شبر، عبدالله، 1774- 1826م.
الأخلاق/ تألیف عبدالله شبر؛ تحقیق علی القصیر. - کربلاء: قسم الشؤون الفکریة والثقافیة فی العتبة الحسینیة المقدسة، 1429ق. = 2008م.
2ج. – (قسم الشؤون الفکریة والثقافیة فی العتبة الحسینیة المقدسة؛ 12)
المصادر : ص. 381 – 396؛ وکذلک فی الحاشیة.
1. الأخلاق الإسلامیة 2. الأخلاق - من الناحیة القرآنیة. 3. أحادیث أخلاقیة. ألف. القصیر، علی، 1967- م، محقق. ب. عنوان.
3 الف 2 ش / BP 247 / 7
مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 2
ص: 3
الأخلاق
تألیف
السید عبدالله شبر
تحقیق
السید علی القصیر
الجزء الثانی
إصدار
قسم الشؤون الفکریة والثقافیة فی العتبة الحسینیة المقدسة
شعبة التحقیق
ص: 4
جمیع الحقوق محفوظة
للعتبة الحسینیة المقدسة
الطبعة الأولی
1429ه_ - 2008م
العراق: کربلاء المقدسة-العتبة الحسینیة المقدسة-هاتف: 326499
Web: www.imamhussain-lib.com
E-mail: info@imamhussain-lib.com
ص: 5
ص: 6
ص: 7
ص: 8
ص: 9
فی شهوة البطن
إعلم أن البطن علی التحقیق ینبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات، إذ یتبعها شهوة الفرج وشدة الشبق(1) إلی المنکوحات، ثم یتبع شهوة المطعم والمنکح شدة الرغبة فی المال والجاه اللذین هما الوسیلة إلی التوسع فی المطعومات والمنکوحات، ویتبع استکثار المال والجاه أنواع الرعونات(2) وضروب المنافسات والمحاسدات، ویتولد من ذلک آفة الریاء وغائلة(3) التفاخر والتکاثر والکبریاء، ثم یتداعی ذلک إلی الحسد والحقد والعداوة والبغضاء، ثم یفضی ذلک بصاحبه إلی
ص: 10
اقتحام البغی والمنکر والفحشاء، وکل ذلک ثمرة إهمال المعدة وما یتولد من بطر(1) الشبع والامتلاء.
ولو ذلل العبد نفسه بالجوع وضیق مجاری الشیطان لأذعنت(2) نفسه لطاعة الله ولم تسلک سبیل البطر والطغیان، ولم ینجر به ذلک إلی الانهماک فی الدنیا وإیثار العاجلة علی العقبی، ولم یتکالب(3) هذا التکالب علی الدنیا(4). قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: لا یدخل ملکوت السماوات قلب من ملأ بطنه(5).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: الفکر نصف العبادة، وقلة الطعام هی العبادة(6).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم:لا تمیتوا القلوب بکثرة الطعام والشراب، فإن القلب کالزرع(7) یموت إذا کثر(8) علیه الماء(9).
ص: 11
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، حسب ابن آدم لقیمات یقمن صلبه، فإن کان هو فاعلاً لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه(1).
وعنه صلی الله علیه وآله وسلم: إن الشیطان لیجری من ابن آدم مجری الدم، فضیقوا مجاریه بالجوع والعطش(2).
وقال الصادق علیه السلام: إن البطن لیطغی من أکلة، وإن أقرب ما یکون العبد إلی الله تعالی إذا خف بطنه، وأبغض ما یکون العبد إلی الله تعالی إذا امتلأ بطنه(3).
وعنه علیه السلام(4) قال: لیس لابن آدم بد من أکلة یقیم بها صلبه، فإذا أکل أحدکم طعاماً فلیجعل ثلث بطنه للطعام وثلث بطنه للشراب وثلثه للنفس(5)، ولا تسمنوا سمن(6) الخنازیر للذبح(7).
وقال الباقر علیه السلام: ما من شیء أبغض إلی الله تعالی(8) من بطن مملوء(9).
وقال لقمان لابنه: یا بنی إذا امتلأت المعدة نامت الفکرة، وخرست الحکمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة(10).
ص: 12
وفوائد الجوع کثیرة:
الأولی: صفاء القلب واتقاد(1) القریحة(2) ونفاذ البصیرة، فإن الشبع یورث البلادة(3) ویعمی القلب ویکثر البخار فی الدماغ کشبه السکر.
الثانیة: رقة القلب وصفاؤه الذی به یتهیأ لإدراک لذة المناجاة والتأثر بالذکر(4).
الثالثة: الانکسار والذل وزوال البطر والفرح والأشر(5) الذی هو مبدأ الطغیان والغفلة عن الله.
ص: 13
الرابعة: أن لا ینسی بلاء الله وعذابه، ولا ینسی أهل البلاء، فإن الشبعان ینسی الجائعین وینسی الجوع، والفطن(1) لا یشاهد بلاءً إلا ویتذکر بلاء الآخرة، فیتذکر بالجوع جوع أهل النار وأن ((لَیْسَ لَهُمْ طَعٰامٌ إِلاّ مِن ضَرِیعٍ (6) لا یُسْمِنُ وَلا یُغْنِی مِن جُوعٍ))(2)، وبالعطش عطشهم وعطش أهل المحشر فی عرصات(3) القیامة.
الخامسة: کسر شهوات المعاصی کلها والاستیلاء علی النفس الأمارة بالسوء(4)، فإن منشأ المعاصی کلها الشهوات والقوی، ومادة الشهوات والقوی الأطعمة والأشربة.
السادسة: دفع النوم ودوام السهر، فإن من شبع شرب کثیراً، ومن کثر شربه کثر نومه، وفی کثرة النوم ضیاع العمر وفوت التهجد وبلادة الطبع وقساوة القلب.
السابعة: تیسیر المواظبة علی العبادة، لأن کثرة الأکل تحتاج إلی زمان یشتغل فیه بالأکل وتحصیله وتحصیل الآلة وأسبابه، والاشتغال بإدخاله وإخراجه.
ص: 14
الثامنة: صحة البدن ودفع الأمراض، فإن سببها کثرة الأکل وحصول فضول الأخلاط فی المعدة والعروق، ثم المرض یمنع العبادات ویشوش القلب ویمنع من الذکر والفکر ویحوج إلی الفصد(1) والحجامة(2) والدواء والطبیب، وإلی مؤن وتبعات لا یخلو الإنسان فیها بعد التعب من أنواع المعاصی.
قال علیه السلام(3): المعدة بیت الداء، والحمیة رأس کل دواء(4)، وأعط کل بدن ما عودته(5).
التاسعة: خفة المؤونة.
العاشرة: التمکن من الإیثار والتصدق بالفاضل عن الضروری(6).
وفی مصباح الشریعة: قال الصادق علیه السلام: قلة الأکل محمودة علی کل حال وعند کل قوم، لأن فیها المصلحة للظاهر والباطن، والمحمود من المأکول أربعة: ضرورة، وعدة، وفتوح، وقوت. فالضرورة للأصفیاء، والعدة لقوم الأتقیاء، والفتوح للمتوکلین، والقوت للمؤمنین.
ص: 15
ولیس شیء أضر لقلب المؤمن من کثرة الأکل، وهی مورثة شیئین: قسوة القلب، وهیجان الشهوة. والجوع أدام للمؤمن، وغذاء للروح، وطعام للقلب، وصحة للبدن(1)__ الحدیث.
واعلم أنه حیث کان طبع الإنسان طالباً لغایة الشبع جاء الشرع فی المبالغة فی الجوع، حتی یکون الطبع باعثاً والشرع مانعاً، فیتقاومان ویحصل الاعتدال والوسط المطلوب فی جمیع الأخلاق والأحوال، فالأفضل حینئذ بالإضافة إلی الطبع المعتدل أن یأکل بحیث لا یحس بثقل المعدة ولا بألم الجوع، فإن المقصود من الأکل بقاء الحیاة وقوة العبادة، وثقل الطعام یمنع العبادة وألم الجوع أیضاً یشغل القلب ویمنع منها، فالمقصود أن یأکل أکلاً معتدلاً بحیث لا یبقی للأکل فیه أثر، لیکون متشبهاً بالملائکة، فإنهم مقدسون عن ثقل الطعام وألم الجوع(2). وإلیه الإشارة بقوله تعالی:((کُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلا تُسْرِفُواْ))(3).
والقوام فیه أن لا یأکل طعاماً ولا یشرب شراباً حتی یشتهیه، ویکف نفسه عنهما وهی تشتهیه(4).
ص: 16
ص: 17
ص: 18
ص: 19
فی شهوة الفرج
إعلم أن هذه الشهوة من أعظم المهلکات لابن آدم إن لم تضبط وتقهر وترد إلی حد الاعتدال، ولها طرفان: إفراط بأن تقهر العقل فتصرف همة الرجل إلی التمتع بالنساء والجواری فتحرمه عن سلوک طریق الآخرة وقد تقهر الدین وتجر إلی اقتحام الفواحش، وقد تنتهی به إلی الفسق البهیمی الذی ینشأ عن استیلاء الشهوة فیسخر الوهم العقل لخدمة الشهوة. وقد خلق العقل لیکون مطاعاً لا لیکون خادماً للشهوة محتالاً لأجلها، وهو مرض قلب فارغ لا همة له، ولذا قیل: إن الشیطان قال(1) للمرأة: أنت نصف جندی وأنت سهمی الذی أرمی به فلا أخطئ، وأنت موضع سری، وأنت رسولی فی حاجتی(2). فنصف جنده الشهوة ونصفه الغضب.
وأعظم الشهوة شهوة النساء، ویجب الاحتراز منها فی مبدأ الأمر بترک معاداة النظر والفکر، وإلا فإذا استحکم عسر دفعه، ولهذا قیل: إذا قام ذکر الرجل ذهب ثلثا عقله(3).
ص: 20
وقال الله تعالی: ((قُلْ لِلْمُؤْمِنِینَ یَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَیَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ))(1).
وقال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: النظرة(2) سهم مسموم من سهام إبلیس، فمن ترکها خوفاً من الله أعطاه الله(3) إیماناً یجد حلاوته فی قلبه(4).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: إتقوا فتنة الدنیا وفتنة النساء، فإن أول فتنة بنی إسرائیل کانت من النساء(5).
وتفریط هذه الشهوة إما بالعفة الخارجة من الاعتدال أو بالضعف عن امتناع المنکوحة، وهو أیضاً مذموم، والمحمود أن تکون هذه الشهوة معتدلة منقادة للعقل والشرع فی الانبساط والانقباض، ومهما أفرطت فکسرها یکون بالجوع والصوم وبالتزویج. قال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: معاشر الشباب علیکم بالباءة(6)، فمن لم یستطع فعلیه بالصوم، فإن الصوم(7) له وجاء(8). (9)
ص: 21
والحکمة فی إیجاد هذه الشهوة مع کثرة غوائلها وآفاتها بقاء النسل ودوام الوجود، وأن یقیس بلذتها لذات الآخرة، فإن لذة الوقاع لو دامت لکانت أقوی لذات الأجساد، کما أن ألم النار أعظم آلام الجسد، والترهیب والترغیب یسوقان الخلق إلی سعاداتهم وثوابهم(1).
ص: 22
ص: 23
ص: 24
ص: 25
فی اللسان
وهو من نعم الله العظیمة ولطائف صنعه الغریبة ومننه الجسیمة، فإنه صغیر جرمه عظیم طاعته وجُرمه، ولا یعلم الکفر والإیمان اللذان هما غایة الطاعة والطغیان إلا بشهادة اللسان، وما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق متخیل أو معلوم مظنون أو موهوم إلا واللسان یتناوله ویتعرض له بإثبات أو نفی بحق أو باطل.
وهذه الخاصیة لا توجد فی غیره من الأعضاء، فإن العین لا تصل إلی غیر الألوان والصور، والأذن لا تصل إلی غیر الأصوات، والید لا تصل إلی غیر الأجسام، وکذا سائر الأعضاء.
واللسان رحب المیدان، له فی الخیر والشر مجال واسع، فمن أهمله فرخی(1) العنان سلک به طرق الهلکة والخسران، إذ لا تعب فی تحریکه ولا مؤونة فی إطلاقه(2)، فینبغی ضبطه تحت حکم العقل والشرع.
ص: 26
وحیث کان الطبع مائلاً إلی إطلاقه وإرخاء عنانه(1) جاء الشرع بالبحث علی إمساکه حتی یحصل التعادل، کما تقدم فی الجوع.
وتحقیق الکلام فیه یتم فی فصول:
قال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: من صمت نجا(2).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: الصمت حکمة، وقلیل فاعله(3).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: من یتکفل(4) لی بما بین لحییه(5) ورجلیه أتکفل له بالجنة(6).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: من وقی شر قبقبه وذبذبه ولقلقه فقد وقی(7)، والقبقب: البطن(8). والذبذب: الفرج(9). واللقلق: اللسان(10).
ص: 27
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: هل یکبُّ الناس علی مناخرهم(1) إلا حصائد ألسنتهم(2).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: من کان یؤمن بالله والیوم الآخر فلیقل خیراً أو لیصمت(3).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: إن لسان المؤمن وراء قلبه، فإذا أراد أن یتکلم بشیء تدبره(4) بقلبه ثم أمضاه بلسانه،وإن لسان المنافق أمام قلبه فإذا همّ بشیء(5) أمضاه بلسانه ولم یتدبره بقلبه(6).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: من کثر کلامه کثر سقطه، ومن کثر سقطه کثرت ذنوبه، ومن کثرت ذنوبه کانت النار أولی به(7).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: أمسک لسانک فإنها صدقة تتصدق(8) بها علی نفسک. ثم قال صلی الله علیه وآله وسلم: ولا یعرف عبد حقیقة الإیمان حتی یخزن لسانه(9).
ومر أمیر المؤمنین علیه السلام برجل یتکلم بفضول الکلام، فوقف علیه فقال(10): یا هذا إنک تملی علی حافظیک کتاباً إلی ربک فتکلم بما یعنیک ودع ما لا یعنیک(11).
ص: 28
وعن السجاد علیه السلام قال: إن لسان ابن آدم یشرف علی جمیع جوارحه کل صباح فیقول: کیف أصبحتم؟ فیقولون: بخیر إن ترکتنا، ویقولون: الله الله فینا، ویناشدونه ویقولون: إنما نثاب ونعاقب بک(1).
وقال الباقر علیه السلام: إن شیعتنا الخرس(2).
وقال الصادق علیه السلام: النوم راحة للجسد، والنطق راحة للروح، والسکوت راحة للعقل(3).
وقال(4): فی حکمة آل داود: علی العاقل أن یکون عارفاً بزمانه، مقبلاً علی شأنه، حافظاً للسانه(5).
وقال علیه السلام(6): قال لقمان لابنه: یا بنی إن کنت زعمت أن الکلام من فضة فإن السکوت من ذهب(7).
وعن أمیر المؤمنین علیه السلام: المرء مخبوء تحت لسانه، فزن کلامک واعرضه علی العقل والمعرفة، فإن کان لله وفی الله فتکلم(8) وإن کان غیر ذلک فالسکوت خیر منه(9).
ص: 29
وسئل السجاد علیه السلام عن الکلام والسکوت أیهما أفضل؟ فقال علیه السلام: لکل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالکلام أفضل من السکوت. قیل: وکیف ذاک یا بن رسول الله؟ قال: لأن الله عزّوجل ما بعث الأنبیاء والأوصیاء بالسکوت، إنما بعثهم بالکلام، ولا استحقت الجنة بالسکوت، ولا استوجبت ولایة الله بالسکوت، ولا توقیت النار بالسکوت، ولا تجنب سخط الله بالسکوت، إنما ذلک کله بالکلام، ما کنت لأعدل القمر بالشمس إنک تصف فضل السکوت بالکلام ولست تصف فضل الکلام بالسکوت(1).
الأول: وهو أهونها وأحسنها __ التکلم فی المباح، وهو تضییع للعمر الشریف ویحاسب علیه ویکون قد استبدل الذی هو أدنی بالذی هو خیر(2).
روی أن لقمان دخل علی داود علیه السلام وهو یسرد الدرع ولم یکن رآها قبل ذلک، فجعل یتعجب مما یری، فأراد أن یسأله عن ذلک فمنعته الحکمة فأمسک نفسه ولم یسأله، فلما فرغ قام داود ولبسها فقال: نعم الدرع للحرب. فقال لقمان: الصمت حکم وقلیل فاعله __ أی حصل العلم به من غیر سؤال. وقیل: کان یتردد إلیه سنة وهو یرید أن یعلم ذلک ولم یسأل(3).
ص: 30
وعلاج هذا أن یعلم أن الموت بین یدیه، وأنه مسؤول عن کل کلمة، وأن أنفاسه رأس ماله، وأن لسانه شبکة یقدر علی أن یقتنص بها الحور العین، فإهماله وتضییعه خسران. والعلاج من حیث العمل أن یلزم نفسه السکوت عن بعض ما یعنیه لیتعود اللسان ترک ما لا یعنیه.
الثانی: الخوض فی الباطل، وهو الکلام فی المعاصی، کحکایات أحوال النساء ومجالس الخمر ومقامات الفساق وتنعم الأغنیاء وتجبر الملوک وأحوالهم.
قال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: إن الرجل لیتکلم بالکلمة یضحک(1) بها جلساءه یهوی(2) بها أبد من الثریا(3).(4)
وقال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: أعظم الناس خطایا یوم القیامة هو(5) أکثرهم خوضاً فی الباطل(6).
وإلیه الإشارة بقوله تعالی:((وَکُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخٰائِضِینَ))(7). ویدخل فی هذا الخوض حکایات البدع والمذاهب الفاسدة، فإن الحدیث فی ذلک کله خوض فی الباطل(8).
ص: 31
الثالث: المراء(1) والمجادلة. قال صلی الله علیه وآله وسلم: لا تمار أخاک ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه(2).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: من ترک المراء وهو محق بنی له(3) فی أعلی الجنة، ومن ترک المراء وهو مبطل بنی له بیت فی مربض الجنة(4).(5)
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: لا یستکمل عبد حقیقة الإیمان حتی یدع المراء والجدال(6) وإن کان محقاً(7).
وقال لقمان لابنه: یا بنی لا تجادل العلماء فیمقتوک(8).
واعلم أن المراء عبارة عن الطعن فی کلام الغیر لإظهار خلل فیه من غیر أن یرتبط به غرض سوی تحقیر الغیر وإظهار مزید الکیاسة(9). والجدال عبارة عن مراء یتعلق بإظهار المذاهب وتقریرها.
ص: 32
الرابع: الخصومة، وهی لجاج فی الکلام لیستوفی به مال أو حق مقصود، وذلک تارة یکون ابتداءً وتارة یکون اعتراضاً، والمراء لا یکون إلا اعتراضاً علی کلام سبق.
قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: إن أبغض الرجال إلی الله الألد(1) الخصم(2).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: من جادل فی خصومة بغیر علم لم یزل فی سخط الله حتی ینزع(3).
الخامس: الفحش والسب وبذاءة اللسان، مصدره الخبث(4) واللؤم.
قال رسول صلی الله علیه وآله وسلم: إیاکم والفحش، فإن الله لا یحب الفحش ولا التفحش(5).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم:لیس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفحاش(6) ولا البذی(7).
ص: 33
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: الجنة حرام علی کل فاحش أن یدخلها(1).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: یا عائشة لو کان الفحش رجلاً لکان رجل سوء(2).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: إن الله لا یحب الفاحش المتفحش الصیاح(3) فی الأسواق(4).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: سباب المسلم فسوق وقتاله کفر(5).
السادس: اللعن لإنسان أو حیوان أو جماد. قال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: المؤمن لیس بلعان(6).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه(7)، ومن کان یستحق اللعن لإبداعه فی الدین جاز لعنه بل وجب. قال تعالی:((أُولئِکَ عَلَیْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِکَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِینَ))(8). وقال تعالی:((أُولئِکَ یَلعَنُهُمُ اللّهُ وَیَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ))(9).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: لعن الله الکاذب(10) ولو کان مازحاً(11).
ص: 34
وکان أمیر المؤمنین علیه السلام یقنت فی بعض نوافله بلعن صنمی قریش(1).(2)
السابع: الغناء والشعر. قال الله تعالی:((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ))(3). قال الصادق علیه السلام: هو الغناء(4).
وقال علیه السلام(5) فی قوله تعالی:((لا یَشْهَدُونَ الزُّورَ))(6) قال: الغناء(7).
وقال علیه السلام(8): الغناء عشر(9) النفاق(10).
وقال الباقر علیه السلام: الغناء مما وعد الله عزّوجل علیه النار، وتلا هذه الآیة:((وَمِنَ النّاسِ مَن یَشْرِی(11) لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ))(12).(13)
ص: 35
وأما الشعر فیطلق علی معنیین:
أحدهما: الکلام الموزون المقفی، سواء کان حقاً أو باطلاً، وعلی حقه یحمل حدیث: «إن من الشعر لحکمة(1)»(2) وما ورد فی مدح الشعر، فإن المراد به ما کان حقاً من الموزون المقفی الذی لیس فیه تمویه(3) ولا کذب.
والثانی: الکلام المشتمل علی التخیلات الکاذبة والتمویهات المزخرفة التی لا أصل ولا حقیقة لها، سواء کان لها وزن وقافیة أم لا، وعلیه یحمل ما ورد فی ذمه، وهو المراد من نسبة قریش القرآن إلی الشعر(4)، وقولهم للنبی صلی الله علیه وآله وسلم: إنه شاعر(5). وقال تعالی:((وَمٰا عَلَّمْنٰاهُ الشِّعْرَ وَمٰا یَنبَغِی لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِکْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِینٌ))(6)، فإن القرآن لیس بموزون(7).
وقال الباقر علیه السلام فی قوله تعالی:((وَالشُّعَراء یَتَّبِعُهُمُ الْغٰاوُونَ))(8) هل رأیت شاعراً یتبعه أحد، إنما هم قوم تفقهوا لغیر الله فضلوا وأضلوا(9).
ص: 36
الثامن: المزاح، وأصله مذموم منهی عنه إلا القدر الیسیر فی غیر معصیة الله.
قال صلی الله علیه وآله وسلم: لا تمار أخاک ولا تمازحه(1). والمراد النهی عن الإفراط منه، لقوله صلی الله علیه وآله وسلم: «إنی لأمزح ولا أقول إلا حقاً»(2).
وروی أنه صلی الله علیه وآله وسلم أتت عجوز إلیه فقال لها: لا تدخل الجنة عجوز. فبکت فقال صلی الله علیه وآله وسلم: إنک لست یومئذ بعجوز، قال الله تعالی:((إِنّا أَنشَأْناهُنَّ إِنشٰاء (35) فَجَعَلْنٰاهُنَّ أَبْکارًا (36) عُرُبًا أَتْرٰابًا))(3).(4)
وروی أنه جاءت إلیه صلی الله علیه وآله وسلم امرأة یقال لها أم أیمن(5) فقالت: إن زوجی یدعوک. فقال: ومن هذا هو الذی بعینه بیاض؟ فقالت: لا والله ما بعینه بیاض. فقال صلی الله علیه وآله وسلم: بلی إن بعینه بیاضاً. قالت: لا والله. فقال: ما من أحد إلا بعینه بیاض(6).
ص: 37
وجاءته امرأة أخری فقالت: یا رسول الله احملنی علی بعیر. فقال صلی الله علیه وآله وسلم: نحملک(1) علی ابن بعیر. فقالت: ما أصنع به لا یحملنی(2). فقال صلی الله علیه وآله وسلم: هل من بعیر(3) إلا وهو ابن بعیر(4).
وروی أنه صلی الله علیه وآله وسلم کان یأکل رطباً مع ابن عمه وأخیه أمیر المؤمنین، وکان یأکل ویضع النوی أمامه، فلما فرغا کان النوی کله مجتمعاً عند علی علیه السلام، فقال له: یا علی إنک لأکول. فقال له: یا رسول الله الأکول من یأکل الرطب ونواه(5).
التاسع: السخریة والاستهزاء، وهما حرام مهما کانا مؤذیین. قال تعالی:((لا یَسْخَرْ قَومٌ مِن قَوْمٍ عَسی أَن یَکُونُوا خَیْرًا مِنْهُمْ))(6).
ومعنی السخریة الاستحقار والاستهانة والتنبیه علی العیوب والنقائص علی وجه یضحک منه، وقد یکون ذلک بالمحاکاة بالقول والفعل، وقد یکون بالإشارة والإیماء.
وروی عنه صلی الله علیه وآله وسلم أنه قال: إن المستهزئین بالناس یفتح لأحدهم باب من الجنة فیقال: هلم هلم، فیجیء بکربه وغمه، فإذا أتی أغلق دونه، ثم یفتح له باب آخر فیقال: هلم هلم فما یأتیه(7).
ص: 38
العاشر: إفشاء السر، وهو منهی عنه لما فیه من الإیذاء والتهاون.
قال صلی الله علیه وآله وسلم: إذا حدث الرجل الحدیث ثم التفت فهی أمانة(1). وقال صلی الله علیه وآله وسلم: الحدیث بینکم أمانة(2).
الحادی عشر: الوعد الکاذب. قال صلی الله علیه وآله وسلم: العدة دین(3). وقال صلی الله علیه وآله وسلم: ثلاث من کن فیه فهو منافق وإن صام وصلی وزعم أنه مسلم: إذا(4) حدث کذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان(5).
الثانی عشر: الکذب فی القول والیمین، وهو من قبائح الذنوب وفواحش العیوب. قال صلی الله علیه وآله وسلم: کبرت خیانة أن تحدث أخاک حدیثاً هو لک مصدق وأنت له فیه(6) کاذب(7).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: الکذب ینقص الرزق(8).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: علی(9) کل خصلة یطبع أو یطوی علیها المؤمن إلا الخیانة والکذب(10).
ص: 39
وقال أمیر المؤمنین علیه السلام: أعظم الخطایا عند الله اللسان الکذوب(1).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: ثلاث نفر لا یکلمهم الله یوم القیامة ولا ینظر إلیهم ولا یزکیهم: المنان بعطیة، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل(2) إزاره(3).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: ما حلف حالف بالله فأدخل فیها مثل جناح بعوضة إلا کانت نکتة فی قلبه إلی یوم القیامة(4).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: ما لی أراکم تتهافتون فی الکذب تهافت الفراش فی النار، کل الکذب مکتوب کذباً لا محالة إلا أن یکذب الرجل فی الحرب فإن الحرب خدعة، أو یکون بین رجلین شحناء فیصلح بینهما، أو یحدث امرأته یرضیها(5).
الثالث عشر: الغیبة، وتحقیق الکلام فیها یتم بأمور:
الأول: فی ذمها، قال تعالی:((وَلا یَغْتَب بَعْضُکُم بَعْضا أَیُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَن یَأْکُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتا فَکَرِهْتُمُوهُ))(6).
ص: 40
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: من مشی فی غیبة أخیه وکشف عورته کانت أول خطوة خطاها وصفها فی جهنم(1) وکشف الله عورته علی رؤوس الخلائق، ومن اغتاب مسلماً بطل صومه ونقض وضوؤه، فإن مات وهو کذلک مات وهو مستحل لما حرم الله(2).
وعن الصادق علیه السلام قال: قال رسول الله(3) الغیبة أسرع فی دین الرجل المسلم من الآکلة فی جوفه(4).
وقال علیه السلام(5): من قال فی مؤمن ما رأته عیناه وسمعته أذناه فهو من الذین قال الله عزّوجل: ((إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ أَن تَشِیعَ الْفاحِشَةُ فِی الَّذِینَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ)) (6).(7)
وقال علیه السلام(8): من روی علی مؤمن روایة یرید بها شینه وهدم مروته لیسقط عن أعین الناس أخرجه الله من ولایته إلی ولایة الشیطان فلا یقبله الشیطان(9).
وقال علیه السلام(10): الغیبة حرام علی کل مسلم، وإنها لتأکل الحسنات کما تأکل النار الحطب(11).
ص: 41
الثانی: فی بیان معناها. قال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: هل تدرون ما الغیبة، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذکرک أخاک بما یکره. قیل:أرأیت إن کان فی أخی ما أقول؟ قال:إن کان له ما تقول فقد اغتبته،فإن لم یکن فیه ما تقول فقد بهته(1).
وعن الصادق علیه السلام: هو أن تقول لأخیک فی دینه ما لم یفعل، وتثبّت علیه أمراً قد ستره الله علیه(2).
وفی روایة أخری: الغیبة أن تقول فی أخیک ما ستر الله علیه، وأما الأمر الظاهر فیه __ مثل الحدة والعجلة __ فلا(3).
واعلم أن الغیبة غیر مقصورة علی اللسان، بل تکون بالقول والکتابة والإشارة والإیماء(4) والغمز(5) والحرکة وکل ما یفهم المقصود. وقد قیل: «إن القلم أحد اللسانین»(6).
وروی عن عائشة(7) قالت: دخلت علینا امرأة فلما ولت أومأت بیدی (أی
ص: 42
قصیرة) فقال(1) صلی الله علیه وآله وسلم: قد(2) اغتبتیها(3).
ومن أقسامها أن یذکر عنده إنسان فیقول: الحمد لله الذی لم یبتلنا بطلب الدنیا وحب الجاه ونحو ذلک، فهو جمع بین ریاء وغیبة.
الثالث: فی الأسباب الباعثة علی الغیبة، وهی أمور: منها تشفی الغیظ بذکر مساوئ عدوه، ومنها موافقة الأقران ومساعدتهم فی التفکه فی أعراض الناس(4) حتی لا یستثقلوه ولا ینفروا عنه، ومنها العدد کقوله إن أکلت حراماً ففلان وفلان یأکله وإن فعلت کذا ففلان فعل ونحوه، ومنها الاستشعار من إنسان أنه سیقصده بطول لسانه فیه فیقدح فی حاله حتی یسقط أثر شهادته، ومنها أن ینسب إلی شیء فیرید أن یبرأ منه بذکر الذی فعله, ومنها إرادة أن یرفع نفسه بنقص غیره بأن یقول فلان جاهل وفهمه رکیک وغرضه أنه أفضل منه، ومنها الحسد له بأن یرید زوال نعمة إکرام الناس له والثناء علیه بذکر عیوبه، ومنها اللعب والهزل والمطایبة فیذکر غیره حتی یضحک الناس، ومنها السخریة والاستهزاء استحقاراً له فإن ذلک قد یجری فی الحضور فیجری أیضاً فی الغیبة، ومنها التعجب من المنکر کأن یقول ما أعجب ما رأیت من فلان کذا وکذا، ومنها الرحمة وهو أن یغتم بسبب ما ابتلی به، ومنها الغضب لله علی منکر فعله فیذکره فی غیابه، وکان ینبغی له فی الثلاثة الأخیرة لو کان مخلصاً فیها أن لا یذکر الاسم.
ص: 43
الرابع: فی العلاج، وهو قسمان إجمالی وتفصیلی:
أما الإجمالی فهو أن یعلم أنه معرض لسخط الله، وأنه أحبط حسنات نفسه واستحق دخول النار وکفی بذلک رادعاً عنها، وحکی أن رجلاً قال لآخر: «بلغنی أنک تغتابنی. فقال: ما بلغ من قدرک عندی أن أحکمک فی حسناتی»(1).
وأما التفصیلی فلینظر إلی السبب ویعالجه بضده، فإن کان هو الغضب فیعالجه بما یأتی فیه ویقول إن أمضیت غضبی فیه فلعل الله یمضی غضبه علیّ وقد قال صلی الله علیه وآله وسلم: إن لجهنم باباً لا یدخله(2) إلا من شفی غیظه بمعصیة الله(3).(4)
وإن کان هو الموافقة فلیعلم أنه تعرض لسخط الخالق فی رضاء المخلوق(5).
ص: 44
وأما تنزیه النفس فأن یعلم أنّ التعرض لمقت الخالق أشد من التعرض لمقت الخلق وسخط الله علیه متیقن ورضاء الناس مشکوک فیه.
وأما العدد فهو جهل، لأنه تعذر بالاقتداء بمن لا یجوز الاقتداء به، وکان کمن یلقی نفسه من شاهق(1) اقتداءً بغیره.
وأما قصد المباهاة(2) وتزکیة النفس فلیعلم أنه أبطل فضله ضد الله وهو من الناس فی خطر، فربما نال اعتقادهم فیه بخبث فعله فیکون قد ((خَسِرَ الدُّنْیا وَالآخِرَةَ))(3).
وأما الحسد فهو جمع بین عذابین دنیوی وأخروی، لأن الحاسد فی عذاب کما یأتی.
وأما الاستهزاء فمقصوده إخزاء غیره عند الناس، وهو قد أخزی نفسه عند الله والملائکة والأنبیاء والأوصیاء، فهو بالاستهزاء علی نفسه(4).
وأما الترحم فهو وإن کان حسناً ولکن قد حسدک إبلیس بأن نقل من حسناتک إلیه ما هو أکثر من رحمتک.
وأما التعجب المخرج للغیبة فینبغی أن یتعجب بنفسه، حیث أهلک دینه بدین غیره أو بدنیاه وهو مع ذلک لا یأمن عقوبة الدنیا.
ص: 45
الخامس: فی بیان الأعذار المسوغة(1) للغیبة، وهی أمور:
الأول: التظلم عند من یرجو زوال ظلمه، قال تعالی: ((لا یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ))(2). وقال صلی الله علیه وآله وسلم: لصاحب الحق مقال(3). وقال صلی الله علیه وآله وسلم: مطل الغنی ظلم(4). وقال(5) لیُّ الواجد ظلم یحل عرضه وعقوبته(6).
الثانی: الاستفتاء، کأن یقول للمفتی: قد ظلمنی أبی أو أخی فکیف طریقی فی الخلاص والأسلم التعریض وعدم ذکر الاسم.
الثالث: تحذیر المؤمن من الوقوع فی الخطر ونصح المستشیر، فإذا رأی متفقهاً یتلبس بما لیس من أهله فلک أن تنبه الناس علی نقصه وقصوره. وکذلک إذا استشیر فی شراء مملوک أو تزویج امرأة وکان مستحضراً للعیوب فلیذکرها، لما ورد من جواز الوقیعة فی أصحاب البدع(7)، وأن «المستشار مؤتمن»(8).
ص: 46
الرابع: الجرح للشاهد والراوی، صیانة لحقوق المسلمین وحفظاً للأحکام الشرعیة.
الخامس: أن یکون المقول فیه ذلک متظاهراً به کالفاسق المتظاهر بفسقه. قال الصادق علیه السلام: إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غیبة له(1). وعن الباقر علیه السلام قال: ثلاثة لیس لهم حرمة: صاحب هوی مبتدع، والإمام الجائر، والفاسق المعلن بالفسق(2). وعن النبی صلی الله علیه وآله وسلم: من ألقی جلباب الحیاء عن وجهه فلا غیبة له(3). وعنه صلی الله علیه وآله وسلم: لیس لفاسق غیبة(4). وظاهر هذه الأخبار جواز غیبته وإن استنکف عن ذلک.
السادس: أن یکون الإنسان معروفاً باسم أو لقب یعرب عن غیبته، کالأعرج والأعمش(5) والأشتر(6) ونحوها إذا لم یمکن التعریف بدون ذلک. قال
ص: 47
الصادق علیه السلام:جاءت زینب العطارة الحولاء(1)(2) إلی نساء النبی صلی الله علیه وآله وسلم __(3)الحدیث.
ص: 48
السابع: إذ علم اثنان أو جماعة معصیة من آخر فذکرها بعضهم لبعض جاز ذلک، لأنها لا تؤثر عند السامع، وفیه أشکال.
الثامن: فی کفارة الغیبة. یجب علی المغتاب أن یندم ویتوب ویأسف علی ما فعله لیخرج عن حق الله. وهل یکفی الاستغفار أم لا بد من الاستحلال؟ وجهان بل قولان لتعارض الأخبار ظاهراً:
فعن الصادق قال: سئل النبی صلی الله علیه وآله وسلم: ما کفارة الاغتیاب؟ قال: تستغفر الله لمن اغتبته کلما ذکرته(1).
وفی العلل عنه صلی الله علیه وآله وسلم قال: الغیبة أشد من الزنا. فقیل: یا رسول الله ولم ذلک؟ قال: أما صاحب الزنا یتوب فیتوب الله علیه، وأما صاحب الغیبة یتوب فلا یتوب الله علیه حتی یکون صاحبه الذی یحله(2).
ص: 49
وقد روی عن الصادق علیه السلام ما یصلح للجمع بین الأقوال والأخبار. قالعلیه السلام(1): إن اغتبت فبلغ المغتاب فاستحل منه، وإن لم یلحقه فاستغفر الله(2) وذلک لأن فی الاستحلال مع عدم البلوغ إلیه إثارة للغیبة وجلباً للضغائن، وفی حکم من لم یبلغه من لم یقدر علی الوصول إلیه بموت أو غیبة.
الرابع عشر: النمیمة
قال تعالی:((هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِیمٍ (11) مَنّاعٍ لِلْخَیْرِ مُعْتَدٍ أَثِیمٍ (12) عُتُلّ بَعْدَ ذلِکَ زَنِیمٍ))(3) وقال تعالی: ((وَیْلٌ لِکُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ))(4). قیل الهمزة: النمام، واللمزة: المغتاب(5).
وقال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: لا یدخل الجنة نمام(6).
وقال أمیر المؤمنین علیه السلام: شرارکم المشاؤون بالنمیمة، المفرقون بین الأحبة، المبتغون للبراء المعایب(7).
وقال الباقر علیه السلام: الجنة محرمة علی المغتابین والمشائین بالنمیمة(8).
ص: 50
والنمام هو من ینم قول الغیر إلی المقول فیه ویکشف ما یکره کشفه، سواء کرهه المنقول عنه أو المنقول إلیه: أو کرهه ثالث، وسواء کان الکشف بالقول أو بالکتابة أو بالرمز أو الإیماء، وسواء کان المنقول من الأعمال أو الأقوال، وسواء کان ذلک عیباً ونقصاناً علی المنقول عنه أو لا. فحقیقة النمیمة إفشاء السر وهتک الستر وکشفه.
ومن حملت إلیه النمیمة فعلیه بأمور ستة.
الأول: عدم تصدیقه لأنه فاسق وقد قال تعالی:((إِن جٰاءکُمْ فاسِقٌ بِنَبأٍ فَتَبَیَّنُوا))(1).
الثانی: أن ینهره عن ذلک لقوله تعالی: ((وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنکَرِ))(2).
الثالث: أن یبغضه لأنه بغیض الله.
الرابع: أن لا یظن المنقول عنه السوء، لقوله تعالی: ((اجْتَنِبُوا کَثِیراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ))(3).
الخامس: أن لا یحمله ذلک علی التجسس(4) والبحث لیتحقق حقیقة الحال، قال تعالی: ((وَلا تَجَسَّسُوا))(5).
ص: 51
السادس: أن لا یرضی لنفسه ما نهی عنه النمام فلا یحکی نمیمته ویقول قال فلان فیک کذا. وقد روی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أن رجلاً أتاه یسعی إلیه برجل فقال: یا هذا نحن نسأل عما قلت فإن کنت صادقاً مقتناک(1) وإن کنت کاذباً عاقبناک. وإن شئت أن نقیلک(2) أقلناک. قال: أقلنی یا أمیر المؤمنین(3).
الخامس عشر: کلام ذی اللسانین
وهو الذی یتردد بین المتعادین ویکلم کل واحد بکلام یوافقه وذلک عین النفاق. قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: یجیء یوم القیامة ذو الوجهین دالعاً(4) لسانه فی قفاه وآخر من قدامه یلتهبان ناراً حتی یلتهبا خده(5)، ثم یقال: هذا(6) الذی کان فی الدنیا ذا وجهین وذا لسانین یعرف بذلک یوم القیامة.(7)
وقال الباقر علیه السلام: بئس العبد عبداً یکون ذا وجهین وذا لسانین یطری أخاه شاهداً ویأکله غائباً، إن أعطی حسده وإن أبتلی خذله.(8)
ص: 52
السادس عشر: المدح
وفیه ست آفات أربع فی المادح:
الأولی: إنه قد یفرط فینتهی به الإفراط(1) إلی الکذب.
الثانیة: إنه قد یدخله الریاء(2)، فإنه بالمدح مظهر للحب وقد لا یکون مضمراً(3) له ولا معتقداً لما یقوله، فیکون مرائیاً(4) منافقاً.
الثالثة: إنه قد یقول ما لا یتحققه ولا سبیل له للاطلاع علیه.
الرابعة: إنه قد یفرح الممدوح وهو ظالم فاسق وذلک غیر جائز. قال صلی الله علیه وآله وسلم: إن الله لیغضب إذا مدح الفاسق(5).
واثنتان فی الممدوح: إحداهما أنه قد یحدث فیه کبر أو إعجاب وهما مهلکان. الثانیة أنه إذا أثنی علیه بالخیر فرح به وفتر ورضی عن نفسه.
ص: 53
فإذا سلم المدح من هذه الآفات فلا بأس به(1). وروی عنه صلی الله علیه وآله وسلم أنه قال: أحثوا التراب فی وجوه المداحین(2). وقال أمیر المؤمنین علیه السلام لما أثنی علیه: اللهم اغفر لی ما لا یعلمون ولا تؤخذنی بما یقولون واجعلنی خیراً مما یظنون(3).
ص: 54
ص: 55
ص: 56
ص: 57
فی الغضب
وهو شعلة من النار اقتبست من ((نارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ))(1) إلا أنها لا ((تَطَّلِعُ عَلَی الأَفْئِدَةِ))(2) وإنها لمستکنة فی طی(3) الفؤاد استکنان(4) الجمر تحت الرماد، ویستخرجها الکبر الدفین من قلب ((کُلُّ جَبّارٍ عَنِیدٍ))(5)، کما یستخرج الحجر النار من الحدید، وتستخرجها حمیة الدین من قلوب المؤمنین.
وسببه ثوران نار الغضب، وهی الحرارة المودعة فی الإنسان واشتعالها، فیغلی بها دم القلب وینتشر فی العروق ویرتفع إلی أعالی البدن کما ترتفع النار وکما یرتفع الماء الذی یغلی فی القدر، ولذلک ینصب إلی الوجه فیحمر الوجه والعین والبشرة لصفائها تحکی ما وراءها من حمرة الدم کما تحکی الزجاجة لون ما فیها.
ص: 58
وإنما ینبسط الدم إذا غضب علی من دونه واستشعر القدرة علیه، فإن صدر الغضب علی من هو فوقه وکان معه یأس من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلی جوف القلب وصار حزناً، ولذلک یصفر اللون، وإن کان الغضب علی نظیر یشک فیه تولد منه تردد بین انقباض وانبساط فیحمر ویصفر ویضطرب.
وقوة الغضب محلها القلب، ومعناها غلیان دم القلب لطلب الانتقام، وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلی دفع المؤذیات قبل وقوعها، وإلی التشفی والانتقام بعد وقوعها، والانتقام فوت هذه القوة وشهوتها وفیه لذتها ولا تسکن إلا به.
والناس فی هذه القوة علی درجات ثلاث فی أول الفطرة من التفریط(1) والإفراط(2) والاعتدال(3):
أما التفریط: فبفقد هذه القوة أو ضعفها، وذلک مذموم، وهو الذی یقال فیه إنه لا حمیة له، ومن ثمرته عدم الغیرة علی الحرام، واحتمال الذل وصغر النفس والخور(4) والسکوت عند مشاهدة المنکرات. وقد وصف الله تعالی خیار الصحابة بالشدة والحمیة فقال:((أَشِدّاء عَلَی الْکُفّارِ))(5) وقال تعالی:((یا أَیُّهَا النَّبِیُّ جاهِدِ
ص: 59
الْکُفّارَ وَالْمُنافِقِینَ وَاغْلُظْ عَلَیْهِمْ))(1) والشدة والغلظة من آثار قوة الغضب(2).
والإفراط: هو أن تغلب هذه الصفة حتی تخرج من سیاسة العقل والدین وطاعتهما فلا یبقی للمرء معها بصیرة ونظر وفکر واختیار، ویعمی ویصم عن کل موعظة، ومن آثاره تغیر اللون وشدة الرعدة فی الأطراف وخروج الأفعال عن الترتیب والنظام واضطراب الحرکة والکلام وانطلاق اللسان بالفحش والشتم(3) وقبح الکلام والضرب والتهجم(4)، ولذلک قال صلی الله علیه وآله وسلم: الغضب یفسد الإیمان کما یفسد الخل العسل(5).
وعن میسر(6) قال: ذکر الغضب عند أبی جعفر علیه السلام فقال: إن الرجل لیغضب فما یرضی أبداً حتی یدخل النار، فأیما رجل غضب علی قوم وهو قائم فلیجلس من فوره ذلک، فإنه سیذهب عنه رجز الشیطان، وأیما رجل غضب علی ذی رحم فلیدن منه فلیمسه، فإن الرحم إذا مست سکنت(7).
ص: 60
وعن أبی حمزة الثمالی(1) عنه علیه السلام(2) قال: إن الغضب جمرة من الشیطان توقد فی جوف ابن آدم، وإن أحدکم إذا غضب احمرت عیناه وانتفخت أوداجه ودخل الشیطان فیه، فإذا خاف أحدکم ذلک من نفسه فلیلزم الأرض، فإن رجز الشیطان یذهب عنه عند ذلک(3).
وعن الصادق علیه السلام: الغضب مفتاح کل شر(4).
وعنه علیه السلام(5) قال: من کف غضبه ستر الله عورته(6).
وعنه علیه السلام(7) قال: إن فی التوراة مکتوب: ابن آدم(8) اذکرنی حین تغضب أذکرک عند غضبی فلا أمحقک فی ما أمحق(9)، وإذا ظلمت بظلمة فارض بانتصاری لک فإن انتصاری لک خیر من انتصارک لنفسک(10).
ص: 61
وقال علیه السلام(1): من لم یملک غضبه لم یملک عقله(2).
وعنه علیه السلام(3) فی ما ناجی الله به موسی: یا موسی أمسک غضبک عمن ملکتک علیه أکف عنک غضبی(4).
واعلم أن قمع أصل الغیظ من القلب غیر ممکن، بل التکلیف إنما هو بکسر سورته(5) وتضعیفه حتی لا یشتد هیجان الغیظ فی الباطن، وینتهی ضعفه إلی أن یظهر أثره فی الوجه، بل ینبغی للإنسان أن یکون غضبه تحت إشارة العقل والشرع، فیغضب فی محل الغضب ویحلم فی محل التحلم، ولا یخرجه غضبه عن الاختیار. قال تعالی:((وَالْکاظِمِینَ الْغَیْظَ))(6) ولم یقل: والفاقدین الغیظ.
والأسباب المهیجة للغضب: الزهو(7)، والعجب، والهزل(8)، والهزء(9), والذل
ص: 62
والتعییر، والمماراة(1) والمضادة، والعذر، وشدة الحرص علی فضول المال والجاه. وهی بأجمعها أخلاق ردیئة مذمومة شرعاً.
ولا خلاص عن الغضب مع بقاء هذه الأسباب، فلا بد من إزالتها بأضدادها، فینبغی أن یمیت الزهو بالتواضع، والعجب بالمعرفة بنفسک, والفخر بمعرفة أنه من الرذائل وإنما الفخر بالفضائل، وأما الهزل فیزیله بالجد فی طلب الفضائل والأخلاق الحسنة، وأما الهزء فیزیله بالتکرم عن إیذاء الناس وبصیانة النفس عن أن یُستهزأ بک، وأما التعییر فبالحذر عن قول القبیح وصیانة النفس عن مرِّ الجواب، وأما شدة الحرص علی مزایا العیش فتزال بالقناعة بقدر الضرورة طلبا لعز الاستغناء وترفعاً عن ذل الحاجة.
وکل خلق من هذه الأخلاق یفتقر فی علاجه إلی ریاضة وتحمل مشقة، وأصل الریاضة فی إزالة هذه الأخلاق یرجع إلی معرفة غوائلها لترغب النفس عنها وتنفر عن قبحها. ثم المواظبة علی مباشرة أضدادها مدة مدیدة حتی تصیر بالعادة مألوفة هینة علی النفس، فإذا انمحت عن النفس فقد زکت وطهرت عن هذه الرذائل وتخلصت عن الغضب الذی یتولد منها(2).
وعلاجه عند هیجانه __ کما أشیر إلیه فی الأخبار المتقدمة __ الاستعاذة من الشیطان، والجلوس إن کان قائماً، والاضطجاع إن کان جالساً(3)، والوضوء أو
ص: 63
الغسل بالماء البارد(1). قال صلی الله علیه وآله وسلم: إذا غضب أحدکم فلیتوضأ ولیغتسل فإن الغضب من النار(2). وأمر صلی الله علیه وآله وسلم بالاستعاذة من الشیطان، وأن یتفکر فی ما ورد فی فضائل کظم الغیظ والعفو والحلم والاحتمال(3). قال الله فی معرض المدح: ((وَالْکاظِمِینَ الْغَیْظَ))(4) وقال صلی الله علیه وآله وسلم: من کف غضبه کف الله عنه عذابه، ومن اعتذر إلی ربه قبل الله عذره، ومن خزن لسانه ستر الله عورته(5).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: أشدکم من ملک(6) نفسه عند الغضب، وأحلمکم من عفا عند القدرة(7).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: من أحب السبیل إلی الله تعالی جرعتان: جرعة غیظ تردها بحلم، وجرعة مصیبة تردها بصبر(8).
ص: 64
وعن السجاد صلی الله علیه وآله وسلم قال: ما أحب أن لی بذل نفسی حمر النعم(1)، وما تجرعت جرعة أحب إلی من جرعة غیظ لا أکافی بها صاحبها(2).
وعن الباقر علیه السلام قال: من کظم غیظاً وهو یقدر علی إمضائه حشا الله قلبه أمناً وإیماناً یوم القیامة(3).
وعن الصادق علیه السلام قال: نعم الجرعة(4) الغیظ(5) لمن صبر علیها، فإن عظیم الأجر لمن عظم(6) البلاء، وما أحب الله قوماً إلا ابتلاهم(7).
وعنه علیه السلام(8): ما من عبد کظم(9) غیظا إلا زاده الله تعالی عزاً فی الدنیا وعزاً فی الآخرة(10).
ص: 65
وعنه علیه السلام(1): من کظم غیظاً ولو شاء أن یمضیه أمضاه ملأ الله قلبه یوم القیامة رضاه(2).
وعن الصادق علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: ما أعز الله بجهل قط، ولا أذل بحلم قط(3).
وعن حفص(4) قال: بعث الصادق علیه السلام غلاماً له فی حاجة فأبطأ، فخرج علیه السلام فی أثره فوجده نائماً، فجلس عند رأسه یروحه حتی انتبه فقال له أبو عبد الله علیه السلام: یا فلان والله ما ذلک لک تنام اللیل والنهار، لک اللیل ولنا منک النهار(5).
ص: 66
ص: 67
ص: 68
ص: 69
فی الحقد
إعلم أن الغضب إذا لزم کظمه لعجز عن التشفی فی الحال رجع إلی الباطن واحتقن فیه فصار حقداً، ومعنی الحقد أن یلزم قلبه استثقاله والبغضة له والتنفر عنه، وأن یدوم علی ذلک ویبقی، وقد قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: المؤمن لیس بحقود(1). والحقد ثمرة الغضب، والحقد یثمر ثمانیة أمور:
الأول: الحسد، وهو أن یحملک الحقد علی أن تتمنی زوال النعمة منه.
الثانی: أن تزید علی إضمار الحسد فی الباطن فتشمت بما یصیبه من البلاء.
الثالث: أن تهجره وتقطعه وإن أقبل علیک.
الرابع: أن تعرض عنه استصغاراً له.
الخامس: أن تتکلم فیه بما لا یحل من کذب وغیبة وإفشاء سر وهتک ستر وغیره.
ص: 70
السادس: أن تحاکیه استهزاءً وسخریة منه.
السابع: إیذاؤه بالضرب وما یؤلم بدنه.
الثامن: أن تمنعه حقه من صلة رحم أو قضاء دین أو رد مظلمة وکل ذلک حرام.
وأقل درجات الحقد أن یحتزر من الآفات الثمانیة، ولکن تستثقله وتبغضه فی الباطن وتمتنع من البشاشة(1) والرفق والعنایة.
والأولی أن یبقی علی حالته السابقة معه، وإن أمکنه أن یزید فی الإحسان علی العفو مجاهدة للنفس وإرغاماً للشیطان فذلک مقام الصدیقین(2)، وهو من أفضل أعمال المقربین(3)، فللحقود ثلاثة أحوال عند القدرة.
ص: 71
أحدها: أن یستوفی حقه الذی یستحقه من غیر زیادة ونقصان، وهو العدل.
والثانی: أن یحسن إلیه بالعفو والصلة، و((ذٰلِکَ هُوَ الْفَضْلُ))(1).
والثالث: أن یطلبه بما لا یستحقه، وذلک هو الجور(2).
وعلاج الحقد أن یعلم أنه مهما کان فی قلبه حقد فلا یزال مغموماً مهموماً مبتلی معذباً فی الدنیا والآخرة، وأن ینظر فی فضیلة العفو والرفق(3).
قال تعالی:((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ))(4). وقال تعالی:((وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوی))(5).
وعن الصادق علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: ألا أخبرکم بخیر خلائق الدنیا والآخرة؟ العفو عمن ظلمک، وتصل من قطعک، والإحسان إلی من أساء إلیک، وإعطاء من حرمک(6).
وعنه علیه السلام(7) قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: علیکم بالعفو، فإن العفو لا یزید العبد إلا عزاً، فتعافوا یعزکم الله(8).
ص: 72
وعن معتب(1) قال: کان أبو الحسن موسی علیه السلام فی حائط له یصرم(2)، فنظرت إلی غلام له قد أخذ کارة(3) من تمر فرمی بها وراء الحائط، فأتیته وأخذته وذهبت به إلیه. فقلت له: جعلت فداک إنی وجدت هذا وهذه الکارة. فقال للغلام: فلان. قال: لبیک. قال: أتجوع؟ قال: لا یا سیدی. قال: فتعری؟ قال: لا سیدی. قال: فلأی شیء أخذت هذا؟ قال: اشتهیت ذلک، قال: إذهب فهی لک، وقال: خلوا عنه(4).
وعن الکاظم علیه السلام قال: الرفق نصف العیش(5).
ص: 73
ص: 74
ص: 75
فی الحسد
وهو من نتائج الحقد کما سبق، والحقد من نتائج الغضب، فهو فرع فرع الغضب. وللحسد من الفروع الذمیمة ما لا یکاد یحصی. قال الباقر علیه السلام: إن الحسد لیأکل الإیمان کما تأکل النار الحطب(1).
وقال الصادق علیه السلام: آفة الدین الحسد والعجب والفخر(2).
وعنه علیه السلام(3) قال: قال الله تعالی لموسی(4): یا بن عمران لا تحسدن الناس علی ما آتیتهم من فضلی، ولا تمدن عینیک إلی ذلک ولا تتبعه نفسک، فإن الحاسد ساخط لنعمی صادٌ لقسمی الذی قسمت بین عبادی، ومن یک کذلک فلست منه ولیس منی(5).
ص: 76
وعنه علیه السلام(1) قال: اتقوا الله ولا یحسد بعضکم بعضاً __ الحدیث(2).
وفی مصباح الشریعة: قال الصادق علیه السلام: الحاسد مضر بنفسه قبل أن یضر بالمحسود، کإبلیس أورث بحسده لنفسه اللعنة ولآدم الاجتباء(3) والهدی والرفع إلی محل حقائق العهد والاصطفاء(4)، فکن محسوداً ولا تکن حاسداً، فإن میزان الحاسد أبداً خفیف یثقل میزان المحسود والرزق مقسوم فماذا ینفع الحسد الحاسد وما یضر المحسود الحسد، والحسد أصله من عمی القلب وجحود فضل الله وهما جناحان للکفر، وبالحسد وقع ابن آدم فی حسرة الأبد وهلک مهلکاً لا ینجو منه أبداً، ولا توبة للحاسد لأنه مصر علیه معتقد به مطبوع فیه، یبدو بلا معارض به ولا سبب، والطبع لا یتغیر عن الأصل وإن عولج(5).
ثم اعلم أنه لا حسد إلا علی نعمة، فإذا أنعم الله علی أخیک بنعمة فلک فیها حالتان:
إحداهما: أن تکره تلک النعمة وتحب زوالها، وهذه الحالة تسمی حسداً.
ص: 77
والثانیة: أن لا تحب زوالها ولا تکره وجودها ودوامها ولکنک تشتهی لنفسک مثلها، وهذه تسمی غبطة(1) ومنافسة، وقد یوضع أحد اللفظین بدل الآخر، ولا حجر فی الأسامی بعد فهم المعانی.
قال صلی الله علیه وآله وسلم: إن المؤمن یغبط والکافر یحسد(2)(3). وقال تعالی: ((وَ فِی ذٰلِکَ فَلْیَتَنٰافَسِ الْمُتَنٰافِسُونَ))(4).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: لا حسد إلا فی اثنین: رجل آتاه الله مالاً فسلطه الله علی هلکته(5) فی الحق، ورجل آتاه الله علماً فهو یعمل به ویعلمه الناس(6). فسمی الغبطة حسداً کما قد یسمی الحسد منافسة(7).
ص: 78
والحسد حرام علی کل حال إلا فی نعمة أصابها فاجر أو کافر وهو یستعین بها علی تهیج الفتنة وإفساد ذات البین وإیذاء الخلق، فلا یضر کراهتها ومحبة زوالها من حیث هی آلة الفساد لا من حیث إنها نعمة، بحیث لو أمن فسادها لم یغمه تنعمه.
والحسد إنما یکثر بین أقوام تجمعهم روابط تتوارد علی أغراضهم، فإذا خالف واحد صاحبه فی غرض من أغراضه نفر(1) طبعه وأبغضه وثبت الحقد فیه، وحیث لا رابطة بین شخصین فلا تحاسد بینهما، فلذلک یحسد العالم العالم دون العابد، والتاجر یحسد مثله ولا یحسد العالم، ویحسد الرجل أخاه وابن عمه أکثر مما یحسد الأجانب، والمرأة تحسد ضرتها وسریة(2) زوجها أکثر مما تحسد أمّ الزوج وابنته، وذلک للتزاحم علی المقاصد.
وأسباب الحسد المذموم:
العداوة: بأن یکره النعمة علی المحسود لأنه عدوه، فلا یرید له الخیر.
أو التعزز: وهو أن یعلم أن المحسود یتکبر بالنعمة علیه وهو لا یطیق احتمال کبره وتفاخره لعزة نفسه.
ص: 79
أو الکبر: وهو أن یکون فی طبع الحاسد أن یتکبر علی المحسود ویمتنع ذلک علیه بنعمة.
أو التعجب: وهو أن تکون النعمة عظیمة والمنصب کبیراً، فیتعجب من فوز مثله بمثل تلک النعمة.
أو الخوف: من فوت المقاصد المحبوبة، وهو أن یخاف من فوت مقاصده بسبب نعمته، بأن یتوصل بها إلی مزاحمته فی أغراضه.
أو حب الریاسة: التی تبتنی علی الاختصاص بنعمة لا یساوی فیها، أو خبث نفس وبخلها وشحها بالخیر لعباد الله وإن کانت النعمة لا تثقل.
وقد تجتمع هذه الأسباب أو أکثرها فی شخص واحد فیعظم الحسد لذلک.
وعلاج الحسد علمی وعملی:
أما العلمی(1): فهو أن یعلم الحاسد أن للحسد ضرراً علیه فی الدنیا والدین، لأنه بالحسد سخط قضاء الله تعالی وکره نعمته التی قسمها لعباده وعدله الذی أقامه فی ملکه بخفی حکمته. وهذه جنایة عظیمة علی العدل الحکیم. علی أن الحاسد فارق أولیاء الله فی حبهم الخیر لعباد الله، وشارک إبلیس وسائر الکفار فی حبهم للمؤمنین البلایا وزوال النعم. قال تعالی: ((إِنْ تَمْسَسْکُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْکُمْ سَیِّئَةٌ یَفْرَحُوا بِهٰا))(2) وقال تعالی: ((وَدَّ کَثِیرٌ مِنْ أَهْلِ الْکِتٰابِ لَوْ یَرُدُّونَکُمْ مِنْ بَعْدِ إِیمٰانِکُمْ کُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ))(3).
ص: 80
وأما ضرره فی الدنیا فهو أن الحاسد لا یزال متألماً بالحسد مهموماً مغموماً معذباً، لأن أعداءه، لا تزال نعم الله تتجدد علیهم یوماً فیوماً وساعة فساعة ولا تزول النعمة عن المحسود بالحسد، ولو کان کذلک لما بقیت نعمة علی المؤمنین لحسد الکفار إیاهم، ولا ضرر علی المحسود أصلاً، لأن ما قدره الله تعالی له من النعم فلا حیلة فی دفعه، بل الضرر علی الحاسد کما عرفت.
والحسد ینفع المحسود فی الدنیا والآخرة:
أما فی الدنیا فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وغمهم(1) وشقاوتهم وکونهم معذبین مغمومین، ولا عذاب أعظم مما فی الحاسد من ألم الحسد، وقد فعل الحاسد بنفسه ما هو مراد أعدائه.
وأما فی الدین فلأن المحسود مظلوم من جهة الحاسد، لا سیما إذا أخرجه الحسد إلی القول أو الفعل بالغیبة أو القدح(2) فیه وهتک(3) ستره وذکر مساوئه، فهذه هدایا یهدیها الحاسد إلی المحسود بانتقال حسناته إلی دیوانه، حتی یلقاه مفلساً محروماً من الحسنات، کما حرم من الراحة فی الدنیا فقد أضیف للمحسود نعمة إلی نعمة وإلی الحاسد شقاوة إلی شقاوة.
ص: 81
وأما العلاج العملی: فهو أن یحکم الحسد وکل ما یتقاضاه من قول أو فعل، فینبغی أن یکلف نفسه بنقیضها، فإن بعثه الحسد علی القدح فیه کلف لسانه المدح له والثناء علیه، وإن حمله علی التکبر ألزم نفسه التواضع والاعتذار إلیه، وإن بعثه علی کف الأنعام عنه ألزم نفسه الزیادة. ومهما فعل ذلک عن تکلف وعرفه المحسود طاب قلبه وأحبه، ومهما أحبه عاد الحاسد وأحبه وتولدت بینهما الموافقة التی تقطع مادة الحسد، ویصیر ما تکلفه أولاً طبعاً آخر.
والأصل فی العلاج قمع أسباب الحسد من الکبر وعزة النفس وشدة الحرص کما یأتی إن شاء الله تعالی.
واعلم أن الحاسد له فی أعدائه ثلاثة أحوال:
الأولی: أن یحب مساءتهم بطبعه ولکنه یکره حبه لذلک ومیل قلبه إلیه بعقله، ویمقت(1) نفسه علیه ویودُّ أن یکون له حیلة فی إزالة ذلک المیل، وهذا القسم معفو عنه قطعاً لأنه غیر داخل تحت الاختیار.
الثانیة: أن یحب ذلک ویظهر الفرح بمساءته إما بلسانه أو بجوارحه، وهذا هو الحسد المحظور(2) قطعاً.
الثالثة: وهی بین الطرفین أن یحسد بالقلب من غیر مقته لنفسه علی حسده ومن غیر إنکار منه علی قلبه، لکن یحفظ جوارحه من طاعة الحسد فی مقتضاها،
ص: 82
وهذا محل خلاف بین العارفین: فقیل إنه لا یخلو عن إثم بقدر قوة ذلک الحب وضعفه، لأنک وإن کفیت ظاهرک بالکلیة إلا أنک بباطنک تحب زوال النعمة، ولیس فی نفسک کراهة لهذه الحالة، فأنت أیضاً حسود عاصٍ لأن الحسد صفة القلب لا صفة الفعل(1)، قال تعالی: ((وَ لا یَجِدُونَ فِی صُدُورِهِمْ حٰاجَةً مِمّا أُوتُوا))(2) وقال: ((وَدُّوا لَوْ تَکْفُرُونَ کَما کَفَرُوا فَتَکُونُونَ سَوٰاءً))(3)، والفعل __ کالغیبة والوقیعة فی المحسود __ إنما هو عمل صادر عن الحسد لا عین الحسد.
وذهب ذاهبون إلی أنه لا یأثم إذا لم یظهر الحسد علی جوارحه، ویرشد إلیه کثیر من الأخبار: فروی من طرق العامة(4) بأسانید عدیدة عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم قال: وضع عن أمتی تسع خصال: الخطأ، والنسیان، وما لا یعلمون، وما لا یطیقون، وما اضطروا إلیه، وما استکرهوا علیه، والطیرة(5)، والوسوسة فی التفکیر(6) فی الخلق، والحسد ما لم یظهر بلسان أو ید(7).
ص: 83
وعنه صلی الله علیه وآله وسلم قال: ثلاث لا ینجو منهن أحد: الظن، والطیرة، والحسد. وسأحدثکم بالمخرج من ذلک: إذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطیرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ(1)(2).
وفی روایة أخری: ثلاث لا ینجو منهن أحد وقلّ من ینجو منهن... إلی آخرها(3).
وفی روایة أخری: ثلاثة فی المؤمن له منهن مخرج، ومخرجه من الحسد أن لا یبغی(4).
ص: 84
ص: 85
ص: 86
ص: 87
فی الریاء وتحقیق الکلام فیه فی فصول
قال الله تعالی: ((وَیْلٌ(1) لِلْمُصَلِّینَ (4) الَّذِینَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سٰاهُونَ (5) الَّذِینَ هُمْ یُرٰاؤُنَ (6) وَیَمْنَعُونَ الْمٰاعُونَ))(2) وقال تعالی: ((یُرٰاؤُنَ النّاسَ وَلا یَذْکُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِیلاً))(3) وقال تعالی: ((کَالَّذِی یُنْفِقُ مٰالَهُ رِئاءَ النّاسِ))(4) وقال تعالی: ((فَمَنْ کانَ یَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْیَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا یُشْرِکْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً))(5).
وقال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: إن أخوف ما أخاف علیکم الشرک الأصغر. قالوا: وما الشرک الأصغر یا رسول الله؟ قال: الریاء(6)، یقول
الله تعالی یوم القیامة إذا
ص: 88
جازی العباد بأعمالهم: اذهبوا إلی الذین کنتم تراؤون لهم(1) فی الدنیا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء! (2).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: یقول الله تعالی: من عمل عملاً أشرک فیه غیری فهو له کله وأنا منه برئ، وأنا أغنی الأغنیاء عن الشرک(3).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: لا یقبل الله عملاً فیه مقدار ذرة من ریاء(4).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: إن أدنی الریاء شرک(5).
وعن الصادق علیه السلام قال: قال الله تعالی(6): أنا خیر شریک، من أشرک معی غیری فی عمل عمله لم أقبله إلا ما کان لی خالصاً(7).
وعنه صلی الله علیه وآله وسلم قال(8): قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: سیأتی علی الناس زمان تخبث فیه سرائرهم وتحسن فیه علانیتهم طمعاً فی الدنیا، لا یریدون به ما عند ربهم، یکون دینهم ریاء، لا یخالطهم خوف، یعمهم الله بعقاب فیدعونه دعاء الغریق فلا یستجاب(9) لهم(10).
ص: 89
وعنه علیه السلام(1) قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: إن الملک یصعد بعمل العبد مبتهجاً(2) به، فإذا صعد بحسناته یقول الله(3): «اجعلوها فی سجین(4)، إنه لیس إیای أراد به»(5).
ص: 90
وقال أمیر المؤمنین علیه السلام: ثلاث علامات للمرائی: ینشط إذا رأی الناس، ویکسل إذا کان وحده، ویحب أن یحمد فی کل أموره(1)(2).
وقال علیه السلام(3): أخشوا الله خشیة لیست بتقدیر(4)، واعملوا فی غیر ریاء(5) ولا سمعة، فإنه من عمل لغیر الله وکّله الله إلی عمله(6).
وقال الصادق علیه السلام: اجعلوا أمرکم هذا لله ولا تجعلوه للناس، فإنه ما کان لله فهو لله وما کان للناس فلا یصعد إلی الله(7).
وعنه علیه السلام(8): کل ریاء شرک، إنه من عمل للناس کان ثوابه علی الناس، ومن عمل لله کان ثوابه علی الله(9).
وعنه علیه السلام(10) فی قول الله عزّوجل ((فَمَنْ کانَ یَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْیَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا یُشْرِکْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ))(11) قال: الرجل یعمل شیئاً من الثواب لا یطلب به وجه الله، إنما یطلب تزکیة الناس یشتهی أن یسمع به الناس، فهذا الذی
ص: 91
أشرک بعبادة ربه. ثم قال: ما من عبد سرّ(1) خیراً فذهبت الأیام أبداً حتی یظهر الله له خیراً، وما من عبد یسر شراً فذهبت الأیام حتی یظهر الله له شراً(2).
وعنه علیه السلام(3): ما یصنع أحدکم إن یظهر حسناً ویسر سیئاً، ألیس یرجع إلی نفسه فیعلم أن ذلک لیس کذلک، والله تعالی(4) یقول: (( بَلِ الإِْنْسانُ عَلی نَفْسِهِ بَصِیرَةٌ))(5) إن السریرة إذا صحت قویت العلانیة(6).
أصل الریاء من الرؤیة: وهی طلب المنزلة فی قلوب الناس بإراءتهم خصال الخیر. والسمعة من السماع: وهی طلب المنزلة فی قلوب الناس بإسماعهم ما یوجب ذلک(7).
وحدّ الریاء: هو إرادة المنزلة بطاعة الله تعالی. والمرئی هو العابد. والرائی هو الناس المطلوب رؤیتهم لطلب المنزلة فی قلوبهم. والمراءی به هی الخصال التی قصد المرائی إظهارها. والریاء هو قصده إظهار ذلک.
ص: 92
والمراءی به کثیر وتجمعه خمسة أقسام، وهی: مجامع ما یتزین به العبد للناس البدن والزی، والقول، والعمل، والأتباع، والأشیاء الخارجة.
وأهل الدنیا یراؤون بهذه الأسباب الخمسة، إلا أن طلب الجاه وقصد الریاء بأعمال لیست من جملة الطاعات أهون الریاء بالطاعات.
القسم الأول: الریاء فی الدین بالبدن بإظهار النحول والصفار، لیوهم بذلک شدة الاجتهاد وعظم الحزن علی أمر الدین وغلبة خوف الآخرة وقلة الأکل وسهر اللیل، ویقرب منه خفض الصوت وإغارة العینین وذبول الشفتین لیوهم أنه مواظب علی الصوم، ولهذا قال عیسی علیه السلام: إذا صام أحدکم فلیدهن رأسه ویرجل شعره ویکحل عینیه(1). وذلک لخوف الریاء.
القسم الثانی: الریاء بالزی والهیئة، کتشعث(2) شعر الرأس وحلق الشارب وإطراق الرأس فی المشی والهدوء فی الحرکة وإبقاء أثر السجود علی الوجه وغلظ الثیاب وتشمیرها وترقیع الثوب لإظهار أنه متابع للسنة غیر مقبل علی الدنیا.
القسم الثالث: الریاء بالقول، کالوعظ والتذکیر والنطق بالحکمة وحفظ الأخبار والآثار وتحریک الشفتین بمحضر الناس والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر بمشهد الخلق ونحو ذلک.
الرابع: الریاء بالأعمال، کمراءاة المصلی بطول القیام والرکوع والسجود وإطراق الرأس وترک الالتفات ونحو ذلک.
ص: 93
الخامس: المراءاة بالأصحاب والزائرین والمخالطین، بأن یکثر التردد إلی العلماء والعباد والزهاد والفقراء والمساکین، أو یصیر سبباً لکثرة ترددهم إلیه لیقال إنه عظیم الرتبة فی الدین(1).
إعلم أن الریاء یتفاوت فبعضه أشد وأغلظ من بعض، ویختلف باختلاف أرکانه، وأرکانه ثلاثة: المراءی به، والمراءی لأجله، ونفس قصد الریاء:
الرکن الأول: نفس قصد الریاء وله درجات أربع:
«الأولی» __ وهی أغلظها __ أن لا یکون مراده الثواب أصلاً، کالذی یصلی بین أظهر الناس الفرض أو النفل ولو انفرد لم یصلِ.
«الثانیة» أن یکون له قصد الثواب أیضاً قصداً ضعیفاً.
«الثالثة» أن یکون قصد الثواب وقصد الریاء متساویین، بحیث لو کان کل منهما خالیاً من الآخر لم یبعثه علی العمل.
«الرابعة» أن یکون اطلاع الناس مرجحاً ومقویاً لنشاطه، ولو لم یکن لکان لا یترک العبادة. والکل حرام ومبطل للعمل لما تقدم من قوله تعالی فی الحدیث القدسی: «أنا أغنی الأغنیاء عن الشرک»(2)، وقوله تعالی: ((وَلا
ص: 94
یُشْرِکْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً))(1). وقوله علیه السلام(2) فی علامة المرائی: یکسل فی الخلوة وینشط عند الناس(3).
الرکن الثانی: المراءی به وهو الطاعات، وهو ینقسم إلی: الریاء بأصول العبادات، وإلی الریاء بأوصافها:
القسم الأول: له درجات ثلاث:
«الأولی» الریاء بأصل الإیمان وهو أغلظ أبواب الریاء، وأصحابه من المنافقین المخلدین فی النار، وربما کان حال هذا أشد من الکافر حیث جمع بین کفر الباطن ونفاق الظاهر.
ص: 95
«الثانیة» الریاء بأصول العبادات مع التصدیق بأصول الدین. کالریاء بالصلاة والزکاة والحج والجهاد، وهذا أهون من الأول.
«الثالثة» الریاء بالنوافل والسنن التی لو ترکها لا یعصی ولکن یکسل عنها فی الخلوة وینشط عند الناس.
القسم الثانی: الریاء بأوصاف العبادات لا بأصولها، وهی أیضاً علی ثلاث درجات:
«الأولی» أن یرائی بفعل ما فی ترکه نقصان العبادة، کالذی یکون غرضه تخفیف القراءة والرکوع والسجود فإذا رآه الناس أحسن الرکوع والسجود والقیام.
«الثانیة» أن یرائی بفعل ما لا نقصان فی ترکه ولکن فعله فی حکم التتمة والتکملة للعبادة، کالتطویل فی الرکوع والسجود ومدّ القیام وتحسین الاعتدال وطول القراءة والتأنی فیها وفی الأذکار.
«الثالثة» أن یرائی بزیادات خارجة عن نفس النوافل، کحضوره الجماعة قبل القوم وقصده الصف الأول ویمین الإمام(1) ونحو ذلک.
الرکن الثالث: المراءی لأجله وله درجات ثلاث:
«الأولی» وهی أشدها __ أن یکون مقصده التمکن من معصیة، کالذی یرائی بعباداته ویظهر التقوی والورع بکثرة النوافل والامتناع من أکل الشبهات، وغرضه أن یعرف بالأمانة فیولی القضاء والأوقاف والوصایا أو مال الأیتام فیأخذها أو یودع الودائع فیجحدها.
«الثانیة» أن یکون غرضه نیل حظ مباح من حظوظ الدنیا من مال أو نکاح امرأة جمیلة أو شریفة.
«الثالثة» أن یکون غرضه أن لا ینظر إلیه بعین النقص وأن یعدّ من الخاصة والزهاد، کالذی یمشی مستعجلاً فیطلع علیه الناس فیحسن المشی ویترک العجلة کی لا یقال إنه من أهل اللهو والسهو لا من أهل الوقار، أو یبدر منه المزاح فیخاف أن ینظر إلیه بعین الاحتقار فیتبع ذلک بالاستغفار وتنفس الصعداء وإظهار الحزن.
ص: 96
تقسیم آخر الریاء منه: جلی، وخفی، وأجلی، وأخفی:
فالجلی الذی یبعث علی العمل ویحمل علیه.
وأخفی منه ما لا یحمل علی العمل بمجرده إلا أنه یخفف العمل، کالذی یعتاد التهجد کل لیلة ویثقل علیه، فإذا دخل علیه الضیوف نشط.
وأخفی من ذلک أن یعرض بإظهار العمل بالشمائل، کإظهار النحول والصفار وخفض الصوت وجفاف الریق وآثار الدموع وغلبة النعاس الدال علی طول التهجد.
وأخفی من ذلک أن یختفی بحیث لا یرید الإطلاع ولا یسر بظهور طاعته، ولکنه إذا رأی الناس أحب أن یبدأوه بالسلام، وأن یقابلوه بالبشاشة والتوقیر، وأن یثنوا علیه وینبسطوا فی قضاء حوائجه، ویوسعوا له فی المکان، وإن قصر فیه مقصر ثقل علی قلبه، ولو لم تسبق منه تلک الطاعات والعبادات لما توقع ذلک.
وقد یکون العمل مخفیاً قد قصد به وجه الله تعالی ولکن لما اتفق اطلاع غیره علیه استرّ بذلک، فإن کان قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله ولکن لما اطلع علیه الخلق علم أن الله أطلعهم علیه وأظهر الجمیل من أحواله فیستدل به علی حسن صنیع الله به ونظره له وإلطافه به، فیکون فرحه بجمیل نظر الله لا بحمد الناس وقیام المنزلة فی قلوبهم، ولا بأس بذلک، قال تعالی: ((قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذٰلِکَ فَلْیَفْرَحُوا))(1)، وکذا إذا استدل بإظهار الله الجمیل وستره القبیح علیه فی الدنیا أنه کذلک یفعل به فی الآخرة، إذ قال صلی الله علیه وآله وسلم: ما ستر الله علی عبد فی الدنیا إلا ستر علیه فی الآخرة(2) فیکون الأول فرحاً بالقبول فی الحال.
ص: 97
وهذا التفات إلی المستقبل، وکذا إذا کان سروره من حیث رغبة المطلعین علی الاقتداء به فی الطاعة فیتضاعف بذلک أجره، فیکون له أجر العلانیة بما أظهر آخراً وأجر السر بما قصده أولاً، ومن اقتدی به فی طاعة فله أجر أعمال المقتدین به من غیر أن ینقص من أجورهم شیء(1).
وکذا إذا فرح بطاعتهم لله فی مدحهم إیاه وبحبهم للمطیع وبمیل قلوبهم إلی الطاعة، کما روی أن رجلاً قال لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: یا رسول الله أسرُّ العمل لا أحب أن یطلع علیه أحد، فیطلع علیه فیسرنی؟ قال: لک أجران أجر السر وأجر العلانیة(2).
وعن الباقر علیه السلام أنه سئل عن الرجل یعمل الشیء من الخیر فیراه إنسان فیسره ذلک؟ قال: لا بأس، ما من أحد إلا وهو یحب أن یظهر الله له فی الناس الخیر إذا لم یکن صنع ذلک لذلک(3).
وأما إذا کان فرحه وسروره من حیث قیام منزلته فی قلوب الناس حتی یمدحوه ویعظموه ویقوموا بقضاء حوائجه ویقابلوه بالإکرام فی مصادره وموارده فهو ریاء مذموم(4).
ومن جملة أقسام الریاء ترجیحه العمل فی الملأ علی الخلاء، وعدّ بعضهم عکسه أیضاً ریاء، لأنه لو کان عمله خالصاً لله لما تفاوت عنده الخلاء والملاء.
ص: 98
ومن جملة أقسامه ترک العمل خوفاً من الوقوع فی الریاء، فإنه قد أراح الشیطان من الإفساد.
تقسیم آخر قد یکون الریاء بغیر العبادات، وهو قد یکون مستحباً وقد یکون واجباً، إذ یجب علی المؤمن صیانة عرضه وأن لا یفعل ما یعاب علیه، فلا یلیق بذوی المروءات أن یرتکبوا الأمور الخسیسة بأنفسهم عند مشاهدة الناس وإن جاز لهم فی الخلوة، ولهذا ورد الأمر بالتزین(1) وإظهار النعمة(2) وإظهار الغنی(3) وکتم الفقر(4) ونحو ذلک من الشریعة المقدسة.
وروی أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أراد یوماً أن یخرج علی أصحابه وکان ینظر فی جب(5) من الماء ویسوی عمامته وشعره، فقیل له، أو تفعل ذلک یا رسول الله؟ قال: نعم إن الله یحب من العبد أن یتزین لإخوانه إذا خرج إلیهم(6).
ص: 99
وقال أمیر المؤمنین علیه السلام: لیتزین أحدکم لأخیه المسلم کما یتزین للغریب الذی یحب أن یراه فی أحسن الهیئة(1).
وقال الصادق علیه السلام: الثوب النقی یکبت العدو(2)... وکل ذلک ریاء محبوب.
إعلم أن الریاء بالعبادة إنما ینشأ من حب لذة الحمد، والفرار من ألم المذمة، والطمع مما فی أیدی الناس، فالعلاج أن یعرف العبد مضرة الریاء، وما یفوته من صلاح قلبه، وما یحرم عنه فی الحال من التوفیق وفی الآخرة من المنزلة عند الله، وما یتعرض له من العقاب والمقت(3) والخزی(4)، وما یفوته من ثواب الآخرة ورضاء الله وأنه قد أتعب بدنه وأحبط أجره، وقد خسر الدنیا والآخرة لما یتعرض له فی الدنیا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق، فإن رضاء الناس غایة لا تدرک(5)، وکلما یرضی به فریق یسخط به فریق، ورضاء بعضهم فی سخط بعض، ومن طلب رضاهم فی سخط الله سخط الله علیهم وأسخطهم علیه(6).
ص: 100
والأمور کلها والقلوب بید الله یقلبها کیف یشاء(1)، «ومن أصلح فی ما بینه وبین الله أصلح الله فی ما بینه وبین الناس»(2)، ومن أسخط الله الذی بیده جمیع الأمور برضاء الناس الذین ((لا یَمْلِکُونَ لأَِنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا))(3) ولا موتاً ولا حیاة ولا نشوراً(4) فهو أحمق سفیه(5)، وکیف یبعثه علی العمل الطمع بما فی أیدی الناس وهو یعلم أن الله هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء.
ومهما تکن عند امرئ من خلیق__ة
وإن خالها تخفی علی الناس تعلم(6)
وربما کشف الله للناس خبث سره فیمقتوه ویکرهوه ویخسر الدنیا والآخرة، ولا بد من کشف سره علی رؤوس الأشهاد یوم حشر العباد، ولو أخلص لله عمله لکشف الله لهم إخلاصه وحببه إلیهم وسخرهم له، وأطلق ألسنتهم بحمده والثناء علیه. هذا کله مع أنه لا کمال فی مدحهم ولا نقص فی ذمهم، ولو کان راغباً فی
ص: 101
المدح وخائفاً من الذم فلیرغب فی مدح الملائکة المقربین، بل فی مدح رب العالمین، ولیخش من ذمه وذمهم.
ثم ینبغی أن یعود نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها کما تغلق الأبواب دون الفواحش، ویجعل قلبه قانعاً بعلم الله واطلاعه علی عبادته، ولا تنازعه نفسه إلی طلب علم غیر الله به، وإذا واظب علی ذلک مدة سقط عنه ثقله(1).
ولیستعن بالله ویجاهد، «فمن العبد المجاهدة ومن الله الهدایة»(2) ((وَالَّذِینَ جاهَدُوا فِینٰا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا))(3) و((اللّهَ لا یُضِیعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِینَ))(4).
ص: 102
ص: 103
ص: 104
ص: 105
فی العجب
وهو غالباً إنما یقع بعد تصفیة العمل من شوائب الریاء، والکلام فیه یقع فی فصول:
العجب هو إعظام النعمة والرکون إلیها مع نسیان إضافتها إلی المنعم(1). وفی الکافی عن علی بن سوید(2) عن أبی الحسن علیه السلام(3) قال: سألته عن العجب الذی یفسد العمل؟ فقال: للعجب درجات: منها أن یزین للعبد سوء عمله فیراه حسناً ویحسب أنه یحسن صنعاً، ومنها أن یؤمن العبد بربه فیمنّ علی الله ولله علیه فیه المنّة(4).
ص: 106
ثم إذا کان خائفاً علی زوال تلک النعمة مشفقاً علی تکدرها أو یکون فرحه بها من حیث إنها من الله فلیس بمعجب، بل هو إعظام النعمة مع نسیان إضافتها إلی المنعم، وإذا انضاف إلی ذلک أن غلب علی نفسه أن له عند الله حقاً وأنه منه بمکان حتی توقع بعمله کرامة له فی الدنیا، واستبعد أن یجری علیه مکروه استبعاداً یزید علی استبعاده فی ما یجری علی الفساق سمی هذا الإدلال بالعمل، فکأنه یری لنفسه علی الله دالة. وکذلک قد یعطی لغیره شیئاً فیستعظمه ویمن علیه فیکون معجباً، فإن استخدمه واقترح علیه الاقتراحات أو استبعد تخلفه عن قضاء حقوقه کان مدلاً علیه.
وآفات العجب کثیرة، فإنه یدعو إلی الکبر لأنه أحد أسبابه، ویتولد من الکبر الآفات الکثیرة، ویدعو إلی نسیان الذنوب وإهمالها لظنه أنه مستغنٍ عن تفقدها، ویدعو إلی استعظام العبادات والطاعات والمنة بها علی الله، وکفی بذلک نقصاً. ویدعو إعجابه بها إلی التعامی عن آفاتها، والمعجب یغتر بنفسه وبربه ویأمن مکر الله ولا یأمن مکر الله إلا القوم الخاسرون(1).
ویمنعه العجب عن الاستشارة والاستفادة والتعلم، فیبقی فی ذل الجهل.
وربما یعجب برأیه الخطأ فی الأصول والفروع فیهلک(2).
ص: 107
قال الله تعالی فی معرض الإنکار: ((وَیَوْمَ حُنَیْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْکُمْ کَثْرَتُکُمْ))(1) وقال تعالی: ((وَظَنُّوا أَنَّهُم مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِنَ اللّهِ فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَیْثُ لَمْ یَحْتَسِبُوا))(2) فرد علی الکفار فی إعجابهم بحصونهم وشوکتهم(3). وقال تعالی: ((الَّذِینَ ضَلَّ سَعْیُهُمْ فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَهُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً))(4) وقال تعالی: ((أَفَمَنْ زُیِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً))(5) وهو یرجع إلی العجب بالعمل(6).
وقال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: ثلاث مهلکات: شح مطاع، وهوی متبع، وإعجاب المرء بنفسه(7).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: لو لم تذنبوا لخشیت علیکم ما هو أکبر من ذلک: العجب العجب(8).
ص: 108
وقال الصادق علیه السلام: إن الله تعالی(1) علم أن الذنب خیر للمؤمن من العجب، ولولا ذلک ما ابتلی مؤمناً(2) بذنب أبداً(3).
وقال علیه السلام(4): من دخله العجب هلک(5).
وقال علیه السلام(6): إن الرجل لیذنب الذنب فیندم علیه ویعمل العمل فیسره ذلک فیتراخی عن حاله تلک، فلئن یکون علی حاله تلک خیر له مما دخل فیه(7).
وعنه علیه السلام(8) قال: أتی عالم عابداً فقال له: کیف صلواتک؟ فقال: مثلی یسأل عن صلواته وأنا أعبد الله منذ کذا وکذا. قال: فکیف بکاؤک؟ قال: أبکی حتی تجری دموعی. فقال العالم: إن ضحکک وأنت خائف أفضل من بکائک وأنت مدلّ إن المدل لا یصعد من عمله شیء(9).
وعنه علیه السلام(10) قال:دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق فخرجا من المسجد والفاسق صدّیق والعابد فاسق، وذلک أنه یدخل العابد المسجد مدلاً(11) بعبادته
ص: 109
یدل بها فتکون فکرته فی ذلک، وتکون فکرة الفاسق فی الندم علی نفسه ویستغفر الله مما صنع من الذنوب(1).
وعنه علیه السلام(2) قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: بینما موسی علیه السلام جالس إذ أقبل إبلیس وعلیه برنس ذو ألوان، فلما دنا منه خلع البرنس وقام إلی موسی علیه السلام فسلم علیه. فقال له موسی: من أنت؟ فقال أنا إبلیس. قال: أنت فلا أقرب الله دارک. قال: إنی إنما جئت لأسلم علیک لمکانک من الله تعالی. قال: فقال له موسی علیه السلام: فما هذا البرنس؟ قال: أختطف به قلوب بنی آدم. فقال له موسی: فأخبرنی بالذنب الذی إذا أذنبه ابن آدم استحوذت علیه؟ فقال: إذا أعجبته نفسه واستکثر عمله وصغر فی عینه ذنبه. وعنه علیه السلام(3) قال: قال الله تعالی لداود علیه السلام(4): یا داود بشر المذنبین أنی أقبل التوبة وأعفو عن الذنب وأنذر الصدیقین أن لا یعجبوا بأعمالهم، فإنه لیس عبد أنصبه للحساب إلا هلک(5).
ص: 110
وقال الصادق علیه السلام فی مصباح الشریعة: العجب کل العجب ممن یعجب بعمله وهو لا یدری بم یختم له، فمن أعجب بنفسه وفعله فقد ضل عن نهج الرشاد وادعی ما لیس له، والمدعی من غیر حق کاذب وإن خفیت دعواه وطال دهره، فإنه أول ما یفعل بالمعجب نزع ما أعجب به لیعلم أنه عاجز فقیر، ویشهد علی نفسه لتکون الحجة علیه أوکد __ کما فعل بإبلیس.
والعجب نبات حبها الکفر وأرضها النفاق وماؤها البغی وأغصانها الجهل وورقها الضلالة وثمرها اللعنة والخلود فی النار، فمن اختار العجب فقد بذر الکفر وزرع النفاق، ولابد من أن یثمر(1).
فحیث کانت علة العجب الجهل المحض فالعلاج هو العلم والمعرفة المضادة لذلک الجهل، فلیفرض العجب بفعل داخل تحت اختیار العبد کالعبادات، فإن العجب بها أبلغ من العجب بالجمال والقوة والنسب مما لا یدخل تحت الاختیار، فیقال له الورع والتقوی والعبادة.
والعمل الذی به یعجب إما أن یکون یعجب به من حیث إنه فیه وهو محله ومجراه، أو من حیث إنه منه وبسببه وقدرته وقوته، فإن کان الأول فهو جهل، لأن المحل مستخر وإنما یجری فیه وعلیه من جهة غیره، وهو لا مدخل له فی الإیجاد والتحصیل، فکیف یعجب بما لیس إلیه. وإن کان الثانی فینبغی أن یتأمل فی قدرته وإرادته وأعضائه وسائر الأسباب التی بها یتم عمله أنها من أین کانت له، فإن کان علم أن جمیع ذلک نعمة من الله إلیه من غیر حق سبق له فینبغی أن یکون إعجابه بجود الله تعالی وکرمه وفضله، إذ تفضّل علیه بما لا یستحقه.
ص: 111
وإن قال: وفقنی للعبادة لحبی له، فیقال له: ومن خلق الحب فی قلبک؟ فسیقول: هو، فیقال له: فالحب والعبادة کلاهما نعمتان من عنده ابتدأک بهما من غیر استحقاق من جهتک، إذ لا وسیلة لک ولا علاقة، فیکون الإعجاب بجوده تعالی إذ أنعم بوجودک ووجود صفاتک وأعمالک وأسباب أعمالک، فلا معنی لعجب العالم بعلمه والعابد بعبادته والجمیل بجماله والغنی بغنائه، لأن کل ذلک من فضل الله.
ومن العجائب أن تعجب بنفسک ولا تعجب بمن إلیه الأمر کله وبجوده وفضله وکرمه وإنعامه(1).
إعلم أن الإنسان قد یعجب بالأسباب التی بها یتکبر وعلاجه ما یأتی فی التکبر، وقد یعجب بما لا یتکبر به کعجبه بالرأی الخطأ الذی تزین له بجهله وفی ما به العجب ثمانیة أقسام:
الأول: أن یعجب ببدنه فی جماله وهیئته وصحته وقوته وتناسب أشکاله وحسن صورته، وعلاجه التفکر فی أقذار باطنه وفی أول أمره وما إلیه یکون، وفی الوجوه الجمیلة والأبدان الناعمة کیف تمزقت فی التراب واستقذرها طباع أولی الألباب.
الثانی: القوة والبطش، کما حکی الله عن قوم قالوا ((مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً))(2) وعلاجه أن یعلم أن حمی یوم تضعف قوته، وأن البقة والذباب والشوکة تعجزه.
ص: 112
الثالث: العجب بالعقل والفطنة لدقائق الأمور من مصالح الدین والدنیا وعلاجه أن یشکر الله علی ما رزقه من العقل ویتفکر أنه بأدنی مرض یصیب دماغه کیف یختل عقله بحیث یصیر مضحکة للناس.
الرابع: العجب بالنسب الشریف کالهاشمی، وعلاجه أن یعلم أنه مهما خالف آباءه فی أفعالهم وأخلاقهم وظن أنه لحق بهم قد جهل(1)، ویحق أن یقال له:
ل___ئ_ن ف__خ_رت ب___آب___اء ذوی ن___س___ب(2)
لقد صدقت ولکن بئسما ولدوا(3)(4)
ص: 113
الخامس: العجب بنسب السلاطین والظلمة وأعوانهم دون نسب العلم والدین، وعلاجه أن یتفکر فی مخازیهم ومساوئهم وأنه ممقوتون عند الله وقد استحقوا النار وبئس القرار.
السادس: العجب بکثرة العدد من الخدم والغلمان والولد والأقارب والعشائر والأنصار، کما قال الکافرون: ((نَحْنُ أَکْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً))(1) والعلاج أن یتفکر فی ضعفه وضعفهم، وأنهم کلهم عبید وعجزة ((لا یَمْلِکُونَ لأَِنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا))(2)، ((وَلا مَوْتًا وَلا حَیاةً وَلا نُشُورًا))(3) و((کَم مِن فِئَةٍ قَلِیلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِیرَةً بِإِذْنِ اللّهِ))(4)، وکیف یعجب بهم وسیدفن فی قبره بعد نزول هادم اللذات ذلیلاً مهیناً لا ینفعه ولد ولا أهل ولا صاحب ولا حمیم، ویهربون منه ((یَوْمَ یَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِیهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِیهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِیهِ (36) لِکُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ یَوْمَئِذٍ شَأْنٌ یُغْنِیهِ))(5).
السابع: العجب بالمال، کما قال من قال: ((أَنا أَکْثَرُ مِنکَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا))(6) وعلاجه التفکر فی آفات المال وغوائله وأنه غادٍ ورائح لا أصل له.
وم____ا ال____م__ال والأه____ل_ون إلا ودی_ع___ة
ولاب______د ی__وم__اً أن ت______رد ال_____ودائع(7)
ص: 114
وإلی أن فی الیهود والکفار من هو أکثر منه مالاً، فینبغی أن یکونوا أحسن منه.
الثامن: العجب بالرأی الخطأ(1)، کما قال تعالی: ((أَفَمَنْ زُیِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً))(2) وقال تعالی: ((وَهُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعًا))(3) وعلاجه أن یکون متهماً لرأیه أبداً لا یغتر به إلا أن یشهد له قاطع من کتاب الله وسنة نبیه صلی الله علیه وآله وسلم، وعرض ذلک علی العلماء والعرفاء والصلحاء الماهرین(4).
ص: 115
ص: 116
ص: 117
فی التکبر
وهو الاسترواح والرکون إلی رؤیة النفس فوق المتکبر علیه، وهو من نتائج العجب وبذلک یفترق عنه، فإن العجب لا یستدعی معجباً علیه والتکبر یستدعی متکبراً علیه(1)، والکلام فیه فی فصول:
قال الله تعالی: ((سَأَصْرِفُ عَنْ آیاتِیَ الَّذِینَ یَتَکَبَّرُونَ فِی الأَرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ))(2) وقال تعالی: ((کَذلِکَ یَطْبَعُ اللَّهُ عَلی قَلْبِ کُلِّ مُتَکَبِّرٍ جَبّارٍ))(3) وقال تعالی: ((وَاسْتَفْتَحُواْ وَخابَ کُلُّ جَبّارٍ عَنِیدٍ))(4) وقال تعالی: «إن الله لا یحب المتکبرین»(5).
ص: 118
وقال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: لا یدخل الجنة من کان فی قلبه مثقال حبة من خردل من کبر، ولا یدخل النار رجل فی قلبه مثقال حبة من إیمان(1).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم یقول الله تعالی: «الکبریاء ردائی والعظمة إزاری فمن نازعنی واحداً(2) منهما ألقیته فی جهنم»(3).
وفی الکافی عن الباقر علیه السلام قال: الکبر رداء الله، والمتکبر ینازع الله رداءه(4).
وعنه علیه السلام(5): العز رداء الله، والکبر رداؤه فمن تناول شیئاً منهما أکبه الله فی جهنم(6).
وعنه(7) عن الصادق علیه السلام قال: لا یدخل الجنة من فی قلبه مثقال ذرة من کبر(8).
وعن محمد بن مسلم(9) عن أحدهما(10) قال: لا یدخل الجنة من کان فی قلبه مثقال حبة من خردل من الکبر. قال: فاسترجعت. فقال: ما لک تسترجع؟ قلت: لما سمعت منک. فقال: لیس حیث تذهب، إنما أعنی الجحود، إنما هو الجحود(11).
ص: 119
وعن الصادق علیه السلام قال: الکبر أن تغمص الناس وتسفه الحق(1).
وعنه علیه السلام(2) قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: إن أعظم الکبر غمص(3) الخلق وسفه الحق. قال: قلت ما غمص الخلق وسفه الحق؟ قال: یجهل الحق ویطعن علی أهله، فمن فعل ذلک فقد نازع الله(4) رداءه(5).
وعنه علیه السلام(6) قال: إن فی جهنم لوادیاً للمتکبرین یقال له (سفرّ)(7) شکا إلی الله(8) شدة حره وسأله أن یأذن له أن یتنفس، فتنفس فأحرق جهنم(9).
ص: 120
وعنه علیه السلام(1) قال: إن المتکبرین یجعلون فی صور الذر یتواطؤهم(2) الناس حتی یفرغ الله من الحساب(3).
وعن عمر بن یزید(4) قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام إننی آکل(5) الطعام الطیب وأشم الرائحة الطیبة وأرکب الدابة الفارهة ویتبعنی الغلام، فتری فی هذا شیئاً من التجبر فلا أفعله؟ فأطرق أبو عبد الله علیه السلام ثم قال: إنما الجبار الملعون من غمص الناس وجهل الحق. قال: فقلت له(6): أما الحق فلا أجهله والغمص لا أدری ما هو. قال: من حقر الناس وتجبر علیهم فذلک الجبار(7).
وعنه علیه السلام(8) قال: ما من أحد یتیه إلا من ذلة یجدها فی نفسه(9). وفی روایة أخری: ما من أحد(10) تکبر أو تجبر إلا لذلة وجدها فی نفسه(11).
ص: 121
وقال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: لا ینظر الله إلی رجل یجر إزاره بطراً(1).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: ما زاد الله عبداً یعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله(2).
وعنه صلی الله علیه وآله وسلم: إنه لیعجبنی أن یحمل الرجل الشیء فی یده فیکون مهنة لأهله(3) یدفع به الکبر عن نفسه(4).
وعنه صلی الله علیه وآله وسلم أنه قال لأصحابه: ما لی لا أری علیکم حلاوة العبادة. قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال: التواضع(5).
وعنه صلی الله علیه وآله وسلم قال: إذا رأیتم المتواضعین من أمتی فتواضعوا لهم، وإذا رأیتم المتکبرین فتکبروا علیهم، فإن ذلک لهم مذلة وصغار(6).
وعن الکاظم(7) علیه السلام قال: التواضع أن تعطی الناس ما تحب أن تعطاه(8).
للتکبر أقسام تنطبق علیه الأخبار السابقة، لأنه تارة یکون علی الحق، کما
ص: 122
کان لنمرود(1)، فإنه کان یحدث نفسه بأن یقاتل رب السماء، وکما کان لمن یدعی الربوبیة مثل فرعون حیث قال: ((أَنا رَبُّکُمُ الأَعْلَی))(2)، إذ تکبر عن العبودیة لله، قال تعالی: ((إِنَّ الَّذِینَ یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِی سَیَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِینَ))(3). ومن هذا القسم التکبر عن الدعاء والتضرع إلی الله تعالی.
وقد یکون علی الخلق: إما علی الأنبیاء والرسل والأئمة من حیث تعزز النفس وترفعها عن الانقیاد لبشر مثل سائر الناس، کما حکی الله عن قوم قالوا: ((أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَیْنِ مِثْلِنٰا))(4)، ((وإِنْ أَنتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنٰا))(5)، ((وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَکُمْ إِنَّکُمْ إِذًا لَخٰاسِرُونَ))(6)، وکما تکبر أئمة الجور عن الانقیاد والإطاعة لأئمة الحق.
وإما أن یکون سائر الناس، بأن یستعظم نفسه ویستحقر غیره، فإذا سمع الحق من عبد من عباد الله استنکف عن قبوله واشمأز(7) وجحده. ومن استعظم
ص: 123
نفسه فقد اعتقد لها صفة من صفات الکمال، وذلک یرجع إلی کمال دینی أو دنیوی، والدینی هو العلم والعمل، والدنیوی هو النسب والجمال والقوة والمال وکثرة الأنصار(1).
فإن کان تکبره بالعلم فعلاجه التفکر فی أنّ العلم قد دله علی أن الکبر لا یلیق إلا بالله تعالی، وأنه إذا تکبر صار ممقوتاً عند الله تعالی، وقد أحب الله منه أن یتواضع، فلابد أن یکلف نفسه ما یحبه مولاه، ولیعلم أن حجة الله علی أهل العلم أوکد. وقال الصادق علیه السلام(2): یغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن یغفر للعالم ذنب واحد(3). فإن رأی أعلم منه فلا معنی للتکبر علیه، وإن رأی مساویه فکذلک، وإن رأی أدون منه فلیعلم أن الحجة علیه أتم، وأن المدار علی الخاتمة.
وکذلک الکلام فی العمل، فإذا رأی أنه أصلح وأورع وأتقی من غیره تیقّن أن المدار لیس علی الأعمال بل علی الخاتمة، فیقول: لعل هذا ینجو وأهلک أنا، ولعل لهذا خلق کریم فی ما بینه وبین الله أستحق به النجاة وأنا بالعکس. ومن جوز أن یکون عند الله شقیاً فهو فی شغل شاغل عن التکبر.
ومن لم ینظر بعین الرضا إلی أعماله ویعتقد أن الله لو عامله بالعدل لاستحق العقاب علی حسناته بزعمه فضلاً عن سیئاته، فما له سبیل إلی التکبر، کما قال سید العابدین(4): إلهی من کانت محاسنه مساوئ کیف لا تکون مساوئه مساوئ(5).
ص: 124
وقال تعالی: ((وَالَّذِینَ یُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ))(1) أی یؤتون الطاعات وهم علی وجل عظیم من قبولها.
وإن کان تکبره بالنسب فهو تکبر بکمال غیره، ولو کان المنتسب إلیه حیاً لکان له أن یقول: الفضل لی وإنما أنت دودة خلقت من فضل فضلتی.
ولیعلم نسبه الحقیقی، فإن أباه القریب نطفة قذرة، وجده البعید تراب ذلیل(2). وجعل بدء خلق الإنسان من طین. ((ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِینٍ))(3).
وإن کان کبره بالجمال فعلاجه النظر إلی باطنه بعقله وفکره لیری من الفضائح ما یکدر علیه التعزز بجماله، فإن الأقذار فی جمیع أجزائه والرجیع فی أمعائه والبول فی مثانته والمخاط فی أنفه والبصاق فی فیه والوسخ فی أذنه والدم فی عروقه والصدید(4) تحت بشرته والصنان(5) تحت إبطه یغسل الغائط کل یوم دفعة أو دفعتین بیده ویتردد إلی الخلاء کل یوم مرة أو مرتین لیخرج من باطنه ما لو رآه بعینه لاستقذره فضلاً أن یمسه أو یشمه.
ص: 125
وفی أول أمره خلق من الأقذار الشنیعة وتصور من النطفة وتغذی من دم الحیض وخرج من مجری البول إلی الرحم مفیض دم الحیض ثم مجری القذر. ولو ترک نفسه فی حیاته یوماً لم یتعهده بالتنظیف والغسل لثارت منه الأنتان والأقذار، وسیموت فیصیر جیفة أقذر من سائر الأقذار.
وإن کان تکبره بالقوة فعلاجه التفکر فی ما سلط علیه من العلل والأمراض وأنه لو توجع عرق واحد من بدنه لصار أعجز من کل عاجز وأذل من کل ذلیل، وأنه لو سلبه الذباب شیئاً لم یستنقذه منه، ولو دخلت بقة فی أنفه أو نملة فی أذنه لقتلته، ولو دخلت شوکة فی رجله لأعجزته، وأن حمی یوم تحلل من قوته ما لا ینجبر فی مدة. ثم إن اشتدت قوته فلا تزید علی قوة الحمار والفیل والجمل والبقر، وأی افتخار فی صفة تشرکه البهائم فیها.
وأما التکبر بالغنی وکثرة المال والأتباع فذلک تکبر بمعنی خارج من ذات الإنسان لا کالجمال والقوة والعمل، وهذا أقبح أنواع التکبر، فأف لشرف تسبقه الیهود والنصاری وسائر الکفار، وتف لشرف یأخذه السارق والسلطان.
هذا کله مضافاً إلی ما سلط علیه من الأمراض العظیمة والأسقام الجسیمة والآفات المختلفة والطبائع المتضادة من المرة والبلغم والریح والدم، لیهدم البعض من أجزائه البعض، شاء أم أبی، رضی أم سخط، فیجوع کرهاً ویعطش کرهاً ویمرض کرهاً ویموت کرهاً، لا یملک لنفسه نفعاً ولا ضراً(1) ولا خیراً ولا شراً، یرید أن یعلم الشیء فیجهله ویرید أن یذکر الشیء فینساه ویرید أن ینسی الشیء ویغفل عنه فلا ینساه، ویرید أن ینصرف قلبه إلی ما یهمه فیجول فی غیره فلا یملک قلبه ولا نفسه، یشتهی الشیء وربما یکون هلاکه فیه ویکره الشیء وتکون حیاته
ص: 126
فیه، یستلذ الأطعمة فتهلکه وتردیه، ویستبشع الأدویة وهی تنفعه وتحییه، لا یأمن فی لحظة من لیله أو نهاره أن یسلب سمعه وبصره وعلمه وقدرته، وتفلج(1) أعضاؤه ویختلس(2) عقله وتختطف روحه ویسلب جمیع ما یهواه فی دنیاه، وهو مضطر ذلیل، إن ترک لم یبق وإن اختطف یفنی، عبد مملوک لا یقدر علی شیء.
فأین هو من التکبر والتجبر وهذا حاله بالفعل، وقد کان نطفة قذرة وسیکون جیفة منتنة یستقذره کل إنسان ویعود إلی ما کان، ولیته ترک تراباً، بل یحیا ویعاد لیقاسی الشدائد والآلام، ویحاسب ویعاقب علی ما سلف من الأیام، ویخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة، ویخرج إلی أهوال القیامة فینظر إلی قیامة قائمة وسماء ممزقة مشققة وأرض مبدلة وجبال مسیرة ونجوم منکدرة وشمس منکسفة وأحوال مظلمة وملائکة غلاظ شداد وجحیم تزفر وجنة ینظر إلیها المجرم فیتحسر، ویری صحائف منشورة کتب فیها ما نطق به وعمل من قلیل وکثیر ونقیر(3) وقطمیر(4)، وقد أشار الله تعالی إلی مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه وأواسط أحواله بقوله:((قُتِلَ الإِنسٰانُ مٰا أَکْفَرَهُ (17) مِنْ أَیّ شَیْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِیلَ یَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمٰاتَهُ فَأَقْبَرَهُ))(5).
ص: 127
هذا کله العلاج العلمی وأما العملی فهو التواضع بالفعل لله تعالی ولسائر الخلق بالمواظبة علی أفعال المتواضعین(1) وأخلاقهم، فقد روی عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم أنه(2) کان یأکل علی الأرض ویقول: إنما أنا عبد آکل کما یأکل العبد(3).
وقیل لسلمان(4): لِمَ لا تلبس ثوباً جدیداً؟ فقال: إنما أنا عبد فإذا أعتقت یوماً لبست. أشار به إلی العتق فی الآخرة(5).
ولا یتم التواضع __ بعد المعرفة __ إلا بالعمل، ولذلک أمر العرب الذین تکبروا علی الله ورسوله بالإیمان والصلاة معاً. وفی الصلاة أسرار لأجلها کانت عمود الدین(6)، ومن جملة أسرارها المثول قائماً وراکعاً وساجداً، وقد کانت العرب قدیماً یأنفون من الانحناء، فکان ربما یسقط من ید أحد سوطه فلا ینحنی لأخذه، وینقطع شراک نعله فلا ینکس رأسه لإصلاحه(7)، فلذلک أمروا بالرکوع والسجود(8).
ص: 128
وإلا فقد یزعم الإنسان أنه متواضع ولیس فیه کبر مع أنه متکبر عند الله وقد ضل سعیه، والامتحانات لذلک فی الموازین، وهی خمسة:
الأول: أن یناظر فی مسألة مع واحد من أقرانه، فإن ظهر شیء من الحق علی لسان صاحبه فثقل علیه قبوله والانقیاد له والاعتراف به والشکر له علی تنبیهه فذلک یدل علی أن فیه کبراً وترفعاً، فلیتق الله ولیشتغل بعلاجه بالعلم بخبث نفسه وخطر عاقبته، والعمل بأن یکلف نفسه ما یثقل علیه من الاعتراف بالحق وإطلاق اللسان بالحمد والثناء، ویقر علی نفسه بالعجز ویشکره علی الاستفادة.
الثانی: أن یجتمع مع الأقران والأمثال فی المحافل ویقدمهم علی نفسه ویجلس فی الصدر تحتهم، فإن ثقل ذلک علیه فهو متکبر، فلیواظب علیه تکلفاً حتی یسقط عنه ثقله، وههنا للشیطان مکیدة، وهی أن یجلس فی صف النعال أو یجعل بینه وبین الأقران بعض الأرذال، فیظن أن ذلک تواضع وهو عین الکبر، فإن ذلک یخف علی نفوس المتکبرین، إذ یوهمون أنهم إنما ترکوا مکانهم بالاستحقار والتفضیل، فیکون قد تکبر وتکبر بإظهار التواضع أیضاً.
الثالث: أن یجیب دعوة الفقیر ویمر إلی السوق فی حاجة الرفقاء والأقارب، فإن ثقل ذلک علیه فهو کبر.
الرابع: أن یحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلی البیت، فإن أبت نفسه ذلک فهو کبر وریاء.
ص: 129
الخامس: أن لا یبالی بلبس الثیاب البذلة، فإن نفور النفس من ذلک فی الملأ ریاء وفی الخلوة کبر. وفی هذه الثلاثة یشترط الاعتیاد فی الأزمنة والأمکنة والأشخاص.
واعلم أن المحمود من التواضع أن یتواضع فی غیر مذلة ومن غیر تخاسس(1) فإن کلا الطرفین مذموم و«خیر الأمور أوسطها»(2)، فمن تقدم علی أمثاله فهو متکبر ومن تأخر عنهم فهو متواضع ، وأما إذا تواضع العالم للإسکاف(3) وأجلسه مکانه وسوی نعله فهو ملق(4) وتذلل و تخاسس(5).
ص: 130
ص: 131
ص: 132
ص: 133
فی الدنیا والآخرة وفیه فصول
إعلم أن معرفة الدنیا والآخرة صعب شدید قد تحیّر فیه الفحول وتاه فیه أولو العقول: زعم قوم أن الدنیا عبارة عن المال، والحال أنه قد ورد مدحه فی الکتاب والسنة کثیراً، وقال صلی الله علیه وآله وسلم: نعم العون علی طاعة(1) الله المال(2).
وزعم قوم أن الدنیا هی الحیاة الدنیا، مع أنه بها یتوصل إلی السعادات الأبدیة ویتخلص من الشقاوة السرمدیة(3)، وقد قال صلی الله علیه وآله وسلم: نعم العون علی الآخرة الدنیا(4).
ص: 134
وزعم آخرون أن الدنیا المذمومة عبارة عن المآکل اللذیذة والمطاعم الجیدة والثیاب الفاخرة والدیار العامرة والخدم والحشم والأصحاب والأعوان مع أن بعض الأنبیاء والأولیاء کانوا کذلک __ کیوسف وسلیمان __.
والتحقیق أن من کان مشغولاً بالعلم والعبادة والحج والجهاد والصدقات وأداء الزکوات وقضاء الحوائج وزیارة الإخوان وعیادة المرضی وتشییع الجنائز وحضور الجمعة والجماعة والمواظبة علی النوافل وسائر الطاعات قد یکون فی بحبحة(1) الدنیا، ویصدق علیه أنه طالب الدنیا وأنه ملعون وأعماله ملعونة مردودة غیر مقبولة، حیث لم یقصد بها وجه الله تعالی، ورب رجل کثیر المال والخدم والحشم حسن المطعم والمشرب جید الزی والملبس ذی دیار وسیعة وعمارات عالیة ونساء جمیلة ومراکب حسنة و((سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَکْوٰابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمٰارِقُ(2) مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرٰابِیُّ(3) مَبْثُوثَةٌ(4))) (5)، وهو من أهل الآخرة وأعماله مقبولة وسعیه مشکور، حیث قصد بجمیع ذلک التوصل إلی رضاء الله تعالی.
ص: 135
فحینئذ الدنیا عبارة عن کل شیء یوجب البعد عن الله وإن کان صلاة وصوماً وحجاً وجهاداً وإنفاقاً وزهداً وقناعة، والآخرة کل شیء یوجب القرب من الله تعالی وإن کان مالاً ونساءً وخدماً وحشماً.
نعم فی أغلب الأوقات وأکثر الأشخاص لا یتمکن الإنسان من التقرب إلی الله تعالی والإخلاص له إلاّ بترک المباحات فضلاً عن الشبهات والمحرمات، ولذلک حث الأنبیاء الناس علی ترک ما یوجب المیل إلی الدنیا وإن کان یمکن أن یتوصل به إلی الآخرة، لأن النفوس ضعیفة والشیطان قوی.
وبتقریر آخر نقول: الدنیا والآخرة عبارتان عن حالتین من أحوال قلبک، والقریب الدانی منهما یسمی دنیاً لدنوه، وهو کل ما قبل الموت، والمتراخی المتأخر یسمی آخرة، وهو ما بعد الموت، فکل ما لک فیه حظ وغرض ونصیب وشهوة ولذة فی عاجل الحال قبل الوفاة فهی الدنیا فی حقک، إلا أن جمیع ما لک إلیه میل وفیه نصیب وحظ فلیس بمذموم، بل هو علی ثلاثة أقسام:
الأول: ما یصحبک فی الدنیا وتبقی معک ثمرته بعد الموت، وهو العلم بالله وصفاته وأفعاله، ((وَمَلآئِکَتِهِ وَکُتُبِهِ وَرُسُلِهِ))(1) وشرائعه وأحکامه والعمل الخالص لوجه الله، وقد یلتذ الإنسان فی الدنیا بالعلم والعبادة ویکونان عنده ألذ الأشیاء، ولذلک قال صلی الله علیه وآله وسلم: حبب إلی من دنیاکم ثلاث: الطیب، والنساء وقرة عینی فی الصلاة(2). فجعل الصلاة من جملة الدنیا لدخولها فی عالم الحس(3)
ص: 136
والشهادة مع أنها من أفضل القربات، وهذا ونحوه وإن أطلق علیه لفظ الدنیا لدنوه ولکنه من الدنیا الممدوحة التی هی العون علی الآخرة لا المذمومة.
الثانی: نقیض الأول، وهو کل ما فیه حظ عاجل ولیس له ثمرة فی الآخرة، کالتلذذ بالمعاصی بل المباحات الزائدة علی قدر الضرورة والتنعم بالقناطیر(1) المقنطرة(2) من الذهب والفضة والخیل المسومة(3)(4) وهذه هی الدنیا المذمومة.
ص: 137
الثالث: وهو متوسط بین الطرفین، وهو کل حظ عاجل معین علی أعمال الآخرة، وهو ما لابد منه للإنسان بحسب زیه وزمانه ومکانه من المأکول والملبوس والمشروب، فإذا تناوله الإنسان بقصد الاستعانة علی العلم والعمل والطاعات والعبادات وحفظ الحیاة وصیانة العرض ونحو ذلک مما أمر الشارع به فی الشریعة المقدسة، فلیس من الدنیا المذمومة فی شیء وإن قصد به الترفه والتلذد(1) والتنعم، أو استعان به علی المعاصی فهو من الدنیا، ولهذا ورد الحث علی طلب الحلال وتحصیل المال للکفاف(2)، فقال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال(3).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: ملعون من ألقی کله علی الناس(4).
وقال السجاد علیه السلام: الدنیا دنیاءان: دنیا بلاغ، ودنیا ملعونة(5).
وقال الباقر علیه السلام: من طلب الرزق فی الدنیا استعفافاً عن الناس وسعیاً(6) علی أهله وتعطفاً علی جاره لقی الله عزّوجل(7) ووجهه مثل القمر لیلة البدر(8).
ص: 138
وقال الصادق علیه السلام: الکاد علی عیاله کالمجاهد فی سبیل الله(1).
وقال علیه السلام(2) فی رجل قال: لأقعدن فی بیتی ولأصلین ولأصومنَّ ولأعبدن ربی فأما رزقی فسیأتی قال: هذا أحد الثلاثة الذین لا یستجاب لهم(3).
وقال علیه السلام(4): إن الله(5) لیحب الاغتراب فی طلب الرزق(6).
وقال له رجل(7): والله إنا لنطلب الدنیا ونحب أن نؤتاها. فقال: تحب أن تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها علی نفسی وعیالی وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر. فقال علیه السلام: لیس هذا طلب الدنیا هذا طلب الآخرة(8).
ص: 139
قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: الدنیا سجن المؤمن وجنة الکافر(1).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: لو کانت الدنیا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقی کافراً منها شربة ماء(2).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: الدنیا ملعونة، ملعون ما فیها إلا ما کان لله منها(3).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: من أحب دنیاه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنیاه فآثروا ما یبقی علی ما یفنی(4).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: حب الدنیا رأس کل خطیئة(5).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: یا عجباً کل العجب للمصدق بدار الخلود وهو یسعی لدار الغرور(6).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: من أصبح والدنیا أکبر همه فلیس من الله فی شیء، وألزم الله قلبه أربع خصال: هماً لا ینقطع عنه أبداً، وشغلاً لا یتفرغ منه أبداً، وفقراً لا ینال غناه أبداً، وأملاً لا یبلغ منتهاه أبداً(7).
ص: 140
وروی أن عیسی علیه السلام اشتد به المطر والرعد والبرق یوماً، فجعل یطلب بیتاً یلجأ إلیه، فرفعت إلیه خیمة من بعید فأتاها فإذا فیها امرأة فحاد عنها، فإذا هو بکهف فی جبل فأتاه فإذا فیه أسد فوضع یده علی رأسه وقال: إلهی جعلت لکل شیء مأوی ولم تجعل لی مأوی. فأوحی الله إلیه: مأواک فی مستقر من رحمتی لأزوجنک یوم القیامة ألف حوراء خلقتها بیدی، ولأطعمن فی عرسک أربعة آلاف عام یوم منها کعمر الدنیا، ولآمرن منادیاً ینادی: أین الزهاد فی الدنیا زوروا عرس الزاهد عیسی بن مریم(1).
وقال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: الدنیا دار من لا دار له، ولها یجمع من لا عقل له(2).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: ما لی والدنیا(3)، إنما مثلی ومثلها کمثل راکب(4) رفعت له شجرة فی یوم صائف فقال(5) تحتها ثم راح وترکها(6).
وقیل لأمیر المؤمنین علیه السلام: صف لنا الدنیا. فقال: وما أصف لک من دار من صح فیها ما أمن(7)، ومن سقم فیها ندم، ومن افتقر فیها حزن، ومن استغنی فیها فتن، فی حلالها الحساب وفی حرامها العقاب(8).
ص: 141
وقال علیه السلام(1): إنما هی ستة أشیاء مطعوم ومشروب وملبوس ومرکوب ومنکوح ومشموم: فأشرف المطعومات العسل وهو مذقة(2) ذباب، وأشرف المشروبات الماء یستوی فیه البر والفاجر، وأشرف الملبوسات الحریر وهو نسج دودة، وأشرف المرکوبات الفرس وعلیه یقتل الرجال، وأشرف المنکوحات المرأة وهی مبال(3) فی مبال، والله إن المرأة لتزین(4) أحسن شیء منها ویراد أقبح شیء منها، وأشرف المشمومات المسک وهو دم حیوان(5).
وقال الصادق علیه السلام: ما أعجب رسول الله(6) لشیء(7) من الدنیا إلا أن یکون فیها جائعاً خائفاً(8).
وقال لقمان لابنه: یا بنی بع دنیاک بآخرتک تربحهما جمیعاً، ولا تبع آخرتک بدنیاک فتخسرهما(9) جمیعاً(10).
ص: 142
کان الحسن بن علی علیه السلام یقول(1):
ی____ا أه______ل ل___ذات دن__ی__ا لا ب___ق__اء لها
إن اغ__ت__راراً ب__ظ_ل زائ____ل ح___م_____ق(2)
مثلها بالظلّ من حیث إنه متحرک فی الحقیقة ساکن فی الظاهر، ولا تدرک.
ومثلها النبی صلی الله علیه وآله وسلم من حیث الاغترار بخیالاتها والإفلاس منها بقوله صلی الله علیه وآله وسلم:«الدنیا حلم وأهلها علیها مجازون معاقبون»(3) ومن حیث تلطفها لأهلها أولاً وإهلاکهم آخراً.
روی أن عیسی علیه السلام کوشف بالدنیا فرآها فی صورة عجوز هتماء(4) علیها من کل زینة، فقال لها: کم تزوجت؟ قالت: لا أحصیهم. قال: فکلهم مات عنک أو کلهم طلقک؟ قالت: بل کلهم قتلت. فقال علیه السلام: بؤساً لأزواجک الباقین کیف لا یعتبرون بالماضین، کیف تهلکینهم واحداً بعد واحد ولا یکونون منک علی حذر(5).
ص: 143
ومن حیث إنها خلقت للاعتبار لا للعمار ورد فیها «إنها جسر(1) فاعبروها ولا تعمروها»(2).
وقال عیسی علیه السلام: الدنیا قنطرة(3) فاعبروها ولا تعمروها(4). وذلک لأن المیل الأول الذی هو علی رأس القنطرة المهد، والمیل الثانی اللحد، وبینهما مسافة محدودة، منهم من قطع ثلثها ونصفها وثلثیها، ومنهم من لم یبق له إلا خطوة واحدة، وهذا محتمل لکل أحد.
ومن زینها بأنواع الزینة واتخذها موطناً وهو عابر علیها بسرعة فهو فی غایة من الحمق والجهل.
ومن حیث حسن منظرها وقبح مخبرها قال فیها أمیر المؤمنین علیه السلام فی ما کتب إلی سلمان: مثل الدنیا مثل الحیة لین مسها ویقتل سمها، فأعرض عما یعجبک منها لقلة ما یصحبک منها، وضع عنک همومها لما أیقنت من فراقها، وکن أسر ما تکون منها أحذر ما تکون منها، فإن صاحبها کلما اطمأن بها إلی سرور أشخصته عنه مکرهاً __ والسلام(5).
ومن حیث تعذر الخلاص عن تبعاتها بعد الخوض فیها قال فیها النبی صلی الله علیه وآله وسلم: إنما مثل صاحب الدنیا کمثل الماشی فی الماء، هل یستطیع الذی یمشی فی الماء أن لا تبتل قدماه(6).
ص: 144
ومن حیث قلة الباقی منها بالإضافة إلی الماضی قال صلی الله علیه وآله وسلم: مثل هذه الدنیا مثل ثوب شق من أوله إلی آخرة فبقی بخیط فی آخره، فیوشک ذلک الخیط أن ینقطع(1).
ومن حیث أدائها إلی إهلاک طالبها قال فیها عیسی علیه السلام: مثل طالب الدنیا مثل شارب البحر(2) کلما ازداد عطشاً حتی تقتله(3).(4)
ومن حیث نسبتها إلی الآخرة قال فیها النبی صلی الله علیه وآله وسلم: «ما الدنیا فی الآخرة إلا کمثل(5) ما یجعل أحدکم إصبعه فی الیم(6) فلینظر بم یرجع»(7) إلیه من الأصل.
وقال الکاظم علیه السلام: إن لقمان قال لابنه: یا بنی إن الدنیا بحر عمیق قد غرق فیه عالم کثیر، فلتکن سفینتک فیها تقوی الله وحشوها الإیمان وشراعها التوکل وقیمتها(8) العقل ودلیلها العلم وسکانها الصبر(9).
وقال الباقر علیه السلام: مثل الحریص علی الدنیا کمثل دودة القز کلما ازدادت علی نفسها لفاً کان أبعد له من الخروج حتی تموت غماً(10).
ص: 145
ومن أحسن ما یمثل به حال الإنسان فی الدنیا بحال رجل یمشی فی صحراء وسیعة، فإذا بأسد عظیم ذی خلق جسیم مقبل علیه لیفترسه، فبقی هذا الضعیف المهان متحیراً مدهوشاً لا یدری ما الحیلة ولیس له سلاح یدفعه به ولا ملجأ یتحصن به ، فنظر إلی بئر هناک فولج (1) فیها ((خائِفاً یَتَرَقَّبُ))(2)، فمنذ وصل إلی وسطها رأی حشیشاً نابتاً فی وسطها علی الحائط، فتشبث به وهو یعلم أنه لا یفیده ولکن الغریق یتشبث بالحشیش، فنظر إلی فوقه فرأی الأسد منتظراً لخروجه حتی یفترسه، فنظر إلی قعر البئر فرأی أفاعی أربعاً فاتحة فاها لالتقامه بعد السقوط، فبینما هو فی هذه الأهوال الجسیمة والأحوال العظیمة لا یمکنه الصعود من الأسد والهبوط من الأفاعی والحشیش لا یحتمله إذ قد خرج من الحائط جرذان أسود وأبیض وشرعا یقترضان ذلک الحشیش آناً فآناً، فبینما هو فی هذه الأحوال إذ رأی قلیلاً من العسل ممزوجاً ببعض التراب القذر قد اجتمع علیه الزنابیر والذباب، فشرع فی مخاصمتهم والأکل معهم وقد صرف جمیع باله وخاطره إلی ذلک العسل ونسی ما هو فیه من البلاء، فهذا مثل الإنسان فی انهماکه بلذات الدنیا.
فالأسد هو الموت الذی لا محیص منه ولا مفر عنه ((أَیْنَمٰا تَکُونُواْ یُدْرِککُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ کُنتُمْ فِی بُرُوجٍ مُشَیَّدَةٍ))(3) والأفاعی الأربع الأخلاط الأربعة(4) أیها
ص: 146
غلب قتل الإنسان والبئر هو الدنیا، والحبل هو العمر، والجرذان اللیل والنهار یقرضان العمر، والعسل المخلوط بقذر التراب لذات الدنیا الممزوجة بالکدورات، والزنابیر والذباب هم أبناء الدنیا المتزاحمون علیها(1).
ص: 147
ص: 148
ص: 149
فی المال
إعلم أنه قد ورد من الشرع مدح المال وذمه، وقد تقدم من الأخبار ما یدل علی مدحه، وجمیع ما دل علی الحث علی الحج والزکاة والخمس والتصدق والهبة والعطیة والإحسان والإنعام والإطعام مما لا یتم إلا بالمال فهو مدح له، وقد سماه الله تعالی خیراً فی مواضع، فقال تعالی:((إِنْ تَرَکَ خَیْراً الْوَصِیَّةُ لِلْوالِدَیْنِ))(1)(2). وقال صلی الله علیه وآله وسلم:نعم المال الصالح للرجل الصالح(3).
وورد ذمه أیضاً فقال تعالی:((إِنَّمٰا أَمْوالُکُمْ وَأَوْلادُکُمْ فِتْنَةٌ))(4) وقال تعالی:((لا تُلْهِکُمْ أَمْوٰالُکُمْ وَلا أَوْلادُکُمْ عَن ذِکْرِ اللّهِ وَمَن یَفْعَلْ ذلِکَ فَأُوْلئِکَ
ص: 150
هُمُ الْخاسِرُونَ))(1). وقال صلی الله علیه وآله وسلم: حب المال والشرف ینبتان النفاق کما ینبت الماء البقل(2). ونحوه کثیر(3).
والسر فی ذلک أن المال ذو وجهتین: نافعة، ومضرة، ومثاله مثال الحیة فیها سم وتریاق(4)، ففوائدها تریاقها وغوائلها(5) سمومها. والمال إن صرف فی طاعة الله ومرضاته کان من الآخرة، وإلا کان من الدنیا.
والمال فیه فوائد وغوائل، من عرفها وأخذ الفوائد واجتنب عن الغوائل نجا.
وفوائد المال الدنیویة معلومة ولهذا تهالک أهل الدنیا علیها، وأما الدینیة فهی ثلاثة أنواع:
الأول: ما ینفقه علی نفسه فی عبادة أو الاستعانة علیها.
والثانی: ما یصرفه إلی الناس، وهو أربعة أقسام: الصدقة، والمروة، ووقایة العرض، وأجرة الاستخدام:
ص: 151
أما الصدقة فقد حث الشارع علیها ورغب فیها بالثواب وقال إنها تطفئ غضب الرب(1).
وأما المروة وهی صرف المال إلی الأغنیاء والأشراف فی ضیافة وهدیة وإعانة وإطعام الطعام، وهذا أیضاً مما رغب الشارع فیه ووعد علیه الثواب.
وأما وقایة العرض وهو بذل المال لدفع هجو(2) الشعراء وثلب(3) السفهاء ودفع شر الأشرار، فمع تنجز فائدته فی الدنیا حث الشارع علیه أیضاً، قال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: ما وقی المرء به(4) عرضه فهو له صدقة(5).
وأما الاستخدام فی الأعمال التی اضطر إلیها الإنسان من المأکول والمشروب والملبس ونحوها فهو ضروری لولاه لتعذر علیه سبیل الآخرة، ولو تولاها بنفسه لضاعت أوقاته وتعذر علیه الفکر والذکر.
النوع الثالث: ما لا یصرفه الإنسان إلی إنسان معین ولکن یحصل به خیر عام، کبناء المساجد والقناطر والرباطات ودار المرضی ونصب الحباب فی الطرق وغیر ذلک. هذا کله مضافاً إلی ما یتعلق بالحظوظ العاجلة من الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر، ولکثرة الإخوان والأعوان والأصدقاء.
ص: 152
وأما الآفات فدینیة ودنیویة، أما الدینیة فثلاثة أنواع:
الأول: إنه یجر إلی المعاصی، فإن الشهوات متقاضیة(1) والعجز یحول بین المرء والمعصیة، ومن العصمة أن لا تقدر.
الثانی: أن یجر إلی التنعم فی المباحات، وربما لا یقدر علی التوصل إلیه بالکسب الحلال فیقتحم الشبهات ویخوض فی المراء والمداهنة والکذب والنفاق وسائر الأخلاق المردیة لتحصیل مطلوبه لیتیسر له التنعم.
الثالث: وهو الذی لا ینفک عنه أحد، وهو أنه یلهیه إصلاح ماله عن ذکر الله تعالی، وکل ما یشغل العبد عن الله فهو خسران، ولذلک قال عیسی علیه السلام: فی المال ثلاث آفات إن(2) یأخذه من غیر حله. فقیل: إن أخذه من حله؟ قال: یضعه فی غیر حقه. فقیل له(3): إن وضعه فی حقه؟ فقال: یشغله إصلاحه عن الله(4).
ومن أراد أن ینجو من غائلة المال فعلیه بأمور:
الأول: أن یعرف المقصود من المال، وأنه لماذا خلق، وأنه لِمَ یحتاج إلیه حتی لا یکتسب ولا یحفظ إلا قدر حاجته.
الثانی: أن یراعی جهة دخل المال، فیجتنب الحرام المحض وما الغالب علیه الحرام، ویجتنب الجهات المکروهة القادحة فی المروة.
ص: 153
الثالث: أن یراعی جهة الخرج ویقتصد فی الإنفاق غیر مبذر ولا مقتر، قال تعالی:((وَالَّذِینَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ یُسْرِفُوا وَلَمْ یَقْتُرُوا وَکانَ بَیْنَ ذلِکَ قَواماً))(1).
الرابع: أن یضع ما اکتسبه من حله وحقه ولا یضعه فی غیر حقه، فإن الإثم فی الأخذ من غیر حقه والوضع فی غیر حقه سواء.
والخامس: أن یصلح نیته فی الأخذ والترک والإنفاق والإمساک فیأخذ ما یأخذ لیستعین به علی العبادات والطاعات، ویترک ما یترک زهداً فیه واستحقاراً له، وإذا فعل ذلک لم یضره وجود المال(2).
وقال أمیر المؤمنین علیه السلام: لو أن رجلاً أخذ جمیع ما فی الأرض وأراد به وجه الله فهو زاهد، ولو أنه ترک الجمیع ولم یرد وجه الله فلیس بزاهد(3).
وقال علیه السلام(4): الزهد کله بین کلمتین من القرآن(5):((لِکَیْلا تَأْسَوْا عَلی مٰا فاتَکُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمٰا آتاکُمْ))(6) ومن لم یأس علی الماضی ولم یفرح بالآتی فقد أخذ الزهد بطرفیه(7).
ص: 154
ص: 155
ص: 156
ص: 157
فی الفقر
وقد ورد مدحه وذمه أیضاً، وخلاصة الکلام فیه أن الفقر إما أن یکون إلی الله فقط لا إلی سواه __ بأن یکون متعففاً عن الناس غنی النفس __ هذا فی أعلی مراتب الکمال، وهو الذی قال فیه النبی صلی الله علیه وآله وسلم: الفقر فخری(1).
ومدح الله أهله بقوله:((یَحْسَبُهُمُ الْجٰاهِلُ أَغْنِیٰاء مِنَ التَّعَفُّفِ))(2).
وإما أن یکون إلی الناس، بأن یکون دائماً مظهراً للشکوی والحاجة متحملاً لذل السؤال والطمع بما فی أیدی الناس فهو فی أدنی مراتب النقص، وهو الذی قال فیه صلی الله علیه وآله وسلم: الفقر سواد الوجه فی الدارین(3). لأن صاحبه یکون ممقوتاً(4) عند الله وعند الناس، وصاحبه یخسر الدنیا والآخرة(5).
ص: 158
وإما أن یکون إلی الله مرة وإلی الناس أخری، وهو الذی قال فیه صلی الله علیه وآله وسلم: کاد الفقر أن یکون کفراً(1). لأنه شبیه بالشرک.
وینبغی للفقیر أن یکون قانعاً منقطع الطمع عن الخلق غیر ملتفت إلی ما فی أیدیهم، ولا حریصاً علی اکتساب المال کیف کان، ولا یمکنه ذلک إلا بأن یقنع بقدر الکفاف ویقصر الأمل، إذ لو کان حریصاً طماعاً لجره الحرص والطمع إلی مساوئ الأخلاق وارتکاب المنکرات(2). قال صلی الله علیه وآله وسلم: ما من أحد غنی ولا فقیر إلا ودّ یوم القیامة أنه کان أوتی قوتاً فی الدنیا(3).(4)
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: یا معاشر(5) الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبکم تطفروا(6) بثواب فقرکم وإلاّ فلا(7).
وقال أمیر المؤمنین علیه السلام: ابن آدم إن کنت ترید من الدنیا ما یکفیک فإن أیسر ما فیها یکفیک، وإن کنت ترید(8) ما لا یکفیک فإن کل ما فیها لا یکفیک(9).
ص: 159
وقال الباقر علیه السلام: إیاک أن تطمع بصرک إلی من هو فوقک، وکفی بما قال الله لنبیه صلی الله علیه وآله وسلم: ((وَلا(1) تُعْجِبْکَ أَمْوٰالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ))(2). وقال: ((وَلا تَمُدَّنَّ عَیْنَیْکَ إِلی مٰا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَیاةِ الدُّنیا))(3) فإن دخلک من ذلک شیء فاذکر عیش رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فإنما کان قوته الشعیر وحلواه التمر ووقوده السعف إذا وجد(4).
ص: 160
ص: 161
ص: 162
ص: 163
فی الجاه
وهو انتشار الصیت(1) والاشتهار، وحبه مذموم فی القرآن والأخبار، وهو آفة عظیمة فی الدین، والمحمود هو حب الخمول إلا من شهره الله من غیر تکلف طلب للشهرة.
قال الله تعالی:((تِلْکَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوّاً فِی الأَرْضِ وَلا فَسٰاداً وَالْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ))(2).
وقال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: حب الجاه والمال ینبتان النفاق فی القلب کما ینبت الماء البقل(3).
ص: 164
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: ما ذئبان ضاریان أرسلا فی زریبة غنم بأکثر فساداً من حب الجاه والمال(1).(2)
وقال علیه السلام(3): إنما هلک الناس باتباع الهوی وحب الثناء(4).
وقال أمیر المؤمنین علیه السلام: تبذل لا تشهر ولا ترفع شخصک لتذکر بعلم، واکتم واصمت تسلم تسر الأبرار وتغیظ الفجار(5).
وقال الصادق علیه السلام: إیاکم وهؤلاء الرؤساء الذین یترأسون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلک وأهلک(6).
وقال علیه السلام(7): ملعون من ترأس، ملعون من هم بها، ملعون من حدث بها نفسه(8).
وقال علیه السلام(9): رب ذی طمرین(10) لا یؤبه له لو أقسم علی الله لأبره(11).
وتحقیق الکلام فی الجاه فی فصول:
ص: 165
إعلم أن المال ملک الأعیان المنتفع بها، ومعنی الجاه ملک القلوب المطلوبة تعظیمها وطاعتها، والسبب فی حب المال هو السبب فی حب الجاه وزیادة، لأن ملک القلوب یتبعه ملک الأعیان، ویرجح الجاه علی المال من وجوه ثلاثة:
الأول: إن التواصل بالجاه إلی المال أیسر من التوصل بالمال إلی الجاه، إذ العالم والعابد الذی یرید حصول الجاه فی القلوب لو قصد اکتساب المال تیسر له، فإن أموال أرباب القلوب مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فیه الکمال، وأما الرجل الخسیس الذی لا یتصف بصفة کمال إذا وجد کنزاً ولم یکن له جاه یحفظ ماله وأراد أن یتوصل بالمال إلی الجاه لم یتیسر له.
الثانی: إن المال معرض للتلف بالغضب والسرقة والقلوب سالمة من ذلک، وإنما تغضب القلوب بقبح الحال وتغیر الاعتقاد، وذلک مما یهون دفعه.
الثالث: إن ملک القلوب ینمو ویسری ویتزاید من غیر حاجة إلی تعب لأن القلوب إذا أذعنت لشخص واعتقدت کماله نطقت وانطلقت الألسنة لا محالة بما فیها، وانتشر ذلک فی الأقطار والأمصار، ولا یزال فی زیادة اقتناص القلوب والنمو، والمال لا یمکن استنماؤه إلا بتعب شدید.
ولکن الجاه لیس بمذموم مطلقاً، بل هو کالمال ممدوح من جهة ومذموم من أخری، وکما أنه لابد للإنسان من أدنی مال لضرورة المطعم والملبس فلابد له من أدنی جاه لضرورة المعیشة مع الخلق کما یحتاج الإنسان إلی طعام یتناوله ویجوز أن یحب الطعام والمال الذی یباع به الطعام، وکذلک لا یخلو عن الحاجة إلی خادم یخدمه ورفیق یعینه وسلطان یحرسه ویدفع عنه ظلم الأشرار، فحبه لأن یکون له فی قلب
ص: 166
خادمه من المحل ما یدعوه إلی الخدمة لیس بمذموم، وکذا حبه لأن یکون له فی قلب رفیقه من المحل ما یحسن به مرافقته ومعاونته، وکذا حبه لأن یکون له فی قلب أستاذه من المحل ما یحسن به إرشاده وتعلیمه والعنایة به، وأن یکون له من المحل فی قلب السلطان ما یحثُه علی دفع الشر عنه، فإن الجاه وسیلة إلی الأغراض کالمال(1).
إعلم أن من غلب علی قلبه حب الجاه صار مقصور الهم علی مراعاة الخلق مشغوفاً بالتودد إلیهم، وابتلی بالریاء والسمعة والنفاق والمداهنة والتساهل فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ونحو ذلک، وعلاجه العلم والعمل:
أما العلم: أن یعلم أن السبب الذی لأجله أحب الجاه __ وهو کمال القدرة علی أشخاص الناس وعلی قلوبهم __ إن صفا وسلم فأخره الموت ولا ینفعه فی الآخرة لو لم یضره، ولو سجد له کل من علی وجه الأرض فعن قریب لا یبقی الساجد ولا المسجود له(2)، ویکون حاله کحال من مات قبله من ذوی الجاه مع المتواضعین له ، ولمثل هذا لا ینبغی أن یترک الدین الذی هو الحیاة الأبدیة التی لا انقطاع لها.
والکمال الحقیقی الذی یقرب صاحبه من الله ویبقی کمالاً للنفس بعد الموت لیس إلا العلم بالله وبصفاته وأفعاله، ثم الحریة وهی الخلاص من أسر الشهوات. هذا هو الکمال الباقی بعد الموت والباقیات الصالحات التی تبقی کمالاً للنفس.
ص: 167
والمال والجاه هو الذی ینقضی سریعاً، وهو کما مثله الله تعالی:((إِنَّمٰا مَثَلُ الْحَیٰاةِ الدُّنْیٰا کَمٰاءٍ أَنزَلْنٰاهُ مِنَ السَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ الأَرْضِ))(1)، وکل ((تَذْرُوهُ الرِّیٰاحُ))(2) بالموت فهو ((زَهْرَةَ الْحَیٰاةِ الدُّنیٰا))(3) وکل ما لا یقطعه الموت فهو من ((الْبٰاقِیٰاتُ الصّالِحٰاتُ))(4).
فمن عرف الکمال الحقیقی صغر الجاه فی عینه، إلا أن ذلک إنما یصغر فی عین من ینظر إلی الآخرة کأنه یشاهدها، ویستحقر العاجلة ویکون الموت کالحاصل عنده.
وأبصار أکثر الخلق ضعیفة تؤثر الدنیا علی الآخرة، کما قال تعالی: ((بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَیٰاةَ الدُّنْیٰا (16) وَالآخِرَةُ خَیْرٌ وَأَبْقی))(5) وقال تعالی: ((بَلْ تُحِبُّونَ الْعٰاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ))(6).
ومن کان کذلک فینبغی له العلاج بالعلم بالآفات العاجلة لصاحب الجاه، فإن صاحب الجاه مخاطر علی نفسه وماله، ومحمود مقصود بالإیذاء، مبتلی بالناس خص بالبلاء، من عرفته الناس یقاسی الشدائد العظیمة، ولأجلها یتمنی الخمول.
ولا یزال ذو الجاه خائفاً علی جاهه ومحترزاً من زوال منزلته عن القلوب والقلوب أشد تغییراً من القدر فی غلیانه، وهی مرددة بین الإقبال والإعراض، وما یبنی علی قلوب الخلق یضاهی ما یبنی علی أمواج البحر، فإنه لا ثبات له.
ص: 168
والاشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع کید الحساد ومنع أذی الأعداء اشتغال عن الله وتعرض لمقته فی العاجل والآجل. وجمیع ذلک غموم عاجلة مکدرة للذة الجاه الموهومة فضلاً عما یفوت فی الآخرة. هذا هو العلاج العلمی.
وأما العملی: فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بالأنس بالخمول والقناعة بالقبول من الخالق والاعتزال عن الناس والهجرة إلی مواضع الخمول، فإن المعتزل فی بیته فی البلدة التی هو بها مشهور لا یخلو عن حب المنزلة التی ترسخ له فی القلوب بسبب عزلته، ومن قنع استغنی عن الناس وانقطع طمعه عنهم، وإذا استغنی عنهم لم یکن لقیام منزلته فی قلوبهم عنده وزن، ویستعین علی ذلک بالأخبار الواردة فی ذم الجاه ومدح الخمول(1).
وسببه شعور النفس بالکمال والدلالة علی أن الممدوح قد ملک قلب المادح وسخره، وملک القلوب أحب من ملک الأموال __ کما تقدم.
ولهذین السببین یکره الذم ویتألم به القلب، والسبب الثالث أن ثناء المثنی ومدح المادح سبب لاصطیاد قلب کل من یسمعه، لاسیما إذا کان ذلک ممن یلتفت إلی قوله ویعتد بشأنه، وهذا یختص بثناء یقع علی الملأ.
والرابع من المدح یدل علی حشمة الممدوح واضطرار المادح إلی إطلاق اللسان بالثناء علیه إما طوعاً أو قهراً، والحشمة أیضاً لذیذة لما فیها من القهر والقدرة، وقد تجتمع هذه الأسباب فیعظم الالتذاذ ویندفع استشعار الکمال بأن
ص: 169
یعلم الممدوح أنه غیر صادق فی مدحه، فإن کان یعلم أن المادح لیس یعتقد ما یقوله بطلت اللذة الثابتة __ وهو استیلاؤه علی قلبه __ وبقیت لذة الاستیلاء بالحشمة.
وحب المدح والثناء کحب الجاه حرمة وإباحة ونفعاً وضراً، وعلاجه علاجه، وعلمه بأن الصفة الممدوح بها إن فقدت فاستهزاء وإن وجدت فالدنیویة کمال وهمی والدینیة موقوفة علی الخاتمة.
وعلاج کراهة الذم العلم بأن الصفة المذموم بها إن وجدت فتبصیر للعیوب، وفیه الفرح والشغل بالإزالة، وإن فقدت فکفارة للذنوب وفیه الشکر لله والترحم للذام حیث أهلک نفسه، کما قال النبی صلی الله علیه وآله وسلم لما کسروا رباعیته: اللهم إهد قومی فإنهم لا یعلمون(1).
والإنسان یفرح ممن یذم عدوه وهو عدو نفسه، فینبغی أن یفرح إذا سمع ذمها ویشکر الذام علیها ویعتقد ذکاءه، وفطنته لما وقف علی عیوبها، فیکون ذلک کالتشفی له من نفسه ویکون غنیمة عنده إذ صار بالمذمة أوضع فی أعین الناس حتی لا یبتلی بفتنة الجاه، وإذا سبقت إلیه حسنات لم یتعب فیها فعساه یکون جبراً لعیوبه التی هو عاجز عن إماطتها.
ولو جاهد نفسه طول عمره فی هذه الخصلة الواحدة __ وهی أن یستوی عند ذامه ومادحه __ لکان له شغل شاغل فیه لا یتفرغ معه لغیره.
وبینه وبین السعادة عقبات کثیرة هذه إحدی تلک العقبات، ولا یقطع شیء منها إلا بالمجاهدة الشدیدة فی العمر الطویل(2).
ص: 170
ص: 171
ص: 172
ص: 173
فی الغرور وفیه فصول
إعلم أن مفتاح السعادة التیقظ والفطنة، ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة، والغرور هو سکون النفس إلی ما یوافق الهوی ویمیل إلیه الطبع عن شبهة وخدعة من الشیطان، فمن اعتقد أنه علی خیر إما فی العاجل أو فی الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور(1)، قال الله تعالی:((لا(2) تَغُرَّنَّکُمُ الْحَیاةُ الدُّنْیا وَلا یَغُرَّنَّکُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ))(3)، وقال تعالی:((وَلکِنَّکُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَکُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْکُمُ الأَْمانِیُّ حَتَّی جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّکُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ))(4).
ص: 174
وقال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: حبذا نوم الأکیاس وفطرهم کیف یغبنون سهر الحمقی واجتهادهم، ولمثقال ذرة من صاحب تقوی ویقین أفضل من ملء الأرض من المغترین.
وکل ما ورد فی فضل العلم وذم الجهل فهو دلیل ذم الغرور، لأن الغرور(1) نوع من الجهل، والذین غرتهم الحیاة الدنیا بعض الکفار والعصاة الذین آثروا الحیاة الدنیا علی الآخرة قائلین: إن الدنیا نقد والآخرة نسیئة(2) والنقد خیر من النسیئة، ولذات الدنیا یقین والآخرة شک والیقین خیر من الشک.
وهذا عین الجهل، لأن الدنیا لو کانت ذهباً فانیاً والآخرة خزفاً باقیاً لکان الخزف الباقی خیراً من الذهب الفانی، فکیف والدنیا خزف فانٍ والآخرة ذهب باقٍ، کما قال تعالی:((ما عِنْدَکُمْ یَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ))(3) وقال تعالی: ((وَللآْخِرَةُ خَیْرٌ وَأَبْقی))(4) وقال تعالی: ((وَما الْحَیاةُ الدُّنْیا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ))(5).
وکون النقد خیراً من النسیئة مطلقاً ممنوع، فإن النسیئة العظیمة الکثیرة خیر من النقد القلیل الحقیر، وفعل هذا المغرور حجة علیه، فإنه یعطی خمسة دراهم نقداً لیأخذ عشرة نسیئة، ویترک لذائذ الأطعمة بتحذیر الطبیب نقداً خوفاً من ألم المرض النسیئة، ویتحمل المشاق والأسفار وقطع البحار نقداً لتوهم النفع نسیئة، وکذا التاجر فی سعیه وتصدیعه(6) علی یقین وفی ربحه علی شک، وکذا المتفقه فی
ص: 175
اجتهاده شک وفی تعبه یقین، والمریض من مرارة الدواء علی یقین ومن الشفاء علی شک، فکون الیقین خیراً من الشک مطلقاً ممنوع، بل إذا کان مثله فالذی له شک فی الآخرة یجب علیه بحکم الحزم أن یقول: الصبر أیاماً قلائل فی هذا العمر القصیر قلیل بالإضافة إلی ما یقال من أمر الآخرة، فإن کان ما یقال فی الآخرة کذباً فما فاتنی إلا نعم حقیرة فانیة، وإن کان صدقاً خلدت فی النار أبد الآبدین وهذا لا یطاق.
هذا کله مع قطع النظر عن کون الآخرة یقیناً یحکم بها العقل السلیم والفهم المستقیم، وأخبر بها الأنبیاء والمرسلون والأولیاء والصالحون.
وأما الغرور بالله فمثل قول بعضهم: فإن کان لله معاد فنحن أحق به من غیرنا وأوفر حظاً وأسعد حالاً، کما أخبر الله تعالی من قول الرجلین المتحاورین. إذ قال: ((وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلی رَبِّی لأََجِدَنَّ خَیْراً مِنْها مُنْقَلَباً))(1).
وذلک لأنهم تارة ینظرون إلی نعم الله علیهم فی الدنیا فیقیسون علیها نعم الآخرة، وینظرون إلی تأخیر الله العذاب عنهم، فیقیسون علیه عذاب الآخرة، کما قال تعالی: ((وَیَقُولُونَ فِی أَنْفُسِهِمْ لَوْلا یُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ))(2).
وینظرون تارة إلی المؤمنین وهم فقراء شعث غبر، فیقولون: ((أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَیْهِمْ مِنْ بَیْنِنا))(3) ویقولون: ((لَوْ کانَ خَیْراً ما سَبَقُونا إِلَیْهِ))(4)، ویقولون:
ص: 176
قد أحسن الله إلینا بنعیم الدنیا، وکل محسن محب، والمحب یحسن فی المستقبل أیضاً، ولم یعلموا أن نعیم الدنیا ولذاتها والاستدراج فیها یدل علی الهوان، وأن هذه اللذات سموم قاتلات، وأن الله یحمی المؤمن من الدنیا کما یحمی الطبیب المریض عن الطعام.
ولو کانت الدنیا لها قدر عند الله لما سقی الکافر منها شربة ماء، وقال تعالی: ((أَ یَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِینَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِی الْخَیْراتِ بَلْ لا یَشْعُرُونَ))(1) وقال تعالی:((سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَیْثُ لا یَعْلَمُونَ))(2) وقال تعالی:((فَتَحْنا عَلَیْهِمْ أَبْوابَ کُلِّ شَیْ ءٍ حَتّی إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ))(3).
ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله وصفاته، فإن من عرفه لا یأمن مکره ولا یغیر به بأمثال هذه الخیالات، وینظر إلی فرعون وقارون وإلی ملوک الأرض کیف أحسن الله إلیهم ثم دمرهم تدمیراً ((وَمَکَرُوا وَمَکَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَیْرُ الْماکِرِینَ))(4)، ((وَلا یَأْمَنُ(5) مَکْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)) (6).(7)
ص: 177
وهم کثیرون وجهات غرورهم مختلفة:
فمنهم: عصاة المؤمنین، یقولون إن الله کریم رحیم ونرجو رحمته وکرمه، وإن ((رَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیْ ءٍ))(1)، وأین معاصی العباد من رحمته، والرجاء مقام محمود. ووجه غرورهم ما یأتی إن شاء الله تعالی فی الرجاء من أن هذا تمنٍ علی الله وغرة به، فإن «من رجا شیئاً طلبه ومن خاف شیئاً(2)، هرب منه»(3)، وکما أن الذی یرجو ولداً ولم یتزوج أو تزوج ولم یجامع أو جامع ولم ینزل فهو أحمق، فکذا من رجا رحمة ربه ولم یعمل الصالحات ولم یترک السیئات، وقد قال تعالی: ((إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِیبٌ مِنَ الْمُحْسِنِینَ))(4) وقال تعالی:((إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَالَّذِینَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أُولئِکَ یَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ))(5) یعنی أن الرجاء إنما یلیق بمثلهم(6).
ومنهم: العلویة والهاشمیة، حیث اغتروا بالنسب وصلاح الآباء وعلو رتبتهم، وغفلوا عن کونهم مخالفین سیرة آبائهم فی التقوی والورع، وأنهم لیسوا بأکرم علی الله من آبائهم، وآباؤهم مع غایة التقوی والورع کانوا خائفین
ص: 178
باکین(1)، وهم مع غایة المعاصی والمساوئ قد أصبحوا راجین آمنین(2). وربما سول الشیطان لهم أن إنساناً إذا أحب أحداً أحب أولاده تبعاً، وأن الله یحب آباءکم فهو یحبکم تبعاً، فلا یحتاج فی بذل الجهد فی الطاعات وترک المعاصی. وغفلوا عن أنه لیس بین الله وبین أحد قرابة، وأن الله إنما یحب المطیع ویبغض العاصی، وقد قال نوح: رب إن ابنی من أهلی فقال تعالی: ((إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَهْلِکَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَیْرُ صالِحٍ))(3) وإن إبراهیم استغفر لأبیه فلم ینفعه ذلک(4).
ص: 179
ومن ظن أنه ینجو بتقوی أبیه فهو کمن ظن أنه یشبع بأکل أبیه ویروی بشرب أبیه ویصیر عالماً بعلم أبیه، ویصل إلی الکعبة ویراها بمسعی أبیه.
وهم فرق: فمنهم من أحکم العلوم العقلیة والشرعیة وتعمق فیها وغفل عن تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصی وإلزامها الطاعات، وغفل عن أن العلم إذا لم یعمل به کان وزراً ووبالاً ولم یزدد من الله إلا بعداً، و«أن العلم یهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل»(1)، وأن «أشد الناس عذاباً یوم القیامة عالم لم ینفعه الله بعلمه(2)»(3).
ومنهم: من أحکم العلم والعمل وواظب علی الطاعات وترک المعاصی الظاهرة من الجوارح وأهمل تفقد الرئیس لیمحو عنه المعاصی المهلکة والسموم القاتلة التی تفوت حیاة الأبد، کالحسد والریاء والحقد والکبر والعجب وحب الجاه ونحوها، وربما لم یعرف حقائق هذه الأمور وأقسامها فضلاً عن علاجها ومعالجتها، وقد أکب علی الفضول وترک الفرض، وهو لم یتصف بحقیقة الإنسانیة، ویظن أنه قد بلغ من العلم مبلغاً لا یعذب الله مثله، بل یقبل فی الخلق شفاعته وأنه لا یطالبه بذنوبه لکرامته عند الله.
ص: 180
ومنهم: من علموا هذه الأخلاق الباطنة وعلموا آفاتها وکیفیاتها إلا أنهم للعجب بأنفسهم یظنون أنهم منفکون عن الأخلاق المذمومة، وأنهم أرفع عند الله من أن یبتلیهم بها وإنما یبتلی بها العوام، ثم إذا ظهر علی أحدهم مخائل الکبر والرئاسة وطلب العلو والشرف قال: ما هذا کبر وإنما هذا طلب عز الدین وإظهار شرف العلم ونصرة دین الله وإرغام أنف المخالفین. ومهما انطلق اللسان بالحسد فی أقرانه وفی من رد علیه شیئاً من کلامه لم یظن بنفسه أن ذلک حسداً، ولکن قال: إنما هذا غضب للحق ورد علی المبطل فی عداوته وظلمه.
ثم لو طعن علیه غیره من أهل العلم لم یکن غضبه مثل غضبه الآن بل ربما یفرح به، وإذا خطر له خاطر الریاء قال: هیهات إنما غرضی من إظهار العلم والعمل اقتداء الخلق بی لیهتدوا إلی دین الله ویتخلصوا من عقاب الله.
ولا یتأمل المغرور أنه لیس یفرح باقتداء الناس بغیره کما یفرح باقتدائهم به، فلو کان غرضه صلاح الخلق لفرح بصلاحهم علی ید من کان.
وربما یتذکر هذا المعنی فلا یخلیه الشیطان أیضاً، بل یقول: إنما ذاک لأنهم إذا اهتدوا بی کان الأجر والثواب لی، وإنما فرحی بثواب الله لا بقول الخلق.
هذا ما یظنه بنفسه والله مطلع علی سریرته، وقد ((زُیِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً))(1) وضل سعیه فی الحیاة الدنیا وهو یحسب أنه یحسن صنعاً(2).
ومنهم: قوم اقتصروا علی علم الفتاوی والحکومات والخصومات وتفاصیل المعاملات الدنیویة الجاریة بین الخلق لمصالح المعائش، وصرفوا أعمارهم فی معرفة دقائق السلم والإجارة والظهار واللعان والجراحات الدعاوی والبینات والحیض
ص: 181
والاستحاضة، وضیعوا الأعمال المظاهرة والباطنة، ولم یتفقدوا الجوارح ولم یحرصوا اللسان عن الغیبة ولا البطن عن الحرام ولا الرجل عن المشی إلی السلاطین، ولم یعالجوا أمراض قلوبهم بالکبر والریاء والحقد والعجب والحسد وسائر المهلکات مما هو من الواجبات العینیة، واشتغل بفرض الکفایة والاشتغال بالکفائی(1) قبل الفراغ من العینی(2) معصیة.
ومثالهم مثال من به علة البواسیر(3) والسرسام(4)، وهو مشرف علی الهلاک محتاج إلی تعلم الدواء واستعماله، فاشتغل بتعلیم دواء الاستحاضة وبتکرار ذلک لیلاً ونهاراً مع علمه بأنه رجل لا یحیض ولا یستحیض، ولکن یقول: ربما وقعت الاستحاضة أو الحیض لامرأة تسألنی. وذلک غایة الغرور. وکذلک المتفقه المسکین الذی تسلط علیه حب الدنیا واتباع الشهوات والحسد والکبر والریاء وسائر المهلکات الباطنة، وربما یختطفه الموت قبل التوبة والتلافی فیلقی الله وهو علیه غضبان(5).
ص: 182
ومنهم: من اشتغل بعلم الکلام والمجادلة فی الأهواء والرد علی المخالفین وتتبع مناقضاتهم، واعتقدوا أنه لا یکون للعبد عمل إلا بالإیمان ولا یصلح الإیمان إلا بأن یتعلم جدلهم وما یسمونه أدلة عقائدهم، وظنوا أنه لا أحد أعرف بالله وصفاته منهم، وأنه لا إیمان لمن لا یعتقد مذهبهم ولم یتعلم علمهم، ودعا کل فرقة منهم إلی نفسه، وهم فرق کثیرة یکفّر بعضهم بعضاً ویلعن بعضهم بعضاً، فیهم الأشاعرة(1) والمعتزلة(2) والخوارج(3) والنواصب(4)، وهؤلاء مغرورون.
أما الفرقة الضالة منهم فلغفلتها عن ضلالها وظنها بنفسها النجاة، وأما الفرقة المحقة فإنما اغترارها من حیث إنها ظنت أن الجدل أهم الأمور وأفضل القربات، وقد ورد فی الحدیث النبوی: «ما ضل قوم قط بعد هدی إلا أوتوا الجدل وحرموا العمل»(5).
ص: 183
ومنهم: من اشتغل بالوعظ، وأعلاهم رتبة من یتکلم فی أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشکر والتوکل والزهد والیقین والإخلاص والصدق ونظائرها، ویظن بنفسه أنه إذا تکلم بهذه الصفات ودعا الخلق إلیها صار موصوفاً بها، وهو منفک عنها عند الله إلا عن قدر یسیر لا ینفک عنه عوام المسلمین، والأکیاس یمتحنون أنفسهم فی هذه الصفات ویطالبونها بالحقیقة، ولا یقنعون منها بالتزویق.
ومنهم: من قنع بحفظ کلام الزهاد وأحادیثهم، فهو حافظ للکلمات جاهل بالمعانی غیر متصف بما یقول.
ومنهم: من استغرق أوقاته فی علم الحدیث(1) وسماعه وطلب الأسانید
ص: 184
الغریبة العالیة، وغفل عن التدبر فی دقائق معانیه.
ومنهم: من لم یغفل عن ذلک إلا أنه غفل عما هو أهم منه کما تقدم.
ص: 185
ومنهم: من اشتغل بعلم النحو(1) واللغة(2) والشعر(3) وغریب اللغة(4)، زاعماً أنه من علماء الأمة المغفور لهم، إذ قوام الدین بالکتاب والسنة وقوام الکتاب والسنة بعلم اللغة والنحو، فأفنی هؤلاء أعمارهم فی دقائق العربیة وغریب اللغة، ومثالهم کمن یفنی عمره فی تعلم الخط وتصحیح الحروف وتحسینها ویزعم أن العلوم لا یمکن حفظها إلا بالکتابة فلابد من تعلمها، ولو عقل لعلم أنه یکفیه أصل الخط بحیث یمکن أن یقرأ کیفما کان والباقی زائد علی الکفایة. بل مثالهم مثال من ضیع العمر فی تصحیح مخارج الحروف فی القرآن واقتصر علیه، وهو غرور إذ المقصود من الحروف المعانی(5).
ص: 186
فمنهم: فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالفضائل والنوافل، وربما تعمقوا بالفضائل حتی خرجوا إلی العدوان والسرف، کالذی یغلب علیه الوسوسة(1) فی الوضوء فیبالغ فیه ولا یرتضی الماء المحکوم بطهارته فی فتوی الشرع، ویقدر الاحتمالات البعیدة فی النجاسة قریبة، وإذا آل الأمر إلی أکل الحلال قدر الاحتمالات القریبة بعیدة، وقد یطول الأمر فی وسواسه فی الوضوء والتطهیر حتی تضیع الصلاة ویخرجها عن وقتها.
ومنهم: من غلب علیه الوسوسة فی نیة الصلاة، فتفوته الجماعة ویخرج الوقت، وإن کبر ففی قلبه تردد فی صحّة نیته، ویفوته الحضور والخضوع والخشوع.
ومنهم: من یغلب علیه الوسوسة فی إخراج الحروف فلا یزال یعالجها حتی یذهل عن معانی القرآن.
ومنهم: من اغتر بقراءة القرآن فیهذُّه هذّاً(2)، وربما یختم فی الیوم واللیلة مرة ولسانه یجری به وقلبه یتردد فی أودیة الأمانی، والله تعالی یقول: ((لَوْ أَنْزَلْنا هذَا
ص: 187
الْقُرْآنَ عَلی جَبَلٍ لَرَأَیْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْیَةِ اللَّهِ))(1) وقلبه لا یخشی، ولو قرأ قلیلاً مع تدبر وتفکر وآداب لکان خیراً من الکثیر بدونه.
ومنهم: من اغتر بالمواظبة علی الصوم، وعنی نفسه بالجوع والعطش ولم یحفظ لسانه من الغیبة وقلبه من الصفات الخبیثة، فقد أهمل الفرض وطلب النفل(2).
ومنهم: من اغتر بالحج وزیارات المشاهد، فیخرج إلی الحج والزیارة من غیر خروج عن المظالم وقضاء الدیون وطلب الزاد الحلال، ویضیع فی الطریق الصلاة، ویعجز عن طهارة الثوب والبدن.
ومنهم: من یتقلد إمامة مسجد أو أذانه ویظن أنه علی خیر، ولو أمَّ غیره أو أذَّن فی وقت غیبته قامت علیه القیامة ولو کان أورع منه وأعلم.
ومنهم: من یأمر الناس بالمعروف وینهی عن المنکر وینسی نفسه، وإذا أمر عنف وطلب الرئاسة والعز، وإذا ردّ علیه إذا باشر منکراً غضب وقال: أنا المحتسب فکیف ینکر علی، وإنما غرضه الرئاسة.
ومنهم: من جاور فی الحرمین أو المشاهد واغتر بذلک ولم یطهر ظاهره وباطنه من الآثام والخبائث، ولم یزل قلبه وعیناه ممتدة إلی أوساخ أموال الناس، وغفل عن أن مجاورته لحب الحمد، ولو لم یعلم أحد بمجاورته لما هانت علیه المجاورة.
ومنهم: من تزهد فی المأکل والملبس والمسکن وظن أنه من الزاهدین فی الدنیا، والله یعلم منه الرغبة فی الرئاسة والجاه والمنزلة فی قلوب الناس الذی هو أعظم لذات الدنیا.
ص: 188
ومنهم: من یحرص علی التغافل لصلاة اللیل وسائر الرواتب ولا یجد للفریضة لذة ولا یشتد حرصه علی المبادرة إلیها فی أول الوقت.
ومنهم: من أشار إلیهم بعض العارفین: قوم تسموا بأهل الذکر والتصوف(1) والمسمون یدعون البراءة من التصنع والتکلف، یلبسون خرقاً ویجلسون حلقاً، یخترعون الأذکار ویتغنون بالأشعار ویعلنون بالتهلیل ولیس لهم إلی العلم والمعرفة سبیل، ابتدعوا شهیقاً ونهیقاً(2) واخترعوا رقصاً وتصفیقاً، قد خاضوا الفتن وأخذوا بالبدع دون السنن، رفعوا أصواتهم بالنداء وصاحوا الصیحة الشنعاء.
ومنهم: من یدعی علم المعرفة ومشاهدة المعبود ومجاورة المقام المحمود والملازمة فی عین الشهود، ولا یعرف من هذه الأمور إلا الأسماء، ولکنه تلقف من الطامات کلمات یرددها لدی الأغبیاء کأنه یتکلم عن الوحی أو یخبر عن السماء، ینظر إلی اصناف العباد والعلماء بعین الازدراء یقول فی العباد إنهم أجراء
ص: 189
متعبون وفی العلماء إنهم بالحدیث عن الله لمحجوبون، ویدعی لنفسه من الکرامات ما لا یدعیه ملک مقرب، لا علماً أحکم ولا عملاً هذَّب، یأتی إلیه الجمع الرعاع الهمج من کل فج أکثر من إتیانهم مکة للحج، یزدحم إلیه الجمع ویلقون إلیه السمع، وربما یخرون له سجوداً کأنهم اتخذوا معبوداً، یقبلون یدیه ویتهافتون علی قدمیه، یأذن لهم فی الشهوات ویرخص لهم فی الشبهات، یأکل ویأکلون کما تأکل الأنعام ولا یبالون من حلال أصابوا أم من حرام، وهو لحلوائهم هاضم ولدینه وأدیانهم حاطم، ((لِیَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ کامِلَةً یَوْمَ الْقِیامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِینَ یُضِلُّونَهُمْ بِغَیْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما یَزِرُونَ)) (1).(2)
فمنهم: من یحرص علی بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وما یظهر للناس کافة ویکتبون أسماءهم بالآجر علیها لیتخلد ذکرهم ویبقی بعد الموت أثرهم، ویظنون أنهم قد استحقوا المغفرة وهم مغرورون لوجهین:
أحدهما: إنهم اکتسبوها من الشبهات إن خلصوا من الحرام.
والثانی: إن الریاء قد غلب علیهم، إذ لو کلف أحدهم أن ینفق دیناراً ولا یکتب اسمه علی الموضع أو لا یعرف لم تسمح نفسه بذلک والله مطلع علیه کتب اسمه أو لم یکتب، فلولا أنه یرید وجه الناس لا وجه الله لما افتقر إلی ذلک، وربما یکون فی جوار أحدهم أو فی بلده فقیر وصرف المال إلیه أهم من الصرف إلی المساجد وزینتها.
ص: 190
ومنهم: من ینفق الأموال فی الصدقات وعلی الفقراء والمساکین ولکن یطلب به المحافل الجامعة ومن الفقراء من عادته الشکر والإفشاء للمعروف، ویکرهون التصدق فی السر أو صرفه إلی غیر أولئک أو إلی غیر أصدقائهم والمترددین إلیهم مع کونهم أهم. وبعضهم یری إخفاء الفقیر لما أخذ منه جنایة عظیمة وکفراناً.
ومنهم: من یحرص علی إنفاق ماله فی الحج والزیارات، وربما یترکون أرحامهم وجیرانهم جائعین.
ومنهم: من یحفظ ماله ویمسکه بحکم البخل ثم یشتغل بالعبادات البدنیة التی لا یحتاج فیها إلی نفقة کصیام النهار وقیام اللیل وختم القرآن وهو یظن أنه علی خیر لأن البخل المهلک قد استولی علی باطنه، وهم أحوج إلی قمعه بإخراج المال من طلب الفضائل. ومثالهم مثال من دخل فی ثوبه حیة وقد أشرف علی الهلاک وهو مشغول بصنع المبردات لیسکن به الصفراء.
ومنهم: من غلب علیه البخل، فلا تسمح نفسه إلا بأداء الزکاة فقط ثم یخرجها من المال الخبیث الردیء الذی یرغب عنه، ویخص بها من الفقراء من یخدمه ویتردد فی حوائجه ویظن أنه أداها لله(1).
وأصناف الغرور لا تحصی فلیتحذر منها. وفی مصباح الشریعة قال الصادق علیه السلام: المغرور فی الدنیا مسکین وفی الآخرة مغبون، لأنه باع الأفضل بالأدنی.
ولا تعجب من نفسک حیث ربما اغتررت بمالک وصحة جسمک لعلک تبقی وربما اغتررت بطول عمرک وأولادک وأصحابک لعلک تنجو بهم، وربما اغتررت بحالک ومنیتک وإصابتک مأمولک وهواک وظننت أنک صادق ومصیب، وربما
ص: 191
اغتررت بما تری الخلق من الندم علی تقصیرک فی العبادة ولعل الله یعلم من قلبک بخلاف ذلک، وربما أقمت نفسک علی العبادة متکلفاً والله یرید الإخلاص، وربما افتخرت بعلمک ونسبک وأنت غافل عن مضمرات ما فی علم الله، وربما توهمت أنک تدعو الله وأنت تدعو سواه، وربما حسبت أنک ناصح للخلق وأنت تریدهم لنفسک أن یمیلوا إلیک، وربما ذممت نفسک وأنت تمدحها فی الحقیقة.
واعلم أنک لن تخرج من ظلمات الغرور والتمنی إلا بصدق الإنابة إلی الله والإخبات له ومعرفة عیوب أحوالک من حیث لا یوافق العقل والعلم ولا یحتمله الدین والشریعة وسنن القدوة وأئمة الهدی، وإن کنت راضیاًَ بما أنت فیه فما أحد أشقی بعلمک منک وأضیع عمراً، فأورثت حسرة یوم القیامة(1).
ص: 192
ص: 193
ص: 194
ص: 195
ص: 196
ص: 197
فی التوبة وفیه فصول
وهی عبارة عن معنی ینتظم من ثلاثة أمور مترتبة: أولها العلم، وثانیها الحال، وثالثها الفعل. والأول موجب للثانی، والثانی موجب للثالث. والمراد بالعلم معرفة ضرر الذنوب وأنها السمومات المهلکة للدین المفوتة لحیاة الأبد، الحاجبة للعبد عن محبوبه من السعادة الأبدیة.
ثم یحصل من هذا العلم حال، وهو أن یثور من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات المحبوب، فإن القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألم، وینبعث من هذا الألم فی القلب حالة أخری تسمی إرادة وقصداً إلی فعل له تعلق بالحال بترک الذنب الذی کان له ملابساً، وبالاستقبال بالعزم علی ترک الذنب المفوت للمحبوب إلی آخر العمر، وبالماضی بتلافی ما فات بالجبر والقضاء إن کان قابلاً للجبر.
ص: 198
والعلم الأول هو مطلع هذه الخیرات، وهو عبارة عن الإیمان والتصدیق بأن الذنوب سموم مهلکة، وإذا أشرق علی القلب ثار الندم الباعث علی ما تقدم. وکثیراً ما یطلق اسم التوبة علی معنی الندم وحده ویجعل العلم کالسابق والمقدمة والترک کالثمرة والتابع، وبهذا الاعتبار قال صلی الله علیه وآله وسلم: الندم توبة(1). إذ لا یخلو الندم عن علم أوجبه وأثمره وعن عزم یتبعه ویتلوه.
لا ریب فی وجوب الإحتراز عن الأمراض والمهالک المفوتة لحیاة الجسد عقلاً وشرعاً، فوجوب الاحتراز عن أمراض الذنوب ومهلکات الخطایا المفوتة لحیاة الأبد بطریق أولی، وقال تعالی: ((تُوبُوا إِلَی اللَّهِ جَمِیعاً أَیُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ))(2) وقال تعالی: ((یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَی اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسی رَبُّکُمْ أَنْ یُکَفِّرَ عَنْکُمْ سَیِّئاتِکُمْ))(3) والنصوح الخالص لله الخالی عن الشوائب. وقال تعالی: ((إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ التَّوّابِینَ وَیُحِبُّ الْمُطَهِّرِینَ(4)))(5).
وقال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: التائب حبیب الله، والتائب من الذنب کمن لا ذنبه له(6).
ص: 199
وقال الباقر علیه السلام: الله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده فی لیلة ظلماء فوجدها، فالله تعالی أشد فرحاً لتوبة عبده من ذلک الرجل براحلته حین وجدها(1).
وقال الصادق علیه السلام: إن الله(2) یفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب کما یفرح أحدکم بضالته إذا وجدها(3).
وعنه علیه السلام(4) فی قوله تعالی: ((تُوبُوا إِلَی اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً))(5) قال: هو الذنب الذی لا یعود فیه أبداً. قیل: وأینا لم یعد؟ قال: یا فلان إن الله یحب من عباده المفتن التواب __ یعنی کثیر الذنب کثیر التوبة(6).
وعنه صلی الله علیه وآله وسلم(7): إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبه الله وستر علیه. قیل: وکیف یستر علیه؟ قال: یُنسی ملکیه ما کانا یکتبان علیه، ویوحی الله إلی جوارحه وإلی بقاع الأرض أن اکتمی علیه ذنوبه، فیلقی الله تعالی حین یلقاه ولیس شیء یشهد علیه بشیء من الذنوب(8).
وقال الباقر علیه السلام: التائب من الذنب کمن لا ذنب له، والمقیم علی الذنب وهو یستغفر(9) منه کالمستهزئ(10).
ص: 200
أما فوریتها فلا ریب فیها، لأن دفع ضرر الذنوب فوری وجوبه، علی أن أصل التوبة هو معرفة کون المعاصی مهلکات، وهذا العلم من نفس الإیمان، وهو واجب فوری.
والعلم بضرر الذنوب إنما أرید لیکون باعثاً علی ترکها، فمن لم یترکها فهو فاقد لهذا الجزء من الإیمان، وهو المراد بقوله صلی الله علیه وآله وسلم: «لا یزنی الزانی حین یزنی وهو مؤمن»(1). إذ لیس المراد نفی الإیمان بالله وصفاته وکتبه ورسله وملائکته، بل نفی الإیمان بکون الزنا مبعداً عن الله وموجباً للمقت، کما إذا قال الطبیب هذا سم فلا تتناوله، فإذا تناوله یقال تناول وهو غیر مؤمن، أی بقوله إنه سم مهلک، لا إنه غیر مؤمن بوجود الطبیب، لأن العالم بالسم لا یتناوله أصلاً، فالعاصی بالضرورة ناقص الإیمان.
ولیس الإیمان باباً واحداً، بل هو نیف وسبعون باباً أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذی عن الطریق. ومثله قول القائل: لیس الإنسان موجوداً واحداً بل هو نیف وسبعون موجوداً أعلاها القلب والروح وأدناها إماطة الأذی عن البشرة، بأن یکون مقصوص الشارب مقلم الأظفار نقی البشرة عن الخبث، حتی یتمیز عن البهائم المتلوثة بأرواثها المستکرهة الصور بطول مخالبها وأظلافها.
فالإیمان کالإنسان، وفقد شهادة التوحید یوجب البطلان بالکلیة کفقد الروح والذی لیس له إلا شهادة التوحید والرسالة کالإنسان مقطوع الأطراف مفقود العینین فاقد لجمیع أجزائه الظاهرة والباطنة إلا أصل الروح.
ص: 201
وکما أن من هذا حاله قریب من أن یموت فتزایله الروح الضعیفة المنفردة التی تخلف عنها الأعضاء التی تمدها وتقویها، فکذلک من لیس له إلا أصل الإیمان، وهو مقصر فی الأعمال قریب من أن تنقلع شجرة إیمانه إذا صدر منها الریاح العاصفة المحرکة للإیمان فی مقدمة قدوم ملک الموت ووروده، فکل إیمان لم یثبت فی النفس أصله ولم تنتشر فی الأعمال فروعه لم یثبت علی عواصف الأهوال عند ظهور ناصیة ملک الموت، وخیف علیه سوء الخاتمة إلا ما سقی بماء الطاعات علی توالی الأیام والساعات حتی رسخ وثبت.
وإنما انقطعت نیاط(1) العارفین خوفاً من دواهی(2) الموت ومقدماته الهائلة التی لا یثبت علیها إلا الأقلون، فالبدار البدار إلی التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإیمان عملاً یجاوز الأمر فیه اختیار الأطباء ولا ینفع بعده الاحتماء، فلا ینفع بعد ذلک نصح الناصحین ووعظ الواعظین، ویحق الکلمة علیه بأنه من الهالکین(3).
إعلم أن وجوب التوبة عام فی الأشخاص والأحوال، فلا ینفک أحد عنه البتة، قال تعالی: ((وتُوبُوا إِلَی اللّهِ جَمِیعاً))(4) فعمم الخطاب، وکل إنسان لا یخلو
ص: 202
عن معصیة بجوارحه، فإن خلا فی بعض الأحوال عن معصیة الجوارح فلا یخلو عن الهم بالذنوب بالقلب، فإن خلا عن الهم فلا یخلو عن وسواس الشیطان بإیراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذکر الله، فإن خلا عنه فلا یخلو عن الغفلة والقصور فی العلم بالله وصفاته وآثاره بحسب طاقته، وکل ذلک نقص وله أسباب وترک أسبابه بتشاغل أضدادها رجوع عن طریق إلی ضده.
والمراد بالتوبة الرجوع، ولا یتصور الخلو فی حق الآدمی عن هذا النقص، وإنما یتفاوتون فی المقادیر، وأما الأصل فلا بد منه.
إلا أن الأنبیاء والأوصیاء ذنوبهم لیست کذنوبنا(1)، فإنما هی ترک دوام الذکر والاشتغال بالمباحات وحرمانهم زیادة الأجر بسبب ذلک، ولهذا ورد: إن «حسنات الأبرار سیئات المقربین»(2) وقال الصادق علیه السلام: إن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم کان یتوب إلی الله ویستغفره فی کل یوم ولیلة مائة مرة من غیر ذنب، إن الله یخص أولیاءه بالمصائب لیأجرهم علیها من غیر ذنب(3) __ أی کذنوبنا، فإن ذنب کل أحد إنما هو بحسب قدره ومنزلته عند الله.
وهذا باب شریف ینفتح منه معانی اعتراف الأنبیاء والأئمة علیهم السلام بذنوبهم وبکائهم وتضرعهم(4).
ص: 203
ثم اعلم أنه لا یکفی فی تدارک الشهوات ترکها فی المستقبل، بل لابد من محو آثارها التی انطبعت فی القلب بنور الطاعات، قال صلی الله علیه وآله وسلم: أتبع السیئة بالحسنة تمحها(1).
وینبغی أن تکون الحسنة الماحیة للسیئة مناسبة لتلک السیئة، فیکفر سماع الملاهی بسماع القرآن وحضور المجالس التی یذکر الله فیها وأنبیاؤه وخلفاؤه(2)، ویکفر القعود بالمسجد جنباً(3) بالعبادة فیه ونحو ذلک، ولیس ذلک شرطاً.
روی أن رجلاً قال لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: إنی عالجت امرأة فأصبت منها کل شیء إلا المسیس فاقض علی بحکم الله. فقال: أما صلیت معنا؟ فقال: بلی. فقال: إن الحسنات یذهبن السیئات(4).
ص: 204
وینبغی أن یکون عن قرب عهد بالخطیئة، بأن یتندم علیها ویمحو أثرها قبل أن یتراکم الرین علی القلب فلا یقبل المحو، قال الله تعالی: ((إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَی اللَّهِ لِلَّذِینَ یَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ یَتُوبُونَ مِنْ قَرِیبٍ... (17) وَلَیْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِینَ یَعْمَلُونَ السَّیِّئاتِ حَتَّی إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّی تُبْتُ الآْنَ))(1). قال الصادق علیه السلام: ذلک إذا عاین أمر الآخرة(2)، وذلک أن التوبة مقبولة قبل أن یعاین(3).
وعن النبی صلی الله علیه وآله وسلم(4) قال: من ترک المبادرة إلی التوبة بالتسویف کان بین خطرین عظیمین: أحدهما أن تتراکم الظلمة علی قلبه من المعاصی حتی یصیر ریناً(5) وطبعاً فلا یقبل المحو. والثانی أن یعاجله المرض أو الموت فلا یجد مهلة للاشتغال بالمحو(6). ولذلک ورد فی الخبر: «إن أکثر صیاح أهل النار التسویف(7)»(8).
ص: 205
قال فی الإحیاء(1): إعلم أنک إذا فهمت معنی القبول لم تشک فی أن کل توبة صحیحة فهی مقبولة، فالناظرون بنور البصائر المستمدون من أنوار القرآن علموا أن کل قلب سلیم مقبول عند الله ومتنعم فی الآخرة فی جوار الله، ومستعد لأن ینظر بعینه الباقیة إلی وجه الله، وعلموا أن القلب خلق سلیماً فی الأصل، فکل مولود یولد علی الفطرة(2) وإنما تفوته السلامة بکدورة ترهق وجهه من غبرة الذنوب وظلمتها.
وعلموا أن نار الندم تحرق تلک الغبرة، وأن نور الحسنة تمحو عن وجه القلب ظلمة السیئة، وأنه لا طاقة لظلام المعاصی مع نور الحسنات کما لا طاقة لظلام اللیالی مع نور النهار، بل کما لا طاقة لکدورة الوسخ مع بیاض الصابون، فکما أن الثوب الوسخ لا یقبله الملک لأن یکون لبسه، فالقلب المظلم لا یقبله الله تعالی لأن یکون فی جواره، وکما أن استعمال الثوب فی الأعمال الخسیسة یوسخ الثوب وغسله بالصابون والماء الحار ینظفه لا محالة فاستعمال القلب فی الشهوات یوسخ القلب وغسله بماء الدموع وحرقة الندم تنظفه وتطهره وتزکیه.
وکل قلب زکی طاهر فهو مقبول، فعلی الإنسان التزکیة والتطهیر وعلی الله القبول، إلا أن یغوص الوسخ لطول تراکمه فی تجاویف الثوب وخلله، فلا یقوی الصابون علی قلعه. ومثال ذلک أن تتراکم الذنوب حتی یصیر طبعاً وریناً علی القلب، فمثل هذا القلب لا یرجع ولا یتوب.
ص: 206
نعم قد یقول باللسان تبت، فیکون ذلک کقول القصار بلسانه قد غسلت الثوب، وذلک لا ینظف الثوب أصلاً ما لم یغیر صفة الثوب باستعمال ما یضاد الوصف المتمکن منه(1)، قال الله تعالی: ((وَهُوَ الَّذِی یَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ))(2) وقال: ((غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ))(3).
أقول: من طریق الخاصة(4) فی الکافی(5) عن الصادق أو الباقر علیه السلام: إن الله
ص: 207
عزّوجل قال لآدم علیه السلام: جعلت لک أن من عمل من ذریتک سیئة ثم استغفر غفرت له. قال: یا رب زدنی. قال: جعلت لهم التوبة حتی تبلغ النفس هذه. قال: یا رب حسبی(1).
وعن الباقر علیه السلام قال: إذا بلغت النفس هذه __ وأومأ(2) بیده إلی حلقه __ لم یکن للعالم توبة وکان للجاهل توبة(3).
وعن الصادق علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته، ثم قال: إن السنة لکثیر من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته ثم قال: إن الشهر لکثیر، ثم قال: من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته، ثم قال: وإن الجمعة لکثیر من تاب قبل موته بیوم قبل الله توبته، ثم قال: إن یوماً لکثیر من تاب قبل أن یعاین قبل الله توبته(4).
ص: 208
وزاد فی روایة الصدوق(1): من تاب قبل موته بساعة تاب الله علیه، ثم قال: وإن الساعة لکثیر من تاب وقد بلغت نفسه هنا __ وأشار بیده إلی حلقه __ تاب الله علیه(2).
وقال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: لو عملتم الخطایا حتی تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب الله علیکم(3).
وقال الباقر علیه السلام لمحمد بن مسلم(4): ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فلیعمل المؤمن لما یستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما والله إنها لیست إلا لأهل الإیمان. قلت: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار فی الذنوب وعاد فی التوبة؟ فقال علیه السلام: أتری العبد المؤمن یندم علی ذنبه ویستغفر الله منه ویتوب ثم لا یقبل الله توبته. قلت: فإنه فعل ذلک مراراً یذنب ثم یتوب ویستغفر؟ فقال: کلما عاد المؤمن
ص: 209
بالاستغفار والتوبة عاد الله علیه بالمغفرة، ((وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ))(1) یقبل التوبة ویعفو عن السیئات(2).(3)
وقال الصادق علیه السلام: إن الرجل لیذنب الذنب فیدخله الله به الجنة. قیل(4): یدخله الله بالذنب الجنة؟ قال: نعم، إنه لیذنب فلا یزال منه خائفاً ماقتاً لنفسه فیرحمه الله فیدخله الجنة(5).
وتنحصر جمیع الذنوب فی أربع صفات: صفات ربوبیة، وشیطانیة، وبهیمیة، وسبعیة.. لکون طینة الإنسان معجونة من أخلاط مختلفة(6) یقتضی کل منها أثراً:
ص: 210
فالربوبیة کالکبر والفخر والتجبر وحب المدح والثناء والعز ودوام البقاء وطلب الاستعلاء ونحوها، وهذه أم المهلکات.
والشیطانیة کالحسد والبغی والحیلة والخداع والأمر بالفساد والمنکر والغش والشقاق والدعوة إلی البدع والضلالة.
والبهیمیة کالشره والتکالب والحرص والزنا واللواط والسرقة وأکل مال الأیتام ونحوها.
والسبعیة یتشعب منها الغضب والحقد والتهجم علی الناس بالضرب والشتم والقتل واستهلاک الأموال ونحوها.
ثم هذه أمهات الذنوب ومنابعها، وتنفجر الذنوب من هذه المنابع علی الجوارح، فبعضها فی القلب خاصة کالکفر والبدعة والنفاق وإضمار السوء للناس، وبعضها علی العین والسمع، وبعضها علی اللسان، وبعضها علی البطن والفرج، وبعضها علی الیدین والرجلین، وبعضها علی جمیع البدن.
وتنقسم قسمة ثانیة إلی ما بین العبد وبین الله وإلی ما یتعلق بحقوق العباد: فما یتعلق بالعبد خاصة کترکه الصلاة والصوم ونحوهما، وما یتعلق بحقوق العباد کترکه الزکاة وقتل النفس وغصب الأموال وشتم العرض.
وتنقسم قسمة ثالثة إلی کبائر وصغائر، قال الله تعالی: ((إِنْ تَجْتَنِبُوا کَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُکَفِّرْ عَنْکُمْ سَیِّئاتِکُمْ))(1) وقال تعالی: ((والَّذِینَ(2) یَجْتَنِبُونَ کَبائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ))(3).
ص: 211
وقد اختلفت الأقوال والأخبار فی تعیین الکبائر، والأشهر أنها ما توعد الله علیه النار. فعن الصادق علیه السلام فی قوله تعالی: ((إِن تَجْتَنِبُواْ کَبٰآئِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ))(1) قال: الکبائر التی أوجب الله علیها النار(2).
وفی الصحیح(3) عن أبی جعفر الثانی(4) قال: سمعت أبی(5) یقول: سمعت أبی موسی بن جعفر یقول: دخل عمرو بن عبید(6) علی أبی عبد الله علیه السلام، فلما
ص: 212
سلم وجلس تلا هذه الآیة ((الَّذِینَ یَجْتَنِبُونَ کَبٰائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوٰاحِشَ))(1) ثم أمسک، فقال له علیه السلام ما أسکتک؟ قال: أحب أن أعرف الکبائر من کتاب الله فقال: نعم یا عمرو، أکبر الکبائر الإشراک بالله یقول الله ((مَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَیهِ الْجَنَّةَ))(2)، وبعده الیأس من روح الله لأن الله یقول: ((إِنَّهُ لا یَیْأَسُ مِن رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْکافِرُونَ))(3)، ثم الأمن من مکر الله لأن الله تعالی یقول: ((فَلا یَأْمَنُ مَکْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخٰاسِرُونَ))(4)، ومنها عقوق الوالدین لأن الله جعل العاق جباراً شقیاً وقتل النفس التی حرم الله إلا بالحق لأن الله تعالی یقول: ((فَجَزآؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِیهٰا))(5) الآیة، وقذف المحصنة لأن الله تعالی یقول: ((لُعِنُوا فِی الدُّنْیٰا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذٰابٌ عَظِیمٌ))(6)، وأکل مال الیتیم لأن الله یقول: ((إِنَّمٰا یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ نٰاراً وَسَیَصْلَوْنَ سَعِیراً))(7)، والفرار من الزحف لأن الله یقول: ((وَمَن یُوَلِّهِمْ یَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ أَوْ مُتَحَیِّزاً إِلی فِئَةٍ فَقَدْ بٰاء بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْوٰاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِیرُ))(8)، وأکل الربا لأن الله یقول: ((الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبٰا لا یَقُومُونَ إِلاّ کَمٰا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطانُ مِنَ الْمَسِّ))(9)، والسحر لأن الله یقول:((وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرٰاهُ مٰا لَهُ فِی الآخِرَةِ
ص: 213
مِنْ خَلاقٍ))(1)،والزنا لأن الله یقول:((وَمَن یَفْعَلْ ذلِکَ یَلْقَ أَثامًا (68) یُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ یَوْمَ الْقِیامَةِ وَیَخْلُدْ فِیهِ مُهاناً))(2)، والیمین الغموس الفاجرة لأن الله یقول: ((الَّذِینَ یَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَیْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِیلاً أُوْلئِکَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِی الآخِرَةِ))(3)، والغلول لأن الله یقول: ((وَمَن یَغْلُلْ یَأْتِ بِما غَلَّ به(4) یَوْمَ الْقِیامَةِ))(5)، ومنع الزکاة المفروضة لأن الله یقول: ((فَتُکْوی بِها جِباهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ))(6)، وشهادة الزور، وکتمان الشهادة لأن الله یقول: ((وَمَن یَکْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ))(7)، وشرب الخمر لأن الله تعالی نهی عنها کما نهی عن عبادة الأوثان، وترک الصلاة متعمداً أو شیئاً مما فرض الله لأن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال:«من ترک الصلاة متعمداً فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله»، ونقض العهد وقطیعة الرحم لأن الله یقول: ((لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ))(8). قال: فخرج عمرو وله صراخ من بکائه، وهو یقول: هلک من قال برأیه ونازعکم فی الفضل والعلم(9).
فإن قیل: کیف ورد الشرع بما لم یبین حده، والکبائر مبهمة قد اختلفت فی الأخبار؟.
ص: 214
فالجواب: إن کل ما لا یتعلق به حکم فی الدنیا جاز أن یتطرق إلیه الإبهام، والکبیرة علی الخصوص لا حکم لها فی الدنیا من حیث إنها کبیرة، فإن موجبات الحدود معلومة بأسامیها، وإنما حکم الکبیرة أن اجتنابها یکفر الصغائر(1) وأن الصلوات الخمس لا تکفرها، کما فی الحدیث النبوی: «الصلوات الخمس والجمعة إلی الجمعة تکفر ما بینهن إن اجتنب الکبائر»(2).
وهذا أمر یتعلق بالآخرة والإبهام به ألیق حتی یکون الناس علی حذر ووجل، فلا یتجرأون علی الصغائر اعتماداً علی الصلوات الخمس واجتناب الکبائر، ثم اجتناب الکبیرة إنما یکفر الصغیرة(3).
ص: 215
إعلم أن الصغیرة تکبر بأسباب:
الأول: الإصرار والمواظبة(1)، ففی الکافی عن الصادق علیه السلام قال: لا صغیرة مع الإصرار ولا کبیرة مع الاستغفار(2).
وعنه علیه السلام(3) قال: لا والله لا یقبل(4) شیئاً من طاعته علی الإصرار علی شیء من معاصیه(5).
وقال الباقر علیه السلام فی قوله تعالی: ((وَلَمْ یُصِرُّواْ عَلی ما فَعَلُواْ وَهُمْ یَعْلَمُونَ))(6) قال: الإصرار أن یذنب الذنب فلا یستغفر ولا یحدث نفسه بتوبة فذلک الإصرار(7).
وقد مثلوا ذلک بقطرات من الماء تقع علی الحجر علی توالی فتؤثر فیه، وذلک القدر من الماء لو صب علیه دفعة لم یؤثر، ولذلک قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: خیر الأعمال أدومها وإن قلَّ(8).
ص: 216
والأشیاء تُستبان بأضدادها(1)، فإذا کان النافع من العمل هو الدائم وإن قلَّ فکذلک القلیل من السیئات إذا دام عظم تأثیره فی ظلام القلب.
ومنها: أن یستصغر الذنب، فإن العبد کل ما استعظمه من نفسه صغر عند الله وکل ما استصغره کبر عند الله لأن استعظامه یصدر نفور القلب عنه وکراهته له، وذلک النفور یمنع من شدة تأثره به واستصغاره یصدر عن الإلف به، وذلک یوجب شدة الأثر فی القلب، والقلب هو المطلوب تنویره بالطاعات والمحذور تسویده بالسیئات، ولذلک لا یؤاخذ بما یجری علیه فی الغفلة.
وقد جاء فی الحدیث: إن(2) المؤمن یری ذنبه کالجبل فوقه یخاف أن یقع علیه، والمنافق یری ذنبه کذباب مرّ علی أنفه فأطاره(3).
وعن الصادق علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم(4): اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر. قیل(5): وما المحقرات؟ قال: الرجل یذنب الذنب فیقول: طوبی لی لو لم یکن(6) غیر ذلک(7).
ص: 217
وعن الکاظم علیه السلام قال: لا تستکثروا کثیر الخیر ولا تستقلوا قلیل الذنوب، فإن قلیل الذنوب یجتمع حتی یکون کثیراً، وخافوا الله فی السر حتی تعطوا من أنفسکم النصف(1).
ومنها: السرور بالصغیرة والفرح والتبجح بها، واعتداد التمکن من ذلک نعمة والغفلة عن کونه سبب الشقاوة، وکلما غلبت حلاوة الصغیرة عند الکبر کبرت الصغیرة وعظم أثرها فی تسوید قلبه، حتی إن من المذنبین من یتمدح بذنبه ویتبجح، ویقول المناظر فی مناظرته أما رأیتنی کیف فضحته.
والذنوب مهلکات، وینبغی أن یکون مرتکبها فی حزن وتأسف بسبب غلبة عدوه الشیطان علیه، والمریض الذی یفرح بأن ینکسر إناؤه الذی فیه دواؤه حتی یتخلص من ألم شربه لا یرجی شفاؤه.
ومنها: أن یتهاون بستر الله علیه وحلمه عنه وإمهاله إیاه، ولا یدری أنه إنما یمهل مقتاً لیزداد بالإمهال إثماً(2)، فیظن أن تمکنه من المعاصی عنایة من الله تعالی به، فیکون ذلک لأمنه من مکر الله وجهله بمکامن(3) الغرور، کما قال تعالی: ((وَیَقُولُونَ فِی أَنفُسِهِمْ لَوْلا یُعَذِّبُنا اللّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ یَصْلَوْنَها وَبِئْسَ(4) الْمَصِیرُ))(5).
ص: 218
ومنها: أن یأتی بالذنب ویظهره بأن یذکره بعد إتیانه أو یأتی به فی مشهد غیره، فإن ذلک جنایة منه علی ستر الله الذی أسدله علیه، وتحریک لرغبة الشر فی من أسمعه ذنبه أو أشهده فعله، فهما جنایتان انضمتا إلی جنایته فتغلظت به، فإن انضاف إلی ذلک الترغیب للغیر فیه والحمل علیه وتهیئة الأسباب له صارت جنایة رابعة وتفاحش الأمر. وهذا لأن من صفات الله ونعمه أنه یظهر الجمیل ویستر القبیح ولا یهتک الستر(1)، فالإظهار کفران لهذه النعمة.
وفی الکافی عن الرضا علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: المستتر بالحسنة تعدل(2) سبعین حسنة، والمذیع بالسیئة مخذول، والمستتر بها مغفور له(3).
وقال الصادق علیه السلام: من جاءنا یلتمس الفقه والقرآن وتفسیره فدعوه. ومن جاءنا یبدی عورة قد سترها الله علیه(4) فنحوه(5).
ومنها: أن یکون المذنب عالماً یقتدی به فإذا فعله بحیث یری ذلک منه کبر ذنبه، کلبس العالم الإبریسم(6) والذهب، وأخذه مال الشبهة من أموال
ص: 219
السلاطین، ودخوله علی السلاطین وتودده إلیهم، ومساعدته إیاهم بترک الإنکار علیهم، وإطلاقه اللسان فی الغیبة والأعراض وتعدیه باللسان فی المناظرة وقصده الاستخفاف ونحو ذلک، فهذه الذنوب یتبع العالم علیها فیموت ویبقی ((شَرُّهُ مُسْتَطِیراً))(1) فی العالم مدداً متطاولة. فطوبی لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه.
وفی الخبر: من سنّ سنة سیئة فعلیه وزرها ووزر من عمل بها لا ینقص من أوزارهم شیء(2)، قال تعالی: ((وَنَکْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ))(3) والآثار ما یلحق الأعمال بعد انقضاء العمل والعامل، ولهذا قیل: «مثل زلة العالم مثل انکسار السفینة تغرق ویغرق أهلها»(4).(5)
ص: 220
وملخص الکلام فیها أن التوبة عن بعض الذنوب إما أن تکون عن الکبائر دون الصغائر أو عن الصغائر دون الکبائر أو عن کبیرة دون کبیرة:
أما الأول: فهو ممکن للعلم بأن الکبائر أعظم عند الله وأجلب لسخطه ومقته، والصغائر أقرب إلی تطرق العفو إلیه، وقد کثر التائبون ولم یکن أحد منهم معصوماً، فلا تستدعی التوبة العصمة. والطبیب قد یحذر المریض العسل تحذیراً شدیداً ویحذره السکر تحذیراً أخف منه علی وجه یظهر منه عدم ظهور أثره.
وأما القسم الثانی: فهو ممکن أیضاً لاعتقاده أن بعض الکبائر أشد وأغلظ عند الله، کالذی یتوب عن القتل والنهب والظلم ومظالم العباد لعلمه بأن دیوان العباد لا یترک، وما بینه وبین الله یسرع العفو إلیه.
الثالث: أن یتوب عن صغیرة وهو مصر علی کبیرة یعلم أنها کبیرة، کالذی یتوب عن الغیبة أو عن النظر إلی غیر المحرم أو ما یجری مجراه وهو مصر علی شرب الخمر، وهو ممکن إذ ما من مؤمن إلا وهو خائف علی معاصیه ونادم علی فعله ندماً إما ضعیفاً وإما قویاً، ولکن تکون لذة نفسه فی تلک المعصیة أقوی من ألم قلبه فی الخوف منها، لأسباب توجب ضعف الخوف من الجهل والغفلة وأسباب توجب قوة الشهوة، فیکون الندم موجوداً ولکن لا یکون العزم قویاً علیه.
ویقول: لله علی أمران ولی علی المخالفة فیه عقوبتان، وأنا ملی فی أحدهما بقهر الشیطان عاجز عنه فی الآخر فأقهره فی ما أقدر علیه، وأرجوه بمجاهدتی فیه أن یکفر عنی ما عجزت عنه بفرط شهوتی.
ص: 221
وهذا حال کل مسلم، وقد قال صلی الله علیه وآله وسلم: «الندم توبة»(1) ولم یشترط الندم عن کل ذنب، وقال علیه السلام(2): «التائب من الذنب کمن لا ذنب له»(3) ولم یقل التائب من الذنوب کلها.
وهم طبقات:
الطبقة الأولی: أن یتوب العاصی ویستقیم إلی آخر عمره، فیتدارک ما فرط من أمره ولا یحدث نفسه بالعود إلی ذنوبه، إلا الزلات التی لا ینفک البشر عنها فی العادة، وهی التوبة النصوح.
الطبقة الثانیة: تائب سلک طریق الاستقامة فی أمهات الطاعات وکبائر الفواحش کلها، إلا أنه لیس ینفک عن ذنوب تعتریه لا عن عمد وتجرید قصد ولکن یبتلی بها فی مجاری أحواله، من غیر أن یقدم عزماً علی الإقدام علیها ولکنه إذا أقدم لام نفسه وندم وجدد عزمه علی عدم العود. وهذه رتبة عالیة وإن کانت نازلة عن الأولی ، وهی أغلب أحوال التائبین، لأن الشر معجون بطینة الآدمی قلما ینفک عنه، قال تعالی: ((الَّذِینَ یَجْتَنِبُونَ کَبائِرَ الإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ))(4) وقال تعالی: ((وَالَّذِینَ إِذا فَعَلُواْ فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَکَرُواْ اللّهَ
ص: 222
فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن یَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ))(1). وفی الحدیث. «خیارکم کل مفتن تواب»(2). وفی الروایة: «المؤمن کالسنبلة تفیء أحیاناً وتمیل أحیاناً»(3).
الطبقة الثالثة: أن یتوب ویستمر علی الاستقامة مدة ثم تغلبه شهوته فی بعض الذنوب فیقدم علیها عن قصد وصدق شهوة بعجزه عن قهر الشهوة، إلا أنه مع ذلک مواظب علی الطاعات وتارک جملة من السیئات مع القدرة والشهوة، وإنما قهرته هذه الشهوة الواحدة أو الشهوتان، وهو یودُّ قمعها ویقول: لیتنی لم افعل وسأتوب، ولکنه یسوّف نفسه فی التوبة یوماً بعد یوم، قال تعالی: ((وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صالِحًا وَآخَرَ سَیِّئاً))(4) فهو مرجو عسی الله أن یتوب علیه إذا تاب(5).
الطبقة الرابعة: أن یتوب ویستقیم مدة ثم یعود إلی مقارفة الذنب من غیر أن یحدث نفسه بالتوبة ومن غیر أن یتأسف علی فعله، بل ینهمک(6) انهماک الغافل فی إتباع الشهوات، فهذا أقبح حال التائبین وأمر فی مشیئة الله.
ص: 223
وهی أربعة أمور:
الأول: أن ینظر إلی الآیات والأخبار المخوفة للمذنبین والعاصین وما فیها من التهدید والوعید علی العقاب الشدید والعذاب الأکید، ففی بعض الأخبار من طرق الجمهور عنه صلی الله علیه وآله وسلم قال: ما من یوم طلع فجره ولا لیلة غاب شفقها إلا وملکان یتجاوبان بأربعة أصوات: یقول أحدهما یا لیت هذا الخلق لم یخلقوا، ویقول الآخر یا لیتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا، فیقول الآخر ویا لیتهم إذ لم یعلموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا فیقول الآخر ویا لیتهم إذ لم یعملوا بما علموا ترکوا الخوض فی ما لم یعلموا(1).
وفی روایة: تجالسوا فتذاکروا ما علموا، فیقول الآخر ویا لیتهم إذ لم یعملوا بما علموا تابوا عما عملوا(2).
وقال بعض العارفین(3): ما من عبد یعصی إلا استأذن مکانه من الأرض أن یخسف به، واستأذن سقفه من السماء أن یسقط علیه کسفاً، فیقول الله للأرض وللسماء، کفا عن عبدی وأمهلاه، فإنکما لم تخلقاه ولو خلقتماه لرحمتماه، لعله یتوب إلی فأغفر له، لعله یستبدل صالحاً فأبدله له حسنات، فذلک معنی قوله
ص: 224
تعالی: ((إِنَّ اللَّهَ یُمْسِکُ السَّماواتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زالَتا إِنْ أَمْسَکَهُما مِنْ أَحَدٍ مِن بَعْدِهِ))(1).
الثانی: حکایات المذنبین التائبین وما جری علیهم من المصائب بسبب ذنوبهم.
الثالث: أن یتصور المذنب أن تعجیل العقوبة فی الدنیا متوقع علی الذنب، وأن کل ما یصیب العبد من المصائب بسبب جنایة صدرت منه، قال تعالی: ((وَما أَصابَکُمْ مِنْ مُصِیبَةٍ فَبِما کَسَبَتْ أَیْدِیکُمْ وَیَعْفُوا عَنْ کَثِیرٍ))(2).
وقال الصادق علیه السلام فی هذه الآیة(3): لیس من التواء عرق ولا نکبة حجر ولا عثرة قدم ولا خدشة(4) عود إلا بذنب.(5)
وفی روایة أخری: أما إنه لیس من عرق یضرب ولا نکبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب، وذلک قول الله عزّوجل فی کتابه: ((ما أَصابَکُمْ مِنْ مُصِیبَةٍ فَبِما کَسَبَتْ أَیْدِیکُمْ وَیَعْفُوا عَنْ کَثِیرٍ))(6) قال(7): وما یعفو الله أکثر مما یؤاخذ به(8).
وقال علیه السلام(9): إن الرجل یذنب الذنب فیحرم صلاة اللیل، وإن العمل السیئ أسرع فی صاحبه من السکین فی اللحم(10).
ص: 225
الرابع: ذکر ما ورد من العقوبات علی آحاد الذنوب کالخمر والزنا والسرقة والقتل والغیبة والکبر والحسد، وهو مما لا یمکن حصره(1). وفی الحدیث یقول الله تعالی: «أدنی ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته علی طاعتی أن أحرمه لذیذ مناجاتی»(2).
وقال علیه السلام(3): من همّ بالسیئة فلا یعملها، فإنه ربما عمل العبد سیئة(4) فیراه الرب تبارک وتعالی فیقول: وعزتی(5) لا أغفر لک بعد ذلک أبداً(6).
وقال الکاظم علیه السلام: حق علی الله أن لا یعصی فی دار إلا أضحاها للشمس حتی یطهرها(7).(8)
وقال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: إن العبد لیحبس علی ذنب من ذنوبه مائة عام وإنه لینظر إلی أزواجه فی الجنة یتنعمن(9).
ص: 226
وقال أمیر المؤمنین علیه السلام لقائل بحضرته: أستغفر الله: ثکلتک أمک، أتدری ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العلیین، وهو اسم واقع علی ستة معانٍ: أولها الندم علی ما مضی، والثانی العزم علی ترک العود إلیه أبداً، والثالث أن تؤدی إلی المخلوقین حقوقهم حتی تلقی الله أملس لیس علیک تبعة، والرابع أن تعمد إلی کل فریضة علیک ضیعتها تؤدی حقها، والخامس أن تعمد إلی اللحم الذی نبت علی السحت فتذیبه بالأحزان حتی یلصق الجلد بالعظم وینشأ بینهما لحم جدید، والسادس أن تذیق الجسم ألم الطاعة کما أذقته حلاوة المعصیة، فعند ذلک تقول: أستغفر الله(1).
وفی مصباح الشریعة: قال الصادق علیه السلام: التوبة حبل الله ومدد عنایته، ولابد للعبد من مداومة التوبة علی کل حال، فتوبة الأنبیاء من اضطراب السر، وتوبة الأولیاء من تلوین الخطرات، وتوبة الأصفیاء من التنفیس، وتوبة الخلص من الاشتغال بغیر الله، وتوبة العالم من الذنوب.
ولکل واحد منهم معرفة وعلم فی أصل توبته ومنتهی أمره، وذلک یطول شرحه هنا.
فأما توبة العالم فأن یغسل باطنه من الذنوب بماء الحسرة والاعتراف بجنایته دائماً، واعتقاد الندم علی ما مضی والخوف علی ما بقی من عمره، ولا یستصغر ذنوبه فیحمله ذلک إلی الکسل، ویدیم البکاء والأسف علی ما فاته من طاعة الله، ویحبس نفسه عن الشهوات، ویستغیث إلی الله لیحفظه علی وفاء توبته، ویعصمه من العود إلی ما سلف، ویروض نفسه فی میدان الجهاد والعباد، ویقضی الفوائت
ص: 227
من الفرائض، ویرد المظالم، ویعتزل قرناء السوء، ویسهر لیله ویظمأ نهاره، ویتفکر دائماً فی عاقبته، ویستعین بالله سائلاً منه الاستقامة فی سرائه وضرائه، ویثبت عند المحن والبلاء کی لا یسقط عن درجة التوابین، فإن ذلک طهارة من ذنوبه وزیادة فی عمله ورفعة فی درجاته قال الله عزّوجل: ((وَلَیَعْلَمَنَّ(1) اللّهُ الَّذِینَ صَدَقُوا وَلَیَعْلَمَنَّ الْکاذِبِینَ))(2).(3)
ص: 228
ص: 229
ص: 230
ص: 231
فی الصبر وفیه فصول
قال الله تعالی: ((إِنَّما یُوَفَّی الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَیْرِ حِسابٍ))(1) وقال تعالی: ((أُولئِکَ یُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَیْنِ بِما صَبَرُوا))(2) وقال تعالی: ((وَلَنَجْزِیَنَّ الَّذِینَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما کانُوا یَعْمَلُونَ))(3) وقال تعالی: ((وَتَمَّتْ کَلِمَتُ رَبِّکَ الْحُسْنی عَلی بَنِی إِسْرائِیلَ بِما صَبَرُوا))(4) وقال تعالی: ((وَجَعَلْناهُمْ(5) أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا))(6).
ص: 232
وما من طاعة إلا وأجرها بحساب إلا الصبر، ولأجل کون الصوم من الصبر(1) قال تعالی: «الصوم لی وأنا أجزی به»(2).
ووعد الصابرین بأنه معهم فقال: ((وَاصْبِر إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِینَ))(3).
وعلق النصرة علی الصبر فقال: ((بَلی إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَیَأْتُوکُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا یُمْدِدْکُمْ رَبُّکُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِکَةِ مُسَوِّمِینَ))(4).
وجمع للصابرین أموراً لم یجمعها لغیرهم فقال: ((أُولئِکَ عَلَیْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِکَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ))(5).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: الصبر نصف الإیمان(6).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: من أقل ما أوتیتم الیقین وعزیمة الصبر، ومن أعطی حظه منهما لم یبال ما فاته من قیام اللیل وصیام النهار(7).
وسئل صلی الله علیه وآله وسلم عن الإیمان فقال: الصبر والسماحة(8).
ص: 233
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: الصبر کنز من کنوز الجنة(1).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: أفضل الأعمال ما أکرهت علیه النفوس(2).
وقیل: أوحی الله إلی داود: تخلق بأخلاقی، أنا الصبور(3).
وقال الصادق علیه السلام: إذا دخل المؤمن قبره(4) کانت الصلاة عن یمینه والزکاة عن یساره، والبر مظل علیه(5)، ویتنحی الصبر ناحیة، فإذا دخل علیه الملکان اللذان یلیان مساءلته قال الصبر للصلاة والزکاة والبر: دونکم صاحبکم فإن عجزتم عنه فأنا دونه(6).
وعنه علیه السلام(7): من ابتلی من المؤمنین ببلاء فصبر علیه کان له مثل أجر ألف شهید(8).
وعنه علیه السلام(9) قال: إن الله تعالی أنعم(10) علی قوم فلم یشکروا فصارت علیهم وبالاً، وابتلی قوماً بالمصائب فصبروا فصارت علیهم نعمة(11).
ص: 234
وعنه عن أبیه علیه السلام قال(1): من لا یعد الصبر لنوائب الدهر یعجز(2).
وعن الباقر علیه السلام قال: الجنة محفوفة بالمکاره والصبر. فمن صبر علی المکاره فی الدنیا دخل الجنة، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطی نفسه لذتها وشهوتها دخل النار(3).
وقال أمیر المؤمنین علیه السلام: بنی الإیمان علی أربع دعائم: الیقین، والصبر والجهاد، والعدل(4).
إعلم أن القتال قائم بین باعث الدین وباعث الهوی، والحرب بینهما علی ساق، ومحل المعرکة قلب المؤمن، ومدد باعث الدین من الملائکة الناصرین لحزب الله، ومدد باعث الشهوة والهوی من الشیاطین الناصرین لأعداء الله فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدین فی مقابلة باعث الشهوة.
ثم إنه ضربان(5): بدنی کتحمل المشاق بالبدن والثبات علیه، وهو إما بالفعل کتعاطی الأعمال الشاقة من العبادات، وإما بالاحتمال کالصبر علی
ص: 235
الضرب الشدید والمرض العظیم والجراحات الهائلة، ونفسی وهو الصبر عن مشتهیات الطبع ومقتضیات الهوی، وهو إن کان عن شهوة البطن والفرج سمی عفة، وإن کان علی احتمال مکروه فإن کان فی مصیبة اقتصر علی اسم الصبر.
وضده حال یسمی الجزع(1) والهلع(2)، وهو إطلاق داعی الهوی لیسترسل فی رفع الصوت وضرب الخدود وشق(3) الجیوب(4) وغیرها.
وإن کان فی احتمال الغنی سمی ضبط النفس،ویضاده حالة تسمی البطر(5).
وإن کان فی الحرب سمی شجاعة، ویضاده الجبن.
وإن کان فی کظم الغیظ والغضب سمی حلماً،ویضاده التذمر(6) والغضب.
وإن کان فی نائبة من نوائب الزمان مضجرة(7) سمی سعة الصدر، ویضاده الضجر والتبرم وضیق الصدر.
ص: 236
وإن کان فی إخفاء کلام سمی کتماناً وصاحبه کتوماً، وضده الإذاعة.
وإن کان فی فضول العیش سمی زهداً، ویضاده الحرص.
وإن کان صبراً علی قدر یسیر من الحظوظ سمی قناعة، ویضاده الشره.
فالصبر جامع لأکثر أخلاق الإیمان، وهو الرئیس الأعظم والإمام الأقوم فلذلک لما سئل صلی الله علیه وآله وسلم عن الإیمان(1) قال: الصبر(2).
ثم إن العبد لا یستغنی عن الصبر فی جمیع الأحوال، لأن ما یلقاه العبد فی الدنیا إما یوافق هواه وإما یکرهه، وحاله غیر خارج عن هذین القسمین، وهو محتاج إلی الصبر فی کل منهما:
أما النوع الأول: کالصحة والسلامة والمال والجاه وکثرة العشیرة واتساع الأسباب وکثرة الأتباع والأنصار وجمیع ملاذ الدنیا، فما أحوج العبد إلی الصبر فی هذه الأمور، لأنه إن لم یضبط نفسه عن الاسترسال والرکون إلیها والانهماک فی ملاذها المباحة أخرجه ذلک إلی البطر والطغیان، فإن ((الإِْنْسانَ لَیَطْغی (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنی))(3)، ولذا قال بعض العارفین: «البلاء یصبر علیه المؤمن، والعوافی لا یصبر علیها إلا صدیق»(4) لأنه مقرون بالقدرة، ومن العصمة أن لا تقدر.
ص: 237
ولذا حذر الله تعالی عباده عن فتنة المال والزوج والولد، فقال: ((یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُلْهِکُمْ أَمْوالُکُمْ وَلا أَوْلادُکُمْ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ))(1) وقال: ((إِنَّ مِنْ أَزْواجِکُمْ وَأَوْلادِکُمْ عَدُوًّ لَکُمْ))(2) وقال: (( أَنَّما أَمْوالُکُمْ وَأَوْلادُکُمْ فِتْنَةٌ))(3).
وأما النوع الثانی: وهو ما لا یوافق الهوی __ فهو إما الذی یرتبط باختیار العبد کالطاعات والمعاصی أو لا یرتبط باختیاره کالمصائب والنوائب، أو لا یرتبط أوله باختیاره ولکن له اختیار فی إزالته کالتشفی من المؤذی والانتقام منه.
والقسم الأول: هو سائر أفعاله التی توصف کونها طاعة أو معصیة، أما الطاعة فالعبد یحتاج إلی الصبر علیها، لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودیة وتشتهی الربوبیة.
ثم من الطاعات ما یکره بسبب الکسل کالصلاة، ومنها ما یکره بسبب البخل کالزکاة، ومنها ما یکره بسببهما معاً کالحج والجهاد، فالصبر علی الطاعة صبر علی الشدائد، ویحتاج فیه إلی ثلاثة أحوال:
الأولی: قبل الطاعة، وذلک فی تصحیح النیة والإخلاص، والصبر عن شوائب الریاء ومکائد النفس، وهو شدید ولذا قال صلی الله علیه وآله وسلم: إنما الأعمال بالنیات(4). وقال تعالی: ((وَما أُمِرُوا إِلاّ لِیَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ))(5) وقال تعالی: ((إِلاَّ الَّذِینَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ))(6).
ص: 238
الثانیة: الصبر حالة العمل کی لا یغفل عن الله فی أثناء عمله، ویلازم الصبر عن دواعی الفتور إلی الفراغ، وهو أیضاً شدید.
الثالثة: الصبر بعد الفراغ من العمل عن إفشائه للسمعة والریاء، والصبر عن النظر إلیه بعین العجب وعن جمیع المبطلات، قال تعالی: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَکُمْ))(1) وقال: ((وَ(2)لا تُبْطِلُواْ صَدَقاتِکُم بِالْمَنِّ وَالأذی))(3).
والضرب الثانی المعاصی، وما أحوج العبد إلی الصبر عنها، وأشدها المعاصی المألوفة بالعادة، سیما إذا سهل فعله کالغیبة والکذب والریاء والثناء لأن العادة طبیعة ثابتة فإذا انضافت إلی الشهوة تظاهر جندان من جنود الشیطان علی جند الله.
والقسم الثانی: ما لا یرتبط هجومه باختیاره وله اختیار فی دفعه، کما لو أوذی بقول أو فعل أو جنی علیه فی نفسه أو ماله فالصبر علی ذلک بترک المکافأة، ولذا قال تعالی: ((وَلَتَصْبِرَنَّ عَلی ما آذَیْتُمُونا))(4) وقال تعالی: ((وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَکَّلْ عَلی اللَّهِ))(5) وقال تعالی: ((فَاصْبِرْ عَلی ما یَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِیلاً))(6) وقال تعالی: ((وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِینَ أُوتُواْ الْکِتابَ مِن قَبْلِکُمْ وَمِنَ الَّذِینَ أَشْرَکُواْ أَذًی کَثِیرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلِکَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ))(7). وقال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: صل من قطعک وأعط من حرمک وأعف عمن ظلمک(8).
ص: 239
القسم الثالث: ما لا یدخل تحت الاختیار أوله وآخره، کالمصائب مثل موت الأعزة وهلاک الأموال وزوال الصحة بالمرض وسائر أنواع البلاء، وهذا صبر مستنده الیقین، قال صلی الله علیه وآله وسلم: أسألک من الیقین ما یهون(1) به علیّ مصائب الدنیا(2). وقال صلی الله علیه وآله وسلم: قال الله تعالی(3): «إذا وجهت علی عبد(4) من عبیدی مصیبة فی بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلک بصبر جمیل استحییت منه یوم القیامة أن أنصب له میزاناً أو أنشر له دیواناً»(5).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: انتظار الفرج بالصبر عبادة(6).
وقال علیه السلام(7): ما من عبد مؤمن أصیب بمصیبة فقال کما أمره الله تعالی «إنا لله وإنا إلیه راجعون اللهم أجرنی فی مصیبتی وأعقبنی خیراً منها» إلا فعل الله ذلک(8).(9)
ص: 240
وفی الکافی عن علی علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: الصبر ثلاثة: صبر عند المصیبة، وصبر علی الطاعة، وصبر عن المعصیة، فمن صبر علی المصیبة حتی یردها بحسن عزائها کتب الله له ثلاثمائة درجة ما بین الدرجة إلی الدرجة کما بین السماء والأرض، ومن صبر علی الطاعة کتب الله له ستمائة درجه ما بین الدرجة إلی الدرجة کما بین تخوم الأرض إلی العرش، ومن صبر علی المعصیة کتب الله له تسعمائة درجة ما بین الدرجة إلی الدرجة کما بین تخوم الأرض إلی منتهی العرش(1).
وقال الباقر علیه السلام: الصبر صبران: صبر علی البلاء حسن جمیل، و(2) أفضل الصبرین الورع عن محارم الله(3).
واعلم أن الإنسان إنما یخرج من مقام الصابرین بالجزع وشق الجیوب وضرب الخدود والمبالغة فی الشکوی، وهذه الأمور داخلة تحت الاختیار، فینبغی أن یجتنب جمیعها ویظهر الرضا بالقضاء، لا أنه لا یکره المصیبة فی نفسه لأن ذلک غیر مختار فلا یخرجه ذلک عن حد الصابرین ولا توجع القلب وفیضان العین، ولذلک لما مات إبراهیم ولد النبی صلی الله علیه وآله وسلم فاضت عیناه، فقیل له: أما نهیتنا عن هذا؟ قال: إن هذا رحمة وإنما یرحم الله من عباده الرحماء(4) وقال صلی الله علیه وآله وسلم: تدمع العین ویحزن القلب ولا نقول ما یسخط الرب(5).
ص: 241
بل ذلک أیضاً لا یخرج عن مقام الرضا، فإن المقدم علی الفصد(1) والحجامة راض به وهو متألم بسببه لا محالة. نعم من کمال الصبر کتمان المرض والفقر وسائر المصائب(2)، فعن الباقر علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: قال الله تعالی: «من مرض فلم یشک إلی عواد أبدلته لحماً خیراً من لحمه ودماً خیراً من دمه، فإن عافیته عافیته ولا ذنب له، وإن قبضته قبضته إلی رحمتی»(3). وفُسّر التبدیل بأن یبدله لحماً ودماً وبشرة لم یذنب فیها، وفسرت الشکایة بأن یقول: ابتلیت بما لم یبتل به أحد وأصابنی ما لم یصب أحداً وقال علیه السلام(4): ولیس الشکوی أن یقول: سهرت البارحة وحممت الیوم ونحو هذا(5).
وسئل الباقر علیه السلام عن الصبر الجمیل فقال: ذاک صبر لیس فیه شکوی، وأما الشکایة إلی الله تعالی فلا بأس بها کما قال یعقوب: ((إِنَّما أَشْکُو بَثِّی وَحُزْنِی إِلَی اللّهِ))(6).(7)
ص: 242
إعلم أن «الذی أنزل الداء أنزل الدواء»(1) ووعد الشفاء، فالصبر وإن کان شاقاً ولکن یمکن تحصیله بمعجون العلم والعمل، بتقویة باعث الدین، وتضعیف باعث الهوی بالمجاهدة والریاضة وذکر قلة قدر الشدة ودقتها، وإضرار الجزع وقبحه، وأن یکثر فکره فی ما ورد فی فضل الصبر وحسن عواقبه فی الدنیا والآخرة(2) وأن یعلم أن ثواب الصبر علی المصیبة أکثر مما فات(3)، وأنه بسبب ذلک مغبوط بالمصیبة، إذ فاته ما لا یبقی معه إلا مدة الحیاة الدنیا وحصل له ما یبقی بعد موته أبد الدهر.
ومن أسلم خسیساً(4) فی نفیس(5) فلا ینبغی أن یحزن لفوات الخیس(6) فی
ص: 243
الحال، وأن یعوّد هذا الباعث مصارعة باعث الهوی تدریجاً حتی یدرک لذة الظفر بها فیستجرئ علیها ویقوی منته فی مصارعتها، فإن الاعتیاد والممارسة للأعمال الشاقة تؤکد القوی التی تصدر منها تلک الأعمال، ومن عود نفسه مخالفة الهوی غلبها مهما أراد.
ثم إن کان ذلک بتعب قوی فتصبّر وإن کان بیسیر فصبر، وإن کان بجهد ففرض وإن کان بتلذذ فشکر، وهو بالغیبة عن حظوظ النفس والشهود مع الله تعالی وعدم التمیز بین الألم واللذة(1).
ص: 244
ص: 245
ص: 246
ص: 247
فی الرضا بالقضاء
وهو ترک الاعتراض والسخط، قال الله تعالی: ((رَضِیَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ))(1).
وقال الصادق علیه السلام: رأس طاعة الله الصبر، والرضا فی ما أحب العبد أو کره، ولا یرضی عبد عن الله فی ما أحب أو کره إلاّ کان خیراً له فی ما أحب أو کره(2).
وقال علیه السلام(3): إن أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله(4).
وقال الکاظم علیه السلام: ینبغی لمن عقل عن الله أن لا یستبطئه فی رزقه ولا یتهمه فی قضائه(5).
ص: 248
وقال الصادق علیه السلام: قال الله عزّوجل: عبدی المؤمن لا أصرفه فی شیء إلا جعلت له خیراً(1)، فلیرض بقضائی ولیصبر علی بلائی ولیشکر نعمائی أکتبه یا محمد من الصدیقین عندی(2).
وقال علیه السلام(3): إن فی ما أوحی الله عزّوجل إلی موسی بن عمران: ما خلقت خلقاً أحب إلی من عبدی المؤمن، وإنی إنما أبتلیه لما هو خیر له، وأزوی عنه لما هو خیر له، وأعافیه لما هو خیر له، وأنا أعلم بما یصلح علیه عبدی فلیصبر علی بلائی ولیشکر نعمائی ولیرض بقضائی أکتبه فی الصدیقین عندی إذا عمل برضای وأطاع أمری(4).
وقال علیه السلام(5): عجبت للمرء المسلم لا یقضی الله عزّوجل له قضاء إلا کان خیراً له، وإن قرض(6) بالمقاریض(7) کان خیراً له، وإن ملک مشارق الأرض ومغاربها کان خیراً له(8).
ص: 249
وقال الباقر علیه السلام: أحق خلق الله أن یسلم لما قضی الله عزّوجل، من عرف الله عزّوجل ومن رضی بالقضاء أتی علیه القضاء وعظم الله أجره، ومن سخط القضاء مضی علیه القضاء فأحبط(1) الله أجره(2).
وقال السجاد علیه السلام: الزهد عشرة أجزاء، أعلی درجة الزهد أدنی درجة الورع، وأعلی درجة الورع أدنی درجة الیقین، وأعلی درجة الیقین أدنی درجة الرضا.(3)
وعن النبی صلی الله علیه وآله وسلم أنه سأل طائفة من أصحابه فقال: ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون. فقال: ما علامة إیمانکم؟ فقالوا: نصبر عند البلاء ونشکر عند الرخاء ونرضی بمواقع القضاء. فقال صلی الله علیه وآله وسلم: مؤمنون ورب الکعبة(4). وفی روایة: حکماء علماء کادوا من فقههم أن یکونوا أنبیاء(5).
وههنا کلام، وهو أنه کیف یتصور الرضا بأنواع البلاء والابتلاء وما یخالف الهوی والطبع، وإنما یتصور الصبر فی هذه الأمور دون الرضا؟
فاعلم أن الرضا فرح الحب، فإذا حصلت المحبة حصل الرضا، ولذلک مرتبتان علیا وسفلی:
أما العلیا: فهو أن یبطل الإحساس بالألم حتی یجری علیه المؤلم ولا یحس وتصیبه الجراحة ولا یدرک ألمها، وشاهده فی عالم الأجسام الرجل المحارب، فإنه فی حال غضبه أو خوفه قد تصیبه جراحات عظیمة ولا یحس بها ولا بألمها، فإذا
ص: 250
رأی الدم استدل به علی الجراحة، وکذلک الذی یعدو فی شغل أو حاجة قد تصیبه شوکة فی قدمه ولا یحس بالألم لاشتغال قلبه، وإذا اشتغل القلب صار مستغرقاً بأمر من الأمور لم یدرک ما عداه، وکذا العاشق والمحب إذا أصابه ألم __ سیما من المحبوب __ لا یدرکه لاستیلاء الحب علیه.
وأما المرتبة السفلی: فهو أن یحس به ویدرک ألمه ولکن یکون راضیاً به بل راغباً فیه مریداً له بعقله وإن کان کارهاً له بطبعه نظراً إلی ثوابه الذی أعد له. ونظیره فی عالم الأجسام الذی یلتمس من الفصاد الفصد(1) ومن الحجام الحجامة ومن الطبیب الدواء المر. فإنه یدرک ألمه إلا أنه راض به راغب فیه متقلد فیه المنة لما یعلم من العاقبة.
وقد حکی أن امرأة عثرت فانقطع ظفرها وسال الدم فضحکت، فقیل لها: أما تألمت؟ فقالت: لذة الأجر أنستنی الألم(2).
ویروی أن أهل مصر کانوا إذا جاعوا نظروا الی وجه یوسف علیه السلام فیشغلهم جماله عن الإحساس بألم الجوع(3).
وفی القرآن ما هو أبلغ من ذلک، وهو قطع النسوة أیدیهن ولم یحسن بذلک لما نظرن إلی جماله علیه السلام(4).
ص: 251
واعلم أن الدعاء غیر مناقض للرضا، لأنه عبادة تعبدنا الله بها وجعل من لم یدعه مستکبراً علیه مستحقاً للعذاب، فقال تعالی: ((ادْعُونِی أَسْتَجِبْ لَکُمْ إِنَّ الَّذِینَ یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِی سَیَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِینَ))(1).
وکذا تعبدنا الله بإنکار المعاصی وکراهتها، فروی أن من شهد منکراً ورضی به فکأنه قد فعله(2). وفی آخر: لو أن عبداً قتل بالمشرق ورضی بقتله آخر بالمغرب کان شریکه فی قتله(3).
واعلم أن فائدة الرضا فی الحال فراغ القلب للعبادة والراحة من الهموم وفی المال رضوان الله والنجاة من غضبه، فقد قال سبحانه: من لم یرض بقضائی ولم یصبر علی بلائی فلیطلب رباً سوائی(4).
والطریق إلی تحصیله أن یعلم أن ما قضی الله سبحانه له فهو الأصلح بحاله وإن لم یبلغ علمه بسره وحکمته، ولا مدخل للهم فیه ولا یتبدل القضاء به، فإن ما قدر لا محالة یکون وما لم یقدر لا یکون، وما أحسن ما قیل(5):
م_____ا لا ی__ک_____ون ف__لا ی__ک__ون ب__ح__یل___ة
أب_داً وم__ا ه___و ک___ائ___ن س____ی____ک____ون(6)
ص: 252
وحسرة الماضی وتدبیر الآتی یذهبان ببرکة الوقت بلا فائدة وتبقی تبعة السخط علیه، بل ینبغی أن یدهشه الحب عن الإحساس بالألم کالعاشق والحریص، وأن یهون علیه العلم بجزیل الثواب وعظیم الأجر کالمریض والتاجر المتحملین شدة الحجامة والسفر، فیفوض أمره إلی الله ((إِنَّ اللّهَ بَصِیرٌ بِالْعِبادِ))(1).(2)
ص: 253
ص: 254
ص: 255
فی الشکر والکلام فیه فی فصول
إعلم أن الله تعالی قرن الشکر مع الذکر(1) فی قوله: ((وَلَذِکْرُ اللّهِ أَکْبَرُ))(2) فقال: ((اذْکُرُونِی أَذْکُرْکُمْ وَاشْکُرُواْ لِی وَلا تَکْفُرُونِ))(3) وقال تعالی: ((ما یَفْعَلُ اللّهُ بِعَذابِکُمْ إِن شَکَرْتُمْ وَآمَنتُمْ))(4) وقال تعالی: ((وَسَنَجْزِی الشّاکِرِینَ))(5) وقال تعالی: ((لَئِن شَکَرْتُمْ لأَزِیدَنَّکُمْ وَلَئِن کَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِی لَشَدِیدٌ))(6)، وقال تعالی: ((وَقَلِیلٌ مِنْ عِبادِیَ الشَّکُورُ))(7).
ص: 256
وفی الکافی عن الصادق علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: الطاعم الشاکر له من الأجر کأجر الصائم المحتسب والمعافی الشاکر له من الأجر کأجر المحروم القانع(1).
وعنه علیه السلام(2) قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: ما فتح الله علی عبد باب شکر فخزن عنه باب الزیادة(3).
وعنه علیه السلام(4) قال: من أعطی الشکر أعطی الزیادة، قال الله تعالی(5): ((لَئِن شَکَرْتُمْ لأَزِیدَنَّکُمْ))(6).(7)
وعنه علیه السلام(8) قال: ما أنعم الله علی عبد بنعمة(9) فعرفها بقلبه وحمد الله ظاهراً بلسانه فتم کلامه حتی یؤمر له بالمزید(10).
وعن الباقر علیه السلام قال: کان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم عند عائشة لیلتها فقالت: یا رسول الله لم تتعب نفسک وقد غفر الله لک ما تقدم من ذنبک وما تأخر؟(11) فقال: یا عائشة ألا أکون عبداً شکوراً. قال: وکان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یقوم علی أصابع
ص: 257
رجلیه(1)، فأنزل الله سبحانه(2): ((طه (1) ما أَنزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی))(3).(4)
وعن الصادق علیه السلام قال مکتوب فی التوراة: أشکر من أنعم علیک وأنعم علی من شکرک، فإنه لا زوال للنعماء إذا شکرت ولا بقاء لها إذا کفرت، الشکر زیادة فی النعم وأمان من الغیر(5).
وسئل علیه السلام(6) عن قوله تعالی: ((وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّکَ فَحَدِّثْ))(7)؟ قال: الذی أنعم الله علیک بما فضلک وأعطاک وأحسن علیک. ثم قال: فحدث بدینه وما أعطاه الله وما أنعم به علیه(8).
وقال علیه السلام(9): ثلاث لا یضر معهن شیء: الدعاء عند الکرب، والاستغفار عند الذنب، والشکر عند النعمة(10).
وقال علیه السلام(11): شکر النعمة اجتناب المحارم، وتمام الشکر قول الرجل ((الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ)) (12).(13)
ص: 258
وقال علیه السلام(1): شکر کل نعمة وإن عظمت أن یحمد(2) الله عزّوجل(3).
وقال علیه السلام(4): ما أنعم الله علی عبد بنعمة صغرت أو کبرت فقال: ((الْحَمْدُ للّهِ))(5) إلاّ أدی شکرها(6).
وقال علیه السلام(7): إن الرجل منکم لیشرب الشربة من الماء فیوجب الله بها الجنة، ثم قال علیه السلام: إنه لیأخذ الإناء فیضعه علی فیه فیسمی، ثم یشرب فینحیه وهو یشتهیه فیحمد الله، ثم یعود فیشرب ثم ینحیه فیحمد الله، فیوجب الله عزّوجل بها له الجنة(8).
وقال الکاظم علیه السلام: من حمد الله علی نعمة(9) فقد شکره، وکان الحمد أفضل من تلک النعمة(10).
وعن عمر بن یزید(11) قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام:إنی سألت الله عزّوجل أن
ص: 259
یرزقنی مالاً فرزقنی، وإنی سألت الله أن یرزقنی ولداً فرزقنی، وسألته أن یرزقنی داراً فرزقنی، وقد خفت أن یکون ذلک استدراجاً. فقال: أما والله مع الحمد فلا.(1)
وعنه علیه السلام(2) أنه خرج من المسجد وقد ضاعت دابته، فقال: لئن ردها الله علی لأشکرن الله حق شکره، فما لبث أن أوتی بها فقال: الحمد لله. فقیل له: جعلت فداک ألیس قلت لأشکرن الله حق شکره؟ فقال علیه السلام: ألم تسمعنی قلت ((الْحَمْدُ للّهِ))(3).(4)
وعنه علیه السلام(5) قال: کان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم إذا ورد علیه أمر یسره قال:«الحمد لله علی هذه النعمة»، وإذا ورد علیه أمر یغتم به قال: «الحمد لله علی کل حال».(6)
وعنه علیه السلام(7) قال: تقول ثلاث مرات إذا نظرت إلی المبتلی من غیر أن تسمعه «الحمد لله الذی عافانی بما ابتلاک به ولو شاء لفعل»(8) من قال(9) ذلک لم یصبه ذلک البلاء أبداً(10).
ص: 260
إعلم أن الشکر من أفضل الأعمال، وهو ینتظم من علم وحال وعمل. فالعلم هو الأصل فیورث الحال، والحال یورث العمل، والعلم هو معرفة النعمة من المنعم، والحال هو الفرح الحاصل بإنعامه، والعمل هو القیام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه، ویتعلق ذلک العمل بالقلب وبالجوارح وباللسان.
وینبغی لمن أراد شکر الله أن یعلم بأن النعم کلها من الله تعالی، والوسائط مسخرون سخرهم لک برحمته وألقی فی قلوبهم من الاعتقاد والرأفة ما صاروا به مضطرین إلی الإیصال إلیک، وهذا هو الشکر بالقلب.
وأما الفرح بالنعم مع هیئة الخضوع والتواضع فهو أیضاً فی نفسه شکر علی حدة، کما أن المعرفة شکر، فإن کان فرحک بالنعم خاصة لا بالنعمة ولا بالإنعام بل من حیث إنک تقدر النعمة علی التوصل إلی القرب من المنعم فهو المرتبة العلیا من الشکر، وإمارته أن لا تفرح بنعم الدنیا إلا من حیث أنها مزرعة الآخرة ومعینة علیها، وتفرح بهذا المقدار وتحزن بکل نعمة تلهیک عن ذکر الله، وهذا أیضاً شکر بالقلب.
وأما العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم فهو یتعلق بالقلب واللسان والجوارح: أما بالقلب فقصد الخیر وإضماره لکافة الخلق، وأما باللسان فبإظهار الشکر لله بالتحمیدات الدالة علیه،وأما بالجوارح فاستعمال نعم الله فی طاعته والتوقی من الاستعانة بها علی معصیته، حتی إن شکر العینین أن یستر کل عیب یراه بمسلم، وشکر الأذنین أن یستر کل عیب یسمعه لمسلم، فیدخل هذا وأمثاله فی جملة شکر نعمة هذه الأعضاء(1).
ص: 261
بل قال أرباب المعرفة(1): إن من کفر نعمة العین فقد کفر نعمة الشمس أیضاً، إذ الإبصار إنما یتم بها، وإنما خلقتا لیبصر بهما ما ینفعه فی دینه ودنیاه ویتقی بهما ما یضره فیهما، بل المراد من الخلق الأرض والسماء وخلق الدنیا وأسبابها أن یستعین الخلق بها علی الوصول إلی الله، ولا وصول إلیه إلا بمحبته والأنس به فی الدنیا والتجافی عن غرورها(2)، ولا أنس إلا بدوام الذکر، ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفکر(3)، ولا یمکن الدوام علی الذکر والفکر إلا ببقاء البدن، ولا یبقی البدن إلا بالأرض والماء والهواء، ولا یتم ذلک إلا بخلق الأرض والسماء وخلق سائر الأعضاء، وکل ذلک لأجل البدن، والبدن مطیة(4) النفس، والراجع إلی الله هی المطمئنة(5) بطول العبادة والمعرفة، فکل من استعمل شیئاً فی غیر طاعة الله فقد کفر نعمة الله فی جمیع الأسباب التی لابد منها لإقدامه علی تلک المعصیة، ولذا کان الشاکر الحقیقی قلیلاً، قال تعالی: ((وَقَلِیلٌ مِنْ عِبادِیَ الشَّکُورُ)).(6)
ص: 262
لعلک تقول: إن الشکر إنما یعقل فی حق منعم هو صاحب حظ فی الشکر، فإنا نشکر الملوک إما بالثناء لیزید محلهم فی القلوب ویظهر کرمهم عند الناس فیزید صیتهم(1) وجاههم، أو بالخدمة التی هی إعانة لهم علی بعض أغراضهم، أو بالمثول(2) بین أیدیهم فی صورة الخدم لتکثیر سوادهم وزیادة جاههم، وهذا کله محال فی حقه تعالی لوجهین.
أحدهما: إنه تعالی منزه عن الحظوظ والأغراض والحاجة ونشر الجاه والحشمة(3) وتکثیر السواد ونحو ذلک.
الثانی: إن جمیع ما نتعاطاه باختیارنا فهو نعمة أخری علینا من نعم الله، إذ جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا وداعیتنا وسائر الأمور التی هی أسباب حرکتنا ونفس حرکتنا من خلق الله تعالی ونعمته، فکیف نشکر نعمته بنعمته؟.
ولو أعطانا الملک مرکوباً فأخذنا مرکوباً آخر له ورکبناه، وأعطانا مرکوباً آخر لم یکن الثانی شکراً للأول منا بل کان الثانی یحتاج إلی شکر کما یحتاج الأول، ثم لا یمکن شکر الشکر إلا بنعمة أخری فیؤدی ذلک إلی أن یکون الشکر محالاً فی حقه تعالی، وقد ورد الشرع به فکیف طریق الجمع بینهما؟.
ص: 263
فاعلم أن هذا الخاطر قد خطر لداود(1) أو لموسی(2) علی اختلاف الروایتین ففی الکافی عن الصادق علیه السلام قال: أوحی الله عزّوجل إلی موسی: یا موسی أشکرنی حق شکری. فقال: یا رب وکیف أشکرک حق شکرک ولیس من شکر أشرکک به إلا وأنت أنعمت به علی. قال: یا موسی الآن شکرتنی حیث علمت أن ذلک منی(3).
وفی حدیث آخر: وشکری لک نعمة أخری منک توجب الشکر لک. فقال تعالی: إذا عرفت أن النعم منی رضیت منک بذلک شکراً(4).
ص: 264
وعن السجاد علیه السلام أنه کان إذا قرأ هذه الآیة ((وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها))(1) قال: سبحان من لم یجعل فی أحد من معرفة نعمه إلا المعرفة بالتقصیر عن معرفتها کما لم یجعل فی أحد من معرفة إدراکه أکثر من العلم بأنه لا یدرکه(2).
والجواب عن الأول: إن طلب الله من عباده الشکر کسائر التکالیف یرجع نفعه إلیهم لا إلیه.
وإن أردت إیضاح ذلک فاعلم أن ملکاً من الملوک لو أرسل إلی عبد قد بعد عنه مرکوباً وملبوساً ونقداً لأجل زاده فی الطریق حتی یقطع به مسافة البعد ویقرب من حضرة الملک، فذلک الملک یتصور له حالتان: الأولی أن یکون قصده من إحضار عبده القیام ببعض مهماته والحظ بخدمته، والثانیة أن لا یکون له حظ فی حضوره أبداً ولا یزید حضوره فی ملکه مثقال ذرة، ولکنه قصد بذلک أن یحظی العبد بالقرب منه وینال سعادة حضرته لیرجع النفع إلی العبد نفسه لا إلی الملک، وإرادة الله الشکر من عباده مثال الحالة الثانیة.
وهو مرکب من العلم والعمل، بأن یعرف الله ویتفکر فی مصنوعاته وینظر إلی الأدنی فی الدنیا فیشکر الله، وإلی الأعلی فی الدین فیجتهد فی الوصول إلی مرتبته، ویشکر فی المصائب علی أنه لم یصب بأکبر منها، وأنها لم تکن مصیبة دینیة بل دنیویة، وأنه قد عجلت عقوبتها ولم تدخر للآخرة وأن ثوابها خیر له، وأنها تنقص من القلب حب الدنیا، بل ربما بغضت الدنیا التی حبها رأس کل
ص: 265
خطیئة إلیه، فهی فی الحقیقة نعم یجب الشکر علیها، إذ لا تخلو مصیبة عن تکفیر خطیئة أو ریاضة نفس أو رفع درجة(1).
ولیسأل الله العافیة فإنها خیر من البلاء(2)، فکان النبی والأئمة علیهم السلام یستعیضون بالله من بلاء الدنیا وبلاء الآخرة(3)، وکانوا یقولون: ((رَبَّنا آتِنا فِی الدُّنْیا حَسَنَةً وَفِی الآخِرَةِ حَسَنَةً))(4) وکانوا یستعیذون من شماتة الأعداء ومن سوء القضاء ومن حلول البلاء(5)، وقال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: سلوا الله العافیة، فما أعطی(6) عبد أفضل من العافیة إلا الیقین(7). وأشار بالیقین إلی عافیة القلب من مرض الجهل(8).
ص: 266
ص: 267
ص: 268
ص: 269
فی الرجاء والخوف
وهما جناحان یطیر بهما المقربون إلی کل مقام محمود، ومطیتان بهما یقطع من طرق الآخرة کل عقبة کؤود، وتحقیقهما فی فصول:
الرجاء هو ارتیاح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده، ولکن ذلک المحبوب متوقع لابد وأن یکون له سبب، فإن کان انتظاره لأجل حصول أکثر أسبابه فاسم الرجاء علیه صادق، وإن کان ذلک انتظاراً مع انخرام(1) أسبابه واضطرابها فاسم الغرور والحمق علیه أصدق من اسم الرجاء، وإن لم تکن الأسباب معلومة الوجود ولا معلومة الانتفاء فاسم التمنی أصدق علی انتظاره من اسم الرجاء.
وأیما کان فلا یطلق اسم الرجاء والخوف إلا علی ما یتردد فیه، أما ما یقطع به فلا، فلا یقال: أرجو طلوع الشمس وقت الطلوع وأخاف غروبها وقت الغروب، ویقال: أرجو نزول المطر وأخاف انقطاعه.
ص: 270
وقد علم أرباب القلوب والعرفان بالبیان والوجدان والعیان أن «الدنیا مزرعة الآخرة»(1) والقلب کالأرض والإیمان کالبذر فیه والطاعات جاریة مجری تقلیب الأرض وتطهیرها ومجری الأنهار وسیاق الماء إلیها، والقلب المحب للدنیا کالأرض السبخة(2) التی لا ینمو فیها البذر، ویوم القیامة یوم الحصاد، ولا یحصد أحد إلا ما زرع، ولا ینمی زرع إلا من بذر الإیمان، وقلما ینفع الإیمان مع خبث القلب بالأخلاق الردیئة، کما لا ینمی زرع فی أرض سبخة فلیقس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع.
فکل من طلب أرضاً طیبة وألقی فیها بذراً جیداً وأمده بما یحتاج إلیه من سوق الماء فی أوقاته ونقی الأرض عن الشوک والحشیش وسائر الموانع وجلس منتظراً من فضل الله دفع الصواعق المفسدة إلی أن یتم الزرع ویبلغ غایته سمی انتظاره رجاءً، وإن بث البذر فی أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ینصب إلیها ماء ولم یشتغل بتعهد البذر أصلاً ثم انتظر الحصاد منه سمی انتظاره حمقاً وغروراً.
فینبغی للعبد أن یبث بذر الإیمان فی القلب ویسقیه بماء الطاعات ویطهر القلب عن شوک الأخلاق الردیئة وینتظر من فضل الله تثبیته علی ذلک إلی الموت وحسن الخاتمة المفضیة إلی المغفرة، فإذا فعل ذلک کان انتظاره رجاءً محموداً، وإن قطع عن بذر الإیمان تعهده بماء الطاعات أو ترک القلب مشحوناً
ص: 271
برذائل الأخلاق وانتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور لا رجاء، ولهذا قال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: الدنیا مزرعة الآخرة(1). وقال صلی الله علیه وآله وسلم: الأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنی علی الله تعالی(2). وقال تعالی: ((إِنَّ الَّذِینَ آمَنُواْ وَالَّذِینَ هاجَرُواْ وَجاهَدُواْ فِی سَبِیلِ اللّهِ أُوْلئِکَ یَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ))(3) أی أولئک ینبغی لهم أن یرجوا لا سواهم.
وقال تعالی: ((فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْکِتابَ یَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدْنَی وَیَقُولُونَ سَیُغْفَرُ لَنا))(4).
وعن الصادق علیه السلام أنه قیل له: إن قوماً من موالیک یلمون بالمعاصی ویقولون: نرجو. فقال: کذبوا لیسوا لنا بموال، أولئک قوم ترجّحت بهم الأمانی: من رجا شیئاً عمل له، ومن خاف شیئاً هرب منه(5).
وقال علیه السلام(6): لا یکون المؤمن مؤمناً حتی یکون خائفاً راجیاً، ولا یکون خائفاً راجیاً حتی یکون عاملاً لما یخاف ویرجو(7).
ص: 272
وقال حکیم(1): من خاف شیئاً هرب منه، ومن خاف الله هرب إلیه(2).
وقال آخر(3): من أعظم الاغترار التمادی فی الذنوب علی رجاء العفو من غیر ندامة، وتوقع القرب من الله عزّ وجل بغیر طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطیعین بالمعاصی، وانتظار الجزاء بغیر عمل(4).
واعلم أن الرجاء یورث طول المجاهدة بالأعمال والمواظبة علی الطاعات فی جمیع الأحوال، ومن آثاره التلذذ بدوام الإقبال علی الله والتنعم بمناجاته والتلطف فی التملق له، فإن هذه الأحوال تظهر علی من یرجو مثله من العبید فکیف لا تظهر فی حق الله. ومن ذلک یعلم أن جلّ رجائنا بل کله حمق وغرور، فالمستعان بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله(5).
ص: 273
إعلم أن العمل علی الرجاء أعلی منه علی الخوف، لأن أقرب العباد إلی الله أحبهم إلیه، والحب یغلب بالرجاء. واعتبر ذلک بملکین یخدم أحدهما خوفاً من عقابه والآخر رجاءً لثوابه، ولذلک ورد فی الرجاء وحسن الظن رغائب، ولاسیما وقت الموت، قال الله تعالی: ((قُلْ یا عِبادِیَ الَّذِینَ أَسْرَفُوا عَلی أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ))(1) وقال تعالی: ((إِنَّ رَبَّکَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلی ظُلْمِهِمْ))(2).
وعیّر الله قوماً فقال: ((وَذلِکُمْ ظَنُّکُمُ الَّذِی ظَنَنتُم بِرَبِّکُمْ أَرْداکُمْ))(3) وقال: ((وظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَکُنتُمْ قَوْمًا بُورًا))(4).
وفی أخبار یعقوب(5):إن الله تعالی أوحی إلیه:أتدری لِمَ فرقت بینک وبین یوسف(6)؟
ص: 274
لقولک: ((إِنِّی أَخافُ أَن یَأْکُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ))(1) لِمَ خفت الذئب ولم ترجنی؟ ولِمَ نظرت إلی غفلة إخوته ولم تنظر إلی حفظی له؟(2).
وقال علیه السلام(3): لا یموتن أحدکم إلا وهو یحسن الظن بالله(4).
وقال علیه السلام(5): یقول الله أنا عند ظن عبدی بی، فلیظنّ بی ما شاء(6).
ودخل علیه السلام(7) علی رجل وهو فی النزع(8) فقال: کیف تجدک؟ قال: أجدنی أخاف ذنوبی وأرجو رحمة ربی. فقال علیه السلام: ما اجتمعا فی قلب عبد فی هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجا وآمنه مما یخاف(9).
ص: 275
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: إن الله یقول للعبد یوم القیامة: ما منعک إذ رأیت المنکر أن تنکر فإن لقنه الله حجته، قال: یا رب رجوتک وخفت الناس. قال: فیقول الله تعالی: قد غفرت لک(1).
وقال الباقر علیه السلام قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: قال الله تعالی: «لا یتکل العاملون علی أعمالهم التی یعملونها لثوابی، فإنهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارهم فی عبادتی کانوا مقصرین غیر بالغین فی عبادتهم کنه عبادتی فی ما یطلبون عندی من کرامتی والنعیم فی جناتی ورفیع الدرجات العلی فی جواری، ولکن برحمتی فلیتقوا وفضلی فلیرجوا وإلی حسن الظن بی فلیطمئنوا، فإن رحمتی عند ذلک تدرکهم، فإنی أنا الله الرحمان الرحیم وبذلک تسمیت»(2).
وعنه علیه السلام(3) قال: وجدنا فی کتاب علی علیه السلام: إن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال وهو علی منبره: والذی لا إله إلا هو ما أعطی مؤمن خیر الدنیا والآخرة إلا بحسن ظنه بالله ورجائه له وحسن خلقه والکف عن اغتیاب المؤمنین، والذی لا إله إلا هو لا یعذب الله مؤمناً بعد التوبة والاستغفار إلا بسوء ظنه بالله وتقصیره من رجائه وسوء خلقه واغتیابه للمؤمنین، والذی لا إله إلا هو لا یحسن ظن مؤمن بالله إلا کان الله عند ظن عبده المؤمن، لأن الله کریم بیده الخیرات یستحی أن یکون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم یخالف ظنه ورجاه، فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إلیه(4).
وقال الصادق علیه السلام: حسن الظن بالله أن لا ترجوا إلا الله ولا تخاف إلا ذنبک(5).
ص: 276
إعلم أن هذا الدواء یحتاج إلیه أحد رجلین: إما رجل غلب علیه الیأس فیترک العبادة، وإما رجل غلب علیه الخوف فأسرف فی المواظبة علی العبادة حتی أضر بنفسه وأهله، وهما مائلان عن الاعتدال إلی طرفی الإفراط والتفریط فیحتاجان إلی علاج ودواء یردهما إلی الاعتدال.
وأما العاصی المغرور المتمنی علی الله مع الإعراض عن العبادة واقتحام المعاصی فالرجاء فی حقه سم قاتل، بل دواؤه الخوف والأسباب المهیجة له، ودواء الرجاء أمران: الاعتبار، والآیات والأخبار:
أما الاعتبار: فالتدبر فی کثرة نعم الله علی العبد فی الدنیا. وسوابق فضل الله من دون شفیع، وما وعد من جزیل ثوابه من دون استحقاق، وما أنعم بما یمد فی الدارین من دون سؤال وسعة الرحمة وسبقها الغضب، وأنه أرحم من الأم الشفیقة بأولادها الصغار، ورحمته فی الآخرة أوسع منها فی الدنیا کما ورد(1)، فهو لا محالة یرحمهم فی الآخرة کما رحمهم فی الدنیا.
والثانی: استقراء الآیات والأخبار الواردة فی فضل الرجاء(2)، سیما فی ما ورد فی أدعیة أئمة الهدی، ففی ما ورد عنهم علیهم السلام: إلهی أمرتنا أن نعفو عمن
ص: 277
ظلمنا وقد ظلمنا أنفسنا فاعف عنا فإنک أولی بذلک منا، وأمرتنا أن لا نرد سائلاً عن أبوابنا وقد جئناک سؤالاً فلا تردنا، وأمرتنا أن نعتق من ممالیکنا من قد شاب فی ملکنا وقد شبنا فی ملکک فأعتق رقابنا من النار، وأمرتنا بالإحسان إلی ما ملکت أیماننا ونحن أرقاؤک فأعتقنا من النار، وأمرتنا أن نتصدق علی فقرائنا ونحن فقراؤک فتصدق علینا(1).
وفیها: اللهم إنک قلت لنبیک صلی الله علیه وآله وسلم: ((وَلَسَوْفَ یُعْطِیکَ رَبُّکَ فَتَرْضی))(2) اللهم إن نبیک لا یرضی بأن تعذب أحداً من أمته فی النار(3).
وهذا المضمون فی کلماتهم علیهم السلام کثیر(4).
الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مکروه فی الاستقبال وهو أیضاً ینتظم من علم وحال وعمل:
أما العلم: فهو العلم بالسبب المفضی إلی المکروه، کمن جنی علی ملک ثم وقع فی یده وهو یخاف القتل ویجوز العفو والإفلات، ولکن یکون تألم قلبه
ص: 278
بالخوف بحسب قوة علمه بالأسباب المفضیة إلی قتله، وهو تفاحش جنایته وکون الملک فی نفسه غضوباً منتقماً، وکون هذا الجانی عاطلاً عن کل حسنة تمحو أثر جنایته عند الملک، فالعلم بتظاهر هذه الأسباب سبب لقوة الخوف وشدة تألم القلب، ولسبب ضعف هذه الأسباب یضعف الخوف.
فهذا العلم سبب لاحتراق القلب وتألمه وخوفه وهو الحال، وهذا الحال یثمر فعلاً بالاستعداد والتهیؤ لما یصلح للعفو.
والخوف من الله تارة یکون بمعرفة الله تعالی ومعرفة صفاته، وتارة یکون بکثرة الجنایة من العبد بمقارفة المعاصی، وتارة یکون بهما جمیعاً وبحسب معرفته بعیوب نفسه ومعرفته بجلال الله، فأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه(1)، ولذلک قال صلی الله علیه وآله وسلم: أنا أخوفکم لله(2). ولذا قال تعالی: ((إِنَّما یَخْشَی اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماء))(3).
ثم إذا کملت تلک المعرفة وأورثت حال الخوف واحتراق القلب افضی أثر الحرقة من القلب علی القلب وعلی البدن وعلی الجوارح وعلی الصفات:
أما فی البدن فبالنحول والصفار والبکاء ونحو ذلک.
وأما فی الجوارح فبکفها عن المعاصی وتقییدها بالطاعات تلافیاً لما فرط واستعداداً للمستقبل، ولذلک قیل: لیس الخائف من یبکی ویمسح عینیه بل من یترک ما یخاف بأن یعاقب علیه(4).
ص: 279
وأما الصفات فهو أن یقمع الشهوات بالخوف ویؤدب الجوارح ویکدر اللذات، فتصیر المعاصی المحبوبة عنده مکروهة، کما یصیر العسل مکروهاً عند من یشتهیه إذا عرف أن فیه سماً، فتحترق الشهوات بالخوف وتتأدب الجوارح ویحصل فی القلب الذبول والخشوع والذلة والاستکانة، ویفارقه الکبر والحقد والحسد، بل یصیر مستوعب الهمة بخوفه والنظر فی خطر عاقبته فلا یتفرق لغیره ولا یکون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والضنة بالأنفاس واللحظات ومؤاخذة النفس فی الخطرات والخطوات والکلمات، فیکون ظاهره وباطنه مشغولاً بما هو خائف منه لا متسع فیه لغیره.
هذا حال من غلبه الخوف واستولی علیه، وأقل درجات الخوف مما یظهر أثره فی الأعمال الامتناع من المحظورات(1)، ویسمی الکف الحاصل من المحظورات ورعاً، فإن زادت قوته وکف عما یتطرق إلیه إمکان التحریم فیسمی ذلک تقوی، إذ التقوی أن یترک ما یریبه(2) إلی ما لا یریبه، وقد یحمله علی أن یترک ما لا بأس به مخافة ما به بأس وهو الصدق فی التقوی، فإذا انضم إلیه التجرد للخدمة فصار لا یبنی ما لا یسکنه ولا یجمع ما لا یأکله ولا یلتفت إلی دنیا یعلم أنها تفارقه ولا یصرف إلی غیر الله تعالی نفساً من أنفاسه فهو الصدق وصاحبه جدیر بأن یسمی صدیقاً.
ویدخل فی الصدق التقوی، وفی التقوی الورع، وفی الورع العفة، فإنها عبارة عن الامتناع عن مقتضی الشهوات خاصة، فإذا الخوف یؤثر فی الجوارح بالکف والإقدام(3).
ص: 280
قال الله تعالی: ((إِنَّما یَخْشَی اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماء))(1) وقال تعالی: ((رَضِیَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِکَ لِمَنْ خَشِیَ رَبَّهُ))(2) وقال تعالی: ((وَخافُونِ إِن کُنتُم مُؤْمِنِینَ))(3) وقال تعالی: ((سَیَذَّکَّرُ مَن یَخْشی))(4) وقال تعالی: ((فَلْیَضْحَکُواْ قَلِیلاً وَلْیَبْکُواْ کَثِیرًا))(5).
وقال النبی صلی الله علیه وآله وسلم:ما من مؤمن تخرج من عینیه دمعة وإن کانت مثل رأس الذباب من خشیة الله ثم تصیب شیئا من حر وجهه إلا حرمه الله علی النار(6).
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: إذا اقشعر(7) قلب المؤمن(8) من خشیة الله تحاتت عنه خطایاه کما یتحات(9) من الشجر ورقها(10).
ص: 281
وقال صلی الله علیه وآله وسلم: لا یلج(1) النار أحد بکی من خشیة الله حتی یعود اللبن فی الضرع(2).(3)
وقال الصادق علیه السلام لإسحاق بن عمار(4): یا إسحاق خف الله کأنک تراه وإن کنت لا تراه فإنه یراک، وإن کنت تری أنه لا یراک فقد کفرت، وإن کنت تعلم أنه یراک ثم برزت له بالمعصیة فقد جعلته من أهون الناظرین إلیک(5)(6).
وعنه علیه السلام(7) قال: من خاف الله خاف منه(8) کل شیء، ومن لم یخف الله أخافه الله من کل شیء(9).
ص: 282
وعنه علیه السلام(1): من عرف الله خاف الله، ومن خاف الله سخت(2) نفسه عن الدنیا(3).
وعنه علیه السلام(4): إن من العبادة شدة الخوف من الله، قال تعالی: ((إِنَّما یَخْشَی اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماء))(5)، وقال تعالی: ((فَلا تَخْشَوُاْ النّاسَ وَاخْشَوْنِ))(6) وقال تعالی: ((وَمَن یَتَّقِ اللَّهَ یَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا))(7). وقال علیه السلام(8): إن حبّ الشرف والذکر لا یکونان فی قلب الخائف الراهب(9).
وقال علیه السلام(10): المؤمن بین مخافتین: ذنب قد مضی لا یدری ما صنع الله فیه، وعمر قد بقی لا یدری ما یکتسب فیه من المهالک، فهو لا یصبح إلا خائفاً ولا یصلحه إلا الخوف(11).
ص: 283
وعنه علیه السلام(1): لا یکون المؤمن مؤمناً حتی یکون خائفاً راجیاً، ولا یکون خائفاً راجیاً حتی یکون عاملاً لما یخاف ویرجو(2).
والخوف یحصل من الإیمان بالله وبرسوله، وبما جاء به الرسول من الحساب والعذاب والعقاب، ولحصول الخوف طریقان أحدهما أعلی من الآخر.
ومثال ذلک أن الصبی إذا کان فی بیت فدخل علیه سبع أو حیة ربما کان لا یخاف، بل ربما مد یده إلی الحیة لیأخذها ویلعب بها ولکن إذا کان معه أبوه ورآه الصبی قد ارتعدت فرائصه وهو یحتال فی الهرب وقد غلب علیه الخوف، حصل له الخوف من ذلک، لعلمه بأنه لا یخاف إلا من سبب مخوف فی نفسه، فخوف الأب عن بصیرة ومعرفة بصفة الحیة وسمها وسطوة السبع وبطشه، وخوف الولد إنما کان بمجرد التقلید، لأنه یحسن الظن بأبیه ویعلم أنه لا یخاف إلا من سبب مخوف، فیعلم أن السبع والحیة مخوفان ولا یعرف وجههما، وخوف الأنبیاء والأوصیاء والعلماء من القسم الأول وخوف عموم الخلق من المؤمنین من القسم الثانی.
ویکفی فی الخوف التفکیر فی الآیات القرآنیة، فإن أکثرها تخویفات وتهدیدات لمن تدبر، ولو لم یکن إلا قوله تعالی: ((سَنَفْرُغُ لَکُمْ أَیُّهَا الثَّقَلانِ))(3) وقوله تعالی: ((وَإِنِّی لَغَفَّارٌ لِمَن تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدَی))(4) حیث علق المغفرة علی أربعة شروط یعجز العبد عن أحدها(5).
ص: 284
وقوله تعالی: ((فَأَمّا مَن تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا فَعَسی أَن یَکُونَ مِنَ الْمُفْلِحِینَ))(1) وقوله تعالی:((لِیَسْئَلَ الصّادِقِینَ عَن صِدْقِهِمْ))(2) وقوله تعالی: ((أَفَأَمِنُواْ مَکْرَ اللّهِ))(3) وقوله تعالی: ((وَإِن مِنکُمْ إِلاّ وارِدُها))(4) وقوله تعالی: ((اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ))(5) وقوله تعالی: ((وَقَدِمْنا إِلی ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا))(6) وقوله تعالی: ((وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسانَ لَفِی خُسْرٍ(2) إِلاَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ))(7) حیث شرط أربعة شروط للخلاص من الخسران(8)، لکان فیها الکفایة.
وروی أن النبی صلی الله علیه وآله وسلم کان إذا هبت ریح عاصفة یتغیر وجهه ویقوم ویتردد فی الحجرة ویدخل ویخرج خوفاً من عذاب الله(9).
وقرأ صلی الله علیه وآله وسلم آیة فی سورة الحاقة فصعق(10). وقال تعالی:((فَخَرَّ موسی صَعِقًا))(11).
ص: 285
وکان صلی الله علیه وآله وسلم إذا دخل فی الصلاة یسمع لصدره أزیز کأزیز المرجل(1).
وروی أن داود علیه السلام کان یقول فی مناجاته: إلهی إذا ذکرت خطیئتی ضاقت علیّ الأرض برحبها، وإذا ذکرت رحمتک ارتدت إلی روحی، سبحانک إلهی أتیت أطباء عبادک لیداووا خطیئتی فکلهم علیک یدلنی،فبؤساً للقانطین من رحمتک(2).
وقیل إنه علیه السلام(3) ذکر ما صدر منه ذات یوم فوثب صارخاً واضعاً یده علی رأسه حتی لحق بالجبال، فاجتمعت إلیه السباع فقال: ارجعوا لا أریدکم إنما أرید کل بکّاء علی خطیئته، فلا یستقبلنی إلا البکّاء(4).
وکان یعاتب فی کثرة البکاء فیقول: دعونی أبکی قبل خروج یوم البکاء قبل تحریق العظام(5) واشتعال الحشا، وقبل أن یؤمر بی ملائکة غلاظ شداد لا یعصون الله ما أمرهم ویفعلون ما یؤمرون(6).
ص: 286
وحکی أنه علیه السلام(1) کان إذا أراد أن ینوح مکث قبل ذلک سبعاً لا یأکل الطعام ولا یشرب الشراب ولا یقرب النساء، فإذا کان قبل ذلک بیوم أخرج له إلی البریة منبراً، فیأمر سلیمان أن ینادی بصوت یستقرئ البلاد وما حولها من الغیاض(2) والآکام(3) والجبال والبراری والصوامع(4) والبیع(5) فینادی: ألا من أراد أن یسمع نوح داود علی نفسه فلیأت. قال: فتأتی الوحوش من البراری والآکام وتأتی السباع من الغیاض وتأتی الهوام من الجبال وتأتی العذاری من خدورهن ویجتمع الناس لذلک الیوم، ویأتی داود حتی یرقی علی المنبر ویحیط به بنو إسرائیل وکل صنف علی حدة یحیطون به وسلیمان علیه السلام قائم علی رأسه، فیأخذ فی الثناء علی ربه، فیضجون بالبکاء والصراخ، ثم یأخذ فی ذکر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والناس والسباع، ثم یأخذ فی أهوال القیامة، وفی النیا