الجواهر(2) وتبعه صاحب العروة(3) غیر تام .

ودلالتها علی المطلوب واضحة .

ومنها : موثقة له - أی لمنصور بن حازم - عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال فی حدیث : کلّ شیءٍ یکال أو یوزن فلا یصلح مثلین بمثل إذا کان من جنس واحد ، فإذا کان لا یکال ولا یوزن فلا بأس به إثنین بواحد(4) .

سند الشیخ إلی حفید سماعة موثق ، والمراد بابن رباط فی السند هو أبو الحسن علی بن الحسن بن رباط البجلی الکوفی الثقة ، بقرینة نقل کتابه بواسطة الحسن بن محمد بن سماعة وروایته عن عبد اللّه بن مسکان . وبقیّة رجال السند کلّهم ثقات ، فالروایة موثقة سنداً ، کما عبر عن سندها بالموثق فی الجواهر(5) وتبعه صاحب العروة(6) .

ودلالتها کالنص علی المطلوب .

ومنها : حسنة داود بن الحصین أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن الشاة بالشاتین والبیضة بالبیضتین ؟ فقال : لا بأس ما لم یکن مکیلاً أو موزوناً(7) .

سند الصدوق إلی داود بن الحصین حسنٌ ، لورود الحکم بن مسکین المکفوف فیه وهو

ص:92


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 152 ح 1 . الباب 16 من أبواب الربا .
2- (5) الجواهر 23 / 359 .
3- (6) العروة الوثقی 6 / 49 .
4- (7) وسائل الشیعة 18 / 153 ح 3 .
5- (1) الجواهر 23 / 358 .
6- (2) العروة الوثقی 6 / 49 .
7- (3) وسائل الشیعة 18 / 155 ح 2 . الباب 17 من أبواب الربا .

حسن ، کما فی نتائج التنقیح(1) ، وعبر عن هذا السند والد المجلسی بقویٍّ کالصحیح(2) وولده قدس سره بقویٍّ(3) .

وداود بن الحصین موثق کالصحیح ، فسند الروایة حسن عندنا .

ودلالتها بالمفهوم واضحة .

وهذه الروایات المعتبرة تکفی فی إثبات هذا الحکم الإجماعی ، یعنی اشتراط الکیل والوزن فی البیع الربوی .

تنبیهٌ:

الظاهر من الروایات الماضیة أنَّ الحکم یدور مدار وصفی المکیلیة والموزونیة من غیر دخل زمان فیه أصلاً ، فما یذکر من اختصاص الحکم بما کان من المکیل أو الموزون فی عصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم - کما عن الشیخ فی ظاهر المبسوط(4) والفاضل المقداد فی التنقیح الرائع(5) وادعاء الاجماع علیه - غیر تام .

وهکذا ما ذکروه من أنّ المدار فی المکیل والموزون ما کان فی عصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم من غیر فرق بین بلده وسائر البلاد إذا استقر أهلها علیه ، فما کان مکیلاً أو موزوناً فی عصره صلی الله علیه و آله وسلم فی

جمیع البلدان أو کلّ بلد جری فیه الربا وإن تغیّر بعد ذلک ، وما لم یکن من أحدهما فی عصره صلی الله علیه و آله وسلم لا یجری فیه الربا وإن صار من أحدهما بعد عصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم .

وهذان القولان ضعیفان ، لأنّ الحکم فی الروایات الماضیة وغیرها یدور مدار وصفی المکیلیة والموزونیة ، ولا تنحصران بعصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فما کان مکیلاً أو موزوناً فی أیّ عصرٍ وزمانٍ وأیّ بلدٍ ومکانٍ یجری فیه الربا إن بیع مع التفاضل .

فعلی ما ذکرنا لو کان شیء موزوناً فی عصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم ولکن الآن یباع عدداً فلا یجری فیه

ص:93


1- (4) نتائج التنقیح / 44 .
2- (5) روضة المتقین 14 / 113 .
3- (6) الوجیزة فی علم الرجال / 229 الرقم 141 .
4- (7) المبسوط 2 / 90 .
5- (8) التنقیح الرائع 2 / 91 .

الربا ، ولو کان شیء یباع عدداً فی عصره صلی الله علیه و آله وسلم ولکن الآن یباع موزوناً یجری فیه الربا . واللّه سبحانه هو العالم .

تذکرة:

إن اختلفت البلدان فی الکیل أو الوزن أو العدّ أو غیرها ، فلکلّ بلد حکم نفسه ، فیجری الربا فی بلد الکیل والوزن ولا یجری فی بلد العدّ ، وذلک لما ذکرنا من أنّ الحکم یدور مدار الوصف . فما نسب إلی الشیخ فی النهایة(1) وسلاّر بن عبد العزیز الدیلمی فی المراسم(2) وقوّاه فخر المحققین فی إیضاح الفوائد(3) من تغلیب جانب الحرمة غیر تام بما ذکرناه .

وإن اختلف فی بلد واحد ، یعنی یباع فیه تارة بالوزن وتارة بالعدّ نحو الخبز فی عصرنا الحاضر ، فلا یدخل تحت إطلاق أحد الخطابین من حرمة الربا وحلّیة البیع ، لعدم إمکان دخوله تحتهما معاً ، والدخول فی تحت أحدهما دون الآخر ترجیح بلا مرجح ، فتصل النوبة إلی الأصل العملی ، وهو یقتضی البراءة من الحرمة ، یعنی جواز بیعه مع التفاضل .

وما نسب إلی المفید(4) من اختصاص الجواز بالأغلب ومع التساوی یرجح جانب الحرمة ، أیضاً غیر تام بما ذکرناه . نعم : قوله قدس سره موافق للإحتیاط الحسن ، ولکن الاستدلال له بما رواه الأحسائی مرفوعاً عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : ما اجتمع الحرام والحلال إلاّ غلب الحرامُ الحلال(5) ، غیر تام . لضعفها سنداً ودلالةً .

ولذا قال صاحب الجواهر قدس سره بعد نقل کلام المفید وموافقته للإحتیاط والاستدلال له

بالمرسلة : « ... لکن لا یخفی علیک عدم وجوب مراعاة الأوّل (یعنی الإحتیاط) عندنا وعدم تناول الثانی (یعنی المرسلة) لما نحن فیه »(6) .

ص:94


1- (1) النهایة 2 / 122 و 123 .
2- (2) المراسم / 179 .
3- (3) إیضاح الفوائد 1 / 476 .
4- (4) المقنعة / 604 .
5- (5) عوالی اللآلی 2 / 132 ح 358 ونقل عنه فی بحار الأنوار 2 / 272 ح 6 (1 / 358) .
6- (1) الجواهر 23 / 365 .

ثم إن هاهنا فروعاً لابدّ من التنبیه علیها

فروع

الأوّل : الربا یجری فی جمیع المعاملات

هل الربا یجری فی جمیع المعاوضات والمعاملات المالیة أو یختص بعقدی البیع والقرض ؟ ذهب المشهور إلی الأوّل ، وذهب ابن إدریس الحلی والعلامة إلی الثانی(1) .

قال الفقیه المتتبع السید جواد العاملی قدس سره : « ... وهذا التعریف [ یعنی أنّه یجری فی جمیع المعاوضات المالیة ] یناسب ما حُکی عن الأکثر ، حکاه المقدس الأردبیلی فی آیاته(2) ، وقد حکی(3) عن السید والشیخ والقاضی وابن المتوج وفخر المحققین من أنّه یثبت فی کلِّ معاوضة ولا یختص بالبیع ، وهو خیرة الشهیدین فی صلح الدروس(4) والمسالک(5) والروضة(6) وغصب الأوّلین(7) ، وأبی العباس فی صلح المهذب(8) والمقتصر(9) والفخر فی صلح الإیضاح(10) والصالح القطیفی والمحقق الثانی(11) والفاضل المیسی والمقدس الأردبیلی(12) وغیرهم(13) ، وهو صریح الشرائع(14) فی باب الغصب وظاهره فی باب

ص:95


1- (2) نقل عنهما صاحب الجواهر فی کتابه 23 / 338 .
2- (3) زبدة البیان / 432 .
3- (4) حکاه السید الطباطبائی فی الریاض 8 / 279 .
4- (5) الدروس 3 / 328 .
5- (6) المسالک 4 / 269 .
6- (7) الروضة البهیة 4 / 180 .
7- (8) الدروس 3 / 116 والمسالک 12 / 189 .
8- (9) المهذب البارع 2 / 537 .
9- (10) المقتصر / 198 .
10- (11) ایضاح الفوائد 2 / 104 .
11- (12) جامع المقاصد 4 / 266 .
12- (13) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 457 .
13- (14) کالسید الطباطبائی فی الریاض 8 / 279 .
14- (15) الشرائع 3 / 240 .

الصلح(1) ... »(2) .

وقال صاحب الجواهر : « ... بل قیل إنّ الفاضل [ العلامة الحلی ] قد رجع عنه فی کتاب الصلح من القواعد ، فینحصر الخلاف حینئذ بالحلی [ ابن إدریس ] ... »(3) .

أقول : العبارة الموجودة فی المطبوعة من صلح القواعد هکذا : « ولو صالح علی عین باُخری فی الربویّات ففی إلحاقه بالبیع نظر ، وکذا فی الدین بمثله ، فإن ألحقناه فسد ... »(4) .

وأنت تری عدم ظهور العبارة فی رجوعه قدس سره عن قوله ، واللّه سبحانه هو العالم .

فلابدّ من ملاحظة الروایات الواردة فی المقام حتّی یتبیّن اختصاص الربا بعقدی البیع والقرض فقط أو جریانه فی جمیع المعاملات والمعاوضات المالیّة :

منها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الفضة بالفضة مثلاً بمثل ، لیس فیه زیادة ولا نقصان ، الزائد والمستزید فی النار(5) .

بتقریب : عدم ورود التخصیص بالبیع ، بل الروایة مطلقة ، فیجری الربا فی جمیع المعاوضات .

ومنها : صحیحة أبی بصیر وغیره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الحنطة والشعیر رأساً برأس ، لا یزاد واحد منهما علی الآخر(6) .

بتقریب : ما قد مرّ آنفاً من عدم ورود التخصیص بل أنّها مطلقة ، فتشمل جمیع المعاوضات والمعاملات المالیة .

ومنها : صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : الدقیق بالحنطة والسویق بالدقیق مثلٌ بمثلٍ لا بأس به(7) .

ص:97


1- (16) الشرائع 2 / 121 .
2- (17) مفتاح الکرامة 4 / 502 _ (14 / 8) .
3- (1) الجواهر 23 / 338 .
4- (2) قواعد الاحکام 2 / 173 .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 165 ح 1 . الباب 1 من أبواب الصرف .
6- (4) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 3 . الباب 8 من أبواب الربا .
7- (5) وسائل الشیعة 18 / 142 ح 4 . الباب 9 من أبواب الربا .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أیجوز قفیز من حنطة بقفیزین من شعیر ؟ فقال : لا یجوز إلاّ مثلاً بمثل ، ثم قال : إنّ الشعیر من الحنطة(1) .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یدفع إلی الطحان الطعام فیقاطعه علی أن یعطی لکلِّ عشرة أرطال إثنی عشر دقیقاً ؟ قال : لا . قلت : فالرجل یدفع السمسم إلی العصار ویضمن له لکلِّ صاع أرطالاً مسماة ؟ قال : لا(2) .

قال صاحب الجواهر بعد نقل هذه الصحیحة : « بل قیل : إنّه صریح فی المطلوب »(3) . یعنی أن هذه الروایة کالنص فی التعدی من البیع إلی غیره من المعاوضات المالیة . وهی کذلکِ .

ومنها : صحیحة سیف التمار قال : قلت لأبی بصیر : أحبّ أن تسأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل استبدل قوصرتین فیهما بسر مطبوخ بقوصرة فیها تمر مشقّق . قال : فسأله أبو بصیر عن ذلک فقال علیه السلام : هذا مکروه ، فقال : إنّ علی بن أبی طالب علیه السلام کان یکره أن یستبدل وسقاً من تمر المدینة بوسقین من تمر خیبر ، لأنّ تمر المدینة أدونهما ، ولم یکن علی علیه السلام یکره الحلال(4) .

بتقریب : أن الاستبدال أعم من البیع وغیره من المعاوضات المالیّة .

والحاصل ، هذه الروایات کلّها مطلقة تشمل جمیع المعاوضات المالیّة ولا تختص بالبیع ، ودعوی الاختصاص به والانصراف لغلبة البیع ممنوع . فالربا یجری فی جمیع المعاوضات والمعاملات المالیة کما علیه المشهور . واللّه سبحانه هو العالم .

الثانی : موارد استثناء حرمة الربا

قد استثنوا من حرمة الربا أربعة موارد :

الف : الربا بین الوالد وولده

ب : وبین السید وعبده

ج : وبین الرجل وزوجته

ص:97


1- (6) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 2 . الباب 8 من أبواب الربا .
2- (7) وسائل الشیعة 18 / 141 ح 3 . الباب 9 من أبواب الربا .
3- (1) الجواهر 23 / 337 .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 151 ح 1 . الباب 15 من أبواب الربا .

د : وبین المسلم والحربی ، إذا أخذه المسلم . ویثبت بین المسلم والذمی .

وهذا الحکم إجماعیٌ عند أصحابنا لم یخالف فی کلّیّته أحدٌ(1) ، إلاّ الشریف المرتضی قدس سره فی المسائل الموصلیات الثانیة ، وأنقل هنا تمام کلامه لما فیه من فوائد وتظهر لک کیفیة استنباطه ، قال قدس سره : « وباللّه التوفیق ، إنّ کثیراً من أصحابنا قد ذهبوا إلی نفی الربا بین الوالد وولده وبین الزوج وزوجته والذمی والمسلم ، وشرط قوم من فقهاء أصحابنا فی هذا الموضوع شرطاً ، وهو أن یکون الفضل مع الوالد إلاّ أن یکون له وارث أو علیه دین .

وکذلک قالوا : أنّه لا ربا بین العبد وسیده إذا کان لا شریک له فیه ، وإن کان له شریک حرم الربا بینهما ، وکذلک العبد المأذون له فی التجارة ، حرم الربا بینه وبین سیده إذا کان العبد قد استدان مالاً علیه .

وعوّلوا فی ذلک علی ما روی عن أمیر المؤمنین علیه السلام من قوله : لیس بین الرجل وبین ولده ربا ، ولیس بین السید وبین عبده ربا(2) . ورووا عن الصادق علیه السلام أنه قال : لیس بین المسلم وبین الذمی ربا ، ولا بین المرأة وزوجها(3) . وأما العبد وسیده فلا شبهة فی انتفاء الربا بینهما .

ویوافقنا علی ذلک أبوحنیفة وأصحابه الثوری واللیث والحسن بن صالح بن حی والشافعی . ویخالف مالک الجماعة فی هذه المسألة ، لأن مالکاً یذهب إلی أن العبد یملک ما فی یده مع الرق ، والجماعة التی ذکرناها تذهب إلی أن الرق یمنع من الملک ، وهو الصحیح .

وإذا کان ما فی ید العبد ملکاً لمولاه لم یدخل الربا بینهما ، لأن المالین فی الحکم مال واحد والمالک واحد ، ولهذا یتعب(4) حکم المأذون له فی التجارة ، یتعلق علی(5) الغرماء بما فی یده ،

ص:98


1- (3) السید جواد العاملی ادعی الإجماع علی المسائل الفرعیة المذکورة ونقله عن عدة من الکتب ، راجع مفتاح الکرامة 4 / 529 و 530 و 531 (14 / 95 و 98 و 101 و 102) _ وتبعه فی الجواهر وادعی الإجماع بقسمیه علی هذه المسائل راجع الجواهر 23 / 378 و 380 و 381 و 382 .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 1 .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 5 .
4- (3) ظ : یتغیر .
5- (4) ظ : ویتعلق حق الغرماء بما فی یده .

وکذلک یتغیر فی هذا الحکم حال العبد بین شریکین ، فالشبهة فی انتفاء الربا بین العبد وسیده مرتفعة .

وإنّما الکلام فی باقی المسائل التی ذکرناها ، فالأمر فیها مشکل .

والذی یقوی فی نفسی أن الربا محرّم بین الوالد وولده والزوج وزوجته والذمی والمسلم ، کتحریمه بین غریبین .

فأمّا الأخبار التی وردت و فی ظاهرها أنه لا رباء فی هذه المواضع ، إذا جاز العمل بها جاز أن نحملها علی تغلیظ تحریم الربا فی هذه المواضع ، کما قال اللّه تعالی : «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِی الْحَجِّ»(1) ولم یرد أن الرفث فی غیر الحج لا یکون رفثاً ولا محرّماً ، وکذلک الفسوق ، وإنّما أراد بذلک تغلیظ تحریمه والنهی عنه .

ومن شأن أهل اللغة إذا أکدوا تحریم شیء أدخلوا فیه لفظ النفی ، لینبی ء عن تحقیق

التحریم وتأکیده وتغلیظه ، کما أنّ فی مقابلة ذلک إذا أرادوا أن یؤکدوا ویغلظوا الإیجاب استعملوا فیه لفظ الخبر والإثبات ، کما قال اللّه تعالی : «وَمَن دَخَلَهُ کَانَ آمِناً»(2) وإنّما أکد بذلک وجوب أمانه ، وکان هذا القول آکد من أن یقول : فأمنوا من دخله ولا تخیفوه .

وکذلک قوله علیه السلام « العاریة مردودة ، والزعیم غارم »(3) وإنّما المراد به أنّه یجب ردّ العاریة ، وغرامة الزعیم الذی هو الضامن ، وأخرج الکلام مخرج الخبر للتأکید والتغلیظ ، فهذا فی باب الإیجاب نظیر ما ذکرنا فی باب الحظر والتحریم .

فإن قیل : فأیّ فائدة فی تخصیص هذه المواضع نفی الربا فیها مع إرادة التحریم والتغلیظ ، والربا محرّم بین کلِّ أحد وفی کلِّ أحد و فی کلِّ موضع .

قلنا : فی تخصیص هذه المواضع بالذکر ممّا یدلّ علی أن غیرها ممّا لم یذکر بخلافها . وهذا مذهب قد اختلف فیه أصحاب أصول الفقه ، والصحیح ما ذکرناه . ومع هذا فغیر ممتنع أن یکون للتخصیص فائدة .

ص:99


1- (5) سورة البقرة / 197 .
2- (1) سورة آل عمران / 97 .
3- (2) جامع الأصول 9 / 110 .

أما الوالد وولده والحرمة بینهما عظیمة متأکّدة ، فما حظر بین غیرهما وقبح فی الشریعة ، فهو المحرّمة بینهما أقبح وأشدّ حظراً . وکذلک الزوج وزوجته ، فیکون لهذا المعنی وقع التخصیص للذکر .

وأما الذمی والمسلم فیمکن أن یکون وجه تخصیصهما هو أن الشریعة قد أباحت _ لفضل الإسلام وشرفه علی سائر الملل _ أن یرث المسلم الذمی والکافر وإن لم یرث الذمی المسلم . وثبت حق الشفعة للمسلم علی الذمی ، ولا یثبت حق الشفعة للمسلم علی الذمی ، فخص نفی الربا بالذمی والمسلم علی سبیل الحظر بظن ظاهر(1) ، فإنه یجوز للمسلم أن یأخذ من الذمی الفضل فی الموضع الذی یکون فیه ربا ، وإن لم یجز ذلک للذمی ، کما جاز فی المیراث والشفعة .

فإن قیل : فما الذی یدعو إلی الإنصراف عن ظواهر الأخبار المرویة فی نفی الربا بین الجماعة المذکورة إلی هذا التعسف من التأویل .

قلنا : ما عدلنا عن ظاهر إلی تأویل متعسف ، لأن لفظة النفی فی الشریعة إذا وردت فی مثل هذه المواضع التی ذکرناها ، لم یکن ظاهرها للإباحة دون التحریم والتغلیظ ، بل هی

محتملة لکلِّ واحد من الأمرین إحتمالاً واحداً ، ولا تعسف فی أحدهما .

ولم یبق إلاّ أن یقال : فإذا احتملت الأمرین فلم حملتموها علی أحدهما بغیر دلیل .

وها هنا دلیل یقتضی ما فعلناه ، وهو أن اللّه تعالی حرّم الربا فی آیات محکمات من الکتاب لا إشکال فیها ، فقال تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ»(2) وقال : «لاَ تَأْکُلُواْ الرِّبَا»(3) وقال جلّ اسمه : «الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ»(4) .

والأخبار الواردة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وعن ولده من الأئمة علیهم السلام فی تحریم الربا

ص:100


1- (3) کذا فی النسخة .
2- (1) سورة البقرة / 287 .
3- (2) سورة آل عمران / 130 .
4- (3) سورة البقرة / 275 .

وحظره ، والنهی عن أکله ، والوعید الشدید علی من خالف فیه أکثر من أن تحصی .

وقد علمنا أن لفظة « الربا» إنّما معناه الزیادة ، وقررت الشریعة فی هذه اللفظة أنها زیادة فی أجناس وأعیان مخصوصة . وخطاب اللّه تعالی وخطاب رسوله یجب حملهما علی العرف الشرعی دون اللغوی ، فیجب علی هذا أن یفهم من ظواهر الآیات والأخبار أن الربا الذی هو التفاضل فی الأجناس المخصوصة محرّم علی جمیع المخاطبین بالکتاب علی العموم ، فیدخل فی ذلک الولد والزوج والذمی مع المسلم ، وکلّ من أخذ وأعطی فضلاً .

فإذا أوردت أخبار تنفی الربا بین بعض من تناوله ذلک العموم ، حملنا النفی فیها علی ما ذکرناه بما یطابق تلک الآیات ویوافقها ، ولا یوجب تخصیصها وترک ظواهرها»(1) . انتهی کلامه فی المسائل الموصلیات الثانیة .

ولکنه قدس سره رجع عن هذا القول فی کتابه « الانتصار» وقال فیه : « وممّا انفردت به الإمامیة : القول بأنّه لا ربا بین الولد ووالده ولا بین الزوج وزوجته ، ولا بین الذمّی والمسلم ، ولا بین العبد ومولاه . وخالف باقی الفقهاء فی ذلک وأثبتوا الربا بین کلّ من عددناه(2) .

وقد کتبت قدیماً فی جواب مسائل وردت من الموصل تأوّلت الأخبار التی یرویها أصحابنا المتضمّنة لنفی الربا بین من ذکرناه علی أنّ المراد بذلک _ وإن کان بلفظ الخبر _ معنی الأمر ، کأنّه قال : یجب أن لا یقع بین من ذکرناه ربا ، کما قال تعالی : «وَمَن دَخَلَهُ کَانَ آمِناً»(3)، وکقوله تعالی : «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِی الْحَجِّ»(4) ، وقوله علیه السلام : العاریة مردودة والزعیم غارم(5) . ومعنی ذلک کلّه معنی الأمر والنهی وإن کان بلفظ الخبر .

فأما العبد وسیّده فلا شبهة فی نفی الربا بینهما ، لأنّ العبد لا یملک شیئاً ، والمال الذی فی یده مال لسیّده ، ولا یدخل الربا بین الإنسان ونفسه ؛ ولهذا ذهب أصحابنا إلی أنّ العبد إذا کان

ص:101


1- (4) رسائل الشریف المرتضی 1 / (185 _ 181) .
2- (5) المجموع ، ج 9 ص 391 _ 392 .
3- (1) سورة آل عمران / 97 .
4- (2) سورة البقرة / 197 .
5- (3) عوالی اللآلی / ج 1 ص 310 ح 21 .

لمولاه شریک فیه حرم الربا بینه وبینه .

واعتمدنا فی نصرة هذا المذهب علی عموم ظاهر القرآن ، وأنّ اللّه تعالی حرّم الربا علی کلّ متعاقدین ، وقوله تعالی : «لاَ تَأْکُلُواْ الرِّبَا»(1) ، وهذا الظاهر یدخل تحته الوالد وولده والزوج والزوجة .

ثمّ لمّا تأمّلت ذلک رجعت عن هذا المذهب ؛ لأنّی وجدت أصحابنا مجمعین علی نفی الربا بین من ذکرناه ، وغیر مختلفین فیه فی وقت من الأوقات ، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنّه حجّة ویخصّ بمثله ظواهر الکتاب ، والصحیح نفی الربا بین من ذکرناه .

وإذا کان الربا حکماً شرعیاً جاز أن یثبت فی موضع دون آخر ، کما یثبت فی جنس دون جنس وعلی وجه دون وجه ، فإذا دلّت الأدلة علی تخصیص من ذکرناه وجب القول بموجب الدلیل .

وممّا یمکن أن یعارض ظواهره به من ظاهر الکتاب : أنّ اللّه تعالی قد أمر بالإحسان والإنعام ، مضافاً إلی ما دلّت علیه العقول من ذلک ، وحدّ الإحسان : إیصال النفع لا علی وجه الاستحقاق إلی الغیر مع القصد إلی کونه إحساناً ، ومعنی الإحسان ثابت فی من أخذ من غیره درهماً بدرهمین ؛ لأنّ من أعطی الکثیر بالقلیل وقصد به إلی نفعه به فهو محسن إلیه ، وإنّما أخرجنا من عدا من استثنیناه من الوالد وولده والزوج وزوجته بدلیل قاهر ترکنا له الظواهر . وهذا لیس مع المخالف فی المسائل التی خالفنا فیها .

فظاهر أمر اللّه تعالی بالإحسان فی القرآن فی مواضع کثیرة کقوله تعالی : «وَأَحْسِن کَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَیْکَ»(2) ،

وقوله تعالی : «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(3) یعارض الآیات التی ظاهرها عامّ فی تحریم الربا ، فإذا قالوا تخصّص آیات الإحسان لأجل آیات الربا ، قلنا : ما الفرق بینکم وبین من خصّص آیات الربا لعموم آیات الأمر بالإحسان ؟ وهذه طریقة إذا سلکت کانت

ص:102


1- (4) سورة آل عمران / 130 .
2- (5) سورة القصص / 77 .
3- (1) سورة النحل / 90 .

قویّة »(1) .

أقول : الشریف المرتضی لم ینقض الإجماع بل رجع قدس سره إلی الإجماع ، ورجوعه بواسطة الإجماع یؤید ویؤکد الإجماع ، قال العلامة المؤسس الحائری قدس سره فی هذا المجال وفی ردّ استدلال المرتضی قدس سره فی الموصلیات : « ولا یخفی أنّ کلامه قدس سره هذا ممّا یؤکّد ما ا شتهر من نفی تحریم الربا بین المذکورین غایة التأکید ، لکونه فی ذلک العصر من المسلمات التی لم یمکن السید الفتوی بخلافها . هذا مضافاً إلی إمکان استفادة ذلک من نفس هذا الترکیب مع قطع النظر عن هذا أیضاً ، فإنّ ما ذکره السید من کون المراد نفی موضوع الربا المقصود به نفی جوازه وإباحته - کما فی نفی الضرر فی الحدیث والرفث والفسوق فی الآیة - وإن کان حقّاً لکنّه لیس مطّرداً فی هذا الترکیب ، وإنّما المُسَلَّم منه ما إذا کان سوقه ابتداءً بلا سابقة تشریع حکم فی الموضوع الذی وقع تلو النفی کما فی نفی الضرر ، فإنّ المنساق من نفی الموضوع حینئذ نفی إباحته وتشریع جوازه ، وأمّا إذا کان مسبوقاً بأحد الأحکام الخمسة وبعد تشریع الحکم فیه علی سبیل الکلیة ثمّ سیق هذا الترکیب فی بعض الأصناف ، فالمنساق منه حینئذٍ هو نفی ذلک الحکم المجعول فیه علی وجه الکلیة کما فی الربا ، فإنّ حرمته ضروریة بین المسلمین ، ونادی بتحریمه الکتاب العزیز ، فبعد هذا لو ورد « لا ربا بین الرجل وولده » الخ ، فلا شبهة أنّ أظهر الآثار الثابتة للربا فی الأذهان هو التحریم ، فیرجع النفی إلیه ، فیکون المقصود جوازه بین المذکورین .

أمّا آیة : «فَلاَ رَفَثَ» الآیة ، حیث أنّه مع سبق الحکم بتحریم الفسوق والجدال حکمنا بأنّ المراد به نفی الجواز لا نفی التحریم ، فلشهادة قرینة المقام علی ذلک حیث لا یتبادر إلی ذهن أحد أن یکون حال الحج أسوأ من سائر الأحوال »(2) .

والحاصل ، الإجماع قائم علی کلّیة هذه المسائل الأربع من نفی الربا وعدم حرمته بین هؤلاء المذکورین ، وأمّا جزئیاتها فتأتی فی ضمن البحث عن هذه المسائل منفرداً إن شاء اللّه تعالی .

ص:103


1- (2) الانتصار / (443 _ 441) ، طبع جماعة المدرسین عام 1415 .
2- (3) المکاسب المحرمة / 41 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .

الف : لا ربا بین الوالد وولده

یدلّ علی عدم حرمة الربا بین الوالد وولده - بعد الإجماع الذی قد مرّ ذکره - بعض الروایات :

منها : حسنة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : لیس بین الرجل وولده ، وبینه وبین عبده ، ولا بین أهله ربا ، إنّما الربا فیما بینک وبین ما لا تملک ، الحدیث(1) .

رجال السند کلهم ثقات إلاّ یاسین الضریر وهو فی أول درجات الحسن ، فالروایة به حسنة سنداً ، فالتعبیر بالصحیح عن سندها کما عن الجواهر(2) فی الموضعین عجیب . وأمّا دلالتها فواضحة .

ومنها : حسنة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : لیس بین الرجل وولده ولا بینه وبین عبده ولا بین أهله ربا ، إنّما الربا فی ما بینک وبین ما لا تملک ، الحدیث(3) .

الروایة من حیث السند حسنة بیاسین الضریر ، وأمّا دلالتها فواضحة . ویمکن إتحادها مع الروایة الماضیة ، أعنی حسنة زرارة .

ومنها : خبر عمرو بن جمیع عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : لیس بین الرجل وولده ربا ، ولیس بین السید وعبده ربا(4) .

أمّا رجال السند فحمید بن زیاد النینوانی موثَّق ، والخشاب لقب لثلاثة أشخاص : أوّلهم : الحسن بن موسی الخشاب وهو حسنٌ ، وثانیهم : عمران بن موسی الخشاب وهو مهمل ، وثالثهم : حجاج بن رفاعة الخشاب وهو ثقة ، ولعلّ الأظهر فی المقام أنّ المراد به هو الأوّل . والمراد بابن بقاح هو الحسن بن علی بن بقاح الثقة . ومعاذ بن ثابت حسنٌ ولکن عمرو بن جمیع الراوی الأخیر ضعیف ، فالروایة به ضعیفة الإسناد . ولکن دلالتها واضحة .

ومنها : ما فی الفقه الرضوی : لیس بین الوالد وولده ربا ،ولا بین الزوج والمرأة ربا ،

ص:104


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 . الباب 7 من أبواب الربا .
2- (2) الجواهر 23 / 379 و 381 .
3- (3) التهذیب 7 / 17 ح 75 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 136 ح 4 .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 1 .

ولا بین المولی والعبد ، ولا بین المسلم والذمی(1) .

وذکر الصدوق مثلها فی المقنع(2) .

هذه الروایات الواضحة بعد الإجماع تدلّ علی جواز أخذ الربا بین الوالد وولده .

ثم یجوز أخذ الزیادة لکلِّ منهما ، لإطلاق الروایات الورادة ، وأفتی به فی السرائر(3) والشرائع(4) والتذکرة(5) والتحریر(6) والنهایة(7) والدروس(8) وإیضاح النافع(9) والمسالک(10) والروضة(11) وغیرها(12) ، وفی المفاتیح(13) والریاض(14) أنّه لا خلاف فیه إلاّ من الإسکافی(15) حیث خصّ الزیادة بالولد دون الوالد ویشترط أن لا یکون للوالد وارث ولا علیه دین ، وهو شاذ کما قاله جماعة ، وزاد فی الحدائق(16) : « وأقواله غالباً لا تخرج عن مذهب العامة » . کما

ص:105


1- (5) الفقه المنسوب إلی الرضا علیه السلام / 285 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 339 ح 1 وجامع أحادیث الشیعة 23 / 208 ح 3 .
2- (6) المقنع / 126 .
3- (1) السرائر 2 / 252 .
4- (2) شرائع الاسلام 2 / 40 .
5- (3) تذکرة الفقهاء 10 / 207 المسألة 105 .
6- (4) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 312 . الخامس .
7- (5) نهایة الأحکام 2 / 553 .
8- (6) الدروس 3 / 299 _ یُستفاد من إطلاق کلامه علیه السلام .
9- (7) إیضاح النافع / للفاضل القطیفی ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 529 _ (14 / 98) .
10- (8) مسالک الأفهام 3 / 327 .
11- (9) الروضة البهیة 3 / 445 .
12- (10) کالمهذب 1 / 372 والکفایة 1 / 501 .
13- (11) مفاتیح الشرائع 3 / 63 .
14- (12) ریاض المسائل 8 / 433 .
15- (13) نقل عنه العلامة فی المختلف 5 / 79 .
16- (14) الحدائق 19 / 260 .

قاله السید العاملی فی مفتاح الکرامة(1) .

وقال الوحید البهبهانی فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان بالنسبة إلی تفصیل ابن الجنید الإسکافی : « وهذا غریب بالنظر إلی الأخبار»(2) .

ولا فرق هنا فی إطلاق الولد بین الذکر والاُنثی کما قال العلامة فی تذکرة الفقهاء : « ولا فرق بین الولد الذکر والاُنثی ، لشمول اسم الولد لهما »(3) . وقال المحقق الثانی : « ولا فرق فی الولد بین الذکر والاُنثی لشمول الاسم »(4) .

وهکذا لا فرق بین الولد وولد الولد وإن نزل کما یشمله لفظ « الولد » وإطلاقه ، والعمل بالعموم والحکم بثبوت الربا بعد ورود المخصص بلا وجه وإطلاق « الولد » علی ولد الولد لیس بمجاز ، بل یُطلق علیه حقیقة . فالصحیح فی المقام ما ذهب إلیه الشهید قدس سره فی الدروس(5) من الحکم بعدم ثبوت الربا بین الجد وولد الولد . ولا یتم ما ذهب إلیه ثانی الشهیدین(6) من ثبوت الربا بین الجد وولد الولد .

نعم ، الحکم یختص بالولد النسبی ، فلا یجری فی حقّ الولد الرضاعی ، لأنّه لیس بولد حقیقة ، کما أنّه یختص بالأب فلا یجری فی حقِّ الأُمّ ، کما هو واضح .

وأمّا ولد الزنا فهل یثبت هذا الحکم بینه وبین مَن له مِن نطفته أم لا ؟ الظاهر بعد الحکم بأنّ ولد الزناً أیضاً ولد فی الحقیقة فلذا لا یجوز له نکاحها لو کانت بنتاً ، إلاّ أنّ النسب منقطع فی الإرث فقط ، وأمّا فی غیر الإرث بالنسبة إلیهما جمیع أحکام النسب باقیة ، فیجری الحکم بالجواز بالنسبة إلیهما .

ص:106


1- (15) مفتاح الکرامة 4 / 529 _ (14 / 96) .
2- (16) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 295 .
3- (17) تذکرة الفقهاء 10 / 209 .
4- (18) جامع المقاصد 4 / 280 .
5- (1) الدروس 3 / 299 .
6- (2) حاشیة الإرشاد / 184 وفی المطبوعة ضمن غایة المراد فی شرح نکت الارشاد للشهید الأوّل 2 / 124 .

ب : لا ربا بین السید وعبده

تدلّ علی عدم ثبوت الربا بین السید ومملوکه بعد الإجماع ، بعضُ الروایات :

منها : صحیحة علی بن جعفر أنّه سأل أخاه موسی بن جعفر علیه السلام عن رجل أعطی عبده عشرة دراهم علی أن یؤدی العبد کلّ شهر عشرة دراهم ، أیحلّ ذلک ؟ قال : لا بأس(1) .

وسند الشیخ إلی هذه الروایة حسن ببنان بن محمد بن عیسی .

ومنها : حسنة زرارة(2) وحسنة زرارة ومحمد بن مسلم(3) وخبر عمرو بن جمیع(4) المذکورة فیما سبق .

وهذه الروایات وفیها صحیحة السند تدلّ علی عدم ثبوت حکم الربا بین السید وعبده وجواز أخذ السید الزیادة من عبده ، وهذا الحکم بناءً علی القول بأنّ العبد لا یملک واضح وبناءً علی ثبوت ملکیة العبد أیضاً تدلّ علیه الروایات ومنها الصحیحة ، فلا وجه

لمناقشة الأردبیلی حیث قال : « وأمّا علی القول الآخر [ یعنی مالکیة العبد ] فلا یظهر ، إذ الروایة غیر صحیحة ولا نعرف غیرها ، إلاّ أن یدعی الإجماع فیقتصر علی موضعه وهو القن الخاص ، لا المکاتب مطلقاً ولا المشترک کما تشعر به الروایة المتقدمة »(5) .

وفیه : بعد ورود صحیحة علی بن جعفر وغیرها من الروایات تمَّ ما ذکرناه ولا یصح قوله قدس سره : « إذ الروایة غیر صحیحة» ، ولعلّه غفل عنها . وسبحان من لا یسهو .

نعم ، یثبت الربا بین السید وعبده المشترک بینه وبین غیره ، کما تدلّ علیه حسنة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : لیس بین الرجل وولده ولابینه وبین عبده ولا بین أهله ربا ، إنّما الربا فی ما بینک وبین ما لا تملک . قلت : فالمشرکون بینی وبینهم رباً ؟ قال : نعم ،

ص:107


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 6 _ وأورد تمامها فی وسائل الشیعة 18 / 308 ح 12 . الباب 11 من أبواب السلف .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 .
3- (5) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 4 .
4- (6) وسائل الشیعة 18 135 ح 1 .
5- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 489 .

قلت : فإنّهم ممالیک ؟ فقال : إنّک لست تملکهم ، إنّما تملکهم مع غیرک ، أنت وغیرک فیهم سواء ، والذی بینک وبینهم لیس من ذلک ، لأنّ عبدک لیس مثل عبدک وعبد غیرک(1) .

ونحوها حسنة زرارة(2) .

وعلی هذا العبد المشترک لا یجوز أخذ الربا منه ، وبه صرح العلامة فی القواعد(3) وتذکرة الفقهاء(4) وتحریر الأحکام(5) ونهایة الإحکام(6) ومختلف الشیعة(7) والشهید فی الدروس(8) والفاضل المقداد فی التنقیح(9) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(10) والقطیفی فی إیضاح النافع(11) والشهید الثانی فی المسالک(12) والسید الطباطبائی فی الریاض(13) والسید العاملی فی مفتاح الکرامة(14) .

خلافاً لصاحب الجواهر حیث قال : « العبد المشترک بین المالکین الذی یمکن القول فیه بحلیّة الربا فیه بالنسبة إلی کلِّ من مولییه »(15) وقال فی توجیه حسنة الماضیة : « علی أنّ الخبر

ص:108


1- (2) التهذیب 7 / 17 ح 75 .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 .
3- (4) قواعد الأحکام 2 / 63 .
4- (5) تذکرة الفقهاء 10 / 209 .
5- (6) تحریر الأحکام 2 / 312 . الرابع .
6- (7) نهایة الإحکام 2 / 554 .
7- (8) مختلف الشیعة 5 / 83 .
8- (9) الدروس 3 / 299 .
9- (10) التنقیح الرائع 2 / 93 .
10- (11) جامع المقاصد 4 / 280 .
11- (12) إیضاح النافع ، کما نقل عنه العاملی فی مفتاح الکرامة 4 / 530 _ (14 / 100) .
12- (13) مسالک الإفهام 3 / 328 .
13- (14) ریاض المسائل 8 / 433 .
14- (15) مفتاح الکرامة 4 / 530 _ (14 / 99) .
15- (1) الجواهر 23 / 381 .

المزبور مع احتمال العلّة فیه إقناعیّة لما تسمع فی المشترک الجزئی ، ظاهر فی نحو المشترک الجنسی الذی هو بین المسلمین ، لا مثل المشترک بین شخصین مثلاً»(1) .

ولکن الصحیح مذهب المشهور من ثبوت الربابین العبد المشترک ومالکیه لحسنة زرارة ومحمد بن مسلم الماضیة ، وما ذکره صاحب الجواهر فی توجیهها غیر ظاهر .

وأمّا العبد المبعّض الذی بعضه رقّ وبعضه حرّ أیضاً ملحق بالمشترک ، فلا یجوز أخذ الربا منه ، خلافاً لما مال إلیه صاحب الجواهر(2) .

وأمّا القنّ والمدبَّر وأم الولد والمکاتب بقسمیه(3) فیدخل فی الاستثناء من حکم الربا ،فیجوز أخذ الربا منهم ، إلاّ إذا دخل الآخر فی المبعّض ، فیجری فیه حکمه .

وهکذا لا فرق بین کون المالک رجلاً أو امرأة کما هو الظاهر من « لفظ السید » الوارد فی الحسنة . و « الرجل » الوارد فی صحیحة علی بن جعفر لا یختص الحکم به . وذهب إلی ما ذکرناه الفقیه الیزدی فی عروته ، ولکن قال : « وإن کان الأحوط الاقتصار علی الأوّل»(4) . ولا وجه لهذا الإحتیاط إلاّ حسنه الذاتی وأنّه حسن علی کلِّ حالٍ وطریق النجاة ، أو التمسک بصحیحة علی بن جعفر الماضیة .

ج : لا ربا بین الرجل وزوجته

تدلّ علیه بعد الإجماع حسنة زرارة(5) وحسنة زرارة ومحمد بن مسلم(6) ومرسلة

ص:109


1- (2) الجواهر 23 / 381 .
2- (3) الجواهر 23 / 381 .
3- (4) قال المحقق فی الشرائع : « الکتابة قسمان : مشروطة ومطلقة ، المطلقة أن یقتصر علی العقد وذکر الأجل والعوض والنیّة ، والمشترطة : أن یقول مع ذلک « فإن عجزت فأنت رُدُّ فی الرق » ، فمتی عجز کان للمولی ردّه رقاً ولا یعید علیه ما أخذ» . شرائع الاسلام 3 / 96 .
4- (5) العروة الوثقی 6 / 72 المسألة 52 .
5- (6) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 .
6- (7) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 4 .

الصدوق(1) السابقة الذکر ، علی أنّ المراد بالأهل فی الأوّلتین الزوجة کما هو الظاهر .

ولا فرق فی الزوجة بین المعقودة بالعقد الدائم والموقت لصدق الزوجیة والأهلیة فی زمان العقد . وذهب إلیه الشهید فی الدروس(2) واللمعة(3) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(4) والشهید الثانی فی المسالک(5) والروضة(6) . وصاحبا الجواهر(7) والعروة(8) .

وأمّا العلامة الحلی فی التذکرة(9) فذهب إلی ثبوت الربا بین الرجل وبین زوجته بالعقد المنقطع ، وتبعه الأردبیلی فی مجمع الفائدة(10) والسید الطباطبائی فی الریاض(11) مع اعترافه بأنّ أکثر الأصحاب عمّموا الزوجة للمنقطع(12) ، والسید العاملی فی مفتاح الکرامة(13) .

والحق هو الإلحاق والظهور کما مرّ منّا .

نعم ، الأمر مشکل بالنسبة إلی المتمتع بها إذا کان زمانها قلیلاً ، نحو ساعة أو ساعتین ویوم أو یومین ، لا لعدم صدق الزوجة علیها فی زمان العقد ، بل لعدم صدق عنوان الأهل المأخوذ فی الحسنتین الماضیتین . فلذا الأمر بالنسبة إلیها مشکل ، ولیس للإجماع إطلاق حتّی

ص:110


1- (8) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 5 .
2- (1) الدروس 3 / 299 .
3- (2) اللمعة / 193 .
4- (3) جامع المقاصد 4 / 280 .
5- (4) مسالک الأفهام 3 / 327 .
6- (5) الروضة البهیة 3 / 439 .
7- (6) الجواهر 23 / 381 .
8- (7) العروة الوثقی 6 / 73 المسألة 53 .
9- (8) تذکرة الفقهاء 10 / 209 .
10- (9) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 490 .
11- (10) ریاض المسائل 8 / 434 .
12- (11) ریاض المسائل 8 / 435 .
13- (12) مفتاح الکرامة 4 / 531 _ (14 / 102) .

یشمل المقام ، فحینئذ یجری دلیل حرمة الربا فیها ، والإحتیاط أیضاً یقتضی الترک .

وأمّا المطلّقة الرجعیّة فهنا فی حکم الأجنبیّة ، إذ یمنع صدق الأهل علیها ، فلا یلحقها حکم الجواز . کما فی الجواهر(1) والعروة(2) .

ثم یجوز أخذ الزیادة لکلِّ واحد منهما من صاحبه ، کما اعترف به العلامة فی تذکرة الفقهاء(3) .

د : یجوز الربا بین المسلم والحربی إذا أخذه المسلم

تدلّ علیه بعد الإجماع(4) عدّة من الروایات :

منها : خبر عمرو بن جمیع عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لیس بیننا وبین أهل حربنا ربا ، نأخذ منهم ألف درهم بدرهم ونأخذ منهم ولا نعطیهم(5) .

الروایة رواها المشایخ الثلاثة(6) وفی سندها ضعف بعمرو بن جمیع ، ولکن الشهرة علی طبقها وجابر لضعف سندها کما قال صاحب الجواهر : « والضعف غیر قادح بعد الإنجبار »(7) .

ودلالتها علی جواز أخذ الربا من الحربی وعدم جواز إعطائها واضحة .

ویمکن المناقشة فی الإنجبار بأنّ من الممکن أن یکون استناد المشهور بالإجماع أو بأن الحکم علی طبق القاعدة ، فلا یحرز استنادهم بالروایة .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق علیه السلام : لیس بین المسلم وبین الذمی ربا ، ولا بین المرأة وبین زوجها رباً(8) .

ص:111


1- (13) الجواهر 23 / 382 .
2- (14) العروة الوثقی 6 / 73 .
3- (15) تذکرة الفقهاء 10 / 207 .
4- (1) المذکور فی مفتاح الکرامة 4 / 531 (14 / 102) و الجواهر 23 / 382 .
5- (2) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 2 .
6- (3) الکافی 5 / 147 ح 2 _ الفقیه 3 / 277 ح 4000 _ التهذیب 7 / 18 ح 77 .
7- (4) الجواهر 23 / 382 .
8- (5) الفقیه 3 / 287 ح 4002 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 136 ح 5 .

بناءً علی حملها علی الذمی الذی خرج من شرائط الذمة کما حملها العلامة فی المختلف(1) ، وقال فی الریاض : « حمل الأصحاب المرسلة علی خروج الذمی عن شرائط الذمة »(2) فلذا تدلّ علی جواز أخذ الربا بین المسلم والحربی ، لأنّ الذمی إذا خرج من شرائط الذمة ولم یف بها صار حربیّاً . مضافاً إلی أنّ أخذ الربا من الذمی إذا کان جائزاً بطریق أولی تدلّ علی جواز أخذه من الحربی حتّی إذا لم تحمل المرسلة علی ما حملها الأصحاب .

ومنها : ما فی کتابی الفقه الرضوی والمقنع : لیس بین الوالد وولده ربا ولا بین الزوج والمرأة ربا ، ولا بین المولی والعبد ، ولا بین المسلم الذمی(3) .

بالتقریب الذی مرّ فی الروایة السابقة .

فحینئذٍ یجوز للمسلم أخذ الربا من الحربی ، ولکن لا یجوز إعطاؤه أیّاه ، کما یدلّ علیه

خبر عمرو بن جمیع وعلیه المشهور بل الإجماع ، بلا فرق فی ذلک بین دار الإسلام ودار الحرب ، لإطلاق الخبر وصریح فتوی المشهور .

ویؤیّد هذا الإستثناء من حرمة الربا ، عدم حرمة مال الحربی کعرضه ودمه ، فلذا یجوز للمسلم استنقاذ ماله بأیِّ وجهٍ یمکن ذلک ، ومنها : أخذ الربا منه .

وأمّا أخذ المسلم الربا من الذمی هل یجوز أم لا ؟ ذهب إلی جوازه والد الصدوق(4) وولده(5) والمفید(6) والمرتضی وادعی علیه الإجماع(7) والقطیفی(8) ، وإلی عدم جوازه

ص:112


1- (6) مختلف الشیعة 5 / 82 .
2- (7) ریاض المسائل 8 / 435 .
3- (8) الفقه الرضوی / 285 والمقنع / 126 ونقلا عنهما فی مستدرک الوسائل 13 / 339 ح 1 وجامع أحادیث الشیعة 23 / 208 ح 3 .
4- (1) نقل عنه العلامة فی مختلف الشیعة 5 / 81 .
5- (2) المقنع / 126 .
6- (3) نقل عنه ابن إدریس فی السرائر 2 / 252 والعلامة فی المختلف 5 / 81 ، ولکن قال السید العاملی فی مفتاح الکرامة 4 / 532 (14 / 108) : « ولم أجد له ذکراً فی المقنعة » .
7- (4) الانتصار / 442 .
8- (5) إیضاح النافع / مخطوط ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 532 (14 / 108) .

المشهور(1) .

والصحیح ما ذهب إلیه المشهور من ثبوت الربا بین المسلم والذمی ، لما مرّ من حمل مرسلة الصدوق وعبارتی الفقه الرضوی والمقنع علی الذمی الذی خرج من شرائط الذمة وبخروجه منها صار حربیّاً .

مضافاً إلی ورود إطلاقات حرمة الربا ، وتدلّ علی ثبوت الربا بینهما :

حسنة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : لیس بین الرجل وولده وبین عبده ولا بین أهله ربا ، إنّما الربا فیما بینک وبین ما لا تملک .

قلت : فالمشرکون بینی وبینهم ربا ؟ قال : نعم . قال : قلت : فإنّهم ممالیک ، فقال : إنّک لست تملکهم إنّما تملکهم مع غیرک ، أنت وغیرک فیهم سواء ، فالذی بینک وبینهم لیس من ذلک ، لأنّ عبدک لیس مثل عبدک وعبد غیرک(2) .

ومثلها حسنة زرارة ومحمد بن مسلم عنه علیه السلام (3) .

الروایتان من حیث السند حسنتان کما مرّ منّا سابقاً ، وأمّا دلالتهما علی حرمة أخذ الربا من المشرکین واضحة والقدر المتیقّن منهم أهل الذمة ، فلا یجوز أخذ الربا من أهل الذمة

کما علیه المشهور .

وأمّا المُعاهَد هل یلحق بالحربی أم بالذمی ؟ قال بإلحاقه بالحربی العلاّمة فی التذکرة(4) والمحقق الکرکی فی جامع المقاصد(5) والشهید الثانی فی المسالک(6) والسید العاملی فی مفتاح

ص:113


1- (6) مسالک الأفهام 3 / 328 ومفتاح الکرامة 4 / 532 (14 / 105) وریاض المسائل 8 / 435 والجواهر 23 / 383 .
2- (7) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 .
3- (8) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 4 .
4- (1) تذکرة الفقهاء 10 / 208 .
5- (2) جامع المقاصد 4 / 281 .
6- (3) مسالک الأفهام 3 / 328 .

الکرامة(1) وصاحبا الجواهر(2) والعروة(3) .

ولکن المحقق الأردبیلی قال بعدم إلحاقه بالحربی وثبوت الربا بین المسلم والمعاهد فی مجمع الفائدة والبرهان(4) .

واستدلّ العلامة لإلحاق المعاهد بالحربی بقوله : « لأنّه (أی المعاهد) فی الحقیقة فیء للمسلمین وقد بذل ماله بإذنه للمسلم ، فجاز له أخذه منه حیث أزال أمانه عنه ببذله له »(5) .

وقال المحقق الثانی فی تقریب هذا الاستدلال : « ولا فرق بین کونه معاهداً أم لا ، لأنّ الحربی فیءٌ لنا ، وأمانه وإن منع من أخذ ماله بغیر حقٍّ ، إلاّ أنّه إذا رضی بدفع الفضل انتقض أمانه فیه ، نبّه علیه فی التذکرة »(6) .

أقول : هذا الاستدلال من العلمین تام ، مضافاً إلی أنّ إطلاق الحربی یشمل المعاهد ، فیجوز أخذ الربا منه ولا مانع من أخذ ماله بعد رضایته به .

وحیث کان أهل الکتاب الموجودون الیوم بین المسلمین لیسوا من أهل الذمة - لعدم وجود عقد ذمة بینهم وبین المسلمین وعدم مراعاتهم شرائط الذمة - فإنّهم معاهدون ، فیجوز أخذ الربا منهم ولا یجوز إعطاؤهم الربا .

نعم ، دماؤهم وأعراضهم وأموالهم محترمة بالعهد والأمان . واللّه سبحانه هو العالم .

هذا تمام الکلام فی مستثنیات الربا ، والحمد للّه ربّ العالمین .

الثالث : یجوز بیع درهم ودینار ، بدینارین ودرهمین

هذه إحدی الحیل للفرار من الربا ، ولکن هل یختص ببیع الصرف أو یمکن التعدی منه

إلی غیره ؟

ص:114


1- (4) مفتاح الکرامة 4 / 531 _ (14 / 109) .
2- (5) الجواهر 23 / 382 .
3- (6) العروة الوثقی 6 / 73 .
4- (7) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 490 .
5- (8) تذکرة الفقهاء 10 / 209 .
6- (9) جامع المقاصد 4 / 281 .

ظاهر بعض الروایات اختصاصها بالصرف ، ولکن الأصحاب قدس سرهم تعدوا منه إلی غیر النقدین من الأجناس الربویة .

قال المحقق : « یجوز بیع درهم ودینار بدینارین ودرهمین ویُصرف کلّ واحد منهما إلی غیر جنسه ، وکذا لو جعل بدل الدینار أو الدرهم شیء من المتاع وکذا مُدَّ من تمرٍ ودرهمٍ بمدّین أو أمدادٍ ودرهمین أو دراهم »(1) .

وقال تلمیذه العلامة فی القواعد : « لو اشتمل أحد العوضین علی جنسین ربویین صح بیعهما بأحدهما مع الزیادة ، کمُدّ تمرٍ ودرهمٍ بمدّین ، أو بدرهمین ، أو بمدّین ودرهمین »(2) .

وقال فی التذکرة : « یجوز بیع الجنسین المختلفین بأحدهما إذا زاد علی ما فی المجموع من جنسه بحیث تکون الزیادة فی مقابلة المخالف ، وذلک کمُدّ عَجْوَةٍ(3) ودرهم بمُدَّیْ عجوة أو بدرهمین أو بمُدَّیْ عجوة ودرهمین ، عند علمائنا أجمع _ وبه قال ابو حنیفة _ حتّی لو باع دیناراً فی خریطة بمائة دینار جاز ، لنا : الأصل السالم عن معارضة الربا ، لأنّ الربا هو بیع أحد المثلین بأزید منه من الآخر والمبیع هنا المجموع وهو مخالف لأفراده ، وما رواه» _ ثمّ ذکر بعض الروایات الورادة فی المقام واستدل علی الجواز ثم قال : « وقال الشافعی : لا یجوز ذلک کلّه ، وبه قال أحمد لأنَّ ... »(4) .

وقال المحقق الثانی فی شرح قول العلاّمة فی القواعد : « لا یخفی أن قوله : (صح بیعهما بأحدهما مع الزیادة) لا یتناول بیعهما بالجنسین معاً ، إلاّ إذا جعلنا الزیادة بحیث تتناول الجنس الآخر ، وهذا الحکم بإجماعنا ، ومنعه بعض العامة لحصول التفاوت»(5) .

وقال الشهید الثانی فی ذیل قول المحقق : « هذا الحکم موضع وفاق بین أصحابنا ، وخالف فیه الشافعی محتجّاً بحصول التفاوت عند المقابلة علی بعض الوجوه ، کما لو بیع مدّ

ص:115


1- (1) الشرائع 2 / 41 .
2- (2) القواعد 2 / 62 .
3- (3) العَجْوَةُ والعُجَاوَة : التمرُ المحشِیُّ فی وعائه .
4- (4) تذکرة الفقهاء 10 / 181 و 182 مسألة 92 .
5- (5) جامع المقاصد 4 / 274 .

ودرهم بمدّین ، والدرهم ثمن لمدّ ونصف بحسب القیمة الحاضرة ، وجوابه أنّ الزیادة حینئذ بمقتضی التقسیط لا البیع ، فإنّه إنّما وقع علی المجموع بالمجموع »(1) .

وقال الأردبیلی : « ومستند الإجماع عموم أدلة الجواز مع عدم تحقق الربا ، لأنّه إنّما یکون فی بیع أحد المتجانسین المقدَّرین بالکیل أو الوزن ، متفاضلین أو نسیئة بالآخر ، وهنا لیس کذلک ، لأنّ المرکب من الجنسین لیس بجنس واحد ، وهو ظاهر .

ولاحتمال أن یکون المقابل للمجانس ما یساویه قدراً من جنسه ویبقی الباقی فی مقابل غیر المجانس وإن کان أضعاف ذلک فلا یحصل الربا ، وهو ظاهر . وبالجملة : الأمر إذا احتمل الصحة محمول علیها ... »(2) .

قال السید العاملی فی مفتاح الکرامة فی شرح کلام العلامة فی القواعد : « قد نص علی جواز ذلک المبسوط(3) والخلاف(4) والغنیة(5) والسرائر(6) والشرائع(7) والنافع(8) والتحریر(9) والتذکرة(10) والإرشاد(11) ونهایة الإحکام(12) وکنز الفوائد(13) والإیضاح(14)

ص:117


1- (6) مسالک الافهام 3 / 330 .
2- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 487 .
3- (2) المبسوط 2 / 92 .
4- (3) الخلاف 3 / 61 .
5- (4) غنیة النزوع / 225 .
6- (5) السرائر 2 / 264 .
7- (6) شرائع الإسلام 2 / 41 .
8- (7) المختصر النافع / 128 .
9- (8) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 310 .
10- (9) تذکرة الفقهاء 10 / 181 .
11- (10) إرشاد الأذهان 1 / 379 .
12- (11) نهایة الإحکام 2 / 548 .
13- (12) کنز الفوائد 1 / 442 .
14- (13) ایضاح الفوائد 1 / 487 .

والدروس(1) واللمعة(2) وحواشی الشهید وکفایة الطالبین(3) وجامع المقاصد(4) وحاشیة الارشاد(5) والمیسیة والروضة(6) والمسالک(7) ومجمع البرهان(8) والکفایة(9) والمفاتیح(10) ، وقد

حکی علیه الإجماع فی الخلاف والغنیة والتذکرة وجامع المقاصد وحاشیة الارشاد والمسالک وظاهر نهایة الإحکام والإیضاح وکنز الفوائد ، مضافاً إلی الأصل والعمومات و ... »(11) .

وقال فی الجواهر : « إذهو وإن لم یکن فی کلٍّ منهما جنس یخالف الآخر ، إلاّ أنّ الزیادة تکون فی مقابل الجنس المخالف فی أحدهما ، فهو فی الصحة حینئذ کذی الجنسین . ولا خلاف بیننا فی الجمیع ، بل الإجماع بقسمیه علیه ، بل المحکی منه مستفیض جداً إن لم یکن متواتراً ، مضافاً إلی الأصل والعمومات و ... »(12) .

أقول : فالحکم عندنا إجماعی ولم یخالف فیه أحد من أصحابنا ، وبه قال أبو حنیفة(13) کما مرّ

ص:117


1- (14) الدروس 3 / 298 .
2- (15) اللمعة / 126 .
3- (16) کفایة الطالبین / 37 .
4- (17) جامع المقاصد 4 / 274 .
5- (18) حاشیة إرشاد الاذهان المطبوعة ضمن حیاة المحقق الکرکی وآثاره 9 / 411 .
6- (19) الروضة البهیة 3 / 441 .
7- (20) المسالک 3 / 330 .
8- (21) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 486 .
9- (22) الکفایة 1 / 501 .
10- (23) مفاتیح الشرائع 3 / 63 .
11- (1) مفتاح الکرامة 4 / 521 و 522 _ (14 / 72 _ 70) .
12- (2) الجواهر 23 / 391 .
13- (3) حلیة العلماء 4 / 170 والحاوی الکبیر 5 / 113 والتهذیب للبغوی 3 / 347 .

قوله عن العلامة فی التذکرة(1) ، وخالف فیه أحمد والشافعی(2) کما مرّ خلاف الشافعی عن ثانی الشهیدین فی المسالک(3) وخلافهما عن العلامة فی التذکرة(4) .

وتدلّ علی الحکم - مضافاً إلی الإجماع والأصل وعمومات صحة البیع - النصوص المستفیضةُ :

منها : موثقة أبی بصیر قال : سألته عن السیف المفضَّض یباع بالدراهم ؟ فقال : إذا کانت فضته أقل من النقد فلا بأس ، وإن کانت أکثر فلا یصلح(5) .

ومنها : صحیحة أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن بیع السیف المحلّی بالنقد ؟ فقال : لا بأس به . قال : وسألته عن بیعه بالنسیئة ؟ فقال : إذا نقد مثل ما فی فضّته فلا بأس به أو لیعطی الطعام(6) .

وهاتان الروایتان لا تختصان بالصرف کما تری .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألته عن الصرف فقلت له : الرفقة ربما عجّلت فخرجت فلم نقدر علی الدمشقیة والبصریة وإنّما یجوز نیسابور الدمشقیة والبصریة ، فقال : وما الرفقة ؟ فقلت : القوم یترافقون ویجتمعون للخروج ، فإذا عجلوا فربّما لم یقدروا علی الدمشقیة والبصریة ، فبعثنا بالغلة فصرفوا ألفاً وخمسین منها بألف من الدمشقیة والبصریة ، فقال : لا خیر فی هذا ، أفلا یجعلون فیها ذهباً لمکان زیادتها ، فقلت له : أشتری ألف درهم ودیناراً بألفی درهم ؟ فقال : لا بأس بذلک ، إنّ أبی کان أجرأ علی أهل المدینة منّی ، فکان یقول هذا ، فیقولون : إنّما هذا الفرار ، لو جاء رجل بدینار لم یعط ألف درهم ولو جاء بألف درهم لم یعط ألف دینار ، وکان یقول لهم : نعم الشیء الفرار من الحرام إلی الحلال(7) .

ومنها : فی صحیحة اُخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان محمد بن المنکدر یقول لأبی علیه السلام : یا أبا جعفر رحمک اللّه وإنّا نعلم أنک لو أخذتَ دیناراً والصرف بثمانیة عشر فدرتَ

ص:118


1- (4) تذکرة الفقهاء 10 / 181 .
2- (5) المغنی لابن قدامة 4 / 168 مسألة 2836 _ الاُمّ 3 / 28 _ مختصر المزنی / 77 .
3- (6) مسالک الأفهام 3 / 330 .
4- (7) تذکرة الفقهاء 10 / 182 .
5- (8) وسائل الشیعة 18 / 200 ح 8 . الباب 15 من أبواب الصرف .
6- (9) وسائل الشیعة 18 / 199 ح 3 .
7- (1) وسائل الشیعة 18 / 187 ح 1 . الباب 6 من أبواب الصرف .

المدینة علی أن تجد من یعطیک عشرین ما وجدتَه ، وما هذا إلاّ فرار ، فکان أبی یقول : صدقت واللّه ، ولکنّه فرار من باطل إلی حقّ(1) .

ومنها : صحیحة ثالثة له قال : سألته عن رجل یأتی بالدراهم إلی الصیرفی فیقول له : آخذ منک المائة بمائة وعشرة أو بمائة وخمسة حتّی یراوضه علی الذی یرید ، فإذا فرغ جعل مکان الدراهم الزیادة دیناراً أو ذهباً ، ثم قال له : راددتک البیع وإنّما اُبایعک علی هذا ، لأنّ الأوّل لا یصلح أو لم یقل ذلک ، وجعل ذهباً مکان الدراهم ، فقال : إذا کان آخر البیع علی الحلال فلا بأس بذلک ، قلت : فإن جعل مکان الذهب فلوساً ، قال : ما أدری ما الفلوس(2) .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا بأس بألف درهم ودرهم بألف درهم ودینارین إذا دخل فیها دیناران أو أقل أو أکثر فلا بأس به(3) .

ومنها : صحیحة سعید بن یسار عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان أبی بعثنی بکیس فیه ألف درهم إلی رجل صراف من أهل العراق ، وأمرنی أن أقول له : أن یبیعها ، فإذا باعها أخذ ثمنها ، فاشتری لنا بها دراهم مدنیة(4) .

هذه الصحیحة محمولة إمّا علی بیع الدراهم بالدنانیر ثم بیع الدنانیر بالدراهم المدنیة أو علی التساوی فی الوزن .

ومنها : صحیحة إسماعیل بن جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یجی ء إلی صیرفی ومعه دراهم یطلب أجود منها فیقاوله علی دراهمه فیزیده کذا وکذا بشیءٍ قد تراضیا علیه ، ثم یعطیه بعد دراهمه دنانیر ، ثم یبیعه الدنانیر بتلک الدراهم علی ما تقاولا علیه أوّل مرّة ؟ قال : ألیس ذلک برضا منهما جمیعاً ؟ قلت : بلی ، قال : لا بأس(5) .

ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الدراهم بالدراهم وعن

ص:119


1- (2) وسائل الشیعة 18 / 179 ح 2 .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 179 ح 3 .
3- (4) وسائل الشیعة 18 / 180 ح 4 .
4- (5) وسائل الشیعة 18 / 180 ح 5 .
5- (1) وسائل الشیعة 18 / 180 ح 6 .

فضل ما بینهما ؟ فقال : إذا کان بینهما نحاس أو ذهب فلا بأس(1) .

ومنها : صحیحة أبی الصباح الکنانی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یقول للصائغ : صغ لی هذا الخاتم واُبدل لک درهماً طازجاً بدرهم غلّة ؟ قال : لا بأس(2) .

تلک عشرة کاملة من الروایات ، وأکثرها صحاح سنداً وواضحة دلالةً تدلّ علی جواز بیع درهم ودینار بدینارین ودرهمین ویصرف کلّ واحد منهما إلی غیر جنسه ، وهکذا تدلّ علی جواز بیع الجنسین الربویین مع الزیادة إذا کان فی البین جنس آخر غیرهما یقابل الزیادة وبعبارة اُخری : تدلّ علی کیفیة الفرار من الربا فی المثلیات ، وهی کما تری لا تختص بالصرف وإن کان أکثرها فیه ، ولکن موثقة أبی بصیر(3) وصحیحته(4) وصحیحة أبی الصباح الکنانی(5) عام یشمل الصرف وغیره .

فیمکن التعدی فی هذه الحیلة من الصرف إلی غیره من المبادلات والمعاملات الربویة ، کما ذهب إلیه المشهور من أصحابنا رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین .

تنبیهٌ : حکم الاُوراق النقدیة

أمّا الاُوراق النقدیة المتداولة فی البلاد المختلفة الیوم نحو : الریالات أو الدلارات أو الدنانیر أو الدراهم الورقیة أو غیرها ، فلیست من جنس النقدین ، فلذا لا یحتاج فی معاملة

بعضها من بعض بالزیادة أو النقیصة إلی هذه الحیلة المذکورة فی التخلص من الربا أو غیرها من الحیل التی تأتی ، لأنّها لیست من النقدین أو لیست من المکیل والموزون ، فیجوز بیع أحدها بالآخر بالزیادة ، بل یجوز بیع أحدها بنفسها بالزیادة ، نحو : إعطاء مائة وعشرة دلارات المفردة وأخذ مائة دلار فی ورقة واحدة .

ص:120


1- (2) وسائل الشیعة 18 / 181 ح 7 و 18 / 163 ح 2 الباب 20 من أبواب الربا .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 195 ح 1 . الباب 13 من ابواب الصرف .
3- (4) وسائل الشیعة 18 / 200 ح 8 .
4- (5) وسائل الشیعة 18 / 199 ح 3 .
5- (6) وسائل الشیعة 18 / 195 ح 1 .

والحاصل ، لا تجری أحکام الربا فی الاُوراق النقدیة ، فیجوز بیع بعضها من بعض بالزیادة ، ولذا قال صاحب العروة : « الإسکناس معدود من جنس غیر النقدین له قیمة معینة ولا یجری علیه حکمهما ، فیجوز بیع بعضه ببعض أو بالنقدین متفاضلاً ... »(1) .

نعم ، لابد من أن یکون هذا البیع نقداً ، وأمّا إذا کانت نسیئة بالزیادة فیشکل الأمر فیها ، لتطرق شبهة الربا القرضی فیها ، لأنّ هذه المعاملة ظاهرها وإن کانت بیعاً ولکن واقعها من القرض الربوی ، فحینئذ تکون محرّمة وباطلة .

واللّه سبحانه هو العالم .

الرابع : یمکن التخلص من الربا بوجوهٍ :

منها : أن یبیع الجنس الربوی بثمن من غیر جنسه ثم یشتری الجنس الآخر بذلک الثمن أو بغیره ، کما إذا باع منّاً من الحنطة بألف دینار ثمّ اشتری منّین من الحنطة أیضاً بألف دینار أو أقل أو أکثر ثمّ تساقط الذمتین بمقدار المقابلة .

ومنها : ضمّ الضمیمة من غیر الجنس الربوی إلی الطرف الناقص أو الطرفین . کما مرّ مفصلاً فی الفرع السابق .

ومنها : أنْ یتبایعا بقصد کون المثل بالمثل وکون الزائد هبة .

ومنها : أن یهب کلّ من المتبایعین جنسه الآخر ، لکن من غیر قصد المعاوضة بین الهبتین واشتراط الهبة فی الهبة .

ومنها : أن یقرض کلّ منهما صاحبه ثمّ یتبارءا مع عدم الاشتراط .

ومنها : أن یصالح صاحب الزیادة مقدارها للآخر ویشترط علیه أن یبیعه کذا بکذا مثلاً بمثل . هذا فی البیع ، وفی القرض أن یصالح المقترض مع المقرض قبل القرض الزیادة بعوض جزئی أو بلا عوض ویشترط فی ضمن هذه المصالحة أن یقرضه مبلغ کذا إلی مدّة کذا .

وإذا کان الدین سابقاً وحلّ أجله ویرید أن یؤجّله إلی مدّة یجوز أن یصالحه بمقدار

ویشترط علیه أن یؤجله إلی تلک المدّة .

ص:121


1- (1) العروة الوثقی 6 / 74 مسألة 56 .

ذکر الفقیه الیزدی قدس سره هذه الحیل الشرعیة للتخلص من الربا فی العروة الوثقی(1) .

هذه الحیل المذکورة فی کلّیّتها تُلقیت بالقبول من قِبَلِ أصحابنا قدس سرهم ، کما علیه الشیخ الطوسی فی الخلاف(2) والمحقق فی الشرائع(3) والنافع(4) والعلامة فی التذکرة(5) والقواعد(6) والنهایة(7) والإرشاد(8) والتحریر(9) وابن زهرة الحلبی فی الغنیة(10) والشهید الأوّل فی الدروس(11) والشهید الثانی فی المسالک(12) والروضة البهیة(13) وأصحاب الکفایة(14) والریاض(15) والمفتاح(16) والجواهر(17) والعروة(18) .

قال سید الریاض : « بلا خلاف بین الطائفة بل علیه الاجماع فی الخلاف والغنیة

ص:122


1- (1) العروة الوثقی 6 / 75 المسألة 61 .
2- (2) الخلاف 3 / 61 .
3- (3) الشرائع 2 / 41 .
4- (4) المختصر النافع / 128 .
5- (5) تذکرة الفقهاء 10 / 201 المسألة 98 .
6- (6) قواعد الأحکام 2 / 63 .
7- (7) نهایة الأحکام 2 / 548 .
8- (8) إرشاد الأذهان 1 / 379 .
9- (9) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 312 .
10- (10) غنیة النزوع / 225 .
11- (11) الدروس 3 / 298 .
12- (12) مسالک الأفهام 3 / 332 .
13- (13) الروضة البهیة 3 / 445 .
14- (14) کفایة الأحکام 1 / 499 و 501 .
15- (15) ریاض المسائل 8 / 439 .
16- (16) مفتاح الکرامة 4 / 527 _ (14 / 88 وما بعدها) .
17- (17) الجواهر 23 / 396 .
18- (18) العروة الوثقی 6 / 75 .

والمسالک والتذکرة وغیرها من کتب الجماعة هو الحجة »(1) .

وقال السید العاملی : « ولم أجد من تأمل أو توقف [ فی هذه الحیل ] سوی المولی الأردبیلی علی ما لعلّه یتوهم منه ... »(2) .

أقول : أذکر تمام کلام المحقق الأردبیلی حتّی یتبیّن لک تأمله أو توقفه فی المقام أو

عدمه ، ولذا قال السید العاملی : « علی ما لعلّه یتوهم منه» . قال الأردبیلی معلِّقاً علی بعض الحیل المذکورة فی الإرشاد بعد تقریبه وتوضیحه لها : « ... وینبغی الإجتناب عن الحیل مهما أمکن ، وإذا اضطر ما ینجیه عند اللّه ولا ینظر إلی الحیل وصورة جوازها ظاهراً لما عرفت من علّة تحریم الربا ، فکأنّه أشار فی التذکرة بقوله : « لو دعت الضرورة إلی بیع الربویات مستفضلاً ]متفاضلاً ] مع إتحاد الجنس »(3) الخ _ وذکر الحیل منها ما تقدم _(4) .

نعم قال قبل ثلاثین صفحة : « بل هذا یدلّ علی عدم جواز أکثر الحیل التی تُستعمل فی إسقاط الربا ، فافهم »(5) .

فیصح بأن یجعل المحقق الأردبیلی قدس سره من المستشکلین فی الحیل الربویة .

وهکذا تبعه فی الردّ علی بعض الحیل الوحید البهبهانی قدس سره فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان(6) ورسالته فی القرض بشرط المعاملة المحاباتیة المطبوعة ضمن رسائله الفقهیة(7) .

فهذان الفقیهان یردان علی بعض الحیل المذکورة ، وتبعهما من المتأخرین السید الخمینی قدس سره فی کتابه البیع(8) .

ص:123


1- (19) ریاض المسائل 8 / 439 .
2- (20) مفتاح الکرامة 4 / 527 _ (14 / 89) .
3- (1) تذکرة الفقهاء 10 / 201 المسألة 98 .
4- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 488 .
5- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 453 .
6- (4) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 290 .
7- (5) الرسائل الفقهیة / (294 _ 239) للوحید البهبهانی .
8- (6) کتاب البیع 2 / 406 طبعة اسماعیلیان .

ولم یرد علی هذه الحیل بعدم ترتب القصد إلی هذه العقود ، وأجاب الفقهاء عن هذا الإشکال :

ولعلّ أوّل من أجاب عن هذا الإشکال ثانی الشهیدین قال : « ولا یقدح فی ذلک کون هذه الاُمور غیر مقصودة بالذات والعقود تابعة للقصود ، لأنّ قصد التخلص من الربا إنّما یتمّ مع القصد إلی بیع صحیح أو قرض أو غیرهما من الأنواع المذکورة ، وذلک کافٍ فی القصد ، إذ لا یُشترط فی القصد إلی عقد قصد جمیع الغایات المترتبة علیه ، بل یکفی قصد غایة صحیحة من غایاته ، فإنّ من أراد شراء دار مثلاً لیؤاجرها ویکتسب بها فإنّ ذلک کافٍ فی الصحة ، وإن کان لشراء الدار غایات اُخر أقوی من هذه وأظهر فی نظر العقلاء . وکذا القول فی غیر ذلک من أفراد العقود »(1) .

وقال السید الریاض : « ولا یقدح فی ذلک کون هذه الاُمور غیر مقصودة بالذات والعقود تابعة للقصود ، لأنّ القصد إلی عقد صحیح وغایة صحیحة کافیة فی الصحة ، ولا یُشترط فیه قصد جمیع الغایات المترتبة علیه ، فإنّ من أراد شراء دار مثلاً لیؤاجرها ویتکسّب بها فإنّ ذلک کافٍ فی الصحة وإن کان له غایات اُخر أقوی من هذه وأظهر فی نظر العقلاء کالسکنی وغیره »(2) .

قال السید العاملی : « وقالوا فی المقام : ولا یُقدح فی ذلک کلّه کون هذه العقود - أی الإتهاب والإقتراض والإبراء - غیر مقصودة بالذات ، مع أنّ العقود أی الصیغ تابعة للقصود ، لأنّ قصد التخلص من الربا الذی لا یتمّ إلاّ بالقصد إلی بیع صحیح أو قرض أو غیرهما کافٍ فی القصد إلیها ، لأنّ ذلک غایة مترتبة علی صحة العقد مقصودة ، فیکفی جعلها غایة ، إذ لایعتبر قصد جمیع الغایات المترتبة علی العقد ، فإنّ من أراد شراء دار لیؤجرها ویکتسب بها فإنّ ذلک کافٍ فی الصحة وإن کان لشراء الدار غایات اُخر أقوی من هذه وأظهر ... »(3) .

وأجاب عن هذا الإشکال صاحب الجواهر أیضاً : « وکیف کان فلا یناقش فی هذه

ص:124


1- (7) مسالک الأفهام 3 / 332 .
2- (1) ریاض المسائل 8 / 441 .
3- (2) مفتاح الکرامة 4 / 529 _ (14 / 94) .

الحیل بعدم قصد هذه الاُمور أوّلاً وبالذات ، ومن المعلوم تبعیة العقود للقصود ، لاندفاعها بالمنع من عدم القصد ، بل قصد التخلص من الربا المتوقف علی قصد الصحیح من البیع والقرض والهبة وغیرها من العقود کافٍ فی حصول ما یحتاج إلیه البیع من القصد ، إذ لا یُشترط فی القصد إلی قصد جمیع الغایات المترتبة ، بل یکفی قصد غایة من غایاته ، واللّه أعلم »(1) .

أقول : هذا المقال منهم قدس سرهم تام ، وتدلّ علی صحة هذه الحیل عدّة من الروایات :

منها : ذیل صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج ، وفیها : کان یقول [ أبو جعفر علیه السلام [ لهم : نعم الشیء الفرار من الحرام إلی الحلال(2) .

ومنها : صحیحته الاُخری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان محمد بن المنکدر یقول لأبی علیه السلام : یا أبا جعفر رحمک اللّه ، واللّه إنّا لنعلم أنّک لو أخذت دیناراً والصرف بثمانیة عشر فدرتَ المدینة علی أن تجد من یعطیک عشرین ما وجدته ، وما هذا إلاّ فراراً ، فکان أبی یقول :

صدقت واللّه ولکنّه فرارٌ من باطل إلی حقٍّ(3) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سئل رجل له مال علی رجل مِنْ قِبَلِ عینة عیّنها إیّاه ، فلمّا حلّ علیه المال لم یکن عنده ما یعطیه ، فأراد أن یقلب علیه ویربح أیبیعه لؤلؤاً أو غیر ذلک ما یسوی مائة درهم بألف درهم ویؤخّره ؟ قال : لا بأس بذلک ، قد فعل ذلک أبی رضی الله عنه وأمرنی أن أفعل ذلک فی شیءٍ کان علیه(4) .

ومنها : صحیحة عبد الملک بن عتبة الصیرفی قال : سألته عن الرجل یرید أن اُعینه المال أو یکون لی علیه مال قبل ذلک ، فیطلب منّی مالاً أزیده علی مالی الذی لی علیه ، أیستقیم أن أزیده مالاً وأبیعه لؤلؤة تسوی مائة درهم بألف درهم فأقول :

أبیعک هذه اللؤلؤة بألف درهم علی أن اُؤخرک بثمنها وبمالی علیک کذا وکذا شهراً ؟ قال :

ص:125


1- (3) الجواهر 23 / 397 .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 178 ح 1 . الباب 6 من أبواب الصرف .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 179 ح 2 .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 54 ح 3 . الباب 9 من أبواب أحکام العقود .

لا بأس(1) .

ومنها : موثقة بل صحیحة محمد بن إسحاق بن عمار قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : یکون لی علی الرجل دراهم فیقول : أخّرنی بها وأنا أربحک ، فأبیعه جبّةً تقوم علیَّ بألف درهم ، بعشرة آلاف درهم ، أو قال : بعشرین ألفاً واُؤخره بالمال ، قال : لا بأس(2) .

ومنها : خبر محمد بن إسحاق بن عمار قال : قلت للرضا علیه السلام : الرجل یکون له المال قد حلَّ علی صاحبه یبیعه لؤلؤة تسوی مائة درهم بألف درهم ویؤخّر عنه المال إلی وقت ؟ قال : لا بأس ، قد أمرنی أبی ففعلت ذلک ، وزعم أنّه سأل أبا الحسن علیه السلام عنها فقال له مثل ذلک(3) .

سند الروایة ضعیف بمحمد بن عبد اللّه بن مغیرة لأنّه مهمل فی الرجال ، ولکن دلالتها واضحة .

ومنها : خبر آخر له قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ سلسبیل طلبتْ منّی مائة ألف درهم علی أن تربحنی عشرة آلاف ، فأقرضها تسعین ألفاً وأبیعها ثوباً وشیّاً تقوّم علیَّ بألف درهم بعشرة آلاف درهم ؟ قال : لا بأس .

قال الکلینی : وفی روایة اُخری لا بأس به : أعطها مائة ألف وبعها الثوب بعشرة آلاف واکتب علیها کتابین(4) .

سند الروایة ضعیف بعلی بن حدید . الثوب الوشی : ثوب یکون له نقش من کلّ لون ، وکان معروفاً فی تلک الأعصار . وسلسبیل : اسم امرأة .

ودلالتها واضحة . ولعلّ المراد بکتابة الکتابین أن یجعلهما فی عقدین مستقلین ، کما هو الظاهر .

ومنها : خبر الحسن بن صدقة المدائنی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : قلت له :

ص:126


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 55 ح 5 .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 55 ح 4 .
3- (5) الکافی 5 / 205 ح 10 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 55 ح 6 .
4- (1) الکافی 5 / 205 ح 9 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 54 ح 1 .

جعلت فداک إنّی أدخل المعادن وأبیع الجوهر بترابه بالدنانیر والدراهم ، قال : لا بأس به . قلت : وأنا أصرف الدراهم بالدراهم وأصیّر الغلة وضحاً وأصیّر الوضح غلّة ، قال : إذا کان فیها دنانیر فلا بأس .

قال : فحکیت ذلک لعمار بن موسی الساباطی قال : کذا قال لی أبوه ، ثم قال لی أبوه ، ثم قال لی : الدنانیر أین تکون ؟ قلت : لا أدری ، قال عمار : قال لی أبو عبد اللّه علیه السلام : تکون مع الذی ینقص(1) .

الروایة ضعیفة سنداً بالسندی بن الربیع ، لأنّه إمامی مجهول . ومحمد بن سعید المدائنی ، لأنّه مهمل . والمراد بالغلّة : الدراهم المغشوشة . وبالوضح : الدرهم الصحیح غیر المغشوش . ودلالتها واضحة وفی الفرع الأوّل یعنی بیع الجوهر بترابه بالدنانیر والدراهم معاً . وراجع فی هذا المجال ما ورد من الروایات فی الباب 11 من أبواب الصرف(2) .

ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الدراهم وعن فضل ما بینها ؟ فقال : إذا کان بینها نحاس أو ذهب فلا بأس(3) .

السند ضعیف بعلی بن أبی حمزة البطائنی ، ولکن دلالتها واضحة .

ومنها : حسنة أبی بکر الحضرمی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : یکون لی علی الرجل الدراهم فیقول لی : بعنی شیئاً أقضیک ، فأبیعه المتاع ثمّ اشتریه منه وأقبض مالی ؟ قال : لا بأس(4) .

سند الروایة حسنٌ بل معتبر ، لأنّ المراد بعلی بن إسماعیل هو ابن عمار فی أعلی درجة الحسن . وأبو بکر الحضرمی هو عبد اللّه بن محمّد ثقة علی الأقوی . وغیرهما من رجال السند ثقات . ودلالتها علی الحیل ظاهرة ، ونحوها فی الدلالة صحیحة اُخری لأبی بکر الحضرمی(5) .

ص: 127


1- (2) التهذیب 7 / 117 ح 115 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 162 ح 1 . الباب 20 من أبواب الربا .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 188 .
3- (4) التهذیب 7 / 98 ح 28 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 163 ح 2 .
4- (5) الکافی 5 / 204 ح 5 .
5- (1) الکافی 5 / 204 ح 4 .

تلک عشرة کاملة من الروایات وفیها الصحاح ، والمتتبِّع یجد أکثر منها فی الجوامع الحدیثیة(1) . ومع ورود هذه الروایات المعتبرة وظهور دلالتها لابدّ من الأخذ بها والحکم بجواز الحیل مطلقاً ، بلا فرق بین أن یتخذ ذلک عادة أم لا ، وبلا فرق بین أن تدعو الضرورة إلی ذلک أم لا ، لإطلاق الروایات الماضیة .

ولا یمکن تخصیصها بمرفوعة معلی بن خنیس أنّه قال لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّی أردتُ أن أبیع تبر ذهب بالمدنیة فلم یشتر منی إلاّ بالدنانیر ، فیصح لی أن أجعل بینها نحاساً ؟ فقال : إن کنت لابدّ فاعلاً فلیکن ونحاساً وزناً(2) .

لأنّها أوّلاً : مرفوعة سنداً ، وثانیاً : المراد بلا بدیّة الفعل هنا لیس ما یرادف الاضطرار ، لأنّه یبیح جمیع المحظورات ، بل المراد بها اللابدیّة العادیّة ، نحو التنمیّة الاقتصادیة وغیرها . فلا یمکن حمل هذه المرفوعة نفسها علی الاضطرار ، فکیف یمکن تقیید غیرها وحملها بها علی الاضطرار .

وأمّا اختصاص هذه الروایات بمبادلة المثلیات مع الزیادة کما فعله بعض المعاصرین(3) قدس سره فغیر تامٍ ، لإطلاق بعضها بل ، بعضها نص فی الربا القرضی أو المعاملی ، نحو معتبرة مسعدة بن صدقه(4) وصحیحة عبد الملک بن عتبة(5) وموثقة محمد بن إسحاق بن عمار(6) وحسنة أبی بکر الحضرمی(7) وصحیحته(8) .

ص: 128


1- (2) نحو خبر محمد بن سلیمان الدیلمی عن أبیه ، راجع وسائل الشیعة 18 / 56 ح 7 الباب 9 من أبواب أحکام العقود .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 189 ح 4 . الباب 11 من أبواب الصرف .
3- (4) کتاب البیع 2 / 408 وما بعدها للسید الخمینی قدس سره .
4- (5) وسائل الشیعة 18 / 54 ح 3 .
5- (6) وسائل الشیعة 18 / 55 ح 5 .
6- (7) وسائل الشیعة 18 / 55 ح 4 .
7- (8) الکافی 5 / 204 ح 4 .
8- (9) الکافی 5 / 204 ح 5 .

وفی الواقع هذه الحیل خروجُ موضوعیّ عن الربا ، بلا فرق بین الربا القرضی والربا المعاملی ومبادلة المثلیات مع ا لزیادة ، وهی أحد مصادیق الربا المعاملی إذا کان المثلی من المکیل أو الموزون . فلا تنافی هذه الحیل مع الإطلاقات والعمومات الواردة فی حرمة الربا ، فیمکن الأخذ بها وإن کان الأحوط ترک الحیل فی غیر مقام الضرورة استحباباً ، والحمد للّه وهو العالم بأحکامه .

الخامس : ما یجب علی آخذ الربا ؟

آخذ الربا إمّا أن یکون کافراً أو مسلماً ، وإذا کان کافراً وأخذ الربا فی حال کفره ثمّ أسلم لا یجوز له أخذ ما بقی من الربا فی حال إسلامه لحرمته فی الإسلام ، وأمّا ما أخذ من الربا فی حال کفره فلا یجب ردّه ویجوز امتلاکه ، لقوله تعالی : «فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ»(1) ولقوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ»(2) ، ولما ورد فی مرسلة الطبرسی عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ الولید بن المغیرة کان یربی فی الجاهلیة وقد بقی له بقایا علی ثقیف ، وأراد خالد بن الولید المطالبة بعد أن أسلم فنزلت : «اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ» الآیات(3) .

ولم یأمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم آخذی الربا بردّ الأموال إلی أصحابها .

وتدلّ علیه قاعدة جبّ الإسلام ومرسلة اُخری للطبرسی عن أبی جعفر الباقر علیه السلام : من أدرک الإسلام وتاب ممّا کان عمله فی الجاهلیة وضع اللّه عنه ما سلف(4) .

والحاصل ، ما أخذه الکافر من الربا فی حال کفره یجوز امتلاکه بعد إسلامه مطلقاً ، أی بلا فرق بین کونه عالماً بالتحریم فی الإسلام أو جاهلاً به ، وبلا فرق بین کون الربا موجوداً بالفعل أو تالفاً ، ولکن الفاضل المقداد قدس سره ذهب إلی وجوب ردّه مع وجوده(5) ولکن ، الأقوی

ص:129


1- (1) سورة البقرة / 275 .
2- (2) سورة البقرة / 278 .
3- (3) مجمع البیان 2 / 392 ، ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 131 ح 8 . الباب 5 من أبواب الربا .
4- (4) مجمع البیان 2 / 390 .
5- (5) کنز العرفان 2 / 39 .

عدمه لما مرّ منّا .

نعم ، بعد إسلامه لا یجوز له أخذ ما بقی من الربا کما مرّ فی قضیة خالد بن الولید ولقوله تعالی : «اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ»(1) .

هذا کلّه إذا کان الآخذ کافراً ثم أسلم .

وأمّا إذا کان مسلماً فتارة یکون عالماً بالحکم والموضوع فهو آثم وعاص ویکون فعله حراماً ویجب علیه ردّ المال إلی صاحبه ، لأنّه عالم بالتحریم فهو عاص وتکون معاملته باطلةً فلم ینتقل المال إلیه ، فیجب علیه ردّ المال عیناً إلی صاحبه إن کان موجوداً ومثله أو قیمته إن کان تالفاً ، وهذا الحکم یکون بحسب القواعد ولا یحتاج إلی دلیل أزید من ذلک .

وتارة یکون آخذ الربا مسلماً ولکنّه کان جاهلاً بالحکم أو ببعض خصوصیاته ، کما إذا کان جاهلاً بأنّ الحنطة والشعیر جنس واحد فی الربا ، أو کان جاهلاً بالموضوع کما إذا باع شیئاً بالزیادة بتخیّل أنّه لیس من جنسه فبان أنّه کان من جنسه . وفی صورة الجهل مطلقاً - سواء کان بالحکم أو الموضوع - هل یکون ما أخذه حلالاً علی المسلم فلا یجب ردّه أم حراماً ویجب علیه ردّه أم یفرق بین کون المال موجوداً معروفاً فیجب ردّه ، وبین کونه تالفاً أو موجوداً مختلطاً بماله وغیر معروف فلا یجب الردُّ حینئذٍ ؟

وجوه بل أقوال :

ذهب إلی الحلیة وعدم وجوب الرد الصدوق فی الهدایة(2) والشیخ فی النهایة(3) والراوندی فی فقه القرآن(4) والمحقق فی النافع(5) والفاضل الآبی فی کشف الرموز(6) والأردبیلی

ص:130


1- (6) سورة البقرة / 278 .
2- (1) الهدایة / 316 .
3- (2) النهایة / 376 .
4- (3) فقه القرآن 2 / 47 .
5- (4) المختصر النافع / 127 .
6- (5) کشف الرموز 1 / 485 .

فی آیات أحکامه(1) والفاضل القطیفی فی إیضاح النافع(2) والبحرانی فی الحدائق(3) والسید الطباطبائی فی الریاض(4) ، وهو ظاهر السید العاملی فی مفتاح الکرامة(5) وصریح السید الیزدی فی العروة الوثقی(6) .

وذهب إلی الحرمة ووجوب الردّ جماعة من المتأخرین ، منهم : ابن إدریس الحلی فی السرائر(7) والعلامة فی تذکرة الفقهاء(8) والمختلف(9) ونهایة الأحکام(10) وولده فی الإیضاح(11) والشهید فی الدروس(12) والفاضل المقداد فی التنقیح(13) وکنز العرفان(14) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(15) ، ومال إلیه صاحب الجواهر(16) .

وذهب ابن الجنید الإسکافی کما نقل عنه العلامة فی المختلف(17) إلی وجوب الردّ إن کان

ص:131


1- (6) زبدة البیان / 434 .
2- (7) إیضاح النافع / کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 534 _ (14 / 113) .
3- (8) الحدائق 19 / 222 .
4- (9) ریاض المسائل 8 / 411 .
5- (10) مفتاح الکرامة 4 / 536 _ (14 / 113 وما بعدها) .
6- (11) العروة الوثقی 6 / 26 .
7- (1) السرائر 2 / 251 .
8- (2) تذکرة الفقهاء 10 / 210 .
9- (3) مختلف الشیعة 5 / 78 .
10- (4) نهایة الأحکام 2 / 554 .
11- (5) ایضاح الفوائد 1 / 480 .
12- (6) الدروس 3 / 299 .
13- (7) التنقیح الرائع 2 / 88 .
14- (8) کنز العرفان 2 / 39 .
15- (9) جامع المقاصد 4 / 282 .
16- (10) الجواهر 23 / 404 وما قبلها .
17- (11) مختلف الشیعة 5 / 78 .

المال موجوداً معروفاً وعدم وجوبه إن کان تالفاً أو مختلطاً بماله وغیر معروف . فهذه ثلاثة أقوال فی صورة الجهل ، ولابدّ من ملاحظة الأدلة حتّی تبیّن دلیل القول المختار :

أقول : ظاهر قوله تعالی «فَلَهُ مَا سَلَفَ»(1) عدم وجوب الردّ ، ویؤیده عدة من نصوص معتبرة :

منها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یأکل الربا وهو یری أنّه حلال ، قال : لا یضرّه حتّی یصیبه متعمداً ، فإذا أصابه متعمداً فهو بالمنزل الذی قال اللّه عزّ وجل(2) .

ونحوها صحیحة الحلبی(3) وصحیحة علی بن جعفر(4) . وهذه الصحاح فی نفی العقاب أظهر من عدم وجوب الردّ فی صورة الجهل .

ومنها : صحیحة الحلبی قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : کلّ ربا أکله الناس بجهالة ثمّ تابوا

فإنّه یقبل منهم إذا عرف منهم التوبة . وقال : لو أنَّ رجلاً ورث من أبیه مالاً وقد عرف أنّ فی ذلک المال ربا ولکن قد اختلط _ فی التجارة _ بغیره حلال کان حلالاً طیباً فلیأکله ، وإن عرف منه شیئاً أنّه ربا فلیأخذ رأس ماله ولیرد الربا ، وأیّما رجل أفاد مالاً کثیراً قد أکثر فیه من الربا فجهل ذلک ثمّ عرفه بعد فأراد أن ینزعه ، فما مضی فله ویدعه فیما یستأنف(5) .

ذیل الصحیحة تدلّ علی عدم وجوب الردّ فی صورة الجهل .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : أتی رجل أبی علیه السلام فقال : إنّی ورثت مالاً وقد علمت أنّ صاحبه الذی ورثته منه قد کان یربی ، وقد أعرف أن فیه ربا واستیقن ذلک ، ولیس یطیب لی حلاله لحال علمی فیه ، وقد سألتُ فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا یحلّ أکله ، فقال أبو جعفر علیه السلام : إن کنت تعلم بأنّ فیه مالاً معروفاً رباً

ص:132


1- (12) سورة البقرة / 275 .
2- (13) وسائل الشیعة 18 / 128 ح 1 الباب 5 من أبواب الربا .
3- (14) وسائل الشیعة 18 / 130 ح 6 .
4- (15) وسائل الشیعة 18 / 131 ح 9 .
5- (1) وسائل الشیعة 18 / 128 ح 2 .

وتعرف أهله فخذ رأس مالک وردّ ما سوی ذلک ، وإن کان مختلطاً فکله هنیئاً ، فإنّ المال مالک ، واجتنب ما کان یصنع صاحبه ، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قد وضع ما مضی من الربا وحرم علیهم ما بقی ، فمن جهل وسع له جهله حتّی یعرفه ، فإذا عرف تحریمه حرم علیه ووجب علیه فیه العقوبة إذا رکبه کما یجب علی من یأکل الربا(1) .

أقول : یمکن المناقشة فی دلالة الصحیحة علی عدم وجوب الردّ ، لأنه یمکن حملها علی نفی العقاب فقط ، وهو القدر المتیقَّن منها .

نعم ، لو کان صدرها مثل حسنة أبی الربیع الشامی الآتیة تدلّ علی عدم وجوب الرد .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أربی بجهالة ثمّ أراد أن یترکه ، قال : أمّا ما مضی فله ولیترکه فیما یستقبل . ثمّ قال : إنَّ رجلاً أتی أبا جعفر علیه السلام فقال : إنّی ورثت مالاً ، وذکر الحدیث نحوه(2) .

دلالة الحسنة علی عدم وجوب الردّ واضحة .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم قال : دخل رجل علی أبی جعفر علیه السلام من أهل خراسان قد عمل بالربا حتّی کثر ماله ، ثم إنّه سأل الفقهاء ؟ فقالوا : لیس یقبل منک شیءٌ إلاّ أن تردّه إلی أصحابه ، فجاء إلی أبی جعفر علیه السلام فقص علیه قصّته ، فقال له أبو جعفر علیه السلام : مخرجک من کتاب اللّه : «فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَی

اللّهِ»والموعظة : التوبة(3) .

وروی العیاشی مثلها فی تفسیره مرسلاً(4) .

ومنها : ما رواه أحمد بن محمد بن عیسی فی نوادره عن أبیه قال : إنّ رجلاً أربی دهراً من الدهر فخرج قاصداً أبا جعفر الجواد ، فقال له : مخرجک من کتاب اللّه یقول اللّه : «فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ» والموعظة هی التوبة ، فجهله بتحریمه ثمّ معرفته

ص:133


1- (2) وسائل الشیعة 18 / 129 ح 3 .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 130 ح 4 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 130 ح 7 .
4- (2) تفسیر العیاشی 1 / 277 ح 510 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 336 ح 1 .

به ، فما مضی فحلال وما بقی فلیتحفظ(1) .

الروایة صحیحة الإسناد ودلالتها واضحة .

ومنها : ما رواه أحمد بن محمد بن عیسی فی نوادره عن أبیه قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لا یکون الربا إلاّ فیما یکال أو یوزن ، ومن أکله جاهلاً بتحریمه لم یکن علیه شیءٌ(2) .

أقول : سند الروایة صحیح ، لأنّ محمد بن عیسی بن عبد اللّه بن سعد بن مالک الأشعری ، أبو علی ، شیخ القمیین ووجه الأشاعرة والمتقدم عند السلطان والداخل علی الرضا علیه السلام والراوی عن أبی جعفر الثانی علیه السلام . ویمکن نقله عن الإمام أبی عبد اللّه الصادق علیه السلام المستشهد فی 25 شوال عام 148 إذا کان عمره قریباً من ثمانین سنة . وإن کان أکثر روایاته عن الصادق علیه السلام مع الواسطة .

وأمّا دلالتها : فجملة « لم یکن علیه شیءٌ » فی الروایة مطلقة تشمل نفی العقاب وعدم وجوب الردّ ، ولا دلیل لاختصاصها بالأوّل فقط .

فهذه الروایات المعتبرة تدلّ علی عدم وجوب الردّ فی صورة الجهل بالربا ، ولابدّ من الأخذ بها بدعوی الحلیة تعبداً من جهة عذر الجهل وإن کانت المعاملة باطلة أو بدعوی صحة المعاملة إذا وقعت حال الجهل ، واختصاص البطلان بصورة العلم بالحرمة حال المعاملة کما علیه صاحب الحدائق(3) ولکنّه بعید .

وإطلاقها یدلّ علی عدم الفرق بین وجود المال وعدمه ، ولا بین صورة الاختلاط وعدمه ، ولا بین کون الطرف الآخر عالماً أو جاهلاً . وهکذا یدلّ علی عدم الفرق بین أقسام

الجاهل ، کما نبّه علیه صاحب العروة الوثقی قدس سره (4) .

ولکن مع ذلک کلّه استشکل صاحب الجواهر فی دلالة هذه النصوص ، فقال : « ولکن لا یخفی أنّه لا یصلح للفقیه الجرأة بمثل هذه النصوص التی لا یخفی علیک اضطرابها فی الجملة ،

ص:134


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 131 ح 10 .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 131 ح 11 .
3- (5) الحدائق 19 / 216 .
4- (1) العروة الوثقی 6 / 30 .

وترک الاستفصال فیها عن الربا أن صاحبه کان جاهلاً بحرمته أو عالماً ، والأمر بالتوبة مع عدم الذنب حال الجهل الذی یعذر فیه ، بل قد اشترط فی الآیة الحلّ بها وحمله علی الجهل الذی لا یعذر فیه ینافیه ما فی خبر الباقر علیه السلام السابق من إلحاق مثله بالعالم ، وترک الإستفصال عن الربا فی القرض والبیع ، وقد عرفت الفرق بینهما ، وغیر ذلک علی مخالفته الضوابط السابقة ، والإقدام علی حلّ الربا الذی قد ورد فیه من التشدید ما ورد »(1) .

وأجابه صاحب العروة الوثقی بقوله : « فإنّ الاضطراب ممنوع ، ونلتزم بعدم الفرق بین کون الدافع عالماً أو جاهلاً ، وکثیراً ما یؤمر بالتوبة مع کون الشخص معذوراً بلحاظ الحرمة الواقعیة ، ونلتزم باشتراط التوبة فی الحلیة وبعدم الفرق بین القرض والبیع ونحوه ، والتشدید فی حرمة الربا مخصوص بصورة العلم والعمد فلا ینافی الحلیة حال الجهل ... »(2) .

وبالجملة ، هذه النصوص المعتبرة تدلّ علی حلیة الربا فی صورة الجهل وعدم وجوب الرد ، فلابدّ من أخذها والعمل علی طبقها کما ذهب إلیه بعض الأصحاب کما مرّ منّا ، ولذا قال سید الریاض : « وبالجملة الدلالة علی الحلّ فی غایة الوضوح جداً ... »(3) .

وقال السید العاملی بعد الإعتراف بأنّ القول بوجوب الردّ فی صورة الجهل أقعد بحسب القواعد(4) ، قال فی شأن بعض هذه النصوص : « وهذه الأخبار الثلاثة _ أعنی صحیحة الحلبی وخبری أبی الربیع _ کأنّها هی التی استند إلیها أبوعلی ، لکنّ سوقها کما سمعت أظهر فی الدلالة علی مختار الشیخ والصدوق من حیث تعلیل حلّ أکل الربا المختلط بوضع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ما مضی منه ، وهو واضح الدلالة علی أنّ المراد بما مضی نفس الربا فی حالة الجهل مطلقاً معروفاً أو مختلطاً ... »(5) .

وهکذا اعترف بوضوح هذه الأخبار صاحب العروة وقال : « وبالجملة لا وجه

ص:135


1- (2) الجواهر 23 / 401 .
2- (3) العروة الوثقی 6 / 30 .
3- (4) ریاض المسائل 8 / 413 .
4- (5) مفتاح الکرامة 4 / 534 _ (14 / 114) .
5- (6) مفتاح الکرامة 4 / 536 _ (14 / 119) .

للإعراض عن الأخبار المذکورة بعد وضوحها فی الدلالة علی الحلیة لأجل هذه الإشکالات والإحتمالات مع کون الأحکام الشرعیة تعبدیّة . فالأقوی جواز العمل بها ، وإن کان الأحوط الردّ إلی المالک مع کونه موجوداً معزولاً إذا عرف مالکه ، بل إجراء حکم مجهول المالک علیه مع عدم معرفته ، خصوصاً مع کونه جاهلاً بالحرمة أیضاً . وأحوط من ذلک ما ذکره المتأخرون من عدم الفرق بین الجاهل والعالم ... »(1) .

إلی هنا تمت مهمات بحث الربا المعاملی ، وبها تم بحث الربا بقسمیه علی سبیل الإجمال ، وللتفصیل محلاّن آخران وهما کتابی القرض والبیع . والحمد للّه أوّلاً وآخراً وهو العالم بأحکامه والصلاة علی محمّد وآله الطیبین الطاهرین المعصومین .

ص:136


1- (1) العروة الوثقی 6 / 31 .

الرشوة

موضوعها:

الروایات لم تتعرض لتعیین موضوع الرشوة ومفهومها وحقیقتها ، فلابدّ لمعرفتها والتحقیق عنها إلی مراجعة أهل اللغة والعرف وبیانات الأصحاب قدس سرهم :

1 _ قال أحمد بن فارس : « رشی : الراء والشین والحرف المعتل أصل یدلُّ علی سببٍ أو تسبُّبٍ لشیءٍ برفق وملایَنَة ، فالرِّشاء : الحبل الممدود والجمع أرْشِیَة .

ویقال : للحنظل إذا امتدَّت أغصانه : قد أرشی ، یعنی أنّه صار کالأرشیة وهی الحبال ، ومن الباب : رشاه یرشُوهُ رَشْواً . والرشوة الاسمُ ، وتقول : تَرَشَّیْتُ الرجل : لایَنْتُه ، ومنه قول امری ء القیس : ترأشی الفؤاد .

ومن الباب استرشی الفصیلُ : إذا طلب الرّضاع ، وقد أرشیته إرشاءً .

وراشیتُ الرجل : إذا عاونْتَه فظاهَرْتَه ، والأصل فی ذلک کلّه واحد »(1) .

2 _ وقال صاحب الصحاح : « الرشاء : الحبل ، والجمع أرشیة ، والرشوة معروفة ، والرُشوة بالضم مثله ، والجمع رِشاً ورُشاً »(2) .

3 _ وقال الفیومی : « الرِشوة بالکسر : ما یعطیه الشخص الحاکم وغیره لیحکم له أو یحمله علی ما یرید ... والرشاء : الحبل والجمع أرشیة مثل کساء وأکسیة »(3) .

4 _ قال الزمخشری : « ر ش و فلان یرتشی فی حکمه ویأخذ الرُِشوة والرُّشَی ، الرُّشَی رشاءُ النجاح ، ولعن اللّه الراشی والمرتشی ، ورشوته أرشوه ، وعن ثعلب : هو من رَشَا الفرخ

ص:137


1- (1) معجم مقاییس اللغة 2 / 397 .
2- (2) صحاح اللغة 6 / 2357 .
3- (3) المصباح المنیر 1 / 310 .

إذا مدَّ رأسه إلی اُمّه لتزقَّه . واسترشی الفصیل : طلب الرضاع ... »(1) .

5 _ وقال صاحب القاموس : « الرشوة _ مثلثة _ : الجُعل جمعها رُشیً ... والرَّشاء ککَساء : الحبل ، کالرِشاء بالکسر »(2) .

6 _ وابن الأثیر قال : « رشا _ س _ فیه : لعن اللّه الراشی والمرتشی والرائش ، الرِشوة والرُشوة : الوصلة إلی الحاجة بالمصانعة ، وأصله من الرِشاء الذی یُتوصّل به إلی الماء . فالراشی : من یعطی الذی یعینه علی الباطل ، والمرتشی : الآخذ ، والرائش : الذی یسعی بینهما یزید لهذا ویستنقص لهذا . فأمّا ما یعطی توصّلاً إلی أخذ حقٍّ أو دفعِ ظلمٍ فغیر داخل فیه . روی أنّ ابن مسعود اُخذ بأرض الحبشة فی شیءٍ فأعطی دینارین حتّی خلّی سبیله ، وروی عن جماعة من أئمة التابعین قالوا : لا بأس أن یصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم »(3) .

7 _ وقال الطریحی : « والرِشوة _ بالکسر _ : ما یعطیه الشخصُ الحاکمَ وغیرَه فیحکم له أو یحمله علی ما یرید ، والجمع رُشی مثل سِدرة وسُدَر ، والضمّ لغة ، وأصلها من الرِشاء : الحبل الذی یتوصل به إلی الماء ، وجمعه أرشیة ککِساء وأکسیة ... والرشوة قلّ ما تستعمل إلاّ فیما یتوصّل به إلی إبطال حقٍّ أو تمشیة باطل »(4) .

هذا کلّه کلمات أهل اللغة .

والأصحاب تعرضوا لتعریفها أیضاً منهم :

8 _ جدنا الشیخ جعفر کاشف الغطاء قال : « (ویحرم) أخذ (الرشاء) : جمع الرشوة مثلّثة (فی الحکم) بسببه (وإن حکم علی باذله) فلم یؤثر بذله (بحقٍّ أو باطل) ولیس مطلق الجُعل کما فی القاموس بل بینه وبین الاُجرة والجُعل عموم من وجه ، ولا البذل علی خصوص الباطل کما فی النهایة والمجمع ، ولا مطلق البذل ولو علی خصوص الحقّ ، بل هو البذل علی

ص:138


1- (4) أساس البلاغة / 164 .
2- (5) قاموس اللغة / 878 .
3- (1) النهایة 2 / 226 .
4- (2) مجمع البحرین 1 / 184 .

الباطل أو علی الحکم له حقّاً أو باطلاً ، مع التمسیة وبدونها ، أمّا ما کان بصورة الإجارة علی أصل القضاء أو علی خصوص الحق فیه فسیجیء الکلام فیه »(1) .

9 _ وقال السید العاملی فی مفتاحه : « الرشاء _ بالضم والکسر _ جمع رشوة ... هی عند الأصحاب ما یعطی للحکم حقّاً وباطلاً ، وأصل مأخذها یدلّ علی سبب أو تسبّب لشیءٍ برفق »(2) .

10 _ وقال النراقی : « ... فلا کلام فی أنّ الرشوة للقاضی هی المال المأخوذ من أحد الخصمین أو منهما أو من غیرهما للحکم علی الآخر أو إهدائه أو إرشاده فی الجملة . إنّما الکلام فی أنّ الحکم أو الإرشاد المأخوذین فی ماهیته هل هو مطلق شامل للحقِّ أو الباطل أو یختص بالحکم بالباطل ؟ مقتضی إطلاق الأکثر وتصریح والدی العلامة فی المعتمد والمتفاهم فی العرف هو الأوّل ، وهو الظاهر من القاموس والکنز ومجمع البحرین ، ویدلّ علیه استعمالها فیما أعطی للحقِّ فی الصحیح عن رجل یرشو الرجل علی أن یتحوّل من منزله فیسکنه ، قال : لا بأس(3) . فإنّ الأصل فی الاستعمال إذا لم یعلم الاستعمال فی غیره الحقیقة ، کما حقق فی موضعه . نعم عن النهایة الأثیریة ما ربّما یشعر بالتخصیص ککلام بعض الفقهاء ، وهو لمعارضة ما ذکر غیر صالح ، مع أنّ الظاهر أنّ مراد بعض الفقهاء تخصیص الحرمة دون الحقیقة »(4) .

11 _ وقال صاحب الجواهر : « وکیف کان فالرشوة فی مختصر النهایة : الوصلة إلی الحاجة بالمصانعة ، والراشی : مَنْ یعطی الذی یعینه علی الباطل ، والمرتشی : الآخذ ، والرایش : الذی یسعی بینهما یستزید لهذا ویستنقص لهذا . ثمّ ذکر کلمات بعض أهل اللغة والأعلام وقال : أنّ الرشوة خاصة فی الأموال وفی بذلها علی جهة الرشوة ، أو أنّها تعمّمها وتعمّ الأعمال بل والأقوال ، کمدح القاضی والثناء علیه والمبادرة إلی حوائجه وإظهار تبجیله وتعظیمه ونحو ذلک ، وتعمّ البذل وعقد المحاباة والعاریة والوقف ونحو ذلک ، وبالجملة کلّ ما

ص:139


1- (3) شرح القواعد 1 / 277 .
2- (4) مفتاح الکرامة 12 / 302 .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 278 ح 2 . الباب 85 من أبواب ما یکتسب به .
4- (2) مستند الشیعة 17 / 71 .

قُصد به التوصل إلی حکم الحاکم ، قد یقوی فی النظر الثانی وإنّ شک فی بعض الأفراد فی الدخول فی الإسم أو جزم بعدمه فلا یبعد الدخول فی الحکم »(1) .

12 _ وقال المحقق الإیروانی : « مجموع معنی الرشوة خمسة : 1 _ مطلق الجُعل المندرج فیه اُجرة الاُجراء ، 2 _ والجُعل علی القضاء وتصدّی فصل الخصومة ، 3 _ والجُعل علی الحکم بالواقع لنفسه کان أو لغیره ، 4 _ والجعل علی الحکم لنفسه حقّاً کان أو باطلاً ، 5 _ والجُعل علی الحکم بالباطل .

والأوّل ممّا ینبغی القطع ببطلانه وإنْ وقع تفسیره به فی کلمات بعض اللغویین ، فإنّه للإشارة إلی المعنی فی الجملة کما فی « سعدانة نبت » . والمتیقّن من بین بقیة المعانی إنْ لم یکن هو الظاهر هو الأخیر . وعلی کلِّ حال فدفع المال لأجل أن لا یقبل القاضی الرشوة من المبطل ثمّ

یحکم هو علی طبق الواقع بمقتضی طبعه لیس من الرشوة »(2) .

وقال قبل صفحة : « وینبغی القطع بأنّ مطلق الجعل علی عمل لیس رشوةً وإنْ اُوهمته عبارة القاموس والنهایة ، وإلاّ لدخل فیه اُجرة الاُجراء والأکرة ، ولئن سلّم عموم اللفظ فالمحرّم هو قسم خاصّ منه ، والمتیقَّن من المتّصف بالتحریم هو المال المدفوع بإزاء الحکم بالباطل ، بل منصرف لفظ « الرشوة » أیضاً عرفاً هو هذا لا غیر ، ویشهد له عبارة المجمع ... »(3) .

13 _ وقال المحقق الخوئی : « والمتحصَّل من کلمات الفقهاء رضوان اللّه علیهم ومن أهل العرف واللغة مع ضمِّ بعضها إلی بعضها أنّ الرشوة ما یعطیه أحد الشخصین للآخر لإحقاق حقٍّ أو تمشیة باطل أو للمتلق أو الوصلة إلی الحاجة بالمصانعة أو فی عمل لا یقابل بالاُجرة والجعل عند العرف والعقلاء وإن کان محطاً لغرضهم ومورداً لنظرهم . بل یفعلون ذلک العمل للتعاون والتعاضد بینهم ، کإحقاق الحقّ وإبطال الباطل وترک الظلم والإیذاء أو دفعها وتسلیم الأوقاف من المدارس والمساجد والمعابد ونحوها إلی غیره ، کأنْ یرشو الرجل علی أن

ص:140


1- (3) جواهر الکلام 22 / 146 .
2- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 157 .
3- (2) الحاشیة علی المکاسب 1 / 155 .

یتحول عن منزله فیسکنه غیره ، أو یتحول عن مکان فی المساجد فیجلس فیه غیره ، إلی غیر ذلک من الموارد التی لم یتعارف أخذ الاُجرة علیها .

نعم ، ما ذکره فی القاموس من تفسیر الرشوة بمطلق الجُعل محمول علی التفسیر بالأعم ، کما هو شأن اللغوی أحیاناً ، وإلاّ لشمل الجُعل فی مثل قول القائل « من ردّ عبدی فله ألف درهم » ، مع أنّه لا یقول به أحد »(1) .

14 _ وقال شیخنا الاُستاذ _ مدظله _ : « الإحتمالات فی معنی الرشوة أربعة :

الأوّل : ما یعمّ مقابل الحکم الصحیح ، سواء جعل عوضاً عن نفس الحکم أو عن مقدماته کالنظر فی أمر المترافعین . وهذا ظاهر القاموس ، ویساعده ظاهر کلام المحقق الثانی وصریح الحلی ... .

الثانی : ما یعطی للقاضی للحکم له فی الواقعة بالباطل وبقضاء الجور ، کما هو ظاهر مجمع البحرین .

الثالث : إعطاء المال لغایة الوصول إلی غرضه من الحکم له أو أمر آخر یفعله الغیر له ،

کما عن المصباح والنهایة .

الرابع : إعطاء المال للقاضی للحکم له حقّاً أو باطلاً ... . والصحیح فی معناها هو الإحتمال الرابع ، وهو إعطاء المال للحکم له مطلقاً حقّاً أو باطلاً »(2) .

15 _ قال بعض أساتیذنا _ مدظله _ : « إنّ الرشوة لیست عبارة عن مطلق الجُعل ولا مطلق الجُعل للقاضی أو القضاة ، بل المتیقَّن منها الجُعل فی قبال إبطال حقٍّ أو تمشیة باطل ، أو إحقاق حقٍّ یتوقف علیها ، فیحرم علی المرتشی فقط ... »(3) .

أقول : الظاهر أنّ المراد بالرشوة عند الأصحاب هی البذل والجُعل فی عوض الحکم بالباطل أو بالحقّ مطلقاً ، کما صرح بها جماعة : منهم ابن إدریس الحلی فی السرائر(4) والمحقق

ص:141


1- (3) مصباح الفقاهة 1 / 263 .
2- (1) ارشاد الطالب 1 / 149 .
3- (2) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 161 .
4- (3) السرائر 2 / 166 .

فی الشرائع(1) والعلامة فی القواعد(2) والتذکرة(3) والمحقق الکرکی فی جامع المقاصد(4) وثانی الشهیدین فی المسالک(5) والمحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة(6) والشیخ الأعظم فی المکاسب(7) والسید الیزدی فی العروة الوثقی(8) وشیخنا الاُستاذ(9) - مد ظله - فیما مضی من کلامه آنفاً .

هذا کلّه فی تعین موضوع الرشوة وحقیقتها وتبیین معناها ، ولابدّ من مراجعة کلمات الأصحاب فی حرمتها :

الأقوال فی حرمة الرشوة

1 _ قال الشیخ الطوسی : « والرشاء فی الأحکام سحت »(10) .

2 _ وقال القاضی ابن البراج ضمن بیان المکاسب المحظورة : « ... والفتیا بالباطل

والحکم به ولو مع العلم ، والإرتشاء علی ذلک أو ما یجری مجری الإرتشاء ... »(11) .

3 _ وقال ابن إدریس الحلی : « والرشا فی الأحکام سحت »(12) وقال أیضاً : « والقاضی بین المسلمین والحاکم والعامل علیهم یحرم علی کلِّ واحد منهم الرشوة ، لما روی أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : لعن اللّه الراشی والمرتشی فی الحکم . وهو حرام علی المرتشی بکلِّ حال

ص:142


1- (4) شرائع الإسلام 2 / 6 .
2- (5) قواعد الاحکام 2 / 10 .
3- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 148 المسألة 654 .
4- (7) جامع المقاصد 4 / 35 .
5- (8) مسالک الأفهام 3 / 136 .
6- (9) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 49 .
7- (10) المکاسب المحرمة / 30 الطبع الحجری _ (1 / 242) .
8- (11) العروة الوثقی 6 / 442 المسألة 19 .
9- (12) إرشاد الطالب 1 / 151 .
10- (13) النهایة / 364 .
11- (1) المهذب 1 / 345 .
12- (2) السرائر 2 / 220 .

،وأمّا الراشی فإن کان قد رشاه علی تغیّر الحکم أو إیقافه فهو حرام ، وإن کان علی إجرائه علی واجبه لم یحرم علیه أن یرشوه لذلک ، لأنّه یستنقذ ماله ، فیحلّ ذلک له ویحرم علی الحاکم أخذه »(1) .

4 _ وقال المحقق : « الرشاء حرام سواء حکم لباذله أو علیه بحقٍّ أو باطل »(2) .

5 _ وقال العلامة : « یحرم الرشاء فی الحکم وإن حکم علی باذله بحقٍّ أو باطل »(3) .

6 _ وقال فی التحریر : « الرشاء فی الحکم حرام ، سواء کان حکم لباذله أو علیه بحقٍّ أو باطل »(4) ، ونحوها فی إرشاد الأذهان(5) .

7 _ وقال المحقق الثانی : « أجمع أهل الإسلام علی تحریم الرشاء فی الحکم ، سواء حکم بحقٍّ أو باطل للباذل أو علیه ، وفی الأخبار عن أئمة الهدی صلوات اللّه علیهم : أنّه الکفر باللّه عزّ وجل وبرسوله صلی الله علیه و آله وسلم »(6) .

8 _ وقال الشهید الثانی : « الرشا _ بضم أوّله وکسره مقصوراً _ جمع رشوة _ بهما _ وهو أخذ الحاکم مالاً لأجل الحکم وعلی تحریمه إجماع المسلمین . وعن الباقر علیه السلام : أنّه الکفر باللّه تعالی وبرسوله . وکما یحرم علی المرتشی یحرم علی المعطی ، لإعانته علی الإثم والعدوان ، إلاّ أن یتوقف علیه تحصیل حقه ، فیحرم علی المرتشی خاصة »(7) .

9 _ المحقق الأردبیلی قال : « یحرم علی القاضی الرشوة ، دلیله العقل والنقل ، کتاباً وإجماعاً من المسلمین وسنّة ، وهی أخبار کثیرة من طرقهم وطرقنا ، مثل أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال :

لعن اللّه الراشی والمرتشی فی الحکم ، وعن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الرشا فی الحکم هو الکفر

ص:143


1- (3) السرائر 2 / 166 .
2- (4) شرائع الإسلام 2 / 6 .
3- (5) قواعد الأحکام 2 / 10 .
4- (6) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 262 .
5- (7) إرشاد الأذهان 1 / 358 .
6- (8) جامع المقاصد 4 / 35 .
7- (9) مسالک الأفهام 3 / 136 .

باللّه ... »(1) .

10 _ وقال سید الریاض : « (و) أخذ (الرُشا) بضم أوّله وکسره مقصوراً ، جمع رشوة بهما (فی الحکم) بالإجماع کما فی کلام جماعة والنصوص المستفیضة ، فی بعضها أنّها سحت وفی عدّة منها : أنّها الکفر باللّه العظیم ، وفیها الصحیح والموثق وغیرهما . وإطلاقها کالعبارة وصریح جماعة یقتضی عدم الفرق بین أن یکون الحکم للراشی أو علیه ... »(2) .

11 _ وقال السید العاملی بذیل کلام العلامة فی القواعد : « بإجماع المسلمین کما فی جامع المقاصد وقضاء الروضة وحاشیة الإرشاد ، وهی سحت بلا خلاف کما فی المنتهی ، وفی النصوص أنّها سحت ، وفی عدّة منها أنّها الکفر باللّه العظیم ، وفیها الصحیح والموثق وغیرهما . وهی تدلّ بإطلاقها علی ما ذکروه من عدم الفرق بین أن یکون الحکم للراشی أو علیه ... »(3) .

12 _ وقال الفاضل النراقی : « یحرم علی القاضی أخذ الرشوة _ مثلّثة الراء _ إجماعاً من المسلمین للمستفیضة من المعتبرة . ثم ذکر بعض الروایات الواردة فی تحریمها وقال : وکما یحرم علیه أخذها کذلک یحرم علی باذلها دفعها ، لأنّه أعانة علی الإثم والعدوان ، ولقوله علیه السلام : لعن اللّه الراشی والمرتشی فی الحکم ، ولا کلام فی شیء من ذلک ... »(4) .

13 _ وقال صاحب الجواهر : (الرشاء) بضم الراء وکسرها جمع رشوة فی الحکم من الدافع والمدفوع إلیه (حرام) وسحت إجماعاً بقسمیه ونصوصاً مستفیضة أو متواترة ... »(5) .

14 _ وقال تلمیذه السید علی آل بحر العلوم : « ومن التکسبات المحرَّمة أخذ الشیء بعنوان الرشاء فی القضاء والحکم للشخص عند التخاصم مع الغیر ، بإتفاق النص والفتوی ، کما ورد أنّه سحت وأنّه لعن اللّه الراشی والمرتشی »(6) .

ص:144


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 49 .
2- (2) ریاض المسائل 8 / 181 .
3- (3) مفتاح الکرامة 12 / 300 .
4- (4) مستند الشیعة 17 / 69 .
5- (5) جواهر الکلام 22 / 145 .
6- (6) برهان الفقه . کتاب التجارة / 45 الطبع الحجری .

15 _ وقال السید الیزدی : « تحرم الرشوة ، وهی ما یبذله للقاضی لیحکم له بالباطل أو لیحکم له حقّاً کان أو باطلاً ، أو لیعلّمه طریق المخاصمة حتّی یغلب علی خصمه ، ولا فرق فی الحرمة بین أن یکون ذلک لخصومة حاضرة أو متوقّعة ، ویدلّ علی حرمتها إجماع

المسلمین ، بل هی من ضروریّات الدین و ... »(1) .

16 _ وقال الفقیه السبزواری : « تدلّ علی حرمة الرشوة الکتاب المبین وضرورة الدین ونصوص کثیرة ... ویدلّ علی قبحه حکم العقل أیضاً ، لأنّه من الظلم ، فالأدلة الأربعة دالة علی حرمتها »(2) .

الاستدلال علی حرمة الرشوة

الأوّل : الاجماع

قد مرّ نقل کلمات القوم وإدعاء الإجماع من المحقق(3) والشهید(4) الثانیین والأردبیلی(5) والفیض الکاشانی(6) وسید الریاض(7) وأصحاب مفتاح الکرامة(8) ومستند الشیعة(9) والجواهر(10) وبرهان الفقه(11) والعروة الوثقی(12) ، بل فی العروة الوثقی ومهذب

ص:145


1- (1) العروة الوثقی 6 / 442 المسألة 19 .
2- (2) مهذب الأحکام 16 / 94 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 35 .
4- (4) مسالک الأفهام 3 / 136 والروضة البهیة 3 / 75 .
5- (5) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 49 .
6- (6) مفاتیح الشرائع 3 / 251 لم اذکر کلامه فیما مضی .
7- (7) ریاض المسائل 8 / 181 .
8- (8) مفتاح الکرامة 12 / 300 .
9- (9) مستند الشیعة 17 / 69 .
10- (10) جواهر الکلام 22 / 145 .
11- (11) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 45 .
12- (12) العروة الوثقی 6 / 442 .

الأحکام(1) عدّ حرمتها من ضروریات الدین . کما قال المحقق الخوئی : « ومجمل القول أنّ حرمة الرشوة فی الجملة من ضروریات الدین وممّا قام علیه إجماع المسلمین ، فلا حاجة إلی الاستدلال علیها »(2) .

ویمکن الإیراد علی هذا الإجماع بأنّه إجماعٌ مدرکیٌ ، لاحتمال کون مدرکهم ما یأتی من الأدلة .

الثانی : الکتاب المجید

قوله تعالی : «وَلاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُم بَیْنَکُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ لِتَأْکُلُواْ فَرِیقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ»(3) .

قال الشیخ الطوسی فی تفسیره : « قوله تعالی «وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ»فالحکم هو الخبر الذی یفصل به بین الخصمین یمنع کلّ واحد من منازعة الآخر .

وقیل فی معناه قولان :

أحدهما : قال ابن عباس والحسن وقتادة : إنّه الودیعة وما تقوم به بیّنة .

الثانی : قال الجبائی : فی مال الیتیم الذی فی ید الأوصیاء ، لأنّه یدفعه إلی الحاکم إذا طولب به ، لیقتطع بعضه ویقوم له فی الظاهر حجة .

اللغة : یقال : أدلی فلان بالمال إلی الحاکم : إذا دفعه إلیه ، وأدلی فلان بحقِّه وحجته : إذا هو احتج بها وأحضرها ، ودلوت الدلو فی البئر أدلوها : إذا أرسلتها فی البئر ، وأدلیتها إدلاء : انتزعها من البئر ، منه قوله تعالی : «فَأَدْلَی دَلْوَهُ»(4)أی انتزعها ، وقال صاحب العین : أدلیتها : إذا أرسلتها أیضاً ، وأدلی الإنسان شیئاً فی مهوی ، ویتدلّی هو بنفسه ، والدالیة معروفة ... .

المعنی : وقیل فی اشتقاق تدلو قولان : أحدهما : أنّ التعلق بسبب الحکم کتعلق الدلو

ص:146


1- (13) مهذب الأحکام 16 / 94 .
2- (14) مصباح الفقاهة 1 / 264 .
3- (1) سورة البقرة / 188 .
4- (2) سورة یوسف / 19 .

بالسبب الذی هو الحبل . والثانی : أنّه یمضی فیه من غیر تثبت ، کمضی الدلو فی الإرسال من غیر تثبت . والباطل : هو ما تعلق بالشیء علی خلاف ما هو به ، خبراً کان أو اعتقاداً أو تخیّلاً أو ظنّاً ، والفریق : القطعة المعزولة من الشیء ، والإثم : الفعل الذی یستحق به الذم ... »(1) .

وزاد الطبرسی فی معنی قوله تعالی «تُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ»مضافاً إلی ما ذکره الشیخ من القولین : « وثالثها : أنّه ما یؤخذ بشهادة الزور عن الکلبی ، والأولی : أن یُحمل علی الجمیع »(2) .

وقال فی تفسیره الآخر : « وقیل : وتدلوا وتلقوا بعضها إلی حکام السوء علی وجه الرشوة »(3) .

وهکذا قال الزمخشری : « وقیل «وَتُدْلُواْ بِهَا»وتلقوا بعضها إلی حکام السوء علی وجه الرشوة »(4) .

وقال الطریحی : «وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ»أی تلقوا حکومة الأموال إلی الحکام ، والإدلاء : الإلقاء ، وفی الصحاح «وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ» یعنی الرشوة »(5) .

أقول : ظاهر الآیة الشریفة یدلّ علی حرمة الرشوة ، لأنّها تدخل فی ما تدلوا إلی الحکام بجهةِ أکلِ فریقٍ من أموال الناس ، فتشملها النهی الوارد فی أوّل الآیة الشریفة ، أعنی «لاَ تَأْکُلُواْ»فثبت تحریمها .

ومن الواضح أنّ ثبوت الظهور لا یحتاج إلی ورود روایة أو خبر ، والظهور حجة بلا تردید ، فالرشوة صارت محرّمة بظهور الآیة الشریفة ، ولذا تمسک جمعٌ من أصحابنا - أعلی اللّه کلماتهم - فی تحریم الرشوة بهذه الکریمة ، وهو فی محلّه .

الثالث : الروایات المتواترة

الروایات الکثیرة المستفیضة بل المتواترة تدلّ علی حرمة الرشوة بوضوح :

ص:147


1- (3) التبیان 2 / 138 و 139 .
2- (4) مجمع البیان 2 / 282 .
3- (5) جوامع الجامع 1 / 106 .
4- (1) الکشاف 1 / 233 .
5- (2) مجمع البحرین / 30 الطبع الحجری .

منها : صحیحة عمار بن مروان قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الغلول ، فقال : کلُّ شیءٍ غُلّ من الإمام فهو سحت ، وأکل مال الیتیم وشبهه سحت ، والسحت أنواع کثیرة : منها : اُجور الفواجر ، وثمن الخمر والنبیذ والمسکر ، والربا بعد البیّنة ، فأمّا الرشا فی الحکم فإن ذلک الکفر باللّه العظیم جلّ اسمه وبرسوله صلی الله علیه و آله وسلم (1) .

سند الروایة صحیح ، لأنّ المراد بعمار بن مروان هو الیشکری مولاهم الخزاز الکوفی ، هو وأخوه عمرو ثقتان . وروی نحوها الصدوق فی الخصال / 329 ح 26 بسند صحیح کما نقل عنه فی الوسائل 17 / 95 ح 12 .

ومنها : موثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : السحت أنواع کثیرة : منها : کسب الحجام إذا شارط ، وأجر الزانیة ، وثمن الخمر ، وأمّا الرشا فی الحکم فهو الکفر باللّه العظیم ، الحدیث(2) .

سند الشیخ موثق ، ولکن سند الکلینی(3) ضعیف . +6

ومنها : موثقة اُخری لسماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الرشا فی الحکم هو الکفر باللّه(4) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : السحت ثمن المیتة ، وثمن الکلب ، وثمن الخمر ، ومهر البغی ، والرشوة فی الحکم ، وأجر الکاهن(5) .

ومنها : معتبرة حمران عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال فی حدیث طویل : ورأیتَ الولاة یرتشون فی الحکم ، الحدیث(6) .

وأنت تری أنّ هذه الروایات المعتبرة تقیّد الرشاء بالحکم .

ص:148


1- (3) وسائل الشیعة 17 / 92 ح 1 . الباب 5 من أبواب ما یکتسب به .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 92 ح 3 .
3- (5) وسائل الشیعة 17 / 92 ح 2 .
4- (1) وسائل الشیعة 27 / 222 ح 3 . الباب 8 من أبواب آداب القاضی .
5- (2) وسائل الشیعة 17 / 93 ح 5 .
6- (3) وسائل الشیعة 16 / 277 ح 6 . الباب 41 من أبواب الأمر والنهی .

ومنها : خبر یزید بن فرقد عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن السحت ، فقال : الرشاء فی الحکم(1) .

ومنها : خبر الأصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال : أیما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب اللّه عنه یوم القیامة وعن حوائجه ، وإن أخذ هدیةً کان غلولاً ، وإن أخذ الرشوة فهو مشرک(2) .

ومنها : فی خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : یا علی من السحت ثمن المیتة ، وثمن الکلب ، وثمن الخمر ، ومهر الزانیة ، والرشوة فی الحکم ، وأجر الکاهن(3) .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال علیه السلام : أجر الزانیة سحت ، وثمن الکلب الذی لیس بکلب الصید سحت ، وثمن الخمر سحت ، وأجر الکاهن سحت ، وثمن المیتة سحت ، فأما الرشا فی الحکم فهو الکفر باللّه العظیم(4) .

ومنها : مرسلة جراح المداینی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من أکل السحت : الرشوة فی الحکم(5) .

ومنها : خبر یوسف بن جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من نظر

إلی فرج امرأة لا تحلّ له ، ورجلاً خان أخاه فی امرأته ، ورجلاً احتاج الناس إلیه لتفقّهه فسألهم الرشوة(6) .

روی نحوها المجلسی(7) عن خط الشیخ محمد بن علی الجباعی قدس سره نقلاً عن الشهید قدس سره ، وهذه الروایة بعمومها تدلّ علی حرمة الرشوة .

ص:149


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 93 ح 4 .
2- (5) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 10 .
3- (6) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 9 .
4- (7) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 8 .
5- (8) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 7 .
6- (1) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 5 .
7- (2) بحار الأنوار 100 / 54 ح 28 .

ومنها : مرسلة الطبرسی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : إنّ السحت هو الرشوة فی الحکم ، وهو المروی عن علی علیه السلام (1) .

ومنها : مرسلة اُخری للطبرسی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ السحت أنواع کثیرة ، فأمّا الرشا فی الحکم فهو الکفر باللّه(2) .

ومنها : خبر جابر عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : هدیة الاُ مراء غلولٌ(3) .

الروایة بإطلاقها تدلّ علی حرمة الرشوة .

ومنها : خبر أحمد بن عبد اللّه الهروی الشیبانی وداود بن سلیمان الغرا عن علی بن موسی الرضا علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجل «أَکَّالُونَ لِلسُّحْتِ»(4) قال : هو الرجل الذی یقضی لأخیه الحاجة ثمّ یقبل هدیته(5) .

هذه الروایة أیضاً بإطلاقها تدل علی حرمة الرشوة

ومنها : ما رواها الشیخ أبومحمد جعفر بن أحمد بن علی القمی بإسناده إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : الراشی والمرتشی والرائش بینهما ملعونون(6) .

وفی بعض النسخ بدل الرائش « الماشی » وکلاهما بمعنی واحد .

ومنها : مرسلة الرضی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی خطبة : وقد علمتم أنّه لا ینبغی أن یکون الوالی علی الفروج والدماء و المغانم والأحکام وإمامة المسلمین : البخیل ... ولاالجاهل ... والجافی ... والحائف ... ولا المرتشی فی الحکم فیذهَب بالحقوقِ ویقف بها دون

المقاطِعِ ، ولا المعطِّلُ للسنة فَیُهْلِک الاُمّة(7) .

ص:150


1- (3) وسائل الشیعة 17 / 96 ح 15 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 96 ح 16 .
3- (5) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 6 .
4- (6) سورة المائدة / 42 .
5- (7) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 28 ح 16 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 95 ح 11 .
6- (8) جامع الأحادیث / 85 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 218 ح 5 .
7- (1) نهج البلاغة . الخطبة 131 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 218 ح 7 .

الحائف : الظالم والجائر ، من الحیف بمعنی الجور والظلم . المقاطع : الحدود التی عیّنها اللّه تعالی لها .

ومنها : مرسلة صاحب جامع الأخبار عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لعن اللّه الراشی والمرتشی والماشی بینهما(1) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : إیّاکم والرشوة ، فإنّها محض الکفر ، ولا یشمّ صاحب الرشوة ریح الجنة(2) .

فهذه الروایات المتواترة تدلّ علی حرمة الرشوة بوضوح ، وفی کثیر منها تقیّد الرشوة بالحکم ، فلذا لابدّ من تقیید المطلقات به والذهاب إلی أنّ الرشوة المصطلح عند الفقهاء أعلی اللّه کلمتهم مقیدة بالحکم ، أعنی الرشوة التی إعطاؤها وأخذها والسعی بینهما حرام مختص بالرشوة التی تبذل فی الحکم فقط کما علیه فتوی المشهور .

وهکذا تدلّ علی حرمة الرشوة : بلا فرق بین أن یأخذها القاضی لیحکم للمعطی بالباطل مع العلم ببطلان الحکم ، وبین أن یأخذها لیحکم للباذل مع جهله سواء طابق حکمه الواقع أم لم یطابق ، وبین أن یأخذها لیحکم له بالحقِّ مع العلم .

ففی الصورة الأخیرة حرمة الرشوة یدلّ علیها إطلاق الروایات الماضیة ومضافاً إلی ذلک مناسبة الحکم والموضوع یقتضی الحرمة ، لأنّ القضاء من المناصب الإلهیة التی جعلها اللّه للرسول صلی الله علیه و آله وسلم والأئمة من ولده علیهم السلام ، فلا ینبغی لمن أعطاه اللّه هذا المنصب أن یأخذ علیه الاُجرة .

وتدلّ علیه الروایات الدالة علی حرمة أخذ الاُجرة علی القضاء ، کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی .

فالرشوة فی جمیع الصور الثلاث حرام .

نعم ، إذا کان أخذ الحقّ یتوقف علیها یجوز للراشی ویحرم علی المرتشی فقط ، کما علیه

ص:151


1- (2) جامع الأخبار/ 439 ح 5 و نقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 218 ح8 .
2- (3) جامع الأخبار/ 440 ح 6 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 218 ح 9 .

فتوی المشهور .

ومنهم العلامة قال فی التحریر : « وأمّا الرشوة فإنّها حرام علی آخذها ویأثم الدافع لها

إن توصل بها إلی الحکم بالباطل ، ولو توصل إلی الحقِّ لم یأثم ویأثم المرتشی علی التقدیرین ، ویجب علیه دفع الرشوة إلی صاحبها سواء حکم له أو علیه ولو تلفت ضمنها »(1) .

ومنهم الشهید الثانی قال معلِّقاً علی قول العلامة فی الإرشاد : « الرشاء فی الحکم » : « إلاّ أن یتوقَّف تحصیل الحقّ علیه فیحرم علی المرتشی خاصة »(2) .

وعلی قوله فی کتاب القضاء : « تحرم علیه الرشوة» : « یحرم علی الراشی والمرتشی إلاّ أنْ یتوقف حصول الحقّ علیها فیحرم علی المرتشی خاصّةً »(3) .

وعلی قوله « إن توصل بها إلی الباطل » : « إلاّ لِمَن یتوصَّل بها إلی الحقِّ ولا یمکن بدونه »(4) .

الرابع : حکم العقل

العقل یحکم بحرمة الرشوة ، ولعلّ أوّل مَنْ تعرض له المحقق الأردبیلی قدس سره حیث یقول : « یحرم علی القاضی الرشوة دلیله العقل والنقل ... »(5) . واعترف به أیضاً المحقق الخوئی(6) فی الجملة ، وقال الفقیه السبزواری : « ویدلّ علی قبحه حکم العقل أیضاً لأنّه من الظلم ... »(7) .

فالأعلام اعترفوا بحکم العقل علی حرمة الرشوة ، وأمّا تقریبه :

أخذ الرشوة توسط القاضی ظلم علی جمیع التقادیر ، لأنّه إمّا حَکَمَ للباذل بحقٍّ أو باطلٍ ، فإذا حکم له بالحقِّ فلماذا أخذ الرشوة ؟ لأنّ وظیفته الحکم علی طبق الحقِّ والموازین

ص:152


1- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 115 .
2- (2) حاشیة الشهید الثانی علی الارشاد المطبوعة ضمن غایة المراد 2 / 9 . ومستقلاً / 165 .
3- (3) حاشیة الشهید الثانی علی الارشاد المطبوعة ضمن غایة المراد 4 / 10 . ومستقلاً / 368 .
4- (4) حاشیة الشیهد الثانی علی الارشاد المطبوعة ضمن غایة المراد 4 / 10 . ومستقلاً / 368 .
5- (5) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 49 .
6- (6) مصباح الفقاهة 1 / 265 .
7- (7) مهذب الأحکام 16 / 94 .

الشرعیة . وإذا حکم له بالباطل کان حکمه محرّماً وما أخذ بأزائه أیضاً یکون محرّماً ، فعلی التقدیرین أخذ القاضی الرشوة یکون من الظلم فصار محرّماً .

وهکذا الأمر إذا لم یتأثر القاضی من الرشوة وحکم علی طبق الواقع وما یکون وظیفته طبق الموازین الشرعیة ، لأنّه حینئذٍ أخَذَ الرشوة فی مقابل أیّ عمل ؟ ! فیکون أخذها ظلماً فیحرم علیه ، فأخذ الرشوة علی جمیع التقادیر ظلم ، فیصیر محرّماً .

وأمّا بالنسبة إلی المعطی فإنه إذا أعطی فی قبال الحکم بالباطل وتمشیته وتضییع الحقّ فیکون إعطاؤه أیضاً ظلماً ، فیصیر محرّماً .

والحاصل : أنّ العقل أیضاً حاکمٌ بحرمة الرشوة ، لأنّها من مصادیق الظلم الذی یستقل العقل بقبحه وفساده وحرمته واللّه سبحانه هو العالم .

حرمة أخذ الاُجرة علی القضاء

اختلفت کلمات الأصحاب فی أخذ الاُجرة والرِزق والجُعل علی الحکم والقضاء بین الناس علی أقوال :

1 _ منها : جواز الأخذ مطلقاً مع الکراهة أو عدمها ، ذهب إلیه المفید فی المقنعة وقال : « ولا بأس بالأجر علی الحکم والقضاء بین الناس ، والتبرع بذلک أفضل وأقرب إلی اللّه تعالی »(1) .

والشیخ فی النهایة قال : « ولا بأس بأخذ الأجر والرزق علی الحکم والقضاء بین الناس من جهة السلطان العادل حسب ما قدّمناه ، فأمّا من جهة سلطان الجور فلا یجوز إلاّ عند الضرورة أو الخوف علی ما قدّمناه ، والتنزه عن أخذ الرزق علی ذلک فی جمیع الأحوال أفضل »(2) .

والقاضی ابن البراج فی المهذب قال فی عداد المکاسب المکروهة : « وکسب الحجام ،

ص:153


1- (1) المقنعة / 588 .
2- (2) النهایة / 367 .

والأجر علی القضاء وتنفیذ الأحکام من قِبَلِ الإمام العادل »(1) .

وسلاّر بن عبد العزیز الدیلمی فی المراسم قال : « فأمّا المکروه فهو الکسب بالنوح علی أهل الدین بالحقِّ ، وکسب الحجام ، والأجر علی القضاء بین الناس »(2) .

ومن المتأخرین ذهب إلیه صاحب العروة(3) والمحقق الإیروانی(4) والمحقق الأردکانی(5) وبعض الأساتیذ(6) _ مدظله _ .

2 _ ومنها : منع الأخذ مطلقاً ذهب إلیه أبو الصلاح الحلبی وقال فی عداد المکاسب المحرّمة : « أجر تنفیذ الأحکام»(7) .

وابن إدریس الحلی قال فی السرائر فی عداد المکاسب المحرّمة : « والإرتشاء علی الأحکام والقضاء بین الناس ، وأخذ الاُجرة علی ذلک ، ولا بأس بأخذ الرزق علی القضاء من جهة السلطان العادل ، ویکون ذلک من بیت المال دون الاُجرة علی کراهة فیه »(8) .

والعلامة فی القواعد یقول : « وتحرم الاُجرة علی الأذان وعلی القضاء ، ویجوز أخذ الرزق علیهما من بیت المال »(9) . وقال فی التذکرة : « وتحرم الاُجرة علی الأذان وقد سبق(10) ، وعلی القضاء لأنّه واجبٌ ویجوز أخذ الرزق علیهما من بیت المال »(11) .

ص:154


1- (3) المهذب 1 / 346 .
2- (4) المراسم / 169 .
3- (5) العروة الوثقی 6 / 435 .
4- (6) الحاشیة علی المکاسب 1 / 158 .
5- (7) غنیة الطالب 1 / 128 .
6- (8) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 171 .
7- (1) الکافی / 283 .
8- (2) السرائر 2 / 217 .
9- (3) قواعد الأحکام 2 / 10 .
10- (4) فی تذکرة الفقهاء 3 / 81 المسألة 184 .
11- (5) تذکرة الفقهاء 12 / 148 .

ونحوها فی المنتهی(1) والتحریر(2) والإرشاد(3) .

وقال الشیخ شمس الدین محمد بن شجاع القطّان الحلی فی کتاب التکسب من معالم الدین : « یحرم أخذ الاُجرة علی تحمل الشهادة وأدائها و ... والقضاء ولا بأس بالرزق من بیت المال »(4) .

وقال فی قضاء المعالم : « ولا یجوز أخذ الجُعل من الخصمین وإن لم یتعیّن علیه وإن کان به ضرورة علی الأقوی ، ولو انتفی أحدهما لم یجز قطعاً »(5) .

أقول : یأتی تفصیل ابن القطان فی جواز الإرتزاق من بیت المال فیما بعد إن شاء اللّه تعالی .

والمحقق الثانی قال فی شرح القواعد : « وأمّا القضاء للنص والإجماع ، ولا فرق بین أخذ الاُجرة من المتحاکمین أو من السلطان أو أهل البلد عادلاً کان أو جائراً ، سواء کان

المأخوذ بالإجارة أو الجُعالة أو الصلح ... والأقوی المنع مطلقاً ، إلاّ من بیت المال خاصة فیتقیّد بالحاجة »(6) .

والشهید الثانی قال : « ومن الأصحاب من جوّز أخذ الاُجرة علیه مطلقاً ، والأصح المنع مطلقاً إلاّ من بیت المال علی جهة الإرتزاق ، فیتقیّد بنظر الإمام . ولا فرق فی ذلک بین أخذ الاُجرة من السلطان ومن أهل البلد والمتحاکمین ، بل الأخیر هو الرشوة التی وردت فی الخبر أنّها کفر باللّه وبرسوله »(7) .

وقال المحقق الأردبیلی : « وأمّا الأجر علی القضاء والحکم بین المتحاکمین فالظاهر

ص:155


1- (6) منتهی المطلب 2 / 1018 ونقل عنه فی الحدائق 18 / 216 .
2- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 265 .
3- (8) إرشاد الأذهان 1 / 358 .
4- (9) معالم الدین فی فقه آل یس 1 / 331 .
5- (10) معالم الدین فی فقه آل یس 2 / 342 .
6- (1) جامع المقاصد 4 / 36 .
7- (2) مسالک الأفهام 3 / 132 .

تحریمه مطلقاً ، سواء کان القضاء متعیّناً علیه أم لا ، وسواء کان بین المتحاکمین أم لا ... » . ثمّ استدل علی مختاره وذکر بعض الأقوال فی المقام وقال : « والأوّل أظهر کما هو رأی المصنف ، ولا شک فی جواز الإرتزاق من بیت المال علی الکلِّ مع الحاجة التی هی شرط الأخذ من بیت المال الذی هو للمصالح ، والظاهر أنّ المراد بالحاجة هی المتعارفة وعلی حسب العادة لا الضرورة التی لا یعیش بدونها ، والظاهر أنّ ذلک هو مراد المصنف »(1) .

وظاهر صاحب الحدائق أیضاً المنع مطلقاً ، فراجع کتابه(2) .

وقال الفاضل النراقی ناقلاً عن والده قدس سرهما : « ونقل والدی فی معتمد الشیعة الإجماع علی الحرمة صریحاً مع عدم الحاجة »(3) . ومال إلیه ولده فی المستند بل اختاره(4) .

واختار سید الریاض القول بالمنع بأنّه « أحوط وأولی»(5) ، وردّ القول بالجواز بأنّه « ضعیف جداً »(6) .

وقال الشیخ الأکبر کاشف الغطاء : « (و) تحرم الاُجرة ونحوها من عوض صلح أو جُعل أو غیرهما (علی القضاء) کالإفتاء ، سواء اُخذت من سلطان عادل أو غیره من بیت مالٍ أو أوقافٍ أو من المتخاصمین ، مع الحاجة وعدمها ، أو من متبرّع علی أیِّ نحو کان ، لوجوبه

عیناً مع الاتحاد وکفایةً مع إمکان قیام الغیر ، ولیس من الواجبات المشروطة کالصنائع النظامیة ، مع أنّ الشک فی دخولها تحتها ما یغنی فی المنع _ وللأخبار الدالة علیه وللإجماعات المنقول بعضها علی منع الجعل المخصوص بما کان من المتخاصمین أو الأعم ، وبعضها علی تحریم الاُجرة »(7) .

ص:156


1- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 93 .
2- (4) الحدائق 18 / 217 .
3- (5) مستند الشیعة 17 / 64 .
4- (6) مستند الشیعة 17 / 68 و 67 .
5- (7) ریاض المسائل 8 / 184 .
6- (8) ریاض المسائل 8 / 184 .
7- (1) شرح القواعد 1 / 289 .

وقال تلمیذه صاحب الجواهر فی اُجور القضاة : « ... والتحقیق عدم جواز أخذ العوض عنه مطلقاً ، عینیّاً کان علیه أو کفائیاً أو مستحباً مع الحاجة وعدمها ، من المتحاکمین أو أحدهما أو أجنبی أو أهل البلد أو بیت المال أو غیر ذلک ، سواء کان ذا کفایة أو لا ، لأنّه من مناصب السلطان الذی أمر اللّه تعالی بأن یقول : «قُل لاَّ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً»(1)وأوجب التأسی به ... »(2) .

وتبعهم جماعة من الفقهاء منهم : المؤسس الحائری(3) والمحقق الخوئی(4) وشیخنا الاُستاذ _ مدظله _ حیث یقول : « فتحصّل من جمیع ما ذکرنا أنّ الأظهر بحسب الروایات عدم جواز أخذ الجعل والأجر علی القضاء أو ما هو من شؤونه ، بلا فرق بین حاجة القاضی وعدمها وتعیّن القضاء علیه وعدمه ، ویتعدی إلی أخذ الجُعل والأجر علی الإفتاء وبیان الأحکام الشرعیة الکلّیّة باعتبار عدم احتمال الفرق بینهما فی ذلک »(5) .

تنبیهٌ :

قد یقال : برجوع الشیخ فی کتابیه الخلاف والمبسوط عما أفتی به فی نهایته من جواز الأخذ مطلقاً ، فلابدّ من ملاحظة نص عبارته ، قال فی الخلاف : « لا یجوز للحاکم أن یأخذ الاُجرة علی الحکم من الخصمین أو من أحدهما ، سواء کان له رزق من بیت المال أو لم یکن .

وقال الشافعی : إن کان له رزق من بیت المال لم یجز _ کما قلناه _ وإن لم یکن له رزق من بیت المال جاز له أخذ الاُجرة علی ذلک .

دلیلنا : عموم الأخبار الواردة فی أنّه یحرم علی القاضی أخذ الرشا والهدایا وهذا داخل

فی ذلک ، وأیضاً طریقة الإحتیاط تقتضی ذلک ، وأیضاً إجماع الفرقة علی ذلک ، فإنّهم لا

ص:157


1- (2) سورة الأنعام / 90 .
2- (3) جواهر الکلام 22 / 122 .
3- (4) فی تقریرات بحثه المکاسب المحرمة / 58 بقلم شیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
4- (5) مصباح الفقاهة 1 / 481 و 269 .
5- (6) إرشاد الطالب 1 / 153 .

یختلفون فی أنّ ذلک حرام »(1) .

وأنت تری أنّه أفتی بتحریم أخذ الاُجرة من المتحاکمین أو أحدهما ، لا أنّه رجع عمّا أفتی به فی النهایة من جواز أخذ الاُجرة ، فالجمع بین کلامیه یقتضی القول بأنّ الشیخ یذهب إلی جواز أخذ الاُجرة علی القضاء ، ولکن لا من المتخاصمین أو أحدهما بل من غیرهما .

وقال الشیخ فی المبسوط : « وأمّا من یحلّ له أخذ الرزق علیه ومن لا یحلّ : فجملته أنّ القاضی لا یخلو من أحد أمرین : إمّا أن یکون ممّن تعیّن علیه القضاء أو لم یتعیّن علیه وهو القسم الأوّل والأخیر ، فإن کان ممّن یجوز له القضاء ولم یتعیّن علیه لم یخل من أحد أمرین : إمّا أن یکون له کفایة أو لا کفایة له ، فإن لم یکن له کفایة جاز له أخذ الرزق وإن کانت له کفایة فالمستحب أن لایأخذ ، فإن أخذ جاز ولم یحرم علیه بل کان مباحاً . وجواز إعطاء الرزق للقضاء إجماع ، ولأنّ بیت المال للمصالح وهذا منها بل أکثرها حاجة إلیه ، لما فیه من قطع الخصومات واستیفاء الحقوق ونصرة المظلوم ومنع الظالم .

هذا إذا لم یتعین علیه القضاء ، فأمّا إن تعیّن علیه القضاء لم یخل من أحد أمرین : إما أن یکون له کفایة أو لا کفایة له ، فإن کانت له کفایة حرم علیه الرزق لأنّه یؤدی فرضاً قد تعیّن علیه ، ومن أدّی فرضاً لم یحلَّ له أخذ الرزق علیه مع الاستغناء عنه ، وإن لم یکن له کفایة حلّ ذلک له لأنَّ علیه فرض النفقة علی عیاله وفرضاً آخر وهو القضاء وإذا أخذ الرزق جمع بین الفرضین ، لأنّ الرزق یقوم مقام الکسب ، فکان الجمع بین الفرضین أولی من إسقاط أحدهما . وهذا عندنا وعندهم ، وحکم الشهادة فی أخذ الجُعل علیها عندنا لا یجوز بحال ... »(2) .

أقول : الحاصل من کلام الشیخ أنه ذهب فی المبسوط إلی جواز أخذ الاُجرة للقضاء إلاّ إذا تعیّن علیه القضاء وله کفایة من المال ولا یحتاج إلی أجرة ، فحرم علیه الرزق حینئذ فقط .

والجمع بین أقواله الثلاثة یرشدنا إلی هذا التفصیل : بأنّ الشیخ یقول بجواز أخذ

ص:158


1- (1) الخلاف 6 / 233 المسألة 31 .
2- (2) المبسوط 8 / 85 و 84 .

الاُجرة علی القضاء ولکن منع أخذه من المتخاصمین أو أحدهما ، وهکذا یجوز أخذ الاُجرة للقاضی إلاّ إذا تعیّن علیه القضاء وله کفایة من المال بحیث لا یحتاج إلی اُجرته لإمرار معاشه ، فحرم حینئذ له أخذ الاُجرة حتّی من بیت المال .

فالشیخ لم یرجع عما أفتی به فی النهایة ، بل قیّده بقیود ، یعنی ذهب إلی جواز أخذ الاُجرة ولکن لا من المتخاصمین أو أحدهما ، ولا یجوز له الأخذ إذا تعیّن علیه القضاء وکان القاضی ذا یسار بحیث لا یحتاج إلی الاُجرة ، وهذا فی الواقع إحداث تفصیل من الشیخ یمکن أن یجعل قولاً ثالثاً فی المقام .

3 _ ومنها : التفصیل بین تعیّن القضاء علیه وصورة الغنی وتمکنه فلا یجوز أخذ الاُجرة ، وفی غیرهما - أعنی إذا لم یتعیّن القضاء علیه ولم یستغن من أجر قضائه ویحتاج إلیه - فیجوز له أخذ الاُجرة ، وحیث ورد فی کلام الأصحاب هذا التفصیل مع بحث ارتزاق القاضی من بیت المال غالباً أذکرهما معاً .

یظهر التفصیل من الشیخ فیما مرّ منّا آنفاً فی الجمع بین أقواله مع زیادة ، ومن المحقق الحلی فی قضاء الشرائع حیث یقول : « إذا ولّی من لا یتعیّن علیه القضاء فإن کان له کفایة من ماله فالأفضل أن لا یطلبَ الرزق من بیت المال ، ولو طلب جاز لأنّه من المصالح . وإن تعیّن للقضاء ولم یکن له کفایة جاز له أخذ الرزق . وإن کان له کفایة ، قیل : لا یجوز له أخذ الرزق لأنّه یؤدّی فرضاً . أمّا لو أخذ الجُعل من المتحاکمین ففیه خلافٌ ، والوجه التفصیل ، فمع عدم التعیین وحصول الضرورة ، قیل یجوز ، والاُولی المنع ، ولو اختلَّ أحد الشرطین لم یجز »(1) .

وقال فی المختلف بعد نقل الأقوال فی المسألة : « والأقرب أن نقول : إن تعیّن القضاء علیه إمّا بتعیین الإمام علیه السلام أو بفقد غیره أو بکونه الأفضل وکان متمکّناً لم یجز الأجر علیه ، وإن لم یتعیّن أو کان محتاجاً فالأقرب الکراهة .

لنا : الأصل الإباحة علی التقدیر الثانی ، ولأنّه فعل لا یجب علیه ، فجاز أخذ الأجر علیه . أمّا مع التعیین فلأنّه یؤدی واجباً ، فلا یجوز أخذ الأجرة علیه ، کغیره من العبادات

ص:159


1- (1) شرائع الاسلام 4 / 60 .

الواجبة »(1) .

أقول : الظاهر أنّ العلامة یشترط فی جواز أخذ أجرة للقاضی أمرین : 1 _ عدم تعیّن القضاء علیه ، 2 _ وجود الحاجة واحتیاجه إلی الأجر . وهذا هو الذی استفاد من عبارته الشیخ الأعظم قدس سره ، ولذا قال : « فصّل فی المختلف فجوّز أخذ الجعل والاُجرة مع حاجة القاضی وعدم تعیّن القضاء علیه ، ومنعه مع غناه أو عدم الغنی عنه »(2) .

ویمکن حمل عبارته الآتیة فی بحث إرتزاق القاضی من بیت المال من التحریر(3) علی ما ذکرناه فراجعها .

قال العلامة فی الإرشاد فی عداد المکاسب المحرمة : « ... وکذا أخذ الاُجرة علی الأذان والصلاة بالناس والقضاء ، ولا بأس بالرزق من بیت المال علی الأذان والقضاء مع الحاجة وعدم التعیین »(4) .

وتبعه شمس الدین محمد بن شجاع القطان الحلّی فی أخذ الرزق من بیت المال وقال : « ومن یتعیّن علیه القضاء إن کان له کفایةٌ لم یحلّ له الرزق من بیت المال وإلاّ حلّ ، ومن لم یتعیّن جاز له الأخذ والأفضل الترک »(5) .

والشهید الثانی فی ذیل قول المحقق فی تجارة الشرائع : « والقضاء علی تفصیل سیأتی» قال : « التفصیل الموعود به هو أنّه إن تعیّن علیه بتعیین الإمام أو بعدم قیام أحد به غیره ، حرم علیه أخذ الاُجرة علیه مطلقاً ، لأنّه حینئذٍ یکون واجباً ، و الواجب لا یصح أخذ الاُجرة علیه ، وإن لم یتعین علیه فإن کان له غنیً عنه لم یجز أیضاً وإلاّ جاز »(6) .

وقال الفاضل الإصبهانی : « ولو أخذ الجُعل من المتحاکمین فإن لم یتعین للحکم

ص:160


1- (2) مختلف الشیعة 5 / 17 .
2- (3) المکاسب المحرمة / 31 من الطبع الحجری _ (1 / 244) .
3- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 115 و 114 .
4- (2) إرشاد الأذهان 1 / 358 .
5- (3) معالم الدین فی فقه آل یس 2 / 342 .
6- (4) مسالک الأفهام 3 / 132 .

وحصلت الضرورة ، ... قیل : جاز ، ... وإن تعیّن للقضاء أو کان مکتفیّاً ... لم یجز له أخذ الجُعل قولاً واحداً »(1) .

واختار السید جواد العاملی هذا التفصیل وقال : « إذا تعیّن علیه القضاء بتعیین الإمام أو بفقد غیره أو بکونه أفضل وکان متمکّناً ذا کفایة حرمت علیه الثلاثة : الاُجرة والجُعل والرزق ، لأنّه واجبٌ عینیٌّ علیه فلا یستحق عوضاً علیه ... وهو صریح تفصیل المصنف فی المختلف والإرشاد وحاشیته وإیضاح النافع وقضاء الکتاب والشرائع ، قالوا : إن تعیّن علیه وکان متمکّناً لم یجز الأجر ، وإن لم یتعیّن أو کان محتاجاً فالأقرب الکراهیة ... »(2) .

4 _ ومنها : التفصیل بین صورة احتیاج القاضی فیجوز أخذ الجُعل والاُجرة وصورة تمکنه وعدم احتیاجه فلا یجوز . قال ثانی الشهیدین : « قیل : یجوز مع الحاجة

مطلقاً »(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « وقیل : بالجواز علی تقدیر الاحتیاج »(4) .

وقال الفاضل النراقی : « ونقل والدی فی معتمد الشیعة الإجماع علی الحرمة صریحاً مع عدم الحاجة »(5) .

5 _ ومنها : التفصیل بین صورة عدم تعیّن القضاء علی القاضی وتعیّنه علیه ، فیجوز فی الأوّل ویحرم فی الثانی ، قال ثانی الشهیدین : « قیل : یجوز مع عدم التعیّن مطلقاً»(6) . وقال الأردبیلی : « قیل : بعدمه (أی عدم الجواز) علی تقدیر تعیین القضاء علیه إمّا بتعیین الإمام أم لعدم غیره »(7) .

ص:161


1- (5) کشف اللثام 2 / 143 الطبع الحجری (10 / 23 و 24) .
2- (6) مفتاح الکرامة 12 / 323 و 322 .
3- (1) مسالک الأفهام 3 / 132 .
4- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 93 .
5- (3) مستند الشیعة 17 / 64 .
6- (4) مسالک الأفهام 3 / 132 .
7- (5) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 93 .

أقول : لم یظهر لی إلی الآن قائل هذا القول والعلم عند اللّه تعالی .

6 _ ومنها : یمکن التفصیل بین جواز أخذ الاُجرة من بیت المال وعدم الجواز فی الأخذ من المتحاکمین أو الثالث أو أهل البلد ونحوها .

وإلی الآن لم أعرف قائله .

الاستدلال علی حرمة اُجرة القضاء

اشارة

یمکن أن یُستدل علی حرمة أخذ الاُجرة للقاضی بوجوه :

الأوّل : الاجماع

ولعلّ أوّل من ادعاه هو العلاّمة الحلّی فی التحریر(1) وتبعه المحقق الثانی فی جامع المقاصد(2) کما مرّ بیانه ، وتبعهما والد النراقی فی معتمد الشیعة کما مرّ کلامه بتوسط ولده فی المستند(3) ، وتبعهم الشیخ جعفر فی شرح القواعد(4) .

وفیه : أولاً : قد عرفت وجود القول بالجواز صریحاً من المفید فی المقنعة والشیخ فی

النهایة والقاضی ابن البراج فی المهذب وسلار فی المراسم وغیرهم ، وهکذا قد مرّ ذکر الأقوال المختلفة والتفاصیل المتعددة فی المقام ، فادعاء الإجماع بلا وجه .

وثانیاً : لو تنزلنا وقبلنا وجود الإجماع علی الحرمة فلا یفیدنا فی المقام شیئاً ، لأنّه إجماع مدرکیٌ علی فرض وجوده ، فلابدّ من ملاحظة ما یأتی من الأدلة .

الثانی : الروایات

عدّة من الروایات تدلّ علی حرمة اُجور القضاة :

منها : صحیحة عمار بن مروان الیشکری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کلّ شیء غلّ من الإمام فهو سحت ، وأکل مال الیتیم سحت ، والسحت أنواع کثیرة ، منها : ما اُصیب من أعمال

ص:162


1- (6) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 15 .
2- (7) جامع المقاصد 4 / 36 .
3- (8) مستند الشیعة 17 / 64 .
4- (9) شرح القواعد 1 / 290 .

الولاة الظلمة ، ومنها : اُجور القضاة واُجور الفواجر وثمن الخمر والنبیذ المسکر ، والربا بعد البیّنة ، فأمّا الرشایا عمار فی الأحکام ، فإنّ ذلک الکفر باللّه العظیم وبرسوله صلی الله علیه و آله وسلم (1) .

سند الروایة صحیح ودلالتها تامة ، لأنّها عدّت اُجور القضاة من السحت ، والظاهر من لفظ « السحت » الحرمة إلاّ أن تقوم علیه القرینة .

وأمّا حمل القضاة علی قضاة الجور الذین کانوا فی عصر صدور الروایة بقرینة ما قبلها من الولاة الظلمة ، لأنّ القضاة قسم من الولاة أو لا أقل أنهم قسم من عمّالهم ، فغیر تام ، لظهور الروایة فی استقلال فقراتها ، ولاأقل من الشک فی انعقاد ظهور بخلافه مع القرینة والأصل عدمه .

وبالجملة ، ظهور أن منها (أی من السحت) اُجور القضاة ، وهو عام یشمل قضاة الجور وغیرهم .

ولفظ « الأجر » و« الجُعل » وإن کانا متفاوتین فی مصطلح الفقهاء والمتشرعة بحیث یستعملون الأجر فی باب الإجارة ، والجُعل فی باب الجعالة ، ولکن الظاهر إتحاد حکمهما فی هذا الباب ، بل یمکن ادعاء أنّ الرزق أیضاً متحد معهما حکماً إذا اُخذ من شخص خاص ، خلافاً للسید العاملی فی مفتاحه(2) حیث فرّق بین العناوین .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن سنان قال : سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن قاضٍ بین قریتین ، یأخذ من السلطان علی القضاء الرزق ، فقال : ذلک سحت(3) .

سندها صحیح ، ولکن یمکن المناقشة فی دلالتها بظهور القاضی فی قضاة الجور والسلطان ، سلاطین الجور المعهود فی تلک الأیام ، بقرینة السؤال عن الرزق الوارد فی الصحیحة وجواز الإرتزاق من بیت المال کما علیه المشهور .

ولکن یمکن أن یجاب عن المناقشة : بأنّ لفظ « الرزق » لم یرد فی جواب الإمام علیه السلام حیث حکم بأنّه سحت . وهذه الروایة من القرائن التی مرّ آنفاً بأنّ هذه الألفاظ الثلاثة فی

ص:163


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 95 ح 12 .
2- (2) مفتاح الکرامة 12 / 320 .
3- (3) وسائل الشیعة 27 / 221 ح 1 . الباب 8 من ابواب آداب القاضی .

المقام لها معنی واحد ، ولذا حمل العلامة المجلسی الصحیحة علی الاُجرة وقال : « وحُمل علی الاُجرة ، والمشهور جواز الإرتزاق من بیت المال »(1) .

ولکن مع ذلک کلّه بقی الإشکال بأنّ السائل یسأل عمّا أبتلی به ، وهو اُجور قضاة الجور المعهود فی ذلک الزمان ، فلیس للروایة إطلاق حتّی تشمل اُجور قضاة العدل ، ولذا قال الشیخ الأعظم : « إنّ ظاهر الروایة کون القاضی منصوباً من قبل السلطان الظاهر _ بل الصریح _ فی سلطان الجور »(2) . وهو متینٌ .

ومنها : خبر یوسف بن جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : لعن رسول اللّه علیه السلام من نظر إلی فرج امرأة لا تحلّ له ، ورجلاً خان أخاه فی امرأته ، ورجلاً احتاج الناس إلیه لتفقّهه فسألهم الرشوة(3) .

دلالة الروایة علی حرمة اُجور القضاة تامة ، لأنّ الناس یحتاجون إلی القاضی لتفقّهه ، وإذا سألهم الاُجرة یشمله إطلاق الروایة ، وأمّا حمل الرشوة علی اُجور القضاة - وإن یکن بعیداً فی بادیء النظر - ولکن إذا حملنا لفظ « الرشوة » علی معناها اللغوی تشمل اُجور القضاة أیضاً ، فتمَّ الإستدلال بالروایة . ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : خبر حمزة بن حمران عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من استأکل بعمله افتقر ، فقلت له : جعلت فداک ، إنّ فی شیعتک وموالیک قوماً یتحمّلون علومکم ویبثّونها فی شیعتکم فلا یعدمون علی ذلک منهم البرّ والصلة والإکرام ، فقال علیه السلام : لیس أولئک بمستأکلین ، إنّما المستأکل بعمله الذی یُفتی بغیر علمٍ ولا هدی من اللّه عزّ وجل لیبطل به الحقوق طمعاً فی حُطام الدنیا(4) .

غایة ما یمکن أن یقال فی الإستدلال بالروایة : بأنّ قضاة الجور یدخلون فی الذین

ص:164


1- (1) مرآة العقول 24 / 270 ح 1 .
2- (2) المکاسب / 30 الطبع الحجری (1 / 243) .
3- (3) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 5 .
4- (4) معانی الأخبار / 181 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27 / 141 ح 12 . الباب 11 من أبواب صفات القاضی .

یفتون بغیر علم ولا هدی من اللّه عزّ وجل لیبطلوا به الحقوق ، فیشملهم إطلاق الروایة ، فما یأخذونه فی قبال أحکامهم یکون حراماً . ولکن الروایة تشمل قضاة الجور فقط ، لأنّ قضاة العدل لا یفتون بغیر علم ولا هدی ولا یبطلون به الحقوق فلا تشملهم الروایة . فهذه تدلّ علی حرمة اُجور قضاة الجور ،

ولکن المُدعی أعم من هذا . وفی سندها أیضاً ضعف .

والحاصل : أن الروایات تدلّ علی حرمة اُجور القضاة مطلقاً .

الثالث : القضاء من المناصب الالهیة

النبوة والإمامة من المناصب الإلهیة وهما فوق الأجر والجُعل ، ولذا أمر اللّه تعالی أنبیاءه علیهم السلام أن یقولوا : «وَمَا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِیَ إِلاَّ عَلَی رَبِّ الْعَالَمِینَ»(1) .

وأمر اللّه خاتم أنبیائه صلی الله علیه و آله وسلم أن یقول : «قُلْ مَا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ»(2) ویقول عنه : «مَا تَسْأَلُهُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ»(3) .

وأمّا قوله تعالی : «قُل لاَّ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی»(4) حیث جعل اللّه المودّة فی حقِّ أقرباء النبی صلی الله علیه و آله وسلم أجراً للرسالة ، نفعها یرجع إلی الاُمة لا إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، والشاهد علی ذلک قوله تعالی : «قُلْ مَا سَأَلْتُکُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ إِنْ أَجْرِیَ إِلاَّ عَلَی اللَّهِ»(5)(6) .

والإمامة أیضاً وصایة النبی ، والأمر فیها کما فی النبوة .

ثمّ مِنْ مناصب الفقیه الجامع للشرائط : الإفتاء والقضاء اللذان جعلهما الإمام علیه السلام له ،

ص:165


1- (1) سورة الشعراء / 109 و 127 و 145 و 164 و 180 .
2- (2) سورة ص / 86 .
3- (3) سورة یوسف / 104 .
4- (4) سورة الشوری / 23 .
5- (5) سورة سبأ / 47 .
6- (6) ولتوضیح هذا البیان راجع إلی کتابی ولایت وامامت / 100 المطبوع باللغة الفارسیة عام 1370 ه_ . ش .

فهما من المناصب الإلهیة ، فلا یجوز اُخذ اُجرة والجُعل علیهما .

وأشار إلی هذا الإستدلال صاحب الجواهر بقوله : « لأنّه (أی القضاء) من مناصب السلطان الذی أمر اللّه تعالی بأن یقول : «لاَّ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً»وأوجب التأسیبه»(1) .

واعترف المحقق الخوئی غیر مرّة بأن الإفتاء والقضاء من الاُمور المجانیة ، حیث یقول : « ... إنّ الأمور التی یکون وضعها علی المجانیة ، فإنّ أخذ الاُجرة یعدّ رشوة فی نظر العرف ، ومن هذا القبیل القضاء والإفتاء»(2) ، ثمّ بعد صفحة أضاف إلیهما أمر تبلیغ الأحکام الشرعیة فقال : « ثمّ الظاهر أنّه لا یجوز أخذ الاُجرة والرشوة علی تبلیغ الأحکام الشرعیة وتعلیم المسائل الدینیّة ، فقد عرفت فیما تقدّم : أنّ منصب القضاء والإفتاء والتبلیغ یقتضی المجانیّة»(3) .

ثم قال بعد أکثر من مائتی صفحةٍ : « ... لا یجوز أخذ الاُجرة علی القضاء للروایات الخاصة ، وأنّ الظاهر من آیة النفر الآمرة بالتفقه فی الدین وإنذار القوم عند الرجوع إلیهم أنّ الإفتاء أمرٌ مجانیٌّ فی الشریعة المقدسة ، فیحرم أخذ الاُجرة علیه ، ویؤیده قوله تعالی : «قُل لاَّ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی» »(4) .

والحاصل ، فهذان المنصبان _ الإفتاء والقضاء _ من المناصب الإلهیة ، فلا یجوز أخذ الاُجرة علیهما لعظمتهما ورفعتهما .

الرابع : القضاء واجبٌ فلا یجوز أخذ الأجرة علیها

تقریب الاستدلال : القضاء واجب ووجوبها یکون عینیّاً أو کفائیّاً ، وأخذ الاُجرة علی الواجبات لا یجوز فی الشریعة المقدسة ، فأخذ الاُجرة علی القضاء لا یجوز .

وفیه : أنه یمکن المناقشة فی الکبری بأنّ وجوب الفعل علی المکلف ولو کان تعبدیّاً لا یوجب عدم جواز أخذ الاُجرة علیه ، بل یکفی فی قصد التقرب المعتبر فی العبادة أنّه لو لم یکن أمر الشارع بالواجب لما کان یأتی به حتّی مع إعطاء الاُجرة علیه . والموجب لعدم جواز أخذ

ص:166


1- (7) جواهر الکلام 22 / 122 .
2- (1) مصباح الفقاهة 1 / 266 .
3- (2) مصباح الفقاهة 1 / 286 .
4- (3) مصباح الفقاهة 1 / 481 .

الاُجرة علی الفعل أحد الأمرین علی سبیل منع الخلو :

أحدهما : أن یکون إیجابه علی المکلف بأن یأتی به مجاناً کتغسیل الموتی بل تجهیزهم .

ثانیهما : عدم المالیة لذلک الفعل بحیث یکون أخذ العوض علیه من أکل المال بالباطل سواء کان الفعل واجباً أو مندوباً(1) ، نحو : إقامة الصلاة الواجبة علی المکلَّف لنفسه والإتیان بصیامه أو إقامته صلاة اللیل .

ومن الواضح أنه لم یدخل القضاء فی القسم الثانی ، وإدخاله فی القسم الأوّل یحتاج إلی ثبوت کونه من الواجبات المجانیة ، فإذا ثبت هذا لا نحتاج إلی هذه الکبری والإستدلال .

والحاصل ، هذا الدلیل لیس بدلیل مستقل عندنا ، بل یرجع ثبوته إمّا إلی الدلیل الثالث أی کون القضاء من المناصب الإلهیة - أو إلی الدلیل الثانی - أی الروایات الناهیة عن أخذ الاُجرة علی القضاء .

وسوف یأتی البحث مفصلاً حول هذه الکبری عند تعرض الشیخ الأعظم قدس سره فی النوع الخامس من المکاسب المحرَّمة ، وهو : « ما یجب علی الإنسان فعله عیناً أو کفایةً ، تعبداً أو توصّلاً» فانتظر .

وبالجملة ، فلا یجوز أخذ الاُجرة علی القضاء مطلقاً ، وأمّا إرتزاقه من بیت المال فسیأتی البحث حوله .

أخذ الاُجرة علی مقدمات القضاء

هل یجوز أخذ الاُجرة علی مقدمات القضاء ، نحو : سماع الشهادة والبیّنة أو التحلیف أو التزکیة والجرح ، أو الذهاب إلی الإمرأة المستورة الشریفة لسماع شهادتها أو جوابها أو إحلافها ، أو الذهاب إلی الذین لا یمکن إحضارهم ، مثل : العلماء والأجلاء والفقهاء العظام ، أو کتابة الحکم ورَشْمه أی ختمه ، أو أخذ الاُجرة علی کاتبه وخدمه وعماله ومترجمه إذا احتاج

ص:167


1- (4) أشار إلی هذا البیان شیخنا الأستاذ _ مدظله _ فی دروسه من کتاب القضاء کما کتبته عنه ، وفی کتابه اُسس القضاء والشهادة / 42 .

إلیه ، أم لا یجوز أخذ الاُجرة علی شیءٍ من هذه أو فیها التفصیل ؟

قال الشیخ جعفر کاشف الغطاء : « والأخذ علی مقدمات القضاء من سماع الشهادة أو التحلیف أو التزکیة والجرح ، أخذٌ علی القضاء . ولیس منه الأخذ علی الکتابة أو الرَّشْم أو الخروج من داره إلی محلّ آخر طلبه أحد الخصمین ونحو ذلک ، غیر أنّه لا یقع إلاّ من السفلة إلاّ مع إلجاء الضرورة ، وأمّا ثمن القرطاس وما یصرفه من المال فلا بأس بأخذه ... ولا بأس بأخذ الخدّام والعمال والمباشرین الاُجرة علی عملهم»(1) .

وقال تلمیذه السید العاملی : « ویلحق بالقضاء مقدماته کسماع الشهادة وأدائها والتحلیف والتزکیة والجرح ، ولا یلحق به علی الظاهر کتابة الحجّة وختمها بخاتم القاضی ، علی تأمّل فی هذین ، لأنّهما فی هذا الزمان قد صارا کأنّهما جزءً من القضاء ومن مقدماته ، إذ لا

ترفع الخصومة إلاّ بهما »(2) .

وقال تلمیذه الآخر فی الجواهر : « وعلی کلِّ حالٍ فمقدمات القضاء کسماع الشهادة والجرح والتعدیل ونحوهما فی تحریم العوض ، بل لا یبعد استفادة حرمة الاُجرة علیها من حرمتها علی القضاء . نعم : لا بأس بأخذ الاُجرة علی ما کان خارجاً عن القضاء ومقدماته کالکتابة والرسم(3) ونحوهما ، مع أنّه لا ینبغی استعماله من قوّام الشرع وحفظته ، ولا استعمال بعض الأرذال الذین یحتالون لأخذ الجُعل علی القضاء بذلک ، وبالتحاکم فی مکان مخصوص ونحوه من الاُمور الزائدة علی القضاء ، لما فیه من النفرة وجلب التهمة وعدم رغبة الناس فی الدین وأهله»(4) .

وقال تلمیذ صاحب الجواهر السید علی آل بحر العلوم : « ویلحق بالقضاء فی حکم الاُجرة مقدماته من سماع البیّنة والتحلیف ونحو ذلک ، بل منه ظاهر الاُجرة علی الذهاب إلی الإمرأة الغیر المبرزة لإحلافها أو سماع جوابها ، ولیس منه کتابة الحجة وختمها بخاتمه ، فله

ص:168


1- (1) شرح القواعد 1 / 291 .
2- (1) مفتاح الکرامة 12 / 328 .
3- (2) کذا فی المطبوعة ، والظاهر أنّ الصحیح الرَّشم بمعنی الختم .
4- (3) جواهر الکلام 22 / 123 .

أخذ الشیء علیهما ، وإن وجبت الإجابة إلی الحجة - کما فی بعض الصور کما تسمعه - فی القضاء لعدم فهم المجانیّة فیه لخروجه عن القضاء»(1) .

أقول : الظاهر إلحاق مقدمات القضاء به ، بل إلحاق مؤخراته به نحو الکتابة والختم ، لأنّهما صارا الیوم من أجزاء القضاء ، کما نبّه علیه السید العاملی(2) فیما ذکر من کلامه ، بل یمکن القول بعدم الجواز مطلقاً بالنسبة إلی مقدماته ولوازمه ومؤخراته ، حتّی بالنسبة إلی الخدّام والعمال ، لأنّها من مواضع التهمة التی اُمرنا بالإجتناب عنها وتوجب النفرة والفرار عن الدین وأهله ویفتح بها باب الرشوة بعناوین أخری ، والعلم عند اللّه تعالی .

ارتزاق القاضی من بیت المال

المشهور علی جواز ارتزاق القاضی من بیت المال مع الحاجة وعدم التعیین ، بل علیه الإجماع کما قال العلاّمة فی التحریر : « السادس : إذا ولّی من یتعیّن علیه القضاء ، فإن کان ذا

کفایة حرم علیه أخذ الرزق علی القضاء لأنّه یؤدی فرضاً و ... وإن لم یکن ذا کفایة جاز له أخذ الرزق علیه ، لأنّ بیت المال للمصالح وهذا أعظمها .

وإن لم یتعیّن علیه القضاء وکان ممّن یجوز له القضاء ، فإن کان ذا کفایة استحب له أخذ(3) الرزق وإن أخذ جاز ، وإنْ لم یکن ذا کفایة جاز له أخذ الرزق علیه إجماعاً .

وأمّا أخذ الاُجرة علیه ، فإنّه حرام بالإجماع ، سواء تعیّن علیه أو لم یتعیّن ، وسواء کان محتاجاً أولا»(4) .

ونقل السید جواد العاملی فی جواز الإرتزاق هذا القول عن العلامة وولده والشهید ،

ص:169


1- (4) برهان الفقه _ کتاب التجارة / 47 الطبع الحجری .
2- (5) مفتاح الکرامة 12 / 328 .
3- (1) کذا فی المطبوعة ، والظاهر أنه تصحیف « ترک» أو « أن لا یأخذ» ، والعبارة الصحیحة تکون هکذا : « فإن کان ذا کفایة استحب له ترک أو أن لا یأخذ الرزق وإن أخذ جاز» .
4- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 115 و 114 .

حیث یقول : « علی ما إذا کان محتاجاً ... لکن فی الإرشاد(1) وشرحه لولده(2) وقضاء الدروس(3) زیادة عدم التعیین»(4) .

وقال السید علی آل بحر العلوم : « بلا خلاف أجده ظاهراً ، بل صرح بعد بالإجماع علیه غیر واحد ، للأصل ولأنّه لا یقتصر عن المحاویج ، بل هو اُولی لاشتغاله بأهم مصالح المسلمین ... »(5) .

بل المشهور علی جواز الإرتزاق مع التعیّن والحاجة کما مرّ عن قضاء الشرائع(6) والقواعد(7) والمعالم(8) واللمعة(9) وجامع المقاصد(10) والروضة(11) ومجمع الفائدة(12) .

بل یمکن انتساب جواز الإرتزاق مطلقاً - أی مع التعیّن وعدم الحاجة - إلی المشهور ،

کما قال جدنا الشیخ جعفر : « (ویجوز أخذ الرزق علیهما) من غیر قصد المعاوضة مع التعیین وعدمه ومع الحاجة وعدمها (من بیت المال) أو من الأوقاف أو من متبرّع وقبول الهدایا ، للأصل والإجماع المنقول . وقد یجب الأخذ فی القضاء مع إتحاده ، وعدم تمکّنه من القیام به من غیر اکتساب ، ومنافاة الاکتساب له»(13) .

ص:170


1- (3) إرشاد الأذهان 1 / 358 .
2- (4) شرح إرشاد الأذهان / مخطوط _ نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12 / 326 .
3- (5) الدروس الشرعیة 2 / 69 .
4- (6) مفتاح الکرامة 12 / 326 .
5- (7) برهان الفقه . کتاب التجارة / 45 طبع الحجری .
6- (8) شرائع الاسلام 4 / 60 .
7- (9) قواعد الأحکام 3 / 422 .
8- (10) معالم الدین فی فقه آل یس 2 / 342 .
9- (11) اللمعة الدمشقیة / 94 .
10- (12) جامع المقاصد 4 / 37 .
11- (13) الروضة البهیة 3 / 71 .
12- (14) مجمع الفائدة 8 / 94 .
13- (1) شرح القواعد 1 / 290 .

وقال تلمیذه فی الجواهر : « قد صرّحوا برزقه منه مع کفایته وتعینه للقضاء»(1) .

وقال الفاضل النراقی : « یجوز له الإرتزاق من بیت المال ، ولو مع التعین وعدم الحاجة ، کما صرح بهما والدی فی معتمد الشیعة ، وادّعی بعضهم الإجماع علیه»(2) .

واسْتُدِلَ علی جواز الإرتزاق من بیت المال بمعتبرة عهد العلوی علیه السلام إلی مالک الأشتر النخعی ، کتب علیه السلام إلیه : « ثم اختر للحکم بین الناس أفضل رعیتک فی نفسک ممّن لا تَضِیقُ به الاُمور ... إلی أن یکتب : ثم أکثر تعاهد قضائه وافسح له فی البذل ما یزیل علّته وتَقِلُّ معه حاجته إلی الناس ، واعطه من المنزلة لدیک ما لا یطمع فیه غیره من خاصتک ، لیأمن بذلک اغتیال الرجال له عندک ... »(3) .

لهذا العهد سند معتبر فی ترجمة الأصْبَغ بن نُباتة الُمجاشِعِی کما فی رجال النجاشی(4) وفهرس الشیخ(5) . وفقرة « وافسح له فی البذل ما یزیل علته وتَقِلُّ معه حاجته إلی الناس » دالة علی جواز إرتزاقه من بیت المال مطلقاً ، سواء تعیّن علیه القضاء أم لا ، وسواء کان ذا کفایة أو لا .

وبمرسلة حماد الطویلة عن العبد الصالح علیه السلام قال : « ... فیکون بعد ذلک أرزاق أعوانه علی دین اللّه وفی مصلحة ما ینوبه من تقویة الإسلام وتقویة الدین فی وجوه الجهاد وغیر ذلک ممّا فیه مصلحة العامة ... »(6) .

والروایة وإن کان فی سندها إرسال ولکن الأصحاب نظروا إلیها بعین القبول . وفقرة

« وغیر ذلک ممّا فیه مصلحة العامة» تشمل القضاء ، بل القضاء من أهمّ مصادیق مصالح العامة

ص:171


1- (2) جواهر الکلام 22 / 132 .
2- (3) مستند الشیعة 17 / 68 .
3- (4) نهج البلاغة / الکتاب 53 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27 / 223 ح 9 . الباب 8 من أبواب آداب القاضی .
4- (5) رجال النجاشی / 8 الرقم 5 .
5- (6) فهرست کتب الشیعة وأصولهم / 88 الرقم 119 .
6- (7) وسائل الشیعة 27 / 221 ح 2 .

کما لا یخفی . فتدلّ علی جواز إرتزاقه من بیت المال مطلقاً ، لأنّ من المصالح إعطاء القاضی مع تعیّن القضاء علیه ومع تمکنه .

وهاتان الروایتان تکفیان فی جواز إرتزاقه من بیت المال مطلقاً مع فتوی المشهور علی ذلک بل بعض الإجماعات المنقولة ، واللّه العالم .

ویؤیدها مرسلة القاضی نعمان المصری عن علی علیه السلام أنّه قال : « لابدّ من إمارة ورزق للأمیر ، ولابدّ من عریف ورزق للعریف ، ولابدّ من حاسب ورزق للحاسب ، ولابدّ من قاضٍ ورزق للقاضی ، وکره أن یکون رزق القاضی علی الناس الذین یقضی لهم ولکن من بیت المال»(1) .

وهنا أذکر لک کلام جدی الشیخ جعفر قدس سره وأختم البحث به ، قال بعد ما نقلت من کلامه آنفاً :

« وما فی کلام جماعة من أصحابنا من تحریم الإرتزاق یُراد به تحریم الاُجرة ، ویؤیّده أن فی بعض عباراتهم(2) تفسیر أحدهما بالآخر ، وکذا الأخبار(3) المانعة من الإرتزاق فی القضاء منزلّة علی ما ذکرناه ، ولیس بداخل تحت الرشا ، ولا الاُجرة والجعالة ولا غیرهما من الأعواض»(4) .

حکم الهدیة للقاضی

اشارة

قال الشیخ الطوسی : « فأما الهدیة فإن لم یکن بمهاداته عادة حرم علیه قبولها ، والعامل علی الصدقات کذلک ، لما روی عن النبی _ ثمّ ذکر ثلاث روایات یأتی ذکرها فیما بعد ، وقال : _ فإن قیل : ألیس قد قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم : لو دعیت إلی ذراع لأجبتُ ، ولو اُهدی إلیَّ کراع لقبلتُ ؟ قلنا : الفصل بینه وبین اُمّته أنّه معصوم عن تغییر حکم بهدیّة وهذا معدوم فی غیره .

ص:172


1- (1) دعائم الاسلام 2 / 538 ح 1912 .
2- (2) کعبارة الشیخ الطوسی فی النهایة / 367 کما مرّت منّا .
3- (3) کصحیحة عبد اللّه بن سنان المرویة فی وسائل الشیعة 27 / 221 ح 1 کما مرّت منّا .
4- (4) شرح القواعد 1 / 291 .

هذا إذا اُهدی له من لم یجزء له بمهاداته عادة ، فأمّا إن کان ممّن جرت عادته بذلک کالقریب والصدیق الملاطف نظرت ، فإن کان فی حال حکومة بینه وبین غیره أو أحس بأنّه

یقدمها لحکومة بین یدیه حرم علیه الأخذ کالرشوة سواء ، وإن لم یکن هناک شیء من هذا فالمستحب أن یتنزَّه عنها .

هذا کلّه إذا کان الحاکم فی موضع ولایته ، وأمّا إن حصل فی غیر موضع ولایته فاُهدی له هدیة فالمستحب له أن لا یقبلها ، قال بعضهم یحرم علیه ، فکلّ موضع قلنا لا یحرم علیه قبولها فلا کلام ، وکلّ موضع قلنا یحرم علیه ، فإن خالف وقبل فما الذی یصنع ؟ فإن کان عامل الصدقات ، قال قوم : یجب علیه ردّها وقال آخرون : یجوز أن یتصدّق علیه بها ، والأوّل أحوط .

وأمّا هدیة القاضی قال قوم یضعها فی بیت المال لیصرف فی المصالح ، وقال آخرون یردّها علی أصحابها ، وهو الأحوط عندنا ... »(1) .

قال العلامة فی التحریر : « وأمّاالهدیة فإن کانت ممّن له عادة بقبول الهدیة منه فلا بأس ، إلاّ أن یفعل ذلک لأجل الحکم فتحرم ، وإن کانت ممّن لا عادة له بالإهداء ، فالوجه تحریمها لأنّه کالرشوة»(2) .

وقال المحقق الأردبیلی : « ثمّ الظاهر أنّه یجوز له قبول الهدیة ، فإنّه مستحب فی الأصل ، إلاّ أنّه یمکن أن یقال : صار حینئذ مکروهاً ، لاحتمال کونها رشوة . إلاّ أن یَعْلَمَ بالیقین أنّها لیست کذلک ، مثل أن کان بینه وبین المُهدِی صداقة قدیمة ، وعلم أن لیس له غرض من حکومته وخصومته بوجهٍ ، أو یکون غریباً لا یعلم ، أو جاء من السفر وکان عادته ذلک ، أو فعل ذلک بالنسبة إلیه وإلی غیره . ومع ذلک لا شک أنّ الأحوط هو الاجتناب فی وقت یمکن ویحتمل احتمالاً بعیداً لکونها رشوة»(3) .

الروایات الواردة فی حکم الهدیة

قد استدلوا علی حرمة الهدیة علی القاضی بعدّة من الروایات :

ص:173


1- (1) المبسوط 8 / 152 .
2- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 116 .
3- (3) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 51 .

منها : خبر الأصبغ عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال : أیّما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب اللّه عنه یوم القیامة وعن حوائجه ، وإن أخذ هدیة کان غلولاً ، وإن أخذ الرشوة فهو مشرک(1) .

بتقریب : أنّ القضاة من الولاة ویمکن أن یقال : أنّ القضاء من أهم الولایات فأخذ الهدیة لهم غلول ، والغلول فی معنی الخیانة والسرقة المحرَّمتان ، فأخذ الهدیة للقضاة حرام . ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : خبر جابر عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : هدیة الاُمراء غلول(2) .

بعین التقریب الذی مرّ آنفاً ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : مرسلة الشیخ الطوسی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : هدیة العمال غلولٌ(3) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : هدیة العمال سحت(4) .

ومنها : مرسلة ثالثة له قال : روی أبو حُمید الساعدی قال : استعمل النبی صلی الله علیه و آله وسلم رجلاً من الأسد یقال له : « أبو البنیة » وفی بعضها « أبو الأبنیة » علی الصدقة ، فلمّا قدّم قال : هذا لکم وهذا أهدی إلیَّ ، فقام النبی صلی الله علیه و آله وسلم علی المنبر فقال : ما بال العامل نبعثه علی أعمالنا یقول : هذا لکم وهذا أهدی إلیَّ ، فهلاّ جلس فی بیت أبیه أو فی بیت اُمّه ینظر یهدی له أم لا ؟ والذی نفسی بیده لا یأخذ أحد منها شیئاً إلاّ جاء یوم القیامة یحمله علی رقبته ، إن کان بعیراً له رُغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها تنعر . ثمّ رفع یده حتّی رأینا عفرة إبطیه ثمّ قال : اللهم هل بلغّت ؟ ، اللهم هل بلغّت ؟(5) .

الروایة عامیة ، رویت فی صحیح مسلم 3 / 1463 ، کتاب الإمارة ، باب تحریم هدایا العمال ح 26 . نعرت العنز تنعِر نَعاراً : أی صاحت . والنعیر : أی الصوت . عُفرة الأبط : بیاضه

ص:174


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 10 الباب 5 من أبواب ما یکتسب به .
2- (1) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 6 الباب 8 من أبواب آداب القاضی .
3- (2) المبسوط 8 / 151 .
4- (3) المبسوط 8 / 151 .
5- (4) المبسوط 8 / 151 .

الرُغاء : صوت الإبل . الخوار : صوت البقر . وعبد اللّه ابن اللتبیّة مذکور فی اُسد الغابة 3 / 250 وابن اللتبیّة فیه 5 / 329 وکلاهما واحد .

وبالجملة ، الروایة مرسلة عامیة ووردت فی عمّال الصدقة ، فلا ترتبط بهدیة القضاة .

ومنها : مرسلة الرضی رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی خطبته : وأعجب من ذلک طارقٌ طَرَقَنا بمَلْفُوفَةٍ فی وعائِها ومعجونةٍ شَنِئْتُها کَأَ نَّما عُجِنَتْ بریقِ حَیَّةٍ أو قَیْئِها ، فقلتُ : أصِلَةٌ أم زکاةٌ أم صدقةٌ ؟ فذلک محرَّمٌ علینا أهلَ البیت ! فقال : لا ذا ولا ذاک ولکنّها هدیّةٌ ، هَبِلَتْکَ الْهَبُولُ ! أعن دینِ اللّه ِ أتَیْتَنی لِتَخْدَعنی ؟ أمُخْتَبِطٌ أنتَ أم ذو جِنَّةٍ ؟ أم تَهْجُرُ ؟ واللّه

لو اُعطیتُ الأقالیمَ السبعةَ بما تحتَ أفلاکها علی أن أعْصِیَ اللّه فی نَمْلَةٍ أسْلُبُها جُلبَ شَعِیرَةٍ ما فَعَلْتُهُ ، وإنّ دنیاکم عندی لأَهونُ مِنْ وَرَقَةٍ فی فم جرادَةٍ تَقْضَمُها ، ما لعلیٍّ ولنعیمٍ یَفْنَی ولَذَّةٍ لا تَبْقَی ، نعوذُ باللّه ِ من سُبَاتِ العقلِ وقُبْحِ الزّلَلِ وبه نستعین(1) .

المُهدِی : هو الأشعث بن قیس ، والظاهر أنّه أراد بهدیّته هذه حکماً باطلاً بنفعه من أمیر المؤمنین علیه السلام ، وهیهات ما هکذا الظن به سلام اللّه علیه وعلی اُولاده .

الملفوفة : نوع من الحلواء . شنئتها : کرهتُها . الصلة : العطیة . هبلتک : ثکلتک ، الهَبُول : المرأة لا یعیش لهاولد . ذو جِنّة : مَن أصابه مسّ الشیطان . تهجر : تهذی بما لا معنی له فی المرض وغیره . جُلب الشعیرة : قشرتها . قَضُمتِ الدابةُ الشعیرَ : کسرته بأطراف أسنانها . سبات العقل : نومه . الزلل : السقوط فی الخطأ .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری رفعه عن علی علیه السلام فیما کتبه إلی رفاعة لمّا استقضاه علی الأهواز : ذر المطامع وخالف الهوی _ إلی أن کتب علیه السلام _ إیّاک وقبول التحف من الخصوم ، وحاذر الدُّخلة ، الکتاب(2) .

ومنها : خبر أحمد بن عبد اللّه الهروی الشیبانی وداود بن سلیمان الفراء عن علی بن

ص:175


1- (1) نهج البلاغة . الخطبة 224 .
2- (2) دعائم الإسلام 2 / 534 خ 1899 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 17 / 347 ح 1 . الباب 1 من أبواب آداب القاضی .

موسی الرضا علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجل «أَکَّالُونَ لِلسُّحْتِ»(1) قال : هو الرجل یقضی لأخیه الحاجة ثمّ یقبل هدیته(2) .

ومنها : مرسلة اُخری للرضی رفعه إلی أمیر المؤمنین أنّه قال فی خطبته : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : یا علی إنّ القوم سیفتنون بأموالهم ویمنّون بدینهم علی ربّهم ویتمنَّون رحمته ویأمنون سطوته ویستحلّون حرامه بالشبهات الکاذبة والأهواء الساهیة ، فیستحلّون الخمر بالنبیذ والسحت بالهدیة والربا بالبیع(3) .

هذه الروایات الواردة فی حکم الهدیة للقاضی ، وأنت تری ضعف أسنادها ، وعدم تمامیة دلالة جُلِّها لو لا کُلِّها ، فلا یمکن تخصیص العمومات الواردة فی استحباب الهدیة وقبولها بها . نعم یمکن حملها علی ما إذا أراد المُهدی الرشا المحرّم باسم الهدیة ، أو أراد من الوالی تضییع

حقٍّ أو تمشیة باطلٍ ونحوها ، ومن الواضح أن الصورة الأخیرة لا یخفی علیهما ، وحینئذ الهدیة فقط اسم لواقع آخر محرّم ، فیمکن القول بحرمتها .

وفی الفرض الشک فی دخولها تحت الصورة الأخیرة ، وإن کانت العمومات والأصل تقتضی الجواز ، ولکن الإحتیاط الذی هو سبیل النجاة یقتضی ترکه .

وبما ذکرنا یمکن الجمع بین أقوال الأصحاب قدس سرهم فی المقام ، واللّه هو العالم بالأحکام .

حکم الرشوة فی غیر الأحکام

الرشوة فی غیر الأحکام یُتصور علی ثلاثة وجوه :

الأوّل : قد تکون لإصلاح أمر حلال أو مباح ، فلا بأس فی جوازها إعطاءً وأخذاً ، لأنّ المعطی أعطاها لإصلاح أمرٍ حلالٍ أو مباحٍ والآخذ یعمل شیئاً فیأخذها فی قبال عمله المحترم . والشاهد علی ذلک صحیحة محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل

ص:176


1- (3) سورة المائدة / 42 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 95 ح 11 .
3- (5) نهج البلاغة . الخطبة 156 .

یرشو الرجل الرشوة علی أن یتحوّل من منزله فیسکنه ؟ قال : لا بأس به(1) .

هذا بناءً علی أنّ المراد المنزل المشترک کالأوقاف العامة أو الموقوفة علی قبیل وهما منه أو المدارس وحجراتها أو المشاهد أو نحوها .

ویؤیدها معتبرة أو موثقة حکم بن حکیم الصیرفی قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام وسأله حفص الأعور فقال : إنّ السلطان یشترون منّا القُرب والإدواة فیوکلون الوکیل حتی یستوفیه منّا فنرشوه حتّی لا یظلمنا ، فقال : لا بأس ما تصلح به مالک . ثمّ سکت ساعة ثمّ قال : أرأیت إذا أنت رشوته یأخذ أقل من الشرط ؟ قال : نعم ، قال : فسدت رشوتک(2) .

إسماعیل ومحمد وحکم ثقات إلاّ أنّ أولهم واقفیٌّ . فالسند معتبر بل موثق .

والقُرَب جمع قربة : سقاء یجعل فیه الماء أو اللبن . الإداوة : إناء صغیر من جلد یجعل فیه الماء وجمعها : الأداوی .

فصدر الموثقة تدلّ علی جواز ما ذکرنا ، کما تدلّ علی جواز إعطاء الرشوة لدفع الظلم و إن حرم أخذها حینئذٍ علی المرتشی .

الثانی : قد تکون الرشوة لبلوغ أمر محرّم أو إتمامه ، فلا شبهة فی حرمتها علی المعطی

والآخذ کلیهما لما مرّ من حرمة أخذ المال علی عمل محرّم ، وتؤیدها بل یدلّ علیه ذیل الموثقة الماضیة آنفاً حیث سأل الإمام علیه السلام : أرأیت إذا أنت رشوته یأخذ أقل من الشرط ؟ قال : نعم ، قال : فسدت رشوتک .

الثالث : قد تکون الرشوة لأمر مشترک بین جهتی الحلال والحرام ، فإن قصد الراشی الحرام ووقع فصارت حراماً وإن قصد الحلال ووقع فصارت حلالاً . لأنّه بالقصد ووقوع الحلال یدخل فی القسم الأوّل وبالقصد ووقوع الحرام یدخل فی القسم الثانی .

وأمّا إذا قصد المشترک بینهما فهل هی حلال أم حرامٌ ؟ قد یقال : بحرمتها حینئذٍ ، لأنّه أکل للمال بالباطل ، وإطلاق الروایات الواردة فی هدیة الولاة والعمال .

ص:177


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 287 ح 2 . الباب 85 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) التهذیب 7 / 235 ح 45 ونقل عنه مع اختلاف فی السند فی وسائل الشیعة 18 / 96 ح 1 . الباب 37 من أبواب أحکام العقود .

ولکن یمکن المناقشة فیهما : بأنّ الأخذ علی الجهة المشترکة لیس أخذاً بالباطل ، والروایات کلّها ضعیفة السند کما مرّت ، ویمکن حملها(1) علی الرشوة المصطلحة أعنی فی الحکم والقضاء . فالعمومات والأصل یقتضی الجواز ، واللّه العالم .

حکم المعاملة المحاباتیة مع القاضی

قسّم الشیخ الأعظم(2) قدس سره المعاملة المشتملة علی المحاباة مع القاضی إلی ثلاثة أقسام ، وإنّا نتبع أثره :

الأوّل : الغرض الأصلی للبائع هو حکم القاضی له ولم یتعلق غرضه بأصل البیع ، فالبیع اسم فقط لانتقال المال إلی القاضی لیحکم له ، بحیث لو لا المرافعة والحکم لم یبع ماله أصلاً مطلقاً ، أی بلا تقلیل الثمن وعدمه .

ففی هذا القسم لم یقصد البائع المعاملة المحاباتیة ، بل قصد الرشوة بإزاء الحکم له ، فالمعاملة صوریّة محضة فتدخل فی عنوان الرشاء ، فتحرم تکلیفاً وتبطل وضعاً .

الثانی : البائع یقصد أصل البیع ولکن غرضه من تقلیل الثمن إعطاء القاضی شیئاً لیحکم له ، بحیث لو لا المرافعة والحکم یبیع ماله ولکن بالثمن لا بتقلیله .

قد یقال : إنّ المحاباة وتقلیل الثمن فی قبال الحکم للبائع تکون کالشرط لهذه المعاملة ، والشرط حرام وفاسد . فإن قلنا بکون الشرط الفاسد مفسد للمعاملة فسدت المعاملة حینئذٍ ، وإن قلنا بعدم الإفساد وبتقسیط المبیع بالنسبة إلی الشرط والثمن صار حکمها حکم

بیع ما لا یملک بانضمام ما یملک ، نظیر بیع الخمر والخلِّ معاً أو الخنزیر والشاة معاً ، فحینئذٍ صحت المعاملة ولکن للمشتری خیار تبعّض الصفقة أو الرجوع إلی البائع فیما زاد من ثمن ما یملک .

وفی المقام حیث أنّ المشتری هو القاضی لم یقدم علی شیءٍ منهما یحکم بصحة المعاملة .

وإن قلنا بعدم إفساد الشرط الفاسد وذهبنا إلی عدم تقسیط الثمن بالنسبة إلی الشرط

ص:178


1- (1) أی حمل الروایات .
2- (2) المکاسب 1 / 248 .

- کما هو الصحیح المختار - فالمعاملة صارت صحیحة .

ذهب إلی صحة ا لمعاملة فی هذا القسم جماعة من الأصحاب ، منهم : الفقیه الیزدی(1) والمیرزا الشیرازی الثانی(2) والمحقق الإیروانی(3) والفقیه السبزواری(4) والمحقق الخوئی(5) وتبعه تلمیذه فی عمدة المطالب(6) .

والظاهر أنّ متابعة الأعلام الأفذاذ تامة ، لأنّ حرمة الرشوة تکلیفاً لم یسر إلی المعاملة ، فلا تبطلها وضعاً إلاّ علی القول بأنّ الشرط المفسد فاسدٌ .

الثالث : قصد البائع أصل البیع ولکن الداعی له من تقلیل الثمن والمحاباة جلب محبة القاضی ومیله وحبّه إلیه حتّی ینجر إلی الحکم له ، وفی هذا القسم أشبه شیءٍ بالهدیة للقاضی .

وحیث ذهبنا إلی جواز الإهداء للقاضی کما مرّ ، لا وجه لبطلان المعاملة فی هذا القسم . ووافقنا علی ذلک الأعلام الذین مرّت الإشارة إلیهم فی القسم الثانی آنفاً .

تنبیه : فی حکم المعاملة المحاباتیة ، المعاملة أو البیع بثمن المثل مع فرض قلّة المتاع وعزّته ، بحیث لو لا حکمه له أمسک علی متاعه ولم یقدم علی البیع لا من القاضی ولا من غیره ، ولکن باعه له بشرط حکمه للبائع أو بهذا الداعی ، فیجری فیها ما ذکرنا فی المعاملة المحاباتیة .

وفی حکمها ، بذل المنافع مجاناً أو بثمن أقل ، کسکنی الدار أو إجارة السیارة ونحوها لذلک ، واللّه سبحانه هو العالم .

حکم الرشوة وضعاً ووظیفة مَنْ أخذها

هل وجب علی الآخذ ردّها ؟ ولو تلفت فی یده کان ضامناً ببدلها من المثل أو القیمة أم لا ؟

ص:179


1- (1) العروة الوثقی 6 / 445 .
2- (2) حاشیة علی المکاسب 1 / 75 .
3- (3) حاشیة علی المکاسب 1 / 162 .
4- (4) مهذب الأحکام 16 / 95 .
5- (5) مصباح الفقاهة 1 / 274 .
6- (6) عمدة المطالب فی التعلیق علی المکاسب 1 / 210 للفقیه الحاج آقا تقی الطباطبائی القمی مدظله .

الظاهر أن هاهنا صوراً ثلاثة :

الأولی : قد یعطی الراشی لیحکم له القاضی علی خصمه ، بحیث یصیر مصداقاً للرشوة ، فحینئذ حیث یحکم بالحرمة تکلیفاً یحکم بالبطلان وضعاً ، فالمال لم ینتقل إلی المرتشی ویبقی فی ملک مالکه الراشی ، فلذا علی المرتشی ردّها إن کان عینه موجوداً أو ردّ بدله إن کان تالفاً .

والدلیل علی ذلک : بعد ادعاء نفی الخلاف فیه کما عن الغنائم(1) والمستند(2) بل ادعاء الإجماع علیه کما عن المسالک(3) وادعاء لا خلاف ولا أشکال کما فی الجواهر(4) ، لأنّ الرشوة حینئذٍ وقعت فی مقابل الحکم للراشی ، فتکون معاملة باطلة وصارت من صغریات « کلّ عقد یضمن بصحیحه یضمن بفاسده » . وتدلّ علیه أیضاً عموم قواعد الضمان و« علی الید ما أخذت حتّی تؤدی » ، والإقدام حیث أنّ الآخذ أقدم علی ضمان ما أخذ والإتلاف فی فرض التلف .

إن قلت : الراشی راضٍ بتصرف المرتشی فی الرشوة ، وهذه الرضایة ترتفع الضمان .

قلت : الراشی راضٍ بعنوان الرشوة لا بعنوانٍ آخرٍ ، وحیث أنّ الشارع ألغی الرشوة عن المالیة وأخذ الوجه فی قبالها ، فلا توجب جواز أکل المال والتصرف فیه ، فالمرتشی یصیر ضامناً .

الثانیة : إذا أعطاه للقاضی علی سبیل الهدیّة وذهبنا إلی جوازها کما هو المختار فلا ضمان علیه ، لأنّه أخذها مشروعاً وحلالاً فیملکه ، فلا یجب علیه ردّه ولا ضمان علیه . وإن ذهبنا إلی حرمتها وأنّ إعطاءها علی المُهدی یکون حراماً ، وکذا علی آخذها ، ولکن حیث أنّ الدافع لم یقصد المقابلة بین الحکم والهدیة وإنّما أعطاه مجاناً لیحکم له فیکون هبة مجانیة فاسدة ، ولأنّ الداعی لیس قابلاً للعوضیة ولا مؤثراً فی الحکم الشرعی وضعاً ولا تکلیفاً فحینئذ یکون من

ص:180


1- (1) غنائم الأیام / 675 من الطبع الحجری .
2- (2) مستند الشیعة 17 / 74 .
3- (3) مسالک الأفهام 13 / 422 .
4- (4) جواهر الکلام 22 / 149 .

مصادیق قاعدة « ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده » .

الثالثة : وأمّا إذا أعطاه فی المعاملة المحاباتیة فلها أقسام ثلاثة کما مرّ منّا :

القسم الأوّل : إذا لم یقصد البیع بل غرضه الأصلی هو إعطاء الرشوة ، فحینئذ حکمه حکم الصورة الاُولی ، لأنّه فی الحقیقة رشوة ، فالآخذ ضامن .

وأمّا القسم الثانی : إذا تعلق غرضه بالبیع وتقلیل الثمن لأجل الحکم له فیکون کالشرط للمعاملة ، وذهبنا إلی صحة المعاملة کما هو المختار ، فلا ضمان علی المشتری وإن قلنا بفساد المعاملة حینئذٍ ، فعلی المشتری الضمان بالنسبة إلی ما یقلّل له .

وأمّا القسم الثالث : حیث قصد البیع وتقلیل الثمن کالداعی له لجلب محبّة القاضی فیصیر أشبه شیءٍ بالهدیة ، فیجری فیه حکم الصورة الثانیة یعنی الهدیة ، فلا ضمان علی المشتری لعین ما ذکرناه هناک .

هذا کلّه بالنسبة إلی مقدار النقص فی المعاملة المحاباتیة ، وبه تمّ الکلام فی حکم الرشوة وضعاً ، واللّه العالم بالأحکام .

فروع اختلاف الدافع والقابض

تعرّض الشیخ الأعظم(1) قدس سره لصور ثلاث فی المقام :

الصورة الأولی : أن یتوافق المترافعان علی عنوان واحد کالهبة ولکن الدافع یدعی أنّها ملحقة بالرشوة فی الفساد والحرمة ، والقابض یدعی أنّها هبة صحیحة لازمة بداعی القربة أو الرحمیة . وتظهر الثمرة فی جواز استرجاع العین علی الأوّل وعدمه علی الثانی إن کانت العین موجودة ، وأمّا مع التلف لاتظهر الثمرة ، لما مرّ أنّ ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده .

قد یقال : بتقدیم قول الدافع ، لأنّ القابض وضع یده علی مال الدافع ، وهذا محرز بالوجدان وعدم کونه بالهبة الصحیحة محرز بالأصل ، فیتم منهما موضوع الحکم بجواز

ص:181


1- (1) المکاسب 1 / 251 .

الاسترجاع ، ولا یعارض الأصل بأصالة الهبة الفاسدة لأنّها لا أثر لها .

ولکن یمکن أن یقال : بتقدیم قول القابض ، لأنّ أصالة الصحة فی العقود تتقدم علی جمیع الاُصول الموضوعیة ، وعلیه إتفاق کافة العلماء وبناء العقلاء ، کما فی مصباح الفقاهة(1) .

إن قلت : الدافع إنّما یدعی ما لا یُعلم إلاّ من قبله فیقدم قوله فی دعواه ، لأنّه أعرف

بضمیره .

قلت : الدلیل فی ثبوت هذه القاعدة - أی اعتبار القول ممّا لا یُعرف إلاّ من قبله - منحصر بموارد خاصة ، نحو : إخبار المرأة عن الحمل والحیض والطهر وأنّها ذات بعل أو غیر مزوّجة إذا لم تکن متهمة أو أنّها فی العدّة أو خرجت منها . ولا دلیل علی ثبوت هذه القاعدة فی جمیع الموارد . وإلاّ یجب قبول قول مدعی العدالة أو الإجتهاد أو الأعلمیة . اللهم إلاّ أن یمنع کون هذه الموارد الأخیرة لا تُعرف إلاّ من قبله ، فإنّ کلّها تعرف بآثارها أو عند أهلها ، کما نبّه علیه المحقق الإیروانی(2) .

ولکن بنظری القاصر : فی هذه الصورة والمثال حیث تکون العین باقیة والقابض اعترف بأنّ المال انتقل إلیه من الدافع و الدافع یقول ببطلان الانتقال والقابض یدعی صحة الانتقال إلیه ، فیصیر القابض مدعیّاً والدافع منکراً ، فلابدّ للقابض من إقامة البیّنة علی صحة الانتقال ، ولو لم یقمها یحلف الدافع ببطلان الانتقال ویأخذ عین ماله . یعنی الأصل مع الدافع حینئذ .

ولکن إذا کانت العین تالفة صار الأمر علی عکس ما ذکرنا ، أعنی أنه صار الدافع مدعیّاً لأنّه إدعی الضمان والقابض منکراً ، فعلی الدافع إقامة البیّنة ولو لم یقمها یحلف القابض ویحکم ببراءة ذمّته من الضمان .

الصورة الثانیة : أن یکون کلّ منهما یدعی أمراً غیر ما یدعیه الآخر ، مثلاً لو ادعی الدافع أنّها رشوة أو اُجرة علی المحرّم وادعی القابض کونها هبة صحیحة .

ص:182


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 276 .
2- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 163 .

فی هذه الصورة یقدَّم قول الدافع ، لأصالة عدم تحقق الهبة الصحیحة الناقلة ، فإنّها أمر وجودی وموضوع للأثر ، فالأصل عدمها . ولا تعارضها أصالة عدم تحقق الرشوة المحرَّمة أو الإجارة الفاسدة ، لأنّهما لا أثر لهما ، وإنّما الأثر مترتب علی عدم تحقق السبب الناقل ، سواء معه تحقق شیٌ من الأسباب الفاسدة أم لم یتحقق ، کما ذکره المحقق الخوئی قدس سره (1) .

الصورة الثالثة : أن یتوافق المترافعان علی فساد الأخذ والإعطاء ولکن الدافع یدعی أنّها رشوة والقابض یدعی أنّها هدیة فاسدة . علی ثبوت قول الدافع یتبع الضمان علی القابض ، لأنّه أخذها علی سبیل الإجارة والجُعالة الفاسدتین ، وعلی ثبوت قول القابض لا یتبع الضمان ، لأنّه أخذها علی سبیل الهدیّة الفاسدة ، لأنّ الهبة الصحیحة لا ضمان فیها فکذا

الهبة الفاسدة .

نعم ، ثمرة هذه الدعوی تظهر بعد تلف المال ، إذ قبله یجوز للدافع استرجاع العین کما یجب علی الآخذ ردّها لا تفاقهما علی فساد المعاملة .

والتحقیق أن یقال فی هذه الصورة : لا یجوز لأحدٍ التصرف فی مال امری ء مسلم إلاّ بطیبة نفسه ، ومن المعلوم أنّ وضع الید علی مال الغیر بدون رضی مالکه یوجب الضمان للسیرة القطعیة ، فعلیه وضع الید فی المقام علی مال الغیر محرز بالوجدان ، وإذا ضممنا إلیه أصالة عدم رضی المالک بالتصرف المجانی ، یتشکّل الموضوع من ضم الوجدان إلی الأصل ویحکم بالضمان علی القابض ، کما علیه المحقق الخوئی(2) .

ذکر المحقق الخوئی قدس سره فی مقام الترافع صورةً رابعةً لا ترتبط بمسألة الرشوة وقال :

« الصورة الرابعة : أن یدعی کلٌّ منهما عنواناً صحیحاً غیر ما یدعیه الآخر ، کأن یدعی الباذل کونه بیعاً لیتحقق فیه الضمان ، ویدعی القابض کونه هبة مجانیّة لکی لا یتحقق فیه الضمان ، فإن أقام أحدهما بیّنهً أو حلف مع نکول الآخر حکم له ، وإلاّ وجب التحالف وینفسخ العقد ، وعلیه فیجب علی القابض ردّ العین مع البقاء أو بدلها مع التلف ، وهذه الصورة

ص:183


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 277 .
2- (1) مصباح الفقاهة 1 / 276 .

لا تنطبق علی ما نحن فیه»(1) .

أقول : حیث أن القابض اعترف بانتقال

المال إلیه من الدافع فی الفرض والأصل فی الانتقالات عدم کونها مجانیّة ، فعلی القابض أن یثبت صحة الانتقال وعدم المجانیّة ، فهو المدعی والدافع صار منکراً ، والبیّنة علی المدعی والیمین علی من أنکر ، ولم یدخل الفرض فی صورة التداعی خلافاً لهذا المحقق الجلیل قدس سره .

إلی هنا تمت مباحث الرشوة بطولها ، والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً ، واللّه سبحانه هو العالم بأحکامه .

ص: 184


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 277 .

السبّ

اشارة

والکلام فیه یقع ضمن مقامات :

المقام الأوّل : ما معنی السبّ ؟

لم یرد فی الروایات تحدید معناه ، فلذا لابدّ فیه من الرجوع إلی اللغة والعرف ، فأذکر لک بعض کلمات اللغویین ثمّ الفقهاء :

1 _ قال أحمد بن فارس المتوفی عام 395 : « سبّ السین والباء حَدّهُ بعضُ أهل اللغة _ وأظنُّه ابن درید _ أنّ أصل هذا الباب القطع ، ثم اشتقّ منه الشَّتم . وهذا الذی قاله صحیح . وأکثر الباب موضوع علیه . من ذلک السِّبّ : الخِمار ، لأنّه مقطوع من مِنْسَجه ... .

والسَّب : الشتم ، ولا قطیعة أقطع من الشتم ... ویقال : رجل سُبَبَة ، إذا کان یَسُبُّ الناسَ کثیراً . ورجل سُبَّة ، إذا کان یُسَبُّ کثیراً ... »(1) .

2 _ وقال الزمخشری المتوفی عام 538 : « س ب ب _ بینهما سباب ، والمزاح سباب النوکی ، وقد سابّه وتسابُّوا واستبُّوا . وفی الحدیث : المسْتبّان شیطانان ، وهو سُبَّة ، وهذه سُبّة علیک وعلی عقبک ، وأنت سُبّةٌ علی قومک ، وإیّاک والمَسبّة والمَسابّ ... »(2) .

3 _ وقال ابن منظور المتوفی عام 711 : « سبب : السَّبُّ : القطع . سَبَّه سَبّاً : قطعه ... . السَّبُّ : الشتم ، وهو مصدر سَبَّه یَسُبُّه سَبّاً : شَتَمه ، وأصله من ذلک .

وسَبَّبه : أکثر سَبَّه ... وفی الحدیث : سِبابُ المسلم فُسوقٌ وقتاله کُفرٌ .

السَّبُّ : الشتم . قیل : هذا محمول علی من سَبَّ أو قاتَلَ مسلماً من غیر تأویل ، وقیل :

ص:185


1- (1) معجم مقاییس اللغة 3 / 63 .
2- (2) أساس البلاغة / 200 .

إنّما قال ذلک علی جهة التغلیظ ، لا أنّه یخرجه إلی الفسق والکفر .

وفی حدیث أبی هریرة : لا تَمْشِیَنَّ أمام أبیک ولا تجلس قَبْله ولا تدعه باسمه ولا تَسْتَسِبَّ له ، أی لا تُعَرِّضْه للسَّبِّ وتَجُرَّه إلیه ، بأن تَسُبَّ أبا غیرک فَیَسُبَّ أباک مجازاةً لک .

وقد جاء مفسراً فی الحدیث الآخر : إنّ من أکبر الکبائر أن یُسَبَّ الرجل والدیه ، قیل : وکیف یَسُبُّ والدیه ؟ قال : یَسُبُّ أبا الرجل ، فَیُسَبُّ أباه ویَسُبُّ اُمَّه فَیُسَبُّ اُمُّه .

والسُّبَّة : العار ، ویقال : صار هذا الأمر سُبَّةً علیهم ، بالضم ، أی عاراً یُسَبُّ به .

ویقال : بینهم اُسْبوبة یَتَسابُّونَ بها ، أی شیءٌ یَتشاتمونَ به .

السَبابُّ : التَّشاتُم ، وتسابُّوا : تشاتَمُوا .

وسابَّه مُسابَّة وسِباباً : شاتمه .

والسَّبِیبُ والسِّبُّ : الذی یُسابُّکَ . وفی الصحاح : سِبُّک الذی یُسابُّکَ ... .

ورجل سِبٌّ : کثیر السِّبابِ . ورجل مِسَبٌّ : بکسر المیم ، کثیرُ السِّبابِ .

ورجل سِبَّة أی یَسُبُّه الناسُ ، وسُبَبَة أی یَسُبُّ الناسَ ... »(1) .

4 _ وقال الفیومی المتوفی عام 770 : « سَبَّهُ : سَبّاً فهو سَبَّابٌ ، ومنه قیل : للإصبَعَ التی تلی الإبهامَ سَبَّابَةٌ لأنّه یُشارُ بها عند السَّبِّ ، والسُّبَّة : العار ، وسابَّه مُسَابَّةً وسِبَاباً واسمُ الفاعِلِ منه سِبُّ بالکسر ، والسِبُّ أیضاً الخِمارُ والعِمامَةُ »(2) .

5 _ وقال المحقق الثانی : « وذلک بإسناد ما یقتضی نقصه ، مثل الوضیع والناقص ونحو ذلک ، إلاّ لِمَنْ یستحق الإهانة کما سیجیء فی باب القذف»(3) .

6 _ وقال جدنا الشیخ جعفر : « وسبّ المؤمنین وشتمهم بمعنی واحد یعمّ اللعن والطعن والقذف والفحش والتصغیر والتحقیر ونحوها ، مع قصد الإنشاء ، فیخالف الغیبة ، أو یعمّ الخبر وتعمّ الإنشاء ، ویختلفان فی بعض التعبیرات فیعمّ کلّ منهما الآخر من وجه»(4) .

ص:186


1- (1) لسان العرب 6 / 137 .
2- (2) المصباح المنیر / 262 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 27 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 235 .

7 _ وقال تلمیذه السید جواد العاملی : « وأمّا السبّ فهو الشتم ، ومثله السباب بالکسر وخفة الموحدة ، وفی الحدیث : سباب المؤمن فسوق وقتاله کفر .

والشتم السبّ ، بأن تصف الشیء بما هو إزراء ونقص ، فیدخل فی السبّ کلّ ما یوجب الأذی کالقذف والحقیر والوضیع والکلب والکافر والمرتد ، والتعییر بشیءٍ من بلاء اللّه کالأجذم والأبرص ، ولو کان مستحقّاً للإستخفاف فلا حرمة إلاّ فیما لا یسوغ لقاؤه به .

وقد یُراد به فی المقام خصوص مثل الوضیع والحقیر والناقص ، وإن ثبت بها التعزیر لتبادره عرفاً . وقد یُراد خصوص ما ثبت به التعزیر دون الحدّ کالقذف ، لأنّه من الکبائر فلا یناسب وضعه من الکذب علی المؤمنین ، فتأمل .

والسبّ مع قصد الإنشاء یخالف الغیبة أو یعمّ الخبر وتعمّ الإنشاء ، ویختلفان فی بعض التعبیرات فیعمّ کلّ منهما الآخر من وجه ، وسبّ غیر أهل الإیمان من شرائط الإیمان»(1) .

8 _ وقال الشیخ الأعظم : « إنّ المرجع فی السبّ إلی العرف»(2) ، ثمّ ذکر بیان المحقق الثانی ومقالة الشیخ جعفر والسید العاملی الماضیة من دون النسبة إلی الإخیرین ، ثمّ قال : « ثمّ الظاهر أنّه لا یُعتبر فی صدق السبّ مواجهة المسبوب ، نعم یُعتبر فیه قصد الإهانة والنقص ، فالنسبة بینه وبین الغیبة عموم من وجه . والظاهر تعدد العقاب فی مادة الإجتماع ، لأنّ مجرد ذکر الشخص بما یکرهه لو سمعه ولو لا قصد الإهانة غیبة محرّمة والإهانة محرّم آخر »(3) .

9 _ وقال المحقق الخوئی : « الظاهر من العرف واللغة اعتبار الإهانة والتعییر فی مفهوم السبّ وکونه تنقیصاً وإزرءاً علی المسبوب وأنّه متحد مع الشتم ، وعلی هذا فیدخل فیه کلّما یوجب إهانة المسبوب وهتکه ، کالقذف والتوصیف بالوضیع واللاشی ء والحمار والکلب والخنزیر والکافر والمرتد والأبرص والأجذم والأعور وغیر ذلک من الألفاظ الموجبة للنقص والإهانة ، وعلیه فلا یتحقق مفهومه إلاّ بقصد الهتک ، وأمّا مواجهة المسبوب فلا

ص:187


1- (1) مفتاح الکرامة 12 / 222 .
2- (2) المکاسب 1 / 254 .
3- (3) المکاسب 1 / 255 .

تعتبر فیه»(1) .

10 _ أقول : ظهر لک ممّا ذکرنا من کلمات اللغویین والفقهاء أنّ المراد بالسبّ هو الشتم ، بلا فرق بین أن یکون خبراً أو إنشاءً ، وبین أن یکون المسبوب حاضراً أو غائباً ، و بین أن یکون السابّ قاصداً الإهانة والتنقیص والتحقیر أو لم یقصد . فعلی هذا النسبة بین السب والغیبة وقصد الإهانة والإستخفاف عموم من وجه ، فما ذکره المحقق الإیروانی قدس سره (2) - ولعلّه ارتضاه صاحب الغنیة(3) لأنّه ذکره ولم یرد علیه - من أنّ النسبة بینه وبین الغیبة تباین ، غیر تام .

وهکذا لا یتم ما ذکره المحقق الخوئی تبعاً للشیخ الأعظم من عدم تحقق السبّ إلاّ بقصد الهتک والإهانة کما سبق ، لما عرفت من عدم مدخلیة القصد فی السبّ ، وحیث أنّ المرجع فیه هو العرف لا محالة یختلف السبّ باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمکنة ، فربّما یکون لفظ

سبّاً عند قومٍ ولا یکون سبّاً عند آخرین ، فیلحق کلاً من المصادیق حکمه کما ذکره الفقیه السبزواری قدس سره (4) .

هذا کلّه فی معنی السب والمقام الأوّل من المقامات .

المقام الثانی : أدلة حرمة سبّ المؤمن

اشارة

تدلّ علیه الأدلة الأربعة :

الأوّل : الإجماع

قال العلامة فی التذکرة : « ویحرم سبّ المؤمنین والکذب علیهم والنمیمة ومدح مَنْ یستحق الذم وبالعکس والتشبیب بالمرأة المعروفة المؤمنة ، بلا خلاف فی ذلک کلّه»(5) .

ص:189


1- (4) مصباح الفقاهة 1 / 280 .
2- (5) حاشیة علی المکاسب 1 / 167 .
3- (6) غنیة الطالب 1 / 133 للمحقق الشیخ مرتضی الأردکانی قدس سره .
4- (1) مهذب الأحکام 16 / 97 .
5- (2) تذکرة الفقهاء 12 / 144 ذیل المسألة 649 .

وقد تعرض الغزالی من العامة لهذا الإجماع فی کتابه إحیاء العلوم(1) .

فحرمة سبّ المؤمن من إجماعیات المسلمین کما قال المحقق الخوئی قدس سره : « وعلی ذلک إجماع المسلمین من غیر نکیر»(2) .

ولکن یمکن أن یناقش فی هذا الإجماع بوجهین :

أوّلاً : عدم ثبوت الإجماع عندنا من کلام الغزالی ، والمذکور فی کلام العلامة هو « لا خلاف» ، والفرق بینهما واضح .

وثانیاً : علی فرض ثبوت الإجماع لم یفد فی المقام شیئاً ، لاّنّه من الإجماع المدرکی ، فلابدّ من ملاحظة غیره من الأدلة والمدارک .

الثانی : حکم العقل والعقلاء

العقل مستقل بحرمة سبّ المؤمن فی الجملة ، لأنّه ظلم وإیذاء وعدوان ، والعقلاء أیضاً یحکمون بقبحه فی الأعصار والأمصار وبلا اختصاص بملّة دون اُخری .

الثالث : کتاب اللّه تعالی

1 _ قال عزّ وجل : «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»(3) .

بتقریب : أن الزور ظاهر فی الباطل ، والسبّ باطل عند العرف فیحرم . ومن المعلوم

أنّ الباطل لا ینحصر إنطباقه علی الکذب وما هو متضمن له ، بحیث یشمل الأخبار الکاذبة فقط ، ولا تشمل الإنشاءات ومنها بعض السباب(4) ، بل الظاهر من الزور هو الباطل الذی یشمل الإخبار والإنشاء ، ومن الأخیر بعض السباب ، والشاهد علی ذلک هو العرف ودینهم وحکمهم بأنّه من الباطل .

والشاهد الآخر : الروایات الواردة(5) فی ذیل الآیة الشریفة بتطبیقها علی الغناء التی

ص:189


1- (3) إحیاء العلوم 3 / 110 و 111 .
2- (4) مصباح الفقاهة 1 / 277 .
3- (5) سورة الحج / 30 .
4- (1) ذهب إلی الإنحصار شیخنا الأستاذ _ مدظله _ فی إرشاد الطالب 1 / 159 .
5- (2) راجعها فی البرهان فی تفسیر القرآن 3 / 881 .

یغلب فیها الإنشاء علی الإخبار .

والشاهد الثالث : صحیحة حماد بن عثمان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن قول الزور ، قال : منه قول الرجل للذی یُغنّی : أحسنت(1) .

الظاهر فی الإنشاء لا الإخبار ، أعنی أن الإمام علیه السلام طبق الآیة الشریفة علی الإنشاء لا الإخبار .

والحاصل ، أنّ سب المؤمن من أظهر مصادیق الآیة الشریفة ، لأنّ المراد بالزور هو الباطل ، والسبّ الباطل عند العرف فیحرم بمقتضی الآیة الشریفة .

ووافقنا علی هذا الاستدلال المحققون الخوئی(2) والسبزواری(3) قدس سرهما والقمی(4) _ مدظله _ .

2 _ قوله تعالی : «وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَکُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاْءَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْءِیمَانِ»(5) .

بتقریب : أن سب المؤمن ربّما یدخل فی النهی الأوّل ، أعنی «لاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَکُمْ» ، وربّما یدخل فی النهی الثانی ، أعنی «لاَ تَنَابَزُوا بِالاْءَلْقَابِ» ، وربّما یدخل فی التوصیف الآخر ، أعنی «بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْءِیمَانِ» . فصار محرّماً بالآیة الشریفة .

والشاهد علی ذلک ما ورد فی شأن نزولها فی تفسیر القمی ، قال : « فإنّها نزلت فی صفیة بنت حُیَیّ بن أخطَب ، وکانت زوجة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وذلک أنّ عائشة وحفصة کانتا

تؤذیانها وتشتمانها وتقولان لها : یا بنت الیهودیة . فشکت ذلک إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال لها : ألا تجیبهما ؟ فقالت : بماذا یا رسول اللّه ؟ قال : قولی : إنّ أبی هارون نبی اللّه وعمّی موسی کلیم اللّه وزوجی محمد رسول اللّه ، فما تُنکران منّی ؟ فقالت لهما ، فقالتا : هذا علمّک رسول اللّه ،

ص:190


1- (3) معانی الأخبار / 349 ح 2 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 882 ح 6 طبع مؤسسة البعثة .
2- (4) مصباح الفقاهة 1 / 279 .
3- (5) مهذب الأحکام 16 / 96 .
4- (6) عمدة المطالب 1 / 214 .
5- (7) سورة الحجرات / 11 .

فأنزل اللّه فی ذلک «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاَ یَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ» إلی قوله «وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاْءَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْءِیمَانِ» »(1) .

3 _ قوله تعالی : «لاَّ یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ»(2) .

بتقریب : أنّ اللّه لا یحب القول بالسوء جهراً ، أی یحرم القول بالسوء وإظهاره إلاّ مِنْ المظلوم ، ومن المعلوم أنّ السبّ یدخل فی القول بالسوء فیحرم . والشاهد علی ذلک مرسلة الطبرسی عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال : لا یحبّ اللّه الشتم فی الإنتصار إلاّ مَن ظُلم ، فلا بأس له أن ینتصر ممَّن ظلمه بما یجوز الانتصار به فی الدِّین(3) .

لأنّه علیه السلام طبق « القول بالسوء» بالشتم ، وقد مرّ منّا أنّ الشتم هو السبّ .

وبما ذکرنا من التقریب لا یتمّ ما ذکره شیخنا الأستاذ _ مدظله _ فی الإرشاد(4) . واللّه سبحانه هو العالم .

الرابع : ومن السنة الروایات المستفیضة

روایاتنا تدلّ علی حرمة السبّ علی حدِّ الاستفاضة :

منها : موثقة أو صحیحة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : سباب المؤمن فسوق ، وقتاله کفر ، وأکل لحمه معصیة ، وحرمة ماله کحرمة دمه(5) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : سباب المؤمن کالمشرف علی الهلکة(6) .

ومنها : صحیحة اُخری لأبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ رجلاً من تمیم أتی

ص:191


1- (1) تفسیر القمی 2 / 321 ونقل عنه فی البرهان 5 / 109 ح 1 .
2- (2) سورة النساء / 148 .
3- (3) مجمع البیان 3 / 201 ونقل عنه فی البرهان 2 / 195 ح 5 .
4- (4) إرشاد الطالب 1 / 160 .
5- (5) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 3 . الباب 158 من أبواب أحکام العشرة .
6- (6) وسائل الشیعة 12 / 298 ح 4 .

النبی صلی الله علیه و آله وسلم فقال : أوصنی ، فکان فیما اُوصاه أن قال : لا تسبّوا الناس فتکسبوا العداوة لهم(1) .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبی الحسن موسی علیه السلام فی رجلین یتسابّان ، قال : البادی ء منهما أظلم ، ووزره ووزر صاحبه علیه مالم یعتذر إلی المظلوم(2) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن یونس عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی کلام له فی صفات المؤمن : ... لا وثّاب ولا سبّاب ولا عیّاب ولا مغتاب ، الحدیث(3) .

ومنها : مرسلة أبی علی محمد بن همام رفعه عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لا یکمل المؤمن إیمانه حتّی یحتوی علی مائة وثلاث خصال _ إلی أن قال : _ لا لعّان ولا نمّام ولا کذّاب ولا مغتاب ولا سبّاب ، الحدیث(4) .

ومنها : مرسلة العیاشی رفعه عن جابر عن أبی جعفر علیه السلام فی قوله تعالی : «وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنا»(5) . قال : قولوا للناس أحسن ما تحبّون أنّ یقال لکم ، فإنّ اللّه یُبْغَض اللّعان السبّاب الطعّان علی المؤمنین ، المُتَفَحِّش السائل المُلْحِف ، ویُحبُّ الَحیِیَّ الحلیم العَفیف المتعفّف(6) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری رفعه عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : من سبّ مؤمناً أو مؤمنة بما لیس فیهما بعثه اللّه فی طینة الخبال حتّی یأتی بالمخرج ممّا قال(7) .

ومنها : مرسلة أبی القاسم الکوفی رفعه قال : کان رجل عند رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم من أهل یمن وأراد الإنصراف إلی أهله ، فقال : یا رسول اللّه أوصنی ، فقال : أوصیک أن لا تشرک

ص:192


1- (7) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 2 .
2- (1) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 1 .
3- (2) الکافی 2 / 179 ح 1 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 138 ح 7 .
4- (3) التمحیص / 74 ح 171 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 138 ح 8 .
5- (4) سورة البقرة / 83 .
6- (5) تفسیر العیاشی 1 / 139 ح 66 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 26 ح 13 .
7- (6) دعائم الاسلام 2 / 458 ح 1612 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 136 ح 2 .

باللّه شیئاً ، ولا تعص والدیک ، ولا تسبّ الناس ، الحدیث(1) .

ومنها : مرسلة أبی الفتوح الرازی رفعه عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : المتسابّان ما قالا فعلی البادی ء ، ما لم یعتد المظلوم(2) .

وهذه الروایات تدلّ بوضوح علی حرمة السبّ .

المقام الثالث : هل تختص الحرمة بالمؤمن أو یعمّ جمیع الناس ؟

هل تختص حرمة السبّ بالمؤمن وبالمعنی الأخص - أعنی الشیعی الإمامی الإثنی عشری - أو تعمّ المسلم ولو کان مخالفاً ، أو أنّ الحکم یشمل جمیع مَنْ تبع مِنْ الأدیان الأبراهیمیة ، أو أنّ الحکم عام یشمل جمیع الناس مع اختلاف أدیانهم واعتقاداتهم وفرقهم إلاّ من استثنی فیما بعد ؟

ظاهر الأصحاب اختصاص الحکم بالمؤمن ، لأنّهم قیّدوا العنوان به ، ویؤیدهم بعض الروایات الماضیة ، نحو : موثقة أو صحیحة أبی بصیر ومعتبرة السکونی . ولا یمکن تقییدها بهذه الأربعة ، لأنّ کلّهنَّ من المثبتات لا النفی والإثبات ، ولذا علی قواعد الاستنباط صارت الحرمة فی المؤمن آکد .

وذهب بعض(3) إلی اختصاص الحکم بالمسلمین ، للإطلاقات الواردة فی الروایات ، والتعدی صحیح ، لأنّ الإطلاقات تشمل جمیع المسلمین ولکن لا تختص بهم بل تسری إلی جمیع الناس مع اختلاف أدیانهم واعتقاداتهم ، بل تسری إلی المشرکین ومَنْ لیس له دینٌ ، مع الاعتراف بأنّ الناس فی روایاتنا غالباً یُطلق علی العامة ومخالفینا من المسلمین . ولکن توجد هنا قرینة بل قرائن وشاهد بل شواهد علی سریان الحکم بالنسبة إلی جمیع الناس بالمعنی اللغوی ، حتّی المشرکین منهم :

القرینة الأولی : قوله تعالی : «وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَیَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَیْرِ عِلْمٍ کَذَلِکَ زَیَّنَّا لِکُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَی رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَیُنَبِّئُهُم بِمَا کَانُواْ

ص:193


1- (7) کتاب الأخلاق (مخطوط) ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 139 ح 9 .
2- (8) تفسیر أبی الفتوح الرازی 1 / 245 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 138 ح 4 .
3- (1) نحو الفقیه السید عبد الأعلی السبزواری قدس سره فی مهذب الأحکام 16 / 97 .

یَعْمَلُونَ»(1) .

بتقریب : أنّ اللّه تعالی نهی عن سبّ آلهة المشرکین لئلا یسبوا اللّه تقاصاً ، کما ورد ذلک فی معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّه سُئل عن قول النبی صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ الشرک أخفی من دبیب النمل علی صفاة سوداء فی لیلة ظلماء ؟ فقال : کان المؤمنون یسبّون ما یعبد المشرکون من دون اللّه ، وکان المشرکون یسبّون ما یعبد المؤمنون ، فنهی اللّه عن سبّ آلهتهم لکیلا یسبّ الکفار إله المؤمنین ، فیکون المؤمنون قد أشرکوا باللّه من حیث لا یعلمون ، فقال : «وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَیَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَیْرِ عِلْمٍ»(2) .

فلما لا یجوز سبّ آلهة المشرکین لئلا یسبوا اللّه ، لا یجوز سبّ المشرکین لئلا یسبّوا

المؤمنین .

القرینة الثانیة : الإطلاقات الواردة فی غیر هذه الأربع من الروایات تدلّ علی حرمة السبّ ، وحیث أنّ الأربع لا یصح أن تکون مقیِّدة فلابدّ من الأخذ بالإطلاق .

القرینة الثالثة : التعلیل الوارد فی صحیحة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ رجلاً من تمیم أتی النبی صلی الله علیه و آله وسلم فقال : أوصنی ، فکان فیما أوصاه أن قال : لا تسبّوا الناس فتکسبوا العداوة لهم(3) .

السب یوجب العداوة والعداوة مع الناس حرام ، فصار السب أیضاً من المحرّمات .

القرینة الرابعة : أن جماعة من أصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام کانوا یسبّون أهل الشام فی حرب صفین وهم : حُجر بن عُدَی وعمرو بن الحُمْق وأمثالهم ثمّ نهاهم الأمیر علیه السلام من السبّ بما سأذکره ثمّ قالا : یا أمیر المؤمنین نقبل عظتک ونتأدب بأدبک(4) .

أمیر المؤمنین علیه السلام حین سمع قوماً من أصحابه یسبّون أهل الشام أیام حربهم بصفین ، قال لهم : إنّی أکره لکم أن تکونوا سبّابین و لکنکم لو وصفتم أعمالهم وذکرتم حالهم کان

ص:194


1- (2) سورة الأنعام / 108 .
2- (3) تفسیر القمی 1 / 213 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 26 ح 15 .
3- (1) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 2 .
4- (2) کما فی وقعة صفین / 102 لنصر بن مزاحم ونقلت عنه فی الموسوعة 5 / 27 ح 17 .

أصوب فی القول وأبلغ فی العذر وقلتم مکان سبّکم إیّاهم : اللهم احقن دماءَنا ودماءَهم وأصلح ذات بیننا وبینهم واهدهم من ضلالتهم حتّی یعرف الحقّ مَنْ جهله ویرعوی عن الغی والعدوان من لهج به(1) .

وورد فی الصحیح أنّ أمیر المؤمنین لا یکره الحلال ، فحیث کره السبّ ونهی عنه فیکون حراماً ، وقبل منه علیه السلام أصحابه نهیه وتأدبوا بأدبه علیه السلام .

إن قلت : إنّه علیه السلام نهی عن سبّ أهل الشام وهم مسلمون ، فلا یدلّ هذا الاستدلال أزید من حرمة سبّ المسلم .

قلت : من خرج علی أمیر المؤمنین علیه السلام ووأولاده الأئمة المعصومین علیهم السلام لا یکون مسلماً عندنا ، بل صار بخروجه کافراً ، کما اعترف بذلک شیخنا الصدوق فی اعتقاداته(2) ولم یعترض علیه شیخنا المفید فی تصحیح الإعتقاد ، بل قال فی أوائل المقالات : « القول فی محاربی أمیر المؤمنین علیه السلام : واتفقت الإمامیة والزیدیة والخوارج علی أنّ الناکثین والقاسطین من أهل

البصرة والشام أجمعین کفار ضلاّل ملعونون بحربهم أمیر المؤمنین علیه السلام وأنّهم بذلک فی النار مخلدون(3) ... واتفقت الإمامیة والزیدیة وجماعة من أصحاب الحدیث علی أنّ الخوارج علی أمیر المؤمنین علیه السلام المارقین عن الدِّین کفار بخروجهم علیه وأنّهم فی النار بذلک مخلدون ... »(4) .

وقال علم الهدی الشریف المرتضی فی المسألة ثالثة والعشرین من « جوابات المسائل المیافارقیات» حیث سُئل عنه : « صاحب جیش البصرة والإعتقاد فیه وفی غیره ، وکیف کانوا علی عهد رسول صلی الله علیه و آله وسلم ؟ » .

فأجاب قدس سره : « قتال أمیر المؤمنین علیه السلام بغی وکفار جار مجری قتال النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، لقوله صلی الله علیه و آله وسلم : « حربک یا علی حربی وسلمک سلمی » ، وإنّما یرید أنّ أحکام حروبنا واحدة ، فمن حاربه علیه السلام ومات من غیر توبة قطعنا علی أنّه ما کان فی وقتٍ من الأوقات مؤمناً وإن

ص:195


1- (3) نهج البلاغة : الخطبة 206 ونقلت عنه فی الموسوعة 5 / 27 ح 17 .
2- (4) الاعتقادات للشیخ الصدوق / 105 المطبوعة مع تصحیح الاعتقاد للشیخ المفید .
3- (1) أوائل المقالات / 49 طبع چرندابی .
4- (2) أوائل المقالات / 50 .

أظهر الإیمان ، لأن من کان مؤمناً علی الحقیقة فی الباطن لا یجوز أن یکون علی ما کان القوم علیه ، لأدلةٍ لیس هنا موضع ذکرها »(1) .

وقال شیخ الطائفة الطوسی : « ظاهر مذهب الإمامیة أنّ الخارج علی أمیر المؤمنین علیه السلام والمقاتل له کافر ، بدلیل إجماع الفرقة المحقّة علی ذلک ... »(2) .

وقال فی تفسیره : « وأمّا مذهبنا فی تکفیر مَنْ قاتل علیّاً علیه السلام معروف»(3) .

وقال ابن زهرة الحلبی : « إعلم أنّ محاربی أمیر المؤمنین علیه السلام عندنا بمنزلة محاربی النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی عظم المعصیة ، ویدلّ علی ذلک اُمور : منها إجماع الإمامیة علیه وإجماعهم حجة ... »(4) .

فهذه الواقعة التاریخیة والنهی الصادر فیه عن أمیر المؤمنین علیه السلام تدلّ بأحسن وجه علی حرمة سبّ الناس حتّی المشرکین والکافرین منهم .

القرینة الخامسة : ما ورد فی رسالة أبی عبد اللّه علیه السلام إلی جماعة الشیعة ، وفیها : « ... وإیّاکم وسبّ أعداء اللّه حیث یسمعونکم «فَیَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَیْرِ عِلْمٍ» ، وقد ینبغی لکم أن تعلموا حدّ سبّهم للّه کیف هو ؟ إنّه من سبّ أولیاء اللّه فقد انتهک سبّ اللّه ، ومن أظلم عند اللّه

ممّن استسبَّ للّه ولأولیاء اللّه ، فمهلاً مهلاً ، فاتّبعوا أمر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه»(5) .

دلالة مافی هذه الرسالة علی حرمة سبّ الناس بالمعنی الأعم حتّی أعداء اللّه - أعنی الکافرین - واضحة ، ولکن العمدة فی ضعف سندیها . اللهم إلاّ أن یقال : إنّ المناقشة فی أسانید الکافی الشریف جهد العاجز ، کما نقل عن المحقق النائینی قدس سره . وفیه ما لا یخفی .

القرینة السادسة : من المحتمل أن تکون حرمة السب لیست من جهة احترام المؤمنین أو المسلمین علی القول به ، بل من جهة حفظ اللسان عن هذه الألفاظ القبیحة ، إذ

ص:196


1- (3) جوابات المسائل المیافارقیات ، المطبوعة ضمن رسائل الشریف المرتضی 1 / 283 .
2- (4) الاقتصاد / 226 .
3- (5) التبیان 9 / 326 .
4- (6) غنیة النزوع إلی علمی الأصول والفروع 2 / 222 .
5- (1) الکافی 8 / 7 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 24 ح 5 .

ینحط قدر القائل بهذه الألفاظ عن أعین الناس ، والمؤمن لایجوز له أن یذلَّ نفسه ، فیشکل التکلم بهذه الألفاظ مطلقاً حتّی بالنسبة إلی الکفار .

ویذکر المحقق الأردکانی قدس سره شبیه هذا الإستدلال بالنسبة إلی حرمة الغیبة(1) وإن کان فیما ذکره نظرٌ بیّنٌ وحرمة الغیبة تختص بالمؤمن فقط ولکن کلامه قدس سره هناک یمکن أن یجری هنا . والتفصیل یطلب من بحث الغیبة ، فانتظر .

وبالجملة ، مع هذه القرائن الست لا ینبغی الإرتیاب فی تعمیم الحکم بالنسبة إلی جمیع الناس حتّی المشرکین والکافرین ، وأنّه لا یختص بالمؤمن . هذا کلّه بالنظر إلی الأدلة ، لکن مع ذلک الإفتاء بالتعمیم مشکلٌ ، لعدم وجدان القول به عند أصحابنا قدس سرهم ، ولعلّ القول به خرق للإجماع المرکب ، ولکن لو وُجد القائل به فإنّا نتبع إثره وصرنا ثانیه . والإحتیاط لا یترک بالنسبة إلی طرفی القضیة السبّ والإفتاء ، واللّه سبحانه هو العالم بأحکامه .

وعلی ما حررناه لا ینقضی تعجبی من الشیخ الأکبر الفقیه الشیخ جعفر قدس سره حیث یقول : « وسبّ غیر أهل الإیمان من المسلمین والمشرکین من أفضل الطاعات الموصلة إلی رضی ربّ العالمین»(2) .

وأعجب منه قول تلمیذه الفقیه العاملی حیث یقول : « وسب غیر أهل الإیمان من شرائط الإیمان»(3) .

اللهم إلاّ أن یقال : بأنّ مرادهما - کما هو الظاهر - سبّ الظالمین لآل محمد علیهم السلام وغاصبی حقوقهم واللآبسی رداء الخلافة بغیر حقٍّ ، فحینئذ یتجه کلامهما ، رفع فی الخلد

مقامهما .

المقام الرابع : المستثنیات من حرمة السب

1 _ المتظاهر بالفسق :

یجوز سبّه بالفسق والمعصیة التی تجاهر فیها لزوال حرمته بالتظاهر بها ، وتدلّ علیه

ص:197


1- (2) غنیة الطالب 1 / 148 .
2- (3) شرح القواعد 1 / 235 .
3- (4) مفتاح الکرامة 12 / 222 .

حسنة هارون بن الجهم عن الصادق علیه السلام قال : إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غیبة(1) .

وکما یأتی تفصیله فی البحث عن مستثنیات الغیبة . وأمّا المعاصی التی لم یتجاهر فیها فلا یجوز سبه بها ، لأنّ حرمته فیها باقیة .

2 _ المُبْدِع :

یجوز سبّه بل ورد الحث علیه فی صحیحة داود بن سرحان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إذا رأیتم أهل الریب والبدع من بعدی فأظهروا البراءة منهم وأکثروا من سبّهم والقول فیهم والوقیعة ، وباهتوهم کیلا یطمعوا فی الفساد فی الإسلام ویحذرهم الناس ولا یتعلّمون من بدعهم ، یکتب اللّه لکم بذلک الحسنات ویرفع لکم به الدرجات فی الآخرة(2) .

فلا حرمة فی سبّ المبدع .

3 _ قد یقال بالاستثناء من الحرمة فی ما لم یتأثر المسبوب عرفاً

یعنی : إذا لم یتأثر المسبوب من السبّ ، لم یدخل فی الإیذاء والظلم ، فلا یحکم بحرمته .

وفیه : إن الإطلاقات الواردة فی الأدلة - نحو موثقتی أبی بصیر الماضیتین(3) تدلان علی حرمة السبّ ، بلا فرق بین تأثر المسبوب وعدمه ، وبلا فرق بین حضوره وعدمه ، وبلا فرق بین اللغات حتّی لو سَبّ بلغة لا یفهمها المسبوب حرم ، وبلا فرق بین أن یکون السب جدّاً أو مزاحاً أو لهواً أو لعباً ، وبلا فرق بین أن یکون المسبوب بالغاً . أو غیر بالغ . والإطلاق یشمل جمیع ذلک .

4 _ المولی وعبده :

قد یقال : بإستثناء حرمة سبّ السید عبده ، واستدلوا علی ذلک بأنّ للسید ضرب

عبده للتأدیب ، وفحواه جواز سبّه تأدیباً .

ص:198


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 289 ح 4 . الباب 154 من أبواب أحکام العشرة .
2- (2) وسائل الشیعة 16 / 267 ح 1 . الباب 39 من أبواب الأمر والنهی .
3- (3) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 2 و 3 .

وفیه : أنه یمکن منع الفحوی ، بأنّ السبّ بنفسه من العناوین المحرَّمة والإیذاء أمرٌ آخر قد یجتمع معه ، فإذا جاز للسید ضرب عبده وإیذاؤه تأدیباً ، هذه الإجازة لا تدلّ علی جواز سبّه الذی هو من المحرّمات المستقلة .

مضافاً إلی أنّ الإیذاء باللسان أشدّ من الإیذاء بالضرب حتّی عند العرف ، فلا مجال للقول بالفحوی . وقد نبّه علی منع دلیل الفحوی هنا المحقق الإیروانی قدس سره (1) وتبعه المحقق الأردکانی قدس سره (2) .

ویؤید(3) منع الفحوی خبر عمرو بن نعمان الجعفی قال : کان لأبی عبد اللّه علیه السلام صدیق لا یکاد یفارقه إذا ذهب مکاناً فبینما هو یمشی معه فی الحَذائین ومعه غلامٌ سندی یمشی خلفهما إذ التفت الرجل یرید غلامه ثلاث مرات فلم یره فلما نظر فی الرابعة قال : یا ابن الفاعلة أین کنتَ ؟ قال : فرفع أبو عبد اللّه علیه السلام یده فصک بها جبهة نفسه ، ثمّ قال : سبحان اللّه تقذف اُمّه ، قد کنتُ أری أنّ لک ورعاً فإذاً لیس لک ورعٌ ، فقال : جعلتُ فداکَ إنّ اُمَّهَ سندیةٌ مشرکةٌ ، فقال : أما علمتَ أنّ لکلَّ اُمّةٍ نکاحاً ، تنحّ عنّی . قال : فما رأیته یمشی معه حتّی فرّق الموت بینهما .

وفی روایة اُخری : إنّ لکلِّ اُمّةٍ نکاحاً تحتجزون به مِن الزنا(4) .

5 _ المعلّم والم_تعلّم :

قد یقال باستثناء الحکم بالنسبة إلی المعلّم إذا سبّ متعلِّمه تأدیباً بْدلیل أنّ له ضرب متعلّمه إذا کان مؤذناً فی الضرب عن ولیّه تأدیباً ، فإذا جاز له الضرب فبطریق أولی والفحوی یجوز له السبّ ، والسیرة جاریة علی ذلک عند المعلّمین .

وفیه : أولاً : قد مرّ منّا منع الفحوی والأولویة آنفاً .

وثانیاً : علی فرض وجود السیرة فی زماننا هذا ، لا طریق لنا إلی اتصاله بزمن

ص:199


1- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 168 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 133 .
3- (3) قلتُ « یؤید » لأنّ فی سندها ضعف ودلالتها أیضاً أخص من المدعی ، المدعی هو حرمة السب و الروایة تدل علی حرمة القذف ، والنسبة بینهما عموم وخصوص مطلق .
4- (4) الکافی 2 / 324 ح 5 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 326 ح 14 .

المعصومین علیهم السلام ، فلا تفید شیئاً .

6 _ الزوج والزوجة :

یمکن أن یقال : بجواز سبّ الزوج زوجته ، لأنّ له ضربها تأدیباً فی موارد خاصة ، فحینئذ یجوز سبّه بطریق أولی ، وبدلیل الفحوی والسیرة جاریة علی ذلک .

وفیه : ما مرّ آنفاً فی الاستثناء السابق ، فلا یتمّ هذا الاستدلال .

7 _ الوالد وولده :

واستدلوا علی جواز سبّ الوالد لولده بوجوه :

منها : عدم تحقق الهوان فی سبّ الوالد ، وحیث أنّ الحرمة تدور معه فلا حرمة .

ومنها : عدم تأثر الولد لسبّه بتوسط والده ، وحیث صار فخراً فلا حرمة .

ومنها : ورد فی الروایات بالنسبة إلی الولد کما فی صحاح محمد بن مسلم وأبی حمزة الثمالی والحسین بن أبی العلاء : « أنت ومالک لأبیک»(1) . وإذا تمّ هذا البیان بأنّ الولد وماله لأبیه فیجوز سبّه أیضاً بطریق اُولی ، کما یجوز سبّ السید عبده لأنّه ملکه .

ومنها : السیرة الجاریة بین المتشرعة من سب أولادهم .

وفیه : أولاً : منع الصغری فی الثلاث الأُول ، أعنی تحقق الهوان وتأثر الولد وعدم الإفتخار بسبب الوالد ولده .

وثانیاً : الحرمة کما مرّ منّا مطلقة فی السبِّ بالنسبة إلی تحقق الهوان وعدمه تأثر المسبوب وعدمه ، عدم الإفتخار بالسب والإفتخار به ، لإطلاق أدلتها .

وثالثاً : جملة « أنت ومالک لأبیک » الواردة فی الروایات ناظرة إلی أمر أخلاقی وتکوینی وتذکّر الولد بأنّه لا یناسبه أن یعارض أباه فی اُموره ، ولا تدلّ علی الملکیة الحقیقیة أو التنزیلیة أو ثبوت الولایة المطلقة . وعلی فرض ثبوتها أیضاً لا تدلّ علی جواز سبّه ، لما مرّ منّا مِنْ عدم جواز سبّ السید عبده .

ص:200


1- (1) راجع وسائل الشیعة 17 / 262 الباب 78 من أبواب ما یکتسب به ح 1 و 2 و 8 ونحوها فی خبر محمد بن سنان ح 9 فی الباب المذکور ، وخبر عبید بن زرارة الباب 11 من أبواب عقد النکاح وأولیاء العقد ح 5 فراجع وسائل الشیعة 20 / 290 .

ورابعاً : السیرة وإن کانت عند بعض المتشرعة موجودة ولکن دون إثباتها عند الجمیع مع الإلتفات والإتصال الی زمن المعصومین علیهم السلام خرط قتاد .

وخامساً : الإطلاقات الواردة فی الأدلة تشمل الوالد ، فلا یجوز له سبّ اُولاده .

نعم ، للوالد جواز تأدیب الولد الصغیر بالضرب ، ولکن التعدی من الضرب إلی

السبّ(1) - بأنّ فی السب أیضاً نوعاً من التأدیب - ومن الولد الصغیر إلی الکبیر بجریان الاستصحاب فی الأخیر مشکلٌ . مضافاً إلی انحصار الدلیل حینئذٍ فی فرض التأدیب فقط .

8 _ التظلم

یجوز للمظلوم سبّ الظالم فی مقام التظلم والوصول الی حقِّه ، وتدلّ علیه قوله تعالی فی الآیة الکریمة : «لاَّ یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ»(2) ، لأنّ السبّ یدخل فی القول بالسوء وجوّزه الآیة الشریفة جهراً . وقد مرّ منّا الکلام فیها فی الاستدلال علی حرمة السبّ بکتاب اللّه تعالی .

ولذا قال جدنا الشیخ جعفر : « ویقوی جوازه (أی جواز السب) فی خصوص الظالمین»(3) .

9 _ یجوز السبّ لدفع المنکر والحفظ عن الضرر :

إذا کان المنکر أعظم فساداً وحرمةً من السبِّ ، والضرر یکون فاحشاً وقابلاً للملاحظة بحیث لا یتحمّله عادةً ونوعاً یجوز السبّ بقاعدة التزاحم وخوف الوقوع فی الفتنة وأدلة نفی الضرر والحرج . أفتی بذلک الشیخ جعفر قدس سره فی شرحه علی القواعد(4) .

10 _ التقیة :

یجوز السبّ للتقیة لعموم أدلتها کما فی صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : التقیّة فی

ص:201


1- (1) کما مال إلیه المحقق الإیروانی قدس سره فی حاشیته علی المکاسب 1 / 168 وشیخنا الاُستاذ _ مدظله _ فی إرشاد الطالب 1 / 162 .
2- (2) سورة النساء / 148 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 235 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 235 .

کلِّ ضرورة ، وصاحبها أعلم بها حین تنزل به(1) .

وصحیحة الفضلاء قالوا : سمعنا أبا جعفر علیه السلام یقول : التقیة فی کلّ شیءٍ یضطر إلیه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له(2) .

والحاصل ، أدلة التقیة وعموماتها حاکمة علی أدلة حرمة السبّ ، فلا حرمة للسب عند التقیة کما قال الشیخ جعفر قدس سره : « ویغتفر للتقیّة»(3) .

نعم ، أربع موارد یُستثنی من عمومات التقیة فلا تقیة فیها ، نحو : الدماء ، والمسح علی الخفین ، وشرب النبیذ والمسکر ، والتبری من مولانا وسیدنا وإمامنا أمیر المؤمنین علیه السلام . والبحث موکول إلی محلِّه ، فراجع إن شئت إلی ما حررناه فی رسالتنا فی بحث التقیة . واللّه سبحانه هو العالم بأحکامه الطاهرة والحمد للّه أولاً وآخراً .

ص:202


1- (5) وسائل الشیعة 16 / 214 ح 1 . الباب 25 من أبواب الأمر والنهی .
2- (6) وسائل الشیعة 16 / 214 ح 2 . الباب 25 من أبواب الأمر والنهی .
3- (7) شرح القواعد 1 / 235 .

السحر

اشارة

ینبغی البحث عن السحر فی ضمن مقامات :

المقام الأوّل : موضوعه

لابدّ لتعیین موضوع السحر إلی مراجعة کلمات أهل اللغة والفقهاء ، فلذا نقول :

قال أحمد بن فارس : « سحر ، السین والحاء والراء اُصول ثلاثة متباینة : أحدها عضوٌ من الأعضاء ، والآخر خَدْعٌ وشبهه ، والثالث وقت من الاُوقات ... .

وأمّا الثانی فالسِّحْر ، قال قومٌ : هو إخراج الباطل فی صورة الحقّ ، ویقال : هو الخدیعة ، واحتجّوا بقول القائل :

فإن تسألینا فیم نحن فإنّنا عصافیرُ من الأنام المسحَّرِ

کأنّه أراد المخدوع الذی خدعَتْه الدنیا وغرَّتْه ، ویقال المُسَحَّر الذی جُعِل له سَحْرٌ ، ومن کان ذا سَحْر(1) لم یجد بُداً من مطعم ومشرب ... »(2) .

وقال الزمخشری : « س ح ر _ کلُّ ذی سَُحْر أو سَحَرٍ یتنفَّس ، وهو الرئة .

ومن المجاز : سَحَرَه وهو مسحور وإنّه لمسحَّرٌ : سُحر مرّة بعد اُخری حتّی تخبَّل عقلُه ، «إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِینَ» ، وأصله من سَحَرَه إذا أصاب سَحْرَه ... وجاء فلانٌ بالسِّحْر فی کلامه ، وفی الحدیث : إنّ من البیان لسحراً ، والمرأة تَسْحَرُ الناس بعینها ، ولها عین ساحرة ولهنَّ عیون سواحرٌ . ولعب الصبیان بالسَّحّارةِ ، وهی لُعْبَة فیها خَیط یخرج من جانب علی لون ومن جانب علی لون ، وأرض ساحرة السراب ... وعَنْز مسحورة قلیلة اللبن ، وأرض مسحورة :

ص:203


1- (1) سَحْرٌ : أی أجوفٌ .
2- (2) معجم مقاییس اللغة 3 / 138 .

لا تُنبت ، سحَرتُه عن کذا : صرفَته»(1) .

وقال ابن منظور : « سحر : الأزهری : السِّحْرُ عَمَلٌ تُقُرِّبَ فیه إلی الشیطان وبمعونة منه ، کلّ ذلک الأمر کینونة للسحر ، ومن السحر الاُخذة التی تأخذُ العین حتّی یُظَنَّ أنّ الأمر کما

یُری ولیس الأصل علی ما یُری ، والسِّحْرُ : الاُخْذَةُ ، وکلّ ما لَطُفَ مأخَذُه ودَقَّ فهو سحرٌ ... قال : الأزهری : وأصل السِّحرِ صَرْفُ الشیء عن حقیقته إلی غیره ، فکأنّ الساحر لما أرَی الباطل فی صورة الحقّ وخَیَّلَ الشیء علی غیر حقیقته ، قد سحر الشیء عن وجهه أی صرفه ... وقال یونس : تقول العرب للرجل ما سَحَرک عن وجه کذا وکذا أی ما صرفک عنه ؟ وما سَحَرَک عنّا سَحْراً أی ما صرفک ... ؟ »(2) .

وقال الفیروزآبادی : « والسِّحر بالکسر : کلّ ما لطف مأخذه ودقَّ ، والفعلُ کمَنَعَ ... »(3) .

قال الطریحی : « سمی السِّحر سحراً لأنّه صرف عن جهة ، وقیل : من السحر أی سحرت فخولط عقلک ومدّ ... والسِّحر بالکسر فالسکون : کلام أو رقیّة أو عمل یؤثر فی بدن الإنسان أو قلبه أو عقله ، وقیل : لا حقیقة له ولکنّه تخیّل . وقد اختلف العلماء فی القدر الذی یقع به السحر ، فقال بعضهم : لا یزید تأثیره علی قدر التفرق بین المرء وزوجه لأنّ اللّه تعالی ذکر ذلک تعظیماً لما یکون عنده وتهویلاً له فی حقِّنا ، فلو وقع به أعظم منه لذکره ، لأنّ المَثَل لا یُضرب عند المبالغة إلاّ بأعلی الأحوال ، والأشعریّة علی ما نُقل عنهم أجازوا ذلک ، وفی الحدیث : حلّ ولا تعقد ، وفیه دلالة علی أنّ له حقیقة ، ولعلّه أصح و ... »(4) .

قال فی المنجد : « السِّحر : مصدر ، ما لطف مأخذه ودقّ . إخراج الباطل فی صورة الحقّ . ما یفعله الإنسان من الحیل ، ومنه « إنّ من البیان لسحراً» . الفساد .

ما یستعان فی تحصیله بالتقریب من الشیطان ممّا لا یستقل به الإنسان ، جمعه أسحار

ص:204


1- (3) أساس البلاغة / 204 .
2- (1) لسان العرب 6 / 189 .
3- (2) القاموس فی اللغة / الطبع الحجری من دون الرقم .
4- (3) مجمع البحرین / 265 الطبع الحجری .

وسُحُور . السِحْرُ الکلامی : غرابة الکلام ولطافته المؤثرة فی القلوب المحوِّلة إیّاها من حالٍ إلی حالٍ کالسِحر»(1) .

أقول : کأنّ صاحب المنجد قد جمع فیه بین أقوال اللغویین .

وقال الشریف المرتضی : « السحر : تخییل ما لیس له حقیقة کالحقیقة یتعذر علی مَنْ لا یعلم وجه الجملة فیه»(2) .

وقال الشیخ الطوسی فی تفسیره : « السحر والکهانة والحیلة نظائرٌ ، یقال : سحره یسحره سحراً ، أسحرنا أسحاراً ، وسحّره تسحیراً . قال صاحب العین : السحر عمل یقرّب إلی الشیطان . کلّ ذلک یکتبونه السحر . ومن السحر : الاُخْذَةُ التی تأخذ العین حتّی یظن أنّ الأمر کماتری ولیس الأمر کماتری ، والجمع : الاُخَذ .

والسحر البیان من اللفظ کما قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم « إنّ من البیان لسحراً »... وأصل الباب الخفاء ، والسحر قیل : الخفاء سببه توهم قلب الشیء عن حقیقته ، کفعل السحرة فی وقت موسی لمّا أوهموا أنّ العصا والحبال صارت حیواناً ، فقال : «یُخَیَّلُ إِلَیْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَی»(3)(4) .

ثم قال بعد صفحة : « وقیل فی معنی السحر أربعة أقوال :

أحدها : أنّه خُدَع ومخاریق وتمویهات لا حقیقة لها ، یخیل إلی المسحور أنّ لها حقیقة .

والثانی : أنّه أخذ بالعین علی وجه الحیلة .

و الثالث : أنّه قلب الحیوان من صورة إلی صورة ، وإنشاء الأجسام علی وجه الاختراع ، فیمکن للساحر أن یقلّب الإنسان حماراً وینشیء أجساماً .

والرابع : أنّه ضرب من خدمة الجن ، کالذی یمسک له التجدل فیصرع .

وأقرب الأقوال الأوّل : لأنّ کلّ شیءٍ خرج عن العادة الخارقة فإنّه لا یجوز أن یتأتی

ص:205


1- (4) المنجد / 331 .
2- (5) رسالة الحدود والحقائق المطبوعة ضمن رسائل الشریف المرتضی 3 / 272 .
3- (1) سورة طه / 66 .
4- (2) التبیان 1 / 372 و 373 .

من الساحر . ومن جوّز للساحر شیئاً من هذا فقد کفر ، لأنّه لا یمکنه مع ذلک العلم بصحة المعجزات الدالة علی النبوات ، لأنّه أجاز مثله من جهة الحیلة والسحر»(1) .

وذکر نظیر البیان الأوّل الطبرسی فی مجمع البیان 1 / 170 .

ویأتی کلام الشیخ فی المبسوط والخلاف آنفاً .

قال الفخر الرازی فی تفسیره فی معنی السحر : « ذکر أهل اللغة أنّه فی الأصل عبارة عمّا لطف وخفی سببه ... ثمّ قال بعد أسطر : إعلم أنّ لفظ السحر فی عرف الشرع مختص بکلِّ أمر یخفی سببه ویتخیّل علی غیر حقیقته ویجری مجری التمویه والخداع ، ومتی أطلق ولم یقید أفاد ذم فاعله ، قال تعالی : «سَحَرُواْ أَعْیُنَ النَّاسِ» ، یعنی موّهوا علیهم حتّی ظنوا أنّ حبالهم وعصیهم تسعی ، وقال تعالی «یُخَیَّلُ إِلَیْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَی» ، وقد یُستعمل مقیداً

فیما یمدح ویحمد ... فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : « إنّ من البیان لسحراً » ، فسمی النبی صلی الله علیه و آله وسلم بعض البیان سحراً لأنّ صاحبه یوضح الشیء المشکل ویکشف عن حقیقته بحسن بیانه وبلیغ عبارته.... »(2) .

ثمّ تعرض بعد أسطر لأقسام السحر فی ستة عشر صفحة من تفسیره(3) ونقل عنه العلامة المجلسی فی بحار الأنوار(4) وذکره مختصراً فی الجواهر(5) . وزعم الشیخ الأعظم قدس سره (6) أنّ هذا التقسیم من المجلسی حیث نسبه إلیه وبیّن حکمها ، وتبعه المحقق الخوئی فی مصباح الفقاهة(7) . وحیث أنّ التقسیم من الفخر الرازی ولیس بتام عندنا لم نتعرض إلیه وإلی حکمه کما ردّه المجلسی قدس سره بلا فصل بعد ختام نقله منه وقال : « وإنّما أوردت أکثر کلامهم فی هذا المقام

ص:206


1- (3) التبیان 1 / 374 .
2- (1) التفسیر الکبیر 3 / 205 .
3- (2) التفسیر الکبیر 3 / (222 _ 206) .
4- (3) بحار الأنوار 56 / (310 _ 277) _ (22 / 674 _ 654) _ کلاهما من طبع بیروت .
5- (4) الجواهر 22 / (84 _ 81) .
6- (5) المکاسب المحرمة / 33 الطبع الحجری _ (1 / 262 و 263) .
7- (6) مصباح الفقاهة 1 / (292 _ 288) .

مع طوله واشتماله علی الزوائد الکثیرة لمناسبته لما سیأتی فی بعض الأبواب الآتیة ، ولتطّلع علی مذاهبهم الواهیة فی تلک الأبواب»(1) .

قال الشیخ الطوسی فی المبسوط : « السحر له حقیقة عند قوم ، وهو أنّ الساحر یعقد ویرقی ویسحر فیقتل ویمرض ویکوع الأیدی ویفرِّق بین الرجل وزوجته ، ویتّفق له أن یسحر بالعراق رجلاً بخراسان فیقتله . وقال قوم : لا حقیقة له ، وإنّما هو تخیّل وشعبذة ، وهو الذی یقوی فی نفسی ، وفی روایاتنا أنّ السحر له حقیقة لکن ما ذکروا تفصیله کما ذکره الفقهاء . ولا خلاف بینهم أنّ تعلیمه وتعلّمه وفعله محرّم ، لقوله تعالی : «وَلَکِنَّ الشَّیْاطِینَ کَفَرُواْ یُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» فذمَّ علی تعلیم السحر ... »(2) .

وقال فی الخلاف : « السحر له حقیقة ، ویصح منه أن یعقد ویرقی ویسحر فیقتل ویمرض ویکوع الأیدی ویفرّق بین الرجل وزوجته ، ویتفق له أن یسحر بالعراق رجلاً بخراسان فیقتله عند أکثر أهل العلم أبی حنیفة وأصحابه ومالک والشافعی . وقال أبو جعفر الأسترآبادی من أصحاب الشافعی : لا حقیقة له ، وإنّما هو تخییل وشعبذة ، وبه قال المغربی

من أهل الظاهر ، وهو الذی یقوی فی نفسی ، ویدلّ علی ذلک قوله تعالی مخبراً فی قصة فرعون والسحرة : «فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِیُّهُمْ یُخَیَّلُ إِلَیْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَی * فَأَوْجَسَ فِی نَفْسِهِ خِیفَةً مُّوسَی»(3) وذلک أنّ القوم جعلوا من الحبال کهیئة الحیات ، وطلوا علیها الزیبق وأخذ الموعد علی وقت تطلع فیه الشمس ، حتّی إذا وقعت علی الزیبق تحرک فخیّل لموسی أنها حیّات تسعی ولم یکن لها حقیقة ، وکان هذا فی أشدّ وقت السحر ، فألقی موسی عصاه فأبطل علیهم السحر فآمنوا به . وأیضاً فإنّ الواحد منّا لا یصحّ أن یفعل فی غیره ، ولیس بینه اتصال ، ولا اتصال بما اتصل بما فعل فیه ، فکیف یفعل من هو ببغداد فی من هو بخراسان وأبعد منها ؟ ولا ینفی هذا قوله تعالی : «وَلَکِنَّ الشَّیْاطِینَ کَفَرُواْ یُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ»(4) لأنّ ذلک لا

ص:207


1- (7) بحار الأنوار 56 / 310 (22 / 674) .
2- (8) المبسوط 7 / 260 .
3- (1) سورة طه / 66 و 67 .
4- (2) سورة البقرة / 102 .

یمنع منه ، و إنّما الذی منعنا منه أن یؤثر التأثیر الذی یدّعونه ، فأمّا أن یفعلوا ما یتخیّل عنده أشیاء فلا یمنع منه ... »(1) .

وقال العلامة الحلی فی التذکرة : « تعلّم السحر وتعلیمه حرام ، وهو کلام یتکلّم به أو یکتبه أو رُقیّة(2) أو یعمل شیئاً [ یؤثّر ] فی بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غیر مباشرة . وهل له حقیقة ؟ قال الشیخ : لا إنّما هو تخییل ، وعلی کلِّ تقدیر لو استحلّه قُتل . ویجوز حلّ السحر بشیءٍ من القرآن أو الذکر والأقسام(3) ، لا بشیءٍ منه ... »(4) .

وذکر نحو ذلک فی التحریر(5) والقواعد(6) مع اختیار قول الشیخ فی الأخیر بأن لیس للسحر حقیقة وإنّما هو تخییل .

وقال ولده فخر المحققین فی الإیضاح : « المراد بالسحر استحداث الخوارق بمجرد التأثیرات النفسانیة أو بالإستعانة بالفلکیات فقط ، أو علی سبیل تمزیج القوی السماویة بالقوی الأرضیة ، أو علی سبیل الإستعانة بالأرواح الساذجة . وقد خص أهل المعقول الأوّل باسم السحر والثانی بدعوة الکواکب والثالث بالطلسمات والرابع بالعزائم ، وکلّ ذلک محرّم فی

شریعة الإسلام ومستحلِّه کافر . أمّا علی سبیل الاستعانة بخواص الأجسام السفلیة فهو علم الخواص أو الاستعانة بالنسب الریاضیة وهو علم الحیل وجرّ الأثقال ، وهذان النوعان الأخیران لیسا من السحر . إذا عرفت ذلک فنقول : اختلف الفقهاء فی أنّ السحر - لا بمعنی دعوة الکواکب ، فإنّ الکواکب لا تأثیر لها قطعاً - هل له حقیقة (أی تأثیر) أو تخیّل لا حقیقة له ، بمعنی عدم التأثیر ، ذهب بعضهم إلی الأوّل وآخرون إلی الثانی ، ومأخذ القولین قوله

ص:208


1- (3) الخلاف 5 / 327 المسألة 14 .
2- (4) رُقیة بضم الراء : العوذة کما فی جامع المقاصد 4 / 29 .
3- (5) الأقسام : بفتح الهمزة جمع قُسَم ، ولا تمتنع قراءته بکسرها علی أنّه مصدر أقسم . کما فی جامع المقاصد 4 / 30 .
4- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 144 المسألة 650 .
5- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 المسألة 3020 .
6- (8) قواعد الأحکام 2 / 9 .

تعالی : «فَیَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا یُفَرِّقُونَ بِهِ بَیْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّینَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ»(1) الآیة . ثمّ تصدی للنقص قدس سره فی النقض والإبرام فی أدلة الطرفین بوجه تام وقال فی آخر کلامه : - واعلم أنّ الحقَّ عندی أنّه لا تأثیر له ولا حقیقة»(2) .

وقال الشهید : « تحرم الکهانة والسحر بالکلام والکتابة والرقیة والدخنة بعقاقیر الکواکب وتصفیة النفس والتصویر والنفث والأقسام والعزائم بما لا یُفهم معناه ویضرّ بالغیر فعله ، ومن السحر الاستخدام للملائکة والجنّ والاستنزال للشیاطین فی کشف الغائب وعلاج المصاب .

ومنه : الاستحضار بتلبّس الروح ببدن منفعل کالصبی والمرأة وکشف الغائب عن لسانه ، ومنه : النیرنجیّات ، وهی إظهار غرائب خواص الإمتزاجات وأسرار النیّرین ، وتلحق به الطلسمات ، وهی تمزیج القوی العالیة الفاعلة بالقوی السافلة المنفعلة لیحدث عنها فعل غریب . فعمل هذا کلّه والتکسب به حرام ، أمّا علمه لیتوقّی أو لئلا یعتریه فلا ، وربّما وجب علی الکفایة لیدفع المتنبّی ء بالسحر ، ویقتل مستحلّه ، ویجوز حلّه بالقرآن والذکر والإقتسام لا به ، وعلیه یحمل روایة العلا بحلّه(3) . والأکثر علی أنّه لا حقیقة له بل هو تخیّل ، وقیل : أکثره تخییل وبعضه حقیقیٌ لأنّه تعالی وصفه بالعظمة فی سحرة فرعون . ومِن التخیّل السیمیا وهی إحداث خیالات لا وجود لها فی الحس للتأثیر فی شی ءٍ آخر وربّما ظهر إلی الحس ... »(4) .

وقال ثانی الشهیدین فی تعریف السحر : « هو کلام أو کتابة أو رقیة أو أقسام أو عزائم

ص:209


1- (1) سورة البقرة / 102 .
2- (2) إیضاح الفوائد 1 / (407 _ 405) .
3- (3) وهی هذه الروایة : العلا عن محمد بن مسلم قال : سألته عن المرأة یعمل لها السحر یحلّونه عنها ؟ قال : لا أری بذلک بأساً . مفتاح الکرامة 12 / 237 والجواهر 22 / 76 ولکن لم نجدها فی الجوامع الحدیثیة . والروایة مرسلة سنداً .
4- (4) الدروس الشرعیة 3 / 164 طبع جماعة المدرسین وفیه أغلاط مطبعیة صححناها بما نقله عنه فی بحار الأنوار 60 / 30 (24 / 253) .

ونحوها یحدث بسببها ضرر علی الغیر ، ومنه عقد الرجل عن زوجته بحیث لا یقدر علی وطئها وإلقاء البغضاء بینهما ، ومنه استخدام الملائکة والجن واستنزال الشیاطین فی کشف الغائبات وعلاج المصاب واستحضارهم وتلبّسهم ببدن الصبی أو امرأة وکشف الغائب علی لسانه ... »(1) .

وقال جدنا الفقیه الشیخ جعفر بعد الإشکال فی التعاریف الماضیة وأنّ المرجع فیه إلی العرف العام أنّه : « عبارة عن إیجاد شیء تترتّب علیه آثار غریبة وأحوال عجیبة بالنسبة إلی العادات ، بحیث تشبه الکرامات وتِوْهِم أنّها من المعاجز المثبتة للنبوات من غیر استناد إلی الشرعیات بحروز أو أسماء أو دعوات أو نحوها من المأثورات(2) . وأمّا ما اُخذ من الشرع کالعُوَذ والهیاکل وبعض الطلسمات فلیست منه بل هی بعیدة عنه ... »(3) .

واعترض علیه فی الجواهر بعد نقل تعریفه : « ... لکنّه کماتری لا یرجع إلی محصَّل ، وأین العرف العام وتمییز جمیع أقسام السحر الذی هو علم عظیم طویل الذیل کثیر الشعب لا یعرفه إلاّ الماهرون فیه ؟ ! ولیس مطلق الأمر الغریب سحراً ، فإنّ کثیراً من العلوم کعلم الهیئة والجفر والترازجیة - وهو أسرار الجفر - وغیرها یظهر من العالِم بها بعض الآثار العجیبة الغریبة ، و یکفیک ما یصنعه الأفرنج فی هذه الأزمنة من الغرائب ، ولسیت هی من السحر الحرام قطعاً »(4) .

وقال النراقی : « والذی یظهر من العرف والتتّبع فی موارد الاستعمال أنّه عمل یوجب حدوث أمر منوط بسبب خفی غیر متداول عادةً ، لا بمعنی أنّ کلّما کان کذلک هو سحر ، بل بمعنی أنّ السحر کذلک .

وتوضیح ذلک : أنّ ذلک تارة یکون بتقویة النفس وتصفیتها حتّی یقوی علی مثل ذلک العمل ، کما هو دأب أهل الریاضة ، وعلیه عمل أهل الهند .

ص:210


1- (1) مسالک الأفهام 3 / 128 .
2- (2) أی المأثورات عند السَحَرة .
3- (3) شرح القواعد 1 / 243 .
4- (4) الجواهر 22 / 81 .

واُخری : باستعمال القواعد الطبیعیّة أو الهندسیة أو المداواة العلاجیّة ، وهو المتداول عند الأفرنجیّین .

وثالثة : تسخیر روحانیّات الأفلاک والکواکب ونحوها ، وهو المشهور عن الیونانیین والکلدانیین .

ورابعة : بتسخیر الجنّ والشیاطین .

وخامسة : بأعمال مناسبة للمطلوب ، کتماثیل أو نقوش أو عُقد أو نُفث أو کُتب منقسماً إلی رُقیة(1) وعزیمة(2) أو دُخنة(3) فی وقت مختار ، وهو المعروف عن النبط .

وسادسة : بذکر أسماء مجهولة المعانی وکتابتها بترتیب خاص ، ونسب ذلک إلیالنبط والعرب .

وسابعة : بذکر ألفاظ معلومة المعانی غیر الأدعیة .

وثامنة : بالتصرف فی بعض الآیات أو الأدعیة أو الأسماء ، من القلب أو الوضع فی اللوح المربّع ، أو مع ضمّه مع عمل آخر من عقد أو تصویر أو غیرهما .

وتاسعة : بوضع الأعداد فی الألواح .

ولا شک فی عدم کون الأوّلیّن سحراً ، کما أن الظاهر کون الخامس سحراً والبواقی مشتبهة ، والأصل یقتضی فیها الإباحة ، إلاّ ما عُلمت حرمته من جهة الإجماع ، کما هو الظاهر فی التسخیرات»(4) .

أقول : لابدّ من أن یؤخذ موضوع السحر وتعریفه من العرف ، کما اعترف بذلک العلامة الحلی فی المنتهی(5) وتبعه غیره مِن الأعلام ، نحو الشیخ جعفر(6) والنراقی(7) والمؤسس

ص:211


1- (1) الرُقیة : العُوذَة .
2- (2) عزیمة ، جمعه العزائم : الرقی .
3- (3) دخنة : ذریرة تدخّن بها البیوت .
4- (4) مستند الشیعة 14 / 115 و 114 .
5- (5) منتهی المطلب 2 / 1014 طبع الحجری .
6- (6) شرح القواعد 1 / 243 .
7- (7) مستند الشیعة 14 / 114 .

الحائری قدس سرهم (1) .

وإشکال صاحب الجواهر رحمه الله بأنّ « ... أین العرف العام وتمییز جمیع أقسام السحر الذی هو علم عظیم طویل الذیل ، کثیر الشعب لا یعرفه إلاّ الماهرون فیه ؟ ! »(2) فی غیر محلّه ، لأن أخذ الموضوع والتعریف من العرف لا یوجب أن یکون العرف العام وأصحابه من

السَحَرة العالمین به ، کما أن العرف یعرفون الطبیب والطب ولیسوا أطباء ولاعارفین به .

والذی یظهر مِنْ مراجعة العرف وکلمات أهل اللغة والفقهاء أنّ المراد بلفظ « السحر » ومترادفه بالفارسیة « جادو» هو : کلُّ أمرٍ یوجب قلب الشیءِ عن واقعه وحقیقته ویخرج الباطل فی صورة الحقّ علی سبیل الخدیعة ، ویکون مأخذه ما لطف ودقَّ بحیث لا یظهر لکلّ أحدٍ بل یخفی سببه . ویمکن أن یکون بالتأثیرات النفسانیة أو بمعونة الشیاطین والأجنة أو بتلبس روحٍ ببدنٍ منفعلٍ أو غیرها ، سواء کان بکلامٍ أو کتابٍ أو رُقیّةٍ أو عزیمةٍ أو قسمٍ أو دُخنةٍ أو نقشٍ أو عقدٍ أو نفثٍ أو عددٍ أو لوحٍ أو عملٍ ، ویحدث بسببه ضررٌ علی الغیر غالباً ، أو أمرٌ خارق للعادة أو أثرٌ غریبٌ أو حالٌ عجیبٌ ونحوها .

وهذا التعریف لیس بالحدّ والرسم التامّین ، ولکن یدخل فیه أکثر موارد السحر ومصادیقه ، وهذا یکفی فی صحة التعریف المأخوذ مِن العرف ظاهراً .

ویظهر من التعریف أنّ للسحر أثراً عجیباً أو یترتب علیه أمرٌ أو حالٌ غریبٌ أو ضررٌ علی الغیر بنحو یخرق العادة ، کما یعقد الرجل عن وط ء زوجته أو یلقی البغضاء بینهما أو یلقی المحبّة الشدیدة أو التعشق بین الرجل والمرأة الأجنبییّن أو الإختلال فی عقل الرجل أو عاطفة المرأة أو بدنهما ونحوها .

وبعد ثبوت الأثر للسحر فالبحث عن کونه حقیقة أو تخیّل لا فائدة فیه ، والعمدة حینئذ أثره لا مؤثره ، سواء کان المؤثرُ أمراً خیالیّاً أو حقیقیاً .

نعم ، لا یکون البحث عن مؤثره ساقطاً عن الإعتبار ، ویکون نزاعاً لفظیّاً ، کما علیه

ص:212


1- (8) المکاسب المحرمة / 148 لآیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
2- (9) الجواهر 22 / 81 .

بعض(1) ، وتعریفنا من السحر یجتمع مع المسلکین : الحقیقیة والخیال ، لأنّ الأمر المأخوذ فیه یشملهما .

ذهب إلی مسلک خیالیة السحر جماعة من العامة ، نحو : أبی جعفر الأسترابادی من أصحاب الشافعی والمغربی من أهل الظاهر _ کما نقل عنهما الشیخ فی الخلاف(2) _ والفخر الرازی(3) و البیضاوی(4) والواحدی(5) _ کما نقل عنهم السید العاملی فی مفتاح الکرامة(6) _

وغیرهم .

ومِن الخاصة : الشریف المرتضی(7) والشیخ فی الخلاف(8) والمبسوط(9) والتفسیر(10) والعلامة فی کتبه : المنتهی(11) والتذکرة(12) والقواعد(13) والتحریر(14) وولده فی الإیضاح(15) .

ومن المتأخرین : المحقق الإیروانی(16) وتبعه المحققون الخوئی(17)

ص:213


1- (1) هو الفقیه السید عبد الأعلی السبزواری فی مهذب الأحکام 16 / 100 .
2- (2) الخلاف 5 / 327 .
3- (3) التفسیر الکبیر 3 / 205 .
4- (4) أنوار التنزیل 1 / 363 .
5- (5) تفسیر الواحدی 1 / 348 المطبوع فی حاشیة تفسیر الطبری .
6- (6) مفتاح الکرامة 12 / 231 .
7- (1) رسالة الحدود والحقائق المطبوعة ضمن رسائل الشریف المرتضی 3 / 272 .
8- (2) الخلاف 5 / 328 .
9- (3) المبسوط 7 / 260 .
10- (4) التبیان 1 / 374 .
11- (5) منتهی المطلب 2 / 1014 الطبع الحجری .
12- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 144 .
13- (7) قواعد الأحکام 2 / 9 .
14- (8) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 .
15- (9) إیضاح الفوائد 1 / 407 .
16- (10) حاشیة المکاسب 1 / 170 .
17- (11) مصباح الفقاهة 1 / 286 .

والسبزواری(1) والقمی(2) .

وذهب إلی مسلک حقیقة السحر أو حقیقة بعضه أو التشکیک فی خیالیته ، أکثر العامة ، نحو : أبی حنیفة وأصحابه ومالک والشافعی _ کما نقل عنهم الشیخ فی الخلاف(3) _ .

وبعض الخاصة ، نحو : الشهید فی الدروس(4) والکرکی فی جامع المقاصد(5) وثانی الشهیدین فی المسالک(6) والأردبیلی فی مجمع الفائدة(7) والمجلسی فی بحار الأنوار(8) وکاشف الغطاء فی شرح القواعد(9) والنراقی فی المستند(10) والعاملی فی مفتاح الکرامة(11) وصاحب

الجواهر(12) وتلمیذه السید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه(13) وشیخنا الاُستاذ(14) _ مدظله _ .

والحقّ : أنّ لبعض موارد السحر واقعیةً وحقیقةً ، کما أنّ بعض موارده من قبیل التخیّل والتوهم ، والکلّ متفق بثبوت الأثر للسحر کما مرّ منّا .

ولذا قال الشهید الثانی : « الحقّ أن تأثیره فی بدن المسحور أمر محقّق لا شبهة فیه ، نعم

ص:214


1- (12) مهذب الأحکام 16 / 99 .
2- (13) عمدة المطالب 1 / 223 .
3- (14) الخلاف 5 / 327 .
4- (15) الدروس الشرعیة 3 / 164 .
5- (16) جامع المقاصد 4 / 30 .
6- (17) مسالک الأفهام 3 / 128 .
7- (18) مجمع الفائدة 8 / 78 .
8- (19) بحار الأنوار 60 / 39 (24 / 260) .
9- (20) شرح القواعد 1 / 244 .
10- (21) مستند الشیعة 14 / 111 .
11- (22) مفتاح الکرامة 12 / 232 .
12- (1) الجواهر 22 / 87 .
13- (2) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 29 الطبع الحجری .
14- (3) إرشاد الطالب 1 / 163 .

کونه موهماً لحیّات تسعی ونحوه تخییل ، وبهذا یجمع بین الأدلة الدالة علی الطرفین مع ضعف دلالة کثیر منها»(1) .

ویؤید ما ذکرنا : خبر عیسی بن سیفی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : حلّ ولا تعقد(2) .

وخبر الصدوق فی العیون بإسناده عن الرضا علیه السلام فی حدیث : «وَمَا أُنزِلَ عَلَی الْمَلَکَیْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ» یتعلّمون من هذین الصنفین ما یفرّقون به بین المرء وزوجه ، هذا ما یتعلّم الإضرار بالناس ، یتعلّمون التضریب بضروب الحیل والتمائم والإیهام ، وأنّه قد دفن فی موضع کذا وعمل کذا لیحبب المرأة إلی الرجل والرجل إلی المرأة ویؤدی الی الفراق بینهما ، فقال عزّ وجل : «وَمَا هُم بِضَآرِّینَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ» أی ما المتعلّمون بذلک بضارین من أحد إلاّ بإذن اللّه ، یعنی بتخلیة اللّه وعلمه ، فإنّه لو شاء لمنعهم بالجبر والقهر ، الحدیث(3) .

ومرسلة الرضی رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : العین حقٌّ ، والرُقی حقٌّ ، والسحر حقٌّ ، والفأل حقٌّ ، والطیرة لیست بحقٍّ ، والعَدْوی(4) لیست بحقٍّ والطیب نُشْرَةٌ والعسل نشرة والنظر إلی الخضرة نشرةٌ(5) .

ومرسلة الطبرسی رفعه إلی الصادق علیه السلام أنّه قال فی حدیث طویل : إنّ السحر علی وجوه شتی ، وجه منها بمنزلة الطب ، کما أنّ الأطباء وضعوا لکلِّ داءٍ داوءً فکذلک علم السحر ، احتالوا لکلِّ صحةٍ آفةً ولکلِّ عافیةٍ عاهةً ولکلِّ معنی حیلةً ، الحدیث(6) .

وبما ذکرنا من التعریف یظهر الفوارق الرئیسیة بین السحر والمعجزة والکرامة ، لأنّ المعجزة والکرامة لا خدعة فیهما ، ولا یخرجان الباطل فی صورة الحقّ ، ولا یکونان بمعونة

ص:215


1- (4) فوائد القواعد / 518 .
2- (5) وسائل الشیعة 17 / 145 ح 1 . الباب 25 من أبواب ما یکتسب به .
3- (6) عیون أخبار الرضا علیه السلام 1 / 266 ح 1 ونقل مختصره فی وسائل الشیعة 17 / 147 ح 4 .
4- (7) انتقال المرض مِن مریض إلی سلیم .
5- (8) نهج البلاغة الحکمة 400 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 64 ح 7 .
6- (9) الاحتجاج 2 / 339 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 66 ح 10 .

الشیاطین والأجنة ، بل إنّهما علی سبیل الحقیقة وإراءة الواقع واقعاً والحقِ حقّاً ، وکلّ مَنْ تعلّم السحر یمکن أن یأتی به ، وأنّهما لیسا بالتعلّم والتتلمذ ، فالسحر علم والمعجزة والکرامة إظهار القدرة للّه تعالی علی ید أنبیائه واُولیائه علیهم السلام إذا کانت المصلحة تقتضیهما . فالفرق بین السحر وبینهما أساسیٌ ورئیسیٌ وسنخیٌ ، ولا یتشبهما الناسُ بالسحرِ ولا السَحَرة بهم . ولذا حیث رأی السحرة إعجاز عصا موسی ، یقول اللّه تعالی عنهم : «وَأُلْقِیَ السَّحَرَةُ سَاجِدِینَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِینَ * رَبِّ مُوسَی وَهَارُونَ»(1) . والتفصیل مؤکولٌ إلی علم الکلام .

تنبیهٌ : قال العلامة السید محمد حسین الطباطبائی قدس سره ناقلاً عن شیخنا البهائی(2) نوّر اللّه مرقده أنّه قال : « أحسن الکتب المصنفة فی هذه الفنون (أی العلوم الغریبة) کتاب رأیتُهُ ببلدة هرات إسمه (کلّه سر) ، وقد رکّب اسمه من أوائل أسماء هذه العلوم : الکیمیاء ، واللیمیاء ، والهیمیاء ، والسیمیاء ، والریمیاء» انتهی ملخص کلامه(3) .

وقال صاحب المیزان فی تعریف هذه العلوم :

« 1 _ الکیمیاء : علم یبحث عن کیفیة تبدیل صور العناصر بعضها إلی بعضٍ .

2 _ اللیمیاء : علم یبحث عن کیفیة التأثیرات الإرادیة بإتصالها بالأرواح القویّة العالیة ، کالأرواح الموکلة بالکواکب والحوادث وغیر ذلک بتسخیرها أو باتصالها واستمدادها من الجنِّ بتسخیرهم ، وهو فن التسخیرات .

3 _ الهیمیاء : العلم الباحث عن ترکیب قوی العالم العِلوی مع العناصر السفلیة للحصول علی عجائب التأثیر ، وهو الطلسمات .

4 _ السیمیاء : العلم الباحث عن تمزیج القوی الإرادیة مع القوی الخاصة المادیة للحصول علی غرائب التصرف فی الاُمور الطبیعیة ، ومنه التصرف فی الخیال المسمی بسحر العیون ، وهذا الفن من أصدق مصادیق السحر .

5 _ الریم_یاء : العلم الباحث عن استخدام القوی المادیة للحصول علی آثارها بحیث

ص:216


1- (1) سورة الأعراف / (122 _ 120) .
2- (2) راجع کشکوله 3 / 254 من منشورات لسان الصدق . قم المقدسة ، عام 2006 م .
3- (3) المیزان 1 / 244 .

یظهر للحس أنّها آثار خارقة بنحو من الأنحاء ، وهو الشعبذة» .

ثمّ ذکر بعض العلوم الملحقة بها مع تسمیة بعض کتبه ، فراجعه إن شئت(1) .

هذا کلّه فی المقام الأوّل - أعنی موضوع علم السحر - وأمّا حکمه :

المقام الثانی : حکم السحر

اشارة

تعلیم السحر وتعلّمه حرام بین المسلمین ، وتدلّ علیه الأدلة الأربعة :

الأوّل : الإجماع

قال الشیخ : « ولا خلاف بینهم (أی بین الفقهاء من المسلمین) أن تعلیمه وتعلّمه وفعله محرّم ، لقوله تعالی : «وَلَکِنَّ الشَّیْاطِینَ کَفَرُواْ یُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ»(2) فذمَّ علی تعلیم السحر»(3) .

وقال الأردبیلی : « فکأنّ تحریم السحر وتعلیمه وتعلّمه وأخذ الاُجرة علیه ... إجماع (إجماعی _ خ ل) بین المسلمین»(4) .

وقال المحقق السبزواری : « وعمل السحر والتکسّب به حرام بلا خلافٍ »(5) .

وقال البحرانی فی السحر ونحوه من القیافة والکهانة والشعبذة : « ولا خلاف فی تحریم تعلیم الجمیع وأخذ الاُجرة علیه»(6) .

وذکر الوحید البهبهانی الإجماع علی الحرمة فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان(7) . وقال السید العاملی : « فی الإیضاح والتنقیح بعد ذکر أقسامه : أنّ کلّه حرام فی شریعة

ص:218


1- (1) المیزان 1 / 244 نقلتها مع اختلافٍ فی الترتیب واختصارٍ .
2- (2) سورة البقرة / 102 .
3- (3) المبسوط 7 / 260 .
4- (4) مجمع الفائدة 8 / 78 .
5- (5) الکفایة 1 / 440 .
6- (6) الحدائق 18 / 171 .
7- (7) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 34 .

المسلمین ومستحلّه کافر»(1) .

وقال فی الجواهر : « بلا خلاف أجده فی الجملة بین المسلمین فضلاً عن غیرهم ، بل هو من الضروریات التی یدخل منکرها فی سبیل الکافرین»(2) .

وقال الشیخ الأعظم : « السحر حرام فی الجملة بلا خلاف بل هو ضروریٌّ»(3) .

وقال المؤسس الحائری : « لا خلاف فی حرمته فی الجملة بین المسلمین ، بل هی من الضروریات التی یدخل منکرها فی عِداد الکافرین»(4) .

وقال المحقق الخوئی : « لا خلاف فی حرمة السحر فی الجملة بل هی من ضروریات الدین وممّا قام علیه إجماع المسلمین»(5) .

وقال الفقیه السبزواری فی الاستدلال علی حرمة السحر : « للنصوص والإجماع بل الضرورة من المذهب ، إن لم تکن من الدین»(6) .

أقول : الإجماع قائم علی حرمة تعلیم السحر وتعلّمه والعمل به وأخذ الاُجرة علیه بین المسلمین ، کما أفتی به الشیخ وقال : « تعلّم السحر وتعلیمه والتکسب به وأخذُ الاُجرة علیه حرام محظور»(7) . ولکن هل هذا الإجماع مدرکیٌّ أم لا ؟ الظاهر أنّه نشأ مِن الأدلة التالیة .

الثانی : الکتاب

تدلّ علی حرمة السحر آیات من الکتاب المجید ، نحو :

قوله تعالی : «مَا کَفَرَ سُلَیْمانُ وَلَکِنَّ الشَّیْاطِینَ کَفَرُواْ یُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا

ص:218


1- (8) مفتاح الکرامة 12 / 226 .
2- (9) الجواهر 22 / 75 .
3- (1) المکاسب المحرمة / 32 الطبع الحجری (1 / 257) .
4- (2) المکاسب المحرمة / 142 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
5- (3) مصباح الفقاهة 1 / 283 .
6- (4) مهذب الأحکام 16 / 99 .
7- (5) النهایة / 365 .

أُنزِلَ عَلَی الْمَلَکَیْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا یُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّی یَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَکْفُرْ»(1) .

وقوله تعالی : «وَلاَ یُفْلِحُ السَّاحِرُونَ»(2) ، ثمّ قال تعالی بعد ثلاث آیات : «قَالَ مُوسَی مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَیُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ یُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِینَ»(3) .

وقوله تعالی : «وَأَلْقِ مَا فِی یَمِینِکَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا کَیْدُ سَاحِرٍ وَلاَ یُفْلِحُ السَّاحِرُ حَیْثُ أَتَی»(4) .

وظهور الآیات فی الحرمة یکفینا عن التفسیر والتقریب وتکثیر الکلام .

الثالث : السنة

الروایات المستفیضة بل المتواترة من السنة الشریفة تدلّ علی حرمة السحر وتعلیمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الاُجرة علیه :

منها : صحیحة عبد العظیم الحسنی عن أبی جعفر الثانی الجواد علیه السلام فی حدیث الکبائر : والسحر لأنّ اللّه عزّ وجل یقول : «وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِی الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ»(5) ، الحدیث(6) .

ومنها : معتبرة السکونی عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ساحر المسلمین یُقتل وساحر الکفار لا یُقتل ، قیل : یا رسول اللّه لم لا یُقتل ساحر الکفار ؟ قال : لأنّ الشرک أعظم من السحر ، لأنّ السحر والشرک مقرونان(7) .

ص:219


1- (6) سورة البقرة / 102 .
2- (7) سورد یونس / 77 .
3- (8) سورة یونس / 81 .
4- (9) سورة طه / 69 .
5- (1) سورة البقرة / 102 .
6- (2) الکافی 2 / 285 ح 24 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 9 / 269 ح 11 .
7- (3) وسائل الشیعة 17 / 146 ح 2 . الباب 25 من أبواب ما یکتسب به .

رواها الکلینی أیضاً بسنده المعتبر فی الکافی الشریف 7 / 260 ح 1(1) .

ومنها : مصححة زید الشحام عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الساحر یُضرب بالسیف ضربةً واحدةً علی اُمّ رأسه(2) .

سند الروایة صحیح إن کان المراد بالبشار الراوی قبل الشحام هو بشار بن یسار الضُبَعِیّ الکوفی الثقة ، روی هو وأخوه عن أبی عبد اللّه علیه السلام وأبی الحسن علیه السلام (3) . کما هو الظاهر . ولا یضرّ جهالة حبیب بن الحسن ، لأنّ معه فی السند محمد بن یحیی ومحمد بن الحسین کما فی نقل الکلینی(4) أو محمد بن الحسین فقط کما فی نقل الشیخ(5) .

ومنها : موثقة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن آبائه علیهم السلام قال : سئل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن الساحر فقال : إذا جاء رجلان عدلان فَشَهدا بذلک علیه فقد حلّ دمه(6) .

ومنها : حسنة إسحاق بن عمار عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیّاً علیه السلام کان یقول : من تعلّم شیئاً من السحر کان آخر عهده بربّه ، وحدّه القتل إلاّ أن یتوب ، الحدیث(7) .

وهذه الروایة عامة تشمل حرمة تعلّم السحر وعمله ، وحملها علی العمل فقط تخصیص بلا وجه .

ومنها : خبر أبی البختری عن جعفر بن محمد عن أبیه علیه السلام أنّ علیّاً علیه السلام قال : من تعلّم شیئاً من السحر قلیلاً أو کثیراً فقد کفر ، وکان آخر عهده بربّه ، وحدّه أن یُقتل إلاّ أن یتوب(8) .

ومنها : مرسلة الرضی رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی خطبة : المنجم کالکاهن

ص:220


1- (4) کما نقل عنه فی وسائل الشیعة 28 / 365 ح 1 . الباب 1 من أبواب بقیة الحدود .
2- (5) وسائل الشیعة 28 / 366 ح 3 .
3- (6) رجال النجاشی / 113 الرقم 290 .
4- (7) الکافی 7 / 260 ح 2 .
5- (8) التهذیب 10 / 147 ح 15 .
6- (9) التهذیب 6 / 283 ح 185 و 10 / 147 ح 16 و نقل عن الأخیر فی وسائل الشیعة 28 / 367 ح 1 .
7- (1) وسائل الشیعة 28 / 367 ح 2 .
8- (2) وسائل الشیعة 17 / 148 ح 7 .

والکاهن ، کالساحر ، والساحر کالکافر ، والکافر فی النار ، سیروا علی اسم اللّه(1) .

رواها الصدوق فی الخصال 1 / 297 ح 67 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 143 ح8 .

ومنها : خبر أبی موسی الأشعری قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ثلاثة لا یدخلون الجنة مدمن خمر ، ومدمن سحر ، وقاطع رحم ، الحدیث(2) .

ومنها : خبر علی بن الجهم عن الرضا علیه السلام فی حدیث : وأما هاروت وماروت فکانا ملکین علّما الناس السحر لیحترزوا به سحر السحرة ویبطلوا به کیدهم ، وما علّما أحداً من ذلک شیئاً إلاّ قالا : إنّما نحن فتنة فلا تکفر ، فکفر قوم باستعمالهم لما اُمروا بإلاحتراز منه ، وجعلوا یفرّقون بما تعلّموه بین المرء وزوجه ، قال اللّه تعالی : «وَمَا هُم بِضَآرِّینَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ» یعنی بعلمه(3) .

ومنها : خبر نصر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : المنجم ملعون ، والکاهن ملعون ، والساحر ملعون ، الحدیث(4) .

وهذه الروایات وما شابهها منها مایدلّ بوضوح علی حرمة تعلیم وتعلّم السحر والتکسب به وأخذ الأجرة علیه والعمل علی طبقه .

الرابع : حکم العقل

العقل مستقل بقبح الخدیعة وإخراج الباطل فی صورة الحقّ وقلب الشیء عن واقعه وحقیقته ، وهذا القبح العقلی یستلزم الحکم الشرعی بقاعدة الملازمة .

المقام الثالث : فروع البحث

اشارة

إنّ هاهنا فروعاً یحسن التنبیه علیها والبحث حولها :

الفرع الأول: حرمته مطلقة من دون تقیید بالعمل الحرام أو نیته

الفرع الأوّل : حرمة تعلیم وتعلّم السحر مطلقة فی روایاتنا کما مرّ آنفاً ، ولم تقید

ص:221


1- (3) نهج البلاغة . الخطبة 79 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 64 ح 6 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 148 ح 6 .
3- (5) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 5 .
4- (6) وسائل الشیعة 17 / 143 ح 7 .

بالعمل الحرام أو نیّته ، بحیث لو لم ینو هذا أو لم یقصد الحرام أو لم یترتب علیه لم یکن حراماً ، بل حرمته مطلقة ، سواء قصد الحرام أو لم یقصده ، وسواء ترتب علیه الحرام فی الخارج أو لم یترتب ، ولذا لو سحر لأجل جلب محبّة الزوج إلی زوجته أو توفیق إنسان فی عبادة اللّه تعالی وتحصیله للعلم أو دفع العقارب والحیات والبراغیث ونحوها من المنافع العقلائیة کان حراماً ویکون تحصیله وتعلّمه حراماً أیضاً ، للإطلاقات الورادة فی الروایات .

خلافاً للشیخ الأکبر کاشف الغطاء(1) حیث قیّد الحرمة بالعمل ونیته ، فالسحر عنده حرام إذا کانت غایته المترتبة علیه حراماً ، وعلی فرض عدم ترتب الغایة إذا کانت نیته حراماً . وتبعه علی هذا التقیید تلمیذه صاحب الجواهر(2) ، وتلمیذ صاحب الجواهر السید علی آل بحر العلوم(3) والمؤسس الحائری(4) .

وأنت تری إطلاق الروایات وعدم وجود التقیید فیها وافقنا علی حرمة تعلّم السحر وتعلیمه مطلقاً ؟ السید العاملی فی مفتاح الکرامة(5) .

الفرع الثانی: هل یجوز الحرمة بوجود المضر منه؟

الفرع الثانی : هل یجوز تعلّم السحر فقط من دون قصد العمل به ؟ لأنّه مرتبة من الفضل ، والعلم فی حدِّ ذاته شریف وأنّه خیر من الجهل ، أو أنّه لا یجوز مطلقاً ذهب إلی الأوّل کاشف الغطاء(6) وتابعه صاحب الجواهر(7) وتلمیذه السید علی آل بحر العلوم(8) والمؤسس

الحائری(9) .

ص:223


1- (1) شرح القواعد 1 / 239 .
2- (2) الجواهر 22 / 79 .
3- (3) برهان الفقه _ کتاب التجارة / 26 الطبع الحجری .
4- (4) المکاسب المحرمة / 153 لآیة اللّه الشیخ محمّد علی الأراکی .
5- (5) مفتاح الکرامة 12 / 227 .
6- (6) شرح القواعد 1 / 239 .
7- (7) الجواهر 22 / 78 .
8- (8) برهان الفقه _ کتاب التجارة / 30 الطبع الحجری .
9- (1) المکاسب المحرمة / 153 لآیة اللّه الشیخ محمّد علی الأراکی .

ولکن ظاهر المشهور علی الثانی ، والحقّ قول المشهور ، للإطلاق الوارد فی الروایات .

مضافاً إلی دلالة حسنة إسحاق بن عمار(1) وخبر أبی البختری(2) الماضیتین علی حرمة تعلّم السحر .

الفرع الثالث : هل تختص الحرمة بوجود المضر منه ؟

ذهب الشهیدان فی الدروس(3) والمسالک(4) إلی الاختصاص ، ووافقهما الکاشانی فی مفاتیح الشرائع(5) ، وهو ظاهر العلاّمة فی کتبه(6) ، حیث قیّد تعریفه بما « یؤثر فی بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غیر مباشرة» . وظاهر هذا التعریف وتقییده بالتأثیر یعنی إذا لم یوجب ذلک فلا حرمة ، ومن الواضح إنّ هذا التأثیر یکون بالإضرار غالباً وعلی هذا یمکن عدّ العلامة الحلی من القائلین بالاختصاص .

ویؤیدهم بعض الروایات الواردة فی قصة هاروت وماروت ، نحو : خبر محمد بن زیاد ومحمد بن سیار عن الحسن بن علی العسکری علیه السلام عن آبائه علیهم السلام فی حدیث : فلا تکفر بإستعمال هذا السحر وطلب الإضرار به إلی أن قال : ویتعلّمون ما یضرّهم ولا ینفعهم ، لأنّهم إذا تعلّموا ذلک السحر لیسحروا ویضرّوا به فقد تعلّموا ما یضرّهم فی دینهم ولا ینفعهم فیه ، الحدیث(7) .

ولکن الصحیح - کما ذهب إلیه المشهور - عدم ثبوت اختصاص الحرمة بوجود المضر منه ، بل الحرمة للسحر ثابتة حتّی إذا لم یکن فی البین المضر منه والإضرار . وبعبارة اُخری : نفس عمل السحر حرام حتّی إذا لم یترتب علیه ضررٌ ولم یضر منه أحدٌ ، نحو أن یعمل

ص:223


1- (2) وسائل الشیعة 28 / 367 ح 2 .
2- (3) وسائل الشیعة 17 / 148 ح 7 .
3- (4) الدروس 3 / 164 .
4- (5) المسالک 3 / 128 .
5- (6) مفاتیح الشرائع 1 / 24 .
6- (7) تذکرة الفقهاء 12 / 144 وقواعد الأحکام 2 / 9 والتحریر 2 / 260 .
7- (8) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 4 .

الساحر أمراً فی الجو والسماء والفضاء والأرض ولکن لم یتضرر منه أحدٌ ، أو إحداث المنفعة والحبّ المفرط للغیر من دون ترتب الإضرار علی أحدٍ ، فهذا أیضاً حرام لإطلاق الأدلة

الواردة فی حرمة السحر ، ولم یقیّدها الروایات المقیدة ، لأنّها أیضاً من المثبتات وضعف إسنادها .

نعم ، یمکن القول بتشدید الحرمة فی صورة الإضرار ، لأنّ السحر حرام والإضرار بالغیر حرام آخر ، فصار فی مورد الاجتماع حرمان مجتمعان .

الفرع الرابع : هل یجوز رَفع ضرر السحر بالسحر أو إبطاله به ؟

ذهب إلی جواز حلّ السحر بشیءٍ من القرآن والذکر والدعاء والأقسام لا بشیءٍ من السحر ، جماعة منهم : العلاّمة فی القواعد(1) والتحریر(2) والتذکرة(3) .

ویمکن أن یُستدل لهم بأنّ : السحر حرام فی حدِّ ذاته فلا یجوز استعماله حتّی فی إبطاله ودفع الضرر به . والإطلاقات تقتضی ذلک .

ولکن الصحیح جواز دفع ضرر السحر أو إبطاله أو حلّه به ، لما ورد فی ذلک عدّة من الروایات المرخصة ، نحو :

وخبر محمد بن زیاد ومحمد بن سیار عن العسکری علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال فی حدیث فی ذیل قوله تعالی : «وَمَا أُنزِلَ عَلَی الْمَلَکَیْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ» قال : کان بعد نوح علیه السلام قد کثرت السحرة المموهون ، فبعث اللّه عزّ وجل ملکین إلی نبی ذلک الزمان بذکر ما یسحر به السحرة وذکر ما یبطل به سحرهم ویردّ به کیدهم ، فتلقاه النبی عن الملکین وأداه إلی عباد اللّه بأمر اللّه عزّ وجل وأمرهم أن یقفوا به علی السحر وأن یبطلوه ونهاهم أن یسحروا به الناس .إلی أن قال : وما یعلّمان من أحد ذلک السحر وإبطاله حتّی یقولا للمتعلّم إنّما نحن فتنة ، الحدیث(4) .

ص:244


1- (1) القواعد 2 / 9 .
2- (2) التحریر 2 / 260 .
3- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 144 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 4 .

ومنها : خبر علی بن الجهم عن الرضا علیه السلام فی حدیث : قال : وأما هاروت وماروت فکانا ملکین علّما الناس السحر لیحترزوا به سحر السحرة ویبطلوا به کیدهم ، الحدیث(1) .

ومنها : خبر إبراهیم بن هاشم عن شیخ من أصحابنا الکوفیین ، قال : دخل عیسی بن سیفی [ شفقی _ شقفی _ سقفی ] علی أبی عبد اللّه علیه السلام وکان ساحراً یأتیه الناس ویأخذ علی

ذلک الأجر ، فقال له : جعلت فداک أنا رجل کانت صناعتی السحر وکنت آخذ علیه الأجر وکان معاشی ، وقد حججت منه ومنّ اللّه علیَّ بلقائک ، وقد تبت إلی اللّه عزّ وجل ، فهل لی فی شیٍّ من ذلک مخرج ؟ فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : حلِّ ولا تعقد(2) .

هذه الروایة رواها المشایخ الثلاثة(3) والحمیری فی قرب الإسناد(4) . ولکنّها ضعیفة الإسناد بدخول مجهول فی السند ، کشیخ من أصحابنا الکوفیین کما فی الکافی ، أو دخول عیسی فی السند کما فی الفقیه وقرب الإسناد ، وهو مهمل .

ولکن دلالتها علی جواز حلّ السحر بالسحر واضحة ، لأنّ حلّ السحر بغیره لا یختص بالساحر ، فما أمره الإمام علیه السلام بحلّ السحر وعطف کلامه ب_ « لا تعقد » ظاهرٌ فی الحلِّ بالسحر . فدلالة الروایة علی جواز حلّ السحر بالسحر تام وحملها علی حلّه بشی ء من القرآن أو الذکر أو الدعاء ونحوها کما عن بعضٍ بعید فی الغایة .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : روی : أنَّ توبة الساحر أن یحلَّ ولا یعقد(5) .

ومنها : مرسلة العلاء عن محمد بن مسلم قال : سألته عن المرأة یُعمل لها السحر یحلّونه عنها ؟ قال : لا أری بذلک بأساً(6) .

ص:225


1- (5) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 5 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 145 ح 1 .
3- (2) الکافی 5 / 115 ح 7 _ الفقیه 3 / 180 ح 3677 _ التهذیب 6 / 364 ح 1034 .
4- (3) قرب الإسناد / 52 ح 169 .
5- (4) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 3 _ 28 / 365 ح 2 .
6- (5) مفتاح الکرامة 12 / 237 _ الجواهر 22 / 76 .

وأمر هذه الروایة عجیب ، ذکرها الشهیدان فی الدروس(1) والمسالک(2) من دون ذکر متنها ، ولکن لم أجدها فی الجوامع الحدیثیة ، والعلم عند اللّه تعالی . وأمّا دلالتها علی جواز حلّ السحر به ظاهرة .

ومنها : خبر الحلبی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن النُشْرَةِ للمسحورِ ، فقال : ما کان أبی علیه السلام یری به بأساً(3) .

سندها ضعیف ودلالتها غیر ظاهرة ، لأنّها منوطة بحمل النُشْرَة علی حلّ السحر بالسحر ، وهو محلّ تأمل بل منع .

ومنها : مرسلة أبی منصور الطبرسی : فما تقول فی الملکین هاروت وماروت ؟ وما یقول الناس بأنّهما یعلّمان الناس السحر ؟ قال الصادق علیه السلام : إنّهما موضع إبتلاء وموقع فتنة ، تسبیحهما : الیوم لو فعل الإنسان کذا وکذا لکان کذا وکذا ولو یعالج بکذا وکذا لکان کذا ، أصناف السحر فیتعلّمون منهما ما یَخْرُجُ عنهما ، فیقولان لهم : إنّما نحن فتنة فلا تأخذوا عنّا ما یضرکم ولا ینفعکم ، الحدیث(4) .

دلالة الروایة علی جواز تعلیم وتعلّم السحر لأجل الإبطال ظاهرة ، فإذا جاز التعلّم جاز العمل لأجل الإبطال بطریق أولی .

ودلالة مجموع الروایات المذکورة علی جواز حلّ السحر وإبطاله بالسحر واضح ، ولا یضرّ ضعف أسنادها بعد بلوغها مرتبة الإستفاضة وإفتاء جماعة من الأصحاب بها ، واللّه العالم .

الفرع الخامس : هل یجوز تعلّم السحر لأجل دفع السحر وضرره أو إبطال المدعی للمناصب الإلهیة ؟

ذهب جماعة من الأصحاب قدس سرهم إلی الجواز ، بل ذهب بعضهم إلی الوجوب الکفائی :

ص:226


1- (6) الدروس 3 / 164 .
2- (7) المسالک 3 / 128 .
3- (8) مستدرک الوسائل 13 / 109 ح 10 .
4- (1) الاحتجاج 2 / 340 .

منهم : الشهید قال : « أما علمه لیتوقی أو لئلا یعتریه فلا ، وربّما وجب علی الکفایة لیدفع المتنبّیء بالسحر»(1) . وتبعه الشهید الثانی فی المسالک(2) والروضة(3) ، ونفی عنه البُعد المحقق الثانی وقال : « لیس ببعید إن لم یلزم منه التکلّم بمحرَّم أو فعل ما یحرم»(4) .

والمحقق الإردبیلی فی مجمع الفائدة(5) والبحرانی فی الحدائق(6) وسید الریاض(7) والشیخ جعفر(8) وصاحب الجواهر(9) وتلمیذه السید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه(10)

والمحقق الخوئی(11) وشیخنا الاُستاذ(12) _ مدظله _ .

ویمکن أن یُستدل لهم - مضافاً إلی مرسلة الطبرسی(13) الماضیة فی الفرع السابق - بقاعدة الضرورات التی تبیح المحظورات ، لأنّ السحر الحرام وتعلّمه الحرام إذا کانا لدفع ضرر السحر عن نفسه أو غیره أو دفع فتنة من ادعی النبوة والإمامة من المناصب الإلهیة وإرشاد الناس المجتمعین المغفولین عنده وإفشاء أمره ، صار بقاعدة الضرورة من المحلّلات ، وإذا انحصر الدفع به صار من الواجبات الکفائیة کما علیه جماعة من الأصحاب ، واللّه سبحانه هو العالم .

الفرع السادس : هل یکون التسخیر من السحر أم لا ؟

التسخیرات مختلفة باعتبار المُسْخَر بالفتح ، تارة المسخَر هو القوی المادیة والطبیعیة ، واُخری الأشجار والنباتات والحیوانات ، وثالثة الإنسان وروحه وفکره وجسده ، ورابعة الشیاطین والأجنة ، وخامسة الأرواح سواء کانت من المؤمنین أو الکافرین ، وسادسة الملائکة .

والمسخِر بالکسر فی جمیعها هو الإنسان .

والکلُّ جائز ومباح ، ویدلّ علی ذلک قوله تعالی : «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَکُم مَّا فِی السَّمَاوَاتِ وَمَا فِی الاْءَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَیْکُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً»(14) وقوله تعالی : «اللَّهُ الَّذِی سَخَّرَ لَکُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِیَ الْفُلْکُ فِیهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ * وَسَخَّرَ لَکُم مَا فِی السَّماوَاتِ وَمَا فِی الأَرْضِ جَمِیعاً مِنْهُ إِنَّ فِی ذلِکَ لاَآیَاتٍ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ»(15) . وهذه الآیات الشریفة ونظائرها تدلّ بوضوح علی جواز تسخیر ما فی السماوات والأرض للإنسان ، ومنها ما ذکرناها . مضافاً إلی أنّ الأصل فیها الجواز والبراءة من الحرمة .

ولکن إذا صار هذا التسخیر موجباً لتضرر المسخِر بالکسر - نحو تلفه أو جنونه أو مرضه فی العاجل أو الآجل - یکون محرّماً من هذه الجهة .

وهکذا إذا صار هذا التسخیر موجباً لفناء المسخَر بالفتح بالکلیّة بحیث یکون نوع

ص: 196


1- (2) الدروس 3 / 164 .
2- (3) مسالک الأفهام 3 / 128 .
3- (4) الروضة البهیة 3 / 215 .
4- (5) جامع المقاصد 4 / 28 .
5- (6) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 79 .
6- (7) الحدائق 18 / 175 .
7- (8) ریاض المسائل 8 / 166 .
8- (9) شرح القواعد 1 / 240 .
9- (10) الجواهر 22 / 79 .
10- (11) برهان الفقه / کتاب التجارة / 30 و 31 .
11- (1) مصباح الفقاهة 1 / 296 .
12- (2) إرشاد الطالب 1 / 166 .
13- (3) الإحتجاج 2 / 340 .
14- (4) سورة لقمان / 20 .
15- (5) سورة الجاثیة / 12 و 13 .

الإنسان محروماً منه فی الآجل أو یکون المسخَر بالفتح من الإنس والجن والروح مؤمنین أو من الملائکة ویکون التسخیر ظلماً له ویوجب إیذاءه فصار محرَّماً من هذه الجهة .

فظهر ممّا ذکرنا أنّ الحکم الأوَّلی للتسخیرات هو الجواز وأنّها خارجة عن السحر حکماً وموضوعاً .

ومن هنا ظهر حکم عملیة إحضار الأرواح بأنّها جائزة إذا لم تکن موجبة لتضرر المحضِر بالکسر والمحضَر بالفتح إذا کان من المؤمنین .

ص:228

والعجب من الشهید حیث عدّ من السحر بعض التسخیرات وقال : « ومن السحر الإستخدام للملائکة والجن والإستنزال للشیاطین فی کشف الغائب وعلاج المصاب»(1) .

وهکذا عدّ من السحر إحضار الأرواح وقال : « ومنه الاستحضار بتلبّس الروح ببدن متفعّل ، کالصبی والمرأة وکشف الغائب عن لسانه»(2) .

وتبعه فی ذلک ثانیه وقال فی المسالک : « ومنه استخدام الملائکة والجن واستنزال الشیاطین فی کشف الغائبات وعلاج المصاب ، واستحضارهم وتلبّسهم ببدن صبیٍّ أو امرأةٍ وکشف الغائب علی لسانه»(3) .

وتبعهما الکاشانی فی المفاتیح(4) والسید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه(5) والشیخ الأعظم فی المکاسب المحرمة(6) ، ولکن ثانی الشهیدین أخرج الکِهانة التی هی من الاستخدامات والتسخیرات من السحر وقال : « وهو قریب من السحر»(7) . وهکذا الشهید عدّ کلاً منهما علی حدّه(8) .

العلامة یقول فی المنتهی : « فأما الذی یقال من العزم علی المصروع ویزعم أنّه یجمع الجنّ فیأمرها لتطیعه ، فهو عندی باطل لا حقیقة له ، وإنّما هو من الخرافات»(9) .

ووافقنا علی أنّ التسخیرات لیست من السحر جماعة من المحققین ، منهم : الإیروانی(10)

ص:230


1- (1) الدروس 3 / 164 .
2- (2) الدروس 3 / 164 .
3- (3) المسالک 3 / 128 .
4- (4) مفاتیح الشرائع 2 / 24 .
5- (5) برهان الفقه / کتاب التجارة / 28 طبع الحجری .
6- (6) المکاسب المحرمة / 34 الطبع الحجری (1 / 273) .
7- (7) المسالک 3 / 128 .
8- (8) الدروس 3 / 163 .
9- (9) منتهی المطلب 2 / 1014 .
10- (10) حاشیة المکاسب 1 / 172 .

والخوئی(1) والأردکانی(2) قدس سرهم وشیخنا الاُستاذ(3) والقمی(4) _ مدظلهما _ .

الفرع السابع : إذا قتل الساحر أحداً بسحره هل یقتص منه ؟

قال الشیخ فی الخلاف : « إذا أقرّ أنّه سحر فقتل بسحره متعمداً لا یجب علیه القود ، وبه قال أبوحنیفة . وقال الشافعی : علیه القود . دلیلنا : أنّ الأصل براءة الذمة ، وأنّ هذا ممّا یقتل به یحتاج إلی دلیل ... »(5) .

وقال فی المبسوط : « فإذا سحر رجلاً فمات من سحره سئل ، فإن قال سحری یقتل غالباً وقد سحرته وقتلته فعلیه القود ، کما لو أقرّ أنّه قتله بالسیف عمداً ، وقال قوم لا قود علیه بناءً علی أصله أنّه لایقتل إلاّ إذا قتل بالسیف ، وأمّا إذا قتل بالمثقل فلا قود ، لکنّه قال : إن تکرر الفعل منه قتلته حدّاً لأنّه بمنزلة الخناق ، وهو من السعی فی الأرض بالفساد ، والأوّل یقتضیه مذهبنا»(6) .

وأنت تری أنّ الشیخ ذهب فی المبسوط إلی خلاف ما ذهب إلیه فی الخلاف ، ذهب فی مبسوطه إلی ثبوت القود مع إقرار الساحر بأنَّ سحره یقتل غالباً ، وفی خلافه إلی نفیه مطلقاً .

قال المحقق : « السادسة : قال الشیخ : لا حقیقة للسحر ، وفی الأخبار ما یدلّ علی أنّ له حقیقة . ولعلّ ما ذکره الشیخ قریب ، غیر أنّ البناء علی الاحتمال أقرب ، فلو سحره فمات لم یوجب قصاصاً ولادیةً علی ما ذکره الشیخ ، وکذا لو أقر أنّه قتله بسحره ، وعلی ما قلناه من الاحتمال یلزمه الإقرار ، وفی الأخبار یقتل الساحر ، وقال فی الخلاف : یُحمل ذلک علی قتله حدّاً لفساده لا قوداً»(7) .

ص:230


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 296 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 135 .
3- (3) إرشاد الطالب 1 / 168 .
4- (4) عمدة المطالب 1 / 226 .
5- (5) الخلاف 5 / 330 المسألة 16 .
6- (6) المبسوط 7 / 260 .
7- (7) شرائع الإسلام 4 / 182 .

أقول : بناءً علی ما اخترناه من أنّ للسحر حقیقة فإذا قتل الساحرُ أحداً بسحره وأقرّ بذلک أو قامت البینة الشرعیة علیه ، یقتل به ویثبت القصاص ، لإستناد القتل العمدی إلیه وهو الذی یکون موضوعاً للقصاص .

وأمّا بناءً علی مختار الشیخ وأتباعه من أنه لیس للسحر حقیقة بل هو تخیّلٌ محضٌ ، یمکن القول بثبوت القصاص لو قتل الساحر أحداً خلافاً للشیخ فی خلافه ، لأنه قد یترتب علی من لیس له حقیقة أمراً واقعیاً نحو : أن یریه بحراً موّاجاً وسفینة جاریة فیه ویرید المسحور أن یرکبها فیسقط من ارتفاع فیموت ، وفی هذا الفرض ونحوه حیث یمکن استناد القتل إلی الساحر فعلیه القود .

ولذا ذهب الفقیه العاملی إلی ثبوت القصاص علی المسلکین وقال : « إنّ الأقوی الثبوت علی القولین»(1) .

والمحقق الخوئی قدس سره مع أنّه من القائلین بأنّ لیس للسحر حقیقة بل هو تخیّل محض ، ذهب إلی ثبوت القصاص لصحة إستناد القتل(2) .

فعلی ما ذکرناه ظهر عدم تمامیّة جعل هذا الفرع من ثمرات مسلکی الحقیقة والتخیّل ، بحیث یثبت القود بناءً علی الأوّل ثبت القود وبناءً علی الثانی فلا ، کما علیه بعض(3) .

والتفصیل یطلب من کتاب القصاص . واللّه العالم .

الفرع الثامن : هل یحکم بکفر الساحر ؟

قال الشیخ فی المبسوط : « فإذا قال : أنا ساحرٌ ، قلنا صف السحر ، فإن وصفه بما هو کفر فهو مرتدّ یستتاب فإن تاب وإلاّ قتل ، وإن وصفه بما لیس بکفر لکنّه قال : أنا أعتقد إباحته حکمنا بأنّه کافر یُستتاب ، فإن تاب وإلاّ قتل لأنّه اعتقد إباحة ما أجمع المسلمون علی تحریمه ، کما لو اعتقد تحلیل الزنا فإنّه یکفر . وإن قال : أنا ساحر أعمل السحر وأعتقد أنّه حرام لکنّی أعمله ، لم یکفر بذلک ولم یجب قتله ، وقال بعضهم : هو زندیق لا تقبل

ص:231


1- (1) مفتاح الکرامة 12 / 233 .
2- (2) مبانی تکملة المنهاج 2 / 7 .
3- (3) نحو الفقیه الشیخ جعفر فی شرح القواعد 1 / 248 .

توبته ویقتل ، وقال قوم : یقتل الساحر ولم یذکروا هل هو کافر أم لا ؟ وهو الموجود فی أخبارنا»(1) .

وقال فی الخلاف « من استحلّ عمل السحر فهو کافر ووجب قتله بلا خلاف ، ومن لم یستحلّه وقال : هو حرام ، إلاّ أنّی أستعمله کان فاسقاً لا یجب قتله ، وبه قال أبوحنیفة والشافعی . وقال مالک : الساحر زندیق إذا عمل السحر وقوله « لا استحلّه » غیر مقبول ، ولا

تقبل توبة الزندیق عنده . وقال أحمد بن حنبل وإسحاق : یُقتل الساحر ولم یتعرضا لکفره . وقد روی ذلک أیضاً أصحابنا . دلیلنا : أنّ الأصل حقن الدماء ومن أباحها یحتاج إلی شرع ودلیل ... ویدلّ علی صحة ما قلناه ما روی عنه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّی یقولوا « لا إله إلاّ اللّه » ، فإذا قالوها عصموا بها منّی دماءهم وأموالهم إلاّ بحقِّها ... »(2) .

« إذا قال : أنا أعرف السحر واُحسّنه لکنّی لا أعمل به ، لا شیء علیه . وبه قال الشافعی وأبوحنیفة . وقال مالک : هذا زندیق ، وقد اعترف بذلک فوجب قتله ولا تقبل توبته . دلیلنا : أنّ الأصل براءة الذمة وحقن دمه ، ومن أباحه فعلیه الدلالة»(3) .

أقول : هل یمکن الحکم بکفر الساحر بمحض تعلّم السحر وعمله أم لا ؟ الظاهر - واللّه العالم - عدم إمکان الحکم بکفره ، بمعنی أنّه صار مرتداً بمحض تعلّم السحر وعمله ، ولا یجری علیه أحکام الإرتداد من وجوب قتله وبینونة زوجته وتقسیم أمواله بین ورثته ، بل حیث أقرّ بالشهادتین فهو مسلم ویجری علیه أحکام الإسلام .

وما ورد فی بعض الروایات - نحو مرسلة الرضی الماضیة عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : الساحر کالکافر والکافر فی النار الخطبة(4) - فلا تدلّ علی کفره لإرسال سندها ولحرف التشبیه الظاهر فی الغیریة .

فالساحر إذا أقر بالشهادتین حکم بإسلامه ولکنّه کافر معنویاً وباطناً لا حکماً

ص:232


1- (4) المبسوط 7 / 260 .
2- (1) الخلاف 5 / 329 . المسألة 15 .
3- (2) الخلاف 5 / 331 . المسألة 17 .
4- (3) نهج البلاغة . الخطبة 79 .

ظاهریاً ، نحو ما ورد فی الروایات من الحکم بکفر تارک الصلاة ، حیث أنّ الشارع أمر بالصلاة ونهی عن السحر وعمله وتعلّمه ، وکلّ من ترک أمر الشارع أو عمل بنهیه فهو کمن أنکره ویلزمه الکفر المعنوی والباطنی ، فما ورد من الحکم بکفر الساحر(1) یحمل علی هذا المعنی الذی ذکرناه .

تنبیه : إذا استحلّ السحر وعمله وتعلّمه مع علمه بحرمته فی الشریعة المقدسة وعلم أن مرجع هذا الإستحلال إلی إنکار النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، یحکم بکفره کمن أنکر غیره من الضروریات . ولکن إذا لم یستحلّه وذهب إلی حرمته أو لم یعلم بأن مرجع هذا الإستحلال إلی

إنکار النبی صلی الله علیه و آله وسلم وشریعته ، لا طریق لنا إلی الحکم بکفره المصطلح أعنی الإرتداد .

الفرع التاسع : حدّ الساحر

قال المحقق : « من عمل بالسحر یُقتل إن کان مسلماً ویؤدّب إن کان کافراً»(2) .

وقال العلامة بعد تعریف السحر وأثره : « ... فمن عمل بالسحر قُتِلَ إن کان مسلماً واُدِّب إن کان کافراً من غیر أن یُقْتل ، والأقرب أنّه لا یکفر بتعلّمه وتعلیمه محرّماً ، ولو استحلّه فالوجه الکفر . والسحر الذی یجب به القتل هو ما یُعدّ فی العرف سحراً ، کما نقل الاُموی فی مغازیه : أنّ النجاشی دعا السواحر فنفخن فی ... »(3) .

قال سید الریاض بعد نقل کلام المحقق : « بلا خلاف فتویً ونصّاً ... ثمّ قال بعد صفحة : ثمّ إنّ مقتضی إطلاق النص والفتوی بقتله عدم الفرق فیه بین کونه مستحلاًّ له أم لا ، وبه صرح بعض الأصحاب(4) ، وحکی آخر من متأخری المتأخرین(5) قولاً بتقییده بالأوّل ، ووجهه غیر واضح بعد إطلاق النص المنجبر ضعفه _ بعد الاستفاضة _ بفتوی الجماعة وعدم الخلاف

ص:233


1- (4) نحو خبر أبی البختری عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیاً علیه السلام قال : من تعلّم من السحر قلیلاً أو کثیراً فقد کفر وکان آخر عهده بربّه ، الحدیث . [وسائل الشیعة 17/ 148 ح 7] .
2- (1) شرائع الاسلام 4 / 154 .
3- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 397 المسألة 6939 .
4- (3) الروضة البهیة 9 / 195 .
5- (4) مفاتیح الشرائع 2 / 102 .

فیه بینهم أجده ، ولم أرحاکیاً له غیره»(1) .

وقال صاحب الجواهر بعد کلام المحقق : « بلا خلاف أجده فیه ... _ ثمّ قال بعد صفحة : _ ثمّ إنّ إطلاق النص والفتوی یقتضی عدم الفرق بین مستحل وغیره ، فما عن بعض المتأخرین من القول بإختصاصه بالأوّل لم نتحققه ، وعلی تقدیره غیر واضح الوجه»(2) .

وقال المحقق الخوئی قدس سره : « من دون خلاف فی الجملة ...»(3) .

أقول : تدلّ علی حدِّ الساحر عدّة من الروایات :

منها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ساحر المسلمین یُقتل وساحر الکفار لا یُقتل ، فقیل : یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ولم لا یُقتل ساحر الکفار ؟ قال : لأنّ الکفر أعظم من السحر ، ولأنّ السحر والشرک مقرونان(4) .

ومنها : موثقة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : سئل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن الساحر فقال : إذا جاء رجلان عدلان فشهدا علیه فقد حلّ دمه(5) .

وهذه الموثقة مطلقة تشمل ساحر المسلمین والکفار ، ومعتبرة السکونی تقیّدها .

ومنها : موثقة أو حسنة إسحاق بن عمار عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیّاً علیه السلام کان یقول : من تعلّم شیئاً من السحر کان أخر عهده بربّه ، وحده القتل إلاّ أن یتوب ، الحدیث(6) .

هذه الروایة تدلّ علی أنّ حدّ متعلِّم السحر هو القتل ، ولا بأس بأخذها ، والمراد بتوبته فی آخر الحدیث ترکه للتعلّم .

ومنها : مصححة زید الشحام عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الساحر یُضرب بالسیف

ص:234


1- (5) ریاض المسائل 16 / 58 و 59 .
2- (6) الجواهر 41 / 442 و 443 .
3- (7) مبانی تکملة المنهاج 1 / 266 .
4- (8) وسائل الشیعة 28 / 365 ح 1 . الباب 1 من أبواب بقیة الحدود والتعزیرات .
5- (1) وسائل الشیعة 28 / 367 ح 1 . الباب 3 من أبواب بقیة الحدود والتعزیرات .
6- (2) وسائل الشیعة 28 / 367 ح 2 .

ضربةً واحدةً علی رأسه(1) .

قد مرّ تصحیح سندها فی أدلة حرمة السحر .

ومنها : خبر أبی البختری عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام أن علیاً علیه السلام قال : من تعلّم شیئاً من السحر قلیلاً کان أو کثیراً فقد کفر ، وکان آخر عهده بربّه ، وحدّه أن یقتل إلاّ أن یتوب(2) .

وهذه الروایات کماتری مطلقة بالنسبة إلی مستحلِّ السحر وغیره ، وهکذا مطلقة بالنسبة إلی من اتخذ السحر حرفةً وشغلاً وبین من عمل السحر مرة أو مرات .

ومن الواضح خروج من عمل لحلّ السحر ودفع المتنبیء ونحوهما من الحکم بکفره معنویاً وجریان حدّ القتل علیه ، والتفصیل یطلب من کتاب الحدود . واللّه العالم .

الفرع العاشر : هل یؤثر السحر فی النبی صلی الله علیه و آله وسلم والإمام علیه السلام أم لا ؟

وردت أخبار من طرق الفریقین فی تأثیر السحر فی النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم :

منها : ما رواه فرات بن إبراهیم الکوفی فی تفسیره بإسناده عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : سحر لبید بن أعصم الیهودی واُمّ عبداللّه الیهودیة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی عقد من قزٍّ أحمر

وأخضر وأصفر ، فعقدوه له فی إحدی عشر عقدة ثم جعلوه فی جف من طلع _ قال یعنی قشور اللوز _ ثمّ أدخلوه فی بئر بوادٍ فی المدینة فی مراقی البئر تحت راعوفة _ یعنی الحجر الخارج _ فأقام النبی صلی الله علیه و آله وسلم ثلاثاً لا یأکل ولا یشرب ولا یسمع ولا یبصر ولا یأتی النساء ، فنزل علیه جبرئیل علیه السلام ونزل معه بالمعوذتین [ بالمعوذات ] فقال له : یا محمد ما شأنک ؟ قال : ما أدری أنا بالحال الذی تری ، فقال : إنّ أمّ عبد اللّه ولبید بن أعصم سحراک وأخبره بالسحر وحیث هو ، ثمّ قرأ جبرئیل علیه السلام : «بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ذلک فانحلت عقدة ، ثمّ لم یزل یقرأ آیة ویقرأ النبی صلی الله علیه و آله وسلم وتنحل عقدة حتّی أقرأها علیه إحدی عشرة آیة وانحلت إحدی عشرة عقدة ، وجلس النبی صلی الله علیه و آله وسلم ودخل

ص:235


1- (3) وسائل الشیعة 28 / 366 ح 3 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 148 ح 7 .

أمیر المؤمنین علیه السلام فأخبره بما جاء به جبرئیل وقال : إنطلق فأتنی بالسحر ، فخرج علیٌّ فجاء به ، فأمر به رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فنقض ثمّ تفل علیه ، وأرسل إلی لبید بن أعصم واُمّ عبد اللّه الیهودیة فقال : ما دعاکم إلی ما صنعتم ؟ ثمّ دعا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم علی لبید وقال : لا أخرجک اللّه من الدنیا سالماً . قال : وکان مؤسراً کثیر المال ، فمرّ به غلام یسعی وفی اُذنه قرط قیمته دینار ، فجاذبه فخرم اُذن الصبی فاُخذ وقطعت یده فمات من وقته(1) .

ورویت نظائرها فی دعائم الاسلام 2 / 138 ح 487 وطب الائمة / 113 و 114 ونقل عنهما فی بحار الانوار 60 / 23 و 24 (24 / 248) والبحرانی فی البرهان 5 / 813 و 814 ومستدرک الوسائل 13 / 107 ح 7 و108 ح 8 و109 ح 9 .

وأمّا من طریق العامة : فروی نظائرها فی الدر المنثور 6 / 417 وغیره .

ونقل عنهم الشیخ فی الخلاف عدّة من الروایات فی ذلک ، ولکن قال بعد نقلها : « وهذه أخبار آحاد لا یُعمل علیها فی هذا المعنی »(2) .

وقال فی تفسیره : « ولا یجوز أن یکون النبی صلی الله علیه و آله وسلم سُحِرَ علی ما رواه القصّاص الجهال ، لأنّ من یوصف بأنّه مسحور فقد خبل عقله ، وقد أنکر اللّه تعالی ذلک فی قوله : «إِذْ یَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً»(3) ، ولکن قد یجوز أن یکون بعض الیهود اجتهد فی ذلک فلم یقدر علیه ، فأطلع اللّه نبیّه علی ما فعله حتّی استخرج ما فعلوه من التمویه ، وکان دلالة علی صدقه ومعجزة له »(4) .

وقد ذکر مثل هذا البیان الطبرسی فی مجمع البیان مع زیادة ، وهی : « وکیف یجوز أن یکون المرض من فعلهم ، ولو قدروا علی ذلک لقتلوه وقتلوا کثیراً من المؤمنین مع شدّة عداوتهم له»(5) .

ص:236


1- (235 1) تفسیر فرات الکوفی / 619 ح 774 ونقل عنه فی بحار الأنوار 60 / 22 ح 15 (24 / 247) .
2- (2) الخلاف 5 / 329 .
3- (3) سورة الاسراء / 47 _ ونحوها فی سورة الفرقان / 8 .
4- (4) التبیان 10 / 434 .
5- (1) مجمع البیان 10 / 568 .

قال الفخر الرازی : « إنّ المعتزلة أنکروا ذلک بأسرهم ، قال القاضی هذه الروایة باطلة »(1) .

وأنکره منّا _ مضافاً إلی الشیخ والطبرسی _ العلامة الحلی فی منتهی المطلب(2) والشیخ البحرانی فی الحدائق(3) والشیخ جعفر فی شرح القواعد(4) وتلمیذه السید العاملی فی مفتاح الکرامة(5) .

وأنکر العلامة المجلسی وقوعه وقال : « وإن لم یقم برهان علی امتناعه إذا لم ینته إلی حدٍّ یخلّ بغرض البعثة کالتخبیط والتخلیط ... »(6) .

أقول : إن البرهان قائم علی امتناع تأثر النبی من السحر ، لأن عامة الناس إذا رأوا تأثیر سحر الساحر علی النبی وأعماله ، لم یبق لهم إطمئنان ولا اعتماد علی أقواله وأعماله ومایبلّغ من الوحی ، لأنّ من الممکن عندهم أنّ یکون الساحر سحره فی نفس الآن والحین ، ونفس هذا الاستدلال یکفی فی امتناع تأثر النبی من السحر ، وأشار إلی هذا الاستدلال جدنا الفقیه الشیخ جعفر فی شرحه للقواعد(7) .

فلا یلتفت إلی ما احتمله فی البحار(8) وتبعه صاحب الجواهر(9) قدس سرهما .

والحاصل ، أنه لا یجوز تأثر النبی صلی الله علیه و آله وسلم من السحر مطلقاً ، أی من دون فرق بین تأثیر

ص:237


1- (2) التفسیر الکبیر 32 / 187 .
2- (3) منتهی المطلب 2 / 1014 .
3- (4) الحدائق 18 / 181 .
4- (5) شرح القواعد 1 / 247 .
5- (6) مفتاح الکرامة 12 / 239 .
6- (7) بحار الأنوار 60 / 41 (24 / 261) .
7- (8) شرح القواعد 1 / 247 .
8- (9) بحار الانوار 60 / 41 (24 / 261) .
9- (10) الجواهر 22 / 88 .

السحر فی جسمه الشریف أو فی عقله أو حدوث ما تنفر منه الطباع أو غیر ذلک کما علیه

الأعلام المذکورون رحمة اللّه علیهم أجمعین . وهذا تمام الکلام فی السحر وفروعه ، والحمد للّه العالم بإحکامه .

ص:238

الشعوذة

موضوعها وحکمها :

قال ابن منظور : « الشعوذة : خفة فی الید وأخذ کالسحر ، یُری الشیء بغیر ما هو علیه أصله فی رأی العین ... »(1) .

وحیث یأتی تعریفها وحکمها فی کلمات الفقهاء ، نذکر لک بعضها مع وضوح تعریفها وموضوعها الیوم عند العرف بحیث أنّ الکلّ یعرفها ، وهی المعبَّر عنها فی لغة الفرس ب_ « تردستی » و « چشم بندی » .

1 _ عدّها الشیخ فی عداد المکاسب المحرّمة وقال : « وکذلک التکسب بالکِهانة والقیافة والشَعْبَذَةِ وغیر ذلک محرَّم محظور»(2) .

2 _ وعدّها ابن إدریس من المکاسب المحرّمة وقال : « والکهانة والشعبذة والحیل المحرَّمة وما أشبه ذلک ... »(3) .

3 _ وکذا عدّها فی المکاسب المحرّمة المحقق فی کتابیه : الشرائع(4) والمختصر النافع(5) .

4 _ وقال العلامة الحلی : « والشعبذة حرام ، وهی الحرکات السریعة جداً بحیث یخفی علی الحس الفرق بین الشیء وشبهه لسرعة انتقاله من الشیء إلی شبهه»(6) .

ص:239


1- (1) لسان العرب 3 / 495 .
2- (2) النهایة / 366 .
3- (3) السرائر 2 / 218 .
4- (4) الشرائع 2 / 10 .
5- (5) المختصر النافع / 117 .
6- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 145 .

وذکر نحوها فی القواعد(1) والإرشاد(2) والتحریر مع زیادة الحکم بأخذ الاُجرة علیها وقال : « هی حرام وکذا الاُجرة علیها»(3) . وفی المنتهی(4) نفی الخلاف عن تحریمها .

5 _ وألحقها الشهید بالسحر وقال : « ویلحق به الشعبذة ، وهی الأفعال العجیبة المترتبة علی سرعة الید بالحرکة فیلتبس علی الحسّ»(5) .

6 _ وقال ثانی الشهیدین : « عرّفوها بأنّها الحرکات السریعة التی یترتب علیها الأفعال العجیبة ، بحیث یلتبس علی الحس الفرق بین الشیء وشبهه ، لسرعة الانتقال منه إلی شبهه»(6) .

ثم جاء فی هامشه : « إنّما قال عرّفوها لینبّه علی تمریض التعریف ، فإنّ الظاهر من حال الشعبذة أنّه خلاف ما عرّفوه _ منه رحمه الله »(7) .

7 _ والمحقق الأردبیلی عرّفها بالتعریف المشهور ثمّ قال : « وهو حرام بلا خلاف»(8) .

8 _ والفیض الکاشانی أیضاً ادعی نفی الخلاف فی حرمتها(9) .

9 _ وقال المحدث البحرانی بعد ذکر تعریفها المشهور : « وقد صرح فی المنتهی بنفی الخلاف عن التحریم ، والظاهر أنّه لا دلیل سواه ، فإنّی لم أقف بعد التتبع علی خبر یدلّ علی ذلک»(10) .

أقول : والعجب من هذا المحدث الخبیر کیف غفل عن مرسلة أبی منصور الطبرسی

ص:240


1- (7) قواعد الأحکام 2 / 9 .
2- (8) إرشاد الأذهان 1 / 375 .
3- (9) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 261 .
4- (10) منتهی المطلب 2 / 1014 .
5- (1) الدروس 3 / 164 .
6- (2) المسالک 3 / 129 .
7- (3) المسالک 3 / 129 .
8- (4) مجمع الفائدة 8 / 81 .
9- (5) مفاتیح الشرائع 2 / 23 .
10- (6) الحدائق 18 / 185 .

المذکورة فی الاحتجاج ، حیث سأل الزندیق عن الصادق علیه السلام : فأخبرنی عن السحر ما أصله ؟ .....قال علیه السلام : إنّ السحر علی وجوه شتی وجه منها : بمنزلة الطب ... ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاریق وخفة ، الحدیث(1) .

وهذا النوع الأخیر ینطبق علی الشعبذة بلا ریب .

10 _ وقال الشیخ جعفر بعد الحکم بتحریمها : « لإجماع المنتهی وللحوقها بالباطل عند العاقل ، فتحرم للخبر ولأنّها .... ثمّ ذکر تعریفها من القواعد وقال : فیحکم الرائی لها بخلاف الواقع ، وتدخل فی باب الإغراء بالجهل والتدلیس والتلبیس ، ولما فیها من القبح الزائد علی قبح الملاهی ، والاشتغال بها من أعظم اللهو»(2) .

أقول : لعل مراد الجد قدس سره من الخبر ما ورد عن الأئمة علیهم السلام فی إیکال أمر حرمة الغناء والشطرنج ونحوهما إلی أنّهما ونحوهما من الباطل فصارت حراماً نحو : موثقة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام حیث سُئل عن الشطرنج وعن ... ؟ فقال علیه السلام : أرأیتک إذا میّز اللّه الحقّ والباطل مع أیّهما تکون ؟ قال : مع الباطل ، قال : لا خیر فیه(3) .

ومثلها معتبرة الریان بن الصلت حیث سأل عن الرضا علیه السلام عن الغناء ... فقال : إذا میز اللّه الحقّ والباطل فأین یکون الغناء ؟ فقال : مع الباطل ، فقال علیه السلام : قد حکمت(4) .

11 _ وقال سید الریاض بعد تعریفها المشهور : « ولا خلاف فی تحریمه کما عن المنتهی»(5) .

12 _ والفاضل النراقی ذکرها من المکاسب المحرّمة فی المستند ، وقال بعد تعریفها المشهور : « وعن الدروس نفی الخلاف فی تحریمه»(6) .

ص:241


1- (7) الإحتجاج 2 / 339 .
2- (8) شرح القواعد 1 / 260 .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 319 ح 5 . الباب 102 من أبواب ما یکتسب به .
4- (2) وسائل الشیعة 17 / 306 ح 14 . الباب 99 من أبواب ما یکتسب به .
5- (3) ریاض المسائل 8 / 169 .
6- (4) مستند الشیعة 14 / 117 .

أقول : لم أجد هذا القول فی الدروس .

13 _ قال السید العاملی فی المفتاح : « وقد نص علی حرمتها فی النهایة والسرائر والشرائع والنافع والتحریر والتذکرة والإرشاد والدروس واللمعة وسائر ما تأخر ، وعن المنتهی أنّه لا خلاف فیه ، فلا وجه للتأمل فیه بعد الإجماع المنقول بل المعلوم ، إذ لم نجد مخالفاً مع قربها من السحر ، وقد ألحقها به الشهید فی الدروس»(1) .

14 _ وقال صاحب الجواهر : « الشعبذة المحرّمة بالإجماع المحکی والمحصَّل وبالدخول تحت الباطل والإغراء والتدلیس واللهو وغیرها ، بل لعلّها مِن السحر علی بعض الوجوه ... »(2) .

15 _ وقال تلمیذه السید علی آل بحر العلوم : « وممّا یحرم التکسب به أیضاً الشعبذة ، ولم یتعرض لها فی جملة مِنْ کتب اللغة ، والمستفاد من المعترض لها أنّها إراءة شبه الشیء أشیاء من غایة سرعة الحرکة ، ووافقته کلمات الأصحاب فی تفسیرها ، ولم أجد مخالفاً فی حرمتها .

وعن المنتهی لا خلاف فیه ، وفی مفتاح الکرامة وجواهر الاُستاد الإجماع علیه ، ولعلّه کذلک ، خصوصاً إن قلنا بأنّها مِن السحر ، کما یعطیه خبر الإحتجاج المتقدم فی السحر المتضمن لقوله : « ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاریق وخفة» ، فتشملها حینئذ مضافاً إلی ذلک نصوصه ، وتحصیل ملکتها لا یکون إلاّ بتکرر العمل کصیرورة الإنسان بریداً ، فلا مورد هنا لجواز تعلّمها لا للعمل»(3) .

16 _ وقال الشیخ الأعظم : « الشعبذة حرام بلا خلاف ... ویدلّ علی الحرمة بعد الإجماع - مضافاً إلی أنّه من الباطل واللهو - دخوله فی السحر فی الروایة المتقدمة عن الإحتجاج المنجبر وَهْنَها بالإجماع المحکی وفی بعض التعاریف المتقدمة للسحر ما یشملها»(4) .

ص:242


1- (5) مفتاح الکرامة 12 / 268 .
2- (6) الجواهر 22 / 94 .
3- (1) برهان الفقه . کتاب التجارة / 32 . الطبع الحجری .
4- (2) المکاسب المحرمة / 34 الطبع الحجری (1 / 274) .

17 _ وذهب إلی الحرمة الفقیه السبزواری ، ولکن قال بعد الإستدلال لها : « والمتیقَّن من الدلیل ما إذا لم یکن فیها غرض صحیح شرعی ، وإلاّ فمقتضی الأصل الإباحة ، بعد عدم شمول الدلیل لهذه الصورة أو الشک فی الشمول ، کما لا تشمل الآثار السریعة الحادثة من الآلات الکهربائیة ونحوها»(1) .

أقول : بعد وضوح موضوع الشعبذة عند العرف ، تری أنّ الأصحاب حکموا لها بحرمتها قدیماً وحدیثاً ، وغایة ما یمکن الإستدلال علی حرمتها اُمورٌ نتعرض لها :

أدلة حرمة الشعوذة :

الأوّل : الإجماع

قد ادعی العلامة الحلی فی المنتهی(2) عدم الخلاف فی حرمتها ، والمحقق الأردبیلی(3) والفیض الکاشانی(4) وسید الریاض(5) ، ونقله الفاضل النراقی(6) عن الدروس ولکن لم یوجد

فیه ، والشیخ الأعظم(7) .

ثمّ عدم الخلاف بُدّل بالإجماع فی کلام الشیخ جعفر(8) وتلمیذیه السید العاملی(9) وصاحب الجواهر(10) .

وحیث یرجع هذا الإجماع ، إلی عدم الخلاف الوارد فی کلام العلامة الحلی فقط ، لم

ص:243


1- (3) مهذب الأحکام 16 / 105 .
2- (4) منتهی المطلب 2 / 1014 .
3- (5) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 81 .
4- (6) مفاتیح الشرائع 2 / 23 .
5- (7) ریاض المسائل 8 / 169 .
6- (8) مستند الشیعة 14 / 117 .
7- (1) المکاسب المحرمة / 34 (1 / 274) .
8- (2) شرح القواعد 1 / 260 .
9- (3) مفتاح الکرامة 12 / 268 .
10- (4) الجواهر 22 / 94 .

یثبت به الإجماع ولکن ما وجدنا أحداً من الأصحاب تعرض للشعبذة إلاّ حکم بحرمتها .

نعم ، بعض المعاصرین قد نفی الحرمة عنها وحکموا بإباحتها ، ویأتی التعرض لأسامیهم المبارکة .

والحاصل : لم یثبت بعدم خلاف العلامة الإجماع ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : علی فرض ثبوته یمکن أن یکون مدرکیاً ، لاحتمال استناده إلی الوجوه الآتیة .

الثانی : مرسلة الإحتجاج

حیث قال الصادق علیه السلام فی وجوه السحر : « ونوع آخر منه : خطفة وسرعة ومخاریق وخفة» ، الحدیث(1) .

بتقریب : أنّها تنطبق علی الشعبذة ، فحکم بحرمتها وتلحق بالسحر حکماً .

ویمکن أن یقال : ألحقها الإمام علیه السلام بالسحر موضوعاً لتطرق حکم السحر علیها وهی الحرمة .

لا یقال : الروایة مرسلة سنداً ، لا یمکن الاعتماد علیها .

لأنا نقول : نعم هی مرسلة ولکن فتوی المشهور علی طبقها یجبر ضعف سندها وإرسالها .

الثالث : الشعبذة من الباطل

الشعبذة من الباطل عرفاً ، والباطل حرام فی الشریعة المقدسة ، فهی من المحرّمات الشرعیة . لا إشکال فی ثبوت الصغری ، وقد دلّت علی الکبری موثقة زرارة(2) ومعتبرة الریان بن الصلت(3) الماضیتان آنفاً . فقد تمّ الاستدلال .

الرابع : أنّها من اللهو

الشعبذة من اللهو ، واللهو حرام ، فهی من المحرَّمات .

وفیه : أوّلاً : منع الصغری بأنّها لیست من اللهو دائماً إذا ترتب علیها غرض

ص:244


1- (5) الإحتجاج 2 / 340 .
2- (6) وسائل الشیعة 17 / 319 ح 5 .
3- (7) وسائل الشیعة 17 / 306 ح 14 .

عقلائی صحیح .

وثانیاً : منع الکبری : بأنه لیس کلّ لهو بحرام ، بل الحرام منه قسم خاص .

الخامس : أنّها تدخل فی السحر

الشعبذة تدخل فی السحر ، لأنّه یشملها بعض التعاریف الواردة فی السحر ، نحو : کلّ أمر یختفی سببها ویتخیل علی غیر حقیقته ، وألحقها الإمام علیه السلام بالسحر فی مرسلة الاحتجاج الماضیة .

وفیه : الشعبذة غیر السحر فی اللغة والعرف ، لأنّ الشعبذة هی إیجاد الشیء بأسبابه العادیة ولکن بالسرعة والخفة اللتان هما قوام الشعبذة ، فهی غیر السحر الذی یحدث بأسباب غیر عادیة . وعلی هذا تعریف السحر لا ینطبق علی الشعبذة ، وإلحاقها به فی کلام الإمام علیه السلام إمّا بالعنایة والمجاز وإمّا بجریان حکم السحر علیها .

والحاصل ، حیث تمّ عندنا الدلیل الثانی والثالث - أعنی مرسلة الاحتجاج وأنّها من الباطل - فیمکن القول بحرمتها وفاقاً للمشهور وخلافاً للمحقق الخوئی ، حیث ناقش فی جمیع الأدلة فی مصباح الفقاهة(1) ونتیجتها الحکم بالإباحة وتلمیذیه شیخنا الاُستاذ(2) والفقیه القمی(3) _ مدظلهما _ ، وناقش فی بعض الأدلة المحقق الإیروانی(4) والفقیه الأردکانی(5) قدس سرهما . کما ناقشنا البعض . ولکن بعضها الاُخری تامة ، وتبعیةُ المشهورِ والحکم بالحرمة اُولی وأحوط ، واللّه سبحانه هو العالم .

ص: 245


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 298 .
2- (2) ارشاد الطالب 1 / 168 .
3- (3) عمدة المطالب 1 / 234 .
4- (4) حاشیة المکاسب 1 / 173 .
5- (5) غنیة الطالب 1 / 136 .

الغَشّ

اشارة

والبحث فیه یقع فی جهات :

الجهة الأولی : موضوع الغش

لیس للغش حقیقة شرعیّة ولا عند المتشرعة ، فلابدّ من تعیین موضوعه إلی مراجعة اللغة والعرف ، فنذکر بعض کلمات اللغویین والفقهاء حتّی تبیّن الموضوع :

قال الزمخشری : « غ ش ش : ما نصحتُ أحداً إلاّ استغشّنی واغتشّنی ، قال :

ألارُبَّ مَن تغتشُّه لک ناصح ومؤتمن بالغیب غیر أمین

... ورجلٌ غاشٌ من قوم غَشَشَةٍ وغَشّاشة ، وتقول : ما هم إلاّ قوم غَشّاشة ، أیدیهم بالخیانة رشَّاشة ، وطعام فلان مغشوش أعلاه یابس وأسفله مرشوش ، ما لقیته إلاّ غِشاشاً وعلی غِشاش ... »(1) .

قال ابن منظور : « غشش : الغِشُّ : نقیض النُّصح ، وهو مأخوذ من الغَشَش المَشْرَب الکِدِر ، أنشد ابن الأعرابی :

ومَنْهَل تروی به غیر غَشَشْ

أی غیر کدر ولا قلیل ، قال : ومن هذا الغشُّ فی البیاعات ... وقد غَشَّه یَغُشُّه غِشَاً : لم یَمْحَضه النصیحة ، وشیءٌ مَغْشوش . ورجلٌ غُشَّ : غاشٌّ ، والجمع غُشّون ... »(2)

قال الفیومی : « غَشَّهُ : غَشّاً من باب قَتَلَ والإسم وغِشٌّ بالکسر : لم یَنْصَحْهُ وزَیَّنَ له غیر المصلحة ، ولَبَنٌ مغشوشٌ مخلوطٌ بالماء»(3) .

ص:246


1- (1) أساس البلاغة / 324 .
2- (2) لسان العرب 10 / 74 .
3- (3) المصباح المنیر / 447 .

قال الفیروزآبادی : « غَشَهُ : لم یُمحِضْه النُصح أو أظهر له خلاف ما أضمر کَغَشَّشَه ، والغِشُّ بالکسر الإسم منه والغِلُّ والحِقدُ ، ورجلٌ غَشّ بالفتح : عظیم السُّرّةِ وبالضّم الغاشّ جمعه غُشون ، والمغشوش الغیر الخالص ، والغشش محرکة الکِدر المشوب ... »(1) .

وقال الطریحی : « غشش : المغشوش : الغیر الخالص ... »(2) .

وقال فی المنجد : « غَشَّهُ _ُ غَشّاً وغَشَّشه : أظهر له خلاف ما أضمره وزیّن له غیر المصلحة . خدعه ، أغَشَّهُ : أوقعه فی الغِش ، ... الغِشّ : اسم من الغَشّ ، الحقد ، الخیانة ، سواد القلب ، عبوس الوجه ، الکدر فی کل شیءٍ .

الغُش جمعه غُشُّون ، والغاش جمعه غَشَشَة وغشّاش : الذی یَغُشّ الناس»(3) .

وقال الشیخ جعفر کاشف الغطاء : « الغشّ بالفتح مصدر وبالکسر اسمٌ ، والأوّل ألصق بما بعده وأوفق بتعلّق الحکم وترتّب الملک بإدخال الأدنی فی الأعلی ، أو المطلوب فی غیره ، أو بالعکس من المجانس وغیره ، أو تعمّد ما یظهر الصنعة الملیحة ویخفی القبیحة فیدخل التدلیس لیتوفّر رغبة المستام بما یخفی حاله فیظنّ کماله فیغریه بالجهل بفعله الخالی عن الاحتمال والمصلحة بل المشتمل علی المفسدة ، کما لو أغراه بقوله ، ویکون ساعیاً فی ضرره بإخفاء خبره ... »(4) .

وقال النراقی : « الغش خلاف النصح والخلوص أو إظهار خلاف ما أضمر ، وحصوله فی المعاملات إنّما یکون إذا کان فی المبیع نقص ورداءة وله صور ... »(5) .

والإیروانی یقول : « الغش ستر ما لا یرغب فیه فیما یرغب فیه طلباً للزیادة فی المعاملة»(5) .

ص:247


1- (4) قاموس اللغة / الطبع الحجری ذیل مادته .
2- (1) مجمع البحرین / 341 .
3- (2) المنجد / 579 .
4- (3) شرح القواعد 1 / 208 .
5- (4) مستند الشیعة 14 / 169 .(4) حاشیة المکاسب 1 / 174 .

وقال المحقق الخوئی فی تعریفه : « کونه (أی کون الغش) بمعنی الکدر والخدیعة والخیانة ، ویُعبّر عنه فی لغة الفرس بکلمة (گول زدن) ، ولا یتحقق ذلک إلاّ بعلم الغاش وجهل المغشوش ، فإذا کلاهما عالمین بالواقع أو جاهلین به أو کان الغاش جاهلاً والمغشوش عالماً انتفی مفهوم الغش»(1) .

أقول : تلک عشرة کاملة من کلمات اللغویین والفقهاء فی هذا الباب ، ویظهر منها أنّ للغش معنی عرفی یرجع إلی إخفاء العیب والنقص وتغطیتهما أو تخلیط الردیء بالجید

والمشوب بالخالص ونحوها طلباً للزیادة فی المعاملة وسوء الاستفادة من جهل المشتری بالنسبة إلیه .

فظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة ما ذکره المحقق الإیروانی من أنّ الغش لایکون محرّماً بعنوانه بل هو محرّم بالعناوین الثانویة من الکذب ، أو أنّه أکل للمال بلارضی صاحبه(2) ، لأنّ الخطابات الشرعیة وردت فی الغش وظاهرها حرمته بنفسه لا بعنوان آخر کما هو واضح .

الجهة الثانیة : أقسامه

للغش أنواع کثیرة ذکر بعضها شیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی فی ما کتبه من تقریرات اُستاذه الحائری قدس سرهما ، قال : « فاعلم أنّ الغش خلاف النصح وتزیین خلاف المصلحة ، وهو علی أنحاءٍ :

1 _ فقد یکون بالمزج ، إمّا للصنف الردیء فی الصنف الجید ، أو لغیر الجنس فی الجنس ، کالتراب فی الحنطة والماء فی اللبن .

2 _ وقد یکون بإخفاء العیب ، إمّا بستره بساتر مثل ستر صفرة لون البشرة بالتحمیر ، أو بالسکوت عنه وعدم إظهاره ، أو بالتصدی للبیع فی مکان ظلمانی یحجب العیب لظلمته .

ص:248


1- (6) مصباح الفقاهة 1 / 300 .
2- (1) حاشیة المکاسب 1 / 174 .

3 _ وقد یکون بإظهار الصفة الجیدة المفقودة واقعاً ، إمّا بوصفه بها کذباً ، أو بإحداث شیء فیه یوهم کونه علی خلاف جنسه ، کإعطاء الممّوه مکان الذهب أو الفضة أو بغیر ذلک ، ویسمی هذا القسم بالتدلیس .

4 _ وقد یکون بإحداث أمر لیزید فی کمّ المتاع ، مثل بلّ الطعام لیصیر أکثر وزناً ، ووضع الإبریسم والتتن والجلد فی الندی لیکتسب الثقل .

5 _ ثمّ إمّا أن یکون الغش ظاهراً أعنی قابلاً لأن یطلّع علیه بتوسط إحدی الحواس الخمسة الظاهرة مثل خلط مدوّر الحبّة مِنْ الاُرز فی طویلها حیث یمکن فهمه بالباصرة واللامسة وهکذا .

6 _ وإما أن یکون خفیّاً غیر محسوس بها ، وحینئذ إما أن یمکن الإطلاع علیه بالإختبار أو الاستعلام من أهل الإطلاع غیر البائع وإمّا أن ینحصر طریق الإطلاع فی إعلام

البائع کمزج الماء القلیل فی اللبن .

1 _ وعلی التقادیر : إمّا أن یکون الغش بفعل البائع لفرض التلبیس والإغفال علی المشتری ، وإمّا أن لا یکون کذلک : إمّا بحصوله إتفاقاً کورود ماء المطر فی اللبن مِنْ غیر اختیاره ، أو بحصوله بفعله لغرض صحیح أو بحصوله بفعل غیره .

2 _ وعلی التقدیر الثانی : إمّا أن یکون للمبیع صورة موهمة لخلاف الواقع وإمّا أن یکون له صورة مشترکة بین الصحیح والمعیب ، مثل الحیوان الغیر المبصر فی اللیل .

3 _ وعلی جمیع التقادیر : إمّا أن یخبر البائع بالصحة والسلامة من العیب علی وجه یعتمد المشتری ، وإمّا أن یکتفی بالسکوت وعدم الإظهار .

فهذه ثمان عشرة صورة»(1) .

أقول : وقد قسّم الفاضل النراقی الغش فی المستند(2) بأکثر ممّا قسّمه المؤسس الحائری فراجعه ، ویظهر حکم هذه الصور فی طیّ البحث إنْ شاء اللّه تعالی .

ص:249


1- (1) المکاسب المحرمة / 126 و 125 .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 169 و 170 .

الجهة الثالثة : أقوال الأصحاب قدس سرهم

قال المفید : « والغش فی کلِّ متجر وصناعة حرام»(1) .

وقال الطوسی : « وکلّ شیء غُش فیه فالتجارة فیه والتکسب به بالبیع والشراء وغیر ذلک حرامٌ محظورٌ»(2) .

وقال ابن إدریس : « ویحرم ... والغش فی جمیع الأشیاء»(3) .

وذهب الی الحرمة المحقق فی الشرائع(4) والنافع(5) .

وقال العلامة الحلی : « الغش والتدلیس محرمان»(6) ، وذهب فی المنتهی(7) إلی عدم الخلاف فی حرمته ، وفی القواعد(8) والتحریر(9) والإرشاد(10) ذهب إلی حرمته .

والشهید فی الدروس(11) واللمعة(12) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(13) والشهید الثانی فی المسالک(14) والروضة(15) والأردبیلی فی مجمع الفائدة(16) ، والبحرانی فی الحدائق

ص:250


1- (3) المقنعة / 590 .
2- (4) النهایة / 365 .
3- (5) السرائر 2 / 216 .
4- (6) الشرائع 2 / 10 .
5- (7) المختصر النافع / 117 .
6- (8) تذکرة الفقهاء 12 / 142 .
7- (9) منتهی المطلب 2 / 1012 الطبع الحجری .
8- (10) قواعد الأحکام 2 / 8 .
9- (11) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 .
10- (12) إرشاد الأذهان 1 / 357 .
11- (1) الدروس الشرعیة 3 / 163 .