سرشناسه : آخوند خراسانی،محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق.
عنوان و نام پدیدآور : کفایه الاصول/ تالیف محمدکاظم الخراسانی؛ المحقق مجتبی المحمودی.
مشخصات نشر : قم: مجمع الفکر الاسلامی، 1431ق.= 1389.
مشخصات ظاهری : 2 ج.
شابک : دوره: 978-600-6023-16-8 ؛ ج.1: 978-600-6023-17-5 ؛ ج.2: 978-600-6023-18-2
وضعیت فهرست نویسی : فیپا
یادداشت : عربی.
یادداشت : این کتاب در سالهای مختلف توسط ناشرین مختلف منتشر شده است.
یادداشت : واژه نامه.
موضوع : اصول فقه شیعه -- قرن 14ق.
شناسه افزوده : محمودی، مجتبی، 1333 -
شناسه افزوده : مجمع الفکر الاسلامی
رده بندی کنگره : BP159/8/آ3ک7 1389الف
رده بندی دیویی : 297/312
شماره کتابشناسی ملی : 2105366
ص :1
ص :2
ص :3
ص :4
ص :5
ص :6
ص :7
بسم اللّٰه الرحمن الرحیم
وقبل الخوض فی ذلک ، لا بأس بصرف الکلام إلی بیان بعض ما للقطع من الأحکام - وإن کان خارجاً من مسائل الفنّ ، وکان أشبه (1) بمسائل الکلام - ؛ لشدّه مناسبته مع المقام .
فاعلم: أنّ البالغ (2) الّذی وضع علیه القلم ، إذا التفت إلی حکم فعلیٍّ واقعیّ ، أو ظاهریّ ، متعلّقٍ به أو بمقلّدیه :
فإمّا أن یحصل له القطع به ، أو لا . وعلی الثانی لابدّ من انتهائه إلی ما استقلّ به العقل ، من اتّباع الظنّ لو حصل له ، وقد تمّت مقدّمات الانسداد علی تقدیر (3) الحکومه ، وإلّا فالرجوع إلی الأُصول العقلیّه : من البراءه والاشتغال والتخییر ، علی تفصیل یأتی فی محلّه إن شاء اللّٰه تعالی .
وإنّما عمّمنا متعلّق القطع؛ لعدم اختصاص أحکامه بما إذا کان متعلّقاً
ص :8
ص :9
بالأحکام الواقعیّه ، وخصّصنا بالفعلیّ؛ لاختصاصها بما إذا کان متعلّقاً به - علی ما ستطّلع علیه - . ولذلک عَدَلْنا عمّا فی رساله شیخنا العلّامه - أعلی اللّٰه مقامه - من تثلیث الأقسام (1) .
وإن أبیت إلّاعن ذلک ، فالأولی أن یقال: «إنّ المکلّف : إمّا أن یحصل له القطع ، أولا . وعلی الثانی : إمّا أن یقوم عنده طریق معتبر ، أولا» ؛ لئلّا تتداخل الأقسام فی ما یذکر لها من الأحکام . ومرجعه - علی الأخیر - إلی القواعد المقرّره - عقلاً أو نقلاً - لغیر القاطع ومن یقوم عنده الطریق ، علی تفصیلٍ یأتی فی محلّه - إن شاء اللّٰه تعالی - حَسَبما یقتضی دلیلها .
ص :10
وکیف کان ، فبیان أحکام القطع وأقسامه یستدعی رسم أُمور:
لا شبهه فی وجوب العمل علی وفق القطع عقلاً ، ولزومِ الحرکه علی طبقه جزماً ، وکونِه موجباً لتنجّز التکلیف الفعلیّ فی ما أصاب ، باستحقاق (1) الذمّ والعقاب علی مخالفته ، وعذراً فی ما أخطأ قصوراً . وتأثیره فی ذلک لازمٌ ، وصریحُ الوجدان به شاهدٌ وحاکمٌ ، فلا حاجه إلی مزید بیانٍ وإقامه برهان .
ولا یخفی: أنّ ذلک لا یکون بجعل جاعلٍ؛ لعدم جعلٍ تألیفیّ حقیقهً بین الشیء ولوازمه ، بل عَرَضاً بتبع جعله بسیطاً .
وبذلک انقدح امتناع المنع عن تأثیره أیضاً ، مع أ نّه یلزم منه اجتماع الضدّین اعتقاداً مطلقاً ، وحقیقهً فی صوره الإصابه ، کما لا یخفی .
ثمّ لا یذهب علیک: أنّ التکلیف ما لم یبلغ مرتبه البعث والزجر لم یصِر فعلیّاً ، وما لم یصِر فعلیّاً لم یکد یبلغ مرتبه التنجّز واستحقاقِ العقوبه علی المخالفه ، وإن کان ربما یوجب موافقتُهُ استحقاقَ المثوبه؛ وذلک لأنّ الحکم ما لم یبلغ تلک المرتبه لم یکن حقیقهً بأمر ولا نهی ، ولا مخالفتهُ عن عمدٍ بعصیان ،بل کان ممّا سکت اللّٰه عنه ، کما فی الخبر (2) ، فلاحظ وتدبّر .
ص :11
نعم، فی کونه بهذه المرتبه مورداً للوظائف المقرّره شرعاً للجاهل ، إشکالُ لزوم اجتماع الضدّین أو المثلین ، علی ما یأتی تفصیله (1) - إن شاء اللّٰه تعالی - ، مع ما هو التحقیق فی دفعه ، فی التوفیق بین الحکم الواقعیّ والظاهریّ ، فانتظر .
قد عرفت : أ نّه لا شبهه فی أنّ القطع یوجب استحقاقَ العقوبه علی المخالفه ، والمثوبهِ علی الموافقه فی صوره الإصابه .
فهل یوجب استحقاقها - فی صوره عدم الإصابه - علی التجرّی بمخالفته ، واستحقاقَ المثوبه علی الانقیاد بموافقته ، أو لا یوجب شیئاً ؟
ألحقّ : أ نّه یوجبه؛ لشهاده الوجدان بصحّه مؤاخذته ، وذمّه علی تجرّیه وهتک حرمته لمولاه (2) ، وخروجه عن رسوم عبودیّته ، وکونه بصدد الطغیان ، وعزمه علی العصیان ، وصحّهِ مثوبته ، ومدحه علی إقامته (3) بما هو قضیّه عبودیّته ، من العزم علی موافقته ، والبناء علی إطاعته ، وإن قلنا بأ نّه لا یستحقّ مؤاخذه أو مثوبه - ما لم یعزم علی المخالفه أو الموافقه - بمجرّد سوء سریرته أو حُسنها (4) ، وإن کان مستحقّاً للّوم (5) أو المدح بما یستتبعانه ، کسائر الصفات والأخلاق الذمیمه أو الحسنه .
ص :12
وبالجمله: ما دامت فیه صفه کامنه لا یستحقّ بها إلّامدحاً أو لوماً (1) ، وإنّما یستحقّ الجزاء بالمثوبه أو العقوبه - مضافاً إلی أحدهما - إذا صار بصدد الجری علی طبقها ، والعمل علی وفقها ، وجَزَمَ وعَزَمَ؛ وذلک لعدم صحّه مؤاخذته بمجرّد سوء سریرته من دون ذلک ، وحسنها معه ، کما یشهد به مراجعه الوجدان ، الحاکم بالاستقلال فی مثل باب الإطاعه والعصیان ، وما یستتبعان من استحقاق النیران أو الجنان .
ولکن ذلک مع بقاء الفعل المتجرّیٰ به ، أو المنقاد به علی ما هو علیه من الحسن أو القبح ، والوجوب أو الحرمه واقعاً ، بلا حدوث تفاوتٍ فیه بسبب تعلُّقِ القطع بغیر ما هو علیه من الحکم والصفه ، ولا یغیَّر جهه حُسنِه أو قبحِه بجهته أصلاً (2)؛ ضروره أنّ القطع بالحسن أو القبح ، لا یکون من الوجوه والاعتبارات التّی بها یکون الحسنُ والقبحُ عقلاً ، ولا ملاکاً للمحبوبیّه والمبغوضیّه شرعاً؛ ضروره عدم تغیّر الفعل عمّا هو علیه - من المبغوضیّه والمحبوبیّه للمولی - بسبب قطع العبد بکونه محبوباً أو مبغوضاً له ، فقَتْلُ ابن المولی لا یکاد یخرج عن کونه مبغوضاً له ، ولو اعتقد العبد بأ نّه عدُوُّه ، وکذا قَتْلُ عدوِّه - مع القطع بأ نّه ابنه - لا یخرج عن کونه محبوباً أبداً . هذا .
مع أنّ الفعل المتجرّیٰ به أو المنقاد به - بما هو مقطوع الحرمه أو الوجوب - لا یکون اختیاریّاً؛ فإنّ القاطع لا یقصده إلّابما قطع أ نّه علیه من
ص :13
عنوانه الواقعیّ الاستقلالیّ ، لا بعنوانه الطارئ الآلیّ ، بل لا یکون غالباً بهذا العنوان ممّا یلتفت إلیه ، فکیف یکون من جهات الحسن أو القبح عقلاً ، ومن مناطات الوجوب أو الحرمه شرعاً ؟ ولا یکاد یکون صفهٌ موجبهٌ لذلک إلّاإذا کانت اختیاریّه .
إن قلت: إذا لم یکن الفعل کذلک ، فلا وجه لاستحقاق العقوبه علی مخالفه القطع ، وهل کان العقاب علیها إلّاعقاباً علی ما لیس بالاختیار ؟
قلت: العقاب إنّما یکون علی قصد العصیان والعزم علی الطغیان ، لا علی الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختیار .
إن قلت: إنّ القصد والعزم إنّما یکون من مبادئ الاختیار ، وهی لیست باختیاریّه ، وإلّا لتسلسل .
قلت: - مضافاً إلی أنّ الاختیار وإن لم یکن بالاختیار ، إلّاأنّ بعض مبادیه غالباً یکون وجوده بالاختیار؛ للتمکّن من عدمه ، بالتأمّل فی ما یترتّب علی ما عزم علیه من تبعه العقوبه واللوم والمذمّه - یمکن أن یقال:
إنّ حسن المؤاخذه والعقوبه إنّما یکون من تبعه بُعده عن سیّده ، بتجرّیه علیه ، کما کان من تبعته بالعصیان فی صوره المصادفه ، فکما أ نّه یوجب البُعد عنه ، کذلک لا غروَ فی أن یوجب حسن العقوبه؛ فإنّه وإن لم یکن باختیاره (1)* ، إلّاأ نّه بسوء سریرته وخبث باطنه ، بحسب نقصانه ، واقتضاء
ص :14
استعداده ذاتاً وإمکانه (1) .
وإذا انته الأمرُ إلیه یرتفع الإشکال وینقطع السؤال ب « لِمَ » ؛ فإنّ الذاتیّات ضروریّ الثبوت (2) للذات .
وبذلک أیضاً ینقطع السؤال عن أ نّه لِمَ اختار الکافر والعاصی ، الکفرَ والعصیان ، والمطیعُ والمؤمن ، الإطاعهَ والإیمان ؟ فإنّه یساوق السؤال عن أنّ الحمار لِمَ یکون ناهقاً ؟ والإنسان لِمَ یکون ناطقاً ؟
وبالجمله : تفاوت أفراد الإنسان فی القرب منه - جلّ شأنه وعظمت کبریاؤه (3) - والبعدِ عنه ، سببٌ لاختلافها فی استحقاق الجنّه ودرجاتها ، والنار ودرکاتها ، وموجبٌ لتفاوتها فی نیل الشفاعه وعدمه (4)(5) ، وتفاوتُها فی ذلک بالآخره یکون ذاتیّاً ، والذاتیّ لا یعلَّل .
إن قلت : علی هذا فلا فائده فی بَعْثِ الرُسل وإنزال الکتب ، والوعظ والإنذار .
قلت : ذلک لینتفع به من حسُنت سریرته وطابت طینته ، لتکمل به نفسه ، ویخلص مع ربّه انسه ، «مٰا کُنّٰا لِنَهْتَدِیَ لَوْ لاٰ أَنْ هَدٰانَا اللّٰهُ » (6) ، قال اللّٰه تبارک
ص :15
وتعالی: «وَ ذَکِّرْ فَإِنَّ الذِّکْریٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِینَ » (1) ، ولیکون حجّهً علی من ساءت سریرته وخبثت طینته ، «لِیَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَنْ بَیِّنَهٍ وَ یَحْییٰ مَنْ حَیَّ عَنْ بَیِّنَهٍ » (2) ، کیلا یکون للناس علی اللّٰه حجّه ، بل کان له حجّهٌ بالغه .
ولا یخفی: أنّ فی الآیات (3) والروایات (4) شهادهً علی صحّه ما حکم به الوجدان ، الحاکم علی الإطلاق فی باب الاستحقاق للعقوبه والمثوبه .
ومعه لا حاجه إلی ما استُدلّ علی استحقاق المتجرّی للعقاب بما حاصله:
أ نّه لولاه - مع استحقاق العاصی له - یلزم إناطهُ استحقاق العقوبه بما هو خارجٌ عن الاختیار ، من مصادفه قطعه ، الخارجه عن تحت قدرته واختیاره (5) .
مع بطلانه وفساده؛ إذ للخصم أن یقول: بأنّ استحقاق العاصی دونه ، إنّما
ص :16
هو لتحقّقِ سبب الاستحقاق فیه - وهو مخالفته عن عمدٍ واختیار - وعدمِ تحقّقه فیه؛ لعدم مخالفته أصلاً - ولو بلا اختیار - ، بل عدمِ صدور فعلٍ منه فی بعض أفراده بالاختیار ، کما فی التجرّی بارتکاب ما قطع أ نّه من مصادیق الحرام ، کما إذا قطع - مثلاً - بأنّ مائعاً خمرٌ ، مع أ نّه لم یکن بالخمر ، فیحتاج إلی إثبات أنّ المخالفه الاعتقادیّه سببٌ کالواقعیّه الاختیاریّه ، کما عرفت بما لا مزید علیه .
ثمّ لا یذهب علیک: أ نّه لیس فی المعصیه الحقیقیّه إلّامَنْشَأٌ واحد لاستحقاق العقوبه - وهو هتک واحدٌ - ، فلا وجه لاستحقاق عقابین متداخلین - کما توهّم (1) - . مع ضروره أنّ المعصیه الواحده لاتوجب إلّاعقوبهً واحدهً ، کما لا وجه لتداخلهما علی تقدیر استحقاقهما کما لا یخفی .
ولا منشأ لتوهّمه إلّابداهه أ نّه لیس فی معصیه واحده إلّاعقوبه واحده ، مع الغفله عن أنّ وحده المسبّب تکشف - بنحو « الإنّ » - عن وحده السبب .
تارهً : بنحوٍ یکون تمامَ الموضوع ، بأن یکون القطع بالوجوب مطلقاً - ولو أخطأ - موجباً لذلک .
وأُخری : بنحوٍ یکون جزأه وقیدَه ، بأن یکون القطع به فی خصوص ما أصاب موجباً له .
وفی کلّ منهما یؤخذ : طوراً بما هو کاشفٌ وحاکٍ عن متعلّقه؛ وآخرَ بما هو صفه خاصّه للقاطع ، أو المقطوع به (1) .
وذلک لأنّ القطع لمّا کان من الصفات الحقیقیّه ذاتِ الإضافه - ولذا کان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغیره - صحّ أن یؤخذ فیه بما هو صفه خاصّه وحاله مخصوصه ، بإلغاء جههِ کشفه (2) ، أو اعتبارِ (3) خصوصیّهٍ أُخری فیه معها؛ کما صحّ أن یؤخذ بما هو کاشف عن متعلّقه وحاکٍ عنه . فتکون أقسامه أربعه ، مضافاً (4) إلی ما هو طریقٌ محضٌ عقلاً ، غیرُ مأخوذ فی الموضوع شرعاً .
ثمّ لا ریب فی قیام الطرق والأمارات المعتبره - بدلیل حجیّتها واعتبارها - مقام هذا القسم .
کما لا ریب فی عدم قیامها - بمجرّد ذلک الدلیل - مقام ما أُخذ فی
ص :18
الموضوع علی نحو الصفتیّه من تلک الأقسام ، بل لابدّ من دلیلٍ آخر علی التنزیل؛ فإنّ قضیّه الحجّیّه والاعتبار ترتیبُ ما للقطع - بما هو حجّه - من الآثار ، لا ما لَه (1) بما هو صفه وموضوع؛ ضروره أ نّه کذلک یکون کسائر الموضوعات والصفات .
ومنه قد انقدح : عدم قیامها - بذاک الدلیل - مقامَ ما أُخذ فی الموضوع علی نحو الکشف؛ فإنّ القطع المأخوذ بهذا النحو فی الموضوع شرعاً ، کسائر ما لها (2) دخلٌ فی الموضوعات أیضاً ، فلا یقوم مقامه شیءٌ بمجرّد حجّیّته وقیام (3) دلیل علی اعتباره ، ما لم یقم دلیل علی تنزیله ودخله فی الموضوع کدخله .
وتوهُّمُ (4) : کفایه دلیل الاعتبار ، الدالّ علی إلغاء احتمال خلافه ، وجعله بمنزله القطع من جهه کونه موضوعاً ، ومن جهه کونه طریقاً ، فیقوم مقامه :
طریقاً کان أو موضوعاً .
فاسدٌ جدّاً؛ فإنّ الدلیل الدالّ علی إلغاء الاحتمال ، لا یکاد یفی (5) إلّابأحد التنزیلین؛ حیث لابدّ فی کلّ تنزیلٍ منهما من لحاظ المنزَّل والمنزَّل علیه ، ولحاظهما فی أحدهما آلیٌّ ، وفی الآخر استقلالیٌّ؛ بداهه أنّ النظر فی حجّیّته
ص :19
وتنزیله منزلهَ القطع فی طریقیّته - فی الحقیقه - ، إلی الواقع ومؤدّی الطریق، وفی کونه بمنزلته ، فی دخله فی الموضوع إلی أنفسهما ، ولا یکاد یمکن الجمع بینهما .
نعم ، لو کان فی البین ما بمفهومه جامعٌ بینهما ، یمکن (1) أن یکون دلیلاً علی التنزیلین ، والمفروض أ نّه لیس . فلا یکون دلیلاً علی التنزیل إلّابذاک اللحاظ الآلیّ ، فیکون حجّهً موجبهً لتنجّز متعلّقه ، وصحّهِ العقوبه علی مخالفته ، فی صورتَی إصابته وخطئه ، بناءً علی استحقاق المتجرّی ، أو بذلک اللحاظ الآخر الاستقلالیّ ، فیکون مثله فی دخله فی الموضوع ، وترتیبٍ ما لَه علیه من الحکم الشرعیّ .
لا یقال: علی هذا لا یکون دلیلاً علی أحد التنزیلین ، ما لم یکن هناک قرینهٌ فی البین .
فإنّه یقال: لا إشکال فی کونه دلیلاً علی حجّیّته؛ فإنّ ظهوره فی أ نّه بحسب اللحاظ الآلیّ ، ممّا لا ریب فیه ولا شبهه تعتریه ، وإنّما یحتاج تنزیله - بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالیّ - من نصْبِ (2) دلالهٍ علیه . فتأمّل فی المقام ، فإنّه دقیقٌ ، ومزالُّ الأقدام للأعلام .
ولا یخفی: أ نّه لولا ذلک ، لأمکن أن یقوم الطریقُ بدلیل واحد - دالّ علی إلغاء احتمال خلافه - مقامَ القطع بتمام أقسامه ، ولو فی ما أُخذ فی الموضوع علی نحو الصفتیّه ، کان تمامه ، أو قیده وبه قوامه (3) .
ص :20
فتلخّص ممّا ذکرنا: أنّ الأماره لا تقوم بدلیل اعتبارها (1) ، إلّامقام ما لیس بمأخوذ فی الموضوع أصلاً .
وأمّا الأُصول: فلا معنی لقیامها مقامه بأدلّتها أیضاً ، غیر الاستصحاب (2) ؛ لوضوح أنّ المراد من قیام المُقام : ترتیب ما لَه من الآثار والأحکام ، من تنجّز التکلیف وغیره - کما مرّت إلیه الإشاره - ، وهی لیست إلّاوظائف مقرّره للجاهل فی مقام العمل ، شرعاً أو عقلاً .
لا یقال: إنّ الاحتیاط لا بأس بالقول بقیامه مقامه فی تنجّز التکلیف - لو کان - .
فإنّه یقال: أمّا الاحتیاط العقلیّ: فلیس إلّانفسَ (3) حکم العقل بتنجّز التکلیف ، وصحّهِ العقوبه علی مخالفته ، لا شیءٌ یقوم (4) مقامه فی هذا الحکم .
وأمّا النقلیّ: فإلزام الشارع به وإن کان ممّا یوجب التنجّز ، وصحّهَ العقوبه علی المخالفه - کالقطع - ، إلّاأ نّه لا نقول به (5) فی الشبهه البدویّه ، ولا یکون بنقلیّ فی المقرونه بالعلم الإجمالیّ ، فافهم .
ص :21
ثمّ لا یخفی: أنّ دلیل الاستصحاب أیضاً لا یفی بقیامه مقام القطع المأخوذ فی الموضوع مطلقاً ، وأنّ مثل «لا تنقض الیقین» لابدّ من أن یکون مسوقاً : إمّا بلحاظ المتیقّن ، أو بلحاظ نفس الیقین .
وما ذکرنا فی الحاشیه (1) - فی وجه تصحیح لحاظٍ واحدٍ (2) فی التنزیل منزله الواقع والقطع ، وأنّ دلیل الاعتبار إنّما یوجب تنزیل المستصحب والمؤدّی منزله الواقع ، وإنّما کان تنزیل القطع فی ما له دخلٌ فی الموضوع ، بالملازمه بین تنزیلهما وتنزیل القطع بالواقع تنزیلاً وتعبّداً (3) منزلهَ القطع بالواقع حقیقهً - ، لا یخلو من تکلّفٍ ، بل تعسّفٍ؛ فإنّه لا یکاد یصحّ تنزیل جزء الموضوع أو قیده - بما هو کذلک ، بلحاظ أثره - إلّافی ما کان جزؤه الآخر أو ذاتُه محرزاً بالوجدان ، أو تنزیله (4) فی عرضه .
فلا یکاد (5) یکون دلیل الأماره أو الاستصحاب دلیلاً علی تنزیل جزء الموضوع ما لم یکن هناک دلیلٌ علی تنزیل جزئه الآخر ، فی ما لم یکن (6)
ص :22
محرزاً (1) حقیقهً؛ وفی ما لم یکن دلیلٌ علی تنزیلهما بالمطابقه - کما فی ما نحن فیه ، علی ما عرفت (2) - لم یکن دلیل الأماره دلیلاً علیه أصلاً (3)؛ فإنّ دلالته علی تنزیل المؤدّیٰ تتوقّف علی دلالته علی تنزیل القطع بالملازمه .
ولا دلاله له کذلک ، إلّابعد دلالته علی تنزیل المؤدّیٰ؛ فإنّ الملازمه إنّما تکون بین تنزیل القطع به منزلهَ القطع بالموضوع الحقیقیّ ، وتنزیلِ المؤدّیٰ منزله الواقع (4) ، کما لا یخفی ، فتأمّل جیّداً ، فإنّه لا یخلو عن دقّه .
ثمّ لا یذهب علیک: أ نّ (5) هذا لو تمّ لعمّ ، ولا اختصاص له بما إذا کان القطع مأخوذاً علی نحو الکشف .
ص :23
لا یکاد یمکن أن یؤخذ القطع بحکمٍ فی موضوع نفس هذا الحکم؛ للزوم الدور ، ولا مِثلِه؛ للزوم اجتماع المثلین ، ولا ضدِّه؛ للزوم اجتماع الضدّین .
نعم ، یصحّ أخذ القطع بمرتبهٍ من الحکم فی مرتبهٍ أُخری منه ، أو من مثله ، أو من ضدّه (1) .
وأمّا الظنّ بالحکم: فهو وإن کان کالقطع ، فی عدم جواز أخذه فی موضوع نفس ذاک الحکم المظنون ، إلّاأ نّه لمّا کان معه مرتبهُ الحکم الظاهریّ محفوظهً ، کان جعل حکمٍ آخر فی مورده - مثل الحکم المظنون أو ضدّه - بمکانٍ من الإمکان .
إن قلت: إن کان الحکم المتعلّق به الظنّ فعلیّاً أیضاً - بأن یکون الظنّ متعلّقاً بالحکم الفعلیّ - ، لا یمکن أخذُه فی موضوع حکم فعلیّ آخر ، مثله أو ضدّه؛ لاستلزامه الظنّ باجتماع الضدّین أو المثلین ، وإنّما یصحّ أخذه فی موضوع حکم آخر ، کما فی القطع ، طابق النعل بالنعل .
قلت: یمکن أن یکون الحکم فعلیّاً ، بمعنی أ نّه لو تعلّق به القطع - علی ما هو علیه من الحال - لتنجَّزَ ، واستحقّ علی مخالفته العقوبه (2) . ومع ذلک
ص :24
لا یجبُ علی الحاکم رفع (1) عذر المکلّف - برفع جهله لو أمکن ، أو بجعل لزوم الاحتیاط علیه فی ما أمکن - ، بل یجوز جعلُ أصلٍ أو أمارهٍ مؤدّیهٍ إلیه تارهً ، وإلی ضدّه أُخری ، ولایکاد یمکنُ مع القطع به ، جعلُ حکمٍ آخر مثله أو ضدّه ، کما لا یخفی (2) .
إن قلت: کیف یمکن ذلک ؟ وهل هو إلّاأ نّه یکون مستلزماً لاجتماع المثلین أو الضدّین ؟
قلت: لا بأس باجتماع الحکم الواقعیّ الفعلیّ بذاک المعنیٰ - أی لو قطع به من باب الاتّفاق لتنجَّزَ - مع حکمٍ آخر فعلیّ فی مورده ، بمقتضی الأصل أو الأماره ، أو دلیلٍ (3) أُخذ فی موضوعه الظنّ بالحکم بالخصوص (4) ، علی ما سیأتی (5) من التحقیق فی التوفیق بین الحکم الظاهریّ والواقعیّ .
ص :25
هل تنجُّزُ التکلیف بالقطع - کما یقتضی موافقته عملاً - ، یقتضی موافقته التزاماً ، والتسلیمَ له اعتقاداً وانقیاداً ، کما هو اللازم فی الأُصول الدینیّه والاُمور الاعتقادیّه ، بحیث کان له امتثالان وطاعتان: إحداهما بحسب القلب والجنان ، والاُخریٰ بحسب العمل بالأرکان ، فیستحقّ العقوبه علی عدم الموافقه التزاماً ، ولو مع الموافقه عملاً ، أو لا یقتضی (1) ، فلا یستحقّ العقوبه علیه ، بل إنّما یستحقّها علی المخالفه العملیّه ؟
ألحقّ : هو الثانی؛ لشهاده (2) الوجدان - الحاکم فی باب الإطاعه والعصیان - بذلک ، واستقلالِ العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سیّده ، إلّاالمثوبه دون العقوبه ، ولو لم یکن مسلّماً (3) وملتزماً به ومعتقداً ومنقاداً له ، وإن کان ذلک یوجب (4) تنقیصه وانحطاطَ درجته لدی سیّده؛ لعدم اتّصافه بما یلیق أن یتّصف العبد به من الاعتقاد بأحکام مولاه والانقیاد لها ، وهذا غیر استحقاق العقوبه علی مخالفته لأمره أو نهیه التزاماً مع موافقته عملاً ، کما لا یخفی .
ولا یحرم المخالفه القطعیّه علیه کذلک أیضاً؛ لامتناعهما ، - کما إذا علم إجمالاً بوجوب شیءٍ أو حرمته - ؛ للتمکّن من الالتزام بما هو الثابت واقعاً ، والانقیادِ له والاعتقادِ به بما هو الواقع والثابت ، وإن لم یعلم أ نّه الوجوب أو الحرمه .
وإن أبیت إلّاعن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه؛ لَما کانت موافقته القطعیّه الالتزامیّه حینئذٍ ممکنهً ، ولما وجب علیه الالتزام بواحدٍ قطعاً؛ فإنّ محذور الالتزام بضدّ التکلیف عقلاً ، لیس بأقلّ من محذور عدم الالتزام به بداههً ، مع ضروره أنّ التکلیف - لو قیل باقتضائه للالتزام - لم یکد یقتضی إلّا الالتزام بنفسه عیناً ، لا الالتزام به أو بضدّه تخییراً .
اللهمّ إلّاأن یقال: إنّ استقلال العقل بالمحذور فیه إنّما یکون فی ما إذا لم یکن هناک ترخیص فی الإقدام والاقتحام فی الأطراف ، ومعه لا محذور فیه ، بل ولا فی الالتزام بحکم آخر .
إلّاأنّ الشأن حینئذٍ فی جواز جریان الأُصول فی أطراف العلم الإجمالیّ (1)* مع عدم ترتّب أثرٍ عملیّ علیها (2) ، مع أ نّها أحکام عملیّه کسائر الأحکام الفرعیّه .
مضافاً إلی عدم شمول أدلّتها لأطرافه؛ للزوم التناقض فی مدلولها علی تقدیر شمولها ، کما ادّعاه (3) شیخنا العلّامه (4) - أعلی اللّٰه مقامه - ، وإن کان محلّ تأمّل ونظر ، فتدّبر جیّداً .
لاتفاوت فی نظر العقل أصلاً - فی ما یترتّب علی القطع من الآثار عقلاً - بین أن یکون حاصلاً بنحوٍ متعارف ، ومن سببٍ ینبغی حصوله منه ، أو غیرِ
ص :28
متعارف لا ینبغی حصوله منه - کما هو الحال غالباً فی القطّاع - ؛ ضروره أنّ العقل یریٰ تنجّزَ التکلیف بالقطع الحاصل ممّا لاینبغی حصوله ، وصحّهَ مؤاخذه قاطعه علی مخالفته ، وعدمَ صحّه الاعتذار عنها بأ نّه حصل کذلک ، وعدمَ صحّه المؤاخذه مع القطع بخلافه ، وعدمَ حُسن الاحتجاج علیه بذلک ولو مع التفاته إلی کیفیّه حصوله .
نعم (1) ، ربما یتفاوت الحال فی القطع المأخوذ فی الموضوع شرعاً ، والمتَّبع - فی عمومه وخصوصه - دلالهُ دلیله فی کلّ مورد ، فربما یدلّ علی اختصاصه بقسمٍ فی مورد ، وعدمِ اختصاصه به فی آخر ، علی اختلاف الأدلّه واختلاف المقامات ، بحسب مناسبات الأحکام والموضوعات وغیرها من الأمارات .
وبالجمله: القطعُ فی ما کان موضوعاً عقلاً لا یکادُ یتفاوتُ من حیث القاطع (2) ، ولا من حیث المورد ، ولا من حیث السبب ، لا عقلاً ، وهو واضح ،
ولا شرعاً؛ لما عرفت (3)(4) من أ نّه لا تناله یدُ الجعل نفیاً ولا إثباتاً ، وإن نُسب إلی بعض الأخباریّین: أ نّه لا اعتبار بما إذا کان بمقدّمات عقلیّه . إلّا أنّ مراجعه کلماتهم لا تساعد علی هذه النسبه ، بل تشهد بکذبها ، وأ نّها إنّما تکونُ :
ص :29
إمّا (1) فی مقام منع الملازمه بین حکم العقل بوجوب شیء وحکم الشرع بوجوبه ، کما ینادی به بأعلی صوته ما حکی (2) عن السیّد الصدر (3) فی باب الملازمه ، فراجع .
وإمّا فی مقام عدم جواز الاعتماد علی المقدّمات العقلیّه؛ لأنّها لا تفید إلّا الظنّ ، کما هو صریح الشیخ المحدّث الأمین الأسترآبادیّ (4) حیث قال - فی جمله ما استدلّ به فی فوائده علی انحصار مدرک ما لیس من ضروریّات الدین فی السماع عن الصادقین علیهم السلام - : «الرابع: أنّ کلّ مسلک غیر ذلک المسلک - یعنی التمسّک بکلامهم علیهم السلام - إنّما یعتبر من حیث إفادته الظنّ بحکم اللّٰه - تعالی - ، وقد أثبتنا سابقاً أ نّه لا اعتماد علی الظنّ المتعلّق بنفس أحکامه - تعالی - أو بنفیها» (5) .
وقال فی جملتها أیضاً - بعد ذکر ما تفطّن بزعمه من الدقیقه - ما هذا لفظه: « وإذا عرفت ما مهّدناه من الدقیقه الشریفه فنقول: إن تمسّکنا بکلامهم علیهم السلام فقد عُصمنا من الخطأ ، وإن تمسّکنا بغیره لم نعصم منه ، ومن المعلوم أنّ العصمه من الخطأ أمرٌ مطلوبٌ مرغوبٌ فیه شرعاً وعقلاً ، ألا تریٰ أنّ الإمامیّه استدلّوا علی وجوب عصمه الإمام (6) : بأ نّه لولا العصمه للزم أمرُه
ص :30
- تعالی - عبادَهُ باتّباع الخطأ ، وذلک الأمر محال؛ لأنّه قبیح ؟ وأنت إذا تأمّلت فی هذا الدلیل علمت أنّ مقتضاه أ نّه لا یجوز الاعتماد علی الدلیل الظنّیّ فی أحکامه - تعالی - » (1) . انته موضع الحاجه من کلامه .
وما مهّده من الدقیقه هو الّذی نقله شیخنا العلّامه - أعلی اللّٰه مقامه - فی الرساله (2) .
وقال فی فهرست فصولها أیضاً: «الأوّل : فی إبطال جواز التمسّک بالاستنباطات الظنّیّه فی نفس أحکامه - تعالی - ، ووجوب التوقّف عند فقد القطع بحکم اللّٰه ، أو بحکمٍ ورد عنهم علیهم السلام » (3) ، انته .
وأنت تریٰ أنّ محلّ کلامه ومورد نقضه وإبرامه هو العقلیّ غیرُ المفید للقطع ، وإنّما همُّه إثبات عدم جواز اتّباع غیر النقل فی ما لا قطع .
وکیف کان ، فلزوم اتّباع القطع مطلقاً ، وصحّهُ المؤاخذه علی مخالفته عند إصابته ، وکذا ترتّب (4) سائر آثاره علیه عقلاً ، ممّا لا یکاد یخفی علی عاقلٍ ، فضلاً عن فاضل .
فلابدّ فی ما یوهم خلافَ ذلک فی الشریعه ، من المنع عن حصول العلم التفصیلیّ بالحکم الفعلیّ (5) لأجل منع بعض مقدّماته الموجبه له ، ولو إجمالاً ،
ص :31
فتدبّر جیّداً .
إنّه قد عرفت (1) : کونَ القطع التفصیلیّ بالتکلیف الفعلیّ علّهً تامّهً لتنجُّزه ، لا یکاد تناله یدُ الجعل إثباتاً أو نفیاً ، فهل القطع الإجمالیّ کذلک ؟
فیه إشکال .
ربما یقال (2): إنّ التکلیف حیث لم ینکشف به تمام الانکشاف ، وکانت مرتبه الحکم الظاهریّ معه محفوظهً ، جاز الإذنُ من الشارع بمخالفته احتمالاً ، بل قطعاً .
ولیس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالاً ، إلّامحذورَ (3) مناقضه الحکم الظاهریّ مع الواقعیّ فی الشبهه غیر المحصوره ، بل الشبهه البدویّه (4)؛ ضروره عدم تفاوتٍ فی المناقضه بین التکلیف الواقعیّ والإذنِ بالاقتحام فی مخالفته بین الشبهات أصلاً (5) ، فما به التفصّی عن المحذور فیهما ، کان به التفصّی عنه فی القطع به فی الأطراف المحصوره أیضاً ، کما لا یخفی . وقد أشرنا إلیه سابقاً (6)
ص :32
ویأتی إن شاء اللّٰه مفصّلاً (1)(2) .
نعم ، کان العلم الإجمالیّ کالتفصیلیّ فی مجرّد الاقتضاء ، لا فی العلّیّه التامّه (3)* ، فیوجب تنجّز التکلیف أیضاً لو لم یمنع عنه مانع عقلاً ، کما کان فی أطراف کثیره غیر محصوره ، أو شرعاً ، کما فی ما أذن الشارع فی الاقتحام فیها ، کما هو ظاهر: «کلُّ شیءٍ فیه حلالٌ وحرامٌ فهو لک حلالٌ حتّی تعرف الحرام منه بعینه» (4) .
وبالجمله: قضیّه صحّه المؤاخذه علی مخالفته ، مع القطع به بین
ص :33
أطراف (1) محصوره ، وعدمِ صحّتها مع عدم حصرها ، أو مع الإذن فی الاقتحام فیها هو : کونُ القطع الإجمالیّ مقتضیاً للتنجّز ، لا علّهً تامّه .
وأمّا احتمال أ نّه بنحو الاقتضاء بالنسبه إلی لزوم الموافقه القطعیّه ، وبنحو العلّیّه بالنسبه إلی الموافقه الاحتمالیّه وترک المخالفه القطعیّه (2) ، فضعیفٌ جدّاً؛ ضروره أنّ احتمال ثبوت المتناقضین (3) کالقطع بثبوتهما (4) فی الاستحاله ، فلا یکون عدم (5) القطع بذلک معها (6) موجباً لجواز الإذن فی الاقتحام ، بل لو صحّ (7) الإذن فی المخالفه الاحتمالیّه ، صحّ فی القطعیّه أیضاً ، فافهم .
ولا یخفی: أنّ المناسب للمقام هو البحث عن ذلک (8) ، کما أنّ المناسب فی
ص :34
باب البراءه والاشتغال - بعد الفراغ هاهنا عن أنّ تأثیره فی التنجّز بنحو الاقتضاء لا العلّیه - هو البحث عن ثبوت المانع شرعاً أو عقلاً ، وعدمِ ثبوته (1) ، کما لا مجال - بعد البناء علی أ نّه بنحو العلّیّه - للبحث عنه هناک أصلاً ، کما لا یخفی .
هذا بالنسبه إلی إثبات التکلیف وتنجّزه به .
وأمّا سقوطه به بأن یوافقه إجمالاً: فلا إشکال فیه فی التوصّلیّات .
وأمّا فی العبادات (2): فکذلک فی ما لا یحتاج إلی التکرار ، کما إذا تردّد أمرُ عبادهٍ بین الأقلّ والأکثر؛ لعدم الإخلال بشیءٍ ممّا یعتبر أو یحتمل اعتباره فی حصول الغرض منها - ممّا لا یمکن أن یؤخذ فیها؛ فإنّه (3) نشأ من قِبَل الأمر بها ، کقصد الإطاعه والوجه والتمییز - فی ما إذا أتی بالأکثر ، ولا یکون إخلالٌ حینئذٍ إلّابعدم إتیان ما احتمل جزئیّته علی تقدیرها بقصدها ، واحتمالُ دخل قصدها فی حصول الغرض ضعیفٌ فی الغایه ، وسخیفٌ إلی النهایه .
ص :35
وأمّا فی ما احتاج إلی التکرار: فربما یشکل من جهه الإخلال بالوجه تارهً ، وبالتمییز (1) أُخری ، وکونِه لعباً وعبثاً ثالثهً .
وأنت خبیرٌ بعدم الإخلال بالوجه بوجهٍ فی الإتیان مثلاً بالصلاتین المشتملتین علی الواجب لوجوبه ، غایه الأمر أ نّه لا تعیین له ولا تمیّز (2) ، فالإخلال إنّما یکون به .
واحتمال اعتباره أیضاً فی غایه الضعف؛ لعدم عینٍ منه ولا أثرٍ فی الأخبار ، مع أ نّه ممّا یُغفل عنه غالباً ، وفی مثله لابدّ من التنبیه علی اعتباره ودخله فی الغرض ، وإلّا لأخلّ بالغرض ، کما نبّهنا علیه سابقاً (3) .
وأمّا کون التکرار لعباً وعبثاً: - فمع أ نّه ربّما یکون لداعٍ عقلائیّ (4) - ، إنّما یضرّ إذا کان لعباً بأمرِ المولی ، لا فی کیفیّه إطاعته بعد حصول الداعی إلیها ، کما لا یخفی .
هذا کلّه فی قبال ما إذا تمکّن من القطع تفصیلاً بالامتثال .
وأمّا إذا لم یتمکّن إلّامن الظنّ به کذلک: فلا إشکال فی تقدیمه علی الامتثال الظنّیّ ، لو لم یقم دلیل علی أعتباره إلّافی ما إذا لم یتمکّن منه .
ص :36
وأمّا لو قام علی اعتباره مطلقاً ، فلا إشکال فی الاجتزاء بالظنّیّ .
کما لا إشکال فی الإجتزاء بالامتثال الإجمالیّ فی قبال الظنّیّ ، بالظنّ المطلق المعتبر بدلیل الانسداد ، بناءً علی أن یکون من مقدّماته عدم وجوب الاحتیاط .
وأمّا لوکان من مقدّماته بطلانه - لاستلزامه العسر المخلّ بالنظام ، أو لأنّه لیس من وجوه الطاعه والعباده ، بل هو نحو لعبٍ وعبثٍ بأمر المولی فی ما إذا کان بالتکرار ، کما توهّم (1) - فالمتعیّن هو التنزّل عن القطع تفصیلاً إلی الظنّ کذلک ، وعلیه فلا مناص عن الذهاب إلی بطلان عباده تارک طریقی التقلید والاجتهاد وإن احتاط فیها ، کما لا یخفی .
هذا بعض الکلام فی القطع ممّا یناسب المقام ، ویأتی بعضه الآخر فی مبحث البراءه والاشتغال .
ص :37
فیقع المقال فی ما هو المهمّ من عقد هذا المقصد ، وهو بیان ما قیل باعتباره من الأمارات ، أو صحّ أن یقال .
وقبل الخوض فی ذلک ینبغی تقدیم أُمور:
أحدها: أ نّه لا ریب فی أنّ الأماره غیر العلمیّه لیست کالقطع ، فی کون الحجّیّه من لوازمها ومقتضیاتها بنحو العلّیّه ، بل مطلقاً ، وأنّ ثبوتها لها محتاجٌ إلی جعلٍ ، أو ثبوتِ مقدّمات وطروء حالاتٍ موجبه لاقتضائها (1) الحجّیّهَ عقلاً - بناءً علی تقریر مقدّمات الانسداد بنحو الحکومه - ؛ وذلک لوضوح عدم اقتضاء غیر القطع للحجّیّه بدون ذلک ثبوتاً - بلاخلاف - ولا سقوطاً ، وإن کان ربما یظهر فیه من بعض المحقّقین (2) الخلافُ ، والاکتفاءُ بالظنّ بالفراغ ، ولعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل ، فتأمّل .
ص :38
ثانیها: فی بیان إمکان التعبّد بالأماره غیرِ العلمیّه شرعاً ، وعدمِ لزوم محالٍ منه عقلاً ، فی قبال دعوی استحالته للزومه .
ولیس الإمکان - بهذا المعنی ، بل مطلقاً - أصلاً متّبعاً (1) عند العقلاء فی مقام احتمال ما یقابله من الامتناع (2)؛ لمنع کونه سیرتهم علی ترتیب آثار الإمکان عند الشکّ فیه ، ومنعِ حجّیّتها - لو سلّم ثبوتها - ؛ لعدم قیام دلیلٍ قطعیّ علی اعتبارها ، والظنّ به - لو کان - فالکلام الآن فی إمکان التعبّد بها (3) وامتناعه ، فما ظنّک به ؟
لکن دلیلَ وقوع التعبّد بها من طرق إثبات إمکانه؛ حیث یستکشف به عدم ترتّب محالٍ - من تالٍ باطل ، فیمتنع (4) مطلقاً ، أو علی الحکیم تعالی - ، فلا حاجه معه - فی دعوی الوقوع - إلی إثبات (5) الإمکان ، وبدونه لا فائده فی إثباته ، کما هو واضح .
وقد انقدح بذلک : ما فی دعوی شیخنا العلّامه - أعلی اللّٰه مقامه - من کون الإمکان عند العقلاء - مع احتمال الامتناع - أصلاً .
والإمکانُ فی کلام الشیخ الرئیس: «کلُّ ما قرع سمعک من الغرائب فَذَره
ص :39
فی بقعه الإمکان ما لم یذُدک عنه واضح البرهان» (1) ، بمعنی الاحتمال المقابل للقطع والإیقان ، ومن الواضح أن لا موطن له إلّاالوجدان ، فهو المرجع فیه بلا بیّنه وبرهان .
وکیف کان ، فما قیل أو یمکن أن یقال فی بیان ما یلزم التعبّد بغیر العلم - من المحال ، أو الباطل ولو لم یکن بمحال - أُمور:
أحدها: اجتماع المثلین - من إیجابین ، أو تحریمین مثلاً - فی ما أصاب ، أو ضدّین - من إیجاب وتحریم ، ومن إراده وکراهه ، ومصلحه ومفسده ملزمتین ، بلا کسر وانکسار فی البین - فی ما أخطأ ، أو التصویب وأن لا یکون هناک غیر مؤدّیات الأمارات (2) أحکامٌ .
ثانیها: طلب الضدّین فی ما إذا أخطأ ، وأدّی إلی وجوب ضدّ الواجب .
ثالثها: تفویت المصلحه ، أو الإلقاءُ فی المفسده ، فی ما أدّی إلی عدم وجوب ما هو واجب ، أو عدمِ حرمه ما هو حرام ، وکونِه محکوماً بسائر الأحکام .
والجواب: أنّ ما ادّعی لزومُه إمّا غیرُ لازم ، أو غیر باطل :
الوجه الأول وذلک لأنّ التعبّد بطریقٍ غیر علمیّ إنّما هو بجعل حجّیّته ، والحجّیّهُ المجعوله غیر مستتبعه لإنشاء أحکام تکلیفیّه بحسب ما أدّی إلیه الطریق ، بل إنّما تکون موجبهً لتنجُّزِ التکلیف به إذا أصاب ، وصحّهِ الاعتذار به إذا أخطأ ، ولکون مخالفته وموافقته تجرّیاً وانقیاداً مع عدم إصابته ، کما هو شأن
ص :40
الحجّه غیرِ المجعوله ، فلا یلزم اجتماع حکمین - مثلین أو ضدّین - ، ولا طلب الضدّین ، ولا اجتماع المفسده والمصلحه ، ولا الکراهه والإراده ، کما لا یخفی .
وأمّا تفویت مصلحه الواقع ، أو الإلقاء فی مفسدته ، فلا محذور فیه أصلاً إذا کانت فی التعبّد به مصلحه غالبهٌ علی مفسده التفویت أو الإلقاء .
الوجه الثانی نعم ، لو قیل باستتباع جعل الحجّیّه للأحکام التکلیفیّه (1) ، أو بأ نّه لا معنی لجعلها إلّاجعل تلک الأحکام (2) ، فاجتماع حکمین وإن کان یلزم ، إلّاأ نّهما لیسا بمثلین أو ضدّین :
لأنّ أحدهما طریقیٌّ عن مصلحهٍ فی نفسه ، موجبهٍ لإنشائه الموجبِ للتنجّز ، أو لصحّه الاعتذار بمجرّده (3) من دون إراده نفسانیّه أو کراهه کذلک ، متعلّقهٍ بمتعلّقه فی ما یمکن هناک انقداحهما ؛ حیث إنّه مع المصلحه أو المفسده الملزمتین فی فعلٍ ، وإن لم یحدث بسببها إراده أو کراهه فی المبدأ الأعلی ، إلّا أ نّه إذا أوحی بالحکم - الناشئ (4) من قِبَل تلک المصلحه أو المفسده - إلی النبیّ ، أو أُلهم به الولیّ ، فلا محاله ینقدح فی نفسه الشریفه - بسببهما (5) -
ص :41
الإرادهُ أو الکراهه ، الموجبهُ للإنشاء بعثاً أو زجراً ، بخلاف ما لیس هناک مصلحهٌ أو مفسده فی المتعلّق ، بل إنّما کانت فی نفس إنشاء الأمر به (1) طریقیّاً .
والآخر واقعیٌّ حقیقیٌّ عن مصلحه أو مفسده فی متعلّقه ، موجبهٍ لإرادته أو کراهته ، الموجبه لإنشائه بعثاً أو زجراً فی بعض المبادئ العالیه ، وإن لم یکن فی المبدأ الأعلی إلّاالعلم بالمصلحه أو المفسده - کما أشرنا - . فلا یلزم أیضاً اجتماع إراده وکراهه ، وإنّما لزم إنشاء حکم واقعیّ حقیقیّ - بعثاً أو زجراً - وإنشاء حکم آخر طریقیّ ، ولا مضادّه بین الإنشائین فی ما إذا اختلفا، ولا یکون من اجتماع المثلین (2) فی ما اتّفقا ، ولا إراده ولا کراهه أصلاً إلّابالنسبه إلی متعلّق الحکم الواقعیّ ، فافهم .
نعم ، یشکل الأمر فی بعض الأُصول العملیّه ، کأصاله الإباحه الشرعیّه؛ فإنّ الإذن فی الإقدام والاقتحام ینافی المنعَ فعلاً ، کما فی ما صادف الحرام ، وإن کان الإذنُ فیه لأجل عدم مصلحه فیه ، لا لأجل عدم مصلحه أو مفسده (3) ملزمه فی المأذون فیه .
الوجه الثالث فلا محیص فی مثله إلّاعن (4) الالتزام بعدم انقداح الإراده أو الکراهه فی
ص :42
بعض المبادئ العالیه أیضاً ، کما فی المبدأ الأعلی .
لکنّه لا یوجب الالتزام بعدم کون التکلیف الواقعیّ بفعلیّ ، بمعنیٰ کونه علی صفهٍ ونحوٍ لو عَلم به المکلّف لتنجَّزَ علیه ، کسائر التکالیف الفعلیّه الّتی تتنجّز بسبب القطع بها . وکونُه فعلیّاً إنّما یوجب البعث أو الزجر فی النفس النبویّه أو الولویّه ، فی ما إذا لم ینقدح فیها الإذن لأجل مصلحه فیه .
فانقدح بما ذکرنا: أ نّه لا یلزم الالتزام بعدم کون الحکم الواقعیّ فی مورد الأُصول والأمارات فعلیّاً (1)، کی یشکل:
تارهً : بعدم لزوم الإتیان حینئذٍ بماقامت الأماره علی وجوبه؛ ضروره عدم لزوم امتثال الأحکام الإنشائیّه ، ما لم تَصِر فعلیّهً ولم تبلغ مرتبه البعث والزجر ، ولزوم الإتیان به ممّا لا یحتاج إلی مزید بیان أو إقامه برهان .
لا یقال: لا مجال لهذا الإشکال ، لوقیل بأ نّها کانت قبل أداء الأماره إلیها إنشائیّهً؛ لأنّها بذلک تصیر فعلیّهً تبلغ تلک المرتبه .
فإنّه یقال: لا یکاد یُحرز بسبب قیام الأماره المعتبره علی حکم إنشائیّ - لا حقیقهً ولا تعبّداً - إلّاحکمٌ إنشائیّ تعبّداً، لا حکمٌ إنشائیّ أدّت إلیه الأماره :
أمّا حقیقهً ، فواضح . وأمّا تعبّداً ، فلأنّ قصاری ما هو قضیّه حجیّه الأماره :
کون مؤدّاها (2) هو الواقع تعبّداً ، لا الواقع الّذی أدّت إلیه الأماره ، فافهم .
اللهمّ إلّاأن یقال: إنّ الدلیل علی تنزیل المؤدّیٰ منزله الواقع - الّذی صار مؤدّیً لها - ، هو دلیل الحجّیّه بدلاله الاقتضاء ، لکنّه لا یکاد یتمّ إلّاإذا لم یکن للأحکام بمرتبتها الإنشائیّه أثرٌ أصلاً، وإلّا لم یکن لتلک الدلاله مجالٌ ، کما لا یخفی .
ص :43
وأُخری : بأ نّه کیف یکون التوفیق بذلک ؟ مع احتمال أحکامٍ فعلیّه - بعثیّه أو زجریّه - فی موارد الطرق والأُصول العملیّه المتکفّله لأحکام فعلیّه؛ ضروره أ نّه کما لا یمکن القطع بثبوت المتنافیین ، کذلک لا یمکن احتماله .
فلا یصحّ التوفیق بین الحکمین بالتزام کون الحکم الواقعیّ - الّذی یکون فی مورد الطرق والأُصول العملیّه - إنشائیّاً (1) غیرَ فعلیّ .
کما لا یصحّ بأنّ الحکمین لیسا فی مرتبه واحده ، بل فی مرتبتین؛ ضروره تأخّر الحکم الظاهریّ عن الواقعیّ بمرتبتین (2) ، وذلک لا یکاد یُجدی؛ فإنّ الظاهریّ وإن لم یکن فی تمام مراتب الواقعیّ ، إلّاأ نّه یکون فی مرتبته أیضاً ، وعلی تقدیر المنافاه لزم اجتماع المتنافیین فی هذه المرتبه .
فتأمّل فی ما ذکرنا من التحقیق فی التوفیق ، فإنّه دقیق وبالتأمّل حقیق .
ثالثها: أنّ الأصل فی ما لا یُعلم اعتباره بالخصوص شرعاً ، ولا یُحرز التعبّد به واقعاً ، عدَمُ حجّیّته جزماً ، بمعنی عدم ترتّب الآثار المرغوبه من الحجّه علیه قطعاً؛ فإنّها لا تکاد تترتّب إلّاعلی ما اتّصف بالحجّیّه فعلاً ، ولا یکاد یکون الاتّصاف بها إلّاإذا أُحرز التعبّدُ به وجعلُه طریقاً متّبعاً؛ ضروره أ نّه بدونه لا یصحّ المؤاخذه علی مخالفه التکلیف بمجرّد إصابته ، ولا یکون عذراً لدی مخالفته مع عدمها ، ولا یکون مخالفته تجرّیاً ، ولا یکون
ص :44
موافقته - بما هی موافقه (1) - انقیاداً ، وإن کانت بما هی محتملهٌ لموافقه الواقع کذلک ، إذا وقعت برجاء إصابته . فمع الشکّ فی التعبّد به یُقطع بعدم حجّیّته ، وعدم ترتیب شیءٍ من الآثار علیه؛ للقطع بانتفاء الموضوع معه . ولعمری هذا واضحٌ لا یحتاج (2) إلی مزید بیان أو إقامه برهان .
وأمّا صحّه الالتزام (3) بما أدّی إلیه من الأحکام ، وصحّهُ نسبته إلیه - تعالی - فلیستا (4) من آثارها؛ ضروره أنّ حجّیّه الظنّ عقلاً (5) - علی تقریر الحکومه فی حال الانسداد - لا توجب صحّتهما ، فلو فرض صحّتهما شرعاً - مع الشکّ فی التعبّد به - لما کان یُجدی فی الحجّیّه شیئاً ، ما لم یترتّب علیه ما ذکر من آثارها ، ومعه لما کان یضرّ عدم صحّتهما أصلاً ، کما أشرنا إلیه آنفاً .
فبیان عدم صحّه الالتزام مع الشکّ فی التعبّد ، وعدم جواز إسناده إلیه - تعالی - غیر مرتبط بالمقام ، فلا یکون الاستدلال علیه بمهمّ ، کما أتعب به شیخنا العلّامه - أعلی اللّٰه مقامه - نفسه الزکیّه بما أطنب من النقض والإبرام ، فراجعه (6) بما علّقناه علیه (7) ، وتأمّل .
ص :45
وقد انقدح بما ذکرنا: أنّ الصواب - فی ما هو المهمّ فی الباب - : ما ذکرنا فی تقریر الأصل ، فتدّبر جیّداً .
إذا عرفت ذلک ، فما خرج موضوعاً عن تحت هذا الأصل أو قیل بخروجه ، یذکر فی ذیل فصول:
ص :46
لا شبهه فی لزوم اتّباع ظاهر کلام الشارع فی تعیین مراده فی الجمله؛ لاستقرار طریقه العقلاء علی اتّباع الظهورات فی تعیین المرادات ، مع القطع بعدم الردع عنها؛ لوضوح عدم اختراع طریقه أُخری فی مقام الإفاده لمرامه من کلامه ، کما هو واضح .
والظاهر : أنّ سیرتهم علی اتّباعها من غیر تقیید بإفادتها للظنّ فعلاً ، ولا بعدم الظنّ کذلک علی خلافها قطعاً (1)؛ ضروره أ نّه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها : بعدم إفادتها للظنّ بالوفاق ، ولا بوجود الظنّ بالخلاف .
کما أنّ الظاهر : عدم اختصاص ذلک بمن قُصد إفهامه (2) ، ولذا لا یسمع اعتذار من لا یقصد إفهامه ، إذا خالف ما تضمّنه ظاهر کلام المولی ، من تکلیفٍ یعمّه أو یخصّه ، ویصحّ به الاحتجاج لدی المخاصمه واللجاج ، کما تشهد به صحّه الشهاده بالإقرار من کلّ مَن سمعه ، ولو قصد عدم إفهامه ، فضلاً عمّا إذا لم یکن بصدد إفهامه .
ص :47
ولا فرق فی ذلک بین الکتاب المبین ، وأحادیث سیّد المرسلین ، والأئمّه الطاهرین علیهم السلام . وإن ذهب بعض الأصحاب (1) إلی عدم حجّیّه ظاهر الکتاب :
إمّا بدعوی : اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به ، کما یشهد به ما ورد فی ردع أبی حنیفه (2) وقتاده (3) عن الفتویٰ به .
أو بدعوی : أ نّه لأجل إحتوائه علی مضامین شامخه ، ومطالب غامضه عالیه ، لا یکاد تصل إلیها أیدی أفکار اولی الأنظار غیر الراسخین العالمین بتأویله ، کیف ؟ ولا یکاد یصل إلی فهم کلمات الأوائل إلّاالأوحدیُّ من الأفاضل ، فما ظنّک بکلامه - تعالی - مع اشتماله علی علم ما کان وما یکون ، وحکم کلّ شیء ؟
أو بدعوی : شمول المتشابه - الممنوع عن اتّباعه - للظاهر ، لا أقلّ من احتمال شموله له؛ لتشابه المتشابه وإجماله .
أو بدعوی : أ نّه وإن لم یکن منه ذاتاً ، إلّاأ نّه صار منه عرضاً؛ للعلم الإجمالیّ بطروّ التخصیص والتقیید والتجوّز فی غیر واحد من ظواهره ، کما هو الظاهر (4) .
ص :48
أو بدعوی : شمول الأخبار الناهیه عن تفسیر القرآن بالرأی (1) لحمل الکلام الظاهر فی معنی ، علی إراده هذا المعنیٰ .
ولا یخفی: أنّ النزاع یختلف صغرویّاً وکبرویّاً بحسب الوجوه ، فبحسب غیر الوجه الأخیر والثالث یکون صغرویّاً . وأمّا بحسبهما فالظاهر أ نّه کبرویّ ، ویکون المنع عن الظاهر : إمّا لأنّه من المتشابه - قطعاً أو احتمالاً - ، أو لکون حمل الظاهر علی ظاهره من التفسیر بالرأی .
وکلّ هذه الدعاوی فاسده:
أمّا الأُولی: فبأنّ (2) المراد ممّا دلّ علی اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله : اختصاصُ فَهْمِه بتمامه - بمتشابهاته ومحکماته - ؛ بداهه أنّ فیه ما لا یختصّ به ، کما لا یخفی .
ورَدْعُ أبی حنیفه وقتاده عن الفتویٰ به ، إنّما هو لأجل الاستقلال فی الفتوی ، بالرجوع إلیه من دون مراجعه أهله ، لا عن الاستدلال (3) بظاهره مطلقاً ، ولو مع الرجوع (4) إلی روایاتهم ، والفحصِ عمّا ینافیه ، والفتوی به مع الیأس عن الظفر به ، کیف (5) ؟ وقد وقع فی غیر واحد من الروایات الإرجاعُ
ص :49
إلی الکتاب ، والاستدلالُ بغیر واحد من الآیات (1) .
وأمّا الثانیه: فلأنّ احتواءه علی المضامین العالیه الغامضه ، لا یمنع عن فهم ظواهره - المتضمّنه للأحکام - وحجّیّتها ، کما هو محلّ الکلام .
وأمّا الثالثه: فللمنع عن کون الظاهر من المتشابه؛ فإنّ الظاهر أنّ (2) المتشابه هو خصوص المجمل ، ولیس بمتشابهٍ ومجمل .
وأمّا الرابعه: فلأنّ العلم إجمالاً بطروء إراده خلاف الظاهر ، إنّما یوجب الإجمال فی ما إذا لم ینحلّ بالظفر - فی الروایات - بموارد إراده خلاف الظاهر ، بمقدار المعلوم بالإجمال .
مع (3) أنّ دعوی اختصاص أطرافه بما إذا تفحّص عمّا یخالفه لظفر به ، غیر بعیده ، فتأمّل جیّداً .
وأمّا الخامسه: فبمنع (4) کون حمل الظاهر علی ظاهره من التفسیر؛ فإنّه کشف القناع ، ولا قناعَ للظاهر .
ولو سلّم ، فلیس من التفسیر بالرأی؛ إذ الظاهر أنّ المراد بالرأی هو :
الاعتبار الظنّیّ الّذی لا اعتبار به ، وإنّما کان منه حملُ اللفظ علی خلاف ظاهره ، لرجحانه بنظره ، أو حملِ المجمل علی محتمله ، بمجرّد مساعده ذاک الاعتبار علیه ، من دون (5) السؤال عن الأوصیاء . وفی بعض الأخبار: «إنّما
ص :50
هلک الناس فی المتشابه؛ لأنّهم لم یقفوا علی معناه ، ولم یعرفوا حقیقته ، فوضعوا له تأویلاً من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلک عن مسأله الأوصیاء فیعرّفونهم» (1) ، هذا .
مع أ نّه لا محیص عن حمل هذه الروایات الناهیه عن التفسیر به علی ذلک ، ولو سلّم شمولها لحمل اللفظ علی ظاهره؛ ضروره أ نّه قضیّه التوفیق بینها وبین ما دلّ علی جواز التمسّک بالقرآن ، - مثل خبر الثقلین (2) - ، وما دلّ علی التمسّک به والعمل بما فیه (3) ، وعرضِ الأخبار المتعارضه علیه (4) ، وردِّ الشروط المخالفه له (5) ، وغیر ذلک (6)(7) ممّا لا محیصَ عن إراده الإرجاع إلی ظواهره ، لا خصوص نصوصه؛ ضروره أنّ الآیات الّتی یمکن أن تکون
ص :51
مرجعاً فی باب تعارض الروایات أو الشروط ، أو یمکن أن یتمسّک بها ویعمل بما فیها ، لیست إلّاظاهرهً فی معانیها ، و (1)لیس فیها ما کان نصّاً ، کما لا یخفی .
ودعوی العلم الإجمالیّ بوقوع التحریف فیه بنحوٍ : إمّا بإسقاط ، أو تصحیف وإن کانت غیرَ بعیده ، - کما یشهد به بعض الأخبار (2) ، ویساعده الاعتبار (3) - ، إلّاأ نّه لایمنع عن حجّیّه ظواهره ؛ لعدم العلم بوقوع خلل فیها بذلک أصلاً .
ولو سلّم فلا علمَ بوقوعه فی آیات الأحکام (4) .
ص :52
والعلم بوقوعه فیها أو فی غیرها من الآیات ، غیر ضائر بحجّیّه آیاتها؛ لعدم حجّیّه ظاهر سائر الآیات . والعلم الإجمالیّ بوقوع الخلل فی الظواهر إنّما یمنع عن حجّیّتها إذا کانت کلُّها حجّهً ، وإلّا لا یکاد ینفکّ ظاهرٌ عن ذلک ، کما لا یخفی ، فافهم .
نعم لو کان الخلل المحتمل فیه ، أو فی غیره بما اتّصل به ، لأخلّ بحجّیّته؛ لعدم انعقاد ظهور له حینئذٍ ، وإن انعقد له الظهور لولا اتّصاله .
ثمّ إنّ التحقیق : أنّ الاختلاف فی القراءه بما یوجب الاختلاف فی الظهور - مثل «یطهرن» (1) بالتشدید والتخفیف - یوجب الإخلال بجواز التمسّک والاستدلال؛ لعدم إحراز ما هو القرآن .
ولم یثبت تواترُ القراءات ، ولا جوازُ الاستدلال بها ، وإن نُسب إلی المشهور تواترها (2) ، لکنّه ممّا لا أصل له ، وإنّما الثابت جواز القراءه بها ، ولا ملازمه بینهما ، کما لا یخفی .
ولو فرض جواز الاستدلال بها ، فلا وجه (3) لملاحظه الترجیح بینها ، بعد
ص :53
کون الأصل فی تعارض الأمارات ، هو سقوطها عن الحجّیّه فی خصوص المؤدّیٰ ، بناءً علی اعتبارها من باب الطریقیّه ، والتخییرُ بینها بناءً علی السببیّه ، مع عدم دلیلٍ علی الترجیح فی غیر الروایات من سائر الأمارات ، فلابدّ من الرجوع حینئذٍ إلی الأصل أو العموم ، حَسَب اختلاف المقامات .
قد عرفت حجّیّه ظهور الکلام فی تعیین المرام : فإن أُحرز بالقطع ، وأنّ المفهوم منه جزماً - بحسب متفاهم أهل العرف - هو ذا ، فلا کلام .
وإن کان لأجل الشکّ فی ما هو الموضوع له لغهً ، أو المفهوم منه عرفاً ، فالأصلُ یقتضی عدم حجّیّه الظنّ فیه؛ فإنّه ظنٌّ فی أ نّه ظاهر ، ولا دلیل إلّا علی حجّیّه الظواهر (1) .
نعم ، نسب إلی المشهور (2) حجّیّه قول اللغویّ - بالخصوص - فی تعیین الأوضاع .
الدلیل الأول :الاتفاق والإجماع واستدلّ لهم (3) باتّفاق العلماء - بل العقلاء - علی ذلک ، حیث لا یزالون یستشهدون بقوله فی مقام الاحتجاج ، بلا إنکارٍ من أحد ، ولو مع المخاصمه واللجاج .
وعن بعضٍ (4) دعوی الإجماع علی ذلک .
وفیه: أنّ الاتّفاق - لو (5) سلّم اتّفاقه - فغیر مفید .
ص :55
مع أنّ المتیقّن منه هو الرجوع إلیه مع اجتماع شرائط الشهاده من العدد والعداله (1) .
والإجماع المحصَّل غیر حاصل ، والمنقول منه غیر مقبول ، خصوصاً فی مثل المسأله ، ممّا احتمل قریباً (2) أن یکون وجه ذهاب الجلّ - لولا الکلّ - هو اعتقاد أ نّه ممّا اتّفق علیه العقلاء ، من الرجوع إلی أهل الخبره من کلّ صنعه فی ما اختصّ بها .
والمتیقّن من ذلک إنّما هو فی ما إذا کان الرجوع یوجب الوثوق والاطمئنان ، ولا یکاد یحصل من قول اللغویّ وثوقٌ بالأوضاع ، بل لا یکون اللغویّ من أهل خبره ذلک (3)(4) ، بل إنّما هو من أهل خبره موارد الاستعمال؛ بداهه أنّ همّه : ضبط موارده ، لا تعیین أنّ أیّاً منها کان اللفظ فیه حقیقهً أو مجازاً ، وإلّا لوضعوا لذلک علامهً . ولیس ذکره أوّلاً علامهَ کونِ اللفظ حقیقهً فیه؛ للانتقاض بالمشترک .
الدلیل الثانی :انسداد باب العلم بتفاصیل المعانی موجب لحجّیه قول اللغوی وکونُ موارد الحاجه إلی قول اللغویّ أکثر من أن یحصیٰ - لانسداد باب العلم بتفاصیل المعانی غالباً (5) ، بحیث یُعلم بدخول الفرد المشکوک أو خروجه ، وإن کان المعنیٰ معلوماً فی الجمله - لا یوجبُ اعتبار قوله مادام انفتاح باب العلم بالأحکام ، کما لا یخفی .
ومع الانسداد کان قوله معتبراً - إذا أفاد الظنّ - من باب حجّیّه مطلق الظنّ ، وإن فُرض انفتاح باب العلم باللّغات بتفاصیلها فی ما عدا المورد .
نعم ، لو کان هناک دلیل علی اعتباره ، لا یبعد أن یکون انسداد باب العلم بتفاصیل اللّغات موجباً له علی نحو الحکمه ، لا العلّه .
ص :56
لا یقال: علی هذا لا فائده فی الرجوع إلی اللغه .
فإنّه یقال: مع هذا لا یکاد تخفی الفائده فی المراجعه إلیها؛ فإنّه ربما یوجب القطع بالمعنیٰ ، وربما یوجب القطع بأنّ اللفظ فی المورد ظاهرٌ فی معنیً - بعد الظفر به وبغیره فی اللغه - وإن لم یقطع (1) بأ نّه حقیقه فیه أو مجاز ، کما اتّفق کثیراً ، وهو یکفی فی الفتویٰ .
ص :57
الإجماع المنقول بخبر الواحد (1) حجّهٌ عند کثیر ممّن قال باعتبار الخبر بالخصوص ، من جهه أ نّه من أفراده ، من دون أن یکون علیه دلیلٌ بالخصوص ، فلابدّ فی اعتباره من شمول أدلّه اعتباره له ، بعمومها أو إطلاقها .
وتحقیق القول فیه یستدعی رسم أُمور:
الأوّل: أنّ وجه اعتبار الإجماع هو : القطع برأی الإمام علیه السلام .
ومستند القطع به لحاکیه - علی مایظهر من کلماتهم - هو :
علمُه بدخوله علیه السلام فی المجمعین شخصاً ، ولم یُعرف عیناً .
أو قطعُه باستلزام ما یحکیه لرأیه علیه السلام عقلاً من باب اللطف (2) ، أو عادهً ، أو اتّفاقاً من جهه حدس رأیه علیه السلام (3)، وإن لم تکن ملازمه بینهما (4) عقلاً
ص :58
ولا عادهً ، کما هو طریقه المتأخّرین فی دعوی الإجماع ، حیث إنّهم مع عدم الاعتقاد بالملازمه العقلیّه ، ولا الملازمه العادیّه غالباً ، وعدمِ العلم بدخول جنابه علیه السلام فی المجمعین عادهً ، یحکون الإجماع کثیراً .
کما أ نّه یظهر ممّن اعتذر عن وجود المخالف بأ نّه معلوم النسب ، أ نّه استند فی دعوی الإجماع إلی العلم بدخوله علیه السلام ، وممّن اعتذر عنه بانقراض عصره ، أ نّه استند إلی قاعده اللطف ، هذا . مضافاً إلی تصریحاتهم بذلک ، علی ما یشهد به مراجعه کلماتهم .
وربما یتّفق لبعض الأوحدیّ (1) وجه آخر ، من تشرُّفِهِ برؤیته علیه السلام وأخذه الفتویٰ من جنابه علیه السلام ، وإنّما لم ینقل عنه بل یحکی الإجماع لبعض دواعی الإخفاء .
الأمر الثانی: أ نّه لا یخفی اختلاف نقل الإجماع :
فتارهً : ینقل رأیه علیه السلام فی ضمن نقله حدساً - کما هو الغالب - أو حسّاً - وهو نادر جدّاً - .
وأُخری : لا ینقل إلّاما هو السبب عند ناقله ، عقلاً أو عادهً أو اتّفاقاً .
واختلاف ألفاظ النقل أیضاً ، صراحهً وظهوراً وإجمالاً فی ذلک ، أی: فی أ نّه نقل السبب ، أو نقل السبب والمسبّب .
1 - أن یکون النقل متضمّناً لنقل السبب والمسبّب عن حسّ الأمر الثالث: أ نّه لا إشکال فی حجّیّه الإجماع المنقول بأدلّه حجّیّه الخبر ، إذا کان نقله متضمّناً لنقل السبب والمسبّب عن حسٍّ ، لو لم نقل بأنّ نقله کذلک فی زمان الغیبه موهون جدّاً .
ص :59
2 - أن یکون نقل الإجماع سبباً حسّیاً فی نظر الناقل والمنقول إلیه وکذا إذا لم یکن متضمّناً له ، بل کان ممحّضاً لنقل السبب عن حسّ ، إلّا أ نّه کان سبباً بنظر المنقول إلیه أیضاً - عقلاً أو عادهً أو اتّفاقاً - ، فیعامل حینئذٍ مع المنقول معامله المحصَّل ، فی الالتزام بمسبَّبه ، بأحکامه وآثاره .
3 - أن یکون نقل الإجماع سبباً حسّیاً بنظر الناقل فقط وأمّا إذا کان نقله للمسبَّب لا عن حسّ (1) ، بل بملازمهٍ ثابته عند الناقل بوجهٍ ، دون المنقول إلیه ، ففیه إشکالٌ ، أظهرُه عدم نهوض تلک الأدلّه علی حجّیّته؛ إذ المتیقّن من بناء العقلاء غیر ذلک ، کما أنّ المنصرف من الآیات والروایات - علی تقدیر دلالتهما - ذلک (2) ، خصوصاً فی ما إذا رأی المنقول إلیه خطأَ الناقل فی اعتقاد الملازمه . هذا فی ما انکشف الحال .
4 - إذا اشتبه أنّ نقل المسبّب عن حسّ أو حدس وأمّا فی ما اشتبه ، فلا یبعد أن یقال بالاعتبار؛ فإنّ عمده أدلّه حجّیّه الأخبار هو بناء العقلاء ، وهم کما یعملون بخبر الثقه إذا عُلم أ نّه عن حسّ ، یعملون به فی ما یحتمل کونه عن حدس؛ حیث إنّه لیس بناؤهم - إذا أُخبروا بشیءٍ - علی التوقّف والتفتیش عن أ نّه عن حدس أو حسّ ، بل علی العمل علی طبقه (3) ، والجری علیٰ وفقه بدون ذلک .
نعم ، لا یبعد أن یکون بناؤهم علی ذلک ، فی ما لا یکون هناک أماره علی الحدس ، أو اعتقاد الملازمه فی ما لا یرون هناک ملازمهً ، هذا .
ص :60
لکنّ الإجماعات المنقوله فی ألسنه الأصحاب - غالباً - مبنیّهٌ علی حدس الناقل ، أو اعتقادِ الملازمه عقلاً ، فلا اعتبار لها ما لم ینکشف أنّ نقل السبب (1) کان مستنداً إلی الحسّ .
فلابدّ فی الإجماعات المنقوله - بألفاظها المختلفه - من استظهار مقدار دلاله ألفاظها ، ولو بملاحظه حال الناقل ، وخصوصِ موضع النقل ، فیؤخذ بذاک المقدار ویعامل معه کأ نّه المحصَّل ، فإن کان بمقدار تمام السبب ، وإلّا فلا یُجدی ما لم یضمّ إلیه - ممّا حصّله ، أو نُقِل له من سائر الأقوال ، أو سائر الأمارات - ما به تمّ ، فافهم .
فتلخّص بما ذکرنا: أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد ، من جهه حکایته رأیَ الإمام علیه السلام - بالتضمّن أو الالتزام - کخبر الواحد فی الاعتبار - إذا کان مَن نُقل إلیه ممّن یری الملازمه بین رأیه علیه السلام وما نقله (2) من الأقوال ، بنحو الجمله والإجمال - وتعمّه (3) أدلّه اعتباره ، وینقسم بأقسامه ، ویشارکه فی أحکامه ، وإلّا لم یکن مثله فی الاعتبار من جهه الحکایه .
وأمّا (4) من جهه نقل السبب: فهو - فی الاعتبار - بالنسبه إلی مقدارٍ من الأقوال الّتی نقلت إلیه علی الإجمال بألفاظ نقلِ الإجماع ، مثل ما إذا نقلت علی التفصیل ، فلو ضُمّ إلیه - ممّا حصّله ، أو نُقِل له من أقوال السائرین ،
ص :61
أو سائر الأمارات - مقدارٌ کان المجموع منه وما نُقل - بلفظ الإجماع - بمقدار السبب التامّ ، کان المجموع کالمحصّل ، ویکون حاله کما إذا کان کلّه منقولاً .
ولا تفاوت فی اعتبار الخبر بین ما إذا کان المخبَر به تمامَه ، أو ما له دخل فیه ، وبه قوامه ، کما یشهد به حجّیّته بلا ریب فی تعیین حال السائل ، وخصوصیّهِ القضیّه الواقعه المسؤول عنها ، وغیر ذلک ممّا له دخل فی تعیین مرامه علیه السلام من کلامه .
وینبغی التنبیه علی أُمور:
الأوّل: أ نّه قد مرّ (1) : أنّ مبنیٰ دعوی الإجماع - غالباً - هو : اعتقاد الملازمه عقلاً ؛ - لقاعده اللطف - ، وهی باطله ، أو اتّفاقاً ؛ - بحدس رأیه علیه السلام من فتوی جماعه - ، وهی غالباً غیر مسلّمه .
وأمّا کون المبنی : العلمَ بدخول الإمام علیه السلام بشخصه فی الجماعه ، أو العلمَ برأیه ؛ - للاطّلاع بما یلازمه عادهً من الفتاوی - ، فقلیلٌ جدّاً فی الإجماعات المتداوله فی ألسنه الأصحاب ، کما لا یخفی .
بل لا یکاد یتّفق العلم بدخوله علیه السلام علی نحو الإجمال فی الجماعه فی زمان الغیبه ، وإن احتمل تشرُّفُ الأوحدیّ (2) بخدمته ومعرفته علیه السلام أحیاناً .
ص :62
فلا یکاد یُجدی نقل الإجماع إلّامن باب نقل السبب ، بالمقدار الّذی أُحرز من لفظه ، بما اکتنف به من حالٍ أو مقالٍ ، ویعامل معه معامله المحصَّل .
الثانی: انّه لا یخفی : أنّ الإجماعات المنقوله إذا تعارض إثنان منهما أو أکثر ، فلا یکون التعارض إلّابحسب المسبّب (1) ، وأمّا بحسب السبب فلا تعارضَ فی البین؛ لاحتمال صدق الکلّ .
لکنّ نقل الفتاویٰ - علی الإجمال - بلفظ الإجماع حینئذٍ لا یصلحُ لأن یکون سبباً ، ولا جزءَ سببٍ؛ لثبوت الخلاف فیها ، إلّاإذا کان فی أحد المتعارضین خصوصیّهٌ موجبهٌ لقَطْعِ المنقول إلیه برأیه علیه السلام لو اطّلع علیها ، ولو مع اطّلاعه علی الخلاف . وهو وإن لم یکن - مع الاطّلاع علی الفتاویٰ علی اختلافها مفصّلاً - ببعید ، إلّاأ نّه مع عدم الاطّلاع علیها کذلک (2) بعیدٌ ، فافهم .
الثالث: انّه ینقدح ممّا ذکرنا فی نقل الإجماع حالُ نقلِ التواتر ، وأ نّه - من حیث المسبّب - لابدّ فی اعتباره من کون الإخبار به إخباراً علی الإجمال ،
ص :63
بمقدار یوجب قطعَ المنقول إلیه بما اخبر به لو علم به (1) ، ومن حیث السبب یثبت به کلّ مقدار کان إخباره بالتواتر دالّاً علیه ، کما إذا اخبر به علی التفصیل . فربما لا یکون إلّادون حدّ التواتر ، فلابدّ فی معاملته معه معاملَتَه ، من لحوق مقدارٍ آخر من الأخبار یبلغ المجموع ذاک الحدّ .
نعم ، لو کان هناک أثر للخبر المتواتر فی الجمله - ولو عند المخبِر - لوجب ترتیبه علیه ، ولو لم یدلّ علی ما بحدّ التواتر من المقدار .
وتوهّمُ (3) : دلاله أدلّه حجّیّه خبر الواحد علیه بالفحوی؛ لکون الظنّ الّذی تفیده أقویٰ ممّا یفیده الخبر .
فیه ما لا یخفی ؛ ضروره عدم دلالتها علی کون مناط اعتباره إفادتَه الظنّ ، غایتُه تنقیح ذلک بالظنّ ، وهو لا یوجب إلّاالظنّ بأ نّها أولیٰ بالاعتبار ، ولا اعتبار به .
مع أنّ دعوی القطع بأ نّه لیس بمناطٍ غیرُ مجازفه (4) .
ص :64
وأضعفُ منه توهُّمُ دلالهِ المشهوره (1)(2) والمقبوله (3) علیه؛ لوضوح أنّ المراد بالموصول فی قوله علیه السلام فی الأُولی: «خُذ بِما اشتَهَرَ بَین أصحابِک » ، وفی الثانیه: «یُنظرُ إلیٰ ما کان من روایتهما عنّا فی ذلک الّذی حکما به ، الُمجمع علیه عند أصحابِک ، فَیؤخَذُ بِه» هو الروایه ، لا مایعمّ الفتویٰ (4) ، کما هو أوضحُ من أن یخفی .
نعم ، بناءً علی حجّیّه الخبر ببناء العقلاء ، لا یبعد دعویٰ عدمِ اختصاص بنائهم علی حجّیّته (5) ، بل علی حجّیّه کلّ أماره مفیده للظنّ أو الاطمئنان ، لکن دون إثبات ذلک خرطُ القتاد .
ص :65
المشهور بین الأصحاب : حجّیّه خبر الواحد فی الجمله بالخصوص .
ولا یخفی: أنّ هذه المسأله من أهمّ المسائل الاُصولیّه . وقد عرفت فی أوّل الکتاب : أنّ الملاک فی الاُصولیّه صحّه وقوع نتیجه المسأله فی طریق الاستنباط ، ولو لم یکن البحث فیها عن الأدلّه الأربعه ، وإن اشتهر فی ألسنه الفحول : کونُ الموضوع فی علم الأُصول هی الأدلّه .
وعلیه لا یکاد یفید فی ذلک - أی کون هذه المسأله اصولیّه - تجشُّمُ دعوی : أنّ البحث عن دلیلیّه الدلیل بحثٌ عن أحوال الدلیل (1)؛ ضروره أنّ البحث فی المسأله لیس عن دلیلیّه الأدلّه ، بل عن حجّیّه الخبر الحاکی عنها .
کما لا یکاد یفید علیه تجشُّمُ دعوی : أنّ مرجعَ هذه المسأله إلی أنّ السنّه - وهی قول الحجّه أو فعله أو تقریره - هل تثبت بخبر الواحد ، أو لا تثبت إلّا بما یفید القطع ، من التواتر أو القرینه ؟ (2)؛ فإنّ التعبّد بثبوتها مع الشکّ فیها - لدی الإخبار بها - لیس من عوارضها ، بل من عوارض مشکوکها ، کما لا یخفی .
ص :66
مع أ نّه لازمٌ لما یبحث عنه فی المسأله من حجّیّه الخبر ، والمبحوث عنه فی المسائل إنّما هو الملاک فی أ نّها من المباحث أو من غیرها (1) ، لا ما هو لازمه (2) ، کما هو واضح .
وکیف کان ، فالمحکیّ عن السیّد (3) والقاضی (4) وابن زهره (5) والطبرسیّ (6) وابن إدریس (7) عدم حجّیّه الخبر .
واستدلّ لهم:
بالآیات الناهیه عن اتّباع غیر العلم (8) .
والروایاتِ الدالّه علی ردّ ما لم یعلم أ نّه قولهم علیهما السلام (9)، - أو لم یکن علیه شاهدٌ من کتاب اللّٰه أو شاهدان ، أو لم یکن موافقاً للقرآن ، إلیهم (10)؛ أو علی
ص :67
بطلان ما لا یصدّقه کتابُ اللّٰه (1)؛ أو علی أنّ ما لا یوافق کتاب اللّٰه زخرفٌ (2)؛ أو علی النهی عن قبول حدیث إلّاماوافق الکتاب أو السنّه (3) ... إلی غیر (4) ذلک (5) .
والإجماعِ المحکیّ عن السیّد فی مواضعَ من کلامه ، بل حکی عنه أ نّه جَعلَه بمنزله القیاس ، فی کون ترکه معروفاً من مذهب الشیعه (6) .
والجواب:
أمّا عن الآیات: فبأنّ الظاهر منها - أو المتیقّن من إطلاقاتها - هو : اتّباع غیر العلم فی الأُصول الاعتقادیّه ، لا ما یعمّ الفروعَ الشرعیّه ، ولو سلّم عمومُها لها فهی مخصَّصه بالأدلّه الآتیه الدالّه (7) علی اعتبار الأخبار (8) .
وأمّا عن الروایات: فبأنّ الاستدلال بها خالٍ عن السداد؛ فإنّها أخبار آحاد (9) .
ص :68
لا یقال: إنّها وإن لم تکن متواتره لفظاً ولامعنیً ، إلّاأ نّها متواتره إجمالاً؛ للعلم الإجمالیّ بصدور بعضها لا محاله .
فإنّه یقال: إنّها وإن کانت کذلک ، إلّاأ نّها لاتفید إلّافی ما توافقت علیه ، وهو غیر مفید فی إثبات السلب کلّیّاً ، - کما هو محلّ الکلام ، ومورد النقض والإبرام - ، وإنّما تفید عدمَ حجّیّه الخبر المخالف للکتاب والسنّه ، والالتزامُ به لیس بضائر ، بل لا محیصَ عنه فی مقام المعارضه .
وأمّا عن الإجماع: فبأنّ المحصّل منه غیر حاصل ، والمنقول منه للاستدلال به غیر قابل ، خصوصاً فی المسأله ، کما یظهر وجهه للمتأمّل ، مع أ نّه معارَضٌ بمثله ، وموهونٌ بذهاب المشهور إلی خلافه (1) .
وقد استدلّ للمشهور بالأدلّه الأربعه :
فمنها: آیه النبأ ، قال اللّٰه - تبارک وتعالی - : «إِنْ جٰاءَکُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا ... » (2).
ویمکن تقریب الاستدلال بها من وجوه ، أظهرها: أ نّه من جهه مفهوم الشرط ، وأنّ تعلیق الحکم - بإیجاب التبیّن عن النبأ الّذی جیء به - علی کون الجائی به الفاسق (3) ، یقتضی انتفاءه عند انتفائه .
ص :69
الإشکال الأوّل علی الاستدلال بالآیه الجواب عنه ولا یخفی: أ نّه علی هذا التقریر لا یرد : أنّ الشرط فی القضیّه لبیان تحقّق الموضوع ، فلا مفهوم له ، أو مفهومه السالبه بانتفاء الموضوع (1) ، فافهم .
نعم ، لو کان الشرط هو نفس تحقّق النبأ ومجیء الفاسق به ، کانت القضیّه الشرطیّه مسوقهً لبیان تحقّق الموضوع .
مع أ نّه یمکن أن یقال: إنّ القضیّه ولو کانت مسوقه لذلک ، إلّاأ نّها ظاهره فی انحصار موضوع وجوب التبیّن فی النبأ الّذی جاء به الفاسق ، فیقتضی انتفاءَ وجوب التبیّن عند انتفائه ووجودِ موضوعٍ آخر ، فتدبّر .
الإشکال الثانی
ولکنّه یشکل: بأ نّه لیس لها هاهنا مفهوم ، ولو سلّم أنّ أمثالها ظاهره فی المفهوم؛ لأنّ التعلیل بإصابه القوم بالجهاله - المشترکَ بین المفهوم والمنطوق - یکون قرینهً علی أ نّه لیس لها مفهوم (2) .
الجواب عن الإشکال ولا یخفی: أنّ الإشکال إنّما یبتنی علی کون الجهاله بمعنی عدم العلم ، مع أنّ دعوی أ نّها بمعنی السفاهه ، وفعلِ ما لا ینبغی صدوره عن (3) العاقل غیرُ بعیده (4) .
الإشکال الثالث ثمّ إنّه لوسلّم تمامیّهَ دلالهِ الآیه علی حجّیّه خبر العدل ، ربما اشکل (5) شمولُ مثلها للروایات الحاکیه لقول الإمام علیه السلام بواسطه أو وسائط (6)؛ فإنّه کیف
ص :70
یمکن الحکم بوجوب التصدیق - الّذی لیس إلّابمعنی وجوب ترتیب ما للمخبَر به من الأثر الشرعیّ - بلحاظ نفس هذا الوجوب ، فی ما کان المخبَر به خبرَ العدل أو عدالهَ المخبر ؟ لأنّه وإن کان أثراً شرعیّاً لهما ، إلّاأ نّه بنفس الحکم - فی مثل الآیه - بوجوب تصدیق خبر العدل حسب الفرض .
نعم ، لو انشئ هذا الحکم ثانیاً ، فلا بأس فی أن یکون بلحاظه أیضاً؛ حیث إنّه صار أثراً بجعلٍ آخر ، فلا یلزم اتّحاد الحکم والموضوع ، بخلاف ما إذا لم یکن هناک إلّاجعلٌ واحد ، فتدبّر .
الجواب الأوّل عن الإشکال الثالث ویمکن الذبّ عن الإشکال (1): بأ نّه إنّما یلزم إذا لم تکن (2) القضیّه طبیعیّهً ، والحکمُ فیها بلحاظ طبیعه الأثر ، بل بلحاظ أفراده ، وإلّا فالحکم بوجوب التصدیق یسری إلیه ، سرایهَ حکم الطبیعه إلی أفراده (3) ، بلا محذورِ لزوم اتّحاد الحکم والموضوع ، هذا .
الجواب الثانی عن الإشکال مضافاً (4) إلی القطع بتحقّق ما هو المناط فی سائر الآثار فی هذا الأثر ، - أی: وجوب التصدیق - بعد تحقّقه بهذا الخطاب ، وإن کان لا یمکن أن یکون ملحوظاً (5) لأجل المحذور .
ص :71
الجواب الثالث عن الإشکال وإلی عدم القول بالفصل بینه وبین سائر الآثار ، فی وجوب الترتیب لدی الإخبار بموضوعٍ صار أثرُه الشرعیّ وجوبَ التصدیق ، وهو خبر العدل ، ولو بنفس الحکم فی الآیه (1) ، فافهم .
الإشکال الرابع ولا یخفی: أ نّه لامجال - بعد اندفاع الإشکال بذلک - للإشکال فی خصوص الوسائط من الأخبار - کخبر الصفّار المحکیّ بخبر المفید مثلاً - بأ نّه لا یکاد یکون خبراً تعبّداً إلّابنفس الحکم بوجوب تصدیق العادل الشامل للمفید ، فکیف یکون هذا الحکم - المحقِّق لخبر الصفّار تعبّداً مثلاً - حکماً له أیضاً (2)(3)؟
الجواب عنه وذلک لأنّه إذا کان خبر العدل ذا أثر شرعیّ حقیقهً - بحکم الآیه - وجب ترتیب أثره علیه ، عند إخبار العدل به ، کسائر ذوات الآثار من الموضوعات؛ لما عرفت من شمول مثل الآیه للخبر الحاکی للخبر بنحو القضیّه الطبیعیّه ، أو لشمول الحکم فیها له مناطاً ، وإن لم یشمله لفظاً ، أو لعدم القول بالفصل ، فتأمّل جیّداً .
ومنها: آیه النفر ، قال اللّٰه - تعالی - : «فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَهٍ مِنْهُمْ طٰائِفَهٌ ... » الآیه (4) .
ص :72
وجوه الاستدلال بالآیه وربما یستدلّ بها من وجوه:
أحدُها: أنّ کلمه «لعلّ» وإن کانت مستعملهً - علی التحقیق - فی معناها (1) الحقیقیّ - وهو الترجّی الإیقاعیّ الإنشائیّ - ، إلّاأنّ الداعی إلیه - حیث یستحیل فی حقّه تعالی أن یکون هو الترجّی الحقیقیّ - کان هو محبوبیّه التحذّر عند الإنذار ، وإذا ثبت محبوبیّته ثبت وجوبه شرعاً؛ لعدم الفصل (2) ، وعقلاً؛ لوجوبه مع وجود ما یقتضیه ، وعدم حسنه - بل عدم إمکانه - بدونه (3) .
ثانیها: أ نّه لمّا وجب الإنذار ؛ - لکونه غایهً للنفر الواجب ، کما هو قضیّه کلمه « لولا » التحضیضیّه - وجب التحذّر ، وإلّا لغا وجوبه .
ثالثها: أ نّه جعل غایهً للإنذار الواجب ، وغایهُ الواجب واجب (4) .
الإشکال فی وجوه الاستدلال ویشکل الوجه الأوّل : بأنّ التحذّر لرجاء إدراک الواقع ، وعدمِ الوقوع فی محذور مخالفته - من فوت المصلحه ، أو الوقوع فی المفسده - ، حسنٌ ، ولیس بواجبٍ فی ما لم یکن هناک حجّه علی التکلیف . ولم یثبت هاهنا عدم الفصل ، غایتُه عدم القول بالفصل .
والوجه الثانی والثالث : بعدم انحصار فائده الإنذار بإیجاب التحذّر (5) تعبّداً؛ لعدم إطلاقٍ (6) یقتضی وجوبَه علی الإطلاق؛ ضروره أنّ الآیه مسوقه
ص :73
لبیان وجوب النفر ، لا لبیان غایتیّه التحذّر ، ولعلّ وجوبَه کان مشروطاً بما إذا أفاد العلم ، و (1)لو لم نقل بکونه مشروطاً به؛ فإنّ النفر إنّما یکون لأجل التفقّه وتعلّمِ معالم الدین ، ومعرفهِ ما جاء به سیّدُ المرسلین ، کی ینذروا بها المتخلّفین أو النافرین - علی الوجهین فی تفسیر الآیه - ، لکی یحذروا إذا انذروا بها ، وقضیّتُه إنّما هو وجوب الحذر عند إحراز أنّ الإنذار بها ، کما لا یخفی .
إشکالٌ آخر علی الاستدلال بالآیه ثمّ إنّه أُشکل أیضاً : بأنّ الآیه لو سلّم دلالتها علی وجوب الحذر مطلقاً ، فلا دلاله لها علی حجّیّه الخبر بما هو خبر؛ حیث إنّه لیس شأن الراوی إلّا الإخبارَ بما تحمَّله ، لا التخویفَ والإنذار ، وإنّما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبه إلی المسترشد أو المقلِّد (2) .
الجواب عن الإشکال
قلت: لا یذهب علیک أ نّه لیس حال الرواه فی الصدر الأوّل - فی نقل ما تحمّلوا من النبیّ صلّی اللّٰه علیه وعلی أهل بیته الکرام أو (3) الإمام علیه السلام من الأحکام إلی الأنام - إلّاکحال نقَلَه الفتاوی إلی العوامّ ، ولاشبهه فی أ نّه یصحّ منهم التخویفُ فی مقام الإبلاغ والإنذار ، والتحذیرِ بالبلاغ ، فکذا من الرواه ، فالآیه لو فُرض دلالتها علی حجّیّه نقل الراوی إذا کان مع التخویف ، کان نقله حجهً
ص :74
بدونه أیضاً؛ لعدم الفصل بینهما جزماً ، فافهم .
ومنها: آیه الکتمان: «إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا ... » (1)الآیه .
وتقریب الاستدلال بها : أنّ حرمه الکتمان تستلزم وجوب القبول (2) عقلاً؛ للزوم لغویّته (3) بدونه .
ولا یخفی: أ نّه لو سُلّمت هذه الملازمه لا مجالَ (4) للإیراد علی هذه الآیه بما أُورد علی آیه النَفر (5) من دعوی الإهمال ، أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم؛ فإنّها تنافیهما ، کما لا یخفی .
الإشکال علی لاستدلال بالآیه لکنّها ممنوعه؛ فإنّ اللغویّه غیر لازمه؛ لعدم انحصار الفائده بالقبول تعبّداً ، وإمکانِ أن تکون حرمه الکتمان لأجل وضوح الحقّ (6) بسبب کثرهَ من أفشاه وبیّنه ، لئلّا یکون للناس علی اللّٰه حجّه ، بل کان له علیهم الحجّه البالغه .
ومنها: آیه السؤال عن أهل الذکر : «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ » (7).
وتقریب الاستدلال بها ما فی آیه الکتمان .
الإشکال فی
ص :75
الاستدلال بالآیه
وفیه: أنّ الظاهر منها إیجاب السؤال لتحصیل العلم ، لا للتعبّد بالجواب .
إیرادٌ آخر علی الاستدلال بالآیهوالجواب عنه
وقد أُورد علیها (1): بأ نّه لو سلّم دلالتها علی التعبّد بما أجاب أهل الذکر ، فلا دلاله لها علی التعبّد بما یروی الراوی؛ فإنّه بما هو راوٍ لا یکون من أهل الذکر والعلم ، فالمناسب : إنّما هو الاستدلال بها علی حجّیّه الفتوی ، لا الروایه (2) .
وفیه: أنّ کثیراً من الرواه یصدق علیهم أ نّهم أهل الذکر والاطّلاع علی رأی الإمام علیه السلام ، کزراره ومحمّد بن مسلم ومثلهما (3) ، ویصدق علی السؤال عنهم ، أ نّه السؤال عن أهل الذکر والعلم ، ولو کان السائل من أضرابهم .
فإذا وجب قبول روایتهم فی مقام الجواب - بمقتضی هذه الآیه - ، وجب قبول روایتهم وروایه غیرهم من العدول مطلقاً؛ لعدم الفصل جزماً فی وجوب القبول بین المبتدِئ والمسبوق بالسؤال ، ولا بین أضراب زراره وغیرهم ، ممّن لا یکون من أهل الذکر ، وإنّما یروی ما سمعه أو رآه ، فافهم .
ومنها: آیه الأُذن : «وَ مِنْهُمُ الَّذِینَ یُؤْذُونَ النَّبِیَّ وَ یَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَکُمْ یُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ یُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ » (4). فإنّه - تبارک وتعالی - مَدَحَ نبیَّه بأ نّه یصدِّق المؤمنین ، وقَرنَه بتصدیقه - تعالی - .
الإشکال فی الاستدلال بالآیه
وفیه أوّلاً: أ نّه إنّما مدحَه بأ نّه أُذُن ، وهو سریع القطع ، لا الآخذُ بقول الغیر تعبّداً .
ص :76
وثانیاً: أ نّه إنّما المراد (1) بتصدیقه المؤمنین (2) هو ترتیب خصوص الآثار الّتی تنفعهم ولا تضرّ غیرَهم ، لا التصدیق بترتیب جمیع الآثار ، کما هو المطلوب فی باب حجّیّه الخبر (3) .
ویظهر ذلک من تصدیقه صلی الله علیه و آله للنّمام بأ نّه ما نمّه ، وتصدیقه للّٰه- تعالی - بأ نّه نمّه (4) ، کما هو المراد من التصدیق فی قوله علیه السلام : «فصدِّقه وکذِّبهم» حیث قال - علی ما فی الخبر - : «یا محمَّد (5) ، کذِّب سمعَک وبصرَک عن أخیک ، فإن شهدَ عِندک خمسون قسامه أ نّه قال قولاً ، وقال: لم أقله ، فصدّقه وکذّبهم» (6) ، فیکون مراده تصدیقَه بما ینفعه ولا یضرّهم ، وتکذیبَهم فی ما یضرّه ولا ینفعهم ، وإلّا فکیف یحکم بتصدیق الواحد وتکذیب خمسین ؟
ص :77
وهکذا المراد بتصدیق المؤمنین فی قصّه إسماعیل (1) ، فتأمّل جیّداً .
وهی وإن کانت طوائف کثیره (1) - کما یظهر من مراجعه الوسائل
وغیرها - إلّاأ نّه یشکل الاستدلالُ بها علی حجّیّه أخبار الآحاد : بأ نّها أخبار آحاد؛ فإنّها غیر متّفقهٍ علی لفظٍ ولا علی معنی ، فتکونَ متواترهً لفظاً أو معنیً (2) .
ص :78
ولکنّه مندفع: بأ نّها وإن کانت کذلک ، إلّاأ نّها متواترهٌ إجمالاً؛ ضروره أ نّه یعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم علیهم السلام ، وقضیّتُه وإن کان حجّیّهَ خبرٍ دلّ علی حجّیهِ (1) أخصِّها مضموناً ، إلّاأ نّه یتعدّیٰ عنه فی ما إذا کان بینها ما کان بهذه الخصوصیّه ، وقد دلّ علی حجّیّه ماکان أعمّ ، فافهم .
وتقریره من وجوه :
أحدها (2): دعوی الإجماع من تتبُّع فتاوی الأصحاب علی الحجّیّه ، من زماننا إلی زمان الشیخ ، فیُکشف رضاه علیه السلام بذلک ، ویُقطع به ، أو من تتبُّع الإجماعات المنقوله علی الحجّیّه .
ص :79
ولا یخفی مجازفه هذه الدعوی؛ لاختلاف الفتاوی فی ما أُخذ فی اعتباره من الخصوصیّات ، ومعه لا مجال لتحصیل القطع برضاه علیه السلام من تتبّعها؛ وهکذا حال تتبُّع الإجماعات المنقوله .
اللهمّ إلّاأن یُدّعی تواطؤها علی الحجّیّه فی الجمله ، وإنّما الاختلاف فی الخصوصیّات المعتبره فیها ، ولکن دون إثباته خرط القتاد .
ثانیها (1): دعوی اتّفاق العلماء عملاً - بل کافّهِ المسلمین - علی العمل بخبر الواحد فی أُمورهم الشرعیّه ، کما یظهر من أخذ فتاوی المجتهدین من الناقلین لها .
وفیه: - مضافاً إلی ما عرفت ممّا یرد علی الوجه الأوّل - أ نّه لو سُلّم اتّفاقهم علی ذلک ، لم یُحرز أ نّهم اتّفقوا بما هم مسلمون ومتدیّنون بهذا الدین ، أو بما هم عقلاء ولو لم یلتزموا (2) بدینٍ ، کما هم لایزالون یعملون بها فی غیر الاُمور الدینیّه من الاُمور العادیّه .
فیرجع إلی ثالث الوجوه .
وهو دعویٰ استقرار سیره العقلاء من ذوی الأدیان وغیرِهم علی العمل بخبر الثقه ، واستمرّت إلی زماننا ، ولم یردع عنه نبیّ ولا وصیّ نبیّ؛ ضروره أ نّه لو کان لاشتهر وبان ، ومن الواضح أ نّه یکشف عن رضاء الشارع به فی الشرعیّات أیضاً .
الإشکال علی التمسّک بسیره العقلاء والجواب عنه
إن قلت (3): یکفی فی الردع : الآیاتُ الناهیه والروایاتُ المانعه عن اتّباع
ص :80
غیر العلم (1) ، وناهیک قولُه تعالیٰ: «وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ » (2)، وقولُه تعالیٰ: «إِنَّ الظَّنَّ لاٰ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً » (3).
قلت: لا یکاد یکفی تلک الآیات فی ذلک؛ فإنّه - مضافاً إلی أ نّها إنّما وردت إرشاداً إلی عدم کفایه الظنّ فی اصول الدین ، ولو سلّم فإنّما المتیقّن ، لولا أ نّه المنصرف إلیه إطلاقُها ، هو خصوص الظنّ (4) الّذی لم یقم علی اعتباره حجّه - لا یکاد یکون الردع بها إلّاعلی وجه دائر؛ وذلک لأنّ الردع بها یتوقّف علی عدم تخصیص عمومها ، أو تقیید إطلاقها بالسیره علی اعتبار خبر الثقه ، وهو یتوقّف علی الردع عنها بها ، وإلّا لکانت مخصِّصه أو مقیّده لها (5) ، کما لا یخفی .
لا یقال: علی هذا لا یکون اعتبار خبر الثقه بالسیره أیضاً إلّاعلی وجهٍ دائر؛ فإنّ اعتباره بها فعلاً یتوقّف علی عدم الردع بها عنها ، وهو یتوقّف علی تخصیصها بها ، وهو یتوقّف علی عدم الردع بها عنها .
فإنّه یقال: إنّما یکفی فی حجّیّته بها عدمُ ثبوت الردع عنها ؛ لعدم نهوض ما یصلح لردعها ، کما یکفی فی تخصیصها لها ذلک ، کما لا یخفی؛ ضروره أنّ ما
ص :81
جرت علیه السیره المستمرّه فی مقام الإطاعه والمعصیه ، - وفی استحقاق العقوبه بالمخالفه ، وعدم استحقاقها مع الموافقه ، ولو فی صوره المخالفه عن الواقع (1) - ، یکون عقلاً فی الشرع متّبعاً ، ما لم ینهض دلیل علی المنع عن اتّباعه فی الشرعیّات ، فافهم وتأمّل (2)* .
ص :82
أحدها: أ نّه یُعلم إجمالاً بصدور کثیرٍ ممّا بأیدینا من الأخبار ، من الأئمّه الأطهار علیهم السلام بمقدار وافٍ بمعظم الفقه ، بحیث لو علم تفصیلاً ذاک المقدار لانحلَّ علْمُنا الإجمالیّ - بثبوت التکالیف بین الروایات وسائر الأمارات - إلی العلم التفصیلیّ بالتکالیف ، فی مضامین الأخبار الصادره المعلومه تفصیلاً (2) ، والشکِّ البدویّ فی ثبوت التکلیف فی مورد سائر الأمارات غیرِ المعتبره .
ولازم ذلک (3) : لزوم العمل علی وفق جمیع الأخبار المثبته ، وجوازُ
ص :83
العمل علی طبق النافی منها ، فی ما إذا لم یکن فی المسأله أصلٌ مثبِت له ، من قاعده الاشتغال أو الاستصحاب ، بناءً علی جریانه فی أطراف ما عُلم إجمالاً بانتقاض الحاله السابقه فی بعضها ، أو قیامِ (1) أمارهٍ معتبره علی انتقاضها فیه ، وإلّا لاختصّ عدمُ جواز العمل علی وفق النافی بما إذا کان علی خلاف قاعده الاشتغال .
وفیه (2): أ نّه لا یکاد ینهض علی حجّیّه الخبر ، بحیث یُقدّم تخصیصاً أو تقییداً أو ترجیحاً علی غیره ، من عمومٍ أو إطلاق أو مثلِ مفهومٍ ، وإن کان یسلم عمّا أُورد علیه (3) : من أنّ لازمه الاحتیاط فی سائر الأمارات ، لا فی خصوص الروایات؛ لما عرفت من انحلال العلم الإجمالیّ بینهما (4) بما علم بین الأخبار بالخصوص ولو بالإجمال ، فتأمّل جیّداً .
کالصلاه والزکاه والصوم والحجّ والمتاجر والأنکحه ونحوها ، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها ، إنّما یثبت بالخبر غیرِ القطعیّ ، بحیث نقطع بخروج حقائق هذه الاُمور عن کونها هذه الاُمور ، عند ترک العمل بخبر الواحد ، ومن أنکر ذلک فإنّما یُنکره باللسان ، «وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمٰانِ » » (1)(2) ، انته .
وأُورد علیه (3):
أوّلاً: بأنّ العلم الإجمالیّ حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بین جمیع الأخبار ، لا خصوص الأخبار المشروطه بما ذکره ، فاللازم حینئذٍ : إمّا الاحتیاط ، والعمل بکل خبرٍ دلّ علی جزئیه شیء أو شرطیّته ، وإمّا العمل بکل خبرٍ ظُنّ صدوره ، ممّا دلّ علی (4) الجزئیه أو الشرطیه (5) .
قلت: یمکن أن یقال: إنّ العلم الإجمالیّ وإن کان حاصلاً بین جمیع
ص :85
الأخبار ، إلّاأنّ العلم بوجود الأخبار الصادره عنهم علیهم السلام بقدر الکفایه بین تلک الطائفه ، أو العلم باعتبار طائفه (1) کذلک بینها ، یوجب انحلالَ ذاک العلم الإجمالیّ ، وصیرورهَ غیرها خارجهً (2) عن طرف العلم ، کما مرّت إلیه الإشاره فی تقریب الوجه الأوّل .
اللهمّ إلّاأن یُمنع عن ذلک ، وادُّعی عدم الکفایه فی ما علم بصدوره أو اعتباره ، أو ادّعی العلم بصدور أخبارٍ اخر بین غیرها ، فتأمّل .
وثانیاً: بأنّ قضیّته إنّما هو العمل بالأخبار المثبِته للجزئیّه أو الشرطیّه ، دون الأخبار النافیه لهما .
والأولی أن یورد علیه: بأنّ قضیّته إنّما هو الاحتیاط بالأخبار المثبِته ، فی ما لم تقم حجّه معتبره علی نفیهما ، من عموم دلیلٍ أو إطلاقه ، لا الحجّیّهُ بحیث یخصَّص أو یقیَّد بالمثبِت منها ، أو یُعمل بالنافی فی قبال حجّهٍ علی الثبوت و (3)لو کان أصلاً ، کما لا یخفی .
ثالثها: ما أفاده بعض المحقّقین (4) بما ملخّصه: أ نّا نعلم بکوننا مکلّفین بالرجوع إلی الکتاب والسنّه إلی یوم القیامه، فإن تمکّنّا من الرجوعُ إلیهما علی نحوٍ یحصل العلم بالحکم أو ما بحکمه ، فلابدّ من الرجوع إلیهما کذلک ، وإلّا
ص :86
فلا محیصَ عن الرجوع علی نحوٍ یحصل الظنّ به فی الخروج عن عهده هذا التکلیف ، فلو لم یتمکّن من القطع بالصدور أو الاعتبار ، فلابدّ من التنزّل إلی الظنّ بأحدهما .
وفیه: أنّ قضیّه بقاء التکلیف فعلاً بالرجوع إلی الأخبار الحاکیه للسنّه - کما صرّح بأ نّها المراد منها فی ذیل کلامه (1)زید فی علوّ مقامه - إنّما هو (2) الاقتصار فی الرجوع (3) إلی الأخبار المتیقّن الاعتبار ، فإن وفی ، وإلّا اضیف إلیه الرجوعُ إلی ما هو المتیقّن اعتباره بالإضافه ، لو کان ، وإلّا فالاحتیاط بنحوٍ عرفت (4) ، لا الرجوعُ إلی ما ظُنّ اعتباره؛ وذلک للتمکّن من الرجوع علماً - تفصیلاً أو إجمالاً (5) - ، فلا وجه معه من الاکتفاء بالرجوع إلی ما ظنّ اعتباره ، هذا .
مع أنّ مجال المنع عن ثبوت التکلیف بالرجوع إلی السنّه بذاک المعنی - فی ما لم یعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص - واسعٌ .
وأمّا الإیراد علیه (6): برجوعه : إمّا إلی دلیل الانسداد ، لو کان ملاکه دعوی العلم الإجمالیّ بتکالیف واقعیّه ، وإمّا إلی الدلیل الأوّل ، لو کان ملاکه دعوی العلم بصدور أخبارٍ کثیره بین ما بأیدینا من الأخبار .
ففیه: أنّ ملاکه إنّما هو دعوی العلم بالتکلیف بالرجوع إلی الروایات - فی الجمله - إلی یوم القیامه ، فراجع تمام کلامه ، تعرف حقیقهَ مرامه .
ص :87
وهی أربعه:
الأوّل: أنّ فی مخالفه (1) المجتهد لما ظنَّه من الحکم الوجوبیّ أو التحریمیّ مظَنّهً للضرر ، ودفعُ الضرر المظنون لازمٌ .
أمّا الصغری: فلأنّ الظنّ بوجوب شیءٍ أو حرمته ، یلازم الظنّ بالعقوبه علی مخالفته ، أو الظنَّ بالمفسده فیها ، بناءً علی تبعیّه الأحکام للمصالح والمفاسد .
وأمّا الکبریٰ: فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ، ولو لم نقل بالتحسین والتقبیح (2)؛ لوضوح عدم انحصار ملاک حکمه بهما ، بل یکون (3) التزامه بدفع الضرر المظنون ، - بل المحتمل - بما هو کذلک ، ولو لم یستقلّ بالتحسین والتقبیح ،
ص :88
مثل الالتزام بفعل ما استقلّ بحسنه - إذا قیل باستقلاله - ، ولذا أطبق العقلاء علیه ، مع خلافهم فی اسقلاله بالتحسین والتقبیح ، فتدبّر جیّداً .
والصواب فی الجواب هو : منع الصغری:
أمّا العقوبه: فلضروره عدم الملازمه بین الظنّ بالتکلیف والظنّ بالعقوبه علی مخالفته؛ لعدم الملازمه بینه والعقوبه (1) علی مخالفته ، وإنّما الملازمه بین خصوص معصیته واستحقاق العقوبه علیها ، لا بین مطلق المخالفه والعقوبه بنفسها (2) . ومجرّد (3) الظنّ به - بدون دلیل علی اعتباره - لایتنجّز به ، کی یکون مخالفته عصیانَه .
إلّاأن یقال: إنّ العقل وإن لم یستقلّ بتنجّزه بمجرّده ، بحیث یحکم باستحقاق العقوبه علی مخالفته ، إلّاأ نّه لا یستقلّ أیضاً بعدم استحقاقها معه ، فیحتمل العقوبه حینئذٍ علی المخالفه . ودعوی استقلاله بدفع الضرر المشکوک - کالمظنون - قریبهٌ جدّاً ، لا سیّما إذا کان هو العقوبه الاُخرویّه (4) ، کما لا یخفی .
وأمّا المفسده: فلأ نّها وإن کان الظنّ بالتکلیف یوجب الظنّ بالوقوع فیها
ص :89
لو خالفه ، إلّاأ نّها لیست بضرر علی کلّ حال؛ ضروره أنّ کلّ ما یوجب قبحَ الفعل من المفاسد ، لا یلزم أن یکون من الضرر علی فاعله ، بل ربما یوجب حزازهً ومنقصهً فی الفعل ، بحیث یُذمّ علیه فاعلُه بلا ضررٍ علیه أصلاً ، کما لا یخفی .
وأمّا تفویت المصلحه: فلا شبهه فی أ نّه لیس فیه مضرّهٌ ، بل ربما یکون فی استیفائها المضرّه ، کما فی الإحسان بالمال ، هذا .
مع منع کون الأحکام تابعهً للمصالح والمفاسد فی المأمور بها والمنهیّ عنها (1) ، بل إنّما هی تابعه لمصالحَ فیها (2) ، کما حقّقناه فی بعض فوائدنا (3) .
وبالجمله (4): لیست المفسده ولاالمنفعه الفائته - اللّتان فی الأفعال ، واُنیط بهما الأحکام - بمضرّه . ولیس مناط حکم العقل بقبح ما فیه المفسده ، أو حُسْن ما فیه المصلحه من الأفعال - علی القول باستقلاله بذلک - هو کونه ذا ضررٍ واردٍ علی فاعله ، أو نفعٍ عائدٍ إلیه .
ص :90
ولعمری هذا أوضح من أن یخفی ، فلا مجال لقاعده دفع الضرر المظنون هاهنا أصلاً .
ولا استقلال للعقل بقبح فعْلِ ما فیه احتمال المفسده ، أو ترک ما فیه احتمال المصلحه ، فافهم .
الثانی: أ نّه لو لم یؤخذ بالظنّ لزم ترجیح المرجوح علی الراجح ، وهو قبیح .
وفیه (1): أ نّه لا یکاد یلزم منه ذلک ، إلّافی ما إذا کان الأخذ بالظنّ أو بطرفه لازماً ، مع عدم إمکان الجمع بینهما عقلاً ، أو عدم وجوبه شرعاً ، لیدور الأمر بین ترجیحه وترجیح طرفه . ولا یکاد یدور الأمر بینهما إلّابمقدّمات دلیل الانسداد ، وإلّا کان اللازم هو الرجوع إلی العلم ، أو العلمیّ ، أو الاحتیاط ، أو البراءه ، أو غیرها (2) ، علی حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال فی اختلال (3) المقدّمات ، علی ما ستطّلع علی حقیقه الحال .
الثالث: ما عن السیّد الطباطبائیّ قدس سره (4)من : أ نّه لا ریب فی وجود واجبات ومحرّمات کثیره بین المشتبهات ، ومقتضیٰ ذلک وجوب الاحتیاط بالإتیان بکلّ ما یحتمل الوجوب ولو موهوماً ، وترکِ ما یحتمل الحرمه کذلک ، ولکن مقتضیٰ قاعده نفی الحرج ، عدم وجوب ذلک کلّه؛ لأنّه عُسْرٌ أکید
ص :91
وحَرَجٌ شدید ، فمقتضی الجمع بین قاعدتی الاحتیاط وانتفاء الحرج : العمل بالاحتیاط فی المظنونات ، دون المشکوکات والموهومات؛ لأنّ الجمع علی غیر هذا الوجه - بإخراج بعض المظنونات ، وإدخال بعض المشکوکات والموهومات - باطل إجماعاً .
ولا یخفی ما فیه من القدح والفساد؛ فإنّه (1) بعضُ مقدّمات دلیل الانسداد ، ولا یکاد ینتج بدون سائر مقدّماته ، ومعه لا یکون دلیلاً (2) آخر بل ذاک الدلیل .
الرابع: دلیل الانسداد ، وهو مؤلّف من مقدّمات ، یستقلّ العقل مع تحقّقها بکفایه الإطاعه الظنیّه - حکومهً أو کشفاً ، علی ماتعرف - ، ولا یکاد یستقلّ بها بدونها .
وهی خمس:
أُولاها (3): أ نّه یعلم إجمالاً بثبوت تکالیف کثیره فعلیّه فی الشریعه .
ثانیتها: أ نّه قد انسدّ علینا باب العلم والعلمیّ إلی کثیر منها .
ثالثتها: أ نّه لا یجوز لنا إهمالها ، وعدم التعرّض لامتثالها أصلاً .
رابعتها: أ نّه لا یجب علینا الاحتیاط فی أطراف علمنا ، بل لا یجوز فی الجمله ، کما لا یجوز الرجوع إلی الأصل فی المسأله ، من استصحابٍ وتخییر وبراءه واحتیاط ، ولا إلی فتوی العالم بحکمها .
ص :92
خامستها: أ نّه کان ترجیح المرجوح علی الراجح قبیحاً (1)(2) .
فیستقلّ العقل حینئذٍ بلزوم الإطاعه الظنّیّه لتلک التکالیف المعلومه ، وإلّا لزم - بعد انسداد باب العلم والعلمیّ بها - : إمّا إهمالها ، وإمّا لزوم الاحتیاط فی أطرافها ، وإمّا الرجوع إلی الأصل الجاری فی کلّ مسأله ، - مع قطع النظر عن العلم بها - أو التقلید فیها ، أو الاکتفاء بالإطاعه الشکّیّه أو الوهمیّه مع التمکّن من الظنّیّه .
والفرض بطلان کلّ واحد منها :
أمّا المقدّمه الأُولی: فهی وإن کانت بدیهیّهً ، إلّاأ نّه قد عرفت (3) انحلالَ العلم الإجمالیّ بما فی الأخبار الصادره عن الأئمّه الطاهرین علیهم السلام ، الّتی تکون فی ما بأیدینا ، من الروایات فی الکتب المعتبره ، ومعه لا موجب للاحتیاط إلّافی خصوص ما فی الروایات ، وهو غیر مستلزم للعسر ، فضلاً عمّا یوجب الاختلال ، ولا إجماع علی عدم وجوبه ، ولو سُلّم الإجماع علی عدم وجوبه لو لم یکن هناک انحلال .
وأمّا المقدّمه الثانیه: فأمّا بالنسبه إلی العلم: فهی بالنسبه إلی أمثال زماننا بیّنه وجدانیّه ، یَعرف الانسدادَ کلُّ من تعرّض للاستنباط والاجتهاد .
ص :93
وأمّا بالنسبه إلی العلمیّ: فالظاهر أ نّها غیر ثابته؛ لما عرفت من نهوض الأدلّه علی حجّیّه خبرٍ یوثق بصدقه ، وهو - بحمد اللّٰه - وافٍ بمعظم الفقه ، لا سیّما بضمیمه ما عُلم تفصیلاً منها ، کما لا یخفی .
وأمّا الثالثه: فهی قطعیّه ، ولو لم نقل بکون العلم الإجمالیّ منجِّزاً مطلقاً ، أو فی ما جاز أو وجب الاقتحام فی بعض أطرافه ، کما فی المقام ، حسب ما یأتی (1)؛ وذلک لأنّ إهمال معظم الأحکام ، وعدمَ الاجتناب کثیراً عن الحرام ، ممّا یقطع بأ نّه مرغوب عنه شرعاً ، وممّا یلزم ترکه إجماعاً .
إن قلت: إذا لم یکن العلمُ بها منجِّزاً لها؛ - للزوم الاقتحام فی بعض الأطراف، کما أُشیر إلیه - فهل کان العقاب علی المخالفه فی سائر الأطراف حینئذٍ - علی تقدیر المصادفه - إلّاعقاباً بلا بیان ، والمؤاخذهُ علیها إلّامؤاخذهً بلا برهان ؟
قلت: هذا إنّما یلزم لو لم یُعلم بإیجاب الاحتیاط ، وقد عُلم به بنحو اللمّ؛ حیث عُلم اهتمام الشارع بمراعاه تکالیفه ، بحیث ینافیه عدمُ إیجابه الاحتیاطَ الموجَب للزوم المراعاه ، ولوکان بالالتزام ببعض المحتملات .
مع صحّه دعوی الإجماع علی عدم جواز الإهمال فی هذا الحال ، وأ نّه مرغوب عنه شرعاً قطعاً (2) ، فلا تکون المؤاخذه والعقاب حینئذٍ بلا بیان وبلا برهان ، کما حقّقناه فی البحث وغیره .
ص :94
وأمّا المقدّمه الرابعه: فهی بالنسبه إلی عدم وجوب الاحتیاط التامّ بلا کلام ، فی ما یوجب عُسْرُه اختلالَ النظام .
وأمّا فی ما لا یوجب فمحلُّ نظرٍ ، بل مَنْعٍ؛ لعدم حکومه قاعده نفی العسر والحرج علی قاعده الاحتیاط؛ وذلک لما حقّقناه فی معنی ما دلّ علی نفی الضرر والعُسْر (1) ، من أنّ التوفیق بین دلیلهما ودلیلِ التکلیف ، أو الوضع - المتعلّقین بما یعمّهما - ، هو : نفیهما عنهما بلسان نفیهما ، فلا یکون له حکومه علی الاحتیاط العَسِر إذا کان بحکم العقل؛ لعدم العُسْر فی متعلّق التکلیف ، وإنّما هو فی الجمع بین محتملاته احتیاطاً .
نعم ، لو کان معناه نفیَ الحکم الناشی من قِبَله العسر - کما قیل (2) - لکانت قاعده نفیه محکّمهً علی قاعده الاحتیاط؛ لأنّ العسر حینئذٍ یکون من قِبَل التکالیف المجهوله ، فتکون منفیّه بنفیه .
ولا یخفی: أ نّه علی هذا لا وجه لدعوی استقلال العقل بوجوب الاحتیاط فی بعض الأطراف ، بعد رفع الید عن الاحتیاط فی تمامها (3) ، بل لابدّ من دعوی وجوبه شرعاً، کما أشرنا إلیه فی بیان المقدّمه الثالثه ، فافهم وتأمّل جیّداً .
وأمّا الرجوع إلی الأُصول: فبالنسبه إلی الأُصول المثبته - من احتیاطٍ أو استصحابٍ مثبِتٍ للتکلیف - فلا مانع عن إجرائها عقلاً مع حکم العقل وعموم النقل .
ص :95
هذا ، ولو قیل بعدم جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالیّ؛ لاستلزام شمول دلیله لها التناقُضَ فی مدلوله؛ بداههَ تناقض حرمه النقض فی کلٍّ منها - بمقتضیٰ : «لا تنقض» - لوجوبه فی البعض ، کما هو قضیّه : «ولکن تنقضه بیقین آخر» .
وذلک لأنّه إنّما یلزم فی ما إذا کان الشکّ فی أطرافه فعلیّاً ، وأمّا إذا لم یکن کذلک ، بل لم یکن الشکّ فعلاً إلّافی بعض أطرافه ، وکان بعض أطرافه الآخرُ غیرَ ملتفتٍ إلیه فعلاً أصلاً - کما هو حال المجتهد فی مقام استنباط الأحکام ، کما لا یخفی - فلا یکاد یلزم ذلک؛ فإنّ قضیّه :
«لا تنقض» لیس حینئذٍ إلّاحرمه النقض فی خصوص الطرف المشکوک ، ولیس فیه علم بالانتقاض ، کی یلزم التناقض فی مدلول دلیله من شموله له ، فافهم .
ومنه قد انقدح : ثبوت حکم العقل وعموم النقل بالنسبه إلی الأُصول النافیه أیضاً ، وأ نّه لا یلزم محذورُ لزوم التناقض من شمول الدلیل لها ، لو لم یکن هناک مانع - عقلاً أو شرعاً - من إجرائها ، ولا مانع کذلک لو کانت موارد الأُصول المثبته - بضمیمه ما علم تفصیلاً ، أو نهض علیه علمیّ - بمقدار المعلوم إجمالاً ، بل بمقدارٍ لم یکن معه مجال لاستکشاف إیجاب الاحتیاط ، وإن لم یکن بذاک المقدار ، ومن الواضح أ نّه یختلف باختلاف الأشخاص والأحوال .
وقد ظهر بذلک: أنّ العلم الإجمالیّ بالتکالیف ربما ینحلّ ببرکه جریان الأُصول المثبته وتلک الضمیمه ، فلا موجب حینئذٍ للاحتیاط عقلاً ولا شرعاً أصلاً ، کما لا یخفی .
ص :96
کما ظهر: أ نّه لولم ینحلّ بذلک ، کان خصوص موارد الأُصول النافیه ، مطلقاً - ولو من مظنونات عدم التکلیف (1) - محلّاً للاحتیاط فعلاً - ویرفع الید عنه فیها کلاًّ أو بعضاً ، بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر علی ما عرفت - ، لا محتملات التکلیف مطلقاً (2) .
وأمّا الرجوع إلی فتوی العالم: فلا یکاد یجوز؛ ضرورهَ أ نّه لا یجوز إلّا للجاهل ، لا للفاضل الّذی یریٰ خطأ من یدّعی انفتاح باب العلم أو العلمیّ ، فهل یکون رجوعه إلیه بنظره إلّامن قبیل رجوع الفاضل إلی الجاهل ؟
وأمّا المقدّمه الخامسه: فلاستقلال العقل بها ، وأ نّه لایجوز التنزّل - بعد عدم التمکّن من الإطاعه العلمیّه ، أو عدم وجوبها - إلّاإلی الإطاعه الظنّیّه ، دون الشکّیّه أو الوهمیّه؛ لبداهه مرجوحیّتهما بالإضافه إلیها ، وقبحِ ترجیح المرجوح علی الراجح .
لکنّک عرفت عدم وصول النوبه إلی الإطاعه الاحتمالیّه ، مع دوران الأمر (3) بین الظنّیّه والشکّیّه أو الوهمیّه (4) ، من جهه ما أوردناه علی المقدّمه الأُولی من : انحلال العلم الإجمالیّ بما فی أخبار الکتب المعتبره ، وقضیّتُه (5)
ص :97
الاحتیاط بالالتزام (1) عملاً بما فیها من التکالیف ، ولا بأس به؛ حیث لا یلزم منه عسرٌ ، فضلاً عمّا یوجب اختلال النظام .
وما أوردناه علی المقدّمه الرابعه من جواز الرجوع إلی الأُصول مطلقاً ، ولو کانت نافیهً؛ لوجود المقتضی وفقد المانع عنه ، لو کان التکلیف - فی موارد الأُصول المثبته ، وما علم منه تفصیلاً ، أو نهض علیه دلیلٌ معتبرٌ - بمقدار المعلوم بالإجمال ، وإلّا فإلی الأُصول المثتبه وحدها .
وحینئذٍ کان خصوص موارد الأُصول النافیه محلّاً لحکومه العقل ، وترجیحِ مظنونات التکلیف منها (2) علی غیرها ، ولو بعد استکشاف وجوب الاحتیاط فی الجمله شرعاً ، بعد عدم وجوب الاحتیاط التامّ شرعاً أو عقلاً ، علی ما عرفت تفصیله .
هذا هو التحقیق علی ما یساعد علیه النظر الدقیق ، فافهم وتدبّر جیّداً .
هل قضیّه المقدّمات - علی تقدیر سلامتها - هی حجّیّه الظنّ بالواقع ، أو بالطریق ، أو بهما ؟
أقوال :
ص :98
والتحقیق أن یقال: إنّه لا شبهه فی أنّ هَمّ العقل فی کلّ حال ، إنّما هو تحصیل الأمن من تبعه التکالیف المعلومه ، من العقوبه علی مخالفتها .
کما لا شبهه فی استقلاله فی تعیین ما هو المؤمِّن منها ، وفی أنّ کلّ ما کان القطع به مؤمِّناً فی حال الانفتاح ، کان الظنّ به مؤمّناً حالَ الانسداد جزماً ، وأنّ المؤمِّن فی حال الانفتاح هو القطع بإتیان المکلّف به الواقعیّ بما هو کذلک - لا بما هو معلوم ، ومؤدّی الطریق ، ومتعلَّقُ العلم ، وهو طریقٌ (1) شرعاً وعقلاً - أو بإتیانه الجعلیّ؛ وذلک لأنّ العقل قد استقلّ بأنّ الإتیان بالمکلّف به الحقیقیّ بما هو هو - لا بما هو مؤدّی الطریق - مبرئٌ للذمّه قطعاً .
کیف ؟ وقد عرفت : أنّ القطع بنفسه طریقٌ لایکاد تناله یدُ الجعل إحداثاً وإمضاءً ، إثباتاً ونفیاً . ولا یخفی : أنّ قضیّه ذلک هو التنزّل إلی الظنّ بکلّ واحد من الواقع والطریق .
ولا منشأ لتوهّم الاختصاص بالظنّ بالواقع ، إلّاتوهّمُ أ نّه قضیّهُ اختصاص المقدّمات بالفروع ؛ - لعدم انسداد باب العلم فی الأُصول ، وعدمِ إلجاءٍ فی التنزّل إلی الظنّ فیها - . والغفله عن أنّ جریانها فی الفروع ، موجبٌ لکفایه الظنّ بالطریق فی مقام تحصیل (2) الأمن من عقوبه التکالیف (3) ، وإن کان باب العلم فی غالب الأُصول مفتوحاً ؛ وذلک لعدم التفاوت فی نظر العقل - فی ذلک - بین الظنّین .
کما أنّ منشأ توهّم الاختصاص بالظنّ بالطریق وجهان:
أحدهما: ما أفاده بعضُ الفحول (4) . وتبعه فی الفصول ، قال فیها: «إنّا کما
ص :99
نقطع بأ نّا مکلّفون - فی زماننا هذا - تکلیفاً فعلیّاً بأحکامٍ فرعیّه کثیره ، لا سبیل لنا - بحکم العیان وشهاده الوجدان - إلی تحصیل کثیر منها بالقطع ، ولا بطریقٍ معیّنٍ یقطع من السمع - بحکم الشارع - بقیامه ، أو قیام طریقه مقام القطع ولو عند تعذّره ، کذلک نقطع بأنّ الشارع قد جعل لنا إلی تلک الأحکام طریقاً مخصوصاً ، وکلَّفنا تکلیفاً فعلیّاً بالعمل بمؤدّیٰ طرقٍ مخصوصه ، وحیث إنّه لا سبیل غالباً إلی تعیینها بالقطع ، ولا بطریقٍ یقطع من السمع بقیامه بالخصوص ، أو قیامِ طریقه کذلک مقام القطع ولو بعد تعذّره ، فلا ریب أنّ الوظیفه - فی مثل ذلک - بحکم العقل ، إنّما هو الرجوع - فی تعیین ذلک الطریق - إلی الظنّ الفعلیّ الّذی لادلیل علی عدم حجّیّته (1)؛ لأنّه أقرب إلی العلم وإلی إصابه الواقع ممّا عداه» (2) .
وفیه أوّلاً (3) : - بعد تسلیم العلم بنصب طُرُقٍ خاصّه ، باقیهٍ فی ما بأیدینا من الطرق غیرِ العلمیّه ، وعدمِ وجود المتیقّن بینها أصلاً - أنّ قضیّه ذلک هو الاحتیاط فی أطراف هذه الطرق المعلومه بالإجمال ، لا تعیینها بالظنّ .
لا یقال (4): الفرض هو عدم وجوب الاحتیاط ، بل عدم جوازه .
ص :100
لأنّ الفرض إنّما هو عدم وجوب الاحتیاط التامّ فی أطراف الأحکام ، ممّا یوجب العسر المخلَّ بالنظام (1) ، لا الاحتیاط فی خصوص ما بأیدینا من الطرق؛ فإنّ قضیّه هذا الاحتیاط هو جواز رفع الید عنه فی غیر مواردها (2) ، والرجوعُ إلی الأصل فیها ولو کان نافیاً للتکلیف .
وکذا فی ما إذا نهض (3) الکلّ علی نفیه .
وکذا فی ما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف فیه - نفیاً وإثباتاً - ، مع ثبوت المرجِّح للنافی، بل مع عدم رجحان المثبِت فی خصوص الخبر منها، ومطلقاً فی غیره، بناءً علی عدم ثبوت الترجیح - علیٰ تقدیر الاعتبار - فی غیر الأخبار .
وکذا لو تعارض إثنان منها فی الوجوب والتحریم ، فإنّ المرجع - فی جمیع ما ذکر من موارد التعارض هو الأصل الجاری فیها ولو کان نافیاً؛ لعدم نهوض طریق معتبر ، ولا ما هو من أطراف العلم به ، علی خلافه ، فافهم .
وکذا کلُّ موردٍ لم یجرِ فیه الأصل المثبِت؛ للعلم بانتقاض الحاله السابقه فیه إجمالاً ، بسبب العلم به (4) أو بقیام أماره معتبره علیه فی بعض أطرافه ، بناءً علی عدم جریانه بذلک (4) .
ص :101
وثانیاً: لو سلّم أنّ قضیَّته لزوم التنزّل إلی الظنّ ، فتوهُّم : أنّ الوظیفه حینئذٍ هو خصوص الظنّ بالطریق ، فاسدٌ قطعاً؛ وذلک لعدم کونه أقرب إلی العلم وإصابهِ الواقع ، من الظنّ بکونه مؤدّی طریقٍ معتبرٍ - من دون الظنّ بحجّیّه طریق أصلاً - ، ومن الظنّ بالواقع ، کما لا یخفی .
لا یقال: إنّما لا یکون أقرب من الظنّ بالواقع ، إذا لم یصرف التکلیف الفعلیّ عنه إلی مؤدّیات الطرق ولو بنحو التقیید (1) .
فإنّ الالتزام به بعیدٌ؛ إذ الصرف لو لم یکن تصویباً محالاً ، فلا أقلّ من کونه مجمعاً علی بطلانه؛ ضروره (2) أنّ القطع بالواقع یُجدی فی الإجزاء بما هو واقع ، لا بما هو مؤدّیٰ طریق القطع (3) ، کما عرفت (4) .
ومن هنا انقدح: أنّ التقیید أیضاً غیر سدید ، مع أنّ الالتزام بذلک غیر مفید؛ فإنّ الظنّ بالواقع فی ما ابتلی به من التکالیف ، لا یکاد ینفکّ عن الظنّ بأ نّه مؤدّی طریق معتبر .
ص :102
والظنّ بالطریق ما لم یظنّ بإصابه (1) الواقع - غیر مجدٍ بناءً علی التقیید؛ لعدم استلزامه الظنَّ بالواقع المقیَّد به بدونه ، هذا .
مع عدم مساعده نصب الطریق علی الصرف ، ولاعلی التقیید . غایته أنّ العلم الإجمالیّ بنصب طرقٍ وافیهٍ ، یوجب انحلالَ العلم بالتکالیف الواقعیّه إلی العلم بما هو مضامین الطرق المنصوبه من التکالیف الفعلیّه . والانحلال وإن کان یوجب عدم تنجّز مالم یؤدّ إلیه الطریق من التکالیف الواقعیّه ، إلّاأ نّه إذا کان رعایهُ العلم بالنصب لازماً ، والفرضُ عدمُ اللزوم بل عدم الجواز .
وعلیه تکون التکالیف الواقعیه کما إذا لم یکن هناک علْمٌ بالنصب ، فی کفایه الظنّ بها حال انسداد باب العلم ، کما لا یخفی .
ولابدّ حینئذٍ من عنایه أُخری (2)* فی لزوم رعایه الواقعیّات بنحوٍ من
ص :103
الإطاعه ، وعدمِ إهمالها رأساً ، کما أشرنا إلیها (1) .
ولا شبهه فی أنّ الظنّ بالواقع لو لم یکن أولیٰ حینئذٍ - لکونه أقرب فی التوسّل به إلی ما به الاهتمام ، من فعل الواجب و (2)ترک الحرام - من الظنّ بالطریق ، فلا أقلّ من کونه مساویاً فی ما یهمّ العقل ، من تحصیل الأمن من العقوبه فی کلّ حال ، هذا .
مع ما عرفت (3) من أ نّه عادهً یلازم الظنّ بأ نّه مؤدّیٰ طریق ، وهو - بلا شبهه - یکفی ولو لم یکن هناک ظنّ بالطریق ، فافهم فإنّه دقیق .
ثانیهما: ما اختصّ به بعض المحقّقین ، قال: «لا ریب فی کوننا مکلّفین بالأحکام الشرعیّه ، ولم یسقط عنّا التکلیف بالأحکام الشرعیّه ، وأنّ الواجب علینا أوّلاً هو : تحصیل العلم بتفریغ الذمّه فی حکم المکلِّف ، بأن یقطع معه بحکمه بتفریغ ذمّتنا عمّا کُلّفنا به ، وسقوطِ تکلیفنا عنّا ، سواءً حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا ، حسبما مرّ تفصیل القول فیه . فحینئذٍ نقول: إن صحّ لنا تحصیل العلم بتفریغ ذمّتنا فی حکم الشارع ، فلا إشکال فی وجوبه وحصول البراءه به ، وإن انسدّ علینا سبیل العلم ، کان الواجب علینا تحصیل الظنّ بالبراءه فی حکمه؛ إذ هو الأقرب إلی العلم به ، فیتعیّن الأخذ به عند التنزّل من العلم فی حکم العقل - بعد انسداد سبیل العلم والقطعِ ببقاء التکلیف - دون ما یحصل معه الظنّ بأداء الواقع ، کما یدّعیه القائل بأصاله حجّیّه
ص :104
الظنّ» (1) . انتهٰ موضع الحاجه من کلامه - زید فی علوّ مقامه
وفیه أوّلاً: أنّ الحاکم - علی الاستقلال - فی باب تفریغ الذمّه - بالإطاعه والامتثال - إنّما هو العقل ، ولیس للشارع فی هذا الباب حکمٌ مولویّ یتبعه حکم العقل ، ولو حکَم فی هذا الباب کان بتبع حکمه إرشاداً إلیه ، وقد عرفت (2) استقلاله بکون الواقع - بما هو هو - مفرّغاً (3) ، وأنّ القطع به حقیقهً أو تعبّداً مؤمِّن جزماً ، وأنّ المؤمِّن فی حال الانسداد هو الظنّ بما کان القطع به مؤمِّناً حال الانفتاح ، فیکون الظنّ بالواقع أیضاً مؤمِّناً حال الانسداد .
وثانیاً (4): سلّمنا ذلک ، لکن حکمه بتفریغ الذمّه - فی ما إذا أتی المکلّف بمؤدّی الطریق المنصوب - لیس إلّابدعویٰ أنّ النصب یستلزمه، مع أنّ دعوی:
أنّ التکلیف بالواقع یستلزم حکمَه بالتفریغ فی ما إذا أتی به أولی ، کما لا یخفی ، فیکون الظنّ به ظنّاً بالحکم بالتفریغ أیضاً .
إن قلت: کیف یستلزمه الظنُّ (5) بالواقع ؟ مع أ نّه ربما یقطع بعدم حکمه
ص :105
به معه ، کما إذا کان (1) من القیاس ، وهذا بخلاف الظنّ بالطریق ، فإنّه یستلزمه ولو کان من القیاس .
قلت: الظنّ بالواقع أیضاً یستلزم الظنّ بحکمه بالتفریغ (2)* (3) ، ولا ینافی القطعَ بعدم حجّیّته لدی الشارع ، وعدَمَ کون المکلّف معذوراً - إذا عمل به فیهما - فی ما أخطأ ، بل کان مستحقّاً للعقاب - ولو فی ما أصاب - لو بنی علی حجّیّته والاقتصار علیه؛ لتجرّیه (4) ، فافهم .
وثالثاً: سلّمنا أنّ الظنّ بالواقع لایستلزم الظنّ به ، لکن قضیّته لیس إلّا التنزّلَ إلی الظنّ بأ نّه مؤدّیٰ طریق معتبر ، لا خصوصَ الظنّ بالطریق ، وقد عرفت : أنّ الظنّ بالواقع لا یکاد ینفکّ عن الظنّ بأ نّه مؤدّی الطریق غالباً .
ص :106
لا یخفی : عدم مساعده مقدّمات الانسداد علی الدلاله علی کون الظنّ طریقاً منصوباً شرعاً؛ ضروره أ نّه معها لا یجب عقلاً علی الشارع أن ینصب طریقاً؛ لجواز اجتزائه بما استقلّ به العقل فی هذا الحال .
ولا مجال لاستکشاف نصب الشارع من حکم العقل ، لقاعده الملازمه؛ ضروره أ نّها إنّما تکون فی موردٍ قابلٍ للحکم الشرعیّ ، والموردُ هاهنا غیر قابل له؛ فإنّ الإطاعه الظنّیّه - الّتی یستقلّ العقل بکفایتها فی حال الانسداد - إنّما هی بمعنی عدم جواز مؤاخذه الشارع بأزید منها ، وعدمِ جواز اقتصار المکلّف بدونها . ومؤاخذه الشارع غیر قابله لحکمه ، وهو واضح (1) .
واقتصار المکلّف بما دونها ، لمّا کان بنفسه موجباً للعقاب مطلقاً ، أو فی ما أصاب (2) الظنّ - کما أ نّها بنفسها موجبهٌ للثواب ، أخطأ أو أصاب ، من دون حاجه إلی أمرٍ بها أو نهی عن مخالفتها - کان حکم الشارع فیه مولویّاً بلاملاک یوجبه ، کما لا یخفی ، ولا بأس به إرشادیّاً ، کما هو شأنه فی حکمه بوجوب الإطاعه وحرمه المعصیه .
ص :107
وصحّه نصبه (1) الطریقَ وجعلِهِ - فی کلّ حال - بملاکٍ یوجب نصبَه ، وحکمهٍ داعیه إلیه ، لا تنافی استقلال العقل بلزوم الإطاعه بنحوٍ حالَ الانسداد ، کما یحکم بلزومها بنحوٍ آخر حال الانفتاح ، من دون استکشاف حکم الشارع بلزومها مولویّاً؛ لما عرفت .
فانقدح بذلک : عدم صحّه تقریر المقدّمات إلّاعلی نحو الحکومه ، دون الکشف .
وعلیها (2) فلا إهمالَ فی النتیجه أصلاً ، سبباً ومورداً ومرتبهً؛ لعدم تطرّق الإهمال و (3)الإجمال فی حکم العقل ، کما لا یخفی :
أمّا بحسب الأسباب: فلا تفاوت بنظره فیها .
وأمّا بحسب الموارد: فیمکن أن یقال بعدم استقلاله بکفایه الإطاعه الظنّیّه ، إلّافی ما لیس للشارع مزید اهتمامٍ فیه بفعل الواجب وترک الحرام ، واستقلالِه بوجوب الاحتیاط فی ما فیه مزید الاهتمام ، کما فی الفروج والدماء ، بل وسائر حقوق الناس ، ممّا لا یلزم من الاحتیاط فیها العسر .
وأمّا بحسب المرتبه: فکذلک لا یستقلّ إلّابلزوم التنزّل إلی مرتبه الاطمئنان من الظنّ بعدم التکلیف ، إلّا (4)علی تقدیر عدم کفایتها فی دفع محذور العسر .
ص :108
وأمّا علی تقریر الکشف: فلو قیل بکون النتیجه هو نصب الطریق الواصل بنفسه ، فلا إهمال فیها أیضاً بحسب الأسباب ، بل یستکشف حینئذٍ أنّ الکلّ حجّه لو لم یکن بینها ما هو المتیقّن ، وإلّا فلا مجال لاستکشاف حجّیّه (1) غیره .
ولا بحسب الموارد ، بل یحکم بحجّیّته فی جمیعها ، وإلّا لزم عدم وصول الحجّه ، ولو لأجل التردّد فی مواردها ، کما لا یخفی .
ودعوی الإجماع (2) علی التعمیم بحسبها فی مثل هذه المسأله المستحدثه ، مجازفهٌ جدّاً .
وأمّا بحسب المرتبه: ففیها إهمال؛ لأجل احتمال حجّیّه خصوص الاطمئنانیّ منه إذا کان وافیاً ، فلابدّ من الاقتصار علیه .
ولو قیل : بأنّ النتیجه هو نصب الطریق الواصل ، ولو بطریقه ، فلا إهمال فیها بحسب الأسباب ، لو لم یکن بینها (3) تفاوت أصلاً ، أو لم یکن بینها إلّاواحد ، وإلّا فلابدّ من الاقتصار علی متیقّن الاعتبار منها أو مظنونِه ، بإجراء مقدّمات دلیل الانسداد حینئذٍ مرّهً أو مرّات فی تعیین الطریق المنصوب ، حتّی ینتهی إلی ظنٍّ واحد ، أو إلی ظنون متعدّدهٍ لا تفاوت بینها ، فیحکم بحجّیّه کلّها ، أو متفاوتهٍ یکون بعضها الوافی متیقّنَ الاعتبار ، فیقتصر علیه .
وأمّا بحسب الموارد والمرتبه ، فکما إذا کانت النتیجه هی الطریق الواصل بنفسه ، فتدبّر جیّداً .
ص :109
ولو قیل : بأنّ النتیجه هو الطریق ولو لم یصل أصلاً ، فالإهمالُ فیها یکون من الجهات . ولامحیص حینئذٍ إلّامن (1) الاحتیاط فی الطریق بمراعاه أطراف الاحتمال ، لو لم یکن بینها متیقّنُ الاعتبار ، لو لم یلزم منه محذور ، وإلّا لزم التنزّل إلی حکومه العقل بالاستقلال ، فتأمّل ، فإنّ المقام من مزالّ الأقدام .
وهمٌ و دفعٌ (2):
لعلّک تقول: إنّ القدر المتیقّن الوافی لو کان فی البین ، لما کان مجالٌ لدلیل الانسداد؛ ضروره أ نّه من مقدّماته : انسداد باب العلمیّ أیضاً .
لکنّک غفلت عن أنّ المراد : ما إذا کان الیقین بالاعتبار من قِبَله ، لأجل الیقین بأ نّه لو کان شیءٌ حجّهً شرعاً ، کان هذا الشیء حجّهً قطعاً؛ بداهه أنّ الدلیل علی أحد المتلازمین إنّما هو الدلیل علی الآخر ، لا الدلیلُ علی الملازمه .
ثمّ لا یخفی (3): أنّ الظنّ باعتبار ظنٍّ بالخصوص ، یوجب الیقین باعتباره من باب دلیل الانسداد علی تقریر الکشف ، بناءً علی کون النتیجه هو الطریق الواصل بنفسه ، فإنّه حینئذٍ یقطع بکونه حجّهً ، کان غیره حجّهً أو لا .
ص :110
واحتمال عدم حجّیّته بالخصوص (1) ، لا ینافی القطعَ بحجّیّته بملاحظه الانسداد؛ ضروره أ نّه علی الفرض لا یحتمل أن یکون غیره حجّهً بلا نصب قرینه ، ولکنّه من المحتمل أن یکون هو الحجّه دون غیره؛ لما فیه من خصوصیّه الظنّ بالاعتبار .
وبالجمله: الأمر یدور بین حجّیّه الکلّ وحجّیّته ، فیکون مقطوعَ الاعتبار.
ومن هنا ظهر حال القوّه .
ولعلّ نظر من رجّح بهما (2) إلی هذا الفرض (3) ، وکان منع شیخنا العلّامه - أعلی اللّٰه مقامه - عن الترجیح بهما (4) بناءً علی کون النتیجه هو الطریق الواصل ولو بطریقه ، أو الطریق ولولم یصل أصلاً . وبذلک ربما یوفّق بین کلمات الأعلام فی المقام ، وعلیک بالتأمّل التامّ .
ثمّ لا یذهب علیک: أنّ الترجیح بهما إنّما هو علی تقدیر کفایه الراجح (5) ، وإلّا فلابدّ من التعدّی إلی غیره بمقدار الکفایه ، فیختلف الحال باختلاف الأنظار ، بل الأحوال .
ص :111
وأمّا تعمیم النتیجه - بأنّ قضیّه العلم الإجمالیّ بالطریق هو الاحتیاط فی أطرافه (1) - : فهو لا یکاد یتمّ إلّاعلی تقدیر کون النتیجه هو نصب الطریق ، ولو لم یصل أصلاً .
مع أنّ التعمیم بذلک لا یوجب العمل إلّاعلی وفق المثبتات من الأطراف ، دون النافیات ، إلّافی ما إذا کان هناک نافٍ من جمیع الأصناف؛ ضروره أنّ الاحتیاط فیها لا یقتضی رفع الید عن الاحتیاط فی المسأله الفرعیّه إذا لزم؛ حیث لا ینافیه؛ کیف ؟ ویجوز الاحتیاط فیها مع قیام الحجّه النافیه ، کما لا یخفی ، فما ظنّک بما لا یجب الأخذ بموجَبه إلّامن باب الاحتیاط ؟ فافهم .
وتقریره - علی ما فی الرسائل - : «أ نّه کیف یجامع حکم العقل بکون الظنّ کالعلم مناطاً للإطاعه والمعصیه ، ویقبح علی الآمر والمأمور التعدّی عنه ، ومع ذلک یحصل الظنّ أو خصوص الاطمئنان من القیاس ، ولا یجوّز الشارع
ص :112
العمل به ؟ فإنّ المنع عن العمل بما یقتضیه العقل - من الظنّ أو خصوص الاطمئنان - لو فرض ممکناً ، جریٰ فی غیر القیاس ، فلا یکون العقل مستقلّاً؛ إذ لعلّه نهی عن أماره ، مثل ما نهی عن القیاس (1) ، واختفی علینا . ولا دافع لهذا الاحتمال إلّاقبح ذلک علی الشارع؛ إذ احتمال صدور الممکن بالذات عن الحکیم لا یرتفع إلّابقبحه ، وهذا من أفراد ما اشتهر من : أنّ الدلیل العقلیّ لا یقبل التخصیص» (2) . انته موضع الحاجه من کلامه - زید فی علوّ مقامه - .
وأنت خبیرٌ بأ نّه لا وقع لهذا الإشکال ، بعد وضوح کون حکم العقل بذلک معلّقاً علی عدم نصب الشارع طریقاً واصلاً ، وعدمِ حکمِهِ به فی ما کان هناک منصوب ولو کان أصلاً (3)؛ بداهه أنّ من مقدّمات حکمه : عدمَ وجود علمٍ ولا علمیّ ، فلا موضوع لحکمه مع أحدهما .
والنهی عن ظنٍّ حاصل من سبب ، لیس إلّاکنصب شیء ، بل هو یستلزمه فی ما کان فی مورده أصل شرعیّ ، فلا یکون نهیه عنه رفعاً لحکمه عن موضوعه ، بل به یرتفع موضوعه ، ولیس حال النهی عن سبب مفیدٍ للظنّ إلّاکالأمر بما لا یفیده . وکما لا حکومه معه للعقل ، لا حکومه (4) له معه ، وکما لا یصحّ بلحاظ حکمه الإشکالُ فیه ، لا یصحّ الإشکال فیه (5) بلحاظه .
ص :113
نعم ، لا بأس بالإشکال فیه فی نفسه ، کما اشکل فیه برأسه ، بملاحظه توهّم استلزام النصب لمحاذیر ، تقدَّمَ الکلام فی تقریرها - وما هو التحقیق فی جوابها - فی جعل الطرق (1) . غایه الأمر ، تلک المحاذیر - الّتی تکون فی ما إذا أخطأ الطریق المنصوب - کانت فی الطریق المنهیّ عنه فی مورد الإصابه .
ولکن من الواضح أ نّه لا دخل لذلک فی الإشکال علی دلیل الانسداد بخروج القیاس؛ ضروره أ نّه بعد الفراغ عن صحّه النهی عنه فی الجمله ، قد اشکل فی عموم النهی لحال الانسداد بملاحظه حکم العقل . وقد عرفت أ نّه بمکان من الفساد .
واستلزام إمکان المنع عنه - لاحتمال المنع عن أماره أُخری ، وقد اختفی علینا - وإن کان موجباً لعدم استقلال العقل ، إلّاأ نّه إنّما یکون بالإضافه إلی تلک الأماره ، لو کان غیرُها ممّا لا یحتمل فیه المنع بمقدار الکفایه ، وإلّا فلا مجال لاحتمال المنع فیها مع فرض استقلال العقل؛ ضروره عدم استقلاله بحکمٍ مع احتمال وجود مانعه ، علی ما یأتی تحقیقه فی الظنّ المانع والممنوع (2) .
وقیاس (3) حکم العقل - بکون الظنّ مناطاً للإطاعه فی هذا الحال - علی حکمه بکون العلم مناطاً لها فی حال الانفتاح ، لا یکاد یخفیٰ علی أحدٍ فسادُه؛ لوضوح أ نّه مع الفارق؛ ضروره أنّ حکمه فی العلم علی نحو التنجّز ، وفیه علی نحو التعلیق .
ص :114
ثمّ لا یکاد ینقضی تعجّبی : لِمَ خصّصوا الإشکال بالنهی عن القیاس ؟ مع جریانه فی الأمر بطریق غیرِ مفید للظنّ ، بداهه انتفاء حکمه فی مورد الطریق قطعاً ، مع أ نّه لا یُظنّ بأحد أن یستشکل بذلک ، ولیس إلّالأجل أنّ حکمه به معلّق علی عدم النصب ، ومعه لا حکم له ، کما هو کذلک مع النهی عن بعض أفراد الظنّ ، فتدبّر جیّداً .
وقد انقدح بذلک: أ نّه لا وقْع للجواب عن الإشکال :
تارهً : بأنّ المنع عن القیاس لأجل کونه غالبَ المخالفه (1) .
وأُخری : بأنّ العمل به یکون ذا مفسده غالبه علی مصلحه الواقع الثابتهِ عند الإصابه (2) .
وذلک لبداهه أ نّه إنّما یُشکل بخروجه - بعد الفراغ عن صحّه المنع عنه فی نفسه - بملاحظه حکم العقل بحجّیّه الظنّ ، ولا یکاد یجدی صحّتُه کذلک - فی التفصّی (3) عن الإشکال - فی صحّته بهذا اللحاظ ، فافهم ، فإنّه لا یخلو عن دقّه .
وأمّا ما قیل فی جوابه - من منع عموم المنع عنه بحال الانسداد ، أو منعِ حصول الظنّ منه بعد انکشاف حاله (4) ، وأنّ ما یفسده أکثرُ ممّا
ص :115
یصلحه (1) - ، ففی غایه الفساد؛ فإنّه - مضافاً إلی کون کلّ واحدٍ من المنعین غیرَ سدید؛ لدعوی الإجماع علی عموم المنع ، مع إطلاق أدلّته ، وعمومِ علّته ، وشهادهِ الوجدان (2) بحصول الظنّ منه فی بعض الأحیان - لا یکاد یکون فی دفع الإشکال - بالقطع بخروج الظنّ الناشئ منه - بمفید ، غایه الأمر أ نّه لا إشکال (3) مع فرض أحد المنعین ، لکنّه غیر فرض الإشکال ، فتدبّر جیّداً .
فصل الظنّ المانع والممنوع
]
إذا قام ظنٌّ علی عدم حجّیّه ظنٍّ بالخصوص ، فالتحقیق أن یقال - بعد تصوّر المنع عن بعض الظنون فی حال الانسداد - : إنّه لا استقلال للعقل بحجّیّه ظنٍّ احتمل المنع عنه ، فضلاً عمّا إذا ظُنّ - کما أشرنا إلیه فی الفصل السابق (4) - ؛ فلابدّ من الاقتصار علی ظنٍّ قطع بعدم المنع عنه بالخصوص ، فإن کفیٰ ، وإلّا فبضمیمه ما لم یظنّ المنع عنه وإن احتمل ، مع قطع النظر عن مقدّمات الانسداد ، وإن انسدّ باب هذا الاحتمال معها ، کما لا یخفی؛ وذلک ضروره أ نّه لا احتمال مع الاستقلال حسب الفرض .
ص :116
ومنه انقدح (1): أ نّه لا تتفاوت الحال لوقیل بکون النتیجه هی حجّیّه الظنّ فی الأُصول ، أو فی الفروع ، أو فیهما ، فافهم .
لا فرق - فی نتیجه دلیل الانسداد - بین الظنّ بالحکم من أمارهٍ علیه ، وبین الظنّ به من أمارهٍ متعلّقه بألفاظ الآیه أو الروایه ، کقول اللغویّ فی ما یورث الظنّ بمراد الشارع من لفظه ، وهو واضح .
ولا یخفی: أنّ اعتبار ما یورثه لا محیص عنه فی ما (2) إذا کان ممّا ینسدّ فیه باب العلم ، فقول أهل اللغه حجّه فی ما یورث الظنّ بالحکم مع الانسداد ، ولو انفتح باب العلم باللغه فی غیر المورد .
نعم ، لا یکاد یترتّب علیه أثر آخر ، من تعیین المراد فی وصیّه أو إقرار أو غیرهما من الموضوعات الخارجیّه ، إلّافی ما یثبت فیه حجّیّهُ مطلق الظنّ بالخصوص ، أو ذاک المخصوص (3) .
ص :117
ومثله : الظنّ الحاصل بحکم شرعیّ کلّی من الظنّ بموضوع خارجیّ ، کالظنّ بأنّ راوی الخبر هو : زراره بن أعین - مثلاً - لا آخر .
فانقدح: أنّ الظنون الرجالیّه مجدیه فی حال الانسداد ، ولو لم یقم دلیل علی اعتبار قول الرجالیّ ، لا من باب الشهاده ، ولا من باب الروایه (1) .
تنبیه:
لا یبعد استقلال العقل بلزوم تقلیل الاحتمالات - المتطرّقه إلی مثل السند أو الدلاله أو جهه الصدور - مهما أمکن فی الروایه ، وعدم الاقتصار علی الظنّ (2) الحاصل منها ، بلا سدِّ بابه (3) فیه (4) بالحجّه ، من علمٍ أو علمیّ؛ وذلک لعدم جواز التنزّل فی صوره الانسداد إلی الضعیف ، مع التمکّن من القویّ ، أو ما بحکمه عقلاً ، فتأمّل جیّداً .
فصل عدم اعتبار الظنّ الانسدادی فی مقام الامتثال
]
إنّما الثابت بمقدّمات دلیل الانسداد فی الأحکام ، هو : حجّیّه الظنّ فیها ، لا حجّیّته فی تطبیق المأتیّ به فی الخارج معها (5) ، فیتّبع - مثلاً - فی
ص :118
وجوب صلاه الجمعه یومها ، لا فی إتیانها ، بل لابدّ من علم أو علمیّ بإتیانها ، کما لا یخفی .
نعم ، ربما یجری نظیر مقدّمات الانسداد فی الأحکام ، فی بعض الموضوعات الخارجیّه ، من : انسداد باب العلم به غالباً ، واهتمامِ الشارع به ، بحیث عُلم بعدم الرضا بمخالفه (1) الواقع ، بإجراء الأُصول فیه مهما (2) أمکن ، وعدمِ وجوب الاحتیاط (3) شرعاً ، أو عدمِ إمکانه عقلاً ، کما فی موارد الضرر المردّد أمره بین الوجوب والحرمه مثلاً ، فلا محیص عن اتّباع الظنّ حینئذٍ أیضاً (4) ، فافهم .
ص :119
هل الظنّ کما یتّبع - عند الانسداد عقلاً - فی الفروع العملیّه - المطلوب فیها أوّلاً العملُ بالجوارح - یتّبع فی الأُصول الاعتقادیّه - المطلوبُ فیها عملُ الجوانح ، من : الاعتقاد به ، وعقد القلب علیه ، وتحمّله ، والانقیادِ له (1) - أو لا ؟
الظاهر : لا؛ فإنّ الأمر الاعتقادیّ وإن انسدّ باب القطع به ، إلّاأنّ باب الاعتقاد إجمالاً - بما هو واقعه - والانقیادِ له وتحمّلِه غیرُ منسدٍّ . بخلاف العمل بالجوارح ، فإنّه لایکاد یعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلّابالاحتیاط ، والمفروض عدم وجوبه شرعاً ، أو عدم جوازه عقلاً ، ولا أقرب من العمل علی وفق الظنّ .
وبالجمله: لا موجب - مع انسداد باب العلم فی الاعتقادیّات - لترتیب الأعمال الجوانحیّه علی الظنّ فیها ، مع إمکان ترتیبها علی ما هو الواقع
ص :120
فیها ، فلا یتحمّل إلّالما هو الواقع ، ولا ینقاد إلّاله ، لا لما هو مظنونه .
وهذا بخلاف العملیّات ، فإنّه لا محیص عن العمل بالظنّ فیها مع مقدّمات الانسداد .
نعم ، یجب تحصیل العلم فی بعض الاعتقادات - لو أمکن - ، من باب وجوب المعرفه لنفسها ، کمعرفه الواجب - تعالیٰ - وصفاته ، أداءً لشکر بعض نعمائه ، ومعرفهِ أنبیائه؛ فإنّهم وسائط نعمه وآلائه ، بل وکذا معرفه الإمام علیه السلام علی وجه صحیح (1)*؛ فالعقل یستقلّ بوجوب معرفه النبیّ ووصیّه ؛ لذلک ، ولاحتمال الضرر فی ترکه (2) .
ولا یجب عقلاً معرفه غیر ما ذکر إلّاما وجب شرعاً معرفته ، کمعرفه الإمام علیه السلام علی وجهٍ آخر غیر صحیح ، أو أمرٍ آخر ممّا دلّ الشرع علی وجوب معرفته .
وما لا دلاله علی وجوب معرفته بالخصوص - لا من العقل ولا من النقل - کان أصاله البراءه من وجوب معرفته محکّمه .
وجوب معرفته بالعموم (1) .
ضروره أنّ المراد من «لیعبدون» هو خصوص عباده اللّٰه ومعرفته .
والنبویّ إنّما هو بصدد بیان فضیله الصلوات ، لا بیان حکم المعرفه ، فلا إطلاق فیه أصلاً . ومثل آیه النفر إنّما هو بصدد بیان الطریق المتوسّل به إلی التفقّه الواجب ، لا بیان ما یجب فقهه ومعرفته ، کما لا یخفی . وکذا ما دلّ علی وجوب طلب العلم ، إنّما هو بصدد الحثّ علی طلبه ، لا بصدد بیان ما یجب العلم به .
ثمّ إنّه لا یجوز الاکتفاء بالظنّ فی ما یجب معرفته عقلاً أو شرعاً؛ حیث إنّه لیس بمعرفه قطعاً ، فلابدّ من تحصیل العلم لو أمکن . ومع العجز عنه کان معذوراً إن کان عن قصور ؛ لغفلهٍ ، أو لغموض (2) المطلب مع قلّه الاستعداد ، کما هو المشاهَد فی کثیر من النساء بل الرجال . بخلاف ما إذا کان عن تقصیر فی الاجتهاد ، ولو لأجل حبّ طریقه الآباء والأجداد ، واتّباع سیره السلف ، فإنّه کالجبلّیّ للخلف ، وقلّما عنه تخلّف .
والمراد من المجاهده - فی قوله تعالی: «وَ الَّذِینَ جٰاهَدُوا فِینٰا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنٰا » (3)- هو : المجاهده مع النفس ، بتخلیتها عن الرذائل ، وتحلیتها بالفضائل - وهی الّتی کانت أکبر من الجهاد - ، لا النظر والاجتهاد ، وإلّا لأدّیٰ إلی الهدایه ، مع أ نّه یؤدّی إلی الجهاله والضلاله ، إلّاإذا کانت هناک منه - تعالی -
ص :122
عنایه ؛ فإنّه غالباً بصدد إثبات أنّ ما وجد آباءَه علیه هو الحقّ ، لا بصدد الحقّ ، فیکون مقصِّراً مع اجتهاده ، ومؤاخَذاً إذا أخطأ علی قطعه واعتقاده .
ثمّ لا استقلال للعقل (1) بوجوب تحصیل الظنّ مع الیأس عن تحصیل العلم ، فی ما یجب تحصیله عقلاً لو أمکن ، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه ، بل بعدم جوازه؛ لما أشرنا إلیه (2) : من أنّ الاُمور الاعتقادیّه - مع عدم القطع بها - أمکن الاعتقاد بما هو واقعها والانقیاد لها (3) ، فلا إلجاء فیها أصلاً إلی التنزّل إلی الظنّ فی ما انسدّ فیه باب العلم ، بخلاف الفروع العملیّه ، کما لا یخفی .
وکذلک لا دلاله من النقل علی وجوبه فی ما یجب معرفته مع الإمکان شرعاً ، بل الأدلّه الدالّه علی النهی عن اتّباع الظنّ دلیلٌ علی عدم جوازه أیضاً .
وقد انقدح من مطاوی ما ذکرنا : أنّ القاصر یکون - فی الاعتقادیّات - للغفله ، أو عدمِ الاستعداد للاجتهاد فیها؛ لعدم وضوح الأمر فیها ، بمثابهٍ لا یکون الجهلُ بها إلّاعن تقصیر ، کما لا یخفی ، فیکون معذوراً عقلاً (4)* .
ص :123
ولا یصغیٰ إلی ما ربما قیل : بعدم وجود القاصر فیها (1) ، لکنّه إنّما یکون معذوراً - غیرَ معاقَب علی عدم معرفه الحقّ - إذا لم یکن یعانده ، بل کان ینقاد له علی إجماله لو احتمله .
هذا بعض الکلام ممّا یناسب المقام ، وأمّا بیان حکم الجاهل من حیث الکفر والإسلام ، فهو - مع عدم مناسبته - خارجٌ عن وضع الرساله .
الظنّ الذی لم یقم علی حجّیّته دلیلٌ : هل یجبر به ضعف السند أو الدلاله ، بحیث صار حجّه ما لولاه لما کان بحجّه ؟ أو یوهن به ما لولاه علی خلافه لکان حجّه ؟ أو یرجّح به أحدُ المتعارضین ، بحیث لولاه علی وفقه لما کان ترجیحٌ لأحدهما ، أو کان للآخر منهما ، أم لا ؟
ص :124
ومجمل القول فی ذلک : أنّ العبره فی حصول الجبران أو الرجحان - بموافقته - هو الدخول بذلک تحت دلیل الحجّیّه ، أو المرجّحیّه الراجعه إلی دلیل الحجّیّه . کما أنّ العبره فی الوهن إنّما هو الخروج - بالمخالفه - عن تحت دلیل الحجّیّه .
فلا یبعد جبرُ ضعف السند فی الخبر بالظنّ بصدوره ، أو بصحّه مضمونه ، ودخوله بذلک تحت ما دلّ علی حجّیّه ما یوثق به ، فراجع أدلّه أعتبارها .
وعدمُ جبر ضعف الدلاله بالظنّ بالمراد؛ لاختصاص دلیل الحجّیّه بحجّیّه الظهور فی تعیین المراد . والظنّ - من أماره خارجیّه - به لا یوجب ظهورَ اللفظ ، کما هو ظاهر ، إلّافی ما أوجب القطع - ولو إجمالاً - باحتفافه بما کان موجباً لظهوره فیه ، لولا عروض انتفائه .
وعدمُ وهن السند بالظنّ بعدم صدوره ، وکذا عدم وهن دلالته مع ظهوره ، إلّافی ما کشف - بنحوٍ معتبر - عن ثبوت خلل فی سنده ، أو وجود قرینهٍ مانعه عن انعقاد ظهوره فی ما فیه ظاهرٌ (1) ، لولا تلک القرینه؛ لعدم اختصاص دلیل اعتبار خبر الثقه ، ولا دلیل اعتبار الظهور بما إذا لم یکن ظنٌّ بعدم صدوره ، أو ظنٌّ بعدم إراده ظهوره .
وأمّا الترجیح بالظنّ: فهو فرع دلیل علی الترجیح به ، بعد سقوط الأمارتین بالتعارض من البین ، وعدمِ حجّیّه واحد منهما بخصوصه وعنوانه ، وإن بقی أحدهما - بلا عنوان - علی حجّیّته (2) ، ولم یقم دلیل بالخصوص علی
ص :125
الترجیح به ، وإن ادّعیٰ شیخنا العلّامه (1) - أعلی اللّٰه مقامه - استفادتَه من الأخبار الدالّه علی الترجیح بالمرجّحات الخاصّه ، علی ما یأتی تفصیله (2) فی التعادل والتراجیح (3) .
ومقدّمات الانسداد فی الأحکام إنّما توجب حجّیّه الظنّ بالحکم أو بالحجّه ، لا الترجیح به ما لم یوجب (4) الظنّ بأحدهما .
ومقدّماته فی خصوص الترجیح - لو جرت - إنّما توجب حجیّه الظنّ فی تعیین المرجّح ، لا أ نّه مرجّح ، إلّاإذا ظنّ أ نّه أیضاً مرجّح (5) ، فتأمّل جیّداً .
هذا فی ما لم یقم علی المنع عن العمل به بخصوصه دلیلٌ .
وأمّا ما قام الدلیل علی المنع عنه کذلک - کالقیاس - فلا یکاد یکون به جبرٌ أو وهنٌ أو ترجیحٌ ، فی ما لا یکون لغیره أیضاً . وکذا فی ما یکون به أحدها (6)؛ لوضوح أنّ الظنّ القیاسیّ إذا کان علی خلاف ما لولاه لکان حجّهً - بعد المنع عنه - ، لا یوجب خروجه عن تحت دلیل الحجّیه (7) ، وإذا کان علی وفق ما لولاه لما کان حجّهً ، لا یوجب دخوله تحت دلیل الحجّیّه . وهکذا
ص :126
لا یوجب ترجیح أحد المتعارضین ؛ وذلک لدلاله دلیل المنع علی إلغائه الشارع (1) رأساً ، وعدمِ جواز استعماله فی الشرعیّات قطعاً ، ودخلُه فی واحد منها نحوُ استعمال له فیها ، کما لا یخفی ، فتأمّل جیّداً .
ص :127
ص :128
ص :129
ص :130
وهی الّتی ینتهی إلیها المجتهد بعد الفحص والیأس عن الظفر بدلیل ، ممّا (1) دلّ علیه حکم العقل أو عموم النقل .
والمهمّ منها أربعه؛ فإنّ مثل قاعده الطهاره فی ما اشتبه طهارته بالشبهه الحکمیّه (2)* وإن کان ممّا ینتهی إلیها فی ما لا حجّه علی طهارته ولا علی نجاسته ، إلّاأنّ البحث عنها لیس بمهمّ ، حیث إنّها ثابته بلا کلام ، من دون حاجه إلی نقض وإبرام . بخلاف الأربعه - وهی : البراءه والاحتیاط والتخییر والاستصحاب - ، فإنّها محلّ الخلاف بین الأصحاب، ویحتاج - تنقیح مجاریها،
ص :131
وتوضیح ما هو حکم العقل ، أو مقتضی عموم النقل فیها - إلی مزید بحثٍ وبیانٍ ، ومؤونهِ حجّهٍ وبرهان ، هذا .
مع جریانها فی کلّ الأبواب ، واختصاص تلک القاعده ببعضها ، فافهم .
ص :132
عدم نهوض الحجّه لأجل فقدان النصّ ، أو إجماله واحتماله الکراهه أو الاستحباب ، أو تعارضه فی ما لم یثبت بینهما ترجیح ، بناءً علی التوقّف فی مسأله تعارض النصّین ، فی ما لم یکن ترجیح فی البین .
وأمّا بناءً علی التخییر - کما هو المشهور - فلا مجال لأصاله البراءه وغیرها؛ لمکان وجود الحجّه المعتبره ، وهو أحد النصّین فیها ، کما لا یخفی .
وقد استدلّ علی ذلک بالأدلّه الأربعه:
أمّا «الکتاب»: فبآیاتٍ ، أظهرها: قوله تعالی: «وَ مٰا کُنّٰا مُعَذِّبِینَ حَتّٰی نَبْعَثَ رَسُولاً » (1).
وفیه (2): أنّ نفی التعذیب - قبل إتمام الحجّه ببعث الرسل - لعلّه کان منّهً منه - تعالی - علی عباده ، مع استحقاقهم لذلک .
ولو سُلّم (3) اعتراف الخصم بالملازمه بین الاستحقاق والفعلیّه ، لما صحّ الاستدلال بها إلّاجدلاً ، مع وضوح منعه؛ ضروره أنّ ماشکّ فی وجوبه أو حرمته لیس عنده بأعظم ممّا علم بحکمه ، ولیس حال الوعید بالعذاب فیه إلّا کالوعید به فیه ، فافهم .
ص :134
وأمّا «السنّه»: فبروایات:
منها: حدیث الرفع (1) ، حیث عُدَّ «ما لا یعلمون» من التسعه المرفوعه فیه ، فالإلزام المجهول من «ما لایعلمون» ، فهو مرفوع فعلاً وإن کان ثابتاً واقعاً ، فلا مؤاخذه علیه قطعاً .
لا یقال (2): لیست المؤاخذه من الآثار الشرعیّه ، کی ترتفع بارتفاع التکلیف المجهول ظاهراً ، فلا دلاله له علی ارتفاعها (3)* .
فإنّه یقال: إنّها وإن لم تکن بنفسها أثراً شرعیّاً ، إلّاأ نّها ممّا یترتّب علیه بتوسیط ما هو أثره وباقتضائه ، من إیجاب الاحتیاط شرعاً ، فالدلیل علی رفعه دلیلٌ علی عدم إیجابه ، المستتبعِ لعدم استحقاق العقوبه علی مخالفته .
لا یقال: لا یکاد یکون إیجابه مستتبعاً لاستحقاقها علی مخالفه التکلیف المجهول ، بل علی مخالفه (4) نفسه ، کما هو قضیّه إیجاب غیره .
فإنّه یقال: هذا إذا لم یکن إیجابه طریقیّاً ، وإلّا فهو موجب لاستحقاق العقوبه علی المجهول ، کما هو الحال فی غیره من الإیجاب والتحریم الطریقیّین؛ ضروره أ نّه کما یصحّ أن یحتجّ بهما ، صحّ أن یحتجّ به ، ویقال:
ص :135
لِمَ أقدمتَ مع إیجابه ؟ ویخرج به عن العقاب بلا بیان والمؤاخذه بلا برهان ، کما یخرج بهما .
وقد انقدح بذلک: أنّ رفع التکلیف المجهول کان منّهً علی الأُمّه؛ حیث کان له - تعالی - وضعُهُ بما هو قضیّته من إیجاب الاحتیاط ، فرفَعَه ، فافهم .
ثمّ لا یخفی عدم الحاجه إلی تقدیر المؤاخذه - ولا غیرِها من الآثار الشرعیّه - فی «ما لا یعلمون» (1) ؛ فإنّ ما لا یعلم من التکلیف مطلقاً - کان فی الشبهه الحکمیّه أو الموضوعیّه - بنفسه قابلٌ للرفع والوضع شرعاً ، وإن کان فی غیره لابدّ من تقدیر الآثار ، أو المجاز فی إسناد الرفع إلیه؛ فإنّه لیس «ما اضطرّوا وما استکرهوا ...» - إلی آخر التسعه - بمرفوع حقیقهً .
نعم ، لو کان المرادُ من الموصول فی «ما لا یعلمون» ما اشتبه حاله ولم یعلم عنوانه (2) ، لکان أحد الأمرین ممّا لابدّ منه أیضاً .
ثمّ لا وجه لتقدیر خصوص المؤاخذه (3) ، بعد وضوح أنّ المقدّر فی غیر واحدٍ غیرها ، فلا محیص عن أن یکون المقدّر هو الأثر الظاهر فی کلّ منها ، أو تمام آثارها الّتی تقتضی المنّه رفعَها . کما أنّ ما یکون بلحاظه الإسناد إلیها مجازاً هو هذا ، کما لا یخفی .
فالخبر دلّ علی رفع کلِّ أثر تکلیفیّ أو وضعیّ کان فی رفعه منّه علی
ص :136
الأُمّه ، کما استشهد الإمام علیه السلام بمثل هذا الخبر فی رفع ما استکره علیه من الطلاق والصدقه والعتاق (1) .
ثمّ لا یذهب علیک: أنّ المرفوع فی «ما اضطرّوا إلیه» وغیره - ممّا أُخذ بعنوانه الثانویّ - إنّما هو الآثار المترتّبه علیه بعنوانه الأوّلیّ؛ ضروره أنّ الظاهر أنّ هذه العناوین صارت موجبهً للرفع ، والموضوعُ للأثر مستدعٍ لوضعه ، فکیف یکون موجباً لرفعه ؟
لا یقال: کیف ؟ وإیجاب الاحتیاط فی ما لا یعلم ، وإیجاب التحفّظ فی الخطأ والنسیان ، یکون أثراً لهذه العناوین بعینها وباقتضاء نفسها .
فإنّه یقال: بل إنّما یکون باقتضاء الواقع فی موردها؛ ضروره أنّ الاهتمام به یوجب إیجابهما (2) ، لئلّا یفوت علی المکلّف ، کما لا یخفی .
ومنها: حدیث الحَجْب (3) ، وقد انقدح تقریب الاستدلال به ممّا ذکرنا فی حدیث الرفع .
إلّاأ نّه ربما یشکل (4) بمنع ظهوره فی وضع ما لا یعلم من التکلیف ، بدعوی ظهوره فی خصوص ما تعلّقت عنایته - تعالی - بمنع اطّلاع العباد علیه ؛ لعدم أمر رسُله بتبلیغه ، حیث إنّه بدونه لما صحّ (5) إسناد الحجب إلیه - تعالی - .
ص :137
ومنها: قوله علیه السلام : «کلُّ شیءٍ لَکَ حلالٌ حتّی تعرف أ نّه حرامٌ بعینه ... » (1) الحدیث . حیث دلّ علی حلّیّه ما لم یعلم حرمته مطلقاً ، ولو کان من جهه عدم الدلیل علی حرمته .
وبعدم الفصل قطعاً بین إباحته وعدم وجوب الاحتیاط فیه ، وبین عدم وجوب الاحتیاط فی الشبهه الوجوبیّه ، یتمّ المطلوب .
مع إمکان أن یقال: ترک ما احتمل وجوبه ممّا لم یعرف حرمته ، فهو حلال ، تأمّل .
ومنها: قوله صلی الله علیه و آله : «الناسُ فی سعه ما لا یعلمون» (2) .
فهم فی سعهِ ما لم یُعلم ، أو ما دام لم یعلم وجوبه أو حرمته ، ومن الواضح أ نّه لو کان الاحتیاط واجباً لما کانوا فی سعهٍ أصلاً ، فیعارض به ما دلّ علی وجوبه ، کما لا یخفی (3) .
إشکال الشیخ الأعظم علی الاستدلال بالروایه والجواب عنه
لا یقال: قد عُلم به وجوب الاحتیاط (4)فإنّه یقال: لم یعلم الوجوب أو الحرمه بعدُ ، فکیف یقع فی ضیق الاحتیاط من أجله ؟
ص :138
نعم ، لو کان الاحتیاط واجباً نفسیّاً کان وقوعهم فی ضیقه بعد العلم بوجوبه ، لکنّه عرفت أنّ وجوبه کان طریقیّاً ، لأجل أن لا یقعوا فی مخالفه الواجب أو الحرام أحیاناً ، فافهم .
ومنها: قوله علیه السلام : «کلُّ شیءٍ مطلقٌ حتّی یرِدَ فیه نهی» (1) . ودلالته تتوقّف علی عدم صدق الورود إلّابعد العلم أو ما بحکمه ، بالنهی عنه ، وإن صدر عن
الشارع ووصل إلی غیر واحد (2)(3)، مع أ نّه ممنوع؛ لوضوح صدقه علی صدوره عنه ، سیّما بعد بلوغه إلی غیر واحد ، وقد خفی علی من لم یعلم بصدوره .
لا یقال: نعم ، ولکن بضمیمه أصاله العدم صحّ الاستدلال به وتمّ .
فإنّه یقال: وإن تمّ الاستدلال به بضمیمتها ، ویُحکم بإباحه مجهول الحرمه وإطلاقه ، إلّاأ نّه لا بعنوان أ نّه مجهول الحرمه شرعاً ، بل بعنوان أ نّه ممّا لم یرد عنه النهی واقعاً .
لا یقال: نعم ، ولکنّه لا یتفاوت فی ما هو المهمّ من الحکم بالإباحه فی مجهول الحرمه ، کان بهذا العنوان أو بذاک العنوان .
فإنّه یقال: حیث أ نّه بذاک العنوان لاختصّ (4) بما لم یعلم ورود النهی عنه أصلاً ، ولا یکاد یعمّ ما إذا ورد النهی عنه فی زمان ، وإباحتُه (5)
ص :139
فی آخر ، واشتبها من حیث التقدّم والتأخّر .
لا یقال: هذا لولا عدم الفصل بین أفراد ما اشتبهت حرمته .
فإنّه یقال: وإن لم یکن بینها الفصل ، إلّاأ نّه إنّما یُجدی فی ما کان المُثبِت للحکم بالإباحه فی بعضها الدلیل ، لا الأصل ، فافهم .
وأمّا «الإجماع»: فقد نقل علی البراءه (1) ، إلّاأ نّه موهونٌ ، ولو قیل باعتبار الإجماع المنقول فی الجمله؛ فإنّ تحصیله فی مثل هذه المسأله - ممّا للعقل إلیه سبیل ، ومن واضح النقل علیه دلیل - بعیدٌ جدّاً .
وأمّا «العقل»: فإنّه قد استقلّ بقبح العقوبه والمؤاخذه علی مخالفه التکلیف المجهول ، بعد الفحص والیأس عن الظفر بما کان حجّهً علیه ، فإنّهما بدونها عقابٌ بلا بیان ، ومؤاخذهٌ بلابرهان ، وهما قبیحان بشهاده الوجدان .
ولا یخفی: أ نّه مع استقلاله بذلک لا احتمال لضرر العقوبه فی مخالفته ، فلا یکون مجال هاهنا لقاعده وجوب دفع الضرر المحتمل ، کی یتوهّم أ نّها تکون بیاناً (2) . کما أ نّه مع احتماله لا حاجه إلی القاعده ، بل فی صوره المصادفه استحقّ (3) العقوبه علی المخالفه ، ولو قیل بعدم وجوب دفع الضرر
ص :140
المحتمل .
وأمّا ضرر غیر العقوبه ، فهو وإن کان محتملاً ، إلّاأنّ المتیقّن منه - فضلاً عن محتمله - لیس بواجب الدفع شرعاً ولا عقلاً؛ ضرورهَ عدمِ القبح فی تحمّل بعض المضارّ ببعض الدواعی عقلاً ، وجوازِه شرعاً .
مع أنّ احتمال الحرمه أو الوجوب لا یلازم احتمالَ المضرّه (1) ، وإن کان ملازماً لاحتمال المفسده أو ترک المصلحه؛ لوضوح أنّ المصالح والمفاسد الّتی تکون مناطات الأحکام - وقد استقلّ العقل بحسن الأفعال الّتی تکون ذات المصالح ، وقبحِ ما کان ذات المفاسد - لیست براجعهٍ إلی المنافع والمضارّ ، وکثیراً مّا یکون محتمل التکلیف مأمونَ الضرر . نعم ، ربما تکون المنفعه أو المضرّه مناطاً للحکم شرعاً وعقلاً .
إن قلت: نعم ، ولکنّ العقل یستقلّ بقبح الإقدام علی ما لا تؤمن مفسدته ، وأ نّه کالإقدام علی ما علم مفسدته ، کما استدلّ به شیخ الطائفه قدس سره علی أنّ الأشیاء علی الحظر أو الوقف (2) .
قلت: استقلاله بذلک ممنوع ، والسند : شهاده الوجدان ، ومراجعه دیدن العقلاء من أهل الملل والأدیان ، حیث إنّهم لا یحترزون ممّا لا تؤمن مفسدته ، ولا یعامِلون معه معاملهَ ما علم مفسدته ، کیف ؟ وقد أذِن الشارع بالإقدام علیه ، ولا یکاد یأذن بارتکاب القبیح ، فتأمّل .
ص :141
واحتُجّ للقول بوجوب الاحتیاط - فی ما لم تقم فیه حجّهٌ - بالأدلّه الثلاثه:
أمّا «الکتاب»: فبالآیات الناهیه عن القول بغیر العلم (1) ، وعن الإلقاء فی التهلکه (2) ، والآمره بالتقوی (3) .
والجواب: أنّ القول بالإباحه شرعاً ، وبالأمن من العقوبه عقلاً ، لیس قولاً بغیر علم؛ لما دلّ علی الإباحه من النقل ، وعلی البراءه من حکم العقل ، ومعهما لا مهلکه فی اقتحام الشبهه أصلاً ، ولا فیه مخالفه التقوی ، کما لا یخفی .
وبما دلّ علی وجوب الاحتیاط من الأخبار الوارده بألسنه مختلفه (1) .
والجواب: أ نّه لا تهلکه (2) فی الشبهه البدویّه ، مع دلاله النقل علی الإباحه (3) ، وحکمِ العقل بالبراءه ، کما عرفت .
وما دلّ علی وجوب الاحتیاط - لو سلّم - وإن کان وارداً علی حکم العقل؛ فإنّه کفیٰ بیاناً علی العقوبه علی مخالفه التکلیف المجهول - ولا یُصغی إلی ما قیل (4) من: أنّ إیجاب الاحتیاط إن کان مقدّمهً للتحرّز عن عقاب الواقع المجهول ، فهو قبیح ، وإن کان نفسیّاً فالعقاب علی مخالفته ، لا علی مخالفه الواقع ؛ وذلک لما عرفت من أنّ إیجابه یکون طریقیّاً ، وهو عقلاً ممّا یصحّ أن یحتجّ به علی المؤاخذه فی مخالفه الشبهه ، کما هو الحال فی أوامر الطرق والأمارات والأُصول العملیّه (5) - ، إلّاأ نّها تُعارَض بما هو أخصّ و (6)أظهر ؛ ضروره أنّ ما دلّ علی حلّیّه المشتبه أخصّ ، بل هو
ص :143
فی الدلاله علی الحلّیّه نصّ ، وما دلّ علی الاحتیاط غایته أ نّه ظاهر فی وجوب الاحتیاط .
مع أنّ هناک قرائن دالّه علی أ نّه للإرشاد ، فیختلف إیجاباً واستحباباً حَسَب اختلاف ما یرشد إلیه .
ویؤیّده : أ نّه لو لم یکن للإرشاد لوجب (1) تخصیصه - لا محاله - ببعض الشبهات إجماعاً ، مع أ نّه آبٍ عن التخصیص قطعاً (2) .
کیف لا یکون (3) قوله: «قف عند الشبهه؛ فإنّ الوقوف عند الشبهه خیرٌ من الاقتحام فی المهلکه» للإرشاد ؟ مع أنّ المهلکه ظاهرهٌ فی العقوبه ، ولا عقوبه فی الشبهه البدویّه قبل إیجاب الوقوف والاحتیاط ، فکیف یعلّل إیجابه بأ نّه خیرٌ من الاقتحام فی المهلکه ؟
لا یقال (4): نعم ، ولکنّه یستکشف منه - علی نحو « الإنّ » - إیجابُ الاحتیاط من قبلُ ، لیصحّ به العقوبه علی المخالفه .
فإنّه یقال: إنّ مجرّد إیجابه واقعاً ما لم یعلم لا یصححّ العقوبه ، ولا یخرجها عن أ نّها بلا بیان ولا برهان ، فلا محیص عن اختصاص مثله
ص :144
بما یتنجّز فیه المشتبه - لو کان - ، کالشبهه قبل الفحص (1) مطلقاً ، أو الشبهه المقرونه بالعلم الإجمالیّ ، فتأمّل جیّداً .
وأمّا العقل: فلاستقلاله بلزوم فعْلِ ما احتمل وجوبُه ، وترکِ ما احتمل حرمتُه - حیث علم إجمالاً بوجود واجباتٍ ومحرّمات کثیره فی ما اشتبه وجوبه أو حرمته ، ممّا لم یکن هناک حجّه علی حکمه - ؛ تفریغاً للذمّه بعد اشتغالها ، ولا خلاف فی لزوم الاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالیّ إلّامن بعض الأصحاب (2) .
والجواب: أنّ العقل وإن استقلّ بذلک ، إلّاأ نّه إذا لم ینحلّ العلم الإجمالیّ إلی علم تفصیلیّ وشکّ بدویّ ، وقد انحلّ هاهنا ، فإنّه کما عُلِم بوجود تکالیف إجمالاً ، کذلک عُلِم إجمالاً (3) بثبوت طُرقٍ واُصولٍ معتبره مثبته لتکالیف ، بمقدار تلک التکالیف المعلومه أو أزید ، وحینئذٍ لا علم بتکالیف اخر غیر التکالیف الفعلیّه فی الموارد (4) المثبته من الطرق والأُصول العملیّه (5) .
ص :145
الإشکال علی الانحلال بوجود المانع منه والجواب عنه
إن قلت: نعم ، لکنّه إذا لم یکن العلم بها مسبوقاً بالعلم بالتکالیف (1) .
قلت: إنّما یضرّ السبق إذا کان المعلوم اللاحق حادثاً آخر (2) ، وأمّا إذا لم یکن کذلک ، بل ممّا ینطبق علیه ما علم أوّلاً ، فلا محاله قد انحلّ العلم الإجمالیّ إلی التفصیلیّ والشکّ البدویّ .
توهّم صحّه الانحلال علی القول بالسببیّه فی الأمارات
إن قلت: إنّما یوجب العلمُ بقیام الطرق - المثبِته له بمقدار المعلوم بالإجمال - ذلک ، إذا کان قضیّه قیام الطریق علی تکلیفٍ موجباً لثبوته (3) فعلاً . وأمّا بناءً علی أنّ قضیّه حجّیّته واعتباره شرعاً لیس إلّاترتیبَ ما للطریق المعتبر عقلاً - وهو تنجُّز ما أصابه والعذر عمّا أخطأ عنه - ، فلا انحلال لما علم بالإجمال أوّلاً ، کما لا یخفی .
الجواب عن التوهّم
قلت: قضیّه الاعتبار شرعاً - علی اختلاف ألسنه أدلّته - وإن کان ذلک - علی ما قوّیناه (4) فی البحث (5) - ، إلّاأنّ نهوض الحجّه علی ما ینطبق (6) علیه
ص :146
المعلوم بالإجمال فی بعض الأطراف ، یکونُ عقلاً بحکم الانحلال ، وصَرْف تنجّزه إلی ما إذا کان فی ذاک الطرف ، والعذر عمّا إذا کان فی سائر الأطراف ، مثلاً: إذا علم إجمالاً بحرمه إناء زید بین الإناءین ، وقامت البیّنه علی أنّ هذا إناؤه ، فلا ینبغی الشکّ فی أ نّه کما إذا علم أ نّه إناؤه ، فی عدم لزوم الاجتناب إلّاعن خصوصه دون الآخر .
ولو لا ذلک لما کان یُجدی القول بأنّ قضیّه اعتبار الأمارات هی کون المؤدّیات أحکاماً شرعیّه فعلیّه؛ ضروره أ نّها تکون کذلک بسبب حادث ، وهو کونها مؤدّیات الأمارات الشرعیّه .
هذا إذا لم یعلم بثبوت (1) التکالیف الواقعیّه - فی موارد الطرق المثبته - بمقدار المعلوم بالإجمال ، وإلّا فالانحلال إلی العلم بما فی الموارد ، وانحصارُ أطرافه بموارد تلک الطرق بلا إشکال ، کما لا یخفی .
وربما استدلّ (2) بما قیل من : استقلال العقل بالحظر فی الأفعال غیر الضروریّه قبل الشرع ، ولا أقلّ من الوقف (3) وعدمِ استقلاله ، لا به ولا بالإباحه ، ولم یثبت شرعاً إباحه ما اشتبه حرمته؛ فإنّ ما دلّ علی الإباحه معارض بما دلّ علی وجوب التوقّف أو الاحتیاط .
وفیه أوّلاً: أ نّه لا وجه للاستدلال بما هو محلّ الخلاف والإشکال ، وإلّا لصحّ الاستدلال علی البراءه بما قیل من : کون تلک الأفعال علی الإباحه .
وثانیاً: أ نّه ثبتت الإباحه شرعاً؛ لما عرفت من عدم صلاحیّه ما دلّ علی التوقّف أو الاحتیاط للمعارضه لما دلّ علیها .
ص :147
وثالثاً: أ نّه لا یستلزم القولُ بالوقف - فی تلک المسأله - للقول (1) بالاحتیاط فی هذه المسأله؛ لاحتمال أن یقال معه بالبراءه ، لقاعده قبح العقاب بلا بیان .
وما قیل (2) من : أنّ الإقدام علی ما لا تؤمن المفسده فیه ، کالإقدام علی ما تعلم فیه المفسده .
ممنوعٌ ، ولو قیل بوجوب دفع الضرر المحتمل؛ فإنّ المفسده المحتمله فی المشتبه لیس بضرر غالباً؛ ضروره أنّ المصالح والمفاسد - الّتی هی مناطات الأحکام - لیست براجعه إلی المنافع والمضارّ ، بل ربّما تکون (3) المصلحه فی ما فیه الضرر ، والمفسده فی ما فیه المنفعه . واحتمال أن یکون فی المشتبه ضررٌ ، ضعیفٌ غالباً ، لا یعتنیٰ به قطعاً .
مع أنّ الضرر لیس دائماً ممّا یجب التحرّز عنه عقلاً ، بل یجب ارتکابه أحیاناً ، فی ما کان المترتّب علیه أهمّ فی نظره ممّا فی الاحتراز عن ضرره ، مع القطع به ، فضلاً عن احتماله (4)
ص :148
بقی أُمور مهمّه لا بأس بالإشاره إلیها:
الأوّل : أ نّه إنّما تجری أصاله البراءه - شرعاً وعقلاً - فی ما لم یکن هناک أصل موضوعیّ مطلقاً ، ولو کان موافقاً لها؛ فإنّه معه لا مجال لها أصلاً؛ لوروده علیها (1) ، کما یأتی تحقیقه (2) .
الصوره الأُولی فلا تجری مثلاً : أصاله الإباحه فی حیوان شُکّ فی حلّیّته مع الشکّ فی قبوله التذکیه؛ فإنّه إذا ذُبح مع سائر الشرائط المعتبره فی التذکیه، فأصاله عدم التذکیه تدرجه (3) فی ما لم یُذکّ ، وهو حرام إجماعاً ، کما إذا مات حتفَ أنفه .
فلا حاجه إلی إثبات أنّ المیته تعمّ غیرَ المذکّیٰ شرعاً (4)؛ ضروره کفایه کونه مثله حکماً ؛ وذلک لأنّ (5) التذکیه إنّما هی عباره عن فری الأوداج الأربعه (6) مع سائر شرائطها ، عن خصوصیّهٍ فی الحیوان الّتی (7) بها
ص :149
تؤثّر (1) فیه الطهارهَ وحدها أو مع الحلّیه ، ومع الشکّ فی تلک الخصوصیّه ، فالأصل عدم تحقّق التذکیه بمجرّد الفری بسائر شرائطها ، کما لا یخفی .
الصوره الثانیه نعم ، لو عُلم بقبوله التذکیه وشُکّ فی الحلّیّه ، فأصاله الإباحه فیه محکّمه؛ فإنّه حینئذٍ إنّما یشکّ فی أنّ هذا الحیوان المذکّیٰ حلال أو حرام ، ولا أصل فیه إلّاأصاله الإباحه ، کسائر ما شکّ فی أ نّه من الحلال أو الحرام .
الصوره الثالثه هذا إذا لم یکن هناک أصل موضوعیّ آخرُ مثبتٌ لقبوله التذکیه ، کما إذا شکّ - مثلاً - فی أنّ الجلل فی الحیوان هل یوجب ارتفاع قابلیّته لها ، أم لا ؟ فأصاله قبوله لها معه محکّمه ، ومعها لا مجال لأصاله عدم تحقّقها ، فهو قبل الجلل کان یطهر ویحلّ بالفری بسائر شرائطها ، فالأصل أ نّه کذلک بعده .
الصوره الرابعه وممّا ذکرنا ظهر الحال فی ما اشتبهت حلّیّته وحرمته بالشبهه الموضوعیّه من الحیوان ، وأنّ أصاله عدم التذکیه محکّمه فی ما شکّ فیها لأجل الشکّ فی تحقّق ما اعتبر فی التذکیه شرعاً .
الصوره الخامسه کما أنّ أصاله قبول التذکیه محکّمه إذا شکّ فی طروء ما یمنع عنه ، فیحکم بها فی ما أُحرز الفری بسائر شرائطها عداه ، کما لا یخفی ، فتأمّل جیّداً .
الثانی : أ نّه لا شبهه فی حسن الاحتیاط شرعاً وعقلاً فی الشبهه الوجوبیّه و (2)التحریمیّه ، فی العبادات وغیرها .
ص :150
کما لا ینبغی الارتیاب فی استحقاق الثواب فی ما إذا احتاط وأتی أو ترک بداعی احتمال الأمر أو النهی .
وربما یشکل (1) فی جریان الاحتیاط فی العبادات عند دوران الأمر بین الوجوب وغیر الاستحباب ، من جهه أنّ العباده لابدّ فیها من نیّه القربه المتوقّفه علی العلم بأمر الشارع تفصیلاً أو إجمالاً .
الجواب الأوّل عن الإشکال والمناقشه فیه وحُسْن الاحتیاط عقلاً (2) لا یکاد یُجدی فی رفع الإشکال ، ولو قیل بکونه موجباً لتعلّق الأمر به شرعاً؛ بداههَ توقّفه علی ثبوته توقُّفَ العارض علی معروضه ، فکیف یعقل أن یکون من مبادئ ثبوته (3) ؟
الجواب الثانی والمناقشه فیه وانقدح بذلک : أ نّه لا یکاد یُجدی فی رفعه أیضاً القولُ بتعلّق الأمر به من جهه ترتُّب الثواب علیه؛ ضروره أ نّه فرع إمکانه ، فکیف یکون من مبادئ جریانه ؟ هذا .
مع أنّ حسن الاحتیاط لا یکون بکاشف عن تعلّق الأمر به بنحو
ص :151
« اللّمّ » ، ولا ترتّبِ الثواب علیه بکاشف عنه بنحو « الإنّ » ، بل یکون حاله فی ذلک حال الإطاعه؛ فإنّه نحوٌ من الانقیاد والطاعه (1) .
الجواب الثالث والإیراد علیه
وما قیل (2) فی دفعه: من کون المراد بالاحتیاط فی العبادات ، هو مجرّد الفعل المطابق للعباده من جمیع الجهات ، عدا نیّه القربه .
ففیه (3): - مضافاً إلی عدم مساعده دلیل حینئذٍ علی حسنه بهذا المعنی فیها؛ بداهه أ نّه لیس باحتیاط حقیقهً ، بل هو أمرٌ لو دلّ علیه دلیلٌ کان مطلوباً مولویّاً نفسیّاً عبادیّاً ، والعقلُ لا یستقلّ إلّابحسن الاحتیاط ، والنقل لا یکاد یرشد إلّاإلیه . نعم ، لو کان هناک دلیلٌ علی الترغیب فی الاحتیاط فی خصوص العباده ، لَما کان محیصٌ عن دلالته اقتضاءً علی أنّ المراد به ذاک المعنی ، بناءً علی عدم إمکانه فیها بمعناه حقیقهً ، کما لا یخفی - أ نّه التزامٌ بالإشکال وعدمِ جریانه فیها ، وهو کما تریٰ .
الجواب الرابع عن الإشکال( جواب المصنف )
قلت: لا یخفی أنّ منشأ الإشکال هو تخیّل کون القربه المعتبره فی العباده مثلَ سائر الشروط المعتبره فیها ، ممّا یتعلّق بها الأمر المتعلّق بها ،فیشکل جریانه حینئذٍ؛ لعدم التمکّن من قصد القربه المعتبر فیها (4) ، وقد عرفت (5) أ نّه فاسد* ، وإنّما اعتبر قصد القربه فیها عقلاً ، لأجل أنّ الغرض منها لا یکاد یحصل بدونه (6) .
ص :152
وعلیه کان جریان الاحتیاط فیه (1) بمکانٍ من الإمکان؛ ضروره التمکّن من الإتیان بما احتمل وجوبه بتمامه وکماله ، غایه الأمر أ نّه لابدّ أن یؤتیٰ به علی نحوٍ لو کان مأموراً به لکان مقرِّباً ، بأن یؤتیٰ به بداعی احتمال الأمر ، أو احتمال کونه محبوباً له - تعالی - ، فیقع حینئذٍ علی تقدیر الأمر به امتثالاً لأمره - تعالی - ، وعلی تقدیر عدمه انقیاداً لجنابه - تبارک وتعالی - ، ویستحقّ الثواب علی کلّ حال : إمّا علی الطاعه أو الانقیاد .
وقد انقدح بذلک : أ نّه لا حاجه فی جریانه فی العبادات إلی تعلّق أمر بها ، بل لو فُرض تعلّقه بها لما کان من الاحتیاط بشیء ، بل کسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها ، کما لا یخفی .
ص :153
الجواب الخامس والإیراد علیه فظهر أ نّه لو قیل (1) بدلاله أخبار « من بلغه ثوابٌ » (2) علی استحباب العمل الّذی بلغ علیه الثواب ولو بخبر ضعیف ، لَما کان یُجدی فی جریانه فی خصوص ما دلّ علی وجوبه أو استحبابه خبرٌ ضعیف ، بل کان - علیه - مستحبّاً ، کسائر ما دلّ الدلیل علی استحبابه .
الجواب السادس والمناقشه فیه
لا یقال: هذا لو قیل بدلالتها علی استحباب نفس العمل الّذی بلغ علیه الثواب بعنوانه ، وأمّا لو دلّ (3) علی استحبابه لا بهذا العنوان ، بل بعنوان أ نّه محتمل الثواب ، لکانت دالّهً علی استحباب الإتیان به بعنوان الاحتیاط ، کأوامر الاحتیاط لو قیل بأ نّها للطلب المولویّ ، لا الإرشادیّ .
فإنّه یقال: إنّ الأمر بعنوان الاحتیاط ولو کان مولویّاً لکان توصّلیّاً .
مع أ نّه لو کان عبادیّاً لما کان مصحِّحاً للاحتیاط ، ومُجدیاً فی جریانه فی العبادات ، کما أشرنا إلیه آنفاً (4) .
ثمّ إنّه لا یبعد دلاله بعض تلک الأخبار علی استحباب ما بلغ علیه الثواب؛ فإنّ صحیحه هشام بن سالم المحکیّه عن المحاسن عن أبی عبد اللّٰه علیه السلام قال: «مَن بلَغَه عن النبیّ صلی الله علیه و آله (5)شیءٌ مِنَ الثواب فعَمِلَهُ کانَ أجرُ ذلک لَه ، وإن کان رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله لم یَقُله» (5) ظاهرهٌ فی أنّ الأجر کان مترتّباً
ص :154
علی نفس العمل الّذی بلغه عنه صلی الله علیه و آله أ نّه ذو ثواب .
وکون العمل متفرّعاً علی البلوغ ، وکونه الداعی إلی العمل (1) ، غیرُ موجبٍ لأن یکون الثواب إنّما یکون مترتّباً علیه فی ما إذا أتیٰ (2) برجاء أ نّه مأمور به وبعنوان الاحتیاط؛ بداهه أنّ الداعی إلی العمل لا یوجب له وجهاً وعنواناً یؤتی به بذاک الوجه والعنوان .
وإتیان العمل بداعی « طلب قول النبیّ صلی الله علیه و آله » (3) - کما قُیِّد به فی بعض الأخبار (4) - وإن کان انقیاداً ، إلّاأنّ الثواب فی الصحیحه إنّما رُتّب علی نفس العمل ، ولا موجب لتقییدها به؛ لعدم المنافاه بینهما ، بل لو أتیٰ به کذلک ، أو التماساً للثواب الموعود - کما قُیِّد به فی بعضها الآخر (5) - لاُوتی الأجر والثواب علی نفس العمل ، لا بما هو احتیاط وانقیاد ، فیکشف عن کونه بنفسه
ص :155
مطلوباً وإطاعه ، فیکون وزانه وزان : « من سرّح لحیته » (1) ، أو : من صلّی أو صام فله کذا (2) . ولعلّه لذلک أفتی المشهور بالاستحباب ، فافهم وتأمّل .
الثالث : أ نّه لا یخفی أنّ النهی عن شیءٍ إذا کان بمعنی طلب ترکه فی زمانٍ أو مکانٍ ، - بحیث لو وُجد فی ذاک الزمان أو المکان ولو دفعهً لما امتثل أصلاً - ، کان اللازم علی المکلّف إحراز أ نّه تَرَکَه بالمرّه ولو بالأصل ، فلا یجوز الإتیان بشیءٍ یشکّ معه فی ترکه ، إلّاإذا کان مسبوقاً به لیستصحب مع الإتیان به .
نعم ، لو کان بمعنی طلب ترک کلِّ فردٍ منه علی حده ، لَما وجب إلّا ترک ما علم أ نّه فردٌ ، وحیث لم یعلم تعلّق النهی إلّابما علم أ نّه مصداقه ، فأصاله البراءه فی المصادیق المشتبهه محکَّمه .
فانقدح بذلک : أنّ مجرّد العلم بتحریم شیءٍ لا یوجب لزوم الاجتناب عن الأفراد (3) المشتبهه ، فی ما کان المطلوب بالنهی طلب ترک کلّ فرد علی حده ، أو کان الشیء مسبوقاً بالترک ، وإلّا لوجب الاجتناب عنها عقلاً لتحصیل الفراغ قطعاً (4) .
فکما یجب فی ما علم وجوب شیءٍ إحرازُ إتیانه ، إطاعهً لأمره ،
ص :156
فکذلک یجب فی ما علم حرمته إحرازُ ترکه وعدمِ إتیانه ، امتثالاً لنهیه . غایه الأمر کما یحرز وجود الواجب بالأصل ، کذلک یحرز ترک الحرام به .
والفرد المشتبه وإن کان مقتضیٰ أصاله البراءه جواز الاقتحام فیه ، إلّا أنّ قضیّهَ لزوم إحراز الترک اللازم : وجوبُ التحرّز عنه ، ولا یکاد یحرز إلّا بترک المشتبه أیضاً (1) ، فتفطّن .
الرابع (2) : أ نّه قد عرفت (3) حُسْن الاحتیاط عقلاً ونقلاً . ولا یخفی أ نّه مطلقاً کذلک ، حتّی فی ما کان هناک حجّهٌ علی عدم الوجوب أو الحرمه ، أو أمارهٌ معتبرهٌ علی أ نّه لیس فرداً للواجب أو الحرام ، ما لم یخلّ بالنظام فعلاً ، فالاحتیاط قبل ذلک مطلقاً یقع حسناً ، کان فی الأُمور المهمّه ، کالدماء والفروج ، أو غیرها ، وکان احتمال التکلیف قویّاً أو ضعیفاً ، کانت الحجّه علی خلافه أو لا (4) . کما أنّ الاحتیاط الموجب لذلک لا یکون حَسناً کذلک ، وإن کان الراجح لمن التفت إلی ذلک من أوّل الأمر ترجیح بعض الاحتیاطات احتمالاً أو محتملاً (5) ، فافهم .
ص :157
ص :158
إذا دار الأمر بین وجوب شیءٍ وحرمته ؛ لعدم نهوض حجّه علی أحدهما تفصیلاً ، بعد نهوضها علیه إجمالاً ، ففیه وجوه:
الحکم بالبراءه عقلاً ونقلاً؛ لعموم النقل ، وحکمِ العقل بقبح المؤاخذه علی خصوص الوجوب أو الحرمه؛ للجهل به .
ووجوبِ الأخذ بأحدهما تعییناً أو تخییراً .
والتخییرِ بین الترک والفعل عقلاً ، مع التوقّف عن الحکم به رأساً ، أو مع الحکم علیه بالإباحه شرعاً .
أوْجَهُها : الأخیر؛ لعدم الترجیح بین الفعل والترک ، وشمولِ مثل «کلُّ شیءٍ لک حلالٌ حتّی تعرف أ نّه حرامٌ» (1) له ، ولا مانع عنه عقلاً ولا نقلاً .
وقد عرفت (2) أ نّه لا یجب موافقه الأحکام التزاماً ، ولو وجب لکان
ص :159
الالتزام إجمالاً بما هو الواقع معه ممکناً (1) .
والالتزام التفصیلیّ بأحدهما لو لم یکن تشریعاً محرّماً لَما نَهَضَ علی وجوبه دلیلٌ قطعاً (2) .
وقیاسه بتعارض الخبرین - الدالّ أحدهما علی الحرمه والآخر علی الوجوب - باطلٌ (3)؛ فإنّ التخییر بینهما علی تقدیر کون الأخبار حجّهً من باب السببیّه یکونُ علی القاعده ، ومن جهه التخییر بین الواجبین المتزاحمین (4) .
وعلی تقدیر أ نّها من باب الطریقیّه ، فإنّه وإن کان علی خلاف القاعده ، إلّا أنّ أحدهما - تعییناً أو تخییراً - حیث کان واجداً لِما هو المناط للطریقیّه - من احتمال الإصابه مع اجتماع سائر الشرائط - جُعِلَ (5) حجّهً فی هذه الصوره بأدلّه الترجیح تعییناً ، أو التخییر تخییراً ، وأین ذلک ممّا إذا لم یکن المطلوب إلّاالأخذ بخصوص ما صدر واقعاً ؟ وهو حاصلٌ ، والأخذ بخصوص أحدهما ربما لا یکون إلیه بموصِل .
نعم ، لو کان التخییر بین الخبرین لأجل إبدائهما احتمالَ الوجوب
ص :160
والحرمه ، وإحداثِهما التردیدَ بینهما ، لکان القیاس فی محلّه؛ لدلاله الدلیل علی التخییر بینهما علی التخییر هاهنا ، فتأمّل جیّداً .
ولا مجال هاهنا لقاعده قبح العقاب بلا بیان؛ فإنّه لا قصور فیه هاهنا ، وإنّما یکون عدم تنجّز التکلیف لعدم التمکّن من الموافقه القطعیّه کمخالفتها (1) ، والموافقهُ الاحتمالیّه حاصله لا محاله ، کما لا یخفی .
ثمّ إنّ مورد هذه الوجوه وإن کان ما إذا لم یکن واحدٌ من الوجوب والحرمه علی التعیین تعبّدیّاً؛ إذ لو کانا تعبّدیّین ، أو کان أحدهما المعیّن کذلک ، لم یکن إشکالٌ فی عدم جواز طرحهما والرجوعِ إلی الاباحه؛ لأنّها مخالفه عملیّه قطعیّه - علی ما أفاد (2) شیخنا الأستاذ قدس سره (3)- ، إلّاأنّ الحکم أیضاً فیهما إذا کانا کذلک هو التخییر عقلاً بین إتیانه علی وجه قربیّ - بأن یؤتیٰ به بداعی احتمال طلبه - وترکِه کذلک؛ لعدم الترجیح ، وقبحه بلا مرجّح .
فانقدح : أ نّه لا وجه لتخصیص المورد بالتوصّلیّین بالنسبه إلی ما هو المهمُّ فی المقام (4) ، وإن اختصّ بعض الوجوه بهما ، کما لا یخفی .
ولا یذهب علیک : أنّ استقلال العقل بالتخییر إنّما هو فی ما لا یحتمل الترجیح فی أحدهما علی التعیین . ومع احتماله لا یبعد دعوی استقلاله بتعیّنه (5)،
ص :161
کما هو الحال فی دوران الأمر بین التخییر والتعیین فی غیر المقام . ولکنّ الترجیح إنّما یکون لشدّه الطلب فی أحدهما ، وزیادتهِ علی الطلب فی الآخر بما لا یجوز الإخلال بها فی صوره المزاحمه ، ووجب الترجیح بها . وکذا وجب ترجیح احتمال ذی المزیّه فی صوره الدوران .
ولا وجه لترجیح احتمال الحرمه مطلقاً ، لأجل أنّ دفع المفسده أولیٰ من ترک المصلحه؛ ضرورهَ أ نّه رُبّ واجبٍ یکون مقدّماً علی الحرام فی صوره المزاحمه بلا کلام ، فکیف یقدّم علی احتمالِه احتمالُه فی صوره الدوران بین مثلیهما ؟ فافهم .
ص :162
لو شکّ فی المکلّف به مع العلم بالتکلیف من الإیجاب أو التحریم :
فتارهً لتردّده بین المتباینین ، وأُخری بین الأقلّ والأکثر الارتباطیّین ، فیقع الکلام فی مقامین:
التامّه للبعث أو الزجر الفعلیّ ، مع ما هو علیه (1) من الإجمال والتردّد والاحتمال - فلا محیصَ عن تنجّزه وصحّه العقوبه علی مخالفته ، وحینئذٍ لا محاله یکون مادلّ بعمومه علی الرفع أو الوضع أو السعه أو الإباحه ممّا یعمّ أطراف العلم مخصَّصاً عقلاً؛ لأجل مناقضتها معه .
وإن لم یکن فعلیّاً کذلک - ولو کان بحیث لو علم تفصیلاً لَوَجَب امتثاله وصحّ العقاب علی مخالفته - لم یکن هناک مانعٌ عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّه البراءه الشرعیّه للأطراف .
ومن هنا انقدح: أ نّه لا فرق بین العلم التفصیلیّ والإجمالیّ ، إلّاأ نّه لا مجال للحکم الظاهریّ مع التفصیلیّ ، فإذا کان الحکم الواقعیّ فعلیّاً من سائر الجهات لا محاله (2) یصیر فعلیّاً معه من جمیع الجهات ، وله مجالٌ مع الإجمالیّ ، فیمکن أن لا یصیر فعلیّاً معه؛ لإمکان جعل الظاهریّ فی أطرافه ، وإن کان فعلیّاً من غیر هذه الجهه ، فافهم .
ثمّ إنّ الظاهر : أ نّه لو فُرض أنّ المعلوم بالإجمال کان فعلیّاً من جمیع الجهات ، لَوَجَب عقلاً موافقته مطلقاً ، ولو کانت أطرافه غیرَ محصوره (3) .
ص :164
وإنّما التفاوت بین المحصوره وغیرها هو : أنّ عدم الحصر ربما یلازم ما یمنع عن فعلیّه المعلوم مع کونه فعلیّاً - لولاه - من سائر الجهات .
وبالجمله: لا یکاد یری العقل تفاوتاً بین المحصوره وغیرها فی التنجّز وعدمِه ، فی ما کان المعلوم إجمالاً فعلیّاً ، یبعثُ المولیٰ نحوَه فعلاً أو یزجر عنه کذلک ، مع ما هو علیه من کثره أطرافه .
والحاصل: أنّ اختلاف الأطراف فی الحصر وعدمه لا یوجب تفاوتاً فی ناحیه العلم . ولو أوجب تفاوتاً فإنّما هو فی ناحیه المعلوم ، فی فعلیّه البعث أو الزجر مع الحصر ، وعدمِها (1) مع عدمه ، فلا یکاد یختلف العلم الإجمالیّ باختلاف الأطراف - قلّهً وکثرهً - فی التنجیز (2) وعدمه ، ما لم یختلف المعلوم فی الفعلیّه وعدمها بذلک ، وقد عرفت آنفاً : أ نّه لا تفاوت بین التفصیلیّ والإجمالیّ فی ذلک ، ما لم یکن تفاوتٌ فی طرف المعلوم أیضاً (3) ، فتأمّل تعرف .
ومنه ظهر: أ نّه لو لم یعلم فعلیّه التکلیف مع العلم به إجمالاً - إمّا من جهه عدم الابتلاء ببعض أطرافه ، أو من جهه الاضطرار إلی بعضها معیّناً أو مردّداً ، أو من جهه تعلّقه بموضوع یقطع بتحقّقه إجمالاً فی هذا الشهر ، کأ یّام حیض المستحاضه مثلاً - لما وجبت موافقته ، بل جازت مخالفته .
وأ نّه لو علم فعلیّته - ولو کان بین أطراف تدریجیّه - لکان منجَّزاً ووجب موافقته؛ فإنّ التدرّج لا یمنع عن الفعلیّه؛ ضروره أ نّه کما یصحّ التکلیف بأمرٍ حالیّ ، کذلک یصحُّ بأمر استقبالیّ ، کالحجّ فی الموسم للمستطیع ، فافهم .
الأوّل: إنّ الاضطرار کما یکون مانعاً عن العلم بفعلیّه التکلیف لو کان إلی واحدٍ معیّن ، کذلک یکون مانعاً لو کان إلی غیر معیّن (1)؛ ضرورهَ أ نّه مطلقاً موجبٌ لجواز ارتکاب أحد الأطراف أو ترکه ، تعییناً أو تخییراً ، وهو ینافی العلم بحرمه المعلوم أو بوجوبه بینها فعلاً .
لا فرق بین الاضطرار السابق علی حدوث العلم واللاحق له وکذلک لا فرق (2) بین أن یکون الاضطرار کذلک سابقاً علی حدوث العلم أو لاحقاً ؛ وذلک لأنّ التکلیف (3)* المعلوم بینها من أوّل الأمر کان محدوداً
ص :166
بعدم عروض الاضطرار إلی متعلّقه ، فلو عرض علی بعض أطرافه لَما کان التکلیف به معلوماً ؛ لاحتمال أن یکون هو المضطرّ إلیه فی ما کان الاضطرار إلی المعیّن ، أو یکون هو المختار فی ما کان إلی بعض الأطراف بلا تعیین .
قیاس الاضطرار إلی بعض الأطراف بفقد بعضها
لا یقال: الاضطرار إلی بعض الأطراف لیس إلّاکفقد بعضها ، فکما لا إشکال فی لزوم رعایه الاحتیاط فی الباقی مع الفقدان ، کذلک لا ینبغی الإشکال فی لزوم رعایته مع الاضطرار ، فیجب الاجتناب عن الباقی أو ارتکابه ؛ خروجاً عن عهده ما تنجّز علیه قبل عروضه .
الجواب عن القیاس
فإنّه یقال: حیث إنّ فقد المکلّف به لیس من حدود التکلیف به وقیوده ، کان التکلیفُ المتعلّق به مطلقاً ، فإذا اشتغلت الذمّه به کان قضیّه الاشتغال به یقیناً الفراغَ عنه کذلک . وهذا بخلاف الاضطرار إلی ترکه (1)؛ فإنّه من حدود التکلیف به وقیوده ، ولا یکون الاشتغال به من الأوّل إلّامقیّداً بعدم عروضه ، فلا یقین باشتغال الذمّه بالتکلیف به إلّاإلی هذا الحدّ ، فلا یجب رعایته فی ما بعده ، ولا یکون إلّامن باب الاحتیاط فی الشبهه البدویّه ، فافهم وتأمّل ، فإنّه دقیق جدّاً .
للمکلّف نحوَ ترکه ، لو لم یکن له داعٍ آخر - ولا یکاد یکون ذلک إلّافی ما یمکن عادهً ابتلاؤه به ، وأمّا ما لا ابتلاء به بحسبها ، فلیس للنهی عنه موقعٌ أصلاً (1)؛ ضرورهَ أ نّه بلا فائده ولا طائل ، بل یکون من قبیل طلب الحاصل - کان الابتلاء بجمیع الأطراف ممّا لابدّ منه فی تأثیر العلم ، فإنّه بدونه لا علم بتکلیف فعلیٍّ؛ لاحتمال تعلّق الخطاب بما لا ابتلاء به .
الملاک فی الابتلاء
ومنه قد انقدح: أنّ الملاک فی الابتلاء المصحِّح لفعلیّه الزجر ، وانقداحِ طلب ترکه فی نفس المولیٰ فعلاً ، هو ما إذا صحّ انقداح الداعی إلی فعله فی نفس العبد ، مع اطّلاعه علی ما هو علیه من الحال .
ولو شکّ فی ذلک کان المرجع هو البراءه؛ لعدم القطع بالاشتغال ، لا إطلاقُ الخطاب (2)؛ ضرورهَ أ نّه لا مجال للتشبّث به إلّافی ما إذا شکّ فی التقیید بشیء (3) بعد الفراغ عن صحّه الإطلاق بدونه ، لا فی ما شکّ فی اعتباره فی صحّته (4)(5)* ، تأمّل لعلّک تعرف إن شاء اللّٰه - تعالی - .
ص :168
الثالث: أ نّه قد عرفت (1) : أ نّه مع فعلیّه التکلیف المعلوم لا تفاوت بین أن تکون أطرافه محصورهً وأن تکون غیر محصوره .
نعم ، ربما تکون کثره الأطراف فی مورد موجبهً لعُسْر موافقته القطعیّه باجتناب کلّها ، أو ارتکابه ، أو ضررٍ فیها ، أو غیرِهما ممّا لا یکون معه التکلیف فعلیّاً ، بعثاً أو زجراً فعلاً (2) ، ولیست (3) بموجبه لذلک فی غیره . کما أنّ نفسها ربما تکون موجبه لذلک ، ولو کانت قلیلهً فی مورد آخر .
فلابدّ من ملاحظه ذاک الموجب لرفع فعلیّه التکلیف المعلوم بالإجمال أ نّه یکون ، أو لا یکون فی هذا المورد ، أو یکون مع کثره أطرافه ، وملاحظه أ نّه مع أیّه مرتبه من کثرتها ، کما لا یخفی .
حکم الشک فی طروء الموجب لرفع فعلیّهالتکلیف ولو شکّ فی عروض الموجب ، فالمتَّبع هو إطلاق دلیل التکلیف لو کان ، وإلّا فالبراءه لأجل الشکّ فی التک لیف الفعلیّ . هذا هو حقّ القول فی المقام .
وما قیل فی ضبط المحصور وغیره (4) لا یخلو من الجزاف (5) .
ص :169
الرابع: أ نّه إنّما یجب عقلاً رعایه الاحتیاط فی خصوص الأطراف ، ممّا یتوقّف علی اجتنابه أو ارتکابه حصولُ العلم بإتیان الواجب أو ترک الحرام المعلومین (1) فی البین دون غیرها ، وإن کان حاله حال بعضها فی کونه محکوماً بحکمه (2) واقعاً .
ومنه ینقدح الحال فی مسأله ملاقاه شیءٍ مع أحد (3) أطراف النجس المعلوم بالإجمال ، وأ نّه :
الصوره الأُولی للملاقاه وحکمها تارهً : یجبُ الاجتنابُ عن الملاقیٰ دون ملاقیه ، فی ما کانت الملاقاه بعد العلم إجمالاً بالنجس بینها؛ فإنّه إذا اجتنبَ عنه وطرفِه اجتنبَ عن النجس فی البین قطعاً ولو لم یجتنب عمّا یلاقیه؛ فإنّه علی تقدیر نجاسته لنجاسته کان فرداً آخر من النجس ، قد شُکّ فی وجوده ، کشیءٍ آخر شُکّ فی نجاسته بسبب آخر .
ومنه ظهر: أ نّه لا مجال لتوهّم أنّ قضیّه تنجّز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أیضاً (4)؛ ضرورهَ أنّ العلم به إنّما یوجبُ تنجّزَ الاجتناب عنه ، لا تنجّز الاجتناب عن فردٍ آخر لم یُعلم حدوثه ، وإن احتُمل .
ص :170
الصوره الثانیه
وأُخریٰ : یجب الاجتناب عمّا لاقاه دونه ، فی ما لو علم إجمالاً نجاسته أو نجاسهُ شیءٍ آخر ، ثمّ حدَثَ العلم بالملاقاه والعلمُ بنجاسه الملاقیٰ (1) أو ذاک الشیء أیضاً؛ فإنّ حال الملاقیٰ (2)* فی هذه الصوره بعینها حالُ ما لاقاه فی الصوره السابقه ، فی عدم کونه طرفاً للعلم الإجمالیّ ، وأ نّه فردٌ آخر علی تقدیر نجاسته واقعاً غیر معلوم النجاسه أصلاً ، لا إجمالاً ولا تفصیلاً .
وکذا لو علم بالملاقاه ثمّ حدث العلم الإجمالیّ ، ولکن کان الملاقیٰ خارجاً عن محلّ الابتلاء فی حال حدوثه ، وصار مبتلی به بعده .
الصوره الثالثه
وثالثهً : یجبُ الاجتناب عنهما فی ما لو حصل العلم الإجمالیّ بعد العلم بالملاقاه؛ ضروره أ نّه حینئذٍ نعلم إجمالاً : إمّا بنجاسه الملاقی والملاقیٰ ، أو بنجاسه الآخر (3) ، کما لا یخفی ، فیتنجّز التکلیف بالاجتناب عن النجس فی البین ، وهو الواحد أو الإثنان (4) .
والحقّ : أنّ العلم الإجمالیّ بثبوت التکلیف بینهما أیضاً یوجبُ الاحتیاط عقلاً بإتیان الأکثر؛ لتنجُّزِه به ، حیث تعلَّقَ بثبوته فعلاً .
ص :171
وتوهّم (1) : انحلاله إلی العلم بوجوب الأقلّ تفصیلاً ، والشکّ فی وجوب الأکثر بدواً ؛ ضرورهَ لزوم الإتیان بالأقلّ لنفسه شرعاً ، أو لغیره کذلک ، أو عقلاً ، ومعه لا یوجب تنجّزه لو کان متعلّقاً بالأکثر .
فاسدٌ قطعاً ؛ لاستلزام الانحلالِ المحالَ ، بداههَ توقُّفِ لزوم الأقلّ فعلاً - إمّا لنفسه أو لغیره - علی تنجُّز التکلیف مطلقاً ، ولو کان متعلّقاً بالأکثر ، فلو کان لزومه کذلک مستلزماً لعدم تنجّزه إلّاإذا کان متعلّقاً بالأقلّ ، کان خلفاً .
مع أ نّه یلزم من وجوده عدمُهُ ؛ لاستلزامه عدمَ تنجّز التکلیف علی کلّ حالٍ ، المستلزم لعدم لزوم الأقلّ مطلقاً ، المستلزم لعدم الانحلال ، وما یلزم من وجوده عدمُه محالٌ .
نعم ، إنّما ینحلّ إذا کان الأقلّ ذا مصلحه ملزمه ؛ فإنّ وجوبه حینئذٍ یکون معلوماً له ، وإنّما کان التردید لاحتمال أن یکون الأکثر ذا مصلحتین ، أو مصلحه أقویٰ من مصلحه الأقلّ ، فالعقل فی مثله وإن استقلّ بالبراءه بلا کلام ، إلّاأ نّه خارجٌ عمّا هو محلّ النقض والإبرام فی المقام ، هذا .
مع أنّ الغرض الداعی إلی الأمر لا یکاد یحرز إلّابالأکثر ، بناءً علی ما ذهب إلیه المشهورُ من العدلیّه ، من تبعیّه الأوامر والنواهی للمصالح والمفاسد فی المأمور بها والمنهیّ عنها ، وکونِ الواجبات الشرعیّه ألطافاً فی الواجبات العقلیّه ، وقد مرّ (2) اعتبار موافقه الغرض وحصولِه عقلاً فی إطاعه الأمر وسقوطه ، فلابدّ من إحرازه فی إحرازها ، کما لا یخفی (2) .
ص :172
ولا وجه للتفصّی عنه (1) :
تارهً : بعدم ابتناء مسأله البراءه والاحتیاط علی ما ذهب إلیه مشهور العدلیّه ، وجریانِها علی ما ذهب إلیه الأشاعره المنکرین (2) لذلک ، أو بعض العدلیّه المکتفین (3) بکون المصلحه فی نفس الأمر دون المأمور به (4) .
وأُخری : بأنّ حصول المصلحه واللطف فی العبادات لا یکاد یکون إلّا بإتیانها علی وجه الامتثال ، وحینئذٍ کان لاحتمال اعتبار معرفه أجزائها تفصیلاً - لیؤتی بها مع قصد الوجه - مجالٌ ، ومعه لا یکاد یقطع بحصول اللطف والمصلحه الداعیه إلی الأمر ، فلم یبقَ إلّاالتخلّص عن تبعه مخالفته ، بإتیان ما علم تعلّقه به ، فإنّه واجب عقلاً وإن لم یکن فی المأمور به مصلحهٌ ولطف رأساً ؛ لتنجّزه بالعلم به إجمالاً . وأمّا الزائد علیه - لو کان - فلا تبعه علی مخالفته من جهته ؛ فإنّ العقوبه علیه بلا بیان .
الجواب عن الاعتراض الأول وذلک ضرورهَ أنّ حکم العقل بالبراءه - علی مذهب الأشعریّ - لا یُجدی من ذهب إلی ما علیه المشهور من العدلیّه ، بل مَن ذهب إلی ما علیه غیر المشهور ؛ لاحتمال أن یکون الداعی إلی الأمر ومصلحتهُ - علی هذا المذهب أیضاً - هو ما فی الواجبات من المصلحه وکونِها ألطافاً ، فافهم .
ص :173
الجواب الأول عن الاعتراض الثانی وحصول اللطف والمصلحه فی العباده وإن کان یتوقّف علی الإتیان بها علی وجه الامتثال ، إلّاأ نّه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفه الأجزاء وإتیانِها علی وجهها ، کیف ؟ ولا إشکال فی إمکان الاحتیاط هاهنا ، کما فی المتباینین ، ولا یکاد یمکن مع اعتباره . هذا .
الجواب الثانی عن الاعتراض مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه کذلک . والمرادُ (1) ب «الوجه» - فی کلام من صرّح بوجوب إیقاع الواجب علی وجهه ووجوب اقترانه به - هو وجه نفسه من وجوبه النفسیّ ، لا وجهُ أجزائه من وجوبها الغیریّ ، أو وجوبها العرَضیّ . وإتیانُ الواجب مقترناً بوجهه - غایهً ووصفاً - بإتیان الأکثر بمکانٍ من الامکان ؛ لانطباق الواجب علیه ولو کان هو الأقلّ ، فیتأتّیٰ من المکلّف معه قصدُ الوجه .
واحتمال اشتماله علی ما لیس من أجزائه لیس بضائر ، إذا قصد وجوبَ المأتیّ علی إجماله ، بلا تمییز ما له دخلٌ فی الواجب من أجزائه ، لا سیّما إذا دار الزائد بین کونه جزءاً لماهیّته وجزءاً لفرده ؛ حیث ینطبق الواجب علی المأتیّ حینئذٍ بتمامه وکماله ؛ لأنّ الطبیعیّ یصدق علی الفرد بمشخِّصاته (2) .
نعم ، لو دار بین کونه جزءاً أو مقارناً ، لَما کان منطبقاً علیه بتمامه لو لم یکن جزءاً . لکنّه غیر ضائر ؛ لانطباقه علیه أیضاً فی ما لم یکن ذاک الزائد جزءاً ، غایته لا بتمامه بل بسائر أجزائه . هذا .
الجواب الثالث مضافاً إلی أنّ اعتبار قصد الوجه من رأس ممّا یقطع بخلافه .
ص :174
الجواب الرابع مع أنّ الکلام فی هذه المسأله لا یختصّ بما لابدّ أن یؤتیٰ به علی وجه الامتثال من العبادات .
الجواب الخامس مع أ نّه لو قیل باعتبار قصد الوجه فی الامتثال فیها علی وجهٍ ینافیه التردّد والاحتمال ، فلا وجه معه للزوم مراعاه الأمر المعلوم أصلاً ، ولو بإتیان الأقلّ لو لم یحصل الغرض ، وللزم الاحتیاط بإتیان الأکثر مع حصوله ، لیحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال ؛ لاحتمال بقائه مع الأقلّ بسبب بقاء غرضه ، فافهم .
هذا بحسب حکم العقل .
وأمّا النقل (1)*: فالظاهر أنّ عموم مثل حدیث الرفع قاضٍ برفع جزئیّه ما شکّ فی جزئیّته ، فبمثله یرتفع الإجمال والتردّد عمّا تردّد أمره بین الأقلّ والأکثر ، ویعیّنه (2) فی الأوّل .
الإشکال علی جریان البراءه والجواب عنه
لا یقال: إنّ جزئیّه السوره المجهوله (3) - مثلاً - لیست بمجعوله ، ولیس
ص :175
لها أثر مجعول ، والمرفوع بحدیث الرفع إنّما هو المجعول بنفسه أو أثرِه .
ووجوب الإعاده إنّما هو أثر بقاء الأمر الأوّل (1) بعد العلم (2) ، مع أ نّه عقلیّ ، ولیس إلّامن باب وجوب الإطاعه عقلاً .
لأنّه یقال: إنّ الجزئیّه وإن کانت غیرَ مجعوله بنفسها ، إلّاأ نّها مجعوله بمنشأ انتزاعها ، وهذا کافٍ فی صحّه رفعها .
لا یقال: إنّما یکون ارتفاع الأمر الانتزاعیّ برفع منشأ انتزاعه ، وهو الأمر الأوّل ، ولا دلیل آخر علی أمرٍ آخر بالخالی عنه .
لأنّه یقال: نعم ، وإن کان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه ، إلّاأنّ نسبه حدیث الرفع - الناظرِ إلی الأدلّه الدالّه علی بیان الأجزاء - إلیها نسبهُ الاستثناء (3) ، وهو معها یکون دالاًّ (4) علی جزئیّتها إلّامع الجهل بها (5) ، کما لا یخفی ، فتدبّر جیّداً .
ص :176
وینبغی التنبیه علی أُمور:
الأوّل: أ نّه ظهر - ممّا مرّ (1) - : حالُ دوران الأمر بین المشروط بشیءٍ ومطلقهِ ، وبین الخاصّ - کالإنسان - وعامِّه - کالحیوان - ، وأ نّه لا مجال هاهنا للبراءه عقلاً (2) ، بل کان الأمر فیهما أظهر ؛ فإنّ الانحلال المتوهّم فی الأقلّ والأکثر لا یکاد یتوهّم هاهنا ؛ بداههَ أنّ الأجزاء التحلیلیّه لا تکاد تتّصف (3) باللزوم من باب المقدّمه عقلاً ، فالصلاه - مثلاً - فی ضمن الصلاه المشروطه أو الخاصّه موجودهٌ بعین وجودها ، وفی ضمن صلاه أُخری فاقدهٍ لشرطها أو خصوصیّتها تکون مباینهً (4) للمأمور بها ، کما لا یخفی .
نعم ، لا بأس بجریان البراءه النقلیّه فی خصوص دوران الأمر بین المشروط وغیره ، دون الدوران (5) بین الخاصّ وغیره (6) ؛ لدلاله مثل حدیث الرفع علی عدم شرطیّه ما شکّ فی شرطیّته ، ولیس کذلک خصوصیّه الخاصّ ؛ وإنّها إنّما تکون منتزعهَ عن نفس الخاصّ ، فیکون الدورانُ بینه وبین (7)
ص :177
غیره من قبیل الدوران بین المتباینین (1) ، فتأمّل جیّداً .
الثانی: أ نّه لا یخفی : أنّ الأصل فی ما إذا شکّ فی جزئیّه شیءٍ أو شرطیّته فی حال نسیانه عقلاً ونقلاً ، ما ذکر فی الشکّ فی أصل الجزئیّه أو الشرطیّه ، فلو لا مثل حدیث الرفع مطلقاً ، و «لا تعاد» فی الصلاه ، لَحُکم عقلاً بلزوم إعاده ما اخلّ بجزئه أو شرطه نسیاناً (2) ، کما هو الحالُ فی ما ثبت شرعاً جزئیّتهُ أو شرطیّته مطلقاً ، نصّاً أو إجماعاً .
ثمّ لا یذهب علیک: أ نّه کما یمکن رفع الجزئیّه أو الشرطیّه فی هذا الحال بمثل حدیث الرفع ، کذلک یمکن تخصیصهما (3)(4) بهذا الحال بحسب الأدلّه الاجتهادیّه ، کما إذا وُجِّه الخطاب - علی نحوٍ یعمّ الذاکرَ والناسی - بالخالی عمّا شکّ فی دخله مطلقاً ، وقد دلّ دلیل آخر علی دخله فی حقّ الذاکر ، أو وُجّه إلی الناسی خطابٌ یخصّه بوجوب الخالی بعنوان آخر - عامٍّ أو خاصّ - ، لا بعنوان الناسی ، کی یلزم استحاله إیجاب ذلک علیه بهذا العنوان ؛ لخروجه عنه بتوجیه الخطاب إلیه لا محاله ، کما توهّم (5) لذلک
ص :178
استحاله تخصیص الجزئیّه أو الشرطیّه بحال الذکر ، وإیجابِ العمل الخالی عن المنسیّ علی الناسی ، فلا تغفل .
الثالث: انّه ظهر - ممّا مرّ (1) - : حالُ زیاده الجزء إذا شکّ فی اعتبار عدمها شرطاً أو شطراً فی الواجب - مع عدم اعتباره فی جزئیّته ، وإلّا لم یکن من زیادته ، بل من نقصانه (2) - ؛ وذلک لاندراجه فی الشکّ فی دخل شیءٍ فیه جزءاً أو شرطاً ، فیصحّ لو أتی به مع الزیاده عمداً تشریعاً ، أو جهلاً - قصوراً أو تقصیراً - أو سهواً (3) ، وإن استقلّ العقل - لولا النقل (4) - بلزوم الاحتیاط ؛ لقاعده الاشتغال .
نعم ، لو کان عبادهً ، وأتی به کذلک - علی نحوٍ لو لم یکن للزائد دخلٌ فیه لَما یدعو إلیه وجوبُه - ، لکان باطلاً مطلقاً ، أو فی صوره عدم دخله فیه ؛ لعدم قصد الامتثال فی هذه الصوره ، مع استقلال العقل بلزوم الإعاده مع اشتباه الحال ؛ لقاعده الاشتغال (5) .
ص :179
وأمّا لو أتی به علی نحوٍ یدعوه إلیه علی أیّ حال ، کان صحیحاً ، ولو کان مشرِّعاً فی دخله الزائد فیه بنحوٍ ، مع عدم علمه بدخله ؛ فإنّ تشریعه فی تطبیق المأتیّ مع المأمور به ، وهو لا ینافی قصدَه الامتثالَ والتقرّبَ به علی کلّ حالٍ .
ثمّ إنّه ربّما تمسّک - لصحّه ما أتی به مع الزیاده - باستصحاب الصحّه (1) . وهو لا یخلو من کلامٍ ونقض وإبرام (2) خارجٍ عمّا هو المهمّ فی المقام ، ویأتی تحقیقه فی مبحث الاستصحاب إن شاء اللّٰه - تعالی - (3) .
الرابع: أ نّه لو علم بجزئیّه شیءٍ أو شرطیّته فی الجمله ، ودار الأمر بین أن یکون جزءاً أو شرطاً مطلقاً ولو فی حال العجز عنه ، وبین أن یکون جزءاً أو شرطاً فی خصوص حال التمَکّن منه - فیسقط الأمرُ بالعجز عنه علی الأوّل ؛ لعدم القدره حینئذٍ علی المأمور به ، لا علی الثانی فیبقیٰ متعلّقاً (4) بالباقی - ، ولم یکن هناک ما یُعیِّن أحدَ الأمرین ، - من إطلاق دلیل اعتباره
جزءاً أو شرطاً ، أو إطلاق دلیل المأمور به ، مع إجمال دلیل اعتباره أو إهماله (5) - ، لا ستقلّ العقل بالبراءه عن الباقی ؛ فإنّ العقاب علی ترکه بلا بیان ،
ص :180
والمؤاخذهَ علیه بلا برهان .
لا یقال: نعم ، ولکنّ قضیّه مثل حدیث الرفع عدمُ الجزئیّه أو الشرطیّه إلّا فی حال التمکّن منه .
فإنّه یقال: إنّه لا مجال هاهنا لمثله ؛ بداهه أ نّه ورد فی مقام الامتنان ، فیختصّ بما یوجبُ نفیَ التکلیف ، لا إثباتَه .
نعم ، ربما یقال: إنّ قضیّه الاستصحاب فی بعض الصور وجوبُ الباقی فی حال التعذّر أیضاً .
ولکنّه لا یکاد یصحّ إلّابناءً علی صحّه القسم الثالث من استصحاب الکلّی ، أو علی المسامحه فی تعیین الموضوع فی الاستصحاب ، وکان ما تعذّر ممّا یُسامَح به عرفاً ، بحیث یصدق مع تعذّره بقاءُ الوجوب لو قیل بوجوب الباقی ، وارتفاعُه لو قیل بعدم وجوبه . ویأتی تحقیق الکلام فیه فی غیر المقام (1) .
کما أنّ وجوب الباقی فی الجمله ، ربّما قیل (2) بکونه مقتضیٰ ما یستفاد من قوله صلی الله علیه و آله : «إذا أمرتُکم بشیءٍ فأتُوا منهُ ما استطعتُم» (3) ، وقوله صلی الله علیه و آله : «المیسُور لا یسقُط بالمعْسُور» (4) ، وقوله صلی الله علیه و آله : «ما لا یُدرَکُ کُلّه لا یُترکُ کلّه» (5) .
ودلاله الأوّل مبنیّه علی کون کلمه «مِن» تبعیضیّه ، لا بیانیّه ، ولا بمعنی الباء .
ص :181
وظهورُها فی التبعیض وإن کان ممّا لا یکاد یخفی ، إلّاأنّ کونه بحسب الأجزاء غیرُ واضح ؛ لاحتمال أن یکون بلحاظ الأفراد .
ولو سلّم ، فلا محیص عن أ نّه هاهنا بهذا اللحاظ یرادُ ؛ حیث ورد جواباً عن السؤال عن تکرار الحجّ بعد أمره به . فقد روی أ نّه خطبَ رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله ، فقال: «إنّ اللّٰه کتبَ علیکم الحجَّ» ، فقام عکاشه - ویُرویٰ سُراقه بن مالک - فقال: أفی (1) کلّ عام یا رسول اللّٰه ؟ فأعرض عنه ، حتّی أعادَ مرّتین أو ثلاثاً ، فقال صلی الله علیه و آله : «ویحَکَ ! وما یؤمنُک أن أقول: نعم ؟ وَاللّٰه لو قلتُ: نعم ، لوَجَبَ ، ولو وجَب ما استطعتم ، ولو ترکتُم لکفَرتُم ، فاترُکونی ما تُرکتم (2) ، وإنّما هلک من کان قبلَکم بِکَثره سؤالهم واختلافِهم إلی أنبیائهم ، فإذا أمرتُکم بشیءٍ فأتُوا منه ما استطعتُم ، وإذا نهیتکم عن شیءٍ فاجتَنِبوه» (3) .
ومن ذلک ظهر الإشکال فی دلاله الثانی أیضاً ، حیث لم یظهر فی عدم سقوط المیسور من الأجزاء بمعسورها ؛ لاحتمال إراده عدم سقوط المیسور من أفراد العامّ بالمعسور منها ، هذا .
مضافاً إلی عدم دلالته علی عدم السقوط لزوماً ؛ لعدم اختصاصه بالواجب . ولا مجال معه لتوهّم دلالته علی أ نّه بنحو اللزوم ، إلّاأن یکون المرادُ عدمَ سقوطه بما له من الحکم - وجوباً کان أو ندباً - بسبب سقوطه عن المعسور ، بأن یکون قضیّه المیسور کنایهً عن عدم سقوطه بحکمه ؛ حیث إنّ الظاهر من مثله هو ذلک - کما أنّ الظاهر من مثل «لا ضَرَرَ ولا ضِرار» هو نفی ما لَه من تکلیف أو وضع - ، لا أ نّها عباره عن عدم سقوطه بنفسه ، وبقائه
ص :182
علی عهده المکلّف ، کی لا یکون له دلاله علی جریان القاعده فی المستحبّات علی وجهٍ ، أو لا یکون له دلاله علی وجوب المیسور فی الواجبات علی آخر ، فافهم .
وأمّا الثالث: فبعد تسلیم ظهور الکلّ (1) فی المجموعیّ لا الأفرادیّ ، لا دلاله له إلّاعلی رجحان الإتیان بباقی الفعل المأمور به - واجباً کان أو مستحبّاً - عند تعذّر بعض أجزائه ؛ لظهور الموصول فی ما یعمّهما .
ولیس ظهور «لا یترک» فی الوجوب - لو سلّم - موجباً لتخصیصه بالواجب ، لو لم یکن ظهوره فی الأعمّ قرینهً علی إراده خصوص الکراهه ، أو مطلق المرجوحیّه من النفی . وکیف کان ، فلیس ظاهراً فی اللزوم هاهنا ، ولو قیل بظهوره فیه فی غیر المقام (2) .
ثمّ إنّه حیث کان الملاک فی قاعده المیسور هو صدق المیسور علی الباقی عرفاً ، کانت القاعده جاریهً مع تعذّر الشرط أیضاً ؛ لصدقه حقیقهً علیه مع تعذّره عرفاً ، کصدقه علیه کذلک مع تعذّر الجزء فی الجمله ، وإن کان فاقد الشرط مبایناً للواجد عقلاً ، ولأجل ذلک ربّما لا یکون الباقی - الفاقد لمعظم الأجزاء أو لرکنها - مورداً لها ، فی ما إذا لم یصدق علیه المیسور عرفاً ، وإن کان غیر مباین للواجد عقلاً .
نعم ، ربّما یلحق به شرعاً ما لایعدّ بمیسور عرفاً تخطئهً (3) للعرف ، وأنّ عدم العدّ کان لعدم الاطّلاع علی ما هو علیه الفاقد ، من قیامه فی هذا الحال
ص :183
بتمام ما قام علیه الواجد ، أو بمعظمه فی غیر الحال ، وإلّا عدّ أ نّه میسوره .
کما ربّما یقوم الدلیل علی سقوط میسور عرفیّ لذلک - أی : للتخطئه - وأ نّه لا یقوم بشیءٍ من ذلک .
وبالجمله: ما لم یکن دلیل علی الإخراج أو الإلحاق کان المرجع هو الإطلاق ، ویستکشف منه أنّ الباقی قائم بما یکون المأمور به قائماً بتمامه ، أو بمقدارٍ یوجب (1) إیجابه فی الواجب ، واستحبابه فی المستحبّ .
وإذا قام دلیل علی أحدهما فیخرج أو یدرج ، تخطئهً أو تخصیصاً فی الأوّل ، وتشریکاً (2) فی الحکم - من دون الاندراج فی الموضوع - فی الثانی ، فافهم .
لا یخفی: أ نّه إذا دار الأمر بین جزئیّه شیءٍ أو شرطیّته ، وبین مانعیّته أو قاطعیّته ، لکان من قبیل المتباینین ، ولا یکاد یکونُ من الدوران بین المحذورین (3) ، لإمکان الاحتیاط بإتیان العمل مرّتین ، مع ذاک الشیء مرّهً ، وبدونه أُخری ، کما هو أوضح من أن یخفی .
ص :184
أمّا الاحتیاط: فلا یعتبر فی حسنه شیءٌ أصلاً ، بل یحسن علی کلّ حال ، إلّا إذا کان موجباً لاختلال النظام .
ولا تفاوت فیه بین المعاملات والعبادات مطلقاً ، ولو کان موجباً للتکرار فیها.
وتوهّم : کون التکرار عبثاً ولعباً بأمر المولیٰ ، وهو ینافی قصد الامتثال المعتبر فی العباده .
فاسدٌ ؛ لوضوح أنّ التکرار ربّما یکون بداعٍ صحیح عقلائیّ ، مع أ نّه لو لم یکن بهذا الداعی ، وکان أصل إتیانه بداعی أمر مولاه بلاداعٍ له سواه ، لَما ینافی قصد الامتثال ، وإن کان لاغیاً (1) فی کیفیّه امتثاله ، فافهم .
بل یحسن أیضاً فی ما قامت الحجّه علی البراءه عن التکلیف ؛ لئلّا یقع فی ما کان فی مخالفته علی تقدیر ثبوته ، من المفسده وفوتِ المصلحه .
وأمّا البراءه العقلیّه: فلا یجوز إجراؤها إلّابعد الفحص والیأس عن الظفر بالحجّه علی التکلیف ؛ لما مرّت الإشاره (2) إلیه من عدم استقلال العقل بها إلّابعدهما .
ص :185
وأمّا البراءه النقلیّه: فقضیّه إطلاق أدلّتها ، وإن کان هو عدم اعتبار الفحص فی جریانها ، کما هو حالها فی الشبهات الموضوعیّه ، إلّاأ نّه استُدِلّ علی اعتباره بالإجماع ، وبالعقل (1) ، فإنّه لا مجالَ لها بدونه ؛ حیث یعلم إجمالاً بثبوت التکلیف بین موارد الشبهات ، بحیث لو تفحّص عنه لظَفَرَ به .
ولا یخفی: أنّ الإجماع هاهنا غیر حاصل ، ونَقْلُه - لوَهْنه - بلا طائل ؛ فإنّ (2) تحصیله فی مثل هذه المسأله - ممّا للعقل إلیه سبیلٌ - صعبٌ ، لو لم یکن عادهً بمستحیل ؛ لقوّه احتمال أن یکون المستند للجلّ - لولا الکلّ - هو ما ذکر من حکم العقل .
وأنّ الکلام فی البراءه فی ما لم یکن هناک علم موجب للتنجّز ، إمّا لانحلال العلم الإجمالیّ بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال ، أو لعدم الابتلاء إلّا بما لا یکون بینها علم بالتکلیف من موارد الشبهات ، ولو لعدم الالتفات إلیها .
فالأولی : الاستدلال للوجوب بما دلّ من الآیات والأخبار علی وجوب التفقّه والتعلّم ، والمؤاخذهِ علی ترک التعلّم - فی مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم - بقوله تعالی ، - کما فی الخبر - : «هلّا تعلّمت» (3) . فیُقیّد بها أخبارُ
ص :186
البراءه ؛ لقوّه ظهورها فی أنّ المؤاخذه والاحتجاج بترک التعلّم فی ما لم یعلم ، لا بترک العمل فی ما علم وجوبه ولو إجمالاً ، فلا مجال للتوفیق بحمل هذه الأخبار علی ما إذا علم إجمالاً ، فافهم .
ولا یخفی اعتبار الفحص فی التخییر العقلیّ أیضاً بعین ما ذکر فی البراءه ، فلا تغفل .
ولا بأس بصرف الکلام فی بیان بعض ماللعمل بالبراءه قبل الفحص من التبعه والأحکام :
أمّا التبعه: فلا شبهه فی استحقاق العقوبه علی المخالفه ، فی ما إذا کان ترک التعلّم والفحص مؤدّیاً إلیها ؛ فإنّها وإن کانت مغفوله حینها وبلا اختیار ، إلّا أ نّها منتهیه إلی الاختیار ، وهو کافٍ فی صحّه العقوبه ، بل مجرّد ترکهما کافٍ فی صحّتها ، وإن لم یکن مؤدّیاً إلی المخالفه مع احتماله (1) ؛ لأجل التجرّی وعدم المبالاه بها .
لعدم التمکّن منه بسبب الغفله (1)* ، ولذا التجأ المحقّق الأردبیلیّ (2) وصاحب المدارک0 (3) إلی الالتزام بوجوب التفقّه والتعلّم نفسیّاً تهیّئیّاً ، فتکون العقوبه علی ترک التعلّم نفسِهِ ، لا علی ما أدّیٰ إلیه من المخالفه .
فلا إشکال حینئذٍ فی المشروط والموقّت . ویسهل بذلک الأمرُ فی غیرهما لو صعب علی أحدٍ ، ولم تصدّق (4) کفایه الانتهاء إلی الاختیار فی استحقاق العقوبه علی ما کان فعلاً مغفولاً عنه ، ولیس بالاختیار .
ولا یخفی: أ نّه لا یکاد ینحلّ هذا الإشکالُ إلّابذلک ، أو الالتزامِ بکون المشروط أو الموقّت مطلقاً معلّقاً ، لکنّه قد اعتبر علی نحوٍ لا تتّصف مقدّماته الوجودیّه عقلاً بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غیر التعلّم ، فیکون الإیجاب حالیّاً ، وإن کان الواجب استقبالیّاً قد أُخذ علی نحوٍ لا یکاد یتّصف بالوجوب شرطه ، ولا غیر التعلّم من مقدّماته قبل شرطه أو وقته .
وأمّا لو قیل بعدم الإیجاب إلّابعد الشرط والوقت - کما هو ظاهر الأدلّه وفتاوی المشهور - ، فلا محیصَ عن الالتزام بکون وجوب التعلّم نفسیّاً ،
ص :188
لتکون العقوبه (1) - لو قیل بها - علی ترکه ، لا علی ما أدّیٰ إلیه من المخالفه ، ولا بأس به ، کما لا یخفی .
ولا ینافیه ما یظهر من الأخبار من کون وجوب التعلّم إنّما هو لغیره ، لا لنفسه ؛ حیث إنّ وجوبه لغیره لا یوجب کونَه واجباً غیریّاً یترشّح وجوبه من وجوب غیره ، فیکونَ مقدّمیّاً ، بل للتهیّؤ لإیجابه (2) ، فافهم .
وأمّا الأحکام: فلا إشکال فی وجوب الإعاده فی صوره المخالفه ، بل فی صوره الموافقه أیضاً فی العباده ، فی ما لا یتأتّی منه قصد القربه ؛ وذلک لعدم الإتیان بالمأمور به (3) ، مع عدم دلیل علی الصحّه والإجزاء إلّافی الإتمام فی موضع القصر ، أو الإجهار أو الإخفات فی موضع الآخر ، فورد فی الصحیح (4) - وقد أفتی به المشهور - صحّهُ الصلاه وتمامیّتها فی الموضعین مع الجهل مطلقاً ، ولو کان عن تقصیرٍ موجبٍ لاستحقاق العقوبه علی ترک الصّلاه المأمور بها ؛ لأنّ ما أُتی بها وإن صحّت وتمّت ، إلّاأ نّها لیست بمأمورٍ بها .
ص :189
إشکالان فی المقام والجواب عنهما
إن قلت: کیف یحکم بصحّتها مع عدم الأمر بها (1) ؟ وکیف یصحّ الحکم باستحقاق العقوبه علی ترک الصّلاه الّتی أُمر بها ، حتّی فی ما إذا تمکّن ممّا أُمر بها ، - کما هو ظاهر إطلاقاتهم - بأن علم بوجوب القصر أو الجهر بعد الإتمام والإخفات ، وقد بقی من الوقت مقدارُ إعادتها قصراً أو جهراً ؟ ؛ ضروره أ نّه لا تقصیر هاهنا یوجب استحقاقَ العقوبه .
وبالجمله: کیف یحکم بالصحّه بدون الأمر ؟ وکیف یحکم باستحقاق العقوبه مع التمکّن من الإعاده ؟ لولا الحکم شرعاً بسقوطها وصحّه ما أُتی بها .
قلت: إنّما حکم بالصحّه لأجل اشتمالها علی مصلحه تامّه ، لازمهِ الاستیفاء فی نفسها ، مهمّهٍ فی حدّ ذاتها ، وإن کانت دون مصلحه الجهر والقصر ، وإنّما لم یؤمر بها لأجل أ نّه أُمر بما کانت واجدهً لتلک المصلحه علی النحو الأکمل والأتمّ .
وأمّا الحکم باستحقاق العقوبه مع التمکّن من الإعاده ، فإنّها بلا فائده (2) ؛ إذ مع استیفاء تلک المصلحه لا یبقیٰ مجال لاستیفاء المصلحه الّتی کانت فی المأمور بها ، ولذا لو أتیٰ بها فی موضع الآخر جهلاً - مع تمکّنه من التعلّم - فقد قصّر ، ولو علم بعده (3) وقد وسع الوقت .
ص :190
فانقدح : أ نّه لا یتمکّن من صلاه القصر صحیحهً بعد فعل صلاه الإتمام ، ولا من الجهر کذلک بعد فعل صلاه الإخفات ، وإن کان الوقت باقیاً .
إشکالان آخران والجواب عنهما
إن قلت: علی هذا یکون کلّ منهما فی موضع الآخر سبباً لتفویت الواجب فعلاً ، وما هو السبب لتفویت الواجب کذلک حرام ، وحرمهُ العباده موجبه لفسادها بلا کلام .
قلت: لیس سبباً لذلک ، غایته أ نّه یکون مضادّاً له ، وقد حقّقنا فی محلّه (1) : أنّ الضدّ وعدم ضدّه متلازمان لیس بینهما توقّف أصلاً .
لا یقال: علی هذا فلو صلّی تماماً أو صلّی إخفاتاً فی موضع القصر والجهر - مع العلم بوجوبهما فی موضعهما - لکانت صلاته صحیحه ، وإن عوقب علی مخالفه الأمر بالقصر أو الجهر .
فإنّه یقال: لا بأس بالقول به لو دلّ دلیل علی أ نّها تکون مشتملهً علی المصلحه ولو مع العلم ؛ لاحتمال اختصاص أن یکون کذلک فی صوره الجهل ، ولا بُعد أصلاً فی اختلاف الحال فیها باختلاف حالتی العلم بوجوب شیءٍ والجهل به ، کما لا یخفی .
وقد صار بعض الفحول (2) بصدد بیان إمکان کون المأتیّ فی غیر موضعه مأموراً به بنحو الترتّب .
ص :191
وقد حقّقنا فی مبحث الضدّ امتناعَ الأمر بالضدّین مطلقاً - ولو بنحو الترتّب - بما لا مزید علیه ، فلا نعید .
ثمّ إنّه ذُکِر (1) لأصل البراءه شرطان آخران:
أحدهما: أن لا یکون موجباً لثبوت حکم شرعیّ من جههٍ أُخری .
ثانیهما: أن لا یکون موجباً للضرر علی آخر .
ولا یخفی: أنّ أصاله البراءه عقلاً ونقلاً فی الشبهه البدویّه بعد الفحص لا محاله تکون جاریهً . وعدمُ استحقاق العقوبه - الثابت بالبراءه العقلیّه - والإباحهُ أو (2) رفعُ التکلیف - الثابتُ بالبراءه النقلیّه - لو کان موضوعاً لحکم شرعیّ أو ملازماً له ، فلا محیص عن ترتّبه علیه بعد إحرازه . فإن لم یکن مترتّباً علیه ، بل علی نفی التکلیف واقعاً ، فهی وإن کانت جاریه ، إلّاأنّ ذاک الحکم لا یترتّب ؛ لعدم ثبوت ما یترتّب علیه بها ، وهذا لیس بالاشتراط .
وأمّا اعتبار أن لا یکون موجباً للضرر: فکلّ مقام تعمّه قاعدهُ نفی الضرر ، وإن لم یکن مجال فیه لأصاله البراءه - کما هو حالها مع سائر القواعد الثابته بالأدلّه الاجتهادیّه - ، إلّاأ نّه حقیقهً لا یبقیٰ لها موردٌ ؛ بداههَ أنّ الدلیل الاجتهادیّ یکون بیاناً وموجباً للعلم بالتکلیف ولو ظاهراً ، فإن کان المراد من الاشتراط ذلک ، فلابدّ من اشتراط أن لا یکون علی خلافها دلیل اجتهادیّ ، لا خصوص قاعده الضرر ، فتدبّر ، والحمد للّٰه علی کلّ حال .
ص :192
ثمّ إنّه لا بأس بصرف الکلام إلی بیان قاعده الضرر والضرار علی نحو الاقتصار ، وتوضیحِ مدرکها ، وشرح مفادها ، وإیضاح نسبتها مع الأدلّه المثبته للأحکام الثابته للموضوعات بعناوینها الأوّلیّه أو الثانویّه ، وإن کانت أجنبیّه عن مقاصد الرساله ، إجابهً لا لتماس بعض الأحبّه ، فأقول وبه أستعین:
إنّه قد استدلّ علیها بأخبارٍ کثیره:
منها: موثّقه زراره عن أبی جعفر علیه السلام : «إنّ سَمُره بن جُنْدَب کان له عَذْقٌ فی حائطٍ لرَجُلٍ مِنَ الأنصار ، وکان منزل الأنصاریّ بباب البستانِ ، وکان سَمُره یَمُرّ إلی نخلتِهِ ولا یستَأذِنُ ، فکَلّمَهُ الأنصاریّ أن یستأذنَ إذا جاء ، فأبیٰ سَمُره ، فجاء الأنصاریّ إلی النبیّ صلی الله علیه و آله ، فَشَکیٰ إلیه ، فأخبره بالخَبر ، فأرسل رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله ، وأخبرَه بقول الأنصاریّ وما شکاه ، فقال: إذا أردتَ الدخُول فاستأذِن ، فأبیٰ ، فلمّا أبیٰ فساومه حتّی بلغَ مِنَ الَثمن ما شاء اللّٰه ، فأبیٰ أن یبیعه ، فقال: لَکَ بِها عذْقٌ فی الجنّه ، فأبیٰ أن یقبل ، فقال رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله للأنصاریّ: اذهَب فاقلَعْها وارْمِ بها إلیه ، فإنّه لا ضرر ولا ضِرار» (1) .
وفی روایه الحذّاء عن أبی جعفر علیه السلام مثل ذلک ، إلّاأ نّه فیها بعد الإباء:
«ما أراک یا سمره إلّامضارّاً ؛ اذهَبْ یا فلان ، فاقلَعْها وارْمِ بها وجْهَه» (2) .
ص :193
إلی غیر ذلک من الروایات الوارده فی قصّه سمره وغیرها (1) . وهی کثیره ، وقد ادُّعی (2) تواترها مع اختلافها لفظاً ومورداً ، فلیکن المراد به تواترها إجمالاً ، بمعنی القطع بصدور بعضها .
والإنصاف: أ نّه لیس فی دعوی التواتر کذلک جزافٌ . وهذا مع استناد المشهور إلیها موجبٌ لکمال الوثوق بها وانجبارِ ضعفها ؛ مع أنّ بعضها موثّقه (3) ، فلا مجال للإشکال فیها من جهه سندها ، کما لا یخفی .
وأمّا دلالتها: فالظاهر أنّ « الضرر » هو ما یقابل النفع - من النقص فی النفس أو الطرف أو العِرْض أو المال - تقابلَ العدم والملکه .
معنی «الضرار» کما أنّ الأظهر : أن یکون « الضرار » بمعنی الضرر ، جیء به تأکیداً - کما یشهد به إطلاق « المضارّ » علی سَمُره ، وحکی عن النهایه (4) - ، لا فعل الاثنین ، وإن کان هو الأصل فی باب المفاعله ، ولا الجزاء علی الضرر ؛ لعدم تعاهده من باب المفاعله .
وبالجمله: لم یثبت له معنیً آخَرُ غیر الضرر .
ص :194
کما أنّ الظاهر : أن یکون «لا» لنفی الحقیقه - کما هو الأصل فی هذا الترکیب (1) - حقیقهً أو ادّعاءً ، کنایهً عن نفی الآثار ، کما هو الظاهر من مثل : «لا صلاه لجار المسجد إلّافی المسجد» (2) ، و«یا أشباه الرجالِ ولا رجال» (3) ؛ فإنّ قضیّه البلاغه فی الکلام هو إراده نفی الحقیقه ادّعاءً ، لا نفی الحکم أو الصفه ، کما لا یخفی .
ونفیُ الحقیقه ادّعاءً بلحاظ الحکم أو الصفه ، غیرُ نفی أحدهما ابتداءً مجازاً فی التقدیر أو فی الکلمه ، ممّا (4) لا یخفی علی من له معرفه بالبلاغه .
وقد انقدح بذلک : بُعْدُ إرادهِ نفی الحکم الضرریّ (5) ، أو الضرر غیر المتدارک (6) ، أو إرادهِ النهی من النفی جدّاً (7) ؛ ضروره بشاعه استعمال الضرر وإراده خصوص سبب من أسبابه ، أو خصوصِ غیر المتدارک منه .
ومثله لو أُرید ذاک بنحو التقیید ، فإنّه وإن لم یکن ببعید ، إلّاأ نّه بلا دلالهٍ علیه غیر سدید .
وإراده النهی من النفی وإن کان لیس بعزیز ، إلّاأ نّه لم یُعهد من مثل هذا الترکیب .
وعدم إمکان إراده نفی الحقیقه حقیقهً لا یکاد یکونُ قرینهً علی إراده
ص :195
واحدٍ منها (1) ، بَعْدَ إمکان حمله علی نفیها ادّعاءً ، بل کان هو الغالب فی موارد استعماله .
ثمّ الحکم الّذی أُرید نفیه بنفی الضرر هو الحکم الثابتُ للأفعال بعناوینها ، أو المتوهّمُ ثبوتُه لها کذلک فی حال الضرر ، لا الثابتُ له بعنوانه ؛ لوضوح أ نّه العلّه للنفی ، ولا یکاد یکون الموضوع یمنع عن حکمه وینفیه ، بل یُثبته ویقتضیه .
ومن هنا لا یلاحظ النسبه بین أدلّه نفیه وأدلّه الأحکام ، وتُقدّم أدلّته علی أدلّتها ، - مع أ نّها عمومٌ من وجه - ؛ حیث إنّه یوفّق بینهما عرفاً بأنّ الثابت للعناوین الأوّلیّه اقتضائیّ ، یمنع عنه فعلاً ما عرض علیها من عنوان الضرر بأدلّته ، کما هو الحال فی التوفیق بین سائر الأدلّه المثبته أو النافیه لحکم الأفعال بعناوینها الثانویّه ، والأدلّهِ المتکفّله لحکمها بعناوینها الأوّلیّه .
نعم ، ربّما یعکس الأمر فی ما أُحرز - بوجهٍ معتبرٍ - أنّ الحکم فی المورد لیس بنحو الاقتضاء ، بل بنحو العلّیّه التامّه .
وبالجمله: الحکم الثابت بعنوان أوّلیّ :
تارهً : یکون بنحو الفعلیّه مطلقاً ، أو بالإضافه إلی عارض دون عارضٍ ، بدلاله لایجوز الإغماض عنها بسبب دلیل حکم العارض المخالف له ، فیقدّم دلیل ذاک العنوان علی دلیله .
وأُخری : یکون علی نحوٍ لو کانت هناک دلاله للزم الإغماض عنها
ص :196
بسببه عرفاً ، حیث کان اجتماعهما قرینهً علی أ نّه بمجرّد المقتضی ، وأنّ العارض مانع فعلیّ . هذا ولو لم نقل بحکومه دلیله علی دلیله ؛ لعدم ثبوت نظره إلی مدلوله ، کما قیل (1) .
ثمّ انقدح بذلک : حال توارد دلیلی العارضین ، کدلیل نفی العسر ودلیل نفی الضرر مثلاً ، فیعامل معهما معامله المتعارضین لو لم یکن من باب تزاحم المقتضیین ، وإلّا فیقدّم ما کان مقتضیه أقوی ، وإن کان دلیل الآخر أرجح وأولی .
ولا یبعد : أنّ الغالب فی توارد العارضین أن یکون من ذاک الباب ، بثبوت (2) المقتضی فیهما مع تواردهما ، لا من باب التعارض ؛ لعدم ثبوته إلّافی أحدهما ، کما لا یخفی .
هذا حال تعارض الضرر مع عنوان أوّلیّ أو ثانویّ آخر .
وأمّا لو تعارض مع ضرر آخر ، فمجمل القول فیه:
أنّ الدوران ، إن کان بین ضررَیْ شخصٍ واحد أو اثنین ، فلا مسرح إلّا لاختیار أقلّهما لو کان ، وإلّا فهو مختار .
وأمّا لو کان بین ضرر نفسه وضرر غیره ، فالأظهر عدم لزوم تحمّله الضررَ ، ولو کان ضرر الآخر أکثر ؛ فإنّ نفیه یکون للمنّه علی الأُمّه ، ولا مِنّه علی تحمّل الضرر لدفعه عن الآخر ، وإن کان أکثر .
نعم ، لو کان الضرر متوجّهاً إلیه ، لیس (3) له دفعه عن نفسه بإیراده علی الآخر .
ص :197
اللهم إلّاأن یقال (1): إن نفی الضرر وإن کان للمنّه ، إلّاأ نّه بلحاظ نوع الأُمّه ، واختیار الأقلّ بلحاظ النوع منّه ، فتأمّل .
ص :198
ولا یخفی: أنّ عباراتهم فی تعریفه وإن کانت شتّیٰ ، إلّاأ نها تشیر إلی مفهومٍ واحد ومعنیً فارد ، وهو : «الحکم ببقاء حکم أو موضوع ذی حکم شُکّ فی بقائه» :
إمّا من جهه بناء العقلاء علی ذلک فی أحکامهم العرفیّه مطلقاً ، أو فی الجمله تعبّداً ، أو للظنّ به الناشئ من ملاحظه ثبوته سابقاً .
وإمّا من جهه دلاله النصّ ، أو دعوی الإجماع علیه کذلک ، حَسَبما تأتی الإشاره (2) إلی ذلک مفصّلاً .
ولا یخفی: أنّ هذا المعنیٰ هو القابل لأن یقع فیه النزاع والخلاف فی نفیه وإثباته - مطلقاً أو فی الجمله - وفی وجه ثبوته علی أقوال (3) .
ص :199
ضرورهَ أ نّه لو کان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء علی البقاء ، أو الظنّ به الناشئ من العلم بثبوته ، لَما تقابل فیه الأقوال ، ولَما کان النفی والإثبات واردین علی موردٍ واحد ، بل موردین (1) .
وتعریفه بما ینطبق علی بعضها (2) ، وإن کان ربما یوهم أن لا یکون هو الحکم بالبقاء ، بل ذاک الوجه ، إلّاأ نّه حیث لم یکن بحدٍّ ولا رسم ، بل من قبیل شرح الاسم - کما هو الحال فی التعریفات غالباً - لم یکن له دلالهٌ علی أ نّه نفس الوجه ، بل للإشاره إلیه من هذا الوجه . ولذا لا وقْع للإشکال علی ما ذکر فی تعریفه بعدم الطرد أو العکس ، فإنّه لم یکن به - إذا لم یکن بالحدّ أو الرسم - بأس .
فانقدح : أنّ ذکْرَ تعریفات القوم له - وما ذُکر فیها من الإشکال - بلا حاصل ، وطولٌ (3) بلا طائل .
ثمّ لا یخفی: أنّ البحث فی حجّیّته مسأله اصولیّه ؛ حیث یبحث فیها لتمهید قاعدهٍ تقع فی طریق استنباط الأحکام الفرعیّه . ولیس مفادها حکمَ العمل بلا واسطه ، وإن کان ینتهی إلیه ، کیف ؟ وربما لا یکون مجری الاستصحاب إلّا حکماً اصولیّاً ، کالحجّیّه مثلاً .
هذا لو کان الاستصحاب عبارهً عمّا ذکرنا .
ص :200
وأمّا لو کان عبارهً عن بناء العقلاء علی بقاء ما علم ثبوته ، أو الظنِ ّ به الناشئ من ملاحظه ثبوته ، فلا إشکالَ فی کونه مسأله اصولیّه .
وکیف کان ، فقد ظهر ممّا ذکرنا فی تعریفه اعتبار أمرین فی مورده: القطعِ بثبوت شیءٍ ، والشکِ ّ فی بقائه .
ولا یکاد یکون الشکّ فی البقاء إلّامع اتّحاد القضیّه المشکوکه والمتیقّنه ، بحسب الموضوع والمحمول . وهذا ممّا لا غبار علیه فی الموضوعات الخارجیّه فی الجمله .
وأمّا الأحکامُ الشرعیّه ، - سواء کان مدرکها العقل أم النقل - ، فیُشکلُ حصوله فیها ؛ لأنّه لا یکاد یشکّ فی بقاء الحکم إلّامن جهه الشکّ فی بقاء موضوعه ، بسبب تغیُّرِ بعض ما هو علیه ، ممّا احتمل دخله فیه حدوثاً أو بقاءً ، وإلّا لَما تخلّف (1) الحکمُ عن موضوعه إلّابنحو البداء بالمعنی المستحیل فی حقّه - تعالی - ، ولذا کان النسخُ بحسب الحقیقه دفعاً ، لا رفعاً .
ویندفعُ هذا الإشکال بأنّ الاتّحاد فی القضیّتین بحسبهما ، وإن کان ممّا لا محیص عنه فی جریانه ، إلّاأ نّه لمّا کان الاتّحاد بحسب نظر العرف کافیاً فی تحقّقه ، وفی صدق الحکم ببقاء ما شکّ فی بقائه ، وکان بعض ما علیه الموضوع من الخصوصیّات الّتی یقطع معها بثبوت الحکم له ، ممّا یعدّ بالنظر العرفیّ من حالاته - وإن کان واقعاً من قیوده ومقوّماته - کان جریان الاستصحاب فی الأحکام الشرعیّه الثابته لموضوعاتها عند الشکّ فیها - لأجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فیها ، ممّا عُدَّ من حالاتها ، لا من مقوِّماتها - بمکانٍ من الإمکان ؛ ضرورهَ صحّه إمکان دعویٰ بناء العقلاء علی البقاء تعبّداً ، أو لکونه
ص :201
مظنوناً ولو نوعاً ، أو دعویٰ دلاله النصّ ، أو قیامِ الإجماع علیه قطعاً ، بلا تفاوتٍ فی ذلک بین کون دلیل الحکم نقلاً أو عقلاً (1) .
أمّا الأوّل: فواضحٌ .
وأمّا الثانی: فلأنّ الحکمَ الشرعیّ المستکشف به عند طروء انتفاء ما احتمل دخله فی موضوعه - ممّا لا یریٰ مقوِّماً له - کان مشکوکَ البقاء عرفاً ؛ لاحتمال عدم دخله فیه واقعاً ، وإن کان لا حکم للعقل بدونه قطعاً .
إن قلت: کیف هذا ؟ مع الملازمه بین الحکمین .
قلت: ذلک لأنّ الملازمه إنّما تکون فی مقام الإثبات والاستکشاف ، لا فی مقام الثبوت ، فعدمُ استقلال العقل إلّافی حالٍ غیرُ مُلازمٍ لعدم حکم الشرع فی غیر تلک الحال (2) ؛ وذلک لاحتمال أن یکون ما هو ملاک حکم الشرع - من المصلحه أو المفسده الّتی هی ملاک حکم العقل - کان علی حاله فی کلتا الحالتین ، وإن لم یدرکه إلّافی إحداهما ؛ لاحتمال عدم دخل تلک الحاله فیه ، أو احتمالِ أن یکون معه ملاک آخر بلا دخلٍ لها فیه أصلاً ، وإن کان لها دخلٌ فی ما اطّلع علیه من الملاک .
ص :202
وبالجمله: حکم الشرع إنّما یتبع ما هو ملاک حکم العقل واقعاً ، لا ما هو مناط حکمه فعلاً . وموضوعُ حکمه کذلک ممّا لا یکاد یتطرّق إلیه الإهمال والإجمال ، مع تطرّقه إلی ما هو موضوع حکمه شأناً ، وهو ما قام به ملاک حکمه واقعاً ، فربّ خصوصیّه لها دخلٌ فی استقلاله مع احتمال عدم دخله ، فبدونها لا استقلال له بشیءٍ قطعاً ، مع احتمال بقاء ملاکه واقعاً ، ومعه یحتمل بقاء حکم الشرع جدّاً ؛ لدورانه معه وجوداً وعدماً ، فافهم وتأمّل جیّداً .
ثمّ إنّه لا یخفی اختلاف آراء الأصحاب فی حجّیّه الاستصحاب مطلقاً ، وعدمِ حجّیّته کذلک ، والتفصیل بین الموضوعات والأحکام ، أو بین ما کان الشکّ فی الرافع وما کان فی المقتضی ، إلی غیر ذلک من التفاصیل الکثیره ، علی أقوال شتّیٰ لا یهمُّنا نقلها ونقل ما ذکر من الاستدلال علیها .
وإنّما المهمّ الاستدلال علی ما هو المختار منها - وهو الحجّیّه مطلقاً - علی نحوٍ یظهر بطلانُ سائرها .
فقد استدلّ علیه (1) بوجوه:
الوجه الأوّل: استقرار بناء العقلاء من الإنسان - بل ذوی الشعور من کافّه أنواع الحیوان - علی العمل علی طبق الحاله السابقه ، وحیث لم یردع عنه الشارع کان ماضیاً .
وفیه أوّلاً: منعُ استقرار بنائهم علی ذلک تعبّداً ، بل إمّا رجاءً واحتیاطاً ، أو اطمئناناً بالبقاء ، أو ظنّاً (2) - ولو نوعاً - ، أو غفلهً ، کما هو الحال فی سائر
ص :203
الحیوانات دائماً ، وفی الإنسان أحیاناً .
وثانیاً: سلّمنا ذلک ، لکنّه لم یعلم أنّ الشارع به راضٍ ، وهو عنده ماضٍ ، ویکفی فی الردع عن مثله : ما دلّ من الکتاب والسنّه علی النهی عن اتّباع غیر العلم ، وما دلّ علی البراءه أو الاحتیاط فی الشبهات ، فلا وجه لاتّباع هذا البناء فی ما لابدّ فی اتّباعه من الدلاله علی إمضائه ، فتأمّل جیّداً .
الوجه الثانی: أنّ الثبوت فی السابق موجبٌ للظنّ به فی اللاحق (1) .
وفیه: منع اقتضاء مجرّد الثبوت للظنّ بالبقاء فعلاً ولا نوعاً ، فإنّه لا وجه له أصلاً ، إلّاکون الغالب فی ما ثبت أن یدومَ ، مع إمکان أن لا یدوم ، وهو غیر معلوم .
ولو سلّم ، فلا دلیلَ علی اعتباره بالخصوص ، مع نهوض الحجّه علی عدم اعتباره بالعموم .
الوجه الثالث: دعوی الإجماع علیه ، کما عن المبادئ ، حیث قال:
«الاستصحاب حجّه ؛ لإجماع الفقهاء علی أ نّه متیٰ حصل حکمٌ ، ثمّ وقع الشکُّ فی أ نّه طرأ ما یزیله أم لا ، وجب الحکم ببقائه علی ما کان أوّلاً ، ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجّه (2) ، لکان ترجیحاً لأحد طرفی الممکن من غیر مرجّح» (3) ، انته . وقد نُقل عن غیره (4) أیضاً .
ص :204
وفیه: أنّ تحصیل الإجماع فی مثل هذه المسأله - ممّا له مبانٍ مختلفه - فی غایه الإشکال ، ولو مع الاتّفاق ، فضلاً عمّا إذا لم یکن ، وکان مع الخلاف من المعظم (1) ؛ حیث ذهبوا إلی عدم حجّیّته مطلقاً ، أو فی الجمله ، ونقْلُه موهون جدّاً لذلک ، ولو قیل بحجّیّته لو لا ذلک .
الوجه الرابع: - وهو العمده فی الباب - الأخبار المستفیضه :
منها: صحیحه زراره . قال: قلت له: الرجلُ ینام وهو علی وضوء ، أتوجب الخفقه والخفقتان علیه الوضوءَ ؟
قال: «یا زراره ! قد تنام العین ولا ینام القلب والأُذُن ، فإذا نامت العین والأُذن والقلب فقد وجب الوضوء» .
قلت: فإن حُرِّک فی جنبه شیءٌ وهو لا یعلم ؟
قال: «لا ، حتّی یستیقن أ نّه قد نام ، حتّی یجیء من ذلک أمرٌ بیّن ، وإلّا فإنّه علی یقین من وضوئه ، ولا ینقض الیقین أبداً بالشکّ ، ولکنّه ینقضه بیقین آخر» (2) .
وهذه الروایه وإن کانت مضمَره ، إلّاأنّ إضمارها لا یضرُّ باعتبارها ، حیث کان مُضمِرها مثلَ زراره ، وهو ممّن لا یکاد یستفتی من غیر
ص :205
الإمام علیه السلام ، لا سیّما مع هذا الاهتمام .
وتقریب الاستدلال بها أ نّه لا ریب فی ظهور قوله علیه السلام : «وإلّا فإنّه علی یقین ...» عرفاً فی النهی عن نقض الیقین بشیءٍ بالشکّ فیه ، وأ نّه علیه السلام بصدد بیان ما هو علّه الجزاء المستفاد من قوله علیه السلام : «لا» فی جواب: «فإن حُرّک فی جنبه ...» ، وهو اندراج الیقین والشکّ فی مورد السؤال ، فی القضیّه الکلّیّه الارتکازیّه غیر المختصّه بباب دون باب .
واحتمال : أن یکون الجزاء هو قوله: «فإنّه علی یقین ...» غیرُ سدید ؛ فإنّه لا یصحّ إلّابإراده لزوم العمل علی طبق یقینه ، وهو إلی الغایه بعیدٌ .
وأبعد منه کونُ الجزاء قوله: «لا ینقض ...» ، وقد ذکر: «فإنّه علی یقین» للتمهید .
وقد انقدح بما ذکرنا : ضعف احتمال اختصاص قضیّه «لا تنقض ...» بالیقین والشکّ فی باب الوضوء (1) جدّاً ؛ فإنّه ینافیه ظهورُ التعلیل فی أ نّه بأمر ارتکازیّ لا تعبّدیّ قطعاً .
ویؤیّده : تعلیل الحکم بالمضیّ مع الشکّ فی غیر الوضوء ، - فی غیر هذه الروایه - بهذه القضیّه ، أو ما یرادفها ، فتأمّل جیّداً ، هذا .
مع أ نّه لا موجب لاحتماله إلّااحتمال کون اللام فی « الیقین » للعهد ، إشارهً إلی الیقین فی «فإنّه علی یقین من وضوئه» ، مع أنّ الظاهر أ نّه للجنس ،
ص :206
کما هو الأصل فیه ، وسَبْقُ «فإنّه علی یقین ...» لا یکون قرینهً علیه ، مع کمال الملائمه مع الجنس أیضاً ، فافهم .
مع أ نّه غیر ظاهر فی الیقین بالوضوء ؛ لقوّه احتمال أن یکون «من وضوئه» متعلّقاً بالظرف ، لا ب «یقین» ، وکان المعنی: فإنّه کان من طرف وضوئه علی یقین ، وعلیه لا یکون الأوسط (1) إلّاالیقین ، لا الیقین بالوضوء ، کما لا یخفی علی المتأمّل .
وبالجمله: لا یکاد یشکّ فی ظهور القضیّه فی عموم الیقین والشکّ ، خصوصاً بعد ملاحظه تطبیقها فی الأخبار علی غیر الوضوء أیضاً .
ثمّ لا یخفی حُسْن إسناد النقض - وهو ضدّ الإبرام - إلی الیقین (2) ، ولو کان متعلّقاً بما لیس فیه اقتضاء البقاء والاستمرار ، لِما یتخیّل فیه من الاستحکام ، بخلاف الظنّ ، فإنّه یظنُّ أ نّه لیس فیه إبرام واستحکام ، وإن کان متعلّقاً بما فیه اقتضاء ذلک ، وإلّا لصحّ أن یُسنَد إلی نفس ما فیه المقتضی له ، مع رکاکه مثل : نقضتُ الحجر من مکانه ، ولما صحّ أن یقال: انتقض الیقین باشتعال السراج ، فی ما إذا شکّ فی بقائه للشکّ فی استعداده ، مع بداهه صحّته وحسنه .
وبالجمله: لا یکاد یشکّ فی أنّ الیقین - کالبیعه والعهد - إنّما یکون حُسْن إسناد النقض إلیه بملاحظته ، لا بملاحظه متعلّقه ، فلا موجب لإراده ما هو
ص :207
أقرب إلی الأمر المبرم ، أو أشبه بالمتین المستحکم ممّا فیه اقتضاء البقاء ؛ لقاعده: « إذا تعذّرت الحقیقه فأقرب المجازات » (1) ، بعدَ تعذُّر إراده مثل ذاک الأمر ، ممّا یصحّ إسناد النقض إلیه حقیقهً .
فإن قلت (2): نعم ، ولکنّه حیث لا انتقاض للیقین فی باب الاستصحاب حقیقهً ، فلو لم یکن هناک اقتضاء البقاء فی المتیقّن ، لما صحّ إسناد الانتقاض إلیه بوجهٍ ولو مجازاً ، بخلاف ما إذا کان هناک ، فإنّه وإن لم یکن معه أیضاً انتقاضٌ حقیقهً ، إلّاأ نّه صحّ إسناده إلیه مجازاً ، فإنّ الیقین معه کأ نّه تعلّق بأمرٍ مستمرّ مستحکم ، قد انحلّ وانفصم بسبب الشکّ فیه ، من جهه الشکّ فی رافعه .
قلت: الظاهر : أنّ وجه الإسناد هو لحاظ اتّحاد متعلّقی الیقین والشکّ ذاتاً ، وعدمُ ملاحظه تعدّدهما زماناً ، وهو کافٍ عرفاً فی صحّه إسناد النقض إلیه واستعارته له ، بلا تفاوتٍ فی ذلک أصلاً - فی نظر أهل العرف - بین ما کان هناک اقتضاء البقاء وما لم یکن .
وکونه مع المقتضی أقرب بالانتقاض وأشبه ، لا یقتضی تعیینه (3) لأجل قاعده : « إذا تعذّرت الحقیقه » ؛ فإنّ الاعتبار فی الأقربیّه إنّما هو بنظر العرف لا الاعتبار ، وقد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله .
هذا کلّه فی المادّه .
وأمّا الهیئه ، فلا محاله یکون المراد منها : النهی عن الانتقاض بحسب
ص :208
البناء والعمل ، لا الحقیقه ؛ لعدم کون الانتقاض بحسبها تحت الاختیار ، سواء کان متعلّقاً بالیقین - کما هو ظاهر القضیّه - أو بالمتیقّن ، أو بآثار الیقین ، بناءً علی التصرّف فیها بالتجوّز ، أو الإضمار ؛ بداههَ أ نّه کما لا یتعلّق النقضُ الاختیاریّ - القابل لورود النهی علیه - بنفس الیقین ، کذلک لا یتعلّق بما کان علی یقینٍ منه ، أو أحکامِ الیقین ، فلا یکاد یجدی التصرّفُ بذلک فی بقاء الصیغه علی حقیقتها ، فلا مجوِّز له ، فضلاً عن الملزم ، کما تُوهّم (1) .
لا یقال: لا محیصَ عنه (2) ؛ فإنّ النهی عن النقض بحسب العمل ، لا یکاد یراد بالنسبه إلی الیقین وآثاره ؛ لمنافاته مع المورد .
فإنّه یقال: إنّما یلزم لو کان الیقین ملحوظاً بنفسه وبالنظر الاستقلالیّ ، لا ما إذا کان ملحوظاً بنحو المرآتیّه وبالنظر الآلیّ ، کما هو الظاهر فی مثل قضیّه «لا تنقض الیقین» ؛ حیث تکون ظاهره عرفاً فی أ نّها کنایهٌ عن لزوم البناء والعمل ، بالتزام (3) حکم مماثل للمتیقّن تعبّداً إذا کان حکماً ، ولحکمه إذا کان موضوعاً ، لا عبارهً عن لزوم العمل بآثار نفس الیقین ، بالالتزام بحکمٍ
ص :209
مماثل لحکمه شرعاً ؛ وذلک لسرایه الآلیّه والمرآتیّه من الیقین الخارجیّ إلی مفهومه الکلّیّ ، فیؤخذ فی موضوع الحکم فی مقام بیان حکمه ، مع عدم دخله فیه أصلاً ، کما ربما یؤخذ فی ما له دخلٌ فیه ، أو تمام الدخل ، فافهم .
ثمّ إنّه حیث کان کلٌّ من الحکم الشرعیّ وموضوعه مع الشکّ ، قابلاً للتنزیل بلا تصرّفٍ وتأویل ، غایه الأمر تنزیلُ الموضوع بجعل مماثلِ حکمه ، وتنزیلُ الحکم بجعل مثله - کما اشیر الیه آنفاً (1) - ، کان قضیّهُ «لا تنقض» ظاهرهً فی اعتبار الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّه والموضوعیّه . واختصاص المورد بالأخیره لا یوجب تخصیصها بها ، خصوصاً بعد ملاحظه أ نّها قضیّهٌ کلّیّه ارتکازیّه ، قد أُتی بها فی غیر موردٍ لأجل الاستدلال بها علی حکم المورد ، فتأمّل .
ومنها: صحیحه أُخری لزراره . قال: قلتُ له: أصابَ ثوبی دمُ رُعافٍ أو غیرهِ أو شیءٌ مِن المَنیّ ، فَعَلَّمْتُ أثرَه إلی أن اصیبَ له الماء ، فحضرتُ (2) الصلاه ، ونسیت أنّ بثوبی شیئاً ، وصلّیتُ ، ثمّ إنّی ذکرتُ بعد ذلک ؟
قال: «تعیدُ الصلاه ، وتغسلهُ» .
قلتُ: فإن لم أکن رأیتُ موضِعه ، وعَلِمتُ أ نّه قد أصابه ، فطلبته ولم أقدر علیه ، فلمّا صلّیتُ وجدتُه ؟
قال: «تغسله ، وتعید» .
قلت: فإن ظننت أ نّه قد أصابه ولم أتیقّن ذلک ، فنظرتُ فلَم أرَ شَیئاً ، فصلّیت ، فرأیت فیه ؟
ص :210
قال: «تغسله ، ولا تعید الصلاه» .
قلتُ: لِمَ ذلک ؟
قال: «لأ نّک کنتَ علی یقین من طهارتک فشککت ، فلیس ینبغی لَکَ أن تنقض الیقین بالشکّ أبداً» .
قلت: فإنّی قد عَلِمت أ نّه قد أصابه ولم أدرِ أینَ هو ، فأغسِله ؟
قال: «تغسِل من ثوبک الناحیهَ الّتی تریٰ أ نّه قد أصابها ، حتّی تکون علی یقینٍ من طهارتک» .
قلت: فهل علیَّ إن شککتُ فی أ نّه أصابه شیءٌ أن أنظر فیه ؟
قال: «لا ، ولکنّک إنّما ترید أن تُذهب الشکّ الّذی وقَع فی نفسِک» .
قلت: إن رأیتُه فی ثوبی وأنا فی الصلاه ؟
قال: «تنقض الصلاه وتعید ، إذا شککت فی موضِع منه ثمَّ رأیته ، وإن لم تشُکّ ثمّ رأیته رَطباً قطعتَ الصلاه ، وغسلتَه ، ثمّ بنیتَ علی الصلاه ؛ لأنّک لا تدری لعلّه شیءٌ اوقعَ علیک ، فلیس ینبغی أن تنقُضَ الیقین بالشکّ» (1) .
وقد ظهر ممّا ذکرنا فی الصحیحه الاُولی تقریبُ الاستدلال بقوله:
«فلیس ینبغی أن تنقض الیقین بالشکّ» فی کلا الموردین ، ولا نعید .
نعم ، دلالته فی المورد الأوّل علی الاستصحاب مبنیٌّ علی أن یکون المراد من « الیقین » فی قوله علیه السلام : «لأ نّک کنت علی یقین من طهارتک» :
الیقینَ بالطهاره قبلَ ظنِّ الإصابه ، کما هو الظاهر ؛ فإنّه لو کان المراد منه الیقینَ الحاصل بالنظر والفحص بعده - الزائل بالرؤیه بعد الصلاه - کان مفاده قاعدهَ الیقین ، کما لا یخفی .
ص :211
ثمّ إنّه أُشکل علی الروایه (1) بأنّ الإعاده بعد انکشاف وقوع الصلاه فی النجاسه لیست نقضاً للیقین بالطهاره بالشکّ فیها ، بل بالیقین بارتفاعها ، فکیف یصحّ أن یُعلّل عدمُ الإعاده بأ نّها نقض الیقین بالشکّ ؟ نعم ، إنّما یصحّ أن یُعلّل به جواز الدخول فی الصلاه ، کما لا یخفی (2) .
ولا یکاد یمکن التفصّی عن هذا الإشکال إلّابأن یقال: إنّ الشرط فی الصلاه فعلاً حین الالتفات إلی الطهاره هو إحرازها ، ولو بأصلٍ أو قاعده ، لاُنفسها ، فیکون قضیّه استصحاب الطهاره حالَ الصلاه : عدمَ إعادتها ، ولو انکشف وقوعُها فی النجاسه بعدها (3) . کما أنّ إعادتها بعد الکشف ، تکشف عن جواز النقض وعدمِ حجّیّه الاستصحاب حالَها ، کما لا یخفی ، فتأمّل جیّداً .
لا یقال: لا مجال حینئذٍ لاستصحاب الطهاره ؛ فإنّها إذا لم تکن شرطاً لم تکن موضوعاً لحکم ، مع أ نّها لیست (4) بحکم ، ولا محیصَ فی الاستصحاب عن کون المستصحب حکماً أو موضوعاً لحکم .
ص :212
فإنّه یقال: إنّ الطهاره وإن لم تکن شرطاً فعلاً ، إلّاأ نّها غیر منعزله عن الشرطیّه رأساً ، بل هی (1) شرط واقعیّ اقتضائیّ - کما هو قضیّه التوفیق بین بعض الإطلاقات ومثل هذا الخطاب - ، هذا .
مع کفایه کونها من قیود الشرط ؛ حیث إنّه کان إحرازُها بخصوصها - لا غیرها - شرطاً .
لا یقال: سلّمنا ذلک ، لکنّ قضیّته أن یکون علّهُ عدم الإعاده حینئذٍ - بعد انکشاف وقوع الصلاه فی النجاسه - هو إحرازَ الطهاره حالها باستصحابها ، لا الطهاره المحرَزه بالاستصحاب .
مع أنّ قضیّه التعلیل أن تکون العلّه له هی نفسها لا إحرازَها ؛ ضروره أنّ نتیجه قوله: «لأ نّک کنت علی یقین ...» أ نّه علی الطهاره ، لا أ نّه مستصحِبها ، کما لا یخفی .
فإنّه یقال: نعم ، ولکنّ التعلیل إنّما هو بلحاظ حال قبل انکشاف الحال ، لنکته التنبیه علی حجّیّه الاستصحاب ، وأ نّه کان هناک استصحابٌ ، مع وضوح استلزام ذلک لأن یکون المجدی بعد الانکشاف هو ذاک الاستصحاب ، لا الطهاره ، وإلّا لما کانت الإعاده نقضاً ، کما عرفت فی الإشکال .
ثمّ إنّه لا یکاد یصحّ التعلیل لو قیل باقتضاء الأمر الظاهریّ للإجزاء ، - کما قیل (2) - ؛ ضرورهَ أنّ العلّه علیه إنّما هو اقتضاء ذلک الخطاب الظاهریّ
ص :213
حالَ الصلاه للإجزاء وعدمِ إعادتها ، لا لزومُ النقض من الإعاده ، کما لا یخفی .
اللهمّ إلّاأن یقال: إنّ التعلیل به إنّما هو بملاحظه ضمیمه اقتضاء الأمر الظاهریّ للإجزاء ، بتقریب : أنّ الإعاده - لو قیل بوجوبها - کانت موجبهً لنقض الیقین بالشکّ فی الطهاره قبل الانکشاف ، وعدمِ حرمته شرعاً ، وإلّا للزم عدمُ اقتضاء ذاک الأمر له ، کما لا یخفی ، مع اقتضائه شرعاً أو عقلاً ، فتأمّل (1)* .
ولعلّ ذلک مراد من قال بدلاله الروایه علی إجزاء الأمر الظاهریّ .
هذا غایه ما یمکن أن یقال فی توجیه التعلیل .
مع أ نّه لا یکاد یوجب الإشکالُ فیه ، والعجز عن التفصّی عنه إشکالاً فی دلاله الروایه علی الاستصحاب ؛ فإنّه لازمٌ علی کلّ حال ، کان مفاده قاعدتَه ، أو قاعدهَ الیقین ، مع بداهه عدم خروجه منهما ، فتأمّل جیّداً .
ومنها: صحیحه ثالثه لزراره: «وإذا لم یدْرِ فی ثلاثٍ هو أو فی أربع ، وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إلیها أُخری ، ولا شیء علیه ، ولا ینقضُ الیقین بالشکّ ، ولا یدخل الشکّ فی الیقین ، ولا یخلطُ أحدهما بالآخر ، ولکنّه
ص :214
ینقضُ الشکّ بالیقین ، ویتمّ علی الیقین ، فیبنی علیه ، ولا یعتدُّ بالشکّ فی حال من الحالات» (1) .
والاستدلال بها علی الاستصحاب مبنیٌّ علی إراده الیقین بعدم الإتیان بالرکعه الرابعه سابقاً ، والشکّ فی إتیانها .
وقد أُشکل (2) بعدم إمکان إراده ذلک علی مذهب الخاصّه ؛ ضروره أنّ قضیّتَه إضافهُ رکعه أُخری موصولهً ، والمذهبُ قد استقرّ علی إضافه رکعه بعد التسلیم مفصولهً . وعلی هذا یکون المراد بالیقین : الیقین بالفراغ ، بما علّمه الإمام علیه السلام من الاحتیاط بالبناء علی الأکثر ، والإتیانِ بالمشکوک بعد التسلیم مفصولهً .
الرابعه وغیره ، وأنّ المشکوکه لابدّ أن یؤتیٰ بها مفصولهً ، فافهم .
وربما أُشکل (1) أیضاً بأ نّه لو سلّم دلالتها علی الاستصحاب کانت من الأخبار الخاصّه الدالّه علیه فی خصوص المورد ، لا العامهِ لغیر مورد ؛ ضروره ظهور الفقرات فی کونها مبنیّهً للفاعل ، ومرجع الضمیر فیها هو المصلّی الشاکّ .
وإلغاء خصوصیّه المورد لیس بذاک الوضوح ، وإن کان یؤیّده تطبیق قضیّه «لا تنقض الیقین» - وما یقاربها - علی غیر مورد .
بل دعویٰ : أنّ الظاهر من نفس القضیّه هو أنّ مناط حرمه النقض إنّما یکون لأجل ما فی الیقین والشکّ ، لا لما فی المورد من الخصوصیّه ، وأنّ مثل الیقین لا ینقض بمثل الشکّ ، غیر بعیده .
ومنها: قوله علیه السلام : «من کان علی یقین فأصابه شکٌّ فلیمض علی یقینه ؛ فإنّ الشکّ لا ینقض الیقین» أو : «فإنّ الیقین لا یدفع بالشکّ» (2) .
وهو وإن کان یحتمل قاعده الیقین (3) ؛ - لظهوره فی اختلاف زمان الوصفین ، وإنّما یکون ذلک فی القاعده دون الاستصحاب ؛ ضروره إمکان اتّحاد
ص :216
زمانهما - ، إلّاأنّ المتداول فی التعبیر عن مورده هو مثل هذه العباره ، ولعلّه بملاحظه اختلاف زمان الموصوفین ، وسرایته إلی الوصفین ، لما بین الیقین والمتیقّن من نحوٍ من الاتّحاد ، فافهم ، هذا .
مع وضوح أنّ قوله: «فإنّ الشکّ لا ینقض ...» هی القضیّه المرتکزه الوارده مورد الاستصحاب فی غیر واحدٍ من أخبار الباب .
ومنها: خبر الصفّار عن علیّ بن محمّد القاسانیّ . قال: کتبتُ إلیه - وأنا بالمدینه - عن الیوم الّذی یُشکّ فیه من رمضان ، هَل یُصامُ أم لا ؟ فکتب:
«الیقینُ لا یدخلُ فیه الشکّ ، صُم للرؤیه وأفطر للرؤیه» (1) .
حیث دلّ علی أنّ الیقین بشعبان (2)(3) لا یکونُ مدخولاً بالشکّ فی بقائه وزوالِهِ بدخول شهر رمضان ، ویتفرّع علیه (4) عدم وجوب الصوم إلّابدخول شهر رمضان .
وربّما یقال: إنّ مراجعه الأخبار الوارده فی یوم الشکّ یُشْرف علی (5) القطع بأنّ المراد بالیقین هو الیقین بدخول شهر رمضان ، وأ نّه لابدّ فی وجوب
ص :217
الصوم ووجوب الإفطار من الیقین بدخول شهر رمضان وخروجه (1) ، وأین هذا من الاستصحاب ؟ فراجع ما عُقِد فی الوسائل (2) لذلک من الباب تجده شاهداً علیه .
ومنها : قوله علیه السلام : «کلُّ شیءٍ طاهرٌ حتّی تعلم أ نّه قذرٌ» (3) ، وقوله علیه السلام : «الماء کلُّه طاهر حتّی تعلم أ نّه نجس» (4) ، وقوله علیه السلام : «کلُّ شیءٍ لک (5) حلالٌ حتّی تعرف أ نّه حرام» (6) .
وتقریب دلاله مثل هذه الأخبار علی الاستصحاب أن یقال: إنّ الغایه فیها إنّما هی لبیان استمرار ما حُکمَ علی الموضوع واقعاً - من الطهاره والحلّیّه - ظاهراً ، ما لم یعلم بطروء ضدّه أو نقیضه ، لا لتحدید الموضوع ، کی یکون
ص :218
الحکم بهما قاعدهً مضروبهً لما شکّ فی طهارته أو حلّیّته ؛ وذلک لظهور المغیّا فیها فی بیان الحکم للأشیاء بعناوینها ، لا بما هی مشکوکه الحکم ، کما لا یخفی .
فهو (1) وإن لم یکن له بنفسه مساسٌ بذیل القاعده ولا الاستصحاب ، إلّاأ نّه بغایته دلّ علی الاستصحاب ؛ حیث إنّها ظاهره فی استمرار ذلک الحکم الواقعیّ ظاهراً ما لم یعلم بطروء ضدّه (2) أو نقیضه .
کما أ نّه لو صار مغیّا لغایهٍ - مثل الملاقاه بالنجاسه أو ما یوجب الحرمه - لدلّ علی استمرار ذاک الحکم واقعاً ، ولم یکن له حینئذٍ - بنفسه ولا بغایته - دلالهٌ علی الاستصحاب .
ولا یخفی: أ نّه لا یلزم علی ذلک استعمالُ اللفظ فی معنیین أصلاً (3) ، وإنّما یلزم لو جُعِلَت الغایه - مع کونها من حدود الموضوع وقیوده - غایهً لاستمرار حکمه ، لیدلّ علی القاعده والاستصحاب ، من غیر تعرّضٍ لبیان الحکم الواقعیّ للأشیاء أصلاً ، مع وضوح ظهور مثل : « کلُّ شیءٍ حلالٌ » أو « طاهرٌ » ، فی أ نّه لبیان حکم الأشیاء بعناوینها الأوّلیّه ، وهکذا: «الماءُ کلّه طاهرٌ» ، وظهورِ الغایه فی کونها حدّاً للحکم لا لموضوعه ، کما لا یخفی ، فتأمّل جیّداً .
ص :219
ولا یذهب علیک : أ نّه بضمیمه عدم القول بالفصل قطعاً بین الحلّیّه والطهاره وبین سائر الأحکام ، لعمّ (1) الدلیل وتمّ .
ثمّ لا یخفی: أنّ ذیل موثّقه عمّار: «فإذا علمتَ فقد قذر ، وما لم تعلم فلیس علیک» (2) یؤیّد ما استظهرنا منها ، من کون الحکم المغیّا واقعیّاً ثابتاً للشیء بعنوانه ، لا ظاهریّاً ثابتاً له بما هو مشتبه ؛ لظهوره فی أ نّه متفرّع علی الغایه وحدها ، وأ نّه بیان لها وحدها - منطوقها ومفهومها - ، لا لها مع المغیّا ، کما لا یخفیٰ علی المتأمّل .
ثمّ إنّک إذا حقّقت ما تلونا علیک ممّا هو مفاد الأخبار ، فلا حاجه فی إطاله الکلام فی بیان سائر الأقوال ، والنقض والإبرام فی ما ذکر لها من الاستدلال .
ولا بأس بصرفه إلی تحقیق حال الوضع : وأ نّه حکم مستقلّ بالجعل - کالتکلیف - ، أو منتزع عنه وتابعٌ له فی الجعل ، أو فیه تفصیل ؟ حتّیٰ یظهر حال ما ذکر هاهنا بین التکلیف والوضع من التفصیل .
فنقول - وباللّٰه الاستعانه - :
لا خلاف - کما لا إشکال - فی اختلاف التکلیف والوضع مفهوماً ، واختلافهما فی الجمله مورداً ؛ لبداهه ما بین مفهوم السببیّه أو الشرطیّه ، ومفهوم مثل الإیجاب أو الاستحباب من المخالفه والمباینه .
کما لا ینبغی النزاع فی صحّه تقسیم الحکم الشرعیّ إلی التکلیفیّ والوضعیّ ؛ بداهه أنّ الحکم وإن لم یصحّ تقسیمه إلیهما ببعض معانیه ، ولم یکَدْ
ص :220
یصحّ إطلاقه علی الوضع ، إلّاأنّ صحّه تقسیمه بالبعض الآخر إلیهما ، وصحّهَ إطلاقه علیه بهذا المعنی ، ممّا لا یکاد یُنکر ، کما لا یخفی . ویشهد به کثره إطلاق الحکم علیه فی کلماتهم . والالتزام بالتجوّز فیه کما تریٰ .
وکذا لا وقْع للنزاع فی أ نّه محصورٌ فی أُمور مخصوصه - کالشرطیّه والسببیّه والمانعیّه ، کما هو المحکیّ عن العلّامه (1) ، أو مع زیاده العلّیّه والعلامیّه ، أو مع زیاده الصحّه والبطلان ، والعزیمه والرخصه (2) ، أو زیاده غیر ذلک ، کما هو المحکیّ عن غیره (3) - أو لیس بمحصور ، بل کلّ ما لیس بتکلیف ممّا له دخلٌ فیه ، أو فی متعلّقه وموضوعه ، أو لم یکن له دخلٌ ممّا اطلق علیه الحکم فی کلماتهم ؛ ضروره أ نّه لا وجه للتخصیص بها بعدَ کثره إطلاق الحکم فی الکلمات علی غیرها ، مع أ نّه لا تکاد تظهر ثمره مهمّه علمیّه أو عملیّه للنزاع فی ذلک .
ص :221
وإنّما المهمُّ فی النزاع هو : أنّ الوضع کالتکلیف فی أ نّه مجعولٌ تشریعاً ، بحیث یصحّ انتزاعه بمجرّد إنشائه ، أو غیرُ مجعول کذلک ، بل إنّما هو منتزع عن التکلیف ، ومجعول بتبعه وبجعله (1)(2)؟
والتحقیق : أنّ ما عُدّ من الوضع علی أنحاء:
منها: ما لا یکاد یتطرّق إلیه الجعل تشریعاً أصلاً ، لا استقلالاً ولا تبعاً ، وإن کان مجعولاً تکویناً عرَضاً بعین جعل موضوعه کذلک .
ومنها: ما لا یکاد یتطرّق إلیه الجعل التشریعیّ إلّاتبعاً للتکلیف .
ومنها: ما یمکن فیه الجعل استقلالاً - بإنشائه - وتبعاً للتکلیف - بکونه منشأً لانتزاعه - ، وإن کان الصحیح انتزاعه من إنشائه وجعله ، وکونُ التکلیف من آثاره وأحکامه ، علی ما یأتی الإشاره إلیه .
أمّا النحو الأوّل: فهو کالسببیّه والشرطیّه والمانعیّه والرافعیّه لِما هو سبب التکلیف وشرطه ومانعه ورافعه ؛ حیث أ نّه لا یکاد یعقل انتزاع هذه العناوین لها من التکلیف المتأخّر عنها ذاتاً ، - حدوثاً أو (3) ارتفاعاً - ، کما أنّ اتّصافها بها لیس إلّالأجل ما علیها (4) من الخصوصیّه المستدعیه لذلک تکویناً ؛ للزوم
ص :222
أن یکون فی العلّه بأجزائها (1) ربط خاصّ ، به کانت مؤثره (2) فی معلولها ، لا فی غیره ، ولا غیرها فیه ، وإلّا لزم أن یکون کلُّ شیءٍ مؤثّراً فی کلِّ شیءٍ .
وتلک الخصوصیّه (3) لا تکاد توجد (4) فیها بمجرّد إنشاء مفاهیم العناوین ، ومثلِ (5) قول : دلوک الشمس سبب لوجوب الصلاه ، إنشاءً لا إخباراً ؛ ضروره بقاء الدلوک علی ما هو علیه قبل إنشاء السببیّه له ، من کونه واجداً لخصوصیّهٍ مقتضیهٍ لوجوبها ، أو فاقداً لها ، وأنّ الصلاه لا تکاد تکون واجبه عند الدلوک ما لم یکن هناک ما یدعو إلی وجوبها ، ومعه تکون واجبه لا محاله ، وإن لم یُنشأ السببیّه للدلوک أصلاً .
ومنه انقدح أیضاً : عدم صحّه انتزاع السببیّه له حقیقهً من إیجاب الصلاه عنده ؛ لعدم اتّصافه بها بذلک ضرورهً .
ص :223
نعم ، لا بأس باتّصافه بها عنایهً ، وإطلاقِ السبب علیه مجازاً . کما لا بأس بأن یعبّر عن إنشاء وجوب الصلاه عند الدلوک - مثلاً - بأ نّه سببٌ لوجوبها ، فیکنّیٰ (1) به عن الوجوب عنده .
فظهر بذلک: أ نّه لا منشأ لانتزاع السببیّه - وسائر ما لأجزاء العلّه للتکلیف - إلّاما هی علیها (2) من الخصوصیّه الموجبه لدخل کلٍّ فیه علی نحوٍ غیرِ دخل الآخر ، فتدبّر جیّداً .
وأمّا النحو الثانی: فهو کالجزئیّه والشرطیّه والمانعیّه والقاطعیّه لِما هو جزء المکلّف به وشرطُه ومانِعُه وقاطِعُه ؛ حیث إنّ اتّصافَ شیءٍ بجزئیّه المأمور به أو شرطیّته أو غیرهما ، لا یکاد یکون إلّابالأمر بجمله أُمور مقیّده بأمرٍ وجودیّ أو عدمیّ ، ولا یکاد یتّصف شیءٌ بذلک - أی کونه جزءاً أو شرطاً للمأمور به - إلّابتبع ملاحظه الأمر بما یشتمل علیه مقیّداً بأمرٍ آخر ، وما لم یتعلّق بها الأمر کذلک لما کاد اتّصف (3) بالجزئیّه أو الشرطیّه ، وإن أنشأ الشارعُ له الجزئیّهَ أو الشرطیّه .
وجعلُ الماهیّه وأجزائها (4) لیس إلّاتصوّر (5) ما فیه المصلحه المهمّه
ص :224
الموجبه للأمر بها ، فتصوّرها (1) بأجزائها وقیودها لا یوجب اتّصاف شیءٍ منها بجزئیّه المأمور به أو شرطیّته قبل الأمر بها .
فالجزئیّه للمأمور به أو الشرطیّه له إنّما تنتزع لجزئه أو شرطه بملاحظه الأمر به ، بلا حاجهٍ إلی جعلها له ، وبدون الأمر به لا اتّصاف بها أصلاً ، وإن اتّصف بالجزئیّه أو الشرطیّه للمتصوّر أو لذی المصلحه ، کما لا یخفی .
وأمّا النحو الثالث: فهو کالحجّیّه والقضاء (2) والولایه والنیابه والحرّیّه والرقّیّه والزوجیّه والملکیّه ... إلی غیر ذلک ؛ حیث إنّها وإن کان من الممکن انتزاعُها من الأحکام التکلیفیّه الّتی تکون فی مواردها - کما قیل (3) - ومِن جَعْلها بإنشاء أنفسها ، إلّاأ نّه لا یکاد یشکّ فی صحّه انتزاعها من مجرّد جعله - تعالی - ، أو مَنْ بیده الأمر من قِبَله - جلَّ وعلا - لها بإنشائها ، بحیث یترتّب علیها آثارها ، کما تشهد به ضرورهُ صحّه انتزاع الملکیّه والزوجیّه والطلاق والعتاق ، بمجرّد العقد أو الإیقاع ممّن بیده الاختیار ، بلا ملاحظه التکالیف والآثار . ولو کانت منتزعهً عنها لما کاد یصحُّ اعتبارها إلّابملاحظتها ، وللَزم أن لا یقع ما قُصد ، ووَقَع ما لم یُقصد .
کما لا ینبغی أن یشکّ فی عدم صحّه انتزاعها عن مجرّد التکلیف فی موردها (4) ، فلا ینتزع الملکیّه عن إباحه التصرّفات ، ولا الزوجیّه من
ص :225
جواز الوطء ، وهکذا سائر الاعتبارات فی أبواب العقود والإیقاعات .
فانقدح بذلک : أنّ مثل هذه الاعتبارات إنّما تکون مجعولهً بنفسها ، یصحّ انتزاعها بمجرّد إنشائها کالتکلیف ، لا مجعولهً بتبعه ومنتزعهً عنه .
إشکال : الملکیّه من المقولات المتأصّله فکیف تکون من الوضعیّات ؟
وهمٌ ودفعٌ :
أمّا الوهم فهو: أنّ الملکیّه کیف جُعلت من الاعتبارات الحاصله بمجرّد الجعل والإنشاء الّتی تکون من خارج المحمول (1) ، حیث لیس بحذائها فی الخارج شیءٌ ، وهی إحدی المقولات المحمولات بالضمیمه الّتی لا تکاد تکون بهذا السبب ، بل بأسباب اخر کالتعمّم والتقمّص والتنعّل ، فالحاله الحاصله منها للإنسان هو الملک ، وأین هذه من الاعتبار الحاصل بمجرّد إنشائه ؟
الجواب : الملکیّه مشترک لفظی وأمّا الدفع فهو: أنّ الملک یقال بالاشتراک علی ذلک - ویسمّیٰ بالجده أیضاً - وعلی (2) اختصاصِ شیءٍ بشیءٍ (3) خاصٍّ ، وهو ناشیءٌ :
إمّا من جهه إسناد وجوده إلیه ، ککون العالَم ملکاً للباریء - جلَّ ذکره - .
أو من جهه الاستعمال والتصرّف فیه ، ککون الفَرَس لزید برکوبه له (4) وسائر تصرّفاته فیه .
أو من جهه إنشائه والعقد مع مَن اختیارُه بیده ، کملک الأراضی والعِقار
ص :226
البعیده للمشتری بمجرّد عقد البیع شرعاً وعرفاً .
فالمِلکُ الذی یسمّی بالجده أیضاً غیرُ الملک الّذی هو اختصاص خاصّ ناشیء من سبب اختیاریّ کالعقد ، أو غیر اختیاریّ کالإرث ، ونحوهما من الأسباب الاختیاریّه وغیرها .
فالتوهّم إنّما نشأ من إطلاق المِلک علی مقوله الجده أیضاً ، والغفلهِ عن أ نّه بالاشتراک بینه (1) وبین الاختصاص الخاصّ والإضافه (2) الخاصّه الإشراقیّه ، کملکه - تعالی - للعالَم ، أو المقولیّهِ (3) ، کملک غیره لشیءٍ بسببٍ ، من تصرّفٍ واستعمالٍ أو إرث أو عقد أو غیرها (4) من الأعمال ، فیکون شیءٌ ملکاً لأحدٍ بمعنی ، ولآخر بالمعنی الآخر ، فتدبّر .
إذا عرفت اختلاف الوضع فی الجعل ، فقد عرفت أ نّه لا مجال لاستصحاب دَخْلِ ما لَه الدخلُ فی التکلیف ، إذا شکّ فی بقائه علی ما کان علیه من الدخل ؛ لعدم کونه حکماً شرعیّاً ، ولا یترتّب علیه أثر شرعیّ ، والتکلیفُ وإن کان مترتّباً علیه (5) ، إلّاأ نّه لیس بترتّب شرعیّ ، فافهم .
ص :227
وأ نّه لا إشکال فی جریان الاستصحاب فی الوضع المستقلّ بالجعل ؛ حیث إنّه کالتکلیف .
وکذا ما کان مجعولاً بالتبع ؛ فإنّ أمر وضعه ورفعه بید الشارع ولو بتبع منشأ انتزاعه . وعدم تسمیته حکماً شرعیّاً - لو سُلّم - غیرُ ضائر ، بعدَ کونه ممّا تناله ید التصرّف شرعاً .
نعم ، لا مجال لاستصحابه ؛ لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه ، فافهم .
ص :228
ثمّ إنّ هاهنا تنبیهات
الأوّل :
انّه یعتبر فی الاستصحاب فعلیّه الشکّ والیقین ، فلا استصحاب مع الغفله ؛ لعدم الشکّ فعلاً ، ولو فرض أ نّه یشکّ لو التفت ؛ ضروره أنّ الاستصحاب وظیفه الشاکّ ، ولا شکّ مع الغفله أصلاً .
فیحکم بصحّه صلاه من أحدث ، ثمّ غفل وصلّیٰ ، ثمّ شکّ فی أ نّه تطهّر قبل الصلاه ؛ لقاعده الفراغ . بخلاف من التفت قبلها وشکّ ، ثمّ غفل وصلّی ، فیحکم بفساد صلاته فی ما إذا قطع بعدم تطهیره بعد الشکّ ؛ لکونه محدثاً قبلها بحکم الاستصحاب ، مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابیّ (1) .
لا یقال: نعم ، ولکنّ استصحاب الحدث فی حال الصلاه بعد ما التفت بعدها یقتضی أیضاً فسادها .
فإنّه یقال: نعم ، لولا قاعده الفراغ المقتضیهُ لصحّتها ، المقدّمهُ علی أصاله فسادها (2) .
الثانی:
انّه هل یکفی فی صحّه الاستصحاب الشکُّ فی بقاء شیءٍ علی
ص :229
تقدیر ثبوته ، وإن لم یُحرز ثبوتُه ، فی ما رتّب علیه أثر شرعاً أو عقلاً ؟ إشکالٌ:
من عدم إحراز الثبوت ، فلا یقین ، ولابدّ منه ، بل ولا شکّ ، فإنّه علی تقدیرٍ لم یثبت .
ومن أنّ اعتبار الیقین إنّما هو لأجل أنّ التعبّد والتنزیل شرعاً انّما هو فی البقاء ، لا فی الحدوث ، فیکفی الشکّ فیه علی تقدیر الثبوت ، فیتعبّد به علی هذا التقدیر ، فیترتّب علیه الأثر فعلاً فی ما کان هناک أثر ، وهذا هو الأظهر .
وبه یمکن أن یُذبَّ عمّا فی (1) استصحاب الأحکام الّتی قامت الأمارات المعتبره علی مجرّد ثبوتها ، وقد شُکّ فی بقائها علی تقدیر ثبوتها ، من الإشکال بأ نّه لا یقینَ بالحکم الواقعیّ ، ولا یکون هناک حکم آخر فعلیٌّ ، بناءً علی ما هو التحقیق (2)* من : أنّ قضیّه حجّیّه الأماره لیست إلّاتنجّز التکالیف مع الإصابه ، والعذر مع المخالفه - کما هو قضیّه الحجّه المعتبره عقلاً ، کالقطع والظنّ فی حال الانسداد علی الحکومه - ، لا إنشاء أحکام فعلیّه شرعیّه ظاهریّه ، کما هو ظاهر الأصحاب .
ص :230
ووجه الذبّ بذلک: أنّ الحکم الواقعیّ الّذی هو مؤدّی الطریق حینئذٍ محکومٌ بالبقاء ، فتکون الحجّه علی ثبوته حجّهً علی بقائه تعبّداً ؛ للملازمه بینه وبین ثبوته واقعاً .
إن قلت: کیف ؟ وقد اخِذَ الیقینُ بالشیء فی التعبّد ببقائه فی الأخبار ، ولایقینَ فی فرض تقدیر الثبوت .
قلتُ: نعم ، ولکنّ الظاهر أ نّه اخِذَ کشفاً عنه ومرآهً لثبوته ، لیکون التعبّدُ فی بقائه ، والتعبّد مع فرض ثبوته إنّما یکون فی بقائه ، فافهم .
الثالث:
انّه لا فرق فی المتیقّن السابق بین أن یکون خصوص أحد الأحکام ، أو ما یشترک بین الاثنین منها ، أو الأزیدِ من أمر عامّ .
القسم الأول و جریان الاستصحاب فیه فإن کان الشکُّ فی بقاء ذاک العامّ من جهه الشکّ فی بقاء الخاصّ - الّذی کان فی ضمنه - وارتفاعِه ، کان استصحابه کاستصحابه بلا کلام .
القسم الثانی و جریان الاستصحاب فیه وإن کان الشکُّ فیه من جهه تردّد الخاصّ - الّذی فی ضمنه - بین ما هو باقٍ أو مرتفعٌ قطعاً ، فکذا لا إشکالَ فی استصحابه ، فیترتّب علیه کافّهُ ما یترتّب علیه عقلاً أو شرعاً من أحکامه ولوازمه .
الإشکال علی جریان الاستصحاب فی القسم الثانی والجواب عنه وتردُّدُ ذاک الخاصّ - الّذی یکون الکلّیّ موجوداً فی ضمنه ، ویکون وجوده بعین وجوده - بین متیقّن الارتفاع ومشکوکِ الحدوث المحکومِ بعدم حدوثه (1) ، غیرُ ضائر باستصحاب الکلّیّ المتحقّق فی ضمنه ، مع عدم إخلاله بالیقین والشکّ فی حدوثه وبقائه . وإنّما کان التردّد بین الفردین ضائراً
ص :231
باستصحاب أحد الخاصّین - الّلذین کان أمره مردّداً بینهما - ؛ لإخلاله بالیقین الّذی هو أحد رکنی الاستصحاب ، کما لا یخفی .
نعم ، یجب رعایه التکالیف المعلومه إجمالاً المترتّبه علی الخاصّین ، فی ما علم تکلیف فی البین .
إشکالٌ آخر علی استصحاب القسم الثانی والجواب عنه وتوهّم : کون الشکّ فی بقاء الکلّیّ - الّذی فی ضمن ذاک المردّد - مسبّباً عن الشکّ فی حدوث الخاصّ المشکوک حدوثُه ، المحکومِ بعدم الحدوث بأصاله عدمه (1) .
فاسدٌ قطعاً ؛ لعدم کون بقائه وارتفاعه من لوازم حدوثه وعدم حدوثه ، بل من لوازم کون الحادث المتیقّن ذاک المتیقّن الارتفاع أو البقاء .
مع أنّ بقاء القدر المشترک إنّما هو بعین بقاء الخاصّ الّذی فی ضمنه ، لا أ نّه من لوازمه .
علی أ نّه لو سلّم أ نّه من لوازم حدوث المشکوک ، فلا شبهه فی کون اللزوم عقلیّاً ، ولا یکاد (2) یترتّب بأصاله عدم الحدوث إلّاما هو من لوازمه وأحکامه شرعاً .
القسم الثالث وعدم جریان الاستصحاب فیه وأمّا إذا کان الشکُّ فی بقائه من جهه الشکّ فی قیامِ خاصٍّ آخر فی مقام ذاک الخاصّ - الّذی کان فی ضمنه - بعد القطع بارتفاعه ، ففی استصحابه إشکالٌ ، أظهرُه عدم جریانه (3) ؛ فإنّ وجود الطبیعیّ وإن کان بوجود فرده ، إلّا
ص :232
أنّ وجودَه فی ضمن المتعدّد من أفراده لیس من نحو وجودٍ واحد له ، بل متعدّدٍ حسَبَ تعدُّدِها ، فلو قَطع بارتفاع ما عُلم وجوده منها لقَطَع بارتفاع وجوده (1) ، وإن شکّ فی وجود فردٍ آخر مقارنٍ لوجود ذاک الفرد ، أو لارتفاعه بنفسه أو بملاکه ، کما إذا شکّ فی الاستحباب بعد القطع بارتفاع الإیجاب بملاکٍ مقارن أو حادث .
شبهه جریان الاستصحاب فی بعض موارد القسم الثالث
لا یقال: الأمر وإن کان کما ذُکر ، إلّاأ نّه حیث کان التفاوت بین الإیجاب والاستحباب - وهکذا بین الکراهه والحرمه - لیس إلّابشدّه الطلب بینهما وضعفه ، کان تبدّلُ أحدهما بالآخر - مع عدم تخلّل العدم - غیرَ موجبٍ لتعدّد وجود الطبیعیّ بینهما ؛ لمساوقه الاتّصال مع الوحده ، فالشکّ فی التبدّل حقیقهً شکٌّ فی بقاء الطلب وارتفاعه ، لا فی حدوث وجودٍ آخر .
الجواب عن الشبهه
فإنّه یقال: الأمر وإن کان کذلک ، إلّاأنّ العرف حیث یری الإیجابَ والاستحباب المتبادلین فردَیْن متباینَیْن ، لا واحداً (2) مختلفَ الوصف فی زمانین ، لم یکن مجالٌ للاستصحاب ؛ لما مرّت الإشاره إلیه ویأتی (3) من أنّ قضیّه إطلاق
ص :233
أخبار الباب : أنّ العبره فیه بما یکون رفع الید عنه مع الشکّ بنظر العرف نقضاً ، وإن لم یکن بنقضٍ بحسب الدقّه ، ولذا لو انعکس الأمر ولم یکن نقضٌ عرفاً ، لم یکن الاستصحاب جاریاً وإن کان هناک نقضٌ عقلاً .
وممّا ذکرنا فی المقام یظهر أیضاً حال الاستصحاب فی متعلّقات الأحکام فی الشبهات الحکمیّه والموضوعیّه ، فلا تغفل .
الرابع:
انّه لا فرق فی المتیقّن بین أن یکون من الأُمور القارّه أو التدریجیّه غیر القارّه ؛ فإنّ الأُمور غیرَ القارّه وإن کان وجودها ینصرم ، ولا یتحقّق منه جزءٌ إلّا بعدَ ما انصرم منه جزءٌ وانعدم ، إلّاأ نّه ما لم یتخلّل فی البین العدم - بل وإن تخلّل بما لا یخلّ بالاتّصال عرفاً ، وإن انفصل حقیقهً - کانت باقیه مطلقاً أو عرفاً ، ویکون رفعُ الید عنها مع الشکّ فی استمرارها وانقطاعها نقضاً ، ولا یعتبر فی الاستصحاب - بحسب تعریفه وأخبار الباب وغیرها من أدلّته - غیرُ صدْقِ النقض والبقاء کذلک قطعاً ، هذا .
مع أنّ الانصرامَ والتدرّج فی الوجود فی الحرکه - فی الأین وغیره - إنّما هو فی الحرکه القطعیّه ، وهی: «کون الشیء فی کلّ آنٍ فی حدٍّ أو مکان» (1) ، لا التوسّطیّه ، وهی: «کونه بین المبدأ والمنتهٰ» ؛ فإنّه بهذا المعنیٰ یکون قارّاً مستمرّاً (1) .
ص :234
1 - الزمان فانقدح بذلک أ نّه : لا مجال للإشکال فی استصحاب مثل اللیل أو النهار وترتیب ما لهما من الآثار .
2 - الزمانیّات وکذا کلّما إذا (1) کان الشکّ فی الأمر التدریجیّ من جهه الشکّ فی انتهاء حرکته ووصوله إلی المنته ، أو أ نّه بعْدُ فی البین .
وأمّا إذا کان من جهه الشکّ فی کمیّته ومقداره - کما فی نبْع الماء وجریانه ، وخروجِ الدم وسیلانه ، فی ما کان سبب الشکّ فی الجریان والسیلان ، الشکَّ فی أ نّه بقی فی المنبع والرحم فعلاً شیءٌ من الماء والدم غیر ما سال وجری منهما - .
فربما یشکل فی استصحابهما حینئذٍ ؛ فإنّ الشکّ لیس فی بقاء جریان شخص ما کان جاریاً ، بل فی حدوث جریان جزءٍ آخر شُکَّ فی جریانه من جهه الشکّ فی حدوثه .
ولکنّه ینحلّ (2) بأ نّه لا یختلّ به ما هو الملاک فی الاستصحاب ، بحسب
ص :235
تعریفه ودلیله حَسَبما عرفت (1) .
ثمّ إنّه لا یخفیٰ : أنّ استصحاب بقاء الأمر التدریجیّ إمّا یکون من قبیل استصحاب الشخص ، أو من قبیل استصحاب الکلّیّ بأقسامه (2) :
فإذا شکّ فی أنّ السوره المعلومه الّتی شرع فیها تمّت ، أو بقی شیءٌ منها ، صحّ فیه استصحابُ الشخص والکلّیّ .
وإذا شکّ فیه من جهه تردُّدها بین القصیره والطویله کان من القسم الثانی .
وإذا شکّ فی أ نّه شرع فی اخریٰ مع القطع بأ نّه قد تمّت الاُولی ، کان من القسم الثالث ، کما لا یخفی .
هذا فی الزمان ونحوه من سائر التدریجیّات .
3 - الفعل المقیّد بالزمان وحکم أقسام الشک فیه :
وأمّا الفعل المقیّد بالزمان:
فتارهً : یکون الشکّ فی حکمه من جهه الشکّ فی بقاء قیده .
وطوراً : مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جههٍ أُخری ، کما إذا احتمل أن یکون التقیید (3) به إنّما هو بلحاظ تمام المطلوب ، لا أصله .
ص :236
أ - جریان الاستصحاب فی صوره الشک فی الحکم من جهه
الشک فی بقاء قیده فإن کان من جهه الشکّ فی بقاء القید ، فلابأس باستصحاب قیده من الزمان (1) ، کالنهار الّذی قُیِّد به الصومُ - مثلاً - ، فیترتّب علیه وجوبُ الإمساک وعدمُ جواز الإفطار ما لم یقطع بزواله .
کما لا بأس باستصحاب نفس المقیّد (2) ، فیقال: إنّ الإمساک کان قبل هذا الآن فی النهار ، والآنَ کما کان ، فیجب ، فتأمّل .
ب - عدم جریان الاستصحاب فی صوره الشک فی الحکم من جهه احتمال کون الزمان قیداً له علی نحو وحده المطلوب وإن کان من الجهه الاُخریٰ ، فلا مجال إلّالاستصحاب الحکم فی خصوص ما لم یؤخذ الزمان فیه إلّاظرفاً لثبوته (3) ، لا قیداً مقوّماً لموضوعه ، وإلّا فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه فی ما بعد ذاک الزمان ؛ فإنّه غیرُ ما علم ثبوته له ، فیکون الشکُّ فی ثبوته له أیضاً شکّاً فی أصل ثبوته بعد القطع بعدمه ، لا فی بقائه .
الاشکال علی التفصیل والجواب عنه لا یقال: إنّ الزمان لا محاله یکون من قیود الموضوع ، وإن اخِذَ ظرفاً لثبوت الحکم فی دلیله ؛ ضروره دخل مثل الزمان فی ما هو المناط لثبوته ، فلا مجال إلّالاستصحاب عدمه .
فإنّه یقال: نعم ، لوکانت العبره فی تعیین الموضوع بالدقّه ونظر العقل ، وأمّا إذا کانت العبره بنظر العرف ، فلا شبهه فی أنّ الفعل - بهذا النظر - موضوع واحد فی الزمانین ، قُطِع بثبوت الحکم له فی الزمان الأوّل ، وشُکَّ فی بقاء هذا الحکم له وارتفاعه فی الزمان الثانی ، فلا یکون مجال إلّالاستصحاب ثبوته .
ص :237
شبهه تعارض الاستصحابین فی الصوره الأُولی والجواب عنها لا یقال: فاستصحاب کلّ واحد من الثبوت والعدم یجری ؛ لثبوت کلا النظرین ، ویقع التعارض بین الاستصحابین ، کما قیل (1) .
فإنّه یقال: إنّما یکون ذلک لو کان فی الدلیل ما بمفهومه یعمّ النظرین ، وإلّا فلا یکاد یصحّ إلّاإذا سیق بأحدهما ؛ لعدم إمکان الجمع بینهما ؛ لکمال المنافاه بینهما ، ولا یکون فی أخبار الباب ما بمفهومه یعمّهما ، فلا یکون هناک إلّا استصحاب واحد ، وهو استصحاب الثبوت فی ما إذا اخِذَ الزمانُ ظرفاً ، واستصحابُ العدم فی ما إذا اخِذَ قیداً ؛ لما عرفت من أنّ العبره فی هذا الباب بالنظر العرفیّ .
ولا شبهه فی أنّ الفعل - فی ما بعد ذاک الوقت مع قبله (2) - متّحدٌ فی الأوّل ، ومتعدّدٌ فی الثانی بحسبه ؛ ضرورهَ أنّ الفعل المقیّد بزمان خاصّ غیرُ الفعل فی زمان آخر ، ولو بالنظر المسامحیّ العرفیّ .
- جریان لاستصحاب فی ما إذا کان الزمان قیداً للحکم بنحو تعدّد المطلوب نعم ، لا یبعد أن یکون بحسبه أیضاً متّحداً فی ما إذا کان الشکّ فی بقاء حکمه ، من جهه الشکّ فی أ نّه بنحو التعدّد المطلوبیّ ، وأنّ حکمه - بتلک المرتبه الّتی کان (3) مع ذاک الوقت - وإن لم یکن باقیاً بعده قطعاً ، إلّاأ نّه یحتمل بقاؤه بما دون تلک المرتبه من مراتبه ، فیستصحب ، فتأمّل جیّداً .
ص :238
إزاحه وَهْمٍ
شبهه تعمیم التعارض لأمثال المقام والجواب عنها
لا یخفیٰ : أنّ الطهاره الحدثیّه والخبثیّه وما یقابلها تکون (1) ممّا إذا وجدت بأسبابها ، لا یکاد یشکّ فی بقائها إلّامن قِبَل الشکّ فی الرافع لها ، لا من قِبَل الشکّ فی مقدار تأثیر أسبابها ؛ ضرورهَ أ نّها إذا وجدت بها کانت تبقیٰ ما لم یحدث رافعٌ لها ، - کانت من الأُمور الخارجیّه ، أو الأُمور الاعتباریّه الّتی کانت لها آثار شرعیّه - ، فلا أصل لأصاله عدم جعل الوضوء سبباً للطهاره بعد المذی ، أو (2) أصاله عدم جعل الملاقاه سبباً للنجاسه بعد الغسل مرّهً - کما حکی عن بعض الأفاضل (3) - ، ولا یکون هاهنا أصل إلّاأصاله الطهاره أو النجاسه .
الخامس:
أ نّه کما لا إشکال فی ما إذا کان المتیقّن حکماً فعلیّاً مطلقاً ، لا ینبغی الإشکال فی ما إذا کان مشروطاً معلّقاً . فلو شُکّ فی موردٍ - لأجل طروء بعض الحالات علیه - فی بقاء أحکامه ، فکما (4) صحّ استصحابُ أحکامه المطلقه ، صحّ استصحابُ أحکامه المعلّقه ؛ لعدم الاختلال بذلک فی ما اعتبر فی قوام الاستصحاب ، من الیقین ثبوتاً والشکّ بقاءً .
الإشکال فی جریان الاستصحاب التعلیقی بعدم المقتضی والجواب عنه
وتوهّم (5) : أ نّه لا وجود للمعلّق قبلَ وجود ما عُلِّق علیه ، فاختلّ أحد رکنیه .
ص :239
فاسدٌ جدّاً (1) ؛ فإنّ المعلَّق قبْلَه إنّما لا یکون موجوداً فعلاً ، لا أ نّه لا یکون موجوداً أصلاً ولو بنحو التعلیق ، کیف ؟ والمفروض أ نّه موردٌ فعلاً للخطاب بالتحریم - مثلاً - أو الإیجاب ، فکان علی یقینٍ منه قبل طروء الحاله ،فیشکّ فیه بعده . ولا یعتبر فی الاستصحاب إلّاالشکّ فی بقاء شیء کان علی یقین من ثبوته . واختلافُ نحو ثبوته لا یکاد یوجب تفاوتاً فی ذلک .
وبالجمله (2): یکون الاستصحابُ متمّماً لدلاله الدلیل علی الحکم فی ما أُهمل أو أُجمل ، - کان الحکم مطلقاً أو معلّقاً - ، فببرکته یعمّ الحکم للحاله الطارئه اللاحقه کالحاله السابقه ، فیحکم مثلاً بأنّ العصیر الزبیبیّ یکونُ علی ماکان علیه سابقاً فی حال عنبیّته ، من أحکامه المطلقه والمعلّقه لو شکّ فیها ،فکما یحکم ببقاء ملکیّته ، یحکم بحرمته علی تقدیر غلیانه .
الإشکال علی الاستصحاب التعلیقی بوجود المانع والجواب عنه
إن قلت: نعم ، ولکنّه لا مجال لاستصحاب المعلّق ؛ لمعارضته باستصحاب ضدّه المطلق ، فیعارَض استصحاب الحرمه المعلّقه للعصیر باستصحاب حلّیّته المطلقه .
قلت: لا یکاد یضرّ استصحابه علی نحوٍ کان قبل عروض الحاله الّتی شکّ فی بقاء الحکم (3) المعلّق بعده ؛ ضروره أ نّه کان مغیّا بعدم ما عُلّق علیه المعلّق ، وما کان کذلک لا یکاد یضرّ ثبوته بعدَه بالقطع ، فضلاً عن الاستصحاب ؛
ص :240
لعدم المضادّه بینهما ، فیکونان بعد عروضها بالاستصحاب ، کما کانا معاً بالقطع قبلُ ، بلا منافاه أصلاً ، وقضیّه ذلک انتفاء الحکم (1) المطلق بمجرّد ثبوت ما علّق علیه المعلّق .
فالغلیانُ فی المثال کما کان شرطاً للحرمه کان غایهً للحلّیّه ، فإذا شُکّ فی حرمته المعلّقه بعد عروض حاله علیه ، شُکَّ فی حلّیّته المغیّاه لا محاله أیضاً ، فیکون الشکّ فی حلّیّته أو حرمته فعلاً بعد عروضها ، متّحداً خارجاً مع الشکّ فی بقائه علی ما کان علیه من الحلّیّه والحرمه بنحوٍ کانتا علیه ، فقضیّهُ استصحاب حرمته المعلّقه بعد عروضها - الملازِم لاستصحاب حلّیّته المغیّاه - حرمتُه فعلاً بعد غلیانه وانتفاءُ حلّیّته ؛ فإنّه قضیّه نحو ثبوتهما ، کان بدلیلهما أو بدلیل الاستصحاب ، کما لا یخفیٰ بأدنی التفات علی ذوی الألباب ، فالتفت ولا تغفل (2)* .
ص :241
السادس:
لا فرق أیضاً بین أن یکون المتیقّن من أحکام هذه الشریعه أو الشریعه السابقه ، إذا شکّ فی بقائه وارتفاعه بنسخه فی هذه الشریعه ؛ لعموم أدلّه الاستصحاب ، وفسادِ توهّم (1) اختلال أرکانه فی ما کان المتیقّن من أحکام الشریعه السابقه لا محاله :
الإشکال علی استصحاب الشریعه السابقه إمّا لعدم الیقین بثبوتها فی حقّهم (2) ، وإن علم بثبوتها سابقاً فی حقّ آخرین ، فلا شکّ فی بقائها أیضاً ، بل فی ثبوت مثلها ، کما لا یخفی .
وإمّا للیقین بارتفاعها بنسخ الشریعه السابقه بهذه الشریعه ، فلا شکّ فی بقائها حینئذٍ ، ولو سلّم الیقین بثبوتها فی حقّهم (3) .
الجواب عن الإشکال وذلک لأنّ الحکمَ الثابتَ فی الشریعه السابقه حیث کان ثابتاً لأفراد المکلّف ، کانت محقّقهً وجوداً أو مقدّرهً - کما هو قضیّه القضایا المتعارفه المتداوله ، وهی قضایا حقیقیّه - ، لا خصوص الأفراد الخارجیّه - کما هو قضیّه القضایا الخارجیّه - ، وإلّا لما صحّ الاستصحاب فی الأحکام الثابته فی هذه الشریعه ، ولا النسخُ بالنسبه إلی غیر الموجود فی زمان ثبوتها ، کان الحکم فی الشریعه السابقه ثابتاً لعامّه أفراد المکلّف ، ممّن وُجد أو یوجد ، وکان الشکّ فیه کالشکّ فی بقاء الحکم الثابت فی هذه الشریعه (4)* لغیر من وجد فی زمان ثبوته .
ص :242
والشریعه السابقه وإن کانت منسوخهً بهذه الشریعه یقیناً ، إلّاأ نّه لا یوجب الیقین بارتفاع أحکامها بتمامها ؛ ضرورهَ أنّ قضیّه نسخ الشریعه لیس ارتفاعَها کذلک ، بل عدَمُ بقائها بتمامها (1) .
إشکالٌ آخر علی استصحاب الشریعه السابقه والجواب عنه والعلمُ إجمالاً بارتفاع بعضها إنّما یمنعُ عن استصحاب ما شکّ فی بقائه منها ، فی ما إذا کان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالاً ، لا فی ما إذا لم یکن من أطرافه (2) ، کما إذا علم بمقداره تفصیلاً ، أو فی موارد لیس المشکوک منها ، وقد علم بارتفاع ما فی موارد الأحکام الثابته فی هذه الشریعه .
توجیه الجواب الثانی للشیخ الأعظم عن إشکال تغایر الموضوع ثمّ لا یخفیٰ : أ نّه یمکنُ إرجاع ما أفاده شیخنا العلّامه - أعلی اللّٰه فی الجنان مقامه - فی الذبّ عن إشکال (3) تغایُرِ الموضوع فی هذا الاستصحاب - من الوجه الثانی - إلی ما ذکرنا ، لا ما یوهمه ظاهر کلامه (4) من : أنّ الحکم ثابتٌ للکلّیّ ، کما أنّ الملکیّه له فی مثل باب الزکاه والوقف العامّ ، حیث لا مدخل للأشخاص فیها ؛ ضروره أنّ التکلیف والبعث أو الزجر لا یکاد یتعلّقُ به کذلک ، بل لابدّ من تعلّقه بالأشخاص ، وکذلک الثواب أو العقاب
ص :243
المترتّب علی الطاعه أو المعصیه ، وکأنّ غرضه من عدم دخل الأشخاص :
عدم دخل (1) أشخاص خاصّه . فافهم .
المناقشه فی الجواب الأول للشیخ وأمّا ما أفاده من الوجه الأوّل (2) ، فهو وإن کان وجیهاً بالنسبه إلی جریان الاستصحاب فی حقّ خصوص المدرک للشریعتین ، إلّاأ نّه غیر مجدٍ فی حقّ غیره من المعدومین . ولایکاد یتمّ الحکم فیهم بضروره اشتراک أهل الشریعه الواحده أیضاً ؛ ضروره أنّ قضیّه الاشتراک لیس إلّاأنّ الاستصحاب حکْمُ کلِّ مَنْ کان علی یقین فشکّ ، لا أ نّه حکْمُ الکلّ ولو مَنْ لم یکن کذلک بلا شکّ ، وهذا واضح .
السابع:
مقتضی أخبار الاستصحاب لا شبهه فی أنّ قضیّه أخبار الباب هو إنشاء حکم مماثل للمستصحب فی استصحاب الأحکام ، ولأحکامه فی استصحاب الموضوعات .
کما لا شبهه فی ترتیب ما للحکم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشرعیّه والعقلیّه .
الإشکال فی ترتیب الآثار الشرعیّه الملازمه للمستصحب وإنّما الإشکالُ فی ترتیب الآثار الشرعیّه المترتّبه علی المستصحب بواسطهٍ غیرِ شرعیّه ، - عادیّهً کانت أو عقلیّهً - . ومنشؤه أنّ مفادَ الأخبار :
هل هو تنزیلُ المستصحب والتعبّد به وحْدَه ، بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطه ؟
ص :244
أو تنزیلهُ بلوازمه العقلیّه أو العادیّه ، کما هو الحال فی تنزیل مؤدّیات الطرق والأمارات ؟
أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطه ، بناءً علی صحّه التنزیل بلحاظ أثر الواسطه أیضاً (1)* ؛ لأجل أنّ أثر الأثر أثر ؟
وذلک لأنّ مفادها لو کان هو تنزیل الشیء وحده بلحاظ أثر نفسه لم یترتّب علیه ما کان مترتّباً علیها ؛ لعدم إحرازها حقیقهً ولا تعبّداً ، ولا یکون تنزیله بلحاظه (2) ، بخلاف ما لو کان تنزیله بلوازمه ، أو بلحاظ ما یعمّ آثارَها ، فإنّه یترتّب باستصحابه ما کان بوساطتها .
التحقیق فی المسأله : عدم حجّیه الأصل المثبت
والتحقیق: أنّ الأخبار إنّما تدلُّ علی التعبّد بما کان علی یقینٍ منه فشکّ ، بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحکامه ، ولا دلاله لها بوجهٍ علی تنزیله بلوازمه الّتی لا تکون کذلک - کما هی محلّ ثمره الخلاف - ، ولا علی تنزیله بلحاظ ما له مطلقاً ولو بالواسطه ؛ فإنّ المتیقّن إنّما هو لحاظ آثار نفسه ، وأمّا آثار لوازمه فلا دلاله هناک علی لحاظها أصلاً ، وما لم یثبت لحاظها بوجهٍ أیضاً لما کان وجهٌ لترتیبها علیه باستصحابه ، کما لا یخفی .
ص :245
نعم ، لا یبعد ترتیب خصوص ما کان منها محسوباً بنظر العرف من آثار نفسه ، لخفاء ما بوساطته ، بدعویٰ : أنّ مفاد الأخبار عرفاً مایعمّه أیضاً حقیقهً (1) ، فافهم .
کما لا یبعد ترتیب ماکان بوساطه ما لا یمکن التفکیک عرفاً بینه وبین المستصحب تنزیلاً ، کما لا تفکیک بینهما واقعاً ، أو بوساطه ما لأجل وضوح لزومه له (2) ، أو ملازمته معه بمثابهٍ عُدّ أثره أثراً لهما (3) ؛ فإنّ عدمَ ترتیب مثل هذا الأثر علیه یکونُ نقضاً لیقینه بالشکّ أیضاً بحسب ما یفهم من النهی عن نقضه عرفاً ، فافهم .
ثمّ لا یخفیٰ وضوح الفرق بین الاستصحاب وسائر الأُصول التعبّدیّه وبین الطرق والأمارات ؛ فإنّ الطریق أو (4) الأماره حیث إنّه کما یحکی عن المؤدّیٰ ویشیر إلیه ، کذا یحکی عن أطرافه - من ملزومه و لوازمه وملازماته - ویشیر
ص :246
إلیها ، کان مقتضیٰ إطلاق دلیل اعتبارها لزومَ تصدیقها فی حکایتها ، وقضیّته حجّیّه المثبت منها ، کما لا یخفیٰ .
بخلاف مثل دلیل الاستصحاب ، فإنّه لابدّ من الاقتصار بما فیه من الدلاله علی التعبّد بثبوته (1) ، ولا دلاله له إلّاعلی التعبّد بثبوت المشکوک بلحاظ أثره حسبما عرفت (2) ، فلا دلاله له علی اعتبار المثبت منه کسائر الأُصول التعبّدیّه ، إلّافی ما عدّ أثر الواسطه أثراً له ، لخفائها ، أو لشدّه وضوحها وجلائها ، حسبما حقّقناه .
انّه لا تفاوت فی الأثر المترتّب علی المستصحب بین أن یکون مترتّباً علیه بلا وساطه شیءٍ ، أو بوساطه عنوانٍ کلّیٍّ ینطبق ویحمل علیه بالحمل الشائع ، ویتّحد معه وجوداً (4) ، کان منتزعاً عن مرتبه ذاته ، أو بملاحظه بعض
ص :247
عوارضه ممّا هو خارج المحمول (1) لا بالضمیمه ؛ فإنّ الأثر فی الصورتین إنّما یکون له حقیقهً ، حیث لا یکون بحذاء ذاک الکلّیّ فی الخارج سواه ، لا لغیره ممّا کان مبایناً معه ، أو من أعراضه ممّا کان محمولاً علیه بالضمیمه کسواده مثلاً أو بیاضه ؛ وذلک لأنّ الطبیعیّ إنّما یوجد بعین وجود فرده ، کما أنّ العرضیّ - کالملکیّه والغصبیّه ونحوهما - لا وجودَ له إلّابمعنیٰ وجود منشأ انتزاعه ، فالفرد أو منشأ الانتزاع فی الخارج هو عین ما رتّب علیه الأثر ، لا شیءٌ آخر ، فاستصحابه لترتیبه لا یکون بمثبِت ، کما توهّم (2) .
وکذا لا تفاوت فی الأثر المستصحب أو المترتّب علیه ، بین أن یکون مجعولاً شرعاً بنفسه ، - کالتکلیف وبعض أنحاء الوضع - ، أو بمنشأ انتزاعه ، - کبعض أنحائه ، کالجزئیّه والشرطیّه والمانعیّه - ؛ فإنّه أیضاً ممّا تناله ید الجعل شرعاً ، ویکون أمرُه بیده الشارع وضعاً ورفعاً ، ولو (3) بوضع منشأ انتزاعه ورفعه . ولا وجه لاعتبار أن یکون المترتّب أو المستصحب مجعولاً مستقلاًّ ، کما لا یخفی .
فلیس استصحاب الشرط أو المانع لترتیب الشرطیّه أو المانعیّه بمثبت ، کما ربما توهّم ، بتخیّل أنّ الشرطیّه أو المانعیّه لیست من الآثار الشرعیّه ، بل من الأُمور الانتزاعیّه (4) ، فافهم .
ص :248
وکذا لا تفاوتَ فی المستصحب أو المترتّب بین أن یکون ثبوتَ الأثر ووجودَه ، أو نفیَه وعدَمَه ؛ ضرورهَ أنّ أمْرَ نفیه بید الشارع کثبوته .
وعدم إطلاق الحکم علی عدمه غیر ضائر ؛ إذ لیس هناک ما دلّ علی اعتباره بعدَ صِدْق نقض الیقین بالشکّ برفع الید عنه ، کصدقه برفعها من طرف ثبوته ، کما هو واضح .
فلا وجه للإشکال فی الاستدلال علی البراءه باستصحاب البراءه من التکلیف ، وعدمِ المنع عن الفعل بما فی الرساله من: «أنّ عدمَ استحقاق العقاب فی الآخره لیس من اللوازم المجعوله الشرعیّه» (1) ؛ فإنّ عدم استحقاق العقوبه وإن کان غیرَ مجعول ، إلّاأ نّه لا حاجه إلی ترتیب أثر مجعول فی استصحاب عدم المنع .
وترتّب عدم الاستحقاق - مع کونه عقلیّاً - علی استصحابه ، إنّما هو لکونه لازم مطلق عدم المنع ولو فی الظاهر ، فتأمّل .
التاسع:
أ نّه لا یذهب علیک : أنّ عدم ترتّب الأثر غیر الشرعیّ ولا الشرعیّ ، بوساطه غیره من العادیّ أو العقلیّ بالاستصحاب ، إنّما هو بالنسبه إلی ما للمستصحب واقعاً ، فلا یکاد یثبت به من آثاره إلّاأثره الشرعیّ الّذی کان له بلا واسطه ، أو بوساطه أثر شرعیّ آخر - حَسَبما عرفت فی ما مرّ (2) - ، لا بالنسبه إلی ما کان للأثر الشرعیّ مطلقاً (3) ، کان بخطاب الاستصحاب ، أو
ص :249
بغیره من أنحاء الخطاب ؛ فإنّ آثاره - شرعیّه کانت أو غیرها - تترتّب علیه إذا ثبت ، ولو بأن یستصحب ، أو کان من آثار المستصحب ؛ وذلک لتحقّق موضوعها حینئذٍ حقیقهً .
فما للوجوب عقلاً یترتّب علی الوجوب الثابت شرعاً باستصحابه أو استصحاب موضوعه ، من وجوب الموافقه وحرمه المخالفه واستحقاق العقوبه ...
إلی غیر ذلک ، کما یترتّب علی الثابت بغیر الاستصحاب ، بلا شبهه ولا ارتیاب ، فلا تغفل .
العاشر:
انّه قد ظهر ممّا مرّ (1) : لزومُ أن یکون المستصحب حکماً شرعیّاً ، أو ذا حکم کذلک . لکنّه لا یخفیٰ : أ نّه لابدّ أن یکون کذلک بقاءً ، ولو لم یکن کذلک ثبوتاً . فلو لم یکن المستصحب فی زمان ثبوته حکماً ، ولا له أثر شرعاً ، وکان فی زمان استصحابه کذلک - أی : حکماً أو ذا حکم - یصحُّ استصحابه ، کما فی استصحاب عدم التکلیف ؛ فإنّه وإن لم یکن بحکم مجعول فی الأزل ولا ذاحکم ، إلّا أ نّه حکم مجعول فی ما لا یزال ؛ لما عرفت (2) من أنّ نفیه - کثبوته فی الحال - مجعول شرعاً .
وکذا استصحاب موضوعٍ لم یکن له حکم ثبوتاً ، أو کان ولم یکن حکمه (3) فعلیّاً ، وله حکم کذلک بقاءً ، وذلک لصدق نقض الیقین بالشکّ علی
ص :250
رفع الید عنه ، والعملِ کما إذا قطع بارتفاعه یقیناً ، ووضوحِ عدم دخل أثر الحاله السابقه ثبوتاً (1) فیه و (2)فی تنزیلها بقاءً .
فتوهّم اعتبار الأثر سابقاً - کما ربما یتوهّمه الغافل من اعتبار کون المستصحب حکماً أو ذا حکم - ، فاسدٌ قطعاً ، فتدبّر جیّداً .
الحادی عشر:
لا إشکال فی الاستصحاب فی ما کان الشکّ فی أصل تحقّق حکم أو موضوع .
وأمّا إذا کان الشکّ فی تقدّمه وتأخّره ، بعد القطع بتحقّقه وحدوثه فی زمانٍ:
فإن لوحظ بالإضافه إلی أجزاء الزمان ، فکذا لا إشکال فی استصحاب عدم تحقّقه فی الزمان الأوّل وترتیب آثاره ، لا آثارِ تأخّره عنه ؛ - لکونه بالنسبه إلیها مثبتاً ، إلّابدعویٰ خفاء الواسطه ، أو عدمِ التفکیک فی التنزیل بین عدم تحقّقه إلی زمانٍ ، وتأخّره عنه عرفاً ، کما لا تفکیک بینهما واقعاً - ، ولا آثارِ حدوثه فی الزمان الثانی ؛ فإنّه نحوُ وجودٍ خاصّ .
نعم ، لا بأس بترتیبها بذاک الاستصحاب ، بناءً علی أ نّه عباره عن أمرٍ مرکّب من الوجود فی الزمان اللاحق ، وعدمِ الوجود فی السابق (3) .
ص :251
وإن لوحظ بالإضافه إلی حادثٍ آخر عُلم بحدوثه أیضاً ، وشُکّ فی تقدّم ذاک علیه وتأخّره عنه ، کما إذا علم بعروض حکمین ، أو موت متوارثین ، وشکّ فی المتقدّم والمتأخّر منهما:
فإن کانا مجهولی التاریخ :
فتارهً : کان الأثر الشرعیّ لوجود أحدهما بنحوٍ خاصّ ، من التقدّم أو التأخّر أو التقارن ، لا للآخر ، ولا له بنحوٍ آخر ، فاستصحابُ عدمه جارٍ (1) بلا معارض ، بخلاف ما إذا کان الأثرُ لوجود کلٍّ منهما کذلک ، أو لکلٍّ من أنحاء وجوده ، فإنّه حینئذٍ یعارَض ، فلا مجال لاستصحاب العدم فی واحد ؛ للمعارضه باستصحاب العدم فی آخر ؛ لتحقّق أرکانه فی کلّ منهما .
هذا إذا کان الأثر المهمّ مترتّباً علی وجوده الخاصّ الّذی کان مفاد « کان » التامّه .
وأمّا إن کان مترتّباً علی ما إذا کان متّصفاً بالتقدّم ، أو بأحد ضدَّیْه الّذی کان مفاد « کان » الناقصه ، فلا مورد هاهنا للاستصحاب ؛ لعدم الیقین السابق فیه بلا ارتیاب .
وأُخری : کان الأثرُ لعدم أحدهما فی زمان الآخر ، فالتحقیق أ نّه أیضاً لیس بموردٍ للاستصحاب ، فی ما کان الأثر المهمّ مترتّباً علی ثبوته المتّصفِ (2) بالعدم فی زمان حدوث الآخر ؛ لعدم الیقین بحدوثه کذلک فی زمان ،
ص :252
بل قضیّه الاستصحاب عدم حدوثه کذلک ، کما لا یخفی (1) .
وکذا فی ما کان مترتّباً علی نفس عدمه فی زمان الآخر واقعاً ، وإن کان علی یقینٍ منه فی آنٍ قبلَ زمان الیقین بحدوث أحدهما ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان شکّه - وهو زمان حدوث الآخر - بزمان یقینه ؛ لاحتمال انفصاله عنه باتّصال حدوثه به .
وبالجمله (2)*: کان بعد ذاک الآن - الّذی قبل زمان الیقین بحدوث أحدهما - زمانان : أحدهما : زمان حدوثه ، والآخر : زمان حدوث الآخر وثبوته ، الّذی یکون ظرفاً للشکّ فی أ نّه فیه أو قبله ، وحیث شکّ فی أنّ أیّهما مقدّم وأیّهما مؤخّر ، لم یحرز اتّصال زمان الشکّ بزمان الیقین ، ومعه لا مجال للاستصحاب ؛ حیث لم یحرز معه کون رفع الید عن الیقین بعدم حدوثه بهذا الشکّ ، من نقض الیقین بالشکّ .
لا یقال: لا شبهه فی اتّصال مجموع الزمانین بذاک الآن ، وهو بتمامه زمان الشکّ فی حدوثه ؛ لاحتمال تأخّره عن الآخر . مثلاً: إذا کان علی یقینٍ من عدم
ص :253
حدوث واحد منهما فی ساعهٍ ، وصار علی یقینٍ من حدوث أحدهما بلا تعیین فی ساعهٍ أُخری بعدها ، وحدوثِ الآخر فی ساعه ثالثه ، کان زمان الشکّ فی حدوث کلّ منهما تمامَ الساعتین ، لا خصوص إحداهما ، کما لا یخفی .
فإنّه یقال: نعم ، ولکنّه إذا کان بلحاظ إضافته إلی أجزاء الزمان ، والمفروض أ نّه بلحاظ إضافته إلی الآخر ، وأ نّه حدَثَ فی زمان حدوثه وثبوته أو قبله ، ولا شبهه أنّ زمان شکّه بهذا اللحاظ إنّما هو خصوص ساعه ثبوت الآخر وحدوثه ، لا الساعتین .
فانقدح : أ نّه لا مورد هاهنا للاستصحاب ؛ لاختلال أرکانه (1) ، لا أ نّه مورُده ، وعدمَ جریانه إنّما هو بالمعارضه (2) ، کی یختصّ بما کان الأثر لعدم کلٍّ فی زمان الآخر ، وإلّا کان الاستصحاب فی ما له الأثر جاریاً .
وأمّا لو عُلِمَ بتاریخ أحدهما ، فلا یخلو أیضاً:
إمّا أن یکون الأثر المهمُّ مترتّباً علی الوجود الخاصّ ، من المقدّم أو المؤخّر أو المقارن ، فلا إشکال فی استصحاب عدمه ، لولا المعارضه باستصحاب العدم فی طرف الآخر أو طرفه ، کما تقدّم (3) .
وإمّا أن یکون مترتّباً علی ما إذا کان متّصفاً بکذا ، فلا مورد للاستصحاب أصلاً ، لا فی مجهول التاریخ ولا فی معلومه ، کما لا یخفی ؛ لعدم الیقین
ص :254
بالاتّصاف به سابقاً فیهما (1) .
وإمّا أن (2) یکون مترتّباً علی عدمه - الّذی هو مفادُ « لیس » التامّه - فی زمان الآخر ، فاستصحابُ العدم فی مجهول التاریخ منهما کان جاریاً ؛ لاتّصال زمان شکّه بزمان یقینه ، دون معلومه ؛ لانتفاء الشکّ فیه فی زمانٍ ، وإنّما الشکّ فیه بإضافه زمانه إلی الآخر ، وقد عرفت جریانه فیهما تارهً ، وعدمَ جریانه کذلک أُخری .
فانقدح : أ نّه لا فرق بینهما ، کان الحادثان مجهولی التاریخ ، أو کانا مختلفین (3) ، ولا بین مجهوله ومعلومه فی المختلفین (4) ، فی ما اعتبر فی الموضوع خصوصیّهٌ ناشئه من إضافه أحدهما إلی الآخر بحسب الزمان ، من التقدّم أو أحد ضدّیه ، وشکّ فیها ، کما لا یخفی .
الکلام فی تعاقب الحالتین المتضادّتین
کما انقدح : أ نّه لا مورد للاستصحاب أیضاً فی ما تعاقب حالتان متضادّتان - کالطهاره والنجاسه - وشکّ فی ثبوتهما وانتفائهما (5) ؛ للشکّ فی المقدّم والمؤخّر منهما ؛ وذلک لعدم إحراز الحاله السابقه المتیقّنه المتّصله
ص :255
بزمان الشکّ فی ثبوتهما ، وتردّدُها بین الحالتین ، وأ نّه لیس من تعارض الاستصحابین ، فافهم وتأمّل فی المقام ، فإنّه دقیق .
الثانی عشر:
انّه قد عرفت (1) : أنّ مورد الاستصحاب لابدّ أن یکون حکماً شرعیّاً ، أو موضوعاً لحکمٍ کذلک ، فلا إشکال فی ما کان المستصحب من الأحکام الفرعیّه ، أو الموضوعات الصرفه الخارجیّه ، أو اللغویّه ، إذا کانت ذاتَ أحکام شرعیّه .
الأُمور الاعتقادیه نوعان :
1 - ما کان الواجب فیه الاعتقاد فقط وأمّا الأُمور الاعتقادیّه الّتی کان المهمُّ فیها شرعاً هو الانقیاد والتسلیم والاعتقاد - بمعنی عقد القلب علیها - من الأعمال القلبیّه الاختیاریّه ، فکذا لا إشکالَ فی الاستصحاب فیها حکماً ، وکذا موضوعاً ، فی ما کان هناک یقین سابقٌ وشکّ لاحق ؛ لصحّه التنزیل وعمومِ الدلیل .
وکونُه أصلاً عملیّاً إنّما هو بمعنی أ نّه وظیفه الشاکّ تعبّداً ، قبالاً للأمارات الحاکیه عن الواقعیّات ، فیعمّ العملَ بالجوانح کالجوارح .
2 - ما کان الواجب فیه المعرفه والیقین وأمّا الّتی کان المهمّ فیها شرعاً وعقلاً هو القطع بها ومعرفتها ، فلا مجال له موضوعاً ، ویجری حکماً . فلو کان متیقِّناً بوجوب (2) تحصیل القطع بشیءٍ - کتفاصیل القیامه - فی زمانٍ ، وشکّ فی بقاء وجوبه ، یستصحب .
وأمّا لو شکّ فی حیاه إمام زمان - مثلاً - فلا یستصحب ، لأجل ترتیب لزوم معرفه إمام زمانه ، بل یجب تحصیل الیقین بموته أو حیاته مع إمکانه .
ص :256
ولا یکاد یُجدی فی مثل وجوب المعرفه عقلاً أو شرعاً ، إلّاإذا کان حجّهً من باب إفادته الظنّ ، وکان المورد ممّا یکتفیٰ به أیضاً .
فالاعتقادیّات (1) - کسائر الموضوعات - لابدّ فی جریانه فیها من أن یکون فی المورد أثر شرعیّ ، یتمکّن من موافقته ، مع بقاء الشکّ فیه ، کان ذاک متعلّقاً بعمل الجوارح أو الجوانح .
وقد انقدح بذلک : أ نّه لا مجال له فی نفس النّبوّه ، إذا کانت ناشئهً من کمال النفس بمثابهٍ یوحیٰ إلیها ، وکانت لازمهً لبعض مراتب کمالها ، إمّا لعدم الشکّ فیها بعد اتّصاف النفس بها ، أو لعدم کونها مجعوله ، بل من الصفات الخارجیّه التکوینیّه ، ولو فُرض الشکّ فی بقائها باحتمال انحطاط النفس عن تلک المرتبه ، وعدمِ بقائها بتلک المثابه - کما هو الشأن فی سائر الصفات والملکات الحسنه ، الحاصله بالریاضات والمجاهدات - ، وعدمِ (2) أثر شرعیّ مهمّ لها یترتّب علیها باستصحابها .
نعم ، لو کانت النبوّه من المناصب المجعوله ، وکانت کالولایه - وإن کان لابدّ فی إعطائها من أهلیّهٍ وخصوصیّهٍ یستحقّ بها لها - لکانت مورداً للاستصحاب بنفسها ، فیترتّب علیها آثارها - ولو کانت عقلیّه - بعد استصحابها ، لکنّه یحتاج هناک إلی دلیلٍ (3) غیر منوطٍ بها ، وإلّا لدار ، کما لا یخفی .
ص :257
وأمّا استصحابها ، بمعنی استصحاب بعض أحکام شریعهِ مَن اتّصف بها ، فلا إشکال فیه (1) ، کما مرّ (2) .
ثمّ لا یخفی : أنّ الاستصحاب لا یکاد یلزم به الخصم ، إلّاإذا اعترف بأ نّه علی یقینٍ فشکّ ، فی ما صحّ هناک التعبّد والتنزیل ودلّ علیه الدلیل ، کما لا یصحّ أن یقنع به إلّامع الیقین والشکّ ، والدلیلِ علی التنزیل .
ومنه انقدح : أ نّه لا موقع لتشبّث الکتابیّ باستصحاب نبوّه موسی علیه السلام أصلاً :
لا إلزاماً للمسلم ؛ لعدم الشکّ فی بقائها قائمهً بنفسه المقدّسه ، والیقینِ بنسخ شریعته ، وإلّا لم یکن بمسلم ، مع أ نّه لا یکاد یلزم به ما لم یعترف بأ نّه علی یقین وشکّ .
ولا إقناعاً مع الشکّ ؛ للزوم معرفه النبیّ بالنظر إلی حالاته ومعجزاته عقلاً (3) ، وعدمِ الدلیل علی التعبّد بشریعته ، لا عقلاً ولا شرعاً ، - والاتّکالُ علی قیامه فی شریعتنا لا یکاد یُجدیه إلّاعلی نحوٍ محال - ، ووجوب العمل بالاحتیاط عقلاً - فی حال عدم المعرفه - بمراعاه الشریعتین ، ما لم یلزم منه الاختلال ؛ للعلم بثبوت إحداهما علی الإجمال ، إلّاإذا علم بلزوم البناء علی الشریعه السابقه ما لم یعلم الحال .
ص :258
الثالث عشر:
انّه لا شبهه فی عدم جریان الاستصحاب فی مقامٍ مع دلاله مثلِ العامّ ، لکنّه ربما یقع الإشکال - والکلام فی ما إذا خُصّص فی زمانٍ - فی : أنّ المورد بعد هذا الزمان مورد الاستصحاب ، أو التمسّک بالعامّ .
والتحقیق أن یقال :
إنّ مفاد العامّ تارهً : یکون - بملاحظه الزمان - ثبوتَ حکمه لموضوعه علی نحو الاستمرار والدوام . وأُخری : علی نحوٍ جُعل کلُّ یوم من الأیّام فرداً لموضوع ذاک العامّ .
وکذلک مفاد مخصِّصه : تارهً : یکون علی نحوٍ أُخذ الزمان ظرف استمرار حکمه ودوامه . وأُخری : علی نحوٍ یکون مفرِّداً ومأخوذاً فی موضوعه .
1 - ما لو کان الزمان ظرفاً لحکم العام والخاص فإن کان مفادُ کلٍّ من العامّ والخاصّ علی النحو الأوّل ، فلا محیصَ عن استصحاب حکم الخاصّ فی غیر مورد دلالته ؛ لعدم دلالهٍ للعامّ علی حکمه ؛ لعدم دخوله علی حده فی موضوعه ، وانقطاعِ الاستمرار بالخاصّ الدالّ علی ثبوت الحکم له فی الزمان السابق ، من دون دلالته علی ثبوته فی الزمان اللاحق ، فلا مجال إلّالاستصحابه .
نعم ، لو کان الخاصُّ غیرَ قاطع لحکمه ، - کما إذا کان مخصِّصاً له من الأوّل - لَما ضرَّ به فی غیر مورد دلالته ، فیکون أوّل زمان استمرار حکمه بعدَ زمان دلالته ، فیصحّ التمسّک ب «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (1) ولو خصِّص بخیار المجلس ونحوه ، ولا یصحّ التمسّک به فی ما إذا خصّص بخیارٍ لا فی أوّله ، فافهم .
ص :259
2 - ما لو کان الزمان قیداً للموضوع فی العام والخاص وإن کان مفادهما علی النحو الثانی ، فلابدّ من التمسّک بالعامّ بلا کلام ؛ لکون موضوع الحکم - بلحاظ هذا الزمان - من أفراده ، فله الدلاله علی حکمه ، والمفروض عدم دلاله الخاصّ علی خلافه .
3 - ما لو کان الزمان ظرفاً للعام وقیداً للخاص وإن کان مفاد العامّ علی النحو الأوّل ، والخاصِّ علی النحو الثانی ، فلا مورد للاستصحاب ؛ فإنّه وإن لم یکن هناک دلاله أصلاً ، إلّاأنّ انسحاب حکم الخاصّ إلی غیر مورد دلالته ، من إسراء حکم موضوعٍ إلی آخر ، لا استصحابِ حکم الموضوع . ولا مجال أیضاً للتمسّک بالعامّ ؛ لما مرّ آنفاً (1) ، فلابدّ من الرجوع إلی سائر الأُصول .
4 - ما لو کان الزمان قیداً للعام وظرفاً للخاص وإن کان مفادهما علی العکس کان المرجع هو العامّ ؛ للاقتصار فی تخصیصه بمقدار دلاله الخاصّ . ولکنّه لولا دلالته لکان الاستصحاب مرجعاً ؛ لما عرفت من أنّ الحکم فی طرف الخاصّ قد أُخذ علی نحوٍ صحّ استصحابه .
فتأمّل تعرف أنّ إطلاق کلام شیخنا العلّامه - أعلی اللّٰه مقامه - فی المقام نفیاً وإثباتاً ، فی غیر محلّه (2) .
الرابع عشر:
المقصود من الشک فی الأخبار
الظاهر : أنّ الشکّ - فی أخبار الباب وکلمات الأصحاب - هو خلاف الیقین ، فمع الظنّ بالخلاف - فضلاً عن الظنّ بالوفاق - یجری الاستصحاب .
ص :260
ویدلّ علیه - مضافاً إلی أ نّه کذلک لغهً ، کما فی الصحاح (1) ، وتعارف استعماله فیه فی الأخبار فی غیر بابٍ - قوله علیه السلام فی أخبار الباب: «ولکن تنقضه بیقین آخر» ، حیث إنّ ظاهره أ نّه فی بیان تحدید ما ینقض به الیقین ، وأ نّه لیس إلّاالیقین .
وقوله علیه السلام أیضاً: «لا ، حتّی یستیقن أ نّه قد نام» ، بعد السؤال عنه علیه السلام عمّا إذا حُرّک فی جنبه شیءٌ وهو لا یعلم ، حیث دلّ بإطلاقه - مع ترک الاستفصال بین ما إذا أفادت هذه الأماره الظنَّ ، وما إذا لم تَفد ؛ بداهه أ نّها لولم تکن مفیده له دائماً لکانت مفیدهً له أحیاناً - علی عموم النفی لصوره الإفاده .
وقوله علیه السلام بعده: «ولا ینقض (2) الیقین بالشکّ» (3) ، أنّ (4) الحکم فی المغیّا مطلقاً هو : عدم نقض الیقین بالشکّ ، کما لا یخفی .
استدلال الشیخ علی جریان الاستصحاب مع الظن بالخلاف والجواب عنه وقد استدلّ علیه (5) أیضاً بوجهین آخرین :
الأوّل: الإجماع القطعیّ علی اعتبار الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف ، علی تقدیر اعتباره من باب الأخبار .
ص :261
وفیه: أ نّه لا وجه لدعواه ، ولو سُلّم اتّفاق الأصحاب علی الاعتبار ؛ لاحتمال أن یکون ذلک من جهه ظهور دلاله الأخبار علیه .
الثانی: « أنّ الظنّ غیر المعتبر : إن علم بعدم اعتباره بالدلیل ، فمعناه أنّ وجوده کعدمه عند الشارع ، وأنّ کلّ ما یترتّب شرعاً علی تقدیر عدمه فهو المترتّب علی تقدیر وجوده . وإن کان ممّا شکّ فی اعتباره ، فمرجع رفع الید عن الیقین بالحکم الفعلیّ السابق بسببه إلی نقض الیقین بالشکّ ، فتأمّل جیّداً » .
وفیه: أنّ قضیّه عدم اعتباره ؛ - لإلغائه أو لعدم الدلیل علی اعتباره - لا یکاد یکون إلّاعدمَ إثبات مظنونه (1) به تعبّداً لیترتّب علیه آثاره شرعاً ، لا ترتیبَ آثار الشکّ مع عدمه ، بل لابدّ حینئذٍ فی تعیین أنّ الوظیفه أیُّ أصلٍ من الأُصول العملیّه من الدلیل ، فلو فرض عدم دلاله الأخبار معه علی اعتبار الاستصحاب ، فلابدّ من الانتهاء إلی سائر الأُصول بلا شبهه ولا ارتیاب . ولعلّه اشیر إلیه (2) بالأمر بالتأمّل ، فتأمّل جیّداً .
ص :262
لا یذهب علیک: أ نّه لابدّ فی الاستصحاب من :
بقاء الموضوع .
وعدمِ أماره معتبره هناک ولو علی وفاقه .
فهنا مقامان :
أ نّه لا إشکال فی اعتبار بقاء الموضوع ، بمعنی اتّحاد القضیّه المشکوکه مع المتیقّنه موضوعاً ، کاتّحادهما حکماً ؛ ضروره أ نّه بدونه لا یکون الشکّ فی البقاء ، بل فی الحدوث ، ولا رفعُ الید عن الیقین فی محلّ الشکّ نقضَ الیقین بالشکّ . فاعتبار البقاء بهذا المعنی لا یحتاجُ إلی زیاده بیان وإقامه برهان .
والاستدلال علیه (1) باستحاله انتقال العرض إلی موضوعٍ آخر ؛ لتقوّمه بالموضوع وتشخّصه به (2) ، غریبٌ ؛ بداهه أنّ استحالته حقیقهً غیرُ مستلزم لاستحالته تعبّداً ، والالتزام بآثاره شرعاً .
وأمّا بمعنی إحراز وجود الموضوع خارجاً (3) ، فلا یعتبر قطعاً فی جریانه ؛
ص :263
لتحقّق أرکانه بدونه . نعم ، ربما یکون ممّا لابدّ منه فی ترتیب بعض الآثار ، ففی استصحاب عداله زید لا یحتاج إلی إحراز حیاته لجواز تقلیده ، وإن کان محتاجاً إلیه فی جواز الاقتداء به ، أو وجوبِ إکرامه ، أو الإنفاقِ علیه .
وإنّما الإشکال کلُّه فی : أنّ هذا الاتّحاد هل هو بنظر العرف ، أو بحسب دلیل الحکم ، أو بنظر العقل ؟
فلو کان مناط الاتّحاد هو نظر العقل ، فلا مجال للاستصحاب فی الأحکام ؛ لقیام احتمال تغیّر الموضوع فی کلّ مقامٍ شُکّ فی الحکم ، بزوال بعض خصوصیّات موضوعه ؛ لاحتمال دخله فیه ، ویختصّ بالموضوعات ؛ بداهه أ نّه إذا شکّ فی حیاه زید شکّ فی نفس ما کان علی یقینٍ منه حقیقهً .
بخلاف ما لو کان بنظر العرف ، أو بحسب لسان الدلیل ؛ ضروره أنّ انتفاء بعض الخصوصیّات وإن کان موجباً للشکّ فی بقاء الحکم ، - لاحتمال دخله فی موضوعه - ، إلّاأ نّه ربما لا یکون - بنظر العرف ولا فی لسان الدلیل - من مقوّماته :
کما أ نّه ربما لا یکون موضوع الدلیل بنظر العرف بخصوصه موضوعاً ، مثلاً: إذا ورد : العِنَبُ إذا غلی یحرُمُ ، کان العنبُ بحسب ما هو المفهوم عرفاً هو خصوص العنب ، ولکنّ العرف - بحسب ما یرتکز فی أذهانهم ، ویتخیّلونه من المناسبات بین الحکم وموضوعه - یجعلون الموضوع للحرمه ما یعمّ الزبیبَ ، ویرون العنبیّه والزبیبیّه من حالاته المتبادله ، بحیث لو لم یکن الزبیبُ محکوماً بما حکم به العنبُ ، کان عندهم من ارتفاع الحکم عن موضوعه ، ولو کان محکوماً به کان من بقائه .
ولا ضیر فی أن یکون الدلیلُ بحسب فهمهم ، علی خلاف ما ارتکز فی أذهانهم ، بسبب ما تخیّلوه من الجهات والمناسبات ، فی ما إذا لم تکن
ص :264
بمثابه تصلح قرینهً علی صرفه عمّا هو ظاهر فیه .
ولا یخفی: أنّ النقض وعدمَه حقیقهً یختلف بحسب الملحوظ من الموضوع ، فیکون نقضاً بلحاظ موضوعٍ ، ولا یکون بلحاظ موضوعٍ آخر .
فلابدّ فی تعیین أنّ المناط فی الاتّحاد هو الموضوع العرفیّ أو غیرُه ، من بیان أنّ خطاب « لا تنقض » قد سیق بأیّ لحاظ .
فالتحقیق أن یقال : إنّ قضیّه إطلاق خطاب «لا تنقض» هو أن یکون بلحاظ الموضوع العرفیّ ؛ لأنّه المنساق من الإطلاق فی المحاورات العرفیّه ، ومنها الخطابات الشرعیّه ، فما لم یکن هناک دلالهٌ علی أنّ النهی فیه بنظرٍ آخر غیرُ ما هو الملحوظ فی محاوراتهم ، لا محیص (1) عن الحمل علی أ نّه بذاک اللحاظ ، فیکون المناطُ فی بقاء الموضوع هو الاتّحاد بحسب نظر العرف ، وإن لم یحرز بحسب العقل ، أو لم یساعده النقلُ ، فیستصحب مثلاً ما ثبت بالدلیل للعنب إذا صار زبیباً ؛ لبقاء الموضوع واتّحاد القضیّتین عرفاً . ولا یستصحب فی ما لا اتّحاد کذلک ، وإن کان هناک اتّحاد عقلاً ، کما مرّت الإشاره إلیه فی القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلّیّ (2) ، فراجع .
أنّه لا شبهه فی عدم جریان الاستصحاب مع الأماره المعتبره فی مورده ، وإنّما الکلام فی أ نّه للورود ، أو الحکومه ، أو التوفیق بین دلیل اعتبارها وخطابه ؟
ص :265
والتحقیق : أ نّه للورود ؛ فإنّ رفع الید عن الیقین السابق بسبب أمارهٍ معتبرهٍ علی خلافه لیس من نقض الیقین بالشکّ ، بل بالیقین . وعدمُ رفع الید عنه مع الأماره علی وفقه لیس لأجل أن لا یلزم نقضه به ، بل من جهه لزوم العمل بالحجّه .
لا یقال: نعم ، هذا لو أُخذ بدلیل الأماره فی مورده ، ولکنّه لِمَ لا یؤخذ بدلیله ، ویلزم الأخذ بدلیلها ؟
فإنّه یقال: ذلک إنّما هو لأجل أ نّه لا محذور فی الأخذ بدلیلها ، بخلاف الأخذ بدلیله ، فإنّه یستلزم تخصیصَ دلیلها بلا مخصِّص (1) إلّاعلی وجهٍ دائر ؛ إذ التخصیص به یتوقّف علی اعتباره معها ، واعتبارُه کذلک یتوقّف علی التخصیص به ؛ إذ لولاه لا مورد له معها ، کما عرفت آنفاً .
وأمّا حدیث الحکومه (2): فلا أصل له أصلاً ؛ فإنّه لا نظَرَ لدلیلها إلی مدلول دلیله إثباتاً ، وبما هو مدلول الدلیل ، وإن کان دالّاً علی إلغائه معها ثبوتاً وواقعاً ؛ لمنافاه لزوم العمل بها مع العمل به لو کان علی خلافها ، کما أنّ قضیّه دلیله إلغاؤها کذلک ؛ فإنّ کلّاً من الدلیلین بصدد بیان ما هو الوظیفه للجاهل ، فیطرد کلّ منهما الآخرَ مع المخالفه ، هذا .
مع لزوم اعتباره معها فی صوره الموافقه ، ولا أظنّ أن یلتزم به القائل بالحکومه ، فافهم ، فإنّ المقام لا یخلو من دقّه .
وأمّا التوفیق: فإن کان بما ذکرنا فنعم الاتّفاق ، وإن کان بتخصیص دلیله بدلیلها فلا وجه له ؛ لما عرفت من أ نّه لا یکون مع الأخذ به نقضُ یقینٍ بشکّ ، لا أ نّه غیر منهیّ عنه مع کونه من نقض الیقین بالشکّ .
ص :266
لا بأس ببیان :
النسبه بین الاستصحاب وسائر الأُصول العملیّه
وبیان التعارض بین الاستصحابین :
أمّا الأوّل: فالنسبه بینه وبینها هی بعینها النسبه بین الأماره وبینه ، فیقدّم علیها ، ولا موردَ معه لها ؛ للزوم محذور التخصیص إلّابوجهٍ دائرٍ فی العکس ، وعدمِ محذورٍ فیه أصلاً ، هذا فی النقلیّه منها .
وأمّا العقلیّه: فلا یکاد یشتبه وجهُ تقدیمه علیها ؛ بداهه عدم الموضوع معه لها ؛ ضروره أ نّه إتمام حجّهٍ وبیانٌ ، ومؤمّنٌ من العقوبه وبه الأمان ، ولا شبهه فی أنّ الترجیح به عقلاً صحیح .
وأمّا الثانی: فالتعارض بین الاستصحابین :
إن کان لعدم إمکان العمل بهما ، بدون علمٍ بانتقاض الحاله السابقه فی أحدهما - کاستصحاب وجوب أمرین حَدَثَ بینهما التضادُّ فی زمان الاستصحاب - فهو من باب تزاحم الواجبین (1)* .
ص :267
وإن کان مع العلم بانتقاض (1) الحاله السابقه فی أحدهما :
فتارهً یکون المستصحب فی أحدهما من الآثار الشرعیّه لمستصحب الآخر (2) ، فیکون الشکُّ فیه مسبّباً عن الشکّ فیه ، کالشکّ فی نجاسه الثوب المغسول بماءٍ مشکوک الطهاره وقد کان طاهراً ، وأُخری لا یکون کذلک .
فإن کان أحدهما أثراً للآخر ، فلا مورد إلّاللاستصحاب فی طرف السبب ؛ فإنّ الاستصحاب فی طرف المسبّب موجبٌ لتخصیص الخطاب ، وجوازِ نقض الیقین بالشکّ فی طرف السبب بعدم ترتیب أثره الشرعیّ ، فإنّ من آثار طهاره الماء طهارهَ الثوب المغسول به ورفْعَ نجاسته ، فاستصحاب نجاسه الثوب نقضٌ للیقین بطهارته ، بخلاف استصحاب طهارته ؛ إذ لا یلزم منه نقضُ یقینٍ بنجاسه الثوب بالشکّ ، بل بالیقین بما هو رافعٌ لنجاسته ، وهو غَسله بالماء المحکوم شرعاً بطهارته .
وبالجمله: فکلّ من السبب والمسبّب وإن کان مورداً للاستصحاب ، إلّا أنّ الاستصحاب فی الأوّل بلا محذور ، بخلافه فی الثانی ، ففیه محذور التخصیص بلا وجه إلّابنحوٍ محال ، فاللازم الأخذ بالاستصحاب السببیّ (3)* .
ص :268
نعم ، لو لم یجرِ هذا الاستصحاب بوجهٍ لکان الاستصحاب المسبّبیّ جاریاً ؛ فإنّه لا محذور فیه حینئذٍ مع وجود أرکانه وعموم خطابه .
أمّا وجود المقتضی: فلإطلاق الخطاب (1) وشمولِه للاستصحاب فی أطراف المعلوم بالإجمال ؛ فإنّ قوله علیه السلام - فی ذیل بعض أخبار الباب - : «ولکن تنقض الیقین بالیقین» (2) لو سُلّم أ نّه یمنع عن شمول قوله علیه السلام - فی صدره - : «لا تنقض (3) الیقین بالشکّ» للیقین والشکّ فی أطرافه ؛ للزوم المناقضه فی مدلوله ؛ ضرورهَ المناقضه بین السلب الکلّیّ والإیجاب الجزئیّ ، إلّاأ نّه لا یمنع عن عموم النهی فی سائر الأخبار - ممّا لیس فیه الذیل - وشمولِه لما فی أطرافه ؛ فإنّ إجمال ذاک الخطاب لذلک لا یکاد یسری إلی غیره ممّا لیس فیه ذلک .
وأمّا فقد المانع: فلأجل أنّ جریان الاستصحاب فی الأطراف لا یوجب إلّا المخالفه الالتزامیّه ، وهو لیس بمحذور ، لا شرعاً ولا عقلاً .
ومنه قد انقدح : عدم جریانه فی أطراف العلم بالتکلیف فعلاً أصلاً ، ولو فی بعضها ؛ لوجوب الموافقه القطعیّه له عقلاً ، ففی جریانه لا محاله یکون محذور المخالفه القطعیّه أو الاحتمالیّه ، کما لا یخفی .
ص :270
لا یخفی : أنّ مثل قاعده التجاوز فی حال الاشتغال بالعمل ، وقاعده الفراغ بعد الفراغ عنه ، وأصاله صحّه عمل الغیر ... إلی غیر ذلک من القواعد المقرّره فی الشبهات الموضوعیّه - إلّاالقرعه - تکون مقدَّمهً علی استصحاباتها المقتضیه لفساد ما شُکّ فیه من الموضوعات ؛ لتخصیص دلیلها (1) بأدلّتها .
وکون النسبه بینه وبین بعضها عموماً من وجه ، لا یمنعُ عن تخصیصه بها بعد الإجماع علی عدم التفصیل بین مواردها ، مع لزوم قلّه المورد لها جدّاً ، لو قیل بتخصیصها بدلیلها (2) ؛ إذ قلَّ موردٌ منها لم یکن هناک استصحابٌ علی خلافها ، کما لا یخفی .
وأمّا القرعه: فالاستصحاب فی موردها یقدّم علیها ؛ لأخصّیّه دلیله من دلیلها ؛ لاعتبار سبق الحاله السابقه فیه دونها .
واختصاصُها بغیر الأحکام إجماعاً ، لا یوجب الخصوصیّه فی دلیلها بعد عموم لفظها (3) لها ، هذا .
ص :271
مضافاً إلی وَهْن دلیلها بکثره تخصیصه ، حتّی صار العمل به فی موردٍ محتاجاً إلی الجبر بعمل المعظم - کما قیل (1) - وقوّهِ دلیله بقلّه تخصیصه بخصوص دلیل .
لا یقال: کیف یجوز تخصیص دلیلها بدلیله ؟ وقد کان دلیلها رافعاً لموضوع دلیله ، لا لحکمه ، وموجباً لکون نقض الیقین بالیقین بالحجّه علی خلافه ، کما هو الحال بینه وبین أدلّه سائر الأمارات ، فیکون - هاهنا أیضاً - من دوران الأمر بین التخصیص - بلا وجهٍ غیرِ دائر - والتخصّص .
فإنّه یقال: لیس الأمر کذلک ؛ فإنّ المشکوک ممّا کانت له حاله سابقه ، وإن کان من « المشکل » و « المجهول » و « المشتبه » بعنوانه الواقعیّ ، إلّاأ نّه لیس منها بعنوان ما طرأ علیه من نقض الیقین بالشکّ ، والظاهرُ من دلیل القرعه أن یکون منها بقول مطلق ، لا فی الجمله ، فدلیلُ الاستصحاب الدالّ علی حرمه النقض - الصادق علیه حقیقهً - ، رافعٌ لموضوعه أیضاً ، فافهم .
فلا بأسَ برفع الید عن دلیلها عند دوران الأمر بینه وبین رفع الید عن دلیله ؛ لوهن عمومها (2) وقوّه عمومه ، کما أشرنا إلیه آنفاً .
والحمد للّٰه أوّلاً وآخراً ، وصلّی اللّٰه علی محمّد وآله باطناً وظاهراً .
ص :272
ص :273
ص :274
التعارض هو: تَنافی الدلیلین أو الأدلّه - بحسب الدلاله ومقام الإثبات - علی وجه التناقض أو التضادّ حقیقهً ، أو عرَضاً ، بأن عُلم بکذب أحدهما إجمالاً ، مع عدم امتناع اجتماعهما أصلاً (1) .
أو کانا علی نحوٍ إذا عُرضا علی العرف وفّق بینهما بالتصرُّف فی خصوص أحدهما ، کما هو مطّردٌ فی مثل الأدلّه المتکفّله لبیان (1) أحکام الموضوعات بعناوینها الأوّلیّه ، مع مثل الأدلّه النافیه للعسر والحرج والضرر والإکراه والاضطرار ، ممّا یتکفّل لأحکامها (2) بعناوینها الثانویّه ؛ حیث یقدّم فی مثلهما الأدلّه النافیه ، ولا تلاحظ النسبه بینهما أصلاً (3) ، ویتّفق فی غیرهما ، کما لا یخفی .
أو بالتصرّف فیهما ، فیکون مجموعهما قرینه علی التصرّف فیهما ، أو فی أحدهما المعیّن ولو کان من الآخر أظهر (4) .
ولذلک تُقدّم الأمارات المعتبره علی الأُصول الشرعیّه ؛ فإنّه لا یکاد یتحیّر أهل العرف فی تقدیمها علیها بعد ملاحظتهما ، حیث لا یلزم منه محذورُ تخصیصٍ أصلاً . بخلاف العکس ، فإنّه یلزم منه (5) محذور التخصیص بلا وجهٍ ، أو بوجهٍ دائر ، کما أشرنا إلیه فی أواخر الاستصحاب (6) .
ص :276
ولیس وجه تقدیمها حکومَتها علی أدلّتها ؛ لعدم کونها ناظرهً إلی أدلّتها بوجهٍ (1) .
وتعرُّضها لبیان حکم موردها (2) لا یوجب کونَها ناظرهً إلی أدلّتها وشارحهً لها ، وإلّا کانت أدلّتُها أیضاً دالّهً - ولو (3) بالالتزام - علی أنّ حکم مورد الاجتماع فعلاً هو مقتضی الأصل لا الأماره ، وهو مستلزم عقلاً نفیَ ما هو قضیّه الأماره ، بل (4) لیس مقتضیٰ حجّیّتها إلّانفیَ ما قضیّته عقلاً من دون دلاله علیه لفظاً ؛ ضروره أنّ نفس الأماره لا دلاله لها (5) إلّاعلی الحکم الواقعیّ ، وقضیّهُ حجّیّتها لیست إلّالزومَ العمل علی وفقها شرعاً ، المنافی عقلاً للزوم العمل علی خلافه (6) ، وهو قضیّه الأصل ، هذا .
ص :277
مع احتمال أن یقال: إنّه لیس قضیّه الحجّیّه شرعاً إلّالزومَ العمل علی وِفْق الحجّه عقلاً ، وتنجُّز الواقع مع المصادفه ، وعدم تنجّزه فی صوره المخالفه .
وکیف کان (1) ، لیس مفاد دلیل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبّداً (2) کی یختلفَ الحال ، ویکونَ مفاده فی الأماره نفیَ حکم الأصل ، حیث إنّه حکم الاحتمال (3) ؛ بخلاف مفاده فیه ؛ لأجل أنّ الحکمَ الواقعیّ لیس حکم احتمال خلافه ، کیف ؟ وهو حکم الشکّ فیه واحتمالِه .
فافهم وتأمّل جیّداً .
فانقدح بذلک : أ نّه لا یکاد ترتفع غائله المطارده والمعارضه بین الأصل والأماره إلّابما أشرنا سابقاً وآنفاً (4) ، فلا تغفل . هذا .
ولا تعارُضَ أیضاً إذا کان أحدهما قرینهً علی التصرّف فی الآخر ، کما فی الظاهر مع النصّ أو الأظهر ، مثل العامّ والخاصّ والمطلق والمقیّد ، أو مثلهما ممّا
ص :278
کان أحدهما نصّاً أو أظهر ؛ حیث إنّ بناء العرف علی کون النصّ أو الأظهر قرینهً علی التصرّف فی الآخر .
وبالجمله: الأدلّه فی هذه الصور وإن کانت متنافیه بحسب مدلولاتها ، إلّا أ نّها غیر متعارضه ؛ لعدم تنافیها فی الدلاله وفی مقام الإثبات ، بحیث تبقی أبناءُ المحاوره متحیّرهً ، بل (1) بملاحظه المجموع أو خصوص بعضها ، یتصرّف فی الجمیع أو فی البعض عرفاً ، بما ترتفع به المنافاه الّتی تکون فی البین .
ولا فرق فیها (2) بین أن یکون السند فیها قطعیّاً ، أو ظنّیّاً ، أو مختلفاً ، فیقدّم النصّ أو الأظهر - وإن کان بحسب السند ظنّیّاً - علی الظاهر ، ولو کان بحسبه قطعیّاً .
وإنّما یکون التعارض فی غیر هذه الصور ، ممّا کان التنافی فیه بین الأدلّه بحسب الدلاله ومرحله الإثبات .
وإنّما یکون التعارض بحسب السند (3) ، فی ما إذا کان کلّ واحد منها قطعیّاً دلالهً وجههً ، أو ظنّیّاً فی ما إذا لم یمکن (4) التوفیق بینها ، بالتصرّف
ص :279
فی البعض أو الکلّ ؛ فإنّه حینئذٍ لا معنی للتعبّد بالسند فی الکلّ ؛ إمّا للعلم بکذب أحدهما (1) ، أو لأجل أ نّه لا معنی للتعبّد بصدورها مع إجمالها (2) ، فیقع التعارض بین أدلّه السند حینئذٍ ، کما لا یخفی .
التعارض وإن کان لا یوجب إلّاسقوطَ أحد المتعارضین عن الحجّیّه رأساً ؛ - حیث لا یوجب إلّاالعلم بکذب أحدهما ، فلا یکون هناک مانع عن حجّیّه الآخر (3) - ، إلّاأ نّه حیث کان بلا تعیین ولا عنوان واقعاً ، - فإنّه لم یعلم کذبه إلّاکذلک ، واحتمال کون کلّ منهما کاذباً (4) - ، لم یکن واحدٌ منهما بحجّه فی
ص :280
خصوص مؤدّاه ؛ لعدم التعیّن (1) فی الحجّه أصلاً (2) ، کما لا یخفیٰ .
نعم ، یکون نفی الثالث بأحدهما ؛ لبقائه علی الحجّیّه وصلاحیّتِه - علی ما هو علیه من عدم التعیّن (3) - لذلک ، لا بهما (4) .
هذا بناءً علی حجّیّه الأمارات من باب الطریقیّه - کما هو کذلک - ؛ حیث لا یکاد یکون حجّه طریقاً إلّاما احتمل إصابته ، فلا محاله کان العلم بکذب أحدهما مانعاً عن حجّیّته (5) .
وأمّا بناءً علی حجّیّتها من باب السببیّه ، فکذلک لو کان الحجّه هو خصوص ما لم یُعلم کذبه (6) ، بأن لا یکون المقتضی للسببیّه فیها إلّافیه ، کما هو المتیقّن من دلیل اعتبار غیر السند منها ، وهو بناء العقلاء علی أصالتی الظهور والصدور ، لا للتقیّه ونحوها ؛ وکذا السند ، لو کان دلیل اعتباره هو
ص :281
بناؤهم أیضاً ، وظهورُه (1) فیه لو کان هو الآیات والأخبار ؛ ضروره ظهورها فیه (2) ، لو لم نقل بظهورها فی خصوص ما إذا حصل الظنّ منه أو الاطمئنان .
وأمّا لو کان المقتضی للحجّیّه فی کلّ واحدٍ من المتعارضین ، لکان التعارض بینهما من تزاحم الواجبین (3) ، فی ما إذا کانا مؤدّیین إلی وجوب الضدّین ، أو لزوم المتناقضین ، لا فی ما إذا کان مؤدّیٰ أحدهما حکماً غیرَ إلزامیّ ، فإنّه حینئذٍ لا یزاحم الآخر ؛ ضروره عدم صلاحیّه ما لا اقتضاء فیه أن یزاحَم به ما فیه الاقتضاء .
إلّاأن یقال : بأنّ قضیّه اعتبار دلیلِ غیر الإلزامیّ أن یکون عن اقتضاءٍ ، فیزاحَم به حینئذٍ ما یقتضی الإلزامیّ ، ویحکم فعلاً بغیر الإلزامیّ ، ولا یزاحَم بمقتضیه (4) ما یقتضی غیر الإلزامیّ ؛ لکفایه عدم تمامیّه علّه الإلزامیّ فی الحکم بغیره .
ص :282
نعم ، یکون باب التعارض من باب التزاحم مطلقاً ، لو کان قضیّه الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام بما یؤدّی إلیه من الأحکام ، لا مجرّد العمل علی وفقه بلا لزوم الالتزام به .
وکونهما من تزاحم الواجبین حینئذٍ وإن کان واضحاً ؛ - ضروره عدم إمکان الالتزام بحکمین فی موضوعٍ واحد من الأحکام - ، إلّاأ نّه لا دلیل - نقلاً ولا عقلاً - علی الموافقه الالتزامیّه للأحکام الواقعیّه ، فضلاً عن الظاهریّه ، کما مرّ تحقیقه (1) .
وحکم التعارض بناءً علی السببیّه - فی ما کان من باب التزاحم - هو التخییر ، لو لم یکن أحدُهما معلومَ الأهمّیّه أو محتملَها فی الجمله ، - حَسبما فصّلناه فی مسأله الضدّ (2) - ، وإلّا فالتعیین .
وفی ما لم یکن من باب التزاحم هو لزوم الأخذ بما دلّ علی الحکم الإلزامیّ ، لو لم یکن فی الآخر مقتضیاً (3) لغیر الإلزامیّ ، وإلّا فلا بأس بأخذه والعمل علیه ؛ لما أشرنا إلیه - من وجهه - آنفاً ، فافهم .
«أنّ الجمع مهما أمکن أولی من الطرح» ؛ إذ لا دلیل علیه فی ما لا یساعد علیه العرف ، ممّا (1) کان المجموع أو أحدهما قرینهً عرفیّهً علی التصرّف فی أحدهما بعینه أو فیهما ، کما عرفته فی الصور السابقه .
مع أنّ فی الجمع کذلک أیضاً طرحاً للأماره أو الأمارتین ؛ ضروره سقوط أصاله الظهور فی أحدهما أو کلیهما معه .
وقد عرفت (2) : أنّ التعارض بین الظهورین فی ما کان سنداهما قطعیّین ، وفی السندین إذا کانا ظنّیین .
وقد عرفت (3) : أنّ قضیّه التعارض إنّما هو سقوط المتعارضین فی خصوص کلّ ما یؤدّیان إلیه من الحکمین ، لا بقاؤهما علی الحجّیّه بما یتصرّف فیهما أو فی أحدهما ، أو بقاءُ سندَیْهما علیها کذلک ، بلا دلیلٍ یساعد علیه من عقل أو نقل .
ولا یخفی : أنّ اللازمَ فی ما إذا لم تنهض حجّهٌ علی التعیین أو التخییر بینهما ، هو الاقتصار علی الراجح منهما ؛ للقطع بحجّیّته - تخییراً أو تعییناً - ، بخلاف الآخر ؛ لعدم القطع بحجّیّته ، والأصل عدم حجّیّه ما لم یقطع بحجّیّته ، بل ربما ادّعی الإجماع (3) أیضاً علی حجّیّه خصوص الراجح (4) .
واستدلّ علیه بوجوه أُخر ، أحسنُها الأخبار .
وهی (5) علی طوائف:
ص :285
منها: ما دلّ علی التخییر علی الإطلاق .
کخبر الحسن بن الجهم عن الرضا علیه السلام ، قلت: یجیئنا الرجلان - وکلاهما ثقه - بحدیثین مختلفین ، ولا یُعلم (1) أیّهما الحقّ ؟ قال: « فإذا لم یُعلم (2) فموسّعٌ علیک بأیّهما أخذتَ » (3) .
وخبر الحارث بن المغیره عن أبی عبد اللّٰه علیه السلام : «إذا سمعتَ من أصحابک الحدیث وکلّهم ثقهٌ ، فموسّع علیک حتّی تری القائم فتردَّ علیه (4)» (5) .
ومکاتبه عبد اللّٰه بن محمّد إلی أبی الحسن علیه السلام : اختلف أصحابنا فی روایاتهم عن أبی عبد اللّٰه علیه السلام فی رکعتی الفجر ، فروی بعضُهم: صلّ (6) فی المحمِل ، وروی بعضهُم: لا تصلّها (7) إلّاعلی الأرض (8) ، فوقّع علیه السلام : «موسّعٌ علیک بأیّهٍ عملتَ» (9) .
ص :286
ومکاتبه الحمیری إلی الحجّه علیه السلام ... . إلی أن قال فی الجواب عن ذلک حدیثان ... . إلی أن قال علیه السلام : «وبأیّهما أخذتَ من باب التسلیم کان صواباً» (1) ... إلی غیر ذلک من الإطلاقات (2) .
ومنها: ما دلّ علی التوقّف مطلقاً (3) .
ومنها: ما دلّ علی الأخذ بما هو (4) الحائط منها (5) .
ومنها: ما دلّ علی الترجیح بمزایا مخصوصه ومرجّحات منصوصه - من مخالفه القوم ، وموافقه الکتاب والسنّه ، والأعدلیّه ، والأصدقیّه ، والأفقهیّه ، والأورعیّه ، والأوثقیّه ، والشهره - ، علی اختلافها فی الاقتصار علی بعضها ، وفی الترتیب بینها (6) .
ص :287
ولأجل اختلاف الأخبار ، اختلفت الأنظار :
فمنهم من أوجب الترجیح بها ، مقیّدین بأخباره إطلاقاتِ التخییر .
وهم بین من اقتصر علی الترجیح بها (1) ، ومَنْ تعدّی منها إلی سائر المزایا (2) ، الموجبه لأقوائیّه ذی المزیّه وأقربیّته - کما صار إلیه شیخنا العلّامه (3) ( أعلی اللّٰه مقامه ) - ، أو المفیدهِ للظنّ ، کما ربّما یظهر من غیره (4) .
فالتحقیق أن یقال: إنّ أجْمَعَ خبرٍ للمزایا المنصوصه فی الأخبار هو المقبوله والمرفوعه ، مع اختلافهما وضعْفِ سند المرفوعه جدّاً (5) .
والاحتجاج بهما (6) علی وجوب الترجیح فی مقام الفتوی لا یخلو عن إشکال ؛ لقوّه احتمال اختصاص الترجیح بها بمورد الحکومه ، لرفع المنازعه وفصل الخصومه ، کما هو موردهما (7) ، ولا وجهَ معه للتعدّی منه إلی غیره ، کما لا یخفی .
ص :288
ولا وجهَ لدعوی تنقیح المناط ، مع ملاحظه أنّ رفع الخصومه بالحکومه فی صوره تعارض الحَکَمین ، وتعارضِ ما استندا (1) إلیه من الروایتین ، لا یکاد یکونُ إلّابالترجیح ، ولذا أمر علیه السلام بإرجاء الواقعه إلی لقائه علیه السلام فی صوره تساویهما فی ما ذُکِر من المزایا ، بخلاف مقام الفتوی .
ومجرّد مناسبه الترجیح لمقامها أیضاً ، لا یوجب ظهور الروایه فی وجوبه مطلقاً ، ولو فی غیر مورد الحکومه ، کما لا یخفی .
وإن أبیتَ إلا عن ظهورهما فی الترجیح فی کلا المقامین ، فلا مجال لتقیید إطلاقات التخییر فی مثل زماننا - ممّا لا یتمکّن من لقاء الإمام علیه السلام - بهما ؛ لقصور المرفوعه سنداً ، وقصور المقبوله دلالهً ؛ لاختصاصها بزمان التمکّن من لقائه علیه السلام ، ولذا ما أرجع إلی التخییر بعد فقْد الترجیح .
مع أنّ تقییدَ الإطلاقات الوارده فی مقام الجواب عن سؤال حُکم المتعارضین - بلا استفصال عن کونهما متعادلین أو متفاضلین ، مع ندره کونهما متساویین جدّاً - بعیدٌ قطعاً ، بحیث لو لم یکن ظهورُ المقبوله فی ذاک الاختصاص لَوَجب حَمْلُها علیه ، أو علی ما لا ینافیها من الحمل علی الاستحباب - کما فعله بعض الأصحاب (2) - . ویشهد به الاختلاف الکثیر بین ما دلّ علی الترجیح من الأخبار (2) .
ص :289
ومنه قد انقدح حال سائر أخباره .
مع أنّ فی کون أخبار موافقه الکتاب ، أو مخالفه القوم من أخبار الباب نظراً ، وجهُهُ : قوّهُ احتمال أن یکون الخبر المخالف للکتاب فی نفسه غیرَ حجّه ؛ بشهاده ما ورد : فی أ نّه زخرف (1) ، وباطل ، ولیس بشیءٍ (2) ، أو أ نّه لم نقله (3) ، أو أُمر بطرحه علی الجدار (4) . وکذا الخبر الموافق للقوم ؛ ضروره أنّ أصاله عدم صدوره تقیّهً - بملاحظه الخبر المخالف لهم ، مع الوثوق بصدوره لولا القطع به - غیرُ جاریه ؛ للوثوق حینئذٍ بصدوره کذلک . وکذا الصدور أو الظهور فی الخبر المخالف للکتاب یکونُ موهوناً ، بحیث لا یعمّه أدلّه اعتبار السند ، ولا الظهور ، کما لا یخفی .
فتکون هذه الأخبار فی مقام تمییز الحجّه عن اللاحجّه ، لا ترجیحِ الحجّه علی الحجّه ، فافهم .
وإن أبیتَ عن ذلک ، فلا محیصَ عن حملها - توفیقاً بینها وبین
ص :290
الإطلاقات - إمّا علی ذلک ، أو علی الاستحباب ، کما أشرنا إلیه آنفاً (1) ، هذا .
ثمّ إنّه لولا التوفیق بذلک لَلَزم التقیید أیضاً فی أخبار المرجّحات ، وهی آبیه عنه ، کیف یمکن تقیید مثل : «ما خالف قول ربّنا لم أقله » أو : « زخرف » أو « باطل » ؟! کما لا یخفی .
فتلخّص ممّا ذکرنا: أنّ إطلاقات التخییر محکَّمه ، ولیس فی الأخبار ما یصلح لتقییدها .
نعم ، قد استدلّ علی تقییدها - ووجوبِ الترجیح فی المتفاضلین - بوجوه أُخر:
منها: دعوی الإجماع علی الأخذ بأقوی الدلیلین (2) .
وفیه: أنّ دعوی الإجماع - مع مصیر مثل الکلینیّ إلی التخییر ، وهو فی عهد الغیبه الصغری ، ویخالط النوّاب والسفراء ، قال فی دیباجه الکافی :
«ولا نجد شیئاً أوسع ولا أحوط من التخییر» (3) - مجازفهٌ .
ص :291
ومنها: أ نّه لو لم یجب ترجیح ذی المزیّه لزم ترجیح المرجوح علی الراجح ، وهو قبیح عقلاً ، بل ممتنع قطعاً (1) .
وفیه: أ نّه إنّما یجب الترجیح لو کانت المزیّه موجبه لتأکّدُ ملاک الحجّیّه فی نظر الشارع ؛ ضرورهَ إمکان أن تکون تلک المزیّه بالإضافه إلی ملاکها ، من قبیل الحَجَر فی جنب الإنسان ، وکان (2) الترجیح بها بلا مرجّح ، وهو قبیح ، کما هو واضح ، هذا .
مضافاً إلی ما هو فی الإضراب من الحکم بالقبح إلی الامتناع ، من أنّ الترجیح بلا مرجّح فی الأفعال الاختیاریّه - ومنها الأحکام الشرعیّه - لا یکون إلّا قبیحاً (3) ، ولا یستحیل وقوعه إلّاعلی الحکیم - تعالی - ، وإلّا فهو بمکانٍ
ص :292
من الإمکان ؛ لکفایه إراده المختار علّه لفعله ، وإنّما الممتنع هو وجود الممکن بلا علّه ، فلا استحاله فی ترجیحه - تعالی - للمرجوح ، إلّامن باب امتناع صدوره منه - تعالی - ، وأمّا غیره فلا استحاله فی ترجیحه لما هو المرجوح ممّا (1) باختیاره .
وبالجمله: الترجیح بلا مرجّح بمعنی : «بلا علّه» محالٌ ، وبمعنی : «بلا داعٍ عقلائیّ» قبیحٌ لیس بمحال ، فلا تشتبه .
ومنها: غیر ذلک (2) ممّا لا یکاد یفید الظنّ ، فالصفح عنه أولیٰ وأحسن .
ثمّ إنّه لا إشکال فی الإفتاء بما اختاره من الخبرین ، فی عمل نفسه وعمل مقلِّدیه .
ولا وجه للإفتاء بالتخییر فی المسأله الفرعیّه ؛ لعدم الدلیل علیه فیها .
نعم ، له الإفتاء به فی المسأله الاُصولیّه ، فلا بأس حینئذٍ باختیار المقلِّد غیرَ ما اختاره المفتی ، فیعمل بما یَفهم منه ، بصریحه أو بظهوره الّذی لا شبهه فیه .
وهل التخییر بدویّ أم استمراریّ ؟
قضیّه الاستصحاب - لولم نقل بأ نّه قضیّه الإطلاقات أیضاً - کونهُ استمراریّاً .
ص :293
وتوهُّمُ : أنّ المتحیّر کان محکوماً بالتخییر ، ولا تحیُّر له بعد الاختیار ، فلا یکون الإطلاق ولا الاستصحاب مقتضیاً للاستمرار ؛ لاختلاف الموضوع فیهما (1).
فاسدٌ ؛ فإنّ التحیّر بمعنیٰ تعارض الخبرین باقٍ علی حاله ، وبمعنی آخر ، لم یقع فی خطابٍ موضوعاً للتخییر أصلاً ، کما لا یخفی .
هل علی القول بالترجیح یُقتصر فیه علی المرجّحات المخصوصه المنصوصه ، أو یتعدّی إلی غیرها ؟
قیل : بالتعدّی (2) ؛ لما فی الترجیح بمثل الأصدقیّه والأوثقیّه ونحوهما ، ممّا فیه (3) من الدلاله علی أنّ المناط فی الترجیح بها ، هو کونها موجبهً للأقربیّه إلی الواقع .
ولما فی التعلیل ب : « أنّ المشهور ممّا لا ریب فیه » من استظهار أنّ العلّه هو : عدم الریب فیه ، بالإضافه إلی الخبر الآخر ، ولو کان فیه ألف ریب .
ص :294
ولما فی التعلیل بأنّ الرشد فی خلافهم (1) .
ولا یخفی ما فی الاستدلال بها:
أمّا الأوّل: فلأنّ (2) جعل خصوص شیءٍ فیه جهه الإراءه والطریقیّه حجّهً أو مرجِّحاً ، لا دلاله فیه علی أنّ الملاک فیه بتمامه جهه إراءته ، بل لا إشعار فیه کما لا یخفی ؛ لاحتمال (3) دخل خصوصیّته فی مرجِّحیّته أو حجّیّته ، لا سیّما قد ذکر فیها ما لا یحتمل الترجیح به إلّاتعبّداً ، فافهم .
وأمّا الثانی: فلتوقّفه علی عدم کون الروایه المشهوره فی نفسها ممّا لا ریب فیها ، مع أنّ الشهره فی الصدر الأوّل بین الرواه وأصحاب الأئمّه علیهم السلام موجبهٌ لکون الروایه ممّا یُطمأنّ بصدورها ، بحیث یصحّ أن یقال عرفاً: إنّها ممّا لا ریب فیها ، کما لا یخفی .
ولا بأس بالتعدّی منه إلی مثله (4) ، ممّا یوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور ، لا إلی کلّ مزیّه ولولم توجب إلّاأقربیّه ذی المزیّه إلی الواقع ، من المعارض الفاقد لها .
ص :295
وأمّا الثالث: فلاحتمال أن یکون الرشد فی نفس المخالفه ؛ لحسنها .
ولو سُلّم أ نّه لغلبه الحقّ فی طرف الخبر المخالف ، فلا شبهه فی حصول الوثوق بأنّ الخبر الموافق المعارَض بالمخالف لا یخلو من الخلل صدوراً ، أو جههً ، ولا بأس بالتعدّی منه إلی مثله ، کما مرّ آنِفاً .
ومنه انقدح حال ما إذا کان التعلیل لأجل انفتاح باب التقیّه فیه ؛ ضرورهَ کمال الوثوق بصدوره کذلک ، مع الوثوق بصدورهما - لولا القطعُ به - فی الصدر الأوّل ؛ لقلّه الوسائط ومعرفتها ، هذا .
مع ما فی عدم بیان الإمام علیه السلام للکلّیّه ، کی لا یحتاج السائل إلی إعاده السؤال مراراً ، وما فی أمره علیه السلام بالإرجاء - بعد فرض التساوی فی ما ذکره من المزایا المنصوصه - من الظهور فی أنّ المدار فی الترجیح علی المزایا المخصوصه ، کما لا یخفی .
ثمّ إنّه (1) بناءً علی التعدّی ، حیث کان فی المزایا المنصوصه ما لا یوجب الظنّ بذی المزیّه ، ولا أقربیّتَه - کبعض صفات الراوی ، مثل الأورعیّه أو الأفقهیّه ، إذا کان موجِبهما ممّا لایوجب الظنّ أو الأقربیّه ، کالتورّع من الشبهات ، والجهد فی العبادات ، وکثرهِ التتبّع فی المسائل الفقهیّه ، أو المهاره فی القواعد الاُصولیّه - فلا وجه للاقتصار علی التعدّی إلی خصوص ما یوجب
ص :296
الظنّ أو الأقربیّه ، بل إلی کلّ مزیّه ، ولولم تکن بموجبه لأحدهما ، کما لا یخفی .
وتوهّم: أنّ ما یوجب الظنّ بصدق أحد الخبرین لا یکون بمرجِّح ، بل موجبٌ لسقوط الآخر عن الحجّیّه ؛ للظنّ بکذبه حینئذٍ (1) .
فاسدٌ ؛ فإنّ الظنّ بالکذب لا یضرُّ بحجّیّه ما اعتبر من باب الظنّ نوعاً ، وإنّما یضرّ فی ما أُخذ فی اعتباره عدمُ الظنّ بخلافه ، ولم یؤخذ فی اعتبار الأخبار - صدوراً ولا ظهوراً ولا جههً - ذلک ، هذا .
مضافاً إلی اختصاص حصول الظنّ بالکذب بما إذا علم بکذب أحدهما صدوراً ، وإلّا فلا یوجب الظنّ بصدور أحدهما ؛ لإمکان صدورهما مع عدم إراده الظهور فی أحدهما أو فیهما ، أو إرادتهِ تقیّهً ، کما لا یخفی .
نعم ، لو کان وجه التعدّی اندراجَ ذی المزیّه فی أقوی الدلیلین ، لَوَجب الاقتصار علی ما یوجب القُوّه فی دلیلیّته ، وفی جهه إثباته وطریقیّته ، من دون التعدّی إلی ما لا یوجب ذلک ، وإن کان موجباً لقوّه مضمون ذیه ثبوتاً ، کالشهره الفتوائیّه أو الأولویّه الظنّیّه ونحوهما ؛ فإنّ المنساق من قاعده :
أقوی الدلیلین ، - أو المتیقّن منها - ، إنّما هو الأقویٰ دلالهً (2) ، کما لا یخفی ، فافهم .
ص :297
قد عرفت سابقاً (1) : أ نّه لا تعارض فی موارد الجمع والتوفیق العرفیّ ، ولا یعمّها ما یقتضیه الأصل فی المتعارضین ، من سقوط أحدهما رأساً ، وسقوط کلّ منهما ، فی خصوص مضمونه کما إذا لم یکونا فی البین ؛ فهل التخییر أو
الترجیح یختصّ أیضاً بغیر مواردها (2) أو یعمّها ؟ قولان :
أوّلهما المشهور (3) ، وقصاری ما یقال فی وجهه (4): أنّ الظاهر من الأخبار العلاجیّه - سؤالاً وجواباً - هو التخییر أو الترجیح فی موارد التحیّر ، ممّا لا یکاد یستفاد المراد هناک عرفاً ، لا فی ما یستفاد ولو بالتوفیق ، فإنّه من أنحاء طُرُق الاستفاده عند أبناء المحاوره .
ویشکل : بأنّ مساعده العرف علی الجمع والتوفیق ، وارتکازَه فی أذهانهم علی وجه وثیق ، لا یوجب اختصاص السؤالات بغیر موارد الجمع ؛ لصحّه السؤال بملاحظه التحیّر فی الحال ، لأجل ما یتراءی من المعارضه ، وإن کان یزول عرفاً بحسب المآل ، أو للتحیّر فی الحکم واقعاً ، وإن لم یتحیّر فیه ظاهراً ، وهو کافٍ فی صحّته قطعاً .
ص :298
مع إمکان أن یکون لاحتمال الردع شرعاً عن هذه الطریقه المتعارفه بین أبناء المحاوره ، وجلُّ العناوین المأخوذه فی الأسئله (1) - لولا کلّها - یعمّها ، کما لا یخفی .
ودعوی: أنّ المتیقّن منها غیرها ، مجازفهٌ ، غایته أ نّه کان کذلک خارجاً ، لا بحسب مقام التخاطب .
وبذلک ینقدح وجه القول الثانی .
اللهمّ إلّاأن یقال: إنّ التوفیق فی مثل الخاصّ والعامّ ، والمقیّد والمطلق ، کان علیه السیره القطعیّه من لدن زمان الأئمّه علیهم السلام ، وهی کاشفه - إجمالاً - عمّا یوجب تخصیص أخبار العلاج بغیر موارد التوفیق العرفیّ ، لولا دعوی اختصاصها به ، وأ نّها - سؤالاً وجواباً - بصدد الاستعلاج والعلاج فی موارد التحیّر والاحتیاج ، أو دعوی الإجمال ، وتساوی احتمال العموم مع احتمال الاختصاص .
ولا ینافیها (2) مجرّد صحّه السؤال لما (3) لا ینافی العموم ما لم یکن هناک ظهورُ أ نّه لذلک (4) .
ص :299
فلم یثبت بأخبار العلاج ردعٌ عمّا هو (1) علیه بناء العقلاء وسیره العلماء ، من التوفیق ، وحملِ الظاهر علی الأظهر ، والتصرّفِ فی ما یکون صدورهما قرینهً علیه ، فتأمّل .
قد عرفت (2) حکم تعارض الظاهر والأظهر ، وحمْلَ الأوّل علی الآخر ، فلا إشکال فی ما إذا ظهر أنّ أیّهما ظاهر وأیّهما أظهر .
وقد ذُکر فی ما اشتبه الحال لتمییز ذلک ما لا عبره به أصلاً ، فلا بأس بالإشاره إلی جملهٍ منها وبیانِ ضعفها:
منها: ما قیل (3) فی ترجیح ظهور العموم علی الإطلاق ، وتقدیمِ التقیید علی التخصیص - فی ما دار الأمر بینهما - من : کون ظهور العامّ فی العموم تنجیزیّاً ، بخلاف ظهور المطلق فی الإطلاق ، فإنّه معلّقٌ علی عدم البیان ، والعامّ یصلح بیاناً ، فتقدیم العامّ حینئذٍ لعدم تمامیّه مقتضی الإطلاق معه ، بخلاف العکس ، فإنّه موجب لتخصیصه بلا وجهٍ إلّاعلی نحو دائر ؛ ومن : أنّ التقیید أغلبُ من التخصیص .
ص :300
وفیه: أنّ عدم البیان - الّذی هو جزء المقتضی فی مقدّمات الحکمه - إنّما هو عدم البیان فی مقام التخاطب ، لا إلی الأبد .
وأغلبیّهُ التقیید مع کثره التخصیص - بمثابه قد قیل: «ما من عامّ إلّاوقد خصّ» - غیرُ مفید (1) ؛ فلا بدّ فی کلّ قضیّه من ملاحظه خصوصیّاتها الموجبه لأظهریّه أحدهما من الآخر ، فتدبّر .
ومنها: ما قیل (2) فی ما إذا دار بین التخصیص والنسخ - کما إذا ورد عامّ بعدَ حضور وقت العمل بالخاصّ ، حیث یدور بین أن یکون الخاصّ مخصِّصاً ، أو یکون العامّ ناسخاً ؛ أو ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، حیث یدور بین أن یکون الخاصّ مخصِّصاً للعامّ ، أو ناسخاً له ورافعاً لاستمراره ودوامه - فی وجه تقدیم التخصیص علی النسخ من : غلبه التخصیص وندره النسخ .
ولا یخفی: أنّ دلاله الخاصّ أو العامّ علی الاستمرار والدوام إنّما هو بالإطلاق ، لا بالوضع ، فعلی الوجه العقلیّ فی تقدیم التقیید علی التخصیص ، کان اللازم فی هذا الدوران تقدیم النسخ علی التخصیص أیضاً .
وأنّ غلبه التخصیص إنّما توجب أقوائیّهَ ظهور الکلام فی الاستمرار والدوام من ظهور العامّ فی العموم ، إذا کانت مرتکزهً فی أذهان أهل المحاوره ، بمثابهٍ تُعدُّ من القرائن المکتنفه بالکلام ، وإلّا فهی وإن کانت مفیدهً للظنّ بالتخصیص ، إلّاأ نّها غیر موجبه لها (3) ، کما لا یخفی .
ص :301
ثمّ إنّه بناءً علی اعتبار عدم حضور وقت العمل فی التخصیص - لئلّا یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجه - یُشکل الأمرُ فی تخصیص الکتاب أو السنّه بالخصوصات الصادره عن الأئمّه علیهم السلام ؛ فإنّها صادره بعد حضور وقت العمل بعموماتهما ، والتزامُ نسخهما (1) بها - ولو قیل بجواز نسخهما بالروایه عنهم علیهم السلام - کما تری .
فلا محیصَ فی حلّه من أن یقال: إنّ اعتبار ذلک حیث کان لأجل قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجه - وکان من الواضح أنّ ذلک فی ما إذا لم یکن هناک مصلحهٌ فی إخفاء الخصوصات ، أو مفسدهٌ فی إبدائها ، کإخفاء غیر واحد من التکالیف فی الصدر الأوّل - ، لم یکن بأس بتخصیص عموماتهما بها ، واستکشافِ أنّ موردها کان خارجاً عن حکم العامّ واقعاً ، وإن کان داخلاً فیه ظاهراً .
ولأجله لا بأس بالالتزام بالنسخ ، بمعنی رفع الید بها عن ظهور تلک العمومات - بإطلاقها - فی الاستمرار والدوام أیضاً (2) ، فتفطّن .
ص :302
لا إشکال فی تعیین الأظهر - لوکان فی البین - إذا کان التعارض بین الاثنین . وأمّا إذا کان بین الزائد علیهما فتعیُّنه ربّما لا یخلو عن خفاء .
ولذا وقع بعض الأعلام (1) فی اشتباه وخطأ ، حیث توهّم : أ نّه إذا کان هناک عامّ وخصوصات ، وقد خُصِّص ببعضها ، کان اللازم ملاحظه النسبه بینه وبین سائر الخصوصات بعد تخصیصه به (2) ، فربّما تنقلب النسبه إلی عمومٍ وخصوص من وجه ، فلابدّ من رعایه هذه النسبه ، وتقدیمِ (3) الراجح منه ومنها ، أو التخییرِ بینه وبینها لو لم یکن هناک راجح ، لا تقدیمُها علیه ، إلّاإذا کانت النسبه بعده علی حالها .
وفیه: أنّ النسبه إنّما هی بملاحظه الظهورات ، وتخصیصُ العامّ بمخصِّص منفصل - ولو کان قطعیّاً - لا ینثلم به ظهورُه ، وإن انثلم به حجّیّتهُ ، ولذلک یکون بعد التخصیص حجّهً فی الباقی ؛ لأصاله عمومه بالنسبه إلیه .
لا یقال: إنّ العامّ بعد تخصیصه بالقطعیّ لا یکون مستعملاً فی العموم قطعاً ، فکیف یکون ظاهراً فیه ؟
ص :303
فإنّه یقال: إنّ المعلوم عدم إراده العموم ، لا عدمُ استعماله فیه لإفاده القاعده الکلّیّه ، فیعملَ بعمومها ما لم یعلم بتخصیصها ، وإلّا لم یکن وجهٌ فی حجّیّته فی تمام الباقی ؛ لجواز استعماله حینئذٍ فیه وفی غیره من المراتب الّتی یجوز أن ینتهی إلیها التخصیص .
وأصاله عدم مخصِّص آخر (1) لا توجب (2) انعقاد ظهورٍ له ، لا فیه ولا فی غیره من المراتب ؛ لعدم الوضع ولا القرینه المعیِّنه لمرتبهٍ منها ، کما لا یخفی ؛ لجواز إرادتها وعدم نصب قرینه علیها .
نعم ، ربما یکون عدمُ نصب قرینهٍ مع کون العامّ فی مقام البیان قرینهً علی إراده التمام ، وهو (3) غیر ظهور العامّ فیه فی کلّ مقام .
کانت مستوعبه لها ، فلابدّ حینئذٍ من معامله التباین بینه وبین مجموعها ، ومن ملاحظه الترجیح بینهما وعدمِه .
فلو رُجّح جانبها ، أو اختیر - فی ما لم یکن هناک ترجیح - فلا مجال للعمل به أصلاً . بخلاف ما لو رُجّح طرفه ، أو قُدّم تخییراً ، فلا یطرح منها إلّا خصوصُ ما لا یلزم - مع طرحه - المحذورُ من التخصیص بغیره (1) ؛ فإنّ التباین إنّما کان بینه وبین مجموعها ، لا جمیعها ، وحینئذٍ فربما یقع التعارضُ بین الخصوصات ، فیخصّص ببعضها ترجیحاً أو تخییراً ، فلا تغفل .
هذا فی ما کانت النسبه بین المتعارضات متّحده .
وقد ظهر منه حالُها فی ما کانت النسبه بینها متعدّده ، کما إذا ورد هناک عامّان من وجهٍ ، مع ما هو أخصّ مطلقاً من أحدهما ، وأ نّه لابدّ من تقدیم الخاصّ علی العامّ ، ومعامله العموم من وجه بین العامّین ، من الترجیح والتخییر بینهما ، وإن انقلبت النسبه بینهما إلی العموم المطلق بعد تخصیص أحدهما (2) ؛ لما عرفت من أ نّه لا وجه إلّالملاحظه النسبه قبل العلاج .
نعم ، لولم یکن الباقی تحته بعد تخصیصه إلّا (3)ما لا یجوَّز أن یجوز
ص :305
عنه التخصیص ، أو کان بعیداً جدّاً ، لقُدِّم علی العامّ الآخر ، لا لانقلاب النسبه بینهما (1) ، بل لکونه کالنصّ فیه ، فیقدّم علی الآخر الظاهرفیه بعمومه ، کما لا یخفی .
لا یخفی: أنّ المزایا المرجِّحه لأحد المتعارضین ، الموجبه للأخذ به وطرح الآخر - بناءً علی وجوب الترجیح - وإن کانت علی أنحاء مختلفه ، ومواردها متعدّده - من راوی الخبر ، ونفسِهِ ، ووجه صدوره ، ومَتْنه ، ومضمونه ، مثل :
الوثاقه ، والفقاهه ، والشهره ، ومخالفه العامّه ، والفصاحه ، وموافقه الکتاب ، والموافقه لفتوی الأصحاب ... إلی غیر ذلک ممّا یوجب مزیّهً فی طرف من أطرافه ، خصوصاً لو قیل بالتعدّی من المزایا المنصوصه - ، إلّاأ نّها موجبه لتقدیم أحد السندین وترجیحه وطرح الآخر ؛ فإنّ أخبار العلاج دلّت علی تقدیم روایهٍ ذاتِ مزیّهٍ فی أحد أطرافها ونواحیها .
فجمیع هذه من مرجّحات السند ، حتّی موافقه الخبر للتقیّه (2) ؛ فإنّها أیضاً ممّا یوجب ترجیح أحد السندین وحجّیّتَه فعلاً ، وطرحَ الآخر رأساً .
ص :306
وکونها فی مقطوعی الصدور متمحِّضهً فی ترجیح الجهه ، لا یوجبُ کونها کذلک فی غیرهما ؛ ضروره أ نّه لا معنی للتعبّد بسندمّا یتعیّن حملُه علی التقیّه ، فکیف یقاس علی ما لا تعبّد فیه ؛ للقطع بصدوره ؟
ثمّ إنّه لا وجه لمراعاه الترتیب بین المرجّحات ، لو قیل بالتعدّی وإناطه الترجیح بالظنّ ، أو بالأقربیّه إلی الواقع ؛ ضرورهَ أنّ قضیّه ذلک تقدیم الخبر الّذی ظُنَّ صدْقُه ، أو کان أقرب إلی الواقع منهما (1) ، والتخییرُ بینهما إذا تساویا ، فلا وجه لإتعاب النفس فی بیان أنّ أیّها یُقدَّم أو یؤخّر ، إلّاتعیین أنّ أیّها یکون فیه المناط فی صوره مزاحمه بعضها مع الآخر .
وأمّا لو قیل بالاقتصار علی المزایا المنصوصه فله وجهٌ ؛ لِما یتراءیٰ من ذکرها مرتّباً فی المقبوله والمرفوعه .
مع إمکان أن یقال: إنّ الظاهر کونهما - کسائر أخبار الترجیح - بصدد بیان أنّ هذا مرجِّح وذاک مرجِّح ، ولذا اقتصر فی غیر واحد منها علی ذکر مرجِّح واحد ، وإلّا لَزِم تقیید جمیعها - علی کثرتها - بما فی المقبوله (2) ، وهو بعیدٌ جدّاً .
وعلیه فمتی وُجِد فی أحدهما مرجِّحٌ ، وفی الآخر آخرُ منها ، کان المرجع هو إطلاقات التخییر ، ولا کذلک علی الأوّل ، بل لابدّ من ملاحظه الترتیب ، إلّا إذا کانا فی عرضٍ واحد .
ص :307
وانقدح بذلک : أنّ حال المرجّح الجهتیّ حال سائر المرجّحات ، فی أ نّه لابدّ فی صوره مزاحمته مع بعضها ، من ملاحظه أنّ أیّهما فعلاً موجبٌ للظنّ بصدق ذیه بمضمونه (1) ، أو الأقربیّهِ کذلک إلی الواقع ، فیوجب ترجیحَه وطرْحَ الآخر ؛ أو أ نّه لا مزیّه لأحدهما علی الآخر ، کما إذا کان الخبر الموافق للتقیّه - بما له من المزیّه - مساویاً للخبر المخالف لها بحسب المناطَین ، فلابدّ حینئذٍ من التخییر بین الخبرین .
فلا وجه لتقدیمه علی غیره ، کما عن الوحید البهبهانی قدس سره (2)وبالغ فیه بعضُ أعاظم المعاصرین (3) - أعلی اللّٰه درجته - .
ولا لتقدیم غیره علیه ، کما یظهر من شیخنا العلّامه - أعلی اللّٰه مقامه - ، قال: «أمّا لو زاحم الترجیحُ بالصدور الترجیحَ من حیث جهه الصدور - بأن کان الأرجح صدوراً موافقاً للعامّه - فالظاهر تقدیمه علی غیره ، وإن کان مخالفاً للعامّه ، بناءً علی تعلیل الترجیح بمخالفه العامّه باحتمال التقیّه فی الموافق ؛ لأنّ هذا الترجیح ملحوظ فی الخبرین بعد فرض صدورهما قطعاً کما فی المتواترین ، أو تعبّداً کما فی الخبرین ، بعد عدم إمکان التعبّد بصدور أحدهما ، وترک التعبّد بصدور الآخر ، وفی ما نحن فیه یمکن ذلک بمقتضی أدلّه الترجیح من حیث الصدور .
إن قلت: إنّ الأصل فی الخبرین : الصدور ، فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضی ذلک الحکمَ بصدور الموافق تقیّهً ، کما یقتضی ذلک الحکمَ بإراده خلاف الظاهر
ص :308
فی أضعفهما دلالهً (1) ، فیکون هذا المرجّح - نظیر الترجیح بحسب الدلاله - مقدّماً علی الترجیح بحسب الصدور .
قلت: لا معنی للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعیّن علی التقیّه ؛ لأنّه إلغاء لأحدهما فی الحقیقه» (2) .
وقال - بعد جمله من الکلام - : «فموردُ هذا الترجیح (3) تساوی الخبرین من حیث الصدور ، إمّا علماً کما فی المتواترین ، أو تعبّداً کما فی المتکافئین من الأخبار (4) . وأ مّا ما وجب فیه التعبّد بصدور أحدهما المعیّن دون الآخر ، فلا وجه لإعمال هذا المرجّح فیه ؛ لأنّ جهه الصدور متفرّعه (5) علی أصل الصدور» (6) . انته موضع الحاجه من کلامه ، زید فی علوّ مقامه .
وفیه : - مضافاً إلی ما عرفت - أنّ حدیث فرعیّه جهه الصدور علی أصله ، إنّما یفید إذا لم یکن المرجّح الجهتیّ من مرجّحات أصل الصدور ، بل من مرجّحاتها . وأمّا إذا کان من مرجّحاته - بأحد المناطَین - ، فأیّ فرقٍ بینه وبین سائر المرجّحات ؟ ولم یقم دلیلٌ بعدُ فی الخبرین المتعارضین علی وجوب التعبّد بصدور الراجح منهما من حیث غیر الجهه ، مع کون الآخر راجحاً بحسبها ، بل هو أوّل الکلام ، کما لا یخفی .
ص :309
فلا محیصَ من ملاحظه الراجح من المرجِّحین بحسب أحد المناطین ، أو من دلاله أخبار العلاج علی الترجیح بینهما مع المزاحمه ، ومع عدم الدلاله - ولو لعدم التعرّض لهذه الصوره - فالمحکّم هو إطلاق التخییر ، فلا تغفل .
وقد أورد بعض أعاظم تلامیذه (1) علیه : بانتقاضه بالمتکافئین من حیث الصدور ؛ فإنّه لو لم یعقل التعبّد بصدور المتخالفین من حیث الصدور ، مع حمل أحدهما علی التقیّه ، لم یعقل التعبّد بصدورهما مع حمل أحدهما علیها ؛ لأنّه إلغاء لأحدهما أیضاً فی الحقیقه .
وفیه ما لا یخفی من الغفله وحِسبانِ أ نّه قدس سره التزم فی مورد الترجیح بحسب الجهه ، باعتبار تساویهما من حیث الصدور ، إمّا للعلم بصدورهما ، وإمّا للتعبّد به فعلاً ، مع بداهه أنّ غرضه من التساوی من حیث الصدور تعبّداً :
تساویهما بحسب دلیل التعبّد بالصدور قطعاً ؛ ضرورهَ أنّ دلیل حجّیّه الخبر لا یقتضی التعبّد فعلاً بالمتعارضین ، بل ولا بأحدهما ، وقضیّهُ دلیل العلاج لیس إلّا التعبّد بأحدهما تخییراً أو ترجیحاً .
والعجب کلّ العجب أ نّه رحمه الله لم یکتفِ بما أورده من النقض ، حتّی ادّعی استحالهَ تقدیم الترجیح بغیر هذا المرجّح علی الترجیح به ، وبَرهَن علیه بما حاصله: امتناعُ التعبّد بصدور الموافق ؛ لدوران أمره بین عدم صدوره من أصله ، وبین صدوره تقیّهً ، ولا یعقل التعبّد به علی التقدیرین بداههً ، کما أ نّه لا یعقل التعبّد بالقطعیّ الصدور الموافق ، بل الأمرُ فی الظنّیّ الصدور أهون ؛ لاحتمال عدم صدوره ، بخلافه .
ص :310
ثمّ قال: «فاحتمال تقدیم المرجّحات السندیّه علی مخالفه العامّه ، - مع نصّ الإمام علیه السلام علی طرح ما یوافقهم (1) - ، من العجائب والغرائب الّتی لم یُعهد صدورها من ذی مُسْکه ، فضلاً عمّن هو تالی العصمه علماً وعملاً» . ثمّ قال:
«ولیت شعری أنّ هذه الغفله الواضحه کیف صدرت منه ؟ مع أ نّه فی جوده النظر یأتی بما یقرب من شقّ القمر» (2) .
وأنت خبیر بوضوح فساد برهانه ؛ ضروره عدم دوران أمر الموافق بین الصدور تقیّهً ، وعدم الصدور رأساً ؛ لاحتمال صدوره لبیان حکم اللّٰه واقعاً ، وعدمِ صدور المخالف المعارض له أصلاً ، ولا یکاد یحتاجُ فی التعبّد إلی أزید من احتمال صدور الخبر لبیان ذلک بداههً .
وإنّما دار احتمال الموافق بین الاثنین ، إذا کان المخالف قطعیّاً صدوراً وجههً ودلالهً ؛ ضرورهَ دوران معارضه حینئذٍ بین عدم صدوره وصدوره تقیّهً ، وفی غیر هذه الصوره کان دوران أمره بین الثلاثه لا محاله ؛ لاحتمال صدوره لبیان الحکم الواقعیّ حینئذٍ أیضاً .
ومنه قد انقدح إمکانُ التعبّد بصدور الموافق القطعیّ لبیان الحکم الواقعیّ أیضاً ، وإنّما لم یمکن التعبّد بصدوره لذلک إذا کان معارضه المخالف قطعیّاً بحسب السند والدلاله (3) ، لتعیّن (4) حمله علی التقیّه حینئذٍ لا محاله .
ص :311
ولعمری إنّ ما ذکرنا أوضح من أن یخفی علی مثله ، إلّاأنّ الخطأ والنسیان کالطبیعه الثانیه للإنسان ، عَصَمنا اللّٰه من زَلَل الأقدام والأقلام فی کلّ وَرْطهٍ ومقام .
ثمّ إنّ هذا کلَّه إنّما هو بملاحظه أنّ هذا المرجّح مرجّح من حیث الجهه ، وأمّا بما هو موجب لأقوائیّه دلاله ذیه من معارضه - لاحتمال التوریه فی المعارض المحتمل فیه التقیّه ، دونه - فهو مقدّم علی جمیع مرجّحات الصدور ، بناءً علی ما هو المشهور من تقدّم التوفیق - بحمل الظاهر علی الأظهر - علی الترجیح بها .
اللهمّ إلّاأن یقال: إنّ باب احتمال التوریه وإن کان مفتوحاً فی ما احتمل فیه التقیّه ، إلّاأ نّه حیث کان بالتأمّل والنظر ، لم یوجب (1) أن یکون معارُضه أظهر ، بحیث یکون قرینهً علی التصرّف عرفاً فی الآخر ، فتدبّر .
ص :312
موافقه الخبر لما یوجب الظنّ بمضمونه - ولو نوعاً - من المرجّحات فی الجمله ، - بناءً علی لزوم الترجیح - لو قیل بالتعدّی من المرجّحات المنصوصه ، أو قیل (1) بدخوله فی القاعده المجمع علیها (2) - کما ادّعی (3) - ، وهی : لزوم العمل بأقوی الدلیلین .
وقد عرفت (4) : أنّ التعدّی محلُّ نظرٍ ، بل مَنْعٍ ؛ وأنّ الظاهر من القاعده هو ما کان الأقوائیّه من حیث الدلیلیّه والکشفیّه . وکونُ مضمون (5) أحدهما مظنوناً - لأجل مساعده أمارهٍ ظنّیّه علیه - لا یوجب قوّهً فیه من هذه الحیثیّه ، بل هو علی ما هو علیه ، من القوّه لولا مساعدتها ، کما لا یخفی .
ومطابقه أحد الخبرین لها (6) لا یکون لازمُه الظنَّ بوجود خِلَلٍ فی الآخر : إمّا من حیث الصدور ، أو من حیث جهته . کیف ؟ وقد اجتمع
ص :313
مع القطع بوجود جمیع ما اعتبر فی حجّیّه المخالف ، لولا معارضه الموافق .
والصدق واقعاً لا یکاد یعتبر فی الحجّیّه ، کما لا یکاد یضرُّ بها الکذبُ کذلک ، فافهم .
هذا حال الأماره غیر المعتبره ، لعدم الدلیل علی اعتبارها .
أمّا ما لیس بمعتبر بالخصوص - لأجل الدلیل علی عدم اعتباره بالخصوص (1) ، کالقیاس - : فهو وإن کان کغیر المعتبر لعدم الدلیل ، بحسب ما یقتضی الترجیح به من الأخبار - بناءً علی التعدّی - والقاعدهِ - بناءً علی دخول مظنون المضمون فی أقوی الدلیلین - ، إلّاأنّ الأخبار الناهیه عن القیاس (2) ؛ - و « أنّ السنّه إذا قیست مُحِق الدین » (3) - مانعهٌ عن الترجیح به ؛ ضروره أنّ استعماله فی ترجیح أحد الخبرین ، استعمالٌ له فی المسأله الشرعیّه الاُصولیّه ، وخطرهُ لیس بأقلّ من استعماله فی المسأله الفرعیّه .
وتوهّم (4) : أنّ حال القیاس هاهنا لیس فی تحقّق الأقوائیّه به ، إلّاکحاله فی ما ینقّح به موضوع آخر ذو حکمٍ ، من دون اعتماد علیه فی مسأله اصولیّه ولا فرعیّه .
قیاسٌ مع الفارق ؛ لوضوح الفرق بین المقام والقیاس فی الموضوعات
ص :314
الخارجیّه الصّرفه ؛ فإنّ القیاس المعمول (1) فیها لیس فی الدین ، فیکونَ إفساده أکثر من إصلاحه .
وهذا بخلاف المعمول فی المقام ، فإنّه نحوُ إعمالٍ له فی الدین ؛ ضروره أ نّه لولاه لَما تعیّن الخبر الموافق له للحجّیّه بعد سقوطه عن الحجّیّه - بمقتضی أدلّه الاعتبار - والتخییرِ بینه وبین معارضه - بمقتضی أدلّه العلاج - ، فتأمّل جیّداً .
وأمّا ما إذا اعتضد بما کان دلیلاً مستقلاًّ فی نفسه - کالکتاب والسنّه
القطعیّه - : فالمعارض المخالف لأحدهما إن کانت مخالفته بالمباینه الکلّیّه ، فهذه الصوره خارجهٌ عن مورد الترجیح ؛ لعدم حجّیّه الخبر المخالف کذلک من أصله ، ولو مع عدم المعارض ، فإنّه المتیقّن من الأخبار الدالّه علی أ نّه :
« زخرفٌ » أو « باطلٌ » ، أو أ نّه : « لم نقله » أو غیر ذلک (2) .
وإن کانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق ، فقضیّه القاعده فیها وإن کانت ملاحظهَ المرجّحات بینه وبین الموافق ، وتخصیصَ الکتاب به تعییناً أو تخییراً ، لو لم یکن الترجیح فی الموافق - بناءً علی جواز تخصیص الکتاب بخبر الواحد - ، إلّاأنّ الأخبار الدالّه علی أخذ الموافق من المتعارضین ، غیرُ قاصره عن العموم لهذه الصوره ، لو قیل بأ نّها فی مقام ترجیح أحدهما ، لا تعیینِ الحجّه عن اللاحجّه ، کما نزّلناها علیه (3) .
ص :315
ویؤیّده أخبار العرض علی الکتاب (1) ، الدالّه علی عدم حجّیّه المخالف من أصله ، فإنّهما تفرغان عن لسانٍ واحدٍ ، فلا وجه لحمل المخالفه فی إحداهما (2) علی خلاف المخالفه فی الاُخری ، کما لا یخفی .
اللهمّ إلّاأن یقال : نعم ، إلّاأنّ دعوی : اختصاص هذه الطائفه بما إذا کانت المخالفهُ بالمباینه ، - بقرینه القطع بصدور المخالف غیر المباین عنهم علیهم السلام کثیراً ، وإباءِ مثل: « ما خالف قول ربّنا لم أقله » ، أو : « زخرفٌ » ، أو :
« باطل » ، عن التخصیص - غیر بعیده .
وإن کانت المخالفه بالعموم والخصوص من وجه ، فالظاهر أ نّها کالمخالفه فی الصوره الاُولی ، کما لا یخفی .
عندهم (1) . وأمّا بناءً علی اعتباره تعبّداً من باب الأخبار ، وظیفهً للشاکّ - کما هو المختار ، کسائر الأُصول العملیّه الّتی تکون کذلک عقلاً أو نقلاً - ، فلا وجه للترجیح به أصلاً ؛ لعدم تقویه (2) مضمون الخبر بموافقته ، ولو بملاحظه دلیل اعتباره ، کما لا یخفی .
هذا آخِرُ ما أردنا إیراده ، والحمدللّٰه أوّلاً وآخراً وباطناً وظاهراً .
ص :317
ص :318
ص :319
ص :320
واصطلاحاً - کما عن الحاجبیّ (2) والعلّامه (3) - : «استفراغُ الوسع فی تحصیل الظنّ بالحکم الشرعیّ» .
وعن غیرهما (4) : «ملکهٌ یقتدرُ بها علی استنباط الحکم الشرعیّ الفرعیّ من الأصل ، فعلاً أو قوّهً قریبهً» .
ولا یخفی: أنّ اختلاف عباراتهم فی بیان معناه اصطلاحاً ، لیس من جهه الاختلاف فی حقیقته وماهیّته ؛ لوضوح أ نّهم لیسوا فی مقام بیان حدّه أو رسمه ، بل إنّما کانوا فی مقام شرح اسمه ، والإشاره إلیه بلفظٍ آخر ، وإن لم یکن مساویاً له بحسب مفهومه ، کاللغویّ فی بیان معانی الألفاظ ، بتبدیل لفظٍ بلفظٍ آخر ، ولو کان أخصّ منه مفهوماً أو أعمّ .
ص :321
ومن هنا انقدح : أ نّه لا وقْع للإیراد علی تعریفاته بعدم الانعکاس أو الاطّراد ، کما هو الحالُ فی تعریف جُلِّ الأشیاء - لولا الکلّ - ؛ ضرورهَ عدم الإحاطه بها بکُنهها ، أو بخواصّها - الموجبهِ لامتیازها عمّا عداها - لغیر علّام الغیوب ، فافهم .
وکیف کان ، فالأولی : تبدیل «الظنّ بالحکم» ب «الحجّه علیه» ؛ فإنّ المناط فیه هو تحصیلها قوّهً أو فعلاً ، لا الظنّ ، حتّی عند العامّه القائلین بحجّیّته مطلقاً ، أو بعض الخاصّه القائل بها عند انسداد باب العلم بالأحکام (1) ، فإنّه مطلقاً عندهم ، أو عند الانسداد عنده من أفراد الحجّه ؛ ولذا لا شبهه فی کون استفراغ الوُسع فی تحصیل غیره من أفرادها - من العلم بالحکم أو غیره ، ممّا اعتبر من الطرق (2) التعبّدیّه غیرِ المفیده للظنّ ولو نوعاً - اجتهاداً أیضاً .
ومنه قد انقدح : أ نّه لا وجه لتأبّی الأخباریّ عن الاجتهاد بهذا المعنی ، فإنّه لا محیصَ عنه ، کما لا یخفی .
غایه الأمر ، له أن ینازع فی حجّیّه بعض ما یقولُ الأُصولیّ باعتباره ، ویمنعَ عنها ، وهو غیر ضائر بالاتّفاق علی صحّه الاجتهاد بذاک المعنی ؛ ضروره أ نّه ربما یقع بین الأخباریّین ، کما وقع بینهم وبین الأُصولیّین .
ص :322
ینقسم الاجتهاد إلی مطلق وتجزٍّ :
فالاجتهادُ المطلق هو : ما یقتدر به علی استنباط الأحکام الفعلیّه من أماره معتبره ، أو أصلٍ معتبرٍ عقلاً أو نقلاً ، فی الموارد الّتی لم یظفر فیها بها .
والتجزیّ هو : ما یقتدر به علی استنباط بعض الأحکام .
ثمّ إنّه لا إشکال فی إمکان المطلق وحصوله للأعلام .
وعدم التمکّن من الترجیح فی المسأله وتعیینِ حکمها ، والتردّدُ منهم فی بعض المسائل ، إنّما هو بالنسبه إلی حکمها الواقعیّ ، لأجل عدم دلیلٍ مساعد فی کلّ مسأله علیه ، أو عدمِ الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللازم ، لا لقلّه الاطّلاع أو قصور الباع ، وأمّا بالنسبه إلی حکمها الفعلیّ فلا تردّد لهم (1) أصلاً (2) .
کما لا إشکال فی جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتّصف به .
وأمّا لغیره فکذا لا إشکال فیه ، إذا کان المجتهد ممّن کان باب العلم أو العلمیّ بالأحکام مفتوحاً له ، علی ما یأتی من الأدلّه علی جواز التقلید .
ص :323
بخلاف ما إذا انسدّ علیه بابُهما ، فجواز تقلید الغیر عنه فی غایه الإشکال ؛ فإنّ رجوعه إلیه لیس من رجوع الجاهل إلی العالم ، بل إلی الجاهل ، وأدلّهُ جواز التقلید إنّما دلّت علی جواز رجوع غیر العالم إلی العالم ، کما لا یخفی .
وقضیّهُ مقدّمات الانسداد لیست إلّاحجّیّه الظنّ علیه ، لا علی غیره .
فلابدّ فی حجّیّه اجتهاد مثله علی غیره من التماس دلیلٍ آخر ، غیرِ دلیل التقلید ، وغیرِ دلیل الانسداد الجاری فی حقّ المجتهد ، من إجماعٍ أو جریان مقدّمات دلیل الانسداد فی حقّه ، بحیث تکون منتِجهً لحجّیّه الظنّ - الثابت حجّیّته بمقدّماته - له أیضاً .
ولا مجال لدعوی الإجماع . ومقدّماتُه کذلک غیر جاریه فی حقّه ؛ لعدم انحصار المجتهد به ، أو عدمِ لزوم محذور عقلیّ من عمله بالاحتیاط ، وإن لزم منه العسر ، إذا لم یکن له سبیل إلی إثبات عدم وجوبه مع عسره .
نعم ، لو جرت المقدّمات کذلک ، - بأن انحصر المجتهد ، ولزم من الاحتیاط المحذور ، أو لزم منه العسرُ مع التمکّن من إبطال وجوبه حینئذٍ - کانت منتِجهً لحجّیّه فی حقّه أیضاً ، لکن دونه خَرطُ القتاد .
هذا علی تقدیر الحکومه .
وأمّا علی تقدیر الکشف وصحّته ، فجواز الرجوع إلیه فی غایه الإشکال ؛ لعدم مساعده أدلّه التقلید علی جواز الرجوع إلی من اختصّ حجّیّه ظنّه به .
وقضیّهُ مقدّمات الانسداد : اختصاص حجّیّه الظنّ بمن جرت فی حقّه ، دون غیره ؛ ولو سُلِّم أنّ قضیّتها کونُ الظنّ المطلق معتبراً شرعاً ، کالظنون الخاصّه الّتی دلّ الدلیل علی اعتبارها بالخصوص ، فتأمّل .
ص :324
إشکالان فی تقلید المجتهد الانفتاحی أیضاً والجواب عنهما
إن قلت: حجّیّه الشیء شرعاً ، مطلقاً ، لا توجب القطع بما أدّی إلیه من الحکم ولو ظاهراً ، کما مرّ تحقیقه (1) ، وأ نّه لیس أثره (2) إلّاتنجّزَ الواقع مع الإصابه ، والعذرَ مع عدمها ، فیکون رجوعه إلیه - مع انفتاح باب العلمیّ علیه أیضاً - رجوعاً إلی الجاهل ، فضلاً عمّا إذا انسدّ علیه .
قلت: نعم ، إلّاأ نّه عالِمٌ بموارد قیام الحجّه الشرعیّه علی الأحکام ، فیکون من رجوع الجاهل إلی العالم .
إن قلت: رجوعه إلیه فی موارد فقْد الأماره المعتبره عنده - الّتی یکون المرجع فیها الأُصول العقلیّه - لیس إلّاالرجوع إلی الجاهل .
قلت: رجوعه إلیه فیها إنّما هو لأجل اطّلاعه علی عدم الأماره الشرعیّه فیها ، وهو عاجز عن الاطّلاع علی ذلک . وأمّا تعیین ما هو حکم العقل ، وأ نّه مع عدمها هو : البراءه أو الاحتیاط (3) ، فهو إنّما یرجعُ إلیه ؛ فالمتّبع ما استقلّ به عقلُه ، ولو علی خلاف ما ذهب إلیه مجتهدهُ ، فافهم .
وکذلک لا خلافَ ولا إشکال فی نفوذ حکم المجتهد المطلق ، إذا کان باب العلم أو العلمیّ له مفتوحاً .
وأمّا إذا انسدّ علیه بابهما: ففیه إشکالٌ علی الصحیح ، من تقریر المقدّمات علی نحو الحکومه ؛ فإنّ مثله - کما أشرتُ آنفاً - لیس ممّن یعرف
ص :325
الأحکام ، مع أنّ معرفتها معتبره فی الحاکم ، کما فی المقبوله .
إلّاأن یدّعی عدم القول بالفصل ؛ وهو إن کان غیرَ بعید ، إلّاأ نّه لیس بمثابهٍ یکون حجّهً علی عدم الفصل .
إلّاأن یقال (1) بکفایه انفتاح باب العلم فی موارد الإجماعات ، والضروریّات من الدین أو المذهب والمتواترات ، إذا کانت جملهً یعتدّ بها ، وإن انسدّ باب العلم بمعظم الفقه ، فإنّه یصدق علیه حینئذٍ : أ نّه ممّن روی حدیثهم علیهم السلام ونظر فی حلالهم وحرامهم ، وعرف أحکامَهُم عرفاً حقیقهً .
وأمّا قوله علیه السلام فی المقبوله: «فإذا حکم بحکمنا» فالمراد : أنّ مثله إذا حَکَم کان بحُکْمِهم حَکَم ؛ حیث کان منصوباً منهم ، کیف ؟ وحکمه غالباً یکون فی الموضوعات الخارجیّه ، ولیس مثل ملکیّه دارٍ لزید ، أو زوجیّه امرأه له من أحکامهم ، فصحّهُ إسناد حکمه إلیهم علیهم السلام إنّما هو لأجل کونه من المنصوب من قِبَلهم .
وأمّا التجزّی فی الاجتهاد ففیه مواضع من الکلام:
الأوّل: فی إمکانه
وهو وإن کان محلّ الخلاف بین الأعلام (2) ، إلّاأ نّه لا ینبغی الارتیاب
ص :326
فیه ؛ حیث کان أبواب الفقه مختلفهً مدرکاً ، والمدارک متفاوته سهولهً وصعوبهً ، من (1) عقلیّه ونقلیّه ، مع اختلاف الأشخاص فی الاطّلاع علیها ، وفی طول الباع وقصوره بالنسبه إلیها ، فربّ شخصٍ کثیرِ الاطّلاع وطویل الباع فی مدرک بابٍ ؛ بمهارته فی النقلیّات أو العقلیّات ، ولیس کذلک فی آخر ؛ لعدم مهارته فیها وابتنائه علیها . وهذا بالضروره ربما یوجب حصول القدره علی الاستنباط فی بعضها ؛ لسهوله مدرکه ، أو لمهاره الشخص فیه مع صعوبته ، مع عدم القدره علی ما لیس کذلک .
بل یستحیل حصول اجتهادٍ مطلقٍ - عادهً - غیر مسبوق بالتجزّی ؛ للزوم الطفره .
وبساطهُ الملکه وعدمُ قبولها التجزئه ، لا تمنعُ من حصولها بالنسبه إلی بعض الأبواب ، بحیث یتمکّن بها من الإحاطه بمدارکه ، کما إذا کانت هناک ملکه الاستنباط فی جمیعها .
ویقطع بعدم دخْل ما فی سائرها به (2) أصلاً ، أو لا یعتنی باحتماله ؛ لأجل الفحص بالمقدار اللازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله ، کما فی الملکه المطلقه ؛ بداهه أ نّه لا یعتبر فی استنباط مسأله معها من (3) الاطّلاع فعلاً علی مدارک جمیع المسائل (4) ، کما لا یخفی .
ص :327
الثانی: فی حجّیّه ما یؤدّی إلیه علی المتّصف به
وهو (1) أیضاً محلّ الخلاف (2) ، إلّاأنّ قضیّه أدلّه المدارک : حجّیّته ؛ لعدم اختصاصها بالمتّصف بالاجتهاد المطلق ؛ ضروره أنّ بناء العقلاء علی حجّیّه الظواهر مطلقاً (3) ، وکذا ما دلّ علی حجّیّه خبر الواحد (4) ، غایته تقییده بما إذا تمکّن من دفع معارضاته ، کما هو المفروض .
الثالث: فی جواز رجوع غیر المتّصف به إلیه فی کلّ مسأله اجتهد فیها
وهو أیضاً محلّ الإشکال : من أ نّه من رجوع الجاهل إلی العالم ، فتعمّه أدلّهُ جواز التقلید . ومن دعوی عدم إطلاق فیها ، وعدم إحراز أنّ بناء العقلاء ، أو سیره المتشرّعه علی الرجوع إلی مثله أیضاً ؛ وستعرفُ (5) - إن شاء اللّٰه تعالی - ما هو قضیّه الأدلّه .
[ الرابع: فی نفوذ قضائه فی المرافعات ]
وأمّا جواز حکومته ونفوذ فصل خصومته فأشکل .
ص :328
نعم ، لا یبعدُ نفوذه فی ما إذا عرف جملهً معتدّاً بها ، واجتهد فیها ، بحیث یصحّ أن یقال فی حقّه عرفاً: إنّه ممّن عرف أحکامهم ، کما مرّ (1) فی المجتهد المطلق المنسدّ علیه باب العلم والعلمیّ فی معظم الأحکام .
لا یخفی : احتیاج الاجتهاد إلی معرفه العلوم العربیّه فی الجمله ، ولو بأن یقدرَ علی معرفه ما یبتنی علیه الاجتهاد فی المسأله ، بالرجوع إلی ما دُوّن فیه .
ومعرفهِ التفسیر کذلک .
وعمده ما یحتاج إلیه هو علمُ الأُصول ؛ ضروره أ نّه ما من مسألهٍ إلّا ویحتاج فی استنباط حکمها إلی قاعده أو قواعد بُرهِنَ علیها فی الأُصول ، أو بُرهِنَ علیها مقدّمهً فی نفس المسأله الفرعیّه ، کما هو طریقه الأخباریّ .
تدوین علم الأُصول فی العصور المتأخّره عن عصر الأئمه علیهم السلام لا یوجب کونه بدعه وتدوین تلک القواعد المحتاج إلیها علی حده لا یوجب کونها بدعهً .
وعدمُ تدوینها فی زمانهم علیهم السلام لا یوجب ذلک ، وإلّا کان تدوین الفقه والنحو والصرف بدعهً .
وبالجمله: لا محیصَ لأحدٍ فی استنباط الأحکام الفرعیّه من أدلّتها ،
ص :329
إلّا الرجوعُ إلی ما بنی علیه فی المسائل الاُصولیّه ، وبدونه لا یکاد یتمکّن من استنباطٍ واجتهاد ، مجتهداً کان أو أخباریّاً .
نعم ، یختلف الاحتیاجُ إلیها بحسب اختلاف المسائل والأزمنه والأشخاص ؛ ضروره خفّهِ مؤونه الاجتهاد فی الصدر الأوّل ، وعدمِ حاجته إلی کثیرٍ ممّا یحتاج إلیه فی الأزمنه اللاحقه ، ممّا لا یکاد یُحقَّق ویُختار عادهً إلّا بالرجوع إلی ما دُوِّن فیه من الکتب الاُصولیّه .
اتّفقت الکلمه علی التخطئه فی العقلیّات ، واختلفت فی الشرعیّات:
فقال أصحابنا (1) بالتخطئه فیها أیضاً ، وأنّ له - تبارک وتعالی - فی کلّ مسأله حکماً یؤدّی إلیه الاجتهاد تارهً ، وإلی غیره أُخری .
وقال مخالفونا (2) بالتصویب ، وأنّ له - تعالی - أحکاماً بعدد آراء المجتهدین ، فما یؤدّی إلیه الاجتهاد هو حکمه - تبارک وتعالی - .
ولا یخفی: أ نّه لا یکاد یعقل الاجتهاد فی حکم المسأله ، إلّاإذا کان لها حکمٌ واقعاً ، حتّی صار المجتهد بصدد استنباطه من أدلّته ، وتعیینِه بحسبها ظاهراً .
ص :330
فلو کان غرضهم من التصویب هو : الالتزام بإنشاء أحکامٍ فی الواقع بعدد الآراء - بأن تکون الأحکام المؤدّی (1) إلیها الاجتهاداتُ أحکاماً واقعیّه ، کما هی ظاهریّه - فهو وإن کان خطأً من جهه تواتر الأخبار ، وإجماعِ أصحابنا الأخیار علی أنّ له - تبارک وتعالی - فی کلّ واقعه حکماً یشترک فیه الکلّ ، إلّا أ نّه غیر محال .
ولو کان غرضهم منه : الالتزامَ بإنشاء الأحکام علی وِفق آراء الأعلام بعد الاجتهاد ، فهو ممّا لایکاد یعقل ، فکیف یتفحّص عمّا لا یکون له عین ولا أثر ؟ أو یُستظهر من الآیه أو الخبر ؟
إلّاأن یراد : التصویب بالنسبه إلی الحکم الفعلیّ ، وأنّ المجتهد وإن کان یتفحّص عمّا هو الحکم واقعاً وإنشاءً ، إلّاأنّ ما أدّی إلیه اجتهاده یکون هو حکمه الفعلیّ حقیقهً ، وهو ممّا یختلف باختلاف الآراء ضرورهً ، ولا یشترک فیه الجاهل والعالم بداههً ، وما یشترکان فیه لیس بحکم حقیقهً ، بل إنشاءً ، فلا استحاله فی التصویب بهذا المعنی ، بل لا محیصَ عنه فی الجمله ، بناءً علی اعتبار الأخبار من باب السببیّه والموضوعیّه ، کما لا یخفی . وربما یشیر إلیه ما اشتهر بیننا : أنّ ظنّیّه الطریق لا تنافی قطعیّه الحکم .
نعم ، بناءً علی اعتبارها من باب الطریقیّه - کما هو کذلک - فمؤدّیات الطرق والأمارات المعتبره لیست بأحکام حقیقیّه نفسیّه ، ولو قیل بکونها أحکاماً طریقیّه (2) .
ص :331
وقد مرّ غیر مرّه (1) : إمکانُ منع کونها أحکاماً کذلک أیضاً ، وأنّ قضیّه حجّیّتها لیس إلّاتنجّز مؤدّیاتها عند إصابتها ، والعذرُ عند خطئها ، فلا یکون حکمٌ أصلاً إلّاالحکم الواقعیّ ، فیصیر منجّزاً فی ما قام علیه حجّهٌ من علمٍ أو طریقٍ معتبر ، ویکون غیرَ منجّز - بل غیر فعلیّ - فی ما لم تکن هناک حجّه مصیبه ، فتأمّل جیّداً .
إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق - بتبدّل الرأی الأوّل بالآخر ، أو بزواله بدونه - ، فلا شبهه فی عدم العبره به فی الأعمال اللاحقه ، ولزومِ اتّباع الاجتهاد اللاحق مطلقاً ، أو الاحتیاط فیها .
وأمّا الأعمال السابقه الواقعه علی وِفْقه ، المختلُّ فیها ما اعتبر فی صحّتها بحسب هذا الاجتهاد:
فلابدّ من معامله البطلان معها ، فی ما لم ینهض دلیلٌ علی صحّه العمل فی ما (2)
ص :332
إذا اختلّ فیه لعذرٍ ، کما نهض فی الصلاه وغیرها مثل «لا تعاد» (1) و «حدیث الرفع» (2) ، بل الإجماع علی الإجزاء فی العبادات علی ما ادّعی (3) .
وذلک فی ما کان بحسب الاجتهاد الأوّل قد حصل القطع بالحکم وقد اضمحلّ ، واضح ؛ بداههَ أ نّه لا حکم معه شرعاً ، غایته المعذوریّه فی المخالفه عقلاً .
وکذلک فی ما کان هناک طریقٌ معتبرٌ شرعاً علیه بحسبه ، وقد ظهر خلافه ، - بالظفر بالمقیِّد ، أو المخصِّص ، أو قرینه المجاز ، أو المعارِض - ، بناءً علی ما هو التحقیق من اعتبار الأمارات من باب الطریقیّه ، قیل بأنّ قضیّه اعتبارها
إنشاء أحکام طریقیّه ، أم لا ، علی ما مرّ منّا غیر مرّه (4) ، من غیر فرقٍ بین تعلّقه بالأحکام ، أو بمتعلّقاتها ؛ ضروره أنّ کیفیّه اعتبارها فیهما علی نهجٍ واحد .
ص :333
ولم یُعلم وجهٌ للتفصیل بینهما - کما فی الفصول (1) - وأنّ المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادَیْن ، بخلاف الأحکام ، إلّاحِسبان أنّ الأحکام قابله للتغیّر والتبدّل ، بخلاف المتعلّقات والموضوعات .
وأنت خبیرٌ بأنّ الواقع واحدٌ فیهما ، وقد عُیِّن أوّلاً بما ظهر خطؤه ثانیاً .
ولزومُ العسر والحرج والهرج والمرج (2) ، المخلّ بالنظام ، والموجب للمخاصمه بین الأنام - لو قیل بعدم صحّه العقود والإیقاعات والعبادات الواقعهِ علی طبق الاجتهاد الأوّل ، الفاسدهِ بحسب الاجتهاد الثانی ، ووجوبِ العمل علی طبق الثانی : من عدم ترتیب الأثر علی المعامله ، و (3)إعاده العباده - لا یکونُ إلّاأحیاناً ، وأدلّهُ نفی العسر لا تنفی إلّاخصوصَ ما لزم منه العسر فعلاً .
مع عدم اختصاص ذلک بالمتعلّقات ، ولزومِ العسر فی الأحکام کذلک أیضاً ، لو قیل بلزوم ترتیب الأثر علی طبق الاجتهاد الثانی فی الأعمال السابقه .
وباب الهرج والمرج ینسدّ بالحکومه وفصل الخصومه .
وبالجمله (4): لا یکون التفاوت بین الأحکام ومتعلّقاتها - بتحمّل الاجتهادین وعدمِ التحمّل - بیِّناً ولا مبیَّناً ، بما یرجع إلی محصّلٍ فی کلامه - زید فی علوّ مقامه - ، فراجع وتأمّل .
وأمّا بناءً علی اعتبارها من باب السببیّه والموضوعیّه: فلا محیصَ عن القول بصحّه العمل علی طبق الاجتهاد الأوّل ، عبادهً کان أو معاملهً ، وکونِ مؤدّاه - ما لم یضمحلّ - حکماً حقیقهً .
ص :334
وکذلک الحال إذا کان بحسب الاجتهاد الأوّل مجری الاستصحاب أو البراءه النقلیّه ، وقد ظفر فی الاجتهاد الثانی بدلیلٍ علی الخلاف ، فإنّه عمل بما هو وظیفته فی تلک الحال .
وقد مرّ فی مبحث الإجزاء (1) تحقیق المقال (2) ، فراجع هناک .
وهو أخذ قول الغیر ورأیهِ للعمل به فی الفرعیّات ، أو للالتزام به فی الاعتقادیّات تعبّداً ، بلا مطالبه دلیلٍ علی رأیه .
ولا یخفی: أ نّه لا وجه لتفسیره بنفس العمل (3) ؛ ضرورهَ سبقه علیه ، وإلّا کان بلا تقلید (4) ، فافهم .
ثمّ إنّه لا یذهب علیک : أنّ جواز التقلید ، ورجوعِ الجاهل إلی العالم - فی الجمله - یکونُ بدیهیّاً جبلّیّاً فطریّاً ، لا یحتاج إلی دلیل ، وإلّا لزم سدُّ باب العلم به علی العامیّ مطلقاً غالباً ؛ لعجزه عن معرفه ما دلّ علیه کتاباً وسنّهً ، ولا یجوز التقلید فیه أیضاً ، وإلّا لدار أو تسلسل ، بل هذه هی العمده فی أدلّته .
ص :335
وأغلب ما عداه قابلٌ للمناقشه:
لبُعد تحصیل الإجماع (1) فی مثل هذه المسأله ، ممّا یمکن أن یکون القول فیه (2) لأجل کونه من الأُمور الفطریّه الارتکازیّه . والمنقولُ منه غیر حجّه فی مثلها - ولو قیل بحجّیّتها (3) فی غیرها - لِوَهنه بذلک .
ومنه قد انقدح : إمکانُ القدح فی دعوی کونه من ضروریّات الدّین (4) ؛ لاحتمال أن یکون من ضروریّات العقل وفطریّاته ، لا من ضروریّاته .
وکذا القدح فی دعوی سیره المتدیّنین (5) .
وأمّا الآیات: فلعدم دلاله آیه النفر (6) والسؤال (7) علی جوازه ؛ لقوّه احتمال أن یکون الإرجاعُ لتحصیل العلم ، لا للأخذ (8) تعبّداً .
مع أنّ المسؤول فی آیه السؤال هم أهل الکتاب ، کما هو ظاهرها ، أو أهل بیت العصمه الأطهار ، کما فُسّر به فی الأخبار (9)(10).
نعم ، لا بأس بدلاله الأخبار علیه بالمطابقه أو الملازمه ؛ حیث دلّ بعضها
ص :336
علی وجوب اتّباع قول العلماء (1) ، وبعضها علی أنّ للعوام تقلید العلماء (2) ، وبعضها علی جواز الإفتاء مفهوماً - مثل ما دلّ علی المنع عن الفتوی بغیر علم (3) - ، أو منطوقاً - مثل ما دلّ علی إظهاره علیه السلام المحبّه لأن یری فی أصحابه من یفتی الناسَ بالحلال والحرام - (4) .
لا یقال: إنّ مجرّد إظهار الفتوی للغیر لا یدلّ علی جواز أخذه واتّباعه (5) .
فإنّه یقال: إنّ الملازمه العرفیّه بین جواز الإفتاء وجواز اتّباعه واضحه ، وهذا غیر وجوب إظهار الحقّ والواقع ؛ حیث لا ملازمه بینه وبین وجوب أخذه تعبّداً ، فافهم وتأمّل .
وهذه الأخبار علی اختلاف مضامینها وتعدّد أسانیدها ؛ لا یبعد دعوی القطع بصدور بعضها ، فیکون دلیلاً قاطعاً علی جواز التقلید ،
وإن لم یکن کلّ واحد منها بحجّه ، فیکون مخصِّصاً لما دلّ علی عدم جواز اتّباع غیر العلم ، والذمِّ علی التقلید ، من الآیات والروایات (6) ، قال اللّٰه - تبارک وتعالی - :
ص :337
« وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ » (1)، وقوله - تعالی - : «إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلیٰ أُمَّهٍ وَ إِنّٰا عَلیٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ » (2).
مع احتمال أنّ الذمّ إنّما کان علی تقلیدهم للجاهل ، أو فی الأُصول الاعتقادیّه الّتی لابدّ فیها من الیقین .
وأمّا قیاس المسائل الفرعیّه علی الأُصول الاعتقادیه - فی أ نّه کما لا یجوز التقلید فیها مع الغموض فیها ، کذلک لا یجوز فیها بالطریق الأولی ؛ لسهولتها - فباطلٌ .
مع أ نّه مع الفارق ؛ ضروره أنّ الأُصول الاعتقادیّه مسائل معدوده ، بخلافها ، فإنّها ممّا لا تعدّ ولا تحصی ، ولا یکاد یتیسّر من الاجتهاد فیها فعلاً طولَ العمر إلّاللأوحدیّ فی کلّیّاتها ، کما لا یخفی .
إذا علم المقلِّد اختلاف الأحیاء فی الفتوی ، مع اختلافهم فی العلم والفقاهه ، فلابدّ من الرجوع إلی الأفضل إذا احتمل تعیُّنه ؛ للقطع بحجّیّته (3) ، والشکّ فی حجّیّه غیره ، ولا وجه لرجوعه إلی الغیر فی تقلیده إلّاعلی نحو دائر .
ص :338
نعم (1) ، لا بأس برجوعه إلیه إذا استقلّ عقلُه بالتساوی ، وجوازِ الرجوع إلیه أیضاً ، أو جوّز له الأفضلُ بعد رجوعه إلیه .
هذا حال العاجز عن الاجتهاد ، فی تعیین ما هو قضیّه الأدلّه فی هذه المسأله .
وأمّا غیره: فقد اختلفوا فی جواز تقلید (2) المفضول وعدم جوازه :
ذهب بعضهم (3) إلی الجواز . والمعروف بین الأصحاب - علی ما قیل (4) - عدمه (5) . وهو الأقوی ؛ للأصل ، وعدم دلیل علی خلافه .
ولا إطلاق فی أدلّه التقلید - بعد الغضّ عن نهوضها علی مشروعیّه أصله - ؛ لوضوح أ نّها إنّما تکون بصدد بیان أصل جواز الأخذ بقول العالم ، لا فی کلّ حال ، من غیر تعرّضٍ أصلاً لصوره معارضته بقول الفاضل ، کما هو شأن سائر الطرق والأمارات ، علی ما لا یخفی (6) .
ص :339
ودعوی السیره (1) علی الأخذ بفتوی أحد المخالفین فی الفتوی ، من دون فحص عن أعلمیّته ، مع العلم بأعلمیّه أحدهما ، ممنوعهٌ .
ولا عُسر فی تقلید الأعلم (2) ، لا علیه ؛ لأخذ فتاواه من رسائله وکتبه ، ولا لمقلّدیه (3) ؛ لذلک أیضاً .
ولیس تشخیص الأعلمیّه بأشکل (4) من تشخیص أصل الاجتهاد .
مع أنّ قضیّهَ نفی العُسر : الاقتصارُ علی موضع العُسر ، فیجب فی ما لا یلزم منه عُسر (5) ، فتأمّل جیّداً .
ثانیها: الأخبار الدالّه علی ترجیحه مع المعارضه ، کما فی المقبوله (1) وغیرها (2) ، أو علی اختیاره للحکم بین الناس ، کما دلّ علیه المنقول عن أمیر المؤمنین علیه السلام : «اختَر للحُکم بینَ النّاس أفضلَ رعیّتک» (3) .
ثالثها: أنّ قول الأفضل أقرب من غیره جزماً ، فیجب الأخذُ به عند المعارضه عقلاً .
ولا یخفی ضعفها:
أمّا الأوّل: فلقوّه احتمال أن یکون وجه القول بالتعیین للکلّ - أو الجلّ - هو الأصل ، فلا مجال لتحصیل الإجماع مع الظفر بالاتّفاق ، فیکون نقله موهوناً ؛ مع عدم حجّیّه نقله ولو مع عدم وهنه .
وأمّا الثانی: فلأنّ الترجیح مع المعارضه فی مقام الحکومه - لأجل رفع الخصومه الّتی لا تکاد ترتفع إلّابه - لا یستلزم الترجیح فی مقام الفتوی ، کما لا یخفی .
وأمّا الثالث: فممنوع ، صغریً وکبریً:
أمّا الصغری: فلأجل أنّ فتوی غیر الأفضل ربما یکونُ أقرب من فتواه ؛ لموافقتها (4) لفتوی من هو أفضل منه ، ممّن مات (5) .
ص :341
ولا یُصغی إلی : أنّ فتوی الأفضل أقربُ فی نفسه (1) ؛ فإنّه لو سُلّم أ نّه (2)کذلک ، إلّاأ نّه لیس بصغری لما ادُّعی عقلاً من الکبری ؛ بداهه أنّ العقل لا یری تفاوتاً بین أن تکون الأقربیّه فی الأماره لنفسها ، أو لأجل موافقتها لأماره أُخری ، کما لا یخفی .
وأمّا الکبری: فلأنّ ملاک حجّیّه قول الغیر تعبّداً - ولو علی نحو الطریقیّه - لم یُعلم أ نّه القرب من الواقع ، فلعلّه یکون ما هو فی الأفضل وغیره سیّان ، ولم یکن لزیاده القرب فی أحدهما دخلٌ أصلاً .
نعم ، لو کان تمام الملاک هو القرب ، - کما إذا کان حجّه بنظر العقل - لتعَیَّن الأقربُ قطعاً ، فافهم .
اختلفوا فی اشتراط الحیاه فی المفتی :
والمعروف بین الأصحاب : الاشتراط (3) .
ص :342
وبین العامّه : عدمه (1) ، وهو خیره الأخباریِّین (2) ، وبعض المجتهدین من أصحابنا (3) .
وربما نُقِل تفاصیل ، منها: التفصیل بین البدویّ فیشترط ، والاستمراری فلا یشرط (4) .
والمختار : ما هو المعروف بین الأصحاب ؛ للشکّ فی جواز تقلید المیّت ، والأصل عدم جوازه .
ولا مخرج عن هذا الأصل إلّاما استدلّ به المجوّز علی الجواز من وجوه ضعیفه :
منها : استصحاب جواز تقلیده فی حال حیاته (5) .
ولا یذهب علیک : أ نّه لا مجال له ؛ لعدم بقاء موضوعه عرفاً ؛ لعدم بقاء الرأی معه ، فإنّه متقوّمٌ بالحیاه بنظر العرف - وإن لم یکن کذلک واقعاً - ؛ حیث إنّ الموت عند أهله موجبٌ لانعدام المیّت ورأیه .
ولا ینافی ذلک (6) صحّهُ استصحاب بعض أحکام حال حیاته ، کطهارته
ص :343
ونجاسته ، وجواز نظر زوجته إلیه ؛ فإنّ ذلک إنّما یکون فی ما لا یتقوّم بحیاته عرفاً ، بحسبان بقائه ببدنه الباقی بعد موته ، وإن احتمل أن یکون للحیاه دخلٌ فی عروضه واقعاً . وبقاءُ الرأی لابدّ منه فی جواز التقلید قطعاً ، ولذا لا یجوز التقلید فی ما إذا تبدّل الرأی ، أو ارتفع لمرضٍ أو هرمٍ إجماعاً .
وبالجمله : یکون انتفاء الرأی بالموت - بنظر العرف - بانعدام موضوعه ، ویکون حشره فی القیامه إنّما هو من باب إعاده المعدوم ، وإن لم یکن کذلک حقیقهً ؛ لبقاء موضوعه ، وهو النفس الناطقه الباقیه حال الموت ؛ لتجرّده .
وقد عرفت فی باب الاستصحاب : أنّ المدار فی بقاء الموضوع وعدمه هو العرف ، فلا یجدی بقاء النفس عقلاً فی صحّه الاستصحاب مع عدم مساعده العرف علیه ، وحِسبانِ أهله أ نّها غیر باقیه ، وإنّما تعاد یوم القیامه بعد انعدامها ، فتأمّل جیّداً .
لا یقال: نعم ، الاعتقاد والرأی وإن کان یزول بالموت - لانعدام موضوعه - إلّاأنّ حدوثه فی حال حیاته ، کافٍ فی جواز تقلیده فی حال موته ، کما هو الحال فی الروایه .
فإنّه یقال: لا شبهه فی أ نّه لابدّ فی جوازه من بقاء الرأی والاعتقاد ، ولذا لو زال بجنون أو تبدُّلٍ ونحوهما لما جاز قطعاً ، کما اشیر إلیه آنفاً .
هذا بالنسبه إلی التقلید الابتدائیّ .
ص :344
وأمّا الاستمراریّ: فربما یقال (1) بأ نّه قضیّه استصحاب الأحکام الّتی قلّده فیها ؛ فإنّ رأیه وإن کان مناطاً لعروضها وحدوثها ، إلّاأ نّه عرفاً من أسباب العروض ، لا من مقوّمات الموضوع والمعروض .
ولکنّه لا یخفی: أ نّه لا یقین بالحکم شرعاً سابقاً ؛ فإنّ جواز التقلید إن کان بحکم العقل وقضیّهِ الفطره - کما عرفت (2) - فواضحٌ ؛ فإنّه لا یقتضی أزیدَ من تنجّز ما أصابه من التکلیف ، والعذر فی ما أخطأ ، وهو واضح .
وإن کان بالنقل ، فکذلک ، علی ما هو التحقیق : من أنّ قضیّه الحجّیّه شرعاً لیس إلّاذلک ، لا إنشاء أحکام شرعیّه علی طبق مؤدّاها ، فلا مجال لاستصحاب ما قلّده ؛ لعدم القطع به سابقاً ، إلّاعلی ما تکلّفنا فی بعض تنبیهات الاستصحاب ، فراجع (3) .
ولا دلیل علی حجّیّه رأیه السابق فی اللاحق .
وأمّا بناءً علی ما هو المعروف بینهم - من کون قضیّه الحجّیّه الشرعیّه :
جعلُ مثل ما أدّت إلیه من الأحکام الواقعیّه التکلیفیّه ، أو الوضعیّه شرعاً فی الظاهر - فلاستصحاب ما قلّده من الأحکام وإن کان مجالٌ ، بدعوی : بقاء الموضوع عرفاً ؛ لأجل کون الرأی عند أهل العرف من أسباب العروض (4) ، لا من مقوِّمات المعروض .
إلّاأنّ الإنصاف : عدمُ کون الدعوی خالیهً عن الجزاف ؛ فإنّه من المحتمل
ص :345
- لولا المقطوع - أنّ الأحکام التقلیدیّه عندهم أیضاً لیست أحکاماً لموضوعاتها بقولٍ مطلق ، بحیث عُدّ من ارتفاع الحکم عندهم من موضوعه ، بسبب تبدُّل الرأی ونحوه ، بل إنّما کانت أحکاماً لها بحسب رأیه ، بحیث عُدّ من انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه عند التبدّل ، ومجرّدُ احتمال ذلک یکفی فی عدم صحّه استصحابها ؛ لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو (1) عرفاً ، فتأمّل جیّداً .
هذا کلّه ، مع إمکان دعوی : أ نّه إذا لم یجز البقاء علی التقلید بعد زوال الرأی - بسبب الهرم أو المرض - إجماعاً ، لم یجز فی حال الموت بنحوٍ أولی قطعاً ، فتأمّل .
ومنها: إطلاق الآیات الدالّه علی التقلید (2) .
وفیه: - مضافاً إلی ما أشرنا إلیه (3) من عدم دلالتها علیه - منعُ إطلاقها علی تقدیر دلالتها ، وإنّما هو مسوق (4) لبیان أصل تشریعه ، کما لا یخفی .
ومنه انقدح حال إطلاق ما دلّ من الروایات علی التقلید ، مع إمکان دعوی الانسباق إلی حال الحیاه فیها .
ص :346
ومنها: دعوی أ نّه لا دلیل علی التقلید إلّادلیل الانسداد ، وقضیّتُه جواز تقلید المیّت کالحیّ ، بلا تفاوت بینهما أصلاً ، کما لا یخفی (1) .
وفیه: أ نّه لا یکاد تصلُ النوبه إلیه ؛ لما عرفت من دلیل العقل والنقل علیه .
ومنها: دعوی السیره علی البقاء ؛ فإنّ المعلومَ من أصحاب الأئمّه علیهم السلام عدمُ رجوعهم عمّا أخذوه تقلیداً بعد موت المفتی (2) .
وفیه: منعُ السیره فی ما هو محلّ الکلام . وأصحابُهم علیهم السلام إنّما لم یرجعوا عمّا أخذوه من الأحکام ، لأجل أ نّهم غالباً إنّما کانوا یأخذونها ممّن ینقلها عنهم علیهم السلام بلا واسطه أحد ، أو معها من دون دخل رأی الناقل فیه أصلاً ، وهو لیس بتقلید کما لا یخفی ، ولم یُعلم إلی الآن حالُ من تعبّد بقول غیره ورأیه ، أ نّه کان قد رجع أو لم یرجع بعد موته .
ومنها: غیر ذلک ممّا لا یلیق بأن یسطر أو یذکر (3)(4).
ص :347